التأويل عند أهل العلم
تصنيف:
الشريف أبي محمد الحسن بن علي الكتاني الأثري
بِسْمِ الَّلهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمْ
إن الحمد لله نحمده سبحانه ونستغفره و نتوب إليه، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدًا عبده و رسوله.
أمَّا بَعْد،
فهذا بحث مختصر عن مسألة التأويل عند الأصوليين و عند المتكلمين، قسمته إلى مقدمة فيها تعريف لمعنى (التأويل) لغة و اصطلاحًا، ثم الفصل الأول في التأويل عند الأصوليين، ثم عند المتكلمين، و هو الفصل الثاني، و ختمت البحث بتحقيق القول الراجح من أقاويل الناس في هذه المسألة، و الله و لي التوفيق، و هو المستعان على حسن التحقيق.
المُقَدِّمَة
* التأويل لغة:
قال الجوهري في "الصحاح" (4/1627) في مادة (أ و ل):
"التأويل: تفسير ما يؤول إليه الشئ، و قد أولته و تأولته بمعنىً. و منه قول الأعشى:
تأََوَّلُ ربعيّ السقاب فأصحبا
على أنها كانت تَأَوُّلُ حبِّها
قال أبو عبيدة: يعني تأول حبها، أي تفسيره و مرجعه، أي إنه كان صغيرًا في قلبه فلم يزل ينبت حتى أصحب فصار قديمًا كهذا السقب الصغير، لم يزل يشب حتى صار كبيرًا مثل أمه و صار له ابن يصحبه" اه.
و قال ابن فارس، رحمه الله تعالى، في "معجم مقاييس اللغة" (1/159- بتحقيق عبد السلام هارون):
" و آل يؤول أي رجع. قال يعقوب:يقال" أول الحكم إلى أهله" أي أرجعه و رده إليهم. قال الأعشى:
أأول الحكم إلى أهله(1/1)
قال الخليل: آل اللبن يؤول أَوْلاً و أَوُولاً: خثُر. و كذلك النبات. قال أبو حاثم: آل اللبنُ على الإصبع، و ذلك أن يروب فإذا جعلت فيه الإصبع قيل آل عليها. و آل القطران إذا خثر، و آل جسم الرجل إذا نحف، و هو من الباب، لأنه يحور و يحرى، أي يرجع إلى تلك الحال. و الإيالة السياسة من هذا الباب لأن مرجع الرعية إلى راعيها. قال الأصمعي: آل الرجل رعيته يؤولها إذا أحسن لسياستها." حتى قال (1/162):
" و من هذا الباب تأويل الكلام، و هو عاقبته و ما يؤول إليه، و ذلك قوله تعالى: ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلهُ) (الأعراف:53). يقول: ما يؤول إليه في وقت بعثهم و نشورهم." إه.
و قد أطال ابن منظور - رحمه الله تعالى - النفس في بيان معنى هذه الكلمة في " لسان العرب " و لولا خوف الإطالة لنقلت منه، إلا أن كلامه يؤول إلى ما سبق نقله، و بالله التوفيق.
*التأويل اصطلاحًا:
و المقصود بـ (اصطلاحًا) إذا أطلقت بحسب العلم الذي نتكلم فيه هو ما اصطلح عليه أهل ذلك العلم فيما بينهم تحديدًا له كما قال الناظم:
الحدُّ و الموضوعُ ثمَّ الثمرة
إنَّ مباديْ كلِّ علمٍ عَشَرَةْ
فتعريف التأويل اصطلاحًا هو حده عند أهل الأصول و معهم علماء الكلام كذلك.
قال إمام الحرمين الجويني - رحمه الله تعالى - في " البرهان " (1/511_ط. تحقيق الديب):" التأويل: رد الظاهر إلى ما إليه مآله في دعوى المؤول ".
و قال أبو الحسن الآمدي - رحمه الله تعالى - في " الإحكام في أصول الأحكام " (3/48): " قال الغزالي: التأويل عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر ".ثم انتقد هذا التعريف و رجح أن التأويل: " من حيث هو تأويل، مع قطع النظر عن الصحة و البطلان، هو حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه، مع احتمال له، بدليل يعضده " .(1/2)
و لعَلَّ أوضح تعريف له هو تعريف أبي محمد يوسف ابن الحافظ أبي الفرج بن الجوزي - رحمهما الله تعالى - في كتابه " الإيضاح لقوانين الاصطلاح " (ص.20_ط. 1بتحقيق السدلان)، قال: " التأويل صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لاعتضاده بدليل يدل على أن مراد المتكلم بكلامه ذلك الاحتمال المرجوح " اه.
و باقي تعريفات أئمة الأصول و الكلام متقاربة، إذ كلهم يحومون حول معنى واحد. لكن ههنا أمر هام أحب أن أذكره، نبه عليه الإمام أبو العباس أحمد بن تيمية - رحمه الله تعالى - قال في " مجموع الفتاوى " (4/68): " ...لفظ التأويل قد صار بسبب تعدد الاصطلاحات له ثلاثة معان:
أحدها: أن يراد بالتأويل حقيقة ما يؤول إليه الكلام و إن وافق ظاهره، و هذا هو المعنى الذي يراد بلفظ التأويل في الكتاب و السنة. كقوله تعالى: ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلهُ * يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق ) (الأعراف: 52)، ومنه قول عائشة: " كان رسول الله ( يكثر أن يقول في ركوعه و سجوده: سبحانك الله ربنا ولك الحمد، اللهم اغفر لي. يتأول القرآن"(1).
