مِمَّا يَتَشَوَّفُ إلَيْهَا الرَّعَاعُ بِخِلَافِ مُكَاتَبَةِ الْمُسْلِمِ فَإِنَّهَا لَا تَكَادُ تُوجَدُ أو لَا يَظْهَرُ اسْتِوَاءُ السَّبَبِ فَكُلُّ ما كان من هذا الْجِنْسِ فَلَا يَجْرِي فيه الْقِيَاسُ لِفَقْدِ الشَّرْطِ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ أَشَارَ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى أَنَّ الْجَارِيَ في الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ ليس قِيَاسًا بَلْ هو تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ وَكَذَلِكَ في الْأَسْبَابِ وَنَازَعَهُ الْعَبْدَرِيّ في الْأَسْبَابِ وقال هِيَ تَخْرِيجٌ لَا تَنْقِيحٌ الثَّانِي قال بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ بِجَرَيَانِهِ في الْحُدُودِ زِيَادَةُ عُقُوبَةٍ في الْحَدِّ لِوُجُودِ عِلَّةٍ تَقْتَضِي الزِّيَادَةَ كَزِيَادَةِ التَّعْزِيرِ في حَقِّ الشُّرْبِ وَتَبْلِيغِهِ إلَى ثَمَانِينَ قِيَاسًا على حَدِّ الْقَذْفِ أَمَّا إنْشَاءُ حَدٍّ بِالْقِيَاسِ على حَدٍّ فَلَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ الثَّالِثُ ذَكَرَ في الْمَحْصُولِ تَبَعًا لِلشَّيْخِ في اللُّمَعِ أَنَّ الْعَادَاتِ لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ فيها وَمَثَّلَهُ بِأَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِتَمْثِيلِ الْمَاوَرْدِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ السَّابِقِ لِأَنَّهُ مَثَّلَ بِهِ لِلْمَقَادِيرِ وقد خَطَّأَ من قَاسَ في الْعِبَادَاتِ بِأَنَّ هذه أَمْرٌ وُجُودِيٌّ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ لِإِثْبَاتِ ذلك الْمَوْجُودِ في مَحَلٍّ آخَرَ فَفَاسِدٌ لِأَنَّ الْأُمُورَ الْوُجُودِيَّةَ لَا تَطَّرِدُ على نِظَامٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ ليس حُكْمًا شَرْعِيًّا حِينَئِذٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فَإِنْ كانت الْعَادَةُ مَوْجُودَةً في هذا الْفَرْعِ أَثْبَتْنَا الْحُكْمَ فيها فَلَا حَاجَةَ إلَى الْأَصْلِ لِأَنَّهُ مُسَاوٍ لِلْفَرْعِ حِينَئِذٍ في سَبَبِ الْحُكْمِ وَإِنْ لم يُبَيَّنْ وُجُودُهُ فَالْحُكْمُ مُثْبِتٌ لِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ الرَّابِعُ أَنَّ سَبَبَ وَضْعِ هذه الْمَسْأَلَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ ابن الْمُنِيرِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قد اُشْتُهِرَ عنه الْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ وَالْإِقْبَالُ على الرَّأْي وَالتَّقْلِيلُ من التَّوْقِيفِ وَالْأَحَادِيثِ فَتَبَرَّأَ أَصْحَابُهُ من ذلك فَأَظْهَرُوا أَنَّهُمْ امْتَنَعُوا من الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ في كَثِيرٍ من الْقَوَاعِدِ التي قَاسَ فيها أَصْحَابُ الحديث قُلْت وَكَذَلِكَ مَنَعَهُمْ من التَّعْلِيلِ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ فَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّا أَقْوَلُ بِالْقِيَاسِ منهم الْخَامِسُ سَبَقَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مَنَعَ الْقِيَاسَ في الْكَفَّارَاتِ ثُمَّ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ على الْمُفْطِرِ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ وَالشَّافِعِيُّ مع أَنَّهُ حُكِيَ عنه جَوَازُ الْقِيَاسِ فيها فإنه لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ في غَيْرِ الْوِقَاعِ وَلِهَذَا قال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ما أَجْدَرَ كُلًّا من الْإِمَامَيْنِ أَنْ يَنْتَحِلَ في هذه الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبَ صَاحِبِهِ يَعْنِي أَنَّ قِيَاسَ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ في الْكَفَّارَاتِ عَدَمُ
____________________
(4/51)
تَخْصِيصِهَا بِالْوِقَاعِ دُونَ سَائِرِ الْمُفْطِرَاتِ وَقِيَاسُ عَدَمِ الْقِيَاسِ عَدَمُ إيجَابِ الْكَفَّارَةِ في غَيْرِ الْوِقَاعِ وَهَذَا الْقَوْلُ جَهْلٌ بِمَدَارِكِ الْأَئِمَّةِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ أَثْبَتُوا بِالْحَدِيثِ الْمَأْمُورَ بِهِ بِالْكَفَّارَةِ بِمُطْلَقِ الْإِفْطَارِ فَهَذَا الْمُطْلَقُ هو الْمُقَيَّدُ بِالْجِمَاعِ وقد يُمْكِنُ أَنْ يُبْنَى الْخِلَافُ في الْقِيَاسِ في الْكَفَّارَاتِ على أَنَّهُ هل يَجِبُ على الْمُجْتَهِدِ الْبَحْثُ عن كل مَسْأَلَةٍ هل يَجْرِي الْقِيَاسُ فيها أَمْ لَا وَهَلْ قام الدَّلِيلُ على أَنَّ أَدِلَّةَ الْقِيَاسِ عَامَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى آحَادِ الْمَسَائِلِ وَأَنَّ الْعِلَّةَ الْجَامِعَةَ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ في صُورَةِ الْخِلَافِ الْخَاصَّةِ صَحِيحَةٌ مُعْتَبَرَةٌ في نَظَرِ الشَّرْعِ وَخَلِيَّةٌ عن الِاعْتِبَارِ وقد أَشَارَ ابن السَّمْعَانِيِّ إلَى هذا الْبِنَاءِ الْمَذْكُورِ مَسْأَلَةٌ قال في الْمَحْصُولِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ الْقِيَاسِ في الرُّخَصِ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ فِيمَا سَبَقَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ في الْبُوَيْطِيِّ على امْتِنَاعِ الْقِيَاسِ فقال في أَوَائِلِهِ لَا يُتَعَدَّى بِالرُّخْصَةِ مَوَاضِعُهَا وقال في الْأُمِّ لَا يُقَاسُ عليه وَكَذَلِكَ إنْ حَرَّمَ جُمْلَةً وَأَحَلَّ بَعْضَهَا وَكَذَلِكَ إنْ فَرَضَ شيئا رَخَّصَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم التَّخْفِيفَ في بَعْضِهِ ثُمَّ قال وما كان له حُكْمٌ مَنْصُوصٌ ثُمَّ كانت لِرَسُولِهِ سُنَّةٌ بِتَخْفِيفٍ في بَعْضِ الْفَرْضِ دُونَ بَعْضٍ عُمِلَ بِالرُّخْصَةِ فِيمَا رَخَّصَ فيه دُونَ ما سِوَاهَا ولم نَقِسْ ما سِوَاهَا عليها وَهَكَذَا ما كان لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم من حُكْمٍ عَامٍّ لِشَيْءٍ ثُمَّ سَنَّ فيه سُنَّةً تُفَارِقُ حُكْمَ الْعَامِّ كَمَسْحِ الْخُفَّيْنِ وَالْعَرَايَا هذا لَفْظُهُ وَذَكَرَ في الرِّسَالَةِ مثله وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ من الْأُمِّ وَلَا يُقَاسُ إلَّا ما عَقَلْنَا مَعْنَاهُ وَلِهَذَا قُلْنَا في الْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِمَا عِمَامَةٌ وَلَا بُرْقُعٌ وَلَا قُفَّازَانِ وَكَذَلِكَ الْقَسَامَةُ وفي مَوْضِعٍ آخَرَ إنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَتَحَلَّلُ بِالْمَرَضِ وَالتَّحَلُّلُ رُخْصَةٌ فَلَا يُتَعَدَّى بها مَوَاضِعُهَا كما أَنَّ الْمَسْحَ على الْخُفِّ رُخْصَةٌ فلم يُقَسْ عليه مَسْحُ الْعِمَامَةِ انْتَهَى وَجَرَى على ذلك جَمَاعَةٌ من أَصْحَابِنَا منهم الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ فقال لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عِنْدَنَا على الرُّخَصِ وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهَا تَكُونُ مَعْدُولًا بها عن الْأَصْلِ وما عَدَا مَحَلِّ الرُّخْصَةِ يَبْقَى على الْأَصْلِ وقال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في تَعْلِيقِهِ لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ في الرُّخَصِ وَلِهَذَا لَمَّا كان الْأَصْلُ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ ثُمَّ رُخِّصَ في مَحَلِّ الْخُفِّ الْمَسْحُ لِلضَّرُورَةِ
____________________
(4/52)
فَلَا يُقَاسُ عليه مَسْحُ الْقَلَنْسُوَةِ وَالْعِمَامَةِ وَالْأَصْلُ أَنَّ من تَلَبَّسَ بِالْإِحْرَامِ لَا يَنْقَضِي عنه إلَّا بِالْإِتْمَامِ وَرُخِّصَ لِلْمُحْصَرِ بِالْعَدْوِ في التَّحَلُّلِ ثُمَّ لَا يُقَاسُ عليه الْمَصْدُودُ بِالْمَرَضِ وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَضْمَنَ الْمَيِّتُ فَأَوْجَبَ الْغُرَّةَ في الْجَنِينِ لَا على الْقِيَاسِ ثُمَّ لَا يُقَاسُ عليه سَائِرُ الرُّخَصِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْجِنَايَةَ تُوجِبُ على الْجَانِي فَاسْتَثْنَى منه جِنَايَةَ الْخَطَأِ ثُمَّ لَا يُقَاسُ عليها غَيْرُهَا وقال إلْكِيَا إنَّمَا نَمْنَعُ الْقِيَاسَ على الرُّخَصِ إذَا كانت مَبْنِيَّةً على حَاجَاتٍ خَاصَّةٍ لَا تُوجَدُ في غَيْرِ مَحَلِّ الرُّخْصَةِ فَيَمْتَنِعُ الْقِيَاسُ لِعَدَمِ الْجَامِعِ كَغَيْرِ الْمُسَافِرِ يُعْتَبَرُ بِالْمُسَافِرِ في رُخَصِ السَّفَرِ إذْ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ تَخْصِيصِ الشَّرْعِ وقد يَمْتَنِعُ أَيْضًا مع شُمُولِ الْحَاجَةِ إذَا لم يَبِنْ عِنْدَنَا اسْتِوَاءُ السَّبَبَيْنِ في الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى شَرْعِ الْقَصْرِ مع أَنَّ الْمَرِيضَ خُفِّفَ عنه في بَعْضِ الْجِهَاتِ ذلك في الرُّخْصَةِ سَدًّا لِحَاجَتِهِ كَالْقُعُودِ في الصَّلَاةِ وَذَلِكَ تَخْفِيفٌ في الْأَرْكَانِ مُقَابِلٌ لِلتَّخْفِيفِ في عَدَدِ الرَّكَعَاتِ انْتَهَى وَأَلْحَقَ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ الْقِيَاسَ على الرُّخَصِ بِالْقِيَاسِ على الْمَخْصُوصِ وَسَيَأْتِي فيه التَّفْصِيلُ الْآتِي قال وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ عنه لِأَنَّ عِلَّتَهُ قَاصِرَةٌ عليه لَا من حَيْثُ كَوْنُهُ رُخْصَةً وقال الْقُرْطُبِيُّ يَحْتَمِلُ التَّفْصِيلَ بين أَنْ لَا يَظْهَرَ لِلرُّخْصَةِ مَعْنًى فَلَا يُقَاسُ عليها وَبَيْنَ أَنْ يَظْهَرَ فَيُقَاسُ وَيَنْزِلُ الْخِلَافُ على هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ وَرَأَيْت في كَلَامِ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ التَّفْصِيلَ بين أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ الْمَقِيسُ عليه مَنْصُوصًا فَيَجُوزُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادًا فَلَا فَحَصَلَ مَذَاهِبُ أَمْثِلَةٌ لِلْقِيَاسِ في الرُّخَصِ وقد اسْتَعْمَلَ أَصْحَابُنَا الْقِيَاسَ في الرُّخَصِ فِيمَا سَبَقَ فَلْنُشِرْ إلَى ذلك أَدْنَى إشَارَةٍ فإنه يَعِزُّ اسْتِحْضَارُهُ وَمِنْهَا أَنَّ السَّلَمَ رُخْصَةٌ وَرَدَ مُقَيَّدًا بِالْأَجَلِ وَجَوَّزَهُ أَصْحَابُنَا حَالًّا لِأَنَّهُ إذَا جَازَ مُؤَجَّلًا مع الْغَرَرِ فَلَأَنْ يَجُوزَ حَالًّا أَوْلَى لِقِلَّةِ الْغَرَرِ وقد يُنَازَعُ في كَوْنِهِ هذا قِيَاسًا وَإِنَّمَا هو من بَابِ دَلَالَةِ الْفَحْوَى أَيْ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ وفي كَوْنِهَا قِيَاسًا خِلَافٌ على أَنَّ الْغَزَالِيَّ في الْمُسْتَصْفَى أَبْدَى في كَوْنِ السَّلَمِ رُخْصَةً احْتِمَالَيْنِ له وَمِنْهَا ثَبَتَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ النَّهْيُ عن الْمُزَابَنَةِ وَهِيَ بَيْعُ الرُّطَبِ على النَّخْلِ بِالتَّمْرِ ثُمَّ وَرَدَ التَّرْخِيصُ في الْعَرَايَا وَهِيَ بَيْعُ الرُّطَبِ على النَّخْلِ بِتَمْرٍ في الْأَرْضِ كَذَلِكَ مُفَسَّرًا من طَرِيقِ زَيْدِ بن ثَابِتٍ وَغَيْرِهِ وَأَلْحَقَ أَصْحَابُنَا بِهِ الْعِنَبَ بِجَامِعِ أَنَّهُ زَكَوِيٌّ يُمْكِنُ
____________________
(4/53)
خَرْصُهُ وَيُدَّخَرُ بِالسَّنَةِ فَكَانَ كَالرُّطَبِ وَإِنْ لم يَشْمَلْهُ الِاسْمُ قال ابن الرِّفْعَةِ وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ في الْأُمِّ يَدُلُّ على أَنَّ الْأَصْلَ الرُّطَبُ وَالْعِنَبُ مَقِيسٌ عليه وَلَكِنَّ الْمَاوَرْدِيَّ في الْحَاوِي حَكَى خِلَافًا فقال اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هل جَازَتْ الرُّخْصَةُ في الْكَرْمِ نَصًّا أو قِيَاسًا على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا وهو قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ إنَّهَا نَصٌّ فَرَوَوْا عن زَيْدِ بن ثَابِتٍ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَرْخَصَ في الْعَرَايَا وَالْعَرَايَا بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ وَالْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ وَالثَّانِي وهو قَوْلُ أبي عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٍ من الْبَغْدَادِيِّينَ إنَّهَا جَازَتْ قِيَاسًا على النَّخْلِ لِبُرُوزِ ثَمَرَتِهَا وَإِمْكَانِ الْخَرْصِ فِيهِمَا وَتَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِهِمَا قُلْت وَالظَّاهِرُ تَرْجِيحُ الثَّانِي وهو الذي يَدُلُّ عليه كَلَامُ الشَّافِعِيِّ وما ذَكَرَهُ الْأَوَّلُونَ عن زَيْدِ بن ثَابِتٍ غَيْرُ ثَابِتٍ بَلْ الْمَعْرُوفُ عنه خِلَافُهُ وقد رَوَى الْبُخَارِيُّ عنه في صَحِيحِهِ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَخَّصَ بَعْدَ ذلك في بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بِالرُّطَبِ أو بِالتَّمْرِ ولم يُرَخَّصْ في غَيْرِهِ وَمِنْ تَوَابِعِ ذلك أَنَّهُ هل يَلْتَحِقُ بِهِمَا ما سِوَاهُمَا من الْأَشْجَارِ قَوْلَانِ مَدْرَكُهُمَا جَوَازُ الْقِيَاسِ في الرُّخَصِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ وَمِنْهَا أَنَّ الصَّلَاةَ تَحْرُمُ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ وَاسْتُثْنِيَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ لِحَدِيثِ أبي هُرَيْرَةَ فيه يُسْتَثْنَى بَاقِي الْأَوْقَاتِ في يَوْمِ الْجُمُعَةِ فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا نعم كَوَقْتِ الِاسْتِوَاءِ تَخْصِيصًا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَتَفْضِيلًا له وَأَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ قد وَرَدَتْ في وَقْتِ الِاسْتِوَاءِ خَاصَّةً فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ لِقُوَّةِ عُمُومِ النَّهْيِ وَمِنْهَا الرُّخْصَةُ في مَسْحِ الْخُفِّ وَرَدَتْ وَهِيَ مَقْصُورَةٌ على الضَّرُورَةِ فَلَا يُلْحَقُ بها الْجُرْمُوقُ على الْجَدِيدِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ لَا تَدْعُو إلَيْهِ فَلَا تَتَعَلَّقُ الرُّخْصَةُ بِهِ وَاسْتَشْكَلَ هذا بِتَجْوِيزِ الْمَسْحِ على الْخُفِّ الزُّجَاجِ وَالْخَشَبِ وَالْحَدِيدِ وَمِنْهَا لو مَسَحَ أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلَهُ كَفَى وهو الْأَكْمَلُ لِوُرُودِهِ في مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ من حديث جَابِرٍ وفي الِاقْتِصَارِ على الْأَسْفَلِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ لِأَنَّهُ رُخْصَةٌ فَيَقْتَصِرُ على الْوَارِدِ وَمِنْهَا التَّيَمُّمُ لِلْفَرْضِ رُخْصَةً لِلضَّرُورَةِ وفي جَوَازِهِ لِلنَّافِلَةِ
____________________
(4/54)
خِلَافٌ وَمِنْهَا النِّيَابَةُ في حَجِّ الْفَرْضِ عن الْمَعْضُوبِ رُخْصَةٌ كما صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَغَيْرُهُ وَلَوْ اسْتَنَابَ في حَجِّ التَّطَوُّعِ جَازَ في الْأَصَحِّ وَمِنْهَا أَنَّ الرُّخْصَةَ وَرَدَتْ فِيمَنْ أَقَامَ بِبَلَدٍ لِحَاجَةٍ يَتَوَقَّعُهَا كُلَّ وَقْتٍ فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَا يَجُوزُ له التَّرَخُّصُ بِغَيْرِ ذلك لَكِنْ هل يَتَعَدَّى هذا الْحُكْمُ لِبَاقِي الرُّخْصِ من الْجَمْعِ وَالْفِطْرِ وَالْمَسْحِ وَغَيْرِهَا لم يَتَعَرَّضْ له الْجُمْهُورُ وَيُحْتَمَلُ إلْحَاقُهُ بِنَاءً على جَوَازِ الْقِيَاسِ في الرُّخْصَةِ وقد نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَيُحْتَمَلُ مَنْعُهُ من جِهَةِ أَنَّا مَنَعْنَا الزِّيَادَةَ على هذه الْمُدَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَصْرِ مع وُرُودِ أَصْلِهِ فَلَأَنْ يَمْتَنِعَ رُخَصُ ما لم يَرِدْ أَصْلُهُ أَوْلَى وَمِنْهَا أَنَّ الرُّخْصَةَ وَرَدَتْ بِالْجَمْعِ بين الصَّلَاتَيْنِ بِالْمَطَرِ وَأَلْحَقُوا بِهِ الثَّلْجَ وَالْبَرَدَ إنْ كَانَا يَذُوبَانِ وَقِيلَ لَا يُرَخَّصَانِ اتِّبَاعًا لِلَفْظِ الْمَطَرِ وَمِنْهَا قال الرُّويَانِيُّ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بين الْجُمُعَةِ وَالْعَصْرِ بِعُذْرِ الْمَطَرِ تَأْخِيرًا وَكَذَا تَقْدِيمًا في أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ رُخْصَةٌ في وَقْتٍ مَخْصُوصٍ فَلَا يُقَاسُ عليه وَالْمَشْهُورُ الْجَوَازُ وَمِنْهَا أَنَّ صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ لَا تَخْتَصُّ بِالْقِتَالِ بَلْ لو رَكِبَ الْإِنْسَانُ سَيْلًا يَخَافُ الْغَرَقَ وَغَيْرَهُ من أَسْبَابِ الْهَلَاكِ فإنه يُصَلِّي وَلَا يُعِيدُ قِيَاسًا على الصَّلَاةِ في الْقِتَالِ وَأَجَابَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ إذْ قال من أَصْلِكُمْ أَنَّ الرُّخَصَ لَا تُتَعَدَّى مَوَاضِعُهَا وَلِذَلِكَ لم يُثْبِتُوا رُخَصًا في حَقِّ الْمَرِيضِ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ هذا بِالنَّصِّ وهو عُمُومٌ قَوْله تَعَالَى فَإِنْ خِفْتُمْ وَالثَّانِي أَنَّا نُجَوِّزُ الْقِيَاسَ في الرُّخَصِ إذَا لم يَمْنَعْ مَانِعٌ وَالْإِجْمَاعُ يَمْنَعُ من إجْرَاءِ رُخَصِ السَّفَرِ في الْمَرَضِ وَمِنْهَا أَنَّ صَوْمَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا يَجُوزُ في الْجَدِيدِ وَيَجُوزُ في الْقَدِيمِ لِلْمُتَمَتِّعِ إذَا
____________________
(4/55)
عُدِمَ الْهَدْيُ وفي جَوَازِهِ لِغَيْرِهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ لِأَنَّ النَّهْيَ عَامٌّ وَالرُّخْصَةُ في حَقِّ الْمُتَمَتِّعِ وَمِنْهَا قال الرَّافِعِيُّ وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِالْمُسَاقَاةِ على النَّخْلِ وَالْكَرْمِ في مَعْنَاهُ وفي الْكِفَايَةِ قِيلَ إنَّ الشَّافِعِيَّ قَاسَ على النَّخْلِ وَقِيلَ أَخَذَهُ من النَّصِّ وَمِنْهَا الْمَبِيتُ بِمِنًى لِلْحَاجِّ وَاجِبٌ وقد رُخِّصَ في تَرْكِهِ لِلرُّعَاةِ وَأَهْلِ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ فَهَلْ يَلْتَحِقُ بِهِمْ الْمَعْذُورُ كَأَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مَرِيضٌ مَنْزُولٌ بِهِ مُحْتَاجٌ لِتَعَهُّدِهِ أو كان بِهِ مَرَضٌ يَشُقُّ عليه الْمَبِيتُ أو له بِمَكَّةَ مَالٌ يَخَافُ ضَيَاعَهُ فيه وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا نعم قِيَاسًا على الْعُذْرِ وَالثَّانِي الْمَنْعُ وَالرُّخْصَةُ وَرَدَتْ لهم خَاصَّةً قال في الْبَحْرِ فَلَوْ عَمِلَ أَهْلُ الْعَبَّاسِ أو غَيْرُهُمْ في غَيْرِ سِقَايَتِهِ هل يَجُوزُ لهم تَرْكُ الْمَبِيتِ وَالرَّمْيُ فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا وَالثَّانِي نعم قِيَاسًا عليهم وَهَكَذَا ذَكَرَهُ أبو حَامِدٍ وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ في الْأَوْسَطِ على أَنَّهُ لَا يُشْرِكُهُ بَاقِي السِّقَايَاتِ وَبِهَذَا يَعْتَرِضُ على تَصْحِيحِهِ في الرَّوْضَةِ الْجَوَازَ الْقِيَاسُ في الْمُقَدَّرَاتِ مِيقَاتُ الْمُحْرِمِ من الْعِرَاقِ ذَاتُ عِرْقٍ وَاخْتَلَفُوا هل هو بِالنَّصِّ عليه كَبَاقِي الْمَوَاقِيتِ أو بِاجْتِهَادِ عُمَرَ فيه وَجْهَانِ صَحَّحَ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ مُسْلِمٍ الثَّانِيَ وهو نَصُّ الْإِمَامِ في الْأُمِّ وَصَحَّحَ الْجُمْهُورُ الْأَوَّلَ كما قَالَهُ في شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَلَوْ جاء الْغَرِيبُ من نَاحِيَةٍ لَا يُحَاذِي في طَرِيقِهِ مِيقَاتًا لَزِمَهُ أَنْ يُحْرِمَ إذَا لم يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ إلَّا مَرْحَلَتَانِ قِيَاسًا على قَضَاءِ عُمَرَ في تَأْقِيتِ ذَاتِ عِرْقٍ لِأَهْلِ الشَّرْقِ قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ تَفَقُّهًا وَتَابَعَهُ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ الْقِيَاسُ في الْكَفَّارَاتِ منها الْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَكَفَّارَةُ الْقَتْلِ وَالْعُدْوَانِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوهَا قِيَاسًا وَمِنْهَا لو رَأَى مُشْرِفًا على الْهَلَاكِ يَغْرَقُ أو غَيْرُهُ وكان في تَخْلِيصِهِ الْإِفْطَارُ لَزِمَهُ وَيَقْضِي وفي الْفِدْيَةِ وَجْهَانِ أَظْهَرُهُمَا الْوُجُوبُ قِيَاسًا على الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ
____________________
(4/56)
وَمِنْهَا وهو مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ من أَفْطَرَ عَمْدًا بِغَيْرِ الْجِمَاعِ في رَمَضَانَ لِأَنَّهُ لم يَرِدْ فيه تَوْقِيفٌ الْقِيَاسُ في الْجَوَابِرِ على الْمُتَمَتِّعِ دَمٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَيَجِبُ على الْقَارِنِ بِالْقِيَاسِ فإن أَفْعَالَ الْمُتَمَتِّعِ أَكْثَرُ من أَفْعَالِ الْقَارِنِ وإذا وَجَبَ عليه الدَّمُ فَلَأَنْ يَجِبَ على الْقَارِنِ أَوْلَى وهو دَمُ حُرْمَةٍ على الْأَصَحِّ لَا نُسُكٍ وَدَمُ فَوَاتِ الْحَجِّ كَدَمِ التَّمَتُّعِ في التَّرْتِيبِ وَالتَّقْدِيرِ على الْمَذْهَبِ لِأَنَّ دَمَ الْمُتَمَتِّعِ إنَّمَا وَجَبَ لِتَرْكِ الْإِحْرَامِ من الْمِيقَاتِ وَالنُّسُكُ الْمَتْرُوكُ في صُورَةِ الْفَوَاتِ أَعْظَمُ وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ في الْمَفْهُومِ الْأَوْلَى أَنَّهُ من بَابِ الْقِيَاسِ الْقِيَاسُ في الْأَحْدَاثِ قال في الْبُرْهَانِ لَا يَجْرِي في الطَّهَارَاتِ وَالْأَحْدَاثِ لِعَدَمِ اطِّلَاعِنَا على ضَبْطِ أَهْلِهَا قال الْقَاضِي وَكَمَا لَا تَثْبُتُ الْأَحْدَاثُ بِالْقِيَاسِ لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ أَيْضًا في الْأَحْدَاثِ فإن الْقِيَاسَ كما لَا يَهْتَدِي لِتَأْقِيتِ الطَّهَارَةِ لَا يَهْتَدِي لِنَفْيِ إثْبَاتِهَا وقال في الْقَوَاطِعِ قِيلَ إنَّهُ لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ في الْأَحْدَاثِ وَتَفَاصِيلِهَا وَالْوُضُوءِ وَتَفَاصِيلِهِ بَلْ يَتْبَعُ مَحْضَ النَّصِّ وَقِيلَ إنَّ الْوُضُوءَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى فإنه مُشْعِرٌ بِالتَّنْظِيفِ وَالتَّنْقِيَةِ وَقِيلَ الصَّلَاةُ يُعْقَلُ فيها الْخُشُوعُ وَالِاسْتِكَانَةُ قُلْت وَمِنْ فُرُوعِهِ لو مَسَّ ذَكَرَهُ بِدُبُرِ غَيْرِهِ قال الْإِمَامُ في النِّهَايَةِ لَا يَنْتَقِضُ وفي الشَّامِلِ يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَقِضَ لِأَنَّهُ مَسَّهُ بِالْآلَةِ التي تَمَسُّ بها هذا الْمَحَلَّ وَقَوْلُ الْإِمَامِ أَقْيَسُ لِأَنَّ الْأَحْدَاثَ لَا تُثْبِتُ قِيَاسًا ولم يَرِدْ إلَّا في الْيَدِ كما أَنَّا لم نُعَدِّهِ إلَّا في الْأَمْرَدِ وَإِنْ وُجِدَ الْمَعْنَى قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَقَالُوا أَصْلُهَا مَعْقُولُ الْمَعْنَى وهو الثِّقَةُ وَحُصُولُ الظَّنِّ وَالْغَفْلَةُ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسْوَةِ لِمَا غَلَبَ عَلَيْهِنَّ من الذُّهُولِ وَالْغَفْلَةِ وَأَمَّا أَصْلُ عُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ فَمَعْقُولُ الْمَعْنَى إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ فيها أَنْوَاعًا من التَّعَبُّدَاتِ فَلَزِمَ اتِّبَاعُهَا وَلَا يَجُوزُ تَجَاوُزُهَا وَتَعَدِّيهَا انْتَهَى مَسْأَلَةٌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ في الْعَقْلِيَّاتِ الْأَكْثَرُونَ مِنَّا وَمِنْ الْمُعْتَزِلَةِ كما قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُ على جَرَيَانِ
____________________
(4/57)
الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ في الْعَقْلِيَّاتِ أَيْ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ كَقَوْلِنَا في مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ اللَّهُ مَوْجُودٌ وَكُلُّ مَوْجُودٍ مَرْئِيٌّ فَيَكُونُ مَرْئِيًّا وَحَكَى ابن سُرَيْجٍ في كِتَابِهِ الْإِجْمَاعَ على اسْتِعْمَالِهِ قال وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في الشَّرْعِيِّ ثُمَّ قِيلَ قَطْعِيٌّ وَالْمُحَقِّقُونَ منهم الْإِمَامُ الرَّازِيَّ على أَنَّهُ ظَنِّيٌّ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ وقال ابن بَرْهَانٍ الْقِيَاسُ الْقَطْعِيُّ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ في إثْبَاتِ الْقَطْعِيَّاتِ بِخِلَافِ الظَّنِّيِّ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ فيها الْقَطْعُ وَالْيَقِينُ لَا يُسْتَفَادُ من الدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ وَذَهَبَ الصَّيْرَفِيُّ وَالْغَزَالِيُّ إلَى الْمَنْعِ وَحَكَاهُ في الْبُرْهَانِ عن أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ قال وَلَيْسُوا مُنْكِرِينَ أَيْضًا نَظَرَ الْعَقْلِ إلَى الْعِلْمِ وَلَكِنْ يَنْهَوْنَ عن مُلَابَسَتِهِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِ قال الصَّيْرَفِيُّ الْعَقْلُ وُضِعَ لِإِدْرَاكِ الْأَشْيَاءِ على ما هِيَ بِهِ فَلَا يَجُوزُ انْتِقَالُهُ عن هذا أَبَدًا قال وَإِنَّمَا أَخْطَأَ الناس في نَفْيِ الْقِيَاسِ في الْأَحْكَامِ لِأَنَّهُمْ رَامُوا جَعْلَ الْعَقْلِيَّاتِ كَالْمُوجَبِ في الشَّرْعِ فلما لم يَجُزْ أَحَالُوهُ وَلَوْ سَلَكُوا بِكُلِّ وَاحِدٍ طَرِيقَهُ لَأَصَابُوا وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَطْلَقَ النَّقَلَةُ الْقِيَاسَ وأنا أَقُولُ إنْ عَنَوْا النَّظَرَ الْفِعْلِيَّ فَهُوَ في نَوْعِهِ مُفْضٍ إلَى الْعِلْمِ إذَا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَهُ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا وَإِنْ عَنَوْا بِهِ اعْتِبَارَ شَيْءٍ بِشَيْءٍ وَاسْتِثَارَةَ مَعْنًى في قِيَاسٍ غَائِبٍ على شَاهِدٍ فَذَاكَ بَاطِلٌ عِنْدِي قُلْت وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْنُوا بِهِ الْأَوَّلَ فإن الْقِيَاسَ لَا يُطْلَقُ حَقِيقَةً على النَّظَرِ الْمَحْضِ قال الْأَصْفَهَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ قال بِجَرَيَانِ الْقِيَاسِ في الْعَقْلِيَّاتِ جَمَعَ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِأَحَدِ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ أَحَدُهَا الْعِلَّةُ كَقَوْلِنَا الْعَالَمِيَّةُ في الشَّاهِدِ حَاصِلَةٌ اتِّفَاقًا فَكَذَا في الْغَائِبِ لِأَنَّ تَمَامَ التَّعْلِيمِ بِالشَّاهِدِ إنَّمَا كان لِلْعَالَمِيَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ بِهِ لِلْعِلْمِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ في الْغَائِبِ فَيَكُونُ له الْعِلْمُ وَهَذَا جَمْعٌ بِالْعِلَّةِ ثَانِيهَا الْجَمْعُ بِالدَّلِيلِ قالوا الْإِتْقَانُ في الشَّاهِدِ دَلِيلُ الْعِلْمِ وَأَفْعَالُ اللَّهِ مُتْقَنَةٌ فَيَكُونُ عَالِمًا لِوُجُودِ دَلِيلِ الْعِلْمِ ثَالِثُهَا الْجَمْعُ بِالشَّرْطِ كَقَوْلِنَا الْعِلْمُ من الشَّاهِدِ شَرْطُهُ الْحَيَاةُ وَاَللَّهُ عَالِمٌ فَيَكُونُ حَيًّا رَابِعُهَا الْجَمْعُ بِالْإِطْلَاقِ الْحَقِيقِيِّ كَقَوْلِنَا الْمُرِيدُ من قَامَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ وَهَذِهِ
____________________
(4/58)
طَرِيقَةُ الْمُتَقَدِّمِينَ من الْمُتَكَلِّمِينَ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ تُفِيدُ الْعِلْمَ وَالْمَطْلُوبُ في هذه الْمَسَائِلِ إنَّمَا هو الْعِلْمُ مسألة جريان القياس في اللغات في جريان القياس في اللغات وجهان وقد سبقت في مباحث اللغات بتحريرها ونقولها والذي نذكره هاهنا أنه ليست هذه المسألة مسألة التعليل بالاسم بل تلك في أنه هل يناط حكم شرعي باسم وهذه في أنه هل يسمى شيء باسم شيء آخر لغة لجامع والقياس الشرعي إلحاق فرع بأصل في حكمه وقال أبو الحسين في المعتمد اختلفوا في العلة هل هي دليل على اسم الفرع ثم تعلق به حكم شرعي أو يدل ابتداء على حكم شرعي فحكى عن ابن سريج أنه قال إنما ثبت بالقياس الأسماء في الشرع ثم تعلق عليها الأحكام فكان يتوصل إلى أن الشفعة تركة ثم يجعلها موروثة وأن وطء البهيمة زنى ثم تعلق به الحد وبعض الشافعية كان يقيس النبيذ على الخمر في تسميته خمرا لاشتراكهما في الشدة ثم يحرمه بالآية وأكثر الفقهاء متفقون على أن العلل تثبت بها الأحكام فإن كان ابن سريج يمنع من تعليل الأحكام في الشرع بالعلل فهو باطل لأن أكثر المسائل إنما تعلل فيها أحكامها دون أسمائها وإن أراد أن العلل قد يتوصل بها إلى الأسماء في بعض المواضع فإن أراد بالعلل العلل الشرعية فباطل لأن اللغة أقدم من الشرع فلا يجوز إثباتها بأمور طارئة قال إلكيا كان ابن سريج يقول إنما ثبتت الأسامي بالقياس ثم تعلق الأحكام بها نحو ما كان يقول إن القياس يوصل إلى أن وطء البهيمة زنى ثم ثبت الحد فيه بظاهر الآية ووجه كونه زنى أنه إيلاج فرج في فرج تمحض تحريما فكان زنى والنبيذ خمر للشدة والخمر محرمة قال إلكيا وهذا النوع باطل من كل وجه لأن القياس في الأسامي يتلقى من فهم مقاصد اللغة ومعرفته موضع اشتقاق الاسم ثم يجري على ما فيه ذلك المعنى ذلك الاسم فيكون نهاية نصهم على فائدة التسمية ذلك وليس لهذا القول تعلق بالشرع لأنه قد يصح سواء كان هناك شرع أم لا وأما القياس الذي يختص الشرع به فإنما تثبت به الأحكام فقط بأن يعلل الأصول التي يثبت الحكم فيها لتعدية الحكم بالتعليل إلى ما شاركها في العلة
____________________
(4/59)
وقد نص الشافعي رحمه الله تعالى في الخمر على خلاف ما ذكره والقول في بطلانه ظاهر في الشرع أولا وفي اللغة لأن فهم موضع الاشتقاق لا يمنع إمكان تخصيص الاسم مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ في الْأَسْبَابِ إذَا أُضِيفَ حُكْمٌ إلَى سَبَبٍ وَعُلِمَتْ فيه عِلَّةُ السَّبَبِ فإذا وُجِدَتْ في وَصْفٍ آخَرَ هل يَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ سَبَبًا وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْقِيَاسِ في الْأَسْبَابِ فَنُقِلَ عن أبي زَيْدٍ الدَّبُوسِيِّ وَغَيْرِهِ الْمَنْعُ وَقَالُوا الْحُكْمُ يَتْبَعُ الْعِلَّةَ دُونَ حِكْمَةِ الْعِلَّةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ اللِّوَاطُ سَبَبًا لِلْحَدِّ بِالْقِيَاسِ على الزِّنَى وَلَا النَّبْشُ سَبَبًا لِلْقَطْعِ قِيَاسًا على السَّرِقَةِ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وَالْبَيْضَاوِيُّ وقال الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ الْمَحْصُولِ إنَّهُ الْأَظْهَرُ لَكِنَّ الْمَنْقُولَ عن أَصْحَابِنَا جَوَازُهُ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا وَعِبَارَتُهُ مُعْتَقَدُنَا جَوَازُ اعْتِبَارِ السَّبَبِ بِالسَّبَبِ بِشَرْطِ ظُهُورِ عَدَمِ تَفَاوُتِ السَّبَبَيْنِ في الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرِ ثُمَّ في وَضْعِ الْأَسْبَابِ ثُمَّ صُورَةِ الْأَسْبَابِ لَا يُرَاعَى عِنْدَ ظُهُورِ التَّفَاوُتِ في مَضْمُونِ السَّبَبَيْنِ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ مَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ الْقِيَاسَ في الْأَسْبَابِ وَعِنْدَنَا يُسَوَّغُ كما إذَا ثَبَتَ لنا أَنَّ الْقِصَاصَ وَجَبَ لِزَجْرِ الْقَاتِلِ وَثَبَتَ أَنَّ الْقَتْلَ صَارَ سَبَبًا لِمَكَانِ الْحِكْمَةِ لَا لِصُورَتِهِ فَيَجُوزُ اعْتِبَارُ الْمُشْتَرِكِينَ في الْقَتْلِ بِالْقَتْلِ وَإِنْ ثَبَتَ لنا أَنَّهُ غَيْرُ قَاتِلٍ قال وقد اعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ الْمُسَاقَاةَ بِالْقِرَاضِ لِاسْتِوَائِهِمَا في مَقْصُودِ التُّجَّارِ وَمَصْلَحَةِ الْمُتَعَامِلِينَ وَهُمَا سَبَبَانِ مُخْتَلِفَانِ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ عُمُومُ الْحَاجَةِ إلَى الْقِرَاضِ بِخِلَافِ الْمُسَاقَاةِ لَكِنَّ جَوَابَهُ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ كانت أَعَمَّ عِنْدَ الْعَرَبِ وَهُمْ قَوْمُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَمِنْهُ اعْتِبَارُ الشَّافِعِيِّ الشَّهَادَةَ بِالْإِكْرَاهِ من جِهَةِ أَنَّ الشَّهَادَةَ يَظْهَرُ إفْضَاؤُهَا إلَى الْقَتْلِ كَالْإِكْرَاهِ وَإِنْ كان لِلْإِكْرَاهِ مَزِيَّةٌ من وَجْهٍ فَلِلشَّهَادَةِ مَزِيَّةٌ من وَجْهٍ وَمِنْهُ ما قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ الْمَرْأَةَ يَلْزَمُهَا الْحَجُّ إذَا وَجَدَتْ نِسْوَةً ثِقَاتٍ يَقَعُ الْأَمْنُ بِمِثْلِهِنَّ إلْحَاقًا لَهُنَّ بِالْمُحْرِمِ وَالزَّوْجِ فَقَاسَ أَحَدَ سَبَبَيْ الْأَمْنِ على الثَّانِي قال وَكَذَلِكَ يَجْرِي في مِثْلِهِنَّ في الشُّرُوطِ وقد نَفَى الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ اشْتِرَاطَ الْإِسْلَامِ في الْإِحْصَانِ إلْحَاقًا له بِالْجَلْدِ فقال الْجَلْدُ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ ثُمَّ اسْتَوَى فيه إنْكَارُ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ فَالرَّجْمُ كَذَلِكَ وهو حَسَنٌ
____________________
(4/60)
ثُمَّ قال وَالضَّابِطُ أَنَّ ما لم يُوجَدْ له نَظِيرٌ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ فَلِهَذَا لم يَلْحَقْ الْمَرَضُ بِالسَّفَرِ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ نَظِيرًا له في الْحَاجَةِ وَهَذَا وَاضِحٌ وقد قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى التَّقَابُضُ شَرْطٌ في بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ قِيَاسًا على النَّقْدَيْنِ وَصَحَّ هذا الْقِيَاسُ لِلشَّافِعِيِّ بِلَا مُدَافِعٍ انْتَهَى وَأَمَّا صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ فَنَقَلَ الْمَنْعَ في أَصْلِ تَرْجَمَةِ الْمَسْأَلَةِ عن أَصْحَابِهِمْ ثُمَّ قال وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ كُلَّ ما يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فيه بِشُرُوطِهِ وَجَبَ ما لم يَمْنَعْ مَانِعٌ وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال في اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ في الْوُضُوءِ قِيَاسًا على التَّيَمُّمِ طَهَارَتَانِ فَأَنَّى يَفْتَرِقَانِ انْتَهَى وَمِنْهُمْ من قال إنْ قُلْنَا إنَّ الْأَسْبَابَ وَالْمَوَانِعَ وَالشُّرُوطَ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ جَرَى فيها الْقِيَاسُ وَإِنْ قُلْنَا لَيْسَتْ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَفِي جَرَيَانِ الْقِيَاسِ فيها نَظَرٌ قال الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْأَوْلَى جَرَيَانُهُ لِأَنَّا عَقَلْنَا أَنَّ الزِّنَى إنَّمَا نُسِبَ سَبَبًا لِلرَّجْمِ لِعِلَّةِ كَذَا وَوَجَدْنَاهَا في اللِّوَاطِ مَثَلًا فَيَلْزَمُ نَصْبُ سَبَبِهَا وَكَذَلِكَ هو في السَّرِقَةِ حتى يَلْحَقَ بها نَبْشُ الْقَبْرِ وَأَخْذُ الْأَكْفَانِ فَهَذَا إذَا تَمَّ على شُرُوطِهِ قِيَاسٌ صَحِيحٌ انْتَهَى وقد أَلْزَمُوا الْمَانِعَ مَنْعَ حَمْلِ النَّبِيذِ على الْخَمْرِ من حَيْثُ إنَّ خُصُوصَ وَصْفِ الْمَحَلِّ لو اعْتَبَرَ في مَحَلِّ الْحُكْمِ لَاقْتَضَى مَنْعَ تَوْسِيعِ الْحُكْمِ وفي مَنْعِ تَوْسِيعِهِ رَفْعُ الْقِيَاسِ أَصْلًا وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ سَبَبُ حُكْمٍ قِيَاسًا على سَبَبٍ آخَرَ فإذا حَكَمَ اللَّهُ بِرَجْمِ الزَّانِي جَازَ أَنْ يَطْلُبَ سَبَبَ ذلك حتى يَقِفَ على سَبَبِهِ وهو الزِّنَى فإذا ثَبَتَ أَنَّ الزِّنَى عِلَّةُ الرَّجْمِ صَحَّ أَنْ يُعَلِّلَهُ بِعِلَّةِ تَعَدِّيهَا إلَى غَيْرِ الزِّنَى كما يَجُوزُ أَنْ يُعَلِّلَ الْحُكْمَ الثَّابِتَ على زَيْدٍ وَيُعَدَّى إلَى عَمْرٍو عِنْدَ فَهْمِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلتَّعْدِيَةِ فإنه جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا ما قَبْلَهُ وقد أَنْكَرَ أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ هذا النَّوْعَ من التَّعْلِيلِ وقال الْحُكْمُ يَتْبَعُ السَّبَبَ دُونَ حِكْمَةِ السَّبَبِ وَإِنَّمَا الْحُكْمُ ثَمَرَةٌ وَلَيْسَ بِعِلَّةٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ جُعِلَ الْقِيَاسُ سَبَبًا لِلْقِصَاصِ لِلزَّجْرِ وَالرَّدْعِ فَيَنْبَغِي أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ على شُهُودِ الْقِصَاصِ إذَا رَجَعُوا لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى الزَّجْرِ وَإِنْ لم يَتَحَقَّقْ الْقَتْلُ إلَى غَيْرِ ذلك من الْأَسْبَابِ قال الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ وَهَذَا الذي قَالُوهُ يُمْكِنُ أَنْ يُنَزَّلَ على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَقُولُوا ذلك بِنَاءً على تَوْقِيفٍ ثَابِتٍ يَمْنَعُ من الْقِيَاسِ في هذه الْحَالَةِ وَحِينَئِذٍ فَيَتْبَعُ وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا لم يَثْبُتْ عِنْدَنَا عُمُومُ شَرْعِيَّةِ الْقِيَاسِ عِنْدَ فَهْمِ الْمَعَانِي فَهَذَا يَجُرُّ أَنْوَاعًا من الْخَيَالِ وَيَقْتَضِي مَنْعَ الْقِيَاسِ إلَّا في مَوَاضِعِ الْإِجْمَاعِ وَقَلَّ أَنْ يُصَادَفَ ذلك بِحَالٍ وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا إنَّ تَعْلِيلَ الْأَسْبَابِ يَفُوتُ بِهِ حَقِيقَةُ الْقِيَاسِ لِأَنَّ من شَرْعِ
____________________
(4/61)
الْقِيَاسِ على الْأُصُولِ تَقْرِيرَهَا أُصُولًا وفي تَقْرِيرِ الْأَسْبَابِ ما يُخْرِجُهَا عن كَوْنِهَا أَسْبَابًا قال وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مُعْتَمَدُ الْقَوْمِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّا إذَا قُلْنَا الزِّنَى عِلَّةُ الرَّجْمِ وَاسْتَنْبَطْنَا منه إيلَاجَ الْفَرْجِ في الْفَرْجِ الْمُحَرَّمِ قَطْعًا إلَى تَمَامِ الْقِيَاسِ وَاعْتَبَرْنَا اللَّفْظَ فَقَدْ أَبَانَ آخِرًا أَنَّ الزِّنَى لم يَكُنْ عِلَّةً وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ أَمْرٌ أَعَمُّ من الزِّنَى فَقَدْ عَلَّلَ الزِّنَى في كَوْنِهِ سَبَبًا بِعِلَّةٍ أَخْرَجَتْ الزِّنَى عن كَوْنِهِ سَبَبًا وَيُمْنَعُ تَعْلِيلُ الْأُصُولِ بِمَا يُخْرِجُهَا عن كَوْنِهَا أُصُولًا هذا أَعْظَمُ ما تَمَسَّكُوا بِهِ في مَنْعِ تَعْلِيلِ الْأَسْبَابِ وقد تَحَيَّرَ الْأَصْحَابُ في الْجَوَابِ وَاعْتَذَرُوا بِأَنَّ ذلك يَرْجِعُ إلَى تَنْقِيحِ مَنَاطِ الْحُكْمِ دُونَ تَخْرِيجِهِ وقال بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْإِنْصَافُ يَقْتَضِي مُسَاعَدَتَهُمْ على ذلك وَزَعَمَ أَنَّ الْجَارِيَ في تَعْلِيلِ الْأَصْحَابِ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ دُونَ تَخْرِيجِهِ وَهَذَا هو اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ وقال لَا وَجْهَ غَيْرُهُ وَأَنَّهُ الْحَقُّ وَحَاصِلُ ما قَالَهُ الِاعْتِرَافُ بِامْتِنَاعِ إجْرَاءِ الْقِيَاسِ في الْأَسْبَابِ لَا لِخُصُوصٍ في التَّعَبُّدِ وَلَا لِتَعَذُّرِ فَهْمِ الْمَعْنَى وَلَكِنْ لِاسْتِحَالَةِ وِجْدَانِ الْأَصْلِ عِنْدَ التَّعْلِيلِ إذْ يَفُوتُ الْقِيَاسُ لِفَوَاتِ بَعْضِ أَرْكَانِهِ وَلَا يَبْقَى لِلْقِيَاسِ حَقِيقَةٌ وَنَحْنُ نَقُولُ الصَّحِيحُ إجْرَاءُ الْقِيَاسِ على حَقِيقَتِهِ في الْأَسْبَابِ وَلَا فَرْقَ في تَصَوُّرِ الْقِيَاسِ بين تَعْلِيلِ الْأَسْبَابِ وَتَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ وَبَيَانُهُ هو أَنَّهُ إذَا حَرُمَتْ الْخَمْرَةُ فَهَلْ حَرُمَتْ بِاعْتِبَارِ خُصُوصِيَّةِ وَصْفِهَا وهو الْخَمْرِيَّةُ حتى لَا يَتَعَدَّى الْحُكْمُ إلَى النَّبِيذِ بِحَالٍ أو حَرُمَتْ الْخَمْرُ من جِهَةِ كَوْنِهَا مُزِيلَةً لِلْعَقْلِ وهو الْوَصْفُ الْأَعَمُّ فَإِنَّهَا إذَا كانت أَصْلًا بِاعْتِبَارِ حُكْمِ الشَّرْعِ فيها وقد بَانَ لنا أَنَّهُ إنَّمَا حُكِمَ فيها من جِهَةِ اشْتِدَادِهَا وَإِسْكَارِهَا فَكَذَلِكَ إذَا جَعَلْنَا الزِّنَى عِلَّةَ الرَّجْمِ فَيُقَالُ هل هو عِلَّةٌ من جِهَةِ كَوْنِهِ زِنًى أو من جِهَةِ عِلَّةٍ أُخْرَى أَعَمَّ من هذا أو لَا عِلَّةَ وهو بَاطِلٌ فَهَذَا هو الْمُنَاقِضُ أَمَّا إذَا جُعِلَ عِلَّةً من بَعْضِ الْجِهَاتِ لم يَخْرُجْ عن كَوْنِهِ عِلَّةً مُطْلَقًا هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ تَعْلِيلُ الْأَسْبَابِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ في الْأُصُولِ السَّابِقَةِ قال وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ من أَعْظَمِ مَسَائِلِ الْأُصُولِ فَقَدْ زَلَّ فيها الْجَمَاهِيرُ وَأَثْبَتُوا الْقِيَاسَ في الْأَسْبَابِ على وَجْهٍ يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْقِيَاسِ وقال ابن الْمُنِيرِ صُورَةُ الْقِيَاسِ في الْأَسْبَابِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ قام على أَنَّ الزِّنَى سَبَبٌ في الرَّجْمِ وَالنَّصُّ أَوْمَأَ إلَى ذلك أَيْضًا فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ نَقِيسَ عليه اللِّوَاطَ في إثْبَاتِ حُكْمِ السَّبَبِيَّةِ له فَيَكُونُ سَبَبًا لِلرَّجْمِ أو لَا هذا مَحَلُّ الْخِلَافِ وَمِنْهُ قِيَاسُ النَّبْشِ على
____________________
(4/62)
السَّرِقَةِ وَلِلْمَانِعِينَ مَسْلَكَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْجَمْعَ بين السَّبَبَيْنِ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِحِكْمَةِ السَّبَبِ بِخِلَافِ الْجَمْعِ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فإنه يَقَعُ بِالْأَوْصَافِ قالوا وَالْحِكَمُ خَفِيَّةٌ لَا تَنْضَبِطُ وَالْأَوْصَافُ ظَاهِرَةٌ مُنْضَبِطَةٌ وَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِمَا لَا يَنْضَبِطُ فَلَوْ فَرَضْنَا انْضِبَاطَ الْحِكَمِ فَفِي جَوَازِ التَّعْلِيلِ بها خِلَافٌ فَإِنْ أَجَزْنَاهُ فَلَا يُقَاسُ في الْأَسْبَابِ بَلْ نَقِيسُ الْفَرْعَ بِالْحِكْمَةِ الْمُنْضَبِطَةِ وَيُسْتَغْنَى عن تَوْسِيطِ السَّبَبِ وَإِنْ مَنَعْنَاهُ بَطَلَ الْقِيَاسُ في السَّبَبِ وَالثَّانِي أَنَّ الْقِيَاسَ في الْأَسْبَابِ يُؤَدِّي إثْبَاتُهُ إلَى أَصَالَتِهِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ في الْأَحْكَامِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْقِيَاسَ في الْأَحْكَامِ يُقَرِّرُ الْأَصْلَ أَصْلًا وَيَلْحَقُ بِهِ فَرْعًا وَالْقِيَاسُ في الْأَسْبَابِ يُبْطِلُ كَوْنَ السَّبَبِ الْمَقِيسِ عليه سَبَبًا وَيُحَقِّقُ أَنَّ السَّبَبِيَّةَ أَمْرٌ أَعَمُّ منه وهو الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بين السَّبَبَيْنِ وَيُؤَوَّلُ الْأَمْرُ إلَى أَنَّهُ لَا أَصْلَ وَلَا فَرْعَ فَلَا قِيَاسَ فَقِيَاسُ النَّبِيذِ على الْخَمْرِ لم يُغَيِّرْ حُكْمَ الْأَصْلِ وَلَا إضَافَةَ التَّحْرِيمِ إلَيْهَا وَقِيَاسُ اللِّوَاطِ على الزِّنَى غَيَّرَ كَوْنَ الزِّنَى سَبَبًا وَصَيَّرَ السَّبَبَ الْإِيلَاجَ الْمُشْتَرَكَ بين الْمَحَلَّيْنِ فَيَصْدُقُ على الزِّنَى أَنَّهُ ليس بِسَبَبٍ إنْ فَرَضْنَاهُ سَبَبًا وَأَمَّا الْمُجَوِّزُونَ فَاحْتَجُّوا بِأَمْرٍ جَلِيٍّ وهو انْسِحَابُ الْإِجْمَاعِ عليه لِأَنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ اسْتَرْسَلُوا في الْأَقْيِسَةِ وَلَوْ ذَهَبْنَا نَشْتَرِطُ في كل صُورَةٍ إجْمَاعًا خَاصًّا بها لَاسْتَحَالَ فَالْقِيَاسُ في السَّبَبِ كَالْقِيَاسِ في الْإِجَارَةِ مَثَلًا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إجْمَاعٍ خَاصٍّ قال وَيَنْبَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ الْخِلَافُ في هذه الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ الْأَسْبَابَ لَا تَنْتَصِبُ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَإِنَّمَا تَنْتَصِبُ بِإِيمَاءِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وإذا فَرَضْنَا الْقِيَاسَ في الْأَسْبَابِ فَلَا بُدَّ أَنْ نَفْرِضَ فيها جِهَةً عَامَّةً كَالْإِيلَاجِ وَجِهَةً خَاصَّةً لِكَوْنِهِ فَرْجًا لِآدَمِيَّةٍ وهو الذي يُسَمَّى زِنًى بِلَفْظِ السَّبَبِ وَيَتَنَاوَلُ أَمْرَيْنِ أَعَمَّ وَأَخَصَّ وَلَا يَنْتَظِمُ الْقِيَاسُ إلَّا بِحَذْفِ الْأَخَصِّ عن دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ لِيَتَغَيَّرَ الْأَعَمُّ إذْ لو كان الْأَخَصُّ بَاقِيًا على تَقْيِيدِهِ لَاسْتَحَالَ الْقِيَاسُ وإذا حُذِفَ الْأَخَصُّ عن كَوْنِهِ مُرَادَ اللَّفْظِ بَقِيَ الْأَعَمُّ وهو مُرَادُ النَّصِّ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْقِيَاسُ في الْأَسْبَابِ تَنْقِيحَ مَنَاطٍ وَتَنْقِيحُ الْمَنَاطِ حَاصِلُهُ تَأْوِيلٌ ظَاهِرٌ وهو يَتَوَقَّفُ على دَلِيلٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الِاتِّفَاقُ على قَبُولِ الْمَسْلَكِ الذي سَمَّاهُ من سَمَّاهُ قِيَاسًا في الْأَسْبَابِ لِاتِّفَاقِنَا على قَبُولِ تَأْوِيلِ الظَّاهِرِ بِالدَّلِيلِ فَلَا حَجْرَ في التَّسْمِيَةِ وَلَا مَنْعَ من تَسْمِيَتِهِ قِيَاسًا لِأَنَّ فيه صُورَةَ النُّطْقِ في مَوْضِعٍ وَالسُّكُوتَ في مَوْضِعٍ وَوُجُودُ قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ بين الْمَوْضِعَيْنِ وهو سَبَبُ الِاشْتِرَاكِ في الْحُكْمِ غير أَنَّ امْتِيَازَ الْمَحَلَّيْنِ نُطْقًا وَسُكُوتًا إنَّمَا كان مَبْنِيًّا على الظَّاهِرِ الذي قام أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ فَلِهَذَا تَكَدَّرَتْ التَّسْمِيَةُ وَالْخَطْبُ
____________________
(4/63)
يَسِيرٌ مَسْأَلَةٌ كُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَمْكَنَ تَعْلِيلُهُ يَجْرِي الْقِيَاسُ فيه وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَجُوزُ إثْبَاتُ جَمِيعِ الشَّرْعِيَّاتِ بِالْقِيَاسِ خِلَافًا لِمَنْ شَذَّ وقد سَبَقَتْ مَسْأَلَةٌ ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ إلَّا عن أَمَارَةٍ وَلَا يَجُوزُ عن دَلَالَةٍ لِلِاسْتِغْنَاءِ بها حَكَاهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ في الْمِيزَانِ وهو غَرِيبٌ وقد نَقَلَ جَمَاعَةٌ الِاتِّفَاقَ على جَوَازِ الْإِجْمَاعِ عن دَلَالَةٍ مَسْأَلَةٌ ذَهَبَ أبو هَاشِمٍ إلَى أَنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ إنَّمَا يَجُوزُ في تَعْيِينِ ما وَرَدَ النَّصُّ بِهِ على الْجُمْلَةِ فَيُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ تَفْصِيلُهُ كَوُرُودِ النَّصِّ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ وَبِجَزَاءِ الصَّيْدِ وَبِتَحْرِيمِ الرِّبَا فَيَجُوزُ أَنْ يُعْرَفَ بِالْقِيَاسِ من جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَصِفَةِ الْمِثْلِ في الْجَزَاءِ وَتَفْصِيلِ ما يَجْرِي فيه الرِّبَا وَلَا يَجُوزُ قِيَاسُ الْمَسْكُوتِ عنه على الْمَنْصُوصِ عليه إذَا لم يَدْخُلْ في الِاسْمِ الذي وَرَدَ بِهِ النَّصُّ وَأَمَّا إثْبَاتُ مَسْأَلَةٍ لم يَرِدْ فيها النَّصُّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبْتَدَأَ إلْحَاقُهَا بِالْقِيَاسِ وَلِهَذَا لَمَّا ثَبَتَ بِالنَّصِّ مِيرَاثُ الْأَخِ جَازَ إثْبَاتُ إرْثِهِ مع الْجَدِّ بِالْقِيَاسِ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَاَلَّذِي عليه الْجُمْهُورُ جَوَازُ الْقِيَاسِ في الْمَوْضِعَيْنِ جميعا كَقِيَاسِ الصَّلَاةِ على الزَّكَاةِ وَالْعَكْسِ وَالْكَفَّارَةِ على الزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ على الصَّلَاةِ وَنَحْوِهِ في أَنْوَاعِ الْأَحْكَامِ وقال إلْكِيَا ما قَالَهُ أبو هَاشِمٍ هو عَيْنُ ما حَكَيْنَاهُ عن أبي زَيْدٍ وَأَبْطَلْنَاهُ وَمِمَّا يَدُلُّ على بُطْلَانِهِ أَنَّ الْأَوَّلِينَ أَثْبَتُوا قَوْلَ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ بِالْقِيَاسِ ولم يَكُنْ عليه نَصٌّ على وَجْهِ الْجُمْلَةِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ أَمَارَةٌ في الْمَنْعِ من تَحْرِيمِ ذلك وَلَا يُفِيدُ حُكْمُهُ إذَا وَقَعَ التَّحْرِيمُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ عَلِمُوا أَصْلًا غَابَ عَنَّا فَيُقَالُ رَأَيْنَاهُمْ يَتَشَرَّفُونَ لِلْقِيَاسِ بِاتِّبَاعِ الْأَوْصَافِ الْمُخَيِّلَةِ الْمُؤَثِّرَةِ من غَيْرِ قَصْدٍ إلَى جُمَلٍ
____________________
(4/64)
مَسْأَلَةٌ حَكَى سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْعُمُومَ إذَا خُصَّ لم يَجُزْ أَنْ يُسْتَنْبَطَ منه مَعْنًى يُقَاسُ عليه غَيْرُهُ لِأَنَّهُ إذَا خُصَّ صَارَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِقَرِينَةٍ فإذا اُسْتُنْبِطَ الْمَعْنَى منه لم يَصِحَّ اجْتِمَاعُ الْمَعْنَى مع تِلْكَ الْقَرِينَةِ فإن الْمَعْنَى يَقْتَضِي الْعُمُومَ وَالْقَرِينَةَ تَقْتَضِي الْخُصُوصَ فَلَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا قال وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ لِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا خُصَّ خَرَجَ منه ما ليس بِمُرَادٍ فَبَقِيَ الْبَاقِي ثَابِتًا بِاللَّفْظِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْحُكْمَ لِلْبَاقِي وَرَدَ ابْتِدَاءً فَجَازَ اسْتِنْبَاطُ الْمَعْنَى منه مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ الْجُزْئِيُّ إذَا لم يَرِدْ نَصٌّ على وَفْقِهِ مع عُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ خَرَّجَ فيه بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَوْلَيْنِ كان الْخِلَافُ في ضَمَانِ الدَّرْكِ بِأَنَّ الْقِيَاسَ الْجُزْئِيَّ يَقْتَضِي مَنْعَهُ لِأَنَّهُ ضَمَانُ ما لم يَجِبْ وَلَكِنَّ عُمُومَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لِمُعَامَلَةِ الْغُرَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ يَقْتَضِي جَوَازَهُ ولم يُنَبِّهْ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عليه فَمَنَعَهُ ابن سُرَيْجٍ على مُقْتَضَى الْقِيَاسِ وَالصَّحِيحُ صِحَّتُهُ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ لَا قَبْلَهُ لِأَنَّهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ الْمُؤَكَّدَةِ وَاخْتَارَ الْإِمَامُ جَوَازَهُ مُطْلَقًا لِأَصْلِ الْحَاجَةِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ عِنْدَ الْكَلَامِ على أَقْسَامِ الْمُنَاسَبَةِ إنَّ ما ابْتَنَى على الْحَاجَةِ كَالْإِجَارَةِ لَا خِلَافَ في جَرَيَانِ قِيَاسِ الْجُزْءِ منه على الْجُزْءِ فَأَمَّا اعْتِبَارُ غَيْرِ ذلك الْأَصْلِ مع جَامِعِ الْحَاجَةِ فَهَذَا امْتَنَعَ منه مُعْظَمُ الْقِيَاسِيِّينَ ثُمَّ أَشَارَ إلَى جَوَازِهِ وقال فَإِذَنْ الْقِيَاسُ على الْإِجَارَةِ إذَا اسْتَجْمَعَ الشَّرَائِطَ لَا يَضُرُّ وَالِاسْتِصْلَاحُ الْجُزْئِيُّ في مُقَابَلَةِ الْوُجُودِ بِالْمَوْجُودِ وَهَذَا كَقِيَاسِ النِّكَاحِ مَثَلًا في وَجْهِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ على الْإِجَارَةِ مَسْأَلَةٌ التَّمَسُّكُ بِقِيَاسٍ جُزْئِيٍّ في مُصَادَمَةِ قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ مَرْدُودٌ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قِيَاسُ الْأَقَارِيرِ السَّابِقَةِ في إثْبَاتِ الْحَقِّ الْآنَ على الشَّهَادَةِ بِالْمِلْكِ السَّابِقِ في أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْآنَ فَهَذَا قِيَاسٌ جُزْئِيٌّ في مُقَابَلَةِ قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ وَهِيَ أَنَّهُ لو عَمِلَ بِذَلِكَ فما كان في الشَّهَادَةِ على الْأَقَارِيرِ فَائِدَةٌ وَالْحُجَّةُ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ سَاعَةٍ قَالَهُ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في كِتَابِ اقْتِنَاصِ السَّوَانِحِ
____________________
(4/65)
مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَ ما طَرِيقُهُ الْقَطْعُ في الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ بِالْقِيَاسِ الْمَقْطُوعِ بِصِحَّتِهِ عليه دُونَ ما لَا يُقْطَعُ بِصِحَّتِهِ مِثَالُهُ في الْفُرُوعِ قَوْلُنَا إنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ في كل سُورَةٍ لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ بِلَا تَغْيِيرٍ مَتْلُوٌّ بِلَا نَكِيرٍ فَهُوَ كَسَائِرِ الْقُرْآنِ فَهَذَا قِيَاسٌ مَدْلُولٌ على صِحَّتِهِ بِالْإِجْمَاعِ على كِتَابَتِهِ في الْمُصْحَفِ وَتِلَاوَتِهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِصِحَّتِهِ وَمِثَالُهُ في أُصُولِ الْفِقْهِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ إنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُشْتَرَطُ فيه انْقِرَاضُ الْعَصْرِ لِأَنَّهُ وُجِدَ إجْمَاعٌ من أَهْلِ الْعَصْرِ على حُكْمِ الْحَادِثَةِ فَكَانَ حُجَّةً دَلِيلُهُ إذَا انْقَرَضَ الْعَصْرُ عليه
____________________
(4/66)
الْبَابُ السَّادِسُ في أَرْكَانِهِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ وَالْعِلَّةُ وَحُكْمُ الْأَصْلِ وَلَا بُدَّ من ذِكْرِ هذه الْأَرْبَعَةِ في الْقِيَاسِ كَقَوْلِنَا في اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ في الْوُضُوءِ طَهَارَةٌ عن حَدَثٍ فَوَجَبَ أَنْ تَحْتَاجَ إلَى نِيَّةٍ كَالتَّيَمُّمِ فَالْوُضُوءُ هو الْفَرْعُ وَالتَّيَمُّمُ هو الْأَصْلُ وَالطَّهَارَةُ عن حَدَثٍ هِيَ الْوَصْفُ وَقَوْلُنَا وَجَبَ هو الْحُكْمُ وَلَا بُدَّ من ذِكْرِ هذه الْأَرْبَعَةِ وَمِنْ الْفُقَهَاءِ من يَتْرُكُ التَّصْرِيحَ بِالْحُكْمِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ طَهَارَةٌ عن حَدَثٍ كَالتَّيَمُّمِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه كما قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ في بَابِ أَدَبِ الْجَدَلِ فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ إلَّا بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِالْحُكْمِ وَقِيلَ يَصِحُّ وَيَكُونُ الْحُكْمُ مُحَالًا إلَى السُّؤَالِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ مَسْأَلَةٌ اُخْتُلِفَ في اشْتِرَاطِ أَمْرٍ خَامِسٍ أَنَّهُ هل يُشْتَرَطُ في إطْلَاقِ اسْمِ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ الْجَامِعُ مُسْتَنْبَطًا بِالنَّظَرِ وَالْفِكْرِ على قَوْلَيْنِ وَلِهَذَا اخْتَلَفُوا في أَنَّ إلْحَاقَ الْعَبْدِ بِالْأَمَةِ وَالضَّرْبِ بِالتَّأْفِيفِ هل يُسَمَّى قِيَاسًا الْأَوَّلُ الْأَصْلُ وَحَكَى ابن السَّمْعَانِيِّ خِلَافًا في رُكْنِيَّتِهِ وَأَنَّ بَعْضَهُمْ ذَهَبَ إلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ بِغَيْرِ أَصْلٍ قال وهو قَوْلُ من خَلَطَ الِاجْتِهَادَ بِالْقِيَاسِ وَإِنَّهُ لَا بُدَّ له من أَصْلٍ لِأَنَّ الْفُرُوعَ لَا تَتَفَرَّعُ إلَّا عن أُصُولٍ وهو يُطْلَقُ شَرْعًا على أُمُورٍ سَبَقَتْ في أَوَّلِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَذَكَرَ هُنَا إلْكِيَا منها أَرْبَعَةً أَحَدُهَا ما يَقْتَضِي الْعِلْمُ بِهِ عِلْمًا بِغَيْرِهِ أو يُوَصِّلُ بِهِ إلَى غَيْرِهِ كما يُقَالُ إنَّ الْخَبَرَ أَصْلٌ لِمَا وَرَدَ بِهِ وَالْكِتَابَ أَصْلُ السُّنَّةِ لَمَّا عُلِمَ صِحَّتُهَا بِهِ وَالثَّانِي لَا يَصِحُّ الْعِلْمُ بِالْمَعْنَى إلَّا بِهِ الثَّالِثُ في الْحُكْمِ الذي يَعْتَرِيهِ ما سِوَاهُ فَيُقَالُ هذا الْحُكْمُ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لَا
____________________
(4/67)
يُقَاسُ عليه الرَّابِعُ الذي يَقَعُ بِهِ الْقِيَاسُ وهو مُرَادُنَا وقد اُخْتُلِفَ فيه فقال الْمُتَكَلِّمُونَ هو النَّصُّ الدَّالُّ على ثُبُوتِ الْحُكْمِ في مَحَلِّ الْوِفَاقِ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ في تَحْرِيمِ الرِّبَا مَثَلًا وَحَكَاهُ في الْمُلَخَّصِ عن الْقَاضِي وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْوَاضِحِ عن الْمُعْتَزِلَةِ وقال الْفُقَهَاءُ هو مَحَلُّ الْحُكْمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ سَوَاءٌ الْمُجْمَعُ عليه وَالْمَنْصُوصُ كَالْبُرِّ الْمَحْكُومِ بِهِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَهَذَا هو الصَّحِيحُ قال وَتَمَامُهُ أَنَّ الْخَبَرَ أَصْلٌ لِلْبُرِّ وَالْبُرُّ أَصْلٌ لِكُلِّ ما يُقَاسُ عليه قال وَهَذَا ظَاهِرٌ حَسَنٌ فَلْيُعْتَمَدْ عليه وقال الْمُحَقِّقُونَ منهم إنَّهُ نَقِيضُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخَبَرِ قال إلْكِيَا وَهَذَا هو الْأَوْجَهُ عِنْدَنَا ولم نَرَ في كَلَامِ الْمُخَالِفِ ما يُضَعِّفُهُ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ ما ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ نَفْسِهِ وَقِيلَ ما ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ غَيْرِهِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْعِلَّةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَاصِرَةً وَرَجَّحَ الْعَبْدَرِيّ الْأَوَّلَ بِأَنَّ الْأَصْلَ مَحْكُومٌ فيه حتى يُفْهَمَ الْحُكْمُ وَبِالْعَكْسِ فَإِنْ سَمَّى مُسَمَّى الْخَمْرِ وَحْدَهَا أَصْلًا بِمَعْنَى أنها هِيَ الْمَحَلُّ الذي نَصَّ الشَّارِعُ على الْحُكْمِ بِالتَّحْرِيمِ فيه دُونَ غَيْرِهِ من الْمَحَالِّ فَيَجُوزُ وقال الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الْأَصْلُ هو الْحُكْمُ الثَّابِتُ في مَحَلِّ الْوِفَاقِ بِاعْتِبَارِ تَفَرُّعِ الْعِلَّةِ عليه وهو فَرْعٌ في مَحَلِّ الْخِلَافِ بِاعْتِبَارِ تَفَرُّعِهِ عليه وَالْعِلَّةُ بِالْعَكْسِ فَرْعٌ في مَحَلِّ الْوِفَاقِ لِأَنَّا إنَّمَا نُعَلِّلُ الْحُكْمَ بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَصْلٍ في مَحَلٍّ لِأَنَّا نَعْرِفُ الْعِلَّةَ فيه ثُمَّ نُفَرِّعُ الْحُكْمَ عليها قال التَّبْرِيزِيُّ وَقَوْلُهُ الْحُكْمُ أَصْلٌ في مَحَلِّ الْخِلَافِ ذَهَابٌ عَظِيمٌ عن مَقْصُودِ الْبَحْثِ إذْ ليس الْمَقْصُودُ تَعْرِيفَ ما سُمِّيَ أَصْلًا بِاعْتِبَارٍ وَإِنَّمَا الْقَصْدُ بَيَانُ الْأَصْلِ الذي يُقَابِلُ الْفَرْعَ في الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ بهذا الِاعْتِبَارِ مَحَلُّ الْحُكْمِ الْمُجْمَعِ عليه كما قَالَهُ الْفُقَهَاءُ قال الْأَصْفَهَانِيُّ وَهَذَا تَهْوِيلٌ لَا تَعْوِيلَ عليه ثُمَّ قال جَمَاعَةٌ منهم ابن بَرْهَانٍ إنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ يَرْجِعُ إلَى الِاصْطِلَاحِ فَلَا مُشَاحَّةَ فيه أو إلَى اللُّغَةِ فَهُوَ يَجُوزُ إطْلَاقُهُ على ما ذُكِرَ وَلَا فَائِدَةَ لِهَذَا الْخِلَافِ إلَّا الصُّورَةُ وَقِيلَ بَلْ يَرْجِعُ إلَى تَحْقِيقِ الْمُرَادِ بِالْأَصْلِ وهو يُطْلَقُ تَارَةً على الْغَالِبِ وَتَارَةً على الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ لِقَوْلِهِمْ الْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ وَعَلَى إرَادَةِ الْبَعِيدِ الذي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِمْ خُرُوجُ النَّجَاسَةِ من مَحَلٍّ وَإِيجَابُ الطَّهَارَةِ في مَحَلٍّ آخَرَ على خِلَافِ الْأَصْلِ وقد يُطْلِقُونَهُ على إرَادَةِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا بُدَّ من تَوْجِيهِ الِاسْتِشْعَارِ على
____________________
(4/68)
الْأَصْلِ حتى يَصِحَّ الْكَلَامُ وَالِاعْتِرَاضُ عليه قال الْآمِدِيُّ يُطْلَقُ الْأَصْلُ على ما يَتَفَرَّعُ عليه غَيْرُهُ وَعَلَى ما يُعْرَفُ بِنَفْسِهِ وَإِنْ لم يُبْنَ عليه غَيْرُهُ كَقَوْلِنَا تَحْرِيمُ الرِّبَا في النَّقْدَيْنِ أَصْلٌ وَهَذَا مَنْشَأُ الْخِلَافِ في أَنَّهُ هل الْأَصْلُ في تَحْرِيمِ النَّبِيذِ الْخَمْرُ أو النَّصُّ أو الْحُكْمُ قال وَاتَّفَقُوا على أَنَّ الْعِلَّةَ لَيْسَتْ أَصْلًا وقال الرَّازِيَّ تَسْمِيَةُ الْعِلَّةِ في مَحَلِّ النِّزَاعِ أَصْلًا أَوْلَى من تَسْمِيَتِهِ مَحَلَّ الْحُكْمِ في مَحَلِّ الْوِفَاقِ أَصْلًا لِأَنَّ التَّعَلُّقَ الْأَوَّلَ أَقْوَى من الثَّانِي قال وَتَسْمِيَةُ مَحَلِّ الْوِفَاقِ بِالْأَصْلِ أَوْلَى من تَسْمِيَتِهِ مَحَلَّ الْخِلَافِ بِالْفَرْعِ لِأَنَّهُ أَصْلُ الْأَصْلِ وَهَذَا أَصْلُ الْفَرْعِ قال لَكِنَّا نُسَاعِدُ الْفُقَهَاءَ على مُصْطَلَحِهِمْ في تَسْمِيَةِ مَحَلِّ الْوِفَاقِ بِالْأَصْلِ وَمَحَلِّ الْخِلَافِ بِالْفَرْعِ مَسْأَلَةٌ لَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الدَّلِيلِ على جَوَازِ الْقِيَاسِ على الْقِيَاسِ بِنَوْعِهِ أو شَخْصِهِ بَلْ كُلُّ مَعْنًى قَدَحَ فيه مَعْنًى مُخَيَّلٌ غَلَبَ على الظَّنِّ اتِّبَاعُهُ قِيسَ عليه خِلَافًا لِعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وقال قَوْمٌ لَا بُدَّ من قِيَامِ الدَّلِيلِ على تَعْلِيلِهِ ولم يَكْتَفُوا بِقِيَامِ الدَّلِيلِ على أَصْلِ الْقِيَاسِ وَفَصَّلَ الْغَزَالِيُّ في ذلك فقال أَمَّا قِيَاسُ الشَّبَهِ فَشَرَطَ قَوْمٌ في جَوَازِ الِاعْتِمَادِ على الْجَامِعِ الشَّبَهِيِّ دُعَاءَهُ إلَى التَّعْلِيلِ فَلَوْ لم يَقُمْ دَلِيلُ وُجُوبِ التَّعْدِيَةِ في الْبُرِّ في مَسْأَلَةِ الرِّبَا لَمَا جَازَ الْقِيَاسُ قال وَهَذَا لَا يَتَعَدَّى عِنْدِي في أَكْثَرِ الْأَشْبَاهِ فإنه إذَا أَمْكَنَ تَعَرُّفُ الْحُكْمِ بِاسْمِ الْمَحَلِّ فَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى طَلَبِ مَنَاطٍ لَا مُنَاسَبَةَ فيه وَفَرَّقَ الْإِمَامُ في الْأَشْبَاهِ فقال في بَعْضِهَا يَكْفِي في الْإِلْحَاقِ الِاطِّلَاعُ على الْوَصْفِ الشَّبَهِيِّ وفي بَعْضِهَا لَا بُدَّ من دُعَاءِ ضَرُورَةٍ إلَى التَّعْلِيلِ وَبَسَطَ ذلك مَسْأَلَةٌ لَا يُشْتَرَطُ في الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ على أَنَّ حُكْمَهُ مُعَلَّلٌ أو أَنْ تُثْبِتَ عِلَّتَهُ عَيْنًا بِالنَّصِّ بَلْ لو ثَبَتَ ذلك بِالطُّرُقِ الْعَقْلِيَّةِ أو الظَّنِّيَّةِ جَازَ الْقِيَاسُ عليه وَخَالَفَ فيه بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ وَالشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فَزَعَمَا أَنَّهُ لَا يُقَاسُ على أَصْلٍ حتى يَدُلَّ نَصٌّ على عَيْنِ عِلَّةِ ذلك الْحُكْمِ أو انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ على كَوْنِ حُكْمِهِ مُعَلَّلًا وقال الْغَزَالِيُّ في شِفَاءِ الْعَلِيلِ نُقِلَ عن بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ على أَصْلٍ بِمُجَرَّدِ قِيَامِ
____________________
(4/69)
الدَّلِيلِ على أَصْلِ تَجْوِيزِ الْقِيَاسِ بَلْ لَا بُدَّ من دَلِيلٍ خَاصٍّ على أَنَّ الْأَصْلَ الذي يُقَاسُ عليه مَعْلُولٌ بِعِلَّةٍ لِأَنَّهُ على تَقْدِيرِ عَدَمِ الدَّلِيلِ الْخَاصِّ بِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ من جُمْلَتِهَا أَصْلٌ لَا يُعَلَّلُ بَلْ يُخَصَّصُ مَوْرِدُهُ فَلَا بُدَّ من دَلِيلٍ على كَوْنِهِ الْأَصْلَ مُعَلَّلًا قال وَلَسْت أَعْرِفُ لِهَذَا الْمَذْهَبِ وَجْهًا إلَّا ما ذَكَرْته فإن الْوَصْفَ الْمُخَصِّصَ إذَا عَادَلَ الْوَصْفَ الْمُتَعَدِّيَ في الِانْفِكَاكِ عن الْمُنَاسَبَةِ تَعَادُلًا فَلَا بُدَّ من دَلِيلٍ على التَّعْدِيَةِ فَإِنْ خَصَّصَ صَاحِبُ هذا الْمَذْهَبِ مَذْهَبَهُ بهذا الْجِنْسِ من التَّعْلِيلِ الْخَالِي عن الْمُنَاسَبَةِ فَلَهُ وَجْهٌ كما ذَكَرْنَا وَإِنْ طَرَدَهُ فِيمَا ظَهَرَتْ فيه الْمَعَانِي الْمُنَاسِبَةُ وقال يَجُوزُ أَنْ يُلْحَقَ الشَّرْعُ الْمُنَاسِبَ في مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ فَلَا بُدَّ من دَلِيلِ التَّعْدِيَةِ أو قال يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ وُقُوعُ هذا الْمُنَاسِبِ اتِّفَاقًا فَهُوَ في هذا الطَّرَفِ أَضْعَفُ وَاسْتِمْدَادُهُ من الْقَوْلِ بِإِنْكَارِ أَصْلِ الْقِيَاسِ انْتَهَى مَسْأَلَةٌ لَا يُشْتَرَطُ في الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ غير مَحْصُورٍ بِالْعَدَدِ بَلْ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عليه سَوَاءٌ كان مَحْصُورًا أو لم يَكُنْ وقال قَوْمٌ الْمَحْصُورُ بِالْعَدَدِ لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عليه وَلِهَذَا قالوا لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ على جَوَازِ قَتْلِ الْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ لِأَنَّهُنَّ مَحْصُورَاتٌ بِاسْمِ الْعَدَدِ وهو مَمْنُوعٌ بَلْ هُنَّ مَحْصُورَاتٌ في الذِّكْرِ وَلَيْسَ النِّزَاعُ فيه وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا إذَا كان الْأَصْلُ مَحْصُورًا في اللَّفْظِ في عَدَدٍ مُعَيَّنٍ وَنَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ حُجَّةٌ لَكِنَّ الْقِيَاسَ أَوْلَى من الْمَفْهُومِ مَسْأَلَةٌ وَلَا يُشْتَرَطُ الِاتِّفَاقُ على وُجُودِ الْعِلَّةِ في الْأَصْلِ بَلْ يَكْفِي انْتِهَاضُ الدَّلِيلِ عليه خِلَافًا لِمَنْ شَذَّ حَيْثُ اشْتَرَطَهُ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ إنْ أَرَادَ بِالِاتِّفَاقِ الذي اشْتَرَطَهُ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ كُلِّهَا أَدَّى إلَى إبْطَالِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ نُفَاةَ الْقِيَاسِ من جُمْلَتِهِمْ وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ إنَّ الْأُصُولَ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ وَإِنْ أَرَادَ إجْمَاعَ الْقِيَاسِيِّينَ فَهُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ وَلَيْسَ قَوْلُهُمْ بِدَلِيلٍ
____________________
(4/70)
مَسْأَلَةٌ تَأْثِيرُ الْأَصْلِ في كل مَوْضِعٍ وَلَا يُشْتَرَطُ تَأْثِيرٌ في كل مَوْضِعٍ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في الِاسْتِدْلَالِ على إبْطَالِ بَيْعِ الْغَائِبِ بَاعَ عَيْنًا لم يَرَ منها شيئا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ أَصْلُهُ إذَا بَاعَ النَّوَى في التَّمْرِ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُكُمْ لم يَرَ منها شيئا لَا تَأْثِيرَ له في الْأَصْلِ لِأَنَّ بَعْضَ النَّوَى إذَا كان ظَاهِرًا يَرَاهُ وَبَعْضُهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ لَا يَصِحُّ أَيْضًا قُلْنَا ليس من شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا في كل مَوْضِعٍ وَإِنَّمَا يَكْفِي التَّأْثِيرُ في مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَتَأْثِيرُهُ في بَيْعِ الْبِطِّيخِ وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فإنه يَرَى بَعْضَهَا وهو ظَاهِرُهَا دُونَ بَاطِنِهَا وَيَكُونُ بَيْعُهَا صَحِيحًا مَسْأَلَةٌ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ صَحِيحًا بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا وَشَهَادَتُهُ صَحِيحَةٌ وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ في مَقَامِ الْإِلْزَامِ وَالْإِفْحَامِ كَإِلْزَامِنَا من اعْتَبَرَ الْأَصْلَ جَوَازَ اجْتِمَاعِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ في مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَهَذَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ وَإِنْ كان الْأَصْلُ الذي قَاسَ عليه فَاسِدًا عِنْدَنَا
____________________
(4/71)
الرُّكْنُ الثَّانِي حُكْمُ الْأَصْلِ الرُّكْنُ الثَّانِي حُكْمُ الْأَصْلِ وقد مَرَّ تَعْرِيفُ الْحُكْمِ في أَوَّلِ الْكِتَابِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ تَبَعًا لِلشَّيْخِ في اللُّمَعِ الْحُكْمُ ما تَعَلَّقَ بِالْعِلَّةِ في التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْإِسْقَاطِ وهو إمَّا مُصَرَّحٌ بِهِ كَقَوْلِهِ فَجَازَ أَنْ يَجِبَ كَذَا أو فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ كَذَا أو مُبْهَمٌ وهو على ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ أَحَدُهُمَا أَنْ يَقُولَ فَأَشْبَهَ كَذَا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ شَرَابٌ فيه شِدَّةٌ مُطْرِبَةٌ فَأَشْبَهَ الْخَمْرَ وَاخْتَلَفُوا فيه فَقِيلَ بِالْمَنْعِ لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُبْهَمٌ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْجَدَلِيِّينَ الصِّحَّةُ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فَأَشْبَهَ كَذَا في الْحُكْمِ الذي وَقَعَ السُّؤَالُ عنه وَذَلِكَ شَيْءٌ مَعْلُومٌ بين السَّائِلِ وَالْمَسْئُولِ فَيَجِبُ أَنْ يُمْسِكَ عن بَيَانِهِ اكْتِفَاءً بِالْمَعْلُومِ الْمَوْجُودِ بَيْنَهُمَا الثَّانِي أَنْ تُذْكَرَ الْعِلَّةُ وَلَا يُصَرَّحُ بِالْحُكْمِ الذي سَأَلَ عنه بَلْ يُعَلَّقُ على الْعِلَّةِ التَّسْوِيَةُ بين حُكْمَيْنِ كَقَوْلِنَا في إيجَابِ النِّيَّةِ في الْوُضُوءِ طَهَارَةٌ فَيَسْتَوِي جَامِدُهَا وَمَائِعُهَا في النِّيَّةِ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ فَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ يُرِيدُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا في الْأَصْلِ في إسْقَاطِ النِّيَّةِ وفي الْفُرُوعِ في إيجَابِهَا وَهُمَا حُكْمَانِ مُتَضَادَّانِ وَالْقِيَاسُ أَنْ يُشْبِهَ حُكْمُ الشَّيْءِ من نَظِيرِهِ لَا من ضِدِّهِ وَمِنْهُمْ من قال إنَّهُ صَحِيحٌ وهو الْأَصَحُّ لِأَنَّ حُكْمَ الْعِلَّةِ هو التَّسْوِيَةُ بين الْمَائِعِ وَالْجَامِدِ في النِّيَّةِ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا في النِّيَّةِ مَوْجُودٌ في الْأَصْلِ فَصَحَّ الْقِيَاسُ عليه وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ذلك الِاخْتِلَافُ في التَّفْصِيلِ وَلَيْسَ ذلك بِحُكْمٍ عليه حتى يَصِيرَ فيه الِاخْتِلَافُ وَحَكَى شَارِحُ اللُّمَعِ عن بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَّا الْوَجْهَيْنِ هُنَا على الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وقال أبو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ في أَدَبِ الْجَدَلِ اخْتَلَفُوا في الْقِيَاسِ إذَا كان حُكْمُهُ التَّسْوِيَةَ بين حُكْمٍ وَحُكْمٍ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ في إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْمَائِعِ إنَّهُ مَائِعٌ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فيه الطَّهَارَةُ عن الْحَدَثِ وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ قِيَاسًا على الْمَاءِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالْبَوْلِ وَالْمَرَقَةِ وَغَيْرِ ذلك فَقِيلَ إنَّهُ فَاسِدٌ لِأَنَّ حُكْمَهُ مَجْهُولٌ لَا يُوقَفُ عليه وَقِيلَ إنْ
____________________
(4/72)
كانت التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا في الْإِثْبَاتِ أو النَّفْيِ سَوَاءٌ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ فَهُوَ قِيَاسٌ صَحِيحٌ وَإِنْ كانت التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا في الْأَصْلِ أو الْفَرْعِ في الْإِثْبَاتِ أو في الْفَرْعِ في النَّفْيِ وفي الْأَصْلِ في الْإِثْبَاتِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّنَا في الْأُولَى نَقِيسُ الشَّيْءَ على نَظِيرِهِ وَمِثْلِهِ وفي الثَّانِيَةِ نَقِيسُهُ على ضِدِّهِ وَنَقِيضِهِ فَامْتَنَعَ وَقِيلَ إنْ ابْتَدَأَ الْمَسْئُولُ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ جَازَ وَإِنْ قَلَبَهَا على خَصْمِهِ بِمِثْلِهَا لم يَجُزْ وَقِيلَ يَجُوزُ مُطْلَقًا وهو الْأَصَحُّ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهِ في أَنَّهُ إذَا قَابَلَ قِيَاسًا لم يَكُنْ حُكْمُهُ التَّسْوِيَةَ بين حُكْمٍ وَحُكْمٍ فَقِيلَ الْقِيَاسُ الذي لم يَكُنْ حُكْمُهُ التَّسْوِيَةَ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُصَرَّحٌ بِالْحُكْمِ وَيُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إثْبَاتِ الْحُكْمِ من غَيْرِ دَرَجَةٍ أُخْرَى فَيُخَالِفُ قِيَاسَ التَّسْوِيَةِ وَقِيلَ قِيَاسُ التَّسْوِيَةِ أَوْلَى لِأَنَّ فيه التَّشْبِيهَ أَكْثَرَ قال وقد ذَكَرَ هذه الطَّرِيقَةَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ سَهْلٌ الصُّعْلُوكِيُّ في بَعْضِ الْمُنَاظَرَاتِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ انْتَهَى الثَّالِثُ من الْأَضْرُبِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْعِلَّةِ إثْبَاتَ التَّأْثِيرِ بِمَعْنًى كَقَوْلِنَا في كَرَاهَةِ السِّوَاكِ لِلصَّائِمِ بَعْدَ الزَّوَالِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ تَطْهِيرٌ يَتَعَلَّقُ بِالْفَمِ من غَيْرِ نَجَاسَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلصَّوْمِ فيه تَأْثِيرٌ كَالْمَضْمَضَةِ فإن هذا حُكْمٌ صَحِيحٌ وَالْقَصْدُ بِالْعِلَّةِ إثْبَاتُ حُكْمِ التَّأْثِيرِ على الْجُمْلَةِ الْكَلَامُ في شُرُوطِهِ شُرُوطِ حُكْمِ الْأَصْلِ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الذي أُرِيدَ تَعْدِيَتُهُ إلَى الْفَرْعِ ثَابِتًا في الْأَصْلِ فإنه لو لم يَكُنْ ثَابِتًا فيه بِأَنْ لم يُشْرَعْ فيه ابْتِدَاءً أو شُرِعَ لَكِنْ نُسِخَ لم يُمْكِنْ بِنَاءُ حُكْمِ الْفَرْعِ عليه وَمِنْ فُرُوعِ هذا الشَّرْطِ أَنَّهُ لَا يُقَاسُ على حُكْمٍ مَنْسُوخٍ في ذلك الْحُكْمِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الْقِيَاسِ إثْبَاتُ مِثْلِ حُكْمِ الْقِيَاسِ في الْفَرْعِ فإذا كان الْحُكْمُ غير ثَابِتٍ بِالشَّرْعِ اسْتَحَالَ أَنْ يَثْبُتَ له مِثْلٌ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ نَسْخَ الْحُكْمِ يُبَيِّنُ عَدَمَ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لِلْوَصْفِ الْجَامِعِ حِينَئِذٍ وَتَعْدِيَةُ الْحُكْمِ فَرْعٌ على اعْتِبَارِهِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ قد مَرَّ في بَابِ النَّسْخِ عن الْحَنَفِيَّةِ إنَّهُ إذَا نُسِخَ حُكْمُ الْأَصْلِ يَبْقَى حُكْمُ الْفَرْعِ لَكِنْ حَيْثُ كان الْأَصْلُ مَعْمُولًا بِهِ ثُمَّ رَأَيْت هذا الْجَمْعَ لِشَارِحِ اللُّمَعِ فقال الْمَذْكُورُ في النَّسْخِ هو فِيمَا إذَا وَقَعَ نَسْخُ الْأَصْلِ بَعْدَ جَرَيَانِ الْقِيَاسِ عليه وَالْمَذْكُورُ في الْقِيَاسِ أَنْ نَقِيسَ على أَصْلٍ بَعْدَ النَّسْخِ في مَحَلِّ النَّسْخِ كما نَقِيسُ على وُجُوبِ صَوْمِ عَاشُورَاءَ بَعْدَ نَسْخِهِ وُجُوبَ صَوْمِ يَوْمٍ بِخِلَافِ قِيَاسِ صَوْمِ رَمَضَانَ على عَاشُورَاءَ في عَدَمِ افْتِقَارِهِ إلَى النِّيَّةِ فإن من سَلَّمَ وُجُوبَهُ ابْتِدَاءً وسلم عَدَمَ افْتِقَارِهِ إلَى التَّبْيِيتِ لم يَبْعُدْ أَنْ يَسْتَشْهِدَ بِهِ على رَمَضَانَ فإن الْمَنْسُوخَ
____________________
(4/73)
الْوُجُوبُ وَلَيْسَ الْقِيَاسُ في الْوُجُوبِ وَلَكِنَّهُ في عَدَمِ دَلَالَةِ الْوُجُوبِ إلَى الِافْتِقَارِ إلَى النِّيَّةِ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ نعم هُنَا إشْكَالٌ في شَيْءٍ وهو أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا وَيَلْزَمُهُ من اللَّوَازِمِ التي لَا يَلْزَمُ ارْتِفَاعُهَا بِارْتِفَاعِ خُصُوصِ ذلك الْحُكْمِ فَهَلْ يَجُوزُ الْقِيَاسُ على ذلك اللَّازِمِ أَمْ لَا مِثَالُهُ صِحَّةُ صَوْمِ عَاشُورَاءَ إذَا كان وَاجِبًا على تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ ذلك بِنِيَّةٍ نَهَارِيَّةٍ فإذا نُسِخَ عَاشُورَاءُ بِخُصُوصِهِ لم يَلْزَمْ منه نَسْخُ اللَّازِمِ وهو صِحَّةُ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ بِنِيَّةٍ نَهَارِيَّةٍ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عليه صَوْمُ رَمَضَانَ الْوَاجِبُ فَيَصِحُّ بِنِيَّةٍ نَهَارِيَّةٍ فيه نَظَرٌ انْتَهَى ثَانِيهَا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ شَرْعِيًّا لِيَخْرُجَ الْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ وَاللُّغَوِيُّ فَإِنَّا بِتَقْدِيرِ أَنْ يَجْرِيَ الْقِيَاسُ التَّمْثِيلِيُّ فِيهِمَا قِيَاسًا شَرْعِيًّا بَلْ عَقْلِيًّا وَلُغَوِيًّا وَكَلَامُنَا في الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ تَنْبِيهٌ وَيَنْشَأُ من هذه الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافُ في النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ وهو الْبِنَاءُ على ما كان قبل الشَّرْعِ هل يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ وَهَذَا إذَا قُلْنَا إنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ليس حُكْمًا شَرْعِيًّا أَمَّا من ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ حُكْمٌ فَلَا إشْكَالَ عِنْدَهُ في صِحَّةِ إثْبَاتِهِ بِالْقِيَاسِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ ليس بِحُكْمٍ فَقِيلَ يَصِحُّ أَنْ يَتَلَقَّى من الْقِيَاسِ وَقِيلَ بِالْمَنْعِ وَفَرَّقَ آخَرُونَ بين النَّفْيِ الْمَسْبُوقِ بِالْإِثْبَاتِ فإنه يَصِحُّ ثُبُوتُهُ بِقِيَاسِ الْعِلَّةِ وَالنَّفْيُ الْأَصْلِيُّ لَا يَثْبُتُ بِقِيَاسِ الْعِلَّةِ وَيَجُوزُ بِقِيَاسِ الدَّلَالَةِ قال الْأَنْبَارِيُّ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ النَّفْيَ الْمَسْبُوقَ بِإِثْبَاتٍ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ أَدِلَّةَ الْإِثْبَاتِ تَتَأَخَّرُ عن الدَّلَالَةِ في حَالَةِ من يُبْقِي تِلْكَ الْحَالَةَ على ما قبل وُرُودِ الشَّرْعِ وَمِثَالُهُ أَنَّ الْخَمْرَ كان تَحْرِيمُهَا مُنْتَفِيًا قبل وُرُودِ الشَّرْعِ فلما جاء الشَّرْعُ بِالتَّحْرِيمِ مَخْصُوصًا بِحَالَةِ الِاخْتِيَارِ فَبَقِيَ ثُبُوتُهَا في حَالَةِ الِاضْطِرَارِ على ما كان عليه قبل الشَّرْعِ وَهَذَا نَفْيٌ مَسْبُوقٌ بِإِثْبَاتٍ وَعَلَى الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ فَمِنْ الشُّرُوطِ أَنْ لَا يَكُونَ نَفْيًا أَصْلِيًّا ثَالِثُهَا أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ إلَى مَعْرِفَتِهِ سَمْعِيًّا لِأَنَّ ما ليس طَرِيقُهُ بِسَمْعِيٍّ لَا يَكُونُ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَالْمَقْصُودُ من هذا الْعِلْمِ بَيَانُ طُرُقِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَهَذَا الشَّرْطُ على رَأْيِنَا ظَاهِرٌ وَأَمَّا من يقول بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ فَاحْتَرَزُوا بِهِ عن الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الذي طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْعَقْلُ وفي الْمَحْصُولِ هذا الشَّرْطُ على رَأْيِنَا وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ الْمُجَوِّزُونَ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِالْعَقْلِ فَفِيهِ على مَذْهَبِهِمْ احْتِمَالٌ
____________________
(4/74)
رَابِعُهَا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِالنَّصِّ وهو الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَيُعْرَفُ حُكْمُهُ بِالنَّصِّ وَالظَّاهِرِ وَالْعُمُومِ فَأَمَّا ما عُرِفَ الْحُكْمُ منه بِالْمَفْهُومِ وَالْفَحْوَى فَهَلْ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عليه لم يَتَعَرَّضُوا له وَيَتَّجِهُ أَنْ يُقَالَ إنْ قُلْنَا إنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ النُّطْقِ فَوَاضِحٌ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ كَالْقِيَاسِ فَيَلْحَقُ بِهِ فِيمَا سَيَأْتِي وَأَمَّا ما ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ فَهَلْ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عليه فيه وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا كما قَالَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وابن السَّمْعَانِيِّ الْجَوَازُ وَحَكَاهُ ابن بَرْهَانٍ عن جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عليه ما لم يُعْرَفْ النَّصُّ الذي أَجْمَعُوا لِأَجْلِهِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ أَصْلٌ في إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ كَالنَّصِّ فإذا جَازَ الْقِيَاسُ على الثَّابِتِ بِالنَّصِّ جَازَ على الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ قال ابن بَرْهَانٍ وَشُبْهَةُ الْمَانِعِ احْتِمَالُ كَوْنِ عِلَّةِ الْحُكْمِ الْمُجْمَعِ عليه قَاصِرَةً لَا تَتَعَدَّى وَجَوَابُهَا إنَّمَا نُعَلِّلُ بِعِلَّةٍ مُتَعَدِّيَةٍ إلَى الْفَرْعِ وَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِعِلَّةٍ قَاصِرَةٍ وَمُتَعَدِّيَةٍ جَائِزٌ وَهَذَا يَلْتَفِتُ إلَى أَصْلٍ وهو أَنَّ الْحُكْمَ إذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عليه وَعَلَى عِلَّتِهِ هل يَجُوزُ تَعْلِيلُهُ أَمْ لَا فَعِنْدَنَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ على الْحُكْمِ لَا على الْعِلَّةِ لِأَنَّهَا من قَبِيلِ الْعَقْلِيَّاتِ وهو لَا يَثْبُتُ بِالْإِجْمَاعِ انْتَهَى وَأَمَّا ما يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ على غَيْرِهِ فَأَطْلَقَ الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلَ الدَّالَّ على حُكْمِ الْأَصْلِ قِيَاسًا عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ من أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمِنْهُمْ من عَبَّرَ عنه بِأَنْ لَا يَكُونَ ذلك الْأَصْلُ فَرْعًا لِأَصْلٍ آخَرَ فَاحْتَجُّوا على الْمَنْعِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ الْجَامِعَةَ بين الْقِيَاسَيْنِ إنْ اتَّحَدَتْ كان ذِكْرُ الْأَصْلِ الثَّانِي تَطْوِيلًا بِلَا فَائِدَةٍ لِأَنَّهُ يُسْتَغْنَى بِقِيَاسِ الْفَرْعِ الثَّانِي على الْأَصْلِ الْأَوَّلِ فَلَا مَعْنَى لِقِيَاسِ الذُّرَةِ على الْأُرْزِ بِقِيَاسِ الْأُرْزِ على الْبُرِّ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ لم يَنْعَقِدْ الْقِيَاسُ الثَّانِي لِعَدَمِ اشْتِرَاكِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فيه في عِلَّةِ الْحُكْمِ لَكِنْ نَقَلَ ابن بَرْهَانٍ عن الْحَنَفِيَّةِ مَنْعَ الْقِيَاسِ على الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْقِيَاسِ قال وَيُسَاعِدُهُمْ من أَصْحَابِنَا أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا على الْجَوَازِ قال وَحَرْفُ الْمَسْأَلَةِ جَوَازُ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ قُلْت وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْأُمِّ الْمَنْعُ فإنه قال في كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ من اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ إنَّ
____________________
(4/75)
الْمُسَاقَاةَ على النَّخْلِ جَائِزَةٌ وَالْمُزَارَعَةَ على الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ مُمْتَنِعَةٌ وَإِنَّ من أَجَازَهَا قَاسَهَا على الْمُضَارَبَةِ فقال ما نَصُّهُ وَهَذَا غَلَطٌ في الْقِيَاسِ إنَّمَا أَجَزْنَا بِخَبَرِ الْمُضَارَبَةِ وقد جاء عن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي اللَّهُ عنه أنها كانت قِيَاسًا على الْمُعَامَلَةِ في النَّخْلِ فَكَانَتْ تَبَعًا قِيَاسًا لَا مَتْبُوعًا مَقِيسًا عليها انْتَهَى وَأَمَّا الشَّيْخُ في اللُّمَعِ فإنه قَسَمَ الْمَسْأَلَةَ إلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَسْتَنْبِطَ من الثَّابِتِ بِالْقِيَاسِ نَفْسَ الْمَعْنَى الذي يَثْبُتُ بِهِ وَيُقَاسُ عليه غَيْرُهُ قال وَهَذَا لَا خِلَافَ في جَوَازِهِ وَالثَّانِي أَنْ يَسْتَنْبِطَ منه مَعْنَى الذي يَقِيسُ بِهِ على غَيْرِهِ وَيُقَاسُ غَيْرُهُ قال وَهَذَا فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا وَبِهِ قال أبو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيُّ الْجَوَازُ وَنَصَرَهُ الشَّيْخُ في التَّبْصِرَةِ وَالثَّانِي وَبِهِ قال الْكَرْخِيّ الْمَنْعُ قال الشَّيْخُ وهو يَصِحُّ عِنْدِي الْآنَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إثْبَاتِ حُكْمٍ في الْفَرْعِ بِغَيْرِ عِلَّةِ الْأَصْلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَكَذَا صَحَّحَهُ في الْقَوَاطِعِ ولم يذكر الْغَزَالِيُّ غَيْرَهُ وَمِثَالُهُ قِيَاسُ الْأُرْزِ على الْبُرِّ بِعِلَّةِ الطُّعْمِ من يُسْتَخْرَجُ من الْأُرْزِ مَعْنًى لَا يُوجَدُ في الْبُرِّ وَيُقَاسُ عليه غَيْرُهُ في الرِّبَا كما لو اسْتَنْبَطَ منه أَنَّهُ نَبْتٌ لَا يَنْقَطِعُ عنه الْمَاءُ ثُمَّ يُقَاسُ عليه النَّيْلُوفَرُ فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ وقد صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ بِالْقِسْمَيْنِ في بَابِ الرِّبَا وَاقْتَضَى كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ في جَوَازِ الْأَوَّلِ وَحَكَى الْوَجْهَيْنِ في الثَّانِي من غَيْرِ تَرْجِيحٍ وقال وَأَصْلُهُمَا الْقَوْلُ بِالتَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ فَمَنْ قال بِالْمَنْعِ مَنَعَ هُنَا وَمَنْ أَجَازَهُمَا أَجَازَ هَاهُنَا لَكِنَّ قَوْلَهُ وَقَوْلَ الشَّيْخِ لَا خِلَافَ في جَوَازِ إلْحَاقِهِ رَدَّهُ تَعْلِيلُهُمْ بِأَنَّهُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْعِلَّةِ تَطْوِيلٌ بِلَا فَائِدَةٍ وَعَلَى أَنَّ الْغَزَالِيَّ قد صَرَّحَ في هذه الصُّورَةِ بِالْمَنْعِ لِأَنَّ تَطْوِيلَ الطَّرِيقِ في ذلك عَيْبٌ فلم يَجُزْ وَهَذَا هو الْمُتَّجِهُ ثُمَّ قال الشَّيْخُ في شَرْحِهِ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ هُمَا الْوَجْهَانِ في قِيَاسِ الشَّبَهِ لِأَنَّهُ يُرَجَّحُ بِمُجَرَّدِ الشَّبَهِ من غَيْرِ عِلَّةٍ وَفِيمَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلَّ هذا الشَّرْطِ ما إذَا لم يَظْهَرْ لِلْوَسَطِ فَائِدَةٌ فَإِنْ ظَهَرَ فَلَا يَمْتَنِعُ قِيَاسُ الْفَرْعِ على الْفَرْعِ وَكِتَابُ السِّلْسِلَةِ لِلشَّيْخِ أبي مُحَمَّدٍ مَبْنِيٌّ على ذلك وَهَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّاظِرِ أَمَّا الْمُنَاظِرُ فَبِحَسَبِ ما يَصْطَلِحُونَ عليه وَأَمَّا
____________________
(4/76)
أَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ فَأَقْوَالُ مُقَلِّدِيهِمْ وَإِنْ كانت فُرُوعًا تُنَزَّلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُقَلِّدِينَ مَنْزِلَةَ أَقْوَالِ الشَّارِعِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِينَ فإذا حَفِظَ من إمَامِهِ فُتْيَا وَفَهِمَ مَعْنَاهَا جَازَ له أَنْ يُلْحِقَ بها ما يُشَابِهُهَا على الصَّحِيحِ خِلَافًا لِمُحَمَّدِ بن يحيى وهو الْمُعَبَّرُ عنه بِالتَّخْرِيجِ وَجَعَلَ إلْكِيَا مَحَلَّ الْخِلَافِ في هذا فِيمَا لم يَكُنْ الْحُكْمُ في الْفَرْعِ بِنَصٍّ أو دَلِيلِ نَصٍّ يُسْتَدَلُّ بِهِ على مِثْلِهِ وَيَكُونُ الْفَرْعُ الثَّانِي مِثْلًا فَإِنْ كان كَذَلِكَ فَلَا يَمْتَنِعُ منه قَطْعًا كما أَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَمَعَ ذلك يَمْتَنِعُ حَمْلُ الْفَرْعِ عليه بِعِلَّةٍ فَرَجَعَ حَاصِلُ الْخِلَافِ إلَى أَنَّ الذي ثَبَتَ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا وما لَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ من الْمُخْتَلَفِ فيه يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا إذَا كان ثُبُوتُهُ بِعُمُومٍ أو نَصٍّ أو غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِذَلِكَ عن كَوْنِهِ فَرْعًا ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ قال وَهَذَا قَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ وهو يَسْتَدْعِي الْبِنَاءَ على أَصْلٍ وهو أَنَّ الْحُكْمَ الْوَاحِدَ هل يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا يَمْتَنِعُ نَشَأَ منه أَنَّ الْفَرْعَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا لِفَرْعٍ آخَرَ تَنْبِيهٌ إذَا مَنَعْنَا أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ قِيَاسًا يُسْتَثْنَى منه صُورَتَانِ إحْدَاهُمَا الْقِيَاسُ الذي قَاسَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا جَوَّزْنَا له الِاجْتِهَادَ وَالثَّانِيَةُ التي أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ على إلْحَاقِهِ بِالْأَصْلِ ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ في مَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِ وَسَتَأْتِي خَامِسُهَا أَنْ لَا يَكُونَ دَلِيلُ حُكْمِهِ شَامِلًا لِحُكْمِ الْفَرْعِ لِأَنَّهُ لو عَمَّهُ لَخَرَجَ عن كَوْنِهِ فَرْعًا وَضَاعَ الْقِيَاسُ لِخُلُوِّهِ عن الْفَائِدَةِ بِالِاسْتِغْنَاءِ بِدَلِيلِ الْأَصْلِ عنه وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ جَعْلُ أَحَدِهِمَا أَصْلًا وَالْآخَرِ فَرْعًا أَوْلَى من الْعَكْسِ وقد يُنَازَعُ فيه وَمِثَالُهُ السَّفَرْجَلُ مَطْعُومٌ فَيَجْرِي فيه الرِّبَا قِيَاسًا على الْبُرِّ ثُمَّ يُسْتَدَلُّ على عِلِّيَّةِ الطُّعْمِ بِقَوْلِهِ لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ وَجَوَّزَ آخَرُونَ ذلك نَظَرًا إلَى أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إذَا ذَكَرَ دَلِيلًا له مَدْلُولَانِ وَتَمَسَّكَ بِأَحَدِ مَدْلُولَيْهِ على مَرَامِهِ لَا يَقْتَضِي الْحُكْمُ تَكْلِيفَهُ التَّمَسُّكَ بِمَدْلُولِهِ الْآخَرِ كما لو كان مَدْلُولُهُ الْآخَرُ غير مَحَلِّ النِّزَاعِ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ وَالْفَرْقُ أَنَّ الدَّلَالَةَ على الْعِلَّةِ إنَّمَا تُرَادُ لِإِثْبَاتِ مَحَلِّ النِّزَاعِ فَالدَّلَالَةُ على ثُبُوتِهَا بِمَا يُغْنِي عن ثُبُوتِهَا لَا فَائِدَةَ فيه بِخِلَافِ ما إذَا كان الْمَدْلُولُ الْآخَرُ مَحَلَّ النِّزَاعِ وقد وَجَّهَ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ من الْأَصْحَابِ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ في اشْتِرَاطِ الْحُلُولِ في زَكَاةِ الْمَعْدِنِ بِالْقِيَاسِ
____________________
(4/77)
على النَّقْدَيْنِ من غَيْرِ الْمَعْدِنِ وَيُقَالُ عليه لَا فَرْقَ بين الْمَعْدِنِ وَغَيْرِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا زَكَاةَ في مَالٍ حتى يَحُولَ عليه الْحَوْلُ فإنه يَشْمَلُ كُلَّ مَالٍ فَلِمَ جَعَلْتُمْ مَالَ الْمَعْدِنِ فَرْعًا سَادِسُهَا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُتَّفَقًا عليه لِأَنَّهُ لو كان مَمْنُوعًا منه لَاحْتَاجَ الْقِيَاسُ إلَى ثُبُوتِهِ فَيَنْتَقِلُ من مَسْأَلَةٍ إلَى أُخْرَى وَهَذَا الشَّرْطُ لَا يُغْنِي عن قَوْلِهِمْ فِيمَا سَبَقَ أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُهُ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ على أَصْلٍ آخَرَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ مع وُقُوعِ الْخِلَافِ فيه وَجَوَّزَ آخَرُونَ الْقِيَاسَ على الْأَصْلِ الْمَمْنُوعِ الْحُكْمِ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْقِيَاسَ في نَفْسِهِ لَا يَشْتَرِطُ الِاتِّفَاقَ عليه في جَوَازِ التَّمَسُّكِ بِهِ فَسُقُوطُ ذلك في كل رُكْنٍ من أَرْكَانِهِ أَوْلَى وَقِيلَ يَجُوزُ إنْ كان الْمَنْعُ خَفِيًّا وَقِيلَ يَجُوزُ إنْ أَمْكَنَ الدَّلَالَةُ عليه بِنَصٍّ أو إجْمَاعٍ يُثْبِتَانِ حُكْمَ الْأَصْلِ وَلَا يَتَنَاوَلَانِ مَحَلَّ النِّزَاعِ فإذا ثَبَتَ الْأَصْلُ اسْتَنْبَطَ منه عِلَّةً عَدَّى بها الْحُكْمَ إلَى الْفَرْعِ فَلَا يَكُونُ حُكْمُ الْفَرْعِ ثَابِتًا بِمَا ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ الْأَصْلِ الْمَمْنُوعِ فَيُقَالُ كان اسْتِعْمَالُ الْأَصْلِ حَشْوًا وَلَا يَكُونُ حُكْمُ الْأَصْلِ الْمَمْنُوعِ مُخْتَصًّا في ثُبُوتِهِ بِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ إلْحَاقُ الْفَرْعِ بِهِ وَقِيلَ يُبْنَى الْأَمْرُ على اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْعَصْرِ من غَيْرِ جُحُودٍ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ وإذا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ فَاخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّةِ الِاتِّفَاقِ عليه فَشَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَتَّفِقَ عليه الْخَصْمَانِ فَقَطْ لِتَنْضَبِطَ فَائِدَةُ الْمُنَاظَرَةِ وَمِنْهُمْ من شَرَطَ أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عليه بين الْأُمَّةِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَاخْتَارَ في الْمُنْتَهَى أَنَّ الْمُعْتَرِضَ إنْ كان مُقَلِّدًا لم يُشْتَرَطْ الْإِجْمَاعُ إذْ ليس مَنْعُ ما ثَبَتَ مَذْهَبًا له وَإِنْ كان مُجْتَهِدًا اُشْتُرِطَ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ ليس مُرْتَبِطًا بِإِمَامٍ فإذا لم يَكُنْ الْحُكْمُ مُجْمَعًا عليه وَلَا مَنْصُوصًا عليه جَازَ له أَنْ يَمْنَعَهُ في الْأَصْلِ فَبَطَلَ الْقِيَاسُ أو يُعَيِّنَ عِلَّةً لَا تَتَعَدَّى إلَى الْفَرْعِ وَهَذَا تَفْصِيلٌ حَسَنٌ لَكِنَّ وُقُوعَهُ بَعِيدٌ ثُمَّ إذَا اتَّفَقَا على إثْبَاتِ الْحُكْمِ في الْأَصْلِ نُظِرَ فَإِنْ كان بِعِلَّتَيْنِ فَالْعِلَّةُ عِنْدَ الْخَصْمِ غَيْرُ الْعِلَّةِ عِنْدَ الْمُسْتَدِلِّ فَهُوَ مُرَكَّبُ الْأَصْلِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَيْ ما جُعِلَ
____________________
(4/78)
جَامِعًا وَصْفَانِ يَصْلُحُ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ عِلَّةً كما في قِيَاسِ حُلِيِّ الْبَالِغَةِ على حُلِيِّ الصَّبِيَّةِ فإن عَدَمَ الْوُجُوبِ في حُلِيِّ الصَّبِيَّةِ مُتَّفَقٌ عليه بين الْخَصْمَيْنِ لَكِنْ لِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فإنه عِنْدَنَا لِعِلَّةِ كَوْنِهِ حُلِيًّا وَعِنْدَهُمْ لِعِلَّةِ كَوْنِهِ مَالًا لِلصَّبِيَّةِ وَالْمُعْتَرِضُ على أَحَدِ الْحُسْنَيَيْنِ لِأَنَّ عِلَّتَهُ إنْ كانت هِيَ الصَّحِيحَةُ في نَفْسِ الْأَمْرِ انْقَطَعَ قِيَاسُ خَصْمِهِ وَإِنْ كانت عِلَّةُ الْمُعْتَرِضِ هِيَ الْبَاطِلَةُ مُنِعَ حُكْمُ الْأَصْلِ فَانْقَطَعَ الْقِيَاسُ أَيْضًا وَاعْلَمْ أَنَّهُ لم يُسَمَّ مُرَكَّبًا لِاخْتِلَافِ الْحُكْمَيْنِ في عِلَّةِ حُكْمِ الْأَصْلِ فَقَطْ كما صَارَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ قِيَاسٍ اخْتَلَفَ في عِلَّةِ أَصْلِهِ مُرَكَّبًا وهو بَاطِلٌ بَلْ لِاخْتِلَافِ الْخَصْمِ في تَرْكِيبِ الْحُكْمِ على الْعِلَّةِ في الْأَصْلِ فإن الْمُسْتَدِلَّ يَزْعُمُ أَنَّ الْعِلَّةَ مُسْتَنْبَطَةٌ من حُكْمِ الْأَصْلِ وَهِيَ فَرْعٌ له وَالْمُعْتَرِضُ يَزْعُمُ أَنَّ الْحُكْمَ في الْأَصْلِ فَرْعٌ على الْعِلَّةِ وَلَا طَرِيقَ إلَى إثْبَاتِهِ سِوَاهَا وَلِذَلِكَ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُهُ عِنْدَ انْتِفَائِهَا وَبُطْلَانِهَا وَإِنَّمَا سُمِّيَ تَرْكِيبَ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ نَظَرٌ في حُكْمِ الْأَصْلِ وَإِنْ كان لِعِلَّةٍ وَلَكِنْ مَنَعَ الْخَصْمُ وُجُودَهَا في الْفَرْعِ فَيُسَمَّى مُرَكَّبَ الْوَصْفِ لِأَجْلِ اخْتِلَافِهِمْ في نَفْسِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ هل له وُجُودٌ في الْأَصْلِ أَمْ لَا وَسُمِّيَ تَرْكِيبًا في الْوَصْفِ لِأَنَّ الْحُكْمَ الذي وَقَعَ التَّرْكِيبُ في عِلَّتِهِ وَقَعَ جَامِعًا في الْقِيَاسِ فَأُطْلِقَ عليه وَصْفًا لِأَنَّ أَصْلَ الْجَمْعِ بِالْأَوْصَافِ وَمِثَالُهُ اخْتِلَافُ أبي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنهما في قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ مع اتِّفَاقِهِمَا على أَنَّ الْأَبَ لَا يُقْتَلُ بِالْوَلَدِ فإذا قَاسَ الشَّافِعِيُّ الْفَرْعَ بِالْأَصْلِ أَمْكَنَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِحُكْمٍ مُتَّفَقٍ عليه مُخْتَلَفٍ في عِلَّتِهِ وَذَلِكَ الْحُكْمُ كَوْنُ الْمُسْلِمِ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ إذَا قَتَلَهُ بِالْمُثَقَّلِ يَلْزَمُ من ذلك أَنْ لَا يُقْتَلَ بِهِ إذَا قَتَلَهُ بِالْمُحَدَّدِ لِأَنَّ الْأَبَ لَا يُقْتَلُ بِابْنِهِ بِاتِّفَاقِهِمَا مُحَدَّدًا أو مُثَقَّلًا فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أُخِذَ من اجْتِمَاعِ الْحُكْمَيْنِ في الْأَبِ وَاسْتِوَائِهِمَا في حَقِّهِ اسْتِوَاؤُهُمَا في حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ لَكِنَّ الْعِلَّةَ مُخْتَلِفَةٌ في قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِالْمُثَقَّلِ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِكَوْنِهِ مُثَقَّلًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِعَدَمِ التَّكَافُؤِ وَكَلَامُ الْهِنْدِيِّ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ بِالْأَوَّلِ فلم يُذْكَرْ هذا الثَّانِي وَالْأَصَحُّ تَنَاوُلُهُ لِلْقِسْمَيْنِ جميعا وَعَلَيْهِ جَرَى الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمَا وقد اخْتَلَفُوا فِيهِمَا فَقَبِلَهُمَا جَمَاعَةٌ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُمَا لَا يُقْبَلَانِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَا يُنْقَلُ عن عَدَمِ الْعِلَّةِ في الْفَرْعِ أو مَنْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَالثَّانِي لَا يُنْقَلُ عن عَدَمِ الْعِلَّةِ في الْأَصْلِ أو مَنْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ أَمَّا مُرَكَّبُ الْأَصْلِ فَمِنْهُ الشَّيْءُ الْمُتَفَاحِشُ وَمِنْهُ ما لَا يَتَفَاحَشُ كَقَوْلِهِ أُنْثَى فَلَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا كَبِنْتِ خَمْسَ عَشْرَةَ فَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ طَوَائِفُ من الْجَدَلِيِّينَ أَنَّهُ
____________________
(4/79)
صَحِيحٌ وَحَاصِلُ خِلَافِهِمْ يُؤَوَّلُ إلَى أَنَّ الْحُكْمَ مُتَّفَقٌ عليه وَالْمُعَلِّلُ يَلْتَزِمُ إثْبَاتَ الْأُنُوثَةِ عِلَّةً فَإِنْ أَثْبَتَهَا ثَبَتَ بِهِ أنها الْعِلَّةُ وَتَشَعُّبُ الْمَذَاهِبِ بَعْدَ ذلك لَا أَصْلَ له وَإِنْ لم يَتَمَكَّنْ الْمُعَلِّلُ من إثْبَاتِ ما ذَكَرَهُ في الْفَرْعِ عِلَّةً في الْأَصْلِ فَاَلَّذِي جاء بِهِ بَاطِلٌ وَإِنْ لم يَكُنْ مُرَكَّبًا فَإِذَنْ لَا تَأْثِيرَ لِلتَّرْكِيبِ كان أو لم يَكُنْ وَإِنَّمَا الْمُتَّبَعُ إثْبَاتُ عِلَلِ الْأُصُولِ قال وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ فإن الْمُخَالِفَ يقول ظَنَنْت الْخَمْسَ عَشْرَةَ صَغِيرَةً وَلَوْ كانت كَذَلِكَ لَكَانَ الْقِيَاسُ على الصَّغِيرَةِ بَاطِلًا كما تَقَدَّمَ إلْحَاقًا بِالْقِيَاسِ على مَأْلُوفٍ قال وَأَمَّا التَّرْكِيبُ في الْوَصْفِ فَيَنْقَسِمُ كَذَلِكَ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ لَا يَسْتَوْجِبُ الْقِصَاصَ كَقَتْلِ الْمُثَقَّلِ لَا يُوجِبُ قَتْلَ السَّيْفِ كَالْأَبِ في ابْنِهِ وَصَحَّحَهُ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ وهو في غَايَةِ الْفَسَادِ عِنْدَنَا وقال إلْكِيَا في تَعْلِيقِهِ لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ في الْمُرَكَّبِ لِأَنَّهُ لو صَحَّ لَتَرَكَّبَ عليه مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ وَلَوْ أَنَّ الْأَوَّلِينَ من الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ يَتَعَرَّضُونَ له ولم يُنْقَلْ عَنْهُمْ وَنُقِلَ عن الدَّارَكِيِّ أَنَّهُ قال التَّرْكِيبُ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ يُمْكِنُ انْتِقَاضُهُ بِأَنْ يُعَارَضَ بِالتَّعْدِيَةِ قال أَصْحَابُنَا هذا غَفْلَةٌ منه وَلَعَلَّهُ قَالَهُ في ضِيقِ النَّظَرِ فَاعْتُرِضَ عليه بِأَنَّهُ سَلَّمَ لِخَصْمِهِ وُجُودَ عِلَّتِهِ وَهِيَ الْأُنُوثَةُ وهو لم يُسَلِّمْ وُجُودَ عِلَّتِهِ وَهِيَ الصِّغَرُ وَأَيْضًا فإنه عَلَّلَ وَعَدَّى إلَى فَرْعٍ لم يَسْأَلْ عنه وَالْمُسْتَدِلُّ عَلَّلَ وَعَدَّى فَتَكَاسَلَ عنه قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَهَذَا من الْأَصْحَابِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَالرَّجُلُ ما قال ذلك إلَّا عن نَظَرٍ وَتَحْقِيقٍ أَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّهُ لم يُسَلِّمْ له خَصْمُهُ وُجُودَ الصِّغَرِ في الْأَصْلِ وهو قد سَلَّمَ له وُجُودَ الْأُنُوثَةِ فَلِهَذَا يُبْنَى على أَصْلٍ وهو أَنَّ السَّائِلَ إذَا عَارَضَ الْمُسْتَدِلَّ مُعَارَضَتَهُ فَهَلْ له أَنْ يَدُلَّ اخْتَلَفُوا فيه وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُمَكَّنُ من إقَامَةِ الدَّلِيلِ لِأَنَّهُ لَمَّا عَارَضَ فَقَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ مُسْتَدِلًّا فَلَهُ إقَامَةُ الدَّلِيلِ وَهَذَا مَبْنِيٌّ على أَنَّهُ إذَا مُونِعَ وُجُودُ الصِّغَرِ ذَكَرَ عِلَّتَهُ وَيَكْفِيهِ ذلك وقال ابن بَرْهَانٍ الْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ بَاطِلٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ من أَصْحَابِنَا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَذَهَبَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الطَّرْدِيِّينَ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ إلَى أَنَّهُ صَحِيحٌ وَصُورَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فيه نَتِيجَةَ الْعِلَّةِ وَتَكُونَ عِلَّةُ الْأَصْلِ مُخْتَلَفًا فيها بِحَيْثُ لو قَدَّرْنَا فَسَادَ تِلْكَ الْعِلَّةِ لَتَضَمَّنَ ذلك بُطْلَانَ الْحُكْمِ فَإِنْ قِيلَ ما من أَصْلٍ يُبْنَى عليه فَرْعٌ إلَّا وَيَكُونُ عِلَّةُ ذلك الْأَصْلِ مُخْتَلَفًا فيها فَبِمَ يَقَعُ الْفَرْقُ بين الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ من الْأَقْيِسَةِ
____________________
(4/80)
قُلْنَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحُكْمَ في الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ نَتِيجَةُ الْعِلَّةِ وفي غَيْرِ الْمُرَكَّبِ تَكُونُ الْعِلَّةُ نَتِيجَةَ الْحُكْمِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْخِلَافَ في أَنَّ الْعِلَّةَ مَاذَا في الرِّبَا هل هِيَ الطُّعْمُ أو الْكَيْلُ وَحُكْمُ هذه الْمَسْأَلَةِ ليس نَتِيجَةَ الْعِلَّةِ فَإِنَّهُمْ قبل الْبَحْثِ عن هذه الْعِلَلِ اتَّفَقُوا على الْحُكْمِ بِتَحْرِيمِ بَيْعِ الْبُرِّ بِالْبُرِّ إلَّا أَنَّهُمْ نَازَعُوا بَعْدَهُ في عِلَّةِ هذا الْحُكْمِ وَلَوْ قَدَّرْنَا فَسَادَ هذه الْعِلَلِ بِأَسْرِهَا لم يَبْطُلْ الْحُكْمُ فإنه ليس نَتِيجَةَ الْعِلَّةِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ فإن الْحُكْمَ فيه نَتِيجَةُ الْعِلَّةِ فَلَوْ بَطَلَتْ الْعِلَّةُ بَطَلَ الْحُكْمُ كَقَوْلِنَا في النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ ابن فُلَانٍ يَلِي عَقْدَ النِّكَاحِ قِيَاسًا على بِنْتِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَالْحُكْمُ في هذا الْقِيَاسِ نَتِيجَةُ الْعِلَّةِ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ لم يَتَّفِقُوا على الْبَحْثِ عن هذه الْعِلَّةِ أَنَّ بِنْتَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لَا تَلِي عَقْدَ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا صَارُوا إلَيْهِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ بَعْدَ الْبَحْثِ عنها وَلَوْ قَدَّرْنَا بُطْلَانَ هذه الْعِلَّةِ بَطَلَ هذا الْحُكْمُ الثَّانِي أَنَّ التَّنَازُعَ في الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ يَقَعُ في وُجُودِ الْعِلَّةِ دُونَ الِاعْتِبَارِ وفي غَيْرِهِ من أَنْوَاعِ الْأَقْيِسَةِ يَقَعُ في الِاعْتِبَارِ دُونَ الْوُجُودِ وَأَلْحَقَ ابن السَّمْعَانِيِّ الْقِيَاسَ بِالطَّرْدِ في أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ قال وَطَائِفَةٌ من الْجَدَلِيِّينَ يُصَحِّحُونَهُ وَيَقُولُونَ الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عليه في الْأَصْلِ وَالْمُعَلِّلُ عَلَّلَ بِالْأُنُوثَةِ وَهِيَ تَعْلِيلٌ صَحِيحٌ وَقِيَاسٌ على أَصْلٍ مُسَلَّمٍ فَاخْتِلَافُ الْمَذَاهِبِ لَا يَضُرُّ قبل هذا التَّعْلِيلِ وَالدَّلِيلُ لَا يَرْضَى بِهِ مُحَقِّقٌ قال ابن الْمُنِيرِ وَاَلَّذِي يُوقِعُ في التَّرْكِيبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إنَّمَا هو عِلْمُ الْمُرَكَّبِ أَنَّهُ عَاجِزٌ عن الْإِشْهَادِ على مَعْنَاهُ بِأَصْلِ الْعِلَّةِ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ الْمُرْسَلَ بَاطِلٌ فَيُحِيلُ على الِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ بِصُورَةِ الْأَقْيِسَةِ فَيَتَخَلَّفُ أَيْضًا في كَوْنِهِ أَصْلًا فيه وهو بِالْحَقِيقَةِ نَفْسُ الْفَرْعِ وَهَذِهِ حِيَلٌ جَدَلِيَّةٌ لَا وَقْعَ لها عِنْدَ طَالِبِ التَّحْقِيقِ وَلَوْ سَلَّمَ الْخَصْمُ ما جَعَلَهُ الْمُسْتَدِلُّ عِلَّةً في الْأَصْلِ فِيهِمَا أو أَثْبَتَ الْمُسْتَدِلُّ وُجُودَهَا في الْأَصْلِ أو سَلَّمَ النَّاظِرُ انْتَهَضَ الْمُسْتَدِلُّ على الْخَصْمِ فَلَوْ لم يَتَّفِقَا على الْأَصْلِ وَلَكِنْ أَثْبَتَ الْمُسْتَدِلُّ بِأَصْلِ حُكْمِ الْأَصْلِ الْمُسْتَغْنَى عنه بِمُوَافَقَةِ الْحُكْمِ ثُمَّ أَثْبَتَ الْعِلَّةَ بِطَرِيقِهَا فإنه يَنْتَهِضُ دَلِيلُهُ على الْخَصْمِ الْمُجْتَهِدِ على الْأَصَحِّ وَيُقْبَلُ وَاعْلَمْ أَنَّ هذا الشَّرْطَ يَتَعَلَّقُ بِالْعِلَّةِ فذكر فيها السَّبَبَ وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ على سِتَّةِ أَضْرُبٍ مُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَمُرَكَّبِ الْفَرْعِ وَمُرَكَّبِ الْوَصْفِ وَمُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ وَمُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَمُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ وَالْفَرْعِ وزاد هو قِسْمًا
____________________
(4/81)
سَابِعًا وهو مُرَكَّبُ الْوَصْفِ وَالْفَرْعِ وَالْمُسْتَعْمَلُ من هذه ثَلَاثَةٌ مُرَكَّبُ الْأَصْلِ وَمُرَكَّبُ الْوَصْفِ وَمُرَكَّبُ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ مِثَالُ مُرَكَّبِ الْأَصْلِ تَعْلِيلُ أَصْحَابِنَا في قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ أَنَّهُ مُسْلِمٌ قَتَلَ كَافِرًا فلم يُقْتَلْ بِهِ كما لو قَتَلَهُ بِمُثَقَّلٍ وَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْأَصْلِ أَنَّ الْقَتْلَ بِالْمُثَقَّلِ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ عِنْدَ الْمُخَالِفِ لِكَوْنِهِ قَتْلًا بِمُثَقَّلٍ وَعِنْدَنَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ بين الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لِعَدَمِ التَّكَافُؤِ فَالْأَصْلُ مُتَّفَقٌ على سُقُوطِ الْقِصَاصِ فيه لَكِنْ من جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَمِثَالُ مُرَكَّبِ الْفَرْعِ أَنْ يُعَلِّلَ الشَّافِعِيُّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ في مَالِ الصَّبِيِّ وَيَفْرِضَ الْكَلَامَ فِيمَنْ له خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَيَقُولُ من وَجَبَ الْعُشْرُ في زَرْعِهِ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ في مَالِهِ كَالْبَالِغِ وَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْفَرْعِ أَنَّ الْمَفْرُوضَ فيه ابن خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مُخْتَلَفٌ في بُلُوغِهِ فإذا أَرَادَ الْمُخَالِفُ أَنْ يُفَرِّقَ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِأَنْ يَقُولَ الْمَعْنَى في الْأَصْلِ أَنَّهُ يَجِبُ عليه الْحَجُّ فَكَذَلِكَ وَجَبَتْ عليه الزَّكَاةُ في مَسْأَلَتِنَا بِخِلَافِهِ قال الْمُعَلِّلُ لَا أُسَلِّمُ هذا وَمِثَالُ مُرَكَّبِ الْوَصْفِ أَنْ يُعَلِّلَ شَافِعِيٌّ لِلْمَنْعِ من قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِأَنَّهُ لو قَتَلَهُ بِمُثَقَّلٍ لم يَجِبْ عليه الْقِصَاصُ فإذا قَتَلَهُ بِمُحَدَّدٍ لم يَجِبْ عليه الْقِصَاصُ من أَصْلِهِ إذَا كان حَرْبِيًّا وَمِثَالُ مُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ قَوْلُ أَصْحَابِنَا في ثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ حَالَةٌ يَصِحُّ إلْحَاقُ الزِّيَادَةِ فيها بِالثَّمَنِ عِنْدَ الْمُخَالِفِ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ فيها الْخِيَارُ كما إذَا قال بِعْنِي فقال بِعْتُك فَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْوَصْفِ أَنَّ إلْحَاقَ الزِّيَادَةِ في الثَّمَنِ يَجُوزُ قبل انْبِرَامِ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ وَعِنْدَنَا يَجُوزُ لِثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَقَوْلُهُ حَالَةٌ يَجُوزُ الْإِلْحَاقُ لِلزِّيَادَةِ فيها بِالثَّمَنِ صَحِيحٌ على الْمَذْهَبَيْنِ وَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْأَصْلِ أَنَّ الْخِيَارَ ثَبَتَ بِالْأَصْلِ لِأَنَّ الْبَيْعَ في هذه الصِّيغَةِ لَا يَتِمُّ عِنْدَ الْمُخَالِفِ حتى يَنْضَمَّ إلَيْهِ قَوْلُ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت وَعِنْدَنَا قد تَمَّ لَكِنْ لم يَلْزَمْ لِأَجْلِ الْمَجْلِسِ فَثُبُوتُ الْخِيَارِ مُجْمَعٌ عليه وَإِنْ اخْتَلَفَا في عِلَّتِهِ وَمِثَالُ مُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ أَنْ يُعَلِّلَ الشَّافِعِيُّ مَنْعَ غُسْلِ الْجَنَابَةِ بِالْخَلِّ وَيَقُولَ أَفْرِضُ الْكَلَامَ في غَسْلِ الثَّوْبِ بِالنَّبِيذِ وَأَقُولُ مَائِعٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَلَا يُطَهِّرُ النَّجِسَ كَالْمَاءِ الْمُزَالِ بِهِ النَّجَاسَةُ فَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْفَرْعِ أَنَّ النَّبِيذَ عِنَبٌ لَكِنْ اتَّفَقْنَا على أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ له حُكْمُ التَّطْهِيرِ كَالْمَاءِ وَإِنَّمَا اسْتَبَاحَ بِهِ الصَّلَاةَ وَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْأَصْلِ أَنَّ الْمَاءَ الْمُزَالَ بِهِ النَّجَاسَةُ نَجِسٌ عِنْدَ الْمُخَالِفِ لَا يَجُوزُ غَسْلُ النَّجَاسَةِ بِهِ وَعِنْدَنَا هو طَاهِرٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ غَسْلُ النَّجَاسَةِ بِهِ وفي مَسْأَلَتِنَا بِخِلَافِهِ قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
____________________
(4/82)
لَا الْأَصْلُ وَلَا الْفَرْعُ مُسَلَّمٌ وَمِثَالُ مُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ وَالْفَرْعِ أَنْ يُعَلِّلَ الشَّافِعِيُّ مَنْعَ غَسْلِ النَّجَاسَةِ بِالْخَلِّ وَيَقُولَ أَفْرِضُ الْكَلَامَ في غَسْلِ النَّجَاسَةِ بِالنَّبِيذِ فَأَقُولُ مَائِعٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فلم يُرْفَعْ بِهِ حُكْمُ التَّطْهِيرِ كَالْمَاءِ الْمُزَالِ بِهِ النَّجَاسَةُ فَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْفَرْعِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ التَّطْهِيرِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِكَوْنِهِ نَجِسًا وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ لَا يَثْبُتُ له حُكْمُ التَّطْهِيرِ لَكِنْ يُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ وَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْوَصْفِ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِنَجَاسَتِهِ وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ كما يَرْفَعُهُ الْمَاءُ لَكِنْ يُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ في السَّفَرِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْأَصْلِ أَنَّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ نَجِسٌ وَمِثَالُ مُرَكَّبِ الْفَرْعِ وَالْوَصْفِ أَنْ يُعَلِّلَ الشَّافِعِيُّ الْمَنْعَ من غَسْلِ النَّجَاسَةِ بِالْخَلِّ وَيَفْرِضَ الْكَلَامَ في غَسْلِ النَّجَاسَةِ بِالنَّبِيذِ فيقول مَائِعٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فلم يَثْبُتْ له حُكْمُ التَّطْهِيرِ كَالْمَاءِ النَّجِسِ سَابِعُهَا أَنْ لَا نَكُونَ مُتَعَبَّدِينَ في ذلك الْحُكْمِ بِالْقَطْعِ فَإِنْ تُعُبِّدْنَا بِالْقَطْعِ لم يَجُزْ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ غير الظَّنِّ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ لِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يَكُونُ أَقْوَى من الْأَصْلِ وَحِينَئِذٍ يَتَعَذَّرُ الْقِيَاسُ كَإِثْبَاتِ كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً بِالْقِيَاسِ على قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالْفَتْوَى على رَأْيِ من يَزْعُمُ أَنَّهُ من الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ وَذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ في جَدَلِهِ وَالْهِنْدِيُّ في النِّهَايَةِ وَالْبُرْهَانُ الْمُطَرِّزِيُّ في الْعُنْوَانِ وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَقْطُوعًا بِهِ تَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ بِجَامِعٍ شَبَهِيٍّ فَيَكُونُ حُصُولُهُ في الْفَرْعِ مَظْنُونًا وَلَيْسَ من ضَرُورَةِ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْفَرْعِ مُسَاوِيًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ إذْ قد نَصُّوا على التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ تَارَةً يَكُونُ مُسَاوِيًا وَتَارَةً أَقْوَى وَتَارَةً أَضْعَفُ هذا إذَا كان الْقِيَاسُ شَبِيهًا فَإِنْ كان قِيَاسَ الْعِلَّةِ فَنَحْنُ لَا نَقِيسُ إلَّا إذَا وُجِدَتْ عِلَّةُ الْأَصْلِ في الْفَرْعِ وإذا وُجِدَتْ فيه أَثَّرَتْ مِثْلَ حُكْمِ الْأَصْلِ فَيَكُونُ مَقْطُوعًا بِهِ أَيْضًا وَكَذَلِكَ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ لِأَنَّ الدَّلِيلَ يُفِيدُ وُجُودَ الْمَدْلُولِ فَدَلَالَةُ عِلَّةِ الْأَصْلِ إذَا وُجِدَتْ في الْفَرْعِ دَلَّتْ على وُجُودِ الْعِلَّةِ في الْفَرْعِ قَطْعًا وكان الْقِيَاسُ قَطْعًا مُتَّفَقًا عليه وقد ضَعَّفَ الْإِبْيَارِيُّ الْقَوْلَ بِالْمَنْعِ وقال بَلْ ما يَتَعَدَّ فيه بِالْعِلْمِ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِالْقِيَاسِ الذي يُفِيدُ الْعِلْمَ وقد قَسَمَهُ الْمُحَقِّقُونَ إلَى ما يُفِيدُ الْعِلْمَ وَقَالُوا إنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُنْسَخَ بِهِ النَّصُّ الْمُتَوَاتِرُ وَلِهَذَا قال
____________________
(4/83)
الْفُقَهَاءُ يُنْقَضُ قَضَاءُ الْقَاضِي إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ فَأَجْرَوْهُ مَجْرَى الْمَقْطُوعِ بِهِ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ لَعَلَّ هذا الشَّرْطَ مَبْنِيٌّ على أَنَّ دَلِيلَ الْقِيَاسِ ظَنِّيٌّ وَإِلَّا إذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ قَطْعِيٌّ وَعَلِمْنَا الْعِلَّةَ قَطْعًا وَوُجُودَهَا في الْفَرْعِ قَطْعًا فَقَدْ عَلِمْنَا الْحُكْمَ قَطْعًا وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ على قَوْلَيْنِ وقال الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ عِنْدِي أَنَّ هذا الْخِلَافَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ في الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ فإنه لو أَمْكَنَ تَحْصِيلُ الْيَقِينِ بِعِلَّةِ الْحُكْمِ ثُمَّ تَحْصِيلُ الْيَقِينِ بِأَنَّ تِلْكَ الْعِلَّةَ حَاصِلَةٌ في هذه الصُّورَةِ لَحَصَلَ الْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ بِأَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ مِثْلُ حُكْمِ الْأَصْلِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الْبَحْثُ في أَنَّهُ يُمْكِنُ تَحْصِيلُ هَذَيْنِ الْيَقِينَيْنِ في الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَمْ لَا وَأَمَّا الذي طَرِيقُهُ الظَّنُّ فَلَا خِلَافَ في جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ فيه قال الْهِنْدِيُّ لو حَصَلَ الْعِلْمُ بِالْمُقَدَّمَتَيْنِ على النُّدُورِ لم يَمْتَنِعْ إثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ التَّمْثِيلِيِّ لِكَوْنِهِ لَا يَكُونُ قِيَاسًا شَرْعِيًّا مُخْتَلَفًا فيه قال وَهَذَا يَسْتَقِيمُ إنْ أُرِيدَ بِهِ تَعْرِيفُ الْحُكْمِ الذي هو رُكْنٌ في الْقِيَاسِ الظَّنِّيِّ الذي هو مُخْتَلَفٌ فيه فَأَمَّا إنْ أُرِيدَ بِهِ تَعْرِيفُ الْحُكْمِ الذي هو رُكْنٌ في الْقِيَاسِ كَيْفَ كان فَلَا يَسْتَقِيمُ ذلك بَلْ يَجِبُ حَذْفُ قَيْدِ الْعِلْمِ عنه ثَامِنُهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَعْدُولًا بِهِ عن قَاعِدَةِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْقِيَاسِ معه إثْبَاتُ الْحُكْمِ مع مُنَافِيهِ وهو الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِ الْفُقَهَاءِ الْخَارِجُ عن الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عليه وَهَذَا إطْلَاقٌ مُجْمَلٌ وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ وَمِمَّنْ ذَكَرَ هذا الشَّرْطَ من الْمُتَأَخِّرِينَ الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُمَا لَكِنْ أَطْلَقَ ابن بَرْهَانٍ أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا جَوَازُ الْقِيَاسِ على ما عُدِلَ فيه عن سُنَنِ الْقِيَاسِ وَمَثَّلَهُ بِمَا زَادَ على أَرْشِ الْمُوضِحَةِ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ وما دُونَهُ هل تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ أَمْ لَا فَعِنْدَنَا تَحْمِلُهُ قِيَاسًا على أَرْشِهَا وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا تَحْمِلُهُ وَهَكَذَا حَكَى إلْكِيَا عن أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ أَطْلَقُوا أَقْوَالَهُمْ بِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجْرِي في الْمَعْدُولِ بِهِ عن الْقِيَاسِ قال وَهَذَا فيه تَفْصِيلٌ عِنْدَنَا فَذَكَرَهُ وَسَيَأْتِي وَالْجَوَازُ هُنَا قَضِيَّةُ ما سَبَقَ من جَرَيَانِ الْقِيَاسِ في الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالرُّخَصِ وقال في الْقَوَاطِعِ يَجُوزُ الْقِيَاسُ على أَصْلٍ مُخَالِفٍ في نَفْسِهِ الْأُصُولَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذلك وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَدَلَّ عليه الدَّلِيلُ وَالْمَحْكِيُّ عن أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ مَنَعُوهُ وقد ذَكَرَهُ الْكَرْخِيّ وَمَنَعَ جَوَازَهُ إلَّا بِإِحْدَى خِلَالٍ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ ما وَرَدَ بِخِلَافِ الْأُصُولِ قد نَصَّ على عِلَّتِهِ كَقَوْلِهِ عليه
____________________
(4/84)
السَّلَامُ إنَّهَا من الطَّوَّافِينَ لِأَنَّ النَّصَّ على الْعِلَّةِ كَالتَّصْرِيحِ بِوُجُوبِ الْقِيَاسِ عليه ثَانِيهَا أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ مُجْمِعَةً على تَعْلِيلِ ما وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ وَإِنْ اخْتَلَفُوا في عِلَّتِهِ ثَالِثُهَا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الذي وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ على بَعْضِ الْأُصُولِ وَإِنْ كان مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ على أَصْلٍ آخَرَ كَالْخَبَرِ الْوَارِدِ بِالتَّحَالُفِ في الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا تَبَايَعَا فإنه يُخَالِفُ قِيَاسَ الْأُصُولِ وَيُقَاسُ عليه الْإِجَارَةُ لِأَنَّهُ يُوَافِقُ بَعْضَ الْأُصُولِ وهو أَنَّ ما يُمْلَكُ على الْغَيْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ في أَنَّهُ أَيُّ شَيْءٍ مَلَكَ عليه وَقَالُوا إذَا كان في الشَّرْعِ أَصْلٌ يُنْتِجُ الْقِيَاسَ وَأَصْلٌ يَحْظُرُهُ وكان الْأَصْلُ جَوَازَ الْقِيَاسِ وَجَبَ الْقِيَاسُ وَقَالُوا أَيْضًا يَجُوزُ الْقِيَاسُ على الْأَصْلِ الْمَخْصُوصِ إذَا لم يُفْصَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَخْصُوصِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ ما خُصَّ من جُمْلَةِ الْقِيَاسِ كَجِمَاعِ النَّاسِي وَأَكْلِهِ وقال ابن شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ من أَصْحَابِهِمْ إذَا كان الْخَبَرُ الْوَارِدُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ غير مَقْطُوعٍ بِهِ لم يَجُزْ الْقِيَاسُ فَاقْتَضَى قَوْلُهُ هذا إذَا كان الْخَبَرُ مَقْطُوعًا بِهِ جَازَ الْقِيَاسُ عليه لنا أَنَّ ما وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ أَصْلٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فَجَازَ أَنْ يُسْتَنْبَطَ منه مَعْنًى وَيُقَاسَ عليه دَلِيلُهُ إذَا لم يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ لِأَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ فيه الْخَبَرُ صَارَ أَصْلًا في نَفْسِهِ فَالْقِيَاسُ عليه كَالْقِيَاسِ على بَاقِي الْأُصُولِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وقد يُمْنَعُ التَّعْلِيلُ بِنَصِّ كَلَامِ الشَّارِعِ على الِاقْتِصَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى خَالِصَةً لك وَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَبِي بُرْدَةَ وَلَنْ يُجْزِئَ عن أَحَدٍ بَعْدَك وَقَوْلِهِ أُحِلَّتْ لي سَاعَةً من نَهَارٍ فإذا امْتَنَعَ النَّصُّ على الْقِيَاسِ امْتَنَعَا وَكَذَلِكَ لو فُرِضَ إجْمَاعٌ على هذا النَّحْوِ كَالِاتِّفَاقِ على أَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَقْصُرُ وَإِنْ سَاوَى الْمُسَافِرَ في الْفِطْرِ وقد قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في بَعْضِ كُتُبِهِ وَلَا يُقَاسُ على الْمَخْصُوصِ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَأَوَّلَ فَيُقَالُ إنَّهُ أَرَادَ بِهِ في الْمَوْضِعِ الذي لَا يُمْكِنُ الْقِيَاسُ فيه وَالْأَصْلُ فِيمَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عليه وما لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ في الْمَخْصُوصِ وَيَمْتَحِنَ فَإِنْ كان يَتَعَدَّى قِيسَ عليه كَقِيَاسِ الْخِنْزِيرِ على الْكَلْبِ في الْوُلُوغِ وَقِيَاسِ
____________________
(4/85)
