ص -360-…ووافقهم أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ والسمعاني من الشافعية ونقله القاضي عبد الوهاب في الملخص عن أهل اللغة وجمهور أهل العلم واختاره مع الاستعلاء غير أنه كما قال المصنف "ولا أمر عندهم" أي المعتزلة "إلا الصيغة" لإنكارهم الكلام النفسي "ورجح نفي الأشعري العلو بذمهم" أي العقلاء "الأدنى بأمر الأعلى" لأنه لو كان العلو شرطا لم يتحقق الأمر من الأدنى فلا ذم والاستعلاء بقوله تعالى عن فرعون: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء: 35] خطابا لقومه فإنه أطلق الأمر على قولهم المقتضي له فعلا غير كف ولم يكن لهم استعلاء عليه، وكيف وهم كانوا يعبدونه والعبادة أقصى غاية الخضوع "ومنهم من جعله" أي ماذا تأمرون "لنفي العلو" لأن من المعلوم أنه لم يكن لهم علو على فرعون فلا جرم أن مشى البيضاوي على أنه يفسدهما "والحق اعتبار الاستعلاء" كما صححه في موضع من المحصول وفي المنتخب وجزم به في المعالم والآمدي وابن الحاجب "ونفي" اشتراط "العلو لذمهم الأدنى بأمر الأعلى" لما ذكرنا آنفا من أنه لو اشترط العلو لم يكن هذا أمرا لانتفاء العلو ولولا أن فيه استعلاء لما استحق الذم موافقة للتفتازاني في هذا التفصيل بتوجيهه، ولكن لقائل أن يقول لا نسلم أنه لو لم يكن فيه استعلاء لما استحق الذم، لم لا يجوز أن يكون استحقاقه الذم لكونه آتيا بصورة الأمر مع انتفاء العلو عنه، نعم قول الإسنوي: الاستعلاء غير متحقق في أمر الله - تعالى - فماذا يقولون فيه ممنوع، وكيف لا {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} "والآية" أي {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} "وقوله" أي عمرو بن العاص لمعاوية:
"أمرتك أمرا جازما فعصيتني" …وكان من التوفيق قتل ابن هاشم(2/263)
لما خرج هذا من العراق على معاوية مرة بعد مرة سابقة كان معاوية قد أمسكه فيها وأشار عليه عمرو بقتله فخالفه وأطلقه لحلمه، أو حضين بن المنذر يخاطب يزيد بن المهلب أمير خراسان والعراق إلا أن تمامه على هذا:
فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
"مجاز عن تشيرون وأشرت" لأنه كما قال التفتازاني "للقطع بأن الصيغة في التضرع والتساوي لا تسمى أمرا" ولا بأس بهذا ويكون تأمرون في الآية مجازا عن تشيرون وفي الكشاف تأمرون من المؤامرة - وهي المشاورة - أو من الأمر الذي هو ضد النهي، جعل العبيد آمرين وربهم مأمورا لما استولى عليه من فرط الدهش والحيرة، انتهى. ومعناه أنه بسبب ما بهره المعجز بسلطانه أظهر التواضع لملئه استمالة لقلوبهم وخاطبهم بهذا الخطاب، وليس ببعيد من الصواب، وأما أن أمرت في البيت بمعنى أشرت ففيه نظر بالنسبة إلى ظاهر التركيب وما تقتضيه صناعة الإعراب، اللهم إلا أن يقال: لا ضير فإن هذا توجيه معنى لا توجيه إعراب. وقال "القاضي وإمام الحرمين" والغزالي "القول المقتضي" بنفسه "طاعة المأمور بفعل المأمور به" قالوا: فالقول احتراز عما عدا الكلام والمقتضى احتراز عما عدا الأمر من أقسام الكلام وبنفسه لقطع وهم من يحمل الأمر على العبارة فإنها لا تقتضي بنفسها وإنما يشعر بمعناها(2/264)
ص -361-…عن اصطلاح أو توقيف عليها، قلت: ومن ثمة لما كان محذوفا في نقل ابن الحاجب وصاحب البديع كما وافقهما المصنف عليه قال التفتازاني بناء عليه هذا: الحد يحتمل اللفظي والنفسي، والطاعة احتراز عن الدعاء والرغبة من غير جزم في طلب الطاعة "ويستلزم" هذا الحد "الدور من ثلاثة أوجه" ذكر الطاعة والمأمور والمأمور به؛ لأن الطاعة موافقته الأمر، والمأمور مشتق من الأمر فيتوقف معرفة كل منهما على معرفة الأمر لأن المضاف من حيث هو مضاف لا يعلم إلا بمعرفة المضاف إليه، ومعنى المشتق منه موجود في المشتق وزيادة، والفرض أن الأمر يتوقف معرفته على هذه الثلاثة "ودفعه" أي الدور كما قال القاضي عضد الدين "بأنا إذا علمنا الأمر من حيث هو كلام علمنا المخاطب به - وهو المأمور -، وما يتضمنه - وهو المأمور به -، وفعله" أي مضمونه "- وهو الطاعة - ولا يتوقف" العلم بكل من هذه الأمور "على معرفة حقيقة الأمر المطلوبة بالتعريف فإن أراد" بقوله إذا علمنا الأمر من حيث هو كلام "الحاصل من الجنس" أي القول وهو المعنى المفيد "لم يلزمه غير الأولين" أي العلم بمخاطب والعلم بمخاطب به "ثم لم يفد" هذا "حقيقة المأمور" أي بيانها "من مجرد فهم المخاطب ولا" بيان حقيقة "المأمور به من حيث هو كذلك" أي مأمور به "من معرفة أن الكلام معنى تضمنه" وهو ظاهر لأن المأمور أخص من المخاطب، والمأمور به أخص من المعنى الذي تضمنه الكلام ولا دلالة للأعم من حيث هو أعم على أخص بخصوصه من حيث هو أخص. "وأما فعله" أي وأما إفادته لفعل مضمونه "وكونه" أي فعله "طاعة فأبعد" وهو واضح فلا يندفع الدور بهذه الإرادة. "أو" أراد الحاصل من الجنس "بقيوده" المذكورة "فعين الحقيقة" أي فهذا المراد عين حقيقة الأمر "ويعود الدور" لأنه حيث كانت معرفة حقيقة الأمر متوقفة على معرفة حقيقة هذه الأجزاء، ومعرفة حقيقة بعض هذه الأجزاء متوقفة على معرفة حقيقة الأمر فقد توقفت معرفة حقيقة كل من(2/265)
الأمر وذلك الجزء على معرفة حقيقة الآخر وهو دور. إلا أن هذا قد يدفع بتسليم أن تصور الأمر بحقيقته متوقف على تصور هذه الأمور؛ ومنع أن تصور هذه الأمور متوقف على تصور حقيقة الأمر بل إنما يتوقف تصور هذه الأمور على تميز الأمر عن غيره، فإذا عرفنا الأمر بأنه نوع من الكلام متميز عن غيره باقتضاء موافقة المخاطب لما خوطب به كفانا ذلك في معرفة هذه الأمور. "ويبطل طرده ب أمرتك بفعل كذا" فإنه ليس بأمر مع صدق الحد عليه، ولقائل أن يقول حيث كان هذا حدا للنفسي فهذا منه فلا يبطل طرده لصدقه عليه "وقيل هو الخبر عن استحقاق الثواب وفيه" أي هذا الحد "جعل المباين" للمحدود - وهو الخبر - "جنسا" له وهو باطل لما بينهما من التنافي "والمعتزلة" أي وقال جمهورهم كما في المحصول وغيره: "قول القائل لمن دونه: افعل" أي لفظا موضوعا لطلب الفعل من الفاعل فإن هذه الصيغة علم جنس لهذا المعنى - كما صرح به ابن الحاجب في شرح المفصل - لا خصوصية هذا اللفظ "وإبطال طرده" أي هذا التعريف "بالتهديد وغيره" أي بما لم يرد به الطلب من هذه الصيغة لقائلها لمن دونه تهديدا كان نحو اعملوا ما شئتم أو إباحة نحو {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} أو غيرهما لصدق الحد المذكور عليه مع أنه ليس بأمر "مدفوع(2/266)
ص -362-…بظهور أن المراد" قول القائل "افعل" حال كونه "مرادا به ما يتبادر منه" عند الإطلاق - وهو الطلب - "و" إبطال طرده "بالحاكي" لا من غيره لمن دونه "والمبلغ" له من دونه لصدق الحد على المحكي والمبلغ مع أن كلا منهما ليس بأمر مدفوع أيضا "بأنه" أي كلا من المحكي والمبلغ "ليس قول القائل" الذي هو الحاكي والمبلغ "عرفا يقال للمتمثل" بشعر أو غيره لغيره "ليس" ما تمثل به "قوله" وإن كان حاكيا له "وليس القرآن قوله" أي النبي "صلى الله عليه وسلم" وإن كان مبلغه فلم يصدق على كل الحد فلم يبطل الطرد. "نعم العلو غير معتبر" على الصحيح عندنا ولعل هذا إشارة إلى أنه لا يورد عليهم أنه غير منعكس بأمر الأدنى للأعلى كما أورده ابن الحاجب وصاحب البديع لأن إيراده إنما هو بناء على اعتبار العلو، لكن لقائل أن يقول: هذا التعريف إنما هو لأكثرهم، وقد تقدم أنهم يشترطون العلو فلم لا يورد عليهم على سبيل الإلزام بناء على زعمهم؟ ويجاب حينئذ بمنع كونه أمرا عندهم لغة، وإن سمي به عرفا كما ذكره القاضي عضد الدين وحينئذ فقد كانت الإشارة إلى إيراد هذا وجوابه هكذا أولى. "وطائفة" منهم "الصيغة مجردة عن الصارف عن الأمر وهو" أي هذا التعريف تعريف الشيء "بنفسه ولو أسقطه" أي لفظ "عن الأمر" "صح" التعريف "لفهم الصارف عن المتبادر" الذي هو الطلب من إطلاق الصارف. "وطائفة" من معتزلة البصرة "الصيغة بإرادة وجود اللفظ" أي إرادة إحداث الصيغة، لأن الآمر هو الموجد للكلام عندهم والأمر من باب الكلام "ودلالته على الأمر" أي وإرادة كون هذه الصيغة أمرا فإن المتكلم قد يريد بها التهديد أو غيره من المعاني التي ليست بأمر "والامتثال" أي وإرادة وجود المأمور به "ويحترز بالأخير" أي الامتثال "عنها" أي الصيغة صادرة "من نائم ومبلغ وما سوى الوجوب" ومن تهديد وغيره "وما قبله" أي الأخير "تنصيص على الذاتي" كما قال التفتازاني: إنه الأولى. "وأورد: إن أريد بالأمر(2/267)
المحدود اللفظ أفسده إرادة دلالتها على الأمر" لأن اللفظ غير مدلول عليه "أو" أريد بالأمر المحدود "المعنى أفسده جنسه" أي صيغته لأن المعنى ليس صيغة "وأجيب بأنه" أي المراد بالمحدود "اللفظ" وبما في الحد المعنى الذي هو الطلب "واستعمل المشترك" الذي هو الأمر "في معنييه بالقرينة" العقلية. "وقال قوم" آخرون من المعتزلة "إرادة الفعل، وأورد غير جامع لثبوت الأمر ولا إرادة في أمر عبده بحضرة من توعده" أي السيد بالإهلاك وهو قادر عليه "على ضربه" أي بسبب ضربه "فاعتذر" عن ضربه "بمخالفته" أي العبد له فإن في هذا أمره، وإلا لم يظهر عذره وهو مخالفة أمره، ولم يرد منه الفعل لأنه لا يريد ما يفضي إلى هلاك نفسه وإلا لكان مريدا لهلاك نفسه، وإرادة العاقل ذلك محال "وألزم تعريفه" أي الأمر "بالطلب النفسي له" أي هذا الإيراد، وهو أنه قد يوجد الأمر، ولا طلب فإن العاقل كما لا يريد هلاك نفسه لا يطلبه "ودفعه" أي هذا الإلزام كما قال القاضي عضد الدين "بتجويز طلبه" أي العاقل الهلاك لغرض "إذا علم عدم وقوعه" أي الهلاك "إنما يصح في اللفظي، أما النفسي فكالإرادة لا يطلبه أي سبب هلاكه بقلبه كما لا يريده" والقول بأنه يجوز من العاقل طلب هلاكه إذا علم أنه لا يقع، ولا يجوز إرادته أصلا ممنوع "وما قيل" أي وما ذكر الآمدي في الرد عليهم، وقال ابن الحاجب إنه الأولى "لو كان" الأمر "إرادة(2/268)
ص -363-…لوقعت المأمورات بمجرده" أي الأمر "لأنها" أي الإرادة "صفة تخصص المقدور بوقت وجوده" أي المقدور "فوجودها" أي الإرادة "فرع مخصص" والتالي باطل فإن الكافر الذي علم الله موته على الكفر كفرعون مأمور بالإيمان اتفاقا مع أنه لم يؤمن "لا يلزمهم" أي المعتزلة "لأنها" أي الإرادة "عندهم" أي المعتزلة بالنسبة إلى العباد "ميل يتبع اعتقاد النفع أو دفع الضرر وبالنسبة إليه - سبحانه - العلم بما في الفعل من المصلحة" وهو منسوب إلى محققيهم ثم كما لا يلزمهم هذا بالنسبة إلى تفسيرهم الإرادة بهذا لا يلزمهم بالنسبة إلى باقي تفاسيرهم إياها أيضا، واستيفاء الكلام في هذا في الكلام.
مسألة(2/269)
"صيغة الأمر خاص" أي حقيقة على الخصوص "في الوجوب" فقط "عند الجمهور" وصححه ابن الحاجب والبيضاوي، وقال الإمام الرازي إنه الحق، وذكر إمام الحرمين والآمدي أنه مذهب الشافعي، وقيل وهو الذي أملاه الأشعري على أصحاب الإسفراييني "أبو هاشم" في جماعة من الفقهاء منهم الشافعي في قول وعامة المعتزلة حقيقة "في الندب" فقط وقال الأبهري - من المالكية -: أمره تعالى وأمر رسوله الموافق له أو المبين له للوجوب والمبتدأ منه للندب "وتوقف الأشعري والقاضي في أنه" موضوع "لأيهما" أي الوجوب والندب "وقيل" توقفا فيه "بمعنى لا يدرى مفهومه" أصلا قال التفتازاني وهو الموافق لكلام الآمدي انتهى. قلت: ولا ينافي هذا نقل ابن برهان عن الأشعري أنه مشترك بين الطلب والتهديد والتكوين والتعجيز، ونقل غيره كصاحب التحقيق - عنه في رواية وابن سريج اشتراكه في الوجوب والندب والإباحة والتهديد نعم يخالف كليهما تقرير غير واحد توقفهما بمعنى أن الصيغة مترددة بين أن تكون حقيقة في الوجوب فقط أو الندب فقط أو فيهما بالاشتراك اللفظي لكن لا يدرى ما هو، واختاره الغزالي في المستصفى، قال السبكي والآمدي: لكن ذكر الإسنوي أن الذي صححه في الأحكام التوقف في الوجوب والندب والإرشاد والله سبحانه أعلم "وقيل مشترك" لفظي "بينهما" أي الوجوب والندب وهو منقول عن الشافعي "وقيل" مشترك لفظي بين الوجوب والندب "والإباحة وقيل" موضوع "للمشترك بين الأولين" أي الوجوب والندب، وهو الطلب أي ترجيح الفعل على الترك، وهو منقول عن أبي منصور الماتريدي وعزاه في الميزان إلى مشايخ سمرقند "وقيل" موضوع "لما" أي للقدر المشترك "بين الثلاثة" أي الوجوب والندب والإباحة "من الإذن" وهو رفع الحرج عن الفعل وفي التحقيق وهو مذهب المرتضى من الشيعة وقال "الشيعة مشترك بين الثلاثة" أي الوجوب والندب والإباحة "والتهديد" وقيل غير ذلك "لنا" على المختار وهو الأول أنه "تكرر استدلال السلف بها" أي(2/270)
بصيغة الأمر مجردة عن القرائن "على الوجوب" استدلالا "شائعا بلا نكير فأوجب العلم العادي باتفاقهم" على أنها له "كالقول" أي كإجماعهم القولي على ذلك. "واعترض بأنه" أي الوجوب في استدلال السلف بها عليه "كان بأوامر محققة بقرائن الوجوب(2/271)
ص -364-…بدليل استدلالهم بكثير منها" أي من صيغ الأمر "على الندب قلنا تلك" أي صيغ الأمر المنسوب إليها الندب ثبوته لها "بقرائن" مفيدة له بخلاف الصيغ المنسوب إليها الوجوب "باستقراء الواقع منهما" أي من الصيغ المنسوب إليها الوجوب والصيغ المنسوب إليها الندب في الكتاب والسنة والعرف "قالوا" ما يفيده هذا الدليل "ظن في الأصول لأنه" أي الإجماع المذكور "سكوتي ولما قلنا من الاحتمال" أي احتمال كونه بقرائن تفيد الوجوب، والظن فيها لا يكفي لأن المطلوب فيها العلم "قلنا لو سلم" أنه ظن "كفى وإلا تعذر العمل بأكثر الظواهر" لأن المقدور فيها إنما هو تحصيل الظن بها، وأما القطع فلا سبيل إليه واللازم منتف فالملزوم مثله، ثم في المحصوليات المسألة وسيلة إلى العلم فيكفي الظن "لكنا نمنعه" أي الظن هنا "لذلك العلم" العادي باتفاقهم على أنها للوجوب "ولقطعنا بتبادر الوجوب من" الأوامر "المجردة" عن القرائن "فأوجب" القطع بتبادر الوجوب منها "القطع به" أي الوجوب أيضا "من اللغة وأيضا" قوله تعالى - لإبليس: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] يعني اسجدوا لآدم المجرد" عن القرائن فإنه ظاهر في الوجوب أيضا وإلا لما لزمه اللوم، ولقال: أمرتني ومقتضى الأمر الندب أو ما يؤدي هذا المعنى، فإنه قد ناظر بأشد من هذا حيث قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} والقول بأن الوجوب لعله فهم من قرينة حالية أو مقالية لم يحكها القرآن أو من خصوصية تلك اللغة التي وقع الأمر بها، إذ القرينة لم تكن حينئذ وإنما حكى القرآن ما وقع بغيرها احتمال مرجوح غير قادح في الظهور وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48] ذمهم على مخالفة اركعوا بقوله لا يركعون حيث رتبه على مجرد مخالفة الأمر المطلق بالركوع "وأما" الاستدلال للوجوب كما ذكره غير واحد منهم ابن الحاجب بقولنا "تارك الأمر(2/272)
عاص" لقوله تعالى - حكاية عن خطاب موسى لهارون عليهما السلام {أفعصيت أمري} [طه: 93] أي تركت مقتضاه "وهو" والوجه وكل عاص "متوعد" لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23] فتارك الأمر متوعد وهو دليل الوجوب فأشار المصنف إلى منع صغراه بقوله "فنمنع كونه" أي العاصي "تارك" الأمر "المجرد" عن القرائن المفيدة للوجوب لصدقه على ما هو للندب وليس تاركه بعاص اتفاقا "بل" العاصي "تارك ما" هو محتف من الأوامر "بقرينة الوجوب فإذا استدل" لكون تارك الأمر المجرد عن القرائن المفيدة للوجوب عاصيا "ب {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} أي: اخلفني منعنا تجرده" أي هذا الأمر عن القرائن المفيدة لوجوب مقتضاه، وكيف لا، وقد قرنه بقوله: {وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142] "فأما" الاستدلال للوجوب على ما ذكره كثير بقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] أي يخالفون أمره أو يعرضون عن أمره بترك مقتضاه أن تصيبهم فتنة أي محنة في الدنيا أو يصيبهم عذاب أليم في الآخرة لأنه رتب على ترك مقتضى أمره أحد العذابين "فصحيح لأن عمومه" أي أمره "بإضافة الجنس المقتضي كون لفظ أمر لما يفيد الوجوب خاصة يوجبه" أي الوجوب "للمجردة" أي لصيغة الأمر المجردة من قرائن الوجوب لأنها من أفراده، ثم تلخيص الاستدلال به أن مخالفة أمره متوعد عليها، وكل(2/273)
ص -365-…متوعد عليه حرام، فمخالفة أمره حرام وامتثاله واجب "والاستدلال" للوجوب أيضا "بأن الاشتراك خلاف الأصل" لإخلاله بالفهم "فيكون" الأمر دفعا للاشتراك "لأحد الأربعة" من الوجوب والندب والإباحة والتهديد حقيقة وفي الباقي مجازا. وقالوا وإنما خصت هذه الأربعة للاتفاق على أنه مجاز فيما سواها من المعاني التي تستعمل فيه. قلت: وهو مشكل بما في الميزان، وقال أكثر الواقفية بأنه لا صيغة للأمر بطريق التعين بل هي صيغة مشتركة بين معنى الأمر وبين المعاني التي تستعمل فيها، فهي موضوعة لكل حقيقة بطريق الاشتراك وإنما يتعين البعض بالقرينة، وهم بعض الفقهاء وأكثر المتكلمين. "والإباحة والتهديد بعيد للقطع بفهم ترجيح الوجود" وهو منتف فيهما "وانتفاء الندب" أيضا ثابت "للفرق بين اسقني وندبتك" إلى أن تسقيني ولا فرق إلا الذم على تقدير الترك في اسقني، وعدمه على تقدير الترك في ندبتك إلى أن تسقيني ولو كان للندب لم يكن بينهما فرق فتعين كونه للوجوب، استدلال "ضعيف لمنعهم" أي النادبين "الفرق" بينهما "ولو سلم" أن بينهما فرقا "فيكون ندبتك نصا" في الندب "واسقني" ليس بنص فيه بل "يحتمل الوجوب" والندب لكن قيل على هذا لا يلزم من الفرق بالنصوصية والظهور عدم الفرق من جهة أخرى "وأيضا لا ينتهض" هذا "على المعنوي، إذ نفي اللفظي لا يوجب تخصيص الحقيقة بأحدها" أي الأربعة الذي هو الوجوب "ولو أراد" المستدل بالاشتراك خلاف الأصل "مطلق الاشتراك" ليشمل اللفظي والمعنوي "منعنا كون المعنوي خلاف الأصل ولو قال" المستدل "المعنوي بالنسبة إلى معنوي أخص منه خلاف الأصل، إذ الإفهام باللفظ" والأصل فيه الخصوص لإفادته المقصود من غير مزاحم له فيه وحينئذ كلما كان أخص كان في إفهامه المراد أسرع ولتوهم مزاحمة غيره أدفع "اتجه" قوله هذا "كالمعنوي الذي هو المشترك بين الوجوب والندب" وهو الطلب "بالنسبة إلى المعنوي الذي هو وجوب فإنه" أي المشترك بين الوجوب(2/274)
والندب "جنس بالنسبة إلى الوجوب إذ هو" أي الوجوب "نوع" بالنسبة إلى الطلب. "فدار" معنى الأمر "بين خصوص الجنس وخصوص النوع" وخصوص النوع أولى لما فيه من تقليل الاشتراك هذا ما ظهر لي في توجيه اتجاهه. وأقول ولقائل أن يقول أولا: إن هذا إنما يتجه على منوال القول بتقديم الخاص على العام والخاص من وجه على العام مطلقا كما ذهب إليه الشافعية لا على قول من لا يرى ذلك إلا بمرجح من خارج كما ذهب إليه الحنفية. وثانيا إن هذا إثبات اللغة بلازم الماهية لأنكم جعلتم الأخصية لازما للوجوب وجعلتم صيغة الأمر باعتبارها للوجوب وهو باطل. وثالثا أنه إذا كان خصوص النوع أولى من خصوص الجنس، ومعلوم أن الوجوب كما هو خصوص النوع كذلك الندب فلا تتم الأخصية من حيث هي مرجحة للوجوب على الندب لتساويهما فيها، فليتأمل. واستدل "النادب" بما في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد الأمر إلى مشيئتنا وهو معنى الندب "قلنا" ممنوع بل رده إلى استطاعتنا وحينئذ "هو دليل الوجوب" لأن الساقط عنا حينئذ ما لا استطاعة لنا فيه على أن تقريرهم لا يدل على مدعاهم أيضا لأن المباح أيضا بمشيئتهم، ثم لا خفاء في أن(2/275)
ص -366-…قولهم رده إلى مشيئتنا مع روايتهم للحديث بلفظ ما استطعتم ذهول عظيم واستدل "القائل بالطلب" بأنه "ثبت رجحان الوجود" الذي هو المعنى المشترك بين الوجوب والندب بالضرورة من اللغة "ولا مخصص" له بأحدهما "فوجب كونه" أي رجحان الوجود "المطلوب مطلقا دفعا للاشتراك" على تقدير أنه موضوع لكل منهما "والمجاز" على تقدير أنه موضوع لأحدهما لا غير فإن التواطؤ خير منهما "قلنا" بل هو لأحدهما وهو الوجوب "بمخصص وهي" أي المخص(2/276)
ص - وأنثه باعتبار الخبر وهو - "أدلتنا على الوجوب مع أنه" أي جعله للطلب "إثبات اللغة بلازم الماهية" وهو الرجحان لجعل الرجحان لازما للوجوب والندب وجعل صيغة الأمر لهما باعتبار هذا اللازم مع احتمال أن يكون للمقيد بأحدهما أو للمشترك بينهما وذلك باطل "الاشتراك بين الأربعة والاثنين" والثلاثة أيضا "ثبت الإطلاق" على الأربعة وعلى الاثنين وعلى الثلاثة "والأصل الحقيقة قلنا المجاز خير" من الاشتراك "وتعيين الحقيقي" الذي هو الوجوب "بما تقدم" من أدلته "والواقف كونها" أي الصيغة "للوجوب أو غيره بالدليل" لاستعمالها في كل منه ومن غيره "وهو" أي الدليل على أنها حقيقة في أحدها دون الباقي "منتف إذ الآحاد لا تفيد العلم" وهو المطلوب في هذه المسألة "ولو تواتر لم يختلف" فيه لإيجابه استواء طبقات الباحثين فيه لأنه لا بد للكل من الاطلاع عليه لبذلهم جهدهم في طلبه لكن الاختلاف فيه ثابت فلم يتواتر والعقل الصرف بمعزل عن ذلك "قلنا" لا نسلم أنه يتواتر إذ "تواتر استدلالات عدد التواتر من العلماء وأهل اللسان تواتر أنها" أي الصيغة "له" أي للوجوب وعلى هذا فإما الملازمة ممنوعة الإطلاق لجواز أن لا يفرغ بعض الباحثين جهده في ذلك لعارض وإما أن يكون التواتر فيه بالنسبة إلى قوم دون آخرين، وكلاهما محل تأمل "ولو سلم" أنه لم يتواتر "كفى الظن" المستفاد من تتبع موارد استعمال هذه الصيغة فإنه دال على أن المقصود بها عند الإطلاق هو الواجب وتقدم ما في المحصوليات "القائل بالإذن كالقائل بالطلب" وهو أنه ثبت الإذن بالضرورة اللغوية ولم يوجد مخصص له بأحد الثلاثة من الوجوب والندب والإباحة فوجب جعله للمشترك بينها وهو الإذن في الفعل، والجواب المنع بل وجد وهو أدلتنا الدالة على الوجوب.
مسألة(2/277)
ليست مبدئية لغوية بل شرعية "مستطردة: أكثر المتفقين على الوجوب" لصيغة الأمر حقيقة كما ذكر ابن الحاجب وصاحب البديع ومنهم الشافعي وأبو منصور الماتريدي "أنها بعد الحظر" أي المنع "في لسان الشرع للإباحة باستقراء استعمالاته" أي الشرع لها "فوجب الحمل" أي حملها "عليه" أي المعنى الإباحي "عند التجرد" عن الموجب لغيره "لوجوب الحمل على الغالب" لصيرورته كالأصل بالنسبة إلى غيره "ما لم يعلم أنه" أي المحمول "ليس منه" أي الغالب "نحو {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} فالأمر هنا للوجوب وإن كان بعد الحظر
للعلم بوجوب قتل المشرك إلا لمانع والفرض انتقاؤه "وظهر" من الاستناد في الإباحة إلى استقراء استعمالات الشارع الأمر فيها "ضعف قولهم" أي القائلين بالوجوب بعد(2/278)
ص -367-… الحظر كالقاضي أبي الطيب الطبري وأبي إسحاق الشيرازي والإمام الرازي والبيضاوي من الشافعية وفخر الإسلام وعامة المتأخرين من الحنفية بل عزاه صاحب الكشف إلى عامة القائلين بالوجوب قبل الحظر. "ولو كان" الأمر للإباحة بعد الحظر "امتنع التصريح بالوجوب" بعد الحظر ولا يمتنع إذ لا يلزم من إيجاب الشيء بعد تحريمه محال، ووجه ظهور ضعفه أن كونه للإباحة بعد الحظر وقع فلا معنى لاستبعاده ثم الملازمة ممنوعة فإن قيام الدليل الظاهر على معنى لا يمنع التصريح بخلافه، ويكون التصريح قرينة صارفة عما يجب الحمل عليه عند التجرد عنها "ولا مخلص" من أنه للإباحة للاستقراء المذكور "إلا بمنع صحة الاستقراء إن تم" منع صحته وهو محل نظر "وما قيل أمر الحائض والنفساء" بالصلاة والصوم بعد تحريمهما عليهما في الحيض والنفاس "بخلافه" أي يفيد الوجوب لا الإباحة "غلط لأنه" أي أمرهما بهما "مطلق" عن الترتيب على سبق الحظر "والكلام" في أن الأمر بعد الحظر للإباحة إنما هو "في المتصل بالنهي إخبارا" كما عن بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه فزوروها فإنها تذكر الآخرة" رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح "و" في الأمر "المعلق بزوال سببه" أي سبب الحظر نحو قوله تعالى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] فالصيد كان حلالا على الإطلاق ثم حرم بسبب هو الإحرام ثم علق الإذن فيه بالحل وهو زوال السبب الذي هو الإحرام "ويدفع" هذا التغليظ "بوروده" أي الأمر للحائض في الصلاة "كذلك" أي معلقا بزوال سبب الحظر "ففي الحديث" المتفق عليه "فإذا أدبرت الحيضة فاغسلي عنك الدم وصلي" إلا أن الحيضة لم تذكر بعد "أدبرت" اكتفاء بضميرها المستتر فيه لتقدم ذكرها في قوله: "فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة"، ويجوز الفتح والكسر في حائها وهي الحيض فعلق الأمر بالصلاة على زوال سبب حرمتها وهو(2/279)
انقطاع الحيض وأما دفعه بالنسبة إلى أمرها بالصوم وإلى أمر النفساء بالصوم والصلاة فالله تعالى أعلم به. هذا ولقائل أن يقول: إن لم يكن على هذا الاشتراط في محل الخلاف اتفاق مصرح به فما المانع من أن يكون الكلام في الأمر المعلوم وروده بعد الحظر أعم من أن يكون في اللفظ متصلا بالنهي إخبارا أو معلقا على زوال سبب الحظر؟ ولا يلزم من كون الخلاف محكيا في أفراد من هذين الحصر فيهما "والحق أن الاستقراء دل على أنه" أي الأمر "بعد الحظر لما اعترض عليه" أي لما كان عليه المأمور به من الحكم قبل المنع "فإن" اعترض الحظر "على الإباحة" ثم وقع الأمر بذاك المباح أو لا "ك اصطادوا فلها" أي فالأمر للإباحة "أو" اعترض "على الوجوب ك اغسلي عنك وصلي فله" أي فالأمر للوجوب لأن الصلاة كانت واجبة ثم حرمت عليها بالحيض "فلنختر ذلك" أي هذا التفصيل وقد ذكره القاضي عضد الدين بلفظ قيل، ثم قال: وهو غير بعيد وفي الكشف والتحقيق ورأيت في نسخة من أصول الفقه: الفعل إن كان مباحا في أصله ثم ورد حظر معلق بغاية أو بشرط أو بعلة عرضت فالأمر الوارد بعد زوال ما علق الحظر به يفيد الإباحة عند جمهور أهل العلم كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] لأن الصيد كان حلالا على الإطلاق ثم حرم بسبب الإحرام فكان قوله:(2/280)
ص -368-…{فَاصْطَادُوا} إعلاما بأن سبب التحريم قد ارتفع وعاد الأمر إلى أصله وإن كان الحظر واردا ابتداء غير معلل بعلة عارضة ولا معلق بشرط ولا غاية فالأمر الوارد بعده هو المختلف فيه. زاد في الكشف وذكر في المعتمد: الأمر إذا ورد بعد حظر عقلي أو شرعي أفاد ما يفيده لو لم يتقدمه حظر من وجوب أو ندب "وقولهم" أي القائلين بأنه للوجوب بعد الحظر "الإباحة فيها" أي في هذه المأمورات من الاصطياد وأخواته "لأن العلم بأنها" أي هذه المأمورات "شرعت لنا فلا تصير" واجبة "علينا" بالأمر لئلا يعود الأمر على موضوعه بالنقض "لا يدفع استقراء أنها" أي صيغة الأمر "لها" أي للإباحة "فإنه" أي الاستقراء مع القرينة دليل "موجب للحمل" أي حمل الأمر "على الإباحة فيما لا قرينة معه" على ما نسب إلى اختيار الأكثر أولا "و" موجب لحمله "على ما اخترنا على ما اعترض عليه" من الحكم. والحاصل أنها كلما وردت بعد الحظر للإباحة كانت متجوزا بها في الإباحة فإذا غلب واستمر وجب الحمل عليه لوجوب الحمل على الغالب حيث لا مانع منه، ومن هنا قال "ثم إنما يلزم" هذا "من قدم المجاز المشهور" على الحقيقة المستعملة وهو أبو يوسف ومحمد ومن وافقهما "لا أبا حنيفة" لأنه لا يقدمه عليها بل يقدمها عليه "إلا أن تمام الوجه" - أي وجه هذه المسألة - ثابت "عليه" أي أبي حنيفة "فيها" كما سيأتي فيلزم ترجح كون الأمر بعد الحظر للإباحة - حيث لا مانع من ذلك تفريعا على ترجيح قولهما المذكور - وكونه للوجوب حيث لا قرينة تصرفه عنه تفريعا على قوله المذكور، ووجه اختيار المصنف أن الحظر قرينة دالة على رفع الحكم الذي قبله فإذا زال الحظر انتفى المانع فبقي ما كان على ما كان حتى كأن الآمر قال: قد كنت منعت من كذا وقد رفعت ذلك واستمر ما كان مشروعا قبل المنع على الوجه الذي كان مشروعا قبله فإن قلت لكن كونه للإباحة هو الأغلب فكما يكون لها عند قرينتها يكون لها عند عدمها حملا له على(2/281)
الأغلب كما تقدم قلت لا نسلم: كونه للإباحة هو الأغلب سلمناه، لكن لا نسلم أنه يكون لها حيث لا قرينة لها بل إنما ينبغي أن يكون لها حيث لا قرينة لها ولا لغيرها وهو منتف فإنه لا يخلو عن إحدى القرينتين فإذا انتفت قرينتها كانت قرينة غيرها موجودة فيعمل بها سواء كان ذلك هو الوجوب - وهو ظاهر - أو غيره لانتفاء مزاحمة المجاز الذي لا قرينة له لما له قرينة، وقد ظهر من هذه الجملة انتفاء التوقف كما ذهب إليه إمام الحرمين هذا، وفي المحصول والأمر بعد الاستئذان كالأمر بعد التحريم وفيه نظر ظاهر للمتأمل ولم أقف على التعرض له في الكتب المشهورة.
مسألة
لا شك في تبادر كون الصيغة في الإباحة والندب مجازا بتقدير أنها خاص في الوجوب، وحكى فخر الإسلام على التقدير" أي تقدير كونها خاصا في الوجوب "خلافا في أنها مجاز" فيهما "أو حقيقة فيهما، فقيل أراد لفظ أمر وبعد" كونه مراده "بنظمه الإباحة" مع الندب في سلك واحد لأنه كما قال "والمعروف كون الخلاف في الندب فقط هل يصدق أنه مأمور به حقيقة وسيذكر" في فصل المحكوم به "وقيل" أراد بالأمر "الصيغة، والمراد أنها حقيقة(2/282)
ص -369-…خاصة للوجوب عند التجرد" عن القرينة الصارفة لها عنه "وللندب والإباحة معها" أي القرينة المفيدة أنها لهما كما أن المستثنى منه حقيقة في الكل خاصة بدون الاستثناء وفي الباقي مع الاستثناء "ودفع" هذا القول في التلويح "باستلزامه رفع المجاز" لأنه يلزم منه كون اللفظ حقيقة في المعنى المجازي "وبأنه يجب في الحقيقة استعماله" أي اللفظ "في الوضعي بلا قرينة" تفيده وهذا يوجبها في بعض الصور. "وقيل بل القسمة" للفظ باعتبار استعماله في المعنى "ثلاثية" وهي أنه إن استعمل في معنى خارج عما وضع له فمجاز، وإلا فإن استعمل في عين ما وضع له فحقيقة، وإلا فحقيقة قاصرة كما أشار إلى هذا "بإثبات الحقيقة القاصرة وهي ما" أي اللفظ المستعمل "في الجزء" أي جزء ما وضع له فإذا تقرر هذا "فالكرخي والرازي وكثير" بل الجمهور على أنها في الندب والإباحة "مجاز إذ ليسا" أي الندب والإباحة "جزأي الوجوب لمنافاته" أي الوجوب "فصلهما" أي الندب والإباحة كما يظهر على الأثر "وإنما بينهما" أي بين الوجوب وبين الندب والإباحة، والأحسن بينها قدر "مشترك هو الإذن" في الفعل ثم امتاز الوجوب بمع امتناع الترك، والندب بمع جواز الترك مرجوحا، والإباحة بمع جواز الترك مساويا "والقائل" بأن صيغة الأمر فيهما "حقيقة" يقول "الأمر في الإباحة إنما يدل على المشترك الإذن وهو" أي المشترك "الجزء" من الوجوب "فحقيقة قاصرة" أي فهو فيهما حقيقة قاصرة "وثبوت إرادة ما به المباينة" للوجوب أو جواز الترك مرجوحا ومساويا "وهو" أي ما به المباينة "فصلهما" أي الندب والإباحة إنما يدل عليه "بالقرينة لا بلفظ الأمر" أي صيغته "ومبناه" أي هذا الكلام "على أن الإباحة رفع الحرج عن الطرفين" أي الفعل والترك "وكذا الندب" رفع الحرج عن الطرفين "مع ترجيح الفعل، والوجوب" رفع الحرج "عن أحدهما" أي أحد الطرفين وهو الفعل "ومن ظن جزئيتهما" أي الندب والإباحة للوجوب "فبنى الحقيقة" أي فجعل(2/283)
كونه فيهما حقيقة قاصرة بناء "عليه" أي على كونها جزءا منه وهو صدر الشريعة "غلط لترك فصلهما" ولما كان حاصل تقريره كما في التلويح أن ليس معنى كون الأمر للندب أو الإباحة أنه يدل على جواز الفعل وجواز الترك مرجوحا أو مساويا حتى يكون المجموع مدلول اللفظ للقطع بأن الصيغة لطلب الفعل، ولا دلالة لها على جواز الترك أصلا بل معناه أنه يدل على الجزء الأول من الندب أو الإباحة، أعني جواز الفعل الذي هو بمنزلة الجنس لهما وللوجوب من غير دلالة على جواز الترك أو امتناعه وإنما يثبت جواز الترك بحكم الأصل إذ لا دليل على حرمة الترك، ولا خفاء في أن مجرد جواز الفعل جزء من الوجوب المركب من جواز الفعل مع امتناع الترك، فيكون استعمال الصيغة الموضوعة للوجوب في مجرد جواز الفعل من قبيل استعمال الكل في الجزء، ويكون معنى استعمالها في الإباحة والندب هو استعمالها في جزئهما الذي هو بمنزلة الجنس لهما ويثبت الفصل الذي هو جواز الترك بحكم الأصل لا بدلالة اللفظ ويثبت رجحان الفعل في الندب بواسطة القرينة. أشار المصنف إلى دفعه بقوله "ولا يخفى أن الدلالة على المعنى" الوضعي بتمامه "وعدمها" أي الدلالة عليه إما بأن لا يكون دالا عليه أصلا أو بأن لا يكون دالا على جزئه "لا دخل لها" والظاهر لهما أي للدلالة وعدمها(2/284)
ص -370-…"في كون اللفظ مجازا وعدمه" أي وعدم كون اللفظ مجازا "بل" الذي له دخل في كون اللفظ بالنسبة إلى غير المعنى الوضعي له مجازا "استعمال اللفظ فيه" أي في غير المعنى الوضعي له "وإرادته" أي غير المعنى الوضعي "به" أي باللفظ. قال المصنف: يعني كون اللفظ حقيقة مطلقة باستعماله في تمام معناه الوضعي، وكونه حقيقة قاصرة باستعماله في جزئه فقط، وكونه مجازا باستعماله فيما سوى ذلك من المعاني المناسبة للوضعي ولا دخل لدلالته في واحد من الأمور الثلاثة ولذا ثبتت دلالته على الوضعي، وينتفي عنه كونه حقيقة إذا لم يستعمل فيه بل في معنى خارج عنه فإنه حينئذ مجاز وله دلالة في تلك الحال على الحقيقي وليس حقيقة إذ لم يستعمل فيما دل عليه، وهذا لأن الدلالة على المعنى معلومة بوضع اللفظ له، فإذا وجدت العلة وجد المعلول وهو الدلالة على الوضعي فثبتت دلالته على الوضعي وهو مجاز لا حقيقة "ولا شك أنه" أي الأمر "استعمل في الإباحة والندب بالفرض فيكون مجازا وإن لم يدل الأمر حينئذ إلا على جزئه إطلاق الفعل" أي فإذا استعملت صيغة الأمر في الإباحة مثلا - التي هي رفع الحرج عن الطرفين - وجب أن يكون مجازا لا حقيقة قاصرة، وإن دل اللفظ في هذه الحالة على جزء الإباحة أعني رفع الحرج عن الفعل بسبب أنه جزء معناه الوضعي، وهو الوجوب بل وعلى جزئه الآخر وهو إثباته بالترك، إذ دلالته على الوضعي لا يسقط فدل تضمنا عليه لدلالته في حال استعماله في الإباحة على رفع الحرج عن الفعل وإثباته على الترك وإن لم يرد أحد الجزأين منه؛ لأنه لم يستعمل في هذا الجزء بخصوصه بل للمركب منه ومن رفع الحرج عن الترك الذي به يباين معناه الوضعي، ذكره المصنف أيضا ثم في التلويح فإن قلت: صرحوا باستعمال الأمر في الندب والإباحة وإرادتهما منه، ولا ضرورة في حمل كلامهم على أن المراد أنه يستعمل في جنس الندب والإباحة عدولا عن الظاهر، وما ذكر من الأمر لا يدل على جواز الترك(2/285)
أصلا وإن أراد بحسب الحقيقة فغير مفيد وإن أراد بحسب المجاز فممنوع. لم لا يجوز أن يستعمل اللفظ الموضوع لطلب الفعل جزما في طلب الفعل مع إجازة الترك والإذن فيه مرجوحا أو مساويا بجامع اشتراكهما في جواز الفعل والإذن فيه، قلت: هو كما صرحوا باستعمال الأسد في الإنسان الشجاع وإرادته منه، فإن ذلك من حيث إنه من أفراد الشجاع لا من حيث إن لفظ الأسد يدل على ذاتيات الإنسان كالناطق مثلا، فإذا كان الجامع هاهنا هو جواز الفعل والإذن فيه كان استعمال صيغة الأمر في الندب والإباحة من حيث إنهما من أفراد جواز الفعل والإذن، وتثبت خصوصية كونه مع جواز الترك أو بدونه بالقرينة كما أن الأسد يستعمل في الشجاع ويعلم كونه إنسانا بالقرينة، ا هـ.
وقد تعقب المصنف هذا بقوله "وكون استعماله" أي الأمر "فيها" أي الندب والإباحة "من حيث هما" أي الندب والإباحة "من أفراد الجامع" بينهما وبين الوجوب "وهو" أي الجامع "الإذن" في الفعل "كاستعمال الأسد في الرجل الشجاع من حيث هو" أي الرجل الشجاع "من أفراده" أي الأسد "ويعلم أنه" أي الأسد إذا استعمل في إنسان "إنسان بالقرينة" ك يلاعب بالأسنة "لا يصرف عنه" أي عن كون لفظ الأمر مستعملا في تمام ما وضع له من المعنى الذي هو(2/286)
ص -372-…"مدلولها" أي الصيغة "طلب حقيقة الفعل فقط، والمرة والتكرار خارجان" عن حقيقته فيجب أن يحصل الامتثال به في أيهما وجد ولا يتقيد بأحدهما "ودفع" هذا كما أفاده القاضي عضد الدين "بأنه استدلال بالنزاع" لأن المخالف يقول: هي للحقيقة المقيدة بالمرة أو التكرار "وبأنهما" أي واستدل له أيضا بأن المرة والتكرار "من صفاته" أي الفعل كالقليل والكثير "ولا دلالة للموصوف" بالصفات المتقابلة "على الصفة" المعينة منها فلا دلالة للأمر الدال على طلب الفعل عليهما "ودفع" هذا كما أفاده القاضي المذكور أيضا "بأنه إنما يقتضي انتفاء دلالة المادة أي المصدر على ذلك" أي المرة والتكرار "والكلام" في انتقاء الدلالة عليهما "في الصيغة" فلم لا يجوز أن تدل الصيغة على المرة والتكرار، وهو المتنازع فيه، واحتمال الصيغة لهما لا يمنع ظهور أحدهما والمدعى الدلالة بحسب الظهور لا النصوصية "قالوا" أي المكررون "تكرر" المطلوب "في النهي فعم" في الأزمان "فوجب" التكرار أيضا "في الأمر لأنهما" أي الأمر والنهي "طلب قلنا" هذا "قياس في اللغة لأنه في دلالة لفظ" وقد تقدم بطلانه "و" أجيب أيضا "بالفرق" بينهما "بأن النهي لتركه" أي الفعل "وتحققه" أي الترك "به" أي بالترك "في كل الأوقات، والأمر لا ينافيه" أي الفعل "ويتحقق" الفعل "بمرة ويأتي" في هذا أيضا "أنه محل النزاع" لأن كونه لمجرد إثباته الحاصل بمرة عين النزاع إذ هو عند المخالف لإثباته دائما. "وأما" الفرق بينهما كما في مختصر ابن الحاجب والبديع "بأن التكرار مانع من" فعل "غير المأمور به" لأن الأفعال كلها لا تجامع كل فعل "فيتعطل" ما سواه من المأمور والمصالح المهمات "بخلاف النهي" فإن التروك تجامع كل فعل، فقال المصنف: "فمدفوع بأن الكلام في مدلوله" أي لفظ الأمر "وليس" مدلوله "ملزوم الإرادة" للتكرار "فيجب انتفاؤها" أي إرادة التكرار "للمانع" منها "قالوا" أي المكررون أيضا: الأمر "نهي عن أضداده،(2/287)
وهو" أي النهي "دائمي" أي يمنع من المنهي عنه دائما "فيتكرر" الأمر "في المأمور" أي به، والوجه عدم حذفه ثم الظاهر فيتكرر المأمور به. "قلنا: تكرر" النهي "المضمون فرع تكرر" الأمر "المتضمن، فإثبات تكرره" أي تكرر الأمر المتضمن "به" أي بتكرر النهي المضمون "دور" لتوقف تكرر كل منهما على الآخر "وليس" هذا الجواب "بشيء" دافع لهذا الاستدلال "بل إذا كان" تكرر النهي المضمون "فرعه" أي تكرر الأمر المتضمن "وتحققنا ثبوته" أي تكرر النهي "استدللنا به" أي بتكرره "على أن الأصل" أي الأمر "كذلك" أي للتكرار "من قبيل" البرهان "الآني" هو الاستدلال بالأثر على المؤثر "بل" يلزم "للفرعية" أي لكون تكرار النهي فرع تكرار الأمر "إذا كان" الأمر "دائما كان" نهيا عن أضداده "دائما أو" كان الأمر "في" وقت "معين ففيه" أي الوقت المعين الأمر "نهي الضد" أي عن أضداده "أو" كان الأمر مطلقا ففي "وقت الفعل" للمأمور به يكون الأمر نهيا عن أضداده "المعلق" أي القائل الأمر المعلق على شرط أو صفة يدل على التكرار قال "تكرر" المأمور به "في نحو {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} فتكرر وجوب الاطهار بتكرر الجنابة. "قلنا: الشرط هنا علة فيتكرر" موجب الأمر "بتكرارها اتفاقا" ضرورة تكرر المعلول بتكرر علته "لا بالصفة وأما غيره" أي ما لا يكون علة "كإذا دخل الشهر فأعتق(2/288)
ص -373-…فخلاف" في كونه للتكرار "والحق النفي" أي نفي التكرار فيه "فإن قلت فكيف نفاه" أي تكرر الحكم بتكرار الوصف الذي هو علته "الحنفية في السارق والسارقة" {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} "فلم يقطعوا في" المرة "الثالثة" يد السارق اليسرى إذا كان قد قطع في الأولى يده اليمنى، وفي الثانية رجله اليسرى مع أن السرقة علة القطع "وجلدوا في الزاني بكرا أبدا" أي كلما زنى مع أن الزنا علة الجلد "فالجواب أما مانعو تخصيص العلة فلم يعلق" القطع عندهم "بعلة" هي السرقة "لأن عدم قطع يده في الثانية إجماعا نقض" لكونها علة لتخلف حكمها عنها "فوجب عدم الاعتبار" لها علة له "فبقي موجبه" أي النص "القطع مرة مع السرقة" بخلاف الجلد في الزنا فإنه علق بعلة هي الزنا فتكرر بتكرره. "والوجه العام" أي على القول بجواز تخصيص العلة وبعدم جوازه بين هذين "أنه" أي نص القطع "مؤول إذ حقيقته قطع اليدين بسرقة واحدة" وهي غير معمول بها إجماعا "بل صرف" النص "عنه" أي عن قطع اليدين "إلى واحدة هي اليمنى بالسنة" قلت: غير أن كون السنة مفيدة للاقتصار على واحدة كثير، وسنذكر بعضا منه، وأما كونها معينة لليمنى فلا يحضرني منها ما يفيد بمجرده تعين اليمنى ألبتة بل غاية ما حضرني منها أنه صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فقطع يمينه كما أخرجه الطبراني وهو لا يفيد تعينها من حيث إنها يمنى بل إنما يفيد كون قطعها مخرجا عن العهد لكونها من صدقات اليد، من غير تعرض لعدم إجزاء قطع اليسرى، نعم إذا ضم إليه. ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم قطع اليسرى مع قيام اليمنى فحيث لم يقطع اليسرى حينئذ واليمنى أنفع؛ لأنه يتمكن بها من الأعمال وحدها ما لا يتمكن منه باليسرى، ومن عادته طلب الأيسر للأمة ما أمكن دل على تعين اليمنى للقطع لم يكن به بأس "وقراءة ابن مسعود" فاقطعوا أيمانهما على ما في غير موضع من تفسير البيضاوي، أو والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم على ما في تفسير(2/289)
الزجاج والكشاف، والقراءة الشاذة حجة على الصحيح "والإجماع" وفي هذا كفاية ولا عبرة بما نقل عن شذوذ من الاكتفاء بقطع الأصابع لأن بها البطش "فظهر" بهذه الأدلة "أن المراد" من النص "انقسام الآحاد على الآحاد أي كل سارق فاقطعوا يده اليمنى بموجب حمل المطلق" وهو أيديهما "عليه" أي المقيد وهو اليمنى لما ذكرنا على أنا نقول "فلو فرضت" السرقة "علة" للقطع "تعذر" القطع في الثانية "لفوت محل الحكم" الذي هو القطع وهو اليمنى "في الثانية" لقطعها في الأولى "بخلاف الجلد" فإنه يتكرر بالزنا لعدم فوت محله وهو البدن بالجلد السابق، ثم لا يقال لما تعذر في الثانية أقيمت الرجل اليسرى مقامها فيه لأنا نقول لا نسلم ذلك لأنه لا مدخل للرأي فيه. "وقطع الرجل في الثانية بالسنة ابتداء" فقد روى الشافعي والطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سرق السارق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله" إلى غير ذلك وبالإجماع، وقال "الواقف" لو ثبت كونه للمرة أو للتكرار "فأما بالآحاد" وهي إنما تفيد الظن - والمسألة علمية - أو بالتواتر وهو يمنع الخلاف والعقل الصرف لا مدخل له فيه فلزم الوقف "وتقدم مثله" أي مثل هذا في مسألة صيغة الأمر خاص في الوجوب للواقف في كونها له أو لغيره وجوابه "وسؤال" الأقرع بن حابس النبي صلى الله عليه وسلم عن الحج "ألعامنا هذا أم للأبد أورده فخر الإسلام" دليلا(2/290)
ص -374-…"لاحتمال التكرار"، فقال فلو لم يحتمل لما أشكل عليه "وهو" أي وكونه دليلا "للوقف بالمعنى الثاني" وهو لا يدري مراد المتكلم به أهو المرة أم التكرار "أظهر" من كونه دليلا لاحتمال التكرار لأن كونه ظاهرا للمرة لا يستلزم كون السؤال في محل الحاجة لجواز العمل به من غير حاجة إلى الاستخبار عن الاحتمال المرجوح بخلاف ما إذا كان مراد المتكلم خفيا على السامع فإن سؤاله في محل الحاجة وهو الأصل فيه والأصل الحمل على الأصل "وإيراده" دليلا "لإيجاب التكرار وجه بعلمه" أي السائل "بدفع الحرج" في الدين وفي حمل الأمر بالحج على التكرار حرج عظيم فأشكل عليه فسأل قال المصنف "وإنما يصحح" هذا التوجيه "السؤال" على تقدير كون الأمر للتكرار، إذ يقال: إنه حينئذ لم يكن محتاجا إليه فيعتذر بهذا "لا كونه دليلا لوجوب التكرار" لاستغنائه حينئذ عن السؤال ظاهرا، وأما قوله "أو احتماله" ففيه نظر لأن الاستفسار قد يكون للقطع بالمرجوح لظنه بقرينة عليه "ثم الجواب" للجمهور عن هذا السؤال "أن العلم بتكرير" الحكم "المتعلق بسبب متكرر ثابت فجاز كونه" أي سؤال السائل "لإشكال أنه" أي سبب الحج "الوقت فيتكرر" الحج لتكرر الوقت "أو" أن سببه "البيت فلا" يتكرر لا لكون الأمر يوجب التكرار أو يحتمله أو للوقف في مقتضاه، والاحتمال مسقط للاستدلال ثم الحديث بهذا اللفظ لم أقف عليه، والذي في صحيح مسلم وسنن النسائي عن أبي هريرة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا" فقال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم "، نعم كون السائل الأقرع بن حابس هو كذلك على ما في رواية ابن عباس عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه، ثم وجه الاستدلال به أن المعنى لو قلت نعم لتقرر الوجوب في كل عام على ما هو المستفاد من الأمر، وأجيب بالمنع بل معناه لصار(2/291)
الوقت سببا لأنه صلى الله عليه وسلم كان صاحب الشرع وإليه نصب الشرائع. هذا وفي التلويح وفي أكثر الكتب أن السائل هو سراقة، فقال في حجة الوداع ألعامنا هذا أم للأبد ولا تعلق له بالأمر ا هـ. والله - تعالى - أعلم بذلك والذي في مسند أبي حنيفة والآثار لمحمد بن الحسن عن جابر قال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بما أمر في حجة الوداع قال سراقة بن مالك يا نبي الله أخبرنا عن عمرتنا هذه ألنا خاصة أم هي للأبد قال هي للأبد "وبنى بعض الحنفية" أي كثير منهم كفخر الإسلام وصدر الشريعة "على التكرار وعدمه واحتماله طلقي نفسك أو طلقها يملك" المأمور أن يطلق "أكثر من الواحدة" جملة ومتفرقة "بلا نية على الأول" أي التكرار، أما ما لو نوى واحدة أو ثنتين ففي الكشف والتحقيق ينبغي أن يقتصر على ما نوى عندهم، لأنه وإن أوجب التكرار عندهم فقد يمنع عنه بدليل، والنية دليل، انتهى. وتعقب بأن المنع عنه مسلم إذا لم يمنع منه مانع، وفيما فيه تخفيف وجد المانع فلا يصدق قضاء في صرف اللفظ عن موجبه، وهو الثلاث للتخفيف "وبها" أي ويملك أكثر من الواحدة بالنية "على الثالث" أي احتمال التكرار مطابقا لنيته من اثنين وثلاث فإن لم يكن له نية أو نوى واحدة فواحدة لا غير "وعلى الثاني" أي عدم احتماله التكرار "وهو" أي الثاني "قولهم" أي الحنفية(2/292)
ص -375-…مسألة
الفور" للأمر وهو امتثال المأمور به عقبه "ضروري للقائل بالتكرار" له لأنه من لازم(2/293)
ص -376-…استغراق الأوقاف بالفعل المأمور به مرة بعد أخرى "وأما غيره" أي القائل بالتكرار "فإما" أن المأمور به "مقيد بوقت يفوت الأداء بفوته" أي الوقت، يأتي الكلام فيه مستوفى في الفصل الثالث في المحكوم فيه "أو لا" أي أو غير مقيد بوقت يفوت الأداء بفوته، وإن كان واقعا في وقت لا محالة "كالأمر بالكفارات والقضاء" للصوم والصلاة "فالثاني" أي غير المقيد المذكور "لمجرد الطلب فيجوز التأخير" على وجه لا يفوت المأمور به أصلا كما يجوز البدار به، وهو الصحيح عند الحنفية، وعزي إلى الشافعي وأصحابه، واختاره الرازي والآمدي وابن الحاجب والبيضاوي ,. وقال ابن برهان: لم ينقل عن الشافعي وأبي حنيفة نص، وإنما فروعهما تدل على ذلك ا هـ. وقد يعبر بالتراخي، والمراد به أنه جائز كالبدار لا أن البدار لا يجوز فإنه خلاف الإجماع على ما نقله غير واحد "وقيل يوجب الفور أول أوقات الإمكان" للفعل المأمور به وهو معزو إلى المالكية والحنابلة وبعض الحنفية وقال "القاضي" الأمر يوجب "إما إياه" أي فعل المأمور به على الفور "أو العزم" عليه في ثاني الحال. "وتوقف إمام الحرمين في أنه لغة للفور أم لا فيجوز التراخي ولا يحتمل وجوبه" أي التراخي "فيمتثل بكل" من الفور والتراخي "مع التوقف في إثمه بالتراخي، وقيل بالوقف في الامتثال" إن بادر به للتوقف فيه كما يتوقف في الفور "لاحتمال وجوب التراخي، لنا" على المختار وهو أنه لمجرد الطلب أنه "لا يزيد دلالة على مجرد الطلب" من فور أو تراخ لا بحسب المادة ولا بحسب الصيغة "بالوجه السابق" في السابقة، وهو إطباق العربية على أن هيئة الأمر لا دلالة لها إلا على الطلب في خصوص زمان إلى آخره "وكونه" دالا "على أحدهما" أي الفور أو التراخي "خارج" عن مدلوله "يفهم بالقرينة ك اسقني" فإنه يدل على الفور للعلم العادي بأن طلب السقي يكون عند الحاجة إليه عاجلا "وافعل بعد يوم" فإنه يدل على التراخي بقوله بعد يوم "قالوا" أي(2/294)
القائلون بالفور. أولا "كل مخبر" بكلام خبري ك زيد قائم "ومنشئ ك بعت وطلق يقصد الحاضر" عند الإطلاق والتجرد من القرائن حتى يكون موجدا للبيع والطلاق بما ذكره "فكذا الأمر" والجامع بينه وبين الخبر كون كل منهما من أقسام الكلام، وبينه وبين سائر الإنشاءات - التي يقصد بها الحاضر - كون كل منهما إنشاء. "قلنا" هذا "قياس في اللغة" لأنه قياس الأمر في إفادته الفور على غيره من الخبر والإنشاء وهو مع عدم اختلاف حكمه غير جائز فما الظن "مع اختلاف حكمه فإنه في الأصل تعين الحاضر ويمتنع في الأمر غير الاستقبال في المطلوب" لأن الحاصل لا يطلب "والحاضر الطلب وليس الكلام فيه" أي في الطلب بل في المطلوب "فإن كان" المطلوب إيجاده مطلوبا "أول زمان يليه" أي الطلب "فالفور أو" إن كان المطلوب إيجاده مطلوبا في زمان هو "ما بعده" أي ما بعد أول زمان يلي الطلب "فوجوب التراخي أو" إن كان المطلوب إيجاده مطلوبا "مطلقا فما يعينه" المأمور من الوقت "لا على أنه" أي التراخي "مدلول الصيغة قالوا" ثانيا "النهي يفيد الفور فكذا الأمر" لأنه طلب مثله. "قلنا" قياس في اللغة وأيضا الفور "في النهي ضروري بخلاف الأمر، والتحقيق أن تحقيق المطلوب به" أي بالنهي "وهو الامتثال" إنما يكون "بالفور" لأنه كما تقدم لترك المنهي عنه، وتحقق تركه(2/295)
ص -377-…إنما يكون بتركه في كل الأوقات "لا أنه" أي النهي "يفيده" أي الفور. "وقولنا ضروري فيه أي في امتثاله قالوا" ثالثا "الأمر نهي عن الأضداد وهو" أي النهي "للفور فيلزم فعل المأمور به على الفور ليتحقق امتثال النهي عنها" أي أضداد المأمور به "وتقدم" الآن "نحوه وما هو التحقيق" فيه وهو أن الامتثال بالفور لا أن النهي يفيده "قالوا" رابعا "ذم" الله - تعالى - إبليس "على عدم الفور" بقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] حيث قال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 340] فدل على أنه للفور، وإلا لأجاب بأنك ما أمرتني بالبدار، وسوف أسجد "قلنا" هذا "مقيد بوقت" أي وقت تسويته ونفخ الروح فيه، وقد "فوته" أي إبليس الامتثال "عنه بدليل {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} لأن العامل في إذا فقعوا فالتقدير فقعوا له ساجدين وقت تسويتي إياه ونفخي فيه الروح، فامتناع تأخير السجود عن زمان التسوية والنفخ مستفاد من امتناع تأخير المظروف عن ظرفه الزماني لا من مجرد الأمر "قالوا" خامسا "لو جاز التأخير لوجب إلى" وقت "معين أو إلى آخر أزمنة الإمكان والأول" أي وجوب التأخير إلى وقت معين "منتف" لأنه إن كان مذكورا فالفرض خلافه لأن الكلام في المطلق عن الوقت لا في المقيد به، وإن لم يكن مذكورا فلا إشعار للأمر به ولا دليل من خارج عليه فإن قيل بل عليه دليل من خارج، وهو غلبة الظن بفواته على تقدير تأخيره عن ذلك الوقت لأنا لا نعني بالوقت المذكور إلا ذلك. أجيب بالمنع فإنه لا بد للظن من أمارة وليست إلا كبر السن أو المرض الشديد ونحوهما وهي مضطربة إذ كم من شاب يموت فجأة وشيخ ومريض يعيش مدة "والثاني" أي وجوب تأخيره إلى آخر أزمنة الإمكان تكليف "ما لا يطاق" لكونه غير معين للمكلف فيكون مكلفا بالفعل في وقت يجهله، وبالمنع عن تأخيره عن وقت لا(2/296)
يعلمه وهو محال "أجيب بالنقض" الإجمالي "بجواز التصريح بخلافه" بأن يقول الشارع افعل ولك التأخير فإن هذا جائز إجماعا وما ذكر من الدليل جار فيه "و" بالنقض التفصيلي "بأنه إنما يلزم" تكليف ما لا يطاق "بإيجاب التأخير إليه" أي آخر أزمنة الإمكان. "أما جوازه" أي التأخير "إلى وقت يعينه المكلف فلا" يلزم منه تكليف ما لا يطاق "لتمكنه من الامتثال" بالبدار في أول أزمنة الإمكان "قالوا" سادسا "وجبت المسارعة" إلى الفعل المأمور به - - لقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] للاتفاق على أن المراد المسارعة إلى سبب المغفرة لأن نفس المغفرة ليست في قدرة العبد، فأطلق المسبب وأريد السبب، ومن سببها فعل المأمور به كما أنه أيضا من الخيرات فتجب المسارعة والمسابقة إليه، وإنما يتحققان بفعله على الفور. "الجواب جاز" أن يكون كل من هاتين الآيتين مفيدة لإيجاب الفور "تأكيدا لإيجابه بالصيغة" كما قالوا "وتأسيسا" أي وجاز أن يكون كل منهما مفيدة لفائدة جديدة، وهي وجوب الفور بناء على أن الصيغة غير متعرضة لوجوبه كما قلنا "فلا يفيد" كل منهما "أنه" أي الفور "موجبها" أي الصيغة عينا كما هو مطلوبهم لعدم انتهاض الاستدلال على المطلوب مع احتمال خلافه "فكيف والتأسيس مقدم" على التأكيد إذا تعارضا فيترجح أن الصيغة غير دالة عليه "فانقلب"(2/297)
ص -378-…دليلهم عليهم "إذ أفاد" دليلهم "حينئذ نفيه" أي الفور؛ لأن كلا من المسارعة والاستباق مباشرة الفعل في وقت مع جواز الإتيان به في غيره. "القاضي ثبت حكم خصال الكفارة في الفعل والعزم وهو" أي حكمها "العصيان بتركهما" أي الفعل والعزم "وعدمه" أي العصيان "بأحدهما" أي بالفعل أو العزم "فكان" الحكم المذكور "مقتضاه" أي الأمر. "والجواب: الجزم بأن الطاعة" إنما هي "بالفعل بخصوصه، فوجوب العزم ليس مقتضاه" أي الأمر "على التخيير" بينه وبين الفعل "بل هو" أي العزم "على" فعل "ما ثبت وجوبه من أحكام الإيمان" يثبت مع ثبوت الإيمان لا اختصاص له بهذه الصيغة ولا بهذا الفعل. "الإمام الطلب محقق، والشك في جواز التأخير فوجب الفور" ليخرج عن العهدة بيقين "واعترض" على هذا بأنه "لا يلائم ما تقدم له" أي الإمام "من التوقف في كونه للفور، وأيضا وجوب المبادرة ينافي قوله" أي الإمام "أقطع بأنه مهما أتى به موقع بحكم الصيغة للمطلوب" ذكره التفتازاني قال المصنف "وأنت إذا وصلت قوله" أي الإمام "للمطلوب ينافي قوله: وإنما التوقف في أنه لو أخر هل يأثم بالتأخير مع أنه ممتثل لأصل المطلوب لم تقف عن الجزم بالمطابقة، فإن وجوب الفور بعد ما قال ليس إلا احتياطا لاحتمال الفور لا أنه مقتضى الصيغة، وأن الشك في جواز التأخير بالشك في الفور" أي بسببه؛ لأن الشك في أحد الضدين شك في الآخر بالضرورة "ثم كونه ممتثلا بحكم الصيغة ينافي الإثم إلا أن يرادا ثم ترك الاحتياط" وبعد تسليم أن الفور احتياط فكون تركه مؤثما محل نظر "نعم لو قال" الإمام "القضاء بالصيغة لا بسبب جديد أمكن" عدم المنافاة بين الامتثال بحكم الصيغة والتأثيم بالتأخير إلى ما بعد زمن الفور لجواز جعله ممتثلا بحكم الصيغة - من حيث القضاء - وآثما بتركه الامتثال بحكم الصيغة - من حيث الأداء -، هذا ما ظهر لي في توجيه هذه الزيادة وعليه من التعقب. أولا أن المصطلح عند الشافعية أن العبادة إذا(2/298)
لم يكن لها وقت محدود الطرفين - كسجدة التلاوة والصلاة المطلقة - لا توصف بأداء ولا قضاء. وثانيا أن المشهور عن عامة الشافعية أن القضاء بسبب جديد. وثالثا أن نفس الإمام قد قال بعد ما تقدم: فأما وضع التوقف في أن المؤخر هل يكون كمن أوقع ما طلب منه وراء الوقت الذي يتأقت به الأمر حتى لا يكون ممتثلا أصلا؟ فهذا بعيد لأن الصيغة مرسلة، ولا اختصاص لها بزمان فلم تكن حاجة إلى هذه الزيادة. "وأجيب لا شك" في جواز التأخير "مع دليلنا" المفيد له فوجب العمل به ثم هذا تنبيه كان الأولى ذكره في ذيل مسألة صيغة الأمر خاص في الوجوب
"قيل: مسألة الأمر للوجوب شرعية لأن محمولها الوجوب وهو شرعي وقيل لغوية وهو ظاهر الآمدي وأتباعه"، والصحيح عند أبي إسحاق الشيرازي "إذ كرروا قولهم في الأجوبة: قياس في اللغة وإثبات اللغة بلوازم الماهية وهو" أي كونها لغوية "الوجه إذ لا خلل" في ذلك، وإن كان محمولها الوجوب "فإن الإيجاب لغة الإثبات والإلزام، وإيجابه - سبحانه - ليس إلا إلزامه، وإثباته على المخاطبين بطلبه الحتم فهو" أي الوجوب الشرعي "من أفراد اللغوي" فإن قيل بل ينبغي أن تكون شرعية لأنه مأخوذ في تعريف الوجوب استحقاق العقاب بالترك وهو إنما يعرف بالشرع فالجواب المنع "واستحقاقه العقاب بالترك ليس جزء المفهوم" للوجوب(2/299)
ص -379-…"بل" لازم "مقارن بخارج عقلي أو عادي لأمر كل من له ولاية الإلزام وهو" أي الخارج المذكور "حسن عقاب مخالفه" أي أمر من له ولاية الإلزام "وتعريف الوجوب طلب" لفعل "ينتهض تركه سببا للعقاب" كما ذكره غير واحد "تجوز" بمطلق الوجوب "لإيجابه - تعالى - أو" لإيجاب "من له ولاية الإلزام بقرينة ينتهض إلى آخره، فيصدق إيجابه - تعالى - فردا من مطلقه" أي الوجوب اللغوي "وظهر أن الاستحقاق" للعقاب بالترك "ليس لازم الترك" مطلقا "بل" هو لازم "لصنف منه" أي من الوجوب "لتحقق الأمر ممن لا ولاية له مفيدا للإيجاب فيتحقق هو" أي الوجوب فيه "ولا استحقاق" للعقاب "بتركه" لأنه "بلا ولاية" للآمر عليه.
مسألة(2/300)
"الآمر" لشخص "بالأمر" لغيره "بالشيء ليس آمرا به" أي بالشيء "لذلك المأمور، وإلا" لو كان آمرا به لذلك "كأن" مر عبدك ببيع ثوبي "تعديا" على المخاطب بالتصرف في عبد بغير إذنه "وناقض قولك للعبد لا تبعه" لنهيه عن بيع ما أمره ببيعه. قالوا: واللازم منتف فيهما قال السبكي: ولقائل أن يقول على الأول إنما يكون متعديا لو كان أمره لعبد الغير غير لازم لأمر السيد لعبده بذلك لكنه لازم له هنا لدلالة "مر عبدك بكذا" على أمر السيد بأمر عبده بذلك وعلى أمره هو العبد بذلك وهذا لازم للأول بمعنى أن أمر القائل للعبد بذلك متوقف على أمر السيد إياه به لازم له، وحينئذ لا يكون أمره للعبد تعديا لأنه موافق لأمر السيد له بذلك فهو آمر بما أمره به سيده. سلمناه لكن لا نسلم أن التعدي لأجل أن الصيغة لم تقتضه بل لوجود المانع من ذلك - وهو التصرف في ملك الغير من غير سلطان عليه - وهذا المانع مفقود في أوامر الشرع لوجود سلطان التكليف له علينا فلا تعدي حينئذ. وعلى الثاني إنما يلزم التناقض لو كان اللازم مستلزما للإرادة، وجاز أن يكون أحد الأمرين غير مراد فلا تناقض، انتهى. وفيه نظر لأنه ليس هنا تدافع بين أمرين بل بين أمر ونهي فالأولى قول المصنف "ولا يخفى منع بطلان" اللازم "الثاني" الذي هو التناقض "إذ لا يراد بالمناقضة هنا إلا منعه" أي المأمور من البيع "بعد طلبه" أي البيع "منه" أي المأمور به "وهو" أي منعه منه بعد طلبه منه "نسخ" لطلبه هذا هو المختار وقيل أمر به. "قالوا فهم ذلك من أمر الله - تعالى - رسوله بأن يأمرنا" فإنه يفهم منه أن الآمر هو الله - تعالى - "و" أمر "الملك وزيره" بأن يأمر فلانا بكذا فإنه يفهم أن الآمر الملك. "أجيب بأنه" أي فهم ذلك في كليهما "من قرينة أنه" أي المأمور أولا "رسول" ومبلغ عن الله كما في الأول، وعن الملك كما في الثاني "لا من لفظ الأمر المتعلق به" أي بالمأمور به ثانيا، ومحل النزاع إنما هو هذا ثم قال(2/301)
السبكي: ومحل النزاع قول القائل: مر فلانا بكذا، أما لو قال: قل لفلان افعل كذا فالأول آمر والثاني مبلغ بلا نزاع، وصرح به ابن الحاجب في المنتهى وسوى التفتازاني بينهما في الإرادة بموضوع المسألة، ثم قال وقد سبق إلى بعض الأوهام أن المراد الأول فقط، يعني ما كان بلفظ الأمر فهذا يشير إلى أن التسوية بينهما هو الثبت وهو الأشبه، والله سبحانه أعلم.(2/302)
ص -380-…مسألة
"إذا تعاقب أمران" غير متعاطفين "بمتماثلين في" مأمور به "قابل للتكرار" ك صل ركعتين صل ركعتين "بخلاف" أمرين متعاقبين غير متعاطفين بمتماثلين في مأمور به غير قابل للتكرار، نحو صم اليوم "صم اليوم ولا صارف عنه" أي التكرار "من تعريف" للمأمور به بعد ذكره منكرا "ك صل الركعتين" بعد صل ركعتين "أو" من "عادة ك اسقني ماء" اسقني ماء "فإنه" أي كون الثاني مؤكدا الأول في هذه الصورة "اتفاق" أما في الأول فظاهر لعدم القابلية للتكرار وأما في الثانية فلأن الأصل الأكثري أن النكرة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى، وأما في الثالثة فلأن دفع الحاجة بمرة واحدة غالبا يمنع تكرار السقي، وسيعلم فائدة ما بقي من القيود "قيل بالوقف" في كونه تأسيسا أو تأكيدا، وهو لأبي بكر الصيرفي وأبي الحسين البصري. "وقيل: تأكيد" وهو لبعض الشافعية والجبائي "وقيل: تأسيس" وهو للأكثرين على ما ذكر السبكي ولعبد الجبار على ما في البديع "لأنه أفود، ووضع الكلام للإفادة ولأنه الأصل، والأول" وهو لأنه أفود ووضع الكلام للإفادة "يغني عن هذا" أي لأنه الأصل وهو ظاهر "والكل" أي وكل منهما "لا يقاوم الأكثرية" للتكرير في التأكيد لأنه كثر التكرير في التأكيد ما لم يكثر في التأسيس فيحمل على التأكيد حملا للفرد على الأعم الأغلب "ومعارض بالبراءة الأصلية" أي والتأسيس معارض بما في التأكيد من الموافقة للأصل، الذي هو براءة ذمة المكلف من تعلق التكلف بها مرة ثانية إذ لا ضرورة تدعو إليه، والأصل عدمه "بعد منع الأصالة" أي كون الأصل في الكلام الإفادة "في التكرار" إنما ذاك في غير التكرار بشهادة الكثرة "فيترجح" التأكيد "وإذ منع كون التأسيس أكثر في محل النزاع" وهو توالي أمرين بمتماثلين في قابل للتكرار لا صارف عنه "سقط ما قيل" أي ما قاله الواقف "تعارض الترجيح" في التأسيس والتأكيد "فالوقف" لأنه ظهر أرجحية التأكيد عليه فلا وقف هذا في التعاقب بلا عطف(2/303)
"وفي العطف ك وصل ركعتين" بعد صل ركعتين "يعمل بهما" أي الأمرين لأن التأكيد بواو العطف لم يعهد أو يقل قال القرافي واختاره القاضي أبو بكر وهو الذي يجيء على قول أصحابنا، وقيل: يكون الثاني عين الأول، انتهى. والأول هو الوجه "إلا إن ترجح التأكيد" في المعطوف بمرجح عادي من تعريف أو غيره ولا معارض يمنع منه "فيه" أي فيعمل بالتأكيد "أو" يوجد "التعادل" بين تراجيح كونه تأسيسا وتأكيدا "فبمقتضى خارج" أي فالعمل بمقتضى خارج عنهما إن وجد، وإلا فالوقف ك اسقني ماء، واسقني الماء؛ لأن العادة والتعريف في مقابلة العطف والتأسيس، فإن قيل بل يترجح التأسيس لما فيه من الاحتياط لاحتمال الوجوب مرة ثانية، أجيب: قد يكون الاحتياط في الحمل على التأكيد لاحتمال الحرمة في المرة الثانية، هذا كله في الأمرين بمتماثلين فإن كانا مختلفين عمل بهما اتفاقا متعاطفين كانا ك صم وصل أو غير متعاطفين ك صم صل ذكره في البديع وغيره، لكن ذكر القرافي أن الثاني إذا كان ضده يشترط فيه أن يكون في وقتين، نحو أكرم زيدا وأهنه فإن اتحد الوقت حمل على التخيير ولا يحمل على النسخ لأن من شرطه التراخي حتى يستقر الأمر الأول ويقع التكليف والامتحان(2/304)
ص -381-…به ويكون الواو حينئذ بمعنى أو حتى يحصل التخيير. وفي المحصول: فإن كان أحدهما عاما والآخر خاصا، نحو صم كل يوم صم يوم الجمعة فإن كان الثاني غير معطوف كان تأكيدا، وإن كان معطوفا فقال بعضهم: لا يكون داخلا تحت الكلام الأول ليصح العطف، والأشبه الوقف للتعارض بين ظاهر العموم وظاهر العطف، وقال القاضي عبد الوهاب: والصحيح أن ذلك محمول على ما يسبق للوهم عند السماع من التفخيم والتعظيم للاسم المذكور اهتماما به بذكره ثانيا على تقدير كونه مؤخرا، وبذكره أولا على تقدير البداءة به، ثم هذا كله في المتعاقبين فإن تراخى أحدهما عن الآخر عمل بها، سواء تماثلا أو اختلفا، وسواء كان الثاني معطوفا أو غير معطوف والله سبحانه أعلم.
مسألة(2/305)
"اختلف القائلون بالنفسي فاختيار الإمام والغزالي وابن الحاجب أن الأمر بالشيء فورا ليس نهيا عن ضده" أي ذلك الشيء "ولا يقتضيه" أي النهي عن ضده "عقلا، والمنسوب إلى العامة من الشافعية والحنفية والمحدثين أنه نهي عنه إن كان" الضد "واحدا" فالأمر بالإيمان نهي عن الكفر "وإلا" فإن كان له أضداد "فعن الكل" أي فهو ينهى عن كلها فالأمر بالقيام نهي عن القعود والاضطجاع والسجود وغيرها، ذكره صاحب الكشف وغيره. "وقيل" نهي "عن واحد غير عين" من أضداده "وهو بعيد" ظاهر البعد "وإن النهي أمر بالضد المتحد" فالنهي عن الكفر أمر بالإيمان "وإلا" فإن كان له أضداد "فقيل" أي قال بعض الحنفية والمحدثين وهو أمر "بالكل" أي بأضداده كلها "وفيه بعد" يظهر مما سيأتي. والعامة: من الحنفية والشافعية والمحدثين هو أمر "بواحد غير عين" من أضداده "فالقاضي أبو بكر" الباقلاني قال "أولا كذلك" أي الأمر بالشيء نهي عن ضده، والنهي عن الشيء أمر بضده "وآخرا يتضمنان" أي يتضمن الأمر بالشيء النهي عن ضده، والنهي عن الشيء الأمر بضده "ومنهم من اقتصر على الأمر" أي قال الأمر بالشيء نهي عن ضده، وسكت عن النهي وهو معزو إلى أبي الحسن الأشعري ومتابعيه "وعمم" الأمر في أنه نهي عن الضد "في الإيجابي والندبي فهما" أي الأمر الإيجابي والأمر الندبي "نهيا تحريم وكراهة في الضد" أي فالأمر الإيجابي نهي تحريمي عن الضد، والأمر الندبي نهي تنزيهي عن الضد "ومنهم من خص أمر الوجوب" فجعله نهيا تحريميا عن الضد دون الندب "واتفق المعتزلة لنفيهم" الكلام "النفسي على نفي العينية فيهما" أي على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده، ولا بالعكس لعدم إمكان ذلك فيهما لفظا.(2/306)
"واختلفوا هل يوجب كل من الصيغتين" أي صيغتي الأمر والنهي "حكما في الضد؟ فأبو هاشم وأتباعه لا بل" الضد "مسكوت" عنه "وأبو الحسين وعبد الجبار" الأمر "يوجب حرمته" أي الضد "وعبارة" طائفة "أخرى" الأمر "يدل عليها" أي حرمة ضده "و" عبارة طائفة "أخرى" الأمر "يقتضيها" أي حرمة ضده. والحاصل أن حرمة الضد لما لم تكن عندهم من موجبات صيغة الأمر فرارا من أن يكون الأمر نهيا عن ضده تنوعت أشارتهم إلى ذلك على ما(2/307)
ص -382-…قالوا، فمن قال يوجب أشار إلى أن حرمة الضد تثبت ضرورة تحقق حكم الأمر كالنكاح أوجب الحل - في حق الزوج بصيغته - والحرمة في حق الغير بحكمه دون صيغته، ومن قال يدل أشار إلى أنها تثبت بطريق الدلالة لأن الصيغة تدل على الحرمة، وإن لم تكن الحرمة من موجباتها، كالنهي عن التأفيف يدل على حرمة الضرب، وإن لم تكن حرمته من موجبات لفظ التأفيف، ومن قال يقتضي أشار إلى أنها تثبت بطريق الضرورة المنسوبة إلى غير لفظ الأمر لأن المقتضى يثبت زيادة على اللفظ بطريق الضرورة، ولا يخفى على المتأمل ما فيه "وفخر الإسلام والقاضي أبو زيد وشمس الأئمة" السرخسي وصدر الإسلام "وأتباعهم" من المتأخرين الأمر "يقتضي كراهة الضد، ولو كان" الأمر "إيجابا والنهي" يقتضي "كونه" أي الضد "سنة مؤكدة، ولو" كان النهي "تحريما، وحرر أن المسألة في أمر الفور لا التراخي" ذكره شمس الأئمة وصدر الإسلام وصاحب القواطع وغيرهم "وفي الضد" الوجودي "المستلزم للترك، لا الترك" ذكره الشيخ سراج الدين الهندي والسبكي وغيرهما ثم قالوا "وليس النزاع في لفظهما" أي الأمر والنهي بأن يطلق لفظ أحدهما على الآخر للقطع بأن صيغة الأمر افعل ونحوها، وصيغة النهي لا تفعل "ولا المفهومين" أي وليس النزاع في أن مفهوم أحدهما - وهو الصيغة التي هي كذا - عين مفهوم الآخر أو في ضمنه "للتغاير" أي للقطع بأن مفهوم كل منهما غير مفهوم الآخر "بل" النزاع "في أن طلب الفعل - الذي هو الأمر - عين طلب ترك ضده الذي هو النهي" فالجمهور: نعم فالمتعلق واحد والمتعلق به شيئان متلازمان، فهو عندهم كالعلم المتعلق بمعلومين متلازمين، فكما يستحيل أن يتحقق العلم بأحدهما ويجهل الآخر يستحيل أن يتحقق الاقتضاء النفسي لفعل دون اقتضائه لترك ضده، والقاضي آخرا: لا، إلا أنه يثني المتعلق والمتعلق به جميعا فيرى أن الأمر النفسي يقارنه نهي نفسي أيضا فيكون وجود القول النفسي - الذي هو اقتضاء القيام ويعبر عنه(2/308)
ب قم - متضمنا وجود قول آخر في النفس يعبر عنه بلا تقعد ويكون القول المعبر عنه ب قم متضمنا للقول الثاني ومقارنه حتى لا يوجد منفردا عنه ويجري مجرى الجوهر والعرض من حيث إنه لا يمكن انفصالهما. والإمام والغزالي ومن وافقهما لا أيضا، إلا أنهم يوحدون المتعلق والمتعلق به هذا، وذهب الغزالي أيضا إلى أن غيرية أحدهما للآخر إنما هي في غير كلام الله - تعالى - فقال طلب القيام هل هو بعينه طلب ترك القعود وهذا لا يمكن فرضه في حق الله - تعالى - فإن كلامه واحد، وهو أمر ونهي ووعد ووعيد، فلا تتطرق الغيرية إليه فليفرض في المخلوق وهو أن طلبه للحركة هل هو بعينه كراهة السكون وطلب لتركه، ا هـ. ووافقه على هذا أبو نصر القشيري وأجيب بأنه لا شك في أنه في ذاته واحد ولكنه متعدد باعتبار المتعلقات، وكلامنا في الغيرية بهذا المعنى ثم قد علم من هذا أيضا أن النزاع في أن النهي عن الشيء أمر بضده أو لا إنما هو في أن طلب الكف عن الشيء الذي هو النهي هل هو عين طلب فعل ضده الذي هو الأمر أم لا، فقيل نعم اتحد الضد أم تعدد وقيل بل أمر بالمتحد، وإلا فبواحد غير عين وقيل لا ولكن يتضمنه، ولعله إنما لم يذكره لأن ما ذكر يرشد إليه "وقول فخر الإسلام ومن معه" الأمر بالشيء يقتضي كراهة ضده،(2/309)
ص -383-…والنهي يقتضي كون ضده سنة مؤكدة "لا يستلزم اللفظي" أي كون المراد بالأمر الأمر اللفظي وبالنهي النهي اللفظي "بل هو" أي هذا القول "كالتضمن في قول القاضي آخرا" فإنه أفاد أنه اختار هذا بناء على أن كلا من الأمر والنهي لما كان ثابتا في الآخر ضرورة لا مقصودا، وكان الثابت بغيره ضرورة لا يساوي بنفسه لأن الأول ثابت بقدر ما ترتفع به الضرورة، والثاني ثابت من كل وجه سماه اقتضاء، ثم قال هو وغيره: وليس المراد بالاقتضاء هنا المصطلح - وهو جعل غير المنطوق منطوقا لتصحيح المنطوق إذ لا توقف لصحة المنطوق عليه - بل أنه ثابت بطريق الضرورة غير مقصود، فسمي به لشبهه به من حيث الثبوت ضرورة، ومن ثمة كان موجب الأمر والنهي هنا بقدر ما تندفع به الضرورة وهو الكراهة والترغيب كما يجعل المقتضى مذكورا بقدر ما تندفع به الضرورة وهو صحة الكلام وهذا في المعنى ما ذهب إليه القاضي من المراد بالتضمن لكن هذا لا يعين كون المراد بكل من الأمر والنهي في كلام فخر الإسلام النفسي بل الظاهر أن اللفظي هو المراد له كما فيما تقدم من أول كتابه إلى هذا الباب "ومراده" أي فخر الإسلام "غير أمر الفور لتنصيصه على تحريم الضد المفوت" يعني إذا كان الأمر للوجوب فقال: وفائدة هذا الأصل أن التحريم إذا لم يكن مقصودا بالأمر لم يعتبر إلا من حيث يفوت الأمر فإذا لم يفوته كان مكروها كالأمر بالقيام ليس بنهي عن القعود قصدا حتى إذا قعد لم تفسد صلاته بنفس القعود، ولكنه يكره، ا هـ. ولو كان مراده أمر الفور إما بناء على أنه له كما ذهب إليه الرازي أو لأنه مضيق ابتداء كما في صوم رمضان أو بسبب ضيق الوقت كالأمر بالصلاة عند ضيق الوقت لم يتأت القول بكراهة الضد لأنه ما من ضد إلا، والاشتغال به مفوت للمأمور به حينئذ "وعلى هذا" الذي تحرر مرادا لفخر الإسلام "ينبغي تقييد الضد بالمفوت ثم إطلاق الأمر عن كونه فوريا" فيقال: الأمر بالشيء نهي عن ضده المفوت له أو(2/310)
يستلزمه، وعلى قياسه: والنهي عن الشيء أمر بضده المفوت عدمه له فيئول في المعنى إلى قول صدر الشريعة: إن الصحيح أن الضد إن فوت المقصود بالأمر يحرم، وإن فوت عدمه المقصود بالنهي يجب، وإن لم يفوت فالأمر يقتضي كراهته، والنهي كونه سنة مؤكدة لكن كما قال التفتازاني: حاصل هذا الكلام أن وجوب الشيء يدل على حرمة تركه، وحرمة الشيء يدل على وجوب تركه وهذا مما لا يتصور فيه نزاع، انتهى. وأما الباقي فسيأتي ما فيه إن شاء الله تعالى.
"وفائدة الخلاف" في كون الأمر بالشيء نهيا عن ضده أو يستلزمه. أو لا تظهر إذا ترك المأمور به وفعل ضده الذي لم يقصد بنهي من حيث "استحقاق العقاب بترك المأمور به فقط" كما هو لازم القول بأنه ليس نهيا عن ضده ولا يستلزمه "أو" استحقاق العقاب "به" أي بترك المأمور به "وبفعل الضد حيث عصى أمرا ونهيا" كما هو لازم القول بأنه نهي عن ضده أو يستلزمه، وفي كون النهي عن الشيء أمرا بضده تظهر إذا فعل المنهي عنه وترك ضده الذي لم يقصد بأمر من حيث استحقاق العقاب بفعل المنهي عنه فقط كما هو لازم القول بأنه ليس أمرا بضده أو به وبترك فعل الضد كما هو لازم القول بأنه أمر بضده ولعله إنما لم يذكره اكتفاء(2/311)
ص -384-…بإرشاد الأول إليه "للنافين" كون الأمر نهيا عن ضده وبالعكس أنه "لو كانا" أي النهي عن الضد والأمر بالضد "إياهما" أي الأمر بالشيء والنهي عن الشيء "أو لازميهما" أي الأمر بالشيء والنهي عن الشيء "لزم تعقل الضد في الأمر والنهي والكف" في الأمر والأمر في النهي "لاستحالتهما" أي الأمر والنهي حينئذ "ممن لم يتعقلهما" أي الضد والكف في الأمر والضد والأمر في النهي "والقطع بتحققهما" أي الأمر والنهي "وعدم خطورهما" أي الضد والكف في الأمر والضد والأمر في النهي "واعترض بأن ما لا يخطر الأضداد الجزئية، والمراد" بالضد هنا "الضد العام" أي المطلق وهو ما لا يجامع المأمور به الدائر في الأضداد الجزئية. "وتعلقه" أي الضد العام "لازم" للأمر والنهي "إذ طلب الفعل موقوف على العلم بعدمه" أي الفعل "لانتفاء طلب الحاصل وهو" أي العلم بعدمه "ملزوم العلم بالخاص" أي بالضد الخاص "وهو" أي الضد الخاص "ملزوم للعام" أي للضد العام "ولا يخفى ما في الاعتراض من عدم التوارد أولا، وتناقضه في نفسه ثانيا، إذ فرضهم الجزئية" للضدية في نفي الخطور "فلا تخطر" الأضداد الجزئية "تسليم" لنفي خطور الضد الجزئي "وقوله" العلم بعدم الفعل "ملزوم العلم بالخاص يناقض ما لا يخطر إلى آخره" أي الأضداد الجزئية لأن العلم بالضد الخاص إثبات خطور له "وأجيب" عن هذا الاعتراض "بمنع التوقف" للأمر بالفعل "على العلم بعدم التلبس" بذلك الفعل في حال الأمر "لأن المطلوب مستقبل فلا حاجة له إلى الالتفات إلى ما في الحال ولو سلم" توقف الأمر بالفعل على العلم بعدم التلبس به. "فالكف" عن الفعل الذي هو الضد "مشاهد" محسوس "ولا يستلزم" الكف حينئذ "العلم بفعل ضد خاص لحصوله" أي الكف "بالسكون" فلا يلزم تعقل الضد "ولو سلم" لزوم تعقل الضد "فمجرد تعقله الضد ليس ملزوما لطلب تركه" الضد "لجواز الاكتفاء" في الأمر "بمنع ترك الفعل" المأمور به "إما لما قيل: لا نزاع في أن الأمر(2/312)
بالشيء نهي عن تركه، وإما لأنه" أي منع تركه "بطلب آخر" غير طلب الفعل المأمور به "لخطور الترك عادة، وطلب ترك تركه" أي المأمور به "الكائن بفعله وزان لا تترك وكذا الضد المفوت" أي مطلوب بطلب آخر لخطوره عادة وطلب تركه بفعل المأمور به "فالأوجه أن الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن تركه غير مقصود" استلزاما "بالمعنى الأعم" فيه "وكذا" الأمر بالشيء نهي "عن الضد المفوت لخطوره كذلك" يعني إذا تعقل مفهوم الضد المفوت وتعقل معنى طلب الترك حكم به فيه وبلزومه له قاله المصنف "فإنما التعذيب به" أي بالضد "لتفويته" المأمور به فالتعذيب على فعل الضد من حيث إنه مفوت لا مطلقا "فإما ضد بخصوصه" إذا كان للمأمور به ضد غيره "فليس لازما عادة للقطع بعدم خطور الأكل من تصور الصلاة في العادة، القاضي لو لم يكن" الأمر بالشيء "إياه" أي نهيا عن ضده وبالعكس "فضده أو مثله أو خلافه" لأنهما حينئذ إن تنافيا لذاتيهما أي يمتنع اجتماعهما في محل واحد بالنسبة إلى ذاتيهما فضدان، وإن تساويا في الذاتيات واللازم فمثلان، وإن لم يتنافيا بأنفسهما بأن لم يتنافيا أو تنافيا لا بأنفسهما فخلافان. "والأولان" أي كونهما ضدين وكونهما مثلين "باطلان"، وإلا لم يجتمعا لاستحالة اجتماع الضدين والمثلين(2/313)
ص -385-…"واجتماع الأمر بالشيء مع النهي عن ضده لا يقبل التشكيك" لأن وقوعه ضروري كما في: تحرك ولا تسكن "وكذا الثالث" أي كونهما خلافين باطل أيضا "وإلا جاز كل" أي اجتماع كل من الأمر بالشيء والنهي عن الشيء "مع ضد الآخر كالحلاوة والبياض" أي يجوز أن تجتمع الحلاوة مع ضد البياض، وهو السواد "فيجتمع الأمر بشيء مع ضد النهي عن ضده" أي الشيء "وهو" أي ضد النهي عن ضد الشيء "الأمر بضده" أي الشيء "وهو" أي الأمر بشيء مع ضد النهي عن ضده "تكليف بالمحال لأنه" أي الأمر "طلبه" أي الفعل "في وقت طلب فيه عدمه" أي الفعل فقد طلب منه الجمع بين الضدين والجمع بينهما محال. "أجيب بمنع كون لازم كل خلافين ذلك" أي اجتماع كل مع ضد الآخر "لجواز تلازمهما" أي الخلافين بناء على ما عليه المشايخ من أنه لا يشترط في التغاير جواز الانفكاك كالجوهر مع العرض والعلة مع معلولها المساوي "فلا يجامع" أحدهما "الضد" للآخر لأن اجتماع أحد المتلازمين مع شيء يوجب اجتماع الآخر معه فيلزم اجتماع كل مع ضده، وهو محال "وإذن فالنهي إن كان طلب ترك ضد المأمور به اخترناهما" أي الأمر بالشيء والنهي عن ضده "خلافين ولا يجب اجتماعه" أي النهي "مع ضد طلب المأمور به كالصلاة مع إباحة الأكل" فإنهما خلافان ولا يجب اجتماعهما "وبعد تحرير النزاع لا يتجه الترديد بينه" أي ترك ضد المأمور به أن يكون هو المراد بالنهي "وبين فعل ضد ضده" أي المأمور به "الذي يتحقق به ترك ضده، وهو" أي فعل ضد ضده "عينه" أي المأمور به أن يكون هو المراد بالنهي. وإذن "فحاصله طلب الفعل طلب عينه وإنه لعب ثم إصلاحه" حتى لا يكون لعبا "بأن يراد أن طلب الفعل له اسمان أمر بالفعل ونهي عن ضده، وهو" أي النزاع "حينئذ" أي حين يكون المراد: هذا نزاع "لغوي" في تسمية فعل المأمور به تركا لضده وفي تسمية طلبه نهيا ولم يثبت ذلك. "ولهم" أي القائلين الأمر بالشيء عين النهي عن ضده وبالعكس وهو القاضي وموافقوه(2/314)
"أيضا فعل السكون عين ترك الحركة، وطلبه" أي فعل السكون "استعلاء - وهو" أي طلبه استعلاء "الأمر - طلب تركها" أي الحركة "وهو" أي طلب تركها "النهي وهذا" الدليل "كالأول يعم النهي" لأنه يقال أيضا بالقلب "والجواب برجوع النزاع لفظيا" كما ذكره ابن الحاجب وغيره "ممنوع بل هو" أي النزاع "في وحدة الطلب القائم بالنفس وتعدده" أي الطلب القائم بها "بناء على أن الفعل - أعني الحاصل بالمصدر وترك أضداده - واحد في الوجود بوجود واحد أو لا" أي أو ليس كذلك "بل الجواب ما تضمنه دليل النافين من القطع بطلب الفعل مع عدم خطور الضد وأيضا فإنما يتم" هذا الدليل "فيما أحدهما" أي الأمر والنهي "ترك الآخر كالحركة والسكون لا الأضداد الوجودية فليس" ما أحدهما ترك الآخر "محل النزاع عند الأكثر ولا تمامه" أي محل النزاع "عندنا" لأنه أعم من ذلك "وللمعمم" أي القائل "في النهي": إنه أمر بالضد "دليلا القاضي" وهما لو لم يكن نفسه لكان مثله أو ضده أو خلافه، وهي باطلة، وترك السكون الحركة، فطلبه طلبها "والجواب" عنهما "ما تقدم" آنفا وهو منع كون لازم الخلافين ذلك لجواز تلازمهما والقطع بطلب الفعل مع عدم خطور الضد "وأيضا يلزم في نهي الشارع كون كل من المعاصي المضادة" كاللواط والزنا(2/315)
ص -386-…"مأمورا به مخيرا" مثابا عليه إذا ترك أحدهما إلى الآخر على قصد الامتثال والإتيان بالواجب "ولو التزموه" أي هذا "لغة غير أنها" أي المعاصي "ممنوعة بشرعي كالمخرج من العام" من حيث إن العام "يتناوله" أي المخرج "ويمتنع فيه" أي المخرج "حكمه" أي العام بموجب لذلك "أمكنهم وعلى اعتباره فالمطلوب ضد لم يمنعه الدليل وأما إلزام نفي المباح" على هذا القول؛ إذ ما من مباح إلا وهو ترك حرام كما هو مذهب الكعبي وهو باطل كما يأتي "فغير لازم" إذ لا يلزم من ترك الشيء فعل ضده "المضمن" أي القائل بأن الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده قال "أمر الإيجاب طلب فعل يذم تركه فاستلزم النهي عنه" أي ترك المأمور به "وعما يحصل به" ترك المأمور به "وهو" أي ترك المأمور به "الضد" للأمر، وهو النهي "ونقض" هذا بأنه "لو تم لزم تصور الكف عن الكف لكل أمر" لأن الكف عن الفعل منهي عنه حينئذ، والنهي طلب فعل هو كف فيكون الأمر متضمنا لطلب الكف عن الكف، والحكم بالشيء فرع تصوره فيلزم تصور الكف عن الكف، واللازم باطل للقطع بطلب الفعل مع عدم خطور الكف عن الكف فلا يكون الكف الذي ذم عليه منهيا عنه فلا يستلزم الأمر بالشيء النهي عن الكف ولا عن الضد "ولو سلم" عدم النقص بهذا لعدم لزوم تصور الكف عن الكف في كل أمر للدليل المذكور لأن الكف مشاهد فيستغنى بمشاهدته عن تصوره على أن النهي غير مقصود بالذات وإنما هو مقصود بالعرض فهو معترض من وجه آخر كما أشار إليه بقوله "منع كون الذم بالترك جزءا لوجوب" في نفس الأمر "وإن وقع" الذم بالترك "جزء التعريف" الرسمي له "بل هو" أي الوجوب "الطلب الجازم ثم يلزم تركه" أي مقتضاه "ذلك" أي الذم "إذا صدر" الأمر "ممن له حق الإلزام" فلا يكون الأمر متضمنا للنهي لأن المبحث أنه يستلزمه بحسب مفهومه لا بالنظر إلى أمر خارج عن مفهومه "ولو سلم" كون الذم بالترك جزء الوجوب "فجاز كون الذم عند الترك لأنه لم يفعل" ما أمر به.(2/316)
قال المصنف: "ولا يخفى أنه لا يتوجه الذم على العدم من حيث هو عدم بل من حيث هو فعل المكلف وليس العدم فعله بل الترك المبقي للعدم على الأصل وما قيل لو سلم" أن الأمر بالشيء متضمن للنهي عن ضده "فلا مباح" لأن الشيء حينئذ مطلوب فعله وترك ضده، والمباح ليس أحدهما "غير لازم" لجواز عدم طلب فعل شيء، وعدم طلب ترك ضده، وفعل أو ترك ما هو كذلك هو المباح "وإلا" لو كان ذلك مستلزما نفي المباح "امتنع التصريح بلا تعقل الضد المفوت" لأن تحصيل الحاصل محال. "والحل أن ليس كل ضد مفوتا، ولا كل مقدر ضدا كذلك" أي مفوتا "كخطوه في الصلاة وابتلاع ريقه وفتح عينه وكثير، وأيضا لا يستلزم" هذا الدليل "محل النزاع وهو: الضد" للأمر "غير الترك" للمأمور به "لأن متعلق النهي اللازم" للأمر "أحد الأمرين من الترك والضد" أي لا يلزم أن يكون متعلقا بالضد الجزئي لقطعنا بأن لزومه لنفي التفويت، وهو كما يثبت بفعل الضد يثبت بمجرد الترك "فنختار الأول" أي أن اللازم النهي عن الترك فلا يثبت أن الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضد المأمور به.(2/317)
ص -387-…"وزاد المعممون في النهي" أي القائلون بأن النهي عن الشيء يتضمن الأمر بضده "أنه" أي النهي "طلب ترك فعل وتركه" أي الفعل "بفعل أحد أضداده" أي الفعل "فوجب" أحد أضداده وهو الأمر لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب "ودفع" هذا "بلزوم كون كل من المعاصي إلى آخره" أي المضادة مأمورا به مخيرا "وبأن لا مباح وبمنع وجوب ما لا يتم الواجب أو المحرم إلا به وفيهما" أي لزوم كون كل من المعاصي إلى آخره وبأن لا مباح "ما تقدم" من أنهم لو التزموا الأول لغة أمكنهم وأن الثاني غير لازم "وأما المنع" لوجوب ما لا يتم الواجب أو المحرم إلا به "فلو لم يجب" ما لا يتم الواجب أو المحرم إلا به "جاز تركه ويستلزم" جواز تركه "جواز ترك المشروط أو جواز فعله" أي المشروط "بلا شرطه الذي لا يتم إلا به وسيأتي تمامه" في مسألة ما لا يتم الواجب إلا به وهنا لا يلزم ذلك من جواز ترك الأمر "بل يمنع أنه" أي النهي "لا يتم إلا به" أي طلب فعل الضد المعين "بل يحصل" النهي "بالكف المجرد" عن الفعل المطلوب تركه "والمخصص في العينية واللزوم" أي المقتصر على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده أو يستلزمه وليس النهي عن الشيء أمرا بضده ولا يستلزمه "فإما لأن النهي طلب نفي" أي فإما لأن مذهبه أن النهي طلب نفي الفعل الذي هو عدم محض كما هو مذهب أبي هاشم لا طلب الكف عن الفعل الذي هو ضده فلا يكون أمرا بالضد ولا يستلزمه إذ لا فعل ثمة حينئذ ولا ضد للعدم المحض "مع منع أن ما لا يتم الواجب إلى آخره" أي إلا به فهو واجب علاوة على هذا "وإما لظن ورود الإلزام الفظيع" وهو كون الزنا واجبا لكونه تركا للواط على تقدير كون النهي عن الشيء أمرا بضده أو يستلزمه "أو الظن أن أمر الإيجاب استلزم النهي باستلزام ذم الترك" أي بهذه الواسطة "والنهي لا" يستلزم الأمر لأنه طلب فعل هو كف وذاك طلب فعل غير كف "مع منع أن ما لا يتم إلى آخره" علاوة على هذا "وإما لظن ورود إبطال المباح(2/318)
كالكعبي" على تقدير كون النهي عن الشيء أمرا بضده دون العكس لأن المباح ترك المنهي عنه، وإذا كان المنهي عنه مأمورا به كان المباح مأمورا به فلا يكون المباح مباحا "ومخصص أمر الإيجاب" بكونه نهيا عن ضده أو مستلزما له دون الندب "لظن ورود الأخيرين" على تقدير كون أمر الندب بالشيء نهيا عن ضده دون أمر الوجوب وهما أن استلزام الذم للترك المستلزم للنهي إنما هو في أمر الوجوب وأن لزوم إبطال المباح إنما هو على تقدير كون الأمر للندب لا للوجوب وهو ظن لا بأس به لأن أمر الندب لا يستلزم ذم الترك، وأوامر الندب تستغرق الأوقات فلو استلزمت كراهة أضداد المندوبات بطل بالكلية المباحات المضادة لها بخلاف أوامر الإيجاب فإنها إنما تمنع المباحات المضادة للواجبات في وقت لزوم الأداء خاصة، وتبقى في غير ذلك الوقت مباحة فلا ينتفي المباح بالكلية "وعلمت مرجع فخر الإسلام إلى العامة" في المعنى على ما فيه "ولا يخفى أن ما مثل به لكراهة الضد من أمر قيام الصلاة لا يفوت بالقعود فيها" لجواز أن يعود إليه لعدم تعيين الزمان "ويكره اتفاقي لا من مقتضى الأمر بل مبنى الكراهة خارج هو التأخير" للقيام عن وقته من غير تفويت "وإلا" لو كان القعود فيها مفوتا لأمر القيام "فسدت" وكان ذلك القعود حراما "وكذا(2/319)
ص -388-…قول أبي يوسف بالصحة فيمن سجد على مكان نجس في الصلاة وأعاد على طاهر" ليس من مقتضى الأمر "لأنه" أي سجوده على نجس "تأخير السجدة المعتبرة عن وقتها لا تفويت" لها "وهو" أي تأخيرها عن وقتها "مكروه وفسدت" الصلاة "عندهما" أي أبي حنيفة ومحمد "للتفويت" لأمر الطهارة "بناء على أن الطهارة في الصلاة" وصف "مفروض الدوام" في جميعها فاستعمال النجس في جزء منها في وقت ما يكون مفوتا للمقصود بالأمر وقد تحقق في هذه الصورة لأن استعمال النجاسة كما يكون بحملها تحقيقا يكون بحملها تقديرا كما هنا لأنها إذا كانت في موضع وضع الوجه يصير وضعا للوجه باعتبار أن اتصاله بالأرض ولصوقه بها يصير ما هو وصف للأرض وصفا له، وحكاية الخلاف بينهم هكذا مذكورة في أصول فخر الإسلام وشمس الأئمة ومتابعيهما والمنظومة والمجمع، وذكر القدوري في شرح مختصر الكرخي أن النجاسة إذا كانت في موضع سجوده فروى محمد عن أبي حنيفة أن صلاته لا تجزئ إلا أن يعيد السجود على موضع طاهر وهو قول أبي يوسف ومحمد، وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أن صلاته جائزة. وجه الأولى أن السجود في الصلاة كالقيام فكما لا يعتد به مع النجاسة فكذا السجود. وجه الأخرى أن الواجب عنده أن يسجد على طرف أنفه، وهو أقل من قدر الدرهم، واستعمال أقل من قدر الدرهم من النجاسة لا يمنع جواز الصلاة، فأما على قولهما فالسجود على الجبهة واجب وهي أكثر من قدر الدرهم فإذا استعمله في الصلاة لم يجز فأما إذا سجد على موضع نجس ثم أعاد على طاهر جاز لأن السجود على النجاسة غير معتد به فكأنه لم يسجد، ولا يجعل كمن استعملها في حال الصلاة لأن الوضع على النجاسة أهون من حملها ثم ذكر ما لا يفيد ذلك إلا ما إذا افتتح على موضع طاهر ثم نقل قدمه إلى مكان نجس ثم أعاده إلى مكان طاهر صحت صلاته إلا أن يتطاول حتى يصير في حكم الفعل الذي إذا زيد في الصلاة أفسدها، والله سبحانه أعلم.(2/320)
"وأما قوله" أي فخر الإسلام "النهي يوجب في أحد الأضداد السنية كنهي المحرم عن المخيط، سن له الإزار والرداء فلا يخفى بعده عن وجه الاستلزام" قلت وفي هذا سهو فإن لفظ فخر الإسلام وأما النهي عن الشيء فهل له حكم في ضده فساق ما ساق إلى أن قال: وقال بعضهم يوجب أن يكون ضده في معنى سنة واجبة وعلى القول المختار يحتمل أن يقتضي ذلك، انتهى. أي كون الضد في معنى سنة مؤكدة إذا كان النهي للتحريم، ووجه بأن النهي الثابت في ضمن الأمر لما اقتضى الكراهة التي هي أدنى من الحرمة بدرجة وجب أن يقتضي الأمر الثابت في ضمن النهي سنية الضد التي هي أدنى من الواجب بدرجة اعتبارا لأحدهما بالآخر، وغير خاف أن هذا التلازم غير لازم كما أشار إليه المصنف ثم في التحقيق وغيره ولم يرد بالسنة ما هو المصطلح بين الفقهاء وهو ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن ذلك لا يثبت إلا بالنقل، وإنما أراد به ترغيبا يكون قريبا إلى الوجوب، وقال يحتمل لأنه لم ينقل هذا القول نصا عن السلف ولكن القياس اقتضى ذلك حتى قال أبو زيد في التقويم لم أقف على أقوال الناس في حكم النهي على الاستقصاء كما وقفت على حكم الأمر ولكنه ضد الأمر فيحتمل(2/321)
ص -389-…أن يكون للناس فيه أقوال على حسب أقوالهم في الأمر، والنهي المشار إليه ما في الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم من الثياب فقال: "لا يلبس القميص ولا العمائم ولا البرانس ولا السراويل ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين" نعم تقدم أن العامة على أن النهي عن الشيء أمر بضده المتحد، وإلا فبواحد غير عين من أضداده لكن الظاهر أن النهي عن لبس المخيط سواء ثبت بهذا اللفظ أو بمعناه للإجماع على أن المراد بالحديث المذكور ذلك ذو ضد متحد لأنه لا واسطة بين لبس المخيط ولبس غيره فيلزم على هذا أن يكون لبس الإزار والرداء واجبا لا سنة على أن كون لبس الإزار والرداء ضدا للبس المخيط ليس مما نحن فيه إذا لوحظ غير هذا الحديث مما يفيد حكم لبسهما لأن الكلام في ضد لم يقصد بأمر وهذا قد قصد به فقد قال ابن المنذر ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين" إلا أن النووي قال حديث غريب ويغني عنه ما ثبت عن ابن عباس قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد ما ترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه ولم ينه عن شيء من الأزر والأردية تلبس إلا المزعفرة التي تردع على الجلد حتى أصبح بذي الحليفة ركب راحلته حتى استوى على البيداء أهل هو وأصحابه، رواه البخاري، والله سبحانه أعلم.(2/322)
"وأما النهي فالنفسي طلب كف عن فعل" فخرج الأمر لأنه طلب فعل غير كف "على جهة الاستعلاء" فخرج الالتماس والدعاء "وإيراد: كف نفسك" عن كذا على طرده لصدقه عليه مع أنه أمر جوابه "إن كان" المراد به "لفظه فالكلام في النفسي" فلا يرد عليه لعدم صدق الحد عليه "أو" كان المراد "معناه التزمناه نهيا" نفسيا فلا يقدح دخوله في طرده بل هو محقق له "وكذا معنى اطلب الكف" نهي نفسي "لوحدة معنى اللفظين" أي كف نفسك، أو اطلب الكف، وكذا اترك كذا وأنا طالب كفك إذا أريد بهما المعنى لأن هذه الألفاظ دالة على قيام طلب الكف بالقائل "وهو" أي هذا المعنى الذي هو الكف هو "النهي النفسي واللفظي وهو غرض الأصولي" لأن بحثه إنما هو عن الأدلة اللفظية السمعية من حيث يوصل العلم بأحوالها إلى قدرة إثبات الأحكام الشرعية للمكلفين كما تقدم مثله في الأمر "مبنى تعريفه أن لذلك الطلب صيغة تخصه" بمعنى أنها لا تستعمل في غيره حقيقة "وفي ذلك" أي في أن له صيغة تخصه من الخلاف "ما في الأمر" والصحيح في كليهما نعم "وحاصله" أي تعريف النهي اللفظي "ذكر ما يعينها" أي ما يميز تلك الصيغة من غيرها من الصيغ "فسميت" المذكورات لذلك "حدودا والأصح" في تعريفه "لا تفعل أو اسمه كمه حتما استعلاء" وظاهر أن لا تفعل نهي لفظي، وأما زيادة أو اسم لا تفعل يعني من حيث المعنى كمه فلأنه اسم لا تكفف، وهو و "لا تفعل" واحد في المعنى وأما حتما فلأن ذكر كل منهما لا على هذا السبيل ليس من هذا القبيل وأما اشتراط كونه في حال الاستعلاء ففيه خلاف وهذا هو المختار كما تقدم مثله في الأمر "وهي" أي هذه الصيغة خاص "للتحريم" دون الكراهة "أو الكراهة" دون التحريم أو مشترك لفظي بين التحريم والكراهة أو معنوي لوضعها للقدر المشترك بينهما وهو طلب الكف استعلاء(2/323)
ص -390-…أو متوقف فيها بمعنى لا ندري لأيهما وضعت "كالأمر" أي كصيغته هل هي خاص للوجوب فقط أو للندب فقط أو مشترك لفظي بينهما أو معنوي أو متوقف فيها لا ندري لأيهما وضعت ثم يريد الأمر بباقي المذاهب المذكورة ثمة "والمختار" أن صيغة النهي حقيقة "للتحريم لفهم المنع الحتم من المجردة" وهو أمارة الحقيقة "ومجاز في غيره" أي التحريم لعدم تبادر الأحد الدائر في التحريم وغيره فلا يكون حقيقة فيه فانتفى الاشتراك المعنوي، والأصل عدم الاشتراك اللفظي، والمجاز خير منه فتعين ثم هذا الحد النفسي. وقد ذكر ابن الحاجب نحوه غير منعكس لصدقه على الكراهة النفسية "فمحافظة عكس النفسي بزيادة حتم، وإلا دخلت الكراهة النفسية فالنهي" النفسي "نفس التحريم، وإذا قيل مقتضاه" أي النهي التحريم "يراد اللفظي" لأن التحريم نفس النفسي لا مقتضاه "وتقييد الحنفية التحريم بقطعي الثبوت وكراهته" أي التحريم "بظنيه" أي الثبوت "ليس خلافا" في أن النهي النفسي نفس التحريم "ولا تعدد في نفس الأمر" فإن الثابت في نفس الأمر طلب الترك حتما ليس غير، وهذا الطلب قد يصل ما يدل به عليه بقاطع إلينا فيحكم بثبوت الطلب قطعا وهو التحريم وقد يصل بظني فيكون ذلك الطلب مظنونا فنسميه كراهة تحريم ذكره المصنف "وكون تقدم الوجوب" للمنهي عنه قبل النهي عنه "قرينة الإباحة" أي كون النهي للإباحة "ذكر الأستاذ" أبو إسحاق الإسفراييني "نفيه" أي نفي كون تقدمه قرينة لكون النهي للإباحة "إجماعا، وتوقف الإمام" أي إمام الحرمين في ذلك حيث قال في البرهان ذكر الأستاذ أبو إسحاق أن صيغة النهي بعد تقدم الوجوب محمولة على الخطر، والوجوب السابق لا ينتهض قرينة في حمل النهي على رفع الوجوب، وادعى الوفاق في ذلك ولست أرى ذلك مسلما أما أنا فساحب ذيل الوقف عليه كما قدمته في صيغة الأمر بعد الحظر وما أرى المخالفين يسلمون ذلك، ا هـ. "لا يتجه إلا بالطعن في نقله" أي الإجماع "ونقل الخلاف" فيه،(2/324)
وظاهر كلام الإمام أنه لم يقله إلا تخمينا فلا يقدح "إذ بتقدير صحته" أي الإجماع على ذلك "يلزم استقراؤهم ذلك" أي أنه بعد الوجوب ليس قرينة كونه للإباحة "وموجبها" أي صيغة النهي ولو اسمها "الفور والتكرار أي الاستمرار خلافا لشذوذ" ذهبوا إلى أنه مطلق الكف من غير دلالة على الدوام والمرة، ونص في المحصول على أنه المختار، وفي الحاصل أنه الحق لأنه قد يستعمل لكل منهما، والمجاز والاشتراك اللفظي خلاف الأصل فيكون للقدر المشترك وأجيبوا بأن العلماء لم يزالوا يستدلون بالنهي على الترك مع اختلاف الأوقات من غير تخصيص بوقت دون وقت ولولا أنه للدوام لما صح ذلك ومن هنا - والله أعلم - حكى ابن برهان الإجماع على ذلك ثم لا يخفى أنه إذا كان المراد بالتكرار دوام ترك المنهي عنه كان مغنيا عن الفور لاستلزامه إياه.
مسألة
"الأكثر إذا تعلق" النهي "بالفعل كان" النهي "لعينه" أي لذات الفعل أو جزئه "مطلقا" أي حسيا كان أو شرعيا "ويقتضي" النهي "الفساد شرعا وهو" أي الفساد شرعا "البطلان" وهو "عدم سببيته" أي خروج الفعل عن كونه سببا "لحكمه" وثمرته المقصودة منه "وقيل" يقتضي(2/325)
ص -391-…الفساد "لغة وقيل" يقتضي الفساد "في العبادات فقط" كما عليه أبو الحسين البصري والغزالي والإمام الرازي، ثم المذكور في أصول ابن الحاجب وغيره "يدل" مكان "يقتضي" وفرق بينهما بأن في لفظ الاقتضاء إشارة إلى أن القبح لازم متقدم بمعنى أنه يكون قبيحا فنهى الله عنه لا أن النهي يوجب قبحه كما هو رأي الأشعري لكن لا يخفى أن هذا لا يتأتى في عامة ما هنا، فليتأمل. "والحنفية كذلك" أي ذهبوا إلى أن النهي المتعلق بأفعال المكلفين دون اعتقاداتهم على ما في التلويح يكون لعين الفعل "في الحسي" وهو "ما لا يتوقف معرفته على الشرع كالزنا والشرب" أي شرب الخمر فإن كلا منهما يتحقق حسا ممن يعلم الشرع ومن لا يعلمه ولا يتوقف معرفة حقيقته على الشرع "إلا بدليل أنه" أي النهي عن الفعل "لوصف ملازم" للفعل المنهي عنه أي قائم به غير منفك عنه، فيكون حينئذ لغيره إلا أنه بمنزلة ما هو لعينه "أو" أن النهي عنه لوصف منفك عنه "مجاور" له فيكون لغيره أيضا إلا أنه لا يكون بمنزلة ما هو لعينه "كنهي قربان الحائض" فإن النهي عن وطئها في الحيض لمعنى استعمال الأذى، وهو مجاور للوطء غير متصل به وصفا لازما؛ إذ الوطء قد ينفك عنه كما في حالة الطهر "أما" الفعل "الشرعي" وهو ما يتوقف معرفته على الشرع "فلغيره" أي فالنهي عنه لغيره من جهة كونه "وصفا لازما للتحريم أو كراهته" أي التحريم "بحسب الطريق" الموصلة له إلينا من قطع أو ظن "للزوم المنهي" أي للزوم ذلك المعنى الذي هو مثار النهي بالفرض "كصوم" يوم "العيد" فإن الصوم الشرعي يتوقف معرفته على الشرع، وما في الصحيحين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم الفطر والنحر انتهى. لمعنى اتصل بالوقت الذي هو محل الأداء وصفا لازما له وهو كونه يوم ضيافة الله - تعالى - لعباده وفي الصيام إعراض عنها فكان حراما للإجماع عليه كما في الاختيار وشرح المهذب للنووي، وإلا فقد كان مقتضى اصطلاح الحنفية نظرا إلى السمعي(2/326)
المذكور كونه مكروها تحريما لأنه غير قطعي الثبوت "أو" فالنهي عنه لغيره من جهة كونه وصفا "مجاورا" له "ممكن الانفكاك" عنه "فالكراهة ولو" كان طريق ثبوت النهي "قطعيا كالبيع وقت النداء" أي أذان الجمعة بعد زوال شمس يومها فإن النهي عنه في قوله تعالى {وَذَرُوا الْبَيْعَ} لغيره "لترك السعي" أي للإخلال بالسعي الواجب إلى الجمعة وهو أمر مجاور للبيع قابل للانفكاك عنه فإن البيع يوجد بدون الإخلال بالسعي بأن يتبايعا في الطريق ذاهبين إليها، والإخلال بالسعي يوجد بدون البيع بأن يمكثا في الطريق من غير بيع "فإن نافى" الحكم الشرعي للنهي وهو التحريم "الأول" وهو النهي عنه لوصف ملازم "فباطل" أي ففعل المنهي عنه باطل "كنكاح المحارم ليس حكمه" أي النكاح "إلا الحل المنافي لمقتضاه" أي النهي وهو التحريم فكان نكاحهن باطلا فإن قيل يشكل عليه ثبوت النسب وعدم وجوب الحد فالجواب لا فإن هذه الأشياء ليست حكم العقد بل حكم شيء آخر كما أشار إليه قوله "وعدم الحد وثبوت النسب حكم الشبهة" أي صورة العقد عليهن هذا، وعدم الحد قول أبي حنيفة وسفيان الثوري وزفر وثبوت النسب ووجوب العدة أيضا قول بعض المشايخ تفريعا على هذا القول ومنهم من منع ثبوته ووجوبها لأن أقل ما يبتني(2/327)
ص -392-…كلاهما عليه وجود الحل من وجه وهو منتف في المحارم وعلى هذا لا ورود للإشكال بالنسبة إلى النسب والعدة، وأما على قول أبي يوسف ومحمد والأئمة الثلاثة فلا إشكال أصلا إذا علم بالتحريم لإيجابهم الحد عليه وعدم وجوب العدة وثبوت النسب، ويورد الإشكال بعدم الحد إذا لم يعلم بالتحريم على قولهم، ويدفع بأنه لعدم العلم بذلك، فليتنبه له. قال المصنف "ويجب مثله" أي هذا وهو البطلان "في العبادات" سواء كان النهي عنها لوصف ملازم أو لا، لأنها إذا لم تنتهض سببا لحكمها الذي شرعت له تحققت بوصف الباطل، إذ تصير عديمة الفائدة، وهذا بحث المصنف واختياره ورتب عليه خلافا لهم في بعض الفروع. "كصوم العيد" فإن النهي عنه لمعنى ملازم وهو الإعراض عن ضيافة الله - تعالى - فكان بعد كونه حراما لانعقاد الإجماع عليه بعد النهي عنه باطلا "لعدم الحل والثواب" أي لانتفاء صفة الحل وسببيته للثواب وهو الذي شرع له العبادة النافلة، ثم رتب على عدم حل الشروع فيه عدم لزوم القضاء بالإفساد فقال "فوجب عدم القضاء بالإفساد لأن وجوبه" أي القضاء بالإفساد "يتبعه" أي حل ابتداء الشروع، وهو منتف فإن قيل: فيلزم أن لا يصح النذر به لما في صحيح مسلم مرفوعا "لا نذر في معصية الله" لكنه يصح فالجواب المنع "وصحة نذره لأنه" أي نذره "غير متعلقه" الذي هو مباشرة الصوم المنذور فيه فصح "ليظهر" أثره "في القضاء تحصيلا للمصلحة" والحاصل أن صحة النذر به تتبع وجود المصلحة، لأن شرع المشروعات كلها لمصالح العباد، وفي تصحيح النذر به ذلك، وهو أن ينعقد به ليظهر في القضاء فيحصل به فما انعقد إلا موجبا للقضاء "فيجب" على هذا "أن لا يبرأ" الناذر "بصومه" لكنهم قائلون بخروجه عن نذره بصيامه مع العصيان لأنه نذر ما هو ناقص، وأداه كما التزمه ولما كان هذا مبنيا على أن موجب النذر وجوب أدائه فإذا لم يؤده حينئذ يوجب خلفه من القضاء دفعه بقوله "فإن لزم فيها" أي في صحة النذر "وجوب(2/328)
الأداء" للمنذور "أولا وجب نفيها" أي صحة النذر به لأنه نذر بمعصية وهي منهي عنه، غير أنا إنما صححنا حملا للنهي على ما إذا نذر بمعصية ليفعلها أما إذا نذر بمعصية لها قضاء هو عبادة فلا يلزم من الشرع نفيه لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر في معصية" نفي النذر أن يوجبها وحينئذ فيجب في تصحيح النذر بصوم العيد الاعتبار الذي ذكره فإن أبوا، إلا أن يشترط لصحته كونه يوجب أولا نفس المنذور منعنا صحة النذر حينئذ "خلافا لهم" أي للحنفية في الفصلين على التقديرين وهما وجوب أن لا يبرأ بصومه إن كانت صحة النذر ليست إلا لتظهر في وجوب القضاء فإنهم يقولون لو صام خرج عن عهدة النذر وصحة النذر إن كان أثره في إيجاب الأداء أولا لأنه تصحيح نذر بمعصية ثم هذا المذكور 1 من إطلاق صحة نذر صوم يومي العيدين وأيام التشريق، وأنه يفطر ويقضي ولو صامها أجزأه هو المسطور في كثير من الكتب المعتبرة وفي شرح مختصر
ـــــــــــــــــــ
1 قوله ثم هذا إلى قوله ولا يعرى عن تأمل هذه العبارة ساقطة من النسخة العتيقة المعتمدة ولكنها ملحة في هامش نسخة مصححة وعليها علامة كتبه مصححه.(2/329)
ص -393-…القدوري للحدادي: رجل نذر صوم يوم النحر صح نذره عندنا في ظاهر الرواية وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه لا يصح وبه قال زفر والشافعي والتوفيق: إذا عين النذر بيوم النحر لا يصح فتحمل رواية أبي يوسف على هذا، وإن قال لله علي صوم غد فكان الغد يوم النحر يلزم صومه وعليه يحمل ظاهر الرواية، ا هـ.
قلت وقد روى هذا التفصيل عن أبي حنيفة الحسن على ما في المبسوط وغيره، وهو يشعر بأن ظاهر الرواية إطلاق الصحة كما في عامة الكتب ويتلخص أن في هذه المسألة عن أبي حنيفة ثلاث روايات: الصحة مطلقا وهي ظاهر الرواية ومنعها مطلقا، وهي رواية أبي يوسف وابن المبارك عنه أيضا كما ذكره بعضهم وبه قال مالك كما في بعض المواضع والشافعي وأحمد والتفصيل وهي رواية الحسن عنه يوافقه ما في رواية ابن القاسم وابن وهب عن مالك: لو نذر صوم يوم فوافق يوم فطر أو نحر يقضيه، ووجهه أنه لما نص على يوم النحر فقد صرح بما هو منهي عنه بخلاف ما إذا لم ينص عليه فصار كقولها: لله علي صوم يوم حيضي - فلا يصح - وغدا، وهو يوم حيضها، فيصح لكن المسطور في الخلاصة وغيرها عزو هذا إلى أبي يوسف خلافا لزفر ثم توجيه قول أبي يوسف بأن ما يوجبه الإنسان على نفسه من الصوم في وقت بعينه بمنزلة ما يوجبه الله - تعالى - عليه في وقت بعينه، ومعلوم أنها لو حاضت في يوم من رمضان لزمها قضاؤه فكذا هذا كما في شرح الحدادي غير وجيه بالنسبة إلى ما نحن فيه وأوجه منه ما قيل لأنه أضيف إلى اليوم وهو محله. واعتراض الحيض منع الأداء لا الوجوب عند صدور النذر، وصار كنذرها صوم غد فجنت يجب القضاء بعد الإفاقة أو صوم غد، وهي حائض يجب القضاء لتصور انقطاع الدم، والمسألتان في الفتاوى الظهيرية بخلاف "يوم حيضي" لأنها لم تضفه إلى محله شرعا. قلت: على أن لقائل أن يقول لا يتم هذا القياس من حيث إن الحيض لا يلزم وجوده في غد، وإن كان يوم عادتها بخلاف الأيام المذكورة إذا نذر صيامها من غير نص(2/330)
عليها من حيث إنها محققة الوقوع في غد ونحوه فيما إذا ثبت شرعا تعينها لذلك وقت النذر، ثم قيل في الفرق بين نذر صوم يوم النحر على ظاهر الرواية ونذرها صوم يوم حيضها إن الحيض وصف للمرأة لا لليوم وقد ثبت بالإجماع أن طهارتها شرط لأدائه فلما علقت النذر بصفة لا تبقى معها أصلا للأداء لم يصح كالرجل يقول: لله علي أن أصوم يوما أكلت فيه بخلاف نذر صوم يوم النحر فإنه ليس كذلك ولا يعرى عن تأمل.
"وما خالف" ما ذكرنا من وجوب بطلان العبادات التي تعلق بها نهي التحريم "فلدليل كالصلاة" النافلة "في الأوقات المكروهة على ظنهم" أي الحنفية فإنهم حكموا بصحتها مع النهي المحرم أو الموجب لكراهة التحريم ففي صحيح مسلم والسنن الأربع عن عقبة بن عامر الجهني قال: لاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول وحين(2/331)
ص -394-…تضيف الشمس للغروب حتى تغرب". وأشار بقوله على ظنهم إلى أنه مخالف لظنهم ثم لما كان حاصل وجه ظنهم أن النهي تعلق بمسمى الصلاة، ومسماها مجموع الأركان وبمجرد الشروع لا تتحقق الأركان فلم يتحقق المنهي عنه فصح الشروع لعدم تعلق النهي بخلاف الصوم فإنه بمجرد الإمساك بنية يكون مرتكبا للمنهي عنه فلا يلزم المضي فيه ليلزم القضاء بالإفساد، أشار إليه مع دفعه بقوله "وكون مسماها" أي الصلاة "لا يتحقق إلا بالأركان لا يقتضي" إفسادها "وجوب القضاء لأنه" أي وجوب القضاء بالإفساد "بوجوب الإتمام قبل الإفساد والثابت نقيضه" أي نقيض وجوب الإتمام وهو حرمة الإتمام "ويلزم" أيضا "أن تفسد" الصلاة "بعد ركعة" لارتكاب المنهي عنه حينئذ "وهو" أي الفساد بعد ركعة "منتف عندهم فالوجه أن لا يصح الشروع لانتفاء فائدته من الأداء والقضاء ولا مخلص إلا بجعلها" أي كراهة الصلاة النافلة في الأوقات الثلاثة المكروهة "تنزيهية وهو" أي وجعلها تنزيهية "منتف إلا عند شذوذ. أما البيع فحكمه الملك ويثبت" الملك "مع الحرمة فيثبت" البيع مع النهي "مستعقبا له" أي للملك حال كونه "مطلوب التفاسخ رفعا للمعصية إلا بدليل البطلان وهو" أي وثبوت الملك مطلوب التفاسخ "فساد المعاملة عندهم" أي الحنفية، وقيد بها ليخرج العبادة، فإن فسادها عندهم وبطلانها سواء، إنما الفرق بين الفساد والبطلان في المعاملات فإن مقتضى النهي هو التحريم، والفرض أنه لا ينافي حكمه من الملك فلم يكن النهي مانعا من ثبوت حكمه، وهو نفس الصحة ومع كونه مطلوب التفاسخ هو الفساد "بخلاف بيع المضامين" جمع مضمون من ضمن الشيء بمعنى تضمنه ما تضمنه صلب الفحل من الولد، فيقول: بعت الولد الذي يحصل من هذا الفحل فإنه "باطل" لقيام الدليل على ثبوت البطلان فيه مع النهي عنه. فقد أخرج عبد الرزاق بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المضامين، والدليل كون النهي عنه "لعدم المحل" أي محليته(2/332)
الشرعية للبيع لأن الماء قبل أن يخلق منه الحيوان ليس بمال، والحكم لا يثبت إلا في المحل فكان باطلا بالضرورة، ثم ظهر أن حق العبادة أن يقال رفعا للمعصية، وهو فساد المعاملة عندهم إلا بدليل البطلان كبيع المضامين إلى آخره، فليتأمل. "أما الأول" أي كون حكم البيع الملك "فلعدم النافي" له كما هو الأصل "ووجود المقتضي، وهو الوضع الشرعي" لأن الشرع وضع البيع - وهو الإيجاب والقبول - لإثبات الملك ولم يوجد منه بعد ذلك سوى نهيه عنه إذا كان بصفة كذا، وهذا القدر لا يوجب تخلف مقتضى ذلك الوضع "للقطع بأن القائل: لا تفعله" أي: لا تفعل ما جعلته سببا لكذا "على هذا الوجه فإن فعلت" ذلك على هذا الوجه "ثبت حكمه وعاقبتك لم يناقض" قوله الثاني قوله الأول فكان إثبات البطلان ونفي حكم التصرف من مجرد النهي لوصف لازم قولا بلا دليل موجب. "وقولهم" أي الشافعية النهي عن البيع "ظاهر في عدم ثبوته" أي الملك فيه "شرعا ممنوع" فإن أثر النهي ليس إلا في التحريم، وقد فرض أنه لا يضاد حكمه "فيثبت الملك شرعا في بيع الربا والشرط" المفسد حال كونه "مطلوب الفسخ" رفعا للمعصية "ويلزمه الصحة بإسقاط الزيادة في الشرط لأنه" أي كلا من الزيادة والشرط هو "المفسد" وقد زال إلا أن بعد كون هذا قول علمائنا الثلاثة خلافا لزفر(2/333)
ص -395-…ليس على إطلاقه بل هو في بعض المفسدات بشرط فيه، ومحل هذه الجملة كتب الفروع "وأما الثاني" أي لزوم التفاسخ "فلرفع المعصية ويصرح بثبوت الاعتبارين" أي استعقاب الحكم مطلوب التفاسخ من غير العبادات" "طلاق الحائض" المدخول بها في الحيض "ثبت حكمه، وأمر بالرجعة رفعا" للمعصية "بالقدر الممكن" ففي الصحيحين عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فتغيظ فيه صلى الله عليه وسلم ثم قال: "ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر الله تعالى" "بخلاف ما لا يمكن" رفعه "كحل مذبوح ملك الغير" فإنه لا قدرة للعبد على رفع المعصية اللازمة من ذبحه حيوان الغير بغير إذنه المنهي عنه بإعادته إلى ملك الغير وبه الروح، فلا يكون مأمورا بذلك، والمفيد لهذا ما أخرج الدارقطني بسند جيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه"، وما أخرج الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار قوما من الأنصار في دارهم فذبحوا له شاة فصنعوا له منها طعاما فأخذ من اللحم شيئا فلاكه فمضغه ساعة لا يسيغه فقال: "ما شأن هذا اللحم"؟. قالوا شاة لفلان ذبحناها حتى يجيء فنرضيه من ثمنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطعموها الأسرى" "قالوا" أي الذاهبون إلى أنه يدل على البطلان مطلقا: "لم تزل العلماء" في سائر الأعصار "يستدلون به" أي النهي "على الفساد أي البطلان" من غير إنكار عليهم فهو إجماع منهم على فهم ذلك منه "قلنا" إنما لم يزالوا يستدلون به على البطلان "في العبادات ومع المقتضي في غيرها" أي وعلى البطلان في غير العبادات من المعاملات مع المقتضي للبطلان "وإلا" فحيث لا مقتضى للبطلان فيها "فعلى مجرد التحريم" أي فإنما يستدلون على مجرد تحريم المنهي عنه "ولو صرح بعضهم بالبطلان" أي بأنه يدل على البطلان في(2/334)
المعاملات "فكقولكم وبه" أي بهذا الدليل "استدل للغة" أي بأنه يدل على البطلان لغة "ومنع بأن فهمه" أي البطلان منه "شرعا" لأن فساد الشيء أي بطلانه عبارة عن سلب أحكامه وليس في لفظ النهي ما يدل عليه لغة قطعا. "قالوا" أي الذاهبون إلى أنه يدل على الفساد أي البطلان لغة: "الأمر يقتضي الصحة فضده" وهو النهي يقتضي "ضدها" وهو الفساد أي البطلان "أجيب بمنع اقتضائه" أي الأمر الصحة "لغة ولو سلم" أن الأمر يقتضي الصحة "فيجوز اتحاد أحكام المتقابلات" لجواز اشتراكها في لازم واحد "ولو سلم" أن أحكام المتقابلة متقابلة "فاللازم عدم اقتضاء الصحة لا اقتضاء عدمها" والأول أعم، والأعم لا يستلزم الأخص "ودليل تفصيلهم" أي الحنفية "فيما" يكون النهي عنه لقبح "لعينه وغيره أما في الحسي فالأصل" أي فلأن كونه قبيحا لعينه هو الأصل؛ لأن الأصل أن يثبت القبح باقتضاء النهي في المنهي عنه لا في غيره فلا يترك الأصل من غير ضرورة، ولا ضرورة هنا لإمكان تحقق الحسيات مع صفة القبح لأنها توجد حسا، فلا يمتنع وجودها بسبب القبح إلا إذا قام الدليل على خلافه كالنهي عن الوطء في الحيض كما تقدم. "وأما في الشرعي فلو" كان النهي عنه "لعينه" لقبحها "امتنع المسمى شرعا" لامتناع وجود القبيح شرعا "فحرم نفس الصوم والبيع لكنهما ثابتان فكان" الشرعي "مشروعا بأصله لا وصفه بالضرورة، وقيل لو كان" القبح في(2/335)
ص -396-…المنهي عنه الشرعي لعينه "امتنع النهي لامتناع المنهي" حينئذ لكن النهي واقع فكذا المنهي "ودفع بأن امتناعه" أي المنهي عنه "لا يمنع تصوره" أي وجود المنهي عنه "حسا وهو" أي تصوره حسا "مصحح النهي، وهو" أي هذا الدفع "بناء على أن الاسم للصورة" فقط "وهم" أي الحنفية "يمنعونه" أي كونه للصورة فقط "بل" هو عندهم لها "بقيد الاعتبار" وهو منتفي التحقق. "قالوا" أي القائلون بأن الاسم الشرعي للصورة فقط: "النهي" النفسي "عن صلاة الحائض" وهو ما في حديث فاطمة بنت أبي حبيش المتفق عليه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة" "و" النهي عن "صوم العيد" وتقدم تخريجه قريبا "ولزوم كون مثل الطهارة" من شروط الصلاة "جزء مفهوم المشروط" الذي هو الصلاة لأن الصلاة المعتبرة هي المفعولة بشروطها وهو باطل للاتفاق على أنها شروط لا أركان "و" لزوم "بطلان صلاة فاسدة" للمنافاة بينهما وبين وصفها بالفساد "يوجبه" أي كون الاسم بإزاء الهيئة فقط لأن المتصور في هذه الصور الصورة فقط. "الجواب" المنع بل "إنما توجب" النهي عن صلاة الحائض وصوم يوم العيد وقولهم صلاة فاسدة "صحة التركيب ولا يستلزم" صحة التركيب "الحقيقة" أي كون الاسم حقيقة في الصورة فقط "فالاسم مجاز شرعي في الجزء" الذي هو الصورة "للقطع بصدق لم يصم للممسك حمية" مع وجود الصورة ولو كان الاسم حقيقة شرعية للصورة فقط لم يصدق "والوضع لما وجد شرطه لا يستلزم اعتبار الشرط جزءا" منه فانتفى لزوم كون الشرط جزء مفهوم المشروط. قال المصنف "ولا يخفى أنه آل كلامهم" أي الحنفية على هذا الجواب "إلى أن مصحح النهي جزء المفهوم، وهو مجرد الهيئة، فسلموا قول الخصم" في المعنى لموافقتهم له على أن مصحح النهي الوجود الحسي للمنهي، وإن اختلفوا في أن الاسم حقيقة شرعية للصورة فقط أو بقيد الاعتبار. "غير أن ضعف الدليل" المعين "لا يبطل المدلول" لجواز ثبوته بغيره "ويكفيهم"(2/336)
أي الحنفية "ما ذكرناه لهم" من أنه لو كان لعينه لامتنع المسمى لامتناع كونه قبيحا لعينه حال كونه متصفا بكونه مشروعا للشارع.
"تنبيه لما قالت الحنفية بحسن بعض الأفعال وقبحها لنفسها وغيرها كان تعلق النهي الشرعي باعتبار القبح مسبوقا به" أي بالقبح "ضرورة حكمة الناهي" لأن الحكيم لا ينهى عن شيء إلا لقبحه، قال تعالى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} "لا" أنه يكون "مدلول الصيغة فانقسم متعلقه" أي النهي "إلى حسي فقبحه لنفسه إلا بدليل ولا جهة محسنة فلا تقبل حرمته النسخ ولا يكون سبب نعمة كالعبث" أي اللعب لخلوه عن الفائدة الشرعية "والكفر" لما فيه من الكفران بالمنعم بجلائل النعم ودقائقها، وقبح ما لا فائدة فيه وكفران المنعم مركوز في العقول بحيث لا يتصور جريان النسخ فيه، وبهذا يعلم أن المراد بقولهم: إنه قبيح لعينه أن عين الفعل الذي أضيف إليه النهي قبيح، وإن كان ذلك لمعنى زائد على ذاته "بخلاف الكذب المتعين طريقا لعصمة نبي" فإن فيه جهة محسنة "أو" قبحه "لجهة لم يرجح عليها غيرها فكذلك" أي لا تقبل حرمته النسخ ولا يكون سبب نعمة. "ويقال فيه قبح لعينه شرعا كالزنا للتضييع" أي فإنه فعل حسي منهي عنه - بقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:(2/337)
ص -397-…32] قبيح لجهة فيه لم يرجح عليها غيرها وهي تضييع النسل، لأن الشرع قصر ابتغاء النسل بالوطء على محل مملوك بقوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] "فلم يبحه" الله تعالى "في ملة" من الملل. فإن قيل: ثبوت حرمة المصاهرة نعمة لأنها تلحق الأجنبيات بالأمهات والأجانب بالآباء وقد ثبتت مسببة عن الزنا عند الحنفية، وهو تناقض ظاهر لأنه يفيد جعل الزنا مشروعا بعد النهي. فالجواب منع ثبوتها مسببة عن الزنا من حيث ذاته بل من حيث إنه سبب للماء الذي هو سبب البعضية الحاصلة بالولد الذي هو مستحق للكرامات، ومنها حرمة المحارم إقامة للسبب الظاهر المفضي إلى المسبب الخفي مقامه كما في الوطء الحلال لأن الوقوف على حقيقة العلوق متعذر، والولد عين لا معصية فيه ثم يتعدى حرمة آباء الواطئ وأبنائه من الولد إلى الموطوءة، وحرمة أمهات الموطوءة وبناتها منه أيضا إلى الواطئ لصيرورة كل من الواطئ والموطوءة بعضا من الآخر بواسطة الولد؛ لأن الولد مخلوق من مائهما ومضاف إلى كل منهما وهذا هو المراد بقوله "وثبوت حرمة المصاهرة عنده" أي الزنا "بأمر آخر" لا بالزنا. وهذا التقصي من هذا الإيراد كالتقصي من الإيراد القائل: الغصب فعل حسي منهي عنه - بقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] - قبيح لجهة فيه لم يرجح عليها غيرها - وهي التعدي على الغير - وقد جعلتموه مشروعا بعد النهي حيث جعلتموه سببا لملك المغصوب إذا تغير اسمه وكان مما يملك، والملك نعمة، بأن يقال: لم يثبت الملك بالغصب مقصودا كما يثبت بالبيع والهبة بل يثبت بأمر آخر: وهو أن لا يجتمع البدلان في ملك واحد حكما للضمان المتقرر عليه بالغصب وهذا معزو إلى بعض المتقدمين من الحنفية، وإليه أشار بقوله "كثبوت ملك الغاصب عند زوال الاسم وتقرر الضمان فيما بحيث يملك" وفي المبسوط ولكن هذا غلط لأن الملك(2/338)
عندنا يثبت من وقت الغصب ولهذا نفذ بيع الغاصب وسلم الكسب له قال المصنف "والمختار: الغصب عند الفوات سبب الضمان مقصودا جبرا" للفائت رعاية للعدل "فاستدعى" كونه سبب الضمان "تقدم الملك فكان" الغصب "سببا له" أي الملك "غير مقصود بل بواسطة سببيته" أي الغصب "لمستدعيه" أي الملك وهو الضمان "وهذا قولهم" أي الحنفية "في الفقه: هو" أي الغصب "بعرضية أن يصير سببا" لملك المغصوب "لا يقال لا أثر للعلة البعيدة" في الحكم "فيصدق نفي سببيته" أي الغصب "للملك" لأنه السبب البعيد له وحينئذ "فالحق الأول" أي كون السبب له أمرا آخر، هو الضمان لا نفس الغصب؛ لأنا نقول: ليس الحق الأول بناء على هذا "لأن" نفي السببية للملك "الصادق" على الغصب هو نفي السببية "المطلق" أي للملك المطلق "وسببيته" أي الغصب للملك إنما هو "بقيد كونه" أي الملك "غير مقصود منه" أي الغصب بل إنما ثبت للقضاء بالقيمة. "ولولاه" أي ملك الغاصب للمغصوب "لم يصح" أي لم ينفذ "بيع الغاصب" له قبل الضمان لانتفاء ما عدا الملك من شروط النفوذ وحيث انتفى الملك أيضا فقد انتفى شرط النفوذ مطلقا لكنه نافذ، فالملك ثابت له، فإن قيل: يشكل بعدم نفوذ عتقه، قيل: لا، لأن المستند ثابت من وجه دون وجه فيكون ناقصا، والناقص يكفي لنفوذ البيع لا(2/339)
ص -398-…العتق كالمكاتب يبيع ولا يعتق "ولم يسلم له الكسب السابق" لانتفاء موجب السلامة حينئذ لكنه يسلم له، فالملك ثابت له. فإن قيل: يشكل ملكه المغصوب بالغصب بعدم ملكه زوائده المنفصلة كالولد، أجيب: لا كما أشار إليه بقوله "وعدم ملك زوائده المنفصلة لأنه" أي ملك المغصوب "ضروري" أي يثبت شرطا لحكم شرعي هو وجوب الضمان المتوقف على خروج المغصوب عن ملك المغصوب منه ليكون القضاء بالقيمة جبرا لما فات إذ لا جبر بدون الفوات، وما يثبت شرطا لحكم شرعي يكون مقدما عليه ضرورة تقدم الشرط على المشروط فزوال ملك الأصل مقتضى، وملك البدل مترتب عليه، ثم حيث كان زوال الملك ضروريا لم يتحقق فيما ليس تبعا للمغصوب "والمنفصل" من الزيادة كالولد "ليس تبعا" له فلا يتحقق فيه "بخلاف الزيادة المتصلة" كالسمن والجمال "والكسب" فإن كلا منهما تبع محض له، أما المتصلة فظاهر، وأما الكسب فلأنه بدل المنفعة، والحكم يثبت في التبع بثبوته في الأصل سواء ثبت في المتبوع مقصودا سببه أو شرطا لغيره، ثم لا خفاء في أن شرط الشيء تابع له فثبوت الملك للغاصب حسن بحسن مشروطه، وإن قبح في نفسه "بخلاف المدبر" فإنه، وإن لم يثبت الملك فيه للغاصب وإن أدى الضمان كما وقع الاحتراز عنه بقوله فيما بحيث يملك لأن المدبر المطلق لا يقبل الانتقال من ملك إلى ملك عند الحنفية "فإنه" أي الغاصب "يملك كسبه" أي المدبر "إن كان" له كسب "بناء على أنه" أي المدبر "خرج عن" ملك "المولى تحقيقا للضمان بقدر الإمكان". فإن قيل يرد على هذا الأصل ملك الكافر مال المسلم إذا أحرزه بدار الحرب فإن الاستيلاء فعل حسي منهي عنه لذاته فلا يكون مشروعا بعد النهي وقد خالفه الحنفية حيث جعلوه بعد النهي سببا للملك الذي هو نعمة وهذا هو المراد بقوله "وأما الكافر بالإحراز". قلنا لا يرد "فإما لعدم النهي" للكافر عن ذلك "بناء على عدم خطابهم بالفروع فليس من الباب وإما" أنه إنما يملك ذلك بالاستيلاء(2/340)
"عند ثبوت الإباحة" أي إباحة ذلك المال له "بانتهاء ملك المسلم" أي بسبب انتهاء ملك المسلم لذلك المال فهو متعلق بثبوت الإباحة "بزوال ملك المسلم" أي بسبب زوال ملكه عنه فهو متعلق بانتهاء ملك المسلم "بزوال العصمة" أي بسبب زوال كون ملك المسلم حرام التعرض له لحق الشرع أو لحق العبد فهو متعلق بزوال ملك المسلم "بالإحراز بدارهم" أي بسبب إحرازهم مال المسلم بدار الحرب فهو متعلق بزوال العصمة، وإنما كان إحرازهم له بدار الحرب مزيلا للعصمة "لانقطاع الولاية" أي ولاية التبليغ والإلزام فكان استيلاؤهم على هذا المال وعلى الصيد سواء. والحاصل أن عصمة مال المسلم انتهت بانتهاء سببها وهو إحرازه له لأنها إنما ثبتت بالإحراز وهو إنما يتحقق باليد عليه حقيقة بأن كان في تصرفه أو بالدار وقد انتهى كلاهما بإحرازهم المأخوذ بدار الحرب، وإذا انتهت سقط النهي فلم يكن الاستيلاء محظورا، فصلح أن يكون سببا للملك ثم يتلخص من هذا أن ما هو محظور - وهو ابتداء الاستيلاء - ليس بسبب الملك وما هو سبب الملك - وهو حال البقاء - ليس بمحظور فلا يرد النقض ولا يقال فكما ابتداؤه غير مفيد للملك لعدم المحل فكذا بقاؤه كمن اشترى خمرا فصارت خلا فإنه لا(2/341)
ص -399-…ينعقد البيع، وإن صارت محلا له؛ لأنا نقول قد عرف أن ما له امتداد فلحالة بقائه من الحكم ما لابتدائه كأنه يحدث ساعة فساعة كما في مسألتي اللبس والسكنى "والاستيلاء ممتد فبقاؤه كابتدائه" فصار بعد الإحراز بدار الحرب كأنه استولى على مال معصوم ابتداء بدار الحرب فيصلح سببا للملك، ومسألة البيع ليست من هذا القبيل لأنه ليس بممتد فإذا لم يصادف محله بطل أصلا، فإن قيل: يرد على هذا الأصل جواز ترخص المسافر سفر معصية بقطع طريق أو إباق فإنه فعل حسي منهي عنه فينتفي مشروعيته، وقد قال الحنفية بها حيث جعلوه سببا للرخصة التي هي نعمة، فالجواب منع كون سفر المعصية منهيا عنه لذاته بل كما قال. "والترخص بسفر المعصية للعلم بأنه" أي النهي "فيه" أي سفر المعصية "لغيره" أي لغير ذات السفر "مجاورا" للسفر "من القصد للمعصية، إذ قد لا تفعل" المعصية بل يتبدل قصدها بقصد طاعة "ويدرك الآبق الإذن" بالسفر من مولاه فيخرج عن كونه عاصيا فلم يؤثر هذا المعنى المجاور له في كونه من حيث هو سير مديد سببا للنعمة؛ لأنه مباح غير محظور "وكذا وطء الحائض عرف" أن النهي عنه بقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] "للأذى" بدليل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة: 222] وهو مجاور في المحل قابل للانفكاك كما تقدم "فاستعقب الإحصان وتحليل المطلقة" ثلاثا لعدم المانع منهما وصار كما يثبت حرمته باليمين ولم يبطل به إحصان القذف أيضا لعدم المقتضي لإبطاله ثم عطف على قوله إلى حسي قوله "وإلى شرعي فالقطع بأنه" أي النهي فيه "لغيره" أي غير المنهي عنه، وإلا لم يشرع أصلا قطعا "ولا ينتهض" المنهي عنه "سببا" للنعمة "إذا رتب" الشارع عليه "حكما يوجب كونه" أي النهي عنه "لعينه"أي المنهي عنه "أيضا كنكاح المحارم" ذوات الرحم فإنه فعل "شرعي عقل قبحه لأنه طريق القطعية" للرحم المأمور بصلتها لما فيه من الامتهان بالاستفراش وغيره.(2/342)
"فحين أخرجن عن المحلية" لنكاحه "صار" نكاحه إياهن "عبثا فقبح لعينه فبطل ثم الإخراج" عن المحلية "ليس إلا لازما لما مهدناه" سالفا "من أنه" أي الشارع "لم يجعل له" أي للنكاح "حكما إلا الحل فنافى" حكمه "مقتضى النهي" وهو التحريم فكان المنهي عنه باطلا "وكذا الصلاة بلا طهارة باطلة لمثله" أي لانتفاء أهلية العبد لها بلا طهارة شرعا، لأن الشارع قصر أهليته لها على حال الطهارة فصار فعلها بدون الطهارة عبثا فقبح لعينه. "وكان يجب مثله" أي بطلان الصلاة "في الأوقات المكروهة" لما سبق من انتفاء الأداء والقضاء "لكن الظن المتقدم" لهم أوجب خلافه، وقد عرفت ما فيه "وروي عن أبي حنيفة بطلانها كما اخترناه، وهو قول زفر" والدارية تقوي هذه الرواية فليكن التعويل عليها "فإن لم يرتب" الشارع حكما يوجب كون النهي عن المنهي عنه لعينه أيضا "ظهر أنه لم يعتبر فيه جهة توجب قبحا في عينه كالبيع" الفاسد وفي وقت النداء لصلاة الجمعة "على ما تقدم فينعقد سببا" لحكمه الذي هو الملك "فظهر أن الاختلاف" في المنهيات الشرعيات من حيث الانتهاض سببا وعدمه "ليس مرتبا على أن النهي عن الشرعي يدل على الصحة" للمنهي عنه كما هو معزو إلى الحنفية، وإلا لما اختلفت في انتهاضها سببا، بل على أن النهي إن أخرجها عن المحلية لمنافاة حكمه لها لم(2/343)
ص -400-…تنتهض سببا، وإلا انتهضت سببا. "وقولهم" أي الحنفية النهي في الشرعيات "يدل على مشروعيته" أي الفعل المنهي عنه "بأصله لا بوصفه إنما يفيد صحة الأصل" أي أصل الفعل "ولا يختلف فيه" أي في كون أصل الفعل صحيحا "لأنه" أي الأصل "غير المنهي عنه" الذي هو مجموع الأصل والوصف "فلا يستعقب" كون النهي يدل على مشروعية الفعل بأصله لا بوصفه "صحته" أي الأصل "بوصف يلازمه" أي الأصل فلا يتم كون النهي عن الشرعي يدل على صحة المنهي عنه، فليتأمل، والله أعلم.(2/344)
عنوان الكتاب:
التقرير والتحبير – الجزء الثاني
تأليف:
محمد بن محمد ابن أمير الحاج الحنبلي
دراسة وتحقيق:
عبد الله محمود محمد عمر
الناشر:
دار الكتب العلمية - بيروت
الطبعة الاولى 1419هـ/1999م(3/1)
ص -3-…"بسم الله الرحمن الرحيم"
الفصل الخامس: في المفرد باعتبار استعماله
"هو" أي المفرد "باعتبار استعماله ينقسم إلى حقيقة ومجاز" ووجه حصره فيهما ظاهر من تعريفهما "فالحقيقة" فعيلة إما بمعنى فاعل من حق الشيء يحق بالضم والكسر إذا ثبت والتاء للتأنيث وإما بمعنى مفعول من حققت الشيء بالتخفيف أحقه بالضم إذا أثبته فيكون المعنى الكلمة الثابتة أو المثبتة في مكانها الأصلي والتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية الصرفة كالأكيلة عند الجمهور وللتأنيث عند السكاكي بناء على تقدير لفظ الحقيقة صفة مؤنث غير مذكور أي الكلمة ونوقش بأنه تكلف مستغنى عنه بما تقدم وهي اصطلاحا "اللفظ المستعمل فيما وضع له أو ما صدق عليه" أي أو في فرد من ماصدقات مفهوم اللفظ الموضوع له "في عرف به" أي بذلك العرف "ذلك الاستعمال" فخرج بالمستعمل المهمل والموضوع قبل الاستعمال فإنه لا يوصف بحقيقة ولا مجاز وبقوله فيما وضع له المجاز والغلط وسينص عليه وتأتي فائدة أو ما صدق عليه وبقوله في عرف به ذلك الاستعمال اللفظ الذي له وضعان لمعنيين مختلفين في عرفين إذا استعمل في كل منهما بغير الوضعي في العرف الذي به التخاطب فإنه فيه مجاز "وتنقسم" الحقيقة "بحسب ذلك" الوضع "إلى لغوية" بأن يكون لواضع اللغة "وشرعية" بأن يكون للشارع "كالصلاة" فإنها حقيقة لغوية في الدعاء لأن واضع اللغة وضعها له وحقيقة شرعية في العبادة المخصوصة لأن الشارع وضعها لها "وعرفية عامة" بأن يكون لأهل العرف العام "كالدابة" في ذوات الأربع أو الحوافر لأن أهل العرف العام وضعوها لها "وخاصة" بأن يكون لأهل العرف الخاص "كالرفع" للحركة المخصوصة فإن أهل العربية وضعوه لها "والقلب" كجعل المعلول علة وقلبه فإن الأصوليين وضعوه له "ويدخل" في الحقيقة اللفظ "المنقول ما وضع لمعنى باعتبار مناسبة لما كان له أولا" على ما فيه من تفصيل آت قريبا "والمرتجل" كما صرح به صدر الشريعة وهو المستعمل في وضعي لم(3/2)
يسبق بآخر "والأعم" المستعمل "في الأخص كرجل في زيد" قال المصنف رحمه الله تعالى: لأن الموضوع للأعم حقيقة في كل فرد من أفراده كإنسان في زيد لا يعرف القدماء غير هذا إلى أن حدث التفصيل بين أن يراد به خصوص الشخص يعني بجعل خصوص عوارضه المشخصة مرادا مع المعنى الأعم بلفظ الأعم فيكون مجازا وإلا فحقيقة وكأن هذه الإرادة قلما تخطر عند الإطلاق حتى ترك الأقدمون ذلك التفصيل بل المتبادر من مراد من يقول لزيد يا إنسان يا من يصدق عليه هذا اللفظ لا يلاحظ أكثر من ذلك وهذا فائدة أو ما صدق عليه "وزيادة أولا" بعد قوله فيما وضع له كما ذكر الآمدي ومن وافقه "تخل بعكسه لصدق الحقيقة على المشترك(3/3)
ص -4-…في المتأخر وضعه له" وهذه الزيادة تمنع صدق الحد عليه "وليس في اللفظ أنه" أي أولا "باعتبار وضع المجاز" ليخرج به المجاز على هذا التقدير كما ذكر الشيخ سراج الدين الهندي "على أنه لو فرض" وضع المجاز "جاز أولية وضع المجاز كاستعماله" أي كما يجوز أولية استعمال المجاز بالنسبة إلى كونه حقيقة بأن يوضع اللفظ لمعنى ثم يستعمل فيما بينه وبينه علاقة قبل أن يستعمل في المعنى الحقيقي كذلك يجوز أولية وضع المجاز فيه قبل وضعه لمعناه بأن يقول: وضعت هذا اللفظ لأستعمله فيما بينه وبين ما سأضعه له مناسبة اعتبرتها ذكره المصنف "وبلا تأويل" أي وزيادة السكاكي بلا تأويل بعد ذكر الوضع ليحترز به عن الاستعارة لعد الكلمة فيها مستعملة فيما هي موضوعة له لكن بالتأويل في الوضع وهو أن يستعار المعنى الموضوع له لغيره بطريق الادعاء مبالغة ثم يطلق عليه اللفظ فيكون مستعملا فيما هو موضوع له ادعاء لا تحقيقا وهي مجاز لغوي على الأصح "بلا حاجة" إليه في صحة الحد "إذ حقيقة الوضع لا تشمل الادعائي" كما سيتضح قريبا وأحسن ما اعتذر عنه في ذلك أنه أراد دفع الوهم لمكان الاختلاف في الاستعارة هل هي مجاز لغوي أو حقيقة لغوية ونظيره في دفع الوهم الاحتراز في حد الفاعل بقيد تقديم الفعل عليه عن المبتدأ في زيد قائم "والمجاز" في الأصل مفعل إما مصدر ميمي بمعنى اسم الفاعل من الجواز بمعنى العبور والتعدي كما اختاره السكاكي سميت به الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له لعلاقة الجزئية لأن المشتق منه جزء من المشتق أو اسم مكان منه سميت به الكلمة الجائزة أي المتعدية مكانها الأصلي أو الكلمة المجوز بها على معنى أنهم جازوا بها مكانها الأصلي كما ذكره الشيخ عبد القاهر فالتسمية من إطلاق المحل وإرادة الحال أو من جعلت كذا مجازا إلى حاجتي أي طريقا لها على أن معنى جاز المكان سلكه فإن المجاز طريق إلى تصور معناه كما ذكره صاحب التلخيص واصطلاحا "ما استعمل لغيره"(3/4)
أي لفظ مستعمل لغير ما وضع له وما صدق عليه ما وضع له "لمناسبة" بينه وبين ذلك الغير "اعتبر نوعها وينقسم" المجاز إلى لغوي وشرعي وعرفي عام وخاص "كالحقيقة" لأن استعمال اللفظ في المعنى الذي لم يوضع له إن كان لمناسبة لما وضع له لغة فهو مجاز لغوي وهكذا تقول في سائر الأقسام وبالجملة كل مجاز متفرع على معنى لو استعمل اللفظ فيه كان حقيقة فيكون المجاز تابعا للحقيقة في هذه الأقسام الأربعة "وتدخل الأعلام فيهما" أي في الحقيقة والمجاز فالمرتجل في الحقيقة وهو ظاهر والمنقول إن لم يكن معناه الثاني من أفراد المعنى الأول فهو حقيقة في الأول مجاز في الثاني من جهة الوضع الأول ومجاز في الأول حقيقة في الثاني من جهة الوضع الثاني وإن كان معناه الثاني من أفراد معناه الأول فإن كان إطلاقه عليه باعتبار أنه من أفراد الأول فهو حقيقة من جهة الوضع الأول مجاز من جهة الوضع الثاني وإن كان باعتبار أنه من أفراد الثاني فحقيقة من جهة الوضع الثاني مجاز من جهة الوضع الأول وممن نص على أن المجاز يدخل في الأعلام الغزالي وقال ابن لقمان الحنفي: ذهب عامتهم إلى أن الألقاب يدخل فيها الحقيقة والمجاز "وعلى من أخرجها" أي الأعلام منهما كالآمدي والإمام(3/5)
ص -5-…الرازي "تقييد الجنس" المأخوذ في تعريفهما بغير العلم واقتصر البيضاوي على أنها لا توصف بالمجاز بالذات لأنها لم تنقل لعلاقة وفيه نظر "وخرج عنهما" أي الحقيقة والمجاز "الغلط" كخذ هذا الفرس مشيرا إلى كتاب بيدك أما عن الحقيقة فلأنه لم يستعمل في الوضعي وأما عن المجاز فلأنه لم يستعمل في غير الوضعي لعلاقة اعتبر نوعها وقد يقال لأن الاستعمال يؤذن بالقصد إذ كان فعلا اختياريا ولا قصد في الغلط إلى ذلك المعنى بذلك اللفظ كما مشى عليه المصنف في تحشية هذا الموضع وهو متعقب بأنه غلط إذ ليس المراد بالغلط المخرج عنهما ما يكون سهوا من اللسان بل يكون خطأ في اللغة صادرا عن قصد فإن قيل حد المجاز غير جامع لخروج المجاز بالنقصان والزيادة كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] و{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] عنه أجيب بأن لفظ المجاز مقول بالاشتراك على ما نحن بصدده مما هو صفة اللفظ باعتبار استعماله في المعنى وعلى المجاز المورد الذي هو صفة الإعراب أو اللفظ باعتبار تغير حكم إعرابه والتعريف للأول ثم نقول "ومجاز الحذف حقيقة لأنه المذكور" كالقرية "باعتبار تغير إعرابه ولو أريد به" أي بالمذكور كالقرية اللفظ "المحذوف" كالأهل حتى كان لفظ القرية مستعملا في أهل القرية "كان" المذكور هو المجاز في معناه الوضعي "المحدود ومجاز الزيادة قيل ما لم يستعمل لمعنى ومقتضاه" أي هذا القول أنه "لا حقيقة ولا مجاز" لأن كلا منهما مستعمل لمعنى "ولما لم ينقص" مجاز الزيادة "عن التأكيد قيل لا زائد" في كلام العرب "والحق أنه" أي مجاز الزيادة "حقيقة لوضعه لمعنى التأكيد" في التركيب الخاص وإن عرف لغيره في غيره مثلا من للتبعيض وللابتداء فإذا وقعت قبل نكرة عامة كانت لتأكيد عمومه وضعا وقس قاله المصنف "لا مجاز لعدم العلاقة" التي هي شرط في المجاز "فكل ما استعمل زائدا مشترك" بين ما لم يقصد به معنى أصلا وهو المنفي عن الكلام(3/6)
الفصيح وبين ما لا يخل سقوطه بالمعنى الأصلي وهو لا يعرى عن التأكيد وهذا هو المدعى وجوده في الكلام الفصيح وحينئذ فكما قال "وزائدا باصطلاح" للنحويين وهو عطف على حقيقة.
"واعلم أن الوضع يكون لقاعدة كلية جزئيات موضوعها ألفاظ مخصوصة و" يكون "لمعنى خاص وهو" أي الوضع لمعنى خاص "الوضع الشخصي والأول" أي الوضع لقاعدة كلية إلخ الوضع "النوعي وينقسم" النوعي: "إلى ما يدل جزئي موضوع متعلقه" على المعنى "بنفسه" فالضمير في متعلقه وبنفسه راجع إلى ما ثم بنفسه متعلق ببدل "وهو" أي هذا القسم "وضع قواعد التركيب والتصاريف وبالقرينة" أي وإلى ما يدل جزئي موضوع متعلقه بالقرينة "وهو وضع المجاز كقول الواضع: كل مفرد بين مسماه وغيره مشترك اعتبرته" أي المفرد "أي استعملته في الغير باعتباره" أي المشترك "فلكل" من الناس أن يستعمل "ذلك" المفرد في ذلك الغير باعتبار المشترك بينهما "مع قرينة" تفيد ذلك "ولفظ الوضع حقيقة عرفية في كل من الأولين" الشخصي والنوعي الدال جزئي موضوع متعلقه بنفسه لتبادر كل منهما إلى الفهم من إطلاق لفظ الوضع "مجاز في الثالث" أي النوعي الدال جزئي موضع متعلقه بالقرينة "إذ لا(3/7)
ص -6-…يفهم بلا تقييده" أي الوضع بالمجاز كأن يقال وضع المجاز "فاندفع" بهذا التحقيق "ما قيل" على حد الحقيقة "إن أريد بالوضع الشخصي خرج من الحقيقة" كثير من الحقائق "كالمثنى والمصغر" والمنسوب وبالجملة كل ما يكون دلالته بحسب الهيئة دون المادة لأنها إنما هي موضوعة بالنوع لا بالشخص "أو" أريد به مطلق الوضع "الأعم" من الشخصي والنوعي "دخل المجاز" في تعريف الحقيقة لأنه موضوع بالنوع وإنما اندفع لأن المراد به ما يتبادر إلى الفهم من إطلاقه وهو تعيين اللفظ بإزاء المعنى بنفسه أي لا بضميمة قرينة إليه فتدخل الحقائق المذكورة ولا يدخل المجاز "وظهر اقتضاء المجاز وضعين" وضعا "للفظ" لمعنى بحيث إذا استعمل فيه يكون استعمالا له في معناه الوضعي وهو الحقيقة "و" وضعا "لمعنى نوع العلاقة" بين المعنى الحقيقي والمجازي وهي بكسر العين ما ينتقل الذهن بواسطته عن محل المجاز إلى الحقيقة لأنها في الأصل ما يعلق الشيء بغيره نحو علاقة السوط وعلاقة المجاز كذلك لأنها تعلقه بمحل الحقيقة بأن ينتقل الذهن بواسطتها عن محل المجاز إلى الحقيقة كما ذكرنا أما بفتح العين فهي علاقة الخصومة والحب وهو تعلق الخصم بخصمه والمحب بمحبوبه ذكره الطوفي هذا وذكر المحقق الشريف أن الخلاف في أن المعنى المجازي وضع اللفظ بإزائه أو لا لفظي منشؤه أن وضع اللفظ للمعنى فسر بوجهين: الأول تعيين اللفظ بنفسه للمعنى فعلى هذا لا وضع في المجاز أصلا لا شخصيا ولا نوعيا لأن الواضع لم يعين اللفظ للمعنى المجازي بل بالقرينة الشخصية أو النوعية فاستعماله فيه بالمناسبة لا بالوضع والثاني تعيين اللفظ بإزاء المعنى وعلى هذا ففي المجاز وضع نوعي قطعا إذ لا بد من العلاقة المعتبر نوعها عند الواضع وأما الوضع الشخصي فربما يثبت في بعض وهذا الخلاف جار على مذهبي وجوب النقل وعدمه فعلى الثاني استعمال المجاز بمجرد المناسبة المعتبرة نوعا والخلاف في أن هذا الاعتبار وضع أولا وعلى(3/8)
الأول استعماله بالمناسبة المعتبر نوعها مع الاستعمال الشخصي والنزاع فيما ذكر وليس الاستعمال مع القرينة مستلزما للوضع بالمعنيين حتى يتوهم تفرع الخلاف على المذهبين فمن قال بوجوب التعقل قال بالوضع ومن قال بعدمه قال بعدم الوضع أيضا ويمكن أن يقال: منشأ الخلاف أن الوضع هل هو تخصيص عين اللفظ بالمعنى فيكون تخصيصا متعلقا بعين اللفظ بالقياس إلى معناه وهو تخصيص اللفظ بالمعنى فينقسم إلى شخصي ونوعي فعلى الأول المجاز موضوع عند المشترطين النقل في الآحاد إذ قد علم بالاستعمال تخصيص عينه بإزاء المعنى وليس بموضوع عند غيرهم فالاختلاف معنوي راجع إلى وجوب النقل وعدمه وعلى الثاني هو موضوع على المذهبين ويرد على هذا أن نقل الاستعمال لا يدل على الوضع الشخصي وأيضا المشتقات كاسم الفاعل وغيره موضوعة لمعانيها الحقيقية بلا خلاف مع أن الظاهر أن وضعها نوعي.