و الثاني: يراد بلفظ التأويل: التفسير، و هو اصطلاح كثيرمن المفسرين. و لهذا قال مجاهد- إمام أهل التفسير - إن ( الراسخين في العلم ) يعلمون تأويل المتشابه، فإنه أراد بذلك تفسيره و بيان معانيه، و هذا مما يعلمه الراسخون.(1/3)
و الثالث: أن يراد بلفظ ( التأويل ) صرف اللفظ عن ظاهره الذي يدل عليه ظاهره إلى ما يخالف ذلك لدليل منفصل يوجب ذلك. و هذا التأويل لا يكون إلاَّ مخالفًا لما يدل عليه اللفظ و يبينه. و تسمية هذا تأويلاً لم يكن في عرف السلف، وإنما سمّى هذا وحده تأويلاً طائفة من المتأخرين الخائضين في الفقه و أصوله و الكلام، وظن هؤلاء أن قوله تعالى: ( و ما يعلم تأويله إلاَّ الله ) (آل عمران: 7)، يراد به هذا المعنى، ثم صاروا في هذا التأويل على طريقين ...إلخ "(2) اه.
الفَصل الأَوَّل
التَّأويل عِنْدَ علمَاء الأصُول
الكلام في التأويل عند علماء الأصول يتطلب الكلام في نقطتين رئيسيتين. الأولى و هي مجال التأويل عندهم، و الثانية أنواع هذا التأويل من مقبول و مردود، قريب و بعيد.فلنبدأ بالنقطة الأولى:
الأمر الأول
قرر الأصوليون أنه لا يصوغ الاجتهاد في مورد النص المفسر أو القطعي و التأويل ضرب من الاجتهاد. و عليه فلا يجوز تأويل ( القطعيات )، لأن الشارع - عز و جل - عندما حدد مراده بنص صريح قاطع إنما قصد إلى استبعاده من أن يكون مَثارًا للاجتهاد و التأويل لما يأتي:
* إما لكون النص يتعلق بحقائق ثابتة، كما في العقائد.
* و إما لكونه يتعلق بمصلحة جوهرية ثابتة لا تتغير بتغير الأزمنة و الأمكنة، كالفرائض الميراثية أو العقوبات النصية على الجرائم.
* و إما لكونه يقرر قاعدة ترسم منهجًا تشريعيًا في الاجتهاد، لأن القاعدة يجب أن تكون حاكمة على الأحكام التكليفية في الشريعة كلها.
* و إما لكون النص الصريح القاطع يتعلق بأمهات الفضائل و أصول الأخلاق(3).
و على ذلك نفهم أن مجال التأويل هو النصوص المحتملة و هي ما يسمى عند الأحناف بـ "الظاهر و النص".
الأمر الثاني
في أنواع التأويل عند الأصوليين:(1/4)
قال السبكي - رحمه الله تعالى - في " جمع الجوامع " ( ص.88 و معه حاشية الصبان و غيره ): " فإن حمل لدليل فصحيح، أو لما يظنه دليلاً ففاسد، أو لا لشئ فلعب لا تأويل "اه.
فأفاد كلامه هذا، و مثله ما ذكره الإمام أبو حامد الغزالي في " المستصفى " ( ص.197 من طبعة الكتب العلمية ) أن حمل النص على غير الظاهر إذا كان لدليل استدعى ذلك - و هو القرينة المرجحة - كان التأويل صحيحًا لا شئ فيه، بل في بعض الحالات يصبح ضروريًا لا محيد عنه.
أما إذا كان لدليل ضعيف لا يظهر له وجه فهو ضعيف إذ لا يلجأ الفقيه إلى عدم الأخذ بظاهر نص إلاَّ لدليل قوي يحوجه إلى ذلك. أمّا إذا كان لا لدليل فهو هوىً، و قد اشتد نكير أهل العلم على أهل الأهواء لأن فعلهم دهليز إلى الكفر.
هذا، وإن الأصوليين و الفقهاء بعدما اتفقوا على وجوب الجمع و التأويل بين الأدلة المختلفة في بادئ الرأي اختلفت اتجاهاتهم في مقدار الأخذ بذلك و الرفض له ، فمنهم المتساهل الذي يقبل كل أنواع الجمع و لو بتأويل بعيد، و منهم المتشدد فلا يقبل إلاَّ التأويل القريب، وله في ذلك شروط كثيرة لقبوله، و منهم المتوسط بين ذلك. فتبين أنهم ثلاثة اتجاهات:
الأول: و هو المتساهل؛ و هذا مذهب جماعة من أهل الحديث، و منهم الظاهرية، و حجتهم في ذلك هو أنه لا تعارض في نصوص الشرع مع وجوب الأخذ بها كلها دون إهدار شئ منها. فإذا لم يكن أمامهم إلاَّ التأويل البعيد سلكوه بشرط ألاَّ يكون بحيث يخرج به الأدلة المتوافقة عن روح الشرع، و لا يكون خارقًا لإجماع الأمة.
