ثَانِيَ عَشَرَهَا الْمُتَقَدِّمُ فيه ذِكْرُ الْعِلَّةِ على الْحُكْمِ وَعَكَسَ النَّقْشَوَانِيُّ ثَالِثَ عَشَرَهَا الْمَذْكُورُ مع مُعَارَضَةٍ أَوْلَى مِمَّا ليس كَذَلِكَ كَحَدِيثِ نَهَيْتُكُمْ عن زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَيُرَجَّحُ على الدَّالِّ على تَحْرِيمِ الزِّيَارَةِ رَابِعَ عَشَرَهَا الْمَقْرُونُ بِنَوْعٍ من التَّهْدِيدِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ على تَأَكُّدِ الْحُكْمِ الذي تَضَمَّنَتْهُ كَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ من صَامَ يوم الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ خَامِسَ عَشَرَهَا الْمَقْرُونُ بِالتَّأْكِيدِ بِأَنْ يُكَرَّرَ أَحَدُهُمَا ثَلَاثًا وَالْآخَرُ لم يُؤَكَّدْ فَيُرَجَّحُ الْمُؤَكَّدُ على غَيْرِهِ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ يُبْعِدُ احْتِمَالَ الْمَجَازِ وَالتَّأْوِيلِ كَقَوْلِهِ أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ فإنه رَاجِحٌ على ما يَرَوْنَهُ الْحَنَفِيَّةُ الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا من وَلِيِّهَا لو سَلِمَ دَلَالَتُهُ على الْمَطْلُوبِ سَادِسَ عَشَرَهَا الْمَقْصُودُ بِهِ بَيَانُ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ من التَّمْرِ مع قَوْلِهِ ليس فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ من التَّمْرِ صَدَقَةٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَوَّلَ فَيُقَالُ مَعْنَاهُ ليس فيها صَدَقَةٌ يَأْخُذُهَا الْعَامِلُ بِدَلِيلِ الْخَبَرِ الْآخَرِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا قُصِدَ فيه بَيَانُ الْمُزَكَّى وَالْآخَرَ بَيَانُ الزَّكَاةِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْكَلَامُ يُجْمَلُ في غَيْرِ مَقْصُودِهِ وَيُفَصَّلُ في مَقْصُودِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ في سَائِمِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ مع قَوْلِهِ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ وَكَذَلِكَ ليس فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ من الْوَرِقِ صَدَقَةٌ مع قَوْلِهِ في الرِّقَّةِ رُبُعُ الْعُشْرِ فَيُحْمَلُ الْأَمْرُ على بَيَانِ الْمُزَكَّى وَالزَّكَاةِ لَا على ما لم يُنْقَلْ له الْخَبَرُ ولم يَدُلَّ عليه الْمَسْمُوعُ ذَكَرَهُ إلْكِيَا ثُمَّ قال نعم قد يَرِدُ على صُورَةِ الْبَيَانِ وَإِنْ لم يَكُنْ بَيَانًا حَقًّا كَقَوْلِهِ في حديث مَاعِزٍ أَشَهِدْت على نَفْسِك أَرْبَعًا وفي لَفْظٍ أنت تَشْهَدُ وَأَنَّهُ رَدَّدَهُ فقال أَهْلُ الْعِرَاقِ إنَّهُ لَمَّا رَدَّدَهُ مِرَارًا ثُمَّ قال أَشَهِدْت على نَفْسِك أَرْبَعًا دَلَّ على أَنَّ قَوْلَهُ فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا أَيْ اعْتَرَفَتْ أَرْبَعًا فَقُلْنَا لم يَكُنْ التَّرَدُّدُ وَالرَّدُّ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِالِاعْتِرَافِ الْأَوَّلِ وَلَكِنْ لم يُفْصِحْ أَوَّلًا بِمَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَرَأَى فيه دَلَائِلَ الْخَبَلِ وَالْجُنُونِ وَلِذَلِكَ قال لَعَلَّك لَمَسْت وَسَأَلَ عن النُّونِ وَالْكَافِ فَقُلْنَا في مِثْلِ ذلك رِوَايَةُ مَاعِزٍ مُقَدَّمَةٌ وَقَلَبُوا الْأَمْرَ فلم يَجْعَلُوا الْبَيَانَ في
____________________
(4/461)
الْقِسْمِ الْمُتَقَدِّمِ مُعْتَبَرًا قَدَّمُوا الْعُمُومَ عليه وَقَدَّمُوا الْبَيَانَ على الْعُمُومِ هَاهُنَا وَمِنْ هذا اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ في سُجُودِ السَّهْوِ قبل السَّلَامِ وَبَعْدَهُ فَكَانَ ما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ أَوْلَى لِأَنَّ فِيمَا رَوَاهُ وَاسْجُدْ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ قبل السَّلَامِ فَإِنْ كان أَرْبَعًا فَالسَّجْدَتَانِ تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ وَإِنْ كان خَمْسًا شَفَعْتَهَا بِالسَّجْدَتَيْنِ فَذِكْرُ التَّرْغِيمِ وَالشَّفْعِ لَا يَكُونُ مع الْفَصْلِ وَالتَّخَلُّلِ فَكَانَ ما نَقَلْنَاهُ إيمَاءً إلَى بَيَانِ السَّبَبِ على ما رَدَّدَهُ وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ من التَّرْجِيحِ وهو وُرُودُ الْأَمْرِ وَالْفِعْلِ وَنَقَلُوا الْأَمْرَ فَقَطْ وَالْأَمْرُ أَبْيَنُ من الْفِعْلِ الذي يُمْكِنُ تَقْدِيرُ اخْتِصَاصِهِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم سَابِعَ عَشَرَهَا مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ على الْمُخَالَفَةِ على الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ أَقْوَى وَقِيلَ تُقَدَّمُ الْمُخَالَفَةُ لِأَنَّهَا تُفِيدُ تَأْسِيسًا وَالْمُوَافَقَةُ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى وَقِيلَ يَتَعَارَضُ مَفْهُومُ الْغَايَةِ وَالشَّرْطِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُمَثَّلَ له بِقَوْلِهِ تَعَالَى حتى يَطْهُرْنَ فإذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ فإن مَفْهُومَ الْغَايَةِ يَقْتَضِي حِلَّ الْقُرْبَانِ قبل الْغُسْلِ وَمَفْهُومَ الشَّرْطِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ قبل الْغُسْلِ الثَّانِي التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ مَدْلُولِهِ وهو الْحُكْمُ وَيَقَعُ على أُمُورٍ أَوَّلُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ مُفِيدًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ وَالْبَرَاءَةِ وَالثَّانِي نَاقِلًا فَالْجُمْهُورُ على أَنَّهُ يَجِبُ تَرْجِيحُ النَّاقِلِ وَبِهِ جَزَمَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَجَزَمَ بِهِ ابن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ قال وَإِنَّمَا لم نَقُلْ إنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ النَّاقِلَ زَائِدٌ على الْمُقَرَّرِ وَمِنْ أَصْلِنَا قَبُولُ الزِّيَادَةِ كما لو شَهِدَا على رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ آخَرَانِ بِالْبَرَاءَةِ أو الْقَضَاءِ فَالْإِبْرَاءُ أَوْلَى لِأَنَّهُمَا قد شَهِدَا بِمَا شَهِدَ الْأَوَّلَانِ وزاد النَّقْلُ على تِلْكَ الْحَالَةِ وَكَمَا قُلْنَا في الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ إذَا اجْتَمَعَا فَالْجَرْحُ أَوْلَى انْتَهَى وَقِيلَ يَجِبُ تَرْجِيحُ الْمُقَرَّرِ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْبَيْضَاوِيُّ كَحَدِيثَيْ مَسِّ الذَّكَرِ فإن النَّاقِضَ نَاقِلٌ عن حُكْمِ الْأَصْلِ وَالْآخَرَ مُقَرِّرٌ له
____________________
(4/462)
تَنْبِيهٌ قال الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ هذا الْخِلَافُ ليس من بَابِ التَّرْجِيحِ بَلْ من بَابِ النَّسْخِ لِأَنَّا نَعْمَلُ بِالنَّاقِلِ على أَنَّهُ نَاسِخٌ وَلِأَنَّهُ لو كان من بَابِ التَّرْجِيحِ لَوَجَبَ أَنْ يَعْمَلَ بِالْخَبَرِ الْآخَرِ لَوْلَاهُ لَكِنَّا إنَّمَا نَحْكُمُ بِحُكْمِ الْأَصْلِ لِدَلَالَةِ الْعَقْلِ لَا لِأَجْلِ الْخَبَرِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ من بَابِ التَّرْجِيحِ وَلِهَذَا أَوْرَدُوهُ في بَابِهِ لَا في بَابِ النَّسْخِ لِأَنَّا لَا نَقْطَعُ بِالنَّسْخِ بَلْ نَقُولُ الظَّاهِرُ ذلك وَإِنْ كان خِلَافُهُ فَهُوَ دَاخِلٌ في بَابِ الْأَوْلَى وهو تَرْجِيحٌ ثَانِيهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ إلَى الِاحْتِيَاطِ بِأَنْ يَقْتَضِيَ الْحَظْرَ وَالْآخَرُ الْإِبَاحَةَ فَيُقَدَّمُ مُقْتَضَى الْحَظْرِ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِهَا ما أَمْكَنَ وَلِحَدِيثِ دَعْ ما يَرِيبُك إلَى ما لَا يَرِيبُك قال الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وابن بَرْهَانٍ هذا هو الصَّحِيحُ وَقِيلَ يُرَجَّحُ الْمُقْتَضِي لِلْإِبَاحَةِ لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْحَرَجِ الذي هو الْأَصْلُ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ وَأَشَارَ الْآمِدِيُّ إلَى الْقَوْلِ بِهِ بَحْثًا وَحَكَاهُمَا الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَجْهَيْنِ وقال الْقَاضِي وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ يَتَسَاوَيَانِ فَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ لِأَنَّهُمَا حُكْمَانِ شَرْعِيَّانِ صَدَقَ الرَّاوِي فِيهِمَا على وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ وَصَحَّحَهُ الْبَاجِيُّ وَنَقَلَهُ عن شَيْخِهِ الْقَاضِي أبي جَعْفَرٍ وَصَوَّرَ في الْحَاصِلِ الْمَسْأَلَةَ بِأَنْ يَقْتَضِيَ الْعَقْلُ حُرْمَةَ وَإِبَاحَةَ ما أَبَاحَهُ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ وَحَرَّمَهُ الْآخَرُ ثُمَّ نَقَلَ فيه التَّسَاوِي ثُمَّ قال لَا يَسْتَقِيمُ ذلك على أَصْلِنَا الْعَازِلِ لِلْعَقْلِ عن أَحْكَامِ الشَّرْعِ أَمَّا على أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَنَعَمْ وقال سُلَيْمٌ إنْ كان لِلشَّيْءِ أَصْلُ إبَاحَةٍ وَحَظْرٍ وَأَحَدُ الْخَبَرَيْنِ يُوَافِقُ ذلك الْأَصْلَ وَالْآخَرُ بِخِلَافِهِ كان النَّاقِلُ عن ذلك الْأَصْلِ أَوْلَى كَتَقْدِيمِ الْخَبَرِ في تَحْرِيمِ النَّبِيذِ وَإِنْ لم يَكُنْ له أَصْلٌ من حَظْرٍ وَلَا إبَاحَةٍ فَيَرِدُ خَبَرٌ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ وَآخَرُ الْحَظْرَ فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحَظْرَ أَوْلَى لِلِاحْتِيَاطِ وَلِأَنَّ الْحَرَامَ يَغْلِبُ
____________________
(4/463)
والثاني أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمُبَاحِ كَتَحْلِيلِ الْحَرَامِ فلم يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا مَزِيَّةٌ على الْآخَرِ وقد رَوَيْنَا في الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ لِلطَّبَرَانِيِّ عن مُحَمَّدِ بن عبد اللَّهِ الْحَضْرَمِيِّ حدثنا يحيى الْحَمَّامِيُّ حدثنا مُوسَى بن مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ عن يحيى بن الْحَارِثِ التَّمِيمِيِّ عن أُمِّ مَعْبَدٍ مَوْلَاةِ قَرَظَةَ بن كَعْبٍ قال أَيْ نَبِيُّ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ الْمُحَرِّمَ ما أَحَلَّ اللَّهُ كَالْمُسْتَحِلِّ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وقال إلْكِيَا إنْ كانت الْإِبَاحَةُ هِيَ الْأَصْلُ فَالْحَظْرُ أَوْلَى وَهَذَا ليس من الْمُتَعَارِضِ فَنُقَدِّمُ الْإِبَاحَةَ على طَرَيَان الْحَظْرِ فَكَأَنَّ الْإِبَاحَةَ في حُكْمِ الْمَنْسُوخِ وَإِنْ كان الْحَظْرُ هو الْأَصْلُ فَالْأَخْذُ بِالْإِبَاحَةِ أَوْلَى أَمَّا إذَا تَعَارَضَا ولم يُعْلَمْ أَصْلُ أَحَدِهِمَا فَهُوَ مَوْضِعُ التَّوَقُّفِ فَذَهَبَ عِيسَى بن أَبَانَ إلَى أَنَّ الْحَظْرَ يُرَجَّحُ وَقِيلَ إنَّهُ مَذْهَبُ الْكَرْخِيِّ لِأَنَّ الْحَرَامَ يَغْلِبُ وقال أبو هَاشِمٍ يَسْتَحِيلُ وُرُودِ الْخَبَرَيْنِ في الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الْمُسْتَحِيلِ ثُمَّ قال إلْكِيَا وَالْحَقُّ ما قَالَهُ أبو هَاشِمٍ إذَا أَمْكَنَ من تَعَارُضِهِمَا من هذا الْوَجْهِ وَالرُّجُوعُ إلَى وَجْهٍ آخَرَ في التَّرْجِيحِ إمَّا من حَيْثُ الِاحْتِيَاطُ إذَا أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِهِ في التَّرْجِيحِ على ما بَيَّنَّاهُ أو بِوَجْهٍ آخَرَ قَدَّمْنَاهُ فَائِدَةٌ من أَمْثِلَةِ هذا الْقِسْمِ أَنَّ الْقَاضِيَ بَكَّارًا وَالْمُزَنِيَّ اجْتَمَعَا في جِنَازَةٍ وكان الْقَاضِي يُرِيدُ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ الْمُزَنِيِّ فَسَأَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الْمُزَنِيَّ فقال يا أَبَا إبْرَاهِيمَ جاء في الْأَحَادِيثِ تَحْرِيمُ النَّبِيذِ وَجَاءَ تَحْلِيلُهُ فَلِمَ قَدَّمْتُمْ التَّحْرِيمَ على التَّحْلِيلِ فقال الْمُزَنِيّ لم يَذْهَبْ أَحَدٌ من الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ النَّبِيذَ كان حَرَامًا في الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ نُسِخَ وَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ على أَنَّهُ كان حَلَالًا فَهَذَا يَعْضِدُ صِحَّةَ الْأَحَادِيثِ بِالتَّحْرِيمِ فَاسْتَحْسَنَ ذلك منه
____________________
(4/464)
ثَالِثُهَا أَنْ يَقْتَضِيَ أَحَدُهُمَا التَّحْرِيمَ وَالْآخَرُ الْإِيجَابَ وَرَجَّحَ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ الْمُقْتَضِيَ لِلتَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ يَسْتَدْعِي دَفْعَ الْمَفْسَدَةِ وَهِيَ أَهَمُّ من جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ وَرَجَّحَ الْبَيْضَاوِيُّ التَّسَاوِي وَهِيَ أَقْرَبُ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِيَاطِ لِأَنَّهُ بِالْعَقْلِ بِخِلَافِ التَّحْرِيمِ بِالتَّرْكِ بِخِلَافِ الْإِيجَابِ فَكِلَاهُمَا يُوقِعُ في الْعِقَابِ وَجَزَمَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وقال لَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَمِثَالُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ إنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ فَلَا تَصُومُوا حتى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا له قال نَافِعٌ فَكَانَ عبد اللَّهِ إذَا مَضَى من شَعْبَانَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ بَعَثَ من يَنْظُرُ فَإِنْ رَأَى فَذَاكَ وَإِنْ لم يَرَ ولم يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ وَلَا قَتَرٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا وَإِلَّا أَصْبَحَ صَائِمًا وَهَذَا يَسْتَدِلُّ بِهِ من يقول بِوُجُوبِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ وَيُعَارِضُهُ خَصْمُهُ بِحَدِيثِ عَمَّارِ بن يَاسِرٍ من صَامَ يوم الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَذَكَرَ الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ في تَعَارُضِ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْإِيجَابِ مع الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلنَّدَبِ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَدَّمَ الْإِيجَابَ قال وَفِيهِ نَظَرٌ فإن في الْوُجُوبِ قَدْرًا زَائِدًا على النَّدْبِ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ رَابِعُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُثْبِتًا وَالْآخَرُ نَافِيًا وَهُمَا شَرْعِيَّانِ قال فَالصَّحِيحُ تَقْدِيمُ الْمُثْبِتِ وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ معه زِيَادَةَ عِلْمٍ وَلِهَذَا قَدَّمُوا خَبَرَ بِلَالٍ في صَلَاتِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَاخِلَ الْبَيْتِ على خَبَرِ أُسَامَةَ أَنَّهُ لم يُصَلِّ وَقِيلَ بَلْ يُقَدَّمُ النَّافِي وَقِيلَ بَلْ هُمَا سَوَاءٌ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا في الْحَالَيْنِ وَاخْتَارَهُ في الْمُسْتَصْفَى بِنَاءً على أَنَّ الْفِعْلَيْنِ لَا يَتَعَارَضَانِ وهو قَوْلُ الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ قال الْبَاجِيُّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ شَيْخُهُ أبو جَعْفَرٍ وهو الصَّحِيحُ وَقِيلَ إلَّا في الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَفَصَّلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فقال النَّافِي إنْ نَقَلَ لَفْظًا مَعْنَاهُ النَّفْيُ كما إذَا نَقَلَ أَنَّهُ
____________________
(4/465)
لَا يَحِلُّ وَنَقَلَ الْآخَرُ أَنَّهُ يَحِلُّ فَهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُثْبِتٌ وَإِنْ لم يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ أَثْبَتَ أَحَدُهُمَا فِعْلًا أو قَوْلًا وَنَفَاهُ الْآخَرُ بِقَوْلِهِ ولم يَقُلْهُ أو لم يَفْعَلْهُ فَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ لِأَنَّ الْغَفْلَةَ تَتَطَرَّقُ إلَى الْمُصْغِي وَالْمُسْتَمِعِ وَإِنْ كان مُحَدِّثًا وَحَكَى ابن الْمُنِيرِ عن إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ فَصَّلَ بين إمْكَانِ الِاطِّلَاعِ على النَّفْيِ يَقِينًا بِضَبْطِ الْمَجْلِسِ وَتَحَقُّقِ السُّكُوتِ أو لَا فَإِنْ اطَّلَعَ على النَّفْيِ يَقِينًا وَادَّعَى سَبَبًا يُوَصِّلُ لِلْيَقِينِ تَعَارَضَا وَلَا يُرَجَّحُ الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ وقال إلْكِيَا إذَا تَعَارَضَ رِوَايَةُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَكَانَا جميعا شَرْعِيَّيْنِ اُسْتُفْسِرَ النَّافِي فَإِنْ أَخْبَرَ عن سَبَبِ عِلْمِهِ بِالنَّفْيِ صَارَ هو وَالْمُثْبِتُ سَوَاءً وَلِهَذَا لم يُرَجِّحْ الشَّافِعِيُّ رِوَايَةَ نَفْيِ الصَّلَاةِ على شُهَدَاءِ أُحُدٍ على رِوَايَةِ الْإِثْبَاتِ لِأَنَّ النَّفْيَ اُعْتُضِدَ بِمَزِيدِ ثِقَةٍ وهو أَنَّ الرَّاوِيَ جَابِرٌ وَأَنَسٌ وَالْمَقْتُولَ عَمُّ أَحَدِهِمَا وَوَالِدُ الْآخَرِ وَلَا يَخْفَى ذلك عَلَيْهِمَا وَإِنْ قال النَّافِي لم أَعْلَمْ بِمَا يُزِيلُهُ فَعَدَمُ الْعِلْمِ لَا يُعَارِضُ الْإِثْبَاتَ كَرِوَايَةِ عَائِشَةَ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم قَبَّلَهَا وهو صَائِمٌ وَأَنْكَرَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ عن عِلْمِهَا
____________________
(4/466)
فَلَا يَدْفَعُ حَدِيثَ عَائِشَةَ وَكَحَدِيثِ الصَّلَاةِ في الْكَعْبَةِ وَحَاصِلُهُ إنْ كان النَّافِي قد اسْتَنَدَ إلَى الْعِلْمِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ على الْمُثْبِتِ وفي كَلَامِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ نَحْوُهُ وهو حِينَئِذٍ كَالْمُثْبِتِ وهو نَظِيرُ النَّفْيِ الْمَحْصُورِ وقد صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ فيه وَكَذَلِكَ لو شَهِدَ اثْنَانِ بِالْقَتْلِ في وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَآخَرَانِ أَنَّهُ لم يَقْتُلْ في ذلك الْوَقْتِ لِأَنَّهُ كان مَعَنَا ولم يَغِبْ عَنَّا تَعَارَضَا وَبَحَثَ فيه الرَّافِعِيُّ وَرَدَّهُ النَّوَوِيُّ وقال الصَّوَابُ أَنَّ النَّفْيَ إنْ كان مَحْصُورًا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِهِ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ وما قَالَهُ النَّوَوِيُّ صَحِيحٌ وَالنَّفْيُ الْمَحْصُورُ وَالْإِثْبَاتُ سِيَّانِ وقال ابن فُورَكٍ إنْ كان الْمُثْبِتُ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَالنَّافِي على حُكْمِ الْعَادَةِ فَالْمُثْبِتُ أَوْلَى وَإِنْ كان الْحُكْمَانِ شَرْعِيَّيْنِ فَقَدْ تَسَاوَيَا إلَّا أَنْ يَكُونَ ما وَرَدَ بِالنَّفْيِ بَيَّنَ أَنَّهُ لم يَعْلَمْ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فَيَكُونُ الْمُثْبِتُ أَوْلَى كَرِوَايَةِ عَائِشَةَ في تَقْبِيلِهَا وهو صَائِمٌ وَأَنْكَرَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ عن عَدَمِ عِلْمِهَا وَذَلِكَ لَا يَدْفَعُ حَدِيثَ عَائِشَةَ قال وَإِنْ كان النَّافِي أَخَصَّ من الْمُثْبِتِ فَالْحُكْمُ لِلْأَخَصِّ وَتَحَصَّلَ أَنَّ الْمُثْبِتَ يُقَدَّمُ إلَّا في صُوَرٍ أَحَدُهُمَا أَنْ يَنْحَصِرَ النَّفْيُ فَيُضَافُ الْفِعْلُ إلَى مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَا تَكْرَارَ فيه فَحِينَئِذٍ يَتَعَارَضَانِ الثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ رَاوِي النَّفْيِ له عِنَايَةٌ بِهِ فَيُقَدَّمُ على الْإِثْبَاتِ كما قُدِّمَ حَدِيثُ جَابِرٍ في تَرْكِ الصَّلَاةِ على قَتْلَى أُحُدٍ على حديث عُقْبَةَ بن عَامِرٍ أَنَّهُ صلى عليهم لِأَنَّ أَبَاهُ كان من جُمْلَةِ الْقَتْلَى وَكَمَا قُدِّمَ حَدِيثُهُ في الْإِفْرَادِ على حديث أَنَسٍ في الْقِرَانِ لِأَنَّهُ صَرَفَ هِمَّتَهُ إلَى صِفَةِ حَجِّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مُنْذُ خَرَجَ من الْمَدِينَةِ إلَى آخِرِهِ الثَّالِثَةُ أَنْ يَسْتَنِدَ نَفْيُ النَّافِي إلَى عِلْمٍ
____________________
(4/467)
خَامِسُهَا تَرْجِيحُ الْخَبَرِ النَّافِي لِلْحَدِّ وَالْعِقَابِ على مُوجِبٍ لَهُمَا على أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ كَحَدِيثِ ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ وَالثَّانِي أَنَّهُمَا سَوَاءٌ حَكَاهُ سُلَيْمٌ وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ ذلك مِمَّا يُعَدُّ تَرْجِيحًا وَلَيْسَ بِتَرْجِيحٍ قال لِأَنَّ هذا لَا يُوجِبُ تَفَاوُتًا في صِدْقِ الرَّاوِي فِيمَا نَقَلَهُ من لَفْظِ الْإِيجَابِ أو الْإِسْقَاطِ وَضَعَّفَ قَوْلَ من يقول الرَّافِعُ أَوْلَى وَإِنْ كان الْحَدُّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَهَذَا الْخِلَافُ يَجْرِي في أَنَّهُ هل تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الْمُثْبِتَةُ لِلْعِتْقِ على النَّافِيَةِ له لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إلَى الْعِتْقِ سَادِسُهَا الْمُثْبِتُ لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مُقَدَّمٌ على النَّافِي لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّغْيِيرِ وَعَكَسَ قَوْمٌ لِمُوَافَقَةِ التَّأْسِيسِ سَابِعُهَا إذَا كان أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ أَخَفَّ وَحُكْمُ الْآخَرِ أَثْقَلَ فَقِيلَ إنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى وَقِيلَ بِالْعَكْسِ ثَامِنُهَا أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَحَدِهِمَا لَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَالْآخَرُ تَعُمُّ بِهِ فَالْأَوَّلُ رَاجِحٌ لِلِاتِّفَاقِ فيه تَاسِعُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُوجِبًا لِحُكْمَيْنِ وَالْآخَرُ مُوجِبًا لِحُكْمٍ وَاحِدٍ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِاشْتِمَالِهِ على زِيَادَةِ عِلْمٍ يَنْفِيهَا الثَّانِي وفي تَقْدِيمِ الثَّانِي عليه إبْطَالُهَا عَاشِرُهَا الْحُكْمُ الْمُثْبِتُ لِلْحُكْمِ الْوَضْعِيِّ أَوْلَى من الْحُكْمِ الْمُثْبِتِ لِلْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ لِأَنَّ الْوَضْعِيَّ لَا يَتَوَقَّفُ على ما يَتَوَقَّفُ
____________________
(4/468)
عليه التَّكْلِيفِيُّ من أَهْلِيَّةِ الْمُخَاطَبِ وَفَهْمِهِ وَتَمَكُّنِهِ لِأَنَّ غير الْمُتَوَقِّفِ أَوْلَى من الْمُتَوَقِّفِ وَقِيلَ التَّكْلِيفِيُّ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَثُوبَةً وَأَنَّهُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ بِالذَّاتِ وَأَنَّهُ الْأَكْثَرُ من الْأَحْكَامِ فَكَانَ أَوْلَى الثَّالِثُ التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ وَلَهُ أَسْبَابٌ أَوَّلُهَا اعْتِضَادُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ بِقَرِينَةِ الْكِتَابِ كَتَقْدِيمِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَرِيضَتَانِ على رِوَايَةِ الْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ لِمُوَافَقَتِهِ لِحُكْمِ الْقُرْآنِ من كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وهو قَوْله تَعَالَى وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَهَذَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فَعَارَضَهُ الْقَاضِي وقال وَقَوْلُهُ أَتِمُّوا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ وَنَحْنُ نَقُولُ لِلْقَاضِي يَجُوزُ التَّرْجِيحُ بِالْمُسْتَقِلِّ وَإِنْ مَنَعْنَاهُ لَكِنَّا أَخَذْنَا من الْمُسْتَقِلِّ وَصْفًا في الدَّلِيلِ وهو تَرَاخِي النَّظْمِ وكان الشَّافِعِيُّ يقول ما وَافَقَ ظَاهِرَ الْكِتَابِ كانت النُّفُوسُ أَمْيَلَ إلَيْهِ وَالْقَاضِي يقول بَلْ الذي يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْكِتَابِ لَا يُنْقَلُ ما نُقِلَ إلَّا عن زِيَادَةِ الثَّبْتِ وما ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَقْرَبُ إلَى قِيَاسِ الْأُصُولِ وما ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَوْفَقُ لِلْعُرْفِ وهو الْمُعْتَبَرُ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ما ذَكَرُوهُ عن الشَّافِعِيِّ فيه نَظَرٌ فإن إتْمَامَ الْحَجِّ ليس فيه تَعَرُّضٌ لِلِابْتِدَاءِ وَهُمَا مُفْتَرِقَانِ في وُجُوبِ إتْمَامِهِمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا قال ولم يذكر هذا لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَهُ مُتَنَمِّقًا بِإِيرَادِ كَلَامِهِ وَنَحْنُ نَقُولُ لِلْإِمَامِ الْإِتْمَامُ يُطْلَقُ تَارَةً على أَصْلِ الْفِعْلِ وَعَلَى إتْمَامِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فيه لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْأَوَّلُ فإن الْآيَةَ نَزَلَتْ في عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ ولم يَكُنْ صلى اللَّهُ عليه وسلم مُحْرِمًا بِالْحَجِّ حتى يُؤْمَرَ بِإِتْمَامِهِ
____________________
(4/469)
وَمِنْ مُثُلِهِ التَّغْلِيسُ بِالْفَجْرِ فإنه مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ من رَبِّكُمْ وَكَتَرْجِيحِ حديث ابْنِ عَبَّاسٍ في التَّشَهُّدِ لِمُوَافَقَتِهِ لِقَوْلِهِ تَحِيَّةً من عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً وَتَرْجِيحِ حديث عَائِشَةَ في الْبُكَاءِ على الْمَيِّتِ لِقَوْلِهِ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَهَذَا يَسْتَعْمِلُهُ الشَّافِعِيُّ كَثِيرًا وَبَنَى عليه هذه الْأُصُولَ وَكَذَا قُدِّمَ حَدِيثُ خَوَّاتٍ في صَلَاةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ على رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ لِأَجْلِ الْحَذَرِ الْمَأْمُورِ بِهِ في الْقُرْآنِ وَجَعَلَهُ في الْمَنْخُولِ من أَصْلِهِ فَوَافَقَ الْأُصُولَ لِأَنَّ رِوَايَةَ خَوَّاتُ الْأَفْعَالُ فيها قَلِيلَةٌ قال وقال الْقَاضِي لِلشَّافِعِيِّ إنْ كُنْت تَتَّهِمُ ابْنَ عُمَرَ بِحَيْدِهِ عن الْقِيَاسِ فَمُحَالٌ وَلَيْسَ الْقِيَاسُ مُنَاسِبًا لِمَأْخَذِ الدَّلِيلِ حتى يَقْدَحَ فيه وَإِنْ قُلْت إنَّ الْغَالِبَ على الرَّسُولِ الْجَرْيُ على قِيَاسِ الْأُصُولِ فَيُعَارِضُهُ أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ النَّاقِلَ عن الْقِيَاسِ يَكُونُ أَثْبَتَ في الرِّوَايَةِ من الْمُسْتَمِرِّ عليه وَلِهَذَا تُقَدَّمُ شَهَادَةُ الْإِبْرَاءِ على شَهَادَةِ أَصْلِ الدَّيْنِ قال إلْكِيَا وما ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَوْجَهُ في مُطَّرِدِ الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ وَلَا يَظْهَرُ لِلْمَسْأَلَةِ فَائِدَةٌ في الْحُكْمِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في الطَّرِيقِ وَهَذَا الْخِلَافُ بين الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّصِّ أَمَّا إذَا تَعَارَضَ ظَاهِرَانِ وَاعْتُضِدَ أَحَدُهُمَا بِقِيَاسٍ فَلَا شَكَّ أَنَّ الذي لم يُتَّجَهْ فيه تَأْوِيلٌ مُتَأَيِّدٌ لِلْقِيَاسِ لَا يُبَالَى بِهِ وَلَوْ تَعَارَضَ قِيَاسَانِ عَاضَدَانِ لِلتَّأْوِيلِ وَأَحَدُهُمَا أَجْلَى قُدِّمَ الْأَجْلَى وَلَوْ تَعَارَضَ ظَاهِرَانِ أو نَصَّانِ وَأَحَدُهُمَا أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ فَالْقَاضِي يَرَى تَعَارُضَهُمَا أَخْذًا مِمَّا تَقَدَّمَ وَالشَّافِعِيُّ يَرَى تَقْدِيمَ الْأَحْوَطِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ كَرِوَايَةِ خَوَّاتٍ مع ابْنِ عُمَرَ وَكَإِحْدَى الْآيَتَيْنِ إذَا تَضَمَّنَتْ إحْدَاهُمَا تَحْلِيلًا وَالْأُخْرَى تَحْرِيمًا وقد قال عُثْمَانُ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ فَلَا يُتَّجَهُ في ذلك إلَّا الْحُكْمُ بِالِاحْتِيَاطِ ثَانِيهَا أَنْ يَكُونَ فِعْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مُوَافِقًا له فإنه يُقَدَّمُ على الْآخَرِ كَحَدِيثِ التَّغْلِيسِ ثَالِثُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَوْلًا وَالْآخَرُ فِعْلًا فَيُقَدَّمُ الْقَوْلُ لِأَنَّ له صِيغَةً وَالْفِعْلُ لَا صِيغَةَ له وقد سَبَقَ في الْأَفْعَالِ الْخِلَافُ في ذلك
____________________
(4/470)
رَابِعُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُصَرِّحًا بِالْحُكْمِ وَالْآخَرُ على طَرِيقِ ضَرْبِ الْمِثَالِ كَاحْتِجَاجِنَا في وُجُوبِ الصَّلَاةِ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا بِحَدِيثِ صلى بِي جِبْرِيلُ الْحَدِيثُ وَاسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ ما مِثْلُكُمْ مع من كان قَبْلَكُمْ إلَّا كَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا إلَى آخِرِهِ فَاحْتَجُّوا بِهِ على أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ آخَرُ الْوَقْتِ ذَكَرَهُ ابن بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ وقال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ تُرَجَّحُ الْعِبَارَةُ على الْإِشَارَةِ فإن حَدِيثَ الْإِجَارَةِ سِيقَ لِبَيَانِ فَضِيلَةِ هذه الْأُمَّةِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ أَكْثَرُ من وَقْتِ الْعَصْرِ بِأَنْ يَبْقَى وَقْتُ الظُّهْرِ إلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ كما قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لو انْتَهَى لِصَيْرُورَةِ ظِلِّ الشَّيْءِ مثله لَكَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ أَكْثَرَ من وَقْتِ الظُّهْرِ لَكِنَّهُ مُتَعَارِضٌ بِصَلَاةِ جِبْرِيلَ وَهِيَ عِبَارَةٌ تَرَجَّحَتْ على الْإِشَارَةِ خَامِسُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عليه عَمَلُ أَكْثَرِ أَهْلِ السَّلَفِ فَيُقَدَّمُ على ما ليس كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ يُوَفَّقُ لِلصَّوَابِ ما لَا يُوَفَّقُ له الْأَقَلُّ كَتَقْدِيمِنَا حَدِيثَ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ في الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَأَنَّهَا سَبْعَةٌ سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وفي الثَّانِيَةِ خَمْسٌ سِوَاهَا أَيْضًا على حديث الْحَنَفِيَّةِ أنها في الْأُولَى خَمْسٌ وفي الثَّانِيَةِ أَرْبَعٌ لِعَمَلِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ على الْأَوَّلِ وَقِيلَ لَا يُرَجَّحُ وَبِهِ قال الْكَرْخِيّ وَالْجُبَّائِيُّ لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ في قَوْلِ الْأَكْثَرِ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا تَعَارَضَا وَعَمِلَ بِأَحَدِهِمَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ ولم يُنْقَلْ مِثْلُ ذلك في الْآخَرِ فَيُرَجَّحُ الْأَوَّلُ قال في الْمَنْخُولِ وَإِنْ كنا لَا نَرَى تَقْدِيمَ عَمَلِ الصَّحَابَةِ على الحديث خِلَافًا لِمَالِكٍ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ اسْتَشْهَدَ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَاهُ أَنَسٌ في نُصُبِ
____________________
(4/471)
النَّعَمِ وَقَدَّمَهُ على رِوَايَةِ عَلِيٍّ فيها لِأَنَّ عَمَلَ الشَّيْخَيْنِ يُوَافِقُ رِوَايَةَ أَنَسٍ فقال رضي اللَّهُ عنه أُقَدِّمُ حَدِيثَ أَنَسٍ قال الْإِمَامُ وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ التَّأَنِّي فيه فَلَيْسَ هذا من بَابِ عَمَلِ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِ الْخَبَرِ إذْ لم يَصِحَّ عِنْدَنَا بُلُوغُهُمْ حَدِيثَ عَلِيٍّ ثُمَّ لم يَعْمَلُوا بِهِ وَالرَّأْيُ تَعَارُضُهُمَا وَيُقَدَّمُ حَدِيثُ أَنَسٍ من جِهَةِ أَنَّ النُّصُبَ مَقَادِيرُ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فيها فَيُقَدَّمُ من هذه الْجِهَةِ قال إلْكِيَا وَاَلَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّا إنْ تَحَقَّقْنَا بُلُوغَ الْحَدِيثَيْنِ الصَّحَابَةَ وَخَالَفُوا أَحَدَهُمَا فَمُخَالَفَةُ الصَّحَابَةِ لِلْحَدِيثِ قَادِحَةٌ فيه سَوَاءٌ عَارَضَهُ غَيْرُهُ أَمْ لَا وَفِيهِ خِلَافٌ وَإِنْ لم يَتَحَقَّقْ بُلُوغُ الحديث إيَّاهُمْ فَالشَّافِعِيُّ يُرَجِّحُ بِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ على الْجُمْلَةِ فإن الحديث الْآخَرَ إذَا لم يَبْلُغْهُمْ لم يَكُونُوا مُخَالِفِينَ له حتى يُقَالَ لَعَلَّهُمْ عَمِلُوا بِنَاسِخٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ ما عَمِلُوا بِهِ مُدَّةَ عُمْرِهِمْ يَدُلُّ على أَنَّهُ الْأَصَحُّ وَالْأَوْضَحُ سَادِسُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يَتَوَارَثُهُ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ وَالْآخَرُ لم يَتَوَارَثُوهُ فَيُقَدَّمُ الْأَوَّلُ على الثَّانِي كَتَقْدِيمِ رِوَايَةِ التَّرْجِيعِ في الْأَذَانِ قَالَهُ ابن بَرْهَانٍ سَابِعُهَا أَنْ يَكُونَ مع أَحَدِهِمَا عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ قال وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في عَمَلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ إذَا انْضَافَ إلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ولم يَكُنْ مع الْأُخْرَى عَمَلُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَلَا الْكَثِيرُ الظَّاهِرُ فَقِيلَ مُوَافَقَةُ الْعَمَلِ من هذه الْجِهَةِ يُوجِبُ التَّقْدِيمَ وَيَرْجَحُ وقال الْأَكْثَرُونَ إنَّهُ لَا يَكُونُ تَرْجِيحًا ثَامِنُهَا أَنْ يَكُونَ مع أَحَدِهِمَا مُرْسَلٌ عن ثِقَةٍ فَتُقَدَّمُ بِهِ الرِّوَايَةُ التي تُوَافِقُهُ تَاسِعُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ وَالْآخَرُ مُخَالِفًا له كَحَدِيثِ الضَّحِكُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مع حديث يُبْطِلُ
____________________
(4/472)
الصَّلَاةَ وَلَا يُبْطِلُ الْوُضُوءَ قَالَهُ ابن بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَعْقُولَ الْمَعْنَى أَغْلَبُ شَرْعًا فَالْإِلْحَاقُ بِالْغَالِبِ أَوْلَى من الْإِلْحَاقِ بِالنَّادِرِ وَسَبَقَ ما فيه من الْخِلَافِ عَاشِرُهَا أَنْ يَكُونَ مع كُلٍّ مِنْهُمَا تَأْوِيلٌ وَقِيَاسُ أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ أَوْضَحُ فَهُوَ مُقَدَّمٌ قال في الْمَنْخُولِ وَاخْتَلَفُوا في أَنَّ هذا هل يَكُونُ تَرْجِيحًا بِالْقِيَاسِ قال الْقَاضِي جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ تَرْجِيحَ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ وَالظَّاهِرَ بِالْقِيَاسِ وأنا أُجَوِّزُ تَرْجِيحَ الظَّاهِرِ دُونَ النَّصِّ وقال الْغَزَالِيُّ الْمُخْتَارُ أَنَّ هذا تَقْدِيمُ حَدِيثٍ غَيْرِ مُؤَوَّلٍ على حَدِيثٍ مُؤَوَّلٍ وَلَكِنْ من التَّأْوِيلِ بِالْقِيَاسِ الْكَلَامُ على تَرَاجِيحِ الْأَقْيِسَةِ وَهِيَ إمَّا أَنْ تَكُونَ قَطْعِيَّةً فَيَدْخُلُهَا التَّرْجِيحُ وَإِنْ قُلْنَا بِتَفَاوُتِ الْمَعْلُومِ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ ظَنِّيَّةً فَكَذَلِكَ على الْمَشْهُورِ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن الْقَاضِي أَنَّهُ ليس في الْأَقْيِسَةِ الْمَظْنُونَةِ تَقْدِيمٌ وَلَا تَأْخِيرٌ وَإِنَّمَا الظُّنُونُ على حَسَبِ الِاتِّفَاقِ قال وَبَنَاهُ على أَصْلِهِ أَنَّهُ ليس في مَجَالِ الظُّنُونِ مَطْلُوبٌ وإذا لم يَكُنْ مَطْلُوبٌ فَلَا طَرِيقَ على التَّعْيِينِ وَإِنَّمَا الْمَظْنُونُ على حَسَبِ الْوِفَاقِ ثُمَّ عَظَّمَ الْإِمَامُ النَّكِيرَ على الْقَاضِي وقال هذه هَفْوَةٌ عَظِيمَةٌ وَأَلْزَمَهُ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لِلِاجْتِهَادِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْقَاضِيَ لم يُرِدْ ما حَكَاهُ الْإِمَامُ عنه كَيْفَ وقد عَقَدَ فُصُولًا في التَّقْرِيبِ في تَقْدِيمِ بَعْضِ الْعِلَلِ على بَعْضٍ فَعُلِمَ أَنَّهُ ليس يَعْنِي إنْكَارَ التَّرْجِيحِ فيها وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يُقَدِّمُ نَوْعًا على نَوْعٍ على الْإِطْلَاقِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُرَدَّ الْأَمْرُ في ذلك إلَى ما يَظُنُّهُ الْمُجْتَهِدُ رَاجِحًا وَالظُّنُونُ تَخْتَلِفُ فإنه قد يَتَّفِقُ في آحَادِ النَّوْعِ الْقَوِيِّ شَيْءٌ يَتَأَخَّرُ عن النَّوْعِ الضَّعِيفِ وَهَذَا صَحِيحٌ وهو رَاجِعٌ إلَى ما قَالَهُ الْإِمَامُ عن تَقْدِيمِ الشَّبَهِ الْجَلِيِّ على الْمَعْنَى الْخَفِيِّ مع أَنَّ غَالِبَ الْمَعْنَى مُقَدَّمٌ على غَالِبِ الشَّبَهِ وَكَأَنَّهُ يقول التَّرْجِيحُ في الْأَقْيِسَةِ الظَّنِّيَّةِ ثَابِتٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ آحَادِ كل نَوْعٍ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَالِبِ كل نَوْعٍ وَأَمَّا قَوْلُ الْإِمَامِ إنَّهُ بَنَاهُ على أَصْلِهِ في أَنَّهُ ليس في الْمُجْتَهَدَاتِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ فَضَعِيفٌ وَشُبْهَةُ الْإِمَامِ في ذلك أَنَّهُ إذَا قال لَا حُكْمَ فَكَأَنَّهُ قال لَا مَطْلُوبَ
____________________
(4/473)
فَنَقُولُ إنْ كان كما قُلْت اسْتَحَالَ الظَّنُّ وَالْحُكْمُ بِأَنَّ الظُّنُونَ لَا تَقْدِيمَ فيها وَلَا تَأْخِيرَ فَرْعُ وُجُودِهَا نعم الْقَاضِي يقول لَا حُكْمَ في الْمُجْتَهَدَاتِ قبل الظَّنِّ وَلَكِنْ فيها مَطْلُوبٌ وهو السَّبَبُ الذي يُبْنَى على ظَنِّهِ وُجُودُ الْحُكْمِ كَصِحَّةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ أو الظَّاهِرِ أو الْقِيَاسِ مَثَلًا فَيَطْلُبُ الْمُجْتَهِدُ ظَنَّ وُجُودِ ذلك وَالظُّنُونُ تَخْتَلِفُ وَيَكُونُ بِاعْتِبَارَاتٍ الْأَوَّلُ بِحَسَبِ الْعِلَّةِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ تَعَارُضُ الْعِلَّتَيْنِ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَتَعَارَضَا في حَقِّ مُجْتَهِدَيْنِ فَلَا يُوجِبُ التَّعَارُضُ فَسَادَهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَأْخُذُ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ والثاني تَعَارُضُهُمَا في حَقِّ مُجْتَهِدٍ وَاحِدٍ فَيُوجِبُ التَّعَارُضُ فَسَادَهُمَا إلَّا أَنْ يُوجَدَ تَرْجِيحٌ لِإِحْدَاهُمَا على الْأُخْرَى ثُمَّ إنَّ التَّرْجِيحَ لَا يَقَعُ بين دَلِيلَيْنِ مُوجِبَيْنِ لِلْعِلْمِ وَلَا بين دَلِيلٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَآخَرَ يُوجِبُ الظَّنَّ وَإِنَّمَا يَتَعَارَضَا الْمُفِيدَانِ لِلظَّنِّ وَلَا بُدَّ من تَرْجِيحٍ انْتَهَى فَنَقُولُ له اعْتِبَارَاتٌ أَوَّلُهَا يُرَجَّحُ الْقِيَاسُ الْمُعَلَّلُ بِالْوَصْفِ الْحَقِيقِيِّ الذي هو مَظِنَّةُ الْحِكْمَةِ على الْقِيَاسِ الْمُعَلَّلِ بِنَفْسِ الْحِكْمَةِ لِلْإِجْمَاعِ من الْقِيَاسَيْنِ على صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِالْمَظِنَّةِ فَيَرْجِعُ التَّعْلِيلُ بِالسَّفَرِ الذي هو مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ على التَّعْلِيلِ بِنَفْسِ الْمَشَقَّةِ ثَانِيهَا تَرْجِيحُ التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ على التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْعَدَمِيِّ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَكُونُ عِلَّةً إلَّا إذَا عُلِمَ اشْتِمَالُهُ على الْحِكْمَةِ فَالدَّاعِي إلَى شَرْعِ الْحُكْمِ في الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هو الْحِكْمَةُ وإذا كانت الْعِلَّةُ الْحِكْمَةَ لَا ذلك الْعَدَمَ كان التَّعْلِيلُ بها أَوْلَى وَقَضِيَّةُ هذه الْعِلَّةِ أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ رَاجِحًا على التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْوُجُودِيِّ الْحَقِيقِيِّ لَكِنَّ التَّعْلِيلَ بِالْحَقِيقِيِّ رَاجِحٌ عليه من جِهَةِ كَوْنِهِ مُنْضَبِطًا وَلِهَذَا اتَّفَقُوا عليه بِخِلَافِ التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ وَالْحَاجَةِ فإنه غَيْرُ مُنْضَبِطٍ ثَالِثُهَا يُرَجَّحُ الْمُعَلَّلُ حُكْمُهُ بِالْوَصْفِ الْعَدَمِيِّ على الْمُعَلَّلِ حُكْمُهُ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْعَدَمِيِّ يَسْتَدْعِي كَوْنَهُ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ لَا يَكُونُ عِلَّةً إلَّا بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ وَالتَّعْلِيلُ بِالْمُنَاسِبِ أَوْلَى من
____________________
(4/474)
التَّعْلِيلِ بِالْأَمَارَةِ هذا اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْمِنْهَاجِ وَالتَّحْصِيلِ وَالْفَائِقِ وَذَكَرَ الْإِمَامُ في الْمَسْأَلَةِ احْتِمَالَيْنِ بِلَا تَرْجِيحِ أَحَدُهُمَا هذا وَالثَّانِي عَكْسُهُ لِأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ أَشْبَهُ بِالْوُجُودِ رَابِعُهَا يُرَجَّحُ الْمُعَلَّلُ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ على الْمُعَلَّلِ بِغَيْرِهِ خَامِسُهَا يُرَجَّحُ الْمُعَلَّلُ بِالْمُتَعَدِّيَةِ على الْمُعَلَّلِ بِالْقَاصِرَةِ في قَوْلِ الْقَاضِي وَالْأُسْتَاذِ أبي مَنْصُورٍ وَابْنِ بَرْهَانٍ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّهُ الْمَشْهُورُ فإنه أَغْزَرُ فَائِدَةً وقال أبو إِسْحَاقَ الْقَاصِرَةُ مُتَقَدِّمَةٌ لِأَنَّهَا مُعْتَضِدَةٌ بِالنَّصِّ وَمَالَ إلَيْهِ في الْمُسْتَصْفَى فَقِيلَ له الْحُكْمُ هو الْمُعْتَضِدُ دُونَ الْعِلَّةِ وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ وَاخْتَارَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن الْقَاضِي وَاخْتَارَ في الْمَنْخُولِ أَنَّهُمَا إنْ تَوَارَدَا على حُكْمٍ وَاحِدٍ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَلَا تَرْجِيحَ وَإِنْ تَنَافَيَا فَلَا يَلْتَقِيَانِ نعم يَكْفِي طَرْدُ الْمُتَعَدِّيَةِ عَكْسَ الْقَاصِرَةِ وَلَا يُقَاوِمُ الطَّرْدُ الْعَكْسَ أَصْلًا وَإِنْ فُرِضَ ازْدِحَامٌ على حُكْمِ تَقْدِيرِ الِاتِّفَاقِ على اتِّحَادِ الْعِلَّةِ فَالْمُتَعَدِّيَةُ أَوْلَى لِمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ على جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِأَكْثَرَ من عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ مَنَعْنَاهُ كما اخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ فَلَا تَعَارُضَ ثُمَّ أَوْرَدَ على نَفْسِهِ سُؤَالًا مَضْمُونُهُ وُقُوعُ التَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا وَاسْتَمَدَّ منه أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَجَّحَ الْقَاصِرَةَ وَذَلِكَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَبَا حَنِيفَةَ اتَّفَقَا على أَنَّ الْأَمَةَ تُخَيَّرُ إذَا عَتَقَتْ تَحْتَ الْعَبْدِ وَاخْتُلِفَ إذَا عَتَقَتْ تَحْتَ الْحُرِّ وَنَشَأَ اخْتِلَافُهُمَا من الِاخْتِلَافِ في عِلَّةِ الْأَصْلِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنَّمَا خُيِّرَتْ تَحْتَ الْعَبْدِ لِفَضْلِهَا حِينَئِذٍ عليه بِالْحُرِّيَّةِ فَلَا تُخَيَّرُ تَحْتَ الْحُرِّ فَالْعِلَّةُ حِينَئِذٍ قَاصِرَةٌ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ إنَّمَا خُيِّرَتْ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ نَفْسَهَا فَتُخَيَّرُ تَحْتَ الْحُرِّ لِأَنَّ الْعِلَّةَ مُطَّرِدَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ ثُمَّ انْفَصَلَ عن هذا السُّؤَالِ بِإِبْطَالِ الْعِلَّتَيْنِ جميعا أَمَّا عِلَّةُ أبي حَنِيفَةَ فقال الْقَاضِي لَا مَعْنًى لِتَعْلِيلِ الْخِيَارِ بِتَمَلُّكِهَا نَفْسَهَا لِأَنَّهَا إنْ مَلَكَتْ مَوْرِدَ النِّكَاحِ انْفَسَخَ فَلَا اخْتِيَارَ وَإِنْ مَلَكَتْ غَيْرَهُ فَهُوَ أَجْنَبِيٌّ فَلَا تَخْتَارُ في غَيْرِ ما مَلَكَتْ تَنْبِيهٌ قد يُنَازَعُ في دُخُولِ التَّرْجِيحِ من هَذَيْنِ في الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقَاصِرَةَ لَا وُجُودَ لها في غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ وَلَا يَخْفَى امْتِنَاعُ الْقِيَاسِ بِنَاءً على عِلَّةٍ يَخْتَصُّ بها مَحَلُّهَا فَكَيْفَ
____________________
(4/475)
صُورَةُ التَّرْجِيحِ وَالْجَوَابُ أَنَّ نَتِيجَةَ التَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا إمْكَانُ الْقِيَاسِ وَعَدَمُ إمْكَانِهِ مِثَالُهُ الثَّمَنِيَّةُ وَالْوَزْنُ في النَّقْدَيْنِ لِمَنْ رَجَّحَ الْوَزْنَ مُرَتِّبٌ على تَرْجِيحِهِ إمْكَانَ الْقِيَاسِ فَتَرَتَّبَ على تَرْجِيحِ الثَّمَنِيَّةِ امْتِنَاعُ الْقِيَاسِ وَهَذِهِ فَائِدَةٌ سَادِسُهَا إذَا فَرَّعْنَا على تَقْدِيمِ التَّعَدِّيَةِ فَتَعَارَضَتْ عِلَّتَانِ مُتَعَدِّيَتَانِ وَفُرُوعُ إحْدَاهُمَا أَكْثَرُ من فُرُوعِ الْأُخْرَى يُقَدَّمُ ما مَجَالُ تَعَدِّيهِ أَكْثَرُ لِكَثْرَةِ الْفَائِدَةِ قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَزَيَّفَهُ في الْمَنْخُولِ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ فيه نَظَرٌ وَكَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَرْجِيحَ فيها ثُمَّ قال وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ كَثْرَةَ الْفُرُوعِ تَقْتَضِي التَّرْجِيحَ فَلَوْ كَثُرَتْ فُرُوعُ عِلَّةٍ وَقَلَّتْ فُرُوعُ أُخْرَى وَلَكِنَّ الْقَلِيلَةَ الْفُرُوعُ اعْتَضَدَتْ بِنَظَائِرَ تُضَاهِي في عِدَّتِهَا فُرُوعَ الْعِلَّةِ الْكَثِيرَةِ كانت كَثِيرَةَ النَّظَائِرِ في مُقَابَلَةِ كَثِيرَةِ الْفُرُوعِ ثُمَّ مَثَّلَهَا بِعِلَّتَيْ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ في إيجَابِ الْكَفَّارَةِ في الْجِمَاعِ فَالْعِلَّةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَطْءُ الْمَرْأَةِ في قُبُلِهَا وَفُرُوعُهُ قَلِيلَةٌ وَهِيَ الْإِتْيَانُ في الدُّبُرِ وَإِتْيَانُ الْبَهِيمَةِ لَكِنَّ نَظَائِرَهُ كَثِيرَةٌ فإن الشَّرْعَ رَتَّبَ الْأَحْكَامَ على الْوَطْءِ كَالْإِحْلَالِ وَالْإِحْصَانِ وَالْحَدِّ وَإِفْسَادِ الْحَجِّ وَغَيْرِ ذلك وَالْعِلَّةُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ إفْسَادُ الصَّوْمِ وَفُرُوعُهَا كَثِيرَةٌ وَهِيَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَكُلُّ سَبَبٍ يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ وَأَسْبَابُ فَسَادِ الصَّوْمِ وَاسِعَةٌ ثُمَّ تَكَلَّمَ الْإِمَامُ على هذا الْمِثَالِ بِمَا يَبْطُلُ انْدِرَاجُهُ تَحْتَ الْقَاعِدَةِ فقال النَّظَائِرُ الْمَذْكُورَةُ لَا اعْتِبَارَ بها أَلْبَتَّةَ وَلَيْسَتْ كَالنَّظَائِرِ التي اعْتَدَّ بها في الْأَشْبَاهِ كَضَرْبِ الْعَقْلِ الْقَلِيلِ اعْتِبَارًا بِضَرْبِ حِصَصِ الشُّرَكَاءِ لِأَنَّ ذلك في غَيْر الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الْمَرْتَبَةُ على الْوَطْءِ نَائِبَةٌ عن إيجَابِ الْكَفَّارَةِ لَا يَجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحُكْمِ الْمُنَظَّرِ إلَّا اسْمُ الْحُكْمِ وَلَقَبُهُ خَاصَّةً وَهَذَا الذي قَالَهُ الْإِمَامُ صَحِيحٌ فَإِنَّا لو اعْتَبَرْنَا الِاشْتِرَاكَ في عُمُومِ الْحُكْمِ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مُلَائِمًا وَلَاسْتَحَالَ الْغَرِيبُ ثُمَّ حُكِيَ عن جَمَاعَةٍ من أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إذَا كانت إحْدَاهُمَا أَكْثَرَ فُرُوعًا وَالْأُخْرَى مُطَبَّقَةً على الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِلَا تَأْوِيلٍ وَالْكَثِيرَةُ الْفُرُوعِ تَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ في بَعْضِ مَجَارِيهَا فَهَذَا نَقْصٌ من جَرَيَانِهَا وَيُقْدَحُ في التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ فُرُوعِهَا كَاعْتِبَارِنَا في الْقَرَابَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلنَّفَقَةِ وَالْعِتْقِ بِالتَّعْصِيبِ وَهَذَا يَجْرِي في الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ على انْطِبَاقٍ وَاعْتَبَرَ أبو حَنِيفَةَ الرَّحِمَ وَالْمَحْرَمِيَّةَ وَفُرُوعَ عِلَّتِهِ وَإِنْ كانت مُرَكَّبَةً أَكْثَرَ فَإِنَّمَا تَتَنَاوَلُ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ غير أَنَّ الرَّحِمَ وَالْمَحْرَمِيَّةَ لَا يَجْرِيَانِ إلَّا على تَأْوِيلٍ من الذَّكَرَيْنِ وَالْأُنْثَى وهو من رَكِيكِ الْكَلَامِ
____________________
(4/476)
سَابِعُهَا تَرَجُّحُ الْعِلَلِ الْبَسِيطَةِ على الْعِلَلِ الْمُرَكَّبَةِ كَتَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ في الْجَدِيدِ الرِّبَا بِالطُّعْمِ في الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ مع ضَمِّهِ في الْقَدِيمِ النَّقْدِيَّةَ إلَى الطُّعْمِ على الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ في الْحَدِّ بَسِيطَةٌ وهو أَحَدُ الْأَوْجُهِ عِنْدَنَا هذا ما عليه الْجَدَلِيُّونَ وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ من الْأُصُولِيِّينَ وَبِهِ جَزَمَ ابن بَرْهَانٍ إذْ يُحْتَمَلُ في الْمُرَكَّبَةِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ هِيَ الْأَجْزَاءُ لَا هِيَ جُمْلَتُهَا وَلِأَنَّ الْبَسِيطَةَ تَكْثُرُ فُرُوعُهَا وَفَوَائِدُهَا وَلِأَنَّ الِاجْتِهَادَ فيها يَقِلُّ فَيَقِلُّ خَطَرُهُ وَلِأَنَّ الْخِلَافَ وَاقِعٌ في جَوَازِ التَّرْكِيبِ في الْعِلَلِ فَالْمُتَّفَقُ عليه أَوْلَى قال الْإِمَامُ هذا الْمَسْلَكُ بَاطِلٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَقِيلَ بَلْ تُرَجَّحُ الْمُرَكَّبَةُ وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ قال الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ وَلَعَلَّهُ الصَّحِيحُ ثَامِنُهَا تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الْقَلِيلَةُ الْأَوْصَافِ على الْكَثِيرَةِ الْأَوْصَافِ كَتَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ في الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ على الْقَوْلِ بِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ وَحَكَى الشَّيْخُ أبو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ في شَرْحِ التَّلْخِيصِ إجْمَاعَ النُّظَّارِ وَالْأُصُولِيِّينَ عليه قال وَإِنَّمَا رَجَّحْت بِذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصْفَ الزَّائِدَ لَا أَثَرَ له في الْحُكْمِ وَصَحَّ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ مع عَدَمِهِ وَلِأَنَّ الْكَثِيرَةَ الْأَوْصَافِ يَقِلُّ فيها إلْحَاقُ الْفُرُوعِ فَكَانَ كَاجْتِمَاعِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَالْقَاصِرَةِ قال وَلَا أَعْرِفُ خِلَافًا بين أَصْحَابِنَا في ذلك إذْ الْقَلِيلَةُ الْأَوْصَافِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْأَكْثَرِ فَإِنْ كانت غير دَاخِلَةٍ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ أَوْصَافُ إحْدَاهُمَا غير أَوْصَافِ الْأُخْرَى مِثْلَ أَنْ تَجْعَلَ إحْدَاهُمَا الْعِلَّةَ الطَّعْمَ وَالْأُخْرَى الْكَيْلَ وَالْجِنْسَ فَاخْتَلَفُوا فيه فَقِيلَ الْقَلِيلَةُ الْأَوْصَافِ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَكْثَرُ فُرُوعًا وهو الْأَصَحُّ من أَصْحَابِنَا من قال هُمَا سَوَاءٌ تَاسِعُهَا الْقِيَاسُ الذي يَكُونُ الْوَصْفُ فيه وُجُودِيًّا على ما إذَا كان أَحَدُهُمَا عَدَمِيًّا أو كَانَا عَدْمَيْنِ وَيُرَجَّحُ تَعْلِيلُ الْعَدَمِيِّ بِالْعَدَمِيِّ على ما إذَا كان أَحَدُهُمَا وُجُودِيًّا لِلْمُشَابَهَةِ بين التَّعْلِيلِ بِالْعَدَمِيِّ لِلْعَدَمِيِّ هَكَذَا قال في الْمَحْصُولِ وقال ابن بَرْهَانٍ إذَا كانت إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ مَحْسُوسَةً وَالْأُخْرَى حُكْمِيَّةً فَقِيلَ تُقَدَّمُ الْمَحْسُوسَةُ لِقُوَّتِهَا وَقِيلَ الْحُكْمِيَّةُ لِأَنَّ الْكَلَامَ في الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَيُقَدَّمُ الْحُكْمِيُّ على الْحِسِّيِّ وَمِثَالُهُ تَرْجِيحُ عِلَّتِنَا في مَسْأَلَةِ الْمَنِيِّ أَنَّهُ مَبْدَأُ خِلْقَةِ الْآدَمِيِّ على عِلَّتِهِمْ أَنَّ الْمَنِيَّ ليس في عَيْنِهِ وَلَا في حُكْمِهِ ما يَدُلُّ على النَّجَاسَةِ عَاشِرُهَا أَنْ تَكُونَ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ أَقَلَّ مُقَدَّمَاتٍ وَالْأُخْرَى مَوْقُوفَةٌ على أَكْثَرِهَا فَالْمَوْقُوفَةُ على الْأَقَلِّ أَرْجَحُ لِأَنَّ ما تَوَقَّفَ على
____________________
(4/477)
مُقَدَّمَاتٍ أَقَلُّ صِدْقِهِ أَغْلَبُ في الظَّنِّ مِمَّا يَتَوَقَّفُ على أَكْثَرَ وَالْعَمَلُ بِأَرْجَحِ الظَّنَّيْنِ وَاجِبٌ وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الْقَلِيلَةُ الْأَوْصَافِ على الْكَثِيرَةِ الْأَوْصَافِ وَقِيلَ الْكَثِيرَةُ أَوْلَى وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ حَادِيَ عَشَرَهَا أَنْ تَكُونَ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ مُطَّرِدَةٌ مُنْعَكِسَةٌ وَالْأُخْرَى غَيْرُ مُنْعَكِسَةٍ فَالْأُولَى أَوْلَى لِأَنَّهُ قد اُشْتُرِطَ الِانْعِكَاسُ في الْعِلَلِ فَتَكُونُ هذه الْعِلَّةُ مُجْمَعًا على صِحَّتِهَا وَالْأُخْرَى لَيْسَتْ كَذَلِكَ هَكَذَا حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن مُعْظَمِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الِانْعِكَاسَ من التَّرْجِيحَاتِ الْمُعْتَمَدَةِ قال وهو مُتَّجَهٌ على قَوْلِنَا أَنَّ الِانْعِكَاسَ دَلِيلُ صِحَّةِ الْعِلَّةِ مَعْنًى فَأَمَّا إذَا جَعَلْنَاهُ شَرْطًا فَلَا تَعَارُضَ فَلَا تَرْجِيحَ لِأَنَّ التي لم تَنْعَكِسْ حِينَئِذٍ بَاطِلَةٌ لِفِقْدَانِ شَرْطِهَا فَاعْتَرَضَهُ ابن الْمُنِيرِ بِقَوْلِهِ إنَّ الْأَدِلَّةَ لَا يُرَجِّحُ بَعْضُهَا بَعْضًا فإذا بَنَيْنَا على أَنَّ الْإِخَالَةَ وَالْعَكْسَ كُلٌّ مِنْهُمَا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ على صِحَّةِ الْعِلَّةِ فَكَيْفَ نُرَجِّحُ مُسْتَقِلًّا بِمُسْتَقِلٍّ وَجَوَابُهُ أَنَّ التَّرْجِيحَ بِاعْتِبَارِ وَصْفِهَا لَا بِذَاتِهَا ثُمَّ اخْتَارَ أَنَّ الْعَكْسَ لَا يُرَجَّحُ بِهِ لِأَنَّ النَّفْيَ ما جاء من قِبَلِ الْعِلَّةِ بَلْ من الْأَصْلِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عليها وَلَا مُرَجِّحًا ثَانِيَ عَشَرَهَا أَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ وَالْأُخْرَى حُكْمِيَّةٌ قال ابن السَّمْعَانِيِّ فَالْحُكْمِيَّةُ أَوْلَى وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال الذَّاتِيَّةُ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَلْزَمُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْحُكْمِ أَشْبَهُ فَيَكُونُ بِالدَّلِيلِ عليه أَوْلَى ثَالِثَ عَشَرَهَا أَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا مُوجِبَةَ الْحُكْمِ وَالْأُخْرَى لِلتَّسْوِيَةِ بين حُكْمٍ وَحُكْمٍ فَاَلَّتِي أَوْجَبَتْ الْحُكْمَ أَوْلَى من الْعِلَّةِ التي تُوجِبُ التَّسْوِيَةَ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا في جَوَازِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعِلَلِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّسْوِيَةِ ولم يَخْتَلِفُوا في الْمُوجِبَةِ لِلْحُكْمِ حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ قال وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ سَهْلٌ الصُّعْلُوكِيُّ في بَعْضِ الْمُنَاظَرَاتِ أَنَّ عِلَّةَ التَّسْوِيَةِ أَوْلَى لِكَثْرَةِ الشَّبَهِ فيه وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ الِاعْتِبَارُ الثَّانِي بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ على وُجُودِ الْعِلَّةِ فَنَقُولُ الذي يَدُلُّ على الْعِلِّيَّةِ إمَّا قَطْعِيٌّ أو ظَنِّيٌّ أَمَّا الْأَوَّلُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَعْلُومَةَ مُقَدَّمَةٌ على الْعِلَّةِ الْمَظْنُونَةِ
____________________
(4/478)
سَوَاءٌ أَكَانَ الْعِلْمُ بِوُجُودِهَا بَدِيهِيًّا أو ضَرُورِيًّا وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنَّ ما عُلِمَ وُجُودُهُ بِشَيْءٍ من هذه الطُّرُقِ هل يُرَجَّحُ بَعْضُهُ على بَعْضٍ كما إذَا عُلِمَ وُجُودُ كُلِّهِ بِالْبَدِيهَةِ وَالْحِسِّ هل يُرَجَّحُ على ما عُلِمَ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ التَّرْجِيحُ بين الْعِلَّتَيْنِ الْمَعْلُومَتَيْنِ سَوَاءٌ كانت إحْدَاهُمَا مَعْلُومَةً بِالْبَدَاهَةِ وَالْأُخْرَى بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وهو قِيَاسُ ما سَبَقَ في النَّصَّيْنِ أَنَّهُ لَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا التَّرْجِيحُ لِعَدَمِ قَبُولِهِمَا احْتِمَالَ النَّقِيضِ قال في الْمَحْصُولِ وَكَلَامُ أبي الْحُسَيْنِ يَدُلُّ على أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَعْلُومَةَ تَقْبَلُ التَّرْجِيحَ قُلْت وَعَلَى هذا فَالْبَدِيهِيَّاتُ وَالْحِسِّيَّاتُ رَاجِحَةٌ على النَّظَرِيَّاتِ وَأَمَّا أَنَّ الْبَدِيهِيَّاتِ تُرَجَّحُ على الْحِسِّيَّاتِ أو الْعَكْسَ فَمَحَلُّ نَظَرٍ وَلَا شَكَّ في تَرْجِيحِ بَعْضِ الْبَدِيهِيَّاتِ على بَعْضٍ وَكَذَلِكَ الضَّرُورِيَّاتُ وَالنَّظَرِيَّاتُ وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ ما كان أَجْلَى وَأَظْهَرَ عِنْدَ الْعَقْلِ فَهُوَ رَاجِحٌ على ما ليس كَذَلِكَ وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ قِيلَ كُلَّمَا كانت الْمُقَدَّمَاتُ الْمُنْتِجَةُ له أَقَلَّ فَهُوَ أَوْلَى قال الْهِنْدِيُّ وهو غَيْرُ مَرْضِيٍّ على إطْلَاقِهِ لِأَنَّهُ قد تَكُونُ الْمُقَدَّمَاتُ الْمُنْتِجَةُ له أَقَلَّ وهو مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى ما تَكُونُ مُقَدَّمَاتُهُ أَكْثَرَ بِكَوْنِ كل وَاحِدٍ من تِلْكَ الْمُقَدَّمَاتِ مَظْنُونًا ظَنًّا قَوِيًّا وَالْمُقَدَّمَاتُ الْقَلِيلَةُ تَكُونُ مَظْنُونَةً ظَنًّا ضَعِيفًا بَلْ الْأَقَلُّ إنَّمَا يُرَجَّحُ إذَا سَاوَى الْأَكْثَرَ في كَيْفِيَّةِ الظَّنِّ فَحَصَلَ إنْ كان ما يُفِيدُ ظَنًّا أَرْجَحَ من الذي يُفِيدُهُ الْآخَرُ فَهُوَ أَوْلَى وَيَخْتَلِفُ ذلك بِقِلَّةِ الْمُقَدَّمَاتِ وَكَثْرَتِهَا وَضَعْفِهَا وَقُوَّتِهَا إذَا عَلِمْت هذا فَالدَّلِيلُ الظَّنِّيُّ الذي يَدُلُّ على وُجُودِ الْعِلَّةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ نَصًّا أو إجْمَاعًا أو قِيَاسًا أَمَّا النَّصُّ فَالْكَلَامُ فيه كما في الْأَوَّلِ وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَيَسْتَحِيلُ تَعَارُضُهُمَا إنْ كَانَا قَطْعِيَّيْنِ أو أَحَدُهُمَا قَطْعِيًّا وَإِنْ كَانَا قَطْعِيَّيْنِ فَهُمَا في مَحَلِّ التَّرْجِيحِ وَأَمَّا الْقِيَاسُ فإذا عَارَضَ الْخَصْمُ قِيَاسَ الْمُسْتَدِلِّ بِقِيَاسٍ آخَرَ وكان وُجُودُ الْأَمْرِ الذي جَعَلَ عِلَّةً الْحُكْمِ في الْأَصْلِ في أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ مَعْلُومًا وفي الْآخَرِ مَظْنُونًا كان الْأَوَّلُ أَوْلَى الِاعْتِبَارُ الثَّالِثُ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ على عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ وَذَلِكَ بِأُمُورٍ أَوَّلُهَا يُرَجَّحُ الْقِيَاسُ الذي تُثْبِتُ عِلِّيَّتُهُ الْوَصْفَ بِحُكْمِ أَصْلِهِ بِالنَّصِّ الْقَاطِعِ على ما لم يَثْبُتْ بِالْقَاطِعِ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ فيه عَدَمُ الْعِلِّيَّةِ
____________________
(4/479)