خُفِّ الْحَدِيدِ على الْأَدَمِ بِالْمَسْحِ عليه وَإِنْ لم يُوجَدْ في الْمَخْصُوصِ وَصْفٌ يُمْكِنُ الْقِيَاسُ عليه امْتَنَعَ الْقِيَاسُ كَالْجَنِينِ لَا يُقَاسُ عليه الشَّخْصُ الْمَلْفُوفُ في الثَّوْبِ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى في الْجَنِينِ يُقَاسُ عليه الْمَلْفُوفُ أ هـ وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فقال الْحُكْمُ الثَّابِتُ في الْأَصْلِ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا أو ظَنِّيًّا فَالْقَطْعِيُّ يَجُوزُ إلْحَاقُ الْغَيْرِ بِهِ وَالظَّنِّيُّ يَكُونُ الْفَرْعُ منه مُتَرَدِّدًا بين أَصْلَيْنِ أَصْلٌ يُوجِبُ إثْبَاتَ الْحُكْمِ فيه وَآخَرُ يَنْفِيهِ لِمُشَابَهَتِهِ لِلْمُسَمَّى وَغَيْرِهِ فَيَجِبُ على الْمُجْتَهِدِ التَّرْجِيحُ بِدَلِيلٍ وَالْكَلَامُ في هذا يَسْتَدْعِي تَعْرِيفَ ما عُدِلَ عن سُنَنِ الْقِيَاسِ من غَيْرِهِ وقد بَيَّنَ إلْكِيَا ذلك بِأَقْسَامٍ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ ذلك الشَّيْءُ قَاعِدَةً مُتَأَصِّلَةً في نَفْسِهَا مُخْتَصَّةً بِأَحْكَامِ غَيْرِهَا فَلَا يُقَالُ لِهَذَا الْمَعْنَى إنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَنَّهُ ليس أَصْلٌ أَوْلَى بِهِ كَقَوْلِهِمْ النِّكَاحُ عَقْدٌ على الْمَنْفَعَةِ يَصِحُّ مع جَهَالَةِ الْمُدَّةِ فَصِحَّتُهُ مع جَهَالَةِ الْمُدَّةِ على خِلَافِ الْقِيَاسِ فإن ما في النِّكَاحِ من الْمَقْصُودِ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِإِبْهَامِ الْمُدَّةِ كَالتَّنَاسُلِ فَالْإِبْهَامُ فيه كَالْإِعْلَامِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ السَّلَمُ خَارِجٌ عن الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ مُعَامَلَةُ مَوْجُودٍ بِمَعْدُومٍ وَكَذَا الْإِجَارَةُ فَإِنَّا لم نُجَوِّزْ الْمُعَامَلَةَ بِمَوْجُودٍ لِمَعْدُومٍ لِغَرَرٍ مُتَوَقَّعٍ وَإِلَّا فَالْعَقْلُ لم يَمْنَعْ منه إذَا وُجِدَ الرِّضَا وَلَكِنَّ الِاغْتِرَارَ مِمَّا يَجُرُّ نَدَمًا وَضَرَرًا فإذا ظَهَرَ لنا في السَّلَمِ أَنَّ الْحَالَةَ الدَّاعِيَةَ إلَى تَجْوِيزِهِ هِيَ الْغَرَرُ الْمَقْرُونُ بِالْعَقْدِ لم يَكُنْ له من الْوَزْنِ ما يُخَالِفُ أَنَّهُ مُخَالِفُ الْقِيَاسِ فإن الْقِيَاسَ الْأَصْلِيَّ هو الرِّضَا وَيَعْتَدُّ بِهِ الشَّارِعُ لِلْمَصَالِحِ الْجُزْئِيَّةِ وَحَيْثُ لَا مَصْلَحَةَ في نَفْيِ الْغَرَرِ رُدَّ إلَى الْأَصْلِ وَالْأَصْلُ الرِّضَا فَغَلَّبْنَا مَصْلَحَةً على أُخْرَى الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ فيه مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَلَقَّى من أَصْلٍ آخَرَ وَلَا يَظْهَرُ لنا أَنَّهُ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ من الْأَصْلِ الْمُنْتَقِلِ عنه وَبِهِ يَتَمَيَّزُ هذا الْقِسْمُ مِمَّا قَبْلَهُ وَنَظِيرُهُ أَنَّ الْوَالِدَ لَا يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ مع الْجَرِيمَةِ الظَّاهِرَةِ وَلَكِنَّ الشَّرْعَ غَلَّبَ حُرْمَةَ الْأُبُوَّةِ فقال لَا يُقْتَلُ بِهِ فَهَذَا لَا يَظْهَرُ لنا وَجْهُ تَغْلِيبِهِ بِخِلَافِ السَّلَمِ فإنه يَظْهَرُ لنا من قِيَاسِ الْأُصُولِ تَغْلِيبُ حَاجَةِ الْمُسْلِمِ فَهَذَا وما أَشْبَهَهُ مَعْدُولٌ بِهِ عن الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ لِمَعْنًى خَفِيٍّ وَمِنْهُ الدِّيَةُ على الْعَاقِلَةِ فَإِنَّهَا أُثْبِتَتْ على خِلَافِ قِيَاسِ الْمَضْمُونَاتِ وَكُلُّ قِيَاسٍ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ هذا الِاخْتِصَاصِ مَرْدُودٌ وَكُلُّ قِيَاسٍ يَتَضَمَّنُ تَقْرِيبًا مَقْبُولٌ فَهُوَ على اعْتِبَارِ ما دُونَ الْمُوضِحَةِ بِمِقْدَارِ الْمُوضِحَةِ وَتَحَمُّلُ الْعَاقِلَةِ أُثْبِتَ بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ حتى
____________________
(4/86)
يَهْتَدِيَ الْبَدَلُ وَتَتَعَاوَنَ على أَدَائِهِ وَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ في هذا سَوَاءٌ وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في بَدَلِ الْعَبْدِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ في إخْرَاجِ الصَّيْدِ من قِيمَتِهِ وَهَلْ هو كَخِرَاجِ الْحُرِّ من دِيَتِهِ وَلَكِنَّ ذلك على مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ من وَجْهِ اعْتِبَارِ قِيَاسِ الْغَرَامَاتِ وَيَجُوزُ إجْرَاءُ الْقِيَاسِ فيه على شَرْطِ الْتِزَامِ التَّقْرِيبِ بِحَيْثُ لَا يَلْتَزِمُ إبْطَالَ التَّخْصِيصِ أو تَصَرُّفًا في غَيْبٍ وَالتَّقْرِيبُ الْخَاصُّ أَوْلَى من الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ الْمُخَيَّلِ فَهَذَا هو الْعُدُولُ بِهِ عن الْقِيَاسِ فإذا لم يَمْتَنِعْ ذلك فَهَاهُنَا أَوْلَى الثَّالِثُ إذَا كان أَصْلُهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَصْلَحَةٍ كُلِّيَّةٍ وَلَا جُزْئِيَّةٍ ظَاهِرَةٍ لنا كما قَالَهُ الشَّافِعِيُّ في الْعَرَايَا إنَّهُ مُخَالِفٌ لِقِيَاسِ الرِّبَا وفي الْعَرَايَا مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ وَلَا يُتَخَيَّلُ ذلك في الرِّبَا وَلَكِنَّهُ على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ في الرِّبَا وَإِنْ لم نَطَّلِعْ على مَصْلَحَةٍ خَفِيَّةٍ كما اطَّلَعْنَا عليها في رِبَا النَّسَاءِ وَلَكِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى إنَّمَا حَرَّمَهُ لِأَنَّ التَّوَسُّعَ فيه يَجُرُّ إلَى رِبَا النَّسَاءِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَرَايَا مُخَالِفَةٌ لِهَذَا وَالثَّانِي أَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا الْعَرَايَا مُخَالِفَةٌ لِقِيَاسِ الرِّبَا أنها على مُخَالَفَةِ الْمَعْهُودِ من قِيَاسِ الرِّبَا وَإِنْ لم يَكُنْ مَعْنَى الْمَصْلَحَةِ مَعْهُودًا لنا وإذا سَاغَ دُونَ فَهْمِ الْمَعْنَى إلْحَاقُ ما عَدَا الْمَنْصُوصَ بِهِ سَاغَ تَقْدِيرُ مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ حَيْثُ امْتَنَعَ الِاعْتِبَارُ وَالتَّقْرِيبُ منه وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إنَّ الْأَجَلَ وَالْخِيَارَ على مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ مع أَنَّ الْأَصْلَ اتِّبَاعُ التَّرَاضِي وهو الْقِيَاسُ الْأَصْلِيُّ فإنه لَا قِوَامَ لِلْعَالِمِ إلَّا بِهِ وَتَجْوِيزُ الْخِيَارِ من تَفَاصِيلِ أَصْلِ الرِّضَا فَصَحَّ أَنَّهُ على خِلَافِ الْقِيَاسِ لَكِنَّهُ خِلَافُ قِيَاسٍ هو أَوْلَى بِهِ وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ وَأَقُولُ هو يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارَاتٍ أَحَدُهَا أَنْ يُرَدَّ ابْتِدَاءً غير مُقْتَطَعٍ من أَصْلٍ وَلَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ فَلَا يُقَاسُ عليه لِتَعَذُّرِ الْعِلَّةِ قال الْغَزَالِيُّ وَيُسَمَّى هذا خَارِجًا عن الْقِيَاسِ تَجَوُّزًا وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ ليس مُنْقَاسًا لِأَنَّهُ لم يَدْخُلْ في الْقِيَاسِ حتى يَخْرُجَ منه وَمِثَالُهُ الْمُقَدَّرَاتُ وَأَعْدَادُ الرَّكَعَاتِ وَنُصُبُ الزَّكَوَاتِ وَمَقَادِيرُ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ أَمَّا أَصْلُ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ فَيَجُوزُ الْقِيَاسُ عليها كما سَبَقَ الثَّانِي ما شُرِعَ مُبْتَدَأً غير مُقْتَطَعٍ من أَصْلٍ وهو مَعْقُولٌ لَكِنَّهُ عَدِيمُ النَّظِيرِ فَلَا يُقَاسُ عليه لِتَعَذُّرِ الْفَرْعِ الذي هو من أَرْكَانِ الْقِيَاسِ قال الْهِنْدِيُّ وَتَسْمِيَتُهُ هذا
____________________
(4/87)
بِالْخَارِجِ عن الْقِيَاسِ بَعِيدَةٌ جِدًّا قُلْت فيه التَّأْوِيلُ في الذي قَبْلَهُ وَمِثَالُهُ تَغْلِيظُ الْأَيْمَانِ وَالْقَسَامَةُ فَلَا يُقَاسُ عليها وُجُودُ الْبَهِيمَةِ في الْمَحَلَّةِ مَقْتُولَةً وَكَذَا جَنِينُهَا لَا يُضْمَنُ بِخِلَافِ جَنِينِ الْآدَمِيِّ لِأَنَّ الثَّابِتَ في جَنِينِ الْآدَمِيِّ على خِلَافِ قِيَاسِ الْأُصُولِ وَمِنْهُ رُخَصُ السَّفَرِ وَالْمَسْحُ على الْخُفَّيْنِ وَالْمُضْطَرُّ في أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَمِنْ الْفُقَهَاءِ من جَوَّزَ الْجَمْعَ بِالْمَرَضِ قِيَاسًا على السَّفَرِ وَعِنْدَ الْغَزَالِيِّ من هذا ضَرْبُ الدِّيَةِ على الْعَاقِلَةِ وَخَالَفَ إمَامَهُ فإنه جَعَلَهُ مِمَّا عُقِلَ مَعْنَاهُ وَتَعَلُّقُ الْأَرْشِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ وقال الشَّافِعِيُّ في كَوْنِهِ لم يَقِسْ الْأَرْشَ على الدِّيَةِ في الْعَقْلِ وَلَا أَقِيسُ على الدِّيَةِ غَيْرَهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْجَانِيَ أَوْلَى أَنْ يَغْرَمَ جِنَايَتَهُ من غَيْرِهِ كما يَغْرَمُهَا عن الْخَطَأِ في الْجِرَاحِ وقد أَوْجَبَ اللَّهُ عز وجل على الْقَاتِلِ خَطَأَ دِيَةٍ وَرَقَبَةٍ فَزَعَمَتْ أَنَّ الرَّقَبَةَ في مَالِهِ لِأَنَّهَا من جِنَايَتِهِ وَأَخْرَجَتْ الدِّيَةَ عن هذا الْمَعْنَى اتِّبَاعًا انْتَهَى الثَّالِثُ ما اُسْتُثْنِيَ من قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ وَثَبَتَ اخْتِصَاصُ الْمُسْتَثْنَى بِحُكْمِهِ فَلَا يُقَاسُ عليه لِأَنَّهُ قد فُهِمَ من الشَّرْعِ الِاخْتِصَاصُ بِالْمَحَلِّ الْمُسْتَثْنَى وفي الْقِيَاسِ إبْطَالُ الِاخْتِصَاصِ بِهِ سَوَاءٌ لم يُعْقَلْ مَعْنَاهُ كَاخْتِصَاصِ خُزَيْمَةَ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ أو عُقِلَ كَاخْتِصَاصِ أبي بُرْدَةَ بِالتَّضْحِيَةِ بِعَنَاقٍ نَظَرًا لِفَقْرِهِ فَلَا يَلْتَحِقُ بِهِ غَيْرُهُ لِأَجْلِ صَرِيحِ الْمَنْعِ من الشَّارِعِ وَلَنْ تُجْزِئَ عن أَحَدٍ بَعْدَك ثُمَّ تَارَةً يُعْلَمُ الِاخْتِصَاصُ بِالتَّنْصِيصِ وَتَارَةً بِغَيْرِهِ كَقَبُولِ الْوَاحِدِ في هِلَالِ رَمَضَانَ فَلَا يَلْتَحِقُ بِهِ ذُو الْحِجَّةِ على الْأَصَحِّ وَكَاشْتِرَاطِ أَرْبَعَةٍ في الزِّنَى وَالثَّلَاثَةِ في الشَّهَادَةِ بِالْإِعْسَارِ على وَجْهٍ لِأَجْلِ الحديث وقال إلْكِيَا التَّخْصِيصُ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ تَخْصِيصُ عَيْنٍ أو مَكَان أو حَالٍ فَالْعَيْنُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى خَالِصَةً لك وَالْمَكَانُ كَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أُحِلَّتْ لي سَاعَةً من نَهَارٍ وَالْحَالُ كَالْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ الرَّابِعُ ما اُسْتُثْنِيَ من قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ لَكِنَّ الْمُسْتَثْنَى مَعْقُولُ الْمَعْنَى كَبَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ في الْعَرَايَا فإنه على خِلَافِ قَاعِدَةِ الرِّبَا عِنْدَنَا وَاقْتَطَعَ عنها بِحَاجَةِ الْمَحَاوِيجِ وَقَاسَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا الْعِنَبَ على الرُّطَبِ لِأَنَّهُ في مَعْنَاهُ وَهَذَا الْقِسْمُ هو مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَيُشْبِهُ أَنْ يُخَرَّجَ فيه قَوْلَانِ لِاخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِيمَا لَا نَفْسَ له سَائِلَةٌ هل يُنَجِّسُ إنَّمَا الدَّلِيلُ وَالْقِيَاسُ التَّنْجِيسُ وَالْأَصَحُّ عَدَمُهُ قِيَاسًا على ما وَرَدَ بِهِ النَّقْلُ في الذُّبَابِ الْخَارِجِ عن الْقَاعِدَةِ الْمُمَهَّدَةِ وَمِنْهُ أَنَّ الْإِتْمَامَ أَصْلٌ وَالْقَصْرَ رُخْصَةٌ ثُمَّ إنَّهُ وَرَدَ أَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ سَبْعَ عَشْرَةَ أو ثَمَانِيَ عَشْرَةَ فَهَلْ يَقْتَصِرُ على هذه الْمُدَّةِ أَمْ يَجُوزُ زَائِدًا فيه قَوْلَانِ
____________________
(4/88)
مَدْرَكَهُمَا هذا وَمِنْهُ أَنْ تَحْرُمَ الزِّيَادَةُ على أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ ثُمَّ إنَّهُ تَزَوَّجَ تِسْعًا فَهَلْ يَنْحَصِرُ فِيهِنَّ أو كان يَجُوزُ له الزِّيَادَةُ عليها فيه خِلَافٌ لَكِنَّ الْأَرْجَحَ الْجَوَازُ هُنَا وفي تِلْكَ الْمَنْعُ وقد اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فيها على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَّا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ منهم أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ إلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عليه مُطْلَقًا يَعْنِي إذَا عُرِفَتْ عِلَّتُهُ وَنَسَبَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في التَّلْخِيصِ لِكَثِيرٍ من أَصْحَابِنَا قال وَبِهِ قال الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ لَكِنَّ الْمُجَوِّزَ من الْحَنَفِيَّةِ لَا يُسَمِّيهِ وَالْحَالَةُ هذه مَعْدُولًا بِهِ عن الْقِيَاسِ وَالثَّانِي الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَنُقِلَ عن بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَنَسَبَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ لِلْجُمْهُورِ وقال إنَّهُ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِمْ وَالثَّالِثُ إنْ ثَبَتَ الْمُسْتَثْنَى بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ جَازَ الْقِيَاسُ عليه وَإِلَّا فَلَا وهو قَوْلُ مُحَمَّدِ بن شِجَاعٍ الْبَلْخِيّ منهم كما نَقَلَهُ الْقَاضِي في الْمُلَخَّصِ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ في الْكَشْفِ وَصَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ وقال إنَّهُ الْأَصْوَبُ وَالرَّابِعُ وهو قَوْلُ الْكَرْخِيِّ إنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عليه إلَّا بِأَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً وَأُجْمِعَ على تَعْلِيلِهِ أو وَافَقَ بَعْضَ الْأُصُولِ كَخَبَرِ التَّحَالُفِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعِينَ في قَدْرِ الثَّمَنِ إذَا لم يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ فإنه وَإِنْ كان مُخَالِفًا لِقِيَاسِ الْأُصُولِ إذْ قِيَاسُ الْأُصُولِ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَوْلَ لِلْمُنْكِرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ اشْتِغَالِ ذِمَّتِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ من الْقَدْرِ الزَّائِدِ لَكِنْ ثَمَّ قَوْلٌ آخَرُ يُوَافِقُهُ وهو أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ عليه فَالْقَوْلُ قَوْلُ من مَلَكَ عليه أَصْلَهُ كَالشَّفِيعِ مع الْمُشْتَرِي إذَا اخْتَلَفَا في قَدْرِ الثَّمَنِ فإن الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَمْلِكُ عليه الشِّقْصَ فَكَذَلِكَ يَتَأَتَّى التَّحَالُفُ على الِاخْتِلَافِ في ثَمَنِ الْمَبِيعِ ما عَدَا الْمَبِيعَ من عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالسَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْقِرَاضِ وَالْجَعَالَةِ وَالصُّلْحِ على الدَّمِ وَالْخُلْعِ وَالصَّدَاقِ وَالْكِتَابَةِ وَالْخَامِسُ وهو رَأْيُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى إنْ كان دَلِيلُهُ مَقْطُوعًا بِهِ فَهُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ مُرَادَنَا بِالْأَصْلِ في هذا الْمَوْضِعِ هو إمْكَانُ الْقِيَاسِ عِلَّةً كَالْقِيَاسِ على غَيْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُرَجِّحَ الْمُجْتَهِدُونَ الْقِيَاسَ مُؤَكَّدُهُ أَنَّهُ إذَا لم يَمْنَعْ الْعُمُومُ من قِيَاسٍ يَخُصُّهُ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ الْقِيَاسُ على الْعُمُومِ مَانِعًا من قِيَاسٍ يُخَالِفُهُ لِأَنَّ الْعُمُومَ أَوْلَى من الْقِيَاسِ على الْعُمُومِ وقد سَبَقَهُ إلَى هذا الِاخْتِيَارِ ابن السَّمْعَانِيِّ قال وَإِنْ كان غير مَقْطُوعٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِلَّةُ حُكْمِهِ مَنْصُوصَةً أو لَا فَإِنْ لم يَكُنْ وَلَا كان الْقِيَاسُ عليه
____________________
(4/89)
أَقْوَى من الْقِيَاسِ على الْأُصُولِ فَلَا شُبْهَةَ في أَنَّ الْقِيَاسَ على الْأُصُولِ أَوْلَى من الْقِيَاسِ عليه لِأَنَّ الْقِيَاسَ على ما طَرِيقُ حُكْمِهِ مَعْلُومٌ أَوْلَى من الْقِيَاسِ على ما طَرِيقُ حُكْمِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَإِنْ كانت مَنْصُوصَةً فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ يَسْتَوِي الْقِيَاسَانِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَخْتَصُّ بِأَنَّ طَرِيقَ حُكْمِهِ مَعْلُومٌ وَإِنْ كان طَرِيقُ عِلَّتِهِ غير مَعْلُومٍ وَهَذَا الْقِيَاسُ طَرِيقُ حُكْمِهِ مَظْنُونٌ وَطَرِيقُ عِلَّتِهِ مَعْلُومٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قد اخْتَصَّ بِحَظٍّ من الْقُوَّةِ هذا كَلَامُهُ في الْمَحْصُولِ وَاخْتَارَ جَمَاعَةٌ من أَتْبَاعِهِ منهم الْبَيْضَاوِيُّ في الْمَنْهَجِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ يُطْلَبُ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ اعْتَرَضَهُ الْهِنْدِيُّ فقال فيه نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ إنْ عُنِيَ بِقَوْلِهِ إنَّ مُرَادَنَا بِالْأَصْلِ في هذا الْمَوْضُوعِ هو اصْطِلَاحُ نَفْسِهِ فَلَا مُنَاقَشَةَ لِأَنَّ الْخَصْمَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هذا الْأَصْلِ يُقَاسُ عليه وَيَمْنَعُ أَنَّ الْقِيَاسَ عليه كَالْقِيَاسِ على غَيْرِهِ فإن كُلَّ هذا مُصَادَرَةٌ على الْمَطْلُوبِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ مُؤَكَّدَةٌ ليس على ظَاهِرِهِ لِأَنَّ ما سَبَقَهُ ليس دَلِيلًا حتى يَكُونَ تَأْكِيدًا له وَدَعْوَاهُ إنَّ الْعُمُومَ إذَا لم يَمْنَعْ من قِيَاسٍ يَخُصُّهُ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ الْقِيَاسُ على الْعُمُومِ مَانِعًا من قِيَاسٍ يُخَالِفُهُ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ أَقْوَى من الْقِيَاسِ على الْعُمُومِ مَمْنُوعٌ لِأَنَّ عُمُومَ الْقِيَاسِ أَقْوَى من الْعُمُومِ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلتَّخْصِيصِ بِنَاءً على عَدَمِ جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ بِخِلَافِ الْعُمُومِ فإنه قَابِلٌ لِلتَّخْصِيصِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ عُنِيَ بِهِ اصْطِلَاحُ الْمُخْتَلِفِينَ في هذه الْمَسْأَلَةِ فَمَمْنُوعٌ لِأَنَّ الْقِيَاسَ ما يُقَاسُ فَمَنْ مَنَعَ الْقِيَاسَ على الْمَعْدُولِ عن سُنَنِ الْقِيَاسِ سَوَاءٌ أَثْبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ أو غَيْرِ مَقْطُوعٍ كَيْفَ يَكُونُ هذا أَصْلًا عِنْدَهُ وَأَمَّا ثَانِيًا فَدَعْوَاهُ التَّسَاوِي فِيمَا إذَا كانت عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةً إنْ أَرَادَ بِهِ ثُبُوتَ النَّصِّ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ فَتَسْتَحِيلُ الْمَسْأَلَةُ لِأَنَّ كَوْنَ دَلِيلِ الْحُكْمِ ظَنِّيًّا مع أَنَّ النَّصَّ الدَّالَّ على عِلَّتِهِ قَطْعِيٌّ مُحَالٌ ضَرُورَةً أَنَّهُ مَهْمَا عُلِمَ النَّصُّ الدَّالُّ على عِلَّةِ الْحُكْمِ كان الْحُكْمُ مَعْلُومًا قَطْعًا فَدَلِيلُهُ قَطْعِيٌّ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ أَعَمُّ من ذلك أَيْ سَوَاءٌ ثَبَتَ بِطَرِيقٍ قَطْعِيٍّ أو ظَنِّيٍّ بَطَلَ قَوْلُهُ آخِرًا وَهَذَا الْقِيَاسُ طَرِيقُ حُكْمِهِ مَظْنُونٌ وَطَرِيقُ عِلَّتِهِ مَعْلُومٌ قال وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ في الضَّابِطِ ما ثَبَتَ على خِلَافِ الْأُصُولِ وَعُقِلَ مَعْنَاهُ وَوُجِدَ في غَيْرِهِ جَازَ الْقِيَاسُ عليه ما لم يَظْهَرْ من الشَّارِعِ قَصْدُ تَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِذَلِكَ الْمَحَلِّ وما لم يَتَرَجَّحْ قِيَاسُ الْأُصُولِ عليه فَإِنْ رَجَحَ بِمَا يَتَرَجَّحُ بِهِ بَعْضُ الْأَقْيِسَةِ على بَعْضٍ لم يَجُزْ الْقِيَاسُ عليه لِحُصُولِ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ لَا لِأَنَّهُ لم يَصْلُحْ أَنْ يُقَاسَ عليه وَحَكَى الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ الْخِلَافَ على وَجْهٍ آخَرَ فقال إذَا وَرَدَتْ قَاعِدَةٌ خَارِجَةٌ
____________________
(4/90)
عن قِيَاسِ الْقَوَاعِدِ كَالْإِجَارَةِ وَالْكِتَابَةِ قِيلَ لَا يُقَاسُ على أَصْلِهَا وَلَا فَرْعِهَا وَقِيلَ يُقَاسُ في فُرُوعِهَا وَلَا يُقَاسُ عليه أَصْلٌ آخَرُ قال وَالْمُخْتَارُ أَنَّ إطْلَاقَ الْأَمْرَيْنِ مُسْتَقِيمٌ فإن الْقَوَاعِدَ وَإِنْ تَبَايَنَتْ في خَوَاصِّهَا فَقَدْ تَلْتَقِي في أُمُورٍ جُمَلِيَّةٍ لِمُلَاحَظَةِ الشَّرْعِ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ في كَوْنِهِ مُعَاوَضَةً وقال ابن الْقَطَّانِ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الْمَخْصُوصَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عليه وَزَعَمُوا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَأْبَى ذلك في الْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ في الْحَضَرِ لِعُذْرٍ وَمِنْهُمْ من أَوَّلَهُ وقال الْمَخْصُوصُ على ضَرْبَيْنِ مَخْصُوصٌ بِالْمَعْنَى وَمَخْصُوصٌ بِالذِّكْرِ وَالْأَوَّلُ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عليه بِخِلَافِ الثَّانِي وَالشَّافِعِيُّ إنَّمَا أَطْلَقَ ذلك لِأَنَّهُ أَرَادَ إذَا لم أَجِدْ عِلَّةَ الْحُكْمِ فلم أَقِسْ عليه غَيْرَهَا وقال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَقِيسُ على الْمَخْصُوصِ وما يَرِدُ من الْأَخْبَارِ على غَيْرِ قِيَاسِ الْأُصُولِ وَشَبَّهُوهُ بِمَا قُلْنَا في مَسِّ الذَّكَرِ أَنَّا لَا نَقِيسُ عليه غَيْرَهُ وهو خَطَأٌ لِأَنَّهُمْ لَا يُجَوِّزُونَ وُرُودَ الْأَخْبَارِ بِشَيْءٍ تُخَالِفُهُ الْأُصُولُ لِأَنَّهَا أُصُولٌ في أَنْفُسِهَا فَقِيَاسٌ عليها حَيْثُ وُجِدَتْ الْعِلَّةُ لِأَنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلْحُكْمِ وقال إلْكِيَا الْمَخْصُوصُ بِالذِّكْرِ قد يَقَعُ الْقِيَاسُ عليه وَأَكْثَرُ الْقِيَاسِ كَذَلِكَ وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَعْنَى لَا يُقَاسُ عليه لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِمَعْنَاهُ فلم يُوجَدْ في غَيْرِهِ فَلَا يُقَاسُ عليه لِعَدَمِ الْجَامِعِ ثُمَّ قَسَّمَهُ إلَى ما سَبَقَ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ قال أَصْحَابُنَا الْمَخْصُوصُ بِالْمَعْنَى لَا يُقَاسُ عليه لِأَنَّ الْمَعْنَى الذي لِأَجْلِهِ خُصَّ الْحُكْمُ مَفْقُودٌ في غَيْرِ ما وَرَدَ الْحُكْمُ فيه بِخِلَافِ الْمَخْصُوصِ بِالِاسْمِ فَقَطْ قال الْأُسْتَاذُ جُمْلَةُ ما يَمْتَنِعُ الْقِيَاسُ في الْأُصُولِ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ أَحَدُهَا تَخْصِيصُ غَيْرِهِ بِالذِّكْرِ وَإِفْرَادُهُ بِالْحُكْمِ خُصُوصًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى خَالِصَةً لك من دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ في النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ أو بِلَا مَهْرٍ أَصْلًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عليه السَّلَامُ لِأَبِي بُرْدَةَ وَلَنْ تُجْزِئَ عن أَحَدٍ بَعْدَك الثَّانِي تَخْصِيصُ مَكَان بِحُكْمٍ مَخْصُوصٍ كَقَوْلِهِ في مَكَّةَ أُحِلَّتْ لي سَاعَةً من نَهَارٍ وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدِي وَالثَّالِثُ تَخْصِيصُ حَالٍ من أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ كَتَخْصِيصِ حَالِ الضَّرُورَةِ بِإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ الرَّابِعُ وُقُوعُ التَّغْلِيظِ في جِنْسٍ من الْأَحْكَامِ في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تَخْصِيصًا بِهِ
____________________
(4/91)
وَحْدَهُ كَتَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ في الْقَسَامَةِ لَا يُقَاسُ عليها التُّهْمَةُ في قَتْلِ الْبَهِيمَةِ الْخَامِسُ الرُّخَصُ كَالْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ لَا يُقَاسُ عليه الْمَسْحُ على الْبُرْقُعِ وَالْقُفَّازَيْنِ وَكَالِاسْتِنْجَاءِ لَا يُقَاسُ عليه أَثَرُ النَّجَاسَةِ على الثَّوْبِ فَهَذِهِ الْخَمْسَةُ لَا يَجُوزُ عليها الْقِيَاسُ عِنْدَنَا قال وَأَمَّا في الْمَخْصُوصِ من الْعَامِّ فَإِنْ كان الْمَعْنَى يُوجَدُ في غَيْرِهِ جَازَ الْقِيَاسُ عليه كَالْأَمَةِ في تَنْصِيفِ حَدِّهَا قِيسَ عليها الْعَبْدُ بِعِلَّةِ الرِّقِّ وَإِنْ لم يَكُنْ ثَمَّ مَعْنًى لم يَجُزْ كَإِيجَابِ الْغُرَّةِ في الْجَنِينِ لَا يُقَاسُ عليه الْمَلْفُوفُ قال وَهَذَا تَفْصِيلُ أَصْحَابِنَا في الْقِيَاسِ الْمَخْصُوصِ وقال أَصْحَابُ الرَّأْيِ إنَّ الْمَخْصُوصَ بِالْأَثَرِ من جُمْلَةِ قِيَاسِ الْأُصُولِ لَا يُقَاسُ عليه إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَثَرُ مُعَلَّلًا فَيُقَاسُ عليه بِتِلْكَ الْعِلَّةِ أو يَتَّفِقَ الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ على جَوَازِ الْقِيَاسِ عليه فَيُقَاسُ عليه نَظَائِرُهُ وَإِنْ خَالَفَ قِيَاسَ الْأُصُولِ كَقَوْلِهِمْ في الْوُضُوءِ من الْقَهْقَهَةِ في الصَّلَاةِ إنَّ قِيَاسَ الْأُصُولِ أَنَّ ما كان حَدَثًا في الصَّلَاةِ كان حَدَثًا في غَيْرِهَا إلَّا أَنَّ الْقِيَاسَ في ذلك مَتْرُوكٌ بِالْخَبَرِ لم يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ عليها الْقَهْقَهَةُ في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وفي سُجُودِ التِّلَاوَةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ الذي خَصَّهُمَا من جُمْلَةِ الْقِيَاسِ إنَّمَا وَرَدَ في صَلَاةٍ لها رُكُوعٌ وَسُجُودٌ وقال صَاحِبُ الْبَيَانِ في كِتَابِ الْحَجِّ الْمَنْصُوصُ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ أَحَدُهَا ما لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ فَلَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عليه كَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَأَرْكَانِهَا وَكَذَلِكَ لم يُقَسْ عليها وُجُوبُ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ وَالثَّانِي ما عُقِلَ مَعْنَاهُ ولم يُوجَدْ ذلك الْمَعْنَى في غَيْرِهِ كَالْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْحَاجَةُ إلَى لُبْسِهِ وَالْمَشَقَّةُ في نَزْعِهِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ في الْعِمَامَةِ وَالْقُفَّازَيْنِ وَكَذَلِكَ الْمُتَحَلِّلُ من الْإِحْرَامِ لِأَجْلِ الْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ عُقِلَ مَعْنَاهُ وهو التَّخَلُّفُ من الْعَدُوِّ وَهَذَا لَا يُوجَدُ في الْمَرَضِ وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الرِّبَا في النَّقْدَيْنِ عُقِلَ مَعْنَاهُ وهو قِيمَةُ الْأَشْيَاءِ ولم يُوجَدْ في غَيْرِهَا فلم يُقَسْ عليها الْحَدِيدُ وَالرُّصَاصُ وَالثَّالِثُ ما عُقِلَ وَوُجِدَ ذلك الْمَعْنَى في غَيْرِهِ فَيَجُوزُ الْقِيَاسُ عليه كَتَحْرِيمِ الرِّبَا في النَّسِيئَةِ تَنْبِيهٌ يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ من الشُّرُوطِ أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ فيه تَغْلِيظًا لَكِنَّ كَلَامَ أَصْحَابِنَا يُخَالِفُ هذا فَإِنَّهُمْ أَلْحَقُوا عَرَقَ الْكَلْبِ وَرَوَثَهُ وَجَمِيعَ أَجْزَائِهِ بِسُؤْرِهِ وَجَعَلُوهُ كَإِلْحَاقِ الْأَمَةِ بِالْعَبْدِ وَلَنَا وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ وَمَأْخَذُهُ ما ذَكَرْنَا
____________________
(4/92)
مَسْأَلَةٌ مِمَّا يَمْتَنِعُ فيه الْقِيَاسُ قال إلْكِيَا مِمَّا يَمْتَنِعُ فيه الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ مُقْتَضِيًا تَصَرُّفًا في عَيْنٍ لَا يَتَصَوَّرُ إحَاطَةَ عِلْمِ الْعَبْدِ بِهِ فَالْقِيَاسُ مُمْتَنِعٌ لِعَدَمِ شَرْطِهِ وهو ظُهُورُ الظَّنِّ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ ارْتِبَاطُ الظَّنِّ بِهِ فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الطَّهَارَةَ شُرِعَتْ لِلنَّظَافَةِ وَالصَّلَاةَ لِلْخُشُوعِ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَضَعَ شيئا آخَرَ وَيَجْعَلَهُ مِثْلًا لِلصَّلَاةِ في إفَادَةِ مِثْلِ مَقْصُودِ الصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ من الْخُشُوعِ وَالنَّظَافَةِ كان مَرْدُودًا لِأَنَّهُ لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ قال وَعَلَى هذا أَكْثَرُ ضَوَابِطِ الشَّرْعِ كَنُصُبِ الزَّكَوَاتِ وَتَقْدِيرِ الْبُلُوغِ وَتَقْدِيرِ الزَّوَاجِرِ وَغَيْرِهَا فَائِدَةٌ قال يُونُسُ بن عبد الْأَعْلَى سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يقول لَا يُقَاسُ على خَاصٍّ وَلَا يُقَاسُ أَصْلٌ على أَصْلٍ وَلَا يُقَالُ لِلْأَصْلِ كَمْ وَكَيْفَ فإذا صَحَّ قِيَاسُهُ على الْأَصْلِ ثَبَتَ قال الْعَبَّادِيُّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يُقَاسُ أَصْلٌ على أَصْلٍ أَيْ لَا يُقَاسُ التَّيَمُّمُ على الْوُضُوءِ فَيُجْعَلُ أَرْبَعًا وَلَا يُقَاسُ الْوُضُوءُ على التَّيَمُّمِ فَيُجْعَلُ اثْنَيْنِ لِأَنَّ أَحَدَ الْقِيَاسَيْنِ يَرْفَعُ النَّصَّ وَالثَّانِيَ يَرْفَعُ الْإِجْمَاعَ وفي رِوَايَةِ غَيْرِهِ لَا يُقَاسُ على خَاصٍّ مُنْتَزَعٍ من عَامٍّ كَالْمُصَرَّاةِ وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَا يُقَاسُ على مَخْصُوصٍ وَلَا مَنْصُوصٍ على مَنْصُوصٍ فإن الْقِيَاسَ على الْمَخْصُوصِ إبْطَالٌ وفي قِيَاسِ الْمَنْصُوصِ على الْمَنْصُوصِ إبْطَالُ الْمَنْصُوصِ وقد قِيلَ ذلك لِأَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيِّ فقال الْقِيَاسُ على الْمَخْصُوصِ يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فإنه قَاسَ ما دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ على الْمُوضِحَةِ في تَحَمُّلِ الْعَقْلِ وَإِنَّمَا يَبْطُلُ التَّخْصِيصُ بِإِلْحَاقِ الْأَمْوَالِ بها فَأَمَّا إذَا أَلْحَقَ بها ما في مَعْنَاهَا فَلَا إذَنْ انْتَهَى مَسْأَلَةٌ ثُبُوتُ الْحُكْمِ في مَحَلِّ الْأَصْلِ الْحُكْمُ في مَحَلِّ النَّصِّ هل ثَبَتَ بِالْعِلَّةِ أو بِالنَّصِّ فيه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَحَكَى في الْمُسْتَصْفَى وَجْهًا ثَالِثًا بِالتَّفْصِيلِ بين أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً فَيَجُوزُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهَا في مَحَلِّ النَّصِّ كَالسَّرِقَةِ مَثَلًا وَإِلَّا فَلَا
____________________
(4/93)
وهو غَرِيبٌ وَيَخْرُجُ من كَلَامِ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ رَابِعٌ وهو أَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ في الْأَصْلِ بِالنَّصِّ وَالْعِلَّةِ جميعا فقال وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ لَا يُضَافُ إلَى النَّصِّ قُلْنَا يُضَافُ فَيُقَالُ النَّصُّ يُفِيدُ هذا الْحُكْمَ وَالْعِلَّةُ أَيْضًا مُفِيدَةٌ له وَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَالَى دَلِيلَانِ على حُكْمٍ وَاحِدٍ وَكَذَا قال ابن بَرْهَانٍ ثُبُوتُهُ بِالنَّصِّ لَا يَمْنَعُ من إضَافَتِهِ إلَى الْعِلَّةِ فَنَحْنُ نَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَنَقُولُ الْحُكْمُ ثَابِتٌ بَيْنَهُمَا جميعا وَيَجُوزُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى دَلِيلَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا في تَعْلِيلِهِ بِعِلَّتَيْنِ ثُمَّ قال الْأُسْتَاذُ وقال أَهْلُ التَّحْقِيقِ إنَّ حَقِيقَةَ الْقَوْلِ في مُوجِبِ الْحُكْمِ الْكَشْفُ عن الدَّلِيلِ الْمُبَيِّنِ له قالوا وَلَهُ في الْأَصْلِ دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا النَّصُّ وَلَهُ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا بَيَانُ الشَّرِيعَةِ وَالثَّانِي بَيَانُ الْمَعْنَى الذي تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ وفي الْفَرْعِ دَلِيلٌ وَاحِدٌ إذَا كانت الْعِلَّةُ وَاحِدَةً قال وَهَذَا هو الصَّحِيحُ وقد يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَدْرَكَ حُكْمِهِ بِوُجُوهٍ من الْأَدِلَّةِ ثُمَّ يَعْرِفُ حُكْمَ غَيْرِهِ بِبَعْضِ أَدِلَّتِهِ وقال الصَّيْرَفِيُّ الْحُكْمُ في الْأَصْلِ ثَبَتَ بِالْعِلَّةِ التي دَلَّ عليها النَّصُّ وَحَظُّ النَّصِّ فيها التَّنْبِيهُ عليها وَهَذَا هو الرَّاجِحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا قال الْإِبْيَارِيُّ وهو الصَّحِيحُ من مَذْهَبِ مَالِكٍ وَعَنْ الْعِرَاقِيِّينَ من الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَعَلَى الْأَوَّلِ فإذا اسْتَنْبَطَ من مَحَلِّ عُمُومِ عِلَّةٍ خَاصَّةٍ تَخْصِيصَ حُكْمِ الْأَصْلِ وهو بِمَثَابَةِ اسْتِنْبَاطِ الْإِسْكَارِ من آيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ إلَّا الْقَدْرُ الْمُسْكِرُ وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ في النَّبِيذِ بِنَاءً منه على أَنَّ حُكْمَ النَّبِيذِ هو الْمُسْتَنِدُ إلَى الْعِلَّةِ وَأَمَّا حُكْمُ الْخَمْرِ فَيَسْتَنِدُ إلَى اللَّفْظِ الْعَامِّ قال ابن النَّفِيسِ في الْإِيضَاحِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الشَّافِعِيَّةِ ثُبُوتَهُ بِالْعِلَّةِ فَظَنُّ أَنَّ ثُبُوتَهُ بِالنَّصِّ لِأَجْلِ الْعِلَّةِ لَا لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ له بِدُونِ النَّصِّ وَلَا أنها جُزْءُ الْمُوجِبِ وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا وَكَذَا زَعَمَ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ لَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنًى لِأَنَّ النَّصَّ لَا شَكَّ أَنَّهُ الْمُعَرِّفُ لِلْحُكْمِ أَيْ ثَبَتَ عِنْدَنَا بِهِ الْحُكْمُ وَالْمَعْنَى عِنْدَ من يُفْسِدُهُ بِالْبَاعِثِ هو الذي اقْتَضَى الْحُكْمَ فَمَنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ أَيْ عُرِفَ بِهِ فَقَوْلُهُ صَحِيحٌ وَلَا يُنَازَعُ فيه وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْمُقْتَضَى وَالْبَاعِثَ هو الْمَعْنَى فَلَا يُنَازِعُهُ الْآخَرُ فيه
____________________
(4/94)
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْخِلَافَ مَعْنَوِيٌّ وَلَهُ أَصْلٌ وَفَرْعٌ أَمَّا أَصْلُهُ فَيَرْجِعُ إلَى تَفْسِيرِ الْعِلَّةِ فَعَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ إنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ فَحُكْمُ الْأَصْلِ ثَابِتٌ بها وَكَذَا على قَوْلِ الْغَزَالِيِّ إنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ بِجَعْلِ اللَّهِ وَأَمَّا من يُفَسِّرُهَا بِالْبَاعِثِ فَمَعْنَى أَنَّهُ شُرِعَ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ التي اقْتَضَتْ مَشْرُوعِيَّتَهُ وَبَعَثَتْ عليه فَفِي الْقَاصِرَةِ فَائِدَةُ مَعْرِفَةِ الْبَاعِثِ وَأَمَّا من يُفَسِّرُهَا بِالْمُعَرِّفِ فَلَا رَيْبَ أنها تُعَرِّفُ حُكْمَ الْأَصْلِ بِمُجَرَّدِهَا وقد تَجْتَمِعُ هِيَ وَالنَّصُّ فَلَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ مُعَرِّفَيْنِ عِنْدَ من يَجْعَلُهُمَا في حَالَةِ الِاجْتِمَاعِ مُعَرِّفَيْنِ وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ ثَابِتٌ بِالْعِلَّةِ وَأَنَّ نِسْبَةَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إلَى الْعِلَّةِ سَوَاءٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَأَمَّا فَرْعُهُ فَالْخِلَافُ في جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْقَاصِرَةِ فَمَنْ جَوَّزَ التَّعْلِيلَ بها قال الْحُكْمُ ثَابِتٌ في الْمَحَلِّ بِالْعِلَّةِ ولم يَكُنْ لها فَائِدَةٌ وَلِهَذَا في التَّعْدِيَةِ لو لم يُقَدِّرْ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ لم يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الْمُقَايَسَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ حِينَئِذٍ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَذَكَرَ الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ من فَوَائِدِ الْخِلَافِ تَحْرِيمَ قَلِيلِ النَّبِيذِ وَكَثِيرِهِ كَالْخَمْرِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ لَا يَحْرُمُ إلَّا الْقَدْرُ الْمُسْكِرُ بِخِلَافِ الْخَمْرِ فإن حُرْمَةَ الْخَمْرِ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ وهو عَامٌّ يَشْمَلُ قَلِيلَهُ بِعِلَّةِ الْإِسْكَارِ وَحُرْمَةِ النَّبِيذِ وَالْفَرْعُ ثَابِتٌ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ وَهِيَ الْإِسْكَارُ فَلَا بُدَّ من وُجُودِهَا فَلَا يَحْرُمُ منه قَدْرٌ لَا يُسْكِرُ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ هذا الْخِلَافُ في النَّصِّ ذِي الْعِلَّةِ أَمَّا التَّعَبُّدِيُّ فَلَا مَدْخَلَ له في الْقِيَاسِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ هُنَاكَ ثَابِتٌ بِالْعِلَّةِ وَظَنَّ الْهِنْدِيُّ أَنَّ كَلَامَ أَصْحَابِنَا على إطْلَاقِهِ فَرَدَّدَ الْقَوْلَ عليهم وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثَّانِي صَوَابُ الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ ثَابِتٌ عِنْدَ الْعِلَّةِ لَا بها وَكَأَنَّ الشَّارِعَ قال مَهْمَا وُجِدَ الْوَصْفُ فَاعْلَمُوا أَنَّ الْحُكْمَ الْفُلَانِيَّ حَاصِلٌ في ذلك التَّمْثِيلِ وقد قال ابن الْحَاجِبِ في مَسْأَلَةِ الْعِلَّةِ الْمُرَكَّبَةِ التَّحْقِيقُ أَنَّ مَعْنَى الْعِلَّةِ ما قَضَى الشَّارِعُ بِالْحُكْمِ عِنْدَ الْحِكْمَةِ لَا أنها صِفَةٌ زَائِدَةٌ الثَّالِثُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَنْحَلُّ إشْكَالٌ أَوْرَدَهُ نُفَاةُ الْقِيَاسِ وهو كَيْفَ ثَبَتَ حُكْمُ الْفَرْعِ بِغَيْرِ ثُبُوتِهِ في الْأَصْلِ وَذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَحُكْمَ الْفَرْعِ ثَابِتٌ بِالْإِلْحَاقِ كَتَحْرِيمِ النَّبِيذِ فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ وَالطَّرِيقُ مُخْتَلِفٌ فَكَيْفَ يَصِحُّ هذا وَجَوَابُهُ أَنَّ من قال إنَّ الْحُكْمَ في مَحَلِّ النَّصِّ بِالْعِلَّةِ لم يَرِدْ عليه هذا السُّؤَالُ لِأَنَّهُ إنَّمَا ثَبَتَ الْحُكْمُ في الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ وهو مَعْنَى الْإِسْكَارِ في الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ وَمَنْ أَثْبَتَ في الْأَصْلِ بِالنَّصِّ قال الْمَقْصُودُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لَا تَعْيِينُ طَرِيقِهِ بِكَوْنِهِ نَصًّا أو قِيَاسًا أو نَصًّا في الْأَصْلِ قِيَاسًا في الْفَرْعِ لِأَنَّ الطَّرِيقَ وَسِيلَةٌ وَالْحُكْمَ مَقْصِدٌ
____________________
(4/95)
وَمَعَ حُصُولِ الْمَقْصِدِ لو قُدِّرَ عَدَمُ الْوَسَائِلِ لم يَضُرَّ فَضْلًا عن اخْتِلَافِهَا وَهَذَا كَمَنْ قَصَدَ مَكَّةَ أو غَيْرَهَا من الْبِلَادِ لَا حَرَجَ عليه من أَيِّ جِهَةٍ دَخَلَهَا
____________________
(4/96)
الرُّكْنُ الثَّالِثُ الْفَرْعُ وهو الذي يُرَادُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فيه فَقِيلَ هو مَحَلُّ الْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فيه وهو قِيَاسُ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ في الْأَصْلِ وَقِيلَ هو نَفْسُ الْحُكْمِ الذي في الْمَحَلِّ وهو قِيَاسُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ ثَمَّ وَقِيَاسُ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ النَّصُّ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ هُنَا هو الْعِلَّةُ لَكِنْ لم يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ لِأَنَّهَا أَصْلٌ في الْفَرْعِ وَفَرْعٌ في الْأَصْلِ فلم يُمْكِنْ جَعْلُهَا فَرْعًا في الْفَرْعِ وقال الْأَصْفَهَانِيُّ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ عِنْدَهُمْ ثُبُوتَ الْحُكْمِ في مَحَلِّ النَّصِّ أو عِلَّتِهِ أو الْحُكْمَ في مَحَلِّ الْخِلَافِ وقال السُّهَيْلِيُّ في أَدَبِ الْجَدَلِ الْفَرْعُ ما اخْتَلَفَ الْخَصْمَانِ فيه وَقِيلَ ما قَصَدَ الْقَائِسُ إثْبَاتَ الْحُكْمِ فيه وَقِيلَ ما نُصِبَتْ الدَّلَالَةُ فيه وَلَهُ شُرُوطٌ أَحَدُهَا وُجُودُ الْعِلَّةِ الْمَوْجُودَةِ أَيْ قِيَامُهَا بِهِ وَإِنْ كانت عَدَمِيَّةً وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَطْعُ بِوُجُودِهَا فيه خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ بَلْ يَكْفِي الظَّنُّ وَسَيَأْتِي في بَابِ الْعِلَّةِ الثَّانِي أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الْمَوْجُودَةُ فيه مِثْلَ عِلَّةِ الْأَصْلِ بِلَا تَفَاوُتٍ أَعْنِي بِالنِّسْبَةِ إلَى النُّقْصَانِ أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا يُشْتَرَطُ انْتِفَاؤُهَا إذْ قد يَكُونُ الْحُكْمُ في الْفَرْعِ أَوْلَى كَقِيَاسِ الضَّرْبِ على التَّأْفِيفِ وقد يَكُونُ مُسَاوِيًا كَقِيَاسِ الْأَمَةِ على الْعَبْدِ في السِّرَايَةِ فَإِنْ كان وُجُودُهَا في الْفَرْعِ مَقْطُوعًا بِهِ صَحَّ الْإِلْحَاقُ قَطْعًا وَإِنْ كان مَظْنُونًا كَقِيَاسِ الْأَدْوَنِ كَالتُّفَّاحِ على الْبُرِّ بِجَامِعِ الطَّعْمِ فَاخْتَلَفُوا فيه على قَوْلَيْنِ وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْقَطْعُ بِهِ بَلْ يَكْفِي في وُجُودِ الْعِلَّةِ في الْفَرْعِ الظَّنُّ لِأَنَّا إذَا ظَنَنَّا وُجُودَهَا في الْفَرْعِ ظَنَنَّا الْحُكْمَ وَالْعَمَلُ بِالظَّنِّ وَاجِبٌ الثَّالِثُ أَنْ يُسَاوِيَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأَصْلِ فِيمَا يُقْصَدُ من عَيْنٍ أو جِنْسٍ لِيَتَأَدَّى بِهِ مِثْلُ ما يَتَأَدَّى بِالْحُكْمِ في الْأَصْلِ فَإِنْ كان حُكْمُ الْفَرْعِ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ فَسَدَ الْقِيَاسُ الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عن مُعَارِضٍ رَاجِحٍ يَقْتَضِي نَقِيضَ ما اقْتَضَتْهُ عِلَّةُ الْقِيَاسِ هذا إنْ جَوَّزْنَا تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ فَإِنْ لم نُجَوِّزْهُ لم يَكُنْ هذا شَرْطًا في الْفَرْعِ الذي يُقَاسَ بَلْ الْفَرْعُ الذي يَثْبُتُ فيه الْحُكْمُ يَقْتَضِي الْقِيَاسَ الْخَامِسُ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ دَلِيلَ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ يَكُونُ ثَابِتًا بِهِ وَمِنْهُمْ من قال
____________________
(4/97)
أَنْ لَا يَكُونَ الْفَرْعُ مَنْصُوصًا أو مُجْمَعًا عليه وَهَذَا ظَاهِرٌ إذَا كان الْحُكْمُ الْمَنْصُوصُ عليه على خِلَافِ الْقِيَاسِ وَإِلَّا لَزِمَ تَقْدِيمُ الْقِيَاسِ على النَّصِّ وهو مُمْتَنِعٌ نعم يَجُوزُ لِتَجْرِبَةِ النَّظَرِ فَأَمَّا إذَا كان على مُوَافَقَتِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّصُّ الدَّالُّ على ثُبُوتِ حُكْمِ الْفَرْعِ هو بِعَيْنِهِ الذي دَلَّ على حُكْمِ الْأَصْلِ أو غَيْرُهُ فَإِنْ كان الْأَوَّلَ فَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ ليس جَعَلَ تِلْكَ الصُّورَةَ أَصْلًا وَالْأُخْرَى فَرْعًا أَوْلَى من الْعَكْسِ وَإِنْ كان غَيْرَهُ فَالْقِيَاسُ فيه جَائِزٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ كما نَقَلَهُ في الْمَحْصُولِ لِأَنَّهُ ليس الْمَقْصُودُ إثْبَاتَ الْحُكْمِ بَلْ الِاسْتِظْهَارَ بِتَكْثِيرِ الْحُجَجِ وَتَرَادُفُ الْأَدِلَّةِ على الْمَدْلُولِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ لِإِفَادَةِ زِيَادَةِ الظَّنِّ وَمَنَعَ بَعْضُهُمْ من قِيَاسِ الْمَنْصُوصِ عليه مُطْلَقًا وَأَطْلَقَ الْآمِدِيُّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ على اشْتِرَاطِهِ وَنَقَلَ الدَّبُوسِيُّ في التَّقْوِيمِ الْجَوَازَ مُطْلَقًا عن الشَّافِعِيِّ فقال جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ كَوْنَ الْفَرْعِ فيه نَصٌّ وَيَزْدَادُ بِالْقِيَاسِ بَيَانُ ما كان النَّصُّ سَاكِتًا عنه وَلَا يَجُوزُ إذَا كان مُخَالِفًا لِلنَّصِّ السَّادِسُ شَرَطَ الْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيَّ انْتِفَاءَ نَصٍّ أو إجْمَاعٍ يُوَافِقُهُ أَيْ لَا يَكُونُ مَنْصُوصًا على شَبَهِهِ بِخِلَافِ الشَّرْطِ قَبْلَهُ فإنه شَرْطٌ في نَصِّهِ هو وَالْحَقُّ أَنَّ هذا غَيْرُ شَرْطٍ وَفَائِدَةُ الْقِيَاسِ مَعْرِفَةُ الْعِلَّةِ أو الْحُكْمِ وَفَائِدَةُ النَّصِّ ثُبُوتُ الْحُكْمِ السَّابِعُ أَنْ لَا يَكُونَ الْحُكْمُ في الْفَرْعِ ثَابِتًا قبل الْأَصْلِ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُسْتَفَادَ مُتَأَخِّرٌ عن الْمُسْتَفَادِ منه بِالضَّرُورَةِ فَلَوْ تَقَدَّمَ مع ما ذَكَرْته من وُجُوبِ تَأَخُّرِهِ لَزِمَ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ أو الضِّدَّيْنِ وهو مُحَالٌ وَهَذَا كَقِيَاسِ الْوُضُوءِ على التَّيَمُّمِ في اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لِأَنَّ التَّعَبُّدَ بِالتَّيَمُّمِ إنَّمَا وَرَدَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَالتَّعَبُّدَ بِالْوُضُوءِ كان قَبْلَهُ وَنَازَعَ الْعَبْدَرِيُّ في الْمِثَالِ بِأَنَّهُ من قِيَاسِ الشَّبَهِ لَا من قِيَاسِ الْعِلَّةِ وَمَعْنَاهُ طَهَارَتَانِ فَكَيْفَ تَفْتَرِقَانِ وَمَنَعَ ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ هذا الشَّرْطَ وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ عليه أَمَارَاتٍ مُتَقَدِّمَةً وَمُتَأَخِّرَةً فَلِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْمُتَقَدِّمِ منها وَالْمُتَأَخِّرِ فإن الدَّلِيلَ يَجُوزُ تَأَخُّرُهُ عن ثُبُوتِهِ وَلِهَذَا مُعْجِزَاتُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم منها ما قَارَنَ نُبُوَّتَهُ وَمِنْهَا ما تَأَخَّرَ عنه وَيَجُوزُ الِاسْتِدْلَال على نُبُوَّتِهِ بِمَا نَزَلَ من الْقُرْآنِ بِالْمَدِينَةِ وَكَذَا في الْأَحْكَامِ الْمَظْنُونَةِ وَكَذَا نَقَلَ إلْكِيَا في تَعْلِيقِهِ عن الْأَصْحَابِ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا ذلك فإن الْعَالَمَ مُتَرَاخٍ عن الْقَدِيمِ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ على إثْبَاتِ الْقَدِيمِ ثُمَّ قال وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّا لَا نَسْتَدِلُّ بِوُجُودِ الْعَالِمِ على إثْبَاتِ الصَّانِعِ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ قَطْعًا وَإِنَّمَا اسْتَدْلَلْنَا بِالْعَالِمِ على الْعِلْمِ
____________________
(4/98)
بِالصَّانِعِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ هُنَا النِّيَّةُ في الْوُضُوءِ كانت ثَابِتَةً بِدَلِيلِهَا وهو إخَالَةٌ وَمُنَاسَبَةٌ وقال الْقُرْطُبِيُّ هذا إنَّمَا نَشَأَ من حَيْثُ إنَّ الْوُضُوءَ كان مَعْمُولًا بِهِ قبل مَشْرُوعِيَّةِ التَّيَمُّمِ فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ لم يُعْمَلْ بِهِ إلَى أَنْ شُرِعَ التَّيَمُّمُ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَاسَ عليه وَيَكُونَ فَرْعًا له وَإِنْ كان مُتَقَدِّمًا لِأَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَاتٌ على الْأَحْكَامِ وَمُعَرِّفَاتٌ لها وَتَقْدِيمُهَا كَالدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ وقال ابن بَرْهَانٍ قَوْلُهُمْ لَا يُسْتَفَادُ حُكْمُ الْمُتَقَدِّمِ من الْمُتَأَخِّرِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ وَإِنْ كان مُتَأَخِّرًا إلَّا أَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ إذَا ثَبَتَ ثَبَتَ على الْإِطْلَاقِ قال قالوا هذا إذَنْ يَكُونُ نَسْخًا وَإِنَّمَا هو ضَمُّ حُكْمٍ إلَى حُكْمٍ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ رَحِمَهُ اللَّهُ هذا الشَّرْطُ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ إذَا تَوَقَّفَ اسْتِنَادُ الْحُكْمِ في الْفَرْعِ إلَى الْأَصْلِ على وَجْهٍ يَتَعَيَّنُ طَرِيقًا لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْمُحَالَ إنَّمَا يَلْزَمُ على هذا الْوَجْهِ فإنه مَنْشَأُ الِاسْتِحَالَةِ فإذا انْتَفَى ذلك لِعَدَمِ النَّصِّ انْتَفَى وَجْهُ الِاسْتِحَالَةِ وقال ابن الْحَاجِبِ نعم لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ إلْزَامًا لِلْخَصْمِ لِتَسَاوِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ في الْمَعْنَى وقال الرَّازِيَّ وَالْهِنْدِيُّ هذا إذَا لم يَكُنْ لِحُكْمِ الْفَرْعِ دَلِيلٌ سِوَى ذلك الْأَصْلِ الْمُتَأَخِّرِ فإنه كان عليه دَلِيلٌ آخَرُ وَذِكْرُ ذلك على سَبِيلِ الْإِلْزَامِ لِلْخَصْمِ لَا بِطَرِيقِ تَقْوِيَةِ الْمَأْخَذِ أو بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ لَا بِطَرِيقِ التَّعْلِيلِ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ الدَّلِيلُ عن الْمَدْلُولِ كَالْعَالِمِ على الصَّانِعِ جَازَ تَأَخُّرُهُ لِزَوَالِ الْمَحْذُورِ وَتَوَارُدُ الْأَدِلَّةِ على مَدْلُولٍ وَاحِدٍ جَائِزٌ وَهَذَا فيه نَظَرٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ في تَفَرُّعِهِ عن الْأَصْلِ الْمُتَأَخِّرِ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ سَوَاءٌ كان عليه دَلِيلٌ غَيْرُهُ أَمْ لَا الثَّامِنُ شَرَطَ أبو هَاشِمٍ دَلَالَةَ دَلِيلٍ غَيْرِ الْقِيَاسِ على ثُبُوتِ الْحُكْمِ في الْفَرْعِ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ وَيَكُونُ حَظُّ الْقِيَاسِ إبَانَةَ فَيْصَلِهِ وَالْكَشْفَ عن مَوْضُوعِهِ وَحَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عن أبي زَيْدٍ أَيْضًا وَرَدَّدَهُ بِأَنَّ الْأَوَّلِينَ تَشَوَّفُوا إلَى إجْرَاءِ الْقِيَاسِ اتِّبَاعًا لِلْأَوْصَافِ الْمُخَيَّلَةِ الْمُؤَثِّرَةِ من غَيْرِ تَقْيِيدٍ وقد أَثْبَتُوا قَوْلَهُ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ بِالْقِيَاسِ وَإِنْ لم يَكُنْ عليه نَصٌّ على جِهَةِ الْجُمْلَةِ على وَجْهٍ ما لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ إنَّمَا يُمْكِنُ عن الْمَنْعِ من تَحْرِيمِهِ وَلَا يُفِيدُ حُكْمُهُ إذَا وَقَعَ التَّحْرِيمُ قال وَيُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ لَعَلَّهُمْ عَلِمُوا له أَصْلًا غَابَ عَنَّا
____________________
(4/99)
تَنْبِيهٌ جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنَّ الْفَرْعَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُخْتَلَفًا فيه فقال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُجْمَعًا عليه وَالْحَقُّ جَوَازُهُ لِأَنَّ الْقِيَاسَ تَعَدَّى الْحُكْمَ من الْمَنْصُوصِ إلَى غَيْرِ الْمَنْصُوصِ وَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ كَثِيرٌ من مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ بِذَلِكَ كما بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ خَمْرًا وَأَكَلَ ثَمَنَهُ فقال قَاتَلَهُ اللَّهُ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عليهم الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا فَهَذَا الْحُكْمُ مُجْمَعٌ عليه وَاسْتُعْمِلَ فيه الْقِيَاسُ
____________________
(4/100)
الرُّكْنُ الرَّابِعُ الْعِلَّةُ وَهِيَ شَرْطٌ في صِحَّةِ الْقِيَاسِ لِيَجْمَعَ بها بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ قال ابن فُورَكٍ من الناس من اقْتَصَرَ على الشَّبَهِ وَمَنَعَ الْقَوْلَ بِالْعِلَّةِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ ذَهَبَ بَعْضُ الْقَيَّاسِينَ من الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ من غَيْرِ عِلَّةٍ إذَا لَاحَ بَعْضُ الشَّبَهِ وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْقَيَّاسِينَ من الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَا بُدَّ منها في الْقِيَاسِ وَهِيَ رُكْنُ الْقِيَاسِ لَا يَقُومُ الْقِيَاسُ إلَّا بها وَالْعِلَّةُ في اللُّغَةِ قِيلَ هِيَ اسْمٌ لِمَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ الشَّيْءِ بِحُصُولِهِ مَأْخُوذٌ من الْعِلَّةِ التي هِيَ الْمَرَضُ لِأَنَّ تَأْثِيرَهَا في الْحُكْمِ كَأَثَرِ الْعِلَّةِ في ذَاتِ الْمَرِيضِ وَيُقَالُ اعْتَلَّ فُلَانٌ إذَا حَالَ عن الصِّحَّةِ إلَى السَّقَمِ وَهَذَا الْمَعْنَى اعْتَمَدَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في كِتَابِ الْإِخْبَارِ عن أَحْكَامِ الْعِلَلِ وهو مُجَلَّدٌ لَطِيفٌ وَجَرَى عليه إلْكِيَا وابن السَّمْعَانِيِّ وَقِيلَ لِأَنَّهَا نَاقِلَةٌ بِحُكْمِ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ كَالِانْتِقَالِ بِالْعِلَّةِ من الصِّحَّةِ إلَى الْمَرَضِ حَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ وقال الْأَوَّلُ أَحْسَنُ لِأَنَّا قَبِلْنَا صِحَّةَ التَّعْلِيلِ بِالْقَاصِرَةِ وَقِيلَ إنَّهَا مَأْخُوذَةٌ من الْعَلَلِ بَعْدَ النَّهَلِ وهو مُعَاوَدَةُ الْمَاءِ لِلشُّرْبِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ في اسْتِخْرَاجِهَا يُعَاوِدُ النَّظَرَ بَعْدَ النَّظَرِ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِ وُجُودِهَا وَلِأَنَّ الْحَادِثَةَ مُسْتَمِرَّةٌ بَاقِيَةٌ غَيْرُ مُتَكَرِّرَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْقَدَرِيَّةِ قال إلْكِيَا وقد يُعَبَّرُ بها عَمَّا لِأَجْلِ ذلك يُقْدِمُ على الْفِعْلِ أو يُمْنَعُ منه يُقَالُ فَعَلَ الْفِعْلَ لِعِلَّةِ كَيْتَ أو لم يَفْعَلْ لِعِلَّةِ كَيْتَ وقد اُسْتُعْمِلَتْ في الْمَعْلُولَاتِ في الْمَعْنَى الذي يُوجِبُ لِغَيْرِهِ حَالًا كَالْعِلْمِ يُوجِبُ الْعَالَمِيَّةَ وَالْوَصْفِ من غَيْرِ حَالِ السَّوَادِ فقال إنَّهُ عِلَّةٌ في وَصْفِ الْمَحَلِّ بِأَنَّهُ أَسْوَدُ وَأَمَّا في الِاصْطِلَاحِ فَاخْتَلَفُوا فيها على خَمْسَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا أنها الْمُعَرِّفُ لِلْحُكْمِ أَيْ جُعِلَتْ عَلَمًا على الْحُكْمِ إنْ وُجِدَ الْمَعْنَى وُجِدَ الْحُكْمُ قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِ الْإِعْلَامِ وابن عَبْدَانَ في شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ وأبو زَيْدٍ من الْحَنَفِيَّةِ وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ عن بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ
____________________
(4/101)
وَالْمِنْهَاجِ أَيْ ما يَكُونُ دَالًّا على وُجُودِ الْحُكْمِ وَلَيْسَتْ مُؤَثِّرَةً لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ هو اللَّهُ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ قَدِيمٌ فَلَا يُؤَثِّرُ فيه الْحَادِثُ وَنُقِضَ بِ الْعَلَامَةِ فإن الْحَدَّ صَادِقٌ عليها وَلَيْسَتْ الْأَحْكَامُ مُضَافَةً إلَيْهَا وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ كما قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ أَمَّا الْعَقْلِيَّةُ فَمُوجِبَةٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الشَّرْعَ دَخَلَهُ التَّعَبُّدُ الذي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ بِخِلَافِ الْعَقْلِ فإن أَحْكَامَهُ مَعْقُولَةُ الْمَعَانِي فَمِنْ ثَمَّ كانت عِلَلُهُ مُؤَثِّرَةً وَعِلَلُ الشَّرْعِ مُعَرِّفَاتٍ وَالْمُؤَثِّرُ إنَّمَا هو خِطَابُ الشَّرْعِ وَعِبَارَةُ ابْنِ عَبْدَانَ في الْفَرْقِ أَنَّ الْعَقْلِيَّةَ من مُوجِبَاتِ الْعُقُولِ وَالشَّرْعِيَّةَ لَيْسَتْ من مُوجِبَاتِهِ بَلْ هِيَ أَمَارَاتٌ وَدَلَالَاتٌ في الظَّاهِرِ وقال في التَّقْوِيمِ عِلَلُ الشَّرْعِ أَعْلَامٌ في الْحَقِيقَةِ على الْأَحْكَامِ وَالْمُوجِبُ هو اللَّهُ تَعَالَى بِدَلِيلِ أنها كانت مَوْجُودَةً قبل الشَّرْعِ وَلَوْ كانت مُوجَبَةً لم تَنْفَكَّ عن مَعْلُولَاتِهَا قال وَيَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى أَدِلَّةً لِأَنَّهَا دَلَّتْ على حُكْمِ اللَّهِ في الْفُرُوعِ قال وَبَعْضُهَا أَظْهَرُ من بَعْضٍ حتى قال عُلَمَاؤُنَا الظَّاهِرُ منها قِيَاسٌ وَالْبَاطِنُ اسْتِحْسَانٌ تَنْبِيهٌ قال الْهِنْدِيُّ ليس الْمُرَادُ بِكَوْنِهَا مُعَرِّفَةً أنها تُعَرِّفُ حُكْمَ الْأَصْلِ فإن ذلك لَا يُعْرَفُ بِالنَّصِّ بَلْ حُكْمِ الْفَرْعِ لَكِنْ يَخْدِشُهُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا إنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ مُعَلَّلٌ بِالْعِلَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّرْعِ مع أَنَّهُ غَيْرُ مُعَرِّفٍ بها الثَّانِي أنها الْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ على مَعْنَى أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَهَا مُوجِبَةً لِذَاتِهَا وهو قَوْلُ الْغَزَالِيِّ وَسُلَيْمٍ قال الْهِنْدِيُّ وهو قَرِيبٌ لَا بَأْسَ بِهِ فَالْعِلَّةُ في تَحْرِيمِ النَّبِيذِ هِيَ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ كانت مَوْجُودَةً قبل تَعَلُّقِ التَّحْرِيمِ بها وَلَكِنَّهَا عِلَّةٌ بِجَعْلِ الشَّارِعِ الثَّالِثُ أنها الْمُوجِبَةُ لِلْحُكْمِ بِذَاتِهَا لَا بِجَعْلِ اللَّهِ وهو قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بِنَاءً على قَاعِدَتِهِمْ في التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ وَالْعِلَّةُ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَا يُوقَفُ على جَعْلِ جَاعِلٍ وَيُعَبِّرُونَ عنه تَارَةً بِالْمُؤَثِّرِ الرَّابِعُ أنها الْمُوجِبَةُ بِالْعَادَةِ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ في الرِّسَالَةِ الْبَهَائِيَّةِ في الْقِيَاسِ وهو غَيْرُ الثَّانِي الْخَامِسُ الْبَاعِثُ على التَّشْرِيعِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُشْتَمِلًا على مَصْلَحَةٍ صَالِحَةٍ أَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ من شَرْعِ الْحُكْمِ وَمِنْهُمْ من عَبَّرَ عنها بِاَلَّتِي يَعْلَمُ اللَّهُ صَلَاحَ الْمُتَعَبِّدِينَ في التَّعَبُّدِ بِالْحُكْمِ لِأَجْلِهَا وهو اخْتِيَارُ الْآمِدِيَّ وَابْنِ الْحَاجِبِ وهو نَزْعَةُ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى يُعَلِّلُ أَفْعَالَهُ بِالْأَغْرَاضِ
____________________
(4/102)
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ خِلَافُهُ وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الْقَطَّانِ الْعِلَّةُ عِنْدَنَا هِيَ الْمَعْنَى الذي كان الْحُكْمُ على ما كان عليه لِأَجْلِهَا وهو الْغَرَضُ وَالْمَعْنَى الْجَالِبُ لِلْحُكْمِ ثُمَّ قال وَالْعِلَّةُ ما جَلَبَ الْحُكْمُ قال وَإِلَى هذا كان يَذْهَبُ أبو عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ انْتَهَى وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ في بَابِ الرِّبَا الْقَوْلَيْنِ فقال الْعِلَّةُ هِيَ التي لِأَجْلِهَا ثَبَتَ الْحُكْمُ وَقِيلَ الصِّفَةُ الْجَالِبَةُ لِلْحُكْمِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ اُخْتُلِفَ في الْعِلَّةِ فَقِيلَ إنَّهَا صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْمَعْلُولِ كَالشِّدَّةِ في الْخَمْرِ وهو خَطَأٌ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَغْرَاضِ قد يَكُونُ عِلَّةً لِغَرَضٍ آخَرَ وَلَا يَقُومُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وقال وَإِنَّمَا مَعْنَى الْعِلَّةِ السَّبَبُ الذي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ اجْتِهَادًا فإن النَّصَّ الْجَالِبَ لِلْحُكْمِ لَا يَكُونُ عِلَّةً له لِأَنَّهُ ليس من طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالِاعْتِلَالُ اسْتِدْلَالُ الْمُعَلِّلِ بِالْعِلَّةِ وَإِظْهَارُهُ لها وَالْمُعْتَلُّ هو الْمُعَلِّلُ وَالْمُعْتَلُّ بِهِ نَفْسُ الْعِلَّةِ وقال إلْكِيَا الْعِلَّةُ في عُرْفِ الْفُقَهَاءِ الصِّفَةُ التي يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ بها وَالْعَقْلِيَّةُ مُوجِبَةٌ على رَأْيِ الْقَائِلِينَ بها وَالشَّرْعِيَّةُ مَوْضُوعَةٌ وَلَكِنَّهَا مُشَبَّهَةٌ بها في الشَّرْعِ أُثْبِتَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهَا في طَرِيقِ الْفُقَهَاءِ فَكَانَ أَقْرَبُ عِبَارَةٍ على هذا التَّقْدِيرِ عِبَارَةَ الْعِلَّةِ لِيَكُونَ الْحُكْمُ تَبَعَ الْحَقِيقَةِ على مِثَالِهَا وقال ابن السَّمْعَانِيِّ قالوا إنَّهَا الصِّفَةُ الْجَالِبَةُ لِلْحُكْمِ وَقِيلَ إنَّهَا الْمَعْنَى الْمُنْشِئُ مَسْأَلَةٌ وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلَى عَقْلِيَّةٍ وَهِيَ لَا تَصِيرُ عِلَّةً بِجَعْلِ جَاعِلٍ بَلْ بِنَفْسِهَا وَهِيَ مُوجِبَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ بِالْأَزْمَانِ كَحَرَكَةِ الْمُتَحَرِّكِ وَشَرْعِيَّةٍ وَهِيَ التي صَارَتْ عِلَّةً بِجَعْلِ جَاعِلٍ كَالْإِسْكَارِ في الْخَمْرِ وَكَانَتْ قبل مَجِيءِ الشَّرْعِ وَتَتَخَصَّصُ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ وَلَا تَتَخَصَّصُ بِعَيْنٍ دُونَ عَيْنٍ مَسْأَلَةٌ الْعِلَّةُ حَقِيقَةٌ في الْعَقْلِيَّةِ كَالْحَرَكَةِ عِلَّةٌ في كَوْنِ الْمُتَحَرِّكِ مُتَحَرِّكًا كما قَالَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَإِنَّمَا تُسَمَّى الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ عِلَّةً مَجَازًا أو اتِّسَاعًا وَإِلَّا فَفِي الْحَقِيقَةِ الْعِلَّةُ ما أَوْجَبَ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ وَهِيَ الْعِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ وَأَمَّا التي تُوجِبُهُ بِغَيْرِهَا فَلَيْسَتْ بِعِلَّةٍ في وَضْعِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَإِنَّمَا هِيَ أَمَارَةٌ على الْحُكْمِ
____________________
(4/103)
مَسْأَلَةٌ وَتَنْقَسِمُ إلَى مُسْتَنْبَطَةٍ وَمَنْصُوصَةٍ وقال بَعْضُ أَهْلِ خُرَاسَانَ مَسْطُورَةٍ وَمَنْشُورَةٍ وقال في اللُّمَعِ وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ جَعْلَ الْمَنْصُوصَةِ عِلَّةً وهو قِيَاسُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ وَقِيلَ هِيَ عِلَّةٌ في الْمَعْنَى في الْمَنْصُوصِ عليه وَلَا يَكُونُ عِلَّةً في غَيْرِهِ إلَّا بِأَمْرٍ ثَانٍ وَالصَّحِيحُ أنها عِلَّةٌ مُطْلَقًا قال وَأَمَّا الْمُسْتَنْبَطَةُ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً وَقِيلَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً إلَّا ما ثَبَتَ بِنَصٍّ أو إجْمَاعٍ مَسْأَلَةٌ قال ابن فُورَكٍ طَرِيقُ اعْتِبَارِ الْعِلَّةِ منهم من قال سَمْعِيٌّ وَمِنْهُمْ من قال عَقْلِيٌّ فَمَنْ قال سَمْعِيٌّ يُرَاعِي في كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً دَلَالَةً سَمْعِيَّةً وَمَنْ قال عَقْلِيٌّ قال طَرِيقَةُ اعْتِبَارِ عِلَلِ السَّمْعِ كَطَرِيقِ اعْتِبَارِ عِلَلِ الْعَقْلِ وَيَكُونُ ذلك بِالتَّقْسِيمِ بِأَنْ يُقَالَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حُرِّمَ لِكَذَا أو كَذَا كما يُقَالُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ تَحَرَّكَ لِكَذَا أو لِكَذَا فَيَقَعُ على الْمَعْنَى له تَحَرُّكٌ مَسْأَلَةٌ قال في الْمُقْتَرَحِ لِلْعِلَّةِ أَسْمَاءٌ في الِاصْطِلَاحِ وَهِيَ السَّبَبُ وَالْإِشَارَةُ وَالدَّاعِي وَالْمُسْتَدْعِي وَالْبَاعِثُ وَالْحَامِلُ وَالْمَنَاطُ وَالدَّلِيلُ وَالْمُقْتَضِي وَالْمُوجِبُ وَالْمُؤَثِّرُ انْتَهَى وزاد بَعْضُهُمْ الْمَعْنَى وَالْكُلُّ سَهْلٌ غَيْرُ السَّبَبِ وَالْمَعْنَى أَمَّا السَّبَبُ فَهُوَ مُتَمَيِّزٌ عن الْعِلَّةِ من جِهَةِ الِاصْطِلَاحِ الْكَلَامِيِّ وَالْأُصُولِيِّ وَالْفِقْهِيِّ وَاللُّغَوِيِّ أَمَّا اللُّغَوِيُّ فقال أَهْلُ اللُّغَةِ السَّبَبُ ما يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى غَيْرِهِ وَلَوْ بِوَسَائِطَ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَبْلُ سَبَبًا وَذَكَرُوا لِلْعِلَّةِ مَعَانِيَ يَدُورُ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ فيها على أنها تَكُونُ أَمْرًا مُسْتَمَدًّا من أَمْرٍ آخَرَ وَأَمْرًا مُؤَثِّرًا في آخَرَ وقال أَكْثَرُ النُّحَاةِ اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ ولم يَقُولُوا لِلسَّبَبِيَّةِ وَقَالُوا الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ ولم يَقُولُوا لِلتَّعْلِيلِ وَصَرَّحَ ابن مَالِكٍ بِأَنَّ الْبَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالتَّعْلِيلِ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُمَا غَيْرَانِ وَأَمَّا الْكَلَامِيُّ فَاعْلَمْ أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ في تَوَقُّفِ الْمُسَبَّبِ عَلَيْهِمَا وَيَفْتَرِقَانِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ السَّبَبَ ما يَحْصُلُ الشَّيْءُ عِنْدَهُ لَا بِهِ وَالْعِلَّةُ ما يَحْصُلُ بِهِ وَالثَّانِي أَنَّ الْمَعْلُولَ مُتَأَخِّرٌ عن الْعِلَّةِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَلَا شَرْطٍ يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ على وُجُودِهِ وَالسَّبَبُ إنَّمَا
____________________
(4/104)
يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِوَاسِطَةٍ أو بِوَسَائِطَ وَلِذَلِكَ يَتَرَاخَى الْحُكْمُ عنها حتى تُوجَدَ الشَّرَائِطُ وَتَنْتَفِي الْمَوَانِعُ وَأَمَّا الْعِلَّةُ فَلَا يَتَرَاخَى الْحُكْمُ عنها إذَا اُشْتُرِطَ لها بَلْ هِيَ أَوْجَبَتْ مَعْلُولًا بِالِاتِّفَاقِ حَكَى الِاتِّفَاقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرُهُمَا وَأَمَّا الْأُصُولِيُّ فقال الْآمِدِيُّ في جَدَلِهِ الْعِلَّةُ في لِسَانِ الْفُقَهَاءِ تُطْلَقُ على الْمَظِنَّةِ أَيْ الْوَصْفِ الْمُتَضَمِّنِ لِحِكْمَةِ الْحُكْمِ كما في الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فإنه يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ قَتْلٌ لِعِلَّةِ الْقَتْلِ وَتَارَةً يُطْلِقُونَهَا على حِكْمَةِ الْحُكْمِ كَالزَّجْرِ الذي هو حِكْمَةُ الْقِصَاصِ فإنه يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ الْعِلَّةُ الزَّجْرُ وَأَمَّا السَّبَبُ فَلَا يُطْلَقُ إلَّا على مَظِنَّةِ الْمَشَقَّةِ دُونَ الْحِكْمَةِ إذْ بِالْمَظِنَّةِ يُتَوَصَّلُ إلَى الْحُكْمِ لِأَجْلِ الْحِكْمَةِ انْتَهَى وَأَمَّا الْفِقْهِيُّ فقال إلْكِيَا يُطْلَقُ السَّبَبُ في اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ على أَرْبَعَةِ أُمُورٍ أَحَدُهَا السَّبَبُ الذي يُقَالُ إنَّهُ مِثْلُ الْعِلَّةِ كَالرَّمْيِ فإنه سَبَبٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ في حُكْمِ الْعِلَّةِ لِأَنَّ عَيْنَ الرَّمْيِ لَا أَثَرَ له في الْحُكْمِ حَيْثُ لَا فِعْلَ منه وَمِنْهُ الزِّنَى الثَّانِي ما يَكُونُ الطَّارِئُ مُؤَثِّرًا وَلَكِنَّ تَأْثِيرَهُ مُسْتَنِدٌ إلَى ما قَبْلَهُ فَهُوَ سَبَبٌ من حَيْثُ اسْتِنَادُ الْحُكْمِ إلَى الْأَوَّلِ لَا اسْتِنَادُ الْوَصْفِ الْآخَرِ إلَى الْأَصْلِ الثَّالِثُ ما ليس سَبَبًا بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ يَصِيرُ سَبَبًا بِغَيْرِهِ كَقَوْلِهِمْ الْقِصَاصُ وَجَبَ رَدْعًا وَزَجْرًا ثُمَّ قالوا وَجَبَ لِسَبَبِ الْقَتْلِ إذْ الْقَتْلُ عِلَّةُ الْقِصَاصِ فَقَطَعُوا الْحُكْمَ عن الْعِلَّةِ وَجَعَلُوهُ مُتَعَلِّقًا بِالْعِلَّةِ وَالْعِلَّةُ غَيْرُ الْحُكْمِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوْلَا الْحِكْمَةُ لَكَانَ الْحُكْمُ صُورَةً غير صَالِحَةٍ لِلْحُكْمِ فَبِالْحِكْمَةِ خَرَجَ عن كَوْنِهِ صُورَةً وَالْعِلَّةُ صَارَتْ جَالِبَةً لِلْحُكْمِ بِمَعْنَاهَا لَا بِصُورَتِهَا وَدُونَ الْحِكْمَةِ لَا شَيْءَ إلَّا صُورَةُ الْفِعْلِ وَالصُّورَةُ لَا تَكُونُ عِلَّةً قَطُّ فَعَلَى هذا الْحِكْمَةُ رَاجِعَةٌ إلَى الْعِلَّةِ فَلَا عِلَّةَ بِدُونِهَا وَالْخِلَافُ يَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ الرَّابِعُ ما يُسَمَّى سَبَبًا مَجَازًا من حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ لِمَا يَجِبُ كَقَوْلِهِمْ الْإِمْسَاكُ سَبَبُ الْقَتْلِ وَلَيْسَ سَبَبَ الْقَتْلِ حَقِيقَةً فإنه ليس يُفْضِي إلَى الْقَتْلِ بَلْ الْقَتْلُ بِاخْتِيَارِ الْقَاتِلِ وَلَكِنَّهُ سَبَبٌ لِلتَّمَكُّنِ من الْقَتْلِ بِإِلْحَاقٍ وَقِيلَ سَبَبُ الْقَتْلِ فَالْأَسْبَابُ لَا تَعْدُو هذه الْوُجُوهَ انْتَهَى وقال في تَعْلِيقِهِ الْمُتَكَلِّمُونَ لَا يُفَرِّقُونَ بين الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ وَالْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ الْعِلَّةُ هِيَ التي يَعْقُبُهَا الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ ما تَرَاخَى عنه الْحُكْمُ وَوَقَفَ على شَرْطٍ أو شَيْءٍ بَعْدَهُ وَفَرَّقَ غَيْرُهُ بين السَّبَبِ وَالْحِكْمَةِ بِأَنَّ السَّبَبَ يَتَقَدَّمُ على الْحُكْمِ وَالْحِكْمَةُ مُتَأَخِّرَةٌ عن الْحُكْمِ وَالْحُكْمُ مُفِيدٌ لها كَالْجُوعِ سَبَبُ الْأَكْلِ وَمَصْلَحَةُ رَفْعِ الْجُوعِ وَتَحْصِيلِ الشِّبَعِ حِكْمَةٌ له
____________________
(4/105)
وقد ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ في الْفِقْهِيَّاتِ أَنَّ الْفِعْلَ الذي له مَدْخَلٌ في زَهُوقِ الرُّوحِ إنْ لم يُؤَثِّرْ في الزَّهُوقِ وَلَا فِيمَا يُؤَثِّرُ فيه فَهُوَ الشَّرْطُ كَحَفْرِ الْبِئْرِ التي يَتَرَدَّى فيها مُتَرَدٍّ وَإِنْ أَثَّرَ فيه وَحَصَّلَهُ فَهُوَ الْعِلَّةُ كَالْقَدِّ وَالْحَزِّ وَإِنْ لم يُؤَثِّرْ في الزَّهُوقِ وَلَكِنْ أَثَّرَ فِيمَا يُؤَثِّرُ في حُصُولِهِ فَهُوَ السَّبَبُ كَالْإِكْرَاهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ الْقِصَاصُ بِالشَّرْطِ قَطْعًا وَيَتَعَلَّقُ بِالْعِلَّةِ قَطْعًا وفي السَّبَبِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ وإذا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ فَوْقَ السَّبَبِ صَحَّ الْحُكْمُ بِتَقَاصُرِ رُتْبَتِهِ عن الْمُبَاشَرَةِ كما قَرَّرُوهُ في كِتَابِ الْجِرَاحِ من أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ عِلَّةٌ وَالْعِلَّةُ أَقْوَى من السَّبَبِ وَمِنْ نَظَائِرِ الْمَسْأَلَةِ لو أَنَّ رَجُلًا فَتَحَ زِقًّا بِحَضْرَةِ مَالِكِهِ فَخَرَجَ ما فيه وَالْمَالِكُ يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ فلم يَفْعَلْ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ على الْفَاتِحِ وَجْهَانِ وَلَوْ رَآهُ يَقْتُلُ عَبْدَهُ أو يَحْرُقُ ثَوْبَهُ فلم يَمْنَعْهُ مع قُدْرَتِهِ على الْمَنْعِ وَجَبَ الضَّمَانُ وَجْهًا وَاحِدًا وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقَتْلَ وَالتَّحْرِيقَ مُبَاشَرَةٌ وَفَتْحَ الزِّقِّ سَبَبٌ وَالسَّبَبُ قد يَسْقُطُ حُكْمُهُ مع الْقُدْرَةِ على مَنْعِهِ بِخِلَافِ الْعِلَّةِ لِاسْتِقْلَالِهَا في نَفْسِهَا وَإِنَّمَا قُلْنَا قد يَسْقُطُ حُكْمُهُ ولم نَجْعَلْ السُّقُوطَ مُطَّرِدًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لو صَالَتْ عليه بَهِيمَةُ غَيْرِهِ وَأَمْكَنَهُ الْهَرَبُ فلم يَهْرُبْ فَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَضْمَنُ وهو بِعَدَمِ هُرُوبِهِ مُفَرِّطٌ في حَقِّ نَفْسِهِ وَالثَّانِي لَا يَضْمَنُ لِوُقُوعِ الصِّيَالِ وَهَذَا الْوَجْهُ أَرْجَحُ منه في مَسْأَلَةِ الزِّقِّ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قد يَحْصُلُ له عِنْدَ الصِّيَالِ دَهْشَةٌ تَشْغَلُهُ عن الدَّفْعِ وقال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ الطُّرُقُ في التَّمْيِيزِ بين الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ وَالشَّرْطِ أَنَّا نَنْظُرُ إلَى الشَّيْءِ إنْ جَرَى مُقَارِنًا لِلشَّيْءِ وَأَثَّرَ فيه فَهُوَ الْعِلَّةُ أو غير مُقَارَنٍ وَلَا تَأْثِيرَ لِلشَّيْءِ فيه دَلَّ على أَنَّهُ سَبَبٌ وَأَمَّا الشَّرْطُ فَهُوَ ما يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ وهو مُقَارَنٌ غَيْرُ مُفَارِقٍ لِلْحُكْمِ كَالْعِلَّةِ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ له فيه وَإِنَّمَا هو عَلَامَةٌ على الْحُكْمِ من غَيْرِ تَأْثِيرٍ أَصْلًا وقال ابن السَّمْعَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الشَّرْطُ ما يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ وَالسَّبَبُ لَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ الْحُكْمِ بَلْ يُوجِبُ مُصَادَفَتَهُ وَمُوَافَقَتَهُ ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ الْقَفَّالِ وَيَتَفَرَّعُ على هذا الْأَصْلِ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ مَقْصُودَةٌ في نَفْسِهَا قال عُلَمَاؤُنَا الشَّرْطُ إذَا اتَّصَلَ بِالسَّبَبِ ولم يَكُنْ مُبْطِلًا كان تَأْثِيرُهُ في حُكْمِ تَأَخُّرِ السَّبَبِ إلَى حِينِ وُجُودِهِ لَا في مَنْعِ وُجُودِهِ وَمِثَالُهُ إذَا قال إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَالسَّبَبُ قَوْلُهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ لِأَنَّ أَنْتِ طَالِقٌ ثَابِتٌ مع الشَّرْطِ كما هو ثَابِتٌ بِدُونِهِ غير أَنَّ الشَّرْطَ أُوقِفَ حُكْمُهُ إلَى وَقْتِ وُجُودِهِ فَتَأْثِيرُ الشَّرْطِ إنَّمَا هو في مَنْعِ حُكْمِ الْعِلَّةِ لَا في نَفْسِ الْعِلَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو لم يَقْتَرِنْ بِهِ الشَّرْطُ ثَبَتَ حُكْمُ الْعِلَّةِ
____________________
(4/106)
وَرُبَّمَا عَبَّرُوا عن هذا بِأَنَّ الشَّرْطَ لَا يُبْطِلُ السَّبَبِيَّةَ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُ حُكْمَهَا وَالسَّبَبُ يَنْعَقِدُ وَلَكِنَّ الشَّرْطَ يَرْفَعُهُ وَيُؤَخِّرُ حُكْمَهُ فإذا ارْتَفَعَ الشَّرْطُ عَمِلَ السَّبَبُ عَمَلَهُ وَمِنْ ثَمَّ يَقُولُونَ الصِّفَةُ وُقُوعٌ لَا إيقَاعٌ وَالشَّرْطُ عِنْدَهُمْ قَاطِعُ طَرِيقٍ يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ إذْ لَا مَدْخَلَ له في التَّأْثِيرِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَإِنَّمَا هو تَوَقُّفٌ عن الْحُكْمِ وَمِنْ هذا يُعْلَمُ أنها إذَا دَخَلَتْ طَلُقَتْ لِكَوْنِهِ قال إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا لِكَوْنِهَا دَخَلَتْ قال أَصْحَابُنَا من عَلَّقَ الطَّلَاقَ فَقَدْ نَجَزَ السَّبَبَ وَالْمُعَلَّقُ إنَّمَا هو عَمَلُ السَّبَبِ لَا نَفْسُهُ وقد وَافَقَنَا على ذلك الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وقال أبو حَنِيفَةَ الشَّرْطُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ السَّبَبِ في الْحَالِ وَخَرَّجَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَجْهًا في مَذْهَبِنَا من قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا في الْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ إنَّهُ يَقَعُ الْمُنَجَّزُ وَطَلْقَتَانِ معه أو بَعْدَهُ من الْمُعَلَّقِ وَرُبَّمَا قال أبو حَنِيفَةَ الشَّرْطُ دَاخِلٌ على نَفْسِ الْعِلَّةِ لَا على حُكْمِهَا قال وَالشَّرْطُ يَحُولُ بين الْعِلَّةِ وَمَحَلِّهَا فَلَا تَصِيرُ عِلَّةً معه وَالظَّاهِرُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَا مَدْخَلَ له في التَّأْثِيرِ فَكَيْفَ يَمْنَعُ الْعِلِّيَّةَ وَعَلَى هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ منها تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ أو الْعِتْقِ بِالْمِلْكِ عِنْدَنَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لم يُصَادِفْ عِنْدَنَا وَقْتَ التَّعْلِيقِ مَحَلًّا قَابِلًا لِمَا يُعْرَفُ بِهِ منه وقد بَيَّنَّا أَنَّ التَّعْلِيقَ لَا يَمْنَعُ السَّبَبِيَّةَ وإذا لم يَمْنَعْهَا انْعَقَدَتْ وَانْعِقَادُ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ في غَيْرِ زَوْجَةٍ وَرَقِيقٍ غَيْرُ مَعْقُولٍ وقال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِنَاءً على أَصْلٍ لَمَّا مَنَعَ التَّعْلِيقُ السَّبَبِيَّةَ لم يَكُنْ مُنْعَقِدًا فلم يَكُنْ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ في غَيْرِ مَمْلُوكٍ بَلْ هو إنَّمَا هِيَ في مَمْلُوكٍ لِأَنَّ الْعِلَّةَ تَأَخَّرَتْ إلَى زَمَنِ الْمِلْكِ فَالْمَوْجُودُ وَقْتَ التَّعْلِيقِ لَفْظُ الْعِلَّةِ لَا نَفْسُهَا وقد قَطَعَهَا التَّعْلِيقُ تَنْبِيهٌ قد عَرَفْت حُكْمَ كَلِمَةِ الشَّرْطِ الْمُسَلَّطَةِ على الْأَسْبَابِ وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ يقول إنَّهَا لَا تَرْفَعُ السَّبَبِيَّةَ بَلْ تُوقِفُ حُكْمَهَا وأبو حَنِيفَةَ يقول بَلْ تَرْفَعُهَا وَلَكِنْ لَا مُطْلَقًا بَلْ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الصِّفَةِ وَبَالَغَ الْقَاضِي ابن سُرَيْجٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فقال بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ في انْعِقَادِ السَّبَبِيَّةِ وزاد أَنَّ الشَّرْطَ يُلْغَى بِالْكُلِّيَّةِ لِكَوْنِهِ وَرَدَ قَطْعًا لِشَيْءٍ بَعْدَ مُضِيِّ حُكْمِهِ فقال إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ تُنَجَّزُ في الْحَالِ فَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ وَقَوْلٌ ضَعِيفٌ وَبَالَغَ ابن حَزْمٍ في مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ فقال بِهِ وزاد أَنَّ الشَّرْطَ مَنْعُ انْعِقَادِ السَّبَبِ مُطْلَقًا وَأَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ لَا يَقَعُ رَأْسًا وُجِدَتْ الصِّفَةُ أو لم تُوجَدْ وَهَذَا خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ فَتَلَخَّصَ من هذا أَنَّ
____________________
(4/107)
الشَّرْطَ الدَّاخِلَ على السَّبَبِ قَاطِعٌ له عِنْدَ ابْنِ حَزْمٍ رَأْسًا وَيُقَابِلُهُ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ إنَّهُ فَاسِدٌ في نَفْسِهِ غَيْرُ مُعَرَّضٍ لِلسَّبَبِ في شَيْءٍ وَلَكِنَّ ابْنَ سُرَيْجٍ يَقْصُرُ ذلك على ما إذَا بَدَأَ بِالسَّبَبِ قبل الشَّرْطِ وَلَا يَقُولُهُ فِيمَا إذَا عَكَسَ فقال إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَالْجُمْهُورُ لَا يُلْغُونَ الشَّرْطَ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَأَشَدُّهُمْ إعْمَالًا الشَّافِعِيُّ حَيْثُ قال إنَّهُ يَنْتَصِبُ في الْحَالِ سَبَبًا في ثَانِي الْحَالِ وَنَقَلُوهُ عن أبي حَنِيفَةَ فإنه قال لَا يَنْعَقِدُ في الْحَالِ وَلَا يَكُونُ مُنْهِيًا وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ في ثَانِي الْحَالِ وَمِنْهَا أَعْنِي من الْمَسَائِلِ الْمُتَرَتِّبَةِ على أَنَّهُ هل انْعَقَدَ السَّبَبُ في حَالِ التَّعْلِيقِ كما يَقُولُهُ أبو حَنِيفَةَ أو لم يَنْعَقِدْ كما هو الصَّحِيحُ عِنْدَنَا في مَوْضِعِ الشُّهُودِ أَنَّ الْغُرْمَ على شُهُودِ التَّعْلِيقِ دُونَ شُهُودِ الصِّفَةِ في الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وفي وَجْهٍ أَرَاهُ أَنَّهُ مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ عليهم جميعا وقد أَشْبَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هذا الْأَصْلَ تَقْرِيرًا في الْخِلَافِيَّاتِ ثُمَّ عَادَ عنه في الْفُرُوعِ فقال وقد حَكَى قَوْلَ الْأُسْتَاذِ فِيمَنْ قال وَقَفْتُ دَارِي بَعْدَ الْمَوْتِ وَسَاعَدَهُ أَئِمَّةُ الزَّمَانِ إنَّ هذا تَعْلِيقٌ على التَّحْقِيقِ بَلْ هو زَائِدٌ عليه فإنه إيقَاعُ تَصَرُّفٍ بَعْدَ الْمَوْتِ قال الرَّافِعِيُّ كَأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو عَرَضَ الدَّارَ على الْبَيْعِ صَارَ رَاجِعًا وَأَمَّا الْمَعْنَى فقال الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي عَبَّرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عن الْمَعْنَى بِالْعِلَّةِ وهو تَجَوُّزٌ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ مَوْجُودٌ في الْمَعْنَى وَالْعِلَّةِ وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْعِلَّةَ وَالْمَعْنَى مَوْجُودَانِ في الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ وَيَفْتَرِقَانِ من وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْعِلَّةَ مُسْتَنْبَطَةٌ من الْمَعْنَى وَلَيْسَ الْمَعْنَى مُسْتَنْبَطًا من الْعِلَّةِ لِتَقَدُّمِ الْمَعْنَى وَحُدُوثِ الْعِلَّةِ وَالثَّانِي أَنَّ الْعِلَّةَ تَشْتَمِلُ على مَعَانٍ وَالْمَعْنَى لَا يَشْتَمِلُ على عِلَلٍ لِأَنَّ الطُّعْمَ وَالْجِنْسَ مَعْنَيَانِ وَهُمَا عِلَّةُ الرِّبَا وَالثَّالِثُ أَنَّ الْمَعْنَى ما يُوجَبُ بِهِ الْحُكْمُ في الْأَصْلِ حتى يَتَعَدَّى إلَى الْفَرْعِ وَالْعِلَّةُ اجْتِذَابُ حُكْمِ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ فَصَارَ الْمَعْنَى ما ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ الْأَصْلِ وَالْعِلَّةُ ما ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ الْفَرْعِ ثُمَّ يَجْتَمِعُ الْعِلَّةُ وَالْمَعْنَى في اعْتِبَارِ أَرْبَعَةِ شُرُوطٍ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مُؤَثِّرًا في الْحُكْمِ وَأَنْ يَسْلَمَ الْمَعْنَى وَلَا يَرُدُّهُمَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَأَنْ لَا يُعَارِضَهُمَا من الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ أَقْوَى مِنْهُمَا وَأَنْ يَطَّرِدَ الْمَعْنَى وَالْعِلَّةُ فَيُوجَدُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِمَا وَيَسْلَمَانِ من نَقْضٍ
____________________
(4/108)
أو كَسْرٍ فَإِنْ عَارَضَهُمَا نَقْضٌ أو كَسْرٌ لِعَدَمِ الْحُكْمِ مع وُجُودِهِمَا فَسَدَ وَبَطَلَتْ الْعِلَّةُ لِأَنَّ فَسَادَ الْعِلَّةِ يَرْفَعُهَا وَفَسَادُ الْمَعْنَى لَا يَرْفَعُهُ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَازِمٌ وَالْعِلَّةَ طَارِئَةٌ لِأَنَّ الْكَيْلَ إذَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً في الرِّبَا في الْبُرِّ لم يَبْطُلْ أَنْ يَكُونَ الْكَيْلُ بَاقِيًا في الْبُرِّ فَيَصِيرُ التَّعْلِيلُ بَاطِلًا وَالْمَعْنَى بَاقِيًا وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْمَعَانِي من الْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ وفي الْمَنْصُوصَةِ وَجْهَانِ وَالثَّانِي وُقُوفُ الْعِلَّةِ على حُكْمِ النَّصِّ وَعَدَمُ تَأْثِيرِهَا فِيمَا عَدَاهَا هل يَصِحُّ فيه وَجْهَانِ وَأَمَّا الْمَظِنَّةُ فَهِيَ مَعْدِنُ الشَّيْءِ قال صَاحِبُ الْمُقْتَرَحِ من غَلَطِ الطَّلَبَةِ تَسْمِيَةُ الْعِلَّةِ مَظِنَّةً قال شَارِحُهُ يُرِيدُ أَنَّهُمْ غَلِطُوا في إطْلَاقِ اسْمِ الْمَظِنَّةِ على كل عِلَّةٍ وَإِنَّمَا تُطْلَقُ في الِاصْطِلَاحِ على بَعْضِ الْعِلَلِ وَلَهَا دَلَالَتَانِ دَلَالَةٌ على الْمَعْنَى وَدَلَالَةٌ على الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَهِيَ إذَا أُضِيفَتْ إلَى الْمَعْنَى الْوُجُودِيِّ سُمِّيَتْ مَظِنَّةً وإذا أُضِيفَتْ إلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ سُمِّيَتْ عِلَّةً له وَمَنْ عَكَسَ ذلك فَقَدْ غَلِطَ فَالسَّفَرُ مَثَلًا يَدُلُّ على الْمَشَقَّةِ وَيَدُلُّ على الرُّخْصَةِ فإذا أَضَفْتَهُ إلَى الْمَشَقَّةِ قُلْت هو مَظِنَّةٌ وإذا أَضَفْتَهُ إلَى الرُّخْصَةِ قُلْت هو عِلَّةٌ له فَالسَّفَرُ مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ وَعِلَّةُ الرُّخْصَةِ وَهَذَا أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى اصْطِلَاحٍ جَدَلِيٍّ مَسْأَلَةٌ الْمَعْلُولُ اخْتَلَفُوا في الْمَعْلُولِ ما هو فَقِيلَ هو مَحَلُّ الْعِلَّةِ وهو الْمَحْكُومُ فيه كَالْخَمْرِ لِلْإِسْكَارِ وَالْبُرِّ لِلطُّعْمِ فإن الْمَعْلُولَ من وُجِدَ فيه الْعِلَّةُ كَالْمَضْرُوبِ وَالْمَقْتُولِ وَكَالْمَرِيضِ الْمَعْلُولِ ذَاتِهِ وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَسُلَيْمٌ عن أبي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ وَخَيَالُهُمْ في ذلك أَنَّ الْحُكْمَ مَجْلُوبُ الْعِلَّةِ وَلَا عِلَّةَ فيه إذَنْ وَإِنَّمَا جَلَبَتْهُ الْعِلَّةُ وَصَحَّ بها بَلْ الْعِلَّةُ في الْمَحْكُومِ فيه كَالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ لِوُجُودِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فيه وَلِذَلِكَ يقول الْفُقَهَاءُ إنَّ الْعِلَّةَ جَارِيَةٌ في مَعْلُولَاتِهَا وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ في أَحْكَامِهَا وَالْجُمْهُورُ على أَنَّ الْمَعْلُولَ هو الْحُكْمُ لَا نَفْسُ الْمَحْكُومِ فيه كَالْمَدْلُولِ حُكْمُ الدَّلِيلِ وَكَذَا الْمَعْلُولُ حُكْمُ الْعِلَّةِ وَحَكَاهُ الشَّيْخُ وَسُلَيْمٌ عن أبي بَكْرٍ الْقَفَّالُ وَصَحَّحَاهُ وَكَذَا إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَنَسَبَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في التَّلْخِيصِ لِلْجُمْهُورِ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْعِلَّةِ في الْحُكْمِ دُونَ ذَاتِ الْمَحْكُومِ فيه وقال ابن بَرْهَانٍ الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ وَأَمَّا الْمُعَلَّلُ بِفَتْحِ اللَّامِ فقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ هو الْحُكْمُ في الْبُرِّ
____________________
(4/109)
وَالْخَمْرِ دُونَ ذَاتَيْهِمَا وَمَتَى قُلْنَا إنَّ الْبُرَّ مُعَلَّلٌ فَمَجَازٌ وَمُرَادُنَا أَنَّ حُكْمَهُ مُعَلَّلٌ وَأَمَّا الْمُعَلِّلُ بِكَسْرِهَا فقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ هو النَّاصِبُ لِلْعِلَّةِ والمعتل هو الْمُسْتَدِلُّ بِالْعِلَّةِ قال الْقَاضِي وَأَمَّا الْمُعْتَلُّ بِهِ فَهُوَ الْعِلَّةُ كما أَنَّ الْمُسْتَدَلَّ بِهِ هو الدَّلِيلُ وَأَمَّا التَّعْلِيلُ فَقِيلَ هو إلْحَاقُ الْمُعَلَّلِ الْفَرْعَ بِالْأَصْلِ بِالْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِذَلِكَ وَقِيلَ هو الْإِخْبَارُ منه عن إلْحَاقِهِ وَالِاعْتِلَالُ وَالتَّعْلِيلُ وَاحِدٌ مَسْأَلَةٌ تَقَدُّمُ الْعِلَّةِ على الْمَعْلُولِ في الْعَقْلِيَّاتِ الْعِلَّةُ مُتَقَدِّمَةٌ على الْمَعْلُولِ في الْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ فَإِنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ حَرَكَةَ الْخَاتَمِ مُتَفَرِّعَةٌ عن حَرَكَةِ الْإِصْبَعِ وَلَيْسَتْ حَرَكَةُ الْأُصْبُعِ مُتَفَرِّعَةً عن حَرَكَةِ الْخَاتَمِ وَأَمَّا الشَّرْعِيَّةُ فقال الْأَصْفَهَانِيُّ هو كَذَلِكَ لَكِنْ يَفْتَرِقَانِ من جِهَةِ أَنَّ الْعَقْلِيَّةَ تُفْعَلُ بِذَاتِهَا وَالشَّرْعِيَّةُ يَجْعَلُ الشَّارِعُ إيَّاهَا مُوجِبًا أو عِلَّةً على الْخِلَافِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْعِلَّةَ تَتَقَدَّمُ على الْمَعْلُولِ في الرُّتْبَةِ وَاخْتَلَفُوا هل تَسْبِقُهُ في الزَّمَانِ أو تُقَارِنُهُ على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ من الْمُعْتَزِلَةِ وَالْفُقَهَاءِ أنها تُقَارِنُهُ وَاسْتَدَلَّ عليه بِقَوْلِهِ تَعَالَى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حين مَوْتِهَا وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذلك في الْعَقْلِيَّاتِ مُجْمَعٌ عليه وَكَلَامُ الرَّافِعِيِّ في كِتَابِ الطَّلَاقِ يَقْتَضِي تَرْجِيحَهُ فإنه قال الذي ارْتَضَاهُ الْإِمَامُ وَنُسِبَ إلَى الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالصِّفَةِ يَقَعُ مع وُجُودِهَا فإن الشَّرْطَ عِلَّةٌ وَضْعِيَّةٌ وَالطَّلَاقُ مَعْلُولٌ لها مُقَارَنٌ في الْوُجُودِ كَالْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ مع مَعْلُولِهَا انْتَهَى وقال في الرَّوْضَةِ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَأَجَابَ الرَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عن قَوْلِ الْقَائِلِ إنْ جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ أَنَّ الْإِكْرَامَ فِعْلٌ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مُتَأَخِّرًا عن الْمَجِيءِ فَلَزِمَ التَّرْتِيبُ ضَرُورَةً وقد يُقَالُ هذا لَا يَرِدُ لِأَنَّ الْكَلَامَ في مَعْلُولٍ يَتَرَتَّبُ على الْعِلَّةِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَلَّقِ بِنَفْسِهِ وما ذَكَرُوهُ تَرْتِيبُ إنْشَاءِ فِعْلٍ على وُقُوعِ شَيْءٍ وهو يَتَأَخَّرُ عنه ضَرُورَةً أَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ فإنه حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لَا يَفْتَقِرُ إلَى زَمَانٍ مَخْصُوصٍ فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ الْعِلَّةِ مع الْمَعْلُولِ
____________________
(4/110)
وَالثَّانِي أنها معه وَلِلرَّافِعِيِّ إلَيْهِ صَغْوٌ ظَاهِرٌ وَالثَّالِثُ أَنَّ الْعَقْلِيَّةَ تُقَارِنُ مَعْلُولَهَا لِكَوْنِهَا مُؤَثِّرَةً بِذَاتِهَا وَالْوَضْعِيَّةُ تَسْبِقُ الْمَعْلُولَ وَالشَّرْعِيَّةُ من الْوَضْعِيَّةِ حَكَاهُ ابن الرِّفْعَةِ في كِتَابِ الطَّلَاقِ من الْمَطْلَبِ مَسْأَلَةٌ لَا بُدَّ لِلْحُكْمِ من عِلَّةٍ وَنَقَلَ ابن الْحَاجِبِ في الْكَلَامِ على السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ إجْمَاعَ الْفُقَهَاءِ على أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْحُكْمِ من عِلَّةٍ وَاسْتَشْكَلَ ذلك بِالْأَصْلِ الْمَشْهُورِ أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ لَا تُعَلَّلُ بِالْغَرَضِ قُلْت وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْأَحْكَامَ غَيْرُ الْأَفْعَالِ قال الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ نَدَّعِي شَرْعِيَّةَ الْأَحْكَامِ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَلَا نَدَّعِي أَنَّ جَمِيعَ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَذَلِكَ ليس في عِلْمِ الْكَلَامِ وَنَدَّعِي إجْمَاعَ الْأُمَّةِ وَلَوْ ادَّعَى مُدَّعٍ إجْمَاعَ الْأَنْبِيَاءِ على ذلك بِمَعْنَى أَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليهم بَلَّغُوا الْأَحْكَامَ على وَجْهٍ يَظْهَرُ بها غَايَةَ الظُّهُورِ مُطَابَقَتُهَا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ في الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ ثُمَّ انْقَسَمَ الناس إلَى مُوَفَّقٍ وَغَيْرِهِ فَالْمُوَفَّقُ طَابَقَ فِعْلَهُ وَتَرَكَهُ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَفَازَ بِالسَّعَادَتَيْنِ في الدَّارَيْنِ وَالْمَخْذُولُ بِالضِّدِّ من ذلك وَالْأَمْرُ فِيهِمَا ليس إلَّا لِخَالِقِ الْعِبَادِ انْتَهَى وَهَكَذَا ذَكَرَ الْهَرَوِيُّ أَنَّ رِعَايَةَ الْمَصَالِحِ لم تَخُصَّ شَرِيعَتَنَا بَلْ كان مَعْهُودًا في الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَعَلَيْهَا انْبَنَتْ وَوَقَفَ عليه الْفَقِيهُ الْمُقْتَرِحُ وقال لَا عِلْمَ لنا بِذَلِكَ وَقَطَعَ بِهِ الْإِبْيَارِيُّ وقال ابن الْمُنَيِّرِ ليس كما قال فإن شَرِيعَةَ عِيسَى لم يَكُنْ الْقِصَاصُ فيها مَشْرُوعًا وقد أُرِيدَ بها صَلَاحُ الْخَلْقِ إذْ ذَاكَ وما قَالَهُ في الْقِصَاصِ من شَرِيعَةِ عِيسَى بَاطِلٌ بَلْ كان مَشْرُوعًا وَإِنَّمَا الذي لم يَشْرَعْ فيها الدِّيَةُ وَيَتَلَخَّصُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ثَالِثُهَا الْوَقْفُ فَإِنْ قُلْتَ إذَا كانت كُلُّ شَرِيعَةٍ انْبَنَتْ على مَصَالِحِ الْخَلْقِ إذْ ذَاكَ فَبِمَاذَا اخْتَصَّتْ شَرِيعَتُنَا حتى صَارَتْ أَفْضَلَ الشَّرَائِعِ وَأَتَمَّهَا قُلْت بِخَصَائِصَ عَدِيدَةٍ منها نِسْبَتُهَا إلَى رَسُولِهَا وهو أَفْضَلُ الرُّسُلِ وَمِنْهَا نِسْبَتُهَا إلَى كِتَابِهَا وهو أَفْضَلُ الْكُتُبِ وَمِنْهَا اسْتِجْمَاعُهَا لِمُهِمَّاتِ الْمَصَالِحِ وَتَتِمَّاتِهَا وَلَعَلَّ الشَّرَائِعَ قَبْلَهَا إنَّمَا انْبَنَتْ على الْمُهِمَّاتِ وَهَذِهِ
____________________
(4/111)
جَمَعَتْ الْمُهِمَّاتِ وَالتَّتِمَّاتِ وَلِهَذَا قال عليه السَّلَامُ بُعِثْت لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا إلَى قَوْلِهِ فَكُنْتُ أنا تِلْكَ اللَّبِنَةُ يُرِيدُ عليه السَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ عز وجل أَجْرَى على يَدِهِ وَصْفَ الْكَمَالِ وَنُكْتَةَ التَّمَامِ وَيَلْزَمُ من حُصُولِ نُكْتَةِ الْكَمَالِ حُصُولُ ما قَبْلَهَا من الْأَصْلِ دُونَ الْعَكْسِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ أَحْكَامَهُ تَعَالَى غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ شيئا لِغَرَضٍ وَلَا يَبْعَثُهُ شَيْءٌ على فِعْلِ شَيْءٍ بَلْ هو اللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ على إيجَادِ الْمَصْلَحَةِ بِدُونِ أَسْبَابِهَا وَإِعْدَامِ الْمَضَارِّ بِدُونِ دَوَافِعِهَا وقال الْفُقَهَاءُ الْأَحْكَامُ مُعَلَّلَةٌ ولم يُخَالِفُوا أَهْلَ السُّنَّةِ بَلْ عَنَوْا بِالتَّعْلِيلِ الْحِكْمَةَ وَتَحَجَّرَ الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ من الْفُقَهَاءِ وَاسِعًا فَزَعَمُوا أَنَّ تَصَرُّفَهُ تَعَالَى مُقَيَّدٌ بِالْحِكْمَةِ مُضَيَّقٌ بِوَجْهِ الْمَصْلَحَةِ وفي كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ ما يَجْنَحُ إلَيْهِ وَلِهَذَا يَتَعَيَّنُ الْمَاءُ في إزَالَةِ النَّجَاسَةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لهم وَكَذَا نَبِيذُ التَّمْرِ لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ خِلَافًا لهم وَالْحَقُّ أَنَّ رِعَايَةَ الْحِكْمَةِ لِأَفْعَالِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ جَائِزٌ وَاقِعٌ ولم يُنْكِرْهُ أَحَدٌ وَإِنَّمَا أَنْكَرَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ الْعِلَّةَ وَالْغَرَضَ وَالتَّحْسِينَ الْعَقْلِيَّ وَرِعَايَةَ الْأَصْلَحِ وَالْفَرْقُ بين هذه وَرِعَايَةِ الْحِكْمَةِ وَاضِحٌ وَلِخَفَاءِ الْغَرَضِ وَقَعَ الْخَبْطُ وإذا أَرَدْت مَعْرِفَةَ الْحِكْمَةِ في أَمْرٍ كَوْنِيٍّ أو دِينِيٍّ أو شَرْعِيٍّ فَانْظُرْ إلَى ما يَتَرَتَّبُ عليه من الْغَايَاتِ في جُزْئِيَّاتِ الْكَوْنِيَّاتِ وَالدِّينِيَّاتِ مُتَعَرِّفًا بها من النَّقْلِ الصَّحِيحِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى لِنُرِيَهُ من آيَاتِنَا في حِكْمَةِ الْإِسْرَاءِ وَبِمُلَاحَظَةِ هذا الْقَانُونِ يَتَّضِحُ كَثِيرٌ من الْإِشْكَالِ وَيَطَّلِعُ على لُطْفِ ذِي الْجَلَالِ وَقَرَّرَ ابن رَحَّالٍ في شَرْحِ الْمُقْتَرِحِ الْإِجْمَالَ بِطَرِيقٍ آخَرَ فقال قال أَصْحَابُنَا الدَّلِيلُ على أَنَّ الْأَحْكَامَ كُلَّهَا شَرْعِيَّةٌ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ على ذلك إمَّا على جِهَةِ اللُّطْفِ وَالْفَضْلِ على أَصْلِنَا أو على جِهَةِ الْوُجُوبِ على أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَنَحْنُ نَقُولُ هِيَ وَإِنْ كانت مُعْتَبَرَةً في الشَّرْعِ لَكِنَّهُ ليس بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ وَلَا لِأَنَّ خُلُوَّ
____________________
(4/112)
الْأَحْكَامِ من الْمَصَالِحِ يَمْتَنِعُ في الْعَقْلِ كما يقول الْمُعْتَزِلَةُ وَإِنَّمَا نَقُولُ رِعَايَةُ هذه الْمَصْلَحَةِ أَمْرٌ وَاقِعٌ في الشَّرْعِ وكان يَجُوزُ في الْعَقْلِ أَنْ لَا يَقَعَ كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ ثُمَّ الْقَائِلُ بِالْوُجُوبِ ما يُرِيدُ ما هو الْمَفْهُومُ من الْوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَهُ أَنَّ نَقِيضَهُ يَمْتَنِعُ على الْبَارِي كما يَجِبُ وَصْفُهُ بِالْعِلْمِ لِأَنَّ نَقِيضَهُ وهو الْجَهْلُ مُمْتَنِعٌ وَعَلَى هذه الطَّرِيقَةِ يَنْزِلُ كَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَغَيْرِهِ وَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ اُشْتُهِرَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُعَلَّلُ وَاشْتُهِرَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ التَّعْلِيلُ وَأَنَّ الْعِلَّةَ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ وَيَتَوَهَّمُ كَثِيرٌ من الناس أنها الْبَاعِثُ لِلشَّرْعِ فَيَتَنَاقَضُ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ وَكَلَامُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلَا تَنَاقُضَ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الْعِلَّةَ بَاعِثَةٌ على فِعْلِ الْمُكَلَّفِ مِثَالُهُ حِفْظُ النُّفُوسِ فإنه عِلَّةٌ بَاعِثَةٌ على الْقِصَاصِ الذي هو فِعْلُ الْمُكَلَّفِ الْمَحْكُومُ بِهِ من جِهَةِ الشَّرْعِ فَحُكْمُ الشَّرْعِ لَا عِلَّةَ له وَلَا بَاعِثَ عليه لِأَنَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَحْفَظَ النُّفُوسَ بِغَيْرِ ذلك وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ أَمْرُهُ بِحِفْظِ النُّفُوسِ وهو مَقْصُودٌ في نَفْسِهِ وَبِالْقِصَاصِ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ فَكِلَاهُمَا مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ حِفْظُ النُّفُوسِ قَصْدَ الْمَقَاصِدِ وَالْقِصَاصُ قَصْدَ الْوَسَائِلِ وَأَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ أَنَّ الْقِصَاصَ سَبَبٌ لِلْحِفْظِ فإذا قَصَدَ بِأَدَاءِ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ من السُّلْطَانِ وَالْقَاضِي وَوَلِيِّ الدَّمِ الْقِصَاصَ وَانْقَادَ إلَيْهِ الْقَاتِلُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَسِيلَةً إلَى حِفْظِ النُّفُوسِ كان له أَجْرَانِ أَجْرٌ على الْقِصَاصِ وَأَجْرٌ على حِفْظِ النُّفُوسِ وَكِلَاهُمَا مَأْجُورٌ بِهِ من جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَحَدُهُمَا بِقَوْلِهِ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ وَالثَّانِي إمَّا بِالِاسْتِنْبَاطِ أو بِالْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ وَهَكَذَا يُسْتَعْمَلُ ذلك في جَمِيعِ الشَّرِيعَةِ وَمِنْ هُنَا نُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلِلشَّارِعِ فيه مَقْصُودَانِ أَحَدُهُمَا ذلك الْمَعْنَى وَالثَّانِي الْفِعْلُ الذي هو طَرِيقٌ إلَيْهِ وَأَمْرُ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَفْعَلَهُ قَاصِدًا بِهِ ذلك الْمَعْنَى فَالْمَعْنَى بَاعِثٌ له لَا لِلشَّارِعِ وَمِنْ هُنَا تَعْرِفُ أَنَّ الظَّاهِرِيَّةَ فَاتَهُمْ نِصْفُ التَّفَقُّهِ وَنِصْفُ الْأَجْرِ وَتَعْرِفُ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَعْقُولَ الْمَعْنَى أَكْثَرُ أَجْرًا من التَّعَبُّدِيِّ نعم التَّعَبُّدِيُّ فيه مَعْنًى آخَرُ وهو أَنَّ النُّفُوسَ لَا حَظَّ لها فيه فَقَدْ يَكُونُ الْأَجْرُ الْوَاحِدُ يَعْدِلُ الْأَجْرَيْنِ اللَّذَيْنِ في الْحُكْمِ غَيْرِ التَّعَبُّدِيِّ وَتَعْرِفُ بِهِ أَيْضًا أَنَّ الْعِلَّةَ الْقَاصِرَةَ سَوَاءٌ فيها الْمُسْتَنْبَطَةُ وَالْمَنْصُوصُ عليه فَائِدَةٌ بِعَيْنِ كل مَسْأَلَةٍ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ حُكْمُ اللَّهِ بِالْقِصَاصِ وَنَفْسُ الْقِصَاصِ وَحِفْظُ
____________________
(4/113)
النُّفُوسِ وهو بَاعِثٌ على الثَّانِي لَا الْأَوَّلِ وَكَذَا حِفْظُ الْمَالِ بِقَطْعِ السَّرِقَةِ وَحِفْظُ الْعَقْلِ بِاجْتِنَابِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ وكان بَعْضُهُمْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَيَقُولُ في تَفْسِيرِ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّ الْأَحْكَامَ وَقَعَتْ على وَفْقِ الْمَصَالِحِ لَا أنها عِلَّةٌ لها وَهَذَا وَحْدَهُ لَا يَنْشَرِحُ له الصَّدْرُ انْتَهَى نعم حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ مَرْدُودَةٌ فإن أَبَا الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ من قُدَمَاءِ أَصْحَابِنَا اخْتَارَ في كِتَابِهِ أَنَّ الْأَحْكَامَ جَمِيعَهَا إنَّمَا ثَبَتَتْ بِالْعِلَّةِ إلَّا أَنَّ منها ما يَقِفُ على مَعْنَاهُ وَمِنْهَا ما لَا يَقِفُ وَلَيْسَ إذَا خَفِيَتْ عَلَيْنَا الْعِلَّةُ أَنْ يَدُلَّ على عَدَمِهَا فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا السَّعْيَ وَالِاضْطِبَاعَ لِعِلَّةٍ سَبَقَتْ في غَيْرِنَا ثُمَّ قال وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ ليس كُلُّ الْأَحْكَامِ تُعَلَّلُ بَلْ منها ما هو لِعِلَّةٍ وَمِنْهَا ما ليس له عِلَّةٌ قال وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْوَاضِعَ حَكِيمٌ وَحَكَى ابن الصَّلَاحِ في فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ عن كِتَابِ الْعِلَلِ في الْأَحْكَامِ لِلْقَاسِمِ بن مُحَمَّدٍ الزَّجَّاجِ تِلْمِيذِ أبي الطَّيِّبِ بن سَلَمَةَ من أَصْحَابِنَا اخْتَلَفَ الْقَيَّاسُونَ في الْعِلَلِ فقال قَوْمٌ منهم بِنَفْيِ الْعِلَلِ وَزَعَمُوا أَنَّ تَشْبِيهَ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ على ما يَغْلِبُ في النَّفْسِ لَا أَنَّ ثَمَّ له عِلَّةً تُوجِبُ الْجَمْعَ بين الشَّيْئَيْنِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ لم يَنْقُلْ لهم عن أَحَدٍ من الصَّحَابَةِ الْعِلَلَ وقد حُكِيَ عن جَمِيعِهِمْ الْقِيَاسُ فَقُلْنَا بِالتَّشْبِيهِ إذْ هو مَنْقُولٌ عَنْهُمْ ولم يُعَلَّلْ بِالْعِلَلِ قال وَاخْتَلَفُوا في أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ لَا بُدَّ له من عِلَّةٍ فقال قَوْمٌ ما أَعْلَمَنَا اللَّهُ عِلَّتَهُ قُلْنَا إنَّهُ لِعِلَّةٍ وما لم يُعْلِمْنَا عِلَّتَهُ لم نَقْطَعْ أَنَّهُ لِعِلَّةٍ بَلْ جَوَّزْنَا فيه أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ قال وَهَذَا عِنْدِي هو الْأَصَحُّ انْتَهَى وقال الْإِمَامُ الرَّازِيَّ في الْأَرْبَعِينَ اتَّفَقَتْ الْمُعْتَزِلَةُ على أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامَهُ مُعَلَّلَةٌ بِرِعَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ وهو اخْتِيَارُ الْمُتَأَخِّرِينَ من الْفُقَهَاءِ وهو عِنْدَنَا بَاطِلٌ إلَى آخِرِهِ وقال إلْكِيَا فَصْلٌ في أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ هل وُضِعَتْ لِعِلَلٍ حُكْمِيَّةٍ أَمْ لَا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى امْتِنَاعِ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِمَا لَا اسْتِصْلَاحَ فيه وَهَذَا قَوْلٌ مَرْغُوبٌ عنه وَنَحْنُ وَإِنْ جَوَّزْنَا أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ وَلَكِنَّ الذي عَرَفْنَاهُ من الشَّرَائِعِ أنها وُضِعَتْ على الِاسْتِصْلَاحِ دَلَّتْ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ على مُلَاءَمَةِ الشَّرْعِ لِلْعِبَادَاتِ الْجِبِلِّيَّةِ وَالسِّيَاسَاتِ الْفَاضِلَةِ وَأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عن مَصْلَحَةٍ عَاجِلَةٍ وَآجِلَةٍ قال اللَّهُ تَعَالَى رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ على اللَّهِ حُجَّةٌ
____________________
(4/114)
وقال وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ من يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ لقد أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ على أَنَّهُ تَعَالَى إنَّمَا تَعَبَّدَهُمْ بِالشَّرَائِعِ لِاسْتِصْلَاحِ الْعِبَادِ وَهَذَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالشَّرْعِ وَأَنَّ الْعَقْلَ لَا يَدُلُّ على أَنَّ عِنْدَ وُقُوعِ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ يَقَعُ الْآخَرُ على سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ إذَا لم يَكُنْ الْمُخْتَارُ مِمَّنْ ثَبَتَتْ حِكْمَتُهُ فإذا صَحَّ ذلك السَّمْعُ فَأَحَدُهَا الْقِيَاسُ على ما سَنُبَيِّنُهُ ثُمَّ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ تَنْقَسِمُ إلَى ما اطَّلَعْنَا عليه وَعَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ فيه بِأَدِلَّةٍ مَوْضُوعَةٍ من النَّصِّ تَارَةً وَمِنْ مَفْهُومٍ وَتَنْبِيهٍ وَسَيْرٍ وَإِيجَازٍ وَمِنْهَا ما لَا يُطَّلَعُ فيه على وَجْهِ الْحِكْمَةِ الْخَفِيَّةِ وَهِيَ من أَلْطَافِ اللَّهِ التي لَا يُطَّلَعُ عليها فَمِنْ هَاهُنَا تَخْصِيصُ التَّكَالِيفِ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَتَخْصِيصُ بَعْضِ الْأَفْعَالِ بِالنَّدْبِ وَبَعْضِهَا بِالْوُجُوبِ وَهَذِهِ الْمَصَالِحُ بِحَسَبِ الْمَعْلُومِ من حَالِ الْمُتَعَبَّدِينَ بِهِ وَاحِدًا اخْتَلَفَ الْأَفْعَالُ من اللَّهِ تَعَالَى في النَّقْلِ من شَرِيعَةٍ إلَى أُخْرَى وقد بَنَى اللَّهُ أُمُورَ عِبَادِهِ على أَنْ عَرَّفَهُمْ مَعَانِيَ دَلَائِلِهَا وَجُمَلِهَا وَغَيَّبَ عَنْهُمْ مَعَانِيَ دَقَائِقِهَا وَتَفَاصِيلِهَا كما إذَا رَأَيْنَا رَجُلَيْنِ عَلِيلَيْنِ تَفَاوَتَتْ عِلَلُهُمَا عَرَفْنَا الْوَجْهَ في افْتِرَاقِهِمَا وَلَوْ سَأَلْنَا عن تَعْدَادِ الِاخْتِلَافِ جَهِلْنَا وَهَذَا فَنٌّ يَهُونُ بَسْطُهُ إذَا عَرَفْت هذا فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ اُحْكُمْ فَكُلُّ ما حَكَمْتَ هو الصَّوَابُ أو يَأْمُرُ عَامَّةَ الْخَلْقِ أَنْ يَحْكُمُوا بِمَا عَنَّ لهم أو بَعْضَ الْعَالِمِ من غَيْرِ اجْتِهَادٍ فيه خِلَافٌ سَيَأْتِي فَقِيلَ لِلَّهِ أَنْ يُتَعَبَّدَ بِذَلِكَ وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ فإن هذه الْأَحْكَامَ إذَا وُضِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَارَ الْفَسَادَ وَالصَّلَاحَ جميعا وَلَيْسَ اخْتِيَارُهُ عَلَمًا على الصَّوَابِ وَبِمِثْلِهِ لم يَجُزْ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِتَصْدِيقِ نَبِيٍّ من غَيْرِ أَمَارَةٍ فَكَمَا يَجُوزُ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إلَيْنَا في الْخَبَرِ على اتِّفَاقِ الصِّدْقِ فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ في الْمَصْلَحَةِ قال وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاجْتِهَادِ أَنَّ الْأَمَارَةَ على التَّعَبُّدِ بِهِ مَقْطُوعٌ بها وَالظَّنُّ مَبْنِيٌّ على أَمَارَةٍ تُفْضِي إلَى الظَّنِّ قَطْعًا وَهُنَا بِخِلَافِهِ إذْ لَا أَمَارَةَ إذَا عَلِمْتَ ذلك فما ذَكَرْنَاهُ من اشْتِمَالِ كُلِّيَّاتِ الشَّرْعِ وَجُزْئِيَّاتِهِ على الْمَصَالِحِ وَانْقِسَامِهَا إلَى ما يَلُوحُ لِلْعِبَادِ وَإِلَى ما يَخْفَى عليهم لَا خِلَافَ فيه وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا وَرَاءَ ذلك في الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ وَأَنَّهُ من مَدَارِك الْأَحْكَامِ أو من الْقَوْلِ بِالشَّبَهِ الْمَحْضِ وَاَلَّذِينَ رَدُّوا الْقِيَاسَ اخْتَلَفُوا فيه فَقِيلَ لَا يَجُوزُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِهِ أَصْلًا وَقِيلَ يَجُوزُ وَلَكِنْ يَمْتَنِعُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ قال وَيَمْتَنِعُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ في جَمِيعِ الْحَوَادِثِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ من أُصُولٍ تُعَلَّلُ وَتُحْمَلُ الْفُرُوعُ عليها وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّهُ مَظْنُونٌ من حَيْثُ إنَّ جِهَاتِ الْمَصَالِحِ مُغَيَّبَةٌ
____________________
(4/115)
عَنَّا فَلَا وُصُولَ إلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ من بَيْنِ الْمَعَانِي على وَجْهٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ الْأَصْلَحُ دُونَ ما سِوَاهُ قَطْعًا وَلِأَجْلِهِ تَفَاوَتَتْ الْآرَاءُ وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْأُصُولَ السَّمْعِيَّةَ لِصِحَّةِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ رَدُّ الْفَرْعِ إلَى الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَصَّلُ إلَى أَحْكَامِهَا بِالْأَمَارَاتِ التي يَتَوَصَّلُ بِمِثْلِهَا إلَى مَصَالِحِ الدُّنْيَا لِأَنَّ لها أَمَارَاتٍ مَعْلُومَةً بِالْعَادَةِ انْتَهَى مَسْأَلَةٌ وإذا ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ إمَّا جَوَازًا أو وُجُوبًا على الْخِلَافِ انْبَنَى على ذلك أَنَّهُ لَا يَنْصِبُ أَمَارَةً على الْحُكْمِ إلَّا بِمُنَاسَبَةٍ أو مَظِنَّةِ مَعْنًى يُنَاسِبُ وَإِلَّا لَزِمَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لَا لِمَصْلَحَةٍ وهو مُمْتَنِعٌ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ يَكُونُ في غَيْرِ الْمُنَاسِبِ مَصْلَحَةٌ وَأَقَرَّ التَّعْرِيفَ وَالْعَلَامَةَ وَصَارَ له طَرِيقَانِ ظُهُورُ الْمُنَاسِبِ وَمَحْضُ الْعَلَامَةِ قُلْنَا لَا يَجُوزُ عن الْمُنَاسَبَةِ وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْنَا على أَنَّهُ سَيَأْتِي في فَصْلِ الطَّرْدِ من كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ظُهُورُ الْمُنَاسَبَةِ مَسْأَلَةٌ قال بَعْضُهُمْ الْأَحْكَامُ الضِّمْنِيَّةُ لَا تُعَلَّلُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا سَافَرَ إلَى بَلَدٍ لَزِمَ منه نَقْلُ الْأَقْدَامِ وَقَطْعُ الْمَسَافَاتِ ثُمَّ إنَّهُ لَا يُعَلَّلُ لِعَدَمِ خُطُورِهِ بِبَالِهِ وَهَذَا صَحِيحٌ في حَقِّ الْإِنْسَانِ فَأَمَّا في أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَلَا لِأَنَّ الشَّارِعَ لِلْأَحْكَامِ لَا تَخْفَى عليه خَافِيَةٌ فَتَحَقُّقُ شَرَائِطِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمَصَالِحِ مُضَافٌ وَمُعَلَّلٌ لِأَنَّ شَرْطَ الْإِضَافَةِ ليس إلَّا الْعِلْمُ وَالْخُطُورُ بِالْبَالِ مَسْأَلَةٌ هل الْأَصْلُ في الْأُصُولِ أَنْ تَكُونَ غير مُعَلَّلَةٍ ما لم يَقُمْ الدَّلِيلُ على كَوْنِهَا مُعَلَّلَةً أو الْأَصْلُ أنها مُعَلَّلَةٌ إلَّا لِدَلِيلٍ مَانِعٍ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الدَّبُوسِيُّ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ قَالَا وَالْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أنها مُعَلَّلَةٌ في الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِجَوَازِ التَّعْلِيلِ في كل أَصْلٍ من دَلِيلٍ يُمَيِّزُ قَالَا وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مع هذا من قِيَامِ دَلِيلٍ يَدُلُّ على كَوْنِهِ مُعَلَّلًا في الْحَالِ مَسْأَلَةٌ قال الدَّبُوسِيُّ حُكْمُ الْعِلَّةِ عِنْدَنَا تَعْدِيَةُ حُكْمِ الْأَصْلِ الْمُعَلَّلِ إلَى فَرْعٍ لَا نَصَّ فيه
____________________
(4/116)
وَلَا إجْمَاعَ وَلَا دَلِيلَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ حُكْمُ الْعِلَّةِ تَوَقُّفُ حُكْمِ النَّصِّ بِالْوَصْفِ الذي تَرَتَّبَ عليه كَالْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ في مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الْعِلَّةَ الْقَاصِرَةَ لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بها عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ يَجُوزُ وَالثَّانِيَةُ امْتِنَاعُ تَعَدِّيهَا إلَى فَرْعٍ مَنْصُوصٍ عليه عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ لَا قلت وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ السَّابِقَةُ أَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ بِالْأَصْلِ أو الْعِلَّةِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ حُكْمَ الْعِلَّةِ ثُبُوتُ حُكْمِ الْأَصْلِ في الْفَرْعِ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ وفي الْحَقِيقَةِ ثُبُوتُ مِثْلِ حُكْمِ الْأَصْلِ بها ثُمَّ إنْ وُجِدَتْ تِلْكَ الْعِلَّةُ في مَوْضُوعٍ آخَرَ ثَبَتَ مِثْلُ ذلك الْحُكْمِ في ذلك الْمَوْضِعِ وَإِلَّا فَلَا يَثْبُتُ قال وَهَذَا هو الْخِلَافُ في أَنَّ الْعِلَّةَ الْقَاصِرَةَ هل تَصِحُّ أَمْ لَا فَعِنْدَنَا تَصِحُّ وَعِنْدَهُمْ لَا ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ كما جَرَى الِاخْتِلَافُ في الْحُكْمِ فَكَذَا في عِلَّةِ الْحُكْمِ كَاخْتِلَافِهِمْ في الْإِسْلَامِ هل هو عِلَّةُ الْعِصْمَةِ أَمْ لَا وَكَذَا الِاسْتِيلَاءُ على مَالِ الْغَيْرِ عِنْدَنَا عِلَّةٌ لِلضَّمَانِ وَعِنْدَهُمْ ليس بِعِلَّةٍ مَسْأَلَةٌ الْمُحَقِّقُونَ من أَصْحَابِنَا كما قَالَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ على أَنَّ الْعِلَّةَ لَا بُدَّ من الدَّلِيلِ على صِحَّتِهَا لِأَنَّهَا شَرْعِيَّةٌ كَالْحُكْمِ فَكَمَا لَا بُدَّ من الدَّلِيلِ على الْحُكْمِ فَكَذَا الْعِلَّةُ قالوا وإذا ثَبَتَ مُتَّفَقٌ عليه وَادَّعَى أَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِمَعْنًى أَبْدَاهُ فَهُوَ مُطَالَبٌ بِتَصْحِيحِ دَعْوَاهُ في الْأَصْلِ وقد ذَكَرَ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ أَنَّهُ لَا تُسَوَّغُ هذه الْمُطَالَبَةُ لَكِنْ على الْمُعْتَرِضِ أَنْ يُبْطِلَ مَعْنَاهُ الذي ذَكَرَهُ إنْ كان عِنْدَهُ مُبْطِلٌ له وَهَذَا ليس بِشَيْءٍ وَالصَّحِيحُ هو الْأَوَّلُ لِمَا بَيَّنَّاهُ من فَسَادِ الطَّرْدِ وَسَتَأْتِي مَسَالِكُ الْعِلَّةِ الدَّالَّةُ على صِحَّتِهَا وقال ابن فُورَكٍ من أَصْحَابِنَا من قال نَعْلَمُ صِحَّةَ الْعِلَّةِ بِوُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا وَارْتِفَاعِهِ بِارْتِفَاعِهَا وَلَا يَرْفَعُهَا أَصْلٌ منهم من قال يَحْتَاجُ إلَى دَلَالَتَيْنِ يُعْلَمُ بِأَحَدِهِمَا أَنَّهُ عِلَّةٌ وَبِالْآخَرِ أنها صَحِيحَةٌ وَمِنْهُمْ من قال إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ على أَنَّهُ عِلَّةٌ لم يَحْتَجْ إلَى غَيْرِهَا لِأَنَّ الْفَائِدَةَ لَيْسَتْ بِعِلَّةٍ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في الْجَرَيَانِ هل هو دَلَالَةُ صِحَّةِ الْعِلَّةِ أَمْ لَا على وَجْهَيْنِ وَمَعْنَى الْجَرَيَانِ هو اسْتِمْرَارُهَا على الْأُصُولِ حتى لَا يَدْفَعَهَا أَصْلٌ ثَابِتٌ مَسْأَلَةٌ في أَنَّ الْعِلَّةَ هل هِيَ دَلِيلٌ على اسْمِ الْفَرْعِ ثُمَّ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ هَكَذَا تَرْجَمَ أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ هذه الْمَسْأَلَةَ وَحَكَى عن أبي الْعَبَّاسِ بن سُرَيْجٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ
____________________
(4/117)
قال إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ الْأَسْمَاءُ في الْفُرُوعِ ثُمَّ تُعَلَّقُ عليها الْأَحْكَامُ وكان يَتَوَصَّلُ إلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ تَرِكَةٌ ثُمَّ يَجْعَلُهَا مَوْرُوثَةً وَأَنَّ وَطْءَ الْبَهِيمَةِ زِنًى ثُمَّ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَدُّ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ كان يَقِيسُ النَّبِيذَ على الْخَمْرِ في تَسْمِيَتِهِ خَمْرًا لِاشْتِرَاكِهِمَا في الشِّدَّةِ ثُمَّ يُحَرِّمُهُ بِالْآيَةِ وَأَكْثَرُ الْقَيَّاسِينَ على أَنَّ الْعِلَلَ ثَبَتَتْ بها الْأَحْكَامُ فَإِنْ كان ابن سُرَيْجٍ يَمْنَعُ من الْأَحْكَامِ في الْفُرُوعِ بِالْعِلَلِ فَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمَسَائِلِ إنَّمَا تُعَلَّلُ فيها أَحْكَامُهَا دُونَ أَسْمَائِهَا وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْعِلَلَ قد يَتَوَصَّلُ بها إلَى الْأَسْمَاءِ في بَعْضِ الْمَوَانِعِ ولم يَمْنَعْ من أَنْ يَتَوَصَّلَ بها إلَى الْأَحْكَامِ فَإِنْ أَرَادَ بِالْعِلَلِ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ وَبِالْأَسْمَاءِ الْأَسْمَاءَ اللُّغَوِيَّةَ فَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ اللُّغَةَ أَسْبَقُ من الشَّرْعِ وَلِتَقَدُّمِ اللُّغَةِ خَاطَبَنَا اللَّهُ عز وجل بها فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ أَسْمَائِهَا بِأُمُورٍ طَارِئَةٍ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ قد ثَبَتَتْ في اللَّهِ بِقِيَاسٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ نَحْوُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمْ سَمَّوْا الْجِسْمَ الذي حَضَرَهُمْ بِأَنَّهُ أَبْيَضُ لِوُجُودِ الْبَيَاضِ قِسْنَا ما غَابَ عَنْهُمْ من الْأَجْسَامِ الْبِيضِ فَلَيْسَ بِبَعِيدٍ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ من الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ ما يَثْبُتُ بِالْعِلَلِ فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَيْضًا انْتَهَى وقد سَبَقَتْ هذه الْمَسْأَلَةُ في الْقِيَاسِ في اللُّغَةِ مَسْأَلَةٌ إذَا حَرُمَ الشَّيْءُ لِعِلَّةٍ فَارْتَفَعَتْ هل وَجَبَ ارْتِفَاعُ الْحُكْمِ قال ابن فُورَكٍ الذي نَذْهَبُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَرْتَفِعُ وَيَبْقَى بَعْدَ ذلك مَوْقُوفًا على الدَّلِيلِ كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِلشِّدَّةِ ثُمَّ تَحْرُمُ لِلنَّجَاسَةِ وَكَمِلْكِ الْغَيْرِ مع عَدَمِ الْإِذْنِ ثُمَّ هِيَ على ضَرْبَيْنِ عِلَلٌ مُطْلِقَةٌ لِلْحُكْمِ وَعِلَلٌ مُقَيِّدَةٌ فَالْمُطْلِقَةُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ عِلَّةُ الْقَتْلِ الْقَتْلُ وَشَرْطُهَا أَنْ يَرْتَفِعَ الْحُكْمُ بِارْتِفَاعِهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ قَتْلٌ إلَّا بِقَتْلٍ وَمِنْهُ مُنَاقَضَةُ الشَّافِعِيِّ لِمُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ في الْجَمْعِ بين الْأُخْتَيْنِ في الْمَبْتُوتَةِ لِأَنَّ اعْتِلَالَهُ وَقَعَ مُطْلِقًا بِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اجْتِمَاعِ مَائِهِ في رَحِمِ أُخْتَيْنِ فقال إذَا خَلَا بها وَطَلَّقَهَا لم يُؤَدِّ إلَى ذلك فَأَجِزْهُ فقال بَعْضُ أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ ذلك لِعِلَّةٍ أُخْرَى قُلْنَا إنَّ الِاعْتِلَالَ وَقَعَ مُطْلِقًا فَلِذَلِكَ كان كَلَامُ الشَّافِعِيِّ نَقْضًا لِمَا قال فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ عِلَّةُ قَتْلِ الْقَاتِلِ كَذَا فَيَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَ غير الْقَاتِلِ كما تَقُولُ أَدْرَكْته لِقُرْبِهِ وَارْتِفَاعِ الْمَانِعِ لم يُدْرِكْهُ قُلْنَا وَإِنْ لم يُوجَدْ ذلك الْمَعْنَى من طَرِيقٍ آخَرَ فَلَا يَكُونُ نَقْضًا وَإِنَّمَا ذلك لِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِحُكْمٍ وَاحِدٍ
____________________
(4/118)
فَصْلٌ في ذِكْرِ شُرُوطِ الْعِلَّةِ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا في الْحُكْمِ فَإِنْ لم يُؤَثِّرْ فيه لم يَجُزْ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً فإن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لم يَرْجُمْ مَاعِزًا لِاسْمِهِ وَلَا لِهَيْئَةِ جِسْمِهِ وَلَكِنَّ الزِّنَى عِلَّةُ الرَّجْمِ وَكَذَا الطُّعْمُ عِلَّةُ الرِّبَا دُونَ الزَّرْعِ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَمُرَادُهُمَا بِالتَّأْثِيرِ الْمُنَاسَبَةُ وَأَحْسَنُ من عِبَارَتِهِمَا قَوْلُ الْأُسْتَاذِ أبي مَنْصُورٍ أَنْ يَكُونَ وَصْفُهَا مِمَّا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بها فَإِنْ لم يَجُزْ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بها فَإِنْ لم يَجُزْ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ على وَصْفٍ لم يَجُزْ أَنْ يَكُونَ ذلك الْوَصْفُ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَكُونُ عِلَّةً لِلتَّخْفِيفِ وَأَبْطَلْنَا بِذَلِكَ قَوْلَ من جَعَلَ الرِّدَّةَ عِلَّةً لِإِسْقَاطِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَإِبَاحَةَ الْفِطْرِ وَالْقَصْرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ في السَّفَرِ الذي يَكُونُ مَعْصِيَةً وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ التَّعْلِيلَ بِمُجَرَّدِ الْأَمَارَةِ الطَّرْدِيَّةِ وَالْحَقُّ خِلَافُهُ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ على حُكْمٍ يَبْعَثُ الْمُكَلَّفَ على الِامْتِثَالِ وَيَصِحُّ شَاهِدًا لِإِنَاطَةِ الْحُكْمِ بها على ما تَقَدَّمَ وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ مَعْنَى كَوْنِ الْعِلَّةِ مُؤَثِّرَةً في الْحُكْمِ هو الْحُكْمُ بِأَنْ يَغْلِبَ على ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أَنَّ الْحُكْمَ حَاصِلٌ عِنْدَ ثُبُوتِهَا لِأَجْلِهَا دُونَ شَيْءٍ سِوَاهَا وَالْمُرَادُ من تَأْثِيرِهَا في الْحُكْمِ دُونَ ما عَدَاهَا أنها جُعِلَتْ عَلَامَةً على ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِيمَا هِيَ فيه وَلَيْسَ الْمُرَادُ أنها مُوجِبَةٌ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ لَا مَحَالَةَ كَالْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ التي يَسْتَحِيلُ ثُبُوتُهَا مع انْتِفَاءِ الْحُكْمِ أو ثُبُوتُ حُكْمِهَا مع انْتِقَائِهَا وَقِيلَ مَعْنَاهُ إنَّهَا جَالِبَةٌ لِلْحُكْمِ وَمُقْتَضِيَةٌ له وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى هذه الْأَلْفَاظِ أَجْمَعَ أنها عَلَامَةٌ على ثُبُوتِ الْحُكْمِ لَا يُوجِبُهُ في حَقِّ من غَلَبَ على ظَنِّهِ كَوْنُهَا مُؤَثِّرَةً فيه وفي أَيِّ مَوْضِعٍ يُعْتَبَرُ تَأْثِيرُ الْعِلَّةِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ في اللُّمَعِ أَحَدُهُمَا في الْأَصْلِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ تُنْزَعُ من الْأَصْلِ أَوَّلًا وَالثَّانِي أَنَّهُ يَكْفِي أَنْ يُؤَثِّرَ في مَوْضِعٍ من الْأُصُولِ قال وهو اخْتِيَارُ شَيْخِنَا
____________________
(4/119)
الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ وهو الصَّحِيحُ عِنْدِي وَحَكَى شَارِحُهُ فيها ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا تَأْثِيرُهُ في الْأَصْلِ قال وهو قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَاخْتَارَهُ ابن الصَّبَّاغِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَصْحَابُ أبي حَنِيفَةَ وَالثَّانِي اشْتَرَطَ تَأْثِيرَهَا في الْفَرْعِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ وَالْأَصْلُ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يَكْفِي في مَوْضِعٍ من الْأُصُولِ سَوَاءٌ الْمَقِيسُ عليه وَغَيْرُهُ وهو اخْتِيَارُ الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ وَالشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ وَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمْ لِأَنَّ تَأْثِيرَهَا في مَوْضِعٍ يَدُلُّ على صِحَّتِهَا الثَّانِي أَنْ يَكُونَ وَصْفًا ضَابِطًا لِأَنَّ تَأْثِيرَهَا لِحِكْمَةٍ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ لَا حِكْمَةٍ مُجَرَّدَةٍ لِخَفَائِهَا فَلَا يَظْهَرُ إلْحَاقُ غَيْرِهَا بها وَهَلْ يَجُوزُ كَوْنُهَا نَفْسَ الْحِكْمَةِ وَهِيَ الْحَاجَةُ إلَى جَلْبِ مَصْلَحَةٍ أو دَفْعِ مَفْسَدَةٍ قال الْإِمَامُ الرَّازِيَّ في الْمَحْصُولِ يَجُوزُ وقال غَيْرُهُ يَمْتَنِعُ وَاخْتَارَهُ في الْمَعَالِمِ وَفَصَّلَ آخَرُونَ فَقَالُوا إنْ كانت الْحِكْمَةُ ظَاهِرَةً مُنْضَبِطَةً بِنَفْسِهَا جَازَ التَّعْلِيلُ بها لِمُسَاوَاةِ ظُهُورِ الْوَصْفِ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ وَاتَّفَقُوا على جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَمِلِ عليها أَيْ مَظِنَّتِهَا بَدَلًا عنها ما لم يُعَارِضْهُ قِيَاسٌ وَالْمَنْقُولُ عن أبي حَنِيفَةَ الْمَنْعُ وقال الْحِكْمَةُ من الْأُمُورِ الْغَامِضَةِ وَشَأْنُ الشَّرْعِ فِيمَا هو كَذَلِكَ قَطْعُ النَّظَرِ عِنْدَ تَقْدِيرِ الْحُكْمِ عن دَلِيلِهِ وَمَظِنَّتِهِ وَعَنْ الشَّافِعِيِّ الْجَوَازُ وَأَنَّ اعْتِبَارَهَا هو الْأَصْلُ وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَتْ الْمَظِنَّةُ لِلتَّسْهِيلِ وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَنْبَنِي خِلَافُهُمَا في الْمُصَابَةِ بِالزِّنَى هل تُعْطَى حُكْمَ الْأَبْكَارِ أو الثَّيِّبَاتِ في السُّكُوتِ فَإِنْ قَطَعَ بِانْتِفَاءِ الْحِكْمَةِ في بَعْضِ الصُّوَرِ كَاسْتِبْرَاءِ الصَّغِيرَةِ فإنه شُرِعَ لِتَبَيُّنِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وهو مَفْقُودٌ في الصَّغِيرَةِ فقال الْغَزَالِيُّ وَتِلْمِيذُهُ محمد بن يحيى ثَبَتَ الْحُكْمُ بِالْمَظِنَّةِ فإن الْحُكْمَ قد صَارَ مُتَعَلِّقًا بها وَاَلَّذِي عليه الْجَدَلِيُّونَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِانْتِفَاءِ الْحِكْمَةِ فَإِنَّهَا أَصْلُ الْعِلَّةِ وقال ابن رَحَّالٍ التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ مُمْتَنِعٌ عِنْدَ من يَمْنَعُ الْقِيَاسَ في الْأَسْبَابِ وَجَائِزٌ عِنْدَ من جَوَّزَهُ فَرْعَانِ فِيهِمَا نَظَرٌ الْأَوَّلُ هل الْعِلَّةُ حَقِيقَةٌ في الْوَصْفِ الْمُتَرْجَمِ عن الْحِكْمَةِ مَجَازٌ في الْحِكْمَةِ أو