الثاني: المتشدد في ذلك؛ و هو مذهب أهل الرأي و منهم الأحناف،و بعض الشافعية و الإمام مالك - رحمه الله تعالى - و بعض أصحاب الحديث.
و هذا جعلهم يردون أحاديث كثيرة صحيحة لأنها خالفت في نظرهم نصوصًا قطعية من قرآن أو سنة متواثرة أو قياس أو عمل أهل المدينة الذي هو من أصول مالك - رحمه الله تعالى - إلى غير ذلك.(1/5)
الثالث: المتوسط في الأخذ بالتأويل؛ و هذا مذهب الجمهور من المفسرين و المحدثين و جمهور الشافعية و الحنابلة و بعض الظاهرية. فلم يرفضوا جميع التأويلات القريبة و البعيدة، و لم يقبلوا كل ذلك بلا قيد و لا شرط، بل قبلوا ما كان صحيحًا متلائمًا مع روح الشرع، و رفضوا الباطل غير المتوافق مع ذلك.
و لذلك فإنهم اشترطوا شروطًا للأخذ بالتأويل، منها ما هو محل اتفاق بينهم، و منها ما فيه خلاف.
فلنذكر هذه الشروط بشئ من الإيجاز، و الله نسأل العون و التوفيق:
الشرط الأول:
تحقيق التعارض و ذلك بأن يكون كلا الدليلين صحيحًا. فالقرآن لا يعارضه حديث ضعيف، بل الحديث الضعيف من مرسل أو شاذ أو منكر لا يعارضه حديث صحيح الإسناد و المتن. فإذا ما حصل هذا التعارض الموهوم سقط الضعيف و بقي الصحيح القوي.
الشرط الثاني:
ألا يؤدي الجمع بالتأويل إلى بطلان نص من النصوص أو جزء منه. و مثاله في قوله تعالى: ( و امسحوا برؤوسكم و أرجلكم إلى الكعبين ) ( المائدة:6)، قرئت ( أَرْجُلَكُمْ ) بفتح اللآم و ( أَرْجُلِكُمْ ) بكسرها. فحمل الشيعة قراءة الكسر على العطف على ( رُؤُوسِكُمْ )، بمعنى أنه يجزئ مسح الرجل في الوضوء. و هذا الحمل فيه محظوران: الأول: أنه يهدر كل الأحاديث الموجبة لغسل الأرجل، و أصرحها حديث: " ويل للأعقاب من النار "(4). الثاني: أنه باتفاق الناس لا يجب مسح جميع الرجل إلى الكعب فيكون قيد الكعب لا فائدة من إيراده، و هذا ما ينزه عنه كلام الله جل و عز(5)
الشرط الثالث:
أن يكون اللفظ المراد تأويله قابلاً للتأويل، بأن يكون محتملاً لذلك بوضعه اللغوي و لو احتمالاً بعيدًا. و اللفظ القابل للتأويل هو الظاهر و النص عند أصحاب أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - و هو الظاهر عند غيرهم.(1/6)
مثال ذلك قوله تعالى: ( و المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) ( البقرة: 228). فالمطلقات لفظ عام يتناول الزوجة المدخول بها و الصغيرة و المحتاضة و الآيسة و الحامل و غيرها. و الأصل أن العام يشمل كل أفراده لكن جاءت نصوص صرفت هذا العموم عن ذلك و منها قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ) ( الأحزاب: 49). فخرج بهذا النص الزوجة الغير مدخول بها.
و قال تعالى: ( و اللآئي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر و اللآئي لم يحضن و أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) ( الطلاق: 4) فخرج من هذه الآية الصغيرة و الآيسة و الحامل. و هذا التخصيص نوع من أنواع التأويل، لأن الأصل إعمال العموم لكن لدليل راجح لم نعمله في كل الأفراد.
و هذا المثال من تخصيص العموم، يمكن ان نقول مثله في تقييد المطلق و في صرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب و صرف اللفظ من مدلوله الحقيقي إلى المجازي، و تعيين أحد معنيي المشترك و هذا مذهب جماعة من الحنفية كالسرخسي و عبد العزيز البخاري. و خالفهم غيرهم(6).
الشرط الرابع:
أن يحتمل اللفظ المعنى الذي أول إليه و لو باحتمال مرجوح. و إلاَّ كان التأويل فاسدًا. و على ذلك فيجب أن يوافق المعنى أحد الاستدلالات التالية:
1. الوضع اللغوي: فالصلاة هي الدعاء و الزكاة هي التطهير و الصوم الإمساك مطلقًا.
2. الحقيقة الشرعية: و هو الاستعمال الذي وضعه الشارع لهذه الكلمة. فيجوز صرف الكلمة لهذا المعنى دون المعنى اللغوي. بل نصوص الشرع في أصلها لا تحمل إلاَّ الحقيقة الشرعية حتى يأتي ما يرجح غير ذلك.