بِخِلَافِ ما ليس بِقَاطِعٍ وقال في الْمُسْتَصْفَى ذَكَرُوا في التَّرْجِيحِ أَنْ تَثْبُتَ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ بِنَصٍّ قَاطِعٍ وهو ضَعِيفٌ لِأَنَّ الظَّنَّ يُمْحَى في مُقَابَلَةِ الْقَاطِعِ وَلَا يَبْقَى معه حتى يَحْتَاجَ إلَى تَرْجِيحٍ إذْ لو بَقِيَ معه لَتَطَرَّقَ إلَيْهِ الشَّكُّ وَيَخْرُجُ عن كَوْنِهِ مَعْلُومًا وقد بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ لِمَعْلُومٍ على مَعْلُومٍ وَلَا مَظْنُونٍ على مَظْنُونٍ ثَانِيهَا يُرَجَّحُ ما يُثْبِتْ عَلِيَّ ةَ الْوَصْفِ بِالظَّاهِرِ على ما لم يُثْبِتْ بِالظَّاهِرِ من سَائِرِ الْأَدِلَّةِ سِوَى النَّصِّ الْقَاطِعِ وَالْأَلْفَاظُ الظَّاهِرَةُ في إفَادَةِ الْعِلِّيَّةِ ثَلَاثَةٌ اللَّامُ وَإِنْ وَالْبَاءُ وَأَقْوَاهَا اللَّامُ وَتَرَدَّدَ الْإِمَامُ في تَقْدِيمِ الْبَاءِ على إنْ وَاخْتَارَ الْهِنْدِيُّ تَقْدِيمَهَا ثَالِثُهَا يُرَجَّحُ ما يُثْبِتُ عِلِّيَّةَ الْوَصْفِ فيه بِالْمُنَاسَبَةِ على ما عَدَاهَا من الدَّوَرَانِ وَأَشْبَاهِهِ لِقُوَّةِ دَلَالَةِ الْمُنَاسَبَةِ وَاسْتِقْلَالِهَا في إفَادَةِ الْعِلِّيَّةِ وَقِيلَ ما دَلَّ عليه الدَّوَرَانُ أَوْلَى وَعَبَّرُوا عنه بِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمُطَّرِدَةَ الْمُنْعَكِسَةَ أَقْوَى مِمَّا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ لِشَبَهِهَا بِالْعَقْلِيَّةِ وهو ضَعِيفٌ لِأَنَّ الظَّنَّ بِغَلَبَةِ الْمُنَاسَبَةِ أَكْثَرُ من الدَّوَرَانِ وَيُرَجَّحُ الثَّابِتُ عِلِّيَّتُهُ بِالْمُنَاسَبَةِ على ما ثَبَتَ بِالسَّبْرِ خِلَافًا لِقَوْمٍ وَلَيْسَ هذا الْخِلَافُ في السَّبْرِ الْمَقْطُوعِ بِهِ فإن الْعَمَلَ بِهِ مُتَعَيَّنٌ وَلَا يَدْخُلُهُ تَرْجِيحٌ لِوُجُوبِ تَقْدِيمِ الْمَقْطُوعِ بِهِ على الْمَظْنُونِ بَلْ في السَّبْرِ الْمَظْنُونِ الذي كُلُّ مُقَدَّمَاتِهِ ظَنِّيَّةٌ فَإِنْ كان بَعْضُهَا قَطْعِيًّا اخْتَلَفَ حَالُهُ بِحَسَبِهَا وإذا ثَبَتَ رُجْحَانُ الْمُنَاسَبَةِ على الدَّوَرَانِ وَالسَّبْرِ كان رُجْحَانُهُ على الْبَاقِي أَظْهَرَ ثُمَّ الْمُنَاسَبَةُ تَخْتَلِفُ مَرَاتِبُهَا فَيُرَجَّحُ منها ما هو وَاقِعٌ في مَحَلِّ الضَّرُورَةِ على ما هو في مَحَلِّ الْحَاجَةِ وهو الْمَصْلَحِيُّ أو التَّتِمَّةُ وهو التَّحْسِينِيُّ وَالضَّرُورِيَّةُ الدِّينِيَّةُ على الدُّنْيَوِيَّةِ وَيُرَجَّحُ في هذا ما هو أَقْرَبُ اعْتِبَارًا في الشَّرْعِ فَيُرَجَّحُ ما ثَبَتَ اعْتِبَارُ نَوْعِ وَصْفِهِ في نَوْعِ الْحُكْمِ على الْمُعْتَبَرِ نَوْعُ وَصْفِهِ في جِنْسِ الْحُكْمِ وَأَمَّا الْمُرَجَّحُ فِيهِمَا فقال الْإِمَامُ هُمَا كَالْمُتَعَارَضِينَ وقال الْهِنْدِيُّ الْأَظْهَرُ تَقْدِيمُ الْمُعْتَبَرِ نَوْعُ وَصْفِهِ في جِنْسِ الْحُكْمِ على عَكْسِهِ
____________________
(4/480)
تَنْبِيهٌ لو تَعَارَضَ قِيَاسَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَدُلُّ بِالْمُنَاسَبَةِ لَكِنَّ مَصْلَحَةَ أَحَدِهِمَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالدِّينِ وَالْأُخْرَى بِالدُّنْيَا فَالْأُولَى مُقَدَّمَةٌ لِأَنَّ ثَمَرَةَ الدِّينِيَّةِ هِيَ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ التي لَا يُعَادِلُهَا شَيْءٌ كَذَا جَزَمَ بِهِ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ وَحَكَى ابن الْحَاجِبِ قَوْلًا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ لِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ مَبْنِيَّةٌ على الْمُشَاحَّةِ ولم يذكر الْآمِدِيُّ ذلك قَوْلًا وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ سُؤَالًا رَابِعُهَا يُرَجَّحُ الْقِيَاسُ الذي ثَبَتَ عِلِّيَّةُ وَصْفِهِ بِالدَّوَرَانِ على الثَّابِتِ بِالسَّبْرِ وما بَعْدَهُ لِاجْتِمَاعِ الِاطِّرَادِ وَالِانْعِكَاسِ في الْعِلَّةِ الْمُسْتَفَادَةِ من الدَّوَرَانِ دُونَ غَيْرِهِ بَلْ قَدَّمَهُ بَعْضُهُمْ على الْمُنَاسَبَةِ لِأَنَّ الِاطِّرَادَ وَالِانْعِكَاسَ شَبِيهٌ بِالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ ثُمَّ الثَّابِتُ بِالدَّوَرَانِ الْحَاصِلُ في مَحَلٍّ وَاحِدٍ على الْحَاصِلِ في مَحَلَّيْنِ لِقِلَّةِ احْتِمَالِ الْخَطَأِ في الْأَوَّلِ خَامِسُهَا يُرَجَّحُ الثَّابِتُ عِلَّتُهُ بِالسَّبْرِ على الثَّابِتِ بِالشَّبَهِ وما بَعْدَهُ لِأَنَّهُ أَقْوَى في إفَادَةِ الظَّنِّ وَقِيلَ يُقَدَّمُ على الْمُنَاسَبَةِ لِإِفَادَتِهِ لِظَنِّ الْغَلَبَةِ وَبَقِيَ الْمُعَارِضُ بِخِلَافِ الْمُنَاسِبِ فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ على نَفْيِ الْمُعَارِضِ اخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وَيَلْزَمُ منه تَقْدِيمُهُ على الدَّوَرَانِ أَيْضًا عِنْدَ من يُقَدِّمُ الدَّوَرَانِ على الْمُنَاسَبَةِ وَالْمُنَازَعَةِ في غَيْرِ الْمَقْطُوعِ بِهِ سَادِسُهَا يَتَرَجَّحُ الثَّابِتُ عِلَّتُهُ على الثَّابِتِ عِلَّتُهُ بِالطَّرْدِ لِضَعْفِ الظَّنِّ الْحَاصِلِ منه قال الْبَيْضَاوِيُّ وَكَذَا على الثَّابِتِ عِلَّتُهُ بِالْإِيمَاءِ وَاَلَّذِي في الْمَحْصُولِ اتِّفَاقُ الْجُمْهُورِ على أَنَّ ما ثَبَتَ عِلَّتُهُ بِالْإِيمَاءِ رَاجِحٌ على ما ظَهَرَتْ عِلَّتُهُ بِالْوُجُوهِ الْعَقْلِيَّةِ من الْمُنَاسَبَةِ وَالدَّوَرَانِ وَالسَّبْرِ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ وقال الْهِنْدِيُّ هذا ظَاهِرٌ إنْ قُلْنَا لَا تُشْتَرَطُ الْمُنَاسَبَةُ في الْوَصْفِ الْمُومَى إلَيْهِ وَإِنْ قُلْنَا يُشْتَرَطُ فَالظَّاهِرُ تَرْجِيحُ بَعْضِ الطُّرُقِ الْعَقْلِيَّةِ عليها كَالْمُنَاسَبَةِ لِأَنَّهَا تَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ بِخِلَافِ الْإِيمَاءِ فإنه لَا يَسْتَقِلُّ بِذَلِكَ بِدُونِهَا فَكَانَتْ وقال الْإِبْيَارِيُّ شَارِحُ الْبُرْهَانِ وقد يُعْكَسُ كما فَعَلُوا في قَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لَا يَقْضِي الْقَاضِي وهو غَضْبَانُ فإن في الحديث إيمَاءٌ إلَى خُصُوصِ الْغَضَبِ لَكِنْ قَدَّمُوا عليه الْعِلَّةَ الْمُسْتَنْبَطَةَ وهو الدَّهَشُ وَالْحِيرَةُ وَلَيْسَ كما قال وَإِنَّمَا تَمَسَّكَ بِالْإِيمَاءِ
____________________
(4/481)
الْمُجَرَّدِ وَلَا اسْتِنْبَاطَ فإنه أَدَّى بِالْغَضَبِ إلَى الدَّهَشِ الذي اشْتَمَلَ الْغَضَبُ عليه وَالْغَضَبُ طَرْدٌ لَا خُصُوصِيَّةَ له وَإِنَّمَا ذُكِرَ لِخُرُوجِهِ مَخْرَجَ الْغَالِبِ نعم إنْ قَوِيَ اجْتِهَادٌ بِهِ فَلْيُوكَلْ إلَى نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ قُوَّةً وَضَعْفًا وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ مع قَوْلِهِ بِبُطْلَانِ قِيَاسِ الْأَشْبَاهِ قال هُنَا الْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّرْجِيحُ بِهِ وَإِنْ لم يَجُزْ التَّمَسُّكُ بِهِ ابْتِدَاءً الِاعْتِبَارُ الرَّابِعُ بِحَسَبِ دَلِيلِ الْحُكْمِ فَيُرَجَّحُ من الْقِيَاسَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ ما دَلِيلُ حُكْمِ أَصْلِهِ أَقْوَى من دَلِيلِ حُكْمِ الْأَصْلِ الْآخَرِ فَمِنْهَا أَنَّهُ يُرَجَّحُ الْقِيَاسُ الثَّابِتُ حُكْمُ أَصْلِهِ بِالْإِجْمَاعِ على الثَّابِتِ بِالنَّصِّ فإن الذي ثَبَتَ الْحُكْمُ في أَصْلِهِ بِالدَّلَائِلِ اللَّفْظِيَّةِ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ وَالنَّسْخَ وَالتَّأْوِيلَ وَالْإِجْمَاعُ لَا يَقْبَلُهَا هَكَذَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ ثُمَّ قال وَيَحْتَمِلُ تَقْدِيمَ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ على الْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ فَرْعُ النَّصِّ لِكَوْنِ الْمُثْبِتِ له النَّصَّ وَالْفَرْعُ لَا يَكُونُ أَقْوَى من الْأَصْلِ وَبِهَذَا جَزَمَ صَاحِبُ الْحَاصِلِ وَالْمِنْهَاجِ وهو ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ الذي ثَبَتَ بِهِ الْإِجْمَاعُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لم يُنْسَخْ فَلَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ أَقْوَى من ذلك وَأَمَّا ما لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَقْوَى منه وَمِنْهَا قال ابن بَرْهَانٍ إذَا كان أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ مُخَرَّجًا من أَصْلٍ مَنْصُوصٍ عليه وَالْآخَرُ مُخَرَّجًا من غَيْرِ مَنْصُوصٍ عليه قُدِّمَ الْأَوَّلُ على الثَّانِي كَقَوْلِنَا في جِلْدِ ما لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ وَهِيَ مَنْصُوصٌ عليها أَوْلَى من قَوْلِ الْمُخَالِفِ لَا يَطْهُرُ قِيَاسًا على جِلْدِ الْكَلْبِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عليه وَمِنْهَا قال في الْمَنْخُولِ إذَا عَارَضَ قِيَاسٌ عَامٌّ تَشْهَدُ له الْقَوَاعِدُ قِيَاسًا هو أَخَصُّ منه بِالْمَسْأَلَةِ فَالْأَخَصُّ مُقَدَّمٌ فِيمَا قَالَهُ الْقَاضِي مِثَالُهُ تَوْجِيهُ قَوْلِنَا لَا تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ قِيمَةَ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْجَانِيَ أَوْلَى بِجِنَايَتِهِ وَيُعَضِّدُ هذا سَائِرُ الْغَرَامَاتِ يُعَارِضُهُ قِيَاسٌ أَخَصُّ وهو أَنَّ الْغَالِبَ على الْعَبْدِ الذِّمَّةُ بِدَلِيلِ الْكَفَّارَةِ وَالْقِصَاصِ وَضَرْبُ الْعَقْلِ سَبَبُهُ مَسِيسُ حَاجَةِ الْعَرَبِ إلَى مُعَاطَاةِ الْأَسْلِحَةِ وَإِيقَافِ هَفَوَاتٍ وَنَقْلِ الْأُرُوشِ عن الْجُنَاةِ فإن هذا مِثَالٌ فَاسِدٌ فإن ضَرْبَ الْعَقْلِ مُسْتَثْنًى عن الْقِيَاسِ وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ تَعْوِيلٌ عليها
____________________
(4/482)
الِاعْتِبَارُ الْخَامِسُ بِحَسَبِ كَيْفِيَّةِ الْحُكْمِ وقد سَبَقَ في تَرْجِيحِ الْأَخْبَارِ فَلْيَأْتِ مِثْلُهُ هَاهُنَا فإذا كانت إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ نَاقِلَةً عن حُكْمِ الْعَقْلِ وَالْأُخْرَى مُقَرَّرَةً على الْأَصْلِ فَالنَّاقِلَةُ أَوْلَى على الصَّحِيحِ كما قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا لِأَنَّ النَّاقِلَةَ أَثْبَتَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَالْمُقَرَّرَةُ ما أَثْبَتَتْ شيئا وَمِنْهُمْ من قال الْمُبْقِيَةُ أَوْلَى لِاعْتِضَادِهَا بِحُكْمِ الْعَقْلِ الْمُسْتَقِلِّ بِالنَّفْيِ لَوْلَا هذه الْعِلَّةُ وَكَذَا قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إلَى تَرْجِيحِ النَّاقِلَةِ عن الْعَادَةِ وَبِهِ جَزَمَ إلْكِيَا لِأَنَّ النَّاقِلَةَ مُسْتَفَادَةٌ من الشَّرْعِ وَالْأُخْرَى تَرْجِعُ إلَى عَدَمِ الدَّلِيلِ فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُمَا وَقِيلَ النَّاقِلَةُ وَالْمُوَافِقَةُ لِلْعَادَةِ سِيَّانِ لِأَنَّ النَّسْخَ بِالْعِلَلِ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْخَبَرَيْنِ لِأَنَّ النَّسْخَ لِأَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ جَائِزٌ وَالْغَالِبُ في النَّسْخِ نَسْخُ ما يُوَافِقُ الْعَادَةَ لِمَا يُنْقِلُ عنها فَلِذَلِكَ قُلْنَا في الْأَخْبَارِ إنَّ النَّاقِلَ أَوْلَى قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وكان عَلِيُّ بن حَمْزَةَ الطَّبَرِيُّ يُفَرِّقُ بين الْعِلَلِ وَالْأَخْبَارِ فيقول في الْخَبَرِ النَّاقِلُ أَوْلَى وفي الْعِلَلِ إنَّ الْمُبْقِيَةَ فيها على الْعَادَةِ أَوْلَى من النَّاقِلَةِ فَأَمَّا إذَا كانت إحْدَاهُمَا مُثْبِتَةً وَالْأُخْرَى نَافِيَةً فقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ تُقَدَّمُ الْمُثْبِتَةُ قال وَيُعَبَّرُ عن هذا بِتَقْدِيمِ النَّاقِلَةِ على الْمُبْقِيَةِ لِلْأَصْلِ على ما كان قال وَرُبَّمَا خَلَطَ في هَذَيْنِ من لَا تَحْقِيقَ له وَهُمَا يَجْرِيَانِ على مَعْنًى وَاحِدٍ وقال الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدَّمَ قَوْمٌ الْمُثْبِتَةَ على النَّافِيَةِ وهو غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ النَّفْيَ الذي لَا يَثْبُتُ إلَّا شَرْعًا كَالْإِثْبَاتِ وَإِنْ كان نَفْيًا أَصْلِيًّا رَجَعَ إلَى ما قَدَّمْنَاهُ في النَّاقِلَةِ وَالْمُقَرَّرَةِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الصَّحِيحُ أَنَّ التَّرْجِيحَ في الْعِلَّةِ لَا يَقَعُ بِذَلِكَ لِاسْتِوَاءِ الْمُثْبِتِ وَالنَّافِي في الِافْتِقَارِ إلَى الدَّلِيلِ قال وَإِلَى هذا الْقَوْلِ ذَهَبَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ وهو كما قال وَكَأَنَّ من رَجَّحَ بِهِ لَاحَظَ إلْحَاقَهَا بِالْخَبَرِ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ فإن مَدَارَ التَّرْجِيحِ في الْأَخْبَارِ على أَنَّ الْعَقْلِيَّةَ أَشْبَهُ من الِاخْتِلَافِ وَمَدَارُ التَّرْجِيحِ في الْعِلَلِ على غَيْرِ ذلك من قُوَّةِ الْمُنَاسَبَةِ وَتَوَفُّرِ الشَّوَاهِدِ وَهَذَا أَجْنَبِيٌّ عن النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَالْحَقُّ كما قال ابن الْمُنِيرِ إنْ قُلْنَا إنَّ النَّفْيَ فيها مُسْتَفَادٌ من النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ أَنْ يُلْتَمَسَ التَّرْجِيحُ من خَارِجٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّفْيَ لَا يَكُونُ مُقْتَضًى لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يُقْتَضَى كما لَا يَقْتَضِي
____________________
(4/483)
وقال ابن السَّمْعَانِيِّ وَالصَّحِيحُ أَنَّ التي تَقْتَضِي الْحَظْرَ أَوْلَى من التي تَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ وَإِنْ كانت إحْدَاهُمَا تَقْتَضِي حَدًّا وَالْأُخْرَى تُسْقِطُهُ أو تُوجِبُ الْعِتْقَ وَالْأُخْرَى تُسْقِطُهُ فَقِيلَ الْمُوجِبَةُ لِلْعِتْقِ وَالْمُسْقِطَةُ لِلْحَدِّ أَوْلَى لِأَنَّ الْعِتْقَ مَبْنِيٌّ على الِاتِّسَاعِ وَالتَّكْمِيلِ وَالْحَدُّ مَبْنِيٌّ على الْإِسْقَاطِ وَالدَّرْءِ وَقِيلَ على السَّوَاءِ وَلَوْ كانت إحْدَاهُمَا مُبْقِيَةً لِلْعُمُومِ على عُمُومِهِ وَالْأُخْرَى تُوجِبُ تَخْصِيصَهُ قال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ فَقِيلَ يَجِبُ تَرْجِيحُ الْمُبْقِيَةِ لِلْعُمُومِ لِأَنَّهُ كَالنَّصِّ في وُجُوبِ اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ وَمِنْ حَقِّ الْعِلَّةِ أَنْ لَا تَرْفَعَ النُّصُوصَ فإذا أَخْرَجَتْ ما اشْتَمَلَ عليه الْعَامُّ كانت مُخَالِفَةً لِلْأُصُولِ التي يَجِبُ سَلَامَتُهَا عنه وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الْمُخَصِّصَةَ له أَوْلَى لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ الِاعْتِبَارُ السَّادِسُ بِحَسَبِ الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ وهو بِأُمُورٍ أَوَّلُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ مُوَافِقًا لِلْأُصُولِ في الْعِلَّةِ بِأَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَصْلِهِ على وَفْقِ الْأُصُولِ الْمُمَهَّدَةِ في الشَّرْعِ فَيُرَجَّحُ على مُوَافَقَةِ أَصْلٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ وُجُودَهَا في الْأُصُولِ الْكَثِيرَةِ دَلِيلٌ على قُوَّةِ اعْتِبَارِهَا في نَظَرِ الشَّرْعِ فَهِيَ أَوْلَى وَهَذَا ما صَحَّحَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ وهو اخْتِيَارُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ كما لَا تَرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ في الرِّوَايَةِ عِنْدَهُ أَمَّا إذَا كانت إحْدَاهُمَا أَكْثَرَ فُرُوعًا من الْأُخْرَى فَهَلْ الْكَثِيرَةُ أَوْلَى لِكَثْرَةِ فَائِدَتِهَا أو هُمَا سِيَّانِ فيه وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابن السَّمْعَانِيِّ وَجَزَمَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ بِتَقْدِيمِ الْكَثِيرَةِ وَزَيَّفَهُ الْغَزَالِيُّ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمُتَعَدِّيَةِ على الْقَاصِرَةِ تَلَقَّيْنَاهُ من مَسْلَكِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عليهم ولم يَظْهَرْ ذلك عِنْدَ كَثْرَةِ الْفُرُوعِ ثَانِيهَا يُرَجَّحُ الْمُوَافِقُ لِلْأُصُولِ في الْحُكْمِ بِأَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَصْلِهِ على وَفْقِ الْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ على ما ليس كَذَلِكَ لِلِاتِّفَاقِ على الْأَوَّلِ ثَالِثُهَا يُرَجَّحُ الذي يَكُونُ مُطَّرِدًا في الْفُرُوعِ بِأَنْ يَلْزَمَ الْحُكْمُ عليه في جَمِيعِ الصُّوَرِ على ما ليس كَذَلِكَ
____________________
(4/484)
رَابِعُهَا انْضِمَامُ عِلَّةٍ أُخْرَى إلَيْهَا لِأَنَّهَا تُزِيدُ قُوَّةَ الظَّنِّ وَالْحُكْمَ في الْمُجْتَهَدَاتِ بِقُوَّةِ الظَّنِّ وَاخْتَارَهُ في الْقَوَاطِعِ وَحُكِيَ عن أبي زَيْدٍ تَصْحِيحُ عَدَمِ التَّرْجِيحِ بِذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَقَوَّى إلَّا بِصِفَةٍ في ذَاتِهِ أَمَّا بِانْضِمَامِ غَيْرِهِ إلَيْهِ فَلَا خَامِسُهَا أَنْ يَكُونَ مع إحْدَاهُمَا فَتْوَى صَحَابِيٍّ فَيُرَجَّحُ على ما ليس كَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِمَّا يُثِيرُ الظَّنَّ بِاجْتِمَاعِهِمَا وقد سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ في تَفَارِيعِ مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ فَإِنْ جَعَلْنَا مَذْهَبَهُ حُجَّةً مُسْتَقِلَّةً كان هذا من التَّرْجِيحِ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَإِنْ قُلْنَا ليس بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا فَهَلْ تَكُونُ له مَزِيَّةُ تَرْجِيحِ الدَّلِيلِ أو لَا اخْتَلَفُوا على ثَلَاثِهِ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ بِمَزِيَّةٍ كَغَيْرِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَاضِي وَالثَّانِي نعم مُطْلَقًا وَالثَّالِثُ وهو رَأْيُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ ذلك الصَّحَابِيُّ مَشْهُورًا بِالْمَزِيَّةِ في ذلك الْفَنِّ كَزَيْدٍ في الْفَرَائِضِ وَعَلِيٍّ في الْقَضَاءِ اقْتَضَى التَّرْجِيحَ وَإِلَّا فَلَا وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إلَى الشَّافِعِيِّ وَبَنَى الْإِبْيَارِيُّ الْخِلَافَ على قَوْلِ الْمُصَوِّبَةِ وَالْمُخَطِّئَةِ فقال على قَوْلِ التَّصْوِيبِ بِعَدَمِ التَّرْجِيحِ وَعَلَى الثَّانِي بِالتَّرْجِيحِ وَجَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمَرَاتِبَ أَرْبَعًا أَعْلَاهَا الشَّهَادَةُ لِزَيْدٍ في الْفَرَائِضِ لِأَنَّهَا تَامَّةٌ ثُمَّ يَلِيهِ مُعَاذٌ ثُمَّ يَلِيه عَلِيٌّ ثُمَّ يَلِيهِ الشَّيْخَانِ في قَوْلِهِ اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ من بَعْدِي ثُمَّ قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُ عَلِيٍّ في الْأَقْضِيَةِ كَقَوْلِ زَيْدٍ في الْفَرَائِضِ وَقَوْلُ مُعَاذٍ في الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ إذَا لم يَتَعَلَّقْ بِالْفَرَائِضِ كَقَوْلِ زَيْدٍ في الْفَرَائِضِ
____________________
(4/485)
مَبَاحِثُ الِاجْتِهَادِ والتقليد ( ( ( وأركانه ) ) ) والفتوى ( ( ( ثلاثة ) ) )
____________________
(4/487)
الْأَوَّلُ نَفْسُ الِاجْتِهَادِ وهو لُغَةً افْتِعَالٌ من الْجَهْدِ وهو الْمَشَقَّةُ وهو الطَّاقَةُ وَيَلْزَمُ من ذلك أَنْ يَخْتَصَّ هذا الِاسْمُ بِمَا فيه مَشَقَّةٌ لِتَخْرُجَ عنه الْأُمُورُ الضَّرُورِيَّةُ التي تُدْرَكُ ضَرُورَةً من الشَّرْعِ إذْ لَا مَشَقَّةَ في تَحْصِيلِهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ ذلك من الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وفي الِاصْطِلَاحِ بَذْلُ الْوُسْعِ في نِيلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَمَلِي بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ فَقَوْلُنَا بَذْلُ أَيْ بِحَيْثُ يُحِسُّ من نَفْسِهِ الْعَجْزَ عن مَزِيدِ طَلَبٍ حتى لَا يَقَعَ لَوْمٌ في التَّقْصِيرِ وَخَرَّجَ الشَّرْعِيُّ اللُّغَوِيَّ وَالْعَقْلِيَّ وَالْحِسِّيَّ فَلَا يُسَمَّى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مُجْتَهِدًا وَكَذَلِكَ الْبَاذِلُ وُسْعَهُ في نَيْلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عِلْمِيٍّ وَإِنْ كان قد يُسَمَّى عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ مُجْتَهِدًا وَإِنَّمَا قُلْنَا بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ بَذْلُ الْوُسْعِ في نَيْلِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ من النُّصُوصِ ظَاهِرًا أو بِحِفْظِ الْمَسَائِلِ وَاسْتِعْلَامِهَا من الْمَعْنَى أو بِالْكَشْفِ عنها من الْكُتُبِ فإنه وَإِنْ سُمِّيَ اجْتِهَادًا فَهُوَ لُغَةً لَا اصْطِلَاحًا وَسَبَقَ في أَوَّلِ الْقِيَاسِ تَأْوِيلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْقِيَاسُ وَالِاجْتِهَادُ بِمَعْنًى وَقِيلَ طَلَبُ الصَّوَابِ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عليه قال ابن السَّمْعَانِيِّ وهو أَلْيَقُ بِكَلَامِ الْفُقَهَاءِ وقال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ اسْمُ الِاجْتِهَادِ يَقَعُ في الشَّرْعِ على ثَلَاثَةِ مَعَانٍ أَحَدُهَا الْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَمَّا لم تَكُنْ مُوجِبَةَ الْحُكْمِ لِجَوَازِ وُجُودِهَا خَالِيَةً منه لم يُوجِبْ ذلك الْعِلْمَ بِالْمَطْلُوبِ فَلِذَلِكَ كان طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ وَالثَّانِي ما يَغْلِبُ في الظَّنِّ من غَيْرِ عِلَّةٍ كَالِاجْتِهَادِ في الْمِيَاهِ وَالْوَقْتِ وَالْقِبْلَةِ وَتَقْوِيمِ الْمُتْلَفَاتِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ وَالْمُتْعَةِ وَالنَّفَقَةِ وَغَيْرِ ذلك وَالثَّالِثُ الِاسْتِدْلَال بِالْأُصُولِ
____________________
(4/488)
مَسْأَلَةٌ قال الشِّهْرِسْتَانِيّ في الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ الِاجْتِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ حتى لو اشْتَغَلَ بِتَحْصِيلِهِ وَاحِدٌ سَقَطَ الْفَرْضُ عن الْجَمِيعِ وَإِنْ قَصَّرَ منه أَهْلُ عَصْرٍ عَصَوْا بِتَرْكِهِ وَأَشْرَفُوا على خَطَرٍ عَظِيمٍ فإن الْأَحْكَامَ الِاجْتِهَادِيَّةَ إذَا كانت مُتَرَتِّبَةً على الِاجْتِهَادِ تَرْتِيبَ الْمُسَبَّبِ على السَّبَبِ ولم يُوجَدْ السَّبَبُ كانت الْأَحْكَامُ عَاطِلَةً وَالْآرَاءُ كُلُّهَا مُتَمَاثِلَةً فَلَا بُدَّ إذًا من مُجْتَهِدٍ قُلْت وَسَيَأْتِي في مَسْأَلَةِ جَوَازِ خُلُوِّ الْعَصْرِ عن الْمُجْتَهِدِ ما يُنَازَعُ في ذلك مَسْأَلَةٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالِاجْتِهَادِ في الْحَوَادِثِ خِلَافًا لِلنَّظَّامِ وَخِلَافُهُ فيه وفي الْقِيَاسِ وَاحِدٌ كما قَالَهُ الرَّازِيَّ وَإِنْكَارُهُ مُكَابَرَةٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مَسْأَلَةٌ وما يُوجِبُهُ الِاجْتِهَادُ هل يُسَمَّى دِينُ اللَّهِ فيه الْخِلَافُ السَّابِقُ في الْقِيَاسِ حَكَاهُ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ قال وَالصَّحِيحُ نعم تَنْبِيهٌ ما ذَكَرْتُهُ من جَعْلِ الِاجْتِهَادِ رُكْنًا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَنَازَعَ فيه الْعَبْدَرِيّ وقال رُكْنُ الشَّيْءِ غَيْرُ الشَّيْءِ الثَّانِي الْمُجْتَهِدُ الْفَقِيهُ وهو الْبَالِغُ الْعَاقِلُ ذُو مَلَكَةٍ يَقْتَدِرُ بها على اسْتِنْتَاجِ الْأَحْكَامِ من مَأْخَذِهَا وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ من ذلك بِشُرُوطٍ أَوَّلُهَا إشْرَافُهُ على نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنْ قَصَّرَ في أَحَدِهِمَا لم يَجُزْ له أَنْ يَجْتَهِدَ وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ جَمِيعِ الْكِتَابِ بَلْ ما يَتَعَلَّقُ فيه بِالْأَحْكَامِ
____________________
(4/489)
قال قال الْغَزَالِيُّ وابن الْعَرَبِيِّ وهو مِقْدَارُ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عن بَعْضِهِمْ وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا مُقَاتِلَ بن سُلَيْمَانَ أَوَّلَ من أَفْرَدَ آيَاتِ الْأَحْكَامِ في تَصْنِيفٍ وَجَعَلَهَا خَمْسَمِائَةِ آيَةٍ وَإِنَّمَا أَرَادَ الظَّاهِرَةَ لَا الْحَصْرَ فإن دَلَالَةَ الدَّلِيلِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ فَيَخْتَصُّ بَعْضُهُمْ بِدَرْكِ ضَرُورَةٍ فيها وَلِهَذَا عُدَّ من خَصَائِصِ الشَّافِعِيِّ التَّفَطُّنُ لِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى وما يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا على أَنَّ من مَلَكَ وَلَدَهُ عَتَقَ عليه وقَوْله تَعَالَى امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ على صِحَّةِ أَنْكِحَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِ ذلك من الْآيَاتِ التي لم تُسَقْ لِلْأَحْكَامِ وقد نَازَعَهُمْ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ أَيْضًا وقال هو غَيْرُ مُنْحَصِرٍ في هذا الْعَدَدِ بَلْ هو مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ وَالْأَذْهَانِ وما يَفْتَحُهُ اللَّهُ على عِبَادِهِ من وُجُوهِ الِاسْتِنْبَاطِ وَلَعَلَّهُمْ قَصَدُوا بِذَلِكَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ على الْأَحْكَامِ دَلَالَةً أَوَّلِيَّةً بِالذَّاتِ لَا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ قُلْت وَمَنْ أَرَادَ التَّحْقِيقَ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ بِكِتَابِ الْإِمَامِ عِزِّ الدِّينِ بن عبد السَّلَامِ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ ما يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَلَا يُشْتَرَطُ ما فيها من الْقَصَصِ وَالْمَوَاعِظِ وإذا كان عَالِمًا بِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ فَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِتِلَاوَتِهِ قال في الْقَوَاطِعِ ذَهَبَ كَثِيرٌ من أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ لِأَنَّ الْحَافِظَ أَضْبَطُ لِمَعَانِيهِ من النَّاظِرِ فيه وقال آخَرُونَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَحْفَظَ ما فيه من الْأَمْثَالِ وَالزَّوَاجِرِ وَجَزَمَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْحِفْظُ وَجَرَى عليه الرَّافِعِيُّ وَثَانِيهَا مَعْرِفَةُ ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ من السُّنَنِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَحْكَامِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَقِيلَ إنَّهَا خَمْسُمِائَةِ حَدِيثٍ وقال ابن الْعَرَبِيِّ في الْمَحْصُولِ هِيَ ثَلَاثَةُ آلَافِ سُنَّةٍ وَشَدَّدَ أَحْمَدُ وقال أبو الضَّرِيرِ قُلْت له كَمْ يَكْفِي الرَّجُلَ من الحديث حتى يُمْكِنُهُ أَنْ يُفْتِيَ يَكْفِيهِ مِائَةُ أَلْفٍ قال لَا قُلْت مِائَتَا أَلْفٍ قال لَا قُلْت ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ قال لَا قُلْت أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ قال لَا قُلْت خَمْسُمِائَةِ أَلْفٍ قال أَرْجُو وفي رِوَايَةٍ قُلْت فَثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ قال لَعَلَّهُ وَكَأَنَّ مُرَادَهُ بهذا الْعَدَدِ آثَارُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَطُرُقُ الْمُتُونِ وَلِهَذَا قال من لم يَجْمَعْ طُرُقَ الحديث لَا يَحِلُّ له الْحُكْمُ على الحديث وَلَا الْفُتْيَا بِهِ وقال بَعْضُ أَصْحَابِهِ ظَاهِرُ هذا أَنَّهُ لَا يَكُونُ من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ حتى يَحْفَظَ هذا
____________________
(4/490)
الْقَدْرَ وهو مَحْمُولٌ على الِاحْتِيَاطِ وَالتَّغْلِيظِ في الْفُتْيَا أو يَكُونُ أَرَادَ وَصْفَ أَكْمَلِ الْفُقَهَاءِ فَأَمَّا ما لَا بُدَّ منه فَقَدْ قال أَحْمَدُ الْأُصُولُ التي يَدُورُ عليها الْعِلْمُ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْإِحَاطَةُ بِجَمِيعِ السُّنَنِ وَإِلَّا لَا نَسُدُّ بَابَ الِاجْتِهَادِ وقد اجْتَهَدَ عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه وَغَيْرُهُ من الصَّحَابَةِ في مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ ولم يَسْتَحْضِرُوا فيها النُّصُوصَ حتى رَوَيْت لهم فَرَجَعُوا إلَيْهَا قال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ وَلَا يُشْتَرَطُ اسْتِحْضَارُهُ جَمِيعَ ما وَرَدَ في ذلك الْبَابِ إذْ لَا تُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ وَلَوْ تُصُوِّرَ لِمَا حَضَرَ ذِهْنَهُ عِنْدَ الِاجْتِهَادِ جَمِيعُ ما رُوِيَ فيه وقال الْغَزَالِيُّ وَجَمَاعَةٌ من الْأُصُولِيِّينَ يَكْفِيهِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَصْلٌ يَجْمَعُ أَحَادِيثَ الْأَحْكَامِ كَسُنَنِ أبي دَاوُد وَمَعْرِفَةِ السُّنَنِ وَالْآثَارِ لِلْبَيْهَقِيِّ أو أَصْلٌ وَقَعَتْ الْعِنَايَةُ فيه بِجَمْعِ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ وَيَكْتَفِي فيه بِمَوَاقِعِ كل بَابٍ فَيُرَاجِعُهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ وَتَبِعَهُ على ذلك الرَّافِعِيُّ وَنَازَعَهُ النَّوَوِيُّ وقال لَا يَصِحُّ التَّمْثِيلُ بِسُنَنِ أبي دَاوُد فإنه لم يَسْتَوْعِبْ الصَّحِيحَ من أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ وَلَا مُعْظَمَهَا وَكَمْ في صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ من حَدِيثٍ حُكْمِيٍّ ليس في سُنَنِ أبي دَاوُد انْتَهَى وَكَذَا قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ التَّمْثِيلُ بِسُنَنِ أبي دَاوُد ليس بِجَيِّدٍ عِنْدَنَا لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَحْوِي السُّنَنَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهَا والثاني أَنَّ في بَعْضِهِ ما لَا يُحْتَجُّ بِهِ في الْأَحْكَامِ انْتَهَى وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ حِفْظُ السُّنَنِ بِلَا خِلَافٍ لِعُسْرِهِ وَلَا يَجْرِي الْخِلَافُ في حِفْظِ الْقُرْآنِ هَاهُنَا وَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ الْمُتَوَاتِرِ من الْآحَادِ لِيُمَيِّزَ بين ما يَقْطَعُ بِهِ منها وما لَا يَقْطَعُ وَثَالِثُهَا الْإِجْمَاعُ فَلْيَعْرِفْ مَوَاقِعَهُ حتى لَا يُفْتِيَ بِخِلَافِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ حِفْظُ جَمِيعِهِ بَلْ كُلُّ مَسْأَلَةٍ يُفْتِي فيها يَعْلَمُ أَنَّ فَتْوَاهُ لَيْسَتْ مُخَالِفَةً لِلْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا يُوَافِقُهُ مَذْهَبُ عَالِمٍ أو تَكُونُ الْحَادِثَةُ مُوَلَّدَةً وَلَا بُدَّ مع ذلك أَنْ يَعْرِفَ الِاخْتِلَافَ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ وَفَائِدَتُهُ حتى لَا يُحْدِثَ قَوْلًا يُخَالِفُ أَقْوَالَهُمْ فَيَخْرُجَ بِذَلِكَ عن الْإِجْمَاعِ وَرَابِعُهَا الْقِيَاسُ فَلْيَعْرِفْهُ بِشُرُوطِهِ وَأَرْكَانِهِ فإنه مَنَاطُ الِاجْتِهَادِ وَأَصْلُ الرَّأْيِ وَمِنْهُ يَتَشَعَّبُ الْفِقْهُ
____________________
(4/491)
وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ في بَعْضِ الْمَسَائِلِ فَمَنْ لَا يَعْرِفُ ذلك لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِنْبَاطُ في تِلْكَ الْمَوَاضِعِ نعم إنْ جَوَّزْنَا تَجَزُّؤَ الِاجْتِهَادِ فَهَذِهِ الْحَاجَةُ لَا تَعُمُّ وَالْمَسَائِلُ التي تَرْجِعُ إلَى النَّصِّ لَا يُحْتَاجُ إلَى ذلك فيها قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ قال وَيَلْزَمُ من اشْتِرَاطِ هذا أَنْ لَا يَكُونَ الظَّاهِرِيَّةُ النُّفَاةُ لِلْقِيَاسِ مُجْتَهِدِينَ وَخَامِسُهَا كَيْفِيَّةُ النَّظَرِ فَلْيَعْرِفْ شَرَائِطَ الْبَرَاهِينِ وَالْحُدُودِ وَكَيْفِيَّةَ تَرْكِيبِ الْمُقَدَّمَاتِ وَيَسْتَفْتِحُ الْمَطْلُوبَ لِيَكُونَ على بَصِيرَةٍ كَذَا ذَكَرَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَأَصْلُهُ اشْتِرَاطُ الْغَزَالِيُّ مَعْرِفَتَهُ بِعِلْمِ الْمَنْطِقِ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَلَا شَكَّ أَنَّ في اشْتِرَاطِ ذلك على حَسَبِ ما يَقَعُ اصْطِلَاحُ أَرْبَابِ هذا الْفَنِّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِعِلْمِنَا بِأَنَّ الْأَوَّلِينَ من الْمُجْتَهِدِينَ لم يَكُونُوا خَائِضِينَ فيه وَلَا شَكَّ أَيْضًا أَنَّ كُلَّ ما يَتَوَقَّفُ عليه تَصْحِيحُ الدَّلِيلِ وَمَعْرِفَةُ الْحَقَائِقِ لَا بُدَّ من اعْتِبَارِهِ وَسَادِسُهَا أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَمَوْضُوعِ خِطَابِهِمْ لُغَةً وَنَحْوًا وَتَصْرِيفًا فَلْيَعْرِفْ الْقَدْرَ الذي يَفْهَمُ بِهِ خِطَابَهُمْ وَعَادَتَهُمْ في الِاسْتِعْمَالِ إلَى حَدٍّ يُمَيِّزُ بِهِ بين صَرِيحِ الْكَلَامِ وَظَاهِرِهِ وَمُجْمَلِهِ وَمُبَيَّنِهِ وَعَامِّهِ وَخَاصِّهِ وَحَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَيَكْفِيهِ من اللُّغَةِ أَنْ يَعْرِفَ غَالِبَ الْمُسْتَعْمَلِ وَلَا يُشْتَرَطُ التَّبَحُّرُ وَمِنْ النَّحْوِ الذي يَصِحُّ بِهِ التَّمْيِيزُ في ظَاهِرِ الْكَلَامِ كَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَالْخَافِضِ وَالرَّافِعِ وما تَتَّفِقُ عليه الْمَعَانِي في الْجَمْعِ وَالْعَطْفِ وَالْخِطَابِ وَالْكِنَايَاتِ وَالْوَصْلِ وَالْفَصْلِ وَلَا يَلْزَمُ الْإِشْرَافُ على دَقَائِقِهِ وقال ابن حَزْمٍ في كِتَابِ التَّقْرِيبِ يَكْفِيهِ مَعْرِفَةُ ما في كِتَابِ الْجُمَلِ لِأَبِي الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيِّ وَيَفْصِلُ بين ما يَخْتَصُّ منها بِالْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ لِاخْتِلَافِ الْمَعَانِي بِاخْتِلَافِ الْعَوَامِلِ الدَّاخِلَةِ عليها قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَاشْتِرَاطُ الْأَصْلِ فيه مُتَعَيَّنٌ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ عَرَبِيَّةٌ مُتَوَقِّفَةٌ على مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ نعم لَا يُشْتَرَطُ التَّوَسُّعُ الذي أُحْدِثَ في هذا الْعِلْمِ وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ مَعْرِفَةُ ما يَتَوَقَّفُ عليه فَهْمُ الْكَلَامِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَمَعْرِفَةُ لِسَانِهِ فَرْضٌ على كل مُسْلِمٍ من مُجْتَهِدٍ وَغَيْرِهِ وقد قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ على كل مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ من لِسَانِ الْعَرَبِ ما يَبْلُغُهُ جَهْدُهُ في أَدَاءِ فَرْضِهِ وقال في الْقَوَاطِعِ مَعْرِفَةُ لِسَانِ الْعَرَبِ فَرْضٌ على الْعُمُومِ في جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ إلَّا أَنَّهُ في حَقِّ الْمُجْتَهِدِ على الْعُمُومِ في إشْرَافِهِ على الْعِلْمِ بِأَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ أَمَّا في حَقِّ غَيْرِهِ من الْأُمَّةِ فَفَرْضٌ فِيمَا وَرَدَ التَّعَبُّدُ بِهِ في الصَّلَاةِ من الْقِرَاءَةِ وَالْأَذْكَارِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ
____________________
(4/492)
الْعَرَبِيَّةِ فَإِنْ قِيلَ إحَاطَةُ الْمُجْتَهِدِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ تَتَعَذَّرُ لِأَنَّ أَحَدًا من الْعَرَبِ لَا يُحِيطُ بِجَمِيعِ لُغَاتِهِمْ فَكَيْفَ نُحِيطُ نَحْنُ قُلْنَا لِسَانُ الْعَرَبِ وَإِنْ لم يُحِطْ بِهِ وَاحِدٌ من الْعَرَبِ فإنه يُحِيطُ بِهِ جَمِيعُ الْعَرَبِ كما قِيلَ لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ من يَعْرِفُ كُلَّ الْعِلْمِ قال كُلُّ الناس وَاَلَّذِي يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِأَكْثَرِهِ وَيَرْجِعُ فِيمَا عَزَبَ عنه إلَى غَيْرِهِ كَالْقَوْلِ في السُّنَّةِ وقد زَلَّ كَثِيرٌ بِإِغْفَالِهِمْ الْعَرَبِيَّةَ كَرِوَايَةِ الْإِمَامِيَّةِ ما تَرَكْنَاهُ صَدَقَةً بِالنَّصْبِ وَالْقَدَرِيَّةُ فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى بِنَصَبِ آدَمَ وَنَظَائِرُهُ وَيَلْحَقُ بِالْعَرَبِيَّةِ التَّصْرِيفُ لِمَا يَتَوَقَّفُ عليه من مَعْرِفَةِ أَبْنِيَةِ الْكَلِمِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا كما في بَابِ الْمُجْمَلِ من لَفْظِ مُخْتَارٍ وَنَحْوِهِ فَاعِلًا وَمَفْعُولًا وَسَابِعُهَا مَعْرِفَةُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مُخَالَفَةَ أَنْ يَقَعَ في الْحُكْمِ بِالْمَنْسُوخِ الْمَتْرُوكُ وَلِهَذَا قال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه لِقَاضٍ أَتَعْرِفُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ قال لَا قال هَلَكْت وَأَهْلَكْت وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ وُجُوهِ النَّصِّ في الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالْمُفَسَّرِ وَالْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ وَالْمُقَيَّدِ وَالْمُطْلَقِ فَإِنْ قَصَّرَ فيها لم يَجُزْ وَثَامِنُهَا مَعْرِفَةُ حَالِ الرُّوَاةِ في الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَتَمْيِيزُ الصَّحِيحِ عن الْفَاسِدِ وَالْمَقْبُولِ عن الْمَرْدُودِ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالْغَزَالِيُّ وَيَقُولُ على قَوْلِ أَئِمَّةِ الحديث كَأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَأَبِي دَاوُد لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ فَجَازَ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِمْ كما نَأْخُذُ بِقَوْلِ الْمُقَوِّمِينَ في الْقِيَمِ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَهَذَا مُضْطَرٌّ إلَيْهِ في الْأَحْكَامِ الْمَبْنِيَّةِ على الْأَحَادِيثِ التي هِيَ في بَابِ الْآحَادِ فإنه الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلُ إلَى مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ من السَّقِيمِ قال الصَّيْرَفِيُّ وَمَنْ عَرَفَ هذه الْعُلُومَ فَهُوَ في الرُّتْبَةِ الْعُلْيَا وَمَنْ قَصَّرَ عنه فَمِقْدَارُهُ ما أَحْسَنَ وَلَنْ يَجُوزُ أَنْ يُحِيطَ بِجَمِيعِ هذه الْعُلُومِ أَحَدٌ غَيْرُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وهو مُتَفَرِّقٌ في جُمْلَتِهِمْ وَالْغَرَضُ اللَّازِمُ من عِلْمِ ما وَصَفْت ما لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ بِتَرْكِ فِعْلِهِ وَكُلَّمَا
____________________
(4/493)
ازْدَادَ عِلْمًا ازْدَادَ مَنْزِلَةً قال اللَّهُ تَعَالَى وَفَوْقَ كل ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال وَالشَّرْطُ في ذلك كُلِّهِ مَعْرِفَةُ جُمَلِهِ لَا جَمِيعِهِ حتى لَا يَبْقَى عليه شَيْءٌ لِأَنَّ هذا لم نَرَهُ في السَّادَةِ الْقُدْوَةِ من الصَّحَابَةِ فَقَدْ كان يَخْفَى على كَثِيرٍ من أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ فَيَعْرِفُونَهَا من الْغَيْرِ وقال الْغَزَالِيُّ وَهَذِهِ الْعُلُومُ التي يُسْتَفَادُ منها مَنْصِبُ الِاجْتِهَادِ وَعِظَمُ ذلك يَشْتَمِلُ على ثَلَاثِهِ فُنُونٍ الحديث وَاللُّغَةِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وقال الْإِمَامُ أَهَمُّ الْعُلُومِ لِلْمُجْتَهِدِ أُصُولُ الْفِقْهِ وَشَرَطَ الْغَزَالِيُّ وَالرَّازِيَّ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ وَبِأَنَّنَا مُكَلَّفُونَ وَشَرَطَ الْمَاوَرْدِيُّ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ فيه الْفِطْنَةَ وَالذَّكَاءَ لِيَصِلَ بِهِمَا إلَى مَعْرِفَةِ الْمَسْكُوتِ عنه من أَمَارَاتِ الْمَنْطُوقِ فَإِنْ قُلْت فيه الْفِطْنَةُ وَالذَّكَاءُ لم يَصِحَّ وَشَرَطَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا وَغَيْرُهُمْ الْعَدَالَةَ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَوَازِ الِاعْتِمَادِ على قَوْلِهِ قالوا وَأَمَّا هو في نَفْسِهِ إذَا كان عَالِمًا فَلَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ لِنَفْسِهِ وَيَأْخُذَ بِاجْتِهَادِهِ لِنَفْسِهِ فَالْعَدَالَةُ شَرْطٌ لِقَبُولِ الْفَتْوَى لَا لِصِحَّةِ الِاجْتِهَادِ وَقَضِيَّةُ كَلَامِ غَيْرِهِمْ أَنَّ الْعَدَالَةَ رُكْنٌ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وابن السَّمْعَانِيِّ إنْ قَصَدَ بِالِاجْتِهَادِ الْعِلْمَ صَحَّ اجْتِهَادُهُ وَإِنْ لم يَكُنْ عَدْلًا وَإِنْ قَصَدَ بِهِ الْحُكْمَ وَالْفُتْيَا كانت الْعَدَالَةُ شَرْطًا في نُفُوذِ حُكْمِهِ وَقَبُولِ فُتْيَاهُ لِأَنَّ شَرَائِطَ الْحُكْمِ أَغْلَظُ من شَرَائِطِ الْفُتْيَا قال ابن السَّمْعَانِيِّ لَكِنْ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ ثِقَةً مَأْمُونًا غير مُتَسَاهِلٍ في أَمْرِ الدِّينِ قال وما ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ من عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ مُرَادُهُمْ بِهِ ما وَرَاءَ هذا وَاخْتَلَفُوا في اشْتِرَاطِ تَبَحُّرِهِ في أُصُولِ الدِّينِ على وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ أَحَدُهُمَا الِاشْتِرَاطُ وهو قَوْلُ الْقَدَرِيَّةِ والثاني لَا يُشْتَرَطُ بَلْ من أَشْرَفَ منه على وَصْفِ الْمُؤْمِنِ كَفَاهُ قال وَعَلَى هذا الْقَوْلِ جُلُّ أَصْحَابِ كُتُبِ الحديث وَالْفِقْهِ وَغَيْرُهُمْ وَأَطْلَقَ الرَّازِيَّ عَدَمَ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْكَلَامِ وَفَصَّلَ الْآمِدِيُّ فَشَرَطَ الضَّرُورِيَّاتِ كَالْعِلْمِ بِوُجُودِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَصِفَاتِهِ وما يَسْتَحِقُّهُ وُجُوبُ وُجُودِهِ لِذَاتِهِ وَالتَّصْدِيقُ بِالرَّسُولِ وما جاء بِهِ لِيَكُونَ فِيمَا يُسْنِدُهُ إلَيْهِ من الْأَحْكَامِ مُحِقًّا وَلَا يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ بِدَقَائِق الْكَلَامِ وَلَا بِالْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ وَأَجْوِبَتِهَا كَالنَّحَارِيرِ من عُلَمَائِهِ وَكَلَامُ الرَّازِيَّ مَحْمُولٌ على هذا التَّفْصِيلِ وَاخْتَلَفُوا في اشْتِرَاطِ التَّفَارِيعِ في الْفِقْهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ وَكَيْفَ يَحْتَاجُ إلَيْهَا وهو الذي يُوَلِّدُهَا بَعْدَ حِيَازَةِ مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ فَكَيْفَ يَكُونُ شَرْطًا
____________________
(4/494)
لِمَا تَقَدَّمَ وُجُودُهُ عليها وَذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وأبو مَنْصُورٍ إلَى اشْتِرَاطِهِ وَحَمَلَ على اشْتِرَاطِ مُمَارَسَتِهِ الْفِقْهَ كما صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ فقال إنَّمَا يَحْصُلُ الِاجْتِهَادُ في زَمَانِنَا بِمُمَارَسَتِهِ فَهُوَ طَرِيقُ تَحْصِيلِ الدُّرْبَةِ في هذا الزَّمَانِ ولم يَكُنْ الطَّرِيقُ في زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَكَلَامُ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ يُخَالِفُهُ فإنه قال يُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهُ بِجُمَلٍ من فُرُوعِ الْفِقْهِ يُحِيطُ بِالْمَشْهُورِ وَبِبَعْضِ الْغَامِضِ كَفُرُوعِ الْحَيْضِ وَالرَّضَاعِ وَالدَّوْرِ وَالْوَصَايَا وَالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ قال وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في الْمُتَعَلِّقِ بِالْحِسَابِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ شَرْطٌ لِأَنَّ منها ما لَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُ الْجَوَابِ منه إلَّا بِالْحِسَابِ وَكَذَلِكَ قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ مَعْرِفَةُ أُصُولِ الْفَرَائِضِ وَالْحِسَابِ وَالضَّرْبِ وَالْقِسْمَةِ لَا بُدَّ منه وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ في غَالِبِ الْأَمْرِ مُتَمَكِّنًا من اقْتِبَاسِ الْأَحْكَامِ منها عَارِفًا بِحَقَائِقِهَا وَرُتَبِهَا عَالِمًا بِتَقْدِيمِ ما يَتَقَدَّمُ منها وَتَأْخِيرِ ما يَتَأَخَّرُ وقد عَبَّرَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عن الشُّرُوطِ كُلِّهَا بِعِبَارَةٍ وَجِيزَةٍ جَامِعَةٍ فقال من عَرَفَ كِتَابَ اللَّهِ نَصًّا وَاسْتِنْبَاطًا اسْتَحَقَّ الْإِمَامَةَ في الدِّينِ وَلَيْسَ من شَرْطِ الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِكُلِّ مَسْأَلَةٍ تَرِدُ عليه فَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عن أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً فقال في سِتٍّ وَثَلَاثِينَ لَا أَدْرِي وَكَثِيرًا ما يقول الشَّافِعِيُّ لَا أَدْرِي وَتَوَقَّفَ كَثِيرٌ من الصَّحَابَةِ في مَسَائِلَ وقال بَعْضُهُمْ من أَفْتَى في كل ما سُئِلَ عنه فَهُوَ مَجْنُونٌ وَهَذَا كُلُّهُ في الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ أَمَّا الْمُجْتَهِدُ في حُكْمٍ خَاصٍّ فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى قُوَّةِ قَامَةٍ في النَّوْعِ الذي هو فيه مُجْتَهِدٌ فَمَنْ عَرَفَ طُرُقَ النَّظَرِ الْقِيَاسِيِّ له أَنْ يَجْتَهِدَ في مَسْأَلَةٍ قِيَاسِيَّةٍ وَإِنْ لم يَعْرِفْ غَيْرَهُ وَكَذَا الْعَالِمُ بِالْحِسَابِ وَالْفَرَائِضِ هذا بِنَاءً على جَوَازِ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ وهو الصَّحِيحُ كما سَيَأْتِي وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ الْمُقَيَّدُ الذي لَا يَعْدُو مَذْهَبَ إمَامٍ خَاصٍّ فَلَيْسَ عليه غَيْرُ مَعْرِفَةِ قَوَاعِدِ إمَامِهِ وَلْيُرَاعِ فيها ما يُرَاعِيهِ الْمُطْلَقُ في قَوَانِينِ الشَّرْعِ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ من عَرَفَ مَأْخَذَ إمَامٍ وَاسْتَقَلَّ بِإِجْرَاءِ الْمَسَائِلِ على قَوَاعِدِهِ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْقَوَاعِدُ مِمَّا يَخْتَصُّ بها ذلك الْإِمَامُ وَبَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ معه فَهَذَا يُمْكِنُ فيه الِاجْتِهَادُ الْمُقَيَّدُ وَأَمَّا الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ التي لَا تَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ كَكَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً وَالْقِيَاسِ وَغَيْرِ ذلك من الْقَوَاعِدِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ فَتَنَبَّهْ لِهَذَا وقد اسْتَقَلَّ قَوْمٌ من الْمُقَلِّدِينَ بِبِنَاءِ أَحْكَامٍ على أَحَادِيثَ غَيْرِ صَحِيحَةٍ مع أَنَّ تِلْكَ
____________________
(4/495)
الْأَحْكَامَ غَيْرُ مَنْصُوصَةٍ لِإِمَامِهِمْ وَهُمْ يَحْتَاجُونَ في هذا إلَى ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ فإذا قَصَّرُوا عنه لم يَكُنْ لهم ذلك ولم يَجُزْ أَنْ تُنْسَبَ تِلْكَ الْأَحْكَامُ إلَى ذلك الْإِمَامِ انْتَهَى وَهَذَا مَوْضِعٌ نَفِيسٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ له وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ في التَّعَرُّضِ لِمَسْأَلَةٍ غَيْرِ مَنْصُوصَةٍ لِلْإِمَامِ ذَكَرَهَا بَعْضُ أَتْبَاعِهِ مُحْتَجًّا فيها بِقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ فَيَظُنُّ الْوَاقِفُ أَنَّ ذلك مَذْهَبُ ذلك الْإِمَامِ لِكَوْنِ ذلك الْمُسْتَنْبَطِ من جُمْلَةِ مُقَلِّدِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَسْأَلَةٌ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُ الِاجْتِهَادِ في كل مَسْأَلَةٍ فِقْهِيَّةٍ بَلْ فِيمَا هو منها خَفِيٌّ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بَذْلُ الْوُسْعِ فَيَطْلُبَهَا لِأَنَّهَا تُنَالُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ مَسْأَلَةٌ لَمَّا لم يَكُنْ بُدٌّ من تَعَرُّفِ حُكْمِ اللَّهِ في الْوَقَائِعِ وَتَعَرُّفُ ذلك بِالنَّظَرِ غَيْرُ وَاجِبٍ على التَّعْيِينِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْمُجْتَهِدِ من فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ في كل قُطْرٍ ما تَقُومُ بِهِ الْكِفَايَاتُ وَلِهَذَا قالوا إنَّ الِاجْتِهَادَ من فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ قال ابن الصَّلَاحِ وَاَلَّذِي رَأَيْت في كَلَامِ الْأَئِمَّةِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِالْمُجْتَهِدِ الْمُقَيَّدِ قال وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى في الْفَتْوَى وَإِنْ لم يَتَأَدَّ بِهِ في آحَادِ الْعُلُومِ التي منها الِاسْتِمْدَادُ في الْفَتْوَى قال بَعْضُهُمْ الِاجْتِهَادُ في حَقِّ الْعُلَمَاءِ على ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ 1 فَرْضُ عَيْنٍ 2 وَفَرْضُ كِفَايَةٍ 3 وَنَدْبٌ فَالْأَوَّلُ على حَالَيْنِ أَحَدُهُمَا اجْتِهَادُهُ في حَقِّ نَفْسِهِ عِنْدَ نُزُولِ الْحَادِثَةِ والثاني اجْتِهَادُهُ فِيمَا تَعَيَّنَ عليه الْحُكْمُ فيه فَإِنْ ضَاقَ فَرْضُ الْحَادِثَةِ كان على الْفَوْرِ وَإِلَّا على التَّرَاخِي وَالثَّانِي على حَالَيْنِ أَحَدُهُمَا إذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْتَفْتِي حَادِثَةٌ فَاسْتَفْتَى أَحَدَ الْعُلَمَاءِ تَوَجَّهَ الْفَرْضُ على جَمِيعِهِمْ وَأَخَصُّهُمْ بِمَعْرِفَتِهَا من خُصَّ بِالسُّؤَالِ عنها فَإِنْ أَجَابَ هو أو غَيْرُهُ سَقَطَ الْفَرْضُ وَإِلَّا أَثِمُوا جميعا لَكِنْ حَكَى أَصْحَابُنَا وَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا كان هُنَاكَ غَيْرُ الْمُفْتِي هل يَأْثَمُ بِالرَّدِّ أَصَحُّهُمَا لَا وَالثَّانِي إنْ تَرَدَّدَ الْحُكْمُ بين قَاضِيَيْنِ مُشْتَرَكَيْنِ في النَّظَرِ فَيَكُونُ فَرْضُ الِاجْتِهَادِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَأَيُّهُمَا تَفَرَّدَ بِالْحُكْمِ فيه سَقَطَ فَرْضُهُ عنهما وَالثَّالِثُ على حَالَيْنِ أَحَدُهُمَا فِيمَا يَجْتَهِدُ فيه الْعَالِمُ من غَيْرِ النَّوَازِلِ
____________________
(4/496)
لِيَسْبِقَ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ قبل نُزُولِهِ والثاني أَنْ يَسْتَفْتِيَهُ قبل نُزُولِهَا مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ خُلُوُّ الْعَصْرِ عن الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَجَزَمَ بِهِ في الْمَحْصُولِ وقال الرَّافِعِيُّ الْخَلْقُ كَالْمُتَّفِقِينَ على أَنَّهُ لَا مُجْتَهِدَ الْيَوْمَ وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ من الْإِمَامِ الرَّازِيَّ أو من قَوْلِ الْغَزَالِيِّ في الْوَسِيطِ قد خَلَا الْعَصْرُ عن الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ وَنَقْلُ الِاتِّفَاقِ فيه عَجِيبٌ وَالْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَابِلَةِ وَسَاعَدَهُمْ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا وَالْحَقُّ أَنَّ الْفَقِيهَ الْفَطِنَ الْقَيَّاسَ كَالْمُجْتَهِدِ في حَقِّ الْعَامِّيِّ لَا النَّاقِلِ فَقَطْ وَقَالَتْ الْحَنَابِلَةُ لَا يَجُوزُ خُلُوُّ الْعَصْرِ عن مُجْتَهِدٍ وَبِهِ جَزَمَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَالزُّبَيْرِيُّ في الْمُسْكِتِ فقال الْأُسْتَاذُ وَتَحْتَ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ لَا يُخْلِي اللَّهُ زَمَانًا من قَائِمٍ بِالْحُجَّةِ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْهَمَهُمْ ذلك وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لو خَلَّى زَمَانًا من قَائِمٍ بِحُجَّةٍ زَالَ التَّكْلِيفُ إذْ التَّكْلِيفُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْحُجَّةِ الظَّاهِرَةِ وإذا زَالَ التَّكْلِيفُ بَطَلَتْ الشَّرِيعَةُ وقال الزُّبَيْرِيُّ لَنْ تَخْلُوَ الْأَرْضُ من قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ في كل وَقْتٍ وَدَهْرٍ وَزَمَانٍ وَلَكِنَّ ذلك قَلِيلٌ في كَثِيرٍ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ غير مَوْجُودٍ كما قال الْخَصْمُ فَلَيْسَ بِصَوَابٍ لِأَنَّهُ لو عَدِمَ الْفُقَهَاءُ لم تَقُمْ الْفَرَائِضُ كُلُّهَا وَلَوْ عُطِّلَتْ الْفَرَائِضُ كُلُّهَا لَحَلَّتْ النِّقْمَةُ بِذَلِكَ في الْخَلْقِ كما جاء في الْخَبَرِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إلَّا على شِرَارِ الناس وَنَحْنُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ أَنْ نُؤَخَّرَ مع الْأَشْرَارِ انْتَهَى وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ هذا هو الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا لَكِنْ إلَى الْحَدِّ الذي يُنْتَقَضُ بِهِ الْقَوَاعِدُ بِسَبَبِ زَوَالِ الدُّنْيَا في آخَرِ الزَّمَانِ وقال في شَرْحِ خُطْبَةِ الْإِلْمَامِ وَالْأَرْضُ لَا تَخْلُو من قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ وَالْأُمَّةُ الشَّرِيفَةُ لَا بُدَّ لها من سَالِكٍ إلَى الْحَقِّ على وَاضِحِ الْمُحَجَّةِ إلَى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ في أَشْرَاطِ السَّاعَةِ الْكُبْرَى وَيَتَتَابَعُ بَعْدَهُ ما بَقِيَ معه إلَى قُدُومِ الْأُخْرَى وَمُرَادُهُ بِالْأَشْرَاطِ الْكُبْرَى طُلُوعُ الشَّمْسِ من مَغْرِبِهَا مَثَلًا وَلَهُ وَجْهٌ حَسَنٌ وهو أَنَّ الْخُلُوَّ من مُجْتَهِدٍ يَلْزَمُ منه إجْمَاعُ الْأُمَّةِ على الْخَطَأِ وهو تَرْكُ الِاجْتِهَادِ الذي هو فَرْضُ كِفَايَةٍ وقال وَالِدُهُ الْعَلَّامَةُ مَجْدُ الدِّينِ في كِتَابِهِ تَلْقِيحِ الْأَفْهَامِ عز الْمُجْتَهِدُ في هذه الْأَعْصَارِ وَلَيْسَ ذلك لِتَعَذُّرِ حُصُولِ آلَةِ الِاجْتِهَادِ بَلْ لِإِعْرَاضِ الناس
____________________
(4/497)
في اشْتِغَالِهِمْ عن الطَّرِيقِ الْمُفْضِيَةِ إلَى ذلك وَتَوْقِيفُ الْفُتْيَا على حُصُولِ الْمُجْتَهِدِ يُفْضِي إلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ فَالْمُخْتَارُ قَبُولُ فَتْوَى الرَّاوِي عن الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ كما سَيَأْتِي وقال جَدُّهُ الْإِمَامُ تَقِيُّ الدِّينِ أبو الْعِزِّ الْمُقْتَرَحِ مُعْتَرِضًا على قَوْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ لَا يَجُوزُ انْحِطَاطُ الْعُلَمَاءِ إنْ أَرَادَ الْمُجْتَهِدِينَ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ يَجُوزُ ذلك في الْعَادَةِ وَزَمَانُنَا هذا قد يَشْغَرُ منهم وَإِنْ أَرَادَ بِهِ النَّقَلَةَ فَهَذَا يُتَّجَهُ فإن الْعَادَةَ لم تَقْضِ بِانْحِطَاطِهِمْ وَالدَّوَاعِي تَتَوَفَّرُ على نَقْلِ الْأَحَادِيثِ وَلَفْظِ الْمَذَاهِبِ وَنَقْلِ الْقُرْآنِ نعم إنْ فَتَرَتْ الدَّوَاعِي وَقَلَّتْ الْهِمَمُ فَيَجُوزُ شُغُورُ الزَّمَانِ عَنْهُمْ ولم يُوجَدْ ذلك انْتَهَى وَأَمَّا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ وقد خَلَا الْعَصْرُ عن الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ فَقَدْ سَبَقَهُ إلَيْهِ الْقَفَّالُ شَيْخُ الْخُرَاسَانِيِّينَ فَقِيلَ الْمُرَادُ مُجْتَهِدٌ قَائِمٌ بِالْقَضَاءِ فإن الْمُحَقِّقِينَ من الْعُلَمَاءِ كَانُوا يَرْغَبُونَ عنه وَلَا يَلِي في زَمَانِهِمْ غَالِبًا إلَّا من هو دُونَ ذلك وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْقَضَاءُ على الْأَعْصَارِ بِخُلُوِّهَا عن مُجْتَهِدٍ وَالْقَفَّالُ نَفْسُهُ كان يقول لِلسَّائِلِ في مَسْأَلَةِ الصُّبْرَةِ تَسْأَلُ عن مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَمْ ما عِنْدِي وقال هو وَالشَّيْخُ أبو عَلِيٍّ وَالْقَاضِي الْحُسَيْنُ لَسْنَا مُقَلِّدَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ بَلْ وَافَقَ رَأْيُنَا رَأْيَهُ فَمَاذَا كَلَامُ من يَدَّعِي رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ ولم يَخْتَلِفْ اثْنَانِ أَنَّ ابْنَ عبد السَّلَامِ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَكَذَلِكَ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ كما قَالَهُ ابن الرِّفْعَةِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْعَصْرَ خَلَا عن الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ لَا عن مُجْتَهِدٍ في مَذْهَبِ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وقد وَقَعَ الِاتِّفَاقُ بين الْمُسْلِمِينَ على أَنَّ الْحَقَّ مُنْحَصِرٌ في هذه الْمَذَاهِبِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِغَيْرِهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الِاجْتِهَادُ إلَّا فيها مَسْأَلَةٌ الصَّحِيحُ جَوَازُ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَكُونُ مُجْتَهِدًا في بَابٍ دُونَ غَيْرِهِ وَعَزَاهُ الْهِنْدِيُّ لِلْأَكْثَرِينَ وَحَكَاهُ صَاحِبُ النُّكَتِ عن أبي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَأَبِي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وهو الْمُخْتَارُ لِأَنَّهُ قد يُمْكِنُ الْعِنَايَةُ بِبَابٍ من الْأَبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ حتى يَحْصُلَ الْمَعْرِفَةُ بِمَأْخَذِ أَحْكَامِهِ وإذا حَصَلَتْ الْمَعْرِفَةُ بِالْمَأْخَذِ أَمْكَنَ الِاجْتِهَادُ وقال الرَّافِعِيُّ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ بِمَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ في بَابٍ دُونَ بَابٍ وَالنَّاظِرُ في مَسْأَلَةِ الْمُشَارَكَةِ تَكْفِيهِ مَعْرِفَةُ أُصُولِ الْفَرَائِضِ وَلَا يَضُرُّهُ أَنْ لَا يَعْرِفَ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ في تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ مَثَلًا
____________________
(4/498)
وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى الْمَنْعِ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ في نَوْعٍ من الْفِقْهِ رُبَّمَا كان أَصْلُهَا نَوْعًا آخَرَ منه كَتَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ تَحْلِيلَ الْخَمْرِ بِالِاسْتِعْجَالِ فَلَا تَكْتَمِلُ شَرَائِطُ الِاجْتِهَادِ في جُزْءٍ حتى يَسْتَقِلَّ بِالْفُنُونِ كُلِّهَا وَمِنْ فَوَائِدِ الْخِلَافِ في هذا أَنَّهُ هل يُعْتَبَرُ خِلَافُ الْأُصُولِيِّ في الْفِقْهِ فَإِنْ قُلْنَا يَتَجَزَّأُ اُعْتُبِرَ خِلَافُهُ وَإِلَّا فَلَا قِيلَ وَكَلَامُهُمْ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْخِلَافِ إذَا عَرَفَ بَابًا دُونَ بَابٍ أَمَّا مَسْأَلَةً دُونَ مَسْأَلَةٍ فَلَا تَتَجَزَّأُ قَطْعًا وَالظَّاهِرُ جَرَيَانُ الْخِلَافِ في الصُّورَتَيْنِ وَبِهِ صَرَّحَ الْإِبْيَارِيُّ وَتَوَسَّطَ فقال إنْ أَجْمَعُوا في مَسْأَلَةٍ على ضَبْطِ مَآخِذِهَا وكان النَّاظِرُ الْمَخْصُوصُ مُحِيطًا بِالنَّظَرِ في تِلْكَ الْمَآخِذِ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فيها وَإِلَّا لم يَصِحَّ بِنَاءً على ما سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ له الْحُكْمُ بِالدَّلِيلِ حتى تَحْصُلَ غَلَبَةُ الظَّنِّ وَفِقْدَانُ الْمُعَارِضِ من الشَّرِيعَةِ فإذا لم يَكُنْ النَّاظِرُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَكَيْفَ يَجْزِمُ أو يَظُنُّ قال أبو الْمَعَالِي بن الزَّمْلَكَانِيِّ الْحَقُّ التَّفْصِيلُ فما كان من الشُّرُوطِ كُلِّيًّا كَقُوَّةِ الِاسْتِنْبَاطِ وَمَعْرِفَةِ مَجَارِي الْكَلَامِ وما يُقْبَلُ من الْأَدِلَّةِ وما يُرَدُّ وَنَحْوُهُ فَلَا بُدَّ من اسْتِجْمَاعِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كل دَلِيلٍ وَمَدْلُولٍ فَلَا تَتَجَزَّأُ تِلْكَ الْأَهْلِيَّةِ وما كان خَاصًّا بِمَسْأَلَةٍ أو مَسَائِلَ أو بَابٍ فإذا اسْتَجْمَعَهُ الْإِنْسَانُ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذلك الْبَابِ أو تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أو الْمَسَائِلِ مع الْأَهْلِيَّةِ كان فَرْضُهُ في ذلك الْجُزْءِ الِاجْتِهَادَ دُونَ التَّقْلِيدِ
____________________
(4/499)