"وهي" أي العلاقة "بالاستقراء" على تحرير المصنف خمسة "مشابهة صورية" بين محل الحقيقة والمجاز "كإنسان للمنقوش" أي كإطلاق لفظ إنسان على شكله المنقوش(3/9)
ص -7-…بجدار وغيره "أو" مشابهة بينهما "في معنى مشهور" أي صفة غير الشكل ظاهرة الثبوت لمحل الحقيقة لها به مزيد اختصاص وشهرة لينتقل الذهن عند إطلاق اللفظ من المعنى الحقيقي أعني الموصوف إلى تلك الصفة فيفهم المعنى الآخر أعني المجازي باعتبار ثبوت الصفة له "كالشجاعة للأسد" فإنها صفة ظاهرة له فإذا أطلق فهم منه الحيوان المفترس وانتقل الذهن منه إلى الشجاع وإذا نصبت قرينة منافية لإرادة المفترس كفي الحمام فهم أن المراد منه شجاع غير الأسد فصح إطلاقه على الرجل الشجاع للاشتراك في الشجاعة "بخلاف البخر" فإنه صفة خفية له فلا يصح إطلاقه على الرجل الأبخر للاشتراك في البخر. فهذا النوع بقسميه إحدى العلاقات وقد يعدان نوعين "ويخص" هذا النوع "بالاستعارة في عرف" أي لأهل علم البيان فهي اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي لعلاقة المشابهة وكثيرا ما تطلق على استعمال المشبه به في المشبه فالمشبه به مستعار منه والمشبه مستعار له ولفظ المشبه به مستعار لأنه بمنزلة اللباس المستعار من واحد فألبس غيره وما عدا هذا النوع من المجاز يسمى مجازا مرسلا وحكى القرافي أن منهم من قال: كل مجاز مستعار ولا مشاحة في الاصطلاح "والكون" عليه أي "كون المجازي سابقا بالحقيقي على اعتبار الحكم كآتوا اليتامى" فإن المعنى المجازي وهو اليتم سبق اعتبار حقيقته الحكم وهو الإيتاء وإن كان الحقيقي ثابتا حال التكلم فهو مجاز لانتفاء المعنى الحقيقي عنه حال وقوع النسبة عليه وهو الإيتاء فآتوا اليتامى في زمان ثبوت اليتم مجاز وإن وقع التكلم به حال ثبوت الحقيقي لليتامى لأنه ليس متصفا به حال وقوع النسبة عليه وهو إيتاء الأولياء وإنما كان كذلك لأنه لم يذكر إلا ليثبت الحكم في معناه والواقع أن الحكم لم يرد إثباته فيه حال المعنى الحقيقي الذي هو حال التكلم بل إذا صار إلى خلافه فكان النظر إلى المعنى المجازي في ذلك الوقت ومن هذا رأيت عبدا تريد معتوقا1 فإن(3/10)
معناه الحقيقي كان حاصلا قبل وقوع نسبة الرؤية إليه وقبل التكلم ذكره المصنف. رحمه الله تعالى فهذا النوع علاقة ثانية "والأول" أي كون الحقيقي "آيلا إليه" أي إلى المجازي "بعده" أي بعد اعتبار الحكم "وإن كان" الحاصل هو "الحقيقي حال التكلم" أي زمان إيقاع النسبة والتكلم كون الحقيقي المراد باللفظ آيلا إلى المجازي أي يصير إياه بعد وقوع النسبة إليه "كقتلت قتيلا وإنما لم يكن" هذا "حقيقة لأن المراد" قتلت "حيا" وإنه يصير قتيلا بعد القتل فكان مجازا باعتبار أوله بعد القتل إلى المعنى الحقيقي ثم ظاهر هذا أنه لا بد من الصيرورة إليه فلا يكتفى بمجرد توهمها وعليه اقتصر كثير وذكر بعضهم أنه يكتفى بتوهمها وإن لم يصر بالفعل كما أشار إليه بقوله "وكفى" في كونه مجاز الأول "توهمه"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معتوقاً كذا في النسخ معتوق بوزن مفعول وهو غير جائز كما في نص عليه أئمة اللغة لأن عتق الثلاثي لازم لا يبنى منه مفعول ويتعدى بالهمز فاسم المفعول منه معتق أفاده في المصباح. كتبه مصححه.(3/11)
ص -8-…أي الأول إليه "وإن لم يكن كعصرت خمرا فهريقت في الحال" وتعقبه المصنف بقوله "وكونه" أي الحقيقي الذي يئول إليه "له" أي للمعنى المجازي "بالقوة الاستعداد فيساوي" الاستعداد "الأول على التوهم" أي على الاكتفاء به إذ لا يلزم من مجرد الاستعداد للشيء حصوله. "وعلى اعتبار حقيقة الحصول لا" يساوي الاستعداد الأول بل يكون الاستعداد أعم من الأول "فهو" أي الاعتبار لتحقق الصيرورة إليه في الأول "أولى" ويجعل المكتفى فيه بالتوهم مجاز الاستعداد لأنه من العلاقات والأصل فيها عدم الاتحاد "ويصرف المثال" أي عصرت خمرا فهريقت في الحال "للاستعداد" لا للأول لوجود التوهم فيه دون تحقق الحصول فهما نوعان من العلاقات ثالثة ورابعة "والمجاورة" وهذه هي العلاقة الخامسة "ومنها" أي المجاورة "الجزئية للمنتفي عرفا بانتفائه" أي كون المسمى الحقيقي للاسم المطلق على غيره جزءا من ذلك الغير بحيث ينتفي ذلك الغير بانتفائه إما في نفس الأمر أو عرفا عاما إن كان التخاطب به أو خاصا إن كان التخاطب به فأبهمه المصنف ليتناول كليهما واقتصر عليه لأنه يعلم منه بطريق أولى صلاحية الجزئية للمنتفي في نفس الأمر بانتفائه للعلامة "كالرقبة" أي كإطلاقها على الذات كما في قوله تعالى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92]. فإن الذات تنتفي بانتفاء الرقبة "لا الظفر" فإن الذات لا تنتفي بانتفائها فلا يصح إطلاقه عليها "بخلاف الكل في الجزء" أي إطلاق اسم الكل على الجزء فإنه لا يشترط فيه أن يكون الجزء بهذه المثابة قلت: وعلى هذا فلا يتم كون إطلاق اسم الكل على الجزء أقوى ; لأن الكل يستلزم الجزء من غير عكس كما ذكره البيضاوي "ومنه" أي إطلاق اسم الكل على الجزء "العام لفرده {الذين قَالَ لَهُمُ النَّاسُ}" بناء على أن المراد بالناس نعيم بن مسعود الأشجعي كما ذكره ابن عبد البر عن طائفة من المفسرين وابن سعد في الطبقات وجزم به السهيلي قلت وقول الإسنوي وفيه نظر فإن(3/12)
العموم من باب الكلية لا من باب الكل والفرد منه من باب الجزئية لا من باب الجزء ا هـ. فيه نظر يعرف مما تقدم في أول مباحث العام "وقلبه" أي إطلاق فرد من العام على العام نحو "{عَلِمَتْ نَفْسٌ} [التكوير: 14]" فإن المراد كل نفس {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء: 69] أي رفقاء "والذهنية" أي ومن المجاورة المجاورة الجزئية الذهنية "كالمقيد على المطلق كالمشفر" بكسر الميم وهو شفة البعير "على الشفة مطلقا ولاجتماع الاعتبارين" وهما التشبيه وعدمه في اللفظ الواحد بالنسبة إلى المعنى الواحد "صح" أن يكون إطلاق المشفر على شفة الإنسان "استعارة" إذا كان المراد تشبيهها بمشفر الإبل في الغلظ كما صح أن يكون مجازا مرسلا من إطلاق المقيد على المطلق من غير قصد إلى التشبيه "وقلبه" أي إطلاق المطلق على المقيد. "والمراد أن يراد خصوص الشخص" كزيد "باسم المطلق" كرجل "وهو" أي والقول بأن هذا مجاز قول لبعض المتأخرين "مستحدث والغلط" فيه جاء "من ظن" أن يكون المراد بوقوع "الاستعمال فيما وضع له" وقوعه "في نفس المسمى" الكلي "لا أفراده" فيكون استعماله في فرد منها مرادا به خصوص عوارض(3/13)
ص -9-…الفرد المشخصة مع معناه الأعم استعمالا في غير ما وضع له فيكون مجازا وليس هذا الظن بمطابق للواقع إذ هذه الإرادة قلما تخطر عند الإطلاق "ويلزمهم أن أنا من متكلم خاص وهذا لمعين مجاز" لأن كلا منهما موضوع لمعنى كلي شامل لأفراده فاستعماله في جزئي منها استعمال في غير ما وضع له "وكثير" أي ومجازية كثير مما عدا هذين مما هو كلي وضعا جزئي استعمالا "والاتفاق على نفيه" أي نفي كون استعمال هذه في أفراد خاصة منها مجازا "فإنما هو" أي استعمال المطلق في فرد من أفراده "حقيقة كما ذكرنا أول البحث وكونهما" أي الحقيقي والمجازي "عرضين في محل كالحياة للعلم" فيسمى العلم حياة لهذه العلاقة. قلت: إلا أنه لو قال قائل: لو كانت العلاقة بينهما في صحة تسمية العلم حياة هذه لجاز العكس والظاهر عدمه لاحتاج إلى جواب "أو" كونهما عرضين "في محلين متشابهين" أي متقاربين "ككلام السلطان لكلام الوزير" وبالعكس "أو" كونهما "جسمين فيهما" أي في محلين متقاربين "كالراوية" وهي في الأصل اسم للبعير الذي يحمل المزادة "للمزادة" أي المزود الذي يجعل فيه الزاد أي الطعام المتخذ للسفر كذا في شرحي التلخيص وشرح المفتاح للتفتازاني والذي في شرحه للمحقق الشريف والمزادة ظرف الماء يستقي به على الدابة التي تسمى راوية قال أبو عبيد: لا تكون المزادة إلا من جلدين تفأم بجلد ثالث بينهما لتتسع وجمعها المزاد والمزايد وأما الظرف الذي يجعل فيه الزاد أي الطعام المتخذ للسفر فهو المزود وجمعه المزاود انتهى. والجملة من الصحاح وهو الصواب وعليه لا بالتزام ما قال أبو عبيد ما في منهاج البيضاوي كالراوية للقربة إذ هي ما يستقى فيه الماء كما في الصحاح "وكونهما" أي الحقيقي والمجازي "متلازمين ذهنا" بالمعنى الأعم "كالسبب للمسبب" نحو رعينا الغيث أي النبات الذي سببه الغيث "وقلبه" أي إطلاق اسم المسبب على السبب "وشرطه" أي شرط قلبه "عند الحنفية الاختصاص" أي اختصاص المسبب(3/14)
بالسبب "كإطلاق الموت على المرض" المهلك "والنبت على الغيث" قلت: ولقائل أن يقول: في هذين نظر فإن الموت ليس بمختص بالمرض لوقوعه بدونه كثيرا والنبت ليس بمختص بالغيث لوجوده بدون خصوص الغيث نعم هو مختص بالماء ولعله مطلقا هو المراد بالغيث من إطلاق المقيد على المطلق وإلا فالوجه والنبت على الماء "والملزوم على اللازم كنطقت الحال" مكان دلت فإن النطق ملزوم للدلالة وقلبه كشد الإزار لاعتزال النساء كما في قوله:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم …دون النساء ولو باتت بأطهار
"أو" متلازمين "خارجا كالغائط على الفضلات" لأن الغائط وهو المكان المنخفض مما يقصد عادة لإزالتها "وهو" أي إطلاق الغائط عليها "المحل على الحال وقلبه" أي إطلاق الحال على المحل كقوله تعالى {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} [آل عمران: 107] أي الجنة التي تحل فيها الرحمة "وأدرج في" التجاور "الذهني أحد المتقابلين في الآخر" فإن بينهما مجاورة في الخيال ولا سيما بين الضدين حتى إن الذهن ينتقل من ملاحظة السواد مثلا إلى(3/15)
ص -10-…البياض "ومنع الإدراج المذكور بامتناع إطلاق الأب على الابن" مع أن بينهما تقابل التضايف ومجاورة من قبيل التلازم في الوجود ذهنا وخارجا "وإنما هو" أي إطلاق أحد المتقابلين على الآخر "من قبيل الاستعارة بتنزيل التضاد منزلة التناسب لتمليح" أي إتيان بما فيه ملاحة وظرافة "أو تهكم" أي سخرية واستهزاء "أو تفاؤل كالشجاع على الجبان" فإنه إن كان الغرض منه مجرد الملاحة لا السخرية فتمليح وإلا فتهكم فهو صالح لهما "والبصير على الأعمى". وهذا صالح للكل والفرق بينهما بحسب المقام "أو" متلازمين "لفظا" فيطلق اسم أحدهما بخصوصه على الآخر مشاكلة كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فأطلق السيئة على الجزاء مع أنه حسن لوقوعه في صحبتها وقد يقال: إنما سمي جزاؤها سيئة لأنه يسوء من ينزل به وحينئذ فهو ليس مثالا لما نحن فيه بل من مثله قوله:
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه …قلت اطبخوا لي جبة وقميصا(3/16)
أي خيطوا فذكرها بلفظ الطبخ لوقوعها في صحبة طبخ الطعام ونحوه "وما ذكر من الزيادة والنقصان من العلاقة" كما في منهاج البيضاوي "منتف" لما تقدم من أنه حقيقة "والمجاز في متعلقهما" بفتح اللام أي متعلق الزيادة والنقصان "مجاز" لانتفاء استعمال اللفظ في غير ما وضع له فيه والعلاقة المشابهة في التعدي من أمر أصلي إلى أمر غير أصلي "ويجمعها" أي العلاقات "قول فخر الإسلام اتصال" بينهما "صورة أو معنى" لأن كل موجود من الصور له صورة ومعنى لا ثالث لهما فلا يتصور الاتصال بوجه ثالث انتهى "زاد" فخر الإسلام "في الصوري" أي قال بعد قوله اتصال صورة "لا تدخله شبهة الاتحاد فاندفع" بهذا "لزوم إطلاق بعض الأعضاء على بعض" فإن اتصال بعضها ببعض يدخله شبهة الاتحاد باعتبار الصورة الاجتماعية لها حتى صح أن يقال على المجموع شخص واحد ونحوه "ولم يحققوا علاقة التغليب" حتى قال الشيخ سعد الدين التفتازاني: وأما بيان مجازية التغليب والعلاقة فيه وأنه من أي أنواعه فما لم أر أحدا حام حوله قال المصنف: "ولعلها في العمرين" أبي بكر وعمر رضي الله عنهما "المشابهة سيرة وخصوص المغلب للخفة" فإن لفظ عمر أخف من لفظ أبي بكر "وهو" أي تغليب لفظ عمر على لفظ أبي بكر "عكس التشبيه" أصالة وهو إلحاق الشيء بما هو دونه في وجه الشبه فإن المشبه في الواقع عمر والمشبه به أبو بكر "وفي القمرين الإضاءة والخصوص" أي وتغليب خصوص لفظ القمر على لفظ الشمس وإن كان لفظ الشمس أخف "للتذكير" أي لتذكير القمر وتأنيث الشمس فإن المذكر أخف "معكوسا" أي عكس التشبيه أيضا فإن المشبه في الواقع القمر والمشبه به الشمس "وأما الخافقان فلا تغليب" فيه "على أنه للضدين وقد نقل" فقال ابن السكيت: الخافقان أفقا المشرق والمغرب لأن الليل والنهار يخفقان فيهما أي يضطربان وهو معنى ما قيل هما الهواءان المحيطان بجانبي الأرض جميعا. وقال الأصمعي: هما طرف السماء والأرض وأما من جعل الخافق حقيقة(3/17)
في المغرب من خفقت النجوم إذا غابت أو في المشرق لأنه تخفق منه الكواكب أي تلمع فقد غلب أحدهما على الآخر وأياما كان فيحتاج إلى علاقة فليتأمل فيها.(3/18)
ص -11-…"تنبيه يقال الحقيقة والمجاز على غير المفرد بالاشتراك العرفي فعلى الإسناد عند قوم" كصاحب التلخيص "وعلى الكلام على الأكثر" منهم الشيخ عبد القاهر والسكاكي "وهو" أي وصف الكلام بهما "أقرب" من وصف الإسناد بهما ويأتي وجهه قريبا وعليه قوله "فالحقيقة الجملة التي أسند فيها الفعل أو معناه" من المصدر واسمي الفاعل والمفعول والصفة المشبهة واسم التفضيل والظرف "إلى ما" أي شيء "هو" أي الفعل أو معناه "له" أي لذلك الشيء كالفاعل فيما بني له والمفعول فيما بني له نحو ضرب زيد عمرا أو ضرب عمرو فإن الضاربية لزيد والمضروبية لعمرو بخلاف نهاره صائم فإن الصوم ليس للنهار فمعنى كونه له أن معناه قائم به ووصف له وحقه أن يسند إليه سواء كان مخلوقا لله تعالى أو لغيره وسواء صدر عنه باختياره كضرب أو لا كمات "عند المتكلم". وهو متعلق بله أي في اعتقاده بأن يفهم من ظاهر حاله أنه يعتقده بأن لا يكون هناك قرينة تدل على أنه لا يعتقد ما يفهم من ظاهر الكلام وحينئذ فكما يدخل في التعريف ما يطابق الاعتقاد طابق الواقع أو لا يدخل فيه أيضا ما لا يطابق الاعتقاد طابق الواقع أو لا كقولك جاء زيد معتقدا أنه لم يجئ إذا قصدت ترويجه بحسب الظاهر لغرض لك فيه فلا جرم أن اقتصر في المفتاح عليه وظهر أنه كما قال المصنف "ولا حاجة إلى في الظاهر" كما في التلخيص ليدخل فيه ما لا يطابق الاعتقاد لدخوله بدونه "لأن المعرف الحقيقة في نفسها ثم الحكم بوجودها" أي الحقيقة "بدليله" أي الوجود "غير ذلك" أي غير الحقيقة في نفسها نعم لا يدخل فيه ما ليس فيه المسند فعلا ولا في معناه نحو زيد إنسان مع أن ظاهر كلام عبد القاهر والسكاكي أنه حقيقة فيبطل عكسه ولا محيص إلا أن يلتزم أن مثله لا يسمى حقيقة كما لا يسمى مجازا أيضا كما ذهب إليه صاحب التلخيص. "والمجاز" الجملة التي أسند فيها الفعل أو معناه "إلى غيره" أي غير ما هو له عند المتكلم "لمشابهة الملابسة" بين(3/19)
الفعل أو معناه وبين غير ما هو له وعلى أنهما وصف الإسناد قوله "أو الإسناد كذلك" أي إسناد الفعل أو معناه إلى ما هو له عند المتكلم وإسناد الفعل أو معناه إلى غير ما هو له عند المتكلم لمشابهة الملابسة "والأحسن فيهما مركب" نسب فيه أمر إلى ما هو له عند المتكلم أو إلى غير ما هو له عند المتكلم لمشابهة الملابسة عند من يجعلهما وصفا للكلام "ونسبة" لأمر إلى ما هو له عند المتكلم أو إلى غير ما هو له عند المتكلم لمشابهة الملابسة عند من يجعلهما وصفا للنسبة "ليدخل" المركب "الإضافي إنبات الربيع" وشقاق بينهما ومكر الليل والنهار وغير ذلك لشمول النسبة النسبة التامة وغيرها بخلاف الإسناد بالمعنى المصطلح وهذه المركبات لا إسناد فيها بهذا المعنى. ثم إنما قال الأحسن لإمكان دفع إيراد خروج المركب الإضافي أو النسبة الإضافية بأن التعريف بالذات إنما هو للمركب الإسنادي وما سواه متفرع عليه أو بأن المراد بالإسناد مطلق النسبة هذا ولقائل أن يقول: كل من هذه التعاريف للمجاز غير مطرد لصدقه على ما يقوله المتكلم قاصدا به صدور الكذب عنه وإن جاز أن يكون ذلك صادقا مطابقا للواقع مع أنه ليس بمجاز لأنه ليس بمطابق لاعتقاده بل مخالف لما عنده إلا أنه بصدد ترويجه بما يمكنه فلا يرتكب فيه تأويلا أصلا(3/20)
ص -12-…فالوجه زيادة بضرب من التأويل كما ذكره السكاكي وغيره لئلا يصدق التعريف عليه "ويسميان" أي هذه الحقيقة وهذا المجاز "عقليين" لأن الحاكم بأنه ثابت في محله أو مجاوز عنه هو العقل لا الوضع. "ووجه الأقربية" أي كون قول الحقيقة والمجاز على الكلام أقرب من قولهما على الإسناد "استقرار أنه" أي الوصف بهما "للفظ والمركب" الكلي "موضوع للتركيبي" أي للمعنى التركيبي وضعا "نوعيا تدل أفراده" أي المركب الكلي من المركبات المعينة على معانيها التركيبية "بلا قرينة فهي" أي أفراده التي هي المركبات بإزاء معانيها المذكورة "حقائق" لاستعمالها فيها "فإذا استعمل" المركب "فيما" أي في المعني "بها" أي بالقرينة "فمجاز" أي فذلك المركب مجاز لاستعماله في معنى غير وضعي له بالقرينة فلا ينهض توجيه صاحب التلخيص اختيار كونهما وصفا للإسناد بأن الإسناد ينسب إلى العقل بلا واسطة والكلام ينسب إليه باعتبار أن الإسناد منسوب إلى العقل على توجيه اختيار كونهما وصفا للمركب "والأولان" أي الحقيقة والمجاز في المفرد "لغويين تعميما للغة في العرف" فيشملان العرفيين وإنما سميا بهما لأن صاحب وضع الحقيقة واضع اللغة واستعمالها في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها "وتوصف النسبة بهما" أي بالحقيقة والمجاز فيقال نسبة حقيقة ومجاز. "وتنسب" النسبة إليهما "لنسبتها" أي نسبة النسبة "إلى الحقيقة والمجاز" فيقال: نسبة حقيقية ونسبة مجازية "واستبعاده" أي المجاز العقلي "باتحاد جهة الإسناد" كما ذكره ابن الحاجب إذ ليس للإسناد جهتان جهة الحقيقة وجهة المجاز كالأسد والمجاز لا يتحقق إلا عند اختلاف الجهتين "بعيد إذ لا يمنع اتحاده" أي الإسناد "بحسب الوضع" اللغوي "انقسامه" أي الإسناد "عقلا إلى ما هو للمسند إليه" فيكون إليه حقيقة "وما ليس له" فيكون إليه مجازا وإنما ينافيه اتحاد جهته بحسب العقل وليس هذا كذلك فإن إسناد الفعل إلى ما هو متصف به محلا له في المبني(3/21)
للفاعل ومتعلقا له في المبني للمفعول ما يقتضيه العقل ويرتضيه وإلى غير ذلك مما يأباه إلا بتأويل "ثم". لا يمنع "وضع الاصطلاح" ذلك "والطرفان" أي المسند إليه والمسند والمضاف والمضاف إليه في المجاز العقلي "حقيقيان كأشاب الصغير البيت" أي:
أشاب الصغير وأفنى الكبير …كر الغداة ومر العشي
يعني إذا علم أو ظن أن قائله قاله عن اعتقاد فإن كلا من الإشابة والإفناء والكر والمر مراد به حقيقته أما إذا علم أو ظن أنه قاله عن غير اعتقاد حمل على المجاز وإذا لم يعلم ولم يظن شيئا منهما تردد بين كونه مجازا صادقا وكونه حقيقة كاذبة وهو للصلتان العبدي.
"أو مجازان كأحياني اكتحالي بطلعتك". فإن المراد بالإحياء السرور وبالاكتحال الرؤية وكلاهما مجاز عنهما "أو أحدهما" وهو المسند إليه حقيقة والآخر وهو المسند مجاز نحو قول الجاهل أحيا الربيع الأرض فإن المراد بالربيع حقيقته وبإحيائه الأرض المعنى المجازي للإحياء وهو تهييج القوى النامية فيها وإحداث نضارتها بأنواع النبات إذ الإحياء(3/22)
ص -13-…حقيقة إعطاء الحياة وهي صفة تقتضي الحس والحركة الإرادية أو بالعكس نحو كسا البحر الفياض الكعبة فإن المراد بالبحر الفياض الشخص الجواد وهو مجازي له وبالكسوة المعنى الحقيقي المعروف. "وقد يرد" المجاز العقلي "إلى التجوز بالمسند فيما يصح نسبته" إلى المسند إليه "وإلى كون المسند إليه استعارة بالكناية كالسكاكي وليس" هذا القول "مغنيا" عن القول بكون الإسناد مجازيا "لأنها" أي الاستعارة بالكناية "إرادة المشبه به بلفظ المشبه بادعائه" أي المشبه "من أفراده" أي المشبه به فيدعي أن اسم المنية مثلا في مخالب المنية نشبت بفلان اسم للسبع مرادف له بارتكاب تأويل وهو أن المنية تدخل في جنس السباع لأجل المبالغة في التشبيه فالمراد بها السبع بادعاء السبعية لها كما صرح به السكاكي "فلم يخرج" الإسناد المذكور "عن كون الإسناد إلى غير من هو له" عند المتكلم فيكون مجازا عقليا. "وقد يعتبر" المجاز العقلي "في الهيئة التركيبية الدالة على التلبس الفاعلي ولا مجاز في المفردات" حينئذ وإنما المجاز العقلي في المركب من حيث أسند فيه الفعل إلى غير ما يقتضي العقل إسناده إليه تشبيها بالفاعل الحقيقي بأن شبه التلبس الغير الفاعلي بالتلبس الفاعلي فاستعمل فيه اللفظ الموضوع لإفادة التلبس الفاعلي "فهو" أي هذا المجاز "استعارة تمثيلية" وهي استعارة وصف إحدى صورتين منتزعتين من أمور لوصف الأخرى فمثلا إذا شبهت تردد المفتي في حكم بصورة تردد من قام ليذهب وقلت: أراك أيها المفتي تقدم رجلا وتؤخر أخرى لم يكن حينئذ في تقدم وتؤخر رجلا استعارة إذ لم يقع بهذا التجوز تصرف في هذه الألفاظ بل هي باقية على حقائقها التي كانت عليها قبل الاستعارة المتعلقة بمجموعها من حيث هو مجموع وإنما وقع التجوز في مجموع ذلك اللفظ المركب باعتبار انتزاع صورة منه وتشبيهها بصورة أخرى مثلها وادعاء دخول الأولى في جنس الأخرى روما للمبالغة في التشبيه فأطلق على الصورة(3/23)
المشبهة اللفظ المركب الدال على الصورة المشبه بها "ولم يقولوه" أي علماء البيان هذا "هنا وليس ببعيد" كما ذكره المحقق التفتازاني "فإنما هي" أي هذه الإرادات المجازية "اعتبارات" وتصرفات عقلية للمتكلم "قد يصح الكل في مادة وقد لا" يصح الكل فيها وإنما يصح في خصوصها بعضها "فلا حجر" فيها لأن المجاز يكفي فيه العلاقة المعتبر نوعها ولا يجبر الاستعمال والتركيب الواحد مما يمكن فيه اعتبار المناسبة من جهات متعددة فيمكن اعتبار التجوز فيه من كل جهة منها ومن ثمة اعتبر صاحب الكشاف المجاز في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] من أربعة أوجه والله سبحانه أعلم.
مسألة
"لا خلاف أن" الأسماء "المستعملة لأهل الشرع من نحو الصلاة والزكاة" في غير معانيها اللغوية "حقائق شرعية يتبادر منها ما علم" لها من معانيها المذكورة "بلا قرينة" سواء كان ذلك لمناسبة بينه وبين المعنى اللغوي فيكون منقولا أو لا فيكون مبتدأ "بل" الخلاف "في أنها" أي الأسماء المستعملة لأهل الشرع في المعاني المذكورة حقيقة "عرفية للفقهاء" أي بسبب وضعهم إياها لتلك المعاني فهي في تخاطبهم تدل عليها بلا قرينة وأما الشارع فإنما(3/24)
ص -14-…استعملها فيها مجازا عن معانيها اللغوية بمعونة القرائن فلا تحمل عليها إلا بقرينة "أو" حقيقة شرعية "بوضع الشارع" حتى أنها في كلامه وكلامهم تدل عليها بلا قرينة "فالجمهور" الواقع "الثاني" أي أنها حقيقة شرعية "فعليه" أي الثاني "يحمل كلامه" أي الشارع. وكلام أهل الفقه والأصول ومن يخاطب باصطلاحهم أيضا إذا وقعت مجردة عن القرائن لأنه الظاهر منه ومنهم "والقاضي أبو بكر" الواقع "الأول" أي أنها حقيقة عرفية للمتشرعة لا للشارع "فعلى اللغوي" يحمل إذا وقعت في كلامه محتملة للغوي والشرعي "إلا بقرينة" توجب حمله على الشرعي لزعمه أنها مبقاة على حقائقها اللغوية على ما زعمه بعضهم وسيأتي ما يوافقه في الاستدلال كما ينبه المصنف عليه وأشار هنا إلى إنكاره بقوله "وفيه نظر لأن كونها" أي الصلاة مستعملة "للأفعال" المعلومة شرعا "في عهده صلى الله عليه وسلم لا يقبل التشكيك وأشهر" أي وإنه مجاز أشهر من الحقيقة في زمنه صلى الله عليه وسلم. قال المصنف: إذ لا شك في اشتهاره في كلام الشارع في المعاني الخاصة قبل انقطاع الوحي فهي وإن كانت مجازات حين ابتداء استعمالها لكنها صارت فيها أشهر منها في المعاني اللغوية "وهم" أي القاضي والجمهور "يقدمونه" أي المجاز الأشهر من الحقيقة "على الحقيقة" فكيف يصح أن يحمل على اللغوي عند عدم القرينة إذا وقع في لفظه.(3/25)
ثم قال المصنف: فإن قلت كيف يترتب الحمل على المعنى الحقيقي اللغوي على كونها مجازات في استعماله؟ قلت: لأنها إذا كانت مجازات لا يحكم بها إلا بقرينة فإذا لم يوجد معها في استعماله والفرض أن لا نقل لزم حملها على الحقيقة اللغوية وحكم بأن هذا مذهب القاضي لأنه لما قال: إنها ليست إلا حقائق في عرف أهل الشرع ومعلوم أنها مستعملة في كلام الشارع في المعاني الخاصة لزم كونها مجازا في استعماله فيها وأنكر كون قول القاضي إن الشارع استعملها في حقائقها اللغوية لاستبعاد أن يقول عالم إن قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الروم: 31] معناه أقيموا الدعاء. ثم شرط فيه الأفعال التي هي الركوع والسجود فتكون خارجة عن الصلاة شرطا كالوضوء ولهذا لم ينقل هذا عنه في الأحكام والمحصول وحكم بعض المحققين بنفيه عنه وحينئذ فالاستدلال الآتي المتضمن كونها في المعاني اللغوية والزيادات شروط من التزام النافين عنه وأيضا "فما قيل" أي قول البيضاوي "الحق أنها مجازات" لغوية "اشتهرت يعني في لفظ الشارع" لا موضوعات مبتدأة ليس قولا آخر بل هو "مذهب القاضي" بعينه كما ذكره المحقق التفتازاني إذ لا شك في حصول الاشتهار بعد تجوز الشارع باللفظ "وقول فخر الإسلام" وفاقا لأخيه صدر الشريعة والقاضي أبي زيد وشمس الأئمة السرخسي "بأنها أي الصلاة اسم للدعاء سمى بها عبادة معلومة لما أنها" أي الصلاة "شرعت للذكر" أي لذكر الله تعالى بنعوت جلاله وصفات كماله قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]. قيل: أي لتذكرني فيها لاشتمالها على الأذكار الواردة في أركانها فالمصدر مضاف إلى المفعول وكل دعاء ذكر لأن الدعاء ذكر المدعو لطلب أمر منه فسميت العبادة المعلومة بها مجازا من إطلاق اسم الجزء على الكل "يريد مجازا لغويا هجرت(3/26)
ص -15-…حقائقها أي معانيها الحقيقية لغة فليس" قوله "مذهبا آخر" غير المذهبين المتقدمين "كالبديع" أي كما هو ظاهر كلام صاحب البديع بل هو مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني كما صرح به بعض شارحي البزدوي بناء على أن كثرة استعمالها في هذه المعاني المجازية صيرتها كالحقائق لا أنها حقائق شرعية لها كما قاله الجمهور "لنا" على أنها حقيقة شرعية بوضع الشارع "القطع بفهم الصحابة قبل حدوث الاصطلاحات في زمنه صلى الله عليه وسلم" وهو ظرف لفهم الصحابة ومفعوله "ذلك" أي المعنى الشرعي لها "وهو" أي فهمهم ذلك "فرعه" أي فرع الوضع لها "نعم لا بد أولا من نصب قرينة النقل" دفعا لتبادر اللغوي "فمدار التوجيه على أنه إذا لزم تقدير قرينة غير اللغوي فهل الأولى تقديرها قرينة تعريف النقل أو المجاز. والأوجه الأول" أي تقدير قرينة غير اللغوي قرينة تعريف النقل كما هو قول الجمهور "إذ علم استمراره" أي الشارع "على قصده" أي الشرعي "من اللفظ أبدا إلا لدليل" فإن استمراره على ذلك أمارة نسخ إرادة الأول وهو معنى النقل "والاستدلال" للمختار كما في مختصر ابن الحاجب والبديع "بالقطع بأنها" أي الصلاة في الشرع موضوعة "للركعات وهو" أي والقطع بأنها لها في الشرع هو "الحقيقة" الشرعية "لا يفيد" إثبات المختار "لجواز" كونها مجازا فيها ثم "طروه" أي القطع بذلك "بالشهرة" أي بشهرتها فيها شرعا "أو بوضع أهل الشرع" إياها لها "قالوا" أي القاضي وموافقوه أولا "إذا أمكن عدم النقل تعين وأمكن" عدم النقل "باعتبارها" باقية "في اللغوية والزيادات" التي جاءت من قبل الشرع عليها "شروط اعتبار المعنى شرعا. وهذا" الدليل جار "على غير ما حررنا عنه" أي القاضي من أنها مجاز أشهر من الحقيقة اللغوية "مخترع باختراع أنه" أي القاضي "قائل بأنها" مستعملة "في حقائقها اللغوية" وتقدم النظر فيه قلت: لكن ذكر الأبهري أن للقاضي قولين: أحدهما ما حرره المصنف والآخر هذا وقال: قال الإمام(3/27)
وأما القاضي فاستمر على لجاج ظاهر فقال: الصلاة الدعاء والمسمى بها في الشرع هو الدعاء لكن إنما تعتبر عند وقوع أفعال وأحوال وطرد ذلك في الألفاظ التي فيها الكلام فإذا صح هذا عن القاضي فالعهدة عليه "وأجيب باستلزامه" أي هذا القول "عدم السقوط" للصلاة المفروضة عن المكلف "بلا دعاء لافتراضه" أي الدعاء "بالذات و" باستلزامه "السقوط" لها عن ذمته "بفعل الشرط" الذي هو الزيادة على اللغوي فقط "مطردا" أي دائما "في الأخرس المنفرد" لصحة صلاته مع انتفاء المشروط الذي هو اللغوي وكلاهما ممنوع إلا أن السبكي قال: ولك منع كون الأخرس ليس بداع إذ الدعاء هو الطلب القائم بالنفس وذلك يوجد من الأخرس وبأن الدعاء ليس ملازما للصلاة ا هـ وفيه تأمل "ثم لا يتأتى" هذا التوجيه "في بعضها" أي الأسماء الشرعية كالزكاة فإنها لغة النماء والزيادة وشرعا تمليك قدر مخصوص من مال مخصوص لشخص مخصوص بنية مخصوصة "قالوا" أي القاضي وموافقوه ثانيا "لو نقلها" أي الشارع الأسماء عن معانيها اللغوية إلى غيرها "فهمها" أي المعاني المنقولة "لهم" أي للصحابة لأنهم مكلفون بما تضمنتها والفهم شرط التكليف "ولو وقع" التفهيم "نقل" إلينا لأننا مكلفون به أيضا "ولزم تواتره" أي النقل "عادة" لتوفر الدواعي عليه ولم يوجد وإلا لما وقع الخلاف في(3/28)
ص -16-…النقل "والجواب القطع بفهمهم" أي الصحابة المعاني الشرعية منها "كما ذكرنا" صدر الاستدلال "وفهمنا" أي والقطع بفهمنا تلك المعاني أيضا منها "وبعد حصول المقصود لا يلزم تعيين طريقه ولو التزمناه" أي تعيين طريقه "جاز" أن يكون التفهيم "بالترديد" أي بمعونة التكرار "بالقرائن" أي معها "كالأطفال" يتعلمون اللغات من غير تصريح لهم بوضع اللفظ للمعنى بل إذا ردد اللفظ وكرر يحفظونه ويفهمون معناه بالقرينة "أو" جاز أن يكون "أصله" أي التفهيم "بإخباره" أي الشارع "ثم استغنى عن إخبارهم" أي الصحابة "لمن يليهم أنه أخبرهم لحصول القصد" بدونه للشهرة الموجبة لتبادرها منها عند الإطلاق "قالوا" أي القاضي وموافقوه ثالثا "لو نقلت" الأسماء عن معانيها اللغوية إلى المعاني الشرعية "كانت" الأسماء المنقولة إليها "غير عربية لأنهم" أي العرب "لم يضعوها ويلزم أن لا يكون القرآن عربيا" لاشتماله عليها وما بعضه عربي دون بعض لا يكون كله عربيا واللازم باطل لقوله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [يوسف: 2] "أجيب" بالمنع والقول "بأنها عربية إذ وضع الشارع لها ينزلها مجازات لغوية ويكفي في العربية" أي في كون الألفاظ عربية "كون اللفظ منها" أي من الألفاظ العربية "والاستعمال على شرطها" أي الألفاظ العربية في الاستعمال وإن لم يضعوا عين ذلك اللفظ لذلك المعنى "ولو سلم" أنه لا يكفي ذلك في كونها عربية "لم يخل" كونها عربية "بعربيته" أي القرآن "إما لكون الضمير" في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [يوسف: 2] "له" أي للقرآن "وهو" أي القرآن "مما يصدق الاسم" أي اسمه "على بعضه" أي بعض مسماه "ككله كالعسل" فإنه كما يصدق العسل على القليل منه والكثير يصدق القرآن على جزء منه وعلى جميعه حتى لو حلف لا يقرأ القرآن فقرأ جزءا منه حنث لمشاركة الجزء الكل في الاتفاق في الحقيقة فيصح أن يطلق القرآن ويراد به بعضه ولا(3/29)
ريب في كونه عربيا "بخلاف المائة والرغيف" مما لا يشارك الجزء الكل في الحقيقة فإنه لا يصدق فيه الاسم على كل من الكل والجزء حقيقة فلا يطلق الاسم ويراد به الجزء حقيقة "أو" لكون الضمير "للسورة" باعتبار المنزل أو المذكور أو القرآن ولا يخفى أن مآل هذين في المعنى واحد لا فرق بينهما سوى أن على هذا الضمير لبعض معين هو السورة وعلى الأول الضمير لبعض غير معين أعم من أن يكون السورة أو غيرها وأن القرآن كما يطلق مرادا به المفهوم الكلي الصادق على كل فرد منه وعلى جميع أفراده فيأتي فيه ما ذكرنا يطلق ويراد به المجموع الشخصي فلا يتأتى فيه ذلك غير أنه لا يتعين إرادته في كلام إطلاق ليندفع به كل من التوجيهين المذكورين هذا وابن الحاجب إنما أجاب أولا بأن الضمير للسورة ثم تنزل إلى أنه ولو سلم أنه للقرآن فلا يخرج عن كونه عربيا بوقوع هذه الألفاظ فيه إذ يصح إطلاق اسم العربي على ما غالبه عربي مجازا كشعر فيه فارسي وعربي أكثر منه وإطلاق العربي على القرآن لا يستلزم كونه حقيقة فيه غايته كما قال بعض المحققين أن يقال الأصل في الإطلاق الحقيقة لكن المجاز قد يرتكب للدليل وهو موجود هنا وهو ما ذكرنا من الدليل على كونها حقائق شرعية.
"واعلم أن المعتزلة سموا قسما من" الحقائق "الشرعية" حقيقة "دينية وهو ما دل على(3/30)
ص -17-…الصفات المعتبرة في الدين وعدمه اتفاقا كالإيمان والكفر والمؤمن" والكافر "بخلاف الأفعال" أي ما هي من فروع الدين أو ما يتعلق بالجوارح فإن فيها خلافا "كالصلاة والمصلي ولا مشاحة ووجه المناسبة أن الإيمان" على قولهم "الدين لأنه" أي الدين اسم "لمجموع التصديق الخاص" القلبي بكل ما علم مجيء النبي صلى الله عليه وسلم به من عند الله ضرورة "مع المأمورات والمنهيات لقوله تعالى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] بعد ذكر الأعمال" أي قوله تعالى: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5] فذلك إشارة إلى المذكور من العبادات المدلول عليها بقوله تعالى: {لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} [البينة: 5] على أنها للعموم لأن يعبدوا في تأويل المصدر المضاف إلى الضمير لكونه منصوبا بأن المصدرية المقدرة بعد لام كي والمصدر المضاف إلى المعرفة يفيد العموم فيكون يعبدوا في معنى عباداتهم وتذكير اسم الإشارة لاعتبار لفظ أن يعبدوا وعلى هذا يكون قوله: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5] من عطف الخاص على العام لزيادة الاهتمام كما في قوله {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4] وقد تعلق الأمر الذي هو للوجوب بها فيكون معنى قوله {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] جميع العبادات الواجبة دين الملة المستقيمة "والاتفاق على اعتبار التصديق في مسماه" أي الدين بخلاف الأفعال "فناسب تمييز الاسم الموضوع له" أي للتصديق الخاص "شرعا بالدينية وهذه" المناسبة "على رأيهم" أي المعتزلة "في اعتبار الأعمال جزء مفهومه" أي الإيمان "وعلى" رأي "الخوارج" المناسبة في هذه التسمية "أظهر" منها على رأي المعتزلة لجعل المعتزلة مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر وجعل الخوارج مرتكبها كافرا "ولا يلزم من نفي ذلك" أي كون الأعمال جزء مفهوم الإيمان كما هو قول أصحابنا "نفيها" أي الحقيقة الدينية لأنه لا(3/31)
ينتفي ما يصلح مناسبة لوضع الاصطلاح "إذ يكفي أنها" أي الدينية "اسم لأصل الدين وأساسه أعني التصديق فظهر أن الكلام في ذلك" أي في إثبات نفي أنها منه "مع أنه" أي الكلام في ذلك "يخرج إلى فن آخر" أي علم الكلام "ولا يتوقف عليه" أي على ذلك "مطلوب أصولي بل اصطلاحي وفي غرض سهل وهو إثبات مناسبة تسمية اصطلاحية لا يفيد نفيها فعلى المحقق تركه" وفي هذا تعريض بابن الحاجب حيث تعرض له.
"تتمة كما يقدم الشرعي في لسانه". أي خطاب الشارع "على ما سلف" أي اللغوي "كذا العرفي في لسانهم" أي أهل العرف خاصا كان أو عاما يقدم على اللغوي أيضا لأنه الظاهر منهم "فلو حلف لا يأكل بيضا كان" البيض "ذا القشر" ففي المبسوط فهو على بيض الطير من الدجاج والإوز وغيرهما ولا يدخل بيض السمك فيه إلا أن ينويه لأنا نعلم أنه لا يراد بهذا بيض كل شيء فإن بيض الدود لا يدخل فيه فيحمل على ما ينطلق عليه اسم البيض ويؤكل عادة وهو كل بيض له قشر كبيض الدجاج ونحوها "فيدخل النعام" أي بيضه بل كما قال في الكشف فهذا يدل على أنه يحنث بم سوى الدجاج والإوز كبيض النعام والحمام وسائر الطيور لكن قال صاحب المبسوط في أصوله يتناول يمينه بيض الدجاج والإوز خاصة لاستعمال ذلك عند الأكل عرفا ولا يتناول بيض الحمام والعصفور وما أشبه ذلك ووافقه(3/32)
ص -18-…فخر الإسلام وغيره وحيث كان الموجب للاختصاص اختصاص التعارف بذلك فيدور ذلك معه ولا شك أنه مما يختلف فلا ريب في اختلاف الجواب باختلافه "أو" لا يأكل "طبيخا فما طبخ من اللحم في الماء ومرقه" أي فيمينه عليهما للعرف فيحنث بكل منهما كما يحنث بهما ولا يحنث بما طبخ قلية يابسة من اللحم إلى غير ذلك نعم في الخلاصة يحنث بالأرز إذا طبخ بودك لأنه يسمى طبيخا إلا بما يطبخ بزيت أو سمن وإذا كان المدار تعارف تسميته طبيخا ففي عرفنا يسمى ما يطبخ بهما طبيخا ولا سيما في عرف القرويين فينبغي أن يحنث بأكله أيضا "أو" لا يأكل "رأسا فما يكبس" في التنانير في عرف الحالف ويباع فيه من الرءوس مشويا "بقرا وغنما" عند أبي حنيفة آخرا لأن كلا منهما لا غير كان المتعارف في زمنه آخرا وإبلا أيضا عنده أولا لأنه أيضا كان متعارفا لأهل الكوفة أولا ثم تركوه دونهما "ولو تعورف الغنم فقط تعين" كون الرأس رأسها كما هو محل قولهما إن يمينه على رءوس الغنم خاصة لمشاهدتهما اقتصار أهل بغداد وغيرهم عليها فالخلاف خلاف زمان لا برهان "أو" لا يأكل "شواء خص اللحم" فلا يحنث بالمشوي من البيض والباذنجان والجزر وغيرها لأن التعارف مختص به "وقول فخر الإسلام" في توجيه ترك الحقيقة بالعرف "لأن الكلام موضوع لاستعمال الناس وحاجتهم فيصير المجاز باستعمالهم كالحقيقة يحمل على ذلك المحمل" الماضي قريبا وهو أنه مجاز لغوي مهجور الحقيقة.
مسألة(3/33)
"لا شك أن الموضوع قبل الاستعمال ليس حقيقة ولا مجازا لانتفاء جنسهما" وهو المستعمل "ولا" شك أيضا "في عدم استلزام الحقيقة مجازا" إذ غير ممتنع أن يستعمل اللفظ في معناه الوضعي ولا يستعمل في غيره "واختلف في قلبه" أي استلزام المجاز الحقيقة "والأصح نفيه" أي نفي قلبه "ويكفي فيه" أي في نفي استلزامه إياها "تجويز التجوز به" أي باللفظ لما يناسبه "بعد الوضع قبل الاستعمال" له في المعنى الموضوع له "لكنهم استدلوا بوقوعه" أي المجاز ولا حقيقة "بنحو شابت لمة الليل" إذا ظهرت فيه تباشير الصبح فإن هذا مجاز لا حقيقة له "ودفع" هذا الاستدلال دفعا إلزاميا "بأنه مشترك الإلزام" أي كما يمكن أن يلزم به الملزم يمكن أن يلزم به النافي "لاستلزامه" أي المجاز "وضعا" إذ الوضع للمجاز ثابت اتفاقا وقطعا وهذا الدليل ينفيه بأن يقال لو استلزم المجاز الوضع لوجب أن يكون هذا المركب موضوعا لمعنى متحقق "والاتفاق أن المركب لم يوضع شخصيا والكلام فيه" أي في الوضع الشخصي للمركب فلا يكون هذا الدليل صحيحا بجميع مقدماته "وأيضا إن اعتبر المجاز فيه" أي في شابت لمة الليل "في المفرد" أي في شابت حيث أريد بالشيب هنا حدوث بياض الصبح في آخر سواد الليل أو في لمة بأن أريد بها سواد آخر الليل وهو الغلس "منعنا عدم حقيقة شابت أو لمة" لاستعمالهما في المعنى الحقيقي لهما من بياض الشعر والشعر المجاوز لشحمة الأذن في غير هذا المركب "أو" اعتبر المجاز فيه "في نسبتهما" أي النسبة الإسنادية للشيب إلى(3/34)
ص -19-…اللمة والنسبة الإضافية للمة إلى الليل "فليس" المجاز فيهما "النزاع" لأنه مجاز عقلي والنزاع إنما هو في غيره "وأما منع الثاني" أي المجاز في النسبة "لاتحاد جهة الإسناد" كما قدمنا تقريره في تنبيه يقال الحقيقة والمجاز على غير المفرد "فغير واقع لما تقدم" هناك وأوضحناه فليراجع "وأيضا الرحمن لمن له رقة القلب ولم يطلق" إطلاقا "صحيحا إلا عليه تعالى" والله منزه عن الوصف بها "فلزم" كون إطلاقه على الله تعالى "مجازا بلا حقيقة" قال السبكي: وهذا بناء على أن أسماء الله صفات لا أعلام أما إن جعلناها أعلاما فالعلم لا حقيقة ولا مجاز ا هـ قلت وقد عرفت أن هذا إنما هو مذهب بعضهم كالرازي والآمدي وأن التحقيق خلافه وعليه فكون إطلاق الرحمن على الله مجازا وإن قلنا: إنه من الأعلام عليه تعالى كما هو الأوجه نظرا إلى أن معنى الرحمة في الأصل رقة القلب ظاهر "بخلاف قولهم" أي بني حنيفة في مسيلمة الكذاب "رحمن اليمامة" وقول شاعرهم:
وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا(3/35)
فإنه لم يطلق عليه إطلاقا صحيحا بل هو مردود ولمخالفته اللغة أوقعهم فيها لجاجهم في الكفر وأيضا كما قال المصنف "ولأنهم لم يريدوا به" أي بلفظ رحمن في إطلاقه على مسيلمة المعنى "الحقيقي من رقة القلب" بل أرادوا أن يثبتوا له ما يختص بالإله تعالى بعد أن أثبتوا له ما يختص بالأنبياء وهي النبوة وقال السبكي: جوابه عندي أنهم لم يستعملوا الرحمن المعرف بالألف واللام وإنما استعملوه معرفا بالإضافة في رحمن اليمامة ومنكرا في لا زلت رحمانا ودعوانا إنما هي في المعرف بالألف واللام ا هـ وفيه نظر يظهر بالتأمل "قالوا" أي الملزمون "لو لم يستلزم" المجاز الحقيقة "انتفت فائدة الوضع" لأن فائدته إفادة المعاني المركبة فإذا لم يستعمل لم يقع في التركيب فتنتفي فائدته "وليس" هذا "بشيء" تقوم به الحجة "لأن التجوز" باللفظ "فائدة لا تستدعي غير الوضع" له لمعنى غير المتجوز فيه فلا يستدعي لزوم الاستعمال فيه فلا يستدعي الحقيقة والله سبحانه أعلم.
مسألة
"المجاز واقع في اللغة والقرآن والحديث خلافا للإسفراييني في الأول" أي في اللغة وحكى السبكي النفي لوقوعه مطلقا عنه وعن الفارسي والإسنوي عنه وعن جماعة "لأنه" أي المجاز "قد يفضي إلى الإخلال بغرض الوضع" وهو فهم المعنى المجازي المراد باللفظ "لخفاء القرينة" الدالة عليه فيقضي بالمعنى الحقيقي لتبادره وعدم ظهور غيره "وهو" أي خلافه في وقوعه "بعيد على بعض المميزين فضلا عنه" أي عن الأستاذ أبي إسحاق "لأن القطع به" أي بوقوعه "أثبت من أن يورد له مثال" لكثرته في اللغة والكتاب والسنة "ويلزمه" أي هذا الدليل "نفي الإجمال مطلقا" لأنه من حيث هو مخل بفهم عين المراد منه وهو أيضا باطل فلا جرم أن قال السبكي: الأستاذ لا ينكر استعمال الأسد للشجاع وأمثاله بل يشترط في ذلك(3/36)
ص -20-…القرينة ويسميه حينئذ حقيقة وينكر تسميته مجازا وانظر كيف علل باختلال الفهم ومع القرينة لا اختلال فالخلاف لفظي كما صرح به إلكيا "وللظاهرية في الثاني" أي القرآن وكذا في الثالث وهو الحديث إلا أنهم غير مطبقين على إنكار وقوعه فيهما وإنما ذهب إليه أبو بكر بن داود الأصفهاني الظاهري في طائفة منهم وابن القاص من قدماء الشافعية على أن المصرح بإنكاره في كتاب ابن داود وإنما هو مجاز الاستعارة وذهب ابن حزم إلى أنه لا يجوز استعمال مجاز إلا أن يكون ورد في كتاب وسنة "لأنه" أي المجاز "كذب لصدق نقيضه" أي المجاز فإنه ينفي فيصح إذ يصح أن يقال في الرجل البليد حمار ليس الرجل البليد حمارا وكل ما يصح نفيه فهو كذب فالمجاز كذب "فيصدقان" أي النقيضان من الصدق والكذب والكذب محال في حق الله تعالى ثم في حق رسوله وصدق النقيضين باطل مطلقا قطعا "قلنا جهة الصدق مختلفة" فمتعلق الإثبات المعنى المجازي ومتعلق النفي المعنى الحقيقي فلا كذب ولا صدق للنقيضين إنما ذلك لو اتحد متعلقهما "وتحقيق صدق المجاز صدق التشبيه ونحوه من العلاقة" للمجاز بحسب مواقعه وتنوع علاقته فصدق المجاز الذي هو زيد أسد بصدق كونه شبيها به في الشجاعة وعلى هذا القياس "وحينئذ" أي وحين كان الأمر على هذا "هو" أي المجاز "أبلغ" من الحقيقة على ما في هذا الإطلاق من بحث يأتي في مسألة إذا لزم مشتركا إلخ "وقولهم" أي الظاهرية "يلزم" على تقدير وقوع المجاز في كلام الله تعالى "وصفه تعالى بالمتجوز" لأن من قام به فعل اشتق له منه اسم فاعل واللازم باطل لامتناع إطلاقه عليه تعالى اتفاقا فالملزوم مثله "قلنا إن" لزم وصفه به "لغة منعناه بطلان اللازم" لأنه لا مانع منه لغة "أو" لزم وصفه به "شرعا منعنا الملازمة" لأن ذلك إذا لم يمنع منه مانع وهنا مانع منه لأن المتجوز يوهم أنه يتسمح ويتوسع فيما لا ينبغي من الأفعال والأقوال وما يوهم نقصا لا يجوز إطلاقه على الله تعالى(3/37)
اتفاقا ولنا {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] فإن النور في الأصل كيفية تدركها الباصرة أولا وبواسطتها سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى إلا بتقدير مضاف كزيد كرم بمعنى ذو كرم أو على تجوز بمعنى منور السموات والأرض وقد قرئ به فإنه تعالى نورها بالكواكب وما يفيض عنها من الأنوار وبالملائكة والأنبياء أو مدبرها من قولهم للريس الفائق في التدبير: نور القوم لأنهم يهتدون به في الأمور أو موجدها فإن النور ظاهر بذاته مظهر لغيره وأصل الظهور هو الوجود كما أن أصل الخفاء هو العدم والله سبحانه موجود بذاته موجد لما عداه إلى غير ذلك ومكروا "{وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54]" لأن المكر في الأصل حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة فلا يسند إلى الله تعالى وإنما أسند هنا إليه على سبيل المقابلة والازدواج "{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15]" لأن الاستهزاء السخرية والاستخفاف وهو لا ينسب إليه تعالى وإنما أسند إليه هنا مشاكلة أو استعارة لما ينزله بهم من الحقارة والهوان الذي هو لازم الاستهزاء أو الغرض منه إلى غير ذلك مما يعرف في موضعه {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] بمثل ما اعتد عليكم وجزائ سيئة "جزاء سيئة {سَيِّئَةٌ(3/38)
ص -21-…مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ومعلوم أن ليس جزاء الاعتداء اعتداء إذ ليس فيه تعد عن حكم الشرع بل هو عدل وحق ولا جزاء السيئة سيئة لأنه لم ينه عنه شرعا والسيئة ما نهي عنه شرعا بل هو حسن فهما من إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر بجامع المجاورة في التخيل أو من المشاكلة "وكثير" إلى أن بلغ في الكثرة حدا يفيد الجزم بوجوده ولا يفيد المانعين تجشم دفع ذلك في صور معدودة منها المثل المتقدمة فإنه قد قيل لا تجوز في شيء منها فالنور معناه الظاهر في نفسه المظهر لغيره لا العرض الذي شأنه هذا فيكون إطلاقه على الله حقيقة وقال الإمام الرازي: المكر إيصال المكروه إلى الغير على وجه يخفى فيه والاستهزاء إظهار الإكرام وإخفاء الإهانة فيجوز صدورهما من الله حقيقة لحكمة وقوله {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67] لا يدل على أن كل استهزاء حقيقة الجهل والاعتداء إيقاع الفعل المؤلم أو هتك حرمة الشيء وحينئذ فمعنى الآية كما هتكوا حرمة شيء أي حرمة كانت من الحرم أو الشهر الحرام أو النفس أو المال أو العرض فاهتكوا حرمة له كذلك كما يدل عليه سياق الآية {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194] والسيئة ما يسوء من ينزل به "وأما {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] فقيل": القرية فيه "حقيقة" وأمر بنو يعقوب عليهم السلام أباهم أن يسألها "فتجيبه" بناء على أن الله تعالى قادر على إنطاقها لا سيما والزمان زمان النبوة وخرق العوائد فلا يمتنع نطقها بسؤال نبي وضعف بأن هذا وإن كان ممكنا إنما يقع لنبي عند التحدي وإظهار المعجزات ولم يكن ذلك كما هو ظاهر السياق "وقدمناه" أي لفظ القرية "حقيقة مع حذف الأهل" ويشهد له تخصيصهم القرية بالتي كنا فيها وهي مصر أو قرية بقربها لحقهم المنادي فيها فإنه يدل على أن المراد أهلها من الأحياء المدركين لما جرى بينهم وبين يوسف لا نفس القرية لأن جميع الجمادات(3/39)
متساوية في عدم الإدراك وفي أنها لو أجابت لكان جوابها دالا على صدقهم وهذا أيضا مما يدل على ضعف ما قبله "و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ليس من محل النزاع" وهو مجاز العلاقة لأن هذا من مجاز الزيادة "ألا يرى إلى تعليلهم" أي الظاهرية بأنه كذب وهو لا يصدق على مجاز الزيادة فالاستدلال به في غير محل النزاع "وقد أجيب" أيضا من قبلهم بغير هذا فأجيب "تارة بأنه" أي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] لنفي الشبيه "حقيقة" فالكاف فيه مستعملة في مفهومها الوضعي وهو الشبيه "والمثل يقال لنفسه" أي لنفس الشيء وذاته فيقال "لا ينبغي لمثلك" كذا أي لك {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] أي بنفس ما آمنتم به وهو القرآن أو دين الإسلام كما هو أحد الأقوال في الآية فالمعنى ليس كذاته شيء "وتمامه" أي هذا الجواب "باشتراك مثل" بين النفس والشبيه إذ لا ريب في إطلاق مثل على المماثل وهو غير نفسه فإن كان في الآخر حقيقة ثبت الاشتراك "وإلا" أي وإن لم يكن في الآخر حقيقة بل كان مجازا "ثبت نقيض مطلوبهم" أي الظاهرية وهو وجود المجاز في القرآن "وهو" أي الاشتراك "ممنوع" لأن الأصل عدمه والمجاز أولى منه "وتارة" بأن {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] "حقيقة" في نفي التشبيه على أن الكاف بمعنى مثل وكل منها ومنه غير زائد ثم هو "إما لنفي مثل مثله" أي(3/40)
ص -22-…الله تعالى "ويلزمه" أي نفي مثل مثله تعالى "نفي مثله وإلا" لو لم يلزمه نفي مثله "تناقض لأنه" تعالى "مثل مثله" فلا يصح نفي مثل المثل لكنه صحيح فنفي مثله صحيح وإيضاحه أن الظاهر المتبادر من هذه العبارة ثبوت المثل فإنك إذا قلت: ليس شيء مثل مثل زيد تبادر منه إلى الفهم أن لزيد مثلا وقد نفيت عنه أنه يماثله شيء ولا شك أنه إذا ثبت له تعالى مثل كان هو مثلا لمثله فيندرج تحت النفي الوارد عليه فيلزم نفيه تعالى مع إثبات مثله والمراد نفي المثل مع ثبوت ذاته وهما متناقضان ثم الحاصل أن ثبوت مثله تعالى مستلزم لثبوت مثل مثله فنفي اللازم وجعل دليلا على نفي الملزوم "وللزوم التناقض" على تقدير أن لا يلزمه نفي مثله "انتفى ظهوره" أي نفي مثل مثله "في إثبات مثله وبه" أي بلزوم التناقض "يندفع دفعه" أي هذا الجواب ودافعه ابن الحاجب "باقتضائه" أي هذا الجواب "إثبات المثل في مقام نفيه" أي المثل "وظهوره" أي المثل "فيه" أي في إثبات مثله "وجعل هذا" الدفع الذي لابن الحاجب "مرتبا على الجواب الأول سهوا" قال المصنف: وقع في حواشي الشيخ سعد الدين الاقتصار على نقل الجواب الأول للظاهرية وهو أن الكاف بمعنى الذات ثم رتب عليه اعتراض ابن الحاجب المذكور فأشار المصنف إلى أن هذا سهو ا هـ قلت: لأن كون المعنى ليس كذاته شيء لا يقتضي إثبات المثل في مقام نفيه غير أن قول المصنف وهو أن الكاف بمعنى الذات سهو والصواب وهو أن المثل بمعنى الذات فسبحان من لا يسهو "وإما لنفي شبه المثل فينتفي المثل بأولى كمثلك لا يبخل ولا شك أن اقتضاء شبه صفته انتفاء البخل أولى منه" أي من اقتضاء شبه صفته انتفاء البخل "اقتضاء صفته" انتفاء البخل لأن المشبه به في ذلك أقوى فيكون المعنى من كان على صفة المثل وشبهه فهو منفي فكيف المثل حقيقة فيفيد الكلام نفي التشبيه والتشريك من غير تناقض إلا أن المصنف تعقب هذا بقوله "لكن ليس منه ما نحن فيه من نفي مثل المثل"(3/41)
لينتفي المثل "وإلا لم يصح نفي مثل مثل لثابت له مثل واحد لكنه صحيح فإذا قيل ليس مثل مثل زيد أحدا اقتضى" هذا القول "ثبوت مثل لزيد وصرف" هذا القول أيضا "لزوم التناقض" اللازم من لزوم نفي مثله لنفي مثل مثله "إلى نفي مثل" آخر "غير زيد" وحينئذ لا تناقض لأنه كما قال "فلم يتحد محل النفي والإثبات وهو" أي هذا الصرف "أظهر من صرفه" أي هذا القول التناقض "السابق عن ظهوره" أي المثل "في إثبات المثل" إلى نفي ذاته وإثباته "لأسبقية هذا" إلى الفهم "من التركيب فالوجه" في دفع أنه لنفي مثل مثله اللازم منه نفي مثله "ذلك الدفع" أي دفع ابن الحاجب وقد يقرر لزوم نفي المثل من نفي مثل المثل في الآية الكريمة بأن مثل المثل إنما هو ذاته تعالى مع وصف أنه مثل المثل لأن مثله تعالى لا يكون له مثل إلا ذاته تعالى وحينئذ يلزم من نفي مثل مثله نفي مثله بطريق برهاني وهو أن نفي مثل مثله إما بانتفاء ذاته أو بانتفاء الوصف والأول ممتنع لذاته متقرر في العقول قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] فتعين أن يكون بانتفاء الوصف وانتفاء الوصف إنما يتصور عند انتفاء المثل في العقل والخارج لأنه لو تحقق مثله عقلا أو خارجا لزم أن يثبت وصف أنه مثل مثله ثم غير خاف أن المراد بالمثل(3/42)
ص -23-…هنا المثل المتوهم وليس لمتوهمه أن يعتقد أنه مطابق للواقع لأنه شرك بل الله بخلافه لا مثله وقد يقال مثل في الآية بمعنى الصفة العجيبة الشأن التي لا عهد بمثلها والمعنى ليس كصفته العجيبة الشأن شيء وإنه لصدق فهي مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وهو حسن لا كلفة فيه والله سبحانه أعلم.
مسألة
"اختلف في كون المجاز نقليا فقيل في آحاده وقيل في نوع العلاقة وهو الأظهر" فحاصل المذاهب لا يشترط نقل الآحاد ولا نقل نوع العلاقة يشترط نقل الآحاد يشترط نقل نوع العلاقة فقط والمذهب الأول يفهم من قوله اختلف في كون إلخ فإنه يفيد أن قائلا قال: ليس نقليا وآخر قال: نقل ثم اختلفوا فقيل: نقل الآحاد وقيل: بل نقل نوع العلاقة كالسببية والمسببية كذا ذكر المصنف "فالشارط" للنقل في نوع العلاقة يقول معناه "أن يقول" الواضع "ما بينه وبين آخر اتصال كذا إلخ" أي أجزت أن يستعمل فيه من غير احتياج إلى نقل آحاده فإذا علمنا أنهم أطلقوا اسم اللازم على الملزوم ويكفينا هذا في إطلاق كل لازم على ملزومه ولا يتوقف على سماعه منهم في عين كل صورة من جزئياته والشارط للنقل في الآحاد يشترط سماعه منهم في عين كل صورة "والمطلق" للجواز من غير اشتراط نقل في الآحاد ولا في النوع يقول "الشرط" في صحة التجوز أن يكون "بعد وضع التجوز اتصال" بين المتجوز به والمتجوز عنه "في ظاهر" من الأوصاف المختصة بالمتجوز عنه فحيث وجد لم يتوقف على غيره "وعلى النقل" أي القول باشتراطه آحادا أو نوعا "لا بد من العلم بوضع نوعها" وإلا كان استعمال اللفظ في ذلك المعنى وضعا جديدا أو غير معتد به "واستدل" للمطلق أنه "على التقديرين" أي تقدير شرط نقل الآحاد وتقدير شرط نقل الأنواع "لو شرط" أحدهما "توقف أهل العربية" في إحداث آحاد المجازات على التقدير الأول وأنواعها على التقدير الثاني "ولا يتوقفون أي في الآحاد وإحداث أنواعها" أي العلاقة بل يعدون ذلك من كمال(3/43)
البلاغة ومن ثمة لم يدونوا المجازات تدوينهم الحقائق "وهو" أي هذا الدليل "منتهض في الأول" أي في عدم اشتراط النقل في الآحاد "ممنوع التالي" والوجه فيما يظهر أن يقال ممنوع استثناء نقيض التالي وهو عدم التوقف "في الثاني" أي عدم اشتراط النقل في الأنواع "وعلى الآحاد" أي واستدل على عدم اشتراط النقل في الآحاد "لو شرط" النقل فيها "لم يلزم البحث عن العلاقة" لأن النقل بدونها مستقل بتصحيحه حينئذ فلا معنى للنظر فيها لكنه لازم بإطباق أهل العربية فلا يشترط النقل في الآحاد "ودفع إن أريد نفي التالي" وهو لزوم البحث عن العلاقة "في غير الواضع منعناه" أي نفي التالي "بل يكفيه" أي غير الواضع "نقله" الآحاد "وبحثه" عن العلاقة "للكمال" وهو الاطلاع على الحكمة الباعثة على ترك الحقيقة إلى المجاز وتعرف جهة حسنه "أو" أريد نفي التالي "فيه" أي في الواضع "منعنا الملازمة" فإن الواضع محتاج إلى معرفة المناسبة بين المعنى الحقيقي والمجازي المسوغة للتجوز عنه إليه وأيضا كما قال المصنف "وغير النزاع" لأن النزاع في غير الواضع لا في الواضع "قالوا" أي الشارطون(3/44)
ص -24-…للنقل في الآحاد: "لو لم يشترط" النقل فيها "جاز نخلة لطويل غير إنسان" للمشابهة في الطول كما جازت للإنسان الطويل "وشبكة للصيد" للمجاورة بينهما "وابن لأبيه" إطلاقا للمسبب على السبب "وقلبه" أي أب لابنه إطلاقا للسبب على المسبب "وهذا" الدليل "للأول" أي القائل بأن الخلاف في نقل الآحاد "والجواب وجوب تقدير المانع" في هذه الصور وما جرى مجراها "للقطع بأنهم لا يتوقفون" عن استعمال مجازات لم يسمع أعيانها بعد أن كانت من مظاهر العلاقة المعتبرة نوعا وتخلف الصحة عن المقتضى في بعض الصور لمانع مخصوص بها لا يقدح في الاقتضاء لأن عدم المانع ليس جزءا من المقتضى وبهذا التقدير يتم مقصودنا ولا يلزمنا تعيين المانع ثم الحاصل أن عدم استعماله مع العلاقة حكم بوجود مانع هناك إجمالا ما لم يعلم فيه ذلك فإن علم أو ظن وجود مانع فيه لم يستعمل وإلا جاز استعماله لأن الأصل عدم المانع على أن صدر الشريعة ذهب إلى أنه إنما لم يجز نخلة لطويل غير إنسان لانتفاء المشابهة فيما له مزيد اختصاص بالنخلة بناء على أن جوازها لإنسان طويل ليس لمجرد الطول بل مع فروع وأغصان في أعاليها وطراوة وتمايل فيها.
"المعرفات" للمجاز(3/45)
"يعرف المجاز بتصريحهم" أي أهل اللغة "باسمه" كهذا اللفظ مجاز في كذا "أو حده" كهذا اللفظ مستعمل في غير وضع أول على وجه يصح "أو بعض لوازمه" كاستعماله في كذا يتوقف على علاقة "وبصحة نفي ما" أي معنى "لم يعرف" معنى حقيقيا "له" أي اللفظ "في الواقع" كقولك للبليد ليس بحمار وإنما قال في الواقع لصحة سلب الإنسان لغة وعرفا عن الفاقد بعض صفات الإنسانية المعتد بها كالبليد وغيره بناء على اعتبارات خطابية "قيل" أي قال ابن الحاجب: "وعكسه" وهو عدم صحة نفي ما لم يعرف حقيقيا له في الواقع "دليل الحقيقة" ولذا لا يصح أن يقال للبليد ليس بإنسان "واعترض" أي قال المحقق التفتازاني ويشكل هذا "بالمستعمل" أي بالمجاز "في الجزء واللازم" المحمول "من قولنا عند نفي خواص الإنسانية" عن زيد "ما زيد بإنسان أي كاتب أو ناطق لا يصح النفي ولا حقيقة" قال المصنف "والحق الصحة" أي صحة النفي "فيهما" أي في الجزء واللازم فيكون مجازا "قيل" أي قال القاضي عضد الدين: "وأن يعرف له معنيان حقيقي ومجازي ويتردد في المراد" منهما في مورد "فصحة نفي الحقيقي" عن المورد "دليله" أي كون اللفظ مجازا في ذلك قال المصنف: "وليس بشيء لأن الحكم بالصحة" أي بصحة نفي الحقيقي عنه "يحيل الصورة لأنه" أي الحكم بالصحة "فرع عدم التردد وإن أريد" أن صحة نفي الحقيقي بالأخرة دليله "لظهور القرينة" المفيدة للمجازية "بالآخرة فقصور إذ حاصله إذا دلت القرينة على أن اللفظ مجاز فهو مجاز ومعلوم وجوب العمل بالدليل وبأن يتبادر غيره" أي ويعرف المجاز بتبادر غير المعنى المستعمل فيه إلى الفهم "لولا القرينة" فيكون في المعنى المستعمل فيه مجازا "وقلبه" وهو أن لا يتبادر غير المستعمل فيه لولا القرينة الدالة على أن المراد غيره على ما ذكره القاضي عضد الدين وهو أعم من أن يتبادر هو أولا "علامة الحقيقة" يعني فهذه مطردة منعكسة إذ تبادر(3/46)
ص -25-…الغير علامة المجاز وعدمه علامة الحقيقة "وإيراد المشترك" على علامة الحقيقة "إذ لا يتبادر المعين وهو" أي المشترك "حقيقة فيه" أي في المعين "مبني على انعكاس العلامة وهو" أي انعكاسها "منتف" لأن شرطها الاطراد لا الانعكاس "وإصلاحه" أي إيراد المشترك "تبادر غيره" أي غير المعين "وهو المبهم إلا بقرينة" تعين المعين "ودفعه" أي الإيراد بعد الإصلاح "بأن في معنى التبادر" أي مأخوذ في معناه من قولنا أن لا يتبادر غيره "أنه" أي الغير "مراد وهو" أي تبادر الغير على أنه مراد "منتف بالمبهم واندفع ما إذا قرر" الإيراد على علامة الحقيقة "بما إذا استعمل" المشترك "في مجازي فإنه لا يتبادر غيره" أي غير المجازي المستعمل فيه لتردد بين معانيه "فبقيت علامة الحقيقة في المجاز" وهو باطل اندفاعا بينا "بأن علامة الحقيقة تبادر المعنى لولا القرينة وهو" أي تبادره لولا القرينة هو "المراد بعدم تبادر غيره" لولا القرينة كما سلف "فلا ورود لهذا إذ ليس يتبادر المجازي" من لفظ المشترك حتى يكون حقيقة "ثم هو" أي هذا التقرير "يناقص مناضلة المقرر" أي القاضي عضد الدين "فيما سلف" أي في مسألة عموم المشترك "على أن المشترك ظاهر في كل معين ضربة عند عدم قرينة معين وبعدم اطراده" أي ويعرف المجاز بعدم اطراد اللفظ في مدلوله من غير مانع لغوي أو شرعي عن الاطراد "بأن استعمل" اللفظ في محل "باعتبار وامتنع" استعماله "في آخر معه" أي مع ذلك الاعتبار "كاسأل القرية دون البساط" فإن لفظ اسأل استعمل في محل هو نسبة السؤال إلى القرية بسبب تعلق السؤال بأهلها ولم يستعمل في محل آخر هو نسبة السؤال إلى البساط وإن وجد فيه تعلق السؤال بالأهل وعلى هذا فليس هذا مما الكلام فيه كما ينبه المصنف عليه ولا يقال: لعل المراد أن القرية أطلقت على أهلها بعلاقة الحلول وقد وجدت في البساط ولم يطلق على أهله لأنا نقول: لو كان المراد هذا لم يكن من مثل عدم الاطراد لأنه لم(3/47)
يستعمل ذلك اللفظ في محل آخر مع وجود ذلك المعنى فيه بل إنما لم يستعمل نظيره في محل آخر مع وجود ذلك المعنى "ولا تنعكس" هذه العلامة أي ليس الاطراد دليل الحقيقة فإن المجاز قد يطرد كالأسد للشجاع "وأورد" على هذا "السخي والفاضل امتنعا فيه تعالى مع المناط" أي وجود مناط إطلاقهما وهو الجود والعلم في حقه تعالى "والقارورة في الدن" أي لا يسمى قارورة مع وجود المناط لتسميتها بها فيه وهو كونه مقرا للمائع "وأجيب بأن عدمه" أي التجوز في هذه "لغة عرف تقييدها بكونه" أي الجود "ممن شأنه أن يبخل و" العلم ممن شأنه أن "يجهل وبالزجاجية" أي وبكون ما هو مقر للمائع من الزجاج فانتفى مناط التجوز المذكور فيها لشمول جوده تعالى وكمال علمه سبحانه وعدم الزجاجية في الدن "ويجيء مثله" أي هذا الجواب "في الكل" أي في كل ما استعمل باعتبار وامتنع في آخر معه "إذ لا بد من خصوصية" لذلك المحل المستعمل ذلك فيه "فتجعل" الخصوصية "جزءا" من المقتضي فيكون الانتفاء فيما تخلف فيه لانتفاء المقتضي "وبجمعه على خلاف ما عرف لمسماه" أي إذا كان للاسم جمع باعتبار معناه الحقيقي وقد استعمل بمعنى آخر ولم يعلم أنه حقيقة فيه أو مجاز غير أن جمعه بذلك المعنى مخالف لجمعه باعتبار المعنى الحقيقي كان اختلاف جمعه باعتبارهما(3/48)
ص -26-…دليلا على أنه مجاز في ذلك الذي لم يعلم حقيقيته ومجازيته كلفظ الأمر فإن جمعه باعتبار معناه الحقيقي وهو القول الدال على طلب الفعل استعلاء على أوامر وقد استعمل بمعنى الفعل ووقع التردد في كونه حقيقة فيه فوجد أنه يجمع بهذا المعنى على أمور دون أوامر فدل على أنه مجاز فيه "دفعا للاشتراك" اللفظي لأنه خير منه "وهذا في التحقيق يفيد أن لا أثر لاختلاف الجمع" يعني أن المؤثر في الحكم بالمجازية دفع الاشتراك وهو لا ينفي كون اختلاف الجمع معرفا "ولا تنعكس" هذه العلامة إذ ليس كل مجاز يخالف جمعه جمع الحقيقة فإن الأسد بمعنى الشجاع والحمار بمعنى البليد يجمعان على أسد وحمر كما يجمعان عليهما بالمعنى الحقيقي ولا حاجة إلى قوله "كالتي قبلها" لتصريحه به ثمة "وبالتزام تقييده" أي ويعرف المجاز بهذا بأن يستعمل اللفظ في معنى مطلقا ثم يستعمل في آخر مقيدا لزوما بشيء من لوازمه كجناح الذل ونار الحرب ونور الإيمان فإن جناحا ونارا ونورا مستعملة في معانيها المشهورة بلا قيد وفي هذه بهذه القيود فكان لزوم تقييدها بها دليلا على كونها مجازات في هذه وحقائق في المعاني المشهورة وإنما كان الأمر هكذا لأنه ألف من أهل اللغة أنهم إذا استعملوا لفظا في مسماه أطلقوه إطلاقا وإذا استعملوه بإزاء غيره قرنوا به قرينة لأن الغرض من وضع اللفظ للمعنى أن يكتفي به في الدلالة عليه والأصل أن يكون ذلك في الحقيقة دون المجاز لكونها أغلب في الاستعمال فإذا وجدناهم لا يستعملون اللفظ في معنى إلا مقيدا بقيد هو قرينة دالة عليه علمنا أنه مجاز فيه ولا عكس إذ قد يستعمل المجاز غير مقيد اعتمادا على القرائن الحالية أو المقالية غير التقييد وإنما اعتبر اللزوم فيه احترازا عن المشترك إذ ربما يقيد كرأيت عينا جارية لكن لا يلزم فيه ذلك "وبتوقف إطلاقه" أي ويعرف المجاز بتوقف إطلاق اللفظ مرادا به ذلك "على" ذكر "متعلقه" حال كون ذلك اللفظ "مقابلا للحقيقة" أي(3/49)
للفظ مرادا به المعنى الحقيقي أي بهذا الشرط لأن الأحوال شروط فيكون اللفظ حقيقة فيما لم يتوقف مجازا فيما توقف ففي العبارة تعقيد نحو قوله تعالى "{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54]" فإن إطلاق المكر على المعنى المتصور من الحق يتوقف على استعماله في المعنى المتصور من الخلق فيكون بالنسبة إلى الحق مجازا وإلى الخلق حقيقة وهذا بناء "على أنه" أي المجاز "مكر المفرد وإلا" إن كان المجاز في النسبة "فليس" هو "المقصود كالتمثيل لعدم الاطراد باسأل القرية" فإن المجاز فيه في النسبة لا في المفرد الذي هو مجرد السؤال وأنه لو كان في القرية لا يكون من أمثلة عدم الاطراد وإنما قلنا: المجاز في النسبة غير مقصود بالتمثيل هنا "فإن الكلام في" المجاز "اللغوي لا العقلي" والمجاز في النسبة عقلي والله سبحانه أعلم.
مسألة
"إذا لزم" كون اللفظ "مشتركا" بين معنيين "وإلا" لو لم يكن مشتركا بينهما لكان "مجازا" في أحدهما للعلم بأنه وضع لمعنى ثم استعمل في آخر ولم يعلم أنه موضوع له حتى دار بين لزوم كونه حقيقة فيه أيضا فيكون مشتركا أو غير موضوع له فيكون مجازا "لزم المجاز" أي(3/50)
ص -27-…كونه مجازا فيما لم يوضع له "لأنه" أي كونه مجازا فيه "لا يخل بالحكم" بما هو المراد منه "إذ هو" أي الحكم "عند عدمها" أي القرينة الدالة على أن المراد المجازي "بالحقيقي ومعها" أي القرينة الدالة على أن المراد المجازي "بالمجازي أما المشترك فلا" يحكم بأن المراد به معنى معين من معنييه "إلا معها" أي القرينة المعينة له قال المصنف: "ولا يخفى عدم المطابقة" فإن عدم الحكم بأن المراد به معنى معين من معنييه عند عدم قرينته لا يوجب الخلل بالحكم أما على قول من لا يرى المشترك عاما استغراقيا في مفاهيمه أو يراه والمعنيان مما لا يمكن اجتماعهما فظاهر لانتفائه حينئذ حتى يظهر المراد منه ولا سيما إن كان مجملا اللهم إلا أن يجعل التوقف عين الخلل كما ذكره الكرماني وفيه نظر وأما على قول من يراه عاما فيها وكانت مما يمكن اجتماعها فلحمله على جميعها لظهورها فيه عنده "وقولهم" أي المرجحين للحمل على الاشتراك "يحتاج" المشترك "إلى قرينتين" بحسب معنييه "بخلاف المجاز" فإنه إنما يحتاج إلى واحدة فبعد أنه إنما يتمشى على عدم تعميمه في مفاهيمه "ليس بشيء" مقتض لترجيحه على المجاز لتسلط المنع على احتياج الاشتراك إلى قرينتين في كل استعمال إذ الفرض أن المراد واحد فيكفي قرينته وأما اقتضاء المعنى الآخر قرينة أخرى فإنما هو في استعمال آخر "بل كل" من المشترك والمجاز "في المادة" الاستعمالية "يحتاج" في إفادة ما هو المراد به "إلى قرينة وتعددها" أي القرينة في المشترك "لتعدده" أي المعنى المراد منه "على البدل كتعددها" أي القرينة في اللفظ الواحد المجاز "لتعدد" المعاني "المجازيات كذلك" أي على البدل فهما سيان في هذا القدر من الاحتياج وإنما يختلفان من حيث إن قرينة المشترك لتعيين الدلالة وقرينة المجاز لنفس الدلالة فكما لا يقال في اللفظ المستعمل في كل من معنييه المجازيين في حالتين إنه محتاج إلى قرينتين في إفادة كل منهما فقط لا يقال(3/51)
ذلك في المشترك أيضا.
ثم أشار إلى توجيه عساه أن يحمل عليه قولهم تصحيحا له بقدر الإمكان فقال: "ولعل مرادهم لزوم الاحتياج" إلى قرينتين "دائما على تقدير الاشتراك دون المجاز" إحداهما "لتعيين المراد" به والأخرى كما قال "ونفي الآخر" أي لنفي أن يكون المعنى الآخر هو المراد ولا كذلك المجاز فإنه إنما يحتاج إلى قرينة صارفة عن الحقيقي إليه لا غير، غايتها أنها تتكرر بتكرر المعاني المجازية ثم تعقبه بقوله "وهذا" أي احتياج المشترك إلى قرينتين "على معممه في حالة عدم التعميم" لمانع من التعميم لتدل إحداهما على المعنى المراد والأخرى على عدم التعميم "والمجاز كذلك على الجمع" أي يلزم كونه محتاجا إلى قرينتين إحداهما لإرادة المراد به والأخرى لنفي الحقيقي على قول من يجيز الجمع بين الحقيقي والمجازي بلفظ واحد في حالة واحدة فلا يترجح المجاز على الاشتراك على هذا التقدير نعم يترجح على قول المانع منه لأن على قوله إذا دلت القرينة على أن المجاز مراد كفى إذ لا يمكن أن يراد مع الحقيقي أيضا "وأبلغ" أي ولأن المجاز أبلغ "وإطلاقه" أي أن المجاز دائما أبلغ "بلا موجب لأنه" أي كونه أبلغ "من البلاغة" ما يشعر به كلام القاضي عضد الدين وهو ظاهر(3/52)
ص -28-…حكاية السكاكي له عن أهل البلاغة "ممنوع" وكيف لا "وصرح بأبلغية الحقيقة" من المجاز "في مقام الإجمال" مطلقا لداع دعا إليه من إبهام على السامع كلي عين أو غير ذلك أو أولا ثم التفصيل ثانيا لأن ذكر الشيء مجملا ثم مفصلا أوقع في النفس "فإن المشترك هو المطابق لمقتضى الحال بخلاف المجاز" فإن اللفظ مع عدم القرينة يحمل على الحقيقة ومعها على المجاز فلا إجمال "وبمعنى تأكيد إثبات المعنى" عطف على قوله من البلاغة أي ولأنه من المبالغة كما ذكره غير واحد بمعنى كونه أكمل وأقوى في الدلالة على ما أريد به من الحقيقة على ما أريد بها "كذلك" أي ممنوع أيضا "للقطع بمساواة رأيت أسدا ورجلا هو والأسد سواء" في الشجاعة فإن المساواة المفهومة منه ومن رأيت أسدا لا يتصور فيها زيادة ولا نقصان "نعم هو" أي المجاز "كذلك" أي يفيد التأكيد في "رجلا كالأسد" بالنسبة إلى رأيت شجاعا "وكونه" أي المجاز "كدعوى الشيء ببينة" أي فيه تأكيد للدلالة وتقويتها "بناء على أن الانتقال إلى المجازي" من الحقيقي يكون "دائما من الملزوم" إلى اللازم كالانتقال من الغيث الذي هو ملزوم النبت إلى النبت كما التزمه السكاكي فإن وجود الملزوم يقتضي وجود اللازم لامتناع انفكاك الملزوم عن اللازم "ولزومه" أي الانتقال في المجاز دائما من الملزوم إلى اللازم "تكلف" حيث يراد باللزوم الانتقال في الجملة سواء كان هناك لزوم عقلي حقيقي أو عادي أو اعتقادي أو ادعائي مع أن هذه الثلاثة أكثر ما يعتبر من اللزوم في هذا الباب وباللازم ما هو بمنزلة التابع والرديف وبالملزوم ما هو بمنزلة المتبوع والمردوف "وهو" أي التكلف "مؤذن بحقية انتفائه" أي لزوم الانتقال المذكور المستند إليه الأبلغية المذكورة "مع أنه إنما يلزم" هذا الترجيح "في" اللزوم "التحقيقي لا الادعائي" كما هو غير خاف على المتأمل "وأما الأوجزية" أي وأما ترجيح المجاز على المشترك بأن المجاز أوجز في اللفظ من الحقيقة(3/53)
فإن أسدا يقوم مقام رجل شجاع "والأخفية" أي بأن المجاز أخف لفظا من الحقيقة كالحادثة والخنفقيق للداهية "والتوصل إلى السجع" أي وبأن المجاز يتوصل به إلى تواطؤ الفاصلتين من النثر على الحرف الآخر نحو حمار ثرثار إذا وقعا في أواخر القرائن بخلاف بليد ثرثار أي كثير الكلام "والطباق" أي وبأن المجاز يتوصل به إلى الجمع بين معنيين متقابلين في الجملة أو ما هو ملحق به نحو قول دعبل:
لا تعجبي يا سلم من رجل …ضحك المشيب برأسه فبكى
ف"ضحك" مجاز عن ظهر ولو ذكره مكانه لفات هذا التحسين البديعي "والجناس" أي وبأن المجاز يتوصل به إلى تشابه اللفظين لفظا مع تغايرهما معنى وأصنافه كثيرة ومن مثل الجناس التام المماثل قوله:
أقم إلى قصدهم سوق السرى وأقم …بدار عز وسوق الأينق التثم
فأقم الأول مجاز لو ذكر حقيقته وهي التنفيق لفات الجناس "والروي" أي بأن المجاز يتوصل به إلى المحافظة على الحرف الذي تبتنى عليه القصيدة نحو قوله:(3/54)
ص -29-…عارضننا أصلا فقلنا الربرب …حتى تبدى الأقحوان الأشنب
الربرب القطيع من بقر الوحش والأقحوان البابونج والشنب حدة الأسنان وبردها تجوز بهما عن السن الأبيض للتوصل إلى الروي فتحصل المناسبة بين الأشنب والربرب لفواته بسنهن الأبيض "فمعارض بمثله في المشترك" فقد يكون أوجز وأخف كالعين للجاسوس وللينبوع ويتوصل به إلى السجع والروي مثل ليث مع غيث دون أسد والمطابقة نحو خسنا خير من خياركم والجناس نحو رحبة رحبة بخلاف واسعة "ويترجح" المشترك "بالاستغناء عن العلاقة ومخالفة الظاهر وهو" أي الظاهر "الحقيقة وهذا" أي الاستغناء عن مخالفة الظاهر "إن عمم في غير المنفرد" وهو المشترك "فممنوع" لأن المشترك حقيقة وليس بظاهر على ما هو الحق في شيء من معانيه حيث لا قرينة معينة له "وإلا" إذا لم يعمم فيه "لا يفيد" لأن الكلام فيه "وعن ارتكاب الغلط للوقف" فيما هو المراد منه "لعدمها" أي القرينة المعينة عند من لا يعممه "أو للتعميم" عطف على للتوقف أي أو لتعميمه في مفاهيمه لحمله على الجميع عند من يرى ذلك "بخلافه" أي المجاز فإنه لا يتوقف فيه عند عدمها بل يحكم بإرادة الحقيقي والحال أنه كما قال "وقد لا يراد الحقيقي وتخفى القرينة" فيقع الغلط في الحكم بإرادته "والوجه أن جواز الغلط فيهما" أي المشترك والمجاز "بتوهمها" أي القرينة وهما في توهمها سواء "ولا أثر للاحتياج" أي لاحتياج المجاز "إلى علاقته" المسوغة للتجوز به عن الحقيقي بخلاف المشترك فإنه لا يحتاج إلى علاقة في ترجيح المشترك على المجاز كما ذكروه "بقليل تأمل" لأن الكلام فيهما بعد تحقق كل منهما ولا تحقق للمجاز بدون علاقته المذكورة "وبأنه يطرد" أي ويترجح المشترك أيضا باطراده في كل من معانيه لأنه حقيقة فيه فيطلق عليه في جميع محاله فلا يضطرب بخلاف المجاز فإن من علاماته أن لا يطرد فيضطرب فيه بحسب محاله وما لا يضطرب أولى لأن الاضطراب يكون لمانع والأصل عدمه "وتقدم ما فيه"(3/55)
فإن المجاز قد يطرد كالأسد للشجاع "وبالاشتقاق" أي ويترجح المشترك أيضا بالاشتقاق "من مفهوميه" إذا كان مما يشتق منه لأنه حقيقة في كل منهما وهو من خواصها "فيتسع" الكلام وتكثر الفائدة والمجاز قد لا يشتق منه وإن كان مما يصلح له وهذا إنما يتم على قول القاضي والغزالي وإلكيا مانعي الاشتقاق من المجاز ورد بأنه يئول إلى قصر المجازات كلها على المصادر فلا جرم أنه لم يمنعه الجمهور هذا "والحق أن الاشتقاق يعتمد المصدرية حقيقة كان" المصدر "أو مجازا كالحال ناطقة ونطقت" الحال من النطق بمعنى الدلالة "وقد تتعدد" المعاني "المجازية للمنفرد أكثر من مشترك فلا يلزم أوسعيته" أي المشترك على المجاز "فلا ينضبط" الاتساع المقتضي للترجيح "وعدمه" أي الاشتقاق "من الأمر بمعنى الشأن لعدمها" أي المصدرية لا لأنه مجاز فيه كما قيل "ومن فإنما هي إقبال وإدبار" مع وجود المصدر "لفوت غرض المبالغة" الحاصلة من حمل المصدر على الناقة المفيد جعلها لكثرة ما تقبل وتدبر كأنها تجسمت من الإقبال والإدبار والتخلف لمانع لا يقدح في اقتضاء المقتضي كما تقدم "وترجح أكثرية المجاز الكل" أي مرجحات الاشتراك فإن من تتبع كلام العرب علم(3/56)
ص -30-…أن المجاز فيه أغلب من المشترك حتى ظن بعض الأئمة أن أكثر اللغة مجاز فيترجح المجاز عليه إلحاقا للفرد بالأعم الأغلب.
مسألة
"يعم المجاز فيما تجوز به فيه فقوله" صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين إني أخاف عليكم الرماء" والرماء هو الربا أخرجه أحمد والطبراني في الكبير "يعم فيما يكال به فيجري الربا في نحو الجص" مما ليس بمطعوم "ويفيد مناطه" أي الربا لأن الحكم علق بالمكيل فيفيد عليه مبدأ الاشتقاق "وعن بعض الشافعية لا" يعم وعزاه غير واحد إلى الشافعي "لأنه" أي المجاز "ضروري" أي لضرورة التوسعة في الكلام كالرخص الشرعية الثابتة ضرورة التوسعة على الناس إذ الأصل في الكلام الحقيقة ولذا تترجح على المجاز عند التعارض والضرورة بدون إثبات العموم فلا حاجة إليه "فانتفى" الربا "فيه" أي في نحو الجص ووجه ترتيبه على كونه ضروريا ظاهر فإنه حيث كان كذلك لا يعم لاندفاع الضرورة ببعض أفراد العام والإجماع على أن الطعام مراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء" أخرج معناه الشافعي في مسنده فلم يبق غيره مرادا فصار المراد بالصاع الطعام "فسلم عموم الطعام لانتفاء علية الكيل" أي فتعين الطعم للعلية وبطل علية الكيل للاتفاق على أنه لم يعلل بعلتين فسلم عليته عن المعارض وعمومه "فامتنع" أن تباع "الحفنة بالحفنتين منه" أي من الطعام "ولزمت عليته" أي الطعم عندهم "قيل" أي قال الشيخ سعد الدين التفتازاني ما معناه: "لم يعرف" نفي عموم المجاز "عن أحد ويبعد" أيضا نفيه "لأنها" أي الضرورة "بالنسبة إلى المتكلم ممنوع" وجودها "للقطع بتجويز العدول إليه" أي المجاز "مع قدرة الحقيقة لفوائده" أي المجاز التي منها لطائف الاعتبارات ومحاسن الاستعارات والموجبة لزيادة بلاغة الكلام أي علو درجته وارتفاع طبقته على أن المجاز واقع في كلام من يستحيل عليه العجز(3/57)
عن استعمال الحقيقة والاضطرار إلى استعمال المجاز وبالنسبة إلى الكلام "وإلى السامع أي لتعذر الحقيقة" بمعنى أنه لما تعذر العمل بها وجب الحمل عليه ضرورة لئلا يلزم إلغاء الكلام وإخلاء اللفظ من المرام "لا تنفي العموم" فإنه يتعلق بدلالة اللفظ وإرادة المتكلم فعند الضرورة إلى حمل اللفظ على معناه المجازي يجب أن يحمل على ما قصده المتكلم واحتمله اللفظ بحسب القرينة إن عاما فعام وإن خاصا فخاص "ولا" تتحقق الضرورة أيضا "بالنسبة إلى الواضع بأن اشترط في استعماله" أي المجاز "تعذرها" أي الحقيقة "لما ذكرنا" من أنه لا ينفي العموم "ولأن العموم للحقيقة باعتبار شمول المراد" باللفظ "بموجبه" أي الشمول من أسباب زائدة على ذاتها كأداة التعريف ووقوعها في سياق النفي "لا" باعتبار "ذاتها" أي ليس العموم ذاتيا للحقيقة بمعنى أنه ناشئ عنها إذ لو كان كذلك لما انفك عنها لأن موجب الذات لا ينفك عنها فكانت لا توجد إلا عامة وليس كذلك فإذا وجدت في المجاز الأسباب الموجبة للعموم في الحقيقة كان عاما أيضا لوجود المقتضي وعدم المانع "قيل" أي قال التفتازاني: "ولا يتأتى نزاع لأحد في صحة قولنا جاءني الأسود(3/58)
ص -31-…الرماة إلا زيدا لكن الواجد" للخلاف "مقدم" على نافيه لعدم استيعاب النافي عامة المحال "واندرج الوجه" لعموم المجاز فيما تقدم كما أوضحناه فلا حاجة إلى إعادته "ولزمت المعارضة" بين علية وصف الطعم وكونه يكال ويترجح الأعم وهو كونه يكال فإنه أعم من الطعم لتعديه إلى ما ليس بمطعوم وذلك من أسباب ترجيح علية الوصف والله سبحانه أعلم.
مسألة
"الحنفية وفنون العربية" أي عامة أهل الأدب والمحققون من الشافعية على ما في الكشف وغيره "وجمع من المعتزلة" منهم أبو هاشم "لا يستعمل" اللفظ "فيهما" أي في الحقيقة والمجاز "مقصودين بالحكم" في حالة واحدة "وفي الكناية البيانية" إنما يستعمل في معنييه "لينتقل من الحقيقي الواقع بينه إلى المجازي" كقولهم كناية عن طويل القامة طويل النجاد فمناط الحكم فيها إنما هو المعنى الثاني فلم يستعمل اللفظ فيها مرادا به كلاهما مقصودين بالحكم "وأجازه" أي استعماله فيهما في حالة واحدة "الشافعية والقاضي وبعض المعتزلة" كعبد الجبار وأبي علي الجبائي "مطلقا إلا أن لا يمكن الجمع" بينهما "كافعل أمرا وتهديدا" لأن الإيجاب يقتضي الفعل والتهديد يقتضي الترك فلا يجوز استعماله فيهما في حالة واحدة "والغزالي وأبو الحسين يصح" استعماله فيهما "عقلا لا لغة" قال المصنف "وهو الصحيح إلا في غير المفرد" أي ما ليس بمثنى ولا مجموع "فيصح لغة" أيضا "لتضمنه" أي غير المفرد "المتعدد فكل لفظ لمعنى وقد ثبت القلم أحد اللسانين والخال أحد الأبوين" فأريد بأحد اللسانين القلم وهو معنى مجازي للسان وباللسان الآخر الجارحة وهو معنى حقيقي له وبأحد الأبوين الخال وهو معنى مجازي للأب وبالآخر من ولده وهو معنى حقيقي له "والتعميم في المجازية" أي واستعمال اللفظ في معانيه المجازية المختلفة في حالة واحدة "قيل" أي قال القرافي هو "على الخلاف كلا أشتري بشراء الوكيل والسوم" فإن كلا منهما معنى مجازي لقوله لا أشتري "والمحققون لا خلاف(3/59)
في منعه" فعلى هذا يحكم بخطأ من قال: لا أشتري وأراد شراء الوكيل والسوم "ولا" خلاف أيضا "فيه" أي في منع تعميمه في الحقيقي والمجازي "على أنه حقيقة ومجاز" بحيث يكون اللفظ بحسب هذا الاستعمال حقيقة ومجازا "ولا" خلاف أيضا "في جوازه" أي استعمال اللفظ "في مجازي يندرج فيه الحقيقي" ويكون من أفراده "لنا في الأول" أي في صحته عقلا "صحة إرادة متعدد به قطعا" للإمكان وانتفاء المانع "وكونه" أي اللفظ موضوعا "لبعضها" أي المعاني وهو المعنى الحقيقي دون البعض "لا يمنع عقلا إرادة غيره" أي غير ذلك البعض الذي هو المعنى الحقيقي "معه" أي مع البعض الذي هو المعنى الحقيقي "بعد صحة طريقه" أي غير المعنى الحقيقي "إذ حاصله نصب ما يوجب الانتقال من لفظ بوضع وقرينة" وما قيل لا بد من توجيه الذهن إلى أحدهما حقيقة والآخر مجازا وكل منهما قضية والذهن لا يتوجه في حالة واحدة إلى حكمين باتفاق العقلاء وإنما المختلف فيه توجيه الذهن في حالة واحدة إلى تصورين ممنوع "فقول بعض الحنفية" بل الجم الغفير منهم "يستحيل" الجمع بينهما "كالثوب" الواحد يستحيل أن يكون(3/60)
ص -32-…على اللابس الواحد "ملكا وعارية في وقت" واحد "تهافت" أي تساقط "إذ ذاك" أي كون اجتماع الشيئين المتنافيين محالا إنما هو فيهما حال كونهما جسمين "في الظرف الحقيقي" فمن أين يلزم منه استحالة إطلاق اللفظ وإرادة المعنى الحقيقي والمجازي معا وإن كان توضيحا وتمثيلا للمعقول بالمحسوس فلا بد من الدليل على استحالة إرادة المعنيين فإنها ممنوعة غير مسموعة "لا يقال المجازي يستلزم معاند الحقيقي" أي وجود معانده أعني "قرينة عدم إرادته" أي الحقيقي فلا يعقل اجتماعهما لأنا نقول ليس كذلك "لأنه" أي استلزامه ذلك "بلا موجب" له فلا يسمع "بل ذاك" أي استلزامه إياه "عند عدم قصد التعميم أما معه" أي قصد تعميمه به "فلا يمكن" عند المعمم "نعم يلزم عقلا كونه حقيقة ومجازا في استعمال واحد وهم ينفونه" أي كونه حقيقة ومجازا في استعمال واحد لغة "لا يقال" على هذا "بل" هو "مجاز للمجموع" كما مشى عليه في التلويح حيث قال على أنا لا نجعل اللفظ عند إرادة المعنيين حقيقة ومجازا ليكون استعماله فيهما بمنزلة استعمال الثوب بطريق الملك والعارية بل نجعله مجازا قطعا لكونه مستعملا في المجموع الذي هو غير الموضوع له لأنا نقول ليس كذلك "لأنه" أي اللفظ "لكل" من الحقيقي والمجازي "إذ كل" منهما "متعلق الحكم لا المجموع لكن نفيهم غير عقلي" وإنما هو لغوي "بل يصح عقلا حقيقة لإرادة الحقيقي ومجازا لنحوه" أي لإرادة نحو الحقيقي وهو المجازي "ولنا في الثاني" أي نفي صحته لغة "تبادر الوضعي فقط" من إطلاقه "ينفي غير الحقيقي" أن يكون اللفظ فيه "حقيقة" لأن التبادر أمارة الحقيقة ولا سيما مع العلم بوضع اللفظ له وعدمه أمارة عدمها ولا سيما مع العلم بوضع اللفظ لغيره وتأكده بالمبادرة وكون الأصل عدم الاشتراك وكان يكفيه أن يقول غيره أي غير الوضعي إلا أنه وضع الظاهر موضع المضمر لزيادة التمكن في ذهن السامع والحقيقي مكان الوضعي لبيان أنه المراد به "وعدم العلاقة(3/61)
ينفيه" أي غير الحقيقي أن يكون اللفظ فيه "مجازا بما قدمناه في المشترك" من انتفاء العلاقة وانتفاء الحقيقة والمجاز عن استعمال اللفظ في المعنى بمنع صحته لغة "وعلى النفي" أي نفي الجمع بين الحقيقة والمجاز باللفظ الواحد "اختص الموالي بالوصية لهم دون مواليهم" أي موالي الموالي فيما إذا أوصى من لا ولاء عليه بشيء لمواليه وله عتقاء وعتقاء عتقاء لأن العتقاء مواليه حقيقة لمباشرته عتقهم وعتقاء العتقاء مواليه مجازا لتسببه في عتقهم بإعتاق معتقيهم لأنهم بعتقه صاروا أهلا لإعتاق غيرهم والجمع بينهما متعذر فتعينت الحقيقة لترجحها وإمكان العمل بها "إلا أن يكون" أي يوجد "واحد" من الموالي لا غير "فله النصف والباقي للورثة" لأنه لما تعينت الحقيقة واستحق الاثنان منهم ذلك لأن لهما حكم الجمع في الوصية كما في الميراث كان بالضرورة النصف للواحد والنصف للورثة لا لعتقاء العتيق لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز وأورد هب أن الموالي لمن باشر إعتاقهم لكن المفروض أن له معتقا واحدا فلم لا يكون ذكر الجمع وأراد المفرد مجازا وأجيب بالفرق بين إرادة المعنى الحقيقي ووجوده في الخارج ولا يلزم من انتفاء الثاني انتفاء الأول ولعله إنما أراد معناه الحقيقي لأن بعض أفراده موجود وبعضها منتظر الوجود إذ الإعتاق مندوب إليه(3/62)
ص -33-…وفي الوقت سعة "وكذا لأبناء فلان مع حفدته عنده" أي ومثل حكم الموالي مع موالي الموالي في الوصية لهم حكم الأبناء مع أبناء الأبناء عند أبي حنيفة فيما لو أوصى لأبناء فلان ولفلان أبناء وأبناء أبناء فقال: تكون الوصية للصلبيين خاصة لأن الأبناء حقيقة فيهم مجاز في بنيهم والجمع متعذر فتعينت الحقيقة إلا أن يوجد ابن صلبي لا غير فيكون له النصف والنصف للورثة دون أبناء الأبناء "وقالا" أي أبو يوسف ومحمد "يدخلون" أي موالي الموالي والحفدة "مع الواحد" من الموالي والأبناء "فيهما" أي في المسألتين "بعموم المجاز" لأن الموالي تطلق عرفا على الفريقين والأبناء تطلق عرفا على الفريقين أيضا ولا تدخل موالي الموالي ولا أبناء الأبناء مع الاثنين من الفريقين بالاتفاق "والاتفاق دخولهم" أي موالي الموالي وأبناء الأبناء "فيهما" أي في المسألتين "إن لم يكن أحد" من الموالي والأبناء "لتعيين المجاز حينئذ" أي حين لم يكن منهم أحد للإرادة بهم احترازا من الإلغاء "وأما النقض" لمنع الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد "بدخول حفدة المستأمن على بنيه" مع بنيه في الأمان مع أن الأبناء حقيقة في الصلبيين مجاز في الحفدة "وبالحنث بالدخول راكبا" أو متنعلا "في حلفه لا يضع قدمه في دار فلان" ولا نية له كما لو دخلها حافيا مع أنه حقيقة فيه حتى لو نواه صدق قضاء وديانة مجاز في دخوله راكبا ومتنعلا "وبه" أي بالحنث "بدخول دار سكناه" أي فلان "إجارة" أو إعارة "في حلفه لا يدخل داره" أي فلان ولا نية له كما لو دخل دار سكناه المملوكة له مع أنها حقيقة في المملوكة بدليل عدم صحة نفيها عنه مجاز في المستأجرة والمستعارة بدليل صحة نفيهما عنه "وبالعتق" أي عتق عبده مثلا "في إضافته إلى يوم يقدم" فلان "فقدم ليلا" ولا نية له كما لو قدم نهارا مع أنه حقيقة فيه حتى لو نواه صدق قضاء وديانة مجاز في الليل بدليل صحة نفيه عنه "ويجعل لله علي صوم كذا بنية النذر(3/63)
واليمين يمينا ونذرا حتى وجب القضاء والكفارة بمخالفته" أي بعدم صيام ما سماه القضاء بتفويت موجب النذر وهو الوفاء بما التزمه والكفارة بتفويت موجب اليمين وهو المحافظة على البر كما هو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى مع أن هذا الكلام حقيقة للنذر حتى لا يتوقف على النية مجاز لليمين حتى يتوقف على نيتها لا على قول أبي يوسف فإنه قال يكون نذرا فقط "فأجيب عن الأول" أي النقض بدخول حفدته في الاستئمان على بنيه "بأن الاحتياط في الحقن" أي حفظ الدم وصيانته عن السفك "أوجبه" أي دخول الحفدة "تبعا لحكم الحقيقي" أي حقن دماء الأبناء "عند تحقق شبهته" أي الحقيقي فيهم "للاستعمال" أي لاستعمال لفظ البنين فيهم كما في "نحو بني هاشم وكثير" لوجود شبهة صورة الاسم لأن الأمان مما يحتاط في إثباته ولو بالشبهة حتى ثبت بمجرد صورة المسالمة بأن أشار مسلم إلى كافر بالنزول من حصن أو قال: انزل إن كنت رجلا أو تريد القتال أو ترى ما أفعل بك وظن الكافر منه الأمان يثبت الأمان بخلاف الوصية فإنها لا تستحق بصورة الاسم والشبهة "ففرعوا عدمه" أي عدم الدخول "في الأجداد والجدات بالاستئمان على الآباء والأمهات بناء على كون الأصالة في الخلق" في الأجداد والجدات "يمنع التبعية في الدخول" أي دخولهم "في اللفظ" أي لفظ الآباء والأمهات(3/64)
ص -34-…قالوا: لأن التبعية في الدخول باعتبار تناول صورة الاسم دليل ضعيف في نفسه فإذا عارضه كونهم أصولا لهم في الخلقة سقط العمل به "وإعطاء الجد السدس لعدم الأب ليس بإعطائه الأبوين" أي بطريق التبعية للأب مع كونه أصلا له خلقة ليقدح في كون الأصالة خلقة غير قادحة في التبعية "بل بغيره" أي بل بدليل آخر وهو إقامة الشرع إياه مقام الأب عند عدمه كما في بنت الابن عند عدم البنت "إلا أنه" أي هذا الجواب "يخالف قولهم الأم الأصل لغة وقول بعضهم البنات الفروع لغة" فإن هذا يفيد استواءهم في الدخول "وأيضا إذا صرف الاحتياط عن الاقتصار في الأبناء" على الأبناء "عند شبهة الحقيقة بالاستعمال فعنه" أي فيصرف الاحتياط عن الاقتصار "في الآباء" على الآباء "لذلك" أي لشبهة الحقيقة بالاستعمال "كذلك" أي كما في الأبناء "بعموم المجاز في الأصول" أي بجعل الآباء مجازا عن الأصول "كما هو" أي لفظ الأبناء مجاز "في الفروع إن لم يكن" اللفظ "حقيقة" في ذلك "فيدخلون" أي الأجداد والجدات في الآباء والأمهات "ومانعية الأصالة خلقة" من الدخول أمر "ممنوع" لعدم اقتضاء عقل أو نقل ذلك "هذا والحق أن هذا من مواضع جواز الجمع عندنا" أي عند المصنف "لأن الأبناء والآباء جمع" ونحن قد جوزنا الجمع بين الحقيقة والمجاز لغة وعقلا في غير المفرد كما قدمناه "وعن الثاني" أي النقض بالحنث بالدخول راكبا في حلفه لا يضع قدمه في دار فلان "بهجر" المعنى "الحقيقي" لوضع القدم لأنه لو اضطجع خارجها ووضع قدميه فيها لا يقال عرفا وضع القدم في الدار حتى لا يحنث بذلك كما في الخانية وما ذاك إلا "لفهم صرف الحامل" على هجره إلى الدخول بواسطة اليمين لظهور أن مقصوده منع نفسه من الدخول لا من مجرد وضع القدم فصار باعتبار مقصوده كأنه حلف لا يدخل فأطلق السبب وأراد المسبب والدخول مطلق عن الركوب والتنعل والحفا فيحنث بكل منها لحصول الدخول المقصود بالمنع "والجواب عن الثالث" أي النقض(3/65)
بالحنث بدخول دار سكنى فلان إعارة في حلفه لا يدخل داره "بأن حقيقة إضافة الدار بالاختصاص" الكامل المصحح لأن يخبر عن المضاف بأنه للمضاف إليه "بخلاف نحو كوكب الخرقاء" في قوله:
إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة …سهيل أذاعت غزلها في القرائب
فإن إضافة كوكب الذي هو سهيل وهو كوكب بقرب القطب الجنوبي يطلع عند ابتداء البرد إلى الخرقاء وهي التي في عقلها هوج وبها حماقة إضافة مجازية لاختصاص مجازي وهو كون زمان طلوعه وقت ظهور جدها في تهيئة ملابس الشتاء بتفريقها قطنها في قرائبها ليغزل لها فجعلت هذه الملابسة بمنزلة الاختصاص الكامل "وهو" أي اختصاصه الكامل بالدار يكون "بالسكنى والملك فيحنث" بكل حتى يحنث "بالمملوكة غير مسكونة كقاضي خان" لوجود الاختصاص الكامل وهذا أولى من التعليل بأن المراد بكون الدار مضافة إلى فلان نسبة السكنى إليه حقيقة كانت وهو ظاهر أو دلالة بأن تكون ملكه فيتمكن من السكنى فيها "خلافا للسرخسي" ووافقه صاحب الكافي بناء على انقطاع نسبة السكنى إليه بفعل غيره قلت وفيه نظر فإن الباعث على اليمين قد يكون الغيظ اللاحق له من فلان وذلك مما(3/66)
ص -35-…يقتضي امتناعه من دخول المنسوبة إليه بالاختصاص مملوكة كانت ولو غير مسكونة له أو مسكونة له ولو غير مملوكة له "وعن الرابع" أي وعن النقض بعتق من أضاف عتقه إلى يوم يقدم فلان فقدم ليلا "بأنه" أي اليوم "مجاز في الوقت" المطلق "عام لثبوت الاستعمال" له كذلك "عند ظرفيته لما لا يمتد" من الأفعال وهو ما لا يقبل التأقيت نحو قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] فإن التولي عن الزحف حرام ليلا كان أو نهارا وهو مما لا يمتد لأنه لا يقبل التأقيت "فيعتبر" المجازي العام "إلا لموجب" يقتضي كون المراد به بياض النهار خاصة "كطالق يوم أصوم" فإن الطلاق مما لا يمتد لأنه لا يقبل التأقيت والموجب لإرادة بياض النهار به أن الصوم الشرعي إنما يكون فيه وفي التلويح على أنه لا امتناع في حمل اليوم على مطلق الوقت ويحصل التقييد باليوم من الإضافة كما إذا قال أنت: طالق حين يصوم أو حين تنكسف الشمس "بخلاف" ما كان ظرف "ما يمتد" من الأفعال وهو ما يقبل التأقيت "كالسير والتفويض" فإنه يكون المراد به بياض النهار "إلا لموجب" يقتضي كون المراد به مطلق الوقت "كأحسن الظن يوم تموت" فإن إحسان الظن مما يمتد والموجب لإرادة مطلق الوقت به إضافته إلى الموت وفي التلويح على أنه لا امتناع في حمل اليوم فيه على بياض النهار ويعلم الحكم في غيره بدليل العقل "ولو لم يخطر هذا" الفرق للقائل "فقرينة" إرادة "المجاز" به في النقض المذكور وهو مطلق الوقت "علم أنه" أي العتق إنما هو "للسرور ولا يختص بالنهار" فلم يستعمل حينئذ إلا في مجاز عام يندرج فيه الحقيقة "وعن الخامس" أي عن النقض بكون لله علي صوم كذا نذرا ويمينا بنيتهما "تحريم المباح" الذي هو فطر الأيام المنذور صيامها "وهو" أي وتحريمه "معنى اليمين" هنا لما عرف من أن تحريم المباح يمين بالكتاب والسنة "يثبت مدلولا التزاميا للصيغة" أي لله علي صوم كذا لأن المقصود منها(3/67)
إيجاب المنذور لما عرف من أن المنذور لا بد أن يكون قبل النذر مباح الفعل والترك ليصح التزامه بالنذر وحيث صار كذا صار تركه الذي كان مباحا حراما به لازما له "ثم يراد به" أي بالمدلول الالتزامي "اليمين" أي معناها "فأريد" اليمين أي معناها "يلازم موجب اللفظ" الذي هو النذر بفتح الجيم أي حكمه "لا به" أي باللفظ الذي هو النذر "ولا جمع" بين الحقيقة والمجاز باللفظ الواحد "دون الاستعمال فيهما" أي المعنى الحقيقي والمجازي ولا استعمال للفظ الواحد هنا فيهما فلا جمع بينهما "وما قيل لا عبرة لإرادة النذر" لأنه ثابت بنفس الصيغة من غير تأثير للإرادة "فالمراد اليمين فقط" أي فكأنه لم يرد إلا المعنى المجازي "غلط إذ تحققه" أي النذر "مع الإرادة وعدمها" أي إرادته "لا يستلزم عدم تحققها" أي إرادته "وإلا" لو استلزم تحقق النذر عدم تحقق إرادته "لم يمتنع الجمع" بين الحقيقي والمجازي "في صورة" لأن المعنى الحقيقي يثبت باللفظ فلا عبرة بإرادته ولا تأثير لها "وقد فرض إرادتهما" أي الحقيقي والمجازي "وفيه" أي في الجواب عن هذا النقض "نظر إذ ثبوت الالتزامي" حال كونه "غير مراد" هو "خطوره عند فهم ملزومه" الذي هو مدلول اللفظ "محكوما بنفي إرادته" أي المدلول الالتزامي للمتكلم "وهو" أي والحكم بذلك "ينافي إرادة اليمين" به أعني "التي هي إرادة(3/68)
ص -36-…التحريم على وجه أخص منه" حال كونه "مدلولا التزاميا لأنه" أي إرادة التحريم بمعنى قصده الذي هو معنى اليمين "تحريم يلزم بخلفه الكفارة" ولا كذلك تحريم المباح الثابت مدلولا التزاميا له بل هو أعم من ذلك "وعدم إرادة الأعم" الذي هو تحريم المباح الثابت مدلولا التزاميا "ينافيه إرادة الأخص" أي تحريمه على ذلك الوجه "وظاهر بعضهم" كصاحب البديع "إرادته" أي معنى اليمين "بالموجب" أي موجب النذر بفتح الجيم "نفسه إلحاقا لإيجاب المباح" الذي هو معنى النذر "بتحريمه" أي المباح الذي هو معنى اليمين "في الحكم وهو" أي الحكم "لزوم الكفارة ويتعدى اسم اليمين" إلى الموجب "ضمنه" أي ضمن هذا القصد وتبعا له "لا لتعدية الاسم ابتداء" ثم ترتب عليه الحكم قال المصنف رحمه الله: وفيه أيضا نظر لأن إرادة الإيجاب على أنه يمين إرادته على وجه هو أن يستعقب الكفارة بالخلف وإرادته من اللفظ نذرا إرادته بعينه على أن لا يستعقبها بل القضاء وذلك تناف فيلزم إذا أريد يمينا وثبت حكمها شرعا وهو لزوم الكفارة بالخلف أنه لم يصح نذرا إذ لا أثر لذلك فيه "وشمس الأئمة" السرخسي ذهب إلى أنه "أريد اليمين بالله" لأنه قسم بمنزلة بالله "والنذر بعلي أن أصوم رجب" يعني معينا وهو ما يتعقب اليمين ليصح منعه من الصرف للعلمية والعدل عن الرجب كما في سحر لسحر بعينه إلا أن هذا الكلام غلب عند الإطلاق على معنى النذر عادة فإذا نواهما فقد نوى لكل لفظ ما هو من محتملاته فتعمل نيته "وجواب القسم محذوف مدلول عليه بذكر المنذور كأنه قال: لله لأصومن وعلي أن أصوم وعلى هذا لا يردان" أي النذر واليمين "بنحو علي أن أصوم" ليكون جمعا بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد بل أريدا بلفظين إن كان القسم معنى مجازيا للام كما هو الظاهر "وعلى ما قبله يرادان" بنحو علي أن أصوم على ما فيه من مسامحة إذا كانت اليمين مرادة بالموجب "وهذا" أي الذي ذهب إليه السرخسي "يخالف الأول" وما هو(3/69)
ظاهر بعضهم أيضا "باتحاد المنذور والمحلوف" فيه فإنه يكون فيه نادرا للصيام مقسما عليه "والأول" وما هو ظاهر بعضهم ليسا كذلك بل فيهما "المحلوف تحريم الترك والمنذور الصوم" نعم فيما ذكره السرخسي نظر لأن اللام إنما تكون للقسم إذا كانت للتعجب أيضا كما صرح به النحويون وهو ظاهر فيما استشهد به مما عن ابن عباس دخل آدم الجنة فلله ما غربت الشمس حتى خرج وفي قول الشاعر:
لله يبقى على الأيام ذو حيد …بمشمخر به الظبيان والآس
وما أجيب به من أن نذر الإنسان وإيجابه على نفسه أمر عجيب صالح لأن يتعجب منه فما يتعجب منه بل الظاهر أن فهم النذر إنما هو من مجموع لله علي كذا وأن اللام فيه لبيان من أثبت له الوجوب وأما ما قيل يلزمه أن يكون نذرا لا يمينا نحو نذرت أن أصوم رجبا وإن نوى النذر واليمين لعدم اللفظ الذي يصح به اليمين فظاهر ولكن إنما يشكل عليه أن لو كان قائلا بلزومهما ولم يؤثر عنه.
تتميم: وكما أورد النقض بهذا ناويا به النذر واليمين على قولهما خلافا لأبي يوسف(3/70)
ص -37-…حيث قال: هو نذر فقط أو ورد به أيضا ناويا به اليمين ولم يخطر له النذر فإنه يكون نذرا ويمينا على قولهما خلافا له حيث قال: هو يمين لا غير وبقي للمسألة أربعة أوجه: هي لم ينو شيئا نوى النذر ولم يخطر له اليمين نوى النذر أن لا يكون يمينا فهو نذر بالاتفاق نوى اليمين وأن لا يكون نذرا فهو يمين بالاتفاق.
"تنبيه لما لم يشرط نقل الآحاد" لأنواع العلاقات في أفراد المجازات في الألفاظ اللغوية بل جاز المجاز فيها إذا وجدت العلاقات المذكورة بين معانيها اللغوية الوضعية وغيرها بالقرينة الدالة عليه كذلك "جاز" المجاز "في" الألفاظ "الشرعية" إذا وجدت العلاقات المذكورة بين معانيها الشرعية سواء كانت العلاقة معنوية أو صورية "فالمعنوية فيها" أي في الشرعية "أن يشترك التصرفان في المقصود من شرعيتهما علتهما الغائية كالحوالة والكفالة المقصود منها التوثق فيطلق كل على الآخر كلفظ الكفالة بشرط براءة الأصيل" تطلق على الحوالة مجازا بعلاقة اشتراكهما في هذا الأمر المعنوي "وهو" أي شرط براءة الأصيل "القرينة في جعله" أي لفظ الكفالة "مجازا في الحوالة وهي" أي الحوالة "بشرط مطالبته" أي الأصيل "كفالة" والقرينة في جعل لفظ الحوالة مجازا في الكفالة شرط مطالبة الأصيل وكلفظ الحوالة للوكالة كما أشار إليه بقوله "وقول محمد" أي وكقوله فيما إذا افترق المضارب ورب المال وليس في المال ربح وبعض رأس المال دين لا يجبر المضارب على نقده "ويقال له" أي للمضارب "أحل رب المال" على المدينين "أي وكله" بقبض الديون "لاشتراكها" أي الحوالة والكفالة والوكالة "في إفادة ولاية المطالبة" للمدين "لا" لاشتراكها "في النقل المشترك الداخل" في مفهومها أعني النقل المشترك "بين الحوالة التي هي نقل الدين" من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه على ما هو الصحيح "والكفالة على أنها نقل المطالبة" بالدين من ذمة المكفول عنه إلى ذمة الكفيل "والوكالة على أنها نقل(3/71)
الولاية" من الموكل إلى الوكيل كما ذكره غير واحد من المشايخ "إذ المشترك" بين الحقيقي والمجازي "الداخل" في مفهومهما "غير معتبر" علاقة للتجوز "لا يقال لإنسان فرس وقلبه له" أي ولا يقال لفرس إنسان لاشتراكهما في الحيوانية الداخلة في مفهومهما بل الاتصال المعنوي المعتبر علاقة في التصرفات الشرعية هو المعنى الخارج عن مفهومها الصادق عليها الذي يلزم من تصورها تصوره "فكيف ولا نقل في الأخيرين" أي الكفالة فإنها ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة على الأصح وقيل في الدين والوكالة إقامة الإنسان غيره مقامه في تصرف معلوم "والصورية العلية والسببية" لأن المجاورة التي بين الحكم والعلة وبين المسبب والسبب شبيه بالاتصال الصوري في المحسوسات "فالعلية كون المعنى وضع شرعا لحصول الآخر فهو" أي الآخر "علته" أي المعنى الموضوع شرعا لحصوله "الغائية كالشراء" وضع شرعا "للملك فصح كل" من الشراء والملك مجازا "في الآخر لتعاكس الافتقار" أي لافتقار العلة إلى حكمها من حيث الغرض والشرعية ولهذا لم تشرع في محل لا يقبله كشراء الحر وافتقار الحكم إلى علته من حيث الثبوت فإنه لا يثبت بدونها ومن ثمة قالوا: الأحكام العلل المآلية والأسباب العلة الآلية "وإن كان" الافتقار "في المعلول" إلى علته "على(3/72)
ص -38-…البدل منه" أي من علته بمعنى الموجد أو السبب الذي هو الشراء "ومن نحو الهبة" كالصدقة لوضعها شرعا للملك أيضا وإنما امتاز كل بما هو معلوم في موضعه "فلو عنى بالشراء الملك في قوله إن اشتريت" عبدا بأن أراد إن ملكته "فهو حر فاشترى نصفه وباعه واشترى" النصف "الآخر لا يعتق هذا النصف إلا قضاء" أي لا يعتق ديانة لأنه تجوز بالعلة عن حكمها ويعتق قضاء لا لعدم صحة هذا التجوز بل للتهمة لأن فيه تخفيفا عليه كما سيذكر "وفي قلبه" أي فيما لو عنى بالملك الشراء بأن قال: إن ملكت عبدا وأراد به إن اشتريت فهو حر فاشترى نصف عبد وباعه ثم اشترى النصف الآخر يعتق "مطلقا" أي قضاء وديانة "لتغليظه" على نفسه "فإنه" أي العبد "لا يعتق فيه" أي في الملك "ما لم يجتمع" جميع العبد "في الملك قضية لعرف الاستعمال فيهما" أي في الملك والشراء لأن المقصود من مثل هذا الكلام عرفا الاستغناء بملك العبد وهو إنما يحصل إذا كان الملك بصفة الاجتماع بخلاف الشراء فإن الملك فيه ليس بلازم حتى لو قال: إن اشتريت عبدا فامرأته طالق ثم اشترى عبدا لغيره يحنث فضلا عن اشتراط الغنى فإذا الشرط شراء عبد مطلقا من غير شرط الاجتماع وقد حصل يوضحه ما حكي عن الشيخ أبي بكر الإسكاف وكان إماما ببلخ وله بواب يقال له إسحاق فكان إذا أراد تفهيم أصحابه هذه المسألة دعاه وقال: هل اشتريت بمائتي درهم؟ فيقول: نعم بألوف ثم يقول هل ملكت مائتي درهم؟ فيقول: والله ما ملكتها قط ثم يقول لأصحابه: كم ترون أنه ملك من الدراهم متفرقة وأنفق على نفسه ثم هذا إذا كان العبد منكرا كما ذكرنا فإن كان معينا بأن قال لعبد: إن اشتريتك أو ملكتك فأنت حر والمسألة بحالها يعتق النصف الباقي في الوجهين لأن العرف المذكور إنما ثبت في المنكر دون المعين إذ في المعين قصده نفي ملكه عن المحل وقد ثبت ملكه فيه وإن كان في أزمنة متفرقة فبقي على أصل القياس على أن الاجتماع والتفرق من الأوصاف والصفة في(3/73)
الحاضر لغو ثم هذا إن كان الشراء صحيحا فإن كان فاسدا لم يعتق وإن اشتراه جملة لأن شرط حنثه وجد قبل أن يقبضه ولا ملك له قبل القبض فلا يحنث وتنحل اليمين حتى لا يعتق أيضا بعد القبض إلا أن يكون مضمونا بنفسه في يده حين اشتراه حتى ينوب قبضه عن قبض الشراء فيعتق لوجود الشراء وتملكه بنفس الشراء ثم غير خاف أن القول بعتق النصف في هذه المسائل ماش على قول أبي حنيفة أما عندهما فينبغي أن يعتق كله ثم تجب السعاية أو الضمان للاختلاف المعروف في تجزئ الإعتاق والله سبحانه أعلم "والسبب" المحض "لا يقصد" حصول المسبب "بوضعه" يعني لم يوضع لحصوله "وإنما يثبت" المسبب "عن المقصود" بالسبب اتفاقا "كزوال ملك المتعة بالعتق لم يوضع" العتق "له" أي لزوال ملك المتعة "بل يستتبعه" أي بل يتبع زوال ملك المتعة "ما هو" أي السبب الذي العتق موضوع "له" وهو زوال ملك الرقبة "فيستعار" السبب "للمسبب لافتقاره" أي المسبب "إليه" أي إلى السبب "على البدل منه" أي من السبب الذي هو العتق "ومن الهبة والبيع" والصدقة لأن كلا منها سبب لزوال ملك الرقبة افتقار الحكم إلى العلة لقيامه به "فصح العتق" مجازا "للطلاق" حتى لو قال لامرأته: أعتقتك أو(3/74)
ص -39-…أنت حرة ونوى الطلاق به وقع وإنما احتاج إلى النية لتعيين المجاز لأن المحل غير متعين له بل لحقيقة الوصف بالحرية "والبيع والهبة" مجازا "للنكاح" لأن كلا منهما سبب مفض لملك المتعة "ومنع الشافعي هذا" التجوز بهما عنه "لانتفاء" العلاقة "المعنوية" بينه وبينهما "لا ينفي غيرها" وهو السببية المحضة التي هي أحد نوعي العلاقة الصورية وبها كفاية "ولا عكس" أي ولا يتجوز بالمسبب عن السبب "خلافا له" أي للشافعي فإنه جوزه "فصح عنده الطلاق" مجازا "للعتق لشمول الإسقاط" فيهما لأن في الإعتاق إسقاط ملك الرقبة وإزالته وفي الطلاق إسقاط ملك المتعة وإزالته والاتصال المعنوي علاقة مجوزة للمجاز كما تقدم "والحنفية تمنعه" أي التجوز بالطلاق عن العتق "والمجوز" للتجوز المعنى المشترك بين المتجوز والمتجوز عنه على وجه يكون في المتجوز عنه أقوى منه في المتجوز "المشهور المعتبر" أي الثابت اعتباره عن الواضع نوعا باستعماله اللفظ باعتبار جزئي من جزئيات المشترك المذكور أو نقل اعتباره عنه "ولم يثبت" هذا بالتجوز "بالفرع" أي المسبب عن الأصل أي السبب "بل" ثبت هذا في التجوز "بالأصل" عن الفرع "إذ لم يجيزوا المطر للسماء بخلاف قلبه" أي وأجازوا السماء للمطر فنقل عنهم ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم أي المطر "مع اشتراكهما" أي السبب والمسبب "في" الاتصال "الصوري" فوجب مراعاة طريقهم "فلا يصح طالق أو بائن أو حرام للعتق" عند أصحابنا ومزيد الكلام في هذه له موضع غير هذا "إلا أن يختص" المسبب "بالسبب" بحيث لا يوجد المسبب بدونه "فكالمعلول" أي فيجوز التجوز بكل منهما عن الآخر كما في العلة والمعلول لأنهما يصيران في معناهما كالنبت للغيث وبالعكس كما تقدم على ما فيه من بحث.
مسألة(3/75)
"المجاز خلف" عن الحقيقة "اتفاقا" أي فرع لها بمعنى أن الحقيقة هي الأصل الراجح المقدم في الاعتبار وإنما الخلاف في جهة الخلفية "فأبو حنيفة" خلف عنها "في التكلم" حتى يكفي صحة اللفظ من حيث العربية صح معناه أو لا "فالمتكلم بهذا ابني في التحرير" الذي هو معنى مجازي له خلف "عن التكلم به" أي بهذا ابني "في النسب" أي في ثبوت البنوة الذي هو المعنى الحقيقي له من غير نظر في ثبوت الخلفية إلى الحكم ثم يثبت الحكم به وهو العتق بناء على صحة التكلم لا خلفا عن شيء كما يثبت حكم الحقيقة بناء على صحة التكلم "وهما" خلف عنها "في حكمها فأنت ابني لعبده الأكبر منه" مجاز "عن عتق على من وقت ملكته عنده" أي أبي حنيفة استعمالا لاسم الملزوم في لازمه "وقالا: لا" يعتق "لعدم إمكان الحقيقي" وإذا لم يمكن لم يمكن حكمه وهو العتق لأن شرط صحة الخلف إمكان الأصل "فلغا" وإنما اعتبرا الخلفية في الحكم "لأن الحكم" هو "المقصود فالخلفية باعتباره" أي الحكم "أولى وقد يلحق" عدم العتق في هذه "بعدم انعقاد الحلف ليشربن ماء الكوز ولا ماء لعدم تصوره" أي حكم الأصل في كليهما والخلف إنما يصير خلفا عن الأصل إذا أمكن الأصل ولا إمكان له فيهما "وعن هذا" أي اشتراط تصور حكم الأصل للخلف "لغا قطعت يدك" خطأ "إذا أخرجهما" أي اليدين(3/76)
ص -40-…"صحيحتين ولم يجعل مجازا عن الإقرار بالمال" أي دية اليد لعدم إمكان معناه الحقيقي وتعقبه المصنف بقوله "لكن لا يلزم من لزوم إمكان محل حكم شرعي" وهو ماء الكوز في الملحق به فإنه محل وجوب البر "لتعلق الحكم بخلفه" أي الخطاب بخلف ذلك الحكم الشرعي وهو الكفارة لعجزه عن البر "لزوم صدق معنى لفظ" حقيقي "لاستعماله" أي لأجل استعمال ذلك اللفظ "مجازا" في معنى من المعاني بعد صحة التركيب لغة إذ لا يظهر بينهما ملازمة فلا يصح الإلحاق به "والثاني" أي ولغو الإقرار بقطع اليد إذا أخرجهما صحيحتين ليس لتعذر الحقيقي فقط بل لتعذره و "لتعذر المجازي أيضا فإن القطع سبب مال مخصوص" وهو دية اليد على العاقلة "في سنتين" لما عرف أن مثله تتحمله العاقلة في هذه المدة فظهر أنه كما قال "وليس" هذا المال المخصوص هو "المتجوز عنه" بالقطع لأنه لا يمكن إثباته إلا بحقيقة القطع فلا يمكن جعل اللفظ تجوزا بالسبب عن المسبب "والمطلق" أي والمال المطلق الذي يمكن إثباته "ليس مسببا عنه" أي عن القطع فامتنع إيجاب المال به مطلقا فلغا ضرورة بخلاف ما نحن فيه فإن الحرية لا يختلف ذاتها حاصلة عن لفظ حر أو لفظ ابني فأمكن المجازي حين تعذر الحقيقي فوجب صونه عن اللغو "وله" أي لأبي حنيفة "أنه" أي التجوز "حكم لغوي يرجع للفظ هو" أي الحكم "صحة استعماله" أي اللفظ "لغة في معنى" مجازي "باعتبار صحة استعماله" أي اللفظ "في" معنى "آخر وضعي" أي حقيقي "لمشاكلته ومطابقته" أي الوضعي للواقع "ليست جزء الشرط" لتجوز عنه بغيره "فكل" من اللفظ الحقيقي والمجازي "أصل في إفادة حكمه فإذا تكلم وتعذر الحقيقي وجب مجازيته فيما ذكر من الإقرار" أي الإخبار ببنوته لأنه سبب لحريته من حين ملكه "فتصير أمه أم ولد" لأنه كما جعل إقرارا بحريته جعل إقرارا بأمومية الولد لأمه لأن هذا الحق يحتمل الإقرار وما تكلم به سبب يوجب هذا الحق لها في ملكه كما هو موجب حقيقة الحرية للولد(3/77)
"وقيل" وجب مجازيته "في إنشائه" العتق وإحداثه إياه لأنه ذكر كلاما هو سبب للتحرير في ملكه وهو البنوة "فلا تصير" أمه أم ولد له إذا كانت في ملكه لأنه ليس للعبد ابتداء تأثير في إثبات أمومية الولد لأمه لأنه لا يملك إيجاب ذلك الحق لها بعبارته ابتداء بل بفعل هو استيلاد "والأصح الأول" أي مجازيته في الإخبار عن عتقه "لقوله" أي محمد "في" كتاب "الإكراه إذا أكره على هذا ابني لعبده لا تعتق والإكراه يمنع صحة الإقرار بالعتق لا إنشائه" على أنه لا ضرورة في جعله تحريرا مبتدأ وهو في نفسه إخبار "فإن تحقق" المعنى المجازي بأن كان عتقه قبل ذلك "عتق مطلقا" أي قضاء وديانة "وإلا" لو لم يتحقق "فقضاء" مؤاخذة له بإقراره لا ديانة "لكذبه حقيقة ومجازا إلا أنه قد يمنع تعين المجازي" الذي هو "العتق لجواز معنى الشفقة ودفعه" أي تعين هذا المعنى "بتقدم الفائدة الشرعية" وهي العتق "عند إمكانها" أي الفائدة الشرعية "وغيرها" وهو الشفقة "معارض بإزالة الملك المحقق مع احتمال عدمه" أي زوال الملك والمتيقن لا يزول بالاحتمال فأقل ما في الباب أن لا يتعين أحد هذين المجازين أو يتعين هذا لأنه أخف "وعدمه" أي العتق في ظاهر الرواية "في هذا أخي بنوه على اشتراكه" أي الأخ "استعمالا فاشيا في المشارك نسبا ودينا وقبيلة ونصيحة فتوقف" العمل به "إلى قرينة كمن أبي" أو(3/78)
ص -41-…أمي أو من النسب "فيعتق" لكونه ذا رحم محرم منه "وعلى أن العتق بعلة الولاد وليس في اللفظ" له ذكر ليكون مجازا عن لازمه فامتنع لعدم طريقه "وعليه" أي على أن العتق بعلة الولاد "بني عدمه" أي العتق "في جدي لعبده الصغير" فإن هذا الكلام لا وجود له إلا بواسطة الأب ولا وجود له في اللفظ "ويرد أنها" أي علة عتق القريب "القرابة المحرمة" لا خصوص الولاد "ولذا" أي ولكونها العلة فيه عتق "بعمي وخالي" بلا خلاف ذكره في البدائع وغيرها "فترجح رواية الحسن" العتق في جدي "وعدمه" أي العتق "بيا ابني لأنه" أي النداء "لإحضار الذات ولم يفتقر هذا القدر لتحقيق المعنى" أي البنوة "فيها" أي في الذات من جهة كونه "حقيقيا أو مجازيا" لأن إعلام المنادي بمطلوبية حضوره لا يتوقف على ذلك فانتفى أن يقال يجب أن يعتق به لتعذر العمل بالحقيقة وتعين المجاز وإيضاح انتفائه أن النداء وضع لاستحضار المنادي وطلب إقباله بصورة الاسم من غير قصد إلى معناه فلا يفتقر إلى تصحيح الكلام بإثبات موجبه الحقيقي أو المجازي بخلاف الخبر فإنه لتحقيق المخبر به فلا بد من تصحيحه بما أمكن "بخلاف يا حر" حيث يعتق به "لأن لفظه صريح في المعنى" لأن الحر موضوع للعتق وعلم لإسقاط الرق فيقوم عينه مقام معناه "فيثبت بلا قصد" حتى لو قصد التسبيح فجرى على لسانه عبدي حر يعتق "وقيل إذا كان الوصف المعبر به عن الذات يمكن تحقيقه من جهته" أي المتكلم "باللفظ حكم بتحقيقه" أي الوصف "مع الاستحضار" تصديقا له "كيا حر" فإن الحرية يمكن إثباتها من جهة التكلم بهذا اللفظ اللهم إلا إذا كان اسمه ذلك الوصف فناداه به فإنه لا يعتق لأن المراد حينئذ إعلامه باسمه العلم لا إثبات ذلك الوصف لأن الأعلام لا يراعى فيها المعاني حتى لو ناداه بلفظ آخر بمعناه كعتيق عتق لأن الأعلام لا تغير "وإلا" لو كان الوصف المعبر به عن الذات لا يمكن تحقيقه من جهته باللفظ "لغا" ذلك الوصف "ضرورة" وتجرد(3/79)
للأعلام "كيا ابني إذ تحقق الأبنية غير ممكن له بهذا اللفظ لأنه إن تخلق من ماء غيره فظاهر وكذا" إن تخلق "منه" أي من مائه "لأن النسب إنما يثبت به" أي بتخلقه من مائه "لا باللفظ وأما إلزامهما" أي أبي يوسف ومحمد "المناقضة بالانعقاد" أي بالاتفاق على صحة انعقاد النكاح "بالهبة في الحرة ولا يتصور الحقيقي" الذي هو "الرق" فيها ليتفرع عليه تملكها بهذا اللفظ لأن الحرة لا تقبل ذلك ما دامت حرة "فلا يلزمهما إذ لم يشرطاه" أي إمكان الحقيقي "إلا عقلا" وهو ممكن عقلا وكيف لا وقد وقع في شريعة يعقوب عليه الصلاة والسلام وفي أول الإسلام "ولم تذكر الشافعية هذا الأصل" وهو أن الخلفية للمجاز في التكلم أو في الحكم "وموافقتهما" أي الشافعية لهما "في الفرع" أي في قوله لعبده الأكبر سنا منه أنت ابني "لا يوجبها" أي الموافقة "في ; أصلهما" كما هو ظاهر صنيع صاحب الكشف وغيره ومن ثمة صرح بعضهم بأن المبني فيه عند الشافعي عدم ثبوت السبب والله تعالى أعلم.
مسألة
"يتعين على الخلفية" أي خلفية المجاز عن الحقيقة "تعينها" أي الحقيقة "إذا أمكنا" أي الحقيقة والمجاز "بلا مرجح" لرجحانها في نفسها عليه "فيتعين الوطء من {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ(3/80)
ص -42-…آبَاؤُكُمْ} لأنه المعنى الحقيقي للنكاح على ما هو الصحيح كما عرف في موضعه وهو هنا ممكن مع مجازيه الذي هو العقد "فحرمت مزنية الأب" على فروعه بالنص وأما حرمة المعقود له عليها عقدا صحيحا عليهم فبالإجماع "وتعلق به" أي بالوطء الجزاء "في قوله لزوجته إن نكحتك" فأنت كذا كما هو ظاهر "فلو تزوجها بعد إبانة" قبل الوطء "طلقت بالوطء" لا بالعقد لما ذكرنا "وفي الأجنبية" أي وفي قوله لأجنبية إن تزوجتك فعبدي حر تتعلق الحرية "بالعقد" لأن وطأها لما حرم عليه شرعا كان الحقيقة مهجورة شرعا فتعين المجاز "وأما المنعقدة" أي إرادة اليمين المنعقدة وهي الحلف على أن يفعل أمرا أو يتركه في المستقبل "بعقد تم" من قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] "لأن العقد" حقيقة "لما ينعقد" أي للفظ يربط بآخر لإيجاب حكم فالعقد إذا كما قال "وهو مجموع اللفظ المستعقب حكمه مجازا في العزم" أي القصد القلبي "السبب له" أي لمجموع اللفظ المذكور فإنه لا يعتبر بدونه "فلا كفارة في الغموس" وهي الحلف على أمر يتعمد الكذب به "لعدم الانعقاد لعدم استعقابها وجوب البر لتعذره" أي البر فيها "فقد يقال كونها" أي المنعقدة "حقيقة فيه في عرف أهل الشرع لا يستلزمه" أي كونها حقيقة "في عرف الشارع وهو" أي عرفه "المراد لأنه" أي المجاز "في لفظه" أي الشارع "ويدفع هذا بأن الأصل في مثله استصحاب ما قبله إلا بناف" له ولم يوجد النافي له "وأيضا" يتعين إرادة المنعقدة "إن كان" العقد في مجموع اللفظ المستعقب حكمه حقيقة "وإلا فالمجاز الأول" أي وإن لم يكن العقد في هذا حقيقة فهو المجاز الأول عن الحقيقة اللغوية التي هي شد بعض الحبل ببعض "بالنسبة إلى العزم لقربه" إليه أكثر من العزم والمجاز الأقرب مقدم "ومنه" أي العمل بالحقيقة لإمكانها ولا مرجح للمجاز قوله هذا "ابني لممكن" أي لعبد له يولد مثله لمثله "معروف النسب" من غيره(3/81)
"لجوازه" أي كونه "منه" بأن كان من منكوحته أو أمته حقيقة ولا يمكنه الإثبات لعارض "مع اشتهاره من غيره" فيكون المقر صادقا في حق نفسه لا في إبطال حق الغير فحينئذ "عتق وأمه أم ولده وعلى ذلك" أي تعين الحقيقة لإمكانها ولا مرجح للمجاز "فرع فخر الإسلام قول أبي حنيفة بعتق ثلث كل من الثلاثة" الأولاد "إذا أتت بهم الأمة في بطون ثلاثة" أي بين كل ومن يليه ستة أشهر فصاعدا "بلا نسب" معروف لهم "فقال" المولى في صحته "أحدهم ابني ومات" المولى "مجهلا" أي قبل البيان "خلافا لقولهما" أي أبي يوسف ومحمد "بعتق الأصغر ونصف الأوسط وثلث الأكبر نظرا إلى ما يصيبهما" أي الأوسط والأكبر "من الأم لأنه" أي ما يصيبهما من العتق من الأم "كالمجاز بالنسبة إلى إقراره للواسطة" أي لأنه ثابت لهما بواسطة الأم بخلاف ما يصيبهما من العتق بإقراره فإنه كالحقيقة لعدم توقفه على شيء فاعتبره ولم يعتبر ما يصيبهما من الأم وإيضاح هذه الجملة أن عند أصحابنا لا يثبت نسب أول أولاد أم الولد من مولاها إلا بالدعوة ويثبت نسب من عداه بدونها إذا لم ينفه فقالا: يعتق كل الثالث لأنه حر في جميع الأحوال أعني فيما إذا كانت الدعوة له أو للثاني أو للثالث كما هو ظاهر ونصف الثاني لأنه يعتق فيما إذا كانت الدعوة له أو للأول ولا يعتق فيما إذا كانت للثالث لأن(3/82)
ص -43-…أحوال الإصابة وإن كثرت حالة واحدة إذ الشيء لا يصاب إلا من جهة واحدة كالملك مثلا إذا أصيب بالشراء لا يصاب بالهبة وهلم جرا لأن إثبات الثالث محال بخلاف الحرمان يجوز أن تتعدد جهاته فإن ما ليس بحاصل أصلا يصدق عليه أنه ليس بحاصل بجهة الشراء والهبة والإرث وهلم جرا وقال أبو حنيفة: يعتق من كل ثلثه لأن ما يحصل من العتق زائدا على الثلث إنما هو باعتبار صيرورة أمهما فراشا لأبيهما بدعوى نسب أحدهم إذ لولاه لما حصل وأما الثلث فباعتبار ما يحصل لهما من قبل نفسهما فالزائد عليه بمنزلة المجاز من الحقيقة فلا يعتبر مع وجودها كما في حقيقة الحقيقة والمجاز ووضعت في بطون لأنهم لو كانوا في بطن واحد ثبت نسب كل على ما عرف وقيدت بكونه في الصحة لأنه لو كان في مرض الموت ولا مال له غيرهم وقيمتهم على السواء ولم تجز الورثة يجعل كل رقبة ستة أسهم لحاجتنا إلى حساب له نصف وثلث وأقله ستة ثم تجمع سهام العتق وهي سهمان وثلاثة وستة فتبلغ أحد عشر سهما وقد ضاق ثلث المال وهو ستة عنه فجعل كل رقبة أحد عشر سهما فيعتق من الأكبر سهمان ويسعى في تسعة ومن الأوسط ثلاثة أسهم ويسعى في ثمانية ومن الأصغر ستة أسهم ويسعى في خمسة ليستقيم الثلث والثلثان "والبديع" أي وصاحبه فرع قول أبي حنيفة "على تقديم المجاز بلا واسطة عليه" أي المجاز "بها" أي بواسطة "لقربه" أي المجاز بلا واسطة "إلى الحقيقة وتقريره" أي كلامه "تعذر الحقيقي" الذي هو النسب "لامتناع" ثبوت "نسب المجهول" من أحد لأنه إنما يثبت من المجهول ما يحتمل التعليق بالشرط ليكون متعلقا بخطر البيان والنسب لا يحتمل التعليق بالشرط "فلزم مجازيته في اللازم إقراره بحريته فيعتق كذلك" أي ثلث كل "باللفظ وقولهما" يعتق الأصغر ونصف الأوسط وثلث الأكبر "بواسطة معه" أي مع اللفظ "والأول" وهو العتق بلا واسطة "أقرب" إلى الحقيقة من العتق بها فيتعين "منتف" وهو خبر تقريره وإنما كان منفيا "إذ لا موجب(3/83)
حينئذ للأمومة وهي" أي والحال أن الأمومة "ثانية وأيضا لا صارف للحقيقي إذ الحقيقي مراد فيثبت لوازمه من الأمومة وحرية أحدهم وانتفى ما تعذر من النسب فينقسم" المعنى المجازي بينهم "بالسوية لا بتلك الملاحظة لأنها" أي الملاحظة "مبنية على ثبوت النسب" وهو منتف "وعرف تقديم مجاز على آخر بالقرب" إلى الحقيقة "وأما قوله في صحته لابني ابن عبده لبطنين وأبيهما" أي ولأبيهما وجدهما فثنى الأب على لغة النقض فيه "أحدهم ابني وهو" أي وكل منهم "ممكن" أن يولد مثله لمثله "ومات" المولى "مجهلا ففي الكشف الكبير الأصح الوفاق على عتق ربع عبده إن عناه لا" إن عنى "أحد الثلاثة" الباقين فقد عتق في حال ورق في ثلاثة أحوال فيعتق ربعه "وثلث ابنه" أي وعلى عتق ثلث ابن عبده "لعتقه إن عناه أو أباه" لا بسبب عتق الأب لأن حرية الأب لا توجب حرية الابن بخلاف الأم بل لأنه يصير حفيد المعتق "لا" إن عنى "أحد الابنين وأحوال الإصابة حالة" واحدة كما قدمنا فقد عتق في حال ورق في حالتين فيعتق ثلثه "وثلاثة أرباع كل منهما" أي وعلى عتق ثلاثة أرباع كل من الابنين "لعتق أحدهما في الكل" أي كل الأحوال بيقين بأن يراد نفسه أو أبوه أو جده "والآخر" أي وعتق الآخر "في ثلاث" من الأحوال(3/84)
ص -44-…بأن أريد نفسه أو أبوه أو جده "لا إن عنى أخاه ولا أولوية" أي ليس أحدهما بعينه أولى بجعله المعتوق بكل حال دون الآخر "فبينهما عتق ونصف" فيوزع بينهما بالسوية فيعتق نصف وربع من كل منهما "ولو كان" ابن ابن عبده "فردا أو توأمين يعتق كله" لعتقه في كل حال "وثلث الأول" لأنه عتق في حالة وهو ما إذا عناه ورق في حالة وهو ما إذا عنى ولده أو حفيده "ونصف الثاني" لأن أحوال الإصابة واحدة وهي ما إذا عناه أو أباه وأحوال الحرمان وهي ما إذا عنى ابنه فيتنصف "وجزم في الكشف الصغير بعتق ربع كل" من الأربعة "عنده" أي عند أبي حنيفة كما لو قال: أحد هؤلاء حر قال المصنف: "وهو الأقيس بما قبله إذ الكل مضاف إلى الإيجاب بلا واسطة" كما هو قول أبي حنيفة "وبواسطة" كما هو قولهما "ولذا" أي كون العتق لكل مضافا إلى الإيجاب "لو استعمل" أحدهم ابني "مجازا في الإعتاق" أي تحريرا مبتدأ "عتق في الثانية" أي فيما إذا قال ذلك لعبده وابنه وابن ابنه واحدا أو توأمين "ثلث كله" أي كل واحد كما لو قال: أحدهم حر "وربعه" أي وعتق ربع كل من الأربعة "في الأولى" أي فيما إذا قال ذلك لعبده وابنه وابني ابنه في بطنين وقيدت بكونه في الصحة لأنه لو قال في مرضه ولا مال له غيرهم ولم تجز الورثة عتقوا من الثلث بحساب حقهم فيجعل كل رقبة اثني عشر لحاجتنا إلى حساب له ثلث وربع وأدناه اثنا عشر حق الأول في ربعه وهو ثلاثة أسهم والثاني في ثلثه وهو أربعة وكل واحد من الآخرين في ثلاثة أرباعه وهي تسعة فصارت سهام الوصية خمسة وعشرين وثلث المال ستة عشر فضاق الثلث عن سهام الوصايا فجعل الثلث خمسة وعشرين والمال خمسة وسبعين فيحتاج إلى معرفة الرقبة من الثلث ليظهر مقدار ما يعتق منها ومقدار ما نسعى فيه فنقول: ثلث المال رقبة وثلث والرقبة منه ثلاثة أرباعه وليس لخمسة وعشرين ربع صحيح فاضربه في أربعة فيصير مائة والمال ثلثمائة والرقبة ثلاثة أرباع المائة وهي خمسة وسبعون(3/85)
كان حق الأول ثلاثة ضربناها في أربعة فبلغ اثني عشر وصار على هذا القياس للثاني ستة عشر ولكل من الآخرين ستة وثلاثون وتسعون في الباقي ثم الأصح هو المذكور في الجامع وهو احتراز عما في الزيادات من اعتبار أحوال الإصابة كاعتبار أحوال الحرمان ووجهه أن الرق لا يثبت أصله إلا بسبب واحد وهو القهر والعتق له أسباب من تنجيزه والكتابة والاستيلاد والتدبير فإذا اعتبر أحوال ما اتحد سببه متعددة فلأن يعتبر أحوال ما تعدد سببه أولى ووجه الأصح كما قدمنا أوجه.
مسألة
"يلزم المجاز لتعذر الحقيقي كحلفه ولا نية لا يأكل من هذا القدر فلما يحله" أي القدر بتأويل المحل وإلا فالوجه يحلها لأنها مؤنث سماعي أي فيمينه على ما يطبخ فيها لتعذر أكل عينها عادة تجوزا باسم المحل عن الحال "ولعسره" أي الحقيقي "كمن الشجرة" في حلفه لا يأكل من الشجرة التي لا يؤكل عينها عادة "فلما تخرج" الشجرة من الثمر وغيره حال كونه "مأكولا بلا كثير صنع" تجوزا باسم السبب وهو الشجرة عن المسبب وهو الخارج المذكور "ومنه" أي ومما تخرجه مأكولا "الجمار" وهو شحم النخل "والخل لأبي اليسر" وأبي الليث(3/86)
ص -45-…والظاهر كما مشى عليه المصنف في فتح القدير وفاقا لكثير أنه لا يحنث لأنه لا يخرج كذلك ولم يذكر الفريقان فيه نقلا عن المتقدمين "لا ناطفها ونبيذها" لأن ما توقف على الصنع ليس مما خرج مطلقا ولذا عطف على الثمر في قوله تعالى: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} [يّس: 35] فلا يحنث به "ولو لم تخرج مأكولا فلثمنها" فيحنث بأكل ما اشتراه به "وللهجر" أي لهجر الحقيقي "عادة وإن سهل" تناوله "كمن الدقيق فلما له" كالعصيدة فيحنث بأكلها لا بسفه لترك تناوله هكذا عادة خلافا للشافعي "ولا يشرب من البئر" وهي غير ملأى "فلمائه" أي المكان المسمى بالبئر وإلا فهي مؤنث سماعي كما مشى عليه فيما سيأتي "اغترافا اتفاقا يحنث بالكرع" أي بتناوله بفيه من موضعه من غير أن يشرب بكفيه أو بإناء على ما في الصحاح وغيره وفي الفتاوى الظهيرية وتفسير الكرع عند أبي حنيفة أن يخوض الإنسان في الماء ويتناوله بفيه من موضعه ولا يكون إلا بعد الخوض في الماء فإنه من الكراع وهو من الإنسان ما دون الركبة ومن الدواب ما دون الكعب كذا قال الشيخ الإمام نجم الدين النسفي ا هـ والأول هو المعروف المتبادر لأنه كما قال في التلويح أصل ذلك في الدابة لا تكاد تشرب إلا بإدخال أكارعها فيه ثم قيل للإنسان كرع في الماء إذا شرب بفيه خاض أو لم يخض "في الأصح" وفي الذخيرة الصحيح "ولو" كانت "ملأى فعلى الخلاف المشهور في لا يشرب من هذا النهر" فعنده على الكرع وعندهما على الاغتراف "وأفادوا أن مجازي البئر الاغتراف وفيه بعد" لعدم العلاقة الثابتة الاعتبار "والأوجه أن تعليق الشرب بها" أي بالبئر "على حذف مضاف" أي من مائها "فهي" أي البئر "حقيقة" قلت: أو عبر بالبئر عن مائها تجوزا باسم المحل عن الحال وهو أوجه لأكثرية مجاز العلاقة بالنسبة إلى مجاز الحذف وأيا ما كان يلزم منه ترجح الحنث بالكرع من البئر وإن كانت غير ملأى كما هو قول بعض المشايخ وقد(3/87)
ذكر المصنف في شرح الهداية هذين التوجيهين في وجه قولهما بالحنث كيفما شرب من ماء دجلة في حلفه لا يشرب من دجلة "ومنه" أي من لزوم المجازي للهجر عادة حلفه "لا يضع قدمه" في دار فلان فإنه مجاز "عما تقدم" وهو دخولها كما أوضحناه ثمة "وشرعا" أي وللهجر شرعا حلفه "لينكحن أجنبية لم يحنث بالزنا إلا بنيته" أي المعنى الحقيقي الذي هو الوطء إذ المهجور شرعا كالمهجور عرفا لمنع العقل والدين ظاهرا منه فإنما يحنث بالعقد كما تقدم "والخصومة في التوكيل بها" أي بالخصومة لأن حقيقتها وهي المنازعة مهجورة شرعا فيما عرف الخصم فيه محقا لأنها حينئذ حرام لقوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا} [الأنفال: 46] إلى غير ذلك فانصرف الوكيل بها "للجواب" مجازا إطلاقا لاسم السبب على المسبب لأنها سببه أو للمقيد على المطلق أو للكل على الجزء بناء على عموم الجواب للإقرار والإنكار كما سنذكر وهذا عند علمائنا الثلاثة غير أن عند أبي يوسف آخرا يصح إقراره على الموكل في مجلس القاضي وغيره لأن الموكل أقامه مقام نفسه مطلقا وعندهما يصح "عند القاضي" لا غير لأن إقراره إنما يصح باعتبار أنه جواب الخصومة مجازا والخصومة تختص بمجلس القضاء فكذا جوابها ألا يرى أنه لا يقع سماع بينة ولا استحلاف(3/88)
ص -46-…ولا إعداء ولا حبس إلا عند القاضي وما يكون في غير مجلسه يكون صلحا فإذا كان الجواب المعتبر هو الجواب في مجلس القضاء لم يعتبر إقرار الوكيل على موكله في غير مجلس القضاء بل يخرج به من الوكالة فلا يصح دعواه بعده لتكذيبه نفسه بالقول الأول وهذا استحسان والقياس وهو قول زفر والأئمة الثلاثة لا يجوز إقراره على موكله مطلقا لأن الإقرار ضد الخصومة وجوابه واضح مما سبق "فيعم" الجواب "الإقرار" كالإنكار لأن الجواب كلام يستدعيه كلام الغير ويطابقه مأخوذ من جاب الفلاة إذا قطعها سمي به لأن كلام الغير ينقطع به وذلك كما يكون بلا يكون بنعم "ولا يكلم الصبي فيحنث به" أي بكلامه حال كونه "شيخا" لأن الصبي من حيث هو صبي مأمور فيه بالمرحمة شرعا والهجر ينافيه فانصرف اليمين عند الإشارة إلى خصوص ذات صبي إلى خصوص ذاته باعتبار وصف فيها آخر لا يتقيد بزمن من الصبا أو لشدة كراهة ذاته فيحنث به شيخا لوجود ذاته "بخلاف المنكر" أي لا يكلم صبيا فإنه لما لم يشر إلى خصوص ذات كان الصبا نفسه مثير اليمين وإن كان على خلاف الشرع فيجب تقييد اليمين به لقصده بها وإن كان حراما كحلفه ليشربن اليوم خمرا أو ليسرقن الليلة فإنها تنعقد لهذا المعنى وإن كانا حرامين "وقد يتعذر حكمهما" أي الحقيقة والمجاز "فيتعذران" أي الحقيقة والمجاز فيكون ذلك الكلام لغوا "كبنتي لزوجته المنسوبة" أي كقوله لزوجته الثابت نسبها من غيره هذه ابنتي "فلا تحرم" عليه أبدا بهذا سواء كانت أكبر منه أو أصغر أصر على ذلك أم رجع بأن قال: غلطت أو وهمت "وإن أصر" أي دام على هذا الكلام "ففرق" أي حتى فرق القاضي بينهما "منعا من الظلم" أي ظلمه لها بترك قربانها وإنما قلنا تعذرت الحقيقة هنا "للاستحالة في الأكبر منه" سنا كما هو ظاهر "وصحة رجوعه" عن كونها بنته "في الممكنة" أي في الأصغر منه سنا وهذا وإن لم يتحقق في الحال فهو في معنى المتحقق كما أشار إليه بقوله "وتكذيب الشرع" له(3/89)
في هذا الإقرار لأن فيه إبطال حق الغير وهو لا يفيد إبطاله شرعا "بدله" أي قائم مقام رجوعه لأن تكذيب الشرع لا يكون أدنى من تكذيب نفسه "فكأنه رجع والرجوع عن الإقرار بالنسب صحيح" وعند الرجوع عن الإقرار لا يبقى الإقرار فلم يثبت النسب مطلقا ولا في حق نفسه "بخلافه" أي الإقرار بالبنوة "في عبده الممكن" كونه منه من حيث صغر سنه الثابت نسبه من الغير فإنه ليس فيه إقرار على الغير لأنه صار مجازا عن الحرية والعبد والأب لا يتضرران بها وذلك بناء على ما هو الأصل من أن الكلام إذا كان له حقيقة ولها حكم يصار إلى إثبات حكم تلك الحقيقة مجازا عند تعذر الحقيقة وحيث لزم أن يكون المراد به ذلك لا يصح رجوعه عنه "لعدم صحة الرجوع عن الإقرار بالعتق" ولم يمكن العمل بهذا الأصل في قوله لزوجته هذه بنتي "ولأن ثبوته" أي التحريم الذي هو المعنى المجازي لهذه بنتي "إما حكما للنسب وهو" أي النسب قد ثبت "من الغير" فيثبت للغير لا له "أو بالاستعمال" لهذه بنتي "فيه" أي في التحريم "وهو" أي تحريم النسب "مناف لسبق الملك" أي للنكاح لمنافاته لملك النكاح لانتفاء صحة نكاح المحرمات "لا أنه" أي تحريم النسب "من حقوقه" أي ملك النكاح "والذي من حقوقه" أي والتحريم الذي(3/90)
ص -47-…هو من حقوق ملك النكاح وهو إنشاء التحريم الكائن بالطلاق "ليس اللازم" للمعنى الحقيقي لهذه بنتي "ليتجوز به" أي بهذه بنتي "فيه" أي في التحريم الكائن بالطلاق ثم بين التحريمين منافاة لتنافي لوازمهما لأن أحدهما ينافي محلية النكاح ويثبت حرمة لا ترتفع ولا يصلح أن يكون من حقوق النكاح والآخر من حقوق النكاح ولا يخرج المحل عن محلية النكاح ويرتفع برافع وتنافي اللوازم يدل على تنافي الملزومات فتعذر المجازي أيضا.
مسألة: الحقيقة المستعملة أولى من المجاز المتعارف الأسبق منها(3/91)
أي الحقيقة المستعملة "عنده" أي أبي حنيفة "وعندهما والجمهور قلبه" أي المجاز المتعارف الأسبق منها أولى من الحقيقة المستعملة "وتفسير التعارف بالتفاهم" كما قال مشايخ العراق "أولى منه" أي من تفسيره "بالتعامل" كما قال مشايخ بلخ "لأنه" أي التعامل "في غير محله" أي المجاز "لأنه" أي التعامل "كون المعنى المجازي متعلق عملهم" أي أهل العرف "وهذا" أي عملهم "سببه" أي التعارف "إذ به" أي بالتعامل "يصير" المجاز "أسبق" إلى الفهم فمحل التعامل المعنى ومحل الاستعمال والحقيقة والمجاز اللفظ "ثم هذا على تسمية المعنى بهما" أي بالحقيقة والمجاز مسامحة لإجماع أهل اللغة على أنهما من أوصاف اللفظ "والتحرير أنه" أي المجاز المتعارف هو "الأكثر استعمالا في المجازي منه" أي من استعماله "في الحقيقي وما قيل" أي وما قاله مشايخ ما وراء النهر التفسير "الثاني قولهما والأول قوله للحنث عنده بأكل آدمي وخنزير" أي لحمهما في حلفه لا يأكل لحما لأن التفاهم يقع عليه فإنه يسمى لحما وعدمه عندهما لأن التعامل لا يقع عليه لأنه لا يؤكل عادة "غير لازم بل" الحنث عنده فيهما "لاستعمال اللحم فيهما" أي في لحمي الآدمي والخنزير "فيقدم" الاعتبار للحقيقة وعدم الحنث عندهما لمضمون قوله "ولأسبقية ما سواهما" أي لحمي الآدمي والخنزير إلى الأفهام عند الإطلاق "عندهما ويشكل عليه" أي على أبي حنيفة "ما تقدم من التخصيص بالعادة بلا خلاف" فإنه يقتضي اقتصار الحنث على ما اعتيد أكله من اللحوم فلا جرم إن قيل إذا كان الحالف مسلما ينبغي أن يحنث لأن أكله ليس بمتعارف ومبنى الأيمان على العرف قال العتابي: وهو الصحيح وفي الكافي وعليه الفتوى "وكون هذه" المسألة "فرع جهة الخلفية فرجح التكلم بها" أي بالحقيقة على التكلم بالمجاز لرجحانها عليه "ورجحا الحكم بأعميته" أي حكم المجاز "لحكمها" أي الحقيقة لأنه شملها حتى صارت فردا من أفراده فكثرت فائدته وكان فيه عمل بالحقيقة من(3/92)
وجه لدخولها فيه كما هو حاصل ما في أصول فخر الإسلام وموافقيه "لا يتم إذ الغرض يتعلق بالخصوص كضده" أي كما يتعلق بالعموم "والمعين" لما هو الغرض منهما "الدليل" مع أن المجاز المتعارف قد لا يعم الحقيقة "فالمبني" لهذه المسألة "صلوح غلبة الاستعمال دليلا" مرجحا للغالب استعمالا فيهما على الآخر "فأثبتاه ونفاه بأن العلة لا ترجح بالزيادة من جنسها فتكافآ" أي فتساوى الحقيقة والمجاز في الاعتبار "ثم تترجح" الحقيقة عنده لرجحانها عليه "لا ذلك" أي كون المجاز أعم كما قالاه "وإلا" لو تم كون الخلاف في المجاز الأسبق من الحقيقة المستعملة بناء على الخلاف في جهة الخلفية "اطرد" الترجيح بالعموم(3/93)
ص -48-…عندهما "فرجحا" حينئذ المجاز "المساوي" للحقيقة في التبادر للفهم "إذا عم" حكمه الحقيقة "وقالا" حينئذ أيضا "العقد العزم لعمومه" أي العزم "الغموس وكثير وليس" شيء منها كذلك وكيف "والمساوي اتفاق" أي محكي فيه اتفاقهم على تقديم الحقيقة إذا ساواها المجاز مطلقا "وفرعها" أي هذه المسألة حلف "لا يشرب من الفرات" وهي بالتاء الممدودة في الخط في حالتي الوصل والوقف النهر المعروف بين الشام والجزيرة وربما قيل بين الشام والعراق حلف "لا يأكل الحنطة انصرف" الحلف "عنده إلى الكرع" في الشرب من الفرات "وعينها" أي وإلى أكل عين الحنطة "وإلى ما يتخذ منها" أي من الحنطة "ومائه" أي الفرات "عندهما وعلى الحنطة" أي يرد على مسألتها "التخصيص بالعادة" فإن مقتضاه اقتصار الحنث على ما يتخذ منها عادة لأن العرف العملي مخصص كما سلف "وأجيب بأنها" أي العادة مخصصة أو المسألة الخلافية "في" الحنطة "غير المعينة أما فيها" أي المعينة "فقوله مثلهما" والصواب القلب كما هو كذلك في الكشف وغيره ومشى عليه المصنف في فتح القدير حيث قال: وهذا الخلاف إذا حلف على حنطة معينة أما لو حلف لا يأكل حنطة ينبغي أن يكون جوابه كجوابهما ذكره شيخ الإسلام ا هـ. فيطالب بالفرق "ويمكن ادعاؤه" أي أبي حنيفة في الفرق بينهما "أن العادة فيها" أي في المعينة "مشتركة" بين تناول عينها وما يتخذ منها "وإن غلبت" العادة "فيما" يتخذ "منها كالكرع" فإن العادة في الشرب مشتركة بينه وبين الشرب بالإناء ونحوه فانصرفت اليمين عنده إلى الحقيقة المستعملة بخلاف غير المعينة فإن العادة في تعلق الأكل بها إرادة ما يتخذ منها وهذا أقرب من دعوى شيخ الإسلام التعارف في حنطة غير معينة لا في حنطة بعينها وإذا لم يوجد التعارف في المعينة لا يترك العمل بالحقيقة لأن الحقيقة تترك بنية غيرها أو بالعرف ولم يوجد واحد منهما هذا وبعد أن ذكر في فتح القدير ما تقدم قال: ولا يخفى أنه تحكم والدليل(3/94)
المذكور المتفق على إيراده في جميع الكتب يعم المعينة والمنكرة وهو أن عينها مأكول "وتقدم بقية الصوارف في التخصيص" في مسألة العادة العرف العملي مخصص فليراجع.