3. الحقيقة العرفية: و هي عامة كاستعمال الدابة لذوات الأربع و الغائط لما يخرج من الإنسان و هو مستقذر!(1/7)
و خاصة و هي مثل حركات الإعراب عند النحاة و اصطلاح سائر الفنون من فقه و حديث و غيرها. فيجوز صرف اللفظ عن ظاهره لهذه المعاني العرفية، عامة كانت أم خاصة. و هذا التأويل - كما ذكرت في أول كلامي - ثلاثة أقسام:
أ/ قريب يكفي فيه أدنى مرجح. كما في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة...) ( المائدة:6). فقد أول القيام هنا إلى إرادة الصلاة أو العزم عليها.
ب/ بعيد عن الفهم. لا يترجح على الظاهر إلاَّ بأقوى منه و لا يكفي فيه أي دليل، بل لابد من دليل قوي يجعله تأويلاً سائغًا.
و مثاله: قول النبي ( لغيلان الثقفي عندما أسلم عن عشر نسوة:"أمسك أربعًا و فارق سائرهن "(7)
فقد أوَّل الحنفية الأمر بالإمساك باستيفاء الأربع الأُوَلِ إن كان الزواج أكثر من عقد، أو بابتداء الزواج بأربعة منهن إن كان في عقد واحد. و هذا لأنهم يقيسون أنكحة الكفَّار على أنكحة المسلمين.
و في هذا نظر، إذ غيلان كان قريب عهد بإسلام. فأنَّى له بمعرفة أحكامه الشرعية. فالظاهر هو الاستدامة دون تجديد، و لو كان غير ذلك لبينه النبي ((8).
ج/ تأويل باطل متعذر. و هو ما لا يحتمله اللفظ و مثاله تأويل الرافضة لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم.) ( المائدة:106).فقد أولوها بأن المراد من غير قبيلتكم. ذكره ابن حزم في " الإحكام " (3/309 ط. دار الكتب العلمية).
الشرط ااخامس:
أن يستند التأويل إلى دليل صحيح يصرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى غيره. و أن يكون هذا الدليل أقوى من الظاهر، و إلا فإن الأصل الأخذ بالظاهر. و هذا الشرط هام و إلاَّ جنحنا إلى الأخذ بالرأي المجرد و الهوى الذي ذمه الله و رسوله ( و السلف رضوان الله تعالى عليهم.
و هذه الأدلة التي يصلح أن تكون مرجحًا هي أحد هذه التالية:(1/8)
أ/ نص من كتاب أو سنة. مثاله قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة و الدم.) ( المائدة:3).فهذا يقتضي تحريم كل شىء من الميتة حتى جلدها، لكنه لما أخرج مسلم في " صحيحه " ( رقم 363 من كتاب الحيض) أن النبي ( قال في شاة ميمونة رضي الله عنها التي ماتت فجرُّوها ليرموها: " ألا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟ فقالوا إنها ميتة، فقال: إنما حرم من الميتة أكلها" فهذا صرف العموم في الآية عن ظاهره.
ب/ الإجماع. و شرطه أن يكون إجماعًا متيقنًا صحيحًا لا موهومًا يرفع المخالف في وجه العامل بالسنة بجهل منه. و مثاله قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعووا إلى ذكر الله وذروا البيع.) ( الجمعة: 9).
فهذه الآية ظاهرها أنها تعم الرجال و النساء و العبيد و الأطفال. لكن الإجماع أخرج غير الرجال البالغين من عموم النص.
ج/ القياس. و هو موضع خلاف بين أهل العلم. و منهم من اشترط أن يكون جليًّا، و هذا كقياس الأمة على العبد في سراية العتق من البعض إلى الكل، فإن الفارق بينهما لا تأثير له.
د/ حكمة التشريع و مبادئه العامة. و هذه النقطة يجب أن يقف عندها الفقيه طويلاً حتى لا يرد نصوص الشرع بالهوى. و الله أعلم.
الشرط ااسادس:
أهلية الناظر للتأويل. و ذلك بأن يكون صاحب ملكة فقهية تؤهله للنظر. و إلاَّ كان قائلاً على الله تعالى بلا علم و الله عز و جل يقول: (و لا. تقف ما ليس لك به علم ) ( الإسراء: 36).
و شروط جواز النظر و الاجتهاد مجموعة(9) أهمها العلم بكتاب الله تعالى، و المقصود أنه يعلم آيات الأحكام و يفهمها. و لا يشترط أن يكون حافظًا لها.(1/9)
ثم العلم بالسنة النبوية المطهرة، و ذلك بمعرفة أحاديث الأحكام و استحضارها و تمييز صحيحها من سقيمها و ناسخها من منسوخها و أيضًا عليه أن يعرف مواطن الإجماع المعتبر الذي يدان الله تعالى به. لا الإجماع الموهوم الذي غايته عدم العلم بالمخالف، و أيضًا يجب عليه ان يعرف مواطن الخلاف فلا يشذ بقول يخالف المتقدمين و المتأخرين. قال أحمد رحمه الله تعالى: " لا تقل قولاً إلاَّ ولك فيه إمام ".
هذا و عليه أن يكون ملمًّا بعلم أصول الفقه فإنه مفتاح الاجتهاد و أداته، و بغيره يخبط الباحث الناظر خبط عشواء.
و مثله التفقه في اللغة العربية و معرفة معانيها جيدًا، فإن أغلب التأويلات الفاسدة ما جاءت إلاَّ من العجمة.