فَصْلٌ في الْمُجْتَهِدِ من الْقُدَمَاءِ وَمَنْ الذي حَازَ الرُّتْبَةَ منهم ذَكَرَهُ إلْكِيَا وهو فَصْلٌ عَظِيمُ النَّفْعِ فإن مَذَاهِبَهُمْ نُقِلَتْ إلَيْنَا وَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ الْمُجْتَهِدِ منهم لِيُعْلَمَ من الذي تُعْتَبَرُ فَتْوَاهُ وَمَنْ يَقْدَحُ الْإِجْمَاعُ مُخَالَفَتَهُ وَمَنْ لَا يَقْدَحُ قال اعْلَمْ أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ الْأَرْبَعَةَ لَا شَكَّ في حِيَازَتِهِمْ هذه الرُّتْبَةَ وَأُلْحِقَ بِهِمْ أَهْلُ الشُّورَى الَّذِينَ جَعَلَهُمْ عُمَرُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ قال وَأَمَّا أبو هُرَيْرَةَ فَقَدْ مَالَ الْأَكْثَرُونَ إلَى إخْرَاجِهِ عن أَحْزَابِ الْمُجْتَهِدِينَ لِأَنَّهُ لم يُنْقَلْ عنه التَّصَدِّي لِلْفَتْوَى وَإِنَّمَا كان يَتَصَدَّى لِلرِّوَايَةِ وَتُوُقِّفَ في ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما إذْ لم يُنْقَلْ عنه التَّصَدِّي لِلْفَتْوَى وَأَمَّا ابن مَسْعُودٍ فَكَانَ فَقِيهَ الصَّحَابَةِ وَمُنْتَدَبًا لِلْفَتْوَى وَكَذَلِكَ ابن عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بن ثَابِتٍ مِمَّنْ شَهِدَ الرَّسُولُ بِأَنَّهُ أَفْرَضُ الْأَئِمَّةِ وَالْمُعْتَبَرُ تَصَدِّيهِ لِهَذَا الْمَعْنَى من غَيْرِ نَكِيرٍ أو شَهَادَةُ الرَّسُولِ وَمُرَاجَعَةُ الْأَوَّلِينَ له وَبَعْدَ النُّزُولِ عن هذه الطَّبَقَةِ الْعَالِيَةِ لِلشَّافِعِيِّ وَقْفَةٌ في الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَيَقُولُ فِيهِمَا وَاعِظٌ وَمُعَبِّرٌ ولم يَرَهُمَا مُتَصَدِّيَيْنِ لِهَذَا الشَّأْنِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا من الْمُجْتَهِدِينَ فَإِنَّهُمَا كَانَا يُفْتِيَانِ على ما قَالَهُ السَّلَفُ وقال ابن بَرْهَانٍ أَمَّا الصَّحَابَةُ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ الْمَشْهُورِينَ منهم من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَأَسَامِيهِمْ مَعْلُومَةٌ في التَّوَارِيخِ وَلَا شَكَّ في كَوْنِ الْعَشَرَةِ من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَكَذَلِكَ من انْتَشَرَتْ فَتَاوِيهِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَثُرَتْ فَتَاوِيهِمْ وَنُقِلَ عن الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمْ قالوا أبو هُرَيْرَةَ وابن عُمَرَ وَأَنَسٌ وَجَابِرٌ لَيْسُوا فُقَهَاءَ وَإِنَّمَا هُمْ رُوَاةُ أَحَادِيثَ وهو بَاطِلٌ فإن ابْنَ عُمَرَ أَفْتَى في زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَتَأَهَّلَ لِلْإِمَامَةِ فَزَهِدَ فيها وأبو هُرَيْرَةَ وَلِيَ الْقَضَاءَ وَأَنَسٌ وَجَابِرٌ أَفْتَيَا في زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَأَمَّا التَّابِعُونَ فَقَدْ اشْتَهَرَ الْمُجْتَهِدُونَ فِيهِمْ كَسَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ وَالْأَوْزَاعِيِّ
____________________
(4/500)
وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وقد نُقِلَ عن الشَّافِعِيِّ وقد نُقِلَ أَنَّهُ قال في الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَاعِظٌ وَمُعَبِّرٌ ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَهَذَا بَاطِلٌ فإن الْحَسَنَ أَفْتَى في زَمَنِ الصَّحَابَةِ وابن سِيرِينَ كَذَلِكَ وقد شَهِدَ لَهُمَا أَهْلُ عَصْرِهِمَا بِالْجَلَالَةِ وَالْإِمَامَةِ وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ فَأَهْلٌ لِلِاجْتِهَادِ وَلَا مَحَالَةَ وَكَذَلِكَ الْفُقَهَاءُ الْخَمْسَةُ أَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ وقد اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا وَأَصْحَابُ أبي حَنِيفَةَ في الْمُزَنِيّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ وَابْنِ سُرَيْجٍ فَمِنْهُمْ من أَلْحَقَ هَؤُلَاءِ بِرُتْبَةِ الْمُجْتَهِدِينَ في الدِّينِ وَمِنْهُمْ من جَعَلَهُمْ من الْمُجْتَهِدِينَ في الْمَذَاهِبِ قُلْت وما ذَكَرَهُ إلْكِيَا في أبي هُرَيْرَةَ تَابَعَ فيه الْقَاضِي فإنه قال إنَّهُ لم يَكُنْ مُفْتِيًا وَإِنَّمَا كان من الرُّوَاةِ وَالصَّوَابُ ما قَالَهُ ابن بَرْهَانٍ وقد ذَكَرَهُ ابن حَزْمٍ في الْفُقَهَاءِ من الصَّحَابَةِ وقال عبد الْعَزِيزِ الْحَنَفِيُّ في التَّحْقِيقِ كان أبو هُرَيْرَةَ فَقِيهًا ولم يَعْدَمْ شيئا من أَسْبَابِ الِاجْتِهَادِ وقد كان يُفْتِي في زَمَنِ الصَّحَابَةِ وما كان يُفْتِي في ذلك الزَّمَانِ إلَّا فَقِيهٌ مُجْتَهِدٌ وقد جَمَعَ الشَّيْخُ أبو الْحَسَنِ السُّبْكِيُّ جُزْءًا في فَتَاوَى أبي هُرَيْرَةَ قال في الْمَنْخُولِ وَالضَّابِطُ عِنْدَنَا فيه أَنَّ كُلَّ من عَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّهُ تَصَدَّى لِلْفَتْوَى في أَعْصَارِ الصَّحَابَةِ ولم يُمْنَعْ عنه فَهُوَ من الْمُجْتَهِدِينَ وَمَنْ لم يَتَصَدَّ له قَطْعًا فَلَا وَمَنْ تَرَدَّدْنَا في ذلك فيه تَرَدَّدْنَا في صِفَتِهِ وقد انْقَسَمَتْ الصَّحَابَةُ إلَى مُتَنَسِّكِينَ لَا يَعْتَنُونَ بِالْعِلْمِ وَإِلَى مُعْتَنِينَ بِهِ فَهُمْ الْمُجْتَهِدُونَ وَلَا مَطْمَعَ في عَدِّ آحَادِهِمْ بَعْدَ ذِكْرِ الضَّابِطِ وهو الضَّابِطُ أَيْضًا في التَّابِعِينَ وَعَدَّ ابن حَزْمٍ في الْأَحْكَامِ فُقَهَاءَ الصَّحَابَةِ فَبَلَغَ بِهِمْ مِائَةً وَنَيِّفًا وَهَذَا حَيْفٌ وقد قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في طَبَقَاتِهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ الْمُلَازِمِينَ لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم كَانُوا فُقَهَاءَ لِأَنَّ طَرِيقَ الْفِقْهِ فِيهِمْ خِطَابُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَفْعَالُهُ وَكَانُوا عَارِفِينَ بِذَلِكَ لِنُزُولِ الْقُرْآنِ بِلُغَتِهِمْ وَلِهَذَا قال أبو عُبَيْدٍ في كِتَابِ الْمَجَازِ لم يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا من الصَّحَابَةِ رَجَعَ في تَفْسِيرِ شَيْءٍ من الْقُرْآنِ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلِهَذَا قال أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ غير أَنَّ الذي اشْتَهَرَ منهم بِالْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ جَمَاعَةٌ مَخْصُوصَةٌ
____________________
(4/501)
فَصْلٌ في زَمَانِهِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ في جَوَازِ الِاجْتِهَادِ أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ غير النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا أَنْ يَكُونَ في غَيْرِ زَمَنِ النُّبُوَّةِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا في جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلْأَنْبِيَاءِ عليهم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجْمَعُوا على أَنَّهُ كان يَجُوزُ لهم أَنْ يَجْتَهِدُوا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِح الدُّنْيَا وَتَدْبِيرِ الْحُرُوبِ وَنَحْوِهَا وقد فَعَلُوا ذلك كما قال سُلَيْمٌ وَكَذَلِكَ ابن حَزْمٍ وَمَثَّلَهُ بِإِرَادَةِ النبي عليه السَّلَامُ أَنْ يُصَالِحَ غَطَفَانَ على ثُلُثِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ فَهَذَا مُبَاحٌ لِأَنَّ لهم أَنْ يَهَبُوا من أَمْوَالِهِمْ ما أَحَبُّوا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ في تَلْقِيحِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لِلْمَرْءِ أَنْ يُلَقِّحَ نَخْلَةً وَأَنْ يَتْرُكَهَا قال وقد أخبرني بَعْضُهُمْ أَنَّهُ تَرَكَ ثِمَارَهُ سِنِينَ دُونَ تَأْبِيرٍ فَاسْتَغْنَى عنه انْتَهَى فَأَمَّا اجْتِهَادُهُمْ في أَمْرِ الشَّرْعِ فَاخْتَلَفُوا أَنَّهُ هل كان لهم أَنْ يَجْتَهِدُوا فِيمَا لَا نَصَّ فيه على مَذَاهِبَ الْأَوَّلُ ليس لهم ذلك لِقُدْرَتِهِمْ على النَّصِّ بِنُزُولِ الْوَحْيِ وقد قال تَعَالَى إنْ هو إلَّا وَحْيٌ يُوحَى وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ على النُّطْقِ وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أَصْحَابِ الرَّأْيِ وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ كُلُّ من نَفَى الْقِيَاسَ أَحَالَ تَعَبُّدَهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِهِ قُلْت وهو ظَاهِرُ اخْتِيَارِ ابْنِ حَزْمٍ وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان إذَا سُئِلَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ وَيَقُولُ ما أُنْزِلَ عَلَيَّ في هذا الشَّيْءِ ذَكَرَ ذلك في حديث زَكَاةِ الْحُمُرِ وَمِيرَاثِ الْبَنِينَ مع الزَّوْجِ وَالْعَمَّةِ قال وَلَنَا أَخْذُهُ عليه السَّلَامُ الْفِدَاءَ ثُمَّ نَزَلَ عِتَابُهُ عليه فَلَا يُنْكِرُ أَنْ يُفْعَلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ما لم يَتَقَدَّمْ نَهْيُ رَبِّهِ تَعَالَى فيه إلَّا أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ بَلْ لَا بُدَّ من تَنْبِيهِهِ عليه
____________________
(4/502)
قُلْت ثُمَّ قِيلَ هو مُمْتَنِعٌ عَقْلًا حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وَذَهَبَ أبو عَلِيٍّ وَابْنُهُ أبو هَاشِمٍ إلَى أَنَّهُ لم يَكُنْ مُتَعَبَّدًا بِهِ وَتَوَقَّفَ فيه كَثِيرُونَ منهم الرَّازِيَّ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وهو ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ كما قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَسُلَيْمٌ وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ وَأَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ منهم الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَالْقَاضِيَانِ أبو يُوسُفَ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ وأبو الْحُسَيْنِ وَالْقَاضِي في التَّقْرِيبِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِنَبِيِّنَا وَغَيْرِهِ من الْأَنْبِيَاءِ عليهم السَّلَامُ ذلك وَأَوْمَأَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ نَبِيَّهُ كما خَاطَبَ عِبَادَهُ وَضَرَبَ له الْأَمْثَالَ وَأَمَرَهُ بِالتَّدَبُّرِ وَالِاعْتِبَارِ وهو أَجَلُّ الْمُتَفَكِّرِينَ في آيَاتِ اللَّهِ وَأَعْظَمُ الْمُعْتَبِرِينَ بها وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى إنْ هو إلَّا وَحْيٌ يُوحَى فَالْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُمْ قالوا إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ سَلَّمْنَا أَنَّ الضَّمِيرَ لِلنُّطْقِ وَلَا يَلْزَمُ منه ما ذَكَرْتُمْ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ الشَّرْعِيَّ مَأْذُونٌ فيه وَالدَّلِيلُ عليه في الْآرَاءِ وَالْحُرُوبِ كَثِيرٌ كَقَتْلِهِ النَّضْرَ وَنَحْوَهُ في الْأُمُورِ التي تَحَرَّى فيها وَاخْتَارَ أَحَدَ الْجَائِزَيْنِ وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَلِأَنَّهُ أَكْمَلُ من غَيْرِهِ لِعِصْمَتِهِ من الْخَطَأِ فإذا جَازَ لِغَيْرِهِ الذي هو عُرْضَةٌ لِلْخَطَأِ فَلَأَنْ يَجُوزَ لِلْكَامِلِ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِالِاجْتِهَادِ أَشَقُّ من الْعَمَلِ بِالْيَقِينِ فَيَكُونُ أَكْثَرَ ثَوَابًا وَالثَّالِثُ الْوَقْفُ عن الْقَطْعِ بِشَيْءٍ من ذلك لِجَوَازِهِ كُلِّهِ وَزَعَمَ الصَّيْرَفِيُّ في شَرْحِ الرِّسَالَةِ أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ حَكَى الْأَقْوَالَ ولم يَخْتَرْ شيئا فقال ما سَنَّ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مِمَّا ليس فيه نَصُّ كِتَابٍ اخْتَلَفُوا فيه فَمِنْهُمْ من قال جَعَلَ اللَّهُ له ذلك لِعِلْمِهِ بِتَوْفِيقِهِ وَمِنْهُمْ من قال لم يَسُنَّ سُنَّةً قَطُّ إلَّا وَلَهَا أَصْلٌ في الْكِتَابِ وَمِنْهُمْ من قال بَلْ جَاءَتْهُ رِسَالَةُ اللَّهِ فَأَثْبَتَ سُنَّتَهُ بِفَرْضِ اللَّهِ وَمِنْهُمْ من قال أُلْقِيَ في رُوعِهِ كُلُّ ما سَنَّ انْتَهَى لَكِنَّهُ قال بَعْدَ هذا في بَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ قال قال بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وفي قَوْله تَعَالَى ما يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ من تِلْقَاءِ نَفْسِي دَلَالَةٌ على أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِرَسُولِهِ أَنْ يَقُولَ من تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بِتَوْفِيقِهِ فِيمَا لم يَنْزِلْ بِهِ كِتَابٌ قال قِيلَ في قَوْله تَعَالَى يَمْحُو اللَّهُ ما يَشَاءُ وَيُثْبِتُ يَمْحُو فَرْضَ ما يَشَاءُ وَيُثْبِتُ فَرْضَ ما يَشَاءُ قال الشَّافِعِيُّ وَهَذَا يُشْبِهُ ما قِيلَ انْتَهَى وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ في الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا ثَالِثُهَا وَاخْتَارَهُ في كِتَابِ الْقَضَاءِ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ ذلك الْحُكْمُ مِمَّا يُشَارِكُ فيه الْأُمَّةَ كَتَحْرِيمِ الْكَلَامِ في الصَّلَاةِ وَالْجَمْعِ بين الْأُخْتَيْنِ فَلَيْسَ له أَنْ يَجْتَهِدَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَمْرِ الشَّخْصِ لِنَفْسِهِ وَبَيَّنَ أَنْ لَا يُشَارِكَهُمْ فيه كَمَنْعِ تَوْرِيثِ الْقَاتِلِ وَحَدِّ الشَّارِبِ وَقِيلَ يَجُوزُ لِنَبِيِّنَا دُونَ غَيْرِهِ
____________________
(4/503)
وَأَمَّا وُقُوعُهُ فَاخْتَلَفُوا فيه على أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى وُقُوعِهِ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَتَدُلُّ عليه قِصَّةُ سُلَيْمَانَ وَدَاوُد وَقَوْلُهُ لِعُمَرَ أَرَأَيْت لو تَمَضْمَضْت وَقَوْلُ الْعَبَّاسِ له إلَّا الْإِذْخِرَ فقال إلَّا الْإِذْخِرَ فَلَوْ كان بِالْوَحْيِ لَمَا تَأَخَّرَ الِاسْتِثْنَاءُ وَمِنْهُمْ من أَنْكَرَ وُقُوعَهُ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ من فَصَّلَ فقال كان لَا يَجْتَهِدُ في الْقَوَاعِدِ وكان يَجْتَهِدُ في الْفُرُوعِ كَقَوْلِهِ أَرَأَيْت لو تَمَضْمَضْت وَاخْتَارَهُ في الْمَنْخُولِ وَمِنْهُمْ من تَوَقَّفَ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي فقال في الْمُسْتَصْفَى وهو الْأَصَحُّ فإنه لم يَثْبُتْ فيه قَاطِعٌ وَالْمُنْكِرُونَ لِلْوُقُوعِ قالوا السُّنَّةُ كُلُّهَا وَحْيٌ وَلَكِنَّهُ لَا يُتْلَى وَالْقُرْآنُ وَحْيٌ يُتْلَى وفي السُّنَنِ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال أَلَا إنِّي أُوتِيت الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ معه وفي حديث الذي سَأَلَهُ عن الْعُمْرَةِ فَأَخَذَهُ ما كان يَأْخُذُهُ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ ثُمَّ سُرِّيَ عنه فقال اصْنَعْ في عُمْرَتِك ما تَصْنَعُ في حَجَّتِك وهو حَدِيثٌ صَحِيحٌ وهو دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ على
____________________
(4/504)
أَنَّ السُّنَّةَ كانت تَنْزِلُ كما يَنْزِلُ الْقُرْآنُ وهو أَخْذُ نُزُولِ الْوَحْيِ وَأَعْظَمُهَا وَصَرَّحَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في الرِّسَالَةِ بِأَنَّ السُّنَّةَ مُنْزَلَةٌ كَالْقُرْآنِ وفي الحديث بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَالْمَسْأَلَةُ مُتَجَاذِبَةٌ وَلَيْسَ فيها كَثِيرُ فَائِدَةٍ فإنه على كل حَالٍ يَجِبُ الْأَخْذُ بها وَطَاعَتُهَا كَالْقُرْآنِ وَمِنْ أَقْوَى أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِالْوُقُوعِ قَوْلُهُ إلَّا الْإِذْخِرَ عَقِيبَ ما قِيلَ له إلَّا الْإِذْخِرَ وَنَحْوُ ذلك وَلَيْسَ قَاطِعًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَوْحَى إلَيْهِ في تِلْكَ اللَّحْظَةِ وَادَّعَى الْقَرَافِيُّ في أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ في الْفَتَاوَى وَأَنَّ الْأَقْضِيَةَ يَجُوزُ فيها بِلَا نِزَاعٍ وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَيَأْتِي وقال أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ إنْ أُرِيدَ بِاجْتِهَادِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الِاسْتِدْلَال بِالنُّصُوصِ على مُرَادِ اللَّهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ قَطْعًا وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الِاسْتِدْلَال بِالْأَمَارَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنْ كان أَخْبَارُ آحَادٍ فَلَا يَتَأَتَّى منه عليه السَّلَامُ وَإِنْ كانت أَمَارَاتٌ مُسْتَنْبَطَةٌ وَهِيَ التي يُجْمَعُ بها بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ في أَنَّهُ هل كان يَجُوزُ له أَنْ يَتَعَبَّدَ بِهِ عليه وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ فُرُوعٌ الْأَوَّلُ إذَا جَوَّزْنَا فَهَلْ كان يَجِبُ عليه فيه وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابن أبي هُرَيْرَةَ في تَعْلِيقِهِ في الْأَقْضِيَةِ وَصَحَّحَ الْوُجُوبَ وَكَذَا حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ في الْأَقْضِيَةِ ثُمَّ قال وَالْأَصَحُّ عِنْدِي التَّفْصِيلُ بين حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَيَجِبُ عليه لِأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَى حُقُوقِهِمْ إلَّا بِالِاجْتِهَادِ وَلَا يَجِبُ في حُقُوقِ اللَّهِ الثَّانِي إذَا اجْتَهَدَ فَهَلْ يَسْتَبِيحُ الِاجْتِهَادُ بِرَأْيِهِ أو يَرْجِعُ فيها إلَى دَلَائِلِ الْكِتَابِ على وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَرْجِعُ في اجْتِهَادِهِ إلَى الْكِتَابِ لِأَنَّ سُنَنَهُ أَصْلٌ كَالْكِتَابِ وقال الْغَزَالِيُّ يَجُوزُ الْقِيَاسُ على الْفَرْعِ الذي قَاسَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَعَلَى كل فَرْعٍ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ على إلْحَاقِهِ بِالْأَصْلِ قال لِأَنَّهُ صَارَ أَصْلًا بِالْإِجْمَاعِ وَالنَّصِّ فَلَا يُعْطَى إلَى مَآخِذِهِمْ الثَّالِثُ إذَا جَوَّزْنَا له الِاجْتِهَادَ فَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَتَطَرَّقُ الْخَطَأُ إلَى اجْتِهَادِهِ لِأَنَّهُ لو جَازَ لَوَجَبَ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ فيه وهو يُنَافِي كَوْنَهُ خَطَأً وَالْمَسْأَلَةُ قد نَصَّ عليها الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ فقال في كِتَابِ الْإِقْرَارِ وَالِاجْتِهَادُ في الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ وَلَنْ يُؤْمَرَ الناس أَنْ يَتَّبِعُوا إلَّا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ الذي عَصَمَهُ اللَّهُ من الْخَطَأِ وَبَرَّأَهُ اللَّهُ منه فقال وَإِنَّك
____________________
(4/505)
لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَأَمَّا من رَأْيُهُ خَطَأٌ وَصَوَابٌ فَلَنْ يُؤْمَرَ أَحَدٌ بِاتِّبَاعِهِ انْتَهَى وقال ابن فُورَكٍ هو مَعْصُومٌ في اجْتِهَادِهِ كما هو مَعْصُومٌ في خَبَرِهِ وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أَصْحَابِنَا وقال الْهِنْدِيُّ إنَّهُ الْحَقُّ عِنْدَنَا وَمِمَّنْ جَزَمَ بِهِ الْحَلِيمِيُّ في شُعَبِ الْإِيمَانِ فقال في خَصَائِصِ الْأَنْبِيَاءِ وَمِنْهَا الْعِصْمَةُ من الْخَطَأِ في الِاجْتِهَادِ وَخُصُّوا بِأَدِلَّاءٍ حتى تَتَّسِعَ الضُّرُوبُ من الِاسْتِنْبَاطِ فِيمَا أُوحِيَ إلَيْهِ وإذا تَفَاوَتَتْ الْعُلَمَاءُ من أَجْلِهِ في ذلك فَالنَّبِيُّ هو الذي أَعْلَمَ الْعُلَمَاءَ أَوْلَى بِالِارْتِقَاءِ فيه وقد قال بَعْضُهُمْ أَنَّ عَامَّةَ سُنَنِ الرَّسُولِ تَرْجِعُ إلَى الْقُرْآنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذلك لَا يَقِفُ عليه الْعُلَمَاءُ وَإِنْ بَذَلُوا الْجَهْدَ فيه فَهُوَ إذًا يَفْهَمُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهْمًا لَا يَبْلُغُهُ فَهْمُ غَيْرِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ انْتَهَى وَقِيلَ يَجُوزُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُقَرَّ عليه وهو اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ في اللُّمَعِ وَحَكَاهُ ابن بَرْهَانٍ عن أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَالْخَطَّابِيُّ في أَعْلَامِ الحديث عن أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَجَعَلَهُ عُذْرًا لِعُمَرَ في الْكِتَابِ الذي أَرَادَ النبي أَنْ يَكْتُبَهُ وَارْتِضَاءُ الرَّافِعِيِّ في الْعَدَدِ في الْكَلَامِ عن سُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ عن الْوَفَاةِ وَكَذَا ابن حَزْمٍ في الْإِحْكَامِ قال كَفِعْلِهِ بِابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ إذْ أُنْزِلَتْ عَبَسَ قُلْت وهو قَوْلٌ لَا نُورَ عليه وَقَوْلُ ابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّهُ الْمُخْتَارُ غَيْرُ صَوَابٍ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّقْرِيرُ عليه وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في كِتَابِ الْقَضَاءِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ من الْخَطَأِ في الِاجْتِهَادِ على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ وهو مُقْتَضَى الْوَجْهِ الْقَائِلِ بِأَنَّهُمْ لَا يَجْتَهِدُونَ إلَّا عن دَلِيلٍ وَنَصٍّ والثاني الْمَنْعُ لَكِنْ لَا يُقِرُّهُمْ اللَّهُ عليه لِيَزُولَ الِارْتِيَابُ بِهِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُمْ من الْعُلَمَاءِ مُقِرًّا عليه وهو مُقْتَضَى الْوَجْهِ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ بِالرَّأْيِ من غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِنَصٍّ وَقَالَا قال ابن أبي هُرَيْرَةَ نَبِيُّنَا عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعْصُومٌ في الِاجْتِهَادِ من الْخَطَأِ دُونَ غَيْرِهِ من الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ يَسْتَدْرِكُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ من الْأَنْبِيَاءِ قُلْت وَهَكَذَا رَأَيْتُهُ في تَعْلِيقِهِ في الْأَقْضِيَةِ
____________________
(4/506)
فَحَصَلَ في عِصْمَتِهِمْ في الِاجْتِهَادِ مَذَاهِبُ ثَالِثُهَا نَبِيُّنَا فَقَطْ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَهَذَا لَا وَجْهَ له لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرُ مُقِرِّينَ على الْخَطَأِ في وَقْتِ التَّنْفِيذِ وَلَا يُمْهِلُونَ على التَّرَاخِي حتى يَسْتَدْرِكَهُ من بَعْدَهُمْ قُلْت وهو قَوْلٌ حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وهو أَفْسَدُ الْأَقْوَالِ وَقِيلَ الْخِلَافُ في غَيْرِ أُمُورِ الدُّنْيَا أَمَّا أُمُورُ الدُّنْيَا فَيَجُوزُ على الْكُلِّ لِحَدِيثِ التَّلْقِيحِ مَسْأَلَةٌ تَصَرُّفَاتُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم تَنْحَصِرُ فِيمَا يَكُونُ بِالْإِمَامَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْفَتْوَى وَوَجْهُ الْحَصْرِ أَنَّهُ إنْ كان فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْثِ الْجُيُوشِ وَقِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فَهُوَ من تَصَرُّفِ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى وَإِنْ تَعَلَّقَ بِإِنْقَاذِهِ وَالْحُكْمِ بين الْخَصْمَيْنِ فَهُوَ الْقَضَاءُ الذي يَتَوَلَّاهُ الْقُضَاةُ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْعِبَادَاتِ وَالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَهُوَ الْفَتْوَى وَالْخِلَافُ في الْكُلِّ ثُمَّ إذَا دَارَتْ الْحَادِثَةُ بين تَنْزِيلِهَا على الْقَضَاءِ أو على الْفَتْوَى فَعِنْدَنَا تَنْزِيلُهَا على الْقَضَاءِ أَوْلَى الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ في جَوَازِ الِاجْتِهَادِ من غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ في زَمَانِهِمْ كَاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ في عَصْرِ الرَّسُولِ وَالْكَلَامُ فيه في مَقَامَيْنِ الْجَوَازُ وَالْوُقُوعُ أَمَّا الْجَوَازُ فَمِنْهُمْ من مَنَعَ منه مُطْلَقًا وَنُقِلَ عن الْجُبَّائِيُّ وَأَبِي هَاشِمٍ وهو ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى مُسْتَحِيلٍ فَإِنْ أَرَادُوا مَنْعَ الشَّرْعِ تَوَقَّفَ على الدَّلِيلِ فَهُوَ مَفْقُودٌ وَمِنْهُمْ من جَوَّزَهُ مُطْلَقًا وَبِهِ قال أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا كما نَقَلَهُ ابن فُورَكٍ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُمَا وَنَقَلَهُ إلْكِيَا عن مُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ وهو الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ منهم صَاحِبُ الْمُسْتَصْفَى وقال في التَّقْرِيبِ إنَّهُ الْمُخْتَارُ وَمِنْهُمْ من فَصَلَ بين الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ
____________________
(4/507)
وَمِنْهُمْ من فَصَلَ بين الْغَائِبِ وَالْحَاضِرِ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ من فَصَلَ بين الْغَائِبِ عنه من الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ فَيَجُوزُ دُونَ الْحَاضِرِينَ حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ ثُمَّ الْمُجَوِّزُونَ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ يُكْتَفَى بِسُكُوتِهِ عليه السَّلَامُ حَكَاهُ في الْمُسْتَصْفَى وَمِنْهُمْ من قال يَجُوزُ إنْ لم يُوجَدْ في ذلك مَنْعٌ قال الْهِنْدِيُّ وَلَيْسَ بِمَرَضِيٍّ لِأَنَّ ما بَعْدَهُ أَيْضًا كَذَلِكَ فلم تَكُنْ له خُصُوصِيَّةٌ بِزَمَانِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمِنْهُمْ من قال إنْ وَرَدَ الْإِذْنُ بِذَلِكَ جَازَ وَإِلَّا فَلَا ثُمَّ من هَؤُلَاءِ من نَزَّلَ السُّكُوتَ على الْمَنْعِ منه مع الْعِلْمِ بِوُقُوعِهِ مَنْزِلَةَ الْإِذْنِ وَمِنْهُمْ من اشْتَرَطَ صَرِيحَ الْإِذْنِ حَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ ثُمَّ قال وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْحَاضِرِ الِاجْتِهَادُ قبل سُؤَالِ النبي عليه السَّلَامُ كما لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ قبل طَلَبِ النَّصِّ وَكَمَا لَا يَجُوزُ لِلسَّالِكِ في بَرِّيَّةٍ مَخُوفَةٍ أَنْ يَقُولَ على رَأْيِهِ مع تَمَكُّنِهِ من سُؤَالِ من يُخْبِرُهُ عن الطَّرِيقِ عن عِلْمٍ وإذا سَأَلَ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَجُوزُ أَنْ يَكِلَهُ النبي عليه السَّلَامُ إلَى اجْتِهَادِهِ وَلَا مَانِعَ من ذلك عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وقال ابن فُورَكٍ يُشْتَرَطُ تَقْرِيرُهُ عليه قال وَيَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ مع النَّصِّ ثُمَّ يَتَأَمَّلُ فَإِنْ كان النَّصُّ بِخِلَافِهِ صِرْنَا إلَى النَّصِّ كَذَلِكَ يَجْتَهِدُ بِحَضْرَتِهِ فَإِنْ أَفْتَى عليه عَلِمْنَا أَنَّهُ حَقٌّ وَفَصَّلَ ابن حَزْمٍ في الْحَاضِرِ بين الِاجْتِهَادِ في الْأَحْكَامِ كَإِيجَابِ شَيْءٍ أو تَحْرِيمِهِ فَلَا يَجُوزُ وقد أَفْتَى أبو السَّنَابِلِ بِاجْتِهَادِهِ في الْمُتَوَفَّى عنها الْحَامِلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فَأَخْطَأَ وَأَمَّا غَيْرُ ذلك فَيَجُوزُ كَاجْتِهَادِهِمْ فِيمَا يَجْعَلُونَ عَلَمًا لِلدُّعَاءِ إلَى الصَّلَاةِ ولم يَكُنْ ذلك على إيجَابِ شَرِيعَةٍ تُلْزِمُ وَإِنَّمَا كان إيذَانًا من بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَاجْتَهَدَ قَوْمٌ بِحَضْرَتِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيمَنْ هُمْ السَّبْعُونَ أَلْفًا الذي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَأَخْطَئُوا في ذلك حتى بَيَّنَ لهم النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من هُمْ ولم يُعَنِّفْهُمْ في اجْتِهَادِهِمْ قُلْت وإذا جَوَّزْنَا لِلْغَائِبِ فما ضَابِطُ الْغَيْبَةِ هل هِيَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ أَمْ لَا لم أَرَ فيه نَصًّا لَكِنْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ أَنَّهُ من بَعُدَ عنه بِفَرْسَخٍ أو
____________________
(4/508)
فَرَاسِخَ وَأَمَّا الْوُقُوعُ فَاخْتَلَفَ الْمُجَوِّزُونَ فيه فَمِنْهُمْ من مَنَعَهُ لِقُدْرَتِهِ على الْيَقِينِ بِأَنْ يَسْأَلَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَمِنْهُمْ من قال وَقَعَ ظَنًّا لَا قَطْعًا وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وَمِنْهُمْ من فَصَّلَ بين الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ فقال وَقَعَ لِلْغَائِبِ دُونَ الْحَاضِرِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَالْغَزَالِيُّ وابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ وَإِلَيْهِ مَيْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَنَقَلَهُ إلْكِيَا عن أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ قال وهو اُسْتُبْشِعَ في الِاسْتِقَامَةِ وَأَمْيَلُ إلَى الِاقْتِصَادِ من حَيْثُ تَعَذُّرُ الْمُرَاجَعَةِ مع تَأَنِّي الدَّارِّ في كل وَاقِعَةٌ وقال عبد الْوَهَّابِ إنَّ الْأَقْوَى على أُصُولِ أَصْحَابِهِمْ وقال صَاحِبُ اللُّبَابِ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَمِنْهُمْ من تَوَقَّفَ في الْحَاضِرِ وَقَطَعَ في الْغَائِبِ بِالْوُقُوعِ هذا حَاصِلُ ما في كُتُبِ الْأُصُولِ من الْأَقْوَالِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ اجْتِهَادُ الصَّحَابَةِ في زَمَنِهِ له حَالَتَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ له وِلَايَةٌ كَعَلِيِّ بن أبي طَالِبٍ وَمُعَاذِ بن جَبَلٍ حين بَعَثَهُمَا إلَى الْيَمَنِ فَيَجُوزُ اجْتِهَادُهُمَا لِأَنَّ مُعَاذًا قال أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي فَاسْتَصْوَبَهُ وَسَوَاءٌ اجْتَهَدَ في حَقِّ نَفْسِهِ أو غَيْرِهِ وَيَكُونُ اجْتِهَادُهُ أَمْرًا مُسَوَّغًا ما لم يَرِدْ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم خِلَافُهُ ثَانِيهِمَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُجْتَهِدِ وِلَايَةٌ فَلَهُ حَالَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَظْفَرَ بِأَصْلٍ من كِتَابٍ أو سُنَّةٍ فَيَجُوزُ اجْتِهَادُهُ في الرُّجُوعِ إلَيْهِمَا وَلَا يَلْزَمُ إذَا قَدَرَ على النبي أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا اجْتَهَدَ فيه لِأَنَّهُ إذَا أَخَذَ بِأَصْلٍ لَازِمٍ وثانيهما أَنْ يَعْدَمَ أَصْلًا من كِتَابٍ أو سُنَّةٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ في حَقِّ غَيْرِهِ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ وَأَمَّا في حَقِّ نَفْسِهِ فَإِنْ كان مِمَّا يَخَافُ فَوَاتَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ منه أَنْ يَشْرَعَ والثاني يَجُوزُ إنْ كان أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ وَعَلَى هذا فَفِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُقَلِّدَهُ فيه لِوُجُودِ ما هو أَقْوَى منه فَعَلَى هذا لَا يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ إذَا قَدِمَ الرَّسُولُ أَنْ يَسْأَلَهُ
____________________
(4/509)
الْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ حَاصِلًا في مَدِينَةِ الرَّسُولِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَغَائِبًا عن مَحَلَّتِهِ فَإِنْ رَجَعَ في اجْتِهَادِهِ إلَى أَصْلٍ من كِتَابٍ أو سُنَّةٍ صَحَّ وَجَازَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ لِأَنَّ الْعَجْلَانِيُّ سَأَلَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ عن قَذْفِ امْرَأَتِهِ بِمَا سَمَّاهُ فقال له حَدٌّ في ظَهْرِك إنْ لم تَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ثُمَّ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِمَا قِيلَ له فَتَوَقَّفَ فيه حتى نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ ولم يُنْكِرْ على من أَجَابَهُ وَإِنْ لم يَرْجِعْ الْمُجْتَهِدُ إلَى أَصْلٍ فَفِي جَوَازِ اجْتِهَادِهِ وَجْهَانِ قال صَاحِبُ الْحَاوِي وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ يَصِحُّ اجْتِهَادُهُ في الْمُعَامَلَاتِ دُونَ الْعِبَادَاتِ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ تَكْلِيفٌ فَتَتَوَقَّفُ على الْأَوَامِرِ بها وَالْمُعَامَلَاتُ تَخْفِيفٌ فَتُعْتَبَرُ النَّوَاهِي عنها الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ حَاضِرًا في مَجْلِسِ الرَّسُولِ فَإِنْ أَمَرَهُ بِالِاجْتِهَادِ صَحَّ اجْتِهَادُهُ كما حَكَمَ سَعْدُ بن مُعَاذٍ في بَنِي قُرَيْظَةَ وَإِنْ لم يَأْمُرْهُ بِالِاجْتِهَادِ لم يَصِحَّ اجْتِهَادُهُ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ بِهِ فَيُقِرَّهُ عليه فَيَصِيرُ بِإِقْرَارِهِ عليه صَحِيحًا كما قال أبو بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه بِحَضْرَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في سَلَبَ الْقَتِيلِ وقد أَخَذَهُ غَيْرُ قَاتِلِهِ قُلْت وفي مَعْنَى أَمْرِهِ بِهِ
____________________
(4/510)
الْمُشَاوَرَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَشَاوِرْهُمْ في الْأَمْرِ وقد شَاوَرَهُمْ في أَمْرِ الْأَسْرَى وَغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ اجْتِهَادُهُمْ بِحَضْرَتِهِ لِيَعْرِضُوا عليه رَأْيَهُمْ فَإِنْ صَحَّ قَبِلَهُ وَإِلَّا رَدَّهُ كَبَحْثِ الطَّالِبِ عِنْدَ أُسْتَاذِهِ وقد اجْتَهَدَ مُعَاذٌ في تَرْكِهِ قَضَاءَ الْغَائِبِ أَوَّلًا ثُمَّ الدُّخُولُ في الصَّلَاةِ وَرَضِيَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وقال قد سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ وَكَذَلِكَ امْتِنَاعُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه من مَحْوِ اسْمِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من الصَّحِيفَةِ وكان اجْتِهَادًا عَظِيمًا لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَخَرَجَ من ذلك صُوَرٌ يَجُوزُ فيها الِاجْتِهَادُ بِحَضْرَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ من مَوْضِعِ الْخِلَافِ وقد احْتَجَّ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ على الْوُقُوعِ 1 بِقَضِيَّةِ أبو بَكْرٍ هذه وَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم صَدَقَ ولم يَقُلْهُ الصِّدِّيقُ بِغَيْرِ الِاجْتِهَادِ 2 وَكَذَلِكَ حَكَّمَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم سَعْدَ بن مُعَاذٍ في بَنِي قُرَيْظَةَ بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ قال لقد حَكَمْت بِحُكْمِ اللَّهِ 3 وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم
____________________
(4/511)
أَمَرَ عَمْرَو بن الْعَاصِ وَعُقْبَةَ بن عَامِرٍ أَنْ يَحْكُمَا بين خَصْمَيْنِ وقال لَهُمَا إنْ أَصَبْتُمَا فَلَكُمَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَإِنْ أَخْطَأْتُمَا فَلَكُمَا حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ وفي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ نَظَرٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ ما حَاصِلُهُ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَتَلَ عَامَ حُنَيْنٍ مُشْرِكًا ثُمَّ إنَّهُ عليه السَّلَامُ قال من قَتَلَ قَتِيلًا له عليه بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ في كل مَرَّةٍ يَقُومُ أبو قَتَادَةَ فَلَا يَجِدُ من يَشْهَدُ له فلما كان الثَّالِثَةُ قال يا أَبَا قَتَادَةَ ما لَك قال فَقَصَصْت عليه الْقِصَّةَ فقال رَجُلٌ من الْقَوْمِ صَدَقَ يا رَسُولَ اللَّهِ سَلَبُ ذلك الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهِ من حَقِّهِ قال أبو بَكْرٍ الحديث وَظَاهِرُهُ أَنَّ الصِّدِّيقَ لم يَقُلْهُ بِالِاجْتِهَادِ بَلْ هو تَنْفِيذٌ لِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ من قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَأَمَّا الثَّانِي فَالنِّزَاعُ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا وَقَعَتْ له وَاقِعَةٌ هل يَجِبُ عليه أَنْ يَسْأَلَهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِيُخْبِرَهُ كَغَالِبِ عَادَاتِهِمْ وَيَجُوزُ له أَنْ يَجْتَهِدَ فيها بِرَأْيِهِ مِمَّا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ وَتَحْكِيمُ سَعْدِ بن مُعَاذٍ ليس من هذا الْقَبِيلِ لِأَنَّهُ عليه السَّلَامُ فَوَّضَ إلَيْهِ الْحُكْمَ في وَاقِعَةٍ فَلَا يَلْزَمُ من ذلك جَوَازُ الِاجْتِهَادِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ عليه السَّلَامُ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَقِيلَ ليس له أَصْلٌ بَلْ رَوَى عبد بن حُمَيْدٍ في مُسْنَدِهِ عن يَزِيدَ بن الْحُبَابِ حدثه عن فَرَجِ بن فَضَالَةَ حدثني محمد بن عبد الْأَعْلَى عن أبيه عن عبد اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ عن أبيه أَنَّ خَصْمَيْنِ جَاءَا إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال اقْضِ بَيْنَهُمَا وَذَكَرَ أبو سَعِيدٍ النَّقَّاشُ في كِتَابِ الْقُضَاةِ عن بَقِيَّةَ عن فَرَجِ بن فَضَالَةَ عن مُحَمَّدِ بن عبد اللَّهِ الْبَهْرَانِيِّ عن أبيه عن عبد اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ جاء خَصْمَانِ إلَى النبي ص فقال عليه السَّلَامُ اقْضِ بَيْنَهُمَا فَقُلْت يا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتَ أَوْلَى بِهِ قال وَإِنْ كان قُلْتَ ما أَقْضِي قال على أَنَّك إنْ أَصَبْتَ كان لَك عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَإِنْ أَخْطَأْتَ كان لَك حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ وَمَدَارُهُ على فَرَجٍ وقد ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُونَ وَشَيْخُهُ مُحَمَّدٌ وَأَبُوهُ مَجْهُولَانِ مع الِاخْتِلَافِ في اسْمِ أبيه وَالِاخْتِلَافُ هل هو عن عبد اللَّهِ بن عَمْرٍو أو عن أبيه وقد صَحَّحَ الْحَاكِمُ في الْمُسْتَدْرَكِ الحديث وَفِيهِ نَظَرٌ وَاسْتَدَلَّ الْبَيْهَقِيُّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَادَى يوم انْصَرَفَ من الْأَحْزَابِ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الظُّهْرَ إلَّا في بَنِي قُرَيْظَةَ فَتَخَوَّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ فَصَلَّوْا
____________________
(4/512)
دُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ وقال آخَرُونَ لَا نُصَلِّي إلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ قال فما عَنَّفَ وَاحِدًا من الْفَرِيقَيْنِ مُتَّفَقٌ عليه وَفِيهِ نَظَرٌ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النِّزَاعَ في أَنَّهُ هل يَجْتَهِدُ فِيمَا ليس مَنْصُوصًا عليه أو يُرَاجِعُ وَهَذَا اجْتِهَادٌ في نَصِّهِ عليه السَّلَامُ ما الْمُرَادُ بِهِ وقد يُقَالُ إنَّ الْمَقْصُودَ وُقُوعُ الِاجْتِهَادِ في الْجُمْلَةِ والثاني أَنَّهُمْ كَانُوا غَائِبِينَ وقد سَبَقَ الْقَوْلُ بِجَوَازِهِ لهم وَمِمَّا يَدُلُّ على الْجَوَازِ حَدِيثُ مُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ قال أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي وَصَوَّبَهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَدِيثُ بَعْثِهِ عليه السَّلَامُ عَلِيًّا قَاضِيًا وقال لَا عِلْمَ لي بِالْقَضَاءِ فقال اللَّهُمَّ اهْدِ قَلْبَهُ وَثَبِّتْ لِسَانَهُ أَخْرَجَهُ أبو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وابن مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ في الْمُسْتَدْرَكِ وَعَنْ زَيْدِ بن أَرْقَمَ أَنَّ رَجُلًا من أَهْلِ الْيَمَنِ حَدَّثَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّ ثَلَاثَةً وَقَعُوا على امْرَأَةٍ في طُهْرٍ فَأَتَوْا عَلِيًّا يَخْتَصِمُونَ في الْوَلَدِ فقال أَنْتُمْ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ أَرَى أَنْ نُقْرِعَ بَيْنَكُمْ فَقَرَعَ أَحَدُهُمْ فَدَفَعَ إلَيْهِ الْوَلَدَ فقال عليه السَّلَامُ ما أَعْلَمُ فيها إلَّا ما قال عَلِيٌّ وَرَوَى أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ على شَرْطِهِمَا عن ابْنِ أبي لَيْلَى عن مُعَاذٍ قال كان الناس على عَهْدِ الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا سُبِقَ الرَّجُلُ بِبَعْضِ صَلَاتِهِ سَأَلَهُمْ فَأَوْمَئُوا إلَيْهِ بِاَلَّذِي سُبِقَ فقال عليه السَّلَامُ اصْنَعُوا كما صَنَعَ مُعَاذٌ وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْحُكْمَ تَغَيَّرَ من يَوْمئِذٍ وَأَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذلك بِاجْتِهَادِهِ بِأَمْرِهِ عليه السَّلَامُ وَنُسِخَ بِهِ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ بَلْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ هذا الحديث في مُعْجَمِهِ بِسَنَدٍ على شَرْطِهِمَا إلَّا فُلَيْحًا فَعَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُهُ عن مُعَاذٍ قال فَجِئْت يَوْمًا وقد سُبِقْت وَأُشِيرَ إلَيَّ بِاَلَّذِي سُبِقْت بِهِ فقلت لَا أَجِدُهُ على حَالٍ كُنْت عليها فَكُنْت بِحَالِهِمْ التي وَجَدْتُهُمْ عليها فلما فَرَغَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قُمْتُ فَصَلَّيْتُ وَاسْتَقْبَلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الناس وقال من الْقَائِلُ كَذَا وَكَذَا قالوا مُعَاذٌ فقال قد سَنَّ لَكُمْ فَاقْتَدُوا بِهِ إذَا جاء أحدكم
____________________
(4/513)
وقد سُبِقَ بِشَيْءٍ من الصَّلَاةِ فَلِيُصَلِّ مع الْإِمَامِ بِصَلَاتِهِ فإذا فَرَغَ الْإِمَامُ فَلْيَقْضِ ما سَبَقَهُ بِهِ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ مُوَافَقَةِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه رَبَّهُ عز وجل في صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فَدَلَّ ذلك على جَوَازِ الِاجْتِهَادِ بِحَضْرَتِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَائِدَةٌ قال الرَّازِيَّ في الْمَحْصُولِ الْخِلَافُ في هذه الْمَسْأَلَةِ لَا ثَمَرَةَ له في الْفِقْهِ وَاعْتَرَضَهُ ابن الْوَكِيلِ وقال بَلْ في مَسَائِلَ الْفِقْهِ ما يُبْنَى عليه من ذلك ما إذَا شَكَّ في نَجَاسَةِ أَحَدِ الْإِنَاءَيْنِ وَمَعَهُ مَاءٌ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ فَفِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا يَجْتَهِدُ وَلَا يُكَلِّفُ الْغَيْرَ بِدَلِيلِ طَهَارَتِهِ من الْإِنَاءِ الْمَظْنُونِ طَهَارَتُهُ وهو على شَاطِئِ الْبَحْرِ وَهَذَا قَوْلُ من يُجَوِّزُ الِاجْتِهَادَ في زَمَنِهِ الثَّانِي لَا وهو قَوْلُ من يَمْنَعُ الِاجْتِهَادَ وَكَذَلِكَ من اجْتَهَدَ في دُخُولِ الْوَقْتِ هل تَجُوزُ له الصَّلَاةُ مع الْقُدْرَةِ على تَمَكُّنِ الْوَقْتِ وَرُجْحَانُ الْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ فيها أَقْوَى من التي قَبْلَهَا وقال بَعْضُهُمْ هذا التَّرْجِيحُ وَهْمٌ فَالْقَادِرُ على سُؤَالِ الرَّسُولِ لَا يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ قَادِرٌ على الْيَقِينِ حتى يَتَيَقَّنَ أَنَّهُ أُنْزِلَ عليه في مَسْأَلَةٍ وَحْيٌ وَإِلَّا فما لم يَنْزِلْ الْوَحْيُ فَلَا حُكْمَ فَلَا قَطْعَ وَلَا ظَنَّ فَغَايَةُ الْقَادِرِ سُؤَال على الرَّسُولِ أَنْ يُجَوِّزُ نُزُولَ الْوَحْيِ فَيَكُونُ مُجَوِّزًا لِلْيَقِينِ وَإِنَّمَا مَأْخَذُ هذا الْخِلَافِ الْأُصُولِيِّ ما في الِاجْتِهَادِ مع رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم من التَّحَرِّي وما فيه من سُلُوكِ طَرِيقٍ لَا يَأْمَنُ فيها الْخَطَأُ مع التَّمَكُّنِ من طَرِيقٍ يَأْمَنُ فيه الْخَطَأَ فما قَالَهُ الرَّازِيَّ أَنَّهُ لَا ثَمَرَةَ لِلْخِلَافِ صَحِيحٌ نعم الْخِلَافُ في جَوَازِ الِاجْتِهَادِ له عليه السَّلَامُ تَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ لِقُدْرَتِهِ على الْيَقِينِ بِسُؤَالِ اللَّهِ وَهَذَا كَلَامٌ عَجِيبٌ بَلْ قُدْرَتُهُ على الْيَقِينِ مَقْطُوعٌ بها سَوَاءٌ وَقَعَ الْجَوَابُ في الْحَالِ كما كان أَغْلَبُ أَحْوَالِهِ أو بَعْدَ انْتِظَارِ الْوَحْيِ كما في اجْتِهَادِهِ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا الْمَانِعُ من التَّخْرِيجِ أَنَّ الِاجْتِهَادَ في ذلك ليس في حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لِأَنَّ الْحُكْمَ قد عُلِمَ وَإِنَّمَا هو اجْتِهَادٌ في تَعْيِينِهِ وَمَسْأَلَتُنَا اجْتِهَادٌ في حُكْمٍ شَرْعِيٍّ غَيْرِ مَعْلُومٍ له فَلَا يَلْزَمُ من التَّجْوِيزِ في الْمُشْتَبَهِ بَعْدَ عِلْمِهِ الْجَوَازُ في أَصْلِ الْحُكْمِ مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم اُحْكُمْ بِمَا تَشَاءُ وما تَرَى من غَيْرِ اجْتِهَادٍ فَإِنَّك لَا تَحْكُمُ إلَّا بِالصَّوَابِ بِنَاءً على أَنَّهُ كان يَجُوزُ له الِاجْتِهَادُ نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إلَى غَيْرِهِ من الْمُجْتَهِدِينَ وقد سَبَقَتْ
____________________
(4/514)
الرُّكْنُ الثَّالِثُ الْمُجْتَهَدُ فيه وهو كُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَمَلِيٍّ أو عِلْمِيٍّ يُقْصَدُ بِهِ الْعِلْمُ ليس فيه دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ فَخَرَجَ بِالشَّرْعِيِّ الْعَقْلِيُّ فَالْحَقُّ فيها وَاحِدٌ وَالْمُرَادُ بِالْعَمَلِ ما هو كَسْبٌ لِلْمُكَلَّفِ إقْدَامًا وَإِحْجَامًا وَبِالْعَمَلِيِّ ما تَضَمَّنَهُ عِلْمُ الْأُصُولِ من الْمَظْنُونَاتِ التي يَسْتَنِدُ الْعَمَلُ إلَيْهَا وَقَوْلُنَا ليس فيها دَلِيلٌ قَاطِعٌ احْتِرَازًا عَمَّا وُجِدَ فيه ذلك من الْأَحْكَامِ فإنه إذَا ظَفِرَ فيه بِالدَّلِيلِ حَرُمَ الرُّجُوعُ إلَى الظَّنِّ مَسْأَلَةٌ في الْحَادِثَةِ بِحَضْرَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ولم يَحْكُمْ فيها بِشَيْءٍ يَجُوزُ لنا أَنْ نَحْكُمَ في نَظِيرِهَا خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ في قَوْلِهِ لَا يَجُوزُ وقال أبو الْوَفَاءِ ابن عَقِيلٍ إنْ كان له صلى اللَّهُ عليه وسلم حُكْمٌ في نَظِيرِهَا يَصِحُّ اسْتِخْرَاجُهُ من مَعْنَى نُطْقِهِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِرُجُوعِنَا إلَى طَلَبِ الْحُكْمِ مع إمْسَاكِهِ عنه قُلْت وَهَذَا كُلُّهُ بَحْثٌ في الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ أَمَّا الْوُقُوعُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لم يَقَعْ لِوُجُوبِ الْبَيَانِ في وَقْتِ الْحَاجَةِ
____________________
(4/515)
فَصْلٌ في تَحْلِيلِ الْحُجَجِ ليس يَكْفِي في حُصُولِ الْمَلَكَةِ على شَيْءٍ تَعَرُّفُهُ بَلْ لَا بُدَّ مع ذلك من الِارْتِيَاضِ في مُبَاشَرَتِهِ فَلِذَلِكَ إنَّمَا تَصِيرُ لِلْفَقِيهِ مَلَكَةُ الِاحْتِجَاجِ وَاسْتِنْبَاطِ الْمَسَائِلِ أَنْ يَرْتَاضَ في أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وما أَتَوْا بِهِ في كُتُبِهِمْ وَرُبَّمَا أَغْنَاهُ ذلك عن الْعَنَاءِ في مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ إذَا تَمَكَّنَ من مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ من تِلْكَ الْأَقْوَالِ من فَاسِدِهَا وَمِمَّا يُعِينُهُ على ذلك أَنْ تَكُونَ له قُوَّةٌ على تَحْلِيلِ ما في الْكِتَابِ وَرَدِّهِ إلَى الْحُجَجِ فما وَافَقَ منها التَّأْلِيفُ الصَّوَابَ فَهُوَ صَوَابٌ وما خَرَجَ عن ذلك فَهُوَ فَاسِدٌ وما أَشْكَلَ أَمْرُهُ تَوَقَّفَ فيه
____________________
(4/516)
فَصْلٌ في وَظِيفَةِ الْمُجْتَهِدِ إذَا عَرَضَتْ له وَاقِعَةٌ اعْلَمْ أَنَّهُ حَقٌّ على الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَطْلُبَ لِنَفْسِهِ أَقْوَى الْحُجَجِ عِنْدَ اللَّهِ ما وَجَدَ إلَى ذلك سَبِيلًا لِأَنَّ الْحُجَّةَ كُلَّمَا قَوِيَتْ أَمِنَ على نَفْسِهِ من الزَّلَلِ وما أَحْسَنَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ في الْأُمِّ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ من أَعْلَى وقال فِيمَا حَكَاهُ عنه الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ إذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ فيه فَلْيَعْرِضْهَا على نُصُوصِ الْكِتَابِ فَإِنْ أَعْوَزَهُ فَعَلَى الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ ثُمَّ الْآحَادِ فَإِنْ أَعْوَزَهُ لم يُخَضْ في الْقِيَاسِ بَلْ يَلْتَفِتُ إلَى ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ فَإِنْ وَجَدَ ظَاهِرًا نَظَرَ في الْمُخَصِّصَاتِ من قِيَاسٍ وَخَبَرٍ فَإِنْ لم يَجِدْ مُخَصِّصًا حَكَمَ بِهِ وَإِنْ لم يَعْثُرْ على ظَاهِرٍ من كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ نَظَرَ إلَى الْمَذَاهِبِ فَإِنْ وَجَدَهَا مُجْمَعًا عليها اتَّبَعَ الْإِجْمَاعَ وَإِنْ لم يَجِدْ إجْمَاعًا خَاضَ في الْقِيَاسِ وَيُلَاحِظُ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ أَوَّلًا وَيُقَدِّمُهَا على الْجُزْئِيَّاتِ كما في الْقَتْلِ بِالْمُثَقِّلِ فَيُقَدِّمُ قَاعِدَةَ الرَّدْعِ على مُرَاعَاةِ الْأَلَمِ فَإِنْ عَدِمَ قَاعِدَةً كُلِّيَّةً نَظَرَ في النُّصُوصِ وَمَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ فَإِنْ وَجَدَهَا في مَعْنًى وَاحِدٍ أَلْحَقَ بِهِ وَإِلَّا انْحَدَرَ إلَى قِيَاسٍ مُخَيَّلٍ فَإِنْ أَعْوَزَهُ تَمَسَّكَ بِالشَّبَهِ وَلَا يُعَوِّلُ على طَرْدٍ قال الْغَزَالِيُّ هذا تَدْرِيجُ النَّظَرِ على ما قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَلَقَدْ أَخَّرَ الْإِجْمَاعَ عن ذلك الْأَخْبَارُ وَذَلِكَ تَأْخِيرُ مَرْتَبَةٍ لَا تَأْخِيرُ عَمَلٍ إذْ الْعَمَلُ بِهِ مُقَدَّمٌ وَلَكِنَّ الْعَمَلَ بِهِ مُقَدَّمٌ في الْمَرْتَبَةِ فإنه مُسْتَنَدُ قَبُولِ الْإِجْمَاعِ وَخَالَفَ بَعْضُهُمْ وقال الصَّحِيحُ أَنَّ نَظَرَهُ في الْإِجْمَاعِ يَكُونُ أَوَّلًا إذْ النُّصُوصُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً وَلَا كَذَلِكَ الْإِجْمَاعُ وَإِنَّمَا قَدَّمَ الشَّافِعِيُّ النَّصَّ على الظَّاهِرِ تَنْبِيهًا على أَنَّهُ يَطْلُبُ من كل شَيْءٌ ما هو الْأَشْرَفُ فَأَوَّلُ ما يَطْلُبُ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ النَّصَّ فَإِنْ لم يَجِدْ فَالظَّاهِرَ فَإِنْ لم يَجِدْ ذلك في مَنْطُوقِهَا وَلَا مَفْهُومِهَا رَجَعَ إلَى أَفْعَالِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ثُمَّ في تَقْرِيرِهِ بَعْضَ أُمَّتِهِ فَإِنْ لم يَجِدْ نَظَرَ في الْإِجْمَاعِ ثُمَّ في الْقِيَاسِ إنْ لم
____________________
(4/517)
يَجِدْ الْإِجْمَاعَ وَسَكَتَ الشَّافِعِيُّ عَمَّا بَعْدَ ذلك وَلَا شَكَّ أَنَّ آخِرَ الْمَرَاتِبِ إذَا لم يَجِدْ شيئا الْحُكْمُ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وقد ذَكَرَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ ذلك كُلَّهُ وقال في الْمُسْتَصْفَى يَجِبُ أَنْ يَرُدَّ نَظَرَهُ في كل مَسْأَلَةٍ وفي النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ قبل وُرُودِ السَّمْعِ ثُمَّ يَبْحَثُ عن الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ فَيَنْظُرُ في الْإِجْمَاعِ فَإِنْ وَجَدَهُ وَإِلَّا فَفِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَيْنِ وَهُمَا في مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ لِإِفَادَةِ الْقَطْعِ فَإِنْ وَجَدَ أَخَذَ بِهِ وَإِلَّا نَظَرَ بَعْدُ في عُمُومَاتِهَا وَظَوَاهِرِهَا فَإِنْ وَجَدَ وَإِلَّا نَظَرَ في مُخَصِّصَاتِ الْعُمُومِ من أَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْأَقْيِسَةِ فَإِنْ عَارِضَ الْقِيَاسُ عُمُومًا أو خَبَرٌ وَاحِدٌ عُمُومًا وَعَدِمَ التَّرْجِيحَ تَوَقَّفَ على رَأْيٍ وَتَخَيَّرَ على رَأْيٍ وَإِنْ تَعَارَضَ دَلِيلَانِ نَظَرَ في النَّسْخِ وَالتَّرْجِيحِ فَإِنْ عَدِمَهُمَا جاء الْخِلَافُ في التَّخْيِيرِ وَالْوَقْفِ فَإِنْ عَدِمَ بَنَاهُ على حُكْمِ الْأَصْلِ في الْعَقْلِ وهو نَفْيُ الْحُكْمِ على ما هو الْمُخْتَارُ مَسْأَلَةٌ يُشْتَرَطُ في الْعَمَلِ بِالنَّصِّ الظَّاهِرِ الْبَحْثُ عن الْمُعَارِضِ هل له نَاسِخٌ أو مُخَصِّصٌ أو مُقَيِّدٌ أو غَيْرُ ذلك وَحُكِيَ عن قَوْمٌ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ وَلَهُ الْحُكْمُ بِالدَّلِيلِ بِمُجَرَّدِ الِاطِّلَاعِ عليه وَهَذَا هو الْخِلَافُ السَّابِقُ في بَابِ الْعُمُومِ في التَّمَسُّكِ بِالْعَامِّ قبل الْمُخَصِّصِ وإذا أَوْجَبْنَا الْبَحْثَ فَإِلَى أَيِّ وَقْتٍ يَبْحَثُ فيه الْخِلَافُ السَّابِقُ هُنَاكَ فَاسْتَحْضِرْهُ وَالْعَجَبُ من صَاحِبِ الْمَحْصُولِ أَنَّهُ قَطَعَ هُنَا بِالْبَحْثِ عن الْمُعَارِضِ مع قَوْلِهِ في بَابِ الْعُمُومِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِالْعَامِّ قبل الْبَحْثِ عن الْمُخَصِّصِ وَحُكِيَ الْخِلَافُ فيه عن ابْنِ سُرَيْجٍ وَيَجْرِي هذا في كل دَلِيلٍ مع مُعَارِضِهِ كَالْقِيَاسِ مع الِاسْتِصْحَابِ وَغَيْرِهَا نعم إذَا وَجَدَ الْمُجْتَهِدُ الْإِجْمَاعَ عَمِلَ بِهِ من غَيْرِ بَحْثٍ وَلَا طَلَبٍ على الصَّحِيحِ كما قال الْإِبْيَارِيُّ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ له مُعَارِضٌ فإن الْإِجْمَاعَيْنِ لَا يَتَعَارَضَانِ وَلَا يَصِحُّ نَسْخُهُ
____________________
(4/518)
فَصْلٌ قال الْمَاوَرْدِيُّ الِاجْتِهَادُ بَعْدَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم تَنْقَسِمُ طُرُقُهُ إلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا ما كان الِاجْتِهَادُ مُسْتَخْرَجًا من مَعْنَى النَّصِّ كَاسْتِخْرَاجِ عِلَّةِ الرِّبَا من الْبُرِّ فَهَذَا صَحِيحٌ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ ثَانِيهَا ما اسْتَخْرَجَهُ من شَبَهِ النَّصِّ كَالْعَبْدِ في ثُبُوتِ مِلْكِهِ لِتَرَدُّدِ شَبَهِهِ بِالْحُرِّ في أَنَّهُ يَمْلِكُ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ وَشَبَهِهِ بِالْبَهِيمَةِ في أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَهُوَ صَحِيحٌ غَيْرُ مَدْفُوعٍ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ وَالْمُنْكِرِينَ له غير أَنَّ الْمُنْكَرِينَ له جَعَلُوهُ دَاخِلًا في عُمُومِ أَحَدِ الشَّبَهَيْنِ وَمَنْ قال بِالْقِيَاسِ جَعَلَهُ مُلْحَقًا بِأَحَدِ الشَّبَهَيْنِ ثَالِثُهَا ما كان مُسْتَخْرَجًا من عُمُومِ النَّصِّ كَاَلَّذِي بيده عُقْدَةُ النِّكَاحِ في قَوْله تَعَالَى أو يَعْفُوَ الذي بيده عُقْدَةُ النِّكَاحِ يَعُمُّ الْأَبَ وَالزَّوْجَ وَالْمُرَادُ بِهِ أَحَدُهُمَا وَهَذَا صَحِيحٌ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالتَّرْجِيحِ رَابِعُهَا ما اُسْتُخْرِجَ من إجْمَالِ النَّصِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى في الْمُتْعَةِ وَمَتِّعُوهُنَّ على الْمُوسِعُ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُعْسِرِ قَدَرُهُ فَيَصِحُّ الِاجْتِهَادُ في قَدْرِ الْمُتْعَةِ بِاعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ خَامِسُهَا ما اُسْتُخْرِجَ من أَحْوَالِ النَّصِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى في الْمُتَمَتِّعِ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ فَاحْتَمَلَ صِيَامَ الثَّلَاثَةِ قبل عَرَفَةَ وَاحْتَمَلَ صِيَامَ السَّبْعَةِ إذَا رَجَعَ في طَرِيقِهِ وإذا رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ فَصَحَّ الِاجْتِهَادُ في تَغْلِيبِ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ على الْأُخْرَى سَادِسُهَا ما اُسْتُخْرِجَ من دَلَائِلِ النَّصِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ من سَعَتِهِ فَاسْتَدْلَلْنَا على تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْمُوسِرِ فإنه أَكْثَرُ ما جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ في فِدْيَةِ الْأَذَى في أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مَدِينٍ فَاسْتَدْلَلْنَا على تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ بِمُدٍّ فإنه أَقَلُّ ما جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ في كَفَّارَةِ الْوَطْءِ أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا سَابِعُهَا ما اُسْتُخْرِجَ من أَمَارَاتِ النَّصِّ كَاسْتِخْرَاجِ دَلَائِلِ الْقِبْلَةِ لِمَنْ خَفِيَتْ عليه مع قَوْله تَعَالَى وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ مع الِاجْتِهَادِ
____________________
(4/519)
في الْقِبْلَةِ بِالْأَمَارَاتِ وَالدَّلَالَةِ عليها من هُبُوطِ الرِّيَاحِ وَمَطَالِعِ النُّجُومِ ثَامِنُهَا ما اُسْتُخْرِجَ من غَيْرِ نَصٍّ وَلَا أَصْلَ قال وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا يَصِحُّ حتى يَقْتَرِنَ بِأَصْلٍ فإنه لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ في الشَّرْعِ إلَى غَيْرِ أَصْلٍ وهو ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَلِهَذَا كان يُنْكِرُ الْقَوْلَ بِالِاسْتِحْسَانِ لِأَنَّهُ تَغْلِيبُ ظَنٍّ بِغَيْرِ أَصْلٍ والثاني يَصِحُّ الِاجْتِهَادُ بِهِ لِأَنَّهُ في الشَّرْعِ أَصْلٌ فَجَازَ أَنْ يُسْتَغْنَى عن أَصْلٍ وقد اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ في التَّقْدِيرِ على ما دُونَ الْحَدِّ بِآرَائِهِمْ في أَصْلِهِ من ضَرْبٍ وَحَبْسٍ وفي تَقْدِيرِهِ بِعَشْرِ جَلَدَاتٍ في حَالٍ وَبِعِشْرِينَ في حَالٍ وَلَيْسَ لهم في هذه الْمَقَادِيرِ أَصْلٌ مَشْرُوعٌ وَالْفَرْقُ أَنَّ الِاجْتِهَادَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ يُسْتَعْمَلُ مع عَدَمِ الْقِيَاسِ مَسْأَلَةٌ قال الْمُزَنِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ في كِتَابِ فَسَادِ التَّقْلِيدِ إذَا اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ وَادَّعَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ بِأَنَّ قَوْلَهَا نَظَرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَبَ الِاقْتِدَاءُ بِالصَّحَابَةِ وَطَلَبُهُمْ الْحَقَّ بِالشُّورَى الْمَوْرُوثَةِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال تَعَالَى وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ فَيُحْضِرُ الْإِمَامُ أَهْلَ زَمَانِهِ فَيُنَاظِرُهُمْ فِيمَا مَضَى وَحَدَثَ من الْخِلَافِ وَيَسْأَلُ كُلَّ فِرْقَةٍ عَمَّا اخْتَارَتْ وَيَمْنَعُهُمْ من الْغَلَبَةِ وَالْمُفَاخَرَةِ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْإِنْصَافِ وَالْمُنَاصَحَةِ وَيَحُضُّهُمْ على الْقَصْدِ بِهِ إلَى اللَّهِ فإن اللَّهَ تَعَالَى يقول إنْ يُرِيدَا إصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ لهم النَّظَرُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنْ قِيلَ إذَا لم يَقُمْ الْإِمَامُ بِذَلِكَ فَالسَّبِيلُ إلَى مَعْرِفَتِهِ قِيلَ على الْعَالِمِ الذي وَقَفَ في الْفَتْوَى مَوْقِفَ الْإِمَامِ أَنْ يَطْلُبَ الْعُلَمَاءَ فَيُنَاظِرَهُمْ بِمِثْلِ مُنَاظَرَةِ الْإِمَامِ فَإِنْ كان أو كَانُوا بِمَوْضِعٍ لَا يَصِلُ فيه إلَيْهِمْ فَأَقْرَبُ ما بَعْدَ ذلك النَّظَرُ في كُتُبِ من تَقَدَّمَ من السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ من الْعُلَمَاءِ وَالِاحْتِجَاجُ لهم وَعَلَيْهِمْ تَتَبُّعُ الْحَقِّ مِمَّنْ قَامَتْ حُجَّتُهُ فِيهِمْ بِمَا وُصِفَتْ وَإِدَامَةُ الرَّغْبَةِ إلَى اللَّهِ في تَوْفِيقِهِ لِلْفَهْمِ في كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى اللَّهُ عليه وسلم فإنه لَا يُدْرِكُ خَيْرًا إلَّا بِمَعْرِفَتِهِ انْتَهَى وَهِيَ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ فَائِدَةٌ على فَقِيهِ النَّفْسِ ذِي الْمَلَكَةِ الصَّحِيحَةِ تَتَبُّعُ أَلْفَاظِ الْوَحْيَيْنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاسْتِخْرَاجُ الْمَعَانِي مِنْهُمَا وَمَنْ جَعَلَ ذلك دَأْبَهُ وَجَدَهَا مَمْلُوءَةً وَوَرَدَ الْبَحْرَ الذي لَا يَنْزِفُ وَكُلَّمَا ظَفِرَ بِأَيَّةٍ طَلَبَ ما هو أَعْلَى منها وَاسْتَمَدَّ من الْوَهَّابِ