"تتمة: ينقسم كل من الحقيقة والمجاز باعتبار تبادر المراد" من إطلاقه "للغلبة استعمالا وعدمه" أي وباعتبار عدم تبادر المراد لعدم الغلبة استعمالا "إلى صريح يثبت حكمه الشرعي بلا نية وكناية" لا يثبت حكمه إلا بنية أو قائم مقامها "منه" أي هذا القسم الذي هو الكناية "أقسام الخفاء" أي الخفي والمشكل والمجمل "والمجاز غير المشتهر ويدخل الصريح المشترك المشتهر في أحدهما" أي أحد معنييه "بحيث تبادر" ذلك الأحد من إطلاقه "والمجاز" الغالب الاستعمال "مع الهجر" لحقيقته "اتفاقا كذلك" أي صريح "ومع استعمال الحقيقة" هو صريح أيضا "عندهما والظاهر وباقي الأربعة" النص والمفسر والمحكم "إن اشتهرت فإخراج شيء منها" أي من الظاهر وباقي الأربعة "مطلقا" من الصريح كما ذكره صاحب الكشف وغيره "لا يتجه" بل يخرج منها ما ليس بمشتهر "لكن ما لا يشتهر منها لا يكون كناية والحال تبادر المعين" من إطلاق اللفظ "وإن كان" تبادره "لا للغلبة" الاستعمالية "بل" تبادره "للعلم بالوضع"(3/95)
ص -49-…أي وضع اللفظ له "وقرينة النص" من كون الكلام مسوقا "وأخويه" أي وقرينة المفسر من عدم احتماله للتخصيص والتأويل وقرينة المحكم من كونه غير قابل للنسخ "فيلزم تثليث القسمة إلى ما ليس صريحا ولا كناية لكن حكمه" أي هذا القسم "إن اتحد بالصريح أو بالكناية فلا فائدة" في تثليثها به وهو ممكن "فليترك ما مال إليه كثير من" ذكر "قيد الاستعمال" كما مشينا عليه أولا "ويقتصر" في تعريف الصريح "على ما تبادر خصوص مراده لغلبة أو غيرها" من تنصيص أو تفسير أو إحكام كما مال إليه شمس الأئمة السرخسي والقاضي أبو زيد "لكن أخرجوا" من الصريح "الظاهر على هذا" التعريف لأن الظهور فيه ليس بتام "ولا فرق" بين الظاهر والصريح "إلا بعدم القصد الأصلي" في الظاهر بخلافه في الصريح وهو غير مؤثر في التبادر "ثم من ثبوت حكمه" أي الصريح "بلا نية جريانه" على لسانه كأنت طالق وأنت حرة "غلطا في نحو سبحان الله واسقني" أي بأن أراد أن يقول هذا فقال ذاك قالوا: فيثبت الطلاق والعتق "وأما قصده" أي الصريح "مع صرفه بالنية إلى محتمله فله ذلك ديانة كقصد الطلاق من وثاق" في قوله هي طالق "فهي زوجته ديانة" لاحتمال اللفظ له لا قضاء لأنه خلاف الظاهر وفيه تخفيف عليه "ومقتضى النظر كونه" أي ثبوت حكمه بلا نية "في الكل" أي في الغلط وما قصد صرفه بالنية إلى محتمله "قضاء فقط وإلا" لو ثبت حكمه فيهما مطلقا "أشكل بعت واشتريت إذ لا يثبت حكمها في الواقع مع الهزل" مع أنهما صريح "وفي نحو الطلاق والنكاح" إنما ثبت حكمه مطلقا في الهزل "بخصوصه دليل" وهو الحديث الآتي على الأثر ولم يكن حاجة إلى "وكذا في الغلط" يثبت فيه حكمه قضاء لا ديانة للاستغناء عنه بقوله في الكل قضاء فقط فلعله ذكره ليصل به "لما ذكرته في فتح القدير" من أن الحاصل أنه إذا قصد السبب عالما بأنه سبب رتب الشرع حكمه عليه أراده أو لم يرده إلا إن أراد ما يحتمله وأما أنه لم يقصده أو لم يدر ما هو فيثبت(3/96)
الحكم عليه شرعا وهو غير راض بحكم اللفظ ولا باللفظ فمما ينبو عنه قواعد الشرع وقد قال تعالى {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] وفسر بأمرين أن يحلف على أمر يظنه كما قال مع أنه قاصد للسبب عالم بحكمه فألغاه لغلطه في ظن المحلوف عليه والآخر أن يجري على لسانه بلا قصد إلى اليمين كلا والله بلى والله فرفع حكمه الدنيوي من الكفارة لعدم قصده إليه فهذا تشريع لعباده أن لا يرتبوا الأحكام على الأشياء التي لم نقصد وكيف وقد فرق بينه وبين النائم عند العليم الخبير من حيث لا قصد له إلى اللفظ ولا حكمه وإنما لا يصدقه غير العلم وهو القاضي "ولا ينفيه" أي هذا القول "الحديث" الذي أخرجه أصحاب السنن. وقال الترمذي: حسن غريب والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم "ثلاث جدهن.. إلى آخره" أي جد : وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة لأن الهازل راض بالسبب لا بالحكم والغالط غير راض بهما فلا يلزم من ثبوت الحكم في حق الأول ثبوته في حق الثاني "وما قيل" أي وقول الجم الغفير من مشايخنا "لفظ كنايات الطلاق مجاز لأنها" أي كنايات الطلاق "عوامل بحقائقها غلط إذ لا تنافي الحقيقة الكناية وما قيل" أي وقولهم أيضا في وجه أنها مجاز "الكناية الحقيقة" حال(3/97)
ص -50-…كونها "مستترة المراد وهذه" أي كنايات الطلاق "معلومته" أي المراد "والتردد فيما يراد بها" فيتردد مثلا في أن المراد بهي بائن "أبائن من الخير أو النكاح منتف بأن الكناية بالتردد في المراد" من اللفظ حقيقة كان أو مجازا إلا في الوضعي "وإنما هي معلومة الوضعي كالمشترك والخاص في فرد معين وإنما المراد" بكونها مجازا "مجازية إضافتها إلى الطلاق فإن المفهوم" من كنايات الطلاق "أنها كناية عنه" أي عن الطلاق "وليس" كذلك "وإلا" لو كانت كناية عنه "وقع الطلاق رجعيا" مطلقا بها لأن الإيقاع بلفظ الطلاق رجعي ما لم يكن على مال أو الثالث في حق الحرة أو الثاني في حق الأمة وليس هي مطلقا كذلك بل بعضها كما عرف في موضعه.
مسائل(3/98)
"الحروف قيل" أي قال صدر الشريعة: "جرى فيها" أي الحروف "الاستعارة تبعا كالمشتق فعلا ووصفا بتبعية اعتبار التشبيه في المصدر لاعتبار التشبيه أولا في متعلق معناه الجزئي وهو كلية على ما تحقق فيستعمل في جزئي المشبه" وهو المعنى الحرفي للحرف يعني كما جرت الاستعارة في المشتق فعلا ووصفا بتبعية اعتبار التشبيه أولا في المصدر فقولنا: نطقت الحال فرع تشبيه الحال باللسان ثم نسبة النطق إليها ثم اشتق من النطق بمعناه المجازي نطقت فصار استعارة نطقت تبعية استعارة النطق هكذا الحرف يعتبر أولا التشبيه في متعلق معناه الجزئي وهو المعنى الكلي المندرج فيه معنى الحرف وهو المراد بقوله كلية بيانه أن ما تذكره بلفظ اسم لمعنى حرف ليس هو عين معناه فإن التبعيض المفاد بقولك من للتبعيض ليس هو نفس معنى من بل تبعيض كلي ومعنى من تبعيض جزئي ملحوظ بين شيئين خاصين مندرج تحت مطلق التبعيض فيعتبر أولا التشبيه للمعنى الكلي المتعلق لمعنى الحرف ثم يستعمل الحرف في جزئي منه كما شبه ترتب العداوة والبغضاء على الالتقاط بترتب العلة الغائبة على الفعل فاستعمل فيها اللام الموضوعة للترتب العلي كذا أفاده المصنف رحمه الله "وهذا" الكلام "لا يفيد وقوع" المجاز "المرسل فيها" أي في الحروف لانتفاء علاقة المشابهة في متعلق معناها "ثم لا يوجب" هذا الكلام أيضا "البحث عن خصوصياتها في الأصول لكن العادة" جرت به "تتميما" للفائدة لشدة الاحتياج إليها في بعض المسائل الفقهية وذكرت عقب مباحث الحقيقة والمجاز لأنها تنقسم إليهما أيضا.
[أقسام الحروف](3/99)
"وهي" أي الحروف "أقسام حروف العطف الواو للجمع فقط" أي بلا شرط ترتيب ولا معية "ففي المفرد" أي فهي فيه اسما كان أو فعلا حال كونه "معمولا" لجمع المعطوف "في حكم المعطوف عليه من الفاعلية والمفعولية والحالية وعاملا" أي وحال كونه عاملا لجمع المعطوف "في مسنديته" أي المعطوف عليه "كضرب وأكرم في جمل لها محل" من الإعراب لجمع المعطوفة في حكم المعطوف عليها "كالأول" أي ككونها في المفرد معمولا "وفي(3/100)
ص -51-…مقابلها" أي الجمل التي لا محل لها من الإعراب "لجمع مضمونها في التحقق وهل يجمع في متعلقاتها" أي الجملة المعطوف عليها "يأتي" في المسألة التي بعد هذا "وقيل" الواو "للترتيب ونسب لأبي حنيفة" والشافعي أيضا "كما نسب إليهما" أي أبي يوسف ومحمد ومالك أيضا "المعية لقوله" أي أبي حنيفة "في إن دخلت فطالق وطالق وطالق لغير المدخول تبين بواحدة وعندهما" تبين "بثلاث" فإن قوله هذا ظاهر في جعلها للترتيب حيث أبانها بالأولى فقط لا إلى عدة كما لو كانت بالفاء أو ثم فلم يقع ما بقي وقولهما ظاهر في جعلها للمقارنة كما في أنت طالق ثلاثا وإلا لأوقعا واحدة لا غير "وليس" كلا القولين بناء على ذلك "بل لأن موجبه" أي العطف "عنده" أي أبي حنيفة "تعلق المتأخر بواسطة المتقدم فينزلن كذلك" أي مترتبات "فيسبق" الطلاق "الأول فيبطل محليتها" لما بعده لانتفاء العصمة والعدة "وقالا بعد ما اشتركت" المعطوفات "في التعلق وإن" كان اشتراكها "بواسطة" أي عطف بعضها على بعض "تنزل دفعة لأن نزول كل" منها "حكم الشرط فتقترن أحكامه" عند وجوده "كما في تعدد الشرط" لكل واحد نحو إن دخلت فأنت طالق وإن دخلت فأنت طالق فإنه قد تعلق طلاق بعد طلاق بكل من الشرطين ثم إذا وجد الشرط بأن دخلت مرة يقع ثنتان "ودفع هذا" أي تعدد الشرط الملحق به "بالفرق بانتفاء الواسطة" أي بأن تعلق الثاني فيه ليس بواسطة تعلق الأول وإن كان بعده بخلاف إن دخلت فأنت طالق وطالق "لا يضر" في المطلوب "إذ يكفي" في الدفع لهما "ما سواه" أي سوى هذا الدليل قال المصنف يعني من قولهما التعلق وإن كان بواسطة فبعد ثبوت الواسطة وتعلق الثاني صار الحاصل تعلق كل من طلاقين بشرط فيكون نزول كل منهما حكما لثبوته فإذا ثبت نزل كل حكم له دفعة لوجود العلة التامة في ثبوت كل ولا يجوز أن يتأخر شيء منها فقد رجح المصنف قولهما "وفيه" أي في الجواب لهما عن دليله "ترديد آخر ذكرناه في الفقه" فقال: وقولهما(3/101)
أرجح قوله تعلق بواسطة تعلق الأول إن أريد أنه علة تعلقه فممنوع بل عليته جمع الواو إياه إلى الشرط وإن أريد كونه سابق التعلق سلمناه ولا يفيد كالأيمان المتعاقبة ولو سلم أن تعلق الأول علة لتعلق الثاني لم يلزم كون نزوله علة لنزوله إذ لا تلازم فجاز كونه علة لتعلقه فيتقدم في التعلق وليس نزوله علة لنزوله بل إذا تعلق الثاني بأي سبب كان صار مع الأول متعلقين بشرط وعند نزول الشرط ينزل المشروط "لنا النقل عن أئمة اللغة وتكرر من سيبويه كثيرا" فذكره في سبعة عشر موضعا من كتابه "ونقل إجماع أهل البلدين" البصرة والكوفة "عليه" نقله السيرافي والسهيلي والفارسي إلا أنهم نوقشوا فيه بأن جماعة منهم ثعلب وغلامه وقطرب وهشام على أنها للترتيب "وأما الاستدلال" للمختار "بلزوم التناقض" على تقدير الترتيب "في تقدم السجود على قول حطة" كما في سورة البقرة "وقلبه" أي تقديم قول حطة على السجود كما في سورة الأعراف "مع الاتحاد" أي اتحاد القصة لأن وجوب دخول الباب سجدا يكون مقدما على قول حطة ما دلت عليه آية البقرة مؤخرا عنه كما دلت عليه آية الأعراف والقصة واحدة فيهما أمرا ومأمورا وزمانا والتناقض في كلامه تعالى محال ومعنى حطة حط عنا ذنوبنا "وامتناع تقاتل زيد(3/102)
ص -52-…وعمرو" أي وبلزوم امتناعه إذ لا يتصور في فعل يعتبر في مفهومه الإضافة المقتضية للمعية ترتيب لكنه صحيح بالاتفاق "وجاء زيد وعمرو قبله" أي وبلزوم امتناعه للتناقض فإن عمرا يكون جائيا بعد زيد للواو وقبله لقبله واللازم منتف بالاتفاق "والتكرار بعده" أي وبلزوم التكرار في جاء زيد وعمرو بعده لدلالة الواو على البعدية وليس بتكرار اتفاقا "فمدفوع بجواز التجوز بها" أي بالواو "في الجمع فصحت" للجمع "في الخصوصيات" أي في هذه الصور المخصوصة فلم يلزم المطلوب "وبلزوم صحة دخولها في الجزاء" أي والاستدلال للمختار بأنها لو كانت للترتيب لزم صحة دخولها على جزاء الشرط لربطه به على سبيل الترتيب عليه "كالفاء" واللازم باطل بالاتفاق إذ لا يصح إن جاء زيد وأكرمه كما يصح فأكرمه مدفوع "بمنع الملازمة كثم" أي لا نسلم أنها لو كانت للترتيب لصح دخولها على الجزاء فإنه منقوض بثم فإنها للترتيب اتفاقا ولا يجوز دخولها على الجزاء اتفاقا "ويحسن الاستفسار" أي والاستدلال للمختار بأنها لو كانت للترتيب لما حسن من السامع أن يستفسر من المتكلم "عن المتقدم" والمتأخر في نحو جاء زيد وعمرو لكونهما مفهومين من الواو واللازم باطل مدفوع "بأنه" أي حسن الاستفسار "لدفع وهم التجوز بها" لمطلق الجمع "وبأنه مقصود" أي والاستدلال للمختار بأن مطلق الجمع معنى مقصود للمتكلم "فاستدعى" لفظا "مفيدا" له كي لا تقصر الألفاظ عن المعاني "ولم يستعمل فيه" أي في هذا المعنى "إلا الواو" فتعين أن تكون موضوعة له فلا تكون للترتيب والألزم الاشتراك وهو خلاف الأصل مدفوع "بأن المجاز كاف في ذلك" أي في إفادته فيكفي أن يكون مجازا للجمع المطلق على أنه معارض بالمثل فإن الترتيب المطلق أيضا معنى مقصود كالجمع المطلق فلا بد من لفظ يعبر به عنه وليس ذلك غير الواو اتفاقا فتكون موضوعة له "والنقض" لكونها لمطلق الجمع "بالترتيب" أي بأنها تفيده "للبينونة بواحدة في قوله لغير(3/103)
المدخولة طالق وطالق وطالق كما بالفاء وثم" وإلا لو كانت للجمع لجمعت الثلاث فطلقت ثلاثا "مدفوع بأنه" أي وقوع الواحدة لا غير "لفوات المحلية قبل الثانية إذ لا توقف" للأولى على ذكر الثانية لعدم موجب التوقف لأن أنت طالق منجز ليس في آخره ما يغير أوله من شرط أو غيره فينزل به الطلاق في المحل قبل التلفظ بالثانية والثالثة ويرتفع محليتها للباقي لعدم العدة فيلغو لهذا لا لكون الواو للترتيب "بخلاف ما لو تعلقت بمتأخر" أي بشرط متأخر كأنت طالق وطالق وطالق إن دخلت فإنه يقع الثلاث اتفاقا لتوقف الكل على آخر الكلام لوجود المغير فيه فتعلقت دفعة ونزلت دفعة ثم عند أبي يوسف يقع الأول قبل الفراغ من التكلم بالثاني "وما عن محمد إنما يقع عند الفراغ من الأخير محمول على العلم به" أي بالوقوع أي لا يعلم وقوع ما قبل الأخير إلا عند الفراغ من الأخير "لتجويز إلحاق المغير" به من شرط ونحوه "وإلا" لو لم يكن المراد هذا "لم تفت المحلية فيقع الكل" بنصب يقع على جواب النفي لوجود المحلية حالة التكلم بالباقي كما ذكره شمس الأئمة السرخسي والحاصل أن المصنف استبعد كون قول محمد على ظاهره لأنه إذا لم يكن الصدر متوقفا فتأخير حكمه إلى غاية خاصة ممنوع لأنه كما قال "ولأنه" أي تأخير حكم الأول(3/104)
ص -53-…إلى الفراغ من الأخير "قول بلا دليل" فالصواب ما قاله أبو يوسف من أنه يقع بمجرد فراغه من الأول وحين أول المصنف كلام محمد بما تقدم ارتفع الخلاف إذ لا شك في تأخر العلم بالوقوع عن تمام الكلام لكن عند تمامه يحكم بأن الوقوع كان بمجرد فراغه من الأول "وببطلان نكاح الثانية" أي والنقض لكونها لمطلق الجمع بأنها تفيد الترتيب بدليل بطلان نكاح الأمة الثانية "في قوله" أي المولى لأمته "هذه حرة وهذه" حرة "عند بلوغه تزويج فضولي أمتيه من واحد" كما لو أعتقهما بكلامين منفصلين وإلا لما بطل نكاح واحدة منهما ما لو أعتقهما معا مدفوع "بتعذر توقفه" أي نكاح الثانية لأن بثبوت الحرية للأولى بهذه حرة قبل التلفظ بقوله وهذه بطلت محلية وتوقف النكاح في الثانية "إذ لا يقبل الإجازة" لأن النكاح الموقوف معتبر بابتداء النكاح وليست الأمة منضمة إلى الحرة بمحل لابتدائه فكذا لتوقفه "لامتناع" نكاح "الأمة على الحرة" وإذا بطل التوقف لا يمكن تدارك محليتها له لتعتق بعد ذلك لأن التوقف لا يعود بعد البطلان فالترتيب جاء في ثبوت العتق لوجود اللفظين متعاقبين لا لكونها للترتيب "وبالمعية" أي والنقض لكونها لمطلق الجمع بأنها للمقارنة "لبطلان إنكاحه" أي الفضولي الآخر "أختين في عقد من واحد فقال" الزوج "أجزت فلانة وفلانة" أي نكاح فلانة ونكاح فلانة كما لو قال: أجزت نكاحهما وإلا لبطل نكاح الأخيرة لا غير كما لو أجازهما متفرقا بأن قال: أجزت نكاح فلانة ثم أجاز نكاح الأخرى لئلا يلزم الجمع بين نكاح الأختين وقيد بفي عقدين لأن تزويجهما في عقد واحد لا ينفذ بحال "ولعتق ثلث كل من الأعبد الثلاثة إذا قال: من مات أبوه عنهم" أي الأعبد الثلاثة "فقط" وهم متساوون في القيمة ولا وارث له غيره ومقول قوله "أعتق" أبي "في مرضه هذا وهذا وهذا متصلا" بعضه ببعض بالواو وكما لو قال: أعتقهم كلهم أي وإلا لو لم يكن للمقارنة لعتق كل الأول وثلث الثالث كما لو أقر به(3/105)
متفرقا بأن قال: أعتق أبي هذا وسكت ثم قال لآخر: أعتق أبي هذا وسكت ثم قال لآخر: أعتق أبي هذا لأنه لما أقر بإعتاق الأول وهو ثلث المال عتق من غير سعاية لعدم المزاحم ثم لما أقر بإعتاق الثاني فقد زعم أنه بين الأول والثاني نصفين فيصدق في حق الثاني لا في حق الأول لأن المغير يغير بشرط الوصل ولم يوجد ثم لما أقر للثالث فقد زعم أنه بينهم أثلاثا يصدق في حق الثالث لا الأولين لما ذكرنا مدفوع "بأنه" أي كلا من بطلان نكاح الثانية وعتق كل من الأعبد الثلاثة "للتوقف" لصدر الكلام على آخره "لمغيره من صحة إلى فساد بالضم في الأول" أي في نكاح الأختين "ومن كمال العتق إلى تجزئته" للعتق "عنده" أي أبي حنيفة "من براءة" لذمته "إلى شغل" لها "عند الكل" أي أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد فإنهم متفقون على أنه يجب عليه أن يسعى في ثلثي قيمته غير أنه عنده رقيق في الأحكام كالمكاتب إلا أنه لا يرد إلى الرق بالعجز وعندهما كالحر المديون "بخلاف النقضين الأولين" أي النقض بالبينونة بواحدة في تنجيز الطلاق بطالق وطالق وطالق والنقض ببطلان نكاح الأمة الثانية في هذه حرة وهذه "لأن الضم" للطلاق الكائن بعد الأول إلى ما قبله "لا يغير ما قبله من الوقوع ولقائل أن يقول: الضم المفسد لهما" أي لنكاح الأختين هو الضم "الدفعي كتزوجتهما وأجزتهما" أي(3/106)
ص -54-…نكاح الأختين لأنه جمع بين الأختين "لا" الضم "المرتب لفظا لأنه" أي الفساد لهما فيه "فرع التوقف" للأول على الآخر "ولا موجب له" أي للتوقف "فيصح الأولى" أي نكاحها "دون الثانية كما لو كان" الضم "بمفصول" أي بكلام متأخر عن الأول بزمان استدل "المرتبون" بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] وثبوت الواو في اركعوا كما في النسخ سهو ففهم منه أن السجود بعد الركوع ولولا الواو للترتيب لم يتعين فكانت حقيقة فيه لأن الأصل عدم المجاز "وسؤالهم" أي الصحابة "لما نزل {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} بم نبدأ" كذا ذكره غير واحد من المشايخ ولم أقف عليه مخرجا وإنما في صحيح مسلم عن جابر ثم خرج يعني النبي صلى الله عليه وسلم من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ "{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا" الحديث وهو بصيغة الفعل المضارع للمتكلم ويؤيده رواية مالك وغيره نبدأ وهو عند النسائي والدارقطني ابدءوا بصيغة الأمر ولولا أنها للترتيب لما سألوه ولما قال: "أبدأ وابدءوا بما بدأ الله به" ولما وجب الابتداء إذ لا موجب له غيره "وإنكارهم" أي الصحابة "على ابن عباس تقديم العمرة" على الحج "مع {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فإن جعل هذه الآية مستند إنكارهم عليه دليل فهمهم الترتيب منها بواسطة الواو وهم أهل اللسان وهذا ذكره غير واحد من المشايخ ولم أقف عليه مخرجا أيضا "وبقوله صلى الله عليه وسلم: "بئس الخطيب أنت" لقائل ومن يعصهما أي الله ورسوله فقد غوى" كما بينه قوله "هلا قلت ومن يعص الله ورسوله" كذا في البديع ولم أقف على هلا مخرجا والذي في صحيح مسلم "قل: ومن يعص الله ورسوله" فلو لم تكن للترتيب لما فرق بين العبارتين بالإنكار على ما بالواو فإنه كما قال "ولا فرق" بينهما "إلا بالترتيب وبأن الظاهر أن الترتيب اللفظي(3/107)
للترتب الوجودي والجواب عن الأول" أي اركعوا واسجدوا "بأنه" أي الترتيب بينهما "من" قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" رواه البخاري وتقدم في مسألة إذا نقل فعله صلى الله عليه وسلم بصيغة لا عموم لها إذ لا يلزم من موافقة حكم لدليل كونه منه ومن عدم دلالته عليه عدم الدلالة مطلقا "وعن الثاني" أي عن سؤالهم عما يبدءون بالطواف منه من الصفا والمروة "بالقلب" وهو "لو" كانت الواو "للترتيب لما سألوا" ذلك لفهمهم إياه منها فسؤالهم دليل على أنهم لم يفهموه منها "فالظاهر أنها للجمع والسؤال لتجويز إرادة البداءة بمعين" منهما "والتحقيق سقوطه" أي الاستدلال "لأن العطف فيها" أي في الآية "إنما يضم" المعطوف إلى المعطوف عليه "في الشعائر ولا ترتيب فيها" أي الشعائر "فسؤالهم" إنما هو "عما لم يفد بلفظه" أي الواو "بل" عما أفيد "بغيره" أي الواو وهو التطوف بينهما "وأجاب هو" صلى الله عليه وسلم "ابدءوا بما بدأ الله" وعن الثالث" أي إنكارهم على ابن عباس تقديم العمرة على الحج "أنه" أي الكلام "لتعيينه" تقديمها عليه "والواو للأعم منه" أي تقديمها عليه وهو مطلق الجمع المفيد للخروج من العهدة بكل من تقديم أحدهما على الآخر "وعن الرابع" أي إنكاره صلى الله عليه وسلم على القائل ومن يعصهما "بأنه ترك الأدب لقلة معرفته" بالله تعالى لأن في الإفراد بالذكر تعظيما ليس في القران مثله من مثل القائل "بخلاف مثله" أي الجمع بينهما في التعبير عنهما بضمير المثنى "منه صلى الله عليه وسلم" كما في الصحيح "لا يؤمن(3/108)
ص -55-…أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" فإنه أعلم الخلق بالله وأشدهم له خشية فلا يكون في ذلك منه إخلال بالتعظيم ويوضحه أنه لا ترتيب بين المعصيتين لأن معصية الله معصية لرسوله وبالعكس فتعين ما ذكرنا "وعن الخامس" أي الترتيب اللفظي للترتيب الوجودي "بالمنع والنقض برأيت زيدا رأيت عمرا" للاتفاق على صحته مع تقدم رؤية عمرو على رؤية زيد في الواقع وكيف لا وقد قال تعالى {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ} [الشورى: 3] "ولو سلم" أن الترتيب اللفظي للترتب الوجودي "فغير محل النزاع" لأن النزاع إنما هو في أن المذكور بعد الواو بالنسبة إلى ما قبلها لا في مطلق الترتيب اللفظي.
مسألة(3/109)
الواو "إذا عطفت جملة تامة" أي غير مفتقرة إلى ما تتم به "على أخرى لا محل لها شركت" بينهما "في مجرد الثبوت" لاستقلالها بالحكم ومن ثمة سماها بعضهم واو الاستئناف والابتداء نحو {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} "واحتمال كونه" أي الثبوت "من جوهرهما يبطله ظهور احتمال الإضراب مع عدمها" أي الواو "وانتفاؤه" أي احتمال الإضراب "معها" أي الواو فإن قام زيد قام عمرو يحتمل قصد الإضراب عن الإخبار الأول إلى الإخبار الثاني بخلاف ما إذا توسطت الواو "فلذا" أي فلكون عطف التامة على أخرى لا محل لها من الإعراب تشرك في مجرد الثبوت "وقعت واحدة في هذه طالق ثلاثا وهذه طالق" على المشار إليها ثانيا لأن الثانية جملة تامة لاشتمالها على المبتدأ والخبر "وما لها" أي وإذا عطفت جملة تامة على جملة لها محل من الإعراب "شركت المعطوفة في موقعها إن خبرا" عن المبتدأ "أو جزاء" للشرط "فخبر وجزاء" قال المصنف: وهذا يفيد أن جملة الجزاء قد يكون له محل وبه قال طائفة من المحققين وهو ما إذا كانت بعد الفاء وإذا جوابا لشرط جازم "وكذا ما" أي الجملة التي "لها موقع" من الإعراب "من غير" الجملة "الابتدائية مما" أي من الجمل التي "ليس لها محل" من الإعراب إذا عطفت عليها أخرى شركت المعطوفة في موقعها إن خبرا فخبر وإن جزاء فجزاء هذا ما يعطيه السياق ولم يظهر لي الاحتياج إلى هذا لاندراجه فيما تقدم ثم فائدة التقييد المذكور وهو من الملحقات "كإن دخلت فأنت طالق وعبدي حر فيتعلق" عبدي حر بدخول الدار لكونه معطوفا على أنت طالق جزاء لإن دخلت "إلا بصارف" عن تعلقه به نحو إن دخلت فأنت طالق "وضرتك طالق" فإن إظهار خبرها صارف عن تعلقها به إذ لو أريد عطفها على الجزاء اقتصر على مبتدئها وإذ صرفت عن عطفها على الجزاء "فعلى الشرطية" أي فهي معطوفة على الجملة الشرطية برمتها "فيتنجز" طلاقها لأنه غير معلق "ومنه" أي ومما اشتمل على الصارف عن تعلقها بما(3/110)
تعلقت به المعطوف عليها قوله تعالى "{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] بعد {وَلا تَقْبَلُوا} بناء على الأوجه من عدم عطف الإخبار على الإنشاء" فإنه لازم على تقدير العطف على ولا تقبلوا أو فاجلدوا "ومفارقة الأوليين" أي جملة فاجلدوا وجملة لا تقبلوا لهذه الجملة "بعدم مخاطبة الأئمة" بمضمونها بخلافهما "مع الأنسبية من إيقاع الجزاء على الفاعل أعني اللسان كاليد في القطع" فإن رد الشهادة حد في اللسان الصادر منه(3/111)
ص -56-…جريمة القذف كقطع اليد في السرقة إلا أنه ضم إليه الإيلام الحسي لكمال الزجر وعمومه جميع الناس فإن منهم من لا ينزجر بالإيلام باطنا "وأما اعتبار قيود" الجملة "الأولى فيها" أي في الثانية وبالعكس "فإلى القرائن لا الواو وإن" عطفت جملة "ناقصة وهي المفتقرة في تمامها إلى ما تمت به الأولى" بعينه "وهو عطف المفرد انتسب" المفرد المعطوف "إلى عين ما انتسب إليه الأول بجهته ما أمكن فإن دخلت فطالق وطالق وطالق تعلق" فيه طالق الثاني وطالق الثالث "به" أي بدخلت بعينه "لا بمثله كقولهما" أي أبي يوسف ومحمد "فبتعدد الشروط وعلمت أن لا ضرر عليهما في الاتحاد وما تقدم لهما" في أول بحث الواو من إلحاق إن دخلت فأنت طالق وطالق وطالق بتعدد الشرط في قوله إن دخلت فأنت طالق إن دخلت فأنت طالق إن دخلت فأنت طالق إن دخلت فأنت طالق "تنظير لا استدلال لاستقلال ما سواه" وأنهما لو اعتبراه دليلا لم يضرهما بطلانه إذ يكفيهما ما ذكر مما قدمناه "فتفريع كلما حلفت" بطلاقك "فطالق ثم" قال لها "إن دخلت فطالق وطالق" أنه "على الاتحاد يمين والتعدد يمينان" لتكررها بتكرر الشرط "فتطلق ثنتين" كما هو مذكور في شرح البديع للشيخ سراج الدين الهندي تفريع "على غير خلافية" فإنه غير لازم أن يكونا قائلين بالتعدد كما تقدم "بل" المراد "لو فرض" خلاف بينه وبينهما في ذلك "كان" التعدد "كذا" أي يمينين "والنقض" لهذا "بهذه طالق ثلاثا وهذه إذ طلقتا ثلاثا لاثنتين بانقسام الثلاث عليهما" بأن تجعل مشاركة للأولى فيها "دفع بظهور القصد إلى إيقاع الثلاث" بالتنصيص عليها ليسد على نفسه باب التدارك وبالانقسام بفوت هذا الغرض "والمناقشة فيه" أي في القصد إلى ذلك بأنه لو كان كذلك لم يعطف الثانية عليها "احتمال لا يدفع الظهور" أي ظهور القصد ثم شرع في بيان قسيم قوله إن انتسب إلى آخره بقوله "وفيما لا يمكن" انتساب العين "يقدر المثل" كي لا يلغو وإن كان الإضمار خلاف الأصل(3/112)
فإن ارتكابه بالقرينة وهي دلالة العطف أولى من إلغاء الكلام "كجاء زيد وعمرو بناء على اعتبار شخص المجيء" لاستحالة تصور الاشتراك في مجيء واحد لأن العرض الواحد لا يقوم بمحلين "وإن كان العامل ينصب عليهما معا لأن هذا تقدير حقيقة المعنى وعنه" أي عن اعتبار تعلق المعطوف بعين المعطوف عليه في المفرد أن "في قوله لفلان علي ألف ولفلان انقسمت عليهما" فيكون لكل خمسمائة تحقيقا للشركة "ونقل عن بعضهم أن عطفها" أي الواو الجملة "المستقلة" على غيرها "تشرك في الحكم وبه انتفت الزكاة في مال الصبي كالصلاة من {أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}" بناء على أنه يجب أن يكون المخاطب بأحدهما غير المخاطب بالآخر ولما لم يكن الصبي مخاطبا بأقيموا الصلاة لم يكن مخاطبا بآتوا الزكاة "ودفع" بأن الصبي "خص من الأول" أي أقيموا الصلاة "بالعقل لأنها" أي الصلاة عبادة "بدنية" وهي موضوعة عن الصبي "بخلاف الزكاة" فإنها عبادة مالية محضة "تتأدى بالنائب فلا موجب لتخصيصه" أي الصبي منها.
"تتمة: تستعار" الواو "للحال" أي لربط الجملة الحالية بذيها لأن المعنى الحقيقي لها مطلق الجمع والجمع الذي لا بد منه بين الحال وذيها من محتملاته فإذا استعملت فيه بعينه(3/113)
ص -57-…كانت مجازا فيه "بمصحح الجمع" بينهما "على ما فيه" لأن ما مضى من أن الاسم الأعم في الأخص حقيقة ينفيه "بل هو من ما صدقاته والعطف أكثر فيلزم إلا بما لا مرد له" فلا يلزم حينئذ "فإن أمكنا" أي العطف والحال "رده" أي الحال "القاضي" لأنه خلاف الظاهر وفيه تخفيف عليه وحكم بالعطف لأنه الظاهر "وصح نيته" أي الحال "ديانة" للاحتمال فقول المولى لعبده "فأد" إلي ألفا "وأنت حر" والإمام للحربي "وانزل وأنت آمن تعذر" العطف "لكمال الانقطاع" لأن الأولى فعلية إنشائية والثانية اسمية خبرية فانتفى الاتصال الذي لا بد منه بينهما في العطف "وللفهم" أي لعدم العطف فإن المفهوم تعلق الحرية والأمان بالأداء والنزول لا مجرد الإخبار بهما "فللحال على القلب أي كن حرا وأنت مؤد" وكن آمنا وأنت نازل أي أنت حر في حالة الأداء وآمن في حالة النزول والقلب سائغ في الكلام وإنما قلنا يحمل على هذا "لأن الشرط الأداء والنزول" لا الحرية والأمان فإن المتكلم إنما يتمكن من تعليق ما يتمكن من تنجيزه وهو لا يتمكن من تنجيز الأداء والنزول فلا يتمكن من تعليقهما وهو متمكن من التحرير والأمان تنجيزا فكذا تعليقا فكانا مشروطين خصيتيه شرطين "وقيل على الأصل" في الحال من وجوب مقارنة حصول مضمونها لحصول مضمون العامل "فيفيد ثبوت الحرية مقارنا لمضمون العامل وهو" أي مضمونه "التأدية وبه" أي بهذا القدر "يحصل المقصود" من هذا الكلام فانتفى ما قيل من أنه يلزم الحرية والأمان قبل الأداء والنزول لوجوب تقدم مضمون الحال على العامل لكونها قيدا له وشرطا للقطع بأنه لا دلالة لائتني وأنت راكب إلا على كونه راكبا حالة الإتيان لا غير "ومقابله" أي تعذر العطف وهو عدم تعذره مع تعذر الحال وقول رب المال للمضارب: "خذه" أي هذا النقد "واعمل في البز" وهو متاع البيت من الثياب خاصة وقال محمد: هو في عرف أهل الكوفة ثياب الكتان والقطن دون الصوف والخز "تعين العطف للإنشائية"(3/114)
فيهما "ولأن الأخذ ليس حال العمل" أي لا يقارنه في الوجود بل العمل بعد الأخذ فلا تكون للحال وإن نوى "فلا تتقيد المضاربة به" أي بالعمل في البز بل تكون مشورة "وفي أنت طالق وأنت مريضة أو مصلية يحتملهما" أي العطف والحال "إذ لا مانع" من كل "ولا معين" له لوجود التناسب بين الجملتين المصحح للعطف ولقبول الطلاق التعليق بهما "فتنجز" الطلاق "قضاء" لأنه الظاهر وخصوصا وحالة المرض والصلاة مظنة الشفقة والإكرام والأصل في التصرفات التنجيز والتعلق بعارض الشرط فلا يثبت بمجرد الاحتمال "وتعلق" بالمرض والصلاة "ديانة إن أراده" أي التعليق بهما لإمكانه وإنما لم يصدق قضاء لأنه خلاف الظاهر وفيه تخفيف عليه "واختلف فيها" أي الواو "من طلقني ولك ألف فعندهما للحال" فيجب له عليها الألف إذا طلقها "للتعذر" أي تعذر العطف "بالانقطاع" لأن الأولى فعلية إنشائية والثانية اسمية خبرية "وفهم المعاوضة" فإن ظاهر هذا قصد الخلع به وهو معاوضة من جانبها ولذا صح رجوعها قبل إيقاعه فكأنها قالت: طلقني في حال يكون لك علي ألف عوضا عن الطلاق الموجب لسلامة نفسي لي فإذا قال الزوج: طلقت فكأنه قال: طلقت بهذا الشرط أي إن قبلت الألف وقد ثبت قبولها بدلالة قولها فيجب عليها "أو" لأن الواو هنا(3/115)
ص -58-…"مستعارة للإلصاق" الذي هو معنى الباء بدلالة المعاوضة لما ذكرنا والمناسب للمعاوضة الباء لا الواو لأنه لا يعطف أحد العوضين على الآخر فصار كأنها قالت: طلقني بألف وإنما استعيرت للإلصاق "للجمع" أي للتناسب بينهما في الجمع فإن كلا منهما يدل على الجمع "وعنده" الواو "للعطف تقديما للحقيقة فلا شيء لها" إذا طلقها "وصارف المعاوضة غير لازم فيه" أي في الطلاق "بل عارض" لندرة عروض التزام المال في الطلاق وغلبة وجود الطلاق بدونه لعدم احتياجه إليه لأن البضع غير متقوم حالة الخروج والعارض لا يعارض الأصلي "ولذا" أي ولعروضه "لزم في جانبه" أي الزوج فصار يمينا "فلا يملك الرجوع قبل قبولها بخلاف الإجارة احمله ولك درهم" فإن ظاهره قصد المعاوضة لأنها فيها أصلية لأن الإجارة بيع المنافع بعوض فتحمل الواو بدلالة المعاوضة على الباء فكأنه قال: احمله بدرهم "والأوجه" في طلقني ولك ألف "الاستئناف" لقولها ولك ألف "عدة" منها له والمواعيد لا تلزم "أو غيره" أي أو غير وعد بأن تريد ولك ألف في بيتك ونحوه "للانقطاع" بهما ما ذكرا "فلم يلزم الحال لجواز مجازي آخر ترجح بالأصل براءة الذمة وعدم إلزام المال بلا معين" لإلزامه وفي بعض هذا ما فيه والله سبحانه أعلم.
مسألة(3/116)
"الفاء للترتيب بلا مهلة فدخلت في الأجزية" لتعقبها الشروط بلا مهلة "فبانت غير الملموسة" أي غير المدخول بها "بوا حدة في طالق فطالق" لانتفاء كونها محلا للثانية "و" دخلت في "المعلولات" لأن المعلول يتعقب علته بلا تراخ "كجاء الشتاء فتأهب على التجوز بجاء عن قرب فإن قربه علة التأهب له وقوله صلى الله عليه وسلم" "لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" رواه مسلم "لأن العتق معلول معلوله" أي الشراء وهو الملك فإن الملك معلول الشراء والعتق معلول ملك الولد فصحت إضافة العتق إلى الشراء بهذا الاعتبار "فيعتق بسبب شرائه فليس" هذا الحديث "من اتحاد العلة والمعلول في الوجود ولا نحو سقاه فأرواه" منه أيضا كما ذكره صدر الشريعة لأن الإرواء غرضه لا فعله "فلذلك" أي لكونها للترتيب على سبيل التعقب "تضمن القبول" للبيع "قوله فهو حر جواب بعتكه بألف" حتى صح عتقه لأن ترتب العتق على ما قبله لا يمكن إلا بعد ثبوت الملك له بالقبول فيثبت اقتضاء وصار كأنه قال قبلت فهو حر "لا هو حر بل هو رد للإيجاب" وإنكار على الموجب بالإخبار عن حريته الثانية قبل الإيجاب حتى كأنه قال: أتبيعه وهو حر أو هو حر فكيف تبيعه "وضمن الخياط" ثوبا "قال له" مالكه "أيكفيني" قميصا "قال: نعم قال: فاقطعه فقطعه فلم يكفه" لأنه كان كفاني قميصا فاقطعه ولو قاله فقطع فلم يكفه ضمن فكذا هذا "لا في اقطعه فلم يكفه" إذا قطعه فلم يكفه لوجود الإذن مطلقا "وتدخل" الفاء "العلل" وإن كان "خلاف الأصل" لأن تعقب العلة حكمها مستحيل دخولا "كثيرا لدوامها" أي لكون تلك العلة موجودة بعد وجود المعلول "فتتأخر" العلة عن المعلول "في البقاء" فتدخل الفاء عليها نظرا إلى هذا المعنى "أو باعتبار أنها" أي العلة علة في الذهن للمعلول "معلولة في الخارج للمعلول ومن الأول" أي(3/117)
ص -59-…دخولها على العلة المتأخرة في البقاء "لا الثاني" أي لا من دخولها على المعلولة في الخارج ما يقال لمن هو في شدة "أبشر" أي صر ذا فرح وسرور فهو هنا لازم وإن كان قد يكون متعديا "فقد أتاك الغوث" أي المغيث فإنه باق بعد الإبشار كذا قالوا وفيه تأمل "ومنه" أي دخولها على العلة المتأخرة في البقاء أيضا "أد" إلي ألفا "فأنت حر" لأن العتق يمتد فأشبه المتراخي عن الحكم وهو الأداء "وانزل فأنت آمن" لأن الأمان يمتد فأشبه المتراخي عن الحكم وهو النزول "وتعذر القلب" وهو كونه داخلا على المعلول وهو الأداء والنزول "لأنه" أي القلب "بكونه جواب الأمر وجوابه" أي الأمر "يخص المضارع" لأن الأمر إنما يستحق الجواب بتقدير أن وهي إن كانت تجعل كلا من الماضي والجملة الاسمية بمعنى المستقبل فإنما ذاك إذا كانت ملفوظة كما في إن تأتني أكرمتك أو فأنت مكرم لا إذا كانت مقدرة فلا يجوز ائتني أكرمتك أو فأنت مكرم "فيعتق" في الحال أدى أو لم يؤد لأن المعنى لأنك حر "ويثبت الأمان في الحال" نزل أو لم ينزل لأن المعنى لأنك آمن "ومن الثاني" أي دخولها على العلة المعلول في الخارج ما أخرج النسائي في حق الشهداء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "زملوهم" الحديث أي بدمائهم "فإنه ليس كلم يكلم في سبيل الله إلا يأتي يوم القيامة يدمى لونه لون الدم وريحه ريح المسك" فإن الإتيان على هذه الكيفية يوم القيامة علة تزميلهم أي تكسيتهم بدمائهم وهو معلول التزميل في الخارج "واختلفوا في عطفها" أي الفاء "لطلقات معلقة" في غير المدخول بها بأن قال: إن دخلت فأنت طالق فطالق فطالق كما ذكره الإسبيجابي وغيره "قيل كالواو" أي هو على الخلاف فعنده تبين بواحدة ويسقط ما بعدها وعندهما يقع الثلاث قاله الطحاوي والكرخي "والأصح الاتفاق على الواحدة للتعقيب" فصارت كثم وبعد وممن اختاره الفقيه أبو الليث "وتستعار" الفاء "لمعنى الواو في له علي درهم فدرهم" إذ الترتيب في(3/118)
الأعيان لا يتصور فلا يقال زيد في الدار فعمرو فبكر لأن المجتمعين في الدار لا ترتيب فيهم حال الاجتماع قيل ويكون من إطلاق اسم الكل على الجزء لأن مفهوم الواو جزء مفهوم الفاء ثم قد سمعت هذه الاستعارة قال:
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
لأن البينية من الأعراض التي لا تقوم إلا بشيئين كالشركة والخصومة وقيل: بل هي على حقيقتها من الترتيب وهو مصروف إلى الوجوب بأن يراد وجوب هذا أسبق من وجوب ذاك لا إلى الواجب وأيا ما كان "يلزمه اثنان" وهو أولى مما عن الشافعي يلزمه درهم لأن معنى الترتيب لغو فيحمل على جملة مبتدأة لتحقيق الدرهم الأول وتأكيده ويضمر المبتدأ أي فهو درهم لأن الإضمار لتصحيح ما نص عليه لا لإلغائه.
مسألة
"ثم لتراخي مدخولها عما قبله" حال كون مدخولها "مفردا والاتفاق على وقوع الثلاث على المدخولة في طالق ثم طالق ثم طالق في الحال بلا زمان" متراخ بينهما "لاستعارتها(3/119)
ص -60-…لمعنى الفاء وتنجيزه" أي أبي حنيفة "في غيرها" أي المدخولة "واحدة وإلغاء ما بعدها في طالق ثم طالق ثم طالق إن دخلت وفي المدخولة تنجزا" أي الأولان وحق العبارة وفي المدخولة إلا الأوليين بدل تنجزا "وتعلق الثالث" هذا إن كان آخر الشرط "وإن قدم الشرط تعلق الأول ووقع ما بعده في المدخولة وفي غيرها" أي المدخولة "تعلق الأول وتنجز الثاني فيقع الأول عند الشرط بعد التزوج الثاني" لأن زوال الملك لا يبطل اليمين "ولغا الثالث" لعدم المحل ثم تنجيزه مبتدأ خبره "لاعتباره" أي أبي حنيفة التراخي "في التكلم فكأنه سكت بين الأول وما يليه وحقيقته" أي السكوت "قاطعة للتعلق" بالشرط فكذا ما في معناه "كما لو قال لها" أي غير المدخولة "بلا أداة: إن دخلت فأنت طالق طالق طالق ذكره الطحاوي" وهذا تشبيه في الحكم لا في الوجه ووجهه أن طالق الأولى تعلقت بالشرط وطالق الثانية وقعت منجزة بتقدير أنت ولغت الثالثة لإبانتها لا إلى عدة "وعلقاها" أي أبو يوسف ومحمد الثلاث بالشرط "فيهما" أي في تقدم الشرط وتأخره "فيقع عند الشرط في غيرها" أي المدخولة "واحدة" وهي الأولى "للترتيب" ويلغو الباقي لانتفاء المحلية بالبينونة لا إلى عدة "وفيها" أي المدخولة يقع "الكل مرتبا لأن التراخي في ثبوت حكم ما قبلها لما بعدها لا في التكلم واعتباره" أي أبي حنيفة التراخي في التكلم حتى كأنه "سكت" اعتبار لخلاف الظاهر "بلا موجب وما خيل دليلا" على ذلك "من ثبوت تراخي حكم الإنشاءات عنها" أي الإنشاءات على تقدير التراخي في الحكم لا في التكلم بها "وهي" أي الأحكام "لا تتأخر" عن الإنشاءات "فلزم الحكم على اللغة بهذا الاعتبار" وهو التراخي في التكلم كما ذكر هذا التوجيه صدر الشريعة "ممنوع الملازمة" إذ لا يلزم من ذلك كذلك شرعا أن يكون كذلك لغة "ولو اكتفى باعتباره" أي التراخي بمعنى السكوت "شرعا" في الإنشاء "ففي محل تراخي حكمه" أي الإنشاء لا غير "وهو" أي محل تراخيه(3/120)
"في الإضافة والتعليق دون عطفه بثم" فلا يتم المرام "لأنه" أي العطف "النزاع" أي محله "على أنا نمنعه" أي تراخي الحكم "فيهما" أي الإضافة والتعليق "أيضا بمعنى اعتبار السكوت وما قيل" أي وما قاله غير واحد في توجيه قوله أيضا "هي" أي ثم "للتراخي فوجب كماله" إذ المطلق ينصرف إلى الكامل "وهو" أي كماله "باعتباره" أي التراخي بمعنى السكوت "ممنوع" المقدمة "الثانية" أي كماله باعتباره "إذ المفهوم ليس غير حكم اللفظ في الإنشاء ومعناه" أي اللفظ "في الخبر وهذا" الجواب "يصلح" جوابا "عن الأول أيضا" وهو ما ظن دليلا "وكذا" ثم للتراخي أيضا "في الجمل وموهم خلافه" أي التراخي فيها نحو قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] وقوله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ. ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا } [البلد: 11-17] فإن الاهتداء ليس بمسبوق بالإيمان والعمل الصالح بدون الإيمان غير معتد به إذ الإيمان مقوم كل عبادة وأصل كل طاعة "تؤول بترتب الاستمرار" أي ثم استمر على الهدى ثم استمر على الإيمان وصاحب الكشاف فيه على أنها في الآية الأولى دالة على تباين المنزلتين دلالتها على تباين الوقتين في جاء زيد ثم عمرو، أعني أن منزلة الاستقامة على(3/121)
ص -61-…الخير مباينة لمنزلة الخير نفسه لأنها أعلى منها وأفضل. ا هـ. والصبر عليها أبلغ وأكمل ومن ثمة قيل:
لكل إلى نيل العلى حركات…ولكن عزيز في الرجال ثبات
وفي الآية الثانية لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت لأن الإيمان هو السابق المقدم على غيره ولا يثبت عمل صالح إلا به ومشى غير واحد على أنها في الآية الثانية بمعنى الواو.
مسألة
"تستعار" ثم "لمعنى الواو" قالوا: للمجاورة التي بينهما إذ كل منهما للجمع بين المعطوف والمعطوف عليه وفيه نظر وذلك نحو قوله تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس:46] أي والله لأنه لا يمكن حقيقته لأنها تؤدي إلى أن يكون شهيدا بعد إن لم يكن وهو ممتنع لأنه تعالى ليس بمحل للحوادث "إن لم يكن مجازا عن معاقب في مقام التهديد" أي ثم الله معاقب لهم على ما يفعلون أو مرادا به أنه تعالى مؤد شهاداته على أفعالهم يوم القيامة حين تنطق جلودهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بذلك فتكون ثم على معناها الحقيقي "ففي" قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت بالذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه" أخرجه السرقسطي في الدلائل "حقيقة ومجاز عن الجمع" الذي هو معنى الواو "في فليكفر ثم ليأت" ولم أقف عليه مخرجا وإنما الذي وقفت عليه مخرجا ما روى أبو داود والنسائي "إذا حلفت على يمين فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير" وبه يحصل المقصود أيضا "وإلا" لو لم يحمل ثم على الواو في هذا "كان الأمر للإباحة" إذ لا قائل بوجوب التكفير قبل الحنث "والمطلق" أي التكفير "للمقيد" أي ما سوى الصوم منه من الأطعام والكسوة والتحرير "فيتحقق مجازان" كون الأمر للإباحة والمطلق للمقيد من غير ضرورة "وعلى قولنا" مجاز "واحد" وهو كون ثم بمعنى الواو ضرورة الجمع بين(3/122)
الروايتين ولا شك في أولويته.
مسألة
"بل قبل مفرد للإضراب فبعد الأمر كاضرب زيدا بل بكرا والإثبات قام زيد بل بكر لإثباته" أي الحكم الذي قبلها "لما بعدها" وهو بكر في هذين المثالين "وجعل الأول" وهو زيد فيهما "كالمسكوت فهو" أي الأول "على الاحتمال" أي يحتمل أن يكون مطلوبا وأن يكون غير مطلوب في المثال الأول مخبرا بقيامه وغير مخبر به في المثال الثاني هذا إذا لم يذكر مع لا "ومع لا" نحو جاء زيد لا بل عمرو "ينص على نفيه" أي الأول فيفيد عدم مجيء زيد قطعا "وهو" أي بل "في كلام غيره تعالى تدارك أي كون الإخبار الأول أولى منه" أي الأول "الثاني فيعرض عنه" أي الأول "إليه" أي الثاني "لا إبطاله" أي الأول وإثبات الثاني تداركا لما وقع أولا من الغلط "كما قيل: ويعد النهي" كلا تضرب زيدا بل عمرا "والنفي" كـ"ما" قام زيد بل(3/123)
ص -62-…عمرو "لإثبات ضده" أي حكم الأول لما بعدها "وتقرير الأول" ففي الأول قررت النهي عن ضرب زيد وأثبت الأمر بضرب عمرو وفي الثاني قررت نفي القيام لزيد وأثبته لعمرو "وعبد القاهر" الجرجاني كما هو ظاهر كلام صاحب الكشف أو ابن عبد الوارث ابن أخت الفارسي كما ذكره غير واحد من النحويين ولعله عن كليهما وفاقا للمبرد على أنها كذلك لكن "يحتمل نقل النهي والنفي إليه" أي الثاني قال ابن مالك: وهو مخالف لاستعمال العرب "فقول زفر يلزمه ثلاثة في له درهم بل درهمان لا يتوقف على إفادة إبطال الأول وإن قيل به" أي بإبطاله كما تقدم "بل يكفي" في لزوم الثلاثة "كونه" أي المقر أعرض عن الإقرار بدرهم "كالساكت عنه" أي الإقرار به "بعد إقراره في رده" أي كالملفوظ في بل له درهمان "كالإنشاء" نحو قوله للمدخول بها أنت "طالق واحدة بل ثنتين يقع ثلاث وفي غير المدخولة واحدة لفوات المحل بخلاف تعليقه" كذلك في غير المدخولة "بقوله إن دخلت فطالق واحدة بل ثنتين يقع عند الشرط ثلاث لأنه" أي كالملفوظ "كتقدير شرط آخر" مماثل للمذكور حتى يكون بمنزلة التصريح بتكرير الشرط مثل إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة إن دخلت الدار فأنت طالق ثنتين ومعلوم أن في هذا يقع الثلاث بالدخول مرة واحدة فكذا في ذاك "لا حقيقته" أي الشرط كما مشى عليه صدر الشريعة "إذ لا موجب" لاعتبار شرط آخر "وتحميل فخر الإسلام ذلك غير لازم بل تشبيه للعجز عن إبطال" الطلاق "الأول" المعلق بالشرط "فلا يتوسط" الأول لتعليق الثاني بذلك الشرط "بخلافه" أي هذا بالعطف "بالواو عنده" أي أبي حنيفة إذا عطف على الجزاء بالواو ولا بأس بذكر لفظه ليعلم ظهور ذلك منه قال: لما كان معنى بل لإبطال الأول وإقامة الثاني مقامه كان من قضيته اتصاله بذلك الشرط بلا واسطة لكن بشرط إبطال الأول وليس في وسعه إبطال الأول ولكن في وسعه إفراد الثاني بالشرط ليتصل به بغير واسطة كأنه قال: لا بل أنت طالق ثنتين إن دخلت(3/124)
الدار فيصير كالحلف بيمينين وهذا بخلاف العطف بالواو عند أبي حنيفة لو قال: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق واحدة وثنتين ولم يدخل بها أنها تبين بالواحدة لأن الواو للعطف على تقدير الأولى فيصير معطوفا على سبيل المشاركة فيصير متصلا بذلك بواسطة ولا يصير منفردا بشرطه لأن حقيقة المشاركة في اتحاد الشرط فيصير الثاني متصلا به بواسطة الأول فقد جاء الترتيب ا هـ قال المصنف رحمه الله تعالى: وبقليل تأمل يظهر أن ليس بلازم من كلامه هذا تقدير شرط آخر ألبتة بل يصح أن يراد بالأول المبطل مجرد المعطوف عليه وقوله وقضيته اتصاله بذلك الشرط بلا واسطة إلخ ظاهر في هذا وقوله بعد ذلك كالحلف بيمينين تشبيه يعني كما لا يتعلق بواسطة الأول في اليمينين كذلك في العطف ببل في اليمين الواحدة وحاصله أنه علق واحدا ثم أراد أن يبطل تعليقه بقيد الوحدة إلى تعليقه مع آخر وليس في وسعه ذلك فلزم اتصال الاثنين معه بذلك الشرط فيقع الثلاث ثم يقول "وقلنا" في جواب زفر كالملفوظ "يحصل بالإعراض عن الدرهم إلى درهمين بإضافة" درهم "آخر إليه" أي إلى الأول "فلم يبطل الإقرار ولم يلزمه ثلاثة وأما قبل الجملة فللإضراب عما قبله" أي بل "بإبطاله" كقوله تعالى {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ(3/125)
ص -63-…مُكْرَمُونَ} [الانبياء:26] أي بل هم" عباد مكرمون وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} [المؤمنون: 70] أما في كلامه تعالى فللإفاضة في غرض آخر" من غير إبطال نحو قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى. بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى: 14-16] وقوله {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} [المؤمنون: 62- 63] وادعاء حصر القرآن عليه" أي على أنها للانتقال من غرض إلى آخر كما زعمه ابن مالك في شرح الكافية "منع بالأول" أي بقوله {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الانبياء: 26] {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} [المؤمنون: 70] وتوجيهه بأن كلامه تعالى منزه عن أن يبطل منه شيء هو كذلك لكن الإبطال ليس لكلامه تعالى بل لقول الكفرة الذين حكى الله قصتهم وقوله "لا عاطفة" عطف على فللإضراب أي بل قبل الجملة سواء كانت للإضراب أو للانتقال حرف ابتداء كما مشى عليه صاحب رصف المباني وغيره ونص ابن هشام على أنه الصحيح لأنك لما أضربت صار المضروب عنه كأنه لم يذكر وصارت هي أول الكلام وكان ما بعدها كلاما مفيدا مستقلا بنفسه منقطع التعلق عما قبله لا أنها عاطفة للجملة بعدها على ما قبلها كما هو ظاهر كلام ابن مالك وصرح به ابنه والله تعالى أعلم.
مسألة(3/126)
"لكن للاستدراك" حال كونها "خفيفة" من الثقيلة وعاطفة "وثقيلة وفسر" الاستدراك "بمخالفة حكم ما بعدها لما قبلها" أي لحكمه "فقط" حال كونه "ضدا" نحو ما زيد أبيض لكن عمرو أسود "أو نقيضا" نحو ما زيد ساكنا لكن عمرو متحرك "واختلف في الخلاف ما زيد قائم" على لغة تميم "لكن" عمرو "شارب" ذكر معنى هذا ابن هشام "وقيل" الاستدراك ما تقدم "بقيد رفع توهم تحققه" أي ما قبلها هذا ما يعطيه السوق والذي ذكره ابن هشام نقلا عن جماعة منهم صاحب البسيط من النحاة أنهم فسروا الاستدراك برفع ما توهم ثبوته وفي التلويح وفسره المحققون برفع التوهم الناشئ من الكلام السابق مثل ما جاءني زيد لكن عمرو إذا توهم المخاطب عدم مجيء مرة أيضا بناء على مخالطة وملابسة بينهما "كليس بشجاع لكن كريم" لأن الشجاعة والكرم لا يكادان يفترقان فنفي أحدهما يوهم انتفاء الآخر "وما قام زيد لكن بكر للمتلابسين وإذا ولي الخفيفة فحرف ابتداء واختلفا" أي ما قبلها وما بعدها "كيفا ولو معنى كسافر زيد لكن عمرو حاضر أو" وليها "مفرد فعاطفة وشرطه" أي عطفها "تقدم نفي" نحو ما قام زيد لكن عمرو "أو نهي" نحو لا يقم زيد لكن عمرو "ولو ثبت" ما قبلها "كمل ما بعدها كقام زيد لكن عمرو لم يقم ولا شك في تأكيدها" أي لكن لمضمون ما قبلها "في نحو لو جاء أكرمته لكنه لم يجئ" لدلالة لو على انتفاء الثاني لانتفاء الأول "ولم يخصوا" أي الأصوليون "المثل بالعاطفة إذ لا فرق" بينهما وبين المشددة والمخففة منها في المعنى الذي هو الاستدراك فلا يعترض بالتمثيل بغير العاطفة من حيث إن البحث إنما هو في العاطفة "وفرقهم" أي جماعة من مشايخنا "بينها" أي لكن "وبين بل بأن بل توجب نفي الأول وإثبات الثاني بخلاف لكن" فإنها توجب إثبات الثاني فأما نفي الأول فإنما يثبت بدليله وهو(3/127)
ص -64-…النفي الموجود في صدر الكلام "مبني على أنه" أي إيجابها نفي الأول وإثبات الثاني هو "كالملفوظ" كما هو قول بعضهم "لا جعله" أي لا أن كالملفوظ جعل الأول "كالمسكوت" كما هو قول المحققين "وعلى المحققين يفرق بإفادتها" أي بل "معنى السكوت عنه" أي الأول "بخلاف لكن" قلت وفيه نظر فإن لكن حيث كانت لإثبات ما بعدها فقط فما قبلها في حكم المسكوت عنه أيضا بل الفرق بينهما على قول المحققين أن بل للإضراب عن الأول مطلقا نفيا كان أو إثباتا فلا يشترط اختلافهما بالإيجاب والسلب بخلاف لكن فإنه يشترط في عطف المفردين بها كون الأول منفيا والثاني مثبتا وفي عطف الجملتين اختلافهما في النفي والإثبات كما تقدم "وعلمت عدم اختلاف الفروع على هذا التقدير" أي جعل الأول كالمسكوت عنه حتى لزم قائل له على درهم بل درهمان ثلاثة عند زفر على هذا التقدير كما على ذلك التقدير "وقول المقر له بعين" بأن قال من هو بيده هذا لفلان ومقول قول المقر له "ما كان لي قط لكن لفلان موصولا يحتمل رد الإقرار" وتكذيبه له فيه كما هو صريح نفي ملكه عنه "فلا يثبت" أي العين "له" أي للمقر له لانفراده بذلك "والتحويل" أي ويحتمل تحويل العبد عن ملكه إلى فلان ونقله إليه أعني "قبوله" أي كون العبد له "ثم الإقرار به" أي بالعبد لفلان لا تكذيبا للمقر وردا لإقراره "فاعتبر" هذا الاحتمال "صونا" لإقراره عن الإلغاء "والنفي مجاز أي لم يستمر" ملك هذا لي "فانتقل إليه" أي إلى فلان "أو حقيقة أي اشتهر لي وهو له فهو" أي لكن لفلان "تغيير للظاهر فصح موصولا فيثبت النفي مع الإثبات" لا متراخيا عنه كي لا يصير النفي ردا للإقرار حينئذ وإنما صح موصولا "للتوقف" لأول الكلام على آخره كما في غيره من النفي والإثبات "للمغير" للحكم فيه عن كونه نفيا مطلقا ولم يصح مفصولا لأن النفي يكون حينئذ مطلقا فيكون ردا للإقرار وتكذيبا للمقر حملا للكلام على الظاهر ويكون لكن لفلان بعد ذلك شهادة(3/128)
بالملك للمقر له الثاني على المقر الأول وبشهادة المقر لا يثبت الملك فتبقى العين ملكا للمقر الأول "ومنه" أي من هذا القبيل "ادعى دارا على جاحد ببينة فقضي" له بها "فقال" الجاحد "ما كانت لي لكن لزيد موصولا فقال" زيد: "كأن" المدعى به أو المقر به الذي هو الدار "له" أي للجاحد "فباعنيه بعد القضاء" أو وهبنيه فأفاد بلكن تكذيبه في أنها لم تكن له وتصديقه في الإقرار بها له "فهي" أي الدار "لزيد لثبوته" أي الإقرار "مقارنا للنفي للوصل" للاستدراك بالنفي "والتوقف" لأول الكلام على آخره لوجود المغير فيه وإنما احتيج إلى إثباتهما معا لأنه لو حكم بالنفي أولا ينتقض القضاء ويصير الملك للمقضي عليه فالاستدراك يكون إقرارا على الغير وإخبارا بأن ملكه للغير فلا يصح ثم على المقضي له وهو المقر قيمتها للمقضي عليه فهذا حكم المسألة قال المصنف: "وتكذيب شهوده" أي المقضي له "وإثبات ملك المقضي عليه" لزيد "حكمه" أي مجموع هذا الكلام "فتأخر" هذا الحكم "عنه فقد أتلفها على المقضي عليه بالإقرار لزيد على ذلك الوجه فعليه قيمتها" توجيه ذلك وحاصله أنه لما وجب مقارنة النفي عن نفسه في جميع الأزمنة الماضية للإثبات للمقر له لم يمتنع ثبوت الإقرار فيثبت للمقر له ثم هذا النفي المقارن يوجب ثبوت الملك فيها للمقضي عليه فهو(3/129)
ص -65-…لازم للنفي ولازم الشيء بمعنى حكمه متأخر له والمتأخر عن المقارن للشيء متأخر عن ذلك الشيء فقد اعترف أنها للمقضي عليه بعد ما أتلفها عليه بالإقرار لزيد فيلزمه قيمتها له ا هـ. وحينئذ كما في التلويح لا حاجة إلى ما يقال من أن النهي هنا لتأكيد الإثبات عرفا فيكون له حكم المؤكد لا حكم نفسه فكأنه أقر وسكت أو أنه في حكم المتأخر لأن التأكيد يتأخر عن المؤكد أو أن المقر قصد تصحيح إقراره وذلك بالتقديم والتأخير فيحمل عليه احترازا عن الإلغاء ا هـ وهذه التوجيهات الثلاثة في الكشف "ولو صدقه" أي المقر له "فيه" أي في النفي أيضا "ردت" الدار "للمقضي عليه لاتفاق الخصمين على بطلان الحكم ببطلان الدعوى والبينة وشرط عطفها" أي لكن "الاتساق عدم اتحاد محل النفي والإثبات" ليمكن الجمع بينهما واتصال بعضه ببعض ليتحقق العطف "وهو" أي الاتساق "الأصل فيحمل" العطف "عليه" أي الاتساق "ما أمكن فلذا" أي فلوجوب الحمل عليه ما أمكن "صح" قول المقر له متصلا "لا لكن غصب جواب" قول المقر "له علي مائة قرضا لصرف النفي إلى السبب" أي لإمكان صرف لا إلى كونه قرضا ثم إنه تداركه بكونه غصبا فصار الكلام مرتبطا فلا يكون ردا لإقراره بل نفيا لذلك السبب الخطأ فيه فلا يصرف إلى الواجب الموجب لعدم استقامة الاستدراك وعدم اتساق الكلام وارتباط بعضه ببعض "بخلاف من بلغه تزويج أمته بمائة" فضولا "فقال: لا أجيز النكاح ولكن" أجيزه "بمائتين" فإنه لا يمكن حمله على الاتساق لأن اتساقه أن لا يصح النكاح الأول بمائة لكن يصح بمائتين وهو غير ممكن لأنه لما قال: لا أجيز النكاح انفسخ النكاح الأول فلا يمكن إثباته بعينه بمائتين "للاتحاد" أي اتحاد محل النفي والإثبات حينئذ "لنفي أصل النكاح" بقوله لا أجيز النكاح "ثم ابتدائه بقدر آخر بعد الانفساخ" فيحمل لكن أجيزه بمائتين على أنه كلام مستأنف فيكون إجازة لنكاح آخر مهره مائتان "بخلاف لا أجيز" النكاح "بمائة لكن"(3/130)
أجيزه "بمائتين لأن التدارك في قدر المهر لا أصل النكاح" حينئذ فيكون متسقا.
مسألة
"أو قبل مفرد لإفادة أن حكم ما قبلها ظاهر لأحد المذكورين" اسمين كانا أو فعلين "منه" أي مما قبلها "وما بعدها" وسيظهر فائدة قوله ظاهرا "ولذا" أي ولكونها لإفادة هذا "عم" أو "في النفي وشبهه" كالنهي "على الانفراد" لأن انتفاء الواحد المبهم لا يتصور إلا بانتفاء المجموع ففي "لا تطع آثما أو كفورا لا أكلم زيدا أو بكرا منع" المخاطب والحالف "من كل" لأن التقدير لا تطع "واحدا منهما" ولا أكلم واحدا منهما وهو نكرة في سياق النهي والنفي فيعم "لا" أن التقدير لا تطع ولا أكلم "أحدهما ليكون معرفة" فلا يعم "وحينئذ" كان التقدير واحدا منهما "لا يشكل بلا أقرب ذي أو ذي" حيث "يصير موليا منهما" لأنه في معنى واحدة منهما وهي نكرة في سياق النفي فتعمهما "فتبينان" معا عند انقضاء مدة الإيلاء من غير فيء "وفي إحداكما من إحداهما" أي ولا يشكل بصيرورته موليا من إحدى زوجتيه المخاطبتين بلا أقرب إحداكما لا منهما جميعا حتى لو مضت مدة الإيلاء من غير فيء تبين إحداهما لا هما(3/131)
ص -66-…لأن إحداكما معرفة غير عامة "بخلافه" أي العطف "بالواو" كلا أكلم زيدا وعمرا "فإنه" أي الحلف على المتعاطفين بها منع "من الجمع" لأنها موضوعة له فيتعلق بالمجموع "لعموم الاجتماع فلا يحنث بأحدهما إلا بدليل" يدل على أن المراد امتناعه من كل منهما فحينئذ يحنث بأحدهما "كلا يزني ويشرب" الخمر فإنه يحنث بكل منهما للقرينة الحالية الدالة على أن المراد امتناعه من كل منهما وهو حرمته في الشرع "أو يأتي بلا" الزائدة المؤكدة للنفي مثل ما رأيت "لا زيدا ولا بكرا ونحوه" والحاصل أنه إن قامت قرينة في الواو على شمول العدم فذاك وإلا فهو لعدم الشمول وأو بالعكس "وتقييده" أي كون الدليل يدل على أن المراد المجموع "بما إذا كان للاجتماع تأثير في المنع" أي في منع المانع للحالف من تناول المتعاطفين كما إذا حلف لا يتناول السمك واللبن فإن للاجتماع هنا تأثيرا في المنع كما ذكره صدر الشريعة "باطل بنحو لا أكلم زيدا وعمرا وكثير" مما هو لنفي المجموع مع أنه لا تأثير للاجتماع في المنع "والعموم بأو في الإثبات كلا أكلم أحدا إلا زيدا أو بكرا" فيحنث بتكليم من عداهما لا بتكليمهما ولا بتكليم أحدهما "من خارج" وهو الإباحة الحاصلة من الاستثناء من الحظر لأنها إطلاق ورفع قيد "فهي" أي أو "للأحد فيهما" أي النفي والإثبات "فما قيل" أي قول فخر الإسلام وموافقيه أو "تستعار للعموم تساهل" فإن ظاهره أن العموم معنى لها وليس كذلك "بل يثبت" العموم "معها لا بها وليست في الخبر للشك أو التشكيك" كما ذكره القاضي أبو زيد وأبو إسحاق الإسفراييني في جماعة من النحاة وستعلم الفرق بينهما "لا لأن الوضع للإفهام وهو" أي الإفهام "منتف لأنه إن أريد إفهام المعين" أي غير الأحد الدائر كما في جاء زيد "منعنا الحصر" أي لا نسلم أن الوضع لا يكون إلا لإفهام المعين وإلا انتفى الإجمال حينئذ وهو باطل "أو مطلقا" يعني سواء كان مبهما أو معينا "لم يفد" في المطلوب شيئا(3/132)
وهو أن أو ليست للتشكيك أو الشك "بل" إنما لم تكن للشك أو التشكيك "لأن المتبادر أولا إفادة النسبة إلى أحدهما" أي أحد المذكورين فيفهم السامع من جاء زيد أو عمرو نسبة المجيء إلى أحدهما غير عين "ثم ينتقل" الذهن بعد ذلك "إلى كون سبب الإبهام أحدهما" أي الشك إن لم يكن المتكلم عالما وقت الحكم بمجيء أحدهما عينا أو التشكيك إن كان عالما بذلك عينا وإنما أراد أن يلبس على السامع "فهو" أي الشك أو التشكيك الناشئ عن المتكلم إنما هو مدلول "التزامي عادي" للكلام "لا عقلي" قال المصنف: إذ لا يمكن انفكاكهما بأن يستفيد السامع نسبة المجيء إلى أحدهما مبهما من غير أن ينتقل ذهنه إلى سبب الإبهام وهذا معنى قوله "لإمكان عدم إخطاره" فالمصنف مساعد على أنها في الخبر ليست للشك ولا للتشكيك لا على الوجه الذي ذكروه "وعنه" أي كون الشك أو التشكيك مدلولا التزاميا عاديا لأو "تجوز بأنها للشك" بعلاقة التلازم العادي بينهما حينئذ "وقد يعلم بخارج التعيين" لمتعلق الحكم المذكور "فيكون للإنصاف" أي إظهار النصفة حتى إن كل من سمعه من موال أو مخالف يقول لمن خوطب به: قد أنصفك المتكلم نحو قوله تعالى: "{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ} [سبأ: 24] الآية" أي {لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي وإن أحد الفريقين من الموحدين(3/133)
ص -67-…المتوحد بالرزق والقدرة الذاتية بالعبادة والمشركين به الجماد النازل في أدنى المراتب الإمكانية لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال المبين وهو بعد ما تقدم من التقرير البليغ الدال على من هو على الهدى ومن هو في الضلال أبلغ من التصريح لأنه في صورة الإنصاف المسكت للخصم المشاغب ثم عطف على قوله قبل مفرد قوله "وقبل جملة" يعني وأو قيل جملة "لأن الثابت" أي لإفادة أن الثابت "أحد المضمونين وكذا تجوز" أي كما تجوز بأن أو للشك أو للتشكيك وهو تساهل كذلك تجوز "بأنها للتخيير أو الإباحة بعد الأمر" وفيه تساهل أيضا "وإنما هي لإيصال معنى المحكوم به إلى أحدهما فإن كان" المحكوم به "أمرا لزم أحدهما ويتعين" كل من الإباحة والتخيير "بالأصل فإن كان" الأصل "المنع فتخيير فلا يجمع" المخاطب بينهما "كبع عبدي ذا أو ذا" فيبيع أحدهما لا كليهما "أو" كان الأصل "الإباحة فإلزام أحدهما وجاز الآخر بالأصل وفي" قوله لعبيده الثلاثة "هذا حر أو هذا" بأو "وذا" بالواو "قيل: لا عتق إلا بالبيان لهذا أو هذان" لأن الجمع بالواو بمنزلة الجمع بألف التثنية فيتخير بين الأول والأخيرين وهذا قول زفر والفراء ذكره العتابي في جامعه "وقيل: يعتق الأخير" في الحال ويتخير في الأولين يعين أيهما شاء "لأنه كأحدهما وهذا" لأن سوق الكلام لإيجاب العتق في أحد الأولين وتشريك الثالث فيما سبق له الكلام فالمعطوف عليه هو المأخوذ من صدر الكلام لا أحد المذكورين بعينه وهذا هو الذي مشى عليه الجم الغفير "ورجح" والمرجح صدر الشريعة "باستدعاء الأول تقدير حران" لأن الخبر المذكور وهو حر لا يصلح خبرا للاثنين "وهو" أي وتقدير حران "بدلالة" الخبر "الأول وهو" أي الأول "مفرد" وهو غير مناسب هنا لأن العطف للاشتراك في الخبر المذكور أو لإثبات خبر آخر مثله لا لإثبات خبر آخر مخالف له لفظا "ويجاب" والمجيب التفتازاني "بأنها" أي دلالة المذكور على المقدر "تقتضي اتحاد المادة لا(3/134)
الصيغة" بدليل قول محمد في عتاق الزيادات رجل له ثلاثة أعبد فقال: أنتم أحرار أو هذا وهذان مدبران فقوله أو هذا عطف على قوله أنتم وخبره لا يصلح خبرا له وقول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما …عندك راض والرأي مختلف
"ولو سلم" أولوية اتحاد الدال والمدلول في الصيغة أيضا "فإنما يلزم" ما ذكره "لو ثنى ما بعد أو" هنا لكنه لم يثن "فالمقدر مفرد في كل منهما" أي هذا وذا إذ التقدير هذا حر أو هذا حر وذا حر ولا يقال يلزم كثرة الحذف لأنا نقول مشترك الإلزام إذ التقدير فيما هو المختار عند المرجح هذا حر أو هذا حر وهذا حر تكميلا للجمل الناقصة بتقدير المثل لأن الحرية القائمة بكل تغاير حرية الآخر ولو سلم فمعارض بالقرب وكون المعطوف عليه مذكورا صحيحا لكن قد أجيب بأن المعطوف بأو في هذا الوجه هو مجموع الثاني والثالث بعد عطف الثالث على الثاني بالواو ولهذا لم يحكم على شيء منهما بما يحكم على الأول بل على المجموع من حيث هو وهذا ما صرح به صاحب الكشاف في بيان معنى الواو في قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3] حيث قال وأما الواو الوسطى فمعناها الدلالة على(3/135)
ص -68-…أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين فإنه جعل المتعدد في حكم الواحد بواسطة الواو فيجب أن يلاحظ فيما نحن فيه جهة الوحدة المعنوية دون التعدد الصوري وحينئذ يصير هذا وهذا في معنى هذان ولا شك أن هذان يقتضي خبرا يطابقه في التثنية وهو حران لا حر وحر "وبأن أو مغيرة" أي ورجح الأول أيضا بأن أو هذا مغير لمعنى هذا حر "فتوقف عليه الأول لا الواو" أي لا أنها مغيرة لما قبلها لأنها "للتشريك" فيقتضي وجود الأول "فلا يتوقف" الأول على قوله وهذا حر "فليس" الثالث "في حيز أو فينزل" ويثبت التخيير بين الأول والثاني بلا توقف على الثالث فيصير معناه أحدهما حر وهذا حر "ويمنع" هذا الترجيح "بأنه" أي قوله وهذا "عطف على ما بعد أو فشرك في حكمه" أي ما بعد أو يعني في "ثبوت مضمون الخبر" الذي هو حر "للأحد منه" أي ما بعد أو "ومما قبله فتوقف" ما قبله "عليه" أي على ما بعده لكونه مغيرا له لأنه لولا هذا التشريك كان له أن يختار الثاني وحده وبعده ليس له ذلك بل يجب اختيار الأول وحده أو الأخيرين معا كما أشار إليه بقوله "ولم يعتق" أحدهم "إلا باختيارهما" فيعتقان "أو الأول" فيعتق وحده "وصار كحلفه لا يكلم ذا أو ذا وذا لا يحنث بكلام أحد الأخيرين" وإنما يحنث بتكليمهما أو تكليم الأول قلت وأفاد في الدراية أن ابن سماعة روى عن محمد كون الطلاق والعتاق كاليمين في هذا الحكم وأن ظاهر الرواية عتق الآخر وطلاق الأخيرة والخيار في الأوليين ثم قال فيها: والفرق عليها بين اليمين والطلاق والعتاق أن أو إذا دخلت بين شيئين تتناول أحدهما نكرة إلا أن في الطلاق والعتاق الموضوع موضع الإثبات فالنكرة فيه تختص بتناول إحداهما فإذا عطف الثالث على إحداهما صار كأنه قال: إحداكما طالق وهذه ولو نص على هذا كان الحكم ما قلنا وفي مسألة اليمين الموضوع موضع النفي فتعم فيه النكرة وتكون كلمة أو بمعنى لا قال الله تعالى: {وَلا تُطِعْ(3/136)
مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الانسان: 24] أي ولا كفورا فصار كأنه قال: لا أكلم فلانا ولا فلانا فلما عطف الثالث صار كأنه قال: ولا هذين ولو نص على هذا كان الحكم هكذا فكذا هنا ذكره الإمام قاضي خان ولأنه حينئذ صار كأنه قال: هذه طالق أو هاتان طالق وإنه لا يصح فجعل كأنه قال: هذه طالق أو هذه طالق وهذه ليصح ولو قال هكذا تطلق الثالثة وخير في الأوليين فكذا هذا وثم صار كأنه قال: لا أكلم فلانا هذا ولا أكلم هذين وأنه صحيح ا هـ إلا أن على هذا كما قال بعض شارحي أصول فخر الإسلام لو قال: أعتقت هذا أو هذا وهذا ينبغي أن يعتق أحد الأولين والثالث ثم قال: ولو قيل في الفرق بينهما إن اليمين عقدت لتحريم الكلام فإما أن يكون المراد لا أكلم هذين وهذا أو لا أكلم هذا أو هذين والثاني أولى للاحتياط لأنه متى حرم عليه أن يتكلم مع هذا أو هذين فقد حرم عليه أن يتكلم مع أحد هذين وهذا لأنه متى تكلم مع أحد هذين وهذا فقد تكلم مع الأول والثالث أو الثاني والثالث فوجد التكلم مع الأول أو مع الثاني والثالث لكان حسنا والاحتياط في مسألة العتق في عدم الحرمة ثم لما توهم بعض المعتزلة منع التكليف بواحد مبهم من أمور معينة ظنا منه أن ذلك مجهول والمجهول لا يكلف به حتى ذهب إلى أن الواجب الجميع ويسقط بواحد وكان هذا من(3/137)
ص -69-…لوازم الكلام في التخيير أشار المصنف إلى رده فقال: "ومنع صحة التكليف مع التخيير فحكم بوجوب خصال الكفارة" التي هي الإطعام والكسوة والتحرير "ويسقط" وجوبها "بالبعض" منع "بلا موجب لأن صحته" أي التكليف "بإمكان الامتثال وهو" أي إمكانه "ثابت مع التخيير لأنه" أي الامتثال "بفعل إحداها" أي الخصال وسيأتي الكلام في هذه في موضعها إن شاء الله تعالى "والإنشاء كالأمر" فيكون أو فيه للتخيير أو الإباحة "فلذا" أي لكون أو للتخيير أو الإباحة بعد الإنشاء "وعدم الحاجة" إلى أو أو إلى تحمل الجهالة "أبطل أبو حنيفة التسمية وحكم مهر المثل في التزوج على كذا أو كذا لأنه جهالة لا حاجة إلى تحملها إذا كان له" أي للنكاح "موجب أصلي" معلوم وهو مهر المثل "وصححاه" أي أبو يوسف ومحمد ما اشتمل عليه التخيير من المسمى "إن أفاد التخيير" بأن وقع بين أمرين مختلفين في كل منهما نوع يسر وذلك "باختلاف المالين حلولا وأجلا" كعلي ألف حالة أو ألفين إلى وقت كذا لتردد اليسر بينهما باعتبار الحلول في أحدهما والزيادة في الآخر "أو جنسا" كعلي ألف درهم أو مائة دينار لتردد اليسر بينهما باعتبار القدرة حينئذ على أحدهما دون الآخر فيتخير الزوج في الفصلين في أداء أيهما شاء عملا بكلمة التخيير بقدر الإمكان "وإلا" إن لم يفد التخيير بأن وقع بين أمرين ليس في كل منهما نوع يسر بل اليسر متعين في أحدهما كعلي ألف أو ألفين "تعين الأقل" لتعين الرفق فيه ومعلوم بالبديهة أنه يختاره وكيف لا وقد أحضرت الأنفس الشح هذا وذكر المال في النكاح ليس من تمامه ومن ثمة لا يتوقف عليه بل هو بمنزلة التزام مال ابتداء من غير عقد فيجب القدر المتيقن "كالإقرار والوصية والخلع والعتق" بأن أقر لإنسان أو أوصى له بألف أو ألفين أو خالعها أو أعتقها على ألف أو ألفين "ولزوم الموجب الأصلي" المعلوم وهو مهر المثل في النكاح إنما هو "عند عدم تسمية ممكنة" وهي هنا متحققة فلا يلزم(3/138)
الموجب الأصلي وهذا ترجيح ظاهر لقولهما فلا يضرهما الفرق لأبي حنيفة بين هذه ومسألة الإقرار وما معها بأنه إنما وجب الأقل فيها لأنه ليس فيها موجب أصلي معلوم يعارض المسمى كما في هذه بدليل جوازها بلا عوض وعدم وجوب شيء عند الإطلاق فوجب اعتبار المسمى بالضرورة.
تنبيه: ثم معنى تحكيم أبي حنيفة رحمه الله مهر المثل في هذه الصور أنه ينظر إلى مقدار مهر المثل فإن كان ألفي درهم أو أكثر فإن شاءت أخذت الألف الحالة أو الألفين عند حلول الأجل لأنها التزمت أحد وجهي الحظ إما القدر وإما الأجل وإن كان أقل من ألف درهم فأيهما شاء أعطاها وإن كان بينهما كان لها مهر المثل وفي باقي الصور إن كان مهر مثلها مثل الأقل أو أقل منه يجب الأقل وإن كان مثل الأكثر أو أكثر منه يجب الأكثر وإن كان بينهما يجب مهر المثل.
"وفي وكلت هذا أو هذا" مشيرا إلى رجلين ببيع هذا العبد أو شرائه "صح" التوكيل لأحدهما بذلك "لإمكان الامتثال بفعل أحدهما" ولا يشترط اجتماعهما على ذلك "ولا يمتنع(3/139)
ص -70-…اجتماعهما" عليه أيضا "فهو تسوية ملحق بالإباحة بخارج للعلم" بأنه إذا رضي برأي أحدهما فهو "برأيهما أرضى بخلاف بع ذا أو ذا" مشيرا إلى عبدين مثلا "يمتنع الجمع" بينهما في البيع "لانتفائه" أي الرضا ببيعهما جميعا "والقياس البطلان في هذه طالق أو هذه لإيجابه" الطلاق "في المبهم ولا يتحقق" الطلاق "فيه" أي المبهم "لكنه" أي هذه طالق وكذا هذه حرة "شرعا إنشاء عند عدم احتمال الإخبار بعدم قيام طلاق إحداهما وعدم حريتها" أي إحداهما "في هذه حرة أو هذه موجب للتعيين" وهو بالرفع صفة إنشاء حال كون التعيين "إنشاء من وجه لأن به" أي التعيين "الوقوع فلزم قيام أهليته ومحليتهما عنده" أي التعيين لأن الإنشاء لا بد له من أهلية المنشئ ومحلية المنشأ "فلا يعين" المطلق وكذا المعتق "الميت" لانتفاء المحلية فيه "واعتباره" أي ولزم اعتبار الإنشاء "في التهمة فلم يصح تزوج أخت المعينة من المدخولتين" وحال كون التعيين "إخبارا من وجه" لأن الصيغة صيغة إخبار "فأجبر عليه" أي البيان إذ لا جبر في الإنشاءات بخلاف الإقرار فإنه لو أقر بمجهول صح وأجبر على بيانه "واعتبر" الإخبار "في غيرهما" أي المدخولتين "فصح ذلك" أي تزوج أخت المعينة قال المصنف رحمه الله: وحاصل الصورتين إذا طلق إحداهما بغير عينها ولم يكن دخل بهما ثم تزوج أخت إحداهما ثم بين الطلاق في أخت المتزوجة جاز النكاح اعتبارا له إظهارا لعدم التهمة إذ يمكن إنشاء الطلاق في التي عينها وتزوج أختها ولو كان دخل بهما لا يجوز نكاح الأخت لقيام العدة فاعتبر إنشاء وإنما لم يجز للتهمة المحققة فيه لأنه لا يملك تزوجها في الحال بإنشاء الطلاق لمكان العدة إذ لا تتزوج الأخت في عدة الأخت فإن قيل: يشكل على كون أو للتخيير في الإنشاء آية المحاربة فإنها مشتملة على أو في الإنشاء مع أنكم لم توجبوا التخيير فيما اشتملت عليه من الحكم قلنا إنما يشكل لو لم يكن صارف عن ذلك وليس كذلك بل نقول "وترك(3/140)
مقتضاها" أي أو وهو التخيير "للصارف" عن العمل به "لو لم يكن أثر" مفيد لمخالفته أيضا "وهو" أي الصارف "أنها" أي آية المحاربة "أجزية بمقابلة جنايات لتصور المحاربة بصور أخذ" للمال المعصوم فقط "أو قتل" للنفس المعصومة فقط "أو كليهما" أي أخذ وقتل "أو إخافة" للطريق فقط "فذكرها" أي الأجزية "متضمن ذكرها" أي الجنايات ضرورة أنها أجزيتها "ومقابلة متعدد بمتعدد ظاهر في التوزيع وأيضا مقابلة أخف الجنايات بالأغلظ وقلبه" أي مقابلة أغلظ الجنايات بالأخف "ينبو عن قواعد الشرع" وكيف لا وقد قال تعالى "{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فوجب القتل بالقتل وقطع اليد" اليمنى "والرجل" اليسرى "بالأخذ" للمال المعصوم إذا أصاب كلا منهم نصابا ومالك شرط كون المأخوذ نصابا فصاعدا أصاب كلا نصاب أو لا وإنما قطعتا معا في الأخذ مرة واحدة بخلاف السرقة لأن هذا الأخذ أغلظ من أخذ السرقة حيث كان مجاهرة ومكابرة مع إشهار السلاح فجعلت المرة منه كالمرتين من غير اشتراط تعدد النصاب مرتين لأن الغلظ في هذه الجناية من جهة الفعل لا من جهة متعلقه الذي هو المال "والصلب" حيا ثم يبعج بطنه برمح حتى يموت كما عن الكرخي وغيره أو بعد القتل كما عن الطحاوي وهو الأصح وأيا ما كان بعد قطع يده ورجله من خلاف أولا(3/141)
ص -71-…أو القتل بلا صلب ولا قطع على حسب اختيار الإمام كما هو مذهب أبي حنيفة وزفر "بالجمع" بين القتل والأخذ بناء على أنه اجتمع في فعله تعدد الجناية من حيث الصورة واتحادها من حيث إن المجموع قطع الطريق فبالنظر إلى تعددها يستحق جزاءين مناسبين للجنايتين وهما القطع المناسب للأخذ والقتل المناسب للقتل وإلى اتحادها يستحق جزاء واحدا فيتخير الإمام في ذلك وقالا: لا بد من الصلب "والنفي" من الأرض أي الحبس "بالإخافة فقط فأثر أبي يوسف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم وادع إلى آخره" أي أبا بردة هلال بن عويمر الأسلمي فجاء أناس يريدون الإسلام فقطع عليهم أصحاب أبي بردة الطريق فنزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحد أن من قتل وأخذ المال صلب ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ومن أخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ومن جاء مسلما هدم الإسلام ما كان منه في الشرك. وفي رواية عطية عن ابن عباس: ومن أخاف الطريق ولم يقتل ولم يأخذ المال نفي. "على وفقه" أي الصارف "زيادة لا يضرها التضعيف" بمحمد بن السائب الكلبي لاتهامه بالكذب "فكيف ولا ينفي" التضعيف "الصحة في الواقع" لجواز إجادة الضعيف في خصوص مروي "فموافقة الأصول" أي الأثر لها "ظاهر في صحتها" أي الزيادة التي هي الأثر المذكور وهو الذي عناه بقوله آنفا لو لم يكن أثر "وإذ قبلت" أو "معنى التعيين كالآية" أي آية المحاربة "وصورة الإنصاف" كـ{إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} "وجب" المعين الذي هو المجازي "في تعذر الحقيقي" الذي هو أحد الشيئين أعم من كل منهما معينا لأنه أولى من إلغاء الكلام وإبطاله وصار كما لو قال ذلك في عبدين له فإنه يجبر على التعيين بخلاف ما إذا قاله في عبده وعبد غيره فإنه لا يتعين عتق عبده لأن عبد الغير محل لإيجاب العتق أيضا لكنه موقوف على إجازة المالك "فعنه" أي وجوب المجازي(3/142)
عند تعذر الحقيقي "قال" أبو حنيفة: "في هذا حر أو ذا لعبده ودابته يعتق" عبده "وألغياه لعدم تصور حكم الحقيقة" وهو عتق أحدهما غير عين لأنه ليس بمحل للإيجاب ضرورة أن أحدهما وهو الدابة ليس بمحل له شرعا وبدون صلاحية المحل لا يصح الإيجاب كذا في أصول شمس الأئمة وغيرها وهو يشير إلى أنه لا يعتق العبد عندهما بالنية أيضا لأن اللغو لا حكم له أصلا وفي مبسوطه يعتق ثم هذا منهما تفريع على أن المجاز خلف عن الحقيقة في الحكم "كما هو أصلهما" فلما لم ينعقد هنا الإيجاب للحكم في المبهم بطل في المعين كما عندهما في هذا ابني للأكبر منه سنا "لكن" يرد "عليه" أي أبي حنيفة "أنهم يمنعون التجوز في الضد" شرعا "والمعين ضد المبهم بخلاف ابني للأكبر لا يضاد حقيقيه مجازيه وهو العتق فالوجه أنها" أي أو "دائما للأحد وفهم التعيين أحيانا بخارج من غير أن يستعمل فيه" فالتعيين في {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً} الآية من علم المراد من خارج لا أن أو استعملت فيه والتعيين في قوله لعبده ودابته هذا حر أو ذا بخارج وهو لزوم صون عبارة العاقل ما أمكن وقد أمكن إذ عرف أن أو تقع في موقع يتعين فيه المراد ذكره المصنف هذا وقال بعض شارحي أصول البزدوي: ويجوز أن يفصل في مسألة الدابة وما يشاكلها تفصيل مليح وهو أن(3/143)
ص -72-…يقال لو قدم الإشارة إلى العبد يعتق العبد ويلغو العطف وإن قدم الإشارة إلى الدابة لا يعتق العبد لأن المحل غير صالح للعتق أصلا فيلغو الكلام الأول فيصير وجوده كعدمه وإذا صار وجوده كعدمه فقوله أو هذا لم يفد شيئا كما لو استأنفه ا هـ وفيه نظر فليتأمل.
مسألة
"تستعار" أو "للغاية" أي للدلالة على أن ما بعدها غاية لما قبلها وهي ما ينتهي أو يمتد إليه الشيء "قبل مضارع منصوب وليس قبلها" أي أو "مثله" أي مضارع منصوب بل فعل ممتد يكون كالعام في كل زمان ويقصد انقطاعه بالفعل الواقع بعد أو "كلألزمنك أو تعطيني" حقي إذ المراد أن ثبوت الإلزام ممتد إلى غاية هي وقت إعطاء الحق كما لو قال: حتى تعطيني حقي ومن ثمة ذهب النحاة إلى أن أو هذه بمعنى إلى أن لأن الفعل الأول ممتد إلى وقوع الثاني أو إلا أن لأن الفعل الأول ممتد في جميع الأوقات إلا وقت وقوع الفعل الثاني فعنده ينقطع ومن هذا تظهر المناسبة بين أو والغاية فإن أو لأحد المذكورين وتعيين كل منهما باعتبار الخيار قاطع لاحتمال الآخر كما أن الوصول إلى الغاية قاطع للفعل "وليس منه" أي من أو للغاية قوله تعالى "{أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128]" كما ذكره صدر الشريعة تبعا للفراء حيث قال: إن أو هنا بمعنى حتى لأنه لو كان على حقيقته فإما أن يكون معطوفا على شيء أو على ليس والأول عطف الفعل على الاسم والثاني عطف المضارع على الماضي وهو ليس بحسن لاختلافهما حدا وحكما فسقطت حقيقته واستعير لما يحتمله وهو الغاية لما ذكرنا أي ليس لك من الأمر في عذابهم أو استصلاحهم شيء حتى تقع توبتهم أو تعذيبهم "بل عطف على يكبتهم" كما صرح به جماعة منهم البيضاوي والنسفي أو يقطع كما صرح به أبو البقاء وكلام صاحب الكشاف يحتمل كلا منهما فإنه قال: أو يتوب عطف على ما قبله فلا جرم أن قال المحقق التفتازاني عطف على ليقطع أو ليكبت ثم قال: ووجه سببية النصر على تقدير تعلق اللام بقوله {وَمَا(3/144)
النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ظاهر وأما على تقدير تعلقها بقوله {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} فلأن النصر الواقع ببدر كان من أظهر الآيات وأبهر البينات فيصلح سببا للتوبة على تقدير الإسلام أو لتعذيبهم على تقدير البقاء على الكفر لجحودهم بالآيات وإن أريد التعذيب في الدنيا بالأسر فالأمر ظاهر فإن قيل: هو يصلح سببا لتوبتهم والكلام في التوبة عليهم قلنا يصلح سببا لإسلامهم الذي هو سبب للتوبة عليهم فيكون سببا لها بالواسطة واستشكل الفاضل علاء الدين البهلوان سببية النصر للتعذيب بأن موتهم على الكفر سبب لتعذيبهم لا النصر للمؤمنين، وأجيب بأن النصر سبب لكونهم مقتولين على الكفر، وهو سبب للتعذيب قالوا: والمعنى أن الله مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا على الكفر وليس لك من أمرهم شيء إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم "وليس ومعمولاها" وهما لك شيء مع الحال من شيء وهو من الأمر ما نص عليه أبو البقاء "اعتراض" بين المعطوف الذي هو التوبة والتعذيب المتعلق بالآجل والمعطوف عليه الذي هو القطع والكبت وهو شدة الغيظ أو وهن يقع في القلب المتعلق(3/145)
ص -73-…بالعاجل فمن ثمة قيل ما أحسنه وإنما لم تكن هذه الآية من أمثلة أو بمعنى حتى أو إلى "لما في ذلك" أي جعلها للغاية "من التكلف مع إمكان العطف" إما على يقطع أو يكبت كما ذكرنا وإما على الأمر أو شيء بإضمار أن من عطف الخاص على العام مبالغة في نفي الخاص أي ليس لك من أمرهم أو التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء أو ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم كما ذكر صاحب الكشاف ثم البيضاوي ولم يتعقباه وقد ظهر من هذا أن عطف يتوب على شيء من عطف الاسم في المعنى على الاسم نعم تعقبه التفتازاني بلكن في مثل هذا العطف بكلمة أو نظر ا هـ وبينه البهلوان بأن عطف الخاص على العام بأو عزيز في كلام العرب بخلاف العكس كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 135] وأن كون الضمير في يتوب الله لا يساعد المعنى المذكور والعبد الضعيف غفر الله تعالى له يقول: وأنت إذا تأملت هذه الجملة رأيت أن العطف لا يخلو من شائبة وأن التكلف فيه لا في كونها بمعنى حتى أو إلا أن كما ذكره غير واحد وعزاه بعضهم إلى سيبويه والمعنى ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب عليهم فتفرح بحالهم أو يعذبهم فتتشفى منهم وأن ارتكاب مجازيته عن حتى ولا سيما على قول الكوفيين إن حتى هي الناصبة أولى من العطف والله تعالى أعلم.
مسألة
"حتى جارة" كإلى إلا أن بينهما فروقا تعرف في كتب العربية "وعاطفة" يتبع ما بعدها لما قبلها في الإعراب "وابتدائية" أي ما بعدها كلام مستأنف لا يتعلق من حيث الإعراب بما قبلها لا أنها يجب أن يليها المبتدأ أو الخبر بل هي صالحة لهما فتقع "بعدها جملة بقسميها" فعلية بقسميها: من المضارع والماضي نحو: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} بالرفع كما هو قراءة نافع {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا} وقالوا كما هو الصحيح واسمية مذكور خبرها نحو:(3/146)
فما زالت القتلى تمج دماءها …بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
ومحذوف بقرينة الكلام السابق كما سيأتي "وصحت" الوجوه الثلاثة "في أكلت السمكة حتى رأسها" فتجر على أنها جارة وتنصب على أنها عاطفة على السمكة وترفع على أنه مبتدأ خبره محذوف وهو مأكول لقرينة الكلام السابق عليه على أنها ابتدائية ذكره ابن هشام وغيره وتعقب بأن هذا على مذهب الكوفيين وإلا فالبصريون على منع الرفع في هذه الصورة لأنه إنما يجوز عندهم رفع ما بعدها على الابتداء إذا كان بعده ما يصلح أن يكون خبرا له قالوا: ولم يسمع من كلام العرب أكلت السمكة حتى رأسها بالرفع وإنما محل الوجوه الثلاثة اتفاقا أكلت السمكة حتى رأسها أكلته قيل وقد روي بالأوجه الثلاثة:
عممتهم بالندى حتى غواتهم …فكنت مالك ذي غي وذي رشد
فإن صح الرفع في غواتهم ترجح وجه جواز الرفع في المثال المذكور وأما دخول(3/147)
ص -74-…الرأس في الأكل فيه وعدمه فستعلم ما فيه على الأثر من هذا "وهي" أي حتى "للغاية" وتقدم قريبا معناها "وفي دخولها" أي الغاية فيما قبلها حال كونها "جارة" أربعة أقوال: أحدها لابن السراج وأبي علي وأكثر المتأخرين من النحويين تدخل مطلقا ثانيها لجمهور النحويين وفخر الإسلام وموافقيه لا تدخل مطلقا "ثالثها" للمبرد والفراء والسيرافي والرماني وعبد القاهر "إن كان" ما جعل غاية "جزءا" مما قبله "دخل" وإلا لم يدخل "رابعها لا دلالة" على الدخول ولا على عدمه "إلا للقرينة" وهو ظاهر ما عن ثعلب حتى للغاية والغاية تدخل وتخرج يقال: ضربت القوم حتى زيد فيكون مرة مضروبا ومرة غير مضروب ويظهر من ابن مالك موافقته قال المصنف: "وهو" أي هذا القول "أحد" القولين "الأولين إلا أن يراد" بهذا "أنها" دالة "على الخروج" لما بعدها عما قبلها "كما" هي دالة "على الدخول" لما بعدها "فيما قبلها وفيه" أي وفي كون هذا مرادا منها على هذا القول "بعد" ظاهر وكيف لا وأقل ما فيه أنه قول بكونها مشتركة بينهما والأصل عدمه ولم يعرف له قائل ثم الذي يظهر أنه ليس بأحد الأولين فإن الظاهر أن معنى الأول وهو أن مدلول حتى دخول ما بعدها فيما قبلها مطلقا من غير توقف على قرينة فيحكم بالدخول حيث لا قرينة على خلافه ومعنى الثاني هو أن مدلول حتى عدم دخول ما بعدها فيما قبلها مطلقا إلا بقرينة تفيد الدخول فيحكم بعدم الدخول حيث لا قرينة على الدخول وأن معنى الرابع وهو أنه لا دلالة لحتى على دخول ولا على عدمه بل الدال على أحدهما القرينة فحيث لا قرينة عليه يحكم بعدم الدخول بالأصل لا باللفظ إذا احتجنا إلى الحكم وإلا لا يحكم بشيء وإنما يجوز كل منهما تجويزا "والاتفاق على دخولها" أي الغاية فيما قبلها "في العطف" بحتى لأنها بمعنى الواو فتفيد الجمع في الحكم "وفي الابتدائية بمعنى وجود المضمونين في وقت وشرط العطف البعضية" أي كون ما بعدها بعضا مما قبلها كقدم الحاج(3/148)
حتى المشاة وأكلت السمكة حتى رأسها "أو نحوه" نحو قتل الجند حتى دوابهم وخرج الصيادون حتى كلابهم وأعجبتني الجارية حتى حديثها ويمتنع حتى ولدها وضبط ما هو كالجزء مما قبلها بما يلازمه فالولد لا يلازم الجارية إذ لا يلزم أن يكون لكل جارية ولد بخلاف الحديث فإنه يلازمها والدواب فإنها تلازم الجند والكلاب فإنها تلازم الصيادين وخالف الفراء في هذا الشرط فأجاز إن كلبي ليصيد الأرانب حتى الظباء والظباء ليست بعض الأرانب ولا كبعضها قال الصفار: وهذا خطأ عند البصريين "فامتنع جاء زيد حتى بكر" كما نص عليه ابن يعيش "وفي كونها" أي العاطفة "للغاية" كما ذكره غير واحد "نظر" لأنه ليس للعطف غاية إذ هي ليست إلا منتهى الحكم المذكور في الجملة قبلها ومن ثمة ذهب الكوفيون إلى منع العطف بها وتأولوا ما ظاهره ذلك "وكونه" أي المعطوف "أعلى متعلق للحكم" كمات الناس حتى الأنبياء "أو أحط" متعلق له كاستنت الفصال حتى القرعى مثلا يضرب لمن يتكلم مع من لا ينبغي التكلم بين يديه لجلالة قدره أي عدت مرحا حتى الفصلان التي بها قرع وهو بثر أبيض يخرج بها وهي الطرف الأدنى منها والطرف الأعلى الفصال السليمة النشيطة "ليس مفهوم الغاية إذ ليس" مفهومها "إلا منتهى الحكم ولا يستلزم"(3/149)
ص -75-…كون المعطوف أعلى أو أحط "كونه منتهى وفي" أكلت السمكة "حتى رأسها بالنصب" كون الرأس "منتهى الحكم" الذي هو الأكل أمر "اتفاقي" وقوعه في هذه الصورة "لا مدلولها" أي لا أن حتى تدل عليه فلا يطرد "وهو" أي كون العطف لا غاية معه "ظاهر القائل" وهو صاحب البديع حتى "للغاية وللعطف وهو" أي هذا القول هو "الحق" لما ذكرنا آنفا "وتأويله" أي كون ما بعدها غاية لما قبلها إذا كانت عاطفة بأن ينقضي شيئا فشيئا حتى ينتهي إلى المعطوف "في اعتبار المتكلم" لا بحسب الوجود نفسه إذ قد يجوز أن يتعلق الحكم بالمعطوف أولا كما في قولك مات كل أب لي حتى آدم أو في الوسط كما في مات الناس حتى الأنبياء كما في التلويح "تكلف ينفيه الوجدان إذ لا يجد المتكلم اعتباره كون الموت تعلق شيئا فشيئا إلى أن انتهى إلى آدم عليه السلام في مات الآباء حتى آدم وكثير إلا أن قوله" أي القائل حتى للعطف والغاية ما معناه "وقد تعطف تاما أي جملة" وإلا فلفظه وقد يعطف بها تامة أي جملة مصرح بجزأيها "ممثلا بضربت القوم حتى زيد غضبان خلاف المعروف" بل المعروف عطفها المفرد لما تقدم من شرط عطفها إذ لا يتأتى ذلك إلا في المفرد ولأن العاطفة محمولة على الجارة والجارة لا تدخل إلا على الأسماء فكذا العاطفة ثم هذا هو الصحيح كما ذكر ابن هشام فلا جرم أن كان ظاهر كلام فخر الإسلام أنها في هذا وأمثاله ابتدائية ومعنى الغاية فيه أنه ضرب القوم إلى أن غضب زيد وخالف الأخفش فجعلها تعطف الفعل على الفعل ماضيا كان أو مستقبلا إذا كان فيها معنى السبب نحو ضربت زيدا حتى بكى أي فبكى ولأضربنه حتى يبكي أي فيبكي وتظهر ثمرة الخلاف بينه وبين الجمهور في المستقبل فهو يرفعه بالعطف على لأضربنه وهم لا يجيزون فيه إلا النصب "وادعاؤه" أي عطفها الجملة "في حتى تكل مطيهم" على سريت بهم من قول امرئ القيس:
سريت بهم حتى تكل مطيهم…وحتى الجياد ما يقدن بأرسان(3/150)
كما زعمه ابن السيد في رواية رفع تكل "لا يستلزمه" أي جوازه مطلقا قياسا مطردا لأنه فرد شاذ هذا "لو لزم" العطف فيه فكيف "وهو" أي اللزوم فيه "منتف بل" حتى فيه "ابتدائية وصرح في الابتدائية بكون الخبر من جنس" الفعل "المتقدم" ومن المصرحين به الإستراباذي "فامتنع ركب القوم حتى زيد ضاحك بل" إنما يقال حتى زيد "راكب" ومعنى البيت سريت بهم ليلا وامتد بهم السير حتى أعيت الإبل والخيل أيضا فطرحت أرسانها أي حبالها على أعناقها وتركت تمشي من غير احتياج إلى قودها لذهاب نشاطها فهي إذا خليت لم تذهب يمينا ولا شمالا بل سارت معهم فوضع ما يقدن موضع الكلال "ومنه" أي قسم الابتدائية "سرت حتى كلت المطي ويتجوز بالجارة داخلة على الفعل عند تعذر الغاية بأن لا يصلح الصدر" مما قبلها "للامتداد" إلى ما بعدها أي لضرب المدة فيه "وما بعدها للانتهاء" أي دليلا على انتهاء ذلك الأمر الممتد إليه وانقطاعه عنده "في سببية ما قبلها لما بعدها إن صلح" ما قبلها لسببية ما بعدها فمدخول في هو المتجوز فيه قال المصنف: "والوجه" أن يقال يتجوز بها "في سببية أحدهما للآخر" أي ما قبلها لما بعدها وبالقلب "ذهنا أو خارجا لمساعدة المثل"(3/151)
ص -76-…التي هي فيها للسببية على ذلك لأن ما بعدها علة غائبة لما قبلها ومن شأن العلة الغائية كونها علة ذهنا لما هي له معلولة له خارجا وما هي له معلول لها ذهنا علة لها خارجا "كأسلمت حتى أدخل الجنة" فإن الإسلام بمعنى إحداثه لا يحتمل الامتداد وأيضا "ليس" دخول الجنة "منتهاه" أي الإسلام بمعنى إحداثه لانقطاعه دونه وكيف لا وما لا يقبل الامتداد يمتنع أن يلحق بآخره ما يكون غاية له "إلا إن أريد" بالإسلام "بقاؤه" أي الإسلام "وحينئذ" أي وحين يكون المراد به بقاءه "لا يصلح الآخر" أي دخول الجنة "منتهى" له أيضا وكيف والإسلام أكثر وأقوى وبه نيل وتحصل فكيف ينتهي عنده فحتى فيه للسببية لتحقق شرطها ثم كما أن الإسلام في الخارج يصلح أن يكون سببا لدخول الجنة فيعقل دخول الجنة مع العلم باشتراط الإسلام له يصلح أن يكون سببا باعثا عليه "وبه" أي وبأن دخول الجنة لا يصلح منتهى الإسلام وإن كان بمعنى البقاء عليه مما يمتد "رد تعيين العلاقة" بين الغاية والسببية اشتراكهما في "انتهاء الحكم بما بعدها" لأن الفعل الذي هو السبب ينتهي بوجود الجزاء والمسبب كما ينتهي بوجود الغاية على أنه لو صح ذلك لكان حتى للغاية حقيقة حيث احتمل الصدر أعني السبب الامتداد والآخر أعني المسبب الانتهاء إليه والراد الشيخ سعد الدين التفتازاني والمردود لصاحبي الكشفين وغيرهما "واختير" كما هو ظاهر تقريره "أنها" أي العلاقة بينهما "مقصوديته" أي كون ما بعد حتى مقصودا "مما قبله" بمنزلة الغاية من المغيا "وهو" أي هذا الاختيار "أبعد" من الأول "لأنها" أي الغاية "لا تستلزمه" أي كونها المقصود مما قبلها "كرأسها" في أكلت السمكة حتى رأسها فإنه ليس المقصود من أكلها "وغيره" أي وغير رأسها مما جعل غاية لما قبلها مما يعرف بالتتبع لمواردها "والأول" أي كون العلاقة بينهما اشتراكهما في انتهاء الحكم بما بعدها "أوجه" فإن الإسلام بمعنى إحداث إسلام الدنيا غير ممتد وهو(3/152)
صالح لسببية دخول الجنة وكذا الصلاة في صليت حتى أدخل الجنة وعلى هذا فلا حاجة إلى "والدخول منتهى إسلام الدنيا" أي القيام بالتكاليف الإلهية فيها "والصلاة" أي ومنتهى فعلها "في صليت حتى أدخل" الجنة لأن انتفاء كونها للغاية كما يحصل بانتفاء الامتداد والانتهاء يحصل بانتفاء أحدهما ثم حيث لم يكن كل من إحداث الإسلام والصلاة ممتدا فليس دخول الجنة منتهاهما لانقطاعهما قبله إذ الصدر متى لم يقبل الامتداد يمتنع أن يلحق بآخره ما يكون غاية له كما ذكرنا آنفا ولو أريد بالإسلام إسلام الدنيا بمعنى الثبات عليه فكون الدخول منتهاه صحيح لكن يكون فيه حتى للغاية فليتأمل "ومنه" أي كونها للسببية قولك "لآتينك حتى تغديني" لأن الإتيان غير ممتد وحتى تغديني لا يصلح دليلا على الانتهاء بل هو داع إلى زيادة الإتيان فلم يمكن حملها على حقيقة الغاية ثم الإتيان يصلح سببا للغداء والغداء يصلح جزاء له فحمل عليه فيكون المعنى لكي تغديني "فيبر" إذا أتاه "بلا تغد" أي ولم يتغد عنده لأن شرط بره حينئذ الإتيان على وجه يصلح سببا للجزاء بالغداء وقد وجد "بخلاف ما إذا صلح" الصدر للامتداد "فبمعنى إلى" نحو قوله تعالى {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:91] لأن استمرار إقامتهم على العكوف صالح للامتداد ورجوع موسى(3/153)
ص -77-…إليهم صالح لأن يكون دليلا على الانتهاء "فإن لم يصلح" الصدر "لهما" أي للغاية والسببية "فلعطف مطلق الترتيب" الأعم من كونه بمهلة وبلا مهلة خلافا لابن الحاجب إذ جعلها كثم ولمن قال: لا تستلزم الترتيب أصلا بل قد يتعلق العامل بما بعدها قبل تعلقه بما قبلها وهذا هو المختار في النحو غير أن الاستدلال عليه بقولهم مات الناس حتى آدم إنما يتم إذا ثبت من كلام العرب لا من أهل العرف ذكره المصنف "لعلاقة الترتيب في الغاية وإن كانت" الغاية "بالتعقيب أنسب" منها بالتراخي لأن الغاية لا تتراخى عن المغيا "كجئت حتى أتغدى عندك من مالي لا عقلية لسببيته" أي المجيء "لذلك" أي للغداء عنده من ماله "فشرط الفعلان" المعطوف والمعطوف عليه في البر "للتشريك" أي ليتحقق التشريك بينهما حينئذ "ككونه غاية" أي كما شرط الأمران مما قبلها وما بعدها في البر إذا كانت للغاية لأن الغاية فرع المغيا "كإن لم أضربك حتى تصيح" أو حتى يشفع فلان أو حتى يدخل الليل فكذا فإذا كف قبل هذه الغايات حنث لأن الضرب بالتكرار يحتمل الامتداد في حكم البر وإن لم يحتمله بالنظر إلى ذاته لأنه عرض لا يبقى زمانين والكف عن الضرب يحتمل الامتداد في حكم الحنث وهذه الغايات دلالات على الإقلاع عن الضرب فوجب العمل بحقيقة حتى وهي الغاية فصار شرط الحنث الكف عن الضرب قبل الغاية إما بعدم الضرب أصلا أو بضرب لا يتبعه صياح أو شفاعة أو دخول الليل ثم الشرط وجود الفعلين حال كون المعطوف "معقبا" للمعطوف عليه "ومتراخيا" عنه "فيبر بالتغدي في إتيان ولو" كان التغدي "متراخيا عنه" أي الإتيان في إن لم آتك حتى أتغدى عندك فكذا وكان الأولى ذكره "كما في الزيادات" وشروحها وإنما يحنث إذا لم يتغد متصلا بالإتيان أو متراخيا عنه في جميع العمران أطلق "إلا إن نوى الفور" والاتصال فيبر إذا تغدى عقب الإتيان من غير تراخ وإلا فلا حتى لو لم يأت أو أتى وتغدى متراخيا عنه حنث "وفي المقيد بوقت(3/154)
يلزم أن لا يجاوزه" أي ذلك الوقت "التراخي كإن لم آتك اليوم إلى آخره" أي حتى أتغدى عندك فكذا فإن قيل: الترتيب الأعم من كونه بمهلة أو لا لم يعرف مدلول لفظ أصلا وإنما المعروف مدلول لفظ الترتيب بلا مهلة كما للفاء أو بمهلة كما لثم فكيف يصح التجوز عنه قلنا لا مانع من ذلك لأن الشرط في المجاز وجود مشترك بين المعنى للفظ ومعنى آخر لا يشترط كون ذلك المعنى الآخر وضع له لفظ أصلا كما أشار إليه بقوله "وإذ كان التجوز باللفظ" عن معنى "لا يلزم كونه" أي المعنى المتجوز فيه "في مطابقي لفظ بل ولا معنى لفظ أصلا وإذ لم يشرط في المجاز نقل جاز هذا" المجاز أعني كون حتى لعطف مطلق الترتيب "وإن لم يسمع وباعتباره" أي هذا المجاز "جوزوا" أي الفقهاء "جاء زيد حتى عمرو" إذا جاء عمرو وبعد زيد "وإن منعه النحاة" بناء على ما تقدم من اشتراط كون ما بعدها بعض ما قبلها أو كبعضه "غير أن الثابت" علاقة بين هذا المعنى المجازي والمعنى الحقيقي "عندهم" أي المجوزين "الترتيب" فإنه كما هو ثابت في معناها الحقيقي بين الغاية والمغيا ثابت هنا بين المعطوف والمعطوف عليه وتعقبه بقوله "وتقدم النظر فيه" أي في ثبوت هذا كما بين الغاية والمغيا حال كونها "عاطفة كمات الناس حتى الأنبياء وحتى آدم(3/155)
ص -78-…وأنه لا غاية يلزم فيه" أي في العطف "بل ذلك الغاية" أي الترتيب الكائن بين ما بعدها وما قبلها إنما هو "في الرفعة والضعة" بأن يكون ما بعدها أقوى أجزاء ما قبلها وأشرفها أو أضعفها وأدناها "لا" الغاية "الاصطلاحية منتهى الحكم" وهذا ما قالوا لا يلزم أن يكون ما بعد حتى آخر أجزاء ما قبلها حسا ولا آخرها دخولا في العمل بل قد يكون كذلك وقد لا يكون لكنه يجب فيه أن يكون أقوى الأجزاء إذا ابتدأت من الجانب الأضعف مصعدا نحو مات الناس حتى محمد صلى الله عليه وسلم فهو ليس آخرهم حسا ولا موتا بل آخرهم قوة وشرفا وأضعفها إذا ابتدأت بعنايتك من الجانب الأقوى منحدرا نحو قدم الحاج حتى المشاة ويجوز أن يكونوا قادمين قبل الركبان أو معهم قال نجم الدين الإستراباذي: وأما الجارة فيجوز أن يكون ما بعدها كذلك وأن لا يكون فإذا لم يكن وجب كونه آخر الأجزاء حسا أو ملاقيا له نحو قرأت القرآن حتى سورة الناس وسرت النهار حتى الليل "ولم يلزم الاستثناء بها" أي بحتى أي كونها بمعنى إلا أن استثناء منقطعا كما ذكره ابن مالك وابن هشام الخضراوي ونقله أبو البقاء عن بعضهم في قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا}[البقرة: 102] بل هي في هذه الآية للغاية كما ذكره جمع منهم أبو حيان وابن هشام المصري والمصنف حيث قال: "وقوله تعالى: {حَتَّى يَقُولا} [البقرة: 102] صحت غاية للنفي كإلى وكذا لا أفعل حتى تفعل" أي إلى أن تفعل وأما قول ابن هشام المصري عن كونها بمعنى إلا ظاهر فيما أنشده ابن مالك من قوله:
ليس العطاء من الفضول سماحة …حتى تجود وما لديك قليل
وفي قوله:
والله لا يذهب شيخي باطلا…حتى أبير مالكا وكاهلا(3/156)
لأن ما بعدها ليس غاية لما قبلها ولا مسببا عنه فأشار المصنف إلى رده بقوله "وقوله حتى تجود وما لديك قليل وحتى أبير مالكا وكاهلا للسببية أو للغاية والله أعلم" إذ معنى البيت الأول كما ذكره المصنف ليس إعطاء الإنساء من الفضول سماحة حتى يعد به المعطي سمحا جوادا إلى أن يتحقق بوصف الإعطاء وما لديه قليل فإن الذي يجود وما لديه قليل هو الذي إعطاؤه من الفضول إذا كانت سماحة وأما الذي لم يتصف بالإعطاء من قليل ليس له سواه إذا أعطى من كثير لا يقال فيه سمح وسماحة وهذا ظاهر في أنها فيه للغاية فلا جرم أن قال المرادى ولا حجة فيه لإمكان جعلها فيه بمعنى إلى ومعنى البيت الثاني لا أترك أخذ ثأر أبي إلى أن أهلك هذين الحيين من أسد فإنهما المتعاضدان على قتله فحينئذ أترك وهذا ظاهر في كونها فيه للغاية أيضا أو أن سبب إبارتهم أن أباه لا يذهب باطلا فإبارتهم سبب عدم ذهابه باطلا في الخارج مسببة له ذهنا فإن تعقل عدم ذهابه باطلا إذ إبارهم سبب داع لإبارتهم وقد ظهر أن الترديد بين أن تكون للسببية والغاية إنما هو بالنسبة إلى البيت الثاني لا غير والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/157)
ص -79-…حروف الجر
"مسألة الباء مشكك للإلصاق" أي تعليق الشيء بالشيء وإيصاله به "الصادق في أصناف الاستعانة" أي طلب المعونة بشيء على شيء وهي الداخلة على آلة الفعل ككتبت بالقلم لإلصاقك الكتابة بالقلم "والسببية" وهي الداخلة على اسم لو أسند الفعل المعدى بها إليه صلح أن يكون فاعله مجازا نحو قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 22] إذ يصلح أن يكون الضمير المجرور فاعلا لأخرج فيكون التقدير فأخرج هو أي الماء فيندرج فيها باء الاستعانة كما ذكر ابن مالك إذ يصح أن يقال كتب القلم قال: والنحويون يعبرون عن هذه الباء بباء الاستعانة وآثرت على ذلك باء السببية من أجل الأفعال المنسوبة إلى الله تعالى كقوله تعالى: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ} [التوبة: 40] فإن استعمال السببية فيها يجوز واستعمال الاستعانة فيها لا يجوز لأن الله تعالى غني عن العالمين "والظرفية" مكانا وزمانا وهي ما يحسن في موضعها في كقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} [آل عمران: 123] {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} "والمصاحبة" وهي ما يحسن في موضعها مع والتعبير عنها وعن مصاحبها بالحال نحو: {قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} "فإنه" أي الإلصاق "في الظرفية مثلا كقمت بالدار أتم منه" أي الإلصاق "في مررت بزيد فتفريع باء الثمن عليه" أي الإلصاق كما فعل فخر الإسلام تفريع "على النوع" أي نوع الإلصاق الأعم "وعلى الخصوص الإلصاق الاستعانة" أي وأما تفريعها على خصوص من الإلصاق فتفريعها على الاستعانة "المتعلقة بالوسائل دون المقاصد الأصلية" إذ بالوسائل يستعان على المقاصد والمقصود الأصلي من البيع الانتفاع بالمبيع والثمن وسيلة إليه لأنه في الغالب من النقود التي لا ينتفع بها بالذات بل هي بمنزلة الآلات في قضاء الحاجات وأحسن بقول الحسن رحمه الله بئس الرفيق الدرهم والدينار لا ينفعانك(3/158)
حتى يفارقانك "فصح الاستبدال بالكر" من الحنطة "قبل القبض في اشتريت هذا العبد بكر حنطة وصفه" بما يخرجه عن الجهالة من جودة وغيرها لأنه ثمن لدخول الباء عليه فكان كسائر الأثمان في صحة الاستبدال والوجوب في الذمة حالا لأن المكيل مما يثبت في الذمة حالا "دون القلب" أي بعت كرا من الحنطة الموصوفة بكذا على وجه يخرجها من الجهالة بهذا العبد "لأنه" أي القلب "سلم" لأن العبد حينئذ ثمن لدخول الباء عليه والكر مبيع دينا في الذمة والمبيع الدين لا يكون إلا سلما "يوجب الأجل" المعين عند الجمهور منهم أصحابنا "وغيره" كقبض رأس مال السلم في المجلس "فامتنع الاستبدال به" أي بالكر "قبله" أي القبض "وإثبات الشافعي كونها" أي الباء "للتبعيض في امسحوا" برءوسكم "هو الإلصاق مع تبعيض مدخولها وأنكره" أي التبعيض "محققو العربية" منهم ابن جني كما تقدم في المسألة الثانية من المسائل المذيل بها المجمل باصطلاح الشافعية حتى قال ابن برهان النحوي الأصولي: من زعم أن الباء للتبعيض فقد أتى أهل العربية بما لا يعرفونه "وشربت بماء الدحرضين" أي والباء في قول عنترة إخبارا عن الناقة:
شربت بماء الدحرضين فأصبحت …زوراء تنفر عن حياض الديلم(3/159)
ص -80-…"للظرفية" أي شربت الناقة في محل هذا الماء قلت: أو للإلصاق والشرب على ظاهره أو مضمنا معنى رويت كما مشى عليه غير واحد في {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الانسان: 6] ولعل هذا أشبه كما لعل بقية البيت شاهدة بذلك والدحرضان ماءان: يقال لأحدهما وشيع وللآخر الدحرض فغلب في التثنية وقيل ماء لبني سعد وقيل بلد والزوراء المائلة والديلم نوع من الترك ضربهم مثلا لأعدائه يقول هذه الناقة تتجانف عن حياض أعدائه ولا تشرب منها وقيل الديلم: أرض "وشربن بماء البحر" أي والباء في هذا البيت وقد سبق في المسألة المشار إليها "زائدة وهو" أي كونها زائدة "استعمال كثير متحقق" كما يشهد به التتبع "وإفادة البعضية لم تثبت بعد" معنى مستقلا لها "فالحمل عليه" أي كونها زائدة "أولى" من الحمل على البعضية كما هو ظاهر "مع أنه لا دليل" على البعضية "إذ المتحقق علم البعضية ولا يتوقف" علمها "على الباء العقلية أنها" أي الناقة "لم تشرب كل ماء الدحرضين ولا استغرقن" أي السحب "البحر" قلت: وهذا مما يمنع الحمل على الزيادة وإن كانت الزيادة كثيرة في المفعول به ولا سيما وهي غير مقيسة وأن المختار أن ما أمكن تخريجه على غير الزيادة لا يحكم فيه بالزيادة فلا جرم أن قال ابن مالك: والأجود تضمين شربن معنى روين "ومثله" أي مثل هذا التبعيض "تبعيض الرأس فإنها" أي الباء "إذا دخلت عليه" أي الرأس "تعدى الفعل" أي المسح "إلى الآلة العادية" للمسح "أي اليد فالمأمور استيعابها" أي الآلة "ولا يستغرق" استيعابها "غالبا سوى ربعه" أي الرأس "فتعين" الربع "في ظاهر المذهب ولزم التبعيض عقلا غير متوقف عليها" أي الباء "ولا على حديث أنس في" سنن "أبي داود وسكت عليه" فهو حجة لقوله ذكرت فيه الصحيح وما يشبهه ويقاربه وقوله ما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح وبعضها أصح من بعض فلا جرم أن قال ابن الصلاح فعلى هذا ما(3/160)
وجدناه في كتابه مذكورا مطلقا وليس في واحد من الصحيحين ولا نص على صحته أحد ممن يميز بين الصحيح والحسن عرفناه بأنه من الحسن عنده وتعقب ابن رشيد هذا بأنه ليس يلزم ذلك إذ قد يكون عنده صحيحا وإن لم يكن عند غيره كذلك دفع بأن الاحتياط أن لا يرتفع إلى درجة الصحة وإن جاز أن يبلغها عنده لقوله فهو صالح أي للاحتجاج به اللهم إلا أن يكون رأيه انقسام الحديث إلى صحيح وضعيف كالمتقدمين فهو حينئذ صحيح على أن الاحتياط أن يقال: صالح كما هو قال ولفظ حديثه رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه "بل هو" أي حديث أنس "مع ذلك الدليل" المذكور آنفا "قائم على مالك" في إيجاب مسح الجميع "إذ قوله" أي أنس "فأدخل يديه" والذي رأيته في نسخة صحيحة يده "من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ظاهر في الاقتصار" عليه وهو الربع المسمى بالناصية كما يؤيده ما روى البيهقي عن عطاء أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فحسر العمامة ومسح مقدم رأسه أو قال: الناصية، وهذا حجة عندنا وإن كان مرسلا كيف وقد اعتضد بالمتصل نعم بقي هنا شيء وهو أن كون المفروض مقدار الناصية رواه الحسن عن أبي حنيفة والكرخي والطحاوي عن أصحابنا وهو الأشبه دليلا وأما أنه ظاهر(3/161)
ص -81-…المذهب فيعكره أن في الأصل تقديره بثلاث أصابع اليد فلا جرم أن في المحيط والتحفة أنه ظاهر الرواية اللهم إلا أن يقال المذكور فيه قول محمد "ولزوم تكرر الإذن" للبر "في إن خرجت إلا بإذني لأنه" أي الاستثناء "مفرغ للمتعلق أي" إن خرجت خروجا "إلا خروجا ملصقا به" أي بإذني "فما لم يكن" من الخروج "به" أي بأنه "داخل في اليمين لعموم النكرة" المؤولة من الفعل في سياق النفي فإن المعنى لا تخرجي خروجا إلا خروجا ملصقا بإذني "فيحنث به" أي بذلك الخروج الذي ليس بإذنه "بخلاف" إن خرجت "إلا أن آذن" لك "لا يلزم في البر تكرره" أي إذنه "لأن الإذن غاية" للخروج "تجوز بإلا فيها لتعذر استثناء الإذن من الخروج" لعدم المجانسة ولا يحسن فيه ذلك التقدير لاختلال إن خرجت خروجا إلا خروجا أن آذن لك وبين الغاية والاستثناء مناسبة ظاهرة لأنها قصر لامتداد المغيا وبيان لانتهائه كما أنه قصر للمستثنى منه وبيان لانتهاء حكمه وأيضا كل منهما إخراج لبعض ما تناوله الصدر فلا بدع في أن يتجوز بإلا فيها "وبالمرة" من الإذن "يتحقق" البر "فينتهي المحلوف عليه ولزوم تكرار الإذن" من النبي صلى الله عليه وسلم "في دخول بيوته عليه السلام مع تلك الصيغة" أي إلا أن يؤذن لكم ليس بها بل "بخارج" عنها أي "تعليله" تعالى الدخول بلا إذن "بالأذى" حيث قال: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب: 53] فلا إشكال.
مسألة(3/162)
"على للاستعلاء حسا" كقوله: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون:22] "ومعنى" كأوجبه عليه وعليه دين ومن ثمة قال "فهي في الإيجاب والدين حقيقة" أما في الإيجاب فظاهر وأما في الدين "فإنه" أي الدين "يعلو المكلف" معنى "ويقال: ركبه دين" إذا علاه معنى وهو لزومه له "فيلزم في علي ألف" لفلان ألف له لأن باللزوم يتحقق الاستعلاء حتى يثبت للمقر له المطالبة والحبس للمقر وهذا "ما لم يصله بمغير وديعة" فإن وصله بها حمل على وجوب الحفظ الذي هو مجاز "لقرينة المجاز" وهو وديعة وإنما اشترط وصله لما عرف من أن البيان المغير إنما يعتبر إذا كان متصلا بالمغير "وفي المعاوضات المحضة" أي الخالية عن معنى الإسقاط "كالإجارة" فإنها معاوضة مال بمنافع "والنكاح" فإنه معاوضة مال بالبضع والبيع فإنه معاوضة مال بمال "مجاز في الإلصاق" نحو بعتك هذا العبد على ألف ونحو "احمله على درهم وتزوجت على ألف لمناسبته" أي الإلصاق "اللزوم" فإن الشيء إذا لزم شيئا التصق به "وفي الطلاق للشرط عنده" أي أبي حنيفة "ففي طلقني ثلاثا علي ألف لا شيء له" أي للزوج عليها إذا أجابها "بواحدة" وإنما يقع عليها طلقة رجعية عنده "لعدم انقسام الشرط على المشروط" اتفاقا لأن ثبوتهما بطريق المعاقبة اتفاقا ضرورة توقف المشروط على الشرط من غير عكس "وإلا" لو لزمها ثلث الألف بواحدة "تقدم بعضه" أي المشروط "عليه" أي الشرط لأن الشرط مجموع الطلقات الثلاث فلا تتحقق المعاقبة بينهما وهو باطل اتفاقا "وعندهما للإلصاق عوضا" لأن الطلاق على مال معاوضة من جانبها ولذا كان لها الرجوع قبل كلام الزوج وكلمة على تحتمل معنى الباء فيحمل عليها بدلالة الحال "فتنقسم الألف" على الطلقات الثلاث فيقع عليها(3/163)
ص -82-…واحدة بائنة بثلث الألف عندهما "للمعية" الثابتة لكل جزء من العوضين في مقابلة الآخر لأن ثبوت العوضين بطريق المقابلة اتفاقا وهي إنما تتحقق بالمقارنة لأن المتأخر لا يقابل المتقدم فيثبت كل جزء من أحدهما في مقابلة كل جزء من الآخر ويمتنع تقدم أحدهما على الآخر كالمتضايفين "ولمن يرجحه" أي قولهما أن يقول "إن الأصل فيما علمت مقابلته" بمال "العوضية" وهذا مما علمت مقابلته به فيتعين فيه العوضية والاتفاق على أن العوض تنقسم أجزاؤه على أجزاء المعوض فتبين منه بواحدة بثلث الألف "وكونه" أي على "مجازا فيه" أي الإلصاق "حقيقة في الشرط" كما ذكره شمس الأئمة السرخسي "ممنوع لفهم اللزوم فيهما" أي الشرط والإلصاق "وهو" أي اللزوم هو المعنى "الحقيقي وكونه" أي على حقيقة "في معنى يفيد اللزوم" وهو الإلصاق "لا فيه" أي لا أنه حقيقة في اللزوم "ابتداء يصيره" أي على لفظا "مشتركا" بين الشرط والإلصاق وإذا كان كذلك "فمجاز" أي فعلى مجاز "فيهما" أي في الإلصاق والشرط وفيه نظر بل الذي يظهر فحقيقة فيهما كما هو الموافق لما كتبه المصنف حاشية على بعض أوائل هذه المسألة من أن الوجه ما ذكره هنا من أنها للاستعلاء الصادق في ضمن اللزوم وغيره وعلى هذا فرع أنها في كل من الإلصاق في العوض والشرط حقيقة لأنهما من أفراد اللزوم فانتظم أن على ضمني وضع للاستعلاء الصادق في محال اللزوم وغيره كجلس على السطح ا هـ. وإذا كان حقيقة في كل منهما فليس أحدهما بمترجح على الآخر بكونه حقيقة بل بغير ذلك وحينئذ فالشأن فيما تقدم إذ لقائل أن يقول أن كون الأصل فيما علمت مقابلته العوضية إنما هو فيما وجب فيه المعاوضة الشرعية المحضة أما ما يصح هي أو الشرط المحض فيه فلا والطلاق من هذا وليس كون مدخولها ما لا مرجحا لمعنى الاعتياض فإن المال يصح جعله شرطا محضا غير منقسم أجزاؤه على أجزاء مقابله كإن طلقتني ثلاثا فلك ألف فإن في هذا لا يكون شيء من الثلاث مقابلا(3/164)
لشيء من الألف بل المجموع يلزم عند المجموع كما يصح جعله عوضا منقسما أجزاؤه على أجزاء مقابله كإن طلقتني ثلاثا بألف فدار الأمر بين لزوم ثلث الألف وعدمه فلا يلزم بالشك ولا يحتاط في اللزوم لأن الأصل فراغ الذمة حتى يتحقق اشتغالها فيترجح قوله على قولهما وهذا على أنه حقيقة في الاستعلاء واللزوم من أفراده قال المصنف رحمه الله: ولو تنزلنا إلى أنه حقيقة في الاستعلاء مجاز في اللزوم لم يضرنا في المطلوب فنقول: لما تعذرت الحقيقة أعني الاستعلاء كان في المجازي أعني اللزوم وهذا المعنى المجازي معنى كلي صادق مع ما يجب فيه الشرطية وما يجب فيه المعاوضة إلى آخر ما قلنا بعينه والله سبحانه أعلم.
مسألة
"من تقدم مسائلها" في بحثي من وما "والغرض" هنا "تحقيق معناها فكثير من الفقهاء" كفخر الإسلام وصاحب البديع هي "للتبعيض" وعلامته إمكان سد بعض مسدها ولا يتوهم مرادفتها له فإن الترادف لا يكون بين مختلفي الجنس "وكثير من أئمة اللغة" كالمبرد ذهبوا إلى كونها "لابتداء الغاية ورجع معانيها إليه" أي إلى ابتداء الغاية وفي التلويح والمراد بالغاية(3/165)
ص -83-…في قولهم من لابتداء الغاية وإلى لانتهاء الغاية هو المسافة إطلاقا لاسم الجزء على الكل إذ الغاية من النهاية وليس لها ابتداء وانتهاء وستعلم ما للمصنف في هذا في إلى "فالمعنى في أكلت من الرغيف ابتداء أكلي" الرغيف وفي أخذت من الدراهم ابتداء أخذي الدراهم "وهو" أي هذا المعنى "مع تعسفه" لمخالفته الظاهر من غير موجب "لا يصح لأن ابتداء أكلي وأخذي لا يفهم من التركيب ولا مقصود الإفادة بل تعلقه" أي الفعل كالأكل والأخذ فيهما "ببعض مدخولها" الذي هو الرغيف والدراهم "وكيف" يصح هذا "وابتداؤه" أي الفعل "مطلقا قد يكذب" لكونه قد فعله متعلقا بغير المذكور قبل المذكور "وتخصيصه" أي الفعل "بذلك الجزئي" الخاص كالرغيف والدراهم "غير مفيد واستقراء مواقعها يفيد أن متعلقها إن تعلق بمسافة قطعا لها" أي للمسافة "كسرت ومشيت أو لا" قطعا لها "كبعت" من هذا الحائط إلى هذا الحائط "وآجرت" الدار من شهر كذا إلى شهر كذا "فلابتداء الغاية أي ذي الغاية وهو" أي ذو الغاية "ذلك الفعل أو متعلقه" أي ذلك الفعل وهو المكان أو الزمان "المبين منتهاه وإن أفاد" متعلقها "تناولا كأخذت وأكلت وأعطيت فلإيصاله" أي المتعلق "إلى بعض مدخولها فعلمت تبادر كل من المعنيين" ابتداء الغاية والتبعيض "في محله أي مع خصوص ذلك الفعل فلم يبق إلا إظهار مشترك" معنوي "يكون" لفظ من موضوعا "له أو" الاشتراك "اللفظي" بينهما "إما" أن من "حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر بعد استوائهما" أي المعنيين "في المدلولية والتبادر في محليهما فتحكم وانتفى جعلها" أي حقيقتها "الابتداء ورد التبعيض إليه" أي إلى ابتداء الغاية "فمشترك" أي فإذا من مشترك "لفظي" بين معانيها والمعين لكل الاستعمال في المتعلق الخاص "ويرد البيان" أي كونها للبيان وعلامته صلاحية وضع الذي موضعها وجعل مدخولها مع ضمير مرفوع قبله صلتها كقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج: 30] إذ(3/166)
يصح الرجس الذي هو الأوثان "إلى التبعيض بأنه" أي التبعيض "أعم من كونه" أي التبعيض "تبعيض مدخولها من حيث هو متعلق الفعل أو كون مدخولها" في نفسه من حيث هو "بعضا بالنسبة إلى متعلق الفعل" فالأوثان بعض الرجس.
مسألة
"إلى للغاية أي دالة على أن ما بعدها منتهى حكم ما قبلها وقولهم لانتهاء الغاية تساهل وكذا" هو تساهل "بإرادة المبدأ إذ يطلق" الغاية "بالاشتراك عرفا بين ما ذكرنا" من كون ما بعدها منتهى حكم ما قبلها "ونهاية الشيء من طرفيه" أوله وآخره "ومنه لا تدخل الغايتان" في علي من درهم إلى عشرة حتى يلزمه ثمانية كما هو قول زفر وإنما كان القول المذكور تساهلا "لأن الدلالة بها" أي بإلى "على انتهاء حكمه" أي حكم ما قبلها "لا" على "انتهائه" أي المغيا نفسه ومن ثمة جاز أكلت السمكة إلى نصفها "وفي دخوله" أي ما بعدها في حكم ما قبلها أربعة مذاهب يدخل مطلقا لا يدخل مطلقا يدخل إن كان من جنس ما قبلها ولا يدخل إن لم يكن والاشتراك أي يدخل حقيقة ولا يدخل حقيقة كذا ذكر صدر الشريعة فلا جرم أن قال المصنف "كحتى" وهو يعين كون الرابع في حتى الاشتراك على ما فيه من بعد كما ذكره(3/167)
ص -84-…ثمة ثم في التلويح القول بكونه حقيقة في الدخول فقط مذهب ضعيف لا يعرف له قائل ا هـ وعزاه الإستراباذي إلى بعضهم ولم يسمه وقال المصنف: "ونقل مذهب الاشتراك في إلى غير معروف" وكذا في حتى كما أشار إليه ثمة "ومذهب يدخل" بالقرينة "ولا يدخل بالقرينة غيره" أي غير مذهب الاشتراك لأن معنى هذا المذهب ما سيذكره من أنها لا تفيد سوى أن ما بعدها منتهى الحكم ودخوله وعدم دخوله غير مدلول لها بل للقرينة بخلاف مذهب الاشتراك فإن حقيقته أنها وضعت لإفادة أن ما بعدها منتهى مع دخوله ووضعت وضعا آخر لإفادة أنه منتهى مع عدم دخوله فكان دخولها وعدم دخولها مدلولين لها "فلعله" أي مذهب يدخل ولا يدخل بالقرينة "التبس به" أي بمذهب الاشتراك فوضع مذهب الاشتراك موضعه ثم أوضح معنى هذا المذهب بقوله "فلا يفيد حتى وإلى سوى أن ما بعدهما" أي بعد كل منهما "منتهى الحكم" أي حكم ما قبل كل منهما "ودخوله" أي ما بعد كل منهما في حكم ما قبله "وعدمه" أي عدم دخول ما بعد كل في حكم ما قبله إنما هو "بالدليل" على ذلك في موارد استعمالهما "وإليه" أي إلى هذا المذهب "أذهب فيهما" أي في حتى وإلى. "ولا ينافي" هذا المذهب "إلزام الدخول في حتى" عند عدم القرينة كما هو قول أكثر المحققين "وعدمه" أي وإلزام عدم الدخول "في إلى" عند عدم القرينة كما هو قول أكثر المحققين أيضا "لأنه" أي إلزام الدخول وعدمه "إيجاب الحمل عند عدم القرينة للأكثرية فيهما حملا على الأغلب لا مدلولا لهما" فإن الأغلب في حتى الدخول مع قرينته وفي إلى عدم الدخول مع قرينته فيجب الحمل على الأغلب عند التردد لانتفاء القرينة "والتفصيل" إلى إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها فيدخل وإلا فلا تفصيل "بلا دليل" وأشار إلى نفي ما يخال دليلا عليه بقوله "وليس يلزم الجزئية الدخول ولا" يلزم "عدمها" أي الجزئية "عدمه" أي الدخول "إلا أن يثبت استقراؤه" أي هذا التفصيل "كذلك فيحمل" إلى حينئذ عليه "كما(3/168)
قلنا" والشأن في ذلك "وكذا" بلا دليل "تفصيل فخر الإسلام إن كانت" الغاية "قائمة أي موجودة قبل التكلم غير مفتقرة" في الوجود "إلى المغيا أي متعلق الفعل لا الفعل لم تدخل كإلى هذا الحائط والليل في الصوم إلا إن تناولها" أي الغاية "الصدر كالمرافق" في وأيديكم إلى المرافق لأن اليد تتناول الجارحة المعروفة من رءوس الأصابع إلى الإبط وليست المرافق آخرها فيدخل "فأدخل" فخر الإسلام "في القائمة الجزء مطلقا" أي سواء كان آخرا أو لا "والليل" في وأتموا الصيام إلى الليل قال المصنف: وإنما لزم ذلك لأنه استثنى من حكم القائمة بنفسها ما يتناوله اللفظ والجزء مما يتناوله ثم إنما كان هذا بلا دليل لأن كونه مما يشمله الصدر لا يقتضي أنه لا يخرج كما فيما بعده فكما أخرج ما بعد مدخولها وهو مشمول اللفظ لدلالتها على إخراجه جاز أن يخرج مدخولها لدلالتها على أن مدخولها عند المنتهى لا معه "وغيره" أي غير فخر الإسلام كصاحب المنار وصدر الشريعة قال: "إن قامت" الغاية "لا" تدخل "كرأس السمكة وإلا" إن لم تقم "فإن تناولها" الصدر "كالمرافق دخلت وإلا" إن لم يتناولها الصدر "لا" تدخل "كالليل" في الصوم لأن مطلقه ينصرف إلى الإمساك ساعة بدليل مسألة الحلف "فأخرجوهما" أي المرافق والليل عن القائمة(3/169)
ص -85-…وفخر الإسلام أدخلهما "قيل": أي قال الشيخ سراج الدين الهندي ما معناه "مبناه" أي قول غير فخر الإسلام وموافقيه "على تفسير القائمة" بنفسها "بكونها غاية قبل التكلم" أي أنهم أرادوا به "غاية بذاتها لا بجعلها" غاية "بإدخال إلى عندهم" ولا شك أن كلا من المرافق والليل ليس غاية قائمة بنفسها على هذا التفسير لأن كلا منهما إنما صار غاية بالجعل قال المصنف: "ولا يخفى أنه" أي هذا القول "مبني على إرادة منتهى الشيء لا" منتهى "الحكم" بالقائمة "فخرج الليل والجزء غير المنتهى" كالمرافق من القائمة لأن الليل ليس منتهى الصيام والمرافق ليست منتهى اليد "واختص" كونها قائمة على هذا عندهم "بنحو إلى الحائط ورأس السمكة" مما هو منتهى الشيء "وبالمجموع" أي واختص كونها قائمة بمجموع كونها منتهى المغيا ومنتهى حكمه "عنده" أي فخر الإسلام "فدخلا" أي المرافق والليل في القائمة "وفيه" أي كون هذا مبنى الخلاف "نظر لأنه" أي فخر الإسلام "أدخل المرافق" في القائمة "مع انتفاء صدق المجموع عليها" أي المرافق فإنها ليست بمنتهى اليد ولا حكم اليد "والحق أن الاعتبار" في الدخول وعدمه "بالتناول" أي بتناول صدر الكلام للمغيا والغاية معا "وعدمه" أي التناول "فيرجع" كون مناط الدخول وعدمه التناول وعدمه "إلى التفصيل النحوي" إلى أن ما بعدها إن كان جزءا مما قبلها دخل وإلا فلا "ولذا خطئ من أدخل الرأس" من السمكة "في القائمة وحكم بعدم دخول القائمة مطلقا" في حكم المغيا وهو صدر الشريعة "ولم يزد التفصيل إلى القائمة وغيرها سوى الشغب" في المراد بالقائمة ثم هو بالتسكين تهييج الشر ولا يقال شغب كذا في الصحاح وحكى ابن دريد رجل ذو شغب وشغب "فعدم دخول العاشر عنده" أي أبي حنيفة "في له من درهم إلى عشرة لعدم تناوله" أي الدرهم "إياه" أي العاشر فلزمه تسعة "وأدخلاه" أي العاشر "بادعاء الضرورة إذ لا يقوم" العاشر غاية "بنفسها" لعدم وجوده بدون تسعة قبله فلم(3/170)
يكن له وجود قبل هذا الكلام "فلا يكون" العاشر غاية "إلا موجودة" أي إلا بعد الوجود "وهو" أي وجودها "بوجوبها" فيجب "وصار" العاشر "كالمبدأ" وهو الدرهم الأول في الدخول ضرورة فلزمه عشرة "وقال" أبو حنيفة "المبدأ" أي دخوله "بالعرف" ودلالة الحال "والإثبات" للأول "لمعروض الثانوية" أي لأجل إثبات الثانوية للثاني ضرورة ثبوت الثاني وهلم جرا "إلى العاشرية" أي لإثباتها للعاشر "لا يثبت العاشر" لعدم احتياج إثبات التاسعية للتاسع إلى العاشر "ووجوده" أي العاشر إنما هو "لكونه غاية في التعقل لتحديد الثابت دونه" أي دون العاشر وهو التاسع "وإضافة كل ما قبله" أي العاشر "من الثاني إلى التاسع يستدعي ما قبلها لا ما بعدها كالعاشر ولو استدعاه" أي ما بعدها العاشر "كان" استدعاؤه إياه "في الوجود لا في ثبوت حكمه" أي الوجود وهو الوجوب "له" أي للعاشر "لأنه" أي الحكم بشيء "على معروض وصف مضايف" لوصف آخر "لا يوجبه" أي الحكم بشيء آخر "على معروض" الوصف "الآخر وإلا" لو كان الحكم على معروض وصف مضايف لوصف آخر يوجبه على معروض الوصف الآخر "وجب قيام الابن للحكم به" أي لما يحكم به "على الأب" لمضايفته له وليس كذلك ومن ثمة لا يلزم من الحكم بكون الأب في الدار كون الابن فيها(3/171)
ص -86-…ضرورة أن الأب لا يتصور بدون الابن "ولذا" أي ولكون الحكم بشيء على معروض وصف مضايف لوصف آخر لا يوجب الحكم به على معروض الوصف الآخر "لم يقع بطالق ثانية غير واحدة" لكون الثانية لا تتحقق إلا بوقوع الأولى غير أن وصف الثانوية لما كان غير مقصود الثبوت هنا. وإنما المقصود أنت طالق وهو ممكن الثبوت بدون كونه ثانية وكونه ثانية هنا غير ممكن الثبوت لأن كونه ثانية إنما هو بإيقاع أخرى سابقة على هذا الإيقاع وهي غير ممكنة هنا لأنه لم يجر لها ذكر يحتمل الثبوت والطلاق لا يثبت إلا باللفظ لغا وصف الثانوية ووقع معروضها الذي هو الطلاق غير موصوف بهذه الصفة "ووقوعهما" أي الطلقتين عند أبي حنيفة "في" أنت طالق "من واحدة إلى ثلاث بوقوع الأولى للعرف لا لذلك" أي التضايف بينها وبين الثانية "ولا لجريان ذكرها" أي الأولى "لأن مجرده" أي ذكرها "لا يوجبه" أي وقوعها "إذا لم تقتضه" أي وقوعها بمجرد ذكرها "اللغة وبهذا" أي كون مجرد ذكر الشيء لا يقتضي وقوعه إذا لم تقتضه اللغة "بعد قولهما في إيقاع الثالثة" أي بإيقاعها "ومثله" أي هذا الخلاف "الخلاف في دخول الغد غاية للخيار واليمين" في بعتك هذا بكذا على أني بالخيار إلى غد، ووالله لا أكلمك إلى غد "في رواية الحسن" بن زياد عن أبي حنيفة "عنده" أي أبي حنيفة "للتناول" أي تناول الكلام الغاية "لأن مطلقه" أي كل من ثبوت الخيار ونفي الكلام "يوجب الأبد فهي" أي الغاية فيهما "لإسقاط ما بعدها" فيدخل الغد في الخيار وفي اليمين "وما وقع" في نسخ من أصول فخر الإسلام وكذلك "في الآجال والأثمان" في رواية الحسن عنه "غلط لإنفاق الرواية على عدمه" أي دخول الغاية "في أجل الدين والثمن والإجارة" كاشتريت هذا بألف درهم إلى شهر كذا أو آجرتك هذه الدار بمائة إلى شهر كذا فلا يدخل ذلك الشهر في الأجل "وهو" أي عدم الدخول هو "الظاهر" أي الرواية عنه "في اليمين" فلا جرم أن كان الصواب في الآجال في الأيمان(3/172)
كما في بعض النسخ "فلزمه" أي أبا حنيفة "الفرق" بين هذه وبين اليمين "فقيل" في الفرق بين هذه وبين اليمين: ذكر الغاية "في الأولين" أي الدين والثمن "للترفيه" أي التخفيف والتوسعة "ويصدق" الترفيه "بالأقل زمانا فلم يتناولها" أي الكلام الغاية "فهي" أي الغاية فيهما "للمد" أي لمد الحكم إليها "والإجارة تمليك منفعة" بعوض مالي "ويصدق" تمليكها "كذلك" أي بالأقل زمانا "وهو" أي تمليكها كذلك "غير مراد فكان" المراد منها "مجهولا" لجهالة مقدار المدة المرادة "فهي" أي الغاية فيها "لمدة" أي الحكم "إليها" أي الغاية "بيانا لقدر" مجهول فلم تدخل الغاية "وقول شمس الأئمة في وجه الظاهر" في عدم دخول الغد في اليمين "في حرمة الكلام" ووجوب الكفارة به "في موضع الغاية شك" لأن الأصل عدم الحرمة للنهي عن هجران المسلم وعدم وجوب الكفارة بكلامه "وما نسب إليهما" أي الصاحبين من أن الغاية في هذه المسائل "لا تدخل" في المغيا "إلا بدليل ولذا" أي ولعدم دخولها فيه "سميت غاية لأن الحكم ينتهي إليها وإنما دخلت المرافق بالسنة" فعلا كما روى الدارقطني والبيهقي عن جابر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدير الماء على المرافق "وبحث القاضي إذا قرن الكلام بغاية أو استثناء أو شرط لا يعتبر بالمطلق لم يخرج بالقيد" عن(3/173)
ص -87-…الإطلاق "بل بجملته" أي بل يعتبر مع القيد جملة واحدة "فالفعل مع الغاية كلام واحد للإيجاب إليها" أي الغاية "لا للإيجاب والإسقاط" لأنهما ضدان فلا يثبتان إلا بنصين والكلام مع الغاية نص واحد "يوجب أن لا اعتبار بذلك التفصيل" النحوي فقوله وقول شمس الأئمة مبتدأ وكل من قوله وما نسب إليهما ومن قوله وبحث القاضي معطوف عليه ويوجب خبره يعني أنه يؤيد ما رده من التفصيل بين كون محل الغاية متناول الصدر فيدخل أو لا، فلا حيث قال: والتفصيل بلا دليل والوجه المذكور لهم وهو أنه إذا كان مشمولا كان اللفظ مثبتا للحكم فيها وفيما وراءها فذكرها يكون لإخراج ما وراءها غير تام إذ يقال: لم لا يكون ذكرها لإخراج الكل منها ومما وراءها فإن الحاصل تعليق الحكم ببعض المسمى فجاز كونه البعض الذي منه محل الغاية كما جاز كونه ما سواه ذكره المصنف "بل الإدخال بالدليل من وجوب احتياط أو قرينة وهو" أي الدليل على الإدخال "في الخيار كونه" أي الخيار شرع "للتروي وقد ضرب الشرع له" أي للتروي "ثلاثة" من الأيام بلياليها "حيث ثبت" التروي "كالبيع" فروى الحاكم في المستدرك وسكت عليه عن ابن عمر قال: كان حبان بن منقذ رجلا ضعيفا وكان قد أصابته في رأسه مأمومة فجعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيار إلى ثلاثة أيام فيما اشتراه. وأخرجه البيهقي عن ابن عمر سمعت رجلا من الأنصار يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يزال يغبن في البيوع فقال له: "إذا ابتعت فقل لا خلابة ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال". إلى غير ذلك "والردة" فأخرج مالك في الموطأ عن عمر أن رجلا أتاه من قبل أبي موسى فقال له: هل من مغربة خبر 1 قال: نعم رجل ارتد عن الإسلام فقتلناه فقال: هلا حبستموه في بيت ثلاثة أيام وأطعمتموه كل يوم رغيفا لعله يتوب ثم قال: اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض "لأنها" أي الثلاثة "مظنة إتقانه" أي التروي اتقانا "تاما فالظاهر(3/174)
إدخال ما عين غاية" للتروي "دونها" أي ثلاثة أيام "وعلى هذا" البحث "انتفى بناء إيجاب" غسل "المرافق عليه" أي على كونه متناولا للصدر إذ ظهر أن لا أثر لكونه جزءا في الدخول في الحكم "وما قيل" أي وانتفى أيضا توجيه غير واحد من الحنفية والشافعية افتراض غسل المرافق بكونه مبنيا "على استعمالها" أي إلى "للمعية" كما في {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} "بعد قولهم اليد" من رءوس الأصابع "إلى المنكب" وإنما انتفى "لأنه" أي هذا القول "يوجب الكل" أي غسل اليد إلى المنكب "لأنه كاغسل القميص وكمه وغايته" أي ذكر المرافق حينئذ "كإفراد فرد من العام" بحكم العام "إذ هو" أي ذكر المرافق "تنصيص على بعض متعلق الحكم" وهو اليد "بتعليق عين ذلك الحكم" بذلك البعض "وذلك" أي وإفراد فرد من العام بحكم العام "لا يخرج غيره" أي غير ذلك الفرد عن حكم العام فكذا التنصيص على المرافق لا يقتضي إخراج ما وراءها من وجوب الغسل المتعلق بالأيدي "ولو أخرج" التنصيص على
ـــــــــــــــــــ
1 قوله: "هل من مغربة خبر" مغربة بتشديد الراء المكسورة بين غين معجمة وباء موحدة أي هل من خبر جاء من بعيد. يقال غرب البلاد أمعن فيها وأبعد. كتبه مصححه.(3/175)
ص -88-…الفرد منه غيره عن حكمه "كان" إخراجا "بمفهوم اللقب" وهو مردود فكذا هذا "وما قيل" أي وانتفى أيضا ما مشى عليه صاحب المحيط رضي الدين وغيره في توجيه افتراض غسل المرافق بما حاصله أنه "لضرورة غسل اليد إذ لا يتم" غسلها "دونه" أي غسل المرفق "لتشابك عظمات الذراع والعضد" وعدم إمكان التمييز بينهما فيتعين للخروج عن عهدة افتراض غسل الذراع بيقين غسل المرفق وإنما انتفى "لأنه لم يتعلق الأمر بغسل الذراع ليجب غسل ما لازمه" وهو طرف عظم العضد "بل" تعلق وجوب الغسل "باليد إلى المرفق وما بعد إلى لما لم يدخل" كما هو الفرض "لم يدخل جزآهما" أي الذراع والعضد "الملتقيان" في المرفق "وما قيل" أي وانتفى أيضا توجيه افتراض غسل المرفق كما في الاختيار من أنه لما اشتبه المراد بغسل اليد إلى المرفق "للإجمال" لأن إلى تستعمل للغاية وبمعنى مع "وغسله" المرفق صلى الله عليه وسلم "فالتحق" غسله "به" أي بغسل اليد إلى المرفق "بيانا" لما هو المراد منه وإنما انتفى "لأن عدم دلالة اللفظ" يعني وأيديكم إلى المرافق على دخول المرفق في الغسل "لا يوجب الإجمال" فيما هو المراد بقوله إلى المرافق ولا سيما "والأصل البراءة بل" الذي يوجب الإجمال "الدلالة المشتبهة" على المراد اشتباها لا يدرك إلا ببيان من المجمل وهي مفقودة هنا وحين كان الأمر على هذا "فبقي مجرد فعله" صلى الله عليه وسلم "دليل السنة" كما فعل زفر بقوله "وما قيل" أي وانتفى أيضا توجيه افتراض غسل المرفق كما هو مذكور في غير ما كتاب من كتب الحنفية بأن الغاية "تدخل" تارة كما في حفظت القرآن من أوله إلى آخره "ولا" تدخل أخرى كما في قوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] "فتدخل احتياطا" هنا لأن الحدث متيقن فلا يزول بالشك وإنما انتفى "لأن الحكم إذا توقف على الدليل لا يجب مع عدمه" أي الدليل والفرض انتفاء دليل الحكم الذي هو وجوب غسل المرفق في الآية "والاحتياط العمل(3/176)
بأقوى الدليلين وهو" أي العمل بأقواهما "فرع تجاذبهما وهو" أي تجاذبهما "منتف" إذ لم يشتمل المتنازع فيه على دليلين يتنازعان في غسل المرفق إيجابا ونفيا "وما قيل" أي وانتفى أيضا توجيه افتراض غسل المرافق كما ذكره بعضهم بأن قوله إلى المرفقين غاية 1 "لمسقطين مقدر" حتى كأنه قال: فاغسلوا أيديكم حال كونكم مسقطين المنكب إلى المرفق وإنما انتفى "لأنه خلاف الظاهر بلا ملجئ" إليه إذ الظاهر تعلقه بالفعل المذكور "وما قيل" أي وانتفى أيضا توجيه وجوب غسل المرفق كما مشى عليه الشيخ قوام الدين الكاكي من أن إلى المرافق "متعلق باغسلوا مع أن المقصود منه الإسقاط" أي فهو غاية لا غسلوا لكن لأجل إسقاط ما وراء المرفق عن حكم الغسل وإنما انتفى "لأنه" أي اللفظ "لا يوجبه" أي هذا المراد "وكونه" أي إلى المرافق "متعلقا باغسلوا مع أن المقصود منه" أي اغسلوا "الإسقاط" عما وراء المرفق "لا يوجبه" أي الإسقاط "عما فوق المرافق بل" إنما يوجب الإسقاط "عما قبله" أي المرافق "باللفظ مع أنه" أي هذا التوجيه "بلا قاعدة والأقرب" من هذا كله أن لزوم غسلها "الاحتياط لثبوت الدخول
ـــــــــــــــــــ
1 إلى المرفقين هكذا في الأصول التي بيدنا والتلاوة إلى المرافق كتبه مصححه.(3/177)
ص -89-…وعدمه" أي الدخول "كثيرا ولم يرو عنه صلى الله عليه وسلم قط تركه" أي غسل المرافق "فقامت قرينة إرادته" أي الدخول "من النص ظنا فأوجب" هذا التوجيه "للاحتياط" بالغسل "إلا أن مقتضاه" أي هذا التوجيه "وجوب إدخالهما" أي المرفقين في غسل اليدين "على أصلهم" أي الحنفية لأنه ثبت بدليل ظني لا افتراض دخولهما ولكن ظاهر كلامهم الافتراض وإن أطلق بعضهم الوجوب عليه والحق أن إطلاق الوجوب عليه يجب أن يكون بالمعنى الحقيقي الاصطلاحي له ويجب أن يكون هو المراد من إطلاق الفرض عليه لا بالقلب ومن ثمة لم يكفروا هم ولا غيرهم المخالف في ذلك والله تعالى أعلم "أو يثبت استقراء التفصيل" بين ما كان جزءا فيدخل وإلا فلا "فيحمل" الغاية "عليه" أي على التفصيل "عند عدم القرينة في الآية" فتدخل افتراضا إن كان الاستقراء تاما قطعيا والشأن في ذلك.
مسألة(3/178)
"في للظرفية" بأن يشتمل المجرور على متعلقه اشتمالا مكانيا أو زمانيا "حقيقة" كالماء في الكوز والصلاة في يوم الجمعة "فلزما" أي الظرف والمظروف "في غصبته ثوبا في منديل" لأنه أقر بغصب مظروف في ظرف وغصب الشيء وهو مظروف لا يتحقق بدون الظرف "ومجازا كالدار في يده و" هو "في نعمة" جعلت يده ظرفا للدار لاختصاصها بها منفعة وتصرفا والنعمة ظرفا له لغمرها إياه "وعم متعلقها مدخولها" حال كونها "مقدرة لا ملفوظة" وهذا العموم ثابت "لغة للفرق" لغة وعرفا "بين صمت سنة وفي سنة" فإن الأول يفيد استيعاب السنة بالصوم والثاني يفيد وقوعه فيها وهو يصدق بوقوعه في بعض يوم منها إذ ليس من ضرورة الظرفية الاستيعاب ومما يرشد إلى هذا قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51] فإنه لا استيعاب فيما فيه الحرف وهو ثابت فيما لا حرف فيه والنكتة فيه أن نصرة الله إياهم في العقبى دائمة بخلاف النصرة في الدنيا فإنها إنما هي في أوقات لأنها دار ابتلاء "فلم يصدق قضاء في نيته آخر النهار في طالق غدا" وصدق ديانة عند الكل "وصدق في" طالق "في غد" قضاء وديانة في نيته آخر النهار عنده "خلافا لهما" فقالا: يصدق ديانة لا غير لأنه وصفها بالطلاق في جميع الغد كالأول لأن حذف لفظة مع إرادتها وإثباتها سواء وحيث كان حذفها يفيد عموم الزمان فإثباتها كذلك ومن ثمة يقع في إثباتها في أول جزء من الغد عند عدم النية اتفاقا وله أن ذكرها يفيد وصل متعلقها بجزء من مدخولها أعم من كونه متصلا بجزء آخر أو كله أو لا وإنما يعرف أحدها من خارج لا مدلول اللفظ فإذا نوى جزءا من الزمان خاصا فقد نوى حقيقة كلامه لأن ذلك الجزء من أفراد المتواطئ "وإنما يتعين أول أجزائه" أي الغد "مع عدمها" أي النية "لعدم المزاحم" لسبقه بخلاف ما إذا لم يذكر ووصل الفعل إلى الغد بنفسه فإن المفاد حينئذ العموم من(3/179)
اللغة قطعا كما ذكرنا فنية جزء معين فيه خلاف الظاهر وفيه تخفيف عليه فلا يصدق قضاء "وتنجز نحو طالق في الدار والشمس لعدم صلاحيته" أي كل من الدار والشمس "للإضافة" أي إضافة الطلاق إليه لأنه تعليق معنى والتعليق إنما يكون بمعدوم على خطر الوجود والمكان المعين،(3/180)
ص -90-…وما في معناه من الأشياء الثابتة ليس كذلك وإذا بطل التعليق فقد خلا اللفظ في المعنى عنه فيقع في الحال "إلا أن يراد" بقوله في الدار "نحو دخولكها" أي في دخولك الدار حال كون الدخول "مضافا" إلى الدار وحذف اختصارا "أو" يراد به "المحل في الحال" الذي هو الدخول مجازا "أو" يراد به "استعمالها" أي في "في المقارنة" أي بمعنى مع لأن في الظرف معنى المقارنة للمظروف إذ من قضيته الاحتواء عليه فهو حينئذ "كالتعليق توقفا" كما للمقارن مع مقارنه "لا" كالتعليق "ترتبا" كما للمعلق على الشرط معه كما ذهب إليه البعض "فعنه" أي كونه كالتعليق توقفا لا ترتبا "لا تطلق أجنبية قال لها: أنت طالق في نكاحك" ثم تزوجها كما لو قال: مع نكاحك ; لأن إيجاب الطلاق المقارن للنكاح لغو وإلا لو كان كالتعليق ترتبا طلقت كما لو قال: إن تزوجتك فأنت طالق هذا وحذف المضاف أو التجوز المذكور خلاف الظاهر ومن ثمة لم يصدق فيه قضاء وصدق ديانة لاحتمال اللفظ ثم على كل منهما لا يصلح الدخول ظرفا للطلاق على معنى أنه شاغل له لأنه عرض لا يبقى فلا بد أن يصار إلى أنه من قبيل المصدر المراد به الزمان كأتيتك قدوم الحاج وخفوق النجم وهو شائع لغة أو إلى استعارة في للمقارنة للمناسبة المذكورة وعلى هذا فقد كان التحقيق أن يقال إلا أن يراد نحو دخولكها أو المحل في الحال إما على إرادة الزمان أو المقارنة بقي "وتعلق طالق في مشيئة الله" بمشيئة الله كإن شاء الله "فلم يقع" الطلاق "لأنه" أي وقوعه في مشيئة الله "غيب لاختصاصها" أي المشيئة بالله بإضافتها إليه والأصل عدم الوقوع فيكون الحال عليه حتى يثبت الوقوع بطريقه "وتنجز" الطلاق في أنت طالق "في علم الله لشموله" أي علمه جميع المعلومات ألا إنه بكل شيء محيط "فلا خطر" في التعليق به "بل" التعليق به "تعليق بكائن" لأنه لا يصح نفيه عنه تعالى بحال فكان تعليقا بموجود فكان تنجيزا "وأورد" على هذا "فيجب الوقوع في" أنت(3/181)
طالق "في قدرة الله للشمول" أي لشمول القدرة جميع الممكنات "أجيب بكثرة إرادة التقدير" أي تقدير الله من قدرة الله "فكالمشيئة" أي فالحكم فيه حينئذ كالحكم في مشيئة الله تعالى لأنه تعالى قد يقدر شيئا وقد لا يقدره وكون هذا مما قدر وقوعه غيب عنا فلا يقع بالاحتمال "ودفع" هذا الجواب بأنها "تستعمل بمعنى المقدور بكثرة أيضا وأجيب" هذا الدفع "بأن المعنى به" أي بفي قدرة الله "آثار القدرة" على حذف مضاف "ولا أثر للعلم" لأنه ليس بصفة مؤثرة "ودفع" هذا "باتحاد الحاصل من مقدور وآثار القدرة فلم لم يكن" في قدرة الله بمعنى مقدور الله "كالمعلوم" في علم الله فيقع به الطلاق كما أشار إليه في التلويح قال المصنف: "والوجه إذ كان المعنى على التعليق أن لا معنى للتعليق بمقدوره إلا أن يراد وجوده فتطلق في الحال أو" كان المعنى "على أن هذا المعنى ثابت في جملة مقدوراته فكذلك" أي فتطلق في الحال "كما قرره بعضهم في علمه" بأنه يصير المعنى أنت طالق في معلوم الله أي هذا المعنى ثابت في جملة معلوماته إذ لو لم يقع لم يكن هذا المعنى في معلوم الله "ويجاب باختيار الثاني" وهو أن المعنى أن هذا المعنى ثابت في جملة مقدوراته "وبالفرق" بينه وبين في علمه "بأن ثبوته" أي طلاقها "في علمه بثبوته في الوجود وهو" أي ثبوته في الوجود "بوقوعه(3/182)
ص -91-…بخلاف ثبوته في القدرة فإن معناه" أي ثبوته في القدرة "أنه مقدور" أي في قدرته تعالى وقوعه "ولا يلزم من كون الشيء مقدورا كونه موجودا تعلقت به القدرة" ومن ثمة يقال لفاسد الحال في قدرة الله صلاحه مع عدم تحققه في الحال "هذا حقيقة الفرق ولا حاجة إلى غيره مما تقدم وأيضا المبني" فيما يعتبر في التركيب معلقا عليه "الحمل على الأكثر فيه استعمالا فلا يرد الثاني" وهو كون القدرة قد تكون بمعنى المقدور لأن استعمالها بمعناه ليس بأكثر من التقدير "ولو تساويا لا يقع بالشك" هذا ولو أراد حقيقة قدرته تعالى يقع في الحال ذكره في الكافي "ولبطلان الظرفية لزم عشرة في له عشرة في عشرة" لأن العدد لا يصلح ظرفا لنفسه لا يقال لما تعذر العمل بحقيقتها ينبغي أن يحمل على مجازه وهو معنى مع أو واو العطف كما هو قول زفر لأن عند تعدد جهة المجاز لا يتعين واحد منها لعدم المرجح فيتعين الإلغاء على أن الأصل في الذمم البراءة فلا يجب المال بالشك نعم كما قال المصنف "إلا إن قصد به" أي بفي "المعية" أي معنى مع "أو العطف" أي واوه "فعشرون لمناسبة الظرفية كليهما" أي المعية والعطف أما المعية فكما تقدم وأما العطف فلأن الواو للجمع والظرف يجمع المظروف فكان محتمل كلامه مع أن فيه تشديدا عليه فيحكم بما أراده منهما عليه وبينهما فرق في بعض الصور يعلم قريبا "ومثله" أي عشرة في عشرة في بطلان الظرفية أنت "طالق واحدة في واحدة" فيقع واحدة ما لم ينو المعية أو العطف فإن نوى أحدهما وهي مدخول بها وقع ثنتان وإن كانت غير مدخول بها وقع واحدة في نية العطف وثنتان في نية المعية "وإنما يشكل إذا أراد عرف الحساب" في مثل له عشرة في عشرة حيث قالوا: يلزمه عشرة "لأن مؤدى اللفظ حينئذ" أي حين أراد عرف الحساب "كمؤدى عشر عشرات" لأن عرفهم تضيف أحد العددين بعدد الآخر والفرض أنه تكلم بعرفهم وأراده عالما به فصار كما لو أوقع بلغة أخرى وهو يدريها فلا جرم أن قال زفر(3/183)
وباقي الأئمة: يلزمه مائة حتى لو ادعى المقر له مجموع الحاصل وأنكر المقر حلف أنه ما أراده والله سبحانه أعلم.