و يجب معرفة مقاصد الشريعة، و هذا هو مأخذ أئمة الإسلام على الظاهرية نفاة العلل فإنهم جعلوا الدين أحكامًا لا حكمة و لا علة لها، و هذا يتنزه عنه الحكيم العليم جل و علا.
و يحسن أن يكون المجتهد الناظر سليم الاعتقاد عدلاً ورعًا، و إلاَّ فقدت الثقة به و بكلامه.
الشرط ااسابع:
عدم معارضة التأويل لنص صريح قطعي. و قد تقدم معنى هذا(10).
الفَصل الثاني:
التأويل في مباحث الاعتقاد
جل مباحث التأويل في العقيدة تتعلق بمباحث صفات الله سبحانه و تعالى، و كان مقصود جل تلك الفرق تنزيه الله سبحانه و تعالى عن مشابهة المخلوقات و الحوادث لقوله سبحانه و تعالى: (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير ) ( الشورى: 11). و قوله تعالى: (و لم يكن له كفوًا أحد ) ( الإخلاص: 4).(1/10)
هذا و كل الضوابط التي أتيت بها آنفًا في التأويل تصلح، بل يجب إعمالها حتى في نصوص صفات الله تعالى. لأنها ضوابط لفهم نصوص الشرع. فإذا كان حمل المطلق على المقيد و تخصيص العام و فهم اللفظ على ما يفيده بادئ الرأي كما يفهمه العرب الأقحاح يسمى تأويلاً صح أن يقال إن السلف أوَّلوا بعض صفات الله تعالى بدليل صحيح سليم و قاعدة علمية رصينة أمَّا إذا قصدنا من التأويل صرف الألفاظ عن معانيها اللغوية لشبهات و شهوات و أهواء في عقولنا الفاسدة فذلك التأويل باطل مردود.
فتلخص من هذا أن المسألة اصطلاحية. و يحلو لي هنا أن أقرر مذهب شيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله تعالى، في المجاز لأن الناس لم يفهموا هذا الإمام الجليل، ثم نرجع إلى مسألتنا.
قال الإمام اللغوي محمد بهجة البيطار، رحمه الله تعالى: " نقل شيخنا المفسر القاسمي رأى الإمام ابن تيمية بطوله في الحقيقة و المجاز، و ما زال الناس يتساءلون، فمنهم من يقول: إن ابن تيمية ينفي المجاز في أسماء الله تعالى و صفاته، و يثبته فيما عدا ذلك، و منهم من يقول، إنه لا يرى وقوع المجاز في القرآن أصلاً، و منهم من يرى أنه ينكر المجاز في لغة العرب، و يجيب ابن تيمية عن ذلك كله فيقول ما خلاصته:
1- إن المجاز الذي هو قسيم الحقيقة لم تعرفه العرب قبل الإسلام، و لم ينطق به أحد من الصحابة الكرام، و لا التابعين لهم بإحسان.
2- هو اصطلاح حادث بعد القرون الثلاثة، و إنما اشتهر في المائة الرابعة، و ظهرت أوائله في المائة الثالثة، و لم يعلم في المائة الثانية، اللهم إلا أن يكون في أواخرها.
3- لم يتكلم به أئمة اللغة و النحو كالخليل بن أحمد الفراهيدي (م. 170 هـ) و تلميذه سيباويه (م. 180 هـ) و أبي عمرو بن العلاء (م. 154 هـ) و نحوهم.
4- إن أبا عبيدة معمر بن المثنَّى (م.209 هـ) هو أول من تكلم به في كتابه " المجاز "(1/11)
5- إن معنى المجاز عنده و عند أئمة اللغة و النحو الذين سبقوه هو ما جاز لغة لا أنه قسيم الحقيقة.
6- بين أن القائلين بوجود المجاز - و هو استعمال الكلمة في غيز ما وضعت له - يأتي أحدهم إلى ألفاظ لم يعلم أنها استعملت إلاَّ مقيدة، فينطق بها مجردة، و ضرب لذلك الأمثال، كلفظ العين و الرأس و الأسد و البحر و غيرها، و جاء بأمثلة من القرآن الكريم و أوضح أن كلاًّ منها حقيقة في معناه "(11).
هذا و قد كان السلف الأولون صحابة و تابعين و أتباعهم كلهم مطبقين على الإيمان بظاهر هذه النصوص بغير تشبيه و لا تمثيل و لا تكييف و لا تحريف لها حتى نبغ في الإسلام الجعد بن درهم معلم مروان بن محمد الأموي آخر خلفاء الدولة الأموية بالشام.
قال الإمام أحمد بن حنبل، نضر الله وجهه و رحمه: كان يقال إنه من أهل خراسان اهـ.
و عنه أخذ الجهم بن صفوان مذهب نفاة الصفات، و كان بـ: حران هؤلاء النفاة الصابئة الفلاسفة أهل هذا الدين أهل الشرك و نفي الصفات و الأفعال، و لهم مصنفات في دعوة الكواكب.
و قد قتل الجعد، قتله خالد بن عبد الله القصري والي خراسان، لقوله بنفي الصفات كما أخرج ذلك البخاري في " خلق الأفعال " و عثمان الدارمي في " الرد على الجهمية "، بأسانيد فيها نظر لكن لها شواهد تقويها.