____________________
(4/520)
وَمِنْ فِقْهِ الْفِقْهِ قَوْلُهُمْ في حديث مَيْمُونَةَ هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ إنَّ فيه احْتِيَاطًا لِلْمَالِ وَإِنَّهُ مَهْمَا أَمْكَنَ أَنْ لَا يُضَيَّعَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُضَيَّعَ وَالْفَقِيهُ أَعْلَى يَأْخُذُ من هذا ما هو أَعْلَى منه وهو أَنَّ الْجَالِسَ على الْحَاجَةِ أو الْمُسْتَرِيحَ على الْقَارِعَةِ تَحْتَ ظِلِّ شَجَرَةٍ إذَا بَاحَثَ نَفْسَهُ قال لها هَلَّا حَصَّلْت ثَوَابًا وَعَمَلًا صَالِحًا فإذا قال له الْوَسْوَاسُ أنت على الْخَلَاءِ وما عَسَاك تُحَصِّلُ من الطَّاعَةِ وَأَنْتَ بِمَكَانٍ تَنَزَّهَ عنه ذِكْرُ اللَّهِ يقول إنَّمَا مُنِعْنَا ذِكْرَ اللَّهِ بِالْأَلْسُنِ فَهَلَّا اسْتَحْضَرْتَ ذِكْرَ الْمُنْعِمِ بِدَفْعِ هذا الْأَذَى عَنَّا وَتَهَيُّؤِ الْقُوَّةِ الدَّافِعَةِ حتى لَا يَخْلُو تَحْصِيلُ الطَّاعَةِ من الْمَحَالِّ الْقَذِرَةِ كما أَنَّ الشَّارِعَ لم يَغْفُلْ عن فَتْحِ تَحْصِيلِ الْمَالِ من الْمُقَذَّرَاتِ وَالْمَيْتَاتِ بِمُعَالَجَةِ الدِّبَاغِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ على عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذلك قَطَعْتُمْ أَرْحَامَهُنَّ فَيَتَعَدَّى اسْتِنْبَاطُهُ إلَى تَحْرِيمِ كل ما يُوقِعُ الْقَطِيعَةَ وَالْوَحْشَةَ بين الْمُسْلِمِينَ وَإِفْسَادَ ما بَيْنَهُمْ حتى السَّعْيَ على بَعْضِهِمْ في مَنَاصِبِ بَعْضٍ وَوَظِيفَتِهِ من غَيْرِ مُوجِبٍ شَرْعِيٍّ وَقِسْ على ذلك وَأَمْثَالِهِ تَغْنَمُ بِتَحْصِيلِ الْفَوَائِدِ وَتَثْمِيرِ الْأَعْمَالِ مَسْأَلَةٌ ادَّعَى الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ على أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ غَلَبَ على ظَنِّهِ حُكْمٌ كان ذلك حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى في حَقِّهِ وَحَقِّ من قَلَّدَهُ حتى لو اعْتَقَدَ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ لِدَلِيلٍ كان حُكْمَ اللَّهِ في حَقِّهِ إلَى أَنْ يَطَّلِعَ على مُخَالَفَتِهِ الْإِجْمَاعَ وفي ذلك نَظَرٌ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رضي اللَّهُ عنه قال في سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ وهو من كُتُبِ الْأُمِّ من أَوَاخِرِهَا فإذا قَدِمَ الْمُرْتَدُّ لِيُقْتَلَ فَشَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَقَتَلَهُ بَعْضُ الْوُلَاةِ فَاَلَّذِينَ لَا يَرَوْنَ أَنْ يُسْتَتَابَ الْمُرْتَدُّ فَعَلَى قَاتِلِهِ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ وَلَوْلَا الشُّبْهَةُ لَكَانَ عليه الْقَوَدُ وَحَكَى الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في كِتَابِ الْحَجِّ في بَابِ الْإِحْصَارِ من تَعْلِيقِهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قال في كِتَابِ الْمَنَاسِكِ الْكَبِيرِ لو كان يَذْهَبُ أَيْ الْمُحْرِمُ إلَى أَنَّ الْمَرِيضَ يَحِلُّ إذَا بَعَثَ الْهَدْيَ بِمِنًى فَبَعَثَ الْهَدْيَ فَنَحَرَ هُنَاكَ أو ذَبَحَ لم يَحِلَّ وكان على إحْرَامِهِ وإذا رَجَعَ إلَى مَكَّةَ كان حَرَامًا كما كان قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ
____________________
(4/521)
وَهَذَا يَدُلُّ من الشَّافِعِيِّ على أَنَّ من اعْتَقَدَ مَذْهَبًا وَعَمِلَ بِهِ لم يَحْكُمْ بِصِحَّةِ فِعْلِهِ عِنْدَهُ لِأَنَّ هذا اعْتَقَدَ جَوَازَ التَّحَلُّلِ وَتَحَلَّلَ ولم يَجْعَلْهُ حَلَالًا بِذَلِكَ ولم نُصَحِّحْهُ في حَقِّهِ وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ عن الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَأَقَرَّهُ وقال الْأَصْحَابُ في بَابِ الزِّنَا في الشُّبْهَةِ كُلُّ جِهَةٍ صَحَّحَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَبَاحَ الْوَطْءَ بها لَا حَدَّ فيها على الْمَذْهَبِ وَإِنْ كان الْوَاطِئُ يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ وَقِيلَ يَجِبُ على من يَعْتَقِدُ حُرْمَتَهُ دُونَ غَيْرِهِ مَسْأَلَةٌ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه على أَنَّ الْعَالِمَ لَا يقول في مَسْأَلَةٍ لَا أَعْلَمُ حتى يُجْهِدَ نَفْسَهُ في النَّظَرِ فيها ثُمَّ يَقِفُ كما أَنَّهُ لَا يقول أَعْلَمُ وَيَذْكُرُ ما عَلِمَهُ حتى يُجْهِدَ نَفْسَهُ وَيَعْلَمَ نَقَلَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعَالِمَ ليس كَالْعَامِّيِّ فَقَوْلُهُ لَا أَعْلَمُ يُهَوِّنُ أَمْرَ الْمَسْأَلَةِ وَيُطْمِعُ السَّائِلَ في الْإِقْدَامِ مع أنها قد تَكُونُ مَنْصُوصَةَ الْحُكْمِ وَأَيْضًا فَالْعَالِمُ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِيَتَعَلَّمَ وَيَعْلَمَ فَلَيْسَ قَوْلُهُ لَا أَعْلَمُ من الدِّينِ في شَيْءٍ حتى يَقِفَ عِنْدَ مُقْتَضَيَاتِ الْعِلْمِ بَعْدَ سَبْرِهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ هذا مَحْمُولٌ على من يُطْلِقُ لَا أَعْلَمُ إطْلَاقًا أَمَّا من يُقَيِّدُ كَلَامَهُ بِمَا يَعْرِفُ فيه الْمَعْنَى فَلَا يَمْنَعُ مَسْأَلَةٌ هل على الْمُجْتَهِدِ بَيَانُ الدَّلِيلِ الذي دَلَّ عِلْمُهُ على الْمَسْأَلَةِ يُتَّجَهُ فيه تَخْرِيجُ خِلَافٍ من الْمُفْتِي هل يَجِبُ عليه كما سَنَذْكُرُهُ في بَابِ الْفَتْوَى أو لَا يَجِبُ الشَّاهِدُ هل يَجِبُ عليه بَيَانُ مُسْتَنَدِهِ من مُشَاهَدَةٍ أو اسْتِفَاضَةٍ أو لَا يَجِبُ بِنَاءً على أَنَّهُ لم يَأْتِ بها إلَّا على اعْتِقَادِ صِحَّةِ وُقُوعِهَا وَالْمَشْهُورُ الثَّانِي نعم قال الرَّافِعِيُّ في بَابِ الشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ يُبَيِّنُ الْفَرْعَ في الْأَدَاءِ جِهَةُ التَّحَمُّلِ من اسْتِدْعَاءٍ أو أَدَاءً أو بَيَانِ سَبَبٍ قال الْإِمَامُ لِأَنَّ الْغَالِبَ الْجَهْلُ بِطَرِيقِهِ فَإِنْ كان يَعْلَمُ وَوَثِقَ بِهِ الْقَاضِي جَازَ تَرْكُهُ مَسْأَلَةٌ إذَا وَجَدْنَا عن مُجْتَهِدٍ حُكْمًا وَظَفِرْنَا له بِدَلِيلٍ مُنَاسِبٍ وَفَقَدْنَا غَيْرَهُ فَهَلْ يَجُوزُ لنا جَعْلُهُ مُعْتَمَدًا لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ جَزَمَ بِهِ الْقَرَافِيُّ في الْقَوَاعِدِ قال وَلِهَذَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ على أَنَّا إذَا رَأَيْنَا في كَلَامِ الشَّارِعِ حُكْمًا وَظَفِرْنَا له بِمُنَاسَبَةٍ جَزَمْنَا بِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا مع تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَقْلًا لَكِنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عليه
____________________
(4/522)
مَسْأَلَةٌ يَجِبُ على الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَقْصِدَ بِاجْتِهَادِهِ طَلَبَ الْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ وَإِصَابَةَ الْعَيْنِ التي يَجْتَهِدُ فيها قال الْمَاوَرْدِيُّ هذا هو الظَّاهِرُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قال وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ من مَذْهَبِ الْمُزَنِيّ أَنَّ عليه أَنْ يَقْصِدَ بِاجْتِهَادِهِ طَلَبَ الْحَقِّ عِنْدَ نَفْسِهِ لِأَنَّ ما عِنْدَ اللَّهِ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالنَّصِّ وَعَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ عليه أَنْ يَتَوَصَّلَ بِاجْتِهَادِهِ إلَى طَلَبِ الْحَقِّ وَإِصَابَةِ الْعَيْنِ فَيَجْمَعُ بين هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ وقال بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ من الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ عليه الِاجْتِهَادُ وَلْيَعْمَلْ بِمَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ فَيَجْعَلُونَ عليه الِاجْتِهَادَ وَلَا يَجْعَلُونَ عليه طَلَبَ الْحَقِّ بِالِاجْتِهَادِ وَنُسِبَ إلَى أبي يُوسُفَ وَاخْتُلِفَ عن أبي حَنِيفَةَ فَقِيلَ في بَعْضِ الْأَحْكَامِ عليه طَلَبُ الْحَقِّ بِالِاجْتِهَادِ كَقَوْلِنَا وفي بَعْضِهَا يَعْمَلُ بِمَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ كَأَبِي يُوسُفَ وقد اخْتَلَطَتْ مَذَاهِبُ الناس في هذا حتى الْتَبَسَتْ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ عليه طَلَبَ الِاجْتِهَادِ لَا طَلَبَ الْحَقِّ بِأَنَّ ما أَخْفَاهُ اللَّهُ لَا طَرِيقَ لنا إلَى إظْهَارِهِ وفي إلْزَامِهِ تَكْلِيفُ ما لَا يُطَاقُ وهو غَلَطٌ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ نَوْعٌ من الِاسْتِدْلَالِ وَحَكَى الرَّافِعِيُّ في بَابِ الِاجْتِهَادِ في الْقِبْلَةِ عن الصَّيْدَلَانِيِّ قَوْلَيْنِ أَنَّهُ هل الْمُكَلَّفُ بِهِ الِاجْتِهَادُ لَا غَيْرُ أو كُلِّفَ التَّوَجُّهَ لِلْقِبْلَةِ وَفَائِدَتُهُمَا فِيمَا لو اجْتَهَدَ ثُمَّ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ هل يَجِبُ الْقَضَاءُ فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَجِبُ وَعَلَى الثَّانِي يَجِبُ وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ هُنَاكَ هذا الْخِلَافَ أَيْضًا وقال إنَّهُ يَجْرِي في كل مُجْتَهَدٍ فيه فَفِي قَوْلٍ يُكَلَّفُ إصَابَةَ الْمَطْلُوبِ وفي قَوْلٍ يُكَلَّفُ بَذْلَ الْمَجْهُودِ في الِاجْتِهَادِ في حُكْمِ الِاجْتِهَادِ لَا يَخْلُو حَالُ الْمُجْتَهِدِ فيه إمَّا أَنْ تَتَّفِقَ عليه أَقْوَالُ الْمُجْتَهِدِينَ أو تَخْتَلِفَ فَإِنْ اتَّفَقَتْ فَهُوَ إجْمَاعٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ في حُكْمٍ عَقْلِيٍّ أو شَرْعِيٍّ الْأَوَّلُ الْعَقْلِيُّ فَإِنْ كان الْغَلَطُ مِمَّا يَمْنَعُ مَعْرِفَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرَسُولَهُ كما في إثْبَاتِ الْعِلْمِ بِالصَّانِعِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ وما يَتَعَلَّقُ بِالْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ فَالْحَقُّ فيها وَاحِدٌ هو الْمُكَلَّفُ وما عَدَاهُ بَاطِلٌ فَمَنْ أَصَابَهُ أَصَابَ الْحَقَّ وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِنْ كان في غَيْرِ ذلك كما في مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَخَلْقِ الْقُرْآنِ وَكَمَا في وُجُوبِ مُتَابَعَةِ الْإِجْمَاعِ وَالْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَقَدْ أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ عليه اسْمَ الْكُفْرِ فَمِنْ أَصْحَابِهِ من أَجْرَاهُ على ظَاهِرِهِ وَمِنْهُمْ من أَوَّلَهُ على كُفْرَانِ النِّعَمِ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ
____________________
(4/523)
وَغَيْرُهُ وَلَا شَكَّ في أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ فَاسِقٌ لِعُدُولِهِ عن الْحَقِّ هذا كُلُّهُ إذَا كانت الْمَسْأَلَةُ دِينِيَّةً أَمَّا ما ليس كَذَلِكَ كما في وُجُوبِ تَرْكِيبِ الْأَجْسَامِ من ثَمَانِيَةِ أَجْزَاءٍ وَانْحِصَارِ اللَّفْظِ في الْمُفْرَدِ وَالْمُؤَلَّفِ فَلَا الْمُخْطِئُ فيه آثِمٌ وَلَا الْمُصِيبُ مَأْجُورٌ إذْ يَجْرِي مِثْلُ هذا مَجْرَى الْخَطَأِ في أَنَّ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ أَكْبَرَ من الْمَدِينَةِ أو أَصْغَرَ وقال عُبَيْدُ اللَّهِ بن الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ قَاضِي الْبَصْرَةِ كُلُّ مُجْتَهِدٍ في الْأُصُولِ مُصِيبٌ وَنُقِلَ مِثْلُهُ عن الْجَاحِظِ وَيَلْزَمُ من مَذْهَبِ الْعَنْبَرِيِّ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ من الْمُخَالِفِينَ في الدِّينِ مُخْطِئًا وَأَمَّا الْجَاحِظُ فَجَعَلَ الْحَقَّ في هذه الْمَسَائِلِ وَاحِدًا وَلَكِنَّهُ يَجْعَلُ الْمُخْطِئَ في جَمِيعِهَا غير آثِمٍ أَمَّا رَأْيُ الْعَنْبَرِيِّ فَبَيَّنَ الِاسْتِحَالَةَ فإنه يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ وَأَنَّهُ مُحْدَثٌ وَأَمَّا رَأْيُ الْجَاحِظِ فَبَاطِلٌ فإن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَاتَلَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَلَوْلَا أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ لَمَا كان كَذَلِكَ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وكان ابن الْعَنْبَرِيِّ يقول في مُثْبِتِي الْقَدَرِ هَؤُلَاءِ عَظَّمُوا اللَّهَ وفي نَافِي الْقَدَرِ هَؤُلَاءِ نَزَّهُوا اللَّهَ وقد اُسْتُبْشِعَ هذا الْقَوْلُ منه فإنه يَقْتَضِي تَصْوِيبَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَسَائِرِ الْكُفَّارِ في اجْتِهَادِهِمْ قال وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أُصُولَ الدِّيَانَاتِ التي اخْتَلَفَ فيها أَهْلُ الْقِبْلَةِ كَالرُّؤْيَةِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ وَنَحْوِهِ وَأَمَّا ما اخْتَلَفَ فيه الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ من أَهْلِ الْمِلَلِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس فَهَذَا مِمَّا يُقْطَعُ فيه بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ قُلْت وَهَذَا أَحَدُ الْمَنْقُولَاتِ عنه قال الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عن الْعَنْبَرِيِّ فقال في أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ إنَّمَا أُصَوِّبُ كُلَّ مُجْتَهِدٍ في الدِّينِ تَجْمَعُهُمْ الْمِلَّةُ وَأَمَّا الْكَفَرَةُ فَلَا يُصَوِّبُونَ وَغَلَا بَعْضُ الرُّوَاةِ عنه فَصَوَّبَ الْكَافِرِينَ الْمُجْتَهِدِينَ دُونَ الرَّاكِنِينَ إلَى الْبِدْعَةِ وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ مَعَهُمَا مُخْتَصَرًا فَنَقُولُ أَنْتُمَا أَوَّلًا مَحْجُوجَانِ بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَكُمَا وَبَعْدَكُمَا وثانيا إذَا أَرَدْتُمَا بِذَلِكَ مُطَابَقَةَ الِاعْتِقَادِ لِلْمُعْتَقِدِ فَقَدْ خَرَجْتُمَا عن حَيِّزِ الْعُقَلَاءِ وَانْخَرَطْتُمَا في سِلْكِ الْأَنْعَامِ وَإِنْ أَرَدْتُمَا الْخُرُوجَ عن عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ وَنَفْيِ الْحَرَجِ كما نُقِلَ عن الْجَاحِظِ فَالْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ الْخَارِجَةِ عن حَدِّ الْحَصْرِ تَرُدُّ هذه الْمَقَالَةَ وَأَمَّا تَخْصِيصُ التَّصْوِيبِ بِالْمُجْمِعِينَ على الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَنَقُولُ مِمَّا خَاضَ فيه الْمُسْلِمُونَ الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَغَيْرَ ذلك مِمَّا يَعْظُمُ خَطَرُهُ وَأَجْمَعُوا قبل الْعَنْبَرِيِّ على أَنَّهُ يَجِبُ على الْمَرْءِ إدْرَاكُ بُطْلَانِهِ
____________________
(4/524)
وقال الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ لَعَلَّهُ أَرَادَ خَلْقَ الْأَفْعَالِ وَخَلْقَ الْقُرْآنِ إذْ الْمُسْلِمُ لَا يُكَلَّفُ الْخَوْضَ فيه بِخِلَافِ قِدَمِ الْعَالَمِ وَنَفْيِ النُّبُوَّاتِ وهو مع هذا فَاسِدٌ فإن اعْتِقَادَ الْإِصَابَةِ الْمُحَقَّقَةِ على هذا مُحَالٌ وقال إلْكِيَا ذَهَبَ الْعَنْبَرِيُّ إلَى أَنَّ الْمُصِيبَ في الْعَقْلِيَّاتِ وَاحِدٌ وَلَكِنْ ما يَتَعَلَّقُ بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَإِثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ فَالْمُخْطِئُ فيه غَيْرُ مَعْذُورٌ وَأَمَّا ما يَتَعَلَّقُ بِالْقَدَرِ وَالْجَبْرِ وَإِثْبَاتِ الْجِهَةِ وَنَفْيِهَا فَالْمُخْطِئُ فيه غَيْرُ مَعْذُورٍ وَلَوْ كان مُبْطِلًا في اعْتِقَادِهِ بَعْدَ الْمُوَافَقَةِ بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَالْتِزَامِ الْمِلَّةِ وَبَيَّنَ ذلك على أَنَّ الْخَلْقَ ما كُلِّفُوا إلَّا اعْتِقَادَ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ من وَجْهٍ وَلِذَلِكَ لم يَبْحَثْ الصَّحَابَةُ عن مَعْنَى الْأَلْفَاظِ الْمُوهِمَةِ لِلتَّشْبِيهِ عِلْمًا منهم بِأَنَّ اعْتِقَادَهَا لَا يَجُرُّ حَرَجًا وقال ابن بَرْهَانٍ لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ في اجْتِهَادِهِ وَلَكِنْ عَبَّرَ عنه بِالْمُصِيبِ وَاَلَّذِي نَقَلَهُ الْإِمَامُ عنهما الْجَوَازُ في الْأُصُولِ مُطْلَقًا بِمَعْنَى حَطِّ الْإِثْمِ لَا بِمَعْنَى الْمُطَابَقَةِ لِلْحَقِّ في نَفْسِ الْأَمْرِ إذْ فيه الْجَمْعُ بين النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وهو مُحَالٌ وما ذَكَرَاهُ ليس بِمُحَالٍ عَقْلًا لَكِنَّهُ مُحَالٌ شَرْعًا لِلْإِجْمَاعِ على تَخْلِيدِ الْكُفَّارِ في النَّارِ وَلَوْ كَانُوا غير آثِمِينَ لَمَا سَاغَ ذلك وَأَمَّا ابن فُورَكٍ فَنُقِلَ عنه ذلك فِيمَا يُمْكِنُ فيه التَّأْوِيلُ نَحْوُ الْقَوْلِ بِالْقَدَرِ وَالْإِرْجَاءِ وقال الْقَاضِي عِيَاضٌ في الشِّفَاءِ ذَهَبَ الْعَنْبَرِيُّ إلَى تَصْوِيبِ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ في أُصُولِ الدِّينِ فِيمَا كان عُرْضَةً لِلتَّأْوِيلِ وَحَكَى الْقَاضِي ابن الْبَاقِلَّانِيِّ مثله عن دَاوُد بن عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيِّ وَحَكَى قَوْمٌ عنهما أَنَّهُمَا قَالَا ذلك فِيمَنْ عَلِمَ اللَّهُ من حَالِهِ اسْتِفْرَاغَ الْوُسْعِ في طَلَبِ الْحَقِّ من أَهْلِ مِلَّتِنَا وَغَيْرِهِمْ وقال الْجَاحِظُ نحو هذا الْقَوْلِ وَتَمَامُهُ في أَنَّ كَثِيرًا من الْعَامَّةِ وَالنِّسَاءِ وَالْبُلْهِ مُقَلِّدَةِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ لَا حُجَّةَ لِلَّهِ تَعَالَى عليهم إذْ لم يَكُنْ لهم طِبَاعٌ يُمْكِنُ مَعَهَا الِاسْتِدْلَال وقد نَحَا الْغَزَالِيُّ قَرِيبًا من هذا الْمَنْحَى في كِتَابِ التَّفْرِقَةِ بين الْإِسْلَامِ وَالزَّنْدَقَةِ وَقَائِلُ هذا كُلِّهِ كَافِرٌ بِالْإِجْمَاعِ على كُفْرِ من لم يُكَفِّرْ أَحَدًا من النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَكُلُّ من فَارَقَ دِينَ الْمُسْلِمِينَ وَوَقَفَ في تَكْفِيرِهِمْ أو شَكَّ لِقِيَامِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ على كُفْرِهِمْ فَمَنْ وَقَفَ فيه فَقَدْ كَذَّبَ النَّصَّ انْتَهَى
____________________
(4/525)
وما نَسَبَهُ لِلْغَزَالِيِّ غَلَطٌ عليه فَقَدْ صَرَّحَ بِفَسَادِ مَذْهَبِ الْعَنْبَرِيِّ كما سَبَقَ عنه وهو بَرِيءٌ من هذه الْمَقَالَةِ وَاَلَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ في كِتَابِ التَّفْرِقَةِ هو قَوْلُهُ إنَّ من لم تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ من نَصَارَى الرُّومِ أو التُّرْكِ أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ وَلَيْسَ فيه تَصْوِيبُهُمْ وَالْكَلَامُ إنَّمَا هو فِيمَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ وَعَانَدَ وَإِنَّمَا نَبَّهْت على هذا لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ الْوَاقِفُ عليه وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ ما نُقِلَ عن الْعَنْبَرِيِّ وَالْجَاحِظِ إنْ أَرَادَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الْمُجْتَهِدِينَ مُصِيبٌ لَا في نَفْسِ الْأَمْرِ فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا لِأَنَّ الْحَقَّ مُتَعَيَّنٌ في نَفْسِ الْأَمْرِ في جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْمُتَفَاضِلَانِ لَا يَكُونَانِ حَقَّيْنِ في نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ من بَذَلَ الْوُسْعَ ولم يُقَصِّرْ في الْأُصُولِيَّاتِ أَنَّهُ يَكُونُ مَعْذُورًا غير مُعَاقَبٍ فَهَذَا أَقْرَبُ وَجْهًا لِكَوْنِهِ نَظَرِيًّا وَلِأَنَّهُ قد يُعْقَدُ فيه أَنَّهُ لو عُوقِبَ وَكُلِّفَ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِهِ غَايَةَ الْجَهْدِ لَزِمَ تَكْلِيفُهُ لِمَا لَا يُطَاقَ وقال في شَرْحِ الْإِلْمَامِ يُمْكِنُ أَنْ يُجِيبَ الْعَنْبَرِيُّ عَمَّا رُدَّ بِهِ عليه من تَبْيِيتِ الْمُشْتَرَكِينَ وَاغْتِرَارِهِمْ وَعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِالْفَرْقِ بين الْمُعَانِدِ وَغَيْرِهِ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ الْمُكَلَّفُ منه مع إمْكَانِ النَّظَرِ بين مُعَانِدٍ وَمُقَصِّرٍ وأنا أَقُولُ بِهَلَاكِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا هذا إنْ كان ما قَالَا بِنَاءً على ما ذَكَرْنَاهُ وَأَمَّا الذي حُكِيَ عنه من الْإِصَابَةِ في الْعَقَائِدِ الْقَطْعِيَّةِ فَبَاطِلٌ قَطْعًا وَلَعَلَّهُ لَا يَقُولُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا الْمُخْطِئُ في الْأُصُولِ وَالْمُجَسِّمَةِ فَلَا شَكَّ في تَأْثِيمِهِ وَتَفْسِيقِهِ وَتَضْلِيلِهِ وَاخْتُلِفَ في تَكْفِيرِهِ وَلِلْأَشْعَرِيِّ قَوْلَانِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُمَا وَأَظْهَرُ مَذْهَبَيْهِ تَرْكُ التَّكْفِيرِ وهو اخْتِيَارُ الْقَاضِي في كِتَابِ إكْفَارِ الْمُتَأَوِّلِينَ وقال ابن عبد السَّلَامِ رَجَعَ الْأَشْعَرِيُّ عِنْد مَوْتِهِ عن تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالصِّفَاتِ ليس جَهْلًا بِالْمَوْصُوفَاتِ وقال اخْطَفْنَا في عِبَارَةٍ وَالْمُشَارُ إلَيْهِ وَاحِدٌ وَالْخِلَافُ فيه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا كما قَالَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وكان الْإِمَامُ أبو سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ لَا يُكَفِّرُ قِيلَ له أَلَا تُكَفِّرُ من يُكَفِّرُك فَعَادَ إلَى الْقَوْلِ بِالتَّكْفِيرِ وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ فَهُمْ يُكَفِّرُونَ خُصُومَهُمْ وَيُكَفِّرُ كُلُّ فَرِيقٍ منهم الْآخَرَ قال الْإِمَامُ وَمُعْظَمُ الْأَصْحَابِ على تَرْكِ التَّكْفِيرِ وَقَالُوا إنَّمَا نُكَفِّرُ من جَهِلَ وُجُودَ الرَّبِّ أو عَلِمَ وُجُودَهُ وَلَكِنْ فَعَلَ فِعْلًا أو قال قَوْلًا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ على أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ ذلك إلَّا عن كَافِرٍ وَمَنْ قال بِتَكْفِيرِ الْمُتَأَوِّلِينَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُكَفِّرَ أَصْحَابَهُ في نَفْيِ الْبَقَاءِ أَيْضًا كما يُكَفَّرُ في نَفْيِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ من الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فيها قُلْت وقد أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَكْفِيرَ الْقَائِلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ لَكِنَّ جُمْهُورَ أَصْحَابِهِ تَأَوَّلُوهُ على كُفْرَانِ النِّعْمَةِ كما قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ
____________________
(4/526)
الثَّانِي ما يَتَعَلَّقُ بِالْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ كَكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً وَكَوْنِ الْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً وَكَالْخِلَافِ في اشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ في الْإِجْمَاعِ وفي الْحَاصِلِ عن اجْتِهَادٍ وَمِنْهُ اعْتِقَادُ كَوْنِ الْمُصِيبِ وَاحِدًا في الظَّنِّيَّاتِ قال الْغَزَالِيُّ فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ وَأَدِلَّتُهَا قَطْعِيَّةٌ وَالْمُخَالِفُ فيها آثِمٌ مُخْطِئٌ وقال أبو الْحُسَيْنِ في شَرْحِ الْعُمَدِ لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَلَا يَكُونُ كُلُّ مُجْتَهِدٌ مُصِيبًا بَلْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ بِخِلَافِ الْفِقْهِ في الْأَمْرَيْنِ قال وَالْمُخْطِئُ في أُصُولِ الْفِقْهِ يَلْحَقُ بِأُصُولِ الدِّينِ كَذَا قال ولم يَحْكِ فيه خِلَافًا قال الْقَرَافِيُّ وقد خَالَفَ جَمَاعَةٌ من الْأَئِمَّةِ في مَسَائِلَ ضَعِيفَةِ الْمَدَارِكِ كَالْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ وَالْإِجْمَاعِ على الْحُرُوبِ وَنَحْوِهِمَا فَلَا يَنْبَغِي تَأْثِيمُهُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ قَطْعِيَّةً كما أَنَّا في أُصُولِ الدِّينِ لَا نُؤَثِّمُ من يقول الْعَرْضُ يَبْقَى زَمَانَيْنِ أو بِنَفْيِ الْخَلَا وَإِثْبَاتِ الْمَلَا وَغَيْرِ ذلك الثَّالِثُ ما يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفِقْهِيَّةِ فقال الْأَصَمُّ وَبِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ إنَّ الْحَقَّ فيها وَاحِدٌ وَأَنَّ أَدِلَّتَهَا قَاطِعَةٌ فَلِذَلِكَ من تَعَدَّى الْحَقَّ فيها فَهُوَ مُخْطِئٌ وَآثِمٌ فَكَيْفَ بِمَسَائِلِ الْعَقَائِدِ وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ هذا الْمَذْهَبُ إذَا لم يَكُنْ الْقِيَاسُ حُجَّةً وَكَذَلِكَ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْعُمُومَاتُ كُلُّهَا فَالْحُجَجُ الْمُثْبِتَةُ لِكَوْنِ هذه حُجَّةً يَلْزَمُهَا بُطْلَانُ هذا الْمَذْهَبِ وَأَمَّا جُمْهُورُ الْأُمَّةِ فَقَدْ قالوا إنَّ هذه الْمَسَائِلَ منها ما لَا يَسُوغُ فيه الِاجْتِهَادُ وَمِنْهَا ما ليس كَذَلِكَ وَاَلَّتِي لَا يَسُوغُ فيها الِاجْتِهَادُ وَهِيَ التي أَدِلَّتُهَا قَاطِعَةٌ فيها فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أنها من دِينِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَتَحْرِيمِ الزِّنَى وَالْخَمْرِ وَالْمُخْطِئُ في هذا كَافِرٌ لِتَكْذِيبِهِ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ وَمِنْهَا ما ليس كَذَلِكَ كَجَوَازِ بَيْعِ الْحَصَا وَتَحْرِيمِ الْخِنْزِيرِ وَالْمُخْطِئُ في هذه آثِمٌ غَيْرُ كَافِرٍ وَأَمَّا التي يَسُوغُ فيها الِاجْتِهَادُ فَهِيَ الْمُخْتَلَفُ فيها كَوُجُوبِ الزَّكَاةِ في مَالِ الصَّبِيِّ وَنَفْيِ وُجُوبِ الْوِتْرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا عُدِمَتْ فيها النُّصُوصُ في الْفُرُوعِ وَغَمُضَتْ فيها الْأَدِلَّةُ وَيُرْجَعُ فيها إلَى الِاجْتِهَادِ فَلَيْسَ بِآثِمٍ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ عِوَضِهَا امْتِحَانًا من اللَّهِ لِعِبَادِهِ لِيَتَفَاضَلَ بَيْنَهُمْ في دَرَجَاتِ الْعِلْمِ وَمَرَاتِبِ الْكَرَامَةِ كما قال تَعَالَى يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَفَوْقَ كل ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ
____________________
(4/527)
وَعَلَى هذا يَتَأَوَّلُ ما وَرَدَ في بَعْضِ الْأَخْبَارِ اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ فَعَلَى هذا النَّوْعِ يُحْمَلُ هذا لِلَّفْظِ دُونَ النَّوْعِ الْآخَرِ فَيَكُونُ اللَّفْظُ عَامًّا وَالْمُرَادُ خَاصًّا وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في حُكْمِ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ هل كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أو الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَاخْتَلَفَ النَّقْلُ في ذلك وَنَحْنُ نَذْكُرُ ما وَقَفْنَا عليه من كَلَامِهِمْ فَنَقُولُ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في كِتَابِ الْقَضَاءِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّ الْحَقَّ في جَمِيعِهَا وَأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ وَمُصِيبٌ في الْحُكْمِ لِأَنَّ جَوَازَ الْجَمِيعِ دَلِيلٌ على صِحَّةِ الْجَمِيعِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وهو قَوْلُ أبي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ بِخُرَاسَانَ لَا يَصِحُّ هذا الْمَذْهَبُ عن أبي الْحَسَنِ قال وَالْمَشْهُورُ عنه عِنْدَ أَهْلِ الْعِرَاقِ ما ذَكَرْنَاهُ وَأَنَّ من أَدَّى اجْتِهَادَهُ إلَى حُكْمٍ يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ وَلَا تَحِلُّ له مُخَالَفَتُهُ فَدَلَّ على أَنَّهُ الْحَقُّ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وأبو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ إلَى أَنَّ الْحَقَّ في أَحَدِهِمَا وَإِنْ لم يَتَعَيَّنْ لنا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ مُتَعَيَّنٌ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ في الزَّمَانِ الْوَاحِدِ في الشَّخْصِ الْوَاحِدِ حَلَالًا حَرَامًا وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ تَنَاظَرُوا في الْمَسَائِلِ وَاحْتَجَّ كُلُّ وَاحِدٍ على قَوْلِهِ وَخَطَّأَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَطْلُبُ إصَابَةَ الْحَقِّ ثُمَّ اخْتَلَفُوا هل كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَمْ لَا فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُصِيبَ منهم وَاحِدٌ وَإِنْ لم يَتَعَيَّنْ وَأَنَّ جَمِيعَهُمْ مُخْطِئٌ إلَّا ذلك الْوَاحِدُ وَبِهِ قال مَالِكٌ وَغَيْرُهُ وقال أبو يُوسُفَ وَغَيْرُهُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَإِنْ كان الْحَقُّ في وَاحِدٍ فَمَنْ أَصَابَهُ فَقَدْ أَصَابَ الْحَقَّ وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَقَدْ أَخْطَأَهُ وَنَسَبَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى الشَّافِعِيِّ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ وَأَدَّى ما كُلِّفَ فَظَنَّ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَصَابَ وَغَلَّطُوهُ فيه وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ في مَعْنَى من أَدَّى ما كُلِّفَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ انْتَهَى وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ الْحَقُّ من قَوْلِ الْمُجْتَهِدِينَ وَاحِدٌ وَالْآخَرُ بَاطِلٌ وَإِنْ اخْتَلَفُوا على ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ فَأَكْثَرَ قال أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ في الشَّرْحِ في
____________________
(4/528)
أَدَبِ الْقَضَاءِ هذا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ لَا أَعْلَمُ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ في ذلك وقد نَصَّ عليه في مَوَاضِعَ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا من الصَّحَابَةِ اخْتَلَفَ في ذلك على مَذْهَبِهِ وَإِنَّمَا نَسَبَ قَوْمٌ من الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ لَا مَعْرِفَةَ لهم بِمَذْهَبِهِ إلَيْهِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَادُّعُوا ذلك عليه وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ في الْمُجْتَهِدِ أَدَّى ما كُلِّفَ فَقَالُوا الْمُؤَدِّي ما كُلِّفَ مُصِيبٌ قال أبو إِسْحَاقَ وَإِنَّمَا قَصَدَ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ رَفْعَ الْإِثْمِ عنه لِأَنَّهُ لو قَصَدَ خِلَافَ الْحَقِّ لَأَثِمَ وإذا خَالَفَ من غَيْرِ قَصْدٍ لم يَكُنْ آثِمًا وكان بِمَنْزِلَةِ الْمُؤَدِّي ما كُلِّفَ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَدَّى ما كُلِّفَ عِنْدَ نَفْسِهِ فإنه يَعْتَقِدُ وَضْعَ الدَّلِيلِ في حَقِّهِ وَسَلَكَ ما وَجَبَ من طَرِيقِهِ قال أبو إِسْحَاقَ وَكُلُّ مَوْضِعٍ رَأَيْت فيه من كَلَامِ الشَّافِعِيِّ هذه الْأَلْفَاظَ فَاقْرَأْ الْبَابَ فَإِنَّك تَجِدُ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ نَصًّا على أَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ وَأَنَّ ما عَدَاهُ خَطَأٌ ثُمَّ غَلَّطَ أبو إِسْحَاقَ الْقَوْلَ على من نَسَبَ إلَى الشَّافِعِيِّ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَيَدُلُّ على أَنَّ هذا مَذْهَبُهُ إذَا اجْتَهَدَ اثْنَانِ في الْقِبْلَةِ فَأَدَّى اجْتِهَادُهُمَا إلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَتَوَجَّهَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى جِهَتِهِ وَلَوْ ائْتَمَّ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ لم تَصِحَّ صَلَاتُهُ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ الْإِمَامَ مُخْطِئٌ عِنْدَهُ وَكَذَلِكَ من صَلَى خَلَفَ من لَا يَقْرَأُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَلَهُ نَظَائِرُ وَحُكِيَ عن أبي إِسْحَاقَ أَنَّهُ قال وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ على قَوْلَيْنِ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ قَوْلَيْنِ فِيمَنْ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ بِيَقِينٍ هل تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ أَمْ لَا وَالْأَصَحُّ عليه الْإِعَادَةُ وَمَنْ يقول كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ يقول لَا إعَادَةَ عليه وَكَذَلِكَ قال لو دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى من ظَاهِرُهُ الْفَقْرُ فَبَانَ غَنِيًّا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ قَوْلَانِ قال الْقَاضِي وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ اخْتِيَارُ أبي حَامِدٍ وهو الذي حَكَاهَا عن أبي إِسْحَاقَ وَالصَّحِيحُ عن أبي إِسْحَاقَ ما ذَكَرْنَا وقال أبو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ في أُصُولِهِ إنَّ اللَّهَ نَصَّبَ على الْحَقِّ عَلَمًا وَجَعَلَ لهم إلَيْهِ طَرِيقًا فَمَنْ أَصَابَهُ فَقَدْ أَصَابَ الْحَقَّ وَمَنْ أَخْطَأَهُ عُذِرَ بِخَطَئِهِ وَأُجِرَ على قَصْدِهِ ثُمَّ قال وَبِهِ قال الشَّافِعِيُّ وَجُمْلَةُ أَصْحَابِهِ وقد اسْتَقْصَى الْمُزَنِيّ ذلك في كِتَابِ التَّرْغِيبِ في الْعِلْمِ وَقَطَعَ بِأَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ وَدَلَّ عليه وقال إنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ وهو مَذْهَبُ كل من صَنَّفَ من أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ من الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ من الْأَشْعَرِيِّينَ أبو بَكْرِ بن مُجَاهِدٍ وابن فَوْرَك وأبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وقال نُقِضَتْ هذه الْمَسْأَلَةُ على الْبَصْرِيِّ الْمَعْرُوفِ بِجُعَلٍ وقال الْقَاضِي وقد ذَكَرَ أبو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ الْقَوْلَيْنِ جميعا وقد أَبَانَ
____________________
(4/529)
الْحَقَّ في وَاحِدٍ وَلَكِنَّهُ مَالَ إلَى اخْتِيَارِ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَهَذَا مَذْهَبُ مُعْتَزِلَةِ الْبَصْرَةِ وَهُمْ الْأَصْلُ في هذه الْبِدْعَةِ وَقَالُوا هذا لِجَهْلِهِمْ بِمَعَانِي الْفِقْهِ وَطُرُقِهِ الدَّالَّةِ على الْحَقِّ الْفَاصِلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ما عَدَاهُ من الشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ وَقَالُوا ليس فيها طَرِيقٌ أَوْلَى من طَرِيقٍ وَلَا أَمَارَةَ أَقْوَى من أُخْرَى وَالْجَمِيعُ مُتَكَافِئُونَ وَمَنْ غَلَبَ على ظَنِّهِ شَيْءٌ حَكَمَ بِهِ فَيَحْكُمُونَ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَهُ وَلَيْسَ من شَأْنِهِمْ وَبَسَطُوا لِذَلِكَ أَلْسِنَةَ نُفَاةِ الْقِيَاسِ منهم وَمِنْ غَيْرِهِمْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ وَالِاجْتِهَادُ لِأَنَّ ذلك يَصِحُّ في طَلَبٍ يُؤَدِّي إلَى الْعِلْمِ أو إلَى الظَّنِّ وَلَيْسَ في هذه الْأُصُولِ ما يَدُلُّ على أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عِلْمًا وظَنًّا قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وفي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وهو أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لم يُكَلِّفْنَا إصَابَتَهُ وَإِنَّمَا كَلَّفَ الِاجْتِهَادَ في طَلَبِهِ وَكُلُّ من اجْتَهَدَ في طَلَبِهِ فَهُوَ مُصِيبٌ وقد أَدَّى ما كُلِّفَ وقال أبو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ في أُصُولِهِ قد أَضَافَ قَوْمٌ من أَصْحَابِنَا هذا إلَى الشَّافِعِيِّ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ أَدَّى ما كُلِّفَ قال وهو خَطَأٌ على أَصْلِهِ لِأَنَّهُ نَصَّ على أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَأَنَّ أَحَدَهُمَا مُخْطِئٌ لَا مَحَالَةَ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَاخْتَلَفَ النَّقْلُ عن أبي حَنِيفَةَ فَنُقِلَ أَنَّهُ ذَكَرَ في بَعْضِ الْمَسَائِلِ كَقَوْلِنَا وفي بَعْضِهَا كَقَوْلِ أبي يُوسُفَ وَلَنَا أَنَّ الْحَقَّ لَمَّا كان في وَاحِدٍ لم يَكُنْ الْمُصِيبُ إلَّا وَاحِدًا وَلَوْ كان كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا ما أَخْطَأَ مُجْتَهِدٌ وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ انْتَهَى وقال ابن كَجٍّ صَارَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ وَالْمُخْطِئُ له مَعْذُورٌ وقال أَهْلُ الْعِرَاقِ وَأَصْحَابُ مَالِكٍ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابن سُرَيْجٍ وأبو حَامِدٍ إلَّا أَنَّهُ كُلِّفَ ما أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ثُمَّ نَصَّ ابن كَجٍّ على هذا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ على تَصْوِيبِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِيمَا اخْتَلَفُوا فيه وَلَا يَجُوزُ إجْمَاعُهُمْ على خَطَأٍ ثُمَّ قال إنَّهُ مَعْذُورٌ وقال ابن فُورَكٍ في كِتَابِهِ لِلنَّاسِ فيها ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ أَحَدُهَا أَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ وهو الْمَطْلُوبُ وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ فَمَنْ وَضَعَ النَّظَرَ مَوْضِعَهُ أَصَابَ الْحَقَّ وَمَنْ قَصَرَ عنه وَفَقَدَ الصَّوَابَ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَلَا إثْمَ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ مَعْذُورٌ لِأَنَّ الْمَعْذُورَ من يَسْقُطُ عنه التَّكْلِيفُ لَا عُذْرَ في تَرْكِهِ كَالْعَاجِزِ على الْقِيَامِ في الصَّلَاةِ وهو عِنْدَنَا قد كُلِّفَ إصَابَةَ الْعَيْنِ لَكِنَّهُ خَفَّفَ أَمْرَ خَطَئِهِ وَأُجِرَ على قَصْدِهِ الصَّوَابَ وَحُكْمُهُ نَافِذٌ على الظَّاهِرِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ وَعَلَيْهِ نَصَّ في كِتَابِ الرِّسَالَةِ وَ
____________________
(4/530)
أَدَبِ الْقَاضِي وقال كُلُّ مُجْتَهِدَيْنِ اخْتَلَفَا فَالْحَقُّ في وَاحِدٍ من قَوْلَيْهِمَا وَالثَّانِي أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ الْمُجْتَهِدَيْنِ لم يُكَلَّفُوا إصَابَتَهُ وَكُلُّهُمْ مُصِيبُونَ لِمَا كُلِّفُوا من الِاجْتِهَادِ وَإِنْ كان بَعْضُهُمْ مُخْطِئًا وَالثَّالِثُ أَنَّهُمَا كُلِّفُوا الرَّدَّ إلَى الْأَشْبَهِ على طَرِيقِ الظَّنِّ انْتَهَى فَحَصَلَ وَجْهَانِ في أَنَّهُ يُقَالُ فيه مَعْذُورٌ أَمْ لَا وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَقِيلَ الْحَقُّ في وَاحِدٍ وما عَدَاهُ بَاطِلٌ إلَّا أَنَّ الْإِثْمَ مَرْفُوعٌ عن الْمُخْطِئِ وَقِيلَ إنَّ هذا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقِيلَ فيه قَوْلَانِ هذا أَحَدُهُمَا وَالثَّانِي إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وهو ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وهو مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ وَحَكَى الْقَاضِي أبو بَكْرٍ عن أبي عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كان يقول بِأَخَرَةٍ إنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ مَقْطُوعٍ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَأَنَّ مُخْطِئَهُ مَأْثُومٌ وَالْحُكْمُ بِخِلَافِهِ مَنْقُوضٌ وهو قَوْلُ الْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ من أَصْحَابِنَا بِأَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ في أَنَّهُ هل الْكُلُّ مُصِيبٌ في اجْتِهَادِهِ أَمْ لَا فَقِيلَ الْمُخْطِئُ في الْحُكْمِ مُخْطِئٌ في الِاجْتِهَادِ وَقِيلَ الْكُلُّ مُصِيبٌ في الِاجْتِهَادِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُخْطِئَ في الْحُكْمِ وَحُكِيَ عن أبي الْعَبَّاسِ وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فقال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إنَّ عِنْدَ اللَّهِ شَبَهًا رُبَّمَا أَصَابَهُ الْمُجْتَهِدُ وَرُبَّمَا أَخْطَأَهُ وَمِنْهُمْ من أَنْكَرَ ذلك وَالْقَائِلُونَ بِالْأَشْبَهِ اخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِهِ فَقِيلَ تَفْسِيرُهُ بِأَكْثَرَ من أَنَّهُ أَشْبَهَ وَقِيلَ الشَّبَهُ عِنْدَ اللَّهِ في حُكْمِ الْحَادِثَةِ قُوَّةُ الشُّبْهَةِ فَهُوَ الْأَمَارَةُ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ يَجِبُ طَلَبُهُ وَقِيلَ الْأَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ أَنَّهُ عِنْدَهُ في الْحَادِثَةِ حُكْمُ لو نَصَّ عليه وَبَيَّنَهُ لم يَنُصَّ إلَّا عليه وَالصَّحِيحُ من مَذَاهِبِ أَصْحَابِنَا هو الْأَوَّلُ أَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ وما سِوَاهُ بَاطِلٌ وَأَنَّ الْإِثْمَ مَرْفُوعٌ عن الْمُخْطِئِ انْتَهَى وقال ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ كان أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وأبو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ يَقُولَانِ إنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ إلَّا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُصِيبٌ وَإِنَّمَا يَظُنُّ ذلك وقال سُلَيْمٌ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ في أَكْثَرِ كُتُبِهِ إلَى أَنَّ الْحَقَّ فيها وَاحِدٌ وَأَنَّ اللَّهَ يُنَصِّبُ على ذلك دَلِيلًا إمَّا غَامِضًا وَإِمَّا جَلِيًّا وَكُلِّفَ الْمُجْتَهِدُ طَلَبَهُ وَإِصَابَتَهُ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ فإذا اجْتَهَدَ وَأَصَابَهُ كان مُصِيبًا عِنْدَ اللَّهِ وفي الْحُكْمِ وَلَهُ أَجْرٌ على اجْتِهَادِهِ وَأَجْرٌ على إصَابَتِهِ وَإِنْ أَخْطَأَهُ كان مُخْطِئًا عِنْدَ اللَّهِ وفي الْحُكْمِ إلَّا أَنَّ له أَجْرًا على اجْتِهَادِهِ وَالْخَطَأُ مَرْفُوعٌ وَحُكِيَ هذا عن مَالِكٍ
____________________
(4/531)
وَبِهِ قال الْمَرِيسِيِّ وابن عُلَيَّةَ وَالْأَصَمُّ وَزَادُوا فَقَالُوا عليه دَلِيلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ ثُمَّ أَخْطَأَهُ كان آثِمًا مُضَلِّلًا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في كِتَابِ إبْطَالِ الْقَوْلِ بِالِاسْتِحْسَانِ إنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ إلَّا أَنَّهُ لم يُكَلِّفْ الْمُجْتَهِدَ إصَابَتَهُ وَإِنَّمَا كَلَّفَهُ طَلَبَهُ فَإِنْ أَصَابَهُ كان مُصِيبًا وَإِنْ أَخْطَأَ كان مُخْطِئًا عِنْدَ اللَّهِ لَا في الْحُكْمِ وَحُكِيَ هذا عن أبي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وهو اخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ وَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَسْرِهَا إلَى أَنَّهُ ليس هُنَاكَ حُكْمٌ مَطْلُوبٌ على الْيَقِينِ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ على الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا غَلَبَ على ظَنِّهِ وَيَكُونُ مُصِيبًا وَاخْتَلَفُوا هل هُنَاكَ أَشْبَهُ مَطْلُوبٌ أَمْ لَا على قَوْلَيْنِ وَمَعْنَى الْأَشْبَهِ أَنَّ اللَّهَ لو أَنْزَلَ حُكْمًا في الْحَادِثَةِ لَكَانَ هو فَيَجِبُ طَلَبُ ذلك الْأَشْبَهِ وَحَكَى ابن فُورَكٍ عَنْهُمْ قَوْلًا ثَالِثًا أَنَّ اللَّهَ نَصَّبَ على الْحُكْمَيْنِ مَعًا دَلِيلًا إلَّا أَنَّ الْأَدِلَّةَ إذَا تَكَافَأَتْ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ وَغَمُضَتْ تَحَيَّرَ وَذَهَبَ الْكَرْخِيّ وَغَيْرُهُ من الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَهُنَاكَ أَشْبَهُ مَطْلُوبٌ فَإِنْ أَصَابَهُ أَصَابَ الْحَقَّ وَإِنْ أَخْطَأَهُ كان مُخْطِئًا لِلْمَطْلُوبِ مُصِيبًا في اجْتِهَادِهِ كَالْقَوْلِ الثَّانِي لِلْمُعْتَزِلَةِ وَأَمَّا الْأَشْعَرِيَّةُ فَاَلَّذِي حَكَاهُ عَنْهُمْ الْخُرَاسَانِيُّونَ أبو إِسْحَاقَ وابن فُورَكٍ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ وَأَنَّ على الْمُجْتَهِدِ طَلَبَهُ بِالدَّلِيلِ فَإِنْ أَخْطَأَهُ كان مُخْطِئًا عِنْدَ اللَّهِ وفي الْحُكْمِ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ في الْأَوَّلِ وَحَكَى الْقَاضِي أَنَّ لِأَبِي الْحُسَيْنِ فيها قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا هذا وَالثَّانِي أَنَّهُ ليس لِلَّهِ حُكْمٌ في هذه الْمَسَائِلِ وَأَنَّ الْمَأْخُوذَ على الْمُكَلَّفِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا غَلَبَ على ظَنِّهِ فيها وَاخْتَارَ هذا وَنَصَرَهُ وقال ليس هُنَاكَ أَشْبَهُ مَطْلُوبٌ وَلَا دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ مِثْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِلْمُعْتَزِلَةِ انْتَهَى وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ في الْفُرُوعِ فَمِنْهُمْ من قال إنَّ الْحَقَّ في كل وَاحِدٍ وهو الْمَطْلُوبُ وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ وَاَلَّذِي يُؤَدِّي إلَى غَيْرِهِ شُبْهَةٌ وَلَيْسَ بِالدَّلِيلِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ كَلَّفَ الْمُجْتَهِدِينَ إصَابَةَ الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ الذي نَصَّبَهُ عليه وَمَنْ أَخْطَأَهُ كان مَعْذُورًا على خَطَئِهِ مُثَابًا على قَصْدِهِ قال وَهَذَا هو الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ من مَذَاهِبِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَبِهِ قال ابن عُلَيَّةَ وَالْمَرِيسِيُّ وقال الْمُزَنِيّ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ إلَّا أَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ من أَقْوَالِهِمْ قال
____________________
(4/532)
أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فيها مَسَائِلُ نَقَضُوا فيها الْحُكْمَ على من خَالَفَهُمْ كَالْحُكْمِ بِالنُّكُولِ وَسَائِرِ ما حَكَمَ بِهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَأَوْجَبُوا الْحَدَّ على وَاطِئِ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ وَعَلَى الْمُسْتَأْجَرَةِ وَإِنْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِإِسْقَاطِ الْحَدِّ في ذلك وَأَوْجَبُوا إعَادَةَ الصَّلَاةِ على من تَوَضَّأَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ أو تَرَكَ النِّيَّةَ أو التَّرْتِيبَ في الْوُضُوءِ وَإِعَادَةَ الصَّوْمِ على من تَرَكَ نِيَّتَهُ قبل الْفَجْرِ أو نَوَى في فَرْضِهِ التَّطَوُّعَ وَكَذَلِكَ نَقَضُوا الْحُكْمَ على من حَكَمَ بِخِلَافِ خَبَرِ الْمُصَرَّاةِ وَخَبَرِ الْخِيَارِ في الْبَيْعِ وَالْعَرَايَا وَالْفَلَسِ وكان الْإِصْطَخْرِيُّ وَالصَّيْرَفِيُّ يَنْقُضَانِ الْحُكْمَ على من حَكَمَ بِصِحَّةِ نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شَهَادَةَ أو شَهَادَةَ فَاسِقَيْنِ وقال أَصْحَابُ الرَّأْيِ قبل قَوْلِ الْمُزَنِيّ إنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ إلَّا أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ لِأَنَّهُ لم يُكَلَّفْ إصَابَةَ الْحَقِّ وَإِنَّمَا كُلِّفَ فِعْلَ ما يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَلِذَلِكَ قال الْمُزَنِيّ وأبو حَنِيفَةَ فِيمَنْ صلى إلَى بَعْضِ الْجِهَاتِ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ عَلِمَ خَطَأَهُ بِيَقِينٍ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِأَنَّهُ لم يُكَلَّفْ عِنْدَهُمَا إصَابَةَ عَيْنِ الْقِبْلَةِ وَإِنَّمَا كُلِّفَ الصَّلَاةَ بِالِاجْتِهَادِ انْتَهَى وَاَلَّذِي رَأَيْتُهُ في كِتَابِ فَسَادِ التَّقْلِيدِ لِلْمُزَنِيِّ تَرْجِيحَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَأَطَالَ في الِاسْتِدْلَالِ عليه وَمِنْهُ إنْكَارُ الصَّحَابَةِ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ في الْفَتَاوَى وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قال لِمُخَالِفِهِ قد أَصَبْت فِيمَا خَالَفْتَنِي فيه قال وهو قَوْلُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَيُرْوَى عن السَّمْتِيِّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قال أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ وَالْإِثْمُ فيه مَرْفُوعٌ قال وَجَاءَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ حَكَمَ بين خَصْمَيْنِ في طَسْتٍ ثُمَّ غَرِمَهُ لِلْمُقْضَى عليه قال الْمُزَنِيّ فَلَوْ كان يَقْطَعُ بِأَنَّ الذي قَضَى بِهِ هو الْحَقُّ لَمَا تَأَثَّمَ من الْحَقِّ الذي ليس عليه غَيْرُهُ وَلَا غَرِمَ لِلظَّالِمِ ثَمَنَ طَسْتٍ في حُكْمِ اللَّهِ أَنَّهُ ظَالِمٌ بِمَنْعِهِ إيَّاهُ من صَاحِبِهِ قال وَلَكِنَّهُ عِنْدِي خَافَ أَنْ يَكُونَ قَضَى عليه بِمَا أَغْفَلَ منه وَظَلَمَهُ من حَيْثُ لَا يَعْلَمُ فَتَوَرَّعَ فَاسْتَحَلَّ ذلك منه وَغَرِمَهُ له وَلَوْ كان غَرِمَهُ له وهو يَسْتَيْقِنُ أَنَّهُ ليس عليه إلَّا طَلَبُ الثَّوَابِ لَمَا خَفِيَ عليه أَنَّ إعْطَاءَهُ لِمُحْتَاجٍ أَعْظَمَ لِأَجْرِهِ انْتَهَى وقال في الْمَنْخُولِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٌ من الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ وَصَارَ الْقَاضِي وأبو الْحُسَيْنِ في طَبَقَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُصِيبٌ وَالْغُلَاةُ منهم أَثْبَتُوا أو نَفَوْا مَطْلُوبًا مُعَيَّنًا وَعَزَا الْقَاضِي مَذْهَبَهُ لِلشَّافِعِيِّ
____________________
(4/533)
وقال لَوْلَاهُ لَكُنْت لَا أَعُدُّهُ من أَحْزَابِ الْأُصُولِيِّينَ ثُمَّ قال وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ في عَمَلِهِ قَطْعًا وقال في الْمُسْتَصْفَى الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا وهو الذي يُقْطَعُ بِهِ وَيُخْطِئُ الْمُخَالِفُ فيه أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ في الظَّنِّيَّاتِ وَأَنَّهُ ليس فيها حُكْمٌ مُعَيَّنٌ لِلَّهِ تَعَالَى وقال إلْكِيَا انْقَسَمُوا على قِسْمَيْنِ غُلَاةٌ وَمُقْتَصِدَةٌ فَالْغُلَاةُ افْتَرَقُوا من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلٍّ منها أَنْ يَأْخُذَ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ من غَيْرِ اجْتِهَادٍ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُسْتَدْرَكُ كُلُّ وَاحِدٍ منهم بِالِاجْتِهَادِ وَيَأْخُذُ بِمَا يَشَاءُ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ هذا الْمَذْهَبُ أَوَّلُهُ سَفْسَطَةٌ وَآخِرُهُ زَنْدَقَةٌ أَمَّا السَّفْسَطَةُ فَلِكَوْنِهِ حَلَالًا حَرَامًا في حَقِّ كل وَاحِدٍ وَأَمَّا الزَّنْدَقَةُ فَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِ الْإِبَاحَةِ والثاني ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْمَطَالِبَ مُتَعَدِّدَةٌ فَلَا بُدَّ من أَصْلِ الِاجْتِهَادِ وَلَكِنَّ الْمَطْلُوبَ من كل مُجْتَهِدٍ ما يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَأَمَّا الْمُقْتَصِدَةُ فَقَالُوا كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ في عَمَلِهِ قَطْعًا وَلَا يُقْطَعُ بِإِصَابَةِ ما عِنْدَ اللَّهِ وَادَّعُوا أَنَّ في الْآرَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ حُكْمًا عِنْدَ اللَّهِ هو أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ وهو شَوْقُ الْمُجْتَهِدِينَ وَمَطْلُوبُ الْبَاحِثِينَ وَرُبَّمَا عَبَّرَ عنه بِأَنَّهُ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ غير أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لم يُكَلَّفْ غير إصَابَتِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ عن أبي حَنِيفَةَ نَصًّا وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ فِيمَا دَلَّ عليه دَلِيلٌ وَالْمُجْتَهِدُ مُقَصِّرٌ بِالنَّظَرِ فيه وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ وَمَنْ قَصَّرَ في ذلك ولم يَصِرْ إلَيْهِ فإنه مُخْطِئٌ فيه وَيَخْتَلِفُ خَطَؤُهُ على قَدْرِ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ فَقَدْ يَكُونُ كَبِيرَةً وقد يَكُونُ صَغِيرَةً وَهَذَا مَذْهَبُ الْغُلَاةِ وَمِنْهُمْ الْأَصَمُّ وَالْمَرِيسِيُّ وهو قَوْلُ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاسْتِدْلَال وَقِيلَ في وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ إلَّا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا لم يَصِلْ إلَيْهِ لِدِقَّتِهِ وَغُمُوضِ طَرِيقِهِ فَهُوَ مَعْذُورٌ آثِمٌ وهو قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَنَفَرٍ من الْحَنَفِيَّةِ وَحُكِيَ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال في الْفُرُوعِ التي لها أَصْلٌ وَاحِدٌ وهو الذي يُسَمَّى طَرِيقُ إثْبَاتِهَا الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ وَالْقِيَاسُ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُصِيبَ فيها وَاحِدٌ وَالْفُرُوعُ التي تَتَجَاذَبُهَا أُصُولٌ كَثِيرَةٌ وَيُسَمَّى طَرِيقُ إثْبَاتِهَا قِيَاسُ عِلِّيَّةِ الْأَشْبَاهِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٌ فيها مُصِيبٌ وهو الذي حَكَاهُ عنه الْمُحَصِّلُونَ
____________________
(4/534)
وقال في بَعْضِ مَجْمُوعَاتِهِ في جَوَابٍ سُئِلَ عنه في قَوْلِهِ إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ أَنَّهُ لو كان أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ خَطَأً لم يَجُزْ أَنْ يُثَابَ عنه لِأَنَّ الثَّوَابَ لَا يَكُونُ فِيمَا لَا يَسُوغُ وَلَا في الْخَطَأِ الْمَوْضُوعِ ثُمَّ قال لو كان خَطَأً قُصَارَى أَمْرِهِ أَنْ يَغْفِرَ له فَكَيْفَ يَطْمَعُ في الثَّوَابِ على خَطَأٍ لم يَصْنَعْهُ وقد تَكَرَّرَتْ أَلْفَاظُهُ في كُتُبِهِ على مُوَافَقَةِ ما حَكَيْنَاهُ عنه من أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْفَرْقُ بين ما حَكَيْنَا عن أبي حَنِيفَةَ آخِرًا وَبَيْنَ قَوْلِ الْمُخَالِفِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يقول إنَّ الْمُجْتَهِدَ لم يُكَلَّفْ الْأَشْبَهَ وَاَلَّذِي هو الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ أَنَّهُ كُلِّفَ إصَابَتَهُ وَلَكِنَّهُ يَكُونُ مَعْذُورًا إنْ كان خَطَؤُهُ صَغِيرًا وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِاتِّحَادِ الْحَقِّ في هذه الْمَسَائِلِ فَقِيلَ يُمْنَعُ من وُرُودِ التَّعَبُّدِ في الْفُرُوعِ بِالْأَحْكَامِ الْمُتَضَادَّةِ وَقِيلَ السَّمْعُ هو الذي يَمْنَعُ من ذلك وقال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ الْمَنْقُولُ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ وَأَنَّ الْحَقَّ في جَمِيعِهِ وَاحِدٌ وَذَهَبَ شَيْخُنَا أبو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَأَنَّ الْمَطَالِبَ مُتَعَدِّدَةٌ وهو مَذْهَبُ الْقَاضِي أَيْ أَنَّ الْمُصَوِّبَةَ انْقَسَمُوا إلَى غُلَاةٍ وَمُقْتَصِدَةٍ وَذَكَرَ نحو ما قَالَهُ إلْكِيَا وقال في الْقَوَاطِعِ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُصِيبَ من الْمُجْتَهِدِينَ وَاحِدٌ وَالْبَاقُونَ مُخْطِئُونَ غير أَنَّهُ خَطَأٌ يُعْذَرُ فيه الْمُخْطِئُ وَلَا يُؤَثَّمُ وقد قال بَعْضُ أَصْحَابِنَا إنَّ هذا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبُهُ وَلَا يُعْرَفُ له قَوْلٌ سِوَاهُ وَبِهِ قال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وقال بَعْضُ أَصْحَابِنَا لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا ما قُلْنَاهُ والآخر أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وهو ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ وَنَقَلُوهُ عن أبي حَنِيفَةَ وهو قَوْلُ أبي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ وقال الْأَصَمُّ وابن عُلَيَّةَ وَالْمَرِيسِيُّ إنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ وَمُخَالِفُهُ خَطَأٌ وَصَاحِبُهُ مَأْثُومٌ قال وقال أبو زَيْدٍ في أُصُولِهِ قال فَرِيقٌ من الْمُتَكَلِّمِينَ الْحَقُّ في هذه الْحَوَادِثِ التي يَجُوزُ الْفَتْوَى في أَحْكَامِهَا بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ حُقُوقٌ وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ لِلْحَقِّ بِعَيْنِهِ ثُمَّ إنَّهُمْ افْتَرَقُوا فقال قَوْمٌ الْجَمِيعُ حَقٌّ على التَّسَاوِي وقال قَوْمٌ الْوَاحِدُ من الْجَمَاعَةِ أَحَقُّ وَسَمُّوهُ تَقْوِيمَ ذَاتِ الِاجْتِهَادِ وقال بَعْضُ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامُ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ ثُمَّ افْتَرَقُوا فقال قَوْمٌ إذَا لم يُصِبْ الْمُجْتَهِدُ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ كان مُخْطِئًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً حتى أَنَّ عَمَلَهُ لَا يَصِحُّ وقال عُلَمَاؤُنَا كان مُخْطِئًا لِلْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ مُصِيبًا في حَقِّ عَمَلِهِ حتى لو عَمِلَهُ يَقَعُ بِهِ صَحِيحًا شَرْعًا كَأَنَّهُ أَصَابَ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ
____________________
(4/535)
قال وَبَلَغَنَا عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال لِيُوسُفَ بن خَالِدٍ السَّمْتِيِّ كُلٌّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ فَبَيَّنَ أَنَّ الذي أَخْطَأَ ما عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مُصِيبٌ في حَقِّ عَمَلِهِ وقال محمد بن الْحَسَنِ في كِتَابِ الطُّرُقِ إذَا تَلَاعَنَ الزَّوْجَانِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا نَفَذَ قَضَاؤُهُ وقد أَخْطَأَ السُّنَّةَ فَجَعَلَ قَضَاءَهُ في حَقِّهِ صَوَابًا مع قَوْلِهِ إنَّهُ مُخْطِئُ الْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ قال أبو زَيْدٍ وَهَذَا قَوْلُ التَّوَسُّطِ بين الْغُلُوِّ وَالنَّقْصِ وَاعْلَمْ أَنَّ هذا الْقَوْلَ هو الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ وهو أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ مُصِيبًا في اجْتِهَادِهِ مُخْطِئًا في حُكْمِهِ قالوا وما كُلِّفَ الْإِنْسَانُ إصَابَةَ الْأَشْبَهِ وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ هذا نَصًّا عن أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَحُكِيَ الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ عن أبي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَالصَّحِيحُ من هذه الْأَقَاوِيلِ أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ وَالنَّاسُ بِطَلَبِهِ مُكَلَّفُونَ إصَابَتَهُ فإذا اجْتَهَدُوا وَأَصَابُوا حُمِدُوا وَأُجِرُوا وَإِنْ أَخْطَئُوا عُذِرُوا ولم يَأْثَمُوا إلَّا أَنْ يُقَصِّرُوا في أَسْبَابِ الطَّلَبِ وَهَذَا هو مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه وهو الْحَقُّ وما سِوَاهُ بَاطِلٌ ثُمَّ يقول إنَّهُ مَأْجُورٌ في الطَّلَبِ إذَا لم يُقَصِّرْ وَإِنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ وَمَعْذُورٌ على خَطَئِهِ وَعَدَمِ إصَابَتِهِ لِلْحَقِّ وقد يُوجَدُ لِلشَّافِعِيِّ في بَعْضِ كَلَامِهِ وَمُنَاظَرَاتِهِ مع خُصُومِهِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا اجْتَهَدَ فَقَدْ أَصَابَ وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ أَصَابَ عن نَفْسِهِ بِأَنَّهُ بَلَغَ عِنْدَ نَفْسِهِ مَبْلَغَ الصَّوَابِ وَإِنْ لم يَكُنْ أَصَابَ عَيْنَ الْحَقِّ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ على مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إلَّا ما قُلْنَاهُ وَمَنْ قال غير هذا فَقَدْ أَخْطَأَ على مَذْهَبِهِ وقال ما قال عن شَهَوَاتِهِ انْتَهَى وقال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في تَعْلِيقِهِ الْمُخْتَارُ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمْ يُصِيبُ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ وَالْبَاقُونَ يُصِيبُونَ الْحَقَّ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ وَحَكَى ابن فُورَكٍ عن بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قال إنَّ الْمُجْتَهِدَ مُصِيبٌ عِنْدَ اللَّهِ عِنْدِي وَلَيْسَ هذا مَوْضِعُ خِلَافٍ لِأَنَّ الْقَائِلَ بِذَلِكَ غَيْرُ مُتَيَقِّنٍ أَنَّ كُلًّا مُصِيبٌ عِنْدَ اللَّهِ فَلِذَلِكَ قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ عِنْدِي وَلِذَلِكَ يقول إنَّ الْمُخَالِفَ له مُصِيبٌ عِنْدَ اللَّهِ عِنْدَهُ فَهَذَا كَلَامٌ لَا حَاصِلَ له قُلْت وَالْحَاصِلُ في الْمَسْأَلَةِ على مَذْهَبِنَا ثَلَاثُهُ طُرُقٍ أَحَدُهَا قال الرَّافِعِيُّ وَهِيَ الْأَشْهَرُ إثْبَاتُ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَهِيَ التي حَكَاهَا أبو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ من أَصْحَابِنَا وَأَصَحُّهُمَا وهو الذي ذَكَرَهُ في كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْمُورٌ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ وَمَنْ ذَهَبَ إلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ وقال ابن الْقَطَّانِ وابن فُورَكٍ في كِتَابَيْهِمَا إنَّ هذا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ قال في كِتَابِ الْقَضَاءِ وفي الرِّسَالَةِ