____________________
(4/120)
الْعَكْسُ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ اعْتِبَارًا وَالْمُلَاحَظُ بِالْحَقِيقَةِ إنَّمَا هو مَعْنَاهَا وَتَوَسُّطُ الْوَصْفِ مَقْصُودٌ لِأَجْلِهَا الثَّانِي إذَا وُجِدَ مَحَلٌّ قَابِلٌ لِلتَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ وَالْحِكْمَةِ وَالْحِكْمَةُ نَهَضَتْ بِشَرْطِهَا وَسَارَتْ الْعِلَّةُ في تَأْثِيرِ التَّعْدِيَةِ بِإِلْحَاقِ فُرُوعٍ تُنْشِئُ أَحْكَامًا من الْأَصْلِ فَالْأَوْلَى في النَّظَرِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْوَصْفِ أو الْحِكْمَةِ فيه احْتِمَالَانِ أَحَدُهُمَا الْوَصْفُ لِاتِّفَاقِهِمْ على التَّعْلِيلِ بِهِ وَاخْتِلَافِهِمْ في الثَّانِي وَالثَّانِي الْحِكْمَةُ لِأَنَّهَا الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ وَالْوَصْفُ وَسِيلَةٌ إلَى الْعِلْمِ بِوُجُودِهَا الثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً جَلِيَّةً وَإِلَّا لم يُمْكِنْ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بها في الْفَرْعِ على تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ أَخْفَى منه أو مُسَاوِيَةً له في الْخَفَاءِ ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ في جَدَلِهِ وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْعِلَّةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ في الْأَصْلِ أَظْهَرَ منها في الْفَرْعِ وَقَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ الْقِيَاسُ في مَعْنَى الْأَصْلِ يَقْتَضِي اسْتِوَاءَ حَالِهِمَا في الْمَحَلَّيْنِ وَالْحَقُّ أَنَّ كُلَّ وَصْفٍ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عليه بِدَلِيلٍ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ نَصْبُهُ أَمَارَةً لِأَنَّ مَقْصُودَ التَّعْرِيفِ يَحْصُلُ منه كما يَحْصُلُ من غَيْرِهِ سَوَاءٌ كان خَفِيًّا أو لَا وقد قال تَعَالَى إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عن تَرَاضٍ مِنْكُمْ وفي الحديث إنَّمَا الْبَيْعُ عن تَرَاضٍ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ الرِّضَا هو الْمُعْتَبَرُ في الْعُقُودِ وَإِنْ كان خَفِيًّا عِنْدَهُمْ وَكَذَلِكَ الْعَمْدِيَّةُ عِلَّةٌ في الْقِصَاصِ وهو كَثِيرٌ في الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْخَفَاءَ بِمَا لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عليه وَمَثَّلُوهُ بِالرِّضَا في الْعُقُودِ وَالْعَمْدِيَّةِ في الْقِصَاصِ وَاسْتَشْكَلَ لِأَنَّهُمْ إنْ عَنَوْا بِكَوْنِهِ لَا يُطَّلَعُ عليه أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَّا الْوُقُوفُ عليه لَا بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَلَا بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ مِمَّا يَدُلُّ عليه فَهَذَا لَا يَصِحُّ نَصْبُهُ أَمَارَةً بِنَفْسِهِ وَلَا مَظِنَّةَ وَإِنْ عَنَوْا بِهِ أَنَّهُ لَا يُطَّلَعُ عليه بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُوقَفَ عليه بِاعْتِبَارِ ما يَدُلُّ عليه فَيَلْزَمُهُمْ على هذا أَنْ يَكُونَ الْإِشْكَالُ خَفِيًّا لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عليه بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عليه بِآثَارِهِ قالوا وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلُ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إذْ يَعْسُرُ تَعْيِينُ قَدْرٍ في الْأَصْلِ هو ثَابِتٌ في الْفَرْعِ وَأَيْضًا إذَا فَعَلَ ذلك انْدَفَعَتْ النُّصُوصُ إذْ يُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ ما في مَحَلِّهَا من الْحُكْمِ غير قَاصِرٍ عن ذلك الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ قال ابن النَّفِيسِ في الْإِيضَاحِ إنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كان كَذَلِكَ وَلَكِنْ يَرِدُ حِينَئِذٍ
____________________
(4/121)
مَنْعٌ يَعْسُرُ دَفْعُهُ وهو أَنَّهُ لِمَ قُلْتُمْ إنَّ هذا الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ قَدْرٌ يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِهِ فإن التَّعْلِيلَ بِالْحِكْمَةِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كان لِذَلِكَ الْحُكْمِ قَدْرٌ يُعْتَدُّ بِهِ وَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِكُلِّ حِكْمَةٍ الرَّابِعُ أَنْ تَكُونَ سَالِمَةً بِشَرْطِهَا أَيْ بِحَيْثُ لَا يَرُدُّهَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فَرْعٌ لها لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا عِنْدَ عَدَمِهَا فلم يَجُزْ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا لها فإذا رَدَّهُ أَحَدُهُمَا بَطَلَ الْخَامِسُ أَنْ لَا يُعَارِضَهَا من الْعِلَلِ ما هو أَقْوَى منها فإن الْأَقْوَى أَحَقُّ بِالْحُكْمِ كما أَنَّ النَّصَّ أَحَقُّ بِالْحُكْمِ من الْقِيَاسِ وما أَدَّى إلَى إبْطَالِ الْأَقْوَى فَهُوَ الْبَاطِلُ بِالْأَقْوَى ذَكَرَهُ وَاَلَّذِي يَلِيهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ السَّادِسُ أَنْ تَكُونَ مُطَّرِدَةً أَيْ كُلَّمَا وُجِدَتْ وُجِدَ الْحُكْمُ لِيَسْلَمَ من النَّقْضِ وَالْكَسْرِ فَإِنْ عَارَضَهَا نَقْضٌ أو كَسْرٌ فَعُدِمَ الْحُكْمُ مع وُجُودِهَا بَطَلَتْ وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِلَّةَ إمَّا عَقْلِيَّةٌ أو سَمْعِيَّةٌ فَالْعَقْلِيَّةُ يَمْتَنِعُ تَخْصِيصُهَا بِإِجْمَاعِ أَهْلِ النَّظَرِ كما نَقَلَهُ ابن فُورَكٍ وَالْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وابن عَبْدَانَ في شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ وَغَيْرُهُمْ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ إمَّا أَنْ تَكُونَ مُسْتَنْبَطَةً أو مَنْصُوصَةً فَإِنْ كانت مُسْتَنْبَطَةً فَجَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ بِامْتِنَاعِ تَخْصِيصِهَا على مَعْنَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَبْقَى حُجَّةً فِيمَا وَرَاءَ الْحُكْمِ الْمَخْصُوصِ لِبُطْلَانِ الْوُثُوقِ بها وقال ابن فُورَكٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا وقال ابن كَجٍّ إنَّهُ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ أَجْمَعَ عليه أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَكَذَلِكَ قال صَاحِبُ الْبَيَانِ في بَابِ الرِّبَا إنَّهُ لَا خِلَافَ فيه عِنْدَنَا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في الْمَنْصُوصَةِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ اتَّفَقَ عليه أَهْلُ الْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ وَبِهِ قال أَكْثَرُ الْعِرَاقِيِّينَ وَزَعَمَ أَهْلُ الْكُوفَةِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ وَأَطْلَقَ ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ مَنْعَ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَإِنْ كانت مَنْصُوصَةً فَمَنْ جَوَّزَ تَخْصِيصَ الْمُسْتَنْبَطَةِ جَوَّزَ هذه أَيْضًا وَمَنْ مَنَعَ هُنَاكَ اخْتَلَفُوا على قَوْلَيْنِ وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ كَالْمُسْتَنْبَطَةِ قال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّفْظِ الْعَامِّ حَيْثُ جَازَ تَخْصِيصُهُ أَنَّ الْعَامَّ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ على بَعْضِ ما يَتَنَاوَلُهُ فإذا وَرَدَ لم يُنَافِهِ وَأَمَّا الْعِلَّةُ الْمُسْتَنْبَطَةُ فَإِنَّمَا انْتَزَعَهَا الْقَائِسُ من الْأَصْلِ وَمُقْتَضَاهُ الِاطِّرَادُ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ هذا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وهو الصَّحِيحُ وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ إنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ من الْفُقَهَاءِ ثُمَّ اخْتَارَهُ الْقَاضِي آخِرًا وَجَزَمَ بِهِ الْقَاضِي أبو عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ وَنَصَرَهُ في كِتَابِ الْجَدَلِ له وَكَذَا الْخَفَّافُ في الْخِصَالِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو
____________________
(4/122)
مَنْصُورٍ إنَّهُ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا وقال إلْكِيَا إنَّهُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وقال في الْقَوَاطِعِ إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ إلَّا الْقَلِيلَ منهم وهو قَوْلُ كَثِيرٍ من الْمُتَكَلِّمِينَ وَقَالُوا تَخْصِيصُهَا نَقْضٌ لها وَنَقْضُهَا يَتَضَمَّنُ إبْطَالَهَا قال وَبِهِ قال عَامَّةُ الْخُرَاسَانِيِّينَ من الْحَنَفِيَّةِ قال أبو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ بَاطِلٌ وَمَنْ قال بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فَقَدْ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِالسَّفَهِ وَالْعَبَثِ لِأَنَّهُ أَيُّ فَائِدَةٍ في وُجُودِ الْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ إذْ الْعِلَّةُ شُرِعَتْ لِلْحُكْمِ وَالْكَلَامِ في الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ فإذا خَلَا الْفِعْلُ عن الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ يَكُونُ عَبَثًا وَالدَّلِيلُ على فَسَادِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ أَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ يُشْبِهُ الْإِبْدَاءَ أو النَّاسِخَ وَكِلَاهُمَا لَا يُدْخِلُ الْعِلَلَ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ سَوَاءٌ الْمَنْصُوصَةُ وَالْمُسْتَنْبَطَةُ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وقال الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ الْمُخْتَارُ أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَتَطَرَّقُ إلَى جَوْهَرِ عِلَّةِ الشَّارِعِ فإنه من أَعَمِّ الصِّيَغِ وَلَا نَظُنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ أَنْ يُنَصَّبَ عَلَمًا ثُمَّ يَنْتَفِيَ الْحُكْمُ مع وُجُودِهِ من غَيْرِ سَبَبٍ نعم يَتَطَرَّقُ إلَى مَحَلِّ كَلَامِهِ بِتَخْصِيصِ بَعْضِ الْمَحَالِّ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا فَيَذْكُرُ الْمَحَلَّ دُونَ الْعِلَّةِ وَالثَّانِي الْجَوَازُ وَنُقِلَ عن ابْنِ سُرَيْجٍ وقال أبو الْحُسَيْنِ إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وهو الذي أَوْرَدَهُ ابن كَجٍّ في كِتَابِهِ قال وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُسْتَنْبَطَةِ حَيْثُ امْتَنَعَ فيها أَنَّ الْمَنْصُوصَةَ في الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ بِعِلَّةٍ بَلْ هِيَ كَالِاسْمِ يَدُلُّ على الْحُكْمِ بِدَلَالَةِ الْعُمُومِ وَأَيْضًا فَإِنَّمَا جَازَ تَخْصِيصُهَا لِأَنَّ وَاضِعَهَا قد عُلِمَ أَنَّهُ لم يُرِدْ بها عِنْدَ إطْلَاقِهَا الْعُمُومَ فَصَارَ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالْمُعَلَّلُ يَقْصِدُ بِالْعِلَّةِ جَمِيعَ مَعْلُولَاتِهَا فإذا وُجِدَتْ وَلَا حُكْمَ كان نَقْضًا وَحَكَاهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ عن أَهْلِ الْعِرَاقِ قال وَحَكَاهُ الْهَمْدَانِيُّ عن أَصْحَابِنَا وَالْأَمْرُ بِخِلَافِ ما قَالَهُ انْتَهَى قال إلْكِيَا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ قُدَمَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ عن الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ عنه وَنَقَلَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن عَامَّةِ الْعِرَاقِيِّينَ من الْحَنَفِيَّةِ قال وَمِنْهُمْ أبو زَيْدٍ وَادَّعَى أَنَّهُ مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ قال وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ في ذلك على قَوْلَيْنِ وقال ابن بَرْهَانٍ في
____________________
(4/123)
الْأَوْسَطِ وَأَمَّا أَصْحَابُ أبي حَنِيفَةَ فَالْمُتَقَدِّمُونَ منهم وَافَقُوا الشَّافِعِيَّ على الْمَنْعِ وَالْمُتَأَخِّرُونَ كَأَبِي زَيْدٍ جَوَّزُوا وَرَجَعَ بَعْضُهُمْ عن ذلك وَهُمْ أَهْلُ ما وَرَاءَ النَّهْرِ انْتَهَى وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ جَوَّزَ قَوْمٌ من أَسْلَافِ أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ تَخْصِيصَهَا مُسْتَنْبَطَةً وَمَنْصُوصَةً وَزَعَمُوا أَنَّهُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَحَكَى بَعْضُهُمْ ذلك عن مَالِكٍ وهو غَيْرُ ثَابِتٍ عنه وَمِنْ أَصْحَابِهِ من يُجِيزُهُ وَأَنْكَرَ كَثِيرٌ من أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ الْقَوْلَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَأَنْ يَكُونَ ذلك قَوْلًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَقَالُوا إنَّمَا يَتْرُكُ بَعْضُ أَسْلَافِنَا الْحُكْمَ لِأَجْلِ عِلَّةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَوْلَى منها فَأَمَّا على وَجْهِ تَخْصِيصِهَا فَلَا وَهَذَا اعْتِذَارٌ منهم وَتَحَامٍ لِلْقَوْلِ بِتَخْصِيصِهَا وَتَحَصَّلَ في الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ ثَالِثُهَا الْمَنْعُ في الْمُسْتَنْبَطَةِ وَالْجَوَازُ في الْمَنْصُوصَةِ وَفِيهَا مَذْهَبٌ رَابِعٌ وهو تَجْوِيزُ تَخْصِيصِهَا في أَصْلِ الْمَذْهَبِ وَأَمَّا في عِلَّةِ النَّظَرِ فَلَا يَجُوزُ حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ في أَدَبِ الْجَدَلِ عن بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ قال وهو فَاسِدٌ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ في النَّاظِرَةِ إنَّمَا يُثْبِتُ الْمَذْهَبَ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِ ما فيه وهو قَرِيبٌ من اخْتِيَارِ ابْنِ بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ شَرَطَ الِاطِّرَادَ في الْمُنَاظَرَةِ حتى أَنَّهُ ليس له الِاحْتِرَازُ عن النَّقْضِ الذي أَوْرَدَهُ الْخَصْمُ وَالْجَوَازُ في الْمُجْتَهِدِ نَفْسِهِ حتى أَنَّ له الرُّجُوعَ إلَى ذلك وَفِيهَا مَذْهَبٌ خَامِسٌ حَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ عن بَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ وهو التَّفْصِيلُ بين عِلَّةِ الْإِقْدَامِ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهَا وَبَيْنَ عِلَّةِ تَرْكِ الْفِعْلِ فَلَا يَجُوزُ بَلْ يَكُونُ عِلَّةً لِتَرْكِهِ وَاجْتِنَابِهِ أَيْنَ وُجِدَتْ قال وَهَذَا الْقَوْلُ خُرُوجٌ عن إجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَرُبَّمَا عُزِيَ لِقُدَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ قال ابن فُورَكٍ وَلِأَبِي عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ طَرِيقَةٌ في تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَالْعُمُومِ فيقول إنَّ تَخْصِيصَهَا سَوَاءٌ وهو أَنَّهُ إنَّمَا يَمْتَنِعُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ الْمُطْلَقَةِ كما يَمْتَنِعُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ وَأَمَّا إذَا اقْتَرَنَتْ بِهِمَا قَرِينَةٌ فَيُعْلَمُ أَنَّ ذلك كان فيها في الِابْتِدَاءِ وَلَيْسَ ذلك نَقْضًا وَالنَّقْضُ أَنْ يُقَالَ كانت مُطْلَقَةً فَقُيِّدَتْ الْآنَ فَعَلَى هذا يَسْقُطُ ما قَالَهُ الْخَصْمُ تَخْصِيصًا من عِلَلِ السَّمْعِ بَلْ تَبَيَّنَ بِالْقَرِينَةِ أنها وَقَعَتْ في الِابْتِدَاءِ مُقَيَّدَةً ثُمَّ الْكَلَامُ في تَحْرِيرِ أُمُورٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْغَزَالِيَّ ذَكَرَ في شِفَاءِ الْعَلِيلِ أَنَّهُ لم يَصِحَّ عن الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ التَّصْرِيحُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ أو مَنْعُهُ وَنَقَلَ الدَّبُوسِيُّ تَعْلِيلَاتٍ عنهما مَنْقُوضَةً قال
____________________
(4/124)
وَهَذَا يَدُلُّ على قَبُولِهَا التَّخْصِيصَ انْتَهَى وَيُوَافِقُهُ ما ذَكَرَهُ الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِ الْأَعْلَامِ أَنَّ الْمُجَوِّزِينَ قَاسُوا بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْقِيَاسُ كَذَا لَوْلَا الْأَثَرُ والنظر كَذَا لَوْلَا الْخَبَرُ وَكَذَا أبو حَنِيفَةَ يقول الْقِيَاسُ كَذَا إلَّا أَنِّي أَسْتَحْسِنُ وَلَوْلَا الْأَثَرُ لَكَانَ الْقِيَاسُ كَذَا فَلَوْ كَانُوا يُبْطِلُونَ الْأَصْلَ الذي جَرَى الْقِيَاسُ فيه لَمَا وَجَدُوا الْأَثَرَ في الْعَيْنِ التي جاء الْأَثَرُ فيها انْتَهَى وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ نَقَلَ جَمَاعَةٌ عن أبي حَنِيفَةَ جَوَازَ التَّخْصِيصِ مُطْلَقًا وَحَكَى عن مَالِكٍ أَيْضًا وهو غَيْرُ ثَابِتٍ عنه وَأَنْكَرَ كَثِيرٌ من الْحَنَفِيَّةِ الْقَوْلَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَأَنْ يَكُونَ ذلك قَوْلًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وقال إنَّمَا يَتْرُكُ بَعْضُ أَسْلَافِنَا الْحُكْمَ بِعِلَّةٍ لِأَجْلِ عِلَّةٍ أُخْرَى هِيَ أَوْلَى منها فَأَمَّا على وَجْهِ تَخْصِيصِهَا فَلَا وَإِنَّمَا هذا اعْتِذَارٌ وَتَحَامٍ عن الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِهَا وَنَقَلَ ابن فُورَكٍ وابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا عن الشَّافِعِيِّ الْمَنْعَ وقال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ إنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ على أَنَّ الْقَوْلَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ بَاطِلٌ وَأَنَّ الْقَاضِيَ قال لو صَحَّ عِنْدِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ قال بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ ما كُنْت أُعِدُّهُ من جُمْلَةِ الْأُصُولِيِّينَ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ أَنَّ في كَلَامِ الشَّافِعِيِّ جَوَازَهُ قال وَذَكَرَ أَقْضَى الْقُضَاةِ يَعْنِي عَبْدَ الْجَبَّارِ في الشَّرْحِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يُجِيزُ ذلك وَإِنَّمَا يَعْدِلُ عن حُكْمِ عِلَّةٍ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى وَالْمَعْلُومُ من مَذْهَبِهِ أَنَّهُ شَرَطَ في الْعِلَّةِ التَّأْثِيرَ حتى لَا تُنْتَقَضَ قُلْت وفي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ في الْأُمِّ ما يَقْتَضِي الْجَوَازَ فإنه قال وَيَسُنُّ سُنَّةً في نَصٍّ مُعَيَّنٍ فَيَحْفَظُهَا حَافِظٌ وَلَيْسَ يُخَالِفُهُ في مَعْنًى وَيُجَامِعُهُ سَنَةً غَيْرَهَا لِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ فَيَحْفَظُ غَيْرَهُ تِلْكَ السَّنَةَ فإذا أَدَّى كُلَّ ما حَفِظَ رَأَى بَعْضُ السَّامِعِينَ اخْتِلَافًا وَلَيْسَ فيه شَيْءٌ مُخْتَلِفٌ انْتَهَى وَتَرْجَمَ عليه ابن اللَّبَّانِ في تَرْتِيبِ الْأُمِّ جَوَازَ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ لَا تَبْطُلُ بِالْمُعَارَضَةِ الثَّانِي مَثَّلَ ابن السَّمْعَانِيِّ الْمَسْأَلَةَ بِقَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ في عِلَّةِ الرِّبَا في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ هو الْوَزْنُ وَجَعَلُوا لِذَلِكَ فُرُوعًا من الْمَوْزُونَاتِ ثُمَّ جَوَّزُوا إسْلَامَ الدَّرَاهِمِ في الزَّعْفَرَانِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ مع اجْتِمَاعِهَا في الْوَزْنِ فَحَكَمُوا بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فَانْتَقَضَتْ عِلَّةُ الْوَزْنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ لم تَنْتَقِضْ قِيلَ قد نَاقَضَ الشَّافِعِيُّ أَصْلَهُ فإنه قال بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ في مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ الْوَاجِبُ في إتْلَافِ الْمِثْلِ الْمِثْلُ ثُمَّ خَصَّ هذا الْأَصْلَ في الْمُصَرَّاةِ فَأَوْجَبَ عليه في اللَّبَنِ الْمُسْتَهْلَكِ صَاعًا من تَمْرٍ وقال بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِلشِّدَّةِ وَقَاسَ عليها النَّبِيذَ وَلِلْخَمْرِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ التَّحْرِيمُ وَالتَّفْسِيقُ وَالْحَدُّ فَطَرَدَ عِلَّتَهُ في
____________________
(4/125)
الشَّرْعِ في الْحَدِّ ولم يَطْرُدْهَا في التَّفْسِيقِ فإنه لم تُرَدَّ شَهَادَةُ شَارِبِ النَّبِيذِ ولم يُحْكَمْ بِفِسْقِهِ وَأَيْضًا فإنه خَصَّ عِلَّةَ الرِّبَا في مَسْأَلَةِ الْعَرَايَا وَجَوَّزَ الْعَقْدَ من غَيْرِ وُجُودِ الْمُمَاثَلَةِ كَيْلًا وَكَذَلِكَ خَصَّ ضَمَانَ الْجَنِينِ بِالْغُرَّةِ مع مُخَالَفَةِ سَائِرِ أَجْنَاسِهِ وَكَذَلِكَ الدِّيَةُ على الْعَاقِلَةِ في سَائِرِ الْمَوَاضِعِ وَأَجَابَ بِأَنَّا لَا نُنْكِرُ وُجُودَ مَوَاضِعَ في الشَّرْعِ وَتَخْصِيصَهَا بِأَحْكَامٍ تُخَالِفُ سَائِرَ أَجْنَاسِهَا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَقُومُ في ذلك الْمَوْضِعِ على الْخُصُوصِ كَالْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ إنَّمَا الْمَمْنُوعُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَأَجَابَ الْقَفَّالُ عن الْعَرَايَا بِأَنَّ الْعِلَّةَ في تَحْرِيمِ الْمُزَابَنَةِ الْجَهْلُ الْكَثِيرُ وما أُجِيزَتْ فيه قَلِيلٌ فَتَكُونُ هذه عِلَّةً مُقَيِّدَةً لِعِلَّةِ الرِّبَا مُقَيِّدَةً لِلْجِنْسِ الثَّالِثُ أَنَّ الْمُجَوِّزِينَ لِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ تَمَسَّكُوا بِآيَاتٍ منها قَوْله تَعَالَى قالوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إنَّ له أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ فإن هذه الْعِلَّةَ التي قَصَدُوا بها إطْلَاقَهُ من يَدِ الْعَزِيزِ هِيَ مَوْجُودَةٌ في كل وَاحِدٍ منهم وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لم يَكُنْ في ذِهْنِهِمْ أَنَّ الْعَزِيزَ يَعْرِفُ أُخُوَّتَهُمْ الذي أَخَذُوا الِاحْتِرَازَ من مَحَلِّ النَّقْضِ إنَّمَا هو لِدَفْعِ الْمُعْتَرِضِ بِحَيْثُ لَا يَعْتَرِضُ إلَّا بِحَسَبِ الِاحْتِرَازِ عنه لَفْظًا وَتَكْفِي إرَادَتُهُ فَالْعِلَّةُ أَنَّ له أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا وَأَنَّهُ صَغِيرٌ يَصْدُرُ عليه من الْحُزْنِ ما لَا يَصْدُرُ على أَحَدٍ فَحَذَفَ هذا الْقَيْدَ مع إضْمَارِهِ وَإِنَّ في حَذْفِهِ لَفَائِدَةً جَلِيلَةً إذْ لم يَكُنْ لهم قَصْدٌ في التَّعْرِيفِ بِأُخُوَّتِهِمْ له وَلَوْ صَرَّحُوا له بِذِكْرِ هذا الْقَيْدِ لَفَهِمَ أُخُوَّتَهُمْ له فَتَأَمَّلْ هذا ما أَحْسَنَهُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى ما كان لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى من بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لهم أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ الْآيَةَ دَلَّ النَّصُّ على أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ من أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ثُمَّ اعْتَذَرَ عن اسْتِغْفَارِ إبْرَاهِيمَ بِالْوَعْدِ فَدَلَّ على جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ على الِامْتِنَاعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الْأُنْثَيَيْنِ فإنه طَالَبَ الْكُفَّارَ بِبَيَانِ الْعِلَّةِ فِيمَا ادَّعَوْا فيه الْحُرْمَةَ لِأَوْجُهٍ
____________________
(4/126)
لَا تَدْفَعُ لهم لِأَنَّهُمْ إذَا أَثْبَتُوا أَحَدَ هذه الْمَعَانِي أَنَّ الْحُرْمَةَ لِأَجْلِهِ انْتَقَضَ بِإِقْرَارِهِمْ بِالْجَوَازِ في الْمَوْضِعِ الْآخَرِ مع وُجُودِ ذلك الْمَعْنَى فيه وَلَوْ كان التَّخْصِيصُ في عِلَلِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ جَائِزًا لَمَا كَانُوا مَحْجُوجِينَ فإنه لَا يَعِزُّ أَنْ يُقَالَ امْتَنَعَ ثُبُوتُهُ هُنَاكَ لِمَانِعٍ الرَّابِعُ مَثَّلَ جَمَاعَةٌ من الْأَئِمَّةِ لِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ بِمَسْأَلَةِ الْعَرَايَا وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذلك إنْ قُلْنَا إنَّ تَحْرِيمَ الْمُزَابَنَةِ وَارِدٌ أَوَّلًا وَاسْتَقَرَّ ثُمَّ وَرَدَتْ رُخْصَةُ الْعَرَايَا فَإِنْ قُلْنَا إنَّ النَّهْيَ لم يَتَوَجَّهْ إلَى خُصُوصِ الْعَرَايَا وَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْمُزَابَنَةِ ما سِوَاهَا من بَابِ إطْلَاقِ الْعَامِّ وَإِرَادَةِ الْخَاصِّ فَلَا وَهَذَانِ الِاحْتِمَالَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ وَنَقَلَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عن الرَّبِيعِ عنه وَنَقَلَ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال أَوْلَى الِاحْتِمَالَيْنِ عِنْدِي الثَّانِي وقد يُقَالُ تَرْجِيحُ الثَّانِي يَقْتَضِي مَنْعَ كَوْنِ الْعَرَايَا رُخْصَةً الْخَامِسُ أَنَّ إلْكِيَا الطَّبَرِيَّ قَسَمَ الْمَسْأَلَةَ إلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا بِحَسَبِ الْمُنَاظَرَةِ وَالْآخَرُ الْمُجْتَهِدُ فَأَمَّا الْمُنَاظَرَةُ إذَا تَوَجَّهَ إلَيْهَا النَّقْضُ فَهَلْ له أَنْ يَقُولَ ثُمَّ لم أَحْكُمْ بِمِثْلِ ما حَكَمْت بِهِ هَاهُنَا لِمَانِعٍ وَيَتَكَلَّفُ عُذْرًا أَمْ لَا يَقْبَلُ ذلك من حَيْثُ إنَّهُ يُنَاقِضُ كَلَامَهُ فَلَزِمَهُ أَنْ يَسْكُتَ فيه خِلَافٌ وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَيَتْبَعُ الْعِلَّةَ الْمُطَّرِدَةَ في مَحَالِّهَا ثُمَّ حَكَى الْخِلَافَ السَّابِقَ السَّادِسُ أَنَّ الْمَانِعِينَ تَعَلَّقُوا بِأَنَّ التَّخْصِيصَ يُؤَدِّي إلَى تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ على مَعْنَى أَنَّهُ يَجْعَلُ الْمَعْنَى الذي تَعَلَّقَ بِهِ الْمُعَلِّلُ عِلَّةً في ضِدِّ ذلك الْحُكْمِ وَيُجْرِيهِ في كل مَوْضِعٍ إلَّا ما قام دَلِيلُهُ لِأَنَّ نَفْسَ هذا الْمَعْنَى تَعَلَّقَ عليه حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ جَعَلَ الْمُعَلِّلُ ما خَالَفَ حُكْمَهُ مَخْصُوصًا وما وَافَقَهُ تَعْمِيمًا فما الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ من جَعَلَ ما جَعَلَهُ أَصْلًا مَخْصُوصًا وما جَعَلَهُ مَخْصُوصًا أَصْلًا مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُعَلِّلُ طَهَارَةٌ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ قِيَاسًا على التَّيَمُّمِ فَيُقَالُ بَاطِلٌ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ فيقول إنَّهَا مَخْصُوصَةٌ فَتُقْلَبُ عليه فَتَقُولُ طَهَارَةٌ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ لِيُقَالَ بَاطِلٌ بِالتَّيَمُّمِ فيقول ذلك مَخْصُوصٌ فَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَوْلَى من الْآخَرِ قال الطَّبَرِيُّ وَهَذَا فيه نَظَرٌ فإن الْعِلَّةَ إذَا كانت دَالَّةً على الْحُكْمِ بِإِخَالَتِهَا وَتَأْثِيرِهَا في مَحَلِّ النَّصِّ فَفِيمَا عَدَاهُ لَا يَكُونُ دَلَالَتُهَا من نَاحِيَةِ الِاطِّرَادِ فَقَطْ لَكِنْ من نَاحِيَةِ التَّأْثِيرِ وَالْإِخَالَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ تَنَاقُضُ شَهَادَتِهِمَا حِينَئِذٍ أَمَّا إذَا كانت الدَّلَالَةُ تُتَلَقَّى من الِاطِّرَادِ الْمَحْضِ فَيَتَّجِهُ ادِّعَاءُ التَّكَافُؤِ في بَعْضِ الصُّوَرِ إنْ صَحَّ الْقَوْلُ بِالطَّرْدِ قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ تَقُولُ لِمَنْ خَصَّ الْعِلَّةَ بِمَا اسْتَنْبَطَ عَامٌّ أو خَاصٌّ إنْ ادَّعَيْت عُمُومَهُ
____________________
(4/127)
وَاسْتِغْرَاقَهُ بَطَلَتْ الدَّعْوَى بِالْمُنَاقَضَةِ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ لم تَدَّعِ عُمُومَهُ وَقُلْت إنَّهَا عِلَّةٌ في مَحَلٍّ دُونَ مَحَلٍّ فَلَعَلَّهَا عِلَّةٌ في الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عليه دُونَ الْفَرْعِ ثُمَّ قال إلْكِيَا من اشْتَرَطَ الِاطِّرَادَ وَمَنْعَ التَّخْصِيصِ فَإِنَّمَا يَشْتَرِطُ اطِّرَادَ كل عِلَّةٍ في فُرُوعِ مَعْلُولَاتِهَا لَا في فُرُوعِ مَعْلُومَاتِ غَيْرِهَا وَهَذَا لَا نِزَاعَ فيه وَإِنَّمَا النِّزَاعُ في عِلَّةٍ جُزْئِيَّةٍ لَا تَطَّرِدُ في فُرُوعِ مَعْلُولَاتِهَا فَلَا يَغْلِبُ على الظَّنِّ كَوْنُهَا عِلَّةً السَّابِعُ أَنَّهُ سَبَقَ في بَابِ الْعُمُومِ تَقْسِيمُ اللَّفْظِ إلَى ما قُصِدَ فيه الْعُمُومُ نَصًّا وَإِلَى ما لَا يُقْصَدُ فيه قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ في بَابِ التَّرْجِيحِ ما ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ من أَنَّ عِلَّةَ الشَّارِعِ عليه السَّلَامُ لَا تُنْقَضُ مَحْمُولٌ على ما قُصِدَ فيه الْعُمُومُ نَصًّا أَمَّا ما لم يُقْصَدْ فيه ذلك بَلْ قُصِدَ تَنْزِيلُ الْكَلَامِ على مَقْصُودٍ آخَرَ فَهَذَا هو الذي يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ التَّخْصِيصُ مَسْأَلَةٌ اقْتِصَارُ الشَّارِعِ على أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ الشَّارِعُ على أَحَقِّ الْوَصْفَيْنِ وَيَقُولَ إنَّهُ الْمُسْتَقِلُّ وَيَكُونُ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِوَصْفَيْنِ فإن ذلك خُلْفٌ قَالَهُ إلْكِيَا قال وَأَمَّا غَيْرُ ذلك فَإِنْ صَرَّحَ بِهِ وقال إنَّهُ تَعْلِيلٌ وَلَكِنْ لم أَطَّرِدْهُ في حُكْمٍ خَاصٍّ فقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ إنَّ ذلك مُمْتَنِعٌ فإنه يَكُونُ تَنَاقُضًا منه إلَّا أَنْ يَقُولَ هو دَلَالَةُ الْحُكْمِ دَلَالَةُ الْعُمُومِ وقال غَيْرُهُ يَجُوزُ فإنه لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مُتَضَمِّنًا مَصْلَحَةً في الْمَحَالِّ كُلِّهَا إلَّا في مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَصَارَ عِلَّةً كَمِثْلِ ذلك إلَّا حَيْثُ يَعْلَمُ الشَّرْعُ أَنَّهُ لو جَعَلَهُ تَعْلِيلًا لم يَكُنْ مَصْلَحَةً في مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَيَكُونُ الْمَحَلُّ كَالزَّمَانِ من جِهَةِ الْوَجْهِ الشَّرْطُ السَّابِعُ الْعَكْسُ وهو انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ وَالْمُرَادُ بِهِ انْتِفَاءُ الْعِلْمِ أو الظَّنِّ بِهِ إذْ لَا يَلْزَمُ من عَدَمِ الدَّلِيلِ عَدَمُ الْمَدْلُولِ وَإِلَى هذا الشَّرْطِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ أَشَارَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِقَوْلِهِ لَا تَكُونُ الْعِلَّةُ عِلَّةً حتى يُقْبِلَ الْحُكْمُ بِإِقْبَالِهَا وَيُدْبِرَ بِإِدْبَارِهَا وقد اُخْتُلِفَ في كَوْنِهِ شَرْطًا أَمَّا الْعَقْلِيَّةُ فَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ الْإِجْمَاعَ على اشْتِرَاطِ الِاطِّرَادِ وَالِانْعِكَاسِ فيها لَكِنْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ عَكْسُهَا وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ
____________________
(4/128)
الدِّينِ فقال وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَإِنَّهُمْ أَوْجَبُوا الْعَكْسَ في الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ وما أَوْجَبُوهُ في الشَّرْعِيَّةِ وَالدَّلِيلُ على عَدَمِ وُجُوبِهِ في الْعَقْلِيَّةِ فَذَكَرَهُ وَنَقَلَ الْقَاضِي بَعْدَ ذلك الِاتِّفَاقَ على عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَكْسِ في الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مُنَاقِضٌ لِنَقْلِهِ أَوَّلًا تَوَهُّمًا منه أَنَّ الْأَدِلَّةَ هِيَ الْعِلَلُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فإنه لَا يُشْتَرَطُ في الدَّلِيلِ الِانْعِكَاسُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِلَلَ الْعَقْلِيَّةَ كَالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَأَخَذَ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ من النَّصِّ السَّابِقِ أَنَّهُ يَرَى أَنَّ الطَّرْدَ وَالْعَكْسَ دَلِيلٌ على صِحَّةِ الْعِلَّةِ فقال وَصَارَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ فِيمَا حَكَاهُ ابن اللَّبَّانِ إلَى أَنَّهُ لَا يَدُلُّ على صِحَّتِهَا وَإِنْ كان من شُرُوطِهَا إذَا عَلِمْت ذلك فَاخْتَلَفُوا في الشَّرْعِيِّ على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عن ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ بَلْ إذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا صَحَّتْ وَإِنْ لم يَرْتَفِعْ بِعَدَمِهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بها إثْبَاتُ الْحُكْمِ دُونَ نَفْيِهِ كما يَصِحُّ الْمَعْنَى إذَا اطَّرَدَ ولم يَنْعَكِسْ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ وَنَقَلَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ عن أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَالثَّانِي يُعْتَبَرُ كَالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَلِأَنَّ عَدَمَ التَّأْثِيرِ في ارْتِفَاعِهَا دَلِيلٌ على عَدَمِ التَّأْثِيرِ في وُجُودِهَا وقال الْمَاوَرْدِيُّ في بَابِ الرِّبَا إنَّهُ هو الصَّحِيحُ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ في الْمُسْتَنْبَطَةِ دُونَ الْمَنْصُوصَةِ وَالرَّابِعُ وهو الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ إنْ تَعَدَّدَتْ الْعِلَّةُ فَلَا يُطَالَبُ بِالْعَكْسِ فَإِنَّا نُجَوِّزُ ازْدِحَامَ الْعِلَلِ على حُكْمٍ وَاحِدٍ فَلَا مَطْمَعَ في الْعَكْسِ معه وَكَذَا إذَا اسْتَنَدَ الْحُكْمُ إلَى حَدِيثٍ عَامٍّ وَقِيَاسٍ فَقَدْ لَا يَطَّرِدُ الْقِيَاسُ وَيَطَّرِدُ الْحَدِيثُ فَلَا يُطْلَبُ الْعَكْسُ وَإِنْ اتَّحَدَتْ الْعِلَّةُ فَلَا بُدَّ من عَكْسِهَا لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْعِلَّةِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ بَلْ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا بُدَّ له من عِلَّةٍ فإذا اتَّحَدَتْ الْعِلَّةُ وَانْتَفَتْ فَلَوْ بَقِيَ الْحُكْمُ لَكَانَ ثَابِتًا بِغَيْرِ سَبَبٍ أَمَّا حَيْثُ تَعَدَّدَتْ الْعِلَّةُ فَلَا يَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ بَعْضِ الْعِلَلِ بَلْ عِنْدَ انْتِفَاءِ جَمِيعِهَا وَأَطَالَ في الِاحْتِجَاجِ لِذَلِكَ قال في الْمَنْخُولِ فَكَأَنَّمَا نَقُولُ شَرْطُ الْعِلَّةِ الِانْعِكَاسُ إلَّا لِمَانِعٍ وقال الْهِنْدِيُّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ خِلَافٌ وَنِزَاعٌ لِأَحَدٍ وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ هذه الْمَسْأَلَةَ فَرْعُ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى اشْتِرَاطِ الِانْعِكَاسِ جُمْلَةً أَيْ سَوَاءٌ قُلْنَا بِاتِّحَادِ الْعِلَّةِ أو بِجَوَازِ اجْتِمَاعِهَا وَآخَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فقال أَمَّا الْتِزَامُ الْعَكْسِ مع
____________________
(4/129)
اتِّحَادِ الْعِلَّةِ وَانْتِفَاءِ تَوْقِيفِ مَانِعٍ فَلَا بُدَّ منه عِنْدَنَا وَالْإِنْصَافُ في ذلك أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَازِمٌ في الِاجْتِهَادِ وَلَا يَحْسُنُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ في الْمُنَاظَرَةِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في تَدْرِيسِهِ في أُصُولِ الْفِقْهِ ثُمَّ الَّذِينَ اشْتَرَطُوا الْعَكْسَ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ من قال لَا بُدَّ من عَكْسٍ على الْعُمُومِ كما شَرَطْنَا الِاطِّرَادَ عُمُومًا وَمِنْهُمْ من قال وهو الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ يَكْتَفِي بِالْعَكْسِ وَلَوْ في صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَذَكَرَ ابن الْحَاجِبِ وَالْبَيْضَاوِيُّ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَكْسِ مَبْنِيٌّ على مَنْعِ التَّعْلِيلِ لِلْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ فَمَنْ مَنَعَهُ اشْتَرَطَ الْعَكْسَ في الْعِلَّةِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِلْحُكْمِ إلَّا دَلِيلٌ وَاحِدٌ فَيَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِقَاءِ دَلِيلِهِ وَهَذَا الْبِنَاءُ أَشَارَ إلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ وَحَوَّمَ عليه الْآمِدِيُّ وقد يُقَالُ إنَّ من يُجَوِّزُ التَّعْلِيلَ بِعِلَّتَيْنِ لِعِلَّةٍ يَشْتَرِطُ الْعَكْسَ وَيَقُولُ عِنْدَ انْتِفَاءِ وَاحِدَةٍ بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ الْمُضَافِ إلَيْهَا وَذَلِكَ مُتَلَقًّى من الْقَوْلِ بِتَعَدُّدِ الْأَحْكَامِ وَمَنْ لَا يُعَلِّلُ إلَّا بِوَاحِدَةٍ يُجَوِّزُ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ وَبَقَاءَهُ لَا بِعِلَّةٍ أَصْلًا بَلْ عن دَلِيلٍ من الشَّرْعِ تَعَبُّدِيٍّ فلم يَكُنْ انْتِفَاءُ الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ مُسْتَلْزِمًا لِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ وقال ابن الْمُنِيرِ حَيْثُ قُلْنَا بِامْتِنَاعِ تَعَدُّدِ الْعِلَلِ وَإِنَّ الْعَكْسَ لَازِمٌ فَلَا نَعْنِي بِلُزُومِهِ ما أَرَادَهُ مُشْتَرِطُوهُ بَلْ نَقُولُ من الزُّهُوقِ حُكْمًا بِعِلَّةٍ فَقِيلَ له قد وَجَدَ الْحُكْمَ في صُورَةِ كَذَا بِدُونِ هذا الْوَصْفِ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ لَا ضَيْرَ لِأَنَّ الْعِلَّةَ عِنْدِي إمَّا الْوَصْفُ الذي ذَكَرْته أو أَمْرٌ صَادِقٌ على الْوَصْفِ صِدْقًا لِلْعَامِّ على الْخَاصِّ وَأَيًّا ما كان حَصَلَ الْغَرَضُ من صِدْقِ الْعِلَّةِ على الْوَصْفِ لِأَنَّهُ إنْ كان عِلَّةً بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ أَحَدَ وَصْفَيْنِ يَصْدُقُ على كُلٍّ مِنْهُمَا عِلَّةٌ فَقَدْ صَدَقَ الْعِلَّةُ على هذا الْوَصْفِ فَحَصَلَ الْغَرَضُ وَإِنْ كان الْحُكْمُ ثَابِتًا في صُورَةٍ أُخْرَى بِدُونِ هذا الْوَصْفِ وَهَذَا كَشَفَ الِاضْطِرَابَ في هذه الْمَسْأَلَةِ فإن الَّذِينَ اشْتَرَطُوا الْعَكْسَ فَهِمُوا أَنَّهُ من لَوَازِمِ وُجُودِ الْعِلَّةِ وَلَكِنْ وَهَمُوا في اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْوَصْفَ مَهْمَا صَدَقَ عليه الْعِلَّةُ لَزِمَ أَنْ يَنْتَفِيَ الْحُكْمُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً صَدَقَ الْعِلَّةُ عليه كما يَصْدُقُ الْعَامُّ على الْخَاصِّ فَلَا يَلْزَمُ من نَفْيِ الْخَاصِّ نَفْيُ الْعَامِّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُوجَدَ الْعَامُّ بِوُجُودِ خَاصٍّ آخَرَ وَإِنْ لَزِمَ من وُجُودِ الْخَاصِّ وُجُودُ الْعَامِّ نعم يَلْزَمُ من نَفْيِ الْوَصْفِ نَفْيُ الْحُكْمِ إذَا كان صَدَقَ الْعِلَّةُ عليه بِمَعْنَى أَنَّهُ هو الْعِلَّةُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ هذا الْوَصْفَ وَهَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا عُرِفَ الْوَصْفُ وَاَلَّذِينَ لم يَشْتَرِطُوا الْعَكْسَ فَهِمُوا أَنَّ بَعْضَ الْأَوْصَافِ الْمُتَّفَقِ على عِلِّيَّتِهَا يَنْتَفِي مع ثُبُوتِ الْحُكْمِ فَاعْتَقَدُوا الْعَكْسَ لَغْوًا بِالْكُلِّيَّةِ وَفَاتَهُمْ أَنَّ الْعَكْسَ ما ثَبَتَ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ وَإِنَّمَا ثَبَتَ عِنْدَ
____________________
(4/130)
انْتِفَاءِ وَصْفٍ يَصْدُقُ عليه الْعِلَّةُ صِدْقَ الْعَامِّ على الْخَاصِّ فلم يَلْزَمْ من نَفْيِ الْخَاصِّ نَفْيُ الْعَامِّ وهو الْعِلَّةُ نعم لو انْتَفَى ذلك الْعَامُّ وهو الْعِلَّةُ بِانْتِفَاءِ جَمِيعِ الْخَاصِّ لَزِمَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ قَطْعًا ثُمَّ قال وَالْعَكْسُ على الْمُخْتَارِ عِنْدِي عِبَارَةٌ عن نَفْيِ الْحُكْمِ عِنْدَ نَفْيِ الْعِلَّةِ وَعَلَى مُخْتَارِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ النَّفْيُ عِلَّةٌ لِلنَّفْيِ وَالسَّبَبُ في هذا الِاخْتِلَافِ أَنَّ بَعْضَ الْعِلَلِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيُهُ وُجُودَ عِلَّةٍ أُخْرَى مُشْعِرَةٍ بِالنَّقْضِ فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ ذلك لِارْتِبَاطٍ بين النَّفْيِ وَالنَّفْيُ ليس كَذَلِكَ الشَّرْطُ الثَّامِنُ أَنْ تَكُونَ أَوْصَافُهُمَا مُسَلَّمَةً أو مَدْلُولًا عليها وإذا نُوزِعَ الْمُعَلِّلُ في وَصْفِ الْعِلَّةِ جَازَ له أَنْ يَدُلَّ على صِحَّتِهِ إنْ كان مُجِيبًا وَلَيْسَ لِلسَّائِلِ إنْ نُوزِعَ وَصْفُ الْعِلَّةِ أَنْ يَدُلَّ على صِحَّتِهِ الشَّرْطُ التَّاسِعُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ الْمَقِيسُ عليه مُعَلَّلًا بِالْعِلَّةِ التي تَعَلَّقَ عليها الْحُكْمُ في الْفَرْعِ بِنَصٍّ أو إجْمَاعٍ ذَكَرَهُ وما قَبْلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وقال وَاخْتَلَفُوا في أَنَّهُ هل يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْفَرْعِ عِلَّةَ الْأَصْلِ أَمْ لَا فقال أَصْحَابُنَا إنْ كان حُكْمُ الْأَصْلِ ثَبَتَ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عليه الْفَرْعُ إلَّا بِتِلْكَ الْعِلَّةِ وَإِنْ كان قد ثَبَتَ في الْأَصْلِ بِنَصٍّ أو إجْمَاعٍ قِيسَ عليه الْفَرْعُ بِعِلَّةٍ مُسْتَخْرَجَةٍ بِالِاجْتِهَادِ فَأَمَّا إلْحَاقُ الْفَرْعِ بِأَصْلِهِ بِعِلَّةٍ لم يَتَعَلَّقْ بها الْحُكْمُ في الْأَصْلِ الْمَعْلُولِ فَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَلِهَذَا قالوا في رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على عَبْدٍ في يَدِ الْآخَرِ أَنَّهُ وَهَبَهُ له وَأَقْبَضَهُ وَأَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً على أَنَّهُ بَاعَهُ منه ولم تُؤَرَّخْ الْبَيِّنَتَانِ أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي أَدَلُّ لِأَنَّ عَدَمَ التَّأْرِيخِ في الْعَقْدَيْنِ يُوجِبُ عِنْدَهُمْ وُقُوعَهُمَا مَعًا في الْحُكْمِ وَمَتَى وَقَعَا سَبَقَ وُقُوعُ الْمِلْكِ بِالشِّرَاءِ الْمِلْكَ بِالْهِبَةِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَالْهِبَةُ لَا تُوجِبُهُ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَهَذِهِ الْعِلَّةُ عِنْدَهُمْ تُوجِبُ الْحُكْمَ بِالْبَيْعِ دُونَ الْهِبَةِ ثُمَّ قالوا لو أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ على الرَّهْنِ وَالْآخَرُ على الْهِبَةِ وَشَهِدَتْ الشَّهَادَتَانِ على الْقَبْضِ كان الرَّهْنُ أَوْلَى من الْهِبَةِ لِأَنَّهُمَا قد تَسَاوَيَا في أَنَّ شَرْطَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقَبْضَ وَالرَّهْنَ يُشْبِهُ الْبَيْعَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا من ضَمَانِ الدَّيْنِ وَالثَّمَنِ فَقَاسُوا الرَّهْنَ على الْبَيْعِ بِعِلَّةٍ غَيْرِ الْعِلَّةِ التي أَوْجَبَتْ كَوْنَ الْبَيْعِ أَوْلَى من الْهِبَةِ وقال ابن الْقَطَّانِ الْعِلَّةُ في الْفَرْعِ لَيْسَتْ هِيَ الْعِلَّةَ في الْأَصْلِ بَلْ مِثْلُهَا الشَّرْطُ الْعَاشِرُ أَنْ لَا تَكُونَ في الْفَرْعِ مُوجِبَةً حُكْمًا وفي الْأَصْلِ حُكْمًا
____________________
(4/131)
آخَرَ غَيْرَهُ كَاعْتِلَالِ من قال لَا زَكَاةَ في مَالِ الصَّبِيِّ قِيَاسًا على سُقُوطِ الْجِزْيَةِ عن أَمْوَالِهِمْ بِعِلَّةِ الصِّغَرِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ من الْعِلَّةِ الْجَمْعُ بين الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ في الْحُكْمِ الْوَاحِدِ وإذا كان حُكْمُهَا في الْفَرْعِ غير حُكْمِهَا في الْأَصْلِ خَرَجَتْ عن أَنْ تَكُونَ عِلَّةً الْحَادِيَ عَشَرَ أَنْ لَا تُوجِبَ ضِدَّيْنِ بِأَنْ تَنْقَلِبَ على الْمُعَلَّلِ في ضِدِّ حُكْمِهَا لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ شَاهِدَةٌ بِحُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ كَالشَّاهِدَيْنِ إذَا شَهِدَا لِلْمُدَّعِي بِدَعْوَاهُ وَشَهِدَا لِلْمُدَّعَى عليه بِبَرَاءَتِهِ من دَعْوَى الْمُدَّعِي تَبْطُلُ شَهَادَتُهُمَا جميعا فَلِذَلِكَ تَبْطُلُ شَهَادَةُ الْعِلَّةِ لِلْحُكْمَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ هَكَذَا قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وقال ابن الْقَطَّانِ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْعِلَّةَ يَجُوزُ أَنْ تَدُلَّ على الضِّدَّيْنِ كما يَدُلُّ وُجُودُ الْحَرَكَةِ على حَرَكَةِ الْجِسْمِ وَعَلَى أنها إذَا عَدِمَتْ عَدِمَتْ الْحَرَكَةَ ثُمَّ خَالَفَهُ أبو الْحُسَيْنِ لِأَنَّ الْأَصْلَ إذَا كان مَثَلًا الْوَاطِئُ في رَمَضَانَ فَفِيهِ كَفَّارَةٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُوجَدَ منه دَلَالَةُ الْكَفَّارَةِ وَأَنْ لَا كَفَّارَةَ الثَّانِيَ عَشَرَ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ ثُبُوتُهَا عن ثُبُوتِ الْأَصْلِ خِلَافًا لِقَوْمٍ كما يُقَالُ فِيمَا أَصَابَهُ عَرَقُ الْكَلْبِ أَصَابَهُ عَرَقُ حَيَوَانٍ نَجِسٍ فَيَكُونُ نَجِسًا كَلُعَابِهِ فَيَمْنَعُ كَوْنَ عَرَقِ الْكَلْبِ نَجِسًا فَيُقَالُ لِأَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ فإن اسْتِقْذَارَهُ إنَّمَا يَحْصُلُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِنَجَاسَتِهِ فَكَانَ كما يُعَلَّلُ سَلْبُ الْوِلَايَةِ عن الصَّغِيرَةِ بِالْجُنُونِ الْعَارِضِ لِلْوَلِيِّ لنا لو تَأَخَّرَتْ الْعِلَّةُ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ عن الْحُكْمِ لَثَبَتَ الْحُكْمُ بِغَيْرِ بَاعِثٍ وهو مُحَالٌ وَإِنْ جَعَلْنَا الْعِلَّةَ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ لَزِمَ تَعْرِيفُ الْمُعَرَّفِ وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا تَجْوِيزَ كَوْنِ وَصْفِ الْعِلَّةِ مُتَأَخِّرًا عن حُكْمِهَا فَاعْتَلَّ في إسْقَاطِ الزَّكَاةِ عن الْخَيْلِ بِالِاخْتِلَافِ في جَوَازِ أَكْلِهِ قِيَاسًا على الْحَمِيرِ قال وَهَذَا اعْتِلَالٌ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْخِلَافَ في إبَاحَةِ لُحُومِ الْخَيْلِ إنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ وَفَاةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالزَّكَاةُ فِيمَا فيه الزَّكَاةُ إنَّمَا وَجَبَتْ في حَيَاتِهِ وَكَذَلِكَ سُقُوطُهَا عَمَّا سَقَطَتْ عنه الزَّكَاةُ كان في حَيَاتِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ عِلَّةُ سُقُوطِهَا عن شَيْءٍ مُتَأَخِّرَةً عن سُقُوطِهَا عنه وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ اخْتَلَفُوا في الْعِلَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عن الْحُكْمِ هل يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فقال قَوْمٌ من أَهْلِ الْعِرَاقِ يَجُوزُ وَعَلَّلُوا طَهَارَةَ جِلْدِ الْكَلْبِ بِالدِّبَاغِ كَالْكَلْبِ قال وَمِنْهُمْ من مَنَعَ ذلك وهو قَوْلُنَا وَقَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ يَكُنْ له دَلِيلٌ
____________________
(4/132)
لم يَجُزْ قال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عنه في الْوُجُودِ وَقِيلَ بِجَوَازِهِ وهو الْحَقُّ إنْ أُرِيدَ بِالْعِلَّةِ الْعُرْفُ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ تَأْخِيرُ الْمُعَرَّفِ فَإِنْ أُرِيدَ بها الْمُوجِبُ وَالْبَاعِثُ فَلَا لَكِنْ قد تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْلِيلُ حُكْمُ الْأَصْلِ بِالْأَمَارَةِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَجُوزَ تَعْلِيلُ حُكْمِ الْأَصْلِ بِالْعِلَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عنه في الْوُجُودِ لَكَانَ لَا لِكَوْنِهَا مُتَأَخِّرَةً بَلْ لِكَوْنِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعَرِّفَةً وَأَمَّا في غَيْرِهِ فَيَجُوزُ الثَّالِثَ عَشَرَ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُعَيَّنًا لِأَنَّ رَدَّ الْفَرْعِ إلَيْهَا لَا يَصِحُّ إلَّا بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ فَلَوْ اُدُّعِيَ عليه شَيْءٌ مُشْتَرَكٌ مُبْهَمٌ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لم يُقْبَلْ منه إلَّا عِنْدَ بَعْضِ الْجَدَلِيِّينَ الرَّابِعَ عَشَرَ أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إثْبَاتِهَا شَرْعِيًّا كَالْحُكْمِ ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ في جَدَلِهِ الْخَامِسَ عَشَرَ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ وَصْفًا مُقَدَّرًا خِلَافًا لِلرَّازِيِّ قال الْهِنْدِيُّ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِالصِّفَاتِ الْمُقَدَّرَةِ خِلَافًا لِلْأَقَلِّينَ من الْمُتَأَخِّرِينَ كَقَوْلِنَا جَوَازُ التَّصَرُّفَاتِ نحو الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ مُعَلَّلٌ بِالْمِلْكِ وَلَا وُجُودَ له في نَظَرِ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ فَيُقَدَّرُ له وُجُودٌ في نَظَرِ الشَّرْعِ لِئَلَّا يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُعَلَّلًا بِمَا لَا وُجُودَ له حَقِيقَةً وَلَا تَقْدِيرًا فَيَكُونُ عَدَمًا مَحْضًا وَنَفْيًا صِرْفًا وهو مُمْتَنِعٌ فَنَقُولُ الْمِلْكُ مَعْنًى مُقَدَّرٌ شَرْعِيٌّ في الْمَحَلِّ أَثَرُهُ جَوَازُ التَّصَرُّفَاتِ وَغَيْرِهَا قُلْت وَكَتَعْلِيلِ الْعِتْقِ عن الْغَيْرِ بِتَقْدِيرِ الْمِلْكِ هذا إذَا قِيلَ بِالْمُقَدَّرَاتِ فإن الْإِمَامَ فَخْرَ الدِّينِ أَنْكَرَ وُجُودَهَا في الشَّرْعِ قال ليس الْوَلَاءُ لِلْمُعْتَقِ عنه بِتَقْدِيرِ الْمِلْكِ له وَأُنْكِرَ تَقْدِيرُ الْأَعْيَانِ في الذِّمَّةِ قال صَاحِبُ التَّنْقِيحِ وَهَذَا بَعِيدٌ فإنه لَا يَكَادُ يُوجَدُ بَابٌ من أَبْوَابِ الْفِقْهِ يَعْرَى عنها أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو أَسْلَمَ على إرْدَبِّ قَمْحٍ صَحَّ الْعَقْدُ مع أَنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا في الذِّمَّةِ وَإِلَّا لَكَانَ عَقْدًا بِلَا مَعْقُودٍ عليه وَكَذَا إذَا بَاعَهُ بِلَا ثَمَنٍ وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ لَا بُدَّ من تَقْدِيرِ مَنَافِعَ في الْأَعْيَانِ حتى يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مُورِدًا لِلْعَقْدِ وَكَذَلِكَ الْوَقْفُ وَالْعَارِيَّةُ لَا بُدَّ من تَخَيُّلِ ذلك فيها وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ على الدَّيْنِ وَغَيْرِهِ وَلَا بُدَّ من تَخَيُّلِ ذلك عليه وإذا لم يُقَدَّرْ الْمِلْكُ لِلْمُعْتَقِ عنه كَيْفَ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ من الْكَفَّارَةِ التي عَتَقَ عنها فَكَيْفَ يَكُونُ له الْوَلَاءُ في غَيْرِ عَبْدٍ يَمْلِكُهُ مُحَقَّقًا فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا
____________________
(4/133)
وَالتَّصْوِيرُ في هذا الْبَابِ كَثِيرٌ السَّادِسَ عَشَرَ أَنْ لَا يَكُونَ عَدَمًا في الْحُكْمِ الثُّبُوتِيِّ عِنْدَ الْإِمَامِ الرَّازِيَّ وَغَيْرِهِ وَخَالَفَهُ الْآمِدِيُّ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْعَدَمِيِّ بمثله وَالْعَدَمِيِّ بِالْوُجُودِيِّ بِلَا خِلَافٍ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في تَعْلِيلِ الْوُجُودِيِّ بِالْعَدَمِيِّ على قَوْلَيْنِ فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُتَقَدِّمِينَ منهم الْقَاضِي أبو بَكْرٍ الطَّيِّبُ الطَّبَرِيُّ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وأبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ إلَى الْجَوَازِ لِأَنَّ لَا مَعْنَى لِلْعِلَّةِ إلَّا الْمُعَرِّفُ وهو غَيْرُ مُنَافٍ لِلْعَدَمِ وَمِثَالُهُ عِلَّةُ تَحْرِيمِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَدَمُ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ وَذَهَبَ الْقَاضِي أبو حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيُّ كما قَالَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في التَّبْصِرَةِ إلَى الْمَنْعِ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِوُجُودِ مَعْنًى يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ وَالنَّفْيُ عَدَمُ مَعْنًى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ الْحُكْمَ وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا وَلِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ وَمِنْ حُجَّةِ الْمَانِعِ أَنَّ الْعِلَّةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَنْشَأً لِلْحِكْمَةِ كَالسَّرِقَةِ الْمَنْصُوبَةِ عِلَّةً لِلْقَطْعِ فَإِنَّهَا مَنْشَأُ الْحِكْمَةِ إذْ كَوْنُهَا جِنَايَةً وَمَفْسَدَةً إنَّمَا نَشَأَ من ذَاتِهَا لَا من خَارِجٍ عنها وَهَذَا مُنَازَعٌ فيه فإن الْعِلَّةَ لَا يُشْتَرَطُ فيها ذلك بَلْ يَكْفِي كَوْنُهَا أَمَارَةً على الْحِكْمَةِ وَحِينَئِذٍ فَالْعَدَمُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ أَمَارَةً عليها وقد سَاعَدَ الْخَصْمَ على جَوَازِ تَعْلِيلِ الْعَدَمِ بِالْعَدَمِ وهو اعْتِرَافٌ منه بِإِمْكَانِ جَعْلِ الْعَدَمِ أَمَارَةً وإذا أَمْكَنَ ذلك في طَرَفِ الْعَدَمِ أَمْكَنَ في الطَّرَفِ الْآخَرِ لِأَنَّ الظُّهُورَ لَا يَخْتَلِفُ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ أَنْكَرَهُ قَوْمٌ في الْعَقْلِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ وَجَوَّزَهُ آخَرُونَ فِيهِمَا جميعا قال وَفَصَّلَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا فَجَوَّزَهُ في الشَّرْعِيَّاتِ دُونَ الْعَقْلِيَّاتِ وقد قال الشَّافِعِيُّ فِيمَا رَدَّ على الْعِرَاقِيِّينَ في خَرَاجِ الْبَيْعِ من غَلَّةٍ وَثَمَرَةٍ وَوَلَدٍ إنَّ ذلك كُلَّهُ مِمَّا لم يَقَعْ عليه صَفْقَةُ الْبَيْعِ وقال الْمُزَنِيّ في إبَاحَةِ الْقَصْرِ لِمَنْ لم يَكُنْ عَزَمَ على الْمُقَامِ وقال إلْكِيَا إنْ كان الْحُكْمُ من قَبِيلِ الْأَحْكَامِ الْجُزْئِيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ على الْأُصُولِ تَطَرَّقَ الْقِيَاسُ إلَيْهِ من جِهَتَيْ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ كَقَوْلِنَا لَا كَفَّارَةَ على الْأَكْلِ وَلَا على من أَفْطَرَ ظَنًّا وَإِنْ أَمْكَنَ تَلَقِّيه من أَمَارَةٍ غَيْرِ الْقِيَاسِ لم يَمْتَنِعْ تَلَقِّيه من الْقِيَاسِ وقال الْهِنْدِيُّ الْحُكْمُ وَالْعِلَّةُ إمَّا أَنْ يَكُونَ ثُبُوتِيَّيْنِ كَثُبُوتِ الرِّبَا لِعِلَّةِ الطُّعْمِ أو عَدَمِيَّيْنِ كَعَدَمِ صِحَّةِ الْبَيْعِ لِعَدَمِ الرِّضَا وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ لَا نِزَاعَ فِيهِمَا هَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَفِيهِ نَظَرٌ فإن من يَجْعَلُ الْعِلَّةَ ثُبُوتِيَّةً يَنْبَغِي أَنْ لَا يُجَوِّزَ قِيَاسَهَا بِالْعَدَمِ سَوَاءٌ كان عِلَّةُ الْحُكْمِ الثُّبُوتِيَّ أو الْعَدَمِيَّ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ ثُبُوتِيَّةً وَالْحُكْمُ عَدَمِيًّا كَعَدَمِ
____________________
(4/134)
وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِثُبُوتِ الدَّيْنِ وَهَذَا الْقِسْمُ تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ تَعْلِيلًا بِالْمَانِعِ وهو مَبْنِيٌّ على جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَاخْتَلَفُوا في أَنَّهُ هل من شَرْطِ وُجُودِ الْمُقْتَضَى أَمْ لَا وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ عَدَمِيَّةً وَالْحُكْمُ ثُبُوتِيًّا كَاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ لِعَدَمِ الْفَسْخِ في زَمَانِ الْخِيَارِ وَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ الْجَوَازِ انْتَهَى وَمِمَّنْ اخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وَصَاحِبُ التَّنْقِيحِ وَالْإِمَامُ في الْمَعَالِمِ وَاخْتَارَ في الْمَحْصُولِ الْجَوَازَ وقال في الرِّسَالَةِ الْبَهَائِيَّةِ إنْ كان الْوَصْفُ ضَابِطًا لِحِكْمَةِ مَصْلَحَةٍ يَلْزَمُ حُصُولُ الْمَفْسَدَةِ عِنْدَ ارْتِفَاعِهَا كان عَدَمُ ذلك الْوَصْفِ ضَابِطًا لِتِلْكَ الْمَفْسَدَةِ فَيَكُونُ ذلك الْعَدَمُ مُنَاسِبًا لِلْحُرْمَةِ وقال ابن الْمُنِيرِ الْمُخْتَارُ أَنَّ النَّفْيَ لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ الثُّبُوتِيِّ وَلَا لِلنَّفْيِ لِأَنَّ النَّفْيَ الْمَفْرُوضَ عِلَّتُهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّفْيَ الْمُطْلَقَ بِاتِّفَاقٍ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا مُضَافًا إلَى أَمْرٍ وَذَلِكَ الْأَمْرُ إنْ كان مَنْشَأَ مَصْلَحَةٍ اسْتَحَالَ أَنْ يُعَلَّلَ بِنَفْيِهِ حُكْمٌ ثُبُوتِيٌّ إذْ عَدَمُ الْمَصْلَحَةِ لَا يَكُونُ عِلَّةً في الْحُكْمِ وَإِنْ كان مَنْشَأَ مَفْسَدَةٍ فَهُوَ مَانِعٌ وَنَفْيُ الْمَانِعِ لَا يَكُونُ عِلَّةً وَإِنْ كانت الْعِلَّةُ بِمَعْنَى الْمُعَرِّفِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَمُ عِلَّةً لِلْوُجُودِ وَإِنْ كان الْمُرَادُ جَمِيعَ ما يَتَوَقَّفُ عليه الشَّيْءُ جَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ أَمْرًا عَدَمِيًّا بِدَلِيلِ أَنَّ وُجُودَ الضِّدِّ في الْمَحَلِّ يَقْتَضِي عَدَمَ الضِّدِّ الْآخَرِ في الْمَحَلِّ فَقَدْ صَارَ الْعَدَمُ جُزْءًا من الْعِلَّةِ وَلَكِنْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ أَجْزَائِهَا عَدَمِيًّا لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الْعَدَمِ الصِّرْفِ عِلَّةً لِلْأَمْرِ الْوُجُودِيِّ وَالْعِلْمِ بِهِ وَإِنْ كان الْمُرَادُ بِالْعِلَّةِ هو الْمَعْنَى الْمَوْجُودُ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ من أَجْزَائِهِ عَدَمِيًّا لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَكُونُ جُزْءًا من الْعِلَّةِ الْمُعَيَّنَةِ الْمَوْجُودَةِ وَالْعِلْمُ بِهِ ضَرُورِيٌّ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ قال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ التَّحْقِيقُ أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ لَا يُتَصَوَّرُ لِأَنَّهُ إنْ كان في الْعَدَمِ الْمَحْضِ الذي ليس فيه إضَافَةٌ إلَى شَيْءٍ فَلَا يُعَلَّلُ بِهِ قَطْعًا وَإِنْ كان في الْأَعْدَامِ الْمُضَافَةِ فَيَصِحُّ أَنْ يُعَلَّلَ بها قَطْعًا كما تَكُونُ شُرُوطًا خُصُوصًا في الشَّرْعِيَّةِ فَهِيَ أَمَارَاتٌ فَلْيُتَأَمَّلْ وَجَعَلَ النَّصِيرُ الطُّوسِيُّ في شَرْحِ التَّحْصِيلِ الْخِلَافَ في الْعَدَمِ الْمُقَيَّدِ كما يُقَالُ عَدَمُ الْمَالِ عِلَّةُ الْفَقْرِ أَمَّا الْمُطْلَقُ فَلَا يُعَلَّلُ وَلَا يُعَلَّلُ بِهِ قَطْعًا الثَّانِي أَنَّ الْخِلَافَ يَجْرِي في الْجُزْءِ أَيْضًا فَالْمَانِعُونَ اشْتَرَطُوا أَنْ لَا يَكُونَ الْعَدَمُ جُزْءًا من الْعِلَّةِ كما يَكُونُ كُلًّا وَالْمُجَوِّزُونَ في الْكُلِّ جَوَّزُوهُ في الْجُزْءِ
____________________
(4/135)
الثَّالِثُ لو وَرَدَ من الشَّرْعِ لَفْظٌ يَدُلُّ بِظَاهِرِهِ على ثُبُوتِ تَعْلِيلِ الثُّبُوتِ بِالْعَدَمِ نَحْوُ أُثْبِتَ حُكْمٌ بهذا الْعَدَمِ كَذَا فقال الْبَزْدَوِيُّ وهو من الْمَانِعِينَ يَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ اللَّفْظِ وَحَمْلُهُ على غَيْرِ التَّعْلِيلِ من تَأْقِيتٍ أو غَيْرِهِ جَمْعًا بين الدَّلِيلَيْنِ وَرُدَّ عليه بِأَنَّ التَّعْلِيلَ عِنْدَهُ عِبَارَةٌ عن نَصْبِ الْأَمَارَةِ خَاصَّةً فإذا حُمِلَ الْكَلَامُ على التَّأْقِيتِ رَجَعَ إلَى الْأَمَارَةِ فَكَأَنَّهُ فَرَّ من التَّعْلِيلِ فَوَقَعَ في التَّعْلِيلِ فَرْعَانِ أَحَدُهُمَا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يُعَلَّلُ قالوا إنَّ الْمَعْدُومَ وَالْمَوْجُودَ رُتْبَةٌ ثَالِثَةٌ وَهِيَ النِّسَبُ وَالْإِضَافَاتُ وَجَوَّزُوا التَّعْلِيلَ بها وَقَالُوا ليس من شُرُوطِ الْعِلَّةِ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وُجُودِيًّا بَلْ من شُرُوطِهَا أَلَّا تَكُونَ عَدَمِيَّةً ثُمَّ تَارَةً تَكُونُ أَمْرًا وُجُودِيًّا وَتَارَةً تَكُونُ أَمْرًا مَعْلُومًا من قَبِيلِ النِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ وَبِهِ يَظْهَرُ الْمَعْنَى في قَوْلِهِمْ أَنْ لَا يَكُونَ عَدَمِيًّا ولم يَقُولُوا أَنْ يَكُونَ وُجُودِيًّا وَمِثَالُهُ قَوْلُنَا الْبُنُوَّةُ مُقَدَّمَةٌ على الْأُبُوَّةِ وَهَذَا عِلَّةُ الْمِيرَاثِ وَهُمَا إضَافِيَّانِ ذِهْنِيَّانِ لَا وُجُودَ لَهُمَا في الْأَعْيَانِ وقد اُخْتُلِفَ في التَّعْلِيلِ بِهِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَالْحَقُّ ابْتِنَاءُ هذا الْخِلَافِ على أَنَّ الْإِضَافِيَّاتِ من الْأُمُورِ الْعَدَمِيَّةِ أو الْوُجُودِيَّةِ فَإِنْ قُلْنَا عَدَمِيَّةٌ فَالْكَلَامُ فيه كما سَبَقَ في الْعَدَمِيِّ وَإِنْ قُلْنَا وُجُودِيَّةٌ فَهِيَ كَالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِأَنَّهُ ليس فيه مَعْنًى مُنَاسِبٌ فَهُوَ عِلَّةٌ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ الثَّانِي الْوَصْفُ التَّقْدِيرِيُّ هو كَالْعَدَمِيِّ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ في الْخَارِجِ وَإِنَّمَا قُدِّرَ له وُجُودٌ لِلضَّرُورَةِ فِيمَا يُخْرِجُهُ عن كَوْنِهِ عَدَمِيًّا تَعْلِيلُ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ لِمُعْتَقٍ عنه بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ له وَتَوْرِيثُ الدِّيَةِ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمَقْتُولِ قبل مَوْتِهِ في الزَّمَنِ الْفَرْدِ فإنه حَيٌّ لَا يَسْتَحِقُّهَا وما لَا يَمْلِكُ لَا يُورَثُ عنه وَالْمِلْكُ بَعْدَ الْمَوْتِ مُحَالٌ فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْمِلْكِ قبل الزُّهُوقِ وَالْخِلَافُ فيه أَضْعَفُ من الْخِلَافِ في الْعَدَمِيِّ تَنْبِيهٌ امْتِنَاعُ الشَّيْءِ مَتَى دَارَ اسْتِنَادُهُ إلَى عَدَمِ الْمُقْتَضَى أو وُجُودِ الْمَانِعِ كان اسْتِنَادُهُ إلَى عَدَمِ الْمُقْتَضَى أَوْلَى لِأَنَّا لو أَسْنَدْنَاهُ إلَى وُجُودِ الْمَانِعِ لَكَانَ الْمُقْتَضَى قد وُجِدَ وَتَخَلَّفَ أَثَرُهُ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ وَهَذَا كَتَعْلِيلِهِمْ عَدَمَ صِحَّةِ بَيْعِ الصَّبِيِّ بِعَدَمِ التَّكْلِيفِ أَوْلَى من التَّعْلِيلِ بِالصِّبَا وَفِيهِ الْخِلَافُ في تَعْلِيلِهِمْ مَنْعَ إطْلَاقِهِمْ كَافِرٌ على من أَسْلَمَ بِاعْتِبَارِ ما كان عليه فقال الْجُمْهُورُ لِوُجُودِ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ وقال ابن الْحَاجِبِ لِعَدَمِ الْمُقْتَضَى وهو
____________________
(4/136)
عَدَمُ الْمُشْتَقِّ منه حَالَةَ الْإِطْلَاقِ السَّابِعَ عَشَرَ إنْ كانت مُسْتَنْبَطَةً فَالشَّرْطُ أَنْ لَا يَرْجِعَ على الْأَصْلِ بِإِبْطَالِهِ أو إبْطَالِ بَعْضِهِ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى تَرْكِ الرَّاجِحِ إلَى الْمَرْجُوحِ إذْ الظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ من النَّصِّ أَقْوَى من الْمُسْتَفَادِ من الِاسْتِنْبَاطِ لِأَنَّهُ فَرْعٌ لِهَذَا الْحُكْمِ وَالْفَرْعُ لَا يَرْجِعُ على إبْطَالِ أَصْلِهِ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى نَفْسِهِ بِالْإِبْطَالِ وَمِنْ ثَمَّ ضَعُفَ مَدْرَكُ الْحَنَفِيَّةِ في تَأْوِيلِهِمْ قَوْلَهُ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ أَيْ قِيمَةُ شَاةٍ لِأَنَّ الْقَصْدَ دَفْعُ الْحَاجَةِ أو الْقِيمَةِ فإن هذا يَلْزَمُ منه أَنْ لَا تَجِبَ الشَّاةُ أَصْلًا لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَتْ الْقِيمَةُ لم تَجُزْ الشَّاةُ فلم تَكُنْ مُجْزِئَةً وَهِيَ مُجْزِئَةٌ بِالِاتِّفَاقِ هَكَذَا مَثَّلُوا بِهِ وَنَازَعَ فيه الْغَزَالِيُّ من جِهَةِ أَنَّ من أَجَازَ الْقِيمَةَ فَهُوَ مُسْتَنْبِطُ مَعْنًى مُعَمِّمٍ لَا مُبْطِلٍ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ إجْزَاءَ الشِّيَاهِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ أَحَدُهَا أَنَّ اسْتِنْبَاطَ الْقِيمَةِ أَلْغَى تَعَلُّقَ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ ابْتِدَاءً الذي عليه الدَّلِيلُ وَهَذَا مَعْنَى الْإِبْطَالِ أَيْ إبْطَالِ التَّعَلُّقِ الثَّانِي أَنَّهُ أَلْغَى تَعْيِينَهَا من بِنْتِ الْمَخَاضِ أو بِنْتِ اللَّبُونِ أو حِقَّةٍ أو جَذَعَةٍ وَصَيَّرَ الْوَاجِبَ جَائِزًا لِأَنَّهُ إنْ كانت الْقِيمَةُ هِيَ الْوَاجِبَ لم تَكُنْ الشَّاةُ وَاجِبَةً وَلَا يَلْزَمُ وُجُوبُهَا وَلَا قَائِلَ بِهِ الثَّالِثُ يُقَالُ وَإِنْ أَجْزَأَتْ الشَّاةُ لَكِنْ من حَيْثُ لم يَخُصَّ الْأَجْزَاءَ بها فَبَطَلَ لَفْظُ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ وَلَيْسَتْ الْقِيمَةُ أَعَمَّ من الشَّاةِ وَمِنْ مِثْلِهِ أَيْضًا مَصِيرُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ إلَى الِاكْتِفَاءِ في إتْبَاعِ رَمَضَانَ بِصَوْمِ سِتَّةِ أَيَّامٍ من غَيْرِ شَوَّالٍ نَظَرًا لِمَعْنَى تَكْمِيلِ السُّنَّةِ وَهَذَا يُبْطِلُ خُصُوصَ شَوَّالٍ الذي دَلَّ عليه النَّصُّ وَكَذَا قَوْلُهُ ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ فإن الْخُصُومَ يُقَدِّرُونَ فيه مِثْلُ ذَكَاةِ أُمِّهِ وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُرْفَعُ لِكَوْنِهِ غير مُحْتَاجٍ إلَيْهِ لِإِمْكَانِ صِحَّةِ الْكَلَامِ بِدُونِهِ لِأَنَّ الْجَنِينَ إذَا اُحْتِيجَ إلَى ذَكَاتِهِ فَذَكَاتُهُ كَغَيْرِهِ من الْحَيَوَانَاتِ لَا خُصُوصِيَّةَ لِأُمِّهِ ثُمَّ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَعْرِفُ أَنَّ ذَكَاتَهُ كَذَكَاتِهَا فَلَا يَكُونُ اللَّفْظُ مُفِيدًا أَلْبَتَّةَ وَلَا يُقَالُ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ يَقْتَضِي الْجَوَازَ حَيْثُ جَوَّزَ الْإِمْعَانَ في غَسَلَاتِ الْكَلْبِ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْمَعْنَى في التُّرَابِ الْخُشُونَةُ الْمُزِيلَةُ وَهَذَا يُبْطِلُ خُصُوصَ التُّرَابِ لِأَنَّا نَقُولُ هو على هذا الْقَوْلِ عَادَ على أَصْلِهِ بِالتَّعْمِيمِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعِلَّةَ الِاسْتِظْهَارَ وَهِيَ أَعَمُّ من الْجَمْعِ بين الطَّهُورَيْنِ
____________________
(4/137)
وقال الْهِنْدِيُّ هذا الشَّرْطُ صَحِيحٌ إنْ عَنَى بِذَلِكَ إبْطَالَهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَأَمَّا إذَا لَزِمَ فيه تَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ دُونَ الْبَعْضِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِأَنَّهُ كَتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ لِحُكْمِ نَصٍّ آخَرَ وهو جَائِزٌ فَكَذَا هذا وَإِنْ كان بَيْنَهُمَا فَرْقٌ لَطِيفٌ لَا يَنْتَهِي إلَى دَرَجَةِ أَنْ لَا يَجُوزَ بِذَلِكَ معه انْتَهَى وَهَذَا الذي تَوَقَّفَ فيه ولم يَظْفَرْ فيه بِنَقْلٍ قد وَجَدْت النَّقْلَ بِخِلَافِهِ في كِتَابِ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَتِلْمِيذِهِ أبي مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيِّ فَشَرَطَا في الْعِلَّةِ أَنْ لَا يَرْجِعَ على أَصْلِهَا بِالتَّخْصِيصِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُمْ اعْتَلُّوا لِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ في الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ بِالْكَيْلِ لِأَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ بِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهِمَا شَامِلٌ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْهُمَا وَالْكَيْلُ يَخُصُّ الْكَثِيرَ دُونَ الْقَلِيلِ فَهَذِهِ الْعِلَّةُ تُوجِبُ في الْقَلِيلِ من أَصْلِهَا ضِدَّ ما أَوْجَبَهُ النَّصُّ في ذلك وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الْمُنْتَزَعَةُ من أَصْلٍ مُخَصَّصَةً لِأَصْلِهَا وَإِنْ جَازَ تَخْصِيصُ اسْمٍ آخَرَ غَيْرِ أَصْلِهَا بها انْتَهَى وَاعْلَمْ أَنَّ في عَوْدِهَا على الْأَصْلِ بِالتَّخْصِيصِ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَسَبَقَتْ في بَابِ الْعُمُومِ الثَّامِنَ عَشَرَ إنْ كانت مُسْتَنْبَطَةً فَالشَّرْطُ أَنْ لَا تُعَارَضَ بِمُعَارِضٍ مُنَافٍ مَوْجُودٍ في الْأَصْلِ بِأَنْ تُبْدَى عِلَّةٌ أُخْرَى من غَيْرِ تَرْجِيحٍ وَإِلَّا جَازَ التَّعْلِيلُ بِمَجْمُوعِهِمَا أو بِالْأُخْرَى وَقِيلَ وَلَا بِمُعَارِضٍ في الْفَرْعِ بِأَنْ تَثْبُتَ فيه عِلَّةٌ أُخْرَى تُوجِبُ خِلَافَ الْحُكْمِ بِالْقِيَاسِ على أَصْلٍ آخَرَ فإن الْمُعَارِضَ يُبْطِلُ اعْتِبَارَهَا وَقِيلَ أَنْ لَا يَكُونَ بِمُعَارِضٍ في الْفَرْعِ مع تَرْجِيحِ الْمُعَارِضِ وَلَا بَأْسَ بِالتَّسَاوِي لِأَنَّهُ لَا يُبْطِلُ وَقِيلَ الْمُعَارِضُ الْمُسَاوِي يَمْنَعُ التَّعْلِيلَ أَيْضًا التَّاسِعَ عَشَرَ يُشْتَرَطُ في الْمُسْتَنْبَطَةِ أَنْ لَا تَتَضَمَّنَ زِيَادَةً على النَّصِّ أَيْ حُكْمًا في الْأَصْلِ غير ما أَثْبَتَهُ النَّصُّ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْلَمُ بِمَا أُثْبِتَ بِهِ مِثَالُهُ لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَعَلَّلَ الْحُرْمَةَ بِأَنَّهَا رِبًا فِيمَا يُوزَنُ كَالنَّقْدَيْنِ فَيَلْزَمُ التَّقَابُضُ مع أَنَّ النَّصَّ لم يَتَعَرَّضْ له وَقِيلَ إنْ كانت الزِّيَادَةُ مُنَافِيَةً لِحُكْمِ الْأَصْلِ لم يَجُزْ لِأَنَّهُ نَسْخٌ له فَهُوَ مِمَّا يُعَكِّرُ على أَصْلِهِ بِالْإِبْطَالِ وَإِلَّا لَجَازَ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَجَعَلَهُ الْهِنْدِيُّ تَنْقِيحَ مَنَاطٍ ولم يَنْسُبْهُ إلَيْهِ الْعِشْرُونَ أَنْ لَا تَكُونَ مُعَارِضَةً لِعِلَّةٍ أُخْرَى تَقْتَضِي نَقِيضَ حُكْمِهَا بِأَنْ نَقُولَ
____________________
(4/138)
ما ذَكَرْتَ من الْوَصْفِ وَإِنْ اقْتَضَى ثُبُوتَ الْحُكْمِ في الْفَرْعِ فَعِنْدِي وَصْفٌ آخَرُ يَقْتَضِي نَقِيضَهُ فَيُوقَفُ ذلك فَسَيَأْتِي بَيَانُ ذلك في الِاعْتِرَاضَاتِ وقال الْهِنْدِيُّ إنْ عَنَى بِهِ أَنْ لَا يُعَارِضَهُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى كَيْفَ كانت فَهَذَا مِمَّا لَا وَجْهَ له لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ رَاجِحَةً على ما يُعَارِضُهَا من الْعِلَّةِ لَا مَانِعَ من اسْتِنْبَاطِهَا وَجَعْلِهَا عِلَّةً وَإِنْ عَنَى بِهِ أَنْ لَا تَكُونَ مُعَارِضَةً أُخْرَى رَاجِحَةً عليها فَهَذَا وَإِنْ كان من شَرَائِطِ صِحَّةِ الْعِلَّةِ الْمَعْمُولِ بها لَكِنْ ليس من شَرَائِطِ صِحَّةِ الْعِلَّةِ في ذَاتِهَا فإن الْعِلَّةَ الْمَوْجُودَةَ وَالدَّلِيلَ الْمَرْجُوحَ لَا يَخْرُجَانِ بِسَبَبِ الْمَرْجُوحِيَّةِ عن الْعِلَّةِ وَالدَّلَالَةِ وَإِلَّا لَمَا تُصُوِّرَ التَّعَارُضُ إلَّا بين الْمُتَسَاوِيَيْنِ الْحَادِيَ وَالْعِشْرُونَ إذَا كان الْأَصْلُ فيه شَرْطٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ تُوجِبُ إزَالَةَ شَرْطِ أَصْلِهَا كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ لَمَّا جَازَ نِكَاحُ الْأَمَةِ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ جَازَ وَلَكِنْ لِمَنْ لَا يَخْشَاهُ لِوَصْفٍ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ أَنَّ خَشْيَةَ الْعَنَتِ شَرْطٌ مَنْصُوصٌ عليه في الْقُرْآنِ في إبَاحَةِ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ تُوجِبُ سُقُوطَ هذا الشَّرْطِ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ أَنْ لَا يَكُونَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عليها مُتَنَاوِلًا لِحُكْمِ الْفَرْعِ لَا بِعُمُومِهِ وَلَا بِخُصُوصِهِ على الْمُخْتَارِ لِلِاسْتِغْنَاءِ حِينَئِذٍ عن الْقِيَاسِ وفي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ في الْأُمِّ ما يَقْتَضِي جَوَازَهُ فإنه قال وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ أَحَلَّ لهم شيئا جُمْلَةً وَحَرَّمَ منه شيئا بِعَيْنِهِ فَيُحِلُّونَ الْحَلَالَ بِالْحُكْمِ وَيُحَرِّمُونَ الشَّيْءَ بِعَيْنِهِ وَلَا يَقِيسُونَ على الْأَقَلِّ الْحَرَامَ وَالْقِيَاسُ على الْأَكْثَرِ أَوْلَى أَنْ يُقَاسَ عليه من الْأَقَلِّ هذا لَفْظُهُ وَتَرْجَمَ عليه ابن اللَّبَّانِ في تَرْتِيبِ الْأُمِّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ دَاخِلًا في عُمُومِ حُكْمِ الْأَصْلِ وقال إلْكِيَا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْمَنْصُوصَاتِ لَا يُقَاسُ بَعْضُهَا على بَعْضٍ وَمَتَى وُجِدَ في الْفَرْعِ نَصٌّ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِ من غَيْرِ اعْتِبَارِهِ بِأَصْلٍ آخَرَ كان الْقِيَاسُ فَاسِدَ الْوَضْعِ لِعَدَمِ شَرْطِهِ كَقِيَاسِ الْقَتْلِ عَمْدًا على الْقَتْلِ خَطَأً في إيجَابِ الْكَفَّارَةِ وَقِيَاسِ الْمُحْصَرِ على الْمُتَمَتِّعِ في إيجَابِ الصَّوْمِ بَدَلًا عن الْهَدْيِ عِنْدَ الْعَدَمِ لِأَنَّ كُلَّ حَادِثَةٍ مَنْصُوصٍ عليها قال وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ إذَا دَلَّتْ الْأَمَارَاتُ على أَنَّهُ اسْتَقْصَى حُكْمَ الْوَاقِعَةِ ولم يُقَارِبْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بها شَيْءٌ أَمَّا إذَا أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ ذَكَرَ في كل وَاقِعَةٍ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ مِمَّا لَا يُشَارِكُهُ فيه غَيْرُهُ أو قَصَدَ بِهِ ما يَدُلُّ فَحَوَاهُ على اسْتِقْصَاءِ حُكْمِهِ وَبَقِيَ ما عَدَا الْمَذْكُورَ فَذَلِكَ مَحْضُ تَخْصِيصِ حُكْمٍ لَا يَدُلُّ على نَفْيِ ما عَدَاهُ وَذَلِكَ بَيِّنٌ في بَابِ
____________________
(4/139)
الْمَفْهُومِ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ أَنْ لَا يَكُونَ مُؤَيِّدًا لِلْقِيَاسِ أَصْلٌ مَنْصُوصٌ عليه بِالْإِثْبَاتِ على أَصْلٍ مَنْصُوصٍ عليه بِالنَّفْيِ كَالْعِلَّةِ التي يَقِيسُ بها الْعِرَاقِيُّونَ الْمَسَافَاتِ على الْمُزَارَعَةِ وَالدَّعْوَى في الدَّمِ مع اللَّوْثِ على الدَّعْوَى في الْأَمْوَالِ في الْبُدَاءَةِ فِيهِمَا بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عليه ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وقال هذا مَعْنَى ما رَوَى يُونُسُ بن عبد الْأَعْلَى عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُقَاسُ أَصْلٌ على أَصْلٍ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ إنْ كانت مُتَعَدِّيَةً أَيْ تُوجَدُ في غَيْرِ الْأَصْلِ فَيُشْتَرَطُ فيها أَنْ لَا يَكُونَ التَّعْلِيلَ في الْمَحَلِّ وَلَا جُزْءًا منه وَلَا يُتَصَوَّرُ تَعْدِيَتُهَا بِخِلَافِ الْقَاصِرَةِ فإنه يَجُوزُ فيها ذلك هذا هو الْمُخْتَارُ عِنْدَ الرَّازِيَّ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّلَ بِالْمَحَلِّ وَجُزْئِهِ فِيهِمَا وَقِيلَ يَمْتَنِعُ فِيهِمَا وَنُسِبَ لِلْأَكْثَرِينَ وقال الْآمِدِيُّ يَجُوزُ بِجُزْءِ الْمَحَلِّ دُونَ الْمَحَلِّ وَلَيْسَ هذا في الْحَقِيقَةِ مَذْهَبًا ثَالِثًا كما يُوهِمُ صَاحِبُ الْبَدِيعِ وَغَيْرُهُ لِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْجُزْءِ الْعَامُّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَ ذلك وَأَمَّا الْجُزْءُ فَلَا يَمْتَنِعُ التَّعْلِيلُ بِهِ لِاحْتِمَالِ عُمُومِهِ لِلْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَهَذَا بِخِلَافِهِ وقال الْهِنْدِيُّ الْحَقُّ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ على جَوَازِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ فَإِنْ جَوَّزَ ذلك جَازَ هذا سَوَاءٌ ثَبَتَ عِلِّيَّتُهُ بِنَصٍّ أو بِغَيْرِهِ إذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ حَرُمَتْ الرِّبَا في الْبُرِّ لِكَوْنِهِ بُرًّا أو يُعَرِّفُهُ مُنَاسَبَةُ مَحَلِّ الْحُكْمِ له لِاشْتِمَالِهِ على حِكْمَةٍ دَاعِيَةٍ له وَلَا نَظَرَ إلَى أَنْ يُقَالَ لو جَازَ ذلك لَكَانَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ قَابِلًا وَفَاعِلًا لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ اسْتِحَالَةَ ذلك وَاسْتِحَالَتُهُ مَبْنِيَّةٌ على أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْدُرُ عنه إلَّا الْوَاحِدُ وهو بَاطِلٌ قَطْعًا وَإِنْ يُجَوَّزُ التَّعْلِيلُ بِالْقَاصِرَةِ لم يُجَوَّزْ هذا لِأَنَّ مَحَلَّ الْحُكْمِ وَجُزْأَهُ الْخَاصَّ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُوجَدَ في غَيْرِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ هذه الْمَسْأَلَةَ مَنْقُولَةٌ عن مَسْأَلَةٍ مَشْهُورَةٍ بين الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ وَهِيَ أَنَّ الْوَاحِدَ من جَمِيعِ الْوُجُوهِ لَا يَصْدُرُ عنه أَكْثَرُ من وَاحِدٍ إلَّا إذَا تَعَدَّدَتْ الْقَوَابِلُ وَبَنَوْا عليه تَرْتِيبَ الْمَوْجُودَاتِ فَإِنَّهُمْ قالوا أَقَلُّ ما صَدَرَ من الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وهو الْمُسَمَّى بِالْفَلَكِ الْأَوَّلِ عِنْدَهُمْ ثُمَّ صَدَرَ من الْفَلَكِ الْأَوَّلِ عَقْلٌ وَنَفْسٌ ثُمَّ بَنَوْا على هذا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ فَاسِدًا آخَرَ وهو أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَإِلَّا لَكَانَ فَاعِلًا لها وَقَابِلًا لها وهو مُحَالٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَالْقَبُولَ أَمْرَانِ مُخْتَلِفَانِ وَالْوَاحِدُ لَا يَصْدُرُ عنه إلَّا وَاحِدٌ وهو من بَابِ تَفْرِيعِ الْفَاسِدِ على الْفَاسِدِ
____________________
(4/140)
فَصْلٌ في ذِكْرِ أُمُورٍ اُشْتُرِطَتْ في الْعِلَّةِ وَالصَّحِيحُ عَدَمُ اشْتِرَاطِهَا منها شَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وأبو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيُّ تَعَدِّي الْعِلَّةِ من الْأَصْلِ إلَى غَيْرِهِ فَلَوْ وَقَعَتْ على حُكْمِ النَّصِّ ولم تُؤَثِّرْ في غَيْرِهِ كَتَعْلِيلِ الرِّبَا في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِأَنَّهُمَا أَثْمَانٌ فَلَا يُعَلَّلُ بِهِمَا وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِلَّةَ الْقَاصِرَةَ إنْ كانت مَنْصُوصَةً أو مُجْمَعًا عليها صَحَّ التَّعْلِيلُ بها بِالِاتِّفَاقِ كما قَالَهُ الْقَاضِي وابن بَرْهَانٍ وَالْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ لَكِنَّ الْقَاضِيَ عَبْدَ الْوَهَّابِ نَقَلَ عن قَوْمٍ أنها لَا تَصِحُّ على الْإِطْلَاقِ سَوَاءٌ كانت مَنْصُوصَةً أو مُسْتَنْبَطَةً قال وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ وَإِنْ كانت مُسْتَنْبَطَةً فَهِيَ مَحْضُ الْخِلَافِ وقد اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا وَنَقَلَهُ في الْحَاوِي عن أبي بَكْرٍ الْقَفَّالِ الْمَنْعُ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ في الِاصْطِلَامِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ ما جَذَبَتْ حُكْمَ الْأَصْلِ إلَى فَرْعِهِ وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن الْحَلِيمِيِّ ما يَقْتَضِيهِ فقال من يُنْشِئُ النَّظَرَ لَا يَدْرِي أَيَقَعُ على عِلَّةٍ قَاصِرَةٍ أو مُتَعَدِّيَةٍ فإن الْعِلْمَ بِصِفَةِ الْعِلَّةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ حَالَةَ إنْشَاءِ النَّظَرِ فَيَجِبُ النَّظَرُ من هذه الْجِهَةِ قال الْإِمَامُ وَهَذَا قَلِيلُ النَّيْلِ فإن الْخَصْمَ لَا يُنْكَرُ وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا تَحَقَّقَ قُصُورُهُ فما قَوْلُ هذا الشَّيْخِ إذَا انْكَشَفَ النَّظَرُ وَالْعِلَّةُ قَاصِرَةٌ انْتَهَى وَأَصَحُّهُمَا وَنَصَرَهُ في الْقَوَاطِعِ تَبَعًا لِلْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَبِهِ قال جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إنَّهَا عِلَّةٌ وَإِنْ لم يَتَعَدَّ حُكْمَ الْأَصْلِ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ هو قَوْلُ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ عن أَحْمَدَ لَكِنْ أبو الْخَطَّابِ حَكَى عن أَصْحَابِهِمْ مُقَابِلَهُ وقال ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ كان الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ من الْغُلَاةِ في تَصْحِيحِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ وَيَقُولُ هِيَ أَوْلَى من الْمُتَعَدِّيَةِ وَكَذَلِكَ الْقَاضِي وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ وُقُوفَهَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْحُكْمِ عن غَيْرِ الْأَصْلِ كما أَوْجَبَ تَعَدِّيهَا ثُبُوتَ حُكْمِ الْأَصْلِ في غَيْرِهِ فَصَارَ وُقُوفُهَا مُؤَثِّرًا في النَّفْيِ كما كان تَعَدِّيهَا مُؤَثِّرًا في الْإِثْبَاتِ فَاسْتُفِيدَ بِوُقُوفِهَا وَتَعَدِّيهَا حُكْمُ غَيْرِ الْأَصْلِ فَعَلَى هذا ثُبُوتُ الرِّبَا في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْمَعْنَى دُونَ الِاسْمِ وَيَخْرُجُ مِمَّا سَبَقَ حِكَايَةُ مَذْهَبٍ ثَالِثٍ وهو الْجَوَازُ في الْمَنْصُوصَةِ دُونَ الْمُسْتَنْبَطَةِ قال عبد الْوَهَّابِ وَحَكَاهُ الْهَمْدَانِيُّ عن أبي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وَالصَّحِيحُ
____________________
(4/141)
الْجَوَازُ مُطْلَقًا وَلِهَذَا فَوَائِدُ منها مَعْرِفَةُ الْبَاعِثِ الْمُنَاسِبِ وَمِنْهَا عَدَمُ إلْحَاقِ غَيْرِهَا وَقَوْلُهُمْ هذه الْفَائِدَةُ عُلِمَتْ من النَّصِّ مَمْنُوعٌ فإن النَّصَّ لم يُفِدْ إلَّا إثْبَاتَ الْحُكْمِ خَاصَّةً وَخَصَّهُ الْقَاضِي بِمَا إذَا لم يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهَا وَجَوَّزْنَا اجْتِمَاعَ عِلَّتَيْنِ فَبِاطِّلَاعِنَا على عِلَّةِ الْحُكْمِ نَزْدَادُ عِلْمًا كنا غَافِلِينَ عنه وَالْعِلْمُ بِالشَّيْءِ أَعْظَمُ فَائِدَةً وَمِنْ أَعْظَمِ ما تُشَوَّقُ إلَيْهِ النُّفُوسُ الزَّكِيَّةُ ذَكَرَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ وَمِنْهَا أَنَّ الْعِلَّةَ إذَا طَابَقَتْ النَّصَّ زَادَهُ قُوَّةً وَيَتَعَاضَدَانِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَمِنْهَا أَنَّ الْفَاعِلَ يَفْعَلُ الْفِعْلَ لِأَجْلِهَا فَيَحْصُلُ له أَجْرَانِ أَجْرُ قَصْدِ الْفِعْلِ وَالِامْتِثَالِ وَأَجْرُ قَصْدِ الْفِعْلِ لِأَجْلِهَا وَهَذَانِ الْقَصْدَانِ يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمَا فَيَفْعَلُ الْمَأْمُورَ لِكَوْنِهِ أُمِرَ بِفِعْلِهِ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَمِنْهَا إذَا حَدَثَ هُنَاكَ فَرْعٌ يُشَارِكُهُ في الْمَعْنَى عُلِقَ على الْعِلَّةِ وَأُلْحِقَ بِالْمَنْصُوصِ عليه ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي في بَابِ الرِّبَا وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَضُعِّفَ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ في الْقَاصِرَةِ وَمَتَى حَدَثَ فَرْعٌ يُشَارِكُهَا في الْمَعْنَى خَرَجَتْ عن أَنْ تَكُونَ قَاصِرَةً وقد نَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن بَعْضِهِمْ أَنَّ فَائِدَتَهَا أَنَّا إذَا عَلَّلْنَا تَحْرِيمَ رِبَا الْفَضْلِ في النَّقْدَيْنِ بِالنَّقْدِيَّةِ أَنْ يَلْحَقَ بها التَّحْرِيمُ في الْفُلُوسِ إذَا جَرَتْ نُقُودًا قال الْإِمَامُ وَهَذَا خَرَفٌ من قَائِلِهِ وَخَبْطٌ على الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فإن الْمَذْهَبَ عَدَمُ جَرَيَانِ الرِّبَا في الْفُلُوسِ وَإِنْ اُسْتُعْمِلَتْ نُقُودًا فإن النَّقْدِيَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمَطْبُوعَاتِ وَالْفُلُوسُ في حُكْمِ الْعُرُوضِ وَإِنْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا ثُمَّ لو صَحَّ هذا قِيلَ لِصَاحِبِهِ إنْ دَخَلَتْ الْفُلُوسُ تَحْتَ الدَّرَاهِمِ بِالنَّصِّ فَالْعِلَّةُ بِالنَّقْدِيَّةِ قَائِمَةٌ وَإِنْ لم يَتَنَاوَلْهَا النَّصُّ فَالْعِلَّةُ مُتَعَدِّيَةٌ وَالْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ في الْقَاصِرَةِ وَمِنْهَا أنها تُفِيدُ بِعَكْسِهَا فإذا ثَبَتَ النَّقْدِيَّةُ عِلَّةً في النَّقْدَيْنِ فَعَدَمُ النَّقْدِيَّةِ مُشْعِرٌ بِانْتِفَاءِ تَحْرِيمِ الرِّبَا وَالنَّصُّ على اللَّقَبِ لَا مَفْهُومَ له وَرَدَّهُ الْإِمَامُ بِأَنَّ الِانْعِكَاسَ لَا يَتَحَتَّمُ في الْعِلَلِ وَمِنْهَا أَنَّهُ مَتَى زَالَتْ الصِّفَةُ عنه زَالَ الْحُكْمُ ذَكَرَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ قال وَيَجِبُ على هذا تَخْصِيصُ الْقَاصِرَةِ بِاَلَّتِي ثَبَتَتْ تَارَةً وَتَزُولُ أُخْرَى وَإِلَّا بَطَلَتْ
____________________
(4/142)
هذه الْفَائِدَةُ قُلْت وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ من فَوَائِدِ الْخِلَافِ أَنَّهُ إذَا وُجِدَ في مَوْرِدِ النَّصِّ وَصْفَانِ قَاصِرٌ وَمُتَعَدٍّ وَغَلَبَ على ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أَنَّ الْقَاصِرَةَ عِلَّةٌ هل يَمْتَنِعُ التَّعْلِيلُ بِالْمُتَعَدِّيَةِ أَمْ لَا فَعِنْدَنَا يَمْتَنِعُ إنْ مَنَعْنَا اجْتِمَاعَ عِلَّتَيْنِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا يَمْتَنِعُ لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ بِغَلَبَةِ الْوَصْفِ الْقَاصِرِ وَمِنْ فَوَائِدِهِ إذَا عُورِضَتْ عِلَّةُ الْأَصْلِ بِوَصْفٍ قَاصِرٍ لِيَقْطَعَ الْقِيَاسَ فَاحْتَاجَ إلَى دَفْعِ الْمُعَارَضَةِ فَهَلْ يَكْفِي في إفْسَادِ الْوَصْفِ قُصُورُهُ أو لَا يَكُونُ ذلك مُفْسِدًا وَهَذَا هو وَجْهُ جَعْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ الْقُصُورَ من الِاعْتِرَاضَاتِ الْفَاسِدَةِ على الْقِيَاسِ وَإِلَّا لم يَكُنْ عِنْدَهُ من الِاعْتِرَاضَاتِ إذْ الْقُصُورُ يُنَافِي الْقِيَاسَ ثُمَّ اخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ التَّفْصِيلَ بين أَنْ يَكُونَ كَلَامُ الشَّرْعِ نَصًّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ فَلَا فَائِدَةَ في التَّعْلِيلِ بِالْقَاصِرَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا يَتَأَتَّى تَأْوِيلُهُ وَيُمْكِنُ تَقْدِيرُ حَمْلِهِ على الْكَثِيرِ مَثَلًا دُونَ الْقَلِيلِ فإذا نَتَجَتْ عِلَّةٌ تُوَافِقُ ظَاهِرَهُ فَهِيَ تُعْصَمُ من التَّعْلِيلِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى لَا تَرْقَى رُتْبَتُهَا على الْمُسْتَنْبَطَةِ الْقَاصِرَةِ فَالْعِلَّةُ في مَحَلِّ الظَّاهِرِ كَأَنَّهَا ثَابِتَةٌ في مُقْتَضَى النَّصِّ منه مُتَعَدِّيَةٌ إلَى ما اللَّفْظُ ظَاهِرٌ فيه من حَيْثُ عِصْمَتُهُ من التَّخْصِيصِ وَالتَّأْوِيلِ وكان ذلك إفَادَةً وَإِنْ لم يَكُنْ تَعَدِّيًا حَقِيقِيًّا تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ زَعَمَ ابن الْحَاجِّ في نُكَتِهِ على الْمُسْتَصْفَى أَنَّ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ لم يَتَوَارَدْ على مَحَلٍّ وَاحِدٍ قال وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا صَحِيحَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ بَاطِلَةٌ بِاعْتِبَارِ الْفَرْعِ وقال ابن رَحَّالٍ إذَا فُسِّرَ اللَّفْظُ زَالَ الْخِلَافُ وَتَفْسِيرُهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يقول ثُبُوتُ الْحُكْمِ لِأَجْلِ الْوَصْفِ الْقَاصِرِ صَحِيحٌ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عليه وأبو حَنِيفَةَ يقول نَصْبُ الْوَصْفِ الْقَاصِرِ أَمَارَةً بَاطِلٌ وَهَذَا أَيْضًا مُتَّفَقٌ عليه وَلَمَّا كان لَفْظُ التَّعْلِيلِ يُطْلَقُ تَارَةً على ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِأَجْلِ الْوَصْفِ وَتَارَةً على نَصْبِهِ فَهَذَا الِاشْتِرَاكُ هو سَبَبُ الْخِلَافِ الثَّانِي أَنَّ كَلَامَ أَصْحَابِنَا صَرِيحٌ في أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْقَاصِرَةِ ليس مَشْرُوطًا بِانْتِفَاءِ التَّعْدِيَةِ بَلْ يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمَا وَإِلَيْهِ أَشَارَ في الْقَوَاطِعِ وَلَوْ كان ذلك شَرْطًا لَمَا تُصُوِّرَ وُقُوعُ التَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ التَّعَارُضَ فَرْعُ اجْتِمَاعِهِمَا وقد اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا تَعَارَضَا فَرَجَّحَ الْجُمْهُورُ الْمُتَعَدِّيَةَ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْقَاصِرَةُ وَتَوَقَّفَ قَوْمٌ الثَّالِثُ قال بَعْضُهُمْ الْخِلَافُ في بُطْلَانِهَا لَا على الْمَنْعِ من ظَنِّ كَوْنِهَا حِكْمَةً في
____________________
(4/143)
مَوْرِدِ النَّصِّ بَلْ على خُرُوجِهَا عن مُتَعَلَّقِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ إذَا لم تَظْهَرْ له فَائِدَةٌ تَزِيدُ على مُقْتَضَى النَّصِّ وَالْمُحَقِّقُونَ على صِحَّتِهَا لِصِحَّةِ وُرُودِ الشَّرْعِ بها وَلِمُسَاوَاتِهَا لِلْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ في اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ وَالْقُصُورِ إذْ ما من مُتَعَدِّيَةٍ إلَّا وَهِيَ قَاصِرَةٌ من وَجْهٍ فلم يَبْقَ إلَّا مُطَابَقَةُ النَّصِّ لها وَذَلِكَ مِمَّا يُؤَيِّدُهَا لَا مِمَّا يُبْطِلُهَا كَمُطَابَقَةِ الْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَكَمُطَابَقَةِ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ الْمُتَعَاضِدَةِ في الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ مَوْضِعَ التَّعَبُّدِ بِالتَّعْلِيلِ هل هو لِإِفَادَةِ ما لم يُفِدْهُ النَّصُّ أو بِمُجَرَّدِ إنَاطَةِ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ وقال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ على اشْتِرَاطِ التَّأْثِيرِ في الْعِلَّةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْإِخَالَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَعْنَى التَّأْثِيرِ اعْتِبَارُ الشَّرْعِ جِنْسَ الْوَصْفِ أو نَوْعَهُ في جِنْسِ الْحُكْمِ إلَى آخِرِ ما سَيَأْتِي وقال إلْكِيَا الْخِلَافُ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ عِلَّةَ الشَّرْعِ هل تَقْبَلُ التَّخْصِيصَ أَمْ لَا وقال الدَّبُوسِيُّ هو رَاجِعٌ إلَى أَنَّ حُكْمَ الْعِلَّةِ عِنْدَنَا تَعَدِّي حُكْمِ النَّصِّ إلَى الْفَرْعِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ في النَّصِّ الْمَعْلُولِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ لَا التَّعَدِّي وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْخِلَافُ رَاجِعٌ إلَى كَوْنِهَا هل هِيَ مَأْمُورٌ بها وَمَعْنَى صِحَّتِهَا مُوَافَقَتُهَا لِلْأَمْرِ وَمَعْنَى فَسَادِهَا عَدَمُ تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بها وقال ابن الْمُنِيرِ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ لَا يَنْبَنِي على الْخِلَافِ فَائِدَةٌ فَرْعِيَّةٌ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّا إنْ رَدَدْنَاهَا فَلَا إشْكَالَ في عَدَمِ إفَادَتِهَا وَإِنْ قَبِلْنَاهَا فَلَا إشْكَالَ في أنها لَا يَتَعَدَّى بها حُكْمُهَا وَالنَّصُّ في الْأَصْلِ مُغْنٍ عنها فَرَجَعَ ثَبَاتُهَا إلَى الْفَوَائِدِ الْعِلْمِيَّةِ لَا الْعَمَلِيَّةِ إلَّا إذَا بَنَيْنَا على الْتِزَامِ اتِّحَادِ الْعِلَلِ وَصَحَّحْنَا الْقَاصِرَةَ وَجَعَلْنَاهَا مُقَاوِمَةً لِلْمُتَعَدِّيَةِ فَيَنْبَنِي حِينَئِذٍ قَبُولُهَا فَائِدَةً عَمَلِيَّةً لِأَنَّهَا قد تُعَارِضُ مُتَعَدِّيَةً بِتَعَطُّلِ الْعَمَلِ بها وقال قبل ذلك لَا يَتَحَرَّرُ الْخِلَافُ في رَدِّهَا لِأَنَّ الْعِلَّةَ إمَّا الْبَاعِثُ أو الْعَلَامَةُ فَإِنْ فَسَّرْنَا بِالْبَاعِثِ وهو الْحَقُّ فَلَا مَانِعَ من أَنْ يَنُصَّ بِالشَّرْعِ على الْحُكْمِ في جَمِيعِ مَوَارِدِهِ حتى لَا يُبْقِيَ من مَحَالِّهِ مَسْكُوتًا عنه وَيَنُصُّ مع ذلك على الْبَاعِثِ وَلَا يَتَخَيَّلُ عَاقِلٌ خِلَافَ ذلك وَإِنْ فَسَّرْنَاهَا بِالْعَلَامَةِ وَعَلَيْهِ بَنَى الرَّازِيَّ كَلَامَهُ فَلَا مَانِعَ من أَنْ يَكُونَ النَّصُّ عَلَامَةً وَالْوَصْفُ عَلَامَةً فَيَجْتَمِعُ على الْحُكْمِ عَلَامَتَانِ كما يَجْتَمِعُ على الْحُكْمِ نَصَّانِ مَعًا وَظَاهِرَانِ مَعًا أو نَصٌّ وَظَاهِرٌ أو نَصٌّ وَقِيَاسٌ وَهَذَا الْقِسْمُ أَيْضًا لَا يُخْتَلَفُ فيه فَلَا مَحَلَّ لِلْخِلَافِ وَمِنْهَا مَنَعَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ من التَّعْلِيلِ بِمُجَرَّدِ الِاسْمِ كما لو عَلَّلْنَا كَوْنَ النَّقْدَيْنِ رِبَوِيَّيْنِ بِكَوْنِ اسْمِهِمَا ذَهَبًا أو فِضَّةً وَحَكَى فيه الِاتِّفَاقَ وَاعْتَرَضَ النَّقْشَوَانِيُّ بِأَنَّ
____________________
(4/144)
الْعِلَّةَ إذَا فُسِّرَتْ بِالْمُعَرِّفِ فما الْمَانِعُ من جَعْلِ الِاسْمِ عِلَّةً فإن فيه تَعْرِيفًا وَقَوَّاهُ الْقَرَافِيُّ بِمَا إذَا قُلْنَا إنَّ مُجَرَّدَ الطَّرْدِ كَافٍ في الْعِلَّةِ وَيَصْعُبُ مع اشْتِرَاطِ الْمُنَاسِبِ وما ادَّعَى الْإِمَامُ فيه من الِاتِّفَاقِ تَبِعَهُ فيه الْهِنْدِيُّ في النِّهَايَةِ وَلَيْسَ كما ادَّعَوْا فَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ وَهِيَ وُجُوهٌ لِأَصْحَابِنَا أَحَدُهَا الْجَوَازُ مُطْلَقًا وهو رَأْيُ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَنَقَلَهُ ابن الصَّبَّاغِ وابن بَرْهَانٍ عن أَصْحَابِنَا وَنَقَلَهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ عن الْأَكْثَرِينَ من الْعُلَمَاءِ قالوا وَسَوَاءٌ في ذلك الْمُشْتَقُّ كَقَاتِلٍ وَسَارِقٍ وَالِاسْمِ الذي هو لَقَبٌ كَحِمَارٍ وَفَرَسٍ قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في بَوْلِ ما يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لِأَنَّهُ بَوْلٌ فَشَابَهُ بَوْلَ الْآدَمِيِّ انْتَهَى وقال أبو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ إنَّهُ الْأَقْرَبُ إلَى نَصِّ الشَّافِعِيِّ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْقَائِسِينَ وَكَذَلِكَ قال أَصْحَابُنَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ لِأَنَّهُ كَلْبٌ قِيَاسًا على الْكَلْبِ الذي ليس بِمُعَلَّمٍ وقال الشَّافِعِيُّ في الْمَنْعِ من ضَمِّ الْقُطْنِيَّةِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ في الزَّكَوَاتِ إنَّهَا حُبُوبٌ مُنْفَرِدَةٌ بِأَسْمَاءٍ مَخْصُوصَةٍ وَقَاسَهَا على التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ فإذا جَعَلَ افْتِرَاقَهَا في الِاسْمِ عِلَّةً لِافْتِرَاقِهَا في الْحُكْمِ لم يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ اتِّفَاقُهَا في الِاسْمِ عِلَّةً لِاتِّفَاقِهَا في الْحُكْمِ وقال أَهْلُ الرَّأْيِ في الْمَنْعِ من التَّكْرَارِ في مَسْحِ الرَّأْسِ إنَّهُ مَسْحٌ كَالْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ وقال أَصْحَابُ مَالِكٍ في زَكَاةِ الْعَوَامِلِ إنَّهَا تَعُمُّ قِيَاسًا على السَّائِمَةِ انْتَهَى وَنَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عن أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ والثاني الْمَنْعُ لَقَبًا وَمُشْتَقًّا والثالث التَّفْصِيلُ بين الْمُشْتَقِّ فَيَجُوزُ وَبَيْنَ اللَّقَبِ فَلَا حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في التَّبْصِرَةِ وابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ وَهَذَا الثَّالِثُ هو ظَاهِرُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا في بَابِ الرِّبَا في أَنَّ الْعِلَّةَ في الرِّبَوِيِّ الطُّعْمُ الْحُكْمُ مَتَى عُلِّقَ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ من مَعْنًى يَصِيرُ مَوْضِعُ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةً وَحَكَى ابن بَرْهَانٍ وَجْهًا أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بِشَرْطِ الْإِخَالَةِ وَالْمُنَاسَبَةِ وَنَسَبَهُ لِلْحَنَفِيَّةِ وَهَذَا يَقْتَضِي مَذْهَبًا رَابِعًا وهو التَّفْصِيلُ في الْمُشْتَقِّ وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ إنْ كان الِاسْمُ يُفِيدُ مَعْنًى في الْمُسَمَّى جَازَ التَّعْلِيلُ بِهِ وَإِنْ كان لَقَبًا فَفِي جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِهِ قَوْلَانِ وقال السُّهَيْلِيُّ في أَدَبِ الْجَدَلِ إنْ كان الْوَصْفُ اسْمًا
____________________
(4/145)
مُشْتَقًّا فَلَا شَكَّ في جَرَيَانِ الْقِيَاسِ بِهِ وَإِنْ كان اسْمَ جِنْسٍ كَبَغْلٍ وَحِمَارٍ وَدَابَّةٍ وَدَارٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا وهو الْأَقْرَبُ إلَى نَصِّ الشَّافِعِيِّ الْجَوَازَ والثاني الْمَنْعُ كَالْوَصْفِ من اسْمٍ وَلَقَبٍ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو وفي الْأُمِّ في بَوْلِ الْحَيَوَانِ تَعْلِيقُ حُكْمٍ بِاسْمٍ قال وَالدَّلِيلُ على جَوَازِ التَّعْلِيلِ أَنَّهُ لو وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ لَكَانَ جَائِزًا فإذا اسْتَنْبَطَهُ الْمُعَلِّلُ فَكَذَلِكَ انْتَهَى وَهَذَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْخِلَافِ بِالْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ أَمَّا الْمَنْصُوصَةُ من الشَّارِعِ فَلَا خِلَافَ في جَوَازِهَا وَبِهِ صَرَّحَ ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ في بُيُوعِ الْحَاوِي يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِالِاسْمِ الْمُشْتَقِّ كَعَاقِلٍ وَقَاتِلٍ وَوَارِثٍ وَبِالِاسْمِ إذَا عَبَّرَ بِهِ عن الْجِنْسِ كما جَازَ التَّعْلِيلُ بِالصِّفَةِ فَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ في نَجَاسَةِ بَوْلِ ما يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لِأَنَّهُ بَوْلٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا قِيَاسًا على بَوْلِ الْآدَمِيِّ وقال في الْقَوَاطِعِ وَأَمَّا جَعْلُ الِاسْمِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ فَقَدْ قال الْأَصْحَابُ إنَّ الِاسْمَ ضَرْبَانِ اسْمُ اشْتِقَاقٍ وَاسْمُ لَقَبٍ فَأَمَّا الْمُشْتَقُّ فَضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا ما اُشْتُقَّ من فِعْلٍ كَالضَّارِبِ وَالْقَاتِلِ اُشْتُقَّ من الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ فَيَجُوزُ جَعْلُهُ عِلَّةً في قِيَاسِ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْأَفْعَالَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَلًا لِلْأَحْكَامِ وثانيهما ما اُشْتُقَّ من صِفَةٍ كَالْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ مُشْتَقٌّ من السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فَهَذَا من بَابِ الشَّبَهِ الصُّورِيِّ فَمَنْ جَعَلَهُ حُجَّةً جَوَّزَ التَّعْلِيلَ وقد قال عليه السَّلَامُ فَاقْتُلُوا منها كُلَّ أَسْوَدَ بَهِيمٍ فَجَعَلَ السَّوَادَ عِلَّةً لِإِبَاحَةِ الْقَتْلِ فَأَمَّا اللَّقَبُ فَضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا مُسْتَعَارٌ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو فَلَا يَدْخُلُهُ حَقِيقَةٌ وَلَا مَجَازٌ لِأَنَّهُ قد يَنْقُلُ اسْمَ زَيْدٍ إلَى عَمْرٍو وَعَمْرٍو إلَى زَيْدٍ فَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بهذا الِاسْمِ لِعَدَمِ لُزُومِهِ وَجَوَازِ انْتِقَالِهِ وثانيهما لَازِمٌ كَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْبَعِيرِ وَالْفَرَسِ وقد حَكَى الْأَصْحَابُ في جَوَازِ التَّعْلِيلِ بها وَجْهَيْنِ وَالصَّحِيحُ عِنْدِي امْتِنَاعُ التَّعْلِيلِ
____________________
(4/146)
بِالْأَسَامِي مُطْلَقًا لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الطَّرْدَ وَأَمَّا الْأَسَامِي الْمُشْتَقَّةُ فَالتَّعْلِيلُ بِمَوْضِعِ الِاشْتِقَاقِ لَا بِنَفْسِ الِاسْمِ انْتَهَى وهو تَفْصِيلٌ لَا مَزِيدَ على حَسَنِهِ فَإِنْ قُلْت فَهَلْ لِلْإِمَامِ سَلَفٌ في دَعْوَاهُ الِاتِّفَاقَ قلت رأيت في كِتَابِ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ ما نَصُّهُ اتَّفَقُوا على فَسَادِ الْعِلَّةِ إذَا اقْتَصَرْت بها على الِاسْمِ وَإِنْ كان بَعْضُهُمْ إذَا ضَاقَ عليه الْأَمْرُ تَعَلَّقَ بِهِ كَالرَّجُلِ يَسْأَلُ عن بَيْعِ الْكَلْبِ فَيُقَالُ لِأَنَّهُ كَلْبٌ قِيَاسًا على ما لَا نَفْعَ فيه أو على الْقُصُورِ وَلَيْسَ ذلك خِلَافًا بَعْدُ هذا لَفْظُهُ مع أَنَّهُ قبل ذلك بِقَلِيلٍ حَكَى وَجْهَيْنِ في التَّعْلِيلِ بِالِاسْمِ فَإِنْ قُلْت فما تَحْمِلُ كَلَامَ الْإِمَامِ على الْمُشْتَقِّ أو اللَّقَبِ قُلْت أَحْمِلُهُ على اللَّقَبِ لِأَنَّهُ نَصٌّ في غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ إذَا عُلِّقَ الْحُكْمُ بِالِاسْمِ الْمُشْتَقِّ كان مُعَلَّلًا بِمَا منه الِاشْتِقَاقُ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ هُنَا مُرَادُهُ الِاسْمُ الذي ليس بِمُشْتَقٍّ نعم الْخِلَافُ جَارٍ وَإِنْ لم يَكُنْ مُشْتَقًّا ومنها أَنْ لَا يَكُونَ وَصْفُهَا حُكْمًا شَرْعِيًّا عِنْدَ قَوْمٍ لِأَنَّهُ مَعْلُولٌ فَكَيْفَ يَكُونُ عِلَّةً وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ كَقَوْلِنَا حَرُمَ الِانْتِفَاعُ بِالْخَمْرِ فَيَبْطُلُ بَيْعُهُ لِأَنَّ الْحُكْمَ قد يَدُورُ مع الْحُكْمِ الْآخَرِ وُجُودًا وَعَدَمًا وَالدَّوَرَانُ يُفِيدُ ظَنَّ الْعِلِّيَّةِ وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ بِمَعْنَى الْمُعَرِّفِ وَلَا بُعْدَ في أَنْ يُجْعَلَ حُكْمٌ مُعَرِّفًا لِحُكْمٍ آخَرَ بِأَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ رَأَيْتُمُونِي أُثْبِتُ الْحُكْمَ الْفُلَانِيَّ في الصُّورَةِ الْفُلَانِيَّةِ فَاعْلَمُوا أَنِّي أُثْبِتُ الْحُكْمَ الْفُلَانِيَّ فيها أَيْضًا وَنَقَلَهُ الْهِنْدِيُّ عن الْأَكْثَرِينَ وقال السُّهَيْلِيُّ إنَّهُ هو الصَّحِيحُ من مَذْهَبِ الْأُصُولِيِّينَ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن عَامَّةِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ قال وقد قَاسَ الشَّافِعِيُّ رَقَبَةَ الظِّهَارِ على الرَّقَبَةِ في الْقَتْلِ وفي أَنَّ الْإِيمَانَ شَرْطٌ فِيهِمَا بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ كَفَّارَةٌ بِالْعِتْقِ وقال في زَكَاةِ مَالِ الْيَتِيمِ لِأَنَّهُ مَالِكٌ تَامُّ الْمِلْكِ وقال في الذِّمِّيِّ يَصِحُّ ظِهَارُهُ لِأَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ كَالْمُسْلِمِ وَقَاسَ الْوُضُوءَ على التَّيَمُّمِ في النِّيَّةِ بِأَنَّهُمَا طُهْرَانِ عن حَدَثٍ وقال مَالِكٌ كُلُّ فِطْرٍ مَعْصِيَةٌ فيها الْكَفَّارَةُ كَالْفِطْرِ بِالْوَطْءِ وقال أَصْحَابُ الرَّأْيِ الْمَنِيُّ نَجِسٌ لِأَنَّهُ يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ بِخُرُوجِهِ من الْبَدَنِ كَالْبَوْلِ انْتَهَى وقال ابن الْقَطَّانِ حُكْمُ تِلْكَ الْعِلَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً كَقَوْلِنَا حَرُمَ الرِّبَا لِأَنَّهُ رِبًا حَرُمَ الْأَكْلُ لِأَنَّهُ أَكْلٌ وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدُلَّ الشَّيْءُ على نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عليه بِغَيْرِهِ فإذا تَعَذَّرَ هذا فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ في تَحْرِيمِ هذا تَحْرِيمَ غَيْرِهِ كَأَنْ يَقُولَ الْعِلَّةُ في إيجَابِ الْكَفَّارَةِ على الْوَاطِئِ إيجَابُهَا على الْقَاتِلِ وَتَحْرِيمُ الْقَتْلِ وما أَشْبَهَهُ
____________________
(4/147)
أَمْ لَا على وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا منهم من جَوَّزَهُ وَمِنْهُمْ من أَبَاهُ وَاحْتَجَّ الْمُجَوِّزُونَ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ جَعَلَ الْعِلَّةَ فِيمَا يُخْرَجُ في زَكَاةِ الْفِطْرِ ما تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ وإذا كان هَكَذَا دَلَّ على جَوَازِهِ لِأَنَّ هذا إنَّمَا حُكْمٌ لِأَنَّ الْقُرْآنَ وَرَدَ بِهِ في قَوْله تَعَالَى فَبِظُلْمٍ من الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عليهم طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لهم وَالظُّلْمُ هو اسْمُ حُكْمٍ وَاخْتَارَ ابن الْمُنِيرِ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَكُونُ عِلَّةً وَإِنَّمَا هو دَلِيلٌ على الْعِلَّةِ من حَيْثُ الْمُلَازَمَةُ وَذَلِكَ أَنْ تَكُونَ عِلَّتُهُ تَقْتَضِي حُكْمَيْنِ فإذا وُجِدَ أَحَدُهُمَا اسْتَدْلَلْنَا بِوُجُودِهِ على وُجُودِهَا ثُمَّ على وُجُودِ الْحُكْمِ الْمَعْلُومِ ضَرُورَةُ تَلَازُمِ الثَّلَاثَةِ وقال الْآمِدِيُّ في الْأَحْكَامِ الْمُخْتَارُ أَنَّ الشَّرْعِيَّ يَكُونُ عِلَّةً شَرْعِيَّةً بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ لَا في أَصْلِ الْقِيَاسِ بَلْ في غَيْرِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ إذَا عَرَفْتُمْ أَنِّي حَكَمْت بِإِيجَابِ كَذَا فَاعْلَمُوا أَنِّي حَكَمْت بِكَذَا وَإِنَّمَا امْتَنَعَ في أَصْلِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ فَإِنْ كان بَاعِثًا على حُكْمِ الْأَصْلِ كَتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ يَقْتَضِيهَا حُكْمُ الْأَصْلِ جَازَ وَإِنْ كان لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ فَلَا وَتَابَعَهُ ابن الْحَاجِبِ وهو تَحَكُّمٌ لِأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ إنَّمَا شُرِعَ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ أو دَفْعِ مَفْسَدَةٍ فلما يُخَصَّصُ بِالْمَصْلَحَةِ دُونَ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ تَنْبِيهٌ الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ اخْتَلَفُوا في تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْحَقِيقِيِّ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ كَقَوْلِنَا في إثْبَاتِ الْحَيَاةِ في الشَّعْرِ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ بِالطَّلَاقِ وَيَحِلُّ بِالنِّكَاحِ فَيَكُونُ حَيًّا كَالْيَدِ فَمِنْهُمْ من جَوَّزَهُ قال الْهِنْدِيُّ وهو الْحَقُّ لِأَنَّ الْمُرَادَ من الْعِلَّةِ الْمُعَرِّفُ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ مُعَرِّفًا لِلْحُكْمِ الْحَقِيقِيِّ فَأَمَّا إذَا فَسَّرْنَاهَا بِالْمُوجِبِ وَالدَّاعِي امْتَنَعَ وَمِنْهُمْ من أَطْلَقَ الْمَنْعَ فَإِنْ كان ذلك بِنَاءً على تَفْسِيرِ الْعِلَّةِ بِالْمُوجِبِ فَصَحِيحٌ لَكِنْ لَا نَرْتَضِيهِ وَإِنْ كان ذلك مُطْلَقًا فَبَاطِلٌ وَكَلَامُ الْعَبْدَرِيِّ يَقْتَضِي التَّفْصِيلَ بين الْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ وَالْمُسْتَنْبَطِ فإنه قال يُقَالُ لِلْمَانِعِ من التَّعْلِيلِ بِالْحُكْمِ إنْ أَرَدْت بِهِ الْحُكْمَ الذي يَسْتَنْبِطُهُ الْمُجْتَهِدُ فَقَوْلُك صَحِيحٌ وَلَسْنَا نَنْفِيهِ وَإِنْ أَرَدْت الْحُكْمَ الذي صَدَرَ عن الشَّارِعِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْكُمَ الشَّرْعُ بِحُكْمٍ ثُمَّ يَجْعَلُ ذلك الْحُكْمَ عِلَّةً لِحُكْمٍ آخَرَ وقد وَقَعَ في الشَّرْعِ كَثِيرًا بِنَاءً على تَفْسِيرِ الْعِلَّةِ بِالْمُوجِبِ
____________________
(4/148)
مَسْأَلَةٌ قال في الْمَحْصُولِ يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِالْأَوْصَافِ الْعُرْفِيَّةِ وَهِيَ الشَّرَفُ وَالْخِسَّةُ وَالْكَمَالُ وَالنَّقْصُ وَلَكِنْ بِشَرْطَيْنِ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوصًا مُتَمَيِّزًا عن غَيْرِهِ وَأَنْ يَكُونَ مُطَّرِدًا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَإِلَّا لَجَازَ أَلَّا يَكُونَ ذلك الْمُعَرِّفُ حَاصِلًا في زَمَانِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ ومنها شَرَطَ قَوْمٌ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ ذَاتَ وَصْفٍ كَالْإِسْكَارِ في تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ تَعَدُّدِ الْوَصْفِ وَوُقُوعِهِ كَالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ لِلْقِصَاصِ وَنَسَبَهُ الْهِنْدِيُّ لِلْمُعْظَمِ وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ إجْمَاعَ الْقَيَّاسِينَ وَصَوَّرَ الْمَسْأَلَةَ بِالْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ فقال وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في الْعَقْلِيَّةِ فقال الشَّيْخُ أبو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ لَا يَجُوزُ تَرْكِيبُهَا من وَصْفَيْنِ فَأَكْثَرَ قال وَأَجَازَهُ الْبَاقُونَ من أَصْحَابِنَا قال وَكَذَلِكَ الْحُدُودُ امْتَنَعَ من تَرْكِيبِهَا الْأَشْعَرِيُّ وَأَجَازَهُ الْبَاقُونَ وهو الصَّحِيحُ وَحَيْثُ قُلْنَا بِالتَّرْكِيبِ فَقِيلَ لَا يَتَعَدَّى خَمْسَةً وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ عن أبي عبد اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ الْحَنَفِيِّ وَنَصَرَهُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ في كِتَابِ شَرْحِ التَّرْتِيبِ فقال لم أَسْمَعْ أَهْلَ الِاجْتِهَادِ زَادُوا في الْعِلَّةِ على خَمْسَةِ أَوْصَافٍ بَلْ إذَا بَلَغَتْ خَمْسَةً اسْتَثْقَلُوهَا ولم يُتَمِّمُوهَا وقال في كِتَابِهِ أَقْوَاهَا ما تَرَكَّبَ من وَصْفَيْنِ ثُمَّ يَلِيهِ الثَّلَاثَةُ ثُمَّ الْأَرْبَعَةُ ثُمَّ الْخَمْسَةُ ولم أَرَ لِأَحَدٍ من الْمُتَقَدِّمِينَ زِيَادَةً عليه وَيَخْرُجُ ذلك عن الْأَقْسَامِ وَالضَّبْطِ إذَا كَثُرَتْ الْأَوْصَافُ وَحَكَى في الْمَحْصُولِ عن الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ أَنَّهُ حَكَى عن بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ زِيَادَتُهَا على سَبْعَةٍ لَكِنْ نَقَلَ في رِسَالَتِهِ الْبَهَائِيَّةِ عنه عن بَعْضِهِمْ أنها لَا تَزِيدُ على خَمْسَةٍ وَهَذَا هو الصَّوَابُ عن حِكَايَةِ الشَّيْخِ نعم قَوْلُ عَدَمِ الزِّيَادَةِ على السَّبْعَةِ مَحْكِيٌّ أَيْضًا حَكَاهُ ابن الْفَارِضِ في كِتَابِهِ عن جَمَاعَةٍ قال الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَهَذَا التَّقْدِيرُ لَا أَعْرِفُ له حُجَّةً وقال صَاحِبُ التَّنْقِيحِ غَايَةُ ما يَتَوَقَّفُ عليه الْحُكْمُ سَبْعَةٌ قال ابن عَقِيلٍ وقد قال أَصْحَابُنَا وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ من كان بِقُرْبِ مِصْرٍ يَجِبُ عليه الْحُضُورُ إذَا سمع
____________________
(4/149)
النِّدَاءَ حُرٌّ مُسْلِمٌ صَحِيحٌ مُقِيمٌ في مَوْطِنٍ يَبْلُغُهُ النِّدَاءُ في مَوْضِعٍ تَصِحُّ فيه الْجُمُعَةُ فَهُوَ كَالْمُقِيمِ في مِصْرٍ قال وَهَذَا يَتَضَمَّنُ سَبْعَةَ أَوْصَافٍ وَلَمَّا ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ تَرْتِيبَهَا على ما سَبَقَ قال وَإِنَّمَا قَدَّمَ ما قَلَّ وَصْفُهُ على ما كَثُرَ منه لِلْحَاجَةِ فِيمَا كَثُرَ وَصْفُهُ إلَى زِيَادَةِ الِاجْتِهَادِ وَجَوَازِ الْخَطَأِ وَسَلَامَةِ ما قَلَّ وَصْفُهُ في أَحَدِ مَوَاضِعِهِ عنه لِأَنَّهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ وَالْعُمُومِ وَالظَّاهِرِ الصَّرِيحِ وَالْمُحْتَمَلِ إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَهُ وقال إلْكِيَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلُ أَوْصَافًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا وَفِيهِ إخَالَةٌ ثُمَّ هذا الْمَعْنَى يَقْتَضِي إفْرَادَ كل وَصْفٍ بِالتَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ إذَا كان مَخِيلًا كَفَى ذلك وقد يَمْتَنِعُ الْإِجْمَاعُ وَلَا يَهْتَدِي الْعَقْلُ أَنَّ الْوَصْفَ مَخِيلُ لَكِنْ يَجِبُ أَلَّا يَكْتَفِيَ بِأَنَّهُ ليس كَالْإِخَالَةِ الْمُعْتَبَرَةِ في الْعِلَّةِ التي ليس لها وَصْفٌ وَاحِدٌ وقد يَكُونُ أَحَدُهُمَا وَصْفًا وَالْآخَرُ مَخِيلًا وَإِنَّمَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَخِيلًا بِأَنْ لَا يُؤَثِّرَ في الْحُكْمِ أَصْلًا وَلَكِنْ يُؤَثِّرُ في الْعِلَّةِ لِتَعْظِيمِ وَقْعِهَا أو لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا في الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ فَيَكُونُ عَلَمًا مَحْضًا وَهَذَا هو الذي يُلَقَّبُ بِالشَّرْطِ وَالشَّرْطُ الْعَلَامَةُ تَنْبِيهٌ قد يَسْتَشْكِلُ مَحَلُّ الْخِلَافِ فإنه إنْ كان عِنْدَ الْحَاجَةِ لِلزِّيَادَةِ فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ أو عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ فَلَا وَجْهَ لِلتَّجْوِيزِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هذا مَوْضِعَ الْخِلَافِ وقد عَلَّلَ الشَّافِعِيُّ في الْجَدِيدِ الرِّبَا في الْأَرْبَعَةِ بِكَوْنِهَا مَطْعُومَةً من جِنْسٍ وَاحِدٍ وَأَضَافَ في الْقَدِيمِ إلَى ذلك الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَزَيَّفَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في تَعْلِيقِهِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ إذَا اسْتَقَلَّتْ بِوَصْفَيْنِ لم يَجُزْ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِمَا وَصْفٌ ثَالِثٌ لِأَنَّ الْوَصْفَ في الْعِلَّةِ إنَّمَا يُذْكَرُ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ فإذا اسْتَغْنَى عنه كان ذِكْرُهُ لَغْوًا وَكَذَلِكَ قال الشَّيْخُ أبو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ في شَرْحِ التَّلْخِيصِ إذَا تَقَابَلَتْ الْعِلَّتَانِ وَإِحْدَاهُمَا أَكْثَرُ أَوْصَافًا من الْأُخْرَى فَالْقَلِيلَةُ أَوْلَى بِإِجْمَاعِ النُّظَّارِ وَأَهْلِ الْأُصُولِ قال وَلَوْ جَازَ أَنْ يَزِيدَ الْوَاحِدُ وَصْفًا بَعْدَ اسْتِقَامَةِ الْعِلَّةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عنه لَجَازَ أَنْ يَزِيدَ خَمْسَةَ أَوْصَافٍ وَعَشَرَةً وَلَا فَائِدَةَ فيها لِأَنَّ الْعِلَّةَ كُلَّمَا زَادَتْ أَوْصَافُهَا ضَعُفَتْ وَكُلَّمَا قَلَّتْ قَوِيَتْ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى كَثْرَةِ الْأَوْصَافِ لِبُعْدِ الْفَرْعِ عنه وَقِلَّةُ الْأَوْصَافِ لِقُرْبِهِ منه وهو بِمَنْزِلَةِ من قَرُبَتْ قَرَابَتُهُ وَمَنْ بَعُدَ لَمَّا كان ابن الْعَمِّ لَا يُدْلِي إلَى الْمَيِّتِ إلَّا بِجَمَاعَةٍ تَوَسَّطُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ ولم يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ الِابْنِ وَالْأَبِ اللَّذَيْنِ يُدْلِيَانِ إلَيْهِ بِأَنْفُسِهِمَا وَأَيْضًا لِأَنَّ الْأَوْصَافَ كُلَّمَا كَثُرَتْ في الْعِلَّةِ قَلَّتْ الْفُرُوعُ
____________________
(4/150)
أَلَا تَرَى من ضَمَّ وَصْفَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ إلَى الطُّعْمِ أَسْقَطَ الرِّبَا عن الْمَطْعُومَاتِ التي لَا تُكَالُ وَلَا تُوزَنُ كَالْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالتِّينِ وَالْجَوْزِ وَغَيْرِهَا فَكَانَ كَاجْتِمَاعِ الْمُتَعَدِّيَةِ مع الْقَاصِرَةِ ثُمَّ أَشَارَ الشَّيْخُ إلَى أَنَّ من الْأَصْحَابِ من جَعَلَ الْعِلَّةَ على الْجَدِيدِ مُرَكَّبَةً من الْجِنْسِ وَالطُّعْمِ قال وَالصَّحِيحُ أنها بَسِيطَةٌ وَهِيَ الطُّعْمُ وَأَمَّا الْجِنْسُ فَحَمْلُ الْحُكْمِ لَا أَثَرَ له في تَعَلُّقِ الْحُكْمِ كما أَنَّ الشِّدَّةَ مَحَلٌّ لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَلَيْسَتْ الْخَمْرُ عِلَّةً لِوُجُودِ الشِّدَّةِ في غَيْرِ الْخَمْرِ وقال الْهِنْدِيُّ بَعْدَ حِكَايَةِ الْخِلَافِ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إنْكَارِ جَوَازِ كَوْنِ الْمَاهِيَّةِ الْمُرَكَّبَةِ عِلَّةً فإن اسْتِقْرَارَ الشَّرْعِ يَدُلُّ على وُجُوبِ وُقُوعِهِ فإن كَوْنَ الْقِصَاصِ وَاجِبًا في الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ كَوْنُ الرِّبَا جَارِيًا في الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ أَحَدَ الْوَصْفَيْنِ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً لِذَلِكَ بَلْ مَجْمُوعُ الْوَصْفَيْنِ أو أَحَدِهِمَا بِشَرْطِ الْآخَرِ وفي الْجُمْلَةِ أَنَّ أَكْثَرَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ غَيْرُ ثَابِتٍ على إطْلَاقِهَا بَلْ بِعُقُودٍ مُعْتَبَرَةٍ فيها وَاسْتِنْبَاطُ الْعِلَّةِ الْبَسِيطَةِ من مِثْلِ هذه الْأَحْكَامِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَيَلْزَمُ الْمَصِيرُ إلَى كَوْنِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ تَعَبُّدِيَّةً وهو على خِلَافِ الْأَصْلِ أو تَجْوِيزُ اسْتِخْرَاجِ الْعِلَّةِ الْمُرَكَّبَةِ وهو الْمَطْلُوبُ فَائِدَةٌ الْعِلَّةُ إذَا كَثُرَتْ أَوْصَافُهَا قَلَّتْ مَعْلُولَاتُهَا وإذا قَلَّتْ كَثُرَتْ ذَكَرَهُ بَعْضُ تَلَامِذَةِ إلْكِيَا وَنَظِيرُهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ في الْحَدِّ نُقْصَانٌ في الْمَحْدُودِ وَالنُّقْصَانُ فيه زِيَادَةٌ في الْمَحْدُودِ ومنها أَنْ تَكُونَ مُسْتَنْبَطَةً من أَصْلٍ مَقْطُوعٍ بِحُكْمِهِ عِنْدَ قَوْمٍ وَالْمُخْتَارُ الِاكْتِفَاءُ بِالظَّنِّ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ في الْعَمَلِ ومنها الْقَطْعُ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ في الْفَرْعِ عِنْدَ قَوْمٍ منهم الْمَرْوَزِيِّ في جَدَلِهِ وَنَقَلَهُ عن شَيْخِهِ محمد بن يحيى تِلْمِيذُ الْغَزَالِيِّ وَالْمُخْتَارُ الِاكْتِفَاءُ بِالظَّنِّ لِأَنَّهُ مَعْمُولٌ بِهِ في الشَّرْعِيَّاتِ وَلِأَنَّ سَائِرَ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ يَكْفِي فيه الظَّنُّ فَكَذَا ما نَحْنُ فيه لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ إبَاحَةَ وَطْءِ الْحَائِضِ على الطُّهْرِ بِقَوْلِهِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ وَمَعَ ذلك لو قالت الْمَرْأَةُ تَطَهَّرْت اكْتَفَى بِذَلِكَ وَجَازَ الْوَطْءُ اتِّفَاقًا وَكَذَلِكَ إبَاحَةُ الْعَقْدِ على الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا على أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَمَعَ ذلك إذَا قالت تَزَوَّجْت اكْتَفَى بِذَلِكَ وَإِنْ لم يُفِدْ قَوْلُهَا إلَّا الظَّنَّ وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْقَطْعَ إنَّمَا قام على الْعَمَلِ بِالظَّنِّ في الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ دُونَ
____________________
(4/151)
الْأَوْصَافِ الْحَقِيقِيَّةِ وهو ضَعِيفٌ فإن الْقَاطِعَ لَا يَخْتَصُّ دَلَالَتُهُ في شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ بَلْ يَدُلُّ على الْعَمَلِ بِالْمَظْنُونِ حَيْثُ تَحَقَّقَتْ وَتَوَسَّطَ الْمُقْتَرَحُ فقال لَا يُشْتَرَطُ الْقَطْعُ بِوُجُودِهَا إلَّا إذَا كانت وَصْفًا حَقِيقِيًّا كَالْإِسْكَارِ أَمَّا الْوَصْفُ الشَّرْعِيُّ فَيَكْفِي غَلَبَةُ الظَّنِّ بِحُصُولِهِ وَمِنْهُمْ من جَعَلَ مَحَلَّ الْخِلَافِ في الْوَصْفِ الْحَقِيقِيِّ أو الْعُرْفِيِّ وَأَنَّهُ لَا خِلَافَ في الشَّرْعِيِّ بِالِاكْتِفَاءِ بِالظَّنِّ ومنها حُصُولُ الِاتِّفَاقِ على وُجُودِ الْوَصْفِ الذي هو عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ في الْأَصْلِ هَكَذَا شَرَطَ بَعْضُهُمْ وهو ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ بِالدَّلِيلِ حَصَلَ الْغَرَضُ ومنها أَنْ لَا تَكُونَ مُخَالِفَةً لِمَذْهَبِ صَحَابِيٍّ وَالْحَقُّ جَوَازُهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُ لِعِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ من أَصْلٍ آخَرَ ومنها أَنْ تَكُونَ مُتَّحِدَةً في الْأَصْلِ أَيْ لَا يَكُونُ مَعَهَا عِلَّةٌ أُخْرَى ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ وهو بِنَاءً على اخْتِيَارِهِ في مَنْعِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ ومنها إذَا كانت الْعِلَّةُ وُجُودَ مَانِعٍ أو انْتِفَاءَ شَرْطٍ فَشَرَطَ الْجُمْهُورُ منهم الْآمِدِيُّ وَصَاحِبُ التَّنْقِيحِ وُجُودَ الْمُقْتَضَى وَالْمُخْتَارُ وِفَاقًا لِلرَّازِيِّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ كَقَوْلِنَا الزَّكَاةُ لَا تَجِبُ في الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ بِدَلِيلِ عَدَمِهَا في اللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ ثُمَّ قال الْإِمَامُ وَتَبِعَهُ الْهِنْدِيُّ هذا الْخِلَافُ مُفَرَّعٌ على جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ لِإِمْكَانِ اجْتِمَاعِ الْعِلَّةِ مع الْمَانِعِ في أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنْ مَنَعْنَاهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ هذا الْخِلَافُ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْمَانِعِ حِينَئِذٍ لَا يُتَصَوَّرُ فَضْلًا عن أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِبَيَانِ الْمُقْتَضَى أَمْ لَا وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِيمَا لو عَلَّلَ عَدَمَ الْحُكْمِ بِفَوَاتِ شَرْطٍ وَمَنَعَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ تَفْرِيعًا على الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وقال بِمَجِيءِ الْخِلَافِ وَإِنْ لم يُجَوِّزْ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ وَكَأَنَّ وَجْهَهُ أَنَّ الْمَانِعَ من التَّخْصِيصِ يقول ما يُسَمُّونَهُ بِالْمَانِعِ مُقْتَضٍ عِنْدِي لِلْحُكْمِ بِالْعَدَمِ فَقَتْلُ الْمُكَافِئِ في غَيْرِ الْأَبِ هو الْعِلَّةُ في إيجَابِ الْقِصَاصِ وَقَتْلُ الْأَبِ بِخُصُوصِهِ هو الْمُقْتَضِي لِعَدَمِ الْإِيجَابِ وَيَعُودُ حِينَئِذٍ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا ومنها إذَا أَثَّرَتْ الْعِلَّةُ في مَوْضِعٍ من الْأُصُولِ دَلَّ على صِحَّتِهَا وَإِنْ لم يَكُنْ ذلك أَصْلَ الْعِلَّةِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال يُعْتَبَرُ تَأْثِيرُهَا في الْأَصْلِ قَالَهُ الشَّيْخُ في التَّبْصِرَةِ
____________________
(4/152)