أمَّا جهم فقتل سنة 128 هـ لمَّا خرج مع مسلم بن أحوز على بني أمية.
و عن جهم تلقى المعتزلة نفي الصفات و العلو، و خلق القرآن. و سموا ذلك توحيدًا، و نبزوا مخالفهم بالمشبه.
و أصول الشيعة و الزيدية هي نفسها أصول المعتزلة كما نص على ذلك ابن أبي الحدبد في " شرح نهج البلاغة " و هو نفسه شيعي معتزلي.
و كذلك كل الخوارج، و منهم الإباضية، وافقوا المعتزلة في هذا الأصل كما نص عليه الإمام أبو الحسن الأشعري، رحمه الله تعالى، في " مقالات الإسلاميين ".(1/12)
أمَّا الأشاعرة فنسبتهم إلى أبي الحسن، آنف الذكر، و كان معتزليًا، ثم بعد أربعين عامًا من ذلك أعلن عودته إلى أهل السنة. إلاَّ أنه خالفهم في مسائل معدودة هي الكلام و النفس و الكسب. و ذكر عقيدته هذه في " الإبانة عن أصول الديانة "، و صرح أنه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل في الاعتقاد.
ثم إن جماعة من أصحابه كأبي بكر بن فورك و الباقلاني، اشتغلوا بالرد على فرق البدع بأصول كلامية و لم يكونوا أصحاب حديث فاضطروا إلى تأويل العديد من الصفات مع إثباتهم العلو و غيره.
و جاء أبو المعالي الجويني و الغزالي و كانوا قد تمرسوا بالكلام كثيرًا فغلوا في التأويل و لم يثبتوا إلاَّ صفات معدودة. و كان الفخر الرازي قد تأثر بالفلسفة فزادت الشقة بين الأشاعرة و أهل السنة لا في مسألة الصفات فقط بل في العديد من المسائل الأخرى(12).
و قد اشتد نكير السلف و أتباعهم في الرد على هذه البدعة فألفوا المؤلفات المفردة في إتبات الصفات لا في تفويضها كما هو مذهب جماعة و نسبوه للسلف و أنكر ذلك الإمام أبو سليمان الخطَّابي، رحمه الله.
فمن مصنفاتهم في ذلك كتب " السنة " للإمام أحمد و لابنه عبد الله و لأبي بكر بن أبي عاصم و للخلاَّل، و كتب " الإبانة " لابن بطة و لأبي نصر السجزي و غيرهم، و كتب " الإيمان " لأبي يعلى الحنبلي و لابن منده، و كتاب " التوحيد " لإمام الأئمة ابن خزيمة. و ألف أبو يعلى كتاب " إبطال التأويل " و ابن قدامة المقدسي " ذم التأويل ", إلى غير ذلك كثير.
و جاء ابن تيمية و ابن القيم، رحمهما الله تعالى. فكان لهما باع طويل في تقرير ما قرره السلف و الرد على الجهمية و المعتزلة و الأشاعرة و كل من حرف، و لا أقول أوَّل، صفات الله تعالى.
المَذْهَبْ الَّذِي نَخْتَاُرُه:
تقدم تقسيمنا لمذاهب الناس في صفات الله تعالى، و لنعد ترتيب ذلك. فنقول:(1/13)
1. منهم من أوَّل كل الأسماء و الصفات، و هذا مذهب الجهمية و تبعهم المعتزلة و دخل فيهم الرافضة و الزيدية و الخوارج، ومنهم الإباضية. فأولوا الصفات الخبرية و الاختيارية و العلو و الرؤية و كل ما خالف هواهم. بل أولوا الصراط و الميزان و غير ذلك من الأمور الغيبية. و حجتهم في تأويل ذلك كله هو أنه إذا أثبتنا ذلك لله فقد شابه سبحانه وتعالى الحوادث و الأجسام و ذلك محال عليه تعالى.
2. قوم أثبتوا بعض الصفات و أوَّلوا باقيها، و هؤلاء هم الكُلاَّبية أصحاب عبد الله بن سعيد بن كلاب و منهم أبو علي الثقفي و الحارث المحاسبي، و الأشاعرة على خلاف كبير بينهم في ذلك كما قدمت. و غير هؤلاء. و لم يبق منهم اليوم إلا الأشاعرة و الماتريدية. و الأشاعرة ينتحل مذهبهم جلُّ الشافعية و المالكية اليوم، و الماتريدية أحناف. و مذاهبهم تكاد تكون متطابقة. و حجتهم في نفي ما نفوا مشابهتها للحوادث و أن الله تعالى: ( ليس كمثله شئ). فتناقضوا فيما أثبتوا و فبما نفوا.
3. قوم فوضوا معاني الصفات و كيفياتها. بمعنى أنهم لا يعلمون لها معنى. و قالوا هذا هو مذهب السَّلف، و هو أسلَم، مع نفيهم لظواهر النصوص و أنها غير مرادة. و هذا قول معروف عند الأشاعرة، و قال به بعض الحنابلة و غيرهم. قال اللََّّقاني في " جوهرة التوحيد ":
أوله أو فوضه ورم تنزيها!!