أدوات الشرط
"أي تعليق مضمون جملة على أخرى تليها وحاصله" أي الشرط "ربط خاص ونسبتها" أي المعلق عليها "عليه" أي الشرط في قولهم جملة شرطية "لدلالتها" أي المعلق عليها "عليه" أي الشرط "ويقال" لفظ الشرط أيضا "لمضمون" الجملة "الأولى" فقط "ومنه" أي هذا الثاني قولهم "الشرط معدوم على خطر الوجود" أي متردد بين أن يكون وأن لا يكون لا مستحيل ولا متحقق لا محالة لأن الشرط للحمل أو المنع وكل منهما لا يتصور فيهما "وإن أصلها" أي أدوات الشرط "لتجردها له" أي للشرط "وغيرها" أي أن تكون للشرط "مع خصوص زمان ونحوه" وما في التحرير شرح الجامع الكبير الأصل في ألفاظ الشرط كلما والباقي ملحق بها غريب "واشترط" لغة "الخطر في مدخولها" أي إن "ومدخول الأسماء الجازمة كمتى حتى امتنع إن أو متى طلعت الشمس أفعل" لأن طلوع الشمس لا خطر فيه "إلا لنكتة" من توبيخ أو تغليب أو غير ذلك كما هو مذكور في علم المعاني وهذا الامتناع واقع لغة "لا لأنه" أي الخطر(3/184)
ص -92-…"شرط الشرط" مطلقا "وحاصله" أي الكلام في إن "أنها إنما وضعت لإفادة التعليق كذلك" أي على ما هو على خطر الوجود "ولذا" أي ولكون الخطر ليس بشرط الشرط مطلقا "صح" الشرط "مع ضده" أي الخطر "في إذا جاء غد أكرمك" فإن مجيء الغد محقق "لوضعها" أي إذا "كذلك" أي لإفادة التعليق على ما هو محقق مقطوع به إذا كانت للشرط "إلا لنكتة كإذا جاء زيد تفاؤلا" إذا كان مجيئه مطلوبا وهو على خطر الوجود وكقول عبد قيس بن خفاف:
واستغن ما أغناك ربك بالغنى …"وإذا تصبك" خصاصة فتجمل(3/185)
"تنزيلا له" أي للخطر وهو إصابة الفقر والمسكنة إياه "محققا" أي منزلة الواقع "لعادة الوجود" لأن من شيمه رد المواهب وحط المراتب "وتوطينا" للنفس على تحمل مشقة الفقر والفاقة والصبر عليها "لدفع الجزع عنده" أي عند وقوعه فيأمن من مفاجأة المكروه "وتخصيصهم" أي المشايخ "تفريع إن لم أطلقك فطالق لا تطلق إلا بآخر حياة أحدهما" أي الزوجين إذا لم يطلقها من عقب التعليق إلى وقتئذ "على الصحيح في موتها للتنبيه على أنه" أي الشرط "العدم مطلقا" أي أن لا يطلقها أبدا وهو لا يتحقق إلا باليأس من الحياة من غير تطليقها من عقب التطليق إلى هذا الحين فإذا بقي من حياة أحدهما ما لا يسع التطليق بلفظ ما فذلك القدر صالح لوقوع الطلاق فيقع لوجود الشرط والمحل وقيد بقوله على الصحيح في موتها احترازا عن رواية النوادر إنها لا تطلق في موتها لأنه قادر على تطليقها وإنما عجز بموتها وصار كإن دخلت الدار فأنت طالق يقع بموته لا بموتها ووجه التسوية بينهما كما هو الظاهر قد عرف وليست هذه كمسألة الدخول لأنه يمكنه بعد موتها فلا يتحقق اليأس بموتها ثم إن كان هو الميت ورثته بحكم القرار إن كانت مدخولة ولا ترثه ووجب لها نصف المهر ولا عدة عليها إن كانت غير مدخولة وإن كانت هي الميت لم يرث منها وكان عليه نصف المهر إن لم يكن دخل بها وإلا فتمامه كما عرف ثم تخصيصهم مبتدأ خبره "لدفع وهم الوقوع بسكوت يسعه" الطلاق بعد هذا التعليق "كما هو" الحكم "في متى" لم أطلقك فأنت طالق لإضافته الطلاق إلى زمان خال عن تطليقها فإن متى ظرف زمان وبمجرد سكوته وجد الزمان المضاف إليه فيقع "فقد تضمن" هذا الكلام "مسألتها" أي متى "ومنها" أي ومن أحكامها أنه إذا قال: "أنت طالق متى شئت لا يتقيد" تفويض المشيئة إليها "بالمجلس فلها مشيئة الطلاق بعده" أي المجلس لأنها باعتبار إيهامها تعم الأزمنة بخلاف إن شئت.
مسألة(3/186)
"إذا لزمان ما أضيفت إليه" كقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1] أي وقت غشيانه على أنه بدل من الليل إذ ليس المراد تعليق القسم بغشيان الليل وتقييده بذلك الوقت ولذا منع المحققون كونه حالا من الليل وإن ذهب إليه ابن الحاجب لأنه يفيد تقييد القسم بذلك الوقت أيضا "وتستعمل للمجازاة" أي للشرط على خلاف أصلها فإن أصلها أن تكون ظرف زمان ما أضيفت إليه من الجمل "داخلة على محقق" كما هو الأصل فيها حينئذ "وموهوم" لنكتة(3/187)
ص -93-…كما سبق "وتوهم أنه" أي دخولها على موهوم "مبني حكم فخر الإسلام أنها حينئذ حرف فدفع بجوازه" أي دخولها على موهوم "للنكتة" وهذا التوهم ودفعه وقعا للتفتازاني قال المصنف: "وليس" هو مبناه "وكلامه" أي فخر الإسلام ما مختصره "يجازى بها ولا" يجازى بها "عند الكوفيين وإذا جوزي" بها "سقط عنها الوقت كأنها حرف شرط ثم قال" فخر الإسلام: "لا يصح طريق أبي حنيفة إلا أن يثبت أنها قد تكون حرفا بمعنى الشرط" مثل إن وقد ادعى ذلك أهل الكوفة "ثم أثبته" أي فخر الإسلام كونها حرفا بمعنى الشرط "بالبيت وإذ تصبك" خصاصة فتحمل "فلاح أن المبني" أي مبنى قول فخر الإسلام أنها حرف "كونها إذن لمجرد الشرط وهو" أي وكونها كذلك مبني "صحيح" لدعوى حرفيتها "لأن مجرده" أي الشرط "ربط خاص وهو من معاني الحروف وقد تكون الكلمة حرفا واسما" كالكاف المفردة وقد بل وفعلا أيضا كعلى وعن "بل الوارد" ورودا صحيحا "منع سقوطه" أي الزمان عنها إذا جزم بها "والجزم لا يستلزمه" أي كونها حرفا ولا منافاة بين الجزم بها وبين دلالتها على الزمان "كمتى وأخواتها وهو" أي وكونها يجازي بها مع عدم سقوط دلالتها على الزمان "قولهما وعليه" أي كونها للشرط مع دلالتها على الزمان "تفرع الوقوع في الحال عندهما في إذا لم أطلقك فطالق وكان عنده" أي وهي كان عند أبي حنيفة فلا تطلق في هذه الصورة حتى يموت أحدهما وهذا إذا لم يكن له نية فأما إذا نوى الوقت أو الشرط المحض فهو على ما نوى بالاتفاق ذكره غير واحد وتعقبه شيخنا المصنف بأنه يجب على قولهما إذا أراد معنى الشرط أن لا يصدقه القاضي لظهورها عندهما في الظرف فإرادة الشرط فقط خلاف الظاهر وفيه تخفيف عليه فلا يصدق قضاء بل يصح ديانة لا غير "والاتفاق على عدم خروج الأمر عنها في أنت طالق إذا شئت" إذا قامت من المجلس من غير مشيئة "لشك الخروج بعد تحقق الدخول عنده" أي أبي حنيفة "لجواز عدم المجازاة كقوله في إذا لم أطلقك" فأنت(3/188)
طالق فإنه قال: الأصل عدم وقوع الطلاق فلا يقع عقب تعليقه بالشك لجواز كونها سقط الوقت عنها فصارت كان والملخص أن الأمر صار بيدها بالتفويض ثم على اعتبار أنها للوقت لا يخرج الأمر من يدها وعلى اعتبار أنها للشرط يخرج فلا يخرج بالشك واستشكله شيخنا المصنف وقال: مقتضى الوجه أن على قولهما لا يخرج من يدها وعلى قوله يخرج وكذا إذا علم أنه نوى ولم تدر نيته لعارض عراه وأما إذا عرفت بأن استفسر فقال: أردت الزمان فيجب أن يصدق على قولهما ولا يخرج الأمر من يدها وكذا على قوله لأنه مقر على نفسه وإن قال: أردت الشرط صدق على قوله ولا يصدق على قولهما لأنه خلاف الظاهر وفيه تخفيف على نفسه والله سبحانه أعلم.
مسألة
"لو للتعليق في الماضي مع انتفاء الشرط فيه" أي الماضي "فيمتنع الجواب المساوي" للشرط في العموم كلو كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا لاستلزام انتفاء السبب انتفاء مسببه المساوي له "فدلالته" أي لو "عليه" أي امتناع الجواب المساوي دلالة "التزامية ولا دلالة" للو "في" الجواب "الأعم" من الشرط "الثابت" امتناعه "معه" أي الشرط "وضده" أي(3/189)
ص -94-…ومع ضد الشرط "كلو لم يخف لم يعص" فإن عدم المعصية مع القدرة عليها قد يكون للخوف وقد يكون للحياء والمهابة والإجلال فلا يلزم من انتفاء عدم الخوف المعصية "غير أنها" أي لو "لما استعملت" شرطا في المستقبل "كان تجوزا" كما في قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 9] أي وليخش الله الذين إن شارفوا أن يتركوا وأول هكذا لأن الخطاب للأوصياء وإنما يتوجه إليهم قبل الترك لأنهم بعده أموات "جعلت له" أي للشرط كإن "في قوله لو دخلت عتقت فتعتق به" أي بالدخول "بعده" أي قوله ذلك "فعن أبي يوسف" أنت طالق "لو دخلت كإن دخلت" فلا تطلق ما لم تدخل "صونا عن اللغو عند الإمكان" ولو قدم الشرط فقال: لو دخلت الدار فأنت طالق يقع في الحال عند أبي الحسن لأن جواب لولا يدخل فيه الفاء وذكر القاضي أبو عاصم العامري أنها لا تطلق ما لم تدخل لأنها لما جعلت بمعنى إن جاز دخول الفاء في جوابها ذكره القاآني وعلى هذا مشى التمرتاشي وهو أوجه "بخلاف لولا لأنه لامتناع الثاني لوجود الأول ليس غير فلا تطلق في أنت طالق لولا حسنك أو أبوك" أي موجود "وإن زال" الحسن "ومات" الأب لجعله ذلك مانعا من وقوع الطلاق.
مسألة(3/190)
"كيف أصلها سؤال عن الحال ثم استعملت للحال في انظر إلى كيف تصنع" كما حكاه قطرب عن بعض العرب أي إلى أي حال صنعته "وقياسها الشرط جزما" اقترنت بما أو لا "كالكوفيين" وقطرب بناء على أنها للحال والأحوال شروط والأصل في الشرط الجزم وقيل بشرط اقترانها بما ولم يجوزه سائر البصريين إلا شذوذا "وأما" كونها للشرط "معنى فاتفاق" لأن الربط لها موجود لكن عليه أن يقال هذا لا يدل على أنها للشرط لأن الربط المعنوي أعم من أن يكون للمجازاة وغيرها ألا ترى أنه موجود في نحو حين يقوم أقوم ولا يدل على أن حينا للمجازاة بل هو ظرف محض يقع فيه الفعلان قالوا: وفعلا الشرط والجواب فيها يجب أن يكونا متفقي اللفظ والمعنى نحو كيف تصنع أصنع فلا يجوز كيف تجلس أذهب بالاتفاق قيل ولهذا لم تجزم عند البصريين لمخالفتها أدوات الشرط في هذا الشرط فإن أدواته مطلقة في هذا فيكونان فيها متفقين نحو إن تعد نعد ومختلفين نحو إن يقم أقعد ولكن في كون هذا مانعا من الجزم ما فيه قالوا ومن ورودها شرطا {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} {يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} وجوابها في ذلك كله محذوف لدلالة ما قبلها قال ابن هشام: وهذا يشكل على إطلاقهم أن جوابها يجب مماثلته لشرطها ا هـ. لأن التقدير كيف يشاء أن ينفق ينفق كيف يشاء أن يصوركم يصوركم، كيف يشاء أن يبسطه يبسطه اللهم إلا أن يقال الشرط هنا لما كان مقيدا بمماثل للجزاء كان في معنى المماثل له ولا يعرى عن تأمل "وما قيل لكنها" أي الحال التي يدل عليها "غير اختيارية كالسقم والكهولة فلا يصح التعليق بها إلا إذا ضمت إليها ما" نحو كيفما تصنع أصنع كما في التلويح قال المصنف "ليس بلازم في الشرط ضده" أي ضد الاختيار "ولا هو" أي الحال(3/191)
ص -95-…الغير الاختياري "في كيف كان تمريض زيد وكيف تجلس أجلس" يعني لا نسلم أن الشرط يلزم كون فعله اختياريا وهو ضد غير الاختياري ولا نسلم لزوم غير الاختياري فإنه يقال كيف كان تمريضك زيدا من الاستفهامية عن الحال وكيف تجلس أجلس في المستعملة شرطا بلا زيادة ما ولا هو غير اختياري ذكره المصنف "وعلى الحالية التفريع فطالق كيف شئت تعليق للحال" أي لحال الطلاق أي صفته "عندهما" أي أبي يوسف ومحمد "بمشيئتها في المجلس وإذ لا انفكاك" للطلاق عن كيفية ككونه رجعيا أو بائنا بينونة خفيفة أو غليظة بمال أو دونه إلى غير ذلك "تعلق الأصل" أي أصل الطلاق "بها" أي كان تعليق وصف الطلاق بمشيئتها تعليقا لأصله بها أيضا "غير متوقف" تعلق الأصل بمشيئتها أيضا "على امتناع قيام العرض بالعرض كما ظن" لأن الطلاق عرض فكان التعليق على صفة ممتنعا فكان به نفسه والظان صدر الشريعة "لأنه" أي قيام العرض بالعرض "بالمعنى المراد هنا وهو النعت" أي لاختصاص الناعت "غير ممتنع" إنما الممتنع قيامه به بمعنى حلوله فيه كما عرف في الكلام فلا يقع شيء ما لم تشأ فإذا شاءت فالتفريع ما سيأتي "وعنده" أي أبي حنيفة "يقع" واحدة "رجعية" في المدخول بها إذا لم تكن مسبوقة بأخرى في الأمة وثنتين في الحرة بمجرد قوله ذلك "ويتعلق صيرورتها بائنة وثلاثا" بمشيئتها "تخصيصا بالعقل لما لا بد منه" لأن تفويض وصف الشيء اللازم لوجوده فرع وجوده وحيث كان لا يوجد إلا على نوع من أنواع ذلك الوصف الكلي تعين أدناها محققا لوجوده وكان المفوض ما سواه وأدنى أوصاف الطلاق في حق المدخول بها إذا كان الحال على ما ذكرنا الواحدة الرجعية فتلزم ثم إن قالت: شئت بائنة أو ثلاثا وقد نوى الزوج ذلك يصير ذلك للمطابقة وإن شاءت أحدهما والزوج على العكس استمرت رجعية لأنها لغت مشيئتها لعدم الموافقة فبقي إيقاع الزوج بالصريح ونيته لا تعمل في جعله بائنا أو ثلاثا ولو لم تحضره نية لا ذكر له في الأصل(3/192)
ويجب أن تعتبر مشيئتها على اختلاف الأصلين إما على أصله فلإقامته إياها مقام نفسه وهو لو أوقع رجعيا يملك جعله بائنا وثلاثا عنده فكذا المرأة وأما على أصلهما فلتفويضه أصل الطلاق إليها على أي وصف شاءت وأما في حق غير المدخول بها فكما قال "فلزم في غير المدخولة البينونة" بواحدة لا إلى عدة ضرورة كونها غير مدخول بها "فتعذر المشيئة" لانتفاء محليتها "ومثله" أي أنت طالق كيف شئت "أنت حر كيف شئت" فعندهما لا يعتق ما لم يشأ في المجلس وعنده يعتق في الحال ولا مشيئة له.
مسألة
"قبل وبعد ومع متقابلات لزمان متقدم على ما أضيفت إليه" في قبل "ومتأخر" في بعد "ومقارن" في مع "فهما" أي قبل وبعد "بإضافتهما إلى" اسم "ظاهر صفتان لما قبلهما وإلى ضميره" أي الاسم الظاهر صفتان "لما بعدهما لأنهما خبران عنه" أي عما بعدهما والخبر في المعنى وصف للمبتدأ "فلزم واحدة في طالق واحدة قبل واحدة لغير المدخولة لفوات المحلية للمتأخرة" أي للطلقة المتأخرة وهي المضاف إليها قبل لبينونتها بالأولى لا إلى عدة "وثنتان في(3/193)
ص -96-…قبلها" واحدة "لأن الموقع ماضيا يقع حالا" لأنه بعد وقوعه لا يمكن رفعه فيبقى إلى الحال وهو لا يملك الإسناد إلى الماضي ويملك الإيقاع في الحال فيثبت ما يملكه ويلغو ما لا يملكه "فيقترنان كمع واحدة" أو معها واحدة وعن أبي يوسف في معها واحدة يقع واحدة والصحيح أنه كمع واحدة "وعكسهما" أي لزوم واحدة في طالق واحدة قبل واحدة ولزوم ثنتين في قبلها واحدة "في بعد واحدة وبعدها" واحدة فتطلق ثنتان في طالق واحدة بعد واحدة لإيقاعه واحدة موصوفة بأنها بعد أخرى ولا قدرة على تقديم ما لم يسبق الموجود على الموجود فيقترنان بحكم أن الإيقاع في الماضي إيقاع في الحال وواحدة في طالق واحدة بعدها واحدة لإيقاعه واحدة موصوفة ببعدية أخرى لها فوقعت الأولى ولا تلحق الثانية لعدم قيام العدة "بخلاف المدخولة والإقرار فثنتان مطلقا" أي أضيف قبل وبعد فيهما إلى ظاهر أو ضميره وهذا تبع لما في التلويح والأمر كذلك في المدخولة لأنها لا تبين بالأولى فتلحقها الثانية في العدة نعم استشكل وقوعهما في واحدة قبل واحدة لأن كون الشيء قبل غيره لا يقتضي وجود غيره وأجيب بالمنع نعم يقتضيه ظاهرا لا قطعا والعمل بالظاهر واجب ما أمكن وقد أمكن هنا كما اللفظ مشعر به فيتعين وأما في الإقرار فليس كذلك فيما إذا كان قبل مضافا إلى الظاهر ففي المبسوط قال له: علي درهم قبل درهم يلزمه درهم واحد لأن قبل نعت للمذكور أولا فكأنه قال: قبل درهم آخر يجب علي ولو قال: قبله درهم فعليه درهمان لأنه نعت للمذكور آخرا أي قبله درهم قد وجب علي ولو قال: درهم بعد درهم أو بعده درهم يلزمه درهمان لأن معناه بعد درهم قد وجب علي أو بعده درهم قد وجب علي لا يفهم من الكلام إلا هذا والله سبحانه أعلم.
مسألة(3/194)
"عند للحضرة" الحسية نحو: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ} والمعنوية نحو: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} "وهو" أي وكون المال حاضرا عند المقر "أعم من الدين" أي كونه دينا في ذمته "الوديعة" أي أو كونه مودعا في يده فمن هذه الحيثية لا يثبت أحدهما بعينه بإطلاق العندية "وإنما تثبت" الوديعة "بإطلاقها" أي عند "كعندي ألف" لمعنى آخر أعنى "لأصلية البراءة فتوقف الدين على ذكره معها" أي عند لكونه على خلاف الأصل ولم يتوقف كونه وديعة على ذكرها لأنها ليست على خلافه وهي أدنى مؤدى اللفظ فتعينت حيث لا معين قطعي يعين غيرها.
مسألة
"غير" اسم متوغل في الإبهام "صفة" وهو الأصل فيه "فلا يفيد حال ما أضيفت إليه كجاء رجل غير زيد واستثناء" وهو عارض عليه "فيفيده" أي حال ما أضيفت إليه "ويلزمها" أي غير إذا كانت استثناء "إعراب المستثنى كجاءوا غير زيد أفادت عدمه" أي المجيء "منه" أي زيد وتعين نصبها لتعينه للمستثنى لو كان بإلا وعلى هذا القياس كما هو معروف في فنه(3/195)
ص -97-…"فله درهم غير دانق" برفع غير "يلزمه" الدرهم "تاما" لأن غيرا حينئذ صفة لدرهم فالمعنى درهم مغاير للدانق وهو بالفتح والكسر قيراطان كذا في المغرب "وبالنصب" يلزمه درهم "بنقصه" أي الدانق منه لأنه حينئذ استثناء فالمعنى درهم إلا دانقا "وفي دينار غير عشرة" من الدراهم "بالنصب كذلك" أي بنقص من الدينار قيمة عشرة دراهم ويلزمه الباقي هذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف "وتام" أي ويلزمه دينار كامل "عند محمد للانقطاع" أي لأنه استثناء منقطع "لشرطه" أي محمد "في الاتصال صورة ومعنى" أي التجانس الصوري والتجانس المعنوي بين المستثنى منه والمستثنى والدرهم ليس بمجانس للدينار صورة "واقتصرا" أي أبو حنيفة وأبو يوسف "عليه" أي التجانس الصوري بينهما شرطا في الاتصال "وقد جمعهما" أي الدرهم والدينار التجانس المعنوي وهو "الثمنية فالمعنى ما قيمته دينار غير عشرة" فكان متصلا فلزمه من قيمة الدينار ما سوى العشرة والله سبحانه أعلم.
وهذا آخر ما تيسر من الكلام في شرح ما تضمنته المقالة الأولى والله تعالى المسئول في تيسير شرح ما اشتملت عليه المقالة الثانية على الوجه الأوجه والأولى وأن ييسرنا لليسرى ويجنبنا العسرى ويرزقنا العافية في الآخرة والأولى آمين.(3/196)
ص -98-…المقالة الثانية: في أحوال الموضوع
"وعلمت" إجمالا في المقدمة "إدخال بعضهم" كصدر الشريعة "الأحكام" في الموضوع وذكرنا ثمة ما ظهر لنا فيه "فانكسرت" أي اشتملت هذه المقالة بسبب هذا الإدخال "على خمسة أبواب" في الأحكام وفي أدلة الأحكام من الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
الباب الأول: في الأحكام وفيه أربعة فصول
في الحكم والحاكم والمحكوم فيه والمحكوم عليه.
الفصل الأول: في الحكم
"لفظ الحكم" الشرعي "يقال للوضعي" أي للخطاب الوضعي "قوله" أي الله تعالى "النفسي جعلته" أي كذا ككشف العورة في حالة السعة "مانعا" من صحة الصلاة "أو" جعلت كذا "علامة على تعلق الطلب" لفعل أو ترك من المكلف وقتئذ "كالدلوك والتغير" فإن دلوك الشمس وهو زوالها وقيل غروبها والأول الصحيح كما نطق به غير ما حديث دليل على طلب إقامة الصلاة من المكلفين وتغيرها للغروب دليل على طلب ترك غير الوقتية من المكتوبات "أو" علامة على "الملك أو زواله" كالبيع فإنه علامة على ملك المشتري المبيع والبائع الثمن وعلى زوال ملك البائع عن المبيع وزوال ملك المشتري عن الثمن وقد علم من هذه الجملة وجه تسمية هذا القسم بالخطاب الوضعي لأن متعلقه بوضع الله تعالى أي بجعله "ففي الموقوف عليه الحكم" أي الذي وضع لحكم فكان ذلك الحكم موقوفا عليه "مع ظهور المناسبة" بين ما وضع وحكمه "الباعثة" لشرعية الحكم لذلك الموضوع "وضع العلية" كالقصاص للقتل العمد العدوان وستعلم المراد من المناسبة في بحث العلة إن شاء الله تعالى "وإلا" لو لم يكن بينهما مناسبة ظاهرة "فمع الإفضاء في الجملة" إلى ذلك الحكم "وضع السبب" كملك النصاب للزكاة "ومعه" أي وما كان مع الحكم "جعله" أي الكائن معه "دلالة عليه" أي الحكم "العلامة" كالأوقات للصلاة "وفي اعتباره" أي الموقوف عليه "داخلا في المفعول وضع الركن فإن لم ينتف حكم المركب بانتفائه" أي الموقوف عليه الداخل فيه "شرعا فالزائد" أي فهو الركن(3/197)
الزائد "كالإقرار في الأيمان على رأي" لطائفة من مشايخنا "وإلا" فإن انتفى حكم المركب بانتفائه شرعا "فالأصلي" أي فالركن الأصلي كالقيام حالة القدرة عليه في الصلاة "وغير الداخل" أي والموقوف على غير الداخل في المفعول "الشرط وقد يجامع" الشرط "السبب مع اختلاف النسبة كوقت الصلاة" فإنه شرط بالنسبة إلى الأداء سبب بالنسبة إلى وجوب الأداء "على ما فيه مما سيذكر" في الفصل الثالث "وعلى أثر العلة" أي والحكم يقال أيضا على أثر العلة "كنفس الملك" فإنه أثر للعلة التي هي البيع وقد يعبر عنه بأثر فعل المكلف "ومعلوله" أي ويقال أيضا على معلول أثر العلة مثل "إباحة الانتفاع" بالمملوك بالبيع فإنها معلولة لملكه "وعلى وصف الفعل" أي ويقال أيضا على وصف فعل المكلف حال كونه "أثرا للخطاب" الذي هو الإيجاب والتحريم "كالوجوب والحرمة" فإنهما أثر الإيجاب(3/198)
ص -99-…والتحريم وقوله "أو لا" عطف على أثر للخطاب أي أو غير أثر له "كالنافذ واللازم وغير اللازم كالوقف عنده" أي أبي حنيفة إذا لم يحكم بلزومه قاض يرى ذلك.
ثم في التلويح التحقيق أن إطلاق الحكم على خطاب الشارع وعلى أثره وعلى الأثر المرتب على العقود والفسوخ إنما هو بطريق الاشتراك ا هـ وهذا ظاهر في أن إطلاقه على كل حقيقة ويظهر أنه حقيقة في الخطاب مجاز فيما عداه وكيف والاشتراك والمجاز إذا تعارضا قدم المجاز عليه.(3/199)
"ويقال" الحكم أيضا "على التكليفي خطابه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين طلبا أو تخييرا" فالخطاب يأتي الكلام فيه وخرج بالمتعلق بأفعال المكلفين من القلبية والجارحية المتعلق بذات الله تعالى وصفاته وذوات المكلفين والجمادات كمدلول {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255، وآل عمران: 2] الآية. {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} [الأعراف: 11] {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الكهف: 47] وبما بعده نحو {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] على ما قيل كما يأتي والمراد بالطلب أعم من أن يكون للفعل أو الترك حتما أو لا وبالتخيير التخيير بينهما لتساويهما وهو الإباحة "فالتكليفي" أي فإطلاقه على ما هذا شأنه "تغليب" إذ لا تكليف في الإباحة بل ولا في الندب والكراهة التنزيهية عند الجمهور كما سيأتي "ولو أريد" بالتكليفي التكليفي "باعتبار الاعتقاد" حتى ينتفي التغليب للتكليف باعتقاد هذه على ما هي عليه "فلا تخيير" حينئذ فيجب إسقاطه من التعريف لئلا يحتمل به "وهو" أي ذكر الطلب "أوجه من قولهم بالاقتضاء إذ كان" الخطاب "نفسه" أي الاقتضاء لأنه يصير المعنى خطابه المتعلق بأفعال المكلفين بالخطاب أو التخيير نعم إن أريد بالاقتضاء الطلب فلا بأس "والأوجه دخول" الحكم "الوضعي في الجنس" للتكليفي وهو الخطاب "إذا أريد" التعريف "للأعم" أي للحكم الأعم من كل منهما "ويزاد" في تعريفه بما سبق "أو وضعا لا ما قيل لا" يزاد أو وضعا لإدخاله فإنه داخل فيه بدونه "لأن وضع السبب الاقتضاء" للفعل "عنده" أي السبب فمعنى كون الدلوك سببا أو دليلا للصلاة وجوب الإتيان بها عنده فرجع إلى الاقتضاء ومعنى جعل النجاسة مانعة من الصلاة حرمتها معها وجوازها دونها فرجع إلى التخيير وعلى هذا القياس كما ذهب إليه فخر الدين الرازي واختاره السبكي وممن أشار إلى توجيهه بهذا القاضي عضد الدين وإنما نفاه المصنف "لتقدم وضعه" أي السبب(3/200)
"على هذا الاقتضاء ولمخالفة نحو نفس الملك ووصف الفعل" فإنهما من الوضعي ولا اقتضاء فيهما فلا يعم الاقتضاء جميع أقسام الوضعي لكن على هذا أن يقال هذا إنما يضر أن لو كان إطلاق الوضعي على كل من هذين حقيقة والظاهر أنه ليس كذلك كما ذكرنا آنفا ففي الأول كفاية فإن قيل الوضعي ليس بحكم بل هو علامة له فلا يحتاج تعريف مطلق الحكم إلى زيادة أو تأويل يدخله فيه بل يتعين عدم ذلك فالجواب منع كون الوضعي الذي هو معنى قوله النفسي جعلت كذا سببا أو شرطا أو مانعا بكذا ليس بحكم على أنه لو اصطلح مصطلح عليه قيل له "وإخراجه" أي الوضعي منه(3/201)
ص -100-…"اصطلاحا إن لم يقبل المشاحة يقبل قصور ملحظ وضعه" أي الاصطلاح وفيه ما فيه "والخطاب" جار "على ظاهره على تفسيره" اصطلاحا "بالكلام الذي بحيث يوجه إلى المتهيئ لفهمه" فخرج نحو النائم والمغمى عليه "لأن النفسي بهذه الحيثية في الأزل وكونه" أي الخطاب "توجيه الكلام" نحو الغير للإفهام معنى "لغوي" له وهو هنا مراد بالمعنى الاصطلاحي لا اللغوي "والخلاف في خطاب المعدوم" في الأزل "مبني عليه" أي تفسير الخطاب "فالمانع" كونه مخاطبا "يريد الشفاهي التنجيزي إذ كان معناه توجيه" الكلام وهو صحيح إذ ليس موجها إليه في الأزل "والمثبت" كونه مخاطبا "يريد الكلام بالحيثية ومعناه قيام طلب" لفعل أو ترك "ممن سيوجد ويتهيأ" له فالخلاف حينئذ لفظي وسيعاد صدر الفصل الرابع "واعتراض المعتزلة" على هذا التعريف لمطلق الحكم "بأن الخطاب قديم عندكم" لقولكم بأنه كلامه تعالى وقدم كلامه "والحكم حادث" لأنه يقال فيما تنجس من الأشربة الطاهرة "حرم شربه بعد أن لم يكن حراما" إذ التحريم من الأحكام الشرعية وقد ذكر بأنه لم يكن ثم كان وكل ما لم يكن ثم كان فهو حادث إلى غير ذلك "مدفوع بأن المراد" به "تعلق تحريمه" فالموصوف بالحدوث التعلق "وهو" أي التعلق "حادث والتعلق يقال" مشتركا لفظيا "به" أي بهذا المعنى وهو التعلق الحادث "ويكون الكلام له متعلقات وهو" أي هذا المعنى "أزلي وباعتباره" أي هذا المعنى "أورد {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}" على تعريف مطلق الحكم إذا لم يذكر فيه بالاقتضاء والتخيير كما فعل الغزالي لصدقه عليه مع أنه ليس بحكم فلا يكون مانعا "فاحترس عنه بالاقتضاء إلى آخره" لأنه ليس فيه اقتضاء لفعل المكلفين ولا تخيير لهم فيه بل إنما هو إخبار عنهم وعن أفعالهم بخلقها له تعالى "وأجيب أيضا" عن هذا الإيراد "بمراعاة الحيثية" في المكلفين "أي من حيث هم مكلفون" والخطاب في هذه الآية لم يتعلق بأفعالهم من حيث هي أفعال مكلفين(3/202)
لشموله جميع أولاد آدم وأعمالهم بل وسائر الحيوانات وأفعالها إن جعل من باب التغليب "وعلى هذا" الجواب "فبالاقتضاء إلى آخره لبيان واقع الأقسام" لا للاحتراز عن شيء "فيسلم حد الغزالي المتروك منه ذلك" إلا أنه كما قال الشريف وقد يقال يرد على الحد بعد اعتبار الحيثية المذكورة قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الانبياء: 98] فإنه لكونه وعيدا لا يتعلق بفعل المكلف من حيث هو مكلف وليس بحكم شرعي اتفاقا "وأورد" على التعريف أيضا الحكم "المتعلق بفعل الصبي من مندوبية صلاته وصحة بيعه ووجوب الحقوق المالية في ذمته" كقيمة ما أتلفه لغيره من الأموال فإن كلا من هذه حكم شرعي غير متعلق بفعل مكلف فلا يكون جامعا "وقولهم" في جواب هذا الإيراد "التعلق" لهذه الأحكام المتوهم كونه بفعل الصبي ليس كذلك بل إنما هو "بفعل وليه" فيجب على وليه أداء الحقوق من ماله "دفع بأنه" أي المتعلق بفعل وليه "حكم آخر" مرتب عليه لا عينه وبأنه لا يصح في جواز بيعه وصحة صومه وصلاته وكونها مندوبة "فيجب أن يقال" مكان المكلفين "العباد" ذكره صدر الشريعة "وأجيب بمنع تعلق به" أي بفعل الصبي وإنما التعلق بماله أو ذمته "والصحة والفساد" حكمان "عقليان للاستقلال" للعقل(3/203)
ص -101-…"بفهم مطابقة الأمر" أي موافقة الفعل أمر الشارع التي هي معنى الصحة "وعدمها" أي موافقة الفعل أمر الشارع التي هي 1 معنى البطلان كما هما تفسيراهما عند المتكلمين أو على وجه يندفع به القضاء أو لا يندفع كما هما تفسيراهما عند الفقهاء "وإن استعقبا" أي الصحة والفساد "حكما" هو الإجزاء أو ترتب الأثر في الصحة وعدمهما في الفساد إذ العقل مستبد مثلا بمعرفة كون الصلاة مشتملة على شرائطها أو لا على كلا الرأيين حكم الشارع بكونها صحيحة أو لا "أو" هما حكمان "وضعيان" وضع الشارع الصحة للإجزاء أو اندفاع القضاء في العبادة ولترتب الأثر في المعاملة والفساد لعدم ذلك "وكون صلاته" أي الصبي "مندوبة أمر وليه بأمره" بها لما صحح ابن خزيمة وغيره عنه صلى الله عليه وسلم: "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها" وما ذاك فيما يظهر إلا ليعتادها فلا يتركها بعد بلوغه إن شاء الله تعالى "لا خطاب الصبي بها ندبا" لأن الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرا بذلك الشيء على ما هو المختار كما تقدم "وترتب الثواب له" أي للصبي على فعلها على وجهها "ظاهر" فإنه ليس من لوازم التكليف بل لأن من فضله تعالى أن لا يضيع أجر من أحسن عملا.(3/204)
فإن قيل الحكم الثابت بالسنة أو الإجماع أو القياس لأفعال المكلفين شرعي وهو غير داخل في تعريف الحكم لأنه ليس حكم الله تعالى بل حكم رسوله أو أهل الإجماع قلنا: ممنوع غاية الأمر أن حكم النبي دليل حكمه تعالى وكاشف عنه وكذا الباقي فلا جرم أن قال "والحكم الثابت بما سوى الكتاب داخل" في حكمه تعالى "لأنه" أي الحكم الثابت بأحد هذه "خطابه تعالى والثلاثة كاشفة" ثم قال: واعلم أنه قد ذكر بعض الحنفية أن القياس مظهر بخلاف السنة والإجماع لأنه يظهر الحكم الثابت في الأصل بالسنة أو الإجماع في الفرع بخلافهما ودفع بأنهما أيضا مظهران باعتبار أن الحكم هو القائم بالنفس فهي كلها مظهرة ولا فرق إلا باعتبار أن القياس يظهر بواسطة إظهاره تناول السنة أو الإجماع فالكل مظهر بالذات وبواسطة وحينئذ صح أن الكل مثبتة وهم صرحوا بأن السنة مثبتة فتصريحهم بأنها مثبتة مع العلم بأنها كاشفة ومظهرة بيان أنها باعتبار كشفها سميت مثبتة فلذا قال "وبهذا القدر قيل مثبتة" ومقتضاه أن يقال في نظم الكتاب إنه كاشف أيضا فقال: هو كذلك وإنما تركوا عده منه سد لطريق التحريف والنفي إذ يقال ليس كلامه بل هو كاشف عنه فيتطرق إلى ما لا يليق كما أشار إليه بقوله "وتركهم عد نظم القرآن منه سدا لطريق التحريف وإلا فهو الكاشف عن النفسي بالذات ثم قيل الصحيح" وفي شرح القاضي عضد الدين الأحسن وفي شرح السبكي الأوضح "بفعل المكلف ليدخل خصوصيته صلى الله عليه وسلم" والحكم بشهادة خزيمة وحده فإن الحكم الخاص بواحد بخصوصه لا يعم جميع المكلفين وظاهر قوله بأفعال المكلفين التناول لكل فرد منهم "ولا يفيد" العدول من المكلفين إلى المكلف ذلك "لأنه" أي
ـــــــــــــــــــ(3/205)
ص -102-…المكلف "كالمكلفين عموما ويدفع" أصل الاعتراض "بأن صدق عموم المكلفين لا يتوقف على صدور كل فعل من كل مكلف بل لو انقسمت الآحاد" من الأفعال "على الآحاد" من المكلفين بناء على أن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي توزيع الآحاد على الآحاد فيتناول الخطاب المتعلق بالفعل المخصوص بمكلف واحد "صدق" العموم "أيضا" كما أشار إليه الإسنوي وغيره غير أن هذا غير مفيد للمراد هنا كما لا يخفى فالأوجه أنه من قبيل: زيد يركب الخيل وإن لم يركب إلا واحدا منها وليس هناك مجاز بإطلاق الجمع على الواحد بل يفهم منه أن ركوبه متعلق بجنس هذا الجمع لا بجنس الحمار مثلا، فالمراد تعلقه بجنس الفعل من جنس المكلف لا تعلقه بجميع أفعال جميع المكلفين فإنه ظاهر البطلان.(3/206)
"ثم الاقتضاء إن كان حتما لفعل غير كف فالإيجاب وهو" أي هذا "هو نفس الأمر النفسي ويسمى وجوبا أيضا باعتبار نسبته إلى الفعل" فالإيجاب والوجوب متحدان ذاتا لأنهما معنى افعل القائم بذاته المتعلق بالفعل مختلفان بالاعتبار لأنه باعتبار القيام إيجاب وباعتبار الفعل وجوب "وهو" أي الوجوب هنا مراد به "غير" المراد به في "الإطلاق المتقدم" فإن المذكور ثمة أن الوجوب يقال لصفة الفعل التي هي أثر الخطاب والمراد هنا أنه يقال لنفس الإيجاب باعتبار نسبته إلى الفعل هذا وقد أورد الوجوب مرتبا على الإيجاب يقال: أوجب الفعل فوجب وذلك ينافي الاتحاد وأجيب بجواز ترتب الشيء باعتبار على نفسه باعتبار آخر إذ مرجعه إلى ترتب أحد الاعتبارين على الآخر قال المحقق الشريف: وبهذا يجاب أيضا عما قيل: إن الإيجاب من مقولة الفعل والوجوب من مقولة الانفعال ودعوى امتناع صدق المقولات على شيء باعتبارات مختلفة محل مناقشة، نعم يتجه أن يقال ما ذكرتم إنما يدل على أن الفعل من حيث تعلق به القول لم يتصف بصفة حقيقية تسمى وجوبا لكن لم لا يجوز أن يكون له صفة اعتبارية هي المسماة بالوجوب أعني كونه حيث تعلق به الإيجاب بل هذا هو الظاهر ليكون كل من الموجب والواجب متصفا بما هو قائم به ولا شك أن القائم بالفعل ما ذكرناه لا نفس القول وإن كان هناك نسبة قيام باعتبار التعلق ولو ثبت أن الوجوب صفة حقيقية لتم المراد إذ ليس هناك صفة حقيقية سوى ما ذكر إلا أن الكلام في ذلك.(3/207)
واعلم أن هذه المنازعة لفظية إذ لا شك في خطاب نفسي قائم بذاته تعالى متعلق بالفعل يسمى إيجابا مثلا وفي أن الفعل بحيث يتعلق به ذلك الخطاب الإيجابي فلفظ الوجوب إن أطلق على ذلك الخطاب من حيث تعلق بالفعل كان الأمر على ما سلف ولا بد من المساهلة في وصف الفعل حينئذ بالوجوب وإن أطلق على كون الفعل تعلق به ذلك الخطاب لم يتحدا بالذات ويلزم المسامحة في عبارتهم حيث أطلقوا أحدهما على الآخر والله تعالى أعلم بالصواب.
"أو" كان "ترجيحا" لفعل غير كف "فالندب أو" حتما "لكف" ولا حاجة إلى "حتما"(3/208)
ص -103-…لأنه إذا تحقق الطلب الحتم لكف فالكف لا يكون إلا حتما "فالتحريم والحرمة بالاعتبار" أي فهما متحدان ذاتا لأنهما معنى قوله النفسي لا تفعل القائم بذاته تعالى بفعل هو كف، مختلفان بالاعتبار فباعتبار القيام تحريم وباعتبار التعلق حرمة وهي هنا مراد من إطلاقها "غير ما تقدم" مرادا من إطلاقها فإنها ثمة تقال لصفة الفعل الذي هو كف التي هي أثر الخطاب وهنا تقال لنفس التحريم باعتبار فعل غير كف "وظهر" من هذا "ما قدمنا من فساد تعريفهم الأمر والنهي النفسيين بتركهم حتما" في تعريفيهما "وكذا" ظهر مما تقدم في تعريفيهما الفساد "بترك الاستعلاء في التقسيم لأنه" أي التقسيم "يخرج التعريف" لاشتماله على الجنس والفصل لكل من أقسامه والاستعلاء لا بد منه في الأمر والنهي "هذا" الكلام في معرفة الإيجاب والتحريم "باعتبار نفسهما أما" الكلام في معرفتهما "باعتبار الاتصال" أي طريق وصولهما إلى المكلفين بهما بالألفاظ الدالة عليهما المنقولة إليهم "فكذلك عند غير الحنفية" أي يقال الإيجاب الطلب الحتم لفعل غير كف والتحريم الطلب لفعل كف ولا يلاحظ حال الدال "وأما هم" أي الحنفية فلاحظوا ذلك فقالوا: "فإن ثبت الطلب الجازم بقطعي" دلالة من كتاب أو وثبوتا أيضا من سنة أو إجماع "فالافتراض" إن كان المطلوب فعلا غير كف "والتحريم" إن كان المطلوب فعلا هو كف "أو" ثبت الطلب الجازم "بظني" دلالة من كتاب أو دلالة أو ثبوتا من سنة أو إجماع "فالإيجاب" إن كان المطلوب فعلا غير كف "وكراهة التحريم" إن كان المطلوب فعلا هو كف "ويشاركانهما" أي الإيجاب وكراهة التحريم الافتراض والتحريم "في استحقاق العقاب بالترك" لما هو مطلوب من كل "وعنه" أي التشارك في استحقاق العقاب بترك ما هو المطلوب من كل "قال محمد: كل مكروه حرام نوعا من التجوز" في لفظ حرام "وقالا على الحقيقة" المكروه "إلى الحرام أقرب" منه إلى الحل وإنما قلنا: مراد محمد ذلك "للقطع بأن محمدا لا(3/209)
يكفر جاحد المكروه والوجوب" كما يكفر جاحد الفرض والحرام "فلا اختلاف" بينه وبينهما في المعنى "كما يظن" ويؤيده ما ذكر غير واحد أنه ذكر محمد في المبسوط أن أبا يوسف قال لأبي حنيفة: إذا قلت في شيء أكرهه فما رأيك فيه؟ قال: التحريم ويأتي في هذا أيضا ما في لفظ محمد للقطع أيضا بأن أبا حنيفة لا يكفر جاحدا لمكروه هذا وقد بقي من أقسام الاقتضاء الكراهة فيمكن أن يزاد بعد قوله فالتحريم والحرمة بالاعتبار غير ما تقدم ما نصه أو ترجيحا فالكراهة ومتعلقها المكروه ثم يشترك الأربعة في استحقاق الثواب بالامتثال وينفرد الواجب باستحقاق العقاب بالترك والحرام باستحقاق العقاب بالفعل وأما الإباحة فهي معنى التخيير كما تقدم وهي من حيث هي لا استحقاق ثواب ولا عقاب فيها وكان أيضا يمكن أن يقال في تكميل أقسام الاقتضاء باعتبار الوصول إلى المكلفين على قاعدة الحنفية أو بظني فإيجاب إن كان لفعل غير كف وفي تركه استحقاق عقاب وندب إن كان كذلك وليس في تركه استحقاق عقاب وكراهة تحريم إن كان لفعل كف وفي فعله استحقاق عقاب وكراهة تنزيه إن كان كذلك وليس في فعله استحقاق عقاب والله سبحانه أعلم.(3/210)
ص -104-…مسألة
"أكثر المتكلمين لا تكليف" أمرا كان أو نهيا "إلا بفعل" كسبي للمكلف "وهو" أي الفعل المكلف به "في النهي كفه النفس عن المنهي" أي انتهاؤه عن المنهي عنه "ويستلزم" النهي عن الشيء "سبق الداعية" أي داعية المنهي إلى فعله "فلا تكليف قبلها" أي الداعية "تنجيزا" قال المصنف رحمه الله تعالى يعني لما كان التكليف ولو نهيا لا يكون إلا بفعل حتى أنه في النهي كف النفس يلزمه بالضرورة أن لا يتعلق النهي قبل وجود الداعية إلى الفعل المنهي عنه فإذا قال: لا تزن والفرض أن معناه كف نفسك عن الزنا لزم أن لا يتعلق قبل طلب النفس للزنا لأنه إذا لم يخطر طلبها للزنا كيف يتصور كفها عنه فلو طلب منه كفها في حال عدم طلبها طلب ما هو محال فعلى هذا يكون نحو {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} تعليق التكليف أي إذا طلبته نفسك فكفها وإلا لكان معناه إذا لم تطلبه فكفها أو إذا طلبته أو لم تطلبه فكفها وهو محال في شق عدم طلبها فلزم كون المعنى الشق الآخر وهو إذا طلبته فكفها وعلى هذا فما قيل أن أبا بكر رضي الله عنه لم تطلب نفسه الخمر في الجاهلية ولا في الإسلام فحاز فضيلة الامتثال في الحالين كلام غير متأمل بل مقتضى التحقيق أنه لم يمتثل ولا يمكن امتثاله إذ لم يتعلق به نهي منجز وليس هذا نقصا بل كرامة إذ كان نوعا من العصمة وحينئذ فلو طلبته فتوجه عليه الخطاب فكفها لا يكفها إلا لضرر يلحقه بالشرب يجب أن يكون آثما بل مصرا وما قيل أن النهي قد يسقط بلا نية ولا يثاب عليه إلا بنية غير صحيح لأنه إن أريد عدم الفعل قبل داعيته فليس بمكلف ولا آثم ولا مثاب لأنهما فرع التكليف وإن أريد الترك بعدها فهو دائر بين استحقاقه العقاب والثواب على تقديري تركه لخوف ضرره أو لموافقة أمر الله تعالى هذا في طلب الفعل الذي هو ترك فأما الفعل الذي هو غير ترك فطلبه هو الأمر فإن كان ذلك الفعل لا يتصور فعله إلا بعد داعية تركه فكذلك، أو بعد فعل آخر فهو على وزانه(3/211)
نحو: اردد كلام زيد فنقول: لا تكليف تنجيز إلا إذا تكلم زيد لأن قبل كلامه لا يتصور رده فيكون تعليقا للأمر بكلامه وإن كان لا يتوقف فإن التكليف به طلب إيجاده مطلقا نحو: اكتب وصل وزك فهو مكلف بها أي مطلوب منه فعلها وإدخالها في الوجود غير متوقف على طلب النفس تركها أو عدم خطوره والله سبحانه أعلم.
"وكثير من المعتزلة" منهم أبو هاشم المكلف به في النهي "عدمه" أي الفعل "لنا لا تكليف إلا بمقدور" كما سيأتي "والعدم غيره" أي المقدور "إذ ليس" العدم "أثرها" أي القدرة "ولا" العدم أيضا "استمراره" أي أثر القدرة لأن العدم نفي محض ولما نظر في هذا غير واحد كابن الحاجب وقرره القاضي عضد الدين بأنا لا نسلم أن استمرار العدم لا يصلح أثرا للقدرة إذ يمكنه أن لا يفعل فيستمر وأن يفعل فلا يستمر وأيضا فيكفي في طرف النفي أثرا أنه لم يشأ فلم يفعل وقال التفتازاني: وحاصله أنا لا نفسر القادر بالذي إن شاء فعل وإن شاء ترك بل إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل فيدخل في المقدور عدم الفعل إذا ترتب على عدم المشيئة وكان الفعل مما يصح ترتبه على المشيئة ويخرج العدميات التي ليست(3/212)
ص -105-…كذلك وكان هذا عند التحقيق غير مثبت للمطلوب أشار المصنف إليه مع ردة فقال: "وتفسير القادر بمن إن شاء فعل وإلا" أي وإن لم يشأ "لم يفعل لا" بمن إن شاء فعل "وإن شاء ترك وكونه لم يشأ فلم يفعل لا يوجب استمرار" العدم "الأصلي أثر القدرة به" أي المكلف "فيكون ممتثلا للنهي" فقوله وتفسير القادر مبتدأ وكونه معطوف عليه ولا يوجب خبره ثم كون كل من هذين لا يوجب هذا المطلوب غير خاف على المتأمل "بل عدم مشيئة الفعل أصلا صورة عدم الشعور بالتكليف وأما معه" أي الشعور بالتكليف الذي هو النهي "فليس الثابت" من حيث قصد الامتثال للنهي حينئذ "إلا مشيئة عدم الفعل وإن عبر عنه" أي مشيئة عدم الفعل "بعدم مشيئته" أي الفعل تسامحا ومن هنا قال الأبهري في أنه يكفي في طرف العدم أثرا أنه لم يشأ فلم يفعل أي لم يشأ الفعل وشاء عدمه فلم يفعل لا أنه فعل عدمه إذ لا يكفي في كون العدم أثرا مجرد أنه لم يشأ فلم يفعل لأن ما لم يفعله الموجب بالذات يصدق عليه أنه لم يشأ فلم يفعل وليس أثرا للقدرة بالاتفاق "فيتحقق الترك وهو" أي الترك "فعل إذا طلبته" النفس "ويثاب" المكلف "على هذا العزم" أي عزم الكف لله تعالى كما يفيده غير ما سمعي "لا على امتثال النهي إذ لم يوجد" الامتثال بمجرد العزم على الكف بل إنما يوجد بالكف هذا وقد ذكر السبكي أنه وقف على دليلين يدلان على أن الكف فعل أحدهما قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30] إذ الاتخاذ افتعال والمهجور المتروك والثاني ما رواه أبو جحيفة السوائي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أي الأعمال خير؟" فسكتوا قال: "حفظ اللسان" ا هـ وذكره الحافظ المنذري بلفظ: أي الأعمال أحب ثم قال رواه أبو الشيخ بن حبان والبيهقي وفي إسناده من لا يحضرني الآن حاله والله سبحانه أعلم.
مسألة(3/213)
"القدرة شرط التكليف بالعقل عند الحنفية والمعتزلة لقبح التكليف بما لا يطاق عقلا واستحالة نسبة القبيح إليه تعالى وبالشرع للأشاعرة" كقوله تعالى "{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ} الآية" أي {نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وكونها شرطا عندهم بالشرع "في الممكن" لذاته وإن كان غير ممكن عادة "كحمل جبل ولو كلف به حسن وهي مسألة التحسين وضده" أي والتقبيح العقليين "واختلفوا" أي الأشاعرة "في المحال لذاته" كالجمع بين الضدين "فقيل عدم جوازه" أي التكليف به "شرعي للآية" المتلوة آنفا كما مشى عليه التفتازاني في شرح العقائد "فلو كلف" الشارع "الجمع بين الضدين" كالحركة والسكون "جاز" عقلا "ونسب للأشعري" من قوله: القدرة مع الفعل وأفعال العباد مخلوقة لله تعالى وإلا فهو لم يصرح به كذا ذكره غير واحد وقال السبكي: وقد صرح الشيخ في كتاب الإيجاز بأن تكليف العاجز الذي لا يقدر على شيء أصلا وتكليف المحال الذي لا يقدر عليه المكلف صحيح وجائز ثم قال: وقد وجد تكليف الله العباد بما هو محال لا يصح وجوده خلافا لبعض أصحابنا ثم استدل بقضية أبي لهب وبإجماع الأمة على أن الكافر مكلف بالإيمان ا هـ.(3/214)
ص -106-…"وقيل" عدم جوازه "عقلي" كما هو ظاهر كلام الآمدي وابن الحاجب لاستدلالهما على نفيه بدليل عقلي وهو "لملزومية الطلب" الذي هو التكليف "تصور المطلوب على وجه المطلوبية" لأن الطلب استدعاء المطلوب المتصور وقوعه في نفس الطالب "فيتصور" المحال كالجمع بين الضدين "مثبتا" أي واقعا في الخارج "وهو" أي تصور المحال مثبتا "تصور الملزوم" الذي هو المحال "ملزوما لنقيض اللازم" وهو أي نقيض اللازم ثبوت المحال فيلزم منه تصور الأمر على خلاف ماهيته فإن ماهيته تنافي ثبوته وإلا لم يكن ممتنعا لذاته فما يكون ثابتا فهو غير ماهيته "وتصور أربعة ليست زوجا تصور أربعة ليست أربعة" لأن كل ما ليس بزوج ليس بأربعة فالمتصور حينئذ أربعة وليس بأربعة هذا خلف "ونوقض بلزوم امتناع الحكم بامتناعه خارجا" أي أورد على هذا نقض إجمالي وهو لو صح ما ذكرتم لزم امتناع الحكم بسبب امتناع المحال في الخارج "لأنه" أي الحكم بامتناعه خارجا "فرع تصوره خارجا" لأن الحكم على الشيء بدون تصوره محال لكن اللازم باطل لتحقق الحكم من العقلاء بأن الجمع بين الضدين محال "أجيب بأن اللازم" للحكم بامتناعه خارجا "تصوره" نفسه فقط "لا" تصوره "بقيد إثباته" خارجا "وهو" أي تصوره كذلك هو "الممتنع فيتصور" الحاكم "الجمع بين المختلفات" الغير المتضادة كالحلاوة والبياض "وينفيه" أي الحاكم الجمع "عنهما" أي الضدين والحاصل أنه إنما يتصور اجتماعهما منفيا "وهو" أي تصور الجمع بين المختلفات منفيا عن الضدين "كاف" في الحكم بامتناع اجتماع الضدين في الخارج "بخلاف ما يستدعيه" أي الحكم الذي يستلزمه "طلب إثباته في الخارج" فإنه يتوقف على تصوره مثبتا في الخارج "والحق أنا نعلم بالضرورة إمكان كلفتك الجمع بينهما" أي الضدين "وهو" أي إمكان هذا "إما فرع قوله النفسي ذلك" أي كلفتك الجمع بينهما "أو" فرع "العلم" بمعنى هذا "فإن استدعى" هذا "قدرا من التعقل فقد تحقق" ذلك القدر ضرورة إمكان(3/215)
الأول وذلك القدر كاف في إمكان التكليف "ولا حاجة لنا إلى تحقيقه وأيضا يمكن تصور الثبوت بين الخلافين فيكلف به" أي الثبوت "بين الضدين" قال المصنف يعني يمنع توقف التكليف بالجمع بين الضدين على تصوره واقعا بل يكفي فيه تصور الاجتماع الممكن ثم طلبه للضدين فيستدعي في الطلب مثل ما يستدعيه في الحكم "وحديث تصور المستحيل" أي الكلام المتقدم في تصوره "بما فيه" من البحث "لا وقوع له بعد ما ذكرنا" من أنا نعلم بالضرورة إمكان كلفتك الجمع بينهما "ولا خلاف في وقوع التكليف بالمحال لغيره" أي غير نفسه "كما" أي الذي "علم سبحانه عدم كونه والوجه أنه لم يتصف بالاستحالة لذلك" أي لعدم علمه بعدم كونه "لاستحالة اجتماعه" أي المحال "مع الإمكان بل هو ممكن مقطوع بعدم وقوعه".
غير أن لقائل أن يقول: هذا مناقشة لفظية لأن الوصف بالمحالية التي لا تجامع الإمكان هو الوصف بالمحالية الذاتية وليست هي المرادة في قولهم محال لغيره غايته أن إطلاق المحال على الممكن الذي منع من أحد طرفيه مانع مجازا وجعلوا التقييد بقولهم لغيره قرينة ذلك "فاستدلال المجيز" لوقوع التكليف بالمستحيل لذاته "به" أي بوقوع التكليف بالمحال(3/216)
ص -107-…لغيره واقع "في غير محل النزاع ويقتضي وقوع تكليف المستحيل لنفسه اتفاقا" وليس كذلك وكيف لا "والاتفاق" بين الأشاعرة "على نفيه" أي وقوع تكليف المستحيل لنفسه كغيرهم "وإلا" لو لم يكن الاتفاق منهم على نفيه "ناقضوا الآية" أي {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] لدلالتها على نفي الوقوع "والخلاف في جوازه" عقلا لا غير "وكذا استدلالهم" على جواز التكليف بالمحال لذاته "بأن القدرة مع الفعل وهو" أي الفعل "مخلوق له تعالى" يقتضي اتفاقهم على أن التكليف وقع به لأن التكليف واقع بلا شبهة وكل ما كلف به فالقدرة عليه لا تسبق فعله "ومنه" أي هذا الاستدلال "ألزم الأشعري القول به" أي بأن القدرة مع الفعل "ويلزم" من هذا الاستدلال "كون كل ما كلف به محالا لذاته" أي فهو محال لذاته والوجه الظاهر محالا وإنما يلزم لوجوب وجود الفعل أو عدمه لوجوب تعلق العلم بأحدهما وأيا ما كان تعين وامتنع الآخر وهو أيضا باطل بالإجماع "وقولهم" أي بالمجيزين لوقوع التكليف بالمحال لذاته "وقع" التكليف به فقد "كلف أبو لهب" أي كلفه الله تعالى "بالتصديق بما أخبر" به النبي صلى الله عليه وسلم إجماعا "وأخبر" الله تعالى "أنه" أي أبا لهب "لا يصدقه" التزاما لإخباره بأنه من أهل النار بقوله {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3].
قلت: وما قيل ليس فيه ما يدل على أنه لا يؤمن لجواز أن يكون صليها للفسق كما ذكره البيضاوي وغيره فيه نظر لأن الحالة الراهنة حينئذ كانت مفيدة لاستحقاق ذلك كفرا ثم تقرر ذلك بموته عليه فذاك احتمال مرجوح ابتداء منتف انتهاء فلا يقدح في الظهور إن قدح في القطع وبالظهور كفاية.(3/217)
"وهو" أي تكليفه بالتصديق بما أخبر حينئذ "تكليف بأن يصدقه في أن لا يصدقه وهو" أي وتكليفه بهذا "محال لنفسه لاستلزام تصديقه عدم تصديقه غلط بل هو" أي إيمان أبي لهب "مما علم عدم وقوعه فهو" محال "لغيره" سواء "كلف" أبو لهب "بتصديقه" أي النبي صلى الله عليه وسلم "قبل علمه" أي أبي لهب بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يصدقه "أو" كلف "بعده" أي علمه بذلك "فهو" أي هذا الدليل لهم "تشكيك بعد القاطع" في أنه لم يقع وهو قوله تعالى "{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ} [البقرة: 286]الآية فهو" أي التكليف بالمحال لذاته "معلوم البطلان" عقلا غير واقع شرعا والله تعالى أعلم.
مسألة
"نقل عن الأشعري بقاء التكليف" بالفعل أي تعلقه به "حال" مباشرة ذلك "الفعل" المكلف به "واستبعد" هذا "بأنه" أي الأشعري "إن أراد أن تعلقه" أي التكليف بالفعل "لنفسه" أي التكليف "فحق" لأن حقيقة الطلب تستلزم مطلوبا عقلا غير منقطع عنه "لكن يشكل عليه" أي هذا المراد "انقطاعه" أي التكليف "بعده" أي الفعل "اتفاقا" لأن ما بالذات لا يزول بالغير بل يبقى ما دامت الذات فيبقى التكليف بعد حدوث الفعل لتحقق نفس التكليف بعده أيضا وهو باطل لانقطاعه بعد حدوث الفعل إجماعا "أو" أراد بتعلقه به حال حدوثه "تنجيز(3/218)
ص -108-…التكليف" بمعنى أن التكليف باق عليه منجزا "فباطل لأنه" أي التكليف "حينئذ" أي حين يكون المراد هذا تكليف "بإيجاد الموجود" وتعقبه المصنف بقوله "وليس" هذا كذلك "لأن ذلك" أي التكليف بإيجاد الموجود إنما يكون "بعده" أي الفعل "وكلامنا حال هذا الإيجاد وما يقال إحالة للصورة" أي صورة هذه المسألة "الفعل إن كان آنيا" أي دفعي الوجود "لم يتصور له بقاء يكون معه التكليف وإن" كان "طويلا أو ذا أفعال فحال فعله انقضى شيئا فشيئا فالمنقضي سقط تكليفه وما لم يوجد بقي" تكليفه "لا يفيد ذلك" أي إحالة الصورة "لأن الممكن آنيا" كان "أو زمانيا لا بد له من حال عدم وحال بروز" من العدم إلى الوجود "وإن لم يدرك" مقدار زمان بروزه "لسرعته وحال تقرر وجوده والبقاء إنما هو محكوم به للتكليف لا للفعل أي التكليف السابق على الفعل يبقى مع الحالة الثانية" أي حالة البروز "وإن سبقت" الحالة الثانية "اللحظة" في السرعة "وهو" أي هذا القول على هذا الوجه "صحيح ويكون نصا من الأشعري أن التكليف سبقه" أي الفعل "لا مع المباشرة كما نسب إليه لأنه باطل وإلا" لو كان التكليف مع المباشرة "انتفت المعصية" لأنه إن أتى بالمأمور به فذاك وإلا فهو غير مكلف وهو باطل إجماعا.(3/219)
"وتسبب هذا الخبط عن أن القدرة مع الفعل ولا تكليف إلا بمقدور قال إمام الحرمين" في البرهان: والذهاب إلى أن التكليف عند الفعل "مذهب لا يرتضيه لنفسه عاقل" أما أولا فلأنه خارق للإجماع لأن القاعد في حال قعوده مكلف بالقيام إلى الصلاة باتفاق أهل الإسلام وأما ثانيا فلأن التكليف طلب والطلب يستدعي مطلوبا وعدم حصوله وقت الطلب فكيف يتصور أن يطلب كائن ويقتضي حاصل "وينفي" هذا أيضا "تكليف الكافر بإيمان قبله" أي الإيمان وهو ظاهر كما هو ظاهر البطلان "والتحقيق أن القدرة صفة لها صلاحية التأثير" في المعدومات الممكنة بالإيجاد "و" القدرة "التي يقام" الفعل "بها جزئي حقيقي منها" أي القدرة الكلية المذكورة "والمتقدم والمتأخر" على هذا الجزئي منها "الأمثال فالشرط" للتكليف "مثل سابق وقد علمت أن الصلاحية" للتأثير "لازم ماهيتها" أي القدرة "فيلزم" الصلاحية "كل فرد" من أفرادها "وذاك" أي المثل السابق "مدلول عليه بسلامة آلات الفعل وصحة أسبابه فلذا فسرها" أي القدرة "الحنفية به" أي بهذا المعنى وهو سلامة الأسباب والآلات "وأما دفعه" أي قول الأشعري من المعتزلة "بأن عند المباشرة" للفعل "مع الداعية" إليه "والقدرة" عليه "يجب" الفعل "فلا يدخل تحت القدرة" لعدم التمكن من الترك ولا تكليف إلا بمقدور "فمدفوع بأنه" أي وجوب الفعل حينئذ "وجوب عن اختيار سابق في الفعل وعدم" للفعل سابق "مع إمكان" للفعل والترك "مصحح للتكليف حينئذ" أي حين الفعل "وليس" هذا الدفع بدافع لذاك الدفع "لأن الوجوب" للفعل "لا يتحقق إلا بالفعل" على التمام "في التحقيق والقدرة" للعبد "لا يقام بها الفعل عندهم" أي الأشاعرة والحنفية "بل تصاحبه" أي الفعل "إذ لا يقام" الفعل عندهم "إلا بقدرته تعالى ولا تأثير أصلا لقدرة العبد فيه" أي الفعل "أصلا فليس شرط التكليف إلا ما ذكرنا" من سلامة آلات الفعل وصحة أسبابه "ولا يستدعي" هذا المعنى(3/220)
ص -109-…"المعية" أي كون التكليف مع الفعل "فإن عنده" أي ما ذكرنا "يخلق" أي يخلق الله تعالى الفعل "عادة عند العزم المصمم" عليه للعبد فهذا كما قال المصنف: توجيه كون الشرط سلامة آلات الفعل وحاصله أنه لا معنى لاشتراط القدرة إلا أن يفسر بما ذكرنا اصطلاحا فإن حقيقة قدرة العبد لا يقام بها الفعل عند الحنفية والأشاعرة لاتفاقهم على أن الفعل مخلوق لله تعالى فاشتراط حقيقة القدرة أجنبي فالوجه كون الشرط كون المكلف بالصفة التي ذكرنا من سلامة آلات الفعل منه وصحة أسبابه "وأيضا سبق الاختيار التكلف بسبق ما قارنه" أي التكليف وهو مباشرة الفعل كما يفيده القول بأن التكليف عند المباشرة "لا يوجب وقوع الفعل امتثالا لأنه" أي الامتثال "باختياره" أي المكلف الفعل "بعد علمه بالتكليف" وهو منتف حيث كان الفعل مقارنا للتكليف والله تعالى أعلم.
"تنبيه قسم الحنفية القدرة" التي هي شرط التكليف "إلى ممكنة" على صيغة اسم الفاعل وهي أدنى ما يتمكن به المأمور من أداء المأمور به بدنيا كان أو ماليا قال صدر الشريعة: من غير حرج غالبا وإنما قيدنا بهذا لأنهم جعلوا الزاد والراحلة في الحج من قبيل القدرة الممكنة ا هـ. يعني وقد يتمكن من أداء الحج بدون الزاد والراحلة نادرا وبدون الراحلة كثيرا لكن لا يتمكن منه بدونهما إلا بحرج عظيم وفرق بين الغالب والكثير بأن كل ما ليس بكثير نادر وليس كل ما ليس بغالب نادرا بل قد يكون كثيرا واعتبر بالصحة والمرض والجذام فإن الأول غالب والثاني كثير والثالث نادر "وهي السابقة" أي سلامة آلات الفعل وصحة أسبابه "وميسرة" على صيغة اسم الفاعل ويأتي الكلام عليها.(3/221)
"والأولى" أي الممكنة "إن كان الفعل معها بالعزم غالبا" على الظن كوقت الصلاة قبل التضييق "فالواجب الأداء عينا فإن لم" يؤد "بلا تقصير" منه في ترك الأداء "حتى انقضى وقته" أي الأداء "لم يأثم وانتقل الوجوب إلى قضائه" أي ذلك الفعل "إن كان ثمة خلف وإلا" لو لم يكن له خلف "فلا قضاء ولا إثم أو" إن لم يؤد "بتقصير أثم على الحالين" أي فيما له خلف وما لا خلف له كصلاة العيدين "وإن لم يكن" الفعل معها "غالبا" على الظن "وجب الأداء لخلفه لا لعينه" أي ليظهر الوجوب في القضاء فإنه فرع وجود 1 الأداء عند المحققين "كالأهلية في الجزء الأخير من الوقت" هذا مثال ما يجب فيه الأداء ولا إثم بعدمه بل ليظهر في القضاء يعني لو كان غير أهل للوجوب للأداء في الوقت إلى أن بقي منه ما لا يتجزأ للأداء فيثبت أهليته بزوال الصغر بالبلوغ والحيض بالطهر والكفر بالإسلام "خلافا لزفر لاعتباره إياها" أي الأهلية "قبله" أي الجزء الأخير "عند ما يسعه" أي الأداء والشافعي ما يسع ركعة بل يجب القضاء بلا تقدم وجوب الأداء وعلل المذهب بقوله "لأنه لا قطع بالأخير لإمكان الامتداد" يعني لا قاطع بأن ذلك الجزء الذي ثبتت فيه الأهلية آخر الأجزاء بل كل جزء يتوهم
ـــــــــــــــــــ
1 وجود الأداء كذا في جميع النسخ ولعل الصواب بالباء. وحرر كتبه مصححه.(3/222)
ص -110-…معه أنه ليس آخرا فأي جزء كان معه سلامة آلات الفعل يجب عنده التكليف "ولا يشترط بقاؤها" أي القدرة الممكنة "للقضاء" كما للأداء فيجب القضاء وإن كان في وقت عدم القدرة عليه "لأن اشتراطها" للأداء "لاتجاه التكليف وقد تحققت ووجوب القضاء بقاء ذلك الوجوب لاتحاد سببهما" أي الأداء والقضاء "عندهم" أي الحنفية "فلم يتكرر" الوجوب "لتتكرر" القدرة "فوجوب الصلوات الكثيرة" قضاء "في آخر نفس" من الحياة "عين وجوبها" أداء "المستكمل لشرطه" من سلامة الأسباب والآلات "لكنه" أي القاضي "قصر" حتى ضاق ما بقي له من وقت الحياة عن فعلها "وأيضا لو لم يجب" قضاء الصلاة "إلا بقدرة متجددة لم يأثم بترك" للقضاء "بلا عذر وذلك" أي عدم الإثم بالترك "يبطل نفي وجوبها" قضاء "فيخص {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ} الآية الأداء" فإن مقتضاها انتفاء التكليف عند عدم الوسع ولا شك أن في القضاء تكليفا قائما وإن كان هو التكليف السابق ابتداؤه مع عدم الوسع "كما أوجبته" أي التخصيص "نصوص قضاء الصوم" كقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] "والصلاة" كقوله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" متفق عليه "الموجبة" هي أي نصوص القضاء "الإثم بتركه" أي القضاء بلا عذر "المستلزم لتعلقه" أي القضاء "في آخر نفس وإلا" لو لم يأثم بالترك بلا عذر "انتفى إيجابها" أي نصوص القضاء "للقضاء" لأن موجب الفعل معناه المثبت للوجوب وهو ما ينتهض تركه سببا للعقاب "وأيضا الإجماع على التأثيم" بالترك بلا عذر "إجماع عليه" أي تخصيص الآية كما ذكرنا "ومن الممكنة الزاد والراحلة" أي ملكهما ذاتا أو منفعة بطريق الإجارة في الراحلة بحيث يتوصل بهما إلى الحج "للحج" لأنه لا يتمكن من إقامته إلا به في العادة في جنس المكلفين وكون بعضهم يقدر بالمشي لا يعتبر التكليف باعتباره وليس من القدرة الميسرة لأن ذلك لو توقف التكليف على مراكب وخدم(3/223)
وأعوان وأسباب كثيرة ولم يشرط في وجوبه ذلك بل أن يقدر على أن يكتري رأس زاملة أو شق محمل له مع زاده فإن بدون هذا لا يتحقق قدرة السفر في العادة "والمال" أي وملك المال الذي يتعلق به وجوب صدقة الفطر "لصدقة الفطر فلا تسقط" صدقة الفطر "بهلاكها" أي هذه القدرة بواسطة هلاك المال.
"الثانية الميسرة الزائدة على الأولى باليسر فضلا منه تعالى" على العباد لحصول السهولة في الأداء باشتراطها ولهذا شرطت في أكثر الواجبات المالية لا البدنية لأن أداءها أشق على النفس من البدنية إذ المال محبوب النفس في حق العامة ومفارقة المحبوب بالاختيار أمر شاق "كالزكاة زادت" القدرة المتعلق بها وجوبها "على أصل الإمكان" للفعل "كون المخرج قليلا جدا من كثير وكونه" أي المخرج واقعا "مرة بعد الحول الممكن من الاستنماء فتقيد الوجوب به" أي باليسر "فسقط" الوجوب "بالهلاك" للمال لفوات القدرة الميسرة التي هي وصف النماء إذ بقاؤها شرط لبقاء الواجب بها لأن الحق المستحق متى وجب بوصف لا يبقى إلا كذلك لأن الباقي عين الواجب ابتداء كالملك إذا ثبت مبيعا أو هبة أو إرثا يبقى كذلك وهذا الواجب وجب بعض نماء المال حقيقة أو تقديرا فلو بقي بعد(3/224)
ص -111-…هلاك ذلك المال كما ذهب إليه الشافعي لانقلب غرامة فلا يكون الباقي ما كان واجبا ابتداء "وانتفى" الوجوب "بالدين" الذي له مطالب من جهة العباد لمنافاته اليسر والغنى لكون المال مشغولا بالحاجة الأصلية وهي قضاء الدين واليسر إنما يتحقق بما فضل عنها ومن ثمة لا يجب في دور السكنى وأثاث المنزل وعبيد الخدمة ونحوها وإنما لم يقل فسقط بالهلاك والدين لأن السقوط فرع الثبوت وبالدين لم تجب من الابتداء لا أنها وجبت ثم سقطت وإنما قيدناه بما له مطالب من العباد لأن ما ليس كذلك كالنذور والكفارات لا ينفي الوجوب "وإلا" لو لم يسقط بهلاك النصاب ولم ينتف بالدين المذكور "انقلب" اليسر "عسرا" أي يصير الواجب المقيد باليسر غير مقيد به "بخلاف الاستهلاك" للنصاب بعد توفر شروط الوجوب فيه إنما لم يسقط "لتعديه" أي المالك "على حق الفقراء" بالإهلاك حيث ألقاه في البحر أو أنفقه في حاجته إلى غير ذلك واشتراط بقاء القدرة الميسرة إنما كان نظرا له وقد خرج بالتعدي عن استحقاقه النظر فلم يسقط الوجوب أو القدرة الميسرة جعلت باقية تقديرا زجرا له عن التعدي وردا لقصده إسقاط الحق الواجب عن نفسه ونظرا للفقير.(3/225)
"وهو" أي سقوط الواجب بهلاك النصاب "بناء على أنه" أي الواجب في عرف الشارع "جزء من العين" أي نفس المخرج حقا لله تعالى من النصاب كما يشهد به قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] إذ معلوم أن متعلق الإيتاء هو المال إلى غير ذلك وإن كانت في عرف الفقهاء كما قال المصنف: نفس الإيتاء لأنهم يصفونه بالوجوب ومتعلق الأحكام الشرعية أفعال المكلفين "ولذا" أي ولكون الزكاة جزءا من العين "سقطت بدفع النصاب" أي بالتصدق به "بلا نية" أصلا أو بنية النفل لوصول الجزء الواجب إلى مستحقه وهو لا يحتاج إلى نية تخصه بعد وقوعه قربة إلا عند المزاحمة بينه وبين سائر الأجزاء والفرض وقوعه قربة وانتفاء المزاحمة لأداء الكل لله تعالى "وكذا الكفارة" لليمين وجوبها بقدرة ميسرة "بدليل تخيير القادر على الأعلى بينه" أي الأعلى "وبين الأدنى" أي بين التحرير والكسوة والإطعام المتفاوتة في المالية تفاوتا ظاهرا عادة فإن هذا إذن للمخير في الترفق بما هو الأيسر عليه بخلاف صدقة الفطر فإن التخيير فيها وإن وقع بين مختلفات في الصورة فهي متماثلة في المعنى لأن مقدار مالية نصف صاع من بر كان مساويا عندهم لقيمة صاع من شعير أو تمر فلا يفيد التخيير فيها التيسير قصدا بل التأكيد فلا جرم أن كان وجوبها بقدرة ممكنة.
"ولم يشرط في إجزاء الصوم" في الكفارة "العجز المستدام" إلى الموت "كما" شرط "في الفدية" في صوم رمضان بالنسبة إلى المكلف المسن العاجز عنه "والحج عن الغير" الحي القادر على النفقة العاجز عن الحج بنفسه "فلو أيسر" المكفر بالصيام لعجزه عن الخصال الثلاث "بعده" أي الصيام "لا يبطل" التكفير به بخلاف المسن العاجز عن الصيام فإنه إذا قدر على الصيام بعد الفدية بطلت ووجب عليه القضاء والمحجوج عنه المذكور فإنه إذا قدر على الحج بنفسه وجب عليه الحج بنفسه وكيف لا ولو كان المراد بعدم وجدان الخصال الثلاث(3/226)
ص -112-…عدمه في العمر لبطل ترتب الصوم عليه لأن العجز عنها حينئذ لا يتحقق إلا في آخر العمر وبعده لا يتصور أداء الصوم فعلم أن المراد به العجز في الحال مع احتمال أن يحصل القدرة في الاستقبال.
"ولو فرط" الموسر الذي وجبت عليه الكفارة في التكفير بالمال "حتى هلك المال انتقل" وجوب التكفير به "إلى الصوم" أي التكفير به "بخلاف الحج" فإنه لو فرط من وجب عليه الحج حتى عجز لا يسقط عنه حتى لو لم يقدر عليه حتى مات كان مؤاخذا به في الآخرة لأنه مبني على القدرة الممكنة كما سلف "وإنما ساوى الاستهلاك" للمال "الهلاك" في سقوط الكفارة بالمال ولم يساوه في سقوط الزكاة مع تساويهما في البناء على القدرة الميسرة "لعدم تعين المال" في الكفارة للتكفير به فلا يكون الاستهلاك تعديا "بخلافه" أي المال "في الزكاة" فإن الواجب جزء من النصاب كما تقدم آنفا فإذا استهلكه فقد استهلك الواجب وبهذا يخرج الجواب عن إشكال آخر وهو أن الواجب المالي في الكفارة يعود بعد هلاك المال بإصابة مال آخر قبل التكفير بالصوم ولا يعود في الزكاة فتكون دون الزكاة وتوضيحه أن الشرع اعتبر القدرة في الزكاة على الأداء بالمال الذي وجبت الزكاة بسببه لا بمال آخر فبعد فوات ما وجب منه لا تثبت القدرة على الأداء بحصول مال آخر فلا يعود الوجوب فأما الكفارة فيتعلق الوجوب فيها بمطلق المال لأن المقصود ما يصلح للتقرب الموجب للثواب الساتر لإثم الحنث ولهذا لم يشترط فيه النماء فكان المال الموجود وقت الحنث وبعده سواء في ثبوت القدرة على التكفير به "ونقض" الدليل الدال على كون وجوب الزكاة بناء على القدرة الميسرة وهو عدم وجوبها مع الدين الذي له مطالب من العباد "بوجوبها" أي الكفارة بالمال "مع الدين بخلاف الزكاة" بأن يقال لو كان الدين منافيا لليسر في الزكاة مانعا من وجوبها لكان منافيا له في الكفارة مانعا من وجوبها لكون المال فيهما مشغولا بالحاجة الأصلية وهي قضاء الدين(3/227)
لكن الكفارة واجبة مع الدين فانتقض ما ذكرتم به "أجيب بمنعه" أي وجوب الكفارة بالمال مع الدين "كقول بعضهم" أي المشايخ كما في الزكاة إجماعا فلا نقض "وبالفرق" بينهما على قول الأخيرين "بأن وجوب الزكاة للأغنياء شكرا لنعمة الغنى وهو" أي الغنى "منتف بالدين" إن استغرق "أو يقصر" الغنى "بقدره" أي الدين إن لم يستغرق "والكفارة" إنما شرعت "للزجر" للحالف عن هتك حرمة اسم الله تعالى "والستر" لجنابته عليه بذلك لما فيها من معنى العبادة "والإغناء غير مقصود بها" بالذات "ولذا" أي ولكونها للزجر والستر والإغناء غير مقصود بها "تأدت بالعتق والصوم" لوجود الزجر والستر وانتفاء الغنى فيهما.
مسألة
"قيل" والقائل غير واحد كالآمدي وابن الحاجب "حصول الشرط الشرعي" لشيء "ليس شرطا للتكليف" أي لصحته بذلك الشيء "خلافا للحنفية وفرض الكلام في بعض جزئيات محل النزاع وهو" أي البعض "تكليف الكفار بالفروع" كالصلاة والزكاة والحج قال(3/228)
ص -113-…المصنف: "ولا يحسن بعاقل" مخالفة هذا الأصل الكلي على صرافته مطلقا كما سيظهر فلا يحسن نسبتها إلى هؤلاء الأئمة المحققين والجلة المدققين على أن كتبهم الشهيرة ليس فيها ذلك وعزي أيضا إلى أبي حامد الإسفراييني من الشافعية وابن خويز منداد من المالكية وعبد الجبار وأبي هاشم في جماعة من المتكلمين والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك وقيد الشرط بالشرعي لأن حصول الشرط العقلي للفعل شرط للتكليف به إن لم يمكن تحصيله للمكلف حتى ينتفي التكليف بانتفائه وليس شرطا فيه إن أمكنه تحصيله وأما اللغوي فاستعماله غالبا في السبب "بل هي" أي مسألة تكليف الكفار بالفروع "تمام محله" أي النزاع كما هو ظاهر البيضاوي "والخلاف" بين الحنفية والشافعية "فيها غير مبني على ذلك" أي أن حصول الشرط الشرعي ليس شرطا للتكليف خلافا للحنفية "المستلزم عدم جواز التكليف بالصلاة حال الحدث بل" الخلاف فيها "ابتداء في جواز التكليف بما شرط في صحته الإيمان حال عدمه" أي الإيمان "فمشايخ سمرقند" منهم الأئمة أبو زيد وشمس الأئمة وفخر الإسلام غير مكلفين بما الإيمان شرط لصحته "لخصوصية فيه" أي الإيمان "لا لجهة عمومه" أي الإيمان "وهو" أي عمومه "كونه شرطا وهي" أي الخصوصية فيه "أنه أعظم العبادات" وكيف لا وهو رأس الطاعات وأساس القربات وهو المقصود بالذات "فلا يجعل شرطا تابعا في التكليف" لما هو دونه لأن فيه قلب الأصول ونقض المعقول وأجيب بأن ثبوت وجوب الإيمان بالأوامر المستقلة الواردة فيه لا أنه يثبت في ضمن الفروع فيكون ثبوت وجوبه بالعبارة لا بالاقتضاء وتعقب بأن ثبوته بالعبارة لا ينفي ثبوته بالاقتضاء أيضا وأن الحق أن يقال يثبت الوجوب بهما ولا فساد نعم لو لم يكن العبارة لزم المحذور وهو ممنوع "ومن سواهم" أي مشايخ سمرقند من الحنفية "متفقون على تكليفهم" أي الكفار "بها" أي الفروع "وإنما اختلفوا في أنه" أي التكليف "في حق الأداء كالاعتقاد أو" في حق(3/229)
"الاعتقاد" فقط "فالعراقيون" الكفار مخاطبون "بالأول" أي الأداء والاعتقاد "كالشافعية فيعاقبون على تركهما والبخاريون" مخاطبون "بالثاني" أي بالاعتقاد "فعليه" أي تركه "فقط يعاقبون وليس" جواب هذه المسألة "محفوظا عن أبي حنيفة وأصحابه" نصا "بل أخذها" أي هذه المقالة وهي أن الكفار غير مخاطبين بالعبادات في حق الأداء "هؤلاء" أي البخاريون "من قول محمد" في المبسوط "فيمن نذر صوم شهر فارتد" ثم أسلم "لم يلزمه" من المنذور شيء لأن الردة تبطل كل عبادة ومعلوم أنه لم يرد بهذا التعليل العبادة المؤداة وهو ما أدى المنذور بعد "فعلم أن الكفر يبطل وجوب أداء العبادات بخلاف الاستدلال بسقوط الصلاة أيام الردة" على هذا فإنه غير موجب له "لجواز سقوطه" أي وجوب القضاء "بالإسلام كالإسلام بعد" الكفر "الأصلي" لقوله تعالى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] والسقوط بإسقاط من له الحق لا يكون دليل انتفاء أصل الوجوب "ولو قيل الردة تبطل القرب" لأنها حسنات والردة تحبطها "والتزام القربة في الذمة قربة فيبطل" النذر "لم يلزم ذلك" أي أخذ الجواب المذكور من مسألة النذر.(3/230)
ص -114-…قال الشيخ سراج الدين الهندي رحمه الله تعالى: وقد ظفرت بمسائل عن أصحابنا تدل على أن مذهبهم ذلك وهي: كافر دخل مكة ثم أسلم وأحرم لا يلزمه دم لأنه لا يجب عليه أن يدخلها محرما ولو كان له عبد مسلم لا يلزمه صدقة الفطر عنه لأنها ليست واجبة عليه ولو حلف ثم أسلم وحنث فيه لا تجب عليه الكفارة والكتابية المطلقة الرجعية تنقطع رجعتها بانقطاع دم حيضتها الثالثة لعدم وجوب الغسل عليها ولزوم الأحكام بخلاف المسلمة فإنها لا تنقطع رجعتها حتى يعتضد الانقطاع بالاغتسال أو لزوم حكم من أحكام الطاهرات بمضي وقت الصلاة وقيل: الخلاف بيننا وبين الشافعي مبني على أن ديانة الكافر واعتقاده دافعة للتعرض دون خطاب الشرع عند الشافعي ودافعة للتعرض والخطاب في الأحكام التي تحتمل التغيير عند أبي حنيفة وفي المحصول وغيره ومن الناس من قال بتناولهم النواهي لصحة انتهائهم عن المنهيات دون الأوامر لعدم صحة إقدامهم على المأمورات.(3/231)
"وظاهر" قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}. وقوله تعالى: {إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر: 39-47] دليل ظاهر "للعراقيين" أما ظاهر الأولى فواضح وأما ظاهر الثانية فكذلك لإفادتها أن مما سلكهم في سقر ترك الصلاة والإطعام الواجبين عليهم لاستحالة التعذيب شرعا على ما ليس بواجب عليهم "وخلافه" أي ظاهر كل منهما كأن يكون المراد بالأولى لا يفعلون ما يزكي أنفسهم وهو الإيمان والطاعة والمراد من الثانية لم نك من المؤمنين لأنهم قد يرادون بالمؤمنين1 كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "نهيت عن قتل المصلين" أو لم نك من المعتقدين فرضية الصلاة فيكون العذاب على ترك الاعتقاد أو أن يكون غير المصلين غير المكذبين المذكورين لاشتمال النار على المكذبين الكفار وغير المكذبين المسلمين الذين تركوا الصلاة والزكاة وتناول المجرمين الكل فيكون المجموع قول المجموع على التوزيع لا أن المجموع قول كل من المجرمين "تأويل" لم يعينه دليل "وترتيب الدعوة في حديث معاذ" لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" أخرجه الستة "لا يوجب توقف التكليف" بوجوب أداء الشرائع على الإجابة بالإيمان كما في جامع الأسرار ألا يرى أنه ذكر افتراض الزكاة بعد الصلاة ولا قائل بأن الزكاة إنما تجب بعد الصلاة في حق من آمن غاية ما(3/232)
فيه تقديم الأهم فالأهم مع مراعاة التخفيف في التبليغ "وأما" إنهم مخاطبون "بالعقوبات والمعاملات فاتفاق" وقالوا في وجه
ـــــــــــــــــــ
1 بالمؤمنين كذا في الأصول التي بيدنا والمناسب بالمصلين فتأمل. كتبه مصححه.(3/233)
ص -115-…العقوبات لأنها تقام بطريق الجزاء لتكون زاجرة عن ارتكاب أسبابها وباعتقاد حرمتها يتحقق ذلك والكفار أليق به من المؤمنين وفي وجه المعاملات لأن المطلوب بها معنى دنيوي وذلك بهم أليق لأنهم آثروا الدنيا على الآخرة ولأنهم التزموا بعقد الذمة ما يرجع إليها والله سبحانه أعلم.
"الفصل الثاني" في الحاكم
"الحاكم لا خلاف في أنه الله رب العالمين ثم الأشعرية لا يتعلق له تعالى حكم" بأفعال المكلف "قبل بعثة" لرسول إليه "وبلوغ دعوة" من الله تعالى إليه "فلا يحرم كفر ولا يجب إيمان" قبل ذلك "والمعتزلة يتعلق" له تعالى حكم "مما أدرك العقل فيه" من أفعال المكلفين "صفة حسن أو قبح لذاته" أي الفعل تقتضيهما كحسن الصدق النافع وقبح الكذب المضر "عند قدمائهم و" عند "طائفة" منهم يتعلق به "لصفة" توجبه فيهما بمعنى أن لها مدخلا في ذلك للقطع بأنها لا تستقل بدون الذات "والجبائية" أبو علي الجبائي وأتباعه ذهبوا إلى أنه يتعلق به "لوجوه واعتبارات" مختلفة توجبه فيهما كلطم اليتيم فإنه باعتبار التأديب حسن وباعتبار مجرد التعذيب قبيح "وقيل" وقائله: أبو الحسين: منهم يتعلق به "لصفة في القبح" فقط "وعدمها" أي الصفة الموجبة للقبح "كاف في" ثبوت "الحسن" ولا حاجة له إلى صفة محسنة "وما لم يدرك فيه" العقل صفة حسن أو قبح كصوم آخر يوم من رمضان وفطر أول يوم من شوال إنما يتعلق الحكم به "بالشرع والمدرك" من الصفات "إما حسن فعل بحيث يقبح تركه فواجب" أي فذلك الفعل واجب "وإلا" فإن كان حسنه بحيث لا يقبح تركه "فمندوب أو" المدرك حسن "ترك على وزانه" أي الفعل "فحرام" ذلك الفعل إن ثبت بفعله القبح "ومكروه" إن لم يثبت بفعله القبح "والحنفية" قالوا "للفعل" صفة حسن وقبح "كما تقدم" في ذيل النهي وكل منهما "فلنفسه" أي الفعل "وغيره" أي الفعل "وبه" أي وبسبب ما بالفعل من الصفة "يدرك العقل حكمه تعالى فيه" أي الفعل "فلا حكم له" أي العقل إن الحكم إلا لله(3/234)
غير أن العقل "إنما استقل بدرك بعض أحكامه تعالى" فلا جرم أن قال المصنف: وهذا هو عين قول المعتزلة لا كما يحرفه بعضهم "ثم منهم كأبي منصور من أثبت وجوب الإيمان وحرمة الكفر ونسبة ما هو شنيع إليه تعالى كالكذب والسفه وهو" أي هذا المجموع "وجوب شكر المنعم وزاد أبو منصور" وكثير من مشايخ العراق "إيجابه" أي الإيمان "على الصبي العاقل" الذي يناظر في وحدانية الله تعالى كما صرح به غير واحد "ونقلوا عنه" أي أبي حنيفة وكان الأولى التصريح به "لو لم يبعث الله للناس رسولا لوجب عليهم معرفته بعقولهم والبخاريون لا تعلق" لحكم الله تعالى بفعل المكلف قبل بعثه رسولا إليه وتبليغه حكم الله في ذلك "كالأشاعرة وهو المختار وحاصل مختار فخر الإسلام والقاضي أبي زيد" وشمس الأئمة الحلواني ومن تابعهم "النفي" لوجوب أداء الإيمان "عن الصبي لرواية عدم انفساخ النكاح" أي نكاح المراهقة وهي المقاربة للبلوغ إذا كانت بين أبوين مسلمين تحت زوج مسلم "بعدم وصف المراهقة الإسلام" إذا عقلت واستوصفته فلم تقدر على وصفه ذكره في الجامع الكبير إذ لو كان الصبي العاقل مكلفا(3/235)
ص -116-…بالإيمان لبانت من زوجها كما لو بلغت غير واصفة ولا قادرة على وصفه وأما نفس الوجوب فثابت كما يأتي في الفصل الرابع "وفي البالغ" الناشئ على شاهق ونحوه إذا "لم تبلغه دعوة لا يكلف به" أي الإيمان "بمجرد عقله ما لم تمض مدة التأمل وقدرها" أي المدة مفوض "إليه تعالى" إذ ليس عليه دليل فإن مضت مدة يعلم ربه بأنه يقدر على ذلك ولم يؤمن يعاقب عليه وإلا فلا وما قيل هي مقدرة بثلاثة أيام اعتبارا بالمرتد فإنه يمهل ثلاثة أيام ليس بقوي لأن مدة التجربة تختلف باختلاف الأشخاص لأن العقول متفاوتة فرب عاقل يهتدي في زمان قليل ما لا يهتدي إليه غيره في زمان كثير "فلو مات قبلها" أي المدة "غير معتقد إيمانا ولا كفرا لا عقاب" عليه "أو" مات "معتقدا الكفر" واصفا له أو غير واصف "خلد" في النار لأن اعتقاد الشرك دليل خطور الصانع بباله ووقوع نوع استدلال منه فلم يبق له عذر "وكذا" يخلد في النار "إذا مات بعدها" أي المدة "غير معتقد" إيمانا ولا كفرا وإن لم تبلغه الدعوة لأن الإمهال وإدراك مدة التأميل بمنزلة دعوة الرسل في حق تنبيه القلب من نوم الغفلة فلا يعذر "وبهذا" التحرير "يبطل الجمع" الذي ذكره الشيخ أكمل الدين بين مذهب الأشاعرة وغيرهم "بأن قول الوجوب معناه ترجيح العقل الفعل والحرمة ترجيحه" أي العقل "الترك" هذا "بعد كونه" أي هذا الجمع "خلاف الظاهر وما ذكرناه عن البخاريين" نقله في الميزان عنهم بلفظ وهو اختيار بعض مشايخ بخارى وغيرهم وقال المصنف: "نقله المحقق ابن عين الدولة عنهم غير أنه قال: أئمة بخارى الذين شاهدناهم كانوا على القول الأول يعني قول الأشاعرة وحكموا بأن المراد من رواية لا عذر لأحد في الجهل بخالقه لما يرى من خلق السموات والأرض وخلق نفسه بعد البعثة" وهذه الرواية في المنتقى ثم في الميزان عن محمد بن سماعة عن محمد بن الحسن عن أبي حنيفة وفي غيره كجامع الأسرار عن أبي يوسف عن أبي حنيفة "فيجب" على هذا "حمل(3/236)
الوجوب في قوله" أي أبي حنيفة السالف "لوجب عليهم معرفته بعقولهم على ما ينبغي".
قلت: لكن بقيته وهي قوله وأما في الشرائع فمعذور حتى تقوم عليه الحجة بمجيء الشرع لا يلائم حكمهم المذكور فإن الإيمان يكون مساويا للشرائع حينئذ وأبو حنيفة نفسه قد خالف بينه وبينها في الحكم.
"وكلهم" أي الحنفية "على امتناع تعذيب الطائع عليه تعالى وتكليف ما لا يطاق" لذاته "فتمت" محال النزاع "ثلاثة اتصاف الفعل" بالحسن والقبح وهذا هو الأول "ومنع استلزامه" أي الاتصاف "حكما في العبد وإثباته" أي إثبات استلزام الاتصاف حكما في العبد وهذا هو الثاني "واستلزامه" أي الاتصاف "منعهما" أي تعذيب الطائع وتكليف ما لا يطاق "منه" تعالى وهذا هو الثالث "ولا نزاع في دركه" أي العقل صفة "للفعل بمعنى صفة الكمال" كما هو قد يراد بالحسن "و" صفة "النقص" كما هو قد يراد بالقبيح "كالعلم والجهل" فيقال العلم حسن والجهل قبيح "ولا فيهما بمعنى المدح والذم" أي ولا نزاع(3/237)
ص -117-…أيضا في إدراك العقل الحسن فيما يطلق عليه الحسن مما يكون متعلق المدح "في مجاري العادات" والقبح فيما يطلق عليه القبيح مما يكون متعلق الذم في مجاري العادات "بل" النزاع في إدراك العقل الحسن والقبح "فيهما" أي الحسن والقبيح أي فيما يطلقان عليه "بمعنى استحقاق مدحه تعالى وثوابه" للفاعل على ذلك الفعل كما هو قد يراد بالحسن "ومقابلهما" أي وبمعنى استحقاق ذمه تعالى وعقابه للفاعل على ذلك الفعل كما هو قد يراد بالقبيح "لنا في الأول" أي اتصاف الفعل بالحسن والقبح "أن قبح الظلم ومقابلة الإحسان بالإساءة مما اتفق عليه العقلاء حتى من لا يتدين بدين" ولا يقول بشرع كالبراهمة والدهرية وذلك "مع اختلاف عاداتهم وأغراضهم فلولا أنه" أي اتصاف الفعل بذلك "يدرك بالضرورة في الفعل لذاته لم يكن ذلك" الاتفاق "ومنع الاتفاق على كون الحسن والقبح متعلقها" أي الأحكام "منه تعالى" كما في شرح المقاصد "لا يمسنا" لأنا لم نقل: مجرد اتصاف الفعل بالحسن والقبح يستلزم حكما منه تعالى على المكلف أو له بل ذهبنا إلى أنه إنما يتعلق ذلك به بالسمع "وقولهم" أي الأشاعرة في دفع هذا الاتصاف بالحسن والقبح قد يكون "مما اتفقت فيه الأغراض والعادات واستحق به المدح والذم في نظر العقول لتعلق مصالح الكل به" أي بذلك الفعل فلا يكون اتصافه بأحدهما ذاتيا "لا يفيد" دفعه "بل هو" أي الاتصاف بأحدهما على هذا الوجه هو "المراد بالذاتي" أي بكون الفعل موصوفا بالحسن أو القبح لذاته "للقطع بأن مجرد حركة اليد قتلا ظلما لا تزيد حقيقتها" أي حركتها بذلك "على حقيقتها" أي حركتها قتلا "عدلا فلو كان الذاتي" هو ما يكون "مقتضى الذات اتحد لازمهما" أي الحركتين "حسنا وقبحا" وليس كذلك قطعا "فإنما يراد" بالذاتي "ما يجزم به العقل لفعل من الصفة" التي هي الحسن أو القبح "بمجرد تعقله" أي الفعل حال كون هذا المجزوم به "كأينا عن صفة نفس من قام به" ذلك الفعل "فباعتبارها" أي(3/238)
تلك الصفة الجازم بها العقل للفعل على هذا الوجه "يوصف" ذلك الفعل "بأنه عدل حسن أو ضده" أي أو ظلم قبيح "هذا باضطرار الدليل" أي اتحاد حركة اليد في العدل والظلم في القتل "ويوجب كونه" أي اتصاف الفعل بالحسن والقبح مطلقا إنما هو "لخارج" عن الفعل "ومثله" أي الاتفاق على اتصاف الفعل بالحسن والقبح في إفادة المطلوب "ترجيح الصدق" أي ترجيح العقل إياه على الكذب "ممن استوى في تحصيل غرضه" من جلب نفع أو دفع ضر "هو" أي الصدق "والكذب ولا علم له بشريعة" تفيد حسن الصدق وقبح الكذب إذ لولا أن حسن الصدق ثابت له في ذاته ومعلوم بالضرورة لما كان كذلك "والجواب" عن هذا من قبل الأشاعرة "بأن الإيثار" من العقل للصدق على الكذب في هذا "ليس لحسنه" أي الصدق "عنده تعالى" بل إنما هو لحسنه في حقنا "ليس يضرنا" لأنا إنما قلناه بالنسبة إلينا وإنه لا يستلزم تعلق حكم الله تعالى على المكلف أو له بل ذلك بالسمع وإنما يضر المعتزلة القائلين بتعلق أحكام الله به من غير توقف على سمع "نعم" يرد "عليه" أي هذا الدليل "منع الترجيح" للصدق على الكذب "على التقدير"(3/239)
ص -118-…أي تقدير عدم مساواة الصدق على الكذب1 في حصول الغرض فإن على هذا التقدير قد يرجح العقل الكذب على الصدق كما يظهر في تقرير قوله "قالوا" أي الأشاعرة: أولا "لو اتصف" الفعل بالحسن والقبح "كذلك" أي اتصافا ذاتيا "لم يتخلف" كل منهما عما اتصف به في سائر موارده "وتخلف" قبح الكذب "في تعينه" أي الكذب طريقا "لعصمة نبي" من ظالم فإنه حسن واجب إلى غير ذلك من الأفعال التي تجب تارة وتحرم أخرى "والجواب هو" أي تعين الكذب للغرض المذكور "على قبحه" أي معه غير أنه رفع الإثم عنه شرعا للضرورة كما في إجراء كلمة الكفر على اللسان رخصة سلمنا أنه صار حسنا لكن لا لذاته بل لما لازمه من الإنقاذ للنبي "وحسن الإنقاذ" أي التخليص للنبي "يربو" أي يزيد "قبح تركه" أي التخليص "عليه" أي الكذب الذي به الإنقاذ "وغاية ما يستلزم" هذا "أنهما" أي الحسن والقبح فيه "لخارج لكنهما" أي الحسن والقبح "من جهتين" فالقبح من جهة كونه لم يتعلق به مصلحة والحسن من جهة أنه تعلق به مصلحة "ترجحت إحداهما" وهي جهة الحسن على جهة القبح "وقيل هو" أي تعين الكذب "فرض ما ليس بواقع إذ لا كذب إلا وعنه مندوحة التعريض" أي سعته فيجوز أن يحصل النجاة بأن يذكر صورة الخبر المطلوب منه وقصد غيره فلم يحتج إلى الكذب فلا يكون حسنا بل يبقى قبيحا.
فإن قيل التعريض يوجب عدم الجزم بفهم الحقيقة من لفظ أصلا لجواز أن يكون فيه مصلحة تقتضي صرفه عن ظاهره فيرتفع الوثوق به عن ظاهر الشريعة أجيب بمنع ارتفاع الوثوق عن ظاهر الشرع على تقدير جواز التعريض لأن التعريض في كلام الشارع إنما يكون مع قرينة يعلم بها كونه تعريضا لئلا يكون إضلالا وإيقاعا للعباد فيما لا يجوز فمتى تجرد كلام عن قرينة إرادة التعريض يجزم بالحمل على الظاهر مع أنه منقوض بسائر الاحتمالات كالمجاز والإضمار والتخصيص.(3/240)
"قالوا" أي الأشاعرة ثانيا "لو اتصف" الفعل بالحسن والقبح لذاته "اجتمع المتنافيان في لأكذبن غدا لأن صدقه" أي لأكذبن غدا "الذي حسنه بكذب غد" أي فيه "فيقبح" لكونه كذبا إذ الفرض قبح الكذب لذاته فيلزم اجتماع الحسن والقبح فيه "وقلبه" أي ولأن كذبه بعدم كذبه في الغد إما بصدقه فيه أو سكوته فيقبح لأنه يلزم منه كذبه في اليوم في لأكذبن غدا وكل ما يلزم منه الكذب في اليوم قبيح فصدقه أو سكوته غدا قبيح والصدق حسن في ذاته فيلزم منه اجتماع الصدق والكذب فيه "ومبناه" أي هذا الدليل "على أن الملزوم لخارج حسن حسن" والملزوم لخارج قبيح قبيح كما ذكر غير واحد "وجوابه ما مر من عدم التنافي" بين كونه حسنا وقبيحا "للجهتين لما مر من المراد بالذاتي" فيحسن منه الصدق غدا باعتبار كونه صدقا ويقبح باعتبار استلزامه الكذب اليوم ولا استحالة في اجتماعهما باعتبارين "فلا ينتهض" هذا "على
ـــــــــــــــــــ
1 على الكذب هكذا في النسخ والمناسب للكذب باللام. كتبه مصححه.(3/241)
ص -119-…أحد قالوا" أي الأشاعرة "ثالثا لو اتصف" الفعل بالحسن والقبح لذاته "وهما" أي الحسن والقبح "عرضان قام العرض" الذي هو أحدهما "بالعرض" الذي هو الفعل "لأن الحسن زائد" على مفهوم الفعل "وإلا" لو كان غير زائد بل كان عين الفعل أو جزأه "كانت عقلية الفعل عقليته" أي الحسن وليس كذلك إذ قد يعقل الفعل ولا يعقل حسنه ولا قبحه "و" أيضا الحسن وصف "وجودي لأن نقيضه" أي حسن "لا أحسن" وهو "سلب وإلا" لو كان غير سلب "استلزم محلا موجودا" لامتناع قيام الصفة الثبوتية بالمحل المعدوم "فلم يصدق على المعدوم" لا أحسن وهو باطل بالضرورة لأنا نعلم بالضرورة صدق اللا أحسن على معدومات كثيرة وإذا كان أحد النقيضين سلبا كان الآخر وجوديا ضرورة امتناع ارتفاع النقيضين والكلام في القبح كالكلام في الحسن وكون الشيء وصفا زائدا على مفهوم الموصوف وجوديا معنى العرض ثم الفرض أنه صفة للفعل الذي هو عرض فيكون قائما به فيلزم قيام العرض بالعرض وهو باطل لأنه يلزم منه إثبات الحكم لمحل الفعل لا للفعل "ودفع" هذا الدليل "بأن عدمية صورة السلب موقوفة على كون مدخول الباقي وجوديا وإثبات وجوديته" أي مدخول الباقي "بعدميتها" أي صورة السلب "دور وعليه" أي هذا الدفع أن يقال "إنما أثبته" أي وجود مدخول الباقي "باستلزام محل موجود، ثم ينتقض" الدليل "بإمكان الفعل ونحوه" كامتناعه لأن الإمكان قد يكون ذاتيا للفعل مع إجراء الدليل فيه بأن يقال لو كان الإمكان ذاتيا لزم قيام المعنى بالمعنى لأن إمكان الفعل زائد على مفهومه وإلا لزم من تعقل الفعل تعقله ثم يلزم أن يكون وجوديا لأن نقيضه لا إمكان وهو سلب إذ لو لم يكن سلبا لاستلزم محلا موجودا فلم يصدق على المعدوم الممتنع أنه ليس بممكن وأنه باطل ضرورة "ولا ينتقض" هذا الدليل "باقتضائه أنه لا يتصف فعل بحسن شرعي" للزوم قيام العرض بالعرض وإنما لا ينتقض به "لأنه" أي الحسن الشرعي "ليس عرضا لأنه" أي حسنه "طلبه(3/242)
تعالى الفعل" وطلبه من باب الحكم وهو قديم ثم هو متعلق بالفعل لا صفة له "والتحقيق أن صورة السلب قد تكون وجودا كاللامعدوم" إذ معناه كون الشيء غير معدوم "و" قد تكون صورة السلب "منقسما" إلى موجود ومعدوم "كاللا ممتنع" فإنه يشمل الواجب والمعدوم الممكن "ولو سلم" أنه لو اتصف بأحدهما لذاته كان العرض قائما بالعرض "فقيام العرض" بالعرض "بمعنى النعت" للعرض "به" أي بالعرض "غير ممتنع" بل واقع كاتصاف الحركة بالسرعة والبطء وهو هنا كذلك وإنما كان هذا غير ممتنع "إذ حقيقته" أي كون العرض قائما بالعرض بمعنى النعت به "عدم القيام" للعرض بالعرض "خصوصا وحسن الفعل معنوي إذ ليس المحسوس سوى الفعل قالوا" أي الأشاعرة "رابعا فعل العبد اضطراري واتفاقي لأنه" أي فعله إن كان "بلا مرجح" لوجوده على عدمه بل كان مما يصدر عنه تارة ولا يصدر عنه أخرى بلا تجدد أمر فهو "الثاني" أي اتفاقي "وبه" أي وإن كان فعله بمرجح له بأن توقف وجوده عليه "فإما من العبد وهو" أي كون المرجح من العبد "باطل للتسلسل" لأن ذلك المرجح فعل فيحتاج إلى مرجح منه وهلم جرا "أو" بمرجح "لا منه" أي من العبد "فإن لم يجب الفعل معه" أي المرجح وذلك "بأن صح(3/243)
ص -120-…تركه" أي الفعل كما صح فعله "عاد الترديد" وهو إما أن يكون ذلك المرجح بلا مرجح أو به وما كان به فإما من العبد أو من غيره وأيا ما كان يلزم المحذور "وإن وجب" الفعل معه "فاضطراري ولا يتصفان" أي الاضطراري والاتفاقي "بهما" أي الحسن والقبح اتفاقا "وهو" أي هذا الدليل "مدفوع بأنه" أي الفعل "بمرجح منه" أي العبد "وليس الاختيار بآخر" أي باختيار آخر ليتسلسل "وصدور الفعل عند المعتزلة مع المرجح على سبيل الصحة لا الوجوب إلا أبا الحسين ولو سلم" أن المرجح موجب وجوب الفعل "فالوجوب بالاختيار لا يوجب الاضطرار المنافي للحسن والقبح" وصحة التكليف "ودفع" هذا الدفع بأنه "ثبت لزوم الانتهاء إلى مرجح ليس من العبد يجب معه الفعل ويبطل استقلال العبد به" أي بالفعل "ومثله" أي هذا "عند المعتزلة لا يحسن ولا يقبح ولا يصح التكليف به وهو" أي دفع هذا الدفع "رد المختلف إلى المختلف" لأنهم لا يقولون بوجوب الفعل أبدا بل بصحته مع المرجح ولا بعدم استقلال العبد به بل يستقل به عندهم فلا يلزمهم "ولا يلزمنا" معشر الحنفية أيضا "لأن وجود الاختيار" في الفعل "عندنا كاف في الاتصاف" أي في اتصافه بالحسن والقبح "وصحة التكليف وهذا الدفع يشترك بين أهل القول الذي اخترناه" وهو ما ذكره ابن عين الدولة عمن شاهدهم من أئمة بخارى "وجمع من الأشاعرة ولا ينتهض منهم" أي الأشاعرة "إذ مرجع نظرهم في الأفعال الجبر لأن الاختيار أيضا مدفوع للعبد بخلقه تعالى لا صنع له" أي للعبد "فيه" أي الاختيار.(3/244)
"أما الحنفية فالكسب صرف القدرة المخلوقة" للعبد "إلى القصد المصمم إلى الفعل" وظاهر تعلق الجار الأول بصرف القدرة والجار الثاني بالقصد "فأثرها" أي قدرة الله "في القصد ويخلق سبحانه الفعل عنده" أي القصد "بالعادة فإن كان القصد حالا" أي وصفا "غير موجود ولا معدوم" في نفسه قائما بموجود "فليس" الكسب "بخلق، وعليه" أي ثبوت الحال "جمع من المحققين" منهم القاضي أبو بكر وإمام الحرمين أولا "وعلى نفيه" أي الحال كما عليه الجمهور "فكذلك" أي ليس الكسب بخلق أيضا "على ما قيل" أي قول صدر الشريعة "الخلق أمر إضافي يجب أن يقع به المقدور لا في محل القدرة" أي لا فيمن قامت به القدرة "ويصح انفراد القادر بإيجاد المقدور بذلك الأمر والكسب أمر إضافي يقع به" المقدور "في محلها" أي القدرة "ولا يصح انفراده" أي القادر "بإيجاده" أي ذلك الأمر فأثر الخالق إيجاد الفعل في أمر خارج عن ذاته وأثر الكاسب صنعه في فعل قائم به فحركة زيد مثلا وقعت بخلق الله تعالى في غير من قامت به القدرة وهو زيد ووقعت بكسب زيد في المحل الذي قامت به قدرة زيد وهو نفس زيد وقد يعبر عن الخلق بالإنشاء والاختراع من العدم إلى الوجود وعن الكسب بالتسبب إلى ظهور ذلك الخلق على الجوارح ومن هنا رسم بظهور أثر القدرة القديمة في محل القدرة الحادثة "ولو بطلت هذه التفرقة" بين الخلق والكسب "على تعذره" أي بطلانها "وجب تخصيص القصد المصمم من عموم الخلق بالعقل" وإنما وجب تخصيصه من عموم خلق كل شيء لله "لأنه" أي كون القصد المصمم مخلوقا للعبد "أدنى ما يتحقق به فائدة خلق القدرة" التي من شأنها التمكن من الفعل والترك للعبد وينتفي به الجبر(3/245)
ص -121-…"ويتجه به حسن التكليف المستعقب العقاب بالترك والثواب بالفعل قالوا" أي الأشاعرة.
"خامسا لو حسن" الفعل "لذاته أو لصفة أو اعتبار لم يكن الباري سبحانه وتعالى مختارا في الحكم" واللازم باطل بالإجماع وإنما يلزم ذلك "لأنه" أي الحكم حينئذ "يتعين كونه على وفق ما في الفعل من الصفة" لأن الحكم على خلاف ما هو المعقول قبيح لا يصح من الباري وفي التعين نفي الاختيار "وهو" أي هذا الدليل "وجه عام" لرد قول من عداهم ولكن كما قال "ولا يلزمنا" معشر الحنفية "لأنه" أي الحكم "إذا كان قديما عندنا" كما عندكم لأنه كلامه النفسي "كيف يكون اختياريا فهو إلزامي على المعتزلة ومدفوع عنهم بأن غايته" أي هذا الدليل "أنه مختار في موافقة تعلق حكمه للحكمة وذلك" الاختيار في هذه الموافقة "لا يوجب اضطراره" تعالى للحكم "ولنا في الثاني" أي عدم استلزام اتصاف الفعل حكما لله تعالى فيه "لو تعلق" الحكم بالفعل المتصف بالحسن "قبل البعثة لزم التعذيب بتركه" أي الفعل المتعلق به الحكم "في الجملة" كأن يكون الحكم المتعلق به الوجوب ولم يتعلق بتركه العفو "وهو" أي التعذيب بتركه قبل البعثة "منتف بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الاسراء: 15] قيل أي ولا مثيبين فاستغنى عن ذكر الثواب بذكر العذاب الذي هو أظهر في تحقق معنى التكليف "وتخصيصه" أي العذاب بعذاب الدنيا كما جرى للمتقدمين من مكذبي الرسل أو بما عدا الإيمان من الشرائع تخصيص "بلا دليل" يعينه ومن الظاهر بعد أن يكون المراد بالرسول العقل "ونفي التعذيب وإن لم يستلزم نفي التكليف" قطعا "عند أبي منصور" وموافقيه لجواز العفو عندهم عن المكلف بترك ما كلف به "خلافا للمعتزلة" فإنه يستلزمه قطعا لعدم تجويزهم العفو عنه بترك ما كلف به "لكنه" أي نفي التعذيب والأحسن فهو "يستلزمه" أي نفي التكليف عند أبي منصور "في الجملة" يعني وإن اختلف في جواز العفو عن بعضها "وإنما(3/246)
لا يلزم" التعذيب "في معين" من تلك التكليفات "فنفيه" أي التعذيب "مطلقا" إنما هو "لنفيه" أي التكليف "وأيضا {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} الآية" أي {لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134] وجه الاستدلال أن الله تعالى "لم يرد عذرهم وأرسل" إليهم "كي لا يعتذروا به" أي بعدم إرساله "وأيضا {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]" فإنه يفهم منه ثبوت الحجة للناس على الله أن لو عذبهم قبل البعثة فيفيد أمنهم من العذاب وهو موجب عدم الحكم قبل البعثة أصلا لكون عدم الأمن من العذاب على ترك الواجب وفعل المحرم من لوازم الوجوب والحرمة مطلقا.
"قالوا" أي المعتزلة "لو لم يثبت" حكم ما إلا بالشرع "لزم إفحام الأنبياء" أي عجزهم عن إثبات البعثة لأن النبي إذا ادعى النبوة وأتى بالمعجز فحينئذ "إذا قال" النبي للمبعوث إليه "انظر" في معجزي "لتعلم" صدقي "قال لا أنظر" فيه "ما لم يثبت الوجوب" أي وجوب النظر "علي" إذ له أن يمتنع عما لم يجب عليه "ولا يثبت" الوجوب على "ما لم أنظر" في معجزك إذ لا وجوب بالفرض إلا من الشرع فوجوب النظر فيه يتوقف على ثبوت الشرع المتوقف على(3/247)
ص -122-…النظر فيه فيتوقف كل من النظر ووجوبه على الآخر "أو" قال هذا المعنى بعبارة أوضح وهي لا يجب النظر على "ما لم يثبت الشرع إلى آخره" أي ولا يثبت الشرع حتى أنظر وأنا لا أنظر ما لم يجب كان هذا القول حقا ولا سبيل للنبي إلى دفعه وإفحامه باطل فبطل كونه شرعيا وإذا بطل كونه شرعيا تعين كونه عقليا إذ لا يخرج عنهما إجماعا.
"والجواب أن قوله ولا يثبت إلى آخره" أي الوجوب على ما لم أنظر وما لم أنظر لا يثبت الوجوب علي "باطل لأنه" أي الوجوب ثابت في نفس الأمر "بالشرع" نظر أو لا ثبت الشرع أو لا لأن تحقق الوجوب في نفس الأمر لا يتوقف على العلم بالوجوب وإلا لو توقف تحقق الوجوب على العلم به لزم الدور لأن العلم بالوجوب يتوقف على الوجوب ضرورة مطابقته إياه وأيضا متى ظهرت المعجزة في نفسها وكان صدق النبي فيما ادعاه ممكنا والمدعو متمكنا من النظر والمعرفة فقد استقر الشرع وثبت والمدعو مفرط في حق نفسه.(3/248)
ولما أورد بعضهم أن هذا تكليف بالوجوب للغافل عنه وأنه باطل وأجاب بأنه جائز في هذه الصورة للضرورة أشار إلى بطلانه بقوله "وليس" وجوب النظر قبل النظر وثبوت الشرع عنده "تكليف غافل بعد فهم ما خوطب به" ولم يصدق به ليحتاج إلى هذا الجواب المردود لأن ذلك من لا يفهم الخطاب كالصبيان أو يفهم لكنه لم يقل له إنه مكلف كالذي لم يصل إليه دعوة نبي "وما قيل" أي وما اختص به صدر الشريعة من الدليل على أن الحكم يتعلق بالمكلف قبل البعثة وهو ما ملخصه "تصديق من ثبتت نبوته" بدعواه إياها وإظهار المعجزة عليها "في أول إخباراته" عن الله تعالى بشيء من التكاليف كوجوب الصلاة "واجب وإلا" لو لم يجب تصديقه في ذلك "انتفت فائدة البعثة" وانتفاء فائدتها بعد ثبوتها منتف وحينئذ "فإما" وجوب التصديق "بالشرع فبنص" أي فمعرف وجوب تصديقه في أول إخباراته حينئذ لا بد أن يكون نصا وحينئذ "فوجوب تصديق" هذا الإخبار "الثاني" الذي هو النص المتوقف وجوب تصديق الإخبار الأول عليه "لا يكون بنفسه" لئلا يلزم توقف الشيء وتقدمه على نفسه فتصديقه بغيره حينئذ "فأما بالأول" أي بالنص الأول "فيدور أو بثالث" أي أو بنص ثالث والثالث برابع وهلم جرا "فيتسلسل" والدور والتسلسل باطلان "فهو" أي وجوب تصديقه في أول إخباراته "بالعقل" وهو حسن عقلا لأن الواجب عقلا أخص من الحسن عقلا ويلزم منه أيضا أن يكون ترك التصديق حراما فيكون قبيحا عقلا "وكذا وجوب امتثال أوامره" أي الشارع "لو" كان "بالشرع توقف" وجوبه "على الأمر بالامتثال" الذي هو نص ثان على ذلك وحينئذ "فوجوب امتثال الأمر بالامتثال" الذي هو النص الثاني "إن كان بالأول دار وإلا" إن كان بثالث والثالث برابع وهلم جرا "تسلسل" والدور والتسلسل باطلان فوجوب امتثال أوامره ابتداء إنما هو بالعقل وهو حسن عقلا لأن الواجب عقلا أخص من الحسن عقلا ويلزم منه أن يكون ترك الامتثال حراما فيكون قبحا فما قيل مبتدأ خبره "فجوابه"(3/249)
كما هو مختصر ما في التلويح "أن(3/250)
ص -123-…اللازم" من هذا الدليل "جزم العقل بصدقه" أي النبي في أول إخباراته وبوجوب امتثال أوامره "استنباطا من دليلها" أي تصديقات إخباراته ووجوبات امتثالات أوامره وهو ظهور المعجزة على يديه "فأين الوجوب عقلا بمعنى استحقاق العقاب بالترك بل يتوقف" الوجوب عقلا بهذا المعنى "على نص" وعبارة التلويح وأما بمعنى استحقاق الثواب أو العقاب في الآجل فيجوز أن يكون ثابتا بنص الشارع على دليله وهو دعوى النبوة وإظهار المعجزة فإنه بمنزلة نص على أنه يجب تصديق كل ما أخبر به ويحرم كذبه أو يحكم الله القدير بوجوب طاعة الرسول غاية ما في الباب أن ظهوره يتوقف على تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما ثبت صدقه بالدليل القطعي انتهت قيل ويمكن أن يقال ابتداء وجوب التصديق وحرمة الكذب بمعنى الاستحقاق المذكور لا يجوز أن يكون ثابتا شرعا بنص الشارع سواء نص على الحكم المذكور أو على دليله أما الأول فلما مر وأما الثاني فلأن ثبوته بدليله المنصوص إنما هو بطريق الاستدلال وعلى تقدير التسليم لا نص من الشارع على دليله سوى إظهار المعجزة لصدق دعواه النبوة وهو ليس بنص بمعنى خطاب الشارع الموجب لكون الحكم شرعيا ولا خفاء أن إثبات المعجزة لدعوى النبوة لا يتوقف على اعتبار كون المعجزة بمنزلة النص وأيضا نحن نجد من أنفسنا أن من ادعى النبوة وأظهر المعجزة على صدق دعواه ثم كذب في بعض أقواله قصدا بلا تعريض مدعيا أنه حكم الله مع علمه بأنه ليس كذلك يستحق العقاب ولا شك أن المنازع في مثله مكابر وبهذا التقدير يكون الجواب المذكور على طرف والله سبحانه أعلم.
"قالوا": أي المعتزلة "ثانيا" وهو يصلح أن يكون للشيخ أبي منصور وموافقيه أيضا نحن "نقطع بأنه يقبح عند الله من العارف بذاته المنزهة وصفاته الكريمة أن ينسب إليه ما لا يليق من صفات النقص ورد شرع أو لا فيحرم عقلا" أن ينسب إليه ذلك أو شيئا منه.(3/251)
"أجيب بأن القطع" المذكور "لما ركز في النفوس من الشرائع التي لم تنقطع منذ بعثة آدم فتوهم" بهذا السبب "أنه" أي القطع المذكور "بمجرد العقل" ثم لما كان المختار عند المصنف أن الفعل يتصف بالحسن والقبح بخارج ولا تكليف قبل البعثة قال "وعلى أصلنا ثبوت القبح" للفعل "في العقل" أي عند العقل "وعنده تعالى لا يستلزم عقلا تكليفه" بمنعه من الفعل "بمعنى أنه يقبح منه تعالى تركه" أي ترك تكليفه "وللحنفية والمعتزلة في الثالث" أي امتناع تعذيب الطائع وتكليف ما لا يطاق أنه "ثبت بالقاطع اتصاف الفعل بالحسن والقبح في نفس الأمر فيمتنع اتصافه" أي فعل الله تعالى "به" أي بالقبح "تعالى" الله عن ذلك "وأيضا فالاتفاق على استقلال العقل بدركهما" أي الحسن والقبح "بمعنى صفة الكمال والنقص كالعلم والجهل على ما مر فبالضرورة يستحيل عليه" أي الله تعالى "ما أدرك فيه نقص وحينئذ" أي وحين كان مستحيلا عليه ما أدرك فيه نقص "ظهر القطع باستحالة اتصافه" أي الله تعالى "بالكذب ونحوه تعالى عن ذلك وأيضا" لو لم يمتنع اتصاف فعله بالقبح "يرتفع الأمان عن صدق وعده و"(3/252)
ص -124-…صدق "خبر غيره" أي الوعد منه تعالى "و" صدق "النبوة" أي لم يجزم بصدقه أصلا لا عقلا لأن الفرض أن لا حكم له ولا شرعا لأنه مما لا يمكن إثباته بالسمع لأن حجية السمع بل ثبوته فرع صدقه تعالى إذ لو جاز كذبه لم يكن تصديقه للنبي بإظهار المعجزة على يديه فإنه في قوة قوله هذا صادق في دعواه دالا على صدقه وإذا كان السمع متوقفا على صدقه لم يكن إثباته به ويلزم منه أن لا يجزم أيضا بصدق مدعي الرسالة أصلا لجواز إظهار المعجزة على يد الكاذب فينسد باب النبوة وأن يرفع الثقة عن كلامه واللازم باطل فالملزوم مثله ولعل المصنف إنما لم يفرد الوعيد بالذكر كما أفرد الوعد إما اكتفاء بدخوله في خبر غيره وإما موافقة للأشاعرة في جواز الخلف في الوعيد كما هو ظاهر المواقف والمقاصد لأنه لا يعد نقصا بل هو من باب الكرم وقد أشبعنا الكلام فيه في حلبة المجلي وعلى هذا فيكون قوله وخبر غيره مخصوصا بما سواه "وعند الأشاعرة كسائر الخلق القطع بعدم اتصافه" تعالى بشيء من القبائح "دون الاستحالة العقلية كسائر العلوم التي يقطع فيها بأن الواقع أحد النقيضين مع عدم استحالة الآخر لو قدر" أنه الواقع "كالقطع بمكة وبغداد" أي بوجودهما فإنه لا يحيل عدمهما عقلا "وحينئذ" أي وحين كان الأمر على هذا "لا يلزم ارتفاع الأمان" لأنه لا يلزم من جواز الشيء عقلا عدم الجزم بعدمه "والخلاف" الجاري في الاستحالة والإمكان العقلي لهذا "جار في كل نقيصة أقدرته" تعالى "عليها مسلوبة أم هي" أي النقيصة "بها" أي بقدرته "مشمولة والقطع بأنه لا يفعل" أي والحال القطع بعدم فعل تلك النقيصة "والحنفية والمعتزلة على الأول" أي أن قدرته عليها مسلوبة لاستحالة تعلق قدرته بالمحالات "وعليه فرعوا امتناع تكليف ما لا يطاق و" وامتناع "تعذيب الطائع" ولفظه في المسايرة واعلم أن الحنفية لما استحالوا عليه تكليف ما لا يطاق فهم لتعذيب المحسن الذي استغرق عمره في الطاعة مخالفا لهوى نفسه(3/253)
في رضا مولاه أمنع بمعنى أنه يتعالى عن ذلك فهو من باب التنزيهات إذ التسوية بين المسيء والمحسن غير لائق بالحكمة في فطر سائر العقول وقد نص الله تعالى على قبحه حيث قال {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] فجعله سيئا.
هذا في التجويز عليه وعدمه أما الوقوع فمقطوع بعدمه غير أنه عند الأشاعرة للوعد بخلافه وعند الحنفية وغيرهم لذلك ولقبح خلافه "وذكرنا في المسايرة" بطريق الإشارة في الجملة "أن الثاني" أي أنه يقدر ولا يفعل قطعا "أدخل في التنزيه" فإن الذي في المسايرة ثم قال يعني صاحب العمدة من مشايخنا ولا يوصف تعالى بالقدرة على الظلم والسفه والكذب لأن المحال لا يدخل تحت القدرة وعند المعتزلة يقدر ولا يفعل ا هـ ولا شك أن سلب القدرة عما ذكر هو مذهب المعتزلة وأما ثبوتها ثم الامتناع عن متعلقها فبمذهب الأشاعرة أليق ولا شك أن الامتناع عنها من باب التنزيهات فيسبر العقل في أن أي الفصلين أبلغ في التنزيه عن الفحشاء أهو القدرة عليه مع الامتناع عنه مختارا أو الامتناع لعدم القدرة فيجب القول بأدخل القولين في التنزيه ا هـ.(3/254)
ص -125-…"هذا ولو شاء الله قال قائل هو" أي النزاع بين الفرق الثلاثة "لفظي فقول الأشاعرة هو إنه لا يستحيل العقل كون من اتصف بالألوهية والملك لكل شيء متصفا بالجور وما لا ينبغي إذ حاصله أنه مالك جائر ولا يحيل العقل وجود مالك كذلك" أي جائر "ولا يسع الحنفية والمعتزلة إنكاره وقولهم" أي الحنفية والمعتزلة "يستحيل بالنظر إلى ما قطع به من ثبوت اتصاف هذا العزيز الذي ثبت أنه الإله بأقصى كمالات الصفات" وظاهر أن قوله بأقصى متعلق باتصاف "من العدل والإحسان والحكمة إذ يستحيل اجتماع النقيضين فلحظهم" أي الحنفية "إثبات الضرورة" في عدم تجويزهم ذلك "بشرط المحمول في المتصف الخارجي" أي الإله المتصف بأقصى كمالات الصفات "والأشعرية بالنظر إلى مجرد مفهوم إله ومالك كل شيء".
ثم لما جرت عادة الأشاعرة بذكر مسألتين هنا حاصلهما إثبات تعلق حكمه تعالى بشكر المنعم وكان اللائق ظاهرا أن يوردهما المصنف بتوجيه صحيح لأنه مع الأشاعرة في إبطال تعلق الحكم قبل البعثة ولم يوردهما كذلك بل أوردهما على وفق كلامهم ليبين ما فيه مهد العذر أولا في ذلك فقال "واستمر الأشعرية أن تنزلوا إلى اتصاف الفعل" بالحسن والقبح "ويبطلوا مسألتين على التنزل ونحن وإن ساعدناهم على نفي التعلق قبل البعثة لكنا نورد كلامهم لما فيه".
[مسألة](3/255)
"المسألة الأولى: شكر المنعم" أي استعمال جميع ما أنعم الله تعالى على العبد فيما خلق لأجله كصرف النظر إلى مشاهدة مصنوعاته ليستدل بها على صانعها والسمع إلى تلقي أوامره وإنذاراته واللسان إلى التحدث بالنعم والثناء الجميل على موليها وعلى هذا القياس قيل وهذا معنى الشكر حيث ورد في الكتاب العزيز ولهذا وصف الشاكرين بالقلة فقال {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] "ليس واجبا عقلا لأنه" أي الشكر "لو وجب" بالعقل "فلفائدة لبطلان العبث" لقبحه وإذ كان لفائدة "فإما لله تعالى أو للعبد في الدنيا أو الآخرة وهي" أي هذه الأقسام الثلاثة "باطلة لتعاليه" أي الله عن الفائدة فبطل أن يكون لفائدة لله تعالى "والمشقة في الدنيا" لأن من شكره فعل الواجبات وترك المحرمات العقلية وهي مشقة وتعب ناجز لا حظ للنفس فيه وما يكون كذلك فليس له فائدة دنيوية فبطل أن يكون لفائدة للعبد في الدنيا "وعدم استقلال العقل بأمور الآخرة" لأنها من الغيب الذي لا مجال للعقل فيه فبطل أن يكون لفائدة للعبد في الآخرة "وانفصل المعتزلة" عن هذا الالتزام بأنه لفائدة "ثم أبانها" للعبد "في الدنيا وهي دفع ضرر خوف العقاب للزوم خطور مطالبة الملك المنعم بالشكر" على نعمه فلا يأمن من العقاب إلا بالشكر والأمن من العقاب من أعظم الفوائد وأوفر الحظوظ إذ الفائدة كما تكون جلب نفع تكون دفع ضرر فلا يكون فيه تعب ناجز "ومنع الأشعرية لزوم الخطور" على تقدير ترك الشكر لكل مكلف لتسلط المنع على لزوم الخطور المذكور ببال كل عاقل للعلم بعدمه من أكثر الناس بشهادة أحوالهم والمقصود لا(3/256)
ص -126-…يحصل بتسليم الخطور للبعض لإيجابهم الشكر على الكل "وعلى التسليم" للزوم الخطور المذكور للكل "فمعارض بأنه" أي شكر العبد "تصرف في ملك الغير" بالأتعاب بالأفعال والتروك الشاقة بدون إذن المالك فإن ما يتصرف الإنسان فيه من نفسه وغيرها ملك لله تعالى "وبأنه" أي شكر العبد النعمة "يشبه الاستهزاء" فإن شكر النعمة قد يشبه الاستهزاء بوجهين: أحدهما أن لا يكون للنعمة قدر يعتد به بالنسبة إلى مملكة المنعم وعظمته ثانيهما أن يكون شكرها مما لا يليق بمنصب المنعم ونعم الله الفائضة على العبد من الوجود والقوى وغيرها ليس لها قدر يعتد به بالنسبة إلى عظمة الله وملكوته والشكر الذي يفعله العبد لأجلها لا يليق بكبريائه وما مثله إلا كمثل فقير تصدق عليه ملك ملك البلاد شرقا وغربا وعم العباد وهبا ونهبا بلقمة خبز فطفق يذكرها في المجامع ويشكره عليها بتحريك أنملته فكما أن هذا من الفقير لا يليق بمنصب الملك ويعد استهزاء منه فكذا شكر العبد بالنسبة إلى جلال الله وكبريائه بل اللقمة بالنسبة إلى الملك وما يملكه أكثر مما أنعم الله به على العبد بالنسبة إلى الله لأن نعم الله غير متناهية وما يملكه الملك متناه وشكر العبد بفعله أقل قدرا في جنب الله من شكر الفقير بتحريك أصبعه وربما لا يقع لائقا بجناب الجبروت فيكون ترك الشكر واجبا قال المصنف: "ولقد طال رواج هذه الجملة على تهافتها" أي مع سقوطها بينهم "فإن الحكم بتعلق الحكم" بالفعل عقلا "تابع لعقلية ما في الفعل" من الحسن والقبح "فإذا عقل فيه حسن" صفته أنه "يلزم بترك ما" أي الفعل الذي "هو" أي الحسن "فيه القبح كحسن شكر المنعم المستلزم تركه" أي شكره "قبح الكفران بالضرورة فقد أدرك" العقل "حكم الله الذي هو وجوب الشكر قطعا وإذا ثبت الوجوب" عقلا "بلا مرد لم يبق لنا حاجة في تعيين فائدة بل نقطع بثبوتها" أي الفائدة "في نفس الأمر علم عينها أو لا" على أنه كما قال الشيخ سراج الدين(3/257)
الهندي رحمه الله.
وللخصم أن يقول لا نسلم أن التصرف في ملك الغير مطلقا قبيح بل التصرف في ملك من يلحقه الضرر أما من لا يلحقه الضرر فلا يحكم فيه بالقبح ولهذا يحسن منا الاستظلال بحائط الغير والاستصباح من مصباحه والنظر في مرآته لحصول النفع الخالي عن الضرر وإن كان تصرفا في ملك الغير ولأن الإذن حاصل دلالة لأن من كان عبيده مضطرين إلى الطعام والشراب وعنده خزائن الطعام وبحار الشراب لا ينقص من خزائنه شيء فالعادة تحكم بالإذن بالتناول منها كي لا يهلكوا بالامتناع عنه ونعم الله في ذاتها أمور عظيمة كإيجاد الإنسان بقواه الظاهرة والباطنة والأعضاء السليمة لو اجتمع الخلائق على تحصيل واحد منها لعجزوا فالشكر على هذه النعم لا يعد استهزاء وكونها قليلة بالنسبة إلى الله تعالى لا يقدح في عظمها في ذاتها وبالنسبة إلينا وليس هذا كشكر الملك على لقمة خبز لأن اللقمة حقيرة في العرف يقدر على إعطاء أمثالها غيره ممن هو دونه فكان شكره على ذلك استهزاء وليس نعم الله على العبد كذلك ا هـ وأيضا كما قال أبو هاشم: النعمة إذا كان لها قدر يعتد به بالنسبة إلى حاجات المنعم عليه وإن لم يكن لها قدر يعتد به بالنسبة إلى مالك النعم لا يعد شكرها(3/258)
ص -127-…استهزاء ألا ترى أنه لو أعطى ملك يملك خزائن الأرض فقيرا مائة دينار وتنقضي حاجاته في سنة بها استحسن منه أن يشكره عليها وإن لم يكن له قدر يعتد به بالنسبة إلى خزائن الملك والله سبحانه أعلم "ولو منعوا" أي الأشاعرة "اتصاف الشكر" بالحسن "والكفران" بالقبح "لم تصر مسألة على التنزل" لانتفائه بمنع الاتصاف "وكذا انفصال المعتزلة" المذكور يمنع صيرورتها مسألة من هذا القبيل "فإن دفع ضرر خوف العقاب" على الترك "إنما يصح حاملا على العمل" الذي هو الشكر "وهو" أي الخوف "بعد العلم بالوجوب" للشكر "بطريقه" أي العلم "وهو" أي العلم بالوجوب بطريقه هو "الذي فيه الكلام وتسليم لزوم الخطور ومعارضتهم" أي الأشاعرة للمعتزلة "بالتصرف في ملك الغير إلزامي" من الأشاعرة للمعتزلة "إذ اعترفوا" أي الأشاعرة "في المسألة الثانية بأن حرمته" أي التصرف في ملك الغير "ليست عقلية وأما" معارضتهم "بأنه يشبه الاستهزاء فيقضى منه العجب" لما قدمناه وكيف والفرض أنه شاكر حقيقة وهو إنما يكون مع تعظيم الباطن وخفض الجناح على أنه يلزم منه انسداد باب الشكر قبل البعثة وبعدها وهو ممنوع بتطابق المعقول والمنقول.
ثم لما تقدم أن طائفة من حنفية بخارى قالوا بقول الأشاعرة في عدم نسبة التحسين والتقبيح للعقل وقد تهافت دليلهم الذي استدلوا به في هذه المسألة أراد المصنف أن يذكر لأصحابنا دليلا على ذلك فقال "والوجه فيه" أي انتفاء الحكم للفعل قبل البعثة أنه "لا طريق للعقل إلى الحكم بحدوث ما لم يكن إلا بالسمع" في المسموعات "أو البصر" في المبصرات "والفرض انتفاؤهما" أي السمع والبصر "في تعلق حكمه" تعالى بالفعل "ودرك ما في الفعل" من حسن أو قبح "غير مستلزم" تكليفه بفعل أو ترك "إلا لو كان ترك تكليفه تعالى يوجب نقصه تعالى وهو ممنوع" قطعا والله سبحانه أعلم.
[المسألة](3/259)
المسألة "الثانية أفعال العباد الاختيارية مما لا يتوقف عليه البقاء" إذ هي ما يمكن البقاء بدونها كأكل الفاكهة ويقابلها الاضطرارية وهي ما لا يمكن البقاء بدونها كالتنفس في الهواء وكانت واقعة "قبل البعثة إن أدرك فيها جهة محسنة أو مقبحة فعلى ما تقدم من التقسيم عند المعتزلة" من أن المدرك إما حسن فعل بحيث يقبح تركه فواجب وإلا فمندوب أو ترك على وزانه فحرام ومكروه "وإلا" لو لم يدرك فيها جهة محسنة ولا مقبحة "فلهم" أي للمعتزلة "فيها" أي الأفعال الاختيارية ثلاثة مذاهب "الإباحة" أي عدم الحرج وهو قول معتزلة البصرة وكثير من الشافعية وأكثر الحنفية لا سيما العراقيين قالوا: وإليه أشار محمد فيمن هدد بالقتل على أكل الميتة أو شرب الخمر فلم يفعل حتى قتل بقوله: خفت أن يكون آثما لأن أكل الميتة وشرب الخمر لم يحرما إلا بالنهي عنهما فجعل الإباحة أصلا والحرمة تعارض النهي "والحظر" أي الحرمة وثبوت الحرج في حكم الشرع وهو قول معتزلة بغداد وبعض الحنفية والشافعية "والوقف" وهو قول بعض الحنفية منهم أبو منصور الماتريدي وصاحب(3/260)
ص -128-…الهداية وعامة أهل الحديث ونقل عن الأشعري كما سيأتي مع تفسيره "وعلى الأولين" أي الإباحة والحظر أن يقال "إن الحكم بتعلق" حكم "معين" لفعل عقلا "فرع معرفة حال الفعل" له فإذا كان الفرض أنه غير معروف فكيف يعرف حكمه المتوقف على معرفته "فإذا قال المبيح بناء على منع الحصر" لعله يريد في المحظور والمباح "خلق" الله "العبد وما ينفعه" من المطعومات وغيرها "فمنعه" أي الله العبد منها "ولا ضرر" عليه "إخلال بفائدته" أي خلقهما "وهو" أي منعه والحالة هذه "العبث" وجواب إذا "فمراده" أي المبيح "وهو" أي العبث "نقيصة تمتنع عليه تعالى" فتعين أن يكون غير ممنوع عنه وهو معنى الإباحة "والحاظر" أي وإذا قال الحاظر: الإباحة "تصرف في ملك الغير" بغير إذنه فيحرم "فمراده" أي الحاظر "يحتمل المنع فالاحتياط العقلي منعه" أي العبد منه "فاندفع" بهذا "ما قيل على الحظر بأن من ملك بحرا لا ينفد واتصف بغاية الجود كيف يدرك العقل عقوبته عبده بأخذ قدر سمسمة" وإنما اندفع بهذا "لأنه" أي الحاظر "لم يبن الحظر على درك" العقل "ذلك بل" بناه "على احتماله" أي منعه باعتباره "أنه تصرف في ملك الملك بلا إذنه فيحتاط بمنعه و" اندفع أيضا "منع أن حرمة التصرف عقلي بل" هو "سمعي ولو سلم" أنه عقلي "في حق من يتضرر" بذلك والله سبحانه منزه عن ذلك "ولو سلم" أنه في حق كل مالك "فمعارض بما في المنع من الضرر الناجز ودفعه" أي الضرر الناجز "عن النفس واجب عقلا وليس تركه" الفعل "لدفع ضرر خوف العقاب" الحاصل من التصرف في ملك الغير "أولى من الفعل" المستلزم لدفع الضرر الناجز بل اعتبار العاجل أولى "مع ما في هذا" الجواب "من كونه" أي المذكور "غير محل النزاع فإنه" أي النزاع إنما هو "في نحو أكل الفاكهة مما لا ضرر في تركه" كما أشار إليه في أول المسألة بقوله مما لا يتوقف عليه البقاء "وما على الإباحة" أي واندفع أيضا ما أورد عليها "من أنه إن أريد" بها ما "لا حرج(3/261)
عقلا في الفعل والترك فمسلم" ولا نزاع فيه بل النزاع في إطلاق لفظ المباح بإزائه ولذا يمتنع إطلاقه على فعل الله تعالى مع تحقق ذلك المعنى فيه "أو خطاب الشارع به فلا شرع" حينئذ "أو حكم العقل به" أي بكونه مباحا "فالفرض أنه" أي العقل "لا حكم له بحسن ولا قبح إذ يختارون" أي المبيحون "هذا" وهو الأول في المعنى "لملجئ لزوم العبث" على تقدير عدم الإباحة والعبث باطل كما تقدم "وأما دفعه" أي دليل المبيح المذكور "بمنع قبح فعل لا فائدة له" أي لذلك الفعل "بالنسبة إليه تعالى فيخرجه" أي هذا الكلام "عن التنزل لأنه" أي التنزل "دفعه" الخصم "على تسليم قاعدة الحسن والقبح نعم يدفع" دليل المبيح "بمنع الإخلال" بفائدته على تقدير المنع منه "إذ إرادة قدرته" تعالى "على إيجاده" أي ذلك الشيء "محققة مع احتمال غيره" من الفوائد "مما يقصر عن دركه" العقل فلا يقع إخلال بفائدته "والحاظر" أي ودفع بأنه "لا يثبت حكم الحكم الأخروي" من الثبوت والانتفاء "بثبوته" أي بسبب ثبوت حكم الحكم الأخروي "في نفس الأمر قبل إظهاره" أي الحكم "للمكلفين فكيف باحتماله" أي احتمال ثبوته "ولا خوف ليحتاط" بمنعه "وأما الوقف ففسر بعدم الحكم" أصلا وهو منقول عن طائفة من المعتزلة الواقفية "وليس" هذا "به" أي بالوقف لأنه قطع بعدم(3/262)
ص -129-…الحكم لا وقف عنه "وبعدم العلم بخصوصه" أي الحكم "فقيل إن كان" عدم العلم بخصوصه "للتعارض" بين الأدلة الدالة على الأحكام قبل البعثة "ففاسد لأنا بينا بطلانها" أي الأدلة المذكورة كما تقدم "أو لعدم الشرع" حينئذ والفرض أن العقل لا يستقل بإدراكه كما ذكره بعض أصحابنا "فمسلم" وهو مذهبنا "والحصر" في التوقف في الحكم "الأول" أي لتعارض الأدلة "ممنوع بل" قد يكون "لعدم الدليل على خصوص حكم فإن قلت هذه المذاهب توجب من المعتزلة كون الحكم ليس من قبيل الكلام اللفظي إذ لا تحقق له" أي للكلام اللفظي "إلا بعد البعثة ولا نفسي عندهم" فكيف تصورت هذه المذاهب على أصولهم "فالجواب منع توقفه" أي الكلام اللفظي "عليها" أي البعثة "لجواز تقدمه" أي الكلام اللفظي "عليها" أي البعثة "كخطاباته للملائكة وآدم ونقل عن الأشعري الوقف أيضا على الخلاف في تفسيره" أي الوقف كما تقدم "والصواب" أن المراد به التفسير "الثاني" أي عدم العلم بخصوص الحكم "لعدم الحكم عنده" أي الأشعري "أي فيها" أي الأفعال "حكم لا يدري ما هو إلا في البعثة" فإنه حينئذ يدري بالشرع "لأنه" أي الحكم "يتعلق" بالأفعال "فيعلمه" المكلف "فمحل وقف الأشعري غيره" أي وقف المعتزلة "لأنه" أي الوقف "عندهم حينئذ عن الحكم المتعلق" بالأفعال "ولا يتصور" وجود تعلق الحكم "عنده" أي الأشعري "قبل البعثة فحاصله" أي كلام الأشعري "إثبات قدم الكلام والتوقف فيما سيظهر تعلقه" أي التنجيزي بالفعل "وهذا معلوم من كل ناف للتعلق" التنجيزي "قبل البعثة فلا وجه لتخصيصه" أي هذا القول "به" أي بالأشعري "كما لا وجه لإثباتهم" أي المعتزلة "تعلقه" أي الحكم بالأفعال "مع فرض عدم علمه" أي المكلف به "مع أنه حينئذ" أي حين يكون متعلقا به ولا يعلمه المكلفون "لا يثبت في حق المكلفين بل الثبوت" في حقهم "مع التعلق" بأفعالهم التعلق التنجيزي "وإلا فلا فائدة للتعلق" لأنها إما الأداء وهو غير ممكن قبل(3/263)
الشرع لأنه عبارة عن الإتيان بعين ما أمر به في وقته وذلك موقوف على العلم به وبكيفيته ولا علم بشيء من ذلك قبل الشرع وإما ترتب العقاب على الترك وهو منتف لقوله تعالى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الاسراء: 15] "ولو قالوه" أي المعتزلة الوقف "كالأشعري كان" ذلك منهم على أصولهم قولا "بلا دليل إذ لا دليل على ثبوت لفظ فيه" أي في الحكم قبل البعثة "أصلا" ولا نفسي عندهم يثبت به "بخلاف الأشعري" فإنه قائل بأنه "وجب ثبوت النفسي أولا" وبه كفاية إلا أن المذكور في شرح البديع للشيخ سراج الدين الهندي أن الشيخ أبا الحسن الأشعري فسر الوقف بعدم الحكم وعلى هذا فلا يتم له هذا وإنما يتم للمصنف ولأولئك البخاريين ومن عساه وافقهم اللهم إلا أن يكون المراد به عدم التعلق التنجيزي وليس ببعيد وحينئذ يتم له أيضا.
"وأما الخلاف المنقول بين أهل السنة أن الأصل في الأفعال الإباحة أو الحظر فقيل" إنما هو "بعد الشرع بالأدلة السمعية أي دلت على ذلك" قال المصنف: "والحق أن ثبوت هذا الخلاف مشكل لأن السمعي لو دل على ثبوت الإباحة أو التحريم قبل البعثة بطل قولهم" أي الأشعرية وموافقيهم "لا علم قبلها" أي البعثة "فإن أمكن في الإباحة تأويله" أي قولهم لا علم(3/264)
ص -130-…قبلها "بأن لا مؤاخذة بالفعل والترك فمعلوم من عدم التعلق" فلا حاجة إلى ذكره "ثم لا يتأتى في قول الحظر" للمؤاخذة فيه على الترك "ولو أرادوا" أن بمحل الخلاف "حكما بلا تعلق بمعنى قدم الكلام لم يتجه إذ بالتعلق ظهر أن ليس كل الأفعال مباحة ولا محظورة في كلام النفس لأن اللفظي دليله" أي النفسي وهو لا يفيد ذلك بل يفيد أن فيهما النوعين فبطل كل من القولين "وما يشعر به قول بعضهم إن هذا على التنزل من الأشاعرة جيد لو لم يظهر من كلامهم أنه" أي هذا الخلاف "أقوال مقررة والمختار أن الأصل الإباحة عند جمهور الحنفية والشافعية ولقد استبعده" أي قولهم هذا، مرادا بالإباحة عدم المؤاخذة بالفعل والترك "فخر الإسلام قال: لا نقول بهذا لأن الناس لم يتركوا سدى" أي مهملين غير مكلفين "في شيء من الزمان" لقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] "وإنما هذا" أي كون الأصل في الأشياء الإباحة بالمعنى المذكور "بناء على زمان الفترة" الواقعة بين عيسى ونبينا محمد صلى الله عليهما وسلم قال المصنف "لاختلاف الشرائع ووقوع التحريفات فلم يبق الاعتقاد والوثوق على شيء من الشرائع فظهرت الإباحة بمعنى عدم العقاب على الإتيان بما لم يوجد له محرم ولا مبيح وحاصله" أي هذا الكلام "تقييده" أي فخر الإسلام "ذلك" أي كون الأصل الإباحة "بزمان عدم الوثوق" المذكور فإن قيل كم أمة في الفترة ولم يخل فيها نذير أجيب بأنه إذا كانت آثار النذارة باقية لم يخل من نذير إلى أن تندرس وحين اندرست آثار نبوة عيسى بعث الله محمدا صلى الله عليهما وسلم هذا ولم يقف العبد على نقل الخلاف بين أهل السنة هكذا بل المذكور في منهاج البيضاوي في الأدلة المختلف فيها المقبولة الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار التحريم فقال غير واحد منهم الإسنوي وهذا إنما هو بعد ورود الشرع بمقتضى الأدلة الشرعية وأما قبل وروده فالمختار الوقف كما تقدم ا هـ(3/265)
وربما يظهر أن هذه الجملة هي مراد المصنف بقوله وأما الخلاف المنقول إلخ ولكن لا يخفى ما بينهما من التفاوت.
ثم الذي في أصول الفقه لصدر الإسلام أن بعد ورود الشرع الأموال على الإباحة بالإجماع ما لم تظهر علة الحرمة لأن الله جل جلاله أباح الأموال بقوله: {الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29] والأنفس أنفس الآدميين مع الأطراف على الحرمة لأن الله تعالى ألزمهم العبادات ولا يقدرون على تحصيل العبادات إلا بالعصمة عن الإتلاف والعصمة عن الإتلاف لا تثبت إلا بحرمة الإتلاف نفسا وأطرافا ولهذا المعنى قال أصحابنا القضاء بالنكول في الأموال جائز وفي الأنفس لا يجوز وفي الأبضاع لا يجوز عند أبي حنيفة وعندهما يجوز وفي الأطراف يجوز عند أبي حنيفة وعندهما لا يجوز فأبو حنيفة ألحق الأطراف بالأموال وهما أتبعا الأطراف أصولها وألحق أبو حنيفة الأبضاع بالأنفس وهما ألحقاها بالأموال ا هـ.
ثم هذا الوضع أولى من الوضع في المنافع لاستغنائه عن استثناء أموالنا ومن ثمة(3/266)
ص -131-…استثناها الشيخ تقي الدين السبكي من الوضع في المنافع ويبقى عليه استثناء أموال أهل الذمة وغير ذلك مما يعلم بالتأمل فليتأمل.
ثم الآية الشريفة لا تمنع اختصاص بعض الأشياء النافعة ببعض الأناسي لأسباب عارضة فإنها دالة على أن الكل للكل لا أن كل واحد لكل واحد ثم هذا
"تنبيه بعد إثبات الحنفية اتصاف الأفعال" بكل من الحسن والقبح "لذاتها" أي لمعنى ثبت في ذات الأفعال سواء كان لعينها أو لجزئها "وغيرها" أي ولمعنى ثبت في غير ذاتها "ضبطوا متعلقات أوامر الشرع منها" أي الأفعال في أربعة أقسام "بالاستقراء فيما حسن لنفسه حسنا لا يقبل السقوط كالإيمان" أي التصديق القلبي للنبي صلى الله عليه وسلم في جميع ما علم مجيئه به بالضرورة من عند الله "فلم يسقط" وجوبه بهذا المعنى عن المكلف بحال حتى "ولا بالإكراه" على تبديله بضده وهو الكفر وهذا هو القسم الأول "أو يقبله" والأحسن ويقبله أي وفيما حسن لنفسه حسنا يقبل السقوط بمعنى أنه لا يجب عليه "كالصلاة" فإنها وإن كانت مشتملة على أقوال وأفعال دالة على تعظيم الله تعالى لأن أولها الطهارة سرا وجهرا ثم جمع الهمة وإخلاء السر والانصراف عما سوى الله إلى الله تعالى بالقصد إليه وهو النية ثم الإشارة برفع اليدين إلى تحقيق الانصراف بنبذ ما سواه وراء ظهره أو إلى نفي الكبرياء عما سواه ثم أول أذكارها التكبير وهو النهاية في التعظيم القولي وأول ثنائها ثناء لا يشوبه ذكر ما سواه ثم القيام مع وضع اليمين على الشمال صارفا نظره إلى موضع سجوده تعظيم ظاهر ثم إعقابه بالركوع زيادة في التعظيم ثم إلحاق السجود به بوضع أشرف الأعضاء على التراب نهاية في التعظيم الفعلي ثم ما في أثناء ذلك من تلاوة القرآن والتكبير والتسبيح تعظيم في تعظيم وتعظيم الله حسن في ذاته إلا أنها "منعت في الأوقات المكروهة" أي طلوع الشمس حتى ترتفع واستوائها وغروبها إلى غير ذلك كما هو مسطور في كتب الفروع لما عرف ثمة من(3/267)
الدليل المانع منها في تلك الأوقات من سنة أو إجماع وسقطت أصلا بالحيض والنفاس إجماعا وهذا هو القسم الثاني.
وتعقبه المصنف بقوله "والوجه إن كان" حسن الأفعال "لذاتها لا يتخلف" عنها أصلا لأن ما بالذات لا يفارقها ما دامت باقية "فحرمتها" أي الأفعال الحسنة لذاتها حيث تكون إنما تكون "لعروض قبح بخارج" عن ذاتها متلبس بها فعلى هذا حسن الصلاة إذ كان ذاتيا لا يسقط أصلا حتى ولا في الأوقات المكروهة وإنما منعت في الثلاثة منها لعروض شبه فاعلها بالكفار في السجود للشمس كما نبهت عليه السنة وفي غيرها لغير ذلك مما يعرف في موضعه وكون ذلك القبح العارض يربو عند الشارع دفع حصوله على حصول الحسن الذاتي لها وقتئذ ولا بدع في ذلك "وما هو ملحق به" أي بالحسن لنفسه "ما لغيره" والوجه مما لغيره أي حسن لغير ذاته حال كون الغير "بخلقه تعالى لا اختيار للعبد فيه كالزكاة والصوم والحج" فإن حسنها "لسد الخلة" أي دفع حاجة الفقير كما في الزكاة والوجه لحاجة الفقير كما قال فخر(3/268)
ص -132-…الإسلام وموافقوه فإنها الكائنة للعبد بخلق الله تعالى إياه عليها بدون اختيار للعبد في ذلك بخلاف دفعها فإنه لاختيار العبد فيه دخل "وقهر عدوه تعالى" وهو النفس الأمارة بالسوء بكفها عن الأكل والشرب والجماع كما في الصوم وقد وقع هذا لفخر الإسلام أيضا والوجه وللشهوة لأنها الثابتة للعبد بخلق الله تعالى إياه عليها بلا اختيار للعبد في ذلك بخلاف قهرها فإنه مما لاختيار العبد فيه دخل "وشرف المكان" أي البيت الشريف بزيارته وتعظيمه كما في الحج فإن شرفه بتشريف الله تعالى إياه لا اختيار للعبد فيه إذ هذه الأمور كلها حسنة كما هو غير خاف وإلا فتنقيص المال وكف مملوك الله عن نعمه المباحة له وقطع مسافة مديدة وزيارة أمكنة معينة ليست بحسنة في ذاتها ثم لما كانت هذه الوسائط على ما حررناه كانت مضافة إلى الله تعالى وسقط اعتبارها في حق العبد حكما فصارت هذه الأفعال حسنة خالصة من الله جل وعلا للعبد بلا واسطة كالصلاة ومن ثمة شرطت فيها الأهلية الكاملة من العقل والبلوغ كالصلاة خلافا للشافعي في الزكاة وهذا هو القسم الثالث ثم هذا ما عليه الجمهور.(3/269)
وذهب صدر الشريعة إلى أن الغير دفع حاجة الفقير وقهر النفس وزيارة البيت لكن الفقير والبيت لا يستحقان هذه العبادة. والنفس مجبولة على المعصية فلا يحسن قهرها فارتفع الوسائط فصارت تعبدا محضا لله تعالى ودفع بأن هذه الأفعال الاختيارية للعبد في الخارج هي الزكاة والصوم والحج لا شيء آخر فلا يصلح أن تكون وسائط لانتفاء التغاير بينهما في الخارج وتعقبه في التلويح بأنه لا خفاء في أنها ليست نفس الزكاة والصوم والحج وفيه نظر وتعقب ما عليه الجمهور بأن فيه نظرا إذ الواسطة ما يكون حسن الفعل لأجل حسنها وظاهر أن نفس الحاجة والشهوة ليست ذلك ودفع بأنه لا يلزم من كون الفعل حسنا لأجل واسطة أن تكون الواسطة حسنة ونظيره الكلام متصف بالبلاغة والفصاحة بواسطة المعنى الأول ولا يكون المعنى الأول متصفا بها كما تقرر في موضعه ويؤيده ما يأتي في القسم الرابع وهو قوله و "ما" حسن "لغيره" حال كونه "غير ملحق" بما حسن لنفسه "كالجهاد والحد وصلاة الجنازة" فإن حسنها "بواسطة الكفر" أي كفر الكافر كما في الجهاد لأن فيه إعلاء كلمة الله وكبت أعدائه "والزجر" للجاني عن المعاصي كما في الحد فإنه شرع لهذا المعنى "والميت المسلم غير الباغي" وقاطع الطريق أيضا أي وإسلام الميت المذكور كما في صلاة الجنازة فإنها شرعت لقضاء حقه ولهذا لو انتفى الكفر انتفى الجهاد أو الجناية الموجبة للحد انتفى الحد أو إسلام الميت أو قضاء حقه بالصلاة عليه انتفت شرعيتها وإلا فمجرد تخريب بلاد الله وقتل عباد الله وإيلامهم وتعذيبهم والصلاة المذكورة بدون الميت المذكور ليس بحسن في ذاته وإنما "اعتبرت الوسائط" في هذا القسم "لأنها" أي الوسائط "باختياره" أي العبد المتصف بها فلم تضف إليه تعالى هذا على ما عليه الجمهور وأشار في التلويح إلى تعقبه بمثل التعقب عليهم فيما قبله وقد عرفت ما فيه وذهب صدر الشريعة إلى أن الواسطة في الجهاد إعلاء كلمة الله وفي صلاة الجنازة قضاء حق(3/270)
الميت المسلم ثم لما(3/271)
ص -133-…كان المقصود منهما يتأدى بعينهما كانا شبيهين بالحسن لمعنى في نفسه لأن مفهوم الجهاد القتل والضرب وأمثالهما وهذا ليس إعلاء كلمة الله تعالى لكن في الخارج صار إعلاؤها كالسقي في المفهوم هو غير الإرواء ولكن في الخارج هو عينه وعلى هذا القياس في الباقي قيل والتحقيق أن هنا ثلاثة أمور المأمور به وهو الجهاد ونحوه والمقصود الذي يتأدى بالمأمور به وهو إعلاء كلمة الله تعالى وقضاء حق الميت والسبب المفضي إليه الموجب له وهو كفر الكافر وإسلام الميت أما كون إعلاء كلمة الله مقصودا من الجهاد فلأن الجهاد في نفسه تخريب بنيان الرب وبلاده فلا جهة لكونه مقصودا في نفسه وكذا صلاة الجنازة بلا ميت عبث والمعاني المقصودة من هذه المأمورات بها وإن كانت مغايرة لها مفهوما هي عينها خارجا لأن بنفس القتل والصلاة في الخارج يحصل الإعلاء وقضاء حق الميت وأما كون كفر الكافر وإسلام الميت سببا للمقصود فلشرعية الجهاد والصلاة للإعلاء وقضاء حق الميت ولما كان الأمر على هذا جعلوا كفر الكافر ونحوه واسطة لحسن المأمور به.
قلت ويتلخص من هذا أن المراد بالغير في القول بأنه حسن لغيره السبب المفضي لوجوب فعل المأمور به على قول الجمهور والغرض المرتب على فعل المأمور به على قول البعض ويبقى الشأن في أيهما أرجح في الاعتبار وهو محل نظر ولعل الثاني أرجح لأنه يظهر من كلام الجمهور أنهم لم يجعلوا الغير السبب إلا مع ملاحظة ترتب الغرض على مسببه والله سبحانه أعلم.
"وتقدم أقسام متعلقات النهي" ما بين حسي وشرعي وبيان المتصف منها بالقبح لذاته أو لغيره في تنبيه في ذيل النهي "وكلها" أي متعلقات أوامر الشرع ونهيه "يلزمه حسن اشتراط القدرة" لأن تكليف العاجز قبيح فلا يجعل من أقسام حسن المأمور به خاصة كما فعل فخر الإسلام وتقدم الكلام عليها مع بيان انقسامها إلى ممكنة وميسرة عند مشايخنا في الفصل السابق.
ثم بقي هنا أمور يحسن التنبه لها:(3/272)
الأول: إن جعل المصنف القسم الثالث ما هو ملحق بالحسن لنفسه وحسنه لغيره أولى من قول فخر الإسلام وموافقيه إنه ملحق به لكنه مشابه بما حسن لمعنى في غيره ومن قول صاحب البديع إنه حسن لمعنى في عينه ومما يوافق صنيع المصنف تصريح شمس الأئمة السرخسي بأن هذا يشبه الحسن لنفسه ومن هنا يعرف أنه كان الأولى بالمصنف أن يقول وفيما لغيره بخلقه تعالى لا اختيار للعبد فيه ملحقا بما لنفسه.
الثاني: أن المصنف أغفل قسما يكون خامسا لهذه وهو ما حسن لغيره غير ملحق بالحسن لنفسه ولا يتأدى الغير به كالوضوء والسعي للجمعة فإن ذاتيهما اللتين هما الغسل والمسح لأعضاء مخصوصة ونفل الأقدام ليستا بحسنتين وإنما حسنهما من حيث إنه يتوصل بهما إلى الصلاة ويتمكن منها بهما وهي فعل مقصود بنفسه لا يتأدى بهما ولا بكل منهما(3/273)
ص -134-…بخلاف الجهاد وما معه فإنه وإن كان حسنا لغيره غير ملحق بالحسن لنفسه فالغير الذي هو إعلاء كلمة الله في الجهاد متأديا بالجهاد وهذه الأقسام ذكرها فخر الإسلام ووافقه أكثر المتأخرين عليها والذي مشى عليه أبو زيد في التقويم أنها أربعة أقسام حسن لمعنى في عينه والمعنى في وضعه كالصلاة وحسن لمعنى في عينه والمعنى متصل بوضعه بواسطة كالزكاة وحسن لمعنى في غيره ويحصل المعنى بفعل العبادة نحو الصلاة على الميت وما معها وحسن لمعنى في غيره ويحصل بعده بفعل مقصود كالوضوء والسعي للجمعة ووافقه شمس الأئمة على أنها أربعة لكن هكذا حسن لعينه لا يحتمل السقوط بحال كالإيمان بالله وصفاته وحسن لعينه قد يحتمل السقوط في بعض الأحوال كالصلاة وحسن لغيره مقصود بنفسه لا يحصل به ما لأجله كان حسنا كالسعي للجمعة والوضوء وحسن لغيره يتحقق بوجوده ما لأجله كان حسنا كالصلاة على الميت وما معها فالأكمل في استيفاء الأقسام ما عليه المتأخرون كما حققناه.
الثالث: اختيار شمس الأئمة السرخسي ثم صدر الشريعة أن الأمر المطلق إذا لم يكن قرينة تدل على الحسن لعينه أو غيره يقتضي كون المأمور به حسنا لعينه حسنا لا يقبل السقوط وفي البديع وقيل بل الحسن لغيره لثبوت الحسن في المأمور به اقتضاء وهو ضروري فيكتفى فيه بالأدنى.
الرابع: أن ما حسن لعينه لا يسقط إلا بالأداء أو إسقاط من الشارع فيما يحتمل الإسقاط وما حسن لغيره يسقط بحصول ما قصد به فعل ذلك الفعل أو لا وبسقوط ما قصد به والله سبحانه أعلم.(3/274)
"وقسموا" أي الحنفية "متعلقات الأحكام" الشرعية "مطلقا" أي سواء كانت عبادات أو عقوبات أو غيرهما "إلى حقه تعالى على الخلوص" قالوا: وهو ما يتعلق به النفع العام للعالم من غير اختصاص بأحد نسب إلى الله تعالى لعظم خطره وشمول نفعه ولئلا يختص به أحد من الجبابرة كحرمة البيت الذي تعلق به مصلحة العالم باتخاذه قبلة لصلواتهم ومثابة لاعتذار إجرامهم وحرمة الزنا لما يتعلق بها من عموم النفع في سلامة الأنساب عن الاشتباه وصيانة الأولاد من الضياع وارتفاع السيف بين العشائر بسبب التنازع بين الزناة وإلا فباعتبار التخليق الكل سواء في الإضافة إلى الله تعالى وله ما في السموات وما في الأرض وباعتبار التضرر أو الانتفاع هو متعال عن الكل قال القاآني ويرد عليه الصلاة والصوم والحج والحق أن يقال يعني بحق الله تعالى ما يكون المستحق هو الله حتى لا يرد عليه ذلك "والعبد كذلك" أي وإلى حق العبد على الخصوص وهو ما يتعلق به مصلحة خاصة كحرمة مال الغير فإنها حق العبد على الخصوص لتعلق صيانة ماله بها ولهذا يباح مال الغير بإباحة مالكه ولا يباح الزنا بإباحة المرأة ولا بإباحة أهلها وأورد حرمة مال الغير أيضا مما يتعلق به النفع العام وهو صيانة أموال الناس وأجيب بأنها لم تشرع لصيانة أموال الناس أجمع ألا ترى أن الكفار(3/275)
ص -135-…يملكون أموالنا بالاستيلاء ونحن نملك أموالهم بذلك وأموال المؤمنين تباح لنا عند وجود الرضا منهم "وما اجتمعا" أي الحقان فيه "وحقه" تعالى "غالب وقلبه" أي وما اجتمعا فيه وحق العبد غالب "ولم يوجد الاستقراء متساويين" أي ما اجتمعا فيه والحقان فيه سواء ثم ما تقدم من معنى الحق يفيد أنه لا يتصور أيضا "فالأول" أي ما هو حق الله تعالى على الخصوص "أقسام" ثمانية بالاستقراء "عبادات محضة كالإيمان والأركان" الأربعة للإسلام بعد الشهادتين وهي الصلاة ثم الزكاة ثم الصيام ثم الحج "ثم العمرة والجهاد والاعتكاف وترتيبها" أي هذه العبادات "في الأشرفية هكذا" أي الإيمان إذ هو أفضلها قطعا وكيف لا وهو أصلها ولا صحة لها بدونه ثم الصلاة لأنها تالية الإيمان وسماها الله تعالى إيمانا حيث قال {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود قلت: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة على ميقاتها" إلى غير ذلك. وفيها إظهار شكر نعمة البدن ثم الزكاة لأنها تالية الصلاة في الكتاب والسنة وفيها إظهار شكر نعمة المال الذي هو شقيق الروح ثم الصوم قالوا: لأنه شرع رياضة وقهرا للنفس بكفها عن شهوتي البطن والفرج فإن النفس بقهرها ورياضتها تصلح للخدمة فكان قربة بواسطة النفس وهي دون الواسطة في الصلاة والزكاة في المنزلة لأن الواسطة في الصلاة الكعبة المعظمة وإنما يسقط التوجه إليها عند العذر لا غير وفي الزكاة الفقير الذي له ضرب استحقاق في الصرف إليه فكان دونهما في المرتبة ولا يخفى ما فيه على أن في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم "كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عز وجل إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به" وفي رواية "كل عمل بن آدم له إلا الصيام فإنه لي" ومن هنا ذهب بعضهم(3/276)
إلى أنه أفضل عبادات البدن إلا أنه يطرقه أنه يجوز أن يختص المفضول بما ليس للفاضل ألا ترى أن الشيطان يفر من الأذان والإقامة ولا يفر من الصلاة مع أنها أفضل منهما ثم الحج قالوا: لأنه عبادة هجرة وسفر لا يتأدى إلا بأفعال يقوم بها ببقاع معظمة وكأنه وسيلة إلى الصوم لأن بما فيه من هجر الوطن ومفارقة الخلان والسكن تنقطع عنه مراد الشهوات وتضعف نفسه فيتيسر له قهرها بالصوم ولا يخفى ما فيه بل ذهب القاضي حسين من الشافعية إلى أنه أفضل عبادات البدن لاشتماله على المال والبدن وأيضا دعينا إليه في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات كالإيمان وهو أفضل فكذا الحج الذي هو قرينه وفيه ما هو غير خاف على المحقق على أن في الكشاف وعن أبي حنيفة أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحج فلما حج فضل الحج على العبادات كلها لما شاهد من تلك الخصائص.