مَسْأَلَةٌ في جَوَازِ تَعْلِيلِ الشَّيْءِ بِجَمِيعِ أَوْصَافِهِ خِلَافٌ حَكَاهُ ابن فُورَكٍ وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ مَبْنِيٌّ على أَنَّ شَرْطَ الْعِلَّةِ التَّعَدِّي فَمَنْ شَرَطَهُ مَنَعَهَا هُنَا وَمَنْ جَوَّزَهُ اخْتَلَفُوا على قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ حَقَّ الْعِلَّةِ التَّأْثِيرُ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ بَعْضَ الْأَوْصَافِ دُونَ بَعْضٍ فَتَعْلِيلُهُ بِجَمِيعِهَا لَا يَصِحُّ فَلَوْ اتَّفَقَ أَنَّ جَمِيعَهَا مُؤَثِّرَةٌ جَازَ والثاني يَصِحُّ لِأَنَّ أَكْثَرَ ما فيه أَنْ لَا يَتَعَدَّى وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهَا مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا كما قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ في الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُكْمِ إذَا احْتَاجَتْ إلَى تَقْدِيمِ أَسْبَابٍ عليها ولم يَكُنْ لِتِلْكَ الْأَسْبَابِ تَأْثِيرٌ في الْحُكْمِ كَالزِّنَى الْمُوجِبِ لِلرَّجْمِ بِشَرْطِ وُجُودِ الْإِحْصَانِ وَتَكْمِيلِ جَلْدِ الزِّنَى مِائَةً بِشَرْطِ وُجُودِ الْحُرِّيَّةِ فقال أَكْثَرُهُمْ يَكُونُ مَجْمُوعُ تِلْكَ الْأَوْصَافِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ لِسُقُوطِهِ عِنْدَ عَدَمِ بَعْضِهَا كما يَسْقُطُ عِنْدَ عَدَمِ جَمِيعِهَا وقال بَعْضُهُمْ الْعِلَّةُ هِيَ الْوَصْفُ الْجَالِبُ لِلْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ عليه وَعَلَى هذا فَعِلَّةُ الرَّجْمِ وَتَكْمِيلِ الْحَدِّ وُجُودُ الزِّنَى دُونَ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِحْصَانِ وَبِهِ قال أَكْثَرُ أَهْلِ الرَّأْيِ وَكَذَلِكَ قالوا في أَرْبَعَةٍ شَهِدُوا على رَجُلٍ بِالزِّنَى وَشَهِدَ عليه اثْنَانِ بِالْحُرِّيَّةِ أو بِالْإِحْصَانِ وَوَقَعَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعَ الْكُلُّ عن شَهَادَتِهِمْ إنَّ الضَّمَانَ على شُهُودِ الزِّنَى دُونَ شُهُودِ الْإِحْصَانِ وَقَالُوا في شَاهِدَيْنِ شَهِدَا على رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ أَمْسِ فَقَضَى الْقَاضِي عليه بِعِتْقِهِ وَشَهِدَ آخَرَانِ بِأَنَّ ذلك الْعَبْدَ كان قد جَنَى أَوَّلَ أَمْسِ وَأَنَّ الْوَلِيَّ عَلِمَ بِالْجِنَايَةِ فَأَلْزَمَهُ الْقَاضِي الدِّيَةَ وَجَعَلَهُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ كلهم إنَّ ضَمَانَ الدِّيَةِ على شُهُودِ الْجِنَايَةِ وَضَمَانَ الْقِيمَةِ على شُهُودِ الْعِتْقِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ أَلْزَمَهُ الدِّيَةَ بِشَهَادَتِهِمْ وَإِنْ لم تَكُنْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلدِّيَةِ أَكْثَرَ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في ذلك فقال أبو حَفْصِ بن الْوَكِيلِ إذَا شَهِدَ عليه أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَى وَشَاهِدَانِ بِالْإِحْصَانِ فَرُجِمَ ثُمَّ رَجَعَ وَاحِدٌ منهم عن الشَّهَادَةِ عليه سُدُسُ الدِّيَةِ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّهُ كان يَجْعَلُ مَجْمُوعَ الْإِحْصَانِ وَالزِّنَى عِلَّةً لِلرَّجْمِ وَلِذَلِكَ قال إنْ رَجَعَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ فَعَلَيْهِمْ ثُلُثُ الدِّيَةِ أو شُهُودُ الزِّنَى فَثُلُثَاهَا وَهَذَا إذَا كان شُهُودُ الزِّنَى
____________________
(4/153)
غير شَاهِدَيْ الْإِحْصَانِ فَإِنْ كَانَا من شُهُودِ الزِّنَى فَعَلَيْهِمَا بِرُجُوعِهِمَا عن شَهَادَةِ الْإِحْصَانِ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَبِرُجُوعِهِمَا عن شَهَادَةِ الزِّنَى ثُلُثَا الدِّيَةِ وَإِنْ شَهِدَ الْأَرْبَعَةُ على الْإِحْصَانِ وَالزِّنَى فَالْحُكْمُ وَاضِحٌ وقال بَعْضُ أَصْحَابِنَا هذا إذَا كان شُهُودُ الْإِحْصَانِ غير شُهُودِ الزِّنَى فَإِنْ كان منهم فَالدِّيَةُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَقِيلَ إنْ رَجَعُوا كلهم فَعَلَى هَؤُلَاءِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَعَلَى الْآخَرِينَ النِّصْفُ وَعَلَى هذا قَوْلُ من رَأَى أَنَّ الْأَوْصَافَ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ قُلْت وَالرَّاجِحُ في الْمَذْهَبِ أَنَّ شُهُودَ الْإِحْصَانِ لَا يَغْرَمُونَ قال وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ في شُهُودِ الْعِتْقِ وَشُهُودِ الْجِنَايَةِ في الْعَبْدِ فإذا رَجَعُوا كلهم فَالصَّحِيحُ من مَذْهَبِهِ أَنَّ ضَمَانَ الْجِنَايَةِ على شُهُودِ الْجِنَايَةِ وَضَمَانَ الْقِيمَةِ على شُهُودِ الْعِتْقِ وَأَبْطَلَ أبو ثَوْرٍ الْعِتْقَ مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْحُكْمِ وَصْفًا لَازِمًا بِالْإِجْمَاعِ كَتَعْلِيلِنَا تَحْرِيمَ الرِّبَا في الْمَطْعُومَاتِ بِإِمْكَانِ الطُّعْمِ منها وَكَتَعْلِيلِ أَهْلِ الرَّأْيِ تَحْرِيمَ النِّسَاءِ بِالْجِنْسِ وَحْدَهُ نَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ قال وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ وَصْفًا غير لَازِمٍ لِلْمَعْلُومِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مُرَكَّبَةً من أَوْصَافٍ بَعْضُهَا لَازِمٌ وَبَعْضُهَا ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ أو الْعَادَةِ كَتَعْلِيلِنَا في الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ بِالْجِنْسِ وَكَوْنُهُ نَقْدًا عَامًّا وَالْجِنْسُ وَصْفٌ لَازِمٌ وَكَوْنُهُ عَامًّا بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ مَسْأَلَةٌ قال صَاحِبُ اللُّبَابِ من الْحَنَفِيَّةِ إذَا كانت الْعِلَّةُ ذَاتَ وَصْفَيْنِ وَوُجِدَا على التَّعَاقُبِ أو شَرَطَ ذُو وَصْفَيْنِ قال بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْحُكْمُ مَنْسُوبٌ إلَى آخِرِ الْوَصْفَيْنِ وَالْمُعْتَبَرُ في الشَّرْطِ آخِرُهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا في الْأَثَرِ وَيَرْجِعُ الْآخَرُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَعْقُبُ الْحُكْمَ وَبَنَوْا على هذا مَسَائِلَ منها شِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ بِالْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ وَالْمِلْكُ آخِرُهُمَا وُجُودًا فَصَارَ الشِّرَاءُ مُعْتِقًا وَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَ جَمَاعَةٌ في سَفِينَةٍ شيئا فَغَرِقَتْ وَجَبَ الضَّمَانُ على آخِرِهِمْ وَضْعًا وَكَذَلِكَ شُرْبُ الْمُثَلَّثِ حَرَامٌ إلَى حَالَةِ السُّكْرِ ثُمَّ إذَا أَسْكَرَ الْقَدَحُ الْعَاشِرُ كان هو الْحَرَامُ لَا غَيْرُهُ وَإِنْ حَصَلَ السُّكْرُ بِشُرْبِ الْجَمِيعِ لَكِنَّ هذا آخِرُهَا وُجُودًا
____________________
(4/154)
وقال بَعْضُهُمْ لَا يُضَافُ إلَى آخِرِهَا بَلْ إلَيْهِمَا جميعا لِأَنَّهُمَا جميعا جُزْءَا عِلَّةٍ قُلْت وَالْخِلَافُ عِنْدَنَا أَيْضًا فِيمَا لو طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا في دَفَعَاتٍ هل يَتَعَلَّقُ التَّحْرِيمُ بِالطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ وَحْدَهَا بِمَجْمُوعِ الثَّلَاثِ وَجْهَانِ وَفَائِدَتُهُمَا فِيمَا لو شَهِدُوا بِالثَّالِثَةِ ثُمَّ رَجَعُوا هل يَكُونُ الْغُرْمُ بِجُمْلَتِهِ عليهم أو ثُلُثُهُ فَقَطْ مَسْأَلَةٌ تَنْقَسِمُ الْعِلَّةُ إلَى ما يُفِيدُ الْأَثَرَ في الْحَالِ كَإِفْضَاءِ الْكَسْرِ إلَى الِانْكِسَارِ وَالْحَرْقِ إلَى الْإِحْرَاقِ وَإِلَى ما يُفِيدُهُ في ثَانِي الْحَالِ كَاقْتِضَاءِ الزِّرَاعَةِ وَالْغِرَاسَةِ حُصُولَ الْغَلَّةِ وَالثَّمَرَةِ وَكَإِفْضَاءِ الطَّلَاقِ إلَى حُصُولِ الْبَيْنُونَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثُمَّ الْعِلَّةُ تَارَةً تُفِيدُ الْمَعْلُولَ بِلَا شَرْطٍ وهو كَثِيرٌ وَتَارَةً لَا تُفِيدُهُ إلَّا مع الشَّرْطِ كَإِفْضَاءِ التَّعْلِيقِ إلَى وُقُوعِ الْمُعَلَّقِ عِنْدَ الشَّرْطِ وَلَكِنَّ السَّابِقَ على الشَّرْطِ لَا يَكُونُ عِلَّةً إلَّا لِلْأَمْرِ الْمُقَيَّدِ وهو الْأَثَرُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ ثُمَّ منها ما يُفِيدُ الْمَعْلُولَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ كما قُلْنَا في الْكَسْرِ مع الِانْكِسَارِ وَتَارَةً لَا يُفِيدُهُ إلَّا بِوَاسِطَةٍ كَاقْتِضَاءِ قَطْعِ الْيَدِ الزُّهُوقَ في بَعْضِ الصُّوَرِ فإنه يُؤَثِّرُ في السِّرَايَةِ ثُمَّ تُفِيدُ السِّرَايَةَ أَثَرًا آخَرَ أو آثَارًا يَنْشَأُ منها زُهُوقُ الرُّوحِ وَمَتَى بَطَلَتْ تِلْكَ الْوَاسِطَةُ بَطَلَ اقْتِضَاءُ الْعِلَّةِ الْمَعْلُولَ من حَيْثُ التَّحْقِيقُ وكان بَعْضُهُمْ يَسْتَدِلُّ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى على الْمَعْلُولِ الثَّانِي وَيَدَّعِي أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ انْتِفَاءُ الْوَاسِطَةِ قال الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ في كِتَابِ الْفُصُولِ وهو خَطَأٌ يَأْبَاهُ الْعَقْلُ قال وكان شَيْخُنَا رُكْنُ الدِّينِ الطَّاوُسِيُّ يقول هو بِمَنْزِلَةِ من أخبرنا وَسَطَ النَّهَارِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ في مَوْضِعٍ عَلَّقَ رَجُلٌ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ على غُرُوبِ الشَّمْسِ فقال آخَرُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ هُنَا لِأَنَّ إخْبَارَ الرَّجُلِ اقْتَضَى غُرُوبَ الشَّمْسِ وَغُرُوبُ الشَّمْسِ مُسْتَلْزِمٌ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فَيَقَعُ بِهِ وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ اقْتِضَاءَ الْإِخْبَارِ الْوُقُوعَ إنَّمَا كان بِوَاسِطَةِ ثُبُوتِ الْمُخْبَرِ عنه وهو غُرُوبُ الشَّمْسِ فلما بَطَلَتْ الْوَاسِطَةُ بَطَلَ الِاقْتِضَاءُ مَسْأَلَةٌ الْعِلَّةُ تَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ عَمَلِهَا في الِابْتِدَاءِ وَالدَّوَامِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا ما يَكُونُ عِلَّةً لِاقْتِضَاءِ الْحُكْمِ وَاسْتِدَامَتِهِ كَالرَّضَاعِ في تَحْرِيمِ النِّكَاحِ وَكَالْإِيمَانِ وَعَدَمِ الْمِلْكِ في الْمَنْكُوحَةِ الثَّانِي ما تَكُونُ عِلَّةً لِلِابْتِدَاءِ دُونَ الِاسْتِدَامَةِ كَالْعِدَّةِ وَالرِّدَّةِ هُمَا عِلَّتَانِ في مَنْعِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ دُونَ اسْتِدَامَتِهِ وَكَعَدِمِ الطَّوْلِ وَخَوْفِ الْعَنَتِ وَعَدَمِ الْإِحْرَامِ
____________________
(4/155)
وما ذَكَرْنَاهُ من كَوْنِ هذا الْقِسْمِ من أَحْكَامِ الْعِلَلِ ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ منهم ابن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ وَإِلْكِيَا وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ وَغَيْرُهُمْ وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا ثُمَّ قال وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْقَوْلَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَنَقْضِهَا وَالْعِدَّةُ وَالرِّدَّةُ إنَّمَا جُعِلَتَا عِلَّةً في مَنْعِ ابْتِدَاءِ عِلَّةِ عَقْدِ النِّكَاحِ وَهُمَا عِلَّةٌ في مَنْعِ ذلك بِكُلِّ حَالٍ ولم يُجْعَلَا عِلَّةً في مَنْعِ الِاسْتِدَامَةِ فَلَا يُقَالُ إنَّ اسْتِدَامَتَهُ تَجُوزُ مع وُجُودِ الْعِلَّةِ وَكَذَلِكَ كُلُّ ما أَشْبَهَهُ الثَّالِثُ عَكْسُهُ كَالطَّلَاقِ فإنه يَرْفَعُ حِلَّ الِاسْتِمْتَاعِ وَلَكِنْ لَا يَدْفَعُهُ إذْ الطَّلَاقُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ نِكَاحٍ جَدِيدٍ قال ابن الْقَطَّانِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في هذا أَنَّ الْعِلَلَ على حَسَبِ ما رَتَّبَهَا اللَّهُ وَنَصَبَهَا فَإِنْ نَصَبَهَا لِلِابْتِدَاءِ وَالدَّوَامِ أو لِأَحَدِهِمَا كانت له وقد أَطَالَ أَصْحَابُنَا الْكَلَامَ مع الْمُزَنِيّ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَ بِالْأَمَةِ ثُمَّ أَيْسَرَ هل يَصِحُّ النِّكَاحُ فإنه ذَهَبَ إلَى انْفِسَاخِهِ كَالِابْتِدَاءِ وَنَاقَضَ في ذلك فَجَوَّزَهُ مع ارْتِفَاعِ الْعَنَتِ وهو لَا يَحِلُّ في الِابْتِدَاءِ فَالْوَاجِبُ اعْتِبَارُ ما نَصَبَهُ تَعَالَى دُونَ الِاشْتِغَالِ بِأَعْيَانٍ وقد اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في أَكْلِ الْمَيْتَةِ مُضْطَرًّا في الِابْتِدَاءِ غير مُضْطَرٍّ في الِانْتِهَاءِ هل يَأْكُلُ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الضَّرُورَةِ فَخَرَّجَهُ على قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَأْكُلُ والثاني لَا من حَيْثُ إنَّهُ قد ارْتَفَعَتْ الْعِلَّةُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا الشَّيْءُ إذَا أُبِيحَ لِمَعْنَيَيْنِ فَارْتَفَعَ أَحَدُهُمَا هل يُبَاحُ أو يَرْجِعُ إلَى الضِّدِّ وَقِيلَ لَا حتى يَرْتَفِعَ الْمَعْنَيَانِ جميعا وَعِنْدَنَا أَنَّ الْأَمْرَ على ما نُصِبَ له قُلْت وَهَذَا الْخِلَافُ حَكَاهُ الْقَاضِي في الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ إذَا وَجَبَ بِعِلَّتَيْنِ كما سَنَذْكُرُهُ مَسْأَلَةٌ في تَعَدُّدِ الْعِلَلِ مع اتِّحَادِ الْحُكْمِ وَعَكْسِهِ يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ الْمُخْتَلِفِ بِالْجِنْسِ لِشَخْصٍ بِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ بِالِاتِّفَاقِ كَتَعْلِيلِ إبَاحَةِ قَتْلِ زَيْدٍ بِرِدَّتِهِ وَعَمْرٍو بِالْقِصَاصِ وَخَالِدٍ بِالزِّنَى وَمِمَّنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ فيه الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ وَالْآمِدِيَّ وَالْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَكَلَامُ الْمِنْهَاجِ وَغَيْرِهِ ظَاهِرٌ في جَرَيَانِ الْخِلَافِ فيه وَلَا وَجْهَ له وقد صَرَّحَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ كُلٌّ منها مُسْتَقِلٌّ في إبَاحَةِ الدَّمِ كَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٍ بَعْدَ إسْلَامٍ أو زِنًى بَعْدَ إحْصَانٍ أو قَتْلِ
____________________
(4/156)
مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ وَأَمَّا تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ في شَخْصٍ بِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ فَلَا خِلَافَ في امْتِنَاعِهِ بِعِلَلٍ عَقْلِيَّةٍ كَذَا قِيلَ لَكِنْ لِأَهْلِ الْكَلَامِ فيه خِلَافٌ حَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ ثُمَّ قال اخْتَلَفُوا إذَا وَجَبَ الْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ بِعِلَّتَيْنِ فَقِيلَ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِارْتِفَاعِهِمَا جميعا وَقِيلَ يَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِ إحْدَاهُمَا وَاخْتَلَفُوا في الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ إذَا ثَبَتَ كَوْنُهَا عِلَلًا بِذَلِكَ من خَارِجٍ هل يَصِحُّ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بها كَمُحْصَنٍ زَنَى وَقَتَلَ فإن الزِّنَى يُوجِبُ الْقَتْلَ بِمُجَرَّدِهِ فَهَلْ تُعَلَّلُ إبَاحَةُ دَمِهِ بِهِمَا مَعًا أَمْ لَا وَكَالْعَصِيرِ إذَا تَخَمَّرَ وَوَقَعَتْ فيه نَجَاسَةٌ هل تُعَلَّلُ نَجَاسَتُهُ بِهِمَا مَعًا أَمْ لَا وَكَتَحْرِيمِ وَطْءِ الْمُعْتَدَّةِ الْمُحْرِمَةِ الْحَائِضِ على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا الْمَنْعُ مُطْلَقًا مَنْصُوصَةً وَمُسْتَنْبَطَةً وَبِهِ جَزَمَ الصَّيْرَفِيُّ في الدَّلَائِلِ وَحَكَاهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ عن مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِهِمْ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَنَقَلَهُ عن الْقَاضِي وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُ مَذْهَبِهِمَا قال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَنَظِيرُهُ ما قَدَّمْنَاهُ في الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ تَقْدِيرُ الْعُمُومِ في نَفْيِ الْإِجْزَاءِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْعُمُومِ الشَّرْعِيِّ وَالْحِسِّيِّ جميعا فإن انْتِفَاءَ الشَّرْعِيِّ يُوجِبُ ثُبُوتَ الْحِسِّيِّ لَا مَحَالَةَ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَقْدِيرُ اجْتِمَاعِهِمَا وَالثَّانِي الْجَوَازُ مُطْلَقًا وهو الصَّحِيحُ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ كما قَالَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ ثُمَّ قال وَبِهَذَا نَقُولُ بِنَاءً على أَنَّ الْعِلَلَ عَلَامَاتٌ وَأَمَارَاتٌ على الْأَحْكَامِ لَا مُوجِبَةٌ لها فَلَا يَسْتَحِيلُ ذلك هذا لَفْظُهُ وقال ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ إنَّهُ الذي اسْتَقَرَّ عليه رَأْيُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وقال ابن الرِّفْعَةِ في الْمَطْلَبِ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ في كِتَابِ الْإِجَارَةِ من الْأُمِّ عِنْدَ الْكَلَامِ على قَفِيزِ الطَّحَّانِ مُصَرِّحٌ بِجَوَازِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ قال وهو الذي يَقْتَضِيهِ قَوْلُ عُمَرَ نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ لو
____________________
(4/157)
لم يَخَفْ اللَّهَ لم يَعْصِهِ وَتَقْدِيرُهُ أَنَّهُ لو لم يَخَفْ اللَّهَ لم يَعْصِهِ لِإِجْلَالِهِ لِذَاتِهِ وَتَعْظِيمِهِ فَكَيْفَ وهو يَخَافُ وإذا كان كَذَلِكَ كان عَدَمُ عِصْيَانِهِ مُعَلَّلًا بِالْخَوْفِ وَالْإِجْلَالِ وَالْإِعْظَامِ وقد يَكُونُ الْحُكْمُ مُعَلَّلًا بِعِلَّتَيْنِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِلَّةٌ في التَّعْلِيلِ وَيُقْصَرُ على إحْدَاهُمَا لِنُكْتَةٍ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً نَهَاهُمْ عن أَكْلِهِ في هذه الْحَالَةِ لِأَنَّ النُّفُوسَ لَا تَنْفِرُ منه وَإِنْ كان النَّهْيُ لَا يَخْتَصُّ بها بَلْ تَحْرِيمُ الضِّعْفِ كَتَحْرِيمِهِ مُضَاعَفًا وقال الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ قُبَيْلَ ما جاء في الصَّرْفِ إذَا شُرِطَ في بَيْعِ الثِّمَارِ السَّقْيُ على الْمُشْتَرِي فَالْمَبِيعُ فَاسِدٌ من قِبَلِ أَنَّ السَّقْيَ مَجْهُولٌ وَلَوْ كان مَعْلُومًا أَبْطَلْنَاهُ من قِبَلِ أَنَّهُ بَيْعٌ وَإِجَارَةٌ انْتَهَى فَالْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ مَوْجُودٌ مع الْجَهَالَةِ وَعَدَلَ عن التَّعْلِيلِ بها في الْحَالَتَيْنِ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لِلْبُطْلَانِ بِالْجَهَالَةِ أَقْرَبُ إلَى الْأَفْهَامِ من تَعْلِيلِهِ بِالْجَمْعِ بين الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَلَوْلَا هذا التَّنْزِيلُ لَكَانَ في هذا النَّصِّ لَمْحٌ لِمَنْعِ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ قُلْت وقد قال في الْأُمِّ وقد قال له بَعْضُ النَّاظِرِينَ أَفَتَحْكُمُ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ من وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ قُلْت نعم إذَا اخْتَلَفَتْ أَسْبَابُهُ قال فَاذْكُرْ منه شيئا قُلْت قد يُقِرُّ الرَّجُلُ عِنْدِي على نَفْسِهِ بِالْحَقِّ أو لِبَعْضِ الْآدَمِيِّينَ فَآخُذُهُ بِإِقْرَارِهِ أو لَا يُقِرُّ فَآخُذُهُ بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ عليه أو لَا تَقُومُ عليه فَيُدَّعَى عليه فَآمُرُهُ أَنْ يَحْلِفَ فَيَمْتَنِعُ فَآمُرُ خَصْمَهُ أَنْ يَحْلِفَ فَآخُذُهُ بِمَا حَلَفَ عليه وَخَصْمُهُ إذَا أتى بِالْيَمِينِ التي تُبَرِّئُهُ انْتَهَى وقال بَعْضُ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ الذي يَقْتَضِيهِ جَوَابُ أَحْمَدَ في خِنْزِيرٍ مَيِّتٍ وقد احْتَجُّوا بِأَنَّ الْقِيَاسَ من جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ كَالنَّصِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ في الْحَادِثَةِ نَصَّانِ فَأَكْثَرُ وَلِأَنَّهَا أَمَارَةٌ على الْحُكْمِ وَيَجُوزُ اجْتِمَاعُ الْأَمَارَاتِ وَالثَّالِثُ يَجُوزُ في الْمَنْصُوصَةِ دُونَ الْمُسْتَنْبَطَةِ وهو اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أبي بَكْرِ بن فُورَكٍ وَالْإِمَامِ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِالْمَنْصُوصَةِ الْمُجْمَعُ عليها قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَلِلْقَاضِي إلَيْهِ صَغْوٌ ظَاهِرٌ في كِتَابِ التَّقْرِيبِ وَهَذَا هو عُمْدَةُ ابْنِ الْحَاجِبِ في نَقْلِهِ هذا الْمَذْهَبَ في مُخْتَصَرِهِ عن الْقَاضِي فَاخْتَلَفَ النَّقْلُ عنه على أَنَّ الْمَوْجُودَ في التَّقْرِيبِ له الْجَوَازُ مُطْلَقًا وَإِلَيْهِ يُرْشِدُ كَلَامُ الْغَزَالِيِّ في الْمُسْتَصْفَى وَإِنْ كان أَطْلَقَ صَرِيحَ الْجَوَازِ في صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ إطْلَاقًا وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ في الْوَسِيطِ في الْكَلَامِ على زَوَائِدِ الْبَيْعِ الْحُكْمُ الْوَاحِدُ قد يُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ لِاحْتِمَالِ إرَادَةِ تَنْزِيلِهِ على الْمَنْصُوصَةِ أو لِأَنَّهُ أَرَادَ ما يُرِيدُهُ
____________________
(4/158)
الْفَقِيهُ من أَنَّ كُلًّا من الْوَصْفَيْنِ صَالِحٌ لِإِفَادَةِ الْحُكْمِ وَمُرَادُهُ في الْمُسْتَصْفَى امْتِنَاعُ حُصُولِ الْعُرْفَانِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا على حِدَتِهِ أو التَّأْثِيرُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا فإنه يَرَى أَنَّ الْعِلَّةَ مُؤَثِّرَةٌ بِجَعْلِ اللَّهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ في كل فَنٍّ بِحَسَبِهِ فَلَا تَظُنُّهُ تَنَاقُضًا وَالرَّابِعُ عَكْسُهُ حَكَاهُ ابن الْحَاجِبِ وابن الْمُنِيرِ في شَرْحِهِ لِلْبُرْهَانِ وقد اُسْتُغْرِبَتْ حِكَايَتُهُ وَسَيَأْتِي له نَظِيرٌ في النَّقْضِ وقال أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ إنْ لم تَكُنْ إحْدَاهُمَا عِلَّةَ حُكْمِ الْأَصْلِ جَازَ كَاسْتِحْقَاقِ الْقَتْلِ لِلرِّدَّةِ وَالْقِصَاصِ وَفَسَادِ الصَّلَاةِ لِلْحَدَثِ وَالْكَلَامِ إذَا وُجِدَا مَعًا وَإِنْ كانت إحْدَاهُمَا دَلِيلًا على حُكْمِ الْأَصْلِ من غَيْرِ أَنْ يُقَاسَ بها على أَصْلٍ آخَرَ فَهِيَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ وقال الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِهِ إنْ كانت كُلُّ وَاحِدَةٍ لو انْفَرَدَتْ لَكَانَتْ صَحِيحَةً فَاجْتِمَاعُهُمَا غَيْرُ مُضِرٍّ وَلَا مَانِعَ من التَّعْلِيلِ وَلَكِنْ قد يَكُونُ الْإِيرَادُ يُبَيِّنُ جَانِبَ التَّعْلِيلِ وَعِنْدَ التَّعَدُّدِ يَقَعُ الشَّكُّ في النَّفْسِ فَيَمْتَنِعُ التَّعْلِيلُ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ لَا لِضِيقِ الْمَحَلِّ عن الْعِلَلِ فَأَمَّا الْعِلَلُ الْمُؤَثِّرَةُ فَلَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهَا وَأَمَّا الْمَعْنَى الْمُلَائِمُ فَيَنْبَنِي على قَبُولِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمُرْسَلِ فَمَنْ رَدَّهُ كان تَعَدُّدُ الْمَعْنَى في الْأَصْلِ مُخِلًّا بِالشَّهَادَةِ وَمِنْ قَبْلِهِ لم يَضُرَّ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عليه وَإِنْ لم يَرِدْ حُكْمٌ على وَفْقِهِ فَكَيْفَ إذَا وَرَدَ على الْوَفْقِ وقال ابن رَحَّالٍ السَّكَنْدَرِيُّ هذه الْمَسْأَلَةُ لَا يَتَحَقَّقُ فيها الْخِلَافُ فإن لَفْظَ التَّعْلِيلِ مُشْتَرَكٌ بين مَعْنَيَيْنِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ أَرَادَ مَعْنًى غير ما أَرَادَ الْآخَرُ فَلَا خِلَافَ قال وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالتَّعْلِيلِ نَصْبُ الْأَمَارَةِ فَهُوَ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ وَإِنْ أُرِيدَ بِالتَّعْلِيلِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لِأَجْلِ الْوَصْفِ فَهُوَ جَائِزٌ في صُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِحَيْثُ يَثْبُتُ الْحُكْمُ في كل صُورَةٍ لِعِلَّةٍ فَأَمَّا ثُبُوتُ الْحُكْمِ في صُورَةٍ وَاحِدَةٍ بِعِلَلٍ كُلٌّ منها مُسْتَقِلَّةٌ فيه فَهَذَا لَا يَجُوزُ انْتَهَى التَّفْرِيعُ إنْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ فَالْجُمْهُورُ على الْوُقُوعِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّهُ جَائِزٌ غَيْرُ وَاقِعٍ وَأَرَادَ بِالْجَوَازِ الْعَقْلِيَّ فإنه قال في الْبُرْهَانِ ليس مُمْتَنِعًا عَقْلًا وَتَسْوِيغًا وَنَظَرًا إلَى الْمَصَالِحِ الْكُلِّيَّةِ وَلَكِنَّهُ يَمْتَنِعُ شَرْعًا وَجَرَى عليه إلْكِيَا وقال إنَّ الْمَانِعَ له اسْتِقْرَاءُ عُرْفِ الشَّرْعِ لَا الْعَقْلِ وقال ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ إنَّ الذي اسْتَقَرَّ عليه رَأْيُ الْإِمَامِ أَخِيرًا هو الْمَنْعُ يَعْنِي كما نَقَلَهُ الْآمِدِيُّ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ له في الْمَسْأَلَةِ رَأْيَانِ وَحَكَى الْهِنْدِيُّ قَوْلًا عَكْسَ
____________________
(4/159)
مَقَالَةِ الْإِمَامِ فقال قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ يَجُوزُ عَقْلًا ولم يَقَعْ سَمْعًا وَقِيلَ بِعَكْسِهِ وقال الْبَزْدَوِيُّ بِوُقُوعِهِ إنْ دَلَّ عليه نَصٌّ أو إجْمَاعٌ وَإِلَّا فَلَا لِتَعَارُضِ الِاحْتِمَالَيْنِ فَلَا يَحْكُمُ بِوَاحِدٍ منها إلَّا بِدَلِيلٍ وَأَمَّا إذَا قُلْنَا بِالْمَنْعِ فَلَوْ اجْتَمَعَتْ كَاللَّمْسِ وَالْمَسِّ فَاخْتَلَفُوا فقال قَوْمٌ كُلُّ وَاحِدٍ جُزْءُ عِلَّةٍ وقال آخَرُونَ الْعِلَّةُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا لَا بِعَيْنِهِ حَذَرًا من تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ إذَا جَعَلْنَا كُلَّ وَاحِدٍ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً وَأَغْرَبَ ابن الْحَاجِبِ فَحَكَى هذا الْخِلَافَ على الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ وَالْمَعْرُوفُ اتِّفَاقُ الْمُجَوِّزِينَ على أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ عِلَّةٌ وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ على الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ نعم قال بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ اتَّفَقُوا عِنْدَ التَّرْتِيبِ على أَنَّ الْحُكْمَ مُسْتَنِدٌ إلَى الْأُولَى فَقَطْ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إذَا وَقَعَتْ دَفْعَةً وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وهو من الْمَانِعِينَ إنْ قِيلَ لو وُجِدَتْ الْعِلَّتَانِ في حُكْمٍ فَمَاذَا يَعْمَلُ قِيلَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا عِلَّةً بَاطِلَةً أو إحْدَاهُمَا رَاجِحَةً لِمَا بَيْنَهُمَا من التَّنَافِي وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ تَسَاوِيهِمَا بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ رُجْحَانٌ انْتَهَى ثُمَّ الَّذِينَ مَنَعُوا الِاجْتِمَاعَ في الْعِلَّةِ اخْتَلَفُوا في الْمَأْخَذِ فَمِنْهُمْ من قال لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَفِي بِمُقْتَضَيَاتِ الْعِلَلِ لِأَنَّ مُقْتَضَيَاتِهَا الْأَمْثَالُ وَالْأَمْثَالُ كَالْأَضْدَادِ لَا تَجْتَمِعُ فَعَلَى هذا يَمْتَنِعُ في الْمَنْصُوصَةِ وَالْمُسْتَنْبَطَةِ وَمِنْهُمْ من قال بَلْ يَفِي بِمُقْتَضَيَاتِهَا وَلَكِنْ يَتَعَذَّرُ شَهَادَةُ الْحُكْمِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَجْمُوعُ هو الْعِلَّةُ أو يَكُونَ الْعِلَّةُ بَعْضَ الْمَجْمُوعِ دُونَ بَعْضٍ فَيَتَعَارَضُ الِاحْتِمَالَانِ في الشَّهَادَةِ بِالِاسْتِقْلَالِ لِكُلِّ وَاحِدٍ فَعَلَى هذا يَجْتَمِعُ في الْمَنْصُوصَةِ وَيَمْتَنِعُ في الْمُسْتَنْبَطَةِ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَانِعُونَ لِلِاجْتِمَاعِ من نَاحِيَةِ مُقْتَضَاهَا في الِاعْتِذَارِ عن مِثْلِ الْحَائِضِ الْمُحْرِمَةِ الصَّائِمَةِ فَمِنْهُمْ من قال مُقْتَضَيَاتُهَا أَحْكَامٌ عَدِيدَةٌ قِيلَ حُكْمٌ ذُو وَجْهَيْنِ وَالتَّعَدُّدُ بِالْجِهَةِ كَالتَّعَدُّدِ بِالتَّعْيِينِ وَقِيلَ الْحُكْمُ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا الْمَجْمُوعُ عِلَّةٌ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْعِلَلَ لَا يَتَعَذَّرُ اجْتِمَاعُهَا على الْحُكْمِ الْوَاحِدِ من جِهَةِ مُقْتَضَيَاتِهَا وَلَكِنْ من جِهَةِ الشَّهَادَةِ لها أَحْيَانًا فَإِنْ الْتَبَسَتْ الشَّهَادَةُ لِأَعْدَادِهَا كما على صِحَّةِ الِاجْتِمَاعِ أَنَّ الْمُصَحَّحَ عِنْدَ الِانْفِرَادِ وهو انْتِظَامُ الْمَصْلَحَةِ بِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ على الْوَصْفِ حَاصِلٌ بِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ على الْأَوْصَافِ بَلْ لِتَحْصُلَ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مَصَالِحُ فَهُوَ بِالصِّحَّةِ أَوْلَى وقد أَوْرَدَ الْمَانِعُونَ إشْكَالًا وهو أَنَّهُ لو ثَبَتَ الْحُكْمُ بِعِلَلٍ فَإِمَّا 1 أَنْ يَثْبُتَ بِكُلِّ
____________________
(4/160)
وَاحِدَةٍ منها 2 أو لَا شَيْءَ 3 أو بِشَيْءٍ منها دُونَ شَيْءٍ وَالْأَقْسَامُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فإنه يَلْزَمُ منه إثْبَاتُ الثَّابِتِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ منه سَلْبُ الْعِلَّةِ عن الْكُلِّ وهو مُنَاقِضٌ لِلْغَرَضِ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَيَلْزَمُ منه الِاحْتِكَامُ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَاتِ من غَيْرِ مُرَجِّحٍ ثُمَّ يَلْزَمُ سَلْبُ الْعِلَّةِ فِيمَا فَرَضْنَاهُ عِلَّةً وهو مُحَالٌ وَأَجَابَ الْحُذَّاقُ بِاخْتِيَارِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُمْ يَلْزَمُ إثْبَاتُ الثَّابِتِ قُلْنَا لَا يَلْزَمُ فإن الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ مُعَرِّفَاتٌ وَوَقَفُوا هَاهُنَا وقال الْقَاضِي ابن الْمُنِيرِ وَلِلْمَانِعِ أَنْ يُدِيرَ التَّقْسِيمَ مع فَرْضِ كَوْنِهَا مُعَرِّفَاتٍ فيقول الْمَعْرُوفُ هو الْمُثْبِتُ لِلْمُعَرِّفَةِ فَعَلَى هذا إنَّمَا تَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَثْبَتَتْ الْمَعْرِفَةَ بِالْحُكْمِ أو لم يُثْبِتْ شَيْءٌ منها الْمَعْرِفَةَ أو أَثْبَتَهَا الْبَعْضُ فَيَعُودُ الْإِشْكَالُ وَإِنَّمَا الْجَوَابُ أَنَّ هذا الْقِيَاسَ حَصَلَ من إلْحَاقِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْعَقْلِيَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فإنه لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً إلَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ إذَا نُسِبَ الْحُكْمُ إلَى الْعِلَّةِ وُجِدَتْ مَصْلَحَةٌ أو انْدَفَعَتْ مَفْسَدَةٌ وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ لَا يَتَخَيَّلُ عَاقِلٌ امْتِنَاعَ اجْتِمَاعِ الْعِلَلِ فإن حِينَئِذٍ يَكُونُ الْحُكْمُ بِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ على الْأَوْصَافِ تَحْصُلُ مَفَاسِدُ عَدِيدَةٌ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ قِيلَ الْخِلَافُ هل يَجْرِي في التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَا مُتَعَاقِبَيْنِ أَمْ هو مُخْتَصٌّ بِالْمَعِيَّةِ كَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ صَرِيحٌ في الْأَوَّلِ وَكَلَامُ غَيْرِهِ يَقْتَضِي الثَّانِيَ وَيُسَاعِدُهُ تَمْثِيلُ الْغَزَالِيِّ بِمَنْ لَمَسَ وَبَالَ في وَقْتٍ وَاحِدٍ وَبِهِ صَرَّحَ الْآمِدِيُّ في جَوَابِ دَلِيلِ الْمَانِعِينَ قُلْت وَيَشْهَدُ له قَوْلُ الْأُسْتَاذِ أبي مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيِّ وَهَذَا النَّوْعُ من الْعِلَلِ ضَرْبَانِ مُتَقَارِنَةٌ وَمُتَعَاقِبَةٌ فَالْمُتَعَاقِبَةُ تَجْتَمِعُ في إيجَابِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لو انْفَرَدَتْ لَأَوْجَبَتْ مِثْلَ ذلك الْحُكْمِ كَالْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْمُتَعَاقِبَةِ لَا تَجْتَمِعُ في الْوُجُودِ وَإِنَّمَا يَخْلُفُ بَعْضُهَا بَعْضًا في حُكْمٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ مِثْلُ دَمِ الْحَيْضِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ ثُمَّ يَرْتَفِعُ الدَّمُ وَيَبْقَى تَحْرِيمُ الْوَطْءِ لِأَجْلِ عَدَمِ الطَّهَارَةِ وقال الصَّفِيُّ الْأَصْفَهَانِيُّ في كِتَابِ النُّكَتِ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ من يَمْنَعُ جَوَازَ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ على الْجَمْعِ وَيَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِعِلَّتَيْنِ على الْبَدَلِ الثَّانِي زَعَمَ صَاحِبُ الْمُسَوَّدَةِ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَمْنَعُ قِيَامَ
____________________
(4/161)
وَصْفَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا لو انْفَرَدَ لَاسْتَقَلَّ بِالْحُكْمِ لَكِنْ هل نَقُولُ الْحُكْمُ مُضَافٌ إلَيْهِمَا أَمْ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أو في الْمَحَلِّ حُكْمَانِ قال وَيَجْتَمِعُ لِلْأَصْحَابِ فيها أَرْبَعَةٌ أَحَدُهَا تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ مُطْلَقًا والثاني التَّفْصِيلُ بين الْمَنْصُوصَةِ وَالْمُسْتَنْبَطَةِ والثالث أَنْ يَجْتَمِعَ في الْمَحَلِّ الْوَاحِدِ حُكْمَا الْعِلَّتَيْنِ وهو قَوْلُ أبي بَكْرٍ عبد الْعَزِيزِ في مَسْأَلَةِ الْأَحْدَاثِ إذَا نَوَى أَحَدُهَا لم يَرْتَفِعْ ما عَدَاهُ والرابع أَنَّهُمَا إذَا اجْتَمَعَا كَانَتَا كَوَصْفَيْنِ فَهُمَا هُنَاكَ عِلَّةٌ وفي ذلك الْمَحَلِّ عِلَّتَانِ وَالثَّالِثُ إذَا قُلْنَا بِالْجَوَازِ فقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ من شَرْطِهِ أَنْ لَا يَتَنَافَيَا لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ بِأَنْ تَقْتَضِيَ إحْدَاهُمَا إثْبَاتَ حُكْمٍ وَالْأُخْرَى نَفْيَهُ بَلْ وَيَتَضَادَّانِ بِالْإِجْمَاعِ كَتَعْلِيلِ الْبُرِّ أَنَّهُ مَكِيلٌ وَبِأَنَّهُ قُوتٌ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا قَرَّرَ أَنَّهُ لَا يُعَلَّلُ إلَّا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَجَبَ التَّنَافِي فَإِنْ كانت إحْدَاهُمَا مُتَعَدِّيَةً وَالْأُخْرَى قَاصِرَةً فَاخْتَلَفُوا فيه فَقِيلَ يَتَنَافَيَانِ وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ وَهَذَا إنْ قُلْنَا إنَّ التَّعَدِّيَ ليس بِشَرْطٍ قال الْبَاجِيُّ هذا الْخِلَافُ جَارٍ سَوَاءٌ كانت الْعِلَّةُ مُتَّفِقَةً في التَّعَدِّي وَعَدَمِهِ أو بَعْضُهَا مُتَعَدٍّ وَبَعْضُهَا قَاصِرٌ انْتَهَى وَرَأَيْت في كَلَامِ بَعْضِهِمْ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْنِ وَجُعِلَ منه قَوْلُ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ إذَا أَقْبَلَتْ الدُّنْيَا عَلَيْك فَأَنْفِقْ فَإِنَّهَا لَا تَبْقَى وإذا أَدْبَرَتْ فَأَنْفِقْ فَإِنَّهَا لَا تَبْقَى فَعَلَّلَ الْإِنْفَاقَ وهو حُكْمٌ وَاحِدٌ بِالْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ وقال آخَرُ إنْ كان رِزْقُك قُسِمَ فَلَا تَتْعَبْ وَإِنْ لم يَكُنْ قُسِمَ فَلَا تَتْعَبْ فَعَلَّلَ تَرْكَ التَّعَبِ بِقَسْمِ الرِّزْقِ وَعَدَمِهِ فَهَذِهِ الْعِلَّةُ وَإِنْ تَقَابَلَتْ وَتَضَادَّتْ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ منها مُنَاسِبَةٌ لِلْحُكْمِ من وَجْهٍ الرَّابِعُ أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ مَثَّلَ الْمَسْأَلَةَ في كُتُبِهِ بِالْمَرْأَةِ يَجْتَمِعُ فيها الْإِحْرَامُ وَالْحَيْضُ وَالصَّوْمُ وَغَلَّطَهُ الْإِبْيَارِيُّ لِاسْتِحَالَةِ مُجَامَعَةِ الصَّوْمِ شَرْعًا لِلْحَيْضِ وَرَدَّهُ عليه ابن الْمُنِيرِ بِإِمْكَانِ اجْتِمَاعِهِمَا في حَقِّ من انْقَطَعَ دَمُهَا قبل الْفَجْرِ فَثَبَتَ الصَّوْمُ ولم تَغْتَسِلْ وَهَذَا صَوْمٌ صَحِيحٌ وَحُكْمُ الْحَيْضِ بِاعْتِبَارِ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ بَاقٍ حتى تَغْتَسِلَ على الصَّحِيحِ في صِحَّةِ الصَّوْمِ وَتَحْرِيمِ الْوَطْءِ فَإِنْ قُلْت الْحَيْضُ غَيْرُ مَوْجُودٍ حَقِيقَةً قُلْت ليس الْعَمَلُ على صُورَتِهِ وَإِنَّمَا هو على اسْتِصْحَابِهِ حُكْمًا كما أَنَّ الْإِحْرَامَ عِلَّةٌ في إبْقَاءِ الْحَجِّ
____________________
(4/162)
مَعْقُودًا لَا حُكْمُهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ الْإِمَامُ أَنَّ الْمَرْأَةَ قد يَجْتَمِعُ عليها وَصْفَانِ وَيَعْتَرِيهَا حَالَتَانِ مُقْتَضَيَانِ لِلتَّحْرِيمِ إمَّا إحْرَامٌ وَحَيْضٌ أو إحْرَامٌ وَصَوْمٌ وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ في الْبُرْهَانِ مَثَّلَ تَحْرِيمَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ بِعِلَّةِ الْحَيْضِ وَالْإِحْرَامِ وَالصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ فَمُرَادُهُ اجْتِمَاعُ وَصْفَيْنِ من ذلك كَالصِّيَامِ مع الصَّلَاةِ أو الْإِحْرَامِ مع الْحَيْضِ لَا أَنَّ الْأَرْبَعَةَ تَجْتَمِعُ الْخَامِسُ الْقَائِلُونَ بِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الْعِلَلِ فإذا اجْتَمَعَتْ كان كُلُّ وَاحِدَةٍ منها لَا بِعَيْنِهَا عِلَّةً حَذَرًا من تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ إذَا جَعَلْنَا كُلَّ وَاحِدَةٍ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً وَمِنْ اللَّطِيفِ عِنْدَ ذلك أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ اخْتَلَفُوا في قَوْله تَعَالَى فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ فَقِيلَ فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْبَعْضِ تَعْظِيمُ قَدْرِ الذَّنْبِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ بَعْضَ ذُنُوبِهِمْ كَافٍ في إهْلَاكِهِمْ وَقِيلَ فَائِدَتُهُ التَّنْبِيهُ على ما يُصِيبُهُمْ في الدُّنْيَا من الْعُقُوبَاتِ فَكَانَ بَعْضُ ذُنُوبِهِمْ يُوجِبُ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا وَبَعْضُهَا يُوجِبُ عُقُوبَاتِ الْآخِرَةِ فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ فيها تَمَسُّكٌ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَسْبَابَ الْمُسْتَقِلَّةَ إذَا انْفَرَدَتْ تَكُونُ عِلَّةً منها إذَا اجْتَمَعَتْ وَاحِدَةٌ لَا بِعَيْنِهَا لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ صَدَرَتْ منهم أَسْبَابُ كل سَبَبٍ منها لو انْفَرَدَ لَاسْتَقَلَّ بِالْهَلَاكِ فلما اجْتَمَعَتْ أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ اسْمُهُ أَنَّ السَّبَبَ منها في الْإِصَابَةِ بِالْعُقُوبَاتِ وَالْإِهْلَاكِ بَعْضُهَا لَا كُلُّهَا وَالْبَاقِي فَاتَ مَحَلُّ تَأْثِيرِهِ وَهَذَا هو عَيْنُ الْقَوْلِ بِأَنَّ السَّبَبَ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ ذَكَرَهُ ابن الْمُنِيرِ السَّادِسُ قال ابن سُرَيْجٍ في كِتَابِ إثْبَاتِ الْقِيَاسِ فَإِنْ قِيلَ إذَا اسْتَنْبَطَ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَسُبِرَا فَصَحَّا ما السَّبِيلُ في ذلك قِيلَ إنْ كان أَحَدُهُمَا يَدْخُلُ في الْآخَرِ كَدُخُولِ الْمَأْكُولِ الْمُدَّخَرِ في الْمَأْكُولِ غَيْرِ الْمُدَّخَرِ نُظِرَ في زِيَادَةِ الزَّائِدِ فَاعْتُبِرَ كما ذَكَرْنَا في تَعْلِيلِ الرِّبَوِيِّ وَإِنْ كان الْمَعْنَيَانِ مُتَضَادَّيْنِ اُحْتِيجَ إلَى قِيَاسِهِمَا على غَيْرِهِمَا لِيُعْلَمَ أَيُّهُمَا أَصَحُّ وَذَلِكَ مِثْلُ تَخْيِيرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بَرِيرَةَ لَمَّا عَتَقَتْ قال بَعْضُهُمْ خَيَّرَهَا لِأَنَّ زَوْجَهَا كان عَبْدًا وقال بَعْضُهُمْ بَلْ كان حُرًّا وقال بَعْضُهُمْ لَا أُبَالِي أَكَانَ حُرًّا أو عَبْدًا وَإِنَّمَا خَيَّرَهَا لِحُدُوثِ الْعِتْقِ فَأَمَّا كَوْنُهُ حُرًّا أو عَبْدًا فَيُدْرَكُ بِالْخَبَرِ وَأَمَّا من قال خَيَّرَهَا لِحُدُوثِ الْعِتْقِ فَهُوَ الذي يَحْتَاجُ عِلَّتُهُ وَعِلَّةُ من خَالَفَهُ إلَى قِيَاسِهِمَا على نَظِيرِهِمَا لِيُعْلَمَ أَصَحُّهُمَا ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْعِلَّةَ فَضْلُ الْحُرِّيَّةِ لِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ الْحُرَّ على الْعَبْدِ فإذا حَدَثَ الْحُرِّيَّةُ حَدَثَ الْخِيَارُ لِلنَّقْصِ وَالْفَضْلِ فَيَعْمَلُ في هذا الْبَابِ بِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِ الْعِلَّةِ الْمُعَارِضَةِ وَإِلَى ما يُخَالِفُهَا حتى يَعْلَمَ أَصَحَّهُمَا
____________________
(4/163)
فَصْلٌ وَأَمَّا تَعْلِيلُ الْحُكْمَيْنِ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ كانت بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ فَلَا خِلَافَ كما قَالَهُ الْآمِدِيُّ في الْجَوَازِ كما لو قال الشَّارِعُ جَعَلْت طُلُوعَ الْهِلَالِ أَمَارَةً على وُجُوبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَمِنْهُ الْبُلُوغُ وَالْحَيْضُ عَلَامَةٌ لِأَحْكَامٍ عَدِيدَةٍ وَإِنْ كانت بِمَعْنَى الْبَاعِثِ فَاخْتَلَفُوا فيه على أَقْوَالٍ أَحَدُهَا وهو الصَّحِيحُ الْجَوَازُ إذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْوَاحِدُ بَاعِثًا على حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَيْ مُنَاسِبًا لَهُمَا بِأَمْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا كَمُنَاسَبَةِ الرِّبَا وَالشُّرْبِ لِلْحَدِّ وَالتَّحْرِيمِ والثاني الْمَنْعُ مُطْلَقًا والثالث الْمَنْعُ إنْ لم يَتَضَادَّا وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ فَيَجُوزُ تَعْلِيلُ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِالْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ لَكِنْ في مَحَالَّ مُتَعَدِّدَةٍ كَالْقَتْلِ الصَّادِرِ من زَيْدٍ وَعَمْرٍو فإنه مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ عَلَيْهِمَا وقد يُعَلَّلُ بِهِمَا مُخْتَلِفَانِ غَيْرُ مُتَضَادَّيْنِ كَالْحَيْضِ يُحَرِّمُ الْوَطْءَ وَمَسَّ الْمُصْحَفِ وَنَحْوَهُ وَكَالْإِحْرَامِ الْمَانِعِ من النِّكَاحِ وَالصَّيْدِ وَالطِّيبِ وَأَخْذِ الشَّعْرِ وَالْأَظْفَارِ ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وقد يُعَلَّلُ بها مُخْتَلِفَانِ مُتَضَادَّانِ بِشَرْطَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ كَالْجِسْمِ يَكُونُ عِلَّةً لِلسُّكُونِ بِشَرْطِ الْبَقَاءِ في الْحَيِّزِ وَعِلَّةُ الْحَرَكَةِ بِشَرْطِ الِانْتِقَالِ عنه وَمَثَّلَهُ إلْكِيَا بِمَا يَكُونُ مُبْطِلًا لِعَقْدٍ مُصَحِّحًا لِآخَرَ قُلْت كَالتَّأْبِيدِ في التِّجَارَةِ وَالْبَيْعِ قال إلْكِيَا وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِحُكْمَيْنِ في شَيْءٍ وَاحِدٍ في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لِاسْتِحَالَةِ حُصُولِ الْحُكْمِ على هذا الْوَجْهِ وَلَا يَمْتَنِعُ كَوْنُهُمَا عِلَّتَيْنِ لِحُكْمَيْنِ مِثْلَيْنِ في شَيْئَيْنِ فَأَمَّا كَوْنُهُمَا عِلَّةً لِحُكْمَيْنِ مِثْلَيْنِ في شَيْءٍ وَاحِدٍ فَمُحَالٌ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لَا يَصِحُّ فيها الزَّائِدُ وَإِنَّمَا تَتَمَاثَلُ الْأَحْكَامُ وَتُعَلَّلُ بِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ في أَحْوَالٍ كَقَطْعِ الْيَدِ قِصَاصًا وَسَرِقَةً فَلَا يَمْنَعُ منه وَلَكِنَّهُمَا حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ في الْآثَارِ وَإِنْ تَمَاثَلَا في الصُّورَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
____________________
(4/164)
مَسَالِكُ الْعِلَّةِ أَيْ الطُّرُقُ الدَّالَّةُ على الْعِلَّةِ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى في الْقِيَاسِ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ الْجَامِعِ في الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بَلْ لَا بُدَّ من دَلِيلٍ يَشْهَدُ له في الِاعْتِبَارِ وَالْأَدِلَّةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ إجْمَاعٌ وَنَصٌّ وَاسْتِنْبَاطٌ وَمِنْهُمْ من أَضَافَ إلَيْهِ دَلِيلَ الْعَقْلِ وَجَعَلَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ وَجْهًا وَالْمَشْهُورُ طَرِيقَةُ السَّمْعِ فَقَطْ الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ الْإِجْمَاعُ على كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً وهو مُقَدَّمٌ في الرُّتْبَةِ على الظَّوَاهِرِ من النُّصُوصِ لِأَنَّهُ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ احْتِمَالُ النَّسْخِ وَمِنْهُمْ من قَدَّمَ الْكَلَامَ على النَّصِّ لِشَرَفِهِ وهو نَوْعَانِ إجْمَاعٌ على عِلَّةٍ مُعَيَّنَةٍ كَتَعْلِيلِ وِلَايَةِ الْمَالِ بِالصِّغَرِ وَإِجْمَاعٌ على أَصْلِ التَّعْلِيلِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا في عَيْنِ الْعِلَّةِ كَإِجْمَاعِ السَّلَفِ على أَنَّ الرِّبَا في الْأَوْصَافِ الْأَرْبَعَةِ مُعَلِّلٌ وَاخْتَلَفُوا في أَنَّ الْعِلَّةَ مَاذَا وَمِثَالُ الْقِيَاسِ فيه أَنَّ الْأَخَ لِلْأَبَوَيْنِ مُقَدَّمٌ على الْأَخِ من الْأَبِ في الْمِيرَاثِ لِامْتِزَاجِ النَّسَبَيْنِ فَقِيَاسٌ عليه وِلَايَةُ النِّكَاحِ وَغَيْرُهَا فَإِنَّهَا أَثَّرَتْ في الْإِرْثِ إجْمَاعًا وَلَكِنْ في غَيْرِهِ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ فيه وَمِنْ ذلك إجْمَاعُهُمْ على أَنَّ الْغَصْبَ هو عِلَّةُ ضَمَانِ الْأَمْوَالِ فَيُقَاسُ عليه السَّارِقُ وَجَمِيعُ الْأَيْدِي الْغَاصِبَةِ وَإِجْمَاعُهُمْ على أَنَّ الْبِكْرَ الصَّغِيرَةَ مُوَلًّى عليها في النِّكَاحِ فَقَاسَ عليها أبو حَنِيفَةَ الثَّيِّبَ الصَّغِيرَةَ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لَا يَقْضِي الْقَاضِي وهو غَضْبَانُ وقال وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ ليس لنا عِلَّةٌ تَعُودُ على أَصْلِهَا بِالتَّعْمِيمِ إلَّا هذا الْمِثَالُ وَذَلِكَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ وقد سَبَقَ تَعَدِّي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْجَامِدِ الْقَالِعِ من
____________________
(4/165)
النَّصِّ على الْأَحْجَارِ نَظَرًا لِمَعْنَى الْإِزَالَةِ وَمَثَّلَهُ غَيْرُهُ بِقَوْلِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه في السَّوَادِ لو قَسَمْته بَيْنَكُمْ لَصَارَتْ دُوَلًا بين أَغْنِيَائِكُمْ ولم يُخَالِفْهُ أَحَدٌ وَقَوْلِ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه في شَارِبِ الْخَمْرِ إذَا شَرِبَ سَكِرَ وإذا سَكِرَ هَذَى وإذا هَذَى افْتَرَى فإنه يَجِبُ عليه حَدُّ الْمُفْتَرِي ولم يُخَالَفْ وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ مَنَعَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْقِيَاسَ على أَصْلٍ مُجْمَعٍ على حُكْمِهِ لِمَا فيه من الِافْتِيَاتِ على الصَّحَابَةِ إذْ قد يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعُهُمْ لِنُطْقٍ خَاصٍّ أو لِمَعْنًى لَا يَتَعَدَّى وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ على الْجَوَازِ طَرْدًا أَوْجَبَ دَلِيلَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ إذَا ظَهَرَ التَّسَاوِي في الْمُنَاسَبَةِ وَإِنْ لم يَتَجَانَسْ الْحُكْمَانِ من كل وَجْهٍ وَلَعَلَّهُ شَطْرُ الْمَسَائِلِ الْقِيَاسِيَّةِ عِنْدَهُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْإِجْمَاعِ من طُرُقِ الْعِلَّةِ حَكَاهُ الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ عن مُعْظَمِ الْأُصُولِيِّينَ ثُمَّ قال وَهَذَا لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا فإن الْقَائِسِينَ لَيْسُوا كُلَّ الْأُمَّةِ وَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِمْ ثُمَّ رَدَّدَ الْقَاضِي جَوَابَهُ في أَثْنَاءِ الْكَلَامِ فقال لو جَعَلْنَا الْقَائِسِينَ أَمَارَةً لِخَبَرِ غَلَبَةِ الظَّنِّ في الْمَقَايِيسِ لَكَانَ مُحْتَمَلًا وَإِنْ لم نَقُلْ إنَّهُ يُفْضِي إلَى الْقَطْعِ وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ عليه جَوَابُهُ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِإِجْمَاعِ الْقَائِسِينَ إلَّا أَنْ يُقَدَّرَ رُجُوعُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ عن الْإِنْكَارِ ثُمَّ يُجْمِعُ الْكَافَّةُ على عِلَّةٍ فَتَثْبُتُ حِينَئِذٍ قَطْعًا وَرَدَّ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ هذا بِأَنَّ الْمُحَقِّقِينَ على أَنَّ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ لَيْسُوا من عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَلَا حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ فإن مُعْظَمَ الشَّرِيعَةِ صَدَرَتْ عن الِاجْتِهَادِ وَالنُّصُوصُ لَا تَفِي بِعُشْرِ مِعْشَارِ الشَّرِيعَةِ وَحَكَى ابن السَّمْعَانِيِّ وَجْهًا ثَالِثًا عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ على الْحُكْمِ الْمُجْمَعِ عليه ما لم يُعْرَفْ النَّصُّ الذي أَجْمَعُوا لِأَجْلِهِ وَهَاهُنَا أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنَّ هذا الْإِجْمَاعَ ليس من شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا بَلْ يَكْفِي فيه الظَّنُّ ثَانِيهَا أَنَّهُ إذَا كان قَطْعِيًّا امْتَنَعَ وُرُودُهُ في الطَّرْدِيِّ فَإِنْ كان ظَنِّيًّا وَرَدَ فيه لَكِنْ يَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ ثَالِثُهَا أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إذَا قَاسَ على عِلَّةٍ إجْمَاعِيَّةٍ فَلَيْسَ لِلْمُعْتَرِضِ الْمُطَالَبَةُ بِتَأْثِيرِ تِلْكَ الْعِلَّةِ في الْأَصْلِ وَلَا في الْفَرْعِ فإن تَأْثِيرَهَا في الْفَرْعِ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الْمُطَالَبَةُ بِتَأْثِيرِهَا في الْفَرْعِ فَلِاطِّرَادِ الْمُطَالَبَةِ في كل قِيَاسٍ إذْ الْقِيَاسُ هو تَعْدِيَةُ حُكْمِ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ بِالْجَامِعِ الْمُشْتَرَكِ وما من قِيَاسٍ إلَّا وَيَتَّجِهُ عليه سُؤَالُ الْمُطَالَبَةِ بِتَأْثِيرِ الْوَصْفِ في الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ على الْمُعْتَرِضِ فَيُقَالُ مَثَلًا إنَّا قد نُثْبِتُ الْعِلَّةَ مُؤَثِّرَةً في الْأَصْلِ بِالِاتِّفَاقِ
____________________
(4/166)
وَيَثْبُتُ وُجُودُهَا في الْفَرْعِ فَتَمِّمْ لي الْقِيَاسَ فَإِنْ ثَبَتَ عَدَمُ تَأْثِيرِهَا امْتَنَعَ قِيَاسُك فَعَلَيْك بَيَانُهُ فَإِنْ بَيَّنَ الْمُعْتَرِضُ الْفَرْقَ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لَزِمَ الْمُسْتَدِلَّ جَوَابُهُ وَإِلَّا انْقَطَعَ أَمَّا فَتْحُ بَابِ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّأْثِيرِ ابْتِدَاءً فَلَا يُمْكِنُ منه لِمَا ذَكَرْنَا الْمَسْلَكُ الثَّانِي النَّصُّ على الْعِلَّةِ قال الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه مَتَى وَجَدْنَا في كَلَامِ الشَّارِعِ ما يَدُلُّ على نَصْبِهِ أَدِلَّةً أو أَعْلَامًا ابْتَدَرْنَا إلَيْهِ وهو أَوْلَى ما يُسْلَكُ ثُمَّ الْمَشْهُورُ أَنَّ إلْحَاقَ الْمَسْكُوتِ عنه بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ قِيَاسٌ وقال ابن فُورَكٍ ليس قِيَاسًا وَإِنَّمَا هو اسْتِمْسَاكٌ بِنَصِّ لَفْظِ الشَّارِعِ فإن لَفْظَ التَّعْلِيلِ إذَا لم يَقْبَلْ التَّأْوِيلَ عن كل ما تَجْرِي الْعِلَّةُ فيه كان الْمُتَعَلِّقُ بِهِ مُسْتَدِلًّا بِلَفْظٍ نَاصٍّ في الْعُمُومِ حَكَاهُ في الْبُرْهَانِ عِنْدَ الْكَلَامِ على مَرَاتِبِ الْأَقْيِسَةِ وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْلِيلَ مَعْنًى من الْمَعَانِي وَأَصْلُهُ أَنْ تَدُلَّ عليه الْحُرُوفُ كَبَقِيَّةِ الْمَعَانِي لَكِنْ تَدُلُّ الْأَسْمَاءُ وَالْأَفْعَالُ على الْحُرُوفِ في إفَادَةِ الْمَعَانِي فَمِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ كَيْ وَاللَّامُ وَإِذَنْ وَمِنْ وَالْبَاءِ وَالْفَاءِ وَمِنْ أَسْمَائِهِ أَجَلْ وَجَرَّاءُ وَعِلَّةٌ وَسَبَبٌ وَمُقْتَضًى وَنَحْوُ ذلك وَمِنْ أَفْعَالِهِ عَلَّلْت بِكَذَا وَنَظَرْت كَذَا بِكَذَا ثُمَّ قد يَدُلُّ السِّيَاقُ في الدَّلَالَةِ على الْعِلِّيَّةِ كما دَلَّ على غَيْرِ الْعِلِّيَّةِ وقد يَكُونُ مُحْتَمِلًا فَيُعَيِّنُ السِّيَاقُ أَحَدَ الْمُحْتَمَلَيْنِ وقد خَلَطَ الْمُصَنِّفُونَ الشُّرُوطَ بِالْعِلَلِ وَعَمَدُوا إلَى أَمْثِلَةٍ يُتَلَقَّى التَّعْلِيلُ فيها من شَيْءٍ فَظَنُّوهُ يَتَلَقَّى من شَيْءٍ آخَرَ وَرُبَّمَا الْتَبَسَ عليهم مَوْضُوعُ الْحُرُوفِ لِكَوْنِهَا مُشْتَرَكَةً فَظَنُّوهُ لِلتَّعْلِيلِ في مَحَلٍّ ليس هو فيه لِلتَّعْلِيلِ كَتَمْثِيلِهِمْ التَّعْلِيلَ بِالْفَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِيمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ وقد قَسَمُوا النَّصَّ على الْعِلَّةِ إلَى صَرِيحٍ وَظَاهِرٍ الْأَوَّلُ الصَّرِيحُ قال الْآمِدِيُّ فَالصَّرِيحُ هو الذي لَا يَحْتَاجُ فيه إلَى نَظَرٍ
____________________
(4/167)
وَاسْتِدْلَالٍ بَلْ يَكُونُ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا في اللُّغَةِ له وقال صَاحِبُ التَّنْقِيحِ هو ما يَدُلُّ عليه اللَّفْظُ سَوَاءٌ كان مَوْضُوعًا له أو لِمَعْنًى يَتَضَمَّنُهُ فَدَخَلَ الْحُرُوفُ الْمُتَّصِلَةُ بِغَيْرِهَا وقال الْإِبْيَارِيُّ ليس الْمُرَادُ بِالصَّرِيحِ الْمَعْنَى الذي لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ بَلْ الْمَنْطُوقُ بِالتَّعْلِيلِ فيه على حَسَبِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ الظَّاهِرِ على الْمَعْنَى وقد قال الْقَاضِي إنَّهُ لِلتَّعْلِيلِ إلَّا أَنْ يَدُلَّ على غَيْرِ ذلك وهو بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ قال لَا يَصْلُحُ الدُّلُوكُ لِكَوْنِهِ عِلَّةً فَهُوَ مَعْنًى عِنْدَ الدُّلُوكِ وَإِنَّمَا قال ذلك لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ لَا بُدَّ فيها من الْمُنَاسَبَةِ وَلَيْسَ مَيْلُ الشَّمْسِ من هذا الْقَبِيلِ ثُمَّ الدَّالُّ على الصَّرِيحِ أَقْسَامٌ أَحَدُهَا التَّصْرِيحُ بِلَفْظِ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَهَذَا أَهْمَلَهُ الْأُصُولِيُّونَ وهو أَعْلَاهَا رُتْبَةً وَثَانِيهَا لِعِلَّةِ كَذَا أو لِسَبَبِ كَذَا وَثَالِثُهَا من أَجْلِ أو لِأَجْلِ وهو دُونَ ما قَبْلَهُ قَالَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ يَعْنِي لِأَنَّ لَفْظَ الْعِلَّةِ تُعْلَمُ بِهِ الْعِلَّةُ من غَيْرِ وَاسِطَةٍ من قَوْلِهِ لِأَجْلِ يُفِيدُ مَعْرِفَتَهَا بِوَاسِطَةِ مَعْرِفَةِ أَنَّ الْعِلَّةَ ما لِأَجْلِهَا الْحُكْمُ وَالدَّالُّ بِلَا وَاسِطَةٍ أَقْوَى وَكَذَا قَالَهُ الصَّفِيُّ الْأَصْفَهَانِيُّ في النُّكَتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى من أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بَنِي إسْرَائِيلَ الْآيَةَ على أَنَّ الْمَشْهُورَ في أَنَّ من أَجْلِ مُتَعَلِّقٌ بِ كَتَبْنَا أَيْ كَتَبْنَا على بَنِي آدَمَ الْقِصَاصَ من أَجْلِ قَتْلِ ابْنِ آدَمَ أَخَاهُ بِمَعْنَى السَّبَبُ في شَرْعِيَّةِ الْقِصَاصِ حِرَاسَةُ الدُّنْيَا وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ من النَّادِمِينَ أَيْ من أَجْلِ قَتْلِ أَخِيهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا هو عِلَّةٌ لِحُكْمِهِ سُبْحَانَهُ على بَاقِي الْأُمَمِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ فَإِنْ قُلْت فَكَيْفَ يَكُونُ قَتْلُ وَاحِدٍ بِمَثَابَةِ قَتْلِ الناس كُلِّهِمْ قُلْت تَفْخِيمًا لِشَأْنِ الْقَتْلِ وَأَنَّهُ وَصَلَ في أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ إلَى هذه الْحَالَةِ وَلَا يَلْزَمُ من الْمُتَشَابِهِينَ التَّسَاوِي من كل الْوُجُوهِ لِاخْتِلَافِهِمَا في مِقْدَارِ الْإِثْمِ وَاسْتِوَائِهِمَا في أَصْلِهِ لَا وَصْفِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ من أَجْلِ الْبَصَرِ وَقَوْلُهُ نَهَيْتُكُمْ عن ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ لِأَجْلِ الدَّافَّةِ
____________________
(4/168)
رَابِعُهَا كَيْ كَذَا جَعَلَهَا الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ من الصَّرِيحِ وَخَالَفَهُ الرَّازِيَّ وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بين الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ فَعَلَّلَ سُبْحَانَهُ قِسْمَةَ الْفَيْءِ بين الْأَصْنَافِ بِتَدَاوُلِهِ بين الْأَغْنِيَاءِ دُونَ الْفُقَرَاءِ وَقَوْلِهِ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا على ما فَاتَكُمْ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَدَّرَ ما يُصِيبُهُمْ من الْبَلَاءِ قبل أَنْ تَبْرَأَ الْأَنْفُسُ أو الْمُصِيبَةُ أو الْأَرْضُ أو الْمَجْمُوعُ وهو الْأَحْسَنُ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ مَصْدَرَ ذلك قُدْرَتُهُ عليه وَحِكْمَتُهُ الْبَالِغَةُ التي فيها أَنْ لَا يُحْزِنَ عِبَادَهُ على ما فَاتَهُمْ وَلَا يُفْرِحَهُمْ بِمَا آتَاهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّ الْمُصِيبَةَ مُقَدَّرَةٌ كَائِنَةٌ وَلَا بُدَّ كُتِبَتْ قبل خَلْقِهِمْ فَهَوَّنَ عليهم خَامِسُهَا إذَنْ كَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا جَفَّ قالوا نعم قال فَلَا إذَنْ كَذَا جَعَلَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالْغَزَالِيُّ من الصَّرِيحِ وَجَعَلَهُ في الْبُرْهَانِ وَالْمَحْصُولِ من الظَّاهِرِ قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ ولم يَسْأَلْ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عن ذلك لِأَنَّهُ لم يَعْلَمْهُ لِأَنَّ ذلك مَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ بِالْحِسِّ وَإِنَّمَا سَأَلَ عنه لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ إنَّمَا مَنَعَ من بَيْعِهِ لِأَجْلِ أَنَّهُ يَنْقُصُ لِئَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّهُ لِغَيْرِ هذه الْعِلَّةِ وَزَعَمَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ النَّهْيُ عن الْبَيْعِ عِنْدَ النُّقْصَانِ لِأَنَّ إذَا لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا الْمُسْتَقْبَلَ وَرَدَّ عليه إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّ الْمَسْئُولَ عنه إنَّمَا هو فِعْلُ الْحَالِ ولم يَجْرِ لِفِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ ذِكْرٌ وَإِنَّمَا يَجْرِي السُّؤَالُ بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ قال ابن الْمُنِيرِ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْقَوَاعِدِ فإن إذَا أَبَدًا لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْمُسْتَقْبَلَ وَالْفِعْلُ الْمَسْئُولُ عنه مُسْتَقْبَلٌ قَطْعًا لِأَنَّ الْمَاضِيَ وَالْحَالَ الْحَقِيقِيَّ أَيْ الذي حَدَثَ لَا يَسْأَلُ عنه وَإِنَّمَا يَسْأَلُ عن فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ غير أَنَّا لَا نَقُولُ إنَّ الْمُسْتَقْبَلَ هو الْبَيْعُ في حَالَةِ النُّقْصَانِ مُتَفَاضِلًا بَلْ الْمُسْتَقْبَلُ الْمَسْئُولُ عنه حَقِيقَةً هذا رُطَبٌ وَهَذَا تَمْرٌ وَسَادِسُهَا ذِكْرُ الْمَفْعُولِ له فإنه عِلَّةٌ لِلْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَنَزَّلْنَا
____________________
(4/169)
عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَنَصْبُ ذلك على الْمَفْعُولِ له أَحْسَنُ من غَيْرِهِ كما صَرَّحَ بِهِ في قَوْلِهِ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ وفي قَوْلِهِ وَلِأُتِمّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فَإِتْمَامُ النِّعْمَةِ هِيَ الرَّحْمَةُ وَقَوْلُهُ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ من مُدَّكِرٍ أَيْ لِأَجْلِ الذِّكْرِ كما قال فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَقَوْلُهُ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أو نُذْرًا لِلْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ الثَّانِي الظَّاهِرُ وَأَمَّا الظَّاهِرُ فَهُوَ كُلُّ ما يَنْقَدِحُ حَمْلُهُ على غَيْرِهِ التَّعْلِيلِ أو الِاعْتِبَارِ إلَّا على بُعْدٍ وهو أَقْسَامٌ أَحَدُهَا اللَّامُ وَهِيَ إمَّا مُقَدَّرَةٌ كما سَيَأْتِي في مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَإِمَّا ظَاهِرَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِدُلُوكِ الشَّمْسِ وما خَلَقْت الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ من السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وما جَعَلَهُ اللَّهُ إلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَالْقُرْآنُ مَحْشُوٌّ من هذا فَإِنْ قُلْت اللَّامُ فيه لِلْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لهم عَدُوًّا وَحَزَنًا وَقَوْلِهِ لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً قُلْت لَامُ الْعَاقِبَةِ إنَّمَا تَكُونُ في حَقِّ من يَجْهَلُهَا كَقَوْلِهِ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لهم أو يَعْجِزُ عن دَفْعِهَا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ وَأَمَّا من هو بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَيَسْتَحِيلُ في حَقِّهِ مَعْنَى هذه اللَّامِ وَإِنَّمَا اللَّامُ الْوَارِدَةُ في أَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ لَامُ الْحُكْمِ وَالْغَايَةِ الْمَطْلُوبَةِ من الْحِكْمَةِ وَقَوْلِهِ لِيَكُونَ لهم عَدُوًّا وَحَزَنًا هو تَعْلِيلٌ لِقَضَاءِ اللَّهِ بِالْتِقَاطِهِ وَتَقْدِيرِهِ له فإن الْتِقَاطَهُمْ إنَّمَا كان لِقَضَائِهِ وَذَكَرَ فَضْلَهُمْ دُونَ قَضَائِهِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ في كَوْنِهِ جَزَاءً لهم وَحَسْرَةً عليهم وَعَنْ الْبَصْرِيِّينَ إنْكَارُ لَامِ الْعَاقِبَةِ قال الزَّمَخْشَرِيّ وَالتَّحْقِيقُ لَامُ الْعِلَّةِ فإن التَّعْلِيلَ فيها وَارِدٌ على طَرِيقِ الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ دَاعِيَهُمْ لِلِالْتِقَاطِ لم يَكُنْ لِكَوْنِهِ عَدُوًّا وَحَزَنًا بَلْ الْمَحَبَّةُ وَالتَّبَنِّي غير أَنَّ ذلك لَمَّا كان نَتِيجَةَ الْتِقَاطِهِمْ له وَثَمَرَةً شُبِّهَ بِالدَّاعِي الذي يَفْعَلُ الْفِعْلَ لِأَجْلِهِ فَاللَّامُ مُسْتَعَارَةٌ لِمَا يُشْبِهُ التَّعْلِيلَ كما اُسْتُعِيرَ الْأَسَدُ لِمَنْ يُشْبِهُ الْأَسَدَ وَنَقَلَ ابن خَالَوَيْهِ في كِتَابِهِ الْمُبْتَدَأِ عن الْبَصْرِيِّينَ أنها لَامُ الصَّيْرُورَةِ وَعَنْ
____________________
(4/170)
الْكُوفِيِّينَ أنها لَامُ التَّعْلِيلِ وَنَقَلَ ابن فُورَكٍ عن الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ كُلَّ لَامٍ نَسَبَهَا اللَّهُ لِنَفْسِهِ فَهِيَ لِلْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ دُونَ التَّعْلِيلِ لِاسْتِحَالَةِ الْغَرَضِ فَكَأَنَّ الْمُخْبِرَ في لَامِ الصَّيْرُورَةِ قال فَعَلْتُ هذا بَعْدَ هذا لَا أَنَّهُ غَرَضٌ لي وَاسْتَشْكَلَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بين الْأَغْنِيَاءِ وَبِقَوْلِهِ إنَّا فَتَحْنَا لَك فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَك فَقَدْ صَرَّحَ فيه بِالتَّعْلِيلِ وَلَا مَانِعَ من ذلك إذْ هو على وَجْهِ التَّفَضُّلِ وقال صَاحِبُ التَّنْقِيحِ اللَّامُ في اللُّغَةِ تَأْتِي لِلتَّعْلِيلِ وَتُسْتَعْمَلُ لِلْمِلْكِ وإذا أُضِيفَتْ إلَى الْوَصْفِ تَعَيَّنَتْ لِلتَّعْلِيلِ وَجَعَلَ الرَّازِيَّ في الْمَحْصُولِ اللَّامَ من الصَّرَائِحِ وقال في الرِّسَالَةِ الْبَهَائِيَّةِ عن الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ قال في شِفَاءِ الْعَلِيلِ إنَّهَا صَرِيحَةٌ في التَّعْلِيلِ وَكَذَلِكَ الْبَاءُ وَالْفَاءُ ثُمَّ اسْتَشْكَلَ ذلك بِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالصَّرِيحِ ما لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا في التَّعْلِيلِ أو ما يَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ في التَّعْلِيلِ أَظْهَرَ فَإِنْ كان الْأَوَّلَ فَلَيْسَتْ اللَّامُ صَرِيحَةً في التَّعْلِيلِ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ في غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ لِدُوا لِلْمَوْتِ وَقَوْلِ الْمُصَلِّي أُصَلِّي لِلَّهِ فَإِنْ كان الثَّانِيَ فَلَا يَبْقَى بين الصَّرِيحِ وَالْإِيمَاءِ فَرْقٌ لِأَنَّ الْإِيمَاءَ إنَّمَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ إذَا كانت دَلَالَتُهُ على الْعِلِّيَّةِ رَاجِحَةً على دَلَالَتِهِ على غَيْرِ الْعِلِّيَّةِ وَحِينَئِذٍ فَلَا بُدَّ من الْفَرْقِ بين ما يَصِيرُ فيه اللَّفْظُ صَرِيحًا في الْعِلَّةِ وَعِنْدَ عَدَمِهِ يَصِيرُ إيمَاءً ولم يَثْبُتْ ذلك الثَّانِي أَنْ الْمَفْتُوحَةُ الْمُخَفَّفَةُ فَإِنَّهَا بِمَعْنَى لِأَجْلِ وَالْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ بَعْدَهَا تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ نَحْوُ أَنْ كان كَذَا وَمِنْهُ أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ على طَائِفَتَيْنِ من قَبْلِنَا فإنه مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ قَدَّرَهُ الْبَصْرِيُّونَ كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا وَالْكُوفِيُّونَ لِئَلَّا تَقُولُوا أو لِأَجْلِ أَنْ تَقُولُوا وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتَى وَقَوْلُهُ أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى فَالْكُوفِيُّونَ في هذا كُلِّهِ يُقَدِّرُونَ اللَّامَ أَيْ لِئَلَّا تَضِلَّ ولئلا تَقُولَ وَالْبَصْرِيُّونَ يُقَدِّرُونَ الْمَفْعُولَ مَحْذُوفًا أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا أو حَذَرًا أَنْ تَقُولُوا فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ الطَّرِيقَانِ في قَوْلِهِ أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَإِنَّك إنْ قَدَّرْت لِئَلَّا تَضِلَّ إحْدَاهُمَا لم يَسْتَقِمْ عَطْفُ فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا عليه وَإِنْ قَدَّرْت حَذَرًا أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا لم يَسْتَقِمْ الْعَطْفُ أَيْضًا وَكَذَلِكَ إنْ قَدَّرْت إرَادَةَ
____________________
(4/171)
أَنْ تَضِلَّ قِيلَ الْمَقْصُودُ إذْ كان إحْدَاهُمَا تَنْسَى إذَا نَسِيَتْ أو ضَلَّتْ فلما كان الضَّلَالُ سَبَبًا لِلِادِّكَارِ جُعِلَ مَوْضِعَ الْعِلَّةِ كما تَقُولُ أَعْدَدْت هذه الْخَشَبَةَ أَنْ يَمِيلَ الْحَيْطُ فَأَدْعَمَهُ بها فَإِنَّمَا أَعْدَدْتهَا لِلدَّعْمِ لَا لِلْمَيْلِ هذا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَالْبَصْرِيِّينَ وَقَدَّرَهُ الْكُوفِيُّونَ في تَذْكِيرِ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى إنْ ضَلَّتْ فلما تَقَدَّمَ الْجَزَاءُ اتَّصَلَ بِمَا قَبْلَهُ فَصَحَّتْ أَنْ الثَّالِثُ إنْ الْمَكْسُورَةُ سَاكِنَةُ النُّونِ الشَّرْطِيَّةُ بِنَاءً على أَنَّ الشُّرُوطَ اللُّغَوِيَّةَ أَسْبَابٌ فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِ من أَنْكَرَ عَدَّهَا من ذلك نعم التَّعْلِيقُ من الْمَوَانِعِ فَيَتَرَتَّبُ على ما تَرَتَّبَ على الْأَسْبَابِ وَعَلَيْهِ الْخِلَافُ من الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ هل الْأَسْبَابُ الْمُعَلَّقَةُ بِشَرْطٍ انْعَقَدَتْ وَتَأَخَّرَ تَرَتُّبُ حُكْمِهَا إلَى غَايَةٍ أو لم تَنْعَقِدْ أَسْبَابًا لَكِنْ من جَعَلَ وُجُودَ الْمَانِعِ عِلَّةً لِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ يَصِحُّ على قَوْلِهِ إنَّ الشَّرَائِطَ مَوَانِعُ وَهِيَ عِلَلٌ لِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ الرَّابِعُ إنَّ كَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّهَا من الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ قال صَاحِبُ التَّنْقِيحِ كَذَا عَدُّوهَا من هذا الْقِسْمِ وَالْحَقُّ أنها لِتَحْقِيقِ الْفِعْلِ وَلَا حَظَّ لها من التَّعْلِيلِ وَالتَّعْلِيلُ في الحديث مَفْهُومٌ من سِيَاقِ الْكَلَامِ وَتَعَيُّنُهُ فَائِدَةٌ لِلذِّكْرِ وَكَذَلِكَ أَنْكَرَ كَوْنَهَا لِلتَّعْلِيلِ الْكَمَالُ بن الْأَنْبَارِيِّ من نُحَاةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَنَقَلَ إجْمَاعَ النُّحَاةِ على أنها لَا تَرِدُ لِلتَّعْلِيلِ قال وَهِيَ في قَوْلِهِ إنَّهَا من الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ لِلتَّأْكِيدِ لَا لِأَنَّ عِلَّةَ الطَّهَارَةِ هِيَ الطَّوَافُ وَلَوْ قَدَّرْنَا مَجِيءَ قَوْلِهِ هِيَ من الطَّوَّافِينَ بِغَيْرِ إنَّ لَأَفَادَ التَّعْلِيلَ فَلَوْ كانت إنَّ لِلتَّعْلِيلِ لَعُدِمَتْ الْعِلَّةُ بِعَدَمِهَا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لِأَنَّهَا وَإِلَّا لَوَجَبَ فَتْحُهَا وَلَا سَتُفِيدُ التَّعْلِيلَ من اللَّامِ وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ من الْحَنَابِلَةِ منهم الْفَخْرُ إسْمَاعِيلُ الْبَغْدَادِيُّ في كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِ جَنَّةِ الْمَنَاظِرِ وأبو مُحَمَّدٍ يُوسُفُ بن الْجَوْزِيِّ في كِتَابِهِ الْإِيضَاحِ في الْجَدَلِ وَلَكِنْ مِمَّنْ صَرَّحَ بِمَجِيئِهَا لِلتَّعْلِيلِ أبو الْفَتْحِ بن جِنِّي وَنَقَلَ الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ في فُصُولِهِ قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ فيه وَأَنَّ الْأَكْثَرِينَ على إثْبَاتِهِ وَلَيْسَ مع النَّافِي إلَّا عَدَمُ الْعِلْمِ وَكَفَى بِابْنِ جِنِّي حُجَّةً في ذلك الْخَامِسُ الْبَاءُ قال ابن مَالِكٍ وَضَابِطُهُ أَنْ يَصْلُحَ غَالِبًا في مَوْضِعِهَا اللَّامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ذلك بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَقَوْلِهِ فَبِظُلْمٍ من الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عليهم فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ وَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَنْ يَدْخُلَ أحدكم الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ
____________________
(4/172)
وَجَعَلَ منه الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَنَسَبَهُ بَعْضُهُمْ إلَى الْمُعْتَزِلَةِ وقال إنَّمَا هِيَ لِلْمُقَابَلَةِ كَقَوْلِهِمْ هذا بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ هو من قد يُعْطِي مَجَّانًا وَأَمَّا الْمُسَبَّبُ فَلَا يُوجَدُ بِدُونِ السَّبَبِ وَتَقَدَّمَ في الْحُرُوفِ الْفَرْقُ بين بَاءِ السَّبَبِيَّةِ وَبَاءِ الْعِلَّةِ وإن تُشَارِكُ الْبَاءَ في التَّعْلِيلِ وَتَمْتَازُ عنها بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ ما يَلِيهَا في حُكْمِ من رَجَعَ إلَيْهِ فِيمَا يَتَكَلَّمُ فيه فقال مُوَسِّعًا كَالْجَوَابِ لِأَنَّهُ كَذَا وَالثَّانِي أَنَّ خَبَرَهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْمُخَاطَبِ أو مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ غَيْرِ الْمَعْلُومِ لِمَا لم يَعْمَلْ بِمُقْتَضَاهُ وَزَعَمَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ أَنَّ دَلَالَةَ الْبَاءِ على التَّعْلِيلِ مَجَازٌ من جِهَةِ أَنَّ ذَاتَ الْعِلَّةِ لِمَا اقْتَضَتْ وُجُودَ الْمَعْلُولِ دخل الْإِلْصَاقُ هُنَاكَ فَحَسُنَ اسْتِعْمَالُهَا فيه مَجَازًا قال الْهِنْدِيُّ وَهَذَا يُخَالِفُ ما ذَكَرَهُ غَيْرُهُ وَلِمَا أَشْعَرَ بِهِ كَلَامُهُ هُنَا من أَنَّ دَلَالَةَ اللَّامِ وَالْبَاءِ قَائِمَةٌ على التَّعْلِيلِ ظَاهِرَةٌ من غَيْرِ فَرْقٍ ثُمَّ ذَكَرَ أنها في اللَّامِ حَقِيقَةً وقال الْأَصْفَهَانِيُّ في نُكَتِهِ الْبَاءُ دُونَ اللَّامِ في الْعِلِّيَّةِ لِأَنَّ مَحَامِلَ اللَّامِ أَقَلُّ من مَحَامِلِ الْبَاءِ وَاللَّامُ وَإِنْ جَاءَتْ لِلِاخْتِصَاصِ فَالتَّعْلِيلُ لَا يَخْلُو عن الِاخْتِصَاصِ فَكَانَتْ دَلَالَةُ اللَّامِ أَخَصَّ بِالْعِلَّةِ السَّادِسُ الْفَاءُ إذَا عُلِّقَ بها الْحُكْمُ على الْوَصْفِ وَلَا بُدَّ فيها من تَأَخُّرِهَا وَهِيَ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَدْخُلَ على السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ وَيَكُونُ الْحُكْمُ مُتَقَدِّمًا كَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في الْمُحْرِمِ وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فإنه يُبْعَثُ يوم الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا وَالثَّانِي أَنْ تَدْخُلَ على الْحُكْمِ وَتَكُونَ الْعِلَّةُ مُتَقَدِّمَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا فَالْفَاءُ لِلْجَزَاءِ وَالْجَزَاءُ مُسْتَحَقٌّ بِالْمَذْكُورِ السَّابِقِ وهو السَّرِقَةُ مَثَلًا لِأَنَّ التَّقْدِيرَ إنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوهُ وَمِنْ هذا الْقَبِيلِ قَوْله
____________________
(4/173)
تَعَالَى أو لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هو فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ظَاهِرُ الْخِطَابِ يَدُلُّ على أَنَّ الْعِلَّةَ من قِيَامِ الْوَلِيِّ بِالْإِمْلَاءِ أَنَّ مُوَلِّيَهُ لَا يَسْتَطِيعُهُ فَصَارَ ذلك مُوجِبًا قِيَامَ الْوَلِيِّ بِكُلِّ ما عَجَزَ عنه مُوَلِّيهِ ضَرُورَةَ طَرْدِ الْعِلَّةِ قال الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هذا في الْإِشْعَارِ بِالْعِلَّةِ أَقْوَى من عَكْسِهِ يَعْنِي لِقُوَّةِ إشْعَارِ الْعِلَّةِ بِالْمَعْلُولِ لِوُجُوبِ الطَّرْدِ في الْعِلَلِ دُونَ الْعَكْسِ وَنَازَعَهُ النَّقْشَوَانِيُّ وهو ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَدْخُلَ على كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إمَّا في الْوَصْفِ كَالْحَدِيثِ السَّابِقِ أو في الْحُكْمِ كَالْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَالثَّانِي أَنْ يَدْخُلَ في كَلَامِ الرَّاوِي كَقَوْلِهِ سَهَا فَسَجَدَ وَزَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ وَسَوَاءٌ في ذلك الرَّاوِي الْفَقِيهُ وَغَيْرُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لو لم يَفْهَمْ لم يُعَاقَبْ قِيلَ وَالْفَاءُ إذَا امْتَنَعَ كَوْنُهَا لِلْعَطْفِ تَعَيَّنَ لِلسَّبَبِ وَالْمَانِعُ لِلْعَطْفِ أنها مَتَى قُدِّرَتْ له الْوَاوُ اخْتَلَّ الْكَلَامُ كَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ من أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ له لِأَنَّهَا لو كانت عَاطِفَةً بِمَعْنَى الْوَاوِ لَتَضَمَّنَتْ الْجُمْلَةُ مَعْنَى الشَّرْطِ بِلَا جَوَابٍ وَهَذَا مَبْنِيٌّ على حَصْرِ الْفَاءِ لِلتَّعْلِيلِ وَالْعَطْفِ وهو مَمْنُوعٌ بَلْ هِيَ في هذه الْمَوَاضِعِ جَوَابٌ أَيْ رَابِطَةٌ بين الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَلَا يَلْزَمُ من كَوْنِ الْأَوَّلِ شَرْطًا كَوْنُهُ عِلَّةً وقد جَعَلَ في الْمَحْصُولِ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ الْبَاءَ وَالْفَاءَ من صَرَائِحِ التَّعْلِيلِ ثُمَّ خَالَفَ الرَّازِيَّ في رِسَالَتِهِ الْبَهَائِيَّةِ وَرَدَّ على الْغَزَالِيِّ وقال الْبَاءُ قد تُسْتَعْمَلُ لِغَيْرِ التَّعْلِيلِ وَمِنْهُ بِاسْمِ اللَّهِ وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ لَا لِلتَّعْلِيلِ وقال ابن الْأَنْبَارِيِّ من النَّحْوِيِّينَ الْفَاءُ إنَّمَا يَكُونُ فيها إيمَاءٌ إلَى الْعِلَّةِ إذَا كان الْمُبْتَدَأُ اسْمًا مَوْصُولًا بِجُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ أو نَكِرَةٍ مَوْصُوفَةٍ فَالِاسْمُ الْمَوْصُولُ نَحْوُ الذي يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ وقَوْله تَعَالَى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ فما بَعْدَ الْفَاءِ من حُصُولِ الْأَجْرِ وَنَفْيِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ مُسْتَحَقٌّ بِمَا قَبْلَهَا من الْإِنْفَاقِ على ذلك الْوَصْفِ وَيَجْرِي مَجْرَى الذي الْأَلِفُ وَاللَّامُ إذَا وُصِلَتْ بِاسْمِ الْفَاعِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا والزانية وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
____________________
(4/174)
أَيْ لِسَرِقَتِهِمَا وَلِزِنَاهُمَا فَاسْتِحْقَاقُ الْقَطْعِ وَالْجَلْدِ إنَّمَا كان لِلسَّرِقَةِ وَالزِّنَى لَا لِغَيْرِهِمَا وَلَوْلَا الْفَاءُ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا وَالنَّكِرَةُ الْمَوْصُوفَةُ نَحْوُ كُلُّ إنْسَانٍ يَفْعَلُ كَذَا فَلَهُ دِرْهَمٌ فَيَدُلُّ على اسْتِحْقَاقِ الدِّرْهَمِ بِالْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمِ فإذا لم تَدْخُلْ لم يَدُلَّ على ذلك وَجَازَ أَنْ يَكُونَ بِهِ وَبِغَيْرِهِ لِأَنَّ في الْكَلَامِ مَعْنَى الشَّرْطِ إذًا الْمَعْنَى إنْ يَأْتِنِي رَجُلٌ فَلَهُ دِرْهَمٌ وَالشَّرْطُ سَبَبٌ في الْجَزَاءِ وَعِلَّةٌ له وَلِهَذَا دَخَلَتْ الْفَاءُ لِأَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ وَالْمُسَبَّبُ في الرُّتْبَةِ عَقِبَ السَّبَبِ فَكَانَ في دُخُولِهَا إيمَاءٌ إلَى الْعِلَّةِ وإذا حُذِفَتْ لم يَقْتَضِ اللَّفْظُ أَنْ يَكُونَ الدِّرْهَمُ مُسْتَحَقًّا بِالْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمِ بَلْ بِهِ وَبِغَيْرِهِ لِعَدَمِ الْفَاءِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّنْبِيهِ على الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلِاسْتِحْقَاقِ وَهُنَا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ دُخُولَ فَاءِ التَّعْقِيبِ على الْمَعْلُومِ وَاضِحٌ لِوُجُوبِ تَأَخُّرِهِ عن الْعِلَّةِ وَأَمَّا دُخُولُهَا على الْعِلَّةِ نَحْوُ فإنه يَبْعَثُ فَوَجْهُهُ أَنَّ الْعِلَّةَ الْغَائِبَةَ لها تَقَدُّمٌ في الذِّهْنِ وَتَأَخُّرٌ في الْوُجُودِ كما تَقُولُ أَكَلَ فَشَبِعَ فَالشِّبَعُ مُتَأَخِّرٌ في الْوُجُودِ مُتَقَدِّمٌ في الذِّهْنِ وَبِهَذَا يُجَابُ عن الِاعْتِرَاضِ على الْقَوْلِ بِاسْتِفَادَةِ التَّعْلِيلِ من الْفَاءِ بِتَرْتِيبِ الْوُضُوءِ على الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ وَلَوْ كانت لِلتَّعْلِيلِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ إلَى الصَّلَاةِ عِلَّةَ الْوُضُوءِ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ بَلْ عِلَّةُ وُجُوبِ الْوُضُوءِ وُجُودُ الْحَدَثِ وَلَقَدْ اعْتَاصَ الْجَوَابُ على الْغَزَالِيِّ حتى انْتَهَى فيه إلَى الْإِسْهَابِ وَجَوَابُهُ يُعْلَمُ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ تَنْقَسِمُ إلَى ما يَتَقَدَّمُ تَصَوُّرُهَا وَإِلَى ما يَنْعَدِمُ تَصَوُّرُهَا وَالصَّلَاةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوُضُوءِ لَك أَنْ تَجْعَلَهَا من الْأَوَّلِ بِأَنَّهَا حِكْمَةُ الْوُضُوءِ وَلَهَا شَرْطٌ يَصِحُّ تَرْتِيبُهُ عليها بِالْفَاءِ كما رَتَّبَ بَعْثَ الشَّهِيدِ الْمُحْرِمِ على هَيْئَتِهِ وَأَنْ تَجْعَلَهَا من الثَّانِي فإنه قد أَمْكَنَ جَعْلُ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ مَظِنَّةً وَسَبَبًا وَيَكُونُ الْحَدَثُ شَرْطًا من شَرَائِطِ السَّبَبِ أو من شَرَائِطِ الْحُكْمِ وَإِلْحَاقُ شَرْطٍ بِالْوَصْفِ الْمُومَأِ إلَيْهِ لَا يُسْتَكْثَرُ وقال بَعْضُهُمْ الْأَوْلَى أَنْ تَدْخُلَ الْفَاءُ على الْأَحْكَامِ لِأَنَّهَا مُتَرَتِّبَةٌ على الْعِلَلِ وَلَا تَدْخُلُ على الْعِلَلِ لِاسْتِحَالَةِ تَأَخُّرِ الْعِلَّةِ عن الْمَعْلُولِ إلَّا أنها قد تَدْخُلُ على الْعِلَلِ على خِلَافِ الْأَصْلِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لها دَوَامٌ لِأَنَّهَا إذَا كانت دَائِمَةً كانت في حَالَةِ الدَّوَامِ مُتَرَاخِيَةً عن ابْتِدَاءِ الْحُكْمِ فَصَحَّ دُخُولُ الْفَاءِ عليها بهذا الِاعْتِبَارِ كما
____________________
(4/175)
يُقَالُ لِمَنْ هو في حَبْسٍ ظَالِمٍ إذَا ظَهَرَ آثَارُ الْفَرَجِ أَبْشِرْ فَقَدْ أَتَاك الْغَوْثُ وقد نَجَوْت الثَّانِي ما ذَكَرَ من أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْلِيلِ في آيَةِ السَّرِقَةِ من جِهَةِ أَنَّهُ رَتَّبَ الْقَطْعَ على السَّرِقَةِ بها فَدَلَّ على أَنَّ السَّرِقَةَ هِيَ السَّبَبُ لَا يَأْتِي على مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ قَوْلَهُ فَاقْطَعُوا جَوَابٌ لِمَا في الْأَلِفِ وَاللَّامِ من مَعْنَى الشَّرْطِ إنَّمَا الْكَلَامُ عِنْدَهُ على مَعْنَى فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ حُكْمُ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ فَهَذِهِ تَرْجَمَةٌ سِيقَتْ لِلتَّشَوُّفِ إلَى ما بَعْدَهَا فلما كان في مَضْمُونِ التَّرْجَمَةِ مُنْتَظِرًا قِيلَ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا فَالْفَاءُ إذَنْ لِلِاسْتِئْنَافِ لَا لِلْجَوَابِ وَإِنَّمَا حَمَلَ سِيبَوَيْهِ على ذلك أَنَّ الْفَاءَ لو كانت جَوَابًا لِقَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وكان الْكَلَامُ مُبْتَدَأً أو خَبَرًا لَكَانَتْ الْقَوَاعِدُ تَقْتَضِي النَّصْبَ في السَّارِقُ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ أَوْلَى كَقَوْلِهِ زَيْدًا اضْرِبْهُ فلما رَأَى الْعَامَّةُ مُطَبِّقَةً على الرَّفْعِ تَفَطَّنَ لِأَنَّهَا لَا تُجْمِعُ على خِلَافِ الْأَوْلَى فَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ على أَنَّهُ خَارِجٌ على مَعْنَى الِاسْتِئْنَافِ وَذَكَرَ مِثْلَ قَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ كَالتَّرْجَمَةِ وَالْعُنْوَانِ السَّابِعُ لَعَلَّ على رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ من النُّحَاةِ وَقَالُوا إنَّهَا في كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّعْلِيلِ الْمَحْضِ مُجَرَّدَةٌ عن مَعْنَى التَّرَجِّي لِاسْتِحَالَتِهِ عليه فإنه إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا تُجْهَلُ عَاقِبَتُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ الذي خَلَقَكُمْ وَاَلَّذِينَ من قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قِيلَ هو تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ اُعْبُدُوا وَقِيلَ لِقَوْلِهِ خَلَقَكُمْ وَقِيلَ لَهُمَا وَقَوْلُهُ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كما كُتِبَ على الَّذِينَ من قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أو يَخْشَى فَ لَعَلَّ في هذا اخْتَصَّتْ لِلتَّعْلِيلِ وَالرَّجَاءِ الذي فِيهِمَا مُتَعَلَّقُ الْمُخَاطَبِينَ الثَّامِنُ إذْ ذَكَرَ ابن مَالِكٍ نَحْوُ وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وما يَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إلَى الْكَهْفِ وَإِذْ لم يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إفْكٌ قَدِيمٌ وَلَنْ يَنْفَعَكُمْ الْيَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ وقد أَشَارَ إلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَنَازَعَهُ أبو حَيَّانَ التَّاسِعُ حتى أَثْبَتَهُ ابن مَالِكٍ أَيْضًا قال وَعَلَامَتُهَا أَنْ يَحْسُنَ في مَوْضِعِهَا كَيْ نَحْوُ خُذْ حتى تُعْطِيَ الْجُودَ وَمِنْ مِثْلِهَا قَوْله تَعَالَى وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَقَوْلُهُ وَقَاتِلُوهُمْ حتى لَا تَكُونَ فِتْنَةً وَيَحْتَمِلُهَا حتى تَفِيءَ وَزَعَمَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ أَنَّ منها لَا جَرَمَ بَعْدَ الْوَصْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَا جَرَمَ أَنَّ لهم النَّارَ وَجَمِيعُ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَمَنْ كان مَرِيضًا أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ من أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ
____________________
(4/176)
له وَكَذَا حَرْفُ إذَا فإن فيها مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وَجَعَلَ الْآمِدِيُّ منها من أَيْضًا تَنْبِيهٌ هذه الْأَلْفَاظُ كما تَخْتَلِفُ مَرَاتِبُهَا في أَنْفُسِهَا في الدَّلَالَةِ على التَّعْلِيلِ كَذَلِكَ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ وُقُوعِهَا في كَلَامِ الْقَائِلِينَ فَهِيَ في كَلَامِ الشَّارِعِ أَقْوَى منها في كَلَامِ الرَّاوِي وفي كَلَامِ الرَّاوِي الْفَقِيهُ أَقْوَى منها في غَيْرِ الْفَقِيهِ مع صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بها في الْكُلِّ خِلَافًا لِمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ لَا يَحْتَجُّ بها إلَّا في كَلَامِ الرَّاوِي الْفَقِيهِ وَهَذَا بَحْثٌ تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَلَيْسَ قَوْلًا وَزَعَمَ الْآمِدِيُّ أَنَّ الْوَارِدَ في كَلَامِ اللَّهِ أَقْوَى من الْوَارِدِ في كَلَامِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالْحَقُّ تَسَاوِيهِمَا وَبِهِ صَرَّحَ الْهِنْدِيُّ لِعَدَمِ احْتِمَالِ تَطَرُّقِ الْخَطَأِ إلَيْهِمَا
____________________
(4/177)
الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ الْإِيمَاءُ وَالتَّنْبِيهُ وهو يَدُلُّ على الْعِلِّيَّةِ بِالِالْتِزَامِ لِأَنَّهُ يَفْهَمُهَا من جِهَةِ الْمَعْنَى لَا اللَّفْظِ وَإِلَّا لَكَانَ صَرِيحًا وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ أَنَّ ذِكْرَهُ مع الْحُكْمِ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لَا لِفَائِدَةٍ لِأَنَّهُ عَبَثٌ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ لِفَائِدَةٍ وَهِيَ إمَّا كَوْنُهُ عِلَّةً أو جُزْءَ عِلَّةٍ أو شَرْطًا وَالْأَظْهَرُ كَوْنُهُ عِلَّةً لِأَنَّهُ الْأَكْثَرُ في تَصَرُّفِ الشَّارِحِ وهو أَنْوَاعٌ أَحَدُهَا ذِكْرُ الْحُكْمِ السُّكُوتِيِّ أو الشَّرْعِيِّ عَقِبَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ له وَتَارَةً يَقْتَرِنُ بِ أَنْ وَتَارَةً بِالْفَاءِ وَتَارَةً يُذْكَرُ مُجَرَّدًا فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَزَكَرِيَّا إذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ إلَى قَوْلِهِ خَاشِعِينَ وَقَوْلِهِ إنَّ الْمُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ الْآيَةُ وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا والزانية وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا وَالثَّالِثُ إنَّ الْمُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَنَهْرٍ إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لهم أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عليهم وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَاَلَّذِي بَعْدَ الْفَاءِ تَارَةً يَكُونُ حُكْمًا نَحْوُ قُلْ هو أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ وَتَارَةً يَكُونُ عِلَّةً نَحْوُ فإنه يُبْعَثُ يوم الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا فإنه عِلَّةُ تَجْنِيبِهِ الطَّيِّبَ ثُمَّ منه ما صَرَّحَ فيه بِالْحُكْمِ وَالْوَصْفِ مَعًا فَهُوَ إيمَاءٌ بِلَا خِلَافٍ كَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ من أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ له من مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عليه فَقَدْ صَرَّحَ في الْأَوَّلِ بِالْإِحْيَاءِ وهو الْوَصْفُ وَالْحُكْمُ وهو الْمِلْكُ وفي الثَّانِي بِالْمِلْكِ وهو الْوَصْفُ وَبِالْعِتْقِ وهو الْحُكْمُ وَمِنْهُ ما لم يُصَرِّحْ بِهِمَا فَإِنْ صُرِّحَ بِالْحُكْمِ وَالْوَصْفُ مُسْتَنْبَطٌ كَتَحْرِيمِ الرَّبَّا في الْبُرِّ الْمُسْتَخْرَجِ منه عِلَّةُ الْكَيْلِ أو الطُّعْمِ أو الْوَزْنِ فَلَيْسَ بِإِيمَاءٍ قَطْعًا وَقِيلَ على الْخِلَافِ في عَكْسِهِ وهو ما
____________________
(4/178)
حَكَاهُ ابن الْحَاجِبِ وَاسْتَبْعَدَهُ الْهِنْدِيُّ وَإِنْ صَرَّحَ بِالْوَصْفِ وَالْحُكْمُ مُسْتَنْبَطٌ كَالصِّحَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ من حِلِّ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ فَهَلْ النَّصُّ الدَّالُ على ثُبُوتِ الْحِلِّ إيمَاءٌ أو ثُبُوتُ الصِّحَّةِ اخْتَلَفُوا فيه فَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى إثْبَاتِهِ وَرَجَّحَهُ الْهِنْدِيُّ لِأَنَّ الصِّحَّةَ لَازِمَةٌ لِلْحِلِّ إذْ لَوْلَا الصِّحَّةُ لم يَكُنْ لِلْإِحْلَالِ فَائِدَةٌ وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ ليس بِإِيمَاءٍ إلَيْهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مُصَرَّحٍ بها فَهُوَ كما لو صَرَّحَ بِالْحُكْمِ وَاسْتَخْرَجْنَا الْعِلَّةَ قِيَاسًا لِأَحَدِهِمَا على عَكْسِهِ وَجَمَعَ ابن الْحَاجِبِ في الصُّورَتَيْنِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ وَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ يَلْتَفِتُ إلَى تَفْسِيرِ الْإِيمَاءِ هل هو اقْتِرَانُ الْحُكْمِ وَالْوَصْفِ سَوَاءٌ كَانَا مَذْكُورَيْنِ أو أَحَدُهُمَا مَذْكُورًا وَالْآخَرُ مُقَدَّرًا أو بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَا مَذْكُورَيْنِ وَإِنَّ إثْبَاتَ مُسْتَلْزِمِ الشَّيْءِ نَقِيضُ إثْبَاتِهِ الثَّانِي أَنْ يَذْكُرَ الشَّارِعُ مع الْحِكْمَةِ وَصْفًا لو لم يَكُنْ عِلَّةٌ لَعَرِيَ عن الْفَائِدَةِ إمَّا مع سُؤَالٍ في مَحَلِّهِ أو سُؤَالٍ في نَظِيرِهِ فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ وَاقَعْتُ أَهْلِي في رَمَضَانَ فقال أَعْتِقْ رَقَبَةً فإنه يَدُلُّ على أَنَّ الْوِقَاعَ عِلَّةٌ لِلْإِعْتَاقِ وَالسُّؤَالُ مُقَدَّرٌ في الْجَوَابِ كَأَنَّهُ قال إذَا وَاقَعْتَ فَكَفِّرْ وقد مَرَّ أَنَّ مِثْلَ هذا لِلتَّعْلِيلِ فَكَذَا هُنَا لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ كَالْمُحَقَّقِ فَإِنْ حُذِفَتْ من ذلك بَعْضُ الْأَوْصَافِ وَعُلِّلَتْ بِالْبَاقِي سُمِّيَ تَنْقِيحُ مَنَاطٍ مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ كَوْنُهُ أَعْرَابِيًّا لَا مَدْخَلَ له في الْعِلَّةِ إذْ الْأَعْرَابِيُّ وَغَيْرُهُ حُكْمُهُمَا سَوَاءٌ وَكَذَا كَوْنُ الْمَحَلِّ أَهْلًا فإن الزِّنَى أَجْدَرُ بِهِ وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ وقد سَأَلَتْهُ الْخَثْعَمِيَّةُ إنَّ أبي أَدْرَكَتْهُ الْوَفَاةُ وَعَلَيْهِ فَرِيضَةُ الْحَجِّ أَيَنْفَعُهُ إنْ حَجَجْتُ عنه قال أَرَأَيْت لو كان على أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكَانَ يَنْفَعُهُ قالت نعم فذكر نَظِيرَهُ وهو دَيْنُ الْآدَمِيِّ فَنَبَّهَ على كَوْنِهِ عِلَّةً في النَّفْعِ وَإِلَّا لَزِمَ الْعَبَثُ وَجَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ منه قَوْلَهُ عليه السَّلَامُ لِلسَّائِلِ عن الْقُبْلَةِ أَرَأَيْت
____________________
(4/179)
لو تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ فقال نَبَّهَهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ على قِيَاسِ الْقُبْلَةِ على الْمَضْمَضَةِ في صِحَّةِ الصَّوْمِ مَعَهَا وقال الْمُحَقِّقُونَ غير ذلك وهو أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا نَبَّهَ على نَقِيضِ قِيَاسٍ يَخْتَلِجُ في صَدْرِ السَّائِلِ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِشْكَالَ الذي عِنْدَ الْقَائِلِ إنَّمَا نَشَأَ من اعْتِقَادِهِ أَنَّ الْقُبْلَةَ مُقَدِّمَةُ الْجِمَاعِ وَالْجِمَاعُ مُفْسِدٌ وَمُقَدِّمَةُ الشَّيْءِ يَنْبَغِي أَنْ تُنَزَّلَ مَنْزِلَةَ الشَّيْءِ لِمَا بين الْمُقَدِّمَةِ وَالْغَايَةِ من التَّنَاسُبِ فَنَبَّهَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ تَعْلِيلَ تَنْزِيلِ الْقُبْلَةِ مَنْزِلَةَ الْجِمَاعِ في الْإِفْسَادِ بِكَوْنِهَا مُقَدِّمَةً مَنْقُوضٌ بِالْمَضْمَضَةِ في الْوُضُوءِ وَإِنْ كان صَائِمًا فإن الْمُقَدِّمَةَ وُجِدَتْ من الْمَضْمَضَةِ ولم يُوجَدْ الْإِفْسَادُ وَإِلَّا فَكَيْفَ تُقَاسُ الْقُبْلَةُ على الْمَضْمَضَةِ في عَدَمِ الْإِفْسَادِ بِجَامِعِ كَوْنِهِمَا مُقَدِّمَتَيْنِ لِلْمُفْسِدِ وَلَا مُنَاسَبَةَ بين كَوْنِ الشَّيْءِ مُقَدِّمَةٌ لِفَسَادِ الصَّوْمِ وَبَيْنَ كَوْنِ الصَّوْمِ صَحِيحًا معه بَلْ هذا قَرِيبٌ من فَسَادِ الْوَضْعِ أَمَّا إذَا عَلِمَ الشَّارِعُ فِعْلًا مُجَرَّدًا تَكَلَّمَ عَقِيبَهُ بِحُكْمٍ فَهَلْ يَكُونُ عِلْمُهُ كَإِعْلَامِهِ حتى يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُجَرَّدُ الْمَعْلُومُ سَبَبًا فيه خِلَافٌ حَكَاهُ الْإِبْيَارِيُّ وقال الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِنَادُ التَّعْلِيلِ إلَيْهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ حُكْمٌ مُبْتَدَأٌ وَجَرَى ذِكْرُ الْوَاقِعَةِ اتِّفَاقًا وَيُحْتَمَلُ الرَّبْطُ لِقُرْبِهِ من الْقَرِينَةِ وقال صَاحِبُ جَنَّةِ النَّاظِرِ من أَنْوَاعِ الْإِيمَاءِ الْحُكْمُ عِنْدَ رَفْعِ الْحَادِثَةِ إلَيْهِ كَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَفِّرْ لِمَنْ قال وَاقَعْتُ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ من الْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّ شَرْطَ فَهْمِ التَّعْلِيلِ من هذا النَّوْعِ أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ على أَنَّ الْحُكْمَ وَقَعَ جَوَابًا لِمَا رُفِعَ إلَيْهِ إذْ من الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ اسْتِئْنَافًا لَا جَوَابًا وَهَذَا كَمَنْ تَصَدَّى لِلتَّدْرِيسِ فَأَخْبَرَهُ تِلْمِيذٌ بِمَوْتِ السُّلْطَانِ مَثَلًا فَأَمَرَهُ عَقِبَ الْإِخْبَارِ بِقِرَاءَةِ دَرْسِهِ فإنه لَا يَدُلُّ على تَعْلِيلِ الْقِرَاءَةِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ بَلْ الْأَمْرُ بِالِاشْتِغَالِ بِمَا هو بِصَدَدِهِ وَبِتَرْكِ ما لَا يَعْنِيه وإذا ثَبَتَ افْتِقَارُ فَهْمِ التَّعْلِيلِ إلَى الدَّلِيلِ فَلَيْسَ إلَّا انْتِفَاءُ الْقَرَائِنِ الصَّارِفَةِ إذْ السُّؤَالُ يَسْتَدْعِي الْجَوَابَ فَتَأْخِيرُهُ عنه يَكُونُ تَأْخِيرًا لِلْبَيَانِ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ وَذَلِكَ على خِلَافِ الدَّلِيلِ وَاعْلَمْ أَنَّ اعْتِرَافَ هَؤُلَاءِ بِكَوْنِ السُّؤَالِ يَسْتَدْعِي الْجَوَابَ اعْتِرَافٌ بِكَوْنِ السُّؤَالِ قَرِينَةٌ على كَوْنِ الْوَاقِعِ جَوَابًا فَيَكُونُ مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِمْ إنَّ فَهْمَ التَّعْلِيلِ يَفْتَقِرُ إلَى الدَّلِيلِ وَالْقَرَائِنُ الصَّارِفَةُ تُرْشِدُ
____________________
(4/180)
الْمُعَارِضَ لِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ على تَعْيِينِ الْوَاقِعِ جَوَابًا فَلَا يُؤْخَذُ انْتِفَاؤُهَا في حَدِّ الدَّلِيلِ نعم يَقِفُ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ على انْتِفَائِهَا وَذَلِكَ لَا يَخُصُّ هذا النَّوْعَ من الْإِيمَاءِ بَلْ هو جَارٍ في جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ لِأَنَّ انْتِقَاءَ الْمُعَارِضِ مُشْتَرَطٌ في الْعَمَلِ بِجَمِيعِ الدَّلَائِلِ وَالثَّالِثُ أَنْ يُفَرَّقَ بين حُكْمَيْنِ لِوَصْفٍ إمَّا مع ذِكْرِهِمَا مَعًا نَحْوُ لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَقَوْلُهُ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ فإذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ فإنه تَنْبِيهٌ على أَنَّ ما جَعَلَهُ غَايَةً لِلْحُكْمِ يَكُونُ عِلَّةً قَوْلُهُ لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فإنه يَدُلُّ على أَنَّ الْمُؤَثِّرَ في حُكْمِ الْمُؤَاخَذِ وَالتَّفْصِيلُ ما وَقَعَ بِهِ الْفَرْقُ وَإِمَّا مع ذِكْرِ أَحَدِهِمَا نَحْوُ الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ فإنه لم يَتَعَرَّضْ لِغَيْرِ الْقَاتِلِ وَإِرْثِهِ فَدَلَّ على أَنَّ الْعِلَّةَ في الْمَنْعِ من الْإِرْثِ الْقَتْلُ وَأَيْضًا إمَّا بِالْغَايَةِ مِثْلُ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ أو بِالِاسْتِثْنَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إلَّا أَنْ يَعْفُونَ وَالرَّابِعُ مَنْعُهُ ما قد يُفَوِّتُ الْمَطْلُوبَ بِأَنْ يَذْكُرَ عَقِيبَ الْكَلَامِ أو في سِيَاقِهِ شيئا لو لم يُعَلِّلْ بِهِ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ لم يَنْتَظِمْ الْكَلَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَذَرُوا الْبَيْعَ لِأَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِبَيَانِ وَقْتِ الْجُمُعَةِ وَأَحْكَامِهَا فَلَوْ لم يُعَلِّلْ النَّهْيَ عن الْبَيْعِ بِكَوْنِهِ مَانِعًا من الصَّلَاةِ أو شَاغِلًا عن الْمَشْيِ إلَيْهَا لَكَانَ ذِكْرُهُ عَبَثًا لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يُمْنَعُ منه مُطْلَقًا كَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَقْضِي الْقَاضِي وهو غَضْبَانُ فَلَوْ لم يُعَلِّلْ النَّهْيَ عن الْقَضَاءِ عِنْدَ الْغَضَبِ بِكَوْنِهِ يَتَضَمَّنُ تَشْوِيشَ الْفِكْرِ لَكَانَ ذِكْرُهُ لَاغِيًا إذْ الْقَضَاءُ لَا يُمْنَعُ مُطْلَقًا كما مَرَّ وَالْخَامِسُ رَبْطُ الْحُكْمِ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ بِمَا منه الِاشْتِقَاقُ يَنْتَهِضُ عِلَّةً فيه وَإِلَى هذا صَارَ الشَّافِعِيُّ في مَسْأَلَةِ الرِّبَا وَأَوَّلَ الْقَاضِي مَذْهَبَهُ وقال لَعَلَّهُ تَمَسَّك بِالْحَدِيثِ في إثْبَاتِ حُكْمِ الرِّبَا لَا في إثْبَاتِ عِلَّتِهِ قال الْغَزَالِيُّ ليس كما ظَنَّهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ أَثْبَتَ عِلِّيَّةَ الطُّعْمِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ تَعَلَّقَ أَئِمَّتُنَا في تَعْلِيلِ رِبَا الْفَضْلِ بِالطُّعْمِ بِقَوْلِهِ لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ وهو مَوْقُوفٌ على إثْبَاتِ كَوْنِ الطَّعَامِ مُشْعِرًا بِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ
____________________
(4/181)
وَإِلَّا فَالطَّعَامُ وَالْبُرُّ سَوَاءٌ في تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِ وَالسَّادِسُ تَرَتُّبُ الْحُكْمِ على الْوَصْفِ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ له مَخْرَجًا أَيْ لِأَجْلِ تَقْوَاهُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ على اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أَيْ لِأَجْلِ تَوَكُّلِهِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَتَعَقَّبُ الشَّرْطَ وَالسَّبَبُ ما ثَبَتَ الْحُكْمُ عَقِبَهُ فإذا الشَّرْطُ في مِثْلِ هذا سَبَبُ الْجَزَاءِ فَيَكُونُ الشَّرْطُ اللُّغَوِيُّ سَبَبًا وَعِلَّةً وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم من اتَّبَعَ جِنَازَةً فَلَهُ من الْأَجْرِ قِيرَاطٌ ومن أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ له وَهَذَا الْقِسْمُ لَا يَكُونُ ما بَعْدَ الْفَاءِ إلَّا حُكْمًا وما قَبْلَهَا إلَّا سَبَبًا لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ مُتَأَخِّرٌ بِالْوَضْعِ عن الشَّرْطِ تَحْقِيقًا نَحْوُ إنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا فَاتَّقِ اللَّهَ أو تَقْدِيرًا نَحْوُ اتَّقِ اللَّهَ إنْ كُنْت مُؤْمِنًا لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ لَازِمٌ وَالشَّرْطُ مَلْزُومٌ وَاللَّازِمُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمَلْزُومِ وَثُبُوتُهُ فَرْعٌ عن ثُبُوتِهِ بِخِلَافِ الْأَقْسَامِ السَّابِقَةِ فإذا ما بَعْدَ الْفَاءِ قد يَكُونُ حُكْمًا وقد يَكُونُ عِلَّةً وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ رُجُوعَهُ إلَى بَابِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ قد يَقْتَضِيَانِ الشَّرْطَ فَيُجْزَمُ جَوَابُهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَهَبْ لي من لَدُنْك وَلِيًّا يَرِثُنِي أَيْ هَبْ لي فَإِنَّك إنْ تَهَبْ لي وَلِيًّا يَرِثُنِي وَقَوْلُك لَا تَقْرَبْ الشَّرَّ تَنْجُ أَيْ لَا تَقْرَبْهُ فَإِنَّك إنْ لَا تَقْرَبْهُ تَنْجُ وَتَدْخُلُ الْفَاءُ في جَوَابِهِمَا كَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فإنه يُبْعَثُ أَيْ إنَّهُ مَاتَ مُحْرِمًا فإنه يُبْعَثُ مُلَبِّيًا فَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَالظَّاهِرُ اسْتِوَاءُ الصِّيَغِ كُلِّهَا في تَأَخُّرِ الْحُكْمِ على الْوَصْفِ وَالْحُكْمُ إمَّا مُسَبَّبٌ أو مَشْرُوطٌ وهو مُسَبَّبٌ أَيْضًا وَكِلَاهُمَا مُتَأَخِّرٌ نعم بَعْضُ ذلك مُتَأَخِّرٌ تَحْقِيقًا وَبَعْضُهُ مُتَأَخِّرٌ تَقْدِيرًا السَّابِعُ تَعْلِيلُ عَدَمِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ الْمَانِعِ منه كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرْ بِالرَّحْمَنِ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ وما مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ أَيْ آيَاتِ الِاقْتِرَاحِ لَا الْآيَاتِ الدَّالَّةِ على صِدْقِ الرُّسُلِ وَقَوْلِهِ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ وَقَوْلِهِ لَوْلَا أُنْزِلَ عليه مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عن الْمَانِعِ
____________________
(4/182)
الذي مَنَعَ من إنْزَالِ الْمَلَكِ عِيَانًا بِحَيْثُ يُشَاهِدُونَهُ وَأَنَّ لُطْفَهُ بِخَلْقِهِ مَنَعَهُ فإنه لو أَنْزَلَ عليه مَلَكًا وَعَايَنُوهُ ولم يُؤْمِنُوا فَعُجِّلُوا الْعُقُوبَةَ وَجَعَلَ الرَّسُولَ بَشَرًا لِيُمْكِنَهُمْ التَّلَقِّي عنه وَالرُّجُوعَ إلَيْهِ الثَّامِنُ إنْكَارُهُ سُبْحَانَهُ على من زَعَمَ أَنَّهُ لم يَخْلُقْ الْخَلْقَ لِغَايَةٍ وَلَا لِحِكْمَةٍ بِقَوْلِهِ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَقَوْلِهِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَتْرُكَ سُدًى وَقَوْلِهِ وما خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وما بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ما خَلَقْنَاهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ التَّاسِعُ إنْكَارُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُسَوَّى بين الْمُخْتَلِفَيْنِ وَيُفَرَّقَ بين الْمُتَمَاثِلَيْنِ فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَقَوْلِهِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ في الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ وَقَوْلِهِ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ والثاني كَقَوْلِهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأُولَئِكَ مع الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عليهم وَقَوْلِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَقَوْلِهِ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ من بَعْضٍ مَسْأَلَةٌ في اشْتِرَاطِ الْوَصْفِ الْمُومَأِ إلَيْهِ لِلْحُكْمِ في الْأَقْسَامِ السَّابِقَةِ مَذَاهِبُ أَحَدُهَا اشْتِرَاطُهُ وهو قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالصَّوْمِ فَإِنْ لم يَكُنْ مُنَاسِبًا فَهُوَ كَالتَّعْلِيلِ بِالْقَلْبِ والثاني وهو قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ بَلْ يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّعَلُّقِ مع تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عليه وَحَكَاهُ في الْبُرْهَانِ عن إطْلَاقِ الْأُصُولِيِّينَ وَاخْتَارَهُ إلْكِيَا وَإِلَّا لم يَكُنْ لِذِكْرِهِ مَعْنًى وَتَعَطَّلَ الْكَلَامُ والثالث وَاخْتَارَهُ ابن الْحَاجِبِ إنْ كان التَّعْلِيلُ فُهِمَ من الْمُنَاسَبَةِ كما في قَوْلِهِ لَا يَقْضِي الْقَاضِي وهو غَضْبَانُ اُشْتُرِطَ وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا لِأَنَّ التَّعْلِيلَ يُفْهَمُ من غَيْرِهَا وَحَكَى الْهِنْدِيُّ قَوْلًا بِاشْتِرَاطِهِ في تَرَتُّبِ الْحُكْمِ على الِاسْمِ دُونَ غَيْرِهِ وَفَصَّلَ ابن الْمُنِيرِ بين أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ يَتَنَاوَلُ مَعْهُودًا مُعَيَّنًا فَلَا يَتَعَيَّنُ لِلتَّعْلِيلِ وَلَوْ كان مُنَاسِبًا
____________________
(4/183)
بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفًا وَأَمَّا إذَا عُلِّقَ بِعَامٍّ أو مُنَكَّرٍ فَهُوَ تَعْلِيلٌ وَلَوْ لم تَظْهَرْ الْمُنَاسَبَةُ كما لو قال لِعِلَّةِ كَذَا ولم تَظْهَرْ الْمُنَاسَبَةُ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ الْإِيمَاءَاتُ بِأَنْوَاعِهَا تَدُلُّ على أَنَّ الْمُشَرِّعَ اعْتَبَرَ الشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ ولم يُلْغِهِ وَأَمَّا أَنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أو جُزْءُ عِلَّةٍ أو شَرْطُ عِلَّةٍ فَكُلُّ ذلك لَا يَدُلُّ عليه الدَّالُّ على اعْتِبَارِهِ وقد يَدُلُّ بِقَرِينَةٍ وَإِنْ شِئْت فَقُلْ هل التَّنْصِيصُ أو التَّنْبِيهِ على الْعِلَّةِ نَصٌّ صَرِيحٌ في أَنَّ هذا الْمَنْصُوصَ أو الْمُنَبَّهَ على عِلَّتِهِ مَقْصُودٌ بِعَيْنِهِ أو جُزْئِيٌّ أُقِيمَ مَقَامَ كُلِّيٍّ وَالْعِلَّةُ الْمَنْصُوصُ عليها أو الْمُنَبَّهُ عليها هو الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ الذي أُقِيمَ هذا الْجُزْئِيُّ مَقَامَهُ قُلْنَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَقْصُودٌ لَعَيْنِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جُزْئِيًّا أُقِيمَ مَقَامَ كُلِّيٍّ كَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَقْضِي الْقَاضِي وهو غَضْبَانُ وَهَذَا السُّؤَالُ وَقَعَ في الْمُسْتَصْفَى مجا وَصَوَابُهُ ما ذَكَرْنَا الثَّانِي دَلَالَةُ هذه الْأَقْسَامِ في الْإِيمَاءَاتِ على الْعِلِّيَّةِ إنَّمَا هِيَ ظَاهِرَةٌ إلَّا فِيمَا كان منها بِصِيغَةِ الشَّرْطِ الثَّالِثُ لو ظَفِرْنَا في الْوَصْفِ بِمُنَاسَبَةٍ تَعَيَّنَ لِحَاظُهَا وَجَازَ لِلنَّاظِرِ الزِّيَادَةُ عليها وَالنَّقْصُ فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَقْضِي الْقَاضِي وهو غَضْبَانُ فإنه فَهِمَ أَنَّ الْمَنْعَ لِعِلَّةِ تَشْوِيشِ الْفِكْرِ فَأَلْحَقَ بِهِ الْجُوعَ وَالْعَطَشَ وَغَيْرَهُمَا من الْمَعَانِي الْمُوجِبَةِ لِاخْتِلَافِ الْفِكْرِ وَالثَّانِي كَالنَّهْيِ عن بَيْعِ ما لم يَقْبِضْ فإنه إضَافَةُ الْمَنْعِ إلَى عَدَمِ الْقَبْضِ لَيْسَتْ لِصُورَتِهِ وَاضْطَرَبَ أَصْحَابُنَا في مَعْنَاهُ فَقِيلَ لِتَوَالِي الضَّمَانَيْنِ فَيَخْرُجُ منه الْبَيْعُ من الْبَائِعِ وَقِيلَ لِضَعْفِ الْمِلْكِ فَلَا يَخْرُجُ لَكِنْ يَخْرُجُ منه الِاسْتِبْدَالُ عن بَدَلِ الثَّلَاثِمِائَةِ بِمِائَةٍ جَائِزٌ وَإِنْ كان قبل الْقَبْضِ وقال أبو حَنِيفَةَ هو لِتَضَمُّنِهِ غَرَرًا من حَيْثُ يُتَوَقَّعُ انْقِلَابُ الْمِلْكِ إلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِالتَّلَفِ قبل الْقَبْضِ تَبَيَّنَ بِالْآخِرَةِ أَنَّ الْبَائِعَ الثَّانِيَ بَاعَ مِلْكَ الْغَيْرِ فَيَكُونُ غَرَرًا فَيَخْرُجُ منه بَيْعُ الْعَقَارِ فإن تَلَفَهُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٌ على ما عُرِفَ من أُصُولِهِمْ وَأَيْضًا كَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ فإنه يُنَبِّهُ على كَوْنِ
____________________
(4/184)
الدِّبَاغِ يُطَهِّرُ الْجِلْدَ مُطْلَقًا وَخَرَجَ بِهِ عِنْدَنَا جِلْدُ الْكَلْبِ وكان الْمَعْنَى منه أَنَّا وَجَدْنَا الْمُنَاسَبَةَ خَاصَّةً بِجِلْدِ ما كان طَاهِرًا قبل الْمَمَاتِ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الدِّبَاغِ في رَدِّ الْجِلْدِ إلَى ما كان عليه فَيَعُودُ طَاهِرًا وهو مَفْقُودٌ في حَقِّ الْكَلْبِ وَقَضَى أبو حَنِيفَةَ بِطَهَارَتِهِ بِالدِّبَاغِ لِأَنَّهُ يقول بِطَهَارَتِهِ حَالَ الْحَيَاةِ فَإِنْ قِيلَ إدَارَةُ الْحُكْمِ على الْمُنَاسَبَةِ في الْوَصْفِ الْمُومَأِ إلَيْهِ حتى سَارَ الْقَوْلُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ يُنَاقِضُ أَصْلَكُمْ في مَنْعِ إرْثِ كل قَاتِلٍ بِنَاءً على ظَاهِرِ قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ مع أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ خَاصَّةٌ وَهِيَ الْمُعَارَضَةُ له بِنَقِيضِ قَصْدِهِ في اسْتِعْجَالِ الْمِيرَاثِ فَيَخْرُجُ الْقَتْلُ الْمُبَاحُ وَالْوَاجِبُ وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ قُلْنَا الْمُنَاسَبَةُ خَاصَّةٌ كما ذَكَرْتُمْ لَكِنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِقَوْلِ من مَنَعَ الْقَاتِلَ مُطْلَقًا أَنَّ الْإِرْثَ اضْطِرَارِيٌّ وَلَوْ حَصَلَ بِالْقَتْلِ لَكَانَ كَسْبِيًّا وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَمِنْهُمْ من يقول الْقَتْلُ يَمْنَعُ الْمُوَالَاةَ فَيَمْنَعُ الْإِرْثَ كَالرِّقِّ وَالْكُفْرِ وإذا تَعَارَضَتْ الْمُنَاسَبَاتُ تَسَاقَطْنَ ولم يُعْمَلْ بِإِحْدَاهَا وَرَجَعَ إلَى عُمُومِ الحديث مع قَطْعِ النَّظَرِ عن الْمُنَاسَبَاتِ على أَنَّ أَصْلَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ وَإِنْ ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ في الشِّفَاءِ فَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ وَيُشْكِلُ ما سَمَّاهُ زِيَادَةً في مَسْأَلَةِ الْقَاضِي من قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وما سَمَّاهُ نُقْصَانًا عن عُمُومِ الْخَبَرِ فَهُوَ بِنَاءٌ على مُعَارِضٍ أَمَّا لِعَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ فَلَا الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ الِاسْتِدْلَال على عِلِّيَّةِ الْحُكْمِ بِفِعْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَهَذَا مِمَّا أَهْمَلَهُ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ وقد ذَكَرَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَصُورَتُهُ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا بَعْدَ وُقُوعِ شَيْءٍ فَيُعْلَمُ أَنَّ ذلك الْفِعْلَ إنَّمَا كان لِأَجْلِ ذلك الشَّيْءِ الذي وَقَعَ وَوُقُوعُ ذلك إمَّا أَنْ يَكُونَ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كَأَنْ يَرَى أَنَّهُ سَهَا في الصَّلَاةِ فَسَجَدَ فَيَعْلَمُ أَنَّ ذلك السُّجُودَ لِذَلِكَ السَّهْوِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ من غَيْرِهِ وَيَكُونُ منه شَيْءٌ آخَرُ كما رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا زَنَى فَرُجِمَ قال الْقَاضِي إنَّمَا يَجِبُ مِثْلُ ذلك الْحُكْمِ في غَيْرِ ذلك الْمَحْكُومِ عليه بَعْدَ نَقْلِهِ بِالْقِيَاسِ إذْ قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم حُكْمِي على الْوَاحِدِ حُكْمِي على
____________________
(4/185)
الْجَمَاعَةِ وَنَحْوُهُ مِمَّا يَحِلُّ الْفِعْلُ فيه مَحَلَّ الْقَوْلِ الْعَامِّ لِأَنَّا قد قُلْنَا إنَّ قَضَاءَهُ على الْمُعَيَّنِ لِعِلَّةٍ وَصْفِيَّةٍ لَا تَقْتَضِي وُجُوبَ عُمُومِ ذلك الْحُكْمِ وَلَا يَمْتَنِعُ اخْتِلَافُ الْأَحْكَامِ في ذلك وَإِنَّمَا يَتَعَدَّى لِغَيْرِهِ بِدَلِيلٍ يَقْتَرِنُ بِهِ قال وَكَذَلِكَ اجْتِنَابُهُ الطِّيبَ وما يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُونَ عِنْدَ إحْرَامِهِمْ إذْ عُقِلَ من ذلك شَاهِدُ الْحَالِ أَنَّهُ إنَّمَا اجْتَنَبَهُ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ وَمِنْ أَمْثَالِهِ الْمُنَبِّهَةِ على عِلَّةِ الْحُكْمِ تَخْيِيرُهُ بَرِيرَةَ لَمَّا عَتَقَتْ تَحْتَ زَوْجِهَا الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ في إثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ الْمُنَاسَبَةُ وَهِيَ من الطُّرُقِ الْمَعْقُولَةِ وَيُعَبَّرُ عنها بِ الْإِخَالَةِ وَبِ الْمَصْلَحَةِ وَبِ الِاسْتِدْلَالِ وَبِ رِعَايَةِ الْمَقَاصِدِ وَيُسَمَّى اسْتِخْرَاجُهَا تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ لِأَنَّهُ إبْدَاءُ مَنَاطِ الْحُكْمِ وَهِيَ عُمْدَةُ كِتَابِ الْقِيَاسِ وَغَمْرَتُهُ وَمَحَلُّ غُمُوضِهِ وَوُضُوحِهِ وهو تَعْيِينُ الْعِلَّةِ بِمُجَرَّدِ إبْدَاءِ الْمُنَاسَبَةِ أَيْ الْمُنَاسَبَةِ اللُّغَوِيَّةِ التي هِيَ الْمُلَاءَمَةُ فَلَا دُورَ من ذَاتِ الْأَصْلِ لَا بِنَصٍّ وَلَا غَيْرِهِ مع السَّلَامَةِ عن الْقَوَادِحِ كَالْإِسْكَارِ في تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمُنَاسِبُ لُغَةً الْمُلَائِمُ وَأَمَّا في الِاصْطِلَاحِ فقال من لم يُعَلِّلْ أَفْعَالَ اللَّهِ بِالْغَرَضِ إنَّهُ الْمُلَائِمُ لِأَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ في الْعَادَاتِ أَيْ ما يَكُونُ بِحَيْثُ يَقْصِدُ الْعُقَلَاءُ لِفِعْلِهِ على مَجَارِي الْعَادَةِ تَحْصِيلَ مَقْصُودٍ مَخْصُوصٍ وقال من يُعَلِّلُهَا هو ما يَجْلِبُ لِلْإِنْسَانِ نَفْعًا أو يَدْفَعُ عنه ضُرًّا وهو قَوْلُ الدَّبُوسِيِّ ما لو عُرِضَ على الْعُقُولِ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ قِيلَ وَعَلَى هذا فَإِثْبَاتُهَا على الْخَصْمِ مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يقول عَقْلِيٌّ لَا يَتَلَقَّى هذا بِالْقَوْلِ وَمِنْ ثَمَّ قال أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ هو حُجَّةٌ لِلنَّاظِرِ لِأَنَّهُ لَا يُكَابِرُ نَفْسَهُ دُونَ الْمُنَاظِرِ قال الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْحَقُّ أَنَّهُ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ على الْجَاحِدِ بِتَبْيِينِ مَعْنَى الْمُنَاسَبَةِ على وَجْهٍ مَضْبُوطٍ فإذا أَبْدَاهُ الْمُعَلِّلُ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى جَحْدِهِ وَقِيلَ إنَّ التَّفْسِيرَ الْأَوَّلَ بُنِيَ على جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَأَنَّ الْمُنَاسِبَ لَا يَنْخَرِمُ بِالْمُعَارِضِ وَالتَّفْسِيرَ الثَّانِي
____________________
(4/186)
بُنِيَ على مَنْعِ التَّخْصِيصِ وَيَأْخُذُ انْتِفَاءَ الْعَارِضِ في حَدِّ الْمُنَاسِبِ وقال الْخِلَافِيُّونَ الْمُنَاسَبَةُ مُبَاشَرَةُ الْفِعْلِ الصَّالِحِ لِحِكْمَةٍ وَمَصْلَحَةٍ أو صَلَاحِيَّةُ الْفِعْلِ لِحِكْمَةٍ وَمَصْلَحَةٍ وقال ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ هو وَصْفٌ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ يَحْصُلُ عَقْلًا من تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عليه ما يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِلْعُقَلَاءِ من حُصُولِ مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ أو دُنْيَوِيَّةٍ أو دَفْعِ مَفْسَدَةٍ فَإِنْ كان الْوَصْفُ خَفِيًّا أو ظَاهِرًا غير مُنْضَبِطٍ فَالْمُعْتَبَرُ ما يُلَازِمُهُ وهو الْمَظِنَّةُ كَالْمَشَقَّةِ فَإِنَّهَا لِلْمَقْصُودِ وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا بِنَفْسِهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مُنْضَبِطَةٍ فَتُعْتَبَرُ بِمَا يُلَازِمُهُ وهو السَّفَرُ قال الْهِنْدِيُّ وهو ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ في مَاهِيَّةِ الْمُنَاسَبَةِ ما هو خَارِجٌ عنه وهو اقْتِرَانُ الْحُكْمِ لِلْوَصْفِ وهو خَارِجٌ عن مَاهِيَّةِ الْمُنَاسَبَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقَالُ الْمُنَاسَبَةُ مع الِاقْتِرَانِ دَلِيلُ الْعِلِّيَّةِ وَلَوْ كان الِاقْتِرَانُ دَاخِلًا في الْمَاهِيَّةِ لَمَا صَحَّ هذا وَأَيْضًا فَهُوَ غَيْرُ جَامِعٍ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالظَّاهِرَةِ الْمُنْضَبِطَةِ جَائِزٌ على ما اخْتَارَهُ قَائِلُ هذا الْحَدِّ وَالْوَصْفِيَّةَ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ فيها مع تَحَقُّقِ الْمُنَاسَبَةِ وقد احْتَجَّ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ على إفَادَتِهَا الْعِلِّيَّةَ بِتَمَسُّكِ الصَّحَابَةِ بها فَإِنَّهُمْ يُلْحِقُونَ غير الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ إذَا غَلَبَ على ظَنِّهِمْ أَنَّهُ يُضَاهِيه لِمَعْنًى أو يُشْبِهُهُ وَرَدَّهُ في الرِّسَالَةِ الْبَهَائِيَّةِ بِأَنَّهُ ما نُقِلَ إلَيْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَسَّكُونَ بِكُلِّ ظَنٍّ غَالِبٍ فَلَا يَبْعُدُ التَّعَبُّدُ من نَوْعِ الظَّنِّ الْغَالِبِ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ ذلك النَّوْعَ ثُمَّ قال الْأَوْلَى الِاعْتِمَادُ على الْعُمُومَاتِ الدَّالَّةِ على الْأَمْرِ بِالْقِيَاسِ وقد أَوْرَدَ على اعْتِبَارِ الْفُقَهَاءِ الْمُنَاسَبَةَ في الْأَحْكَامِ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَعْلِيلَ أَحْكَامِ اللَّهِ بِالْغَرَضِ كما يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وقد سَبَقَ تَحْرِيرُ هذا في الْكَلَامِ على الْعِلَلِ وَالْحَقُّ أَنَّ اسْتِقْرَاءَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ دَلَّ على ضَبْطِ هذه الْأَحْكَامِ بِالْمَصَالِحِ وَهَذَا كَافٍ فِيمَا نَرُومُهُ وَذَلِكَ بِفَضْلِ اللَّهِ جَلَّ اسْمُهُ لَا وُجُوبًا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ في وُجُوبِ رِعَايَةِ الْأَصْلَحِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّعَبُّدِ لِنُدْرَتِهِ في الْأَحْكَامِ بِالنِّسْبَةِ إلَى ما يُعْقَلُ مَعْنَاهُ وَالْأَغْلَبُ على الظَّنِّ إلْحَاقُ الْفَرْدِ بِالْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ وَإِنَّمَا يُحْكَمُ بِالتَّعَبُّدِ فِيمَا لَا تَظْهَرُ فيه مُنَاسَبَةٌ إلَّا عِنْدَ من يُعَلِّلُ بِالْوَصْفِ الشَّبَهِيِّ فإنه غَيْرُ مُنَاسِبٍ بِنَفْسِهِ وَلَا مَعْلُومٌ اشْتِمَالُهُ على الْمُنَاسِبِ وَلَا يُصَارُ إلَى التَّعَبُّدِ معه عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ
____________________
(4/187)
ثُمَّ النَّظَرُ في الْمُنَاسِبِ في مَوَاضِعَ الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ من حَيْثُ الْيَقِينِ وَالظَّنِّ إنَّهُ قد يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِهِ من شَرْعِ الْحُكْمِ يَقِينًا كَمَصْلَحَةِ الْبَيْعِ لِلْحِلِّ أو ظَنًّا كَالْقِصَاصِ لِحِفْظِ النَّفْسِ وقد يَحْتَمِلُهَا على السَّوَاءِ كَحَدِّ الْخَمْرِ لِحِفْظِ الْعَقْلِ لِأَنَّ الْمَيْلَ وَالْإِقْدَامَ مُسَاوٍ لِلْإِحْجَامِ وقد يَكُونُ نَفْيُ الْحُصُولِ أَوْضَحَ كَنِكَاحِ الْآيِسَةِ لِتَحْصِيلِ التَّنَاسُلِ وَيَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِجَمِيعِ هذه الْأَقْسَامِ وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ صِحَّةَ التَّعْلِيلِ بِالثَّالِثِ وَالرَّابِعِ بِنَاءً على أَنَّ حُصُولَ الْمَقْصُودِ منها غَيْرُ ظَاهِرٍ لِلْمُسَاوَاةِ في الثَّالِثِ والمرجوحية في الرَّابِعِ وَالْأَصَحُّ خِلَافُهُ لِأَنَّ انْتِفَاءَ ظُهُورِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ لَا يَقْدَحُ في صِحَّةِ التَّعْلِيلِ وقال الْهِنْدِيُّ يَجُوزُ إنْ كان في آحَادِ الصُّوَرِ الشَّاذَّةِ وكان ذلك في أَغْلَبِ الصُّوَرِ من الْجِنْسِ مُفْضِيًا إلَى الْمَقْصُودِ وَإِلَّا فَلَا أَمَّا إذَا حَصَلَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ من شَرْعِ الْحُكْمِ ثَابِتٌ فقالت الْحَنَفِيَّةُ يُعْتَبَرُ التَّعْلِيلُ بِهِ وَالْأَصَحُّ لَا يُعْتَبَرُ سَوَاءٌ ما لَا تَعَبُّدَ فيه كَلُحُوقِ نَسَبِ الْمَشْرِقِيِّ بِالْمَغْرِبِيَّةِ وما فيه تَعَبُّدٌ كَاسْتِبْرَاءِ جَارِيَةٍ اشْتَرَاهَا بَائِعُهَا في الْمَجْلِسِ الْمَوْضِعُ الثَّانِي أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ من حَيْثُ الْحَقِيقَةِ وَالْإِقْنَاعِ إنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى حَقِيقِيٍّ وَإِقْنَاعِيٍّ وَالْحَقِيقِيُّ يَنْقَسِمُ إلَى ما هو وَاقِعٌ في مَحَلِّ الضَّرُورَةِ وَمَحَلِّ الْحَاجَةِ وَمَحَلِّ التَّحْسِينِ الْأَوَّلُ الضَّرُورِيُّ وهو الْمُتَضَمِّنُ حِفْظَ مَقْصُودٍ من الْمَقَاصِدِ الْخَمْسِ التي لم تَخْتَلِفْ فيها الشَّرَائِعُ بَلْ هِيَ مُطْبِقَةٌ على حِفْظِهَا وَهِيَ خَمْسَةٌ أَحَدُهَا حِفْظُ النَّفْسِ بِشَرْعِيَّةِ الْقِصَاصِ فإنه لَوْلَا ذلك لِتَهَارَجَ الْخَلْقُ وَاخْتَلَّ نِظَامُ الْمَصَالِحِ ثَانِيهَا حِفْظُ الْمَالِ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا إيجَابُ الضَّمَانِ على الْمُعْتَدِي فيه فإن الْمَالَ قِوَامُ الْعَيْشِ وَثَانِيهِمَا بِالْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ ثَالِثُهَا حِفْظُ النَّسْلِ بِتَحْرِيمِ الزِّنَى وَإِيجَابِ الْعُقُوبَةِ عليه فإن الْأَسْبَابَ
____________________
(4/188)
دَاعِيَةٌ إلَى التَّنَاصُرِ وَالتَّعَاضُدِ وَالتَّعَاوُنِ الذي لَا يَتَأَتَّى الْعَيْشُ إلَّا بِهِ عَادَةً رَابِعُهَا حِفْظُ الدِّينِ بِشَرْعِيَّةِ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ فَالْقَتْلُ لِلرِّدَّةِ وَغَيْرِهَا من مُوجِبَاتِ الْقَتْلِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الدِّينِ وَالْقِتَالُ في جِهَادِ أَهْلِ الْحَرْبِ خَامِسُهَا حِفْظُ الْعَقْلِ بِشَرْعِيَّةِ الْحَدِّ على شُرْبِ الْمُسْكِرِ فإن الْعَقْلَ هو قِوَامُ كل فِعْلٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ فَاخْتِلَالُهُ مُؤَدٍّ إلَى مَفْسَدَةٍ عُظْمَى هذا ما أَطْبَقَ عليه الْأُصُولِيُّونَ وهو لَا يَخْلُو من نِزَاعٍ فَدَعْوَاهُمْ إطْبَاقُ الشَّرَائِعِ على ذلك مَمْنُوعٌ أَمَّا من حَيْثُ الْجُمْلَةِ فَلِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ على أَنَّهُ ما خَلَا شَرْعٌ عن اسْتِصْلَاحٍ وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ في الْكَلَامِ على أَنَّ الْحُكْمَ لَا بُدَّ له من عِلَّةٍ وَالْأَقْرَبُ فيه الْوَقْفُ وَأَمَّا من حَيْثُ التَّفْصِيلِ فَأَمَّا ما ذَكَرُوهُ من الْقِصَاصِ فَيَرُدُّهُ أَنَّ الْقِصَاصَ إنَّمَا عُلِمَ وُجُوبُهُ في شَرِيعَةِ مُوسَى عليه السَّلَامُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى وَكَتَبْنَا عليهم فيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَذَلِكَ لَا يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ يَلْزَمُ من عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ بُطْلَانُ الْعَالَمِ فَأَمَّا ما ذَكَرُوهُ في الْخَمْرِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهَا كانت مُبَاحَةً في صَدْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ حُرِّمَتْ في السَّنَةِ الثَّالِثَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ قِيلَ بَلْ كان الْمُبَاحُ شُرْبُ الْقَلِيلِ الذي لَا يُسْكِرُ لَا ما يَنْتَهِي إلَى السُّكْرِ الْمُزِيلِ لِلْعَقْلِ فإنه يَحْرُمُ في كل مِلَّةٍ قَالَهُ الْغَزَالِيُّ في شِفَاءِ الْعَلِيلِ وَحَكَاهُ ابن الْقُشَيْرِيّ في تَفْسِيرِهِ عن الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ ثُمَّ نَازَعَهُ وقال تَوَاتَرَ الْخَبَرُ حَيْثُ كانت مُبَاحَةً بِالْإِطْلَاقِ ولم يَثْبُتْ أَنَّ الْإِبَاحَةَ كانت إلَى حَدٍّ لَا يُزِيلُ الْعَقْلَ وَكَذَا قال النَّوَوِيُّ في شَرْحِ مُسْلِمٍ فَأَمَّا ما يَقُولُهُ بَعْضُ من لَا تَحْصِيلَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُسْكِرِ لم يَزَلْ مُحَرَّمًا فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ له انْتَهَى وقد نَاقَشَهُمْ الْأَصْفَهَانِيُّ صَاحِبُ النُّكَتِ من جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ على مَقْصُودِ الشَّرْعِ إنَّمَا تَحْصُلُ بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ وَالْحَدِّ لَا بِالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ لِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ تُخِلُّ بِمَقْصُودِ الشَّرْعِ فَيَكُونُ الْمُنَاسِبُ هو الْحُكْمُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْمُحَافَظَةِ على الْمَقْصُودِ لَا الْوَصْفُ وهو السَّرِقَةُ وَالْقَتْلُ وَالرِّدَّةُ وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ صِفَةُ السَّرِقَةِ وَالرِّدَّةِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّهُ يُقَالُ السَّرِقَةُ تُنَاسِبُ الْقَطْعَ وَالْقَتْلُ يُنَاسِبُ الْقِصَاصَ وَلَا يُقَالُ إيجَابُ الْقِصَاصِ مُنَاسِبٌ وقد زَادَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ سَادِسًا وهو حِفْظُ الْأَعْرَاضِ فإن عَادَةَ الْعُقَلَاءِ بَذْلُ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ دُونَ أَعْرَاضِهِمْ وما فُدِيَ بِالضَّرُورِيِّ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ ضَرُورِيًّا وقد