و كل نص أوهم التشبيها
و لما ظن الكثير من الناس أن هذا هو مذهب السَّلف قالوا: لماذا هذه الشقة بين المسلمين و الخلف و السَّلف كلاهما راموا التنزيه؟
و الجواب عن هذه الشبهة من كلام شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى، قال في (5/109) من " مجموع الفتاوى ":(1/14)
" و قد رأيت هذا المعنى ينتحله بعض من يحكيه عن السَّلف و يقولون إن طريقة أهل التأويل هي في الحقيقة طريقة السَّلف!! بمعنى أن الفريقين اتفقوا أن هذه الآيات و الأحاديث لم تدل على صفات الله سبحانه و تعالى. و لكن السَّلف أمسكوا عن تأويلها و المتأخرين رأوا المصلحة في تأويلها لمسيس الحاجة إلى ذلك. و يقولون: الفرق بين الطريقين أن هؤلاء قد يعينون المراد بالتأويل و أولئك لا يعينون لجواز أن يراد غيره.
و هذا القول على الإطلاق كذب صريح على السَّلف، أمَّا في كثير من الصفات فقطعًا مثل أن الله تعالى فوق العرش، فإن من تأول كلام السَّلف المنقول عنهم الذي لم يحك هنا عشره علم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة و أنهم ما اعتقدوا خلاف هذا قط، و كثير منهم قد صرَّح في كثير من الصفات بمثل ذلك" اهـ.
قلت: كلام السَّلف شديد في المؤولين لصفات الله تعالى جدًّا. و من طالع " الرد على الجهمية " و " النقض على بشر المريسي " لعثمان بن سعيد الدارمي الحافظ، و ما أورده الحافظ اللاَّلكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة " و " التوحيد " لابن خزيمة فهم ما أقول.
4. إتبات ما أتبته الله تعالى لنفسه و فهمه كما فهمه العرب الأوائل الذي نزل الوحي بألسنتهم، و كما بينته في قواعد الأخذ بالتأويل آنفًا، إن جاز لنا تسمية هذا تأويلاً. و قد بين ذلك ابن دقيق العيد الإمام الحافظ، رحمه الله تعالى.(1/15)
و هذا هو مذهب الأنبياء و المرسلين و الصحابة و التابعين و أهل الحديث، أهل السنة و الجماعة، و هو مذهب من اتبعهم من أصحاب أبي حنيفة كما في " العقيدة " للإمام أبي جعفر الطحاوي و ذكر أنها اعتقاد أبي حنيفة و أبي يوسف و محمد بن الحسن، رحمهم الله تعالى، و أصحاب مالك كما ذكر ذلك حافظ المغرب أبو عمر بن عبد البر في عدة مواضع من " التمهيد " و أبو عمر الطلمنكي في كتابه في السنة و ابن أبي زيد القيرواني كما في مقدمة " رسالته " في الفقه و ضمنها عقيدته و عقيدة أصحابه. بل هو مذهب المالكية كلهم حتى استولى على المغرب محمد بن تومرت الذي تسمى بالمهدي و سمى أصحابه " الموحدين " تعريضًا بـ " المرابطين "من أنهم مجسمة . و قد ذكر تفاصيل معاركه مع المرابطين الناصري في " الاستقصا في تاريخ المغرب الأقصى "و أنه كفَّر المرابطين و سمَّاهم مجسمة !!
و هو مذهب الشافعي و أصحابه المتقدمين كعثمان بن سعيد الدارمي و ابن خزيمة و الصابوني و سائر أئمة الحديث و أهله الذين صنفوا في علوم الإسلام فقد كانوا من أصحاب الشافعي.
و داود الظاهري و أصحابه الأوائل. حاشا ابن حزم غفر الله له.
و أمَّا أحمد بن حنبل فلقيام جهده بالدفاع عن هذه العقيدة استقر أمر الناس على الانتساب إليه فيها، حتى إن الأشعري نفسه انتسب إليه في ذلك، و جل الحنابلة اليوم على هذه العقيدة بل هم أنصارها منذ القدم و المنافحون عنها عدة قرون من الزمن، رحمهم الله تعالى.
5. الغلو في الإثبات إلى أن شبهوا الله بخلقه. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. و هذا المذهب نُسب لمقاتل صاحب التفسير و للكرامية أصحاب محمد بن كرام السجستاني، و لمتقدمي الشيعة بعضهم، كداود الجواربي و غيره. و هو مذهب فاسد كمذاهب المؤولين.
و الذي ندين الله تعالى به قطعًا هو مذهب النبي ( و أصحابه لعدة أمور:(1/16)
1- لقوله تعالى: (و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و يتبع غير سبيل المومنين نوله ما تولَّى و نصله جهنم) ( النساء: 115).
2- و قوله ( فيما أخرجه أحمد (4/126) و أبو داود (4607) و الترمذي (2676) و هو صحيح: " عليكم بستني و سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجد و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة ، و كل بدعة ضلالة ".
3- و حديث: " إن بني إسرائيل افترقوا على ثنثين و سبعين فرقة " و في رواية: "و أمتي ثلاثًا و سبعين ملة كلها في النار إلاَّ واحدة" قالوا: يا رسول الله من الواحدة؟ قال: "ما أنا عليه و أصحابي" و في رواية " الذي أنا عليه و أصحابي".