"قالوا: وقدمت العمرة وهي سنة على الجهاد" وإن كان في الأصل فرض عين لأنه شرع لإعلاء الدين وهو فرض على كل مسلم ثم صار فرض كفاية لكون المقصود وهو كسر شوكة المشركين ودفع أذاهم عن المسلمين يحصل بالبعض "لأنها من توابع الحج" وأفعالها من جنس أفعاله "ولا يخفى ما فيه" أي هذا التوجيه لتقديمها عليه فإنه ليس بمقتض لذلك ولعل(3/277)
ص -136-…لهذا ذكره بعضهم بعد الحج ولم يذكرها أصلا ثم الجهاد لما ذكرنا فكان دون ما سبق لأن فرض الكفاية دون فرض العين وفيه ما لا يخفى على أن في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الأعمال إيمان بالله ورسوله ثم جهاد في سبيل الله ثم حج مبرور" وأخرج أحمد بإسناد صحيح أن رجلا قال: يا رسول الله ما الإسلام: قال صلى الله عليه وسلم: "أن يسلم قلبك وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك" قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: "الإيمان" قال: وما الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت", قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال: "الهجرة" قال: وما الهجرة؟ قال: "أن تهجر السوء" قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: "الجهاد" قال: وما الجهاد؟ قال: "أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم" قال: فأي الجهاد أفضل؟ قال: "من عقر جواده وأهريق دمه" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم عملان هما أفضل الأعمال إلا من عمل بمثلهما حجة مبرورة أو عمرة مبرورة" ومن هنا ذهب بعضهم إلى أن الجهاد أفضل عبادات البدن وقد يجاب عن هذا تارة بأن فرض الحج تأخر إلى السنة التاسعة عند كثير من العلماء وكان الجهاد في أول الإسلام فرض عين فلعل النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل فرض الحج ولا إشكال في أفضلية الجهاد المفروض عينا على الحج المتطوع به وتارة بأن جنس الجهاد أشرف من جنس الحج فإن عرض للحج وصف يمتاز به على الجهاد صار ذلك الحج المخصوص أفضل من الجهاد وإلا فالجهاد أفضل ويشهد لصدر هذا ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده ما شحب وجه ولا اغبرت قدم في عمل يبتغى فيه درجات الآخرة بعد الصلاة المفروضة كجهاد في سبيل الله" رواه أحمد والبزار ومن هنا ومما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال حكاية عن الله عز وجل "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه" كما في صحيح البخاري قال: والله تعالى أعلم أحمد وغيره من العلماء إن الجهاد(3/278)
أفضل الأعمال بعد الفرائض ا هـ أي: على الأعيان وحينئذ فيوافقه ما في قواعد القرافي قال مالك: الحج أفضل من الغزو لأن الغزو فرض كفاية والحج فرض عين وكان ابن عمر يكثر الحج ولا يحضر الغزو ا هـ ويشكل عجزه بقوله صلى الله عليه وسلم: "حجة لمن لم يحج خير من عشر غزوات وغزوة لمن قد حج خير من عشر حجج" رواه الطبراني والبيهقي من رواية عبد الله بن صالح كاتب الليث وثقه ابن معين واحتج به البخاري وقد ظهر من هذه الجملة أنه لا يتم ما في الإحياء من أنه لا يصح إطلاق القول بأفضلية بعض العبادات على بعض كما لا يصح إطلاق القول بأن الخبز أفضل من الماء فإن ذلك مخصوص بالجائع والماء أفضل للعطشان فإن اجتمعا نظر إلى الأغلب فتصدق الغني الشديد البخل بدرهم أفضل من قيام ليلة وصيام ثلاثة أيام لما فيه من دفع حب الدنيا والصوم لمن استحوذت عليه شهوة الأكل أفضل ولا ما قال النووي من أن ليس المراد من قولهم الصلاة أفضل من الصوم أن صلاة ركعتين أفضل من صوم أيام أو يوم فإن صوم يوم أفضل من ركعتين وإنما معناه أن من أمكنه الاستكثار من الصوم والصلاة وأراد أن يستكثر من أحدهما ويقتصر من الآخر على المتأكد فهذا محل الخلاف ا هـ ثم بعد هذا كله لا خفاء في أن الفرض من كل جنس أفضل من نفله وقول(3/279)
ص -137-…الشيخ عز الدين بن عبد السلام ثم القرافي أن المندوب قد يفضل الواجب كمن وجب عليه شاة فأخرجها وتطوع بشاتين فإن الشاتين أفضل لأن المصلحة الحاصلة للفقراء بالشاتين أوسع فيه نظر ظاهر وكيف لا وما قدمناه من قول الله تبارك وتعالى: "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه" وما روى ابن خزيمة في صحيحه أن الواجب يفضل المندوب بسبعين درجة ينفيه على أنه قد أخرج النسائي سبق درهم مائة ألف. مع أن التوسعة بالألف أعظم منها بالواحد وإنما الشأن في فرض كل جنس بالنسبة إلى الفرائض من باقي الأجناس وللباحث المحقق في ذلك مجال فوق ما قدمناه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
ثم الاعتكاف لأنه سنة أو مستحب وشرع لتكثير الصلاة حقيقة أو حكما بانتظارها في مكانها وهو المساجد على صفة الاستعداد لها من الطهارة وغيرها فإن المنتظر لها فيها حكما ولذا اختص بالمساجد وشواهده من السنة مسطورة في مواضعها فكان دون ما تقدم في المرتبة إلا أن قولهم فكان من توابع الصلاة يشكل بتعليلهم تقديم العمرة على الجهاد بكونها من توابع الحج لو صح كونها من توابعه ثم هذا مما يوضح أن كون الشيء من توابع الشيء لا يستلزم ألبتة كونه أفضل مما المتبوع أفضل منه فليتأمل وهذا هو القسم الأول.(3/280)
"وعبادة فيها معنى المؤنة" وهي فعولة على الأصح من مأنت القوم أمأنهم إذا احتملت ثقلهم أو من أتاني فلان وما مأنت له مأنا إذا لم تستعد له وقيل مفعلة من الأون وهو أحد جانبي الخرج لأنه ثقل أو من الأين وهو التعب والشدة وهذه العبادة "صدقة الفطر" وكونها عبادة ظاهر من كونها شرعا صدقة وطهرة للصائم عن اللغو والرفث كما رواه أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس مرفوعا ومن اعتبار صفة الغنى فيمن تجب عليه واشتراط النية في الأداء ووجوب صرفها في مصارف الصدقات إلى غير ذلك وكونها فيها معنى المؤنة "إذ وجبت" على المكلف "بسبب غيره" وهو من يليه ويمونه كما أشار إليه ما روى البيهقي الدارقطني عن ابن عمر قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون فإن العبادة لا تجب على الغير بسبب الغير، "فلم يشرط لها كمال الأهلية" كما شرط للعبادات الخالصة لقصور معنى العبادة فيها "فوجبت في مال الصبي والمجنون" الغنيين عن أنفسهما ورقيقهما يتولى أداءها الأب ثم وصيه ثم الجد ثم وصيه ثم وصي نصبه القاضي عند أبي حنيفة وأبي يوسف "خلافا لمحمد وزفر" وهو القياس لسقوط الخطاب عنهما يرجحان معنى العبادة فيها وإنما استحسن أبو حنيفة وأبو يوسف الوجوب إلحاقا لها بما فيها من معنى المؤنة بنفقة ذي الرحم المحرم منهما فإنها تجب في مالهما إذا كانا غنيين باتفاقهم لكن كما قال صاحب الكشف1 ثم تلميذه قوام الدين الكاكي كلام محمد وزفر أوضح ثم ظهر وجه كونها عبادة فيها معنى المؤنة دون العكس وهذا القسم الثاني.
ـــــــــــــــــــ
1 كما صاحب الكشف هكذا في النسخ ولعل أصل العبارة كما قال الخ. وحرر كتبه مصححه.(3/281)
ص -138-…"ومؤنة فيها معنى القربة كالعشر إذ المؤنة ما به بقاء الشيء وبقاء الأرض في أيدينا به" أي بالعشر لأن الله تعالى حكم ببقاء العالم إلى الوقت الموعود وهو ببقاء الأرض وما يخرج منها من القوت وغيره لمن عليها فوجبت عمارتها والنفقة عليها كما وجب على الملاك نفقة عبيدهم ودوابهم وبقاؤها وبقاء إنزالها إنما هو بجماعة المسلمين لأنهم الحافظون لها إما من حيث الدعاء وهم ضعفاؤهم المحتاجون فإن بهم يستنزل النصر على الأعداء ويستمطر في السنة الشهباء وإما من حيث الذب بالشوكة عن الدار وغوائل الكفار وهم المقاتلة فوجب في بعضها العشر نفقة للأولين وفي بعضها الخراج نفقة للآخرين وجعلت النفقة عليهما نفقة عليها تقديرا ثم في الخراج معنى العقوبة كما سيذكر وفي العشر معنى العبادة كما أشار إليه بقوله "والعبادة" فيه "لتعلقه" أي العشر "بالنماء" الحقيقي لها وهو الخارج منها كتعلق الزكاة أو لأن مصرفه الفقراء كمصرف الزكاة وهذا أشبه "وإذ كانت الأرض الأصل" والنماء وصفا تابعا لها "كانت المؤنة غالبة وللعبادة" فيه "لا يبتدأ الكافر به" لأن الكفر ينافي القربة من كل وجه لأن في العشر ضرب كرامة والكفر مانع منه مع إمكان الخراج "ولا يبقى" العشر "عليه" أي الكافر إذا اشترى أرضا عشرية عند أبي حنيفة "خلافا لمحمد في البقاء" للعشر عليه "إلحاقا" للعشر "بالخراج" فإنه يبقى عليه إذا اشترى أرضا خراجية بالإجماع "بجامع المؤنة" فيهما فإن كلا منهما من مؤن الأرض والكافر أهل للمؤنة، "والعبادة" في العشر "تابعة" فيسقط في حقه لعدم أهليته لها "فلا يثاب" الكافر "به" أي بالعشر "وأجيب بأنه" أي معنى العبادة "وإن تبع" المؤنة "فهو ثابت" في العشر فإن كلا من تعلقه بالنماء وصرفه إلى مصارف الفقراء مستمر "فيمنع" ثبوته فيه من إلغائه في حق الكافر ضرورة عدم إمكان إلغائه.(3/282)
قلت: إلا أن هذا إنما يتم على محمد نظرا إلى ما هو الأشبه في معنى العبادة فيه إذا كان قائلا بأنه يوضع موضع الصدقة لأن الواجب لما لم يتغير عنده لم تتغير صفته كما هو المذكور في السير الكبير والصغير وأما على أنه يوضع في بيت مال الخراج لانتفاء معنى الصدقة فيه كالمال الذي يأخذه العاشر من أهل الذمة كما هو رواية ابن سماعة عنه فلا يتم عليه وعلى هذا فيجاب كما في كشف الأسرار بأن العشر غير مشروع على الكافر إلا بطريق التضعيف فالقول بوجوبه بدون التضعيف عليه خرق الإجماع.
"فتصير" الأرض العشرية "خراجية بشرائه" أي الكافر إياها عند أبي حنيفة وإنما اختلفت الرواية في وقت صيرورتها خراجية ففي السير كما اشترى وفي رواية ما لم يوضع عليها الخراج وإنما يؤخذ إذا بقيت مدة يمكنه أن يزرع فيها زرع أو لا "ولأبي يوسف" أي وخلافا له في أنه "يضعف عليه" لأنه لا بد من تغييره لأن الكفر ينافيه والتضعيف تغيير للوصف فقط فيكون أسهل من إبطال العشر ووضع الخراج لأن فيه تغيير الأصل والوصف جميعا والتضعيف في حق الكافر مشروع في الجملة "كبني تغلب" ولا يقال فيه تضعيف(3/283)
ص -139-…للقربة والكفر ينافيها لأنا نقول بعد التضعيف صار في حكم الخراج الذي هو من خواص الكفار وخلا عن وصف القربة "ويجاب بأنها" أي الصدقة المأخوذة من بني تغلب هي في المعنى "جزية سميت بذلك" أي بكونها صدقة مضاعفة "بالتراضي لخصوص عارض" فإن بني تغلب بكسر اللام عرب نصارى قال القاسم بن سلام في كتاب الأموال هم يعني عمر أن يأخذ منهم الجزية فنفروا في البلاد فقال النعمان بن زرعة أو زرعة بن النعمان لعمر: يا أمير المؤمنين إن بني تغلب قوم عرب يأنفون من الجزية وليست لهم أموال إنما هم أصحاب حروث ومواش ولهم نكاية في العدو فلا تعن عدوك عليك بهم قال: فصالحهم عمر رضي الله عنه على أن يضعف عليهم الصدقة واشترط عليهم أن لا ينصروا أولادهم وفي رواية عنه هذه جزية سموها ما شئتم وإنما اختلف الفقهاء في أنها هل هي جزية على التحقيق من كل وجه؟ فقيل: نعم حتى لو كان للمرأة والصبي نقود أو ماشية لا يؤخذ منهما شيء وهو قول الشافعي ورواية الحسن عن أبي حنيفة قال الكرخي: وهي أقيس لأن الواجب عليهم كان الجزية فإذا صولحوا على مال جعل واقعا موقع المستحق وقيل لا بل هي واجبة بشرائط الزكاة وأسبابها وهو ظاهر الرواية لأن الصلح وقع على ذلك ومن ثمة لا يراعى فيها وصف الصغار والمصرف مصالح المسلمين لأنه مال بيت المال وذلك لا يخص الجزية والمرأة من أهلها ومن أهل ما يجب من المال بالصلح فيؤخذ منها بخلاف الصبي والمجنون بخلاف أرضهما لأن العشر ليس بعبادة محضة ليخص العقلاء البالغين فيؤخذ من أرضهما وقد أجاب أبو يوسف من قبل أبي حنيفة بأن التضعيف ثبت بالإجماع على خلاف القياس في قوم معينين للضرورة السالفة وهي منتفية هنا فلا يصار إليه مع إمكان ما هو الأصل في الكافر وهو الخراج فالصحيح ما قاله أبو حنيفة كما ذكره فخر الإسلام وغيره وهذا هو القسم الثالث.(3/284)
"ومؤنة فيها معنى العقوبة" وهي "الخراج أما المؤنة فلتعلق بقائها" أي الأرض لأهل الإسلام "بالمقاتلة المصارف" له كما بيناه آنفا "والعقوبة للانقطاع بالزراعة عن الجهاد" لأنه يتعلق بالأرض بصفة التمكن من الزراعة والاشتغال بها عمارة الدنيا وإعراض عن الجهاد وهو سبب الذل شرعا "فكان" الخراج "في الأصل صغارا" كما أشار إليه ما في صحيح البخاري أن أبا أمامة الباهلي قال ورأى سكة وشيئا من آلة الحرث سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الذل" "وبقي" الخراج للأرض الخراجية وظيفة مستمرة "لو اشتراها مسلم" أو ورثها أو وهبها أو أسلم مالكها "لأن ذلك" أي الصغار "في ابتداء التوظيف" لا في بقائه نظرا إلى ما فيه من رجحان معنى المؤنة التي المؤمن من أهلها وهذا هو القسم الرابع.
"وحق قائم بنفسه أي لم يتعلق بسبب مباشر" أي شيء ثابت بذاته لم يتعلق بالذمم بسبب مقصود وضع له يجب باعتباره أداؤه على المكلف بل ثبت بحكم أن الله مالك الأشياء كلها وهو "خمس الغنائم" أي الأموال المأخوذة من الكفار قهرا لإعلاء كلمة الله فإن الجهاد(3/285)
ص -140-…حق الله إعزازا لدينه وإعلاء لكلمته فالمصاب كله حق الله تعالى إلا أنه سبحانه جعل أربعة أخماسه للغانمين امتنانا منه عليهم من غير أن يستوجبوها بالجهاد لأن العبد بعمله لمولاه لا يستحق عليه شيئا واستبقى الخمس حقا له وأمر بالصرف إلى من سماهم في كتابه العزيز فتولى السلطان أخذه وقسمته بينهم لأنه نائب الشرع في إقامة حقوقه لا أنه حق لزمنا أداؤه بطريق الطاعة "ومنه" أي الحق القائم بنفسه "المعدن" بكسر الدال وهو في الأصل المكان بقيد الاستقرار فيه من عدن بالمكان أقام به ثم اشتهر في نفس الأجزاء المستقرة التي ركبها الله تعالى في الأرض يوم خلقها "والكنز" وهو المثبت فيها من الأموال بفعل الإنسان والركاز يعمهما لأنه من الركز مرادا به المركوز أعم من كون راكزه الخالق أو المخلوق فهو مشترك معنوي بينهما ثم المراد بالمعدن هنا عند أصحابنا الجامد الذي يذوب وينطبع كالنقدين والحديد والرصاص والنحاس وبالكنز ما لا علامة للمسلمين فيه حتى كان جاهليا لأن هذين لا حق لأحد فيهما وقد جعل الشارع أربعة أخماس كل منهما للواجد وبقي الخمس له تعالى مصروفا إلى من أمر بالصرف إليه وقد ظهر أن المراد خمسهما ولو صرح به لكان أحسن "فلم يلزم أداؤه" أي الخمس في هذه الأموال "طاعة" فيشترط له النية ليقع دفعه قربة بها "إذ لم يقصد الفعل" أي لأن الفعل وهو دفعه غير مقصود "بل متعلقه" أي الفعل هو المقصود وهو المال المدفوع فالنفي راجع إلى القيد الذي هو طاعة "بل هو" أي الخمس "حق له تعالى" كما بينا "فلم يحرم على بني هاشم إذا لم يتسخ إذ لم تقم به قربة واجبة" قلت: والأولى الاقتصار على قربة بناء على حرمة الصدقة النافلة عليهم كالمفروضة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس" رواه مسلم إلى غير ذلك فوجب اعتباره كما قاله المصنف في فتح القدير ثم كيف يحرم عليهم الخمس وقد أخرج الطبراني عنه صلى الله عليه(3/286)
وسلم: "لا يحل لكم أهل البيت من الصدقات شيء وإنما هي غسالة أيدي الناس وإن لكم في خمس الخمس ما يغنيكم".
ثم إنما قيدنا المعدن والكنز بالقيدين المذكورين لأنهما بدونهما ليس حكمهما ذلك كما عرف في الفروع ولعلهم إنما لم يقيدوهما بهما في الأصول اعتمادا على إحاطة العلم بهما في الفروع ثم قيل إنما ذكر المعادن مع أنها غنيمة لأن اسم الغنيمة خفي في حقها كخفاء اسم السارق بالنسبة إلى النباش ولهذا لم يوجب الشافعي فيها الخمس حيث يشبه الصيد ولا نحن فيما إذا وجده في داره وفي أرضه في رواية على ما عرف وهذا هو القسم الخامس.
"وعقوبات كاملة" أي محضة لا يشوبها معنى آخر تامة في كونها عقوبة وهي "الحدود" أي حد الزنا وحد السرقة وحد الشرب فإنها شرعت لصيانة الأنساب والأموال والعقول وموجبها جنايات لا يشوبها معنى الإباحة فاقتضى كل منها أن يكون له عقوبة كاملة زاجرة عن ارتكابه حقا لله تعالى على الخلوص لأن حرمتها حقه على الخلوص ففي الصحيحين عن(3/287)
ص -141-…رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه" ثم عن المبرد سميت العقوبة عقوبة لأنها تتلو الذنب من عقبه يعقبه إذا تبعه وهذا هو القسم السادس.
"و" عقوبة "قاصرة" وهي "حرمان القاتل" إرث المقتول قتله عمدا أو غيره على ما فيه من تفصيل معروف في موضعه ثم "كونه" أي حرمان القاتل "حقا له تعالى لأن ما يجب لغيره" أي الله تعالى "بالتعدي عليه" أي الغير يكون "فيه نفع له" أي للغير والغير هنا المقتول "وليس في الحرمان نفع للمقتول" فثبت أنه حق لله تعالى زاجر عن ارتكاب ما جناه كالحد لأن ما لا يجب لغير الله يجب لله ضرورة "ومجرد المنع" من الإرث "قاصر" في معنى العقوبة لأنه لم يلحقه ألم في بدنه ولا نقصان في ماله بل منع ذلك ثبوت ملكه في تركة المقتول.
تنبيه: وإنما قدرنا موصوف قاصرة عقوبة كشمس الأئمة السرخسي لأنه لم يذكر لهذا القسم مثالا غير هذا وقد قيل: ليس له مثال غيره حتى كان المراد بقول من قال وعقوبات قاصرة الواحد لكن في التحقيق ويجوز أن يلحق حرمان الوصية بالقتل ووجوب الكفارة من حيث إن معنى العقوبة فيهما قاصر بهذا القسم فيحمل اللفظ على حقيقته ولا يحتاج إلى حمله على الواحد وهذا هو القسم السابع.(3/288)
"وحقوقهما" أي العبادة والعقوبة مجتمعان "فيها كالكفارات" لليمين والقتل والظهار والفطر العمد في نهار رمضان وكفارة قتل الصيد للمحرم وصيد الحرم أما أن فيها معنى العبادة فلأنها تؤدى بما هو عبادة محضة من عتق أو صدقة أو صيام ويشترط فيها النية ويؤمر من هي عليه بالأداء بنفسه بطريق الفتوى ولا يستوفى منه جبرا والشرع لم يفوض إلى المكلف إقامة شيء من العقوبات على نفسه بل هي مفوضة إلى الأئمة وتستوفى جبرا وأما أن فيها معنى العقوبة فلأنها لم تجب إلا أجزية على أفعال من العباد لا مبتدأة كالعبادة ولهذا سميت كفارة لأنها ستارة للذنوب "وجهة العبادة غالبة فيها" بدليل وجوبها على أصحاب الأعذار مثل الخاطئ والناسي والمكره والمحرم المضطر إلى قتل الصيد لمخمصة ولو كانت جهة العقوبة فيها غالبة لامتنع وجوبها بسبب العذر لأن المعذور لا يستحق العقوبة وكذا لو كانت مساوية لأن جهة العبادة إن لم تمنع الوجوب على هؤلاء المعذورين فجهة العقوبة تمنعه والأصل عدمه فلا يثبت بالشك "إلا الفطر" أي كفارته فإن جهة العقوبة فيها غالبة "وألحقها" أي كفارة الفطر "الشافعي بها" أي ببقية الكفارات في تغليب معنى العبادة فيها على العقوبة حيث لم يسقطها بالشبهة كما سيأتي "والحنفية" إنما قالوا بتغليب معنى العقوبة فيها على العبادة "لتقيدها" أي وجوبها "بالعمد" أي بالفطر العمد "ليصير" الفطر العمد "حراما وهو" أي الحرام "المثير للعقوبة والقصور" للعقوبة فيها حيث لم تكن كاملة "لكون الصوم لم يصر حقا تاما مسلما لصاحب الحق" وهو الله عز وجل "وقعت الجناية عليه" لأن تمامه بإكماله يوما فقصرت الجناية فقصرت عقوبتها جزاء وفاقا "فلذا" أي لقصور العقوبة في هذا الحق الذي هو الكفارة "تأدى" هذا الحق "بالصوم والصدقة وشرطت النية" فيه "فتفرع" على غلبة معنى العقوبة(3/289)
ص -142-…"درؤها بالشبهة" أي شبهة الإباحة كما يدرأ الحد بها ومن ثمة لم تجب بالإجماع على من جامع ظانا أن الفجر لم يطلع أو أن الشمس غابت وتبين خلافه وأيضا "فوجبت مرة بمرار" أي بفطر متعدد في أيام "قبل التكفير من رمضان" واحد عندنا كما يحد مرة واحدة بزناه مرة بعد أخرى إذا لم يحد بكل مرة وقال الشافعي يجب عليه بكل فطر يوم كفارة "ومن اثنين" أي ويجب عليه كفارة واحدة بفطر متعدد قبل التكفير من رمضانين "عند الأكثر" أي أكثر المشايخ على ما في التلويح وفي الكافي في الصحيح "خلافا لما يروى عنه" أي عن أبي حنيفة من تعددها بتعدد فطر الأيام منهما قلت: وفيه نظر فإن المسطور في الكتب المشهورة وهو الذي مشى عليه في فتح القدير أن هذا ظاهر الرواية وأن عن محمد أن عليه كفارة واحدة زاد في المبسوط وهو رواية الطحاوي عن أبي حنيفة بل حكى في الحقائق الإجماع على تعددها وإنما قلنا بالتداخل حيث قلنا به "لأن التداخل درء" ثم معنى الزجر معتبر في هذه الكفارة كما علم والزجر يحصل بواحدة "ولو كفر" عن فطر يوم "ثم أفطر" في آخر "فأخرى لتيقن عدم انزجاره بالأولى فتفيد" الكفارة "الثانية" الانزجار إن شاء الله تعالى هذا ظاهر الرواية وروى زفر عن أبي حنيفة أن ليس عليه بالفطر الثاني كفارة أخرى وظاهر الرواية هو الظاهر.(3/290)
"تتميم" وذهب الشافعي إلى أن الغالب في كفارة الظهار العقوبة وهو ظاهر البديع ومشى عليه صدر الشريعة لأن الظهار منكر من القول وزور فتكون جهة الجناية غالبة فيكون في جزائها جهة العقوبة غالبة ودفع بأن السبب ليس الظهار بل العود وهو العزم على الوطء الذي حرمه على نفسه بالظهار كما هو قول كثير من المشايخ منهم صاحب المحيط أو الظهار والعود جميعا كما عليه آخرون منهم فخر الإسلام وقد استروح كل من أصحاب القولين إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة:3] الآية لأن لفظها يحتملهما إذ يمكن أن يكون ترتيبها عليهما كما يمكن أن يكون على الأخير وقد ترجح كونه الأخير لأنه بسيط وهو أصل بالنسبة إلى المركب ويرد على كل منهما أن الحكم يتكرر بتكرر سببه لا شرطه والكفارة تتكرر بتكرر الظهار لا العزم وعلى الآخران بمجرد العزم لا تتقرر الكفارة أو إيفاء الواجب من الوطء كما هو قول بعضهم ولعله الأشبه فإن إيفاء حقها من الوطء لا يمكنه إلا برفع الحرمة وهي لا ترتفع إلا بالكفارة ومن ثمة لما ذكر الإمام السروجي ما في المبسوط من أن بمجرد العزم عندنا لا تتقرر الكفارة حتى لو أبانها أو ماتت لم تلزمه عندنا قال: وهذا دليل على أن الكفارة غير واجبة عندنا لا بالظهار ولا بالعود إذ لو وجبت لما سقطت بل موجب الظهار ثبوت التحريم فإذا أراد رفعه فلا بد من الكفارة لرفع الحرمة حتى لو لم يرد ذلك ولم تطالب المرأة بالوطء لا يجب عليه الكفارة أصلا ا هـ على أنه كما في الطريقة المعينة لا استحالة في جعل المعصية سببا للعبادة التي حكمها تكفير المعصية وإذهاب السيئة خصوصا إذ صار معنى الزجر فيها مقصودا وإنما المحال أن تجعل سببا للعبادة الموصلة إلى الجنة لأنها مع حكمها الذي هو الثواب الموصل إلى الجنة تصير من أحكام المعصية فتصير المعصية بواسطة حكمها سببا للوصول إلى الجنة وهو(3/291)
محال ا هـ.(3/292)
ص -143-…ثم يشكل كون الغلبة فيها لجهة العقوبة بأن الأصل في العقوبات المحضة وما العقوبة غالبة فيه التداخل ولا تداخل هنا إذا لم يقصد بالثاني فصاعدا التكرار والتأكيد ثم في التلويح وذكر المحققون في الفرق بين كفارة الفطر وغيرها أن داعية الجناية على الصوم لما كانت قوية باعتبار أن شهوة البطن أمر معود للنفس احتيج فيها إلى زاجر فوق ما في سائر الجنايات فصار الزجر فيها أصلا والعبادة تبعا فإن من دعته نفسه إلى الإفطار طلبا للراحة فتأمل فيما يجب عليه من المشقة انزجر لا محالة وباقي الكفارات بالعكس ألا يرى أنه لا معنى للزجر عن القتل الخطأ وأن كفارة الظهار شرعت فيما يندب إلى تحصيل ما تعلقت الكفارة به تعلق الأحكام بالعلل وهو العود وكفارة اليمين شرعت فيما يجب تحصيل ما تعلقت الكفارة به تعلق الأحكام بالشروط كمن حلف لا يكلم أباه وشرع الزاجر فيما يندب أو يجب تحصيله لا يليق بالحكمة والله سبحانه أعلم.(3/293)
"والثاني حقوق العباد كضمان المتلفات وملك المبيع والزوجة وكثير وما اجتمعا" أي حق الله وحق العبد "فيه وحقه تعالى غالب" وهو "حد القذف" لأنه من حيث إنه يقع نفعه عاما بإخلاء العالم عن الفساد حق الله تعالى إذ لم يختص بهذا إنسان دون إنسان ومن حيث إن فيه صيانة العرض ودفع العار عن المقذوف حق العبد إذ هو الذي ينتفع به على الخصوص ثم في هذا حق الله تعالى أيضا لأن في النفس حقين: حق الاستعباد لله وحق الانتفاع للعبد فكان الغالب حق الله تعالى "فليس للمقذوف إسقاطه" أي الحد لأن حق الله لا يسقط بإسقاط العبد وإن كان غير متمحض له كما يشهد به دلالة الإجماع على عدم سقوط العدة بإسقاط الزوج إياها لما فيها من حق الله عز وجل "ولذا" أي ولكون الغالب في هذا الحد حق الله تعالى "لم يفوض إليه" أي إلى المقذوف ليقيمه على نفسه "لأن حقوقه تعالى لا يستوفيها إلا الإمام" لاستنابة الله تعالى إياه في استيفائها دون غيره "ولأنه" أي حد القذف "لتهمته" أي القاذف المقذوف "بالزنا وأثر الشيء من بابه" أي باب ذلك الشيء وحد الزنا حق الله تعالى اتفاقا "فدار" حد القذف "بين كونه لله تعالى خالصا" كحد الزنا "أو" بين كونه "له" أي الله تعالى "وللعبد" كما ذكرنا فأقل ما في الباب أن يقال "فتغلب" حق الله "به" أي بحد القذف لأن ما للعبد من الحق يتولى استيفاءه مولاه فيصير حق العبد مرعيا بتغليب حق مولاه لا مهدرا ولا كذلك عكسه هذا على ما عليه عامة المشايخ وذهب صدر الإسلام إلى أن الغالب فيه حق العبد وبه قالت الأئمة الثلاثة والأول أظهر كما في الهداية ثم من الأحكام ما بين متفق عليه ومختلف فيه ما يتفرع عليه باعتبار كونه حقا للعبد ومنها ما يتفرع عليه باعتبار كونه حقا لله ومحل الخوض فيها الكتب الفقهية "وما اجتمعا" أي حق الله وحق العبد فيه "والغالب حق العبد" وهو "القصاص بالاتفاق" فإن لله تعالى في نفس العبد حق الاستعباد وللعبد حق الاستمتاع ففي(3/294)
شرعية القصاص إيفاء للحقين وإخلاء للعالم عن الفساد إلا أن وجوبه بطريق المماثلة المنبئة عن معنى الجبر وفيه معنى المقابلة بالمحل فكان حق العبد راجحا ولهذا فرض استيفاؤه للوارث وجرى فيه الاعتياض بالمال والعفو.(3/295)
ص -144-…"وينقسم" متعلق الحكم الشرعي مطلقا "أيضا باعتبار آخر أصل وخلف" أي من حيث اتصافه بالأصالة والخلفية إلى أصل وخلف ثم "لا يثبت" كونه خلفا "إلا بالسمع" نصا أو دلالة أو إشارة أو اقتضاء "صريحا أو غيره" أي غير صريح كالأصل لا بالرأي فحذف المنقسم إليه للعلم به "فالأصل كالتصديق في الإيمان" فإنه أصل محكم لا يحتمل السقوط بعذر ما ولا يبقى مع التبديل بحال "والخلف عنه" أي عن التصديق "الإقرار" باللسان لأنه معبر عما في الجنان "وإذ لم يعلم الأصل يقينا" لأنه غيب "أدير" الحكم "عليه" أي على الخلف "فلو أكره" الكافر على الإسلام "فأقر" به "حكم بإسلامه" لوجوده ظاهرا وإن لم يوجد التصديق القلبي في نفس الأمر وحينئذ "فرجوعه" عن الإسلام إلى الكفر باللسان "ردة لكن لا توجب القتل" لأن الإكراه شبهة لإسقاطه "بل" توجب "الحبس والضرب حتى يعود" إلى الإسلام مع أنه لو قتله قاتل قبل عوده لا شيء عليه "ودفن" من أكره على الإسلام حتى أقر به ثم لم يظهر منه خلافه إلى أن مات "في مقابر المسلمين به" أي بإقراره بالإسلام مكرها "و" يثبت أيضا "باقي أحكام الخلفية في الدنيا" من إسقاط الجزية عنه وجواز الصلاة خلفه وعليه إلى غير ذلك أما الآخرة فالمذهب للحنفية وهو نص أبي حنيفة "أنه" أي الإقرار "أصل" في أحكامها أيضا "فلو صدق" بقلبه "ولم يقر" بلسانه "بلا مانع" له من الإقرار واستمر "حتى مات كان في النار وكثير من المتكلمين" ورواية عن أبي حنيفة وأصح الروايتين عن الأشعري "التصديق وحده" في أحكام الآخرة لأنه هو "والإقرار" شرط "لأحكام الدنيا" أي لإجرائها عليه "كقول بعضهم" أي الحنفية منهم أبو منصور الماتريدي ثم كما في شرح المقاصد الإقرار لهذا الغرض لا بد أن يكون على وجه الإعلان والإظهار على الإمام وغيره من أهل الإسلام بخلاف ما إذا كان لإتمام الإيمان فإنه يكفي مجرد التكلم وإن لم يظهر على غيره ثم الخلاف فيما إذا كان قادرا وترك التكلم لا(3/296)
على وجه الإباء إذ العاجز كالأخرس مؤمن اتفاقا والمصر على عدم الإقرار مع المطالبة به كافر وفاقا لكون ذلك من أمارات عدم التصديق.
"ثم صار أداء الأبوين في الصغير والمجنون خلفا عن أدائهما" أي الصغير والمجنون لعجزهما عن ذلك "فحكم بإسلامهما تبعا لأحدهما" أي الأبوين إذا كان المتبوع والتابع حين الإسلام في دار واحدة أو المتبوع في دار الحرب والتابع في دار الإسلام لا بالعكس كما نبه عليه في الينابيع وغيره اللهم إلا إذا دخل عسكر من المسلمين دار الحرب وأسروا الصغير مع أمه الكافرة مثلا أولا ثم أخرج إلى دار الإسلام أولا فإن الأب إذا كان حيا في دار الإسلام يستتبعه ذكره في الذخيرة والمعتوه كذلك "ثم تبعية الدار" صارت خلفا عن أداء الصغير بنفسه في إثبات الإسلام له عند عدم إسلام الأبوين أو أحدهما على الوجه الذي ذكرنا وعدم خروجهما أو أحدهما إلى دار الإسلام قبله أو معه من ناحية واحدة أولا كما أشار إلى هذا بقوله "فلو سبي فأخرج إلى دار الإسلام وحده حكم بإسلامه وكذا تبعية الغانمين" أي تبعيته للمسلمين الغانمين إذا لم يكن معه أبواه ولا أحدهما واختص به أحدهم في دار الحرب لشرائه من الإمام الغنيمة ثمة صارت خلفا عن أداء الصغير كما أشار إليه بقوله:(3/297)
ص -145-…"فلو قسم في دار الحرب فوقع في سهم أحدهم" أي المسلمين "حكم بإسلامه والمراد أن كلا من هذه خلف عن أداء الصغير" على هذا الترتيب كما ذكرنا "لا أنه يخلف بعضها بعضا" لأن الخلف لا خلف له كذا قالوا وقد قيل عليه لا يجوز أن يكون الشيء الواحد خلفا من وجه وأصلا من وجه ثم كون هذه التبعيات مرتبة هكذا هو المذكور في أصول فخر الإسلام وموافقيه وذكر في المحيط: تبعية صاحب اليد مقدمة على تبعية الدار فقيل: يحتمل أن يكون في المسألة روايتان.(3/298)
قلت: والتحقيق أن المراد أيهما وجد أولا تعين نسبة التبعية إليه لأن السبق من أسباب الترجيح وتحصيل الحاصل محال فالأولى أن يكون الثاني معطوفا بأو أو الواو كما فعل بعضهم ومشى عليه المصنف بقي أن الخلفية لا تثبت إلا بالسمع والظاهر أنه فيما كان بين مسلم أصلي وذمية الإجماع وقد يقال هو ما في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" فجعل اتفاقهما علة ناقلة للولد عن أصل الفطرة فيثبت فيما اتفقا عليه ويبقى على أصل الفطرة فيما اختلفا فيه وهو يصلح أن يكون سند الإجماع وأما فيما بين مسلم عارض إسلامه وذمية وبين مسلمة عارض إسلامهما وذمي فظاهر كلامهم أنه الحديث المذكور لأنه يفيد ثبوت أحد الأوصاف الثلاثة للولد إذا كان أبواه على ذلك الوصف فإذا زال الوصف عن أحدهما انتفت العلة فينتفي المعلول فيترجح ثبوت الوصف المفطور عليه وهو الإسلام ولكن عليه أن يقال فيلزم بعين هذا صيرورة الصغير مسلما بموت أحدهما كما هو قول الإمام أحمد وهو خلاف ما عليه باقي الأئمة وقد يقال هو ما روى الشافعي والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة فأسلم ثعلبة وأسيد ابنا شعبة فعصم إسلامهما أموالهما وأولادهما الصغار. ولا يعرى عن تأمل وأما جعله تبعا لدار الإسلام أو للغانم المسلم على الوجه المذكور فالله تعالى أعلم بالسمعي المفيد له فإن قلت: يفيده الحديث السالف بناء على أن كون أبويه ناقليه عن أصل الفطرة معلول بكونه تحت ولايتهما وهو منتف فيمن اختص به مسلم في دار الحرب بشراء من الإمام أو قسمة وبما إذا أخرج وحده مسبيا إلى دار الإسلام المفطور عليه لعدم الناقل له عنه قلت: نعم لو تم لكنه غير تام لأنه حينئذ يقتضي أن يحكم بإسلامه إذا وقع معهما أو مع أحدهما في سهم مسلم بدار الحرب أو أخرج إلى دار الإسلام معهما أو مع أحدهما لأنهما لا ولاية لهما على أنفسهما في هذه(3/299)
الصور فضلا عن أن يكون لهما ولاية عليه لكن المسطور أنه لا يحكم بإسلامه فيها والله سبحانه أعلم.
"هذا" كله "إذا لم يكن" الصغير "عاقلا وإلا" لو كان عاقلا "استقل بإسلامه" فإذا أسلم صح وحينئذ "فلا يرتد بردة من أسلم منهما" أي أبويه "على ما سيعلم" في فصل الأهلية ولكن الذي في شرح الجامع الصغير لفخر الإسلام ويستوي فيما قلنا أن يعقل أو لا يعقل إلى هذا أشار في هذا الكتاب ونص عليه في الجامع الكبير فلا جرم أن قال قاضي خان في(3/300)
ص -146-…شرحه: لو أسلم أحد أبويه يجعل مسلما تبعا سواء كان الصغير عاقلا أو لم يكن لأن الولد يتبع خير الأبوين دينا "ومنه" أي الخلف عن الأصل في متعلق الحكم "الصعيد" فإنه "خلف عن الماء فيثبت به" أي بالصعيد "ما يثبت به" أي بالماء من الطهارة الحكمية إلى وجود الناقض فالأصالة والخلفية بين الآلتين فيجوز إمامة المتيمم للمتوضئ لوجود شرط الصلاة في حق كل فيجوز بناء أحدهما على الآخر كالغاسل على الماسح مع أن الخف بدل من الرجل في قبول الحدث ورفعه هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف "ولمحمد" وزفر أيضا على ما ذكر الإسبيجابي وفخر الإسلام وموافقوه أن الأصالة والخلفية "بين الفعلين" أي التيمم وكل من الوضوء والاغتسال "فلا يلزم ذلك" أي أن يثبت بالصعيد ما يثبت بالماء "ولا يصلي المتوضئ خلف المتيمم لأنه تعالى أمر" المحدث "بالفعل" فقال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} "ثم نقل إلى الفعل" عند عدم القدرة على الماء فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} "ولهما" أي أبي حنيفة وأبي يوسف "أنه" أي الله تعالى "نقل عند عدم الماء" إلى الصعيد حيث قال "فلم تجدوا ماء فكان" الماء هو "الأصل" ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين" رواه أبو داود والترمذي وحسنه وصححه ابن حبان في صحيحه ثم هذا كله قول أصحابنا بعد اتفاقهم على كون الخلف مطلقا بمعنى أنه يرفع الحدث إلى غاية وجوده أو القدرة على استعمال الماء وضوءا في الحدث الأصغر وغسلا في الحدث الأكبر إلا ما قيل(3/301)
فيما إذا تيمم في المصر لخوف فوت صلاة جنازة فصلى وحضرت أخرى ولم يجد بينهما وقتا يمكنه أن يتوضأ فيه أن الخلافة ضرورية بالمعنى الذي يذكره للشافعي عند محمد في هذه حتى لم يجز أن يصلي على الثانية بذلك التيمم خلافا لهما كما هو معروف في موضعه والظاهر أن قولهما أحسن وقال الشافعي: هو خلف ضروري بمعنى أنه تثبت خلفيته ضرورة الحاجة إلى إسقاط الفرض عن الذمة مع قيام الحدث كطهارة المستحاضة ومن ثمرات هذا الخلاف أنه يجوز عندنا تقديمه على الوقت وأن يصلي به ما شاء من فرائض ونوافل خلافا له ولا خفاء في أن جعل الصعيد أو التيمم خلفا عن الماء أو عن كل من الوضوء والاغتسال مع كونه له حكم برأسه مخالف لحكم الأصل ينفي كونه خلفا عن الأصل بل يفيد كونه أصلا مستقلا بنفسه والاتفاق على خلافه وأما أنه ضروري بمعنى أن شرعيته إنما هي عند العجز عن الماء ضرورة أداء المكتوبات فيما لها من الأوقات وتكثيرا للخيرات فما لا نزاع فيه وهو لا يخل بمعنى الإطلاق هذا.
"ولا بد في تحقيق الخلفية من عدم الأصل" في الحال العارض إذ لا معنى إلى المصير إلى الخلف مع وجود الأصل "و" من "إمكانه" أي الأصل ليصير السبب منعقدا للأصل ثم بالعجز عنه يتحول الحكم عنه إلى الخلف "وإلا" فحيث لا إمكان لوجود أمر ما "فلا أصل"(3/302)
ص -147-…أي فلا يوصف ذلك الأمر بالأصالة لغيره لأنه فرع وجوده في ذاته "فلا خلف" أي فلا يوصف ذلك الغير بالخلفية عنه أيضا ومن هنا لزم التكفير من حلف ليمسن السماء لأنها انعقدت موجبة للبر الذي هو الأصل لإمكان مس السماء في الجملة لأن الملائكة يصعدون إليها والنبي صلى الله عليه وسلم صعد إليها ليلة المعراج إلا أنه معدوم عرفا وعادة فانتقل الحكم منه إلى الخلف الذي هو الكفارة ولم يلزم من حلف على نفي ما كان أو ثبوت ما لم يكن في الماضي لعدم إمكان الأصل الذي هو البر والله سبحانه أعلم.
الفصل الثالث: في المحكوم فيه(3/303)
"المحكوم فيه" مبتدأ وقوله "وهو أقرب من المحكوم به" اعتراض بينه وبين خبره وهو "فعل المكلف" يريد أن التعبير عن فعل المكلف بالمحكوم فيه أولى من التعبير عنه بالمحكوم به كما ذكر صدر الشريعة والبيضاوي وغيرهما قال المصنف: إذ لم يحكم الشارع به على المكلف بل حكم في الفعل بالوجوب بالمنع بالإطلاق والظاهر أن ليس في منعه حكم به على المكلف ولا في إطلاقه والإذن فيه وإنما يخال ذلك في إيجابه وعند التحقيق يظهر أن ليس إيجابه أي إيجاب المكلف فعله حكما بنفس الفعل ولو سلم كان باعتبار قسم يخالفه أقسام ثم إنما يكون المحكوم فيه فعل المكلف حال كون فعله "متعلق الإيجاب وهو" أي فعله متعلق الإيجاب "الواجب لم يشتقوا له" أي لفعل المكلف المذكور "باعتبار أثره" أي للإيجاب المتعلق به اسما "إلا اسم الفاعل" وأما الباقي "فمتعلق الندب والإباحة والكراهة مفعول" أي اشتقوا لمتعلقها باعتبار أثرها اسم المفعول "مندوب مباح" مكروه "و" اشتقوا "كلا" من اسمي الفاعل والمفعول "لمتعلق التحريم حرام محرم تخصيصا بالاصطلاح في الأول" أي متعلق الإيجاب "والأخير" أي متعلق التحريم "ورسم الواجب بما" أي فعل "يعاقب تاركه" على تركه "مردود بجواز العفو" عنه ذكره غير واحد والأولى بما عفي عنه لأنه ليس كل جائز واقعا ولا بد من اعتبار الوقوع كما نبه عليه المحقق الشريف فيكون غير منعكس لخروج الواجب المعفو عن تركه. قال الكرماني وللمعرف به أن يقول: المراد ما يعاقب عليه عادة لا على سبيل الوجوب "و" رسمه "بما" أي فعل "أوعد" بالعقاب "على تركه إن أريد" بالترك الترك "الأعم من ترك واحد أو الكل ليدخل الكفاية" أي الواجب كفاية في هذا التعريف "لزم التوعد بترك واحد في الكفاية" مع فعل غيره "أو" أريد به "ترك الكل خرج متروك الواحد أو" أريد به ترك "الواحد خرج الكفاية" وكل من هذه الملازمات وبطلان اللازم فيها ظاهر فالتعريف كذلك "وأما رده" أي هذا التعريف "بصدق إيعاده(3/304)
كوعده فيستلزم العقاب" على الترك فلا ينعكس لخروج الواجب المعفو عن تركه "فيناقض تجويزهم العفو" لأن صدق الإيعاد يوجب عدم وقوع العفو ووقوع العفو يوجب عدم صدق الإيعاد "وهو" أي هذا الرد "بالمعتزلة أليق" لاستحالة الخلف في الوعيد عليه تعالى عندهم بخلاف أهل السنة كما سنذكر "إلا أن يراد" بإيعاده "إيعاد ترك واجب الإيمان" فإن الخلف فيه غير جائز قطعا لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]. وأما الإيعاد على ترك واجب غيره فجائز الخلف(3/305)
ص -148-…فيه لقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] "فلا يبطل التعريف" المذكور "إلا بفساد عكسه بخروج ما سواه" أي ما سوى واجب الإيمان المعفو عن تركه لصدق المحدود بدون الحد، هذا وقد ذكر العبد الضعيف غفر الله تعالى له في حلبة المجلي أن ظاهر المواقف والمقاصد أن الأشاعرة على جواز الخلف في الوعيد لأنه يعد جودا وكرما لا نقصا وأن في غيرهما المنع منه معزو إلى المحققين وإن الشيخ حافظ الدين نص على أنه الصحيح وأن الأشبه بحثا ترجح القول بجوازه في حق المسلمين خاصة بمعنى جواز التخصيص لما دل عليه اللفظ بوضعه اللغوي للمعنى الوعيدي من العموم لا جواز عدم وقوع عذاب من أراد الله الإخبار بعذابه فإنه محال على الله تعالى وقلنا ذلك جمعا بين الأدلة كما يعرف ثمة وهو موافق لما ذكره المصنف وإن الأوجه ترك إطلاق جواز الخلف عليه تعالى وعدا ووعيدا دفعا لأن يكون المراد منه المحال المذكور وحينئذ فلا يخالف الوعد الوعيد في هذا التجويز ويتجه أن يقال: لا وجه لتخصيص ذلك بالوعيد والله سبحانه أعلم.(3/306)
"وأما" رد هذا التعريف "بأن منه" أي الواجب "ما لم يتوعد عليه" فإن أريد بخصوصه فقد يسلم ولا ضير فإن المراد ما هو أعم من ذلك كما هو ظاهر الإطلاق وإن أريد بما هو أعم من ذلك "فمندفع بثبوته" أي الإيعاد "لكلها" أي الواجبات "بالعمومات" كقوله تعالى {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً} [النساء: 14] "ورسم" الواجب أيضا "بما" أي فعل "يخاف العقاب بتركه وأفسد طرده بما ليس بواجب وشك في وجوبه" فإن الوجوب لا يثبت بالشك مع أن الشاك يخاف العقاب على تركه لاحتمال أن يكون واجبا فيصدق الحد بدون المحدود "ويدفع" هذا الإفساد "بأن مفهومه" أي ما يخاف العقاب بتركه "ما بحيث" يخاف "فلا يختص" ترك الواجب "بخوف واحد دون واحد ولا خوف" عقاب عادة "للمجتهد في ترك ما شك فيه" أي في وجوبه لعدم سبب الخوف فلا يصدق الحد بدون المحدود "و" أفسد "عكسه بواجب شك" ابتداء "في عدم وجوبه أو ظن" ابتداء عدم وجوبه "فإنه" أي الشأن "لا يخاف" العقاب بتركه فيصدق المحدود بدون الحد "وهو" أي إفساد عكسه بهذا "حق ومنبع دفع الأول" أيضا لأن الشك ابتداء في عدم وجوبه يفيد الشك ابتداء في وجوبه وما شك ابتداء في عدم وجوبه ووجوبه ليس بحيث مما يخاف المجتهد العقاب بتركه عادة "وللقاضي أبي بكر" رسم آخر وهو "ما" أي فعل "يذم شرعا تاركه بوجه ما" فشمل ما الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام وخرج بالباقي ما عدا الواجب لأن الحرام يذم فاعله لا تاركه والثاني لا يذم فاعله وقيده ص بشرعا أي بأن يرد في الكتاب أو السنة أو الإجماع ما يدل على أنه بحالة لو تركه كان مستنقصا ملوما إلى حد يصلح لترتب العقاب لأن العبرة به وبوجه ما ليدخل الواجب الموسع والمخير والكفاية لأنه كما قال "يريد" بتركه تركه "في جميع وقته بلا عذر نسيان ونوم وسفر ومع عدم فعل غيره" أي ترك الجميع له "إن" كان الواجب "كفاية و" ترك "الكل" من الأمور المخير فيها(3/307)
"في" الواجب "المخير" فلا يرد عليه أن الصلاة التي تركها النائم والناسي وصوم المسافر في رمضان غير واجب مع صدق الحد عليها(3/308)
ص -149-…فلا يطرد "ولو أراد" القاضي "عدم الوجوب معها" أي الأعذار المذكورة وقد ذكر السبكي أن القاضي صرح في التقريب بأنه لا وجوب على النائم والناسي ونحوهما حتى السكران وأن المسافر يجب عليه صوم أحد الشهرين كالواجب المخير "فلا يذم" المكلف "معها" أي الأعذار المذكورة "بالترك إلى آخر الوقت وبعد زوالها" أي الأعذار المذكورة "توجه وجوب القضاء عنده" أي القاضي "فيذم" المكلف "بتركه" أي القضاء "بوجه ما وهو" أي تركه القضاء بوجه ما "ما" أي الترك الذي يكون "في جميع العمر" مع القدرة عليه "ولبعضهم" ولعله ابن الحاجب "اعتراض جدير بالإعراض" فلا يطول بإيراده ومن أراد الوقوف عليه فليراجع شروح أصوله وحواشيها.
ثم كون الذم على ترك هذه إنما هو بسبب ترك القضاء عند القدرة لا على ترك الأداء لعدم وجوب الأداء وأن القضاء لا يتوقف على وجوب الأداء بل يكفي في وجوبه تحقق سبب وجوب الأداء ولا وجود لنفس وجوب لا غير ليدعي ثبوته في حق النائم والناسي والمسافر فلا يتم نفي اطراد الحد بالصلاة والصوم المذكورين ليس على اصطلاح الحنفية "أما على" اصطلاح "الحنفية فالوجوب ينفك عن وجوب الأداء وهو" أي وجوب الأداء في هذه الحالات هو "الساقط" لا الوجوب فلا يتجه القول بصدق الحد على الصلاة والصوم المذكورين دون المحدود ليتفرع عليه نفي اطراده فليتأمل.
ثم هذا "تقسيم" للواجب باعتبار عدم تقيده بوقت محدود يفوت بفواته وتقيده به فنقول: "الواجب" قسمان:(3/309)
أحدهما واجب "مطلق" وهو الذي "لم يقيد طلب إيقاعه بوقت" محدود "من العمر" بحيث لا يجوز قبله ويفوت بفواته وإن كان واقعا في وقت لا محالة "كالنذور المطلقة والكفارات" وقضاء رمضان كما ذكر القاضي أبو زيد وصدر الإسلام وصاحب الميزان وهو الأظهر كما في التلويح لا أنها من المؤقت كما ذكر فخر الإسلام وشمس الأئمة السرخسي باعتبار أن الصوم لا يكون إلا بالنهار لأن كونه بالنهار داخل في مفهومه لا قيد له "والزكاة" كما هو قول الشيخ أبي بكر الرازي وسيذكر المصنف في أثناء المسألة الثالثة أنه المختار عندهم وذكره ابن شجاع من أصحابنا كما نقله في البدائع وغيرها لكن قال المصنف في فتح القدير: يجب حمله على أن المراد بالنظر إلى دليل الافتراض أي دليل الافتراض لا يوجب الفورية وهو لا ينفي وجود دليل الإيجاب والوجه المختار أن الأمر بالصرف إلى الفقير معه قرينة الفور وهي أنه لدفع حاجته وهي معجلة فمتى لم يجب على الفور لم يحصل المقصود من الإيجاب على وجه التمام فلزم بالتأخير من غير ضرورة الإثم كما صرح به الحاكم الشهيد والكرخي وهو عين ما ذكر الفقيه أبو جعفر عن أبي حنيفة أنه يكره أن يؤخرها من غير عذر فإن كراهة التحريم وهي المحمل عند إطلاق اسمها إذا تعلقت بترك شيء كان ذلك الشيء واجبا لأنهما في رتبة واحدة وعنهما ما يفيد ذلك أيضا وبه قالت الأئمة(3/310)
ص -150-…الثلاثة "والعشر والخراج وأدرج الحنفية صدقة الفطر" في هذا القسم أيضا "نظرا إلى أن وجوبها طهرة للصائم" عن اللغو والرفث كما تقدم في حديث ابن عباس فلا تتقيد بوقت "والظاهر تقيدها بيومه" أي يوم الفطر "من" قوله صلى الله عليه وسلم "اغنوهم إلى آخره" أي عن المسألة في مثل هذا اليوم كما هو لفظ الأصل وهو الواقع في كتب مشايخنا أو عن الطواف في هذا اليوم كما في علوم الحديث للحاكم "فبعده" أي فإخراجها فيما بعد يوم الفطر "قضاء ووجوبه" أي المطلق "على التراخي أي جواز التأخير" عن الوقت الذي يلي وقت ورود الأمر لا وجوب تأخيره عنه "ما لم يغلب على الظن فواته" إن لم يفعله والحاصل أنه مطالب بإتيانه به في مدة عمره بشرط أن لا يخليها منه "عند جماهير الفرق" من الحنفية والشافعية والمتكلمين "خلافا للكرخي وبعض الشافعية" والمالكية والحنابلة كما تقدم فقالوا: وجوبه على الفور "ومبناه" أي هذا الخلاف "أن الأمر للفور أو لا" وتقدم الكلام فيه مستوفى ثمة.(3/311)
ثانيهما: واجب مقيد كما قال "ومقيد به" أي بوقت محدود "يفوت" الواجب "به" أي بفوات الوقت "وهو" أي الوقت المقيد به الواجب "بالاستقراء" أقسام "أربعة": القسم "الأول أن يفضل الوقت عن الأداء ويسمى عند الحنفية ظرفا اصطلاحا" موافقا للغة لأنه لغة ما يحل به الشيء والأداء يحل فيه نعم تخصيصه به مجرد اصطلاح "وموسعا عند الشافعية وبه" أي بالموسع "سماه في الكشف الصغير" أي كشف الأسرار شرح المنار لمؤلفه ولم أقف عليه بل وقفت عليه في الكشف الكبير من كلام الغزالي فيما يظهر وسأذكر سياقه فيما سيأتي إن شاء الله تعالى "كوقت الصلاة" المكتوبة لها فإنه "سبب محض علامة على الوجوب" أي وجوبها فيه "والنعم" المتتابعة على العباد فيه هي "العلة" المثيرة للوجوب فيه "بالحقيقة" لأنها صالحة لوجوب الشكر شرعا وعقلا بخلاف نفس الوقت فإنه لا مناسبة بينه وبينها وإنما جعل سببا مجازا لأنه محل حدوث النعم فأقيم مقامها تيسيرا "وشرط صحة متعلقه" أي الوجوب "من حيث هو كذلك" أي متعلقه وهو المؤدى "وما قيل" أي وما قاله الجم الغفير من أن وقت الصلاة "ظرفيته للمؤدى وهو" أي المؤدى "الفعل وشرطيته للأداء وهو" أي الأداء "غيره" أي الفعل "غلط لأن الفعل الذي هو المفعول في الوقت" كالهيئة الحاصلة من الأركان المخصوصة الواقعة في الوقت المسماة بالصلاة "هو المراد بالأداء لا أداء الفعل الذي هو فعل الفعل" وهو إخراج الفعل من العدم إلى الوجود "لأنه" أي فعل الفعل أمر "اعتباري لا وجود له وفيه" أي هذا القسم "مسألة السبب" للصلاة المكتوبة بالمعنى الذي ذكرنا "الجزء الأول من الوقت عينا للسبق والصلاحية بلا مانع وعامة الحنفية" السبب "هو" أي الجزء الأول من الوقت إذا اتصل به الأداء "فإن لم يتصل به الأداء انتقلت" السببية منه "كذلك" أي كما انتقلت من الأول "إلى ما" أي الجزء الذي بعده بشرط أنه "يتصل به" الأداء "وإلا" لو لم يتصل به انتقل منه إلى ما يليه كذلك حتى الجزء(3/312)
"الأخير وعند زفر" ينتقل من جزء إلى جزء حتى إلى "ما يسع منه إلى آخر الوقت الأداء" هذا كله قبل خروجه "وبعد خروجه" السبب "جملته اتفاقا" قلت ويطرقه ما في التحقيق وذهب أبو اليسر إلى أن الجزء الأخير متعين للسببية من غير أن يضاف الوجوب إلى(3/313)
ص -151-…كل الوقت بعد مضيه بحال "فتؤدى عصر يومه في" الوقت "الناقص" وهو وقت تغير الشمس لأنه وجب ناقصا لأن نقصان السبب مؤثر في نقصان المسبب كالبيع الفاسد مؤثر في فساد الملك فيتأدى بصفة النقصان "لا أمسه" أي ولم يتأد عصر أمسه في هذا الوقت الناقص "لأنه" أي سبب عصر أمسه "ناقص من وجه" لاشتمال جملة الوقت على الوقت الناقص فالواجب به كذلك "فلا يتأدى بالناقص" أي في الوقت الناقص "من كل وجه" لأنه دونه ذكر في مختلفات القاضي الغي1 "واعترض بلزوم صحته" أي عصر أمسه "إذا وقع بعضه فيه" أي الوقت الناقص وبعضه في الوقت الكامل الذي هو أول الوقت لأن الوقت حينئذ كامل من كل وجه ناقص من وجه كالواجب لكنهم نصوا على عدم الصحة "فعدل" عن الجواب المذكور إلى الجواب بأن الوقت الكامل لما كان أكثر من الناقص تعين وجوب القضاء كاملا ميلا "إلى تغليب الصحيح" الأكثر على الفاسد الأقل "للغلبة" لأن للأكثر حكم الكل في بعض المواضع فكان اعتباره أولى "فورد من أسلم ونحوه" كمن بلغ ومن طهر من حائض "في" الوقت "الناقص" فلم يصل فيه حتى مضى "لا يصح منه" قضاء تلك الصلاة "في ناقص غيره" من الأوقات الناقصة "مع تعذر الإضافة" للسبب "في حقه إلى الكل" أي كل الوقت لعدم أهليتهم للوجوب في جميع أجزائه وحينئذ فينبغي أن يجوز لأن القضاء حينئذ يكون بالصفة التي وجب بها الأداء لتقرر تعين الجزء الأخير للسببية في حق من هذا حاله "فأجيب بأن لا رواية" في هذا عن المتقدمين "فيلتزم الصحة" فيه كما هو قول بعض المشايخ وعزاه في الفتاوى الظهيرية إلى فخر الإسلام أو عدمها كما هو قول شمس الأئمة السرخسي وغيره وهو الأوجه وهو مبني على ما عليه المحققون من أنه لا نقص في الوقت وإنما هو في الأداء كما أشار إليه بقوله "والصحيح أن النقصان لازم الأداء في ذلك الجزء" الأخير لما فيه من التشبه بعبدة الشمس في ذلك الوقت "لا الجزء" للوقت مطلقا مما عدا هذا الجزء منه لانتفاء هذا(3/314)
المعنى فيه "فتحمل" النقصان في الأداء فيه "لوجوب الأداء فيه" بسبب شرف الوقت وورود السنة به "فإذا لم يؤد" في ذلك الوقت والحال كما قال "ولا نقص" في الوقت أصلا "وجب الكامل" فلا يتأدى ناقصا مع عدم الجابر له "قالوا" أي الحنفية: "كونه" أي السبب الجزء "الأول يوجب كون الأداء بعده" أي الجزء الأول من الوقت إذا لم يتصل به الأداء "قضاء" كما إذا لم يتصل الأداء بالجزء الأخير من الوقت "و" كونه "الكل" أي كل الوقت "يوجبه" أي الأداء "بعده" أي الوقت ضرورة لزوم تقدم السبب على المسبب "وهما" أي كون الأداء بعد الجزء الأول من الوقت في الوقت قضاء وإيجاب الفعل بعد الوقت أداء "منتفيان" أما الأول فلأنه لا وجه للقول بالتفويت ما بقي الوقت وأما الثاني فبالإجماع "قلنا": نختار الأول ثم "الملازمة ممنوعة وإنما يلزم" كون الأداء بعده قضاء "لو لم يكن" الجزء الأول "سببا للوجوب الموسع بمعنى أنه" أي كونه "علامة على تعلق وجوب الفعل مخيرا في أجزاء زمان مقدر يقع أداء في كل منها" أي الأجزاء
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الغيي هكذا في الأصول بمعجمة ثم مثناة ولم نقف على صحة هذه النسبة. فحرر كتبه مصححه.(3/315)
ص -152-…"كالتخيير في المفعول من خصال الكفارة فجميعه" أي الوقت "وقت الأداء والسبب الجزء السابق" وهذا حكاه غير واحد عن الثلجي وعامة المتكلمين من أصحاب الحديث ونص السرخسي على أنه الأصح وهو كذلك كما ستعلم فلا جرم أن اختاره المصنف "ولا تنعكس الفروع" قال المصنف: يعني أنا وإن قلنا السبب هو الجزء الأول عينا لا تنعكس الفروع المذهبية بل يستمر قولنا إن من أسلم أو بلغ إلخ في الوقت الذي يلزم الأداء فيه نقصان المؤدى لا يصح أداء عصره في مثله من يوم غيره لأن ما يجب دائما كامل إذ لا نقص في الوقت كما حقق فلا يتأدى بما ثبت فيه نقص إلا عصر يومه كما قلنا "وما نقل عن بعض الشافعية أنه" أي المفعول الذي هو الصلاة "قضاء بعده" أي بعد أول الوقت وإن كان في الوقت وفي الكشف الكبير وهو قول بعض أصحابنا العراقيين "و" عن "بعض الحنفية أنه" أي السبب الجزء "الأخير ففيما قبله" أي فالفعل قبل الأخير "نفل يسقط به الفرض ليس" كل منهما "معروفا عندهم" أي عند أهل ذلك المذهب وقطع الشيخ سراج الدين الهندي بأن المعزو إلى بعض الحنفية ليس صحيحا عنهم قلت: ويعكره ما في أصول الفقه للشيخ أبي بكر الرازي بعد حكاية ما عن الثلجي وقال غيره من أصحابنا: إن الوجوب في مثله يتعلق بآخر الوقت فإن أول الوقت لم يوجب عليه شيئا ثم اختلفوا فقال منهم قائلون: إن ما فعله في أول الوقت نفل يمنع لزوم الفرض في آخره وقالت الفرقة الأخرى من أصحابنا: ما فعله في أول الوقت مراعى فإن لحق آخره وهو من أهل الخطاب بها كان ما أداه فرضا وإن لم يكن من أهل الخطاب بها كان المفعول في أول الوقت نفلا ا هـ مختصرا.(3/316)
ونص في الكشفين على أن هذين قولان لمشايخنا العراقيين وقد ذكر المصنف هذا عن الكرخي موافقة لابن الحاجب وصاحب البديع فقال "وإنما عن الكرخي إذا لم يبق بصفة التكليف بعده" أي بعد أول الوقت "بأن يموت أو يجن كان" ذلك المفعول "نفلاً" وفي الميزان عن الكرخي ثلاث روايات: إحداها هذا والثانية ما قبله قال: وهذه الرواية مهجورة والثالثة وهي رواية الجصاص عنه أن الوقت كله وقت الفرض وعليه أداؤه في وقت مطلق من جميع الوقت وهو مخير في الأداء وإنما يتعين الوجوب بالأداء أو بتضييق الوقت فإن أدى في أوله يكون واجبا وإن أخر لا يأثم لأنه لم يجب قبل التعيين وإن لم يؤد حتى لم يبق من الوقت إلا بقدر ما يؤدى فيه يتعين الوجوب حتى يأثم بالتأخير عنه ثم قال: وهذه الرواية هي المعتمد عليها "والكل" من هذه الأقوال قول "بلا موجب" وتشبث كل ممن يعلقه بأول الوقت لا غير بأن الواجب الموقت لا ينتظر لوجوبه بعد وجود شرائطه سوى دخول الوقت فعلم أنه متعلق به كما في سائر الأحكام مع أسبابها وإذا ثبت الوجوب بأول الوقت لا يتعلق بما بعده لامتناع التوسع في الوجوب للمنافاة بينهما فإن الواجب ما لا يسع تركه ويعاقب عليه والتوسع يجوز تركه ولا يعاقب عليه وممن يعلقه بآخر الوقت بأنه لما جاز التأخير إلى التضيق وامتنع التوسع كان الوجوب متعلقا بآخره وإن ما قبله لا تعلق له بالإيجاب وبما اتفق عليه أصحابنا من أن المرأة إذا حاضت في آخر الوقت لم يكن عليها قضاء(3/317)
ص -153-…تلك الصلاة إذا لم تكن صلتها وأن من سافر في آخر الوقت يقصر إذا لم يكن صلاها والفقهاء من أنها لو طهرت في آخر الوقت لزمتها وأن المسافر إذا أقام في آخره قبل أن يصلي يتمها ثم المؤدى إما أن يكون نفلا كما قال البعض لأنه يتمكن من الترك في أوله لا إلى بدل وأثم وهذا حد النفل إلا أن بأدائه يحصل المطلوب وهو إظهار فضل الوقت فيمنع لزومه الفرض كمحدث توضأ قبل الوقت يقع نفلا ومع هذا يمنع لزوم فرض الوقت بعد دخوله وإما أن يكون موقوفا كما قال البعض كالزكاة المعجلة قبل الحول للمصدق كشاة من أربعين شاة فإنه إن تم الحول وعنده تسع وثلاثون أجزأه وإن كان أقل كان له أن يأخذها من يد المصدق إن كانت قائمة تشبث ساقط فإن النصوص كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الاسراء: 78] وقول جبريل عليه السلام في حديث الإمامة: "يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك والوقت ما بين هذين الوقتين" رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح الإسناد وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن للصلاة أولا وآخرا أي لوقتها وإن أول وقت الظهر حين تزول الشمس وآخر وقتها حين يدخل العصر" الحديث رواه الترمذي يتناول جميع أجزاء الوقت وليس المراد تطبيق الصلاة على أوله وآخره ولا فعلها في كل جزء بالإجماع فلم يبق إلا أنه أريد أن كل جزء منه صالح للأداء والمكلف مخير فيه فثبت التوسع شرعا ضرورة لامتناع قسم آخر وليس هو مع الوجوب بممتنع عقلا فإن قول السيد لعبده: خط هذا الثوب في هذا اليوم إما في أوله أو في وسطه أو آخره صحيح عقلا ولا يخلو إما أن يقال ما أوجب شيئا أو أوجب مضيقا وهما محالان فلم يبق إلا أن يقال أوجب موسعا. ثم الإجماع على وجوبها على من بلغ أو أسلم أو طهرت في وسط الوقت أو آخره الباقي منه ما يسعها ولو كان الوجوب معلقا بأوله لما وجبت عليهم بعد فوات أوله كما لو فات جميع الوقت(3/318)
في هذه الأحوال وعلى أن الواجب إنما يتأدى بنية الفرض لا بنية النفل ولا بمطلق النية ولو كان نفلا كما زعم بعضهم لتأدى بنية النفل أو موقوفا كما زعم آخرون لتأدى بمطلق النية ولاستوت فيه نية الفرض والنفل وفي الكشف الكبير وقولهم وجد في المؤدى أول الوقت حد النفل لأنه لا عقاب على تركه فاسد لأنا لا نسلم أن ذلك ترك بل هو تأخير بإذن الشرع وذكر الغزالي أن الأقسام في الفعل ثلاثة: فعل يعاقب على تركه مطلقا وهو الواجب وفعل لا يعاقب على تركه مطلقا وهو الندب وفعل يعاقب على تركه بالإضافة إلى مجموع الوقت لكن لا يعاقب بالإضافة إلى بعض أجزاء الوقت وهذا قسم ثالث مفتقر إلى عبارة ثالثة وحقيقته لا تعدو الندب والوجوب فأولى الألقاب به الواجب الموسع وقد وجدنا الشرع يسمي هذا القسم واجبا بدليل انعقاد الإجماع على نية الفرض في ابتداء وقت الصلاة وعلى أنه يثاب على فعله ثواب الفرض لا ثواب الندب فإذن الأقسام الثلاثة لا ينكرها العقل، والنزاع يرجع إلى اللفظ واللفظ الذي ذكرناه أولى ا هـ وهذا السياق الذي تقدم الوعد به "وإنما يلزم" كونه قضاء بعد الجزء الأول في الوقت "لو كان" الجزء "الأول سبب" الوجوب "المضيق" وليس كذلك "وقولهم" أي الحنفية(3/319)
ص -154-…"تتقرر السببية على ما" أي الجزء الذي "يليه الشروع" في الواجب "فيه" أي في قولهم "ما سنذكر" في المسألة التي تلي المسألة التي تلي هذه وننبهك عليه إن شاء الله تعالى.
مسألة
"الواجب بالسبب الفعل عينا مخيرا" في أجزاء زمانه المحدود له "كما قلنا" آنفا في السابقة "والقاضي أبو بكر الواجب في كل جزء" من أجزاء الوقت ما لم يتضيق "أحد الأمرين منه" أي الفعل "ومن العزم عليه" أي الفعل "فيما بعده" أي ذلك الجزء الخالي هو وما قبله من الفعل فإذا لم يبق منه إلا ما يسع الفعل تعين الفعل "فإن لم يفعل ولم يعزم" على الفعل حتى مضى الوقت "عصى وعند زفر عصى بالتأخير عن قدر ما يسع" الأداء من آخر الوقت "ودفع" قول القاضي "بأن المصلي في الجزء" الذي ليس بالأخير من آخر الوقت "ممتثل لكونه مصليا لا" لكونه "آتيا بأحد الأمرين" الفعل أو العزم مبهما ولو كان هنا تخيير بين الصلاة والعزم لكان الامتثال بها من حيث إنها أحد الأمرين ومشتملة على المفهوم المطلق كما يعلم في تحقيق القول بالتخيير "وله" أي للقاضي "دفعه" أي هذا الدفع "بأن لا منافاة" بين كونه مصليا وبين كونه آتيا بأحد الأمرين مبهما لكونه أحد جزأيه "فليكن" ممتثلا "لكون الصلاة أحدهما" أي الأمرين مبهما "ودعوى التعين" أي بأن الواجب واحد معين منهما "محل النزاع إنما ذلك" أي وجوب أحدهما بعينه "عند التضيق" في الوقت بحيث لم يبق منه إلا ما يسعها وليس الكلام فيه "وفي البديع" في جواب قول القاضي وبأنه "لو كان العزم بدلا" عن الصلاة وقد أتى به "سقط به المبدل" وهو الصلاة "كسائر الإبدال" كالجمعة للظهر وليس كذلك "والجواب" عن هذا "منع الملازمة" أي لا نسلم سقوطها به لأنا لا نعني أنه بدل عنها مطلقا "بل" نعني أنه بدل عن إيقاعها فيما عدا الجزء الأخير منه وحينئذ "اللازم سقوط وجوبها في ذلك الوقت والبدلية ليست إلا في هذا القدر" أي في سقوط وجوبها في ذلك الوقت بالعزم على الفعل في ثاني(3/320)
الحال قيل وأيضا هو لم يجعل العزم وحده بدلا بل العزم مع الفعل في آخره فتحقق العزم فيما عدا الجزء الأخير مع ترك الفعل فيه لا يقتضي سقوطها لعدم تحقق البدل بكماله "بل الجواب" عن قول القاضي "أن الكلام في الواجب بالوقت ولا تعلق لوجوب العزم به" أي بالوقت "بل وجوب العزم على فعل كل واجب" موسعا كان أو مضيقا إجمالا عند الالتفات إليه إجمالا وتفصيلا عند تذكره بخصوصه كالصلاة حكم "من أحكام الإيمان" يثبت مع ثبوت الإيمان سواء دخل وقت الواجب أو لا فهو واجب مستمر قبل وجوبه ومعه بحسب الالتفات إليه ليتحقق التصديق الذي هو الإذعان والقبول غير مختص بالصلاة ومقيدا كون العزم بدلا عن الفعل "هذا ولا يبعد أن مذهب القاضي أن الواجب بأول الوقت الصلاة أو العزم على فعلها" أي الصلاة "بعده" أي أول الوقت "فيه" أي الوقت "كما هو المنقول عن المتكلمين" إذ في برهان إمام الحرمين والذي أراه أنهم لا يوجبون تجديد العزم في الجزء الثاني بل يحكمون بأن العزم الأول ينسحب على جميع الأزمنة المستقبلة كانسحاب النية على العبادة الطويلة مع عزوبها "لا أن كل جزء يلزم فيه الفعل أو العزم المستلزم لاستصحاب العزم من أول(3/321)
ص -155-…الوقت إلى آخره لأنه بعيد" لأن أحدا لا يقول بأن العزم في الجزء الأخير كاف وقد ذكر غير واحد ما أسلفنا من أن هذا التخيير عنده إنما هو في غير الجزء الأخير أما في الجزء الأخير فيتعين الفعل قطعا والله سبحانه أعلم.
مسألة
"تثبت السببية لوجوب الأداء" في الواجب البدني "بأول الوقت موسعا كما ذكرنا عند الشافعية بخلاف المالي فيثبت بالنصاب" المملوك له "والرأس" الذي يمونه ويلي عليه على قول الحنفية "أو الفطر" أي غروب شمس آخر يوم من رمضان على الصحيح عند الشافعية "والدين" المؤجل إلى وقت معين "أصل الوجوب" للزكاة وصدقة الفطر وتفريغ الذمة من الدين "وتأخر وجوب الدين" إلى تمام الحول في الزكاة وطلوع فجر أول يوم من شوال في صدقة الفطر وحلول الأجل في الدين "بدليل السقوط" لهذه الأشياء عن المكلف "بالتعجيل" لها "وهو" أي سقوطها "فرع سبق الوجوب" لها "و" فرع "تأخر وجوب الأداء عند الحنفية" أي جمهورهم "كذلك" أي قائلون بانفصال الوجوب عن وجوب الأداء "في البدني أيضا" كما في المالي "فثبت بالأول" من إجزاء الوقت "أصل الوجوب فيعتبر حال المكلف في" الجزء "الأخير" من الوقت "من الحيض والبلوغ والسفر وأضدادها" أي الطهارة والصبا والإقامة "فلو كانت طاهرة أول الوقت فلم تصل حتى حاضت آخره لا قضاء" عليها سواء كان الباقي ما يسع الصلاة أو تحريمتها فقط وقال زفر إن بقي ما يسعها لا قضاء وإلا فعليها القضاء وقال الشافعي إن أدرك من عرض له إحدى هذه العوارض قبل عروضها قدر الفرض أخف ما يمكنه فعله وجب عليه وإلا، فلا "وفي قلبه" أي إذا كانت حائضا أول الوقت ثم طهرت آخره "قلبه" أي القضاء ولو كان الباقي من الوقت مقدار ما يسع التحريمة عند علمائنا الثلاثة إذا كان حيضها عشرة أيام فإن كان أقل والباقي قدر الغسل مع مقدماته كالاستقاء وخلع الثوب والتستر عن الأعين والتحريمة فعليها القضاء وإلا فلا وفي شرح للبزدوي وما ذكروا أن المراد به الغسل(3/322)
المسنون أو الفرض والظاهر الفرض لأنه يثبت به رجحان جانب الطهارة وقال زفر لا يثبت الوجوب ما لم يدرك ما يسع جميع الواجب وعلى هذا الخلاف إذا زال الكفر والجنون وقد بقي من الوقت قدر التحريمة يجب عند الثلاثة ولا يجب عند زفر وقال الشافعي يجب إذا زالت هذه العوارض وقد بقي من الوقت قدر تكبيرة والأظهر وجوب الظهر بإدراك تكبيرة العصر، والمغرب بإدراك تكبيرة العشاء ولا يشترط إدراك زمن الطهارة، ويشترط امتداد السلامة من الموانع زمن إمكان الطهارة والصلاة.
"ولا ينكرون" أي الحنفية "إمكان ادعاء الشافعية لكن ادعوه" أي الحنفية إمكانه "غير واقع بدليل وجوب القضاء على نائم كل الوقت وهو" أي وجوب القضاء عليه "فرع وجود الوجوب" عليه حالة النوم وإلا لم يجب عليه القضاء، كما لا يجب بالإجماع على من حدثت له أهلية بعد مضي الوقت بإسلام أو بلوغ وأورد وجوب القضاء عليه ابتداء عبادة تلزمه بعد(3/323)
ص -156-…حدوث أهلية الخطاب بخطاب مبتدأ كما ذهب إليه الشيخ أبو المعين وهو ما روى النسائي والترمذي وصححه عنه صلى الله عليه وسلم: "فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها" وأجيب بالمنع لأن شرائط القضاء فيه كالنية وغيرها ولو كان ابتداء فرض لما روعيت ودفع بأن عند الخصم لا فرق بين الأداء والقضاء في حق النية لا في الصلاة ولا في الصوم بل يحتاج أن ينوي ما عليه عند عدم العذر ولولا العذر لوجب في الوقت وبهذا لا يتبين أنهما وجبا على المكلف في حالة سقوط أدائهما عنه وستقف في كلام المصنف على ما يؤخذ منه دفعه وننبهك عليه إن شاء الله تعالى.
"ولا اعتبار لقول من جعله" أي القضاء المذكور "أداء منهم" أي الحنفية كما هو ظاهر السياق ولعله يريد فخر الإسلام حيث قال وهو أي انفكاك وجوب الأداء وتراخيه عن نفس الوجوب كالنائم والمغمى عليه إذا مر عليهما وقت جميع الصلاة وجنب الأصل وتراخي وجوب الأداء والخطاب ومن ثمة قال الشيخ أكمل الدين في شرحه عبارة الشيخ هنا تدل على أن ما يأتي به النائم والمغمى عليه بعد اليقظة والانتباه أداء لا قضاء، وقال وهو المناسب للقواعد أما أولا فلأن الأداء تسليم نفس الواجب بالأمر وما وجب عليهما بالأمر هو ما يأتيان به بعد خروج الوقت وأما ثانيا فلأن القضاء تسليم مثل الواجب بالأمر والمثل إنما يتحقق إذا كان المكلف مخاطبا بالأصلي وقد فاته فوجب عليه مثله وهذا ليس كذلك لعدم أهليتها لفهم الخطاب ا هـ وهو موافق لما ذكرنا آنفا عن أبي المعين فيندفع بما يندفع به والأشبه كما في شرح الشيخ قوام الدين الأتقاني استعارة معنى الأداء للقضاء لوجود معنى التسليم فيهما لانتفاء حقيقة الأداء بعد انقضاء الوقت إذ هي تسليم الواجب في وقته أو أنه أراد به مجرد التسليم فلا يخالف في المعنى كونه قضاء كما أطلقه القوم.(3/324)
"والاتفاق على انتفاء وجوب الأداء عليه" أي النائم المذكور كما في الكشف وغيره لكن فيه أيضا الأداء نوعان نوع يكون نفس الفعل فيه مطلوبا حتى يأثم بتركه ولا بد فيه من استطاعة سلامة الأسباب والآلات ونوع لا يكون نفس الفعل فيه مطلوبا بل المطلوب منه ثبوت خلفه وهو القضاء حتى لا يأثم بترك الفعل ويكفي فيه تصور ثبوت الاستطاعة ففي مسألة النائم وجوب الأداء بالمعنى الأول غير موجود لفوات استطاعة سلامة الآلات وبالمعنى الثاني موجود لتصور حدوثها بالانتباه فوجوب القضاء بناء على هذا وعدم الإثم بناء على انتقاء ذلك ثم ذكر عن فخر الإسلام في شرح المبسوط ما يوافق هذا ولكن على هذا كما قال الشيخ قوام الدين الكاكي للخصم أن يمنع انفصال وجوب الأداء عن نفس الوجوب وقيل القضاء مبني على نفس الوجوب دون وجوب الأداء بمعنى أن الوجوب إذ ثبت في الذمة فإما أن يكون مفضيا إلى وجوب الأداء أو وجوب القضاء فإن أمكن إيجاب الأداء وجب القول به وإلا وجب الحكم بوجوب القضاء وليس يشترط لوجوب القضاء أن يكون وجوب الأداء ثابتا أولا ثم أنه يجب القضاء لفواته بل الشرط أن يصلح السبب(3/325)
ص -157-…الموجب لإفضائه إلى وجوب الأداء في نفس الأمر فإذا امتنع وجوب الأداء لمانع ظهر وجوب القضاء فهذا هو معنى الخلفية والسبب الموجب وهو الوقت يصلح للإفضاء إلى وجوب الأداء في نفس الأمر كما في حق المستيقظ والمفيق فيصلح أن يكون مفضيا إلى القضاء في حق النائم والمغمى عليه قال الكاكي فعلى هذا الوجه لا يرد المنع المذكور ولكن يرد بوجه آخر وهو أن يقول لا نسلم أن وجوب القضاء عليهما بهذا الطريق ا هـ.
هذا وقد عللوا عدم وجوب الأداء على النائم والمغمى عليه الوقت كله بعدم الخطاب ; لأن خطاب من لا يفهم لغو وفي التلويح ولقائل أن يمنع عدم الخطاب وإنما يلزم اللغو أن لو كان مخاطبا بأن يفعل في حالة النوم مثلا وليس كذلك بل هو مخاطب بأن يفعل بعد الانتباه والمريض مخاطب بأن يفعل في الوقت أو في أيام أخر كما في الواجب المخير والعجب أنهم جوزوا خطاب المعدوم بناء على أن المطلوب صدور الفعل حالة الوجود حتى قال شمس الأئمة من شرط وجوب الأداء القدرة التي بها يتمكن المأمور من الأداء إلا أنه لا يشترط وجودها عند الأمر بل عند الأداء فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان مبعوثا إلى الناس كافة وصح أمره في حق من وجد بعده ويلزمهم الأداء بشرط أن يبلغهم ويتمكنوا من الأداء وقد يصرح بذلك، كالمريض يؤمر بقتال المشركين إذا برأ قال الله تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء: 103] أي إذا أمنتم من الخوف فصلوا بلا إيماء ا هـ وأجيب بأنه يمكن أن يقال لا يجوز أن يكون النائم مخاطبا بأن يفعل بعد الانتباه، والمريض مخاطبا بأن يفعل في الوقت في أيام أخر، وإلا يلزم أن يكون الصبي أيضا مكلفا، ومخاطبا بأن يفعله بعد البلوغ فلم يبق فرق بين الصبي والبالغ والحائض وغيرهما واللازم باطل فالملزوم مثله قال العلامة الشيرازي في شرح مختصر ابن الحاجب: واعلم أنه لا نزاع بين الفريقين في أن حصول الشرط الشرعي لأداء الواجب كالتمكن من(3/326)
الأداء شرط في التكليف بأدائه وليس شرطا في التكليف بوجوبه ولهذا لم يكن المكلف النائم في وقت الصلاة مكلفا بأداء الصلاة مع وجوبها عليه بدخول الوقت وإلا لم يجب عليه القضاء إذا انتبه بعد مضي الوقت كما لو كان النائم غير مكلف بأن كان صبيا - فانتبه - بالغا لانتفاء شرط الوجوب في حقه وهو التمكن من فهم الخطاب ثم إن الخطاب الذي نحن بصدده إنما هو الخطاب بتنجيز التكليف والخطاب بالمعدوم بمعنى التعلق المعنوي وهو كون المعدوم مأمورا ومكلفا على تقدير وجوده ولا فرق في هذا الخطاب بين الصبي والبالغ والمريض والصحيح والنائم والمستيقظ بخلاف الأول وبهذا يندفع التعجب ا هـ لكن كون الصبي إذا استيقظ بعد خروج الوقت بالغا لا قضاء عليه قول بعض المشايخ، وفي الخلاصة والمختار أن عليه القضاء ونقله عن أبي حنيفة، والله سبحانه وتعالى أعلم. "وكذا صحة صوم المسافر عن الفرض فرع الوجوب عليه" أي على المسافر لعدم جواز التعجيل قبل الوجوب "وعدم إثمه" أي المسافر "لو مات بلا أداء في سفره" دليل عدم وجوب الأداء عليه وكأنه حذفه لإرشاد ما قبله إليه "وصرحوا" أي الحنفية "بأن لا طلب في أصل الوجوب بل هو" أي أصل الوجوب "مجرد اعتبار من الشارع أن في(3/327)
ص -158-…ذمته" أي المكلف "جبرا لفعل كالشغل بالدين وهو" أي الدين "فعل عند أبي حنيفة" وهو تمليك المال أو تسليمه، ألا يرى أنه يوصف بالوجوب والوجوب صفة الأفعال لا الأعيان وأورد أن قول القائل أوفى فلان الدين صحيح ولو كان الدين فعلا لكان المعنى أوفى الإيفاء وإن المال يوصف بالوجوب أيضا كما في على فلان ألف درهم واجبة من ثمن مبيع وأجيب عن الأول بأن الإيفاء هو الأداء، والفعل يوصف به وبالقضاء وإن كان كل منهما عين الفعل فيقال أدى الصلاة وقضاها أي فعل هذا الفعل وأتى به فكذا هنا معنى أوفى الدين أتى بهذا الفعل وهو تمليك المال أو تسليمه وعن الثاني بأن المال يوصف به مجازا باعتبار أنه محل الوجوب كالموهوب يسمى هبة، ألا يرى أن المال المجرد عن الفعل لا يصح وصفه بالوجوب فلا يقال جدار واجب كما يصح وصف الفعل المجرد عن المال كالصلاة فعلم أن الوجوب حقيقة من خصائص الفعل.(3/328)
"وقد يشكل المذهبان" أي مذهبا الحنفية والشافعية "بأن الفعل بلا طلب كيف يسقط الواجب وهو" أي الواجب إنما يكون واجبا "بالطلب، والسقوط" إنما يكون "بتقدمه" أي الطلب أيضا. "وقصد الامتثال" إنما يكون "بالعلم به" أي بالطلب وهو يقتضي سبق الوجوب "والشافعية إن أرادوه" أي أرادوا بنفس الوجوب ما أراد الحنفية "فكذلك" أي ورد عليهم ما ورد على الحنفية من أنه إسقاط قبل الطلب "وإن دخله طلب قلنا لا يعقل طلب فعل بلا أدائه وقضائه ; لأنه" أي الفعل "إما مطلق عن الوقت وهو" أي المطلق عنه "مطلوب الأداء في العمر أو مقيد به" أي الوقت "فهو مطلوب الأداء فيه" أي في وقته "مخيرا في الإجزاء وهو الموسع ثم" مطلوب الأداء فيه "مضيفا" عند ضيق الوقت "وقول الحنفية يتضيق" الوجوب "عند الشروع وتتقرر السببية للذي يليه" الشروع "يلزمه كون المسبب هو المعرف للسبب وهو" أي كون المسبب هو المعرف للسبب "عكس وضعه" أي المسبب "و" عكس "وضع العلامة" فإن السبب هو المعرف للمسبب والعلامة هي المعرفة لما هي علامة له "ومفوتا" والظاهر ومفوت "لمقصودها" أي العلامة وهي التعريف بما هي علامة له عطف على عكس "وبه" أي بكون المسبب هنا هو المعرف للسبب "يصير" هذا القول "أبعد من المذهب المرذول أن التكليف مع الفعل لقولهم" أي الحنفية "إن الطلب لم يسبقه" أي الفعل "إذ لا طلب في أصل الوجوب كما ذكرنا وهو" أي أصل الوجوب "السابق" على الفعل قال المصنف رحمه الله تعالى أي يلزم الحنفية أن التكليف بالفعل مع الشروع فيه وهو المذهب الذي تقدم تزييفه وبطلانه، ووجهه أنهم لما قالوا الثابت بأول الوقت أصل الوجوب وصرحوا بأنه لا طلب عنه لزم أن يكون ما يتضيق بآخر الوقت ليس ذاك بل وجوب الأداء والفرض أنه لم يسبق قبل ذلك طلب فيلزم كون المتعلق والمتضيق عند الشروع هو وجوب الأداء وهو ذلك المذهب بعينه وباستلزام عكس وضع العلامة والسبب صار أبعد منه وهذا هو الموعود به في مسألة السبب(3/329)
الجزء الأول عينا بقولنا فيه ما سنذكر "والوجه أن ما أمكن فيه اعتبار وجود الأداء بالسبب موسعا اعتبر كالدين المؤجل يثبت بالشغل" للذمة "وجوب الأداء موسعا أي مخيرا إلى(3/330)
ص -159-…الحلول أو الطلب بعده" أي الحلول "فيتضيق" وجوب الأداء حينئذ "وكالثوب المطار" أي الذي أطارته الريح "إلى إنسان يجب" أداؤه موسعا "إلى طلب مالكه" فيتضيق حينئذ "وما لا" يمكن فيه اعتبار وجوب الأداء بالسبب موسعا "كالزكاة عند الحنفية فإنه لو وجب الأداء بملك النصاب موسعا فإما إلى الحول فيتضيق وإما إلى آخر العمر والأول" أي وجوب الأداء بملك النصاب موسعا إلى الحول "فيتضيق منتف ; لأنه" أي وجوب الأداء "بعد الحول على التراخي على ما اختاروه" كما أسلفناه "وكذا الثاني" أي وجوب الأداء بملك النصاب موسعا إلى آخر العمر منتف "لأن حاصله واجب موسع من حين الملك إلى آخر العمر فيضيع معنى اشتراط الحلول نعم يتم" كون الزكاة واجبة الأداء بملك النصاب موسعا إلى الحول "على" القول "المضيق" للوجوب "بالحول والمصرف" ثم قوله وما لا مبتدأ خبره "فيجب أن يعتبر فيه" أي في هذا "إقامة السبب مقام الوجوب شرعا في حق التعجيل" قبل حقيقة وجوب الأداء لإذن الشارع في ذلك "فلو لم يعجل لا يتحقق هذا الاعتبار" وهو أن السبب أقيم مقام الوجوب شرعا في حق التعجيل "أو" يعتبر فيه "أنه بالمبادرة المأذون فيها شرعا إلى سد خلة أخيه" الفقير "دفع عنه" أي المعجل "الطلب أن يتعلق" الطلب "به شرعا" وإنما قلنا ذلك; لأنه "ألزم ذلك الدليل وكذا في مستغرق الوقت يوما" أقيم السبب مقام وجوب الأداء في حقه ليظهر أثره في ثبوت مصلحة القضاء ومن هذا يؤخذ الجواب عما ذكره الشيخ أبو المعين ثم الشيخ أكمل الدين فليتأمل. "ولو أراد الحنفية هذا" أي أنه أقيم السبب مقام الوجوب شرعا في هذه المواضع "لم يفتقروا إلى اعتبار شيء يسمى بالوجوب ولا طلب فيه ولا تكلف كلام زائد ولا يستقيم ما ذكروا إلا على ذلك".
"مسألة: الأداء فعل الواجب في وقته المقيد به شرعا"(3/331)
ثم أوضح الوقت المقيد به شرعا باتباعه بقوله "العمر وغيره" أي غير العمر ليشمل الواجب المطلق والمؤقت "وهو" أي فعل الواجب في وقته "تساهل" بالنسبة إلى المؤقت فإنه لا يشترط لكونه أداء وجود جميعه في الوقت بل ما أشار إليه بقوله "بل" الشرط "ابتداؤه" أي الفعل "في غير العمر كالتحريمة للحنفية" في غير صلاة الفجر فإن بإدراكها في الوقت يكون مدركا للصلاة أداء وإن كان ما سواها مفعولا خارجه على ما هو المشهور عندهم وهو مطلقا وجه للشافعية تبعا لما في الوقت "وركعة للشافعية" فإن بإدراكها في الوقت يكون مدركا للصلاة أداء وإن كان ما سواها مفعولا خارجه على ما هو أصح الأوجه عندهم كما ذكره النووي وغيره لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" متفق عليه. وإلا ففي المحيط الصلاة الواحدة يجوز أن يكون بعضها أداء وبعضها قضاء كمصلي العصر غربت الشمس عليه في خلال صلاته يتم الباقي قضاء لا أداء وسبقه إلى هذا الناطفي أيضا، وذكر أبو حامد من الشافعية أنه قول عامة الشافعية قيل وهو التحقيق اعتبارا لكل جزء بوفائه وعلى هذا فلا يكون في العبارة تساهل. "والإعادة فعل مثله" أي الواجب "فيه" أي في الوقت مرة أخرى "لخلل غير الفساد و" غير "عدم صحة الشروع" في نفس الواجب ففعل مثله شامل(3/332)
ص -160-…للقضاء والإعادة وفيه مخرج لفعل مثله بعده على ما عليه البعض وإلا فقول الميزان الإعادة في عرف الشرع إتيان مثل الفعل الأول على صفة الكمال بأن وجب على المكلف فعل موصوف بصفة الكمال فأداه على وجه النقصان وهو نقصان فاحش يجب عليه الإعادة وهي إتيان مثل الأول ذاتا مع صفة الكمال ا هـ يفيد أنه إذا فعل ثانيا في الوقت أو خارج الوقت يكون إعادة كما قال صاحب الكشف والباقي مخرج لما يفعل ثانيا لمفسد في الأول كترك ركن أو لعدم صحة شروع لفقد شرط مقدور من طهارة أو غيرها ; لأن لما فسد أو لم يصح الشروع فيه شرعا حكم العدم شرعا فيكون الاعتبار للثاني الجامع لموجب الاعتبار شرعا وهو أداء إن وقع في الوقت وقضاء إن وقع خارجه ولعله يريد بالخلل ما يؤثر نقصا في الصلاة يجب به سجود السهو كما يعطيه قوة كلام الميزان وحينئذ فهل تكون الإعادة واجبة فصرح غير واحد من شراح أصول فخر الإسلام بأنها ليست بواجبة وأن بالأول يخرج عن العهدة وإن كان على وجه الكراهة على الأصح وأن الفعل الثاني بمنزلة الجبر كالجبر بسجود السهو فلا يدخل في تقسيم الواجب إلى أداء وقضاء والأوجه الوجوب كما أشار إليه في الهداية وصرح به بعضهم كالشيخ حافظ الدين في شرح المنار وهو موافق لما عن السرخسي وأبي اليسر من ترك الاعتدال يلزمه الإعادة زاد أبو اليسر ويكون الفرض هو الثاني وعلى هذا يدخل في تقسيم الواجب وإنما الكلام في أنه لا يخرج عن أحدهما كما هو ظاهر الميزان أو عن الأداء كما صرح به القاضي عضد الدين. وذكر السبكي أنه مصطلح الأكثرين أو أنه قسم ثالث كما مشى عليه في الحاصل والمنهاج، ثم كما قال شيخنا المصنف لا إشكال في وجوب الإعادة إذ هو الحكم في كل صلاة أديت مع كراهة التحريم ويكون جابرا للأول ; لأن الفرض لا يتكرر وجعله الثاني يقتضي عدم سقوطه بالأول إذ هو لازم ترك الركن لا الواجب إلا أن يقال المراد أن ذلك امتنان من الله تعالى إذ يحتسب الكامل، وإن(3/333)
تأخر عن الفرض لما علم سبحانه أنه سيوقعه ا هـ. ومن هذا يظهر أن الإعادة قسم من الأداء أو القضاء أو غيرهما فإن قلنا الفرض هو الأول فهي غيرهما، وإن قلنا الثاني فهي أحدهما، ثم هذا كله على اصطلاح أصحابنا والمشهور عند الشافعية الذي جزم به الإمام الرازي وغيره ورجحه ابن الحاجب أنها فعل الشيء ثانيا في وقت الأداء لخلل في فعله أولا من فوات شرط أو ركن كما صرح به القاضي أبو بكر وغيره وعلى هذا الإخفاء في أن الحق أنها أداء وقيل لعذر أي لخلل في فعله أولا أو حصول فضيلة لم يكن في فعله أولا بناء على أن العذر أعم من الخلل وهو ما ينقطع به اللوم وعلى هذا قيل:
لعل به عذرا وأنت تلوم
فالصلاة المفعولة في وقت الأداء جماعة بعد فعلها على الانفراد من غير خلل إعادة على هذا لحصول فضيلة الجماعة دون الأول لانتفاء الخلل وعلى هذا فالإعادة أعم من الأداء.(3/334)
ص -161-…"والقضاء" تعريفه بناء "على أنه" واجب "بسببه" أي الأداء "فعله" أي الواجب "بعده" أي الوقت، ثم أشار إلى اعتراض على قول الحنفية القضاء يجب بسبب الأداء نفسه فالمقتضى هو نفس الواجب المقيد بالوقت إذا فعله بعد الوقت مع تعريفهم القضاء بأنه أداء مثل الواجب فقال "ففعل مثله" أي الواجب "بعده" أي الوقت "خارج" عن الأقسام الثلاثة الأداء والإعادة والقضاء ثم قال استطرادا "كفعل غير المقيد من السنن" بوقت "والمقيد" منها بوقت "كصلاة الكسوف" فإنها لا توصف بأحد هذه الأوصاف حقيقة عند بعضهم وإلا فقد نص القاضي أبو زيد في التقويم وفخر الإسلام في شرحه. على أن الأداء نوعان: واجب ونفل وتعريفه على هذا فعل ما طلب من العمل بعينه كما ذكر أبو زيد أو تسليم عين ما طلب شرعا كما ذكر شيخنا المصنف "ومن يحقق القضاء في غير الواجب" مثل سنة الفجر كما ذكر أصحابنا وغيرهم "يبدل الواجب بالعبادة" فيقول فعل العبادة بعد وقتها أو فعل مثل عين ما طلب شرعا كما أشار إليه شيخنا المصنف "فتسمية الحج" الصحيح "بعد" الحج "الفاسد قضاء" كما وقع في عبارة مشايخنا وغيرهم "مجاز"; لأنه في وقته وهو العمر فهو أداء على قول مشايخنا وإعادة على تعريفها المذكور للشافعية "وتضييقه" أي وقت الحج "بالشروع" فلا يجوز له الخروج منه وتأخيره إلى عام آخر كما ذكر الإسنوي وغيره "لا يوجبه" أي كونه قضاء بعد الإفساد لفوات وقت الإحرام به كما زعموا "كالصلاة في الوقت" ثانيا "بعد إفسادها والتزام بعض الشافعية" أي القاضي حسين والمتولي والروياني "أنها" أي الصلاة المذكورة "قضاء"; لأنه يتضيق عليه وقتها بدخوله ففات وقت إحرامه بها "بعيد إذ لا ينوي" القضاء بها اتفاقا ولو كانت قضاء لوجبت نيته. قلت وقول السبكي لا يلزم من كونها قضاء وجوب نية القضاء ; لأنا لا نشرط نية القضاء في القضاء ولا نية الأداء في الأداء عجب منه فإنه يعد أن هذا قول الأكثرين فمرادهم كما في الروضة الصحة(3/335)
لمن نوى جاهل الوقت لغيم أو نحوه أو ظانا خروج الوقت أو بقاءه، ثم تبين الأمر بخلاف ظنه، أما العالم بالحال فلا تنعقد صلاته قطعا نقله في شرح المهذب عن تصريحهم ومن ثمة قيل ; لأن نية القضاء مبطلة للمؤدي بعد الإفساد فلا يمكن نيته، ثم التضييق بالشروع بفعله لا بأمر الشرع والنظر في الأداء والقضاء إلى أمر الشرع "وبعضهم" أي الشافعية قال هي "إعادة" وهو متجه على تعريفها لهم كما تقدم. "واستبعاد قول القاضي" أبي بكر من ابن الحاجب وغيره "فيمن" أدرك وقت الفعل، ثم "أخر" الفعل "عن جزء" منه "مع ظن موته قبله" أي الفعل "حتى أثم" بالتأخير "اتفاقا" حيث قال القاضي "إنه" أي فعله بعد ذلك الوقت في وقته المقدر له شرعا أولا "قضاء" خلافا للجمهور في كونه أداء "إن أراد" به أنه يجب فيه "نية القضاء" بناء على أن ذلك الظن كما صار سببا لتعين ذلك الوقت جزءا صار سببا أيضا لخروج ما بعده عن كونه مقدرا أولا بالكلية ثابت وهو خبر استبعاد لم يذكره للعلم به وإنما كان كذلك ; لأنه لم يقل أحد بوجوب نية القضاء وخروج ما بعده عن كونه مقدرا له أولا في نفس الأمر فإن تعين ذلك الجزء إنما يظهر في حق العصيان ولا يلزم اعتباره في خروج ما بعده عن كونه وقتا عند ظهور فساد الظن المقتضي لتعينه "وإلا" لو لم يرد(3/336)
ص -162-…هذا "فلفظي"؛ لأن القاضي يوافق الجمهور في أنه فعل واقع في وقت كان مقدرا له شرعا أولا وهم يوافقونه في كونه واقعا خارج ما صار وقتا له بحسب ظنه فلا منازعة في المعنى "وتعريفه" أي القضاء "بفعل مثله" أي الواجب كما ذكر الحنفية "إنما يتجه على أنه" أي القضاء "بآخر" أي بسبب غير سبب الأداء. "واختلف فيه" أي القضاء "بمثل معقول" أي مدرك للعقل مماثلته للفائت كالصلاة للصلاة والصوم للصوم هل يجب بما يجب به الأداء أو بأمر آخر "فأكثر الأصوليين" منهم أصحابنا العراقيون وصاحب الميزان وعامة الشافعية والمعتزلة يجب "بأمر آخر والمختار للحنفية" كالقاضي أبي زيد وشمس الأئمة وفخر الإسلام ومتابعيهم يجب "به" أي بما يجب به الأداء وبه قال بعض الشافعية والحنابلة وعامة أهل الحديث، وإنما قيد المثل بالمعقول؛ لأنه بمثل غير معقول أي غير مدرك للعقل مماثلته للفائت لعجزه لا أن العقل ينفيه ويحكم بعدم مماثلته؛ لأن العقل حجة من حجج الله وهي لا تتناقض كالفدية للصوم لا يجب إلا بدليل آخر بالاتفاق "للأكثر القطع بعدم اقتضاء صم يوم الخميس صم الجمعة وإلا" لو اقتضاه "كانا" أي صوم يوم الخميس وصوم يوم الجمعة "سواء" في كونهما أداء بمنزلة صم إما يوم الجمعة وإما يوم الخميس فلا يعصي بالتأخير "والجواب مقتضاه أمران التزام الصوم وكونه" أي الصوم "فيه" أي يوم الخميس. "فإذا عجز عن الثاني" وهو كونه فيه الذي به كمال المأمور به "لفواته بقي اقتضاؤه الصوم لا في" خصوص "الجمعة ولا غيرها، وإنما يلزم ما ذكر" من المساواة "لو اقتضاه" أي صم يوم الخميس الصوم "في معين" غيره كيوم الجمعة وليس كذلك "نعم لو اقتضى فواته" أي الأداء "ظهور بطلان مصلحة الواجب ومفسدته" بالنصب عطف على ظهور وبالجر عطف على بطلان "سقط" الواجب بالكلية "للمعارض الراجح" وهو ظهور بطلان مصلحته ومفسدته "وهو" أي اقتضاء فواته ذلك "بعيد إذ عقلية حسن الصلاة ومصلحتها بعد الوقت كقبله" أي(3/337)
الوقت؛ لأن المقصود بها تعظيم الله تعالى ومخالفة الهوى وذلك لا يختلف باختلاف الأوقات. وإنما امتنع التقديم على الوقت لامتناع تقديم الحكم على السبب "وغاية تقييده" أي الواجب "به" أي بالوقت "لزيادة المصلحة فيه" أي في الوقت لشرفه "وقولهم" أي القائلين بأنه غير واجب بما وجب به الأداء "لو لم يكن" الوقت "قيدا فيه" أي في فعل الواجب "داخلا في المأمور به جاز تقديمه" أي المأمور به على الوقت المقيد به "مندفع بأن الكلام في الواجب ولا واجب قبل التعلق" بالوقت فصوم يوم الخميس غير واجب قبل تعلقه به فلا يتقدم عليه وقد اندرج في هذا دليل المختار "ثم قيل ثمرته" أي الخلاف "في الصيام المنذور المعين" إذا فات وقته "يجب قضاؤه على الثاني" أي القول بأنه يجب بما يجب به الأداء وسنذكر ما فيه "ولا" يجب "على الأول" أي القول بأنه يجب بأمر آخر لعدم ورود دليل مقصود فيه. قال صاحب الكشف والتحقيق: وهذا هو الذي يشير إليه كلام فخر الإسلام وصاحب المنتخب "وقيل القضاء" فيه "اتفاق" ذكره أبو اليسر "فلا ثمرة" لهذا الخلاف وفيه بحث فات في الكشف والتحقيق وغيرهما إلا أنه على القول الأول بسبب آخر مقصود غير النذر وهو التفويت; لأنه بمنزلة نص مقصود حتى كأنه إذا فوت(3/338)
ص -163-…فقد التزم المنذور ثانيا أو قضاء المنذور قصدا وعلى القول الثاني بالنذر فإن لم يكن الفوات عند الأولين وهو عدم الفعل لعذر كمرض أو جنون أو إغماء كالتفويت وهو عدم الفعل من غير عذر كما هو ظاهر التعليل فلا يجب القضاء على من فاته الأداء لعذر لعدم النص المقصود صريحا أو دلالة في حقه فلا يكون القضاء مطلقا اتفاقا وحينئذ يظهر ثمرة الاختلاف في بعض الأحكام، وفي التخريج، وإن كان الفوات عندهم كالتفويت كما ذكر شمس الأئمة ولعله الأشبه فلا يظهر ثمرة الاختلاف في الأحكام، وإنما يظهر في التخريج لا غير، والله سبحانه أعلم.
"ويطالبون" أي القائلون بأنه يجب بالأمر الجديد "بالأمر الجديد" في هذه الصورة والإتيان به فيها متعذر فيما يظهر، ثم هذا على ما في الميزان قال صاحب الكشف وهكذا في عامة نسخ أصول الفقه ونحوه ما في أصول فخر الإسلام واختلف المشايخ في القضاء أيجب بنص مقصود أم يجب بالسبب الذي يوجب الأداء فعليه أنهم يطالبون بالنص المقصود "ولو قيل" بدل بأمر جديد "بسبب" آخر أو بدليل آخر غير الأمر الذي به وجب الأداء كما هو عبارة السرخسي وأبي اليسر وهو أولى "شمل القياس فيمكن" أن يجيبوا بأن الدليل الآخر هو القياس "على الصلاة" المفروضة في الصلاة المنذورة فقد قدمنا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها" وعلى الصوم المفروض في الصوم المنذور فقد قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] اعتبارا لما هو واجب بإيجاب العبد بما هو واجب بإيجاب الله تعالى ابتداء. وأما ما قيل القياس مظهر لا مثبت فيكون بقاء وجوب المنذور ثابتا بالنص الوارد في بقاء الصوم والصلاة فيكون الوجوب في الكل بالسبب السابق ففيه تأمل فليتأمل.(3/339)
"ونوقض" المختار "بنذر اعتكاف رمضان إذا لم يعتكفه" أي رمضان حيث "يجب" في ظاهر الرواية قضاؤه "بصوم جديد ولم يوجبه" أي نذر اعتكافه صومه لوجوبه بدون النذر "فكان" القضاء "بغيره" أي غير ما هو موجب للأداء "ويبطل" النذر "كأبي يوسف والحسن" ابن زياد؛ لأنه لا يمكن إيجاب القضاء بلا صوم؛ لأنه لا اعتكاف إلا بالصوم، ولا إيجابه بالصوم؛ لأنه يزيد على ما التزمه "أجيب بأنه" أي نذر الاعتكاف "موجب" للصوم؛ لأنه شرط صحة الاعتكاف وشرط الشيء تابع له فيجب لوجوبه إلا أنه "امتنع" إيجابه له "في خصوص ذلك" أي إضافته إلى رمضان بعارض شرف الوقت وحصول المقصود بصوم الشهر؛ لأن الشرط من حيث هو شرط يعتبر وجوده تبعا لا قصدا "فعند عدمه" أي المانع وهو رمضان "ظهر أثره" أي نذر الاعتكاف في إيجاب الصوم كمتطهر نذر صلاة ركعتين فإنه يصليهما بتلك الطهارة وإذا انتقضت لزمته لأدائهما بذلك النذر لا بسبب آخر "ولزم أن لا يقضي في رمضان آخر ولا واجب" آخر؛ لأن الصوم، وإن كان شرطا لكنه مما يلزم بالنذر لكونه عبادة مقصودة في نفسه فإذا ظهر أثر النذر في إيجابه لا يتأدى بعد بواجب آخر كما لو نذره مطلقا أو مضافا إلى غير(3/340)
ص -164-…رمضان "سوى قضاء" الرمضان "الأول" فإنه يجوز فيه "للخلفية" أي لخلفية صوم الشهر المقضى عن صوم شهر رمضان إذ امتناع وجوب الصوم في هذا الاعتكاف كما جاز أن يكون لشرف الوقت وقد زال جاز أن يكون لاتصاله بصوم الشهر وهو باق لبقاء الخلف فيجوز لبقاء إحدى العلتين ونظر فيه صاحب الكشف وغيره بأن الاتصال بالقضاء غير الاتصال بالأداء لكونهما غيرين ولئن سلم أن الاتصال علة فهو باعتبار شرف الوقت وقد فات ومنع بأن العلة الاتصال بصوم الشهر مطلقا وهو موجود.
"تذنيب" لهذا البحث المتعلق بالأداء والقضاء يشتمل على أقسام لهما باعتبارات مختلفة:(3/341)
"قسم الحنفية الأداء معممين" التقسيم له "في المعاملات" كما في العبادات "إلى كامل" وهو المستجمع لجميع الأوصاف المشروعة "كالصلاة" المشروع فيها الجماعة مثل المكتوبة والعيد والوتر في رمضان والتراويح "بجماعة" وإلا فهي صفة قصور كالإصبع الزائد "وقاصر" وهو ما ليس بمستجمع لجميع الأوصاف المشروعة فيه "كالصلاة" المكتوبة إذا صلاها "منفردا" وكيف لا، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة"، وفي رواية "بخمس وعشرين ضعفا"، ولا منافاة فإن القليل لا ينفي الكثير أو أخبر أولا بالقليل، ثم أعلمه الله بزيادة الفضل. "وما" أي وأداء "في معنى القضاء كفعل اللاحق" وهو من فاته بعدما دخل مع الإمام بعض صلاة الإمام لنوم أو سبق حدث فما فاته من صلاة الإمام "بعد فراغ الإمام" فهو أداء باعتبار كونه في الوقت قضاء باعتبار فواته مع الإمام بفراغه إذ هو مثل ما انعقد له إحرام الإمام من المتابعة له والمشاركة معه لا عينه لعدم كونه خلف الإمام حقيقة إلا أنه لما كانت العزيمة في حقه الأداء مع الإمام مقيدا به وقد فاته ذلك تعذر جعل الشارع ذلك أداء في هذه الحالة كالأداء مع الإمام فصار كأنه خلف الإمام فصح اجتماعهما في فعل واحد مع تنافيهما لاختلاف الجهة، ثم لما كان أداء باعتبار الأصل قضاء باعتبار الوصف جعل أداء شبيها بالقضاء لا قضاء شبيها بالأداء "ولذا" أي كونه في معنى القضاء "لا يقرأ فيه ولا يسجد لسهوه ولا يتغير فرضه" من الثنائية إلى الرباعية لو كان مسافرا "بنية الإقامة" فيه في موضع صالح لها والوقت باق لأن القضاء لا يتغير بالمغير؛ لأنه مبني على الأصل وهو لم يتغير بها لانقضائه والخلف لا يفارق الأصل في الحكم فكذا ما في معنى القضاء خلافا لزفر في هذا. ثم هو كالمقتدي حكما والمقتدي لا يقرأ خلف الإمام ولا يسجد لسهو نفسه فكذا ما هو مثله حكما بخلاف فعله قبل فراغ الإمام فإنه إذا وجد المغير(3/342)
فيه والوقت باق يصير فرضه به أربعا لانتقاء شبه القضاء فيه وقبول صلاة الإمام للتغير بالمتغير فكذا التبع؛ لأنه لا يفارق الأصل في حكمه هذا كله في حق الله تعالى "وفي حقوق العباد رد عين المغصوب سالما" أي على الوجه الذي غصبه أداء كامل لكونه على الوجه الذي وجب "ورده مشغولا بجناية" في يده يستحق بها رقبته أو طرفه أو بدين باستهلاكه مال إنسان(3/343)
ص -165-…في يده أداء قاصر لكونه ردا لا على الوجه الذي وجب ولأصل الأداء لو هلك في يد المالك قبل الدفع أو البيع في الدين برئ الغاصب ولقصوره إذا دفع أو قتل بذلك السبب أو بيع في ذلك الدين رجع المالك على الغاصب بالقيمة كأن الرد لم يوجد "وتسليم عبد غيره المسمى مهرا بعد شرائه" لزوجته التي سماه لها أداء يشبه القضاء فكونه أداء؛ لأنه عين ما وجب عليه بالتسمية "فتجبر" الزوجة "عليه" أي قبوله كما لو كان في ملكه عند العقد ولا يملك الزوج منعها منه. "ويشبه القضاء؛ لأنه بعد الشراء ملكه حتى نفذ عتقه" وبيعه وغيرهما من التصرفات فيه "منه" أي الزوج "لا منها" أي الزوجة؛ لأن تبدل الملك بمنزلة تبدل العين شرعا لما في صحيح مسلم عن عائشة وأهدي لبريرة لحم فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم والبرمة على النار فدعا بطعام فأتي بخبز وأدم من أدم البيت فقال: "ألم أر برمة على النار فيها لحم" فقالوا: بلى يا رسول الله لحم تصدق به على بريرة فكرهنا أن نطعمك منه فقال: "هو عليها صدقة وهو منها لنا هدية". ورواه البخاري مختصرا فكانت هذه التصرفات مصادفة محلها فينفذ "و" قسموا "القضاء إلى ما" أي قضاء "بمثل معقول وغير معقول كالصوم للصوم والفدية له" أي للصوم وهي الصدقة بنصف صاع بر أو صاع من شعير أو تمر بدلا منه عند العجز المستدام عنه فالأول مثال المعقول والثاني مثال غير المعقول كما تقدم وكلاهما ظاهر "وما" أي وإلى قضاء "يشبه الأداء كقضاء تكبيرات العيد في الركوع" عند أبي حنيفة ومحمد إذا أدرك الإمام فيه وخاف أن يرفع رأسه منه لو اشتغل بها يكبر للافتتاح ثم للركوع، ثم أتى فيه بها "خلافا لأبي يوسف" حيث قال لا يأتي بها فيه، وفي التقريب وروى هلال الرأي عن يوسف السمتي عن أبي حنيفة مثله لفواتها عن محلها وهو القيام وعدم قدرته على مثل من عنده قربة في الركوع كما لو نسي الفاتحة أو السورة أو القنوت، ثم ركع، ووجه ظاهر الرواية أن الركوع(3/344)
لما أشبه القيام حقيقة من حيث بقاء الانتصاب والاستواء في النصف الأسفل من البدن وبه فارق القيام القعود؛ لأن استواء عاليه موجود فيهما وحكما. لأن المدرك المشارك للإمام في الركوع مدرك لتلك الركعة لم يتحقق الفوات لبقاء محل الأداء من وجه وقد شرع ما هو من جنسها وهو تكبيرة الركوع فيما له شبه القيام فإن الأصح أن الإتيان بها في حالة الانحطاط وهي محتسبة في الركعة الثانية من صلاة العيد من تكبيراتها والتكبير عبادة وهي تثبت بالشبهة كان الاحتياط في فعلها لبقاء جهة الأداء لا ببقاء المحل من وجه لا باعتبار جهة القضاء بخلاف القراءة والقنوت فإن كلا غير مشروع فيما له شبه القيام بوجه ثم لا يرفع يديه فيها؛ لأنه ووضع الكف على الركبة سنتان إلا أن الرفع فات هنا عن محله في الجملة والوضع لم يفت فكان أولى، هذا في حق الله تعالى "وفي حقوق العباد ضمان المغصوب" المثلي من مكيل أو موزون أو معدود متقارب "بالمثل صورة" فيتبعها المعنى ضرورة كالحنطة بالحنطة والزيت بالزيت والبيضة بالبيضة قضاء كامل مثل بمثل معقول. "ثم" ضمانه بالمثل "معني بالقيمة للعجز" عن المثل صورة ومعنى لانقطاعه بأن لا يوجد في الأسواق وضمان القيمي كالحيوان والعددي المتقارب كالبطيخ والرمان بالقيمة للعجز عن القضاء بالمثل صورة قضاء قاصر بمثل معقول، أما(3/345)
ص -166-…كونه قضاء فظاهر وأما كونه قاصرا فلانتقاء الصورة. وأما كونه بمثل معقول فللمساواة في المالية "وبغير معقول" أي والقضاء بمثل قاصر غير معقول "ضمان النفس والأطراف بالمال في" القتل والقطع "الخطأ" إذ لا مماثلة صورة بين النفس أو الطرف والمال وهو ظاهر ولا معنى؛ لأن الآدمي مالك مبتذل والمال مملوك مبتذل وللقصور لم يشرع إلا عند تعذر المثل الكامل المعقول وهو القصاص مراعاة لصيانة نفس المقتول أو للطرف عن الهدر وللتخفيف عن كل من القاتل والجاني لعدم قصده إلى غير ذلك مما يأتي قريبا. "وإعطاء قيمة عبد سماه مهرا بغير عينه" قضاء يشبه الأداء "حتى أجبرت" الزوجة "عليها" أي على قيمة عبد وسط أي قبولها إياها إذا أتاها بها كما تجبر على قبول عبد وسط إذا أتاها به لكونه عين الواجب "وإن كانت" القيمة "قضاء لشبهه" أي هذا القضاء "بالأداء لمزاحمتها" أي القيمة "المسمى إذ لا يعرف" هذا المسمى لجهالته وصفا "إلا بها" أي بالقيمة إذ لا يمكن تعيينه بدونها ولا تتعين إلا بالتقويم فصارت القيمة أصلا من هذا الوجه مزاحما للمسمى فأيهما أتى به يجبر على القبول بخلاف المعين فإنه معلوم بدون التقويم فكانت قيمته قضاء محضا فلم يجبر عليها عند القدرة عليه.(3/346)
"وفيه" أي هذا الحكم لهذه المسألة نظرا إلى تعليلها المذكور. "نظر" ولعله أما ما قيل فينبغي على هذا أن تتعين القيمة ولا يخير الزوج بينها وبين العبد وقد أجيب بأن العبد معلوم الجنس وبالنظر إليه يجب هو كما لو أمهر عبدا بعينه مجهول الوصف وبالنظر إليه تجب القيمة كما لو أمهر عبد غيره فصار الواجب كأنه أحد الشيئين فيتخير إذ التسليم عليه لا على المرأة فبأي أتاها يجبر على قبوله وإما ما قيل فعلى هذا يصير كأنه تزوجها على عبد أو قيمته وذا يوجب فساد التسمية ويوجب مهر المثل كما قال الشافعي وقد أجيب بأن التسمية إنما فسدت في هذه؛ لأن القيمة تصير واجبة بها ابتداء وهي مجهولة لاختلافها باختلاف المقومين فصار كأنه قال علي عبد أو دراهم بخلاف مسألتنا فإن العبد الوسط يجب بالعقد وصحت التسمية والقيمة اعتبرت بناء على وجوب تسليم المسمى إذ لا يمكن تسليمه إلا بمعرفتها لا أنها تجب بالعقد؛ لأنه ما سماها كما لو تزوجها على عبد معين فاستحق أو هلك تجب القيمة مهرا أو يتنصف بالطلاق قبل الدخول؛ لأنها وجبت بناء على مسمى معلوم لا ابتداء فكذا هذا كذا في الأسرار ولعل هذا الاحتمال هو الأظهر في كونه المراد ولا يخفى ما في جوابه على المتأمل النقاد.
"وعن سبق المماثل صورة" ومعنى على المماثل معنى لا غير في الاعتبار "قال أبو حنيفة فيمن قطع" يد إنسان عمدا "ثم قتل" القاطع المقطوع أيضا "عمدا قبل البرء" للقطع "للولي كذلك" أي أن يقطع يده ثم يقتله كما له أن يقتله من غير قطع؛ لأن القطع مع القتل مثل كامل لفعله صورة وهو ظاهر ومعنى وهو إزهاق الروح بخلاف القتل بلا قطع فإنه مثل قاصر لمساواته معنى لا صورة والمثل الكامل سابق عليه فله استيفاؤه وله الاقتصار على القاصر؛(3/347)
ص -167-…لأنه حقه كما له العفو لكن قيل هذا يقتضي أن هذا القصاص لو كان بين صغير وكبير هو وليه أن لا يتمكن الكبير من الاقتصار على القتل عنده؛ لأن حق الصغير في الكامل وهو ممكن "خلافا لهما" فإنهما قالا ليس له سوى القتل "بناء على أنها" أي هذه الأفعال جناية "واحدة" معنى عندهما وهي القتل. "لأن بالقتل ظهر أنه" أي الجاني "قصده" أي القتل "بالقطع" فصار كما لو قتله بضربات "وجنايتان عنده" أي أبي حنيفة "وما ذكرا" من أن بالقتل ظهر أنه قصده "ليس بلازم"؛ لأن القتل كما يحتمل أن يكون ماحيا لأثره؛ لأن المحل يفوت به فلا تتصور السراية بعد فواته وهو علة صالحة لإزهاق الروح قطعا فوق القطع فيضاف الحكم إليه ابتداء لتيقنه لا للقطع لعدم القطع بالسراية بخلاف ما لو تخلل البرء بينهما فإن الاتفاق على أن له أن يقطع ويقتل؛ لأن الأولى قد انتهت واستقر حكمها بالبراءة، ثم للمسألة أحكام أخرى بحسب اختلاف وجوهها تعرف في الكتب الفقهية "وعنه" أي سبق المماثل صورة ومعنى على القاصر في الاعتبار أيضا "قال" أبو حنيفة "لا يضمن" الغاصب المغصوب "المثلي بالقيمة إذا انقطع المثل" من أيدي الناس "إلا يوم الخصومة" والقضاء بها "لأن التضييق" لوجوب أدائه المثل الكامل الواجب في ذمته "بالقضاء" به عليه "فعنده" أي القضاء به عليه "يتحقق العجز" عنه فيتحول إلى القاصر. "بخلاف" المغصوب "القيمي" حيث تجب قيمته يوم الغصب اتفاقا "لأن وجوب قيمته بأصل السبب" الذي هو الغصب "فيعتبر" الوجوب "يوم الغصب ولأبي يوسف" في أنه تجب قيمة المثلي "يوم الغصب" أيضا أن يقال "لأنه لما التحق" المثلي "بما لا مثل له بالانقطاع وجب الخلف" وهو القيمة "ووجوبه" أي الخلف "بسبب الأصل" أي المثل صورة ومعنى "وهو" أي السبب "الغصب ومحمد" قال "القيمة للعجز" عن المثل صورة ومعنى "وهو" أي العجز "بالانقطاع فيعتبر يومه" أي الانقطاع ونص في التحفة على أن الصحيح قول أبي حنيفة.(3/348)
"واتفقوا" أي أصحابنا "أن بإتلاف المنافع" للأعيان كاستخدام العبد وركوب الدابة وسكنى الدار "لا ضمان لعدم المثل القاصر"؛ لأن المنفعة لا تماثل العين صورة وهو ظاهر ولا معنى؛ لأن العين مال متقوم والمنفعة لا؛ لأن المال ما يصان ويدخر لوقت الحاجة والمنافع لا تبقى بل كما توجد تتلاشى والتقوم الذي هو شرط الضمان لا يثبت بدون الوجود. لأن التقوم لا يسبق الوجود إذ المعدوم لا يوصف بأنه متقوم؛ لأنه ليس بشيء وبعد الوجود لا يحرز لعدم البقاء فلا يتقوم؛ لأن التقوم لا يسبق الإحراز "والاتفاق" واقع "على نفي القضاء بالكامل" أي على أن المنافع لا تضمن بمثلها من المنافع "لو وقع" ذلك فيها "كالحجر على كميات متساوية" أي الحجر على تقطيع واحد بأجرة واحدة لا يضمن منفعة إحداها بالأخرى مع وجود المشابهة صورة ومعنى فلأن لا يضمن بالأعيان مع أن لا مماثلة بينهما صورة ومعنى أولى.
ولما ذهب الشافعي إلى ضمانها بناء على أنها مال متقوم كالعين بدليل ورود العقد عليها؛(3/349)
ص -168-…لأن غير المال لا يرد العقد عليه كالميتة والدم وأشار إلى دفعه بقوله "ورود العقد عليها لتحقق الحاجة" أي ثبت تقومها في العقد لقيام العين مقامها لضرورة حاجة الناس فإن حاجتهم ماسة إلى شرعية عقد الإجارة ولا بد له من محل يضاف إليه فجعلت محرزة حكما على خلاف القياس بأن أقيم العين مقامها وأضيف العقد إليه. ومن ثمة لا يجوز إضافته إلى المنافع حتى لو قال آجرتك منافع هذه الدار شهرا لا يصح وليس مثل هذه الضرورة في ضمان العدوان فيبقى على الحقيقة فإن قيل الحاجة ماسة إلى ضمانها هنا أيضا؛ لأن في القول بعدم وجوب الضمان انفتاح باب الظلم وإبطال حق الملاك بالكلية أجيب بالمنع فإن الحاجة فيما يكثر وجوده لا فيما يندر والعدوان مما يندر فإنه منهي عنه وسبيله عدم الوجود "ولم ينحصر دفعها" أي حاجة دفع العدوان "في التضمين بل الضرب والحبس أدفع" للعدوان من التضمين ونحن أوجبناهما أو أحدهما على المتعدي تعزيرا له على عدوانه على أن ضمان المنافع بالعقد لو كان على وفق القياس لا يصح قياس العدوان عليه للفرق المؤثر بينهما فإن ضمان العقد إنما وجب بالتراضي وللرضا أثر في إيجاب أصل المال بمقابلة ما ليس بمال كما في الخلع والصلح عن دم العمد، وفي إيجاب الفضل أيضا. كما لو باع شيئا بأضعاف قيمته فإنه يصح ويجب على المشتري الفضل على القيمة لرضاه به وضمان العدوان يبنى على أوصاف العين من الجودة والرداءة بجبر القاضي لا على التراضي فانتفى الجامع بينهما ولا يبطل حق المالك بل يتأخر إلى الدار الآخرة هذا، وفي المجتبى وأصحابنا المتأخرون يفتون بقول الشافعي في المسبلات والأوقاف وأموال اليتامى ويوجبون أجر منافعها على الغصبة، وفي الفتاوى الكبرى وغيرها منافع العقار الموقوفة مضمونة سواء كان معدا للاستغلال أو لا نظرا للوقف، وفي جامع الفتاوى نقلا عن المحيط الصحيح لزوم الأجران معدا للاستغلال بكل حال وحكى بعضهم الإجماع على ضمان المنافع(3/350)
بالغصب والإتلاف إذا كان العين معدا للاستغلال بل وسيذكر المصنف في ذيل الكلام على العلة من مباحث القياس أنه ينبغي الفتوى بضمان المنافع مطلقا لو غلب غصبها وهو حسن كما نذكره ثمة إن شاء الله تعالى، والله سبحانه أعلم.
"ولا" يضمن "القصاص بقتل المستحق عليه" القصاص بقصاص ولا دية. "ولا" يضمن أيضا "ملك النكاح بشهادة الطلاق بعد الدخول إذا رجعوا" أي الشهود بالطلاق بشيء "خلافا للشافعي فيهما" أي في هاتين المسألتين فإن عن الشافعي أن القاتل للقاتل يضمن الدية؛ لأن القصاص ملك متقوم للولي ألا يرى أن القاتل إذا صالح في مرضه على الدية يعتبر من جميع المال وقد أتلف عليه ذلك بقتله فيضمن وأن الشهود يضمنون للزوج مهر المثل؛ لأن ملك النكاح متقوم على الزوج فيكون متقوما عليه زوالا؛ لأن الزائل عين الثابت بل أولى؛ لأن ملك اليمين يجوز اكتسابه بلا بدل بخلاف ملك النكاح فإنه لا ينفك عن مهر، وإنما قلنا نحن لا يضمن القصاص بالدية وملك النكاح بعد الدخول بالمهر "لأن الدية ومهر المثل لا يماثلانهما" أي القصاص وملك النكاح صورة ولا معنى، أما صورة فظاهر وأما معنى فلأن المقصود من(3/351)
ص -169-…القصاص الانتقام والتشفي بإعدام الحياة للإحياء ومن ملك النكاح السكن والازدواج وإبقاء النسل فلم يكونا مالا متقوما. "والتقوم" بالمال في باب القتل وملك النكاح "شرعي للزجر" كما في قتل الأب ابنه عمدا "أو لجبر" كما في القتل الخطأ "وللخطر" أي لشرف المحل فيهما أيضا صيانة للدم عن الهدر ولشرف بضع المرأة في ملك النكاح حالة ثبوته تعظيما له ليكون مصونا عن الابتذال بتملكه مجانا فإن له خطرا كالنفوس لكون النسل حاصلا منه ولذا لا يملك إلا بمهر وشهود وولي في بعض أو مطلقا على الاختلاف فيه والمملوك مجانا مبتذل "لا للتقوم المالي" للقتل وملك النكاح ولما كان التزام القاتل الدية في الصلح بمقابلة ما هو من أصول حوائجه وهو إبقاء نفسه وحاجته مقدمة على حق الوارث اعتبر من جميع المال على أن في تهذيب البغوي القاتل لا يضمن الدية كمذهبنا، والملك الوارد على البضع ليس بذي خطر ولذا صحت إزالته بالطلاق بغير شهود ولا ولي ولا عوض فعند زوال استيلائه لا يحتاج إلى التقويم وقيد بالطلاق بعد الدخول؛ لأن قبله إذا رجعوا يضمنون نصف المهر بالاتفاق؛ لأن المسمى لا يستحق عليه عند سقوط تسليم البضع إليه بالفرقة قبل الدخول لا بصنع منه ولا بانتهاء النكاح فلما أوجب الشهود عليه نصفه بإضافة الفرقة إليه مع فوات تسليم البضع، ثم رجعوا كان قصرا ليده عن ذلك المقدار أي ظهر بالرجوع أنهم أخذوا باطلا ودفعوه إليه فيضمنونه له، والله سبحانه أعلم.(3/352)
"القسم الثاني" من أقسام الوقت المقيد به الواجب "كون الوقت" أي ما يكون الوقت1 فيه "سببا للوجوب مساويا للواجب وكل موقت فالوقت شرط أدائه"؛ لأنه لا يتحقق بدونه وهو غير جزء منه ولا مؤثر في وجوده "ويسمونه" أي الحنفية هذا الوقت "معيارا" لتقدير الواجب به حتى يزداد بزيادته وينقص بنقصه فهو يعلم به مقداره كما تعرف مقادير الأوزان بالمعيار "وهو رمضان عين شرعا لفرض الصوم فانتفى شرعية غيره من الصيام فيه فلم يشرطوا" أي الحنفية "نية التعيين" أي تعيين أنه الصوم الفرض في أدائه "فأصيب" صومه "بنية مباينه" أي مباين صومه "كالنذر والكفارة بناء على لغو الجهة" أي الوصف في نية المباين "فيبقى المطلق" الذي هو أصل نية الصوم "وبه" أي المطلق "يصاب" الصوم الفرض الرمضاني أداء "كالأخص" مثل "زيد يصاب بالأعم" مثل "إنسان والجمهور على نفيه" أي وقوعه عن رمضان بهذه النية "وهو" أي ونفي وقوعه عن رمضان بهذه النية "الحق؛ لأن نفي شرعية غيره" أي صوم رمضان. "إنما توجب نفي صحته" أي الغير "إذا نواه" أي الغير "ونفي صحة ما نواه من الغير لا يوجب وجود نية ما يصح وهو" أي الناوي "ينادي لم أرده" أي ما يصح إذ لم يتعلق له قصد بغير ذلك المعين "بل لو ثبت" وقوعه عن فرض رمضان بهذه النية "كان" وقوعه عنه "جبرا" وهو النافي للصحة؛ لأنه لا بد في أداء الفرض من الاختيار وليس إصابة الأخص
ـــــــــــــــــــ
1 الوقت كذا في النسخ ولعل المناسب الموقت كما لا يخفى. كتبه مصححه.(3/353)
ص -170-…بالأعم بمجرد إرادة مطلق الصوم بل كما قال "وإصابة الأخص بالأعم" إنما يكون "بإرادته" أي الأخص "به" أي الأعم "ونقول لو أراد نية صوم الفرض للصوم صح؛ لأنه أراده وارتفع الخلاف. وأما كون التعيين" أي تعيين الوقت الذي هو رمضان لصومه "يوجب الإصابة" لصومه "بلا نية كرواية عن زفر". وذكره النووي عن مجاهد وعطاء أيضا "فعجب"؛ لأن ذلك إنما يتم لو لم يكن الاختيار للصوم من المكلف شرطا لوجوده شرعا لكنه شرط له بالنص والإجماع ومن المعلوم أن تعين المحل شرعا ليس علة لاختيار المكلف فأنى يكون له وجود بدون نيته. وقد تداول كثير كالشيخ أبي بكر الرازي وأبي زيد والسرخسي وفخر الإسلام حكاية هذا عن زفر ولكن في التقريب والمبسوط قال أبو الحسن الكرخي من حكى هذا فقط غلط، وإنما قال زفر إنه يجوز بنية واحدة.(3/354)
"واستثنى أبو حنيفة" من وقوع نية غير رمضان عن رمضان في رمضان "نية المسافر غيره" أي غير رمضان من واجب آخر من نذر أو كفارة أو قضاء فقال "تقع" نية ذلك الغير "عن الغير" باتفاق الروايات عنه ذكره في الأجناس "لإثبات الشارع الترخص له" أي المسافر بترك الصوم تخفيفا عليه للمشقة "وهو" أي الترخص "في الميل إلى الأخف" عنده من مشروع لوقت وغيره من الواجبات ومن الفطر "وهو" أي الأخف "صوم الواجب المغاير" لمشروع الوقت إذا اختاره بناء على أن إسقاطه من ذمته أهم عنده من إسقاط فرض الوقت؛ لأنه لو لم يدرك عدة من أيام أخر لم يؤاخذ بفرض الوقت، ويؤاخذ بذلك الواجب وأن مصلحة الدين أهم من مصلحة البدن. "وعلى هذا" التوجيه "يقع" المنوي "بنية النفل عن رمضان" إذ لا ترخص بهذه النية؛ لأن الفائدة ليست إلا الثواب وهو في الفرض أكثر فكان هذا ميلا إلى الأثقل فيلغو وصف النفلية ويبقى مطلق الصوم فيقع عن فرض الوقت "وهو رواية" لابن سماعة "عنه" أي أبي حنيفة، وفي الكشف وغيره وهو الأصح، وفي الأجناس ولو صامه بنية التطوع حال سفره في رمضان في المجرد عن أبي حنيفة يكون عن صوم رمضان، وفي نوادر أبي يوسف رواية عن ابن سماعة يكون عن التطوع، وفي مختصر الكرخي وروى ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه يكون من التطوع "ولأن انتفاء غيره" أي غير فرض الوقت ليس حكم الوجوب فإن الوجوب موجود في الواجب الموسع بل هو "حكم التعيين" أي تعيين هذا الزمان لأداء الفرض. "ولا تعيين عليه" أي المسافر؛ لأنه مخير بين الأداء والتأخير فصار هذا الوقت في حقه "كشعبان فيصح نفله" وواجب آخر عليه كما يصحان في شعبان "وهو رواية" للحسن عن أبي حنيفة أيضا ذكره غير واحد "وهو" أي هذا التوجيه "مغلطة؛ لأن التعيين عليه" أي المكلف "ليس تعيين الوقت ليندرج" التعيين عليه "فيه" أي في تعيين الوقت "وينتفي" التعيين عليه "بانتفائه" أي الوقت "بل معناه" أي التعيين عليه "إلزامه" أي المكلف(3/355)
"صوم الوقت وعدمه" أي إلزامه صوم الوقت "يصدق بتجويز الفطر وتعيين الوقت أن لا يصح فيه" أي في الوقت "صوم آخر فجاز اجتماع عدم التعيين عليه بتجويز الفطر مع تعيين الوقت بأن لا يصح فيه" أي في الوقت "صوم غيره" أي غير فرض الوقت "لو صامه" أي لو نوى صيام غيره. "فلم(3/356)
ص -171-…يلزم من نفي التعيين عليه نفي تعيين الوقت وحقق في المريض تفصيل بين أن يضره" الصوم ككون مرضه حمى مطبقة أو وجع الرأس أو العين "فتعلق الرخصة" بترك صوم فرض الوقت في حقه "بخوف الزيادة" للمرض "فكالمسافر" أي فهذا المريض كالمسافر في تعلق الرخصة في حقه بعجز مقدر لا بحقيقة العجز وعلى هذا يحمل ما مشى عليه صاحب الهداية وأكثر مشايخ بخارى من أن المريض إذا نوى واجبا آخر أو النفل يقع عما نواه كما هو رواية الحسن عن أبي حنيفة "و" بين "أن لا" يضره الصوم "كفساد الهضم" والأمراض الرطوبية "فبحقيقتها" أي فتعلق الرخصة بحقيقة المشقة التي هي العجز "فيقع" ما نواه هذا المريض من الغير "عن فرض الوقت" إذا لم يهلك به؛ لأنه حينئذ يظهر أنه لم يكن عاجزا فلم يثبت له الترخيص فكان كالصحيح وعلى هذا يحمل ما ذهب إليه فخر الإسلام والسرخسي أنه يقع عن فرض الوقت بدليل قول السرخسي. وذكر الكرخي أن الجواب في المريض والمسافر سواء على قول أبي حنيفة وهذا سهو أو مؤول ومراده مريض يطيق ويخاف منه ازدياد المرض ا هـ والقائم بهذا التحقيق صاحب الكشف.(3/357)
قال العبد الضعيف غفر الله تعالى له وعند التحقيق يظهر أن هذا تحقيق يحصل به التوفيق بين ما ذهب إليه كل فريق فإن إجماع من يعتد بإجماعه على أن المرض المبيح للفطر المرض الذي يضر بسببه الصوم صاحبه على اختلاف فيه وأدناه الازدياد أو الامتداد وأعلاه الهلاك وأصحابنا قاطبة على أن الأول هو المناط فالمرض الذي لا يضر بسببه الصوم صاحبه غير مبيح لصاحبه الترخيص بالفطر إجماعا فلا يتفرع على صيام صاحبه بنية واجب آخر أو النفل التردد بين وقوعه عن رمضان أو عما نوى بل يتفرع عليه ما يتفرع على صيام الصحيح بهذه النية؛ لأن من به هذا المرض صحيح بالنسبة إلى الصوم والمرض الذي يضر بسببه الصوم صاحبه مبيح وهذا مما يمكن أن يتفرع على صيامه بنية واجب آخر أو النفل التردد بين وقوعه عن فرض الوقت أو عما نوى بناء على أن المناط عدم القدرة أصلا ولم يتحقق أو وجود اشتداد أو امتداد فيه وقد تحقق وتحمل صاحبه ذلك لغرض له فيه وقد عرفت أن الثاني هو المناط دون الأول. فما رواه الحسن حسن ومن ثمة مشى عليه كثير كخواهر زاده وصاحب الهداية وقاضي خان والولوالجي وأبي الفضل الكرماني وغيرهم نعم لا بأس بأن يؤول قول فخر الإسلام والسرخسي بأن المراد مريض في الجملة لا المريض الذي يباح له الفطر، والله سبحانه أعلم. ثم هذا كله على قول أبي حنيفة، وقالا يقع ما نواه المسافر والمريض من واجب أو نفل عن فرض رمضان كالصحيح المقيم وقد عرفت ما فيه فضلا عمن سواه ممن يباح له الفطر فلا حاجة إلى التطويل بتوجيهه ودفعه، والله تعالى أعلم.
"القسم الثالث" من أقسام الوقت المقيد به الواجب وقت هو "معيار لا سبب كالنذر المعين" أي نذر صوم معين أما كونه معيارا فظاهر. وأما أنه ليس بسبب فلأن السبب النذر(3/358)
ص -172-…"فإدراج" النذر "المطلق والكفارة والقضاء فيه" أي في هذا القسم كما فعل البزدوي والسرخسي وأسلفنا ذكره موجها "غير صحيح؛ لأن الأمر فيها مطلق لا مقيد بالوقت فلا يشترط نية التعيين" له في خروجه عن عهدة النذر "للتعيين شرعا" فيتأدى بمطلق النية ونية النفل إلا في رواية الحسن عن أبي حنيفة على ما في المحيط ولا يتأدى بنية واجب آخر بل يقع فيه عما نوى بلا خلاف بخلاف رمضان؛ لأن ولاية العبد قاصرة فله إبطال ماله وهو صلاحيته للنفل وليس له إبطال ما عليه وهو صلاحيته للواجبات ولله تعالى الولاية المطلقة الكاملة فله إبطال ما للعبد وما عليه فأبطل صلاحيته لغير فرض رمضان نفلا وواجبا وأورد عليه أن التعيين في النذر المعين بإذن صاحب الحق وهو الشارع لإذنه تعالى له بإلزامه على نفسه فينبغي أن يجوز تعديه إلى حقه تعالى أيضا. وأجيب بأنه أذن للعبد في أن يتصرف في حق نفسه لا غير وأورد إذا لم يتعد إلى حق الشارع بقي محتملا لصوم القضاء والكفارة فينبغي أن يشترط التعيين فلا يتأدى بمطلق النية كالظهر عند ضيق الوقت أجيب بأن صوم القضاء والكفارة من محتملات الوقت وأصل المشروع فيه النفل الذي صار واجبا بالنذر وهو واحد فينصرف المطلق إليه وكذا نية النفل بخلاف الظهر المضيق فإن تعين الوقت يعارض التقصير في تأخير الأداء فلا يتعين الوقت بعده له بعدما كان غير متعين له.
قلت ويتمشى البحث السابق للمصنف في أداء رمضان بمطلق النية ونية النفل في أداء هذا بهما أيضا فليتأمل.
"بخلاف ما أدرجوه" من النذر المطلق والكفارة والقضاء فإنه لا بد فيه من التعيين ليلا حتى مطلع الفجر لعدم تعين الزمان لها.(3/359)
"القسم الرابع" من أقسام الوقت المقيد به الواجب وقت "ذو شبهين بالمعيار والظرف" وهو "وقت الحج لا يسع في عام سوى" حج "واحد" فمن هذه الحيثية يشبه المعيار كالنهار للصوم "ولا يستغرق فعله" أي الحج "وقته" أي جميع أجزاء وقته كما يستغرق الصوم النهار ومن هذه الحيثية يشبه الظرف "والخلاف في تعيينه" أي وجوب أدائه "من أول سني الإمكان" أي إمكان أدائه لحصول شرائط وجوب أدائه من الزاد والراحلة وغيرهما "عند أبي يوسف" حتى كان على الفور عنده وكذا عند أبي حنيفة "خلافا لمحمد" حيث قال هو على التراخي إلا إذا غلب على ظنه الفوات إذا أخر فحينئذ لا يحل له التأخير ويصير مضيقا عليه ليس بناء على اختلافهما في أن الأمر المطلق عن الوقت يوجب الفور عند أبي يوسف فأوجب الحج مضيقا بناء عليه ولا يوجبه عند محمد فأوجب الحج موسعا بناء عليه كما ذهب إليه بعض المشايخ كالكرخي. فإن الصحيح الذي عليه عامة المشايخ أنهما متفقان على أن الأمر المطلق لا يوجب الفور بل الخلاف بينهما في الحج "ابتدائي" لدليل لاح لكل منهما فيما ذهب إليه فأبو يوسف قال على الفور "للاحتياط عنده"؛ لأن العام الأول موجود بيقين ولا مزاحم إلا بإدراك العام الثاني وهو مشكوك فيه "لأن الموت في سنة غير نادر" والمشكوك لا يزاحم(3/360)
ص -173-…المتيقن فيتعين العام الأول للأداء تحرزا عن الفوات "فيأثم" بالتأخير عنه "وإلا" لو لم يكن للاحتياط "فموجبه" أي الحج أمر "مطلق" عن الوقت فلا يوجبه على الفور "ولذا" أي الاحتياط "عنده اتفقا" أي أبو يوسف ومحمد "على أنه لو فعل" الحج "بعده" أي أول سني الإمكان "وقع أداء"؛ لأنا إنما قلنا بتعيينه للأداء للشك في إدراك العام الثاني فإذا أدركه زال الشك وحصل اليقين بكونه من عمره ووقع الأمن من الفوات وسقط العام الأول وتعين الثاني للأداء وكذا الحكم في كل عام ولو كان الفور متعينا قطعا للدليل القطعي على تعينه لكان قضاء عند القائل بأنه للفور لفواته عن وقته المتعين له بالدليل القطعي. "وتأدى فرضه" أي حجة الإسلام "بإطلاق النية" للحج "لظاهر الحال" أي حال المكلف الواجب عليه الحج فإن الظاهر منه أنه لا يتحمل المشاق الكثيرة لغيره لما فيه من براءة الذمة وكثرة الثواب "لا" أن تأديه بمطلقها "من حكم الإشكال" أي كون الوقت مشكلا لشبهه بالظرف وبالمعيار "ولذا" أي ولكون التأدي بها لظاهر الحال "يقع" حجه "عن النفل إذا نواه" أي النفل "لانتفاء الظاهر" بالتصريح بخلافه لرجحان الصريح عليه "وقد يبنيان" أي تأدى فرضه بمطلقها ووقوعه عن النفل إذا نواه "على الشبهين" شبه المعيار وشبه الظرف "فالأول" أي تأديه بمطلقها "لشبه المعيار" إذ من شأن المقيد بالوقت الذي هو معيار للواجب شرعا إصابته بمطلق النية كما تقدم في الصوم. "والنفل للظرف"؛ لأن من شأن ما كان ظرفا للواجب أن يصح وقوع النفل فيه كوقت الصلاة والباني لصحة النفل على شبه الظرف عامة أهل المذهب ولم أقف على بناء وقوعه عن فرضه بمطلق نيته على شبهه بالمعيار لغير المصنف وهو أولى من بنائه على ظاهر الحال كما ذكروه؛ لأنه كما قال "ولا يخفى عدم ورود الدليل وهو ظاهر الحال على الدعوى" وهي "تأديه بنية المطلق، وإنما يستلزم" الدليل المذكور "حكم الخارج" أي غير الناوي "عليه" أي الحاج(3/361)
"بأنه" أي الحاج "نوى الفرض لا" أنه يستلزم "سقوطه" أي الفرض "عنه" أي عن الحاج "عند الله إذا نوى الحج مطلقا في الواقع" وليس الكلام إلا في هذا على أنه كما قيل يشكل أيضا بما إذا لم يبق من وقت الصلاة إلا القدر الذي يسعها فإن في هذه الصورة يشترط نية التعيين ولا يتأدى بمطلق النية مع وجود دلالة الحال فإن المسلم لا يشتغل بأداء النفل مع تفويت الفرض فظهر أن بناءه على شبه المعيار كما لحظه المصنف أقرب، والله سبحانه أعلم.
مسألة
"الأمر بواحد" أي إيجاب واحد مبهم "من أمور معلومة صحيح" عند جمهور الفقهاء والأشاعرة واختاره الآمدي وابن الحاجب فيكون الواجب بذلك الأمر الواحد المبهم ويعرف بالواجب المخير "كخصال الكفارة" أي كفارة اليمين فإن قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] في قوة الأمر بالإطعام فيفيد إيجابه وقد عطف الكسوة والتحرير عليه فيقتضي إيجابهما أيضا فيكون كل منها واجبا على البدل لا الجمع لاقتضاء أو ذلك "وقيل" أي وقال بعض المعتزلة هو "أمر بالجميع ويسقط" وجوب الجميع "بفعل البعض وقيل" أي، وقال بعضهم أيضا أمر "بواحد معين عنده تعالى" دون المكلفين "وهو" أي الواحد(3/362)
ص -174-…المعين "ما يفعل كل" منهم "فيختلف" المأمور به بالنسبة إليهم ضرورة أن الواجب على كل ما اختاره ولا شك في اختلاف اختياراتهم. "وقيل لا يختلف" المأمور به باختلاف المفعول لهم "ويسقط" المأمور به "به" أي بالمأمور به "وبغيره" أي غير المأمور به منها ويسمى هذا القول التراجم؛ لأن الأشاعرة ترويه عن المعتزلة والمعتزلة عن الأشاعرة ذكره في المحصول وتعاضد الفريقان على إفساده فإذا لا يسوغ نقله عن أحدهما كما قاله السبكي بل قال والده لم يقل به قائل "ونقل" وجوب "الجميع على البدل" كما هو لازم ما تقدم من أنه أمر بالجميع ويسقط بالبعض ونقله غير واحد "لا يعرف ولا معنى له إلا أن يكون" هو "المختار" بناء على اعترافهم بأن تاركها جميعا لا يأثم إثم من ترك واجبات ومقيمها جميعا لم يثبت له ثواب واجبات كما ذكره الإمام في البرهان عن البهشمية فيكون الخلاف لفظيا وقد مشى عليه غير واحد أما على أن تاركها يأثم إثم من ترك واجبات والآتي بها يثبت له ثواب واجبات كما هو منقول عن بعضهم فالخلاف بينه وبين المختار ظاهر. "لنا القطع بصحة أوجبت أحد هذه" الأمور "فإنه" أي قوله هذا "لا يوجب جهالة مانعة من الامتثال لحصول التعيين بالفعل" لمعين منها "وتعلق علمه تعالى بما يفعل كل" من المكلفين "لا يوجبه" أي مفعول كل "عينا على فاعله بل" يوجب "ما يسقط" به الوجوب من مفعول كل من الأمور المخير فيها إذ كان فردا من أفراد الواحد الدائر بينها المأمور به لا باعتبار خصوص ذلك المفعول "ولا يلزم اتحاد الواجب والمخير فيه بين الفعل والترك؛ لأن الواجب" الواحد "المبهم" منها "لا على معنى بشرط الإبهام" فيه بل بمعنى أنه "لا يعينه الموجب" وهو الله تعالى والحاصل أن الواجب مفهوم الواحد الدائر بين المعينات والمخير فيه ما صدق عليه ذلك المفهوم وهو كل واحد من المعينات فالوجوب لم يتعلق بمعين، والتخيير لم يقع في مبهم وإلا لجاز تركه وهو بترك الكل وهو باطل.(3/363)
"فلذا" أي لكون الواجب هو الواحد المبهم "سقط" الوجوب "بالمعين" منها "لتضمنه" أي المعين "مفهوم الواحد" المبهم.
تتمة: ثم على قول الجمهور إذا كان في الكل ما هو أعلى ثوابا وعقابا وما هو أدنى كذلك ففعل المكلف الكل فقيل المثاب عليه ثواب الواجب الأعلى؛ لأنه لو اقتصر عليه لأثيب عليه ثواب الواجب فضم غيره إليه معا أو مرتبا لا ينقضه، وإن ترك الكل وعوقب عوقب على أدناها عقابا؛ لأنه لو فعله فقط لم يعاقب، وإن تساوى الكل فثواب الواجب والعقاب على واحد منها فعلت معا أو مرتبة وقيل في المرتب الواجب ثوابا أولها تفاوتت أو تساوت لتأدي الواجب به قبل غيره ويثاب ثواب المندوب على كل، وغير خاف أن هذا كله بناء على أن محل ثواب الواجب والعقاب على تركه أحدها من حيث خصوصه الذي يقع نظرا إلى تأدي الواجب به وإلا فالتحقيق على قول الجمهور أنه يثاب ثواب الواجب على مسمى أحدها من حيث إنه أحدها لا من حيث ذلك الخصوص وإلا كان من تلك الحيثية واجبا حتى إن الواجب ثوابا في المرتب أولها من حيث إنه أحدها لا من حيث خصوصه وكذا يقال في كل من الزائد على ما يتأدى به الواجب منها إنه يثاب عليه ثواب المندوب من حيث إنه أحدها لا من حيث خصوصه، والله تعالى أعلم.(3/364)
ص -175-…"مسألة الواجب على الكفاية"
وهو مهم متحتم مقصود حصوله من غير نظر بالذات إلى فاعله فتناول ما هو ديني كصلاة الجنازة ودنيوي كالصنائع المحتاج إليها وخرج المسنون؛ لأنه غير متحتم وفرض العين؛ لأنه منظور بالذات إلى فاعله حيث قصد حصوله من عين مخصوصة كالمفروض على النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته أو من كل عين عين أي واحد واحد من المكلفين واجب "على الكل ويسقط" الوجوب عنهم "بفعل البعض" هذا قول الجمهور وهو المختار عند المصنف ثم المراد بالكل الكل الإفرادي وقيل المجموعي إذ لو تعين على كل أحد لكان إسقاطه عن الباقين رفعا للطلب بعد تحققه وهو إنما يكون بالنسخ وليس بنسخ اتفاقا بخلاف الإيجاب على الجميع من حيث هو فإنه لا يستلزم الإيجاب على واحد ويكون التأثيم للجميع بالذات ولكل واحد بالعرض وأجيب بمنع كون سقوط الطلب بعد تحققه إنما يكون بالنسخ فإنه قد يكون لانتفاء علة الوجوب كحصول المقصود من الفعل هنا. فيكون أمارة على سقوط الواجب من غير نسخ لانتفاء الطريق الشرعي المتراخي الذي يثبت به النسخ، ثم كما في المنهاج فإن ظن كل طائفة أن غيره فعل سقط عن الكل، وإن ظن أنه لم يفعل وجب أي على كل ثم كما قال الإسنوي، وإن ظنت طائفة قيام غيرها به وظنت أخرى عكسه سقط عن الأولى ووجب على الثانية "وقيل" واجب "على البعض" وهو قول الإمام الرازي واختاره السبكي، ثم المختار على هذا أي بعض كان كما هو المشهور إذ لا دليل على أنه معين فمن قام به سقط الوجوب بفعله وقيل من قام به لسقوطه بفعله وقيل معين عند الله دون الناس يسقط الواجب بفعله وبفعل غيره كما يسقط الدين عن المدين بأداء غيره عنه "لنا أثم الكل بتركه" اتفاقا ولو لم يكن واجبا عليهم لما أثموا.
"قالوا" أي القائلون بأنه على البعض أولا "سقط" الوجوب "بفعل البعض" ولو كان على الكل لما سقط إذ من المستبعد سقوط الواجب عن المكلف بفعل غيره.(3/365)
"قلنا" لا استبعاد "لأن المقصود وجوب الفعل لا ابتلاء كل مكلف" كما في فرض العين وقد وجد "كسقوط ما على زيد" من الدين الضامن عمرو إياه عنه "بفعل عمرو" أي بأدائه عنه اتفاقا لحصول الغرض به وقيدنا بالضمان؛ لأن فيه أداء ما يجب في ذمة المؤدي وإسقاط ما في ذمة غيره كما في محل النزاع بخلاف أداء عمرو وما في ذمة زيد غير ضامن له فإن الخصم بما قال لما لم يكن أداؤه واجبا عليهم لم يبعد أن يكون الإتيان به لإسقاط ما يجب على الغير.
"قالوا" ثانيا "أمر واحد مبهم كواحد مبهم" فكما جاز الثاني أعني المكلف به المبهم من أمور معينة بإلغاء الإبهام فيه جاز الأول أعني المكلف المبهم بإلغاء الإبهام فيه.
"أجيب بالفرق بأن إثم" مكلف "مبهم غير معقول" بخلاف تأثيم المكلف بترك أحد أمور معينة مبهما فإنه معقول فالإبهام في المأمور مانع، وفي المأمور به غير مانع. أي قال(3/366)
ص -176-…الشيخ سعد الدين التفتازاني وهذا إنما يصح لو لم يكن "مذهبهم" أي القائلين بالوجوب على البعض "إثم الكل" بسبب ترك البعض "لكن قول قائله" أي الوجوب على البعض "إنه" أي الوجوب "يتعلق بمن غلب على ظنه أنه" أي الواجب "لن يفعله غيره فإن ظنه" أي عدم الفعل "الكل عمهم" الوجوب "وإن خص" ظن عدم الفعل البعض "خصه" أي ذلك البعض الظان "الإثم" على تقدير الترك وحينئذ "فالمعنى" المكلف بالوجوب بعض "غير معين وقت الخطاب؛ لأنه" أي المكلف "لا يتعين" للوجوب عليه "إلا بذلك الظن" وهو ظن أن لن يفعله غيره "ولو لم يظن" هذا الظن أحد "لا يأثم أحد ويشكل" هذا حينئذ "ببطلان معنى الوجوب" فإن لازمه الإثم على تقدير الترك فإذا انتفى انتفى الملزوم الذي هو الوجوب. "وقد يقال" في الجواب عن هذا "إنما يبطل" الوجوب "لو كلف" المكلف بالواجب المذكور "مطلقا" أي سواء ظن أن لن يفعل غيره أو لا "أما" لو كلف "الظان" أن لن يفعل غيره فقط "فلا" يبطل معنى الوجوب؛ لأنه لا تكليف به عند انتفاء الظن حينئذ نعم الشأن في أن هؤلاء القائلين بوجوبه على البعض قائلون به على الوجه الذي ذكره المصنف وقد ذكر بعضهم أن على قول هؤلاء من ظن أن غيره لم يفعله وجب عليه ومن لا فلا "والحق أنه" أي القول بوجوبه على البعض "عدول عن مقتضى الدليل" الدال على وجوبه على الكل "كقاتلوا الذين لا يؤمنون ونحوه بلا ملجئ" للعدول عنه "لما حققناه" من أنه واجب على الكل.
"قالوا" ثالثا "قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ}". فصرح بالوجوب على طائفة غير معينة من الفرقة بواسطة لولا الداخلة على الماضي الدالة على التنديم واللوم.(3/367)
"قلنا" هذا مؤول "بالسقوط" للوجوب عن الجميع "بفعلها" أي الطائفة من الفرقة "جمعا بين الدليلين" أي هذا ودليلنا الدال على الوجوب على الجميع على وجه يرتفع التنافي الظاهر بينهما؛ لأنه أولى من إلغاء هذا؛ لأن دليلنا كما أنه لا يلغى لا يحتمل التأويل بخلاف هذا فإنه يحتمل التأويل.
"واعلم أنه إذا قيل صلاة الجنازة واجبة" أي فرض "على الكفاية" كما صرح به غير واحد من الحنفية والشافعية وحكوا الإجماع عليه "فقد يستشكل بفعل الصبي" المميز كما هو الأصح عند الشافعية.
"والجواب" عن هذا "بما تقدم" من أن المقصود الفعل وقد وجد "لا يدفع الوارد من لفظ الوجوب" فإنه لا وجوب على الصبي ولا يحضرني هذا منقولا فيما وقفت عليه من كتب المذهب، وإنما ظاهر أصوله عدم السقوط كما هو غير خاف، والله سبحانه أعلم.
مسألة
"لا يجب شرط التكليف اتفاقا كتحصيل النصاب" للتكليف بوجوب الزكاة "والزاد" أي وتحصيله لوجوب الحج "وأما ما يتوقف عليه الواجب" المأمور به مطلقا من حيث كونه له "سببا عقلا كالنظر" المحصل "للعلم" الواجب كما ذكر الإسنوي "وفيه" أي كون النظر سببا(3/368)
ص -177-…عقليا للعلم "نظر" بل هو سبب عادي له فإن استعقاب النظر العلم بخلقه تعالى بطريق إجراء العادة عند الحنفية والأشاعرة "أو" من حيث كونه سببا له "شرعا كالتلفظ" بما يفيد العتق "للعتق أو" من حيث كونه سببا له "عادة كالأول" أي النظر للعلم "وحز العنق" للقتل "أو" من حيث كونه له "شرطا عقلا كترك الضد" أي جنسه للواجب "أو" من حيث كونه شرطا له "عادة كغسل جزء من الرأس" كغسل الوجه "أو" من حيث كونه شرطا له "شرعا" كالوضوء للصلاة. "فالحنفية والأكثر واجب به" أي بالإيجاب لذلك الواجب "وقيل في الشرط الشرعي" أي واختار ابن الحاجب وصاحب البديع أن المقدور للمكلف الذي يتوقف عليه الواجب من حيث إنه شرط شرعي له يجب بوجوبه وإلا فلا "وقيل" ما يتوقف عليه الواجب لا يجب بوجوبه سواء كان مقدورا للمكلف أو لا "لا في الشرط وغيره فيخطئان" أي هذان القولان "للاتفاق على الأسباب" أي على أن إيجاب المسبب إيجاب لتحصيل سببه المستلزم له "إلا أن يقال التعلق" للإيجاب إنما هو "بها" أي بالأسباب ابتداء "فالأمر بالقتل والعتق يتعلق بالحز" للعنق ونحوه "والتلفظ" بصيغة العتق "ابتداء" لا بنفي الحياة ولا بإزالة الرق "إذ لا تعلق بغير المقدور"؛ لأن التكليف لا يكون إلا بمقدور لنا والمسببات قد لا تكون مقدورة لنا كهذه بخلاف مباشرة الأسباب فإنها في وسع المكلف فالأمر المتعلق ظاهرا بالمسبب متعلق في الحقيقة بالسبب وهو الواجب حقيقة. وإن كان وسيلة إلى المسبب ظاهرا فحينئذ لا يكون القولان من هذا القبيل خطأ "ولا بد من قيد به" في قولهم ما يتوقف عليه الواجب واجب "وإلا" لو لم يكن مرادا "لزم الكفر"؛ لأن المتبادر من إطلاقه الواجب لذاته وهو ليس إلا الله رب العالمين مع أنه ليس المراد من هذا الإطلاق قطعا "للأكثر لو لم يجب" ما يتوقف عليه الواجب من الأقسام الماضية "بقي جواز الترك" للشرط "دائما ولازمه" أي جواز الترك له دائما "جواز ترك ما لا يتأتى" الواجب(3/369)
"بدونه وهو" أي جواز ترك ما لا يتأتى الواجب بدونه "مناف لوجوبه" أي الواجب "في وقت" فإن جواز ترك ما لا يتأتى هو إلا به يستلزم جواز ترك الواجب نفسه ضرورة أنه لا يتحقق الواجب إلا به "أو" لازمه "جواز فعله" أي الواجب الذي هو المشروط "دونه" أي الشرط؛ لأنه يصدق حينئذ أنه أتى بجميع ما أمر به فتجب صحته "فما فرض شرطا ليس شرطا" موقوفا عليه حينئذ. وهو باطل؛ لأنه موقوف عليه بالفرض "ولا يخفى منع الملازمة" أي لا نسلم أنه يلزم من عدم وجوب ما يتوقف عليه الواجب بإيجاب الواجب جواز الترك لجواز وجوبه بغيره "وإنما يجوز الترك لو لم يجب" ما يتوقف عليه الواجب "مطلقا" أما إذا كان واجبا مطلقا كما نحن قائلون به فلا "واستدلالهم" أي الأكثرين "بالإجماع على" وجوب "التوصل" إلى الواجب ولو لم يجب ما لا يتم الواجب إلا به لما وجب التوصل إلى الواجب إذ لا معنى له إلا الإتيان بجميع ما يتوقف عليه "في غير" محل "النزاع؛ لأن الموجب حينئذ" أي حين الاستدلال بالإجماع على أن الموصل إلى الواجب واجب "غير موجب الأصل" الذي هو الواجب الأصلي فإن موجبه الأمر وموجب ما يتوقف عليه الإجماع "وإذن لا حاجة للنافي" لوجوب ما يتوقف عليه الواجب بإيجابه في غير الشرط الشرعي كابن(3/370)
ص -178-…الحاجب وصاحب البديع "إلى الجواب بتخصيص الدعوى بغير الأسباب" كما فعلاه. "واستدلاله" أي النافي "لو وجب" ما يتوقف عليه الواجب بإيجاب الواجب "امتنع التصريح بنفي وجوبه" أي ما يتوقف عليه الواجب لمناقضته له والقطع بصحة إيجاب غسل الوجه ونفي إيجاب غسل غيره "إن أراد" بامتناع التصريح بنفي وجوبه "نفي وجوبه به" أي بإيجاب الواجب "فنفي التالي" الذي هو امتناع التصريح بنفي وجوبه "عين النزاع أو" نفي وجوبه "مطلقا نفينا الملازمة" أي منعناها وهو ظاهر "وكذا قوله" أي النافي "وصح قول الكعبي في نفي المباح"؛ لأن فعل الواجب وهو ترك الحرام لا يتم إلا بالمباح فيجب المباح وهو باطل عليه منع الملازمة وكذا قول النافي "ووجب نية المقدمة"؛ لأنها حينئذ عبادة شرعية واجبة فتجب به "ومعناه" أي وجوب نية المقدمة أنها تجب فيها "كما لو وجب" ما يتوقف عليه الواجب الذي هو المقدمة "بغيره" أي غير الواجب فإن النية تجب فيه لكن وجوبها في المقدمة ممنوع بل يكفي في صحة العمل نية الواجب دون مقدمته عليه منع الملازمة. "وإنما يلزمان" أي نفي المباح ووجوب نية المقدمة "لو تعين" المباح للامتثال "أو شرع" ما يتوقف عليه "عبادة لكنه" أي الامتثال "يمكن بغيره" أي المباح "ونلتزمه" أي وجوب النية "في مقدمة هي عبادة" لا مطلقا "وكذا قوله" أي النافي "لو كان" ما يتوقف عليه الواجب واجبا "لزم تعقله" أي ما يتوقف عليه الواجب "للآمر" لامتناع إيجاب الشيء بدون تعقله "والقطع بنفيه" أي نفي لزوم تعقله؛ لأن الآمر بالشيء قد يذهل عما يتوقف عليه ذلك الشيء عند الأمر به "ممنوع الملازمة بأنه" أي لزوم تعقل الموجب إنما هو "في الواجب أصالة" أما في إيجاب الشيء بتبعية غيره فلا فإن قيل لو وجب ما يتوقف عليه الواجب بإيجاب الواجب للزم وجوبه بلا تعلق الخطاب به وهو ممنوع؛ لأن كل ما تعلق به الخطاب حتما فهو واجب وما لا فلا لدخول التعلق المذكور في حقيقة الوجوب. وهذا مما(3/371)
أورده النافي أيضا دليلا على نفي قول الأكثرين فجوابه ما أشار إليه بقوله "ولزوم الوجوب" لما يتوقف عليه الواجب "بلا تعلق" للخطاب به "ممنوع لما نذكر" قريبا "فإن دفع" هذا المنع "بأن المراد" بأنه لم يتعلق به خطاب الواجب إن دليله غير دال عليه "إذ لو دل" دليله عليه "لعقل" لامتناع إيجاب الشيء بدون تعقله "وإذ لم يعقل لم يدل فلا إيجاب به" أي بدليل الواجب "ووجوبه" أي ما يتوقف عليه الواجب "بغيره" أي غير دليل الواجب "ليس الكلام فيه قلنا وهو الدليل الحق للأكثر إن الدلالة على" اصطلاح "الأصوليين لا تختص باللوازم البينة بالأخص" أي بالمعنى الأخص وهو كون اللازم يحصل في الذهن كلما حصل الملزوم بل بالمعنى الأعم وهو كونه حاصلا للملزوم كلما تعقلا ولا شك في دلالة دليل الواجب عليه بهذا النوع من الدلالة. "وتقدم في مفهوم الموافقة أن دلالته" أي مفهومها "قد تكون نظرية ويجري فيها الخلاف" فلا بعد في كون دليل الواجب موجبا لما يتوقف عليه بطريق الدلالة بل كما قال "فعلى ما علم مقدمة مما هي" أي المقدمة "له أظهر" أي فدلالة اللفظي للواجب على وجوب ما علم مقدمة لمدلوله بحيث يتوقف هو عليها وهو اللفظ الملزم لما له تلك المقدمة كدلالة صل على طلب ما عرف مقدمة(3/372)
ص -179-…يتوقف عليها الصلاة من طهارة وغيرها التزاما بالمعنى الأعم أظهر من دلالته على وجوب الأصل لتوقف تحقق الأصل عليه وعدم توقف تحققه على الأصل "وفرع عليه" أي وجوب المقدمة بوجوب الأصل كما في المنهاج وغيره "تحريم الزوجة إذا اشتبهت بالأجنبية"؛ لأن الكف عن الأجنبية واجب ولا يحصل العلم به إلا بالكف عن الزوجة فيجب الكف عنها ليتيقن الكف عن الأجنبية والله تعالى أعلم.