____________________
(4/189)
شُرِعَ في الْجِنَايَةِ عليه بِالْقَذْفِ الْحَدُّ وهو أَحَقُّ بِالْحِفْظِ من غَيْرِهِ فإن الْإِنْسَانَ قد يَتَجَاوَزُ من جَنَى على نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَتَجَاوَزُ عن الْجِنَايَةِ على عِرْضِهِ وَلِهَذَا كان أَهْلُ الْجِنَايَةِ يَتَوَقَّعُونَ الْحَرْبَ الْعَوَانَ الْمُبِيدَةَ لَلْفَرَسَانِ لِأَجْلِ كَلِمَةٍ فَهَؤُلَاءِ عَبْسٌ وَذُبْيَانَ اسْتَمَرَّتْ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً لِأَجْلِ سَبْقِ فَرَسٍ فَرَسًا وَهُمَا دَاحِسٌ وَالْغَبْرَاءُ وَإِلَيْهِمَا تُضَافُ هذه الْحَرْبُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ وهو حُذَيْفَةُ بن بَدْرٍ اعْتَقَدَ مَسْبُوقِيَّتَهُ عَارًا يُقَبِّحُ عِرْضَهُ وَيَلْتَحِقُ بهذا الْقِسْمِ مُشْكَلُ الضَّرُورِيِّ كَحَدِّ قَلِيلِ الْمُسْكِرِ وَوُجُوبِ الْحَدِّ فيه وَتَحْرِيمِ الْبِدْعَةِ وَالْمُبَالَغَةِ في عُقُوبَةِ الْمُبْتَدِعِ الدَّاعِي إلَيْهَا وفي حِفْظِ النَّسَبِ بِتَحْرِيمِ النَّظَرِ وَالْمَسِّ وَالتَّعْزِيرِ على ذلك الثَّانِي الْحَاجِيُّ وهو ما يَقَعُ في مَحَلِّ الْحَاجَةِ لَا الضَّرُورَةِ كَالْإِجَارَةِ فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ على مَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى الْمَسَاكِنِ مع الْقُصُورِ عن تَمَلُّكِهَا وَضَنِّ مَالِكِهَا بِبَذْلِهَا عَارِيَّةً وَكَذَلِكَ الْمُسَاقَاةُ لِاشْتِغَالِ بَعْضِ الْمُلَّاكِ عن تَعَهُّدِ أَشْجَارِهِ وَكَذَلِكَ الْقِرَاضُ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ في هذا الْقِسْمِ الْبَيْعَ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ تَصْحِيحُ الْبَيْعِ آيِلٌ إلَى الضَّرُورَةِ وَالْإِجَارَةُ دُونَهُ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَسْتَغْنِي عن الْبَيْعِ فَالضَّرُورَةُ إلَيْهِ عَامَّةٌ وفي الْآحَادِ من يَسْتَغْنِي عن الْإِجَارَةِ فَالْحَاجَةُ إلَيْهَا لَيْسَتْ عَامَّةً وَنَازَعَهُ ابن الْمُنِيرِ وقال وُقُوعُ الْإِجَارَاتِ أَكْثَرُ من الْمُبَايَعَاتِ وَمِنْهُ نَصْبُ الْوَلِيِّ لِلصَّغِيرِ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ نَظَرًا من الْمَرْأَةِ لِكَمَالِ عَقْلِهِ فَلَوْ فَوَّضَ نِكَاحَهَا إلَيْهَا أَوْقَعَتْ نَفْسَهَا في مَعَرَّةٍ لِقُصُورِ نَظَرِهَا وَلِأَنَّ تَوَلِّيهَا النِّكَاحَ يُسْتَقْبَحُ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ لِإِشْعَارِهِ بِبَذَاءَتِهَا ثُمَّ قد يَكُونُ من هذا ما هو ضَرُورِيٌّ كَالْإِجَارَةِ لِتَرْبِيَةِ الطِّفْلِ وَتَكْمِيلًا كَخِيَارِ الْبَيْعِ وَرِعَايَةِ الْكَفَاءَةِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ في تَزْوِيجِ الصَّغِيرِ فإنه أَفْضَى إلَى دَوَامِ النِّكَاحِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ قد تَكُونُ جَلِيَّةً حتى تَنْتَهِيَ إلَى الْقَطْعِ كَالضَّرُورِيَّاتِ وقد تَكُونُ خَفِيَّةً كَالْمَعَانِي التي اسْتَنْبَطَهَا الْفُقَهَاءُ وَلَيْسَ لهم إلَّا مُجَرَّدُ احْتِمَالِ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لها وقد يُشْتَبَهُ كَوْنُ الْمُنَاسَبَةِ وَاقِعَةً في مَرْتَبَةِ الضَّرُورَةِ أو الْحَاجَةِ لِتَقَارُبِهِمَا وقد قال بَعْضُ الْأَكَابِرِ إنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الْإِجَارَةِ على خِلَافِ الْقِيَاسِ فَنَازَعَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ
____________________
(4/190)
وقال إنَّهَا في مَرْتَبَةِ الضَّرُورَةِ لِأَنَّهُ ليس كُلُّ الناس قَادِرًا على الْمَسَاكِنِ بِالْمِلْكِ وَلَا أَكْثَرُهُمْ وَالسَّكَنُ ما يُكِنُّ من الْحَرِّ وَالْبَرْدِ من مَرْتَبَةِ الضَّرُورَةِ وقد يَخْتَلِفُ التَّأْثِيرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ الثَّالِثُ التَّحْسِينِيُّ وهو قِسْمَانِ منه ما هو غَيْرُ مُعَارِضٍ لِلْقَوَاعِدِ كَتَحْرِيمِ الْقَاذُورَاتِ فإن نُفْرَةَ الطِّبَاعِ عنها لِقَذَارَتِهَا مَعْنًى يُنَاسِبُ حُرْمَةَ تَنَاوُلِهَا حَثًّا على مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ كما قال تَعَالَى وَيُحَرِّمُ عليهم الْخَبَائِثَ وَحَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ على الْمُسْتَحَبِّ عَادَةً على تَفْصِيلٍ وَعَنْ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بُعِثْت لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ ومنه إزَالَةُ النَّجَاسَةِ فَإِنَّهَا مُسْتَقْذَرَةٌ في الْجِبِلَّاتِ وَاجْتِنَابُهَا أَهَمُّ في الْمَكَارِمِ وَالْمُرُوآتِ وَلِذَا يَحْرُمُ التَّضَمُّخُ بها على الصَّحِيحِ من غَيْرِ حَاجَةٍ قال الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ وَالشَّافِعِيُّ نَصَّ على هذا في الْكَثِيرِ ثُمَّ إنَّهُ في النِّهَايَةِ في الْكَلَامِ على وَطْءِ الْأَمَةِ في دُبُرِهَا قال لَا يَحْرُمُ ومنه إيجَابُ الْوُضُوءِ لِمَا فيه من إفَادَةِ النَّظَافَةِ إذْ الْأَمْرُ بها في اسْتِغْرَاقِ الْأَوْقَاتِ مِمَّا يَعْسُرُ فَوَظَّفَ الْوُضُوءَ في الْأَوْقَاتِ وَبَنَى الْأَمْرَ على إفَادَتِهِ الْمَقْصُودَ وَعَلِمَ الشَّارِعُ أَنَّ أَرْبَابَ الْعُقُولِ لَا يَعْتَمِدُونَ فِعْلَ الْأَوْسَاخِ وَالْأَدْرَانِ إلَى أَعْضَائِهِمْ الْبَادِيَةِ منهم فَكَانَ ذلك النِّهَايَةُ في الِاسْتِصْلَاحِ قال الْإِمَامُ وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ أَظْهَرُ في هذا من النَّظَافَةِ الْكُلِّيَّةِ الْمُرَتَّبَةِ على الْوُضُوءِ من حَيْثُ إنَّ الْجُمْلَةَ تَسْتَقْذِرُهَا وَالْمُرُوءَةَ تَقْتَضِي اجْتِنَابُهَا فَهِيَ أَظْهَرُ من اجْتِنَابِ الشُّعْثِ وَالْغَمَرَاتِ قال وَلِهَذَا جَعَلَ الشَّافِعِيُّ الْوُضُوءَ بِالنِّيَّةِ من حَيْثُ الْتَحَقَ بِالْعَادَاتِ الْعَرِيَّةِ عن الْأَعْرَاضِ وَضَاهَى الْعِبَادَاتِ الدِّينِيَّةَ ومنه سَلْبُ الْعَبْدِ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا مَنْصِبٌ شَرِيفٌ وَالْعَبْدُ نَازِلُ الْقَدْرِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُلَائِمٍ وَهَذَا اسْتَشْكَلَهُ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْحَقِّ بَعْدَ ظُهُورِ الشَّاهِدِ وَاتِّصَالِهِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَدَفْعِ الْيَدِ الظَّالِمَةِ عنه من مَرَاتِبِ الضَّرُورَةِ وَاعْتِبَارِ نُقْصَانِ الْعَبْدِ في الرُّتْبَةِ وَالْمَنْصِبِ من مَرَاتِبِ التَّحْسِينِ وَتَرْكِ مَرْتَبَةِ الضَّرُورَةِ رِعَايَةً لِمَرْتَبَةِ التَّحْسِينِ بَعِيدًا جِدًّا نعم لو وُجِدَ لَفْظٌ يَسْتَنِدُ إلَيْهِ في رَدِّ شَهَادَتِهِ وَيُعَلِّلُ
____________________
(4/191)
هذا التَّعْلِيلَ لَكَانَ له وَجْهٌ فَأَمَّا مع الِاسْتِدْلَالِ بهذا التَّعْلِيلِ فَفِيهِ هذا الْإِشْكَالُ وقد تَنَبَّهْ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لِإِشْكَالِ الْمَسْأَلَةِ فذكر أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ لِمَنْ رَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ مُسْتَنَدًا أو وَجْهًا وَأَمَّا سَلْبُ وِلَايَتِهِ فَهُوَ في مَحَلِّ الْحَاجَةِ إذْ وِلَايَةُ الْأَطْفَالِ تَسْتَدْعِي اسْتِغْرَاقًا وَفَرَاغًا وَالْعَبْدُ مُسْتَغْرَقٌ بِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ فَتَفْوِيضُ أَمْرِ الطِّفْلِ إلَيْهِ إضْرَارٌ بِالطِّفْلِ أَمَّا الشَّهَادَةُ فَتَتَّفِقُ أَحْيَانًا كَالرِّوَايَةِ وَالْفَتْوَى ومنه ما هو مُعَارِضٌ كَالْكِتَابَةِ فَإِنَّهَا من حَيْثُ كَوْنِهَا مَكْرُمَةً في الْعَوَائِدِ ما احْتَمَلَ الشَّرْعُ فيها خَرْمَ قَاعِدَةٍ مُمَهَّدَةٍ وَهِيَ امْتِنَاعُ مُعَامَلَةِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ وَامْتِنَاعُ مُقَابَلَةِ الْمِلْكِ بِالْمِلْكِ على سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ نعم هِيَ جَارِيَةٌ على قِيَاسِ الْمَالِكِيَّةِ في أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ وَزَعَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أنها خَرَجَتْ عن قِيَاسِ الْوَسَائِلِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُمْ أَوْجَبُوهَا مع أنها وَسِيلَةٌ إلَى الْعِتْقِ الذي لَا يَجِبُ وهو غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ غَيْرُ وَاجِبَةٍ لَكِنَّهُمْ مع ذلك يُقَدِّرُونَ خُرُوجَهَا عن الْقِيَاسِ وَاشْتِمَالَهَا على شَائِبَتَيْ مُعَاوَضَةٍ وَتَعْلِيقٍ على خِلَافِ قِيَاسِهِمَا وَهَذَا الْقِسْمُ كُلُّهُ يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا وقد يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ كَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَرِيَاضَتِهَا وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ وقد يَتَعَلَّقُ بِالدَّارَيْنِ كَإِيجَابِ الْكَفَّارَاتِ إذْ يَحْصُلُ بها الزَّجْرُ عن تَعَاطِي الْأَفْعَالِ الْمُوجِبَةِ لها وَتَحْصِيلِ تَلَافِي الذَّنْبِ الْكَبِيرِ وَفَائِدَةُ مُرَاعَاةِ هذا التَّرْتِيبِ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ مَصْلَحَتَانِ وَجَبَ إعْمَالُ الضَّرُورَةِ الْمُهِمَّةِ وَإِلْغَاءُ التَّتِمَّةِ وَأَمَّا الْإِقْنَاعِيُّ فَهُوَ الذي يَظْهَرُ منه في بَادِئِ الْأَمْرِ أَنَّهُ مُنَاسِبٌ لَكِنْ إذَا بُحِثَ عنه حَقَّ الْبَحْثِ ظَهَرَ بِخِلَافِهِ كَقَوْلِهِمْ في مَنْعِ بَيْعِ الْكَلْبِ قِيَاسًا على الْخَمْرِ وَالْمَيِّتَةِ إذْ كَوْنُ الشَّيْءِ نَجَسًا يُنَاسِبُ إذْلَالَهُ وَمُقَابَلَتُهُ بِالْمَالِ في الْبَيْعِ إعْزَازٌ له وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا تَنَاقُضٌ فإذا كان هذا الْوَصْفُ يُنَاسِبُ عَدَمَ جَوَازِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ مع الِاقْتِرَانِ دَلِيلُ الْعِلِّيَّةِ فَهَذَا وَإِنْ كان مُخَيَّلًا فَهُوَ عِنْدَ النَّظَرِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ إذْ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الشَّيْءِ نَجِسًا إلَّا عَدَمُ جَوَازِ الصَّلَاةِ معه وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ كَذَا قال الرَّازِيَّ وَتَبِعَهُ الْهِنْدِيُّ وقد يُنَازَعُ في أَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِهِ نَجَسًا مَنْعُ الصَّلَاةِ معه بَلْ ذلك من جُمْلَةِ أَحْكَامِ النَّجَسِ وَحِينَئِذٍ فَالتَّعْلِيلُ بِكَوْنِ النَّجَاسَةِ يُنَاسِبُ الْإِذْلَالَ ليس بِإِقْنَاعِيٍّ
____________________
(4/192)
الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ تَقْسِيمُ الْمُنَاسَبَةِ من حَيْثُ الِاعْتِبَارِ الشَّرْعِيِّ وَعَدَمِهِ الْمُنَاسَبَةُ تَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ شَهَادَةِ الشَّرْعِ لها بِالْمُلَائِمَةِ وَالتَّأْثِيرِ وَعَدَمِهَا إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَهُ أو يُعْلَمَ أَنَّهُ أَلْغَاهُ أو لَا يُعْلَمَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ما عُلِمَ اعْتِبَارُ الشَّرْعِ له وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الرُّجْحَانُ وَالْمُرَادُ بِالِاعْتِبَارِ إيرَادُ الْحُكْمِ على وَفْقِهِ لَا التَّنْصِيصَ عليه وَلَا الْإِيمَاءَ إلَيْهِ وَإِلَّا لم تَكُنْ الْعِلِّيَّةُ مُسْتَفَادَةً من الْمُنَاسَبَةِ وهو الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ شَهِدَ له أَصْلٌ مُعَيَّنٌ قال الْغَزَالِيُّ في شِفَاءِ الْعَلِيلِ الْمَعْنَى بِشَهَادَةِ أَصْلٍ مُعَيَّنٍ لِلْوَصْفِ أَنَّهُ مُسْتَنْبَطٌ منه من حَيْثُ إنَّ الْحُكْمَ أُثْبِتَ شَرْعًا على وَفْقِهِ وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ نَوْعُهُ في نَوْعِهِ أو في جِنْسِهِ أو جِنْسُهُ في نَوْعِهِ أو جِنْسِهِ الْحَالَةُ الْأُولَى أَنْ يُعْتَبَرُ نَوْعُهُ في نَوْعِهِ من خُصُوصِ الْوَصْفِ في خُصُوصِ الْحُكْمِ وَعُمُومِهِ في عُمُومِهِ كَقِيَاسِ الْقَتْلِ بِالْجَارِحِ على الْمُثْقِلِ في وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِجَامِعِ كَوْنِهِ قَتْلًا عَمْدًا عُدْوَانِيًّا فإنه قد عُرِفَ تَأْثِيرُ خُصُوصِ كَوْنِهِ قَتْلًا عَمْدًا عُدْوَانًا في خُصُوصِ الْحُكْمِ وهو وُجُوبُ الْقِصَاصِ في النَّفْسِ في الْمُحَدَّدِ وَهَذَا الْقِسْمُ يُسَمَّى بِالْمُنَاسِبِ الْمُلَائِمِ وهو مُتَّفَقٌ عليه بين الْقِيَاسِيِّينَ
____________________
(4/193)
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يُعْتَبَرَ نَوْعُهُ في جِنْسِهِ كَقِيَاسِ تَقْدِيمِ الْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ على الْإِخْوَةِ من الْأَبِ في النِّكَاحِ على تَقْدِيمِهِمْ عليهم في الْإِرْثِ وَالصَّلَاةِ فإن الْإِخْوَةَ من الْأَبِ وَالْأُمِّ نَوْعٌ وَاحِدٌ في الصُّورَتَيْنِ ولم يُعْرَفْ تَأْثِيرُهُ في التَّقْدِيمِ في وِلَايَةِ النِّكَاحِ لَكِنْ عُرِفَ تَأْثِيرُهُ في جِنْسِهِ وهو التَّقَدُّمُ عليهم فِيمَا يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم عن عَدَمِ الْأَمْرِ كما في الْإِرْثِ وَالصَّلَاةِ وَهَذَا الْقِسْمُ دُونَ ما قَبْلَهُ لِأَنَّ الْمُقَارَنَةَ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَحَلَّيْنِ أَقَلُّ من الْمُقَارَنَةِ بين نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يُعْتَبَرَ جِنْسُهُ في نَوْعِهِ كَقِيَاسِ إسْقَاطِ الْقَضَاءِ عن الْحَائِضِ على إسْقَاطِ قَضَاءِ الرَّكْعَتَيْنِ السَّاقِطَتَيْنِ عن الْمُسَافِرِ بِتَعْلِيلِ الْمَشَقَّةِ وَالْمَشَقَّةُ جِنْسٌ وَإِسْقَاطُ قَضَاءِ الصَّلَاةِ نَوْعٌ وَاحِدٌ يُسْتَعْمَلُ على صِنْفَيْنِ إسْقَاطُ قَضَاءِ الْكُلِّ وَإِسْقَاطُ قَضَاءِ الْبَعْضِ وقد ظَهَرَ تَأْثِيرُهَا في هذا النَّوْعِ ضَرُورَةَ تَأْثِيرِهَا في إسْقَاطِ قَضَاءِ الرَّكْعَتَيْنِ وَهَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مُتَقَارِبَانِ لَكِنَّ هذا أَوْلَى لِأَنَّ الْإِيهَامَ في الْعِلَّةِ أَكْثَرُ مَحْذُورًا من الْإِيهَامِ في الْمَعْلُولِ الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ اعْتِبَارُ جِنْسِ الْوَصْفِ في جِنْسِ الْحُكْمِ وهو كَتَعْلِيلِ كَوْنِ حَدِّ الشُّرْبِ ثَمَانِينَ فإنه مَظِنَّةُ الْقَذْفِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ مَظِنَّةُ الِافْتِرَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يُقَامَ مَقَامَهُ قِيَاسًا على الْخَلْوَةِ فَإِنَّهَا لَمَّا كانت مَظِنَّةَ الْوَطْءِ أُقِيمَتْ مَقَامَهُ في الْحُرْمَةِ وَهَذَا الْقِسْمُ كَالْأَوَّلِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ كان الْوَفَاءُ بِإِقَامَةِ الْمَظِنَّةِ مَقَامَ الْمَظْنُونِ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالْخَلْوَةِ وَلَا قَائِلَ بِهِ الْقِسْمُ الثَّانِي ما عُلِمَ إلْغَاءُ الشَّرْعِ له كما نُقِلَ عن بَعْضِهِمْ إيجَابُ الصَّوْمِ ابْتِدَاءً في كَفَّارَةِ من وَاقَعَ في رَمَضَانَ لِأَنَّ الْقَصْدَ منها الِانْزِجَارُ وهو لَا يَنْزَجِرُ بِالْعِتْقِ فَهَذَا وَإِنْ كان قِيَاسًا لَكِنَّ الشَّرْعَ أَلْغَاهُ حَيْثُ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ مُرَتَّبَةً من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْمُكَلَّفِينَ وَالْقَوْلُ بِهِ مُخَالِفٌ لِلنَّهْيِ فَيَكُونُ بَاطِلًا فَإِنْ قِيلَ قد خَصَّصُوا الْعُمُومَ بِالْمَعْنَى فِيمَا هو قَرِيبٌ من ذلك قُلْنَا حَيْثُ لم يُعَكِّرْ على النَّصِّ بِالْإِبْطَالِ وهو هُنَا يُعَكِّرْ فإن اعْتِبَارَهُ يُؤَدِّي إلَى الشَّرْعِ إلَيْهِ وهو الْعِتْقُ الْقِسْمُ الثَّالِثِ أَلَّا يُعْلَمَ اعْتِبَارُهُ وَلَا إلْغَاؤُهُ وهو الذي لَا يَشْهَدُ له أَصْلٌ مُعَيَّنٌ من أُصُولِ الشَّرِيعَةِ بِالِاعْتِبَارِ وهو الْمُسَمَّى ب الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فيه وَالْمَشْهُورُ اخْتِصَاصُ الْمَالِكِيَّةِ بها وَلَيْسَ كَذَلِكَ فإن الْعُلَمَاءَ في جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ يَكْتَفُونَ بِمُطْلَقِ الْمُنَاسَبَةِ وَلَا مَعْنَى لِلْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ إلَّا ذلك قال الْغَزَالِيُّ في كِتَابِ أَسَاسِ الْقِيَاسِ قد جَعَلَ الشَّافِعِيُّ اسْتِيلَادَ الْأَبِ جَارِيَةَ الِابْنِ سَعْيًا لِنَقْلِ الْمِلْكِ من غَيْرِ وُرُودِ نَصٍّ فيه وَلَا وُجُودِ أَصْلٍ مُعَيَّنٍ يَشْهَدُ بِنَقْلِ الْمِلْكِ وَالْقَدْرِ الْمُصْلِحِ فيه اسْتِحْقَاقُ الْإِعْفَافِ على وَلَدِهِ وقد مَسَّتْ حَاجَتُهُ إلَيْهِ
____________________
(4/194)
فَيَنْقُلُ مِلْكَهُ إلَيْهِ وَهَذَا كَأَنَّهُ اتِّبَاعُ مَصْلَحَةٍ مُرْسَلَةٍ وَكَذَا قال في الْغَاصِبِ تَكْثُرُ تَصَرُّفَاتُهُ في الْمَالِ الْمَغْصُوبِ أَنَّ لِمَالِكِهِ إجَازَةَ تَصَرُّفَاتِهِ إذْ يُعْتَبَرُ اتِّبَاعُ مَصْلَحَةٍ وَكَذَا قال في الْعَامِلَيْنِ مع أَنَّ الْمِلْكَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَالْإِجَازَةُ عِنْدَ بُطْلَانِهِ من الْفُضُولِيِّ وَلَكِنْ إذَا كَثُرَتْ التَّصَرُّفَاتُ وَظَهَرَ الْعُسْرُ اقْتَضَتْ الْمَصْلَحَةُ ذلك الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ تَقْسِيمُ الْمُنَاسَبَةِ من حَيْثُ التَّأْثِيرُ وَالْمُلَاءَمَةُ الْمُنَاسِبُ إمَّا مُؤَثِّرٌ أو غَيْرُ مُؤَثِّرٍ وَغَيْرُ الْمُؤَثِّرِ إمَّا مُلَائِمٌ أو غَيْرُ مُلَائِمٍ وَغَيْرُ الْمُلَائِمِ إمَّا غَرِيبٌ أو مُرْسَلٌ أو مَلْغِيٌّ الْأَوَّلُ الْمُؤَثِّرُ وهو أَنْ يَدُلَّ النَّصُّ أو الْإِجْمَاعُ على كَوْنِهِ عِلَّةً بِشَرْطِ دَلَالَتِهَا على تَأْثِيرِ غَيْرِ الْوَصْفِ في عَيْنِ الْحُكْمِ أو نَوْعِهِ في نَوْعِهِ بِنَصٍّ أو إجْمَاعٍ قال في الْمُسْتَصْفَى هو تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ وَسُمِّيَ مُؤَثِّرًا لِظُهُورِ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ في الْحُكْمِ فَالنَّصُّ كَمَسِّ الْمُتَوَضِّئِ ذَكَرَهُ فإنه اعْتَبَرَ عَيْنَ مَسِّ الْمُتَوَضِّئِ ذَكَرَهُ في عَيْنِ الْحَدَثِ بِنَصِّهِ عليه وَالْإِجْمَاعُ كَالصِّغَرِ فإنه اعْتَبَرَ عَيْنَهُ في عَيْنِ الْحُكْمِ وهو الْوِلَايَةُ في الْمَالِ بِالْإِجْمَاعِ ثُمَّ قال الْأَصْفَهَانِيُّ وَغَيْرُهُ قد يَكُونُ الْوَصْفُ مُنَاسِبًا كَالصِّغَرِ الْمُنَاسِبِ لِلْوِلَايَةِ على الصَّغِيرِ وقد لَا يَكُونُ مُنَاسِبًا كَخُرُوجِ الْمَنِيِّ لِإِيجَابِ الْغُسْلِ وقال الْإِمَامُ الرَّازِيَّ إنَّمَا يَتِمُّ بِالْمُنَاسَبَةِ أو التَّغَيُّرِ وَهَذَا الْقِسْمُ أَقَلُّ الْأَقْسَامِ وَلِهَذَا قَبِلَهُ أبو زَيْدٍ دُونَ أَنْوَاعِ الْمُنَاسَبَاتِ كما قَالَهُ صَاحِبُ التَّنْقِيحَاتِ وقال صَاحِبُ جَنَّةِ النَّاظِرِ إطْلَاقُ لَفْظِ الْعَيْنِ هُنَا تَجَوُّزٌ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ هِيَ الْمُشَخَّصَاتُ وَهِيَ لَا تَقْبَلُ التَّعْدَادَ لِيُمْكِنَ وُجُودُهَا في مَحَلَّيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِالْعَيْنِ هَاهُنَا ما هو أَخَصُّ من الْجِنْسِ كَالنَّوْعِ وَالصِّنْفِ الثَّانِي الْمُلَائِمُ وهو أَنْ يَعْتَبِرَ الشَّارِعُ عَيْنَهُ في عَيْنِ الْحُكْمِ بِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ على وَفْقِ النَّصِّ لَا بِنَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ سُمِّيَ مُلَائِمًا لِكَوْنِهِ مُوَافِقًا لِمَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ دُونَ ما قَبْلَهَا وَإِنَّمَا تَأَخَّرَتْ عنها لِبُعْدِ مَرْتَبَةِ النَّوْعِ بِدَرَجَةٍ فإنه كُلَّمَا تَأَخَّرَتْ الْمَرْتَبَةُ له أَمْكَنَ الْمُزَاحَمَةُ كَتَعْلِيلِ الْوَصْفِ بِعَيْنِهِ وإذا كَثُرَ الْمُزَاحِمُ ضَعْفُ الظَّنُّ الثَّالِثُ الْغَرِيبُ وهو أَنْ يَعْتَبِرَ عَيْنَهُ في عَيْنِ الْحُكْمِ فَتَرَتُّبُ الْحُكْمِ وَفْقَ الْوَصْفِ فَقَطْ وَلَا يُعْتَبَرُ عَيْنُ الْوَصْفِ في جِنْسِ الْحُكْمِ وَلَا عَيْنُهُ وَلَا جِنْسُهُ في جِنْسِهِ بِنَصٍّ أو إجْمَاعٍ كَالْإِسْكَارِ في تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فإنه اُعْتُبِرَ عَيْنُ الْإِسْكَارِ في عَيْنِ الْحُكْمِ
____________________
(4/195)
بِتَرْتِيبِ التَّحْرِيمِ على الْإِسْكَارِ فَقَطْ وَمَنَعَ السُّهْرَوَرْدِيّ في التَّنْقِيحَاتِ وُجُودَ الْمُنَاسِبِ الْغَرِيبِ وَرَدَّ أَمْثِلَتَهُ إلَى الْمُلَائِمِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْغَزَالِيُّ في شِفَاءِ الْعَلِيلِ وقال قَلَّمَا يُوجَدُ في الشَّرْعِ اعْتِبَارُ مَصْلَحَةٍ خَاصَّةٍ إلَّا وَلِلشَّرْعِ الْتِفَاتٌ إلَى جِنْسِهَا وَعَلَى الْأُصُولِيِّ التَّقْسِيمُ وَعَلَى الْفَقِيهِ الْأَمْثِلَةُ وَكَذَا قال غَيْرُهُ هذا لَا يَحْسُنُ جَعْلُهُ قِسْمًا بِرَأْسِهِ بَلْ إنْ شَهِدَ له أَصْلٌ بِعَيْنِهِ دخل فِيمَا سَبَقَ وَإِلَّا كان مُرْسَلًا وَمَثَّلَهُ ابن الْحَاجِبِ بِنَظَرِ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما في التَّفْضِيلِ في الْعَطَاءِ وقال الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ إذَا ظَهَرَتْ الْمَعَانِي فَيَبْعُدُ أَنْ لَا يُوجَدَ له نَظِيرٌ وَلَا مَدَارٌ بَلْ لَا يَكَادُ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبُ يَنْفَكُّ عن نَظَرٍ بِحَالٍ وقد قُلْت أَمْثِلَةَ الْغَرِيبِ وَمِنْهَا تَوْرِيثُ الْمَبْتُوتَةِ في مَرَضِ الْمَوْتِ إلْحَاقًا بِالْقَاتِلِ الْمَمْنُوعُ من الْمِيرَاثِ تَعْلِيلًا بِالْمُعَارَضَةِ بِنَقِيضِ الْقَصْدِ فإن الْمُنَاسَبَةَ ظَاهِرَةٌ لَكِنَّ هذا النَّوْعَ من الْمَصْلَحَةِ لم يُعْهَدْ اعْتِبَارُهُ في غَيْرِ هذا الْخَاصِّ فَكَانَ غَرِيبًا لِذَلِكَ هَكَذَا قَالَهُ وَفِيهِ نَظَرٌ ثُمَّ اخْتَارَ تَفْصِيلًا وقال إنَّهُ الذي يَقْتَضِيه مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْغَرِيبَ إذَا ظَهَرَ فيه الْمَعْنَى الْمُنَاسِبُ اُعْتُبِرَ كَالْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَفَصْلِ الْخُصُومَاتِ وَالْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَظْهَرَ وَهِيَ الْعِبَادَاتُ قال فَلَا تَعْلِيلَ بها كَالْمَعَانِي الْغَرِيبَةِ وَإِنْ كانت ظَاهِرَةً لِأَنَّا لم نَعْتَمِدْ على نَفْسِ الْمَعْنَى بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ هذا كُلُّهُ فِيمَا اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ فَإِنْ لم يَعْتَبِرْهُ نُظِرَ فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ على إلْغَائِهِ لم يُعَلَّلْ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِلَّا فَهُوَ الْمُرْسَلُ وَمِنْهُمْ من قَسَّمَهُ إلَى غَرِيبٍ وَمُلَائِمٍ وَقَبِلَهُ مَالِكٌ مُطْلَقًا وَصَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِقَبُولِهِ أَيْضًا مع تَشْدِيدِهِ الْإِنْكَارَ على مَالِكٍ في ذلك وَنُقِلَ عن الشَّافِعِيِّ أَيْضًا وَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ لَكِنَّهُ شَرَطَ في اعْتِبَارِ الْقَطْعِ فيه كَوْنَ الْمَصْلَحَةِ ضَرُورِيَّةً قَطْعِيَّةً كُلِّيَّةً ولم يَشْتَرِطْ ذلك لِأَصْلِ الْقَوْلِ بِهِ قال وَالظَّنُّ الْقَرِيبُ من الْقَطْعِ كَالْقَطْعِ وَتَابَعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ في الْمِنْهَاجِ وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ مَرْدُودٌ مُطْلَقًا وَنَقَلَ ابن الْحَاجِبِ الِاتِّفَاقَ على رَدِّ الْمُرْسَلِ غَيْرِ الْمُلَائِمِ الذي لم يَعْتَبِرْهُ الشَّرْعُ وَفَصَّلَ قَوْمٌ بين الْعِبَادَاتِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ وَلَا نَرَى التَّعَلُّقَ بِكُلِّ مَصْلَحَةٍ ولم يَرَ ذلك أَحَدٌ من الْعُلَمَاءِ قال وَمَنْ ظَنَّ ذلك بِمَالِكٍ فَقَدْ أَخْطَأَ وَيَتَحَصَّلُ في أَقْسَامِ الْمُنَاسِبَاتِ أَنْ يُقَالَ إنْ الْمُؤَثِّرَ وهو ما دَلَّ النَّصُّ أو الْإِجْمَاعُ على اعْتِبَارِهِ مَقْبُولٌ بِالِاتِّفَاقِ وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى الْقِيَاسِ وما دَلَّ على الْغَايَةِ مَرْدُودٌ بِالِاتِّفَاقِ وما لم يَشْهَدْ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهِ وَلَا إلْغَائِهِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَفِيهِ
____________________
(4/196)
ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا الْمَنْعُ منه مُطْلَقًا وهو الذي عليه الْأَكْثَرُونَ منهم الْقَاضِي إذْ لَا تَدُلُّ عليها دَلَالَةُ الْعُقُولِ وَلَا يَشْهَدُ لها أَصْلٌ من الْأُصُولِ وَلِأَنَّ في اعْتِبَارِهَا رَدَّ الشَّرِيعَةِ إلَى السِّيَاسَةِ وَالثَّانِي يُقْبَلُ مُطْلَقًا وهو الْمَنْقُولُ عن مَالِكٍ وَالثَّالِثُ تُقْبَلُ ما لم يُصَادِفْهَا أَصْلٌ من الْأُصُولِ طَرْدًا لِدَلِيلِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ وَنُقِلَ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عَضَّدَهُ بِأَنْ قال الْأُصُولُ مُنْحَصِرَةٌ وَالْأَحْكَامُ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ وَلَمَّا كَانُوا مع ذلك يَسْتَرْسِلُونَ في الْأَحْكَامِ اسْتِرْسَالَ من لم يَطْلُبْ الْأُصُولَ احْتِفَاءً فلم يَكُنْ بُدٌّ من مَرَدٍّ وَلَا مَرَدَّ إلَّا إلَى صَحِيحِ اسْتِدْلَالٍ وَصَارَ هَؤُلَاءِ في ضَبْطِ ما يَصِحُّ بِهِ الِاسْتِدْلَال إلَى أَنَّهُ كُلُّ مَعْنَى مُنَاسِبٌ لِلْمَحَلِّ مُطَّرِدٌ في أَحْكَامِ الشَّرْعِ لَا يَرُدُّهُ أَصْلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ بِعُمُومِ عِلَّتِهِ وَنَقَلَ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ عن الشَّافِعِيِّ مُوَافَقَةَ مَالِكٍ ولم يَصِحَّ عنه وَاَلَّذِي نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ لَا يَسْتَجِيزُ التَّأَنِّي وَالْإِفْرَادَ في الْبُعْدِ وَإِنَّمَا يَسُوغُ تَعْلِيقُ الْأَحْكَامِ بِمَصَالِحَ يَرَاهَا شَبِيهَةً بِالْمَصَالِحِ الْمُعْتَبَرَةِ وِفَاقًا بِالْمَصَالِحِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى أَحْكَامٍ ثَابِتَةِ الْأُصُولِ فإنه في الشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ نَحْوَهُ وَالرَّابِعُ يُشْتَرَطُ اقْتِرَانُ الْحُكْمِ بها وَصَلَاحِيَّتُهَا لِلِاعْتِبَارِ وَأَرَادَ آخَرُونَ انْضِمَامَ السَّبَبِ إلَيْهَا في اشْتِرَاطِ تَعْيِينِهَا إذْ لَا يَمْتَنِعُ مُسَاوَقَتُهَا لَمُنَاسِبٍ آخَرَ وَهَذَا على رَأْيِ من مَنَعَ التَّعْلِيلَ بِعِلَّتَيْنِ وَالْخَامِسُ يَمْتَنِعُ في الْعِبَادَاتِ دُونَ ما عَدَاهُ تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ قال الصَّفِيُّ الْأَصْفَهَانِيُّ في نُكَتِهِ أَعْلَى الْأَقْسَامِ ما يَكُونُ الْأَصْلُ شَاهِدًا بِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ في عَيْنِ الْحُكْمِ وَجِنْسِهِ في جِنْسِهِ لِأَنَّ اعْتِبَارَهُ بِأَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ يَكْفِي في الِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الظَّنَّ بِالْحُكْمِ فإذا تَقَوَّى بِوَجْهَيْ الِاعْتِبَارِ كان اعْتِبَارُهُ أَحْرَى وَذَلِكَ كَاعْتِبَارِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ في قَتْلِ الذِّمِّيِّ وَالْعَبْدِ فإن عَيْنَهُ مُعْتَبَرَةٌ في عَيْنِ الْحُكْمِ في حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْحُرِّ وهو مَشْهُودٌ له بِاعْتِبَارِ جِنْسِ الْجِنَايَةِ في جِنْسِ الْعُقُوبَةِ وَيَلِيه ما يُعْتَبَرُ عَيْنُهُ في عَيْنِ الْحُكْمِ كَتَعْلِيلِ تَحْرِيمِ السُّكْرِ بِالْإِسْكَارِ
____________________
(4/197)
وَيَلِيه ما تُؤَثِّرُ عَيْنُهُ في جِنْسِ الْحُكْمِ كَتَأْثِيرِ الصِّغَرِ في وِلَايَةِ النِّكَاحِ لِظُهُورِ تَأْثِيرِ الصِّغَرِ في جِنْسِ وِلَايَةِ النِّكَاحِ وهو وِلَايَةُ الْمَالِ وَيَلِيه ما يُؤَثِّرُ جِنْسُهُ في جِنْسِ الْحُكْمِ كَتَعْلِيلِ نَفْيِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ عن الْحَائِضِ بِعِلَّةِ الْحَرَجِ وَيَلِيه الْمُنَاسِبُ الْغَرِيبُ كَالْمُطَلَّقَةِ في مَرَضِ الْمَوْتِ وَلَيْسَ بَعْدَهُ إلَّا الْمُنَاسِبُ الْعَارِي عن الْأَصْلِ وهو الْمُرْسَلُ هو حُجَّةٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا انْتَهَى وقال غَيْرُهُ الْمُنَاسَبَةُ مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ أَمَّا في جَانِبِ الْحُكْمِ فَأَعَمُّ مَرَاتِبِ الْحُكْمُ كَوْنُهُ حُكْمًا ثُمَّ يَنْقَسِمُ إلَى الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ من الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَغَيْرِهِمَا ثُمَّ الْوَاجِبُ منها إلَى عِبَادَةٍ وَغَيْرِهَا ثُمَّ الْعِبَادَةُ إلَى بَدَنِيَّةٍ وَغَيْرِهَا ثُمَّ الْبَدَنِيَّةُ إلَى الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا ثُمَّ الصَّلَاةُ إلَى فَرْضِ عَيْنٍ وَإِلَى فَرْضِ كِفَايَةٍ فما ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ في فَرْضِ الْعَيْنِ أَخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ في مُطْلَقِ الْفَرْضِ وما ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ في مُطْلَقِ الْفَرْضِ أَخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ في جِنْسِ الْفَرْضِ وهو الصَّلَاةُ وما ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ في الصَّلَاةِ أَخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ في جِنْسِهَا وهو الْعِبَادَةُ وما ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ في جِنْسِهَا وهو الْوَاجِبُ أَخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ في جِنْسِهِ وهو الْحُكْمُ التَّنْبِيهُ الثَّانِي حَيْثُ أَطْلَقُوا اعْتِبَارَ الْجِنْسِ في الْحُكْمِ وفي الْوَصْفِ فَلَا يُرِيدُونَ بِهِ جِنْسَ الْأَجْنَاسِ وهو كَوْنُ الْوَصْفِ مَصْلَحَةً وَكَوْنُ الْحُكْمِ خِطَابًا وَلَوْ أَرَادُوا ذلك لَكَانَ كُلُّ وَصْفٍ مَشْهُودًا له فَعَلَى هذا جِنْسُ الْأَجْنَاسِ لَا يُعْتَبَرُ وَنَوْعُ الْأَنْوَاعِ لَا يُشْتَرَطُ وَالْمُعْتَبَرُ ما بين هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ نعم الشَّأْنُ في ضَبْطِ ذلك وقال الْغَزَالِيُّ من مَارَسَ الْفِقْهَ وَتَرَقَّى عن رُتْبَةِ الشَّادِّينَ فيه وَنَظَرَ في مَسَائِلِ الِاعْتِبَارِ تَبَيَّنَ له أَنَّ الْمَعْنَى الْمُخَيَّلُ لَا يَعُمُّ وُجُودُهُ الْمَسَائِلَ بَلْ لو قِيلَ لَا يَطَّرِدُ على الْإِخَالَةِ الْمُعْتَبَرَةِ عُشْرُ الْمَسَائِلِ لم يَكُنْ الْقَائِلُ مُجَازِفًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَسْأَلَةٌ الْمُنَاسَبَةُ هل تَنْخَرِمُ بِالْمُعَارَضَةِ هذا على قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَأْتِيَ بِمُعَارِضٍ يَدُلُّ على انْتِفَاءِ الْمَصْلَحَةِ فَهُوَ قَادِحٌ بِلَا خِلَافٍ الثَّانِي أَنْ يَأْتِيَ بِمُعَارِضٍ يَدُلُّ على وُجُودِ مَفْسَدَةٍ أو فَوَاتِ مَصْلَحَةٍ تُسَاوِي الْمَصْلَحَةَ أو تُرَجَّحُ عليها كما لو قِيلَ في مُعَارَضَةِ كَوْنِ الْوَطْءِ إذْلَالًا بِأَنَّ فيه إمْتَاعًا وَمَدْفَعًا لِضَرَرِ الشَّبَقِ فَهَلْ تَبْطُلُ الْمُنَاسَبَةُ فيه مَذْهَبَانِ أَحَدُهُمَا نعم وَعُزِيَ لِلْأَكْثَرِينَ
____________________
(4/198)
وَاخْتَارَهُ ابن الْحَاجِبِ وَالصَّيْدَلَانِيُّ لِأَنَّ دَفْعَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ على جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَلِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ أَمْرٌ عُرْفِيٌّ وَالْمَصْلَحَةَ إذَا عَارَضَهَا ما يُسَاوِيهَا لم تَعُدْ عِنْدَ أَهْلِ الْعُرْفِ مَصْلَحَةً وَالثَّانِي اخْتَارَهُ الرَّازِيَّ وَالْبَيْضَاوِيُّ أنها لَا تَبْطُلُ وَاخْتَارَهُ الشَّرِيفُ في جَدَلِهِ وَرُبَّمَا نَقَلَ عن ظَاهِرِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَالْمَعْنَى من انْخِرَامِهَا وَبُطْلَانِهَا هو أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْعَقْلُ مُنَاسَبَتَهَا لِلْحُكْمِ إذْ ذَاكَ فَلَا يَكُونُ لها أَثَرٌ في اقْتِضَاءِ الْحُكْمِ لَا أَنَّهُ يَلْزَمُ خُلُوُّ الْوَصْفِ عن اسْتِلْزَامِ الْمَصْلَحَةِ وَذَهَابِهَا عنه فإن ذلك لَا يَكُونُ مُعَارِضًا وَاعْلَمْ أَنَّ النِّزَاعَ إنَّمَا هو في اخْتِلَالِ الْمُنَاسِبِ الْمَصْلَحِيِّ بِمُعَارِضَةِ مِثْلِهِ أو أَرْجَحَ منه في الْمَفْسَدَةِ أَمَّا الْعَمَلُ بِهِ فَمَمْنُوعٌ مِمَّنْ أَثْبَتَ اخْتِلَالَ الْمُنَاسَبَةِ وَأَمَّا من لم يُثْبِتْهُ تَصَرَّفَ في الْعَمَلِ بِهِ على ما سَبَقَ بِالتَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا وَالْوَاجِبُ هَاهُنَا امْتِنَاعُ الْعَمَلِ بِهِ لِلُزُومِ التَّرْجِيحِ بِلَا مُرَجِّحٍ أو الْتِزَامِ الْمَفْسَدَةِ الرَّاجِحَةِ فَيَسْتَوِي الْفَرِيقَانِ في تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ لَكِنْ اخْتَلَفَا في الْمَأْخَذِ فَالْأَوَّلُ يَتْرُكُهُ لِاخْتِلَالِ مُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ وَالْآخَرُ يَتْرُكُهُ لِمُعَارَضَةِ الْمُقَاوِمِ أو الرَّاجِحِ فَتَرْكُ الْعَمَلِ مُتَّفَقٌ عليه لَكِنَّ طَرِيقَهُ مُخْتَلِفٌ فيه كَذَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ وقد حَقَّقَ الْأَصْفَهَانِيُّ الْخِلَافَ فقال اعْلَمْ أَنَّ ذَاتَ الْوَصْفِ مُغَايِرَةٌ لِلْمُنَاسَبَةِ قَطْعًا فَإِنْ كان الْمُدَّعِي أَنَّ ذَاتَ الْوَصْفِ الْمَصْلَحِيِّ تَبْطُلُ إذَا عَارَضَتْهَا مَفْسَدَةٌ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فإن ذَاتَ الْوَصْفِ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ لَا تَبْطُلُ بِالْمُعَارِضَةِ وَإِنْ كان الْمُدَّعِي أَنَّ مُنَاسَبَتَهُ تَبْطُلُ وَمَعْنَى الْمُنَاسَبَةِ اقْتِضَاؤُهَا لِلْحُكْمِ وَاسْتِدْعَاؤُهَا له فَالْحَقُّ أنها تَبْطُلُ وَإِنْ شِئْت قُلْت الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْمُنَاسَبَةِ يَسْتَدْعِي سَلَامَتَهَا عن الْمُعَارِضِ وَالْمَعْنَى بِالْمُنَاسَبَةِ على هذا كَوْنُ الْوَصْفِ مَصْلَحِيًّا وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا يَتَّجِهُ من الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ أَمَّا من قال بِتَخْصِيصِهَا فيقول بِبَقَاءِ الْمُنَاسَبَتَيْنِ أو اجْتِمَاعِ جِهَتَيْ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ التَّفْرِيعُ إنْ قُلْنَا إنَّهَا تَبْطُلُ الْتَحَقَ الْوَصْفُ بِالطَّرْدِيَّاتِ وَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِهِ إلَّا بِتَرْجِيحِ الْمَصْلَحَةِ على الْمَفْسَدَةِ كَأَنْ يُقَالَ الْحُكْمُ في الْأَصْلِ مُضَافٌ إلَى الْمَصْلَحَةِ الْفُلَانِيَّةِ وَهِيَ رَاجِحَةٌ على ما عَارَضَهَا من الْمَفْسَدَةِ وَإِلَّا لَزِمَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى غَيْرِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ الْمَرْجُوحَةِ أو إلَى مَصْلَحَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا أو لَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى شَيْءٍ أَصْلًا وَالْكُلُّ بَاطِلٌ وَإِنْ قُلْنَا لَا تَبْطُلُ بَقِيَ الْوَصْفُ على مُنَاسَبَتِهِ وَيَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهِ وَيَحْتَاجُ الْمُعَارِضُ إلَى أَصْلٍ يَشْهَدُ له بِالِاعْتِبَارِ
____________________
(4/199)
الْمَسْلَكُ السَّادِسُ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ وَيُسَمِّيه الْمَنْطِقِيُّونَ الْقِيَاسُ الشَّرْطِيُّ الْمُنْفَصِلُ فَإِنْ لم يَكُنْ تَقْسِيمًا سَمُّوهُ بِالْمُتَّصِلِ وهو لُغَةً الِاخْتِبَارُ وَمِنْهُ الْمِيلُ الذي يُخْتَبَرُ بِهِ الْجُرْحُ الذي يُقَالُ له الْمِسْبَارُ وَسُمِّيَ هذا بِهِ لِأَنَّ الْمُنَاظِرَ في الْعِلَّةِ يَقْسِمُ الصِّفَاتِ وَيَخْتَبِرُ كُلَّ وَاحِدٍ منها في أَنَّهُ هل يَصْلُحُ لِلْعِلِّيَّةِ أَمْ لَا وقد أُشِيرَ إلَيْهِ في قَوْله تَعَالَى ما اتَّخَذَ اللَّهُ من وَلَدٍ وما كان معه من إلَهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وقَوْله تَعَالَى أَمْ خُلِقُوا من غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ فإن هذا تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ لِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ خَلْقُهُمْ من غَيْرِ خَالِقٍ خَلَقَهُمْ وَكَوْنُهُ يَخْلُقُونَ أَنْفُسَهُمْ أَشَدُّ امْتِنَاعًا فَعُلِمَ أَنَّ لهم خَالِقًا خَلَقَهُمْ وهو سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الدَّلِيلَ بِصِيغَةِ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ هذه الصِّيغَةَ الْمُسْتَدَلُّ بها بِطَرِيقَةٍ بَدِيهِيَّةٍ لَا يُمْكِنُ إنْكَارُهَا وفي قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِعُمَرَ في ابْنِ صَيَّادٍ إنْ يَكُنْ هو فَلَنْ تُسَلَّطَ عليه وَإِنْ لم يَكُنْ هو فَلَا خَيْرَ لَك في قَتْلِهِ وهو قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَدُورَ بين النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وهو الْمُنْحَصِرُ وَالثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ وهو الْمُنْتَشِرُ فَالْأَوَّلُ أَنْ يَحْصُرَ الْأَوْصَافَ التي يُمْكِنُ التَّعْلِيلُ بها لِلْمَقِيسِ عليه ثُمَّ اخْتِبَارُهَا وَإِبْطَالُ ما لَا يَصْلُحُ منها بِدَلِيلِهِ إمَّا بِكَوْنِهِ طَرْدًا أو مُلْغًى أو نَقْضِ الْوَصْفِ أو كَسْرِهِ أو خَفَائِهِ وَاضْطِرَابِهِ فَيَتَعَيَّنُ الْبَاقِي لِلْعِلِّيَّةِ وهو قَطْعِيٌّ لِإِفَادَةِ الْعِلَّةِ وَيَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ في الْقَطْعِيَّاتِ وَالظَّنِّيَّاتِ فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِنَا الْعَالَمُ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أو حَادِثًا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا فَثَبَتَ أَنَّهُ حَادِثٌ وَالثَّانِي كَقَوْلِنَا وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ إمَّا أَنْ لَا تُعَلَّلَ أو تُعَلَّلَ بِالْبَكَارَةِ أو الصِّغَرِ أو الْأُبُوَّةِ أو غَيْرِهَا وَالْكُلُّ بَاطِلٌ سِوَى الثَّانِي فَالْأَوَّلُ بِالْإِجْمَاعِ وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ لِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا فَيَتَعَيَّنُ الثَّانِي قال الْهِنْدِيُّ وَحُصُولُ هذا الْقَسْمِ في الشَّرْعِيَّاتِ عَسِرٌ جِدًّا أَيْ على وَجْهِ التَّنْقِيبِ
____________________
(4/200)
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ في الْأَصْلِ مُعَلَّلًا بِمُنَاسِبٍ خِلَافًا لِلْغَزَالِيِّ وَيَلْتَحِقُ بِهِ الطَّرْدِيُّ إذَا قام الْإِجْمَاعُ على أَصْلِ تَعْلِيلِهِ كما لو قام الْإِجْمَاعُ على تَعْلِيلِ حُكْمٍ بِأَحَدِ أَوْصَافٍ ثُمَّ قام الدَّلِيلُ على إبْطَالِهَا كُلِّهَا خَلَا وَاحِدًا فَيَتَعَيَّنُ لِلتَّعْلِيلِ وَإِنْ كان طَرْدِيًّا وَإِلَّا اخْتَلَفَ الْإِجْمَاعُ وهو مُلَخَّصُ ما اخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَأَنْ يَقَعَ الِاتِّفَاقُ على أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَرْكِيبَ فيها كما في مَسْأَلَةِ الرِّبَا وَأَمَّا في غَيْرِهَا فَلَا يَكْفِي فإنه وَإِنْ بَطَلَ كَوْنُهُ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً جَازَ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا من أَجْزَائِهَا وإذا انْضَمَّ إلَى غَيْرِهِ صَارَ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكْفِي في إبْطَالِ سَائِرِ الْأَقْسَامِ الِاسْتِدْلَال على أَنَّهُ ليس وَاحِدٌ منها عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً بَلْ لَا بُدَّ من إبْطَالِ كَوْنِ الْمَجْمُوعِ عِلَّةً أو جُزْءًا من الْعِلَّةِ وَأَنْ يَكُونَ حَاصِرًا لِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ وَطَرِيقُهُ أَنْ يُوَافِقَهُ الْخَصْمُ على انْحِصَارِهَا فِيمَا ذَكَرَ أو يَعْجِزَ عن إظْهَارِ زَائِدٍ وَإِلَّا فَيَكْفِي الْمُسْتَدِلُّ أَنْ يَقُولَ بَحَثْت عن الْأَوْصَافِ فلم أَجِدْ مَعْنًى سِوَى ما ذَكَرْته أو الْأَصْلُ عَدَمُ ما سِوَاهَا وَاكْتَفَوْا في حَصْرِ الْأَوْصَافِ بِعَدَمِ الْوِجْدَانِ وَهَذَا إذَا كان أَهْلًا لِلْبَحْثِ وَنَازَعَ في ذلك بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فإن ذلك يَحْتَاجُ إلَى الِاطِّلَاعِ على جَمِيعِ النُّصُوصِ ثُمَّ إلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ وُجُوهِ الدَّلَالَاتِ وَهَذَا عَسِرٌ جِدًّا وقد يَكُونُ عِلْمُهُ قَلِيلًا وَفَهْمُهُ نَاقِصًا وَكَذَلِكَ قال الصَّفِيُّ الْأَصْفَهَانِيُّ في نُكَتِهِ من الْفَاسِدِ قَوْلُ الْمُعَلِّلِ في جَوَابِ طَالِبِ الْحَصْرِ بَحَثْت وَسَبَرْت فلم أَجِدْ غير هذه الْأَشْيَاءِ فَإِنْ ظَفِرْت بِعِلَّةٍ أُخْرَى فَأَبْرِزْهَا وَإِلَّا يَلْزَمُك ما يَلْزَمُنِي قال وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ سِبْرَهُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا لِأَنَّ الدَّلِيلَ ما يُعْلَمُ بِهِ الْمَدْلُولُ وَمُحَالٌ أَنْ يَعْلَمَ طَالِبُ الْحَصْرِ الِانْحِصَارَ بِبَحْثِهِ وَنَظَرِهِ وَجَهْلُهُ لَا يُوجِبُ على خَصْمِهِ أَمْرًا وَاخْتَارَ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ التَّفْصِيلَ بين الْمُجْتَهِدِ وَغَيْرِهِ ثُمَّ إنْ كان مُجْتَهِدًا رَجَعَ إلَى ما يَغْلِبُ على ظَنِّهِ وَإِنْ كان مُنَاظِرًا ولم يُسَاعِدْهُ الْخَصْمُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ إبْدَاءُ كَيْفِيَّةِ السَّبْرِ اخْتَلَفُوا فيه على قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّ دَرْءُ قَوْلِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَهُ تَقْسِيمٌ مُتَوَجِّهٌ لم يَذْكُرْهُ وأصحهما وَاخْتَارَهُ في الْمَنْخُولِ أَنَّهُ لَا بُدَّ من إبْدَاءِ كَيْفِيَّةِ السَّبْرِ لِيَكُونَ دَلِيلًا غير مُقْتَصَرٍ على مُجَرَّدِ الدَّعْوَى وَلَيْسَ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ لم يُبْحَثْ أو يُسْبِرْ أو هو غَرِيبٌ وَلَا أَنْ يَقُولَ بَقِيَ وَصْفٌ آخَرُ وَلَا أُبْرِزُهُ تَنْبِيهٌ لم يَحْكُوا خِلَافًا في هذا الْقِسْمِ وَرَأَيْت في كِتَابِ ابْنِ فُورَكٍ إذَا كانت في الْمَسْأَلَةِ عِلَلٌ فَفَسَدَتْ إلَّا وَاحِدَةٌ هل ذلك دَلِيلٌ على صِحَّتِهَا وَجْهَانِ الصَّحِيحُ
____________________
(4/201)
نعم إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ في وَاحِدٍ منها وَثَبَتَ أَنَّ ما عَدَاهَا فَاسِدٌ فَعُلِمَ أَنَّ الْحَقَّ فيها أو لَا يَجُوزُ خُرُوجُ الْحَقِّ عن جَمَاعَتِهَا انْتَهَى الْقِسْمُ الثَّانِي وهو الْمُنْتَشِرُ بِأَنْ لَا يَدُورَ بين النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ أو دَارَ وَلَكِنْ كان الدَّلِيلُ على نَفْيِ عِلِّيَّةِ ما عَدَا الْوَصْفِ الْمُعَيَّنِ فيه ظَنًّا فَاخْتَلَفُوا فيه على مَذَاهِبَ الْأَوَّلُ أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا لَا في الْقَطْعِيَّاتِ وَلَا في الظَّنِّيَّاتِ وَحَكَاهُ في الْبُرْهَانِ عن بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ الثَّانِي أَنَّهُ حُجَّةٌ في الْعَمَلِيَّاتِ فَقَطْ لِأَنَّهُ يُثِيرُ غَلَبَةَ الظَّنِّ وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن بَرْهَانٍ وقال الْهِنْدِيُّ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَمَثَّلَ ابن بَرْهَانٍ اسْتِعْمَالَهُ في الْقَطْعِيِّ هُنَا بِقَوْلِ أَصْحَابِنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَرَى لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَكُلُّ مَوْجُودٍ يَصِحُّ أَنْ يَرَى وفي الظَّنِّيِّ بِقَوْلِهِمْ الْإِيلَاءُ إمَّا أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا أو يَمِينًا فإذا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا ثَبَتَ أَنَّهُ يَمِينٌ فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَا طَلَاقًا وَلَا يَمِينًا وَلَهُ حُكْمٌ آخَرُ قُلْنَا نَحْنُ لَا نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ له في الشَّرْعِ حُكْمٌ آخَرُ فَلَا يَكُونُ طَلَاقًا وَلَا يَمِينًا وَلَكِنَّ الذي يَغْلِبُ على ظَنِّنَا هو هذا الْقَدْرُ وَالْمَقْصُودُ إظْهَارُ غَلَبَةِ الظَّنِّ وَهِيَ حَاصِلَةٌ انْتَهَى وَالثَّالِثُ أَنَّهُ حُجَّةٌ لِلنَّاظِرِ دُونَ الْمُنَاظِرِ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْأَسَالِيبِ بِقَيْدٍ تَضَمَّنَ إبْطَالَ مَذْهَبِ الْخَصْمِ دُونَ تَصْحِيحِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ إذْ لَا يَمْنَعُ أَنْ يُقَالَ ما أَبْطَلْته بَاطِلٌ وما اخْتَرْته بَاطِلٌ وَالْحُكْمُ في الْأَصْلِ الذي وَقَعَ الْبَحْثُ فيه غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلَا يَصْلُحُ السَّبْرُ لِإِثْبَاتِ مَعْنَى الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَصْلُحُ لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْخَصْمِ وَحَكَى الْقَاضِي ابن الْعَرَبِيِّ في الْقَبَسِ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ وَعَزَاهُ لِلشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ وَالْقَاضِي وَسَائِرِ الْأَصْحَابِ قال وهو الصَّحِيحُ فَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ ضِمْنًا وَتَصْرِيحًا في مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فَمِنْ الضِّمْنِ قَوْلُهُ وَقَالُوا ما في بُطُونِ هذه الْأَنْعَامِ إلَى قَوْلِهِ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَمِنْ التَّصْرِيحِ قَوْلُهُ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ إلَى قَوْلِهِ الظَّالِمِينَ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ ما ذَكَرْنَاهُ أَنَّ هذا النَّوْعَ من الْمَسَالِكِ هو الْمَشْهُورُ وَنَازَعَ فيه جَمَاعَةٌ من الْمُتَأَخِّرِينَ منهم أبو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ في جَدَلِهِ فقال إنَّهُ شَرْطٌ لَا دَلِيلٌ لِأَنَّ الْوَصْفَ
____________________
(4/202)
الذي يَنْفِيه السَّبْرُ إمَّا أَنْ يَقْطَعَ بِمُنَاسَبَتِهِ فَهُوَ التَّخْرِيجُ أو يَعْرُوَ عنها فَهُوَ الطَّرْدِيُّ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُعَلِّلَ بِهِ أو لَا يَقْطَعَ بِوُجُودِهِ فيه وَلَا عَدَمِهَا فَهُوَ الشَّبَهُ فَلَا بُدَّ في الْعِلَّةِ من اعْتِبَارِ وُجُودِ الْمَصْلَحَةِ أو صَلَاحِيَّتِهَا لِذَلِكَ وَيَلْزَمُ منه ما ذَكَرْنَاهُ إلَّا أَنَّ التَّقْسِيمَ إذَا كان دَائِرًا بين النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَأُبْطِلَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ مَثَلًا تَعَيَّنَ الْمَطْلُوبُ في الثَّانِي قَطْعًا كَقَوْلِنَا الْعَالَمُ إمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا حَادِثٌ مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا لِكَذَا فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا فإن هذا وَنَحْوَهُ بُرْهَانٌ قَطْعِيٌّ وهو الْمُسَمَّى عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّ ب الشَّرْطِيِّ الْمُتَّصِلِ وقال في أُصُولِهِ أَكْثَرُ النُّظَّارِ عَدُّوا هذا الْمَسْلَكَ دَلِيلًا على التَّعْلِيلِ وَفِيهِ نَظَرٌ وَذَلِكَ أَنَّ ما يَنْفِيه السَّبْرُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ظَاهِرَ الْمُنَاسَبَةِ وهو قِيَاسُ الْعِلَّةِ أو صَالِحًا لها وهو الشَّبَهُ فَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ على التَّعْلِيلِ هُنَا هو الْمُنَاسَبَةُ غير أَنَّ السَّبْرَ عَيْنُ دَلِيلِ الْوَصْفِ فَالسَّبْرُ إذَنْ شَرْطٌ لَا دَلِيلٌ وَكَذَلِكَ في سَائِرِ الْمَسَالِكِ النَّظَرِيَّةِ فَلَيْسَ مَسْلَكًا بِنَفْسِهِ بَلْ هو شَرْطُ الْمَسَالِكِ النَّظَرِيَّةِ وقد حُكِيَ عن قَوْمٍ من الْأُصُولِيِّينَ في الدَّوَرَانِ أَنَّهُ شَرْطٌ لِلْعِلَّةِ لَا تَثْبُتُ مع دَلِيلٍ عليها وهو يَتَمَشَّى مع ما ذَكَرْنَاهُ في السَّبْرِ وهو الصَّحِيحُ انْتَهَى وقد جَزَمَ الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى بِأَنَّهُ إذَا اسْتَقَامَ لم يَحْتَجْ إلَى مُنَاسَبَةٍ وَنَازَعَهُ شَارِحُهُ الْعَبْدَرِيّ أَيْضًا لِاعْتِقَادِهِ بِأَنَّ السَّبْرَ ليس من مَسَائِلِ الْعِلَّةِ وَإِنَّمَا هو خَادِمٌ لِلْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ أَيْ بِهِ يَتَقَيَّدُ الْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ الْمُخْتَلِطُ بِغَيْرِهِ وقال الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ السَّبْرُ يَرْجِعُ إلَى اخْتِبَارٍ في أَوْصَافِ الْمَحَلِّ وَضَبْطِهَا وَالتَّقْسِيمُ يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ ما يَظْهَرُ إبْطَالُهُ فيها فَإِذَنْ لَا يَكُونُ من الْأَدِلَّةِ بِحَالٍ وَإِنَّمَا تَسَامَحَ الْأُصُولِيُّونَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّلِيلِ هو الذي دَلَّ على أَنَّ الْعِلَّةَ في جُمْلَةِ الْأَوْصَافِ وَالدَّلِيلُ الثَّانِي دَلَّ على التَّعْيِينِ وَإِلَّا فَالسَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ ليس هو دَلِيلًا قال وَلَا بُدَّ فيه من ثَلَاثَةِ أُمُورٍ إحْدَاهَا أَنْ يَتَبَيَّنَ الْمَطْلُوبُ في الْجُمْلَةِ وَثَانِيهَا سَبْرٌ خَاصٌّ وَثَالِثُهَا إبْطَالُ ما عَدَا الْمُخْتَارِ فَإِنْ كانت هذه مَعْلُومَةً حَصَلَ الْعِلْمُ بِالْمَطْلُوبِ وَإِلَّا فَلَا بَلْ تَحْصُلُ غَلَبَةُ الظَّنِّ ثُمَّ إنْ كان الْمَوْضِعُ مِمَّا يُكْتَفَى فيه بِغَلَبَةِ الظَّنِّ اُكْتُفِيَ بِهِ وَإِلَّا فَلَا قال وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فيه خِلَافٌ وَلَيْسَ كما قال وقال ابن الْمُنِيرِ في شَرْحِهِ زَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ السَّبْرَ إذَا دَارَ بين النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَهُوَ التَّقْسِيمُ وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ في الْعَقْلِيَّاتِ وَإِلَّا فَهُوَ السَّبْرُ وَلَيْسَ كما زَعَمَ بَلْ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ مُتَغَايِرَانِ مُتَلَازِمَانِ في الدَّلَالَةِ في الْعَقْلِيَّاتِ وفي الْفِقْهِيَّاتِ سَوَاءٌ دَارَتْ الْقِسْمَةُ بين النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ أَمْ لَا فَالسَّبْرُ إذَنْ في الْعَقْلِيَّاتِ اخْتِبَارُ الْمُقَدَّرَاتِ لِيَنْظُرَ
____________________
(4/203)
أَيُّهَا الْحَقُّ وَالتَّقْسِيمُ أَنْ يَقْسِمَ الصِّحَّةَ وَالْبُطْلَانَ بَيْنَهُمَا فَيَعْتَبِرَ ما هو الْعِلَّةُ وَيُلْغِي ما ليس بِعِلَّةٍ وقد بَانَ لَك بهذا أَنَّ الدَّلِيلَ ليس نَفْسَ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ وَإِنَّمَا الدَّلِيلُ هو الذي أَوْجَبَ إضَافَةَ الْعِلِّيَّةِ إلَى الْعِلَّةِ وهو الْإِجْمَاعُ على أَنَّ أَحَدَ الْأَوْصَافِ عِلَّةٌ مع دَلِيلِ إلْغَاءِ سَائِرِ الْأَوْصَافِ إلَّا الْمُبْقَى فَيَتَعَيَّنُ وَتَقْرِيرُ الْإِجْمَاعِ على أَنَّ أَحَدَ الْأَوْصَافِ عِلَّةُ الِاسْتِقْرَاءِ من سِبْرِ الْأَوَّلِينَ فَإِنَّهُمْ عَلَّلُوا الْأَحْكَامَ بِجُمْلَتِهَا أو عَلَّلُوا أَكْثَرَهَا وَالْأَكْثَرِيَّةُ مُلْحَقَةٌ بِالْعُمُومِ وَحَكَمُوا بِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَعْدُو أَوْصَافَ الْمَحَلِّ فَيَجِبُ إلْحَاقُ كل صُورَةٍ بِالْعَامِّ أو بِالْأَغْلَبِ وَتَقْرِيرُ إبْطَالِ ما عَدَا الْمُبْقَى يَكُونُ بِأَدِلَّةِ الْإِبْطَالِ كَبَيَانِ أَنَّ الْأَوْصَافَ طَرْدِيَّةٌ أو لَا مُنَاسَبَةَ فيها أو يقول بَحَثْت فلم تَظْهَرْ لي مُنَاسَبَةٌ قال وفي الِاكْتِفَاءِ بِالثَّانِي إشْكَالٌ فإن الْمُبْقَى لم تَظْهَرْ مُنَاسَبَتُهُ أَيْضًا وَإِلَّا بَطَلَتْ فَائِدَةُ السَّبْرِ وَخُصُوصِيَّتُهُ وَكَبَيَانِ الْإِلْغَاءِ في الْأَوْصَافِ لِوُجُودِ الْحُكْمِ في غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ بِالْمُبْقَى مُنْفَرِدًا عن غَيْرِهِ من الْأَوْصَافِ فَيَنْدَفِعُ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الْمُبْقَى جُزْءَ عِلَّةٍ مع بَقِيَّةِ الْأَوْصَافِ قال وَمِنْ الْأَسْئِلَةِ الْعَاصِمَةِ لِمَسْلَكِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ أَنَّ الْمُبْقَى لَا يَخْلُو في نَفْسِ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا أو شَبَهًا أو طَرْدًا خَالِيًا لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَشْتَمِلَ على مَصْلَحَةٍ أو لَا فَإِنْ اشْتَمَلَ على مَصْلَحَةٍ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُنْضَبِطَةً لِلْفَهْمِ أو كُلِّيَّةً لَا تَنْضَبِطُ فَالْأَوَّلُ الْمُنَاسِبُ وَالثَّانِي الشَّبَهُ وَإِنْ لم يَشْتَمِلْ على مَصْلَحَةٍ أَصْلًا فَهُوَ الطَّرْدُ الْمَرْدُودُ فَإِنْ كان ثَمَّ مُنَاسَبَةٌ أو شَبَهٌ لَغَا السَّبْرَ وَالتَّقْسِيمَ فَإِنْ كان عُرْيًا عن الْمُنَاسَبَةِ قَطْعًا لم يَنْفَعْ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ أَيْضًا فَإِنْ قُلْت يَنْفَعُ في حَمْلِ النَّظَرِ في الْمُنَاسَبَةِ على الْمُجْتَهِدِ قُلْت لَا يُحْمَلُ ذلك عنه لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ عِنْدَنَا أَمْرٌ وُجُودِيٌّ مَكْشُوفٌ حتى يُقَالَ إنَّهُ ذَوْقِيٌّ أو ضَرُورِيٌّ كَالْمَحْسُوسِ فَالْمُجْتَهِدُ إذًا يَعْلَمُهُ إذَا لم يَذُقْ فيه مَصْلَحَةً مُنْضَبِطَةً وَلَا غَيْرَهَا أَنَّهُ لَا مُنَاسِبَ وَلَا شَبَهَ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ طَرْدٌ التَّنْبِيهُ الثَّانِي نَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن الْقَاضِي أَنَّ السَّبْرَ وَالتَّقْسِيمَ من أَقْوَى ما تَثْبُتُ بِهِ الْعِلَلُ وَاسْتَشْكَلَهُ وَوَجَّهَهُ الْإِبْيَارِيُّ بِأَنَّ مُثْبِتَ الْعِلَّةِ بِالْمُنَاسَبَةِ أو الشَّبَهِ يُكْتَفَى منه في النَّظَرِ بِذَلِكَ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُبْدِيَ الْخَصْمُ مُعَارِضًا رَاجِحًا وَأَمَّا إذَا أَسْنَدَ إلَى السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ فَقَدْ وَفَّى الْوَظِيفَةَ من أَوَّلِ الْأَمْرِ ولم يَبْقَ مُتَوَقِّعًا ظُهُورَ ما يَقْدَحُ أو يَضُرُّ وَنَازَعَهُ ابن الْمُنِيرِ وقال نَحْنُ نَدْفَعُ أَصْلَ كَوْنِهِ مَسْلَكًا فَضْلًا عن كَوْنِهِ مُتَمَيِّزًا وَقَوْلُهُ سَلَفٌ إبْطَالُ
____________________
(4/204)
الْمُعَارَضَاتِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّهُ وَضَعَ النَّظَرَ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ إذَا لم يَقْدِرْ على دَفْعِ الْمُعَارَضَاتِ وَجَعَلَ ذلك كَافِيًا في التَّصْحِيحِ فَأَيْنَ الدَّلِيلُ الذي ذَبَّ الْمُعَارِضَاتِ عنه وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِالْمُنَاسَبَاتِ فإنه وَجْهُ الدَّلِيلِ وَهِيَ الْمُعَارَضَاتُ بِالْأَصْلِ فَإِنَّا ما نُلْحِقُ بِهِ من اشْتَغَلَ بِدَفْعِ الْمُعَارَضَاتِ وَقَنَعَ بِذَلِكَ دَلِيلًا التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ إنْ أَبْدَى الْمُعْتَرِضَ وَصْفًا زَائِدًا لم يُكَلَّفْ بِبَيَانِ صَلَاحِيَّتِهِ لِلتَّعْلِيلِ وَلَا يَنْقَطِعُ الْمُسْتَدِلُّ بِمُجَرَّدِ ذلك حتى يَعْجَزَ عن إبْطَالِهِ بَلْ له عَدَمُ اعْتِبَارِهِ بِطُرُقٍ أَحَدُهَا بَيَانُ بَقَاءِ الْحُكْمِ مع عَدَمِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ في بَعْضِ الصُّوَرِ كَقَوْلِنَا يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ عَاقِلٌ مُسْلِمٌ غَيْرُ مُتَّهَمٍ كَالْحُرِّ فيقول الْحَنَفِيُّ الْعِلَّةُ ثَمَّ وَصْفٌ زَائِدٌ وهو الْحُرِّيَّةُ مَفْقُودٌ في الْعَبْدِ فيقول الْمُسْتَدِلُّ وَصْفُ الْحُرِّيَّةِ مُلْغًى في الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ له فإن أَمَانَهُ يَصِحُّ بِاتِّفَاقِ عَدَمِ الْحُرِّيَّةِ فَصَارَ وَصْفًا لَاغِيًا لَا تَأْثِيرَ له في الْحُكْمِ ثَانِيهَا أَنْ يُبَيِّنَ كَوْنَهُ وَصْفًا طَرْدِيًّا وَلَوْ في ذلك الْحُكْمِ كَقَوْلِنَا سَرَى الْعِتْقُ في الْأَمَةِ كَالْعَبْدِ بِجَامِعِ الرِّقِّ إذْ لَا عِلَّةَ غَيْرَهُ فَإِنْ قال في الْأَصْلِ وَصْفٌ زَائِدٌ وهو الذُّكُورَةُ الْمُحَصِّلَةُ لِلْكَسْبِ فَنَقُولُ هو وَصْفٌ لم يَعْتَبِرْهُ الشَّرْعُ في بَابِ الْعِتْقِ وقد يَتَّفِقَانِ على إبْطَالِ ما عَدَا وَصْفَيْنِ فَيَكْفِي الْمُسْتَدِلُّ التَّرْدِيدُ بَيْنَهُمَا ثَالِثُهُمَا أَنْ لَا تَظْهَرَ مُنَاسَبَةُ الْمَحْذُوفِ وقد سَبَقَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِ الْمُنَاظِرِ بَحَثْت فلم أَجِدْ مُنَاسَبَةً على أَحَدِ الرَّأْيَيْنِ فَإِنْ ادَّعَى الْمُعْتَرِضُ أَنَّ الْوَصْفَ الْمُسْتَبْقَى كَذَلِكَ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَدِلِّ بَيَانُ مُنَاسَبَتِهِ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ وَلَكِنْ يُرَجَّحُ سَبْرُهُ لِمُوَافَقَتِهِ لِتَعَدِّيَةِ الْحُكْمِ على سِبْرِ الْمُعْتَرِضِ لِعَدَمِهَا فإن التَّعَدِّيَ أَوْلَى التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ قَسَّمَ إلْكِيَا السَّبْرَ إلَى ما يُسْتَعْمَلُ في الْقَطْعِيَّاتِ وهو الْمُفْضِي إلَى الْيَقِينِ بِأَنْ يَكُونَ حَاصِرًا يَقِينًا بِالدَّوْرِ بين النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ قال وهو الْمُلَقَّبُ ب بُرْهَانِ الْخَلْفِ وكان الْعَقْلُ دَالًّا على أَنَّ الْحَقَّ أَحَدُهُمَا فإذا بَانَ بُطْلَانُ أَحَدِهِمَا تَعَيَّنَ الثَّانِي لِلصِّحَّةِ فَقَدْ قام دَلِيلُ الثَّانِي على الْخُصُوصِ بِبُطْلَانِ ضِدِّهِ وَإِلَى ما يُسْتَعْمَلُ في الظَّنِّيَّاتِ وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ إثْبَاتُ حُكْمِهِ أو دَلِيلِهِ وَالْأَوَّلُ يَكْفِي فيه انْتِهَاءُ السَّبْرِ إلَى حَدِّ الظَّنِّ سَوَاءٌ كان في شَيْئَيْنِ أو أَشْيَاءَ لِأَنَّ الظَّنَّ لَا يَخْتَصُّ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ بَلْ قد يَقَعُ بين شَيْئَيْنِ مُتَعَاقِبَيْنِ كَقَوْلِنَا الْإِيلَاءُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُوجِبَ التَّوَقُّفَ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أو الْبَيْنُونَةَ فلما قام الدَّلِيلُ على أَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ لَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ دَلَّ على أَنَّهُ يُوجِبُ التَّوَقُّفَ إذْ لَا حُكْمَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ
____________________
(4/205)
طَرِيقُ إبْطَالِ أَحَدِهِمَا بَيِّنٌ وَمَسْأَلَةُ اتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ على قَوْلَيْنِ تَقْتَضِي أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْرُجُ عنهما فإذا بَطَلَ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ الْآخَرُ وَالثَّانِي ما عُلِمَ أَنَّ بُطْلَانَ دَلِيلِ الْحُكْمِ دَلِيلٌ على صِحَّةِ الْعِلَلِ إلَّا أَنْ يَتَّفِقَ على كَوْنِهِ مُعَلَّلًا ثُمَّ يَسْبُرُ ما عَدَا الْعِلَّةِ التي يَذْهَبُ إلَيْهَا وَيُبْطِلُهُ فَتَصِحُّ عِلَّتُهُ وَعِنْدَ ذلك لَا يُشْتَرَطُ الدَّلِيلُ عليه بَلْ يَكْفِي ذِكْرُ مُجَرَّدِ الْوَصْفِ وَقِيلَ إذَا لم يَكُنْ مَقْطُوعًا بِهِ فَلَا بُدَّ من النَّظَرِ إلَى تِلْكَ الْعِلَّةِ فَعَسَاهَا تُبْطِلُ هذا فَيَنْظُرُ في غَيْرِهَا وَهَذَا بَعِيدٌ فإن السَّبْرَ لَا يُفِيدُ على هذا التَّقْدِيرِ وَمَقْصُودُنَا أَنَّ الظَّنَّ يَحْصُلُ عِنْدَ ذلك بِمُجَرَّدِ السَّبْرِ وإذا بَطَلَ ذلك فَقَدْ ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هذا يَعْسُرُ وُجُودُهُ وَلَا بُعْدَ عِنْدَنَا في تَقْدِيرِهِ فإن الْعُلَمَاءَ يَتَّفِقُونَ على تَعْلِيلِ الرِّبَا وإذا ثَبَتَ سُبُرًا غير الطُّعْمِ وَالْكَيْلِ ثَبَتَ ما بَقِيَ التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ السَّبْرُ بِالْبَحْثِ وَعَدَمِ الْعُثُورِ يَدْخُلُ في جَمِيعِ الْمَسَالِكِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَلَا خُصُوصَ له بِمَا نَحْنُ فيه مَسْأَلَةٌ قال ابن الْقَطَّانِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا إذَا كان في الْمَسْأَلَةِ عِلَلٌ فَفَسَدَتْ جَمِيعُهَا إلَّا وَاحِدَةً هل يَكُونُ فَسَادُهَا دَلِيلًا على صِحَّةِ هذه فَقِيلَ لَا حتى يَقُومَ دَلِيلٌ على صِحَّتِهَا وَقِيلَ نعم لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ من أَنْ تَكُونَ إحْدَى الْعِلَلِ صَحِيحَةً فإذا بَطَلَ ما عَدَاهَا وقد عَلِمْنَا أَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عنها ثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ صَحِيحَةٌ وَنَصَرَهُ ابن الْقَطَّانِ مَسْأَلَةٌ يَلْتَحِقُ بِالسَّبْرِ قَوْلُهُمْ حُكْمٌ حَادِثٌ فَلَا بُدَّ له من سَبَبٍ حَادِثٍ وَلَا حَادِثَ إلَّا هذا فَيَتَعَيَّنُ إسْنَادُهُ وهو مَعْنَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا الْأَصْلُ في كل حَادِثٍ تَقْدِيرُهُ بِأَقْرَبِ زَمَنٍ إلَّا أَنَّ فِيمَا سَبَقَ سَبْرًا في جَمِيعِ أَوْصَافِ الْمَحَلِّ وَهَذَا في الْأَوْصَافِ الْحَادِثَةِ خَاصَّةً وقد قِيلَ على هذه الطَّرِيقَةِ لَا يَلْزَمُ من أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ حَادِثًا أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ حَادِثًا بَلْ قد يَكُونُ الْحُكْمُ حَادِثًا وَسَبَبُهُ مُتَقَدِّمًا كَإِبَاحَةِ الْوَطْءِ في الزَّوْجَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَيْضِ وَانْقِطَاعِهِ فإنه يَسْتَنِدُ إلَى عَقْدِ النِّكَاحِ الْمُتَقَدِّمِ وَكَذَا تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ زَوَالِ الضَّرُورَةِ مُسْتَنِدٌ إلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ فَالسِّرُّ فيه أَنَّ الْحُكْمَ تَارَةً يَنْتَفِي لِانْتِقَاءِ الْمُقْتَضَى
____________________
(4/206)
بِكَمَالِهِ أو لِانْتِفَاءِ جُزْءٍ من أَجْزَائِهِ وَتَارَةً يَنْتَفِي لِفَوَاتِ شَرْطٍ أو وُجُودِ مَانِعٍ فإذا كان انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ الْمُقْتَضَى بِحَالِهِ فَحُدُوثُ الْحُكْمِ لَا يَكُونُ إلَّا لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ وإذا كان الِانْتِفَاءُ لِغَيْرِ ذلك فَحُدُوثُ الْحُكْمِ لَا يَكُونُ لِحُدُوثِ سَبَبِهِ بَلْ يَكُونُ لِحُدُوثِ جُزْءِ السَّبَبِ أو لِحُدُوثِ الشَّرْطِ أو لِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَجَوَابُهُ أَنَّا لو قَدَّرْنَا حُدُوثَ الْحُكْمِ مع تَقَدُّمِ سَبَبِهِ كان ذلك على خِلَافِ الْأَصْلِ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْمُقَدَّرَ أَنَّ ثُبُوتَ السَّبَبِ يَلْزَمُ منه ثُبُوتُ الْحُكْمِ وَلِهَذَا صَحَّ الِاسْتِدْلَال بِثُبُوتِ السَّبَبِ على ثُبُوتِ الْحُكْمِ الْمَسْلَكُ السَّابِعُ الشَّبَهُ وَيُسَمِّيه بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الِاسْتِدْلَال بِالشَّيْءِ على مِثْلِهِ وهو عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ خَاصٌّ إذْ الشَّبَهُ يُطْلَقُ على جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ كُلَّ قِيَاسٍ لَا بُدَّ فيه من كَوْنِ الْفَرْعِ شَبِيهًا بِالْأَصْلِ بِجَامِعٍ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ اصْطَلَحُوا على تَخْصِيصِ هذا الِاسْمِ بِنَوْعٍ من الْأَقْيِسَةِ وهو من أَهَمِّ ما يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّرْدِ وَلِهَذَا قال الْإِبْيَارِيُّ لَسْت أَرَى في مَسَائِلِ الْأُصُولِ مَسْأَلَةً أَغْمَضَ من هذه وَفِيهِ مَقَامَانِ الْمَقَامُ الْأَوَّلُ في تَعْرِيفِهِ وقد اخْتَلَفُوا فقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ لَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ وَالصَّحِيحُ إمْكَانُهُ وَاخْتَلَفُوا فيه فَقِيلَ هو الْجَمْعُ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِوَصْفٍ يُوهِمُ اشْتِمَالَهُ على الْحِكْمَةِ الْمُفْضِيَةِ لِلْحُكْمِ من غَيْرِ تَعْيِينٍ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ في النِّيَّةِ في الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ طَهَارَتَانِ فَأَنَّى تَفْتَرِقَانِ قال الْخُوَارِزْمِيُّ في الْكَافِي قال فَفِي الْقِيَاسِ الْمَعْنَوِيِّ تَعْيِينُ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ الْمُنَاسِبِ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ وفي قِيَاسِ الشَّبَهِ لَا تَعْيِينَ بَلْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوَصْفٍ يُوهِمُ الْمُنَاسِبَ وَأَمَّا الطَّرْدُ فَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمُجَرَّدِ الطَّرْدِ وهو السَّلَامَةُ عن النَّقْضِ وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ في الْمُسْتَصْفَى الشَّبَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَزِيدَ على الطَّرْدِ بِمُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ لِعِلَّةِ الْحُكْمِ وَإِنْ لم يُنَاسِبْ الْحُكْمَ بِأَنْ يُقَرِّرَ بِأَنَّ لِلَّهِ في كل حُكْمٍ سِرًّا وهو مَصْلَحَةٌ مُنَاسِبَةٌ لِلْحُكْمِ لم نَطَّلِعْ على عَيْنِ تِلْكَ الْعِلَّةِ وَلَكِنْ نَطَّلِعُ على وَصْفٍ يُوهِمُ الِاشْتِمَالَ على تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ قال وَإِنْ لم يُرِيدُوا بِقِيَاسِ الشَّبَهِ هذا فَلَا أَدْرِي ما أَرَادُوا بِهِ وَبِمَاذَا فَصَلُوهُ من الطَّرْدِ الْمَحْضِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّبَهَيَّ وَالطَّرْدِيَّ يَجْتَمِعَانِ في عَدَمِ الظُّهُورِ الْمُنَاسِبِ وَيَتَخَالَفَانِ
____________________
(4/207)
في أَنَّ الطَّرْدِيَّ عُهِدَ من الشَّارِعِ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ وَسُمِّيَ شَبَهًا لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ الْوُقُوفِ على الْمُنَاسَبَةِ يَجْزِمُ الْمُجْتَهِدُ بِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ وَمِنْ حَيْثُ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ له في بَعْضُ الصُّوَرِ يُشْبِهُ الْمُنَاسِبَ فَهُوَ بين الْمُنَاسِبِ وَالطَّرْدِيِّ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ يَتَعَذَّرُ حَدُّ الشَّبَهِ بِأَنْ يَقُولَ هو يُقَرِّبُ الْأَصْلَ من الْفَرْعِ وَيَمْتَازُ عن الطَّرْدِ أَنَّهُ يَغْلِبُ على الظَّنِّ الِاشْتِرَاكُ في الْحِكْمَةِ وَالطَّرْدُ لَا يَغْلِبُهُ على الظَّنِّ وَمِنْ خَوَاصِّ الطَّرْدِ أَنَّهُ يُعَلِّقُ نَقِيضَ الْحُكْمِ عليه بِقَوْلِهِ طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ فَيُقَالُ طَهَارَةٌ ما تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ من مَقِيسٍ عليه وهو التَّيَمُّمُ وَقَوْلُهُ طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ ليس بِجَامِعٍ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَهَذَا الذي قَالَهُ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ أَصْلُهُ كَلَامُ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ فإنه فَسَّرَ قِيَاسَ الدَّلَالَةِ الْمُورَدِ على بَعْضِ تَعْرِيفَاتِ الْقِيَاسِ وهو الْجَمْعُ بين الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ بِمَا لَا يُنَاسِبُ وَلَكِنْ يَسْتَلْزِمُ الْمُنَاسِبَ فَيُقَالُ إنَّهُ الْوَصْفُ الْمُقَارِنُ لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ له بِالتَّبَعِ وَبِالِالْتِزَامِ دُونَ الذَّاتِ كَالطَّهَارَةِ لِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فإن الطَّهَارَةَ من حَيْثُ هِيَ لَا تُنَاسِبُ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ لَكِنْ تُنَاسِبُهَا من حَيْثُ إنَّهَا عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَةُ مُنَاسَبَةٌ لِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ أَمَّا ما يُنَاسِبُ بِالذَّاتِ فَهُوَ الْمُنَاسِبُ أو لَا يُنَاسِبُ مُطْلَقًا فَهُوَ الطَّرْدِيُّ فَالشَّبَهُ حِينَئِذٍ مَنْزِلَةٌ بين الْمُنَاسَبَةِ وَالطَّرْدِيِّ فَلِهَذَا سُمِّيَ شَبَهًا هَكَذَا قال الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيُّ وَحَكَى الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ عن الْقَاضِي أَنَّهُ ما يُوهِمُ الِاشْتِمَالَ على وَصْفٍ مُخَيِّلٍ ثُمَّ قال وَفِيهِ نَظَرٌ من جِهَةِ أَنَّ الْخَصْمَ قد يُنَازِعُ في إيهَامِ الِاشْتِمَالِ على مُخَيِّلٍ إمَّا حَقًّا أو عِنَادًا وَلَا يُمْكِنُ التَّقْرِيرُ عليه وقال بَعْدَ ذلك إنَّ ما اخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ هو خُلَاصَةُ كَلَامِ الْقَاضِي حَيْثُ قال هو الذي يُوهِمُ الِاشْتِرَاكَ في مَحَلٍّ قُلْت وهو ظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ في الشِّفَاءِ وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ صَاحِبُ الْعُنْوَانِ فيه وَاَلَّذِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ من كَلَامِ الْقَاضِي أَنَّ قِيَاسَ الشَّبَهِ هو إلْحَاقُ فَرْعٍ بِأَصْلٍ لِكَثْرَةِ إشْبَاهِهِ بِالْأَصْلِ في الْأَوْصَافِ من غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْأَوْصَافَ التي شَابَهَ الْفَرْعُ بها الْأَصْلَ عِلَّةُ حُكْمِ الْأَصْلِ وَقِيلَ الشَّبَهُ هو الذي لَا يَكُونُ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ وَلَكِنْ عُرِفَ اعْتِبَارُ جِنْسِهِ الْقَرِيبِ في الْجِنْسِ الْقَرِيبِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ في ذلك الْحُكْمِ لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ له فَيَظُنُّ أَنَّهُ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ في ذلك الْحُكْمِ لِتَأْثِيرِ جِنْسِهِ في جِنْسِ ذلك الْحُكْمِ وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ في الرِّسَالَةِ الْبَهَائِيَّةِ كَإِيجَابِ الْمَهْرِ بِالْخَلْوَةِ فإنه لَا يُنَاسِبُ وُجُوبَهُ لِأَنَّهُ في مُقَابَلَةِ الْوَطْءِ إلَّا أَنَّ جِنْسَ هذا الْوَصْفِ وهو كَوْنُ الْخَلْوَةِ مَظِنَّةُ الْوَطْءِ يُعْتَبَرُ في جِنْسِ الْوُجُوبِ وهو الْحُكْمُ بِتَحْرِيمِ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ
____________________
(4/208)
وَقِيلَ هو الذي لَا تَثْبُتُ مُنَاسَبَتُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ حَكَاهُ ابن الْحَاجِبِ وَجَعَلَهُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مُفَرَّعًا على أَنَّ الشَّبَهَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِالْعِلِّيَّةِ بَلْ يَحْتَاجُ إلَى مَسْلَكٍ آخَرَ وَأَحْسَنَ ابن السَّمْعَانِيِّ فقال قِيَاسُ الْمَعْنَى تَحْقِيقٌ وَالشَّبَهُ تَقْرِيبٌ وَالطَّرْدُ تَحَكُّمٌ ثُمَّ قال قِيَاسُ الْمَعْنَى ما يُنَاسِبُ الْحُكْمَ وَيَسْتَدْعِيه وَيُؤَثِّرُ فيه وَالطَّرْدُ عَكْسُهُ وَالشَّبَهُ أَنْ يَكُونَ فَرْعٌ يُحَاذِيهِ أَصْلَانِ فَيَلْحَقُ بِأَحَدِهِمَا بِنَوْعٍ شَبَهٌ مُقَرَّبٍ أَيْ يَقْرُبُ الْفَرْعُ من الْأَصْلِ في الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ من غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِبَيَانِ الْمَعْنَى انْتَهَى وَقِيلَ هو الذي يُلَائِمُ الْأَوْصَافَ التي عُهِدَ من الشَّارِعِ إنَاطَةُ الْحُكْمِ بها وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّ النَّاظِرَ إذَا فَقَدَ الْمَعْنَى نَظَرَ في الْأَشْبَاهِ وهو أَوْسَعُ الْأَبْوَابِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّبَهَ يَنْقَدِحُ عِنْدَ إمْكَانِ الْمَعْنَى وَعِنْدَ عَدَمِ فَهْمِهِ وَلَا يَتَحَتَّمُ الْأَشْبَاهُ في التَّعَبُّدَاتِ الْجَامِدَةِ وَفَرَّقَ بين الشَّبَهِ وَالطَّرْدِ بِأَنَّ الطَّرْدَ نِسْبَةُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ إلَيْهِ وَنَفْيِهِ على السَّوَاءِ وَالشَّبَهُ نِسْبَةُ الثُّبُوتِ مُتَرَجِّحَةٌ على النَّفْيِ فَافْتَرَقَا وقال ابن الْمُنِيرِ اضْطَرَبَ رَأْيُ الْإِمَامِ في حَدِّهِ فقال مَرَّةً هو الْمُشِيرُ إلَى مَعْنًى كُلِّيٍّ لَا يَتَحَرَّرُ التَّعْبِيرُ عنه وقال مَرَّةً هو الذي يُنَاسِبُ تَشَابُهَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ في أَيِّ حُكْمٍ كان لَا في حُكْمٍ مُعَيَّنٍ حتى لو نَسَبْنَا وُجُودَ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ إلَيْهِ لَكَانَ على حَدِّ نِسْبَةِ عَدَمِهِ إلَيْهِ وقال ابن رَحَّالٍ فَسَّرَهُ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ بِمَا لَا تَثْبُتُ نِسْبَتُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ عنه وَقِيلَ ما يُوهِمُ الْمُنَاسَبَةَ من غَيْرِ تَحْقِيقٍ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ وقال الْقَاضِي ما يُوهِمُ الِاجْتِمَاعَ في مُخَيَّلٍ وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَلْيَقُ بِالْمَظِنَّةِ لَا بِالشَّبَهِ لِأَنَّهُ مُنَاسِبٌ في نَفْسِهِ وقال الْقُرْطُبِيُّ في أُصُولِهِ قد تَسَامَحَ عُلَمَاؤُنَا في جَعْلِ الشَّبَهِ من مَسَالِكِ الْعِلَّةِ فإن الْبَحْثَ فيه نَظَرٌ في تَيَقُّنِ الْعِلَّةِ لَا في ذَاتِهَا وَكَذَلِكَ نَفْيُ الْفَارِقِ وقد اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فيه وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إلَى عِبَارَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ هو الذي يَكُونُ الْفَرْعُ فيه دَائِرًا بين أَصْلَيْنِ فَأَكْثَرَ لِتَعَارُضِ الْأَشْيَاءِ فيه فَيَلْحَقُ بِأَوْلَاهَا كَالْعَبْدِ الْمُتْلَفِ فإنه آدَمِيٌّ وَمَالٌ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ لَكِنْ هل تُؤْخَذُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً ما بَلَغَتْ وَلَوْ زَادَتْ على دِيَةِ الْحُرِّ وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْمَالِيَّةِ أو لَا تُؤْخَذُ قِيمَةٌ زِيَادَةٌ على دِيَةِ الْحُرِّ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْآدَمِيَّةِ وهو مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ وَسَمَّى الشَّافِعِيُّ هذا قِيَاسَ غَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ قال وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ بِاسْمِ الشَّبَهِ لِأَنَّهُ قِيَاسُ عِلَّةِ مُنَاسِبٍ غَيْرِ أَنَّهُ تَعَارَضَ فيه الْعِلَلُ فَهُوَ من بَابِ الْمُعَارَضَةِ في
____________________
(4/209)
الْفَرْعِ وَلَا خِلَافَ في هذا بَعْدُ وَلَا مُشَاحَّةَ في الِاسْمِ بَعْدَ فَهْمِ الْمَعْنَى الثَّانِيَةُ أَنَّهُ الْوَصْفُ الذي يَظُنُّ بِهِ صَلَاحِيَّتَهُ لِلْمُنَاسَبَةِ من جِهَةِ ذَاتِهِ فَخَرَجَ منه الْمُنَاسِبُ بِأَنَّهُ مَعْلُومُ الْمُنَاسَبَةِ وَالطَّرْدِيُّ لِأَنَّهُ مَعْلُومُ نَفْيِهَا وَاحْتَرَزْنَا بِقَوْلِنَا من جِهَةِ ذَاتِهِ عن الْمَظِنَّةِ فَإِنَّهَا لَا تُنَاسِبُ بِذَاتِهَا بَلْ ما اشْتَمَلَتْ عليه وَهَذَا مَعْنَى ما قَالَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَجَرَى عليه الْجُمْهُورُ وهو الْمَفْهُومُ من قَوْلِ الشَّافِعِيِّ في الْوُضُوءِ طَهَارَتَانِ فَكَيْفَ تَفْتَرِقَانِ يَعْنِي في نَفْيِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لَكِنَّا إذَا تَأَمَّلْنَا وَجَدْنَا لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ طَهَارَةً حُكْمِيَّةً من دُونِ الْعِلَلِ ما لَا نَجِدُ من قَوْلِ الْحَنَفِيِّ طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ حُكْمِيَّةٌ يَصْلُحُ لِلْمُنَاسَبَةِ ولم يَنْكَشِفْ لنا ولم نَقْدِرْ على الْقَطْعِ بِكَوْنِهِ عَرِيًّا عنها وَلَيْسَ كَذَلِكَ طَهَارَةٌ ما فإنه لَا مُنَاسِبٌ وَلَا صَالِحٌ وَمِثْلُهُ أَيْضًا قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ طَهَارَةٌ مُوجِبُهَا في غَيْرِ مَحَلِّ مُوجِبِهَا فَشَرَطَ فيها النِّيَّةَ كَالتَّيَمُّمِ وَهَذَا أَصَحُّ ما قِيلَ في الشَّبَهِ انْتَهَى هذا ما يَتَعَلَّقُ بِتَعْرِيفِهِ الْمَقَامُ الثَّانِي في حُكْمِهِ وَلَا يُصَارُ إلَيْهِ مع إمْكَانِ قِيَاسِ الْعِلَّةِ بِالْإِجْمَاعِ كما ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فيه إذَا تَعَذَّرَتْ وقد اخْتَلَفُوا فيه على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ حُجَّةً وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عن أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِهِمْ وقال شَارِحُ الْعُنْوَانِ إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وقال في الْقَوَاطِعِ إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وقد أَشَارَ إلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ في مَوَاضِعَ من كُتُبِهِ منها قَوْلُهُ في إيجَابِ النِّيَّةِ في الْوُضُوءِ كَالتَّيَمُّمِ طَهَارَتَانِ فَكَيْفَ تَفْتَرِقَانِ وَتَابَعَهُ على ذلك أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ وقال الشَّافِعِيُّ في أَوَاخِرِ الْأُمِّ في بَابِ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ وَالْقِيَاسُ قِيَاسَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ في مَعْنَى الْأَصْلِ فَذَاكَ الذي لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ خِلَافًا وَالثَّانِي أَنْ يُشْبِهَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ من أَصْلٍ وَيُشْبِهَ من أَصْلٍ غَيْرِهِ ثُمَّ قال وَمَوْضِعُ الصَّوَابِ عِنْدَنَا في ذلك أَنْ يَنْظُرَ فَأَيُّهُمَا كان أَوْلَى بِشَبَهِهِ صِيرَ إلَيْهِ فَإِنْ اشْتَبَهَ أَحَدُهُمَا في خَصْلَتَيْنِ وَالْآخَرُ في خَصْلَةٍ أَلْحَقَهُ بِاَلَّذِي أَشْبَهَ في خَصْلَتَيْنِ انْتَهَى حَكَى هذا النَّصَّ الْأَصْحَابُ في كُتُبِهِمْ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وابن السَّمْعَانِيِّ قال وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في ذلك فقال بَعْضُهُمْ إنَّ قَوْلَهُ هذا يَدُلُّ على أَنَّهُ حُكْمٌ بِكَثْرَةِ الْأَشْبَاهِ من غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَهَا عِلَّةً لِحُكْمٍ وقال بَعْضُهُمْ إنَّمَا حُكِمَ بِتَرْجِيحِ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ في الْفَرْعِ
____________________
(4/210)
بِكَثْرَةِ الشَّبَهِ وقال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَمَوْضِعُ الصَّوَابِ إلَى آخِرِهِ يُرِيدُ إذَا كانت كُلُّ خَصْلَةٍ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا مُسْتَغْنِيَةً عن صَاحِبَتِهَا مِثْلَ الْأَخِ يَتَرَدَّدُ بين أَنْ يَكُونَ كَالْأَبِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ كَابْنِ الْعَمِّ وهو يُشْبِهُ الْأَبَ من وَجْهٍ وهو مَحْرَمٌ له بِالْقَرَابَةِ وَيُشْبِهُ ابْنَ الْعَمِّ من وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ من قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَسُقُوطِ النَّفَقَةِ وَجَرَيَانِ الْقِصَاصِ من الطَّرَفَيْنِ مَعَهُمَا وَجَرَيَانِ حَدِّ الْقَذْفِ فَإِلْحَاقُهُ بِابْنِ الْعَمِّ حتى لَا يُعْتَقَ عليه إذَا مَلَكَهُ أَوْلَى وَنَقَلَ الْغَزَالِيُّ في شِفَاءِ الْعَلِيلِ عن الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ الْقَوْلَ بِالشَّبَهِ بِطَرِيقِ تَمَسُّكِهِمْ بِهِ قال في الْمُسْتَصْفَى وَلَعَلَّ أَكْثَرَ أَقْيِسَةِ الْفُقَهَاءِ قِيَاسُ الشَّبَهِ قال وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ طَهَارَتَانِ فَأَنَّى تَفْتَرِقَانِ فإنه يُوهِمُ الِاجْتِمَاعَ في مُنَاسِبٍ وهو مَأْخَذُ الشَّبَهِ وَإِنْ لم يَطَّلِعْ على ذلك الْمُنَاسِبِ وَقَوْلُ أبي حَنِيفَةَ مَسْحُ الرَّأْسِ لَا يَتَكَرَّرُ وَلِأَنَّهُ مَسْحٌ لَا يَتَكَرَّرُ قِيَاسًا على الْخُفِّ وقال الْخُوَارِزْمِيُّ في الْكَافِي قِيَاسُ الشَّبَهِ عِنْدَنَا حُجَّةٌ فإن الْقِيَاسَ الْمَعْنَوِيَّ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً لِأَنَّهُ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ وَالشَّبَهُ يُفِيدُهَا أَيْضًا وَمَنْ أَنْكَرَهَا في الشَّبَهِ كان مُنْكَرُهَا في قِيَاسِ الْمَعْنَى انْتَهَى وقد أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ نِسْبَةَ الْقَوْلِ بِالشَّبَهِ إلَى الشَّافِعِيِّ منهم أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَنُقِلَ عنه أَنَّهُ قال ليس بِحُجَّةٍ كما حَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ لَا يَكَادُ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِالشَّبَهِ عن الشَّافِعِيِّ مع عُلُوِّ رُتْبَتِهِ في الْأُصُولِ وَكَذَلِكَ قال الشَّيْخُ في اللُّمَعِ أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ مُتَأَوَّلٌ مَحْمُولٌ على قِيَاسِ الْعِلَّةِ فإنه يُرَجِّحُ بِكَثْرَةِ الْأَشْبَاهِ وَيَجُوزُ تَرْجِيحُ الْعِلَلِ بِكَثْرَةِ الْأَشْبَاهِ قُلْت وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في الرِّسَالَةِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَرَّمَ الشَّيْءَ مَنْصُوصًا أو أَحَلَّ لِمَعْنًى فإذا وَجَدْنَا ذلك الْمَعْنَى فِيمَا لم يَنُصَّ فيه بِعَيْنِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ أَحْلَلْنَاهُ أو حَرَّمْنَاهُ لِأَنَّهُ في مَعْنَى الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ أو تَجِدُ الشَّيْءَ يُشْبِهُ منه الشَّيْءَ من غَيْرِهِ وَلَا نَجِدُ شيئا أَقْرَبَ منه شَبَهًا من أَحَدِهِمَا فَنُلْحِقُهُ بِأَوْلَى الْأَشْيَاءِ شَبَهًا بِهِ كما قُلْنَا في الصَّيْدِ انْتَهَى وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ الْقِيَاسُ على قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ في مَعْنَى الْأَصْلِ وَلَا يَخْتَلِفُ الْقِيَاسُ فيه وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ له الْأُصُولُ أَشْبَاهًا بِذَلِكَ فَيُلْتَحَقُ بِأَوْلَاهَا بِهِ وَأَكْثَرِهَا شَبَهًا بِهِ وقد يَخْتَلِفُ الْقَائِسُونَ في هذا انْتَهَى الْمَذْهَبُ الثَّانِي أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَبِهِ قال أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ من ادَّعَى التَّحْقِيقَ منهم وَصَارَ إلَيْهِ أبو زَيْدٍ وَمَنْ تَبِعَهُ وَذَهَبَ إلَيْهِ أَيْضًا أبو بَكْرٍ وَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ انْتَهَى وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالشِّيرَازِيُّ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ كما نُقِلَ في الْبَحْرِ وأبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالْقَاضِي ابن الْبَاقِلَّانِيِّ
____________________
(4/211)
لَكِنْ هو عِنْدَ الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ وَالشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ صَالِحٌ لَأَنْ يُرَجَّحَ بِهِ وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في بَابِ تَرْجِيحِ الْعِلَلِ من كِتَابِ التَّقْرِيبِ وقال إلْكِيَا وَرُبَّمَا تَرَدَّدَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في تَصَانِيفِهِ في إبْطَالِ الشَّبَهِ فقال إنْ لم يُبَيِّنْ مُسْتَنَدَ ظَنِّهِ كان مُتَحَكِّمًا وَإِنْ بَيَّنَ كان مُخَيِّلًا وَرُبَّمَا قال الْإِشْبَاهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَسْتَنِدَ إلَى مَعْنًى كُلِّيٍّ قال وقد بَيَّنَّا تَصَوُّرَهَا لَا على هذا الْوَجْهِ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِحُجِّيَّتِهِ في أَنَّهُ بِمَاذَا يُعْتَبَرُ على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا اعْتِبَارُهُ مُطْلَقًا وَالثَّانِي بِشَرْطِ ذَهَابِ الصُّورَةِ إلَى الْحُكْمِ في وَاقِعَةٍ لَا يُوجَدُ منها إلَّا الْوَصْفُ الشَّبَهِيُّ وَالثَّالِثُ بِشَرْطِ أَنْ يَجْتَذِبَ الْفَرْعَ أَصْلَانِ وَلَيْسَ أَصْلٌ سِوَاهُمَا فَيُلْحَقُ بِأَحَدِهِمَا بِغَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ حَكَاهُ الْقَاضِي وهو ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ السَّابِقِ وَالرَّابِعُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَثْبُتَ لِلْحُكْمِ عِلَّةٌ بِعَيْنِهِ وَإِلَّا كان الرُّجُوعُ إلَيْهَا أَوْلَى من الرُّجُوعِ إلَى أَشْبَاهٍ وَصِفَاتٍ لم يَتَعَيَّنْ كَوْنُهَا عِلَّةً لِلْحُكْمِ حَكَاهُ الْقَاضِي وقال إنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الذي قَبْلَهُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا في الْأَشْبَاهِ التي يَغْلِبُ بها على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا الْمُعْتَبَرُ الْمُشَابَهَةُ في الْحُكْمِ فَقَطْ دُونَ الصُّورَةِ وَحَكَاهُ الرَّازِيَّ وَالْبَيْضَاوِيُّ عن الشَّافِعِيِّ وَلِهَذَا أَلْحَقَ الْعَبْدَ الْمَقْتُولَ بِسَائِرِ الْمَمْلُوكَاتِ في لُزُومِ قِيمَتِهِ على الْقَاتِلِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُبَاعُ وَيُشْتَرَى وَحَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن أَصْحَابِنَا كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ مَرْدُودٌ إلَى النِّكَاحِ في شَرْطِ الْحَدِّ وَوُجُوبِ الْمَهْرِ بِشُبْهَةٍ بِالْوَطْءِ في النِّكَاحِ في الْأَحْكَامِ وَالثَّانِي اعْتِبَارُ الْمُشَابَهَةِ في الصُّورَةِ كَقِيَاسِ الْخَيْلِ على الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَسُقُوطِ الزَّكَاةِ بِصُورَةِ شَبَهٍ أو كَقِيَاسِ الْخَيْلِ على الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ في حُرْمَةِ اللَّحْمِ لِقَوْلِ الْقَائِلِ ذُو حَافِرٍ أَهْلِيٍّ حَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن بَعْضِهِمْ مُعْتَلًّا بِوُجُودِ الشَّبَهِ قال وإذا جَازَ تَعْلِيلُ الْأَصْلِ بِصِفَةٍ من ذَاتِهِ جَازَ تَعْلِيلُهُ بِصِفَةٍ من صِفَاتِهِ وَلِأَنَّ الْعِلَلَ أَمَارَاتٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّبَهُ في الصُّورَةِ أَمَارَةً على الْحُكْمِ كما يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّبَهُ في الْمَعْنَى أو في الْحُكْمِ أَمَارَةً على الْحُكْمِ قال وَهَذَا ليس بِصَحِيحٍ إنَّمَا الصَّحِيحُ أَنَّ مُجَرَّدَ الشَّبَهِ في الصُّورَةِ لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِهِ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ ما كان لها تَأْثِيرٌ في الْحُكْمِ وَلَيْسَ هو مِمَّا يُفِيدُ قُوَّةً في الظَّنِّ حتى يُوجِبَ حُكْمًا انْتَهَى
____________________
(4/212)
وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ ذَهَبَ قَوْمٌ من أَهْلِ الْبِدَعِ إلَى اعْتِبَارِ الْمُشَابَهَةِ في الصُّورَةِ وهو قَوْلُ الْأَصَمِّ وَلِهَذَا زَعَمَ أَنَّ تَرْكَ الْجِلْسَةِ الْأَخِيرَةِ من الصَّلَاةِ لَا يَضُرُّ كَالْجِلْسَةِ الْأُولَى وَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَهَذَا ما نَقَلَهُ الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ عن أبي حَنِيفَةَ وَعَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا في إلْحَاقِهِ الْجُلُوسَ الْأَوَّلَ بِالثَّانِي في الْوُجُوبِ وَاخْتَارَ إلْكِيَا اعْتِبَارَ الشَّبَهِ في الصُّورَةِ إذَا دَلَّ دَلِيلٌ على اعْتِبَارِهِ كَالْمُعْتَبَرِ في جَزَاءِ الصَّيْدِ قال وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَنْوَاعِ إذْ لَا يُعْرَفُ له نَظِيرٌ قال وَأَمَّا الشَّبَهُ في الْحُكْمِ وهو دَلَالَةُ الْحُكْمِ على الْحُكْمِ فَقَطْ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْعَبْدُ أَشْبَهُ بِالْحُرِّ في الْقِصَاصِ وَالْكَفَّارَةِ لِلْحُرْمَةِ وَتَحَمُّلِ الْعَقْلِ مِثْلُهُ فَإِنْ أَوْجَبَ لِاحْتِرَامِ الْمَحَلِّ وَالشَّبَهِ في الْمَقْصُودِ كَاعْتِبَارِ خِيَارِ الشَّرْطِ بِخِيَارِ الْعَيْبِ إذَا ثَبَتَ اسْتِوَاؤُهُمَا في الْمَقْصُودِ وهو دَفْعُ الْغَبَنِ فَمُعْتَبَرَانِ وَاعْلَمْ أَنْ الشَّافِعِيَّ اعْتَبَرَ الشَّبَهَ في مَوَاضِعَ منها إلْحَاقُ الْهِرَّةِ الْوَحْشِيَّةِ بِالْإِنْسِيَّةِ على الصَّحِيحِ دُونَ الْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ لِاخْتِلَافِ أَلْوَانِ الْوَحْشِيَّةِ كَالْأَهْلِيَّةِ بِخِلَافِ الْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ فَإِنَّهَا أَلْوَانُهَا مُتَّحِدَةٌ دُونَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فإن أَلْوَانَهَا مُخْتَلِفَةٌ ومنها حَيَوَانَاتُ الْبَحْرِ الصَّحِيحُ حِلُّ أَكْلِهَا مُطْلَقًا وَقِيلَ ما أُكِلَ شَبَهَهُ من الْبَرِّ أُكِلَ شَبَهَهُ من الْبَحْرِ فَصَاحِبُ هذا الْوَجْهِ اعْتَبَرَ الشَّبَهَ الصُّورِيَّ وَعَلَى هذا فقال الْبَغَوِيّ وابن الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمَا حِمَارُ الْبَحْرِ لَا يُؤْكَلُ فَأَلْحَقُوهُ بِشَبَهِ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ دُونَ الْوَحْشِيِّ وَفِيهِ نَظَرٌ فإنه لَا نِزَاعَ في أَنَّ الْأَصْلَ في حَيَوَانِ الْبَحْرِ الْحِلُّ وَمِنْهَا جَزَاءُ الصَّيْدِ كَإِيجَابِ الْبَقَرَةِ الْإِنْسِيَّةِ في الْوَحْشِيَّةِ ومنها إقْرَاضُ الْحَيَوَانِ فَفِي رَدِّ بَدَلِهِ وَجْهَانِ أَشْبَهَهُمَا بِالْحَدِيثِ الْمِثْلُ وَالْقِيَاسُ الْقِيمَةُ ومنها السُّلْتُ وهو يُشَابِهُ الْحِنْطَةَ في صُورَتِهِ الشَّعِيرَ بِطَبْعِهِ فَهَلْ يُلْحَقُ بِالْحِنْطَةِ أو الشَّعِيرِ أو هو جِنْسٌ مُسْتَقِلٌّ أَوْجُهٌ ومنها إذَا كان الرِّبَوِيُّ لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَيُعْتَبَرُ بِأَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ شَبَهًا بِهِ على أَحَدِ الْأَوْجُهِ وَقِسْ على هذا نَظَائِرُهُ وَالثَّالِثُ اعْتِبَارُهُ في الْحُكْمِ ثُمَّ الْأَشْبَاهِ الرَّاجِعَةِ إلَى الصُّورَةِ وَالرَّابِعُ اعْتِبَارُهُ فيها على حَدٍّ سَوَاءٌ حَكَاهُ الْقَاضِي وَالْخَامِسُ اعْتِبَارُ حُصُولِ الْمُشَابَهَةِ فِيمَا غَلَبَ على الظَّنِّ أَنَّهُ مَنَاطُ الْحُكْمِ بِأَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِعِلَّةِ الْحُكْمِ أو عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ فَمَتَى كان كَذَلِكَ صَحَّ الْقِيَاسُ سَوَاءٌ كانت
____________________
(4/213)
الْمُشَابَهَةُ في الصُّورَةِ أو الْمَعْنَى وهو قَوْلُ الْإِمَامِ الرَّازِيَّ وَحَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ عن ابْنِ سُرَيْجٍ قال وكان يُنْكِرُ الْقِيَاسَ على شَبَهٍ لم يَتَعَيَّنْ كَوْنُهُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ إمَّا تَعَيُّنًا لَا احْتِمَالَ فيه وَلَا يَسُوغُ لِأَحَدٍ خِلَافُهُ أو تَعَيُّنًا ظَاهِرًا وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ غَيْرَهُ قال وَكَذَلِكَ كان يقول أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَأَبْطَلَ الْقِيَاسَ على غَيْرِ عِلَّةٍ وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الْقَفَّالَ قال بِالْحُكْمِ بِغَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ وَزَعَمَ أَنَّ الْأَشْبَاهَ تُنَظِّمُ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ وَإِنْ لم تَكُنْ أَوْصَافَ عِلَّةِ حُكْمِ الْأَصْلِ فَإِنَّهَا عِلَّةُ حُكْمِ الْفَرْعِ لِأَنَّ ما زَادَ عليها في حُكْمِ الْمَعْدُومِ وَشَبَّهَ ذلك بِغَلَبَةِ الْمَاءِ على الْمَائِعِ الطَّاهِرِ أو النَّجَسِ فَجَعَلَ ما اخْتَلَطَ وَغَلَبَ عليه في حُكْمِ الْمَعْدُومِ وَهَذَا تَصْرِيحٌ منه بِأَنَّهُ يُحْكَمُ في الْفَرْعِ بِحُكْمِ الْأَصْلِ لِمُشَارَكَتِهِ فِيمَا ليس بِعِلَّةٍ لِلْحُكْمِ في الْأَصْلِ وهو عَجِيبٌ إذْ كَيْفَ يَجِبُ رَدُّ الْفَرْعِ على الْأَصْلِ فِيمَا ليس عِلَّةً فيه وَالسَّادِسُ أَنْ لَا يُوجَدَ شَيْءٌ أَشْبَهَ بِهِ منه وهو قَوْلُ الْقَاضِي أبي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ في أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ إنْ تَمَسَّك بِهِ النَّاظِرُ أَيْ الْمُجْتَهِدُ كان حُجَّةً في حَقِّهِ إنْ حَصَلَ غَلَبَةُ الظَّنِّ وَإِلَّا فَلَا أَمَّا الْمَنَاظِرُ فَيُقْبَلُ منه مُطْلَقًا وَاخْتَارَهُ في الْمُسْتَصْفَى وقد نَصَّ في الْقَوَاطِعِ الْقَوْلُ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ وقال لَا يُنْكِرُهُ إلَّا مُعَانِدٌ ثُمَّ قال وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّأْثِيرَ لَا بُدَّ منه إلَّا أَنَّ التَّأْثِيرَ قد يَكُونُ بِمَعْنًى وقد يَكُونُ بِحُكْمٍ وقد يَكُونُ بِغَلَبَةِ شَبَهٍ فإنه رُبَّ شَبَهٍ أَقْوَى من شَبَهٍ آخَرَ وَأَوْلَى بِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِ لِقُوَّةِ أَمَارَتِهِ وَالشَّبَهُ يُعَارِضُهُ شَبَهٌ آخَرُ وَرُبَّمَا ظَهَرَ فَضْلُ قُوَّةِ أَحَدِهِمَا على الْآخَرِ وَرُبَّمَا يَخْفَى وَيَجُوزُ رُجُوعُ الشَّبَهَيْنِ إلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ وَيَجُوزُ إلَى أَصْلَيْنِ فَلَا بُدَّ من قُوَّةِ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ في هذه الْمَوَاضِعِ وَكَذَا قال الْقَاضِي أبو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ في أُصُولِهِ إنَّا لَا نَعْنِي بِقِيَاسِ الشَّبَهِ أَنْ يُشَبَّهَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ من وَجْهٍ أو أَكْثَرَ من وَجْهٍ لِأَنَّهُ ليس في الْعَالَمِ شَيْءٌ إلَّا وهو يُشْبِهُ شيئا آخَرَ من وَجْهٍ أو أَكْثَرَ من وَجْهٍ لَكِنْ يُعْتَبَرُ أَنْ لَا يُوجَدَ شَيْءٌ أَشْبَهَ بِهِ منه فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ من الْوُضُوءِ بِالتَّيَمُّمِ وَكَذَا الْقِصَاصُ في الطَّرَفِ بِالْقِصَاصِ في النَّفْسِ أو على الْعَكْسِ وَهَذَا لِأَنَّ إلْحَاقَ الشَّيْءِ بِنَظَائِرِهِ وَإِدْخَالَهُ في سِلْكِهِ أَصْلٌ عَظِيمٌ فإذا لم يَكُنْ شَيْءٌ أَشْبَهَ منه بِهِ لم يَكُنْ بُدٌّ من إلْحَاقِهِ بِهِ قال وَهَذَا الذي قَالَهُ الْقَاضِي أبو حَامِدٍ تَقْرِيبٌ حَسَنٌ وهو عَائِدٌ إلَى ما ذَكَرْنَاهُ قال وَيَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ أَوَّلًا بِالْمَعَانِي فَإِنْ تَعَذَّرَتْ وَأَعْوَزَتْ فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي الرُّجُوعُ إلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ على الطَّرِيقَةِ السَّابِقَةِ فَلَا بَأْسَ
____________________
(4/214)
بِذَلِكَ انْتَهَى وَهَذَا الذي قَالَهُ مَحَلُّ وِفَاقٍ بين الْقَائِلِينَ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ في أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ قِيَاسِ الْعِلَّةِ وهو في الْحَقِيقَةِ قَوْلُ من قال إنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وقال إلْكِيَا شَرَطُوا لِقِيَاسِ الشَّبَهِ شُرُوطًا منها أَنْ يَلُوحَ في الْأَصْلِ الْمَرْدُودِ إلَيْهِ مَعْنًى فإنه إذَا كان كَذَلِكَ يَقْطَعُ نِظَامَ الشَّبَهِ وَغَايَةُ من يَدَّعِي الشَّبَهَ إيهَامُ اجْتِمَاعِ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ في مَقْصُودِ الشَّارِعِ فإذا لَاحَ في الْأَصْلِ مَعْنًى انْقَطَعَ نِظَامُ الْجَمْعِ قال هَكَذَا أَطْلَقُوهُ وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا لَاحَ في أَحَدِهِمَا مَعْنًى جُزْئِيٌّ وَفُقِدَ في الثَّانِي أَمَّا إذَا كان اسْتِنَادُ الْأَصْلِ إلَى مَعْنًى كُلِّيٍّ لَا يُتَصَوَّرُ اطِّرَادُهُ في آحَادِ الصُّوَرِ وَلَكِنَّ الْقِيَاسَ سَبَقَ لِإِبَانَةِ الْمَحَلِّ فَتَعْلِيلُ الْأَصْلِ لَا يَضُرُّ في مِثْلِهِ على ما قَدَّمْنَاهُ وقد ضَرَبَ الشَّافِعِيُّ له مِثَالًا فقال بَدَأَ عليه بِيَمِينِ الْمُدَّعِي في الْقَسَامَةِ في الْقِصَّةِ الْمَشْهُورَةِ فَكَانَ فيه خَيَالُ اللَّوْثِ فَاخْتَصَّهَا بِتِلْكَ الصُّورَةِ وَإِنْ كانت الْمُشَابَهَةُ بين الدَّعْوَيَيْنِ حَالَةَ اللَّوْثِ وَحَالَةَ عَدَمِهَا ظَاهِرَةً وَلَكِنْ أَمْكَنَ فَهْمُ تَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِتِلْكَ الصُّورَةِ أَمَّا عِنْدَ اللَّوْثِ فَلَا يُعْتَبَرُ بِهِ غَيْرُ تِلْكَ الْحَالَةِ وَهَذَا بَيِّنٌ وَمِنْهَا أَنَّ الشَّبَهَ إذَا لَاحَ كان من ضَرُورَتِهِ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ مُبْطِلًا مَعَانِي الْخَصْمِ فإنه لَا يَكُونُ خَاصًّا إلَّا على هذا الْوَجْهِ وَلَا يَكُونُ لِلْخَصْمِ في مُقَابَلَتِهِ إلَّا مَعْنًى عَامٌّ بِنَهْيٍ من الْأَصْلِ نَقْضًا له وَلَهُ نَظَائِرُ منها أَنَّ التَّيَمُّمَ إذَا صَارَ أَصْلًا فَالْمَعْنَى الذي يَتَعَلَّقُ بِهِ مَنْقُوضٌ بِالتَّيَمُّمِ وهو أَنَّ الْوُضُوءَ ليس مَقْصُودًا فلم يَكُنْ عِبَادَةً انْتَهَى وقد أَكْثَرَ أَصْحَابُنَا في الِاحْتِجَاجِ لِقِيَاسِ الشَّبَهِ وَأَصَحُّ ما ذَكَرُوهُ مَسَالِكُ أَحَدُهَا أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَبَّهَ عليه في قَوْلِهِ لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم شَبَّهَ حَالَ هذا السَّائِلَ في نَزْعِ الْعِرْقِ من أُصُولِهِ بِنَزْعِ الْعِرْقِ من أُصُولِ الْفَحْلِ
____________________
(4/215)
وَثَانِيهَا أَنَّ قِيَاسَ الْمَعْنَى إنَّمَا صِيرَ إلَيْهِ لِإِفَادَتِهِ الظَّنَّ وَهَذَا يُفِيدُهُ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَاعْتَرَضَ الْإِبْيَارِيُّ أَوَّلًا بِأَنَّهُ قِيَاسُ الْمَعْنَى في الْأُصُولِ فَلَا يُسْمَعُ وَثَانِيًا بِمَنْعِ إفَادَةِ الظَّنِّ وَثَالِثًا أَنَّهُ لم تَخْلُ وَاقِعَةٌ من حُكْمٍ قالوا وَمَنْ مَارَسَ مَسَائِلَ الْفِقْهِ وَتَرَقَّى عن رُتْبَةِ الْبَادِئِ فيها عَلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُخَيَّلَ لَا يَعُمُّ الْمَسَائِلَ وَكَثِيرٌ من أُصُولِ الشَّرْعِ تَخْلُو من الْمَعَانِي خُصُوصًا في الْعِبَادَاتِ وَهَيْئَاتِهَا وَالسِّيَاسَاتِ وَمَقَادِيرِهَا وَشَرَائِطِ الْمُنَاكَحَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ إلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ وَلَا يَلْزَمُنَا الطَّرْدُ لِأَنَّا في غَنِيَّةٍ عنه إذْ هو مُنْسَحِبٌ على جَمِيعِ الْحَوَادِثِ فلم يَكُنْ من دَاعٍ إلَيْهِ فَوَضَحَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالشَّبَهِ عن مَحَلِّ الضَّرُورَةِ وَلَوْلَا الضَّرُورَاتِ لَمَا شُرِعَ أَصْلُ الْقِيَاسِ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ بَنَى الْقَاضِي الْخِلَافَ في قِيَاسِ الشَّبَهِ على أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ أو كُلَّ مُجْتَهِدٍ فَإِنْ قُلْت الْمُصِيبُ وَاحِدٌ فَالْأَوْلَى بِك إبْطَالُ قِيَاسِ الشَّبَهِ وَإِنْ قُلْت بِتَصْوِيبِهِمْ فَلَوْ غَلَبَ على ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ حُكْمٌ من قَضِيَّةِ اعْتِبَارِ الشَّبَهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ قَطْعًا وَوَافَقَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ على الْبِنَاءِ على هذا الْأَصْلِ على تَقْرِيرِ ثُبُوتِ كَوْنِهَا ظَنِّيَّةً لَكِنْ خَالَفَ في أَنَّ الْمَسْأَلَةَ ظَنِّيَّةٌ وقال الْأَلْيَقُ بِمَا مَهَّدَهُ من الْأُصُولِ أَنْ يُقَالَ كُلُّ ما آلَ إلَى إثْبَاتِ دَلِيلٍ من الْأَدِلَّةِ فَيُطْلَبُ فيه الْقَطْعُ وَرُبَّمَا يقول إنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُتَمَسِّكَ بِضَرْبٍ من الْقِيَاسِ إذَا غَلَبَ على ظَنِّهِ شَيْءٌ وفي الْحَادِثَةِ نَصٌّ لم يَبْلُغْهُ فَهُوَ مَأْمُورٌ قَطْعًا بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَإِنْ كان الْقِيَاسُ في مُخَالِفِهِ مَرْدُودًا الثَّانِي قال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ اعْلَمْ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَشْبَاهِ إنَّمَا تُقَوِّي أَحَدَ جَانِبَيْ الْقِيَاسِ إذَا أَمْكَنَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِكُلِّ وَاحِدٍ من الْأَوْصَافِ فَأَمَّا إذَا لم يَقُمْ الْحُكْمُ إلَّا لِمَجْمُوعِ أَوْصَافٍ حتى يَرُدَّ بها إلَى أَصْلٍ فَيُرَدَّ إلَى أَصْلٍ آخَرَ بِوَصْفٍ وَاحِدٍ فَإِنْ كان ذلك الْوَصْفُ من جُمْلَةِ الْأَوْصَافِ فَتَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ الْوَاحِدِ أَوْلَى وَإِنْ كان وَصْفًا آخَرَ سِوَى الْأَوْصَافِ الْمَجْمُوعَةِ فِيمَا سِوَاهُ مِثْلُ عِلَّةِ الطُّعْمِ في الرِّبَا أَوْلَى من عِلَّةِ الْقُوتِ لِأَنَّهُ ما من قُوتٍ إلَّا وهو طَعَامٌ فَكَانَ من عَلَّلَ بِهِ عَلَّلَ الطَّعَامَ وَزِيَادَةً وَعِلَّةُ الطَّعَامِ وَالْكَيْلِ مُسْتَوِيَتَانِ فَتَقَدُّمُ إحْدَاهُمَا على الْآخَرِ بِالتَّرْجِيحِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا دَاخِلًا في جُمْلَةِ الْآخَرِ إذَا كان الْأَصْلُ الْمَرْدُودُ إلَيْهِ وَاحِدًا غير أَنَّ أَحَدَ الْقِيَاسِيِّينَ يُرَدُّ الْفَرْعُ إلَيْهِ
____________________
(4/216)
بِوَصْفٍ وَالْآخَرُ يَرُدُّهُ إلَيْهِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ وَبِغَيْرِهِ من الْأَوْصَافِ فَضَمُّهَا إلَيْهِ بِالْوَصْفِ الْوَاحِدِ أَوْلَى الثَّالِثُ هل يُسْتَعْمَلُ الشَّبَهُ مُرْسَلًا كما اُسْتُعْمِلَ الْمُنَاسِبُ مُرْسَلًا قال الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ هذا شَيْءٌ غَامِضٌ ولم أَقِفْ فيه على نَصٍّ وَلَوْ قِيلَ بِهِ لم يَبْعُدْ انْتَهَى وقد صَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِالْمَنْعِ منه بِخِلَافِ الْمُنَاسِبِ وَرَتَّبَ ذلك على أَحَدِ تَفْسِيرَيْهِ في الشَّبَهِ وهو أَنْ يُنَاسِبَ تَشَابُهَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مُطْلَقًا في حُكْمٍ مُعَيَّنٍ فَعَلَى هذا لَا يَتَحَقَّقُ الشَّبَهُ إلَّا بِأَصْلٍ وَإِنْ قُلْنَا في تَفْسِيرِهِ ما يُوهِمُ مُنَاسَبَةً لِلْحُكْمِ الْخَاصِّ أو مُلَاءَمَةً لِأَوْصَافٍ نَصَّ الشَّارِعُ عليها ولم تَظْهَرْ مُنَاسَبَتُهَا أو غَيْرُ ذلك من التَّفَاسِيرِ السَّابِقَةِ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ مُرْسَلًا الْمَسْلَكُ الثَّامِنُ الدَّوَرَانُ وَيُعَبِّرُ عنه الْأَقْدَمُونَ بِ الْجَرَيَانِ وَبِ الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ وهو أَنْ يُوجَدَ الْحُكْمُ عِنْدَ وُجُودِ وَصْفٍ وَيَرْتَفِعُ عِنْدَ ارْتِفَاعِهِ في صُورَةٍ وَاحِدَةٍ كَالتَّحْرِيمِ مع السُّكْرِ في الْعَصِيرِ فإنه لَمَّا لم يَكُنْ مُسْكِرًا لم يَكُنْ حَرَامًا فلما حَدَثَ السُّكْرُ فيه وُجِدَتْ الْحُرْمَةُ ثُمَّ لَمَّا زَالَ السُّكْرُ بِصَيْرُورَتِهِ خَلًّا زَالَ التَّحْرِيمُ فَدَلَّ على أَنَّ الْعِلَّةَ السُّكْرُ وَأَمَّا في صُورَتَيْنِ كَوُجُوبِ الزَّكَاةِ مع مِلْكِ نِصَابٍ قام في صُورَةِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ وَعَدَمِهِ مع عَدَمِ شَيْءٍ منها كما في ثِيَابِ الْبِذْلَةِ حَيْثُ لَا تَجِبُ فيها الزَّكَاةُ لِفَقْدِ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في حديث ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ حين اسْتَعْمَلَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وقال ما بَالُنَا نَسْتَعْمِلُ أَقْوَامًا فَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ فيقول هذا لَكُمْ وَهَذَا لي أَلَا جَلَسَ في بَيْتِ أبيه وَأُمِّهِ حتى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إنْ كان صَادِقًا وَهَذَا إثْبَاتُ الْعِلَّةِ بِالدَّوَرَانِ وهو ثُبُوتُ الْحُكْمِ عِنْدَ ثُبُوتِ الْوَصْفِ وَانْتِفَاؤُهُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ وَاخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ في إفَادَةِ الدَّوَرَانِ الْعِلِّيَّةَ على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ يُفِيدُ الْقَطْعَ بِالْعِلِّيَّةِ وَنُقِلَ عن بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَرُبَّمَا قِيلَ لَا دَلِيلَ
____________________
(4/217)
فَوْقَهُ حَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَالثَّانِي أَنَّهُ يُفِيدُ ظَنَّ الْعِلِّيَّةِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُزَاحِمِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تُوجِبُ الْحُكْمَ بِذَاتِهَا وَإِنَّمَا هِيَ عَلَامَةٌ مَنْصُوبَةٌ فإذا دَارَ الْوَصْفُ مع الْحُكْمِ غَلَبَ على الظَّنِّ كَوْنُهُ مُعَرِّفًا له وَيَنْزِلُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ الْمُومَأِ إلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ عِلَّةً وَإِنْ خَلَا عن الْمُنَاسَبَةِ وهو قَوْلُ الْجُمْهُورِ منهم إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَنَقَلَهُ عن الْقَاضِي وَمِمَّنْ حَكَاهُ عن الْأَكْثَرِينَ إلْكِيَا وقال ابن السَّمْعَانِيِّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ كَثِيرٌ من أَصْحَابِنَا قال وَلِأَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ شَغَفٌ بِهِ وقال الْهِنْدِيُّ إنَّهُ الْمُخْتَارُ وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أبي عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ عن أبي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ذَهَبَ كُلُّ من يُعْزَى إلَى الْجَدَلِ إلَى أَنَّهُ أَقْوَى ما تَثْبُتُ بِهِ الْعِلَلُ وَذَكَرَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ أَنَّ هذا الْمَسْلَكَ من أَقْوَى الْمَسَالِكِ وَكَادَ يَدَّعِي إفْضَاءَهُ إلَى الْقَطْعِ وَإِنَّمَا سَمَّيْت هذا الشَّيْخَ لِغَشَيَانِهِ مَجْلِسَ الْقَاضِي مُدَّةً وَإِعْلَاقِهِ طَرَفًا من كَلَامِهِ وَمَنْ عَدَاهُ حِيَالَهُ قُلْت وَاَلَّذِي رَأَيْته في شَرْحِ الْكِفَايَةِ لِلْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ ما لَفْظُهُ وَأَمَّا الطَّرْدُ فإنه شَرْطٌ في صِحَّتِهَا وَلَيْسَ بِدَلِيلٍ على صِحَّتِهَا وَلَا يَجُوزُ إذَا اطَّرَدَ مَعْنًى أَنْ يُحْكَمَ بِصِحَّتِهِ حتى يَدُلَّ التَّأْثِيرُ أو شَهَادَةُ الْأُصُولِ عليه وَكَذَا قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في التَّبْصِرَةِ الطَّرْدُ وَالْجَرَيَانُ شَرْطٌ في صِحَّةِ الْعِلَّةِ وَلَيْسَ بِدَلِيلِ صِحَّتِهَا وَقِيلَ دَلِيلٌ على الصِّحَّةِ وَبِهِ قال الصَّيْرَفِيُّ وقال إذَا لم يَرِدْ بها نَصٌّ وَلَا أَصْلٌ دَلَّ على صِحَّتِهَا وَكَذَا قال ابن الصَّبَّاغِ هو يَدُلُّ على صِحَّةِ الْعِلَّةِ وقال ابن بَرْهَانٍ الطَّرْدُ عِنْدَنَا شَرْطُ صِحَّةِ الْعِلَّةِ وَلَيْسَ دَلِيلًا على صِحَّتِهَا وَذَهَبَ بَعْضُ الْقُدَمَاءِ مِنَّا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ دَلِيلٌ على صِحَّتِهَا وقال ابن السَّمْعَانِيِّ الِاطِّرَادُ ليس بِدَلِيلٍ لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ وَلَكِنْ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا وَأَمَّا الِانْعِكَاسُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ في قَوْلِ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ وهو قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ من الْفُقَهَاءِ وَبِهِ قال بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ قال وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الِانْعِكَاسَ شَرْطٌ فإذا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ ولم يَرْتَفِعْ بِارْتِفَاعِهَا بَطَلَتْ الْعِلَّةُ وهو قَوْلُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ تَعَلُّقًا بِالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ فإنه يَجِبُ انْعِكَاسُهَا فَكَذَلِكَ السَّمْعِيَّةُ وَلَنَا أَنَّ الْعِلَّةَ مَنْصُوبَةٌ لِلْإِثْبَاتِ فَلَا تَدُلُّ على النَّفْيِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ بِمُجَرَّدِهِ لَا قَطْعًا وَلَا ظَنًّا وهو اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أبي مَنْصُورٍ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَالشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ
____________________
(4/218)
وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في كِتَابِ الْحُدُودِ إنَّهُ قَوْلُ الْمُحَصِّلِينَ قال إلْكِيَا وهو الذي يَمِيلُ إلَيْهِ الْقَاضِي وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ عنه أَيْضًا وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ قد وُجِدَ مع عَدَمِ الْعِلِّيَّةِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عليها أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْلُولَ دَائِرٌ مع الْعِلَّةِ وُجُودًا وَعَدَمًا مع أَنَّ الْمَعْلُولَ ليس بِعِلَّةٍ لِعِلَّتِهِ قَطْعًا وَالْجَوْهَرُ وَالْعَرَضُ مُتَلَازِمَانِ مع أَنَّ أَحَدَهُمَا ليس بِعِلَّةٍ في الْآخَرِ اتِّفَاقًا وَالْمُتَضَايِفَانِ كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ مُتَلَازِمَانِ وُجُودًا وَعَدَمًا مع أَنَّ أَحَدَهُمَا ليس بِعِلَّةٍ في الْآخَرِ لِوُجُوبِ تَقَدُّمِ الْعِلَّةِ على الْمَعْلُولِ وَوُجُوبِ مُصَاحَبَةِ الْمُتَضَايِفَيْنِ وَإِلَّا لَمَا كَانَا مُتَضَايِفَيْنِ وقد ضُعِّفَ هذا الْقَوْلُ أَعْنِي تَجْوِيزَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ أَمْرًا وَرَاءَ الْمَذْكُورِ فإن هذا لو صَحَّ لَجَرَى في غَيْرِهِ من الْمَسَائِلِ كَالْإِيمَاءِ وَنَحْوِهِ وَمِنْ الْعَجِيبِ أَنَّ جَمَاعَةً من الْقَائِلِينَ بهذا الْمَذْهَبِ اعْتَرَفُوا بِصِحَّةِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ وَإِنْ لم تَقْتَرِنْ بِهِ مُنَاسَبَةٌ وهو رَاجِعٌ لِلطَّرْدِ فإن غَايَتَهُ أَنَّ الْأَوْصَافَ الْمُقَارِنَةَ لِلْحُكْمِ قام الدَّلِيلُ على خُرُوجِ بَعْضِهَا عن صَلَاحِيَةَ التَّعْلِيلِ فَعُلِمَ صِحَّةُ التَّعْلِيلِ بِالْبَاقِي وَلَا تَجِدُ النِّصْفَ الْبَاقِيَ سِوَى مُقَارَنَتِهِ الْحُكْمَ في الْوُجُودِ مع انْتِقَاءِ الظَّفَرِ بِدَلِيلِ انْتِفَاءِ صَلَاحِيَتِهِ لِلتَّعْلِيلِ وَذَلِكَ مُجَرَّدُ طَرْدٍ لَا عَكْسَ فيه وَاذَا كان السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ لَا يَدُلُّ إلَّا على اقْتِرَانِ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ وُجُودًا عُلِمَ أَنَّ من أَخَذَ بِهِ وَأَنْكَرَ الطَّرْدَ وَالْعَكْسَ كَمَنْ أَخَذَ بِالْمُقَدِّمَةِ الْوَاحِدَةِ وَأَنْكَرَ دَلَالَةَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَكَمَنْ أَخَذَ بِالْكَثْرَةِ في الْأَلْفِ وَأَنْكَرَهَا في الْأَلْفَيْنِ التَّفْرِيعُ إنْ اعْتَبَرْنَاهُ فَشَرَطَ ابن الْقَطَّانِ في صِحَّتِهِ أَنْ يَصِحَّ اقْتِضَاؤُهُ من الْأَصْلِ كَالشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ في الْخَمْرِ قال وكان بَعْضُ أَصْحَابِنَا إذَا لم تَقُمْ الدَّلَالَةُ على أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ كان لِأَجْلِهِ لم يَكُنْ دَالًّا على صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ لِأَنَّ الْعِلِّيَّةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْحُكْمِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ دَالًّا على الْأَصْلِ قال وكان أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ يقول اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في الْجَرَيَانِ هل هو دَالٌّ على صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ أَمْ لَا على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ دَالٌّ عليها وَالثَّانِي أَنَّهُ بِانْفِرَادِهِ لَا يَكُونُ عِلَّةً حتى لَا تَدْفَعَهُ الْأُصُولُ فَإِنْ دَفَعَتْهُ لم يَكُنْ عِلَّةً وَالثَّالِثُ أَنَّهُ عِلَّةٌ حتى يَقُومَ دَلِيلٌ على صِحَّتِهِ قال وَلَا فَرْقَ بين الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وقال غَيْرُهُ إنَّهُ يُفِيدُ ظَنَّ عِلِّيَّةِ الْمَدَارِ لِلدَّائِرِ بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ
____________________
(4/219)
الْأَوَّلُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدَارُ مَقْطُوعًا بِعَدَمِ عِلِّيَّتِهِ كَالرَّائِحَةِ الْفَائِحَةِ لِلْخَمْرِ فَإِنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ عِلَّةً لِلْحُرْمَةِ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَدَارُ مُتَقَدِّمًا على الدَّائِرِ بِحَيْثُ أَنْ يُقَالَ وُجِدَ الدَّائِرُ فَحِينَئِذٍ لَا يَرِدُ دَوَرَانُ الْمُتَضَايِفَيْنِ وَلَا دَوَرَانُ الْوَصْفِ مع الْحُكْمِ لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَضَايِفَيْنِ ليس مُقَدَّمًا على الْآخَرِ وَلَا الْحُكْمَ على الْوَصْفِ الثَّالِثُ أَنْ لَا يُقْطَعَ بِوُجُودِ مُزَاحِمٍ يَلْزَمُ من كَوْنِ الْمَدَارِ عِلَّةً إلْغَاؤُهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَحِينَئِذٍ لَا يَرُدُّ أَجْزَاءَ الْعِلَّةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كان الْمَعْلُولُ كما دَارَ مع الْعِلَّةِ دَارَ مع كل جُزْءٍ من أَجْزَائِهَا لَكِنَّ الْحُكْمَ بِأَيِّ جُزْءٍ كان يُوجِبُ إلْغَاءَ سَائِرِ الْأَجْزَاءِ أو إلْغَاءَ الْمَجْمُوعِ بِالْكُلِّيَّةِ فَيُوجَدُ لِكُلِّ جُزْءٍ مُزَاحِمٌ يَمْنَعُ من الْحُكْمِ بِعِلِّيَّتِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَجْمُوعِ فإن كَوْنَ الْمَجْمُوعِ عِلَّةً ليس بِمُوجِبٍ إلْغَاءَ الْجُزْءِ بِالْكُلِّيَّةِ عن اعْتِبَارِ الثَّانِي بَلْ لِكُلِّ جُزْءٍ مَدْخَلٌ في التَّأْثِيرِ وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِهِ فَشَرَطُوا شَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ غير مُنَاسِبٍ فإنه مَتَى كان مُنَاسِبًا كانت الْعِلَّةُ صَحِيحَةً من جِهَةِ الْمُنَاسَبَةِ صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ في شِفَاءِ الْعَلِيلِ وَإِلْكِيَا وابن بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُمْ قُلْت وَأَمَّا من يَدَّعِي الْقَطْعَ فيه فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ ظُهُورَ الْمُنَاسَبَةِ وَلَا يَكْتَفِي بِالدَّوَرَانِ بِمُجَرَّدِهِ فإذا انْضَمَّ الْمُنَاسَبَةُ ارْتَقَى إلَى الْقَطْعِ ثُمَّ قال إلْكِيَا وَالْحَقُّ أَنَّ الْأَمَارَةَ لَا تَطَّرِدُ وَلَا تَنْعَكِسُ إلَّا إذَا كانت اجْتِمَاعَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ في مَقْصُودٍ خَاصٍّ في حُكْمٍ خَاصٍّ فإن الْأَحْكَامَ إذَا تَبَاعَدَ ما حَدُّهَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ الْأَمَارَةُ الْوَاحِدَةُ جَارِيَةً فيها على نَسَقِ الْإِطْرَادِ وَالِانْعِكَاسِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ في الطَّهَارَةِ إنَّهَا وَظِيفَةٌ تُشَطَّرُ في وَقْتٍ فَافْتَقَرَتْ إلَى النِّيَّةِ كَالصَّلَاةِ فَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ انْعِكَاسُهُ وقد تَطَّرِدُ وَتَنْعَكِسُ بَعْضُ الْأَمَارَاتِ فَإِنَّهَا مَجْرَى الْحُدُودِ الْعَقْلِيَّةِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاطِّرَادَ وَالِانْعِكَاسَ من بَابِ الْأَشْبَاهِ الظَّاهِرَةِ وَمِنْ قَبِيلِ تَنْبِيهِ الشَّرْعِ على نَصْبِهِ ضَابِطًا لِخَاصَّةٍ فَعُلِّقَتْ بِهِ وَمِمَّا يُتَنَبَّهُ له أَنَّ ما يُوجَدُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا وَيَنْعَدِمُ بِعَدَمِهَا كَالْإِحْصَانِ فَلَيْسَ بِتَعْلِيلٍ اتِّفَاقًا من حَيْثُ إنَّ الطَّرْدَ وَالْعَكْسَ إنَّمَا كان تَعْلِيلًا لِلْإِشْعَارِ بِاجْتِمَاعِ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ في مَعْنًى مُؤَثِّرٍ أو مَصْلَحَةٍ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ فَكَانَ الِاطِّرَادُ من الشَّارِعِ تَنْبِيهًا على وُجُودِ مَعْنًى جُمَلِيٍّ اقْتَضَى الِاجْتِمَاعَ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك مع وُجُودِ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ فإن الْإِيهَامَ لَا مِيزَانَ له مع وُجُودِ الْمَعْنَى الْمُصَرَّحِ بِهِ
____________________
(4/220)
الثَّانِي أَنْ يَتَجَرَّدَ الْوَصْفُ فَأَمَّا إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ سَبْرٌ وَتَقْسِيمُ قال في الْمُسْتَصْفَى يَكُونُ حِينَئِذٍ حُجَّةً كما لو قال هذا الْحُكْمُ لَا بُدَّ له من عِلَّةٍ لِأَنَّهُ حَدَثَ بِحُدُوثِ حَادِثٍ وَلَا حَادِثَ يُمْكِنُ أَنْ يُعَلَّلَ بِهِ إلَّا كَذَا وَكَذَا وقد بَطَلَ الْكُلُّ إلَّا هذا فَهُوَ الْعِلَّةُ وَمِثْلُ هذا السَّبْرِ حُجَّةٌ في الطَّرْدِ الْمَحْضِ وَإِنْ لم يَنْضَمَّ إلَيْهِ الْعَكْسُ فَائِدَةٌ الدَّوْرُ يَسْتَلْزِمُ الْمَدَارَ وَالدَّائِرَ فَالْمَدَارُ هو الْمُدَّعَى عِلِّيَّتُهُ كَالْقَتْلِ الْمَوْصُوفِ وَالدَّائِرُ هو الْمُدَّعَى مَعْلُولِيَّتُهُ كَوُجُوبِ الْقِصَاصِ الْمَسْلَكُ التَّاسِعُ الطَّرْدُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ كَوْنَ الْعِلَّةِ لَا تَنْتَقِضُ فَذَاكَ مَقَالُ الْعَكْسِ بَلْ الْمُرَادُ أَنْ لَا تَكُونَ عِلَّتُهُ مُنَاسِبَةً وَلَا مُؤَثِّرَةً وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّوَرَانِ أَنَّ ذلك عِبَارَةٌ عن الْمُقَارَنَةِ وُجُوبًا وَعَدَمًا وَهَذَا مُقَارِنٌ في الْوُجُودِ دُونَ الْعَدَمِ وقال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِيمَا حَكَاهُ الْبَغَوِيّ عنه في تَعْلِيقِهِ الطَّرْدُ شَيْءٌ أَحْدَثَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وهو حَمْلُ الْفَرْعِ على الْأَصْلِ بِغَيْرِ أَوْصَافِ الْأَصْلِ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ الْوَصْفِ تَأْثِيرٌ في إثْبَاتِ الْحُكْمِ كَقَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا في نِيَّةِ الْوُضُوءِ عِبَادَةٌ يُبْطِلُهَا الْحَدَثُ وَتُشَطَّرُ بِعُذْرِ السَّفَرِ فَيُشْتَرَطُ فيها النِّيَّةُ كَالصَّلَاةِ وَلَا تَأْثِيرَ لِلشَّطْرِ بِعُذْرِ السَّفَرِ في إثْبَاتِ النِّيَّةِ وَكَقَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ في مَسِّ الذَّكَرِ مُعَلَّقٌ مَنْكُوسٌ فَلَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّهِ دَلِيلُهُ الدَّبُّوسُ أو قالوا طَوِيلٌ مَشْقُوقٌ فَلَا يَنْتَقِضُ بِمَسِّهِ كَالْقَلَمِ وَالْبُوقِ قال وَهَذَا سُخْفٌ يَتَحَاشَى الطِّفْلُ عن ذِكْرِهِ فَضْلًا عن الْفَقِيهِ انْتَهَى وقال ابن السَّمْعَانِيِّ هو الذي لَا يُنَاسِبُ الْحُكْمَ وَلَا يُشْعِرُ بِهِ وقال الْإِمَامُ وَأَتْبَاعُهُ هو الْوَصْفُ الذي لَا يَكُونُ مُنَاسِبًا وَلَا مُسْتَلْزِمًا لِلْمُنَاسِبِ وَإِلَّا لم تَكُنْ حَاجَةٌ إلَى الطَّرْدِ وَيَكُونُ الْحُكْمُ حَاصِلًا معه في جَمِيعِ صُوَرِ حُصُولِهِ غير صُورَةِ النِّزَاعِ فَإِنْ حَصَلَ في صُورَةِ النِّزَاعِ كان دَوَرَانًا قال الْهِنْدِيُّ هذا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَمِنْهُمْ من قال لَا يُشْتَرَطُ ذلك بَلْ يَكْفِي في عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ الطَّرْدِيِّ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُقَارِنًا له وَلَوْ في صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وقد اخْتَلَفُوا في كَوْنِهِ حُجَّةً وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الطَّرْدَ والعكس ليس بِحُجَّةٍ فَفِي كَوْنِ الطَّرْدِ ليس بِحُجَّةٍ من طَرِيقِ الْأَوْلَى فَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِحُجِّيَّةِ ذلك فَقَدْ اخْتَلَفُوا في
____________________
(4/221)