أخرج هذه الرواية اللاَّلكائي (147). و الحديث في " سنن "الترمذي (2641). و له طرق و روايات كثيرة، و هو صحيح بذلك.
4- و روى نوح الجامع قال: قلت لأبي حنيفة رحمه الله: ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض و الأجسام؟ فقال: مقالات الفلاسفة. عليك بالأثر و طريقة السَّلف، و إياك و كل محدثة فإنها بدعة.
قلت: نوح الجامع لقب بذلك لأنه جمع علومًا كثيرة، و هو من أصحاب أبي حنيفة. و هذا الأثر ذكره أبن قدامة المقدسي في " ذم التأويل "(رقم 66 - بتحقيق البدر) و أخرجها أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في " ذم الكلام "
5- و أخرج الآجري في " الشريعة" (ص.58) و الخطيب في " شرف أصحاب الحديث " (ص.7) عن الإمام أبي عمرو الأوزاعي رحمه الله تعالى قال: عليك بآثار من سلف و إن رفضك الناس و إياك و آراء الرجال و إن زخرفوها لك بالقول.(1/17)
6- و عن ابن أبي حاتم الرازي قال: سألت أبي و أبا زرعة رحمهما الله تعالى عن مذهب أهل السنة في أصول الدين، و ما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار. و ما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: " أدركنا العلماء في جميع الأمصار، فكان من مذاهبهم أن الإيمان قول و عمل، يزيد و ينقص، و القرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته، و القدر خيره و شره من الله تعالى، و أن الله تعالى على عرشه، بائن من خلقه، كما وصف في كتابه، و على لسان رسوله، بلا كيف، أحاط بكل شئ علمًا، ليس كمثله شئ و هو السميع البصير."
و هذا الأثر أخرجه اللاَّلكائي في " أصول الاعتقاد" و الذهبي في " العلو" (رقم 253-مختصره ). و فيه زيادة ذكراهاعن أبي حاتم و هي:
" مذهبنا و اختيارنا اتباع رسول الله ( و أصحابه و التابعين من بعدهم بإحسان. و التمسك بمذاهب أهل الأثر مثل: الشافعي و أحمد و إسحاق و أبي عبيد رحمهم الله تعالى. و لزوم الكتاب و السنة."
ثم قال: "و علامة أهل البدع: الوقيعة في أهل الأثر، و علامة الجهمية: أن يسموا أهل السنة مشبهة و نابتة، و علامة الزنادقة: أن يسموا أهل الأثر حشوية." اهـ.
7- فهذان إماما زمانهما يحكيان هذا المذهب عن كل علماء عصرهما، فلا يسوغ لنا مخالفة ذلك و الحال هكذا. قال الله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) ( النور: 63).
و هذا مختصر في الباب اقتضاه هذا البحث. و الله الموفق و الهادي للصواب و صلى الله على الحبيب محمد و آله و صحبه أجمعين.
كتبه العبد الفقير الحسن بن علي بن محمد المنتصر بالله بن محمد الزمزمي بن محمد بن جعفر الكتاني الإدريسي الحسني بمدينة عمَّان من أرض الأردن عام 1416 هـ.
(1) رواه البخاري (817) و مسلم (1/350) فهو متفق عليه من حديث أم المؤمنين عائشة الصديقة - رضي الله عنها.
(2) راجع نفس الموضوع في " مجموع الفتاوى " (5/35 ، 13/284).(1/18)
(3) عن المناهج الأصولية، (ص. 165 - 166) للدكتور الدريني.
(4) صحيح البخاري (1/73)، صحيح مسلم (1/213).
(5) راجع " نيل الأوطار " للشوكاني (1/197) و " المجموع " للنووي (1/458).
(6) " تيسير التحرير " (3/461)، " أصول السرخسي " (1/127) و " كشف الأسرار " (1/44).
(7) " سنن " أبي داود (2241) و الترمذي (1128) و هو في " مسند أحمد " (2/83) و في سنده كلام لكن الراجح أنه صحيح كما قال ابن حزم في " المحلى " و غيره.
(8) " المستصفى " (ص.197) و " جمع الجوامع " مع حواشيه (ص.88).
(9) راجع للتوسع " إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد " للصنعاني. و " القول المفيد في أدلة الاجتهاد و التقليد" للإمام الشوكاني. رحمهما الله تعالى.
(10) استفدت كثيرًا في هذه المباحث من بحث الدكتور مفيد أبو عشية " ضوابط التأويل عند الأصوليين " المنشور في مجلة " دراسات " ( مجلد 20/ ص. 192). و كتاب " التعارض و الترجيح بين الأدلة " (ص.213-236) تأليف عبد اللطيف البرزنجي.
(11) " التعريف و النقد " للبيطار مقال في مجلة المجمع العلمي العربي ( مجلد 33/ص.660).
(12) هذا السرد التاريخي ملخص من مجموعة مطالعات و منها المجلدات الخمسة الأولى من " مجموعة فتاوى " ابن تيمية، و مقدمة و تعليقات محب الدين الخطيب على " المنتقى " للذهبي.و " خلق الأفعال " للبخاري و غير ذلك. كـ " شرح الطحاوية " لابن أبي العز الحنفي.
??
??
??
??
3
3
التأويل عند أهل العلم
12(1/19)