مسألة
"يجوز تحريم أحد أشياء" معينة "كإيجابه" أي أحد أشياء معينة إلا أن التخيير هنا في التروك وهناك في الأفعال "فله" أي المكلف هنا "فعلها" أي الأشياء "إلا واحدا لا جمعها" أي الأشياء "فعلا" لئلا يكون فاعلا للمحرم بخلافه ثمة فإن له هناك أن يأتي بالجميع وبالبعض دون البعض كما عرف "وفيها" أي هذه المسألة من الأقوال "ما تقدم" في الواجب المخير حتى قيل فيقال على قياسه النهي عن واحد مبهم من أشياء معينة، نحو لا تتناول السمك أو اللبن يحرم واحد منها لا بعينه. وقيل يحرم جميعها فيعاقب بفعلها عقاب فعل محرمات ويثاب بتركها امتثالا ثواب ترك محرمات ويسقط تركها الواجب بترك واحد منها وقيل المحرم واحد منها معين عند الله ويسقط الواجب بتركه أو ترك غيره منها وقيل المحرم ما يختاره المكلف للترك منها بأن يتركه دون غيره. وإن اختلف باختلاف اختيار المكلفين وعلى الأول إن تركت كلها امتثالا أو فعلت وهي متساوية أو بعضها أخف عقابا وثوابا فقيل ثواب الواجب والعقاب في المتساوية على ترك وفعل واحد منها وفي المتفاوتة على ترك أشدها وقيل أخفها سواء فعلت معا أو مرتبا وقيل العقاب في المرتب على فعل آخرها تفاوتت أو تساوت لارتكاب الحرام به ويثاب ثواب المندوب على ترك كل من غير ما ذكر تركه لثواب الواجب والتحقيق أن الثواب الواجب والعقاب على ترك وفعل أحدها من حيث إنه أحدها حتى إن العقاب في المرتب على آخرها من حيث إنه أحدها ويثاب ثواب المندوب على ترك كل من غير ما يتأدى(3/373)
بتركه الواجب منها من حيث إنه أحدها، ثم تزيد هذه المسألة على الواجب المخير بأن بعض المعتزلة زعم أنه لم يرد في اللغة النهي عن واحد مبهم من أشياء معينة كما ورد فيها الأمر بواحد مبهم من أشياء معينة ورد بالمنع حتى إنه لولا الإجماع على النهي عن طاعة الجميع في قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الانسان: 24] لم تحمل الآية على ذلك. "فتفريع تحريم الكل" أي زوجاته "في قوله لزوجاته إحداكن طالق" على هذا الأصل وهو جواز تحريم أحد أشياء معينة "مناقضة لهذا الأصل" فإن من حكمه أن له فعلها إلا واحدا فتحريم الكل مناف له "بخلاف" تحريم الزوجة في "الاشتباه" بأجنبية فإنها إنما "حرمت الزوجة لاحتمالها" أي الزوجة "المحرمة احتياطا ولا احتمال في الواحدة الموطوءة هنا؛ لأن موجبه" أي إحداكن طالق "ترك واحدة وقد فعل" إذا وطئهن إلا واحدة "إلا أن يعين" إحداهن للطلاق "وينسى" المعينة "فكالاشتباه" أي فيحرمن احتياط الاحتمال أن يكون كل منهن المحرمة.(3/374)
ص -180-…وبعد أن عبر في المحصول عن هذا الفرع بإحداكما طالق قال فيحتمل أن يقال ببقاء حل وطئهما؛ لأن الطلاق شيء معين فلا يحصل إلا في محل معين فإذا لم يعين لا يكون الطلاق واقعا بل الواقع أمر له صلاحية التأثير في الطلاق عند التعيين ومنهم من قال حرمتا جميعا إلى وقت البيان تغليبا لجانب الحرمة وجزم البيضاوي بهذا تفريعا على وجوب المقدمة التي يتوقف عليها العلم بالإتيان بالواجب.
مسألة
"لا يجوز في الواحد بالشخص والجهة وجوبه وحرمته بإطباق مانعي تكليف المحال وبعض المجيزين" له "لتضمنه" أي جواز اجتماع الوجوب والحرمة فيه "الحكم بجواز الترك وعدمه" أي جواز الترك؛ لأن جواز الفعل بمعنى الإذن فيه جنس للأحكام الأربعة غير الحرام، والنوع متضمن لجنسه فيلزم من وجوب الفعل كون الشارع آذنا فيه ومن حرمته كونه غير آذن فيه كما يلزم كونه طالبا لتركه غير طالب له وهو تكليف محال ممتنع بالاتفاق بخلاف التكليف بالمحال فإن جوازه مختلف فيه ويجوز في الحقيقة الواحدة جنسا وقد يقال نوعا أن يكون فرد منها واجبا وفرد منها حراما إذ لا مانع من ذلك وقد قال تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت: 37] ومنع بعض المعتزلة القائلين بأن الفعل يحسن ويقبح لذاته هذا بأن حقيقة الحسن منافية لحقيقة القبح فلو اجتمعا في فعل واحد لزم أن يكون حقيقة واحدة وهي ذات الفعل مقتضية لمتنافيين ممنوع لجواز أن يكون حقيقة الفعل مقولة على آحادها بالتشكيك ولا تكون مقتضية لواحد منها ويكون بعض آحادها مقتضيا للحسن وبعضها للقبح وقولهم الوجوب والتحريم متعلقان في السجود بقصد التعظيم لا بالسجود فما كان لله فهو واجب وما كان للمخلوق فهو حرام فبعد أنه تخصيص للدعوى بأفعال الجوارح لا يجديهم نفعا؛ لأن الجنس وهو قصد التعظيم واحد، ثم هو مخالف للإجماع لانعقاده قبل ظهور المخالف على أن الساجد للشمس عاص بنفس السجود(3/375)
والقصد جميعا كما ذكر الغزالي. ومنع بعض القائلين منهم بأن الفعل يحسن ويقبح بالأوصاف والإضافات وهذا باستلزامه الجمع بين الضدين مردود بأن اختلاف الأوصاف والإضافات يوجب التغاير فيكون متعلق الوجوب مغايرا لمتعلق الحرمة فلا محال ولا يجوز في الواحد الشخصي ذي الجهتين المتلازمتين وجوبه وحرمته باعتبارهما وإلا لزم وقوع الأمر والنهي عن ذات واحدة من جهة واحدة؛ لأن الأمر بالشيء أمر بما لا يتم ذلك الشيء إلا به.
"ويجوز في" الواحد الشخصي "ذي الجهتين" الغير المتلازمين وجوبه وحرمته فيجب بإحداهما ويحرم بالأخرى "كالصلاة في" الأرض "المغصوبة عند الجمهور" فتجب لكونها صلاة وتحرم لكونها غصبا "خلافا لأحمد وأكثر المتكلمين والجبائي" فقالوا "فلا يصح" الصلاة "فلا يسقط الطلب وللقاضي أبي بكر" فقال "لا يصح" الصلاة "ويسقط" الطلب "لنا القطع فيمن أمر بخياطة لا في مكان كذا فخاط فيه" أي في ذلك المكان "إنه مطيع عاص(3/376)
ص -181-…للجهتين" أي مطيع لجهة الأمر بالخياطة عاص لجهة النهي عن فعلها في ذلك المكان فكذا فيما نحن فيه يكون مطيعا من جهة أنه صلاة عاصيا من جهة أنه غصب "ولأنه" أي اجتماع الوجوب والحرمة "لو امتنع فلاتحاد المتعلق" أي متعلقهما "والقطع بالتعدد" هنا "فإن متعلق الأمر الصلاة و" متعلق "النهي الغصب جمعهما" أي المتعلقين "مع إمكان الانفكاك" بينهما لجواز وجود أحدهما بدون الآخر. "وأيضا لو امتنع" الجمع بينهما "امتنع صحة صوم مكروه وصلاة" مكروهة؛ لأن الوجوب كما يضاد التحريم يضاد الكراهة فلو لم يثبت مع التحريم لما ثبت مع الكراهة إذ لا مانع إلا التضاد واللازم باطل لثبوت كراهة كثير من صوم وصلاة شرعا "ودفعه" أي هذا الدليل كما ذكر ابن الحاجب وغيره "باتحاد متعلق الأمر والنهي هنا" أي في الصلاة في الأرض المغصوبة "وهو" أي متعلقهما "الكون في الحيز" وهو حصول الجوهر في حيزه لأنه جزء من الصلاة المأمور بها ونفس الغصب المنهي "بخلاف المكروه" من الصوم والصلاة "فإن فرض" المكروه "كذلك" أي أن متعلق الأمر والنهي فيه متحد "منع صحته" أي المكروه "وإلا" أي، وإن لم يفرض اتحاده "لم يفد" ثبوت المكروه ثبوت المطلوب أي كانت الملازمة ممنوعة إذ لا يلزم من الصحة في الصلاة المكروهة التي النهي فيها راجع إلى وصف منفك عن نفس الصلاة موجب لعدم اتحاد المتعلق؛ لأن الأمر راجع إلى نفس الفعل والنهي إلى عرض مفارق الصحة في الصلاة في الأرض المغصوبة التي النهي فيها راجع إلى ما هو ذاتي فيها موجبا لاتحاد متعلق الأمر والنهي؛ لأنهما راجعان إلى الكون وهو أمر واحد، ثم قوله ودفعه مبتدأ خبره "يناقض جوابهم الآتي" وسننبهك عليه. "بل ليس فيهما" أي في الصلاة في الأرض المغصوبة والمكروه من صوم أو صلاة "تحتم منع" قطعي "فلا ينافي" المنع منهما "الصحة" لهما "فالمانع" من الجمع بينهما في واحد شخصي ذي جهتين "خصوص تضاد" وهو المنع الحتم القطعي عن الشيء والأمر به(3/377)
"لا مطلقه" أي التضاد "والاستدلال" للمختار. "لو لم تصح" الصلاة في الأرض المغصوبة "لم يسقط" التكليف بها "وهو" أي عدم سقوطه "منتف" قال القاضي "للإجماع السابق" على وجود أحمد ومن معه على سقوطه فالصلاة صحيحة ثم الاستدلال مبتدأ خبره "دفع بمنع صحة نقله" أي الإجماع كما قال إمام الحرمين وغيره لمخالفة أحمد فإنه لو كان إجماعا لعرفه؛ لأنه أقعد بمعرفته من القاضي لكونه أقرب زمانا من السلف ولو عرفه لما خالفه فكان خلافه مظهرا لعدم الإجماع لا موجبا له ويؤيده أنه قد كان من السلف متعمقون في التقوى يأمرون بالقضاء واندفع قول الغزالي: الإجماع حجة على أحمد "قالوا" أي القاضي والمتكلمون "لو صحت" الصلاة في الأرض المغصوبة "كان" كونها صحيحة "مع اتحاد المتعلق" للأمر والنهي "لأن الصلاة حركات وسكنات وهما" أي الحركات والسكنات "شغل حيز" فهما مأمور بهما "وشغله" أي الحيز ظلما "الغصب" وهو منهي عنه "أجيب بأنه" أي متعلقهما واحد لكن "بجهتين فيؤمر به باعتبار أنه صلاة وينهى عنه؛ لأنه غصب" فهو إذا متعدد بالاعتبار، وإن اتحد بالذات وهذا هو الجواب الذي ذكر المصنف أن ما تقدم من الدفع يناقضه. "وألزم" على القول بصحة الصلاة في الأرض المغصوبة بناء على أن(3/378)
ص -182-…تعدد الجهة كاف "صحة صوم" يوم "العيد" لكون صومه مأمورا به من حيث هو صوم منهيا عنه من حيث إنه في يوم العيد "والجواب بتخصيص الدعوى بما يمكن فيه انفكاكهما" أي إنما نقول بجواز اتحاد المتعلق عند جواز انفكاك الجهتين يعني بأن لا تتلازم جهتا الوجوب والتحريم كما هو في الخلافية فإن كلا من جهة الصلاتية والغصبية لا تستلزم الأخرى فتتحقق صلاة ولا غصب ولو في بعضها بلحوق الإذن وغصب ولا صلاة بخلاف صوم يوم العيد فإن المجوز وهو جهة كونه صوما لا ينفك عن كونه في العيد؛ لأن لحوق الإذن فيه لا يكون إلا لله تعالى وتعذر ذلك بتعذر النسخ بعده صلى الله عليه وسلم ذكره المصنف، ثم هذا بناء على أن النهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة نهي تنزيه والأوجه أنه نهي تحريم وحينئذ فالجواب كما قال "وبأن نهي التحريم ينصرف إلى العين" أي عين المنهي عنه فيفيد عدم الصحة فيجب القول به "إلا لدليل" يفيد خلافه. "وقد وجدت إطلاقات في الصلاة" في الأرض المغصوبة "أوجبته" أي النهي "لخارج" أي لوصف خارج عن الذات وهي الآيات المطلقة في وجوب الصلاة من غير تقييد بمكان "وإجماع غير أحمد" على صحتها "لا في الصوم" أي بخلاف صوم يوم العيد فإنه لم يقم دليل صارف عن ظاهر بطلانه بل وقع الاتفاق على ذلك كذا ذكر الشيخ سعد الدين التفتازاني قال المصنف "ولا يخفى ما فيه" أي في الفرق المذكور فإنه وجد في الصوم إطلاقات أيضا ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" وفيهما أيضا عنه صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا" إلى غير ذلك من غير تقييد بكونه غير يوم العيد وإذا ثبت طلبه مطلقا، وإن كان ندبا لزم أنه إذا نهى عنه في وقت كصوم يوم العيد كان النهي لغيره وهو الإعراض عن ضيافة الله تعالى فكان يجب صحته ويعود الإلزام، ثم لا إجماع مع خلاف أحمد وغيره من(3/379)
المتكلمين على أنه خلاف الحنفية ثابت في صحة صوم يوم العيد أيضا فإنهم يصححون نذره وإنه لو صامه خرج عن عهدة النذر، وإن لم يرتضه المصنف كما تقدم بيانه في النهي هذا حاصل ما ذكر المصنف.
قال العبد الضعيف غفر الله تعالى له وأيضا إذا كان المراد بإمكان انفكاك الجهتين كون كل منهما يتعقل انفكاكها عن الأخرى كما ذكر القاضي عضد الدين فالجهتان في كل من الصلاة في الأرض المغصوبة وصوم يوم العيد ممكنتا الانفكاك؛ لأنه كما يمكن وجود صلاة بلا غضب وغصب بلا صلاة يمكن وجود صوم بلا يوم عيد ويوم عيد بلا صوم فلا يتم الفرق بينهما بالانفكاك وعدمه.
ثم كما أن الشارع أمر في صورة الصلاة بالكون وشغل الحيز على الإطلاق ونهى عن شغل الحيز الغصبي بخصوصه بها أمر في صورة الصوم إذا كان منذورا بالوفاء به مطلقا لقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] ونهى عن صوم يوم العيد بخصوصه كما ثبت في الصحيحين وغيرهما نعم هذا فرع انعقاد نذر صوم يوم العيد وهو عند الحنفية منعقد(3/380)
ص -183-…فيستويان في الحكم عندهم غير منعقد عند الشافعية فلا يستويان فيه من هذا الوجه عندهم قالوا "ولأن منشأ المصلحة والمفسدة" في الصلاة في المغصوبة "متعدد بخلاف صوم العيد" كما تقدم آنفا توجيهه قال المصنف "وقد يمنع" هذا "بل الشغل منشؤهما" أي المصلحة والمفسدة وهو متحد فيهما كما حققنا فلا يفترقان في الحكم "هذا فأما الخروج" من الأرض المغصوبة "بعد توسطها ففقهي" أي فالبحث عن حكمه بحث فرعي "لا أصلي وهو" أي الحكم الفرعي له "وجوبه" أي الخروج منها بما هو شرطه من السرعة وسلوك أقرب الطرق وأقلها ضررا على قصد التوبة وهو قصد نفي المعصية عن نفسه والخروج عن ملك الغير بقدر الإمكان للإجماع على ذلك وليس ذلك ببدعي؛ لأن ارتكاب أدنى الضررين يصير واجبا نظرا إلى دفع أعلاهما "فقط" أي: لا، وحرمته كما هو ظاهر قول أبي هاشم إنه مأمور به؛ لأنه انفصال عن المكث ومنهي عنه؛ لأنه متصرف في ملك الغير. وقول إمام الحرمين المعصية مستمرة، وإن كان في حركاته في صوب الخروج ممتثلا للأمر، وإنما حكمنا باستمرارها مع أنها إنما تكون بارتكاب المنهي والإمكان معتبر في المنهي ولا إمكان هنا إذ ليس في وسعه الخلاص؛ لأن نسبته إلى ما تورط فيه آخرا بسبب معصيته وليس هو عندنا منهيا عن الكون في هذه الأرض مع بذله المجهود في الخروج منها ولكنه مرتبك أي مشتبك في المعصية مع انقطاع نهي التكليف عنه "واستبعد استصحاب المعصية للإمام" أي استبعده ابن الحاجب وصاحب البديع وغيرهما "إذ لا نهي عنه" أي الخروج توبة "وثبوتها" أي المعصية "بلا نهي" أي فعل منهي عنه أو ترك مأمور به "كقوله" أي إمام الحرمين "ممنوع" قال المحقق التفتازاني. وإنما حكموا بالاستبعاد دون الاستحالة؛ لأن الإمام لا يسلم أن دوام المعصية لا يكون إلا بفعل منهي عنه أو ترك مأمور به بل ذلك في ابتدائها خاصة، وقال الأبهري وإذا عصى المكلف بفعل شخص آخر هو مسبب عن فعله على ما قاله صلى الله عليه(3/381)
وسلم: "من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها" لم يستبعد معصيته لفعل له غير مكلف به هو مسبب عن فعله الاختياري وأشار إلى وجه قول أبي هاشم ورده بقوله "وادعاء جهتي التفريع والغصب" في الخروج "فيتعلقان" أي الأمر والنهي "به" أي بالخروج كما سلف بيانه "يلزمه عدم إمكان الامتثال" للأمر والنهي فيه؛ لأن جهة التفريع لا تنفك عن جهة الغصب وحينئذ "فتكليف بالمحال" التكليف بهما إذ طلب الخروج طلب لشغل الحيز فلو كان شغل الحيز منهيا عنه كان طالبا من المكلف تحصيله غير طالب له ولا شك أنه تكليف محال "بخلاف صلاة الغصب فإنه يمكن" الامتثال للأمر والنهي فيها من غير محال لإمكان انفكاك جهتيهما فيها كما تقدم بيانه، وإنما لم يكن البحث عن حكم الخروج بحثا أصوليا؛ لأنه لا بحث للأصولي من حيث هو أصولي عن أحوال أفعال المكلفين من الوجوب والحرمة وغيرهما، وإنما بحثه عن أحوال الأدلة للأحكام من حيث إثباتها للأحكام وثبوت الأحكام بها فوظيفته هنا بيان امتناع تعلق الأمر والنهي بفعل واحد من جهة واحدة كالخروج؛ لأنه تكليف محال كما بيناه، والله سبحانه أعلم.(3/382)
ص -184-…مسألة
"اختلف في لفظ المأمور به في المندوب" أي في أن تسميته به حقيقة أو مجاز "قيل" أي قال القاضي عضد الدين "عن المحققين: حقيقة، والحنفية وجمع من الشافعية: مجاز ويجب كون مراد المثبت" للحقيقة "إن الصيغة" أي صيغة الأمر "في الندب يطلق عليها لفظ أمر حقيقة بناء على عرف النحاة في أن الأمر" اسم "للصيغة المقابلة لصيغة الماضي وأخيه" أي وصيغة المضارع حال كون الصيغة المذكورة "مستعملة في الإيجاب أو غيره" كالندب والإباحة "فمتعلقه" أي الأمر اسما للصيغة المذكورة "المندوب مأمور به حقيقة والنافي" للحقيقة مستمر "على ما ثبت أن الأمر خاص في الوجوب" والمراد به الصيغة وهو أي نفي الحقيقة "أوجه لابتنائه" أي النفي "على الثابت لغة" من أن الأمر خاص بالوجوب "وابتناء الأول" أي الإثبات حقيقة "على الاصطلاح" للنحويين في أن الصيغة لما هو أعم من الوجوب. "واستدلال المثبت بإجماع أهل اللغة على انقسام الأمر إلى أمر إيجاب وأمر ندب إنما يصح على إرادة أهل الاصطلاح من النحاة" بأهل اللغة مجازا وحينئذ لا حاجة إلى ذلك فإن أحدا لا يخالف فيه حتى يستدل عليه بذلك "لأن ما ثبت من أن الأمر خاص في الوجوب حكم اللغة كاستدلالهم" أي وإرادة أهل الاصطلاح في هذا الاستدلال للمثبتين كإرادة الاصطلاح في استدلالهم أيضا "بأن فعله" أي المندوب "طاعة وهي" أي الطاعة "فعل المأمور به أي ما يطلق عليه لفظ المأمور في الاصطلاح" النحوي "وإلا" أي، وإن لم يكن مرادهم ذلك "فعين النزاع" إذ ليس النزاع إلا في أن إطلاق المأمور على المندوب في اللغة حقيقة أو مجاز "مع أنه" أي هذا الاستدلال إنما يتمشى "على تقدير اصطلاح في الطاعة" وهو أن الطاعة فعل المأمور به بالاصطلاح النحوي "وهو" أي وهذا الاصطلاح فيها "منتف للقطع بعدم تسمية فعل المهدد عليه طاعة لأحد" أي لا يقال للفعل الذي تعلق به افعل به تهديدا إنه مأمور به ولا إنه أمر بذلك الفعل قطعا مع صدق الأمر(3/383)
اصطلاحا نحويا على صيغته بل الطاعة فعل المأمور به أو المندوب "وإلا" أي، وإن لم يرد المثبتون في الاصطلاح النحوي بل أرادوا في اللغة "فإنما يصح على أن الصيغة" التي هي مسمى لفظ أمر "حقيقة في الندب مشتركا" بينه وبين الإيجاب "أو خاصا" للندب "وهم" أي المثبتون "ينفونه" أي أنها حقيقة مشتركة بينهما أو خاصة في الندب ويجعلونها حقيقة في الوجوب خاصة فلا يكون المندوب مأمورا به حقيقة، وإن كان مطلوبا وحينئذ "فاستدلال النافي بأنه" أي المندوب "لو كان مأمورا أي حقيقة لكان تركه معصية" لما ثبت من أن تارك المأمور به عاص إذ كان الأمر خاصا بصيغة الإيجاب "ولما صح". قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء" كما في صحيح ابن خزيمة وغيره أو عند كل صلاة كما في الصحيحين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ندبهم إلى السواك ونفى كونه مأمورا به لوجود المشقة على تقدير الأمر ثم فاستدلال النافي مبتدأ خبره "زيادة" منه غير محتاج إليها "وتأويله" أي الأمر في هذين "بحمله" أي الأمر "على قسم خاص هو أمر الإيجاب" كما ذكر ابن الحاجب وغيره مخالفة للظاهر "بلا دليل وقولهم" أي المثبتين "لدليلنا ظهر أنه لم يتم" وحينئذ(3/384)
ص -185-…فأخف الأمرين على المثبتين أن تجعل هذه المخالفة لفظية فالمثبت يعني الاصطلاح النحوي ولا يخالفه النافي والنافي مشى على الجادة ولا يخالفه المثبت كما أشار إليه بقوله "ومثل هذه" المسألة "في اللفظية الخلاف في أن المندوب تكليف والصحيح" الذي عليه الجمهور "عدمه" أي كونه تكليفا "خلافا للأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني والقاضي أيضا"، وإنما كان هذا الخلاف لفظيا "لدفع بعده" أي خلافه "بأن المراد" بقوله إنه تكليف "إيجاب اعتقاده" أي اعتقاد كونه مندوبا وإن كان هذا الدفع بعيدا أيضا؛ لأن الندب حكم والوجوب حكم آخر كما أشار إليهما القاضي عضد الدين وكيف لا، وفي هذا التأويل إهدار الندب من الأحكام التكليفية.(3/385)
ثم هذا بناء على الاتفاق على أن التكليف إلزام ما فيه كلفة ومشقة ورد ما ذهب إليه من أن فعل المندوب لتحصيل الثواب شاق؛ لأنه في سعة من تركه لعدم الإلزام كما مشى عليه القاضي عضد الدين أيضا وإلا فغير واحد على أن الخلاف لفظي بناء على تفسير التكليف. فإن فسر بإلزام ما فيه كلفة فليس بتكليف، وإن فسر بطلب ما فيه كلفة فتكليف لكن هذا إن تم في توجيه خلافه في المندوب لا يتم في توجيه خلافه في المباح؛ لأنه لا طلب فيه بخلاف الدفع المذكور فلا جرم أن اقتصر المصنف عليه ورتب خلافه في المباح أيضا عليه فقال "إلا أن المباح حينئذ" أي حين يكون المراد بكون الندب تكليفا إيجاب اعتقاد ندبيته "تكليف" أيضا بناء على أن المراد به إيجاب اعتقاد إباحته "وبه" أي ويكون المباح تكليفا "قال" الأستاذ "أيضا" ومن سواه على أنه ليس بتكليف قيل: وإنما قال هذا مع أن التكليف عنده طلب ما فيه كلفة تتميما للأقسام وإلا فغيره مثله في وجوب الاعتقاد ولا يخفى ما فيه "ومثلهما" أي المندوب والمباح من حيث إن الخلاف في كون المندوب مأمورا به حقيقة أو مجازا وكونه تكليفا أو لا وفي كون المباح تكليفا أو لا لفظي "المكروه" أي الخلاف في كون المكروه تنزيها منهيا عنه وكونه تكليفا فالمكروه تنزيها "منهي" عنه "أي اصطلاحا" نحويا "حقيقة مجازا لغة"؛ لأن النهي في الاصطلاح يقال على لا تفعل استعلاء سواء كان للمنع الحتم أو لا أما في اللغة فيمتنع أن يقال حقيقة نهي عن كذا إلا إذا منع منه فالقائل "حقيقة" يريد الاصطلاح والقائل "مجاز" يريد اللغة "وإنه" أي المكروه "ليس تكليفا" عند الجمهور؛ لأنه ليس إلزام ما فيه كلفة وتكليف عند الأستاذ؛ لأنه مكلف باعتقاد كراهته تنزيها أو طلب تركه في الجملة فلا جرم أن قال "وفيهما" أي مسألتي المكروه هاتين "ما فيهما" أي مسألتي المندوب مأمور به والمندوب والمباح مكلف بهما. "والمراد" بالمكروه المكروه "تنزيها" كما ذكرنا؛ لأن المكروه(3/386)
تحريما لا خلاف في أنه تكليف وهو ظاهر قالوا "ويطلق" المكروه إطلاقا شائعا "على الحرام وخلاف الأولى مما لا صيغة" نهي "فيه" أي تركه "وإلا" أي، وإن لم يفرق بين الكراهة التنزيهية وخلاف الأولى بأن خلاف الأولى ما لا صيغة نهي فيه "فالتنزيهية مرجعها إليه" أي خلاف الأولى بل هي هو بعينه؛ لأن حاصلها ما تركه أولى فالتفرقة مجرد اصطلاح بأخذ ذلك الاعتبار في خلاف الأولى "وكذا يطلق المباح على متعلق" الإباحة "الأصلية" التي هي عدم(3/387)
ص -186-…المؤاخذة بالفعل والترك لما هو المنافع لعدم ظهور تعلق الخطاب به "كما" يطلق المباح أيضا "على متعلق خطاب الشارع تخييرا" بين الفعل والترك على السواء وهي الإباحة الشرعية "وكلاهما" أي المتعلقين إنما يعرفان "بعد الشرع على ما تقدم" في آخر المسألة الثانية من مسألتي التنزل، وفي ذلك تحرير أوردناه ثمة فليراجع. "أما المعتزلة فأعم من ذلك" أي المباح عندهم يطلق على ما هو أعم من متعلق الإباحة الأصلية والشرعية "والعقلية" ومتعلقها عندهم الأفعال الاختيارية التي يدرك العقل عدم اشتمالها على المصلحة والمفسدة ولم يتعلق بها خطاب لحكم العقل بعدم الحرج في فعلها وتركها "وأما من جعله" أي جواز إطلاق المباح شرعا على متعلق غير الشرعية وهو انتفاء الحرج في الفعل والترك وعدم جواز ذلك "خلافا في أن لفظ المباح هل يطلق في لسان الشرع على غير ذلك" أي غير متعلق خطاب الشارع تخييرا كما هو مقتضى تحرير التفتازاني الكلام في أن المباح عن بعض المعتزلة ما انتفى الحرج في فعله وتركه وعندنا ما تعلق خطاب الشارع بذلك به "فلا حاصل له؛ لأنه إن أراد" بالشرع "الشارع فلا يعرف له" أي للشارع "اصطلاح في المباح أو" أراد به "أهل الاصطلاح الفقهي فلا خلاف برهانيا" بل هو حينئذ لفظي مبني على الاصطلاح "ويرادف المباح" بالمعنى الشرعي وهو ما تعلق به خطاب الله تعالى تخييرا بين الفعل وتركه على السواء "الجائز ويزيد" الجائز عليه في الإطلاق "بإطلاقه" أي الجائز "على ما لا يمتنع شرعا" أي ما لا يحرم شرعا "ولو" كان ذلك "واجبا ومكروها" أي أو مكروها فيطلق على كل من المندوب والمباح بطريق أولى "وعقلا" أي وعلى ما لا يمتنع عقلا وهو الممكن العام سواء كان "واجبا أو راجحا أو قسيميه" أي الراجح وهما المرجوح والمساوي وهذا أعم من الأول مطلقا وبينه وبين الثاني عموم من وجه وعلى ما استوى شرعا أو عقلا في عدم الحرمة فعله وتركه وهذا أعم من الأول وأخص من الثاني(3/388)
مطلقا ومن الثالث من وجه إذا حمل ما استوى فيه الأمران عقلا على الممكن الخاص الذي نسبة ماهيته إلى الوجود والعدم سواء كما في عدم الاقتضاء ولعل المصنف لم يذكر هذا؛ لأن الجائز بهذا المعنى لم يرد في عرف الفقهاء كما ذكر الأبهري. وعلى ما يشك المجتهد فيه في الشرع أو في العقل باعتبار استواء الأمرين فيه شرعا أو عقلا وعدم الامتناع شرعا أو عقلا وهذا معنى قول ابن الحاجب وعلى المشكوك فيه فيهما بالاعتبارين قال الأبهري وهو يشتمل على أربعة أقسام أحدها المشكوك فيه باعتبار استواء الأمرين فيه شرعا في نظر المجتهد وهو ما تعارض فيه دليلان يقتضي كل منهما نقيض الآخر ولم يترجح أحدهما على الآخر في نظره فيتخير بين الحكمين على سبيل البدل لا على سبيل الجمع فيقول الحكم فيه إما هذا أو ذاك والفرق بينه وبين الرابع أن الاستواء هنا في نظر المجتهد وهناك في حكم الشارع وإلى هذا أشار الغزالي بقوله ليس هذا الوجه من الإباحة بشيء؛ لأن المباح ما دل دليل على إباحته لا دليلان متقابلان ثانيها المشكوك فيه باعتبار عدم الامتناع الشرعي في نظر المجتهد وهو ما دل فيه دليل على حكم شرعي وامتنع عدمه ولم يظهر في نظر المجتهد امتناع عدمه فلم يجزم به فعدم امتناع نقيضه مشكوك فيه.(3/389)
ص -187-…ثالثها: المشكوك فيه باعتبار استواء الأمرين فيه عقلا في نفس المجتهد رابعها المشكوك فيه باعتبار عدم الامتناع في نظر المجتهد على قياس ما ذكر في الشرعي ا هـ مختصرا وكأن المصنف لم يذكر هذا لاندراجه فيما لا يمتنع شرعا وما لا يمتنع عقلا كما يظهر بالتأمل الصادق وقوله "كما يقال المشكوك على الموهوم" صحيح في حد ذاته لكن المناسبة في تشبيه ما تقدمه به غير ظاهرة نعم أشار القاضي عضد الدين إلى ما حاصله أن المشكوك فيه كما يقال على ما يستوي طرفاه عقلا أو شرعا في نفس المجتهد وعلى ما لا يمتنع شرعا أو عقلا في نفس المجتهد فهذه أربعة معان كذلك يقال الجائز عليها وهذا التشبيه ظاهر الوجه، والله سبحانه أعلم.
مسألة
"نفي الكعبي المباح خلافا للجمهور؛ لأنه" أي المباح "ترك حرام" فإن السكوت ترك للقذف والسكون ترك للقتل "وتركه" أي الحرام "واجب ولو" كان تركه واجبا "مخيرا" لإمكان ترك الحرام بغير الواجب كالمندوب والمكروه تنزيها فيكون الواجب أحدها فإذا اختار المكلف فعل المباح كان واجبا "فاندفع" بقوله ولو مخيرا "منع تعين المباح للترك" للحرام "لجوازه" أي ترك الحرام "بواجب" لكنه قيل لا يجوز كونه واجبا مخيرا؛ لأن الواجب المخير واحد مبهم من أمور معينة وليس كذلك هنا فأجيب بأن المراد تعينها بالنوع كما في خصال الكفارة وما به يحصل ترك الحرام متعين بالنوع؛ لأنه إما واجب أو مندوب أو مكروه أو مباح ودفع بأن تركه إنما يحصل بالأفعال وتعينها النوعي إنما يحصل بتعين حقائقها وتميز كل منها عما عداه بما يخصه كالصوم والإعتاق مثلا لا بالأعراض العامة ككونها واجبة أو مندوبة وأجيب بأن الشرع عين كل نوع من الفعل يتعلق به حكم والفقهاء دونوا تلك الأنواع والتعبير عنها بالأعراض العامة للإغناء عن التفصيل المعلوم لا للجهل بها على التفصيل.(3/390)
"ويورد" على الكعبي أنه "ليس تركه" أي الحرام "عين فعل المباح" غايته أنه لا يحصل إلا به "وأجاب" الكعبي "بأن" هذا لا يضر فإن "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" وبه يتم دليلنا فيقال ترك الحرام الذي هو واجب مقدمة للواجب ومقدمة الواجب واجب. "وأورد" على هذا الدليل "أنه مصادمة الإجماع على انقسام الفعل إليه" أي المباح "وباقيها" أي أقسامه من الواجب والحرام والمكروه والمندوب فلا يسمع "فأجاب" الكعبي "بوجوب تأويله" أي الإجماع على انقسام الفعل إلى هذه الأقسام بأنه منقسم إليها "باعتباره" أي الفعل "في ذاته" أي مع قطع النظر عما يستلزمه من كونه يحصل به ترك حرام "لا بملاحظة ما يلزمه" أي الفعل من كونه يحصل به ترك حرام فيكون المباح نظرا إلى ذاته لم يخرج عن كونه مباحا وبالنظر إلى ما يستلزمه من كونه يحصل به ترك حرام واجبا، وإنما أولناه "لقطيعة دليلنا" المذكور جمعا بينه وبين دليلنا بقدر الإمكان لبقاء العمل بالإجماع والدليل المذكور على(3/391)
ص -188-…وجوب المباح إذ الأصل في الأدلة الإعمال لا الإهمال "ويتعين كونه" أي هذا "مراد القائلين بوجوب ما لا يتم الواجب إلا به" قال المصنف فإن قولهم يقتضي وجوب مباحات كثيرة تجر إلى مثل قول الكعبي فيجب كون مرادهم أن تلك المقدمات مباحة في ذاتها ولكن لزمها الوجوب لعارض التوصل إلى الواجب بها "فإن لزم وجوب المعصية مخيرا" للكعبي على سبيل النقض الإجمالي لدليله بأن يقال لو صح ما ذكره بجميع مقدماته لزم كون المحرم إذا ترك به محرما آخر كاللواطة إذا ترك بها الزنا واجبا لقيام ذلك الدليل فيه؛ لأن هذا المحرم يتحقق به ترك الحرام فيكون واجبا "فقد ذكر جوابه" وهو ما ذكره في إلزام خرق الإجماع من كونه في نفسه معصية، وإنما لزمه خلاف ذلك فيكون واجبا حراما معا كالصلاة في الأرض المغصوبة كذا ذكر المصنف وإيضاحه أنه يقول لا مانع من اتصاف الفعل بالوجوب والحرمة معا باعتبار جهتين كما في الصلاة في الأرض المغصوبة فيصير الحرام بالنظر إلى ذاته واجبا بترك حرام آخر لغيره "وجواب الأخيرين" أي أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ووجوب المعصية من قبل الجمهور "منع أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب واقتصارهم" أي المتقدمين والمتأخرين منهم "عن آخرهم" على هذا الجواب "ينادي بانتفاء دفعه" أي قول الكعبي "إلا للنافي" كون ما لا يتم الواجب إلا به واجبا "وليس" هذا هو "المذهب الحق" للفقهاء والمحدثين وغيرهم "ولا مخلص لأهله" حينئذ بل يكونون ملزمين بقوله بنفي المباح رأسا. قال المصنف رحمه الله تعالى "وهو" أي جوابه "أقرب إليك منك لانكشاف منع أن كل مباح ترك حرام بل لا شيء منه" أي من المباح "إياه" أي ترك حرام "ولا يستلزمه" أي المباح ترك الحرام "للقطع بأن الترك وهو كف النفس عن الفعل فرع خطوره" أي الفعل "و" فرع "داعية النفس له" أي للفعل "ويقطع بإسكان سائر الجوارح وفعلها" أي الجوارح "لا عن داعية فعل معصية تركا لها" أي للمعصية "بذلك" الإسكان(3/392)
والفعل للجوارح "وعند تحققها" أي داعية فعل معصية "فالكف واجب ابتداء يثبته" أي وجوبه "ما قام بإطلاقه الدليل" قال المصنف فخرج ترك المعصية بفعل المعصية فلا يكون ممتثلا لترك الأولى بذلك فيلتزم أنه لا يحصل له ثواب الترك غير أنه لا يعاقب عليها لعدم الفعل، وإنما صدر الجواب باللفظ المذكور تعجيبا من ذهول الكل عن هذا الجواب مع أنهم المحققون ولكن الله تعالى هو خالق العلم وحاصل الجواب أن قوله كل مباح ترك حرام ممنوع للقطع بفعل مباحات لا تحصى من غير خطور معصية يراد بفعل تلك المباحات تركها ولا شك أن الترك الذي هو الفعل الاختياري لا يتصور إلا بخطور المتروك وداعية النفس إلى فعله فحينئذ يتحقق الترك فثبت المباح مجردا عن كونه تركا لشيء فبطل دليله على ذلك ولله الحمد ا هـ. ثم كون مذهب الكعبي إنكار المباح رأسا كما ذكر المصنف هو ما نقله كثير كإمام الحرمين وابن برهان والآمدي وقيل بل ذهب إلى أن المباح مأمور به دون الأمر بالندب والأمر بالإيجاب وهو المنقول عنه لآخرين كالقاضي والغزالي وهو غريب.(3/393)
ص -189-…مسألة
"قيل المباح جنس الواجب"؛ لأن المباح ما أذن في فعله وهذا جزء حقيقة الواجب لاختصاص الواجب بقيد زائد وهو لا في تركه ولا معنى للجنس إلا كونه تمام الجزء المشترك "وهو" أي هذا القول "غلط بل" المباح "قسيمه" أي الواجب "مندرج معه" أي الواجب "تحت جنسهما إطلاق الفعل لمباينته" أي المباح للواجب "بفصله إطلاق الترك"؛ لأن الواجب غير مطلق الترك "وتقدم في" مسألة لا شك في تبادر كون الصيغة في الإباحة والندب مجازا في بحث "الأمر ما يرشد إليه" أي كونه مباينا فليستذكر بالمراجعة.(3/394)
"تقسيم للحنفية الحكم إما رخصة وهو" أي الرخصة "ما" أي حكم "شرع تخفيفا لحكم" آخر "مع اعتبار دليله" أي الحكم الآخر "قائم الحكم" أي باقيا العمل به "لعذر خوف" تلف "النفس أو العضو" ولو أنملة إذا لم يمتثل ذلك فخرجت العزيمة؛ لأنها لم تشرع تخفيفا لحكم آخر بل شرعت ابتداء لا بناء على عارض كما سيأتي ومنها خصال الكفارة المرتبة والتيمم عند فقد الماء كما هو ظاهر بقليل تأمل "كإجراء المكره بذلك" أي بما يحصل به خوفه على نفسه أو عضوه "كلمة الكفر" على لسانه وقلبه مطمئن بالإيمان "وجنايته" أي المحرم المكره بذلك "على إحرامه" ولم أقف على تفرقة بين أن يكون إحرام حج أو عمرة فلعله على إطلاقه ولا على صريح في أن المراد بها جناية موجبة للفساد أو للدم فقط أو لأعم منهما ومن الصدقة إلا ما عساه يفهم مما في شرح لأصول فخر الإسلام يريد جناية ثبتت بدليل قطعي. ا هـ. ويخال من اقتصار بعضهم على تعليل الترخص في الإقدام على الجناية بأن فيه انجبار حق الله تعالى بالدم أن المراد الجناية التي توجب الدم لا الصدقة ويدفع بأنه إذا ثبت الترخص في الجناية التي توجب الدم ففي التي توجب الصدقة بطريق أولى، ثم لا يخفى أن ما في الشرح المذكور أولى "ورمضان" أي وجناية الصائم في رمضان صحيحا مقيما مكروها بذلك على جنايته على صومه بالإفساد "وترك الخائف على نفسه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصلاة" المفروضة إذا أمر ونهى وصلى "وتناول المضطر مال الغير وهو" أي هذا النوع من الرخصة "أحق نوعيها" أي أولاهما حقيقة باسم الرخصة لقيام دليل العزيمة فيه وقيام حكمه من غير دليل دال على تراخيه عنه وحينئذ "فالعزيمة أولى ولو مات بسببها" أي العزيمة كما في هذه الأمور أما قيام دليل العزيمة في استمرار الإيمان وعدم تراخي حكمه وهو وجوبه عنه فظاهر فإن دليل وجوب الإيمان قطعي لا يتصور تراخي حكمه عنه عقلا ولا شرعا فيقوم حكمه وهو وجوبه بقيام دليله ويدوم بدوامه.(3/395)
وإنما رخص الشارع له في إجراء تلك الكلمة على لسانه في تلك الحالة؛ لأن بالامتناع من إجرائها والصبر على القتل يفوت حقه صورة بتخريب بدنه ومعنى بزهوق روحه وحق الله لا يفوت معنى لكون قلبه مطمئنا بالإيمان وهو الركن الأصلي فيه، وإنما كانت العزيمة أولى، وإن لزم من المحافظة عليها القتل لما فيها من رعاية حق الله صورة ومعنى بتفويت حقه صورة ومعنى فكان جهادا في سبيل الله لإعلاء كلمة الله فكان شهيدا كما في الجهاد مع الكفار ثم مما يدل على هذه(3/396)
ص -190-…الجملة ما روى إسحاق بن راهويه وعبد الرزاق وأبو نعيم والحاكم والبيهقي بإسناد صحيح من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر آلهتهم بخير فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما وراءك" قال شر يا رسول الله ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال: "فكيف تجد قلبك" قال: مطمئنا بالإيمان قال: "فإن عادوا فعد"، وقال ابن عبد البر أجمع أهل التفسير على أن قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 106] نزلت في عمار وما روى ابن أبي شيبة عن الحسن مرسلا: أن عيونا لمسيلمة أخذوا رجلين من المسلمين فأتوه بهما فقال لأحدهما أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم قال أتشهد أني رسول الله فأهوى إلى أذنيه فقال إني أصم فأعاد عليه فقال مثله فأمر به فقتل، وقال للآخر أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم قال أتشهد أني رسول الله قال نعم فأرسله فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هلكت قال: "وما شأنك" فأخبره بقصته وقصة صاحبه فقال: "أما صاحبك فمضى على إيمانه وأما أنت فأخذت بالرخصة".(3/397)
وأما قيام دليل العزيمة في الباقي وهو المحافظة على الإحرام والصيام إلى انتهائهما شرعا عن الجناية الثابتة بدليل قطعي على الإحرام وعلى الصيام بما يوجب الإفساد والقيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأداء الصلاة المكتوبة في وقتها والكف عن تناول مال الغير على سبيل العدوان وعدم تراخي أحكام هذه عن أدلتها من الكتاب والسنة والإجماع فمعروف في مظانه، وإنما رخص الشارع للمحرم والصائم المذكورين الإقدام على الجناية المذكورة وللخائف على نفسه التلف بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وصلاته المكتوبة في وقتها في ترك ذلك وللمضطر في تناول مال الغير؛ لأن في الإقدام على الجناية في الأوليين وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصلاة في الوقت والكف عن تناول مال الغير فوات حقهم صورة ومعنى وحق الله لا يفوت معنى مع انجباره في الإحرام بالقضاء والدم أو بالدم أو الصدقة، وفي الصيام والصلاة بالقضاء وفي تناول مال الغير بالضمان، وإنما كانت العزيمة في هذه الأمور أولى، وإن لزم منها القتل أما في العبادات فلبذل نفسه لله لإقامة حق الله وإظهار الصلابة في الدين وإعزازه. وأما فيما فيه حق العبادة فقياسا على العبادات لما فيه أيضا من إظهار القوة في الدين ببذل نفسه في الاجتناب عن المحرمات ولذا قال محمد فيه كان مأجورا إن شاء الله تعالى هذا وفي مبسوط خواهر زاده الأصل في تخريج هذه المسائل أن ما حرمه النص حالة الاختيار ثم أبيح حالة الاضطرار وهو مما يجوز أن يرد الشرع بإباحته كأكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الخمر وإباحة الفطر في رمضان للمسافر والمريض إذا امتنع عن ذلك حتى قتل كان آثما؛ لأنه أتلف نفسه لا لإعزاز دين الله إذ ليس في التورع عن المباح إعزاز دين الله ومن أتلف نفسه لا لإعزاز دين الله كان آثما وما حرمه النص حالة الاختيار ورخص فيه حالة الاضطرار وهو ليس مما يجوز أن يرد الشرع بإباحته كالكفر بالله ومظالم العباد إذا(3/398)
امتنع فقتل كان مأجورا؛(3/399)
ص -191-…لأنه بذل مهجته لإعزاز دين الله حيث تورع عن ارتكاب المحرم وكذا ما ثبت حرمته بالنص ولم يرد نص بإباحته حالة الضرورة كالإكراه على ترك الصلاة في الوقت وعلى الفطر في رمضان للمقيم الصحيح إذا امتنع عن ذلك فقتل كان مأجورا؛ لأنه بذل مهجته لإعزاز دين الله وقتل الصيد للمحرم كذلك.
"أو" ما شرع تخفيفا لحكم آخر مع اعتبار دليله "متراخيا" حكمه "عن محلها" أي الرخصة "كفطر المسافر" والمريض في رمضان فإن دليل وجوب الصوم كقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] قائم لكن تراخى حكمه عن محل الرخصة وهو السفر والمرض بقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} [البقرة: 184] "والعزيمة" في هذا النوع "أولى ما لم يستضر" بها نظرا إلى قيام السبب وهو محمل ما في الصحيحين عن أنس كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا الصائم ومنا المفطر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. ويوضحه ما في صحيح مسلم عن حمزة الأسلمي أنه قال يا رسول الله أجد في قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح قال صلى الله عليه وسلم: "هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" وصام هو في السفر أيضا كما في الصحيحين فبحثنا عن ذلك فظهر أنه؛ لأن معنى الرخصة لم يتمحض في الفطر بل في العزيمة معناها أيضا وهو موافقة الصائمين وليوطن النفس على صوم أيام رمضان وكل ما وطنت عليه النفس خف أمره عليها فكان في تمحض معنى الرخصة في الفطر تردد إذا لم يستضر به فإذا استضر تمحض حينئذ في الفطر معنى الرخصة "فلو مات بها" أي بالعزيمة "أثم" لقتله نفسه بلا مبيح ويشهد له ما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فشربه فقيل له إن بعض الناس قد صام فقال: "أولئك العصاة"، فإنه محمول على أنهم استضروا به بدليل ما في لفظ(3/400)
له فقيل له إن الناس قد شق عليهم الصوم.
"والعزيمة ذلك الحكم" المعبر عنه بقوله تخفيفا لحكم "فيقيد" ذلك الحكم "بمقابلة رخصة وقد لا يتقيد" بمقابلة رخصة "فيقال ما" أي حكم "شرع ابتداء غير متعلق بالعوارض" أي غير مبني على أعذار العباد وهو إيضاح لابتدائية شرعية الحكم فخرجت الرخصة وعمت العزيمة ما كان هكذا مما كان في مقابلة رخصة أو لا في مقابلتها.
"وتعرف الرخصة بما تغير من عسر إلى يسر من الأحكام" وهو إيضاح لما تغير للعلم من السياق أن المراد حكم تغير إلخ. "وقسم كل" من العزيمة والرخصة بهذين المعنيين "أربعة" من الأقسام فقسمت "العزيمة إلى فرض ما" أي حكم "قطع بلزومه" مأخوذ "من فرض قطع وواجب ما" أي حكم "ظن" لزومه سمي واجبا "لسقوط" أي وقوع "لزومه على المكلف" جبرا "بلا علم" له بثبوته العلم القطعي فهو يتحمله بدون اختياره لعدم علمه بلزومه له قطعا بخلاف الفرض فإنه لما ثبت علمه به قطعا يتحمله باختياره وشرح صدره فهو مأخوذ "من وجب(3/401)
ص -192-…سقط والشافعية" بل الجمهور الفرض والواجب اسمان "مترادفان" لفعل مطلوب طلبا جازما "ولا ينكرون" أي الشافعية بل الجمهور "انقسام ما لزم" فعله الذي هو معنى طلبه طلبا جازما "إلى قطعي" أي ثابت بدليل قطعي دلالة وسندا "وظني" أي ثابت بدليل ظني دلالة وسندا أو دلالة لا سندا وبالقلب "ولا" ينكرون "اختلاف حالهما" أي القطعي والظني من حيث الإكفار وعدمه وغير ذلك، وإنما النزاع في أن الاسمين هل هما لمعنى واحد في ذاته تتفاوت أفراده في بعض الأحكام بالنظر إلى طريق ثبوته أو كل منهما لفرد من ذلك المعنى باعتبار في طريق ثبوته حتى إن النزاع إنما يكون في مجرد اختصاص كل منهما باسم من ذينك الاسمين وإن تسميته به حقيقة اصطلاحية دون الآخر فذهب الجمهور إلى الأول والحنفية إلى الثاني "فهو" نزاع "لفظي" كما نص عليه غير واحد من المحققين. "غير أن إفراد كل قسم باسم أنفع عند الوضع" لموضوع المسألة "للحكم" عليه فإنك حينئذ تضع الفرض موضوع مسألة لتحكم عليه بما يناسبه وتضع الواجب لذلك بخلاف ما إذا لم يكن إلا اسم واحد يعم معنيين قاله المصنف أي فإنك تضع أحد القسمين معبرا عنه باسمه الذي يخصه لتحكم عليه بما يناسبه من الحكم بحسب طريق ثبوته قطعا أو ظنا من غير احتياج إلى نصب قرينة على أن المراد به القسم الذي طريق ثبوته قطعي أو ظني لدلالة لفظه على ذلك بخلاف ما إذا كان كلا الاسمين للقسمين فإن في بعض الأحكام على كل منهما يحتاج إلى نصب قرينة على أن المراد بذلك الاسم قسم معين منهما "وإلى سنة الطريقة الدينية منه صلى الله عليه وسلم أو" الخلفاء "الراشدين أو بعضهم" التي يطالب المكلف بإقامتها من غير افتراض ولا وجوب فيخرج الفرض والواجب، وإنما لم يفصح عن هذا للعلم به مما تقدم ومما يدل على أن السنة مقولة على هذا المعنى ما في الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه وصححه: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين(3/402)
عضوا عليها بالنواجذ" وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم كما ذكر البيهقي وغيره لما صحح أحمد وابن حبان والحاكم من حديث سفينة "الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا" وفي رواية "الخلافة في أمتي، وفي لفظ خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك أو قال ملكه من يشاء" واحتج به أحمد وغيره على خلافتهم.
"وينقسم مطلقها" أي السنة "إلى سنة هدي" وهي ما يكون إقامتها تكميلا للدين "تاركها" بلا عذر على سبيل الإصرار "مضلل ملوم كالأذان" للمكتوبات كما هو قول كثير من المشايخ وإلا فقد ذهب صاحب البدائع إلى وجوبه ومال إليه شيخنا المصنف لمواظبته صلى الله عليه وسلم من غير ترك أصلا وهو قوي "والجماعة" لها ويشهد له ما عن ابن مسعود رضي الله عنه من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن فإن الله تعالى شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه"،(3/403)
ص -193-…رواه مسلم وأصحاب السنن. "وإنما يقاتل المجمعون على تركها" أي سنة الهدى كما قال محمد في أهل مصر تركوا الأذان والإقامة أمروا بهما فإن أبوا قوتلوا بالسلاح "للاستخفاف"؛ لأن ما كان من إعلام الدين فالإصرار على تركه استخفاف بالدين فيقاتلون على ذلك ذكره في المبسوط ومن هنا قيل لا يكون قوله قوتلوا دليلا على وجوب الأذان كما استدل به بعضهم عليه ويشكل على هذا قوله ولو تركه واحد ضربته وحبسته بل وما في شرح مختصر الكرخي عنه أنه قال: لو ترك أهل كورة سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها ولو ترك رجل واحد ضربته وحبسته؛ لأن السنة لا يضرب ولا يحبس عليها إلا أن يحمل على ما إذا كان مصرا على الترك من غير عذر فإنه استخفاف كما في الجماعة المصرين عليه من غير عذر وهو متعين للقطع بأن لا ملام على ترك بعض السنن بعذر السفر والمرض "وقول الشافعي مطلقها" أي السنة من أصحابي على ما في الأم أو من المتكلم على لسان الشرع كما ذكر السبكي "ينصرف إليه" أي إلى مسنونه "عليه السلام" وعزاه من الراوي صاحب الكشف وغيره إلى أصحابنا المتقدمين وأصحاب الشافعي وجمهور أصحاب الحديث وبه أخذ صاحب الميزان "صحيح في عرف الآن والكلام في عرف السلف ليعمل به في نحو قول الراوي" صحابيا كان أو غيره "السنة أو من السنة وكانوا" أي السلف "يطلقونها" أي السنة "على ما ذكرنا" أي سنته صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين ولا سيما العمرين ففي صحيح مسلم وغيره عن علي رضي الله عنه في قصة جلد الوليد بن عقبة من شرب الخمر لما أمر الجلاد بالإمساك على الأربعين جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين وكُلٌّ سنة وهذا أحب إلي، وقال: مالك قال: عمر بن عبد العزيز سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها اعتصام بكتاب الله وقوة على دين الله ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر(3/404)
خالفها من اهتدى بها فهو مهتد ومن استنصر بها فهو منصور ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا ووقع ذلك في مديح الشعراء فقال الفرزدق في هشام بن عبد الملك:
فجاء بسنة العمرين فيها …شفاء للصدور من السقام
ومن سليمان بن عبد الملك:
إنا لنرجو أن تعيد لنا …سنن الخلائف من بني فهر
عثمان إذ ظلموا وانتهكوا …دمه صبيحة ليلة النحر
ودعامة الدين التي اعتدلت …عمرا وصاحبه أبا بكر
وكيف لا وقد ثبت إطلاق السنة منه صلى الله عليه وسلم على ما سنوه كما روينا آنفا فلا جرم أن قال الكرخي والقاضي أبو زيد والسرخسي وفخر الإسلام ومتابعوهم والصيرفي لا يجب حمله على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحكى الداودي في شرح مختصر المزني أن الشافعي كان يرى في القديم أن ذلك مرفوع إذا صدر من الصحابي أو التابعي ثم رجع عنه؛ لأنهم قد(3/405)
ص -194-…يطلقونه ويريدون سنة البلد ا هـ لكن قال الإسنوي النقل الأول أرجح لكونه منصوصا عليه في القديم والجديد معا، وقال شيخ شيوخنا الحافظ زين الدين العراقي والأصح في مسألة التابعي كما قال النووي في شرح المهذب إنه موقوف فإن قوله من السنة كثيرا ما يعبر به عن سنة الخلفاء الراشدين ويترجح ذلك إذا قاله التابعي بخلاف ما إذا قاله الصحابي فإن الظاهر أن مراده سنة النبي صلى الله عليه وسلم ا هـ بل جزم البيهقي بنفي الخلاف فيه بين أهل النقل والحاكم فقال في مستدركه أجمعوا على أن قول الصحابي من السنة كذا حديث مسند وابن عبد البر، وقال أيضا إذا قالها غير الصحابي فكذلك ما لم يضفها إلى صاحبها كسنة العمرين وهذا منهم محمول على عدم اطلاعهم على الخلاف واحتج الأولون بأنه عليه الصلاة والسلام هو المقتدي والمتبع على الإطلاق فإضافة مطلقها إليه حقيقة وإلى غيره مجاز لاقتدائه فيها بسنته فيحمل على الحقيقة عند الإطلاق وقد روى البخاري من حديث ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه في قصته مع الحجاج حين قال له إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة قال ابن شهاب قلت لسالم أفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهل يعنون بذلك إلا سنته فنقل سالم وهو أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة وأحد الحفاظ من التابعين عن الصحابة أنهم إذا أطلقوا السنة لا يريدون بذلك إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم وما ذكر من الحديث وإطلاقها على سنتهم لا يلزمنا؛ لأننا لا ننكر جواز الإطلاق عليها، وإنما نمنع فهم سنة غيره من إطلاقها ذكره في المعتمد والميزان وبهذا يندفع ما لو قيل اللفظ مطلق فلا يجوز تقييده بسنته لقيام الدليل على تقييده بسنته كما ذكرنا، والله سبحانه أعلم.(3/406)
"وإلى" سنن "زائدة كما في أكله وقعوده ولبسه" صلى الله عليه وسلم قالوا أخذها حسن وتركها لا بأس به أي لا يتعلق به كراهة ولا إساءة "وإلى نفل" وهو المشروع زيادة على الفرائض والواجبات والسنن لنا لا علينا "يثاب على فعله"؛ لأنه عبادة وأداء العبادة سبب لنيل الثواب "فقط" أي ولا يعاقب ولا يعاتب على تركه لعدم الفرضية والوجوب والسنية ولا يلزم عليه صوم المسافر حيث يوجد فيه هذا الحكم مع أنه لو أداه يقع فرضا لمنع أنه لا يعاقب على الترك أصلا، غاية الأمر أنه لا يلام على التأخير والفرق بينهما واضح "ومنه" أي النفل الركعتان "الأخريان" من الرباعية "للمسافر"؛ لأنه يثاب على فعلهما ولا يعاقب ولا يعاتب على تركهما "فلم ينوبا عن سنة الظهر" على الصحيح؛ لأن السنة بالمواظبة والمواظبة عليها منه صلى الله عليه وسلم بتحريمة مبتدأة، وإن لم يحتج إلى قصد السنة في وقوعها سنة على ما هو المختار، ثم عطف على الأخريان "وما تعلق به دليل ندب يخصه وهو المستحب والمندوب" كالركعتين والأربع قبل العصر والستة بعد المغرب "وثبوت التخيير في ابتداء الفعل" النفل بين التلبس به وعدم التلبس به "لا يستلزم عقلا ولا شرعا استمراره" أي التخيير "بعده" أي الشروع فيه "كما قال الشافعي" وإذا لم يستلزمه "فجاز الاختلاف" بين ثبوت التخيير قبل الشروع وبين ابتداء الفعل في أنه لا يلزمه الشروع ويلزمه الإتمام إذا شرع "غير أنه" أي الاختلاف بينهما في ذلك "يتوقف على دليل" يعين هذا الجائز واقعا وقد وجد "وهو النهي عن إبطال العمل" الثابت بنص القرآن والقياس(3/407)
ص -195-…على الحج النفل "فوجب الإتمام فلزم القضاء بالإفساد والرخصة" أي وقسمت "إلى ما ذكر" أي إلى قسمين أحدهما أتم في معنى الرخصة والآخر مقابله كما تقدم أول التقسيم "و" إلى "ما وضع عنا من إصر" أي حكم مغلظ شاق "كان على من قبلنا" من بعض الأمم "فلم يشرع عندنا" أي في ملتنا أصلا تكريما لنبينا صلى الله عليه وسلم ورحمة لنا "كقرض موضع النجاسة" من الثوب والجلد "وأداء الربع في الزكاة" أي جعل ربع المال مقدار زكاته واشتراط قتل النفس في صحة التوبة وبت القضاء بالقصاص عمدا كان القتل أو خطأ وإحراق الغنائم وتحريم العروق في اللحم والسبت والطيبات بالذنوب، وأن لا يطهر من الجنابة والحدث غير الماء وكون الواجب من الصلاة في اليوم والليلة خمسين وأن لا تجوز الصلاة في غير المسجد وحرمة الجماع بعد العتمة في الصوم والأكل بعد النوم فيه وكتابة ذنب المذنب ليلا على باب داره صباحا. "و" إلى "ما" أي حكم "سقط أي لم يجب" أي لم يثبت "مع العذر مع شرعيته في الجملة" ويسمى هذا القسم رخصة إسقاط "وهذان" القسمان للرخصة "باعتبار ما يطلق عليه اسم الرخصة" سواء كان بطريق الحقيقة أو المجاز لصحة إطلاقها عليهما مجازا باعتبار الصورة أما الأول فلسقوط ذلك في حقنا توسعة وتخفيفا بعد ثبوته في حق من قبلنا إذا قابلنا أنفسنا بهم. وأما الثاني فلسقوطه في محل العذر مع شرعيته في الجملة ومن ثمة كانت المجازية في الأول أتم "لا" أنهما قسمان للرخصة باعتبار "حقيقتها" وهي ما استبيح مع قيام الدليل المحرم لانتفائها فيهما فهذا التقسيم إنما يخرج القسمين الأولين لا غير بخلاف التقسيم الحقيقي للعزيمة فإنه يخرج الأربعة، ثم مثل هذا الأخير بقوله "كالقصر" للصلاة الرباعية للمسافر "لإيجاب السبب" الموجب لها "والأربع في غير المسافر وركعتين فيه" أي المسافر "بحديث عائشة" في الصحيحين حيث قالت فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر "وسقوط حرمة(3/408)
الخمر والميتة للمضطر" أي شرب الخمر وأكل الميتة مخافة الهلاك على نفسه من العطش والجوع "والمكره" على شرب الخمر وأكل الميتة بالقتل فحرمتهما ساقطة مع عذر الاضطرار ثابتا عند عدمه وهذا صحيح واضح على ما هو ظاهر الرواية من سقوط الحرمة في هذه الحالة "للاستثناء" أي لقوله تعالى: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] من قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] إذ الاستثناء من الحظر إباحة "فتجب الرخصة" التي هي الشرب والأكل كما يجب شرب الماء وأكل الخبز لدفع الهلاك "ولو مات للعزيمة" أي للامتناع عنهما "أثم" كما لو امتنع من شرب الماء وأكل الخبز حتى مات لإلقائه بنفسه إلى التهلكة من غير ملجئ لكن هذا إذا علم بالإباحة في هذه الحالة؛ لأن في انكشاف الحرمة خفاء فيعذر بالجهل ذكره الإسبيجابي ولا يحنث بأكلها مضطر إذا حلف لا يأكل الحرام وذهب كثير منهم أبو يوسف في رواية أن الحرمة لا ترتفع، وإنما رفع إثمها كما في الإكراه على الكفر فلا يأثم بالامتناع ويحنث في الحلف المذكور وعلى هذا فلا يصلح أن يكون هذا من مثل هذا القسم بل يكون من مثل القسم الأول قالوا لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ(3/409)
ص -196-…اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] أي يغفر له ما أكل مما حرم عليه حين اضطر إليه فدل إطلاق المغفرة على قيام الحرمة إلا أنه تعالى رفع المؤاخذة رحمة على عباده. وأجيب بأن إطلاق ذكر المغفرة مع الإباحة باعتبار ما يقع من تناول القدر الزائد على بقاء المهجة إذ يعسر على المضطر رعاية ذلك هذا وأورد المكره إن كان مضطرا لم يكن لذكره فائدة، وإن لم يكن مضطرا لم يدخل في إلا ما اضطررتم إليه وأجيب بأن كل مكره بما فيه إلجاء على ما هو المراد هنا مضطر من غير عكس إلا أن الاضطرار نوعان ما يكون من جهة الشرع وما يكون من جهة الغير وهذا هو الذي يسمى بالإكراه عرفا ويستبد بنوع من الأحكام فيكون في ذكره إشارة إلى النوعين جميعا وإلى أنهما في هذا الحكم سواء.
"ومنه" أي القسم الأخير من الرخصة "سقوط غسل الرجل" الذي كان العزيمة حيث لا خف "مع الخف" في مدة المسح؛ لأن استتار القدم بالخف منع سراية الحدث إليها بدليل أنه لو نزعه بعد المسح لزمه غسل الرجلين ولو لم يسر إليهما لم يجب إذ لا يجب على شيء من البدن بدون الحدث فظهر أن غسل الرجلين في هذه الحالة ساقط وأن المسح شرع تيسيرا ابتداء لا على معنى أن الواجب من غسل الرجل يتأدى بالمسح إذ لو كان كذلك لما اشترط كون أول حدث بعد اللبس طارئا على طهارة كاملة كما في المسح على الجبيرة؛ لأن المسح حينئذ يصلح رافعا للحدث الساري إلى القدم وظهر أن الشرع أخرج السبب الموجب للحدث من أن يكون عاملا في الرجل ما دامت مستترة بالخف وجعل الخف مانعا من سراية الحدث إلى القدم "وقولهم" أي جماعة من الحنفية في هذه المسألة "الأخذ بالعزيمة" وهو غسل الرجل "أولى" من الأخذ بالرخصة فيها "معناه إماطة" أي إزالة "سبب الرخصة بالنزع" للخف ليغسلهما أولى من عدمها ليمسح على الخف.(3/410)
هذا وذكر الزيلعي شارح الكنز أن كون المسح على الخف من هذا النوع سهو فإن من شأن هذا النوع أن لا تبقى العزيمة مشروعة معه لكن الغسل في الرجل مشروع، وإن لم ينزع خفيه ولأجل ذلك يبطل مسحه إذا خاض في الماء ودخل في الخف حتى انغسل أكثر رجليه ذكره في عامة الكتب وكذا لو تكلف وغسل رجليه من غير نزع الخف أجزأه عن الغسل حتى لا يبطل بانقضاء المدة. وتعقبه شيخنا المصنف بأن مبنى هذه التخطئة على صحة هذا الفرع وهو منقول في الفتاوى الظهيرية لكن في صحته فإن كلمتهم متفقة على أن الخف اعتبر شرعا مانعا سراية الحدث إلى القدم فتبقى القدم على طهارتها ويحل الحدث بالخف فيزال بالمسح وبنوا عليه منع المسح للمتيمم والمعذورين بعد الوقت وغير ذلك من الخلافيات وهذا يقتضي أن غسل الرجل في الخف وعدمه سواء إذا لم يبتل معه ظاهر الخف في أنه لم يزل به الحدث؛ لأنه في غير محله فلا تجوز الصلاة؛ لأنه صلى مع حدث واجب الرفع إذ لو لم تجب والحال أنه لا يجب غسل الرجل جازت الصلاة بلا غسل ولا مسح فصار كما لو ترك ذراعيه وغسل محلا غير واجب الغسل كالفخذ ووزانه في الظهيرية بلا(3/411)
ص -197-…فرق لو أدخل يده تحت الجرموقين فمسح فوق الخفين. وذكر فيها أنه لم يجز وليس إلا؛ لأنه في غير محل الحدث والأوجه في ذلك الفرع كون الأجزاء إذا خاض النهر لابتلال الخف، ثم إذا انقضت المدة إنما لا يتقيد بها لحصول الغسل بالخوض والنزع إنما وجب للغسل وقد حصل ا هـ قلت على أن الحكم للفرع المذكور وليس في عامة الكتب بل في تتمة الفتاوى الصغرى، وفي فتاوى الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل لا ينتقض مسحه على كل حال؛ لأن استتار القدم بالخف يمنع سراية الحدث إلى الرجل فلا يقع هذا غسلا معتبرا فلا يوجب بطلان المسح ويوافقه ما في المجتبي وعن أبي بكر العياضي لا ينتقض، وإن بلغ الماء الركبة ولا ريب في اتجاه هذا إن شاء الله تعالى كما ذكر المصنف إلا أن قوله والأوجه إلخ يفيد تمشية القول بعدم وجوب غسل الرجل إذا انقضت المدة وهو غير محدث والذي يظهر للعبد الضعيف غفر الله تعالى له أنه يجب عليه غسل رجليه ثانيا إذا نزعهما أو انقضت المدة وهو غير محدث؛ لأن عند النزع أو انقضاء المدة يعمل ذلك الحدث السابق عمله من السراية إلى الرجلين وقتئذ فيحتاج إلى مزيل له عنهما حينئذ للإجماع على أن المزيل لا يظهر عمله في حدث طارئ بعده فليتأمل.(3/412)
"والسلم" وهو بيع آجل بعاجل "سقط اشتراط ملك المبيع" فيه مع الإجماع على اشتراطه فيما عداه من البياعات وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تبع ما ليس عندك" قال الترمذي حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم لترخيصه فيه كما دل عليه حديث ابن عباس المتفق عليه قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: "من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" تيسيرا وتخفيفا؛ لأنه بيع المفاليس فكان رخصة مجازا لا حقيقة؛ لأن السبب المحرم قد انعدم في حقه شرعا "فلو لم يبع سلما وتلف جوعا" أي حتى إنه لو امتنع عن قبول السلم عند الجوع حتى مات "أثم" كما ذكره صدر الإسلام وغيره "واكتفى بالعجز التقديري عن المبيع" وهو أن يكون المسلم فيه في ملكه ولكنه مستحق الصرف إلى حاجته إذ السلم عقد بأرخص الثمنين فإقدامه عليه دليل على أنه مصروف إلى حاجته وإلا حجزه عقله عن الإقدام عليه "فلم يشرط عدم القدرة عليه" أي العجز الحقيقي وهو أن لا يكون في ملكه حقيقة "واقتصر الشافعية على أن ما شرع من الأحكام لعذر مع قيام المحرم لولا العذر رخصة" فما شرع من الأحكام أي لفعل كأكل الميتة أو لترك كترك الصوم للمسافر جنس متناول للمطلوب وغيره ولعذر أي ما يطرأ في حق المكلف من أمر مناسب للتسهيل عليه مخرج لما ليس كذلك من الأحكام المشروعة كوجوب الصلاة والزكاة والخصال المرتبة في الكفارة ومع قيام المحرم أي بقاء الدليل الدال على حرمة ذلك الفعل أو الترك معمولا به أي مثبتا للحرمة حتى في حق المكلف أيضا لولا العذر فهو قيد لوصف التحريم لا للقيام كما نبه عليه التفتازاني مخرج لما نسخ تحريمه؛ لأنه لا قيام للمحرم حيث لم يبق معمولا به وما خص من دليل المحرم؛ لأن التخلف ليس بمانع في حقه بل التخصيص بيان أن الدليل لم يتناوله. "وإلا" أي، وإن لم يكن الحكم(3/413)
ص -198-…المشروع هكذا "فعزيمة ومقتضاه" أي هذا الاقتصار "انتفاء التعلق" أي تعلق الحكم الذي هو التحريم "بقائم العذر" لعدم إثبات المحرم الحرمة في حقه "ويقتضي امتناع صبر المكره على الكلمة" أي على إجراء كلمة الكفر على لسانه بالقتل "لحرمة قتل النفس بلا مبيح" ويؤيده قول الأبهري في قول القاضي عضد الدين دليل الحرمة إذا بقي معمولا به وكان التخلف عنه لمانع طارئ في حق المكلف لولاه لثبتت الحرمة في حقه فهو الرخصة ا هـ يدل على أن المكلف إن لم يبق مكلفا عند طرو العذر لم يثبت رخصة في حقه؛ لأن الرخصة إنما تكون في الأحكام الاقتضائية والتخييرية والتكليف شرط لها فعلى هذا لا يكون عدم تحريم مثل إجراء المكره كلمة الشرك على لسانه وإفطاره في رمضان وإتلافه مال الغير وجنايته على الإحرام رخصة؛ لأن الإكراه الملجئ يمنع التكليف ا هـ. ثم قد يقال تعريف الرخصة المذكور وهو للآمدي وابن الحاجب لكن بلا ذكر من الأحكام غير جامع؛ لأنه إن صدق على الرخصة الواجبة كأكل الميتة للمضطر على الصحيح المشهور عند الشافعية لا يصدق على الرخصة المندوبة كقصر الرباعية لمسافر ثلاثة أيام ولا على الرخصة المباحة كالسلم والإجارة فالأولى قول المنهاج الحكم إن ثبت على خلاف الدليل لعذر فرخصة وإلا فعزيمة وجمع الجوامع والحكم الشرعي إن تغير إلى سهولة لعذر فرخصة وإلا فعزيمة، ثم تقسيم الحكم إليهما طريق الحاصل والمنهاج وغيرهما وآخرون كالإمام الرازي على أنهما من أقسام الفعل الذي هو متعلق الحكم هذا وبعضهم كالبيضاوي على دخول الأحكام الخمسة في العزيمة وبعضهم كالإمام الرازي إلا المحرم وخصها القرافي بالواجب والمندوب، وقال ولا يمكن أن يكون المباح من العزائم فإن العزم هو الطلب المؤكد فيه والغزالي في المستصفى والآمدي في الأحكام وابن الحاجب في المختصر الكبير بالواجب لا غير قال التفتازاني وهو مخالف لاصطلاح الجمهور، ثم الآمدي وصاحب البديع على أنهما من أحكام(3/414)
الوضع والظاهر أنهما من أحكام الاقتضاء والتخيير وقيل للشارع في الرخص حكمان كونها وجوبا أو ندبا أو إباحة وهو من أحكام الاقتضاء والتخيير وكونها مسببة عن عذر طارئ في حق المكلف يناسب تخفيف الحكم عليه مع قيام الدليل على خلافه وهو من أحكام الوضع؛ لأنه حكم بالمسببية ولا بدع في جواز اجتماعهما في شيء واحد من جهتين فإن إيجاب الجلد للزاني من أحكام الاقتضاء من وجه وهو ظاهر ومن أحكام الوضع من حيث كونه مسببا عن الزنا وعليه مشى الأبهري، والله سبحانه أعلم.
"تتمة" لهذا الفصل "الصحة ترتب المقصود من الفعل عليه" أي على الفعل "ففي المعاملات الحل والملك"؛ لأنهما المقصودان منها فترتبهما عليها صحتها "وفي العبادات المتكلمون" قالوا هي "موافقة الأمر" أي أمر الشارع وقوله "فعله" أي المأمور به بالجر1 حال
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 بالجر إلى قوله بدل منه كذا في النسخ وحرر هذا الإعراب. كتبه مصححه.(3/415)
ص -199-…كونه "مستجمعا ما يتوقف عليه" بدل منه إذ موافقة الفعل لأمر الشرع هي المقصود من طلبه الذي هو الأمر عند المتكلمين "وهو" أي فعله مستجمعا يتوقف عليه "معنى الإجزاء والفقهاء" قالوا "هما" أي الصحة والإجزاء في العبادات "اندفاع وجوب القضاء"؛ لأنه المقصود فيها فالخلاف في نفس الأمر المقصود منها كما استحسنه القاضي عضد الدين لا في نفس القضاء "ففيه" أي الحكم الذي هو الصحة عند الفقهاء "زيادة قيد" عليه عند المتكلمين فإن حاصله أنها موافقة الأمر على وجه يندفع به القضاء ثم هذه العبارة أحسن من قولهم كون الفعل مسقطا للقضاء لما في تلك من المشاحة1 اللفظية بأن القضاء لم يجب فكيف يسقط وأحسن من قول العضد إنها دفع وجوبه؛ لأن الصحة صفة الفعل والدفع صفة المكلف فغير المصنف هذا بما يطابق الحال وهو اندفاع وجوب القضاء "فصلاة ظان الطهارة مع عدمها" أي الطهارة في نفس الأمر "صحيحة ومجزئة على الأول" أي قول المتكلمين لموافقة الأمر على ظنه المعتبر شرعا بقدر وسعه "لا الثاني" أي قول الفقهاء لعدم سقوط القضاء لها "والاتفاق على القضاء عند ظهوره" أي عدم الطهارة "غير أن الإجزاء لا يوصف به وبعدمه إلا محتملهما" أي الإجزاء بأن يقع على وجه معتد به شرعا لكونه مستجمعا للشرائط المعتبرة، وعدمه بأن يقع على وجه غير معتد به لانتفاء شرط من شروطه "من العبادات" كالصلاة والصوم والحج "بخلاف المعرفة" لله تعالى؛ لأنها لا تحتملهما فإنه إن عرفه تعالى بطريق ما فلا كلام، وإن لم يعرفه فلا يقال عرفه معرفة غير مجزية؛ لأن الفرض أنه ما عرفه بل الواقع جهل لا معرفة "وقيل يوصف بهما" أي بالإجزاء وعدمه ما ليس بعبادة أيضا مما يحتمل أن يقع على وجهين وهو "رد الوديعة على الملك" حال كونه "محجورا" لسفه أو جنون "وغير محجور" فيوصف الأول بالإجزاء والثاني بعدمه "ودفع" والدافع الإسنوي "بأنه" أي ردها إلى المحجور عليه "ليس تسليما لمستحق التسليم" بخلاف ردها(3/416)
إلى غير المحجور فلا يكون من مثل ما يقع على وجهين بل من مثل ما لا يقع إلا على جهة واحدة فيذكر منه كما وقع في المحصول والتحصيل والمنهاج. ويظهر أن الدفع إلى المالك المحجور ليس ردا غير مجز فيكون الرد على المالك من حيث هو مما يحتمل وقوعه مجزيا وغير مجز فالوجه حذفه من مثل ما لا يقع إلا على وجه واحد كما حذفه في الحاصل.
"ثم قيل مقتضى" كلام "الفقهاء" أن الإجزاء "لا يختص بالواجب ففي حديث الأضحية" عن أبي بردة بن نيار أنه ذبح شاة قبل الصلاة فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تجزي عنك" قال عندي جذعة من المعز فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تجزي" إلى آخره أي عنك "ولا تجزي عن أحد بعدك" رواه أبو حنيفة وهو بمعناه في الصحيحين وغيرهما، ثم هذا بناء على أن الأضحية سنة كما هو قول الجمهور منهم أصحاب هذا القول "ونظر فيه برواية الدارقطني"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1 المشاحة كذا في النسخ ولعل الصواب المسامحة. كتبه مصححه.(3/417)
ص -200-…مرفوعا بإسناد صحيح على ما قال "لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن" على وجوبها أي أم القرآن في الصلاة فإن الاستدلال بها على الوجوب دليل على أن الإجزاء خاص به وإلا لم يلزم الوجوب وهو ظاهر. "وقالوا هو" أي هذا الحديث بهذا اللفظ في الدلالة على وجوبها "أدل من الصحيحين" أي من لفظهما على وجوبها وهو لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب بناء على ما قيل من أنه مشترك الدلالة؛ لأن النفي لا يرد إلا على النسب لا على نفي الخبر والخبر الذي هو متعلق الجار محذوف فيمكن تقديره صحيحة فيوافق مطلوبهم أو كاملة فيوافق الحنفية وفيه نظر "وفي حديث الاستنجاء" عن عائشة مرفوعا: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار فليستطب بها فإنها تجزي عنه" أخرجه أبو داود وغيره مع أن الاستنجاء بثلاثة أحجار فرض عندهم قال المصنف "وهذا" النظر "يحول الدليل" المذكور على أن الإجزاء يوصف به المندوب "اعتراضا عليهم" يعني قولكم أنه يخص الواجب حتى جعلتم حديث: "لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن" وحديث فإنها تجزي دليلا على وجوب الفاتحة، والاستنجاء يرد عليه حديث الأضحية نقضا تقريره لو صح لم يقل صلى الله عليه وسلم تجزي إلى آخره "والصحة عمتهما" أي العبادات والمعاملات "كالفساد" في عمومه لهما "وهو" أي الفساد "البطلان" عند الشافعية "والحنفية كذلك" أي يقولون بأن الفساد مرادف للبطلان "في العبادات بفوات ركن أو شرط" فالفاسدة هي الباطلة وهي ما فات فيها ركن أو شرط "وقدمنا ما اخترنا من الزيادة في النهي" وهو أن النهي إن نافى حكمه حكم الفعل بطل مطلقا غير أنه جعل المراد المقصود من العبادة هناك هو حصول ثوابه تعالى واندفاع عقابه فحكم بأن النهي إذا كان تحريما يبطل العبادة دون المعاملة؛ لأن حكمه الأخروي العقاب المنافي لحكم العبادة أي أثرها فحكم كذلك بخلاف مذهبهم في صحة صوم يوم العيد لو صامه وحكم المعاملة ثبوت ملك عين أو منفعة ويثبت(3/418)
مع الحرمة ذلك فجعل المقصود من العبادة أخرويا ومن المعاملة دنيويا. "وفي المعاملة" قالت الحنفية "كونها ترتب أثرها" وهو الملك عليها حال كونها "مطلوبة التفاسخ شرعا الفساد وغير مطلوبة" التفاسخ شرعا "الصحة وعدمه" أي ترتب أثرها عليها "البطلان"، وإنما قالوا هكذا "لثبوت الترتب كذلك في الشرع بما قدمناه في النهي ففرق" بين مسميات أفراد المعاملة "بالأسماء" المذكورة، ووجه المناسبة بينها وبين مسمياتها ظاهر أما بين الصحيح ومسماه وهو المشروع بأصله ووصفه فلأنه موصل إلى تمام المقصود من دفع الحاجة الدنيوية مع سلامة الدين. وأما بين الفاسد ومسماه وهو المشروع بأصله لا بوصفه فلأنه يقال لؤلؤة فاسدة إذا بقي أصلها وذهب لمعانها وبياضها ولحم فاسد إذا أنتن ولكن بقي صالحا للغذاء. وأما بين الباطل ومسماه وهو ما ليس بمشروع بأصله ووصفه فيقال لحم باطل إذا صار بحيث لا يبقى له صلاحية الغذاء "واستدلال مانعي اتصاف المندوب بالإجزاء" من الحنفية "بما في الاستنجاء" من الحديث الماضي "قد يمنع عندهم فإنه" أي الاستنجاء "مندوب" عندهم إذا لم يبلغ الخارج قدر الدرهم "كاستدلال المعممين" أي كما يمنع استدلال القائلين بأنه يوصف به الواجب والمندوب "بما في الأضحية" أي بحديثها فقط "لأنها" أي(3/419)
ص -201-…الأضحية "واجبة" عند أبي حنيفة "ولا يضرهم" أي مانعي اتصاف المندوب بالإجزاء من الحنفية "ما في الفاتحة" من الحديث المذكور "لقولهم بوجوبها" أي الفاتحة في الصلاة "ومقتضى الدليل التعميم" أي تعميم اتصاف الواجب والمندوب به "لحديث الاستنجاء" وحديث الأضحية وقد كان الأولى أن يذكر هذه الجملة ما قبل قوله والصحة عمتهما. "ثم قد يظن الصحة والفساد في العبادات من أحكام الشرع الوضيعة وقد أنكر ذلك" الظن "إذ كون المفعول موافقا للأمر الطالب له" كما هو معنى الصحة عند المتكلمين "أو" كونه "مخالفا" للأمر الطالب له كما هو معنى عدم الصحة عندهم "وكونه" أي المفعول "تمام ما طلب حتى يكون مسقطا أي دافعا لوجوب قضائه" كما هو معنى الصحة عند الفقهاء ولا يخفى وجه تفسير إسقاط الوجوب بدفعه "وعدمه" أي وكون المفعول عدم تمام المطلوب كما هو معنى عدم الصحة عندهم، ثم كون المفعول إلخ مبتدأ خبره "يكفي في معرفته العقل" حال كونه "غير محتاج إلى توقيف الشرع" على ذلك "ككونه" أي كما يعرف كونه "مؤديا للصلاة وتاركا" لها بالعقل سواء بسواء "فحكمنا به" أي بكل من الصحة والفساد "عقلي صرف" أي خالص هذا ما قرره القاضي عضد الدين شرحا لقول ابن الحاجب. وأما الصحة والبطلان أو الحكم بهما فأمر عقلي؛ لأنهما إما كون الفعل مسقطا للقضاء وإما موافقة أمر الشارع، والبطلان والفساد نقيضها، قالوا: وإنما قيد القاضي بالعبادات كما أشار إليه ابن الحاجب؛ لأنه لا شك في أنهما من أحكام الوضع في المعاملات إذ لا يستراب في أن كون المعاملات مستتبعة لثمراتها المطلوبة منها متوقفة على توقيف من الشارع فلم تذكر؛ لأن الغرض وهو إنكار كونهما من أحكام الوضع لا يتأتى فيها بخلافهما في العبادات.(3/420)
قال المصنف "ولا يخفى أن ترتب الأثر" الذي هو الصحة على الفعل كالصلاة "وضعي" لكن بالنسبة إلى اصطلاح الفقهاء؛ لأن ورود أمر الشارع بالصلاة بالتيمم يحتاج في معرفة كونها صحيحة وغير صحيحة بمعنى كونها مندفعا عنها القضاء وغير مندفع إلى توقيف للشارع؛ لأن بعضها لا يسقط القضاء كصلاة المتيمم المقيم عند الشافعية بشرط كونه ممنوعا من الوضوء من قبل العباد عند الحنفية وبعضها يسقطه كصلاة المسافر المتيمم لعجزه عن استعمال الماء لبرد أو غيره لا بالنسبة إلى اصطلاح المتكلمين فإنه لا يحتاج في معرفة كونها صحيحة وغير صحيحة بمعنى كونها موافقة لأمر الشارع أم لا بعد ورود الأمر بها إلى توقيف الشارع "وكون الحكم به" أي ترتب الأثر على الفعل "بعد معرفته" أي ترتب الأثر عليه إنما هو "بالعقل شيء آخر" ثم لا يخفى على المتأمل أن هذا أولى من قول السبكي الصواب أن الصحة والبطلان والحكم بهما أمور شرعية، وكون الفعل مسقطا أو موافقا للشرع هو فعل الله وتصييره إياه سببا لذلك فما الموافقة ولا الإسقاط بعقليين؛ لأن للشرع فيهما مدخلا ولا بأس بقوله ولو لم تكن الصحة شرعية لم يقض القاضي بها عند اجتماع شرائطها لكنه يقضي بالصحة إجماعا فدل على أنها شرعية إذ لا مدخل للأقضية في العقليات.(3/421)
ص -202-…"واعلم أن نقل الحنفية عن الفقهاء والمتكلمين في الأصل وقوع الظان مخطئا على عكس الشافعية وهي المسألة القائلة هل تثبت صفة الجواز للمأمور به إذا أتى" المأمور "به" أي بالمأمور به "إلى آخرها" وهو قال بعض المتكلمين لا إلا بدليل وراء الأمر والصحيح عند الفقهاء أنه يثبت به صفة الجواز كذا في المنار قلت، وفي نفس الأمر لم تختص الشافعية بنقل ما تقدم من الخلاف في معنى الصحة بل شاركهم فيه كذلك الحنفية فقد ذكره صاحب الكشف والتحقيق فيهما كذلك من غير عزو إلى الشافعية ولم تختص الحنفية بالخلاف المذكور في ثبوت صفة الجواز للمأمور به إذا أتى بالمأمور به بل ذكره الشافعية وغيرهم كذلك فقد قال ابن الحاجب وغيره الإجزاء الامتثال للأمر وحينئذ فالإتيان بالمأمور به على وجهه أي على الوجه الذي أمر به من غير إخلال بشيء من أركانه وشرائطه يحقق الإجزاء اتفاقا لامتناع انفكاك الشيء عن نفسه فإن حقيقة معنى الامتثال للأمر الإتيان المذكور وقيل الإجزاء إسقاط القضاء وحينئذ فقال الجمهور إتيان المأمور به على وجهه يستلزم سقوط القضاء إذ لو لم يستلزم لجاز أن يبقى الطلب متعلقا بما في ذمة المكلف مع إتيانه بالمأمور به على وجهه وهو غير جائز؛ لأنه إن كان متعلقا بعين ما فعل كان طلبا لتحصيل الحاصل وهو محال، وإن كان متعلقا بغيره عوضا عنه لا خلاف فيه لزم أنه لم يأت أولا بكل المأمور به بل ببعضه وقد فرض أنه أتى به كله، وإن كان متعلقا بغيره واستئنافا فليس بقضاء وذهب أبو هاشم وعبد الجبار إلى أنه لا يستلزمه بمعنى أنه لا يمتنع أن يقول الحكيم افعل كذا فإذا فعلت أديت الواجب ويلزمك مع ذلك القضاء قال عبد الجبار في العمد وهذا هو معنى قولنا غير مجزئ ولا نعني به أنه لم يمتثل ولا أنه يجب القضاء فيه، ولا يكون وقع موقع الصحيح الذي لا يقضى. ا هـ. فقد أشار إلى أنه لم يخالف في الإجزاء بالتفسير الأول له ولا في براءة الذمة بالإتيان بالمأمور به،(3/422)
وإنما يخالف فيه بمعنى أن فعل المأمور به لا يمنع من الأمر بالقضاء وأنه لم يلتزم أن القضاء ما فعل بعد وقت الأداء استدراكا بل هذا تفسير لأحد قسميه فهو عنده مثل الواجب أولا. وإن كان الأول مستجمعا لشرائطه فإذن النزاع لفظي كما ذكر السبكي للاتفاق على أنه أتى بالمأمور به على وجهه وعلى أنه يمكن أن يرد أمر آخر بعبادة يوقعها المأمور على حسب ما أوقع الأولى وأنه كما ثم من لم يسمها قضاء، ثم من يسميها قضاء، وإن كانت هذه التسمية بعيدة في نفس الأمر فإذا عرف هذا فقد ظهر أن المسألة عند التحقيق واحدة كما أشار إليه المصنف لكن ليس بين النقول في الموضعين خلاف في الحقيقة. وأما أن الفرع قيل فيه عكس ما تقدم وهو أن الصلاة المذكورة صحيحة ومجزية عند الفقهاء وغير مجزية ولا صحيحة عند المتكلمين فلم أقف عليه بل في البديع قال عبد الجبار لا يكون الامتثال دليل الإجزاء بمعنى سقوط القضاء وإلا فلو كان الامتثال مستلزما للإجزاء بمعنى سقوط القضاء يلزم أن لا يعيد الصلاة أو يأثم إذا علم الحدث بعدما صلى بظن الطهارة واللازم باطل؛ لأنه مأمور بالإعادة وغير آثم، وإنما تثبت هذه الملازمة؛ لأن المصلي إما مأمور أن يصلي بظن الطهارة أو بيقينها فإن كان الأول فلا إعادة عليه لإتيانه(3/423)
ص -203-…بالمأمور به على وجهه، وإن كان الثاني لزم الإثم إذا لم يأت بالمأمور به على وجهه قلنا المكلف مأمور بأمر ثان بتوجهه بالأداء حال العلم بفساد الأداء على حسب حاله من العلم والظن حتى لو مات عند العلم أجزأته تلك الصلاة وسقطت الإعادة وحينئذ لا يأثم إذا صلى بظن الطهارة؛ لأن التكليف بحسب الوسع هذا عند من يقول القضاء بأمر جديد ولمن يوجب القضاء بالأمر الأول أن يجعل الإجزاء بالامتثال مشروطا بعدم العلم أو الظن بالفساد أما مع العلم أو الظن بالفساد فليس الإتيان بالمأمور به دليل الإجزاء ا هـ مشروحا وهذه الجملة تفيد أن وجوب القضاء عند ظهور عدم الطهارة اتفاق كما ذكر المصنف ثمة كما تفيد أيضا أن لا وجوب للقضاء اتفاقا عند عدم العلم والظن بعدم الطهارة، والله سبحانه أعلم.
"الفصل الرابع: في المحكوم عليه المكلف
مسألة
"تكليف المعدوم معناه قيام الطلب" للفعل أو الترك "ممن سيوجد بصفة التكليف فالتعليق" للطلب "بهذا المعنى" للمعدوم في الأزل "هو المعتبر في التكليف الأزلي وليس" تكليف المعدوم بهذا المعنى "بممتنع" عند الأشاعرة وحكي امتناع تكليف المعدوم عن غيرهم "قالوا"؛ لأن في تكليفه "يلزم أمر ونهي وخبر بلا مأمور" ومنهي "ومخير وهو" أي ولزوم ذلك "ممتنع" فيمتنع الملزوم "قلنا" يلزم ذلك "في اللفظي ذي التعلق التنجيزي" من الأمر والنهي "والخطاب الشفاهي في الخبر أما" الطلب "النفسي فتعلقه بذلك المعنى" بالمعدوم "واقع نجده في طلب صلاح ولد سيوجد أو إن وجد وتجد معنى الخبر في نفسك مترددا للاعتبار وغيره أما حقيقة الأمرية" والنهيية "والخبرية الممتنعة بلا مخاطب موجود فبعروض التعلق التنجيزي للنفسي فحيث نفوا عنه التعلق فهو" أي نفيهم عنه "بهذا" المعنى "وإذا أثبت" له التعلق "فبذاك" المعنى فلا خلاف في المعنى لكن هذا إنما يتأتى على القول بالنفسي كما هو الحق، والله سبحانه أعلم.
مسألة(3/424)
"يصح" عند الجمهور "تكليفه تعالى بما علم انتفاء شرط وجوده" الذي ليس بمقدور للمكلف "في الوقت" أي وقت الفعل كما لو أمر الله بصيام غد من علم موته قبل الغد "خلافا للإمام والمعتزلة والاتفاق" على صحة التكليف بالفعل "فيمن لا يعلم" انتفاء شرط وجوده الذي ليس بمقدور للمكلف وقت فعله وهو منحصر في غيره تعالى كقول السيد لعبده صم غدا غير عالم ببقاء حياته إلى غد "لنا لو شرط" لصحة التكليف "العلم" للمكلف "بالوجود" للشرط الذي ليس بمقدور في وقت الفعل "لم يعص مكلف بالترك لاستلزامه" أي الترك "انتفاء إرادة الفعل"؛ لأن الفعل المكلف به مشروط بالإرادة "وهو" أي انتفاؤها "معلوم له تعالى فلا تكليف" به لعلم الله تعالى بانتفائها "فلا معصية"؛ لأنها مخالفة التكليف واللازم باطل بالضرورة من الدين "ويلزم في غيره تعالى انتفاء العلم بالتكليف أبدا" وهذا دليل ثان فهو عطف على لم يعص "لتجويز الانتفاء" أي لتجويز المكلف انتفاء شرط الوجود "في الوقت(3/425)
ص -204-…وإجزائه لو" كان الوقت "موسعا لغيبه" أي غيب وجود الشرط بتجويز موته قبل فعله في كل جزء من أجزاء الزمان وإذا جوز في كل جزء هو فيه انتفاء شرط التكليف في الجزء الذي بعده لم يجزم بأنه مكلف في ذلك والعلم بالتكليف لا بد من كونه سابقا على الامتثال وذلك بالعلم بكونه يبقى مثلا بصفة التكليف إلى وقت الامتثال. فإذا فرض أنه لا يعلمه لم يعلم علم شرط التكليف وهو مستلزم لعدم العلم بالتكليف إذ ما لم يعلم وجود شرط الشيء لم يعلم وجوده وإذا لم يعلم التكليف لا يتصور الامتثال "فيمتنع الامتثال" ولو فعل لانتفاء العلم بالتكليف "ويلزمه" أي انتفاء العلم بالتكليف "عدم إقدام الخليل عليه السلام على الذبح" لولده لانتفاء شرط حله عند وقته وهو عدم النسخ واللازم باطل؛ لأنه أقدم عليه قطعا وهذا دليل ثالث فهو عطف على ما قبله أو على ما قبل قبله "والإجماع على القطع" للمكلف "بتحقق الوجوب والتحريم قبل المعصية" بالمخالفة "والتمكن" من الفعل "فانتفى" بواسطة هذا الإجماع "ما يخال" أي ما اعترض على هذا من ظن "أن الإقدام منه" أي من الخليل صلى الله عليه وسلم على ذبح ولده "ومن غيره" أي غير الخليل على الواجب "لظن التكليف بظن عدم الناسخ" بناء على أن الأصل عدمه "وهو" أي ظن التكليف مع ظن عدم الناسخ "كاف في لزوم العمل كوجوب الشروع" في الفرض "بنية الفرض" إجماعا ولو لم يكن عالما لم يجب بنية الفرض "قالوا" أي المعتزلة أولا "لو لم يشرط" في صحة التكليف بالفعل العلم بوجود شرطه الذي ليس بمقدور للمكلف في وقته "لم يشترط إمكان الفعل؛ لأن ما عدم شرطه غير ممكن ومر في تكليف المحال نفيه" أي نفي التكليف بغير الممكن "والجواب النقض" الإجمالي "بتكليف من لم يعلم الانتفاء" أي بالتكليف بالفعل الذي جهل الآمر انتفاء شرط وقوعه؛ لأن عدم إمكان الفعل الذي هو عدم شرطه بالنسبة إلى المأمور مشترك بين أن يكون الآمر عالما بعدم شرطه كما في أمر الله تعالى أو(3/426)
جاهلا كما في الشاهد مثل أمر السيد غلامه من غير تأثير لعلم الآمر أو جهله في ذلك فإنه يلزم أن لا يصح هذا التكليف وقد صح اتفاقا "وبالحل بأن" الإمكان "المشروط" في التكليف "كون الفعل يتأتى" أي يمكن إيجاده "عند" وجود "وقته وشرائطه لا" أن شرط التكليف "وجودها" أي شرائط الفعل "بالفعل؛ لأن عدمها" أي شرائط الفعل "لا ينافي" الإمكان "الذاتي" له والإمكان الذاتي للفعل هو الشرط في التكليف به وإلا لم يصح تكليف كل من مات على كفره ومعصيته؛ لأن علمه تعالى متعلق بأنه لا يؤمن ولا يتوب "قالوا" ثانيا "لو صح" التكليف "مع علم الآمر بالانتفاء" لشرطه "صح" التكليف "مع علم المأمور" بانتفائه. "إذ المانع" من الصحة ثمة إنما هو "عدم إمكانه" أي الفعل "دونه" أي الشرط؛ لأن شرط التكليف الإمكان "وهو" أي عدم إمكانه "مشترك" بين علم الآمر بالانتفاء وعلم المأمور به. "الجواب منع مانعية ما ذكر" من الصحة "بل" المانع منها "انتفاء فائدة التكليف وهو" أي انتفاؤها إنما يكون إذا انتفى الشرط "في علم المأمور لا" في علم "الآمر فإنها" أي فائدة التكليف "فيه" أي في انتفاء الشرط في علم الآمر "الابتلاء" للمأمور "ليظهر عزمه" أي المأمور على الفعل "وبشره" به "وضدهما" أي العزم والبشر وهو الترك والكراهة له "وبذلك" أي ظهور(3/427)
ص -205-…العزم والبشر وضدهما "يتحقق الطاعة والعصيان" فالطاعة على ظهور العزم والبشر والعصيان على ظهور ضدهما.
"واعلم أن هذه" المسألة "ذكرت في أصول ابن الحاجب وليست سوى جواز التكليف بما علم تعالى عدم وقوعه" من المكلف به "وهم ذكروا في مسألة شرط المطلوب الإمكان الإجماع على وقوع التكليف به" أي بما علم تعالى عدم وقوعه "فحكاية الخلاف مناقضة" كما ذهب إليه غير واحد من شارحي كلامه على ما ذكر السبكي.
"ثم على بعده" أي الخلاف "يكفي عن الإكثار" أن يقال "لنا القطع بتكليف كل من مات على كفر ومعصية بالإيمان والإسلام وإذ منكره" أي الجواز "يكفر بإنكار ضروري ديني"؛ لأنا نعلم بالضرورة من الدين أن الكفار مأمورون بترك الكفر إلى الإيمان "فإنكار إيجاب الإيمان كفر إجماعا" استبعدنا الخلاف خصوصا من "الإمام". وأما السبكي فقال ما لوقوعه شرط إن علم الآمر الشرط واقعا فلا إشكال في صحة التكليف، وإن جهله ويفرض في السيد يأمر عبده فكذلك ونقل المصنف الاتفاق عليه وفيه نظر، وإن علم انتفاءه فعلى قسمين أحدهما ما يتبادر الذهن إلى فهمه حين إطلاق التكليف كالحياة والتمييز فإن السامع متى سمع التكليف يتبادر ذهنه إلى أنه يستدعي حيا مميزا وهذا هو الذي خالف فيه إمام الحرمين والثاني خلافه وهو ما كان خارجيا لا يتبادر إليه الذهن وهو تعلق علم الله مثلا بأن زيدا لا يؤمن فإن انتفاء هذا التعلق شرط في وجود إيمانه ولكن السامع يقضي بإمكان زيد غير ناظر إلى هذا الشرط وهذا لا يخالف فيه الإمام ولا غيره وهو ما سبق نقل الإجماع عليه، ثم قال على أن هذه المسألة لا يترجمها أئمتنا بما ترجمها المصنف، وإنما هي مترجمة عندهم بما جعله المصنف فائدة لهما وهو أنه هل يعلم المأمور كونه مأمورا في أول وقت توجه الخطاب إليه أم لا يعلم ذلك حتى يمضي عليه زمان الإمكان؛ لأن الإمكان شرط التكليف والجاهل بوقوع الشرط جاهل بالمشروط لا محالة قال أصحابنا بالأول، وقالت(3/428)
المعتزلة بالثاني واختاره إمام الحرمين فهي في الحقيقة في زمن تحقق الوجوب على المكلف لا في صحة التكليف وعدمه ولكن عبارة الكتاب قاصرة فالفعل الممكن بذاته إذا أمر الله تعالى به عبده فسمع الأمر في زمن، ثم فهمه في زمن يليه هل يعلم العبد إذ ذاك أنه مأمور مع أن من المحتملات أن يقطعه عن الفعل قاطع عجز أو موت أو نحوهما أو يكون مشكوكا في ذلك؛ لأن التكليف مشروط بالسلامة في العاقبة وهو لا يتحققها أصحابنا على الأول فيرون ذلك محققا مستفادا من صيغة الأمر، وإنما الشك في رافع يرفع المستقر والمعتزلة على العكس، والله تعالى أعلم.
مسألة
"مانعو تكليف المحال" مجمعون "على أن شرط التكليف فهمه" أي التكليف أي تصوره بأن يفهم المكلف الخطاب قدر ما يتوقف عليه الامتثال لا بأن يصدق بأنه مكلف وإلا لزم الدور وعدم تكليف الكفار "وبعض من جوزه" أي تكليف المحال على هذا أيضا "لأنه" أي(3/429)
ص -206-…تكليف المحال عنده قد يكون "للابتلاء وهو" أي الابتلاء وهو الاختبار "منتف هنا"؛ لأن الابتلاء بدون الفهم لا يصح "واستدل" كما في أصول ابن الحاجب وغيره للمختار بأنه "لو صح" تكليف من لا يفهم التكليف "كان" تكليفه "طلب" حصول "الفعل" منه متلبسا "بقصد الامتثال"؛ لأنه معنى التكليف "وهو" أي طلبه بهذا القصد "ممتنع ممن لا يشعر بالأمر وقد يدفع" هذا الاستدلال "بأن المستحيل" في تكليف من لا يفهم التكليف "الامتثال ولا يوجب" استحالة الامتثال فيه "استحالة التكليف" أي تكليفه "إذ غايته" أي تكليف من لا يفهم "تكليف بمستحيل وبلا فائدة الابتلاء ويجب ذلك" أي جواز تكليف من لا يفهم التكليف "ممن يجيز عليه" أي على الله تعالى "تعذيب الطائع تعالى عنه بل" جواز هذا "أولى" من جواز تعذيب الطائع "وأيضا لو صح" تكليف من لا يفهم التكليف "صح تكليف البهائم إذ لا مانع فيها" أي البهائم من التكليف "سوى عدم الفهم وقلتم لا يمنع" عدم الفهم التكليف "ولا يتوقف مجيز تكليف المحال عن التزامه" أي جواز تكليف البهائم "غايته" أنه جائز "لم يقع وليس عدم المانع من التكليف علة لثبوته" أي التكليف "ليلزم الوقوع بل هي" أي علة ثبوت التكليف "الاختيار" أي اختياره لله تعالى ولم يثبت "ولو جعل هذا" الخلاف "ونحوه" خلافا "لفظيا فالمانع" من تكليف من لا يفهم التكليف يقول "لاتفاقنا على أن الواقع" أي المحقق في نفس الأمر "نقيضه" أي تكليف من لا يفهم التكليف وهو عدم تكليفه "فيمتنع" التكليف "بلا فهم" للتكليف "وإلا" لو لم يمتنع "اجتمع النقيضان" وهما تكليفه وعدم تكليفه وهو باطل "والمجيز" لتكليفه مجيز "بالنظر إلى مفهوم تكليف" وهو إلزام ما فيه كلفة أو طلبه على الخلاف "بالنسبة إلى من له القدرة عليه" أي على الفعل "على نحو ما قدمناه في الحاكم" من إمكان أن يقول قائل إن الخلاف في جواز تكليف ما لا يطاق وتعذيب الطائع لفظي "قالوا" أيضا "لو لم يصح" تكليف من(3/430)
لا يفهم التكليف "لم يقع" لكنه وقع وكيف لا "وقد كلف السكران حيث اعتبر طلاقه وإتلافه أجيب بأنه" أي اعتبارهما منه "من ربط المسببات بأسبابها وضعا" كربط وجوب الصوم بشهود الشهر لا من التكليف "قالوا" أيضا "قال تعالى {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء: 43] الآية فخوطبوا" أي السكارى "حال السكر أن لا يصلوا" وهو تكليف لمن لا يفهم التكليف "أجيب بأنه" أي الاستدلال بها "معارضة قاطع" وهو الدليل الدال على امتناع تكليف من لا يفهم "بظاهر" وهو الآية "فوجب تأويله" أي الظاهر؛ لأنه يؤول للقاطع "إما بأنه نهي عن السكر عند قصد الصلاة"؛ لأن النهي إذا ورد على واجب شرعا وقد تقيد بغير واجب انصرف إلى غير الواجب فلا يكون النهي في الآية للسكران عن الصلاة لكونها واجبة بل نهيا للصاحي عن السكر كما إذا ورد على ما هو واجب لا بالوجوب الشرعي وقد تقيد بغيره حيث ينصرف إلى القيد كما في قوله تعالى: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] فإنه نهي عن عدم الإسلام لا عن الموت وحرف النفي إذا دخل على جملة يتوجه النفي إلى القيد غالبا "أو" بأنه "نهى الثمل" بفتح المثلثة وكسر الميم قيل هو من بدت به أوائل الطرب ولم يزل عقله دون الطافح "لعدم التثبت" فيما ينبغي أن يأتي به في الصلاة "كالغصب" ويؤيده(3/431)
ص -207-…قوله تعالى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وممن ذكر هذا التأويل ابن الحاجب قال السبكي ولو قال النشوان بدل الثمل لكان أولى فإن الثمل والطافح سواء وهو من أخذ منه الشراب وفي الحديث الصحيح لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة وجعل حمزة يصعد نظره ثم قال وهل أنتم إلا عبيد أبي فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل. أي سكران شديد السكر قال المصنف "ولا يخفى أنه" أي الدليل الدال على امتناع تكليف من لا يفهم "إنما يكون قاطعا بلزوم" اجتماع "النقيضين" على تقدير تكليفه "كما ذكرنا في الجمع" بين قولي المانع له والمجيز له "وإلا" لو لم يكن قطعيته بذلك "فممنوع" كونه قاطعا "عندهم" أي المجيزين "كيف وقد ادعوا الوقوع".(3/432)
ثم لقائل أن يقول إن كان النهي خطابا له حال سكره فنص وإن كان قبل سكره كما هو التأويل الأول استلزم أن يكون مخاطبا في حال سكره أيضا إذ لا يقال للعاقل إذا جننت فلا تفعل كذا؛ لأنه إضافة الخطاب إلى وقت بطلان أهليته وإيضاحه كما أفاد المصنف أنه لو لم ينسحب هذا الخطاب بالترك عليه حال سكره لم يفد؛ لأنه وإن كان توجيه الخطاب ابتداء في حال صحوه لكن المطلوب الترك في حال سكره فكان في حال سكره مطلوبا منه الترك وهذا هو معنى كونه مخاطبا حال سكره وقال السبكي تعقبا للتأويل الأول ولقائل أن يقول هذا صريح في تحريم الصلاة على المنتشي مع حضور عقله بمجرد عدم التثبت ولا نعلم من قال به ثم قال والحق الذي نرتضيه مذهبا ونرى ارتداد الخلاف إليه أن من لا يفهم إن كان لا قابلية له كالبهائم فامتناع تكليفه مجمع عليه سواء خطاب التكليف وخطاب الوضع نعم قد يكلف صاحبها في أبواب خطاب الوضع بما تفعله على ما يفصله الفقيه وإن كان له قابلية فإما أن يكون معذورا في امتناع فهمه كالطفل والنائم ومن أكره على شرب ما أسكره فلا تكليف إلا بالوضع وإما أن يكون غير معذور كالعاصي بسكره فيكلف تغليظا عليه وقد نص الشافعي على هذا ثم قال ويشهد لتفرقتنا بين من له قابلية ومن لا قابلية له إيجاب الضمان على الأطفال دون الميت فإن أصحابنا قالوا لو انتفخ ميت وتكسرت قارورة بسبب انتفاخه لم يجب ضمانها ا هـ وجميع هذا حسن وقد صرح مشايخنا ببعضه وقواعدهم لا تنبو عنه والله تعالى أعلم.(3/433)
"هذا واستلزم" القول بأن الفهم شرط التكليف "اشتراط العقل الذي به الأهلية" للتكليف "فالحنفية" قالوا العقل "نور يبتدأ به من منتهى درك الحواس فيبدو به المدرك للقلب، أي الروح والنفس الناطقة فيدركه" أي القلب المدرك "بخلقه تعالى فالنور آلة إدراكها" أي النفس المدرك "وشرطه" أي إدراكها "كالضوء للبصر" أي كما أن الضوء شرط عادي "في إيصاله" أي البصر المبصرات إلى النفس بخلقه تعالى "ومقتضى ما ذكر" من التعريف "أن لدرك الحواس" الظاهرة "مبدأ" وهي جمع حاسة بمعنى القوة الحساسة، وهي خمس اللمس وهي قوة تأتي في الأعصاب إلى جميع الجلد وأكثر اللحم والغشاء من شأنها إدراك الحرارة والبرودة(3/434)
ص -208-…والرطوبة واليبوسة والخشونة والملامسة ونحو ذلك ثم كون اللامسة قوة بها يدرك جميع الملموسات قول الجمهور وفي القانون أكثر المحصين على أن اللمس قوى كثيرة بل قوى أربع وقال اللمس أول الحواس الذي يصير به الحيوان حيوانا. والذوق وهي قوة منبثة في العصب المفروش على جرم اللسان يدرك بها الطعوم. والسمع، وهي قوة مودعة في العصب المفروش في مقعر الصماخ يدرك بها الأصوات والبصر، وهي قوة مودعة في العصبتين المجوفتين اللتين يتيامن النابت منهما يسارا ويتياسر النابت منهما يمينا ثم يلتقيان على تقاطع صليبين ثم ينفذ النابت منهما يمينا إلى الحدقة اليمنى والنابت يسارا إلى الحدقة اليسرى يدرك بها الأضواء والألوان والأشكال والمقادير والحسن والقبح وغير ذلك. والشم، وهي قوة مودعة في الزائدتين النابتتين في مقدم الدماغ الشبيهتين بحلمتي الثدي يدرك بها الروائح بطريق وصول الهواء المتكيف بكيفية ذي الرائحة إلى الخيشوم.(3/435)
"قيل" أي قال صدر الشريعة وغيره "هو" أي المبدأ "ارتسام المحسوسات أي" انطباع "صورها" أي المحسوسات "فيها" أي الحواس المذكورة لا نفسها فإن المحسوس هو هذا اللون الموجود في الخارج مثلا وهو ليس بمرتسم في الباصرة بل صورته كما أن المعلوم هو ذلك الموجود والحاصل في النفس صورته ومعنى معلوميته حصول صورته لا حصول نفسه "ونهايته" أي دركها "في الحواس الباطنة" الخمس على ما هو المشهور "وهي الحس المشترك في مقدم الدماغ"، وهي قوة مرتبة في مقدم البطن الأول من الدماغ ومبادئ عصب الحس يجتمع فيها صور جميع المحسوسات فيدركها "فيودعها" أي الحس المشترك صورها "خزانته" أي الحس المشترك يعني "الخيال" ليحفظها إذ هي قوة مرتبة في مؤخر البطن الأول من الدماغ يجتمع فيها مثل المحسوسات وتبقى فيها بعد الغيبة عن الحس المشترك "ثم المفكرة"، وهي قوة مرتبة في الجزء الأول من البطن الأوسط من الدماغ بها يقع التركيب والتفصيل بين الصور المحسوسة المأخوذة عن الحس المشترك والمعاني المدركة بالوهم كإنسان له رأسان أو عديم الرأس والمراد بالصور ما يمكن إدراكه بإحدى الحواس الظاهرة وبالمعاني ما لا يمكن فلا جرم أن قال "تأخذها" أي المفكرة صور المحسوسات "للتركيب كما تأخذ" المفكرة "من خزانة الوهم" أي القوة "الحافظة في المؤخر" أي مؤخر الدماغ "مستودعاته من المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوس". فالوهم قوة مرتبة في آخر البطن الأوسط من الدماغ بها تدرك المعاني الجزئية الغير المحسوسة أي التي لم تتأد إليها من طرق الحواس وإن كانت موجودة في المحسوسات "كصداقة زيد" وعداوة عمرو والحافظة قوة مرتبة في البطن الأخير من الدماغ بها المعاني الجزئية التي أدركها الوهم ثم الحاصل أن في المقدم الحس المشترك والخيال خزانته وفي المؤخر الوهم والحافظة خزانته وفي الوسط المفكرة ثم كان الحس المشترك في المقدم ليكون قريبا من الحواس الظاهرة فيكون التأدي إليه سهلا ثم وليه(3/436)
الخيال؛ لأن خزانة الشيء خلفه ثم الوهم في مقدم المؤخر لتكون الصور الجزئية بحذاء معانيها الجزئية والحافظة في مؤخره؛ لأنها خزانته والمفكرة في البطن الأوسط لتكون قريبة(3/437)
ص -209-…من الصور والمعاني فيمكنها الأخذ منها بسهولة "وهذا الأخذ ابتداء عمل العقل" ثم كون هذه المحال محال للقوى المذكورة هو المذكور في المواقف والمقاصد وقال الشريف والمشهور في الكتب المعول عليها أن المتخيلة في مقدم الوسط والوهمية في مؤخره والحافظة في مقدم البطن الأخير وليس في مؤخره شيء من هذه القوى إذ لا حارس هنا من الحواس فتكثر مصادمته المؤدية إلى الاختلال.
"ولما احتاج هذه" الحواس الباطنة "إلى سمع" يثبتها "عند كثير من أهل الشرع، ولم يكتف" في الاستدلال على وجودها "بكون فساد هذه البطون" التي هي محالها "يوجب فساد ذلك الأثر" ولولا اختصاص كل من هذه القوى بمحله لما كان الأمر كذلك إذ هو مبني على أن النفس الناطقة ليست مدركة للجزئيات المادية بالذات وأن الواحد لا يكون مبدأ لأثرين وكلاهما باطل على أصول الإسلام ثم لم لا يجوز أن تكون القوة واحدة والآلات والشرائط متعددة فتصدر تلك الأعمال عنها بحسب تعددها كما جوزوه في مواضع أخرى ثم قد يفسد الشيء بفساد غير محله لارتباط بينهما كما في امتناع نبات اللحية بقطع الأنثيين "وكان المحقق هو الإدراك وهو بخلقه تعالى" بمعنى أنه تعالى يخلق الإدراك للمدرك كائنا ما كان في النفس عند وجود السبب العادي له وبدونه كما هو الحق. "لم يزد القاضي الباقلاني على أن العقل بعض العلوم الضرورية" والمسطور في المواقف والمقاصد معنى هذا للأشعري بلفظ العلم ببعض الضروريات أي الكليات البديهية بحيث يتمكن من اكتساب النظريات إذ لو كان غير العلم لصح انفكاكهما بأن يوجد عالم لا يعقل وعاقل لا يعلم وهو باطل ولو كان العلم بجميع الضروريات لما صدق على من يفقد بعضها لفقد شرطها من التفات أو تجربة أو تواتر أو نحو ذلك مع أنه عاقل اتفاقا ولو كان العلم بالنظريات لكان متأخرا عن نفسه؛ لأنه مشروط بكمال العقل فيكون متأخرا عن العقل بمرتبتين فلا يكون نفس العقل واعترض بأنا لا نسلم أنه لو كان غيره(3/438)
لجاز انفكاكهما لجواز تلازم المتغايرين بحيث يمتنع الانفكاك بينهما كالجوهر والحصول في الحيز وقد يوجد العاقل بدون العلم كما في النوم نعم في شرح المواقف للسيد الشريف وقال القاضي هو العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات في مجاري العادات ا هـ ومشى على هذا إمام الحرمين في أوائل كتاب الإرشاد قال الشريف ولا يبعد أن يكون هذا تفسيرا لكلام الأشعري وزادت المعتزلة في العلوم التي يعتبر بها العقل العلم بحسن الحسن وقبح القبيح؛ لأنهم يعدونه في البديهيات بناء على أصلهم.
قال المصنف "والأكثر" على أن العقل "قوة بها إدراك الكليات للنفس" وكأنه مأخوذ مما في شرح المقاصد والأقرب أن العقل قوة حاصلة عند العلم بالضروريات بحيث يتمكن بها من اكتساب النظريات وهذا معنى ما قال الإمام إنها غريزة يتبعها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات وما قال بعضهم إنها قوة بها يميز بين الأمور الحسنة والقبيحة وما قال بعض(3/439)
ص -210-…علماء الأصول إنه نور يضيء به، طريق يبتدأ به من حيث ينتهي إليه درك الحواس أي قوة حاصلة للنفس عند إدراك الجزئيات بها يتمكن من سلوك طريق اكتساب النظريات وهو الذي تسميه الحكماء العقل بالملكة ا هـ. إلا أن هذا الاختصار لا يعرى عن تأمل.
"ومحلها" أي القوة التي هي العقل "الدماغ للفلاسفة" وخصوصا الأطباء وأحمد في رواية وأبي المعين النسفي وعزاه صدر الإسلام إلى عامة أهل السنة والجماعة فقال وهو جسم لطيف مضيء محله الرأس عند عامة أهل السنة والجماعة وأثره يقع على القلب فيصير القلب مدركا بنور العقل الأشياء كالعين تصير مدركة بنور الشمس وبنور السراج الأشياء فإذا قل النور وضعف قل الإدراك وضعف وإذا انعدم النور انعدم الإدراك ا هـ واحتجوا بأن الرجل يضرب في رأسه فيزول عقله ولولا أنه فيه لما زال بذلك كما لا يزول بضرب يده أو رجله ومن هنا نسب هذا إلى أبي حنيفة تارة وإلى محمد أخرى لقوله في كتاب الديات فيمن ضرب رأسه فذهب عقله فيه الدية "والقلب اللحم" الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر "للأصوليين" كالقاضي أبي زيد وشمس الأئمة السرخسي وأحمد في رواية لقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: 46] فجعل العقل بالقلب كما جعل السمع بالأذن وقال بعض السلف في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [قّ: 37] عقل من إطلاق المحل وإرادة الحال. وأجيب عن حجة الأولين بأنه لا يمتنع زوال العقل وهو في القلب بفساد الدماغ لما بينهما من الارتباط كما لا يمتنع عدم نبات شعر اللحية بقطع الأنثيين لما بينهما من الارتباط ومن هذا يخرج الجواب عن الاستدلال بالفرع المذكور وقيل التحقيق أن أصله ومادته من القلب وينتهي إلى الدماغ "وهي" أي القوة المفسر بها العقل "المراد بذلك النور" وقال اللامشي جوهر يدرك به(3/440)
الغائبات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة "وقولهم" أي الحنفية "من منتهى درك الحواس إشارة إلى أن عمل العقل ليس فيها" أي مدركات الحواس "فإنها مدركات الصبيان والبهائم" والمجانين فلا تحتاج إلى العقل الذي نحن بصدده "بل" عمل العقل "فيما ينزعه منها" أي المدركات الحسية "وهو" أي عمله "عند انتهاء درك الحواس وعمله الترتيب السالف" أي النظر المذكور في أول الكتاب "فيخلق الله عقيبه" أي الترتيب الذي هو النظر "علم المطلوب بالعادة" أي بإجرائها على سبيل التكرار دائما من غير وجوب كما هو القول الصحيح ووجهه معروف في فنه هذا وقد أورد على هذا التعريف أنه غير جامع؛ لأنه قد يكون المطلوب بعد بداية المعقولات كما إذا استدللنا من وجود العالم على أن له صانعا عالما ثم طلبنا بعد ذلك هل علمه عين ذاته أو غيره أو لا هو ولا ذاك وأجيب بأن الطلب بعد بداية المعقولات بمرتبة أو بمراتب لا يمنع كون البداية من انتهاء الحس وإن كان في أثنائه مستغنيا عن الحس ونظر فيه بأنه حينئذ لا يصدق قوله من حيث ينتهي إليه درك الحواس؛ لأن على هذا التقدير يكون من حيث ينتهي إليه ابتداء المعقولات بل الجواب أن هذا إنما يتأتى فيما له صورة محسوسة. وأما ما ليس بمحسوس فإنما يبتدأ بطريق العلم به من حيث يوجد "وأما(3/441)
ص -211-…جعل النور العقل الأول عند الفلاسفة" أي جعل هذا التعريف للعقل هنا تعريفا للعقل الأول عند هؤلاء الضالين حيث أرادوا به "الجوهر المجرد عن المادة في نفسه وفعله" وزعموا أنه أول المخلوقات فيكون المراد بالنور المنور كما قيل في قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] كما ذكره صدر الشريعة احتمالا ممكنا "فبعيد عن الصواب" فإن الأصوليين جعلوا العقل من صفات المكلف ثم فسروه هذا التفسير "وكذا" بعيد عن الصواب "جعله" أي النور الذي هو تفسير العقل هنا "إشراقه" أي الأثر الفائض من هذا الجوهر على نفس الإنسان فيكون المراد بالعقل هنا النور المعنوي الخالص بإشراق ذلك الجوهر كما ذكره صدر الشريعة احتمالا آخر ممكنا أيضا؛ لأنه ليس من صفات المكلف أيضا بل هو من توابع الجوهر الأول ولازمه. "مع أن ما يحصل بإشراقه" وإفاضة نوره "على النفس والمدرك" وهو عطف تفسيري لها "الإدراك" وهو فاعل يحصل إنما هو "عندهم" أي الفلاسفة "العقل العاشر المتعلق بفلك القمر وإليه ينسبون الحوادث اليومية على ما هو كفرهم لا" العقل "الأول وكذا" بعيد عن الصواب "جعله" أي النور الذي هو تفسير العقل هنا "المرتبة الثانية من مراتب النفس" الناطقة بحسب ما لها من التعقل، وهي أربع على المشهور:
المرتبة الأولى: استعداد بعيد نحو الكمال وهو محض قابلية النفس لإدراك المعقولات مع خلوها عن إدراكها بالفعل كما للأطفال فإن لهم في حال الطفولية وابتداء الخلقة استعدادا محضا ليس معه إدراك وليس هذا الاستعداد حاصلا لسائر الحيوانات ويسمى عقلا هيولانيا تشبيها بالهيولى الأولى الخالية في نفسها عن جميع الصور القابلة لها فهي كقوة الطفل للكتابة.(3/442)
المرتبة الثانية: استعداد متوسط وهو استعدادها لتحصيل النظريات بعد حصول الضروريات ويسمى عقلا بالملكة لما حصل لها من ملكة الانتقال إلى النظريات بمنزلة الأمي المستعد لتعلم الكتابة وتختلف مراتب الناس في هذا اختلافا عظيما بحسب اختلاف درجات الاستعداد.
المرتبة الثالثة: استعداد قريب جدا وهو الاقتدار على استحصال النظريات متى شاءت من غير افتقار إلى كسب جديد لكونها مكتسبة مخزونة تحضر بمجرد التفات بمنزلة القادر على الكتابة حين لا يكتب وله أن يكتب متى شاء ويسمى عقلا بالفعل لشدة قربه من الفعل.
المرتبة الرابعة: الكمال وهو أن يحصل النظريات مشاهدة بمنزلة الكاتب حين يكتب. ويسمى عقلا مستفادا أي من خارج هو العقل الفعال الذي يخرج نفوسنا من القوة إلى الفعل فيما له من الكمالات ونسبته إلينا نسبة الشمس إلى أبصارنا فلا جرم أن قال "أعني العقل بالملكة" وإنما كان هذا بعيدا أيضا "لأنه" أي النور المذكور "آلة لها" أي لهذه المرتبة أي لحصولها للنفس لا أنه عينها "والمسمى" بالعقل بالملكة "هي" أي النفس "في هذه المرتبة أو المرتبة" التي فيها النفس لكن في شرح المقاصد وتختلف عبارات القوم في أن المذكورات أسام لهذه الاستعدادات والكمال أو للنفس باعتبار اتصافها بها أو لقوى في النفس هي مبادئها(3/443)
ص -212-…مثلا يقال تارة إن العقل الهيولاني هو استعداد النفس لقبول العلوم الضرورية وتارة أنه قوى استعدادية أو قوة من شأنها الاستعداد المحض وتارة أنه النفس في مبدأ الفطرة من حيث قابليتها للعلوم وكذا البواقي ا هـ. وحينئذ فلا بعد في أن يكون النور الذي هو تفسير العقل هنا هو العقل بالملكة مرادا به القوة المذكورة كما تقدم وكيف لا والمراد بالقوة المعنى الذي يصير به الشيء فاعلا أو منفعلا كما في التلويح وغيره نعم عليه وعلى ما تقدم أن يقال "وكل هذه" الاحتمالات على هذه الوجوه "فضلات الفلاسفة لا يليق بالشرعي" أي بالحكم الشرعي "البناء عليها إذ لم يصح اعتبارها شرعا ثم يتفاوت" العقل بحسب الفطرة بالإجماع وشهادة من الآثار فرب صبي أعقل من بالغ ومن الأخبار ففي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن يا معشر النساء". "ولا يناط" التكليف "بكل قدر فأنيط بالبلوغ" أي بلوغ الآدمي حال كونه "عاقلا ويعرف" كونه عاقلا "بالصادر عنه" من الأقوال والأفعال فإن كانت على سنن واحد كان معتدل العقل وإن كانت متفاوتة كان قاصر العقل إلا أن الشرع أقام اعتدال الحال بالبلوغ عن عقل بلا عته مقام كمال العقل في توجه الخطاب تيسيرا على العباد ثم صار صفة الكمال الذي يتوهم وجوده قبل هذا الحد ساقط الاعتبار كما سقط توهم بقاء النقصان بعد هذا الحد لما عرف من أن السبب الظاهر إذا أقيم مقام الباطن يدور الحكم معه وجودا وعدما "وأما قبله" أي البلوغ هل يوجد التكليف "في صبي عاقل فعن أبي منصور الماتريدي وكثير من مشايخ العراق" كما أسلفناه في الفصل الثاني في الحاكم "والمعتزلة إناطة وجوب الإيمان به" أي بعقله "وعقابه" أي الصبي العاقل "بتركه" أي الإيمان لمساواته البالغ في كمال العقل وإنما عذر في عمل الجوارح لضعف البنية بخلاف عمل القلب غير أن عند هؤلاء المشايخ كمال العقل معرف للوجوب(3/444)
كالخطاب والموجب هو الله تعالى بخلاف المعتزلة فإن العقل عندهم موجب بذاته كما أن العبد موجد لأفعاله "ونفاه" أي وجوب الإيمان على الصبي العاقل "باقي الحنفية دراية" لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل" رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه إذ معناه كما قال النووي امتناع التكليف لا أنه رفع بعد وضعه ا هـ، لكن في السنن الصغرى للبيهقي الأحكام إنما تعلقت بالبلوغ بعد الهجرة وقبلها إلى عام الخندق كانت تتعلق بالتمييز ا هـ ونحوه في المعرفة له أيضا فإن ثبت هذا صح أن يكون الرفع بالنسبة إلى المميز بعد الوضع والله تعالى أعلم وحمله على الشرائع بدون الإيمان كما قال العراقيون لا موجب له "ورواية لعدم انفساخ نكاح المراهقة بعدم وصفه" أي الإيمان كما سلف في الفصل الثاني في الحاكم بيان هذا واضحا. "واتفق غير الطائفة من البخاريين" الحنفية "على وجوبه" أي الإيمان "على بالغ" عاقل "لم يبلغه دعوة على التفصيل" السابق في الفصل المذكور "وهذا فصل اختص الحنفية بعقده في الأهلية" أهلية الإنسان للشيء صلاحيته لصدوره وطلبه منه وقبوله إياه "وهي ضربان أهلية الوجوب" للحقوق المشروعة له وعليه "وأهلية الأداء كونه معتبرا فعله شرعا والأول بالذمة وصف شرعي به(3/445)
ص -213-…الأهلية لوجوب ما له وعليه" من الحقوق المشروعة إذ الوجوب شغل الذمة وأورد بأن هذا صادق على العقل بالمعنى السابق وأن الأدلة لا تدل على ثبوت مغاير للعقل وأجيب بمنع أن العقل بهذه الحيثية بل هو مجرد فهم الخطاب والوجوب مبني على الوصف المسمى بالذمة حتى لو فرض ثبوت العقل بدون هذا الوصف بأن ركب في حيوان غير آدمي لم يثبت الوجوب له وعليه والحاصل أن هذا الوصف بمنزلة السبب لكون الإنسان أهلا للوجوب له وعليه والعقل بمنزلة الشرط وتعقب بأن المعترض مانع كون الوصف الذي يبتنى عليه الوجوب أمرا آخر غير العقل فلا وجه لمنع أن العقل بهذه الحيثية ثم القول بأن الوجوب مبني على هذا الوصف ليس أمرا زائدا على مجرد الدعوى ثم ظاهر التقويم يشير إلى أن المراد بالذمة العقل "وفخر الإسلام" ومتابعوه الذمة "نفس ورقبة لها" ذمة و "عهد" فالرقبة تفسير للنفس والعهد تفسير للذمة "والمراد أنها" أي الذمة "العهد" المشار إليه في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] الآية وقد جاءت السنة موضحة ذلك. ففي صحيح الحاكم عن أبي بن كعب في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172]الآية قال جمعهم له يومئذ جميعا ما هو كائن إلى يوم القيامة فجعلهم أزواجا ثم صورهم فاستنطقهم فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين قال فإني أشهد عليكم السموات والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين فلا تشركوا بي شيئا فإني أرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي فقالوا نشهد أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ورفع لهم أبوهم آدم فرأى(3/446)
فيهم الغني والفقير وحسن الصورة وغير ذلك فقال يا رب لو سويت بين عبادك فقال إني أحب أن أشكر ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج وخصوا بميثاق آخر بالرسالة والنبوة فذلك قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ} [الأحزاب: 7] وهو قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] وهو قوله: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} [النجم:56] وقوله: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف:102] وكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها الميثاق فأرسل ذلك الروح إلى مريم حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فدخل من فيها. ولا يخفى أن لهذا الموقوف حكم الرفع.
فإن قيل ما السبب في أن الناس لا يذكرون ذلك أجيب بأنهم كانوا أرواحا مجردة والذكر إنما هو بحاسة بدنية أو متعلقة بالبدن والبدن وقواه ومتعلقاته إنما حدث بعد ذلك وهذا السؤال كمن يقول لو كان زيد حضر عند السلطان لكان ثوبه عليه وهو غير لازم لجواز حضوره مجردا عن لباس ويحتمل أن يكون تجرد النفس شرطا في ذلك أو تعلقها بالبدن مانعا منه فإذا تجردت بالموت كشف عنها غطاؤها فأبصرت ما بين يديها ووراءها فإن قيل كيف قامت عليهم الحجة الآن بذلك الإقرار وهم لا يذكرونه فالجواب أن ليس المراد إقامة(3/447)
ص -214-…الحجة عليهم الآن بل يوم القيامة بأن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين وهم يومئذ يذكرون ذلك المقام إما بخلق الذكر فيهم أو بإزالة الموجب للنسيان ثم لا يمتنع قيام الحجة عليهم بما لم يذكروا كما لزمهم الإيمان بما لم يدركوا ولأن الصادق أخبرهم بوقوع ذلك المقام فلزمهم تصديقه ثم تقوم الحجة عليهم بذلك والله تعالى أعلم.
فقول القائل "ففي ذمته" كذا مراد به "في نفسه باعتبار عهدها من" إطلاق "الحال" وهو الذمة "في المحل" وهو النفس أي من تسمية المحل باسم الحال "جعلت" النفس "كظرف" يستقر فيه الوجوب "لقوة التعلق فقبل الولادة" الجنين جزء من أمه من وجه حسا لقراره وانتقاله بقرارها وانتقالها كيدها ورجلها وحكما لعتقه ورقه ودخوله في البيع بعتقها ورقها وبيعها "ثم نفس منفصل من وجه" أي إنسان مستقل بنفسه من جهة التفرد بالحياة "فهي" أي الذمة ثابتة "من وجه من الوجوب له من وصية وميراث ونسب وعتق على الانفراد" أي دون الأم إذا كان محقق الوجود وقت تعلق وجوبها له على ما هو معروف في كتب الفروع "لا عليه" أي غير ثابتة فيما يجب عليه "فلا يجب في ماله ثمن ما اشترى الولي له وبعد الولادة تمت له" الذمة من كل وجه "فاستعقبت" الذمة الوجوب "له وعليه إلا ما يعجز عن أدائه لانتفاء فائدته" أي ذلك الواجب العاجز عنه "مما ليس المقصود منه مجرد المال" فإنه لا يجب عليه؛ لأن أهلية الوجوب كما تعتمد قيام الذمة ووجودها؛ لأنه لا بد له من محل يتعلق به، وهي محله تعتمد صلاحية الوجوب للحكم المطلوب بالوجوب وما ليس المطلوب منه مجرد المال منتف عنه لعجزه عن أدائه كالعبادات المحضة فإن فائدة وجوبها الأداء على سبيل التعظيم عن اختيار وقصد صحيح وهو لا يتصور من الصبي الذي لا يعقل ولا ينوب وليه عنه في ذلك؛ لأن ثبوت الولاية عليه جبري لا اختياري فلا يصلح طاعة "وذلك" أي ما يجب عليه مما المقصود منه المال فلا تنتفي فائدته "كمال الغرم" أي(3/448)
الغرامات المالية التي هي من حقوق العباد حتى لو انقلب على مال إنسان فأتلفه يجب عليه الضمان "والعوض" في المعاوضات المالية من البيع والشراء ونحوهما؛ لأن المقصود منهما المال لا الأداء إذا الغرض في الأول جبر الفائت وفي الثاني حصول أحد العوضين وذلك يحصل بعين المال وأداء وليه في حصول هذا المقصود كأدائه. "والمؤنة كالعشر والخراج"؛ لأنهما في الأصل من المؤن ومعنى العبادة والعقوبة فيهما ليس بمقصود كما تقدم بل المقصود فيهما المال وأداء الولي فيه كأدائه "وصلة كالمؤنة" أي ومثل صلة تشبه المؤنة "كنفقة القريب" فإنها صلة تشبه المؤنة من جهة أنها تجب على الغني كفاية لما يحتاج إليه أقاربه ولهذا لا تجب على من لا يسار له والمقصود منها سد خلة المنفق عليه بوصول كفايته إليه وذلك بالمال فأداء الولي فيه كأدائه "وكالعوض" أي ومثل صلة تشبه العوض "كنفقة الزوجة" فإنها تشبه العوض من جهة وجوبها جزاء للاحتباس الواجب عليها عند الرجل وجعلت صلة لا عوضا محضا؛ لأنها لم تجب بعقد المعاوضة بطريق التسمية على ما هو المعتبر في الأعواض ولأنها لو كانت عوضا عن الاحتباس للرجل لسقطت بفوته كيفما فات كما في الإجارة متى لم يسلم المؤاجر ما آجر بأي منع كان سقط(3/449)
ص -215-…الأجر وليس كذلك فإنها لو حبست نفسها لاستيفاء المهر الحال استحقت النفقة فلكونها صلة تسقط بمضي المدة إذا لم يوجد التزام كنفقة القريب ولشبهها بالأعواض تصير دينا بالالتزام "لا" ما يكون من الصلة "كالأجزية" فإنه لا يجب في ماله "كالعقل" أي كتحمل شيء من الدية مع العاقلة فيما يجب عليها من ذلك فإنه صلة لكن فيه معنى الجزاء على ترك حفظ السفيه والأخذ على يد الظالم ولذا اختص به رجال العشيرة دون الصبيان والنساء؛ لأنهم ليسوا من أهل الحفظ مع أنه عقوبة والصبي ليس من أهلها لتوقفه على أهلية الخطاب والقصد، وهي منعدمة فيه وهذا "بخلاف العبادات كالصلاة" فإنها إنما لم تجب عليه "للحرج" وهذا قد يوهم أنه ماش على ما ذهب إليه بعض مشايخنا كالقاضي أبي زيد من وجوب حقوق الله جميعا على الصبي؛ لأن الوجوب مبني على صحة الأسباب وقيام الذمة وقد تحققا في حقه. كما في حق البالغ لا على القدرة إذ هي والتمييز إنما يعتبران في وجوب الأداء وذلك حكم وراء أصل الوجوب إلا أنها بعد الوجوب تسقط بعذر الصبا دفعا للحرج ورده المحققون منهم بأنه إخلاء لإيجاب الشرع عن الفائدة في الدنيا، وهي تحقيق معنى الابتلاء وفي الآخرة، وهي الجزاء وبأنه لو كان ثابتا عليه ثم سقط لدفع الحرج لكان ينبغي إذا أدى أن يكون مؤديا للواجب كالمسافر إذا صام رمضان في السفر وحيث لم يقع المؤدى عن الواجب بالاتفاق دل على انتفاء الوجوب أصلا ولكن ليس المراد أنها ماش على ذلك بل المراد أن الوجوب منتف أصلا؛ لأن الوجوب يستتبع فائدته، وهي منتفية في الأداء إذ لا يتوجه عليه الخطاب بالأداء في حال الصبا والقضاء مستلزم للحرج البين كما صرح به في فتح القدير وأشار إليه هنا بقوله "ولذا" أي وللزوم الحرج المنفي شرعا للوجوب لو قلنا به قلنا "لا يقضي" أي لا يجب عليه قضاء "ما مضى من الشهر" أي شهر رمضان "إذا بلغ في أثنائه بخلاف المجنون والمغمى عليه إذا لم يستوعباه" أي الجنون(3/450)
والإغماء الشهر فإنه يجب عليهما قضاء ما فاتهما منه لثبوت أصل الوجوب في حقهما ليظهر في القضاء؛ لأن صوم ما دون شهر من سنة لا يوقع في الحرج "بخلاف المستوعب من الجنون" للشهر فإنه لا يثبت معه وجوب القضاء عليه؛ لأن امتداد الجنون كثير غير نادر فلو ثبت الوجوب معه ليظهر في القضاء لزم الحرج بخلاف الإغماء فإنه يثبت الوجوب معه إذا امتد تمام الشهر ليظهر حكمه في القضاء لعدم الحرج؛ لأنه نادر ولا حرج في النادر. "والممتد منهما" أي وبخلاف الممتد من الجنون والإغماء "يوما وليلة في حق الصلاة" وهذا سهو والصواب كما سيذكره في بحث الجنون أكثر من يوم وليلة فإن الممتد منهما يوما وليلة في حق الصلاة لا يمنع ثبوت الوجوب معه ليظهر في حق القضاء لعدم الحرج بانتفاء ثبوت الكثرة لعدم الدخول في حد التكرار بخلاف الممتد أكثر منهما على اختلاف في المراد به كما سيأتي فإنه يمنع ثبوت الوجوب ليظهر في القضاء لثبوت الحرج بثبوت الكثرة بالدخول في حد التكرار فلا يقضي شيئا "بخلاف النوم فيهما" أي اليوم والليلة استيعابا لهما فإنه لا يمنع ثبوت الوجوب معه ليظهر حكمه في حق الحلف الذي هو القضاء "إذ لا حرج لعدم الاعتداد عادة" بل هو نادر.(3/451)
ص -216-…فإن قيل النيابة تجري في العبادات المالية كتوكيل المكلف غيره بأداء زكاة ماله فينبغي أن يجب على الصبي ويؤدي عنه وليه كما قال الشافعي فالجواب أن الجاري فيها النيابة شرطها أن تكون اختيارية؛ لأن فعل النائب فيها ينتقل إلى المنوب عنه فيصح عبادة.
وهذا لا يتم في الجبرية كنيابة الولي كما أشار إليه بقوله "والزكاة وإن تأدت بالنائب لكن إيجابها للابتلاء بالأداء بالاختيار وليس" الصبي "من أهلهما" أي الأداء والاختيار كما تقدم فلم تجب عليه "ولذا" أي ولأن إيجاب العبادة للابتلاء بالأداء بالاختيار "أسقط محمد الفطرة" أي وجوبها عليه "ترجيحا لمعنى العبادة" فيها وانتفائها فيه. "واكتفيا" أي أبو حنيفة وأبو يوسف "بالقاصرة" أي بالأهلية القاصرة فيها فأوجباها عليه "ترجيحا للمؤنة" فيها وقد سبق أن قول محمد أوضح "وبخلاف العقوبات كالقصاص والأجزية كحرمان الإرث بقتله" لمورثه فإنها لا تجب عليه لعدم صلاحيته للأداء؛ لأنه ليس من أهل العقوبة والجزاء؛ لأنهما جزاء التقصير وهو لا يتصور ممن لا قصد له فلا جرم أن قال "لأنه لا يوصف بالتقصير واستثنى فخر الإسلام" والقاضي أبو زيد والحلواني وموافقوهم "من العبادات" أي من عدم وجوبها على الصبي العاقل "الإيمان فأثبت" فخر الإسلام وكذا موافقوه "وجوبه" أي الإيمان "في الصبي العاقل لسببية حدوث العالم" بما فيه من الآيات الدالة على ربوبية الباري تعالى لنفس وجوب الإيمان؛ لأن الوجوب يثبت جبرا وقيام الذمة له "لا الأداء" أي، ولم يثبت وجوب الأداء؛ لأنه بالخطاب وهو ليس بأهل له؛ لأن أهليته له منوطة بكمال العقل واعتداله وهو لا يثبت إلا بالبلوغ. "فإذا أسلم عاقلا وقع" إسلامه "فرضا"؛ لأن صحته لا تتوقف على وجوب الأداء بل على مشروعيته كصوم المسافر ثم هو في نفسه غير متنوع إلى فرض ونفل بل لا يحتمل النفل أصلا فوقع فرضا "فلا يجب تجديده" أي إسلامه حال كونه "بالغا كتعجيل الزكاة بعد السبب" لوجوبها(3/452)
فصار أداء الإيمان في حقه كتعجيل الزكاة من المكلف بعد سبب وجوبها قبل وجوب أدائها عليه "فإن قيل مثله" أي جواز تعجيل الحكم بعد تحقق سبب وجوبه قبل وجوب أدائه "يتوقف على السمع"؛ لأن سقوط ما سيجب إذا وجب بفعل قبل الوجوب على خلاف القياس "قلنا" نعم وقد وجد وهو "إسلام علي رضي الله عنه" إذ أخرج البخاري في تاريخه عن عروة قال أسلم علي وهو ابن ثمان سنين والحاكم من طريق ابن إسحاق أنه أسلم وهو ابن عشر سنين وعن ابن عباس دفع النبي صلى الله عليه وسلم الراية إلى علي يوم بدر وهو ابن عشرين سنة. وقال صحيح على شرط الشيخين قال الذهبي هذا نص على أنه أسلم وله أقل من عشر سنين بل نص على أنه أسلم ابن سبع أو ثمان سنين وقال شيخنا الحافظ فعلى هذا يكون عمره حين أسلم خمس سنين؛ لأن إسلامه كان في أول المبعث ومن المبعث إلى بدر خمس عشرة فلعل فيه تجوزا بإلغاء الكسر الذي فوق العشرين حتى يوافق قول عروة قالوا وصحح النبي صلى الله عليه وسلم إسلامه وكأنه مأخوذ من إقراره له على ذلك وقد أخرج الحاكم عن عفيف بن عمرو أن العباس قال له في أول المبعث لم يوافق محمدا على دينه إلا امرأته خديجة وهذا الغلام علي بن أبي طالب قال عفيف فرأيتهم يصلون فوددت أني أسلمت حينئذ فأكون ربع(3/453)
ص -217-…الإسلام. قال شيخنا المصنف وقد يقال تصحيحه عليه الصلاة والسلام إسلامه إن أريد في أحكام الآخرة فمسلم وكلامنا في تصحيحه في أحكام الدنيا والآخرة حتى لا يرث أقاربه الكفار ونحو ذلك، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صححه في حق هذه الأحكام بل في العبادات فإنه كان يصلي معه على ما هو ثابت ونحو ذلك نعم لو نقل من قوله صلى الله عليه وسلم صححت إسلامه أمكن أن يصرف إليه باعتبار الجهتين لكن لم ينقل ذلك وقد أورد هذا السؤال على خلاف هذا الوجه وعلى ما ذكرنا هو الوجه ا هـ قلت ولقائل أن يقول تصحيح إسلامه في حق الصلاة تصحيح ظاهر له دلالة في سائر الأحكام المختصة بالإسلام دنيا وأخرى ومن ثمة يحكم بإسلام كافر صلى إلى قبلتنا في جماعتنا حتى يجري عليه سائر الأحكام المتعلقة بالإسلام فلا يحتاج في ثبوت تصحيحه في سائر الأحكام الإسلامية نقل تصحيحه في كل حكم منها فانتفى القول بأنه يصح إسلامه في أحكام الآخرة لا الدنيا كما ذهب إليه الشافعي وزفر ثم قال صاحب الكشف وكلامنا في صبي عاقل يناظر في وحدانية الله تعالى وصحة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ويلزم الخصم على وجه لا يبقى في معرفته شبهة والله سبحانه أعلم.(3/454)
"وعلى ما قدمنا" من البحث الذي ينتفي به تحقق أصل الوجوب في مسألة تثبت السببية لوجوب الأداء بأول الوقت موسعا في الفصل الثالث "يكفي السمع عن أصل الوجوب ونفاه" أي أصل الوجوب للإيمان عن الصبي العاقل "شمس الأئمة" السرخسي "لعدم حكمه" أي الوجوب وهو وجوب الأداء وهو لا يثبت بدونه وإن كان السبب والمحل قائما "ولو أدى وقع فرضا؛ لأن عدم الوجوب كان لعدم حكمه فإذا وجد" الحكم الذي هو الأداء "وجد" الوجوب بمقتضى الأداء كما قدمناه من صوم المسافر وكأداء صلاة الجمعة في حق من لا تجب عليه فإنه يصير به مؤديا للفرض وإن لم يكن وجوبها ثابتا في حقه قبل الأداء. "والأول" أي قول فخر الإسلام وموافقيه "أوجه"؛ لأن ما ذكره إنما يأتي في وجوب الأداء لا أصل الوجوب الذي طلب منه قاله المصنف فلا جرم أن قال الفاضل القاآني وفيه نظر لأنا لا نسلم أن حكم الوجوب هو وجوب الأداء إنما ذلك حكم الخطاب بل حكمه صحة الأداء، وهي متحققة هنا فثبت الوجوب لوجود المقتضي وعدم المانع قلت ولكن هذا على تحقق أصل الوجوب لا على بحث المصنف المقتضي لانتفائه ثم إنما لم يجب عليه بعد البلوغ القصد إلى تصديق وإقرار يسقط به الفرض وقد كان الظاهر أنه يجب عليه ذلك ولا يكفيه استصحاب ما كان عليه من التصديق والإقرار غير المنوي به إسقاط الفرض كما أنه لو كان يواظب على الصلاة قبل بلوغه لا يكون كما كان يفعل بل لا يكفيه بعد بلوغه منها إلا ما قرنه بنية أداء الواجب امتثالا لدلالة الإجماع على عدم وجوب نية فرض الإيمان للبالغ المحكوم بصحة إسلامه صبيا تبعا لأبويه المسلمين إذا لو كان ذلك فرضا لم يفعله أهل الإجماع عن آخرهم.
"ولعدم حكم الوجوب من الأداء لم تجب الصلاة على الحائض لانتفاء الأداء شرعا" في(3/455)
ص -218-…حالة الحيض "والقضاء" بعد الطهارة منه "للحرج والتكليف للرحمة" أي والحال أن تكليف الله تعالى لعباده ما هو في قدرتهم من الأوامر والنواهي ولا سيما ما كان من العبادات إنما هو لرحمته تعالى لهم؛ لأنه على تقدير الامتثال كما هو مقتضى الحال طريق الثواب في السنة الإلهية "والحرج طريق الترك" الذي هو طريق العقاب "فلم يتعلق" التكليف "ابتداء بما فيه" الحرج "فضلا" من الله سبحانه "بخلاف الصوم" فإنه لا حرج في قضائها إياه "فثبت" أصل الوجوب عليها "لفائدة القضاء وعدم الحرج" وسنوضح وجهه في الكلام في الحيض والنفاس إن شاء الله تعالى.
"وأهلية الأداء نوعان قاصرة لقصور العقل والبدن كالصبي العاقل" أو العقل لا غير كما أشار إليه بقوله "والمعتوه البالغ" وإن كان قوي البدن "والثابت معها" أي القاصرة "صحة الأداء"؛ لأن في صحته نفعه بلا شائبة ضرر "وكاملة بكمالهما" أي العقل والبدن "ويلزمها" أي الكاملة "وجوبه" أي الأداء لتحقق شرطه وقد يكون كامل العقل ضعيف البدن كالمفلوج فيسقط عنه أداء ما يتعلق بقوة البدن وسلامته "فما" يكون "مع القاصرة" ستة؛ لأنه "إما حق لله لا يحتمل حسنه القبح أو قبيح لا يحتمل الحسن أو متردد" بين الحسن والقبح "أو غيره" أي غير حق لله تعالى وهو حق العبد "فإما فيه نفع أو ضرر محضان أو متردد" بين النفع والضرر.(3/456)
"فالأول" أي ما هو حق لله تعالى لا يحتمل حسنه القبح "الإيمان لا يسقط حسنه وفيه نفع محض" فيصح منه لذلك ولأهليته للثواب وكيف لا والفرض أنه وجد منه حقيقة فكذا حكما "وتخلف الوجود الحكمي عن" الوجود "الحقيقي" إنما يكون "لحجر الشرع" عنه "ولم يوجد" حجر الشرع عنه وكيف يوجد "ولا يليق" الحجر عنه بالشارع لحسنه حسنا لا يحتمل أن يكون قبيحا بحال ولو صار محجورا عنه لكان قبيحا من ذلك الوجه ولنفعه الذي لا يشوبه ضرر فإن قيل بل قد يكون فيه ضرر في أحكام الدنيا كحرمان الميراث عن مورثه الكافر والفرقة بينه وبين زوجته المجوسية أجيب بالمنع "وضرر حرمان الميراث وفرقة النكاح مضافان إلى كفر القريب والزوجة"؛ لأن الإسلام شرع عاصما للحقوق لا قاطعا "ولو سلم" لزوم ذلك له "فحكم الشيء الموجب" بالجر صفة الشيء وفاعله "ثبوت" أي ذلك الشيء "صحته" أي صحة حكم الشيء وهو مفعوله ثم حكم الشيء مبتدأ خبره "ما" أي الحكم الذي "وضع" الشيء "له" أي لذلك الحكم. "ووضعه" أي الإيمان "ليس لذلك" أي لحرمان الإرث والفرقة بين الزوجة وبينه "وإن لزم" ذلك "عنده" أي الإيمان ثمرة من ثمراته ولازما من لوازمه التابعة لوجوده ومن ثمة ثبتا في ثبوت إسلامه تبعا لإسلام أبويه أو أحدهما، ولم يعدا ضررا يمنع صحة ثبوته "بل" وضعه "لسعادة الدارين مع أنه" أي الإسلام "موجب إرثه من المسلم فلم يكن" لازمه "محصورا في الأول" أي حرمان الإرث ويعود ملك نكاحه إذا كانت زوجته أسلمت قبله فيتعارض النفع والضرر ويتساقطان فيبقى الإسلام في نفسه نفعا محضا لا يشوبه معنى الضرر وصار هذا(3/457)
ص -219-…"كقبول هبة القريب من الصبي يصح مع ترتب عتقه" على القبول "وهو" أي عتقه "ضرر" محض "لأن الحكم الأصلي" للهبة إنما هو "الملك بلا عوض" لا العتق المرتب عليها في هذه الصورة "وعرض الإسلام عليه لإسلام زوجته لصحته" أي الإسلام "منه" ونفعه بأدائه "لا وجوبه" عليه "وضربه لعشر على الصلاة" لقوله صلى الله عليه وسلم: "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها" قال الترمذي حسن صحيح وصححه ابن خزيمة والحاكم على شرط مسلم "تأديبا" ليتخلق بأخلاق المسلمين ويعتاد الصلاة في المستقبل فهو من أنفع المنافع. "كالبهيمة" أي كضربها على بعض الأفعال فعنه صلى الله عليه وسلم: "تضرب الدابة على النفار ولا تضرب على العثار" رواه ابن عدي في الكامل إلا أنه ذكر أنه من مناكير عباد بن كثير "لا للتكليف"(3/458)
"والثاني" أي ما هو حق لله تعالى قبيح لا يحتمل قبحه الحسن "الكفر" فإنه قبيح من كل شخص في كل حال وهو "يصح منه أيضا في أحكام الآخرة اتفاقا" وإلا صار الجهل به تعالى علما به؛ لأن الكفر جهل بالله تعالى وصفاته وأحكامه على ما هي عليه وهو لا يجعل علما في حق العباد فكيف في حق رب الأرباب والعفو ودخول الجنة مع الكفر ممن يعتبر أداؤه لعقله وصحة دركه لم يرد به شرع ولا يحكم به عقل "وكذا" يصح "في" أحكام "الدنيا خلافا لأبي يوسف" آخرا والشافعي وفي المبسوط وهو رواية عن أبي حنيفة وهو القياس؛ لأنه ضرر محض كإعتاق عبده وإذا لم يصح منه ما هو متردد بين الضر والنفع فما يكون ضررا محضا أولى وجه الاستحسان أن الكفر محظور مطلقا فلا يسقط بعذر فيستوي فيه البالغ وغيره "فتبين امرأته المسلمة ويحرم الميراث" من مورثه المسلم بالردة تبعا للحكم بصحتها؛ لأن هذه الأحكام من توابعها لا قصدا للضرر في حقه إذ هو غير جائز فلم يصح العفو عن مثل هذا الأمر العظيم الذي لا يحتمل العفو بوجه بواسطة لزوم هذه الأحكام كما إذا ثبت الارتداد تبعا لأبويه بأن ارتدا ولحقا بدار الحرب ولزمه هذه الأحكام حيث لا يمتنع ثبوته بواسطة لزومه "وإنما لم يقتل" وقتئذ "لأنه" أي القتل ليس لمجرد الارتداد "بل" قتل الكافر إنما هو "بالحرابة" لأهل الإسلام. "وليس" الصبي "من أهلها ولا بعد البلوغ؛ لأن في صحة إسلامه صبيا خلافا" بين العلماء "أورث شبهة فيه" أي القتل.(3/459)
"والثالث" أي ما هو حق لله تعالى متردد بين الحسن والقبح "كالصلاة وأخواتها" من العبادات البدنية كالصوم والحج فإن مشروعيتها وحسنها قد يكون في وقت دون وقت كوقت طلوع الشمس واستوائها وغروبها في حق الصلاة ويومي العيد وأيام التشريق في حق الصوم وحكم هذه أنها "تصح" منه "لمصلحة ثوابها" في الآخرة واعتياد أدائها بعد البلوغ بحيث لا تشق عليه "بلا عهدة فلا يلزم بالشروع" المضي فيها "ولا بالإفساد" قضاؤها؛ لأنها قد شرعت في حق البالغ كذلك في الجملة فإنه لو شرع في عبادة من هذه على ظن أنها عليه ثم تبين أنها ليست عليه يصح منه الإتمام مع فوات صفة اللزوم حتى لو أفسدها لا يجب عليه(3/460)
ص -220-…شيء فكذا الصبي في هذا المعنى فكانت نفعا محضا في حقه بخلاف ما كان ماليا منها كالزكاة لا يصح منه؛ لأن فيه ضررا به في العاجل بنقصان ماله.
"والرابع" أي ما هو حق للعبد وهو نفع محض "كقبول الهبة والصدقة تصح مباشرته منه بلا إذن وليه؛ لأنه نفع محض ولذا" أي ولصحة مباشرته ما فيه نفع محض "وجبت أجرته" أي الصبي المحجور بغير إذن وليه "إذا آجر نفسه وعمل مع بطلان العقد؛ لأنه" أي بطلان عقده بغير إذن وليه "ولحقه" أي الصبي وهو "أن يلحقه ضرر"؛ لأنه عقد معاوضة متردد بين الضر والنفع فلا يملكه بدون إذن الولي. "فإذا عمل بقي الأجر نفعا محضا" وهو غير محجور فيه "فيجب بلا اشتراط سلامته" من العمل حتى لو هلك في العمل له الأجر بقدر ما أقام من العمل؛ لأن الحر لا يملك بالضمان "بخلاف العبد" المحجور "آجر نفسه" بغير إذن مولاه "تجب" الأجرة "بشرطها" أي السلامة من العمل "فلو هلك ضمن" المستأجر "قيمته من يوم الغصب فيملكه فلا تجب أجرته"؛ لأنهما لا يجتمعان "وصحت وكالتهما" أي قبول الصبي والعبد توكيل غيرهما لهما بغير إذن وليهما "بلا عهدة" ترجع إليهما من لزوم الأحكام المتعلقة بالعقد الذي باشره كتسليم المبيع والثمن والخصومة في العيب "لأنه" أي قبولهما الوكالة بلا عهدة "نفع" محض لهما "إذ يكتسب بذلك إحسان التصرف، وجهة الضرر وهي لزوم العهدة منتفية فتمحض نفعا وإليه الإشارة بقوله تعالى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6]" أي اختبروا عقولهم وتعرفوا أحوالهم بالتصرف قبل البلوغ حتى إذا تبينتم منهم هداية دفعتم إليهم أموالهم بلا تأخير عن حد البلوغ "ولذا" أي ولصحة مباشرتهما ما فيه نفع محض "استحقا الرضخ" أي ما دون السهم من الغنيمة "إذا قاتلا بلا إذن" من الولي والمولى والقياس لا شيء لهما؛ لأنهما ليسا من أهل القتال وإنما يصيران من أهله بالإذن كالحربي المستأمن، وجه الاستحسان أنهما غير محجورين عن محض المنفعة واستحقاق الرضخ بعد(3/461)
القتال كذلك فيكونان كالمأذونين من الولي والمولى. "وقيل هو" أي استحقاق الرضخ "قول محمد"؛ لأن عنده أمانهما صحيح وهو لا يصح إلا ممن له ولاية القتال وإذا كان لهما ولاية القتال كان لهما الرضخ عند الفراغ منه والدليل عليه أن محمدا لم يذكر هذه المسألة لا في السير الكبير وأكثر تفريعاته مبني على أصله كتفريعات الزيادات فأما عندهما فلا يصح أمانهما فلم يكن لهما ولاية القتال فلا يرضخ لهما ولهذا لا يحل لهما شهود القتال بدون الإذن بالإجماع والأصح أن هذا جواب الكل؛ لأن الحجر عن القتال لدفع الضرر وقد انقلب نفعا بعد الفراغ منه فلا معنى للحجر عن الاستحقاق "وإنما لا تصح وصيته" بثلث ماله فما دونه "مع حصول نفع الثواب وعدم الضرر إذ لا يخرج عن ملكه حيا"؛ لأن الوصية تمليك مضاف إلى ما بعد الموت "لإبطالها" أي الوصية "نفع الإرث عنه" لأقاربه الورثة "وهو" أي نفع إرثهم له "أنفع" له من نفع الوصية للأجانب "لأن نقل الملك إلى الأقارب أفضل شرعا للصدقة والصلة" فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة" حسنه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم وقال صلى الله عليه وسلم لسعد: "إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" متفق عليه لكن يشكل(3/462)
ص -221-…هذا بما روى مالك عن عمرو بن سليم الزرقي أنه قيل لعمر بن الخطاب إن ها هنا غلاما يفاعا لم يحتلم من غسان ووارثه بالشام وهو ذو مال وليس له ها هنا إلا ابنة عم له فقال عمر مروه فليوص لها فأوصى لها بمال يقال له بئر جشم قال عمرو بن سليم فبعت ذلك المال بثلاثين ألفا وقد أجاب المشايخ عنه بما لا يعرى عن نظر والله سبحانه أعلم.
"والخامس" أي ما هو حق للعبد وهو ضرر محض "كالطلاق والعتاق والصدقة" والهبة وحكم هذا أنه "لا يملكه ولو بإذن وليه"؛ لأن فيه إزالة الملك عنه من غير نفع يعود إليه والصبا مظنة الرحمة والإشفاق لا مظنة الإضرار والله أرحم الراحمين فلم يشرع في حقه المضار "كما لا يملكه عليه غيره" من ولي ووصي وقاض؛ لأن ولاية الغير عليه نظرية وليس من النظر إثباتها فيما هو ضرر محض في حقه وحينئذ فكما قال صاحب الكشف وغيره فكان المراد من عدم شرعية الطلاق أو العتاق في حقه عدمها عند عدم الحاجة فأما عند تحققها فمشروع قال شمس الأئمة السرخسي زعم بعض مشايخنا أن هذا الحكم غير مشروع أصلا في حق الصبي حتى إن امرأته لا تكون محلا للطلاق وهذا وهم عندي فإن الطلاق يملك بملك النكاح إذ لا ضرر في إثبات أصل الملك وإنما الضرر في الإيقاع حتى إذا تحققت الحاجة إلى صحة إيقاع الطلاق من جهته لدفع الضرر كان صحيحا وبهذا تبين فساد قول من يقول لو أثبتنا ملك الطلاق في حقه كان خاليا عن حكمه وهو ولاية الإيقاع والسبب الخالي عن حكمه غير معتبر شرعا كبيع الحر وطلاق البهيمة؛ لأنا لا نسلم خلوه عن حكمه إذا الحكم ثابت في حقه عند الحاجة حتى إذا أسلمت امرأته وعرض عليه الإسلام فأبى فرق بينهما وكان ذلك طلاقا في قول أبي حنيفة ومحمد وإذا ارتد والعياذ بالله وقعت البينونة بينه وبينها وكان طلاقا في قول محمد وإذا وجدته مجبوبا فخاصمته في ذلك فرق بينهما وكان طلاقا عند بعض المشايخ "إلا إقراض القاضي فقط من الملي" ماله فإنه يملكه. "لأنه" أي(3/463)
إقراضه "حفظ" له "مع قدرة الاقتضاء بعلمه" من غير حاجة إلى دعوى وبينة فكان بهذا الشرط نظرا من القاضي له ونفعا "بخلاف الأب"؛ لأنه لا يتمكن من تحصيله من المستقرض بنفسه فكان بمنزلة الوصي فلا يملكه "إلا في رواية"؛ لأنه يملك التصرف في المال والنفس فكان بمنزلة القاضي فيملكه "كاقتراضه"؛ لأنه لا يهلك عليه ولا يجوز للوصي عند أبي حنيفة وقال محمد لا بأس إذا كان مليا قادرا على الوفاء وليس للقاضي ذلك ذكره في المنتقى.
"والسادس" أي ما هو حق للعبد متردد بين النفع والضرر "كالبيع والإجارة والنكاح فيه احتمال الربح والخسران" فإن كان البيع رابحا والإجارة والنكاح بأقل من أجرة المثل ومهر المثل فهي نفع وإن كان البيع خاسرا وهما بأكثر من أجر المثل ومهر المثل فهي ضرر "وتعليل النفع بدخول البدل في ملكه والضرر بخروج الآخر" كما ذكر صدر الشريعة "يوجب أنه لو باع بأضعاف قيمته" كان ضررا ونفعا ويلزمه أنه "لا يندفع الضرر قط وذكر" المعلل المذكور "أنه يندفع احتمال الضرر بانضمام رأي الولي" كما ذكره في التلويح وأجيب بأن(3/464)
ص -222-…المقصود من التعليل المذكور بيان تردد هذه التصرفات بين النفع والضرر من حيث اشتمالها على دخول شيء في الملك وخروج البدل عن الملك فبانضمام رأي الولي اندفع توهم الضرر؛ لأنه لا يرى المصلحة إلا فيما له فيه نفع غالبا فالتحق بما يتمحض نفعا ولا يخفى أن هذا في نفسه حسن وإنما الكلام في استفادته من التعليل ولا ريب في أنه إنما ينسب إليه بنوع عناية على ما فيها "فيملكه" أي الصبي هذا القسم "معه" أي مع رأي الولي لاندفاع الاحتمال المذكور "لأنه" أي الصبي "أهل لحكمه" أي هذا التصرف "إذ يملك البدل إذا باشره الولي" أي يملك الثمن والأجرة إذا باع الولي عينا من ماله أو آجرها والعين إذا اشتراها له. "وأهل له" أي لهذا التصرف "إذ صحت وكالته به" أي أن يكون وكيلا لغيره فيه "وفيه" أي في جواز هذا التصرف له "نفع توسعة طريق تحصيل المقصود" له لحصوله حينئذ تارة بالولي وتارة بنفسه مع تصحيح عبارته وزيادة دربته وهو أولى من حصول الربح بطريق واحد وهو مباشرة الولي "ثم عنده" أي أبي حنيفة "لما انجبر القصور بالإذن كان كالبالغ فيملكه" أي هذا التصرف "بغبن فاحش" وهو ما لا يدخل تحت تقويم المقومين "مع الأجانب والولي في رواية" كما يملكه البالغ وإن كان لا يملكه الولي "وفي أخرى لا" يملكه مع الولي "لأنه إن كان أصيلا في الملك"؛ لأنه مالك حقيقة فيشبه تصرفه تصرف الملاك من هذا الوجه "ففي الرأي" أصيل "من وجه" لا مطلقا؛ لأن أصل الفعل والرأي ثابت له إلا أن في رأيه خللا حتى احتاج إلى أن ينجبر برأي الولي فيشبه تصرفه تصرف الوكلاء من هذا الوجه "ففيه" أي هذا التصرف "شبهة النيابة عن الولي" نظرا إلى وصف الرأي بالخلل "فكأن الولي باعه من نفسه فلا يجوز" بيعه منه "بغبن" فاحش كما لا يبيع الولي ماله من نفسه بغبن فاحش "وأيضا إذا كان" في الرأي أصيلا "من وجه صح لا في محل التهمة" وهو ما إذا باع من الأجنبي ومع الولي بمثل القيمة أو بما يتغابن(3/465)
الناس بمثله ولا يصح في محلها وهو بيعه من الولي بغبن فاحش إذ يتمكن فيه تهمة أن الولي إنما أذن له ليحصل مقصوده لا للنظر للصبي "وعندهما لا يجوز" بالغبن الفاحش "مطلقا" أي لا من الولي ولا غيره "لأنه لما شرط الإذن" من الولي لنفوذ تصرفه "كان" الصبي "آلة تصرف الولي بنفسه" وهو لا يجوز منه بالغبن الفاحش، قال القاآني: وقول أبي حنيفة أصح؛ لأن إقرار الصبي بغير إذن الولي صحيح وإن لم يملك ذلك بنفسه ا هـ وفيه نظر بل الذي يظهر أن قولهما أظهر فليتأمل.