____________________
(4/536)
وَكُلُّ مُجْتَهِدَيْنِ اخْتَلَفَا في شَيْءٍ فَالْحَقُّ في وَاحِدٍ من قَوْلِهِمَا قَالَا هذا هو مَذْهَبُهُ وَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِأَشْيَاءَ أَطْلَقَهَا وكان مُرَادُهُ فيها ما عُرِفَ من مَذْهَبِهِ انْتَهَى وَهَذَا ما حَكَاهُ الْأَشْعَرِيُّ بِخُرَاسَانَ عنه وَعَنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ قال ابن الصَّبَّاغِ وَنِسْبَةُ هذا إلَى الْأَشْعَرِيِّ أَشْهَرُ لِأَنَّ كُلًّا منهم مَأْمُورٌ بِالْعَمَلِ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَغَيْرُ الْحَقِّ لَا يُؤْمَرُ بِالْعَمَلِ بِهِ وَعَلَى هذا فَهَلْ يقول الْحُكْمُ وَالْحَقُّ على كل وَاحِدٌ من الْمُجْتَهِدِينَ ما غَلَبَ على ظَنِّهِ أو يقول الْحَقُّ وَاحِدٌ وهو أَشْبَهُ مَطْلُوبٌ إلَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منهم مُكَلَّفٌ بِمَا غَلَبَ على ظَنِّهِ لِإِصَابَةِ الْأَشْبَهِ فيه وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالْغَزَالِيُّ وَحَكَاهُ ابن الصَّبَّاغِ عن الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ قال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ من الْأَمْرِ شيئا وَاحَدَا وَالْمَطْلُوبُ من الْمَأْمُورِ غَيْرُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ من أَبَقَ عَبْدُهُ فقال لِعَبِيدِهِ اُطْلُبُوهُ فَالْمَقْصُودُ من الْأَمْرِ وُجُودُ الْآبِقِ وَمِنْ الْعَبِيدِ طَلَبُهُ فَحَسْبُ فَإِنْ لم يَجِدُوهُ فما ذَمَّهُمْ من حَيْثُ لم يَتَوَانَوْا فيه فَكَذَا هُنَا وَبِالثَّانِي أَجَابَ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ كما قال الرَّافِعِيُّ وَحَكَوْا عن الْقَاضِي أبي حَامِدٍ وَزَعَمَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ وفي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ وفي رِسَالَةِ الْمَصْرِيِّينَ مُحْتَمَلٌ وَأَنَّ الْأَظْهَرَ من كَلَامِهِ وَالْأَشْبَهَ بِمَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ أَمْثَالِهِ من الْعُلَمَاءِ الْقَوْلُ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَتَابَعَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فقال ليس لِلشَّافِعِيِّ نَصٌّ في الْمَسْأَلَةِ على التَّخْصِيصِ لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ النَّقَلَةُ عنه في اسْتِنْبَاطِهِمْ من كَلَامِهِ وَلَيْسَ كما قال بَلْ نُصُوصُهُ في الرِّسَالَةِ وَغَيْرِهَا طَافِحَةٌ بِهِ وَالطَّرِيقُ الثَّانِي الْقَطْعُ بِالْأَوَّلِ وَيُحْكَى عن أبي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَالْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الرَّازِيَّ وهو اخْتِيَارُ الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ وَالثَّالِثُ التَّفْصِيلُ بين قِيَاسِ الْعِلَّةِ وَقِيَاسِ الشَّبَهِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ إلْكِيَا في النَّقْلِ عن الشَّافِعِيِّ كما سَبَقَ وَكَذَلِكَ نَقَلَهَا عنه صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ قال زَلَّ كَثِيرٌ من الناس فَظَنُّوا أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ في جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ وَإِلَّا فَكَيْفَ كان يَسُوغُ له مُخَالَفَةُ أبي حَنِيفَةَ في كَثِيرٍ من الْأَحْكَامِ فَلِهَذَا قال ما ليس له
____________________
(4/537)
أَصْلٌ مَقِيسٌ عليه إلَّا وَاحِدٌ فَالْحَقُّ فيه وَاحِدٌ لِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ من دَلِيلٍ وَاحِدٍ وَأَمَّا ما تَجَاذَبَهُ أَصْلَانِ فَأَكْثَرُ فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ فيه مُصِيبُ قُلْت وَهَذَا لَا يَعْرِفُهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ التَّفْرِيعُ إذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ فَعَلَيْهِ فُرُوعٌ منها أَنَّهُ هل يَقْطَعُ بِصِحَّةِ قَوْلِهِ وَخَطَأِ الْمُخَالِفِ أَمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ في غَيْرِهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا وَبِهِ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ اعْلَمْ إصَابَتَنَا لِلْحَقِّ وَاقْطَعْ بِخَطَأِ من خَالَفَنَا وَمَنْعِهِ من الْحُكْمِ بِاجْتِهَادِهِ غير أَنِّي لَا أُؤَثِّمُهُ قال أبو الْخَطَّابِ من الْحَنَابِلَةِ وقد أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ في رِوَايَةِ ابْنِ الْحَكَمِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمَسَائِلَ تَنْقَسِمُ إلَى ما يُقْطَعُ فيه بِالْإِصَابَةِ وَإِلَى ما لَا يَدْرِي أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَ بِحَسَبِ الْأَدِلَّةِ وَهَذَا هو الذي يَقْتَضِيهِ تَصَرُّفُ أَصْحَابِنَا في نَقْضِ حُكْمِ الْحَاكِمِ ومنها أَنَّ الْمُخْطِئَ هل يُقَالُ إنَّهُ مَعْذُورٌ فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا وَنَقَلَهُ ابن كَجٍّ عن عَامَّةِ الْأَصْحَابِ نعم والثاني وهو الذي أَوْرَدَهُ ابن فُورَكٍ لَا ومنها اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ على أَنَّ لِلَّهِ في كل وَاقِعَةٍ حُكْمًا مُعَيَّنًا هو مَقْصِدُ الطَّالِبِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا هل نَصَبَ عليه دَلِيلًا أَمْ لَا فَقِيلَ لَا دَلِيلَ عليه وَإِنَّمَا هو مِثْلُ دَفِينٍ يُعْثَرُ عليه فَمَنْ عَثَرَ عليه فَلَهُ أَجْرَانِ وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّ اللَّهَ نَصَّبَ عليه دَلِيلًا ثُمَّ اخْتَلَفُوا هل هذا الدَّلِيلُ قَطْعِيٌّ أو ظَنِّيٌّ فَحَكَى الْقَاضِي عن ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كان يقول في آخِرِ عُمْرِهِ أَنَّهُ قَطْعِيٌّ وهو قَوْلُ الْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَالْمَرِيسِيِّ وَجَمِيعِ نُفَاةِ الْقِيَاسِ إلْحَاقًا لِلْفُرُوعِ بِالْأُصُولِ وَمِنْهُمْ من يُعَبِّرُ عن هذا الْخِلَافِ بِأَنَّهُ هل دَلَّ عليه السَّمْعُ أو الْعَقْلُ ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ في مُخْطِئِ هذا الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ هل هو مَأْثُومٌ مَحْطُوطٌ عنه فَحُكِيَ عن ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كان يقول بِأُخَرَةٍ إنَّ مُخْطِئَهُ مَأْثُومٌ وَالْحُكْمُ بِخِلَافِهِ مَنْقُوضٌ وهو قَوْلُ الْأَصَمِّ وَمَنْ وَافَقَهُ لِأَنَّهُ خَالَفَ دَلِيلًا قَطْعِيًّا وَقِيلَ بَلْ الْإِثْمُ مَحْطُوطٌ عنه وَحَكَاهُ السَّرَخْسِيُّ عن الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَذَهَبَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ ظَنِّيٌّ وَأَنَّ الْإِثْمَ مَوْضُوعٌ عن مُخْطِئِهِ وَأَنَّ الْمُجْتَهِدَ كُلِّفَ طَلَبَهُ قال الرَّافِعِيُّ وهو الْمَذْهَبُ وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عليه وَهَلْ كُلِّفَ إصَابَتَهُ فيه قَوْلَانِ أو وَجْهَانِ
____________________
(4/538)
أَحَدُهُمَا نعم وهو قَوْلُ أبي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَيُحْكَى عن الْمُزَنِيّ وهو الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَنَسَبَهُ ابن الْقَطَّانِ إلَى الشَّافِعِيِّ فَعَلَى هذا إنْ أَصَابَهُ الْمُجْتَهِدُ كان مُصِيبًا عِنْدَ اللَّهِ وَإِنْ أَخْطَأَهُ كان الْإِثْمُ مَرْفُوعًا عنه وَلَهُ أَجْرٌ بِقَصْدِهِ الْحَقَّ والثاني وَبِهِ قال ابن سُرَيْجٍ وَنُسِبَ إلَى الشَّافِعِيِّ أَنَّ اللَّهَ لم يُكَلِّفْ الْمُجْتَهِدَ إصَابَتَهُ وَإِنَّمَا كَلَّفَهُ الِاجْتِهَادَ في طَلَبِهِ فَكُلُّ من اجْتَهَدَ في طَلَبِهِ فَهُوَ مُصِيبٌ في اجْتِهَادِهِ وَلِأَنَّهُ قد أَدَّى ما كُلِّفَ وإذا قُلْنَا بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهِ هل الْحَقُّ في كل وَاحِدٍ من الْمُجْتَهِدِينَ ما غَلَبَ على ظَنِّهِ أو نَقُولُ الْحَقُّ وَاحِدٌ وهو أَشْبَهُ مَطْلُوبٍ إلَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منهم مُكَلَّفٌ بِمَا يَغْلِبُ على ظَنِّهِ لِإِصَابَةِ الْأَشْبَهِ قال الرَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فيه وَجْهَانِ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ مِنْهُمَا الْأَوَّلُ وَبِالثَّانِي أَجَابَ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ وَحَكَوْهُ عن الْقَاضِي أبي حَامِدٍ وَالدَّارَكِيِّ انْتَهَى وَالْمَعْنَى أَنَّهُ هل يَرْجِعُ إلَيْهِ في كل مَسْأَلَةٍ حُكْمًا مَطْلُوبًا هو أَشْبَهُ بِحُكْمِ الْأَصْلِ في غَالِبِ ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ فَلِهَذَا قِيلَ هُنَاكَ أَشْبَهُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِهِ فَقِيلَ هو ما غَلَبَ على ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ وَقِيلَ هو قُوَّةُ الشَّبَهِ لِقُوَّةِ الْأَمَارَةِ وقال ابن سُرَيْجٍ هو ما لو وَرَدَ بِهِ نَصٌّ لِطَابَقِهِ قال في الْمَنْخُولِ وَهَذَا حُكْمٌ على الْغَيْبِ وَقِيلَ ليس هُنَاكَ أَشْبَهُ وَالْجَمِيعُ وَاحِدٌ إلَّا ما عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ أَنَّهُ الْأَوْلَى أَنْ يَحْكُمَ بِهِ وَحَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ عن الْجُمْهُورِ وَحَكَاهُ عن الْأَشْعَرِيِّ وقال ابن الْقَطَّانِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحَقَّ في كل ما أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ اخْتَلَفُوا هل نَصَّبَ اللَّهُ تَعَالَى أَدِلَّةً مُخْتَلِفَةً يُؤَدِّي اجْتِهَادُ كل وَاحِدٍ منهم إلَى دَلِيلٍ مَنْصُوبٍ أَمْ لَا على قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا نعم كَالتَّخْيِيرِ في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَيُّهَا فَعَلَ أَجْزَأَهُ فَكَذَا أَيْ الْأَدِلَّةُ صَارَ إلَيْهِ وَأَخَذَ بِهِ كان حَقًّا والثاني أَنَّهُ لم يُنَصِّبْ عليها دَلَالَةً وَإِنَّمَا الْأَمْرُ فيها على غَالِبِ الظَّنِّ لِأَنَّهُ الْمُتَعَبَّدُ بِهِ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ أَنَّ الصَّفِيَّ الْهِنْدِيَّ قد حَرَّرَ الْمَذَاهِبَ في هذه الْمَسْأَلَةِ تَحْرِيرًا جَيِّدًا فقال الْوَاقِعَةُ التي وَقَعَتْ إمَّا أَنْ يَكُونَ عليها نَصٌّ أَمْ لَا فَإِنْ كان الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَجْتَهِدَ الْمُجْتَهِدُ أَمْ لَا وَالثَّانِي على قِسْمَيْنِ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُقَصِّرَ في طَلَبِهِ أو لَا يُقَصِّرَ وَإِنْ وَجَدَهُ فَحَكَمَ بِمُقْتَضَاهُ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ لم يَحْكُمْ بِمُقْتَضَاهُ فَإِنْ كان مع الْعِلْمِ بِوَجْهِ
____________________
(4/539)
دَلَالَتِهِ على الْمَطْلُوبِ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَآثِمٌ وِفَاقًا وَإِنْ لم يَكُنْ مع الْعِلْمِ وَلَكِنْ قُدِّرَ في الْبَحْثِ عنه فَكَذَلِكَ وَإِنْ لم يُقَصِّرْ بَلْ بَالَغَ في الِاسْتِكْشَافِ وَالْبَحْثِ ولم يَعْثُرْ على وَجْهِ دَلَالَتِهِ على الْمَطْلُوبِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ ما إذَا لم يَجِدْهُ مع الطَّلَبِ الشَّدِيدِ وَسَيَأْتِي وَإِنْ لم نَجِدْهُ فَإِنْ كان لِتَقْصِيرٍ في الطَّلَبِ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَآثِمٌ وَإِنْ لم يُقَصِّرْ بِأَنْ بَالَغَ في التَّنْقِيبِ عنه وَأَفْرَغَ الْوُسْعَ في طَلَبِهِ وَمَعَ ذلك لم يَجِدْهُ فَإِنْ خَفِيَ عليه الرَّاوِي الذي عِنْدَهُ النَّصُّ أو عَرَفَهُ وَلَكِنْ مَاتَ قبل وُصُولِهِ إلَيْهِ فَهُوَ غَيْرُ آثِمٍ قَطْعًا وَهَلْ هو مُخْطِئٌ أَمْ مُصِيبٌ على الْخِلَافِ الْآتِي فِيمَا لَا نَصَّ فيه وَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا وَأَمَّا التي لَا نَصَّ فيها فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ لِلَّهِ فيها قبل اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ أو لَا بَلْ حُكْمُهُ تَابِعٌ لِاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ فَهَذَا الثَّانِي قَوْلُ من قال كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وهو مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ كَالشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي وَالْغَزَالِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي الْهُذَيْلِ وَأَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَأَتْبَاعِهِمْ وَنُقِلَ عن الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَشْهُورُ عنهما خِلَافُهُ وَهَذَا في أَنَّهُ وَإِنْ لم يُوجَدْ في الْوَاقِعَةِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ فَهَلْ وُجِدَ فيها ما لو حَكَمَ اللَّهُ فيها بِحُكْمٍ لَمَا حَكَمَ إلَّا بِهِ أو لم يُوجَدْ ذلك وَالْأَوَّلُ هو الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ وهو قَوْلُ كَثِيرٍ من الْمِصْرِيِّينَ وَإِلَيْهِ صَارَ أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بن الْحَسَنِ وابن سُرَيْجٍ في إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عنه قال الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ في الْأَشْبَهِ إلَى أَنَّهُ ليس هذا بَلْ هو أَوْلَى طُرُقِ الشَّبَهِ في الْمَقَايِيسِ وَالْعِبَرِ وَمَثَّلُوا ذلك بِإِلْحَاقِ الْأُرْزِ بِالْبُرِّ بِوَصْفِ الطُّعْمِ أو الْقُوتِ أو الْكَيْلِ وَأَحَدُ هذه الْأَوْصَافِ أَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْرَبُ في التَّمْثِيلِ وَأَمَّا الثَّانِي فَقَوْلُ الْمُخْلِصِ من الْمُصَوِّبَةِ وَأَمَّا الْأَوَّلُ وهو أَنَّ لِلَّهِ في الْوَاقِعَةِ حُكْمًا مُعَيَّنًا فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ عليه دَلَالَةٌ أو أَمَارَةٌ فَقَطْ أو ليس عليه دَلَالَةٌ وَلَا أَمَارَةٌ فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وهو أَنَّ على الْحُكْمِ دَلِيلًا يُفِيدُ الْعِلْمَ فَهُوَ قَوْلُ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَهَؤُلَاءِ اتَّفَقُوا على أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْمُورٌ بِطَلَبِهِ وَأَنَّهُ إذَا وَجَدَهُ فَهُوَ مُصِيبٌ وإذا أَخْطَأَهُ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَلَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا في الْمُخْطِئِ هل يَأْثَمُ وَيَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ فَذَهَبَ بَشَرٌ إلَى التَّأْثِيمِ وَأَنْكَرَهُ الْبَاقُونَ لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ وَغُمُوضِهِ وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا في أَنَّهُ هل يُنْقَضُ قَضَاءُ الْقَاضِي فيه فَذَهَبَ الْأَصَمُّ إلَى أَنَّهُ يُنْقَضُ وَخَالَفَهُ الْبَاقُونَ وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي وهو أَنَّ على الْحُكْمِ أَمَارَةً فَقَطْ فَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَكَثِيرٍ من الْمُتَكَلِّمِينَ وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فَمِنْ قَائِلٍ إنَّ الْمُجْتَهِدَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِإِصَابَتِهِ لِخَفَائِهِ وَغُمُوضِهِ وَإِنَّمَا هو مُكَلَّفٌ بِمَا غَلَبَ على ظَنِّهِ فَهُوَ وَإِنْ أَخْطَأَ على
____________________
(4/540)
تَقْدِيرِ عَدَمِ إصَابَتِهِ لَكِنَّهُ مَعْذُورٌ مَأْجُورٌ وهو مَنْسُوبٌ إلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ وهو أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عليه وَلَا أَمَارَةَ فَذَهَبَ إلَيْهِ جَمْعٌ من الْمُتَكَلِّمِينَ وَزَعَمُوا أَنَّ ذلك الْحُكْمَ كَدَفِينٍ قال الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْعُثُورَ عليه ليس بِوَاجِبٍ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ الِاجْتِهَادُ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْعُثُورَ عليه مِمَّا يَجِبُ على الْمُكَلَّفِ وَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَلِيلٌ الثَّانِي قال ابن فُورَكٍ هذا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ على إثْبَاتِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ فَأَمَّا من نَفَاهُ فَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الْحَقَّ في وَاحِدٍ لَا غير الثَّالِثُ مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ الْمُصَوِّبَةُ حَدِيثُ بَعْثَةِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ السَّرِيَّةِ لِسَبْيِ بَنِي قُرَيْظَةَ وقال لَا تَنْزِلُوا حتى تَأْتُوهُمْ فَجَاءَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ في أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَاخْتَلَفُوا حِينَئِذٍ فَمِنْهُمْ من نَزَلَ فَصَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ تَوَجَّهَ وَمِنْهُمْ من تَمَادَى وَحَمَلَ قَوْلَهُ لَا تَنْزِلُوا على ظَاهِرِهِ فلما عُرِضَتْ الْقِصَّةُ على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لم يُخَطِّئْ أَحَدًا منهم ولم يُؤَثِّمْهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا اخْتَلَفَ الصِّدِّيقُ وَالْفَارُوقُ في أَفْضَلِيَّةِ الْوِتْرِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا أَصَبْتُمَا وَكَذَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ فَكَانَ مِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ ولم يَعِبْ أَحَدٌ على أَحَدٍ لِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا في أَفْضَلِيَّةِ الْعَزِيمَةِ على الرُّخْصَةِ أو الْعَكْسِ فَفَضَّلَ كُلٌّ جِهَةً وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ أَخَذَ بِالْأَفْضَلِ وَصَوَّبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مع الِاخْتِلَافِ وَيُحْتَجُّ لِلْمُخَطِّئَةِ بِحَدِيثِ إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَأَجْرٌ وَبِحَدِيثِ الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّهُ لو لم يَكُنْ هَكَذَا لم يَكُنْ لِلتَّقْسِيمِ مَعْنًى
____________________
(4/541)
وَبِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ وَإِنْ طَلَبَ مِنْك أَهْلُ حِصْنٍ النُّزُولَ على حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ على حُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا الرَّابِعُ قد سَأَلَ الْمِصِّيصِيُّ الْغَزَالِيَّ عن هذه الْمَسْأَلَةِ فقال الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْوَقَائِعَ الشَّرْعِيَّةَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ الْأَوَّلُ ما فيه نَصٌّ صَرِيحٌ كَأَكْلِ الضَّبِّ على مَائِدَةِ الرَّسُولِ عليه السَّلَامُ فَالْمُصِيبُ في مِثْلِ هذه الْمَسْأَلَةِ وَاحِدٌ إذْ النَّصُّ وَاحِدٌ وقد وَضَعَ الشَّرْعُ إبَاحَةَ الضَّبِّ وَعَلَى الْمُجْتَهِدِينَ تَعَرُّفُ ما وَضَعَهُ الشَّرْعُ فَمَنْ عَرَفَ فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ أَخْطَأَ النَّصَّ ولم يَعْثُرْ عليه فَقَدْ أَخْطَأَ أَيْ أَخْطَأَ النَّصَّ الذي كان مَأْمُورًا بِطَلَبِهِ وَلَوْ وَجَدَهُ لَلَزِمَهُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ وَيَكُونُ النَّصُّ كَالْقِبْلَةِ في حَقِّهِ وَالْمُصِيبُ فيها وَاحِدٌ وَلَهُ أَجْرَانِ وَلِلْمُخْطِئِ أَجْرٌ الثَّانِي ما لَا نَصَّ فيه وَلَكِنْ يَدُلُّ النَّصُّ عليه كَسِرَايَةِ عِتْقِ الْأَمَةِ إذْ لَا نَصَّ فيها وَلَكِنْ يَدُلُّ النَّصُّ عليه وَكَذَلِكَ ما شَهِدَ له النَّصُّ شَهَادَةً جَلِيَّةً بِقِيَاسٍ جَلِيٍّ فَمَنْ أَخْطَأَ مَعْنَى النَّصِّ كَمَنْ أَخْطَأَ عَيْنَ النَّصِّ لِأَنَّ النَّصَّ ثَبَتَ الْحُكْمُ لِمَعْنَاهُ لَا لِلَفْظِهِ وَمَهْمَا تَعَيَّنَ الْمَطْلُوبُ كان مُصِيبُهُ وَاحِدًا وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ أَخْطَأَ إلَّا أَنَّهُ أَخْطَأَ ما قَصَدَ الشَّرْعُ منه أَنْ يَعْثُرَ عليه وما لو عَثَرَ عليه وَجَبَ الرُّجُوعُ إلَيْهِ عليه وَهَذَا كَالْأَوَّلِ الثَّالِثُ ما لَا يَتَعَرَّضُ له الشَّرْعُ لَا بِلَفْظٍ يَخُصُّهُ وَلَا يَخُصُّ غَيْرَهُ وَيَسْرِي إلَيْهِ وَلَكِنْ لِلْخَلْقِ فيه أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ فيه هو الْأَصْلَحُ لِلْعِبَادِ فَاطْلُبُوهُ فَهَذَا يَنْقَسِمُ إلَى ما هو أَصْلَحُ لِلْعِبَادِ فَكُلُّ ما عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ أَصْلَحُ لِلْعِبَادِ فَالْمُصِيبُ من أَمْرِ بِهِ وَمَنْ تَعَدَّاهُ فَهُوَ مُخْطِئٌ لِأَنَّ الْأَصْلَحَ قد تَعَيَّنَ عِنْدَ اللَّهِ وَصَارَ مَطْلُوبًا وَكُلُّ من طَلَبَ شيئا مُعَيَّنًا فَإِمَّا أَنَّهُ يُصِيبُ وَإِمَّا أَنْ يُخْطِئَ فَيُتَصَوَّرُ فيه الْخَطَأُ وَالصَّوَابُ وَكُلُّ ما تُصَوِّرَ فيه ذلك فَيُمَيَّزُ الْمُخْطِئُ لَا مَحَالَةَ في عِلْمِ اللَّهِ من الْمُصِيبِ
____________________
(4/542)
الرَّابِعُ ما ليس لِلشَّرْعِ فيه حُكْمٌ مُعَيَّنٌ وَلَكِنْ قِيلَ لِلْمُجْتَهِدِينَ اُطْلُبُوا الْحُكْمَ وَتَرَدَّدُوا بين رَأْيَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ من الرَّأْيَيْنِ مُسَاوٍ لِلْآخَرِ في الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ وَاحِدٍ من الْمُجْتَهِدِينَ هَاهُنَا مُصِيبٌ وَهَذَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ في الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ أَمَّا شَرْعًا فَكُلُّ حُكْمٍ نِيطَ بِاجْتِهَادِ الْوُلَاةِ كَتَفْرِقَةِ الْعَطَاءِ على الْمُسْلِمِينَ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ أو التَّفَاوُتِ كما اخْتَلَفَ فيه أبو بَكْرٍ وَعُمَرُ إذْ ليس فيه نَصٌّ على عَيْنِهِ وَلَا على مَسْأَلَةٍ قَرِيبَةٍ منه يُقَالُ إنَّهُ في مَعْنَاهُ وَلَكِنْ فيه إهْمَالٌ لِمَصْلَحَةِ تَمَيُّزِ الْفَاضِلِ من الْفُضُولِ وهو من الْمَصَالِحِ وفي التَّفَاوُتِ إحْدَى الْمَصْلَحَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى وَمَهْمَا قُوبِلَ ما في إحْدَاهُمَا من الْمَضَرَّةِ بِمَا في إحْدَاهُمَا من الْمَصْلَحَةِ يَجُوزُ أَنْ تَتَرَجَّحَ إحْدَاهُمَا وَيَجُوزُ أَنْ تَتَسَاوَيَا في عِلْمِ اللَّهِ بِالْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ وإذا تَسَاوَيَا في عِلْمِ اللَّهِ كان كُلُّ وَاحِدٍ صَوَابًا وَلَوْلَا هذا لَرَدَّ الْمَفْضُولُ في زَمَنِ عُمَرَ بَعْضَ ما أَخَذَهُ في زَمَانِ أبي بَكْرٍ أو لَامْتَنَعَ الْفَاضِلُ في زَمَنِ عُمَرَ من أَخْذِ الزِّيَادَةِ وَكُلُّهُمْ أَجْمَعُوا على أَخْذِ الْمَالَيْنِ وَتَقْرِيرِ الْحُكْمَيْنِ فَهَذَا منهم إجْمَاعٌ على أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَكَذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعُقُوبَةِ وَالنَّفَقَاتِ كما في شُرْبِ الْخَمْرِ إذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ في التَّرَقِّي إلَى الثَّمَانِينَ مَضَرَّةٌ من وَجْهٍ وَمَصْلَحَةٌ من وَجْهٍ وَكَذَا الِاقْتِصَارُ على الْأَرْبَعِينَ وَهُمَا عِنْدَ اللَّهِ مُتَسَاوِيَانِ بِالْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ وَكَذَا كُلُّ وَاقِعَةٍ لَا نَصَّ فيها وَلَا هِيَ في مَعْنَى الْمَنْصُوصِ الْخَامِسُ مَسْأَلَةٌ تَدُورُ بين نَصَّيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ فَحُكْمُ اللَّهِ فيه الْأَصْلَحُ إنْ كان مَعْقُولَ الْمَعْنَى فَيُلْحَقُ بِالْقِسْمِ الرَّابِعِ وَالثَّالِثِ وَحُكْمُ اللَّهِ فيه الْأَخْذُ بِالْأَشْبَهِ إذَا لم يَكُنْ مَعْقُولَ الْمَعْنَى وقد يَكُونُ أَحَدُهُمَا عِنْدَ اللَّهِ أَشْبَهَ وقد تَكُونُ نِسْبَتُهُ في الشَّبَهِ إلَى الْجَانِبَيْنِ على التَّسَاوِي في عِلْمِ اللَّهِ فَهَذَا مُمْكِنٌ وإذا أَمْكَنَ فَكُلُّ وَاحِدٍ من الْقَوْلَيْنِ صَوَابٌ وَلَا مُخْطِئَ فيه إذْ الْخَطَأُ وَالصَّوَابُ يَسْتَدْعِي شيئا مُعَيَّنًا يَعْسُرُ الْوُقُوفُ عليه بِالصَّوَابِ وَعَنْ الْغَفْلَةِ عنه بِالْخَطَأِ وَهَاهُنَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ على الْآخَرِ فَإِذًا إنْ كان التَّسَاوِي في الصَّلَاحِ أو الشَّبَهِ مُمْكِنًا في عِلْمِ اللَّهِ فَقَدْ صَحَّ ما قُلْنَاهُ وَمَنْ أَنْكَرَ هذا وَإِمْكَانَهُ أَثْبَتَ عليه بِقَوَاطِعِ الْعَقْلِ فإن الْمُبَاحَاتِ كُلَّهَا إنَّمَا سَوَّى الشَّرْعُ بين فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا لِتَسَاوِيهَا عِنْدَهُ في صَلَاحِ الْخَلْقِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَحْكَامِ السِّيَاسَاتِ وَجَمِيعُ مَسَائِلِ تَقَابُلِ الْأَصْلَيْنِ يَكَادُ يَكُونُ من هذا الْجِنْسِ إذْ قَلَّمَا يَكُونُ فيها تَرْجِيحٌ فإذا قَضَى قَاضٍ بِتَحْلِيفِ أَحَدٍ وَقَضَى آخَرُ بِتَحْلِيفِ الْآخَرِ فَقَدْ أَصَابَا بَلْ أَقُولُ لو اسْتَوَى عِنْدَ قَاضٍ وَاحِدٍ الْمَصْلَحَةُ وَالْمَضَرَّةُ في
____________________
(4/543)
أَمْرَيْنِ أو اسْتَوَى عِنْدَهُ الشَّبَهُ بِالْأَصْلَيْنِ أو الِاسْتِصْحَابُ في مُقَابِلِ الْأَصْلَيْنِ وَامْتَنَعَ التَّرْجِيحُ صَارَ مُخَيَّرًا كما في سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ فَإِذًا من الْمَسَائِلِ ما يُعْلَم أَنَّ الْمُصِيبَ فيها وَاحِدٌ وهو كُلُّ ما يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَخْلُوَ عن حُكْمٍ مَذْكُورٍ في زَمَانِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كَالْخَيْلِ مَثَلًا في أَنَّهُ هل يَحِلُّ أَكْلُهُ لِأَنَّهُ مع كَثْرَتِهِ في زَمَانِ الرَّسُولِ يُعْلَمُ أَنَّهُ ما أَغْفَلَهُ عن بَيَانِ حُكْمِهِ فَيَقْطَعُ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ وَإِنْ لم يَبْلُغْنَا فيه نَصٌّ مَثَلًا فَهَذَا حُكْمُ الْمُجْتَهِدِينَ عِنْدَ اللَّهِ فَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَا يَطَّلِعُ عليه في حَقِّ آحَادِ الْأَشْخَاصِ وَأَعْيَانِ الْمَسَائِلِ وَيَدُلُّ على ذلك تَشْدِيدُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ في بَيْعِ الْعَيِّنَةِ وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذلك مُجَاوَزَةٌ لِحُكْمٍ ثَابِتٍ بِإِجْمَاعٍ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ في زَمَانِ عُمَرَ على أَخْذِ الْفَضْلِ يَدُلُّ على وُجُودِ الْقِسْمِ الثَّانِي انْتَهَى وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ اخْتَلَفُوا في كل مُجْتَهِدٍ في الْفُرُوعِ مُصِيبٌ أَمْ لَا وهو بِنَاءٌ على أَنَّهُ هل لِلَّهِ تَعَالَى في الْوَاقِعَةِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ أَمْ لَا وَلْنُقَدِّمْ عليه مُقَدِّمَةً وَهِيَ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى حُكْمَيْنِ أَحَدُهُمَا مَطْلُوبٌ بِالِاجْتِهَادِ وَنُصِبَ عليه الدَّلَائِلُ وَالْأَمَارَاتُ فإذا أُصِيبَ حَصَلَ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَجْرُ الْإِصَابَةِ وَالْآخَرُ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ والثاني وُجُوبُ الْعَمَلِ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عليه فَمَنْ يَنْظُرْ إلَى هذا الْحُكْمِ الثَّانِي ولم يَنْظُرْ في الْأَوَّلِ قال إنَّ حُكْمَ اللَّهِ على كل أَحَدٍ ما أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْأَوَّلِ قال الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَبِالنَّظَرِ إلَى وُجُوبِ الْمَصِيرِ إلَى ما أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَبِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ الذي في نَفْسِ الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ بِالنَّظَرِ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ بِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ وَأَصَابَ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْإِصَابَةِ وَالْخَطَأِ وهو يَسْتَلْزِمُ أَمْرًا مُعَيَّنًا وقَوْله تَعَالَى فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْسُوبٌ إلَى الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ خَلَا أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ وقال الْمُتَكَلِّمُونَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ قال وَنَحْنُ قد بَيَّنَّا غَوْرَ الْمَسْأَلَةِ وهو أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ الْإِصَابَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحُكْمِ
____________________
(4/544)
على كل إنْسَانٍ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَهُوَ حَقٌّ وقد وَافَقَ الْغَزَالِيُّ الْمُتَكَلِّمِينَ وقال إنْ كان ثَمَّ تَقْصِيرٌ فَالْخَطَأُ وَاقِعٌ لِتَقْصِيرِهِ لَا لِخَطَئِهِ إصَابَةَ أَمْرٍ مُعَيَّنٍ وَإِنْ لم يَكُنْ ثَمَّ تَقْصِيرٌ فَلَا حُكْمَ في حَقِّهِ ما لم يَبْلُغْهُ النَّصُّ وَاسْتَدَلَّ بِمَسْأَلَةِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ فإن أَهْلَ قُبَاءَ بَلَغَهُمْ النَّصُّ فَأَسْرَعُوا في الصَّلَاةِ ولم يَثْبُتْ الْحُكْمُ في حَقِّهِمْ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِدَلِيلِ عَدَمِ بُطْلَانِ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ الْمُخَابَرَةُ فإن ابْنَ عُمَرَ كان يُخَابِرُ وَلَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا حتى بَلَغَهُ خَبَرُ رَافِعِ بن خَدِيجٍ بِالنَّهْيِ عنها انْتَهَى مَسْأَلَةٌ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ مُكَلَّفٌ بِمَا غَلَبَ على ظَنِّهِ وَإِنْ أَخْطَأَ قالوا بِأَنَّهُ مَأْجُورٌ على الِاجْتِهَادِ وَإِنْ أَخْطَأَ وَالْمُخْطِئُ غَيْرُ مَأْجُورٍ على الْخَطَأِ وقال ابن أبي هُرَيْرَةَ الْمُخْطِئُ آثِمٌ وَقِيلَ غَيْرُ مَأْجُورٍ وَلَا آثِمٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُ آثِمٍ بَلْ هو مَأْجُورٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا قال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَوْلَا هذه الْآيَةُ لَرَأَيْت أَنَّ الْحُكَّامَ قد هَلَكُوا ثُمَّ وَعَلَى مَاذَا يُؤْجَرُ اخْتَلَفُوا فقال الْمَاوَرْدِيُّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَأْجُورٌ على الِاجْتِهَادِ وَإِنْ أَخْطَأَ فيه لِقَصْدِهِ الصَّوَابَ وَإِنْ لم يَظْفَرْ بِهِ إنَّمَا لَا يُؤْجَرُ على الْخَطَأِ لِأَنَّ الْأَجْرَ لِلتَّرْغِيبِ في الْمُثَابِ وَلَا تَرْغِيبَ في الْخَطَأِ قال أبو إِسْحَاقَ وَيَجُوزُ أَنْ يُؤْجَرَ على قَصْدِهِ وَإِنْ كان الْفِعْلُ خَطَأً كما لو اشْتَرَى رَقَبَةً فَأَعْتَقَهَا تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ ثُمَّ وَجَدَهَا حُرَّةَ الْأَصْلِ بَعْدَ تَلَفِ ثَمَنِهَا وهو مَأْجُورٌ وَإِنْ لم يَصِحَّ شِرَاؤُهُ وَعِتْقُهُ لم يَقَعْ لِمَا أتى بِهِ من الْقَصْدِ إلَى فَكِّ الرَّقَبَةِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ قال وقد نَصَّ الشَّافِعِيُّ على هذا وَأَيْضًا لَا بُدَّ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْدِلَ في اجْتِهَادِهِ عن طُرُقٍ فَاسِدَةٍ فَيَفْتَحَ له فَاسِدَهَا إلَى طُرُقٍ مُسْتَقِيمَةٍ يَظُنُّ فيه الْحَقَّ فَعُدُولُهُ عن تِلْكَ الطَّرِيقَةِ الْفَاسِدَةِ اجْتِهَادٌ صَحِيحٌ فَأُثِيبَ على ذلك قال أبو إِسْحَاقَ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرَ أَنَّهُ يُؤْجَرُ على نِيَّتِهِ وَعَلَى نَفْسِ الِاجْتِهَادِ وَلَا يُؤْجَرُ على الْحُكْمِ لِخَطَئِهِ فيه فَأَمَّا اجْتِهَادُهُ بِمَا بَلَغَ فيه فَصَوَابٌ وما بَقِيَ عليه من اجْتِهَادِهِ إلَى بُلُوغِ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فَهُوَ مَعْذُورٌ في تَخَلُّفِهِ عنه لِأَنَّ فَهْمَهُ بَلَغَ فيه بَعْضَ طُرُقِهِ ولم يَبْلُغْ بِهِ أَقْصَى ما طَلَبَهُ وهو فِيمَا إذَا أتى بِهِ منه مَأْجُورٌ وَمُصِيبٌ فيه وَمَنْزِلَتُهُ مَنْزِلَةُ الْحَاجِّ الذي أُمِرَ بِقَطْعِ الْمَسَافَةِ لِيَبْلُغَ بِهِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ فَسَلَكَ بَعْضَ الطَّرِيقِ وَضَعُفَ عن
____________________
(4/545)
بَاقِيهِ وَتَلِفَتْ رَاحِلَتُهُ يُؤْجَرُ على الْقَدْرِ الذي قَصَدَهُ وَعَبَّرَ الْقَفَّالُ عن هذا فقال لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ في قَصْدِهِ الْخَطَأَ الْمَوْضُوعَ عنه وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ على إنْشَاءِ قَصْدِ الثَّوَابِ وَمِثَالُهُ أَنْ يَقُومَ لِيَخْرُجَ إلَى مَكَّةَ فَأَخْطَأَ في وَصْفِ الطَّرِيقِ وَعَدَلَ إلَى طَرِيقٍ آخَرَ فَثَوَابُهُ من ابْتِدَاءِ قَصْدِهِ إلَى مَوْضِعِ عُدُولِهِ عن الْخَطَأِ قال وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ لَا يُؤْجَرُ على الْخَطَأِ إنَّمَا لَا يُؤْجَرُ على قَصْدِ الثَّوَابِ وقد قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ من عَمَلِهِ وَلَهُ ثَلَاثُ احْتِمَالَاتٍ أَحَدُهَا أَنَّ نِيَّتَهُ في الِاجْتِهَادِ خَيْرٌ من خَطَئِهِ في الِاجْتِهَادِ وَثَانِيهَا أَنَّ نِيَّتَهُ خَيْرٌ من صَوَابِ عَمَلِهِ وَثَالِثُهَا أَنَّ النِّيَّةَ أَوْسَعُ من الْعَمَلِ لِأَنَّهَا تَسْبِقُ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ فَتُعَجِّلُ عليها وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ ما قَالَهُ أبو إِسْحَاقَ أَوَّلًا أَصَحُّ لِأَنَّ ذلك الِاجْتِهَادَ هو خِلَافُ الِاجْتِهَادِ الذي يُصِيبُ بِهِ الْحَقَّ لِأَنَّهُ لو وَصَفَهُ في صِفَتِهِ وَرَتَّبَهُ على تَرْتِيبِهِ لَقَضَى بِهِ إلَى الْحَقِّ فَلَا يُؤْجَرُ عليه وَلَا على بَعْضِ أَجْزَائِهِ وقال أبو عبد اللَّهِ الطَّبَرِيُّ في الْعُدَّةِ يُثَابُ الْمُخْطِئُ على مَاذَا فيه قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا على الِاجْتِهَادِ كَرَجُلَيْنِ سَلَكَا الْجَامِعَ من طَرِيقَيْنِ قَصَدَ أَحَدُهُمَا الطَّرِيقَ أُثِيبَ عليه وَإِنْ لم يَصِلْ إلَى الْجَامِعِ والثاني على الْقَصْدِ كَرَجُلَيْنِ رَمَيَا إلَى كَافِرٍ فَأَصَابَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ يُثَابُ الْمُخْطِئُ على الْقَصْدِ وَحَكَاهَا الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا بِخُرَاسَانَ ثُمَّ قال وَإِطْلَاقُ الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ على ما بَيَّنْت وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الذي ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَئِمَّةُ أَنَّهُ لَا يُؤْجَرُ على الْخَطَأِ بَلْ على قَصْدِهِ الصَّوَابَ وَقِيلَ بَلْ على اسْتِدَادِهِ في تَقَصِّي النَّظَرِ فإن الْمُخْطِئَ يَسْتَدُّ أَوَّلًا ثُمَّ يَزُولُ قال وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّ الْمُخْطِئَ قد يَحِيدُ في الْأَوَّلِ عن سُنَنِ الصَّوَابِ ثُمَّ هو مَأْجُورٌ بِحُكْمِ الْخَبَرِ لِقَصْدِ الصَّوَابِ وَإِنْ أَخْطَأَهُ وقال الرَّافِعِيُّ في الشَّرْحِ ثُمَّ الْأَجْرُ على مَاذَا فيه وَجْهَانِ عن أبي إِسْحَاقَ
____________________
(4/546)
الْمَرْوَزِيِّ أَحَدُهُمَا وهو ظَاهِرُ النَّصِّ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ وَأَبِي الطَّيِّبِ أَنَّهُ على الْقَصْدِ إلَى الصَّوَابِ دُونَ الِاجْتِهَادِ لِأَنَّهُ أَفْضَى بِهِ إلَى الْخَطَأِ فَكَأَنَّهُ لم يَسْلُكْ الطَّرِيقَ الْمَأْمُورَ بِهِ قُلْت حَكَاهُ الْمُزَنِيّ في كِتَابِ ذَمِّ التَّقْلِيدِ عن النَّصِّ فقال قال الشَّافِعِيُّ في الحديث إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ لَا يُؤْجَرُ على الْخَطَأِ في الدِّينِ لم يُؤْمَرْ بِهِ أَحَدٌ وَإِنَّمَا يُؤْجَرُ لِإِرَادَتِهِ الْحَقَّ الذي أَخْطَأَهُ قال الْمُزَنِيّ فَقَدْ ثَبَتَ الشَّافِعِيُّ في هذا أَنَّ الْمُخْطِئَ أَحْدَثَ في الدِّينِ ما لم يُؤْمَرْ بِهِ ولم يُكَلِّفْهُ وَإِنَّمَا أَجْرُهُ على نِيَّتِهِ لَا على خَطَئِهِ انْتَهَى وَشَبَّهَهُ الْقَفَّالُ في الْفَتَاوَى بِرَجُلَيْنِ رَمَيَا إلَى كَافِرٍ فَأَخْطَأَ أَحَدُهُمَا يُؤْجَرُ على قَصْدِهِ الْإِصَابَةَ بِخِلَافِ السَّاعِي إلَى الْجُمُعَةِ إذَا فَاتَتْهُ يُؤْجَرُ على الْقَصْدِ وَإِنْ لم يَنَلْ ثَوَابَ الْعَمَلِ والثاني أَنَّهُ يُؤْجَرُ على الْقَصْدِ وَالِاجْتِهَادِ جميعا لِأَنَّهُ بَذَلَ وُسْعَهُ في طَلَبِ الْحَقِّ وَالْوُقُوفِ عليه وَرُبَّمَا سَلَكَ الطَّرِيقَ في الِابْتِدَاءِ ولم يَتَيَسَّرْ له الْإِتْمَامَ قال ابن الرِّفْعَةِ وَهَذَا مُنَاسِبٌ إذَا سَلَكَهُ في الِابْتِدَاءِ فَإِنْ حَادَ عنه في الْأَوَّلِ تَعَيَّنَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ بِأَنَّهُ لو كان الْقَصْدُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عُشْرَ أَجْرِ الْمُصِيبِ لِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ من هَمَّ بِحَسَنَةٍ ولم يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ له حَسَنَةٌ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ له عَشْرُ حَسَنَاتٍ قُلْت وقد جاء ذلك مُصَرَّحًا بِهِ في مُسْنَدِ أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وقد سَبَقَ بَيَانُ حَالِهِ في مَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِ في زَمَانِهِ قال الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ في الرَّجُلِ يَطَأُ أَمَتَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ أنها أُخْتُهُ أَمَّا في الْغَيْبِ فلم تَزَلْ أُخْتَهُ أَوَّلًا وَآخِرًا وَأَمَّا في الظَّاهِرِ فَكَانَتْ له حَلَالًا ما لم يَعْلَمْ وَعَلَيْهِ حَرَامٌ حين عَلِمَ وَقِيلَ له إنَّ غَيْرَك يقول إنَّهُ لم يَزَلْ آثِمًا بِإِصَابَتِهَا وَلَكِنَّ الْإِثْمَ مَرْفُوعٌ عنه
____________________
(4/547)
مَسْأَلَةٌ نُقِلَ عن دَاوُد وَأَصْحَابِ الظَّاهِرِ أَنَّ كُلَّ من أَفْتَى في حَادِثَةٍ بِحُكْمٍ يُرِيدُ بِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ فَهُوَ مُصِيبٌ سَوَاءٌ كان مُجْتَهِدًا أو لم يَكُنْ وَهَذَا يَزِيدُ على الْعَنْبَرِيِّ لِأَنَّ ذَاكَ صَوَّبَ كُلَّ مُجْتَهِدٍ في الْأَصْلِ وَهَذَا صَوَّبَ في كل شَيْءٍ وَإِنْ لم يَكُنْ مُجْتَهِدًا بَعْدَمَا بَذَلَ وُسْعَهُ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ من صَوَّبَ الْمُجْتَهِدِينَ شَرَطَ في ذلك أَنْ لَا يَكُونَ مَذْهَبُ الْخَصْمِ مُسْتَنِدًا إلَى دَلِيلٍ يَنْقُضُ الْحُكْمَ الْمُسْتَنِدَ إلَيْهِ قَالَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ في قَوَاعِدِهِ قال وَلِهَذَا لم يَكُنْ شُرْبُ الْحَنَفِيِّ لِلنَّبِيذِ مُبَاحًا وَإِنْ قُلْنَا بِتَصْوِيبِهِمْ وقد أَوْرَدَ على الْقَائِلِينَ بِهِ قَوْلَهُمْ إنَّهُ لَا حُكْمَ في النَّازِلَةِ مُعَيَّنًا فَصَارَ كَمَنْ يقول ليس في الْبَيْتِ مَتَاعٌ وَكُلُّ من وَجَدَ فيه مَتَاعًا وَجَدَهُ وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ يَعْنِي لَا حُكْمَ أَيْ مُعَيَّنًا فيها فَيُدْرَكُ قبل الطَّلَبِ كما يُدْرَكُ بِغَيْرِ طَلَبٍ من النَّصِّ الظَّاهِرِ بَلْ فيها حُكْمٌ لها وَلِغَيْرِهَا يُدْرِكُهُ الْمُجْتَهِدُ عِنْدَ تَصَفُّحِ قَوَانِينِ الشَّرْعِ الْكُلِّيَّةِ تَلْحَقُ بها الْجُزَيْئَاتُ فَفِي كل مَسْأَلَةٍ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ على هذا الْوَجْهِ قال تَعَالَى ما فَرَّطْنَا في الْكِتَابِ من شَيْءٍ الثَّانِي قِيلَ على أُصُولِ الْمُصَوِّبَةِ إنَّا نَقْطَعُ بِالْأَحْكَامِ وَإِنَّ الْمُخَطِّئَةَ تَظُنُّهَا ظَنًّا قال ابن الْمُنَيَّرِ وهو عِنْدِي وَهْمٌ على الْقَوْمِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُصَوِّبَةَ تَقُولُ لَا يَكْفِيهِ أَيُّ ظَنٍّ كان بَلْ لَا بُدَّ من اجْتِهَادٍ وَبَذْلِ وَسْعٍ في تَصْحِيحِ الْمُقْتَضَى وَتَحْقِيقِ الشَّرْطِ وَرَفْعِ الْمُعَارَضَاتِ بِحَيْثُ لو دخل بِذَلِكَ لَكَانَ مُخْطِئًا آثِمًا الثَّالِثُ قِيلَ الدَّلِيلُ على أَنَّهُ ليس كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا قَوْلُ من قال من الْمُجْتَهِدِينَ ليس كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا لِأَنَّهُ إنْ أَصَابَ فما قَالَهُ حَقٌّ وَإِنْ أَخْطَأَ فَقَدْ نَقَضَ قَوْلَهُ فلم يَكُنْ كُلُّ مُجْتَهِد مُصِيبًا وَلَك في حَلِّ هذه الشُّبْهَةِ طُرُقٌ إحْدَاهَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ كما صَرَّحَ بِهِ الْأُصُولِيُّونَ وَالْخِلَافُ في أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ إنَّمَا هو في الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ أَمَّا الْمَسَائِلُ الْأُصُولِيَّةُ الْقَطْعِيَّةُ فَالْمُصِيبُ فيها وَاحِدٌ قَطْعًا الثَّانِيَةُ يَلْتَزِمُ أَنَّهُ مُصِيبٌ في قَوْلِهِ ليس كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا وَلَكِنْ لَمَّا قُلْت أَنَّهُ
____________________
(4/548)
يَلْزَمُ من ذلك أَنْ يَكُونَ الْوَاقِعُ في نَفْسِ الْأَمْرِ ليس إلَّا أَنَّهُ ليس كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا وَقَوْلُك أَنَّهُ مُصِيبٌ قُلْنَا وَكَذَلِكَ خَصْمُهُ أَيْضًا مُصِيبٌ بِنَاءً على الْقَوْلِ الْمُصَوِّبِ بِحُكْمِ اللَّهِ في حَقِّ هذا أَنَّهُ ليس كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا غير أَنَّهُ في حَقِّ خَصْمِهِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ الرَّابِعُ سَلَّمْنَا أَنَّ هذه الْمَسْأَلَةَ من الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الْفِقْهِيَّةِ لَكِنْ ما الذي يَعْنِي الْقَائِلُ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ إمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ بُطْلَانَ قَوْلِ الْقَائِلِ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ أو يَعْتَقِدَ صِحَّتَهُ وَإِنْ عَنَيْت بِالْبَاطِلِ ما لَا يَكُونُ مُطَابِقًا لِمَا في نَفْسِ الْأَمْرِ وَبِالصِّحَّةِ ما يَكُونُ مُطَابِقًا له فَهُوَ فَاسِدٌ مِنَّا لِأَنَّهُ مَحَلُّ النِّزَاعِ كَيْفَ وَأَنَّ مَذْهَبَ الْقَائِلِ بِتَصْوِيبِ الْجَمِيعِ أَنَّهُ لَا حُكْمَ له أَصْلًا وَإِنَّمَا الْأَحْكَامُ تَابِعَةٌ لِظُنُونِ الْمُجْتَهِدِينَ وَإِنْ عَنَيْت بِالْبَاطِلِ وَالْحَقِّ ما في ظَنِّ الْمُجْتَهِدِينَ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ في الْوَاقِعَةِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ في نَفْسِ الْأَمْرِ فَجَمِيعُ الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ على هذا التَّقْدِيرِ حَقٌّ وَصَوَابٌ فَإِذًا الْقَوْلُ بِتَصْوِيبِ الْكُلِّ وَعَدَمِهِ حَقٌّ وَصَوَابٌ لِأَنَّهُ غَالِبٌ على ظَنِّ تَقْيِيدِهِ الْخَامِسُ إنَّ من فُرُوعِ هذه الْمَسْأَلَةِ اقْتِدَاءَ الشَّافِعِيِّ كما قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ وَالْأَصَحُّ فيه الصِّحَّةُ إلَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ إخْلَالُهُ بِمَا يَشْتَرِطُهُ وَيُوجِبُهُ لِأَنَّا نَقْطَعُ بِالْمُخَالَفَةِ حِينَئِذٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا رَاجِحًا عِنْدَهُ وَلِهَذَا قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ لَا يَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يُفَوِّضَ الْقَضَاءَ إلَى الْحَنَفِيِّ في مَسْأَلَةٍ يَعْتَقِدُ الْمُفَوِّضُ أَنَّ مَذْهَبَ أبي حَنِيفَةَ فيها غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ يُعِينُ على ما يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ قال وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُفَوِّضَ إلَيْهِ الْحُكْمَ فيها لِاحْتِمَالِ أَنْ يَتَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فَيُوَافِقُ الشَّافِعِيَّ فَلَا يَكُونُ الْمُفَوِّضُ عِنْدَ التَّفْوِيضِ مُعِينًا على ما يَعْتَقِدُ مَنْعَهُ فُرُوعٌ الْأَوَّلُ قد رَاعَى الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ خِلَافَ الْخَصْمِ في مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ وهو إنَّمَا يَتَمَشَّى على الْقَوْلِ بِأَنَّ مُدَّعِيَ الْإِصَابَةِ لَا يَقْطَعُ بِخَطَأِ مُخَالِفِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَمَّا كان يَجُوزُ خِلَافُ ما غَلَبَ على ظَنِّهِ وَنَظَرَ في مُتَمَسِّكِ خَصْمِهِ فَرَأَى له مَوْقِعًا رَاعَاهُ على وَجْهٍ لَا يُخِلُّ بِمَا غَلَبَ على ظَنِّهِ وَأَكْثَرُهُ من بَابِ الِاحْتِيَاطِ وَالْوَرَعِ وَهَذَا من دَقِيقِ النَّظَرِ وَالْأَخْذِ بِالْحَزْمِ وقال الْقُرْطُبِيُّ وَلِذَلِكَ رَاعَى مَالِكٌ الْخِلَافَ قال وَتَوَهَّمَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ يُرَاعِي صُورَةَ الْخِلَافِ وهو جَهْلٌ أو عَدَمُ إنْصَافٍ وَكَيْفَ هذا وهو لم يُرَاعِ كُلَّ خِلَافٍ وَإِنَّمَا رَاعَى خِلَافًا لِشِدَّةِ قُوَّتِهِ
____________________
(4/549)
قُلْت وقد يُرَاعِي الشَّافِعِيُّ الْخِلَافَ الْمُشَدَّدَ على نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ وَلِهَذَا لَمَّا قَرَّرَ الْقَصْرَ على مَرْحَلَتَيْنِ قال فَأَمَّا أنا فَأُحِبُّ أَنْ لَا أَقْصُرَ في أَقَلَّ من ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ احْتِيَاطًا على نَفْسِي قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وهو كَقَوْلِهِ إذَا مَرِضَ الْإِمَامُ أَنَّهُ يُصَلِّي قَاعِدًا وَالنَّاسُ قِيَامٌ خَلْفَهُ ولَا أُفَضِّلُ له أَنْ يَسْتَخْلِفَ من يُصَلِّي بِهِمْ حتى يَخْرُجَ من الْخِلَافِ وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ على أَنَّ الْإِبْيَارِيَّ اسْتَشْكَلَ اسْتِحْبَابَ الْخُرُوجِ من الْخِلَافِ فإن الْأُمَّةَ إذَا اخْتَلَفَتْ على قَوْلَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ التَّرْكَ مُتَعَلِّقٌ بِالثَّوَابِ وَالْفِعْلُ جَائِزٌ قَوْلٌ لم يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ نعم الْوَرَعُ يَلِيقُ بِهِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ عَيْنَ الْخِلَافِ لَا يَنْتَصِبُ شُبْهَةً وَلَا يُرَاعَى بَلْ النَّظَرُ إلَى الْمَأْخَذِ وَقُوَّتِهِ قال الرُّويَانِيُّ في بَابِ الشَّهَادَاتِ من الْبَحْرِ لو كان الْخِلَافُ بِنَفْسِهِ يَنْتَصِبُ شُبْهَةً لَاسْتَوَتْ الْمَسْأَلَتَانِ يَعْنِي مَسْأَلَةَ إيجَابِ الْحَدِّ على الْحَنَفِيِّ بِشُرْبِ النَّبِيذِ وَشَهَادَتِهِ وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ في الدَّلَائِلِ الثَّانِي لو كان الزَّوْجَانِ مُجْتَهِدَيْنِ فَخَاطَبَهَا الزَّوْجُ بِلَفْظَةٍ نَوَى بها الْكِنَايَةَ في الطَّلَاقِ وَلَا نِيَّةَ وَتَرَى الْمَرْأَةُ أنها صَرِيحَةٌ فيه فَلِلزَّوْجِ طَلَبُ الِاسْتِمْتَاعِ بها وَلَهَا الِامْتِنَاعُ منه عَمَلًا مع كُلٍّ مِنْهُمَا بِمُقْتَضَى اجْتِهَادِهِ وَطَرِيقُ قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا أَنْ يُرَاجِعَا مُجْتَهِدًا آخَرَ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ سَوَاءٌ قُلْنَا الْمُصِيبُ وَاحِدٌ أَمْ كُلٌّ مُصِيبٌ فَإِنْ كَانَا مُقَلِّدَيْنِ قَلَّدَ من شَاءَ فَإِنْ اخْتَلَفَا يُخَيَّرُ إنْ اسْتَوَيَا وَإِلَّا فَيُقَلِّدُ الْأَعْلَمَ وَالْأَوْرَعَ وَإِنْ كانت تَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ عَمِلَ بِمَا قُلْنَا في الْمُجْتَهِدِينَ هَكَذَا قال في الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ وَأَمَّا الْقَاضِي فذكر في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ أَنَّ من الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ من صَارَ في هذه الصُّورَةِ إلَى الْوَقْفِ حتى يَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي فَعَلَى هذا يَكُونُ حُكْمُ اللَّهِ فيها هو الْوَقْفُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا حتى يَرْفَعَ أَمْرَهَا إلَى الْقَاضِي فَيَنْزِلَهَا على اعْتِقَادِ نَفْسِهِ وَهَذَا حُكْمُ اللَّهِ حِينَئِذٍ وَمِنْهُمْ من قال تُسَلَّمُ الْمَرْأَةُ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَإِنْ نَكَحَهَا نِكَاحًا يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ وهو السَّابِقُ بِهِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هذا هو الْحُكْمُ قال وَهَذِهِ الصُّورَةُ وَأَمْثَالُهَا من الْمُجْتَهِدَاتِ وَفِيهَا تَقَابُلُ الِاحْتِمَالَاتِ فَيَجْتَهِدُ الْمُجْتَهِدُ فيها عِنْدَنَا وما أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَهُوَ حَقٌّ من وَقْفٍ أو تَقْدِيمٍ أو غَيْرِهِمَا من وُجُوهِ الْجَوَابِ
____________________
(4/550)
الثَّالِثُ وَلَا يُنْقَضُ الِاجْتِهَادُ بِالِاجْتِهَادِ وَإِلَّا يُؤَدِّي إلَى نَقْضِ النَّقْضِ وَيَتَسَلْسَلُ فَتَضْطَرِبُ الْأَحْكَامُ وَلَا يُوثَقُ فيها فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ خَالَعَ امْرَأَتَهُ وَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ فَتَزَوَّجَهَا الرَّابِعَةَ بَعْدَ ذلك بِمُقْتَضَى هذا الِاعْتِقَادِ من غَيْرِ مُحَلِّلٍ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ وَأَدَّاهُ إلَى أَنَّهُ طَلَاقٌ فَإِنْ تَغَيَّرَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِمُقْتَضَى الِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ لم يَنْقَضِ بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي بَلْ يَبْقَى على النِّكَاحِ وَإِنْ تَغَيَّرَ قبل الْقَضَاءِ بِالصِّحَّةِ وَجَبَ عليه مُفَارَقَتُهَا لِأَنَّ الْمُصَاحِبَ الْآنَ قَاضٍ بَانَ اجْتِهَادُهُ الْأَوَّلُ خَطَأً فَيُعْمَلُ بِهِ وَلَيْسَ هذا نَقْضَ الِاجْتِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ بَلْ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ هَكَذَا ذَكَرَهُ في الْمُسْتَصْفَى وَالْمَحْصُولِ وَالْمِنْهَاجِ وَقَوْلُهُ في الْحَاكِمِ مَبْنِيٌّ على أَنَّ حُكْمَهُ يَنْفُذُ بَاطِنًا وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ من فِرَاقِهِ إيَّاهَا نَقْضُ حُكْمِ الْحَاكِمِ لِأَنَّ هذا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَمْرِهِ في خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ عن الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ تَسْرِيحُهَا ولم يذكر هذا التَّفْصِيلَ ثُمَّ قال وَأَبْدَى تَرَدُّدًا فِيمَا إذَا فَعَلَ الْمُقَلِّدُ مِثْلَ ذلك ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ مُقَلَّدِهِ قال وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَوَابَ كَذَلِكَ لو تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُقَلِّدِ في الصَّلَاةِ فإنه يَتَحَوَّلُ وَهَذَا الذي قَالَهُ الْغَزَالِيُّ نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عن الصَّيْمَرِيِّ وَالْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ قال وَلَا نَعْلَمُ فيه خِلَافًا لِأَصْحَابِنَا هذا فِيمَا إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ في حَقِّ نَفْسِهِ فَلَوْ تَغَيَّرَ في حَقِّ غَيْرِهِ كما لو أَفْتَى مُقَلِّدُهُ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْمُخْتَلِعَةِ ثَلَاثًا وَنَكَحَهَا الْمُقَلِّدُ عَمَلًا بِقَوْلِهِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ قال في الْمَحْصُولِ وَالْإِحْكَامِ وَتَبِعَهُ الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ عليه تَسْرِيحُهَا كما في حَقِّ نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ بِخِلَافِ قَضَاءِ الْقَاضِي فإنه مَتَى اتَّصَلَ بِالْحُكْمِ الْمُجْتَهَدِ فيه اسْتَقَرَّ ولم يَكُنْ له النَّقْضُ عِنْدَ تَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ وقال صَاحِبُ الْمَحْصُولِ لو نَكَحَ رَجُلٌ نِكَاحًا في مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ ثُمَّ اسْتَفْتَى فَأَفْتَاهُ بِالْإِفْسَادِ فَهَلْ تَبِينُ الْمَرْأَةُ على الزَّوْجِ لِمُجَرَّدِ الْفَتْوَى فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا نعم وَالثَّانِي لَا حتى يَقْضِيَ الْقَاضِي قُلْت وَحَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ في بَابِ الِامْتِنَاعِ عن الْيَمِينِ عن رِوَايَةِ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ قال وَذَكَرَ وَجْهًا ثَالِثًا مُفَصَّلًا فقال إنْ صَحَّحَ النِّكَاحُ قَاضٍ فَالْفَتْوَى لَا تَرْفَعُهُ وَإِنْ لم يَتَّصِلْ تَصْحِيحُهُ بِقَضَاءِ قَاضٍ ارْتَفَعَ بِالْفَتْوَى وَحَكَاهَا الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا في
____________________
(4/551)
بَابِ عَدَدِ الشُّهُودِ قال وَهَذَا إذَا اعْتَمَدَ في الْعَقْدِ الْفَتْوَى فَلَوْ كان الْحَاكِمُ مُتَوَلِّيَهُ لم يَرْتَفِعْ إلَّا بِحُكْمِهِ وَخَصَّ الْخِلَافَ بِمَا إذَا لم يَكُونَا مُجْتَهِدَيْنِ فَإِنْ كان الزَّوْجَانِ مُجْتَهِدَيْنِ وَاخْتَلَفَا فَلَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَجَزَمَ ابن السَّمْعَانِيِّ بِأَنَّ الْمُفْتِيَ إذَا أَفْتَاهُ بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ لَا يَلْزَمُهُ تَعْرِيفُ الْمُسْتَفْتَى بِتَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ إذَا كان قد عَمِلَ بِهِ وَإِلَّا فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَهُ إنْ تَمَكَّنَ منه لِأَنَّ الْعَامِّيَّ إنَّمَا يَعْمَلُ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ وقد خَرَجَ عن ذلك فَيَنْبَغِي أَنْ يُخْبِرَهُ عن قَوْلِهِ وَلَوْ قال مُجْتَهِدٌ لِلْمُقَلِّدِ وَالصُّورَةُ هذه أَخْطَأَ بِهِ من قَلَّدْتَهُ فَإِنْ كان الذي قَلَّدَهُ أَعْلَمَ فَهُوَ كما لو تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ مُقَلِّدِهِ وَإِلَّا فَلَا أَثَرَ له قال النَّوَوِيُّ وَهَذَا ليس بِشَيْءٍ بَلْ الْوَجْهُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَلَا أَثَرَ لِقَوْلِ الثَّانِي الرَّابِعُ حَيْثُ كانت حُجَّةُ الْحُكْمِ قَطْعِيَّةً فَالْمُخْتَارُ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ إذَا وَقَعَ بِخِلَافِهِ يُنْتَقَضُ بِخِلَافِ الظَّنِّيَّةِ وَقِيلَ في جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَعَلَى هذا قَوْلُ من يَجْعَلُ على الْحَاكِمِ دَلِيلًا قَاطِعًا وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ قال لَا يُنْقَضُ في شَيْءٍ من الْأَحْكَامِ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ في الِاجْتِهَادِيَّاتِ وَإِنْ قُلْنَا الْمُصِيبُ وَاحِدٌ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهِ وَمِنْهُ ما لو حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ لِدَلِيلٍ أو أَمَارَةٍ ثُمَّ ظَهَرَ له أَمَارَةٌ تُسَاوِي الْأُولَى وَكَذَا ما هو أَرْجَحُ من الْأُولَى لَكِنْ لَا يَنْتَهِي إلَى ظُهُورِ النَّصِّ وَإِنْ كان لو قَارَنَ لَوَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ لِأَنَّ الرُّجْحَانَ حَاصِلٌ حَالَ الْحُكْمِ أَمَّا لو ظَهَرَ نَصٌّ أو إجْمَاعٌ أو قِيَاسٌ جَلِيٌّ بِخِلَافِهِ نُقِضَ هو وَغَيْرُهُ لِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ فلم يَنْقُضْهُ الظَّنُّ وَإِنَّمَا نُقِضَ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ على تَقْدِيمِ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ على الِاجْتِهَادِ فَهُوَ آمِرٌ لو قَارَنَ الْعِلْمَ بِهِ لَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ قَطْعًا فَكَذَلِكَ نُقِضَ بِهِ قال ابن الرِّفْعَةِ وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ في الْأُمِّ مُصَرِّحٌ بِأَنَّ مُرَادَهُ بِالنَّصِّ الذي يُنْتَقَضُ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي إذَا خَالَفَهُ هو الظَّاهِرُ خَاتِمَةٌ مَضَى الْكَلَامُ على الْخِلَافِ في الْعَقَائِدِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَهَكَذَا اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْكُلَّ مُصِيبٌ لِصِحَّةِ الْكُلِّ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَخِلَافُهُمْ إنَّمَا هو في الِاخْتِيَارِ وَمَنْ قَرَأَ عن إمَامٍ لَا يَمْنَعُ الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْحَقَّ في الْقِرَاءَاتِ كُلِّهَا ابن فُورَكٍ في كِتَابِهِ في الْأُصُولِ قال وَلَيْسَتْ كَالْأَحْكَامِ لِأَنَّهَا غَيْرُ
____________________
(4/552)
مُتَضَادَّةٍ وَأَحْكَامُ الْقِرَاءَاتِ لَا يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَارَةِ بها مَعًا في زَمَنٍ وَاحِدٍ وَنَظِيرُ قِرَاءَةِ وما هو على الْغَيْبِ بِظَنِينٍ وما هو على الْغَيْبِ بِضَنِينٍ نَظِيرُ من قال هو حَلَالٌ وقال الْآخَرُ هو مِثْلُهُ لَا نَظِيرَ من قال هو حَلَالٌ وقال الْآخَرُ هو حَرَامٌ
____________________
(4/553)