حُجِّيَّةِ الطَّرْدِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ من فَصَّلَ وقال بِحُجِّيَّتِهِ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَالْمُعْتَبَرُونَ من النُّظَّارِ على أَنَّ التَّمَسُّكَ بِهِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ من بَابِ الْهَذَيَانِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَتَنَاهَى الْقَاضِي في تَغْلِيطِ من يَعْتَقِدُ رَبْطَ حُكْمِ اللَّهِ عز وجل بِهِ وَنَقَلَهُ إلْكِيَا عن الْأَكْثَرِينَ من الْأُصُولِيِّينَ لِأَنَّهُ يَجِبُ تَصْحِيحُ الْعِلَّةِ في نَفْسِهَا أَوَّلًا ثُمَّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عليها فإنه ثَمَرَةُ الْعِلَّةِ فَالِاسْتِثْمَارُ بَعْدَ التَّصْحِيحِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ ما حَقُّهُ في الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ عَلَمًا على ثُبُوتِ الْأَصْلِ قال وقد رَأَيْنَا في الطَّرْدِ صُوَرًا لَا يَتَخَيَّلُ عَاقِلٌ صِحَّتَهَا كَتَشْبِيهِ الصَّلَاةِ بِالطَّوَافِ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في شَرْحِ الْكِفَايَةِ عن الْمُحَصِّلِينَ من أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وقال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِيمَا نَقَلَهُ الْبَغَوِيّ في تَعْلِيقِهِ عنه لَا يَجُوزُ أَنْ يُدَانَ اللَّهُ بِهِ وقال ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ الطَّرْدُ جَرَيَانُ الْعِلَّةِ في مَعْلُولَاتِهَا وَسَلَامَتِهَا من أَصْلٍ يَرُدُّهَا وَيَنْفِيهَا وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ لَا يَدُلُّ على صِحَّتِهَا وَذَهَبَ طَوَائِفُ من الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ وَمَالَ إلَيْهِ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَجَزَمَ بِهِ الْبَيْضَاوِيُّ قال ابن السَّمْعَانِيُّ وَحَكَاهُ الشَّيْخُ في التَّبْصِرَةِ عن الصَّيْرَفِيِّ وَهَذَا فيه نَظَرٌ فإن ذَاكَ في الِاطِّرَادِ الذي هو الدَّوَرَانُ وقال الْكَرْخِيّ هو مَقْبُولٌ جَدَلًا وَلَا يَسُوغُ التَّعْوِيلُ عليه عَمَلًا وَلَا الْفَتْوَى بِهِ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ ذَهَبَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ يَدُلُّ على صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ وَاقْتَدَى بِهِ قَوْمٌ من أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ بِالْعِرَاقِ فَصَارُوا يَطْرُدُونَ الْأَوْصَافَ على مَذَاهِبِهِمْ وَيَقُولُونَ إنَّهَا قد صَحَّتْ كَقَوْلِهِمْ في مَسِّ الذَّكَرِ مَسُّ آلَةِ الْحَرْثِ فَلَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ كما إذَا مَسَّ الْفَدَّانَ وَإِنَّهُ طَوِيلٌ مَشْقُوقٌ فَأَشْبَهَ الْبُوقَ وفي السَّعْيِ بين الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إنَّهُ سَعْيٌ بين جَبَلَيْنِ فَلَا يَكُونُ رُكْنًا في الْحَجِّ كَالسَّعْيِ بين جَبَلَيْنِ بِنَيْسَابُورَ وَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ أَنَّ هذا سُخْفٌ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَسَمَّى أبو زَيْدٍ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الطَّرْدَ حُجَّةً وَالِاطِّرَادَ دَلِيلًا على صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ حَشْوِيَّةَ أَهْلِ الْقِيَاسِ قال وَلَا يُعَدُّ هَؤُلَاءِ من جُمْلَةِ الْفُقَهَاءِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَيَجُوزُ لِلشَّارِعِ نَصْبُ الطَّرْدِ عَلَمًا عليه لَكِنَّهُ لَا يَكُونُ عِلَّةً بَلْ تَقْرِيبٌ لِلْحُكْمِ وَتَحْدِيدٌ له قال وَذَكَرَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ أَنَّ الِاطِّرَادَ زِيَادَةُ دَعْوَى على دَعْوَى وَالدَّعْوَى لَا تَثْبُتُ بِزِيَادَةِ دَعْوَى وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ قد يَطَّرِدُ وَلَوْ كان الِاطِّرَادُ دَلِيلَ صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ لم يَقُمْ هذا الدَّلِيلُ على الْأَقْيِسَةِ الْفَاسِدَةِ الْمُطَّرِدَةِ مِثْلُ قَوْلِ من يقول في إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمَاءِ مَائِعٌ لَا تُبْنَى عليه
____________________
(4/222)
الْقَنَاطِرُ وَلَا يُصَادُ منه السَّمَكُ فَأَشْبَهَ الدُّهْنَ وَالْمَرَقَةَ وفي الْمَضْمَضَةِ اصْطِكَاكُ الْأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْقُضَ الطَّهَارَةَ كَالرَّعْدِ وَلَا يَلْزَمُ الضُّرَاطُ لِأَنَّهُ اصْطِكَاكُ الْأَجْرَامِ السُّفْلِيَّةِ قال الْقَاضِي هذا مع سُخْفِهِ يَنْتَقِضُ بِمَا لو صَفَعَ امْرَأَتَهُ وَصَفَعَتْهُ وَالِاشْتِغَالُ بهذا هُزْأَةٌ وَلَعِبٌ في الدِّينِ انْتَهَى وقال الْكَرْخِيّ هو مَقْبُولٌ جَدَلًا وَلَا يَسُوغُ التَّعْوِيلُ عليه عَمَلًا وهو ظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وقال إنَّهُ رَأْيُ الْمَشَايِخِ الْمُتَقَدِّمِينَ وقال هو مَصْلَحَةٌ لِلْمُنَاظِرِ في حَقِّ من أَثْبَتَ الشَّبَهَ وَرَآهُ مُعْتَمَدًا بَلْ لَا طَرِيقَ سِوَاهُ فَإِمَّا أَنْ يُصَارَ إلَى إبْطَالِ الشَّبَهِ رَأْسًا وَقَصْرِ الْجَامِعِ على الْمُخَيَّلِ وَإِمَّا أَنْ يَقْبَلَ من الْمُنَاظِرِ الْجَمِيعَ على الْإِطْلَاقِ وَهَاهُنَا أُمُورٌ ذَكَرَهَا إلْكِيَا أَحَدُهَا أَنَّ هذا كُلَّهُ في غَيْرِ الْمَحْسُوسَاتِ أَمَّا الْمَحْسُوسَاتُ فَقَدْ تَكُونُ صَحِيحَةً مِثْلُ ما نَعْلَمُهُ أَنَّ الْبَرْقَ يَسْتَعْقِبُ صَوْتَ الرَّعْدِ فَلِهَذَا اطَّرَدَ وَغَلَبَ على الظَّنِّ بِهِ الثَّانِي أَنَّ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ فإن أَحَدًا لَا يُنْكِرُهُ إذَا غَلَبَ على الظَّنِّ وَأَحَدًا لَا يَتَّبِعُ كُلَّ وَصَفٍّ لَا يَغْلِبُ على الظَّنِّ وَإِنْ أَحَالُوا اطِّرَادًا لَا يَنْفَكُّ عن غَلَبَةِ الظَّنِّ الثَّالِثُ إذَا قُلْنَا بِأَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ فَهَلْ يَجُوزُ التَّعَلُّقُ بِهِ لِدَفْعِ النَّقْضِ أَمْ لَا قال إلْكِيَا فيه تَفْصِيلٌ فَإِنْ كان يَرْجِعُ ما قُيِّدَ الْكَلَامُ بِهِ إلَى تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ بِحُكْمِهَا فَالْكَلَامُ في تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ سَبَقَ وَإِنْ كان التَّقْيِيدُ كما قُيِّدَ بِهِ تَقْيِيدًا بِمَا يَظْهَرُ تَقَيَّدَ من الشَّرْعِ الْحُكْمُ بِهِ وَصُورَةُ النَّقْضِ آيِلَةٌ إلَى اسْتِثْنَاءِ الشَّرْعِ فَلَا يُمْنَعُ من هذا التَّخْصِيصِ كما إذَا عُلِّلَ إيجَابُ الْقِصَاصِ على الْقَاتِلِ فَنُقِضَ بِالْأَبِ فَلَا يُمْنَعَ من هذا التَّخْصِيصِ وَإِنْ كان يَدُلُّ على مَعْنًى في عُرْفِ الْفُقَهَاءِ إلَّا اللُّغَةَ وَذَلِكَ الْمَعْنَى صَالِحٌ لَأَنْ يُجْعَلَ وَصْفًا وَمَنَاطًا لِلْحُكْمِ فَيَجُوزُ دَفْعُ النَّقْضِ بِهِ كَقَوْلِنَا ما لَا يَتَجَزَّأُ في الطَّلَاقِ فَذِكْرُ بَعْضِهِ كَذِكْرِ كُلِّهِ فَلَا يَلْزَمُ عليها النِّكَاحُ فَإِنْ كان النِّكَاحُ يُنْبِئُ في الشَّرْعِ عن خَصَائِصَ وَمَزَايَا في الْقُوَّةِ لَا يُلْغَى في غَيْرِهِ فَيَنْدَفِعُ النَّقْضُ
____________________
(4/223)
فَصْلٌ سَاقَ الْغَزَالِيُّ في شِفَاءِ الْعَلِيلِ من كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ هُنَا أَمْرًا حَسَنًا يَنْبَغِي لِلْفَقِيهِ الْإِحَاطَةُ بِهِ فقال قِيَاسُ الطَّرْدِ صَحِيحٌ وَالْمَعْنِيُّ بِهِ التَّعْلِيلُ بِالْوَصْفِ الذي لَا يُنَاسِبُ وقال بِهِ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَنْ شَنَّعَ على الْقَائِلِينَ بِهِ من عُلَمَاءِ الْعَصْرِ الْقَرِيبِ كَأَبِي زَيْدٍ وَأُسْتَاذِي إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فَهُمْ من جُمْلَةِ الْقَائِلِينَ بِهِ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ يُعَبِّرُ عن الطَّرْدِ الذي لَا يُنَاسِبُ بِ الشَّبَهِ وَيَقُولُ الطَّرْدُ بَاطِلٌ وَالشَّبَهُ صَحِيحٌ وأبو زَيْدٍ يُعَبِّرُ عن الطَّرْدِ بِ الْمُخَيَّلِ وَعَنْ الشَّبَهِ بِ الْمُؤَثِّرِ وَيَقُولُ الْمُخَيَّلُ بَاطِلٌ وَالْمُؤَثِّرُ صَحِيحٌ وقد بَيَّنَّا بِأَصْلِهِ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمُؤَثِّرِ ما أَرَدْنَاهُ بِالْمُخَيَّلِ وَسَنُبَيِّنُ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالشَّبَهِ الْمُنْكِرِينَ لِلطَّرْدِ مُرَادُهُمْ بِالشَّبَهِ ما أَرَدْنَاهُ بِالطَّرْدِ وَأَنَّ الْوَصْفَ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ مُنَاسِبٌ كما ذَكَرْنَا وهو حُجَّةٌ وِفَاقًا وَمِنْهُمْ من يُلَقِّبُهُ بِالْمُؤَثِّرِ وَيُنْكِرُ الْمُخَيَّلَ وَغَيْرُ الْمُنَاسِبِ أَيْضًا حُجَّةٌ إذَا دَلَّ عليه الدَّلِيلُ وَمِنْهُمْ من يُلَقِّبُهُ بِالشَّبَهِ حتى يُخَيَّلَ أَنَّهُ غَيْرُ الطَّرْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قال وَلَقَدْ عز على بَسِيطِ الْأَرْضِ من يُحَقِّقُ الشَّبَهَ ثُمَّ قال فَنَقُولُ اخْتَلَفَ الناس في الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ وَالشَّبَهِ فَمِنْهُمْ من قال بِهِمَا وَمِنْهُمْ من أَنْكَرَهُمَا وَمِنْهُمْ من قال بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَنَحْنُ نَقُولُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ الْقَوْلُ بِهِمَا جميعا فَإِنَّهُمْ قالوا بِالشَّبَهِ وهو أَضْعَفُ من الْقَوْلِ بِالطَّرْدِ وَالْعَكْسِ قال وقد عَلَّلَ بِهِ الْفُقَهَاءُ كَافَّةً سُقُوطَ التَّكْرَارِ في مَسْحِ الْخُفِّ وَشَرْعِيَّتِهِ في غَسْلِ الْأَعْضَاءِ فقال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في مَسْحِ الرَّأْسِ إنَّهُ مَسْحٌ فَلَا يَكُونُ كَمَسْحِ الْخُفِّ وقال الشَّافِعِيُّ أَصْلٌ في الطَّهَارَةِ فَكُرِّرَ كَالْغَسْلِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا طَرْدٌ مَحْضٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ طَهَارَتَانِ فَأَنَّى تَفْتَرِقَانِ قال وَاَلَّذِي يَدُلُّ على أَنَّ الشَّافِعِيَّ لم يَذْهَبْ في التَّعْلِيلِ مَسْلَكَ الْإِخَالَةِ فَصْلٌ ذَكَرَهُ في كِتَابِ الرِّسَالَةِ وقد نَقَلْنَاهُ بِلَفْظِهِ قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قال اللَّهُ تَعَالَى وَالْوَالِدَاتُ يَرْضِعْنَ الْآيَةَ وَأَمَرَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم هِنْدًا أَنْ تَأْخُذَ من مَالِ أبي سُفْيَانَ ما يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا فَكَانَ الْوَلَدُ من الْوَالِدِ فَأُجْبِرَ على
____________________
(4/224)
صَلَاحِهِ في الْحَالِ التي لَا يُغْنِي فيها عن نَفْسِهِ وكان الْأَبُ إذَا بَلَغَ أَنْ لَا يُغْنِيَ عن نَفْسِهِ بِكَسْبٍ وَلَا مَالٍ فَعَلَى وَلَدِهِ صَلَاحُهُ في نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ قِيَاسًا على الْوَالِدِ ولم يَضَعْ شيئا هو منه كما لم يَكُنْ لِلْوَالِدِ ذلك وَالْوَالِدُ وَإِنْ بَعُدَ وَالْوَلَدُ وَإِنْ سَفَلَ في هذا الْمَعْنَى فَقُلْنَا يُنْفِقُ على كل مُحْتَاجٍ منهم غَيْرِ مُحْتَرِفٍ وَلَهُ النَّفَقَةُ على الْغَنِيِّ الْمُحْتَرِفِ وَذَكَرَ حُكْمَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِأَنَّ الْغَلَّةَ بِالضَّمَانِ فقال وَكَأَنَّ الْغَلَّةَ لم تَقَعْ عليها صَفْقَةُ الْبَيْعِ فَيَكُونُ لها حِصَّةٌ في الثَّمَنِ فَكَانَتْ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي في الْوَقْتِ الذي لو فَاتَ فيه الْعَقْدُ فَاتَ في مَالِهِ فَدَلَّ أَنَّهُ إنَّمَا جَعَلَهَا له لِأَنَّهُ حَادِثَةٌ في مِلْكِهِ وَضَمَانِهِ فَقُلْنَا كَذَلِكَ في ثَمَرِ النَّخِيلِ وَلَبَنِ الْمَاشِيَةِ وَصُوفِهَا وَأَوْلَادِهَا وَوَلَدِ الْجَارِيَةِ وَكُلِّ ما حَدَثَ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَضَمَانِهِ وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْأَمَةِ الثَّيِّبِ وَخِدْمَتِهَا وَنَهَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عن الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ بِالْوَرِقِ وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ فلما حَرَّمَ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هذه الْأَصْنَافَ الْمَأْكُولَةَ التي يَشِحُّ الناس عليها حين بَاعُوهَا كَيْلًا لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُبَاعَ منها شَيْءٌ بمثله دَيْنًا وَالْآخَرُ زِيَادَةُ أَحَدِهِمَا على الْآخَرِ نَقْدًا كان كما كان في مَعْنَاهَا فَحَرَّمْنَا قِيَاسًا عَلَيْهِمَا فَكَذَلِكَ كُلُّ ما أُكِلَ مِمَّا اُبْتِيعَ مَوْزُونًا وَالْوَزْنُ وَالْكَيْلُ في ذلك سَوَاءٌ وَذَلِكَ كَالْعَسَلِ وَالزَّبِيبِ وَالسَّمْنِ وَالسُّكَّرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُكَالُ وَيُوزَنُ وَيُبَاعُ مَوْزُونًا ولم يُقَسْ الْمَوْزُونُ على الْمَوْزُونِ من الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ لَأَنْ يَجُوزَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ نَقْدًا عَسَلًا وَسَمْنًا إلَى أَجَلٍ وَلَوْ قِيسَ عليه لم يَجُزْ إلَّا يَدًا بِيَدٍ كَالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَيُقَاسُ بِهِ ما كان في مَعْنَاهُ من الْمَأْكُولِ وَالْمَوْزُونِ لِأَنَّهُ يُعْتَادُ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ قال الْغَزَالِيُّ هذا كُلُّهُ نَقَلْنَاهُ من لَفْظِ الشَّافِعِيِّ فَلْيَتَأَمَّلْ الْمُنْصِفُ لِيَعْرِفَ كَيْفَ عَلَّلَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ ما لَا يُنَاسِبُ ذَاهِبًا إلَى أَنَّ الْمُشَارِكَ له في هذه الْأَوْصَافِ في مَعْنَاهُ غير مُعَرِّجٍ على الْمُنَاسَبَةِ وَالْإِيمَاءِ وَنَقَلَ أبو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ من لَفْظِ ابْنِ سُرَيْجٍ في سِيَاقِ كَلَامٍ له في تَصْحِيحِ التَّعْلِيلِ بِالِاطِّرَادِ وَالسَّلَامَةِ عن النَّوَاقِضِ فَصْلًا وهو قَوْلُهُ قُلْت فَإِنْ قال قَائِلٌ إذَا ادَّعَيْتُمْ أَنَّ الْعِلَلَ تُسْتَخْرَجُ وَتَصِحُّ بِالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ وَالِاطِّرَادِ في مَعْلُولَاتِهَا فَإِنْ عَارَضَهَا أَصْلٌ يَدْفَعُهَا عُلِمَ فَسَادُهُ وَإِنْ لم يُعَارِضْهَا أَصْلٌ صَحَّتْ فَأَخْبِرُونِي إذَا انْتَزَعْتُمْ عِلَّةً من
____________________
(4/225)
أَصْلٍ فَانْتَزَعَ مُخَالِفُوكُمْ عِلَّةً أُخْرَى فَخَبِّرُونَا ما جَعَلَ عِلَّتَكُمْ أَوْلَى فَإِنْ أَحَلْتُمْ ذلك أَرَيْنَاكُمْ زَعَمَ الْعِرَاقِيُّ عِلَّةَ الْبُرِّ أَنَّهُ مَكِيلٌ فإن ذلك لَا يُنْكَرُ وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أنها الْأَكْلُ دُونَ الْكَيْلِ فَنَقُولُ إنَّا تَرَكْنَا جَعْلَ كل وَاحِدٍ من هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عِلَّةً لِأَنَّهُ يُخْرِجُنَا من قَوْلِ الْعُلَمَاءِ الذي احْتَجْنَا إلَى تَرْجِيحِ قَوْلِ بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ اقْتَصَرَ على الْأَكْلِ وَالْعِرَاقِيَّ على الْكَيْلِ فَرَجَّحْنَا هذه على تِلْكَ فَإِنَّا وَجَدْنَا الْكَيْلَ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْوَزْنِ وَوَجَدْنَا ما حُرِّمَ من الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَدُلُّ على تَحْرِيمِ الْمَوْزُونَاتِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الذَّهَبَ لَا يَجُوزُ بِالْوَرِقِ نَسِيئَةً وَيَجُوزُ الذَّهَبُ بِالْمَوْزُونَاتِ نَسِيئَةً وَقَرَّرَ هذا الْكَلَامَ ثُمَّ قال دَلَّ هذا على أَنَّ الشَّيْءَ حَرَامٌ لِمَعْنًى فيه كَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَأَنَّهَا أَصْلُ النَّقْدَيْنِ وَقِيَمُ الْمُسْتَهْلَكَاتِ وَمِنْهُمَا فَرْضُ الزَّكَوَاتِ فلم يَحْرُمَا لِأَنَّ هَاهُنَا أَمْرًا يُعْرَفُ بِهِ مِقْدَارُهُمَا وهو الْوَزْنُ بَلْ لِمَا فِيهِمَا من مَنَافِعِ الناس التي يُعَدُّ لَهُمَا فيها شَيْءٌ سِوَاهُمَا من التَّقَلُّبِ وَالنَّقْدِ الذي إلَيْهِ تَرْجِعُ الْمُعَامَلَةُ الدَّائِرَةُ بين الناس وَكَذَلِكَ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ إنَّمَا حُرِّمَا لِأَنَّهُمَا الْأَقْوَاتُ وَالْمَعَاشُ وَالْغِذَاءُ وَالطَّعَامُ ثُمَّ جُرِّدَ من ذلك كُلِّهِ الْأَكْلُ كان أَعَمَّ الْأُمُورِ وقد ضُمَّ إلَيْهَا في قَوْلٍ لِأَصْحَابِنَا أَجْزَاءُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في كِتَابِ الْبُيُوعِ الْقَدِيمِ وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قال لَا رِبًا إلَّا في ذَهَبٍ أو وَرِقٍ وما يُكَالُ أو يُوزَنُ مِمَّا يُؤْكَلُ أو يُشْرَبُ وَقَوْلُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ في هذا أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ قال الْغَزَالِيُّ فَهَذَا جُمْلَةُ ما أَرَدْنَا نَقْلَهُ من لَفْظِ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ سُرَيْجٍ لِنُبَيِّنَ أَنَّ أَرْبَابَ الْمَذَاهِبِ بِأَجْمَعِهِمْ ذَهَبُوا إلَى جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الذي لَا يُنَاسِبُ من غَيْرِ اسْتِنَادٍ إلَى إيمَاءٍ وَنَصٍّ وَمُنَاسَبَةٍ قال وَالْفَرْضُ الْآنَ أَنْ نُبَيِّنَ نَقْلًا عن عُلَمَاءِ الشَّرْعِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ الْقَوْلَ بِالْوَصْفِ الذي لَا يُنَاسِبُ وَتَسْمِيَتَهُمْ ذلك عِلَّةً وَكَذَلِكَ تَعْلِيلُ النَّقْدَيْنِ بِالنَّقْدِيَّةِ الْقَاصِرَةِ تَدُلُّ على أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَقْتَصِرُ على التَّشْبِيهِ إذْ التَّشْبِيهُ إنَّمَا يَقُومُ من فَرْعٍ وَأَصْلٍ وَلَا فَرْعَ لِهَذَا الْأَصْلِ
____________________
(4/226)
الْمَسْلَكُ الْعَاشِرُ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ وَالتَّنْقِيحُ هو التَّهْذِيبُ وَالتَّمْيِيزُ وَكَلَامٌ مُنَقَّحٌ أَيْ لَا حَشْوَ فيه وَالْمَنَاطُ هو الْعِلَّةُ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَتَعْبِيرُهُمْ بِالْمَنَاطِ عن الْعِلَّةِ من بَابِ الْمَجَازِ اللُّغَوِيِّ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمَّا عُلِّقَ بها كان كَالشَّيْءِ الْمَحْسُوسِ الذي تَعَلَّقَ بِغَيْرِهِ فَهُوَ مَجَازٌ من بَابِ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ وَصَارَ ذلك في اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ بِحَيْثُ لَا يُفْهَمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ غَيْرُهُ وَلَمَّا كانت هذه الْعِلَّةُ مَنْصُوصًا عليها وَلَكِنَّهَا تَخْتَلِطُ بِغَيْرِهَا مُحْتَاجَةً إلَى ما يُمَيِّزُهَا لَقَّبُوهُ بهذا اللَّقَبِ وهو أَنْ يَدُلَّ ظَاهِرٌ على التَّعْلِيلِ بِوَصْفٍ مَذْكُورٍ مع غَيْرِهِ مِمَّا لَا مَدْخَلَ له في التَّأْثِيرِ لِكَوْنِهِ طَرْدِيًّا أو مُلْغًى فَيُنَقَّحُ حتى يُمَيَّزَ الْمُعْتَبَرَ وَيَجْتَهِدُ في تَعْيِينِ السَّبَبِ الذي أَنَاطَ الشَّارِعُ الْحُكْمَ بِهِ وَأَضَافَهُ إلَيْهِ بِحَذْفِ غَيْرِهِ من الْأَوْصَافِ عن دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ وَحَاصِلُهُ إلْحَاقُ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ بِإِلْغَاءِ الْفَرْقِ بِأَنْ يُقَالَ لَا فَرْقَ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إلَّا كَذَا وَكَذَا وَذَلِكَ لَا مَدْخَلَ له في الْحُكْمِ أَلْبَتَّةَ فَيَلْزَمُ اشْتِرَاكُهُمَا في الْحُكْمِ لِاشْتِرَاكِهِمَا في الْمُوجِبِ له كَقِيَاسِ الْأَمَةِ على الْعَبْدِ في السِّرَايَةِ فإنه لَا فَارِقَ بَيْنَهُمَا إلَّا الذُّكُورَةُ وهو مُلْغًى بِالْإِجْمَاعِ إذْ لَا مَدْخَلَ له في الْعِلِّيَّةِ وَسَمَّاهُ الْحَنَفِيَّةُ الِاسْتِدْلَالَ وَأَجْرَوْهُ في الْكَفَّارَاتِ وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ بِأَنَّ الْقِيَاسَ ما أُلْحِقَ فيه بِذِكْرِ الْجَامِعِ الذي لَا يُفِيدُ إلَّا غَلَبَةَ الظَّنِّ والاستدلال ما يَكُونُ الْإِلْحَاقُ فيه بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ الذي يُفِيدُ الْقَطْعَ حتى أَجْرَوْهُ مَجْرَى الْقَطْعِيَّاتِ في النَّسْخِ وَجَوَّزُوا الزِّيَادَةَ على النَّصِّ ولم يُجَوِّزُوا نَسْخَهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ قال الْهِنْدِيُّ وَالْحَقُّ أَنَّ تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ قِيَاسٌ خَاصٌّ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ مُطْلَقِ الْقِيَاسِ وهو عَامٌّ يَتَنَاوَلُهُ وَغَيْرَهُ وَكُلٌّ مِنْهُمَا قد يَكُونُ ظَنِّيًّا وهو الْأَكْثَرُ وَقَطْعِيًّا لَكِنَّ حُصُولَ الْقَطْعِ فِيمَا فيه الْإِلْحَاقُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ أَكْثَرُ من الذي الْإِلْحَاقُ فيه بِذِكْرِ الْجَامِعِ لَكِنْ ليس ذلك فَرْقًا في الْمَعْنَى بَلْ في الْوُقُوعِ وَحِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا في الْمَعْنَى وقال الْغَزَالِيُّ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ يقول بِهِ أَكْثَرُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ وَلَا نَعْرِفُ بين الْأُمَّةِ خِلَافًا في جَوَازِهِ وَنَازَعَهُ الْعَبْدَرِيّ بِأَنَّ الْخِلَافَ فيه ثَابِتٌ بين من يُثْبِتُ الْقِيَاسَ وَيُنْكِرُهُ لِرُجُوعِهِ إلَى الْقِيَاسِ وقال الْإِبْيَارِيُّ هو خَارِجٌ عن الْقِيَاسِ وَكَأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَأْوِيلِ الظَّوَاهِرِ وَلِهَذَا أَنْكَرَ أبو حَنِيفَةَ الْقِيَاسَ في الْكَفَّارَاتِ وقال إنَّ الْكَفَّارَةَ خَرَجَتْ
____________________
(4/227)
على الْأَصْلِ وقال ابن رَحَّالٍ إنْ كان الْمَقْصُودُ بِالتَّنْقِيحِ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ في حَقِّ شَخْصٍ كما في حديث الْمُجَامِعِ فَالْأَمْرُ كما قال الْحَنَفِيَّةُ وَلَا يَكُونُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يُسْتَعْمَلُ في حَقِّ الْأَشْخَاصِ بَلْ تَكُونُ التَّعْدِيَةُ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حُكْمِي على الْوَاحِدِ حُكْمِي على الْجَمَاعَةِ وَإِنْ كان الْمَقْصُودُ تَعْلِيلًا في وَاقِعَةٍ فَلَيْسَ كما قالوا بَلْ هو من قَبِيلِ الْقِيَاسِ كما في قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَقْضِي الْقَاضِي وهو غَضْبَانُ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَعَدَّى من وَاقِعَةٍ إلَى وَاقِعَةٍ بِغَيْرِ الْقِيَاسِ وَيَتَعَدَّى من شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ بِغَيْرِ الْقِيَاسِ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ أَمَّا تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ فَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَ على عِلِّيَّةِ وَصْفٍ بِنَصٍّ أو إجْمَاعٍ فَيَجْتَهِدُ في وُجُودِهَا في صُورَةِ النِّزَاعِ كَتَحْقِيقِ أَنَّ النَّبَّاشَ سَارِقٌ وَكَأَنْ يَعْلَمَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَلَكِنْ لَا يُدْرِكُ جِهَتَهَا إلَّا بِنَوْعِ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ الْمَنَاطَ وهو الْوَصْفُ عُلِمَ أَنَّهُ مَنَاطٌ وَبَقِيَ النَّظَرُ في تَحْقِيقِ وُجُودِهِ في الصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ قال الْغَزَالِيُّ وَهَذَا النَّوْعُ من الِاجْتِهَادِ لَا خِلَافَ فيه بين الْأَئِمَّةِ وَالْقِيَاسُ مُخْتَلَفٌ فيه فَكَيْفَ يَكُونُ قِيَاسًا وَنَازَعَهُ الْعَبْدَرِيُّ بِمَا تَقَدَّمَ في نَظِيرِهِ تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ وَأَمَّا تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ فَهُوَ الِاجْتِهَادُ في اسْتِخْرَاجِ عِلَّةِ الْحُكْمِ الذي دَلَّ النَّصُّ أو الْإِجْمَاعُ عليه من غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِبَيَانِ عِلَّتِهِ أَصْلًا وهو مُشْتَقٌّ من الْإِخْرَاجِ فَكَأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ اللَّفْظَ لم يَتَعَرَّضْ لِلْمَنَاطِ بِحَالٍ فَكَأَنَّهُ مَسْتُورٌ أُخْرِجَ بِالْبَحْثِ وَالنَّظَرِ كَتَعْلِيلِ تَحْرِيمِ الرِّبَا بِالطُّعْمِ فَكَأَنَّ الْمُجْتَهِدَ أَخْرَجَ الْعِلَّةَ وَلِهَذَا سُمِّيَ تَخْرِيجًا بِخِلَافِ التَّنْقِيحِ فإنه لم يُسْتَخْرَجْ لِكَوْنِهِ مَذْكُورًا في النَّصِّ بَلْ نَقَّحَ الْمَنْصُوصَ وَأَخَذَ منه ما يَصْلُحُ لِلْعِلِّيَّةِ وَتَرَكَ ما لَا يَصْلُحُ قال الْغَزَالِيُّ وَهَذَا الِاجْتِهَادُ الْقِيَاسُ الذي وَقَعَ الْخِلَافُ فيه وقال الْبَزْدَوِيُّ هو الْأَغْلَبُ في مُنَاظَرَاتِهِمْ لِأَنَّهُ بِهِ يَظْهَرُ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ وَتُوَجَّهُ عليه سَائِرُ الْأَسْئِلَةِ
____________________
(4/228)
وَالْحَاصِلُ أَنَّ بَيَانَ الْعِلَّةِ في الْأَصْلِ تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ وَإِثْبَاتُهُ في الْفَرْعِ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ أَيْ إذَا ظَنَنَّا أو عَلِمْنَا الْعِلَّةَ ثُمَّ نَظَرْنَا وُجُودَهَا في الْفَرْعِ وَظَنَنَّا تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ فَهُوَ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ أُمُورٌ تَتَّصِلُ بِتَنْقِيحِ الْمَنَاطِ وَهَاهُنَا أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنَّ تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ ليس دَالًّا على الْعِلِّيَّةِ بِعَيْنِهِ بَلْ هو دَالٌّ على اشْتِرَاكِ الصُّورَتَيْنِ في الْحُكْمِ بِخِلَافِ تَخْرِيجِ الْمَنَاطِ فإنه لَا بُدَّ فيه من تَعْيِينِ الْعِلَّةِ وَالدَّلَالَةِ على عِلِّيَّتِهَا فَلَا يَكُونُ الْأَوَّلُ من طُرُقِ إثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِعَيْنِهَا أَصْلًا بَلْ هو من طُرُقِ إلْحَاقِ الْمَسْكُوتِ عنه بِالْمَنْطُوقِ قَالَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ الثَّانِي ذَكَرَ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ أَنَّ تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ لَا يَكُونُ من قَبِيلِ الْمُؤَثِّرِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يَسْتَقِرُّ بِالدَّلَالَةِ على كَوْنِهِ عِلَّةً بَلْ يَنْضَمُّ إلَيْهِ دَلِيلُ الْحَذْفِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ من قَبِيلِ الْمُؤَثِّرِ وَاخْتَارَهُ الشَّرِيفُ في جَدَلِهِ لِأَنَّ دَلِيلَ الْحَذْفِ إنَّمَا أَفَادَنَا كَوْنَ الْحَذْفِ غير مُرَادٍ فَأَمَّا كَوْنُ الْبَاقِي مُرَادًا فَإِنَّمَا اسْتَفَدْنَاهُ من الظَّاهِرِ فَكَانَ مُؤَثِّرًا إلَّا أَنَّهُ دُونَ الْمُؤَثِّرِ في الرُّتْبَةِ الثَّالِثُ أَنَّ الْإِمَامَ فَخْرَ الدِّينِ زَعَمَ أَنَّ هذا الْمَسْلَكَ هو مَسْلَكُ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ فَلَا يَحْسُنُ عَدُّهُ نَوْعًا آخَرَ وَلَيْسَ كما قال بَلْ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَصْرَ في دَلَالَةِ السَّبْرِ لِتَعْيِينِ الْعِلَّةِ إمَّا اسْتِقْلَالًا أو اعْتِبَارًا وفي نَفْيِ الْفَارِقِ لِتَعْيِينِ الْفَارِقِ وَإِبْطَالِهِ لَا لِتَعْيِينِ الْعِلَّةِ بَلْ هو نَقِيضُ قِيَاسِ الْعِلَّةِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ هُنَاكَ عَيَّنَ جَامِعًا بين الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ وَعَيَّنَ هُنَا الْفَارِقَ بَيْنَهُمَا تَنْبِيهٌ عَدَّ صَاحِبُ الْمُقْتَرَحِ من الْمَسَالِكِ نَفْيَ الْفَارِقِ بِأَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْفَرْعَ لم يُفَارِقْ الْأَصْلَ إلَّا فِيمَا لَا يُؤَثِّرُ فَيَلْزَمُ اشْتِرَاكُهُمَا في الْمُؤَثِّرِ كَالسِّرَايَةِ في الْأَمَةِ قِيَاسًا على الْعَبْدِ وهو عَجِيبٌ فإنه لَا يَدُلُّ على أَنَّ الْوَصْفَ الْمُعَيَّنَ عِلَّةٌ وَإِنَّمَا يَدُلُّ على أَنَّ عِلَّةَ الْأَصْلِ من حَيْثُ الْجُمْلَةُ مُتَحَقِّقَةٌ في الْفَرْعِ من غَيْرِ تَعْيِينٍ وَلِهَذَا لم يُعِدَّهُ أَحَدٌ من الْجَدَلِيِّينَ من مَسَالِكِ التَّعْلِيلِ وهو قَرِيبٌ من السَّبْرِ إلَّا أَنَّهُ في السَّبْرِ يَبْطُلُ الْجَمْعُ إلَّا وَاحِدًا وفي نَفْيِ الْفَارِقِ يَبْطُلُ وَاحِدٌ فَتَتَعَيَّنُ الْعِلَّةُ بين الْبَاقِي وَالْبَاقِي مَوْجُودٌ في الْفَرْعِ فَيَلْزَمُ اشْتِمَالُهُ على الْعِلَّةِ ثُمَّ على أَصْلِهِ وَلَا بُدَّ فيه من تَفْصِيلٍ فَإِنْ كانت مُقَدِّمَاتُهُ قَطْعِيَّةً فَهُوَ صَحِيحٌ أو ظَنِّيَّةً لم يَصِحَّ لِأَنَّ الْقَطْعَ بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ في الْفَرْعِ لم يَحْصُلْ وهو شَرْطٌ عِنْدَهُ
____________________
(4/229)
وَعَدَّ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ من طُرُقِ الْعِلَّةِ أَنْ لَا يَجِدَ الدَّلِيلَ على عَدَمِ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ فقال ليس على الْقَائِسِ إذَا لم يَجِدْ شيئا مِمَّا قَدَّمْنَاهُ إلَّا أَنْ يَعْرِضَ الْعِلَّةَ التي اسْتَنْبَطَهَا على مُبْطِلَاتِ التَّعْلِيلِ فَإِنْ لم يَجِدْ قَادِحًا وَعَرَضَهَا على أُصُولِ الشَّرِيعَةِ فلم يَجِدْ فيها ما يُنَافِي عِلَّتَهُ فَيَحْكُمُ بِسَلَامَةِ الْعِلَّةِ حِينَئِذٍ وَأَطْنَبَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في تَغْلِيطِهِ وقال هذا بَاطِلٌ لَا أَصْلَ له وَقُصَارَاهُ الِاكْتِفَاءُ بِدَعْوَى مُجَرَّدَةٍ وَالِاكْتِفَاءُ على صِحَّةِ الْعِلَّةِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ على فَسَادِهَا فَلِمَ يُنْكِرُ على الْقَائِلِ أنها تَفْسُدُ بِعَدَمِ الدَّلَالَةِ على صِحَّتِهَا فَإِنْ قال عَدَمُ دَلَالَةِ الْفَسَادِ دَلَالَةُ صِحَّتِهَا قِيلَ عَدَمُ الدَّلَالَةِ على صِحَّتِهَا دَلَالَةٌ على فَسَادِهَا فَتَقَابَلَ الْقَوْلَانِ وَتَجَدَّدَ دَعْوَى الْخَصْمِ وقد عَدَّ بَعْضُهُمْ من طُرُقِ الْعِلَّةِ أَنْ يُقَالَ هذا الْوَصْفُ على تَقْدِيرِ عَدَمِ عِلِّيَّتِهِ لَا يَأْتِي معه ذلك فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِيُمْكِنَ الْإِتْيَانُ معه بِالْمَأْمُورِ بِهِ وهو دَوْرٌ لِأَنَّ تَأَتِّي الْقِيَاسِ يَتَوَقَّفُ على ثُبُوتِ الْعِلَّةِ فَلَوْ أَثْبَتْنَا الْعِلَّةَ بِهِ لَتَوَقَّفَ ثُبُوتُ الْعِلَّةِ عليه وَلَزِمَ الدَّوْرُ
____________________
(4/230)
الِاعْتِرَاضَاتُ اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ ما يُورِدُهُ الْمُعْتَرِضُ على كَلَامِ الْمُسْتَدِلِّ يُسَمَّى اعْتِرَاضًا لِأَنَّهُ اعْتَرَضَ لِكَلَامِهِ وَمَنَعَهُ من الْجَرَيَانِ قال صَاحِبُ خُلَاصَةِ الْمَآخِذِ الِاعْتِرَاضُ عِبَارَةٌ عن مَعْنًى لَازِمُهُ هَدْمُ قَاعِدَةِ الْمُسْتَدِلِّ وهو جَامِعٌ مَانِعٌ ثُمَّ حَصَرَهُ في عَشَرَةِ أَنْوَاعٍ وقال ما عَدَاهُ دَاخِلٌ فيه فَسَادُ الْوَضْعِ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ عَدَمُ التَّأْثِيرِ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ النَّقْضُ الْقَلْبُ الْمَنْعُ التَّقْسِيمُ الْمُطَالَبَةُ الْمُعَارَضَةُ قال وَالْكُلُّ مُخْتَلَفٌ فيه إلَّا الْمَنْعَ وَالْمُطَالَبَةَ مع أَنَّ فيه خِلَافًا شَاذًّا وَخَالَفَ في الْمَنْعِ غَيْرُ وَاحِدٍ من الْأَئِمَّةِ وهو الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الْعَنْبَرِيُّ على حَسَبِ ما سَمِعْته من الْقَاضِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ أَحْمَدَ الْخَطَّابِيِّ انْتَهَى وَتَنْقَسِمُ في الْأَصْلِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مُطَالَبَاتٌ وَقَوَادِحُ وَمُعَارَضَةٌ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ تَسْلِيمَ مُقَدَّمَاتِ الدَّلِيلِ أو لَا وَالْأَوَّلُ الْمُعَارَضَةُ وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ ذلك الدَّلِيلَ أو لَا وَالْأَوَّلُ الْمُطَالَبَةُ وَالثَّانِي الْقَادِحُ وقد أَطْنَبَ الْجَدَلِيُّونَ فيها لِاعْتِمَادِهِمْ إيَّاهَا وَمِنْهُمْ من أَنْهَاهَا إلَى الثَّلَاثِينَ وَغَالِبُهَا يَتَدَاخَلُ وَأَعْرَضَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ عن ذِكْرِهَا في أُصُولِ الْفِقْهِ وَزَعَمَ أنها كَالْعِلَاوَةِ عليه وَأَنَّ مَوْضِعَ ذِكْرِهَا عِلْمُ الْجَدَلِ وَذَكَرَهَا جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ لِأَنَّهَا من مُكَمِّلَاتِ الْقِيَاسِ الذي هو من أُصُولِ الْفِقْهِ وَمُكَمِّلُ الشَّيْءِ من ذلك الشَّيْءِ وَلِهَذِهِ الشُّبْهَةِ أَكْثَرَ قَوْمٌ من ذِكْرِ الْمَنْطِقِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الْكَلَامِيَّةِ لِأَنَّهَا من مَوَادِّهِ وَمُكَمِّلَاتِهِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ ليس الْمُرَادُ من وُرُودِهَا على الْقِيَاسِ أنها تَرِدُ على كل قِيَاسٍ لِأَنَّ من الْأَقْيِسَةِ ما لَا يَرِدُ عليه بَعْضُهَا كَالْقِيَاسِ مع عَدَمِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لَا يَتَّجِهُ عليه فَسَادُ الِاعْتِبَارِ إلَّا من ظَاهِرِيٍّ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ يُنْكِرُ الْقِيَاسَ وَاللَّفْظُ الْبَيِّنُ لَا يَرِدُ عليه الِاسْتِفْسَارُ وَعَلَى هذا يُمْكِنُ تَخَلُّفُ كل وَاحِدٍ من الْأَسْئِلَةِ على الْبَدَلِ عن بَعْضِ الْأَقْيِسَةِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْوَارِدَةَ على الْقِيَاسِ لَا تَخْرُجُ عن هذه الطُّرُقِ وَنَظِيرُ هذا قَوْلُ أَهْلِ التَّصْرِيفِ إنَّ حُرُوفَ الزِّيَادَةِ هِيَ سَأَلْتُمُونِيهَا على مَعْنَى أَنَّ الْحُرُوفَ الزَّائِدَةَ على أُصُولِ مَوَادِّ الْكَلِمَةِ لَا تَزِيدُ على هذه لَا أَنَّ هذه الْحُرُوفَ حَيْثُ وَقَعَتْ كانت زَائِدَةً لِأَنَّ كَثِيرًا منها وَقَعَ أُصُولًا فَاعْرِفْهُ وما ذَكَرْنَاهُ من انْقِسَامِهَا إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ذَكَرَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ وقال الْمُتَأَخِّرُونَ تَرْجِعُ إلَى اثْنَيْنِ الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ لِأَنَّهُ
____________________
(4/231)
مَتَى حَصَلَ الْجَوَابُ عن الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ تَمَّ الدَّلِيلُ ولم يَبْقَ لِلْمُعْتَرِضِ مَجَالٌ فَإِنْ قِيلَ الْقَوْلُ بِرُجُوعِهَا إلَى الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ مَمْنُوعٌ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ من جُمْلَةِ الِاعْتِرَاضَاتِ فَيُؤَدِّي إلَى انْقِسَامِ الشَّيْءِ إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى غَيْرِهِ وَإِلَى أَنَّ الشَّيْءَ يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ نَفْسِهِ ضَرُورَةَ لُزُومِ انْدِرَاجِ الْمُعَارَضَةِ تَحْتَ الْمُعَارَضَةِ قُلْنَا إذَا كان الْمُنْقَسِمُ إلَى هذه الْأَقْسَامِ هو مُطْلَقُ الْمُعَارَضَةِ وَمُطْلَقُ الْمَنْعِ لَا يَلْزَمُ ذلك لِأَنَّ الْأَعَمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ الأول النقض وقدمناه وإن كان من آخر الأسئلة لكثرة جريانه في المناظرات وبالجواب عنه يبين الجمع بين الأحكام المتضادة ويندفع تعارضها وهو تخلف الحكم مع وجود العلة ولو في صورة فإن كان في المناظرة اشترط في صحته اعتراف المستدل بذلك وتسميته نقضا صحيح عند من رآه قادحا وأما من لم يره قدحا فلا يسميه نقضا بل يقول بتخصيص العلة وقد بالغ أبو زيد في الرد على من يسميه نقضا كقولنا فيمن لم يبيت النية صوم تعرى أوله عن النية فلا يصح فيقال فينتقض بصوم التطوع واعلم أولا أن العلة إما منصوصة قطعا أو ظنا أو مستنبطة وتخلف الحكم عنها إما لمانع أو فوات شرط أو دونهما فصارت الصور تسعا من ضرب ثلاثة في ثلاثة وقد اختلفوا فيه على بضعة عشر مذهبا طرفان والباقي أوساط أحدها أنه يقدح في الوصف المدعى عليته مطلقا سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة وسواء كان الحكم لمانع أو لا لمانع وهو مذهب المتكلمين منهم الأستاذ أبو إسحاق كما حكاه إمام الحرمين وهو اختيار أبي الحسين البصري والإمام الرازي وعليه أكثر أصحابنا ونسبوه إلى الشافعي ورجحوا أنه مذهب الشافعي على غيره لأن علله سليمة عن الانتقاض جارية على مقتضاها وأن النقض يشبه تجريح البينة المعدلة واختاره القاضيان أبو بكر وعبد الوهاب من المالكية والثاني لا يقدح مطلقا في كونها علة فيما وراء محل النقض ويتعين تقدير مانع أو تخلف شرط وعليه أكثر أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد وقال الباجي حكاه القاضي والشافعية عن أصحاب مالك ولم أر أحدا من أصحابنا أقر به ولا نصره ووجهه أن العلة بالنسبة إلى محالها ومواردها كالعموم اللفظي بالنسبة إلى موضوعاتها فكما جاز تخصيص العموم اللفظي وإخراج بعض ما تناوله فكذلك في العلة وفرق الأولون
____________________
(4/232)
بينه وبين العام بأن العلة مستلزمة للمعلول إذ هو معناها فإذا انتفى الاستلزام فقد انتفى لازم العلة فتنتفي العلية وهذا مفارق العام لأن العام إما أن ينظر فيه إلى الدلالة الوضعية وتلك لا تنتفي بالتخصيص وإما أن ينظر فيه إلى الإرادة للباقي والثالث لا يقدح في المنصوصة ويقدح في المستنبطة واختاره القرطبي وحكاه إمام الحرمين عن المعظم فقال ذهب معظم الأصوليين إلى أن النقض يبطل العلة المستنبطة ثم قال مسألة علة الشارع هل يرد عليها ما يخالف طردها ذهب الأكثرون إلى أن ذلك غير ممتنع لأنه لا يعرض له في التخصيص بخلاف المستنبطة فإن مستنده ظني وإذا تباعد ما استنبطه عن الجريان ضعفت مسالك ظنه وليس له أن يحكم بتخصيص العلة وقال في المحصول زعم الأكثرون أن علية الوصف إذا ثبتت بالنص لم يقدح التخصيص في عليته والمراد بالمنصوصة عند هؤلاء أن تكون منصوصة بالصريح أو بالإيماء أو بالإجماع كما نقله صاحب التنقيح وحكى بعض المناظرين قولا أنه لا يقدح في المنصوصة بنص قطعي ويقدح فيما عدا ذلك والرابع يبطل المنصوصة دون المستنبطة عكس ما قبله حكاه ابن رحال في شرح المقترح وينبغي حمله على المنصوصة بغير قطعي والخامس لا يقدح في المستنبطة إذا كان لمانع أو شرط ويقدح في المنصوصة حكاه ابن الحاجب وقد أنكروه عليه وقالوا لعله فهم من كلام الآمدي وعند التأمل يندفع من كلامه وقد حكاه ابن رحال أيضا في شرح المقترح والسادس لا يقدح حيث وجد مانع مطلقا سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة فإن لم يكن مانع قدح واختاره البيضاوي والهندي وفقد الشرط ملحق بالمانع والسابع يجوز في المستنبطة في صورتين ولا يقدح فيهما وهما ما إذا كان التخلف لمانع أو انتفاء شرط ولا يجوز في صورة واحدة ويقدح فيها وهي ما إذا كان التخلف دونهما وأما المنصوصة فإن كان النص ظنيا وقدر مانع أو فوات شرط جاز وإن كان قطعيا لم يجز أي لم يمكن وقوعه لأن الحكم لو تخلف لتخلف الدليل وهو لا يمكن أن يكون قطعيا لاستحالة تعارض القطعيين إلا أن يكون أحدهما ناسخا لا ظنيا لأن الظني لا يعارض القطعي وهذا اختيار ابن الحاجب وهو قريب من تفصيل الآمدي وحاصله أنه لا يقدح في المنصوصة إلا بظاهر عام ولا في المستنبطة إلا لمانع أو فقد شرط والمنع ظاهر في النص القطعي إذا لم يكن مانع ولا فوات شرط
____________________
(4/233)
فإن كان فلا وجه للمنع إذا كان ذلك المانع أو الشرط عليه دليل لأنه حينئذ يكون مخصصا للنص القطعي إلا أن يقدروا أن دلالة النص على جميع أفراده قطعية لأنه حينئذ لا يمكن التخلف والثامن حكاه القاضي عن بعض المعتزلة أنه يجوز تخصيص علة الحل والوجوب ونحوها مما لا يكون حظرا قال وحملهم على ذلك قولهم لا تصح التوبة عن قبيح مع الإصرار على قبيح ويصح الإقدام على عبادة مع ترك أخرى والتاسع إن انتقضت على أصل من نصب عليته لم يلزمه بها الحكم وإن اطردت على أصل من أوردها ألزم حكاه الأستاذ أبو إسحاق عن بعض المتأخرين قال وهو حشو من الكلام لولا أنه أودع كتابا مستعملا لكان تركه أولى والعاشر أنه يمنع المستدل من الاستدلال بالمنقوض ولا يدل على فساده لأن الدليل قد يكون صحيحا وينقضه المستدل به على نفسه ولا يكون انتقاضه على أصله دليلا على فساد دليله في نفسه حكاه الأستاذ أبو منصور والحادي عشر إن كانت العلة مؤثرة لم يرد النقض عليها لأن تأثيرها لا يثبت إلا بدليل مجمع عليه ومثله لا ينقض وإنما تجيء المناقضة على الطرد حكاه ابن السمعاني عن أبي زيد ورده بأن النقض يثير فقد تأثير العلة والثاني عشر وهو اختيار إمام الحرمين إن كانت العلة مستنبطة فإن اتجه فرق بين محل التعليل وبين صورة النقض بطلت عليته لكون المذكور أولا جزءا من العلة وليست علة تامة وإن لم يتجه فرق بينهما فإن لم يكن الحكم مجمعا عليه أو ثابتا بمسلك قاطع سمعي بطلت عليته أيضا فإنه مناقض بها وتارك للوفاء بحكم العلة وإن طرد مسألة إجماعية لا فرق بينها وبين محل العلة فهو موضع التوقف فإن كان الحكم الثابت فيها على مناقضة علية العلل تعللا بعلة معنوية جارية فورودها ينقض العلة من جهة أنها منعت العلة من الجريان وعارضها تقصير وهي آكد في الإبطال من المعارضة فإن علة المعارضة لا تعرض لعلة المستدل وهذه متعرضة لها هذا رأيه في المستنبطة وحاصله أن النقض قادح فيما إذا لم يقدح فرق أو لم يكن الحكم في الصورة مجمعا عليه أو لم يكن ثابتا بقطعي أو كان ثابتا بإجماع وفي محل النقض يعني تعارض العلة التي ذكرها المستدل ومنعها من الجريان وإن لم يكن كذلك فالتوقف وقال ابن عطاء الله في مختصر البرهان الصواب في هذا أن ينظر فإن كانت العلة المعارضة لعلة المعلل في الصورة المناقضة أقوى في المناسبة لم تبطل علته
____________________
(4/234)
لأن تخلف الحكم لعارض راجح وإن كانت أدنى بطلت وإن تساوتا فالوقف انتهى وأما المنصوصة فإن كانت بنص ظاهر فيظهر بما أورده المعترض أن الشارع لم يرد التعليل بأن ظهر ذلك من مقتضى لفظه فتخصيص الظاهر وإن كان بنص لا يقبل التأويل فإن عم بصيغة لا يتطرق إليها تخصيص فلا مطمع في تخصيصها لقيام القطع على العلية وجريانها على اطراد ونص الشارع لا يصادم وإن نص الشارع على شيء وعلى تخصيصه في كونه علة لمسائل معدودة فلا يمنع من ذلك وقال إلكيا ميل الإمام إلى أنه إن كان لا يتجه في صورة النقض معنى أمكن تقدير مشابهة محل النزاع إياها في ذلك المعنى فلا يعد نقضا فإن منشأ النقض عنده أن يبين كون محل النزاع نازعا إلى أصلين متنافيين وليس أحدهما بأولى من الآخر فإنه إذا كانت شهادة الأصل متأيدة بالمعنى فلا شهادة بصورة النقض من حيث لا مشابهة فاعتبار وجه الشهادة أولى قال إلكيا وهذا حسن بين فلو كان يتجه معه ولو على بعد فإن ذلك يعد نقضا وحاصله أن النقض لا يبطل أصل الدلالة ولكن يقدح في ثبوتها فلا يتبين به انعدامه قال إلكيا والذي عندنا أن ما لا يبين به معين ولا يتأتى فيه وجه تشبيه فهو لا ينفك عن ظهور استثناء في مقصود الشرع هذا في العلل المخيلة أما الأشباه فستأتي مراتبها ثم قال والحاصل أن شهادة العلة إن ترجحت قطعا على شهادة صورة النقض لمحل النزاع فلا نقض به فعلى هذا النقض ليس أصلا بنفسه ولكن هو من قبيل المعارضة وفيها مزيد قوة لما تقدم والثالث عشر وهو اختيار الغزالي فقال تخلف الحكم عن العلة له ثلاث صور إحداها أن يعرض في جريان العلة ما يقتضي عدم اطرادها وهو ينقسم إلى ما يظهر أنه ورد مستثنى عن القياس مع استيفاء قاعدة القياس فلا يفسد العلة بل يخصصها بما وراء المستثنى فيكون علة في غير محل الاستثناء ولا فرق بين أن يرد على علة مقطوعة كإيجاب صاع من التمر في المصراة وضرب الدية على العاقلة أو مظنونة كالعرايا فإنها لا تقتضي التعليل بالطعم إذ فهم أن ذلك استثناء لرخصة الحاجة ولم يرد ورود النسخ للربا ودليل كونه يستثنى أنه يرد على كل علة كالكيل وغيره وأما إذا لم يرد مورد الاستثناء فإن كانت منصوصة قدح لأنه تبين بعد النقض أن النص إنما فيه بعض العلة وجزؤها فإن قيده في العلة تمت كقولنا خارج
____________________
(4/235)
فتنتقض الطهارة أخذا من قوله الوضوء مما خرج ثم بان أنه لم يتوضأ عن الحجامة فيعلم أن العلة بتمامها لم تذكر في الحديث وأن العلة إنما هي الخارج من السبيلين فكان مطلق الخروج بعض العلة وإن لم يكن كذلك وجب تأويل التعليل وأنه غير مراد لقوله تعالى يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ثم علل ذلك بقوله ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومعلوم أن كل من يشاقق الله ورسوله فإنه يعذب فتكون العلة منصوصة ولا يقال إنه علة في حقهم خاصة لأنه يعد تهافتا في الكلام فثبت أن الحكم المعلل بذلك ليس هو التخريب المذكور بل هو لازمه أو جزؤه الأعم وهو كونه عذابا ولا شك أن كل من يشاقق الله ورسوله فإنه يعذب بخراب البيت أو بغيره وإن كانت العلة مستنبطة فإن انقدح جواب عن محل النقض تبين أن ما ذكرناه ليس تمام العلة وإن لم ينقدح جواب مناسب وأمكن أن يكون النقض دليلا على فساد العلة وأن يكون معرفا لتخصيصها فهذا يجب الاحتراز عنه بينهم في الجدل للمناظر وأما المجتهد المناظر فيحتمل إلحاقه به فيجب عليه اعتقاد فسادها ويحتمل أن يعتقد استناده رخصة الثانية أن تنتفي العلة لا لخلل في نفسها لكن يندفع الحكم عنه بمعارضة علة أخرى فهذا لا يرد نقضا لأن الحكم حاصل فيه تقديرا كقولنا إن علة رق الولد ملك الأم ثم وجدنا المغرور بحرية أمه ينعقد ولده حرا فقد وجد رق الأم وانتفى رق الولد لكن عارضته علة أخرى وهي وجوب الغرم على المغرور ولولا أن الرق في حكم الحاصل المندفع لم تجب قيمة الولد الثالثة أن يميل النقض عن صوب جريان العلة ويتخلف الحكم لا لخلل في ركن العلة لكن لعدم مصادفتها محلها وشرطها وأهلها كقولنا السرقة علة القطع وقد وجدت في حق النباش فينتقض بسرقة الصبي ونحوه أو دون النصاب أو من غير حرز فهذا لا يلتفت إليه المجتهد لأن نظره في تحقيق العلة دون شرطها ومحلها فهو مائل عن صوب نظره أما المناظر فهل يلزمه الاحتراز عنه أم يقبل منه العذر بأن هذا منحرف عن مقصد النظر وليس البحث عن المحل والشرط واختلف فيه الجدليون والخطب فيه سهل وتكليف الاحتراز جمع لنشر
____________________
(4/236)
الكلام وهو تفصيل حسن وَقَسَّمَ ابن الْقَطَّانِ النَّقْضَ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مُنْتَقَضَةً على أَصْلِ السَّائِلِ وَالْمَسْئُولِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ ليس لِلسَّائِلِ أَنْ يَسْأَلَ عنها لِأَنَّهُمَا قد اتَّفَقَا على إبْطَالِهَا ثَانِيهَا أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً على أَصْلِهِمَا جميعا فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمَسْئُولَ الْمَصِيرُ إلَيْهَا إلَّا أَنْ يَدْفَعَهَا بِوَجْهٍ من وُجُوهِ الْإِبْطَالِ كَقَوْلِ الْعِرَاقِيِّ يَسْأَلُ الشَّافِعِيُّ عن الْمُتَكَلِّمِ في الصَّلَاةِ سَاهِيًا فقال لم تَبْطُلْ صَلَاتُهُ قِيَاسًا على من وَطِئَ في حَجِّهِ نَاسِيًا لِأَنَّا قد اتَّفَقْنَا على بُطْلَانِهِ لِأَنَّهُ لو تَعَمَّدَ بَطَلَ فَلِلشَّافِعِيِّ أَنْ يَقُولَ هذا لَا يَلْزَمُ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ على أَصْلِيَ لِأَنَّ من أَصْلِيَ أَنَّ من وَطِئَ في صَوْمِهِ وَأَكَلَ نَاسِيًا لم يَبْطُلْ وَلَوْ وَطِئَ عَامِدًا يَبْطُلْ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ غير هذه الْعِلَّةِ فَإِنْ قال السَّائِلُ إنِّي أَلْزَمْتُك هذا لِتَقُولَ بِهِ في كل فُرُوعِك فَلِلْمَسْئُولِ أَنْ يَقُولَ لَا يَلْزَمُنِي لِأَنَّ من شَرْطِ السَّائِلِ أَنْ يُسَلِّمَ لِلْمَسْئُولِ أُصُولَهُ كُلَّهَا ما خَلَا الْمَسْأَلَةَ الْمُخْتَلَفِ فيها وَثَالِثُهَا أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ جَارِيَةً على أَصْلِ الْمَسْئُولِ مُنْتَقَضَةً على أَصْلِ السَّائِلِ كَالْعِرَاقِيِّ يَسْأَلُ الشَّافِعِيَّ عن الْحَائِضِ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا هل يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَقْرَبَهَا فقال لَا فقال له السَّائِلُ لِمَ قُلْت بِالْجَوَازِ وَيَكُونُ دَلِيلُ ذلك أَنَّا قد اتَّفَقْنَا على أَنْ يَجُوزَ لِزَوْجِهَا أَنْ يَقْرَبَهَا وكان الْمَعْنَى في ذلك جَوَازَ الصَّوْمِ لها وَكُلُّ من جَازَ له الصَّوْمُ جَازَ له الْقُرْبَانُ فَلِلشَّافِعِيِّ أَنْ يَقُولَ لَا يَلْزَمُ لِأَنَّ هذه الْعِلَّةَ وَإِنْ كانت جَارِيَةً على أَصْلِي فَهِيَ بَاطِلَةٌ على أَصْلِك فَلَا يَجُوزُ لَك إلْزَامُهَا وَذَلِكَ أَنَّ دَمَهَا لو انْقَطَعَ دُونَ الْعَشْرِ عِنْدَك لَجَازَ لها أَنْ تَصُومَ ولم يَجُزْ لِزَوْجِهَا أَنْ يَقْرَبَهَا وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ لَا يَجُوزُ لِلْمَسْئُولِ أَنْ يَنْقُضَ عِلَّةَ السَّائِلِ بِأَصْلِ نَفْسِهِ وَأَجَازَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وكان الْجُرْجَانِيُّ منهم يَسْتَعْمِلُهُ وَذَكَرَهُ في تَصْنِيفِهِ الْمُسَمَّى بِ التَّهْذِيبِ قال الْقَاضِي وَسَأَلْت الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ الْأَشْعَرِيَّ عن ذلك فقال له وَجْهٌ في الِاحْتِمَالِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ مَهْرُ الْمِثْلِ يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ لِأَنَّهُ يَسْتَقِرُّ بِالدُّخُولِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَصَّفَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَهُ أَصْلُهُ الْمُسَمَّى في الْعَقْدِ فيقول الْمَسْئُولُ من أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ هذا يَنْتَقِضُ على أَصْلِيَ بِالْمُسَمَّى بَعْدَ الْعَقْدِ فإنه يَسْتَقِرُّ بِالْوَطْءِ وَلَا يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَهُ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ جَمِيعُهُ كما يَسْقُطُ جَمِيعُ مَهْرِ الْمِثْلِ أو يقول الْمُخَالِفُ لَا يَجِبُ لِلْمُتَوَفَّى عنها زَوْجُهَا السُّكْنَى لِأَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لها قِيَاسًا على الْمُعْتَدَّةِ من وَطْءِ الشُّبْهَةِ فيقول الشَّافِعِيُّ هذا يَنْتَقِضُ بِالْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنِ الْحَائِلِ فإنه لَا نَفَقَةَ لها وَيَجِبُ السُّكْنَى
____________________
(4/237)
تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ كما يَجْرِي الْخِلَافُ في الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ فَكَذَلِكَ يَجْرِي في الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ وَأَنَّهُ يَتَخَلَّفُ عنها مَعْلُولُهَا فَأَجَازَهُ الْفَلَاسِفَةُ وَمَنَعَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ حَكَاهُ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ رَحِمَهُ اللَّهُ لَكِنَّ الْأُسْتَاذَ حَكَى إجْمَاعَ الْجَدَلِيِّينَ على أَنَّ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ لَا يُخَصَّصُ وَعَلَى أَنَّ تَخْصِيصَهُ نَقْضٌ له وَعَلَى أَنَّ نَقْضَهُ يَمْنَعُ عن التَّعَلُّقِ بِهِ وَلِذَا قال ابن فُورَكٍ الْعِلَلُ الْعَقْلِيَّةُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا بِلَا خِلَافٍ الثَّانِي أَنَّ هذه الْمَسْأَلَةَ من فُرُوعِ الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فَإِنْ جَوَّزْنَا تَخْصِيصَهَا لم يَتَّجِهْ الْقَدْحُ بِالنَّقْضِ وَإِلَّا اتَّجَهَ الثَّالِثُ ادَّعَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ أَنَّ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ لَا مَعْنَوِيٌّ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالْبَيْضَاوِيِّ أَيْضًا وَكَذَلِكَ الْغَزَالِيُّ وَأَنَّهُ يُلْتَفَتُ إلَى تَفْسِيرِ الْعِلَّةِ بِمَاذَا إنْ فُسِّرَتْ بِالْمُوجِبَةِ فَلَا تُتَصَوَّرُ عِلِّيَّتُهَا مع الِانْتِقَاضِ أو الْمُعَرِّفَةِ فَتُصُوِّرَتْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ الْخِلَافُ بِلَفْظِيٍّ وَلَهُ فَوَائِدُ إحْدَاهَا جَوَازُ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ أَمْ لَا الثَّانِيَةُ أَنَّ من مَنَعَ التَّخْصِيصَ لَا يُجَوِّزُ أَصْلًا تَطَرُّقُهُ إلَى نَصِّ الشَّارِعِ على التَّعْلِيلِ بِهِ وَإِنْ أُومِئَ إلَيْهِ تَبَيَّنَ أَنَّ ذلك لم يَكُنْ إيمَاءً إلَى التَّعْلِيلِ لِوُرُودِ التَّخْصِيصِ وَالْمُجَوِّزُ لِلتَّخْصِيصِ يقول يَبْقَى ذلك عِلَّةً في مَحَلِّهِ ذَكَرَهَا الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ الثَّالِثَةُ انْقِطَاعُ الْمُسْتَدِلِّ إنْ قُلْنَا يُقْدَحُ وَعَدَمُ انْقِطَاعِهِ إنْ مَنَعْنَاهُ الرَّابِعُ هل يُسْمَعُ من الْجَدَلِيِّ قَوْلُنَا أَرَدْت بِالْعُمُومِ الْخُصُوصَ أو لَا فَالْقَائِلُونَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ يَسْمَعُونَهُ وَالْمَانِعُونَ لَا يَسْمَعُونَهُ وقد نَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في تَدْرِيسِهِ في أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَّقَهُ عنه بَعْضُ تَلَامِذَتِهِ أَنَّ الْأُسْتَاذَ أَبَا إِسْحَاقَ قال إطْلَاقُ اللَّفْظِ الْعَامِّ وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَعْضُ سَائِغٌ وَأَمَّا الْمُعَلِّلُ بِلَفْظٍ عَامٍّ فَلَا يُقْبَلُ منه إذَا نُقِضَ عليه كَلَامُهُ وقال إنَّمَا أَرَدْت كَذَا إذْ لو جَوَّزْنَا ذلك لَمَا تُصُوِّرَ إبْطَالُ عِلَّةٍ أَصْلًا وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا إنَّمَا يُخَاطِبُ لِيُفْهِمَ صَاحِبَهُ وَيَفْهَمَ عنه وَصَاحِبُ الشَّرْعِ له أَنْ يُبَيِّنَ وَيُؤَخِّرَ الْبَيَانَ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ وَيُخَاطِبَ بِمُحْتَمَلٍ وَلَا يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يُعَلِّلَ الْعِلَّةَ مُجْمَلَةً وَيُفَسِّرَهَا قال وَمِنْ الْعُلَمَاءِ من جَوَّزَ ذلك قال وَمُجَوِّزُهُ لَا يُمَيِّزُ انْتَهَى وَهَذَا الذي نَقَلَهُ عن الْأُسْتَاذِ قد يَسْتَشْكِلُ بِمَا حَكَاهُ في الْبُرْهَانِ عن الْأُسْتَاذِ أَيْضًا أَنَّهُ قال في عِلَّةِ الشَّارِعِ يَجِبُ اطِّرَادُهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ عليها ما يُخَالِفُ طَرْدَهَا
____________________
(4/238)
وقد يُجَابُ بِأَنَّ وُرُودَهَا في كَلَامِ الشَّارِعِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لم يُرِدْ مَحَلَّ النَّقْضِ وَأَنَّهُ إنَّمَا جَعَلَهَا عِلَّةً فِيمَا وَرَاءَهُ وَذَلِكَ مَقْبُولٌ منه بِخِلَافِ غَيْرِهِ فإنه لَا يُسْمَعُ منه قَوْلُهُ بَعْدَ الْإِطْلَاقِ إنَّمَا أَرَدْت أنها عِلَّةٌ فِيمَا وَرَاءَ ذلك الْمُخْرَجِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُسْمَعُ لِأَنَّهُ كَالدَّعْوَى بَعْدَ الْإِقْرَارِ وقال صَاحِبُ الْمَحْصُولِ قَوْلُهُمْ إنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ إذَا فَسَّرْنَا الْعِلَّةَ بِالدَّاعِي أو بِالْمُوجِبِ لم نَجْعَلْ الْعَدَمَ جُزْءًا من الْعِلَّةِ بَلْ كَاشِفًا عن حُدُوثِ الْعِلَّةِ وَمَنْ يُجَوِّزُ التَّخْصِيصَ لَا يقول بِذَلِكَ وَإِنْ فَسَّرْنَا بِالْأَمَارَةِ ظَهَرَ الْخِلَافُ في الْمَعْنَى لِأَنَّ من أَثْبَتَ الْعِلَّةَ بِالْمُنَاسَبَةِ بَحَثَ عن ذلك الْقَيْدِ الْعَدَمِيِّ فَإِنْ وَجَدَ فيه مُنَاسَبَةً صَحَّحَ الْعِلَّةَ وَإِلَّا أَبْطَلَهَا وَمَنْ يُجَوِّزُ التَّخْصِيصَ لَا يَطْلُبُ الْمُنَاسَبَةَ أَلْبَتَّةَ من هذا الْقَيْدِ وما ذَكَرُوا من تَكَرُّرِ وُجُودِ الْغَيْمِ وَلَا مَطَرَ مع أَنَّ كَوْنَهَا أَمَارَةً لم يَزُلْ قد رَدَّهُ ابن السَّمْعَانِيِّ فقال الْأَمَارَةُ وَإِنْ لم تَزُلْ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَضْعُفَ وَلَا بُدَّ في الْأَمَارَةِ من تَوَفُّرِ الْقُوَّةِ من كل وَجْهٍ لِأَنَّ هذا ظَنٌّ يُثِيرُ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَلَا بُدَّ من بُلُوغِهِ نِهَايَةَ الْقُوَّةِ وَأَنْ لَا يُتَوَهَّمَ قُوَّةٌ من الظَّنِّ وَرَاءَ قُوَّتِهِ حتى يُعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ وَذَلِكَ لِوُجُودِ الِاطِّرَادِ حتى لَا تَتَخَلَّفَ هذه الْأَمَارَةُ في مَوْضِعٍ ما فإذا تَخَلَّفَتْ لم تَتَوَفَّرْ الْقُوَّةُ من كل وَجْهٍ قال وَهَذَا جَوَابٌ حَسَنٌ اعْتَمَدْتُهُ وهو مَحَلُّ الِاعْتِمَادِ الْخَامِسُ إذَا ذَكَرَ عِلَّةً فَنُقِضَ عليه بِمَا خَصَّ بِهِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَهَلْ يَلْزَمُ ذلك فيه وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ أَحَدُهُمَا لَا لِأَنَّ الْمَخْصُوصَ في حُكْمِ الْمَنْسُوخِ فَلَا تُنْقَضُ الْعِلَّةُ بِهِ وَالثَّانِي نعم لِأَنَّ نَقْضَ الْعِلَّةِ بِحُكْمٍ في الشَّرْعِ فَأَشْبَهَ النَّقْضَ بِمَا لَا يُخَصُّ بِهِ
____________________
(4/239)
فَصْلٌ إذَا فَرَّعْنَا على أَنَّ التَّخَلُّفَ لَا يَقْدَحُ في الْعِلِّيَّةِ فَوَاضِحٌ وَطَرِيقُهُ في الدَّفْعِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ صُورَةَ النَّقْضِ مُسْتَثْنَاةٌ بِالنَّصِّ أو بِالْإِجْمَاعِ أو يُظْهِرُ الْمُعَلِّلُ مَانِعًا من ثُبُوتِ الْحُكْمِ في صُورَةِ النَّقْضِ كما لو قال يَجِبُ الْقِصَاصُ في الْمُثْقَلِ قِيَاسًا على الْمُحَدَّدِ فَإِنْ نُقِضَ بِقَتْلِ الْوَالِدِ فإن الْوَصْفَ فيه مع تَخَلُّفِ الْحُكْمِ قُلْنَا تَخَلَّفَ لِمَانِعٍ وهو أَنَّ الْوَالِدَ سَبَبٌ لِوُجُودِ الْوَلَدِ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِانْعِدَامِهِ وَإِنْ فَرَّعْنَا على أَنَّهُ يَقْدَحُ فَلَا بُدَّ من مَنْعِهِ وَلَهُ طُرُقٌ أَحَدُهَا مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ بِتَمَامِهَا في صُورَةِ النَّقْضِ لَا عِنَادًا بَلْ بِنَاءً على وُجُودِ قَيْدٍ مُنَاسِبٍ أو مُؤَثِّرٍ في الْعِلَّةِ وهو غَيْرُ حَاصِلٍ في صُورَةِ النَّقْضِ كَقَوْلِنَا طَهَارَةٌ عن حَدَثٍ فَشَرْطٌ فيها النِّيَّةُ كَالتَّيَمُّمِ فَإِنْ نُقِضَ بِالطَّهَارَةِ عن النَّجَاسَةِ قُلْنَا ليس الْحَدَثُ كَالنَّجَاسَةِ وَقَوْلُنَا فِيمَنْ لم يَنْوِ في رَمَضَانَ لَيْلًا تَعَرَّى أَوَّلَ صَوْمِهِ عن النِّيَّةِ فَلَا يَصِحُّ فَإِنْ نُقِضَ بِالتَّطَوُّعِ قُلْنَا الْعِلَّةُ عَدَا أَوَّلُ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ لَا مُطْلَقُ الصَّوْمِ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ سَأَلْت بَعْضَ شُيُوخِ الشَّافِعِيَّةِ عن التَّرْتِيبِ في الْوُضُوءِ فقال لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَرْجِعُ إلَى شَطْرِهَا لِعُذْرٍ فَكَانَ التَّرْتِيبُ من شَرْطِهَا أَصْلُهُ الصَّلَاةُ فَيَنْقُضُهُ بِغُسْلِ الْجَنَابَةِ فقال إنَّمَا عَلَّلْتُ لِإِلْحَاقِ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ بِالْآخَرِ وهو نَوْعُ طَهَارَةِ الْحَدَثِ بِنَوْعِ الصَّلَاةِ في أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ في طَهَارَةٍ فيها تَرْتِيبٌ وَاجِبٌ فَأَمَّا تَعْيِينُ الْمَوْضِعِ الذي يَجِبُ فيه فلم أَقْصِدْ وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا قال الْمُعْتَرِضُ ما ذَكَرْت من الْعِلَّةِ مَنْقُوضٌ بِكَذَا فَلِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ وَيُطَالِبَهُ بِالدَّلِيلِ على وُجُودِهَا في مَحَلِّ النَّقْضِ وَهَذِهِ الْمُطَالَبَةُ مَمْنُوعَةٌ بِالِاتِّفَاقِ ثُمَّ بَعْدَ ذلك إمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا في صُورَةِ النَّقْضِ ظَاهِرًا أَمْ لَا فَإِنْ كان كَقَوْلِهِمْ طَهَارَةٌ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ فإن تَحَقُّقَ الطَّهَارَةِ في إزَالَةِ النَّجَاسَةِ مَعْلُومٌ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ على وُجُودِ الْعِلَّةِ في صُورَةِ التَّخَلُّفِ وَإِنْ لم يَكُنْ كَقَوْلِهِ الطُّعْمُ عِلَّةُ الرِّبَا فيقول هو مَنْقُوضٌ بِالطِّينِ أو الْمَاءِ فَيَمْنَعُ الْمُعَلِّلُ وُجُودَ الطُّعْمِ في الْمَاءِ فَهَلْ لِلْمُعْتَرِضِ الِاسْتِدْلَال على وُجُودِهَا قال الْأَكْثَرُونَ لَا يُمْكِنُ ذلك لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ من مَسْأَلَةٍ قبل تَمَامِهَا إلَى أُخْرَى لِأَنَّهُ انْتَقَلَ من دَعْوَى وُجُودِ الْعِلَّةِ في صُورَةِ النَّقْضِ إلَى دَعْوَى وُجُودِ الدَّلِيلِ على ذلك وَلِأَنَّ فيه قَلْبَ الْقَاعِدَةِ إذْ يَصِيرُ الْمُعْتَرِضُ مُسْتَدِلًّا
____________________
(4/240)
وَالْمُسْتَدِلُّ مُعْتَرِضًا وَقِيلَ يُمْكِنُ منه تَحْقِيقًا لِلنَّقْضِ وقال الْآمِدِيُّ إنْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلْمُعْتَرِضِ في هَدْمِ كَلَامِ الْمُسْتَدِلِّ وَجَبَ قَبُولُهُ منه تَحْقِيقًا لِفَائِدَةِ الْمُنَاظَرَةِ وَإِنْ أَمْكَنَهُ الْقَدَحُ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَلَا يُمَكَّنُ الْمُعْتَرِضُ ما لم تَكُنْ الْعِلَّةُ حُكْمًا شَرْعِيًّا كَذَا حَكَاهُ ابن الْحَاجِبِ وقال الْقُطْبُ الشِّيرَازِيُّ لم أَجِدْهُ في سِوَاهُ وَتَبِعَهُ الشَّارِحُونَ وهو عَجَبٌ فلم يذكر الْإِمَامُ أبو مَنْصُورٍ الْبَرَوِيِّ تِلْمِيذُ مُحَمَّدِ بن يحيى في كِتَابِهِ الْمُقْتَرَحِ غَيْرَهُ وَفَرَّقَ بين الشَّرْعِيِّ وَغَيْرِهِ بِنَشْرِ الْكَلَامِ فيه جِدًّا بِخِلَافِ غَيْرِهِ وَبِأَنَّ الْأَمْرَ فيه قَرِيبٌ وَجَزَمَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ بِالْمَنْعِ ثُمَّ قال لَكِنْ إذَا أَرَادَ كَشْفَهُ عن أَصْلِ الْعِلَلِ يُمَكَّنُ من ذلك ولم يَجُزْ لِلْمُعَلِّلِ مَنْعَهُ وأورد الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ الْمَحْصُولِ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ ثُمَّ قال وَالصَّوَابُ أَنَّهُ ليس بِانْتِقَالٍ قال وَيَعُودُ مَنَاطُ الْخِلَافِ إلَى أَنَّ وُجُودَ الْعِلَّةِ في صُورَةِ النَّقْضِ هل يُشْتَرَطُ فيه اسْتِغْنَاؤُهُ عن الدَّلِيلِ أَمْ لَا وَيُلْزَمُ الْقَائِلُ بِأَنَّهُ لَا يَسْمَعُ إثْبَاتَ وُجُودِ الْعِلَّةِ في صُورَةِ النَّقْضِ بِالدَّلِيلِ أَنْ لَا يَسْمَعَ من الْمُعَلِّلِ إثْبَاتَ الْعِلَّةِ في الْفَرْعِ بِالدَّلِيلِ فَإِنْ قال أَقُولُهُ وَلَا أَسْمَعُ مثله فَهُوَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْجَدَلِيِّينَ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا على أَنَّ ما لَا يُسْمَعُ اقْتِرَاحًا لَا يَقُولُهُ اسْتِدْلَالًا فَلَوْ قال الْمُعْتَرِضُ ما ذَكَرْت من الدَّلِيلِ على وُجُودِ الْعِلَّةِ في الْفَرْعِ دَالٌّ بِعَيْنِهِ على وُجُودِهَا في مَحَلِّ النَّقْضِ فَهُوَ انْتِقَالٌ من نَقْضٍ لِلْعِلَّةِ إلَى نَقْضِ دَلِيلِهَا فَلَا يُسْمَعُ وَبِهِ جَزَمَ الْآمِدِيُّ وَقِيلَ يُسْمَعُ لِأَنَّ نَقْضَ دَلِيلِ الْعِلَّةِ نَقْضُ الْعِلَّةِ نعم لو قال ذلك ابْتِدَاءً وقال يَلْزَمُك إمَّا نَقْضُ الْعِلَّةِ أو نَقْضُ الدَّلِيلِ الدَّالِّ على وُجُودِهَا في الْفَرْعِ كان مَسْمُوعًا يَحْتَاجُ الْمُسْتَدِلُّ إلَى الْجَوَابِ عنه مَسْأَلَةٌ قال الْأَصْفَهَانِيُّ لَا يُشْتَرَطُ في الْقَيْدِ الدَّافِعِ لِلنَّقْضِ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا بَلْ غَيْرُ الْمُنَاسِبِ مَقْبُولٌ مَسْمُوعٌ اتِّفَاقًا وَالْمَانِعُونَ من التَّعْلِيلِ بِالشَّبَهِ يُوَافِقُونَ على ذلك وقال في الْمَحْصُولِ هل يَجُوزُ دَفْعُ النَّقْضِ بِقَيْدٍ طَرْدِيٍّ أَمَّا الطَّارِدُونَ فَقَدْ جَوَّزُوهُ وَأَمَّا مُنْكِرُو الطَّرْدِ فَمِنْهُمْ من جَوَّزَهُ وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ أَحَدَ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ إذَا لم يَكُنْ مُؤَثِّرًا لم يَكُنْ مَجْمُوعُ الْعِلَّةِ مُؤَثِّرًا وَكَذَا حَكَى الْخِلَافَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ ثُمَّ اخْتَارَ التَّفْصِيلَ بين أَنْ يَكُونَ الْقَيْدُ الطَّرْدِيُّ يُشِيرُ إلَى مَسْأَلَةٍ تُفَارِقُ مَسْأَلَةَ النِّزَاعِ بِفِقْهٍ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ الْعِلَّةِ وَإِلَّا فَلَا يُفِيدُ الِاحْتِرَازُ عنه قال وَلَوْ فُرِضَ التَّقْيِيدُ بِاسْمٍ غَيْرِ مُشْعِرٍ بِفِقْهٍ وَلَكِنَّ مُبَايَنَةَ الْمُسَمَّى بِهِ لِمَا عَدَاهُ مَشْهُورٌ بين النُّظَّارِ فَهَلْ يَكُونُ التَّقْيِيدُ بمثله
____________________
(4/241)
تَخْصِيصًا لِلْعِلَّةِ اخْتَلَفَ فيه الْجَدَلِيُّونَ وَالْأَقْرَبُ تَصْحِيحُهُ لِأَنَّهُ اصْطِلَاحٌ الطَّرِيقُ الثَّانِي مَنْعُ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عن الْعِلَّةِ في صُورَةِ النَّقْضِ وَيَدَّعِي ثُبُوتَهُ فيها وهو إمَّا تَحْقِيقِيٌّ مِثْلُ السَّلَمِ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَا يُشْتَرَطُ فيه التَّأْجِيلُ كَالْبَيْعِ فَإِنْ نُقِضَ بِالْإِجَارَةِ قُلْنَا الْأَجَلُ ليس شَرْطًا لِصِحَّةِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَإِنَّمَا جاء فيها لِتَقْرِيرِ الْمَعْقُودِ عليه وهو الِانْتِفَاعُ بِالْعَيْنِ أو تَقْدِيرِيٌّ وهو دَافِعٌ لِلنَّقْضِ على الْأَظْهَرِ تَنْزِيلًا لِلْمُقَدَّرِ مَنْزِلَةَ الْمُحَقَّقِ كَقَوْلِنَا رِقُّ الْأُمِّ عِلَّةٌ لِرِقِّ الْوَلَدِ فَيَكُونُ هذا الْوَلَدُ رَقِيقًا فَإِنْ نُقِضَ بِوَلَدِ الْمَغْرُورِ بِحُرِّيَّةِ أُمِّهِ حَيْثُ كان رِقُّ الْأُمِّ مَوْجُودًا مع انْعِقَادِ الْوَلَدِ حُرًّا قُلْنَا رِقُّ الْأُمِّ مَوْجُودٌ وَتَقْدِيرُ وُجُودِهِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ رَقِيقًا ثُمَّ يَعْتِقُ على الْمَغْرُورِ إذْ لَا قِيمَةَ لِلْحُرِّ قال في الْمَحْصُولِ وَالتَّحْقِيقِيُّ دَافِعٌ لِلنَّقْضِ إذَا كان الْحُكْمُ مُتَّفَقًا عليه بين الْمُسْتَدِلِّ وَخَصْمِهِ أو كان مَذْهَبًا لِلْمُسْتَدِلِّ فَقَطْ لِأَنَّهُ إذَا لم يَفِ بِطَرْدِ عِلَّتِهِ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ على غَيْرِهِ أَوْلَى فَإِنْ كان مَذْهَبًا لِخَصْمِهِ فَقَطْ لم يَتَوَجَّهْ لِأَنَّ خِلَافَهُ كَخِلَافِهِ في الصُّورَةِ الْمُتَنَازَعِ فيها وَلَوْ مُنِعَ الْمُسْتَدِلُّ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ فَفِي تَمْكِينِ الْمُعْتَرِضِ من الِاسْتِدْلَالِ على عَدَمِ الْحُكْمِ الْخِلَافُ السَّابِقُ في مَنْعِ وُجُودِ الْعِلَّةِ في صُورَةِ النَّقْضِ وَهُنَا فَرْعٌ حَسَنٌ لو نَقَضَ الْمُعْتَرِضُ فقال الْمُسْتَدِلُّ الْمُنْتَصِرُ لِمَذْهَبِ إمَامٍ لَا أَعْرِفُ في هذه الْمَسْأَلَةِ نَصًّا وَلَا يَلْزَمُنِي النَّقْضُ فَهَلْ يُدْفَعُ بِذَلِكَ النَّقْضِ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في الْمُلَخَّصِ في الْجَدَلِ وَمَثَّلَهُ بِاسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيِّ على الْقَارِنِ أَنَّهُ إذَا قَتَلَ صَيْدًا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ جَزَاءَانِ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ النَّقْضَ على إحْرَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَزِمَهُ جَزَاءَانِ كما لو أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَقَتَلَ صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فَقَتَلَ صَيْدًا فقال له هذا يَنْتَقِضُ بِمَا إذَا أَحْرَمَ الْمُتَمَتِّعُ بِالْعُمْرَةِ فَجَرَحَ صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَجَرَحَهُ ثُمَّ مَاتَ فإنه أَدْخَلَ النَّقْضَ على إحْرَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَلْزَمُهُ جَزَاءَانِ فيقول الْمُخَالِفُ لَا أَعْرِفُ نَصًّا في هذه الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ قال رَأَيْت الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبَ يقول في مِثْلِ هذا إذَا جَوَّزْتَ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُكَ على ما أَلْزَمْتُهُ وَجَبَ أَنْ لَا يُحْتَجَّ بهذا الْقِيَاسِ قال وَعِنْدِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ النَّقْضُ لِأَنَّهُ وَإِنْ احْتَمَلَ ما قَالَهُ إلَّا أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ فَيُعْمَلُ بِهِ ما لم يَمْنَعْ مَانِعٌ كَالْعُمُومِ قبل ظُهُورِ الْمُخَصِّصِ انْتَهَى وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُعَلِّلَ له أَنْ يُلْزَمَ بِصُورَةِ النَّقْضِ عِنْدَ الشَّيْخِ وَعِنْدَ الْقَاضِي ليس له ذلك مع احْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ مَذْهَبَ إمَامِهِ وهو أَمْرٌ رَاجِعٌ إلَيْهِ في نَفْسِهِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي منه بِأَنْ يَقُولَ لَا أَعْرِفُ نَصًّا في هذه الْمَسْأَلَةِ
____________________
(4/242)
وَذَكَرَ الْقَاضِي أبو يَعْلَى من الْحَنَابِلَةِ جَوَابَيْنِ آخَرَيْنِ عن النَّقْضِ أَحَدُهُمَا أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ لِيَظْهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ ما ظَنَّهُ الْمُعْتَرِضُ فَأَوْرَدَ نَقْضًا الثَّانِي أَنْ يُبَيِّنَ التَّسْوِيَةَ بين الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ في ذلك الْحُكْمِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ في الْمَسْحِ على الْعِمَامَةِ عُضْوٌ سَقَطَ في التَّيَمُّمِ فَجَازَ الْمَسْحُ على حَائِلٍ كَالْقَدَمِ فيقول الْخَصْمُ هذا يَنْتَقِضُ بِغُسْلِ الْجَنَابَةِ فإنه لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عليه فيها مع أَنَّهُ يَسْقُطُ في التَّيَمُّمِ فيقول الْمُسْتَدِلُّ إنَّمَا تَعَذَّرَ التَّسْوِيَةُ بين الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ وقد اتَّفَقَا في حُكْمِ الْجَنَابَةِ قُلْت وَيَنْبَغِي الْبُدَاءَةُ بِمَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا في تَرْتِيبِ الْأَجْوِبَةِ وَيُزَادُ جَوَابٌ خَامِسٌ وهو أَنْ نُسَلِّمَ وُرُودَ النَّقْضِ وَنَتَعَذَّرُ عنه بِإِبْدَاءِ أَمْرٍ في صُورَةِ النَّقْضِ يَصْلُحُ اسْتِنَادُ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ إلَيْهِ لِيَبْقَى دَلِيلُ ثُبُوتِ الْعِلَّةِ سَلِيمًا عن مُعَارِضٍ مَسْأَلَةٌ إذَا أُلْزِمَ النَّقْضَ فَزَادَ في الْعِلَّةِ وَصْفًا فَهَلْ يُقْبَلُ منه فيه أَقْوَالٌ أَحَدُهَا نعم وَحُكِيَ عن أبي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالثَّانِي لَا يُقْبَلُ وَعَلَيْهِ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَالْبَاجِيُّ وقال ابن بَرْهَانٍ إنَّهُ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إسْقَاطِ النَّقْضِ بِمَا شَاءَ وَالثَّالِثُ وَحَكَاهُ أبو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ في جَدَلِهِ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا إنْ كانت الزِّيَادَةُ مَعْهُودَةً بين الْمُنَاظِرِينَ كَالْجِنْسِ الْمَضْمُومِ إلَى الْوَصْفِ الْآخَرِ في عِلَّةِ الرِّبَا وَغَيْرِ ذلك من الْأَوْصَافِ الْمَعْرُوفَةِ قُبِلَ منه وَإِنْ لم تَكُنْ مَعْهُودَةً فَلَا وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَعْهُودَةَ كَالْمَذْكُورَةِ فَيُسْتَغْنَى عن ذِكْرِهَا بِالْعَهْدِ فيها وَحَكَاهُ ابن بَرْهَانٍ وَالْبَاجِيُّ أَيْضًا ثُمَّ ضَعَّفَاهُ بِأَنَّهُ لَا عَهْدَ وَاللَّفْظُ ظَاهِرٌ في التَّعْمِيمِ وقال في الْمَنْخُولِ إذَا أَرَادَ الْمُعَلِّلُ وَصْفًا يَسْتَقِلُّ الْحُكْمُ بِدُونِهِ وَلَكِنَّهُ رَامَ بِهِ دَرْءَ النَّقْضِ فَقَدْ يُطْرَحُ إذَا لم يُبَيِّنْ كَوْنَهُ عِلَّةً في الْأَصْلِ مَسْأَلَةٌ قِيلَ الْفَرْقُ بين النَّقْضِ لَا يُقْبَلُ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ هذا يَقُولُهُ الْمُتَفَقِّهَةُ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ هو مَقْبُولٌ وَإِنَّمَا شَرْطُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِفَرْقٍ من جِهَةِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جميعا كَقَوْلِهِ في الْإِجَارَةِ لَا تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ فَلَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ مع
____________________
(4/243)
سَلَامَةِ الْمَعْقُودِ عليه فَهَذَا في الْحَقِيقَةِ فَرْقٌ بين مَسْأَلَةِ النَّقْضِ وَبَيْنَ مَوْضِعِ الْخِلَافِ وهو صَحِيحٌ فَأَمَّا إذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا من جِهَةِ الْمَعْنَى لم يَصِحَّ لِأَنَّهُ بَانَ عَدَمُ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ بَلْ بِعِلَّةٍ أُخْرَى مَسْأَلَةٌ الْقَائِلُونَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ اخْتَلَفُوا في أَنَّهُ هل يَجِبُ على الْمُسْتَدِلِّ ابْتِدَاءً التَّعَرُّضُ لِنَفْيِ الْمَانِعِ بِأَنْ يَذْكُرَ قَيْدًا يُخْرِجُ بِهِ مَحَلَّ النَّقْضِ فيه مَذَاهِبُ أَحَدُهَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مُطْلَقًا لِئَلَّا تُنْقَضَ الْعِلَّةُ وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ مُطْلَقًا وَاخْتَارَهُ ابن الْحَاجِبِ وَنَقَلَهُ الْهِنْدِيُّ في النِّهَايَةِ عن الْأَكْثَرِينَ وقال إنَّهُ الْحَقُّ كما في سَائِرِ الْمَعَارِضِ وَالثَّالِثُ إنْ كان سَبَبًا وهو ما يَرِدُ على كل عِلَّةٍ كَالْعَرَايَا لم يَلْزَمْهُ وَإِلَّا كَالتَّطَوُّعِ في مَسْأَلَةِ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ لَزِمَهُ إذْ لَا يَبْقَى إلَّا الدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةُ في خُرُوجِهِ عن الْقَاعِدَةِ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ في شِفَاءِ الْعَلِيلِ ولم يَقِفْ ابن دَقِيقٍ على هذا الْمَذْهَبِ فقال لو قِيلَ بِهِ لم يَكُنْ له وَجْهٌ الرَّابِعُ إنْ كان مُنَاظِرًا وَجَبَ الِاحْتِرَازُ عنه مُطْلَقًا وَإِنْ كان نَاظِرًا مُجْتَهِدًا فَكَذَلِكَ إلَّا فِيمَا اشْتَهَرَ من الْمُسْتَثْنَيَاتِ فَصَارَ كَالْمَذْكُورَةِ وقال في شِفَاءِ الْعَلِيلِ أَنَّهُ إذَا لم يَسْتَثْنِ وَجَبَ على النَّاظِرِ وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَهَلْ يَنْقَطِعُ ظَنُّهُ عن الْعِلَّةِ التي ظَنَّهَا وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى الظَّنُّ مع وُرُودِ النَّقْضِ تَرَدَّدَ الْقَاضِي في هذا بِنَاءً على الْقَوْلِ بِبُطْلَانِ الْعِلَّةِ بِمِثْلِ هذا النَّقْضِ هل هو مَعْلُومٌ أو مَظْنُونٌ قال وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي إنْ قَدَحَ الِاعْتِذَارُ عن مَسْأَلَةِ النَّقْضِ بِفَرْقٍ فِقْهِيٍّ فَلَا شَكَّ في انْقِطَاعِ الظَّنِّ وَإِنْ لم يَقْدَحْ عُذْرٌ فَفِي انْقِطَاعِ الظَّنِّ نَظَرٌ تَنْبِيهٌ الْمُرَادُ بِالِاحْتِرَازِ عنه ذِكْرُهُ إمَّا في أَوَّلِ الدَّلِيلِ أو بَعْدَ تَوَجُّهِ النَّقْضِ عليه وَلَا يُعَدُّ مُنْقَطِعًا هذا اصْطِلَاحُ مُتَأَخِّرِي الْجَدَلِيِّينَ وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ منهم فَاعْتَبَرُوهُ أَوَّلَ الدَّلِيلِ وَقَالُوا إنْ أُخِذَ الْقَيْدُ لِلنَّقْضِ في الدَّلِيلِ أَوَّلًا قُبِلَ منه وَإِنْ لم يَأْخُذْهُ أَوَّلًا وَأَوْرَدَهُ عليه فَأَخَذَهُ قَيْدًا لم يُقْبَلْ وَيُعَدُّ مُنْقَطِعًا وَعَلَيْهِ جَرَى في الْمُسْتَصْفَى وَبِهِ تَصِيرُ الْمَذَاهِبُ خَمْسَةً وَصَاحِبُ الْمَحْصُولِ حَكَى الْخِلَافَ في الِاحْتِرَازِ عنه في الدَّلِيلِ قَوْلَيْنِ ولم يُرَجِّحْ شيئا ثُمَّ حَكَاهُ أَيْضًا في الْوَارِدِ اسْتِثْنَاءً فقال وَهَلْ يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عنه في
____________________
(4/244)
اللَّفْظِ اخْتَلَفُوا فيه وَالْأَوْلَى الِاحْتِرَازُ انْتَهَى وقال صَاحِبُ الْمُقْتَرَحِ يَضُرُّهُ الِاحْتِرَازُ لِأَنَّهُ يَكُونُ اعْتِرَافًا منه بِأَنَّ النَّقْضَ لَا يَدُلُّ على التَّعْلِيلِ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ تَعَرَّضَ لِمَا يَلْزَمُ وَنَبَّهَ الْمُعْتَرِضَ على أَنَّ النَّقْضَ لَا يَرِدُ عليه وَلَيْسَ فيه ما يَدُلُّ على اعْتِرَافِهِ فَرْعٌ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ بُطْلَانَ الْعِلَّةِ بِالنَّقْضِ من الْقَطْعِيَّاتِ قال الْقَاضِي وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عِنْدِي بَلْ هِيَ من الْمُجْتَهَدَاتِ وَكُلُّ مَأْمُورٍ بِمَا غَلَبَ على ظَنِّهِ وَجَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بَعْضَهُ قَطْعِيًّا وَبَعْضَهُ ظَنِّيًّا بِنَاءً على تَفْصِيلِهِ السَّابِقِ مَسْأَلَةٌ قال أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ وَتَبِعَهُ في الْمَحْصُولِ اعْلَمْ أَنَّ نَقْضَ الْعِلَّةِ أَنْ يُوجَدَ في مَوْضِعٍ دُونَ حُكْمِهَا وَحُكْمُهَا ضَرْبَانِ مُجْمَلٌ وَمُفَصَّلٌ وَالْمُجْمَلُ ضَرْبَانِ إثْبَاتٌ وَنَفْيٌ فَالْإِثْبَاتُ الْمُجْمَلُ لَا يَنْتَقِضُ بِنَفْيِ مُفَصَّلٍ وَالنَّفْيُ الْمُجْمَلُ يَنْتَقِضُ بِإِثْبَاتِ مُفَصَّلٍ مِثَالُ الْأَوَّلِ أَنَّ تَعْلِيلَ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِأَنَّهُمَا حُرَّانِ مُكَلَّفَانِ مَحْقُونَا الدَّمِ فَيَتَقَاصَّانِ كَالْمُسْلِمِينَ فَيُنْتَقَضُ بِمَا إذَا قَتَلَهُ خَطَأً وَذَلِكَ أَنَّ نَفْيَ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا في قَتْلِ الْخَطَأِ لَا يَمْنَعُ من صِدْقِ الْقَوْلِ أَنَّ بَيْنَهُمَا قِصَاصًا وإذا صَدَقَ الْفَرْقُ بِذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ ثُبُوتَ الْقِصَاصِ لم يَرْتَفِعْ فلم يَنْتَفِ حُكْمُ الْعِلَّةِ وَمِثَالُ الثَّانِي أَنْ يَقُولَ لِأَنَّهُمَا مُكَلَّفَانِ فلم يَثْبُتْ بَيْنَهُمَا قِصَاصٌ فإذا نُقِضَ بِالْمُسْلِمِينَ يَثْبُتُ بَيْنَهُمَا قِصَاصٌ في قَتْلِ الْعَمْدِ انْتَقَضَتْ الْعِلَّةُ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْقِصَاصِ بين شَخْصَيْنِ في مَوْضِعٍ لَا يُفِيدُ معه الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَهُمَا على الْإِطْلَاقِ وَأَمَّا الْحُكْمُ الْمُفَصَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إثْبَاتًا أو نَفْيًا فَالْإِثْبَاتُ يَنْتَقِضُ بِالنَّفْيِ الْمُجْمَلِ مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ مُوجِبَانِ يَثْبُتُ بَيْنَهُمَا جميعا قِصَاصٌ في قَتْلِ الْعَمْدِ وَذَلِكَ يَنْتَقِضُ بِالْحُرِّ لِأَنَّهُ إذَا قَتَلَ الْعَبْدَ لم يَثْبُتْ بَيْنَهُمَا قِصَاصٌ لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْقِصَاصِ على الْإِطْلَاقِ يَزُولُ ثُبُوتُهُ في بَعْضِ الصُّوَرِ وَأَمَّا النَّفْيُ الْمُفَصَّلُ فَلَا يَنْتَقِضُ بِالْإِثْبَاتِ الْمُجْمَلِ كما نَقُولُ فلم يَثْبُتْ بَيْنَهُمَا قِصَاصٌ في قَتْلِ الْخَطَأِ لِأَنَّهُ يَنْتَقِضُ بِثُبُوتِ الْقِصَاصِ بين الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْقِصَاصِ في الْجُمْلَةِ لَا يَمْنَعُ من انْتِفَائِهِ عنهما في بَعْضِ الصُّوَرِ
____________________
(4/245)
الثَّانِي الْكَسْرُ وهو عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ من الْأُصُولِيِّينَ وَالْجَدَلِيِّينَ عِبَارَةٌ عن إسْقَاطِ وَصْفٍ من أَوْصَافِ الْعِلَّةِ الْمُرَكَّبَةِ وَإِخْرَاجِهِ عن الِاعْتِبَارِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ في حَدِّ الْعِلَّةِ وَمِنْهُمْ من فَسَّرَهُ بِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِعِلَّةٍ على حُكْمٍ يُوجَدُ مَعْنَى تِلْكَ الْعِلَّةِ في مَوْضِعٍ آخَرَ وَلَا يُوجَدُ مَعَهَا ذلك الْحُكْمُ مِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ له وَلَدٌ وَلَهُ وَلَدٌ فَيَهَبُ لِوَلَدِهِ شيئا وَيَقُولُ وَهَبْتُ له لِأَنَّهُ وَلَدِي فَيُقَالُ له فَيَنْكَسِرُ عَلَيْك بِوَلَدِ وَلَدِك لِأَنَّ مَعْنَى الْوَلَدِ مَوْجُودٌ فيه وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الِاعْتِرَاضَ بِهِ صَحِيحٌ ما رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم دُعِيَ إلَى دَارٍ فَأَجَابَ وَدُعِيَ إلَى دَارٍ أُخْرَى فلم يُجِبْ فَقِيلَ له في ذلك فقال إنَّ في دَارِ فُلَانٍ كَلْبًا فَقِيلَ وفي هذه الدَّارِ سِنَّوْرٌ فقال السِّنَّوْرُ سَبُعٌ وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الْهِرَّةَ تَكْسِرُ الْمَعْنَى وهو الِاحْتِيَاجُ إلَيْهِ في الْبَيْتِ كَالْكَلْبِ فَأَقَرَّهُمْ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم على اعْتِرَاضِهِمْ وَأَجَابَ بِالْفَرْقِ وهو أَنَّ الْهِرَّةَ سُبُعٌ أَيْ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ فَدَلَّ على أَنَّ الْكَلْبَ نَجِسٌ وهو ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُبَدِّلَ ذلك الْوَصْفَ الْخَاصَّ بِوَصْفٍ عَامٍّ ثُمَّ يَنْقُضَهُ عليه كَقَوْلِنَا في إثْبَاتِ صَلَاةِ الْخَوْفِ صَلَاةٌ يَجِبُ قَضَاؤُهَا فَيَجِبُ أَدَاؤُهَا كَصَلَاةِ الْأَمْنِ فَيَعْتَرِضُ أَنَّ كَوْنَهَا صَلَاةً لَا أَثَرَ لها لِأَنَّ الْحَجَّ كَذَلِكَ فلم يَبْقَ إلَّا الْوَصْفُ الْعَامُّ وهو كَوْنُهُ عِبَادَةً فَيَنْكَسِرُ بِصَوْمِ الْحَائِضِ وَالثَّانِي أَنْ لَا يَفْعَلَ ذلك بَلْ يُعْرِضُ عن ذلك الذي أَسْقَطَهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَذْكُرُ صُورَةَ النَّقْضِ كما لو أَسْقَطَ في الْمِثَالِ قَوْلَنَا فَيَجِبُ أَدَاؤُهَا إذْ ليس كُلُّ ما يَجِبُ أَدَاؤُهُ يَجِبُ قَضَاؤُهُ بِدَلِيلِ الْحَائِضِ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَهَذَا الْقِسْمُ أَكْثَرُ وُقُوعِهِ في الْوَصْفِ الذي لَا يُؤَثِّرُ وَحَاصِلُهُ أَنَّ هذا الِاعْتِرَاضَ رَاجِعٌ إلَى عَدَمِ التَّأْثِيرِ وَالنَّقْضِ كَقَوْلِنَا في بَيْعِ الْغَائِبِ مَثَلًا بَيْعٌ مَجْهُولُ الصِّفَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَلَا يَصِحُّ كما لو
____________________
(4/246)
قال بِعْتُكَ عَبْدًا فيقول على الصُّورَةِ الْأُولَى خُصُوصُ كَوْنِهِ بَيْعًا لَا أَثَرَ له لِأَنَّ الْمَرْهُونَ كَذَلِكَ فَبَقِيَ كَوْنُهُ عَقْدًا الذي هو وَصْفٌ يَعُمُّهُمَا وهو مَنْقُوضٌ بِالنِّكَاحِ وَعَلَى الثَّانِيَةِ لَا أَثَرَ لِكَوْنِهِ بَيْعًا بِدَلِيلِ الْمَرْهُونِ فَسَقَطَ هذا الْجُزْءُ ولم يَبْقَ إلَّا مَجْهُولَةُ الصِّفَةِ آخِرُهُ وهو مَنْقُوضٌ بِالنِّكَاحِ وَأَمَّا الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ فَعَرَّفَا الْكَسْرَ بِوُجُودِ الْحِكْمَةِ الْمَقْصُودَةِ من شَرْعِ الْحُكْمِ مع تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عنه فَالنَّقْضُ حِينَئِذٍ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عن الْعِلَّةِ وَالْكَسْرُ تَخَلُّفُهُ عن حِكْمَتِهَا فَهُوَ نَقْضٌ على مَعْنَى الْعِلَّةِ دُونَ لَفْظِهَا أَيْ الْحِكْمَةِ دُونَ الْمَظِنَّةِ بِخِلَافِ النَّقْضِ كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ في الْعَاصِي بِسَفَرِهِ مُسَافِرٌ فَوَجَبَ أَنْ يَتَرَخَّصَ كَالطَّائِعِ في سَفَرِهِ وَيَتَبَيَّنُ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ السَّفَرِ بِمَا فيه من الْمَشَقَّةِ فَيُقَالُ ما ذَكَرْتَهُ من الْحِكْمَةِ وَهِيَ الْمَشَقَّةُ مُنْتَقِضَةٌ بِمَشَقَّةِ الْحَمَّالِينَ وَأَرْبَابِ الصَّنَائِعِ الشَّاقَّةِ في الْحَضَرِ وَلَا رُخْصَةَ لهم ثُمَّ ذَكَرَا بَعْدَ ذلك النَّقْضَ الْمَكْسُورَ وهو النَّقْضُ على بَعْضِ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ ثُمَّ قالوا وَاخْتَلَفُوا في إبْطَالِهِمَا لِلْعِلِّيَّةِ وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ غَيْرُ مُبْطِلٍ وقال ابن الْحَاجِبِ إنَّهُ الْمُخْتَارُ وَأَمَّا صَاحِبُ الْمِنْهَاجِ فذكر الْكَسْرَ فَقَطْ وَعَرَّفَهُ بِعَدَمِ تَأْثِيرِ أَحَدَيْ الْمُرَكَّبِ الذي ادَّعَى الْمُسْتَدِلُّ عِلِّيَّتَهُ وَنَقَضَ الْآخَرُ وهو ظَاهِرُ كَلَامِهِ في الْمَحْصُولِ وَعَدُّوهُ من قَوَادِحِ الْعِلِّيَّةِ قال الْهِنْدِيُّ وهو مَرْدُودٌ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ إلَّا إذَا بَيَّنَ الْخَصْمُ إلْغَاءَ الْقَيْدِ وَنَحْنُ لَا نَعْنِي بِالْكَسْرِ إلَّا إذَا بُيِّنَ أَمَّا إذَا لم يُبَيَّنْ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ مَرْدُودٌ وَأَمَّا إذَا بُيِّنَ مَوْضِعُ النِّزَاعِ فَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ قَادِحٌ وَقَوْلُ الْآمِدِيَّ وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ غَيْرُ قَادِحٍ مَرْدُودٌ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في التَّلْخِيصِ اعْلَمْ أَنَّ الْكَسْرَ سُؤَالٌ مَلِيحٌ وَالِاشْتِغَالَ بِهِ يَنْتَهِي إلَى بَيَانِ الْفِقْهِ وَتَصْحِيحِ الْعِلَّةِ وقد اتَّفَقَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ على صِحَّتِهِ وَإِفْسَادِ الْعِلَّةِ بِهِ وَيُسَمُّونَهُ النَّقْضَ من طَرِيقِ الْمَعْنَى وَالْإِلْزَامَ من طَرِيقِ الْفِقْهِ وَأَنْكَرَهُ طَائِفَةٌ من الْخُرَاسَانِيِّينَ قُلْت وابن الصَّبَّاغِ وَقَالُوا لَا يُبْطِلُ الْعِلِّيَّةَ لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ إلَّا بِأَنْ يُغَيِّرَ الْعِلَّةَ أو يُبَدِّلَ لَفْظَهَا بِغَيْرِهِ أو يُسْقِطَ وَصْفًا من أَوْصَافِهَا وَهَذَا لَا يَلْزَمُ لِجَوَازِ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَا غَيَّرَهُ السَّائِلُ وَبَدَّلَهُ بِدَلِيلِ أَنَّ الْعِلَّةَ شَرْعِيَّةٌ وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَعْنًى على صِفَةِ عِلَّةٍ في حُكْمٍ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْكَسْرَ نَقْضٌ وَلَا يُجْعَلُ عِلَّةً على صِفَةٍ أُخْرَى فَلَا يَجُوزُ إلْزَامُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ على الْآخَرِ قال الشَّيْخُ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْكَسْرَ نَقْضٌ من حَيْثُ الْمَعْنَى فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّقْضِ من طَرِيقِ اللَّفْظِ وَأَيْضًا فإن ما أَوْجَدَهُ من الْمَعْنَى مِثْلُ الْمَعْنَى الذي عَلَّلَ بِهِ
____________________
(4/247)
وإذا لم يَتَعَلَّقْ بِذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُوجِدُ دَلَّ على عَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِالْمَعْنَى الذي ذَكَرَهُ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ في سُؤَالِ الْكَسْرِ من حَذْفِ وَصْفٍ من الْأَصْلِ أو إبْدَالِهِ بِغَيْرِهِ كما في مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْغَائِبِ فإنه حَذْفُ خُصُوصِ كَوْنِهِ بَيْعًا وَإِبْدَالُهُ في النِّكَاحِ وَالنَّظَرُ في خُصُوصِ الْأَوْصَافِ وَحَذْفُ ما حُذِفَ منها وَإِبْدَالُهُ مَوْضِعُهُ الْفِقْهُ وَعَلَى هذا فَلَا يَتَوَجَّهُ السُّؤَالُ إلَّا إذَا كان الْمَحْذُوفُ غير مُؤَثِّرٍ وَإِلَّا لم يَجُزْ حَذْفُهُ وإذا كان الْحَذْفُ غير مُؤَثِّرٍ فَالْمَجْمُوعُ من حَيْثُ هو مَجْمُوعٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ وإذا حَذَفَ وَصْفًا اعْتَقَدَهُ غير مُؤَثِّرٍ لم يَرِدْ النَّقْضُ إلَّا على الْبَاقِي قال ابن بَرْهَانٍ الْكَسْرُ سُؤَالٌ صَحِيحٌ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وقال الْخُرَاسَانِيُّونَ بَاطِلٌ وقال في الْمَنْخُولِ قال الْجَدَلِيُّونَ الْكَسْرُ يُفَارِقُ النَّقْضَ فإنه يَرِدُ على إخَالَةٍ لَا على عِبَارَتِهِ وَالنَّقْضُ يَرِدُ على الْعِبَارَةِ قال وَعِنْدَنَا لَا مَعْنَى لِلْكَسْرِ فإن كُلَّ عِبَارَةٍ لَا إخَالَةَ فيها فَهِيَ طَرْدٌ مَحْذُوفٌ وَالْوَارِدُ على الْإِخَالَةِ نَقْضٌ وَلَوْ أَوْرَدَ على أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ مع كَوْنِهِمَا مُخَيَّلَيْنِ فَهُوَ بَاطِلٌ لَا يُقْبَلُ نعم تَرَدَّدَ الْقَاضِي في أَنَّ الْمُعَلِّلَ هل يَجُوزُ له الِاحْتِرَازُ عن الْمَسْأَلَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ عن الْقِيَاسِ بِطَرْدٍ أَمْ لَا قال وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَصْلًا فإنه ليس بِنَقْضٍ وَلَوْ فَعَلَهُ اسْتَبَانَ بِهِ فَكَانَ أَحْسَنَ وَمَذْهَبُنَا أَنَّ الْعِلَّةَ مُنْتَقِضَةٌ بِهِ فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِرَازِ بِالطَّرْدِ تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ ذَكَرَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْمُهَذَّبِ فِيمَا لو مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ كُلُّهَا وَالْفُرُوعُ زَكَّى بِحَوْلِ الْأُمَّهَاتِ وقال الْأَنْمَاطِيُّ يُشْتَرَطُ بَقَاءُ نِصَابٍ من الْأُمَّهَاتِ فَلَوْ نَقَصَ عن النِّصَابِ انْقَطَعَتْ التَّبَعِيَّةُ قال وما قَالَهُ يَنْكَسِرُ عليه بِوَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ أَيْ فإنه يَثْبُتُ له حَقُّ الْحُرِّيَّةِ لِثُبُوتِهِ لِلْأُمِّ ثُمَّ يَسْقُطُ حَقُّ الْأُمِّ بِمَوْتِهَا وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْوَلَدِ بَلْ يَعْتِقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ كما كانت الْأُمُّ تَعْتِقُ بِمَوْتِهِ وقال الْأَصْحَابُ في بَابِ الْقِرَاضِ إذَا مَاتَ الْمَالِكُ انْفَسَخَ الْقِرَاضُ فَلَوْ أَرَادَ الْوَارِثُ تَقْرِيرَ الْعَقْدِ وَالْبَاقِي نَاضٌّ جَازَ قَطْعًا وَإِنْ كان عُرُوضًا قال أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَجُوزُ لِأَنَّهُ إنَّمَا امْتَنَعَ الْقِرَاضُ في الْعُرُوضِ ابْتِدَاءً وَهَذَا ليس بِابْتِدَاءٍ بَلْ بِنَاءً على أَصْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِ وقال الْجُمْهُورُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْقِرَاضَ الْأَوَّلَ بَطَلَ بِالْمَوْتِ وما قَالَهُ أبو إِسْحَاقَ يَنْكَسِرُ بِمَا لو دَفَعَ مَالًا قِرَاضًا يَعْمَلُ فيه عَامِلٌ وَحَصَّلَ الْمَالَ عُرُوضًا ثُمَّ تَفَاسَخَا الْقِرَاضَ ثُمَّ أَرَادَا أَنْ يَعْقِدَا الْقِرَاضَ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كان مَبْنِيًّا على ما
____________________
(4/248)
سَبَقَ الثَّانِي قِيلَ الْخِلَافُ في سُؤَالِ الْكَسْرِ يَنْبَنِي على الْخِلَافِ في الْقِيَاسِ في الْأَسْبَابِ فَمَنْ جَوَّزَهُ قَبِلَ سُؤَالَ الْكَسْرِ وَمَنْ لم يُجَوِّزْهُ لم يَسْمَعْ الْكَسْرَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إذَا قال وَصْفُ السَّرِقَةِ كان مُنَاسِبًا لِمَعْنَى كَذَا وهو مَوْجُودٌ في النَّبْشِ فَيَكُونُ سَبَبًا فَإِنْ بَيَّنَ أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا في خَاصَّةٍ بين النَّبْشِ وَالسَّرِقَةِ يُفَارِقُهَا غَيْرُهَا فيها صَحَّ الْجَمِيعُ وَإِنْ لم يذكر خَاصَّةً فقال يَبْطُلُ بِالزِّنَى وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَغَيْرِ ذلك فإن الْمَعْنَى الذي وُجِدَ في السَّرِقَةِ وُجِدَ في قَطْعِ الطَّرِيقِ وهو الْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ ولم يَنْتَهِضْ سَبَبًا لِمِثْلِ حُكْمِ السَّرِقَةِ فَيَحْتَاجُ الْمُسْتَدِلُّ أَنْ يَذْكُرَ بين النَّبْشِ وَالسَّرِقَةِ خَاصَّةً تَجْمَعُهُمَا فَكَأَنَّ صِحَّةَ الْكَسْرِ مَوْضُوعَةٌ على صِحَّةِ الْقِيَاسِ في الْأَسْبَابِ فَكُلُّ من لم يُجَوِّزْ ذلك يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يُصَحِّحَ الْكَسْرَ وَلَا طَرِيقَ لِتَصْحِيحِ الْكَسْرِ إلَّا بِمَا ذَكَرْنَا وَكُلُّ من لم يَبْنِ صِحَّةَ الْكَسْرِ على هذا الطَّرِيقِ لم يَعْرِفْ حَقِيقَتَهُ
____________________
(4/249)
فَصْلٌ جَوَابُ الْكَسْرِ نحو ما سَبَقَ من الْأَجْوِبَةِ في النَّقْضِ لِأَنَّهُ نَقْضٌ في الْمَعْنَى قِيلَ إلَّا أَنَّ مَنْعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ هُنَا أَظْهَرُ منه في النَّقْضِ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ قد تَتَفَاوَتُ فَقَدْ لَا يَحْصُلُ ما هو مَنَاطُ الْحُكْمِ منه في الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَمَنَعَ انْتِقَالَ الْحُكْمِ هَاهُنَا فَانْدَفَعَ بِوَجْهٍ آخَرَ وهو أَنَّهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمٌ هو أَوْلَى بِالْحِكْمَةِ وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ في الْكَسْرِ الْفَرْقُ من طَرِيقِ الْمَعْنَى على وَجْهِ الدَّفْعِ وَلَا يَكْفِي رَدُّهُ بِأَنَّ في الْأَصْلِ ما يُوَافِقُ هذه الْمَسْأَلَةَ وَأَنْتَ لَا تَقُولُ بِهِ فَلَا يَلْزَمُنِي كما في النَّقْضِ وَلَا يَكْفِي الْفَرْقُ بَعْدَ لُزُومِ الْكَسْرِ بِمَا لَا يُدْفَعُ عن الْعِلَّةِ وهو الْفَرْقُ مع وُجُودِ الْمَعْنَى الذي عَلَّلَ بِهِ كما لو فَرَّقَ بَعْدَ النَّقْضِ من طَرِيقِ اللَّفْظِ الثَّالِثُ عَدَمُ الْعَكْسِ وهو وُجُودُ الْحُكْمِ بِدُونِ الْوَصْفِ في صُورَةٍ أُخْرَى بِعِلَّةٍ أُخْرَى كَاسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيِّ على مَنْعِ تَقْدِيمِ أَذَانِ الصُّبْحِ بِقَوْلِهِ صَلَاةٌ لَا تُقْصَرُ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ أَذَانِهَا على وَقْتِهَا كَالْمَغْرِبِ فَنَقُولُ هذا الْوَصْفُ لَا يَنْعَكِسُ لِأَنَّ الْحُكْمَ الذي هو مَنْعُ تَقْدِيمِ الْأَذَانِ على الْوَقْتِ مَوْجُودٌ فِيمَا قَصُرَ من الصَّلَوَاتِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى وَعَدُّ هذا من الْقَوَادِحِ مَبْنِيٌّ على مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الْعَكْسَ هل هو شَرْطٌ في الْعِلَّةِ وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ وَالثَّانِيَةُ امْتِنَاعُ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ بِعِلَّتَيْنِ لِأَنَّ النَّوْعَ بَاقٍ فيه فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ وهو الْمُخْتَارُ لم يَقْدَحْ فإن الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ يَخْلُفُ بَعْضُهَا بَعْضًا قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إذَا قُلْنَا إنَّ اجْتِمَاعَ الْعِلَلِ على مَعْلُولٍ وَاحِدٍ غَيْرُ وَاقِعٍ أَيْ كما هو اخْتِيَارُهُ فَالْعَكْسُ لَازِمٌ ما لم يَثْبُتْ الْحُكْمُ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ بِتَوْقِيفٍ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ الْمُسْتَدِلَّ بَيَانُهُ بِخِلَافِ ما أَلْزَمْنَاهُ مثله في النَّقْضِ لِأَنَّ ذَاكَ دَاعٍ إلَى الِانْتِشَارِ وَسَبَبُهُ أَنَّ إشْعَارَ النَّفْيِ بِالنَّفْيِ مُنْحَطٌّ عن إشْعَارِ الثُّبُوتِ بِالثُّبُوتِ وَلِهَذَا لو فَرَضْنَا عِلَلًا لَكَانَ إشْعَارُ كل وَاحِدَةٍ بِنَفْيِ الْحُكْمِ كَإِشْعَارِ جُزْءِ الْعِلَّةِ بِالْحُكْمِ لَا كَإِشْعَارِ الْعِلَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ بِهِ وَزَوَالُهَا لِزَوَالِ التَّرْجِيحِ وَاَلَّذِي أَبْطَلَ الْعِلَّةَ إذَا امْتَنَعَ الطَّرْدُ بِتَوْقِيفٍ لَا يُبْطِلُهَا إذَا امْتَنَعَ الْعَكْسُ
____________________
(4/250)
بِتَوْقِيفٍ فَلْيَتَلَمَّحْ الطَّالِبُ تَفَاوُتَ الْمَرَاتِبِ وقال الْآمِدِيُّ لَا يَرِدُ سُؤَالُ الْعَكْسِ إلَّا أَنْ يَتَّفِقَ الْمُنَاظِرَانِ على اتِّحَادِ الْعِلَّةِ الرَّابِعُ عَدَمُ التَّأْثِيرِ قال ابن الصَّبَّاغِ وهو من أَصَحِّ ما يَعْتَرِضُ بِهِ على الْعِلَّةِ وهو عَدَمُ إفَادَةِ الْوَصْفِ أَثَرَهُ بِأَنْ يَكُونَ غير مُنَاسِبٍ فَيَبْقَى الْحُكْمُ بِدُونِهِ وَمِنْ ثَمَّ اخْتَصَّ بِقِيَاسِ الْمَعْنَى وَبِالْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ الْمُخْتَلَفِ فيها وَلَا بُدَّ من الْتِزَامِ عَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْعِلَّةِ وهو مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ إنَّ الْحُكْمَ إذَا تَعَلَّقَ بِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا وَلِهَذَا الْتَزَمُوا الطَّرْدَ وَالْعَكْسُ في بَابِ الرِّبَا بِأَنَّ حُكْمَ الرِّبَا لَا يَثْبُتُ اتِّفَاقًا دُونَ عِلَّةِ الرِّبَا وقد اسْتَعْمَلَهُ الشَّافِعِيُّ في مُبَاحَثَةٍ له مع مُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ كما سَيَأْتِي قال إلْكِيَا وَعَلَى هذا فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ إنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَاتٌ مَنْصُوبَةٌ على الْحُكْمِ وَمَنْ أَثْبَتَ عَلَامَةً على حُكْمٍ فَلَيْسَ له أَنْ يَنْصِبَ ضِدَّهَا فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْحُكْمَ إذَا تَعَلَّقَ بِعِلَّةٍ وَثَبَتَ بها فَذَلِكَ الْحُكْمُ الذي صَارَ نَتِيجَةَ الْعِلَّةِ لَا يَبْقَى دُونَ الْعِلَّةِ فإن النَّتِيجَةَ لَا تَبْقَى دُونَ النَّاتِجِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ ذَكَرَ كَثِيرٌ من أَصْحَابِنَا سُؤَالَ عَدَمِ التَّأْثِيرِ وَلَسْت أَرَى له وَجْهًا بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ الْمُعَلِّلُ التَّأْثِيرَ لِعِلَّتِهِ وقد ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ الصَّحِيحَةَ ما أُقِيمَ الدَّلِيلُ على صِحَّتِهَا بِالتَّأْثِيرِ وقد ذَكَرَ مَشَايِخُ أَصْحَابِنَا في سُؤَالِ عَدَمِ التَّأْثِيرِ وَتَصْحِيحِهِ كَلَامًا طَوِيلًا وَعَدُّوهُ سُؤَالًا قَوِيًّا وَقَالُوا إذَا أَوْرَدَ السَّائِلُ هذا السُّؤَالَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ الْمُعَلِّلُ فَإِنْ وَجَدَ له تَأْثِيرًا في طَرْدِ الْعِلَّةِ وَالْمَأْخُوذِ على الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ وَعَلَّلَ الشَّارِعُ شَرْطَهَا الِاطِّرَادَ دُونَ الِانْعِكَاسِ بَلْ إذَا كانت مُطَّرِدَةً مُنْعَكِسَةً تَرَجَّحَ صِحَّةُ الْعِلَّةِ وقد قَسَّمَ أَهْلُ النَّظَرِ عَدَمَ التَّأْثِيرِ إلَى أَقْسَامٍ أَحَدُهَا عَدَمُ التَّأْثِيرِ في الْوَصْفِ بِكَوْنِهِ طَرْدِيًّا وهو رَاجِعٌ إلَى عَدَمِ الْعَكْسِ السَّابِقِ كَقَوْلِنَا صَلَاةُ الصُّبْحِ لَا تُقْصَرُ فَلَا تُقَدَّمُ على وَقْتِهَا كَالْمَغْرِبِ فَقَوْلُهُ لَا تُقْصَرُ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَصْفِ التَّقْدِيمِ وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى طَلَبِ الْمُنَاسَبَةِ وقد تَنَاظَرَ الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه مع مُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ في مَسْأَلَةِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ في عِدَّةِ نِكَاحِ أُخْتِهَا الْبَائِنَةِ فإن مُحَمَّدًا قال النِّكَاحُ كان مُحَرَّمًا وقد زَالَ النِّكَاحُ ولم يَبْقَ تَحْرِيمٌ فَسَلَّمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الذي بَقِيَ من الْعِلَّةِ غَيْرُ النِّكَاحِ ولم يَرَ الْعِدَّةَ عُلْقَةً من عَلَائِقِ النِّكَاحِ لَكِنَّهُ قال يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى وَهِيَ تَوَقُّعُ جَمْعِ الْمَاءِ في رَحِمِ أُخْتَيْنِ فقال
____________________
(4/251)
الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ صَحَّ ذلك فإذا خَلَّاهَا وَطَلَّقَهَا وَشَرَعَتْ في الْعِدَّةِ فَهَلَّا جَازَ نِكَاحُ أُخْتِهَا إذْ لَا جَمْعَ في الْمَاءِ وَلَيْسَ هذا من قَبِيلِ الْعَكْسِ الْمَرْدُودِ فَلَا يُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ في غَيْرِ الْمَمْسُوسَةِ مُعَلَّلَةٌ بِعِلَّةٍ أُخْرَى إذْ التَّحْرِيمُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ أو الْجَمْعِ وَلَا ثَالِثَ فَلَا يَبْقَى بَعْدَهَا إلَّا صُورَةُ الْعِدَّةِ وَلَا نَظَرَ إلَيْهَا الثَّانِي عَدَمُ التَّأْثِيرِ في الْأَصْلِ بِكَوْنِهِ مُسْتَغْنًى عنه في الْأَصْلِ لِوُجُودِ مَعْنًى آخَرَ مُسْتَقِلٍّ بِالْغَرَضِ كَقَوْلِنَا في بَيْعِ الْغَائِبِ مَبِيعٌ غَيْرُ مَرْئِيٍّ فَلَا يَصِحُّ كَالطَّيْرِ في الْهَوَاءِ فَنَقُولُ لَا أَثَرَ لِكَوْنِهِ غير مَرْئِيٍّ فإن الْعَجْزَ عن التَّسْلِيمِ كَافٍ لِأَنَّ بَيْعَ الطَّيْرِ لَا يَصِحُّ إنْ كان مَرْئِيًّا وَحَاصِلُهُ مُعَارَضَةٌ في الْأَصْلِ لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ يُلْغِي من الْعِلَّةِ وَصْفًا ثُمَّ يُعَارِضُ الْمُسْتَدِلَّ بِمَا بَقِيَ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَاَلَّذِي صَارَ إلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ فَسَادُ الْعِلَّةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَقِيلَ بَلْ يَصِحُّ لِأَنَّ ذلك الْقَيْدَ له أَثَرٌ في الْجُمْلَةِ وَإِنْ كان مُسْتَغْنًى عنه كَالشَّاهِدِ الثَّالِثِ بَعْدَ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ وهو مَرْدُودٌ لِأَنَّ ذلك الْقَيْدَ ليس مَحَلَّهُ وَلَا وَصْفًا له فَذِكْرُهُ لَغْوٌ بِخِلَافِ الشَّاهِدِ الثَّالِثِ فإنه يَتَهَيَّأُ لَأَنْ يَصِيرَ عِنْدَ ذلك أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ رُكْنًا قال وَأَمَّا الْوَصْفُ الذي لَا أَثَرَ له إمَّا أَنْ يُذْكَرَ لِدَفْعِ نَقْضِ ما لَوْلَاهُ لَوَرَدَ أَوَّلًا فَإِنْ لم يَكُنْ لِدَفْعِ النَّقْضِ فَهُوَ هَدَرٌ وَإِلَّا فَالطَّارِدُونَ جَوَّزُوا ذِكْرَهُ لِدَفْعِ النَّقْضِ وَغَيْرُهُمْ اخْتَلَفُوا فيه وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إذَا كان النَّقْضُ من مَسَائِلِ الِاسْتِثْنَاءِ فَذِكْرُ هذا الْوَصْفِ في الدَّلِيلِ لِلتَّنْبِيهِ على مَحَلِّ الِاسْتِثْنَاءِ لَا تَأْثِيرَ فيه وَإِلَّا فَلَا وَجَعَلَ الْبَيْضَاوِيُّ في مِنْهَاجِهِ كَوْنَ عَدَمِ التَّأْثِيرِ من الْقَوَادِحِ مَبْنِيًّا على مَنْعِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِالشَّخْصِ بِعِلَّتَيْنِ فَإِنْ جَوَّزْنَا وهو الْمُخْتَارُ لم يَقْدَحْ وَسَبَقَهُ إلَى الْبِنَاءِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وقال ابن الْحَاجِبِ كُلُّ ما فُرِضَ جَعْلُهُ وَصْفًا في الْعِلَّةِ من طَرْدِيٍّ إنْ كان الْمُسْتَدِلُّ مُعْتَرِفًا بِهِ فَقِيلَ مَرْدُودٌ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَكُونُ غير مَرْدُودٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فيه غَرَضٌ صَحِيحٌ لِدَفْعِ النَّقْضِ الصَّحِيحِ إلَى النَّقْضِ الْمَكْسُورِ وَهَذَا صَعْبٌ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فإنه مُعْتَرِفٌ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ الثَّالِثُ عَدَمُ التَّأْثِيرِ في الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ جميعا بِأَنْ تَكُونَ له فَائِدَةٌ في الْحُكْمِ إمَّا ضَرُورِيَّةٌ كَقَوْلِ من اعْتَبَرَ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْأَحْجَارِ عِبَادَةً مُتَعَلِّقَةً بِالْأَحْجَارِ لم تَتَقَدَّمْهَا مَعْصِيَةٌ فَاشْتَرَطَ فيها الْعَدَدَ كَالْجِمَارِ وَإِمَّا غير ضَرُورِيَّةٍ فَإِنْ لم يَعْتَبِرْ الضَّرُورِيَّةَ لم يَعْتَبِرْهَا من طَرِيقٍ أَوْلَى وَإِلَّا فَتُرَدُّ مِثَالُهُ قَوْلُنَا الْجُمُعَةُ صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فلم تَفْتَقِرْ إلَى إذْنِ الْإِمَامِ كَالظُّهْرِ فإن قَوْلَنَا مَفْرُوضَةٌ حَشْوٌ إذْ لو حُذِفَ لم يُنْتَقَضْ بِشَيْءٍ لَكِنْ ذُكِرَ لِتَقْرِيبِ الْفَرْعِ من الْأَصْلِ بِتَقْوِيَةِ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا إذْ الْفَرْضُ بِالْفَرْضِ أَشْبَهُ
____________________
(4/252)
وَاعْلَمْ أَنَّا إذَا قُلْنَا إنَّ عَدَمَ التَّأْثِيرِ في الْأَصْلِ فَقَطْ قَادِحٌ كان هذا قَادِحًا بِطَرِيقٍ أَوْلَى وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في الْمُلَخَّصِ هذا الْقِسْمُ أَصْعَبُ ما نَحْنُ فيه وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عليه الرَّابِعُ عَدَمُ التَّأْثِيرِ في الْفَرْعِ كَقَوْلِهِمْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا فَلَا يَصِحُّ كما لو تَزَوَّجَتْ من غَيْرِ كُفْءٍ فَنَقُولُ غَيْرِ كُفْءٍ لَا أَثَرَ له فإن النِّزَاعَ في الْكُفْءِ وَنَحْوِهِ سَوَاءٌ وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى الثَّانِي وَيَرْجِعُ أَيْضًا إلَى الْمُنَاقَشَةِ في الْفَرْضِ وهو تَخْصِيصُ بَعْضِ صُوَرِ النِّزَاعِ بِالْحِجَاجِ وقد اُخْتُلِفَ فيه على مَذَاهِبَ الْجَوَازُ وهو الْأَصَحُّ وَالْمَنْعُ قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو بَكْرٍ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنْ كان مُبَيِّنًا لِمَحَلِّ السُّؤَالِ لم يَجُزْ كما إذَا سُئِلَ الشَّافِعِيُّ عن ضَمَانِ الضَّيْفِ الْمَغْرُورِ فقال يَبْرَأُ وَفُرِضَ في الْمُكْرَهِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ إذْ بَرَاءَةُ الْمُكْرَهِ لِأَنَّهُ آلَةٌ وَبَرَاءَةُ الضَّيْفِ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ فَفِي كل مَسْأَلَةٍ عِلَّةٌ مُبَايِنَةٌ فَتَقَاطَعَتَا وَإِنْ لم يَكُنْ بِأَنْ وَقَعَ في طَرِيقٍ يَشْتَمِلُ عليه سُؤَالُ السَّائِلِ جَازَ كما لو سُئِلَ عن عِتْقِ الرَّاهِنِ فَأَبْطَلَهُ وَفُرِضَ في الْمُعْسِرِ وَالْخَامِسُ عَدَمُ التَّأْثِيرِ في الْحُكْمِ وهو أَنْ يَذْكُرَ في الدَّلِيلِ وَصْفًا لَا تَأْثِيرَ له في الْحُكْمِ الْمُعَلِّلِ بِهِ كَقَوْلِنَا في الْمُرْتَدِّينَ يُتْلِفُونَ الْأَمْوَالَ مُشْرِكُونَ أَتْلَفُوا في دَارِ الْحَرْبِ فَلَا ضَمَانَ كَالْحَرْبِيِّ فإن دَارَ الْحَرْبِ لَا مَدْخَلَ لها في الْحِكْمَةِ فَلَا فَائِدَةَ لِذِكْرِهَا إذْ من أَوْجَبَ الضَّمَانَ أَوْجَبَهُ وَإِنْ لم يَكُنْ في دَارِ الْحَرْبِ وَكَذَا من نَفَاهُ نَفَاهُ مُطْلَقًا وَيَرْجِعُ إلَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يُطَالَبُ بِأَمْرِ كَوْنِهِ في دَارِ الْحَرْبِ وَالْفَرْقُ بين هذا والثالث أَنَّ هذا أَعَمُّ وَذَاكَ أَخَصُّ فإنه يَلْزَمُ من أَنْ يَكُونَ له تَأْثِيرٌ في الْحُكْمِ أَنْ لَا يَكُونَ له تَأْثِيرٌ في الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ من غَيْرِ عَكْسٍ وَلِهَذَا لم يذكر الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ الثَّالِثَ وقال الْآمِدِيُّ حَاصِلُ هذا الْقِسْمِ يَرْجِعُ إلَى عَدَمِ التَّأْثِيرِ في الْوَصْفِ فلم يَبْقَ غَيْرُ عَدَمِ التَّأْثِيرِ في الْوَصْفِ وفي الْأَصْلِ قُلْت وَلِهَذَا اقْتَصَرَ على إيرَادِهَا في الْمِنْهَاجِ وهو من مَحَاسِنِهِ تَنْبِيهٌ عَدَمُ الْعَكْسِ وَعَدَمُ التَّأْثِيرِ من بَابٍ وَاحِدٍ وقد بَانَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ عَدَمَ التَّأْثِيرِ أَعَمُّ من عَدَمِ الْعَكْسِ وهو الذي نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن الْجَدَلِيِّينَ أَنَّهُمْ قَسَّمُوا عَدَمَ التَّأْثِيرِ إلَى ما يَقَعُ في وَصْفِ الْعِلَّةِ وَإِلَى ما يَقَعُ في أَصْلِهَا وَجَعَلُوا الْوَاقِعَ في الْأَصْلِ مُعَلَّلًا بِعِلَلٍ فَالْعِلَّةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَتَضَمَّنُ انْتِفَاؤُهَا انْتِفَاءَ الْحُكْمِ وَهَذَا مَنْشَؤُهُ من تَعَدُّدِ
____________________
(4/253)
الْعِلَّةِ في الْأَصْلِ وَإِنْ اتَّحَدَتْ الْعِلَّةُ جَرّ ذلك إلَى الِانْعِكَاسِ وهو يُوَضِّحُ أَنَّ تَقْسِيمَهُ إلَى الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ لَا حَاصِلَ له وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في كِتَابِ الْحُدُودِ إنَّ الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبَ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ التَّأْثِيرَ وَالْعَكْسَ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْعَكْسَ عَدَمُ الْعِلَّةِ لِعَدَمِ الْحِكْمَةِ وَالتَّأْثِيرُ زَوَالُ الْحُكْمِ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ في مَوْضِعٍ ما قال وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال يَجِبُ زَوَالُ الْحُكْمِ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ في مَوْضِعٍ من أَصْلِ الْعِلَّةِ وَمِنْهُمْ من قال لَا فَرْقَ بين أَنْ يَزُولَ الْحُكْمُ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ في مَوْضِعٍ من أَصْلِ الْعِلَّةِ أو من سَائِرِ الْأُصُولِ وَهَذَا هو الصَّحِيحُ وَإِلَيْهِ رَجَعَ الْقَاضِي فَعَلَى هذا الْفَرْقُ بين الْعَكْسِ وَالتَّأْثِيرِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْعَكْسَ هو زَوَالٌ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ في جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ أو في أَيِّ مَوْضِعٍ كانت وَالتَّأْثِيرُ زَوَالُهُ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ في مَوْضِعٍ انْتَهَى فَرْعٌ ذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ليس لِلْمُسْتَدِلِّ إلْزَامُ الْمُعْتَرِضِ نَفْيَ الْحُكْمِ عِنْدَ نَفْيِ عِلَّتِهِ بِمُجَرَّدِ إقَامَةِ الدَّلِيلِ على عِلَّتِهِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَدْعُوهُ إلَى إلْزَامِ الْعَكْسِ فَعَلَيْهِ حِينَئِذٍ أَنْ يَضُمَّ إلَى تَصْحِيحِ عِلَّتِهِ إبْطَالَ عِلَّةِ خَصْمِهِ فإذا تَمَّ له ذلك دَعَاهُ إلَى الْعَكْسِ فَإِنْ بَيَّنَ الْخَصْمُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ حِينَئِذٍ مع نَفْيِ الْعِلَّةِ فَعَلَى الْمُسْتَدِلِّ حِينَئِذٍ أَنْ يُبَيِّنَ التَّوْقِيفَ الذي مَنَعَ الْعَكْسَ ثُمَّ طَرَدَ الْإِمَامُ هذا في الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ إذَا عَارَضَهَا الْخَصْمُ بِمُتَعَدِّيَةٍ فَعَلَى الْمُعَلِّلِ بِالْقَاصِرَةِ إبْطَالُ الْمُتَعَدِّيَةِ فإذا تَمَّ له إبْطَالُهَا أَلْزَمَ خَصْمَهُ حِينَئِذٍ نَفْيَ الْحُكْمِ في مَحَلِّ التَّعَدِّي لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ عنه تَنْبِيهٌ قد يَبْقَى الْحُكْمُ بَعْدَ زَوَالِ عِلَّتِهِ في صُوَرٍ على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه كَلَمْسِ الْمَحَارِمِ وَتَحْرِيمِ الِادِّخَارِ في زَمَانِنَا لِأَجْلِ من دُفَّ وَمَنْعِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْجَلْبِ إنْ لم يَغْبِنْ وَلِمَنْ لم يَعْلَمْ بِالْعَيْبِ إلَّا بَعْدَ زَوَالِهِ وَلِمَنْ عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ ولم تَعْلَمَ عِتْقَهَا حتى عَتَقَ وَإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ لِمَنْ بَاعَ حِصَّتَهُ قبل الْعِلْمِ بها وَالْمُرَجَّحُ فيها زَوَالُ الْحُكْمِ عِنْدَ زَوَالِ الْعِلَّةِ وَشَذَّ عن هذا وَطْءُ الرَّاهِنِ الْمَرْهُونَةَ فإنه حَرَامٌ إنْ كانت مِمَّنْ لَا تَحْبَلُ وَمُدْرَكُهُ أَنَّ الْمَظِنَّةَ تُقَامُ مَقَامَ الْمَظْنُونِ
____________________
(4/254)
الْخَامِسُ الْقَلْبُ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَبَاحِثُ الْأَوَّلُ في حَقِيقَتِهِ وقد اُخْتُلِفَ في تَعْرِيفِهِ فقال الْآمِدِيُّ هو أَنْ يُبَيِّنَ الْقَالِبُ أَنَّ ما ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ يَدُلُّ عليه لَا له أو يَدُلُّ عليه وَلَهُ قال وَالْأَوَّلُ قَلَّمَا يَتَّفِقُ في الْأَقْيِسَةِ وَمِثْلُهُ في الْمَنْصُوصِ بِاسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيِّ في تَوْرِيثِ الْخَالِ بِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْخَالُ وَارِثُ من لَا وَارِثَ له فَأَثْبَتَ إرْثَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَارِثِ فيقول الْمُعْتَرِضُ هذا يَدُلُّ عَلَيْك لَا لَك لِأَنَّ مَعْنَاهُ نَفْيُ تَوْرِيثِ الْخَالِ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ أَيْ الْخَالُ لَا يَرِثُ كما يُقَالُ الْجُوعُ زَادُ من لَا زَادَ له وَالصَّبْرُ حِيلَةُ من لَا حِيلَةَ له أَيْ ليس الْجُوعُ زَادًا وَلَا الصَّبْرُ حِيلَةً وَاَلَّذِي يَدُلُّ على الْمُسْتَدِلِّ وَلَهُ مَحَلُّ التَّقْسِيمِ وقال الْإِمَامُ الرَّازِيَّ هو إنْ تَعَلَّقَ على الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ في قِيَاسٍ يَقْتَضِي الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فيه وَيُرَدُّ إلَى ذلك الْأَصْلِ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا اشْتَرَطْنَا اتِّحَادَ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ لو رُدَّ إلَى أَصْلٍ آخَرَ لَكَانَ حُكْمُ ذلك الْأَصْلِ الْآخَرِ إمَّا حَاصِلًا في الْأَصْلِ الْأَوَّلِ فَمَرَدُّهُ إلَيْهِ أو غير حَاصِلٍ بِأَصْلِ الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ نُقِضَ على تِلْكَ الْعِلَّةِ قال الْهِنْدِيُّ وهو غَيْرُ جَامِعٍ لِخُرُوجِ ما يَكُونُ من الْقَلْبِ في غَيْرِ الْقِيَاسِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَلْبَ لَا يَخْتَصُّ بِالْقِيَاسِ قال وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ دَعْوَى لِأَنَّ ما ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ عليه لَا له في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ على ذلك الْوَجْهِ الثَّانِي في اعْتِبَارِهِ وقد أَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ من جِهَةِ أَنَّ الْحُكْمَيْنِ أَعْنِي ما يُثْبِتُهُ الْمُسْتَدِلُّ وما يُثْبِتُهُ الْقَالِبُ إنْ لم يَتَنَافَيَا فَلَا قَلْبَ إذْ لَا مَنْعَ من اقْتِضَاءِ الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ لِحُكْمَيْنِ غَيْرِ مُتَنَافِيَيْنِ فَلَا يَفْسُدُ بِهِ وَإِنْ اسْتَحَالَ اجْتِمَاعُهُمَا في صُورَةٍ وَاحِدَةٍ فلم يُمْكِنْ الرَّدُّ إلَى
____________________
(4/255)
ذلك الْأَصْلِ بِعَيْنِهِ فَلَا يَكُونُ قَلْبًا إذْ لَا بُدَّ فيه من الرَّدِّ إلَى ذلك الْأَصْلِ وَالْجُمْهُورُ على إمْكَانِهِ وَأَجَابُوا عن هذا بِأَنَّ الْحُكْمَيْنِ غَيْرُ مُتَنَافِيَيْنِ لِذَاتِهِمَا فَلَا جَرَمَ يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا في الْأَصْلِ لَكِنْ قام الدَّلِيلُ على امْتِنَاعِ اجْتِمَاعِهِمَا في الْفَرْعِ فإذا أَثْبَتَ الْقَالِبُ الْحُكْمَ الْآخَرَ في الْفَرْعِ بِالرَّدِّ إلَى الْأَصْلِ وَشَهَادَةِ اعْتِبَارِهِ امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فيه وَأَحَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إشْعَارَ الْوَصْفِ الْوَاحِدِ بِحُكْمَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ فَمَنَعَ الشَّارِحُ الْإِبْيَارِيُّ التَّنَاقُضَ بين حُكْمَيْ الْعِلَّةِ وَقَلْبِهَا في الثَّانِي وَاسْتَدَلَّ على عَدَمِ التَّنَاقُضِ بِاجْتِمَاعِ الْحُكْمَيْنِ في الْأَصْلِ قال ابن الْمُنِيرِ وَالصَّوَابُ مَنْعُ الْإِمَامِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَوَاضِعِ الْمُسْتَدِلِّ وَالْقَالِبِ لِأَنَّهُمَا تَوَاضَعَا على أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ في الْفَرْعِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ عنه فَهِيَ مُنَاقَضَةٌ بِالْمُوَاضَعَةِ لَا بِالْحَقِيقَةِ لَكِنْ لَا أُصَوِّبُ قَوْلَهُ إنَّ الْوَصْفَ الْوَاحِدَ لَا يُشْعِرُ بِمُتَنَاقِضَيْنِ فإنه قد يُشْعِرُ بِهِمَا بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى يَسْأَلُونَكَ عن الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ غَايَةُ ما في الْبَابِ أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْحُكْمَيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ فَتَعَيَّنَ أَحَدُهُمَا بِالتَّرْجِيحِ كما قال تَعَالَى وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ من نَفْعِهِمَا فَنَبَّهَ على رُجْحَانِ الْمَفْسَدَةِ الثَّالِثُ في أَنَّهُ قَادِحٌ أَمْ لَا وقد اخْتَلَفُوا فيه فَقِيلَ هو إفْسَادُ الْعِلَّةِ مُطْلَقًا فَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ بها لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَنَقَلَ تَسْلِيمَ الصِّحَّةِ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْجَامِعَ دَلِيلٌ وَالْخِلَافُ في أَنَّهُ دَلِيلٌ لِلْمُسْتَدِلِّ أو عليه وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ من يُسَمِّيهِ مُعَارَضَةً فإن الْمُعَارَضَةَ لَا تُفْسِدُ الْعِلَّةَ فَلَا يَمْنَعُ من التَّعَلُّقِ بها حتى يَثْبُتَ رُجْحَانُهَا من خَارِجٍ وهو قَوْلُ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ وَقِيلَ إنَّهُ تَسْلِيمٌ لِلصِّحَّةِ على تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ وَظَاهِرُ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ لَازِمٌ جَدَلًا لَا دَيْنًا وَلِهَذَا قال تَلْتَبِسُ فيه الْحُظُوظُ الْمَعْنَوِيَّةُ بِالْمَرَاسِمِ الْجَدَلِيَّةِ بِخِلَافِ الْمُعَارَضَةِ فَإِنَّهَا مُنَاقَضَةٌ دَيْنًا وَجَدَلًا وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ حُجَّةٌ قَادِحَةٌ في الْعِلَّةِ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَذَكَرَ الشَّيْخُ أبو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ من أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ من أَلْطَفِ ما يَسْتَعْمِلُهُ النَّاظِرُ وَسَمِعْت الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيَّ يقول إنَّ هذا الْقَلْبَ إنَّمَا ذَكَرَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ من أَصْحَابِنَا حَيْثُ اسْتَدَلَّ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ في مَسْأَلَةِ السَّاحَةِ قال في هَدْمِ الْبِنَاءِ ضَرَرٌ بِالْغَاصِبِ فقال له أَصْحَابُنَا وفي مَنْعِ صَاحِبِ
____________________
(4/256)
السَّاحَةِ من سَاحَتِهِ إضْرَارٌ فقال يَجِبُ أَنْ يَذْكُرَ مِثْلَ هذا في الْقِيَاسِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال لَا يَصِحُّ سُؤَالُ الْقَلْبِ قال وهو شَاهِدُ زُورٍ يَشْهَدُ لك وَيَشْهَدُ عَلَيْك لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلَّا فَرْضُ مَسْأَلَةٍ على الْمُسْتَدِلِّ وَلَيْسَ لِلسَّائِلِ ذلك لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْقَالِبَ عَارَضَ الْمُسْتَدِلَّ بِمَا لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دَلِيلِهِ فَصَارَ كما لو عَارَضَهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَقِيلَ هو بَاطِلٌ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا في الْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ وقال أبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ الْقَلْبُ سُؤَالٌ صَحِيحٌ يُوقِفُ الِاسْتِدْلَالَ بِالْعِلَّةِ وَيُفْسِدُهَا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وكان الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَشَيْخُنَا أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ يَقُولَانِ هو مُعَارَضَةٌ وَأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْعِلَّةَ قال وَعِنْدِي فيه تَفْصِيلٌ وهو أَنَّ الْقَلْبَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا قَلْبٌ بِجَمِيعِ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ فَهَذَا يُفْسِدُ الْعِلَّةَ الْمَقُولَ بها لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْعِلَّةِ تَعَلُّقٌ بِالْحُكْمِ الذي تَعَلَّقَ عليها وَاخْتِصَاصٌ بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ تَعَلُّقُ الضِّدِّ بها فإذا بَيَّنَ السَّائِلُ صِحَّةَ أَنْ يُعَلِّقَ عليها ضِدَّهُ خَرَجَتْ عن أَنْ تَكُونَ عِلَّةً كَقَوْلِنَا في أَنَّ الْخِيَارَ في الْمَبِيعِ يُورَثُ فإن الْمَوْتَ مَعْنًى يُزِيلُ التَّكْلِيفَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُبْطِلَ الْخِيَارَ كَالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ فيقول الْحَنَفِيُّ أَقْلِبُ هذه الْعِلَّةَ فَأَقُولُ إنَّ الْمَوْتَ مَعْنًى يُبْطِلُ التَّكْلِيفَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْقُلَ الْخِيَارَ إلَى الْوَارِثِ كَالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ ثَانِيهِمَا الْقَلْبُ بِبَعْضِ الْأَوْصَافِ فَهَذَا هو مُعَارَضَةٌ على ما ذَكَرَهُ شَيْخُنَا لِأَنَّ لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَقُولَ إنَّمَا جَعَلْتُ الْعِلَّةَ جَمِيعَ الْأَوْصَافِ فإذا قَلَبَ بِبَعْضِهَا فلم تَفْسُدْ الْعِلَّةُ إنَّمَا جِئْتُ بِأُخْرَى كَقَوْلِ الْمَالِكِيِّ في ضَمِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ في الزَّكَاةِ مَالَانِ زَكَاتُهُمَا رُبُعُ الْعُشْرِ بِكُلِّ حَالٍ فَيُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ في الزَّكَاةِ كَالصِّحَاحِ وَالْمُكَسَّرَةِ فيقول الشَّافِعِيُّ أَقْلِبُ الْعِلَّةَ وَأَقُولُ مَالَانِ زَكَاتُهُمَا رُبُعُ الْعُشْرُ بِكُلِّ حَالٍ فلم يُضَمَّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ بِالْقِيمَةِ كَالصِّحَاحِ وَالْمُكَسَّرَةِ وَنُقِلَ في الْمَنْخُولِ عن الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ مَرْدُودٌ وَلَيْسَ مُعَارَضَةً فإن شَرْطَهُمَا التَّعَارُضُ في نَفْسِ الْحُكْمِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ نَوْعُ مُعَارَضَةٍ إذْ مُحَالٌ أَنْ يَدُلَّ على الْمَذْهَبَيْنِ من جِهَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ من جِهَتَيْنِ لِاشْتِرَاكِ الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَلِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ هِيَ أَبَدًا مَعْنًى في الْأَصْلِ أو الْفَرْعِ أو دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ يَقْتَضِي خِلَافَ ما ادَّعَاهُ الْمُسْتَدِلُّ وَهَذَا الْوَصْفُ كَذَلِكَ فَعَلَى هذا لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَمْنَعَ حُكْمَ الْقَالِبِ في الْأَصْلِ
____________________
(4/257)
وَأَنْ يَقْدَحَ في الْعِلَّةِ بِالنَّقْضِ وَعَدَمِ التَّأْثِيرِ وَالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ إذَا أَمْكَنَهُ وفي جَوَازِ قَلْبِ قَلْبِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ أَحَدُهُمَا الْجَوَازُ بِنَاءً على أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ فإذا قَلَبَهُ على الْقَالِبِ صَارَ شَاهِدًا له من وَجْهَيْنِ وَلِلْقَالِبِ من وَجْهٍ وَاحِدٍ فَيَتَرَجَّحُ عليه وَالثَّانِي الْمَنْعُ وَرَجَّحَهُ الْبَاجِيُّ لِأَنَّهُ نَقْضٌ وَالنَّقْضُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُنْقَضَ وَكَذَلِكَ الْقَلْبُ لَا يُقْلَبُ وَرَجَّحَ في الْمَحْصُولِ الْجَوَازَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مُنَاقِضًا لِلْحُكْمِ لِأَنَّ قَلْبَ الْقَالِبِ إذَا فَسَدَ بِالْقَلْبِ سَلِمَ أَصْلُ الْقِيَاسِ من الْقَلْبِ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ ليس بِمُعَارَضَةٍ بَلْ هو إفْسَادُ الْعِلَّةِ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَتَكَلَّمَ على قَلْبِهِ بِكُلِّ ما لِلْقَالِبِ أَنْ يَتَكَلَّمَ على دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ لِمَا تَقَدَّمَ في النَّقْضِ نعم يَفْتَرِقُ الْقَلْبُ وَالْمُعَارَضَةُ في صُوَرٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْقَلْبَ مُعَارَضَةٌ مَبْنِيَّةٌ على إجْمَاعِ الْخَصْمَيْنِ سَوَاءٌ انْضَمَّ إلَيْهِمَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَمْ لَا وَالْمُنَاقَضَةُ في الْمُعَارَضَةِ حَقِيقِيَّةٌ وفي الْقَلْبِ وَضْعِيَّةٌ أَيْ تَوَاضُعُ الْخَصْمَانِ أو الْمُجْمِعُونَ على الْمُنَاقَضَةِ ثَانِيهَا أَنَّ عِلَّةَ الْمُعَارَضَةِ وَأَصْلَهَا قد يَكُونُ مُغَايِرًا لِعِلَّةِ الْمُسْتَدِلِّ وَأَصْلِهِ بِخِلَافِ الْقَلْبِ فإن عِلَّتَهُ وَأَصْلَهُ هُمَا عِلَّتَا الْمُسْتَدِلِّ وَأَصْلُهُ ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ ثَالِثُهَا أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَصْلٍ وَلَا إثْبَاتِ الْوَصْفِ وَكُلُّ قَلْبٍ مُعَارَضَةٌ بِخِلَافِ الْعَكْسِ رَابِعُهَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فيه الزِّيَادَةُ في الْعِلَّةِ وفي سَائِرِ الْمُعَارَضَاتِ يُمْكِنُ خَامِسُهَا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ منه وُجُودُ الْعِلَّةِ في الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لِأَنَّ أَصْلَ الْقَالِبِ وَفَرْعَهُ هو أَصْلُ الْمُعَلَّلِ وَفَرْعُهُ وَيُمْكِنُ ذلك في بَقِيَّةِ الْمُعَارَضَاتِ ذَكَرَ هَذَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَتَبِعَهُ الْهِنْدِيُّ وقال السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ من الْجَدَلِيِّينَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ من الْقَلْبِ وهو الذي يَتَبَيَّنُ فيه أَنَّ دَلِيلَ الْمُسْتَدِلِّ عليه لَا له هو من قَبِيلِ الِاعْتِرَاضَاتِ وَلَا يُتَّجَهُ في قَبُولِهِ خِلَافٌ وَأَمَّا الثَّانِي وهو ما يَدُلُّ على الْمُسْتَدِلِّ من وَجْهٍ آخَرَ كَمِثَالِ الِاعْتِكَافِ وَمَسْحِ الرَّأْسِ وَبَيْعِ الْغَائِبِ فَاخْتَلَفُوا فيه هل هو اعْتِرَاضٌ أو مُعَارَضَةٌ فَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ يُعَارِضُ دَلَالَةَ الْمُسْتَدِلِّ بِدَلَالَةٍ أُخْرَى قال وَلِهَذَا الْخِلَافِ فَوَائِدُ منها أَنَّهُ إنْ قِيلَ إنَّهُ مُعَارَضَةٌ جَازَتْ الزِّيَادَةُ عليه مِثْلَ أَنْ يَقُولَ في بَيْعِ
____________________
(4/258)