[فصل]
"وهذا فصل آخر اختصوا" أي الحنفية "به في بيان أحكام عوارض الأهلية أي أمور ليست ذاتية لها طرأت أولا" أي خصال أو آفات لها تأثير في الأحكام بالتغيير أو الإعدام سميت بها لمنعها الأحكام المتعلقة بأهلية الوجوب أو الأداء عن الثبوت إما؛ لأنها مزيلة لأهلية الوجوب كالموت أو لأهلية الأداء كالنوم والإغماء أو مغيرة لبعض الأحكام مع بقاء أصل الأهلية للوجوب والأداء كالسفر ولذا لم يذكر الكهولة والشيخوخة ونحوهما في جملتها؛ لأنها ليست بإحدى هذه الأقسام "فدخل الصغر" لعدم اشتراط الطروء والحدوث بعد العدم فيها أو كونه ليس من الأمور الذاتية للإنسان ومن ثمة كان الكبير إنسانا كالصغير وإن(3/466)
ص -223-…كان ثابتا في أصل الخلقة لا يخلو عنه إلا نادرا كآدم وحواء عليهما السلام وملخصها أحوال منافية لأهليته غير لازمة له "وهي" أي العوارض "نوعان: سماوية أي ليس للعبد فيها اختيار" فنسبت إلى السماء بمعنى أنها نازلة منها بغير اختياره وإرادته، وهي أحد عشر "الصغر والجنون والعته والنسيان والنوم والإغماء والرق والمرض والحيض والنفاس والموت" قالوا وإنما لم يذكر الحمل والإرضاع والشيخوخة القريبة إلى الفناء وإن تغير بها بعض الأحكام لدخولها في المرض وأورد الإغماء والجنون من المرض وقد أفردا بالذكر وأجيب لاختصاصهما بأحكام كثيرة يحتاج إلى بيانها بخلاف تلك "ومكتسبة أي كسبها العبد أو ترك إزالتها"، وهي سبعة ستة منه، وهي الجهل والسفه والسكر والهزل والخطأ والسفر وواحد من غيره وهو الإكراه.(3/467)
"النوع الأول السماوية عوارض الأهلية" قدمها؛ لأنها أظهر في العارضية لخروجها عن اختيار العبد وأشد تأثيرا في الأحكام من المكتسبة "أما الصغر" وقدمه لكونه في أول أحوال الآدمي "فقبل أن يعقل" الصغير هو "كالمجنون الممتد" لانتفاء العقل والتمييز بل ربما كان الصغير في أول أحواله أدنى حالا من المجنون؛ لأنه قد يكون للمجنون تمييز لا عقل وهو عديمهما فلا يكون مكلفا بشيء "فإذا عقل تأهل للأداء" أهلية قاصرة "دون الوجوب إلا الإيمان على ما تقدم" قريبا من الخلاف فيه ويسقط عنه بعذر الصبا ما يحتمل السقوط عن البالغ من عبادة أو كفارة أو حد "وتقدم وضع الأجزية عنه" سالفا قريبا "وبينونة زوجته" المسلمة "بكفره" أي ردته أو إبائه عن الإسلام إذا عرض عليه بعد إسلامها "ليس جزاء بل لانتفاء أهليته لاستفراش المسلمة" لقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] "كحرمانه الإرث به" أي بكفره "لذلك" أي لانتفاء أهليته للإرث منه "لعدم الولاية"؛ لأنها شرط لسببية الإرث كما يشير إليه قوله تعالى إخبارا عن زكرياء عليه السلام {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً. يَرِثُنِي} [مريم: 5- 6] والكافر ليس له أهليتها على المسلم لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] "كالرقيق" أي كما يحرم المرقوق وافرا كان الرق فيه أو ناقصا بالغا كان أو غير بالغ الإرث لعدم الولاية التي هي شرط سببيته فلا يكون انتفاء الإرث فيهما جزاء على فعلهما بل لانتفاء شرط سببيته التي هي اتصال الشخص بالميت بقرابة أو زوجية أو ولاء ومثله لا يعد جزاء ألا يرى أن الأجنبي إذا لم يكن له سبب إرث من غيره لا يرثه ولا يقال حرمانه جزاء بل لم يشرع الإرث في حقه لعدم سببه.(3/468)
"وأما الجنون" وهو اختلال للعقل مانع من جريان الأفعال والأقوال على نهجه إلا نادرا إما لنقصان جبل عليه دماغه خلقة فلم يصلح لقبول ما أعد لقبوله من الفعل كعين الأكمه ولسان الأخرس وهذا مما لا يرجى زواله ولا فائدة في الاشتغال بعلاجه وإما لخروج مزاج الدماغ من الاعتدال بسبب خلط وآفة من رطوبة مفرطة أو يبوسة متناهية وهذا(3/469)
ص -224-…مما يعالج بما خلق الله تعالى له من الأدوية وإما باستيلاء الشيطان عليه وإلقاء الخيالات الفاسدة إليه وهذا مما قد ينجع فيه الأدوية الإلهية "فينافي شرط العبادات النية" بالنصب بدل من شرط العبادات لسلبه الاختيار "فلا تجب" العبادات مطلقا "مع الممتد منه مطلقا" أي الأصلي وهو المتصل بزمن الصبا بأن جن قبل البلوغ فبلغ مجنونا والعارضي وهو أن يبلغ عاقلا ثم جن أما وجوب الأداء فلعدم القدرة عليها؛ لأنها لا تكون بلا عقل ولا قصد صحيح وهو مناف لهما وأما أصل الوجوب فلعدم حكمه وهو الأداء والقضاء على تقدير إمكانه دفعا للحرج "وما لا يمتد" منه حال كونه "طارئا" عليه "جعل كالنوم من حيث إنه" أي كلا منهما "عارض يمنع فهم الخطاب زال قبل الامتداد" مع عدم الحرج في إيجاب القضاء فلا ينافي كل عبادة لا يؤدي إيجابها إلى الحرج على المكلف بعد زواله كالنوم "ولأنه" أي الجنون "لا ينفي أصل الوجوب إذ هو" أي أصل الوجوب متعلق "بالذمة، وهي" أي الذمة موجودة "له" أي للمجنون "حتى ورث" من بينه وبينه سبب من أسباب الإرث "وملك" ما تحقق له فيه سبب الملك من مال أو حق مالي والإرث والملك من باب الولاية ولا ولاية بدون الذمة إلا أنه إذا انتفى الأداء تحقيقا وتقديرا بلزوم الحرج ينعدم الوجوب. "وكان أهلا للثواب"؛ لأنه يبقى مسلما بعد الجنون والمسلم يثاب والثواب من أحكام الوجوب أيضا "كأن نوى صوم الغد فجن فيه" أو قبل الفجر وهو على نيته حال كونه "ممسكا كله صح فلا يقضي" ذلك اليوم "لو أفاق بعده" أي بعد الغد لو كان ذلك من رمضان فيكون أهلا للوجوب في الجملة ولا حرج في إيجاب القضاء فيكون الأداء ثابتا تقديرا بتوهمه في الوقت وقضائه بعده كما في النوم والإغماء ثم الحاصل أن الشارع ألحق العارض من النوم والإغماء بالعدم في حق الأداء بعد تقريره حيث حكم بصحة الفعل الموجود فيهما وعلماؤنا الثلاثة ألحقوا العارض من الجنون بالعدم بعد زواله في حق الوجوب(3/470)
وجعلوا السبب الموجود فيه معتبرا في حق إيجاب القضاء عند زوال العارض فكان هذا الاستحسان أولى بالصحة من القياس وهو كونه مانعا لوجوب العبادات كلها أصليا كان أو عارضيا قليلا كان أو كثيرا لزوال أهلية الأداء بفوات العقل وعدم ثبوت الوجوب بدونها بخلاف الإغماء والنوم؛ لأنهما لا ينافيان العقل ولا يزيلانه وإنما يحصل بهما العجز عن استعمال آلة القدرة فكان العقل ثابتا كما كان وهو قول زفر والشافعي والله تعالى أعلم. "وصح إسلامه تبعا" لأبويه أو أحدهما كالصبي "وإنما يعرض الإسلام لإسلام زوجته على أبيه أو أمه لصيرورته مسلما بإسلامه" أي إسلام أحدهما فإن أسلم أقرا على النكاح وإن أبى فرق بينهما دفعا للضرر عن المسلمة بالقدر الممكن "بخلافه" أي الإسلام "أصالة" فإنه لا يصح منه "لعدم ركنية الاعتقاد" أي عقد القلب على التصديق؛ لأنه إنما يكون بالعقل وهو عديمه "لا حجرا"؛ لأن الحجر عن الإيمان غير صحيح؛ لأنه نفع محض "بخلاف" الإسلام "التبع" أي التابع لإسلامهما أو إسلام أحدهما "ليس" الاعتقاد فيه "ركنا ولا شرطا له وإنما عرض" على وليه إذا أسلمت زوجته "دفعا للضرر عنها إذ ليس له" أي للجنون "نهاية معلومة" ففي التأخير ضرر بها مع ما فيه من الفساد لقدرة المجنون على الوطء ثم قال شمس(3/471)
ص -225-…الأئمة ليس المراد من عرض الإسلام على والده أن يعرض عليه بطريق الإلزام بل على سبيل الشفقة المعلومة من الآباء على الأولاد عادة فلعل ذلك يحمله على أن يسلم ألا ترى أنه إذا لم يكن له والدان جعل القاضي له خصما وفرق بينهما فهذا دليل على أن الآباء يسقط اعتباره هنا للتعذر "بخلاف الصبي غير العاقل أسلمت زوجته لا يعرض على وليه؛ لأن لعقله حدا معلوما" وهو البلوغ فينتظر فإذا بلغ عرض عليه الإسلام. "ولا ينتظر بلوغه" أي الصبي المجنون لما ذكر "ويصير مرتدا تبعا بارتداد أبويه ولحاقهما به" أي بالمجنون بدار الحرب "إذا بلغ مجنونا وهما مسلمان"؛ لأن الكفر بالله قبيح لا يحتمل العفو بعد تحققه بواسطة تبعية الأبوين وقد ثبت الإسلام في حقه تبعا لهما فيزول بزوال ما يتبعه ثم كون أبويه مسلمين ليس بقيد؛ لأن إسلام أحدهما وارتداده ولحوقه معه بدار الحرب كاف في ارتداده "بخلاف ما إذا تركاه في دار الإسلام" فإنه يكون مسلما لظهور تبعية الدار بزوال تبعية الأبوين؛ لأنها كالخلف عنهما "أو بلغ مسلما ثم جن أو أسلم عاقلا فجن" قبل البلوغ "فارتدا أو لحقا به" بدار الحرب؛ لأنه صار أصلا في الإيمان بتقرر ركنه فلا ينعدم بالتبعية أو عروض الجنون ثم قال متصلا بقوله ولأنه لا ينفي أصل الوجوب "إلا أنه إذا انتفى الأداء" وبين أن مراده به الفعل لا مقابل القضاء بقوله "أي الفعل تحقيقا وتقديرا بلزوم الحرج في القضاء وتقدم وجهه" حيث قال: والتكليف رحمة والحرج طريق الترك فلم يتعلق ابتداء بما فيه فضلا "انتفى" أصل الوجوب "لانتفاء فائدته" من الأداء والقضاء وقوله "وكذا الأصلي عند محمد" عطف في المعنى على قوله وما لا يمتد طارئا أي وكذا الجنون الأصلي حكمه حكم الممتد من الجنون الطارئ عند محمد فلم يفرق في الأصلي بين الممتد وغيره في السقاط كما فرق في العارضي بينهما بالإسقاط وعدمه "إناطة للإسقاط بكل من الامتداد والأصالة" وعزاه في شرح الطحاوي إلى(3/472)
أصحابنا وفي الهداية وهذا مختار بعض المتأخرين وفي الفوائد الظهيرية منهم الشيخ أبو عبد الله الجرجاني والإمام الرستغفني والزاهد الصفار. "وخصه" أي الإسقاط "أبو يوسف بالامتداد" لا غير فيهما فأسقط عنده الممتد منهما دون غيره ونص في طريقة أبي المعين على أنه ظاهر الرواية وأشار إليه في الهداية بلفظ قيل ثم الخلاف بينهما هكذا هو المذكور في المبسوط والخانية وغيرهما "وقيل الخلاف على القلب" وهو أن محمدا أناط الإسقاط بالامتداد وعدم الإسقاط بعدم الامتداد في كل من الأصلي والعارضي وأن أبا يوسف فرق في العارضي بين الممتد وغيره في الإسقاط وعدمه وسوى في الأصلي في الإسقاط بين أن يكون ممتدا أو لا وهو المذكور في أصول فخر الإسلام وكشف المنار ومشى عليه المصنف في فتح القدير.
ثم هذه الجملة من التقرير هي المناسبة لشرح هذا الموضع وللمصنف هنا حاشية لها محمل صحيح في ذاتها ولكنها لا توافق شرح هذا الموضع فليتنبه لذلك، وجه التسوية بين الأصلي والعارضي أمران أحدهما أن الأصل في الجنون الحدوث إذ السلامة عن الآفات هي الأصل في الجبلة فتكون أصالة الجنون أمرا عارضا فيلحق بالأصل وهو الجنون الطارئ ثانيهما أن زوال الجنون بعد البلوغ دل على أن حصوله كان لأمر عارض على أصل الخلقة لا(3/473)
ص -226-…لنقصان جبل عليه دماغه فكان مثل الطارئ، ووجه التفرقة أمران أيضا: أحدهما الطريان بعد البلوغ رجح العروض فجعل عفوا عند عدم الامتداد إلحاقا بسائر العوارض بخلاف ما إذا بلغ مجنونا فزال فإن حكمه حكم الصغر فلا يوجب قضاء ما مضى ثانيهما أن الأصلي يكون لآفة في الدماغ مانعة عن قبول الكمال فيكون أمرا أصليا لا يقبل اللحاق بالعدم والطارئ قد اعترض على محل كامل للحوق آفة فيلحق بالعدم. وفي المبسوط وليس فيما إذا كان جنونه أصليا رواية عن أبي حنيفة واختلف فيه المتأخرون على قياس مذهبه والأصح أنه ليس عليه قضاء ما مضى.
"وإذا كان المسقط" لوجوب العبادات في التحقيق هو "الحرج لزم اختلاف الامتداد المسقط" بالنسبة إلى أصناف العبادات "فقدر" الامتداد المسقط "في الصلاة بزيادته على يوم وليلة عندهما" أي أبي حنيفة وأبي يوسف بزمان يسير "وعند محمد بصيرورة الصلوات" الفوائت "ستا" بخروج وقت السادسة "وهو أقيس"؛ لأن الحرج إنما ينشأ من الوجوب عند كثرتها وكثرتها بدخولها في حد التكرار وهو إنما يكون بخروج وقت السادسة فلا جرم أن نص السرخسي وصاحب الذخيرة على أنه الأصح ومشى عليه المصنف في فتح القدير "لكنهما" أي أبا حنيفة وأبا يوسف وإن اشترطا تكرارها "أقاما الوقت" إذ هو السبب الظاهر لها "مقام الواجب" أي الصلاة "كما في المستحاضة" وسائر أصحاب الأعذار تيسيرا على العباد ثم كون هذا قولهما هو المذكور في أصول فخر الإسلام والهداية ومبسوط خواهر زاده وغيرها وجعله الفقيه أبو جعفر والسرخسي رواية عن أبي حنيفة وذكره في شرح الطحاوي والمنظومة والمختلف عن أبي حنيفة، ولم يذكر قول أبي يوسف.(3/474)
"وفي الصوم" أي وقدر امتداد الجنون المسقط لوجوب الصوم "باستغراق الشهر ليله ونهاره" حتى لو أفاق في جزء منه ليلا أو نهارا يجب عليه القضاء قال صاحب الكشف وهو ظاهر الرواية وفي الكامل نقلا عن الحلواني لو كان مفيقا في أول ليلة من رمضان فأصبح مجنونا واستوعب الجنون باقي الشهر لا يجب عليه القضاء وهو الصحيح. لأن الليل لا يصام فيه فكان الجنون والإفاقة فيه سواء، وكذا لو أفاق في ليلة من الشهر ثم أصبح مجنونا ولو أفاق في يوم من رمضان في وقت النية لزمه القضاء ولو أفاق بعده اختلفوا فيه والصحيح أنه لا يلزمه القضاء؛ لأن الصوم لا يفتتح فيه ا هـ وهذا في الذخيرة والفتاوى الظهيرية ومشى عليه الإسبيجابي وحميد الضرير من غير حكاية خلاف لكن إذا كان سقوط الواجب للحرج وامتداد الجنون شهرا كثير غير نادر فيلزم الحرج بثبوته مع استيعاب الجنون الشهر بخلاف ما إذا لم يستوعبه؛ لأن صوم ما دون الشهر في سنة لا يوقع في الحرج يجب أن لا فرق في وجوب قضاء الشهر بين أن يفيق في الليلة الأولى منه أو غيرها أو في نهار منه قبل الزوال أو بعده أوله أو آخره ويؤيده ما في المجرد عن أبي حنيفة فيما إذا أفاق في الليلة الأولى ثم أصبح مجنونا جميع الشهر أنه يلزمه القضاء نعم هذا إذا لم ينو الصوم فيها أو نواه ثم أفطر(3/475)
ص -227-…في نهاره أما إذا نواه، ولم يفطر قضى الشهر إلا ذلك اليوم وهو محمل ما ذكره جماعة منهم أبو جعفر في كشف الغوامض أنه يلزمه قضاء جميع الشهر إلا اليوم الأول. وكذا يجب أن لا يفرق فيه بين الأصلي والعارضي كما ذكره في الإيضاح عن أبي يوسف وهو أولى إن شاء الله تعالى مما في شرح الطحاوي من أن في الأصلي إذا أفاق في بعض الشهر يلزمه قضاء ما أدرك لا قضاء ما مضى ثم قالوا إنما لم يشترط التكرار في الصوم؛ لأنه لو شرط لازدادت الزيادة المؤكدة على الأصل المؤكد إذ لا يدخل وقت الصيام ما لم يمض أحد عشر شهرا والتحقيق ما سبق.
"وفي الزكاة" قدر امتداد الجنون المسقط لوجوبها "باستغراق الحول" به كما هو رواية الحسن عن أبي حنيفة والأمالي عن أبي يوسف وابن رستم عن محمد قال صدر الإسلام وهو الأصح؛ لأن الزكاة تدخل في حد التكرار بدخول السنة الثانية قال المصنف وفيه نظر فإن التكرار بخروجها لا بدخولها؛ لأن شرط الوجوب أن يتم الحول فالأولى اعتبار الحول؛ لأنه كثير في نفسه كما مشى عليه في التلويح "وأبو يوسف" في رواية هشام عنه قال "أكثره" أي الحول إذا استوعبه الجنون "ككله" إقامة للأكثر مقام الكل تيسيرا وتخفيفا في سقوط الواجب والنصف ملحق بالأقل "فلو بلغ مجنونا مالكا" للنصاب ثم أفاق "فابتداء الحول من الإفاقة" عند أبي يوسف بناء على أن الأصلي ملحق بالصبا عنده "خلافا لمحمد" في أن ابتداء الحول من البلوغ عنده بناء على أن الأصلي والعارضي سواء عنده في أن المسقط فيهما الامتداد، ولم يوجد "ولو أفاق بعد ستة أشهر مثلا وتم الحول وجبت عند محمد لا أبي يوسف ما لم يتم" الحول من الإفاقة وكان الأولى فلو أفاق بالفاء ولو كان هذا في العارضي وجبت اتفاقا من غير توقف على تمام الحول من وقت الإفاقة.(3/476)
"وأما العته اختلاط الكلام مرة ومرة" وهذا اختصار مجحف لتعريفه باختلال العقل بحيث يختلط كلامه فيشبه مرة كلام العقلاء، ومرة كلام المجانين وكذا سائر أموره وأحسن منه ما قيل آفة ناشئة عن الذات توجب خللا في العقل فيصير صاحبه مختلط الكلام فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء وبعضه كلام المجانين فخرج بناشئة عن الذات ما يكون بالمخدرات "فكالصبي العاقل" أي فالمعتوه كهذا "في صحة فعله وتوكيله" أي وقبول الوكالة من غيره في بيع مال الغير والشراء له وطلاق امرأته وإعتاق عبده "بلا عهدة" حتى لا يطالب في الوكالة بالبيع والشراء بنقد الثمن وتسليم المبيع ولا يرد عليه بالعيب ولا يؤمر بالخصومة فيه "وقوله" أي وفي صحة قوله الذي هو نفع محض وهو أهل لاعتباره منه "كإسلامه" أما أنه نفع محض فظاهر وأما أنه أهل لاعتباره منه فلوجود أصل العقل فيه بخلاف ما هو ضرر محض كالطلاق والعتاق فإنه لا يصح منه لا بإذن وليه ولا بدون إذنه كما لا يصح من الصبي العاقل وبخلاف ما هو متردد بين الضرر والنفع كالشراء لنفسه فإنه يصح منه بإذن الولي بدون إذنه كما في الصبي العاقل أيضا "ولا تجب العبادات عليه" كما لا يجب على الصبي(3/477)
ص -228-…العاقل أيضا كما هو اختيار عامة المتأخرين "والعقوبات" كما لا تجب على الصبي العاقل أيضا بجامع وجود أصل العقل مع تمكن خلل فيه فيهما دفعا للحرج "وضمان متلفاته ليس عهدة"؛ لأنها تلزم مع التصرف الشرعي كالبيع والشراء والوكالة وليس الإتلاف تصرفا شرعيا ولأن المنفي عهدة تحتمل العفو في الشرع وضمان المتلف لا يحتمله. لأنه حق العبد شرع جبرا لما استهلك من المحل المعصوم ولهذا قدر بالمثل لا جزاء للفعل، وكون المستهلك صبيا أو بالغا معتوها لا ينافي عصمة المحل؛ لأنها ثابتة لحق العباد وحاجتهم وذلك لا يزول بالصبا والعته، والحاصل أن العذر الثابت للمتلف لا يوجب بطلان الحق الثابت للمتلف عليه؛ لأنه محتاج كما هو محتاج نعم جاز أن يبطل به ما ثبت لحق الشرع لغناه تعالى عن العالمين ألا يرى أن المضطر لو تناول مال الغير لا يأثم؛ لأنه حق الشرع ووجب الضمان؛ لأنه حق العبد "وتوقف نحو بيعه" وشرائه وإجارته على إذن وليه كما قدمناه وتثبت الولاية عليه لغيره كما تثبت على الصبي؛ لأن ثبوتها من باب النظر ونقصان العقل مظنة النظر والرحمة؛ لأنه سبب العجز "ولا يلي على غيره" لعجزه عن التصرف بنفسه فلا يثبت له قدرة التصرف على غيره "ولا يؤخر العرض" للإسلام "عليه عند إسلام امرأته" إذا لم يكن مسلما "لما قلنا" في الصبي العاقل وهو صحته منه فإن إسلام كل منهما صحيح لوجود أصل العقل بخلاف المجنون "وفي التقويم تجب عليه العبادات احتياطا" في وقت الخطاب وهو البلوغ بخلاف الصبا؛ لأنه وقت سقوط الخطاب ورده صدر الإسلام بأن العته نوع جنون فيمنع وجوب أداء الحقوق جميعا إذ المعتوه لا يقف على عواقب الأمور كصبي ظهر فيه قليل عقل وتحقيقه أن نقصان العقل لما أثر في سقوط الخطاب عن الصبي كما أثر عدمه في حقه أثر في سقوط الخطاب بعد البلوغ أيضا كما أثر عدمه في السقوط بأن صار مجنونا؛ لأنه لا أثر للبلوغ لا في كمال العقل فإذا لم يحصل بحدوث هذه الآفة كان(3/478)
البلوغ وعدمه سواء فالخطاب يسقط عن المجنون كما يسقط عن الصبي في أول أحواله تحقيقا للعدل وهو أن لا يؤدي إلى تكليف ما ليس في الوسع ويسقط عن المعتوه كما يسقط عن الصبي في آخر أحواله تحقيقا للفضل وهو نفي الحرج عنه نظرا له ومرحمة عليه ذكره في الكشف وغيره.
"وأما النسيان عدم الاستحضار" للشيء "في وقت حاجته" أي حاجة استحضاره "فشمل" هذا "النسيان عند الحكماء والسهو؛ لأن اللغة لا تفرق" بينهما وإن فرقوا بينهما بأن السهو زوال الصورة عن المدركة مع بقائها في الحافظة والنسيان زوالها عنهما معا فيحتاج حينئذ في حصولها إلى سبب جديد. وقال الشيخ سراج الدين الهندي والحق أن النسيان من الوجدانيات التي لا تفتقر إلى تعريف بحسب المعنى فإن كل عاقل يعلم النسيان كما يعلم الجوع والعطش "فلا ينافي الوجوب" ولا وجوب الأداء "لكمال العقل وليس عذرا في حقوق العباد" حتى لو أتلف مال إنسان يجب عليه الضمان جبرا لحق العبد؛ لأنها محترمة لحاجتهم لا للابتلاء وبالنسيان لا يفوت هذا الاحترام "وفي حقوقه تعالى" هو "عذر سقوط الإثم" كما هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "وضع الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" رواه ابن حبان(3/479)
ص -229-…والحاكم وقال صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه. "أما الحكم" الدنيوي "فإن كان" النسيان لما هو فيه حتى فعل ما ينافيه "مع مذكر" له بما هو بصدده "ولا داع" والأحسن ولا داعي "إليه" أي إلى ذلك الفعل "كأكل المصلي" في الصلاة ناسيا فإن هيئة المصلي مذكرة له مانعة من النسيان إذا لاحظها ودعاء الطبع إليه في الصلاة منتف عادة لقصر مدتها فحينئذ "لم يسقط حكمه" فيفسد الصلاة "لتقصيره بخلاف سلامه في القعدة" الأولى نسيانا على ظن أنها الأخيرة فإنه يسقط حكمه فلا يفسدها لانتفاء المذكر؛ لأنه ليس للمصلي هيئة مذكرة أنها الأولى وكثرة تسليمه في القعدة داعية إليه "أو" كان "لا معه" أي لا مع مذكر ولكن "مع داع" إلى ذلك الفعل "كأكل الصائم" في حال صومه ناسيا فإنه ليس في الصوم هيئة مذكرة به والطبع داع إليه لطول مدته "أو" كان "لا" مع مذكر "ولا" مع داع إليه "فأولى" أن يسقط حكمه "كترك الذابح التسمية" فإنه لا داعي إلى تركها وليس ثمة ما يذكر إخطارها بالبال أو إجراءها على اللسان كذا في التلويح قلت ويشكل الأول بتعليلهم حلها بقولهم؛ لأن قتل الحيوان يوجب خوفا وهيبة ويتغير حال البشرية غالبا لنفور الطبع عنه ولهذا لا يحسن الذبح كثير خصوصا من كان طبعه رقيقا يتألم بإيذاء الحيوان فيشتغل القلب به فيتمكن النسيان من التسمية في تلك الحالة ويناقش الثاني بأن هيئة إضجاعها وبيده المدية لقصد إزهاق روحها مذكرة له بالتسمية فالأولى التوجيه بما قالوه وهو في المعنى إبداء حكمة وإلا فالمفزع في ذلك إنما هو السمعي كما عرف في الفروع.(3/480)
"وأما النوم ففترة تعرض مع" قيام "العقل توجب العجز عن إدراك المحسوسات والأفعال الاختيارية واستعمال العقل فالفترة هي معنى قولهم انحباس الروح من الظاهر إلى الباطن وهذه الروح بواسطة العروق الضوارب تنتشر إلى ظاهر البدن وقد تنحجر" أي تنحبس "في الباطن بأسباب مثل طلب الاستراحة من كثرة الحركة والاشتغال بتأثير في الباطن كنضج الغذاء" ولذا يغلب النوم عند امتلاء المعدة "ونحوه" كأن يكون الروح قليلا ناقصا فلا يفي بالظاهر والباطن جميعا ولنقصانه وزيادته أسباب طبيعية والإعياء معناه نقصان الروح بالتحلل بسبب الحركة ومثل الرطوبة والثقل الذي يظهر فيه فيمنعه عن سرعة الحركة كما يغلب في الحمام بعد الخروج منه وتناول الشيء المرطب للدماغ فإذا ركدت الحواس بسبب من هذه الأسباب بقيت النفس فارغة عن شغل الحواس؛ لأنها لا تزال مشغولة بالتفكر فيما تورده الحواس عليها فإذا وجدت فرصة الفراغ ارتفع عنها المانع فتتصل بالجواهر الروحانية المنتقش فيها الموجودات كلها المعبر عنها باللوح المحفوظ فانطبع فيها ما فيها وهو الرؤيا فإن لم تتصرف القوة المخيلة الحاكية للأشياء بتمثيلها صدقت هذه الرؤيا بعينها ولا تعبير لها وإن كانت المخيلة غالبة أو إدراك النفس للصور ضعيفا بدلت المخيلة ما رأته بمثال كالرجل بشجرة ونحوه، وهي التي تحتاج إلى التعبير والمراد بالروح جسم لطيف مركب من بخار وأخلاط مفضية للقلب وهو مركب القوى النفسانية والحيوانية وبها تصل القوى الحاسة إلى آلاتها ذكره المصنف رحمه الله تعالى. وكان الأولى تقييد الفترة بالطبيعية ليخرج الإغماء وقيد الأفعال(3/481)
ص -230-…بالاختيارية أي الصادرة عن قصد واختيار لبقاء الحركات الطبيعية كالتنفس ونحوه وقيل النوم ريح تأتي الحيوان إذا شمها ذهبت حواسه كما تذهب الخمر بعقل شاربها وقيل انعكاس الحواس الظاهرة إلى الباطنة حتى يصح أن يرى الرؤيا قيل وله أربع علامات: فقد الشعور حتى لو مسه إنسان لم يحس به، واسترخاء الأعضاء فلو قبض دراهم ثم نعس فسقطت من غير شعور بها دل على نومه، وأن يخفى عليه كلام الحاضرين فلا يدري ما قالوا، وأن يرى في نومه رؤيا، وغير خاف أن في هذا قصورا "فأوجب تأخير خطاب الأداء" إلى زواله لامتناع الفهم وإيجاد الفعل حالة النوم "لا" تأخير "أصل الوجوب" ولا إسقاطه حالتئذ لعدم إخلاله بالذمة والإسلام ولإمكان الأداء حقيقة بالانتباه أو خلفا بالقضاء عند عدمه والعجز عن الأداء إنما يسقط الوجوب حيث يتحقق الحرج بتكثير الواجب وامتداد الزمان والنوم ليس كذلك عادة "ولذا" أي ولوجود أصل الوجوب حالة النوم "وجب القضاء" للصلاة التي دخل وقتها وهو نائم "إذا زال" النوم "بعد الوقت"؛ لأنه فرع وجود الوجوب في حالة النوم وقدمنا في مسألة تثبت السببية لوجوب الأداء بأول الوقت موسعا في الفصل الثالث أن أبا المعين ذهب إلى أن وجوب القضاء عليه ابتداء عبادة تلزمه بعد حدوث أهلية الخطاب وما له في هذا وما عليه فليراجع "و" أوجب "إبطال عباراته من الإسلام والردة والطلاق" والعتاق والبيع والشراء وغيرها "ولم توصف" عباراته "بخبر وإنشاء وصدق، وكذب كالألحان" أي كما لا يوصف بها أصوات الطيور لانتفاء الإرادة والاختيار "فلذا" أي إبطال النوم عبارات النائم "اختار فخر الإسلام" وصاحب الهداية في جماعة "أن قراءته لا تسقط الفرض" ونص في المحيط على أنه الأصح. لأن الاختيار شرط أداء العبادة، ولم يوجد "وفي النوادر تنوب" واختاره الفقيه أبو الليث؛ لأن الشرع جعل النائم كالمستيقظ في حق الصلاة تعظيما لأمر المصلي والقراءة ركن زائد يسقط في بعض الأحوال فجاز(3/482)
أن يعتد بها مع النوم وقال شيخنا المصنف إنه الأوجه والاختيار المشروط قد وجد في ابتداء الصلاة وهو كاف ألا يرى أنه لو ركع وسجد ذاهلا عن فعله كل الذهول أنه يجزئه ا هـ قلت وهو يفيد أنه لو ركع وسجد حالة النوم يجزئه وقد نصوا على أنه لا يجزئه وفي المبتغى ركع وهو نائم لا يجوز إجماعا فإن فرق بينها وبينهما بأنهما ركنان أصليان لا يسقطان بحال بخلافها فلا نسلم أن هذا مؤثر في الاعتداد بها دونهما في هذه الحالة وفي هذا مزيد بحث وفوائد أوردته في كتابي حلبة المجلي في شرح منية المصلي ثم عطف على أن قراءته "وأن لا تفسد قهقهته الوضوء ولا الصلاة وإن قيل إن أكثر المتأخرين" وفي المغني عامتهم على أن قهقهته "تفسدهما" أي الوضوء والصلاة أما الوضوء فلثبوت كونها حدثا في صلاة ذات ركوع وسجود بالنص وقد وجدت ولا فرق في الإحداث بين النوم واليقظة قلت وفيه نظر فإن ذلك في الحدث الحقيقي، وهي حدث حكمي ثابت على خلاف القياس في حق المستيقظ لمعنى معقول وهو الجناية على العبادة الخاصة بخصوص هذا الفعل وهو مفقود فيها نائما فلا يكون حدثا وأما الصلاة فلأن في القهقهة معنى الكلام والنوم كاليقظة فيه عند الأكثر، ووجه مختار فخر الإسلام وموافقيه وقد نص شيخنا المصنف في فتح(3/483)
ص -231-…القدير على أنه الأصح زوال معنى الجناية بالنوم ثم النوم يبطل حكم الكلام وهو مخدوش بما تراه "وتفريع النوازل الفساد بكلام النائم عليه" أي قول أكثر المتأخرين. "لعدم فرق النص" وهو ما في صحيح مسلم "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" "بين المستيقظ والنائم وإنزال النائم كالمستيقظ" شرعا لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا نام العبد في سجوده باهى الله به ملائكته فيقول انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده بين يدي" رواه البيهقي وقال ليس بالقوي الدارقطني في علله عن الحسن عن أبي هريرة وقال لا يثبت سماع الحسن من أبي هريرة فلا جرم أن مشى عليه في الخانية والخلاصة وغيرهما ونص في الولوالجية على أنه المختار "وعن أبي حنيفة تفسد الوضوء لا الصلاة" وتقدم وجه كل بما عليه "فيتوضأ ويبني" على صلاته كمن سبقه الحدث "وقيل عكسه" أي تفسد صلاته لا وضوءه وهو المذكور في عامة النسخ للفتاوى وفي الخلاصة وهو المختار وقال المصنف هنا "وهو أقرب عندي؛ لأن جعلها حدثا للجناية ولا جناية من النائم" لعدم القصد "فبقي" القهقهة بمعنى الضحك أو الفعل "كلاما بلا قصد فتفسد" الصلاة به "كالساهي به" أي بالكلام.(3/484)
"وأما الإغماء فآفة في القلب أو الدماغ تعطل القوى المدركة والمحركة عن أفعالها مع بقاء العقل مغلوبا" وإيضاحه مع أنه تقدم بعضه ملخصا قريبا أنه ينبعث عن القلب بخار لطيف يتكون من ألطف أجزاء الأغذية يسمى روحا حيوانيا وقد أفيضت عليه قوة تسري بسريانه في الأعصاب السارية في أعضاء الإنسان فتثير في كل عضو قوة تليق به ويتم بها منافعه، وهي تنقسم إلى مدركة وهي الحواس الظاهرة والباطنة، ومحركة وهي التي تحرك الأعضاء بتمديد الأعصاب وإرخائها لتنبسط إلى المطلوب أو تنقبض عن المنافي فمنها ما هي مبدأ الحركة إلى جلب المنافع وتسمى قوة شهوانية ومنها ما هي مبدأ الحركة إلى دفع المضار وتسمى قوة غضبية وأكثر تعلق المدركة بالدماغ والمحركة بالقلب فإذا وقعت في القلب أو الدماغ آفة بحيث تتعطل تلك القوى عن أفعالها وإظهار آثارها كان ذلك إغماء فهو مرض لا زوال للعقل كالجنون "وإلا" لو كان العقل غير باق "عصم منه الأنبياء" كما عصموا من الجنون واللازم منتف بالإجماع "وهو" أي الإغماء "فوق النوم" في العارضية؛ لأن النوم حالة طبيعية كثيرة الوقوع حتى عده الأطباء من ضروريات الحيوان استراحة لقواه، والإغماء ليس كذلك فيكون أشد في العارضية وفي سلب الاختيار وتعطل القوى فإنهما في الإغماء أشد فإن مواده غليظة بطيئة التحلل ولهذا يمتنع فيه التنبه ويبطؤ الانتباه بخلاف النوم فإن سببه تصاعد أبخرة لطيفة سريعة التحلل إلى الدماغ فلذا يتنبه بنفسه أو بأدنى تنبيه "فلزمه" أي الإغماء من إيجاب تأخير الخطاب وإبطال العبادات "ما لزمه" أي النوم من ذلك بطريق أولى "وزيادة كونه" أي الإغماء "حدثا ولو في جميع حالات الصلاة" من قيام وركوع وسجود وقعود واضطجاع لزوال المسكة على وجه الكمال على كل حال "ومنع البناء" إذا وقع في الصلاة "بخلاف النوم في الصلاة مضطجعا" بأن غلبته عيناه فاضطجع في حالة نومه "له البناء" إذا توضأ بمنزلة ما لو سبقه الحدث كما في الخانية.(3/485)
والفرق أن الإغماء نادر ولا سيما في الصلاة بخلاف النوم والنص(3/486)
ص -232-…بجواز البناء إنما ورد في الحدث الغالب الوقوع ولو تعمد النوم في الصلاة مضطجعا انتقض وضوءه وبطلت صلاته بلا خلاف وقيد بالاضطجاع؛ لأن نوم المصلي غير مضطجع لا ينقض الوضوء هذا والإغماء إذا زاد على يوم وليلة باعتبار الأوقات عند أبي حنيفة وأبي يوسف وباعتبار الصلوات عند محمد تسقط به الصلاة استحسانا كما تقدم في الجنون وقال مالك والشافعي إذا استوعب وقت صلاة سقطت به بخلاف النوم ثم في المحيط لو شرب الخمر حتى ذهب عقله أكثر من يوم وليلة لا يسقط عنه القضاء؛ لأن الإغماء حصل بما هو معصية فلا يوجب التخفيف والترفيه ا هـ وفي تسمية هذا إغماء مساهلة بل هذا سكر وسيأتي الكلام فيه وفيه أيضا. ولو شرب البنج أو الدواء حتى أغمي عليه قال محمد يسقط عنه القضاء متى كثر؛ لأنه حصل بما هو مباح فصار كما لو أغمي عليه بمرض وقال أبو حنيفة يلزمه القضاء؛ لأن النص ورد في إغماء حصل بآفة سماوية فلا يكون واردا في إغماء حصل بصنع العباد؛ لأن العذر متى جاء من قبل غير من له الحق لا يسقط الحق ولو أغمي عليه لفزع من سبع أو آدمي أكثر من يوم وليلة لا يلزمه القضاء بالإجماع؛ لأنه حصل بآفة سماوية؛ لأن الخوف والفزع إنما يجيء لضعف قلبه فيكون بمعنى المرض ثم هذا إذا لم يفق المغمى عليه أصلا هذه المدة فإن كان يفيق ساعة ثم يعاوده لم يذكره محمد وهو على وجهين أحدهما إن كان لإفاقته وقت معلوم فهي إفاقة معتبرة يبطل حكم ما قبلها من الإغماء إن كان من المدة المذكورة ثانيهما أن لا يكون لها وقت معلوم بل يفيق بغتة فيتكلم بكلام الأصحاء ثم يغمى عليه بغتة فهذه إفاقة معتبرة ذكره في الذخيرة، والله تعالى أعلم.(3/487)
"وأما الرق" فهو لغة الضعف ومنه صوت رقيق وأما في الشرع "فعجز حكمي عن الولاية والشهادة والقضاء ومالكية المال" والتزوج وغيرها "كائن عن جعله" أي المرقوق "شرعا عرضة" أي محلا منصوبا متهيئا "للتملك والابتذال" أي الامتهان وقيد بالحكمي؛ لأن بعض الأرقاء قد يكون أقوى من الحرفي القوي الحسية؛ لأن الرق لا يوجب خللا في البدن ظاهرا ولا باطنا ثم هو حق الله ابتداء بمعنى أنه يثبت جزاء للكفر فإن الكفار لما استنكفوا عن عبادة الله وألحقوا أنفسهم بالبهائم في عدم النظر والتأمل في آيات التوحيد جازاهم الله تعالى بجعلهم عبيد عبيده متملكين مبتذلين بمنزلة البهائم ولهذا لا يثبت على المسلم ابتداء ثم صار حقا للعبد بقاء بمعنى أن الشارع جعل الرقيق ملكا من غير نظر إلى معنى الجزاء وجهة العقوبة حتى إنه يبقى رقيقا وإن أسلم واتقى "فلا يتجزأ الرق" قال غير واحد من المتأخرين باتفاق أصحابنا ولعل المراد المتقدمون وإلا فمشكل بقول محمد بن سلمة يحتمل التجزؤ ثبوتا حتى لو فتح الإمام بلدة ورأى الصواب في استرقاق أنصافهم بعد ذلك نفذ ذلك منه والأصح الأول "لاستحالة قوة البعض الشائع" من المحل "باتصافه بالولاية والمالكية" دون البعض الآخر "فكذا ضده" أي الرق "وهو العتق" لا يتجزأ أيضا اتفاقا على ما ذكره غير واحد أيضا "وإلا" لو تجزأ العتق "تجزأ" الرق؛ لأنه إذا ثبت العتق في بعض المحل شائعا فالبعض الآخر إن عتق فلا تجزئ مع فرض أنه متجزئ هذا خلف وإن لم يعتق لزم المحال المذكور "وكذا(3/488)
ص -233-…الإعتاق عندهما" لا يتجزأ فإذا أعتق نصف عبده عتق كله. "وإلا" لو تجزأ "ثبت المطاوع" بفتح الواو وهو الإعتاق "بلا مطاوع" بكسر الواو وهو العتق "إن لم ينزل" أي لم يعتق منه "شيء"؛ لأن العتق مطاوع الإعتاق ولازمه يقال أعتقته فعتق ككسرته فانكسر والمطاوعة حصول الأثر عن تعلق الفعل المتعدي بمفعوله وأثر الشيء لازم له "وقلبه" أي وثبت المطاوع بكسر الواو بلا مطاوع بفتحها "إن نزل" أي عتق "كله"، وكلاهما منتف ولا ينزل بعضه بإعتاق بعضه للاتفاق على عدم تجزؤ العتق "وتجزأ" الإعتاق "عنده" أي أبي حنيفة "لأنه" أي الإعتاق "إزالة الملك المتجزئ" اتفاقا "حتى صح شراء بعضه وبيعه" أي بيع بعضه "وإن تعلق بتمامه" أي الإعتاق "ما لا يتجزأ" وهو العتق فإن وصلية؛ لأنه حينئذ "كالوضوء تعلق بتمامه إباحة الصلاة وهو" أي الوضوء "منجز دونها" أي إباحة الصلاة "والمطاوعة في أعتقه فعتق" إنما هي "عند إضافته" أي الإعتاق "إلى كله كما هو اللفظ" أي أعتقه "فلا يثبت بإعتاق البعض شيء من العتق" إذ لو ثبت العتق ثبت في الكل لعدم تجزؤ العتق وثبوته في الكل حينئذ بلا سبب مع تضرر المولى بذلك "ولا" يثبت أيضا بإعتاق البعض "زوال شيء من الرق عنده" لكن من الملك "بل هو" أي معتق البعض "كالمكاتب" في أنه لا يصح منه سائر أحكام الحرية "إلا أنه" أي معتق البعض "لا يرد" إلى الرق؛ لأن سببه إزالة الملك لا إلى أحد، وهي لا تحتمل الفسخ بخلاف المكاتب فإنه يرد إليه إذا عجز عن المال؛ لأن السبب فيه عقد يحتمل الفسخ "فأثره" أي إعتاق البعض "حينئذ" أي حين كان إزالة بعض الملك "في فساد الملك" في الباقي حتى لا يملك المولى بيع معتق البعض ولا إبقاءه في ملكه ويصير هو أحق بمكاسبه ويخرج إلى الحرية بالسعاية. "وهذا" إنما كان "لوجوب قصر ملاقاة التصرف حق المتصرف" لا حق غيره "إلا ضمنا كما في إعتاق الكل" فإن فيه إزالة حق العبد قصدا وأصلا ولزم منه زوال حق الله تعالى ضمنا(3/489)
وتبعا وكم من شيء يثبت ضمنا ولا يثبت قصدا ومن هذا يعرف أن ما في البدائع من التعقب لمن قال من مشايخنا لا خلاف بين أصحابنا في أن العتق لا يتجزأ وإنما اختلفوا في الإعتاق بأنه غير سديد بما ذكره ثمة ليس بتعقب سديد ويزداد لدى الناظر وضوحا بمراجعة أوائل باب العبد يعتق بعضه من شرح الهداية للمصنف رحمه الله تعالى.
"والرق حق الله تعالى" ابتداء "والملك حقه" أي العبد بقاء كما تقدم "وأنه" أي الرق "ينافي ملك المال؛ لأنه" أي الرقيق "مملوك مالا فاستلزم" كونه مملوكا مالا "العجز والابتذال"؛ لأن المملوكية المالية تنبئ عنهما "والمالكية تستلزم ضدهما" أي العجز والابتذال وضداهما القدرة والكرامة لإنبائها عنهما "وتنافي اللوازم يوجب تنافي الملزومات فلا يجتمع إلى مملوكيته مالا مالكيته للمال فلا يتسرى" الرقيق الأمة "ولو ملكها" حال كونه "مكاتبا بخلاف غيره" أي المال "من النكاح" فإنه فيه بمنزلة المبقى على أصل الحرية "لأنه من خواص الآدمية حتى انعقد" إنكاحه نفسه موقوفا على إجازة المولى إذا كان "بلا إذن" من المولى. "وشرط الشهادة عنده" أي العقد "لا عند الإجازة وإنما وقف إلى إذنه؛ لأنه" أي عقد النكاح "لم يشرع إلا بالمال" لقوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] إلى غير ذلك "فيضر" العقد "به" أي(3/490)
ص -234-…بالمولى لما فيه من نقصان مالية العبد التي هي حق المولى؛ لأن المهر يتعلق برقبته إذا لم يوجد له مال آخر يتعلق به "فيتوقف" نفاذ العقد "على التزامه" أي المولى بالإذن السابق أو الإمضاء اللاحق "و" من "الدم لملكه الحياة"؛ لأنه محتاج إلى البقاء ولا بقاء له إلا ببقائها "فلا يملك المولى إتلافه" أي دمه إذ لا ملك له فيه "وقتل الحر به" أي بالعبد قصاصا في العمد "وودي" أي وفدي بالدية على تفصيل فيها في الخطأ "وصح إقراره" أي العبد على نفسه مأذونا كان أو محجورا "بالحدود والقصاص" أي بالأسباب الموجبة لهما لملاقاة حق نفسه قصدا فيصح منه كما يصح من الحر ولا يمنع صحته لزوم إتلاف ماليته التي هي حق المولى لكونه ضمنيا فانتفى نفي زفر صحة إقراره بالحدود والقصاص بكونه واردا على نفسه وطرفه وكلاهما مال المولى والإقرار على الغير غير مقبول بخلاف إقراره بضمان المال فإنه مؤاخذ به في الحال إن كان مأذونا وبعد العتق إن كان محجورا.(3/491)
"والسرقة المستهلكة" أي وبسرقة مال غير قائم بيده "والقائمة" أي وبسرقة مال قائم بيده "في المأذون اتفاقا وفي المحجور والمال قائم" بيده "كذلك" أي صح إقراره بها "وإن صدقه المولى" في ذلك "فيقطع" في هذه الأحوال عند علمائنا الثلاثة؛ لأن وجوب الحد عليه باعتبار أنه آدمي مكلف لا باعتبار أنه مال مملوك وهو في هذا المعنى كالحر مأذونا كان أو محجورا. "ويرد" المال إذا كان قائما أما إذا كان مأذونا فلأنه لاقى حق نفسه وهو الكسب؛ لأنه منفك الحجر فيه فيصح وأما إذا كان محجورا فلسقوط حق المولى فيه بتصديقه "ولا ضمان في الهالكة" صدقه المولى أو كذبه لما عرف من أن القطع والضمان لا يجتمعان عند أصحابنا "وإن قال" المولى "المال لي" فيما إذا كان العبد محجورا والمال قائم "فلأبي يوسف يقطع"؛ لأن إقراره حجة في القطع؛ لأنه مالك دم نفسه "والمال للمولى؛ لأنه" أي كون المال للمولى هو "الظاهر" تبعا لرقبته "وقد" ينفصل أحد الحكمين عن الآخر إذ قد "يقطع بلا وجوب مال كما لو استهلكه" أي المال المسروق "وعكسه" أي ويجب المال ولا يقطع كما "إذا شهد بالسرقة رجل وامرأتان" لما عرف من أن شهادة النساء مع الرجل تقبل في المال لا في الحدود "ولمحمد لا" يقطع "ولا يرد" المال "لما ذكر أبو يوسف" من أن إقراره بالمال باطل لكونه على المولى فيبقى المال للمولى "ولا قطع" على العبد "بمال السيد" أي بسرقته "ولأبي حنيفة يقطع ويرد" المال إلى المسروق منه "القطع لصحة إقراره بالحدود" لما ذكرنا "ويستحيل" القطع "بمملوك للسيد فقد كذبه" أي المولى "الشرع والمقطوع" من الشرع "انحطاطه" أي الرقيق "بالحجر" من الشرع "في أمور إجماعية مما ذكرنا" من الولاية والقضاء "فما استلزم منها" أي من الأمور الإجماعية "غيره" أي غير نفسه "كعدم مالكية المال أو قام به سمع حكم به فمن المعلوم انحطاط ذمته" عن تحمل الدين لضعفها.؛ لأنه من حيث هو مال بالرق كأنه لا ذمة له ومن حيث إنه(3/492)
إنسان مكلف لا بد أن يكون له ذمة إذ التكليف لا يكون بدونها فثبتت له مع الضعف فحينئذ لا بد من تقويتها لتحمل الدين بانضمام مالية الرقبة أو الكسب إليها فلا يطالب بدون انضمام أحدهما إليها إذ لا معنى لاحتمالها الدين إلا صحة المطالبة فظهر أنها لم(3/493)
ص -235-…تقو على ذلك "حتى ضم إليها" أي ذمته "مالية رقبته أو كسبه فيبيع فيما يلزم في حق المولى إن لم يفده ولا كسب أو لم يف" كسبه بذلك إن كان له كسب إلا أن لا يمكن بيعه كالمدبر والمكاتب ومعتق البعض عند أبي حنيفة فحينئذ يستسعى والدين الذي يظهر في حق المولى "كمهر ودين تجارة عن إذن" لرضا المولى بذلك "أو تبين استهلاك" لانتفاء التهمة "لا إقراره" أي لا بإقراره بالاستهلاك حال كونه "محجورا" لوجود التهمة وعدم رضا المولى بذلك فلا يظهر في حقه فلا يباع ولا يؤخذ من كسبه لكن يؤخر إلى عتقه "وحله" أي وانحطاط الحل الثابت له بالنكاح عن الحل الثابت للحرية "فاقتصر" حله "على ثنتين نساء" له حرتين كانتا أو أمتين كما هو قول أصحابنا والشافعي وأحمد. وقال مالك يتزوج أربعا؛ لأن الرق لا يؤثر في مالكية النكاح؛ لأنه من خصائص الآدمية وأجيب بأن له أثرا في تنصيف المتعدد كأقراء العدة وعدد الطلاق وجلدات الحدود؛ لأن استحقاق النعم بآثار الإنسانية وقد أثر الرق في نقصانها حتى ألحق بالبهائم يباع بالأسواق؛ لأنه أثر الكفر الذي هو موت حكمي فكذا أثر في نقصان الحل إلى النصف؛ لأنه نعمة كما أثر في العقوبة بدليل قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وفي مغني ابن قدامة وقد روى ليث بن أبي سليم عن الحكم قال أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن العبد لا ينكح أكثر من اثنتين ويقويه ما روى أحمد عن ابن سيرين أن عمر سأل الناس كم يتزوج العبد قال عبد الرحمن بن عوف ثنتين وطلاقه ثنتان وأخرجه الشافعي عن عمر "واقتصر" الحل "فيها" أي الأمة "على تقدمها على الحرة لا مقارنة" لها في العقد "ومتأخرة" عنها أما نفي حل تأخرها عنها فلقوله صلى الله عليه وسلم: "وتتزوج الحرة على الأمة ولا تتزوج الأمة على الحرة" رواه الدارقطني وفيه مظاهر بن أسلم ضعيف لكن أخرجه الطبري وعبد الرزاق وابن أبي شيبة(3/494)
عن الحسن مرسلا وعبد الرزاق بإسناد صحيح عن جابر موقوفا عليه إلى غير ذلك فإن لم تقم الحجة بالبعض قامت بالجميع وأما نفي حل مقارنتها لها فلأن هذه الحالة لا تحتمل التجزؤ فتغلب الحرمة على الحل "وطلقتين" أي واقتصر ما به يفوت حلها وهو بينونتها البينونة الغليظة على تطليقها ثنتين حرا كان زوجها أو عبدا خلافا للأئمة الثلاثة فيما إذا كان حرا "وحيضتين عدة" أي واقتصر ما هو مرتب على وجود سبب انقطاع حلها بملك النكاح ناجزا أو مؤجلا بغير الموت من التربص المشروع لتعظيم ملك النكاح والعلم ببراءة الرحم وهو العدة على وجود حيضتين من وقت وجوب السبب والحجة فيهما قوله صلى الله عليه وسلم: "طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان" رواه أبو داود وغيره وصححه الحاكم. وإنما كان طلاقها ثنتين وعدتها حيضتين "تنصيفا" للثابت منهما للحرة وهو ثلاث تطليقات وثلاث حيض إذ كل من الطلقة والحيضة لا تتنصف فتكامل لرجحان جانب الوجود على العدم ومن ثمة قال عمر رضي الله عنه لو استطعت أن أجعل عدة الأمة حيضة ونصفا فعلت رواه عبد الرزاق وغيره "وكذا في القسم" نقص حلها حتى اقتصر على النصف مما للحرة كما هو قول أصحابنا والشافعي ومالك في رواية وذهب في أخرى وأحمد إلى التسوية بينهما، والحجة للأول ما عن علي رضي الله عنه(3/495)
ص -236-…قال: "إذا نكحت الحرة على الأمة فلهذه الثلثان ولهذه الثلث" وعن سليمان بن يسار قال: من السنة أن الحرة إذا أقامت على ضرائر فللحرة ليلتان وللأمة ليلة، أخرجه البيهقي.
"وعن تنصف النعمة" التي للحر في حق الرقيق "تنصف حده" كما نص عليه النص القرآني السابق وهذا فيما يمكن تنصيفه، وأما ما لا يمكن تنصيفه فيتكامل كالقطع في السرقة فإن الحر والعبد فيه سواء "وإنما نقصت ديته إذا ساوت قيمته دية الحر" كما هو قول أبي حنيفة ومحمد "لأنه" أي المؤدى "ضمان النفس وهو" أي ضمان النفس واجب "بخطرها" أي بسبب شرفها "وهو" أي خطرها "بالمالكية للمال ولملك النكاح وهذا" أي ملك النكاح "منتف في المرأة" الحرة إذ هي مملوكة فيه لا مالكة "فتنصفت ديتها" عن دية الحر الذكر "وثابت للعبد مع نقص في" مالكية "المال لتحققه" أي ملكه المال "يدا" أي تصرفا "فقط" أي لا رقبة فلزم بواسطة نقصان ملك اليد نقصان شيء من قيمته. "ولكون مالكية اليد فوق مالكية الرقبة؛ لأنه" أي ملك الرقبة هو "المقصود منه" أي من ملك الرقبة وملك الرقبة شرع وسيلة إليه؛ لأن المقصود من الملك مكنة الصرف إلى قضاء الحوائج واليد هو الممكن والموصل إليه فإن ملك الرقبة وإن كان تاما فربما لا يمكنه الصرف معه إلى قضاء حوائجه لبعده أو لمانع آخر "لم يتقدر نقص ديته بالربع" لانتفاء التوزيع الموجب له "بل لزم أن ينقص بماله خطر في الشرع وهو العشرة" إذ بها يملك البضع المحترم وتقطع اليد المحترمة "واعترض" والمعترض صدر الشريعة "لو صح" كون العلة لنقصان دية العبد عن دية الحر هذا "لم تتنصف أحكامه" أي العبد "إذ لم يتمكن في كماله إلا نقصان أقل من الربع" فيجب أن يكون نقصانه في النكاح والطلاق وغيرهما بأقل من النصف واللازم باطل إجماعا "وأيضا لو كانت مالكية النكاح" ثابتة "له كملا" أي كاملة "لم تنتقص فيما يتعلق بالازدواج كعدد الزوجات والعدة والقسم والطلاق؛ لأنها" أي هذه الأمور "مبنية(3/496)
عليها" أي على مالكية النكاح "وهي" أي مالكية النكاح "كاملة" واللازم باطل "بل" إنما نقصت ديته عن دية الحر "لأن المعتبر فيه" أي العبد "المالية" فلا يتنصف كسائر الأموال "غير أن في الإكمال" لقيمة العبد إذا بلغت دية الحر "شبهة المساواة بالحر" وشبهة الشيء معتبرة بحقيقته وكما أن حقيقة المساواة منتفية فكذا شبهها "فنقص بماله خطر وأجيب" كما في التلويح "بأن نقصان الزوجات ليس لنقصان خطر النفس الذي هو المالكية ليلزم" النقصان "بأقل من النصف" كما في الدية. "بل لنقصان الحل المبني على الكرامة وتقدير النقص به" أي في الحل المبني عليها مفوض "إلى الشرع فقدره بالنصف إجماعا" وهو مشكل بخلاف مالك إذا لم يثبت إجماع الصحابة كما تقدم "بخلاف الدية فإنها باعتبار خطر النفس الذي هو" ثابت "بالمالكية ونقصان الرقيق فيه أقل من الربع" والحاصل أن النقصان في الشيء يوجب النقصان في الحكم المترتب عليه لا في حكم لا يلائمه فالنقصان في المالكية يوجب النقصان في الدية لا في عدد المنكوحات والنقصان في الحل بالعكس فانتفى الوجه الأول من الاعتراض "وكمال مالكية النكاح إن لم يوجب نقصان عددهن" أي الزوجات "لا ينفي أن يوجبه" أمر "آخر هو نقصان الحل ولا تستقيم الملازمة بين كمال ملك النكاح" في الرقيق "وعدم تنصيف ما يتعلق بالازدواج فإن أكثره" أي ما يتعلق(3/497)
ص -237-…بالازدواج "كالطلاق والعدة والقسم إنما يتعلق بالزوجة ولا تملك" الأمة "النكاح أصلا" فضلا عن كمال المالكية فانتفى الوجه الثاني من الاعتراض أيضا "وإنما قال شبهة المساواة؛ لأن قيمة العبد لو وجبت وكانت ضعف دية الحر لا مساوية؛ لأنها" أي القيمة "تجب في العبد باعتبار المملوكية" والابتذال "وفي الحر باعتبار المالكية والكرامة" والأول دون الثاني حقيقة وإن زاد عليه صورة فلا مساواة حقيقة "وكون مستحقه" أي ضمان نفس العبد "السيد لا يستلزم أنه" أي ضمان نفسه "باعتبار المالية" كما ذهب إليه أبو يوسف والشافعي. "ألا ترى أنه" أي السيد "المستحق للقصاص بقتل عبد إياه" أي عبده "وهو" أي القصاص "بدل الدم إجماعا فالحق أن مستحقه" أي الضمان "العبد ولهذا يقضي منه" أي من الضمان "دينه" أي دين العبد "غير أنه" أي العبد "لما لم يصلح شرعا لملك المال خلفه المولى" فيه "لأنه أحق الناس به كالوارث واختلف في أهليته" أي العبد "للتصرف وملك اليد فقلنا نعم" أهل لهما "خلافا للشافعي؛ لأنهما" أي أهليتي التصرف وملك اليد "بأهلية التكلم والذمة مخلصة عن المملوكية والأولى" أي أهلية التكلم "بالعقل" وهو لا يختل بالرق "ولذا" أي عدم اختلالها بالرق "كانت رواياته ملزمة العمل للخلق وقبلت في الهدايا وغيرها" من الدنايات "والثانية" أي أهليته للذمة "بأهلية الإيجاب" عليه "والاستيجاب" له "ولذا" أي لتأهله للإيجاب والاستيجاب "خوطب بحقوقه تعالى" ويصح إقراره بالحدود والقصاص "ولم يصح شراء المولى على أن الثمن في ذمته" أي العبد كما لو شرطه على أجنبي؛ لأنها غير مملوكة له ولو كانت مملوكة له لجاز كما لو التزم المولى ذلك في ذمة نفسه "ولا يملك" المولى "أن يسترد ما أودع عند العبد" والمناسب كما في غير موضع أن يسترد ما أودعه العبد غيره "وصحة إقراره" أي المولى "عليه" أي العبد بدين "لملك ماليته" أي العبد "كإقرار الوارث" على مورثه بالدين "فهو" أي فإقرار(3/498)
المولى على عبده "إقرار على نفسه بالحقيقة وإنما حجر" العبد "عنه" أي عن التصرف مع قيام الأهلية "لحق المولى"؛ لأن الدين إذا وجب في الذمة يتعلق بمالية الرقبة والكسب استيفاء وهما ملك المولى فلا يتحقق بدون رضاه فإذا أذن فقد رضي بسقوط حقه. "فإذنه فك الحجر" الثابت بالرق "ورفع المانع" من التصرف حكما وإثبات اليد له في كسبه لا إثبات أهلية التصرف له "كالنكاح" أي كملكه نكاح نفسه وإنما امتنع نفاذه لحق المولى فإذا أذن له فيه ارتفع المانع "فيتصرف" بعد الإذن "بأهليته" كالكتابة "لا إنابة" عن المولى حتى تكون يده في إكسابه يد نيابة عنه كالمودع "كالشافعي" أي كما قال الشافعي؛ لأنه لو كان أهلا للتصرف لكان أهلا للملك؛ لأن التصرف وسيلة إليه وسبب له والسبب لم يشرع إلا لحكمة واللازم باطل إجماعا فكذا الملزوم وإذا لم يكن أهلا للتصرف لم يكن أهلا لاستحقاق اليد؛ لأن اليد إنما تستفاد بملك الرقبة أو التصرف وتظهر ثمرة الاختلاف فيما أشار إليه بقوله "فلو أذن" المولى له "في نوع" من التجارة "كان له التصرف مطلقا" أي في كل أنواعها "وتثبت يده" أي العبد "على كسبه كالمكاتب وإنما ملك" المولى "حجره" أي المأذون لا المكاتب "لأنه" أي فك الحجر في المأذون "بلا عوض" فلا يكون لازما كالهبة "بخلاف الكتابة" فإنها بعوض فتكون لازمة كالبيع.(3/499)
ص -238-…ثم هذا عند علمائنا الثلاثة لوجود فك الحجر المانع من التصرف بأهليته فلغا التقييد وقال زفر والشافعي يختص بما أذن فيه؛ لأن تصرفه لما كان بطريق النيابة عنه كالوكيل صار مقتصرا على ما أذن فيه؛ لأن النيابة لا تتحقق بدون إذن الأصيل ثم للمشايخ في ثبوت ملك الرقبة في إكسابه للمولى طريقان أحدهما أن تصرفه يفيد ثبوت ملك اليد له وثبوت ملك الرقبة لمولاه ابتداء ثانيهما أن تصرفه يفيد ثبوت كليهما له ثم يستحق المولى ملك الرقبة خلافة عن العبد لعدم أهليته لها وكون المولى أقرب الناس إليه لقيام ملكه فيه. وعلى هذا مشى المصنف فقال "وثبوت الملك للمولى فيما يشتريه" العبد "ويصطاده ويتهبه لخلافته" أي المولى "عنه" أي العبد "لعدم أهليته" لملك رقبة ما اشتراه أو اصطاده أو اتهبه "كالوارث" مع الموروث "وكون ملك التصرف لا يستفاد إلا من ملك الرقبة ممنوع نعم هو" أي ملك الرقبة "وسيلة إليه" أي إلى ملك التصرف كما تقدم "ولا يلزم من عدم ملكها" أي الرقبة "عدم المقصود لجواز تعدد الأسباب" لملك التصرف "وإذ كانت له" أي للعبد "ذمة وعبارة صح التزامه" أي العبد "فيها" أي في الذمة "ووجب له" أي للعبد "طريق قضاء" لما التزمه "دفعا للحرج اللازم من أهلية الإيجاب في الذمة بلا أهلية القضاء وأدناه" أي طريق القضاء "ملك اليد" فيلزم ثبوته للعبد وهو المطلوب "ولذا" أي ثبوت ملك اليد للعبد وكون ملك الرقبة متلقى منه "قال أبو حنيفة دينه" أي العبد المستغرق لماله "بمنع ملك المولى كسبه" لشغله بحاجته المتقدمة عليه "واختلف في قتل الحر به" أي العبد "فعنده" أي الشافعي "لا" يقتل به قصاصا "لابتنائه" أي القتل قصاصا "على المساواة في الكرامات"، وهي منتفية بينهما إذ الحر نفس من كل وجه والعبد نفس ومال "قلنا" لا نسلم ابتناء القصاص عليها "بل" المناط فيه المساواة "في عصمة الدم فقط للاتفاق على إهداره" أي التساوي في القصاص "في العلم والجمال ومكارم(3/500)
الأخلاق" والشرف "وهما" أي الحر والعبد "مستويان فيها" أي عصمة الدم "وينافي" الرق "مالكية منافع البدن" إجماعا. "إلا ما استثني من الصوم والصلاة إلا نحو الجمعة بخلاف الحج" فإنه لم يستثنه نظرا للمولى فبقيت منافعه على ملكه "بالنص للمال" فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى". قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين وقال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] قيل: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة". قال الحاكم أيضا صحيح على شرط الشيخين والعبد لا مال له ثم على اشتراط الحرية للوجوب الإجماع "والجهاد" أي وبخلاف الجهاد أيضا "فليس له القتال إلا بإذن مولاه أو" إذن "الشرع في عموم النفير ولا يستحق" العبد إذا قاتل "سهما؛ لأنه" أي استحقاق سهم من الغنيمة "للكرامة" وهو ناقص فيها "بل" يستحق "رضخا لا يبلغه" أي السهم فعن عمير مولى آبي اللحم شهدت خيبر مع سادتي فأمر لي النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من خرثي المتاع. رواه أبو داود والترمذي وصححه "بخلاف" استحقاق "السلب بالقتل بقول الإمام" من قتل قتيلا فله سلبه فإنه لا تفاوت فيه بين الحر والعبد؛ لأنه بالقتل أو بإيجاب الإمام "فساوى" العبد "فيه الحر والولايات" أي وينافي الرق الولايات(4/1)
ص -239-…المتعدية كولاية القضاء والشهادة والتزويج وغيرها؛ لأنها تنبئ عن القدرة الحكمية إذ الولاية تنفيذ القول على الغير شاء أو أبى والرق عجز حكمي ثم الأصل في الولايات ولاية المرء على نفسه ثم التعدي منه إلى غيره عند وجود شرط التعدي ولا ولاية للعبد على نفسه فكيف يتعدى إلى غيره "وصحة أمان" العبد "المأذون في القتال" الكافر الحربي "لاستحقاق الرضخ" في الغنيمة بإذن مولاه إلا أن مولاه يخلفه في ملكه كما في سائر أكسابه "فأمانه إبطال حقه أولا" في الرضخ. "ثم يتعدى إلى الكل" أي كل الغازين فيلزم سقوط حقهم؛ لأن الغنيمة لا تتجزأ في حق الثبوت والسقوط "كشهادته برؤية الهلال" توجب على الناس الصوم بقوله لإيجابه ذلك على نفسه أولا ثم لا يتعدى إلى سائرهم، وكذا روايته لأحاديث الشارع فصار هذان أصل أمانه "لا" أن أمانه "ولاية عليهم" لما عرف من أن حكم الشيء ما وضع الشيء له، وحكم أمانه أولا وبالذات إنما هو ما ذكرنا "بخلاف" العبد "المحجور" عن القتال لا أمان له عند أبي حنيفة وأبي يوسف في إحدى الروايتين عنه ومالك في رواية سحنون؛ لأنه "لا استحقاق له" وقت الأمان؛ لأنه ليس من أهل الشركة في الغنيمة "فلو صح" أمانه "كان إسقاطا لحقهم" أي الغازين في أموال الكفار وأنفسهم اغتناما واسترقاقا "ابتداء" قال قيل ينبغي أن يصح أمانه كما هو قول أبي يوسف في رواية ومحمد والأئمة الثلاثة لاستحقاقه الرضخ إذا قاتل أجيب بالمنع "واستحقاقه" الرضخ "إذا افتات بالقتال" أي قاتل بغير إذن سيده "وسلم لتمحضه" أي القتال "مصلحة للمولى بعده" أي القتال؛ لأنه غير محجور عما يتمحض منفعة فيكون كالمأذون فيه من المولى دلالة؛ لأنه إنما حجر عنه لدفع الضرر عن المولى لانتفاء اشتغاله بخدمته وقت القتال وربما يقتل فإذا فرغ سالما وأصيبت الغنيمة زال الضرر فيثبت الإذن منه دلالة "فلا شركة له" في الغنيمة "حال الأمان" فلا يكون فيه كالمأذون في القتال.(4/2)
نعم ما في مصنف عبد الرزاق عن عمر رضي الله عنه العبد المسلم من المسلمين وأمانه أمانهم يفيد إطلاقه صحة أمان العبد مطلقا كما هو قول الجمهور.
"فلا يضمن" الرقيق "بدل ما ليس بمال؛ لأنه" أي بدله "صلة" وهو لا يملك الصلات "فلا يجب عليه دية في جنايته" على غيره بالقتل "خطأ"؛ لأن الدم ليس بمال ومما يدل على أن الواجب في الجناية الخطأ ضمان هو صلة في حق الجاني حتى كأنه يهبه ابتداء أنه لا يملك إلا بالقبض ولا تجب فيه الزكاة إلا بحول بعده ولا تصح الكفالة به بخلاف بدل المال الثابت في هذه الأمور ولا عاقلة له بالإجماع ليجب عليهم. "لكن لما لم يهدر الدم صارت رقبته جزاء" أي قائمة مقام الأرش حتى لا يكون الاستحقاق على العبد ولا يصير الدم هدرا "إلا أن يختار المولى فداءه فيلزمه" أي الفداء المولى "دينا" في ذمته "فلا يبطل" اختياره الفداء "بالإفلاس" حتى إنه لا يعود تعلق حق ولي الجناية في رقبة العبد إذا لم يكن للمولى ما يؤديه "عنده" أي أبي حنيفة "فلا يجب" به على المولى "الدفع" للعبد إلى ولي الجناية بل هو عبده لا سبيل لغيره عليه "وعندهما اختياره" أي المولى الفداء "كالحوالة كأنه" أي العبد "أحال على(4/3)
ص -240-…مولاه" بالأرش؛ لأن الأصل أن يكون الجاني هو المصروف إلى جنايته كما في العمد وصير إلى الأرش في الخطأ إذا كان الجاني حرا لتعذر الدفع فكان اختيار الفداء نقلا من الأصل إلى العارض كما في الحوالة "فإذا لم يسلم" الأرش لولي الجناية "عاد حقه في الدفع" الذي هو الأصل كما في الحوالة الحقيقية وأجيب بمنع أن الأصل في الجناية الخطأ ذلك بل الأرش هو الأصل الثابت فيها بالنص وهو قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] وصير إلى الدفع ضرورة أن العبد ليس بأهل للصلة وقد ارتفعت الضرورة باختيار المولى الفداء فعاد الأمر إلى الأصل، ولم يبطل بالإفلاس وقيل هذه فرع اختلافهم في التفليس فعنده لما لم يكن معتبرا كان هذا التصرف من المولى تحويلا لحق الأولياء إلى ذمته لا إبطالا وعندهما لما كان معتبرا وكان المال في ذمته تأويلا كان هذا الاختيار من المولى إبطالا ولا يقال قد يجب على العبد ضمان مال بما ليس بمال فإن المهر يجب في ذمته بمقابلة ملك النكاح أو منفعة البضع؛ لأنا نقول ليس كذلك.(4/4)
"ووجوب المهر ليس ضمانا" إذ لا تلف ولا صلة "بل" يجب "عوضا عما استوفاه من الملك أو المنفعة وأما المرض" وعنه عبارات منها ما يعرض البدن فيخرجه عن الاعتدال الخاص ومنها هيئة غير طبيعية في بدن الإنسان تكون بسببها الأفعال الطبيعية والنفسانية والحيوانية غير سليمة، وبسط الكلام فيه يعرف في فنه "فلا ينافي أهلية الحكم" أي ثبوته ووجوبه له وعليه سواء كان من حقوق الله أو العباد "والعبارة إذ لا خلل في الذمة والعقل والنطق" فصح منه سائر ما يتعلق بالعبارة من نكاح وطلاق وبيع وشراء وغيرها "لكنه" أي المرض "لما فيه من العجز شرعت العبادات فيه على" قدر "المكنة" حتى شرع له الصلاة "قاعدا" إذا عجز عن القيام "ومضطجعا" إذا عجز عنهما "ولما كان الموت علة الخلافة" للوارث والغريم في مال الميت؛ لأن أهلية الملك تبطل بالموت فيخلفه أقرب الناس إليه فيه والذمة تخرب به فيصير المال الذي هو محل قضاء الدين مشغولا بالدين فيخلفه الغريم في المال "وهو" أي المرض "سببه" أي الموت لما فيه من ترادف الآلام وضعف القوى المفضي إلى مفارقة الروح الجسد "كان" المرض "سبب تعلق حق الوارث والغريم بماله" في الحال "فكان" المرض "سببا للحجر في الكل" أي كل المال "للغريم" إن كان الدين مستغرقا "و" في "الثلثين في الورثة إذا اتصل به" أي المرض "الموت" حال كون الحجر "مستندا إلى أوله" أي المرض، إذ الحكم يستند إلى أول السبب. "بخلاف ما لم يتعلقا" أي حق الغريم وحق الوارث "به كالنكاح بمهر المثل فتحاصص" الزوجة "المستغرقين" أي الذي استغرقت ديونهم التركة بقدر مهرها وكالنفقة وأجرة الطبيب ونحوها مما تتعلق حاجة الميت به وما زاد على الدين في حق الغريم وعلى ثلثي ما بقي بعد وفاء الدين إن كان وعلى ثلثي الجميع إن لم يكن ثم لما لم يعلم كونه سببا للحجر قبل اتصال الموت به وكان الأصل هو الإطلاق لم يثبت الحجر به بالشك "فكل تصرف" واقع من المريض "يحتمل الفسخ" كالهبة(4/5)
والبيع بالمحاباة "يصح في الحال" لصدوره من أهله مضافا إلى محله عن ولاية شرعية وانتفاء العلم بالمانع(4/6)
ص -241-…في الحال لعدم العلم في الحال باتصال الموت به "ثم يفسخ" ذلك التصرف "إن احتيج إلى ذلك" أي فسخه بأن مات لما قدمنا من أن الحجر يستند إلى أول المرض إذا اتصل به الموت فيظهر أن تصرفه تصرف محجور عليه "وما لا يحتمله" أي وكل تصرف واقع من المريض لا يحتمل الفسخ "كالإعتاق الواقع على حق غريم بأن يعتق المريض المستغرق" دينه تركته عبدا منها "أو" الواقع "على حق وارث كإعتاق عبد تزيد قيمته على الثلث يصير" العتق "كالمعلق بالموت" أي كالتدبير حتى كان عبدا في شهادته وسائر أحكامه ما دام مولاه مريضا وإذا مات "فلا ينقض ويسعى" العبد للغريم "في كله" أي مقدار قيمته إن كان على الميت دين مستغرق "أو" يسعى "في ثلثيه" للوارث إن لم يكن عليه دين ولا مال له سواه، ولم يجزه الوارث "أو أقل كالسدس إذا ساوى" العبد "النصف" أي نصف التركة، ولم يجزه الوارث وإن كان في المال وفاء بالدين إن كان يخرج من الثلث نفذ في الحال لعدم تعلق حق الغير به. "بخلاف إعتاق الراهن" العبد الرهن "ينفذ" عتقه للحال مع تعلق حق المرتهن به "لأن حق المرتهن في اليد لا الرقبة فلا يلاقيه" أي العتق حقه "قصدا" وحق الغريم والوارث في ملك الرقبة وصحة الإعتاق يبتنى عليها لا على ملك اليد ولذا صح إعتاق الآبق مع زوال اليد عنه لبقاء الملك "فإن كان" الراهن "غنيا فلا سعاية" على العبد لعدم تعذر أخذ الحق من الراهن وهو الأداء إن كان حالا أو قيمة الرهن إن كان مؤجلا "وإن" كان الراهن "فقيرا سعى" العبد للمرتهن "في الأقل من قيمته ومن الدين" لتعذر أخذ الحق من الراهن فيؤخذ ممن حصلت له فائدة العتق؛ لأن الخراج بالضمان ثم إنما سعى في الأقل منهما؛ لأن الدين إن كان أقل فالحاجة تندفع به وإن كانت القيمة أقل فإنما حصل له هذا القدر "ويرجع" العبد "على مولاه عند غناه" بما أداه؛ لأنه اضطر إلى قضاء دينه بحكم الشرع "فمعتق الراهن حر مديون فتقبل شهادته قبل السعاية ومعتق المريض(4/7)
المستغرق كالمكاتب" والأول كالمدبر كما ذكرنا "فلا تقبل" شهادته قبل السعاية "وقد أدمجوا" أي أدرج الحنفية في الكلام في أحكام هذه الآفة العارضة "فرعا محضا" وهو "لما بطلت الوصية للوارث" بالسنة كما سيأتي في النسخ "بطلت" من جهة كونها وصية "صورة عند أبي حنيفة" وإن لم تكن وصية معنى "حتى لو باع المريض عينا بمثل قيمته" فصاعدا "منه" أي الوارث "لا يجوز لتعلق حق كلهم" أي الورثة "بالصورة كما بالمعنى" حتى لا يجوز لبعضهم أن يجعل شيئا من التركة لنفسه بنصيبه من الميراث ولا أن يأخذ التركة ويعطي الباقين القيمة وللناس منافسات في صور الأشياء مع قطع النظر عن معانيها فكان إيثاره البعض بعين منها بيعا منه إيصاء له به صورة لا معنى لكونه مقابلا بالعوض. "خلافا لهما بخلاف بيعه من أجنبي" حيث يجوز اتفاقا إذ لا حجر على المريض في التصرف مع الأجنبي فيما لا يخل بالثلثين فلم يتم تعليلهما بأنه ليس فيه إبطال شيء مما تعلق به حقهم وهو المالية كما لو باع من الأجنبي "ومعنى" أي وبطلت من جهة كونها وصية معنى وإن لم تكن وصية صورة "بأن يقر لأحدهم بمال" لسلامة المال له بلا عوض وانتفاء الصورة ظاهر "وشبهة" أي وبطلت من جهة كونها وصية من حيث الشبهة "بأن باع" الوارث "الجيد من الأموال الربوية برديء منها" مجانس(4/8)
ص -242-…للمبيع كالفضة الجيدة بالفضة الرديئة "لتقوم الجودة في التهمة كما في بيع الولي مال الصبي كذلك" أي الجيد منها بالرديء المجانس للجيد "من نفسه" فكان فيه شبهة الوصية بالجودة؛ لأن عدوله عن خلاف الجنس إلى الجنس يدل على أن غرضه إيصال منفعة الجودة إليه فإنها غير متقومة عند المقابلة بالجنس فتقومت في حقه دفعا للضرر عن الباقين في البيع من الوارث وعن الصغار في بيع الولي من نفسه، ألا ترى أن المريض لو باع الجيد بالرديء من الأجنبي يعتبر خروجه من الثلث ولو لم تكن الجودة معتبرة لجاز مطلقا كما لو باع شيئا منه بمثل القيمة. "ولذا" أي ولبطلان الوصية شبهة "لم يصح إقراره" أي المريض "باستيفاء دينه من الوارث وإن لزمه" أي الدين الوارث "في صحته" أي المريض "وهي" أي صحته "حال عدم التهمة فكيف به" أي بالإقرار باستيفائه "إذا ثبت" لزومه للوارث "في المرض" وهو حالة التهمة والحاصل أن الإقرار بالاستيفاء في المرض كالإقرار بالدين؛ لأنه يصادف محلا مشغولا بحق الورثة فلا يجوز مطلقا وعن أبي يوسف إذا أقر باستيفاء دين كان له على الوارث حال الصحة يجوز؛ لأن الوارث لما عامله في الصحة استحق براءة ذمته عند إقراره باستيفائه منه فلا يتغير ذلك الاستحقاق بمرضه ألا يرى أنه لو كان على أجنبي فأقر باستيفائه في مرضه كان صحيحا في حق غرماء الصحة وأجيب بما تقدم بخلاف إقراره بالاستيفاء من الأجنبي؛ لأن المنع لحق غرماء الصحة وهو عند المرض لا يتعلق بالدين بل بما يمكن استيفاء دينهم منه فلم يصادف إقراره محلا تعلق حقهم به.(4/9)
"وأما الحيض" وهو على أن مسماه خبث دم من الرحم لا لولادة وحدث مانعية شرعية بسبب الدم المذكور عما اشترط فيه الطهارة وعن الصوم ودخول المسجد والقربان ذكره المصنف. "والنفاس" وهو الدم من الرحم عقب الولادة ولقائل أن يقول على وزان ما تقدم في الحيض هذا على أن مسماه خبث وأما على أن مسماه حدث فمانعية شرعية بسبب الدم المذكور أو الولادة عما اشترط فيه الطهارة إلخ "فلا يسقطان أهلية الوجوب ولا الأداء"؛ لأنهما لا يخلان بالذمة والعقل وقدرة البدن "إلا أنه ثبت أن الطهارة عنهما شرط" أداء "الصلاة" بالسنة كما في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنساء: "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل" قلن بلى قال: "فذلك من نقصان عقلها أليس إذا حاضت لم تصل، ولم تصم" قلن بلى قال: "فذلك من نقصان دينها" وبالإجماع "على وفق القياس" لكونهما من الأنجاس أو الأحداث والطهارة منهما شرط لها "و" شرط أداء "الصوم على خلافه" أي القياس لتأديه مع النجاسة والحدث الأصغر والأكبر بلا خلاف بين الأئمة الأربعة "ثم انتفى وجوب قضاء الصلاة" عليهما "للحرج" لدخولها في حد الكثرة؛ لأن أقل مدة الحيض عند أصحابنا ثلاثة أيام بلياليها أو يومان وأكثر الثالث كما عن أبي يوسف ومدة النفاس في العادة أكثر من مدة الحيض والحرج مدفوع شرعا "دون الصوم" فإنه لم ينتف وجوب قضائه عليهما لعدم الحرج؛ لأن الحيض لا يستوعب الشهر والنفاس يندر فيه "كما مر" في الفصل الذي قبل هذا من قوله ولعدم حكم الوجوب من الأداء لم تجب الصلاة على الحائض لانتفاء الأداء شرعا،(4/10)
ص -243-…والقضاء للحرج والتكليف للرحمة والحرج طريق الترك فلم يتعلق ابتداؤهما فيه فضلا بخلاف الصوم فيثبت لفائدة القضاء وعدم الحرج ويشهد لهما ما في الصحيحين عن عائشة قالت: كان يصيبنا ذلك يعني الحيض فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة. وعليهما إجماع الأمة ثم بقي أن يقال "فانتفى" وجوب أداء الصوم عليهما في حالتي الحيض والنفاس. "أولا" فيه "خلاف" بين الشافعية فقيل يجب ونقله السبكي عن أكثر الفقهاء لتحقق الأهلية والسبب وهو شهود الشهر ولأنه يجب عليهما القضاء بقدر ما فاتهما فكان المأتي به بدلا عن الفائت وقيل لا يجب وذكر متأخر أنه الأصح عند الجمهور لانتفاء شرطه وهو الطهارة وشهود الشهر موجب عند انتفاء العذر لا مطلقا ووجوب القضاء يتوقف على سبب الوجوب وهو هنا شهود الشهر وقد تحقق لا على وجوب الأداء وإلا لما وجب قضاء الظهر مثلا على من نام جميع وقتها لعدم تحقق وجوب الأداء في حقه هذا على أن وجوب القضاء بما به وجوب الأداء وأما على أنه بسبب جديد فأظهر إذ لا يستدعي وجوبا سابقا فلا يتوقف وجوبه على وجوب الأداء وأورد يلزم على هذا أن لا يسمى قضاء لعدم استدراك ما فات من الوجوب وأجيب إنما يلزم لو انحصر موجب التسمية فيما ذكرتم وهو ممنوع فإنه إنما سمي قضاء لما فيه من استدراك مصلحة ما انعقد سبب وجوبه، ولم يجب لمانع فلا جرم أن قال المصنف "والانتفاء أقيس" بل هو الوجه الذي لا معدل عنه؛ لأن الأداء حالة الحيض حرام منهي عنه فلا يكون واجبا مأمورا به للتنافي بينهما ومن هنا، والله أعلم. قال السبكي الخلف لفظي؛ لأن ترك الصوم حالة العذر جائز اتفاقا والقضاء بعد زواله واجب اتفاقا لكن ليس كذلك بل فائدة الخلاف بينهما كما في الذخائر فيما إذا قلنا يجب التعرض للأداء والقضاء في النية، فإن قلنا بوجوبه عليها نوت القضاء وإلا نوت الأداء فإنه وقت توجه الخطاب، والله سبحانه أعلم.(4/11)
"وأما الموت" وعزى إلى أهل السنة أنه صفة وجودية مضادة للحياة كما هو ظاهر قوله تعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] وإلى المعتزلة أنه عدم الحياة عما من شأنه وأن الخلق في الآية بمعنى التقدير ثم هو ليس بعدم محض ولا فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار "فيسقط به" عن الميت "الأحكام الأخروية" وهذا سهو والصواب كما في عامة الكتب الدنيوية "التكليفية كالزكاة" والصوم والحج "وغيرها"؛ لأن التكليف يعتمد القدرة ولا عجز فوق العجز بالموت "إلا الإثم" بسبب تقصيره في فعله حال حياته فإنه من أحكام الآخرة والميت ملحق بالأحياء فيها "وما شرع عليه" أي الميت "لحاجة غيره، فإن" كان ذلك المشروع "حقا متعلقا بعين بقي" ذلك الحق في تلك العين "ببقائها" أي تلك العين "كالأمانات والودائع والغصوب؛ لأن المقصود حصوله" أي ذلك الشيء المعين "لصاحبه لا الفعل ولذا" أي كون المقصود في حق العبد حصول الشيء المعين الذي هو متعلق حقه "لو ظفر به" أي بذلك الشيء صاحبه كان "له أخذه بخلاف العبادات" فإن المقصود من التكليف بها فعلها عن اختيار وقد فات الاختيار بالموت فلا يبقى(4/12)
ص -244-…التكليف بها بعد الموت "ولذا" أي كون المقصود من العبادات هذا "لو ظفر الفقير بمال الزكاة ليس له أخذه ولا تسقط" الزكاة عن مالكه "به" أي بأخذه المذكور لانتفاء المقصود "وإن" كان ذلك المشروع "دينا لم يبق بمجرد الذمة لضعفها بالموت فوقه" أي فوق ضعفها "بالرق" فإنه يرجى زواله بالإعتاق غالبا؛ لأنه مندوب إليه والموت لا يرجى زواله عادة "بل" إنما يبقى "إذا قويت" ذمته "بمال" تركه "أو كفيل" به "قبل الموت؛ لأن المال محل الاستيفاء" الذي هو المقصود من الوجوب "وذمة الكفيل تقوي ذمة الميت".؛ لأن الكفالة ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة "فإن لم يكن مال" بأن مات مفلسا ولا كفيل به قبل الموت "لم تصح الكفالة به" أي بما على الميت "لانتقاله" أي ما على الميت وغير خاف أن الأولى لسقوطه عن ذمته "به" أي بالموت لخروجها به عن أن تكون محلا له في أحكام الدنيا "عنده" أي أبي حنيفة "لأنها" أي الكفالة "التزام المطالبة" بما يطالب به الأصيل "لا تحويل الدين" عن الأصيل إلى الكفيل "ولا مطالبة" للأصيل "فلا التزام" أي فلا يصح التزامها "بخلاف العبد المحجور بالدين تصح" الكفالة "به" أي بذلك الدين "لأن ذمته قائمة" لكونه حيا مكلفا والمطالبة ثابتة، إذ يتصور أن يصدقه المولى فيطالب في الحال أو يعتقه فيطالب بعده فصح التزامها بالكفالة وإذا صحت فيؤخذ الكفيل في الحال وإن كان الأصيل غير مطالب به في الحال؛ لأن تأخيرها عن الأصيل لعذر عدم في حق الكفيل كمن كفل دينا على مفلس حي يؤخذ به في الحال، فإن قيل ضم مالية رقبته إلى ذمته لاحتمال الدين يقتضي كونها غير كاملة وإلا لما احتاج إليه كما في الحر أجيب بالمنع.(4/13)
"وإنما انضم إليها" أي إلى ذمته "مالية الرقبة فيما ظهر" والأولى إذا ظهر الدين "في حق المولى ليباع نظرا للغرماء" أي ليمكن استيفاء الدين من ماليتها التي هي حق المولى لا؛ لأن ذمته غير كاملة. "وتصح" الكفالة المذكورة "عندهما" وبه قالت الأئمة الثلاثة بل عزاه ابن قدامة إلى أكثر أهل العلم "لأن بالموت لا يبرأ"؛ لأنه لم يشرع مبرئا للحقوق الواجبة ومبطلا لها "ولذا" أي كونه غير مبرئ منها "يطالب بها في الآخرة إجماعا وفي الدنيا إذا ظهر مال ولو تبرع أحد عن الميت" بأداء الدين "حل أخذه ولو برئت" ذمته منه بالموت "لم يحل" أخذه "والعجز عن المطالبة" للميت "لعدم قدرة الميت لا يمنع صحتها" أي الكفالة عنه به "ككونه" أي الأصيل "مفلسا ويدل عليه حديث" جابر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي على رجل مات وعليه دين فأتي بميت فقال: "أعليه دين" قالوا نعم ديناران قال: "صلوا على صاحبكم" فقال أبو قتادة الأنصاري هما علي يا رسول الله فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود والنسائي "والجواب عنه" أي عن الحديث "باحتماله" أي قوله هما علي "العدة" بوفائهما "وهو" أي كونه للعدة "الظاهر إذ لا تصح الكفالة للمجهول" بلا خلاف والظاهر أن صاحب الدين كان مجهولا وإلا لذكر قلت وهو مشكل بما في لفظ عن جابر للحاكم وقال صحيح الإسناد. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هي عليك وفي مالك والميت منها بريء" فقال: نعم فصلى عليه. وعلى هذا فيحمل على أن أبا قتادة علم صاحب الدنانير حين كفلها.(4/14)
ص -245-…وأجاب في المبسوط وغيره بأن هما علي يحتمل كلا من الإنشاء للكفالة والإقرار بكفالة سابقة على حد سواء، وهي واقعة حال لا عموم لها فلا يستدل به في خصوص محل النزاع.
قلت ويعكره ما في لفظ عن جابر لأحمد بإسناد حسن فتحملهما أبو قتادة فأتيناه فقال الديناران علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أوفى الله الغريم وبريء منهما الميت" قال نعم فصلى عليه. وما في صحيح البخاري عن سلمة بن الأكوع من حديث قال فيه ثم أتي بثالثة أي بجنازة ثالثة فقالوا صل عليها قال "هل ترك شيئا" قالوا لا قال "هل عليه دين" قالوا ثلاثة دنانير قال: "صلوا على صاحبكم". قال أبو قتادة صل عليه يا رسول الله وعلي دينه فصلى عليه. ثم هذا الحديث يقوي قول أبي يوسف لا يشترط قبول المكفول له في المجلس ومن ثمة أفتى به بعض المشايخ.(4/15)
"والمطالبة في الآخرة راجعة إلى الإثم ولا يفتقر إلى بقاء الذمة فضلا عن قوتها وبظهور المال تقوت بل" كانت قوية حين عقدت الكفالة قبل أن يظهر المال ولكن كانت قوتها خفية فلما ظهر المال "ظهر قوتها وهو" أي تقويها "الشرط" لصحة الكفالة عنها "حتى لو تقوت بلحوق دين بعد الموت صحت الكفالة به" أي بالدين اللاحق "بأن حفر بئرا على الطريق فتلف به" والوجه الظاهر بها أي بالبئر؛ لأنها مؤنثة سماعية "حيوان بعد موته" أي الحافر "فإنه يثبت الدين مستندا إلى وقت السبب الحفر الثابت حال قيام الذمة" الصالحة للوجوب في ذلك الوقت يعني الحياة "والمستند يثبت أولا في الحال" ثم يستند "ويلزمه" أي ثبوته في الحال "اعتبار قوتها حينئذ" أي حين ثبوتها "به" أي بالدين اللاحق "وصحة التبرع لبقاء الدين من جهة من له" الدين. "وإن كان ساقطا في حق من عليه والسقوط بالموت لضرورة فوت المحل فيتقدر" السقوط "بقدره" أي فوت المحل "فيظهر" السقوط "في حق من عليه لا" في حق "من له وإن كان" المشروع عليه مشروعا "بطريق الصلة للغير كنفقة المحارم والزكاة وصدقة الفطر سقطت" هذه الصلات بالموت "لأن الموت فوق الرق" في تأثير ضعف الذمة "ولا صلة واجبة معه" أي الرق فكذا بعد الموت "إلا أن يوصى به" أي بالمشروع صلة "فيعتبر كغيره" أي غير هذا المشروع من المشروعات "من الثلث" لتصحيح الشارع ذلك منه نظرا له "وأما ما شرع له" أي للميت "فيبقى مما له" أي للميت "إليه حاجة قدر ما تندفع" الحاجة "به على ملكه" أي الميت وهو متعلق بيبقى وقوله "من التركة" بيان لقوله مما له إليه حاجة من جهة كونها "دينا" أي إيفاء له "ووصية" أي تنفيذا لها من الثلث "وجهازا" أي وتجهيزا له بما يليق به بالمعروف "ويقدم" التجهيز عليهما؛ لأنه آكد منهما بالإجماع "إلا في دين عليه تعلق بعين كالمرهون والمشتري قبل القبض والعبد الجاني ففي هذه" الصور وأمثالها "صاحب الحق أحق بالعين" من تجهيزه لتأكيد تعلق حقه(4/16)
بالعين وتقدم الدين على الوصية بالإجماع "ولذا" أي ولبقاء ماله إليه حاجة كما فيما تقدم "بقيت الكتابة بعد موت المولى لحاجته" أي المولى "إلى ثواب العتق" ففي الكتب الستة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما امرئ مسلم أعتق امرأ مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار" "وحصول الولاء" المرتب عليه ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء لمن أعتق" واقتصر على هذا؛ لأن الحاجة التي هي(4/17)
ص -246-…باعتبار المالية حاصلة في عود المكاتب إلى الرق. "وبعد موت المكاتب عن وفاء" للكتابة "لحاجته" أي المكاتب "إلى المالكية" للأموال "التي عقد لها" عقد الكتابة "وحرية أولاده الموجودين في حالها" أي الكتابة ولدوا فيها أو اشتراهم فيها بل حاجته إلى بقائها لما فيه من نيل شرف الحرية بدفع الرق الذي هو من آثار الكفر عنه وعن أولاده أولى من حاجة المولى "فيعتق" المكاتب "في آخر جزء من حياته"؛ لأن الإرث يثبت من وقت الموت فلا بد من استناد المالكية والعتق المقرر لها إلى وقت الموت "دون المملوكية إذ لا حاجة" له إليها "إلا ضرورة بقاء ملك اليد" ومحلية التصرف إلى وقت الأداء "ليمكن الأداء فبقاؤها" أي الكتابة "كون سلامة الأكساب قائمة وثبوت حرية الأولاد عند دفع ورثته" أي المكاتب مال الكتابة إلى المولى "وثبوت عتقه" أي نفوذ العتق في المكاتب "شرط ذلك" والوجه لذلك أي لعتقه "ضمني فلا يشترط له الأهلية لملك المغصوب" لما ثبت شرطا لملك البدل يثبت "عند" أداء "البدل" مستندا إلى وقت الغصب وإن كان المغصوب حال أداء البدل هالكا "ومع بقائها" أي حاجة الميت إلى المالكية فيما ينقضي به حاجة "يثبت الإرث" لوارثه منه "نظرا له" أي للميت "إذ هو" أي الإرث "خلافه لقرابته وزوجته وأهل دينه" فيما يتركه إقامة من الشارع لهم في ذلك مقامه ليكون انتفاعهم بملكه كانتفاعه بنفسه به. "ولكونه" أي الموت "سبب الخلافة خالف التعليق" للعتق "به" أي بالموت "على" المعنى "الأعم" للتعليق "من الإضافة" والتعليق بالمعنى الأخص وهو تعليق الحكم على ما هو على خطر الوقوع والمعنى الأعم له هو تأخير الحكم عن زمان الإيجاب لمانع منه وقتئذ مقترن به لفظا ومعنى "غيره" أي غير التعليق بالموت وهو التعليق بغير الموت "فصح تعليق التمليك به" أي بالموت "وهو" أي تعليقه به "معنى الوصية"؛ لأنها تمليك مضاف إلى ما بعد الموت "ولزم تعليق العتق به" أي بالموت "وهو" أي لزومه(4/18)
"معنى التدبير المطلق" وهو تعليق المولى عتق مملوكه بمطلق موته قال المصنف إنما قال فصح تعليق التمليك ولزم تعليق العتق للفرق بين الوصية بالمال وبالعتق؛ لأن العتق لا يحتمل الفسخ فلا يصح رجوعه عن تعليق العتق بالموت للزومه وصح في الوصية بالمال؛ لأن التمليك يحتمل الفسخ "فلم يجز بيعه" أي المدبر المطلق عند الحنفية والمالكية بل قال القاضي عياض هو قول كافة العلماء والسلف من الحجازيين والكوفيين والشاميين "خلافا للشافعي" وأحمد "لأنه" أي التدبير المطلق "وصية والبيع رجوع" عنها والرجوع عنها جائز "والحنفية فرقوا بينه" أي التدبير المطلق "وبين سائر التعليقات بالموت بأنه" أي التدبير "للتمليك" أي تمليكه رقبته بعد الموت "والإضافة" للتمليك "إلى زمان زوال مالكيته لا تصح وصحت" سائر التعليقات بالموت ومنها التدبير. "فعلم اعتباره" أي المعلق بالموت المدلول عليه بالعتق "سببا للحال شرعا وإذا كان أنت حر سببا للعتق للحال وهو" أي العتق "تصرف لا يقبل الفسخ ثبت به" أي بأنت حر "حق العتق" للسببية القائمة للحال "وهو" أي حق العتق "كحقيقته" أي العتق "كأم الولد" فإنها استحقت لسبب الاستيلاد حق العتق للحال بالاتفاق "إلا في سقوط التقوم فإنها" أي أم الولد غير متقومة عند أبي حنيفة "لا تضمن بالغصب ولا بإعتاق أحد الشريكين(4/19)
ص -247-…نصيبه منها" بخلاف المدبر "لما عرف" في موضعه من الفروع وهو أن التقوم بإحراز المالية وهو أصل في الأمة والتمتع بها تبع، ولم يوجد في المدبر ما يوجب بطلان هذا الأصل بخلاف أم الولد فإنها لما استفرشت واستولدت صارت محرزة للمالية وصارت المالية تبعا فسقط تقومها وعندهما متقومة كالمدبر إلا أن المدبر يسعى للغرماء والورثة وأم الولد لا تسعى؛ لأنها مصروفة إلى الحاجة الأصلية، وهي مقدمة عليهم والتدبير ليس من أصول حوائجه فيعتبر من الثلث والجواب عنه ما تقدم آنفا "ولذا" أي بقاء المالكية بعد الموت بقدر ما ينقضي به حاجة الميت "قلنا المرأة تغسل زوجها لملكه إياها في العدة"؛ لأن النكاح في حكم القائم ما لم ينتقض؛ لأنه لا يحتمل الانتقال إلى الورثة فيتوقف زواله على انقضائها "وحاجته" إليها في ذلك فإن الغسل من الخدمة، وهي في الجملة من لوازمها وكيف لا وقد قالت عائشة رضي الله عنها لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه رواه أبو داود والحاكم وقال على شرط مسلم. "وأما ما لا يصلح لحاجته" أي الميت "فالقصاص" فإنه شرع "لدرك الثأر" والتشفي "والمحتاج إليه الورثة لا الميت ثم الجناية" بقتله "وقعت على حقهم لانتفاعهم بحياته" بالاستئناس به والانتصار به على الأعداء وغير ذلك "وحقه" أي الميت "أيضا بل أولى" لانتفاعه بحياته أكثر من انتفاعهم إلا أنه خرج عند ثبوت الحق من أهلية الوجوب فيثبت ابتداء للورثة القائمين مقامه خلافة عنه كما يثبت للموكل ابتداء عند تصرف الوكيل بالشراء خلافة عن الوكيل فالسبب انعقد في حق المورث والحق وجب للورثة "فصح عفوه" رعاية لجانب السبب "وعفوهم قبل الموت" رعاية لجانب الواجب مع أن العفو مندوب إليه فيجب تصحيحه بحسب الإمكان وهذا استحسان والقياس لا يصح لما فيه من إسقاط الحق قبل ثبوته لا سيما إسقاط المورث فإنه إسقاط الحق قبل أن يجب "فكان" القصاص "ثابتا ابتداء(4/20)
للكل وعنه" أي كون القصاص يثبت للورثة ابتداء "قال أبو حنيفة لا يورث القصاص"؛ لأن الإرث موقوف على الثبوت للمورث ثم النقل عنه إلى الورثة وهو ليس كذلك "فلا ينتصب بعض الورثة خصما عن البقية" في طلب القصاص "حتى تعاد بينة الحاضر" على القصاص "عند حضور الغائب"؛ لأن كلا منهم في حق القصاص كالمنفرد وليس الثبوت في حق أحدهم ثبوتا في حق الباقين. "وعندهما يورث" القصاص "لأن خلفه" أي القصاص من المال "موروث إجماعا ولا يخالف" الخلف "الأصل والجواب أن ثبوته" أي القصاص "حقا لهم لعدم صلاحيته" أي القصاص "لحاجته" أي الميت "فإذا صار" القصاص "مالا" بالصلح أو عفو البعض "وهو" أي المال "يصلح لحوائجه" أي الميت من التجهيز وقضاء الدين وتنفيذ الوصية زال المانع وارتفعت الضرورة فقلنا "رجع" الخلف "إليه وصار كأنه الأصل" بهذا القتل كالدية في الخطأ؛ لأن الخلف يجب بالسبب الذي يجب به الأصل "فيثبت لورثته الفاضل عنها" أي حوائجه خلافة لا أصالة والخلف قد يفارق الأصل عند اختلاف الحال كالتيمم والوضوء في اشتراط النية؛ لأن الماء مطهر بنفسه والتراب لا فهذه تفاصيل أحكام الدنيا، وهي ستة "وأحكام الآخرة كلها"، وهي أربعة ما يجب له على الغير من حق راجع إلى النفس أو العرض(4/21)
ص -248-…أو المال وما يجب للغير عليه من حق كذلك وما يلقاه من عقاب وما يلقاه من ثواب "ثابتة في حقه" والقبر له فيما يرجع إلى الإحياء من أحكام الآخرة كالبطن للجنين فيما يرجع إلى الأحياء من أحكام الدنيا وقد أخرج الترمذي وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار" وذكر الأئمة من المتقدمين والمتأخرين في أحوال الفريقين من الأخيار والأشرار ما فيه عبرة لأولي البصائر والأبصار وكيف لا والكتاب والسنة وإجماع من يعتد بإجماعه من الأمة على ثبوت ذلك عافانا الله تعالى في الدارين من أسباب المهالك وأخذ بنواصينا إلى سلوك أسلم الطرق والمسالك الموصلة إلى رضاه في الدنيا والآخرة إنه سبحانه أهل التقوى وأهل المغفرة.(4/22)
"النوع الثاني المكتسبة من نفسه وغيره فمن الأولى" أي المكتسبة من نفسه "السكر" ويأتي الكلام في حده "وهو محرم إجماعا، فإن كان طريقه مباحا كسكر المضطر إلى شرب الخمر"، وهي التي من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد عند أبي حنيفة، ولم يشرطا قذفه بالزبد لإساغة لقمة ودفع عطش والمكره على شربها بقتله أو قطع عضوه "والحاصل من الأدوية" كالبنج والدواء ما يكون فيه كيفية خارجة عن الاعتدال بها تنفعل الطبيعة عنه وتعجز عن التصرف فيه "والأغذية المتخذة من غير العنب" والغذاء ما ينفعل عن الطبيعة فتتصرف فيه وتحيله إلى مشابهة المتغذى فيصير جزءا منه بدلا عما يتحلل "والمثلث" وهو النيء من ماء العنب إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم رقق بالماء وترك حتى اشتد إذا شرب منه ما دون السكر "لا بقصد السكر" ولا للهو والطرب "بل الاستمراء والتقوي" على قيام الليل وصيام النهار أو التداوي كما هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف فيه "فكالإغماء"؛ لأنه ليس من جنس اللهو فصار من أقسام المرض "لا يصح معه تصرف ولا طلاق ولا عتاق وإن روي عنه" أي وإن روى عبد العزيز الترمذي عن أبي حنيفة "أنه إن علم البنج وعمله" أي وتأثيره في العقل ثم أقدم على أكله "صح" كل من طلاقه وعتاقه ولدفع خصوص هذه الرواية عنه صرح بهما. "وإن" كان طريقه "محرما كمن محرم" أي تناول محرم ومنه شرب المثلث على قصد السكر أو اللهو والطرب "فلا يبطل التكليف" كما تقدم في مسألة مانعو تكليف المحال "فيلزمه الأحكام وتصح عباراته من الطلاق والعتاق والبيع والإقرار وتزويج الصغار والتزوج والإقراض والاستقراض؛ لأن العقل قائم وإنما عرض فوات فهم الخطاب بمعصية فبقي" التكليف متوجها "في حق الإثم و" وجوب "القضاء" للعبادات المشروع لها القضاء إذا فاتته في حالة السكر وإن كان لا يصح أداؤها منه حالتئذ وجعل الفهم في حكم الموجود زجرا له "إلا أنه يجب الكفاءة مطلقا" أي أبا كان المزوج أو غيره "في تزويج الصغائر"(4/23)
في هذه الحالة ومهر المثل على هذا أيضا "لأن إضراره بنفسه لا يوجب إضرارها ويصح إسلامه" ترجيحا لجانب الإسلام بوجود أحد ركنيه وكون الأصل المطابقة للاعتقاد "كالمكره" أي كما صح إسلام المكره؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى ولأن دليل الرجوع وهو السكر وإن كان يقارن الإسلام فالإسلام لا يقبل الرجوع لكونه ردة، وهي لا تصح منه كما قال "لا ردته لعدم القصد" لذكر كلمة الكفر بدليل أنه لا يذكر(4/24)
ص -249-…ذلك بعد الصحو فلم يوجد ركنها وهو تبدل الاعتقاد وصار كما لو جرت على لسان الصاحي خطأ.
"وبالهزل" أي ويكفر إذا تكلم بالكفر هزلا مع عدم اعتقاده لما يقول "للاستخفاف" أي لأنه صدر عن قصد صحيح استخفافا بالدين ولا استخفاف من السكران كما أنه لا اعتقاد له. لأنهما فرع اعتبار الإدراك قائما به لكن الشارع أسقط اعتبار كونه قائما به بالنسبة إلى خصوص هذا وإن كان غير مفقود رحمة له بدليل ما عن علي رضي الله عنه قال صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} ونحن نعبد ما تعبدون قال فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]. قال الترمذي حسن صحيح غريب والحاكم صحيح الإسناد وفي روايته فحضرت صلاة المغرب ثم هذا استحسان مقدم على القياس وهو صحة ردته؛ لأنه مخاطب كالصاحي كما ذهب إليه أبو يوسف ثم هذا كما قال المصنف في الحكم أما فيما بينه وبين الله تعالى، فإن كان في الواقع قصد أن يتكلم به ذاكرا لمعناه كفر وإلا فلا.(4/25)
"ولو أقر بما يحتمل الرجوع كالزنا" وشرب الخمر والسرقة الصغرى والكبرى التي هي حدود خالصة لله تعالى "لا يحد؛ لأن يوجب رجوعه"؛ لأنه لا يثبت على شيء فهو محكوم بأنه لا يثبت عليه ويلزمه الحكم بعد ساعة بأنه رجع عنه مع زيادة شبهة أنه يكذب على نفسه مجونا وتهتكا كما هو مقتضى حاله فيندرئ عنه؛ لأن مبنى حق الله تعالى على المسامحة نعم يضمن المسروق؛ لأنه حق العبد وهو لا يبطل بالرجوع فكيف بدليله "وبما لا يحتمله" أي الرجوع "كالقصاص والقذف وغيرهما أو باشر سبب الحد" من زنا أو سرقة أو قذف "معاينة حد إذا صحا" ليحصل الانزجار لا في الحال؛ لأنه لا يفيد ثم لقائل أن يقول الوجه إسقاط القصاص وغيرهما؛ لأن الجزاء عن ذلك ليس بحد أو إبدال حد بقوله أخذ بموجبه ولعل المراد حد إذا صحا وأخذ بموجب الباقي وحذفه للعلم به دلالة من قوله حد إذا صحا؛ لأنه إذا لم يقبل الإقرار بالقذف الرجوع؛ لأن فيه حق العبد فالقصاص وغيره من حقوق العباد أولى بذلك ووجب الحد بمعاينة مباشرة سببه؛ لأنه لا مرد له لوجوده مشاهدة. "وحده" أي السكر "اختلاط الكلام والهذيان" كما هو مطلقا قولهما وبه قال الأئمة الثلاثة قال المصنف والمراد أن يكون غالب كلامه هذيانا فإن كان نصفه مستقيما فليس بسكران فيكون حكمه حكم الصحاة في إقراره بالحدود وغير ذلك؛ لأن السكران في العرف من اختلط جده بهزله فلا يستقر على شيء وإليه مال أكثر المشايخ واختاروه للفتوى؛ لأن المتعارف إذا كان يهذي سمي سكرانا وتأيد بقول علي رضي الله عنه وإذا سكر هذى رواه مالك والشافعي "وزاد أبو حنيفة في السكر الموجب للحد أن لا يميز بين الأشياء ولا يعرف الأرض من السماء إذ لو ميز" بينها "ففيه" أي سكره "نقصان وهو" أي نقصانه "شبهة العدم" أي عدم السكر وهو الصحو(4/26)
ص -250-…"فيندرئ" الحد "به" أي بهذا النقصان "وأما" حد السكر عنده "في غير وجوب الحد من الأحكام فالمعتبر عنده أيضا اختلاط الكلام حتى لا يرتد بكلمة الكفر معه" أي مع اختلاط الكلام "ولا يلزمه الحد بالإقرار بما يوجب" الحد عنده قال المصنف وإنما اختاروا للفتوى قولهما لضعف وجه قوله وذلك أنه حيث قال يؤخذ في أسباب الحدود بأقصاها فقد سلم أن السكر يتحقق قبل الحالة التي عينها وأنه يتفاوت مراتبه وكل مرتبة هي سكر. والحد إنما أنيط في الدليل الذي أثبت حد السكر بما يسمى سكرا لا بالمرتبة الأخيرة منه على أن الحالة التي ذكر قلما يصل إليها سكران فيؤدي إلى عدم الحد بالسكر هذا ولا يخفى أن اختلاط الكلام أو عدم التمييز بين الأشياء ليس نفس السكر وإنما هو علامة وقد اختلف فيه فقيل معنى يزيل العقل عند مباشرة سبب مزيل له ويلزمه أن يكون السكر جنونا وقيل غفلة تعرض لغلبة السرور على العقل بمباشرة ما يوجبها قال الفاضل القاآني فتخرج الغفلة التي لا توجب السرور كالتي من شرب الأفيون والبنج؛ لأنها من قبيل الجنون لا من السكر لكن لما كان حكمهما واحدا في الشرع ألحقت به ولا يعرى عن نظر وفي التلويح، وهي حالة تعرض للإنسان من امتلاء دماغه من الأبخرة المتصاعدة إليه فيتعطل معه عقله المميز بين الأمور الحسنة والقبيحة ا هـ ومعلوم أنه لا حاجة إلى قوله المميز إلخ، والله تعالى أعلم.(4/27)
"ومنها" أي المكتسبة من نفسه "الهزل" وهو لغة اللعب واصطلاحا "أن لا يراد باللفظ ودلالته المعنى الحقيقي ولا المجازي" للفظ بل أريد به غيرهما وهو ما لا يصح إرادته منه "ضده الجد أن يراد باللفظ أحدهما" أي المعنى الحقيقي أو المجازي له "وما يقع" الهزل "فيه" من الأقسام "إنشاءات فرضاه" أي الهازل "بالمباشرة" أي بالتكلم بصيغها "لا بحكمها" أي لا بثبوت الأثر المترتب عليها الموضوعة له "أو إخبارات أو اعتقادات"؛ لأن ما يقع الهزل فيه إن كان إحداث حكم شرعي فإنشاء وإلا فإن كان القصد منه إلى بيان الواقع فإخبار وإلا فاعتقاد "والأول" أي الإنشاء "إحداث الحكم الشرعي أي" إحداث "تعلقه" وإلا فنفس الحكم الشرعي قديم كما تقدم والهزل فيه إما فيما يحتمل النقض وإما فيما لا يحتمله "فإما فيما يحتمل النقض" أي الفسخ والإقالة "كالبيع والإجارة فإما أن يتواضعا في أصله" أي تجري المواضعة بين العاقدين قبل العقد "على التكلم به" أي بلفظ العقد "غير مريدين حكمه" أي العقد "أو" يتواضعا "على قدر العوض أو" يتواضعا على "جنسه" أي العوض "ففي الأول" أي تواضعهما في أصله "إن اتفقا بعده" أي العقد "على الإعراض عنده" أي العقد "إلى الجد" بأن قالا بعد البيع قد أعرضنا وقت البيع عن الهزل وبعنا بطريق الجد "لزم البيع" وبطل الهزل بقصدهما الجد؛ لأنه قابل للرفع وإذا كان العقد الصحيح يقبل الرفع بالإقالة فهذا أولى فهذه أولى صور الاتفاق "أو" اتفقا "على البناء" للعقد "عليه" أي التواضع "فكشرط الخيار" أي صار العقد كالعقد المشتمل على شرط الخيار "لهما" أي للعاقدين "مؤبدا إذا رضيا" فيه "بالمباشرة فقط" أي لا بالحكم الذي هو الملك أيضا كما في الخيار المؤبد "فيفسد" العقد فيه كما في الخيار المؤبد "ولا يملك" المبيع فيه "بالقبض لعدم الرضا بالحكم" كذا قال صدر الشريعة وغيره(4/28)
ص -251-…وفي التلويح لو قال لعدم اختيار الحكم لكان أولى؛ لأنه المانع عن الملك لا عدم الرضا. كالمشتري من المكره فإنه يملك بالقبض لوجود الاختيار وإن لم يوجد الرضا إذ الاختيار القصد إلى الشيء وإرادته والرضا إيثاره واستحسانه فالمكره على الشيء يختاره ولا يرضاه ومن هنا قالوا المعاصي والقبائح بإرادة الله تعالى لا برضاه؛ لأن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر بخلاف ما لو كان البيع فاسدا من وجه غير هذا حيث يثبت الملك به بالقبض لوجود الرضا بالحكم "فإن نقضه" أي العقد الذي اتفقا على أنه مبني على المواضعة "أحدهما" أي العاقدين "انتقض"؛ لأن لكل منهما النقض فينفرد به "لا إن أجازه" أي أحدهما العقد دون الآخر فإنه لا يجوز بل يتوقف على إجارتهما جميعا؛ لأنه كخيار الشرط لهما فإجازة أحدهما لا تبطل اختيار الآخر لعدم ولايته عليه "وإن أجازاه" أي العاقدان العقد "جاز بقيد الثلاثة" أي بشرط أن تكون إجازتهما في ثلاثة أيام "عنده" أي أبي حنيفة كما في الخيار المؤبد عنده لارتفاع المفسد لا فيما بعدها لتقرر الفساد بمضيها "ومطلقا" أي وجاز إذا أجازاه أي وقت أراد ما لم يتحقق النقض عند أبي يوسف ومحمد كما في الخيار المؤبد عندهما فهذه ثانية صور الاتفاق "أو" اتفقا على "إن لم يحضرهما" أي لم يقع بخاطرهما وقت العقد "شيء" أي لا البناء على المواضعة ولا الإعراض عنها وهذه ثالثة صور الاتفاق "أو اختلفا في الإعراض" عن المواضعة "والبناء" عليها فقال أحدهما بنينا العقد على المواضعة. وقال الآخر بل أعرضنا عنها بالجد وهذه رابعة والحكم فيها وفيما قبلها أنه "صح العقد عنده" أي عند أبي حنيفة فيهما "عملا بما هو الأصل في العقد" الشرعي وهو الصحة واللزوم حتى يقوم المعارض؛ لأنه إنما شرع للملك والجد هو الظاهر فيه "وهو" أي العمل بالأصل فيه "أولى من اعتبار المواضعة"؛ لأنها عارض لم تنور دعوى مدعيها بالبيان فلا يكون القول قوله كما في خيار الشرط "ولم(4/29)
يصح" العقد فيهما "عندهما لعادة البناء" أي لاعتياد بنائهما على المواضعة السابقة "وكي لا تلغو المواضعة السابقة" أي يكون الاشتغال بها عبثا "والمقصود" منها "وهو صون المال عن المتغلب فهو" أي البناء على المواضعة "الظاهر ودفع بأن" العقد "الآخر" وهو العقد من غير أن يحضرهما شيء "ناسخ" للمواضعة السابقة لخلوه عنها مع أن عقل العاقدين ودينهما يدلان على ذلك أيضا، ولم يعارضه ما يفسده من التنصيص على الفساد كما في صور الاتفاق على البناء على الهزل وقال المصنف ترجيحا لقولهما في هاتين الصورتين "وقد يقال هو" أي كون الآخر ناسخا للمواضعة "فرع الرضا" به "إذ مجرد صورة العقل لا يستلزمه" أي رفع ما سبق "إلا باعتباره" أي الرضا به "وفرض عدم إرادة شيء" في الصورة الثالثة "فيصرف" العقد "إلى موافقة" التواضع "الأول وكون أحدهما" في الصورة الرابعة "أعرض لا يوجب صحته" أي العقد. "إذ لا يقوم العقد إلا برضاهما ولو قال أحدهما أعرضت" عند العقد عن المواضعة السابقة "والآخر لم يحضرني شيء" وهذه صورة خامسة "أو بنى أحدهما وقال الآخر لم يحضرني" شيء وهذه صورة سادسة "فعلى أصله" أي أبي حنيفة يجب أن يكون "عدم الحضور كالإعراض" عملا بالعقد فيصح في الصورتين "وهما" يجب على أصلهما أن(4/30)
ص -252-…يكونا قائلين بأنه "كالبناء" ترجيحا للمواضعة بالعادة والسبق فلا يصح العقد في شيء منهما وفي التلويح وهذا مأخوذ من صورة اتفاقهما على أنه لم يحضرهما شيء فإنه عند أبي حنيفة بمنزلة الإعراض وعندهما بمنزلة البناء ا هـ وتعقب بأنه لم يظهر جهة الصحة على أصل أبي حنيفة فيما إذا بنى أحدهما وقال الآخر لم يحضرني شيء فإنه ينبغي أن لا يصح على أصله لاجتماع المصحح والمفسد والترجيح للمفسد.
"ولا يخفى أن تمسكه" أي أبي حنيفة "بأن الأصل في العقد الصحة وهما" أي تمسكهما "بأن العادة تحقيق المواضعة السابقة وهو فيما إذا اختلفا في دعوى الإعراض أو البناء وأما إذا اتفقا على الاختلاف بأن يقرا بإعراض أحدهما وبناء الآخر فلا قائل بالصحة" بل الاتفاق حينئذ على بطلان العقد كما لا يخفى فليتنبه لذلك.(4/31)
"ومجموع صور الاتفاق والاختلاف" في ادعاء المتعاقدين على ما يشعر به كلام فخر الإسلام "ثمانية وسبعون فالاتفاق على إعراضهما أو بنائهما أو ذهولهما أو بناء أحدهما وإعراض الآخر أو" بناء أحدهما "وذهوله" أي الآخر "أو إعراض أحدهما وذهول الآخر ستة والاختلاف دعوى أحدهما إعراضهما وبناءهما وذهولهما وبناءه مع إعراض الآخر أو" بناءه مع "ذهوله" أي الآخر "وإعراضه مع بناء الآخر أو" إعراضه "مع ذهوله" أي الآخر "وذهوله مع بناء الآخر أو" ذهوله مع "إعراضه" أي الآخر "تسعة وكل" من هذه التقادير التسعة تكون "مع دعوى الآخر إحدى الثمانية الباقية" منها. وإذا كان كذلك "تمت" صور الاختلاف "ثنتين وسبعين" حاصلة من ضرب التسعة في الثمانية "وستة الاتفاق" أي وستة أقسام الاتفاق تضم إليها فتبلغ ثمانية وسبعين قيل والحق أن تجعل صور الاتفاق والاختلاف ستا وثلاثون إن أراد بأحدهما غير معين وإحدى وثمانين إن أراد به معينا فحينئذ صور الاتفاق تسع وصور الاختلاف اثنان وسبعون، وهي حاصلة من ضرب التسعة في الثمانية فليتأمل وليستخرج لكل من الأقسام ما يناسبه من الأحكام "وإما" أن يتواضعا "في قدر العوض بأن تواضعا" على البيع "بألفين والثمن ألف فهما" أي أبو يوسف ومحمد "يعملان" في التقادير الأربعة من الاتفاق على البناء وعلى الإعراض وعلى أنه لم يحضرهما شيء منهما والاختلاف في الإعراض والبناء "بالمواضعة إلا في إعراضهما" عنهما فإنهما يعملان بالإعراض فيصح العقد ويكون الثمن ألفين وهذا أيضا رواية محمد في الإملاء عن أبي حنيفة "وهو" أي أبو حنيفة في الأصح عنه يعمل "بالعقد" فيقول بصحته بألفين "في الكل والفرق له" أي لأبي حنيفة "بين البناء هنا وثمة" أي فيما إذا كان المواضعة في أصل العقد حيث قال بفساده في بنائهما كما قالا "أن العمل بالمواضعة" هنا "تجعل قبول أحد الألفين شرطا لقبول البيع بالألف" الآخر؛ لأن أحد الألفين غير داخل في العقد حينئذ فيصير كأنه(4/32)
قال بعتك بألفين على أن لا يجب أحد الألفين؛ لأن عمل الهزل في منع الوجوب لا في الإخراج بعد الوجوب بمنزلة شرط الخيار وهذا شرط فاسد لا يقتضيه العقد وفيه نفع لأحدهما "فيفسد" البيع لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط. رواه أبو(4/33)
ص -253-…حنيفة "فالحاصل التنافي بين تصحيحه" أي العقد كما هو مقتضى الجد فيه "واعتبار المواضعة" في الثمن كما هو مقتضى الهزل فيه "ترجيحا للأصل" وهو المبيع؛ لأنه الأصل في البيع وهو جاد فيه على الوصف وهو الثمن إذ هو وسيلة إلى المبيع لا مقصود وإلا لزم إهدار الأصل لاعتبار الوصف وهو باطل. "فينتفي الثاني" أي اعتبار المواضعة في أصل العقد إذا اتفقا على البناء عليها فإنه لم يوجد فيها ثمة معارض يمنع من العمل بها فوجب العمل بها اتفاقا "وإما" أن يتواضعا "في جنسه" أي الثمن بأن يتفقا في إظهار العقد بمائة دينار مثلا يكون الثمن في الواقع ألف درهم "فالعمل بالعقد اتفاقا في الكل" من الاتفاق على الإعراض وعلى البناء وعلى أنه لم يحضرهما شيء منهما ومن الاختلاف في البناء والإعراض "والفرق لهما" بين الهزل في القدر والجنس حيث قالا في القدر يعمل بالمواضعة في البناء وفي الجنس يعمل بالعقد فيه "أن العمل بالمواضعة مع الصحة غير ممكن هنا؛ لأن البيع يعدم لعدم تسمية بدل" فيه إذ هي ركن فيه "وباعتبار المواضعة يكون" البدل "ألفا وليس" الألف "مذكورا في العقد بل" المذكور فيه "مائة دينار، وهي غير الثمن" فلا يتصور اجتماع الصحة مع العمل بها.
فإن قيل دعه لا تجتمع مع الصحة فلا يصح كما أوجبا المواضعة وإن لم تصح في الأصل فالجواب أن العمل بالمواضعة ليس إلا لتحقيق غرضهما منها وغرضهما منها في الأصل أن لا يصح كي لا يخرج المبيع من ملكه وغرضهما منها في البدل ليس إلا صحة العقد مع البدل المتواضع عليه فالعمل بالمواضعة هو التصحيح وهو غير ممكن في الجنس على ما في الكتاب ذكره المصنف رحمه الله تعالى.(4/34)
"بخلافها" أي المواضعة "في القدر يمكن التصحيح مع اعتبارها" أي المواضعة. "فإنه ينعقد بالألف الكائنة في ضمن الألفين" إذ الألف موجودة في الألفين فتكون مذكورة في العقد فيكون ثمنا ولما كان من وجه قول أبي حنيفة بالعمل بالعقد مطلقا فيما إذا تواضعا في القدر أن في العمل بالمواضعة لزوم شرط فاسد فيها وهو مفسد كما تقدم وهما محتاجان إلى الجواب عنه قيل فيه "والهزل بالألف الأخرى" وإن كان شرطا مخالفا لمقتضى العقد لكنه "شرط لا طالب من العباد لاتفاقهما على عدم ثمنيته" فلا يطلبه واحد منهما وإن ذكراه ولا غيرهما؛ لأنه أجنبي "ولا يفسد" العقد به إذ كل شرط لا طالب له من العباد غير مفسد لعدم إفضائه إلى المنازعة "كشرط أن لا يعلف الدابة" قال صدر الشريعة لكن الجواب لأبي حنيفة أن الشرط في مسألتنا وقع لأحد المتعاقدين وهو الطالب لكن لا يطالب به للمواضعة وعدم الطلب بواسطة الرضا لا يفيد الصحة كالرضا بالربا ا هـ وأيضا العمل بالمواضعة فيها لا يوجب جعل قبول ما ليس بثمن شرطا لقبول ما هو ثمن كما تقدم فيوجب الفساد كاشتراط قبول ما ليس بمبيع لقبول ما هو مبيع ومثل هذا الشرط معتبر وإن لم يكن له طالب من العباد كمن جمع بين حر وعبد في صفقة واحدة.
ثم أخذ في قسيم قوله فأما فيما يحتمل النقض فقال "وأما فيما لا يحتمله" أي(4/35)
ص -254-…النقض بمعنى أنه لا يجري فيه الفسخ والإقالة "مما لا مال فيه كالطلاق والعتق" مجانا فيهما "والعفو" عن القصاص "واليمين والنذر فيصح" كل من هذا النوع. "ويبطل الهزل للرضا بالسبب الذي هو ملزوم للحكم شرعا" فينعقد ولا يمنع الهزل من انعقاده وحكم هذه الأسباب لا يحتمل التراخي والرد بالإقالة ثم بين المراد بالسبب بقوله "أي العلة" وسنذكر قريبا من السنة ما يؤيده "ولذا" أي كونه ملزوما للحكم "لا يحتمل شرط الخيار"؛ لأنه يفيد التراخي في الحكم "بخلاف قولنا الطلاق المضاف" كأنت طالق غدا "سبب للحال فإنه" أي السبب "يعني به المفضي" للوقوع لا العلة ولذا لا يستند إلى وقت الإيجاب وجاز تأخر الحكم عنه ولو كان علة لاستند كما في البيع بخيار الشرط والحاصل كما قال المصنف أن الطلاق المنجز علة ملزومة لحكمه فإذا أضيف صار سببا فقط وحقيقة السبب ما يفضي إلى الحكم إفضاء لا ما يستلزمه في الحال "وما فيه" المال تبعا "كالنكاح" فإن المقصود الأصلي فيه من الجانبين الحل للتوالد، والمال شرع فيه لإظهار خطر المحل ولهذا يصح بدون ذكر المهر ويتحمل في المهر من الجهالة ما لا يتحمل في غيره، لكن قال المصنف ولا يخفى أن كون النكاح لا يحتمل الفسخ محل نظر فإن التفريق بين الزوجين لعدم الكفاءة ونقصان المهر وخيار البلوغ وبردتها فسخ ا هـ. قلت وبكون ردتها فسخا يظهر أيضا عدم تمام ما قيل المراد بكون النكاح لا يحتمل الفسخ النكاح الصحيح النافذ اللازم للاتفاق على أن ردتها فيما هذا شأنه فسخ. "فإن" تواضعا "في أصله" بأن قال أريد أن أتزوجك بألف هازلا عند الناس ولا يكون بيننا في الواقع نكاح ووافقته على ذلك وحضر الشهود عند العقد "لزم" النكاح وانعقد صحيحا قضاء وديانة اتفقا على الإعراض أو البناء أو أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا في الإعراض والبناء لعدم تأثير الهزل فيه لكونه غير محتمل للفسخ بعد تمامه وقد عرفت ما فيه فالأولى الاستدلال بقوله صلى الله(4/36)
عليه وسلم: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة" رواه أحمد. وقال الترمذي حسن غريب وصححه الحاكم "أو" تواضعا "في قدر المهر" أي على ألفين ويكون الواقع ألفا "فإن اتفقا على الإعراض فألفان" المهر بالاتفاق لبطلان المواضعة بإعراضهما عنها "أو" اتفقا على "البناء فألف" المهر بالاتفاق؛ لأن الألف الآخر ذكر هزلا ولا مانع من اعتبار الهزل فيه إذ المال لا يجب مع الهزل "والفرق له" أي لأبي حنيفة "بينه" أي الهزل بقدر المهر "وبين" الهزل بقدر الثمن في "المبيع" حيث اعتبر التسمية بالاتفاق على البناء في المواضعة على قدر البدل في البيع واعتبر المواضعة في اتفاقهما على البناء هنا "أنه" أي البيع "يفسد بالشرط" الفاسد وهذا شرط فاسد كما تقدم بيانه فوجب عدم اعتبار المواضعة فيه واعتبار التسمية كي لا يفسد البيع فيفوت مقصودهما وهو الصحة "لا النكاح" أي بخلاف النكاح فإنه لا يفسد بالشرط الفاسد فأمكن اعتبار المواضعة فيه من غير لزوم فساد فاعتبر. "وإن اتفقا أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا جاز بألف في رواية محمد عنه" أي أبي حنيفة "بخلاف البيع؛ لأن المهر تابع حتى صح العقد بدونه فيعمل بالهزل بخلاف البيع" فإن الثمن فيه وإن كان وصفا تابعا بالنسبة إلى المبيع إلا أنه مقصود بالإيجاب لكونه أحد ركني البيع "حتى فسد لمعنى في(4/37)
ص -255-…الثمن" كجهالته "فضلا عن عدمه" أي ذكر الثمن "فهو" أي الثمن "كالمبيع والعمل بالهزل يجعله شرطا فاسدا" كما تقدم "فيلزم ما تقدم وفي رواية أبي يوسف" عن أبي حنيفة "وهي أصح" كما ذكر فخر الإسلام وغيره يلزمه "ألفان كالبيع؛ لأن كلا" من المهر والثمن "لا يثبت إلا قصدا ونصا والعقل يمنع من الثبات على الهزل فيجعل" عندهما بألفين عقدا "مبتدأ عند اختلافهما" لا بناء على المواضعة ذكره في كشف المنار وهو قاصر على ما إذا اختلفا فالأولى كما في الكشف الكبير وغيره؛ لأن نفي الفساد إهدار لجانب الفساد واعتبار للجد الذي هو الأصل في الكلام فيشمل ما إذا لم يحضرهما شيء كما يشمل ما إذا اختلفا "أو" تواضعا "في الجنس" أي جنس المهر بأن يذكرا في العلانية مائة دينار ويكون المهر في الواقع ألف درهم "فإن اتفقا على الإعراض فالمسمى" وهو مائة دينار لبطلان المواضعة بالإعراض "أو" توافقا على "البناء فمهر المثل إجماعا؛ لأنه تزوج بلا مهر إذ المسمى هزل ولا يثبت المال به" أي بالهزل "والمتواضع عليه لم يذكر في العقد" والتزوج بلا مهر يوجب مهر المثل "بخلافها" أي المواضعة "في القدر؛ لأنه" أي القدر المتواضع عليه كالألف "مذكور ضمن المذكور" في العقد كالألفين كما تقدم "أو" توافقا "على أن لم يحضرهما" شيء "أو اختلفا في الإعراض والبناء ففي رواية محمد" عن أبي حنيفة الواجب "مهر المثل؛ لأن الأصل بطلان المسمى".؛ لأن المهر تابع فيجب العمل بالمواضعة على الهزل "كي لا يصير المهر مقصودا بالصحة كالبيع" أي كالثمن في البيع والواقع أن لا حاجة في صحة النكاح إلى صحة المهر وإذا وجب العمل بالهزل بطلت التسمية "فيلزم مهر المثل وفي رواية أبي يوسف" عن أبي حنيفة الواجب "المسمى" والمواضعة باطلة؛ لأن التسمية بالمهر في حكم الصحة "كالبيع" أي مثل الثمن في ابتداء البيع كما تقدم بيانه فكما جعل أبو حنيفة العمل بصحة الإيجاب أولى من المواضعة في صورتي السكوت(4/38)
والاختلاف في المواضعة في مقدار الثمن ترجيحا لجانب الصحة على الفساد فكذا في تسمية المهر؛ لأن الهزل يؤثر في تسميته بالإفساد كما يؤثر في أصل البيع "وعندهما" أي أبي يوسف ومحمد الواجب "مهر المثل لترجيحهما المواضعة بالعادة فلا مهر" مسمى "لعدم الذكر في العقد و" عدم "ثبوت المال بالهزل وما فيه" المال "مقصودا بأن لا يثبت" المال "بلا ذكره" أي المال "كالخلع والعتق على مال والصلح عن دم العمد فهزلها" أي هذه الأشياء "في الأصل" بأن تواضعا على أن يطلقها بمال أو يعتقها على مال أو يصالحه على مال عن دم العمد على وجه الهزل في الطلاق والعتق والصلح "أو القدر" بأن طلقها على ألفين أو أعتقها على ألفين أو صالحه عن دم العمد على ألفين مع المواضعة بأن المال ألف "أو الجنس" بأن يطلقها على مائة دينار أو يعتقها على مائة دينار أو يصالحه عن دم العمد على مائة دينار مع المواضعة على أن الواجب ألف درهم "يلزم الطلاق والمال في الإعراض وعدم الحضور" للإعراض والبناء "والاختلاف في الإعراض والبناء اتفاقا" مع اختلاف في التخريج "ففي الأخيرين" أي عدم الحضور والاختلاف في الإعراض والبناء "عنده" أي أبي حنيفة "لترجيح العقد على المواضعة وذلك" أي ترجيحه عليها "في الاختلاف يجعل القول(4/39)
ص -256-…لمدعي الإعراض". لأن الأصل في العقود الشرعية الصحة واللزوم ما لم يوجد معارض، ولم يوجد فمدعي الإعراض متمسك بالأصل فالقول له وفي الأول أعني الإعراض ظاهر بطريق أولى لبطلانها بالإعراض وإنما لم يذكره للاتفاق عليه حكما ودليلا "ولعدم تأثير الهزل عندهما" أي أبي يوسف ومحمد "في صورها" أي المواضعة الثلاث "حتى لزما" أي الطلاق والمال "في البناء" على المواضعة "أيضا عندهما؛ لأن المال وإن لم يثبت بالهزل لكنه تبع للطلاق لاستغنائه" أي الطلاق "عنه" أي المال "لولا القصد إلى ذكره فإذا ثبت المتضمن" على صيغة اسم الفاعل وهو الطلاق "ثبت" المتضمن على صيغة اسم المفعول وهو المال وكم من شيء يثبت ضمنا ولا يثبت قصدا، فإن قيل لا يستقيم جعل المال في هذا تبعا؛ لأنه سلف أنه فيه مقصود على أنه لو سلم أنه فيه تبع لا نسلم أن الهزل لا يؤثر فيه كما لا يؤثر في أصله فإن المال تابع في النكاح وقد أثر في المال حتى كان المهر ألفا فيما إذا هزلا بألفين أجيب بمنع عدم الاستقامة وكيف لا "والتبعية" أي تبعية المال للطلاق "بهذا المعنى" وهو كونه في الثبوت تابعا له إذ هو بمنزلة الشرط فيه والشروط أتباع على ما عرف "لا تنافي المقصودية بالنظر إلى العاقد" بمعنى أنه لا يثبت إلا بالذكر لاختلاف الجهتين "بخلاف تبعيته" أي المال "في النكاح فبمعنى أنه" أي المال "غير المقصود" للعاقدين؛ لأن قصدهما الحل لا المال. "وهذا" المعنى المراد من تبعية المال فيه "لا ينافي الأصالة" للمال "من حيث ثبوته" أي المال "عند ثبوته" أي النكاح بلا ذكره بل ومع نفيه إظهارا لخطر البضع والحاصل أنه ليس بمقصود منه بل مقصود فيه لإظهار شرف المعقود عليه فهو من جهة المقصود من العقد بيع، وكذا من جهة ثبوته فإنه بيع لثبوت العقد لكن ثبوته عقب ثبوته مقصود لما ذكرنا فيؤثر فيه الهزل كما في سائر الأموال وإن لم يؤثر في النكاح وفي شرح أصول فخر الإسلام للشيخ قوام الدين الكاكي(4/40)
على أن الإمام شمس الأئمة ذكر في كتاب الإكراه في التلجئة أنهما لو تواضعا في النكاح على ألف سرا ثم عقدا علانية بألفين كان النكاح جائزا بألف ثم قال، وكذا الطلاق على مال والعتاق وعليه، ولم يذكر خلافا فعلى هذا كان الطلاق على مال مثل النكاح إذا كان الهزل في قدر البدل "وعنده" أي أبي حنيفة في البناء في الأوجه الثلاثة الهزل بأصل التصرف أو بقدر البدل فيه أو بجنسه "يتوقف الطلاق على مشيئتها" أي اختيار المرأة الطلاق بالمسمى على طريق الجد وإسقاط الهزل كما يتوقف وقوعه في خيار الشرط في الخلع من جانبها على اختيارها؛ لأن الهزل بمنزلة خيار الشرط عنده لكنه في الخلع غير مقدر بالثلاث بخلاف البيع؛ لأن الشرط في الخلع على وفاق القياس؛ لأنه من قبيل الإسقاط فإنه طلاق فيجوز تعليقه بالشرط مطلقا من غير تقييده بمدة فلها النقض والإجازة مؤبدا وأما في البيع فعلى خلاف القياس؛ لأنه من قبيل الإثبات وتعليقه غير جائز لكن الجواز ثبت بالنص مقدرا بالثلاث فيقتصر عليه قيل ينبغي أن يكون الخيار في الخلع أيضا مقدرا بالثلاث؛ لأن ثبوته من جانبها باعتبار معنى المعاوضة أجيب بأنه إنما يلزم أن لو كان المال فيه مقصودا لا تابعا وهو هنا تابع في الثبوت للطلاق والاعتبار للمتبوع دون التابع فلا يتقدر بالثلاث كذا في شرح البديع(4/41)
ص -257-…للشيخ سراج الدين الهندي وغيره. وقال المصنف موافقة للتلويح "لإمكان العمل بالمواضعة بناء على أن الخلع لا يفسد بالشروط الفاسدة وهو" أي الشرط الفاسد "أن يتعلق" الطلاق "بجميع البدل ولا يقع في الحال بل يتوقف على اختيارها" قال المصنف وهذا الفرض أنهما هزلا بالعقد إذ بنينا على المواضعة ومعنى الهزل بالخلع ليس إلا أن يجعل الطلاق متعلقا بجميع البدل مع قبولها ولا يقع في الحال لما عرف أن الهازل مطلقا غير راض بالحكم ولا شك أن هذا شرط فاسد؛ لأنه خلاف مقتضى العقد فهزلهما شرط فاسد فيما هزلا به لكن الخلع لا يبطل بالشروط الفاسدة وإذا لم يبطل الخلع يبقى موقوفا على إجازتها بقي أن يقال ينبغي أنه إذا بقي موقوفا أن يتوقف على إجازتهما لا على مشيئة أحدهما لما أجمعوا عليه من أن الهزل كشرط الخيار لهما ولا وجه لكونه لأحدهما؛ لأنهما معا هازلان، وكذا إذا بنى أحدهما في البيع وأعرض الآخر لا يصح العقد بالاتفاق على ما حرره المصنف أول البحث من أن محل الخلاف أن يختلفا في دعوى البناء والإعراض لا إذا اختلفا في نفس البناء والإعراض فإنه لا يصح بالاتفاق. والجواب أنه يجب كون ذلك في غير الخلع وما معه وذلك؛ لأن الخلع من جانب الزوج يمين وهو لا يحتمل شرط الخيار فإذا هزل هو به فإنما يكون هزله كشرطه الخيار لها كأنه قال أنت طالق على ألف على أنك بالخيار ثلاثة أيام فقالت قبلت فإنه لا يقع عنده حتى تشاء بعد هذا القبول أو بمضي المدة وإذن ظهر أن وقوع الطلاق ولزوم المال إذا هزلا إنما يتوقف على مشيئتها، ولم أر من ذكر قيد الثلاث في مشيئتها هنا عنده وصرحوا بتقييده عنده في إجازتهما في الهزل بأصل البيع ا هـ بل صرح كثير منهم فخر الإسلام بنفي التقييد لمشيئتها بالثلاث عنده في الخلع بخلاف البيع، ووجه الفرق قدمناه آنفا.(4/42)
"وكل من العتق والصلح" عن دم العمد "فيه" أي في كل منهما "مثل ما في الطلاق" من الحكم والتفريع فليتأمل. "وأما تسليم الشفعة هزلا فقيل طلب المواثبة" وهو طلبها كما علم بالبيع هو "كالسكوت" مختارا "يبطلها" إذ اشتغاله بالتسليم هازلا سكوت عن طلبها على الفور، وهي تبطل بحقيقة السكوت مختارا بعد العلم بالبيع؛ لأنه دليل الإعراض فكذا بالسكوت حكما "وبعده" أي طلب المواثبة سواء كان بعد طلب التقرير والإشهاد وهو أن ينهض بعد طلب المواثبة فيشهد على البائع إن كان المبيع بيده أو على المشتري أو عند العقار على طلبها كما عرف في موضعه أو كان بعد طلب الخصومة والتملك "يبطل التسليم فتبقى الشفعة؛ لأنه" أي تسليمها "من جنس ما يبطل بالخيار؛ لأنه في معنى التجارة لكونه استيفاء أحد العوضين على ملكه" ومن ثمة يملك الأب والوصي تسليم شفعة الصبي عند أبي حنيفة كما يملكان البيع والشراء له "فيتوقف على الرضا بالحكم والهزل بنفيه" أي الرضا بالحكم "وكذا يبطل به" أي بالهزل "إبراء المديون والكفيل؛ لأن فيه" أي إبراء كل منهما "معنى التمليك ويرتد بالرد فيؤثر فيه الهزل" كخيار الشرط "وكذا الإخبارات وهو الثاني" من الأقسام الثلاثة التي يقع فيها الإنشاء يبطل بالهزل "سواء كانت" الإخبارات إخبارات "عما يحتمل الفسخ كالبيع والنكاح" كما هو الأصح وإن صرحوا بأنه لا يحتمله "أو" كانت إخبارات عما "لا" يحتمل(4/43)
ص -258-…الفسخ "كالطلاق والعتاق شرعا ولغة كما إذا تواضعا على أن يقرا بأن بينهما نكاحا أو بيعا في هذا بكذا أو لغة فقط مقررة شرعا كالإقرار بأن لزيد عليه كذا لا يثبت" شيء منها هزلا "لأنه" أي الخبر "يعتمد صحة المخبر به" أي تحقق الحكم الذي صار الخبر عبارة عنه وإعلاما بثبوته أو نفيه، والهزل ينافي ذلك ويدل على عدمه. "ألا يرى أن الإقرار بالطلاق والعتق مكرها باطل فكذا هازلا"؛ لأن الهزل دليل الكذب كالإقرار حتى لو أجاز ذلك لم يجز؛ لأن الإجازة إنما تلحق منعقدا يحتمل الصحة والبطلان، والفرض أن لا وجود هنا لطلاق ولا عتاق بخلاف ما لو طلق إنسان زوجة غيره أو أعتق عبد غيره
فإنه أمر محقق فإذا أجاز الزوج والسيد طلقت وعتق "وكذا في الاعتقادات وهو الثالث" وكان الأولى حذف كذا والاقتصار على الثالث الاعتقاد وهو لا يؤثر فيه. "وأما ثبوت الردة بالهزل" أي بتكلم المسلم بالكفر هزلا "فيه" أي فثبوتها بالهزل نفسه "للاستخفاف"؛ لأن الهازل راض بإجراء كلمة الكفر(4/44)
على لسانه والرضا بذلك استخفاف بالدين وهو كفر بالنص قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ. لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65-66] وبالإجماع "لا بما هزل به" وهو اعتقاد معنى كلمة الكفر التي تكلم بها هازلا "إذ لم يتبدل اعتقاده ويلزم الإسلام" أي نحكم بإسلام الكافر في أحكام الدنيا "بالهزل به" أي إذا تكلم بكلمة الإسلام وتبرأ من دينه هازلا "ترجيحا" لجانب الإيمان إذ الأصل في الإنسان التصديق والاعتقاد "كالإكراه عليه" أي الإسلام فإن المكره مطلقا عليه إذا أسلم يحكم بإسلامه "عندنا" لوجود ركنه منه بل الهازل أولى بذلك؛ لأن الهازل راض بالتكلم بها والمكره غير راض بالتكلم بها ووافقنا الشافعي على ذلك في الحربي لا الذمي كما سيعرف في الإكراه ومن هذا يعرف وجه التقييد بقوله عندنا.(4/45)
"ومنها" أي المكتسبة من نفسه "السفه" وهو في اللغة الخفة وفي اصطلاح الفقه "خفة تبعث" الإنسان "على العمل في ماله بخلاف مقتضى العقل"، ولم يقل والشرع كما قال بعضهم؛ لأن مقتضى العقل أن لا يخالف الشرع للأدلة القائمة على وجوب اتباعه "مع عدم اختلاله" أي العقل فخرج الجنون والعته "ولا ينافي" السفه أهلية الخطاب ولا أهلية الوجوب؛ لأنه لا يخل بمناطهما وهو العقل وسائر القوى الظاهرة والباطنة إلا أن السفيه يكابر عقله بعمله على خلاف مقتضاه فهو مخاطب بالأوامر والنواهي مطالب بالعمل بموجبها مثاب عليه معاقب على مخالفته فلا ينافي "شيئا من الأحكام" الشرعية؛ لأنه إذا كان أهلا لوجوب حقوق الله تعالى كان أهلا لحقوق العباد، وهي التصرفات بالطريق الأولى فإن حقوقه أعظم؛ لأنها لا تحمل إلا من هو كامل الحال والأهلية بخلاف حقوقهم ومن ثمة وجب على الصبي نفقة الزوجات والأقارب والعشر والخراج، ولم تجب عليه الصلاة والصيام ونحوهما "وأجمعوا على منع ماله" أي السفيه منه "أول بلوغه" سفيها لقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: 5] أي لا تعطوا المبذرين أموالهم ينفقونها فيما لا ينبغي وأضاف الأموال إلى(4/46)
ص -259-…الأولياء على معنى أنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم كما قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] أو لأنهم المتصرفون فيها القوامون عليها. "وعلقه" أي إيتاء الأموال إياهم "بإيناس الرشد" على وجه التنكير المفيد للتقليل حيث قال: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} [النساء: 6] أي إن عرفتم ورأيتم فيهم صلاحا في الفعل وحفظا للمال فادفعوا إليهم أموالهم "فاعتبر أبو حنيفة مظنته" أي الرشد "بلوغ سن الجدية" أي كونه جدا لغيره أعني "خمسا وعشرين سنة" إذ أدنى مدة البلوغ اثنتا عشرة سنة ثم يولد له ولد في ستة أشهر فإنها أدنى مدة الحمل ثم يبلغ اثنتي عشرة سنة ويولد له ولد في ستة أشهر فيصير هو جدا في خمس وعشرين سنة وإنما كانت هذه المدة مظنة بلوغ الرشد "لأنه لا بد من حصول رشد ما نظرا إلى دليله" أي حصول الرشد له شرطا لوجوب الدفع له "من مضي زمان التجربة" إذ التجارب لقاح العقول "وهو" أي حصول رشد ما "الشرط لتنكيره" أي رشد في الإثبات في الآية فيتحقق بأدنى ما ينطلق عليه الاسم كما في الشروط المنكرة والظاهر أن من بلغ هذا السن لا ينفك عن الرشد إلا نادرا فأقيم مقام الرشد على ما هو المتعارف في الشرع من تعلق الأحكام بالغالب فقال يدفع إليه المال بعد خمس وعشرين سنة أونس منه الرشد أو لا "ووقفاه" أي إيتاء ماله "على حقيقته" أي الرشد "وفهم تخلقه" أي السفيه بالرشد "واختلفوا في حجره" أي السفيه "بأن يمنع نفاذ تصرفاته القولية المحتملة للهزل" أي التي يبطلها الهزل، وهي ما لا يحتمل الفسخ كالبيع والإجارة أما الفعلية كالإتلافات والقولية التي لا يبطلها الهزل، وهي ما لا يحتمل الفسخ كالطلاق والعتاق فالسفه لا يمنع نفاذها بالاتفاق "فأثبتاه" أي أبو يوسف ومحمد حجر السفيه عنها "نظرا له" لما فيه من صيانة ماله "لوجوبه" أي النظر "للمسلم" من حيث إنه مسلم لإسلامه وإن كان فاسقا بعصيانه ونظرا للمسلمين أيضا فإنه(4/47)
بإسرافه وإتلافه يصير مظنة للديون ووجوب النفقة عليه من بيت المال فيصير على نفسه وعلى المسلمين وبالا وعلى بيت مالهم عيالا. "ونفاه" أي أبو حنيفة حجر السفيه عنها "لأنه" أي السفه "لما كان مكابرة" للعقل في التبذير بغلبة الهوى مع العلم بقبحه "وتركا للواجب" وهو مقتضى العقل "لم يستوجب النظر" صاحبه؛ لأنه معصية ولما كان على هذا أن يقال من قبلهما فينبغي أن يجيز أبو حنيفة الحجر عليه كما قلنا صاحب الكبيرة يستوجب العقوبة والعفو عنه جائز دفعه بقوله "ثم إنما يحسن" الحجر عليه "إذا لم يستلزم" الحجر عليه "ضررا فوقه" أي هذا الضرر لكنه يستلزم ذلك لما فيه "من إهدار أهليته وإلحاقه بالجمادات" فإن الأهلية نعمة أصلية بها يتصف بالآدمية ويتميز عن سائر الحيوانات وما يحصل له بالحجر من نعمة اليد، وهي ملك المال نعمة زائدة لا يزول عنه بفواتها صفات الإنسانية بل غايته أن يفتقر ولا يجوز إبطال الأعلى لصون الأدنى "ولدلالة الإجماع على اعتبار إقراره بأسباب الحد فلو لزم شرعا الحجر عليه في أقواله المتلفة للمال للزم بطريق أولى في المتلفة لنفسه" فإن النفس أولى بالنظر من المال؛ لأن المال تابع لها وخلق لمصلحتها ووقاية لها وخصوصا الأسباب الموجبة للعقوبات من الحدود والقصاص تندرئ بالشبهات فحيث لم ينظر له في دفع ضرر النفس فأولى أن لا ينظر له في دفع ضرر المال "ومع هذا الأحب" إلى(4/48)
ص -260-…المصنف رحمه الله تعالى "قولهما" وبه قالت الأئمة الثلاثة "لأن النص" السابق ناص "على منع المال منه كي لا يتلفه قطعا وإذا لم يحجر" عليه "أتلفه بقوله فلا يفيد" منع المال منه وأيضا "دفعا" وكان الأولى ودفعا "للضرر العام؛ لأنه قد يلبس" على المسلمين أنه غني بالتزيي بزي الأغنياء "فيقرضه المسلمون أموالهم فيتلفها وغير ذلك" من الضرر العام بهم كما سلف. "وهو" أي دفع الضرر العام "واجب بإثبات" الضرر "الخاص فصار كالحجر على المكاري المفلس" وهو الذي يتقبل الكراء ويؤجر الدواب وليس له ظهر يحمل عليه ولا مال يشتري به الدواب "والطبيب الجاهل والمفتي الماجن" وهو الذي يعلم الناس الحيل كذا في طريقة علاء الدين العالم ولفظ خواهر زاده والمفتي الجاهل لعموم الضرر من الأول في الأموال ومن الثاني في الأبدان ومن الثالث في الأديان إلا أن في البدائع ليس المراد من الحجر على هؤلاء حقيقة الحجر الذي هو المعنى الشرعي الذي يمنع نفوذ التصرف ألا ترى أن المفتي لو أفتى بعد الحجر وأصاب في الفتوى جاز ولو أجاب قبله وأخطأ لا يجوز، وكذا الطبيب لو باع الأدوية بعد الحجز نفذ بيعه بل المراد به المنع الحسي بأن يمنعوا من عملهم حسا؛ لأن المنع من ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "وإذا كان الحجر" على السفيه "للنظر له لزم أن يلحق في كل صورة بالأنظر ففي الاستيلاد يجعل كالمريض فيثبت نسب ولد أمته إذا ادعاه" حتى كان حرا وكانت أم ولده وإذا مات كانت حرة "ولا يسعى"؛ لأن توفير النظر بإلحاقه بالمصلح في حكم الاستيلاد لحاجته إلى بقاء نسله وصيانة مائه فيلحق في هذا الحكم بالمريض المديون إذا ادعى نسب ولد جاريته فإنه يكون فيه كالصحيح حتى تعتق من جميع ماله ولا تسعى ولا ولدها؛ لأن حاجته مقدمة على حق غرمائه "وفي شراء ابنه" وهو معروف "كالمكره" أي بمنزلة شراء المكره فيفسد "فيثبت له" أي للسفيه الملك "بالقبض" ويعتق عليه حين قبضه "ولا يلزم"(4/49)
السفيه "الثمن أو القيمة في ماله جعلا له" أي للسفيه في هذا الحكم "كالصبي"؛ لأن توفير النظر في إلحاقه به لما فيه من دفع الضرر عنه. "وإذ لم يلزمه" أي السفيه الثمن أن القيمة وإن ملكه بالقبض؛ لأن التزامه أحدهما بالعقد غير صحيح لما ذكرنا بل يسعى الابن في قيمته "لم يسلم له" أي للسفيه أيضا "شيء من السعاية بل تكون" السعاية "كلها للبائع؛ لأن الغنم بالغرم كعكسه" أي كما أن الغرم بالغنم "والحجر للنظر عندهما أنواع" يكون "للسفيه بنفسه" أي بسبب نفس السفه سواء كان أصليا بأن بلغ سفيها أو عارضيا بأن حدث بعد البلوغ "بلا" توقف على "قضاء" عليه بالحجر "كالصبا والجنون عند محمد وبه" أي وبقضاء القاضي بحجره "عند أبي يوسف لتردده" أي السفه "بين النظر بإبقاء ملكه" أي السفيه "والضرر بإهدار عبارته" فلا يترجح أحدهما إلا بالقضاء على أن الغبن في التصرفات الذي هو علامة السفه قد لا يكون للسفه بل حيلة لاستجلاب قلوب المعاملين له فكان محتملا فلا يثبت إلا بالقضاء بخلاف الصبا والجنون والعته "و" يكون "للدين" على المحجور عليه "خوف التلجئة" أي المواضعة لماله "بيعا وإقرارا" في أصل التصرف أو في قدر البدل أو في جنسه على ما سبق في باب الهزل إلا أنها لا تكون إلا سابقة والهزل قد يكون مقارنا فهي أخص "فبالقضاء" أي(4/50)
ص -261-…يتوقف الحجر عليه على قضاء القاضي به "اتفاقا بينهما" أي أبي يوسف ومحمد "لأنه" أي الحجر عليه "نظر للغرماء فتوقف على طلبهم" ويتم بالقضاء بخلاف الحجر على السفيه عند محمد فإنه للنظر له وهو غير موقوف على طلب أحد فيثبت حكمه بلا طلب "فلا يتصرف" المديون "في ماله إلا معهم" أي الغرماء "فيما في يده وقت الحجر" من المال؛ لأن الحجر عليه فيه رعاية لحقهم "أما فيما كسبه بعده" أي الحجر من المال "فعموم" أي فينفذ فيه تصرفه مع كل أحد لعدم لحوق الحجر له فيه لعدم تعلق حق الغرماء به "و" يكون "لامتناع المديون عن صرف ماله إلى دينه" المستغرق له "فيبيعه القاضي ولو" كان ماله "عقارا كبيعه" أي القاضي "عبد الذمي إذا أبى" الذمي "بيعه" أي عبده "بعد إسلامه" أي عبده بناء على أن الأصل أن من امتنع من إيفاء حق مستحق عليه وهو مما يجري فيه النيابة ناب القاضي منابه فيه خلافا لأبي حنيفة والفتوى على قولهما في هذا كما في الاختيار "ومنها" أي المكتسبة من نفسه "السفر" وهو لغة قطع المسافة وشرعا في الروايات الظاهرة عن أصحابنا خروج عن محل الإقامة بقصد مسيرة ثلاثة أيام بسير وسط من ذلك المحل وهو "لا ينافي أهلية الأحكام" وجوبا وأداء من العبادات وغيرها لبقاء القدرة الباطنة والظاهرة "بل جعل سببا للتخفيف"؛ لأنه مظنة المشقة "فشرعت رباعيته" من المكتوبات "ركعتين ابتداء" كما تقدم وجهه في الرخصة "ولما كان" السفر "اختياريا دون المرض" وهو من أسباب التخفيف "فارقه" أي السفر المرض في بعض الأحكام "فالمرخص إذا كان" أي وجد "أول اليوم" من أيام رمضان "فترك" من وجد في حقه المرخص "الصوم" ذلك اليوم "فله" الترك "أو صام" صح صيامه، فإن أراد الفطر بعد الشروع فيه "فإن كان" المرخص "المرض حل الفطر أو" كان المرخص "السفر فلا" يحل له الفطر؛ لأن الضرر في المرض مما لا مدفع له فربما يتوهم قبل الشروع أنه لا يلحقه الضرر وبعد الشروع علم لحوق الضرر من حيث(4/51)
لا مدفع له بخلاف المسافر فإنه يتمكن من دفع الضرر الداعي إلى الإفطار بأن لا يسافر "إلا أنه لا كفارة" عليه "لو أفطر" لتمكن الشبهة في وجوبها باقتران صورة السفر بالفطر "وإن وجد" المرخص "في أثنائه" أي اليوم "وقد شرع" في صومه إذ لا بد له منه لعدم المرخص له حينئذ "فإن طرأ العذر ثم الفطر ففي المرض حل الفطر لا" في "السفر"؛ لأن بعروض المرض تبين أن الصوم لم يكن واجبا عليه في هذا اليوم بخلاف عروض السفر فإنه أمر اختياري والمرض ضروري ولكن لا تجب الكفارة لما ذكرنا "وفي قلبه" أي فطره قبل العذر ثم عروض العذر "لا يحل" الإفطار لعدم العذر عنده "لكن لا كفارة إذا كان الطارئ المرض؛ لأنه سماوي تبين به عدم الوجوب. وتجب" الكفارة "في السفر؛ لأنه باختياره وتقررت" الكفارة "قبله" أي قبل السفر بإفطار صوم واجب من غير اقتران شبهة حتى لو كان السفر خارجا عن اختياره بأن أكرهه السلطان على السفر فيه سقطت عنه أيضا في رواية الحسن عن أبي حنيفة كذا في الخانية.
"ويختص ثبوت رخصه" أي السفر من قصر الرباعية وفطر رمضان وغيرهما "بالشروع فيه" أي في السفر "قبل تحققه" أي السفر "لأنه" أي تحققه "بامتداده" أي السفر "ثلاثة" من(4/52)
ص -262-…الأيام بلياليها وإن كان القياس أن لا يثبت إلا بعد مضيها؛ لأن حكم العلة لا يثبت قبلها ففي الصحيحين عن أنس صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين. إلى غير ذلك "غير أنه" أي المسافر "لو أقام" أي نوى الإقامة "قبلها" أي قبل ثلاثة أيام "صح" مقامه "ولزمت أحكام الإقامة ولو" كان "في المفازة؛ لأنه" أي مقامه "دفع له" أي للسفر قبل تحققه فتعود الإقامة الأولى "وبعدها" أي بعد ثلاثة أيام "لا" يصح مقامه "إلا فيما يصح فيه" المقام من مصر أو قرية "لأنه" أي المقام حينئذ "رفع بعد تحققه" أي السفر فكانت نية الإقامة ابتداء إيجاب فلا تصح في غير محله لاستحالة إيجاب الشيء في غير محله والمفازة ليست بمحل لإثبات الإقامة ابتداء فلا يصح منه الإقامة فيها ومن هذا يظهر أن الدفع أسهل من الرفع.(4/53)
"ولا يمنع سفر المعصية" من قطع طريق أو غيره "الرخصة" عند أصحابنا. وقال الأئمة الثلاثة يمنع لوجهين أحدهما أن الرخصة نعمة فلا تنال بالمعصية فيجعل السفر معدوما في حقها كالسكر يجعل معدوما في حق الرخص المتعلقة بزوال العقل لكونه معصية ثانيهما قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] فإنه جعل رخصة أكل الميتة منوطة بالاضطرار حال كون المضطر غير باغ أي خارج على الإمام ولا عاد أي ظالم للمسلمين بقطع الطريق فيبقى في غير هذه الحالة على أصل الحرمة ويكون الحكم كذلك في سائر الرخص بالقياس أو بدلالة النص أو بالإجماع على عدم الفصل ولأصحابنا إطلاق نصوص الرخص كقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وما في صحيح مسلم عن ابن عباس: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع ركعات وفي السفر ركعتين. وما أخرج أحمد وابن حبان وابن خزيمة وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت في المسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر وللمقيم يوما وليلة. ولا نسلم أن فيه جعل المعصية سببا للرخصة "لأنها" أي المعصية "ليست إياه" أي السفر بل هو منفصل عنها من كل وجه توجد بدونه ويوجد بدونها والسبب هو السفر نعم هي مجاورة له وذلك غير مانع من اعتباره شرعا كالصلاة في الأرض المغصوبة به والمسح على خف مغصوب "بخلاف السبب المعصية كالسكر بشرب المسكر" حيث لا مبيح له شرعا فإنه حدث عن معصية فلا تناط به الرخصة؛ لأن سببها لا بد أن يكون مباحا والفرض انتفاء الإباحة الشرعية فيه فانتفى الوجه الأول "وقوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173] أي في الأكل"؛ لأن الإثم وعدمه لا يتعلق بنفس الاضطرار بل بالأكل فحينئذ لا بد في الآية من تقدير فعله عاملا في الحال أي فمن اضطر فأكل حال كونه غير باغ ولا عاد فيكون البغي والعداء(4/54)
في الأكل الذي سيقت الآية لبيان حرمته وحله أي غير متجاوز في الأكل قدر الحاجة على أن عاد مكرر للتأكيد أو غير طالب للمحرم وهو يجد غيره ولا مجاوز قدر ما يسد الرمق ويدفع الهلاك أو غير متلذذ ولا متردد أو غير باغ على مضطر آخر بالاستئثار عليه ولا مجاوز سد الجوعة.(4/55)
ص -263-…"وقياس السفر" في كونه مرخصا "عليه" أي أكل الميتة المنوط بالاضطرار في اشتراط نفي عصيان المسافر كما في الأكل على سبيل التنزل "يعارض إطلاق نص إناطته" أي ثبوت الرخص "به" أي بالسفر من غير تقييد بذلك كما أسلفنا بعضه "ويمنع تخصيصه" أي نصه "ابتداء به" أي بالقياس كما تقدم في أواخر الكلام في التخصيص "ولأنه" أي الترخص للمضطر "لم ينط بالسفر" إجماعا بل يباح للمقيم المضطر العاصي "فيأكل مقيما عاصيا" فانتفى الوجه الثاني، والله سبحانه أعلم.(4/56)
"ومنها" أي المكتسبة من نفسه "الخطأ أن يقصد بالفعل غير المحل الذي يقصد به الجناية كالمضمضة تسري إلى الحلق والرمي إلى صيد فأصاب آدميا" فإن القصد بإدخال الماء الفم ليس إلى ولوجه الحلق وبالرمي ليس إلى الآدمي "والمؤاخذة به" أي بالخطأ "جائزة" عقلا عند أهل السنة "خلافا للمعتزلة؛ لأنها" أي المؤاخذة "بالجناية"، وهي لا تتحقق بدون القصد "قلنا هي" أي الجناية "عدم التثبت" والاحتياط والذنوب كالسموم فكما أن تناولها يؤدي إلى الهلاك وإن كان خطأ فتعاطي الذنوب يفضي إلى العقاب وإن لم يكن عزيمة "ولذا" أي جوازها به عقلا "سئل" الباري تعالى "عدم المؤاخذة به" ففي الكتاب العزيز {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وإلا لم يكن للدعاء فائدة بل كانت المؤاخذة جورا وصار الدعاء في التقدير ربنا لا تجر علينا بالمؤاخذة وهو باطل. لكنها سقطت ببركة النبي صلى الله عليه وسلم فعن ابن عباس لما نزلت هذه الآية {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] قال دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا سمعنا وأطعنا" قال فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] قال قد فعلت. رواه مسلم ووهم الحاكم فقال صحيح الإسناد، ولم يخرجاه "وعنه" أي كون الخطأ جناية "كان من" العوارض "المكتسبة" من نفسه "غير أنه تعالى جعله" أي الخطأ "عذرا في إسقاط حقه" تعالى "إذا اجتهد" المجتهد المخطئ في ذلك ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد" "و" جعله "شبهة" دارئة "في العقوبات فلا يؤاخذ بحد" فيما(4/57)
لو زفت إليه غير امرأته فوطئها على ظن أنها امرأته "ولا قصاص" فيما لو رمى إلى إنسان على ظن أنه صيد فقتله "دون حقوق العباد فوجب ضمان المتلفات خطأ" كما لو رمى إلى شاة إنسان على ظن أنها صيد أو أكل ماله على ظن أنه ملك نفسه؛ لأنه ضمان مال لا جزاء فعل فيعتمد عصمة المحل وكونه خاطئا لا ينافيها "وصلح سببا للتخفيف في القتل فوجبت الدية" على العاقلة في ثلاث سنين "ولكونه" أي الخطأ لا ينفك "عن تقصير" في التثبيت "وجب به ما تردد بين العبادة والعقوبة من الكفارة" في القتل الخطأ؛ لأنها جزاء قاصر وهو صالح لتردده بين الحظر والإباحة إذ أصل الفعل وهو الرمي إلى الصيد مباح وترك التثبيت فيه محظور فكان قاصرا في معنى الجناية كما كانت قاصرة في معنى الجزاء "ويقع طلاقه" بأن أراد أن يقول مثلا اسقيني فجرى على لسانه أنت(4/58)
ص -264-…طالق "خلافا للشافعي" فإنه قال لا يقع؛ لأن الاعتبار بالكلام إنما هو بالقصد الصحيح وهو لا يوجد في المخطئ كالنائم. وإنما قال أصحابنا يقع "لأن الغفلة عن معنى اللفظ خفي" وفي الوقوف على قصده حرج؛ لأنه أمر باطن وله سبب ظاهر وهو العقل والبلوغ "فأقيم تمييز البلوغ" عن عقل "مقامه" أي مقام قصده نفيا للحرج كما في السفر مع المشقة "بخلاف النوم؛ لأنه" أي عدم القصد فيه "ظاهر" للعلم يقينا بأن النوم ينافي أصل العمل بالعقل؛ لأنه مانع عن استعمال نوره فكانت أهلية القصد معدومة بيقين من غير حرج في دركه "فأقيم" تمييز البلوغ عن عقل "مقامه" أي القصد لانتفاء الشرط "ففارق عبارة النائم عبارة المخطئ وذكرنا في فتح القدير أن الوقوع" لطلاق المخطئ إنما هو "في الحكم وقد يكون" التعليل المذكور لهم في وقوع الطلاق مطلقا هو "مقتضى هذا الوجه" وهو وقوع الطلاق في الحكم "أما فيما بينه وبين الله تعالى فهي امرأته" ولا بأس بذكر ما في فتح القدير إسعافا ففيه بعد ذكر ما في الخلاصة وطلاق الرجل الذي أراد أن يتكلم فسبق لسانه بالطلاق واقع وفي النسفي قال أبو حنيفة لا يجوز الغلط في الطلاق وهو ما إذا أراد أن يقول اسق فسبق لسانه بالطلاق ولو كان بالعتاق يدين وقال أبو يوسف لا يجوز الغلط فيهما والذي يظهر من الشرع أن لا يقع بلا قصد لفظ الطلاق عند الله وقوله فيمن سبق لسانه واقع أي في القضاء وقد يشير إليه قوله ولو كان بالعتاق يدين بخلاف الهازل؛ لأنه مكابر باللفظ فيستحق التغليظ. ثم قال والحاصل أنه إذا قصد السبب عالما بأنه سبب رتب الشرع حكمه عليه أراده أو لم يرده إلا إن أراد ما يحتمله وأما أنه لم يقصده أو لم يدر ما هو فيثبت الحكم عليه شرعا وهو غير راض بحكم اللفظ ولا باللفظ فمما ينبو عنه قواعد الشرع وقد قال تعالى {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] وفسر بأمرين أن يحلف على أمر يظنه كما قال مع أنه(4/59)
قاصد للسبب عالم بحكمه فألغاه لغلطه في ظن المحلوف عليه والآخر أن يجري على لسانه بلا قصد إلى اليمين كلا والله بلى والله، فرفع حكمه الدنيوي من الكفارة لعدم قصده إليه فهذا تشريع لعباده أن لا يرتبوا الأحكام على الأشياء التي لم تقصد وكيف ولا فرق بينه وبين النائم عند العليم الخبير من حيث لا قصد له إلى اللفظ ولا حكمه وإنما لا يصدقه غير العليم الخبير وهو القاضي وفي الحاوي معزوا للجامع الأصغر أن أسدا سئل عمن أراد أن يقول زينب طالق فجرى على لسانه عمرة على أيهما يقع الطلاق. فقال في القضاء تطلق التي سمى وفيما بينه وبين الله تعالى لا تطلق واحدة منهما أما التي سمى فلأنه لم يردها وأما غيرها فلأنها لو طلقت طلقت بالنية، والله سبحانه أعلم.