التَّقْلِيدُ مَأْخُوذٌ من الْقِلَادَةِ التي يُقَلِّدُ غَيْرَهُ بها وَمِنْهُ قَلَّدْت الْهَدْيَ فَكَأَنَّ الْحُكْمَ في تِلْكَ الْحَادِثَةِ قد جُعِلَ كَالْقِلَادَةِ في عُنُقِ من قُلِّدَ فيه وَاخْتَلَفُوا في حَقِيقَتِهِ هل هو قَبُولُ قَوْلِ الْقَائِلِ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ من أَيْنَ قَالَهُ أَيْ من كِتَابٍ أو سُنَّةٍ أو قِيَاسٍ أو قَبُولِ الْقَوْلِ من غَيْرِ حُجَّةٍ تَظْهَرُ على قَوْلِهِ وَجَزَمَ الْقَفَّالُ في شَرْحِ التَّلْخِيصِ بِالْأَوَّلِ وَالشَّيْخُ أبو حَامِدٍ في تَعْلِيقِهِ وَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ بِالثَّانِي وَعَلَيْهِ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ وَتَنْبَنِي عَلَيْهِمَا مَسْأَلَتَانِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى أَنَّ الْعَمَلَ بِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم هل يُسَمَّى تَقْلِيدًا وَفِيهِ وَجْهَانِ فَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي فَلَا يُسَمَّى تَقْلِيدًا لِأَنَّهُ قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم نَفْسُ الْحُجَّةِ كَذَا قال ابن الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ وَتَرَدَّدَ فيه ابن دَقِيقِ الْعِيدِ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالسَّبَبِ الذي قِيلَ فيه خُصُوصُ ذلك السَّبَبِ وَعَيْنِهِ فَهَذَا مُتَوَجِّهٌ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اتِّبَاعُهُمْ تَقْلِيدًا وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَمْرٌ أَعَمُّ من هذا فَإِنْ قُلْنَا إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَجْتَهِدُونَ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ سَبَبَ أَقْوَالِهِمْ الْوَحْيُ فَلَا يَكُونُ تَقْلِيدًا أَيْضًا على الْأَوَّلِ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُمْ يَجْتَهِدُونَ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ السَّبَبَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إمَّا الْوَحْيُ أو الِاجْتِهَادُ وَعَلَى كل تَقْدِيرٍ فَقَدْ عَلِمْنَا السَّبَبَ وَاجْتِهَادُهُمْ مَعْلُومُ الْعِصْمَةِ قُلْت وَيَشْهَدُ له أَنَّ الْقَفَّالَ بَنَى الْخِلَافَ في تَسْمِيَتِهِ مُقَلِّدًا على الْخِلَافِ في أَنَّهُ هل كان عليه السَّلَامُ يقول عن قِيَاسٍ فَإِنْ كان يَقُولُهُ وهو الْأَصَحُّ فَيُقَلَّدُ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى أَقَالَهُ عن وَحْيٍ أو قِيَاسٍ وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْعِ فَلَيْسَ بِتَقْلِيدٍ وقال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في التَّعْلِيقِ لَا خِلَافَ أَنَّ قَبُولَ قَوْلِ غَيْرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يُسَمَّى تَقْلِيدًا وَأَمَّا قَبُولُ قَوْلِهِ عليه السَّلَامُ فَهَلْ يُسَمَّى تَقْلِيدًا وَجْهَانِ يَنْبَنِيَانِ على الْخِلَافِ في حَقِيقَةِ التَّقْلِيدِ مَاذَا قُلْت وَذَكَرَ الشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ في الْمَسْأَلَةِ في أَوَّلِ السِّلْسِلَةِ أَنَّ الذي نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ يُسَمَّى تَقْلِيدًا فإنه قال في حَقِّ الصَّحَابِيِّ لَمَّا ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ ما نَصُّهُ فَإِمَّا أَنْ يُقَلِّدَهُ فلم يَجْعَلْ اللَّهُ ذلك لِأَحَدٍ بَعْدَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
____________________
(4/554)
انْتَهَى وَخَطَّأَ الْمَاوَرْدِيُّ من قال إنَّهُ ليس بِتَقْلِيدٍ وَلَكِنْ قال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ على جَعْلِ الْقَبُولِ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم تَقْلِيدًا ولم يُرِدْ حَقِيقَةَ التَّقْلِيدِ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْقَبُولَ من السُّؤَالِ عن وَجْهِهِ وفي وُقُوعِ اسْمِ التَّقْلِيدِ عليه وَجْهَانِ قال وَالصَّحِيحُ من الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ هذا الِاسْمُ وفي هذا إشَارَةٌ إلَى رُجُوعِ الْخِلَافِ إلَى اللَّفْظِ وَبِهِ صَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وقال هو اخْتِلَافٌ في عِبَارَةٍ يَهُونُ مَوْقِعُهَا عِنْدَ ذَوِي التَّحْقِيقِ وَاخْتَارَ ابن السَّمْعَانِيِّ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى تَقْلِيدًا بَلْ هو اتِّبَاعُ شَخْصٍ لِأَنَّ الدَّلِيلَ قد قام في أَنَّ له حُجَّةً فَلَا يَكُونُ قَبُولُ قَوْلِهِ قَبُولَ قَوْلٍ في الدِّينِ من قَائِلِهِ بِلَا حُجَّةٍ وَأَغْرَبَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ فَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ على أَنَّ الْآخِذَ بِقَوْلِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالرَّاجِعَ إلَيْهِ ليس بِمُقَلِّدٍ بَلْ هو صَائِرٌ إلَى دَلِيلٍ وَعِلْمٍ يَقِينٍ فَأَمَّا كَوْنُهُ صَائِرًا إلَى دَلِيلٍ وَعِلْمٍ يَقِينٍ فَلَا رَيْبَ فيه وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا يُسَمَّى تَقْلِيدًا فَمَرْدُودٌ بِالْخِلَافِ السَّابِقِ وقد قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ أَحَدٍ سِوَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَهَذَا نَصٌّ في أَنَّ الرَّسُولَ صلى اللَّهُ عليه وسلم يُقَلَّدُ بَلْ وفي أَنَّهُ لَا يُقَلَّدُ سِوَاهُ وَأَمَّا الْقَاضِي فإنه أَوَّلَ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وقال لَعَلَّهُ أَرَادَ بِتَقْلِيدِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ ليس لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ له من أَيْنَ قُلْت وَلَا لِمَ قُلْت ثُمَّ قال فَإِنْ كان أَرَادَ هَكَذَا فَكَذَا أَيْضًا جاء في الْعَامِّيِّ مع الْمُجْتَهِدِ فإنه لَا يَسْأَلُهُ من أَيْنَ قُلْت وإذا لم يَكُنْ الْعَامِّيُّ عنه مُقَلِّدًا فَلَا يَكُونُ أَيْضًا هذا كَذَلِكَ وَهَذَا الذي قَالَهُ الْقَاضِي مَمْنُوعٌ بَلْ الْأَصْحَابُ اخْتَلَفُوا في كَلَامِ الشَّافِعِيِّ على طُرُقٍ أَحَدُهَا تَأْوِيلُ من اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا تَقْلِيدَ في اتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَلَا في اتِّبَاعِ الْعَامِّيِّ الْمُجْتَهِدَ وَرَأْسُ هذه الطَّائِفَةِ الْقَاضِي وقد أَوَّلَهُ كما رَأَيْت وَتَبِعَهُ الْغَزَالِيُّ وَاتَّفَقَتْ هذه الطَّائِفَةُ على الِاعْتِضَادِ بهذا النَّصِّ من الشَّافِعِيِّ على أَنَّ اتِّبَاعَ الْعَامِّيِّ الْمُجْتَهِدَ ليس بِتَقْلِيدٍ فَجَرَتْ على ظَاهِرِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ في الْمُسْتَثْنَى دُونَ الْمُسْتَثْنَى منه وَتَصَرَّفَتْ في الْمُسْتَثْنَى بِالتَّأْوِيلِ إمَّا مع الِاعْتِرَاضِ كَالْقَاضِي أو لَا معه كَالْغَزَالِيِّ وثانيها فِرْقَةٌ اعْتَقَدَتْ أَنَّ الْعَامِّيَّ مُقَلِّدٌ وَأَنَّ الْأَخْذَ بِقَوْلِ النبي عليه السَّلَامُ مَقْبُولٌ ليس بِتَقْلِيدٍ وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ لم تَجْرِ على ظَاهِرِ النَّصِّ لَا في الْمُسْتَثْنَى وَلَا في الْمُسْتَثْنَى منه وَمِنْهُمْ ابن السَّمْعَانِيِّ فقال هذا مَذْكُورٌ على طَرِيقِ التَّوَسُّعِ لَا على طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَرَأْسُ هذه الطَّائِفَةِ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فقال في أَوَّلِ تَعْلِيقِهِ إذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ الْجَدِيدِ فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ أَحَدٍ بِحَالٍ وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في أَدَبِ الْقَضَاءِ إنَّهُ
____________________
(4/555)
لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَ أَحَدًا إلَّا الرَّسُولَ فَمَنْ فَهِمَ منه أَنَّ قَبُولَ قَوْلِهِ يُسَمَّى تَقْلِيدًا فَقَدْ غَلِطَ وَتَقْلِيدُ الرَّسُولِ لَا يَجُوزُ وَإِنَّمَا صُورَتُهُ صُورَةُ التَّقْلِيدِ وَلَيْسَ في الْحَقِيقَةِ تَقْلِيدٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ إنْ سُئِلَ عن شَيْءٍ فَأَجَابَ كان جَوَابُهُ في الصُّورَةِ مِثْلَ أَنْ يُسْأَلَ الشَّافِعِيُّ فَيُجِيبَ لَكِنَّ حَقِيقَةَ التَّقْلِيدِ قَبُولُ قَوْلِ الْمُجِيبِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ فَجَوَابُ الشَّافِعِيِّ لَا يُمْكِنُ هُنَا فَلَا بُدَّ فيه من الدَّلِيلِ وَجَوَابُ الرَّسُولِ بِعَيْنِهِ حُجَّةٌ وَدَلِيلٌ فَلَا يَكُونُ مِثْلُهُ في الْجَوَابِ انْتَهَى وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ لِلنَّصِّ تَأْوِيلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ تَقْلِيدُ أَحَدٍ بَعْدَ الرَّسُولِ بَلْ يَفْتَرِقُونَ فَعَالِمُهُمْ لَا يُقَلِّدُ وَعَامِّيُّهُمْ يُقَلِّدُ وَأَمَّا الرَّسُولُ فَنِسْبَةُ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ إلَيْهِ سَوَاءٌ وَالْكُلُّ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْجَاهِلِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ يَأْخُذُ بِقَوْلِهِ تَقْلِيدًا بَلْ لِأَنَّا قد قُلْنَا إنَّ لِلْعَامِّيِّ سُؤَالَ الْعَالِمِ عن مَأْخَذِهِ وَلَا كَذَلِكَ الرَّسُولُ فَلَيْسَ لِعَامِّيٍّ وَلَا لِلْعَالِمِ أَنْ يَقُولَ له لِمَ وَلَا من أَيْنَ وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَبْقَى لِكَلَامِ الشَّافِعِيِّ في الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى منه على ظَاهِرِهِ وَلَيْسَ فيه عَمَلٌ إلَّا في تَعْمِيمِ قَوْلِهِ أَحَدٍ على أَنَّ الْمَعْنَى كُلُّ أَحَدٍ وثانيهما إبْقَاءُ الْكَلَامِ على ظَاهِرِهِ من كل وَجْهٍ وهو مَبْنِيٌّ على أَنَّهُ لَا يُقَلَّدُ إلَّا الرَّسُولُ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَلَا يُقَلَّدُ وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى التَّقْلِيدِ أَنْ يُلْقِيَ الْمَرْءُ الْمَقَالِيدَ وَيَطْرَحَ كُلَّهُ وَيَجْعَلَ اعْتِمَادَهُ فِيمَا يَقَعُ له من الْحَوَادِثِ وفي تَفَرُّقِ حَمْلِهَا على الرَّسُولِ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِ في كل نَائِبَةٍ نُدْرَةٌ وَإِنَّمَا تَطْمَئِنُّ فِيمَنْ لَا يُخْطِئُ وَذَلِكَ هو من قَوْلُهُ حُجَّةٌ وهو الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه فَإِنْ قُلْت وَالرُّجُوعُ إلَى الْمُجْتَهِدِ رُجُوعٌ إلَيْهِ قِيلَ وَلَكِنْ لَا وُثُوقَ بِصَوَابِ الْمُجْتَهِدِ فَإِذًا لَا يُقَلَّدُ إلَّا الرَّسُولُ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَعَلَى هذا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ نَهْيُ الشَّافِعِيِّ عن التَّقْلِيدِ حَيْثُ قال الْمُزَنِيّ هذا مُخْتَصَرٌ اخْتَصَرْتُهُ من عِلْمِ الشَّافِعِيِّ وَمِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ مع عِلْمِهِ نَهْيُهُ عن تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ انْتَهَى فَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ يُقَلَّدُ وَعَلَى الثَّانِي لَا يُقَلَّدُ فَتْوَاهُ وَأَمَّا دَعْوَى الْقَاضِي الِاتِّفَاقَ على أَنَّ الرَّسُولَ لَا يُقَلَّدُ فَكَانَ الْحَامِلُ له على ذلك اعْتِقَادَهُ أَنَّ الْمُقَلِّدَ شَاكٌّ فِيمَنْ يُقَلِّدُهُ وَلَيْسَ ذلك عِنْدَنَا بَلْ الْمُقَلِّدُ لَا شَكَّ عِنْدَهُ لِوُثُوقِهِ بِالْمُقَلَّدِ الذي أَلْقَى بِتَقَالِيدِهِ إلَيْهِ وَلَمَّا تَقَارَبَ الْخِلَافُ زَعَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ لَفْظِيٌّ وَلَمَّا اعْتَقَدَ الْقَاضِي أَنَّ اتِّبَاعَ الْعَامِّيِّ تَقْلِيدٌ وَأَنَّ الْمُقَلِّدَ شَاكٌّ مع التَّقْلِيدِ تَبَعًا لِلشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَهِيَ مَسْأَلَةُ إيمَانِ الْمُقَلِّدِ التي تُعْزَى لِأَبِي الْحَسَنِ وَلِذَلِكَ أَطْلَقْنَا الْكَلَامَ في بَيَانِ مَعْنَى التَّقْلِيدِ لِيَخْرُجَ منه هذه الْمَسْأَلَةُ وَمِنْ ثَمَّ عَقَدَ الْقَاضِي في
____________________
(4/556)
التَّقْرِيبِ بَابًا في إمْكَانِ التَّقْلِيدِ في جُمْلَةِ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ عَقَدَ بَابًا في أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ في فُرُوعِ الْأَحْكَامِ كما لَا يَجُوزُ في أُصُولِهَا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ في أَنَّ أَخْذَ الْعَامِّيِّ بِقَوْلِ الْمُجْتَهِدِ هل يُسَمَّى تَقْلِيدًا أَمْ لَا فَقِيلَ ليس بِتَقْلِيدٍ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ له من نَوْعِ اجْتِهَادٍ وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيَّ وابن الْحَاجِبِ وَحَكَاهُ الْعَبَّادِيُّ في زِيَادَتِهِ عن الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ لِأَنَّهُ بَذَلَ مَجْهُودَهُ في الْأَخْذِ بِقَوْلِ الْأَعْلَمِ وقال الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ الذي نَخْتَارُهُ أَنَّ ذلك ليس بِتَقْلِيدٍ أَصْلًا فإن قَوْلَ الْعَالِمِ حُجَّةٌ في حَقِّ الْمُسْتَفْتِي نَصَبَهُ الرَّبُّ عَلَمًا في حَقِّ الْعَامِّيِّ فَأَوْجَبَ عليه الْعَمَلَ بِهِ كما أَوْجَبَ على الْمُجْتَهِدِ الْعَمَلَ بِاجْتِهَادِهِ وَاجْتِهَادُهُ عَلَمٌ عليه وَيَتَخَرَّجُ من هذا أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ تَقْلِيدٌ مُبَاحٌ في الشَّرِيعَةِ لَا في الْأُصُولِ وَلَا في الْفُرُوعِ إذْ التَّقْلِيدُ على ما عَرَّفَهُ الْقَاضِي اتِّبَاعُ من لم يَقُمْ بِاتِّبَاعِهِ حُجَّةٌ ولم يَسْتَنِدْ إلَى عِلْمٍ قال وَلَوْ سَاغَ تَسْمِيَةُ الْعَامِّيِّ مُقَلِّدًا مع أَنَّ قَوْلَ الْعَالِمِ في حَقِّهِ وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ جَازَ أَنْ يُسَمَّى الْمُتَمَسِّكَ بِالنُّصُوصِ وَغَيْرِهَا من الدَّلَائِلِ مُقَلِّدًا قال الْقَاضِي وَلِأَنَّهُ يَسْتَنِدُ إلَى حُجَّةٍ قَطْعِيَّةٍ وهو الْإِجْمَاعُ فَلَا يَكُونُ تَقْلِيدًا وَهَذَا بِنَاءً منه على أَحَدِ تَفْسِيرَيْ التَّقْلِيدِ وَذَهَبَ مُعْظَمُ الْأُصُولِيِّينَ قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى أَنَّهُ مُقَلِّدٌ له فِيمَا يَأْخُذُهُ لِأَنَّا إنْ فَسَّرْنَاهُ بِقَبُولِ الْقَوْلِ بِلَا حُجَّةٍ فَقَدْ تَحَقَّقَ ذلك إذْ قَوْلُهُ في نَفْسِهِ ليس بِحُجَّةٍ وَإِنْ فَسَّرْنَاهُ بِقَبُولِ الْقَوْلِ مع الْجَهْلِ بِمَأْخَذِهِ فَهُوَ مُتَحَقِّقٌ في قَوْلِ الْمُفْتِي أَيْضًا قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَلَعَلَّهُ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ حُجَّةُ ما يَصِيرُ إلَيْهِ من الْحُكْمِ قَبْلُ وَالْإِجْمَاعُ سَبَقَ الْقَاضِي على أَنَّ الْعَوَامَّ يُقَلِّدُونَ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَوْ لم يَكُنْ تَقْلِيدًا فَلَيْسَ في الدُّنْيَا تَقْلِيدٌ وَمَنْ نَظَرَ كُتُبَ الْعُلَمَاءِ وَالْخِلَافِيِّينَ وَجَدَهَا طَافِحَةً بِجَعْلِ الْعَوَامّ مُقَلِّدِينَ وَلِهَذَا قال في الْمُسْتَصْفَى بَعْدَمَا ذَكَرَ أَنَّ الْعَامِّيَّ إذَا أَخَذَ بِقَوْلِ الْمُجْتَهِدِ فَهُوَ ظَانٌّ صِدْقَهُ وَالظَّنُّ مَعْلُومٌ وَوُجُوبُ الْحُكْمِ عِنْدَ الظَّنِّ وَهَذَا عِلْمٌ قَاطِعٌ وَالتَّقْلِيدُ جَهْلٌ فَإِنْ قِيلَ قد رَفَعْتُمْ التَّقْلِيدَ من الْبَيْنِ وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ تَقْلِيدَ أَحَدٍ سِوَى الرَّسُولِ فَقَدْ أَثْبَتَ تَقْلِيدًا قُلْنَا قد صَرَّحَ بِإِبْطَالِ التَّقْلِيدِ إلَّا ما اسْتَثْنَى فَظَهَرَ أَنَّهُ لم يَجْعَلْ الِاسْتِفْتَاءَ وَقَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَشَهَادَةَ الْعُدُولِ تَقْلِيدًا نعم يَجُوزُ تَسْمِيَةُ قَوْلِ الرَّسُولِ تَقْلِيدًا تَوَسُّعًا وَاسْتِثْنَاءً من غَيْرِ جِنْسِهِ وَوَجْهُ التَّجَوُّزِ أَنْ يَقُولَ قَوْلُهُ وَإِنْ كان حُجَّةً دَلَّتْ على صِدْقِهِ جُمْلَةً فَلَا يُطْلَبُ منه حُجَّةٌ على غَيْرِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَكَانَ
____________________
(4/557)
تَصْدِيقًا بِغَيْرِ حُجَّةٍ خَاصَّةٍ وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى ذلك تَقْلِيدًا مَجَازًا انْتَهَى وَهَذَا أَخَذَهُ من كَلَامِ الْقَاضِي وَلَا يُوَافِقُ على أَنَّ رُجُوعَ الْعَامِّيِّ ليس بِتَقْلِيدٍ وَالْقَاضِي إنَّمَا قال ذلك بِنَاءً على أَنَّ الْمُقَلِّدَ شَاكٌّ ولم يَقْتَصِرْ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ على ما فَعَلَ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ بَلْ زَادَا لو سَمَّى مُسَمٍّ الرُّجُوعَ إلَى من قَوْلُهُ حُجَّةٌ تَقْلِيدًا فَلَا مُشَاحَّةَ في التَّسْمِيَةِ قُلْت وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ أَيْضًا وَهَذَا صَحِيحٌ على قَوْلِنَا أَمَّا على قَوْلِ الْقَاضِي وَالْآمِدِيَّ أَنَّ الْمُقَلِّدَ شَاكٌّ فِيمَنْ يُقَلِّدُهُ فَلَا تَنْبَغِي هذه التَّسْمِيَةُ لِخُرُوجِهَا عن وَضْعِ اللِّسَانِ وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمُقَلِّدَ شَاكٌّ فَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ من تَسْمِيَةِ الرَّسُولِ مُقَلَّدًا وإذا عُرِفَتْ الْمَدَارِكُ هَانَتْ الْمَسَالِكُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ وَالْغَزَالِيَّ يَقُولَانِ لَا تَقْلِيدَ في الدُّنْيَا وَأَمَّا الْآمِدِيُّ فيقول لَا تَقْلِيدَ في رُجُوعِ الْمَرْءِ إلَى قَوْلِ الْعَامِّيِّ وَالْمُجْتَهِدِ إلَى قَوْلِ مِثْلِهِ يَعْنِي حَيْثُ لَا يَجُوزُ له الْأَخْذُ بِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذلك لِيَخْرُجَ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَنَحْوِهِ مِمَّا جَوَّزَهُ قَوْمٌ وَاعْتَرَضَ الْآمِدِيُّ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ بِأَنَّهُ لو سَمَّى مُسَمٍّ الرُّجُوعَ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى الْإِجْمَاعِ وَالْمُفْتِي وَالشُّهُودِ تَقْلِيدًا بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ فَلَا مُشَاحَّةَ في اللَّفْظِ وابن الْحَاجِبِ تَبِعَ الْآمِدِيَّ وَكَذَا ابن الصَّلَاحِ صَرَّحَ بِمَا يُوَافِقُهُمْ حُكْمًا غير أَنَّهُ أتى بِغَيْرِ تَعْرِيفِهِمْ لِلتَّقْلِيدِ وما صَرَّحَ بِهِ من أَنَّ رُجُوعَ الْعَامِّيِّ إلَى الْمُفْتِي ليس بِتَقْلِيدٍ مع دَعْوَاهُ في كِتَابِ أَدَبِ الْفُتْيَا من مُنَازَعَةِ الشَّيْخِ أبي عَلِيٍّ وَأَمْثَالِهِ من كَوْنِهِمْ لَيْسُوا مُقَلِّدِينَ لِلشَّافِعِيِّ فَعَجَبٌ إذْ كَيْفَ يُقْضَى على أبي عَلِيٍّ وهو الْحَبْرُ بِالتَّقْلِيدِ وَلَا يُقْضَى بِذَلِكَ على الْعَامِّيِّ الصِّرْفِ وما ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ وَقْتَ التَّعْرِيفِ مع الْغَزَالِيِّ وَعِنْدَ الِانْفِصَالِ جَرَى على ما هو مُقَرَّرٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ من أَنَّ رُجُوعَ الْعَامِّيِّ إلَى الْمُجْتَهِدِ تَقْلِيدٌ وقد يَأْخُذُ الْمُجْتَهِدُ بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ وَلَكِنْ تَسْمِيَةُ ذلك أَخْذًا مَجَازٌ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخَذَهُ منه لِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ نَظَرُهُ لَا لِكَوْنِ ذلك قَالَهُ وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ إنْ سُمِّيَ لِسَبْقِهِ إلَيْهِ كما نَقُولُ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ مَالِكٍ أو بِقَوْلِ أبي حَنِيفَةَ في مَسَائِلَ سَبَقَاهُ إلَى الْقَوْلِ بها وَمَنْ تَبَحَّرَ في مَذْهَبِ إمَامٍ ولم يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فَأَفْتَى على مَذْهَبِ ذلك الْإِمَامِ كان الْمُسْتَفْتِي مُقَلِّدًا لِذَلِكَ الْإِمَامِ لَا لِلْمُفْتِي حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ عن شَيْخِهِ الْقَفَّالِ ذَكَرَهُ في الْكَافِي وَجَزَمَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْغِيَاثِيِّ وقال الرَّافِعِيُّ إنَّهُ الْمَشْهُورُ لِلْأَصْحَابِ إلَّا أَنَّ أَبَا الْفَتْحِ الْهَرَوِيَّ أَحَدُ أَصْحَابِ الْإِمَامِ صَرَّحَ بِأَنَّهُ يُقَلِّدُ الْمُتَبَحِّرَ في نَفْسِهِ وقال ابن الصَّلَاحِ يَنْبَغِي تَخْرِيجُ هذا على
____________________
(4/558)
الْخِلَافِ في أَنَّ ما يُخَرِّجُهُ أَصْحَابُنَا على مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ هل يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ وَفِيهِ خِلَافٌ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَسْأَلَةٌ قال ابن فُورَكٍ أَقَمْنَا الدَّلَالَةَ على أَنَّ التَّقْلِيدَ ليس من طُرُقِ الْعِلْمِ بِوَجْهٍ لِأَنَّ الرُّجُوعَ إلَى الدَّعْوَى لَا يُثْمِرُ عِلْمًا لِأَنَّ صُورَةَ دَعْوَى الْمُحِقِّ صُورَةُ دَعْوَى الْمُبْطِلِ وَإِنَّمَا يُثْمِرُ بِالدَّلِيلِ مَسْأَلَةٌ قال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ قِيلَ من يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ أَرْبَعَةُ أَصْنَافِ أَحَدُهَا النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِنَاءً على أَنَّ قَوْلَهُ يُسَمَّى تَقْلِيدًا وهو الْأَصَحُّ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ على صِدْقِهِ وَالثَّانِي الْمُخَبِّرُ عن الرَّسُولِ وَالثَّالِثُ الْمُجْمِعُونَ على حُكْمٍ فَتَقْلِيدُهُمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عليه وَاجِبٌ وَالرَّابِعُ الصَّحَابَةُ على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَحَكَى ابن السَّمْعَانِيِّ وَجْهَيْنِ في تَسْمِيَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ تَقْلِيدًا قال وَأَوْلَاهُمَا أَنَّهُ لَا يُسَمَّى تَقْلِيدًا لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ التَّسْلِيمُ لِقَوْلِهِ إلَّا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ في عَدَالَتِهِ فَصَارَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا بِدَلِيلٍ قال وَأَمَّا تَقْلِيدُ الْأُمَّةِ إذَا قالت قَوْلًا عن إجْمَاعٍ فَهُوَ حُجَّةٌ وقال الْمُتَأَخِّرُونَ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِ الرَّسُولِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقَاضِي إلَى الْبَيِّنَةِ ليس بِتَقْلِيدٍ قُلْت وَالْخِلَافُ يَرْجِعُ إلَى عِبَارَةٍ كما سَبَقَ
____________________
(4/559)
فَصْلٌ التَّقْلِيدُ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمُقَلَّدُ عَالِمًا بِأَنَّ الذي يُقَلِّدُهُ لَا يُخْطِئُ فِيمَا قَلَّدَهُ فيه فَيَلْزَمُهُ الْقَبُولُ بِمُجَرَّدِهِ كَقَبُولِ الْأَئِمَّةِ عن الرَّسُولِ الْأَحْكَامَ وَقَبُولِ قَوْلِ الْمُجْمِعِينَ قال الْأُسْتَاذُ وَأَجْمَعَ أَصْحَابُنَا على وُجُوبِ هذا الْقَوْلِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في تَسْمِيَتِهِ تَقْلِيدًا وَالثَّانِي قَبُولُهُ على احْتِمَالِ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ وَالْعُلُومُ نَوْعَانِ عَقْلِيٌّ وَشَرْعِيٌّ الْأَوَّلُ الْعَقْلِيُّ وهو الْمَسَائِلُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِوُجُودِ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ وَاخْتَلَفُوا فيها وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ بَلْ يَجِبُ تَحْصِيلُهَا بِالنَّظَرِ وَجَزَمَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَالشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ في تَعْلِيقِهِ وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ عن إجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ من أَهْلِ الْحَقِّ وَغَيْرِهِمْ من الطَّوَائِفِ وقال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ لَا نَعْلَمُ خِلَافًا في امْتِنَاعِ التَّقْلِيدِ في التَّوْحِيدِ وقال بَعْضُهُمْ لو خَشَى الْمُكَلَّفُ أَنْ يَمُوتَ لم يَجُزْ التَّقْلِيدُ وَحَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن جَمِيعِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَطَائِفَةٍ من الْفُقَهَاءِ وَقَالُوا لَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ التَّقْلِيدُ فيها وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ ما يَعْرِفُهُ بِالدَّلِيلِ وَقَالُوا الْعَقَائِدُ الْأُصُولِيَّةُ عَقْلِيَّةٌ وَالنَّاسُ مُشْتَرِكُونَ في الْعَقْلِ وقال وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ على خِلَافِ هذا وَقَالُوا لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَلَّفَ الْعَوَامُّ لِاعْتِقَادِ الْأُصُولِ بِدَلَائِلِهَا لِمَا في ذلك من الْمَشَقَّةِ وَمِثْلُهُ ما نَقَلَهُ صَاحِبُ الْعُنْوَانِ عن الْفُقَهَاءِ من جَوَازِ التَّقْلِيدِ فيها تَأَسِّيًا بِالسَّلَفِ إذْ لم يَأْمُرْ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجْلَافَ الْعَرَبِ بِالنَّظَرِ وَنَازَعَهُ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في هذا الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِالنَّظَرِ الْمُصْطَلَحُ من تَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ فَلَا يُعْتَبَرُ اتِّفَاقًا وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لم يَحْصُلْ لهم النَّظَرُ في نَفْسِ الْأَمْرِ من غَيْرِ هذا التَّرْتِيبِ وَالِاصْطِلَاحُ مَمْنُوعٌ وَكَيْفَ وقد شَاهَدُوا الْمُعْجِزَةَ وَأَحْوَالَ الرَّسُولِ وَالْقَرَائِنُ التي شَاهَدُوهَا أَفَادَتْهُمْ الْقَطْعَ وَقِيلَ بَلْ يَجِبُ التَّقْلِيدُ وَالِاجْتِهَادُ فيه حَرَامٌ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْأَحْوَذِيِّ عن الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الشَّامِلِ لم يَقُلْ بِالتَّقْلِيدِ في الْأُصُولِ إلَّا الْحَنَابِلَةُ وقال الْإسْفَرايِينِيّ لم يُخَالِفْ فيه إلَّا أَهْلُ الظَّاهِرِ وقال الْقَرَافِيُّ وَسَأَلْت
____________________
(4/560)
الْحَنَابِلَةَ فَقَالُوا مَشْهُورُ مَذْهَبِنَا مَنْعُ التَّقْلِيدِ وَالْغَزَالِيُّ يَمِيلُ إلَيْهِ وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ في الشِّفَاءِ عن غَيْرِهِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ ذَهَبَ قَوْمٌ من كَتَبَةِ الحديث أَنَّ طَلَبَ الدَّلِيلِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّوْحِيدِ غَيْرُ وَاجِبٍ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هو الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَرَوْنَ الشُّرُوعَ في مُوجِبَاتِ الْعُقُولِ كُفْرًا وَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ وَالنَّظَرَ ليس هو الْمَقْصُودُ في نَفْسِهِ وَإِنَّمَا وهو طَرِيقٌ إلَى حُصُولِ الْعِلْمِ حتى يَصِيرَ بِحَيْثُ لَا يَتَرَدَّدُ فَمَنْ حَصَلَ له هذا الِاعْتِقَادُ الذي لَا شَكَّ فيه من غَيْرِ دَلَالَةٍ فَقَدْ صَارَ مُؤْمِنًا وَزَالَ عنه كُلْفَةُ طَلَبِ الْأَدِلَّةِ وَمَنْ أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْهِ أَنْعَمَ عليه بِالِاعْتِقَادِ الصَّافِي من الشُّبْهَةِ وَالشُّكُوكِ فَقَدْ أَنْعَمَ عليه بِأَكْلِ أَنْوَاعِ النَّعَمِ وَأَحَلَّهَا حتى لم يَكِلْهُ إلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لَا سِيَّمَا الْعَوَامُّ فإن كَثِيرًا منهم تَجِدُهُ في صِيَانَةِ اعْتِقَادِهِ أَكْثَرَ مِمَّنْ شَاهَدَ ذلك بِالْأَدِلَّةِ وَمَنْ كان هذا وَصْفُهُ كان مُقَلِّدًا في الدَّلِيلِ غير أَنَّ أَصْحَابَنَا أَجْمَعُوا على أَنَّ هذا الِاعْتِقَادَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ في النِّيَّاتِ بِحَيْثُ لَا يَرِدُ عليه من الشُّبْهَةِ إلَّا ما يَرِدُ على صَاحِبِ الِاسْتِدْلَالِ وَجَزَمَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ بِوُجُوبِ النَّظَرِ ثُمَّ قال فَلَوْ اعْتَقَدَ من غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِالدَّلِيلِ فَاخْتَلَفُوا فيه فقال أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ إنَّهُ مُؤْمِنٌ من أَهْلِ الشَّفَاعَةِ وَإِنْ فَسَقَ بِتَرْكِ الِاسْتِدْلَالِ وَبِهِ قال أَئِمَّةُ الحديث وقال الْأَشْعَرِيُّ وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حتى يَخْرُجَ فيها عن جُمْلَةِ الْمُقَلِّدِينَ انْتَهَى وقد اُشْتُهِرَتْ هذه الْمَقَالَةُ عن الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ إيمَانَ الْمُقَلِّدِ لَا يَصِحُّ وقد أَنْكَرَ أبو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيّ وَالشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا من الْمُحَقِّقِينَ صِحَّتَهُ عنه وَقِيلَ لَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ قَبُولَ قَوْلِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ فإن التَّقْلِيدَ بهذا الْمَعْنَى قد يَكُونُ ظَنًّا وقد يَكُونُ وَهْمًا فَهَذَا لَا يَكْفِي في الْإِيمَانِ أَمَّا التَّقْلِيدُ بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ لَا الْمُوجِبِ فلم يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ لَا يَكْفِي في الْإِيمَانِ إلَّا أبو هَاشِمٍ من الْمُعْتَزِلَةِ وإذا مَنَعْنَا التَّقْلِيدَ في ذلك قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ فَاتَّفَقُوا على أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَبْلُغَ فيه رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ بِحَيْثُ يَحِلُّ له الْفَتْوَى في الْحُكْمِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ إيجَابُ مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ على ما يَقُولُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ بَعِيدٌ جِدًّا عن الصَّوَابِ وَمَتَى أَوْجَبْنَا ذلك فَمَتَى يُوجَدُ من الْعَوَامّ من يَعْرِفُ ذلك وَيَصْدُرُ عَقِيدَتُهُ عنه كَيْفَ وَهُمْ لو عُرِضَتْ عليهم تِلْكَ الْأَدِلَّةُ لم يَفْهَمُوهَا وَإِنَّمَا غَايَةُ الْعَامِّيِّ أَنْ يَتَلَقَّى ما يُرِيدُ أَنْ يَعْتَقِدَهُ وَيَلْقَى بِهِ رَبَّهُ من الْعُلَمَاءِ وَيَتْبَعَهُمْ في ذلك وَيُقَلِّدَهُمْ ثُمَّ يُسَلِّمُ عليها بِقَلْبٍ طَاهِرٍ عن الْأَهْوَاءِ وَالْإِدْخَالِ ثُمَّ يَعَضُّ عليها بِالنَّوَاجِذِ
____________________
(4/561)
فَلَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ وَلَوْ قُطِّعَ إرْبًا فَهَنِيئًا لهم السَّلَامَةُ وَالْبَعْدُ عن الشُّبُهَاتِ الدَّاخِلَةِ على أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْوَرَطَاتِ التي تَغُولُهَا حتى أَدَّتْ بِهِمْ إلَى الْمَهَاوِي وَالْمَهَالِكِ وَدَخَلَتْ عليهم الشُّبُهَاتُ الْعَظِيمَةُ وَصَارُوا مُتَجَرِّئِينَ وَلَا يُوجَدُ فِيهِمْ مُتَوَرِّعٌ عَفِيفٌ إلَّا الْقَلِيلَ فَإِنَّهُمْ أَعْرَضُوا عن وَرَعِ الْأَلْسِنَةِ وَأَرْسَلُوهَا في صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِجُرْأَةٍ وَعَدَمِ مَهَابَةٍ وَحُرْمَةٍ فَفَاتَهُمْ وَرَعُ سَائِرِ الْجَوَارِحِ وَذَهَبَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ وَرَعُ اللِّسَانِ وَالْإِنْسَانُ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فإذا خَرِبَ جَانِبٌ منه تَدَاعَى سَائِرُهُ إلَى الْخَرَابِ وَلِأَنَّهُ ما من دَلِيلٍ لِفَرِيقٍ منهم يَعْتَمِدُونَ عليه إلَّا وَلِخُصُومِهِمْ عليه من الشُّبْهَةِ الْقَوِيَّةِ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ من الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ بِقَدْرِ ما يَنَالُ الْمُسْلِمُ بِهِ رَدَّ الْخَاطِرِ وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ إيجَابُ التَّوَصُّلِ إلَى الْعَقَائِدِ في الْأُصُولِ بِالطَّرِيقِ الذي اعْتَقَدُوا وَسَامُوا بِهِ الْخَلْقَ وَزَعَمُوا أَنَّ من لم يَفْعَلْ ذلك لم يَعْرِفْ اللَّهَ تَعَالَى ثُمَّ أَدَّى بِهِمْ ذلك إلَى تَكْفِيرِ الْعَوَامّ أَجْمَعَ وَهَذَا هو الْخَطِيئَةُ الشَّنْعَاءُ وَالدَّاءُ الْعُضَالُ وإذا كان السَّوَادُ الْأَعْظَمُ هُمْ الْعَوَامُّ وَبِهِمْ قِوَامُ الدِّينِ وَعَلَيْهِمْ مَدَارُ رَحَى الْإِسْلَامِ وَلَعَلَّ لَا يُوجَدُ في الْبَلْدَةِ الْوَاحِدَةِ التي تَجْمَعُ الْمِائَةَ أَلْفٍ من يَقُومُ بِالشَّرَائِطِ التي تَعْتَبِرُونَهَا إلَّا الْعَدَدَ الْقَلِيلَ الشَّاذَّ الشَّارِدَ النَّادِرَ وَلَعَلَّهُ لَا يَبْلُغُ عَقْدَ الْعَشَرَةِ فَمَنْ يَجِدُ الْمُسْلِمُ من قَبْلَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِكُفْرِ هَؤُلَاءِ الناس أَجْمَعَ وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُمْ لَا عَقِيدَةَ لهم في أُصُولٍ أَصْلًا وَإِنَّهُمْ أَمْثَالُ الْبَهَائِمِ انْتَهَى الثَّانِي الشَّرْعِيُّ وهو الْمُتَعَلِّقُ بِالْفُرُوعِ وَالْمَذَاهِبِ وَفِيهِ ثَلَاثَةٌ فِرْقَةٌ أَوْجَبَتْ التَّقْلِيدَ وَفِرْقَةٌ حَرَّمَتْهُ وَفِرْقَةٌ تَوَسَّطَتْ الْأَوَّلُ فَذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى تَحْرِيمِ التَّقْلِيدِ مُطْلَقًا كَالتَّقْلِيدِ في الْأُصُولِ وَوَافَقَهُمْ ابن حَزْمٍ وَكَادَ يَدَّعِي الْإِجْمَاعَ على النَّهْيِ عن التَّقْلِيدِ قال وَنُقِلَ عن مَالِكٍ أَنَّهُ قال أنا بَشَرٌ أُخْطِئُ وَأُصِيبُ فَانْظُرُوا في رَأْيِي فما وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَخُذُوا بِهِ وما لم يُوَافِقْ فَاتْرُكُوهُ وقال عِنْدَ مَوْتِهِ وَدِدْت أَنِّي ضُرِبْت بِكُلِّ مَسْأَلَةٍ تَكَلَّمْت فيها بِرَأْيٍ سَوْطًا على أَنَّهُ لَا صَبْرَ لي على السِّيَاطِ قال فَهَذَا مَالِكٌ يَنْهَى عن تَقْلِيدِهِ وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وأبو حَنِيفَةَ وقد ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حَدِيثًا فقال بَعْضُ جُلَسَائِهِ يا أَبَا عبد اللَّهِ أَتَأْخُذُ بِهِ فقال له أَرَأَيْت عَلَيَّ زُنَّارًا أَرَأَيْتَنِي خَارِجًا من كَنِيسَةٍ حتى تَقُولَ لي في حديث النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَتَأْخُذُ بهذا ولم يَزَلْ رَحِمَهُ اللَّهُ في كُتُبِهِ يَنْهَى عن تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ هَكَذَا رَوَاهُ الْمُزَنِيّ في أَوَّلِ مُخْتَصَرِهِ عنه وَهَذَا الذي قَالَهُ مَمْنُوعٌ وَإِنَّمَا نَهَوْا الْمُجْتَهِدَ خَاصَّةً عن تَقْلِيدِهِمْ دُونَ من لم يَبْلُغْ
____________________
(4/562)
هذه الرُّتْبَةَ قال الْقَرَافِيُّ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وُجُوبُ الِاجْتِهَادِ وَإِبْطَالُ التَّقْلِيدِ لِقَوْلِهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ وَاسْتَثْنَى مَالِكٌ أَرْبَعَ عَشْرَةَ صُورَةً لِلضَّرُورَةِ وُجُوبَ التَّقْلِيدِ على الْعَوَامّ وَتَقْلِيدَ الْقَائِفِ إلَى آخِرِ ما ذَكَرَهُ وَالثَّانِي يَجِبُ مُطْلَقًا وَيَحْرُمُ النَّظَرُ وَنُسِبَ إلَى بَعْضِ الْحَشْوِيَّةِ وَالثَّالِثُ وهو الْحَقُّ وَعَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ يَجِبُ على الْعَامِّيِّ وَيَحْرُمُ على الْمُجْتَهِدِ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ لَا يَحِلُّ تَقْلِيدُ أَحَدٍ مُرَادُهُمْ على الْمُجْتَهِدِ قال عبد اللَّهِ بن أَحْمَدَ سَأَلْت أبي الرَّجُلُ يَكُونُ عِنْدَهُ الْكُتُبُ الْمُصَنَّفَةُ فيها قَوْلُ الرَّسُولِ وَاخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَيْسَ له بَصِيرَةٌ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ الْمَتْرُوكِ وَلَا الْإِسْنَادِ الْقَوِيِّ من الضَّعِيفِ هل يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا شَاءَ وَيُفْتِي بِهِ قال لَا يَعْمَلُ حتى يَسْأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ عَمَّا يُؤْخَذُ بِهِ منها قال الْقَاضِي أبو يَعْلَى ظَاهِرُ هذا أَنَّ فَرْضَهُ التَّقْلِيدُ وَالسُّؤَالُ إذَا لم يَكُنْ له مَعْرِفَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ انْتَهَى وَأَمَّا تَحْرِيمُهُ على الْمُجْتَهِدِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرَدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ يَعْنِي كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ بِالِاسْتِنْبَاطِ وفي حديث مُعَاذٍ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ لَمَّا قال له الرَّسُولُ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِمَ تَحْكُمُ قال بِكِتَابِ اللَّهِ قال فَإِنْ لم تَجِدْ قال بِسُنَّةِ رسول اللَّهِ قال فَإِنْ لم تَجِدْ قال أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو فقال الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِهِ إلَى ما يَرْضَاهُ رسول اللَّهِ قالوا فَصَوَّبَهُ في ذلك ولم يذكر من جُمْلَتِهِ التَّقْلِيدَ فَدَلَّ ذلك على أَنَّ التَّقْلِيدَ يَحْرُمُ على الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ هُمْ من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَلِهَذَا قال تَعَالَى لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ منهم قال الْمُزَنِيّ في كِتَابِهِ فَسَادِ التَّأْوِيلِ تَوْفِيقُ اللَّهِ تَعَالَى لِمُعَاذٍ في اجْتِهَادِهِ لِمَا يَرْضَاهُ رَسُولُهُ عِنْدَنَا إنَّمَا هو لِنَظَرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَوْ كان تَأْوِيلُهُ أَفَرْضَ ما رَأَيْت في الْحَادِثَةِ لَوَجَبَ فَرْضُ ذلك على جَمِيعِ الناس قال وقد ذَمَّ اللَّهُ التَّقْلِيدَ في غَيْرِ ما آيَةٍ كَقَوْلِهِ إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا على أُمَّةٍ وَقَوْلِهِ وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا وقال تَعَالَى اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا من دُونِ اللَّهِ وفي الحديث إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا وَإِنَّمَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ
____________________
(4/563)
الْعُلَمَاءِ قال وَيُقَالُ لِمَنْ حَكَمَ بِالتَّقْلِيدِ هل لَك من حُجَّةٍ فَإِنْ قال نعم أُبْطِلَ التَّقْلِيدُ لِأَنَّ الْحُجَّةَ أَوْجَبَتْ ذلك عِنْدَهُ لَا التَّقْلِيدَ وَإِنْ قال بِغَيْرِ عِلْمٍ قِيلَ له فَلِمَ أَرَقْت الدِّمَاءَ وَأَبَحْت الْفُرُوجَ وَالْأَمْوَالَ وقد حَرَّمَ اللَّهُ ذلك إلَّا بِحُجَّةٍ فَإِنْ قال أنا أَعْلَمُ أَنِّي قد أَصَبْت وَإِنْ لم أَعْرِفْ الْحُجَّةَ لِأَنَّ مُعَلِّمِي من كِبَارِ الْعُلَمَاءِ قِيلَ له تَقْلِيدُ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِك أَوْلَى من تَقْلِيدِ مُعَلِّمِك لِأَنَّهُ لَا يقول إلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عن مُعَلِّمِهِ كما لم يَقُلْ مُعَلِّمُك إلَّا بِحُجَّةٍ قد خَفِيَتْ عَنْك فَإِنْ قال نعم تَرَكَ تَقْلِيدَ مُعَلِّمِهِ إلَى تَقْلِيدِ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِهِ وَكَذَلِكَ حتى يَنْتَهِيَ إلَى الْعَالِمِ من الصَّحَابَةِ فَإِنْ أَبَى ذلك نُقِضَ قَوْلُهُ وَقِيلَ له كَيْفَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ من هو أَصْغَرُ وَأَقَلُّ عِلْمًا وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ من هو أَكْبَرُ وَأَغْزَرُ عِلْمًا وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ حَذَّرَ من زَلَّةِ الْعَالِمِ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لَا يُقَلِّدَنَّ أحدكم دِينَهُ رَجُلًا فَإِنْ آمَنَ آمَنَ وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ فإنه لَا أُسْوَةَ في الشَّرِّ وَأَمَّا وُجُوبُهُ على الْعَامَّةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَقَوْلُهُ فَلَوْلَا نَفَرَ من كل فِرْقَةٍ منهم طَائِفَةٌ فَأَمَرَ بِقَبُولِ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا كان من أَمْرِ دِينِهِمْ وَلَوْلَا أَنَّهُ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِمْ لَمَا كان لِلنِّذَارَةِ مَعْنًى وَلِقَضِيَّةِ الذي شُجَّ فَأَمَرُوهُ أَنْ يَغْتَسِلَ وَقَالُوا لَسْنَا نَجِدُ لَك رُخْصَةً فَاغْتَسَلَ وَمَاتَ فقال النبي عليه السَّلَامُ قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ إنَّمَا كان شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالَ فَبَانَ بِذَلِكَ جَوَازُ التَّقْلِيدِ
____________________
(4/564)
قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ من فُرُوضِ الْكِفَايَةِ التي إذَا قام بها الْبَعْضُ سَقَطَ عن الْبَاقِينَ وَلَوْ مَنَعْنَا التَّقْلِيدَ لَأَفْضَى إلَى أَنْ يَكُونَ من فُرُوضِ الْأَعْيَانِ وَنَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ عليه فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُفْتُونَ الْعَوَامَّ وَلَا يَأْمُرُونَهُمْ بِنَيْلِ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ وَلِأَنَّ الذي يَذْكُرُهُ الْمُجْتَهِدُ له من الدَّلِيلِ إنْ كان بِحَيْثُ لَا يَكْفِي في الْحُكْمِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ وَإِنْ كان يَذْكُرُ له ما يَكْفِي فَأَسْنَدَ إلَيْهِ الْحُكْمَ في مِثْلِ ذلك الْتَزَمَهُ قَطْعًا وقال الْقَاضِي أبو الْمَعَالِي عَزِيزِيُّ بن عبد الْمَلِكِ في بَعْضِ مُؤَلَّفَاتِهِ لو وَجَبَ على الْكَافَّةِ التَّحْقِيقُ دُونَ التَّقْلِيدِ أَدَّى ذلك إلَى تَعْطِيلِ الْمَعَاشِ وَخَرَابِ الدُّنْيَا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مُقَلِّدًا وَبَعْضُهُمْ مُعَلِّمًا وَبَعْضُهُمْ مُتَعَلِّمًا ولم تَرْفَعْ دَرَجَةُ أَحَدٍ في الْجِنَانِ لِدَرَجَةِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ ثُمَّ دَرَجَةِ الْمُحِبِّينَ وقال الْمَصِيرُ في الْمُوجِبِ لِتَقْلِيدِ الْعَامِّيِّ لِلْعَالِمِ عَدَمُ آلَةِ الِاسْتِنْبَاطِ وَتَعَذُّرُهَا عليه في الْحَالِ وَالْتِمَاسُ أُصُولِ ذلك فَلَوْ تَرَكَهُ حتى يَعْلَمَ جَمِيعَهَا وَيَسْتَنْبِطَ منها لَتَعَطَّلَتْ الْفَرَائِضُ من الْعَالِمِ حتى يَصِيرُوا كلهم عُلَمَاءَ وَهَذَا فَاسِدٌ فَرَخَّصَ له في قَبُولِ قَوْلِ الْعَالِمِ الْبَاحِثِ وَلَا يَجُوزُ له قَبُولُ قَوْلِ من هو مِثْلُهُ وَمِنْ هذا امْتَنَعَ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ لِمِثْلِهِ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِدَفْعِ التَّقْلِيدِ وُجُودُ الْأَدِلَّةِ وهو مُتَمَكِّنٌ منها قُلْت وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَقَائِدِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ في الْعَقَائِدِ الْعِلْمُ وَالْمَطْلُوبَ في الْفُرُوعِ الظَّنُّ وَالتَّقْلِيدُ قَرِيبٌ من الظَّنِّ وَلِأَنَّ الْعَقَائِدَ أَهَمُّ من الْفُرُوعِ وَالْمُخْطِئُ فيها كَافِرٌ وَأَوْرَدَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ شُبْهَةً لِلْمَانِعِينَ من التَّقْلِيدِ قال إنَّهُمْ يَمْنَعُونَ الْعَمَلَ بِالْإِجْمَاعِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ وَيَتَمَسَّكُونَ بِالظَّوَاهِرِ وَيَقُولُونَ حُكْمُ الْعَقْلِ في الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ وفي الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ وَلَا يُتْرَكُ هذا إلَّا لِنَصٍّ قَاطِعِ الْمَتْنِ وَالدَّلَالَةِ وَالْعَامِّيُّ الذَّكِيُّ يَعْلَمُ ذلك وَإِلَّا نَبَّهَهُ الْمُفْتِي عليه وَعَلَى النَّصِّ الْقَاطِعِ في الْوَاقِعَةِ إنْ جَهِلَهُ وَلَا يُقَالُ مَعْرِفَةُ ذلك تَمْنَعُهُ من الْمَعَاشِ وَالْمَصَالِحِ التي الِاشْتِغَالُ عنها يُفْضِي إلَى خَرَابِ الْعَالَمِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إيجَابَ مَعْرِفَةِ أُصُولِ الدِّينِ وَلَا يُجَابُ بِأَنَّ الْوَاجِبَ مَعْرِفَةُ أَدِلَّةِ النُّبُوَّةِ وَالتَّوْحِيدِ جُمْلَةً وَهِيَ سَهْلَةٌ بِخِلَافِ الْفُرُوعِ لِكَثْرَتِهَا وَتَشَعُّبِهَا لِأَنَّهُ إنْ لم يَعْلَمْ جَمِيعَ مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ الْجَلِيِّ فَقَدْ قَلَّدَ في بَعْضِهَا فَيَكُونُ مُقَلِّدًا في النَّتِيجَةِ وَإِنْ عَلِمَهَا وما يَرِدُ فَقَدْ حَصَلَ الِاشْتِغَالُ وَجَوَابُهُ على تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ تَقْلِيلِ الْأَدِلَّةِ فَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ وَمُمَارَسَةٍ وهو مَفْقُودٌ في الْعَامِّيِّ إذَا عَلِمْت هذا فَلَا بُدَّ من تَقْسِيمٍ يَجْمَعُ أَفْرَادَ الْمَسْأَلَةِ وَيَضْبِطُ شُعَبَهَا فَنَقُولُ الْعُلُومُ نَوْعَانِ
____________________
(4/565)
نَوْعٌ يَشْتَرِك في مَعْرِفَتِهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ وَيُعْلَمُ من الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَالْمُتَوَاتِرِ فَلَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فيه لِأَحَدٍ كَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَتَعْيِينِ الصَّلَاةِ وَتَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالزِّنَى وَاللِّوَاطِ فإن هذا مِمَّا لَا يَشُقُّ على الْعَامِّيِّ مَعْرِفَتُهُ وَلَا يَشْغَلُهُ عن أَعْمَالِهِ وَكَذَا في أَهْلِيَّةِ الْمُفْتِي وَنَوْعٌ مُخْتَصٌّ مَعْرِفَتُهُ بِالْخَاصَّةِ وَالنَّاسُ فيه ثَلَاثَةُ ضُرُوبٍ مُجْتَهِدٌ وَعَامِّيٌّ وَعَالِمٌ لم يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ أَحَدُهَا الْعَامِّيُّ الصِّرْفُ وَالْجُمْهُورُ على أَنَّهُ يَجُوزُ له الِاسْتِفْتَاءُ وَيَجِبُ عليه التَّقْلِيدُ في فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ جَمِيعِهَا وَلَا يَنْفَعُهُ ما عِنْدَهُ من الْعُلُومِ لَا تُؤَدِّي إلَى اجْتِهَادٍ وَحَكَى ابن عبد الْبَرِّ فيه الْإِجْمَاعَ ولم يَخْتَلِفْ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْعَامَّةَ عليها تَقْلِيدُ عُلَمَائِهَا وَأَنَّهُمْ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ قال وَأَجْمَعُوا على أَنَّ الْأَعْمَى لَا بُدَّ له من تَقْلِيدِ غَيْرِهِ في الْقِبْلَةِ نَقَلَ لَك من لَا عِلْمَ له وَلَا بِغَيْرِهِ بِمَعْنًى ما يَدِينُ بِهِ انْتَهَى وَمَنَعَ منه بَعْضُ مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ كَالتَّقْلِيدِ في الْأُصُولِ وَقَالُوا يَجِبُ عليه الْوُقُوفُ على طَرِيقِ الْحُكْمِ وَعِلَّتِهِ وَلَا يَرْجِعُ إلَى الْعَالِمِ إلَّا لِتَنْبِيهِهِ على أُصُولِهَا وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ عن الْجَعْفَرِ بن مُبَشِّرٍ وَابْنِ حَرْبٍ منهم عن الْجُبَّائِيُّ يَجُوزُ في الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ دُونَ ما طَرِيقُهُ الْقَطْعُ فإنه يَصِيرُ مِثْلَ الْعَقْلِيَّاتِ وَنَحْوِهِ قَوْلُ الْأُسْتَاذِ يَجِبُ عليه تَحْصِيلُ عِلْمِ كل مَسْأَلَةٍ في الْفِقْهِ يُدْرِكُهَا الْقَطْعُ وَيَجُوزُ له التَّقْلِيدُ في ظَنِّيَّاتِهِ إلَى الْقَطْعِيَّاتِ الْفُرُوعُ بِالْأُصُولِ وَحَكَى ابن بَرْهَانٍ الْخِلَافَ على وَجْهٍ آخَرَ فقال من صَارَ له التَّقْلِيدُ لم يَجِبْ عليه السُّؤَالُ عن الدَّلِيلِ وَنُقِلَ عن أبي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ أَنَّهُ قال يَجِبُ عليه أَنْ يَعْلَمَ كُلَّ مَسْأَلَةٍ بِدَلِيلِهَا وَصَارَ بَعْضُ الناس إلَى أَنَّ الْمَسَائِلَ الظَّاهِرَةَ يَجِبُ عليه مَعْرِفَتُهَا دُونَ الْخَفِيَّةِ انْتَهَى وإذا قُلْنَا بِأَنَّ وَظِيفَةَ الْعَامِّيِّ التَّقْلِيدُ جاء الْخِلَافُ السَّابِقُ أَنَّهُ هل هو تَقْلِيدٌ حَقِيقَةً فَالْقَاضِي يَمْنَعُهُ وَيَقُولُ إنَّمَا مُسْتَدِلٌّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عليه اتِّبَاعَ الْعَالِمِ وهو خِلَافٌ يَرْجِعُ إلَى الْعِبَارَةِ لِأَنَّ الْقَائِلَ بِالتَّقْلِيدِ لم يَرَ إلَّا هذا وَلَكِنَّ لِسَانَ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ جَرَى على صِحَّةِ إطْلَاقِ التَّقْلِيدِ لِلْعَامِّيِّ وَالنَّهْيُ عن إطْلَاقِ الِاجْتِهَادِ عليه الثَّانِي الْعَالِمُ الذي حَصَّلَ بَعْضَ الْعُلُومِ الْمُعْتَبَرَةِ ولم يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فَاخْتَارَ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ كَالْعَامِّيِّ الصِّرْفِ لِعَجْزِهِ عن الِاجْتِهَادِ وقال
____________________
(4/566)
قَوْمٌ لَا يَجُوزُ ذلك وَيَجِبُ عليه مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ بِطَرِيقِهِ لِأَنَّ صَلَاحِيَّةَ مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ وَيَجِيءُ عليه الْخِلَافُ السَّابِقُ عن الْجُبَّائِيُّ وَالْأُسْتَاذِ هُنَا من بَابِ الْأَوْلَى وما أَطْلَقُوهُ من إلْحَاقِهِ هُنَا بِالْعَامِّيِّ فيه نَظَرٌ لَا سِيَّمَا أَتْبَاعُ الْمَذَاهِبِ الْمُتَبَحِّرِينَ فَإِنَّهُمْ لم يُنَصِّبُوا أَنْفُسَهُمْ نَصَبَةَ الْمُقَلِّدِينَ وقد سَبَقَ قَوْلُ الشَّيْخِ أبي عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ من أَصْحَابِنَا لَسْنَا مُقَلِّدِينَ لِلشَّافِعِيِّ وَكَذَلِكَ الْإِشْكَالُ في إلْحَاقِهِمْ بِالْمُجْتَهِدِينَ إذْ لَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدٌ مُجْتَهِدًا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَاسِطَةً بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ ليس لنا سِوَى حَالَتَيْنِ قال ابن الْمُنَيَّرِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ مُلْتَزِمُونَ أَنْ لَا يُحْدِثُوا مَذْهَبًا أَمَّا كَوْنُهُمْ مُجْتَهِدِينَ فَلِأَنَّ الْأَوْصَافَ قَائِمَةٌ بِهِمْ وَأَمَّا كَوْنُهُمْ مُلْتَزِمِينَ أَنْ لَا يُحْدِثُوا مَذْهَبًا فَلِأَنَّ إحْدَاثَ مَذْهَبٍ زَائِدٍ بِحَيْثُ يَكُونُ لِفُرُوعِهِ أُصُولٌ وَقَوَاعِدُ مُبَايِنَةٌ لِسَائِرِ قَوَاعِدِ الْمُتَقَدِّمِينَ مُتَعَذِّرُ الْوُجُودِ لِاسْتِيعَابِ الْمُتَقَدِّمِينَ سَائِرَ الْأَسَالِيبِ نعم لَا يَمْتَنِعُ عليهم تَقْلِيدُ إمَامٍ في قَاعِدَةٍ إذَا ظَهَرَ له صِحَّةُ مَذْهَبِ غَيْرِ إمَامِهِ في وَاقِعَةٍ لم يَجُزْ له أَنْ يُقَلِّدَ إمَامَهُ لَكِنَّ وُقُوعَ ذلك مُسْتَبْعَدٌ لِكَمَالِ نَظَرِ من قَبْلَهُ وَسَبَقَ في آخِرِ الْكَلَامِ على شُرُوطِ الْمُجْتَهِدِ كَلَامٌ لِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ يَتَعَلَّقُ بِمَا نَحْنُ فيه الثَّالِثُ أَنْ يَبْلُغَ الْمُكَلَّفُ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فَإِنْ كان اجْتَهَدَ في الْوَاقِعَةِ فَلَا يَجُوزُ له تَقْلِيدُ غَيْرِهِ من الْمُجْتَهِدِينَ فيها خِلَافُ ما ظَنَّهُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ ظَنَّهُ لَا يُسَاوِي الظَّنَّ الْمُسْتَفَادَ من غَيْرِهِ وَالْعَمَلُ بِأَقْوَى الظَّنَّيْنِ وَاجِبٌ ولو خَالَفَ وَحَكَمَ بِخِلَافِ ظَنِّهِ فَقَدْ أَثِمَ وَإِنْ كان مَذْهَبًا لِغَيْرِهِ وَهَلْ يُنْتَقَضُ حُكْمُهُ فيه وَجْهَانِ لِلْحَنَابِلَةِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُسْتَوْعِبِ وهو يَقْدَحُ في نَقْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ الِاتِّفَاقَ على بُطْلَانِ حُكْمِهِ وَاسْتَثْنَى الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ من هذا الْقِسْمِ ما إذَا كان حُكْمًا يَجِبُ هل أو عليه يَحْتَاجُ في فَصْلِهِ إلَى حَاكِمٍ بَيْنَهُمَا بِاجْتِهَادِهِ فَيَجُوزُ له تَقْلِيدُهُ في هذه الصُّورَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ قد اجْتَهَدَ فَفِيهِ بِضْعَةَ عَشَرَ مَذْهَبًا الْأَوَّلُ الْمَنْعُ منه مُطْلَقًا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ منهم الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وابن الصَّبَّاغِ وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ وابن الْحَاجِبِ قال الْبَاجِيُّ وهو قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وهو الْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ وَسَوَاءٌ كان الْوَقْتُ مُوَسَّعًا أو مُضَيَّقًا وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ عن عَامَّةِ الْأَصْحَابِ وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ ذَكَرَهُ في أَوَّلِ الْبَحْرِ وَكَذَا نَقَلَهُ
____________________
(4/567)
الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ عن عَامَّةِ الْأَصْحَابِ خَلَا ابْنِ سُرَيْجٍ قال وقال أبو إِسْحَاقَ إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وأبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ عن أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وهو النَّصُّ لِأَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ وَالثَّانِي يَجُوزُ مُطْلَقًا وَعَلَيْهِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ عن أبي حَنِيفَةَ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ قال الْكَرْخِيّ يَجُوزُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَكَذَا حَكَاهُ عنه أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ في أُصُولِهِ قال وَلِهَذَا جَوَّزَ تَقْلِيدَ الْقَاضِي فِيمَا اُبْتُلِيَ بِهِ من الْحُكْمِ قال الْقُرْطُبِيُّ وهو الذي ظَهَرَ من تَمَسُّكَاتِ مَالِكٍ في الْمُوَطَّأ وقال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ حَكَى الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ أَنَّ مَذْهَبَنَا ذلك وَلَا نَعْرِفُ وَالثَّالِثُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ فَقَطْ وَنُقِلَ عن الشَّافِعِيِّ في الْقَدِيمِ وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ من تَقْلِيدِهِ زَيْدَ بن ثَابِتٍ وَعُثْمَانَ وَغَيْرَهُمَا وقد أَجَابَ الرُّويَانِيُّ بِأَنَّ ذلك ليس تَقْلِيدًا وَإِنَّمَا هو اتِّفَاقُ رَأْيِهِ لِرَأْيِهِمْ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ صَرَّحَ في عُثْمَانَ بِالتَّقْلِيدِ وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ وَلَا يُقَلَّدُ أَحَدٌ بَعْدَهُمْ غير عُمَرَ بن عبد الْعَزِيزِ وَاسْتَغْرَبَهُ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ وَالرَّابِعُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ أَرْجَحَ في نَظَرِهِ من غَيْرِهِ فَإِنْ اسْتَوَوْا في نَظَرِهِ فيها تَخَيَّرَ في التَّقْلِيدِ لِمَنْ شَاءَ منهم وَلَا يَجُوزُ له تَقْلِيدُ من عَدَاهُمْ وَعَزَاهُ ابن الْحَاجِبِ إلَى الشَّافِعِيِّ وَالْخَامِسُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ وَالسَّادِسُ يُقَلِّدُ من هو أَعْلَمُ منه وَلَا يُقَلِّدُ من هو مِثْلُهُ وَنَقَلَهُ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ عن الْكَرْخِيِّ وقال إنَّهُ ضَرْبٌ من الِاجْتِهَادِ وَمَنْ يُقَوِّيهِ رَأْيُ الْآخَرُ في نَفْسِهِ على رَأْيِهِ لَفَضَلَ عليه فلم يَخْلُ في تَقْلِيدِهِ إيَّاهُ من اسْتِعْمَالِ الِاجْتِهَادِ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَالرُّويَانِيُّ عن مُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ وَكَذَا إلْكِيَا قال وَرُبَّمَا قال إنَّهُمَا سَوَاءٌ وَعَنْ هذا أَوْجَبَ قَوْمٌ تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ عن ابْنِ سُرَيْجٍ وَشَرَطَ معه ضِيقَ الْوَقْتِ وَالسَّابِعُ يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ دُونَ ما يُفْتِي بِهِ حَكَاهُ ابن الْقَاصِّ عن ابْنِ سُرَيْجٍ وهو يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ له الْحُكْمُ بِهِ من بَابِ أَوْلَى وهو مَبْنِيٌّ على تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ وَالثَّامِنُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ مِثْلِهِ فِيمَا يَخُصُّهُ إذَا خَشَى فَوَاتَ الْوَقْتِ فيها بِاشْتِغَالِهِ بِالْحَادِثَةِ وهو رَأْيُ ابْنِ سُرَيْجٍ قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ حَكَى عنه أَنَّهُ قال إنَّهُمْ إذَا
____________________
(4/568)
كَانُوا في سَفِينَةٍ وَخَفِيَتْ عليهم جِهَةُ الْقِبْلَةِ قَلَّدُوا الْمَلَّاحِينَ قال أبو الْعَبَّاسِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ قال في الصَّلَاةِ فَإِنْ خَفِيَتْ عليه الدَّلَائِلُ فَهُوَ كَالْأَعْمَى وقد ثَبَتَ أَنَّ الْأَعْمَى يُقَلِّدُ وَرَدَّ عليه أبو إِسْحَاقَ بِأَنَّهُ جَعَلَهُ كَالْأَعْمَى في الصَّلَاةِ يُصَلِّي على حَسَبِ حَالِهِ ثُمَّ يُعِيدُ ليس في أَنَّهُ يَجُوزُ له التَّقْلِيدُ وقد حَكَى الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ هذا الْمَذْهَبَ عن ابْنِ سُرَيْجٍ ثُمَّ غَلَّطَهُ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَقِيلَ إنْ ضَاقَ الْوَقْتُ عن الِاجْتِهَادِ فَلَهُ ذلك وَهَذَا قَرِيبٌ لِأَنَّ الْمُكْنَةَ التي جَعَلْنَاهَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الِاجْتِهَادِ قد تَعَذَّرَتْ بِسَبَبِ تَضَيُّقِ الْوَقْتِ وقد نَفَى الْقَفَّالُ الْخِلَافَ بين الْأَصْحَابِ في الْمَنْعِ من التَّقْلِيدِ مع التَّمَكُّنِ من الِاجْتِهَادِ وَلَكِنَّ الْمَحْكِيَّ عن ابْنِ سُرَيْجٍ نَقَلَهُ عن صَاحِبِ التَّلْخِيصِ سَمَاعًا منه وَالتَّاسِعُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْقَاضِي وَالْمُفْتِي في الْمُشْكِلِ عليه حَكَاهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا قال لِأَنَّهُ في الْمُشْكِلِ عليه كَالْعَامِّيِّ وَلَكِنَّ الْحَاكِمَ لَا ضَرُورَةَ له إلَى التَّقْلِيدِ بِمَا عِنْدَهُ من الْأَقَاوِيلِ وَتَوَلِّي غَيْرِهِ الْحُكْمَ فيه وَكَذَلِكَ الْمُفْتِي يُفَوِّضُ ذلك إلَى غَيْرِهِ من أَهْلِ الْعِلْمِ بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِ إذَا حَلَّتْ بِهِ نَازِلَةٌ فإنه مُضْطَرٌّ إلَى تَعْرِيفِ الْحُكْمِ فإذا اشْتَبَهَ عليه ولم يَصِلْ إلَى تَعْرِيفِ الْحُكْمِ إلَّا بِتَقْلِيدِ غَيْرِهِ وَجَبَ عليه وهو قَرِيبٌ من السَّابِعِ وَالْعَاشِرُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي دُونَ غَيْرِهِ وَهَذَا ظَاهِرُ ما نَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن ابْنِ سُرَيْجٍ فإنه نَصَّبَ الْخِلَافَ في حَاكِمٍ تَحْضُرُهُ الْحَادِثَةُ وَيَضِيقُ الْوَقْتُ عن الِاجْتِهَادِ وَنُقِلَ عن ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَجُوزُ له أَنْ يَحْكُمَ بِالتَّقْلِيدِ وَلَا يُفْتِيَ بِهِ إلَّا بَعْدَ اجْتِهَادِهِ قال وقال أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا ليس له الْحُكْمُ بِالتَّقْلِيدِ كما ليس له الْإِفْتَاءُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَخِّرَ حتى يَجْتَهِدَ أو يَسْتَخْلِفَ من اجْتَهَدَ فيه قَبْلَهُ انْتَهَى وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ الْمَنْعَ من الْإِفْتَاءِ مَحَلُّ وِفَاقٍ وَجَعَلَ ابن كَجٍّ في كِتَابِهِ في الْأُصُولِ وَالشَّيْخُ أبو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ الْخِلَافَ في تَقْلِيدِهِ في حَقِّ نَفْسِهِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقَلِّدَهُ لِيُفْتِيَ غَيْرَهُ أو يَحْكُمَ بِهِ على غَيْرِهِ ولم يَجُزْ له بِالِاتِّفَاقِ وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وابن الصَّبَّاغِ وَالْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ عن ابْنِ سُرَيْجٍ إنْ حَضَرَ ما يَنُوبُهُ كَالْحُكْمِ بين الْمُسَافِرِينَ وَهُمْ على الْخُرُوجِ جَازَ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ وَيَحْكُمَ قال الرَّافِعِيُّ وَيَنْبَغِي أَنْ يَطْرُدَهُ في الْفَتْوَى وَخَالَفَ ابن الرِّفْعَةِ وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْمُسْتَفْتِي بِسَبِيلٍ من تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ وَلَا ضَرُورَةَ إذًا وَلَا حَاجَةَ بِإِفْتَاءِ الْمُقَلِّدِ وَلَا كَذَلِكَ الْحَاكِمُ خُصُوصًا إذَا مَنَعَ من الِاسْتِخْلَافِ
____________________
(4/569)