الْغَائِبِ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مُقْتَضَاهُ التَّأْبِيدُ فَلَا يَنْعَقِدُ على خِيَارِ الرُّؤْيَةِ كَالنِّكَاحِ وَإِنْ قِيلَ هو اعْتِرَاضٌ لم تَجُزْ فيه الزِّيَادَةُ انْتَهَى وَهَذَا يُخَالِفُ ما سَبَقَ عن الْمَحْصُولِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُعَارَضَةَ كَدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ فَلَا يَتَعَذَّرُ بِدَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ بِخِلَافِ الِاعْتِرَاضِ فإنه مَنْعٌ لِلدَّلِيلِ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ وَيَكُونُ كَالْكَذِبِ على الْمُسْتَدِلِّ حَيْثُ يقول ما لم يَقُلْ وَمِنْهَا إنْ قُلْنَا إنَّهُ مُعَارَضَةٌ جَازَ قَلْبُهُ من الْمُسْتَدِلِّ كما يُعَارِضُ الْعِلَّةَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ في بَيْعِ الْفُضُولِيِّ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ في مَالِ الْغَيْرِ بِلَا وِلَايَةٍ وَلَا نِيَابَةٍ فَلَا يَصِحُّ قِيَاسًا على الشِّرَاءِ فيقول الْمُسْتَدِلُّ أنا أَقْلِبُ هذا الدَّلِيلَ وَأَقُولُ تَصَرُّفٌ في مَالِ الْغَيْرِ بِلَا وِلَايَةٍ وَلَا نِيَابَةٍ فَلَا يَقَعُ لِمَنْ أَضَافَهُ إلَيْهِ كَالشِّرَاءِ فإن الشِّرَاءَ يَصْلُحُ لِمَنْ أُضِيفَ إلَيْهِ وهو الْمُشْتَرِي له بَلْ صَحَّ لِلْمُشْتَرِي وهو الْفُضُولِيُّ وَمَنْ قال إنَّهُ اعْتِرَاضٌ لم يَجُزْ ذلك لِأَنَّهُ مَنْعٌ وَالْمَنْعُ لَا يَمْنَعُ وَمِنْهَا أَنَّهُ إنْ قُلْنَا إنَّهُ مُعَارَضَةٌ جَازَ أَنْ يَتَأَخَّرَ عن الْمُعَارَضَةِ لِأَنَّهُ كَالْجُزْءِ منها وَإِنْ كان اعْتِرَاضًا لم يَجُزْ وَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ عليها لِأَنَّ الْمَنْعَ مُقَدَّمٌ على الْمُعَارَضَةِ وَمِنْهَا أَنَّ من جَعَلَهُ مُعَارَضَةً قَبِلَ فيه التَّرْجِيحَ وَمَنْ قال إنَّهُ اعْتِرَاضٌ مَنَعَ من ذلك لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ تَقْبَلُ التَّرْجِيحَ كَالدَّلِيلِ الْمُبْتَدَأِ وَالْمَنْعُ لَا يَقْبَلُ التَّرْجِيحَ الرَّابِعُ في أَقْسَامِهِ أَحَدُهَا قَلْبُ الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ وهو ما يَدُلُّ على تَصْحِيحِ مَذْهَبِ الْمُعْتَرِضِ مع إبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ إمَّا صَرِيحًا كَقَوْلِنَا في بَيْعِ الْفُضُولِيِّ عَقْدٌ في حَقِّ الْغَيْرِ بِلَا وِلَايَةٍ وَلَا نِيَابَةٍ فَلَا يَصِحُّ كما إذَا اشْتَرَى شيئا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فيقول الْخَصْمُ عَقْدٌ في حَقِّ الْغَيْرِ بِلَا وِلَايَةٍ فَيَصِحُّ كما إذَا اشْتَرَى شيئا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فإنه يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ في حَقِّ الْعَاقِدِ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا على أَقْسَامِ الْقَلْبِ وَإِمَّا ضِمْنًا كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ في الِاعْتِكَافِ لُبْثٌ فَلَا يَكُونُ بِنَفْسِهِ قُرْبَةً كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَغَرَضُهُ اشْتِرَاطُ الصَّوْمِ وَإِنَّمَا لم يُصَرِّحْ بِهِ لِأَنَّهُ لم يَجِدْ أَصْلًا يُلْحِقُهُ بِهِ فيقول لُبْثٌ فَلَا يُشْتَرَطُ فيه الصَّوْمُ كَالْوُقُوفِ وَجَوَابُهُ إمَّا بِمَنْعِ صِحَّةِ الْقَلْبِ إنْ كان لَا يَقْبَلُهُ وَإِمَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ عليه بِكُلِّ ما يَتَكَلَّمُ على الْعِلَلِ الْمُبْتَدَأَةِ من الْمَنْعِ وَعَدَمِ التَّأْثِيرِ وَالنَّقْضِ على ما سَبَقَ فيه من الْخِلَافِ
____________________
(4/259)
وَكَذَا الْقَلْبُ على أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فيقول هذه الْأَوْصَافُ التي ذَكَرْت فيها لَا تُؤَثِّرُ في حُكْمِ الْقَلْبِ وَهِيَ مُؤَثِّرَةٌ في حُكْمِ عِلَّتِي أو يقول هذه الْعِلَّةُ لَا تَصْلُحُ لِلْحُكْمِ الذي عُلِّقَتْ عليها وَتَصْلُحُ لِلْحُكْمِ الذي عُلِّقَتْ عليها فيقول في صُورَةِ الْبَيْعِ هذه الْأَوْصَافُ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا في حُكْمِ عِلَّتِك لِأَنَّك لو اقْتَصَرْت على قَوْلِك عَقْدٌ عَقَدَهُ في حَقِّ الْغَيْرِ فَيَصِحُّ لم يُنْقَضْ أو يقول هذه الْأَوْصَافُ التي ذَكَرْتَهَا تَقْتَضِي إفْسَادَ الْبَيْعِ وقد عَلَّقْت عليها صِحَّةَ الْعَقْدِ وَهَذَا خِلَافُ مُقْتَضَى الْعِلَّةِ لم يَصِحَّ الثَّانِي ما يَدُلُّ على إبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ إمَّا صَرِيحًا كَقَوْلِهِمْ مَسْحُ الرَّأْسِ رُكْنٌ فَلَا يَكْفِي أَقَلُّ ما يَنْطَلِقُ عليه الِاسْمُ كَالْوَجْهِ فَيُقَالُ فَلَا يَتَقَدَّرُ بِالرُّبُعِ كَالْوَجْهِ وَإِمَّا بِالِالْتِزَامِ كَقَوْلِهِمْ في بَيْعِ الْغَائِبِ صَحِيحٌ كَنِكَاحِ الْغَائِبِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَنَقُولُ فَلَا تَثْبُتُ الرُّؤْيَةُ في بَيْعِ الْغَائِبِ قِيَاسًا على النِّكَاحِ بِالْجَامِعِ الْمَذْكُورِ وَمِنْ هذا الْقِسْمِ قَلْبُ التَّسْوِيَةِ لِتَضَمُّنِهِ التَّسْوِيَةَ بين الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ وهو أَنْ يَكُونَ في الْأَصْلِ حُكْمَانِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُنْتَفٍ في الْفَرْعِ بِالِاتِّفَاقِ بين الْخَصْمَيْنِ وَالْآخَرُ مُنَازَعٌ فيه فإذا أَرَادَ إثْبَاتَهُ في الْفَرْعِ بِالْقِيَاسِ على الْأَصْلِ اُعْتُرِضَ بِوُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا في الْفَرْعِ على الْأَصْلِ فَيَلْزَمُ عَدَمُ ثُبُوتِهِ فيه كَقَوْلِهِمْ في طَلَاقِ الْمُكْرَهِ مُكَلَّفٌ مَالِكٌ لِلطَّلَاقِ فَيَقَعُ طَلَاقُهُ كَالْمُخْتَارِ وَيَلْزَمُ منه أَنْ لَا يَقَعَ طَلَاقُهُ ضِمْنًا وَلِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الْمُسَاوَاةُ بين إقْرَارِهِ وَإِيقَاعِهِ وَإِقْرَارُهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالِاتِّفَاقِ فَيَكُونُ إيقَاعُهُ أَيْضًا غير مُعْتَبَرٍ كَقَوْلِهِمْ في الْوُضُوءِ طَهَارَةٌ بِالْمَائِعِ فَلَا تَجِبُ فيها النِّيَّةُ كَالنَّجَاسَةِ فَنَقُولُ فَيَسْتَوِي جَامِدُهَا وَمَائِعُهَا كَالنَّجَاسَةِ في النِّيَّةِ وفي قَبُولِ هذا النَّوْعِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ أَحَدُهُمَا لَا يُقْبَلُ وَاخْتَارَهُ أبو الْقَاسِمِ بن كَجٍّ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يُحْتَجُّ بِهِ في الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالتَّسْوِيَةُ لَيْسَتْ من الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَلِأَنَّ الْقَالِبَ يُرِيدُ في الْأَصْلِ غير ما يُرِيدُ في الْفَرْعِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ حُكْمُ الشَّيْءِ من ضِدِّهِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي وَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وابن السَّمْعَانِيِّ وَطَائِفَةٌ مِمَّنْ قَبِلَ أَصْلَ الْقَلْبِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّصْرِيحُ فيه بِحُكْمِ الْعِلَّةِ فإن الْحَاصِلَ في الْأَصْلِ نَفْيٌ وفي الْفَرْعِ إثْبَاتٌ وَالثَّانِي وَحَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الشَّارِعَ لو نَصَّ على ذلك فقال أَقْصِدُ التَّسْوِيَةَ
____________________
(4/260)
بين الْإِقْرَارِ وَالْإِيقَاعِ كان صَحِيحًا وَكُلُّ ما جَازَ أَنْ يَنُصَّ عليه جَازَ أَنْ يَسْتَنْبِطَ وَيُعَلِّقَ عليه الْحُكْمَ وَجَوَابُهُ إمَّا بِإِمْكَانِ صِحَّةِ الْقَلْبِ أو بِالْكَلَامِ عليه بِمَا يَتَكَلَّمُ على الْعِلَلِ الْمُبْتَدَأَةِ فَنَقُولُ التَّسْوِيَةُ بين الْمَائِعِ وَالْجَامِدِ لَا تَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ أَلَا تَرَى أَنَّ عِنْدَك الْمَائِعَ في الْوُضُوءِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ فَلَا يُمْكِنُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا وَقِيلَ من أَجْوِبَتِهِ أَنْ يَقُولَ هذا الْحُكْمُ الذي ذَكَرْته مُصَرَّحٌ بِهِ وَاَلَّذِي عَارَضْتَنِي بِهِ غَيْرُ مُصَرَّحٍ بِهِ وَالْمُصَرَّحُ بِهِ أَوْلَى من غَيْرِهِ وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ الثَّالِثُ الْقَلْبُ الْمَكْسُورُ وهو أَنْ يَسْتَعْمِلَ جَمِيعَ أَوْصَافِ الْمُسْتَدِلِّ كَاسْتِدْلَالِ الْمَالِكِيِّ على صِحَّةِ ضَمِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ في الزَّكَاةِ فَإِنَّهُمَا مَالَانِ زَكَاتُهُمَا رُبُعُ الْعُشْرِ بِكُلِّ حَالٍ فَضُمَّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ كَالصِّحَاحِ وَالْمُكَسَّرَةِ فيقول الشَّافِعِيُّ أَقْلِبُ هذه الْعِلَّةَ فَأَقُولُ مَالَانِ زَكَاتُهُمَا رُبُعُ الْعُشْرِ وَهُمَا من وَصْفٍ وَاحِدٍ فلم يُضَمَّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ بِالْقِيمَةِ كَالصِّحَاحِ وَالْمُكَسَّرَةِ الرَّابِعُ الْقَلْبُ الْمُبْهَمُ وهو أَنْ لَا يَتَضَمَّنَ تَسْوِيَةً كَقَوْلِهِمْ في الْكُسُوفِ صَلَاةٌ مَسْنُونَةٌ فَلَا يُثَنَّى فيها الرُّكُوعُ كَالْعِيدَيْنِ فَيَقْلِبُهُ وَيَقُولُ صَلَاةٌ مَسْنُونَةٌ تَخْتَصُّ بِزِيَادَةٍ كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ من غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِخُصُوصِ الزِّيَادَةِ هل هِيَ رُكُوعٌ أو غَيْرُهُ لِأَنَّهُ لو تَعَرَّضَ لِخُصُوصِهَا في الرُّكُوعِ لم يَشْهَدْ له الْأَصْلُ الْمَذْكُورُ وَمِنْ أَنْوَاعِ الْقَلْبِ جَعْلُ الْمَعْلُولِ عِلَّةً وَالْعِلَّةِ مَعْلُولًا وإذا أَمْكَنَ ذلك تَبَيَّنَ أَنْ لَا عِلَّةَ فإن الْعِلَّةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ وَالْمَعْلُولُ هو الْحُكْمُ الْوَاجِبُ بِهِ كَالْفَرْعِ مع الْأَصْلِ فلم يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ عِلَّةً وَالْعِلَّةُ حُكْمًا فلما احْتَمَلَ الِانْقِلَابَ دَلَّ على بُطْلَانِ التَّعْلِيلِ كَقَوْلِنَا في ظِهَارِ الذِّمِّيِّ إنَّهُ يَصِحُّ لِأَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ كَالْمُسْلِمِ فيقول الْحَنَفِيُّ الْمُسْلِمُ لم يَصِحَّ ظِهَارُهُ لِأَنَّهُ صَحَّ طَلَاقُهُ وَإِنَّمَا صَحَّ طَلَاقُهُ لِأَنَّهُ صَحَّ ظِهَارُهُ وَمَنْ جَعَلَ الظِّهَارَ عِلَّةً لِلطَّلَاقِ لم يُثْبِتْ ظِهَارَ الذِّمِّيِّ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ هذا النَّوْعُ اُخْتُلِفَ فيه فقال بَعْضُ أَصْحَابِنَا
____________________
(4/261)
وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إنَّهُ صَحِيحٌ يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّلِيلِ لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ كُلٍّ مِنْهُمَا على ثُبُوتِ الْآخَرِ فَلَا يَثْبُتُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِلدَّوْرِ وَقِيلَ لَا يَمْنَعُ لِأَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَاتٌ بِجَعْلِ الشَّارِعِ وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ كُلٌّ من الْحُكْمَيْنِ أَمَارَةً لِلْآخَرِ قال الْبَاجِيُّ وَهَذَا هو الصَّحِيحُ وقال الشَّيْخُ في مَوْضِعٍ آخَرَ ذَهَبَ ابن الْبَاقِلَّانِيِّ إلَى أَنَّهُ سُؤَالٌ صَحِيحٌ يُوقِفُ الْعِلَّةَ وَاَلَّذِي عليه عَامَّةُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَعْتَرِضُ على الْعِلَّةِ وَلَا يُوجِبُ وَقْفَهَا وهو اخْتِيَارُ شَيْخِنَا أبي الطَّيِّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَنَصَرَهُ في كِتَابِ التَّبْصِرَةِ وقال ابن الصَّبَّاغِ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْعُدَّةِ قِيلَ لَا يُعَارِضُ الْعِلَّةَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ وَجَوَابُ هذا التَّرْجِيحُ إنْ قُلْنَا بِهِ السَّادِسُ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ الْقَوْلُ بِمَا أَوْجَبَهُ دَلِيلُ الْمُسْتَدِلِّ أَيْ الْمُوجِبِ بِكَسْرِهَا فَهُوَ الدَّلِيلُ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ وهو تَسْلِيمُ مُقْتَضَى ما نَصَبَهُ الْمُسْتَدِلُّ مُوجِبًا لِعِلَّتِهِ مع بَقَاءِ الْخِلَافِ بَيْنَهُمَا فيه وَذَلِكَ بِأَنْ يَظُنَّ الْمُعَلِّلُ أَنَّ ما أتى بِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِمَطْلُوبِهِ من حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَنَازَعِ فيها مع كَوْنِهِ غير مُسْتَلْزِمٍ فَلَا يَنْقَطِعُ النِّزَاعُ بِتَسْلِيمِهِ وَهَذَا أَوْلَى من تَعْرِيفِ الْإِمَامِ الرَّازِيَّ له بِمُوجَبِ الْعِلَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْقِيَاسِ أَيْ أَنْ يَكُونَ دَلِيلُهُ لَا يُشْعِرُ بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَنَازَعِ فيها وَهَذَا فيه إشْكَالٌ لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ على غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَالِاسْتِدْلَالُ على مَحَلِّ النِّزَاعِ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِمُوجَبِهِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ قد يَتَخَيَّلُ من الْخَصْمِ مَانِعًا لِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ بِحَيْثُ لو بَطَلَ ذلك الْمَانِعُ تَقَرَّرَ أَنَّ الْخَصْمَ يُسَلِّمُ له الْحُكْمَ فَيَجْعَلُ الْمُسْتَدِلَّ عُمْدَتَهُ في الِاسْتِدْلَالِ لِإِبْطَالِ ما تَخَيَّلَهُ ظَنًّا منه أَنَّهُ إذَا بَطَلَ كَوْنُهُ مَانِعًا سَلِمَ الْحُكْمُ فَكَأَنَّهُ قد اسْتَدَلَّ على غَيْرِ الْحُكْمِ الْمَسْئُولِ أو اسْتَدَلَّ على أَنَّ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ غَيْرُ مَانِعٍ من الْحُكْمِ وإذا لم يَكُنْ مَانِعًا لَزِمَ الْحُكْمُ وقال ابن الْمُنِيرِ حَدُّوهُ بِتَسْلِيمِ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ مع بَقَاءِ النِّزَاعِ فيه وهو غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فيه ما ليس منه وهو بَيَانُ غَلَطِ الْمُسْتَدِلِّ على إيجَابِ النِّيَّةِ في الْوُضُوءِ بِقَوْلِهِ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ فقال الْمُعْتَرِضُ أَقُولُ بِمُوجَبِ هذا الدَّلِيلِ
____________________
(4/262)
لَكِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ فَهَذَا يَنْطَبِقُ عليه الْحَدُّ وَلَيْسَ قَوْلًا بِالْمُوجَبِ لِأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ يَظْهَرَ عُذْرٌ لِلْمُسْتَدِلِّ في الْغَلَطِ فَتَمَامُ الْحَدِّ أَنْ يُقَالَ هو تَسْلِيمُ نَقِيضِ الدَّلِيلِ مع بَقَاءِ النِّزَاعِ حَيْثُ يَكُونُ لِلْمُسْتَدِلِّ عُذْرٌ مُعْتَبَرٌ انْتَهَى وكان الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ الْقَرَمِيسِيُّ من أَئِمَّةِ الْأُصُولِ وَالْجَدَلِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ يَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ تَقْرِيرُ التَّسْلِيمِ وَلَيْسَ بِتَسْلِيمٍ حَقِيقَةً وَحَقِيقَتُهُ بَيَانُ انْحِرَافِ الدَّلِيلِ عن مَحَلِّ النِّزَاعِ وَعَلَى هذا فَلَا يَلْزَمُ منه الِانْقِطَاعُ بَلْ إنْ ثَبَتَ انْحِرَافُ الدَّلِيلِ فَقَدْ انْقَطَعَ الْمُسْتَدِلُّ وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْحَرِفٍ لم يَنْقَطِعْ الْمُعْتَرِضُ بَلْ يَنْزِلُ على أَنَّهُ في مَسْأَلَةِ النِّزَاعِ وَيُورِدُ عليه ما يَلِيقُ بِهِ وَيَنْبَنِي على هذا الْخِلَافِ فَرْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ هل يَجِبُ تَأْخِيرُ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ عن بَقِيَّةِ الْأَسْئِلَةِ الثَّانِي أَنَّهُ حَيْثُ لَزِمَ فَهَلْ هو انْقِطَاعٌ فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ فإذا سَلَّمَ الْمُعْتَرِضُ ذلك حَقِيقَةً وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مَحَلُّ النِّزَاعِ فَقَدْ سَلَّمَ الْمَسْأَلَةَ وكان مُنْقَطِعًا وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي إنَّهُ عِبَارَةٌ عن انْحِرَافِ الدَّلِيلِ عن مَحَلِّ النِّزَاعِ وَأَنَّهُ بَيَّنَ ذلك بِأَنْ سَلَّمَ مَدْلُولَ الدَّلِيلِ تَقْدِيرًا لَا تَحْقِيقًا مع بَقَاءِ النِّزَاعِ فَعَلَى هذا إنْ لَزِمَ ذلك فَقَدْ انْقَطَعَ الْمُسْتَدِلُّ وَإِنْ لم يَلْزَمْهُ لم يُحْكَمْ بِانْقِطَاعِ الْمُعْتَرِضِ بَلْ له أَنْ يُورِدَ بَعْدَ ذلك ما شَاءَ من الْأَسْئِلَةِ وَهَذَا هو الذي كان يَخْتَارُهُ الْقَرَمِيسِيُّ وَمِنْ أَعْذَارِهِ أَنْ يَبْنِي الْمُسْتَدِلُّ على أَنَّ الْخَصْمَ يُوَافِقُ على الْمُقْتَضِي وَإِنَّمَا يَمْنَعُهُ من الْعَمَلِ ثُمَّ تَخَيَّلَ ما ليس بِمَانِعٍ مَانِعًا فَيَعْمِدُ الْمُسْتَدِلُّ إلَى ذلك الْمَانِعِ فَيُبْطِلُهُ لِيَسْلَمَ الْمُقْتَضِي فَيَلْزَمُ الْخَصْمَ الْمُوَافَقَةُ هذا ظَنُّ الْمُسْتَدِلِّ وَيَكُونُ الْمُعْتَرِضُ مَثَلًا لَا يُوَافِقُهُ على الْمُقْتَضِي أو يُوَافِقُهُ وَلَكِنَّ الْمَانِعَ عِنْدَهُ أَجْنَبِيٌّ عَمَّا يُخَيِّلُ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّهُ الْمَانِعُ عِنْدَهُ أو غَيْرُ أَجْنَبِيٍّ وَلَكِنَّهُ جُزْءُ الْمَانِعِ فَلَا يَلْزَمُ من سَلْبِ الْمَاهِيَّةِ عن الْجُزْءِ سَلْبُ الْمَاهِيَّةِ عن الْكُلِّ أو مَانِعٌ مُسْتَقِلٌّ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَانِعٌ آخَرُ وإذا جَازَ تَعَدُّدُ الْعِلَلِ جَازَ تَعَدُّدُ الْمَوَانِعِ وَمِنْهَا أَنْ يَذْكُرَ الْمُسْتَدِلُّ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَيَسْكُتَ عن الْأُخْرَى ظَنًّا أنها مُسَلَّمَةٌ فيقول الْخَصْمُ بِمُوجَبِ الْمُقَدِّمَةِ الْمَذْكُورَةِ وَيَبْقَى على الْمَنْعِ لِأَنَّهُ يُتَّجَهُ على مَنْعِ السُّكُوتِ عنها
____________________
(4/263)
وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَقِدَ تَلَازُمًا بين مَحَلِّ النِّزَاعِ وَبَيْنَ مَحَلٍّ آخَرَ فَيَنْصِبَ الدَّلِيلَ على ذلك الْمَحَلِّ بِنَاءً منه على أَنَّهُ ما ثَبَتَ الْحُكْمُ في ذلك الْمَحَلِّ لَزِمَ أَنْ يَثْبُتَ في مَحَلِّ النِّزَاعِ فيقول الْمُعْتَرِضُ بِالْمُوجَبِ وَيَمْنَعُ الْمُلَازَمَةَ انْتَهَى وَالْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ من أَحْسَنِ ما يَجِيءُ بِهِ الْمُنَاظِرُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ في جَوَابِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ منها الْأَذَلَّ فَإِنَّهُمْ كَنَّوْا بِالْأَعَزِّ عن فَرِيقِهِمْ وَبِالْأَذَلِّ عن فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَثْبَتُوا لِلْأَعَزِّ الْإِخْرَاجَ فَأَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى في الرَّدِّ عليهم صِنْفَ الْعِزَّةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ فإذا كان الْأَعَزُّ يُخْرِجُ الْأَذَلَّ فَأُنْتَمَ الْمُخْرَجُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وهو من أَحْسَنِ وُجُوهِ الِاعْتِرَاضَاتِ وَأَكْثَرُ الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةِ على النُّصُوصِ تَرْجِعُ إلَيْهِ لِأَنَّ النَّصَّ إذَا ثَبَتَ فَلَا يُمْكِنُ رَدُّهُ فَلَا يَرِدُ عليه سُؤَالٌ إلَّا وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى تَسْلِيمِ النَّصِّ وَمَنْعِ لُزُومُ الْحُكْمِ منه وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعَارَضَةِ أَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إلَى حَيْدِ الدَّلِيلِ الصَّحِيحِ عن مَحَلِّ النِّزَاعِ وَالْمُعَارَضَةُ فيها اعْتِرَافٌ بِمِسَاسِ الدَّلِيلِ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ قال إلْكِيَا وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ إذَا لم يَأْتِ الْمُعَلِّلُ بِمَا يُؤَثِّرُ في نَفْسِ الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فيه بَلْ يَعْتَرِضُ لِإِبْطَالِ ما ظَنَّهُ مُوجَبًا وَمُؤَثِّرًا عِنْدَ الْخَصْمِ وَالْمُؤَثِّرُ غَيْرُهُ وَلَوْ صَرَّحَ بِنَفْسِ الْحُكْمِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَوَجُّهُ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ تَبَعًا لِلْإِمَامِ هو سُؤَالٌ صَحِيحٌ إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمُمَانَعَةِ وَلَا بُدَّ في تَوَجُّهِهِ من شَرْطٍ وهو أَنْ يَسْنُدَ الْحُكْمَ الذي تُنْصَبُ له الْعِلَّةُ إلَى شَيْءٍ مِثْلَ قَوْلِ الْحَنَفِيِّ في مَاءِ الزَّعْفَرَانِ مَاءٌ خَالَطَهُ طَاهِرٌ وَالْمُخَالَطَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوُضُوءِ فيقول السَّائِلُ الْمُخَالِطُ لَا يَمْنَعُ الْمَاءَ مع أَنَّهُ ليس بِمَاءٍ مُطْلَقٍ وَشَرَطَ في الْمَنْخُولِ لِصِحَّتِهِ أَنْ يَبْقَى الْخِلَافُ معه في مَحَلِّ النِّزَاعِ قال وَلَا يُنَافِي الْقَوْلَ بِالْمُوجَبِ مع التَّصْرِيحِ بِالْحُكْمِ الذي أَثْبَتَ النِّزَاعَ فإنه يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إذَا أَجْمَلَ الْحُكْمَ وقال إنْ كان كَذَا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ كَذَا فيقول بِمُوجَبِهِ في بَعْضِ الصُّوَرِ أو يَتَعَرَّضَ لِنَفْيِ عِلَّةِ الْخَصْمِ وما ذَكَرْنَاهُ من جَعْلِهِ من قَوَادِحِ الْعِلَّةِ صَرَّحَ بِهِ إلْكِيَا وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرُهُمْ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ إذَا قال بِمُوجَبِهَا كانت الْعِلَّةُ في مَوْضِعِ الْإِجْمَاعِ وَلَا تَكُونُ مُتَنَاوِلَةً لِمَوْضِعِ الْخِلَافِ وَلِأَنَّهُ إذَا كان تَسْلِيمُ مُوجَبِ ما ذَكَرَهُ من الدَّلِيلِ لَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ عَلِمْنَا أَنَّ ما ذَكَرَهُ ليس بِدَلِيلِ الْحُكْمِ الذي قَصَدَ إثْبَاتَهُ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْجَدَلِيِّينَ أَنَّهُ ليس من قَوَادِحِ الْعِلَّةِ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِمُوجَبِ الدَّلِيلِ
____________________
(4/264)
تَسْلِيمٌ فَكَيْفَ يَكُونُ مُفْسِدًا وَحَكَى في الْمَنْخُولِ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمُوجَبِ لَا يُسَمَّى اعْتِرَاضًا لِأَنَّهُ مُطَابَقَةٌ لِلْعِلَّةِ وَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ وقد عَدَّهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ من الِاعْتِرَاضَاتِ الصَّحِيحَةِ ثُمَّ قال ثُمَّ الْأُصُولِيُّونَ تَارَةً يَقُولُونَ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ ليس اعْتِرَاضًا وهو لَعَمْرِي كَذَلِكَ فإنه لَا يُبْطِلُ الْعِلَّةَ لِأَنَّهُ إذَا جَرَتْ الْعِلَّةُ وَحُكْمُهَا مُخْتَلَفٌ فيه فَلَأَنْ تَجْرِيَ وَحُكْمُهَا مُتَّفَقٌ عليه أَوْلَى قال الْمُقْتَرِحُ في تَعْلِيلِهِ إنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ لَا يُبْطِلُ الْعِلَّةَ مُطْلَقًا فَمُسَلَّمٌ فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ في جَمِيعِ مَجَارِيهَا وَإِنْ أَرَادُوا لَا تَبْطُلُ في مَحَلِّ النِّزَاعِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ فإنه يَلْزَمُ من الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ إبْطَالُ الْعِلَّةِ في مَحَلِّ النِّزَاعِ وَهَذَا هو الذي تَصَدَّى الْمُعْتَرِضُ له وهو إبْطَالُ عِلَّةِ الْمُسْتَدِلِّ في الْمَحَلِّ الْمُتَنَازَعِ فيه فلم يَصِحَّ قَوْلُهُمْ إنَّهُ ليس مُبْطِلًا لِلْعِلَّةِ إلَّا على تَقْدِيرِ إرَادَةِ أَنَّهُ لَا يُبْطِلُهَا في جَمِيعِ مَجَارِيهَا وقال الْخُوَارِزْمِيُّ في النِّهَايَةِ إذَا تَوَجَّهَ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ انْقَطَعَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ إنْ بَقِيَ النِّزَاعُ انْقَطَعَ الْمُسْتَدِلُّ وَإِنْ لم يَبْقَ النِّزَاعُ انْقَطَعَ السَّائِلُ انْتَهَى وَاخْتَلَفُوا في أَنَّهُ هل يَجِبُ على الْمُعْتَرِضِ إبْدَاءُ سَنَدِ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ أَمْ لَا فَقِيلَ يَجِبُ لِقُرْبِهِ إلَى ضَبْطِ الْكَلَامِ وَصَوْنِهِ عن الْخَبْطِ وَإِلَّا فَقَدْ يقول بِالْمُوجَبِ على سَبِيلِ الْعِنَادِ وَقِيلَ لَا يَجِبُ لِأَنَّهُ وَفَّى بِمَا عليه وَعَلَى الْمُسْتَدِلِّ الْجَوَابُ وهو أَعْرَفُ بِمَأْخَذِ مَذْهَبِهِ فَيَصْدُقُ فِيمَا يَقُولُهُ لِغَيْرِهِ من الْأَخْبَارِ قال الْآمِدِيُّ وهو الْمُخْتَارُ ثُمَّ هو إمَّا أَنْ يَرِدَ من الْمُعْتَرِضِ دَفْعًا عن مَذْهَبِهِ أو إبْطَالًا لِمَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ بِاسْتِيفَاءِ الْخِلَافِ مع تَسْلِيمِ نَقِيضِ دَلِيلِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُرَتَّبَ على دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ إمَّا أَنْ يَكُونَ إبْطَالُ مَدْرَكِ الْخَصْمِ إثْبَاتَ مَذْهَبِهِ هو أو لَا فَإِنْ كان الْأَوَّلَ فَالْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ يَكُونُ من الْمُعْتَرِضِ دَفْعًا عن مَأْخَذِهِ لِئَلَّا يَفْسُدَ وَإِنْ كان الثَّانِيَ كان إبْطَالًا لِمَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ لِأَنَّهُمَا كَالْمُتَحَارَبِينَ كُلٌّ منهم يَقْصِدُ الدَّفْعَ عن نَفْسِهِ وَتَعْطِيلَ صَاحِبِهِ فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِمْ في إيجَابِ الزَّكَاةِ في الْخَيْلِ يُسَابَقُ عليها فَتَجِبُ فيها الزَّكَاةُ كَالْإِبِلِ فيقول مُسَلَّمٌ في زَكَاةِ التِّجَارَةِ وَالنِّزَاعُ إنَّمَا هو في زَكَاةِ الْعَيْنِ وَدَلِيلُكُمْ إنَّمَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الزَّكَاةِ في الْجُمْلَةِ وَالثَّانِي كَقَوْلِنَا في إيجَابِ الْقِصَاصِ في الْمُثَقَّلِ الْمُتَفَاوِتُ في الْوَسِيلَةِ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ كَالتَّفَاوُتِ في الْمُتَوَسَّلِ إلَيْهِ وهو الْقَتْلُ فإنه لو ذَبَحَهُ أو ضَرَبَ عُنُقَهُ أو طَعَنَهُ لم يَمْنَعْ الْقِصَاصَ وَهَذَا فيه إبْطَالُ مَذْهَبِ الْخَصْمِ إذْ الْحَنَفِيُّ يَرَى أَنَّ التَّفَاوُتَ في الْآلَةِ يَمْنَعُ الْقِصَاصَ فيقول الْحَنَفِيُّ تَسْلِيمُ التَّفَاوُتِ في الْآلَةِ لَا يَمْنَعُ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ من إبْطَالِ الْمَنْعِ
____________________
(4/265)
لِلْقِصَاصِ ثُبُوتُهُ بَلْ إنَّمَا يَلْزَمُ ثُبُوتُهُ من وُجُودِ مُقْتَضِيهِ وهو السَّبَبُ الصَّالِحُ لِإِثْبَاتِهِ وَالنِّزَاعِ فيه وَجَوَابُهُ بِأَنْ يُبَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ لُزُومَ الْحُكْمِ مَحَلَّ النِّزَاعِ بِوُجُودِ نَقِيضِهِ بِمَا ذُكِرَ في دَلِيلِهِ إنْ أَمْكَنَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ في الْمِثَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ يَلْزَمُ من كَوْنِ التَّفَاوُتِ في الْآلَةِ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ وُجُودُ مُقْتَضَى الْقِصَاصِ بِنَاءً على أَنَّ وُجُودَ الْمَانِعِ وَعَدَمَهُ قِيَامُ الْمُقْتَضِي إذْ لَا يَكُونُ الْوَصْفُ تَابِعًا بِالْفِعْلِ إلَّا لِمُعَارَضَةِ الْمُقْتَضِي وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي وُجُودَهُ أو يُبَيِّنُ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّ النِّزَاعَ إنَّمَا هو فِيمَا يَعْرِضُ له بِإِقْرَارٍ أو اعْتِرَاضٍ من الْمُعْتَرِضِ بِدَلِيلٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ إنَّمَا فَرَضْنَا الْكَلَامَ في صِحَّةِ بَيْعِ الْغَائِبِ لَا في ثُبُوتِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَيَسْتَدِلُّ على ذلك السَّابِعُ الْفَرْقُ وَيُسَمَّى سُؤَالَ الْمُعَارَضَةِ وسؤال الْمُزَاحَمَةِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَلْقَابٍ وهو إبْدَاءُ وَصْفٍ في الْأَصْلِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً لِلْحُكْمِ أو جُزْءَ عِلَّةٍ وهو مَعْدُومٌ في الْفَرْعِ سَوَاءٌ كان مُنَاسِبًا أو شَبَهًا إنْ كانت الْعِلَّةُ شَبِيهَةً بِأَنْ يَجْمَعَ الْمُسْتَدِلُّ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِأَمْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا فَيُبْدِي الْمُعْتَرِضُ وَصْفًا فَارِقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَرْعِ وقد اشْتَرَطُوا فيه أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَرْقٌ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ وَإِلَّا لَكَانَ هو هو وَلَيْسَ كُلُّ ما انْفَرَدَ بِهِ الْأَصْلُ من الْأَوْصَافِ يَكُونُ مُؤَثِّرًا مُقْتَضِيًا لِلْحُكْمِ بَلْ قد يَكُونُ مُلْغًى بِالِاعْتِبَارِ بِغَيْرِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْفَارِقُ قَادِحًا وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ قَاطِعًا لِلْجَمْعِ بِأَنْ يَكُونَ أَخَصَّ من الْجَمْعِ لِيُقَدَّمَ عليه أو مثله لِيُعَارِضَهُ قال بَعْضُهُمْ اخْتَلَفَ الْجَدَلِيُّونَ في حَدِّهِ فقال الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمْ الْإِمَامُ إنَّ حَقِيقَةَ الْفَرْقِ قَطْعُ الْجَمْعِ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إذْ اللَّفْظُ أَشْعَرَ بِهِ وهو الذي يُقْصَدُ منه وقال بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ حَقِيقَتُهُ الْمَنْعُ من الْإِلْحَاقِ بِذِكْرِ وَصْفٍ في الْفَرْعِ أو في الْأَصْلِ وَيَنْبَنِي على هذه الْخِلَافِ مَسْأَلَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْفَارِقَ إذَا ذَكَرَ فَرْقًا في الْأَصْلِ هل يَجِبُ عليه أَنْ يَعْكِسَهُ في الْفَرْعِ اخْتَلَفُوا فيه فما عليه الْحُذَّاقُ من أَهْلِ النَّظَرِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عن قَطْعِ الْجَمْعِ وَإِنَّمَا يَنْقَطِعُ الْجَمْعُ إذَا عَكَسَهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْفَرْقُ وَالِافْتِرَاقُ له رُكْنَانِ أَحَدُهُمَا وُجُودُ الْوَصْفِ في الْأَصْلِ والثاني انْتِفَاؤُهُ في الْفَرْعِ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ يقول وُجُودُ مَعْنًى آخَرَ لَا يَضُرُّنِي لِأَنَّهُ يُؤَكِّدُ الْحُكْمَ في الْأَصْلِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ تَعْلِيلِي وَصَارَ غَيْرُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُعْتَرِضَ عَكْسُهُ لِأَنَّهُ ادَّعَى
____________________
(4/266)
أَنَّ الْعِلَّةَ في الْأَصْلِ وَصْفُ كَذَا فإذا أَبْدَى الْمُعْتَرِضُ وَصْفًا آخَرَ امْتَنَعَ التَّعْلِيلُ في الْأَصْلِ بِهِ وإذا امْتَنَعَ التَّعْلِيلُ امْتَنَعَتْ التَّعْدِيَةُ وقد اخْتَلَفُوا في قَبُولِهِ وَقَدْحِهِ في الْعِلَّةِ على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ ليس بِمَقْبُولٍ لِأَنَّ الْجَامِعَ لم يَلْتَزِمْ بِجَمْعِهِ مُسَاوَاةَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ في جَمِيعِ الْقَضَايَا وَإِنَّمَا سَوَّى بَيْنَهُمَا في وَجْهٍ وَلَا يَتَضَمَّنُ الْجَمْعَ بين أَسْئِلَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَلِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ ذَكَرَ مَعْنًى في جَانِبِ الْأَصْلِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ تَعْلِيلَ الْمُعَلِّلِ بِجَوَازِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ وَحَكَاهُ في الْبُرْهَانِ عن طَوَائِفَ من الْجَدَلِيِّينَ وَالْأُصُولِيِّينَ قال وَإِنَّمَا يَسْتَمِرُّ هذا مع الْقَوْلِ بِرَدِّ الْمُعَارَضَةِ في جَانِبِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ جميعا قال وهو عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ سَاقِطٌ مَرْدُودٌ وَأَمَّا ابن السَّمْعَانِيِّ فقال وَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ أَضْعَفُ سُؤَالٍ يُذْكَرُ وَلَيْسَ مِمَّا يَمَسُّ الْعِلَّةَ التي نَصَبَهَا الْمُعَلِّلُ بِوَجْهٍ ما لَكِنَّ نِهَايَةَ ما في الْبَابِ أَنَّ الْفَارِقَ يَدَّعِي مَعْنًى في الْأَصْلِ مَعْدُومًا في الْفَرْعِ ولم يَتَعَرَّضْ لِلْمَعْنَى الذي نَصَبَهُ الْمُعَلِّلُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ مَعْلُولًا بِعِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ وَوُجِدَتْ إحْدَاهُمَا في الْفَرْعِ وَعُدِمَتْ الْأُخْرَى وَإِحْدَاهُمَا كَافِيَةٌ لِوُجُوبِ الْحُكْمِ وَانْتِفَاءُ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ لَا يَقْتَضِي انْتِفَاءَ حُكْمِهَا إذَا خَلَفَتْهَا عِلَّةٌ أُخْرَى وَالثَّانِي قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَاخْتَارَهُ ابن سُرَيْجٍ وَالْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ أَنَّ الْفَرْقَ ليس سُؤَالًا على حِيَالِهِ وَإِنَّمَا هو مَعْنَى مُعَارَضَةِ الْأَصْلِ بِمَعْنًى وَمُعَارَضَةُ الْعِلَّةِ التي نَصَبَهَا الْمُسْتَدِلُّ في الْفَرْعِ بِعِلَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ وَالْمَقْصُودُ منه الْمُعَارَضَةُ وَالثَّالِثُ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وهو الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا وَارْتَضَاهُ كُلُّ من يَنْتَمِي إلَى التَّحْقِيقِ من الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ إنَّهُ صَحِيحٌ مَقْبُولٌ وهو إنْ اشْتَمَلَ على مَعْنَى مُعَارَضَةِ الْأَصْلِ وَعَلَى مُعَارَضَةِ عِلَّةِ الْفَرْعِ بِعِلَّةٍ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ منه الْمُعَارَضَةَ بَلْ مُنَاقَضَةُ الْجَمْعِ وقال قبل ذلك ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ أَقْوَى الِاعْتِرَاضَاتِ وَأَجْدَرُهَا بِالِاعْتِنَاءِ بِهِ هَكَذَا حَكَاهُ في الْمَنْخُولِ عن الْجُمْهُورِ وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في الْمُلَخَّصِ إنَّهُ أَفْقَهُ شَيْءٍ يَجْرِي في النَّظَرِ وَبِهِ يُعْرَفُ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ قال الْإِمَامُ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْعِلَّةِ خُلُوُّهَا عن الْمُعَارَضَةِ وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ الْمُعَلِّلَ لَا يَسْتَقِرُّ ما لم يُبْطِلْ بِمَسْلَكِ السَّبْرِ كُلُّ ما عَدَا عِلَّتِهِ مِمَّا يُقَدَّرُ التَّعْلِيلُ بِهِ فإذا عَلَّلَ ولم يَسْبُرْ فَعُورِضَ بِمَعْنًى في الْأَصْلِ فَكَأَنَّهُ طُولِبَ بِالْوَفَاءِ بِالسَّبْرِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى مَعْنَى التَّعْلِيلِ وَذَكَرَ أَنَّ الْقَاضِيَ اسْتَدَلَّ على قَبُولِهِ بِأَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَجْمَعُونَ وَيُفَرِّقُونَ وَيَتَعَلَّقُونَ بِالْفَرْقِ كما يَتَعَلَّقُونَ بِالْجَمْعِ كما في قَضِيَّةِ
____________________
(4/267)
الْجَارِيَةِ الْمُرْسِيَةِ التي أَجْهَضَتْ الْجَنِينَ وقد أَرْسَلَ إلَيْهَا عُمَرُ بن الْخَطَّابِ رضي اللَّهُ عنه يُهَدِّدُهَا فإن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه اسْتَشَارَ في ذلك فقال عبد الرحمن بن عَوْفٍ رضي اللَّهُ عنه إنَّمَا أنت مُؤَدِّبٌ وَلَا أَرَى عَلَيْك شيئا وقال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه إنْ لم يَجْتَهِدْ فَقَدْ غَشَّك وَإِنْ اجْتَهَدَ فَقَدْ أَخْطَأَ أَرَى عَلَيْك الْغُرَّةَ وكان عبد الرحمن بن عَوْفٍ حَاوَلَ تَشْبِيهَ تَأْدِيبِهِ بِالْمُبَاحَاتِ التي لَا تُعَقَّبَ ضَمَانًا وَجَعَلَ الْجَامِعَ أَنَّهُ فَعَلَ ما له أَنْ يَفْعَلَهُ فَاعْتَرَضَهُ عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه بِالْفَرْقِ وَأَبَانَ أَنَّ الْمُبَاحَاتِ الْمَضْبُوطَةِ النِّهَايَاتِ لَيْسَتْ كَالتَّعْزِيرَاتِ التي يَجِبُ الْوُقُوفُ عليها دُونَ ما يُؤَدِّي إلَى الْإِتْلَافِ قال وَلَوْ تَتَبَّعْنَا مُعْظَمَ ما يَخُوضُ فيه الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عليهم أَجْمَعِينَ وَجَدْنَاهُ كَذَلِكَ وقد بَالَغَ ابن السَّمْعَانِيِّ في الرَّدِّ على الْإِمَامِ في هذا الْكَلَامِ وقال قَوْلُهُ شَرْطُ صِحَّةِ الْعِلَّةِ خُلُوُّهَا عن الْمُعَارَضَةِ ليس بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ إنَّمَا تَقْدَحُ في حُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ أَمَّا إذَا ذُكِرَتْ عِلَّتَانِ بِحُكْمٍ وَاحِدٍ فَلَا يَقْدَحُ وَلَا يُسَمَّى مُعَارَضَةً وَقَوْلُهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيلُ الْمُعَلِّلِ ما لم يَبْطُلْ كَلَامُهُ ما عَدَا عِلَّتِهِ يُقَالُ من قال هذا وَلِأَيِّ مَعْنًى يَجِبُ وَإِنَّمَا يَجِبُ عليه أَنْ يَذْكُرَ مَخِيلَةً في الْحُكْمِ مُنَاسِبَةً له إذَا وُجِدَ فيها أَلْحَقَهُ بِالْأَصْلِ الذي اسْتَنْبَطَ منه الْعِلَّةَ وَأَمَّا السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ وَإِبْطَالُ ما عَدَا الْوَصْفِ الذي ذَكَرَهُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ قال وقد نُسِبَ هذا إلَى الْبَاقِلَّانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قال وَكُلُّ من كَلَّفَ الْمُعَلِّلَ هذا أو رَامَ تَصْحِيحَ الْعِلَّةِ بهذا الطَّرِيقِ فَقَدْ أَعْلَمَنَا من نَفْسِهِ أَنَّ الْفِقْهَ ليس من بَابِهِ وَلَا من شَأْنِهِ وَأَنَّهُ دَخِيلٌ فيه مُدَّعٍ له قال وقد بَانَ بُطْلَانُ طَرِيقِ السَّبْرِ وَقَوْلُهُ إنَّهُ الْتِزَامٌ كَذَلِكَ ليس كَذَلِكَ بَلْ في تَعْلِيلِ الْمُعَلِّلِ الْتِزَامُ إبْطَالِ كل عِلَّةٍ سِوَى عِلَّتِهِ فَهَذِهِ من التُّرَّهَاتِ وَالْخُرَافَاتِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ من يقول إنَّ تَعْلِيلَ الْأَصْلِ بِعِلَّتَيْنِ لَا يَجُوزُ قُلْت ولم يَتَوَارَدْ ابن السَّمْعَانِيِّ مع الْإِمَامِ على مَحَلٍّ وَاحِدٍ لِأَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ مَنَعَ اجْتِمَاعَ عِلَّتَيْنِ وابن السَّمْعَانِيِّ يُجَوِّزُهُ ثُمَّ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَأَمَّا الذي حَكَاهُ عن ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ فَقَدْ حَاوَلَ شيئا بَعِيدًا لِأَنَّ الْفَرْقَ وَالْجَمْعَ على الذي يَخُوضُ فيه لم يُنْقَلْ عن الصَّحَابَةِ أَصْلًا وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَّبِعُونَ التَّأْثِيرَاتِ وَاَلَّذِي نُقِلَ عن عبد الرحمن بن عَوْفٍ مَعْنًى صَحِيحٌ وَاَلَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه في مَعْنَى الضَّمَانِ أَلْطَفُ منه وَالْمُرَادُ منه أَنَّهُ وَإِنْ كان يُبَاحُ له التَّأْدِيبُ وَلَكِنَّهُ مَشْرُوطٌ بِالسَّلَامَةِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ ليس بِحَتْمٍ بَلْ يَجُوزُ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ فَيُطْلَقُ فِعْلُهُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ قال وَلَيْسَ هذا الْكَلَامُ من الْفَرْقِ وَالْجَمْعِ الذي نَحْنُ فيه بِشَيْءٍ فَلَا يُدْرَى كَيْفَ وَقَعَ هذا الْخَبْطُ من هذا الْقَائِلِ
____________________
(4/268)
وَإِنْ وَقَعَ الْفَرْقُ فَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ الْفَرْقَ بِالْمَعَانِي الْمُؤَثِّرَةِ وَتَرْجِيحِ الْمَعْنَى على الْمَعْنَى وَإِنَّمَا الْكَلَامُ في شَيْءٍ وَرَاءَ هذا وهو أَنَّ الْمُعَلِّلَ لَمَّا ذَكَرَ عِلَّةً قام له الدَّلِيلُ على صِحَّتِهَا فَفَرَّقَ الْفَارِقُ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِمَعْنًى فَإِنْ كان فَرْقًا لَا يَقْدَحُ في التَّأْثِيرِ الذي لِوَصْفِ الْمُعَلِّلِ في الْحُكْمِ فَهُوَ فَرْقٌ صُورَةً وَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَإِنْ فَرَّقَ بِمَعْنًى مُؤَثِّرٍ في حُكْمِ الْأَصْلِ فَغَايَتُهُ التَّعْلِيلُ بِعِلَّتَيْنِ وَإِنْ بَيَّنَ الْفَارِقُ مَعْنًى مُؤَثِّرًا في التَّفْرِيقِ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَالْقَادِحُ بَيَانُ مَعْنًى يُؤَثِّرُ في الْفَرْعِ يُفِيدُ خِلَافَ الْحُكْمِ الذي أَفَادَهُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ فَلَا بُدَّ لِهَذَا من إسْنَادِهِ إلَى أَصْلٍ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُعَارَضَةً وَلَا يَكُونُ الْفَرْقُ الذي يُقْصَدُ بِالسُّؤَالِ وَنَحْنُ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعَارَضَةَ قَادِحَةٌ انْتَهَى وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ في الْفَرْعِ لَا تُسَمَّى فَرْقًا وَيَصِيرُ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ في الْأَصْلِ فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ على مَسْأَلَةِ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ وَنَقَلَ إلْكِيَا ما حَكَاهُ الْإِمَامُ في اسْتِدْلَالِ الْقَاضِي عن عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ ثُمَّ قال وَالْحَقُّ عِنْدَنَا أَنَّ الْفَرْقَ إنَّمَا يَقْدَحُ إذَا كان أَخَصَّ من جَمِيعِ الْعِلَلِ فَإِذْ ذَاكَ يَتَبَيَّنُ بِهِ فَسَادُ الْجَمْعِ إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ ابْتِدَاءً تَعْلِيلٌ في الْأَصْلِ وَعَكْسُهُ في الْفَرْقِ وَرُبَّ فَرْقٍ يَظْهَرُ فَتَخْرُجُ عِلَّةُ الْمُعَلِّلِ عن اعْتِبَارِهَا شَرْعًا وَحِينَئِذٍ فَيَلْحَقُ تَعْلِيلُ الْمُعَلِّلِ بِالطَّرْدِ فإنه أَخَصُّ من الْجَمْعِ على كل حَالٍ فَإِنْ كان الْجَمْعُ مَثَلًا لِلْفَرْقِ أو أَخَصَّ فَلَا نُبَالِي بِهِ كَقَوْلِ الْمَالِكِيِّ في الْهِبَةِ عَقْدُ تَمْلِيكٍ تَرَتَّبَ على صِحَّةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فيها الْمِلْكُ بِالْمُعَاوَضَةِ فيقول الْفَارِقُ الْمُعَاوَضَةُ يَتَضَمَّنُهَا النُّزُولُ عن الْعِوَضِ وَالرِّضَا بِالْمُعَوَّضِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَالْهِبَةُ قد عَارَتْ بها فَالْمُعَلِّلُ يقول تِلْكَ الصِّيغَةُ مُطْرَحَةٌ فَيَضْطَرِبُ النَّظَرُ فيها قال وَحَرْفُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ نُكْتَةَ الْفَرْقِ كَوْنُهُ أَخَصَّ من الْجَمْعِ وَالْجَمْعُ أَعَمُّ فَإِذًا في الْفَرْقِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَصَحُّهَا أَنَّ الْفَرْقَ يَرْجِعُ إلَى قَطْعِ الْجَمْعِ من حَيْثُ الْخُصُوصِيَّةُ والثاني إبْطَالُ الْفَرْقِ من جِهَةِ كَوْنِهِ مُعَارَضَةً في جَانِبِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَالْمُعَارَضَةُ بَاطِلَةٌ والثالث أَنَّهُ مَقْبُولٌ من جِهَةِ كَوْنِهِ قَدْحًا في غَرَضِ الْجَمْعِ وَهَذَا مُلَخَّصٌ من كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فإنه ذَكَرَ ما حَاصِلُهُ أَنَّ الْفَرْقَ إمَّا أَنْ يَلْحَقَ الْجَامِعَ بِوَصْفٍ طَرْدِيٍّ أو لَا والأول مَقْبُولٌ بِالِاتِّفَاقِ وَمِنْ عَلَامَتِهِ أَنْ يُقَيِّدَ الْفَارِقُ جَمْعَ الْجَامِعِ وَيَزِيدَ فيه ما يُوَضِّحُ بُطْلَانَ أَثَرِهِ كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مُعَاوَضَةٌ عن تَرَاضٍ فَتُفِيدُ
____________________
(4/269)
الْمِلْكَ كَالصَّحِيحِ فيقول الْمُعْتَرِضُ الْمَعْنَى في الْأَصْلِ أنها مُعَاوَضَةٌ جَرَتْ على وَفْقِ الشَّرْعِ فَنَقَلَتْ الْمِلْكَ بِالشَّرْعِ بِخِلَافِ الْمُعَاوَضَةِ الْفَاسِدَةِ والثاني هو مَحَلُّ الْخِلَافِ كَقَوْلِ الْمَالِكِيِّ في الْهِبَةِ يَحْصُلُ فيها الْمِلْكُ فيه بِالصِّيغَةِ بِلَا قَبْضٍ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَمَلُّكٍ فَيَحْصُلُ الْمِلْكُ فيه بِالصِّيغَةِ كَالْبَيْعِ فيقول الْفَارِقُ الْمُعَاوَضَةُ تَتَضَمَّنُ النُّزُولَ عن الشَّيْءِ بِعِوَضٍ فَتَضَمَّنَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ الرِّضَا من الْجَانِبَيْنِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ فإنه نُزُولٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَافْتَقَرَ إلَى الْقَبْضِ لِيَدُلَّ على الرِّضَا فَهَذَا النَّوْعُ هو مَوْضِعُ الْخِلَافِ فَمَنْ رَدَّ الْمُعَاوَضَةَ في الْأَصْلِ أو في الْفَرْعِ أو أَحَدِهِمَا رَدَّهُ وَقِيلَ بِقَبُولِهِ على أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ وَالْمُخْتَارُ قَبُولُهُ لِحَاجَةٍ وَهِيَ مُنَاقَضَةٌ فِقْهِيَّةٌ لِلْجَمْعِ ثُمَّ أتى الْإِمَامُ بَعْدَ ذلك بِكَلَامٍ جَامِعٍ فقال الْفَرْعُ وَالْجَمْعُ إنْ ازْدَحَمَا على أَصْلٍ وَفَرْعٍ في مَحَلِّ النِّزَاعِ فَالْمُخْتَارُ فيه عِنْدَنَا اتِّبَاعُ الْإِحَالَةِ فَإِنْ كان الْفَرْقُ أَصْلًا عَلَّلَ الْجَمْعَ وَعَكْسَهُ وَإِنْ اسْتَوَيَا أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ هُنَا بِالْعِلَّتَيْنِ الْمُتَنَاقِضَتَيْنِ وإذا بَنَيْنَا على صِيغَةِ التَّسَاوِي أَمْكَنَ أَنْ يُقَدَّمَ الْجَمْعَ من جِهَةِ وُقُوعِ الْفَرْقِ بَعْدَهُ غير مُنَاقِضٍ له قال وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كان الْفَرْقُ لَا يُحِيطُ فيه الْجَمْعُ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنْ أَبْطَلَهُ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ ما ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ من الْجَمْعِ ليس بِصَحِيحٍ فَيَكُونُ مَقْبُولًا قَطْعًا وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ أَبَانَ الْفَرْقُ أَنَّ الْجَامِعَ طَرْدِيٌّ فَلَا خِلَافَ في قَبُولِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ فيه خِلَافٌ من الْقَائِلِينَ بِرَدِّ الطَّرْدِيِّ وَإِنْ لم يُبَيِّنْ ذلك فَفِيهِ مَذْهَبَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَرْدُودٌ مُطْلَقًا وثانيهما أَنَّهُ مَقْبُولٌ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهِ فَقِيلَ لَا من جِهَةِ كَوْنِهِ فَرْقًا بَلْ من جِهَةِ كَوْنِهِ مُعَارَضَةً وهو مَذْهَبُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ الْقَصْدُ منه الْمُعَارَضَةَ ثُمَّ قِيلَ هو أَضْعَفُ سُؤَالٍ يُذْكَرُ وَحَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن الْمُحَقِّقِينَ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ من أَقْوَى الْأَسْئِلَةِ ثُمَّ قِيلَ هو سُؤَالَانِ وهو مَذْهَبُ ابْنِ سُرَيْجٍ لِاشْتِمَالِهِ على مُعَارَضَةِ عِلَّتِهِ لِلْأَصْلِ بِعِلَّةٍ ثُمَّ مُعَارَضَةُ عِلَّتِهِ لِلْفَرْعِ بِعِلَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ في جَانِبِ الْفَرْعِ وَالْمُخْتَارُ كما قَالَهُ في الْمَنْخُولِ أَنَّهُ سُؤَالٌ وَاحِدٌ لِاشْتِمَالِهِ على اتِّحَادِ الْمَقْصُودِ وهو الْفَرْقُ وَإِنْ تَضَمَّنَ الْإِشْعَارَ بِمَنْعِ الْعِلَّةِ في الْأَصْلِ وَدَعْوَى عِلَّةٍ أُخْرَى فيه وَمُعَارَضَةٍ في الْفَرْعِ بِعَكْسِ الْمُدَّعِي في الْأَصْلِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ الْفَارِقُ وَصْفًا آخَرَ في جَانِبِ الْفَرْعِ عِنْدَ عَكْسِهِ فَيَكُونُ مُعَارِضًا وَتَتَعَدَّدُ وَالْمُخْتَارُ على الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْقِيَاسِ على أُصُولٍ مُتَعَدِّدَةٍ قَبُولُ فُرُوقٍ مُتَعَدِّدَةٍ
____________________
(4/270)
إذْ قد لَا يُسَاعِدُ الْفَارِقَ في الْفَرْقِ الْإِتْيَانُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ مُتَنَاوِلٍ لِجَمِيعِ الْأُصُولِ وقد ذَكَرَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْخِلَافَ في قَبُولِ الْفَرْقِ مَبْنِيٌّ على جَوَازِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ مُسْتَنْبَطَتَيْنِ فَمَنْ جَوَّزَهُ قال لَا يَقْدَحُ الْفَرْقُ في الْعِلِّيَّةِ فَلَا يَفْسُدُ قِيَاسُهُ وَلَا جَمْعُهُ بِعِلِّيَّةِ الْفَرْقِ لِجَوَازِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى وَمَنْ مَنَعَهُ فَهُوَ قَائِلٌ بِالْعَكْسِ فَيَقْدَحُ الْفَرْقُ حِينَئِذٍ وَيَبْطُلُ الْقِيَاسُ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْقَائِلُ بِأَنَّ الْحُكْمَ يُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ لَا يَلْزَمُ من ذلك أَنْ يُجْعَلَ جَوَابًا عن الْفَرْقِ بَلْ عليه أَنْ يُبَيِّنَ عَدَمَ إشْعَارِهِ بِإِثَارَةِ الْفَرْقِ وَيُرَجِّحَ مَسْلَكَ الْجَامِعِ من طَرِيقِ الْفِقْهِ مَسْأَلَةٌ إذَا فَرَّقَ الْمُفَرِّقُ بين مَسْأَلَتَيْنِ في الْمَعْنَى الذي لِأَجْلِهِ ثَبَتَ الْحُكْمُ في الْأَصْلِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعْكِسَ ذلك في الْفَرْعِ فإنه يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ في الْفَرْعِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى وَبِغَيْرِهِ لِأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ يَجُوزُ ثُبُوتُهُ بِعِلَّتَيْنِ قال أبو الْخَيْرِ بن جَمَاعَةَ الْمَقْدِسِيُّ في الْفُرُوقِ وَمَثَّلَهُ بِقِيَاسِ الْحَنَفِيَّةِ في أَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَخِيرَ ليس بِوَاجِبٍ حتى قالوا ذِكْرٌ لَا يُجْهَرُ بِهِ في حَالٍ من الْأَحْوَالِ فلم يَجِبْ كَتَسْبِيحِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَفَرَّقَ أَصْحَابُنَا فَقَالُوا التَّسْبِيحُ يُشْرَعُ في رُكْنٍ هو مَقْصُودٌ في نَفْسِهِ فَلِهَذَا كان وَاجِبًا مَسْأَلَةٌ وَمِنْ فَوَائِدِ الْخِلَافِ في أَنَّ الْفَرْقَ مُعَارَضَةٌ أو مَقْبُولٌ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ إذَا أَبْدَى الْفَارِقُ مَعْنًى في الْأَصْلِ مُغَايِرًا لِمَعْنَى الْمُعَلِّلِ وَعَكْسِهِ في الْفَرْعِ وَرَبَطَ بِهِ الْحُكْمَ مُنَاقِضًا لِحُكْمِ الْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ فَفِي اشْتِرَاطِ رَدِّ مَعْنَى الْفَرْعِ إلَى الْأَصْلِ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا أَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَرُدَّ عِلَّةَ الْأَصْلِ إلَى الْأَصْلِ وَعِلَّةَ الْفَرْعِ إلَى أَصْلٍ وَذَهَبَ إلَيْهِ طَوَائِفُ من الْجَدَلِيِّينَ وَنُقِلَ عن الْأُسْتَاذِ بِنَاءً منهم على أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ فَيَنْبَغِي اشْتِمَالُهَا على عِلَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ وَعَلَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ الْمُرْسَلَ مَرْدُودٌ فقال الْقَاضِي مَذْهَبِي قَبُولُ الِاسْتِدْلَالِ وَلَوْ كُنْت من الْقَائِلِينَ بِإِبْطَالِ الِاسْتِدْلَالِ لَقَبِلْته على أَنَّهُ فَرْقٌ بِنَاءً على الْقَوْلِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ يُقْبَلُ لِخَاصِّيَّتِهِ وهو الْمُنَاقَضَةُ وَهَذَا يَحْصُلُ من غَيْرِ رَدٍّ إلَى أَصْلٍ وما أَظْهَرَهُ الْفَارِقُ لَا أَصْلَ له وَالثَّانِي لَا يَحْتَاجُ إلَى ذلك لَا في الْأَصْلِ وَلَا في الْفَرْعِ وَنُسِبَ لِلْجُمْهُورِ وهو اخْتِيَارُ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ وَبَنَاهُ الْإِمَامُ على أَنَّ الْمَقْصُودَ قَطْعُ الْجَمْعِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ
____________________
(4/271)
من غَيْرِ أَصْلٍ وَبَنَاهُ الْغَزَالِيُّ على أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ الْمُرْسَلَ مَقْبُولٌ وَنَقَلَ عن الشَّافِعِيِّ ذلك في تَفَاصِيلَ ذَكَرَهَا في الْمَنْخُولِ وَالثَّالِثُ يَحْتَاجُ إلَى ذلك في عِلَّةِ الْفَرْعِ دُونَ الْأَصْلِ وَهَذَا ما اخْتَارَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ أَيْ إنْ كان الْفَرْقُ بِذِكْرِ وَصْفٍ في الْفَرْعِ انْقَطَعَ فَلَا بُدَّ من أَصْلٍ وَإِنْ كان في الْأَصْلِ إذَا عَكَسَهُ في الْفَرْعِ انْقَطَعَ الْجَمْعُ ولم يَبْقَ عليه الظَّنُّ وَالرَّابِعُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَرِدَ الْفَرْقُ على قِيَاسِ الشَّبَهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَصْلٍ وَإِنْ كان على قِيَاسِ الْمَعْنَى احْتَاجَ إلَيْهِ وَالْخَامِسُ أَنَّ الْفَرْقَ في الْفَرْعِ إنْ كان يُخِلُّ بِحِكْمَةِ السَّبَبِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى أَصْلٍ وَإِنْ لم يُخِلَّ افْتَقَرَ إلَى أَصْلٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من إثْبَاتِ الْحُكْمِ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ وقال الْبَاجِيُّ الْأَوَّلُ هو الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ مَتَى لم يَرُدَّ كُلًّا منها إلَى أَصْلٍ كان مُدَّعِيًا في الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ عِلَّتَيْنِ وَاقِفَتَيْنِ وَمُسَلِّمًا لِعِلَّةِ الْمَسْئُولِ وَهِيَ مُتَعَدِّيَةٌ وَالْمُتَعَدِّيَةُ أَوْلَى من الْوَاقِفَةِ فَكَأَنَّهُ عَارَضَ الْمُسْتَدِلَّ بِدُونِ دَلِيلِهِ وَذَلِكَ لَا يَكْفِي في الْمُعَارَضَةِ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ لو رَجَحَ دَلِيلُهُ على مُعَارَضَةِ السَّائِلِ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ التَّرْجِيحِ لَحُكِمَ له بِالسَّبْقِ وَمِمَّنْ حَكَى هذه الْمَذَاهِبَ الْبَاجِيُّ وأبو الْخَيْرِ بن جَمَاعَةَ في كِتَابِهِ الْوَسَائِلِ فَرْعٌ فَإِنْ شَرَطْنَا رَدَّ مَعْنَى الْفَرْعِ في الْفَرْقِ إلَى أَصْلٍ فَلَوْ أَبْدَاهُ في الْأَصْلِ فَقِيلَ يَلْزَمُهُ رَدُّهُ إلَى أَصْلٍ آخَرَ فَيَحْتَاجُ الْفَرْعُ وَالْأَصْلُ إلَى أَصْلَيْنِ لِأَنَّهُمَا مَعْنَيَانِ وَقِيلَ لَا يَلْزَمُهُ بِنَاءً على ما سَبَقَ لِأَنَّ الْغَرَضَ مُضَادَّةُ الْجَامِعِ فِيهِمَا كَالْمَعْنَى الْوَاحِدِ وَلَوْ قُلْنَا بِالِاحْتِيَاجِ إلَى أَصْلٍ لَقَبِلْنَا الْمُعَارَضَةَ في ذلك الْأَصْلِ بِأَصْلٍ آخَرَ وَيَسْتَمِرُّ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وهو بَاطِلٌ هذا إذَا أَبْدَى مَعْنًى في الْأَصْلِ وَعَكْسَهُ في الْفَرْعِ فَلَوْ عَكَسَ الْفَارِقُ في الْفَرْعِ مَعْنَى الْأَصْلِ فلم يُنَاقِضْ فِقْهُ الْعَكْسِ فِقْهَ الْجَمْعِ أو نَاقَضَهُ على بُعْدٍ فَاحْتَاجَ إلَى مَزِيدٍ في الْفَرْعِ فَاخْتَلَفَ الْجَدَلِيُّونَ فيه فَمَنْ اعْتَقَدَ الْفَرْقَ مُعَارَضَةً لم يَمْنَعْ الزِّيَادَةَ وَمَنْ قال إنَّمَا هو مَعْنًى يُضَادُّ الْجَامِعَ اكْتَفَى بِثُبُوتِهِ في الْأَصْلِ وَنَفْيِهِ في الْفَرْعِ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ في الْفَرْعِ ليس لها في جَانِبِ الْأَصْلِ ثُبُوتٌ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهَا مَسْأَلَةٌ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ من الْقَوَادِحِ اخْتَلَفُوا في أَنَّهُ هل من تَمَامِهِ وَلَوَازِمِهِ نَفْيُهُ عن الْفَرْعِ أَمْ لَا منهم من أَوْجَبَهُ على الْفَارِقِ لِأَنَّ قَصْدَهُ افْتِرَاقُ الصُّورَتَيْنِ وَقِيلَ لَا يَجِبُ وَقِيلَ بِالتَّفْصِيلِ إنْ صَرَّحَ في إيرَادِ الْفَرْقِ بِالِافْتِرَاقِ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَلَا بُدَّ من نَفْيِهِ
____________________
(4/272)
عنه وَإِلَّا فَإِنْ قَصَدَ أَنَّ دَلِيلَهُ غَيْرُ قَائِمٍ فَلَا يَجِبُ هذا كُلُّهُ فِيمَا إذَا كان الْمَقِيسُ عليه وَاحِدًا وَأَمَّا إذَا كان مُتَعَدِّدًا فَقِيلَ يُمْنَعُ ذلك لِإِفْضَائِهِ إلَى انْتِشَارِ الْكَلَامِ وَقِيلَ يَجُوزُ لِلتَّقْوِيَةِ ثُمَّ الْمُجَوِّزُونَ اخْتَلَفُوا في أَنَّهُ إذَا فَرَّقَ الْمُعْتَرِضُ بين أَصْلٍ وَاحِدٍ وَبَيْنَ الْفَرْعِ هل يَكْفِيهِ ذلك أَمْ لَا بَلْ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُفَرِّقَ بين الْفَرْعِ وَبَيْنَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَقِيلَ يَكْفِيهِ ذلك قال الْهِنْدِيُّ وهو الْأَصَحُّ لِأَنَّ إلْحَاقَ الْفَرْعِ بِتِلْكَ الْأُصُولِ بِأَسْرِهَا غَرَضُ الْمُسْتَدِلِّ وَإِلَّا لم يُعَدِّدْهُ وهو غَيْرُ حَاصِلٍ ضَرُورَةً أَنَّهُ لم يَكُنْ مُلْحَقًا بِالْأَصْلِ الذي فَرَّقَ الْمُعْتَرِضُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَرْعِ وَقِيلَ لَا يَكْفِيهِ ذلك لِأَنَّ الْقِيَاسَ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِلٌّ وَالْقَائِلُونَ بِذَلِكَ اخْتَلَفُوا في أَنَّهُ هل يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذلك الْفَرْقُ وَاحِدًا لِئَلَّا يَنْتَشِرَ الْكَلَامُ أَمْ يَجُوزُ تَعَدُّدُهُ على قَوْلَيْنِ قال الْهِنْدِيُّ أُولَاهُمَا الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ في الْأَكْثَرِ فَيَلْزَمُ سَدُّ بَابِ الْقَدْحِ على الْمُعْتَرِضِ ثُمَّ إذَا ذَكَرَ الْمُعْتَرِضُ الْفَرْقَ بين الْفَرْعِ وَبَيْنَ تِلْكَ الْأُصُولِ وَاحِدًا كان أو مُتَعَدِّدًا فَهَلْ يَكْفِي الْمُسْتَدِلَّ أَنْ يُجِيبَ عنه بِالنِّسْبَةِ إلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ أو بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ تِلْكَ الْأُصُولِ اخْتَلَفُوا فيه على قَوْلَيْنِ مَسْأَلَةٌ لِلْفَرْقِ شُرُوطٌ أَحَدُهَا أَنْ يُرَدَّ إلَى أَصْلٍ على ما سَيَأْتِي من الْخِلَافِ ثَانِيهَا أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ أَخَصَّ من الْجَمْعِ فَإِنْ كان الْفَرْقُ أَعَمَّ منه فَالْجَمْعُ الْخَاصُّ مُقَدَّمٌ على الْفَرْقِ الْعَامِّ فَإِنْ كان مثله يُوجِبُ الِافْتِرَاقَ إلَّا إذَا تَرَجَّحَ الْجَمْعُ على الْفَرْقِ وَمِثَالُ الْفَرْقِ الْعَامِّ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه في انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِفَاسِقَيْنِ إذَا قِسْنَا على حُضُورِ الصَّبِيِّ فيقول الْحَنَفِيُّ بَعْدَ الْبُلُوغِ لو أَعَادَ شَهَادَتَهُ الْمَرْدُودَةَ دُونَ الصَّبِيِّ قُبِلَتْ بِخِلَافِ الْفَاسِقِ فَهَذَا فَرْقٌ لَا يُشْعِرُ بِمَا هو بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ فَلَا يُعَارِضُ الدَّلِيلَ الْمُشْعِرَ بِحُكْمِهَا ثَالِثُهَا أَنْ لَا يَحْتَاجَ الْفَارِقُ إلَى زِيَادَةِ أَمْرٍ في جَانِبِ الْفَرْعِ إذَا عَكَسَهُ فإنه إذَا ذَكَرَ زِيَادَةً كان جَمْعًا بين مُعَارَضَةٍ في الْأَصْلِ وَمُعَارَضَةٍ في الْفَرْعِ كَقَوْلِنَا في خِيَارِ الشَّرْطِ حَقٌّ مَالِيٌّ لَازِمٌ يَجْرِي الْإِرْثُ فيه كَخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فيقول الْحَنَفِيُّ خِيَارُ الْعَيْبِ مُعْتَاضٌ عنه وَلَيْسَ بِوَثِيقَةٍ احْتِرَازًا عن الرَّهْنِ فَهَذَا بَاطِلٌ رَابِعُهَا أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إذَا اعْتَبَرَ الْفَرْعَ بِأُصُولٍ مُتَعَدِّدَةٍ هل يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ مُتَّحِدًا بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ الْأُصُولِ فيه خِلَافٌ يَنْبَنِي على جَوَازِ الْقِيَاسِ على
____________________
(4/273)
أُصُولٍ مُتَعَدِّدَةٍ وإذا جَازَ فَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ في الْفَرْقِ مع اتِّحَادِهِ مُتَنَاوِلًا لِجَمِيعِ الْأُصُولِ فيه خِلَافٌ منهم من قال الْفَرْقُ في مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ وَالْجَمْعُ مُتَّحِدٌ فَالْفَرْقُ يَكُونُ مُتَّحِدًا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بِفُرُوقٍ مُتَعَدِّدَةٍ لِأَنَّهُ لَا يُسَاعِدُ في الْغَالِبِ مَعْنًى وَاحِدٌ على الْفَرْقِ في جَمِيعِ الْأُصُولِ وإذا قُلْنَا بِتَعْدِيدِ الْأُصُولِ هل يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ على الْفَرْقِ وَالْقَطْعِ عن بَعْضِ الْأُصُولِ فيه خِلَافٌ منهم من مَنَعَهُ لِأَنَّ ما بَقِيَ يَكْفِي لِبِنَاءِ الْفَرْعِ عليه وَمِنْهُمْ من قال لَمَّا ذَكَرَ الْأُصُولَ وَتَقَلَّدَ بِتَقْرِيرِهَا وَالذَّبَّ عنها فَطَرِيقُ الْفَارِقِ الْقَطْعُ عن جَمِيعِهَا مَسْأَلَةٌ لَا يُشْتَرَطُ في الْفَارِقِ أَنْ يَكُونَ مَعْنًى بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا شَرْعِيًّا كما قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ كَقَوْلِهِ من صَحَّ طَلَاقُهُ صَحَّ ظِهَارُهُ كَالْمُسْلِمِ فإذا وَقَعَ الْفَرْقُ على هذه الصِّفَةِ وَالْعِلَّةِ قُبِلَ وَوَقَعَ الْكَلَامُ في التَّرْجِيحِ وَتَقْرِيبِ الْأَشْبَاهِ إنْ كان الْقِيَاسُ مَعْنَوِيًّا وَإِنْ جَرَى الْفَارِقُ على صِفَةِ إلْحَاقِ حُكْمٍ بِحُكْمٍ فَهَذَا من الْفَارِقِ مُحَاوَلَةُ مُعَارَضَةِ الْمَعْنَى بِالشَّبَهِ فَلَا يُقْبَلُ لِأَنَّ أَدْنَى مَعَانِي الْمُنَاسَبَةِ يُقَدَّمُ على أَجْلَى الْأَشْبَاهِ وقال غَيْرُهُ هل يَجُوزُ الْفَرْقُ بِالنَّصِّ قَوْلَانِ كَقَوْلِ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها كنا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ قِيلَ وَالْخِلَافُ يَتَنَزَّلُ على حَالَيْنِ فَإِنْ كان الْمُرَادُ الْفَرْقَ الْقِيَاسِيَّ الْمُتَضَمِّنَ الْوَصْفَ الْمُنَاسِبَ فَقَدْ لَا يَحْصُلُ بِالنَّصِّ لِجَوَازِ كَوْنِهِ بَعِيدًا كَقَوْلِنَا ما الْفَرْقُ بين السَّبُعِ وَالْكَلْبِ وَالشَّاةِ حتى كان نَجِسًا مُحَرَّمَ الْبَيْعِ وَهِيَ طَاهِرَةٌ جَائِزَةُ الْبَيْعِ فَيُقَالُ الشَّرْعُ مَنَعَ بَيْعَ الْكَلْبِ وَأَجَازَ بَيْعَ الشَّاةِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنْ لَا تَنَاسُبَ وَلَوْ عَكَسَ لَوَجَبَ اتِّبَاعُهُ وَأَرَادَ بِهِ مُطْلَقَ الْفَرْقِ وهو التَّخْيِيرُ بين حُكْمِ الصُّورَتَيْنِ بِدَلِيلٍ حَصَلَ لِحُصُولِ ذلك منه وَلِجَمْعِهَا وَأَعْنِي الْفَرْقَ النَّصِّيَّ وَالْقِيَاسِيَّ وَيَكُونُ النَّصِّيُّ تَابِعًا لِلْقِيَاسِيِّ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها فإن فيه النَّظَرَ الْمَذْكُورَ وَالْمَعْنَى الْمُنَاسِبَ وهو حُصُولُ الْمَشَقَّةِ في قَضَاءِ الصَّلَاةِ قُلْت وقد قال الْخَصْمُ لِلشَّافِعِيِّ في فَرْقِهِ بين ما تَحْتَ الْإِزَارِ وَفَوْقَهُ في تَحْرِيمِ الْمُبَاشَرَةِ في الْحَيْضِ هل تَجِدُ بَيْنَهُمَا فَرْقًا سِوَى الْخَبَرِ فقال الشَّافِعِيُّ أَيُّ فَرْقٍ أَحْسَنُ من الْخَبَرِ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ الْفَرْقَ بِالنَّصِّ عِنْدَهُ مَقْبُولٌ في مَقَامِ الْمُنَاظَرَةِ وَحَكَى ذلك عن الشَّيْخِ أبي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
____________________
(4/274)
مَسْأَلَةٌ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ في بَابِ الْعَيْبِ في الْمَنْكُوحَةِ الْفَرْقُ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا يَقَعُ بين مَسْأَلَتَيْنِ والثاني يَقَعُ في مَوْضِعَيْنِ وَمَأْخَذَيْنِ فما ثَبَتَ بين مَسْأَلَتَيْنِ يَثْبُتُ وَيَنْتَفِي وَيَنْعَكِسُ وما يَقَعُ بين مَأْخَذَيْنِ يُبَيَّنُ مَأْخَذُ كل جِهَةٍ ثُمَّ ذلك يُوجِبُ الِانْفِصَالَ بِنَفْيَيْنِ وَإِثْبَاتَيْنِ انْتَهَى وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى إيضَاحٍ وَمَعْنَاهُ كما قَالَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْفَرْعَ الْوَاقِعَ بين مَسْأَلَتَيْنِ هو مَذْكُورٌ في كِتَابِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقَائِسَ جَمَعَ بين أَصْلٍ وَفَرْعٍ بِعِلَّةٍ وَالْفَارِقُ فَرَّقَ بَيْنَهُمْ بِعِلَّةٍ أُخْرَى يَثْبُتُ الْحُكْمُ في الْأَصْلِ بِثُبُوتِهَا وَيَنْتَفِي في الْفَرْعِ بِانْتِفَائِهَا وَهَذَا مَعْنَى الِاطِّرَادِ وَالِانْعِكَاسِ وَاقْتَصَرُوا في كِتَابِ الْقِيَاسِ على هذا النَّوْعِ لِأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ في جَوَابِ الْقِيَاسِ وَكُلٌّ من الْعِلَّةِ وَاقْتِضَائِهَا الْحُكْمَ مَعْلُومٌ وَإِنَّمَا النَّظَرُ في وُجُودِهَا في ذلك الْمَحَلِّ وَعَدَمِهَا هو تَصْدِيقٌ مَسْبُوقٌ بِتَصَوُّرٍ وَالنَّوْعُ الثَّانِي هو الْوَاقِعُ بين حَقِيقَتَيْنِ لِيُمَيِّزَ بَيْنَهُمَا وَيُبَيِّنَ اللُّبْسَ عَمَّنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُمَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ أو بين انْتِفَائِهَا لِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِيَتَمَيَّزَ ذلك وَيَنْتَفِيَ اللُّبْسُ عَمَّنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ مَأْخَذَ الْحُكْمَيْنِ وَاحِدٌ وَأَنَّ انْتِفَاءَ الْحَقِيقَتَيْنِ وَاحِدٌ وهو يُوجِبُ الِانْفِصَالَ بِنَفْيَيْنِ وَإِثْبَاتَيْنِ وَإِنَّهُ حَيْثُ انْتَفَى يَنْتَفِي الْحُكْمُ وَحَيْثُ ثَبَتَ يَثْبُتُ الْحُكْمُ هو مُطَّرِدٌ مُنْعَكِسٌ كَالنَّوْعِ الْأَوَّلِ وَهَذَا كَثِيرٌ في الْفِقْهِ من أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ وهو أَكْثَرُ وَأَنْفَعُ من الْأَوَّلِ فإنه بِهِ تَتَمَيَّزُ الْحَقَائِقُ وَالْمَآخِذُ وَيُفْهَمُ تَرْتِيبُ الْفِقْهِ عليها وَمِنْ هذا الْفَرْقُ بين حَقِيقَةِ انْفِسَاخِ النِّكَاحِ في الرِّدَّةِ وَفَسْخِهِ بِالْعُيُوبِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُمَا حَقِيقَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ من طَارِئٍ غَيْرِ مُسْتَنِدٍ إلَى أَمْرٍ مُقَارِنٍ وَالثَّانِي مُسْتَنِدٌ إلَى مُقَارِنٍ وَالْفَرْقُ بين رِدَّةِ الزَّوْجِ وَرِدَّةِ الزَّوْجَةِ حَيْثُ كانت رِدَّةً مُنْتَظَرَةً بَيْنَهُمَا بِطَلَاقِهِ وَرِدَّتُهَا حَيْثُ كانت هِيَ الْقَاطِعَةَ كَالرَّضَاعِ فَاخْتَلَفَ الْمَأْخَذُ وَهَذَا كَثِيرٌ وَفِيهِ صَنَّفَ الشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ كِتَابَ الْجَمْعِ وَالْفَرْقِ وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بين النَّوْعَيْنِ هو الْفَرْقُ بين شَيْئَيْنِ وَمَعْنَاهُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كان بين حَقِيقَتَيْنِ فَهُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كان بين مَحَلَّيْنِ فَهُوَ النَّوْعُ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ أَنْفَعُ وَأَفْقَهُ وَيُمْكِنُ رَدُّ الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي وَإِدْرَاجُهُ في قَوْلِ الْفُقَهَاءِ الْفَرْقُ أَبَدًا مَعْنًى في إحْدَى الصُّورَتَيْنِ مَفْقُودٌ في الْأُخْرَى لِأَنَّ النِّزَاعَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بين صُورَتَيْنِ أَعْنِي في الْقِيَاسِ
____________________
(4/275)
فَالْفَارِقُ إنْ نَازَعَ في حَقِيقَةِ الْعِلَّةِ أو في اقْتِضَائِهَا فَهُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ وإذا تَمَّ له ما ادَّعَاهُ تَرَتَّبَ عليه الْفَرْقُ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ لِافْتِرَاقِهِمَا في ذلك الْمَعْنَى وَإِنْ سَلَّمَ حَقِيقَةَ الْعِلَّةِ وَاقْتِضَاءَهَا وَنَازَعَ في ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَالْفَرْعِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى فَهُوَ النَّوْعُ الثَّانِي وَالْمَقْصُودُ بِالْفَرْقِ يَحْصُلُ على التَّقْدِيرَيْنِ مَسْأَلَةٌ كُلُّ فَرْقٍ مُؤَثِّرٍ بين مَسْأَلَتَيْنِ يُؤَثِّرُ ما لم يَغْلِبْ على الظَّنِّ أَنَّ الْجَامِعَ أَظْهَرُ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ في نِكَاحِ الْعَبْدِ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَذِنَ بِهِ السَّيِّدُ إنَّهُ لَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نَكْتَفِيَ بِالْخَيَالَاتِ في الْفُرُوقِ كَدَأْبِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَالسِّرُّ في ذلك أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْأَحْكَامِ مَجَالُ الظُّنُونِ عِلْمًا بها فإذا كان اجْتِمَاعُ مَسْأَلَتَيْنِ أَظْهَرَ في الظَّنِّ من افْتِرَاقِهِمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ بِاجْتِمَاعِهِمَا وَإِنْ انْقَدَحَ فُرِّقَ على بُعْدٍ قال الْإِمَامُ فَافْهَمُوا ذلك فإنه من قَوَاعِدِ الدِّينِ وإذا عُرِفَ ذلك فإذا فَرَّقَ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ بَعْدَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَرْقًا مُؤَثِّرًا فَهَلْ يَكْفِي الْفَارِقُ في إثْبَاتِ مُخَالِفِ كل وَاحِدَةٍ الْأُخْرَى في الْحُكْمِ فيه خِلَافٌ مَبْنِيٌّ على أَنَّهُ هل يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ مُسْتَنْبَطَتَيْنِ مِثَالٌ إذَا قِيسَ الشِّطْرَنْجُ على النَّرْدِ في التَّحْرِيمِ ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ النَّرْدَ فِعْلُهُ من النَّقْصِ وَالشِّطْرَنْجَ من الْفِكْرِ مَثَلًا فَهَلْ يَكُونُ الْفَارِقُ دَلِيلًا على مُخَالَفَةِ الشِّطْرَنْجِ لِلنَّرْدِ في التَّحْرِيمِ لِيَكُونَ الشِّطْرَنْجُ حَلَالًا أَمْ لَا إذَا عَرَفَ ذلك فَهَلْ يَسْمَعُ الْجَامِعَ بَعْدَ الْفَرْقِ فيه خِلَافٌ مُرَتَّبٌ على أَنَّهُ هل يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ مِثَالُهُ لو خُيِّرَ الْجَامِعُ بَعْدَ أَنْ فَرَّقَ الْفَارِقُ في الشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ بِمَا ذَكَرْنَا بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا اشْتَرَكَ في الْمَنْعِ عن الِاشْتِغَالِ بِاَللَّهِ وَعَنْ عِبَادَتِهِ
____________________
(4/276)
فصل ذَكَرَ الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ في كِتَابِهِ الذي أَفْرَدَهُ في الْفَرْقِ وَالْجَمْعِ إذَا تَمَّتْ الْمُنَاسَبَةُ بِشُرُوطِهَا فَهُوَ الْفَرْقُ الصَّحِيحُ وَأَمَّا الْفُرُوقُ الْفَاسِدَةُ فَكَثِيرَةٌ الْأَوَّلُ الْفَرْقُ بِالْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ كما لو قِيلَ صَحَّ بَيْعُ الْحَبَشِيِّ فَيَصِحُّ بَيْعُ التُّرْكِيِّ فَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ هذا أَسْوَدُ وَذَلِكَ أَبْيَضُ لَكَانَ بَاطِلًا فإنه لو فَتَحَ بَابَ الْفَرْقِ بِذَلِكَ لم يَتِمَّ قِيَاسٌ أَصْلًا لِأَنَّ ما من صُورَتَيْنِ إلَّا وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ الثَّانِي الْفَرْقُ بِنَوْعٍ اصْطَلَحُوا على رَدِّهِ كما لو قِيلَ في الزَّانِي الْمُحْصَنِ يَجِبُ رَجْمُهُ بِالْقِيَاسِ على مَاعِزٍ فَلَوْ قِيلَ إنَّمَا وَجَبَ الرَّجْمُ هُنَاكَ تَطْهِيرًا له وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ في غَيْرِهِ لَكَانَ بَاطِلًا الثَّالِثُ الْفَرْقُ بِكَوْنِ الْأَصْلِ مُجْمَعًا عليه وَالْفَرْعِ مُخْتَلَفًا فيه كما لو قِيلَ الْحَاجَةُ إلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ على الْبَالِغِ أَكْثَرُ منه على الصَّبِيِّ لِأَنَّهَا في الْبَالِغِ مُتَّفَقٌ عليه وفي الصَّبِيِّ مُخْتَلَفٌ فيه وَلَوْ اسْتَوَتْ الصُّورَتَانِ في الْمَصْلَحَةِ لَاسْتَوَتَا في الِاجْتِمَاعِ وَعَدَمِهِ وَقَرِيبٌ منه الْفَرْقُ بِكَوْنِ الْأَصْلِ مَنْصُوصًا عليه وَالْفَرْعِ مُخْتَلَفًا فيه لِأَنَّهُ لو صَحَّ الْفَرْقُ بِذَلِكَ بَطَلَتْ الْأَقْيِسَةُ كُلُّهَا مَسْأَلَةٌ مِمَّا ذُكِرَ على صُورَةِ الْفَرْقِ وَلَيْسَ فَرْقًا وَإِنْ كان مُبْطِلًا لِلْعِلَّةِ كما قال في الْبُرْهَانِ قَوْلُ الْحَنَفِيِّ في اشْتِرَاطِ تَعَيُّنِ النِّيَّةِ ما تَعَيَّنَ أَصْلُهُ بِنَفْسِهِ لم يُشْتَرَطْ فيه تَعْيِينُ النِّيَّةِ كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالْوَدَائِعِ فَنَقُولُ أَصْلُ النِّيَّةِ ليس شَرْعِيًّا في الْأَصْلِ وهو مُعْتَبَرٌ في مَحَلِّ النِّزَاعِ وَهَذَا ليس فَرْقًا بَلْ الْجَامِعُ بَاطِلٌ فإن الْكَلَامَ في تَفْصِيلِ النِّيَّةِ فَرْعُ تَسْلِيمِ أَصْلِهَا وأبو حَنِيفَةَ لَا يُرَاعِي التَّعْيِينَ مع اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لِأَنَّ أَصْلَهَا عِنْدَهُ كَافٍ مُغْنٍ عن التَّفْصِيلِ فَكَيْفَ يَتَمَسَّكُ بِمَا لَا يُشْتَرَطُ فيه أَصْلُ النِّيَّةِ
____________________
(4/277)
فَصْلٌ في جَوَابِ الْفَرْقِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ يَعْتَرِضُ على الْفَارِقِ مع قَبُولِهِ في الْأَصْلِ على ما يَعْتَرِضُ بِهِ على الْعِلَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ وَإِنْ كان ليس بِمُعَارَضَةٍ على الصَّحِيحِ عِنْدَنَا لَكِنَّهُ في صُورَةِ الْمُعَارَضَةِ وَتِلْكَ الصُّورَةُ في النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ من خَاصَّتِهِ وإذا بَطَلَ مُسْتَنِدُ الْفَرْقِ بَطَلَ الْفَرْقُ فَأَمَّا من يُجَوِّزُ اجْتِمَاعَ عِلَّتَيْنِ فَلَا يُتَّجَهُ قَوْلُ الْفَارِقِ أَقُولُ بِالْمَعْنَيَيْنِ لِأَنَّ الْفَرْقَ مُعَارَضَتَانِ وَغَايَتُهُ أَنْ دَرَأَ أَحَدَهُمَا وقد نَشَأَتْ عنهما خَاصَّةُ الْمُنَاقَضَةِ وَهِيَ قَائِمَةٌ فَلْيَسْتَأْنِفْ الْجَوَابَ بِعَدَمِ إثَارَةِ الْفَرْقِ وَتَرْجِيحِ مَسْلَكِ الْجَامِعِ مَسْأَلَةٌ إذَا اخْتَلَفَ الْمَوْضُوعُ فَإِنْ كان أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ مَبْنِيًّا على التَّخْفِيفِ وَالْآخَرُ على التَّغْلِيظِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِعِلَّةٍ تُوجِبُ حُكْمًا آخَرَ فَفِي إفْسَادِهِ الْعِلَّةَ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ في الْبُيُوعِ أَحَدُهُمَا نعم لِأَنَّ الْجَمْعَ يُوجِبُ التَّسَاوِيَ في الْحُكْمِ وَاخْتِلَافَ الْمَوْضُوعِ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ والثاني لَا لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ مُسَاوِيًا لِأَصْلِهِ في حُكْمِهِ وَإِنْ خَالَفَهُ في عَمَلِهِ لِأَنَّ تَسَاوِيَ الْأَحْكَامِ من كل وَجْهٍ مُتَعَذِّرٌ وَاعْلَمْ أَنَّ هذه الِاعْتِرَاضَاتِ هِيَ الْوَارِدَةُ على الْعِلَّةِ فَلِهَذِهِ بُدِئَ بِذِكْرِهَا ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذلك بَقِيَّةَ الِاعْتِرَاضَاتِ فَنَقُولُ الثَّامِنُ الِاسْتِفْسَارُ وهو مُقَدَّمُ الِاعْتِرَاضَاتِ وَبِهِ بَدَأَ ابن الْحَاجِبِ في جَمْعٍ وَمَعْنَاهُ طَلَبُ شَرْحِ مَعْنَى اللَّفْظِ إذَا كان غَرِيبًا أو مُجْمَلًا وَيَقَعُ بِ هل وَبِالْهَمْزَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُسْأَلُ بِهِ عن التَّصَوُّرِ فَيُسْتَفْسَرُ عن صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ وَمَعْنَى الْمُقَدَّمَاتِ حتى يَتَّفِقَا على مَوْضِعِ الْعِلَّةِ وَمِنْ الْفُقَهَاءِ من لم يَسْمَعْ الِاسْتِفْسَارَ وهو غَلَطٌ فإن مَحَلَّ النِّزَاعِ إذَا لم يَكُنْ مُتَحَقِّقًا فَرُبَّمَا لم يَكُنْ بَيْنَهُمَا خِلَافٌ وَرُبَّمَا يَسْلَمُ الْمُعَانِدُ وَيَرْجِعُ إلَى الْمُوَافَقَةِ عِنْدَ تَحْقِيقِ الْمُدَّعِي وَالْأَصَحُّ أَنَّ بَيَانَ اشْتِمَالِ اللَّفْظِ على الْإِجْمَالِ وَالْقَرَابَةَ على الْمُعْتَرِضِ وَقِيلَ بَلْ على الْمُسْتَدِلِّ
____________________
(4/278)
لِأَنَّ شَرْطَ ظُهُورِ الدَّلِيلِ انْتِفَاؤُهَا عنه وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ تَفَاوُتِهِمَا فَيُبَيِّنُ الْمُسْتَدِلُّ عَدَمَهَا أو يُفَسِّرُ بِمُحْتَمَلٍ وفي دَعْوَاهُ الظُّهُورَ في مَقْصُودِهِ دَفْعًا لِلْإِجْمَالِ لِعَدَمِ الظُّهُورِ في الْآخَرِ خِلَافٌ فَإِنْ اشْتَهَرَ بِالْإِجْمَالِ كَالْعَيْنِ وَالْقُرْءِ فَلَا يَصِحُّ فيه دَعْوَى الظُّهُورِ قَطْعًا قَالَهُ الشَّرِيفُ وَذَكَرَ الْخُوَارِزْمِيُّ في النِّهَايَةِ أَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ في اللَّفْظِ احْتِمَالٌ أَصْلًا وَعَنِيَ بِهِ شيئا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ فَقِيلَ لَا يَسْمَعُ الْعِنَايَةَ لِأَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ له فَكَيْفَ يَكُونُ تَفْسِيرًا لِكَلَامِهِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَسْمَعُ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ نَاطِقٌ بِلُغَةٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ وَلَكِنْ بَعْدَمَا عَرَفَ الْمُرَادَ وَعَرَفَ اللُّغَةَ فَلَا يُلْجَأُ إلَى النَّاظِرِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَرَجَّحَ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ الْأَوَّلَ وقال الْعَمِيدِيُّ لَا يَلْزَمُهُ التَّفْسِيرُ وَاعْلَمْ أَنَّ في عَدِّ هذا من الِاعْتِرَاضَاتِ نَظَرًا لِأَنَّهُ طَلِيعَةُ جَيْشِهَا وَلَيْسَ من أَقْسَامِهَا إذْ الِاعْتِرَاضُ عِبَارَةٌ عَمَّا يُخْدَشُ بِهِ كَلَامُ الْمُسْتَدِلِّ وَالِاسْتِفْسَارُ ليس من هذا الْقَبِيلِ بَلْ هو يَعْرِفُ الْمُرَادَ وَيُبَيِّنُ له لِيَتَوَجَّهَ عليه السُّؤَالُ فإذا هو طَلِيعَةُ السُّؤَالِ فَلَيْسَ بِسُؤَالٍ بَلْ حَكَى الْهِنْدِيُّ أَنَّ بَعْضَ الْجَدَلِيِّينَ أَنْكَرَ كَوْنَهُ اعْتِرَاضًا لِأَنَّ التَّصْدِيقَ فَرْعُ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ على الْمُنَازَعِ تَنْبِيهٌ أَطْلَقُوا أَنَّ عِلَّتَهُ الْبَيَانُ وَهَذَا حَيْثُ لَا يَكُونُ الْمُعْتَرِضُ مُتَعَنِّتًا يَقْصِدُ تَغْلِيطَ خَصْمِهِ فَإِنْ كان اكْتَفَى منه بِالْجَوَابِ الْمُجْمَلِ وَهَذَا كما حُكِيَ عن الْيَهُودِ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عن الرُّوحِ وهو لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بين الْقُرْآنِ وَجِبْرِيلَ وَعِيسَى وَمَلَكٌ يُقَالُ له الرُّوحُ وَرُوحُ الْإِنْسَانِ وَأَضْمَرُوا أَنَّهُ إنْ قال لهم الرُّوحُ مَلَكٌ قالوا بَلْ هو رُوحُ الْإِنْسَانِ وَإِنْ قال رُوحُ الْإِنْسَانِ قالوا بَلْ هو مَلَكٌ أو غَيْرُ ذلك من مُسَمَّيَاتِ الرُّوحِ فَعَلِمَ اللَّهُ مَكْرَهُمْ فَأَجَابَهُمْ مُجْمِلًا كَسُؤَالِهِمْ بِقَوْلِهِ قُلْ الرُّوحُ من أَمْرِ رَبِّي وهو يَتَنَاوَلُ الْمُسَمَّيَاتِ الْخَمْسَةِ وَغَيْرَهَا هَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ في خَلْقِ الْإِنْسَانِ وقال هذا هو السَّبَبُ في الْإِجْمَالِ لَا أَنَّ حَقِيقَتَهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لِلْبَشَرِ إذْ قد دَلَّتْ قَوَاطِعُ الشَّرْعِ على تَعْيِينِهَا فَقَدْ يُجْمِلُ الْمُسْتَدِلُّ لَفْظًا احْتِيَاطًا لِنَفْسِهِ في مَيْدَانِ النَّظَرِ بِحَيْثُ إنْ تَوَجَّهَ سُؤَالُ الْمُعْتَرِضِ على أَحَدِ مَعْنَيَيْ اللَّفْظِ تَخَلَّصَ منه بِتَعْيِينِ كَلَامِهِ بِالْمَعْنَى الْآخَرِ التَّاسِعُ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ وهو بَيَانُ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ في هذا الْحُكْمِ لَا لِفَسَادٍ فيه بَلْ لِمُخَالَفَتِهِ النَّصَّ أو الْإِجْمَاعَ أو كان إحْدَى مُقَدِّمَاتِهِ كَذَلِكَ أو كان الْحُكْمُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ كَإِلْحَاقِ الْمُصَرَّاةِ بِغَيْرِهَا من الْعُيُوبِ في حُكْمِ الرَّدِّ وَعَدَمِهِ وَوُجُوبِ بَدَلِ
____________________
(4/279)
لَبَنِهَا الْمَوْجُودِ في الضَّرْعِ أو كان تَرْكِيبُهُ مُشْعِرًا بِنَقِيضِ الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ وهو أَعَمُّ من فَسَادِ الْوَضْعِ وَإِنَّمَا يَنْقَدِحُ جَعْلُهُ اعْتِرَاضًا إذَا قُلْنَا بِتَقْدِيمِ خَبَرِ الْوَاحِدِ على الْقِيَاسِ وهو الصَّحِيحُ وَعَنْ طَائِفَةٍ من الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ تَقْدِيمُ الْقِيَاسِ وَعَنْ الْقَاضِي وُقُوفُ الِاسْتِدْلَالِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَعَلَى هذا لَا يَكُونُ الْقِيَاسُ فَاسِدَ الْوَضْعِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَجَوَابُهُ لِلطَّعْنِ في مُسْتَنِدِهِ أو مَنْعِ ظُهُورِهِ أو التَّأْوِيلِ أو الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ أو الْمُعَارَضَةِ بِنَصٍّ آخَرَ لِيَسْلَمَ الْقِيَاسُ أو يَتَبَيَّنَ أَنَّ هذا الْقِيَاسَ مِمَّا يَجِبُ تَرْجِيحُهُ على النَّصِّ بِوُجُوهِ التَّرْجِيحِ الْعَاشِرُ فَسَادُ الْوَضْعِ بِأَنْ لَا يَكُونَ الدَّلِيلُ على الْهَيْئَةِ الصَّالِحَةِ لِاعْتِبَارِهِ في تَرْتِيبِ الْحُكْمِ كَتَرْتِيبِ الْحُكْمِ من وَضْعٍ يَقْتَضِي ضِدَّهُ كَالضِّيقِ من التَّوَسُّعِ وَالتَّخْفِيفِ من التَّغْلِيظِ وَالْإِثْبَاتِ من النَّفْيِ كَقَوْلِهِمْ في النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ لَفْظٌ يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ النِّكَاحِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ كَلَفْظِ الْإِجَارَةِ فإن كَوْنَهُ يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ أَنْ يَنْعَقِدَ هو بِهِ لَا عَدَمُ الِانْعِقَادِ وَكُلُّ فَاسِدِ الْوَضْعِ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ وَلَا يَنْعَكِسُ وَمِنْهُمْ من جَعَلَهُمَا وَاحِدًا وَهِيَ طَرِيقَةُ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وقال ابن بَرْهَانٍ هُمَا سِيَّانِ من حَيْثُ الْمَعْنَى لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا وَقَالُوا فَسَادُ الْوَضْعِ هو أَنْ يُعَلِّقَ على الْعِلَّةِ ضِدَّ ما يَقْتَضِيهِ وَفَسَادُ الِاعْتِبَارِ هو أَنْ يُعَلِّقَ على الْعِلَّةِ خِلَافَ ما يَقْتَضِيهِ انْتَهَى وَقِيلَ فَسَادُ الْوَضْعِ هو إظْهَارُ كَوْنِ الْوَصْفِ مُلَائِمًا لِنَقِيضِ الْحُكْمِ بِالْإِجْمَاعِ مع اتِّحَادِ الْجِهَةِ وَمِنْهُ الِاحْتِرَازُ عن تَعَدُّدِ الْجِهَاتِ لِتَنَزُّلِهَا مَنْزِلَةَ تَعَدُّدِ الْأَوْصَافِ وَعَنْ تَرْكِ حُكْمِ الْعِلَّةِ بِمُجَرَّدِ مُلَاءَمَةِ الْوَصْفِ لِلنَّقِيضِ دُونَ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ إذْ هو عِنْدَ فَرْضِ اتِّحَادِ الْجِهَةِ خُرُوجٌ عن فَسَادِ الْوَضْعِ إلَى الْقَدْحِ في الْمُنَاسَبَةِ وَرُبَّمَا عَبَّرَ عنه الْقَاضِي بِتَعْلِيقِ ضِدِّ الْمُقْتَضِي وقال إلْكِيَا هو تَقَدُّمُ الْعِلَّةِ على ما يَجِبُ تَأَخُّرُهَا عنه كَالْجَمْعِ في مَحَلٍّ فَرَّقَ الشَّرْعُ أو على الْعَكْسِ كما يُقَالُ لِلْحَنَفِيَّةِ جَمَعْتُمْ في مَحَلٍّ فَرَّقَ الشَّرْعُ إذْ قِسْتُمْ النَّفَقَةَ على السُّكْنَى في وُجُوبِهَا لِلْمَبْتُوتَةِ مع قَوْله تَعَالَى أَسْكِنُوهُنَّ من حَيْثُ سَكَنْتُمْ من وُجْدِكُمْ مُطْلَقًا وَقَوْلُهُ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتُ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَفَرَّقَ وَجَمَعْتُمْ وقد عَدَّ الْقَاضِي هذا الِاعْتِرَاضَ من الْقَطْعِيَّاتِ وقال أبو زَيْدٍ هو يَجْرِي من
____________________
(4/280)
الشَّهَادَةِ مَجْرَى فَسَادِ الْأَدَاءِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَيُمْكِنُ إيرَادُهُ على الطُّرُودِ وَيَضْطَرُّ بِهِ الْمُعَلِّلُ إلَى إظْهَارِ التَّأْثِيرِ وإذا ظَهَرَ التَّأْثِيرُ بَطَلَ السُّؤَالُ وَهَذَا طَرِيقٌ سَلَكَهُ كَثِيرٌ من أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَوْرَدَهُ كَثِيرٌ من الْأُصُولِيِّينَ وَيَرِدُ عِنْدَهُ اخْتِلَافُ مَوْضُوعِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ مَبْنِيًّا على التَّخْفِيفِ كَالتَّيَمُّمِ وَالْمَسْحِ على الْخُفِّ وَيَكُونُ الْفَرْعُ مَبْنِيًّا على التَّغْلِيظِ كَوُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَيَرُومُ الْقَائِسُ أَنْ يُثْبِتَ في الْفَرْعِ حُكْمًا مُخَفَّفًا وقد بَانَ من اخْتِلَافِ مَوْضُوعِ الْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ مِمَّا ذَكَرْنَا وهو مِثْلُ النَّقْضِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَفِيدُ بِهِ طَرْدَهُ بَعْدَ صِحَّةِ عِلَّتِهِ كَالشَّهَادَةِ إنَّمَا يَشْتَغِلُ بِتَعْدِيلِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ صِحَّةِ الْأَدَاءِ وهو أَقْوَى من النَّقْضِ لِأَنَّ الْوَضْعَ إذَا فَسَدَ لم يَبْقَ إلَّا الِانْتِقَالُ وَالنَّقْضُ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عنه قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَذَكَرَ أبو زَيْدٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ هذا السُّؤَالَ لَا يَرِدُ إلَّا على الطَّرْدِ وَالطَّرْدُ ليس بِحُجَّةٍ وَأَمَّا الْعِلَّةُ التي ظَهَرَ تَأْثِيرُهَا فَلَا يَرِدُ هذا السُّؤَالُ وَنَحْنُ نَقُولُ نعم وَإِنْ كان الطَّرْدُ ليس بِحُجَّةٍ وَإِظْهَارُ التَّأْثِيرِ لَا بُدَّ منه وَلَكِنَّ السُّؤَالَ يَبْقَى وهو أَنْ يَقُولَ السَّائِلُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ على صِحَّةِ مِثْلِ هذه الْعِلَّةِ أو يَقُولَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَظْهَرَ له تَأْثِيرٌ فَلَا بُدَّ في الْجَوَابِ من نَقْلِ الْكَلَامِ إلَى ذلك وَبِأَنَّ الدَّلِيلَ قد قام على صِحَّةِ هذه الْعِلَّةِ فَبِهَذَا الْوَجْهِ صَحَّحْنَا السُّؤَالَ وقال الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ فَسَادُ الْوَضْعِ عِبَارَةٌ عن كَوْنِ الدَّلِيلِ دَالًّا على مَحَلِّ النِّزَاعِ وهو مَقْبُولٌ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَمَنَعَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ إذْ لَا تَوَجُّهَ له لِكَوْنِهِ خَارِجًا عن الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ ما ذَكَرْنَاهُ من تَغَايُرِ فَسَادِ الْوَضْعِ وَفَسَادِ الِاعْتِبَارِ وَأَنَّ الْأَوَّلَ بَيَانُ مُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ لِنَقِيضِ الْحُكْمِ وَالثَّانِي اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ على مُنَاقَضَةِ النَّصِّ أو الْإِجْمَاعِ فَهُوَ أَعَمُّ وهو اصْطِلَاحُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ ذَكَرَهُ ابن الْمُنِيرِ ثُمَّ قال وَعِنْدِي أَنَّهُمَا ليس بِاعْتِرَاضَيْنِ زَائِدَيْنِ فإن الْمُنَاسَبَةَ لِلنَّقِيضِ إنْ كان الْمُعْتَرِضُ رَدَّ الِاسْتِشْهَادَ إلَى أَصْلِ الْمُسْتَدِلِّ فَهُوَ قَلْبٌ وَإِنْ رَدَّهُ لِأَصْلٍ آخَرَ فَإِنْ كانت جِهَتَا الْمُنَاسَبَةِ لِلنَّقِيضِ مُخْتَلِفَيْنِ فَهُوَ مُعَارَضَةٌ وَإِنْ اتَّحَدَتْ الْجِهَةُ فَهُوَ قَدْحٌ في الْمُنَاسَبَةِ وَإِنْ لم يَرُدَّ الْمُعْتَرِضَ إلَى أَصْلٍ وَالْجِهَةُ مُخْتَلِفَةٌ فَهُوَ مُعَارَضَةٌ لِمَعَانِي الْأُصُولِ بِالْمُرْسَلَاتِ فَلَا تُسْمَعُ وَأَمَّا فَسَادُ الِاعْتِبَارِ فَحَاصِلُهُ مُعَارَضَةٌ فَإِنْ كان التَّوْقِيفُ أَقْوَى
____________________
(4/281)
أو تَسَاوَيَا تَمَّتْ الْمُعَارَضَةُ أو أَضْعَفَ قُدِّمَ على طَرِيقَةِ الْإِمَامِ الثَّانِي نَقْلُ خِلَافٍ في اسْتِعْمَالِ السُّؤَالِ على مُوَافَقَةِ النَّصِّ هل يَكُونُ فَسَادَ وَضْعٍ أَمْ لَا قال ابن الْمُنِيرِ فَلَا حَاصِلَ عِنْدِي لِهَذَا الْخِلَافِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْجَمْعُ بين دَلِيلَيْنِ إلَّا على تَفْسِيرٍ وَاحِدٍ وهو أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ أَحَدَهُمَا أَمَّا إذَا سَبَقَ إلَى الْفِكْرِ الظَّنُّ بِأَحَدِهِمَا اسْتَحَالَ أَنْ تَظُنَّ بِالْآخَرِ ظَنًّا آخَرَ مُجَامِعًا لِلْأُولَى انْتَهَى وَهَذَا خِلَافُ طَرِيقَةِ الناس الْمَشْهُورَةِ وَأُوِّلَ إطْلَاقُ الْعُلَمَاءِ بِاجْتِمَاعِ الْعِلَّةِ على أَنَّهُ إذَا انْفَرَدَ وَاحِدٌ كَفَى في حُصُولِ الْغَرَضِ الثَّالِثُ قد يُورَدُ هذا السُّؤَالُ على قَوَاعِدِ أَصْحَابِنَا في قِيَاسِ الْعَامِدِ على النَّاسِي في تَرْكِ التَّسْمِيَةِ وفي جَبْرِ الصَّلَاةِ بِالسُّجُودِ وفي قَضَائِهَا عِنْدَ التَّرْكِ وفي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ في الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَغَيْرِ ذلك فَيُقَالُ كَيْفَ يَصِحُّ الْإِلْحَاقُ مع أَنَّ الشَّرْعَ عَذَرَ النَّاسِيَ وَرَفَعَ التَّكْلِيفَ عنه ولم يَعْذِرْ الْعَامِدَ فَلَا يَلْزَمُ من إعْذَارِ النَّاسِي إعْذَارُ الْعَامِدِ وقد كَثُرَ التَّشْنِيعُ عَلَيْنَا في هذا وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْعَمْدَ يُفَارِقُ النِّسْيَانَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِثْمِ وَعَدَمِهِ فَأَمَّا ما يَتَعَلَّقُ بِالصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ أو التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْإِيجَابِ وَعَدَمِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا بِدَلِيلِ أَنَّ من تَرَكَ الطَّهَارَةَ عَمْدًا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ وَكَذَلِكَ نَاسِيًا وَكَذَلِكَ تَرْكُ النِّيَّةِ في الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا من الْمَأْمُورَاتِ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا في الْمَنْهِيَّاتِ وقد يُورِدُ أَيْضًا قِيَاسَ الْمُخْطِئِ على الْعَامِدِ في إيجَابِ كَفَّارَةِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهِ وَجَوَابُهُ أَنَّ فيه تَنْبِيهًا على وُجُوبِهَا فِيمَا دُونَ ذلك كَقَوْلِهِ تَعَالَى فإذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ الْآيَةَ فذكر الْجَلْدَ في إحْصَانِهِنَّ الذي هو أَعْلَى لِيُبَيِّنَ أَنَّ ما دُونَ ذلك يَكْفِي فيه الْجَلْدُ وَقِيلَ فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ التَّنْصِيصَ على الْعَمْدِ لِيُنَبِّهَ على قَتْلِ الْآدَمِيِّ عَمْدًا في إيجَابِ الْكَفَّارَةِ وَالتَّنْصِيصَ في قَتْلِ الْآدَمِيِّ على الْخَطَأِ لِيُنَبِّهَ على خَطَأِ الْعَمْدِ والثاني أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ الْعَمْدَ لِأَنَّهُ رَتَّبَ عليه الْعُقُوبَةَ في الْعَوْدِ فقال وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ منه وَلَا يُمْكِنُ الْعُقُوبَةُ إلَّا في حَقِّ الْعَامِدِ الْحَادِيَ عَشَرَ الْمَنْعُ قال ابن السَّمْعَانِيِّ الْمُمَانَعَةُ أَرْفَعُ سُؤَالٍ على الْعِلَلِ وَقِيلَ إنَّهَا أَسَاسُ الْمُنَاظَرَةِ وَبِهِ يَتَبَيَّنُ الْعُوَارُ انْتَهَى وَيَتَوَجَّهُ على الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ
____________________
(4/282)
أَمَّا الْأَصْلُ فَمِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا مَنْعُ كَوْنِ الْأَصْلِ مُعَلَّلًا بِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَنْقَسِمُ بِالِاتِّفَاقِ إلَى ما يُعَلَّلُ وَإِلَى ما لَا يُعَلَّلُ فَمَنْ ادَّعَى تَعْلِيلَ شَيْءٍ كُلِّفَ بَيَانَهُ وقد اُخْتُلِفَ في هذا فقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّمَا يَتَّجِهُ على من لم يذكر تَحْرِيرًا فإن الْفَرْعَ في الْعِلَّةِ الْمُجَرَّدَةِ يَرْتَبِطُ بِالْأَصْلِ بِمَعْنَى الْأَصْلِ قال إلْكِيَا هذا الِاعْتِرَاضُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُعَلِّلَ إذَا أتى بِالْعِلَّةِ لم يَكُنْ لِهَذَا السُّؤَالِ مَعْنًى وَقَبْلَ الْعِلَّةِ لَا يَكُونُ آتِيًا بِالدَّلِيلِ إلَّا أَنْ يَبْقَى تَقْسِيمًا وَسَبْرًا وقال الْمُقْتَرِحُ التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَنْعَ كَوْنُ الْأَصْلِ مُعَلَّلًا لَا يَرِدُ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُحَرِّرَ الْمُسْتَدِلُّ الْعِبَارَةَ أَمْ لَا فَإِنْ لم يُحَرِّرْهَا لم يُرِدْ عليه الْمَنْعُ لِأَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا يَرِدُ على مَذْكُورٍ وهو لم يذكر شيئا بَلْ قَوْلُهُ أَجْمَعْنَا على تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَلْيُحَرَّمْ النَّبِيذُ فَهَذَا ليس بِدَلِيلٍ فَلَا يَتَّجِهُ مَنْعُ كَوْنِ الْأَصْلِ مُعَلِّلًا بَلْ لَا يُخَاطِبُ حتى يُصَرِّحَ بِالْجَامِعِ وَإِنْ حَرَّرَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُسَلَّمَ له كَوْنُ ما ادَّعَاهُ عِلَّةً أو لَا فَإِنْ سَلَّمَ لَزِمَ من ذلك كَوْنُ الْأَصْلِ مُعَلِّلًا وَإِنْ لم يُسَلِّمْ لم يَرُدَّ عليه فَيَرُدُّ عليه مَنْعُ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً لَا مَنْعُ كَوْنِ الْأَصْلِ مُعَلَّلًا وقال ابن الْمُنِيرِ في مَنْعِ كَوْنِ الْأَصْلِ مُعَلَّلًا هل يُقْبَلُ أَمْ لَا مَبْنِيٌّ على قَاعِدَةٍ مُخْتَلَفٍ فيها وَهِيَ أَنَّا هل نَحْتَاجُ في كل صُورَةٍ إلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ على أَنَّ الْحُكْمَ فيها مُعَلَّلٌ أو يُكْتَفَى بِالدَّلِيلِ الْعَامِّ على أَنَّ الْأَحْكَامَ مُعَلَّلَةٌ وَالْحَقُّ هو الثَّانِي لِاسْتِقْرَارِ الْإِجْمَاعِ على أَنَّ الْأَصْلَ في الْأَحْكَامِ التَّعْلِيلُ فَالْمُطَالَبَةُ بِكَوْنِ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا على هذا الْقَوْلِ كَالْمُطَالَبَةِ بِكَوْنِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ حُجَّةً فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ هِيَ الْمُسْقِطَةُ لِهَذَا الِاعْتِرَاضِ لَا ما ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَنَّ الْمُسْقِطَةَ له الْكِفَايَةُ عنه بِتَصْحِيحِ الْعِلَّةِ الْمُعَيِّنَةِ فَمَتَى صَحَّتْ لَزِمَ كَوْنُ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا ضَرُورَةَ لُزُومِ الْمُطْلَقِ الْمُقَيَّدَ لِأَنَّا نَقُولُ الْمُصَحِّحُ لِكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً مَثَلًا الْمُنَاسَبَةُ وَالْجَرَيَانُ لَا بِالذَّاتِ وَلَكِنْ بِالشَّرْعِ وَلَا يَلْزَمُ من الْمُنَاسَبَةِ وَالْجَرَيَانِ كَوْنُ الْمُنَاسَبَةِ عِلَّةً فَلَا يَلْزَمُ حِينَئِذٍ كَوْنُ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا لَوْلَا قِيَامُ الْإِجْمَاعِ على تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ بِالْأَوْصَافِ الْمُقَارِنَةِ لها بِشَرْطِهَا الثَّانِي مَنْعُ ما يَدَّعِيهِ الْخَصْمُ أَنَّهُ عِلَّةُ كَوْنِهِ عِلَّةً بَعْدَ تَسْلِيمِ التَّعْلِيلِ وَيُسَمَّى الْمُطَالَبَةُ أَيْ بِتَصْحِيحِ الْعِلَّةِ وإذا أُطْلِقَتْ الْمُطَالَبَةُ في عُرْفِ الْجَدَلِيِّينَ فَمُرَادُهُمْ هذا وَحَيْثُ أُرِيدَ غَيْرُهَا ذُكِرَتْ مُقَيَّدَةً فَيُقَالُ الْمُطَالَبَةُ بِوُجُودِ الْوَصْفِ أو ثُبُوتِ الْحُكْمِ في الْأَصْلِ وَنَحْوُهُ وَوَجْهُ الِاعْتِرَاضِ بِهِ أَنَّ من الناس من يَتَمَسَّكُ بِمَا لَا يَصْلُحُ كَوْنُهُ عِلَّةً فَيَجْعَلُهُ كَالتَّمَسُّكِ بِالطَّرْدِ أو بِالنَّفْيِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَهِيَ عَائِدَةٌ إلَى مَحْضِ
____________________
(4/283)
الْفِقْهِ وَبِهَا يَتَبَيَّنُ الْمُحَقِّقُ من الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ وقال الْآمِدِيُّ هو أَعْظَمُ الْأَسْئِلَةِ الْوَارِدَةِ على الْقِيَاسِ لِعُمُومِ وُرُودِهِ على كل وَصْفٍ وَاتِّسَاعِ طُرُقِ إثْبَاتِهِ وَتَشَعُّبِهَا وقد اُخْتُلِفَ فيه وَالْمُخْتَارُ قَبُولُهُ فإن الْحُكْمَ لَا بُدَّ له من جَامِعٍ هو عِلَّةٌ وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِأَنَّهُ لو قُبِلَ لَاسْتُدِلَّ عليه بِمَا يُمْكِنُ مَنْعُ الْمُنَاسَبَةِ فيه وَيَتَسَلْسَلُ وَبِأَنَّا لو لم نَجِدْ إلَّا هذه الْعِلَّةَ فَعَلَى الْمُعْتَرِضِ الْقَدْحُ فيها وَبِأَنَّ الِاقْتِرَانَ دَلِيلُ الْعِلِّيَّةِ وَأُجِيبَ عن الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ إذَا ذُكِرَ ما يُفِيدُ ظَنَّ التَّعْلِيلِ وَجَبَ التَّسْلِيمُ وَلَا يَتَسَلْسَلُ وَعَنْ الثَّانِي الطَّعْنُ بِالِاسْتِقْرَاءِ وَعَنْ الثَّالِثِ مَنْعُ الِاكْتِفَاءِ بِالِاقْتِرَانِ بَلْ لَا بُدَّ من الْمُنَاسَبَةِ تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ أَطْلَقَ الْجَدَلِيُّونَ هذا الْمَنْعَ وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ كما قَالَهُ ابن الْمُنِيرِ بِمَا إذَا لم تَكُنْ الْعِلَّةُ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَإِنْ كانت وَجَوَّزْنَا بها فَمَنَعَ الْمُعْتَرِضُ وُجُودَ الْحُكْمِ الْمَنْصُوبِ عِلَّةً اتَّجَهَ في قَبُولِ الِاسْتِدْلَالِ عليه الْخِلَافُ الْآتِي في الِاسْتِدْلَالِ على حُكْمِ الْأَصْلِ إذَا مَنَعَهُ وَالثَّانِي أَنَّ الْمُعْتَرِضَ لَا يُمَكَّنُ من تَقْرِيرِ الْعِلَّةِ بِالِاسْتِدْلَالِ على نَقِيضِ ما ادَّعَاهُ الْمُسْتَدِلُّ وَلَا يَجْرِي فيه الْخِلَافُ السَّابِقُ في الْمَنْعِ وَالْفَرْقُ أَنَّ صِيغَةَ الْمُطَالَبَةِ بِتَصْحِيحِ الْوَصْفِ لَا تَتَضَمَّنُ إنْكَارًا وَلَا تَسْلِيمًا بِخِلَافِ الْمَنْعِ فإن الْمَانِعَ جَازِمٌ يَنْفِي ما ادَّعَاهُ الْمُسْتَدِلُّ فَكَانَ لِتَقْرِيرِهِ وَجْهٌ نعم لو أَوْرَدَ هذا السُّؤَالَ بِصِيغَةِ الْمَنْعِ كَقَوْلِهِ لَا أُسَلِّمُ أَنَّ هذا الْوَصْفَ عِلَّةٌ جاء الْخِلَافُ فَيُمْكِنُ من التَّقْرِيرِ على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وهو أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِقْهٌ وَالْقِيَاسُ أَنَّ الْمَنْعَ وَالْمُطَالَبَةَ مُتَسَاوِيَانِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لِكُلِّ مِنْهُمَا الْتِمَاسٌ فما جَرَى في أَحَدِهِمَا جَرَى في الْآخَرِ
____________________
(4/284)
فَصْلٌ قال الْغَزَالِيُّ مَجْمُوعُ ما رَأَيْت أَهْلَ الزَّمَانِ يَقُولُونَ عليه على دَفْعِ هذا السُّؤَالِ سَبْعَةُ مَسَالِكَ الْأَوَّلُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ الْقِيَاسُ رَدُّ فَرْعٍ مُنَازَعٍ فيه إلَى أَصْلٍ مُتَّفَقٍ عليه بِجَامِعٍ وقد حَصَلَ قُلْنَا لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَغْلِبَ الْجَامِعُ ظَنَّ صِحَّتِهِ إمَّا بِإِخَالَةٍ أو شِبْهٍ مُعْتَبَرٍ ولم يُوجَدْ الثَّانِي قَوْلُهُمْ عَجْزُ الْمُعْتَرِضِ عن إبْطَالِ الْعِلَّةِ دَلِيلٌ على صِحَّتِهَا وهو بَاطِلٌ لِلُزُومِهِ صِحَّةَ كل دَلِيلٍ وُجِدَ فيه عَجْزُ الْمُعْتَرِضِ الثَّالِثُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ إنِّي بَحَثْتُ وَسَبَرْتُ فلم أَجِدْ غير هذا الْوَصْفِ عِلَّةً قُلْنَا ذلك لَا يُوجِبُ عِلْمًا وَلَا ظَنًّا بِالْعِلِّيَّةِ الرَّابِعُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ لو قُبِلَ سُؤَالُ الْمُطَالَبَةِ لَتَسَلْسَلَ فإنه ما من دَلِيلٍ يَذْكُرُهُ الْمُسْتَدِلُّ إلَّا وَيَتَوَجَّهُ عليه الْمُطَالَبَةُ قُلْنَا إذَا بَيَّنَ أَنَّ أَصْلَ قِيَاسِهِ مُجْمَعٌ عليه وَأَنَّ عِلَّتَهُ ثَابِتَةٌ بِطَرِيقٍ مُعْتَبَرٍ انْقَطَعَتْ عنه الْمُطَالَبَةُ أَمَّا ما دَامَ مُتَحَكِّمًا بِالدَّعْوَى فَلَا الْخَامِسُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حَاصِلُ هذا السُّؤَالِ يَرْجِعُ إلَى مُنَازَعَةٍ في عِلَّةِ الْأَصْلِ وَعِلَّةُ الْأَصْلِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُتَنَازَعًا فيها حتى يُتَصَوَّرَ الْخِلَافُ في الْفَرْعِ قُلْنَا لَسْنَا نُطَالِبُك بِعِلَّةٍ مُتَّفَقٍ عليها بَلْ بِأَنْ تَنْصِبَ دَلِيلًا على مُدَّعَاك وَلَا تَقْتَصِرَ على التَّحَكُّمِ السَّادِسُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ الذي ذَكَرْته شَبَهٌ وَالشَّبَهُ حُجَّةٌ قُلْنَا فَعَلَيْك بَيَانُ الشَّبَهِ السَّابِعُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ الدَّلِيلُ على عِلِّيَّةِ الْجَامِعِ اطِّرَادُهَا وَسَلَامَتُهَا عن النَّقْضِ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الطَّرْدَ حُجَّةٌ انْتَهَى وَإِنَّمَا الطَّرِيقُ في جَوَابِهِ الِاسْتِدْلَال على تَصْحِيحِ الْعِلَّةِ بِطَرِيقٍ من طُرُقِهَا الثَّالِثُ مَنْعُ الْحُكْمِ في الْأَصْلِ كَقَوْلِنَا في إزَالَةِ النَّجَاسَةِ مَائِعٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَلَا يُزِيلُ حُكْمَ النَّجَاسَةِ كَالدُّهْنِ فيقول لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدُّهْنَ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ بَلْ يُزِيلُهَا عِنْدِي وَاخْتُلِفَ في أَنَّهُ انْقِطَاعٌ لِلْمُسْتَدِلِّ على مَذَاهِبَ
____________________
(4/285)
أَحَدُهَا أَنَّهُ انْقِطَاعٌ لِأَنَّهُ إنْ شُرِعَ في الدَّلَالَةِ على حُكْمِ الْأَصْلِ كان انْتِقَالًا لِمَسْأَلَةٍ أُخْرَى وَإِنْ لم يُشْرَعْ لم يَتِمَّ دَلِيلُهُ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ إذَا دَلَّ على مَحَلِّ الْمَنْعِ جَزَمَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ وَالْبَرَوِيُّ وقال ابن بَرْهَانٍ إنَّهُ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ بين النُّظَّارِ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ تَتْمِيمٌ لِمَقْصُودِهِ لَا رُجُوعَ عنه بَلْ هو تَثْبِيتُ رُكْنِ قِيَاسِهِ فَهُوَ حُكْمُ الْأَصْلِ كما يَبْحَثُ في تَحْقِيقِ عِلَّةِ الْأَصْلِ وَبِالْقِيَاسِ على مَنْعِ سَائِرِ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ وَالثَّالِثُ إنْ كان الْمَنْعُ جَلِيًّا فَهُوَ انْقِطَاعٌ أو خَفِيًّا أَيْ يَخْفَى على أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ فَلَا لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ وهو اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وَنَقَلَ ابن بَرْهَانٍ عنه في الْمَنْعِ الظَّاهِرُ أَنْ يَتَقَدَّمَ منه في صَدْرِ الِاسْتِدْلَالِ هذه الشَّرِيطَةُ بِأَنْ يَقُولَ إنْ سَلَّمْت وَإِلَّا نَقَلْت الْكَلَامَ إلَيْهِ فَلَا يَنْقَطِعُ وَالرَّابِعُ يَتَّبِعُ عُرْفَ ذلك الْبَلَدِ الذي فيه الْمُنَاظَرَةُ فإن الْجَدَلَ مَرَاسِيمُ فَيَجِبُ اتِّبَاعُ الْعُرْفِ وهو اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ وَالْخَامِسُ إنْ لم يَكُنْ له مُدْرَكٌ غَيْرُهُ جَازَ الْقِيَاسُ وَإِلَّا إنْ كان الْمَنْعُ خَفِيًّا لم يَنْقَطِعْ وَإِلَّا انْقَطَعَ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ في غَايَةِ الْأَمَلِ ثُمَّ إذَا قُلْنَا لَا يَنْقَطِعُ فَهَلْ يَلْزَمُ إقَامَةُ الدَّلِيلِ على حُكْمِ الْأَصْلِ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ لَا فإنه يقول إنَّمَا قِسْتُ على أَصْلِي وهو بَعِيدٌ لِأَنَّهُ إنْ قَصَدَ إثْبَاتَهُ لِنَفْسِهِ فَلَا وَجْهَ لِلْمُنَاظَرَةِ وَإِنْ قَصَدَ إثْبَاتَهُ على خَصْمِهِ فَلَا يَسْتَقِيمُ مَنْعُ مَنْعِهِ على حُكْمِ الْأَصْلِ وَوَهَمَ ابن الْحَاجِبِ فَحَكَى عن الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى دَلَالَةٍ على مَحَلِّ الْمَنْعِ وَالْمَوْجُودُ في الْمُلَخَّصِ وَغَيْرِهِ لِلشَّيْخِ سَمَاعُ الْمَنْعِ ثُمَّ إذَا قُلْنَا يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ فَإِنْ اسْتَدَلَّ بِنَصٍّ أو إجْمَاعٍ فَذَاكَ أو بِقِيَاسٍ فَإِنْ كان بِعَيْنِ الْجَامِعِ الْأَوَّلِ فَقِيلَ لَا يَصِيرُ مُنْقَطِعًا لِأَنَّهُ طُولٌ من غَيْرِ فَائِدَةٍ وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ لِأَنَّهُ قد يَكُونُ قَصْدُهُ إظْهَارَ فِقْهِ الْمَسَائِلِ وَالتَّدْرِيبَ فيها وَتَكْثِيرَ الْأُصُولِ الدَّالَّةِ على اعْتِبَارِ الْوَصْفِ وَإِنْ كان بِغَيْرِهِ فقال الْبَرَوِيُّ يَصِيرُ مُنْقَطِعًا لِأَنَّهُ إنْ حَقَّقَهُ في الْفَرْعِ فَقَدْ انْتَقَلَ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى وَإِنْ لم يُحَقِّقْهُ فَقَدْ اعْتَرَفَ بِالْفَرْقِ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَذَهَبَ أبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ وَجَمَاعَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ لِأَنَّ أَكْثَرَ ما فيه أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِأَنَّ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ قد اجْتَمَعَ فيه عِلَّتَانِ وَلَا امْتِنَاعَ فيه نعم يَلْزَمُهُ إثْبَاتُ كل وَاحِدَةٍ من الْعِلَّتَيْنِ فَإِنْ أَثْبَتَ ذلك تَمَّ له مَقْصُودُهُ وَإِنْ عَجَزَ
____________________
(4/286)
انْقَطَعَ حِينَئِذٍ ثُمَّ إذَا قُلْنَا لَا يُعَدُّ مُنْقَطِعًا وَلَهُ أَنْ يُقِيمَ الدَّلِيلَ فإذا أَقَامَهُ فَاخْتَلَفُوا في انْقِطَاعِ الْمُعْتَرِضِ فَقِيلَ يَنْقَطِعُ حتى يُسَوِّغَ له بَعْدَ ذلك الْكَلَامَ لِأَنَّهُ يُبَيِّنُ فَسَادَ الْمَنْعِ وَحَسْمًا لِبَابِ التَّطْوِيلِ وَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ ما قَالَهُ ابن بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ إنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ فإن قَبُولَ الْمَنْعِ إنَّمَا كان يَدُلُّ الْمُسْتَدِلَّ الدَّلِيلَ على مَحَلِّ الْمَنْعِ فَكَيْفَ يَقْنَعُ منه بِمَا يَدَّعِيهِ دَلِيلًا فَيَجِبُ تَمْكِينُ الْخَصْمِ من الْكَلَامِ عليه فَإِنْ عَجَزَ فَعِنْدَ ذلك يَنْقَطِعُ قال فَأَمَّا إذَا أَقَامَ الْمُسْتَدِلُّ الدَّلِيلَ على إثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمَمْنُوعِ في الْأَصْلِ فَعَدَلَ الْمُعْتَرِضُ عنه وَأَخَذَ يَعْتَرِضُ ثَانِيًا على الدَّلِيلِ الْمَنْصُوبِ على الْحُكْمِ في الْفَرْعِ فَهَاهُنَا أَجْمَعُوا على أَنَّهُ يُعَدُّ مُنْقَطِعًا تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ هذا الْمَنْعُ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا إذَا قَاسَ الْمُسْتَدِلُّ على مَسْأَلَةٍ خِلَافِيَّةٍ فإنه لو قَاسَ على مَسْأَلَةٍ إجْمَاعِيَّةٍ لم يُمْكِنْ الْمُعْتَرِضَ مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ على خِلَافِ الْإِجْمَاعِ ثُمَّ ليس كُلُّ خِلَافِيَّةٍ يَتَوَجَّهُ عليها هذا السُّؤَالُ بَلْ يَخْتَصُّ بِكُلِّ مَوْضِعٍ لَا يَخْرُجُ الْمُعْتَرِضُ بِالْمَنْعِ فيه عن مَذْهَبِ إمَامِهِ لِأَنَّ طَرِيقَةَ الْجَدَلِيِّينَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الْمُتَنَاظِرِينَ لَا بُدَّ أَنْ يَنْتَمِيَ إلَى مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ حَذَرًا من الِانْتِشَارِ وفي الْمَحْصُولِ إنْ كان انْتِفَاؤُهُ مَذْهَبًا لِلْمُعَلِّلِ وَالْمُعْتَرِضِ كان مُتَوَجِّهًا وَكَذَا إنْ كان مَذْهَبَ الْمُعَلِّلِ وَحْدَهُ وَإِنْ كان مَذْهَبًا لِلْمُعْتَرِضِ وَحْدَهُ لم يُقْبَلْ وَقَسَّمَ ابن بَرْهَانٍ الْمَنْعَ الصَّحِيحَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ صَاحِبِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَلَهُ في الْجَوَابِ طُرُقٌ أَحَدُهَا أَنْ يُفَسِّرَ كَلَامَهُ بِمَا يَكُونُ مُسَلَّمًا عِنْدَ الْخَصْمِ كَاسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيِّ في الْإِجَارَةِ تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ وَأَصْلُهُ عَقْدُ النِّكَاحِ فيقول الشَّافِعِيُّ الْحُكْمُ في الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ فإن عِنْدِي النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ بَلْ يَنْتَهِي وَلَيْسَ كُلُّ ما يَنْتَهِي يَبْطُلُ بِدَلِيلِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ إذَا انْقَضَتْ مُدَّتُهُ يَنْتَهِي وَلَا يَبْطُلُ فَإِنْ قال الْمُسْتَدِلُّ عَنَيْتُ بِقَوْلِي فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ أَيْ يَرْتَفِعَ وَلَا يَبْقَى قَبْلُ الثَّانِي أَنْ يُبَيِّنَ مَوْضِعًا مُتَّفَقًا عليه كَاسْتِدْلَالِنَا في فَرْضِيَّةِ التَّرْتِيبِ في الْوُضُوءِ عِبَادَةٌ مُشْتَمِلَةٌ على أَفْعَالٍ مُتَغَايِرَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ فيها التَّرْتِيبُ كَالصَّلَاةِ فيقول
____________________
(4/287)
الْحَنَفِيُّ الْحُكْمُ في الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ فإن التَّرْتِيبَ عِنْدِي في الصَّلَاةِ لَا يَجِبُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ في أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ يَأْتِي بها دَفْعَةً وَاحِدَةً بِلَا تَرْتِيبٍ فَطَرِيقُهُ أَنْ يَقُولَ أُبَيِّنُ مَوْضِعًا مُتَّفَقًا عليه من الصَّلَاةِ يَجِبُ فيه التَّرْتِيبُ فَأَقِيسُ عليه فَأَقُولُ أَجْمَعْنَا أَنَّهُ لو قَدَّمَ السُّجُودَ على الرُّكُوعِ لم يَجُزْ فَأَقِيسُ عليه الثَّالِثُ أَنْ يَنْقُلَ الْكَلَامَ إلَيْهِ كَاسْتِدْلَالِنَا في التَّعْفِيرِ من وُلُوغِ الْخِنْزِيرِ بِأَنَّ هذا حَيَوَانٌ نَجِسُ الْعَيْنِ فَيَجِبُ غَسْلُ الْإِنَاءِ من وُلُوغِهِ قِيَاسًا على الْكَلْبِ فيقول الْحَنَفِيُّ الْحُكْمُ في الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ فإن عِنْدِي لَا يَجِبُ التَّسْبِيعُ في غُسْلِ الْكَلْبِ وَجَوَابُهُ أَنْ يَنْتَقِلَ الْكَلَامُ إلَيْهِ وَيُبَيِّنَ أَنَّ هذا الْحُكْمَ في الْأَصْلِ مَنْصُوصٌ عليه الْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَذْهَبَهُ مُخَالِفٌ كَاسْتِدْلَالِنَا في الصَّرُورَةِ إذَا حَجَّ عن غَيْرِهِ كما إذَا أَطْلَقَ الْإِحْرَامَ فيقول الْحَنَفِيُّ الْحُكْمُ في الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ فإن عن أبي حَنِيفَةَ رِوَايَةً أَنَّهُ إذَا أَطْلَقَ لَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ لَا يَعْرِفَ الْمُعْتَرِضُ مَذْهَبَ صَاحِبِ الْمَقَالَةِ في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ كَاسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيَّةِ في الْمُشْرِكِ يُسْلِمُ على خَمْسٍ أَنَّ هذا جَمْعٌ مُحَرَّمٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَخَيَّرَ قِيَاسًا على ما إذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ تَحْتَ رَجُلَيْنِ فيقول الشَّافِعِيُّ أَمْنَعُ الْحُكْمَ في الْأَصْلِ فإنه لَا نَصَّ لِلشَّافِعِيِّ في إسْلَامِهَا عن زَوْجَيْنِ قال وَمِنْ الْمَنْعِ الْفَاسِدِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُعْتَرِضُ الْحُكْمَ على وَجْهٍ بَعِيدٍ لِلْأَصْحَابِ كَاسْتِدْلَالِنَا في جِلْدِ الْكَلْبِ لَا يُدْبَغُ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَلَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ على مَذْهَبِ أبي يُوسُفَ التَّنْبِيهُ الثَّانِي قال إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ حَقُّ السَّائِلِ أَنْ يَكُونَ مُنْكِرًا غير مُدَّعٍ وَلَيْسَ له أَنْ يَدُلَّ فإنه ليس على الْمُنْكِرِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ شَرْعًا وَعَلَى مِثْلِهِ بُنِيَتْ الْمُنَاظَرَةُ صَوْنًا لِلْمَقَامِ عن الِاخْتِلَاطِ قال وَيَجُوزُ لِلْمُسْتَدِلِّ الِانْتِقَالُ من حُكْمٍ إلَى آخَرَ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى فإن الْعِلَّةَ كَافِيَةٌ في إثْبَاتِ الْحُكْمِ نعم الِانْتِقَالُ من عِلَّةٍ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى فَسْخٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَصْلَحَةِ النَّظَرِ قال وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ ليس لِلْمَسْئُولِ أَنْ يَدُلَّ على النَّقْضِ فإن بِهِ يَنْتَقِلُ إلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى خَارِجَةٍ عن مَقْصُودِ السُّؤَالِ وَنُقِلَ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ أَنَّهُ جَوَّزَ ذلك لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ النَّقْضُ ثَبَتَ مَطْلُوبُهُ فَالِاخْتِيَارُ يَدُلُّ على أَنَّهُ خَارِجٌ عن مَصْلَحَةِ الْمُنَاظَرَةِ وَأَمَّا الْمَنْعُ في الْفَرْعِ فَلَا يَتَوَجَّهُ عليه إلَّا سُؤَالٌ وَاحِدٌ وهو مَنْعُ وُجُودِ عِلَّةِ
____________________
(4/288)
الْأَصْلِ فيه وَيُسَمَّى مَنْعَ الْوَصْفِ فإن التَّعْلِيلَ قد يَقَعُ بِوَصْفٍ مُخْتَلِفٍ فيه كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ في مَسْأَلَةِ الْإِيدَاعِ من الصَّبِيِّ إنَّهُ مُسَلَّطٌ على الِاسْتِهْلَاكِ فَيُمْنَعُ وقال ليس بِمُسَلَّطٍ إذْ الْإِيدَاعُ ليس بِتَسْلِيطٍ قال إلْكِيَا وَهَذَا غَيْرُ مَعْنَى الِاعْتِبَارِ لِأَنَّ مَعْنَى الِاعْتِبَارِ مُطَالَبَةٌ تَرْجِعُ إلَى الْأَصْلِ لَا إلَى الْفَرْعِ قال وَتَبْطُلُ بِهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْإِخَالَةِ وَإِيضَاحُ وَجْهِ الدَّلَالَةِ وهو من أَقْسَامِ الْمَنْعِ وَقِيلَ إنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ وُجُودِ التَّعْلِيلِ وما يُفْرَضُ قَبْلَهُ التَّعْلِيلُ فَلَيْسَ بِاعْتِرَاضٍ عليه قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَمِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الصَّحِيحَةِ طَلَبُ الْإِخَالَةِ وهو من أَهَمِّ الْأَسْئِلَةِ وَأَوْقَعِهَا في الْأَقْيِسَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَمَنْ ادَّعَى مَعْنًى فَعَلَيْهِ تَبْيِينُ مُنَاسَبَتِهِ لِلْحُكْمِ وَاقْتِضَائِهِ له فَإِنْ عَجَزَ عن ذلك انْقَطَعَ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ ليس هذا من الْأَسْئِلَةِ بَلْ حَقٌّ على الْمَسْئُولِ أَنْ يَبْدَأَ بِإِظْهَارِ الْإِخَالَةِ قبل الْمُطَالَبَةِ وَإِلَّا لم يَكُنْ آتِيًا بِصُورَةِ الْقِيَاسِ وَسُكُوتُهُ عنه اقْتِصَارٌ على بَعْضِ الْعِلَّةِ نعم لو ضَمَّ إلَى تَعْلِيلِهِ لَفْظًا يُشْعِرُ بِالْإِخَالَةِ كَفَاهُ ذلك فَإِنْ وَجَّهَ السَّائِلُ طَلَبًا كان قَاصِرًا عن دَرْكِ لَفْظِ التَّعْلِيلِ وقال ابن الْمُنِيرِ الْخِلَافُ في عَدِّ هذا من الِاعْتِرَاضَاتِ مَبْنِيٌّ على أَنَّهُ هل يَلْزَمُ الْمُسْتَدِلَّ بَيَانُ الْإِخَالَةِ قبل أَنْ يَسْأَلَهَا فَالْقَاضِي أَلْزَمَهُ ذلك ابْتِدَاءً فَسَقَطَ هذا السُّؤَالُ وَغَيْرُ الْقَاضِي قَنَعَ منه بِذِكْرِ الْمَعْنَى الْمُخْتَلِّ فَإِنْ لم يُقَرِّرْهَا تَوَجَّهَ عليه وَالْحَقُّ مع الْقَاضِي بَلْ لو شَرَعَ الْخَصْمُ في سُؤَالِهَا قبل بَيَانِهَا كان جَاهِلًا بِحَقِّهِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ طَرَدَ قَوْلَهُ فَأَلْزَمَ الْمُسْتَدِلَّ دَفْعَ الِاعْتِرَاضَاتِ الْمُتَوَقَّعَةِ وَنَحْنُ لَا نَخْتَارُ ذلك كما لَا يَلْزَمُ الْمُدَّعِي في الْخُصُومَةِ إذَا عَدَّلَ بَيِّنَتَهُ أَنْ تَتَعَرَّضَ لِنَفْيِ الْقَوَادِحِ الْمُتَوَقَّعَةِ إلَّا إذَا أتى الْخَصْمُ بِقَادِحٍ كان لِلْمُدَّعِي أَنْ يَدْفَعَهُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا انْتَهَى وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً تَتَضَمَّنُ تَسْلِيمَ تَحْقِيقِ الْوَصْفِ وَمُنَاسَبَتِهِ وَمَقْصُودُهُ اسْتِنْطَاقُ الْمَسْئُولِ في تَصْحِيحِ شَهَادَةِ الِاعْتِبَارِ بِمَا يَعْتَمِدُهُ من الْمَسَالِكِ الْمُتَقَدِّمَةِ في إثْبَاتِ الْعِلَّةِ لِيَعْتَرِضَ على كل مَسْلَكٍ منها بِمَا يَلِيقُ بِهِ وقد مَنَعَ قَوْمٌ صِحَّةَ الْجَمْعِ بين الْمُطَالَبَةِ وَالْمُمَانَعَةِ لِمَا فيها من مَنْعِ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمُمَانَعَةِ ضِمْنًا وَفِيهِ بُعْدٌ إذْ الْمُعْتَرِضُ مُطَالَبٌ هَادِمٌ غَيْرُ مُعْتَرِضٍ لِلْحُكْمِ بِإِثْبَاتٍ أو نَفْيٍ وَلِلسَّائِلِ أَنْ يَجْمَعَ الْمُنُوعَ فَيَمْنَعُ حُكْمَ الْأَصْلِ وَيَمْنَعُ الْوَصْفَ في الْفَرْعِ وفي الْأَصْلِ وَيَمْنَعُ كَوْنَ الْوَصْفِ عِلَّةً أو يَعْكِسُهُ فيقول لَا أُسَلِّمُ الْوَصْفَ في الْفَرْعِ وَلَا في الْأَصْلِ وَلَا الْحُكْمَ في الْأَصْلِ وَلِلْمَسْئُولِ دَفْعُهَا بِإِبْدَاءِ مَوْضِعٍ مُسَلَّمٍ في الْأَصْلِ أو بِإِظْهَارِ الْمُنَاسَبَةِ على شَرْطِهَا وَلَهُ النَّقْلُ إلَى الْأَصْلِ إذَا مَنَعَ أو افْتِتَاحُ الْكَلَامِ فيه ابْتِدَاءً إذَا
____________________
(4/289)
تَوَقَّعَ الْمَنْعَ الثَّانِيَ عَشَرَ التَّقْسِيمُ وهو كَوْنُ اللَّفْظِ مُتَرَدِّدًا بين أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا مَمْنُوعٌ وَالْآخَرُ مُسَلَّمٌ وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لَهُمَا غَيْرُ ظَاهِرٍ في أَحَدِهِمَا مِثْلُ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وهو تَثْبِيتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فَيَثْبُتُ له فيقول الْمُقْسِمُ السَّبَبُ هو مُطْلَقُ الْبَيْعِ أو الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ الذي لَا شَرْطَ فيه الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لِمَ قُلْت بِوُجُودِهِ قال الْآمِدِيُّ وَلَيْسَ من شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَمْنُوعًا وَالْآخَرُ مُسَلَّمًا بَلْ يَكُونَانِ مُسَلَّمَيْنِ لَكِنَّ الذي يَرِدُ على أَحَدِهِمَا غَيْرُ ما يَرِدُ على الْآخَرِ إذْ لو اتَّحَدَ ما يَرِدُ لم يَكُنْ لِلتَّقْسِيمِ مَعْنًى وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَوْنُهُمَا مَمْنُوعَيْنِ لِأَنَّ التَّقْسِيمَ لَا يُفِيدُ وَعَلَى هذا فَلَوْ أَرَادَ الْمُعْتَرِضُ تَصْحِيحَ تَقْسِيمِهِ اكْتَفَى بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ بِإِزَاءِ احْتِمَالَيْنِ من غَيْرِ تَكَلُّفِ بَيَانِ التَّسَاوِي في دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِمَا وَجَوَابُهُ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ له وَلَوْ عُرْفًا أو ظَاهِرًا وَلَوْ بِقَرِينَةٍ في الْمُرَادِ أو بين احْتِمَالًا لم يَتَعَرَّضْ له الْمُعْتَرِضُ الثَّالِثَ عَشَرَ اخْتِلَافُ الضَّابِطِ اخْتِلَاف الضَّابِط بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لِعَدَمِ الثِّقَةِ بِالْجَامِعِ كَقَوْلِهِ في شُهُودِ الْقِصَاصِ تَسَبَّبُوا لِلْقَتْلِ عَمْدًا فَلَزِمَهُمْ الْقِصَاصُ زَجْرًا لهم عن السَّبَبِ كَالْمُكْرَهِ فَالْمُشْتَرِكُ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إنَّمَا هِيَ الْحِكْمَةُ وَهِيَ الزَّجْرُ وَالضَّابِطُ في الْفَرْعِ الشَّهَادَةُ وفي الْأَصْلِ الْإِكْرَاهُ وَلَا يُمْكِنُ التَّعْدِيَةُ بِالْحِكْمَةِ وَحْدَهَا وَضَابِطُ الْفَرْعِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِضَابِطِ الْأَصْلِ في الْإِفْضَاءِ إلَى الْمَقْصُودِ وَأَنْ لَا يَكُونَ وَجَوَابُهُ بِأَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا من السَّبَبِ الْمَضْبُوطِ عُرْفًا أو يُبَيِّنَ الْمُسَاوَاةَ في الضَّابِطِ أو إفْضَاءَ الضَّابِطِ في الْفَرْعِ أَكْثَرُ الرَّابِعَ عَشَرَ اخْتِلَافُ حُكْمَيْ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ قِيلَ إنَّهُ قَادِحٌ لِأَنَّ شَرْطَ الْقِيَاسِ مُمَاثَلَةُ الْفَرْعِ الْأَصْلَ في عِلَّتِهِ وَحُكْمِهِ فإذا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ لم تَتَحَقَّقْ الْمُسَاوَاةُ وَقِيلَ لَا لِأَنَّ الْحُكْمَيْنِ وَإِنْ اخْتَلَفَ في الْخُصُوصِ فَقَدْ يَشْتَرِكَانِ في أَمْرٍ عَامٍّ وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ إثْبَاتَ ذلك الْعَامِّ وَالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا وَتَكُونُ الْعِلَّةُ تُنَاسِبُ ذلك الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ وهو كَإِثْبَاتِ الْوِلَايَةِ على الصَّغِيرَةِ في نِكَاحِهَا قِيَاسًا على الْوِلَايَةِ في مَالِهَا
____________________
(4/290)
الْخَامِسَ عَشَرَ الْمُعَارَضَةُ وَهِيَ من أَقْوَى الِاعْتِرَاضَاتِ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَقِيلَ هِيَ إلْزَامُ الْجَمْعِ بين شَيْئَيْنِ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا في الْحُكْمِ نَفْيًا أو إثْبَاتًا وَقِيلَ إلْزَامُ الْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ قَوْلًا قال بِنَظِيرِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُنَاقَضَةِ من حَيْثُ إنَّ كُلًّا نَقْضُ مُعَارَضَةٍ بِخِلَافِ الْعَكْسِ وَأَيْضًا فَالنَّقْضُ لَا يَكُونُ بِالدَّلِيلِ وَالْمُعَارَضَةُ بِالدَّلِيلِ على الدَّلِيلِ صَحِيحَةٌ قال وَهِيَ تَرْجِعُ إلَى الِاسْتِفْهَامِ قال وقد اخْتَلَفُوا فيها فَأَثْبَتَهَا أَكْثَرُ أَهْلِ النَّظَرِ وَزَعَمَ قَوْمٌ أنها لَيْسَتْ بِسُؤَالٍ صَحِيحٍ وَاخْتَلَفَ مَثْبُوتُهَا في الثَّابِتِ منها فَقِيلَ إنَّهَا تَصِحُّ مُعَارَضَةُ الدَّلَالَةِ بِالدَّلَالَةِ وَالْعِلَّةِ وَلَا تَجُوزُ مُعَارَضَةُ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى وهو اخْتِيَارُ أبي هَاشِمِ بن الْجُبَّائِيُّ وَحَكَاهُ أَصْحَابُهُ عن الْجُبَّائِيُّ وَوَجَدْنَا في كِتَابِهِ خِلَافَهُ وَذَكَرَ الْكَعْبِيُّ في جَدَلِهِ جَوَازَ مُعَارَضَةِ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ الْمُعَارَضَةُ إظْهَارُ عِلَّةٍ مُعَارِضَةٍ لِعِلَّةٍ أو لِعِلَلٍ في نَقِيضِ مُقْتَضَاهَا هذا أَصْلُ الْبَابِ وَلَا يَجْرِي إلَّا في الظَّنِّيَّاتِ ثُمَّ يُرَجَّحُ أَحَدُ الظَّنَّيْنِ على الْآخَرِ بِوَجْهٍ من وُجُوهِ التَّرْجِيحِ وَكَذَلِكَ الْمُعَارَضَةُ بَعْدَ الْعَجْزِ عن كل اعْتِرَاضٍ قَدَّمْنَاهُ فإن فَسَادَ الْوَضْعِ وَالْمَنْعِ لَا يَصْلُحُ على حِيَالِهِ اقْتِضَاءُ الْحُكْمِ حتى يُعَارَضَ بِهِ وَإِنَّمَا الْمُعَارَضَةُ حَيْثُ لو لم يَقْدِرْ لَاسْتَقَلَّتْ الْعِلَّةُ في نَفْسِهَا أو جِنْسِهَا بِاقْتِضَاءِ الْحُكْمِ لِوُجُودِ أَصْلِ الظَّنِّ الْمُعْتَبَرِ وَلَكِنَّ الْمُعَارِضَ مَنَعَ اعْتِبَارَهَا دُونَ تَرْجِيحٍ فَالْحَرْفُ الْمُعَارَضَةُ تُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا بُدَّ من زِيَادَةٍ على أَصْلِ الظَّنِّ الْمُعْتَبَرِ في هذا الْمَجَالِ على الْخُصُوصِ وَاحْتَجَّ أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ على عِلَّةِ صِحَّةِ الْحِجَاجِ بِالْمُعَارَضَةِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَهَا على الْكُفَّارِ فقال قُلْ لو كان معه آلِهَةٌ كما يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا يَعْنِي أَنَّ بُطْلَانَ الْوُصُولِ إلَى ذِي الْعَرْشِ عِلَّةُ عَجْزِهِمْ وَمَنْ صَحَّ عَجْزُهُ ثَبَتَ نَقْصُهُ وَاسْتَحَالَ وَصْفُهُ بِمَا وَصَفْتُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ إمَّا في الْأَصْلِ أو في الْفَرْعِ أو في الْوَصْفِ أَمَّا الْمُعَارَضَةُ في الْأَصْلِ فَإِنْ ذَكَرَ عِلَّةً أُخْرَى في الْأَصْلِ سِوَى عِلَّةِ الْمُعَلِّلِ وَتَكُونُ تِلْكَ الْعِلَّةُ مَعْدُومَةً في الْفَرْعِ وَنَقُولُ إنَّ الْحُكْمَ في الْأَصْلِ نَشَأَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ التي ذَكَرْتَهَا لَا بِالْعِلَّةِ التي ذَكَرَهَا الْحَنَفِيُّ في تَبْيِيتِ النِّيَّةِ صَوْمُ عَيْنٍ فَتَأَدَّى بِالنِّيَّةِ قبل الزَّوَالِ كَالنَّفْلِ فَيُقَالُ ليس الْمَعْنَى في الْأَصْلِ ما ذَكَرْت بَلْ الْمَعْنَى فيه أَنَّ النَّفَلَ من عَمَلِ السُّهُولَةِ
____________________
(4/291)
وَالْخِفَّةِ فَجَازَ أَدَاؤُهُ بِنِيَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عن الشُّرُوعِ بِخِلَافِ الْفَرْضِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَهَذَا هو سُؤَالُ الْفَرْقِ فَسَيَأْتِي فيه ما سَبَقَ وَذَكَرَهُ غَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بين أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ يُبْدِيهَا الْمُعْتَرِضُ مُسْتَقِلَّةً بِالْحُكْمِ كَمُعَارَضَةِ الْكَيْلِ بِالطُّعْمِ أو غير مُسْتَقِلَّةٍ على أنها جُزْءُ الْعِلَّةِ كَزِيَادَةِ الْجَارِحِ إلَى الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ في مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ وقد اخْتَلَفَ الْجَدَلِيُّونَ في قَبُولِهِ فَقِيلَ لَا يُقْبَلُ بِنَاءً على مَنْعِ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ قال ابن عَقِيلٍ وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَسْأَلَةً وَلَا جَوَابًا وَبِهِ جَزَمَ أبو بَكْرٍ محمد بن أَحْمَدَ الْبَلْعَمِيُّ الْحَنَفِيُّ في كِتَابِهِ الْغَرَرِ في الْأُصُولِ قال لِأَنَّ لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَقُولَ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا بَلْ أَقُولُ بِالْعِلَّتَيْنِ جميعا قال وَلَيْسَتْ مُنَاقَضَةً لِأَنَّهَا سَدُّ مَجْرَى الْعِلَّةِ ولم يَسُدَّ عليه الْمُجِيبُ مُنَاقَضَةً من الْعِلَّةِ وَقِيلَ يُقْبَلُ وَبِهِ جَزَمَ ابن الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ بِنَاءً على جَوَازِ ذلك وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْجَدَلِيِّينَ قالوا لِأَنَّهُ إذَا ظَهَرَ في الْأَصْلِ وَصْفَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالِحٌ لِلِاسْتِقْلَالِ فإنه يَتَعَارَضُ عِنْدَ النَّظَرِ ثَلَاثَةُ احْتِمَالَاتٍ أَحَدُهَا أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ وَصْفَ الْمُسْتَدِلِّ خَاصَّةً وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ وَصْفَ الْمُعْتَرِضِ خَاصَّةً وَالثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ مَجْمُوعَ الْوَصْفَيْنِ وإذا تَعَارَضَتْ الِاحْتِمَالَاتُ فَالْقَوْلُ بِتَعْيِينِ وَاحِدٍ منها من غَيْرِ مُرَجِّحٍ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ وَهَلْ يَقْتَضِي إبْطَالَ الدَّلِيلِ فيه قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَتِمُّ دَلِيلُ الْمَسْئُولِ بِالْمُعَارَضَةِ لِأَنَّهُ إنْ كان صَحِيحًا فما يُعَارِضُهُ بِهِ خَصْمُهُ يَسْتَحِيلُ دَلِيلًا وَإِنْ لم يَكُنْ صَحِيحًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرَى الْمُسْتَدِلُّ فَسَادَهُ فَإِنْ لم يَقْدِرْ بَانَ عَجْزُهُ وَالثَّانِي أَنَّهُ ما لم يُفْسِدْ الْمَسْئُولُ تِلْكَ الْمُعَارَضَةَ لَا يَتِمُّ دَلِيلُهُ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْمُعَارَضَةُ هِيَ الصَّحِيحَةُ وَدَلِيلُ الْمَسْئُولِ يُشْبِهُهُ غير أَنَّ السَّائِلَ عَجَزَ عن إيرَادِ ما يُفْسِدُهُ وَاعْلَمْ أَنَّ بِنَاءَ الْخِلَافِ في قَبُولِ هذا السُّؤَالِ وَرَدِّهِ على تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ فَإِنْ جَوَّزْنَا لم يُقْبَلْ وَإِلَّا قُبِلَ ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ وَنَازَعَهُ شَارِحُهُ ابن الْمُنِيرِ فقال نَحْنُ وَإِنْ فَرَضْنَا جَوَازَ اجْتِمَاعِ الْعِلَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ فإنه يَتَّجِهُ ذلك إذَا شَهِدَتْ الْأُصُولُ بِالِاسْتِقْلَالِ وَالتَّعْدَادِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذلك إذَا شَهِدَ لِكُلِّ عِلَّةٍ أَصْلٌ انْفَرَدَتْ فيه ثُمَّ اجْتَمَعَتْ في مَحَلٍّ آخَرَ كَاجْتِمَاعِ الْحَيْضِ وَالْإِحْرَامِ فإن اسْتِقْلَالَ كُلٍّ