"وكذا قالوا ينعقد بيعه" أي المخطئ بأن أراد أن يقول سبحان الله فجرى على لسانه بعت هذا منك بألف وقبل الآخر وصدقه في أن البيع خطأ منه إذ لا يمكن إثباته إلا بهذا الطريق بيعا "فاسدا ولا رواية فيه" عن أصحابنا ولكن يجب هذا "للاختيار في أصله" أي؛ لأن هذا الكلام صدر عنه باختياره أو لإقامة البلوغ عن عقل مقام القصد "وعدم الرضا" فينعقد للاختيار في أصله فيفسد لعدم الرضا حقيقة كبيع المكره فيملك البدل بالقبض واعترضه(4/60)
ص -265-…المصنف بأنه ينبغي أن لا يكون كالمكره بل كالهازل بل فوقه فقال "والوجه أنه" أي المخطئ "فوق الهازل إذ لا قصد" للمخطئ "في خصوص اللفظ ولا حكمه" فإنه غير مختار ولا راض بالتكلم بخصوص اللفظ ولا بحكمه بخلاف الهازل فإنه مختار راض بخصوص اللفظ غير راض بحكمه فأقل الأمر أن يجعل كالهازل فلا يملك المبيع بالقبض كالهازل، والله تعالى أعلم. "وأما ما" هو مكتسب "من غيره فالإكراه حمل الغير على ما لا يرضاه" من قول أو فعل ولا يختار مباشرته لو ترك ونفسه "وهو ملجئ"1 بأن يضطر الفاعل إلى مباشرة المكره عليه "بما يفوت النفس أو العضو" ولو أنملة؛ لأن حرمته كحرمة النفس "بغلبة ظنه وإلا" إذا لم يغلب على ظنه تفويت أحدهما بل إن ذلك تهديد وتخويف لا تحقيق "لا" يكون إكراها أصلا "فيفسد الاختيار" بأن يجعله مستندا إلى اختيار آخر لا أنه يعدمه أصلا إذ حقيقته القصد إلى مقدور متردد بين الوجود والعدم بترجيح أحد جانبيه على الآخر، فإن استقل الفاعل في قصده فصحيح وإلا ففاسد "ويعدم الرضا وغيره" أي وغير ملجئ لكون الحمل على المكره عليه "بضرب لا يفضي إلى تلف عضو وحبس فإنما يعدم الرضا" خاصة "لتمكنه" أي المكره "من الصبر" على المكره به "فلا يفسده" أي هذا الاختيار الإكراه "وأما" تهديده "بحبس نحو ابنه" وأبيه وأمه وزوجته وكل ذي رحم محرم منه كأخته وأخيه؛ لأن القرابة المتأيدة بالمحرمية بمنزلة الولاد "فقياس واستحسان في أنه إكراه" القياس أنه ليس بإكراه؛ لأنه لا يلحقه ضرر بذلك والاستحسان أنه إكراه؛ لأن بحبسهم يلحق به من الحزن والهم ما يلحق بحبس نفسه أو أكثر فكما أن التهديد في حقه بذلك يعدم تمام الرضا فكذا التهديد بحبس أحدهم. قال المصنف والتعليل يقتضي أن في قطع يد نحو ابنه أو قتله في كونه إكراها قياس واستحسان "وهو" أي الإكراه "مطلقا" أي ملجئا كان أو غير ملجئ "لا ينافي أهلية الوجوب" على المكره "للذمة" أي لقيام الذمة "والعقل" والبلوغ(4/61)
"ولأن ما أكره عليه قد يفترض" فعله "كالإكراه بالقتل على الشرب" للمسكر ولو خمرا "فيأثم بتركه" أي ترك شربه عالما بسقوط حرمته كما سيأتي لإباحته في حقه بقوله تعالى: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] والإقدام على المباح عند الإكراه فرض "ويحرم كعلى قتل مسلم ظلما فيؤجر على الترك كعلى إجراء كلمة الكفر" على لسانه لما ستعلم "بخلاف المباح كالإفطار للمسافر" في رمضان فإنه لا يؤجر على الترك بل يأثم لصيرورته فرضا بالإكراه كما تقدم ولو قال سالفا كالإكراه بالقتل على الشرب والإفطار لكان أولى واستغنى عن هذا.
والحاصل أن ما أكره عليه فرض ومباح ورخصة وحرام ويؤجر على الترك في الحرام والرخصة ويأثم في الفرض والمباح وكل من الأجر والإثم إنما يكون بعد تعلق الخطاب والمراد بالإباحة جواز الفعل ولو تركه وصبر حتى قتل لم يأثم، ولم يؤجر وبالرخصة جواز
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله وهو أي المكره بكسر الراء ملجئ للمكره بفتحها. أفاده صاحب التيسير. كتبه مصححه.(4/62)
ص -266-…الفعل ولو تركه وصبر حتى قتل يؤجر عملا بالعزيمة وبهذا سقط الاعتراض بأنه إن أريد بالإباحة أنه يجوز له الفعل ولو تركه وصبر حتى قتل لا يأثم فهي معنى الرخصة وإن أريد أنه لو تركه يأثم فهو معنى الفرض.
"ولا ينافي الاختيار"؛ لأنه حمل للفاعل على أن يختار ما لا يرضاه كما تقدم "بل الفعل عنه" أي الإكراه "اختيار أخف المكروهين" عند الفاعل من المكره به والمكره عليه "ثم أصل الشافعي" أي الأمر الكلي الذي بنى الشافعي عليه الأحكام في باب الإكراه "أنه" أي الإكراه ما كان منه "بغير حق إن كان عذرا شرعا بأن يجعل الشارع" والأحسن بأن يحل "للفاعل الإقدام" على الفعل كما قال في قسيمه الآتي بأن لا يحل "قطع" الإكراه "الحكم" أي حكم المكره عليه "عن فعل الفاعل" سواء أكره على "قول أو عمل؛ لأن صحة القول" يكون "بقصد المعنى و" صحة "العمل باختياره" ليكون ترجمة عما في الضمير ودليلا عليه "وهو" أي الإكراه "يفسدهما" أي القصد والاختيار؛ لأنه يدل على أن المكره إنما تكلم لدفع الضرر عن نفسه لا لنيل ما هو المقصود في قلبه فلا يكون معتبرا "وأيضا نسبة الفعل إليه" أي الفاعل "بلا رضاه إلحاق الضرر به" وهو غير جائز؛ لأنه معصوم محترم الحقوق "وعصمته" أي الفاعل "تدفعه" أي الضرر عنه بدون رضاه لئلا يفوت حقه بلا اختياره ثم إذا قطع الحكم عن الفاعل بقول "إن أمكن نسبته" أي الفعل "إلى الحامل" وهو المكره بإمكان أن يباشره الحامل بنفسه وذلك في الأفعال. "كعلى إتلاف المال نسب" الفعل "إليه" أي الحامل ويكون هو المؤاخذ به ويجعل الفاعل آلة للحامل "وإلا" لو لم يمكن نسبته إلى الحامل "بطل" بالكلية، ولم يؤاخذ به أحد "كعلى الأقوال إقرار وبيع وغيرهما" كما سيتضح قريبا إن شاء الله تعالى "وإن لم يكن" الإكراه "عذرا بأن لا يحل" للفاعل الإقدام على الفعل "كعلى القتل والزنا لا يقطعه" أي الحكم "عنه" أي الفاعل "فيقتص منه المكره" الذي هو القاتل بالقتل(4/63)
"ويحد" المكره الذي هو الزاني بالزنا، فإن قيل يشكل هذا بالاقتصاص من الحامل أيضا أجيب لا "وإنما يقتص من الحامل أيضا عنده بالتسبيب" في قتله بإكراهه أو هو كالمباشرة في إيجاب القصاص إذا تعين للقتل؛ لأن المقصود من شرعه الإحياء بسد باب القتل عدوانا والقتل بالإكراه شائع من أهل الجور فلو لم يجب القصاص على الملجئ لانفتح باب القتل "وما" كان من الإكراه "بحق لا يقطع" نفس الفعل عن الفاعل "فصح إسلام الحربي وبيع المديون القادر" على وفاء دينه "ماله للإيفاء وطلاق المولي" على صيغة اسم الفاعل من زوجته من الإيلاء "بعد المدة مكرهين" أي حال كون هؤلاء الذين هم الحربي والمديون والمولي مكرهين على الإسلام والبيع والطلاق وبعد مضي مدة الإيلاء؛ لأن إكراه الحربي على الإسلام جائز فعد اختياره قائما في حقه إعلاء للإسلام كما عد قائما في حق السكران زجرا له. "بخلاف إسلام الذمي" بالإكراه فإنه لا يصح عنده؛ لأن إكراهه عليه غير جائز؛ لأنا أمرنا أن نتركهم وما يدينون فلا يمكن جعل اختياره قائما فلا يعتد به ولصحة إكراه كل من المديون والمولى على الإيفاء والطلاق بعد المدة لكونه ظالما بالامتناع عن القيام بما هو حق عليه وقيد بقوله بعد المدة؛ لأن إكراهه(4/64)
ص -267-…على الطلاق قبل مضيها باطل فلا يقع الطلاق "والإكراه بحبس مخلد وضرب مبرح" أي شديد "وقتل سواء عنده" أي الشافعي؛ لأن في الحبس ضررا كالقتل والعصمة تقتضي دفع الضرر "بخلاف نحو إتلاف المال وإذهاب الجاه" فإنه لا يكون إكراها "وأصل الحنفية" أي الأمر الكلي الذي يتفرع عليه الأحكام في باب الإكراه عند أبي حنيفة وأصحابه "أن المكره عليه إما قول لا ينفسخ" كالطلاق والعتاق "فينفذ كما" ينفذ "في الهزل" بل أولى؛ لأنه مناف للاختيار والإكراه مفسد له لا مناف "مع الاقتصار على المكره" أي الفاعل؛ لأنه لا يمكن أن يجعل آلة للحامل فيه "إلا ما أتلف" من المال على نفسه بإكراهه "كالعتق فيجعل" الفاعل "آلة" للحامل في إتلاف مالية العتيق؛ لأن الإتلاف يحتمل ذلك "فيضمن" الحامل للفاعل قيمة العبد موسرا كان أو معسرا؛ لأن هذا ضمان إتلاف فلا يختلف باليسار والإعسار ويثبت الولاء للفاعل؛ لأنه بالإعتاق وهو مقتصر على الفاعل. ولا يمتنع ثبوت الولاء لغير من وجب عليه الضمان كما في الرجوع عن الشهادة على العتق فإنه يجب الضمان على الشهود والولاء للمشهود عليه؛ لأن الولاء كالنسب ولا سعاية على العبد لأحد؛ لأن العتق نفذ فيه من جهة مالكه ولا حق لأحد في ماله "بخلاف ما لم يتلف كعلى قبولها المال في الخلع" أي كإكراه الزوجة المدخول بها على أن تقبل من زوجها الخلع على مال "إذ يقع" الطلاق إذا قبلت "ولا يلزمها" المال؛ لأن الإكراه قاصرا كان أو كاملا يعدم الرضا بالسبب والحكم جميعا والطلاق غير مفتقر إلى الرضا والتزام المال مفتقر إليه وقد انعدم "بخلافه" أي الإكراه "في الزوج" على أن يخلعها على مال فقبلت غير مكرهة فإنه "يقع الخلع"؛ لأنه من جانبه طلاق والإكراه لا يمنع وقوعه "ويلزمها" المال؛ لأنها التزمته طائعة بإزاء ما سلم لها من البينونة "وإلا" أي وإن لم يكن قولا لا ينفسخ بل كان قولا ينفسخ "فسد كالبيع" والإجارة؛ لأنه لا يمنع انعقاده لصدوره من(4/65)
أهله في محله ويمنع نفاذه؛ لأن الرضا شرط النفاذ وقد فات به فانعقد فاسدا حتى لو أجازه بعد زوال الإكراه صريحا أو دلالة صح لزوال المفسد وهو عدم الرضا كما في البيع بشرط أجل فاسد أو خيار فاسد فإنه إذا أسقط من له الخيار أو الأجل ما شرط له قبل تقرره جاز لزوال المفسد فكذا هذا. "والأقارير" بما يحتمل الفسخ وما لا يحتمله من الماليات وغيرها؛ لأن صحتها تعتمد على قيام المخبر به ويتوقف على ثبوته سابقا على الإقرار والإقرار في ذاته خبر محتمل للصدق والكذب فإذا لم يكن فيه تهمة ولا دليل على كذبه ترجح صدقه بوجود المخبر به فيحكم به وإذا كان بخلافه لم يترجح فلم يعتبر وفي الإقرار مكرها قامت قرينة عدم صدقه وعدم وجود المخبر به؛ لأن قيام السيف على رأسه وخوفه على تلف نفسه دليل على أنه إنما تكلم لدفع الضرر عن نفسه لا لوجود المخبر به، فإن قيل الإكراه يعارضه أن الصدق هو الأصل في المؤمن ووجود المخبر به هو المفهوم من الكلام فلا يقوم دليلا على عدم المخبر به أجيب بأن المعارضة إنما تنفي المدلول لا الدليل وغاية ما في الباب أنه لا يبقى رجحان لجانب الصدق أو الكذب فلا تثبت الحقوق بالشك "مع اقتصارها" أي الأقارير "عليه" أي المقر لعدم صلاحيته لكونه آلة للمكره "أو فعل لا يحتمل كون الفاعل آلة" للحامل عليه(4/66)
ص -268-…"كالزنا وأكل رمضان وشرب الخمر" إذ لا يتصور كون الشخص واطئا بآلة غيره أو آكلا أو شاربا بفم غيره وما كان كذلك "اقتصر" حكمه "عليه" أي الفاعل "ولزمه حكمه" حتى لو أكره صائم صائما على الأكل فسد صوم الآكل لا غير "إلا الحد" فإنه لا يجب على الفاعل أيضا حتى لو أكرهه على الزنا لا يجب به الحد على واحد منهما ثم هذا من حيث امتناع نسبة نفس الأكل والشرب إلى الحامل متفق عليه في الروايات عن أصحابنا "وأما من حيث هما" أي الأكل والشرب "إتلاف فاختلفت الروايات في لزومه الفاعل أو الحامل" ففي شرح الطحاوي والخلاصة وغيرهما أكره على مال الغير فالضمان على المحمول لا الحامل وإن صلح آلة له من حيث الإتلاف كما في الإكراه على الإعتاق؛ لأن منفعة الأكل حصلت للمحمول فكان كالإكراه على الزنا يجب العقر عليه؛ لأن منفعة الوطء حصلت له بخلاف الإكراه على الإعتاق حيث وجب الضمان على الحامل؛ لأن المالية تلفت بلا منفعة للمحمول. وفي المحيط أكره على أكل طعام غيره يجب الضمان على الحامل وإن كان المحمول جائعا وحصلت له منفعته لأن المحمول أكل طعام الحامل بإذنه؛ لأن الإكراه على الأكل إكراه على القبض إذ لا يمكنه الأكل بدونه غالبا فصار قبضه منقولا إلى الحامل فكأنه قبضه بنفسه فصار غاصبا ثم مالكا للطعام بالضمان ثم آذنا له بالأكل "إلا مال الفاعل" أي إلا إذا أكره الفاعل على أكل مال نفسه فأكله حال كونه "جائعا فلا رجوع" له على الحامل؛ لأن المنفعة حصلت له، ولم يصر آكلا طعام الحامل بإذنه إذ لا يمكن جعله غاصبا قبل الأكل لعدم إزالة يد المالك ما دام الطعام في يده أو في فيه فصار آكلا طعام نفسه "أو شبعان فعلى الحامل قيمته لعدم انتفاعه" أي الفاعل "به" ذكره في المحيط أيضا "والعقر على الفاعل بلا رجوع" على الحامل كما ذكرنا "أما لو أتلفها" أي الموطوءة بالوطء "ينبغي الضمان على الحامل، وكذا" اقتصر حكم الفعل المكره عليه على الفاعل "إن احتمل"(4/67)
كون الفاعل آلة للحامل فيه "ولزم آليته" أي الفاعل للحامل لازم هو "تبدل محل الجناية المستلزمة لمخالفة المكره المستلزمة بطلان الإكراه"؛ لأنه عبارة عن حمل الغير على ما يريده الحامل ويرضاه على خلاف رضا الفاعل وهو فعل معين فإذا فعل غيره كان طائعا بالضرورة لا مكرها "كإكراه المحرم" محرما آخر "على قتل الصيد؛ لأنه" أي الحامل إنما أكرهه "على الجناية على إحرام نفسه فلو جعل" الفاعل "آلة" للحامل "صار" قتل الصيد جناية "على إحرام الحامل" فلم يكن آتيا بما أكرهه عليه فلا يتحقق الإكراه، فإن قيل الاقتصار على الفاعل ينبغي أن يكون في حق الإثم فقط إذ الجزاء يجب في هذه الصورة على كل من الفاعل والحامل أجيب بأن الفعل هنا قتل الصيد باليد والجزاء المترتب على ذلك مقتصر على الفاعل "ولزوم الجزاء عليه" أي الحامل "معه" أي الفاعل. "لأنه" أي إكراه الحامل للفاعل على قتل الصيد "يفوق الدلالة" أي دلالته على من يقتل الصيد1 وفيها يجب الجزاء ففيه أولى فالجزاء وجب على كل منهما؛ لأنه جان على إحرام نفسه والقتل باليد لم يتجاوز الفاعل في حق ما وجب به الجزاء "و" كالإكراه
ـــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله أي دلالته على من يقتل الصيد كذا في النسخ وفي التركيب ركاكة. فليتأمل كتبه مصححه.(4/68)
ص -269-…للغير "على البيع والتسليم" لملكه "اقتصر التسليم على الفاعل وإلا" لو لم يقتصر عليه ونسب إلى الحامل وجعل الفاعل آلة "تبدل محل التسليم عن البيعية إلى المغصوبية"؛ لأن التسليم من جهة الحامل يكون تصرفا في ملك الغير على سبيل الاستيلاء فيصير البيع والتسليم غصبا "بخلاف نسبته" أي التسليم "إلى البائع فإنه متمم للعقد فيملكه" أي المشتري المبيع "ملكا فاسدا" لانعقاد البيع وعدم نفاذه فلا يلزم ذلك فلم يستلزم تبديل محل الجناية تبديل ذات الفعل في الأول واستلزم تبديله تبديل ذات الفعل في الثاني "وإن" احتمل كون الفاعل آلة للحامل في الفعل المكره عليه "لم تلزم" آليته تبدل محل الجناية "كعلى إتلاف المال والنفس ففي الملجئ نسب" الفعل "إلى الحامل ابتداء" لا نقلا من الفاعل إليه كما ذهب إليه بعض المشايخ. "فلزمه" أي الحامل "ضمان المال" في إكراهه الغير على إتلاف المال والقصاص في إكراهه الغير على القتل العمد العدوان كما هو قول أبي حنيفة ومحمد وقال زفر القصاص على الفاعل؛ لأنه قتله لإحياء نفسه عمدا وقال أبو يوسف لا قصاص على أحد بل الواجب الدية على الحامل في ماله في ثلاث سنين؛ لأن القصاص إنما هو بمباشرة جناية تامة وعدمت في حق كل من الفاعل والحامل لبقاء الإثم في الآخرة ولهما أن الإنسان مجبول على حب الحياة فيقدم على ما يتوصل به إلى إبقاء الحياة بقضية الطبع بمنزلة آلة لا اختيار لها كالسيف في يد القاتل فيضاف الفعل إلى الحامل "و" يلزمه "الكفارة والدية في إكراهه" غيره "على رمي صيد فأصاب إنسانا على عاقلة الحامل" وإنما كان الفاعل آلة للحامل في هذه "لأنه عارض اختياره" أي الفاعل "اختيار صحيح" وهو اختيار الحامل فوجب ترجيحه بإضافة الحكم إليه فصار المرجوح في مقابلته كالعدم والتحق بالآلة التي لا اختيار لها فلم يلزمه شيء؛ لأن الحكم يلزم الفاعل لا الآلة "وكذا حرمان الإرث" ينسب إلى الحامل؛ لأن الفاعل مما يصلح كونه آلة(4/69)
فيه للحامل باعتبار تفويت المحل "أما الإثم" فالفاعل لا يصلح آلته؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يجني على دين غيره ويكتسب الإثم لغيره؛ لأنه قصد القلب ولا يتصور القصد بقلب الغير كما لا يتصور التكلم بلسان الغير ولو فرضناه آلة يلزم تبدل محل الجناية إذ الجناية حينئذ تكون على دين الحامل وهو لم يأمر الفاعل بذلك فينتفي الإكراه وإذا لم يمكن جعله آلة "فعليها" أي الجاعل والفاعل الإثم الحامل "لحمله" الفاعل على القتل فقد قصد به قتل نفس محرمة "وإيثار الآخر" وهو الفاعل "حياته" على من هو مثله في الحرية وتحقيقه موته بما في وسعه من الجرح الصالح لزهوق الروح طاعة للمخلوق في معصية الخالق؛ لأنه تعالى نهاه عن الإقدام عليه هذا "في العمد وفي الخطأ لعدم تثبتهما" أي الحامل والفاعل. "وفي غيره" أي غير الإكراه الملجئ "اقتصر" حكم الفعل "على الفاعل"؛ لأن إسناد الفعل إلى الحامل إنما كان لفساد اختيار الفاعل وذلك لا يتحقق إلا بالملجئ "فيضمن" ما أتلفه من مال غيره "ويقتص" منه بقتل غيره عمدا عدوانا "وكل الأقوال لا تحتمل آلية قائلها" للحامل عليها "لعدم قدرة الحامل على تطليق زوجة غيره وإعتاق عبده" أي غيره قالوا لامتناع التكلم بلسان غيره وأما ما يقال من أن كلام الرسول كلام المرسل فمجاز إذ العبرة بالتبليغ وهو قد يكون مشافهة وقد يكون بواسطة وفي الطريقة البرغوية لا نظر إلى التكلم بلسان الغير؛(4/70)
ص -270-…لأنه ممتنع غير متصور وإنما النظر إلى المقصود من الكلام وإلى الحكم فمتى كان في وسعه تحصيل ذلك الحكم بنفسه يجعل غيره آلة له ومتى لم يكن في وسعه ذلك لم يجعل غيره آلته فالرجل قادر على تطليق امرأته وإعتاق عبده فإذا وكل غيره يجعل فاعلا تقديرا واعتبارا بخلاف الحامل فإنه لا يقدر بنفسه على تطليق امرأة الغير وإعتاق عبد الغير فلا يصلح أن يجعل الفاعل آلته "بخلاف الأفعال" فإن منها ما لا يحتمل ومنها ما يحتمل كما سلف.(4/71)
"هذا تقسيم المكره عليه باعتبار نسبته". أي المكره عليه "إلى الحامل والمحمول وأما" تقسيمه "باعتبار حل إقدام المكره" أي الفاعل "وعدمه" أي حل إقدامه "فالحرمات إما بحيث لا تسقط ولا يرخص فيها كالقتل وجرح الغير"؛ لأن ثبوت دليل الرخصة خوف تلف النفس أو العضو أو المكره والمكره عليه في استحقاق الصيانة عنهما سواء فلا يجوز للمكره أن يتلف نفس غيره وإن كان عبده لصيانة نفسه فصار الإكراه في حكم العدم في حق إباحة قتل المكره عليه لتعارض الحرمتين إذ الترخص لو ثبت بالإكراه لصيانة حرمة نفس المكره منع ثبوته وجوب صيانة حرمة نفس المكره عليه فلا يثبت للتعارض وحرمة طرف غيره مثل حرمة نفس ذلك الغير فلا يرخص بالجرح وإتلاف طرف غيره لحماية نفسه عند الإكراه. ألا ترى أن المضطر لا يحل له أن يقطع طرف الغير ليأكله كما لا يحل له أن يقتله ما إذا أكره على قطع طرف نفسه بالقتل بأن قيل له لنقتلنك أو تقطع أنت يدك حل له قطع يده؛ لأن حرمة نفسه فوق حرمة يده عند التعارض؛ لأن أطرافه وقاية نفسه كأمواله فجاز أن يختار أدنى الضررين لدفع الأعلى كما له أن يبذل ماله لصيانة نفسه ولأن في بذل طرفه صيانة نفسه إذ في فوات النفس فوات اليد ولا عكس، فإن قيل ينبغي أن يجوز له قطع طرف الغير إذا أكره عليه بالقتل صيانة لنفسه لإلحاق الطرف بالمال أجيب بأن إلحاقه في حق صاحبه فإن الناس يبذلون المال صيانة لنفس الغير لا الطرف ويبذل الإنسان كلا منهما لصيانة نفسه "وزنا الرجل؛ لأنه" أي زناه "قتل معنى" لولده إما لانقطاع نسبه عنه إذ من لا نسب له كالميت وإما؛ لأنه لا يجب نفقته عليه لعدم النسب ولا على المرأة لعجزها فيهلك فإن قيل يتم هذا في غير المزوجة أما فيها فلا لنسبته إلى صاحب الفراش ووجوب نفقته عليه أجيب بأن حكمة الحكم تراعى في الجنس لا في كل فرد على أن صاحب الفراش قد ينفيه عن نفسه لتهمة الزنا ويلاعن امرأته وينقطع نسبه منه فيكون هالكا وعلى هذا فيتلخص(4/72)
أن الزنا إهلاك في صورة مطلقا وفي أخرى قد وقد فكان معنى الإهلاك غالبا فاعتبر إهلاكا مطلقا اعتبارا للغالب ودفعا للمفسدة وأورد حصول الولد غير معلوم وعلى تقديره فالهلاك موهوم لقدرة الأم على كسب يناسبها وهلاك المكره متيقن فلا يعارضه. ودفع بأن الاعتبار في مثل هذه المواضع للأسباب الظاهرة لا المتحققة وكون كل من الوطء سببا للعلوق ومن كونها عاجزة عن الإنفاق ومن كونه هالكا عند عدم الإنفاق ظاهرة وبعضها أظهر من بعض فبني الحكم على هذه الظواهر على أن هلاك المكره غير متيقن لاحتمال أن يمتنع منه المكره إذ ليس كل ما يخوف به واقعا خصوصا لقتل الذي ينفر الطبع منه "فلا يحلها" أي الحرمات التي بحيث لا تسقط كقتل الغير وجرحه(4/73)
ص -271-…وزنا الرجل "الإكراه الملجئ أو" بحيث "تسقط كحرمة الميتة والخمر والخنزير فيبيحها" أي الإكراه الملجئ هذه الأشياء "للاستثناء" أي؛ لأنه تعالى استثنى عن تحريم الميتة ونحوها حالة الاضطرار بمعنى أن الحرمة لا تثبت فيها حالتئذ فتبقى الإباحة الأصلية ضرورة "والملجئ نوع من الاضطرار أو تثبت" الإباحة في الإكراه الملجئ "بدلالته" أي الاضطرار لما فيه من خوف فوات النفس أو العضو "إن اختص" الاضطرار "بالمخمصة فيأثم" المكره "لو أوقع" القتل أو قطع العضو "به لامتناعه" من تناول ذلك "إن" كان "عالما بسقوطها" أي الحرمة كما لو امتنع عن أكل لحم الشاة وشرب الماء في هذه الحالة وإن لم يعلم فيرجى أن لا يكون آثما؛ لأنه قصد إقامة الشرع في التحرز عن ارتكاب المحرم في زعمه؛ لأن دليل زوال الحرمة عند الضرورة خفي فعذر بالجهل كما في الخطاب قبل الشهرة كالصلاة في حق من أسلم في دار الحرب، ولم يعلم بوجوبها ذكره في المبسوط. "ولا يبيحها" أي الحرمات التي بحيث تسقط كالميتة والخمر والخنزير الإكراه "غير الملجئ بل يورث" غير الملجئ "شبهة فلا حد بالشرب معه" استحسانا والقياس الحد؛ لأنه لا تأثير بالإكراه بالحبس ونحوه في الأفعال فوجوده كعدمه، ووجه الاستحسان أن الإكراه لو كان ملجئا أوجب الحل فإذا وجد جزء منه يصير شبهة كالملك في الجزء من الجارية المشتركة يصير شبهة في إسقاط الحد عن الشريك بوطئها "أو" بحيث "لا تسقط" أي لا يحل متعلقها قط "لكن رخصت" مع بقاء الحرمة وحينئذ "فإما متعلقة بحقه تعالى الذي لا يحتمل السقوط" بحال "كحرمة التكلم بكفر"؛ لأن الكفر حرام صورة ومعنى حرمة مؤبدة وإجراء كلمة الكفر صورة كفر إذ الأحكام متعلقة بالظاهر فيكون حراما إلا أن الشارع رخص فيه بشرط اطمئنان القلب بالإيمان بقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ} [النحل: 106] "أو الذي يحتمله" أي السقوط "كترك الصلاة وأخواتها" من(4/74)
الصيام والزكاة والحج فإن حرمة تركها ممن هو أهل للوجوب مؤبدة لا تسقط بحال لكن هذه العبادات حق من حقوق الله تعالى محتمل للسقوط في الجملة بالأعذار "فيرخص" تركها "بالملجئ"؛ لأن حقه في نفسه يفوت أصلا وحق صاحب الشرع يفوت إلى خلف. "فلو صبر"، ولم يفعل ما أكره عليه حتى قتل "فهو شهيد"؛ لأن حقه تعالى لم يسقط بالإكراه وفيما فعل إظهار الصلابة في الدين وبذل نفسه في طاعة رب العالمين "ومنه" أي هذا القسم "زناها" أي إذا أكرهت على الزنا فتمكينها من الزنا حرام "لا تسقط حرمته التي هي حقه تعالى المحتمل للرخصة" لها مع بقاء الحرمة في الإكراه الملجئ. "لعدم القطع" لنسب ولدها من الزنا عنها بحال فلم يكن فيه معنى القتل الذي هو المانع من الترخص في جانب الرجل وأورد المرأة إن لم يكن لها زوج لم يتمكن من تربية الولد وإن كان فقد ينفيه فيفضي إلى الهلاك أيضا وأجيب بأن الهلاك يضاف إلى الرجل بإلقاء بذرة في غير ملكه لا إلى فعلها؛ لأنها محل والفعل يضاف إلى الفاعل دون المحل "بخلاف" الإكراه "غير الملجئ فيه" أي في زناها فإنه غير مرخص لها في ذلك "لكن لا تحد المرأة" بالتمكين فيه "ويحد هو" أي الرجل "معه" أي الإكراه غير الملجئ؛ لأن الملجئ ليس رخصة في حقه كما في حق المرأة حتى يكون غير(4/75)
ص -272-…الملجئ شبهة رخصة "لا مع الملجئ" استحسانا كما رجع إليه أبو حنيفة وقالا به. وإلا فالقياس أنه يحد مع الملجئ أيضا كما قال به أبو حنيفة أولا وزفر؛ لأن الزنا لا يتصور من الرجل إلا بانتشار آلته وهو دليل الطواعية؛ لأنه لا يحصل مع الخوف بخلاف المرأة فإن تمكينها يتحقق مع خوفها والصحيح الأول "لأنه" أي زناه مع الملجئ "مع قطع العضو" أو تلف العضو "لا للشهوة" ليزجر بالحد؛ لأنه كان منزجرا إلى أن تحقق الإكراه فكان شبهة في إسقاطه وانتشار الآلة لا يدل على الطواعية؛ لأنه قد يكون طبعا بالفحولية المركبة في الرجال ألا ترى أن النائم قد تنتشر آلته طبعا من غير اختيار له ولا قصد فلا يدل على عدم الخوف "وإما" متعلقة "بحقوق العباد كحرمة إتلاف مال المسلم" فإتلاف مال المسلم حرام حرمة هي في حقوق العباد؛ لأن عصمة المال ووجوب عدم إتلافه حق للعبد والحرمة متعلقة بترك العصمة ثم حرمة مال المسلم "لا تسقط" بحال "لأنها" أي حرمة ماله "حقه" أي العبد وإتلاف ماله ظلم وحرمة الظلم مؤبدة لكنها حقه "المحتمل للرخصة بالملجئ" حتى لو أكرهه على إتلافه إكراها ملجئا رخص له فيه "لأن حرمة النفس فوق حرمة المال"؛ لأنه مهان مبتذل ربما يجعله صاحبه صيانة لنفس الغير أو طرفه "ولا تزول العصمة" للمال في حق صاحبه بالإكراه "لأنها" أي عصمته "لحاجة مالكه" إليه "ولا تزول" الحاجة "بإكراه الآخر" فيكون إتلافه وإن رخص فيه باقيا على الحرمة. "ولو صبر على القتل كان شهيدا"؛ لأنه بذل نفسه لدفع الظلم كما إذا امتنع عن ترك الفرائض حتى قتل إلا أنه لما لم يكن في معنى العبادات من كل وجه بناء على أن الامتناع عن الترك فيها من باب إعزاز الدين قيدوا الحكم بالاستثناء فقالوا كان شهيدا "إن شاء الله وبقي من المكتسبة الجهل نذكره في الاجتهاد إن شاء الله رب العالمين".(4/76)
ص -273-…الباب الثاني من المقالة الثانية في أحوال الموضوع في أدلة الأحكام الشرعية
"أدلة الأحكام" الشرعية "الكتاب والسنة والإجماع والقياس" بحكم الاستقراء وقد يوجه بأن الدليل الشرعي إما وحي أو غيره والوحي إما متلو فهو الكتاب أو غير متلو فهو السنة، وغير الوحي إما قول كل الأمة من عصر فهو الإجماع وإلا فالقياس أو أن الدليل إما واصل إلينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن غيره والأول إما متلو وهو الكتاب أو غير متلو وهو السنة ويندرج فيها قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره والثاني إما واصل عن معصوم عن خطأ وهو الإجماع أو عن غير معصوم وهو القياس.
"ومنع الحصر بقول الصحابي على قول الحنفية وشرع من قبلنا والاحتياط والاستصحاب والتعامل مردود بردها" أي هذه الأربعة الأخيرة "إلى أحدها" أي الأربعة الأولى "معينا" كقول الصحابي فإنه مردود إلى السنة وشرع من قبلنا فإنه مردود إلى الكتاب إذا قصه الله تعالى من غير إنكار وإلى السنة إذا قصه النبي صلى الله عليه وسلم كذلك والتعامل فإنه مردود إلى الإجماع "ومختلفا في الاحتياط والاستصحاب" كما سيأتي في خاتمة هذه المقالة إن شاء الله تعالى.(4/77)
"ومعنى الإضافة" في أدلة الأحكام "أن الأحكام النسب الخاصة النفسية" بالطلب والتخيير "والأربعة" أي الكتاب والسنة والإجماع والقياس "أدلتها" أي النسب المذكورة "وبذلك" أي وبسبب كونها أدلة "سميت أصولا" لأن الأصل ما ينبني عليه غيره والأحكام الشرعية مبنية على هذه الأربعة "وجعل بعضهم" أي الحنفية "القياس أصلا من وجه" لإسناد الحكم إليه ظاهرا "فرعا من وجه لثبوت حجيته بالكتاب والسنة" وإجماع الصحابة كما يصرح به في موضعه "يوجب مثله" أي الأصالة من وجه والفرعية من وجه "في السنة" لإسناد الحكم إليها ظاهرا وثبوت حجيتها بالكتاب "والإجماع" لإسناد الحكم إليه ظاهرا وثبوت حجيته بالكتاب والسنة فلا موجب للاقتصار في ذلك على القياس حتى أنه أوجب إفراده بالذكر عن الثلاثة فقالوا أصول الشرع ثلاثة الكتاب والسنة والإجماع، والأصل الرابع القياس المستنبط منها. وقيل أفرد بالذكر لأنه أصل للفقه فقط وهي أصل له ولعلم الكلام وقيل لأن الأصل فيه عدم القطع وفيها القطع "والأقرب" أن اختصاصه بالذكر بالنسبة إليها "لاحتياجه في كل حادثة إلى أحدها" لابتنائه على علة مستنبطة من أحدها وعدم احتياجها إليه "ولا يرد الإجماع على عدم لزوم المستند" له بأن يخلق الله فيهم علما ضروريا ويوفقهم لاختيار الصواب كما هو قول شرذمة على هذا وهو ظاهر لعدم افتقار الإجماع إلى الكتاب والسنة حينئذ ولزوم افتقار القياس إلى أحدهما "ولا" يرد "على لزومه" أي المستند له كما هو قول الجمهور عليه أيضا "لأن المحتاج إليه" أي إلى المستند "قول كل" إلا فرادى "وليس" قول كل إلا فرادى "إجماعا بل هو" أي الإجماع "كلها" أي الأقوال "المتوقف على" قول "كل واحد ولا يحتاج" المجموع إلى مستند "وإلا" لو احتاج المجموع إلى مستند "كان الثابت به" أي بالإجماع(4/78)
ص -274-…"بمرتبة المستند" أي في رتبته وليس كذلك فإن الإجماع قد يثبت أمرا زائدا لا يثبته المستند وهو قطعية الحكم ولا يخفى على المتأمل أن هذا أولى من الجواب بأن الإجماع إنما يحتاج إلى المستند في تحققه لا في نفس الدلالة على الحكم فإن المستدل به لا يفتقر إلى ملاحظة المستند والالتفات إليه بخلاف القياس فإن الاستدلال به لا يمكن بدون اعتبار أحد هذه الثلاثة والعلة المستنبطة منه.
ثم الكلام فيها على الوجه الواقع عليه ترتيبها الذكري تقديما للأقدم بالذات والشرف فالأقدم فنقول "الكتاب" هو "القرآن" تعريفا "لفظيا" فإنهما مترادفان بناء على أن كلا منهما غلب في العرف العام على المجموع المعين من كلام الله تعالى المقروء على ألسنة العباد ثم استعمال القرآن في هذا المعنى أشهر من لفظ الكتاب وأظهر "وهو" أي القرآن "اللفظ العربي المنزل للتدبر والتذكر المتواتر" فاللفظ: شامل للقرآن وغيره من الكتب السماوية وغيرها، مخرج للكلام النفسي القائم بذاته تعالى. والعربي: مخرج لما سواه من الكتب السماوية والمنزل: أي على لسان جبريل عليه السلام على رسول الله. صلى الله عليه وسلم للتدبر والتذكر: أي للتفكر فيه فيعرف ما يدبر أي ما يتبع ظاهره من التلاوات الصحيحة والمعاني المستنبطة، ويتعظ به ذوو العقول السليمة أو يستحضرون به ما هو كالمركوز في عقولهم من فرط تمكنهم من معرفته بما نصب عليه من الدلائل فإن الكتب الإلهية لما لا يعرف إلا من الشرع والإرشاد إلى ما يستقل به العقل ولعل التدبر لما لا يعلم إلا من الشرع والتذكر لما يستقل به العقل كما ذكره القاضي البيضاوي في قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [صّ:29] وهذا اقتباس منه مخرج لما سواه من الألفاظ العربية وبعض الأحاديث الإلهية المنسوبة إلى الله تعالى التي لم يسندها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله(4/79)
تعالى على لسان جبريل كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا عند ظن عبدي بي" الحديث. وما في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روي عن ربه عز وجل أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا". والمتواتر وستعرف معناه في موضعه مخرج لما كان هكذا غير متواتر كقراءة ابن مسعود رضي الله عنه فاقطعوا أيمانهما وأبي فعدة من أيام أخر متتابعات وبعض الأحاديث الإلهية التي أسندها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى على لسان جبريل كالحديث الحسن الذي أخرجه أحمد وغيره أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي البلاد شر؟ قال "لا أدري حتى أسأل فسأل جبريل عن ذلك فقال لا أدري حتى أسأل ربي فانطلق فلبث ما شاء الله ثم جاء فقال إني سألت ربي عن ذلك فقال شر البلاد الأسواق" فلا جرم إن قال "فخرجت الأحاديث القدسية" أي الإلهية ولم يبين مخرجها لاختلافه باختلاف نوعيها المذكورين. بقي أن يقال يبقى اللفظ العربي الذي أسنده النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى على لسان جبريل المقصود للتدبر والتذكر وليس بقرآن داخلا في هذا التعريف فيحتاج إلى مخرج والجواب أن دخول هذا وخروجه فرع وجوده ولا وجود له فلا إشكال.(4/80)
ص -275-…"والإعجاز" أي وثبوته له وهو أن يرتقي في بلاغته إلى حد يخرج عن طوق البشر ويعجزهم عن معارضته "تابع لازم" غير بين "لأبعاض خاصة منه لا بقيد سورة" كما هو ظاهر قول ابن الحاجب وغيره "ولا كل بعض نحو {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}" الآية فإنها جمل لا إعجاز فيها.
"وهو" أي القرآن "مع جزئية اللام" فيه أي كونه مقترنا بها لإفادة التعريف العهدي "للمجموع" من الفاتحة إلى آخر سورة الناس فلا يصدق على ما دونه من آية وسورة "ولا معها" أي جزئية اللام له بأن لا يكون مقترنا بها تعريفه "لفظ إلخ" أي عربي منزل للتدبر والتذكر متواتر "فيصدق على الآية" كما هو ظاهر وهذا أنسب بغرض الأصولي لأنه يبحث عن الكتاب من حيث إنه دليل الحكم وذلك آية لا مجموع القرآن "وهذا" التعريف للقرآن "للحجة القائمة" أي باعتبار كونه حجة قائمة على العباد في الأحكام التكليفية. "و" تعريفه "بلا هذا الاعتبار" أي كونه حجة عليهم فيها "كلامه تعالى العربي الكائن للإنزال وللعربي" أي كونه عربيا "رجع أبو حنيفة عن الصحة" أي صحة الصلاة "للقادر" على العربي "بالفارسية لأن المأمور قراءة مسمى القرآن" لقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] وما في الخارج المنحصر فيه القرآن عربي رواه نوح ابن مريم وعلي بن الجعد عنه وعليه الفتوى حتى قال الإمام أبو بكر محمد بن الفضل لو تعمد ذلك فهو مجنون فيداوى أو زنديق فيقتل "وقولهم" أي بعض الحنفية في جواب من قال أبو حنيفة ذهب أولا إلى أن القرآن اسم للمعنى وحده استدلالا بجواز القراءة بالفارسية بغير عذر في الصلاة عنده أنه لم يقل بالجواز بناء على أن النظم العربي ليس ركنا للقرآن عنده بل قال ذلك بناء على أنه "ركن زائد" في حق جواز الصلاة خاصة لأن النظم العربي مقصود للإعجاز والمقصود من القرآن في حال الصلاة المناجاة لا الإعجاز فلا يكون النظم لازما فيها يتسلط عليه أنه معارضة النص(4/81)
بالمعنى فإن النص طلب بالعربي. وهذا التعليل يجيزه بغيرها، ولا بعد في أن يتعلق جواز الصلاة في شريعة النبي الآتي بالنظم المعجز بقراءة ذلك المعجز بعينه بين يدي رب العالمين ثم "لا يفيد" دفع الاستدلال المذكور "بعد دخوله" أي الركن للشيء في ماهيته لأن كونه زائدا على الماهية مع الدخول فيها غير معقول كما أشار إليه في البديع "ودفعه" أي هذا التعقب كما في شرحه للشيخ سراج الدين الهندي "بإرادتهم الزيادة على ما يتعلق به الجواز" للصلاة أي وجواز الصلاة يتعلق بالمعنى فقط إذ ليس الإعجاز المتعلق باللفظ مقصودا في الصلاة "مع دخوله" أي النظم العربي "في الماهية" أي القرآنية لأنه لا منافاة بين كونه ركنا لماهية القرآن وزائدا على ما يتعلق به جواز الصلاة "دفع بعين الإشكال لأن دخوله" أي النظم العربي في ماهية القرآن هو "الموجب لتعلق الجواز به" أي بالنظم العربي لكونه مأمورا بقراءة مسمى القرآن "على أن معنى الركن الزائد عندهم ما قد يسقط شرعا" كما قال كثير من مشايخنا في الإقرار بالنسبة إلى الإيمان لأنه يحتمل السقوط بعذر الإكراه الملجئ وفي حق من لم يجد وقتا يتمكن فيه من الأداء بعد أن لا يكون إيمانه إيمان يأس "وادعاؤه" أي السقوط شرعا "في النظم" العربي "عين النزاع، والوجه(4/82)
ص -276-…في العاجز" عن النظم العربي "أنه" أي العاجز عنه "كالأمي" لأن قدرته على غير العربية كلا قدرة، فكان أميا حكما فلا يقرأ كما هو أحد القولين فيه إذ في المجتبى واختلف فيمن لا يحسن القراءة بالعربية ويحسن بغيرها، الأولى أن يصلي بلا قراءة أو بغيرها ا هـ وعلى أنه يصلي بلا قراءة الأئمة الثلاثة بل يسبح ويهلل "فلو أدى" العاجز "به" أي بالفارسي في الصلاة "قصة" أو أمرا أو نهيا "فسدت" الصلاة بمجرد قراءته لأنه حينئذ متكلم بكلام غير قرآن "لا ذكرا" أو تنزيها إلا إذا اقتصر على ذلك فإنها تفسد حينئذ بسبب إخلاء الصلاة عن القراءة وهذا اختيار المصنف وإلا فلفظ الجامع الصغير محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في الرجل يفتتح الصلاة بالفارسية أو يقرأ بالفارسية أو يذبح ويسمي بالفارسية وهو يحسن العربية قال يجزئه في ذلك كله وقال أبو يوسف ومحمد لا يجزئه في ذلك كله إلا في الذبيحة وإن كان لا يحسن العربية أجزأه. قال الصدر الشهيد في شرحه وهذا تنصيص على أن من يقرأ القرآن بالفارسية لا تفسد الصلاة بالإجماع، ومشى عليه صاحب الهداية وأطلق نجم الدين النسفي وقاضي خان نقلا عن شمس الأئمة الحلواني الفساد بها عندهما "وعنه" أي التعريف المذكور للقرآن حيث أخذ فيه التواتر "يبطل إطلاق عدم الفساد" للصلاة "بالقراءة الشاذة" فيها كما في الكافي لانتفاء التواتر فيها إذ هي ما نقل آحادا والمشهور أنها ما عدا القراءات السبع لأبي عمرو ونافع وعاصم وحمزة والكسائي وابن كثير وابن عامر وقال السبكي الصحيح أنها ما وراء القراءات العشر للمذكورين ويعقوب وأبي جعفر وخلف فلا جرم أن قال شمس الأئمة السرخسي في أصوله قالت الأمة لو صلى بكلمات تفرد بها ابن مسعود لم تجز صلاته لأنه لم يوجد فيه النقل المتواتر وباب القرآن باب يقين وإحاطة فلا يثبت بدون النقل المتواتر كونه قرآنا، وما لم يثبت أنه قرآن فتلاوته في الصلاة كتلاوة خبر فيكون مفسدا للصلاة وكذا في التقويم(4/83)
لكن في الدراية ولو قرأ بقراءة ليست في مصحف العامة كقراءة ابن مسعود وأبي تفسد صلاته عند أبي يوسف والأصح أنها لا تفسد ولكن لا يعتد به من القراءة وفي المحيط وتأويل ما روي عن علمائنا أنه تفسد صلاته إذا قرأ هذا ولم يقرأ شيئا آخر لأن القراءة الشاذة لا تفسد الصلاة ا هـ. وفي الخانية ولو قرأ في الصلاة ما ليس في مصحف الإمام نحو مصحف عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب إن لم يكن معناه في مصحف الإمام ولم يكن ذلك ذكرا ولا تهليلا تفسد صلاته لأنه من كلام الناس وإن كان معناه ما كان في مصحف الإمام تجوز صلاته في قياس قول أبي حنيفة ومحمد ولا يجوز في قياس قول أبي يوسف أما عند أبي حنيفة فلأنه يجوز قراءة القرآن بأي لفظ كان ومحمد يجوز بلفظ العربية ولا يجوز بغيرها ولا يقال كيف لا تجوز الصلاة بقراءة ابن مسعود ورسول الله صلى الله عليه وسلم رغبنا في قراءة القرآن بقراءته لأنا نقول إنما لا تجوز الصلاة بما كان في مصحفه الأول لأن ذاك قد انتسخ وابن مسعود أخذ بقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر عمره وأهل الكوفة أخذوا بقراءته الثانية وهي قراءة عاصم فإنما رغبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك القراءة كذا ذكره الطحاوي وقالت الشافعية تجوز القراءة بالشاذة إن لم يكن فيها تغيير معنى ولا(4/84)
ص -277-…زيادة حرف ولا نقصانه ولا تبطل بها الصلاة وتمتنع إن كان فيها زيادة حرف أو تغيير معنى وتبطل الصلاة إذا تعمد وإن كان ساهيا سجد للسهو ومن هذه الجملة يظهر عدم تسليم نقل ابن عبد البر الإجماع على أنه لا تجوز القراءة بالشاذة ولا الصلاة خلف من يقرأ بها.
"ولزم فيما لم يتواتر نفي القرآنية" عنه "قطعا غير أن إنكار القطعي إنما يكفر" منكره "إذا كان" ذلك القطعي "ضروريا" من ضروريات الدين كما هو قول غير واحد "ومن لم يشرطه" أي الضروري في القطعي المكفر بإنكاره كالحنفية إنما يكفر منكره "إذا لم يثبت فيه شبهة قوية فلذا" أي اشتراط انتفاء الشبهة في القطعي المنكر ثبوتا وانتفاء "لم يتكافروا" أي لم يكفر أحد من المخالفين الآخر "في التسمية" لوجود الشبهة لتقويه في كل طرف لقوة دليله فإنه عذر واضح في عدم التكفير لأنه يدل على أنه غير مكابر للحق ولا قاصد إنكار ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن ذلك أخرجه من حد الوضوح إلى حد الإشكال وأورد الدليل عند كل على ما ذهب إليه من نفي أو إثبات قطعي وإلا لما جاز نفيها وإثباتها من القرآن فكيف تطلق قوة الشبهة على دليل كل وهي إنما تطلق على الظني. وأجيب بأنه وإن كان دليل كل قطعيا عنده فهو ظني عند مخالفه فأطلق عليه قوة الشبهة باعتبار زعمه قيل فمن يعتقد قطعية دليله ويجزم بخطأ مخالفه كيف يسلم قوة الشبهة في دليله فإن إفادة الظن بقوة الشبهة تقدح في كون دليله قطعيا عنده على أنه لا اعتبار للظن وقوة الشبهة مع القطعي لأن الظن يضمحل بمقابلة القاطع أجيب بأنه ليس المراد بتحقق قوة الشبهة في دليل المخالف حصول الظن به بل المراد أن دليله قوي الشبهة بالحق بالنظر إليه فيحتاج إلى الفكر التام في دليل نفسه ليظهر بطلان دليل مخالفه فجعلت تلك الشبهة القوية عذرا في منع التكفير فإن قيل لو كان دليل كل قطعيا لزم تعارض القطعيين قلنا لا يلزم من اعتقاد كل قطعية دليله تعارض القطعيين في نفس(4/85)
الأمر وعند كل منه ومن مخالفه وإلا لم توجد الشبهة القوية في كل منهما ولكفر أحدهما الآخر لأنه إن تواتر كونها من القرآن فإنكار كونها منه كفر للإجماع على تكفير من ينكر شيئا من القرآن وإن لم يتواتر كونها من القرآن فإثباتها منه كفر للإجماع على تكفير من يلحق بالقرآن ما ليس منه ولكنه لم يكفر لأنه لو وقع لنقل والإجماع على عدم التكفير من الجانبين.
ثم إنما ذهب إلى نفي قرآنيتها في غير سجدة النمل من ذهب كمالك "لعدم تواتر كونها في الأوائل" أي أوائل السور "قرآنا وكتابتها" بخط المصحف في أوائل السور "لشهرة الاستنان بالافتتاح بها في الشرع" لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع" رواه ابن حبان وحسنه ابن الصلاح "والآخر" أي المثبت لقرآنيتها في الأوائل يقول "إجماعهم" أي الصحابة "على كتابتها" بخط المصحف في الأوائل "مع أمرهم بتجريد المصاحف" عما سواه حتى لم يثبتوا آمين فقد قال ابن مسعود جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء يعني في كتابته قال شيخنا الحافظ حديث حسن موقوف أخرجه ابن أبي داود ا هـ وابن أبي شيبة عنه بلفظ "جردوا القرآن لا تلحقوا به ما ليس منه" دليل على كونها من القرآن(4/86)
ص -278-…في هذه المحال "والاستنان" لها في أوائل السور "لا يسوغه" أي الإجماع على كتابتها بخط المصحف فيها "لتحققه" أي الاستنان "في الاستعاذة ولم تكتب" في المصحف. "والأحق أنها" أي التسمية في محالها "منه" أي القرآن "لتواترها فيه" أي في المصحف "وهو" أي تواترها فيه "دليل كونها قرآنا على أنا نمنع لزوم تواتر كونها قرآنا في" ثبوت "القرآنية" لها في محالها "بل" الشرط فيما هو قرآن "التواتر في محله" من القرآن "فقط وإن لم يتواتر كونه" أي ما هو قرآن "فيه" أي في محله "منه" أي من القرآن وهذا موجود في التسمية "وعنه" أي: الاشتراط فيما هو قرآن تواتره في محله وإن لم يتواتر كونه فيه من القرآن "لزم قرآنية المكررات" كقوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] "وتعددها" أي المكررات في محالها "قرآنا" لتواترها في محالها بحيث لا يمكن إسقاطها "وعدمه" أي عدم تعدد ما هو قرآن "فيما تواتر في محل واحد فامتنع جعله" أي ذلك المتواتر في محل واحد "منه" أي القرآن "في غيره" أي غير محله مثلا لو كتب {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بين آيتين في موضع آخر لا يكون ذلك قرآنا.(4/87)
"ثم الحنفية" المتأخرون على أن التسمية "آية واحدة منزلة يفتتح بها السور" لما عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم. رواه أبو داود والحاكم إلا أنه قال لا يعرف انقضاء السورة وقال صحيح على شرط الشيخين مع ما في صحيح مسلم وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدي" الحديث وما في الصحيحين في مبدأ الوحي أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} إلى غير ذلك فلا جرم إن قال شمس الأئمة السرخسي الصحيح أنها أنزلت للفصل لا في أول السورة ولا في آخرها فيكون القرآن مائة وأربع عشرة سورة وآية واحدة لا محل لها بخصوصها "والشافعية" على أنها "آيات في السور" أي آية كاملة من أول كل سورة على الأصح عندهم فيما عدا الفاتحة وبراءة فإنها آية كاملة من أول الفاتحة بلا خلاف وليست بآية من براءة بلا خلاف. "وترك نصف القراء" أي ابن عامر ونافع وأبي عمر ولها في أوائل السور مطلقا وحمزة في غير الفاتحة "تواتر أنه صلى الله عليه وسلم تركها" في أوائل السور لأن كلا من القراءات السبع متواتر "ولا معنى عند قصد قراءة سورة أن يترك أولها لو لم يحث على أن يقرأ السورة على نحوها" فكيف وقد حث عليه "وتواتر قراءتها" أي التسمية في أوائل السور "عنه" أي النبي صلى الله عليه وسلم "بقراءة الآخرين" من القراء لها في أوائل السور "لا يستلزمها" أي التسمية "منها" أي السور "لتجويزه" أي كون قراءتها فيها "للافتتاح" بها تبركا هذا وفي المجتبى قال الإسبيجابي أكثر مشايخنا على أنها آية من الفاتحة وفي شرح شمس الأئمة الحلواني اختلف المشايخ في أنها من الفاتحة وأكثرهم أنها(4/88)
آية منها وبها تصير سبع آيات وقال أبو بكر الرازي ليس عن أصحابنا رواية منصوصة على أنها من الفاتحة أو ليست منها إلا أن شيخنا أبا الحسن الكرخي حكى مذهبهم(4/89)
ص -279-…في ترك الجهر بها فدل على أنها ليست آية منها عندهم وإلا لجهر بها كما جهر بسائر آي السور والله سبحانه أعلم. "وما عن ابن مسعود من إنكار" كون "المعوذتين" من القرآن "لم يصح" عنه كما ذكره الطرطوسي وغيره "وإن ثبت خلو مصحفه" منهما "لم يلزم" أن يكون خلوه منهما "لإنكاره" أي ابن مسعود قرآنيتهما "لجوازه" أي خلوه منهما "لغاية ظهورهما" لحصول العلم الضروري بكونهما من القرآن لتواترهما وإعجازهما ثم حفظ عموم المسلمين لهما "أو لأن السنة عنده" أي ابن مسعود "أن لا يكتب منه" أي القرآن "إلا ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتبه ولم يسمعه" أي أمره صلى الله عليه وسلم بذلك.
مسألة(4/90)
"القراءة الشاذة حجة ظنية خلافا للشافعي لنا منقول عدل عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا متيقن الخطأ قلنا في قرآنيته لا خبريته مطلقا وانتفاء الأخص" أي القرآنية "لا ينفي الأعم" أي الخبرية مطلقا "فكما لأخبار الآحاد" في الحكم لأنها منها "ومنعهم" أي مانعي حجيتها "الحصر" في كونه قرآنا أو خبرا ورد بيانا فظن قرآنا فألحق به فإن غير الخبر الوارد لا يحتمل هذا وعلى التقديرين يجب العمل به "بتجويز ذكره" أي الصحابي ذلك "مع التلاوة مذهبا" للقارئ بناء على دليل اعتقده كاعتقاد حمل المطلق على المقيد بالتتابع في كفارة الظهار فذكره في معرض البيان "بعيد جدا لأن نظم مذهبه معه" أي القرآن "إيهام أن منه" أي القرآن "ما ليس منه" أي القرآن "لا جرم أن المحرر عنه" أي الشافعي "كقولنا بصريح لفظه" في موضعين من البويطي أحدهما في باب تحريم الجمع وثانيهما قوله ذكر الله الأخوات من الرضاع بلا توقيت ثم وقتت عائشة الخمس وأخبرت أنه مما نزل من القرآن فهو وإن لم يكن قرآنا يقرأ فأقل حالاته أن يكون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن القرآن لا يأتي به غيره فهذا عين قولنا فلا جرم أن كان عليه جمهور أصحابه كما نقله الإسنوي وغيره حتى احتجوا بقراءة ابن مسعود فاقطعوا أيمانهما على قطع اليمنى "ومنشأ الغلط" في أن مذهبه عدم حجيته كما نسبه إليه إمام الحرمين وتبعه النووي "عدم إيجابه" أي الشافعي "التتابع" في صوم الكفارة "مع قراءة ابن مسعود" فصيام ثلاثة أيام متتابعات ذكره الإسنوي قال المصنف وهذا عجيب لجواز كون ذلك لعدم ثبوت ذلك عنده أو لقيام معارض ا هـ وعلى هذا مشى السبكي فقال لعله لمعارضة ذلك ما قالته عائشة نزلت فصيام ثلاثة أيام متتابعات فسقطت متتابعات أخرجه الدارقطني وقال إسناده صحيح.
مسألة(4/91)
"لا يشتمل" القرآن "على ما لا معنى له خلافا لمن لا يعتد به من الحشوية" بإسكان الشين لأن منهم المجسمة والجسم محشو والمشهور فتحها لأنهم كانوا يجلسون أمام الحسن البصري في حلقته فوجد كلامهم رديئا فقال ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة أي جانبها "تمسكوا بالحروف المقطعة" في أوائل السور "ونحو {إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ}" إنما هو إله واحد و"{نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}.(4/92)
ص -280-…قلنا التأكيد كثير وابداء فائدته قريب" واثنين وواحد وواحدة وصف للتأكيد كما نص عليه في البديع وصرح به الزمخشري في المفصل في نفخة واحدة وأراده في الآية الأولى حيث قال في الكشاف الاسم الحامل لمعنى الإفراد أو التثنية دال على شيئين على الجنسية والعدد المخصوص فإذا أريدت الدلالة على أن المعنى به منهما والذي ساق له الحديث هو العدد شفع بما يؤكده فدل به على القصد إليه والعناية به ألا يرى أنك لو قلت إنما هو إله ولم تؤكده بواحد لم يحسن وخيل أنك تثبت الإلهية انتهى فقوله يؤكده أي يقرره ويحققه ولم يقصد أنه توكيد صناعي لأنه إنما يكون بتكرير لفظ المتبوع أو بألفاظ مخصوصة وقد وهم عليه من زعم أن مذهبه أن اثنين وواحدة من التأكيد الصناعي وذهب صاحب التلخيص إلى أن قوله {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} من باب الوصف للبيان والتفسير وقال التفتازاني إنه الحق وقيل غير ذلك واستيفاء الكلام فيه له موضع غير هذا وقد عرف مما ذكرنا من الكشاف فائدة هذا الوصف التأكيد في الآيتين وأما فائدة التأكيد من حيث هو فقد يكون لتحقيق مفهوم المتبوع، أي جعله مستقرا محققا بحيث لا يظن به غيره، أو دفع توهم التجوز أو السهو أو عدم الشمول كما هو معروف في علم المعاني.(4/93)
"وأما الحروف" المقطعة في أوائل السور "فمن المتشابه وأسلفنا فيه خلافا أن معناه يعلم أولا" وظهر ثمة أنه عند الجمهور لا يعلم في الدنيا وأنه الأوجه "فاللازم" للمتشابه عندهم "عدم العلم به" أي بالمتشابه وهو حق كما سلف "لا عدمه" أي المعنى. "وقيل مرادهم" أي الحشوية بقولهم يشتمل على ما لا معنى له "لا يوقف على معناه" كما هو ظاهر صنيع عبد الجبار وأبي الحسين البصري حيث وضعا المسألة في أن القرآن يجوز اشتماله على ما لا يفهم المكلفون معناه "فكقول النافي" أي فهو حينئذ كقول نافي عدم إدراك المعنى "في المتشابه" بل هو هو "فلا خلاف" بين الجمهور وبينهم على هذا بل هم طائفة من القائلين بعدم درك معنى المتشابه في الدنيا وقال بعضهم كابن برهان يجوز أن يشتمل كلام الله على ما لا يفهم معناه إلا أن يتعلق به تكليف فلا يجوز وإلا كان تكليفا بما لا يطاق وهو غير جائز وفي شرح البديع للشيخ سراج الدين الهندي والمختار عند أكثر العلماء أنها أسماء للسور فلها معان.
مسألة
"قراءة السبعة ما" كان منها "من قبيل الأداء" بأن كان هيئة للفظ يتحقق بدونها ولا يختلف خطوط المصاحف به "كالحركات والإدغام" في المثلين أو المتقاربين وهو إدراج الأول منهما ساكنا في الثاني "والإشمام" وهو الإشارة بالشفتين إلى الحركة بعيد الإسكان من غير تصويت فيدركه البصير لا غير "والروم" وهو إخفاء الصوت بالحركة "والتفخيم والإمالة" وهي الذهاب بالفتحة إلى جهة الكسرة "والقصر وتحقيق الهمزة وأضدادها" أي المذكورات من الفك وعدم الإشمام والروم والترقيق وعدم الإمالة والمد وتخفيف الهمزة "لا يجب تواترها(4/94)
ص -281-…وخلافه" أي خلاف ما كان من قبيل الأداء "مما اختلف بالحروف ك: ملك" المنسوب قراءته إلى من عدا الكسائي وعاصما "ومالك" المنسوب قراءته إليهما ويسمى بقبيل جوهر اللفظ "متواتر وقيل مشهور" أي آحاد الأصل متواتر الفروع "والتقييد" لما هو خلاف ما كان من قبيل الأداء منها "باستقامة وجهها في العربية" كما في شرح البديع "غير مفيد لأنه إن أريد" باستقامة وجهها في العربية "الجادة" الظاهرة في التركيب "لزم عدم القرآنية في {قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ}" برفع قتل ونصب أولادهم وجر شركائهم على أن "قتل" مضاف إلى شركائهم وفصل بينهما بالمفعول الذي هو أولادهم "لابن عامر" لأن الجادة في سعة الكلام أن لا يفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف والجار والمجرور "أو" أريد بها الاستقامة ولو "بتكلف شذوذ وخروج عن الأصول فممكن في كل شيء" فلا فائدة في التقييد "وقد نظر في التفصيل" أي نظر العلامة الشيرازي في كون ما من قبيل الأداء كالحركات لا يجب تواتره بخلاف ما كان منه "لأن الحركات وما معها أيضا قرآن" قال المصنف "ولا يخفى أن القصر والمد من قبيل الثاني" أي خلاف ما كان من قبيل الأداء "ففي عدهما من قبيل الثاني" أي مما كان من قبيل الأداء "نظر" والألزم مثله في "مالك" و "ملك" إذ "مالك" لا يزيد على ملك إلا بالمدة التي هي الألف "لنا" في أن ما من قبيل الأداء أنه "قرآن فوجب تواتره" ضرورة أن جميع القرآن متواتر إجماعا لكون العادة قاضية به "قالوا" أي القائلون بالاشتهار "المنسوب إليهم" هذه القراءات "آحاد" لأنهم سبعة نفر والتواتر لا يحصل بهذا العدد فيما اتفقوا عليه فضلا عما اختلفوا فيه. "أجيب: بأن نسبتها" أي القراءات السبع إليهم "لاختصاصهم بالتصدي" للاشتغال والإشغال بها واشتهارهم بذلك "لا لأنهم النقلة" خاصة بمعنى أن روايتهم مقصورة عليهم "بل عدد التواتر" موجود "معهم" في كل طبقة إلى أن ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم(4/95)
"ولأن المدار" لحصول التواتر "العلم" أي حصول العلم عند العدد "لا العدد" الخاص "وهو" أي العلم "ثابت" بقراءاتهم.
مسألة
"بعد اشتراط الحنفية المقارنة في المخصص" الأول للعام المخصص "لا يجوز" عندهم "تخصيص الكتاب بخبر الواحد لو فرض نقل الراوي قرآن الشارع المخرج" لبعض أفراد العام المتلو "بالتلاوة" فهو متعلق بقرآن حال كونه "تقييدا" لإطلاق عموم المتلو وحال كون المخرج "مفادا لغيرية" أي ما هو غير قرآن هذا وتقدم في بحث التخصيص أن اشتراط المقارنة في المخصص الأول قول أكثر الحنفية وبعضهم كالشافعية على عدم اشتراطها في التخصيص مطلقا لكن لا خلاف بينهم يعلم في أنه لا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد فالتمهيد المذكور لبيان منعه على قول الأكثرين مع إمكان تصور شرطه فيه لا غير، دفعا لتوهم أن امتناعه عندهم إنما هو لانتفاء تصور شرطه لا للإشارة إلى جوازه عند غير شارطيها منهم "وكذا" لا يجوز "تقييد مطلقه" أي الكتاب "وهو" أي تقييد مطلقه هو "المسمى بالزيادة على النص" بخبر الواحد "عندهم" أي الحنفية "وحمله" أي ولا يجوز أيضا حمل الكتاب "على المجاز لمعارضته" أي خبر الواحد له لأجل الجمع بينهما وهذا عند القائلين من الحنفية بأن العام(4/96)
ص -282-…قطعي كالعراقيين ظاهر "وكذا القائل بظنية العام منهم" أي الحنفية كأبي منصور لا يجوز ذلك عنده أيضا "على الأصح" كما ذكره صاحب الكشف وغيره "لأن الاحتمال" لعدم ثبوت الخبر ثابت "في ثبوت الخبر والدلالة" أي ودلالة الخبر على المراد منه "فرعه" أي ثبوت الخبر "فاحتماله" أي ثبوت الخبر عدم ثبوته "عدمها" أي دلالة الخبر على المراد منه "فزاد" خبر الواحد احتمالا على احتمال الكتاب "به" أي بعدم ثبوته المستلزم عدم الدلالة أصلا وهذا ظاهر على ما قدمه المصنف في التخصيص أنه لم يعرف تخصيص عام إلا بعام كالنساء في لا تقتلوا النساء ففيه من الاحتمال مثل ما في الأول حتى احتمل دليل التخصيص التخصيص ووقع فإنه خص من تخصيص من قاتل منهن أو كانت ملكة فساوى في احتمال عدم إرادة البعض القطعي العام وزاد هو عليه باحتمال عدم ثبوته رأسا ولو انفرد القطعي باحتمال متنه دون الخبر كان هذا الاحتمال الثابت فيه أقوى من احتماله لأن تلك بالنسبة إلى المراد أيها هو وهذه بالنسبة إلى الوجود فهو في أصلها وذاك في وصفها بعد القطع بثبوتها كذا أفاده المصنف رحمه الله تعالى.(4/97)
"لنا" في أنه لا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد أن خبر الواحد "لم يثبت ثبوته" أي الكتاب لأن ثبوته قطعي وثبوت خبر الواحد ظني "فلا يسقط" خبر الواحد "حكمه" أي الكتاب "عن تلك الأفراد" التي بحيث يخرجها خبر الواحد من عام الكتاب "وإلا" لو أسقط حكمه عنها "قدم الظني على القاطع" وهو باطل لأن الظن مضمحل بالقطع "بخلاف ما لو ثبت" الخبر "تواترا أو شهرة" فإنه يجوز تخصيص الكتاب به "للمقاومة" بين الكتاب وبينهما أما بينه وبين المتواتر فظاهر وأما بينه وبين المشهور على رأي الجصاص وموافقيه في أنه يفيد علم اليقين فظاهر وأما على رأي ابن أبان وموافقيه من أنه يفيد علم طمأنينة فلأنه قريب باليقين والعام ليس بحيث يكفر جاحده فهو قريب من الظن وقد انعقد الإجماع على تخصيص عمومات الكتاب بالخبر المشهور كقوله صلى الله عليه وسلم "لا يرث القاتل شيئا" رواه الدارقطني وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالاتها" رواه مسلم وغير ذلك "فثبت" كل من الخبر المتواتر والمشهور "تخصيصا" لعموم الكتاب "وزيادة" على مطلقه حال كونه "مقارنا" له إذا كان هو المخصص الأول "ونسخا" أي وناسخا له حال كونه "متراخيا" وهو لف ونشر مرتب لأن المقارنة على تقدير التخصيص، والنسخ على تقدير الزيادة "وعنه" أي اشتراط المقارنة في المخصص الأول "حكموا بأن تقييد البقرة" في قوله تعالى اذبحوا بقرة بالمقيدات في بقية الآية "نسخ" لإطلاقها لكون المقيدات متأخرة عن طلب ذبح مطلقها "كالآيات المتقدمة في بحث التخصيص" كـ {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] بالنسبة إلى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} [البقرة: 234] الآية {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] بالنسبة إلى {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] إلى غير ذلك. "وعن(4/98)
لزوم الزيادة بالآحاد منعوا إلحاق الفاتحة والتعديل" للأركان "والطهارة" من الحدث والخبث "بنصوص القراءة" أي قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20](4/99)
ص -283-…"والأركان" أي اركعوا واسجدوا "والطواف" أي {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} "فرائض" بما في الصحيحين: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ارجع فصل فإنك لم تصل" فساقه إلى أن قال فقال والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلمني فقال: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تطمئن قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم اجلس حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" وبما روى ابن حبان والحاكم عنه صلى الله عليه وسلم "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله قد أحل فيه المنطق فمن نطق فلا ينطق إلا بخير" "بل" ألحقوها "واجبات" للمذكورات "إذ لم يرد بما تيسر العموم الاستغراقي" وهو جميع ما تيسر وهو ظاهر "بل" أراد به ما تيسر "من أي مكان فاتحة أو غيرها" فلو قالوا لا تجوز الصلاة بدون الفاتحة والتعديل والطواف بلا طهارة بهذه الأخبار الآحاد لكان نسخا لهذه الإطلاقات بها وهو لا يجوز فرتبوا عليها موجبها من وجوبها فيأثم بالترك ويلزم الجابر فيما شرع فيه ولا تفسد ثم كون التعديل واجبا قول الكرخي. وقال الجرجاني سنة "وتركه عليه السلام المسيء" صلاته بعد أول ركعة حتى أتم "يرجح ترجيح الجرجاني الاستنان" لأن من البعيد تقريره على مكروه تحريما إلا أنه كما قال في شرح الهداية الأول أولى لأن المجاز حينئذ يكون أقرب إلى الحقيقة أي لأن نفي الصلاة شرعا لعدم الصحة حقيقة، ولعدم كل من الواجب والسنة مجاز، ولا خفاء في أن نفيها لعدم الواجب أقرب إلى عدم الصحة من نفيها لعدم السنة وللمواظبة وقد سئل محمد عن تركها فقال إني أخاف أن لا يجوز وفي البدائع عن أبي حنيفة مثله "كقولهم في ترتيب الوضوء وولائه ونيته" إنها سنة "لضعف دلالة مقيدها" كما عرف في موضعه "بخلاف وجوب الفاتحة نفي(4/100)
الكمال في خبرها بعيد عن معنى اللفظ" لأن متعلق الجار والمجرور الواقع خبرا إنما هو الاستقرار العام كما هو الأصل فالتقدير لا صلاة كائنة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب. وعدم الوجود شرعا هو عدم الصحة "وبظني الثبوت والدلالة" كأخبار الآحاد التي مفهوماتها ظنية يثبت "الندب والإباحة والوجوب" يثبت "بقطعيها" أي الدلالة "مع ظنية الثبوت" كأخبار الآحاد التي مفهوماتها قطعية "وقلبه" أي وبظنيها مع قطعية الثبوت كالآيات المؤولة "والفرض" يثبت "بقطعيهما" أي الثبوت والدلالة كالنصوص المفسرة والمحكمة والسنة المتواترة التي مفهوماتها قطعية ليكون ثبوت الحكم بقدر دليله "ويشكل" على أن بظنيهما يثبت الندب والسنة "استدلالهم" لوجوب الطهارة في الطواف كما هو الأصح عندهم "بالطواف بالبيت صلاة لصدق التشبيه" أي تشبيه الطواف بالصلاة "بالثواب وقوله إلا أن الله أباح فيه المنطق ليس على ظاهره موجبا ما سواه" أي المنطق "من أحكام الصلاة في الطواف" حتى يدخل فيه وجوب الطهارة "لجواز نحو الشرب" فلا جرم أن قال ابن شجاع هي سنة. "فالوجه" الاستدلال له "بحديث عائشة حين حاضت محرمة" فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت" متفق عليه. فرتب منع الطواف على انتفاء الطهارة فإن هذا حكم وسبب وظاهر أن الحكم يتعلق بالسبب(4/101)
ص -284-…فيكون المنع لعدم الطهارة لا لعدم دخول الحائض المسجد "وادعوا" أي الحنفية "للعمل بالخاص لفظ جزاء" في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] "انتفاء عصمة المسروق حقا للعبد لاستخلاصها" أي عصمة المسروق حقا لله تعالى "عند القطع" لما يأتي قريبا. "فإن قطع" السارق "تقرر" خلوصه لله تعالى قبيل فعل السرقة القبلية التي علم الله تعالى أنها يتصل بها السرقة وكان القطع مبينا لنا ذلك فهو من الاستدلال بمعاينة المشروط على سبق الشرط "فلا يضمن" المسروق "باستهلاكه" كما هو ظاهر مذهب أبي حنيفة "لأنه" أي الجزاء المطلق "في العقوبات" يكون "على حقه تعالى خالصا بالاستقراء" لأنه المجازي على الإطلاق ومن ثمة سميت الدار الآخرة دار الجزاء لأنه المجازي وحده فدل على أن القطع خالص حق الله ولذا لم تراع فيه المماثلة كما روعيت في حق العبد مالا كان أو عقوبة ولا يستوفيه إلا حاكم الشرع ولا يسقط بعفو المالك وإذا كان حق الله كانت الجناية واقعة على حقه فيستحق العبد جزاء من الله بمقابلتها، ومن ضرورة ذلك تحول العصمة التي هي محل الجناية من العبد إلى الله عند فعل السرقة حتى تقع جناية العبد على حق الله ليستحق الجزاء منه تعالى ومتى تحولت إليه لم يبق حق للعبد بل صار المال في حق العبد ملحقا بما لا قيمة له كعصير المسلم إذا تخمر لم يبق للعبد بسرقة عصيره حق فيه فلم يجب الضمان رعاية لحقه لانتقاله إليه تعالى وقد استوفى بالقطع ما وجب بالهتك فلم يجب عليه شيء آخر وروى الحسن عنه أنه يجب الضمان لأن الاستهلاك فعل آخر غير السرقة وأجيب بأنه وإن كان فعلا آخر فهو إتمام المقصود بها وهو الانتفاع بالمسروق فكان معدودا منها ولا مماثلة بين المسروق والضمان لأن المسروق ساقط العصمة حرام لعينه حقا للشرع وما يؤخذ من السارق غير ساقط العصمة ولا حرام لعينه والضمان يعتمد المماثلة(4/102)
بالنص ثم هذا كله في القضاء وأما ديانة ففي الإيضاح قال أبو حنيفة لا يحل للسارق الانتفاع به بوجه من الوجوه وفي المبسوط عن محمد يفتى بالضمان للحوق الخسران والنقصان للمالك من جهة السارق. قال أبو الليث وهذا القول أحسن.
"ولا يخفى أنه" أي لفظ جزاء إنما يكون في العقوبات خاصا بالعقوبة على الجناية على حقه تعالى "حينئذ" أي حين يكون بالاستقراء إنما هو "بعادة الاستعمال والخاص" إنما يكون "بالوضع" لا بعادة الاستعمال "أو لأنه" أي الجزاء "الكافي فلو وجب" الضمان مع القطع "لم يكف" القطع والفرض أنه كاف "وفيه نظر إذ ليس الكافي جزاء المصدر الممدود بل" الكافي "المجزئ من الأجزاء أو الجازئ من الجزء وهو الكفاية" كما هو المذكور في كتب اللغة المشهورة "فهو" أي سقوط الضمان عن السارق بعد قطعه "بالمروي" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ما ذكره المشايخ "لا غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه على ما فيه" من أنه لا يعرف بهذا اللفظ وأقرب لفظ إليه لفظ الدارقطني "لا غرم على السارق بعد قطع يمينه" ثم إن راويه المسور بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن جده وهو لم يلقه وفيه سعد بن إبراهيم مجهول لكن لا يخفى أن الأول سهل جدا والثاني غير ضائر لأن المسور مقبول(4/103)
ص -285-…فإرساله غير قادح. وأما الثالث فقيل إنه الزهري قاضي المدينة وهو أحد الثقات الأثبات فبطل القدح به أيضا "والحق أنه" أي وجوب الضمان مع القطع "ليس من الزيادة" بخبر الواحد على النص المطلق الذي هو القطع "لأن القطع لا يصدق على نفي الضمان وإثباته فيكونا" أي نفي الضمان وإثباته "من ما صدقات المطلق بل هو" أي نفي الضمان "حكم آخر أثبت بتلك الدلالة" الاستقرائية لجزاء "أو بالحديث" المذكور "بخلاف قولهم" أي الحنفية "وجب له" أي للعمل بالخاص "مهر المثل بالعقد في المفوضة" بكسر الواو المشددة من زوجت نفسها أو زوجها غيرها بإذنها بلا تسمية مهر أو على أن لا مهر لها ويروى بفتحها وهي من زوجها وليها بلا مهر بلا إذنها "فيؤخذ" مهر المثل "بعد الموت بلا دخول عملا بالباء" الذي هو لفظ خاص في الإلصاق حقيقة في قوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] "لإلصاقها الابتغاء وهو العقد" الصحيح "بالمال" فإنه من العمل بالخاص ولا نظر فيه للمصنف "وحديث بروع" وهو ما عن ابن مسعود في رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرض لها الصداق فقال لها الصداق كاملا وعليها العدة ولها الميراث فقال معقل بن سنان سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به في بروع بنت واشق. أخرجه أصحاب السنن واللفظ لأبي داود والمراد صداق مثلها كما صرح به في رواية له ولغيره ستأتي في الكلام في جهالة الراوي إن شاء الله تعالى. ثم في التلويح بروع بفتح الباء وأصحاب الحديث يكسرونها وفي الغاية بكسر الباء وفتحها والكسر أشهر وفي المغرب بفتح الباء والكسر خطأ عن الثوري وفي الجمهرة وهو خطأ ليس في كلامهم فعول إلا حرفان خروع وهو كل نبت لان وعتود واد أو موضع "مؤيد فإنه مقرر بخلاف ادعاء تقدير أقله" أي المهر "شرعا عملا بقوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50]" لأن الفرض لفظ خاص وضع لمعنى خاص وهو(4/104)
التقدير والضمير المتصل به لفظ خاص يراد به ذات المتكلم فدل على أن الشارع قدره إلا أنه في تعيين المقدار مجمل. "فالتحق" قوله صلى الله عليه وسلم "لا مهر أقل من عشرة" رواه الدارقطني والبيهقي وابن أبي حاتم وسند ابن أبي حاتم حسن "بيانا به" فصارت عشرة الدراهم من الفضة تقديرا لازما لأنها المتبادر من إطلاقها عادة فمن لم يجعله مقدرا شرعا كان مبطلا للخاص لا عاملا به فإن هذا من العمل بالخاص على ما فيه من نظر "إذ يدفع" كون المراد من الآية هذا "بجواز كونه" أي ما فرضنا "النفقة والكسوة والمهر بلا كمية خاصة فيه" أي في المهر "لا ينقص شرعا كما فيهما" أي النفقة والكسوة "وتعلق العلم" بالمفروض في قوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا} "لا يستلزمه" أي التعيين في المفروض "لتعلقه" أي العلم "بضده" وهو غير المعين أيضا "وأما قصر المراد عليهما" أي النفقة والكسوة "لعطف ما ملكت أيمانهم" على قوله أزواجهم "ولا مهر لهن" أي لما ملكت أيمانهم على ساداتهن "فغير لازم" لجواز أن يكون المراد بالمفروض بالنسبة إلى الأزواج الأمور الثلاثة وبالنسبة إلى الإماء النفقة والكسوة إذ لا مانع من ذلك "فإنما هو" أي تقدير المهر شرعا "بالخبر" المذكور "مقيدا لإطلاق المال في أن تبتغوا" بأموالكم إلا أن عليه أن يقال لكن العمل بهذا الخبر يوجب الزيادة على النص بخبر(4/105)
ص -286-…الواحد وهو غير جائز عندكم كما أشار إليه المصنف في شرح الهداية "وكذا ادعاء وقوع الطلاق في عدة البائن للعمل به" أي بالخاص "وهو الفاء لإفادتها تعقيب فإن طلقها الافتداء" المشار إليه بقوله تعالى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ليس من العمل بالخاص "بل" هي "لتعقيب الطلاق مرتان لأنها" أي فإن طلقها بتأويل الآية "بيان الثالثة أي الطلاق مرتان فإن طلقها ثالثة فلا تحل حتى تنكح واعترض" بينهما "جوازه" أي الطلاق "بمال أولى كانت" الطلقة "أو ثانية أو ثالثة" دلالة على أن الطلاق يقع مجانا تارة وبعوض أخرى "ولذا" أي كون جوازه بمال اعتراضا بينهما لا أن قوله فإن طلقها مرتب على قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] "لم يلزم في شرعية الثالثة تقدم خلع وأما إيراد أثبتم التحليل" للزوج الثاني "بلعن المحلل" في قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله المحلل والمحلل له" رواه ابن ماجه. قال عبد الحق إسناده حسن لأن المحلل من يثبت الحل كالمحرم من يثبت الحرمة وبقوله صلى الله عليه وسلم لزوجة رفاعة القرظي لما أتته فقالت كنت عند رفاعة القرظي فطلقني فأبت طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وإن ما معه مثل هدبة الثوب "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك"رواه الجماعة إلا أبا داود "زيادة على الخاص لفظ حتى في {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} لأنه وضع لمعنى خاص وهو الغاية وغاية الشيء ما ينتهي به الشيء فيكون نكاح الزوج الثاني غاية للمحرمة الثابتة بالطلقات الثلاث لا غير وليس له أثر في إثبات الحكم فلا يثبت الحل الجديد به فإثباته بأحد الخبرين زيادة له على الخاص مبطلة له بخبر الواحد وهو غير جائز وهذا مما أورده غير واحد كفخر الإسلام من قبل(4/106)
محمد وزفر والأئمة الثلاثة في مسألة الهدم وهي المطلقة واحدة أو اثنتين إذا انقضت عدتها وتزوجت بآخر ودخل بها ثم طلقها أو مات عنها ثم رجعت إلى الأول حيث قالوا ترجع إليه بما بقي من طلاقها على أبي حنيفة وأبي يوسف حيث قالا ترجع إليه بثلاث قياسا على المطلقة الثلاث عملا بكل من الخبرين المذكورين "فلا وجه له إذ ليس عدم تحليله" أي الزوج الثاني الزوجة للأول "و" عدم "العود" أي عودها "إلى الحالة الأولى" وهي ملك الأول عليها الثلاث "مما صدقات مدلولها" أي حتى في الآية "ليلزم إبطاله" أي مدلولها "بالخبر فهو" أي إثبات التحليل بالثاني "إثبات مسكوت الكتاب بالخبر أو بمفهوم حتى على أنه" أي مفهومها أي العمل به "اتفاق" أي متفق عليه أما عند غير الحنفية فظاهر وأما عندهم فلأنه من قبيل الإشارة كما ذكرنا عن صاحب البديع وغيره "أو بالأصل" الكائن فيها قبل ذلك "وعلى تقديره" أي كونه إثبات مسكوت الكتاب بأحد هذه المذكورات "يرد العود والتحليل إنما جعل" كل منهما "في حرمتها بالثلاث ولا حرمة قبلها" أي الثلاث حرمة الثلاث "فلا يتصور" أي العود إلى الحالة الأولى وهي حالة ملك الزوج الأول عليها ثلاث تطليقات لأن ذلك إذا حرمت بالثلاث وبما دون الثلاث لا تحرم إذ يحل له تزوجها في الحال وكذا إثبات الزوج الحل الجديد إنما هو إذا حرمت بالثلاث وبما دونها لا تحرم بل الحل ثابت فلو أثبت حلا كان تحصيل الحاصل. وما قيل(4/107)
ص -287-…الحل الثابت قبل الثلاث حل يزول بطلقة أو ثنتين والذي يثبته الزوج بعد الطلقة أو الطلقتين حل لا يزول إلا بالثلاث فهو غيره فليس تحصيل الحاصل جوابه أن إثباته في غير ذلك المحل أعني الحرمة الغليظة هو عين محل النزاع الموقوف على الدليل المثبت له فأجيب بأنه بطريق أولى فإنه لما أثبت حلا جديدا في الغليظة كان أولى أن يثبته في الأخف منها أو بالقياس عليها بجامع أنه نكاح زوج بإلغاء كونه في حرمة غليظة لأن الحرمة الغليظة محل والمحل لا يدخل في التعليل وإلا انسد باب القياس فيصير كونه نكاح زوج تمام العلة وهي موجودة في نكاح زوج بعد طلقة ويدفع بأنه موقوف على ثبوت اعتبار الزوج كذلك مطلقا وليس لازما بل يجوز ذلك ويجوز أن اعتباره كذلك إنما هو عند ثبوت حرمة تزوجها الكائنة بعد استيفاء الطلقات وحينئذ يكون كون الحل جديدا ضروريا فالزوج إنما أثبت الحل فقط ثم لزم كونه جديدا بسبب أنه ورد بعد استيفاء جميع الطلقات فهو باتفاق الحال لا بوضع الشرع الزوج لذلك وهذا هو الوجه فإن تسمية الشارع إياه محللا لا يقتضي سوى هذا القدر دون كون الحل يملك فيه الثلاث وإذا كان كذلك ففي عدم الحرمة لا يثبت الزوج حل تزوجها لثبوته ويعود لزوم تحصيل الحاصل كذا ذكره المصنف وقد تضمنت هذه الجملة شرح قوله "فلا يحصل مقصودهما" أي أبي حنيفة وأبي يوسف وهو "هدم الزوج" الثاني "ما دون الثلاث خلافا لمحمد ولا يخفى تضاؤل أنه" أي ما دون الثلاث "أولى به" أي بالحل الجديد من الثلاث "أو" أنه ثابت "بالقياس" عليها "فالحق هدم الهدم".(4/108)
ص -288-…الباب الثالث: السنة
"السنة" وهي لغة "الطريقة المعتادة" محمودة كانت أو لا ومن ثمة قال صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" رواه مسلم. "وفي الأصول قوله عليه السلام وفعله وتقريره" مما ليس من الأمور الطبيعية وكأنه لم يذكره للعلم به ثم منهم كالبيضاوي من لم يذكر التقرير لدخوله في الفعل لأنه كف عن الإنكار والكف فعل وقيل القول فعل أيضا فلو تركه جاز اللهم إلا أن يقال اشتهر إطلاق الفعل مقابلا له فيجب ذكره دفعا لتوهم الاقتصار عليه "وفي فقه الحنفية ما واظب على فعله مع ترك ما بلا عذر" فقالوا مع ترك ما بلا عذر "ليلزم كونه" أي المفعول المواظب عليه "بلا وجوب" له إذ الواجب لا رخصة في تركه بلا عذر ولا يخفى عدم شموله لجميع المسنونات "وما لم يواظبه" أي فعله "مندوب ومستحب وإن لم يفعله بعد ما رغب فيه وعادة غيرهم" أي الحنفية "ذكر مسألة العصمة مقدمة كلامية لتوقف حجية ما قام به صلى الله عليه وسلم عليها" أي العصمة إذ بثبوتها يثبت حقية ما صدر عنه من قول أو فعل "وهي" أي العصمة "عدم قدرة المعصية أو خلق مانع" من المعصية "غير ملجئ" إلى تركها "ومدركها" أي العصمة ومستندها عند المحققين من الحنفية والشافعية والقاضي أبي بكر "السمع وعند المعتزلة" السمع و "العقل أيضا" ثم اختلف في عصمتهم من الذنوب فقال المصنف "الحق أن لا يمتنع قبل البعثة كبيرة ولو" كانت "كفرا عقلا" كما هو قول القاضي وأكثر المحققين "خلافا لهم" أي للمعتزلة "ومنعت الشيعة الصغيرة أيضا وأما الواقع فالمتوارث أنه لم يبعث نبي قط أشرك بالله طرفة عين ولا من نشأ فحاشا، سفيها لنا لا مانع في العقل من الكمال بعد النقص ورفع المانع قولهم" أي المعتزلة والشيعة "بل فيه" أي العقل مانع من ذلك "وهو" أي المانع(4/109)
"إفضاؤه" أي صدور المعصية "إلى التنفير عنهم واحتقارهم" بعد البعثة "فنافى" صدورها عنهم "حكمة الإرسال" وهي اهتداء الخلق بهم "مبني على التحسين والتقبيح العقليين فإن بطل" القول بهما "كدعوى الأشعرية بطل" قولهم "وإلا" لو لم يبطل القول به مطلقا "منعت الملازمة" وهو صدور المعصية منهم مفض إلى التنفير عنهم بعد البعثة واحتقارهم "كالحنفية بل بعد صفاء السريرة وحسن السيرة ينعكس حالهم في القلوب" من تلك الحال إلى التعظيم والإجلال. "ويؤكده" أي انعكاس حالهم حينئذ "دلالة المعجزة" على صدقه وحقية ما أتى به "والمشاهدة واقعة به" أي بانعكاس الحال في القلوب حينئذ "في آحاد انقاد الخلق إلى إجلالهم بعد العلم بما كانوا عليه" من أحوال تنافي ذلك "فلا معنى لإنكاره وبعد البعثة الاتفاق" من أهل الشرائع كافة "على عصمته" أي النبي "عن تعمد ما يخل بما يرجع إلى التبليغ" من الله إلى الخلائق كالكذب في الأحكام إذ لو جاز عليه التقول والافتراء في ذلك عقلا لأدى إلى إبطال دلالة المعجزة وهو محال "وكذا" الاتفاق على عصمته من الكذب "غلطا" ونسيانا فيما يرجع إلى(4/110)
ص -289-…التبليغ "عند الجمهور" لما ذكرنا "خلافا للقاضي أبي بكر لأن دلالة المعجزة" على عدم كذبه فيما يصدر منه إنما هي "على عدم الكذب" في ذلك "قصدا" أي إنما دلت على صدقه فيما هو متذكر له عامد إليه وأما ما كان من النسيان وفلتات اللسان فلا دلالة لها على الصدق فيه فلا يلزم من الكذب فيه نقص لدلالتها "و" على "عدم تقريره على السهو" إذ لا بد من بيانه والتنبيه عليه فإذا لم يرد البيان منه أو من الله دل على أنه صادر قصدا "فلم يرتفع الأمان عما يخبر به عنه تعالى" فانتفى ما قيل يلزم منه عدم الوثوق بتبليغه لاحتمال السهو والغلط وانتفاء دليل للسامع يفرق به بين ما يصدر منه سهوا وغلطا وبين ما يصدر منه قصدا فيختل المقصود بالمعجزة وهو الدلالة على صدقه. "وأما غيره" أي غير ما يخل بما يرجع إلى التبليغ "من الكبائر والصغائر الخسيسة" وهي ما يلحق فاعلها بالأرذال والسفل ويحكم عليه بدناءة الهمة وسقوط المروءة كسرقة كسرة والتطفيف بحبة "فالإجماع على عصمتهم عن تعمدها سوى الحشوية وبعض الخوارج" وهم الأزارقة حتى جوزوا عليهم الكفر فقالوا يجوز بعثة نبي علم الله أنه يكفر بعد نبوته والفضيلية منهم أيضا فجوزوا صدور الذنب منهم مع اعتقادهم أن الذنب كفر ثم الأكثر على أن امتناعه مستفاد من السمع وإجماع الأمة قبل ظهور المخالفين فيه إذ العصمة فيما وراء التبليغ غير واجبة عقلا والمعتزلة على أنه مستفاد من العقل بناء على أصولهم الفاسدة. "و" على "تجويزها" أي الكبائر والصغائر الخسيسة "غلطا وبتأويل خطأ إلا الشيعة فيهما" أي في فعلهما غلطا وفعلهما بتأويل خطأ هذا على ما في البديع وغيره وعبارة المواقف وأما سهوا فجوزوه الأكثرون. قال الشريف والمختار خلافه "وجاز تعمد غيرها" أي الكبائر والصغائر الخسيسة كنظرة وكلمة سفه نادرة في غضب "بلا إصرار عند الشافعية والمعتزلة ومنعه" أي تعمد غيرها "الحنفية وجوزوا الزلة فيهما" أي الكبيرة والصغيرة "بأن(4/111)
يكون القصد إلى مباح فيلزم معصية" لذلك لا أنه قصد عينها "كوكز موسى عليه السلام" أي كدفعه بأطراف أصابعه وقيل بجمع الكف القبطي واسمه فانون فإنه لم يقصد قتله بذلك بل أفضى به ذلك إليه "ويقترن بالتنبيه" على أنها زلة إما من الفاعل كقوله: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} أي هيج غضبي حتى ضربته فوقع قتيلا فأضافه إليه تسببا أو من الله تعالى كما قال تعالى {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] أي أخطأ بأكل الشجرة التي نهي عن أكلها، وطلب الملك والخلد بذلك "وكأنه" أي هذا النوع خطأ من حيث إن الأمر الذي أفضى فعله إليه لم يكن مقصودا له "شبه عمد" من حيث الصورة لقصده إلى أصل الفعل "فلم يسموه خطأ" ملاحظة للقصد إلى أصل الفعل "ولو أطلقوه" أي الخطأ عليه كما أطلقه غيرهم "لم يمتنع وكان أنسب من الاسم المستكره" أي الزلة وكيف يمتنع وقد قالوا لو رمى غرضا فأصاب آدميا كان خطأ مع قصده الرمي إلى الآدمي وأما أنه أنسب مطلقا ففيه تأمل بل ربما منع الأنسبية في قصة آدم وما شابهها قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} [البقرة: 36] كما أن الأظهر أن شبه العمد إنما يتحقق في نحو وكز موسى لا مطلقا والله سبحانه أعلم.(4/112)
ص -290-…[فصل في حجية السنة وضرورتها]
"فصل حجية السنة" أعم من كونها مفيدة الفرض أو الوجوب أو الاستنان "ضرورية دينية ويتوقف العلم بتحققها" أي حجيتها "وهي" أي السنة "المتن على طريقه" أي المتن وقوله "السند" بدل من طريقه وقوله "الإخبار عنه" أي عن المتن "بأنه حدث به" أي بالمتن "فلان أو خلق" بدل من السند لأن به يعرف ثبوتها وعدمه، ثم منازل الثبوت ثم تعريف السند بهذا. ذكره ابن الحاجب وغيره وقال السبكي وعندي لو قال: طريق المتن. كان أولى وهو مأخوذ إما من السند ما ارتفع وعلا من سفح الجبل أي أسفله لأن المسند يرفعه إلى قائله أو من قولهم فلان سند أي معتمد لاعتماد الحفاظ في صحة الحديث وضعفه عليه "وهو" أي المتن "خبر وإنشاء" وتقدم وجه حصره فيهما في أوائل المقالة الأولى "فالخبر قيل لا يحد لعسره" أي تحديده على الوجه الحقيقي بعبارة محررة جامعة للجنس والفصل الذاتي لأن إدراك ذاتيات الحقيقة في غاية العسر كما قيل مثله في العلم "وقيل لأن علمه" أي الخبر "ضروري" وهو اختيار الإمام الرازي والسكاكي "لعلم كل بخبر خاص ضرورة وهو" أي الخبر الخاص "أنه موجود وتمييزه" أي ولتمييز كل الخبر "عن قسيمه" الذي هو الإنشاء "ضرورة" ولذا يورد كل منهما في موضعه ويجاب عن كل بما يستحقه وإذا كان الخبر المقيد الذي هو الخاص ضروريا "فالمطلق" أي الخبر المطلق الذي هو جزؤه "كذلك" أي ضروري بل أولى لاستحالة كون تصور الكل ضروريا مع كون تصور الجزء مكتسبا لتوقف تصور الكل على تصور الجزء وعلى ما يتوقف عليه تصور الجزء. "وأورد" على أصحاب هذا القول "الضرورة تنافي الاستدلال" على كونه ضروريا لأن الضروري لا يقبل الاستدلال "وأجيب بأنه" أي كون الضروري ينافي الاستدلال إنما هو "عند اتحاد المحل" للضرورة والاستدلال "وليس" محلهما هنا متحدا "فالضروري حصول العلم بلا نظر وكونه" أي العلم "حاصلا كذلك" أي على وجه الضرورة "غيره" أي غير حصوله بلا نظر وهو(4/113)
النظري "ولو أورد كذا الحاصل ضرورة يلزمه ضرورية العلم بكونه ضروريا إذ بعد حصوله" أي ذلك العلم الحاصل ضرورة "لا يتوقف العلم الثاني" وهو العلم بكون العلم الحاصل ضروريا "بعد تجريد مفهوم الضروري سوى على الالتفات" أي استحضار مفهوم الضروري وهو ما يحصل بلا نظر "وتطبيق" هذا "المفهوم" على العلم الحاصل فيجده حصل بلا نظر فيعلم كونه ضروريا وهو العلم الثاني "وليس" هذا "النظر" فإن تجريد الطرفين وتوجه النفس مما يلزم في كل ضروري "كان" هذا الإيراد "لازما فالحق أنه" أي الدليل المذكور. "تنبيه" على خفائه ثم كما قال المصنف لما كان منهم من جعل الجواب هنا كالجواب عن قول من قال العلم لا يحد لأنه ضروري لأن كلا يعلم بالضرورة أنه موجود والمطلق جزء إلخ وهو أن العلم حاصل هنا متعلقا بغيره والحصول لا يستلزم تصور الحاصل فيعرف ليصير بنفسه متصورا فأجاب هنا كذلك وهو أن ماهية الخبر حاصل فيما ذكرت من المثال غير متصور فيحد ليصير متصورا ورأى المصنف أنه لا يصح هنا لأن الكلام هنا في الخبر الذي هو متعلق العلم لا في نفس العلم فقولنا يعلم كل أنه موجود يبين(4/114)
ص -291-…أن مضمون أنا موجود وهو الخبر تعلق به العلم فلا يمكن أن يقال فيه إنه غير متصور أصلا بعد فرض أنه معلوم فلم يبق إلا أن يقال تعلق به بوجه والحد لإرادة العلم بحقيقته كما أشار إليه بقوله "والجواب أن تعلق العلم به" أي بالخبر "بوجه لا يستلزم تصور حقيقته" أي الخبر "ضرورة" وتصور حقيقته هو المراد بالتعريف.
ثم إن المصنف اختار أن الخبر ضروري فقال "والظاهر أن إعطاء اللوازم" أي إعطاء كل أحد لازم الخبر للخبر ولازم الإنشاء للإنشاء "من وضع كل" منهما "موضعه" فلا يضع أحد قمت مكان قم ولا عكسه ومن احتمال الصدق والكذب وعدمه "ونفي" كل أحد "ما يمتنع" على كل منهما "عنه" أي كل منهما فلا يقول إن قم يحتمل الصدق والكذب إلى غير ذلك "فرع تصور الحقيقة" وهي المعنى الذي سمينا الدال عليه خبرا وإنشاء "إذ هي" أي حقيقة معنى الخبر والإنشاء هي "المستلزمة" لذلك لأن الحكم على الشيء فرع تصوره. "نعم لا يتصورهما" أي الحقيقتين "من حيث هما مسميا الخبر والإنشاء" أو غيرهما وذلك لا ينفي ضرورية نفسهما كما لو لم تسم الحقائق بأسماء أصلا فإن ذلك لا ينفي كون بعضهما ضروريا فحينئذ إذا عرف الخبر والإنشاء "فيعرفان اسما" أي تعريفا اسميا لإفادة أن مسمى لفظ الخبر كذا ومسمى لفظ الإنشاء كذا "وإن كان" التعريف المذكور "قد يقع حقيقيا" بأن كانت ذاتيات الحقيقة في نفس الأمر هي المسماة بالاسم فإن ذلك لا يضر "فالخبر مركب يحتمل الصدق والكذب بلا نظر إلى خصوص متكلم ونحوه" فمركب جنس لسائر المركبات ويحتمل الصدق والكذب إلخ مخرج لما عدا الخبر منها من مركب إضافي ومزجي وتقييدي وإنشائي وغيرها فإنها ليست كذلك وقال بلا نظر إلى خصوص متكلم ونحوه أي وخصوص الكلام لئلا يظن خروج الخبر المقطوع بصدقه كخبر الله تعالى وخبر رسوله والمقطوع بكذبه كالمعلوم خلافه ضرورة كالنقيضان يجتمعان أو يرتفعان وليس كذلك لأن المراد أنه إذا نظر إلى محصل مفهومه وهو أن المحكوم(4/115)
عليه هو المحكوم فيه أو ليس إياه كان صالحا للاتصاف بكل من الصدق والكذب بدلا عن الآخر فيندرج الخبران المذكوران فيه "وأورد" على هذا التعريف "الدور" أي أنه دوري "لتوقف" كل من "الصدق" والكذب "عليه" أي الخبر "لأنه" أي الصدق "مطابقة الخبر" والكذب عدم مطابقة الخبر وقد فرض توقف الخبر على كل منهما "وبمرتبة" أي وأورد لزوم الدور بمرتبة أيضا "لو قيل التصديق والتكذيب" مكان الصدق والكذب لكن بشرط أن يفسر التصديق بالخبر بصدق المتكلم والتكذيب بالخبر بكذب المتكلم أما لو فسر التصديق بنسبة المتكلم إلى الصدق وهو الخبر عن الشيء على ما هو به والتكذيب بنسبة المتكلم إلى الكذب وهو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو عليه فيلزمه الدور بمرتبتين لتوقف معرفة الخبر على التصديق وهو على الصدق وهو على الخبر. وكذا في التكذيب ولو فسر التصديق بالإخبار عن كون المتكلم صادقا والتكذيب بالإخبار عن كونه كاذبا لزمه الدور بمراتب لتوقف معرفة الخبر على التصديق ومعرفة التصديق على معرفة الصادق ومعرفة الصادق على معرفة الصدق ومعرفة الصدق على معرفة الخبر وكذا في التكذيب وقد أجيب بأن المأخوذ في(4/116)
ص -292-…حد الخبر هو الصدق والكذب اللذان هما صفة الخبر أعني مطابقته للواقع وعدم مطابقته له وما أخذ في حد الخبر صفة للمتكلم وأيضا اللازم فساد تعريف الخبر أو الصدق والكذب للزوم الدور لا تعريف الخبر على التعيين وأيضا كما قال المصنف "إنما يلزم" الدور "لو لزم" ذكر الخبر "في تعريفه" الصدق وكذا في تعريف الكذب "وليس" ذكره لازما فيهما بل يعرفان بحيث لا يتوقف تعريفهما على معرفة الخبر "إذ يقال فيهما" أي الصدق والكذب "ما طابق نفسيه لما في نفس الأمر" تعريفا للصدق أي ما يكون نسبته النفسية مطابقة للنسبة التي في الواقع بأن يكونا ثبوتيتين أو سلبيتين "أو لا" أي وما لا يطابق نفسيه لما في نفس الأمر تعريفا للكذب أي ما يكون إحدى نسبتيه المذكورتين ثبوتية والأخرى سلبية أو يقال هما ضروريان والله سبحانه أعلم.(4/117)
"وقول أبي الحسين" في تعريف الخبر على ما ذكر ابن الحاجب "كلام يفيد بنفسه نسبة" يرد "عليه أن نحو قائم" من المشتقات "عنده" أي أبي الحسين "كلام" لأنه قال في المعتمد الحق أن يقال الكلام هو ما انتظم من الحروف المسموعة المتميزة المتواضع على استعمالها في المعاني "ويفيدها" أي قائم النسبة "بنفسه" بناء على أن المراد بنفسه أن يكون النسبة مدلوله الذي وضع له لا أن يكون لازما عقلا وبالنسبة نسبة معنى إلى الذات "وليس" نحو قائم "خبرا" بالاتفاق ولما جعل ابن الحاجب قوله بنفسه لإخراج قائم ونحوه من المشتقات لإفادتها نسبة لا بنفسها بل مع الموضوع الذي هو زيد مثلا وكان ممنوعا عند التحقيق أشار إليه المصنف فقال "وما قيل مع الموضوع ممنوع" بل قائم بنفسه يفيدها لا بقيد المجموع منه ومن الموضوع. "إذ المشتق دال على ذات موصوفة" أي لأن كل مشتق من الصفات وضع لذات باعتبار اتصافها فيفيد النسبة بنفسه إذ قد وضع لذلك فلزمت النسبة حينئذ مدلولة لنفس المشتق وأما مع الموضوع فيفيد النسبة إلى معين فإن الذات التي ينسب إليها الوصف في المشتق مبهمة وبذكر موضوع تتعين ضربا من التعيين "فالموضوع لمجرد تعيين المنسوب إليه" ولا دخل للموضوع في إفادتها هذا على هذا النقل عن أبي الحسين وأما المشهور عنه في تعريفه للخبر فما نقله الآمدي عنه وهو كلام يفيد بنفسه إضافة أمر إلى أمر إثباتا أو نفيا والكلام فيه في غير هذا الموضع ذكره المصنف وهو المذكور لأبي الحسين في المعتمد على ما ذكر الأبهري وتراجع حاشيته وحاشية التفتازاني في الكلام عليه "وأما إيراد نحو قم عليه" أي على قول أبي الحسين المذكور بأنه صادق عليه "لإفادته" أي نحو قم "نسبة القيام" إلى المخاطب لأن المطلوب هو القيام المنسوب إليه لا مطلق الطلب وهو ليس بخبر قطعا "فليس" بوارد عليه "إذ لم يوضع" نحو قم "سوى لطلب القيام" أي طلب المتكلم القيام من المخاطب "وفهم النسبة" أي نسبة طلب القيام من(4/118)
المخاطب إلى الطالب ونسبة وقوع القيام من المخاطب إليه أي الحكم بوقوعه منه عند الامتثال "بالعقل والمشاهدة" لفا ونشرا مرتبا "لا يستلزم الوضع" أي وضع نحو قم "لها" أي للنسبة المذكورة بنوعيها "فليس" فهم النسبة "بنفسه" أي لفظ الطلب بل دلالة الطلب على الأول عقلية ولا دلالة له على الثاني أصلا(4/119)
ص -293-…وإنما يعلم بالحس. "وما قيل" أي وما قال ابن الحاجب ووافقه صاحب البديع عليه من أن "الأولى" في تعريفه "كلام محكوم فيه بنسبة لها خارج فطلبت القيام منه" أي الخبر لأنه كلام محكوم فيه بنسبة طلب القيام إلى المتكلم في الزمان الماضي ولها خارج قد يطابقه فيكون صدقا وقد لا يطابقه فيكون كذبا "لا قم" فإنه وإن كان كلاما محكوما فيه بنسبة إلى القيام إلى المأمور ونسبة الطلب إلى الآمر لكن هذه النسبة ليس لها خارج تطابقه أو لا تطابقه لأنها ليست إلا مجرد الطلب القائم بالنفس "فعلى إرادة ما يحسن عليه السكوت بالكلام فلا يرد الغلام الذي لزيد" لأنه لا يحسن عليه السكوت "ولا حاجة إلى محكوم" حينئذ لأنه لا يحسن عليه السكوت حتى يحكم فيه بنسبة وإنما يكفي كلام فيه نسبة لها خارج "بل قد يوهم" التعريف المذكور "أن مدلول الخبر الحكم" للمخبر بوقوع النسبة. "وحاصله" أي الحكم "علم" لأنه إدراك "ونقطع بأنه" أي الخبر "لم يوضع لعلم المتكلم بل" إنما وضع "لما عنده" أي المتكلم من وقوع النسبة واللا وقوعها "فالأحسن" في تعريف الخبر "كلام لنسبته خارج" لاشتماله على الجنس القريب وهو كلام والفصل القريب وهو لنسبته خارج مع الاطراد والانعكاس وعدم إيهام خلاف المراد.(4/120)
"واعلم أنه" أي الخبر "يدل على مطابقته" للواقع وهو الصدق "فإنه يدل على نسبة" تامة ذهنية "واقعة" كما في الإثبات "أو غير واقعة" كما في السلب مشعرة بحصول نسبة أخرى في الواقع موافقة لها في الكيفية وهذه الأخرى مدلولة للخبر بتوسط الأولى وهي المقصودة بالإفادة فإن كانت هذه الأخرى المشعر بها موافقة للأولى كان الخبر صادقا وإلا كان كاذبا ومن ثمة قيل صدق الخبر ثبوت مدلوله معه وكذبه تخلف مدلوله معه ولا استحالة في ذلك لأن دلالة الجملة الخبرية على النسبة الذهنية وضعية لا عقلية ودلالة الذهنية على حصول النسبة الأخرى بطريق الإشعار لا باستلزام عقلي وجاز أن يتخلف عن الجملة الخبرية مدلولها بلا واسطة فضلا عن مدلولها بواسطة وهذا معنى ما قيل مدلول الخبر هو الصدق وأما الكذب فاحتمال عقلي كما أشار إليه بقوله "ومدلول اللفظ لا يلزم كونه ثابتا في الواقع" بل جاز أن يكون ثابتا وأن لا يكون ثابتا "فجاء احتمال الكذب بالنظر إلى أن المدلول" المذكور هو "كذلك في نفس الأمر أولا" وقد سبق معنى هذا في أقسام المركب وأوضحناه بعبارة أخرى أيضا ثمة.
"وما ليس بخبر إنشاء ومنه" أي الإنشاء "الأمر والنهي والاستفهام والتمني والترجي والقسم والنداء ويسمى الأخيران" أي القسم والنداء "تنبيها أيضا" بل المنطقيون يسمون الأربعة الأخيرة تنبيها وزاد بعضهم كصاحب الشمسية الاستفهام وابن الحاجب وصاحب البديع على أن ما ليس بخبر يسمى إنشاء فإن كان مجرد اصطلاح فسهل وإلا فللبحث فيه مجال "واختلف في صيغ العقود والإسقاطات كبعت وأعتقت إذا أريد حدوث المعنى بها فقيل إخبارات عما في النفس من ذلك" وهو قول الجمهور "فيندفع الاستدلال على إنشائيته" أي هذا(4/121)
ص -294-…النوع "بصدق تعريفه" أي الإنشاء وهو كلام ليس لنسبته خارج عليه "وانتفاء لازم الإخبار من احتمال الصدق والكذب" عليه لأن بعت لا يدل على بيع آخر غير البيع الذي يقع به "لأن ذلك" الاستدلال المذكور إنما يفيد نفي قول القائل بأنه إخبار "لو لم يكن" مراده كونه "إخبارا عما في النفس" بأن أراد الإخبار عن خارج أما إذا أريد أنه إخبار عما في النفس من المعنى فلا وهو ظاهر "وغاية ما يلزم" من هذه بالنسبة إلى عدم احتماله الكذب "أنه إخبار يعلم صدقه بخارج" هو نفس اللفظ بقوله بعت مثلا فإنه يفيد أن معناه قائم بنفسه فيعلم صدقه "كإخباره بأن في ذهنه كذا" أي كما لو قال في ذهنه معنى بعت بعد ما قال بعت "وما استدل" به الإنشائيون من أنه "لو كان خبرا لكان ماضيا" لوضع لفظه لذلك وعدم ورود مغير. "وامتنع التعليق" أي تعليقه بالشرط لأن التعليق توقيف دخول أمر في الوجود على دخول غيره والماضي دخل فيه فلا يتأتى فيه توقيف دخوله في الوجود على دخول غيره وكلا اللازمين منتف أما الأول فظاهر وأما الثاني فللإجماع على تعلق الطلاق بدخول الدار فيما لو قال لزوجته إن دخلت الدار فقد طلقتك "مدفوع بأنه ماض إذ ثبت في ذهن القائل البيع والتعليق" للطلاق "واللفظ إخبار عنهما" أي البيع والتعليق الكائنين في الذهن فالقابل للتعليق بالتحقيق هو ما في الذهن واللفظ إخبار عنه وإعلام به "وألزم امتناع الصدق لأنه" أي الصدق "بالمطابقة وهي" أي المطابقة "بالتعدد" أي تعدد ما في الواقع والنفسي الذي هو مدلول الكلام "وليس" هنا شيء "إلا ما في النفس وهو" أي ما في النفس "المدلول" أيضا "فلا خارج" فلا مطابقة فلا صدق "وأجيب بثبوته" أي تعدد ما في الواقع والنفسي اعتبارا "فما في النفس من حيث هو مدلول اللفظ غيره" أي غير ما في النفس "من حيث هو فيها" أي في النفس "فتطابق المتعدد" أي فيكون النسبة القائمة بالنفس من حيث إنها مدلول اللفظ مطابقة لها لا من هذه الحيثية(4/122)
بل من حيث هي ثابتة في النفس قال المصنف. "ومبنى هذا التكلف على أنه" أي هذا النوع "إخبار عما في النفس" كما نقله القاضي عضد الدين وغيره "لكن الوجدان شاهد بأن الكائن فيها" أي في النفس "ما لم ينطق ليس" شيئا "غير إرادة البيع لا يعلم قولها" أي النفس "بعتك قبله" أي النطق به "إنما ينطق معه" أي مع بعتك "فهي إنشاءات" لفظها علة لإيجاد معناها.
"ثم ينحصر" الخبر "في صدق إن طابق" حكمه "الواقع" أي الخارج الكائن لنسبة الكلام الخبري بأن كانت نسبته الذهنية موافقة لنسبته الخارجية في الكيف بأن كانتا ثبوتيتين أو سلبيتين "وكذب إن لا" تطابق نسبته الذهنية النسبة الخارجية في الكيف بأن كانت إحداهما ثبوتية والأخرى سلبية سواء اعتقد المطابقة أو عدمها فلا واسطة بينهما وحصره عمرو بن بحر "الجاحظ في ثلاثة" الصادق والكاذب "الثالث ما لا" أي ما ليس بصادق "ولا" كاذب "لأنه" أي الخبر "إما مطابق" للواقع "مع الاعتقاد" للمطابقة "أو" مطابق للواقع مع "عدمه" أي عدم اعتقادها "أو غير مطابق" للواقع. "كذلك" أي مع اعتقاد المطابقة ومع عدم اعتقادها "الثاني منهما" أي من القسمين وهو من الأول المطابق مع عدم اعتقاد المطابقة ويصدق بصورتين اعتقاد عدم المطابقة وعدم اعتقاد شيء أصلا والثاني من الثاني غير المطابق مع عدم اعتقاد(4/123)
ص -295-…عدم المطابقة ويصدق بصورتين أيضا اعتقاد المطابقة وعدم اعتقاد شيء "ليس كذبا ولا صدقا" وهو أربعة أقسام والأول من الأول صدق ومن الثاني كذب فيكون المجموع على قوله ستة واحد صدق وواحد كذب وأربعة واسطة "لقوله تعالى حكاية {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8]" أي جنون "حصروا" أي الكفار "قوله" أي النبي صلى الله عليه وسلم {إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7] "في الكذب والجنة فلا كذب معها" أي الجنة لأنه قسيم الكذب على زعمهم وقسيم الشيء يجب أن يكون غيره "ولم يعتقدوا صدقه" بل هم جازمون بكذبه فهذا حينئذ ليس بكذب ولا صدق ثم هم عقلاء عارفون باللغة فيجب أن يكون من الخبر ما ليس صادقا ولا كاذبا ليكون هذا منهم بزعمهم وإن كان صادقا في نفس الأمر "والجواب حصروه" أي خبره "في الافتراء تعمد الكذب والجنة التي لا عمد فيها فهو" أي حصرهم خبره إنما هو "في كذب عمد وغير عمد" أي في نوعيه المتباينين ومما يدل على أنه يتنوع إليهما قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل:39] وما في الصحيحين وغيرهما "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" "أو" حصروه "في تعمده" أي الكذب "وعدم الخبر" لخلوه عن القصد والشعور المعتد به على ما هو حال المجنون وهو شرط في تحقق حقيقة الكلام فضلا عن الخبر فهو حصر في فرد للشيء ونقيض ذلك الشيء "وقول عائشة في ابن عمر من رواية البخاري ما كذب ولكنه وهم" وعزاه السبكي إلى الصحيحين. "تريد" ما كذب "عمدا" وليس لفظ ما كذب في الصحيحين ولا في أحدهما وإنما في الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الميت يعذب ببكاء أهله عليه" فقالت عائشة رحمه الله لم يكذب ولكنه وهم إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل مات يهوديا: "أن الميت ليعذب وإن أهله ليبكون عليه" ثم قال حسن صحيح وفي(4/124)
الموطأ وصحيح مسلم أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ "وقيل" أي وقال النظام وموافقوه "الصدق مطابقة الاعتقاد" وإن كان الاعتقاد غير مطابق للواقع "والكذب عدمها" أي مطابقة الاعتقاد وإن كان الاعتقاد مطابقا للواقع فهو كما قال "فالمطابق" للواقع "كذب إذا اعتقد عدمها" أي المطابقة للواقع والمخالف للواقع صدق إذا اعتقد مطابقته له ولا واسطة بين الصادق والكاذب عنده أيضا لأن ما لا يطابق الاعتقاد كاذب كان هناك اعتقاد أو لا "لقوله تعالى {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} في قولهم {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1]" المطابق للواقع دون اعتقادهم "أجيب" بأن التكذيب إنما هو "في الشهادة لعدم المواطأة" أي موافقة اللسان القلب فهو راجع إلى خبر ضمني يشعر به تأكيدهم كلامهم بأن واللام وكون الجملة اسمية وهو أن إخبارنا هذا صادر عن صميم قلوبنا وخلوص اعتقادنا ووفور رغبتنا ونشاطنا لا إلى خبرهم المذكور صريحا ومن ثمة قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1] "أو فيما تضمنته" الشهادة "من العلم" لأن من قال أشهد بكذا تضمن إني أقوله عن علم وإن كانت الشهادة بمجردها تحتمل العلم والزور وتقيدهما لغة أو في دعواهم الاستمرار على الشهادة في الغيبة والحضور بشهادة الفعل المضارع المنبئ(4/125)
ص -296-…عن الاستمرار أو في المشهود به لكن لا في الواقع بل في زعمهم الفاسد واعتقادهم الباطل حيث اعتقدوا أن هذا الخبر غير مطابق للواقع أو أن المراد أنهم قوم شأنهم الكذب وإن صدقوا في هذه القضية. "والموجب لهذا" التأويل "وما قبله" من تأويل قول عائشة "القطع من اللغة بالحكم بصدق قول الكافر كلمة الحق" كالإسلام حق لكونه مطابقا للواقع مع عدم مطابقة اعتقاده فدل على أن الاعتبار في ذلك لمطابقة الواقع دون الاعتقاد وما ذكره الفريقان ظنون والقطعي لا يترك بالظني بل بالعكس إذا لم يمكن تأويله وإلا كان يدفع بأن التأويل خلاف الأصل. وقال الراغب الأصفهاني الصدق المطابقة الخارجية مع اعتقادها فإن فقد كل منهما سواء صدق فقد اعتقاد المطابقة باعتقاد عدمها أم بعدم اعتقاد شيء فكذب وإن فقد أحدهما يوصف بالصدق من حيث مطابقته للاعتقاد أو للخارج وبالكذب من حيث انتفاء المطابقة للخارج أو اعتقادها فيه وفي الأسرار الإلهية وقيل إن طابق فصدق وإن لم يطابق فإن علم المتكلم بعدم المطابقة فكذب وإن لم يعلم فخطأ لا كذب وهذا الاصطلاح وعليه قوله تعالى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8] لأنهم نسبوه إلى أنه أخطأ في إخباره عن البعث عن غير عمد الكذب فصار في خطابه كذي الجنة لا يدري ما يقول انتهى قلت ويوافقه ظاهرا ما تقدم من قول عائشة أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ.(4/126)
"وينقسم" الخبر "باعتبار آخر" أي الحكم بالقطع بصدقه وعدمه "إلى ما يعلم صدقه ضرورة" إما بنفسه أي من غير انضمام غيره إليه وهو المتواتر فإنه بنفسه يفيد العلم الضروري بمضمونه وإما بغيره أي استفيد العلم الضروري بمضمونه بغيره وهو الموافق للعلم الضروري بأن يكون متعلقه معلوما لكل واحد من غير نظر نحو الواحد نصف الاثنين "أو نظرا كخبر الله ورسوله" وأهل الإجماع وخبر من ثبت بأحدها صدقه بأن أخبر الله أو رسوله أو أهل الإجماع بصدقه وخبر من وافق خبره دليل العقل في القطعيات فإن هذا كله علم وقوع مضمونه بالنظر والاستدلال وهو الأدلة القاطعة على صدق الله وصدق رسوله وعصمة الأمة عن الكذب وعلى أن الموافق للصادق صادق "أو" ما يعلم "كذبه بمخالفة ذلك" أي ما يعلم صدقه ضرورة كالإخبار بأن الواحد ضعف الاثنين أو نظرا كالإخبار بأن العالم قديم "وما يظن أحدهما" أي صدقه أو كذبه "كخبر العدل" لرجحان صدقه على كذبه "والكذوب" لرجحان كذبه على صدقه "أو يتساويان" أي الاحتمالان "كالمجهول" أي كخبر مجهول الحال بأن لم يعلم في العدالة وعدمها ولم يشتهر أمره في الصدق والكذب فإن الجهل بحاله يوجب تساوي الاحتمالين. "وما قيل ما لم يعلم صدقه يعلم كذبه" وإلا لنصب على صدقه دليل "كخبر مدعي الرسالة" فإنه إذا كان صدقا دل عليه بالمعجزة كما ذهب إلى هذا بعض الظاهرية "باطل للزوم ارتفاع النقيضين في إخبار مستورين بنقيضين" من غير دليل يدل على صدق أحدهما للزوم كذبهما قطعا ويستلزم اجتماعهما لأن كذب كل من النقيضين يستلزم صدق الآخر "ولزوم الحكم بكفر كثير من المسلمين" فإنهم يقولون كلمة الحق ولا يعلم صدقهم بقاطع وهو باطل بالإجماع والضرورة "بخلاف أهل ظهور العدالة" منهم فإنهم لا يلزم الحكم بكفرهم(4/127)
ص -297-…إذا أتوا بكلمة الحق وقوله "لأنها" أي العدالة "دليل على أن يراد بالعلم الأول" أي الذي في قوله وما قيل ما لم يعلم صدقه يعلم كذبه "الظن" غير واقع موقعه فيما يظهر بل الوجه الظاهر أن يقول بدله ثم هذا دليل على أن يراد بالعلم الأول الظن "وإلا" لو أراد به القطع "بطل خبر الواحد" لأنه يفيد الظن لا القطع إلا من خارج "ولا يقوله" أي بطلان العمل بخبر الواحد "ظاهري فلا يتم إلزام كفر كل مسلم" كما ذكره ابن الحاجب لترجح صدق خبره من حيث هو مسلم على كذبه فلا يصدق عليه أنه لم يعلم صدقه فيعلم كذبه فيلزم اللازم المذكور لفرض أنه علم صدقه أي ظن، والعلم يستعمل بمعنى الظن كما بالعكس وإنما يتم لزوم ارتفاع النقيضين ظنا. وأما تمسكهم بالقياس على الحكم بكذب مدعي الرسالة بلا دليل عليها فجوابه "والحكم بكذب المدعي" الرسالة بلا معجزة "بدليله" أي التكذيب لأن الرسالة عن الله على خلاف العادة وهي تقضي بكذب من يدعي ما يخالفها بلا دليل يدل على صدقه بخلاف الإخبار عن الأمور المعتادة فإن العادة لا تقضي بكذبه من غير مقتض فالقياس فاسد.
تنبيه: ثم الظاهر أن الحكم بكذب مدعي الرسالة بلا دليل على صدقه قطعي قال السبكي على الصحيح وقيل لا يقطع بكذبه لتجويز العقل صدقه هذا ومدعي النبوة أي الإيحاء إليه فقط لا يقطع بكذبه قاله إمام الحرمين وغير خاف أن المراد مدعيها قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(4/128)
"و" ينقسم الخبر "باعتبار آخر" أي السند "إلى متواتر وآحاد فالمتواتر" لغة المتتابع على التراخي واصطلاحا "خبر جماعة يفيد العلم لا بالقرائن المنفصلة" عنه بل بنفسه فخبر جنس شامل له ولخبر الواحد وجماعة تخرج بعض أفراد خبر الواحد وهو خبر الفرد، و "يفيد العلم" يخرج ما كان من خبر الآحاد خبر جماعة غير مفيد للعلم ولا بالقرائن المنفصلة عما يفيده من إخبار جماعة بها سواء كانت عقلية كخبر جماعة بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان وخبر جماعة موافق كخبر الله وخبر رسوله أو حسية كخبر جماعة عن عطشهم وجوعهم بشهادة آثار ذلك عليهم أو عادية كخبر جماعة عن موت والدهم مع شق الجيوب وضرب الخدود والتفجع عليه فإن هذه لا تكون متواترة "بخلاف ما يلزم" من القرائن "نفسه" أي الخبر مثل الهيئات المقارنة له الموجبة لتحقيق مضمونه "أو المخبر" أي المتكلم مثل كونه موسوما بالصدق مباشرا للأمر الذي أخبر به "أو المخبر عنه" أي الواقعة التي أخبروا عن وقوعها ككونها أمرا قريب الوقوع أو بعيده فإن حصول العلم بمعونة مثل هذه القرائن لا تقدح في التواتر "وعنه" أي هذا اللازم "يتفاوت عدده" أي المتواتر حتى إن المخبر عنه إذا كان قريب الوقوع يحصل بإخبار عدد أقل من عدد بعيده. "ومنعت السمنية" بضم السين المهملة وفتح الميم فرقة من عبدة الأصنام ذكره الجوهري وفي شرح البديع وهم طائفة منسوبة إلى سومنات بلد مشهور بالهند والبراهمة وهم طائفة لا يجوزون على الله بعثة الرسل "إفادته العلم وهو" أي منعهم "مكابرة لأنا نقطع بوجود نحو مكة والأنبياء والخلفاء" بمجرد الإخبار(4/129)
ص -298-…عن ذلك كما نقطع بالمحسوسات عند الإحساس بها بلا تفرقة بينهما فيما يعود إلى الجزم فكان هذا دليلا قطعيا على إفادة هذا الخبر العلم "وتشكيكهم" أي السمنية في أنه لا يفيده "بأنه كأكل الكل طعاما" أي اجتماعهم على أكل طعام واحد وهو ممتنع عادة "وأن الجميع" مركب "من الآحاد" بل هو نفس الآحاد "وكل" منهم "لا يعلم خبره" أي لا يفيد العلم "فكذا الكل" وإلا انقلب الممكن ممتنعا وهو محال "وبلزوم تناقض المعلومين إذا أخبر جمعان كذلك" أي يفيد خبر كل منهما العلم بنفسه "بهما" أي بذينك المعلومين المتناقضين كما إذا أخبر أحد الجمعين بموت زيد في وقت كذا والجمع الآخر بحياته في ذلك الوقت وهو باطل "و" بلزوم "صدق اليهود في" نقلهم عن موسى عليه السلام "لا نبي بعدي" لأنهم خلق كثير يفيد العلم خبرهم وهو باطل لمنافاته ثبوت نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الثابتة بالأدلة القاطعة. "و" بلزوم "عدم الخلاف" فيه نفسه حيث قلتم يفيد العلم الضروري "وبأنا نفرق بينه" أي بين العلم الذي يفيده المتواتر "وغيره من الضروريات ضرورة" حتى لو عرضنا على أنفسنا وجود جالينوس وكون الواحد نصف الاثنين وجدنا الثاني أقرب من الأول بالضرورة ولو حصل العلم الضروري بالمتواتر لما فرقنا بينه وبين غيره من البديهيات والمحسوسات لأن الضروريات لا تختلف في الجزم لأن الاختلاف فيه لتطرق احتمال النقيض وهو غير ممكن فيها "تشكيك في ضرورة" فلا يستحق الجواب "وأبعدها" أي هذه التشكيكات "الأول" وهو كونه كاجتماع الجم الغفير على أكل طعام واحد فإنه علم وقوع العلم بالمتواتر من العلم بوجود البلاد النائية والأمم الماضية والوقوع دليل الإمكان فدل على إمكان اجتماع الجم الغفير على خبر واحد والفرق وجود الداعي عادة وعدمه عادة ثمة لأن اختلاف الأمزجة والشهوات مؤثر في اختلاف الداعي إلى المأكول وغير مؤثر في اختلافه إلى الإخبار إذ لا تعلق للمزاج فيه وإنما تعلقه بوقوع(4/130)
المخبر عنه فلا بعد في وقوعه واطلاع الخلق الكثير عليه فيدعوهم إلى نقله "وإنما خيل" أي ظن هذا "في الإجماع عن" دليل "ظني" كما سيأتي مع جوابه في باب الإجماع.
"واختلاف حال الجزء والكل ضروري" ألا يرى أن الواحد جزء من العشرة وليست العشرة جزءا من نفسها ولمجموع طاقات الحبل من القوة ما ليس لطاقة أو طاقتين منها ولشهادة أربعة في الزنا ما ليس لما دونها إلى غير ذلك فلا يلزم من ثبوت أمر لكل من الآحاد على انفراد ثبوته لجملتها ولا يلزم الانقلاب لأن المتواتر قابل للكذب باعتبار ذاته، غير قابل له باعتبار اجتماع النقلة إلى حد يمنع العقل توافقهم على الكذب والممكن لذاته قد يصير ممتنعا. "والثالث" أي لزوم تناقض معلومين بخبرين متواترين بهما "فرض ممتنع" عادة فلا يلتفت إليه "وأخبار اليهود آحاد الأصل" لأن اليهود قلوا في زمان بخت نصر لقتله إياهم ففات شرط التواتر فيه وهو استواء الطرفين والواسطة ولأن القاطع دل على كذبهم فيما نقلوا والخبر إنما يكون متواترا إذا لم يكذبه قاطع "وقد يخالف في الضروري مكابرة كالسوفسطائية" فإن منهم من ينكر حقائق الأشياء ويزعم أنها خيالات باطلة وهم العنانية ومنهم من ينكر ثبوتها ويزعم أنها تابعة للاعتقادات حتى لو اعتقد المعتقد العرض جوهرا والجوهر عرضا فالأمر على ما اعتقده وهم(4/131)
ص -299-…العندية، ومنهم من ينكر العلم بثبوت شيء ولا ثبوته ويزعم أنه شاك وشاك في أنه شاك وهلم جرا وهم اللا أدرية ولا شك أن هذا مكابرة منهم غير مسموعة ومن ثمة كان الحق أن لا طريق إلى مناظرتهم خصوصا اللا أدرية لأنهم لا يعترفون بمعلوم ليثبت به مجهول بل الطريق تعذيبهم بالنار ليعترفوا أو يحترقوا وسوفسطا اسم للحكمة المموهة والعلم المزخرف، ويقال سفط في الكلام إذا النطروني وسفسط الرجل إذا تجاهل فسموا بهذا الاسم لهذيانهم أو تجاهلهم فانتفى التشكيك الخامس.
"والفرق" بين العلم الحاصل بالتواتر وبين غيره من الضروريات إنما هو "في السرعة للاختلاف في الجلاء والخفاء" بواسطة التفاوت في الإلف والعادة والممارسة والإخطار بالبال وتصورات أطراف الأحكام "لا" للاختلاف "في القطع" بواسطة احتمال النقيض والأول غير قادح في الضرورة والثاني منتف فانتفى التشكيك السادس.(4/132)
"ثم الجمهور" من الفقهاء والمتكلمين "على أن ذلك العلم ضروري" لحصوله بلا نظر ولا كسب "والكعبي وأبو الحسين" قالا هو "نظري وتوقف الآمدي قالوا" أي النظريون العلم الحاصل بالتواتر "يحتاج إلى المقدمتين" ليركبا على وجه منتج هكذا "المخبر عنه محسوس فلا يشتبه" وإنما ذكر هذا إشارة إلى وجه اشتراط الإسناد إلى الحس لأن العقلي قد يشتبه على الجمع الكثير كحدوث العالم على الفلاسفة "ولا داعي لهم" أي للجماعة المخبرين "إلى الكذب" لجلب منفعة أو دفع مضرة "وكل ما هو كذلك" أي محسوس غير مشتبه ولا داعي لمخبر به إلى الكذب "صدق" فهذا الخبر صدق ولو كان ضروريا لما احتاج إليهما "قلنا احتياجه" أي العلم بخبر المتواتر "إلى سبق العلم بذلك" أي المقدمتين وترتيبهما على وجه منتج "ممنوع فإنا نعلم علمنا بوجود بغداد من غير خطور شيء من ذلك" بالبال حتى إن ذلك يعلمه من ليس يعلم ترتيب المقدمتين على وجه صحيح من الصبيان وغيرهم "فكان" العلم الحاصل بالخبر المتواتر "مخلوقا عنده" أي الخبر المتواتر لسامعه "بالعادة وإمكان صورة الترتيب" للمقدمتين فيه "لا يوجب النظرية" للعلم الحاصل منه "لإمكانه" أي ترتيبهما "في أجلى البديهيات كالكل أعظم من جزئه" بأن يقال الكل فيه جزء آخر غير جزئه المفضل عليه وكل ما هو كذلك فهو أعظم. "ومرجع الغزالي" حيث قال في المستصفى العلم الحاصل بالتواتر ضروري بمعنى أنه لا يحتاج إلى الشعور بتوسط واسطة مفضية إليه مع أن الواسطة حاضرة في الذهن وليس ضروريا بمعنى أنه حاصل من غير واسطة كقولنا الموجود لا يكون معدوما فإنه لا بد من حصول مقدمتين إحداهما أن هؤلاء مع كثرتهم واختلاف أحوالهم لا يجمعهم على الكذب جامع والثانية أنهم قد اتفقوا على الإخبار عن الواقعة لكنه لا يفتقر إلى ترتيب المقدمتين بلفظ منظوم ولا إلى الشعور بتوسطهما وإفضائهما إليه "إلى أنه" أي المتواتر "من قبيل القضايا التي قياساتها معها" كالعشرة نصف العشرين(4/133)
"وظهر" من قولنا نعلم علمنا بوجود بغداد إلى آخره "عدمه" أي عدم قوله أي بطلان قوله "قالوا" أي المنكرون لضرورته "لو كان ضروريا علم ضروريته بالضرورة" لأن حصول العلم للإنسان ولا يشعر بالعلم ولا بكيفية حصوله محال(4/134)
ص -300-…وحينئذ "فلم يختلف فيه" لكن اختلف فيه فليس ضروريا "قلنا" أولا معارض بأنه "لو كان نظريا علم نظريته بالضرورة" لما ذكرتم "لا" التي هي الضرورة لإمكان كون الشيء معلوما ولا تكون صفته معلومة قال المصنف "ولا يخفى أنهم" أي المنكرين للضرورة "لم يلزموا" أهل الضرورة "من الشعور به" أي العلم "الشعور بصفته" أي العلم "بل ألزموا كون العلم بها" أي بصفته "ضروريا ولا يلزم من كونه" أي العلم بها "ضروريا الشعور به" أي بكونه ضروريا "بل الضرورة لا تستلزم الحصول بوجه إذ يتوقف" الشعور بكونه ضروريا "على توجه النفس وتطبيق مفهوم الضروري المشهور" وهو كونه لا يتوقف على نظر وكسب "وليس المتوقف على ذلك" أي توجه النفس وتطبيق مفهوم الضروري "نظريا بل الجواب منع انتفاء التالي" وهو علم ضروريته بالضرورة "وقد مر مثله" آنفا حيث قال قلنا احتياجه إلى سبق العلم بذلك ممنوع "والحق أن الضرورة لا توجب عدم الاختلاف" كما سلف قريبا "فقد ينشأ" الاختلاف "لا من جهة المفهوم بل من الغلط بظن كل متوقف" على غيره نظريا وليس كذلك "وقد انتظم الجواب" القائل احتياجه إلى سبق العلم ممنوع إلخ "دليل المختار" وهو أنه ضروري. "وشروط المتواتر" الصحيحة في المخبرين ثلاثة "تعدد النقلة بحيث يمنع التواطؤ عادة" على الكذب فهذا أحدها "والاستناد" في إخبارهم "إلى الحس" أي إحدى الحواس الخمس لا إلى العقل وتقدم وجهه وهذا ثانيها "ولا يشترط" الاستناد إلى الحس "في كل واحد" منهم كما هو ظاهر كلام ابن الحاجب حيث قال في اشتراط القاضي والآمدي وغيرهما أن يكونوا عالمين بما أخبروا به لا ظانين فيه، غير محتاج إليه لأنه إن أريد الجميع فباطل قال القاضي عضد الدين وغيره لأنه لا يمتنع أن يكون بعض المخبرين مقلدا فيه أو ظانا أو مجازفا قال السبكي وعندي هنا وقفة فقد يقال العلم لا يحصل إلا إذا علم الكل "واستواء الطرفين والوسط في ذلك" أي التعدد والاستناد لأن أهل كل طبقة لهم(4/135)
حكم أنفسهم فيشترط كل منهما فيهم "والعلم بها" أي بهذه الشروط أولا "شرط العلم به" أي بكون الخبر المتواتر مفيدا للعلم "عند من جعله" أي علم المتواتر "نظريا" لأنه الطريق إليه "وعندنا" العلم بالشروط "بعده" أي العلم بالتواتر بخلق الله إياه عند سماعه "عادة" فإن خلق الله تعالى له علما منه علم وجود الشرائط وإلا فلا، فهي شروط له لا يتحقق هو في نفسه إلا بعدها لا شرط العلم به وكيف لا "وقد" يحصل له العلم منه وحاله أنه "لا يلتفت إليها" أي الشروط بل هو ذاهل عن ملاحظتها وأيضا لو كان سبق العلم بالشروط ضابطا لحصول العلم لما اختلف حصوله عند وجودها واللازم باطل لأنه قد يختلف إذ يجوز أن يكون سبق العلم يوجب حصوله لقوم بواقعة لا لغيرهم فيها ولا لهم في غيرها.
"ولا يتعين عدد" مخصوص يتوقف حصول التواتر عليه "وقيل" يتعين فقيل "أقلهم خمسة" لأن الأربعة بينة شرعية في الزنى تجب تزكيتهم لإفادة خبرهم الظن بالإجماع فكيف يفيد اليقين ثم بالأولى ما دونها والإصطخري عشرة لأن ما دونها جمع الآحاد فاختص بأخبارها والعشرين فما زاد جمع الكثرة "واثنا عشر" كعدد نقباء بني إسرائيل المبعوثين طليعة(4/136)
ص -301-…لهم إلى الجبابرة والكنعانيين بالشام فإن كونهم على هذا العدد ليس إلا لأنه أقل ما يفيد العلم المطلوب في مثل ذلك. "وعشرون" لقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] فيتوقف بعث عشرين لمائتين على إخبارهم بصبرهم وكونهم على هذا العدد ليس إلا لأنه أقل ما يفيد العلم المطلوب في مثل ذلك "وأربعون" لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] وكانوا أربعين رجلا كملهم عمر رضي الله عنه بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم فإخبار الله عنهم أنهم كافو النبي صلى الله عليه وسلم يستدعي إخبارهم عن أنفسهم بذلك ليطمئن قلبه وكونهم على هذا العدد ليس إلا لأنه أقل ما يفيد العلم المطلوب في مثل ذلك "وسبعون" لقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 155] أي للاعتذار إلى الله من عبادة العجل وسماعهم كلامه من أمر ونهي ليخبروا قومهم بما يسمعونه، وكونهم على هذا العدد ليس إلا لأنه أقل ما يفيد العلم المطلوب في مثل ذلك وثلثمائة وبضعة عشر عدد أهل غزوة بدر وهي البطشة الكبرى التي أعز الله بها الإسلام ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لعمر: "لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" متفق عليه، وهذا لاقتضائه زيادة احترامهم يستدعي التنقيب عنهم ليعرفوا وإنما يعرفون بإخبارهم فكونهم على هذا العدد ليس إلا لأنه أقل ما يفيد العلم المطلوب في مثل ذلك وعدد أهل بيعة الرضوان وفي عددهم روايات ثلاث في الصحيحين ألف وثلثمائة، ألف وأربعمائة، ألف وخمسمائة. وقال البيهقي رواية ألف وأربعمائة أصح وابن حبان والصحيح ألف وخمسمائة فكونهم على هذا العدد ليس إلا لأنه أقل ما يفيد العلم المطلوب في مثل ذلك "وما لا يحصى وما لا يحصرهم بلد" ليمتنع التواطؤ والكل ليس بصحيح بل كما قال(4/137)
"والحق عدمه" أي الحصر بعدد مخصوص "لقطعنا بقطعنا بمضمونه" أي الخبر المتواتر "بلا علم متقدم بعدد" مخصوص "على النظرية" أي الطائفة القائلين بأنه يفيد علما نظريا "ولا" علم "متأخر" بعدد مخصوص "على الضرورية" أي القائلين بأنه يفيد علما ضروريا "وللعلم باختلافه" أي العدد "بحصول العلم مع عدد" خاص "في مادة وعدمه" أي عدم حصوله "في" مادة "أخرى مع مثله" أي العدد الخاص المذكور "فبطل" بهذا أيضا "قول أبي الحسين والقاضي كل خبر عدد أفاد علما" بشيء لشخص "فمثله" أي خبر ذلك العدد "يفيده" أي علما بشيء "في غيره" أي ذلك الشخص، ثم قال تعليلا لاختلاف العدد في إفادته العلم الذي هو مضمون دليل إبطال كون عدد ما إذا أفاد العلم أفاده في كل مادة "للاختلاف في لوازم مضمون الخبر من قربه وبعده ومن ممارسة المخبرين لمضمونه والعلم بأمانتهم وضبطهم وحسن إدراك المستمعين" فإن هذه داخلة في المفيد بنفسه فاختلاف حصول العلم بالأعداد المذكورة واقع بهذه الأسباب ليس غير، وتفاوتها في إيجاب العلم بها مما لا يمكن ضبطه بسيطة فكيف إذا تركب بعضها مع بعض مثنى وثلاث ورباع ثم أمر قول القاضي وأبي الحسين على ما ذكرنا "إلا أن يراد" به "مع التساوي" للخبرين في ذاتيهما ومخبريهما ومخبريهما من كل وجه "فصحيح" حينئذ قولهما لكن التساوي من كل الوجوه(4/138)
ص -302-…"بعيد" جدا لتفاوتهما عادة...1. ثم تلخص من هذه الجملة أنه لا سبيل إلى إناطة حصول العلم بعدد مخصوص في كل فرد من أفراد الأخبار المتواترة لكل سامع به. وكيف والاعتقاد يتزايد بتدريج خفي كما يحصل كمال العقل كذلك للإنسان والقوة البشرية قاصرة عن ضبطه بل الضابط للخبر المتواتر حصول العلم فمتى أفاد الخبر بمجرده العلم تحققنا أنه متواتر وأن جميع شرائطه موجودة وإن لم يفده ظهر عدم تواتره لفقد شرط من شروطه.
"وأما شرط العدالة والإسلام كي لا يلزم تواتر" خبر "النصارى بقتل المسيح" وهو باطل لقوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} [النساء: 157] وإجماع المسلمين "فساقط كشروط اليهود أهل الذلة" والمسكنة أن يكونوا في المخبرين "لخوفهم" أي اليهود "المواطأة" على الكذب من المخبرين إذا لم يكن فيهم هؤلاء بل كان الكل من الأكابر والعظماء لعدم خوفهم من المؤاخذة على الكذب لعزتهم وجاههم بخلاف ما لو كان هؤلاء فيهم فإن خوفهم من المؤاخذة على الكذب لهوانهم يمنعهم منه أما سقوط الأول فلأنه إنما يلزم لو تحقق الشرط المتفق عليه وهو ممنوع لأنه لم يوجد استواء الطرفين والواسطة في العدد المانع من تواطئهم على الكذب فإنه كما قال "وخبرهم آحاد الأصل" فإنهم كانوا في ابتداء أمرهم قليلين جدا بحيث لا يمتنع تواطؤهم على الكذب أو لأن المسيح شبه لهم فقتلوه بناء على اعتقادهم أنه هو كما قال تعالى: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] وأما سقوط الثاني فلحصول العلم بإخبار العظماء عن محسوس كغيرهم بل قد يكون العلم من خبرهم أسرع لترفعهم عن رذيلة الكذب لشرفهم وحفظ جاههم بخلاف أهل الذلة والمسكنة فإنهم قد يقدمون على الكذب لقلة مبالاتهم به لدناءة نفوسهم وخستهم وعدم خوفهم من سقوط جاههم والله سبحانه أعلم.(4/139)
"تتميم" وأما شروط المتواتر في المستمعين فثلاثة أحدها كون المستمع أهلا لقبول العلم بالمتواتر ثانيها عدم علمه بمدلول الخبر قبل سماعه وإلا كان تحصيلا للحاصل وهو ممتنع ثالثها أن لا يكون معتقدا بخلاف مدلوله إما لشبهة دليل إن كان من العلماء أو لتقليد إن كان من العوام فإن ارتسام ذلك في ذهنه واعتقاده له مانع من قبول غيره والإصغاء إليه وهذا ذكره البيضاوي من غير حكاية خلاف ولا تعقب ونقله في المحصول عن الشريف المرتضى ثم قال وإنما اعتبره لأنه يرى أن الخبر المتواتر دال على إمامة علي رضي الله عنه وأن المانع من إفادته العلم عند الخصم اعتقاد خلافه وهذا تعقب له بأنه إنما ذهب إليه لهذه الدسيسة لا غير، فإذا هو ساقط الاعتبار عند من سلم منها.
"وينقسم المتواتر إلى ما يفيد العلم بموضوع في أخبار الآحاد" كالأمكنة النائية والأمم
ـــــــــــــــــــ
1 في متن شرح التيسير هنا زيادة وفي الوقوع شرحها بقوله وفي الوقوع معطوف على قوله في لوازم يعني أن الاختلاف الخ كتبه مصححه.(4/140)
ص -303-…الخالية "وغير موضوع في شيء منها" أي أخبار الآحاد "بل يعلم" ذلك الذي هو غير موضوع في شيء منها للسامع "عندها" أي أخبار الآحاد "بالعادة كأخبار علي" رضي الله عنه في الحروب "وعبد الله بن جعفر" في العطاء "يحصل عندها" أي إخبارهما للسامع عادة "علم الشجاعة، والسخاء، ولا شيء منها" أي أخبارهما "يدل على السجية ضمنا، إذ ليس الجود جزء مفهوم إعطاء آلاف" لأن الجود ملكة نفسانية هي مبدأ لإفادة ما ينبغي لمن ينبغي لا لعوض "ولا الشجاعة جزء مفهوم قتل آحاد مخصوصين" لأن الشجاعة ملكة نفسانية تقتضي اعتدال القوة الغضبية "ولا" يدل على السجية "التزاما إلا بالمعنى الأعم" للالتزام "لجواز تعقل قاتل ألفا بلا خطور معنى الشجاعة فما قيل" أي فقول ابن الحاجب إذا اختلف المتواتر في الوقائع "المعلوم ما اتفقوا عليه بتضمن أو التزام تساهل" كما هو واضح مما حققناه.(4/141)
"وأما الآحاد فخبر لا يفيد بنفسه العلم" سواء لم يفده أصلا أو أفاده بالقرائن الزائدة فلا واسطة بين الخبر المتواتر وخبر الواحد غير أن هذا التعريف لا يتم على قول أحمد خبر الواحد يفيد العلم بنفسه مطردا وعلى قول بعضهم يفيد بنفسه غير مطرد كما سيأتي "وقيل ما" أي خبر "يفيد الظن واعترض بما" أي بخبر "لم يفده" أي الظن فيبطل عكسه به لصدق المحدود وهو كونه خبر واحد دون الحد "ودفع بأنه" أي الخبر الذي لم يفد الظن "لا يراد" للمعرف أي غير داخل في المحدود "إذ لا يثبت به" أي بالخبر "حكم" والمقصود تعريف الخبر الذي يعتد به في الأحكام ولا يكون متواترا وعلى هذا تثبت الواسطة "وليس" بشيء "إذ يثبت بالضعيف" أي بالحديث الذي ضعفه "بغير وضع" أي كذب "الفضائل وهو الندب" وهو حكم شرعي "ومنه" أي خبر الآحاد "قسم يسمى المستفيض" وهو عند بعضهم "ما رواه ثلاثة فصاعدا أو ما زاد عليها" أي الثلاثة وهو المذكور لابن الحاجب ولا بد من قيد ما لم ينته إلى التواتر وكأنه حذف للعلم به فإن الكلام في غير المتواتر وقال أبو إسحاق الشيرازي أقل ما تثبت به الاستفاضة اثنان وقال السبكي والمختار عندنا أن المستفيض ما يعده الناس شائعا وقد صدر عن أصل ليخرج ما شاع لا عن أصل وربما حصلت الاستفاضة باثنين وجعله الأستاذ الإسفراييني وابن فورك واسطة بين المتواتر والآحاد وزعما أنه يقتضي العلم نظرا والمتواتر يقتضيه ضرورة ومثل الإسفراييني بما يتفق عليه أئمة الحديث ورده إمام الحرمين بأن العرف لا يقتضي القطع بالصدق فيه وإنما قصاراه ظن غالب.(4/142)
"والحنفية" قالوا "الخبر متواتر وآحاد ومشهور وهو" أي المشهور "ما كان آحاد الأصل متواترا في القرن الثاني والثالث فبينه" أي المشهور "وبين المستفيض" بأحد التفسيرين الأولين "عموم من وجه" لصدقهما فيما رواه في الأصل ثلاثة أو ما زاد عليها ولم ينته إلى التواتر ثم تواتر في القرن الثاني أو الثالث، وانفراد المستفيض عن المشهور فيما رواه في الأصل ثلاثة أو ما زاد عليها ولم ينته إلى التواتر في القرن الثاني والثالث. وانفراد المشهور عن المستفيض فيما رواه واحد أو اثنان في الأصل ثم تواتر في القرن الثاني أو الثالث "وهو" أي المشهور(4/143)
ص -304-…"قسم من المتواتر عند الجصاص" في جماعة من الحنفية "وعامتهم" أي الحنفية على أن المشهور "قسيم" للمتواتر "فالآحاد ما ليس أحدهما" أي المتواتر والمشهور اتفاقا "والمتواتر عنده" أي الجصاص "ما أفاد العلم بمضمون الخبر ضرورة أو" ما أفاد العلم بمضمون الخبر "نظرا وهو" أي مفيد العلم بمضمون الخبر نظرا "المشهور وعلى هذا" أي أن المشهور يفيد العلم نظرا. "قيل" الجصاص "يكفر" جاحده "بجحده" وعامتهم لا يكفرونه فتظهر ثمرة الاختلاف في الإكفار وعدمه والقائل صدر الإسلام "والحق الاتفاق على عدمه" أي الإكفار كما نص عليه شمس الأئمة السرخسي "لآحادية أصله فلم يكن" جحده "تكذيبا له عليه السلام بل ضلالة لتخطئة المجتهدين" في القبول واتهامهم بعدم التأمل في كونه عن النبي صلى الله عليه وسلم غاية التأمل "ولأن الإفادة" للعلم "إذا كانت نظرية توقفت عليه" أي النظر "وقد يعجز السامع للمشهور عنه" أي النظر "أو يذهل عنه وحاصل ذلك النظر" الذي هو وصف العلم المفاد بالمشهور على قول الجصاص "الإجماع المتأخر" على "أنه" أي المشهور "صح عنه عليه السلام فيلزم القطع به" أي بالمشهور "قلنا اللازم" من إجماعهم "القطع بصحة الرواية" له "بمعنى اجتماع شرائط القبول لا القطع بأنه" أي المشهور "قاله" النبي صلى الله عليه وسلم "ولو كان" الإجماع المتأخر "على العمل به" أي بالمشهور "فكذلك" أي لا يكفر "لما ذكرنا من معنى الخفاء" فيه وهو العجز والذهول بخلاف إنكار المتواتر فإنه يؤدي إلى تكذيبه صلى الله عليه وسلم لأنه كالمسموع منه وتكذيبه كفر وعلى هذا فلا تظهر ثمرة الخلاف في الأحكام.(4/144)
"ثم يوجب" المشهور عند عامة الحنفية "ظنا فوق" ظن خبر "الآحاد قريبا من اليقين" وهو ما سماه القوم علم طمأنينة إذ هي زيادة توطين وتسكين يحصل للنفس على ما أدركته فإن كان المدرك يقينا فاطمئنانها زيادة اليقين وكماله كما يحصل للمتيقن بوجود مكة بعدما يشاهدها وإليه الإشارة بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] وإن كان ظنيا فاطمئنانها رجحان جانب الظن بحيث يكاد يدخل في حد اليقين وهو المراد هنا وحاصله سكون النفس عن الاضطراب بشبهة إلا عند ملاحظة كونه آحاد الأصل "لمقولية الظن" على أفراده "بالتشكيك" فبعضها أقوى من بعض في معناه "فوجب تقييد مطلق الكتاب به" أي بالمشهور "كتقييد" مطلق "آية جلد الزاني" الشامل للمحصن وغير المحصن "بكونه غير محصن برجم ماعز" من غير جلد الثابت جملة هذا في الصحيحين وغيرهما. "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة" رواه مسلم وغيره بل تقييده به من قبيل التقييد بما هو متواتر المعنى "و" تقييد مطلق "صوم كفارة اليمين" الشامل للمتتابع وغيره "بالتتابع بقراءة ابن مسعود" فصيام ثلاثة أيام متتابعات كما تقدم "لشهرتها" أي قراءة ابن مسعود "في الصدر الأول وهو" أي الشهرة في الصدر الأول "الشرط" في وجوب تقييد مطلق الكتاب به "و" تقييد "آية غسل الرجل" في الوضوء "بعدم التخفف" أي لبس الخف عليها "بحديث المسح" على الخف المخرج في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها "إن لم يكن" حديثه "متواترا" وعليه ما في الاختيار وغيره قال أبو حنيفة من أنكر المسح على(4/145)
ص -305-…الخفين يخاف عليه الكفر فإنه ورد فيه من الأخبار ما يشبه المتواتر وما في النهاية وقال أبو يوسف خبر المسح يجوز نسخ الكتاب به لشهرته وما في المبسوط جواز المسح بآثار مشهورة قريبة من التواتر وإلا فقد نص ابن عبد البر على أنه متواتر والظاهر أن عليه ما في شرح الطحاوي قال الكرخي أثبتنا الكفر على من لا يرى المسح على الخفين والله تعالى أعلم.
فصل في شرائط الراوي
"منها كونه بالغا حين الأداء" وإن كان غير بالغ وقت التحمل "لاتفاقهم" أي الصحابة وغيرهم "على" قبول رواية "ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير وأنس بلا استفسار" عن الوقت الذي تحملوا فيه ما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم وخصوصا عبد الله بن الزبير والنعمان بن بشير فإن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وسن كل منهما دون العشر فقد اتفق أهل السير والأخبار ومن صنف في الصحابة أن ابن الزبير أول مولود في الإسلام بالمدينة من قريش وأنه ولد في السنة الثامنة ومما حفظه في الصغر ما أخرجه البخاري وغيره عنه أنه قال لما كان يوم الخندق كنت أنا وعمر بن أبي سلمة في الأطم الذي فيه نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يرفعني وأرفعه فإذا رفعني رأيت أبي حين يمر إلى بني قريظة وكان يقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم من يأتي بني قريظة فذهب الزبير فلما رجع قلت له يا أبت لقد رأيتك وأنت تمر إلى بني قريظة فقال أما والله إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجمع لي أبويه يتفداني بهما فداك أبي وأمي. والخندق إما في السنة الرابعة أو الخامسة فأكثر ما يكون عمره إذ ذاك أربع سنين وبعض أشهر فقد ضبط هذه القصة وهو صغير جدا والنعمان من أقران ابن الزبير وهو أول مولود في الأنصار بعد الهجرة. قال الواقدي ولد على رأس أربعة عشر شهرا من الهجرة ومما صرح بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم فيه ما في الصحيحين عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه(4/146)
وسلم يقول: "الحلال بين" الحديث وابن عباس وإن جاء عنه في صحيح البخاري ما يدل على أنه أدرك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فقد تحمل صغيرا وأدى كبيرا فقد قيل له أشهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم ولولا مكاني منه ما شهدته من الصغر. وساق الحديث رواه البخاري أيضا إلى غير ذلك وأما أنس فكان ابن عشر سنين لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وعرضته أمه على النبي صلى الله عليه وسلم لخدمته فقبله وتوفي صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشرين سنة وقد روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم ألفا حديث ومائتا حديث وستة وثمانون حديثا ولم ينقل الفحص في شيء منها عن الوقت الذي تلقى فيه ذلك عنه ولو كان التلقي في غير حالة البلوغ غير معتبر لم يغفل الفحص عن وقته ولو في بعضها ولو فحص عنه لنقل ظاهرا ولم ينقل ثم قد كان فيما قبله كفاية "فبطل المنع" أي منع قبوله لكون الصغر مظنة عدم الضبط والتحرير ويستمر المحفوظ إذ ذاك على ما هو عليه.
"وأما إسماعهم الصبيان" للحديث كما جرت به عادة السلف والخلف "فغير مستلزم" قبول روايته بعد البلوغ ألبتة لجواز أن يكون ذلك للتبرك بدليل إحضارهم من لا يضبط لكن(4/147)
ص -306-…هذا إذا لم يتفقوا على رواية ما تحملوه في الصبا بعد البلوغ وقد ادعى بعضهم اتفاقهم على رواية ما تحملوه في الصبا "وقبل المراهق شذوذ مع تحكيم الرأي" فإذا وقع في ظن السامع صدقه قبل روايته كما في المعاملات والديانات. "قلنا المعتمد الصحابة ولم يرجعوا" أي الصحابة "إليه" أي المراهق "واعتماد أهل قباء على أنس أو ابن عمر لسن البلوغ" وهو جواب شمس الأئمة السرخسي عن حجة القائلين بأن رواية الصبي في باب الدين مقبولة وإن لم يكن مقبول الشهادة بحديث أهل قباء حيث قالوا فإن عبد الله بن عمر أتاهم وأخبرهم بتحويل القبلة إلى الكعبة وهم كانوا في الصلاة فاستداروا كهيئتهم وكان ابن عمر يومئذ صغيرا على ما روي أنه عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر أو يوم أحد على حسب ما اختلف الرواة فيه وهو ابن أربع عشرة سنة وتحويل القبلة كان قبل بدر بشهرين فقد اعتمدوا خبره فيما لا يجوز العمل به إلا بعلم وهو الصلاة إلى القبلة ولم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ولكنا نقول إن الذي أتاهم أنس بن مالك وقد روي أنه عبد الله بن عمر فإنا نحمل على أنهما جاء أحدهما بعد الآخر وأخبرا بذلك فإنما تحولوا معتمدين على رواية البالغ وهو أنس بن مالك وكان ابن عمر بالغا يومئذ وإنما رده رسول الله صلى الله عليه وسلم لضعف بنيته لا لأنه كان صغيرا فإن ابن أربع عشرة سنة يجوز أن يكون بالغا ا هـ وقد مشت هذه الجملة على جماعة من المتأخرين وتعقب الشيخ قوام الدين الأتقاني فيها أمورا أحدها أن المخبر لم يكن ابن عمر بل كان رجلا غيره وإنما كان ابن عمر راوي أخباره كما في صحيح البخاري وغيره ثانيها أن ابن عمر إنما عرض يوم أحد وهو ابن أربع عشرة فلم يجزه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه. كما ذكره البخاري في صحيحه ثالثها أن تحويل القبلة كان بعد الهجرة بستة عشر شهرا أو سبعة عشر وأنسا كان ابن عشر سنين(4/148)
كما سلف فكيف يكون بالغا ولم يكمل اثنتي عشرة سنة وأحد كانت في شوال سنة ثلاث فكان عمره ثلاث عشرة سنة وابن عمر كان يومئذ ابن أربع عشرة سنة فهو أكبر من أنس بسنة لا بالعكس. "والمحدثون عباد بن نهيك بن إساف وهو شيخ" أي والذي ذكره المحدثون أن الذي أتاهم عباد بن نهيك بن إساف الشاعر ذكره ابن عبد البر ونقله الأبناسي في رجال العمدة عن ابن سيد الناس وكان شيخا كبيرا فوضع عنه صلى الله عليه وسلم الغزو وهو الذي صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة ثم أتى قومه بني حارثة وهم ركوع في صلاة العصر فأخبرهم بتحويل القبلة فاستداروا إلى الكعبة حكاه المصنف وقيل عباد بن بشر بن قيظي الأشهلي ذكره الفاكهي في أخبار مكة قال شيخنا الحافظ العسقلاني وهذا أرجح رواه ابن أبي خيثمة وغيره ا هـ. وليس هو برفيق أسيد بن حضير في المصباحين كما نبه عليه العلامة البلقيني وقيل عباد بن وهب قال شيخنا الحافظ برهان الدين الحلبي ولا أعلم أحدا في الصحابة بهذه النسبة إلا أن يكون أحد منهم نسب إلى خلاف الظاهر ا هـ. والذي في صحيح البخاري من رواية البراء بن عازب أن الرجل المبهم صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم العصر فمر على أهل المسجد وهم راكعون. وفي رواية له: ثم خرج بعد ما صلى فمر على قوم من الأنصار(4/149)
ص -307-…في صلاة العصر يصلون نحو بيت المقدس الحديث وفي الترمذي: فصلى رجل معه العصر ثم مر على قوم من الأنصار وهم ركوع في صلاة العصر. وأما ما في الصحيحين من رواية ابن عمر: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها. الحديث فقال شيخنا الحافظ في مقدمة شرح البخاري لم يسم هذا ومن فسر بالذي قبله فقد أخطأ لأن الصلاة في حديث البراء كانت صلاة العصر وهذه الصبح وذاك مسجد بني حارثة وذا مسجد قباء ثم قال في الشرح مشيرا إلى حديث ابن عمر وهذا فيه مغايرة لحديث البراء فإن فيه أنهم كانوا في صلاة العصر. والجواب أن لا منافاة بين الخبرين لأن الخبر وصل وقت العصر إلى من هو داخل المدينة وهم بنو حارثة وذلك في حديث البراء والآتي إليهم بذلك عباد بن بشر أو ابن نهيك كما تقدم ووصل الخبر وقت الصبح إلى من هو خارج المدينة وهم بنو عمرو بن عوف أهل قباء وذلك في حديث ابن عمر ولم يسم الآتي بذلك إليهم وإن كان ابن طاهر وغيره نقلوا أنه عباد بن بشر ففيه نظر لأن ذلك إنما ورد في حق بني حارثة في صلاة العصر فإن كان ما نقلوا محفوظا فيحتمل أن يكون عباد أتى بني حارثة أولا في وقت العصر ثم توجه إلى أهل قباء فأعلمهم بذلك في الصبح ومما يدل على تعددهما أن مسلما روى من حديث أنس أن رجلا من بني سلمة مر وهم ركوع في صلاة الفجر فهذا موافق لرواية ابن عمر في تعيين الصلاة وبنو سلمة غير بني حارثة ا هـ وحكى النووي في شرح المهذب عن الجمهور قبول أخبار الصبي المميز فيما طريقه المشاهدة بخلاف ما طريقه النقل كالإفتاء ورواية الأخبار ونحوه وسبقه إلى ذلك المتولي.
"والمعتوه كالصبي" في حكمه لاجتماعهما في نقصان العقل بل ربما كان نقصانه بالعته فوق نقصانه بالصبا إذ قد يكون الصبي أعقل من البالغ والمعتوه لا.(4/150)
"ثم قيل سن التحمل خمس" حكاه القاضي عياض عن أهل الصنعة وقال ابن الصلاح هو الذي استقر عليه عمل أهل الحديث المتأخرين "لعقلية محمود المجة ابن خمس في البخاري" أي لما روى هو والنسائي عن محمود بن الربيع قال عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين. "أو" ابن "أربع" فقد قال ابن عبد البر حفظ ذلك عنه وهو ابن أربع سنين أو خمس سنين والمجة الواحدة من المج وهو إرسال الماء من الفم مع النفخ وقيل لا يكون مجا حتى يتباعد به "وقيل" أقل سن التحمل "أربع لذلك" أي كون محمود المذكور كان سنه أربعا "ولتسميع ابن اللبان" وهو مصدر مضاف إلى المفعول أي تسميع أبي بكر بن المقري للقاضي أبي محمد عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن اللبان الأصفهاني وهو ابن أربع سنين قال شيخ شيوخنا الحافظ زين الدين العراقي فروينا عن الخطيب قال سمعته يقول حفظت القرآن ولي خمس سنين وأحضرت عند أبي بكر بن المقري ولي أربع سنين فأرادوا أن يسمعوا لي فيما حضرت قراءته فقال بعضهم إنه يصغر(4/151)
ص -308-…عن السماع فقال لي ابن المقري اقرأ سورة الكافرون فقرأتها فقال اقرأ سورة التكوير فقرأتها فقال لي غيره اقرأ سورة والمرسلات فقرأتها ولم أغلط فيها فقال ابن المقري سمعوا له والعهدة علي. وقال ابن الصلاح بلغنا عن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال رأيت صبيا ابن أربع سنين وقد حمل إلى المأمون قد قرأ القرآن ونظر في الرأي غير أنه إذا جاع يبكي ورواه الخطيب بسنده إلا أن فيه أحمد بن كامل القاضي وكان يعتمد على حفظه فيهم. وقال الدارقطني كان متساهلا قلت ولما تقدم عن ابن الزبير. وقال السلفي أكثرهم على أن العربي يصح سماعه إذا بلغ أربع سنين واحتجوا بحديث محمود بن الربيع وأن العجمي يصح سماعه إذا بلغ ست سنين.(4/152)
"وصحح عدم التقدير بل" المناط في الصحة "الفهم والجواب" فمتى كان يفهم الخطاب ويرد الجواب كان سماعه صحيحا وإن كان ابن أقل من خمس وإن لم يكن كذلك لم يصح وإن زاد عليها وما ذاك إلا "للاختلاف" أي اختلاف الصبيان بل أفراد الإنسان في فهم الخطاب ورد الجواب فلا يتقيد في حق الكافة بسن مخصوص "وحفظ المجة وإدراك ابن اللبان لا يطرد" كل منهما فلا يلزم من حفظ محمود المجة حفظ ما سواها مما يسمعه من الحديث ولا أن كل أحد يميز تمييز محمود في سنه ولا أن لا يعقل مثل ذلك وسنه أقل من سنه ولا من إدراك ابن اللبان في أربع إدراك غيره من الناس في أربع وكذا الكلام في الاسترواح بما تقدم عن ابن الزبير والصبي الذي رآه إبراهيم الجوهري ليلزم أن كل من كان ابن أربع صح تحمله "وهذا" أي كون الصحيح عدم التقدير بسن خاص "يوقف الحكم بقبول من علم سماعه صبيا على معرفة حاله في صباه" فيعطى لما يعلم من حاله حكمه من الصحة وعدم الصحة "أما مع عدمها" أي معرفة حاله "فيجب اعتبار التمييز لسبع"1 من السنين أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم: "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين" صححه غير واحد، منهم البيهقي على شرط مسلم وقيل أحسن ما قيل في سن التمييز أن يصير الصغير بحيث يأكل وحده ويشرب وحده ويستنجي وحده "وأفرط معتبر خمسة عشر" حتى قال عنه أحمد بئس القول وهو محكي عن ابن معين وهو عجب من هذا العالم المكين. وقيل متى فرق بين البقرة والحمار وهو منقول عن موسى بن هارون الحمال "والإسلام كذلك" أي ومنها كون الراوي مسلما حين الأداء "لقبول" رواية "جبير في قراءته" أي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ "في المغرب بالطور. في الصحيحين" مع أن سماعه إياها منه صلى الله عليه وسلم إنما كان قبل أن يسلم لما جاء في فداء أسارى بدر "ولعدم الاستفسار" عن مرويه هل تحمله في حالة الكفر أو الإسلام ولو كان تحمله حالة الإسلام شرطا لاستفسر ولو استفسر لنقل ولم ينقل(4/153)