الْحَادِيَ عَشَرَ الْوَقْفُ وَبِهِ يُشْعِرُ كَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فإنه قال يَجُوزُ في الْعَقْلِ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِهِ وَلَكِنْ لم يَقُمْ الدَّلِيلُ على وُجُودِهِ وَالْأَمْرَانِ يَسُوغَانِ في الْعَقْلِ وقد تَبَيَّنَ في الشَّرْعِ وُجُوبُ أَحَدِهِمَا وهو الْإِجْمَاعُ على أَنَّ لِلْمُجْتَهِدِ الِاجْتِهَادَ فَهَذَا الْوَاجِبُ لَا يَزُولُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَنُوزِعَ في الْإِجْمَاعِ فإن الْمُجَوِّزَ يقول الْوَاجِبُ إمَّا الِاجْتِهَادُ وَإِمَّا التَّقْلِيدُ فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ الْوَقْفُ فَرْعٌ لو كان لِمُجْتَهِدٍ حُكُومَةٌ فَحَكَمَ حَاكِمًا فيها يُخَالِفُ اجْتِهَادَهُ فإنه يَتَدَيَّنُ في الْبَاطِنِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَبِتَرْكِ اجْتِهَادِهِ سَوَاءٌ كان الْحُكْمُ له أو عليه وَلَيْسَ هذا من مَوْضِعِ الْخِلَافِ ذَكَرَهُ ابن بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ وَقِيلَ يَعْمَلُ في الْبَاطِنِ بِنَقِيضِ اجْتِهَادِهِ ذَكَرَهُ أبو الْخَطَّابِ في الِانْتِصَارِ وَعَلَيْهِ يَتَخَرَّجُ أَنَّهُ هل يَحِلُّ له أَخْذُ ما كان حَرَامًا في نَظَرِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ على الْخِلَافِ في أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ هل يُغَيِّرُ ما في الْبَاطِنِ فيه وَجْهَانِ وَلَهُمَا الْتِفَاتٌ إلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ أَمْ لَا مَسْأَلَةٌ مُجْتَهِدُ الصَّحَابَةِ إذَا لم يُجْعَلْ قَوْلُهُ حُجَّةً فَفِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِ في هذه الْأَعْصَارِ خِلَافٌ ذَهَبَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يُقَلِّدُهُ وَنَقَلَهُ عن إجْمَاعِ الْمُحَقِّقِينَ قالوا وَلَيْسَ هذا لِأَنَّ دُونَ الْمُجْتَهِدِينَ دُونَ الصَّحَابَةِ مَعَاذَ اللَّهِ فَهُمْ أَعْظَمُ وَأَجَلُ قَدْرًا بَلْ لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ لم يَثْبُتْ حَقَّ الثُّبُوتِ كما ثَبَتَتْ مَذَاهِبُ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ لهم أَتْبَاعٌ قد طَبَقُوا الْأَرْضَ وَلِأَنَّهُمْ لم يَعْتَنُوا بِتَهْذِيبِ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ ولم يُقَرِّرُوا لِأَنْفُسِهِمْ أُصُولًا تَفِي بِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ كُلِّهَا بِخِلَافِ من بَعْدَهُمْ فَإِنَّهُمْ كَفَوْا النَّظَرَ في ذلك وَسَبَرُوا وَنَظَرُوا وَأَكْثَرُوا أَوْضَاعَ الْمَسَائِلِ وَنَازَعَ الْمُقْتَرَحُ وقال لَا يَلْزَمُ من سَبْرِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وُجُوبُ تَقْلِيدِهِمْ لِأَنَّ من بَعْدَهُمْ جَمَعَ سَبْرًا أَكْثَرَ منهم وَيَنْبَغِي أَنْ يَتْبَعَ الْمُتَأَخِّرِينَ منهم على قَضِيَّةِ هذا قال إنَّمَا الظَّاهِرُ في التَّعْلِيلِ في الْعَوَامّ أَنَّهُمْ لو كُلِّفُوا تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ لَكَانَ فيه من الْمَشَقَّةِ عليهم ما لَا يُطِيقُونَ من تَعْطِيلِ مَعَاشِهِمْ وَغَيْرِ ذلك فَلِهَذَا سَقَطَ عَنْهُمْ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ
____________________
(4/570)
قُلْت وَسُئِلَ محمد بن سِيرِينَ فَأَحْسَنَ فيها الْجَوَابَ فقال له السَّائِلُ ما مَعْنَاهُ ما كانت الصَّحَابَةُ لِتُحْسِنَ أَكْثَرَ من هذا فقال مُحَمَّدٌ لو أَرَدْنَا فِقْهَهُمْ لَمَا أَدْرَكَهُ عُقُولُنَا رَوَاهُ أبو نُعَيْمٍ في الْحِلْيَةِ وَمَالَ ابن الْمُنَيَّرِ إلَى ما قَالَهُ الْإِمَامُ وَلَكِنْ لِغَيْرِ هذا الْمَأْخَذِ فقال ما حَاصِلُهُ إنَّهُ يَتَطَرَّقُ إلَى مَذْهَبِ الصَّحَابَةِ احْتِمَالَاتٌ لَا يَتَمَكَّنُ الْعَامِّيُّ مَعَهَا من التَّقْلِيدِ من قُوَّةِ عِبَارَاتِهِمْ وَاسْتِصْعَابِهَا على أَفْهَامِ الْعَامَّةِ وَمِنْهَا احْتِمَالُ رُجُوعِ الصَّحَابِيِّ عن ذلك الْمَذْهَبِ كما وَقَعَ لِعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ قد انْعَقَدَ بَعْدَ ذلك الْقَوْلِ على قَوْلٍ آخَرَ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ إسْنَادُ ذلك إلَى الصَّحَابَةِ على شَرْطِ الصِّحَّةِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَذَاهِبِ الْمُصَنِّفِينَ فَإِنَّهَا مُدَوَّنَةٌ في كُتُبِهِمْ وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْهُمْ بِنَقْلِهَا عن الْأَئِمَّةِ فَلِهَذِهِ الْغَوَائِلِ حَجَرْنَا على الْعَامِّيِّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ ثُمَّ وَرَاءَ ذلك غَائِلَةٌ هَائِلَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنَّ الْوَاقِعَةَ التي وَقَعَتْ له هِيَ الْوَاقِعَةُ التي أَفْتَى فيها الصَّحَابِيُّ وَيَكُونُ غَلَطًا لِأَنَّ تَنْزِيلَ الْوَقَائِعِ على الْوَقَائِعِ من أَدَقِّ وُجُوهِ الْفِقْهِ وَأَكْثَرِهَا لِلْغَلَطِ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَتَأَهَّلُ لِتَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ قَرِيبٌ من الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَتَأَهَّلُ لِلْعَمَلِ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَنُصُوصِهِ وَظَوَاهِرِهِ إمَّا لِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَهُوَ مُلْحَقٌ بِقَوْلِ الشَّارِعِ وَإِمَّا لِأَنَّهُ في عُلُوِّ الْمَرْتَبَةِ يَكَادُ يَكُونُ حُجَّةً فَامْتِنَاعُ تَقْلِيدِهِ لِعُلُوِّ قَدْرِهِ لَا لِنُزُولِهِ وَأَمَّا ابن الصَّلَاحِ فَجَزَمَ في كِتَابِ الْفُتْيَا بِمَا قَالَهُ الْإِمَامُ وزاد أَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ التَّابِعِينَ أَيْضًا وَلَا من لم يُدَوَّنْ مَذْهَبُهُ وَإِنَّمَا يُقَلِّدُ الَّذِينَ دُوِّنَتْ مَذَاهِبُهُمْ وَانْتَشَرَتْ حتى ظَهَرَ منها تَقْيِيدُ مُطْلَقِهَا وَتَخْصِيصُ عَامِّهَا بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ فإنه نُقِلَتْ عَنْهُمْ الْفَتَاوَى مُجَرَّدَةً فَلَعَلَّ لها مُكَمِّلًا أو مُقَيِّدًا أو مُخَصِّصًا أو أُنِيطَ كَلَامُ قَائِلِهِ فَامْتِنَاعُ التَّقْلِيدِ إنَّمَا هو لِتَعَذُّرِ نَقْلِ حَقِيقَةِ مَذْهَبِهِمْ وَعَلَى هذا فَيَنْحَصِرُ التَّقْلِيدُ في الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَسُفْيَانَ وَإِسْحَاقَ وَدَاوُد على خِلَافٍ في دَاوُد حَكَاهُ ابن الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ ذَوُو الْأَتْبَاعِ وَلِأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ جَرِيرٍ أَتْبَاعٌ قَلِيلَةٌ جِدًّا وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ يُقَلَّدُونَ لِأَنَّهُمْ قد نَالُوا رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَهُمْ بِالصُّحْبَةِ يَزْدَادُونَ رِفْعَةً وَهَذَا هو الصَّحِيحُ إنْ عُلِمَ دَلِيلُهُ وقد قال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ
____________________
(4/571)
في فَتَاوِيهِ إذَا صَحَّ عن بَعْضِ الصَّحَابَةِ مَذْهَبٌ في حُكْمٍ من الْأَحْكَامِ لم تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ أَوْضَحَ من دَلِيلِهِ وقد قال لَا خِلَافَ بين الْفَرِيقَيْنِ في الْحَقِيقَةِ بَلْ إنَّ تَحَقُّقَ ثُبُوتِ مَذْهَبٍ عن وَاحِدٍ منهم جَازَ تَقْلِيدُهُ وِفَاقًا وَإِلَّا فَلَا لَا لِكَوْنِهِ لَا يُقَلَّدُ بَلْ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ لم يَثْبُتْ حَقَّ الثُّبُوتِ وقال ابن بَرْهَانٍ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ يَنْبَنِي على جَوَازِ الِانْتِقَالِ في الْمَذَاهِبِ فَمَنْ مَنَعَهُ قال مَذَاهِبُ الصَّحَابَةِ لم تَكْثُرْ فُرُوعُهَا حتى يُمْكِنَ الْمُكَلَّفُ الِاكْتِفَاءَ بها فَيُؤَدِّيهِ ذلك إلَى الِانْتِقَالِ وهو مَمْنُوعٌ وَمَذَاهِبُ الْمُتَأَخِّرِينَ ضُبِطَتْ فَيَكْفِي الْمَذْهَبُ الْوَاحِدُ الْمُكَلَّفَ طُولَ عُمُرِهِ فَيَكْمُلُ هذا الْحُكْمُ وهو مَنْعُ تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ وقال إلْكِيَا بَعْدَ أَنَّ قَرَّرَ مَنْعَ الِانْتِقَالِ الْوَاحِدُ مِنَّا لَا يَأْخُذُ بِمَذْهَبِ الصَّحَابَةِ إذَا كان مُقَلِّدًا بَلْ يَأْخُذُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أو غَيْرِهِ من أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ من حَيْثُ إنَّ الْأُصُولَ التي وَضَعَهَا أبو بَكْرٍ لَا تَفِي بِمَجَامِعِ الْمَسَائِلِ وَأَمَّا الْأُصُولُ التي وَضَعَهَا الشَّافِعِيُّ وأبو حَنِيفَةَ فَهِيَ وَافِيَةٌ بها فَلَوْ قُلْنَا بِتَقْلِيدِ الصِّدِّيقِ في حُكْمٍ لَزِمَ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ في حُكْمٍ آخَرَ وقد لَا يَجِدُهُ مَسْأَلَةٌ الْقَائِلُونَ بِالتَّقْلِيدِ أَوْجَبُوا التَّقْلِيدَ في هذه الْأَعْصَارِ وَمُسْتَنَدُهُمْ فيه أَنَّهُمْ اسْتَوْعَبُوا الْأَسَالِيبَ الشَّرْعِيَّةَ فلم يَبْقَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أُسْلُوبٌ مُتَمَاسِكٌ على السَّبْرِ وَلِهَذَا لَمَّا أَحْدَثَتْ الظَّاهِرِيَّةُ وَالْجَدَلِيَّةُ بَعْدَهُمْ خِلَافَ أَسَالِيبِهِمْ قَطَعَ كُلُّ مُحَقِّقٍ أنها بِدَعٌ وَمَخَارِقُ لَا حَقَائِقَ لَكِنَّ الْجَدَلِيَّةَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تَثْبُتُ بِتِلْكَ الْأَسَالِيبِ الْجَدَلِيَّةِ وَإِنَّمَا عُمْدَتُهُمْ في اسْتِحْدَاثِهَا تَمْرِينُ الْأَذْهَانِ وَتَفْتِيحُ الْأَفْكَارِ وَأَمَّا كَوْنُهُمْ يَعْتَقِدُونَ أنها مُسْتَنَدَاتٌ وَحُجَجٌ عِنْدَ اللَّهِ يَلْقَى بها فَلَا وَأَمَّا الظَّاهِرِيَّةُ فلما أَحْدَثُوا قَوَاعِدَ تُخَالِفُ قَوَاعِدَ الْأَوَّلِينَ أَفْضَتْ بِهِ إلَى الْمُنَاقَضَةِ لِمَجْلِسِ الشَّرِيعَةِ وَلَمَّا اجْتَرَءُوا على دَعْوَى أَنَّهُمْ على الْحَقِّ وَأَنَّ غَيْرَهُمْ على الْبَاطِلِ أُخْرِجُوا من أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ ولم يَعُدَّهُمْ الْمُحَقِّقُونَ من أَحْزَابِ الْفُقَهَاءِ وَسَبَقَ في بَابِ الْإِجْمَاعِ الْكَلَامُ على أَنَّهُ هل يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ وَهَذَا كُلُّهُ يُوَضِّحُ أَنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى اتِّبَاعِ الْمُتَقَدِّمِينَ لِأَنَّهُمْ سَبَقُوهُمْ بِالْبُرْهَانِ حتى لم يُبْقُوا لهم بَاقِيَةً يَسْتَبِدُّونَ بها وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ من يَشَاءُ وَلَكِنَّ الْفَضْلَ لِلْمُتَقَدِّمِ وَظَهَرَ بهذا تَعَذُّرُ إثْبَاتِ مَذْهَبٍ مُسْتَقِلٍّ بِقَوَاعِدَ
____________________
(4/572)
مَسْأَلَةٌ قال الشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ في كِتَابِ الْمُحِيطِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَنْتَحِلَ نِحْلَةَ الشَّافِعِيِّ أو غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ له من نَوْعِ اجْتِهَادٍ وَسَهَّلَ ذلك على الْعَامِّيِّ فإنه إذَا قِيلَ له فُلَانٌ يَتَّبِعُ السُّنَنَ وَفُلَانٌ يُخَالِفُهَا بِالرَّأْيِ وَالِاسْتِحْسَانِ ثُمَّ قال بَعْدَ كَلَامٍ له خَرَجَ لنا من هذا أَنَّ الْجُهَّالَ مَمْنُوعُونَ من التَّقْلِيدِ في شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَصْلُ التَّوْحِيدِ والثاني أَصْلُ الْمَذْهَبِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ اخْتَلَفَ الناس فِيمَا اخْتَلَفَ فيه الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ ما الذي أَوْجَبَ على قَوْمٍ اخْتِيَارَ مَذْهَبٍ من الْمَذَاهِبِ دُونَ غَيْرِهِ فَذَهَبَ أَصْحَابُ دَاوُد وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ إلَى أَنَّا إنَّمَا رَجَعْنَا إلَى مَذَاهِبِهِمْ وَالْأَخْذِ بِأَقَاوِيلِهِمْ وَالْعَمَلِ بِفَتَاوَاهُمْ تَقْلِيدًا له وَلَا يَجِبُ الْفَحْصُ وَالْبَحْثُ عن الْأَدِلَّةِ وَمِنْهُمْ من قال بِصِحَّةِ قَوْلِهِمْ دُونَ قَوْلِ غَيْرِهِمْ وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِيَ لِأَحَدٍ منهم الْعِصْمَةَ في جَمِيعِ ما ذَهَبَ إلَيْهِ وَقَالَهُ فإن هذه مَرْتَبَةُ الْأَنْبِيَاءِ قال وَالصَّحِيحُ الذي ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ ما ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَنَّا إنَّمَا صِرْنَا إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا على طَرِيقِ التَّقْلِيدِ وَإِنَّمَا هو من طَرِيقِ الدَّلِيلِ وَذَلِكَ أَنَّا وَجَدْنَاهُ أَهْدَى الناس في الِاجْتِهَادِ وَأَكْمَلَهُمْ آلَةً وَهِدَايَةً فيه فلما كانت طَرِيقَتُهُ أَسَدَّ الطُّرُقِ سَلَكْنَاهُ في الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ في الْأَحْكَامِ وَالْفَتَاوَى لَا أَنَّا قَلَّدْنَاهُ أَمَّا في اللُّغَةِ وَمُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ فَلِأَنَّهُ كان أَعْلَمَ الْأَئِمَّةِ بِذَلِكَ بَلْ قَوْلُهُ حُجَّةٌ في اللُّغَةِ وهو أَوَّلُ من صَنَّفَ في الْأُصُولِ قال أَحْمَدُ لم نَكُنْ نَعْرِفُ الْخُصُوصَ وَالْعُمُومَ حتى وَرَدَ الشَّافِعِيُّ وَأَمَّا في الحديث فَقَدْ فَزِعَ أَصْحَابُنَا من أَنْ يَذْكُرُوا فَضْلَهُ على غَيْرِهِ مَخَافَةَ أَنْ لَا يُقْبَلَ منهم لِأَجْلِ مَالِكٍ وَمِنْهُ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَلَيْسَ كما زَعَمُوا بَلْ جَمِيعُ ما عَوَّلَ عليه مَالِكٌ حَفِظَهُ الشَّافِعِيُّ وزاد عليه بِرِوَايَتِهِ عن غَيْرِهِ فَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّهُ كان أَقْدَمَ في هذه الصَّنْعَةِ من مَالِكٍ وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ وَأَمَّا الْآي وَالسُّنَنُ وَالْآثَارُ فَكَانَ أَعْلَمَهُمْ بها انْتَهَى قال ابن الصَّلَاحِ وَدَعْوَى انْتِفَاءِ التَّقْلِيدِ عَنْهُمْ مُطْلَقًا مَمْنُوعٌ إلَّا أَنْ يَكُونُوا قد أَحَاطُوا بِعُلُومِ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَعْلُومِ من أَحْوَالِهِمْ وَذَهَبَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ إلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ هو الذي يَجِبُ على كل مَخْلُوقٍ عَامِّيٍّ تَقْلِيدُهُ وَتَابَعَهُمَا على ذلك طَائِفَةٌ
____________________
(4/573)
وَذَهَبَ ابن حَزْمٍ إلَى أَنَّهُ لَا يُقَلَّدُ إلَّا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فَإِنْ كان لَا بُدَّ من غَيْرِهِمْ تَقْلِيدًا فَيَتَعَيَّنُ محمد بن نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ من أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَطْنَبَ في وَصْفِ مُحَمَّدِ بن نَصْرٍ وَهَذَا لَا يَخْرُجُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَكَأَنَّ ابْنَ حَزْمٍ يَدَّعِي أَنَّهُ إنْ كان لَا بُدَّ من تَقْلِيدٍ فَلْيُقَلَّدْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ قال وَالتَّقْلِيدُ إنَّمَا اُبْتُدِئَ بِهِ بَعْدَ الْمِائَةِ وَالْأَرْبَعِينَ من الْهِجْرَةِ ولم يَكُنْ في الْإِسْلَامِ قبل ذلك مُسْلِمٌ وَاحِدٌ فَصَاعِدًا يُقَلِّدُ عَالِمًا بِعَيْنِهِ لَا يُخَالِفُهُ قال ابن الْمُنَيَّرِ وقد ذَكَرَ قَوْمٌ من أَتْبَاعِ الْمَذَاهِبِ في تَفْضِيلِ أَئِمَّتِهِمْ وَأَحَقُّ ما يُقَالُ في ذلك ما قالت أُمُّ الْكَمَلَةِ عن بَنِيهَا ثَكِلْتُهُمْ إنْ كُنْت أَعْلَمُ أَيَّهُمْ أَفْضَلَ كَالْحَلْقَةِ الْمُفْرَغَةِ لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا فما من وَاحِدٍ منهم إذَا تَجَرَّدَ النَّظَرُ إلَى خَصَائِصِهِ إلَّا وَيَفْنَى الزَّمَانُ حتى لَا يَبْقَى فِيهِمْ فَضْلَةٌ لِتَفْضِيلٍ على غَيْرِهِ وَهَذَا سَبَبُ هُجُومِ الْمُفَضَّلِينَ على التَّعْيِينِ لِأَجْلِ غَلَبَةِ الْعَادَةِ فَلَا يَكَادُ يَسَعُ ذِهْنُ أَحَدٍ من أَصْحَابِهِ لِتَفْضِيلِ غَيْرِ مُقَلِّدِهِ إلَى ضِيقِ الْأَذْهَانِ عن اسْتِيعَابِ خَصَائِصِ الْمُفَضَّلِينَ جَاءَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وما نُرِيهِمْ من آيَةٍ إلَّا هِيَ أَكْبَرُ من أُخْتِهَا يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ إذَا جُرِّدَ النَّظَرُ إلَيْهَا قال النَّاظِرُ حِينَئِذٍ هذه أَكْبَرُ الْآيَاتِ وَإِلَّا فما يُتَصَوَّرُ في آيَتَيْنِ أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَكْبَرَ من الْأُخْرَى بِكُلِّ اعْتِبَارٍ لِتَنَاقُضِ الْأَفْضَلِيَّةِ وَالْمَفْضُولِيَّةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ انْخَرَقَتْ بِهِمْ الْعَادَةُ على مَعْنَى الْكَرَامَةِ عِنَايَةً من اللَّهِ بِهِمْ فإذا قِيسَ أَحْوَالُهُمْ بِأَحْوَالِ أَقْرَانِهِمْ كانت خَارِقَةً لِعَوَائِدِ أَشْكَالِهِمْ مَسْأَلَةٌ من قَلَّدَ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ ثُمَّ ارْتَفَعَ قَلِيلًا إلَى دَرَجَةِ الْفَهْمِ وَالِاسْتِبْصَارِ فإذا رَأَى حَدِيثًا مُحْتَجًّا بِهِ يُخَالِفُ رَأْيَ إمَامِهِ وقال بِهِ قَوْمٌ فَهَلْ له الِاجْتِهَادُ وفي ذلك أَطْلَقَ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ وابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ أَنَّهُ يَجِبُ عليه الْأَخْذُ بِالْحَدِيثِ لِأَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَقَدْ قال إذَا رَأَيْتُمْ قَوْلِي بِخِلَافِ قَوْلِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَخُذُوا بِهِ وَدَعُوا قَوْلِي وقال الْقَرَافِيُّ قد اعْتَمَدَ كَثِيرٌ من فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ على هذا وهو غَلَطٌ فإنه لَا بُدَّ من انْتِفَاءِ الْمُعَارِضِ وَالْعِلْمُ بِعَدَمِ الْمُعَارِضِ يَتَوَقَّفُ على من له أَهْلِيَّةُ اسْتِقْرَاءِ الشَّرِيعَةِ حتى يُحْسِنَ أَنْ يُقَالَ لَا مُعَارِضَ لِهَذَا الحديث أَمَّا اسْتِقْرَاءُ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ وَهَذَا الذي قَالَهُ الْقَرَافِيُّ تَحْجِيرٌ وما يُرِيدُ بِ انْتِفَاءِ الْمُعَارِضِ إنْ كان في نَفْسِ الْأَمْرِ فَبَاطِلٌ أَمَّا على قَوْلِ الْمُصَوِّبَةِ فَبَاطِلٌ وَأَمَّا على قَوْلِ أَنَّ الْمُصِيبَ
____________________
(4/574)
وَاحِدٌ فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِمَا في نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَإِنْ كان الْمُرَادُ بِهِ في نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّ مِثْلَ هذا الْقَوْلِ إذَا كان له الْحُكْمُ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ دَلِيلٌ ثُمَّ يقول إذَا صَحَّ حَدِيثٌ أَقْوَى مِمَّا عِنْدِي فَذَلِكَ مَذْهَبِي فَخُذُوا بِهِ وَاتْرُكُوا قَوْلِي فَكَيْفَ يَصِحُّ هذا مع عَدَمِ الْمُعَارِضِ قال ابن الصَّلَاحِ وقد عَمِلَ بهذا جَمْعٌ من الْأَصْحَابِ كَالْبُوَيْطِيِّ وَالدَّارَكِيِّ وَغَيْرِهِمَا من الْأَصْحَابِ وَلَيْسَ هذا بِالْهَيِّنِ فَلَيْسَ كُلُّ فَقِيهِ يُسَوِّغُ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِالْعَمَلِ بِمَا يَرَاهُ حُجَّةً من الْمَذْهَبِ وقد عَمِلَ أبو الْوَلِيدِ بن الْجَارُودِ بِحَدِيثٍ تَرَكَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَجَابَ عنه وهو حَدِيثُ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ وَعَنْ ابْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّهُ قِيلَ له هل تَعْرِفُ سُنَّةً لِلرَّسُولِ في الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لم يُودِعْهَا الشَّافِعِيُّ كِتَابَهُ قال لَا قال أبو عَمْرٍو وَعِنْدَ هذا نَقُولُ إنْ كان فيه آلَاتُ الِاجْتِهَادِ مُطْلَقًا أو في ذلك الْبَابِ أو في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ كان له الِاسْتِقْلَالُ بِالْعَمَلِ بِذَلِكَ الحديث وَإِنْ لم تَكْتَمِلُ آلَتُهُ وَوَجَدَ في قَلْبِهِ حَزَازَةً من الحديث ولم يَجِدْ له مُعَارِضًا بَعْدَ الْبَحْثِ فَإِنْ كان قد عَمِلَ بِذَلِكَ الحديث إمَامٌ مُسْتَقِلٌّ فَلَهُ التَّمَذْهُبُ بِهِ وَيَكُونُ ذلك عُذْرًا له في تَرْكِ قَوْلِ إمَامِهِ وقال أبو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ إنَّمَا يَكُونُ هذا لِمَنْ له رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ في الْمَذْهَبِ أو قَرِيبٌ منه وَشَرْطُهُ أَنْ يَغْلِبَ على ظَنِّهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لم يَقِفْ على هذا الحديث أو لم يَعْلَمْ صِحَّتَهُ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مُطَالَعَةِ كُتُبِ الشَّافِعِيِّ كُلِّهَا وَنَحْوِهَا من كُتُبِ أَصْحَابِ الْآخِذِينَ عنه وَهَذَا شَرْطٌ صَعْبٌ قَلَّ من يَتَّصِفُ بِهِ وقال ابن الزَّمْلَكَانِيِّ إنْ كانت له قُوَّةٌ لِلِاسْتِنْبَاطِ لِمَعْرِفَتِهِ بِالْقَوَاعِدِ وَكَيْفِيَّةِ اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ من الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ثُمَّ اسْتَقَلَّ بِالْمَنْقُولِ بِحَيْثُ عَرَفَ ما في الْمَسْأَلَةِ من إجْمَاعٍ أو اخْتِلَافٍ وَجَمَعَ الْأَحَادِيثَ التي فيها وَالْأَدِلَّةَ وَرُجْحَانَ الْعَمَلِ بِبَعْضِهَا فَهَذَا هو الْمُجْتَهِدُ في الْجُزْئِيِّ وَالْمُتَّجَهُ أَنَّهُ يَجِبُ عليه الْعَمَلُ بِمَا قام عِنْدَهُ على الدَّلِيلِ وَلَا يُسَوَّغُ له التَّقْلِيدُ وإذا تَأَمَّلَ الْبَاحِثُ عن حَالِ الْأَئِمَّةِ الْمَنْقُولِ أَقَاوِيلُهُمْ وَعُدُّوا من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ثُمَّ أَنَّهُمْ إنَّمَا عُدُّوا لِذَلِكَ لِاسْتِجْمَاعِهِمْ شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ الْكُلِّيَّةَ الْمُشْتَرَكَةَ بين جَمِيعِ الْمَسَائِلِ وَأَحَاطُوا بِأَدِلَّةِ جُمْلَةِ غَالِبٍ من الْأَحْكَامِ وقد عُلِمَ من حَالِ جَمْعٍ منهم
____________________
(4/575)
في بَعْضِ الْمَسَائِلِ عَدَمُ الِاطِّلَاعِ على ما وَرَدَ في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَمِنْهُمْ من يُعَلِّقُ الْقَوْلَ على صِحَّةِ حَدِيثٍ لم يَكُنْ قد صَحَّ عِنْدَهُ وَمِنْهُمْ من يقول إنْ صَحَّ هذا الْحَدِيثُ كَذَا وَإِنْ صَحَّ قُلْت بِهِ ثُمَّ يَجِدُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ قد صَحَّتْ وَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُعَلَّقُ عليه قد صَحَّ أو يُعَلِّلُ رَدَّ الحديث بِعِلَّةٍ ظَهَرَتْ له يَظْهَرُ انْتِفَاؤُهَا وَمِثْلُ ذلك في قَوْلِ الْأَئِمَّةِ كَثِيرٌ وَلَا سِيَّمَا من كَثُرَ أَخْذُهُ بِالرَّأْيِ وَتَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ فإذا كان هذا الْمَوْصُوفُ يُقَلِّدُ الْإِمَامَ في مَسَائِلَ يُسَوَّغُ له التَّقْلِيدُ فيها وَقَعَ له في مَسْأَلَةٍ هذه الْأَهْلِيَّةُ تَعَيَّنَ عليه الرُّجُوعُ إلَى الدَّلِيلِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَامْتَنَعَ عليه التَّقْلِيدُ وَأَمَّا من لم يَبْلُغْ هذه الدَّرَجَةَ بَلْ له أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ وَالتَّرْجِيحِ وَفِيهِ قُصُورٌ عن جَمِيعِ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ الْمُشْتَرَكَةِ وَلَكِنْ جَمَعَ أَدِلَّةَ تِلْكَ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا وَعَرَفَ مَذْهَبَ الْعُلَمَاءِ فيها لِهَذَا لَا يَتَعَيَّنُ عليه الْعَمَلُ بِقَوْلِ إمَامِهِ وَلَا بهذا الدَّلِيلِ بَلْ يَجُوزُ له التَّقْلِيدُ وَيَنْبَغِي له تَقْلِيدُ من الْحَدِيثُ في جَانِبِهِ إذَا لم يَعْلَمْ اطِّلَاعَ إمَامِهِ عليه وَتَرَكَهُ لِعِلَّةٍ فيه أو لِوُجُودِ أَقْوَى منه أَمَّا إنْ كان قد جَمَعَ أَهْلِيَّةَ الِاجْتِهَادِ الْمُشْتَرَكَةِ بين جَمِيعِ الْمَسَائِلِ ولم يَجْمَعْ أَدِلَّةَ هذه الْمَسَائِلِ بَلْ رَأَى فيها حَدِيثًا يَقُومُ بمثله الْحُجَّةُ فَهَذَا له أَحْوَالٌ أَحَدُهَا أَنْ يَعْلَمَ حُجَّةَ إمَامِهِ كَمُخَالَفَةِ مَالِكٍ لِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ على خِلَافِهِ فَإِنْ كان مِمَّنْ يَعْتَقِدُ رُجْحَانَ مَذْهَبِ إمَامِهِ بِطَرِيقِهِ فَلْيَعْمَلْ بِقَوْلِهِ وهو أَوْلَى وَإِنْ لم يَتَعَيَّنْ الثَّانِيَةُ أَنْ يَعْلَمَ إجْمَالًا أَنَّ لِإِمَامِهِ أو لِمَنْ خَالَفَ الْعَمَلَ بهذا الحديث أَدِلَّةً يَجُوزُ مَعَهَا الْمُخَالَفَةُ أو يَقْوَى فَلَا يَتَعَيَّنُ عليه بَلْ لَا يَتَرَجَّحُ مُخَالَفَةُ إمَامِهِ وَلَهُ تَقْلِيدُ الْقَائِلِ بِالْحَدِيثِ من الْمُجْتَهِدِينَ الثَّالِثَةُ أَنْ لَا يَعْلَمَ الْحُجَّةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِمُخَالَفَةِ الحديث إجْمَالًا وَلَا تَفْصِيلًا وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُخَالِفِ حُجَّةٌ تَسُوغُ مَعَهَا الْمُخَالَفَةُ وَأَنْ لَا يَكُونَ لِكَوْنِهِ لم يَجْمَعْ أَدِلَّةَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ نَقْلًا وَاسْتِدْلَالًا فَالْأَوْلَى بهذا تَتَبُّعُ الْمَآخِذِ فإذا لم يَتَبَيَّنْ له ما يُعَارِضُ الحديث من أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَالْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ أَوْلَى تَقْلِيدًا لِمَنْ عَمِلَ بِهِ وَلَهُ الْبَقَاءُ على تَقْلِيدِ إمَامِهِ وَيَدُلُّ لِهَذَا ما اُسْتُقْرِئَ من أُصُولِ الصَّحَابَةِ وَمُقَلِّدِيهِمْ فَإِنَّهُمْ لم يُنْكِرُوا على من اسْتَفْتَاهُمْ في مَسْأَلَةٍ وَسَأَلَ غَيْرَهُمْ عن أُخْرَى أُمِرَ بِالْعَوْدِ إلَى من قَلَّدَ قبل ذلك
____________________
(4/576)
مَسْأَلَةٌ الْبَارِعُ في الْمَذْهَبِ وَمَآخِذِهِ هل له أَنْ يُفْتِيَ أو يَحْكُمَ بِالْوُجُوهِ الْمَرْجُوحَةِ إذَا قَوِيَ مُدْرِكُهَا لم أَرَ فيه نَصًّا وَيَحْتَمِلُ أَوْجُهًا منها التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ قَائِلُ ذلك الْوَجْهِ أَفْتَى بِهِ فَيَجُوزُ أو قَالَهُ على سَبِيلِ التَّجْوِيزِ وَالِاحْتِمَالِ وَتَبَيَّنَ الْمَأْخَذُ فَلَا ومنها وهو الْأَقْرَبُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ ذلك من بَابِ الِاحْتِيَاطِ في الدِّينِ كَجَرَيَانِ الرَّبَّا في الْفُلُوسِ إذَا رَاجَتْ رَوَاجَ النُّقُودِ وَبُطْلَانِ بَيْعِ الْعَيِّنَةِ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ اتَّخَذَهُ عَادَةً وَنَحْوِهِ فَيَجُوزُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ من بَابِ التَّرْخِيصِ وَالتَّخْفِيفِ فَمُمْتَنِعٌ وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ تَبَحُّرِ ذلك الْمُفْتِي أو الْحَاكِمِ في الْمَذْهَبِ وَإِلَّا فَيَمْتَنِعُ قَطْعًا وَحَيْثُ جَازَ فَلَا يُنْسَبُ ذلك إلَى الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ إذَا لم يَثْبُتْ له الْقَوْلُ الْمُخَرَّجُ فَالْوَجْهُ أَوْلَى وهو فِيمَا إذَا كان له نَصٌّ بِخِلَافِهَا أَوْلَى وَلِهَذَا قال الْقَفَّالُ في فَتَاوِيهِ لو قال بِعْتُك صَاعًا من هذه الصُّبْرَةِ نَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَقِيلَ له كَيْفَ تُفْتِي في هذه الْمَسْأَلَةِ فقال على مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فإن من يَسْأَلُنِي إنَّمَا يَسْأَلُنِي عن مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا عن مَذْهَبِي انْتَهَى وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِفَتْوَى غَيْرِهِ أَمَّا في حَقِّ نَفْسِهِ وَقَوِيَ عِنْدَهُ مَذْهَبُ غَيْرِ إمَامِهِ لم يَجُزْ له تَقْلِيدُهُ لَكِنَّ وُقُوعَ هذا نَادِرٌ لِأَنَّ نَظَرَ الْأَئِمَّةِ كان نَظَرًا مُتَنَاسِبًا مُفَرَّعًا في كل مَذْهَبٍ على قَوَاعِدَ لَا تَنْخَرِمُ مَسْأَلَةٌ في تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ مَذَاهِبُ أَحَدُهَا امْتِنَاعُهُ وَنُقِلَ عن أَحْمَدَ وَابْنِ شُرَيْحٍ لِأَنَّ اعْتِقَادَ الْمَفْضُولِ كَاعْتِقَادِ الْمُجْتَهِدِ الدَّلِيلَ الْمَرْجُوحَ مع وُجُودِ الْأَرْجَحِ الثَّانِي وهو أَصَحُّهَا وَاخْتَارَهُ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ الْجَوَازُ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ على تَفَاوُتِهِمْ في الْفَهْمِ ثُمَّ إجْمَاعُهُمْ على تَسْوِيغِ تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ مع وُجُودِ الْأَفْضَلِ وَالثَّالِثُ يَجُوزُ لِمَنْ يَعْتَقِدُهُ فَاضِلًا أو مُسَاوِيًا وَالْخِلَافُ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّظَرِ الْوَاحِدِ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عليه تَقْلِيدُ أَفْضَلِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَإِنْ كان نَائِبًا عن إقْلِيمِهِ فَهَذِهِ الصُّورَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْخِلَافَ فَعَلَى هذا لَا يَجِبُ على أَحَدٍ الِاشْتِغَالُ بِتَرْجِيحِ إمَامٍ على
____________________
(4/577)
إمَامٍ بَعْدَ اجْتِمَاعِ شَرَائِطِ الْفَتْوَى وَمِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ اجْتِهَادُ الْعَامِّيِّ في النَّظَرِ في الْأَعْلَمِ وَسَيَأْتِي مَسْأَلَةٌ غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ يَجُوزُ له تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ الْحَيِّ بِاتِّفَاقٍ كَذَا قالوا لَكِنْ مَنَعَهُ ابن حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ وَرَوَى بِسَنَدِهِ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه النَّهْيَ عن تَقْلِيدِ الْأَحْيَاءِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عليه الْفِتْنَةُ قال وَإِنْ كان لَا مَحَالَةَ مُقَلِّدًا فَلْيُقَلِّدْ الْمَيِّتَ انْتَهَى فَإِنْ قَلَّدَ مَيِّتًا فَفِيهِ مَذَاهِبُ أَحَدُهَا وهو الْأَصَحُّ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا كما قَالَهُ الرُّويَانِيُّ الْجَوَازُ وقد قال الشَّافِعِيُّ الْمَذَاهِبُ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ أَرْبَابِهَا وَلَا بِفَقْدِ أَصْحَابِهَا وَرُبَّمَا حُكِيَ فيه الْإِجْمَاعُ وَأَيَّدَهُ الرَّافِعِيُّ بِمَوْتِ الشَّاهِدِ بَعْدَمَا يُؤَدِّي شَهَادَتَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فإن شَهَادَتَهُ لَا تَبْطُلُ قُلْت وَلِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ من بَعْدِي أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَقَوْلُهُ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ وَلِهَذَا يُعْتَدُّ بِأَقْوَالِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ في الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ وَاحْتَجَّ الْأُصُولِيُّونَ عليه بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ في زَمَانِنَا على جَوَازِ الْعَمَلِ بِفَتَاوَى الْمَوْتَى وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ قال الْهِنْدِيُّ وَهَذَا فيه نَظَرٌ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ من أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَهُمْ الْمُجْتَهِدُونَ وَالْمُجْمِعُونَ لَيْسُوا مُجْتَهِدِينَ فَلَا يُعْتَبَرُ إجْمَاعُهُمْ بِحَالٍ أو نَقُولُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى إنَّمَا يُعْتَبَرُ اتِّفَاقُهُمْ على جَوَازِ إفْتَاءِ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ فَلَوْ أَثْبَتَ جَوَازَ إفْتَائِهِ بهذا لَزِمَ الدَّوْرُ انْتَهَى وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ إجْمَاعُ الْمُجْتَهِدِينَ قَاطِبَةً ثُمَّ قال وَالْأَوْلَى في ذلك التَّمَسُّكُ بِالضَّرُورَةِ فَإِنَّا لو لم نُجَوِّزْ ذلك لَأَدَّى إلَى فَسَادِ أَحْوَالِ الناس وَهَذَا شَيْءٌ سَبَقَهُ إلَيْهِ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ فَقَالُوا لو مَنَعْنَا من تَقْلِيدِ الْمَاضِينَ لَتَرَكْنَا الناس حَيَارَى وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ الْخِلَافَ يَجْرِي وَإِنْ لم يَكُنْ في الْعَصْرِ مُجْتَهِدٌ وَذَلِكَ هو صَرِيحُ قَوْلِ الْمَحْصُولِ إنَّهُ لَا يَجْتَهِدُ الْيَوْمَ مع قَوْلِهِ قَبْلَهُ لَا يُقَلَّدُ الْمَيِّتُ وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كان في الْقُطْرِ مُجْتَهِدٌ وَمُجْتَهِدُونَ فَمِنْ
____________________
(4/578)
قَائِلٍ مَوْتُ الْمُجْتَهِدِ لَا يُمِيتُ قَوْلَهُ فَكَأَنَّهُ أَحَدُ الْأَحْيَاءِ فَيُقَلَّدُ وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ وَمِنْ قَائِلٍ بَلْ يَبْطُلُ قَوْلُهُ وَيَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْحَيِّ وقد كان يُمْكِنُ أَنْ يُفَصِّلَ بين أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ أَرْجَحَ من الْحَيِّ فَلَا يُتْرَكُ قَوْلُهُ لَا سِيَّمَا إذَا أَوْجَبْنَا تَقْلِيدَ الْأَعْلَمِ أو يُفَصِّلَ بين أَنْ يَطَّلِعَ الْمُجْتَهِدُ الْحَيُّ على مَأْخَذِ الْمَيِّتِ ثُمَّ يُخَالِفُهُ فَلَا يُقَلِّدُ الْمَيِّتَ حِينَئِذٍ أو لَا يَطَّلِعُ فَيُقَلِّدُ فيه نَظَرٌ وَاحْتِمَالٌ وَالثَّانِي الْمَنْعُ الْمُطْلَقُ إمَّا لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ كَمَنْ تَجَدَّدَ فِسْقُهُ بَعْدَ عَدَالَتِهِ لَا يَبْقَى حُكْمُ عَدَالَتِهِ وَإِمَّا لِأَنَّ قَوْلَهُ وَصْفُهُ وَبَقَاءُ الْوَصْفِ مع زَوَالِ الْأَصْلِ مُحَالٌ وَإِمَّا لِأَنَّهُ لو كان حَيًّا لَوَجَبَ عليه تَجْدِيدُ الِاجْتِهَادِ وَعَلَى تَقْدِيرِ تَجْدِيدِهِ لَا يَتَحَقَّقُ بَقَاؤُهُ على الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَتَقْلِيدُهُ بِنَاءً على وَهْمٍ أو تَرَدُّدٍ وَالْقَوْلُ بِذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وَهَذَا الْوَجْهُ نَقَلَهُ ابن حَزْمٍ عن الْقَاضِي قال وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ قَبْلَهُ وَنَصَرَهُ ابن الْفَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ في كِتَابِ النُّكَتِ وَحَكَى الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ فيه إجْمَاعَ الْأُصُولِيِّينَ وقال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ إنَّهُ الْقِيَاسُ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ فيه فقال اخْتَلَفُوا في غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ هل يَجُوزُ له الْفَتْوَى بِمَا يَحْكِيهِ عن الْمُفْتِينَ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَحْكِيَ عن مَيِّتٍ أو عن حَيٍّ فَإِنْ حَكَى عن مَيِّتٍ لم يَجُزْ له الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَا قَوْلَ لِلْمَيِّتِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ مع خِلَافِهِ حَيًّا وَيَنْعَقِدُ مع مَوْتِهِ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّهُ لم يَبْقَ له قَوْلٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنْ قُلْت لِمَ صُنِّفَتْ كُتُبُ الْفِقْهِ مع فَنَاءِ أَصْحَابِهَا قُلْت لِفَائِدَتَيْنِ إحْدَاهُمَا اسْتِبَانَةُ طُرُقِ الِاجْتِهَادِ من تَصَرُّفِهِمْ في الْحَوَادِثِ وَكَيْفَ بُنِيَ بَعْضُهَا على بَعْضٍ وَالثَّانِيَةُ مَعْرِفَةُ الْمُتَّفَقِ عليه من الْمُخْتَلِفِ فَلَا يُفْتَى بِغَيْرِ الْمُتَّفَقِ عليه ثُمَّ قال وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إذَا كان الرَّاوِي عَدْلًا ثِقَةً مُتَمَكِّنًا من فَهْمِ كَلَامِ الْمُجْتَهِدِ الذي مَاتَ ثُمَّ رَوَى لِلْعَامِّيِّ قَوْلَهُ حَصَلَ لِلْعَامِّيِّ ظَنَّ صِدْقِهِ ثُمَّ إذَا كان الْمُجْتَهِدُ عَدْلًا ثِقَةً عَالِمًا فَذَلِكَ يُوجِبُ ظَنَّ صِدْقِهِ في تِلْكَ الْفَتْوَى فَحِينَئِذٍ يَتَوَلَّدُ من هَاتَيْنِ الطَّبَقَتَيْنِ لِلْعَامِّيِّ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ نَفْسُ ما رَوَى له هذا الرَّاوِي الْحَيُّ عن ذلك الْمُجْتَهِدِ الْمَيِّتِ وَالْعَمَلُ بِالظَّنِّ وَاجِبٌ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ على الْعَامِّيِّ الْعَمَلُ بِذَلِكَ وَأَيْضًا فَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ في زَمَانِنَا هذا على جَوَازِ الْعَمَلِ بهذا النَّوْعِ من الْفَتْوَى لِأَنَّهُ ليس في هذا الزَّمَانِ مُجْتَهِدٌ وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ
____________________
(4/579)
قال النَّقْشَوَانِيُّ في قَوْلِ الْإِمَامِ ليس في الزَّمَانِ مُجْتَهِدٌ مع قَوْلِهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ مُنَاقَضَةٌ وقد سَلِمَ في الْمُنْتَخَبِ منها ولم يَقُلْ فيه أَنَّهُ لَا يَجْتَهِدُ في زَمَنِنَا وَاخْتَصَرَهُ صَاحِبُ التَّحْصِيلِ إلَّا أَنَّهُ لم يَقُلْ وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ وَلَكِنْ قال وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ في زَمَانِنَا وَكُلُّ ذلك سَعْيٌ في دَفْعِ التَّنَاقُضِ وَاَلَّذِي فَعَلَهُ في الْمُنْتَخَبِ هو الذي فَعَلَهُ صَاحِبُ الْحَاصِلِ تِلْمِيذُ الْإِمَامِ وهو أَعْرَفُ أَصْحَابِهِ بِكَلَامِهِ فقال وَأَيْضًا فَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ في زَمَانِنَا على جَوَازِ الْعَمَلِ بِفَتَاوَى الْمَوْتَى وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فقال في الْمِنْهَاجِ وَاخْتُلِفَ في تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ وَالْمُخْتَارُ جَوَازُهُ لِلْإِجْمَاعِ عليه في زَمَانِنَا فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَصَرَّفُوا في كَلَامِ الْإِمَامِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَاَلَّذِينَ نَقَلُوا كَلَامَهُ اعْتَرَضُوا عليه بِالْمُنَاقَضَةِ كالنقشواني وَاَلَّذِي يَدْفَعُ التَّنَاقُضَ أَنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ لَا مُجْتَهِدَ في الزَّمَانِ لَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ في زَمَانِنَا لِأَنَّ الْمَعْنَى بِهِ إجْمَاعُ السَّابِقِينَ على حُكْمِ أَهْلِ هذا الزَّمَانِ فيه كما أَنَّا نَحْكُمُ الْآنَ على أَهْلِ الزَّمَانِ الذي تَنْدَرِسُ فيه أَعْلَامُ الشَّرِيعَةِ وقد عَقَدَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْغِيَاثِيِّ بَابًا عَظِيمًا في ذلك وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ سَيَأْتِي وَالثَّالِثُ الْجَوَازُ بِشَرْطِ فَقْدِ الْحَيِّ وَجَزَمَ إلْكِيَا وابن بَرْهَانٍ وَالرَّابِعُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ النَّاقِلُ له أَهْلٌ لِلْمُنَاظَرَةِ مُجْتَهِدًا في ذلك الْمُجْتَهَدِ الذي يُحْكَى عنه فَيَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا قَالَهُ الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هذا مَأْخُوذًا من وَجْهٍ حَكَاه الرَّافِعِيُّ في مَسْأَلَةِ ما إذَا عَرَفَ الْعَامِّيُّ مَسْأَلَةً أو مَسَائِلَ بِدَلَائِلِهَا أَنَّهُ إنْ كان الدَّلِيلُ نَقْلِيًّا جَازَ أو قِيَاسِيًّا فَلَا وَعَلَى هذا فَيَنْبَغِي لِلْهِنْدِيِّ أَنْ يُقَيِّدَ تَفْصِيلَهُ بِمَا إذَا كان الْمَنْقُولُ قِيَاسِيًّا وَأَنْ لَا يُجَوِّزَهُ إذَا كان نَقْلِيًّا لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ فإن الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ وَلَا فُتْيَاهُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ بهذا الْقَدْرِ من الْمَعْرِفَةِ لَا يَخْرُجُ عن كَوْنِهِ عَامًّا وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْهِنْدِيَّ إنَّمَا أَخَذَ تَفْصِيلَهُ من بِنَاءِ الْأَصْحَابِ جَوَازَ فُتْيَا مُتَبَحِّرِ الْمَذْهَبِ بِمَذْهَبِ الْمَيِّتِ على جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ النَّاقِلَ بِحَيْثُ لَا يُوثَقُ بِنَقْلِهِ فَهْمًا وَإِنْ وُثِقَ بِهِ نَقْلًا تَطَرَّقَ عَدَمُ الْوُثُوقِ بِفَهْمِهِ إلَى عَدَمِ الْوُثُوقِ بِنَقْلِهِ وَصَارَ عَدَمُ قَبُولِهِ لِعَدَمِ حُجَّةِ الْمَذْهَبِ الْمَنْقُولِ إلَيْهِ لَا لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُقَلِّدُ فَلَيْسَ التَّفْصِيلُ وَاقِفًا غير أَنَّ عُذْرَ الْهِنْدِيِّ أَنَّهُ لم يَعْقِدْ الْمَسْأَلَةَ لِتَقْلِيدِ الْمَيِّتِ كما فَعَلَ الْإِمَامُ
____________________
(4/580)
تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ قِيلَ الْخِلَافُ هُنَا مُخْرِجٌ من الْخِلَافِ في إعَادَةِ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ حُدُوثِ الْحَادِثَةِ مَرَّةً أُخْرَى الثَّانِي قَيَّدَ بَعْضُهُمْ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ بِمَا إذَا كان في الْعَصْرِ مُجْتَهِدٌ أو مُجْتَهِدُونَ فَإِنْ لم يَكُنْ فَلَا خِلَافَ في تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ لِئَلَّا تَضِيعَ الشَّرِيعَةُ قال وَإِطْلَاقُ من أَطْلَقَ مَحْمُولٌ عليه إنَّمَا النَّظَرُ في شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا إذَا لم يَخْلُ عن مُجْتَهِدٍ فَفِي ظَنِّ كَثِيرٍ من الناس أَنَّهُ يُقَلِّدُ الْمَيِّتَ حِينَئِذٍ وَالْمَنْقُولُ عن الْغَزَالِيِّ وَابْنِ عبد السَّلَامِ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدِ الْعَصْرِ وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَيِّتِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِجْمَاعُ على تَقْلِيدِ الْمَوْتَى إلَّا من غَيْرِ الْمُجْتَهِدِينَ فَاجْتَمَعَ قَوْلُ الْإِمَامِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ وَقَوْلُهُ لَا مُجْتَهِدَ في الزَّمَانِ إذَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لو كان في الزَّمَانِ مُجْتَهِدٌ لم يَنْعَقِدْ الْإِجْمَاعُ على تَقْلِيدٍ بَلْ إمَّا أَنْ تَخْتَلِفَ في ذلك إنْ كان في تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ عِنْدَ وُجُودِ مُجْتَهِدٍ حَيٍّ خِلَافٌ وَإِمَّا أَنْ يَتَّفِقَ على أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُقَلَّدُ حِينَئِذٍ لِلِاسْتِغْنَاءِ عنه بِالْمُجْتَهِدِ الْحَيِّ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْغَزَالِيِّ وَابْنِ عبد السَّلَامِ وَثَانِيهِمَا إذَا خَلَا عن مُجْتَهِدٍ وَنَقَلَ عن الْمُجْتَهِدِينَ نَاقِلُونَ هل يُؤْخَذُ بِنَقْلِ كل عَدْلٍ أَمْ لَا يُؤْخَذُ إلَّا بِنَقْلِ عَارِفٍ مُجْتَهِدٍ في مَذْهَبِ من يَنْقُلُ عنه هذا مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَقَوْلُ الْإِمَامِ فُتْيَا غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ بِقَوْلِ الْمَيِّتِ لَا يَجُوزُ إنْ أَرَادَ رِوَايَتَهُ فَهِيَ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا إذَا كان عَدْلًا وَأَمَّا الْعَمَلُ بِالْمَرْوِيِّ فَإِنْ كان حَيًّا فَلَا شَكَّ في جَوَازِهِ وَإِنْ كان مَيِّتًا فَهِيَ مَسْأَلَةُ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّ هذا إذَا كان نَاقِلًا مَحْضًا عن نَصٍّ أَمَّا إذَا كان مُخْرِجًا فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فيه لِأَنَّ الْعَامِّيَّ الصِّرْفَ لَا قُدْرَةَ له على التَّخْرِيجِ فَلَا يُمْكِنُهُ فَعَلَى هذا فَالْخِلَافُ في النَّاقِلِ الْمَحْضِ وَاَلَّذِي رَجَّحَهُ الْهِنْدِيُّ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ إلَّا بِنَقْلِ مُجْتَهِدٍ في الْمَذْهَبِ قَادِرٍ على النَّظَرِ في الْمُنَاظَرَةِ وَرَجَّحَ غَيْرُهُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِنَقْلِ كل عَدْلٍ وَلَا يَخْفَى في أَنَّ ذلك عِنْدَ التَّعَارُضِ في النَّقْلِ فَرْعٌ لو اسْتَفْتَى مُجْتَهِدًا فَأَجَابَهُ ولم يَعْمَلْ بِفَتْوَاهُ حتى مَاتَ الْمُجْتَهِدُ فَهَلْ يَجُوزُ له الْعَمَلُ بِفَتْوَاهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ وَالْجَوَازُ هُنَا أَقْرَبُ من التي قَبْلَهَا
____________________
(4/581)
مَسْأَلَةٌ غَرِيبَةٌ تَعُمُّ بها الْبَلْوَى من عَاصَرَ مُفْتِيًا أَفْتَى بِشَيْءٍ وَصَادَفَ فَتْوَاهُ مُخَالِفَةً لِمَذْهَبِ الْإِمَامِ الذي تَقَلَّدَهُ فَهَلْ يَتَّبِعُ الْمُفْتِيَ لِأَنَّهُ لَا يُخَالِفُهُ إلَّا بَعْدَ اعْتِقَادِ تَأْوِيلِهِ أو الْإِمَامَ الْمُتَقَدِّمَ لِظُهُورِ كَلَامِهِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ذَكَرَهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْغِيَاثِيِّ وقال فيه تَرَدُّدٌ ثُمَّ قال وَالِاخْتِيَارُ اتِّبَاعُ مُفْتِي الزَّمَانِ من حَيْثُ إنَّهُ بِتَأَخُّرِهِ سَبَرَ مَذَاهِبَ من كان قَبْلَهُ وَنَظَرُهُ في التَّفَاصِيلِ أَشَدُّ من نَظَرِ الْمُقَلَّدِ على الْجُمْلَةِ قال وَلَا يَجِيءُ ذلك في اتِّبَاعِ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ عن الشَّافِعِيِّ لِتَفَاوُتِ مَرَاتِبِهِمْ وَعُسْرِ الْوُقُوفِ عليها قُلْت وقد عَمِلَ بِذَلِكَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أبو شَامَةَ وَقَدَّمَ فَتْوَى ابْنِ عبد السَّلَامِ في تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ على ظَاهِرِ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَصَنَّفَ فيه تَصْنِيفًا قال الْإِمَامُ وَهَذَا إذَا كان الْإِمَامُ الْمُقَلَّدُ نَصَّ في الْمَسْأَلَةِ فَأَمَّا إذَا لم يَصِحَّ فيه مَذْهَبٌ فَلَيْسَ إلَّا تَقْلِيدُ مُفْتِي الزَّمَانِ مَسْأَلَةٌ إذَا اجْتَهَدَ مُجْتَهِدٌ في حَادِثَةٍ فَلَهُ ثَلَاثُ حَالَاتٍ أَحَدُهُمَا أَنْ يَغْلِبَ على ظَنِّهِ شَيْءٌ فَيَعْمَلُ بِهِ ثُمَّ لَا يَتَبَيَّنُ له خِلَافُهُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ فَإِنْ كان مُسْتَنَدُ الثَّانِي أَيْضًا ظَنًّا فَإِنْ كان في حُكْمٍ لم يَنْقُضْهُ إذْ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ وَإِنْ كان في الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ أَخَذَ بِالثَّانِي الذي رَجَحَ عِنْدَهُ وَإِنْ كان مُسْتَنَدُ الثَّانِي أَيْضًا يَقِينًا أَخَذَ بِهِ الثَّالِثَةُ أَنْ لَا يَظْهَرَ لِلْمُجْتَهِدِ فيه شَيْءٌ فَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ وَالْأَصَحُّ الِامْتِنَاعُ وَعَلَى هذا فَيَجِيءُ خِلَافُ التَّخْيِيرِ أو الْوَقْفِ مَسْأَلَةٌ إذَا اجْتَهَدَ مُجْتَهِدٌ في حُكْمِ وَاقِعَةٍ وَبَلَغَ إلَى حُكْمِهَا ثُمَّ تَكَرَّرَتْ تِلْكَ الْوَاقِعَةُ وَتَجَدَّدَ ما يَقْتَضِي الرُّجُوعَ ولم يَكُنْ ذَاكِرًا لِلدَّلِيلِ الْأَوَّلِ وَجَبَ تَجْدِيدُ الِاجْتِهَادِ وَكَذَا إنْ لم يَتَجَدَّدْ لَا إنْ كان ذَاكِرًا على الْمُخْتَارِ وَقِيلَ يَلْزَمُهُ تَجْدِيدُ النَّظَرِ لَعَلَّهُ يَظْفَرُ بِخَطَأٍ أو زِيَادَةٍ لِمُقْتَضٍ ذَكَرَ بَعْضَ هذا التَّفْصِيلِ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ وَفَصَّلَ
____________________
(4/582)
أبو الْخَطَّابِ من الْحَنَابِلَةِ بين ما دَلَّ عليه دَلِيلٌ قَاطِعٌ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهِ وَأَمَّا ابن السَّمْعَانِيِّ فَأَطْلَقَ حِكَايَةَ وَجْهَيْنِ وَاخْتَارَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَكْرِيرُ الِاجْتِهَادِ وَأَطْلَقَ الرَّافِعِيُّ أَيْضًا حِكَايَةَ وَجْهَيْنِ وقال النَّوَوِيُّ أَصَحُّهُمَا لُزُومُ الِاجْتِهَادِ قال وَهَذَا إذَا لم يَكُنْ ذَاكِرًا لِلدَّلِيلِ الْأَوَّلِ ولم يَتَجَدَّدْ ما قد يُوجِبُ رُجُوعَهُ فَإِنْ كان ذَاكِرًا لم يَلْزَمْهُ قَطْعًا وَإِنْ تَجَدَّدَ ما قد يُوجِبُ الرُّجُوعَ لَزِمَهُ قَطْعًا وقال الْقَاضِي شُرَيْحٌ الرُّويَانِيُّ في كِتَابِهِ رَوْضَةِ الْحُكَّامِ إذَا اجْتَهَدَ لِنَازِلَةٍ فَحَكَمَ أو لم يَحْكُمْ ثُمَّ حَدَثَتْ تِلْكَ النَّازِلَةُ ثَانِيًا فَهَلْ يَسْتَأْنِفُ الِاجْتِهَادَ وَجْهَانِ وَالصَّحِيحُ إنْ كان الزَّمَانُ قَرِيبًا لَا يَخْتَلِفُ في مِثْلِهِ الِاجْتِهَادُ لَا يَسْتَأْنِفُ الِاجْتِهَادَ وَإِنْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ اسْتَأْنَفَ انْتَهَى وَهَكَذَا الْعَامِّيُّ يَسْتَفْتِي ثُمَّ تَقَعُ له الْوَاقِعَةُ هل يُعِيدُ السُّؤَالَ فيه هذا الْخِلَافُ وقال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ وَالْخُوَارِزْمِيُّ في الْكَافِي وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ يَنْظُرُ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَفْتَاهُ عن نَصِّ كِتَابٍ أو سُنَّةٍ أو إجْمَاعٍ أو كان قد تَبَحَّرَ في مَذْهَبٍ وَاحِدٍ من أَئِمَّةِ السَّلَفِ ولم يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فَأَفْتَاهُ عن نَصِّ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِالْفَتْوَى الْأُولَى وَكَذَا لو كان الْمُقَلَّدُ مَيِّتًا وَجَوَّزْنَاهُ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَفْتَاهُ عن اجْتِهَادٍ أو شَكٍّ فَلَا يَدْرِي وَالْمُقَلَّدُ حَيٌّ فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى السُّؤَالِ ثَانِيًا لِأَنَّ الظَّاهِرَ اسْتِمْرَارُهُ على الْجَوَابِ الْأَوَّلِ وَأَصَحُّهُمَا قال الرَّافِعِيُّ وَاخْتَارَهُ الْقَفَّالُ أَنَّهُ يَجِبُ عليه تَجْدِيدُ السُّؤَالِ ثَانِيًا لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَتَغَيَّرُ اجْتِهَادُهُ فَعَلَى هذا يُعْمَلُ بِالْفَتْوَى الثَّانِيَةِ سَوَاءً وَافَقَتْ الْأُولَى أَمْ لَا قال في الْبَحْرِ وَهُمَا كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ صلى الظُّهْرَ إلَى جِهَةِ الِاجْتِهَادِ ثُمَّ صلى الْعَصْرَ هل يَعْمَلُ على اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ وَجْهَانِ قال وَهَذَا عِنْدِي إذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْفَتْوَى الْأُولَى يَجُوزُ لِغَيْرِ الِاجْتِهَادِ فيها غَالِبًا فَإِنْ قَرُبَ لم يَلْزَمْ الِاسْتِفْتَاءُ ثَانِيًا قال النَّوَوِيُّ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا لم يَكْثُرْ وُقُوعُ هذه الْمَسْأَلَةِ فَإِنْ كَثُرَ لم يَجِبْ على الْعَامِّيِّ تَجْدِيدُ السُّؤَالِ قَطْعًا وَحَكَى في الْمَنْخُولِ وَجْهَيْنِ في وُجُوبِ الْمُرَاجَعَةِ ثُمَّ اخْتَارَ التَّفْصِيلَ بين أَنْ تَبْعُدَ الْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا أو تَكَرَّرَ الْوَاقِعَةُ في كل يَوْمٍ كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ فَلَا يُرَاجِعُ قَطْعًا وَأَطْلَقَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في تَعْلِيقِهِ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الْمُرَاجَعَةِ على الْمُقَلِّدِ عِنْدَ التَّكْرَارِ وَكَلَامُهُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ ذلك بِمَا إذَا كانت الْمَسْأَلَةُ مُجْتَهَدًا فيها أَمَّا لو كان الْمُفْتِي حين أَفْتَاهُ قال له ذلك عن نَصٍّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِعَادَةِ وَجَعَلَ الْهِنْدِيُّ في النِّهَايَةِ فِيمَا إذَا كان الْعَامِّيُّ ذَاكِرًا لِلْحُكْمِ وَإِلَّا وَجَبَ عليه الِاسْتِفْتَاءُ
____________________
(4/583)
ثَانِيًا قَطْعِيًّا وَخَصَّ ابن الصَّلَاحِ الْخِلَافَ بِمَا إذَا قَلَّدَ حَيًّا وَقَطَعَ فِيمَا إذَا كان خَبَرًا عن مَيِّتٍ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْعَامِّيَّ تَجْدِيدُ السُّؤَالِ مَسْأَلَةٌ إذَا اجْتَهَدَ في حَادِثَةٍ وَأَفْتَى فيها ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ لَزِمَ إعْلَامُ الْمُسْتَفْتِي بِالرُّجُوعِ قبل الْعَمَلِ وَكَذَا بَعْدَهُ حَيْثُ يَجِبُ النَّقْضُ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ وَنَقَلَ في الْقَوَاطِعِ أَنَّهُ إنْ كان عَمِلَ بِهِ لم يَلْزَمْهُ وَإِنْ لم يَكُنْ عَمِلَ بِهِ يَلْزَمُهُ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ إنَّمَا يَعْمَلُ بِهِ لِأَنَّهُ قَوْلُ الْمُفْتِي وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ ليس قَوْلَهُ من تِلْكَ الْحَالَةِ التي يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ وَهَلْ يَجِبُ نَقْضُ ما عَمِلَ يُنْظَرُ فَإِنْ كان الثَّانِي في مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ لم يَنْقُضْهُ وَإِنْ كان بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ وَجَبَ نَقْضُهُ لَا مَحَالَةَ مَسْأَلَةٌ إذَا رَجَعَ الْمُجْتَهِدُ عن قَوْلٍ تَقَدَّمَ له ولم يَقْطَعْ بِخَطَأِ نَفْسِهِ فَهَلْ يَسُوغُ تَقْلِيدُهُ في ذلك الْقَوْلِ الْمَرْجُوعِ عنه كَلَامُ الشَّافِعِيِّ يَقْتَضِي الْمَنْعَ فإنه قال ليس في حِلٍّ من رَوَى عَنِّي الْقَدِيمَ
____________________
(4/584)
الْإِفْتَاءُ وَالِاسْتِفْتَاءُ الْمُفْتِي هو الْفَقِيهُ وقد تَقَدَّمَ في حَدِّ الْفِقْهِ ما يُؤْخَذُ منه اسْمُ الْفَقِيهِ لِأَنَّ من قَامَتْ بِهِ صِفَةٌ جَازَ أَنْ يُشْتَقَّ لها منها اسْمُ فَاعِلٍ قال الصَّيْرَفِيُّ وَمَوْضُوعُ هذا الِاسْمِ لِمَنْ قام لِلنَّاسِ بِأَمْرِ دِينِهِمْ وَعَلِمَ جُمَلَ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَخُصُوصِهِ وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ وَكَذَلِكَ في السُّنَنِ وَالِاسْتِنْبَاطِ ولم يُوضَعْ لِمَنْ عَلِمَ مَسْأَلَةً وَأَدْرَكَ حَقِيقَتَهَا فَمَنْ بَلَغَ هذه الْمَرْتَبَةَ سَمَّوْهُ هذا الِاسْمَ وَمَنْ اسْتَحَقَّهُ أَفْتَى فِيمَا اُسْتُفْتِيَ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ الْمُفْتِي من اسْتَكْمَلَ فيه ثَلَاثَ شَرَائِطَ الِاجْتِهَادُ وَالْعَدَالَةُ وَالْكَفُّ عن التَّرْخِيصِ وَالتَّسَاهُلِ وَلِلْمُتَسَاهِلِ حَالَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنْ يَتَسَاهَلَ في طَلَبِ الْأَدِلَّةِ وَطُرُقِ الْأَحْكَامِ وَيَأْخُذُ بِمَبَادِئِ النَّظَرِ وَأَوَائِلِ الْفِكَرِ فَهَذَا مُقَصِّرٌ في حَقِّ الِاجْتِهَادِ وَلَا يَحِلُّ له أَنْ يُفْتِيَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَفْتَى وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَتَسَاهَلَ في طَلَبِ الرُّخَصِ وَتَأَوُّلِ الشُّبَهِ فَهَذَا مُتَجَوِّزٌ في دِينِهِ وهو آثَمُ من الْأَوَّلِ فَأَمَّا إذَا عَلِمَ الْمُفْتِي جِنْسًا من الْعِلْمِ بِدَلَائِلِهِ وَأُصُولِهِ وَقَصَّرَ فِيمَا سِوَاهُ كَعِلْمِ الْفَرَائِضِ وَعِلْمِ الْمَنَاسِكِ لم يَجُزْ له أَنْ يُفْتِيَ في غَيْرِهِ وَهَلْ يَجُوزُ له أَنْ يُفْتِيَ فيه قِيلَ نعم لِإِحَاطَتِهِ بِأُصُولِهِ وَدَلَائِلِهِ وَمَنَعَهُ الْأَكْثَرُونَ لِأَنَّ لِتَنَاسُبِ الْأَحْكَامِ وَتَجَانُسِ الْأَدِلَّةِ امْتِزَاجًا لَا يَتَحَقَّقُ إحْكَامُ بَعْضِهَا إلَّا بَعْدَ الْإِشْرَافِ على جَمِيعِهَا انْتَهَى وَتَجَوَّزَ ابن الصَّبَّاغِ فَجَوَّزَهُ في الْفَرَائِضِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْفَرَائِضَ لَا تُبْنَى على غَيْرِهَا بِخِلَافِ ما عَدَاهَا من الْأَحْكَامِ فَإِنَّهَا يَرْتَبِطُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وهو حَسَنٌ وَسَوَاءٌ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ وَقِيلَ لَا يَقْضِي الْقَاضِي في الْمُعَامَلَاتِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ وَيَلْزَمُ الْحَاكِمَ من الِاسْتِظْهَارِ في الِاجْتِهَادِ أَكْثَرُ مِمَّا يَلْزَمُ الْمُفْتِي وفي فَتْوَى الْمَرْأَةِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابن الْقَطَّانِ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا قال وَخَصَّهُمَا بِمَا عَدَا أَزْوَاجِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الذُّكُورَةَ لَا تُشْتَرَطُ وَلَا يَلْزَمُ عليه كَوْنُ الْحُكْمِ لَا تَتَوَلَّاهُ امْرَأَةٌ لِأَنَّهَا لَا تَلِي الْإِمَامَةَ فَلَا تَلِي الْحُكْمَ قال ابن الْقَطَّانِ وَهَذَا التَّخْرِيجُ غَلَطٌ بَلْ الصَّوَابُ الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ وَالْمُسْتَفْتِي من ليس بِفَقِيهٍ ثُمَّ إنْ قُلْنَا بِتَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ فَقَدْ يَكُونُ الشَّخْصُ مُفْتِيًا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَمْرٍ مُسْتَفْتِيًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِ وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْعِ فَالْمُفْتِي من كان عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْقُوَّةِ
____________________
(4/585)
الْقَرِيبَةِ من الْفِعْلِ وَالْمُسْتَفْتِي من لَا يَعْرِفُ جَمِيعَهَا مسألة المجتهد يجوز له الإفتاء وأما المقلد فقال أبو الحسين البصري وغيره ليس له الإفتاء مطلقا وجوزه قوم مطلقا إذا عرف المسألة بدليلها فذهب الأكثرون إلى أنه إن تحرى مذهب ذلك المجتهد واطلع على مأخذه وكان أهلا للنظر والتفريع على قواعده جاز له الفتوى وإلا فلا ونقله القاضي حسين عن القفال قال القاضي وله أن يخرج على أصوله إن لم يجد له تلك الواقعة قال الروياني وأصل الخلاف أن تقليد المستفتي هل هو لذلك المفتي أو لذلك الميت أي صاحب المذهب وفيه وجهان فإن قلنا للميت فله أن يفتي وإن قلنا للمفتي فليس له ذلك لأنه لم يبلغ مبلغ المجتهدين وقال العلامة مجد الدين بن دقيق العيد في التلقيح توقيف الفتيا على حصول المجتهد يفضي إلى حرج عظيم أو استرسال الخلق في أهوائهم فالمختار أن الراوي عن الأئمة المتقدمين إذا كان عدلا متمكنا من فهم كلام الإمام ثم حكى للمقلد قوله فإنه يكتفي به لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي أنه حكم الله عنده وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النوع من الفتيا هذا مع العلم الضروري بأن نساء الصحابة كن يرجعن في أحكام الحيض وغيره إلى ما يخبر به أزواجهن عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك فعل علي رضي الله عنه حين أرسل المقداد في قصة المذي وفي مسألتنا أظهر فإن مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ممكنة ومراجعة المقلد الآن للأئمة السابقين متعذرة وقد أطبق الناس على تنفيذ أحكام القضاة مع عدم شرائط الاجتهاد اليوم انتهى وقال آخرون إن عدم المجتهد جاز له الإفتاء وإلا فلا وقيل يجوز لمقلد الحي أن يفتي بما شافهه به أو ينقله إليه موثوق بقوله أو وجده مكتوبا في كتاب معتمد عليه ولا يجوز له تقليد الميت وجعل القاضي في مختصر التقريب الخلاف في العالم قال وأجمعوا على أنه لا يحل لمن شدا شيئا من العلم أن يفتي انتهى قال الماوردي والروياني إذا علم العامي حكم الحادثة ودليلها فهل له أن يفتي لغيره
____________________
(4/586)
فيه أوجه ثالثها إن كان الدليل نصا من كتاب أو سنة جاز وإن كان نظرا واستنباطا لم يجز قال والأصح أنه لا يجوز مطلقا لأنه قد يكون هناك دلالة تعارضها أقوى منها وقال الجويني في شرح الرسالة من حفظ نصوص الشافعي وأقوال الناس بأسرها غير أنه لا يعرف حقائقها ومعانيها لا يجوز له أن يجتهد ويقيس ولا يكون من أهل الفتوى ولو أفتى به لا يجوز وكان القفال يقول إنه يجوز ذلك إذا كان يحكي مذهب صاحب المذهب لأنه يقلد صاحب المذهب وقوله ولهذا كان يقول أحيانا لو اجتهدت وأدى اجتهادي إلى مذهب أبي حنيفة فأقول مذهب الشافعي كذا ولكن أقول بمذهب أبي حنيفة لأنه جاء ليعلم ويستفتي عن مذهب الشافعي فلا بد أن أعرفه بأني أفتي بغيره قال الشيخ أبو محمد وهذا ليس بصحيح واختار الأستاذ أبو إسحاق خلافه ونص الشافعي يدل عليه وذلك أنه إذا لم يكن عالما بمعانيه فيكون حاكيا مذهب الغير ومن حكى مذهب الغير والغير ميت لا يلزمه القبول لأنه لو كان حيا وأخبره عنه بفتواه أو مذهبه في زمان لا يجوز له أن يقلده ويقبله كما أن اجتهاد المفتي يتغير في كل زمان ولهذا قلنا إنه لا يجوز لعامي أن يعمل بفتوى مضت لعام مثله فإن قلت أليس خلافه لا يموت بموته فدل على بقاء مذهبه قلنا كما زعمتم لكن هذا الرجل لم يقلده قول هذا الرجل بأن الأمر فيه كيت وكيت فينبغي أن يكون عالما بمصادره وموارده ويدل على فساد ما قاله أنه لو صح فتواه من غير معرفة حقيقة معناه لجاز للعامي الذي جمع فتاوى المفتين أن يفتي ويلزمه مثله ولجاز أن يقول هو مقلد صاحب المقالة ولكن اتفق القائلون به على الامتناع من هذا أما إذا أفتى بمذهب غيره فإن كان متبحرا فيه جاز وإلا فلا قال وكان ابن سريج يفتي أحيانا بمذهب مالك وكان متبحرا لأنه حكى أن أصحاب مالك كانوا يأتونه بمسائل يسألونه إخراجها على أصل مالك فيستخرجها على أصله فدل على أنه من كان بهذه الصفة يجوز وإلا فيمتنع وهكذا كل من كان في مذهب نفسه لا يعرف إلا يسيرا ليس له أن يفتي قال والعلوم أنواع أحدها الفقه وهو فن على حدة فمن بلغ فيه غاية ما وصفناه فله أن يفتي وإن لم يكن معه من أصول التوحيد إلا ما لا بد من اعتقاده ليصح إيمانه وثانيها علم أصول الفقه وما زال الأستاذ أبو إسحاق يقول هو علم بين علمين لا يقوى الفقه دونه ولا يقوى هو دون أصول التوحيد فكأنه فرع لأحدهما
____________________
(4/587)
أصل للآخر فيخرج من هذا أن لا نقول أصول الفقه من جنسه حتى لا بد من ضمه إليه لكن لا يقوم دليله دونه وثالثها تفسير القرآن وكل ما تتعلق به الأحكام فليس ذلك من شأن المفسر بل من وظيفة الفقهاء والعلماء وما يتعلق بالوعظ والقصص والوعد والوعيد فيقبل من المفسرين والرابع سنن الرسول لا يقبل من المحدثين ما يتعلق بالأحكام لأنه يحتاج إلى جمع وترتيب وتخصيص وتعميم وهم لا يهتدون إليه وقد حكي عن بعض أكابر المحدثين أنه سئل عن امرأة حائض هل يجوز لها أن تغسل زوجها فقال لهم انصرفوا إلى سويعة أخرى فانصرفوا وعادوا ثانيا وثالثا حتى قال من كان يتردد إلى الفقهاء أليس أيها الشيخ رويت لنا عن عائشة أنها غسلت رأس الرسول صلى الله عليه وسلم وهي حائض فقال الله أكبر ثم أفتى به انتهى وقد سبق آخر الكلام على شروط الاجتهاد كلام لابن دقيق العيد ينبغي استحضاره هنا مَسْأَلَةٌ وَإِنَّمَا يُسْأَلُ من عُرِفَ عِلْمُهُ وَعَدَالَتُهُ بِأَنْ يَرَاهُ مُنْتَصِبًا لِذَلِكَ وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ على سُؤَالِهِ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ عَرَفَ بِضِدِّ ذلك إجْمَاعًا وَالْحَقُّ مَنْعُ ذلك مِمَّنْ جُهِلَ حَالُهُ خِلَافًا لِقَوْمٍ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ كَوْنُهُ جَاهِلًا أو فَاسِقًا كَرِوَايَتِهِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الْأَصْلَ في الناس الْعَدَالَةُ فَخَبَرُ الْمَجْهُولِ يَغْلِبُ على الظَّنِّ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ وَلَيْسَ الْأَصْلُ في الناس الْعِلْمَ وَمِمَّنْ حَكَى الْخِلَافَ في اسْتِفْتَاءِ الْمَجْهُولِ الْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيَّ وابن الْحَاجِبِ وَنُقِلَ في الْمَحْصُولِ الِاتِّفَاقُ على الْمَنْعِ فَحَصَلَ طَرِيقَانِ وإذا لم يُعْرَفْ عِلْمُهُ بُحِثَ عن حَالِهِ ثُمَّ شَرَطَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ إخْبَارَ من يُوجِبُ خَبَرُهُ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ عَالِمًا في الْجُمْلَةِ وَلَا يَكْفِي خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ وَاكْتَفَى في الْمَنْخُولِ في الْعَدَالَةِ خَبَرُ عَدْلَيْنِ وفي الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ
____________________
(4/588)
إنِّي مُفْتٍ قال وَاشْتِرَاطُ تَوَاتُرِ الْخَبَرِ بِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا كما قَالَهُ الْأُسْتَاذُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ التَّوَاتُرَ يَعْتَمِدُ في الْمَحْسُوسَاتِ وَهَذَا ليس منه وقال الْقَاضِي يَكْفِيهِ أَنْ يُخْبِرَهُ عَدْلَانِ بِأَنَّهُ مُفْتٍ انْتَهَى وَشَرَطَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ من الْمُحَقِّقِينَ امْتِحَانَهُ بِأَنْ يُلَفِّقَ مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةً وَيُرَاجِعَهُ فيها فَإِنْ أَصَابَ فيها غَلَبَ على ظَنِّهِ كَوْنُهُ مُجْتَهِدًا وَقَلَّدَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ وَذَهَبَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَتَكْفِي الِاسْتِفَاضَةُ من الناس وهو الرَّاجِحُ في الرَّوْضَةِ وَنَقَلَهُ عن الْأَصْحَابِ وَقِيلَ ليس له اعْتِمَادُ قَوْلِ الْمُفْتِي أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْفَتْوَى وَالْمُخْتَارُ في الْغِيَاثِيِّ اعْتِمَادُهُ بِشَرْطِ أَنْ يَظْهَرَ وَرَعُهُ كما يَحْصُلُ بِاسْتِفَاضَةِ الْخَبَرِ عنه وَسَبَقَ مِثْلُهُ عن الْغَزَالِيِّ وقال ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ قِيلَ يقول له أَمُجْتَهِدٌ أنت فَأُقَلِّدُك فَإِنْ أَجَابَهُ قَلَّدَهُ وَهَذَا أَصَحُّ الْمَذَاهِبِ وإذا لم يَعْرِفْ الْعَدَالَةَ فَلِلْغَزَالِيِّ احْتِمَالَانِ قال الرَّافِعِيُّ وَأَشْبَهَهُمَا الِاكْتِفَاءُ فإن الْغَالِبَ من حَالِ الْعُلَمَاءِ الْعَدَالَةُ بِخِلَافِ الْبَحْثِ عن الْعِلْمِ فَلَيْسَ الْغَالِبُ في الناس الْعِلْمَ ثُمَّ ذَكَرَ احْتِمَالَيْنِ في أَنَّهُ إذَا وَجَبَ الْبَحْثُ فَيَفْتَقِرُ إلَى عَدَدِ التَّوَاتُرِ أَمْ يَكْفِي إخْبَارُ عَدْلٍ أو عَدْلَيْنِ قال وَأَقْرَبُهُمَا الثَّانِي قُلْت وَجَزَمَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ بِأَنَّهُ يَكْفِيهِ خَبَرُ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ عن فِقْهِهِ وَأَمَانَتِهِ لِأَنَّ طَرِيقَهُ طَرِيقُ الْإِخْبَارِ قال النَّوَوِيُّ وَالِاحْتِمَالَانِ في مَجْهُولِ الْعَدَالَةِ هُمَا في الْمَسْتُورِ وهو الذي ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ ولم يَخْتَبِرْ بَاطِنَهُ وَهُمَا وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا غَيْرُهُ وَأَصَحُّهُمَا الِاكْتِفَاءُ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ الْبَاطِنَةَ تَعَسَّرَ مَعْرِفَتُهَا على غَيْرِ الْقُضَاةِ فَيَعْسُرُ على الْعَوَامّ تَكْلِيفُهُمْ وَأَمَّا الِاحْتِمَالَانِ الْمَذْكُورَانِ ثَانِيًا فَهُمَا مُحْتَمَلَانِ لَكِنَّ الْمَنْقُولَ خِلَافُهُمَا وَاَلَّذِي قال الْأَصْحَابُ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِفْتَاءُ من اسْتَفَاضَتْ أَهْلِيَّتُهُ وَقِيلَ لَا تَكْفِي الِاسْتِفَاضَةُ وَلَا يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ أنا أَهْلٌ لِلْفَتْوَى وَيَجُوزُ اسْتِفْتَاءُ من أَخْبَرَ ثَابِتَ الْأَهْلِيَّةِ بِأَهْلِيَّتِهِ قال ابن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ الْأُصُولِ من أَسْلَمَ وهو قَرِيبُ الْعَهْدِ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ من الْمُسْلِمِينَ على ظَاهِرِ الْإِسْلَامِ فَأَخْبَرَهُ بِشَيْءٍ فَاخْتَلَفُوا فيه فقال أبو بَكْرٍ في كِتَابِهِ يَجِبُ عليه قَبُولُ ما أَخْبَرَ بِهِ وَلَا يَعْتَبِرُ فيه شَرَائِطَ الْمُفْتِي السَّابِقَةِ وَإِنَّمَا تَجِبُ تِلْكَ الشَّرَائِطُ فِينَا لِأَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْنَا الِاعْتِبَارُ فيها فَأَمَّا الْمُسْلِمُ الْآنَ فَيَشُقُّ عليه هذا وقال ابن أبي هُرَيْرَةَ يُنْظَرُ فَإِنْ كان شيئا وَقْتُهُ مُوَسَّعٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفُ حتى يَسْتَعْلِمَ ذلك من خَلْقٍ وَلَا يُبَادِرُ حتى يَعْلَمَ حَالَ من أَفْتَاهُ وَيُتَابِعُ عليه وَإِنْ كان شيئا وَقْتُهُ مُضَيَّقٌ فَعَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ كَقَوْلِ أبي عَلِيٍّ والثاني يَتَوَقَّفُ في ذلك كما
____________________
(4/589)
يَتَوَقَّفُ الْحَاكِمُ في الْعُدُولِ وَغَيْرِهَا مَسْأَلَةٌ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَيَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يُطَالِبَ الْعَالِمَ بِدَلِيلِ الْجَوَابِ لِأَجْلِ احْتِيَاطِهِ لِنَفْسِهِ وَيُلْزِمَ الْعَالِمَ أَنْ يَذْكُرَ له الدَّلِيلَ إنْ كان مَقْطُوعًا بِهِ لِإِشْرَافِهِ على الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ إنْ لم يَكُنْ مَقْطُوعًا بِهِ لِافْتِقَارِهِ إلَى اجْتِهَادٍ يَقْصُرُ عنه فَهْمُ الْعَامِّيِّ مَسْأَلَةٌ إذَا لم يَكُنْ هُنَاكَ إلَّا مُفْتٍ وَاحِدٌ تَعَيَّنَتْ مُرَاجَعَتُهُ وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَهَلْ يَلْزَمُهُ النَّظَرُ في الْأَعْلَمِ فيه وَجْهَانِ بِنَاءً على الْخِلَافِ السَّابِقِ في تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ أَحَدُهُمَا وَبِهِ قال ابن سُرَيْجٍ وَالْقَفَّالُ أَنَّ عليه اجْتِهَادًا آخَرَ في طَلَبِهِ لِأَنَّهُ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالسَّمَاعِ من الثِّقَاتِ وَلَا يَشُقُّ عليه وَصَحَّحَهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَإِلْكِيَا فإن الْأَفْضَلَ أَهْدَى إلَى أَسْرَارِ الشَّرْعِ والمختار أَنَّهُ لَا يَجِبُ بَلْ يَتَخَيَّرُ وَيَسْأَلُ من شَاءَ مِنْهُمَا قال الرَّافِعِيُّ وهو الْأَصَحُّ عِنْدَ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ وقال إنَّهُ الْأَصَحُّ كما لَا يَلْزَمُ الِاجْتِهَادُ في طَلَبِ الدَّلِيلِ وقد قال الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه في الْأَعْمَى كُلُّ من دَلَّهُ من الْمُسْلِمِينَ على الْقِبْلَةِ وَسِعَهُ اتِّبَاعُهُ ولم نَأْمُرْهُ بِالِاجْتِهَادِ في الْأَوْثَقِ وفي خَبَرِ الْعَسِيفِ قال وَالِدُ الزَّانِي فَسَأَلْت رَجُلًا من أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُنَاكَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَعْلَمُ الْكُلِّ ولم يُنْكِرْ عليه انْتَهَى قال إلْكِيَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الرَّأْيَيْنِ فَإِنْ لم يَظْهَرْ فَلَا يَجِبُ الْأَفْضَلُ وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ جاء رَجُلٌ إلَى الصَّيْمَرِيِّ الْحَنَفِيِّ بِفَتْوَى أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إذَا كان الْوَلِيُّ فَاسِقًا فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ ثَلَاثًا لم يَنْفُذْ الطَّلَاقُ وَلَهُ تَزْوِيجُهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ فقال الصَّيْمَرِيُّ هَؤُلَاءِ قد أَفْتَوْك أَنَّك كُنْت على فَرْجٍ حَرَامٍ وَأَنَّهَا حَلَالٌ لَك الْيَوْمَ وأنا أَقُولُ لَك إنَّهَا كانت مُبَاحَةً لَك قبل هذا وَهِيَ الْيَوْمَ حَرَامٌ عَلَيْك وَقَصَدَ بِذَلِكَ رَدَّ الْعَامِّيِّ إلَى مَذْهَبِهِ قال أبو إِسْحَاقَ فَرَجَعْت إلَى الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ وَحُكِيَتْ له الْقِصَّةَ فقال كُنْت تَقُولُ إنَّهُ كما قُلْت بِهِ غير أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لم يُكَلِّفْهُ
____________________
(4/590)
تَقْلِيدَ الصَّيْمَرِيِّ وَإِنَّمَا كَلَّفَهُ تَقْلِيدَ من شَاءَ من الْعُلَمَاءِ وإذا قَلَّدَ ثِقَةٌ شَافِعِيًّا تَخَلَّصَ من الْإِثْمِ وَالتَّبِعَةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَسْأَلَةٌ إذَا قُلْنَا له أَنْ يَجْتَهِدَ في أَعْيَانِ الْمُفْتِينَ هل له أَنْ يَجْتَهِدَ في أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ التي يُقَلِّدُ فيها بِحَيْثُ إذَا غَلَبَ على ظَنِّهِ أَنَّ بَعْضَ الْمَسَائِلِ على مَذْهَبِ فَقِيهٍ أَقْوَى وَجَبَ عليه تَقْلِيدُهُ اخْتَلَفَ جَوَابُ الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ وَالْقُدُورِيِّ فَأَوْجَبَهُ الْقُدُورِيُّ وقال الْقَاضِي ليس لِلْعَامِّيِّ اسْتِحْسَانُ الْأَحْكَامِ فِيمَا اخْتَلَفَ فيه الْفُقَهَاءُ وَلَا أَنْ يَقُولَ قَوْلُ فُلَانٍ أَقْوَى من قَوْلِ فُلَانٍ وَلَا حُكْمَ لِمَا يَغْلِبُ على ظَنِّهِ وَلَا اعْتِنَاءَ بِهِ وَلَا طَرِيقَ له إلَى الِاسْتِحْسَانِ كما لَا طَرِيقَ له إلَى الصِّحَّةِ وَلَوْ كان يَعْتَقِدُ أَنَّ أَحَدَهُمْ أَعْلَمُ نَقَلَ الرَّافِعِيُّ عن الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ وَإِنْ قُلْنَا لَا يَجِبُ عليه الْبَحْثُ عن الْأَعْلَمِ إذَا لم يَعْتَقِدْ اخْتِصَاصَ أَحَدِهِمْ بِزِيَادَةِ عِلْمٍ قال النَّوَوِيُّ وَهَذَا وَإِنْ كان ظَاهِرًا فَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا ذَكَرْنَا من سُؤَالِ آحَادِ الصَّحَابَةِ مع وُجُودِ أَفَاضِلِهِمْ ثُمَّ قال وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالْمُخْتَارُ ما ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ من جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ مع وُجُودِ الْأَفْضَلِ وإذا قُلْنَا يَطْلُبُ الْأَعْلَمَ فَهَلْ عليه أَنْ يَطْلُبَ الْأَوْرَعَ كَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ عليه اسْتِنْبَاطًا وَقِيلَ لَا إذْ لَا تَعَلُّقَ لِمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ بِالْوَرَعِ وَالْأَصَحُّ تَرْجِيحُ الرَّاجِحِ عِلْمًا على الرَّاجِحِ وَرَعًا فَإِنْ اسْتَوَيَا قُدِّمَ الْأَسَنُّ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْإِصَابَةِ لِطُولِ الْمُمَارَسَةِ وإذا كان هُنَاكَ رَجُلَانِ من أَهْلِ مَذْهَبَيْنِ أَحَدُهُمَا شَافِعِيٌّ مَثَلًا وَالْآخَرُ حَنَفِيٌّ فَهَلْ يَجِبُ عليه أَنْ يُمَيِّزَ بين أَصْلِ الْمَذْهَبَيْنِ فَيَعْلَمُ أَيَّهُمَا أَصَحَّ قِيلَ يَجِبُ عليه ذلك فإنه لَا يَشُقُّ عليه أَنَّ أَحَدَهُمَا بَنَى مَذْهَبَهُ على الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ وَالرَّأْيِ وَالْآخَرُ على النَّصِّ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِتَعَذُّرِ ذلك عليه وَمِنْ ثَمَّ لَا يَجِبُ طَلَبُ الْأَعْلَمِ في الْأَصَحِّ وقال إلْكِيَا أَمَّا اتِّبَاعُ الشَّافِعِيِّ أو أبي حَنِيفَةَ على التَّخْيِيرِ من غَيْرِ اجْتِهَادٍ مع اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ فَاخْتَلَفُوا فيه فَقِيلَ يَجُوزُ كما يُتَّبَعُ مُجْتَهِدِي الْعَصْرِ في آحَادِ الْمَسَائِلِ وَقِيلَ لَا يَجُوزُ من حَيْثُ إمْكَانُ دَرْكِ التَّنَاقُضِ وَلَوْ اخْتَلَفَ جَوَابُ مُجْتَهِدَيْنِ فَالْقَصْرُ في حَقِّ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ وَاجِبٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْإِتْمَامُ وَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه فَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِ ابن سُرَيْجٍ
____________________
(4/591)
اجْتَهَدَ في الْأَوْثَقِ وَالْأَفْقَهِ وَإِنْ قُلْنَا بِخِلَافِهِ قال الرُّويَانِيُّ فَفِيهِ أَوْجُهٌ أَصَحُّهَا في الرَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ وَيَعْمَلُ بِقَوْلِ من شَاءَ مِنْهُمَا وَنَقَلَهُ الْمَحَامِلِيُّ عن أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وَالْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَاخْتَارَهُ ابن الصَّبَّاغِ فِيمَا إذَا تَسَاوَيَا في نَفْسِهِ وَنُقِلَ عن الْقَاضِي وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ مُسْتَدِلًّا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَأَنَّهُمْ لم يُنْكِرُوا الْعَمَلَ بِقَوْلِ الْمَفْضُولِ مع وُجُودِ الْأَفْضَلِ وَأَغْرَبَ الرُّويَانِيُّ فقال إنَّهُ غَلَطٌ قال ابن الْمُنِيرِ لو لم أَجِدْ تَخْيِيرَ الْعَامِّيِّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُفْتِينَ مَنْصُوصًا عليه في الحديث لَمَا كان الْهُجُومُ على تَقْرِيرِهِ سَائِغًا وَدَلَّ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بَعَثَ سَرِيَّةً إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وقال لَا تَنْزِلُوا حتى تَأْتُوهُمْ فَحَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ في أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَاخْتَلَفُوا حِينَئِذٍ فَمِنْهُمْ من صلى الْعَصْرَ ثُمَّ تَوَجَّهَ وَمِنْهُمْ من تَمَادَى وَحَمَلَ قَوْلَهُ لَا تَنْزِلُوا على ظَاهِرِهِ فلما عُرِضَتْ الْقِصَّةُ على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لم يُخَطِّئْ أَحَدًا منهم وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ السَّرِيَّةَ ما خَلَتْ عَمَّنْ لَا نَظَرَ له وَلَا مَفْزَعَ إلَّا تَقْلِيدُ وُجُوهِ الْقَوْمِ وَعُلَمَائِهِمْ وكان ذلك الْمُقَلِّدُ مُخَيَّرًا وَبِاخْتِيَارِهِ قَلَّدَ ولم يَلْحَقْهُ عَتْبٌ وَلَا عَيْبٌ والثاني يَأْخُذُ بِالْأَغْلَظِ وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أَهْلِ الظَّاهِرِ والثالث يَأْخُذُ بِالْأَيْسَرِ وَالْأَخَفِّ والرابع يَجِبُ عليه تَقْلِيدُ أَعْلَمِهِمَا عِنْدَهُ فَإِنْ اسْتَوَيَا قَلَّدَ أَيَّهُمَا شَاءَ وهو ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ قال في الْأُمِّ في الْقِبْلَةِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفُوا على الْأَعْمَى عليه أَنْ يُقَلِّدَ أَوْثَقَهُمَا وَأَدْيَنَهُمَا عِنْدَهُ وَيُفَارِقُ ما قبل السُّؤَالِ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ الِاجْتِهَادُ لِأَنَّ في الِاجْتِهَادِ في أَعْيَانِهِمْ مَشَقَّةً والخامس يَأْخُذُ بِقَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ حين سَأَلَهُ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عن حِكَايَةِ الرُّويَانِيِّ وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُمَا لو أَجَابَاهُ في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ دَفْعَةً أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ قَطْعًا لِأَنَّهُ لم يَسْبِقْ أَحَدُهُمَا فَنَقُولُ قد لَزِمَهُ قَوْلُ السَّابِقِ والسادس حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ يَأْخُذُ بِقَوْلِ من يَبْنِي على الْأَثَرِ دُونَ الرَّأْيِ وَحَكَى ابن السَّمْعَانِيِّ سَابِعًا وقال إنَّهُ الْأَوْلَى أَنَّهُ يَجْتَهِدُ في قَوْلِ من يَأْخُذُ مِنْهُمَا وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ ثَامِنًا وهو التَّفْصِيلُ بين ما في حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ حَقِّ عِبَادِهِ فَإِنْ كان فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَخَذَ بِأَيْسَرِهِمَا وما كان في حُقُوقِ الْعِبَادِ فَبِأَثْقَلِهِمَا وَبِهِ قال الْكَعْبِيُّ وَحَكَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ في كِتَابِ الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ تَاسِعًا عن أبي عبد اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ أَنَّهُ إنْ اتَّسَعَ عَقْلُهُ لِلْفَهْمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ الْمُخْتَلِفَيْنِ عن حُجَّتِهِمَا فَيَأْخُذَ بِأَرْجَحِ
____________________
(4/592)
الْحُجَّتَيْنِ عِنْدَهُ وَإِنْ قَصَّرَ عن ذلك أَخَذَ بِقَوْلِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُ وَيَخْرُجُ من كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ عَاشِرٌ وهو الْأَخْذُ بِقَوْلِهِمَا إنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ فإنه قال في بَابِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَلَوْ كَانَا عِنْدَهُ في الْعِلْمِ سَوَاءً فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَتَخَيَّرُ والثاني يَأْخُذُ بِقَوْلِهِمَا وَيُصَلِّي إلَى جِهَةِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ في الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلًا بَيَّنَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فَيُرَاجِعَهُمَا مَرَّةً أُخْرَى وَيَقُولُ تَنَاقَضَ على جَوَابِكُمَا وَتَسَاوَيْتُمَا فما الذي يَلْزَمُنِي فَإِنْ خَيَّرَاهُ بين الْجَوَابَيْنِ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا وَإِنْ اتَّفَقَا في الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ أو الْمِيلِ إلَى أَحَدِهِمَا فَعَلَ وَإِنْ أَصَرَّا على الْخِلَافِ فَإِنْ كَانَا سَوَاءً في اعْتِقَادِهِ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا عِنْدَهُ أَرْجَحَ فَوَجْهَانِ اخْتَارَ الْقَاضِي التَّخْيِيرَ وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ اتِّبَاعَ الْأَفْضَلِ لِرُجْحَانِ الظَّنِّ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَهَذَا يَدُلُّ على تَرْجِيحِ قَوْلِ الْأَعْلَمِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ مع اخْتِيَارِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَكَأَنَّهُ إنَّمَا أَوْجَبَ هُنَا ما عَرَضَ له من الضَّرُورَةِ وَالْإِصْرَارِ وَقَبْلَ ذلك لَا ضَرُورَةَ بِهِ تَدْعُو إلَى اتِّبَاعِ الْأَعْلَمِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَعْرِيفَهُ إمَّا بِاعْتِبَارِ الضَّرُورَةِ وَعَدَمِهَا فَلَا يَلْزَمُ من اعْتِبَارِ حَالِ الضَّرُورَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى حُكْمِ اعْتِبَارِ ضِدِّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى ذلك الْحُكْمِ وَإِمَّا لِأَنَّ الْعَمَلَ الذي أَشَارُوا إلَيْهِ في زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَعَدَمُ وُجُوبِ تَقْلِيدِ الْأَعْلَمِ لَا يَتَنَاوَلُ هذه الصُّورَةَ قِيلَ وَكَأَنَّ الْخِلَافَ هُنَا مُخَرَّجٌ على الْخِلَافِ في الْعِلَّتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا وَإِحْدَاهُمَا تَقْتَضِي الْحَظْرَ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ بَلْ من الْخِلَافِ في أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ أو كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَمَنْ خَيَّرَ بَيْنَهُمَا بَنَاهُ على أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَمَنْ أَوْجَبَ تَقْلِيدَ الْأَعْلَمِ قال الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لم يَكُنْ عَمِلَ بِأَحَدِهِمَا فَلَوْ اسْتَفْتَى عَالِمًا فَعَمِلَ بِفَتْوَاهُ ثُمًّ أَفْتَاهُ آخَرُ بِخِلَافِهِ لم يَجُزْ الرُّجُوعُ إلَيْهِ في ذلك الْحُكْمِ قَالَهُ في الْإِحْكَامِ وقال إلْكِيَا إنْ تَسَاوَيَا في ظَنِّهِ وَلَا تَرْجِيحَ اُخْتُلِفَ فيه فَقِيلَ يَحْكُمُ بِخَاطِرِهِ وهو قَوْلُ أَصْحَابِ الْإِلْهَامِ وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ عليه التَّعْلِيقُ بِعِلْمِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ لِيَكُونَ بَانِيًا على اجْتِهَادِ نَفْسِهِ وَقِيلَ يَتَوَقَّفُ في ذلك انْتَهَى وقال في الْمَحْصُولِ يَجْتَهِدُ فَإِنْ ظَنَّ أَرْجَحِيَّةً في أَحَدِهِمَا عَمِلَ بِهِ وَإِنْ ظَنَّ اسْتِوَاءَهُمَا مُطْلَقًا فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ لِتَعَارُضِ أَمَارَتَيْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِوُقُوعِهِ وَيَسْقُطَ التَّكْلِيفُ وَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ ظَنَّ الِاسْتِوَاءَ في الدِّينِ دُونَ الْعِلْمِ قَلَّدَ الْأَعْلَمَ وَقِيلَ يَتَخَيَّرُ وَبِالْعَكْسِ الْأَدْيَنَ وَإِنْ ظَنَّ أَحَدَهَا أَعْلَمَ وَالْآخَرَ
____________________
(4/593)
أَدْيَنَ فَالْأَقْرَبُ الْأَعْلَمُ فإن الْعِلْمَ أَصْلٌ وَالدِّينُ مُكَمِّلٌ مَسْأَلَةٌ إذَا اسْتَفْتَى الْمُتَنَازِعَانِ فَقِيهًا مع وُجُودِ الْحَاكِمِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ فَإِنْ الْتَزَمَا فُتْيَاهُ عَمِلَا بِهِ وَإِلَّا فَالْحَاكِمُ أَحَقُّ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمَا وَلَوْ لم يَجِدَا حَاكِمًا لم يَلْزَمْهُمَا فُتْيَا الْفَقِيهِ حتى يَلْتَزِمَاهُ وَإِنْ الْتَزَمَا فُتْيَا الْفَقِيهِ ثُمَّ تَنَازَعَا إلَى الْحَاكِمِ فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِهِ لَزِمَهُمَا فُتْيَا الْفَقِيهِ في الْبَاطِنِ وَحُكْمُ الْحَاكِمِ في الظَّاهِرِ وَقِيلَ يَلْزَمُهُمَا حُكْمُ الْحَاكِمِ في الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَلَوْ اخْتَلَفَا فَدَعَا أَحَدُهُمَا إلَى فَتْوَى الْفُقَهَاءِ وَدَعَا الْآخَرُ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ أُجِيبَ الدَّاعِي إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ لِأَنَّ فُتْيَا الْفَقِيهِ إخْبَارٌ وَحُكْمَ الْحَاكِمِ إجْبَارٌ وإذا دَعَا الْخَصْمُ إلَى فَتَاوَى الْفُقَهَاءِ لم تُجْبِرْهُ وَإِنْ دَعَا إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ أَجْبَرَهُ وإذا كان الْفَقِيهُ عَدْلًا وَالْحَاكِمُ ليس بِعَدْلٍ فَأَفْتَاهُمَا الْفَقِيهُ بِحُكْمٍ وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِغَيْرِهِ لَزِمَهُمَا في الْبَاطِنِ أَنْ يَعْمَلَا بِحُكْمِ الْفَقِيهِ وَلَزِمَهُمَا في الظَّاهِرِ أَنْ يَعْمَلَا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَحُكِيَ عن بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِالْحِكَايَةِ عن غَيْرِهِ بَلْ إنَّمَا يُفْتِي بِاجْتِهَادِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا سُئِلَ قَوْلَهُ فَإِنْ سُئِلَ عن حِكَايَةِ قَوْلِ غَيْرِهِ جَازَتْ حِكَايَتُهُ وَلَوْ جَازَ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِالْحِكَايَةِ جَازَ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا في كُتُبِ الْفُقَهَاءِ قال وإذا أَفْتَاهُ بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فَإِنْ كان قد عَمِلَ بِهِ لم يَلْزَمْهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ بِتَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ وَإِلَّا لَزِمَهُ قال وإذا أَفْتَاهُ بِقَوْلٍ مُجْمَعٍ عليه لم يُخْبِرْ في الْقَبُولِ فيه وَإِنْ كان مُخْتَلَفًا فيه خُيِّرَ بين أَنْ يَقْبَلَ منه أو من غَيْرِهِ وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ على قَوْلِ من قال كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٍ وَكَذَا إنْ قُلْنَا الْمُصِيبُ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عليه الْأَخْذُ بِقَوْلِ وَاحِدٍ من الْمُفْتِينَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ بِأَوْلَى من الْآخَرِ فَإِنْ كان هذا التَّخْيِيرِ مَعْلُومًا من قَصْدِ الْمُفْتِي لم يَجِبْ عليه أَنْ يُخَيِّرَهُ لَفْظًا بَلْ يَذْكُرَ له قَوْلَهُ فَقَطْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحُكْمُ لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَنْصُوبٌ لِقَطْعِ الْخُصُومَاتِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عليه أَنْ يُبَيِّنَ له تَخْيِيرَهُ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُسْتَفْتِي من الِاجْتِهَادِ في أَعْيَانِ الْمُفْتِينَ وإذا وَجَبَ عليه ذلك فَاخْتَارَ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ بِاجْتِهَادِهِ فَكَذَلِكَ الْعَامِّيُّ يَلْزَمُهُ الْأَخْذُ بِقَوْلِ هذا الْعَالِمِ وَلَا يَجِبُ تَخْيِيرُهُ
____________________
(4/594)
مَسْأَلَةٌ هل يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ وقد سَأَلَهُ الْعَامِّيُّ على يَمِينٍ مَثَلًا وكان مُعْتَقَدُهُ الْحِنْثَ أَنْ يُحِيلَهُ على آخَرَ يُخَالِفُ مُعْتَقَدَهُ أو لَا الظَّاهِرُ الْمَنْعُ لِأَنَّهُ إذَا غَلَبَ على ظَنِّهِ شَيْءٌ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ في حَقِّهِ وَحَقِّ من قَلَّدَهُ وَكَمَا لَا يَجُوزُ له الْعُدُولُ عنه لَا يَجُوزُ له أَمْرُ مُقَلِّدِهِ بِذَلِكَ وَالْأَحْوَطُ أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ في حَقِّ الْمُسْتَفْتِي لَا تَشْدِيدًا وَلَا تَسْهِيلًا وَلَا بِحِيلَةٍ وقد عَرَفَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عليه على غَيْرِهِ ثُمَّ رَأَيْت عن أَحْمَدَ التَّصْرِيحَ بِجَوَازِ إرْشَادِهِ إلَى آخَرَ مُعْتَبَرٍ وَإِنْ كان يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ وفي تَعْلِيقِ الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ في بَابِ الْإِحْصَارِ في الْحَجِّ أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَتَحَلَّلُ بِالْمَرَضِ وَإِنْ كان يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ كَالْحَنَفِيِّ نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ الدَّارَكِيِّ أَنَّ الطَّلَاقَ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ كَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ يَقَعُ على مُعْتَقِدِ إبَاحَتِهِ إذْ لو كان كَذَلِكَ لَأَفْتَى الشَّافِعِيُّ من يَرَى مَذْهَبَ أبي حَنِيفَةَ بِجَوَازِ التَّحَلُّلِ فلما أَفْتَاهُ بِمَذْهَبِهِ دُونَ مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ بَطَلَ قَوْلُ هذا الْقَائِلِ مَسْأَلَةٌ هل يَجُوزُ لِلْعَالَمِ أَنْ يُفْتِيَ في حَقِّ نَفْسِهِ فِيمَا يَجْرِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ قال بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كما لَا يُحَكِّمُ نَفْسَهُ فِيمَا يَجْرِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ قال وَقِيَاسُ هذا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَتْوَاهُ لِوَالِدِهِ وَوَلَدِهِ فِيمَا هذا شَأْنُهُ قُلْت قد حَكَى الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ في هذا احْتِمَالَيْنِ فَلَوْ رضي الْآخَرُ بِفَتْوَاهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ إذَا أَفْتَى بِنَصٍّ يُقْبَلُ قَطْعًا وَإِنْ كان قِيَاسًا فَفِيهِ نَظَرٌ وَأَمَّا فَتْوَى نَفْسِهِ مِمَّا يَعُودُ على أَمْرِ دِينِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ له أَنْ يَعْمَلَ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وقد قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَفْتِ نَفْسَك وَإِنْ أَفْتَاك الناس وَأَفْتَوْك وَأَمَّا فَتْوَاهُ فِيمَا يَعُودُ على وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فيه ما سَبَقَ مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِقَوْلِ بَعْضِ السَّلَفِ وهو لَا يَعْرِفُ عِلَّتَهُ خِلَافًا لِأَصْحَابِ الرَّأْيِ قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ
____________________
(4/595)
مَسْأَلَةٌ مَتَى يَلْزَمُ الْعَامِّيَّ الْعَمَلُ بِمَا يُلَقِّنُهُ الْمُجْتَهِدُ فيه أَوْجُهٌ أَحَدُهَا بِمُجَرَّدِ الْإِفْتَاءِ والثاني إذَا وَقَعَ في نَفْسِهِ صِدْقُهُ وَحَقِيقَتُهُ قال ابن السَّمْعَانِيِّ إنَّهُ أَوْلَى الْأَوْجُهِ قال ابن الصَّلَاحِ ولم أَجِدْهُ لِغَيْرِهِ والثالث ذَكَرَهُ احْتِمَالًا أَنَّهُ إذَا شَرَعَ في الْعَمَلِ بِهِ كَالْكَفَّارَاتِ وهو يَقْوَى على قَوْلِ من يقول إنَّ الشُّرُوعَ فِيمَا يَلْزَمُ مُلْزِمٌ والرابع وهو الْأَصَحُّ لَا يَلْزَمُهُ بِهِ إلَّا بِالْتِزَامِهِ كَالنَّذْرِ فَيَصِيرُ بِالْتِزَامِهِ لَازِمًا له لَا بِالْفُتْيَا وَيُؤَيِّدُهُ ما سَبَقَ من التَّخْيِيرِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ عليه جَوَابُ الْمُفْتِينَ والخامس وَاخْتَارَهُ ابن الصَّلَاحِ أَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ إذَا لم يَجِدْ غَيْرَهُ سَوَاءٌ الْتَزَمَ أو لَا أو بِرُجْحَانِ أَحَدِهِمَا أو بِحُكْمِ حَاكِمٍ وإذا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ فَكَانَ السُّؤَالُ مَثَلًا عن يَمِينٍ فقال له الْمُجْتَهِدُ حَنِثْت فَهَلْ يُقَدَّرُ الْحِنْثُ وَاقِعًا بِقَوْلِ الْمُجْتَهِدِ كَحُكْمِ الْحَاكِمِ أو إنَّمَا يَقَعُ الْحِنْثُ بِالِالْتِزَامِ بِلَفْظِهِ أو بِنِيَّةٍ فيه نَظَرٌ مَسْأَلَةٌ هل يَجِبُ على الْعَامِّيِّ الْتِزَامُ تَقْلِيدِ مُعَيَّنٍ في كل وَاقِعَةٍ فيه وَجْهَانِ قال إلْكِيَا يَلْزَمُهُ وقال ابن بَرْهَانٍ لَا وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ في أَوَائِلِ الْقَضَاءِ وهو الصَّحِيحُ فإن الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عليهم لم يُنْكِرُوا على الْعَامَّةِ تَقْلِيدَ بَعْضِهِمْ من غَيْرِ تَقْلِيدٍ وقد رَامَ بَعْضُ الْخُلَفَاءِ زَمَنَ مَالِكٍ حَمْلَ الناس في الْآفَاقِ على مَذْهَبِ مَالِكٍ فَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ فَرَّقَ الْعِلْمَ في الْبِلَادِ بِتَفْرِيقِ الْعُلَمَاءِ فيها فلم يَرَ الْحَجْرَ على الناس وَرُبَّمَا نُودِيَ لَا يُفْتَى أَحَدٌ وَمَالِكٌ بِالْمَدِينَةِ قال ابن الْمُنَيَّرِ وهو عِنْدِي مَحْمُولٌ على أَنَّ الْمُرَادَ لَا يُفْتَى أَحَدٌ حتى يَشْهَدَ له مَالِكٌ بِالْأَهْلِيَّةِ وَذَكَرَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ هذا مَذْهَبُ أَحْمَدَ فإنه قال لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ لَا تَحْمِلْ على مَذْهَبِك فَيُحْرَجُوا دَعْهُمْ يَتَرَخَّصُوا بِمَذَاهِبِ الناس وَسُئِلَ عن مَسْأَلَةٍ من الطَّلَاقِ فقال يَقَعُ يَقَعُ فقال له الْقَائِلُ فَإِنْ أَفْتَانِي أَحَدٌ أَنَّهُ لَا يَقَعُ يَجُوزُ قال نعم وَدَلَّهُ على حَلْقَةِ الْمَدَنِيِّينَ في الرَّصَافَةِ فقال إنْ أَفْتَوْنِي جَازَ قال نعم وقد كان السَّلَفُ يُقَلِّدُونَ من شَاءُوا قبل ظُهُورِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وقد قال النبي الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عليه إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كما يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِعَزَائِمِهِ
____________________
(4/596)
وَتَوَسَّطَ ابن الْمُنَيَّرِ فقال الدَّلِيلُ يَقْتَضِي الْتِزَامَ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَا قَبْلَهُمْ وَالْفَرْقُ أَنَّ الناس كَانُوا قبل الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لم يُدَوِّنُوا مَذَاهِبَهُمْ وَلَا كَثُرَتْ الْوَقَائِعُ عليهم حتى عُرِفَ مَذْهَبُ كل وَاحِدٍ منهم في كل الْوَقَائِعِ وفي أَكْثَرِهَا وكان الذي يَسْتَفْتِي الشَّافِعِيَّ مَثَلًا لَا عِلْمَ له بِمَا يَقُولُهُ الْمُفْتِي لِأَنَّهُ لم يَشْتَهِرْ مَذْهَبُهُ في تِلْكَ الْوَاقِعِ أو لِأَنَّهَا ما وَقَعَتْ له قبل ذلك فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعَضِّدَهُ إلَّا سِرٌّ خَاصٌّ وَأَمَّا بَعْدَ أَنْ فُهِمَتْ الْمَذَاهِبُ وَدُوِّنَتْ وَاشْتُهِرَتْ وَعُرِفَ الْمُرَخِّصُ من الْمُشَدِّدِ في كل وَاقِعَةٍ فَلَا يَنْتَقِلُ الْمُسْتَفْتِي وَالْحَالَةُ هذه من مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ إلَّا رُكُونًا إلَى الِانْحِلَالِ وَالِاسْتِسْهَالِ وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عن أبي الْفَتْحِ الْهَرَوِيِّ أَحَدِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَنَّ مَذْهَبَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْعَامِّيَّ لَا مَذْهَبَ له مَسْأَلَةٌ فَلَوْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَاعْتَقَدَ رُجْحَانَهُ من حَيْثُ الْإِجْمَالُ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ إمَامَهُ في بَعْضِ الْمَسَائِلِ وَيَأْخُذَ بِقَوْلِ غَيْرِهِ من مُجْتَهِدٍ آخَرَ فيه مَذَاهِبُ أَحَدُهَا الْمَنْعُ وَبِهِ جَزَمَ الْجِيلِيُّ في الْإِعْجَازِ لِأَنَّ قَوْلَ كل إمَامٍ مُسْتَقِلٌّ بِآحَادِ الْوَقَائِعِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الِانْتِقَالِ إلَّا التَّشَهِّيَ وَلِمَا فيه من اتِّبَاعِ التَّرَخُّصِ وَالتَّلَاعُبِ بِالدِّينِ والثاني يَجُوزُ وهو الْأَصَحُّ في الرَّافِعِيِّ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لم يُوجِبُوا على الْعَوَامّ تَعْيِينَ الْمُجْتَهِدِينَ لِأَنَّ السَّبَبَ وهو أَهْلِيَّةُ الْمُقَلِّدِ لِلتَّقْلِيدِ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَقْوَالِهِ وَعَدَمُ أَهْلِيَّةِ الْمُقَلِّدِ مُقْتَضٍ لِعُمُومِ هذا الْجَوَابِ وَوُجُوبُ الِاقْتِصَارِ على مُفْتٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ سِيرَةِ الْأَوَّلِينَ بَلْ يَقْوَى الْقَوْلُ بِالِانْتِقَالِ في صُورَتَيْنِ إحْدَاهُمَا إذَا كان مَذْهَبُ غَيْرِ إمَامِهِ يَقْتَضِي تَشْدِيدًا كَالْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ على فِعْلِ شَيْءٍ ثُمَّ فَعَلَهُ نَاسِيًا أو جَاهِلًا وكان مَذْهَبُ مُقَلَّدِهِ عَدَمَ الْحِنْثِ فَخَرَجَ منه لِقَوْلِ من أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فإنه يُسْتَحَبُّ له الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْتِزَامِ الْحِنْثِ قَطْعًا وَلِهَذَا قال الشَّافِعِيُّ إنَّ الْقَصْرَ في سَفَرٍ جَاوَزَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَفْضَلُ من الْإِتْمَامِ والثانية إذَا رَأَى لِلْقَوْلِ الْمُخَالِفِ لِمَذْهَبِ إمَامِهِ دَلِيلًا صَحِيحًا ولم يَجِدْ في مَذْهَبِ إمَامِهِ دَلِيلًا قَوِيًّا عنه وَلَا مُعَارِضًا رَاجِحًا عليه فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ من التَّقْلِيدِ حِينَئِذٍ
____________________
(4/597)
مُحَافَظَةً على الْعَمَلِ بِظَاهِرِ الدَّلِيلِ وَأَمَّا ما نَقَلَهُ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ من الْإِجْمَاعِ على مَنْعِ رُجُوعِ الْمُقَلِّدِ عَمَّنْ قَلَّدَهُ فَهُوَ إنْ صَحَّ مَحْمُولٌ على تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا بَعْدَ أَنْ عَمِلَ بِقَوْلِهِ فيها وَاعْلَمْ أَنَّا حَيْثُ قُلْنَا بِالْجَوَازِ فَشَرْطُهُ أَنْ يَعْتَقِدَ رُجْحَانَ ذلك الْمَذْهَبِ الذي قَلَّدَ في هذه الْمَسْأَلَةِ وَعَلَى هذا فَلَيْسَ لِلْعَامِّيِّ ذلك مُطْلَقًا إذْ لَا طَرِيقَ له إلَيْهِ وَلِهَذَا قال الْبَغَوِيّ لو أَنَّ عَامِّيًّا شَافِعِيًّا لَمَسَ امْرَأَتَهُ وَصَلَّى ولم يَتَوَضَّأْ وقال عِنْدَ بَعْضِ الناس الطَّهَارَةُ بِحَالِهَا لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ بِالِاجْتِهَادِ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فَأَشْبَهَ ما إذَا اجْتَهَدَ في الْقِبْلَةِ فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى جِهَةٍ فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى غَيْرِهَا لَا يَصِحُّ قال وَلَوْ جَوَّزْنَاهُ لَأَدَّى ذلك إلَى أَنْ يَرْتَكِبَ جَمِيعَ مَحْظُورَاتِ الْمَذْهَبِ كَشُرْبِ الْمُثَلَّثِ وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَنَحْوِهِ وَيَقُولُ هذا جَائِزٌ وَيَتْرُكُ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ وَيَقُولُ هذا جَائِزٌ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ انْتَهَى والثالث أَنَّهُ كَالْعَامِّيِّ الذي لم يَلْتَزِمْ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ عَمِلَ فيها بِقَوْلِ إمَامِهِ ليس له تَقْلِيدُ غَيْرِهِ وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ لم يَعْمَلْ فيها بِقَوْلِهِ فَلَا مَانِعَ فيها من تَقْلِيدِ غَيْرِهِ والرابع إنْ كان قبل حُدُوثِ الْحَوَادِثِ فَلَا يَجِبُ التَّخْصِيصُ بِمَذْهَبٍ وَإِنْ حَدَثَ وَقَلَّدَ إمَامًا في حَادِثَةٍ وَجَبَ عليه تَقْلِيدُهُ في الْحَوَادِثِ التي يُتَوَقَّعُ وُقُوعُهَا في حَقِّهِ وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ لِأَنَّ قبل تَقْرِيرِ الْمَذَاهِبِ مُمْكِنٌ وَأَمَّا بَعْدُ فَلَا لِلْخَبْطِ وَعَدَمِ الضَّبْطِ والخامس إنْ غَلَبَ على ظَنِّهِ أَنَّ بَعْضَ الْمَسَائِلِ على مَذْهَبِ غَيْرِ مُقَلَّدِهِ أَقْوَى من مُقَلَّدِهِ جَازَ قَالَهُ الْقُدُورِيُّ الْحَنَفِيُّ والسادس وَاخْتَارَهُ ابن عبد السَّلَامِ في الْقَوَاعِدِ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ الْمَذْهَبُ الذي أَرَادَ الِانْتِقَالَ عنه بِمَا يَنْقُضُ الْحُكْمَ أو لَا فَإِنْ كان الْأَوَّلُ فَلَيْسَ له الِانْتِقَالُ إلَى حُكْمٍ يَجِبُ نَقْضُهُ لِبُطْلَانِهِ وَإِنْ كان الْمَأْخَذَانِ مُتَقَارِبَيْنِ جَازَ التَّقْلِيدُ وَالِانْتِقَالُ لِأَنَّ الناس لم يَزَالُوا كَذَلِكَ في عَصْرِ الصَّحَابَةِ إلَى أَنْ ظَهَرَتْ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ من غَيْرِ نَكِيرٍ من أَحَدٍ يُعْتَبَرُ إنْكَارُهُ وَلَوْ كان ذلك بَاطِلًا لَأَنْكَرُوهُ وقال في الْفَتَاوَى الْمَوْصِلِيَّةِ وقد سُئِلَ عن شَافِعِيٍّ حَضَرَ نِكَاحَ صَبِيَّةٍ لَا أَبَ لها وَلَا جَدَّ وَالشَّهَادَةُ على إذْنِهَا له في التَّزْوِيجِ فَأَجَابَ إنْ قَلَّدَ الْمُخَالِفَ في مَذَاهِبَ جَازَ وَإِلَّا فَلَا وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ النَّوَوِيِّ في الرَّوْضَةِ في النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ أَنَّهُ
____________________
(4/598)
يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ سَوَاءٌ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ أو الْإِبَاحَةَ بِاجْتِهَادٍ أو تَقْلِيدٍ أو حُسْبَانٍ أو مُجَرَّدٍ والسابع وَاخْتَارَهُ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ الْجَوَازُ بِشُرُوطٍ أَحَدُهَا أَنْ لَا يَجْتَمِعَ في صُورَةٍ يَقَعُ الْإِجْمَاعُ على بُطْلَانِهَا كما إذَا افْتَصَدَ وَمَسَّ الذَّكَرَ وَصَلَّى وَالثَّانِي أَلَّا يَكُونَ ما قَلَّدَ فيه مِمَّا يُنْقَضُ فيه الْحُكْمُ لو وَقَعَ بِهِ وَالثَّالِثُ انْشِرَاحُ صَدْرِهِ لِلتَّقْلِيدِ الْمَذْكُورِ وَعَدَمُ اعْتِقَادِهِ لِكَوْنِهِ مُتَلَاعِبًا بِالدِّينِ مُتَسَاهِلًا فيه وَدَلِيلُ اعْتِبَارِ هذا الشَّرْطِ قَوْلُهُ وَالْإِثْمُ ما حَاكَ في نَفْسِك فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ ما حَاكَ في نَفْسِك فَفِعْلُهُ إثْمٌ بَلْ أَقُولُ إنَّ هذا شَرْطُ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ وهو أَلَّا يُقْدِمَ الْإِنْسَانُ على ما يَعْتَقِدُهُ مُخَالِفًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَلَا اشْتِرَاطَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مِمَّا يُنْقَضُ فيه قَضَاءُ الْقَاضِي بَلْ إذَا كان مُخَالِفًا لِظَاهِرِ النُّصُوصِ بِحَيْثُ يَكُونُ التَّأْوِيلُ مُسْتَكْرَهًا فَيَكْفِي في ذلك عَدَمُ جَوَازِ التَّقْلِيدِ لِقَائِلِ الْقَوْلِ الْمُخَالِفِ لِذَلِكَ الظَّاهِرِ انْتَهَى وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ عن الزَّنَاتِيِّ من أَصْحَابِهِمْ الْجَوَازَ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ أَحَدُهَا أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا على صُورَةٍ تُخَالِفُ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ كَمَنْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ وَلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ والثاني أَنْ يَعْتَقِدَ فِيمَنْ يُقَلِّدُهُ الْفَضْلَ بِوُصُولِ أَخْبَارِهِ إلَيْهِ وَلَا يُقَلِّدُهُ في عَمَلِهِ والثالثة أَنْ لَا يَتَّبِعَ رُخَصَ الْمَذَاهِبِ قال وَالْمَذَاهِبُ كُلُّهَا مَسْلَكٌ إلَى الْجَنَّةِ وَطُرُقٌ إلَى الْخَيْرَاتِ فَمَنْ سَلَكَ منها طَرِيقًا وَصَّلَهُ انْتَهَى وَحَكَى بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ هذا الْخِلَافَ في أَنَّ الْأَوْلَى الْأَخْذُ بِالْأَخَفِّ أو الْأَثْقَلِ ثُمَّ قال وَالْأَوْلَى أَنَّ من بُلِيَ بِوَسْوَاسٍ أو شَكٍّ أو قُنُوطٍ فَالْأَوْلَى أَخْذُهُ بِالْأَخَفِّ وَالْإِبَاحَةِ وَالرُّخَصِ لِئَلَّا يَزْدَادَ ما بِهِ وَيَخْرُجَ عن الشَّرْعِ وَمَنْ كان قَلِيلَ الدِّينِ كَثِيرَ التَّسَاهُلِ أَخَذَ بِالْأَثْقَلِ وَالْعَزِيمَةِ لِئَلَّا يَزْدَادَ ما بِهِ فَيَخْرُجَ إلَى الْإِبَاحَةِ وَمَرَّ بِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن الْمُبَارَكِ سُئِلَ عَمَّنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَلَّا يَتَزَوَّجَ ثُمَّ بَدَا له فَهَلْ له أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِ من يُجَوِّزُ له ذلك فقال إنْ كان يَرَى هذا الْقَوْلَ حَقًّا أَنْ يُبْتَلَى بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَنَعَمْ إلَّا فَلَا وما أَحْسَنَ هذا الْجَوَابَ من مُتَوَرِّعٍ
____________________
(4/599)
وَقَسَّمَ بَعْضُهُمْ الْمُلْتَزِمَ لِمَذْهَبٍ إذَا أَرَادَ تَقْلِيدَ غَيْرِهِ إلَى أَحْوَالٍ إحْدَاهَا أَنْ يَعْتَقِدَ بِحَسَبِ حَالِهِ رُجْحَانَ مَذْهَبِ ذلك الْغَيْرِ في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَيَجُوزُ اتِّبَاعًا لِلرَّاجِحِ في ظَنِّهِ الثَّانِيَةُ أَنْ يَعْتَقِدَ مَذْهَبَ إمَامِهِ أو لَا يَعْتَقِدَ رُجْحَانًا أَصْلًا لَكِنْ في كِلَا الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي اعْتِقَادَهُ رُجْحَانَ مَذْهَبِ إمَامِهِ وَعَدَمَ الِاعْتِقَادِ يَقْصِدُ تَقْلِيدَهُ احْتِيَاطًا لِدِينِهِ كَالْحِيلَةِ إذَا قَصَدَ بها الْخَلَاصَ من الرِّبَا كَبَيْعِ الْجَمْعِ بِالدَّرَاهِمِ وَشِرَاءِ الْجَنِيبِ بها فَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا مَكْرُوهٍ بِخِلَافِ الْحِيلَةِ على غَيْرِ هذا الْوَجْهِ حَيْثُ يُحْكَمُ بِكَرَاهَتِهَا الثَّالِثَةُ أَنْ يَقْصِدَ بِتَقْلِيدِهِ الرُّخْصَةَ فِيمَا هو مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِحَاجَةٍ لَحِقَتْهُ أو ضَرُورَةٍ أَرْهَقَتْهُ فَيَجُوزُ أَيْضًا إلَّا إنْ اعْتَقَدَ رُجْحَانَ مَذْهَبِ إمَامِهِ وَيَقْصِدُ تَقْلِيدَ الْأَعْلَمِ فَيَمْتَنِعُ وهو صَعْبٌ وَالْأَوْلَى الْجَوَازُ الرَّابِعَةُ أَلَّا تَدْعُوَهُ إلَى ضَرُورَةٍ وَلَا حَاجَةٍ بَلْ مُجَرَّدِ قَصْدِ التَّرَخُّصِ من غَيْرِ أَنْ يَغْلِبَ على ظَنِّهِ رُجْحَانُهُ فَيَمْتَنِعُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ لَا لِلدِّينِ الْخَامِسَةُ أَنْ يَكْثُرَ منه ذلك وَيَجْعَلَ اتِّبَاعَ الرُّخْصِ دَيْدَنَهُ فَيَمْتَنِعُ لِمَا قُلْنَا وَزِيَادَةُ فُحْشِهِ السَّادِسَةُ أَنْ يَجْتَمِعَ من ذلك حَقِيقَةٌ مُرَكَّبَةٌ مُمْتَنِعَةٌ بِالْإِجْمَاعِ فَيَمْتَنِعُ السَّابِعَةُ أَنْ يَعْمَلَ بِتَقْلِيدِهِ الْأَوَّلَ كَالْحَنَفِيِّ يَدَّعِي شُفْعَةَ الْجِوَارِ فَيَأْخُذَهَا بِمَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ ثُمَّ تُسْتَحَقُّ عليه فَيُرِيدُ أَنْ يُقَلِّدَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فَيَمْتَنِعُ لِتَحَقُّقِ خَطَئِهِ إمَّا في الْأَوَّلِ وَإِمَّا في الثَّانِي وهو شَخْصٌ وَاحِدٌ مُكَلَّفٌ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ ادَّعَى الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قبل الْعَمَلِ وَلَا بَعْدَهُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَيْسَ كما قَالَا فَفِي كَلَامِ غَيْرِهِمَا ما يَقْتَضِي جَرَيَانَ الْخِلَافِ بَعْدَ الْعَمَلِ أَيْضًا وَكَيْفَ يَمْتَنِعُ إذَا اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ لَكِنَّ وَجْهَ ما قَالَاهُ أَنَّهُ بِالْتِزَامِهِ مَذْهَبَ إمَامٍ مُكَلَّفٌ ما لم يَظْهَرْ له غَيْرُهُ وَالْعَامِّيُّ لَا يَظْهَرُ له بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِ حَيْثُ يَنْتَقِلُ من أَمَارَةٍ إلَى أَمَارَةٍ وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فقال التَّقْلِيدُ بَعْدَ الْعَمَلِ إنْ كان من الْوُجُوبِ إلَى الْإِبَاحَةِ لِيَتْرُكَ كَالْحَنَفِيِّ يُقَلِّدُ في الْوِتْرِ وَمِنْ الْحَظْرِ إلَى الْإِبَاحَةِ لِيَفْعَلَ كَالشَّافِعِيِّ يُقَلِّدُ في أَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ جَائِزٌ وَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ لَا يُنَافِي الْإِبَاحَةَ وَاعْتِقَادُ الْوُجُوبِ أو التَّحْرِيمِ خَارِجٌ
____________________
(4/600)
عن الْعَمَلِ وَحَاصِلٌ قَبْلَهُ فَلَا مَعْنَى لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَمَلَ فيها مَانِعٌ من التَّقْلِيدِ وَإِنْ كان بِالْعَكْسِ فَإِنْ كان يَعْتَقِدُ الْإِبَاحَةَ فَقَلَّدَ في الْوُجُوبِ أو التَّحْرِيمِ فَالْقَوْلُ بِالْمَنْعِ أَبْعَدُ وَلَيْسَ في الْعَامِّيِّ إلَّا هذه الْأَقْسَامُ نعم الْمُفْتِي على مَذْهَبِ إمَامٍ إذَا أَفْتَى بِكَوْنِ الشَّيْءِ وَاجِبًا أو مُبَاحًا أو حَرَامًا ليس له أَنْ يُقَلِّدَ وَيُفْتِيَ بِخِلَافِهِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مَحْضُ تَشَهٍّ وَالثَّانِي ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ جَرَيَانُ هذا الْخِلَافِ في تَتَبُّعِ الرُّخْصِ وَغَيْرِهَا وَرُبَّمَا قِيلَ اتِّبَاعُ الرُّخْصِ مَحْبُوبٌ لِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ وَيُشْبِهُ جَعْلَهُ في غَيْرِ الْمُتَتَبِّعِ من الِانْتِقَالِ قَطْعًا خَشْيَةَ الِانْحِلَالِ وَحَكَى ابن الْمُنِيرِ عن بَعْضِ مَشَايِخِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ فَاوَضَهُ في ذلك وقال أَيُّ مَانِعٍ يَمْنَعُ من تَتَبُّعِ الرُّخَصِ وَنَحْنُ نَقُولُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَالْكُلُّ دِينُ اللَّهِ وَالْعُلَمَاءُ أَجْمَعُونَ دُعَاةٌ إلَى اللَّهِ قال حتى كان هذا الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ من غَلَبَةِ شَفَقَتِهِ على الْعَامِّيِّ إذَا جاء يَسْتَفْتِيهِ مَثَلًا في حِنْثٍ يَنْظُرُ في وَاقِعَتِهِ فَإِنْ كان يَحْنَثُ على مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَلَا يَحْنَثُ على مَذْهَبِ مَالِكٍ قال لي أَفْتِهِ أنت يَقْصِدُ بِذَلِكَ التَّسْهِيلَ على الْمُسْتَفْتِي وَرَعًا كان يَنْظُرُ أَيْضًا في فَسَادِ الزَّمَانِ وَأَنَّ الْغَالِبَ عَدَمُ التَّقَيُّدِ فَيَرَى أَنَّهُ إنْ شَدَّدَ على الْعَامِّيّ رُبَّمَا لَا يَقْبَلُ منه في الْبَاطِنِ فَيُوَسِّعُ على نَفْسِهِ فَلَا مُسْتَدْرَكَ وَلَا تَقْلِيدَ بَلْ جُرْأَةٌ على اللَّهِ تَعَالَى وَاجْتِرَاءٌ على الْمُحَرَّمِ قُلْت كما اتَّفَقَ لِمَنْ سَأَلَ التَّوْبَةَ وقد قَتَلَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ قال فإذا عَلِمَ أَنَّهُ يَئُولُ بِهِ إلَى هذا الِانْحِلَالِ الْمَحْضِ فَرُجُوعُهُ حِينَئِذٍ في الرُّخْصَةِ إلَى مُسْتَنَدٍ وَتَقْلِيدُ الْإِمَامِ أَوْلَى من رُجُوعِهِ إلَى الْحَرَامِ الْمَحْضِ قُلْت فَلَا يَنْبَغِي حِينَئِذٍ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا لِكُلِّ أَحَدٍ بَلْ يَرْجِعُ النَّظَرُ إلَى حَالِ الْمُسْتَفْتِي وَقَصْدِهِ قال ابن الْمُنِيرِ في الْحِكَايَاتِ الْمُسْنَدَةِ إلَى وَلَدِ ابْنِ الْقَاسِمِ حَنِثَ في يَمِينٍ حَلَفَ فيها بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَاسْتَفْتَى أَبَاهُ فقال له أُفْتِيك فيها بِمَذْهَبِ اللَّيْثِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَإِنْ عُدْت أَفْتَيْتُك بِمَذْهَبِ مَالِكٍ يَعْنِي بِالْوَفَاءِ قال وَمَحْمَلُ ذلك عِنْدِي أَنَّهُ نَقَلَ له مَذْهَبَ اللَّيْثِ لَا أَنَّهُ أَفْتَاهُ بِهِ وَحَمَلَهُ عليه عِلْمُهُ بِمَشَقَّةِ الْمَشْيِ على الْحَالِفِ أو
____________________
(4/601)
خَشْيَةُ ارْتِكَابِ مَفْسَدَةٍ أُخْرَى فَخَلَّصَهُ من ذلك ثُمَّ هَدَّدَهُ بِمَا يَقْتَضِي تَحَرُّزَهُ من الْعَادَةِ قُلْت وَرُبَّمَا كان ابن الْقَاسِمِ يَرَى التَّخْيِيرَ فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا إذَا رَآهُ مَصْلَحَةً وَأَمَّا بِالتَّشَهِّي فَلَا قال وَكَانَتْ هذه الْوَقَائِعُ تُتَّفَقُ نَوَادِرَ وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ سَاءَتْ الْقُصُودُ وَالظُّنُونُ وَكَثُرَ الْفُجُورُ وَتَغَيَّرَ إلَى فُتُونٍ فَلَيْسَ إلَّا إلْجَامُ الْعَوَامّ عن الْإِقْدَامِ على الرُّخَصِ أَلْبَتَّةَ مَسْأَلَةٌ فَلَوْ اخْتَارَ من كل مَذْهَبٍ ما هو الْأَهْوَنُ عليه فَفِي تَفْسِيقِهِ وَجْهَانِ قال أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يُفَسَّقُ وقال ابن أبي هُرَيْرَةَ لَا حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ في فَتَاوِيهِ وَأَطْلَقَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لو أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ بِكُلِّ رُخْصَةٍ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ في النَّبِيذِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ في السَّمَاعِ وَأَهْلِ مَكَّةَ في الْمُتْعَةِ كان فَاسِقًا وَخَصَّ الْقَاضِي من الْحَنَابِلَةِ التَّفْسِيقَ بِالْمُجْتَهِدِ إذَا لم يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُ إلَى الرُّخْصَةِ وَاتَّبَعَهَا وَبِالْعَامِّيِّ الْمُقْدِمِ عليها من غَيْرِ تَقْلِيدٍ لِإِخْلَالِهِ بِغَرَضِهِ وهو التَّقْلِيدُ فَأَمَّا الْعَامِّيُّ إذَا قَلَّدَ في ذلك فَلَا يُفَسَّقُ لِأَنَّهُ قَلَّدَ من يَسُوغُ اجْتِهَادُهُ وفي فَتَاوَى النَّوَوِيِّ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَتَبُّعُ الرُّخَصِ وقال في فَتَاوٍ له أُخْرَى وقد سُئِلَ عن مُقَلِّدِ مَذْهَبٍ هل يَجُوزُ له أَنْ يُقَلِّدَ غير مَذْهَبِهِ في رُخْصَةٍ لِضَرُورَةٍ وَنَحْوِهَا أَجَابَ يَجُوزُ له أَنْ يَعْمَلَ بِفَتْوَى من يَصْلُحُ لِلْإِفْتَاءِ إذَا سَأَلَهُ اتِّفَاقًا من غَيْرِ تَلَقُّطِ الرُّخَصِ وَلَا تَعَمُّدِ سُؤَالِ من يَعْلَمُ أَنَّ مَذْهَبَهُ التَّرْخِيصُ في ذلك وَسُئِلَ أَيْضًا هل يَجُوزُ أَكْلُ ما وَلَغَ فيه الْكَلْبُ أو شُرْبُهُ تَقْلِيدًا لِمَالِكٍ فَأَجَابَ ليس له أَكْلُهُ وَلَا شُرْبُهُ إنْ نَقَصَ عن قُلَّتَيْنِ إذَا كان على مَذْهَبِ من يَعْتَقِدُ نَجَاسَتَهُ انْتَهَى وفي أَمَالِي الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ إذَا كان في الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ كَشُرْبِ النَّبِيذِ مَثَلًا فَشَرِبَهُ شَخْصٌ ولم يُقَلِّدْ أَبَا حَنِيفَةَ وَلَا غَيْرَهُ هل يَأْثَمُ أَمْ لَا لِأَنَّ إضَافَتَهُ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لَيْسَتْ بِأَوْلَى من إضَافَتِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَحَاصِلُ ما قال إنَّهُ يُنْظَرُ إلَى الْفِعْلِ الذي فَعَلَهُ الْمُكَلَّفُ فَإِنْ كان مِمَّا اشْتَهَرَ تَحْرِيمُهُ في الشَّرْعِ أَثِمَ وَإِلَّا لم يَأْثَمْ انْتَهَى وَعَنْ الْحَاوِي لِلْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ من شَرِبَ من النَّبِيذِ ما لَا يُسْكِرُ مع عِلْمِهِ بِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ ولم يَعْتَقِدْ الْإِبَاحَةَ وَلَا الْحَظْرَ حُدَّ وفي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ عَامِّيٌّ شَافِعِيٌّ لَمَسَ امْرَأَةَ رَجُلٍ ولم يَتَوَضَّأْ فقال عِنْدَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الطَّهَارَةُ بِحَالِهَا لَا
____________________
(4/602)
تَصِحُّ صَلَاتُهُ لِأَنَّ بِالِاجْتِهَادِ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَجُوزُ له أَنْ يُخَالِفَ اجْتِهَادَهُ كما إذَا اجْتَهَدَ في الْقِبْلَةِ وَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى جِهَةٍ وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى غَيْرِ تِلْكَ الْجِهَةِ لَا يَصِحُّ وَلَوْ جَوَّزْنَا له ذلك لَأَدَّى إلَى أَنْ يَرْتَكِبَ مَحْظُورَاتِ الْمَذَاهِبِ وَشُرْبَ الْمُثَلَّثِ وَالنِّكَاحَ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ انْتَهَى وفي السُّنَنِ لِلْبَيْهَقِيِّ عن الْأَوْزَاعِيِّ من أَخَذَ بِنَوَادِرِ الْعُلَمَاءِ خَرَجَ عن الْإِسْلَامِ وَعَنْهُ يُتْرَكُ من قَوْلِ أَهْلِ مَكَّةَ الْمُتْعَةُ وَالصَّرْفُ وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ السَّمَاعُ وَإِتْيَانُ النِّسَاءِ في أَدْبَارِهِنَّ وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ الشَّامِ الْحَرْبُ وَالطَّاعَةُ وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ النَّبِيذُ قال وَأَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ قال أخبرنا أبو الْوَلِيدِ يقول سَمِعْت ابْنَ سُرَيْجٍ يقول سَمِعْت إسْمَاعِيلَ الْقَاضِيَ قال دَخَلْت على الْمُعْتَضِدِ فَدَفَعَ إلَيَّ كِتَابًا نَظَرْت فيه وقد جَمَعَ فيه الرُّخَصَ من زَلَلِ الْعُلَمَاءِ وما احْتَجَّ بِهِ كُلٌّ منهم فَقُلْت مُصَنِّفُ هذا زِنْدِيقٌ فقال لم تَصِحَّ هذه الْأَحَادِيثُ قُلْت الْأَحَادِيثُ على ما رَوَيْت وَلَكِنْ من أَبَاحَ الْمُسْكِرَ لم يُبِحْ الْمُتْعَةَ وَمَنْ أَبَاحَ الْمُتْعَةَ لم يُبِحْ الْمُسْكِرَ وما من عَالِمٍ إلَّا وَلَهُ زَلَّةٌ وَمَنْ جَمَعَ زَلَلَ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ أَخَذَ بها ذَهَبَ دِينُهُ فَأَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِإِحْرَاقِ ذلك الْكِتَابِ وَمِنْ فُرُوعِ هذه الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ هل يَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ مَثَلًا أَنْ يَشْهَدَ على الْخَطِّ عِنْدَ الْمَالِكِيِّ الذي يَرَى الْعَمَلَ بِهِ صَرَّحَ ابن الصَّبَّاغِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ في كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ قالوا ليس له أَنْ يَشْهَدَ على خَطِّ نَفْسِهِ وَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ إذَا وَثِقَ بِهِ وَقَلَّدَ الْمُخَالِفَ وَيَدُلُّ عليه تَصْحِيحُ النَّوَوِيِّ قَبُولَ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ على ما لَا يَعْتَقِدُهُ كَالشَّافِعِيِّ يَشْهَدُ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ وَحَكَى الرَّافِعِيُّ فيه وَجْهَيْنِ بِلَا تَرْجِيحٍ وَمِنْهَا أَنَّ الْحَنَفِيَّ إذَا حَكَمَ لِلشَّافِعِيِّ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ هل يَجُوزُ له وَفِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الْحِلُّ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُشْكِلُ على قَاعِدَتِهِمْ في كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعَقِيدَةِ الْإِمَامِ لَا الْمَأْمُومِ مَسْأَلَةٌ الْعَامِّيُّ إذَا اتَّبَعَ مُجْتَهِدًا ثُمَّ مَاتَ وفي الْعَصْرِ مُجْتَهِدٌ آخَرُ فَقِيلَ عليه اتِّبَاعُ من عَاصَرَهُ فإن نَظَرَهُ أَوْلَى من نَظَرِ الْمَيِّتِ قال إلْكِيَا وَهَذَا ليس مَقْطُوعًا بِهِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدَ بن الْحَسَنِ من الْمُجْتَهِدِينَ وما كُلِّفَ الناس بِاتِّبَاعِ مَذْهَبِهِ بَعْدَ أبي حَنِيفَةَ فَإِذَنْ الِاخْتِيَارُ مُفَوَّضٌ إلَى الْعَامِّيِّ في الْقَبُولِ وَكَأَنَّ هذا تَفْرِيعٌ على عَدَمِ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ وَالْأَصَحُّ الْجَوَازُ
____________________
(4/603)
مَسْأَلَةٌ إذَا فَعَلَ الْمُكَلَّفُ فِعْلًا مُخْتَلَفًا في تَحْرِيمِهِ غير مُقَلِّدٍ لِأَحَدٍ فَهَلْ نُؤَثِّمُهُ بِنَاءً على الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ أو لَا بِنَاءً على التَّحْلِيلِ مع أَنَّهُ ليس إضَافَتُهُ لِأَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ أَوْلَى من الْآخَرِ ولم يَسْأَلْنَا عن مَذْهَبِنَا فَنُجِيبُهُ قال الْقَرَافِيُّ لم أَرَ فيه نَصًّا وكان الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بن عبد السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ يقول إنَّهُ آثِمٌ من جِهَةِ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَجِبُ عليه أَنْ لَا يُقْدِمَ على فِعْلٍ حتى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فيه وَهَذَا أَقْدَمَ غير عَالِمٍ فَهُوَ آثِمٌ بِتَرْكِ التَّعَلُّمِ وَأَمَّا تَأْثِيمُهُ بِالْفِعْلِ نَفْسِهِ فَإِنْ كان مِمَّا عُلِمَ في الشَّرْعِ قُبْحُهُ أَثَّمْنَاهُ وَإِلَّا فَلَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ تَمَّ الْكِتَابُ بِعَوْنِ الْمِلْكِ الْوَهَّابِ وَجَدْت في آخِرِ الْمَنْقُولِ منه ما صُورَتُهُ قال مُؤَلِّفُهُ فَسَحَ اللَّهُ في مُدَّتِهِ وَنَفَعَ الْمُسْلِمِينَ بِبَرَكَتِهِ نُجِزَ سَابِعَ عَشَرَ شَوَّالٍ من سَنَةِ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ بِالْقَاهِرَةِ جَعَلَهُ اللَّهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ مَقْرُونًا بِالزُّلْفَى وَالْقَبُولِ إلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الذي هَدَانَا لِهَذَا وما كنا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ وَنَسْأَلُهُ الْمَزِيدَ من فَضْلِهِ إنَّهُ الْوَهَّابُ وأنا أَرْغَبُ إلَى من وَقَفَ عليه أَنْ لَا يَنْسُبَ فَوَائِدَهُ إلَيْهِ فَإِنِّي أَفْنَيْت الْعُمُرَ في اسْتِخْرَاجِهَا من الْمُخَبَّآتِ وَاسْتِنْتَاجِهَا من الْأُمَّهَاتِ وَاطَّلَعْت في ذلك على ما يَحْسُرُ على غَيْرِي مَرَامُهُ وَعَزَّ عليه اقْتِحَامُهُ وَتَحَرَّزْت في النُّقُولِ من الْأُصُولِ بِالْمُشَافَهَةِ لَا بِالْوَاسِطَةِ وَرَأَيْت الْمُتَأَخِّرِينَ قد وَقَعَ لهم الْغَلَطُ الْكَثِيرُ بِسَبَبِ التَّقْلِيدِ فإذا رَأَيْت في كِتَابِي هذا شيئا من النُّقُولِ فَاعْتَمِدْهُ فإنه الْمُحَرَّرُ الْمَقْبُولُ وإذا تَأَمَّلْتَهُ وَإِسْعَافَهُ وَجَدْتَهُ قد زَادَ في أُصُولِ الْفِقْهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَضْعَافَهُ وقد أَحْيَيْت من كَلَامِ الْأَقْدَمِينَ خُصُوصًا الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ ما قد دَرَسَ وَأَسْفَرَ صَبَاحُهُ بَعْدَ أَنْ تَلَبَّسَ بِالْغَلَسِ وَلَقَدْ كان من أَدْرَكْت من الْأَكَابِرِ يقول مَسَائِلُ أُصُولِ الْفِقْهِ إذَا اُسْتُقْصِيَتْ تَجِيءُ نحو الثَّمَانِمِائَةِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أنها إلَى الثَّمَانِيَةِ آلَافٍ وَأَزْيَدَ أَقْرَبُ منها إلَى ما ذَكَرَهُ وَتَتَضَاعَفُ عِنْدَ التَّوْلِيدِ وَالنَّظَرِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا وهو حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَصَلَوَاتُهُ وَسَلَامُهُ على سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْمَخْلُوقِينَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَعِتْرَتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ الطَّاهِرِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
____________________
(4/604)