____________________
(4/292)
مِنْهُمَا بِجَمِيعِ عِلَّتِهِ حَيْثُ يَنْفَرِدُ ثُمَّ يَقَعُ الْآخَرُ حَيْثُ يَجْتَمِعُ فَقَائِلٌ يقول أَجْمَعْنَا على الْحُكْمِ الْوَاحِدِ وَآخَرُ يقول لِكُلِّ حُكْمٍ عِلَّةٌ فَاجْتَمَعَ عِلَّتَانِ وَحُكْمَانِ أَمَّا إذَا فَرَضْنَا إبْدَاءَ السُّؤَالِ عِلَّةً فَعَارَضَهُ السَّائِلُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى فَفَرْضُهُمَا عِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ يَسْتَدْعِي انْفِرَادَ كُلٍّ مِنْهُمَا في أَصْلٍ سِوَى مَحَلِّ الِاجْتِمَاعِ فإذا لم يَظْفَرْ الِانْفِرَادُ فَالْمُعَارَضَةُ وَارِدَةٌ بِنَاءً على خَلَلِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ لِأَنَّ الْمَسْئُولَ إنْ قال الْبَاعِثُ هو الْمَعْنَى الذي أَبْدَيْتُهُ قال السَّائِلُ الْبَاعِثُ مَعْنَاهُ أو الْأَمْرَانِ مَعًا بِحَيْثُ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا جُزْءَ عِلَّةٍ فَهَذِهِ احْتِمَالَاتٌ مُتَسَاوِيَةٌ وَالْمُسْتَدِلُّ في تَعْيِينِ مَقْصُودِهِ بِالدَّعْوَى مُتَحَكِّمٌ وَلِهَذَا لو لم نَعْتَبِرْ شَهَادَةَ الْأُصُولِ وَأَجَزْنَا الْمُرْسَلَاتِ لم يَرِدْ هذا السُّؤَالُ وَهَلْ يَجِبُ على الْمُعْتَرِضِ بَيَانُ انْتِفَاءِ الْوَصْفِ الذي عَارَضَ بِهِ الْأَصْلَ عن الْفَرْعِ فيه مَذَاهِبُ أَحَدُهَا وهو الْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِأَنَّهُ إنْ كان في الْفَرْعِ افْتَقَرَ الْمُسْتَدِلُّ إلَى بَيَانِهِ فيه لِيَصِحَّ الْإِلْحَاقُ وَإِنْ لم يُبَيِّنْ ذلك بَطَلَ الْجَمْعُ والثاني يَجِبُ نَفْيُهُ لِأَنَّ الْفَرْقَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ والثالث وَبِهِ أَجَابَ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ إنْ قَصَدَ الْفَرْقَ فَلَا بُدَّ من نَفْيِهِ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ يقول إنْ لم يَكُنْ مَوْجُودًا فيه فَهُوَ فَرْقٌ وَإِلَّا فَالْمُسْتَدِلُّ لم يذكر إلَّا بَعْضَ الْعِلَّةِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا بُدَّ من إشْكَالٍ هذا إذَا كان الْمَقِيسُ عليه أَصْلًا وَاحِدًا فَإِنْ كان أُصُولًا فَقِيلَ لَا يَرِدُ لِأَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِأَصْلٍ آخَرَ عن هذا حَاصِلٌ وَقِيلَ يَرِدُ لِأَنَّهُ أَقْوَى في إفَادَةِ الظَّنِّ وَالْقَائِلُونَ بِالرَّدِّ اخْتَلَفُوا في الِاقْتِصَارِ في الْمُعَارَضَةِ على أَصْلٍ وَاحِدٍ فَقِيلَ يَكْفِي لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ قَصَدَ جَمْعَ الْأُصُولِ فإذا ذَهَبَ وَاحِدٌ ذَهَبَ غَرَضُهُ وَقِيلَ لَا بُدَّ من الْجَمْعِ لِأَنَّ الْمُسْتَقِلَّ يَكْتَفِي بِأَصْلٍ وَاحِدٍ وَالْقَائِلُونَ بِالتَّعْمِيمِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ من شَرَطَ اتِّحَادَ الْمُعَارِضِ في الْكُلِّ دَفْعًا لِانْتِشَارِ الْكَلَامِ وَقِيلَ لَا يَلْزَمُ لِجَوَازِ أَنْ لَا يُسَاعِدَهُ في الْكُلِّ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَقِيلَ يَقْتَصِرُ الْمُسْتَدِلُّ في الْجَوَابِ على أَصْلٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ بِهِ يَتِمُّ مَقْصُودُهُ وَقِيلَ لَا بُدَّ من الْجَوَابِ عن الْكُلِّ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْقِيَاسَ على الْكُلِّ وَجَوَابُ الْمُعَارَضَةِ من وُجُوهٍ أَحَدُهُمَا مَنْعُ وُجُودِ الْوَصْفِ الْمُعَارَضِ بِهِ بِأَنْ يَقُولَ لَا أُسَلِّمُ وُجُودَ
____________________
(4/293)
الْوَصْفِ في الْأَصْلِ الثَّانِي مَنْعُ الْمُنَاسَبَةِ أو مَنْعُ الشَّبَهِ إنْ أَثْبَتَهُ بِهِمَا لِأَنَّ من شَرْطِ الْمُعَارِضِ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلتَّعْلِيلِ وَلَا يَصْلُحُ إلَّا إذَا كان مُنَاسِبًا أو شِبْهًا إذْ لو كان طَرْدًا لم يَكُنْ صَالِحًا وَإِنَّمَا لم يُكْتَفَ من الْمُعْتَرِضِ بِالْوَصْفِ الشَّبَهِيِّ في قِيَاسِ الْإِخَالَةِ لِأَنَّ الْوَصْفَ الشَّبَهِيَّ أَدْنَى من الْمُنَاسِبِ فَلَا يُعَارِضُهُ فَإِنْ كان أَثْبَتَهُ بِطَرِيقِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ فَلَيْسَ له أَنْ يُطَالِبَ الْمُعْتَرِضَ بِالتَّأْثِيرِ فإن مُجَرَّدَ الِاحْتِمَالَاتِ كَافٍ فَمَنْ دَفَعَ السَّبْرَ فَعَلَيْهِ دَفْعُهُ لِيَتِمَّ له طَرِيقُ السَّبْرِ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ أَنْ يَقُولَ ما ذَكَرُوهُ من الْوَصْفِ خَفِيٌّ فَلَا يُعَلَّلُ بِهِ أَمْرٌ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ أو غَيْرُ ظَاهِرٍ أو غَيْرُ وُجُودِيٍّ وَنَحْوُهُ من قَوَادِحِ الْعِلَّةِ كَذَا ذَكَرَهُ الْجَدَلِيُّونَ قال ابن رَحَّالٍ وهو ضَعِيفٌ لِأَنَّ الظُّهُورَ وَالِانْضِبَاطَ إنَّمَا يُشْتَرَطُ في صِحَّةِ نَصْبِهِ أَمَارَةً أَمَّا في ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِأَجْلِهِ فَلَا لِأَنَّ الْحُكْمَ يَصِحُّ ثُبُوتُهُ لِلْخَفِيِّ وَالْمُضْطَرِبِ وَلَكِنْ إذَا أُرِيدَ نَصْبُهُ أَمَارَةً تَعَيَّنَ النَّظَرُ إلَى مَظِنَّتِهِ وَالْمُعَارِضُ هَاهُنَا ليس مَقْصُودُهُ نَصْبَ الْأَمَارَةِ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ ما ثَبَتَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهِ فَلَا مَعْنَى لِتَكْلِيفِهِ إثْبَاتَ الظُّهُورِ وَالِانْضِبَاطِ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ جَعَلْتُمْ من الْأَسْئِلَةِ النِّزَاعَ في ظُهُورِ الْوَصْفِ وَانْضِبَاطِهِ وإذا صَحَّتْ مُطَالَبَةُ الْمُسْتَدِلِّ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ شَرْطًا في صِحَّةِ التَّعْلِيلِ صَحَّتْ مُطَالَبَةُ الْمُعْتَرِضِ بِهِ قُلْنَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ جَمَعَ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِوَصْفٍ ادَّعَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ أَمَارَةً فَظُهُورُهُ وَانْضِبَاطُهُ شَرْطٌ في صِحَّةِ نَصْبِهِ أَمَارَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُعْتَرِضُ فإنه لم يَدَّعِ الْأَمَارَةَ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ طَرِيقُ الْإِجْمَالِ لِشَهَادَةِ الْأَصْلِ مِمَّا ثَبَتَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهِ وَالظُّهُورُ وَالِانْضِبَاطُ ليس شَرْطًا في ذلك فَافْتَرَقَا الْخَامِسُ بَيَانُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى عَدَمِ وَصْفٍ مَوْجُودٍ في الْفَرْعِ لَا إلَى ثُبُوتِ مُعَارِضٍ في الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ وَهَذَا إنَّمَا يَكْفِي إذَا قُلْنَا لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِالْعَدَمِ فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ لم يَكْفِ هذا في الْجَوَابِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَقْدَحَ فيه لِوَجْهٍ آخَرَ غَيْرِ كَوْنِهِ عَدَمًا هذا كُلُّهُ إذَا تَحَقَّقَ أَنَّ الْوَصْفَ عَدَمٌ في الْأَصْلِ ثُبُوتٌ في الْفَرْعِ السَّادِسُ إلْغَاءُ الْوَصْفِ الذي وَقَعَتْ بِهِ الْمُعَارَضَةُ وقد اسْتَشْكَلَ هذا بِأَنَّ الْإِلْغَاءَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا إلْغَاءٌ بِإِيمَاءِ النَّصِّ والثاني إلْغَاءٌ بِتَبْدِيلِ الْأَصْلِ فَالْأَوَّلُ فيه انْتِقَالٌ من مَسْلَكٍ اجْتِهَادِيٍّ إلَى مَسْلَكٍ نَقْلِيٍّ وَالِانْتِقَالُ من أَقْبَحِ الِانْقِطَاعِ وَلِأَنَّهُ لو اسْتَدَلَّ بِإِيمَاءِ النَّصِّ أَوَّلًا لَأَغْنَاهُ ذلك عن الْمَسَالِكِ الِاجْتِهَادِيَّةِ فَأَيُّ فَائِدَةٍ في هذا التَّطْوِيلِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ اسْتِدْلَالُهُ أَوَّلًا كما قالوا فِيمَا إذَا اسْتَدَلَّ
____________________
(4/294)
بِقِيَاسٍ على وَجْهٍ لَا بُدَّ له من التَّرْجِيحِ بِالنَّصِّ وَأَمَّا الثَّانِي فَفِيهِ انْتِقَالٌ من مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ مع بَقَاءِ مَسْلَكِ الْمُنَاسَبَةِ وَالِاقْتِرَانِ مع أَنَّ في ذلك تَطْوِيلَ الطَّرِيقِ بِلَا فَائِدَةٍ إذَا عَلِمْتَ ذلك فَالْإِلْغَاءُ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا بِإِيمَاءِ النَّصِّ وهو قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا ما لَا يُتَصَوَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ على أَنَّ الْعِلَّةَ في الْأَصْلِ غَيْرُ مُرَكَّبَةٍ بَلْ لَا يَكُونُ إلَّا وَصْفًا وَاحِدًا كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ من الْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ إنَّهُ يَجْرِي فيه الرِّبَا لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ فَالْتَحَقَ بِالْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ فَعَارَضَ الْحَنَفِيُّ في الْأَصْلِ بِالْكَيْلِ فيقول الشَّافِعِيُّ وَصْفُ الْكَيْلِ مُلْغًى بِإِيمَاءِ قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ فإنه يَدُلُّ على التَّحْرِيمِ على هذه الصِّفَةِ وَتَرْتِيبُ الْحُكْمِ على الْوَصْفِ الْمُشْتَقِّ يَدُلُّ على كَوْنِهِ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً فَإِنْ قِيلَ لِلشَّافِعِيِّ تَرَكْتَ النَّصَّ أَوَّلًا فلم تَسْتَدِلَّ بِهِ وَاسْتَدْلَلْتَ بِغَيْرِهِ على وَجْهٍ لَا بُدَّ لَك معه من النَّصِّ وَهَذَا تَطْوِيلٌ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لو اسْتَدَلَّ أَوَّلًا بِالنَّصِّ لَاحْتَاجَ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ الِاسْمَ الْمُفْرَدَ يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى فَكَانَ الْأَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِهِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِغَيْرِ النَّصِّ وَيَدَّخِرَ النَّصَّ لِمَقْصُودِهِ الْإِلْغَاءَ وَهَذَا مَقْصُودٌ صَحِيحٌ فَإِنْ كان هذا الْعُذْرُ مُطَّرِدًا في جَمِيعِ صُوَرِ الْإِلْغَاءِ كان السُّؤَالُ السَّابِقُ مُنْدَفَعًا وَثَانِيهِمَا ما يُتَصَوَّرُ فيه الْجَمْعُ بين الْوَصْفَيْنِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ في الْمُرْتَدَّةِ يَجِبُ قَتْلُهَا لِأَنَّهُ شَخْصٌ كَفَرَ بَعْدَ إيمَانِهِ كَالرَّجُلِ فيقول الْحَنَفِيُّ أُعَارِضُ في الْأَصْلِ الْوَصْفُ في الرُّجُولِيَّةِ فإنه مُنَاسِبٌ لِمَا فيه من الْإِضْرَارِ النَّاجِزِ بِالْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ مَفْقُودٌ في الْمَرْأَةِ فيقول الشَّافِعِيُّ وَصْفُ الرُّجُولِيَّةِ مُلْغًى بِإِيمَاءِ قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم من بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ فإنه يَدُلُّ على قَتْلِ جَمِيعِ الْمُرْتَدِّينَ من جِهَةِ تَعْلِيقِهِ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ بِوَصْفِ التَّبْدِيلِ الثَّانِي إلْغَاءٌ بِتَبْدِيلِ الْأَصْلِ وَصُورَتُهُ أَنْ يُبَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ صُورَةً ثَالِثَةً يُثْبِتُ فيها الْحُكْمَ الْمُتَنَازَعَ فيه بِالْإِجْمَاعِ على وَفْقِ عِلَّتِهِ بِدُونِ ما عَارَضَ بِهِ الْمُعْتَرِضُ في الْأَصْلِ الثَّانِي إذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبِرًا فيه مع كَوْنِهِ مَعْدُومًا
____________________
(4/295)
وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ في الْفَرْعِ فَهِيَ أَنْ يُعَارِضَ حُكْمَ الْفَرْعِ بِمَا يَقْتَضِي نَقِيضَهُ أو ضِدَّهُ بِنَصٍّ أو إجْمَاعٍ أو بِوُجُودِ مَانِعٍ أو بِفَوَاتِ شَرْطٍ فيقول ما ذَكَرْت من الْوَصْفِ وَإِنْ اقْتَضَى ثُبُوتَ الْحُكْمِ في الْفَرْعِ فَعِنْدِي وَصْفٌ آخَرُ يَقْتَضِي نَقِيضَهُ فَتَوَقَّفَ دَلِيلُك مِثَالُ النَّقِيضِ إذَا بَاعَ الْجَارِيَةَ إلَّا حَمْلَهَا صَحَّ في وَجْهٍ كما لو بَاعَ هذه الصِّيعَانَ إلَّا صَاعًا فَنَقُولُ لَا يَصِحُّ كما لو بَاعَ الْجَارِيَةَ إلَّا يَدَهَا وَمِثَالُ الضِّدِّ الْوِتْرُ وَاجِبٌ قِيَاسًا على التَّشَهُّدِ في الصَّلَاةِ بِجَامِعِ مُوَاظَبَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَنَقُولُ فَيُسْتَحَبُّ قِيَاسًا على الْفَجْرِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُفْعَلُ في وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لِفَرْضٍ مُعَيَّنٍ من فُرُوضِ الصَّلَاةِ فإن الْوِتْرَ في وَقْتِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرَ في وَقْتِ الصُّبْحِ ولم يُعْهَدْ من الشَّرْعِ وَضْعُ صَلَاتَيْ فَرْضٍ في وَقْتٍ وَاحِدٍ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ أَمَّا الْمُعَارَضَةُ في حُكْمِ الْفَرْعِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ الْمُعَلِّلُ عِلَّةً في إثْبَاتِ حُكْمِ الْفَرْعِ وَنَفْيِ حُكْمِهِ فَيُعَارِضُهُ خَصْمُهُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى تُوجِبُ ما تُوجِبُهُ عِلَّةُ الْمُعَلِّلِ فَتَعَارَضَ الْعِلَّتَانِ فَتَمْنَعَانِ من الْعَمَلِ إلَّا بِتَرْجِيحِ إحْدَاهُمَا على الْأُخْرَى وقد اُخْتُلِفَ في قَبُولِ هذا الِاعْتِرَاضِ فَرَدَّهُ بَعْضُهُمْ لَا سِيَّمَا الْمُتَأَخِّرُونَ من الْجَدَلِيِّينَ مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ دَلَالَةَ الْمُسْتَدِلِّ على ما ادَّعَاهُ قد تَمَّتْ قال الْهِنْدِيُّ وهو ظَاهِرٌ إلَّا فِيمَا إذَا كانت الْمُعَارَضَةُ بِفَوَاتِ الشَّرْطِ فَإِنَّا نُبَيِّنُ عَدَمَ تَمَامِ دَلَالَتِهِ إذْ ذَاكَ وإذا تَمَّتْ دَلَالَتُهُ فَقَدْ وَفَى بِمَا الْتَزَمَ في الِاسْتِدْلَالِ فَهُوَ بَعْدَ ذلك مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ سمع الْمُعَارَضَةَ وَإِنْ شَاءَ لم يَسْمَعْ كَاسْتِدْلَالِ مُسْتَأْنِفٍ وَأَيْضًا فإن حَقَّ الْمُعْتَرِضِ أَنْ يَكُونَ هَادِمًا لَا بَانِيًا وَالْمُعَارَضَةُ في حُكْمِ الْفَرْعِ بِنَاءٌ لَا هَدْمٌ بِخِلَافِ الْمُعَارَضَةِ في الْأَصْلِ فإن حَاصِلَهَا يَرْجِعُ إلَى مَنْعِ الْمُقَدِّمَةِ وَهِيَ كَوْنُ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِمَا ذُكِرَ من الْوَصْفِ فَلَا يَلْزَمُ من قَبُولِهَا ثُمَّ قَبُولِهَا هُنَا وَقَبِلَهُ الْأَكْثَرُونَ لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ على أَنَّ الدَّلِيلَ مع وُجُودِ الْمُعَارِضِ عُطْلٌ وَلِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ عِنْدَ وُرُودِهَا مُتَحَكِّمٌ وَالتَّحَكُّمُ بَاطِلٌ إجْمَاعًا وَلِأَنَّهُ طَرِيقٌ لِلْهَدْمِ وقد يَتَعَيَّنُ طَرِيقًا لِلْهَدْمِ فَلَوْ لم يُقْبَلْ لَبَطَلَ مَقْصُودُ الْمُنَاظَرَةِ وَالْبَحْثِ وَالِاجْتِهَادِ وَلِأَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ غَصْبًا لِمَنْصِبِ التَّعْلِيلِ أَنْ لو ذَكَرَهَا الْمُعْتَرِضُ لِإِثْبَاتِ مَذْهَبِهِ وهو لَا يَذْكُرُهَا لِذَلِكَ لِاتِّفَاقِ دَلِيلِ خَصْمِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ صَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وقد رَأَيْتَ ابْنَ بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ نَقَلَ عنه إبْطَالَ الْمُعَارَضَةِ ثُمَّ رَأَيْت إلْكِيَا الطَّبَرِيَّ سَبَقَهُ إلَى نَقْلِ ذلك عنه فقال في كِتَابِ
____________________
(4/296)
التَّلْوِيحِ صَارَ الْغَزَالِيُّ إلَى بُطْلَانِ الْمُعَارَضَةِ على ما سَمِعْنَا الْإِمَامَ يَنْقُلُهُ عنه وكان الْحَامِلُ له على ذلك امْتِنَاعَ التَّنَاقُضِ في أَدِلَّةِ الشَّرْعِ فإذا اعْتَرَفَ السَّائِلُ بِصِحَّةِ عِلَّةِ الْمُعَلِّلِ وَاسْتِقْلَالِهَا بِالْحُكْمِ وَالْمَسْئُولُ يُنْكِرُ صِحَّةَ تَعْلِيلِهِ وَإِنْ هو أَرَادَ إظْهَارَهُ فَقَدْ تَنَاقَضَ وقال بِتَعَارُضِ النُّصُوصِ وَلِأَنَّ حَقَّ السَّائِلِ أَنْ يَكُونَ هَادِمًا غير بَانٍ وَالْمُعَارَضَةُ تَقْتَضِي الْبِنَاءَ إنْ كان التَّرْجِيحُ لِتَعْلِيلِ السَّائِلِ أو سَاقِطَةٌ إنْ كان التَّرْجِيحُ لِعِلَّةِ الْمَسْئُولِ فَلَا يَخْلُو من طَرَفَيْ نَقِيضٍ وَوَجْهَيْ فَسَادٍ وَنَحْنُ نَقُولُ السَّائِلُ لم يَقْصِدْ الْبِنَاءَ وَإِنَّمَا يَقْصِدُ الْهَدْمَ فإن مَقْصُودَهُ إعَانَةُ الْمَسْئُولِ على إتْمَامِ غَرَضِهِ بِإِيضَاحِ التَّرْجِيحِ وَلَا يَنَالُ هذه إلَّا بِالْمُعَارَضَةِ قال وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُعَلِّلَ لو اسْتَدَلَّ بِظَاهِرٍ فَلِلسَّائِلِ أَنْ يُؤَوِّلَ وَيَعْتَضِدَ بِالْقِيَاسِ وإذا صَحَّتْ الْمُعَارَضَةُ فَالسَّائِلُ لَا يُرَجِّحُ فإنه يَكُونُ بَانِيًا هذا إذَا أَمْكَنَهُ قَطْعُ التَّرْجِيحِ عن الدَّلِيلِ فَأَمَّا إذَا كان الدَّلِيلُ في وَضْعِهِ أَرْجَحَ فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ على قَوْلِ من قَبِلَ الْمُعَارَضَةَ فإنه رُبَّمَا لَا يَجِدُ غَيْرَهُ فَإِنْ رَجَّحَ الْمَسْئُولُ مُكِّنَ السَّائِلُ من مُعَارَضَةِ التَّرْجِيحِ انْتَهَى ثُمَّ لَا يَجِبُ على الْمُعْتَرِضِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ ما عَارَضَ بِهِ مُسَاوٍ لِدَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ بَلْ يَكْفِي منه بَيَانُ مُطْلَقِ الْمُعَارِضِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْتَدِلِّ فإنه لَا يُكْتَفَى منه في دَفْعِهَا إلَّا بِبَيَانِ أَنَّ دَلِيلَهُ رَاجِحٌ على ما عَارَضَ بِهِ الْمُعْتَرِضُ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ مُدَّعٍ لِاسْتِقْلَالِ دَلِيلِهِ بِالْحُكْمِ وَالْمُعَارِضُ مُنْكِرٌ له وَالْمُنْكِرُ يَكْفِيهِ مُطْلَقُ الْإِنْكَارِ بِخِلَافِ الْمُدَّعِي وإذا تَمَّتْ الْمُعَارَضَةُ من السَّائِلِ فَهَلْ يَنْقَطِعُ الْمُسْتَدِلُّ أَمْ يُسْمَعُ منه التَّرْجِيحَ فَقِيلَ يَنْقَطِعُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ إنْ عَجَزَ عن تَرْجِيحِ دَلِيلِهِ وَجَوَابُهُ بِالْقَدْحِ بِمَا يَرُدُّ على ذلك إنْ كان من جِهَةِ الْمُسْتَدِلِّ وَاخْتَلَفُوا في مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا في دَفْعِهِ بِالتَّرْجِيحِ بِمُرَجِّحٍ أَقْوَى من مُرَجِّحِهِ فَقِيلَ يُمْنَعُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كان مَرْجُوحًا فَلَا يَخْرُجُ عن كَوْنِهِ اعْتِرَاضًا وَالْمُخْتَارُ وَرَجَّحَهُ الْمُحَقِّقُونَ جَوَازُهُ لِأَنَّهُ مَوْطِنُ تَعَارُضٍ وقد لَا يَجِدُ السَّائِلُ غَيْرَهُ مُرَجِّحًا وَقَضِيَّةُ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ السَّائِلَ إذَا عَارَضَ الْمُسْتَدِلَّ بِتَرْجِيحٍ أَقْوَى وهو قَادِرٌ على تَرْجِيحٍ مُسَاوٍ فَقَدْ تَعَدَّى وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ له الْمُعَارَضَةُ بِالْأَقْوَى مع وُجُودِ الْمُسَاوِي لِأَنَّهُ لم يذكر الْأَقْوَى من جِهَةِ كَوْنِهِ أَقْوَى بَلْ من جِهَةِ كَوْنِهِ مُعَارِضًا وَمَزِيَّةُ الْقُوَّةِ مُصَادَفَةٌ وقال ابن الْمُنِيرِ الْأَوْلَى أَنْ يَذْكُرَ الْأَقْوَى لِأَنَّهُ إذَا سَاغَ له التَّرْجِيحُ الْمُسَاوِي فَالْأَقْوَى
____________________
(4/297)
أَوْلَى وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ يُوقَفُ الْمُسْتَدِلُّ عن نَوْبَةٍ أُخْرَى من التَّرْجِيحِ لِأَنَّهُ قد اخْتَلَفَ مِثْلُهَا فَيَحْتَاجُ الْمُسْتَدِلُّ حِينَئِذٍ إلَى تَرْجِيحَيْنِ أو تَرْجِيحٍ أَقْوَى من ذلك الْأَقْوَى فَيُضَيَّقُ عليه نِطَاقُ الْكَلَامِ وهو غَرَضُ الْمُنَاظَرَةِ وفي ذِكْرِ الْأَقْوَى اخْتِصَارٌ انْتَهَى وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لو قَابَلَ تَرْجِيحَ الْمُسْتَدِلِّ لَا يُقْبَلُ الِاسْتِغْنَاءَ بِهِ عن أَحَدِهِمَا فإن في الْوَاحِدِ كِفَايَةً وَالزِّيَادَةُ تُوجِبُ الْإِثْبَاتَ لِأَنَّ ذلك غَيْرُ مَنْصِبِهِ الثَّانِيَةُ هل يُقْبَلُ مُعَارَضَةُ الْمُعَارَضَةِ بِدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ اخْتَلَفُوا على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا نعم لِأَنَّهُ دَلِيلٌ كَالْأَوَّلِ فَجَازَ أَنْ يُعَارِضَ وَعَلَى هذا يَتَسَاقَطَانِ وَيُسَلَّمُ الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ من الْمُعَارِضِ قال الْمُقْتَرِحُ وَكَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في تَعَارُضِ النَّصَّيْنِ يَقْتَضِي اخْتِيَارَهُ وَالثَّانِي لَا يُقْبَلُ وَإِنْ قَبِلْنَا أَصْلَ الْمُعَارَضَةِ لِانْتِشَارِ الْكَلَامِ وَأَدَائِهِ إلَى الِانْتِقَالِ وإذا قَبِلْنَا تَرْجِيحَ الْمُسْتَدِلِّ لِدَلِيلِهِ على ما عَارَضَ بِهِ السَّائِلَ فَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَنْشَأُ التَّرْجِيحِ مَذْكُورًا في الدَّلِيلِ قِيلَ يَجِبُ لِأَنَّهُ لو تَرَكَهُ أَوَّلًا لَكَانَ ذَاكِرًا لِبَعْضِ الدَّلِيلِ وَقِيلَ لَا يَجِبُ لِأَنَّ مَرَاتِبَ الْمُعَارَضَةِ لَا يَعْرِفُهَا الْمُسْتَدِلُّ في بَدْءِ اسْتِدْلَالِهِ فَيُؤَدِّي إلَى الْمَشَقَّةِ بِخِلَافِ الِاحْتِرَازِ لِدَفْعِ النَّقْضِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ النَّصَّانِ سُمِعَ التَّرْجِيحُ من الْمُسْتَدِلِّ بِالِاتِّفَاقِ مع أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ في نَصِّ الْمُسْتَدِلِّ ما يُشِيرُ إلَى التَّرْجِيحِ وَالثَّالِثُ وهو اخْتِيَارُ الْآمِدِيَّ التَّفْصِيلُ فَإِنْ كان التَّفْصِيلُ وَصْفًا من أَوْصَافِ الْعِلَّةِ تَعَيَّنَ ذِكْرُهُ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ قد أتى بِكَمَالِ الدَّلِيلِ وَالتَّرْجِيحُ أَجْنَبِيٌّ عنه تَنْبِيهٌ قَسَّمَ ابن السَّمْعَانِيِّ الْمُعَارَضَةَ إلَى ما تَكُونُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى وَإِلَى ما هِيَ بِعِلَّةِ الْمُعَلِّلِ بِعَيْنِهَا فَالْمُعَارَضَةُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى تَارَةً تَكُونُ في حُكْمِ الْفَرْعِ وَتَارَةً في عِلَّةِ الْأَصْلِ وقد سَبَقَا وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ بِعِلَلِ الْمُعَلِّلِ فَتُسَمَّى قَلْبًا وقد سَبَقَ حُكْمُهُ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ قَسَّمَ الْجَدَلِيُّونَ الْمُعَارَضَةَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مُعَارَضَةُ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى وَالْخَبَرِ بِالْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ بِالْقِيَاسِ فَأَمَّا مُعَارَضَةُ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى فَلَا مَعْنَى لها إلَّا على تَقْدِيرِ وَقَعَ التَّشْنِيعُ
____________________
(4/298)
وَأَمَّا مُعَارَضَةُ الْخَبَرِ بِالْخَبَرِ فَصَحِيحَةٌ مِثْلُ أَنْ يَسْأَلَ عن قَضَاءِ الْفَوَائِتِ في الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عنها فيقول لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال من نَامَ عن صَلَاةٍ أو نَسِيَهَا الحديث فَيَرْجِعُ الْكَلَامُ بَعْدَهُ إلَى التَّرْجِيحِ وَأَمَّا مُعَارَضَةُ الْمَعْنَى بِالْمَعْنَى فَعَلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا بين أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ والثاني من أَصْلٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ أَحَدُهُمَا في ضِدِّ حُكْمِهِ فَيَكُونُ مُعَارَضَةً صَحِيحَةً والثاني في عَيْنِ حُكْمِهِ وَلَكِنْ يَتَعَذَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فما كان بين أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَهُوَ الْأَصْلُ في الْمُعَارَضَاتِ مِثَالُهُ طَهَارَةُ الْوُضُوءِ حُكْمِيَّةٌ فَتَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ قِيَاسًا على التَّيَمُّمِ فيقول الْمُعَارِضُ طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ قِيَاسًا على إزَالَةِ النَّجَاسَةِ فَلَا بُدَّ عِنْدَ ذلك من التَّرْجِيحِ وَأَمَّا ما كان من أَصْلٍ وَاحِدٍ على الضِّدِّ فَضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَجْعَلَ الْأَصْلَ الْوَاحِدَ بَيْنَهُمَا مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ والثاني أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَ ما عَلَّلَ بِهِ مَعْنًى له فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ لَمَّا كان عَدَدُ الْأَقْرَاءِ مُعْتَبَرًا بِالْمَرْأَةِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ بها عَدَدُ الطَّلَاقِ لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بها فَيُعَارِضُهُ بِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِالْفَاعِلِ قِيَاسًا على الْعِدَّةِ وفي الثَّانِي يقول نَفْسُ هذا الْمَعْنَى يَدُلُّ على أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْفَاعِلِ كَالْعِدَّةِ قال وَأَمَّا مُعَارَضَةُ الْفَاسِدِ بِالْفَاسِدِ فَهَلْ تَجُوزُ إنْ أَمْكَنَهُ إيضَاحُ الْفَسَادِ فَلَا يُمْنَعُ منها وَمِثْلُهَا بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ لَا يَصِيرُ مُفْرِطًا بِتَأْخِيرِ الزَّكَاةِ فَلَا يَلْزَمُ إخْرَاجُهَا إذَا تَلِفَ الْمَالُ أو مَاتَ فَيُقَالُ وَلَا يَجِبُ عليه الزَّكَاةُ بِحَالٍ من حَيْثُ إنَّهُ بِتَأْخِيرِهَا وَلَا تَرْكِهَا أَصْلًا قال وقد يُعَارَضُ الْمُحَالُ بِالْمُحَالِ كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ ما أَدْرَكَهُ الْمَأْمُومُ من صَلَاةِ الْإِمَامِ فَهُوَ آخِرُ صَلَاتِهِ فَيُقَالُ له لو جَازَ أَنْ يَكُونَ آخِرٌ بِلَا أَوَّلٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ أَوَّلٌ بِلَا آخِرٍ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَاءٌ لَا نَجِسٌ وَلَا طَاهِرٌ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَاءٌ نَجِسٌ وَطَاهِرٌ بِنَاءً على أَنَّ الْقَابِلَ لِلضِّدَّيْنِ لَا يَخْلُو عن أَحَدِهِمَا قال وَهَذَا النَّوْعُ ليس بِمُعَارَضَةٍ حَقِيقَةً وَلَكِنْ قُصِدَ بِهِ امْتِحَانُ الْمَذَاهِبِ انْتَهَى
____________________
(4/299)
وَمَسْأَلَةُ مُعَارَضَةِ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى سَبَقَتْ في كَلَامِ الْأُسْتَاذِ أبي مَنْصُورٍ وَحِكَايَةِ الْخِلَافِ فيها وَصَرَّحَ الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ بِمَنْعِهَا لِعَدَمِ فَائِدَتِهَا إذْ لَا يُلْزَمُ أَحَدٌ بِدَعْوَى الْآخَرِ قال الْإِمَامُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قد أَخْرَجَ دَعْوَاهُ مَخْرَجَ الْحُجَّةِ فَيُعَارِضُ بِمِثْلِهَا كَقَوْلِ الْمَالِكِيِّ الْمُسْتَحَاضَةُ تَسْتَظْهِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقِيلَ له فما الْفَصْلُ بَيْنَك وَبَيْنَ من قال لَا تَسْتَظْهِرُ أو تَسْتَظْهِرُ بِيَوْمَيْنِ أو أَكْثَرَ أو أَقَلَّ فَإِنْ لم يَكُنْ هذا فَالْقَوْلُ سَاقِطٌ السَّادِسَ عَشَرَ سُؤَالُ التَّعْدِيَةِ وَأَدْرَجَهُ الْهِنْدِيُّ في سُؤَالِ الْمُعَارَضَةِ في الْأَصْلِ وَهِيَ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُعْتَرِضُ في الْأَصْلِ مَعْنًى غير ما عَيَّنَهُ وَيُعَارِضُ بِهِ ثُمَّ يقول لِلْمُسْتَدِلِّ ما عَلَّلْتُ بِهِ وَإِنْ تَعَدَّى إلَى الْفَرْعِ الْمُخْتَلَفِ فيه فَكَذَا ما عَلَّلْتَ بِهِ يَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ آخَرَ مُخْتَلَفٍ فيه وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى من الْآخَرِ كَقَوْلِنَا بِكْرٌ فَجَازَ إجْبَارُهَا كَالصَّغِيرَةِ فَيُقَالُ وَالْبَكَارَةُ وَإِنْ تَعَدَّتْ لِلْبِكْرِ الْبَالِغِ فَالصِّغَرُ مُتَعَدٍّ إلَى الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ وَهَذَا أَيْضًا اُخْتُلِفَ فيه وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عن سُؤَالِ الْمُعَارَضَةِ في الْأَصْلِ مع زِيَادَةِ التَّسْوِيَةِ في التَّعْدِيَةِ وَجَوَابُهُ إبْطَالُ ما عَارَضَ بِهِ وَحَذْفُهُ عن دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ وَهَلْ على الْمُسْتَدِلِّ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُعْتَرِضُ من التَّسْوِيَةِ في التَّعْدِيَةِ أو لَا يَجِبُ قال الْأَكْثَرُونَ لَا يَجِبُ وقال أبو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَلْ لِلتَّسْوِيَةِ في التَّعْدِيَةِ أَثَرٌ في الْمُعَارَضَةِ فَلَا بُدَّ من التَّعَرُّضِ لِإِبْطَالِهِ وَلَخَّصَ الْإِبْيَارِيُّ شَارِحُ الْبُرْهَانِ سِرَّ التَّعْدِيَةِ فَحَمَلَ الْأَمْرَ إلَى أَنَّ سِرَّهَا التَّبَرِّي من عُهْدَةِ النِّسْبَةِ إلَى الْعِنَادِ بِإِيرَادِ وَصْفٍ لَا يُعْتَقَدُ اعْتِبَارُهُ فَعَدَّاهُ الْمُعْتَرِضُ إلَى فُرُوعِهِ حتى يُبَيِّنَ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ ذلك وَيُفَرِّعُهُ عليه قال وَهَذَا أَمْرٌ أَجْنَبِيٌّ عن غَرَضِ الْجَدَلِ فإن الِاعْتِنَاءَ بِهِ دَفْعٌ لِسُوءِ الِاعْتِقَادِ الذي يَدْفَعُهُ ظَاهِرُ الْإِسْلَامِ من غَيْرِ حَاجَةٍ خَاصَّةٍ بِالْجَدَلِ قال ابن الْمُنِيرِ وَلَعَمْرِي إنَّهُ كما قال لو لم يَكُنْ لها سِرٌّ سِوَى هذا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ سِرُّهَا عِنْدَ وَاضِعِهَا أَنَّ الْمُعْتَرِضَ إذَا عَارَضَ مَعْنَى الْأَصْلِ بِمَعْنًى أَمْكَنَ أَنْ يَقُولَ له الْمُسْتَدِلُّ مَعْنَايَ أَوْلَى لِأَنِّي قد حَقَّقْت تَعْدِيَتَهُ إلَى الْفَرْعِ وَإِنَّهُ يُفِيدُ حُكْمًا لَوْلَاهُ ما اسْتَفَدْنَاهُ وَغَايَةُ ما صَنَعْت أَنَّك أَبْدَيْت مَعْنًى في الْأَصْلِ فَلَعَلَّهُ قَاصِرٌ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ يَتَحَقَّقُ بِهِ كَوْنُهُ مُفِيدًا فَيُبَيِّنُ الْمُعْتَرِضُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ يُسَاوِي الْمُسْتَدِلَّ فَإِنْ
____________________
(4/300)
عَدَّى مَعْنَاهُ إلَى فَرْعٍ من فُرُوعِهِ تَحَقَّقَ كَوْنُهُ مُفِيدًا مُتَعَدِّيًا وَحَاصِلُ الْأَمْرِ طَلَبُ تَسَاوِي الِانْعِدَامِ بين الْمُسْتَدِلِّ وَالْمُعْتَرِضِ وَدَفْعُ احْتِمَالِ الْقُصُورِ الذي هو إمَّا قَادِحٌ إنْ بَنَيْنَا على أَنَّ الْعِلَّةَ قَاصِرَةٌ مَرْدُودَةٌ أو مَرْجُوحٌ إنْ بَنَيْنَا على أنها مَقْبُولَةٌ وَلَكِنَّ التَّعْدِيَةَ أَوْلَى مَسْأَلَةٌ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ وَالْمُعَارَضَةِ وَالْقَلْبِ وَالنَّقْضِ وَالْمَنْعِ لَا يَخْتَصُّ بِالْقِيَاسِ بَلْ يَتَوَجَّهُ على سَائِرِ الْأَدِلَّةِ من قِيَاسٍ وَغَيْرِهِ إلَّا الْمَنْعَ فإنه لَا يَتَوَجَّهُ على مَتْنِ الْكِتَابِ وَفَسَادِ الْوَضْعِ وَالْفَرْقِ وَالْمُطَالَبَةِ بِبَيَانِ التَّأْثِيرِ وَالتَّرْكِيبِ وَالْكَسْرِ وَكَوْنِ مَحَلِّ النِّزَاعِ لَا يَجْرِي فيه الْقِيَاسُ مُخْتَصٌّ بِالْقِيَاسِ
____________________
(4/301)
فَصْلٌ اخْتَلَفُوا في تَرْتِيبِ الْأَسْئِلَةِ على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا لَا يَجِبُ تَرْتِيبُهَا وَلَا حَجْرَ على الْمُعْتَرِضِ فِيمَا يُورِدُهُ منها على أَيِّ وَجْهٍ اتَّفَقَ الثَّانِي يَجِبُ التَّرْتِيبُ إذْ لو جَاوَزْنَا إيرَادَهَا على أَيِّ وَجْهٍ اتَّفَقَ لَأَدَّى إلَى التَّنَاقُضِ من حَيْثُ إنَّهُ قد يُوجَدُ الْمَنْعُ بَعْدَ الْمُعَارَضَةِ أو يُوجَدُ النَّقْضُ أو الْمُطَالَبَةُ قبل الْمَنْعِ ثُمَّ يُمْنَعُ بَعْدَ ذلك وهو مُمْتَنِعٌ لِمَا فيه من الْمَنْعِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَالْإِنْكَارِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ قال الْآمِدِيُّ وَهَذَا هو الْمُخْتَارُ وَلَكِنْ بِشَرْطِ كَوْنِهِ عَارِفًا وَإِلَّا فَيَفُوتُ عليه أَكْثَرُ مَقْصُودِهِ في الِاسْتِرْشَادِ الثَّالِثُ إنْ اتَّحَدَ جِنْسُ السُّؤَالِ كَالنَّقْضِ وَالْمُطَالَبَةِ وَالْمُعَارَضَةِ في الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ جَازَ إيرَادُهَا من غَيْرِ تَرْتِيبٍ لِأَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ سُؤَالٍ وَاحِدٍ وَحَكَى الْآمِدِيُّ في هذا الْقِسْمِ اتِّفَاقَ الْجَدَلِيِّينَ فَإِنْ تَعَدَّدَتْ أَجْنَاسُهَا كَالْمَنْعِ من الْمُطَالَبَةِ وَالنَّقْضِ وَالْمُعَارَضَةِ وَنَحْوِهِ نُظِرَ فَإِنْ كانت الْأَسْئِلَةُ غير مُرَتَّبَةٍ قال الْآمِدِيُّ فَأَجْمَعُوا على جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا إلَّا أَهْلَ سَمَرْقَنْدَ فَإِنَّهُمْ أَوْجَبُوا الِاقْتِصَارَ على سُؤَالٍ وَاحِدٍ لِقُرْبِهِ إلَى الضَّبْطِ وَبُعْدِهِ عن الْخَبْطِ وَإِنْ كانت مُرَتَّبَةً كَالْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ فَيُقَدَّمُ الْمَنْعُ ثُمَّ الْمُعَارَضَةُ وَلَا يُعْكَسُ هذا التَّرْتِيبُ وَإِلَّا لَزِمَ الْإِنْكَارُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ عن أَكْثَرِ الْجَدَلِيِّينَ وَقِيلَ لَا يُمْنَعُ ذلك بَعْدَ تَسْلِيمِ وُجُودِ الْوَصْفِ وَإِنْ سَلَّمَ عن الْمَنْعِ تَقْدِيرًا فَلَا يُسَلِّمُ عن الْمُطَالَبَةِ وَغَيْرِهَا وهو اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا بُدَّ من تَرْتِيبِ الْأَسْئِلَةِ إذَا لَزِمَ من تَقْدِيمِ بَعْضِهَا على بَعْضٍ مُنِعَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ فَإِنْ لم يَلْزَمْ ذلك كان التَّرْتِيبُ مُسْتَحْسَنًا لَا لَازِمًا فَعَلَى هذا اخْتَلَفُوا قال الْمُحَقِّقُونَ من الْمُتَأَخِّرِينَ التَّرْتِيبُ الْمُسْتَحْسَنُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْمُطَالَبَاتِ أَوَّلًا لِأَنَّهُ إذَا لم يُثْبِتْ أَرْكَانَ الْقِيَاسِ لم يَدْخُلْ في جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ ثُمَّ بِالْقَوَادِحِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ من كَوْنِهِ على صُورَةِ الْأَدِلَّةِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا ثُمَّ بِالْمُعَارَضَةِ إذْ لَا يَلْزَمُ من صِحَّتِهِ وُجُوبُ الْعَمَلِ ثُمَّ إذَا بَدَأَ بِالْمُنُوعِ فَالْأَوْلَى يَمْنَعُ وُجُودَ الْوَصْفِ في الْفَرْعِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الدَّعْوَى ثُمَّ يَمْنَعُ ظُهُورَهُ وَانْضِبَاطَهُ لِأَنَّ ذلك شَرْطُ كَوْنِهِ دَلِيلًا ثُمَّ يَمْنَعُ كَوْنَهُ عِلَّةً في الْأَصْلِ لِأَنَّهُ
____________________
(4/302)
دَلِيلُ الدَّلِيلِ فإذا نَقَضَ الْمُنُوعَ شَرَعَ في الْقَوَادِحِ فَيَبْدَأُ بِالْقَوْلِ الْمُوجِبِ لِوُضُوحِ مَأْخَذِهِ ثُمَّ بِفَسَادِ الْوَضْعِ وَاخْتِصَاصِهِ بِالشَّرْعِ ثُمَّ بِالْقَدْحِ في الْمُنَاسَبَةِ كَأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِهِ فَوَاتُ شَرْطِ كَوْنِهِ عِلَّةً ثُمَّ بِالْمُعَارَضَةِ في الْأَصْلِ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَطْرِيقِ الْإِكْمَالِ لِشَهَادَةِ الْأَصْلِ ثُمَّ بِالنَّقْضِ وَالْكَسْرِ لِأَنَّهُ مُعَارَضَةٌ لِدَلِيلِ الِاعْتِبَارِ بِدَلِيلِ الْإِهْدَارِ ثُمَّ بِالْمُعَارَضَةِ في الْفَرْعِ وَلَيْسَ في هذا التَّرْتِيبِ شَيْءٌ لَازِمٌ سِوَى تَأْخِيرِ الْمُعَارَضَةِ وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ من الْقُدَمَاءِ كما قَالَهُ أبو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ في أَدَبِ الْجَدَلِ إلَى أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْمَنْعِ من الْحُكْمِ في الْأَصْلِ لِأَنَّهُ إذَا كان مَمْنُوعًا لم يَجِبْ على السَّائِلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ على كَوْنِ الْوَصْفِ مَمْنُوعًا أو مُسَلَّمًا وَلَا كَوْنِ الْأَصْلِ مُعَلَّلًا بِتِلْكَ الْعِلَّةِ أو بِغَيْرِهَا ثُمَّ يُطَالِبُهُ بِإِثْبَاتِ الْوَصْفِ في الْفَرْعِ بِأَنَّ الْأَصْلَ مُعَلَّلٌ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ ثُمَّ بِاطِّرَادِ الْعِلَّةِ ثُمَّ بِتَأْثِيرِهَا ثُمَّ بِكَوْنِهَا مَوْضُوعَةً وَمَحَلُّهَا غَيْرُ فَاسِدِ الْوَضْعِ ثُمَّ بِالْمُحَامَاةِ عن مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ وَالنَّصِّ ثُمَّ بِالْقَلْبِ ثُمَّ بِالْمُعَارَضَةِ قال هذا هو التَّرْتِيبُ الصَّحِيحُ وَكَذَا جَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمُعَارَضَةَ آخِرَ الْأَسْئِلَةِ لِأَنَّهُ إذَا سَلَّمَ الدَّلِيلَ خَالِيًا عن الْقَوَادِحِ كُلِّهَا فَإِذْ ذَاكَ يَرِدُ عليه سُؤَالُ الْمُعَارَضَةِ وقال أَكْثَرُ الْجَدَلِيِّينَ وَارْتَضَاهُ مُتَأَخِّرُو الْأُصُولِيِّينَ أَوَّلُ ما يُبْدَأُ بِهِ الِاسْتِفْسَارُ ثُمَّ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ ثُمَّ فَسَادُ الْوَضْعِ ثُمَّ يُمْنَعُ حُكْمُ الْأَصْلِ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُقَدَّمٌ على الْعِلَّةِ لِأَنَّ اسْتِنْبَاطَ الْعِلَّةِ بَعْدَهُ ثُمَّ مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ في الْأَصْلِ ثُمَّ النَّظَرُ في عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ كَالْمُطَالَبَةِ وَعَدَمُ التَّأْثِيرِ وَالْقَدْحُ في الْمُنَاسَبَةِ وَالتَّقْسِيمُ وَعَدَمُ ظُهُورِ الْوَصْفِ وَانْضِبَاطِهِ وَكَوْنُ الْحُكْمِ غير صَالِحٍ لِلْإِفْضَاءِ إلَى ذلك الْمَقْصُودِ ثُمَّ النَّقْضُ وَالْكَسْرُ لِكَوْنِهِمَا مُعَارَضَةً لِلدَّلِيلِ ثُمَّ الْمُعَارَضَةُ في الْأَصْلِ لِأَنَّهَا مُعَارَضَةٌ لِلْعِلَّةِ فَكَانَ مُتَأَخِّرًا عن تَعَارُضِ دَلِيلِ الْعِلَّةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ وَالتَّرْكِيبِ لِأَنَّ حَاصِلَهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَارَضَةِ في الْأَصْلِ ثُمَّ بَعْدَهُ ما يَتَعَلَّقُ بِالْفَرْعِ لِمَنْعِ وُجُودِ الْعِلَّةِ في الْفَرْعِ وَمُخَالَفَةُ حُكْمِهِ بِحُكْمِ الْأَصْلِ وَمُخَالَفَتُهُ لِلْأَصْلِ في الضَّابِطِ في الْحُكْمِ وَالْمُعَارَضَةُ في الْفَرْعِ وَسُؤَالُ الْقَلْبِ ثُمَّ بَعْدَهُ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ لِتَضَمُّنِهِ لِتَسْلِيمِ كل ما يَتَعَلَّقُ بِالدَّلِيلِ في الْجُمْلَةِ مع بَقَاءِ النِّزَاعِ ثُمَّ بَعْدَ ذلك الْمُعَارَضَةُ لِأَنَّهَا تَسْلِيمُ الدَّلِيلِ بِخِلَافِ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ فإنه نِزَاعٌ في دَلَالَةِ الدَّلِيلِ على الْحُكْمِ مع الِاعْتِرَافِ بِهِ وقد أُورِدَ على هذا التَّرْتِيبِ إشْكَالَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَخَلَّ بِذِكْرِ الْفَرْقِ وَالْقَلْبِ فَإِنْ كان ذلك لِأَجْلِ أَنَّهُمَا
____________________
(4/303)
مُنْدَرِجَانِ تَحْتَ الْمُعَارَضَةِ وَجَبَ أَنْ لَا يَذْكُرَ النَّقْضَ لِأَنَّهُ مُعَارَضَةٌ لِلدَّلِيلِ على الْعِلِّيَّةِ فَهُوَ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْمُعَارَضَةِ وَأَنْ لَا يَذْكُرَ الْمُطَالَبَةَ وَلَا الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ لِأَنَّهُمَا يَرْجِعَانِ إلَى الْمَنْعِ الثَّانِي أَنَّهُ أَخَّرَ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ عن النَّقْضِ وَعَنْ غَيْرِهِ من الِاعْتِرَاضَاتِ وَقَدَّمَهُ على الْمُعَارَضَةِ فَإِنْ كان ذلك لِأَجْلِ الدَّلِيلِ إذَا لم يَسْلَمْ من الْقَوَادِحِ كَالنَّقْضِ وَغَيْرِهِ لَا يُقَالُ بِمُوجِبِهِ لَزِمَ أَنْ يَتَأَخَّرَ أَيْضًا الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ عن الْمُعَارَضَةِ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ أَيْضًا من جُمْلَةِ الْقَوَادِحِ لِأَنَّهَا مُضَادَّةٌ لِلدَّلِيلِ وما لم يَسْلَمْ الدَّلِيلُ عن الْقَوَادِحِ لَا يُقَالُ بِمُوجِبِهِ وَإِنْ كان سَبَبُ تَقَدُّمِهِ على الْمُعَارَضَةِ كَوْنَ الدَّلِيلِ لم يُنْصَبْ في مَوْضِعِهِ تَوَجَّهَ عليه الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ كَذَلِكَ فَلْيُقَدَّمْ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ على سَائِرِ الْأَسْئِلَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عن فَسَادِ الْوَضْعِ لِأَنَّهُ صَارَ شَبِيهًا بِفَسَادِ الْوَضْعِ فَيَظْهَرُ أَنَّ حَقَّ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ أَنْ يَتَقَدَّمَ على جَمِيعِهَا أو أَنْ يَتَأَخَّرَ عن جَمِيعِهَا وَحَكَى ابن السَّمْعَانِيِّ عن أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُمْ قالوا أَوَّلُ ما يَبْدَأُ السَّائِلُ من الِاعْتِرَاضِ أَنْ يَنْظُرَ في الْمُخْتَلِفِ فيه هل يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ فَيَمْنَعُ من الْقِيَاسِ إنْ كان لَا يَجُوزُ ثُمَّ يَنْظُرُ في الْأَصْلِ هل يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّلَ ثُمَّ يَنْظُرُ في الْعِلَّةِ هل يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهَا عِلَّةً ثُمَّ يَذْكُرُ الْمُمَانَعَةَ في الْأَصْلِ إنْ لم يَكُنْ مُسَلِّمًا ثُمَّ يُطَالِبُ بِتَصْحِيحِ الْعِلَّةِ في الْأَصْلِ ثُمَّ يقول بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ إنْ أَمْكَنَهُ ثُمَّ يَنْقُضُ وَمِنْهُمْ من يُقَدِّمُ النَّقْضَ على الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ ثُمَّ يَأْتِي على ما بَقِيَ من عَدَمِ التَّأْثِيرِ وَالْكَسْرِ وَفَسَادِ الْوَضْعِ ثُمَّ يَأْتِي بِالْقَلْبِ وَالْمُعَارَضَةِ قالوا وَإِنْ خَالَفَ ما ذَكَرْنَاهُ وَبَدَأَ بِغَيْرِهِ جَازَ وَإِنْ كان قد تَرَكَ الْأَحْسَنَ إلَّا في الْمُمَانَعَةِ وَالنَّقْضِ فإنه يَجُوزُ أَنْ يَنْقُضَ ثُمَّ يُمَانِعَ لِأَنَّ النَّاقِضَ يَعْتَرِفُ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَأَمَّا الْمَانِعُ فَيَمْنَعُ وُجُودَ الْعِلَّةِ فإذا مَانَعَ بَعْدَ الْمُنَاقَضَةِ فَقَدْ رَجَعَ فِيمَا سَلَّمَ وَهَذَا لَا يَجُوزُ مَسْأَلَةٌ قال الْخُوَارِزْمِيُّ في النِّهَايَةِ صَارَ جَمَاعَةٌ من أَئِمَّةِ الْعَصْرِ إلَى أَنَّ الْجَمْعَ بين سُؤَالَيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ لِأَنَّهُ إذَا مَنَعَ ثُمَّ سَلَّمَ يَكُونُ أَيْضًا مَنَعَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وهو غَيْرُ مَسْمُوحٍ جَدَلًا وهو فَاسِدٌ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بَعْدَ الْمَنْعِ اعْتِرَافٌ بَعْدَ إنْكَارٍ وهو مَسْمُوحٌ في مَجْلِسِ الْقَضَاءِ في أَمْرِ الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ فَلَأَنْ يُسْمَعَ ذلك هَاهُنَا أَوْلَى
____________________
(4/304)
فَصْلٌ ذَكَرُوا أَنَّ جَمِيعَ الْأَسْئِلَةِ تَرْجِعُ إلَى الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ لِأَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الْجَوَابُ عن الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ تَمَّ الدَّلِيلُ وَحَصَلَ الْغَرَضُ من إثْبَاتِ الْمُدَّعَى ولم يَبْقَ لِلْمُعْتَرِضِ مَجَالٌ فَيَكُونُ ما سِوَاهَا من الْأَسْئِلَةِ بَاطِلًا فَلَا يُسْمَعُ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عن جَمِيعِ الْمُنُوعِ إلَّا بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ على جَمِيعِ الْمُقَدِّمَاتِ وَبَيَانِ لُزُومِ الْحُكْمِ فيها وَإِلَّا لَاتَّجَهَ الْمَنْعُ وَكَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عن الْمُعَارَضَةِ إلَّا بِبَيَانِ انْتِفَاءِ الْمُعَارِضِ عن كُلِّهَا وَبَيَانِ كَيْفِيَّةِ رُجُوعِهَا إلَى ذلك أَمَّا الِاسْتِفْسَارُ فَلِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا كان مُحْتَمَلًا لَا يَحْصُلُ غَرَضُ الْمُسْتَدِلِّ إلَّا بِتَفْسِيرِهِ فَالْمُطَالَبَةُ بِتَفْسِيرِهِ تَسْتَلْزِمُ مَنْعَ تَحْقِيقِ الْوَصْفِ وَمَنْعَ لُزُومِ الْحُكْمِ عنه فَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْمَنْعِ وَأَمَّا التَّقْسِيمُ فَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْمَنْعِ أو الْمُعَارَضَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا كان مُحْتَمِلًا لِأَمْرَيْنِ فَيَضْطَرُّهُ الْمَنْعُ إلَى اخْتِيَارِ الْقِسْمَيْنِ وَحِينَئِذٍ يَتَّجِهُ عليه الْمَنْعُ أو الْمُعَارَضَةُ وَأَمَّا الْمُطَالَبَةُ فَهِيَ مع لُزُومِ الْحُكْمِ عن الْوَصْفِ فَهِيَ دَاخِلَةٌ في النَّقْضِ وَأَمَّا النَّقْضُ فَمُعَارَضَةٌ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ الْعِلَّةَ وَأَمَّا الْفَرْقُ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ ما يَكُونُ بَدَا مَعْنًى في الْأَصْلِ أو في الْفَرْعِ عن الْمَعْنَى الذي عَلَّلَ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ وَأَمَّا الْكَسْرُ فَهُوَ نَوْعٌ من النَّقْضِ وَالنَّقْضُ مُعَارَضَةٌ وَأَمَّا الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ فَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْمَنْعِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عن تَسْلِيمِ الدَّلِيلِ مع اسْتِيفَاءِ النِّزَاعِ في الْحُكْمِ وَذَلِكَ مَنْعُ لُزُومِ الْحُكْمِ مِمَّا ادَّعَاهُ الْمُسْتَدِلُّ وَأَمَّا الْقَلْبُ فَمُعَارَضَةٌ في الْحُكْمِ وَقِيلَ إنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الْمَنْعِ وَأَمَّا عَدَمُ التَّأْثِيرِ فَمُعَارَضَةٌ في الْمُقَدِّمَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إذَا احْتَجَّ بِالْقِيَاسِ فقال له الْمُعْتَرِضُ ما ذَكَرْته من الْمَعْنَى الْجَامِعِ غَيْرُ صَالِحٍ لِلْعِلِّيَّةِ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِدُونِهِ كان ذلك مُعَارَضَةً في الْمُقَدِّمَةِ لِأَنَّ ثُبُوتَ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ مُقَدِّمَةٌ في الْقِيَاسِ وَحَاصِلُهُ رَاجِعٌ إلَى الْقَدْحِ في كَوْنِ الْجَامِعِ عِلَّةً بِبَيَانِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِدُونِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ وهو في الْحَقِيقَةِ مُعَارَضَةٌ في الْعِلَّةِ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ يَدَّعِي كَوْنَ الْمَجْمُوعِ الْمُرَكَّبِ عِلَّةً وَالْمُعْتَرِضُ لِعَدَمِ التَّأْثِيرِ يُبَيِّنُ كَوْنَ بَعْضِ الْمَجْمُوعِ عِلَّةً لَا ذلك الْمَجْمُوعِ كُلِّهِ
____________________
(4/305)
وَذَلِكَ مُعَارَضَةٌ لِلْكُلِّ بِالْبَعْضِ وهو لَطِيفٌ غَامِضٌ وَأَمَّا التَّرْجِيحُ فَهُوَ مُعَارَضَةٌ في حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ وَكَيْفِيَّةُ تَوْجِيهِهِ أَنْ يُقَالَ مُوجِبُ ما ذَكَرْنَا من الدَّلِيلِ رَاجِحٌ على ما ذَكَرْتُمْ وَيُبَيِّنُهُ بِطَرِيقِهِ فَلَوْ لم يَثْبُتْ مُوجِبُهُ لَلَزِمَ التَّرْكُ بِالدَّلِيلِ الرَّاجِحِ وَإِنَّهُ مُمْتَنِعٌ وَلِلْخَصْمِ أَنْ يَمْنَعَ أَنَّهُ غَيْرُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ شَرْطُ الْغَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا له ذَاتًا بِمَعْنَى أَنَّهُ يُمْكِنُ وُجُودُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ احْتِرَازًا من الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ فَإِنْ كان من الْمُسْتَدِلِّ فَهُوَ مُعَارَضَتُهُ لِمَا اعْتَرَضَ بِهِ الْمُعْتَرِضُ كان الْمُعَارَضَةُ عِبَارَةً عن إقَامَةِ دَلِيلٍ يُوقَفُ بِهِ دَلِيلُ خَصْمِهِ وَالتَّرْجِيحُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الرَّاجِحِ فَيَدْفَعُ ما أَبْدَاهُ الْمُعْتَرِضُ لِكَوْنِهِ مَرْجُوحًا وَأَمَّا فَسَادُ الْوَضْعِ فَهُوَ مَنْعُ لُزُومِ الْحُكْمِ عن الدَّلِيلِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِالْقِيَاسِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ النَّصُّ مَوْجُودًا لَكِنَّ النَّصَّ مَوْجُودٌ وَأَمَّا فَسَادُ الِاعْتِبَارِ فَيَرْجِعُ إلَى الْمَنْعِ لِأَنَّهُ مع ثُبُوتِ الْقِيَاسِ على مُخَالَفَةِ النَّصِّ وقد وُجِدَ النَّصُّ وَاعْتِبَارُ الْقِيَاسِ على وُجُودِهِ اعْتِبَارٌ فَاسِدٌ فَلَا يَتَرَتَّبُ عليه الْحُكْمُ فَإِذًا فَسَادُ الِاعْتِبَارِ رَاجِعٌ إلَى مَنْعِ لُزُومِ الْحُكْمِ وَأَمَّا دَعْوَى كَوْنِ مَحَلِّ النِّزَاعِ لَا يَجُوزُ فيه الْقِيَاسُ فَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْمُعَارَضَةِ في الْعِلَّةِ أو في الْحُكْمِ وإذا عَلِمْتَ رُجُوعَ جَمِيعِ الِاعْتِرَاضَاتِ إلَى الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ رَاجِعَةٌ إلَى الْمَنْعِ فَائِدَةٌ قال بَعْضُهُمْ حَالُ الْمُتَنَاظِرَيْنِ أو النَّاظِرِ مع نَفْسِهِ في طَلَبِ وَجْهِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ كَحَالِ الْخَصْمَيْنِ بين يَدَيْ الْحَاكِمِ فَالْمُسْتَدِلُّ كَالْمُدَّعِي وَالسَّائِلُ كَالْمُدَّعَى عليه وَالْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ كَالْحَقِّ الْمُدَّعَى بِهِ وَأَصْلُ الْقِيَاسِ في الشَّاهِدِ وَعِلَّةُ الْأَصْلِ كَنُطْقِ الشَّاهِدِ بِأَدَاءِ شَهَادَتِهِ وَالشَّرْعُ الذي هو الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الْحَاكِمُ الذي يُنَفِّذُ الْحُكْمَ أو يَرُدُّ بِالتَّصْدِيقِ أو بِالتَّكْذِيبِ وَرَدُّ السَّائِلُ الْقِيَاسَ لِوُجُودِ النَّظَرِ كَتَزْيِيفِ الشُّهُودِ وَرَدِّهِمْ بِأَمْرٍ لَازِمٍ لَا خِلَافَ فيه وَالْمُمَانَعَةُ في حُكْمِ الْأَصْلِ وَوَصْفِهِ كَإِنْكَارِ حُضُورِ الشُّهُودِ وَالْمُمَانَعَةُ في وُجُودِ عِلَّةِ الْأَصْلِ كَإِنْكَارِ شَهَادَتِهِمْ وَمِثْلُهُ إنْكَارُ وُجُودِ الْعِلَّةِ في الْفَرْعِ وَالْوَضْعُ الْفَاسِدُ كَتَنَافِي الشَّهَادَةِ وَتَوَافُقِهَا وَالْمُطَالَبَةُ بِالدَّلِيلِ على صِحَّةِ الْعِلَّةِ كَتَكْلِيفِ الْمُدَّعِي تَعْدِيلَ الشُّهُودِ وَالنَّقْضُ كَإِظْهَارِ كَذِبِ الشُّهُودِ في مِثْلِ ما شَهِدُوا بِهِ عليه وَالْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ كَتَفْسِيرِ الشَّهَادَةِ بِمَا يَحْتَمِلُهَا لِيَخْرُجَ من عُهْدَتِهَا بِالشَّيْءِ الْمُدَّعَى بِهِ وَالْمُعَارَضَةُ
____________________
(4/306)
كَمُقَابَلَةِ الشُّهُودِ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِخِلَافِهَا فَتَتَهَافَتُ الشَّهَادَتَانِ وَكُلُّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْقِيَاسِ وإذا سَلِمَ منها كان مَعْمُولًا بِهِ مَسْأَلَةٌ قال الْبَلْعَمِيُّ الِانْقِطَاعُ كَاسْمِهِ وَحُكْمُهُ مُقْتَضَبٌ من لَفْظِهِ وهو قُصُورُهُ عن بُلُوغِ مَغْزَاهُ وَعَجْزُهُ عن إظْهَارِ مُرَادِهِ وَمُبْتَغَاهُ وقال الصَّيْرَفِيُّ الِانْقِطَاعُ من الْمُجِيبِ ما دَامَ السَّائِلُ مُطَالِبًا يَكُونُ إمَّا بِالْخُرُوجِ من مَسْأَلَةٍ إلَى مَسْأَلَةٍ عن جَوَابِ ما سَأَلَ عنه أو الِاعْتِرَافِ بِأَنْ لَا جَوَابَ عنه أو كَوْنِ ما يَدْفَعُهُ عَدَلَهُ على نَفْسِهِ إمَّا جَحَدَ الضَّرُورَةَ أو سمع أو غير ذلك من الْأُصُولِ أو السُّكُوتِ عن الْجَوَابِ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ فيه وَانْقِطَاعُ السَّائِلِ بِأَنْ لَا يَكُونَ معه زِيَادَةٌ في سُؤَالِهِ وقد يَتَهَيَّأُ لِلسَّائِلِ أَنْ يَقُولَ هذا مَذْهَبٌ صَحِيحٌ وَإِلَيْهِ كُنْت أَدْعُوك اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ ما قد ظَهَرَ من الْخِلَافِ يَدُلُّ على خِلَافِ هذا وَالْخُرُوجُ من مَسْأَلَةٍ إلَى أُخْرَى لَا يَتَّصِلُ لِمُنَاقَضَةِ الْخَصْمِ أو السُّكُوتِ بَعْدَ أَنْ يَقَعَ الْجَوَابُ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الِانْقِطَاعُ عِبَارَةٌ عن الْعَجْزِ عن بُلُوغِ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ إمَّا بِانْتِقَالِهِ من دَلِيلٍ لم يُصَحِّحْهُ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ سُئِلَ عن مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَ بِالدَّلِيلِ فَقِيلَ انْقِطَاعٌ وَالتَّحْقِيقُ إنْ كان فيه تَنْبِيهٌ على الْحُكْمِ لم يَكُنْ انْقِطَاعًا وَلَا انْتِقَالًا وَهَذَا كما سَأَلَ إِسْحَاقُ الْحَنْظَلِيُّ الشَّافِعِيَّ عن بَيْعِ دُورِ مَكَّةَ فقال هل تَرَكَ لنا عَقِيلٌ من رِبَاعٍ وَهَذَا إنَّمَا هو دَلِيلٌ اسْتَدَلَّ بِهِ على جَوَازِ الْبَيْعِ
____________________
(4/307)
فَصْلٌ في الِانْتِقَالِ وقد مَنَعَهُ الْجُمْهُورُ وقال الشَّاعِرُ وإذا تَنَقَّلَ في الْجَوَابِ مُجَادِلٌ دَلَّ الْعُقُولَ على انْقِطَاعٍ حَاصِرٍ وَلِأَنَّا لو جَوَّزْنَاهُ لِمَ بَاتَ إفْحَامُ الْخَصْمِ وَلَا إظْهَارُ الْحَقِّ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَشْرَعُ في كَلَامٍ وَيَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ قبل تَمَامِ الْأَوَّلِ وَهَكَذَا إلَى ما لَا نِهَايَةَ له فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ من الْمُنَاظَرَةِ وهو إظْهَارُ الْحَقِّ وَإِفْحَامُ الْخَصْمِ وَاسْتَثْنَوْا من ذلك ما إذَا اسْتَفَادَ من الْكَلَامِ الْمُتَنَقِّلِ عنه فَائِدَةً لو لم يَذْكُرْهُ أَوَّلًا لم تَحْصُلْ له تِلْكَ الْفَائِدَةُ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْإِرْشَادِ فَأَمَّا السَّائِلُ لو انْتَقَلَ من السُّؤَالِ قبل تَمَامِهِ وقال ظَنَنْتُ أَنَّهُ لَازِمٌ فَبَانَ خِلَافَهُ فَمَكِّنُونِي من سُؤَالٍ آخَرَ فَفِيهِ خِلَافٌ حَكَاهُ بَعْضُهُمْ وقال الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُمَكَّنُ منه إذَا كان انْحِدَارًا من الْأَعْلَى إلَى الْأَدْنَى فَإِنْ كان تَرَقِّيًا من الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى كما لو أَرَادَ التَّرَقِّي من الْمُعَارَضَةِ إلَى الْمَنْعِ فَقِيلَ لَا يُمْكِنُ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِنَفْسِهِ وَقِيلَ يُمَكَّنُ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْإِرْشَادُ وَأَمَّا الْمَسْئُولُ فَيُمَكَّنُ من الْغَرَضِ كما سَيَأْتِي وَلَوْ أَرَادَ الْعُدُولَ من دَلِيلٍ إلَى دَلِيلٍ لَا يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ كان مُنْقَطِعًا فَإِنْ تَرَكَ الدَّلِيلَ الْأَوَّلَ لِعَجْزِ السَّائِلِ عن فَهْمِهِ لَا يُعَدُّ انْقِطَاعًا وَعَلَى ذلك حُمِلَتْ قَضِيَّةُ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ الِانْتِقَالَ مُطْلَقًا مُحْتَجًّا بِالِاحْتِجَاجِ على الْكَافِرِ فإن اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ من الْمَشْرِقِ فَأْتِ بها من الْمَغْرِبِ بَعْدَ الِاحْتِجَاجِ عليه بِأَنَّ اللَّهَ يُحْيِي وَيُمِيتُ قال الْأَصْفَهَانِيُّ وَهَذَا ليس بِانْتِقَالٍ بَلْ هو في غَايَةِ الْحُسْنِ وَالْكَمَالِ في صَنْعَةِ الْجَدَلِ وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَمَّا وَضَعَ الِاحْتِجَاجَ على الْمُلْحِدِ بِمَا يَعْجِزُ هو عنه وَيَعْتَرِفُ بِهِ وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُحْيِي وَيُمِيتُ أَوْرَدَ الْمُلْحِدُ شُبْهَةً خَيَالِيَّةً عليه فَبَدَّلَ ذلك الْمِثَالَ الْمَعْجُوزَ عنه بِمِثَالٍ لَا يَقْدِرُ على إيرَادِ شُبْهَةٍ خَيَالِيَّةٍ عليه وهو قَوْلُهُ فإن اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ من الْمَشْرِقِ وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الْمِثَالَيْنِ يَعْجِزُ عنه الْمُلْحِدُ قَطْعًا إلَّا أَنَّ الْمِثَالَ الثَّانِيَ لَا قُدْرَةَ له وَلَا لِغَيْرِهِ على إيرَادِ شُبْهَةٍ خَيَالِيَّةٍ عليه فَإِذَنْ الدَّلِيلُ على أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ على ما
____________________
(4/308)
يَعْجِزُ مُدَّعِي الْإِلَهِيَّةِ عنه وَالْمِثَالَانِ مُشْتَرَكَانِ في ذلك إلَّا أَنَّ الْمِثَالَ الْأَوَّلَ أَمْكَنَهُ أَنْ يُبْدِيَ خَيَالًا فَاسِدًا عليه وَالثَّانِي ليس كَذَلِكَ وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْمُشْتَرَكِ بين الْمِثَالَيْنِ وَلَيْسَ انْتِقَالًا أَصْلًا وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ ليس هذا انْتِقَالًا لِأَنَّ خَصْمَهُ لم يَفْهَمْ دَلِيلَهُ الْأَوَّلَ وَعَارَضَهُ على إحْيَاءِ الْمَوْتَى بِتَرْكِهِ قَتْلَ من يُمْكِنُهُ قَتْلُهُ وَالْحُجَّةُ عليه بَاقِيَةٌ لِعَجْزِهِ عن إحْيَاءِ من قد مَاتَ فلما تَقَرَّرَتْ هذه الْحُجَّةُ أَلْزَمَهُ حُجَّةً أُخْرَى هِيَ إلَى فَهْمِ خَصْمِهِ أَقْرَبُ فقال إنْ كُنْت إلَهًا فَاقْلِبْ الشَّمْسَ في سَيْرِهَا إلَى طُلُوعِهَا من مَغْرِبِهَا إنْ كُنْت مُجْرِيهَا فَاعْتَرَفَ خَصْمُهُ عن جَوَابِهِ في الْحُجَّةِ الثَّانِيَةِ وكان في التَّحْقِيقِ مُنْقَطِعًا عن الْجَوَابِ في الْأُولَى قبل الثَّانِيَةِ لو أَنْصَفَ من نَفْسِهِ وقال الْإِمَامُ في الْأَرْبَعِينَ الدَّلِيلُ كان شيئا وَاحِدًا وهو حُدُوثُ ما لَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ على إحْدَاثِهِ فَهُوَ يَدُلُّ على قَادِرٍ آخَرَ غَيْرِ الْخَلْقِ ثُمَّ هذا الْمَعْنَى له أَمْثِلَةُ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ من مَشْرِقِهَا فَهَذَا كان انْتِقَالًا من مِثَالٍ إلَى مِثَالٍ أَمَّا الدَّلِيلُ فَشَيْءٌ وَاحِدٌ في الْحَالَيْنِ
____________________
(4/309)
فَصْلٌ في الْفَرْضِ وَالْبِنَاءِ اعْلَمْ أَنَّ لِلْمَسْئُولِ في الدَّلَالَةِ ثَلَاثَةَ طُرُقٍ أَحَدُهَا أَنْ يَدُلَّ على الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا وَالثَّانِي أَنْ يَفْرِضَ الدَّلَالَةَ في بَعْضِ شُعَبِهَا وَفُصُولِهَا وَالثَّالِثُ أَنْ يَبْنِيَ الْمَسْأَلَةَ على غَيْرِهَا فَإِنْ اسْتَدَلَّ عليها بِعَيْنِهَا فَوَاضِحٌ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَفْرِضَ الْكَلَامَ في بَعْضِ أَحْوَالِهَا جَازَ لِأَنَّهُ إذَا كان الْخِلَافُ في الْكُلِّ وَثَبَتَ الدَّلِيلُ في بَعْضِهَا ثَبَتَ الْبَاقِي بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَفْرِضَ الدَّلَالَةَ في غَيْرِ فَرْدٍ من أَفْرَادِ الْمَسْأَلَةِ لم يَجُزْ وَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ الْمَسْأَلَةَ على غَيْرِهَا فَيَجُوزُ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ من طُرُقِ الْمَسْأَلَةِ وَإِمَّا أَنْ يَبْنِيَهَا على مَسْأَلَةٍ أُصُولِيَّةٍ كَقَوْلِ الظَّاهِرِيِّ في الْغُسْلِ لَا بِنَاءً على مَنْعِ الْقِيَاسِ وَإِمَّا أَنْ يَبْنِيَهَا على مَسْأَلَةٍ أُخْرَى فَرْعِيَّةٍ كَالْخِلَافِ في الشَّعْرِ هل يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ بِنَاءً على أَنَّهُ هل تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ أَمْ لَا هذا إذَا كان طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا فَإِنْ اخْتَلَفَ لم يَجُزْ بِنَاءُ بَعْضِهَا على بَعْضٍ كما لو سُئِلَ الْحَنَفِيُّ عن قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ فقال أنا أَبْنِيهِ على أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ فَهَذَا لَا يَصِحُّ فيه الْبِنَاءُ لِأَنَّهُمَا مَسْأَلَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ قد كَثُرَ في عِبَارَاتِهِمْ وَالْفَرْضُ وَالْبِنَاءُ من غَيْرِ تَحْقِيقٍ وَمَعْنَاهُ أَنْ يَسْأَلَ الْمُسْتَدِلُّ عَامًّا فَيُجِيبُهُ خَاصًّا مِثْلُ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ ذَاتَ صُوَرٍ فَيَسْأَلُ السَّائِلُ عنه سُؤَالًا لَا يَقْتَضِي الْجَوَابَ على جَمِيعِ صُوَرِهَا فَيُجِيبُ الْمُسْتَدِلُّ عن صُورَةٍ أو صُورَتَيْنِ منها لِأَنَّ الْفَرْضَ هو الْقَطْعُ وَالتَّقْدِيرُ فَكَأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ اقْتَطَعَ تِلْكَ الصُّورَةَ عن أَخَوَاتِهَا فَأَجَابَ عنها وهو إمَّا فَرْضٌ في الْفَتْوَى كما لو سُئِلَ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ هل يَنْعَقِدُ أَمْ لَا فيقول لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ لِوُرُودِ النَّهْيِ فإن بَيْعَ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ من صُوَرِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا عَيْنِهِ وَإِمَّا فَرْضٌ في الدَّلِيلِ بِأَنْ يَبْنِيَ عَامًّا وَيَدُلَّ خَاصًّا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ لِأَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ وَالضَّابِطُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَدِلُّ يُسَاعِدُهُ الدَّلِيلُ عليها فإذا تَمَّ له فيها الدَّلِيلُ بَنَى الْبَاقِيَ من الصُّوَرِ عليها وَلِذَلِكَ يُسَمَّى الْفَرْضُ وَالْبِنَاءُ وإذا عَرَفْت هذا فَقَدْ اُخْتُلِفَ في جَوَازِهِ فَذَهَبَ ابن فُورَكٍ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ حَقَّ الْجَوَابِ أَنْ يُطَابِقَ السُّؤَالَ
____________________
(4/310)
وَذَهَبَ غَيْرُهُ من الْجَدَلِيِّينَ إلَى الْجَوَازِ لِأَنَّ الْمَسْئُولَ قد لَا يَجِدُ دَلِيلًا إلَّا على بَعْضِ صُوَرِ السُّؤَالِ وَلِأَنَّهُ قد يَرِدُ على جَوَابِهِ الْعَامِّ إشْكَالٌ لَا يَنْدَفِعُ فَيَتَخَلَّصُ منه بِالْفَرْضِ الْخَاصِّ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كانت عِلَّةُ الْفَرْضِ شَامِلَةً لِسَائِرِ الْأَطْرَافِ قال وَالْمُسْتَحْسَنُ منه هو الْوَاقِعُ في طَرَفٍ يَشْتَمِلُ عليه عُمُومُ سُؤَالِ السَّائِلِ وَذَلِكَ مَحْمُولٌ على اسْتِشْعَارِ انْتِشَارِ الْكَلَامِ في جَمِيعِ الْأَطْرَافِ وَعَدَمِ وَفَاءِ مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بِاسْتِتْمَامِ الْكَلَامِ فيها وَحَاصِلُهُ إنْ ظَهَرَ انْتِظَامُ الْعِلَّةِ الْعَامَّةِ في الصُّورَتَيْنِ كان مُسْتَحْسَنًا وَإِلَّا كان مُسْتَهْجَنًا وَفَائِدَتُهُ كَوْنُ الْعِلَّةِ قد تَخْفَى في بَعْضِ الصُّوَرِ وفي بَعْضِهَا أَظْهَرُ فَالتَّفَاوُتُ بِالْأَوْلَوِيَّةِ خَاصَّةً وَالْعِلَّةُ وَاحِدَةٌ وَهَذَا بِمَثَابَةِ تَوَجُّهِ النَّهْيِ إلَى جَمِيعِ أَذِيَّاتِ الْأَبِ إلَى التَّأْفِيفِ وَيُشْبِهُ الْفَرْقَ بين التَّوَاطُؤِ وَالْمُشْتَرَكِ فإن نِسْبَةَ الْآحَادِ إلَى التَّوَاطُؤِ مُتَسَاوِيَةٌ بِخِلَافِ الْمُشْكِلِ قال ابن الْمُنِيرِ وَأَعْجَبَنِي من الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بن عبد السَّلَامِ كَلَامٌ أَوْرَدَهُ في اسْتِبْعَادِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ في مَسْأَلَةِ الْوَصِيَّةِ بِجُزْءٍ من مَالِهِ أو سَهْمٍ فإن مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ حَمَلَ الْوَصِيَّةَ على الْأَقَلِّ فَمَهْمَا سَلَّمَهُ الْوَرَثَةُ خَرَجُوا بِهِ عن الْعُهْدَةِ فَكَانَ يَسْتَبْعِدُ هذا وَيَفْرِضُ فِيمَا لو اُحْتُضِرَ مُتَمَوِّلٌ وَاسِعُ الْمَالِ فَعَطَفَهُ الْحَاضِرُونَ على وَلَدِ وَلَدٍ تُوُفِّيَ في حَيَاتِهِ وَقِيلَ له إنَّ وَلَدَ وَلَدِك لَا مِيرَاثَ له مع غَيْرِهِ فَلَوْ وَصَلْتَ رَحِمَهُ وَأَغْنَيْتَ فَقْرَهُ بَعْدَك بِأَنْ تُوصِيَ له بِشَيْءٍ من مَالِك لِيَكُونَ له مع وَلَدِك مَدْخَلٌ فقال الْمُحْتَضَرُ قد أَوْصَيْت له بِسَهْمٍ من مَالِي وَأَوْصَى عَمُّهُ بِهِ حين تُوُفِّيَ هذا الْمُحْتَضَرُ فَعَمَدَ وَلَدُهُ إلَى سَفَرْجَلَةٍ أو تَمْرَةٍ فَسَلَّمَهَا لِوَلَدِ الْوَلَدِ زَاعِمًا أَنَّ هذا مُرَادُ أبيه لِقَطْعِ كل عَاقِلٍ بِأَنَّ هذا الْوَارِثَ مُدَافِعٌ لِلْوَصِيَّةِ مُرَادٌ وكان الشَّيْخُ يَسْتَصْوِبُ مَذْهَبَ مَالِكٍ في حَمْلِهِ السَّهْمَ على إلْحَاقِ الْمُوصَى له بِسُهْمَانِ الْوَرَثَةَ لَكِنْ يَرْجِعُ إلَى أَقَلِّهِمْ سَهْمًا فَيُعْطَى مثله جَمْعًا بين الْمُعَرَّفِ وَبَيْنَ الْأَصْلِ في الْحَمْلِ على الْأَقَلِّ وَمِثْلُ هذا الْفَرْضِ يُسْتَحْسَنُ لَا بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْعِلَلِ وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ تَمَكُّنِ الصُّورَةِ الْمَفْرُوضَةِ من الدَّلِيلِ وَإِنْ كان شَامِلًا لِلْجَمِيعِ وَلَكِنْ شُمُولًا مُتَفَاوِتًا قال ثُمَّ وَقَعَ لي بَعْدَ ذلك أَنَّ الشَّيْخَ في فَرْضِهِ إيقَافٌ لِلْأَذْهَانِ في مُبَادِيهَا وإذا تُؤُمِّلَ انْدَفَعَ التَّشْنِيعُ من الْفَقِيهِ الْمُفْتِي بِأَقَلِّ شُمُولٍ لَا الْمُوصِي الذي هو الْحَقِيقُ بِاللَّوْمِ وَآيَةُ ذلك أَنَّ الْمُوصِيَ لو قال في السِّيَاقِ الْمَذْكُورِ ادْفَعُوا له أَقَلَّ مُتَمَوَّلٍ لم يَكُنْ بُدٌّ من
____________________
(4/311)
قَبُولِ السَّفَرْجَلَةِ وَنَحْوِهَا على سَائِرِ الْمَذَاهِبِ وَكَذَا لو صَرَّحَ بها وَلَا لَوْمَ على الْفَقِيهِ إذَا قال لَا يَسْتَحِقُّ الْمُوصَى بِهِ أَكْثَرَ من ذلك فَكَذَلِكَ إذَا عَدَلَ الْمُوصِي عن التَّعْيِينِ وقال ادْفَعُوا له سَهْمًا أو جُزْءًا وقد اتَّفَقْنَا على أَنَّ الْأَكْثَرَ لَا يَنْضَبِطُ وَكَذَلِكَ الْأَوْسَطُ لِتَعَدُّدِ حَالِ الْوَسَائِطِ فلم يَبْقَ من الْأَطْرَافِ الثَّلَاثَةِ إلَّا الْأَقَلُّ فَكَانَ كما لو صَرَّحَ فَاللَّائِمَةُ حِينَئِذٍ على الْمُوصِي لَا على الْمُفْتِي وَاعْلَمْ أَنَّ بِنَاءَ مَسْأَلَةٍ على أُخْرَى إنْ كان قبل الشُّرُوعِ في الِاسْتِدْلَالِ فَلَا خِلَافَ في جَوَازِهِ وَإِنْ كان بَعْدَهُ فَإِنْ ابْتَدَأَ الدَّلَالَةَ ولم يذكر أَنَّهُ يُرِيدُ الْبِنَاءَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ من الْأُصُولِ كَاسْتِدْلَالِ الْمَالِكِيِّ على الْحَنَفِيِّ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ في مَسْأَلَةِ الْأَذَانِ فَإِنْ سَلَّمَ الْحَنَفِيُّ تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا عَدَلَ إلَى غَيْرِهِ من الْأَسْئِلَةِ وَإِلَّا قال له الْمَسْئُولُ هذا أَصْلٌ من أُصُولِي وأنا أَبْنِي فَرْعِي على أَصْلِي فَإِنْ سَلَّمْت وَإِلَّا نَقَلْت الْكَلَامَ فَإِنْ نَقَلَ جَازَ وَإِنْ قال لَا أُسَلِّمُ وَلَا أَنْقُلُ الْكَلَامَ إلَيْهِ لم يَكُنْ له ذلك وَإِنْ كان الذي بَنَى عليه فَرْعًا يُمَانِعُهُ السَّائِلُ فَإِنْ أَرَادَ نَقْلَ الْكَلَامِ إلَى مَسْأَلَةِ الْبِنَاءِ فَهَلْ يَجُوزُ ذلك قال أبو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ ليس له ذلك لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ له ذلك وهو الصَّحِيحُ عِنْدِي اعْتِبَارًا بِبِنَائِهَا على أَصْلٍ من الْأُصُولِ الظَّاهِرَةِ
____________________
(4/312)
فَصْلٌ قال الْبَلْعَمِيُّ في الْغَرَرِ أَلْطَفُ حِيَلِ الْمُتَنَاظِرِينَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ أَحَدُهَا نَقْلُ السَّائِلِ عن سُؤَالٍ وَإِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اسْتِشْهَادِهِ على الْمُجِيبِ بِمَا يَلْزَمُهُ وَيَقْطَعُهُ فإذا أَرَادَ الْمُجِيبُ نَقْلَهُ جَحَدَ بَعْضَ ما اسْتَشْهَدَ بِهِ عليه وَإِنْ كان وَاضِحًا فإذا بَيَّنَهُ اخْتَلَطَ الْكَلَامَانِ وَبِهِ يَنْقُلُهُ من الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إلَى غَيْرِهَا فَيَجِبُ على السَّائِلِ إمْعَانُ النَّظَرِ في مِثْلِ هذا وَالثَّانِي تَقْسِيمُ السُّؤَالِ وهو أَنْ يَنْظُرَ الْمُجِيبُ إلَى أَحْوَالِهِ فَإِنْ كان مُحْتَمِلًا لِوُجُوهٍ شَتَّى قَسَّمَهُ على وُجُوهِهِ لِيُطِيلَ مُنَاظَرَةَ السَّائِلِ وَيَشْغَلَ قَلْبَهُ عن قُوَّةِ الْمُنَاظَرَةِ فَيَبْطُلُ غَرَضُ السَّائِلِ في الْجَدَلِ فَالْوَاجِبُ على السَّائِلِ أَنْ لَا يُمَكِّنَهُ من التَّقْسِيمِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ عليه غَرَضُهُ الثَّالِثُ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ وهو أَنْ يَقْصِدَ تَكْثِيرَ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ في الْقُرْآنِ لِيَجْبُنَ خَصْمُهُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ في جَوَابِ دَعْوَاهُ قَوْله تَعَالَى وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ وَقَوْلُهُ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ في يَوْمٍ عَاصِفٍ فإذا أَرَادَ الْخَصْمُ إلْزَامَهُ فَتَعَذَّرَ عليه وَانْقَطَعَ دُونَهُ تَلَا قَوْله تَعَالَى إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لهم مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عنها مُبْعَدُونَ
____________________
(4/313)
فَصْلٌ في التَّعَلُّقِ بِمُنَاقَضَاتِ الْخُصُومِ لَخَّصْتُهُ من كَلَامِ إلْكِيَا لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْمَذَاهِبِ إلَّا بِدَلِيلٍ إجْمَاعِيٍّ أو مُسْتَقِلٍّ من أَوْضَاعِ الشَّرْعِ وِفَاقًا وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا في التَّعَلُّقِ بِمُنَاقَضَاتِ الْخُصُومِ في الْمُنَاظَرَةِ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إلَى جَوَازِهِ من حَيْثُ إنَّ الْمَقْصُودَ من الْجَدَلِ تَضْيِيقُ الْأَمْرِ على الْخَصْمِ وَإِبَانَةُ اسْتِقَامَةِ أَصْلِهِ وَفَصَّلَ الْقَاضِي تَفْصِيلًا حَسَنًا لَا غُبَارَ عليه فقال إنْ كانت الْمُنَاقَضَةُ عَائِدَةً إلَى تَفَاصِيلِ أَصْلٍ لَا يَرْتَبِطُ فَسَادُهَا وَصِحَّتُهَا بِفَسَادِ الْأَصْلِ بِحَالٍ بَلْ الْأَصْلُ إذَا ثَبَتَ اُسْتُصْحِبَ حُكْمُهُ على الْفَرْعِ فَلَا يَجُوزُ التَّعَلُّقُ بها من حَيْثُ إنَّهُ لَا يَعُودُ على الْمَقْصُودِ وَلَئِنْ قِيلَ فيها مَقْصُودٌ صَحِيحٌ وهو اضْطِرَارُ الْخَصْمِ إلَى إبَانَةِ الْحُجَّةِ التي يُعَوِّلُ الْخَصْمُ عليها فَبِهِ يَتِمُّ النَّظَرُ ثُمَّ تَكَلَّمَ على الْمَأْخَذِ على هذا التَّدْرِيجِ وَحِينَئِذٍ فَيَجُوزُ التَّعَلُّقُ بِهِ وَلَكِنَّ كَلَامَنَا فِيمَا إذَا عَلِمَ أَنَّ الْفَرْعَ فَاسِدٌ لِفَسَادِ نَظَرِ الْخَصْمِ فيه على الْخُصُوصِ لَا في الْأَصْلِ وَهَذَا يَعِزُّ وُجُودُهُ وَلَكِنْ إذَا وُجِدَ كان حُكْمُهُ ما ذَكَرْنَا وَإِنْ كان التَّعَلُّقُ بِالْفَرْعِ من قَبْلِ امْتِحَانِ الْأَصْلِ بِسِيَاقِهِ وَعَلِمَ أَنَّ الْفَرْعَ من ضَرُورَاتِ الْأَصْلِ فَيَجُوزُ التَّعَلُّقُ بِهِ وِفَاقًا وَسَبَبُ هذا التَّفْصِيلِ أَنَّ الذي يَسْأَلُ عن مَسْأَلَةٍ فَيُفْتَى فيها فَلَا بُدَّ له من نَصْبِ دَلِيلٍ على ما أَفْتَى بِهِ وَلَنْ يَتَحَقَّقَ نَصْبُ الدَّلِيلِ على ذلك إلَّا بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْهُجُومُ على ذِكْرِ الدَّلِيلِ وَالْبَحْثُ عن الْمَعْنَى وَهَذَا هو الْأَصْلُ والثاني أَنْ يَنْقَدِحَ بِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْخَصْمِ إلَى إثْبَاتِ مَذْهَبِهِ إذَا لم يَكُنْ في الْمَسْأَلَةِ إلَّا مَذْهَبَانِ أو اعْتِرَافًا بِأَنَّ ما عَدَا الْمَذْهَبَيْنِ بَاطِلٌ وَإِقْرَارُهُمَا على أَنْفُسِهِمَا حُجَّةٌ مَسْأَلَةٌ قال إذَا ذَكَرَ الْمُعَلِّلُ وَصْفًا وَقَاسَ على أَصْلٍ فَهَلْ عليه إثْبَاتُ عِلَّةِ الْأَصْلِ بِطَرِيقٍ من مَسَالِكِ الْعِلَّةِ أَمْ لَا يَجِبُ عليه وَيُقَالُ لِلسَّائِلِ إنْ أنت أَثْبَتَّ أَنَّهُ ليس بِصَالِحٍ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بَطَلَ تَعْلِيلُهُ قال إلْكِيَا فيه خِلَافٌ
____________________
(4/314)
فَصَارَ صَائِرُونَ إلَى أَنَّ ذلك على السَّائِلِ من حَيْثُ إنَّ الْمُعَلِّلَ ذَكَرَ وَصْفًا أَصْلًا فَقَدْ وُجِدَ فيه حَدُّ الْقِيَاسِ وَرُكْنُهُ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ وَأَنَّ كُلَّ وَصْفٍ يَرْبِطُ الْفَرْعَ بِالْأَصْلِ فَهُوَ حُجَّةٌ وَإِنَّمَا يَفْسُدُ لِاخْتِلَالِ الشَّرَائِطِ وَهَذَا ليس بِالْعَرِيِّ عن التَّحْصِيلِ وَلَوْ فُرِضَ التَّوَاطُؤُ عليه لم يَكُنْ هذا وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ مع هذا أَنَّ ذلك على الْمُعَلِّلِ فإن عليه أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَظْهَرُ من مَقْصُودِهِ لِيَخْرُجَ الْكَلَامُ عن حَدِّ الدَّعْوَى بِظُهُورِ مُخَيَّلٍ ثُمَّ الْقَوَادِحُ على الْمُعْتَرِضِ وإذا عَرَفَ هذا فَلَوْ ذَكَرَ مَعْنًى مُنَاسِبًا كَفَاهُ وَإِنْ كانت الْمَعَانِي مُنْقَسِمَةً إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ الْمَعَانِي التي لها أُصُولٌ وَالْبُطْلَانُ مُعَارِضٌ فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ لِلْأَصْلِ اعْتِبَارَ أَوْصَافٍ لها أُصُولٌ فَإِنْ لم تَتَحَقَّقْ الْمُنَاسَبَةُ فَالْأَمْرُ في الْوَصْفِ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا يُمْكِنُ ذلك بِإِثْبَاتِ الطَّرْدِ حُجَّةً وَرَاءَ الذي يُقَالُ فيه إنَّ الْحُكْمَ يَدُلُّ على الْحُكْمِ وَالْأَوْصَافَ تَدُلُّ على الِاجْتِمَاعِ في الطَّرْدِ وَالْوَصْفَ عِنْدَ مُثْبِتِهِ يَدُلُّ على الْحُكْمِ في الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ على السَّوَاءِ فَإِنْ ثَبَتَ هذا فَالْوَصْفُ الْمُطْلَقُ كَالْمُخَيَّلِ وَقِيلَ لَا بُدَّ من إبْرَازِ الْإِخَالَةِ وَالْعَرْضِ على الْأُصُولِ تَحْقِيقًا لِشَرْطِهِ
____________________
(4/315)
فَصْلٌ في الِاحْتِجَاجِ بِالْمُخْتَلَفِ فيه بين الْخَصْمَيْنِ قال الصَّيْرَفِيُّ يَصْلُحُ لِمُثْبِتِي الْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ الِاحْتِجَاجُ بِهِ على مُخَالِفِيهِمْ في الْمَسَائِلِ التي دَلِيلُهَا من هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَإِنْ قال قَائِلٌ إنِّي أُخَالِفُك في الْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ قِيلَ له إنْ أنت خَالَفْتنِي فِيهِمَا فَوَجْهُ دَلَالَتِي منه كَذَا فَإِنْ خَالَفْتنِي فيه بَيِّنَتُهُ عَلَيْك وَإِنْ سَلَّمْتَهُ فَحُجَّتِي بَيِّنَةٌ وَلَيْسَ عَلَيَّ أَنْ أَدُلَّك على الْأَوَاخِرِ من غَيْرِ إثْبَاتِ الْوَسَائِطِ فَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ أو يَشُكَّ في الْأَصْلِ فَهَذَا مَوْضِعُ الْمُطَالَبَةِ على الدَّلِيلِ بِالدَّلِيلِ إذْ قد كان الدَّلِيلُ يُسَوَّغُ فيه الْخِلَافُ وَهَذَا يُفَسِّرُ قَوْلَ بَعْضِ الْجَدَلِيِّينَ إنَّهُ إذَا سُئِلَ عن الدَّلِيلِ قال الدَّلِيلُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ وَلَوْ سَاغَ ذلك لَأَدَّى إلَى ما لَا نِهَايَةَ له فَيُقَالُ له لَا نُسَلِّمُ صَيْرُورَتَهُ إلَى ما لَا نِهَايَةَ له لِأَنَّ الْأَسْئِلَةَ مُنْحَصِرَةٌ وَشَوَاهِدُ الْعَقْلِ تَمْنَعُهُ وَلِهَذَا لَمَّا زَعَمَ الْكُفَّارُ أَنَّ هذا قَوْلُ الْبَشَرِ وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ رَدَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إلَى ما في عُقُولِهِمْ أَيْ أَيُّهَا الْبُلَغَاءُ الْفُصَحَاءُ إنْ كان كما تَقُولُونَ فَأْتُوا بِسُورَةٍ من مِثْلِهِ فإذا عَجَزْتُمْ مع ما اجْتَمَعَ فِيكُمْ من الصِّفَةِ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ ليس من عِنْدِ الْأُمِّيِّ الذي نَشَأَ بَيْنَكُمْ وَأَنَّهُ من عِنْدِ اللَّهِ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُلْزِمَ خَصْمَهُ ما لَا يقول بِهِ إلَّا النَّقْضَ فَأَمَّا غَيْرُهُ كَدَلِيلِ الْخِطَابِ أو الْقِيَاسِ أو الْمُرْسَلِ وَنَحْوِهِ فَلِأَنَّهُ اسْتِشْهَادُ الْخُصُومِ على صَوَابِ مَذْهَبِهِمْ بِخَطَأِ غَيْرِهِمْ قال الصَّيْرَفِيُّ رَأَيْت جَمَاعَةً من الْحُذَّاقِ يُسَمُّونَ هذا الِاعْتِلَالَ حَدًّا وهو قَوْلُهُمْ قُلْت كَذَا ولم أَقُلْ كَذَا كما قُلْت وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ مَرْضِيٍّ عِنْدَ الْمُخَالِفِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ على صَوَابِ قَوْلِهِ في تَرْكِ ما تَرَكَهُ وَاخْتِيَارِ ما اخْتَارَهُ بِخَطَأِ خَصْمِهِ في تَرْكِ ما يَدَّعِيهِ مع اخْتِيَارِهِ لِنَظِيرِهِ مِثَالُهُ لو سَأَلَ الشَّافِعِيُّ مَالِكِيًّا في الْمُصَلِّي تَطَوُّعًا إذَا قَطَعَهُ لِعُذْرٍ ولم يُعِدْ أو مُخْتَارًا أَعَادَ وقد قلت من دخل في صَلَاةِ تَطَوُّعٍ فَقَدْ وَجَبَتْ عليه وقد سَوَّيْت في الْوَاجِبِ من الْفَرْضِ بين من اخْتَارَ الْخُرُوجَ من الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ وَمَنْ اُضْطُرَّ في الْإِعَادَةِ فَلِمَ لَا جَعَلْتَ الْإِعَادَةَ فِيهِمَا سَوَاءً فيقول له قُلْت في هذا كما قُلْت أنت في صَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَالْفَرْضِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِطَهَارَةٍ وَأَنَّ من أَحْدَثَ في الْوَاجِبِ أَعَادَ وَمَنْ أَحْدَثَ في التَّطَوُّعِ لم يُعِدْ فَهَذَا الِاعْتِلَالُ من الْمَالِكِيِّ خَطَأٌ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَهُ الْإِعَادَةُ فِيهِمَا فَلْيَقُلْهُ وهو لَا يقول
____________________
(4/316)
فَصْلٌ في السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ قال الصَّيْرَفِيُّ السُّؤَالُ إمَّا اسْتِفْهَامٌ مُجَرَّدٌ وهو الِاسْتِخْبَارُ عن الْمَذْهَبِ أو الْعِلَّةِ وَإِمَّا اسْتِفْهَامٌ عن الدَّلَالَةِ أَيْ الْتِمَاسُ وَجْهِ دَلَالَةِ الْبُرْهَانِ ثُمَّ الْمُطَالَبَةُ بِنُفُوذِ الدَّلِيلِ وَجَرَيَانِهِ وَسَبِيلُ الْجَوَابِ هَكَذَا أَخْتَارُ مُجَرَّدٌ ثُمَّ الِاعْتِلَالُ ثُمَّ طَرْدُ الدَّلِيلِ ثُمَّ السَّائِلُ في الِابْتِدَاءِ إمَّا أَنْ يَكُونَ غير عَالِمٍ بِمَذْهَبِ من يَسْأَلُهُ أو يَكُونَ عَالِمًا بِهِ ثُمَّ إمَّا أَنْ لَا يَعْلَمَ صِحَّتَهُ فَسُؤَالُهُ لَا مَعْنَى له وَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ فَسُؤَالُهُ رَاجِعٌ إلَى الدَّلِيلِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ من أَنْكَرَ الْأَصْلَ الذي يَسْتَشْهِدُ بِهِ الْمُجِيبُ فَسُؤَالُهُ عنه أَوْلَى لِأَنَّ الذي أَحْوَجَهُ إلَى الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافُ فإذا كان الْخِلَافُ في الشَّاهِدِ فَالسُّؤَالُ عنه أَوْلَى قال أبو بَكْرٍ وَيَنْبَغِي لِلسَّائِلِ أَنْ لَا يَسْأَلَ الْمُنَاظَرَةَ إلَّا بَعْدَ فَهْمِ ما يَسْأَلُ عنه وَكَذَا لَا يَنْبَغِي لِلْمُجِيبِ أَنْ يُجِيبَ عن شَيْءٍ حتى يَعْلَمَهُ وَبِسَبَبِ هذا يَقَعُ الْخَبْطُ في الْمُنَاظَرَاتِ وَلَيْسَ لِلْمُجِيبِ أَنْ يَرْجِعَ على السَّائِلِ بِالْجَوَابِ قبل أَنْ يُجِيبَ هو أو يَعْتَرِفَ بِالْعَجْزِ عنه أو يُضْرِبَ عنه فَإِنْ سَأَلَ السَّائِلُ الْجَوَابَ أَجَابَ فَإِنْ قِيلَ له هذا يَلْزَمُك في مَذْهَبِك كما سَأَلْت فإن هذا رُبَّمَا فُعِلَ لِلْحِيلَةِ فَالْوَجْهُ أَنْ يَقُولَ السَّائِلُ عن حُجَّتِك لِنَفْسِك ثُمَّ إنْ شِئْت فَعُدْ بَعْدَ ذلك سَائِلًا فَإِمَّا أَنْ تُجِيبَ أو تَعْتَرِفَ بِأَنْ لَا جَوَابَ ثُمَّ تَقْبَلُ سُؤَالَهُ إنْ شِئْت وَإِنْ كان إذَا سُئِلْت عن شَيْءٍ يَرْجِعُ على خَصْمِك فَقُلْ إنَّمَا أُجِيبُك عن هذا بِشَرْطِ أَنْ تَصْبِرَ لِقَلْبِنَا عَلَيْك السُّؤَالَ فإن سُؤَالَك رَاجِعٌ عَلَيْك فَهُوَ كما تَسْأَلُ عن نَفْسِك وَلَا يَتْرُكُ الْجَوَابَ عَمَّا يُسْأَلَ وَيَرْجِعُ سَائِلًا إلَّا أَحَدُ رَجُلَيْنِ إمَّا جَاهِلٌ يَجِدُ السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ فَلَا يُنَاظِرُ أو يَقْدِرُ أَنْ يَحْتَالَ على خَصْمِهِ من أَنْ يُظْهِرَ الِانْقِطَاعَ أو الْعَجْزَ عن الْجَوَابِ فَإِنْ لم يَقْدِرْ على ذلك فَهُوَ غَبِيٌّ وَلْيَحْذَرْ الْمُجِيبُ تَكْرَارَ اللَّفْظِ الْمُخْتَلِفِ على الْمَعْنَى الْوَاحِدِ فَرُبَّمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ زِيَادَةً قال وما رَأَيْت أَحْسَنَ من صَبْرِ الْخَصْمِ على الْخَصْمِ حتى إذَا فَرَغَ من هَذَيَانِهِ قال له لم أَفْهَمْ ما كُنْت فيه فَأَعِدْ عَلَيَّ كَلَامَك في مَهْلٍ وَأَرِنِي مَوْضِعَ النُّكْتَةِ لِأَفْهَمَهَا عَنْك وَأُفْهِمَك الْجَوَابَ فَهَذَا أَقْطَعُ من الْحَدِيدِ لِلْخُصُومِ
____________________
(4/317)
وَإِيَّاكَ أَنْ تَسْتَصْغِرَ خَصْمًا فَإِنْ اسْتَصْغَرْته فَالْوَجْهُ أَنْ لَا تُكَلِّمَهُ فَلَرُبَّمَا هَجَمَ من اسْتِصْغَارِهِ الِانْقِطَاعُ لِقِلَّةِ التَّحَفُّظِ منه وَالِاهْتِمَامِ بِهِ فَقَدْ رَأَيْت ذلك مُشَاهَدَةً وَإِنْ كُنْت في مَحْفِلٍ فيه عَامَّةٌ فَمَتَى ذَهَبْتَ تُرَاعِيهِمْ بَطَلَ ما يَحْتَاجُ إلَى تَدَبُّرِهِ وَتَفَهُّمِهِ وَلَا يَغُرَّنَّكَ مَيْلُ بَعْضِ الناس إلَى الْخَصْمِ أو تَفْضِيلُ الْعَامَّةِ لِصِيَاحِ الْخَصْمِ فَالْعَمَلُ على أَهْلِ التَّمْيِيزِ وَمَتَى سَبَقَتْ مِنْك كَلِمَةٌ لَيْسَتْ بِصَوَابٍ فَلَا تَقِفْ عليها وَاعْتَرِفْ بها فَإِنَّهَا سَبْقُ لِسَانٍ فَإِنَّك إنْ أَخَذْت في تَصْحِيحِهَا ذَهَبَ عَنْك صَحِيحُ الْكَلَامِ وَاعْتَرِفْ بِالْحَقِّ إذَا وَضَحَ فَإِنْ لم يُضَحْ فَالْزَمْ بِالْبُرْهَانِ فإنه عَسِرٌ جِدًّا وَامْنَعْ خَصْمَك من الْإِقْبَالِ على غَيْرِك إذَا كان مُنَاظِرًا وَاسْتَعْمِلْ مثله معه وَلَا يَكُنْ هَمُّك إلَّا ما قام بِهِ مَذْهَبُك وَلَا تَشْتَغِلْ بِسِوَاهُ وَلَا يَعْطِفَنَّكَ أُنَاسٌ من خَاطِرٍ فَرُبَّمَا بَانَ وَجَاءَ وَأَنْتَ في حَالِ الْفِكْرِ وَهَذَا عَلَامَةُ الطَّبْعِ الْجَيِّدِ وَلَا تَتَكَلَّمْ في مَوْضِعِ الْعَصَبِيَّةِ عَلَيْك أو في مَجْلِسٍ تَخَافُ منه صَاحِبَهُ فإنه يُمِيتُ الْفِكْرَ وَلَا تُخَاطِبْ من لَا يَفْهَمُ عَنْك إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرْشِدًا وَهَذِهِ سِيَاسَةٌ فَاسْتَوْصِ بها انْتَهَى وَعَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ كُلُّ خَاطِرٍ يَجِيئُك بَعْدَ الْمُنَاظَرَةِ فَاحْبِسْ عليه حَكَاهُ ابن الصَّلَاحِ في الرِّحْلَةِ وكان الْإِمَامُ محمد بن يحيى إذَا أَفْحَمَهُ خَصْمُهُ في الْمُنَاظَرَةِ قال ما أَلْزَمْت لَازِمٌ فَأَنَا فيه نَاظِرٌ وَفَوْقَ كل ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ فَائِدَةٌ إذَا قُلْت لِلْمُسْتَدِلِّ قَوْلُك لَا يَصِحُّ احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا الْحُكْمُ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ والثاني أَنَّك لَا تَحْكُمُ بِالصِّحَّةِ وَفَرْقٌ بين الْحُكْمِ بِعَدَمِ الشَّيْءِ وَبَيْنَ عَدَمِ الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْعَدَمِ لَا يَكُونُ إلَّا من عَالِمٍ بِذَلِكَ الْعَدَمِ وَعَدَمُ الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ يَكُونُ من الشَّاكِّ في ذلك الشَّيْءِ وَالْمُتَرَدِّدِ فيه فَتَفَطَّنْ بِمَعَانِي الْعِبَارَاتِ
____________________
(4/318)
كتاب الأدلة المختلف فيها
____________________
(4/319)
بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ كِتَابُ الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلَفِ فيها الِاسْتِدْلَال على فَسَادِ الشَّيْءِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ على صِحَّتِهِ جَوَّزَهُ ابن الْقَطَّانِ قال وكان شَيْخُنَا أبو عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ يَسْتَعْمِلُهُ كَثِيرًا إذَا سُئِلَ عن مَسَائِلَ فَقِيلَ ما أَنْكَرْت منها يقول لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ تَدُلُّ على صِحَّتِهِ انْتَهَى وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ اُشْتُهِرَتْ بين الْمُتَأَخِّرِينَ يَسْتَدِلُّونَ بها في مَسَائِلَ لَا تُحْصَى إلَى طُرُقِ النَّفْيِ الِاسْتِدْلَال على فَسَادِ الشَّيْءِ بِفَسَادِ نَظِيرِهِ قال الصَّيْرَفِيُّ كُلُّ دَلِيلٍ دَلَّ على صِحَّتِهِ شَيْءٌ بِالْإِثْبَاتِ أو النَّفْيِ فَهُوَ دَالٌّ على فَسَادِ ضِدِّهِ إذَا كان لَا بُدَّ له من ذلك الضِّدِّ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ وَلِأَصْحَابِنَا في مِثْلِ هذا مُغَالَطَةٌ فِيمَا إذَا كان لِلْأُمَّةِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ فَيَدُلُّ على فَسَادِ اثْنَيْنِ منها ثُمَّ يقول إذَا فَسَدَتْ هذه الْأَقَاوِيلُ صَحَّ الْآخَرُ وَالْوَجْهُ في هذا أَنْ يُقَالَ لِلْخَصْمِ عَرَفْت صِحَّةَ الصَّحِيحِ منها وَفَسَادَ غَيْرِهِ فَدَلَّ على صِحَّتِهَا فإن الذي أَفْسَدَ تِلْكَ غَيْرُ صِحَّةِ هذا الِاسْتِدْلَال على عَدَمِ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ حَقٌّ عِنْدَ الْبَيْضَاوِيِّ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ لو ثَبَتَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَا دَلِيلَ عليه لَلَزِمَ منه تَكْلِيفُ الْمُحَالِ
____________________
(4/320)
الِاسْتِقْرَاءُ وهو تَصَفُّحُ أُمُورٍ جُزْئِيَّةٍ لِيَحْكُمَ بِحُكْمِهَا على أَمْرٍ يَشْمَلُ تِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ وَيَنْقَسِمُ إلَى تَامٍّ وَنَاقِصٍ فَالتَّامُّ إثْبَاتُ الْحُكْمِ في جُزْئِيٍّ لِثُبُوتِهِ في الْكُلِّيِّ على الِاسْتِغْرَاقِ وَهَذَا هو الْقِيَاسُ الْمَنْطِقِيُّ الْمُسْتَعْمَلُ في الْعَقْلِيَّاتِ وهو حُجَّةٌ بِلَا خِلَافٍ وَمِثَالُهُ كُلُّ صَلَاةٍ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَفْرُوضَةً أو نَافِلَةً وَأَيُّهُمَا كان فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مع الطَّهَارَةِ فَكُلُّ صَلَاةٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مع طَهَارَةٍ وهو يُفِيدُ الْقَطْعَ لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ لِكُلِّ فَرْدٍ من أَفْرَادِ شَيْءٍ على التَّفْصِيلِ فَهُوَ لَا مَحَالَةَ ثَابِتٌ لِكُلِّ أَفْرَادِهِ على الْإِجْمَالِ وَالنَّاقِصُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ في كُلِّيٍّ لِثُبُوتِهِ في أَكْثَرِ جُزْئِيَّاتِهِ من غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى جَامِعٍ وهو الْمُسَمَّى في اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ بِ الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ وَهَذَا النَّوْعُ اُخْتُلِفَ فيه وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُفِيدُ الظَّنَّ الْغَالِبَ وَلَا يُفِيدُ الْقَطْعَ لِاحْتِمَالِ تَخَلُّفِ بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ عن الْحُكْمِ كما يُقَالُ التِّمْسَاحُ يُحَرِّكُ الْفَكَّ الْأَعْلَى عِنْدَ الْمَضْغِ فإنه يُخَالِفُ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ في تَحْرِيكِهَا الْأَسْفَلَ وَاخْتَارَهُ من الْمُتَأَخِّرِينَ صَاحِبُ الْحَاصِلِ وَالْمِنْهَاجِ وَالْهِنْدِيُّ وَمِنْهُمْ من رَدَّهُ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ جَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ مِمَّا يُعْسَرُ الْوُقُوفُ عليها فَلَا يُوثَقُ بِهِ إلَّا إذَا تَأَيَّدَ الِاسْتِقْرَاءُ بِالْإِجْمَاعِ وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ فقال الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الظَّنَّ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ثُمَّ بِتَقْدِيرِ الْحُصُولِ يَكُونُ حُجَّةً وَاقْتَضَى كَلَامُهُ أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هو في أَنَّهُ هل يُفِيدُ الظَّنَّ أَمْ لَا لَا في أَنَّ الظَّنَّ الْمُسْتَفَادَ منه هل يَكُونُ حُجَّةً أَمْ لَا وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ وَلِهَذَا لَمَّا عَلِمْنَا اتِّصَافَ أَغْلَبِ من في دَارِ الْحَرْبِ أو وَصْفَهُمْ بِالْكُفْرِ غَلَبَ على ظَنِّنَا أَنَّ جَمِيعَ من نُشَاهِدُهُ منهم كَذَلِكَ حتى جَازَ لنا اسْتِرْقَاقُ الْكُلِّ وَرَمْيُ السِّهَامِ إلَى جَمِيعِ من في صَفِّهِمْ وَلَوْ لم يَكُنْ الْأَصْلُ ما ذَكَرْنَا لَمَا جَازَ ذلك وقد احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِالِاسْتِقْرَاءِ في مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَعَادَةِ الْحَيْضِ بِتِسْعِ سِنِينَ وفي أَقَلِّهِ وَأَكْثَرِهِ وَجَرَى عليه الْأَصْحَابُ وَقَالُوا فَلَوْ وَجَدْنَا الْمَرْأَةَ تَحِيضُ أو تَطْهُرُ أَقَلَّ من
____________________
(4/321)
ذلك فَهَلْ يُتْبَعُ فيه أَوْجُهٌ أَحَدُهَا نعم وَبِهِ أَجَابَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وقد تَخْتَلِفُ الْعَادَاتُ بِاخْتِلَافِ الْأَهْوِيَةِ وَالْأَعْصَارِ وَأَصَحُّهَا لَا عِبْرَةَ بِهِ لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ أَعْطَوْا الْبَحْثَ حَقَّهُ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى خِلَافِهِ وَالثَّالِثُ إنْ وَافَقَ ذلك مَذْهَبَ وَاحِدٍ من السَّلَفِ صِرْنَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا وقال في الْمُسْتَصْفَى التَّامُّ يَصْلُحُ لِلْقَطْعِيَّاتِ وَغَيْرُ التَّامِّ لَا يُصْلَحُ إلَّا لِلْفِقْهِيَّاتِ لِأَنَّهُ مَهْمَا وُجِدَ الْأَكْثَرُ على نَمَطٍ غَلَبَ على الظَّنِّ أَنَّ الْآخَرَ كَذَلِكَ الْأَصْلُ في الْمَنَافِعِ الْإِذْنُ وفي الْمَضَارِّ الْمَنْعُ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ وَهَذَا عِنْدَنَا من الْأَدِلَّةِ فِيمَا بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ أَعْنِي أَنَّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ دَلَّ على أَنَّ الْأَصْلَ ذلك فِيهِمَا إلَّا ما دَلَّ دَلِيلٌ خَاصٌّ على خِلَافِهِمَا أَمَّا قَبْلَهُ فَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ في أَوَّلِ الْكِتَابِ لَا حُكْمَ لِلْأَشْيَاءِ قبل الشَّرْعِ ولم يَحْكُمُوا هُنَا قَوْلًا بِالْوَقْفِ كما هُنَاكَ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَاقِلٌ وقد خَلَطَ بَعْضُهُمْ الصُّورَتَيْنِ وَأَجْرَى الْخِلَافَ هُنَا أَيْضًا وَكَأَنَّهُ اسْتَصْحَبَ ما قبل السَّمْعِ إلَى ما بَعْدَهُ وَرَأَى أَنَّ ما لم يُشْكِلُ أَمْرُهُ وَلَا دَلِيلَ فيه خَاصٌّ يُشْبِهُ الْحَادِثَةَ قبل الشَّرْعِ وَسَبَقَ هُنَاكَ ما فيه ثُمَّ رَأَيْت الْقَاضِيَ عَبْدَ الْوَهَّابِ حَقَّقَ الْمَسْأَلَةَ تَحْقِيقًا فقال بَعْدَ حِكَايَةِ الْخِلَافِ في الْأَفْعَالِ قبل الشَّرْعِ مَسْأَلَةٌ زَعَمَ قَوْمٌ من الْفُقَهَاءِ أَنَّ الشَّرْعَ قد قَرَّرَ الْأَصْلَ في الْأَشْيَاءِ على أنها على الْإِبَاحَةِ إلَّا ما اسْتَثْنَاهُ الدَّلِيلُ وَفَائِدَةُ ذلك أَنَّهُ إذَا وَقَعَ الْخِلَافُ في حُكْمِ شَيْءٍ في الشَّرْعِ هل هو على الْإِبَاحَةِ أو الْمَنْعِ حَكَمَ بِأَنَّهُ على الْإِبَاحَةِ لِأَنَّ الشَّرْعَ قد قَرَّرَ ذلك فَصَارَ كَالْعَقْلِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْإِبَاحَةِ وقد حَكَى ذلك عن بَعْضِ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا وَأَشَارَ إلَيْهِ محمد بن عبد اللَّهِ بن عبد الْحَكَمِ قال وَالْبَاقُونَ على أَنَّ الْأَصْلَ في أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حُكْمَ كل شَيْءٍ إلَّا بِقِيَامِ دَلِيلٍ يَخْتَصُّهُ أو يَخْتَصُّ نَوْعَهُ وَمَنْ ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ من حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَقَوْلُهُ قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَى مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً فَجَعَلَ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةَ وَالتَّحْرِيمَ مُسْتَثْنَى
____________________
(4/322)
قال وَيَدُلُّ على فَسَادِ هذا الْقَوْلِ قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هذا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ ليس إلَيْنَا وَإِنَّمَا هو من عِنْدِهِ وَأَنَّ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِإِذْنِهِ وقال وقد فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ وَكُلُّ هذا يَدُلُّ على إبْطَالِ الْقَوْلِ بِأَنَّ حُكْمَ الْأَشْيَاءِ في السَّمْعِ الْإِبَاحَةُ وَأَمَّا الْجَوَابُ عن أَدِلَّتِهِمْ فَهِيَ فِيمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ وَالْكَلَامُ في إبَاحَةِ الْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ قُلْ لَا أَجِدُ يَصْلُحُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ على أَنَّ الْأَصْلَ في الْمَأْكُولَاتِ الْإِبَاحَةُ وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ الْإِبَاحَةُ الْمُطْلَقَةُ وَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم وما سَكَتَ فَهُوَ مِمَّا عُفِيَ عنه يُرِيدُ من ذلك النَّوْعِ الذي كان الْخِطَابُ مُتَعَلِّقًا بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قال الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَشَرَّك بَيْنَهُمَا ولم يَجْعَلْ الْأَصْلَ أَحَدَهُمَا وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ لِلْقَائِلَيْنِ بِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى خَلَقَ لَكُمْ ما في الْأَرْضِ جميعا ذَكَرَهُ في مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ وَأَوْرَدَ أنها تَأْتِي لِغَيْرِ الِانْتِفَاعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ بِالظُّهُورِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ قُلْ من حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ فَيَدُلُّ على امْتِنَاعِ تَحْرِيمِ مُطْلَقِ الزِّينَةِ وَيَلْزَمُ من امْتِنَاعِ تَحْرِيمِ مُسَمَّى الزِّينَةِ أَنْ لَا يَحْرُمَ شَيْءٌ من آحَادِهَا فإذا انْتَفَتْ الْحُرْمَةُ بَقِيَتْ الْإِبَاحَةُ وهو الْمَطْلُوبُ وَقَوْلُهُ اللَّهُ الذي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ إلَى قَوْلِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ ما في السَّمَاوَاتِ وما في الْأَرْضِ جميعا منه وفي الصَّحِيحَيْنِ من حديث سَعْدِ بن أبي وَقَّاصٍ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ في الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا من سَأَلَ عن شَيْءٍ لم يَحْرُمْ على السَّائِلِ فَحُرِّمَ من أَجْلِ
____________________
(4/323)
مَسْأَلَتِهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ في أَنَّ الْأَصْلَ في الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ وَأَنَّ التَّحْرِيمَ عَارِضٌ وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قال سُئِلَ رسول اللَّهِ عن السَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ فقال الْحَلَالُ ما أَحَلَّ اللَّهُ في كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ ما حَرَّمَهُ اللَّهُ في كِتَابِهِ وما سَكَتَ عنه فَهُوَ مِمَّا عُفِيَ عنه رَوَاهُ ابن مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَلَا يَخْفَى أَجْوِبَةُ ذلك مِمَّا سَبَقَ عن الْقَاضِي على أَنَّ هذا الحديث يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُقَالُ في هذا النَّوْعِ أَنَّ الشَّرْعَ أَذِنَ فيه بَلْ عُفِيَ وَلَا يُوصَفُ بِإِذْنٍ وَلَا مَنْعٍ وَلَيْسَ في الْآيَاتِ الْمُسْتَدَلِّ بها إلَّا أنها خُلِقَتْ لنا وَسُخِّرَتْ لنا وَلَا يَدُلُّ ذلك على أنها أُبِيحَتْ لنا إذْ يَجُوزُ أَنْ يُخْلَقَ لنا وَلَا يُبَاحُ بَلْ يَتَوَقَّفُ ذلك على إذْنٍ من جِهَتِهِ كَذَا قَالَهُ ابن بَرْهَانٍ في كَلَامٍ له قال فَصَارَ هذا بِمَثَابَةِ قَوْلِ السُّلْطَانِ لِجُنْدِهِ هذه الْأَمْوَالُ التي أَجْمَعُهَا لَكُمْ فَلَا يَدُلُّ على أَنَّهُ أَبَاحَهَا لهم وَأَذِنَ لهم في التَّنَاوُلِ بَلْ قد يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهَا لهم وَإِنَّمَا بِإِذْنٍ في الْأَخْذِ بَعْدَ زَمَانٍ آخَرَ فَلَا بُدَّ إذْنٌ من إذْنٍ جَدِيدٍ وَزَيْفٌ قَوْلُ أبي زَيْدٍ إنَّ الْأَفْعَالَ لَا حُكْمَ لها قبل الشَّرْعِ وَبَعْدَمَا وَرَدَ الشَّرْعُ تَبَيَّنَّا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أنها كانت مُبَاحَةً قال ثُمَّ هو مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَنَهَى النَّفْسَ عن الْهَوَى وَأَمَّا احْتِجَاجُ الرَّازِيَّ بِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ لَا يَضُرُّ بِالْمَالِكِ قَطْعًا فَلَيْسَ على أَصْلِنَا لِابْتِنَائِهِ على التَّحْسِينِ الْعَقْلِيِّ وَأَمَّا الدَّلِيلُ على تَحْرِيمِ الْمَضَارِّ فَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ وهو عَامٌّ وَضَعَّفَ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ لِأَنَّ السَّابِقَ إلَى الْفَهْمِ النَّهْيُ عن الْإِضْرَارِ وَلَا إضْرَارَ بِالنَّفْسِ فَقَدْ يُؤْخَذُ على عُمُومِهِ فَيَدْخُلُ فيه الْإِضْرَارُ بِالنَّفْسِ فَيَتِمُّ الدَّلِيلُ
____________________
(4/324)
تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى من الْمَنَافِعِ الْأَمْوَالُ فإن الْأَصْلَ فيها التَّحْرِيمُ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ الْحَدِيثُ وهو أَخَصُّ من الدَّلِيلِ الذي اسْتَدَلُّوا بِهِ على الْإِبَاحَةِ فَيُقْضَى عليها قُلْت قد نَصَّ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ على ذلك فقال أَصْلُ مَالِ كل امْرِئٍ يَحْرُمُ على غَيْرِهِ إلَّا بِمَا أَحَلَّ بِهِ وَذَكَرَ قَبْلَهُ أَنَّ النِّكَاحَ كَذَلِكَ وَالنِّسَاءُ مُحَرَّمَاتُ الْفُرُوجِ إلَّا بِعَقْدٍ أو بِمِلْكِ يَمِينٍ فَجَعَلَ الْأَصْلَ في الْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ التَّحْرِيمُ ثُمَّ قال آخِرُهُ وَهَذَا يَدْخُلُ في عَامَّةِ الْعِلْمِ قال الصَّيْرَفِيُّ وهو كَلَامٌ صَحِيحٌ لَا يَنْكَسِرُ أَبَدًا وهو أَنْ يَنْظُرَ في الْأَصْلِ إلَى الشَّيْءِ الْمَحْظُورِ كَائِنًا ما كان من دَمٍ أو مَالٍ أو فَرْجٍ أو عَرْضٍ فَلَا يَنْتَقِلُ عنه إلَى الْإِبَاحَةِ إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ على نَقْلِهِ انْتَهَى وَيُنَازِعُ فيه تَخْرِيجُ الْمَاوَرْدِيِّ مَسْأَلَةَ النَّهْرِ الْمَشْكُوكِ في أَنَّهُ مُبَاحٌ أو مَمْلُوكٌ على هذا الْخِلَافِ ثُمَّ إنْ سَلَّمَ فَغَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ لِأَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ في أَصْلِ الْمَنَافِعِ التي لم تَطْرَأْ عليها يَدُ مِلْكٍ وَلَا اخْتِصَاصٍ الثَّانِي من الْقَوَاعِدِ الْمُتَرَتِّبَةِ على هذا الْأَصْلِ الْقَوْلُ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَاسْتِصْحَابُ حُكْمِ النَّفْيِ في كل دَلِيلٍ مَشْكُوكٍ فيه حتى يَدُلَّ دَلِيلٌ على الْوُجُوبِ كما في تَعْمِيمِ مَسْحِ الرَّأْسِ في الْوُضُوءِ وَكَلَامُ الْقَرَافِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ غَيْرُ هذه الْمَسْأَلَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَجَعَلَ الْبَرَاءَةَ الْأَصْلِيَّةَ هِيَ اسْتِصْحَابُ حُكْمِ الْعَقْلِ في عَدَمِ الْأَحْكَامِ وَلَيْسَ كما قال فإن الْبَرَاءَةَ تَكُونُ في الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ وَالِاسْتِصْحَابَ يَكُونُ في الطَّارِئِ ثُبُوتًا كان أو عَدَمًا الثَّالِثُ ليس الْمُرَادُ بِالْمَنَافِعِ هُنَا مُقَابِلَ الْأَعْيَانِ بَلْ كُلُّ ما يُنْتَفَعُ بِهِ وَلِهَذَا قال الرَّافِعِيُّ عن الْأَصْحَابِ الْأَصْلُ في الْأَعْيَانِ الْحِلُّ ثُمَّ الْمُرَادُ بِالنَّفْعِ الْمُكْنَةُ أو ما يَكُونُ وَسِيلَةً إلَيْهَا وَبِالْمَضَرَّةِ الْأَلَمُ أو ما يَكُونُ وَسِيلَةً إلَيْهِ
____________________
(4/325)
التَّعَلُّقُ بِالْأُولَى قال إلْكِيَا وَهَذَا بَابٌ تَنَازَعُوا في تَعْيِينِهِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ على أَنَّ ما جَمَعَ مَعْنَى الشَّيْءِ وَأَكْثَرَ منه فَهُوَ أَوْلَى منه وقد نَطَقَ الْقُرْآنُ بِأَمْثَالِهِ قال تَعَالَى لِمَنْ اعْتَلَّ عن التَّخَلُّفِ بِشِدَّةِ الْحَرِّ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا في الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا يَعْنِي فَلْيَتَخَلَّفُوا عنها وقال تَعَالَى وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ لِأَنَّ حَقَّهُمْ أَوْجَبُ وَنِعْمَتَهُمْ أَعْظَمُ وقال وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ من الْقَتْلِ وقال وهو أَهْوَنُ عليه وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى وقال الْعُلَمَاءُ إذَا حُرِّمَ التَّأْفِيفُ فَالضَّرْبُ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ وقال الشَّافِعِيُّ إذَا جَازَ السَّلَمُ مُؤَجَّلًا فَهُوَ حَالًّا أَجْوَزُ وإذا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ في الْخَطَأِ فَفِي الْعَمْدِ أَوْلَى وإذا قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ في أَسْوَأِ حَالَيْهِ أَعْنِي قبل التَّوْبَةِ فَبَعْدَ التَّوْبَةِ أَوْلَى وأبو حَنِيفَةَ يقول وَطِئَ الزَّوْجُ الثَّانِي إذَا كان يَرْفَعُ الثَّلَاثَ فَلَأَنْ يَرْفَعَ ما دُونَهَا أَوْلَى قال الطَّبَرِيُّ وَاَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يَحْصُلَ أَنَّ التَّعَلُّقَ بَعْدَ إيضَاحِ الْإِجْمَاعِ في أَصْلِ الْمَعْنَى فإن التَّرْجِيحَ زِيَادَةٌ في عَيْنِ الدَّلِيلِ أو في مَأْخَذِهِ وَلَيْسَ الْأَوْلَى عَيْنَ الدَّلِيلِ وَلَا رُكْنًا منه وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ ذلك بِشَيْءٍ وهو أَنَّهُ إذَا بَانَ الْمَعْنَى الْحَاضِرُ غَيْرُهُ بَطَلَ التَّعَلُّقُ كَقَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَدَمَ الثَّلَاثَ فَلَأَنْ يَهْدِمَ ما دُونَهُ أَوْلَى فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنْ لَا هَدْمَ وإذا امْتَنَعَ الْقَوْلُ بِالْهَدْمِ فَلَا جَمْعَ قال وَلَسْنَا نَرَى في التَّعَلُّقِ كَثِيرَ فَائِدَةٍ من حَيْثُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ نعم نَبَّهَ على مَعْنَى الْأَصْلِ كما نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ فَهُوَ يَرْجِعُ إلَى التَّنْبِيهِ على الْعِلَّةِ وَلَيْسَ شيئا زَائِدًا
____________________
(4/326)
استصحاب الحال لأمر وجودي أو عدمي عقلي أو شرعي ومعناه أن ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاؤه في الزمن المستقبل وهو معنى قولهم الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يوجد المزيل فمن ادعاه فعليه البيان كما في الحسيات أن الجوهر إذا شغل المكان يبقى شاغلا إلى أن يوجد المزيل مأخوذ من المصاحبة وهو ملازمة ذلك الحكم ما لم يوجد مغير فيقال الحكم الفلاني قد كان فلم نظنن عدمه وكل ما كان كذلك فهو مظنون البقاء قال الخوارزمي في الكافي وهو آخر مدار الفتوى فإن المفتي إذا سئل عن حادثة يطلب حكمها في الكتاب ثم في السنة ثم في الإجماع ثم في القياس فإن لم يجده فيأخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي والإثبات فإن كان التردد في زواله فالأصل بقاؤه وإن كان في ثبوته فالأصل عدم ثبوته انتهى وهو حجة يفزع إليها المجتهد إذا لم يجد في الحادثة حجة خاصة وبه قال الحنابلة والمالكية وأكثر الشافعية والظاهرية سواء كان في النفي أو الإثبات والنفي له حالتان لأنه إما أن يكون عقليا أو شرعيا وليس له في الإثبات إلا حالة واحدة وهي النفي لأن العقل لا يثبت حكما وجوديا عندنا والمذهب الثاني ونقل عن جمهور الحنفية والمتكلمين كأبي الحسين البصري رحمه الله أنه ليس بحجة لأن الثبوت في الزمان يفتقر إلى الدليل فكذلك في الزمان الثاني لأنه يجوز أن يكون وأن لا يكون ويخالف الحسيات لأن الله أجرى العادة فيها بذلك ولم تجر العادة في الشرعيات فلا تلحق بها ثم منهم من نقل عنه تخصيص النفي بالأمر الوجودي ومنهم من نقل الخلاف مطلقا قال الهندي وهو يقتضي الخلاف في الوجودي والعدمي جميعا لكنه بعيد إذ تفاريعهم تدل على أن استصحاب العدم الأصلي حجة قلت والمنقول في كتب أكثر الحنفية أنه لا يصح حجة على الغير ولكن يصلح للعذر والدفع وقال صاحب الميزان من الحنفية ذهب بعض أصحابنا إلى أنه ليس
____________________
(4/327)
بحجة لإبقاء ما كان ولا لإثبات أمر لم يكن وقال أكثر المتأخرين إنه حجة يجب العمل به في نفسه لإبقاء ما كان حتى لا يورث ماله ولا يصلح حجة لإثبات أمر لم يكن كحياة المفقود لما كان الظاهر بقاءها صلحت حجة لإبقاء ما كان حتى لا يرث من الأقارب والثابت لا يزول بالشك وغير الثابت لا يثبت بالشك قال ولكن مشايخنا قالوا إن هذا القسم يصبح حجة على الخصم في موضع النظر ويجب العمل به عند عدم الدليل ولا يجوز تركه بالقياس كذا ذكره الشيخ أبو منصور الماتريدي لأن الحكم متى ثبت شرعا فالظاهر دوامه ولا يزول إلا بدليل يرجح على الأول وإن أوجب في الأول شبهة ولهذا قالوا لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد لأن الحكم الثابت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثابت في حق كل من كان في زمنه صلى الله عليه وسلم مع احتماله النسخ إذ ذاك وهذا كمن شك في الحدث بعد الوضوء فإن يبني على الطهارة مع احتمال الحدث وكمن شك في طلاق امرأته وعتق أمته فإنه يباح له الانتفاع بهما مع الاحتمال لأن الثابت لا يزول بالشك انتهى وما ذكروه من أنه يصلح للدفع لا للرفع يشبه قول أصحابنا في مسائل كثيرة عملوا فيها بالأصلين كوجوب الفطرة عن العبد المنقطع الخبر وعدم جواز عتقه عن الكفارة وكما إذا ظهر لبنت تسع سنين لبن فارتضع منه صغير حرم ولا يحكم ببلوغها لأن احتمال البلوغ قائم والرضاع كالنسب يكفي فيه الاحتمال والمذهب الثالث واختاره القاضي في التقريب أنه حجة على المجتهد فيما بينه وبين الله تعالى فإنه لم يكلف إلا أقصى الداخل في مقدوره على العادة فإذا فعل ذلك ولم يجد دليلا آخر يبقى الوجوب ولا يسمع فيه إذا انتصب مسئولا في مجلس المناظرة فإن المجتهدين إذا تناظروا وتذكروا طرق الاجتهاد فيما يغني المجيب قوله لم أجد دليلا على الوجوب وهل هو إلا مدع فلا يسقط عنه عهدة الطلب بالدلالة المذهب الرابع أنه يصلح للدفع لا للرفع وهو المنقول عن أكثر الحنفية فيما سبق قال إلكيا ويعبرون عن هذا بأن استصحاب الحال صالح لإبقاء ما كان على ما كان إحالة على عدم الدليل لا لإثبات أمر لم يكن وبنوا على هذا مسائل منها ما لو شهد شاهدان أن الملك كان للأب المدعى والأب ميت فإنها لا تقبل عن أبي حنيفة لأن الملك ثبت لا بهذه الشهادة والبقاء بعد الثبوت إنما يكون باستصحاب الحال فيثبت دفعا عن المشهود عليهم بحق الشهادة فإنه كان أحد
____________________
(4/328)
المدعيين فأما لإيجاب حكم مبتدأ فلا وملك الوارث لم يكن وعلى هذا قالوا المفقود لا يرث أباه وإن كان الملك ذلك الملك بعينه لأن الملك غير الأول قال ونحن نسلم لهم أن دلالة الثبوت غير دلالة البقاء لأن أحدهما نص والآخر ظاهر ولكن لا نقول البقاء لعدم المزيل بل لبقاء الدليل الظاهر عليه وهذا لا يجوز أن يكون فيه خلاف انتهى المذهب الخامس أنه يجوز الترجيح به لا غير نقله الأستاذ أبو إسحاق عن الشافعي وقال إنه الذي يصح عنه لا أنه يحتج به قلت ويشهد له قول الشافعي رضي الله عنه والنساء محرمات الفروج فلا يحللن إلا بأحد أمرين نكاح أو ملك يمين والنكاح ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم قال الروياني في البحر وهذا استدلال من الشافعي باستصحاب الحال في جميع هذه المسائل وقيل إنه نوع من أنواعه وهو من أقواها قال وأجمع أصحابنا على أن الاستصحاب صالح للترجيح واختلفوا في استصلاحه للدليل فظاهر كلام الشافعي أنه قصد به الترجيح وهو الظاهر من المذهب هذا كلام الروياني وسيأتي أن هذا الاستدلال من النوع الذي هو محل وفاق وقال بعض المتأخرين من أصحابنا استقرأت الاستصحاب الذي يحكم به الأصحاب فوجدت صورا كثيرة وإنما يستصحب فيها أمر وجودي كمن تيقن الطهارة وشك في الحدث وعكسه وأما استصحاب عدم الحكم فيه فلم أعرفه وبراءة الذمة ونحوها من الأمور العدمية لا علم فيها وإنما يمنع من الحكم بخلافها حتى يقوم دليل عليه المذهب السادس أن المستصحب للحال إن لم يكن غرضه سوى نفي ما نفاه صح استصحابه كمن استدل على إبطال بيع الغائب ونكاح المحرم والشغار بأن الأصل أن لا عقد فلا يثبت إلا بدلالة وإن كان غرضه إثبات خلاف قول خصمه من وجه يمكن استصحاب الحال في نفي ما أثبته فليس له الاستدلال به كمن يقول في مسألة الحرام إنه يمين توجب الكفارة لم يستدل على إبطال قول خصومه بأن الأصل أن لا طلاق ولا ظهار ولا لعان فيتعارض بالأصل أن لا يمين ولا كفارة فيتعارض الاستصحابان ويسقطان حكاه الأستاذ أبو منصور البغدادي عن بعض أصحابنا إذا عرف هذا فلا بد من تنقيح موضع الخلاف فإن أكثر الناس يطلقه ويشتبه عليهم موضع النزاع بغيره فنقول
____________________
(4/329)
للاستصحاب صور إحداها استصحاب دل العقل أو الشرع على ثبوته ودوامه كالملك عند جريان القول المقتضي له وشغل الذمة عند جريان إتلاف أو التزام ودوام الحل في المنكوحة بعد تقرير النكاح وهذا لا خلاف في وجوب العمل به إلى أن يثبت معارض له ومن صوره تكرر الحكم بتكرر السبب الثَّانِيَةُ اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ الْمَعْلُومِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ في الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ كَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ من التَّكَالِيفِ حتى يَدُلَّ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ على تَغْيِيرِهِ كَنَفْيِ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ قال أبو الطَّيِّبِ وَهَذَا حُجَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ أَيْ من الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا حُكْمَ قبل الشَّرْعِ وَمِنْ هذا يَسْتَشْكِلُ الْقَوْلُ بهذا من الْقَائِلِينَ بِأَنَّ هُنَاكَ حُكْمًا وقال ابن كَجٍّ في أَوَّلِ كِتَابِهِ في الْأُصُولِ إنَّهُ صَحِيحٌ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ فيه لِأَنَّهُ قد ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ حُجَّةَ الْعَقْلِ دَلِيلٌ فإذا لم نَجِدْ سَمْعًا عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ لَا يُهْمِلُنَا وَأَنَّهُ أَرَادَ بِنَا ما في الْعَقْلِ فَصِرْنَا إلَيْهِ انْتَهَى وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ إنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ على أَنَّ ما لم يَتَعَرَّضْ الشَّرْعُ له فَهُوَ بَاقٍ على النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ فَلَا يَدُلُّ إذًا إلَّا على نَفْيِ الْأَحْكَامِ وَقَوْلنَا لِمَنْ يُوجِبُ الْوِتْرَ الْأَصْلُ عَدَمُ الْوُجُوبِ إلَّا أَنْ يَرِدَ السَّمْعُ فَأَتَمَسَّكُ بهذا الْأَصْلِ حتى يَرِدَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لِلْوُجُوبِ ولم يَثْبُتْ الثَّالِثَةُ اسْتِصْحَابُ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فإن عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعَقْلَ حَكَمٌ في بَعْضِ الْأَشْيَاءِ إلَى أَنْ يَرِدَ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ وَهَذَا لَا خِلَافَ بين أَهْلِ السُّنَّةِ في أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ في الشَّرْعِيَّاتِ الرَّابِعَةُ اسْتِصْحَابُ الدَّلِيلِ مع احْتِمَالِ الْمُعَارِضِ إمَّا تَخْصِيصًا إنْ كان الدَّلِيلُ ظَاهِرًا أو نَسْخًا إنْ كان الدَّلِيلُ نَصًّا فَهَذَا أَمْرُهُ مَعْمُولٌ له بِالْإِجْمَاعِ وقد اخْتَلَفَ في تَسْمِيَةِ هذا النَّوْعِ بِالِاسْتِصْحَابِ فَأَثْبَتَهُ جُمْهُورُ
____________________
(4/330)
الْأُصُولِيِّينَ وَمَنَعَهُ الْمُحَقِّقُونَ منهم إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ وَإِلْكِيَا في تَعْلِيقِهِ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فيه من نَاحِيَةِ اللَّفْظِ لَا من نَاحِيَةِ الِاسْتِصْحَابِ ثُمَّ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّهَا مُنَاقَشَةٌ لَفْظِيَّةٌ وَلَوْ سَمَّاهُ اسْتِصْحَابًا لم يُنَاقَشْ وقال أبو زَيْدٍ هذا قد يُعَدُّ من الِاسْتِصْحَابِ لِأَنَّ دَلِيلَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ عِنْدِي غَيْرُ دَلِيلِ بَقَائِهِ فإن النَّصَّ مَثَلًا أَثْبَتَ أَصْلَهُ ثُمَّ بَقَاؤُهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ وهو عَدَمُ الْمُزِيلِ لِأَنَّهُ لو كان دَلِيلُ الْبَقَاءِ دَلِيلَ الثُّبُوتِ لَمَا جَازَ النَّسْخُ فإن النَّسْخَ يَرْفَعُ الْبَقَاءَ وَالدَّوَامَ قال إلْكِيَا وَهَذَا ليس بِشَيْءٍ لِأَنَّ الدَّلِيلَ إمَّا أَنْ لَا يَقْتَضِيَ الدَّوَامَ كَالْمُقَيَّدِ بِالْمَرَّةِ أو الْمُطْلَقِ وَقُلْنَا لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَلَا يَرِدُ على هذا النَّسْخُ لِأَنَّهُ قد تَمَّ بِفِعْلِ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَإِمَّا أَنْ يَدُلَّ على التَّقْرِيرِ وَالْبَقَاءِ نَصًّا كَقَوْلِهِ افْعَلُوهُ دَائِمًا أَبَدًا وهو في الِاسْتِمْرَارِ ظَاهِرٌ فَهُمَا دَلِيلَانِ نَصٌّ في الثُّبُوتِ وَظَاهِرٌ في الِاسْتِمْرَارِ فَهَذَا هو الذي يَرِدُ عليه النَّسْخُ وأبو زَيْدٍ أَطْلَقَ وَأَصَابَ في قَوْلِهِ دَلِيلُ الثُّبُوتِ غَيْرُ دَلِيلِ الْبَقَاءِ وَأَخْطَأَ في قَوْلِهِ دَلِيلُ الْبَقَاءِ عَدَمُ الْمُزِيلِ فَهَذَا ليس من الِاسْتِصْحَابِ في شَيْءٍ انْتَهَى الْخَامِسَةُ اسْتِصْحَابُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ في مَحَلِّ الْخِلَافِ وهو رَاجِعٌ إلَى حُكْمِ الشَّرْعِ بِأَنْ يُتَّفَقَ على حُكْمٍ في حَالَةٍ ثُمَّ تَتَغَيَّرُ صِفَةُ الْمُجْمَعِ عليه وَيَخْتَلِفُ الْمُجْمِعُونَ فيه فَيَسْتَدِلُّ من لم يُغَيِّرْ الْحُكْمَ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ مِثَالٌ إذَا اسْتَدَلَّ من يقول إنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا رَأَى الْمَاءَ في أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ على صِحَّتِهَا قبل ذلك فَاسْتَصْحَبَ إلَى أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ على أَنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ مُبْطِلَةٌ وَكَقَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ يَجُوزُ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ على جَوَازِ بَيْعِ هذه الْجَارِيَةِ قبل الِاسْتِيلَادِ فَنَحْنُ على ذلك الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الِاسْتِيلَادِ وَهَذَا النَّوْعُ هو مَحَلُّ الْخِلَافِ كما قَالَهُ في الْقَوَاطِعِ وَكَذَا فَرَضَ أَئِمَّتُنَا الْأُصُولِيُّونَ الْخِلَافَ فيها فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ منهم الْقَاضِي وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وابن الصَّبَّاغِ وَالْغَزَالِيُّ إلَى أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وهو قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْحَقِّ من الطَّوَائِفِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في كِتَابِ الْقَضَاءِ إنَّهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِمُجَرَّدِ الِاسْتِصْحَابِ بَلْ إنْ اقْتَضَى الْقِيَاسُ أو غَيْرُهُ إلْحَاقَهُ بِمَا قبل الصِّفَةِ أُلْحِقَ بِهِ وَإِلَّا فَلَا وقال ابن السَّمْعَانِيِّ إنَّهُ الصَّحِيحُ من الْمَذْهَبِ
____________________
(4/331)
وَذَهَبَ أبو ثَوْرٍ وَدَاوُد الظَّاهِرِيُّ إلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ وَنَقَلَ ابن السَّمْعَانِيِّ عن الْمُزَنِيّ وَابْنِ سُرَيْجٍ وَالصَّيْرَفِيِّ وَابْنِ خَيْرَانَ وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أبي عَلِيٍّ الْقُطْنِيُّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْقَطَّانِ قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ كان أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ شَدِيدَ الْقَوْلِ بِهِ حتى أَنَّهُ لو اقْتَصَرَ ما كان يَخْرُجُ إلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ قال وَإِنَّمَا أَخَذَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ من أَصْحَابِنَا وَأَهْلُ ما وَرَاءَ النَّهْرِ من أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ وَغَيْرُهُمْ أَيْضًا شَدِيدُو الْقَوْلِ بِهِ انْتَهَى وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وقال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ إنَّهُ الذي ذَهَبَ إلَيْهِ شُيُوخُ أَصْحَابِنَا فَيُسْتَصْحَبُ حُكْمُ الْإِجْمَاعِ حتى يَدُلَّ الدَّلِيلُ على ارْتِفَاعِهِ وَحُكِيَ الْأَوَّلُ عن الْحَنَفِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ وَمُتَكَلِّمِي الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمَعْرُوفُ عن الظَّاهِرِيَّةِ إنَّمَا هو الثَّانِي قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ كان الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ يقول دَاوُد لَا يقول بِالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وَهُنَا يقول بِقِيَاسٍ فَاسِدٍ لِأَنَّهُ حَمَلَ حَالَةَ الْخِلَافِ على حَالَةِ الْإِجْمَاعِ من غَيْرِ عِلَّةٍ جَامِعَةٍ وَالْمُخْتَارُ هو الْأَوَّلُ لِأَنَّ مَحَلَّ الْوِفَاقِ غَيْرُ مَحَلِّ الْخِلَافِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ بِوَجْهٍ وَإِنَّمَا يُوجَبُ اسْتِصْحَابُ الْإِجْمَاعِ حَيْثُ لَا يُوجَدُ صِفَةُ تَغَيُّرِهِ وَلِأَنَّ الدَّلِيلَ إنْ كان هو الْإِجْمَاعُ فَهُوَ مُحَالٌ في مَحَلِّ الْخِلَافِ وَإِنْ كان غَيْرَهُ فَلَا مُسْتَنَدَ إلَى الْإِجْمَاعِ الذي يَزْعُمُ أَنَّهُ يُسْتَصْحَبُ قال أَصْحَابُنَا وَالْقَوْلُ بِاسْتِصْحَابِ الْإِجْمَاعِ في مَحَلِّ الْخِلَافِ يُؤَدِّي إلَى التَّكَافُؤِ لِأَنَّهُ ما من أَحَدٍ يَسْتَصْحِبُ حَالَ الْإِجْمَاعِ في شَيْءٍ إلَّا وَلِخَصْمِهِ أَنْ يَسْتَصْحِبَهُ في مُقَابِلِهِ وَبَيَانُهُ أَنَّ في مَسْأَلَةِ التَّيَمُّمِ أَنَّ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ أَجْمَعْنَا على بُطْلَانِ التَّيَمُّمِ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَنَسْتَصْحِبُهُ بِرُؤْيَتِهِ فيها وَتَغَيُّرُ الْأَحْوَالِ لَا عِبْرَةَ بِهِ وَنَقَلَ إلْكِيَا عن الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ على النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ بِأَنَّ الْأَصْلَ في الْأَبْضَاعِ التَّحْرِيمُ فَمَنْ ادَّعَى ما يُبِيحُ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ قال وَهَذَا ليس بِشَيْءٍ فإنه يُقَالُ الْأَصْلُ التَّحْرِيمُ قبل وُجُودِ أَصْلِ النِّكَاحِ أو بَعْدَهُ إنْ قُلْت قَبْلَهُ فَمُسَلَّمٌ أو بَعْدَهُ فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذلك مُعَارَضَةً لِكَلَامِهِ قُلْت قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ وَاتَّفَقَ أَنْ حَضَرَنِي أبو عَلِيٍّ الْهَرَوِيُّ يَعْنِي الزُّبَيْرِيَّ وقال أنا أُقَرِّرُ الِاسْتِصْحَابَ في مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُ فيه الْمُعَارَضَةُ فَقُلْت هَاتِ فقال إذَا قال الْمُسْتَدِلُّ في إبْطَالِ الْوَقْفِ أَنَّ ما وُقِفَ قد تَقَرَّرَ بِالِاتِّفَاقِ مِلْكُ الْمَالِكِ عليه فَلَا يُزَالُ إلَّا بِدَلِيلٍ فَقُلْت الْعَكْسُ فيه من وُجُوهٍ
____________________
(4/332)
أَحَدُهَا أَنْ يُقَالَ ما يَحْصُلُ من الْمَنَافِعِ بَعْدَ الْوَقْفِ قد حَصَلَ الِاتِّفَاقُ على أنها غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً فَلَا تَدْخُلُ في مِلْكِ الْوَاقِفِ إلَّا بِدَلِيلٍ الثَّانِي أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ لَا مِلْكَ لِلْوَاقِفِ على الْكِرَاءِ الذي يَأْخُذُ بَدَلًا عن الْمَنَافِعِ فَلَا يَمْلِكُ إلَّا بِدَلِيلٍ الثَّالِثُ ما يَتَصَرَّفُ فيه بَعْدَ الْوَقْفِ من بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ الْأَصْلُ أَنَّهُ لم يَكُنْ ثَابِتًا قال الْأُسْتَاذُ إذَا كانت مَسَائِلُ الِاسْتِصْحَابِ هَكَذَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ من جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ في الْأَحْكَامِ قال وما ادَّعَوْهُ على الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال بِالِاسْتِصْحَابِ فلم يَذْكُرْهُ احْتِجَاجًا على طَرِيقِ الِابْتِدَاءِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ على سَبِيلِ التَّرْجِيحِ بَعْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ انْتَهَى وقد أَنْكَرَ ابن السَّمْعَانِيِّ الْقَوْلَ بِالِاسْتِصْحَابِ جُمْلَةً وقال إنَّهُ الصَّحِيحُ من مَذْهَبِنَا أَمَّا في اسْتِصْحَابِ الْعَامِّ وَالنَّصُّ قبل الْخَاصِّ وَالنَّاسِخِ فَلَيْسَ ذلك اسْتِصْحَابًا لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَائِمٌ وهو الْعَامُّ وَالنَّصُّ وَأَمَّا اسْتِصْحَابُ دَلِيلِ الْعَقْلِ في بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ فَإِنَّمَا وَجَبَ اسْتِصْحَابُ بَرَاءَةِ الذِّمَمِ لِأَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ في بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ قَائِمٌ في مَوْضِعِ الْخِلَافِ أَيْضًا كما في الْعَامِّ وَالنَّصِّ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ وَأَمَّا في اسْتِصْحَابِ الْإِجْمَاعِ فَالْإِجْمَاعُ الذي كان دَلِيلًا على الْحُكْمِ قد زَالَ في مَوْضِعِ الْخِلَافِ فَوَجَبَ طَلَبُ دَلِيلٍ آخَرَ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ حَسَنَةٌ وقد سَبَقَهُ إلَيْهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا عَدَا اسْتِصْحَابَ الْإِجْمَاعِ لَفْظِيٌّ وَبِهِ صَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ثُمَّ قال ابن السَّمْعَانِيِّ إنَّا لَا نُثْبِتُ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَلَا نَحْكُمُ لِشَيْءٍ لِأَجْلِ الِاسْتِصْحَابِ لَكِنْ نَطْلُبُ من الْمُدَّعِي حُجَّةً يُقِيمُهَا فإذا لم يُقِمْ بَقِيَ الْأَمْرُ على ما كان من غَيْرِ أَنْ تَحْكُمَ بِثُبُوتِ شَيْءٍ وَالْخِلَافُ وَاقِعٌ في ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَهَذَا لَا نَقُولُ بِهِ في مَوْضِعٍ ما انْتَهَى وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى تَغَايُرُ الْأُولَى قد ذَكَرَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ وَحَاصِلُهَا التَّفْصِيلُ بين الدَّوَامِ وَالِابْتِدَاءِ وَنَقُولُ ليس في الدَّوَامِ إثْبَاتٌ وَإِنَّمَا هُنَاكَ اسْتِمْرَارُ ما كان لِعَدَمِ طَرَيَان ما يَرْفَعُهُ وَهِيَ تَنْبَنِي على الْخِلَافِ الْكَلَامِيِّ في أَنَّ الْبَاقِيَ في مَحَلِّ الْبَقَاءِ هل يَحْتَاجُ إلَى مُؤَثِّرٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ فإن قُلْنَا لَا يَحْتَاجُ وَصَحَّتْ وَإِلَّا لم يَنْتَهِضْ لِأَنَّك في
____________________
(4/333)
الدَّوَامِ تُرِيدُ دَلِيلًا وَأَنْتَ مُثْبِتٌ بِهِ فَكَيْفَ نَقُولُ لم نَحْكُمْ لِشَيْءٍ وَهَذَا الْخِلَافُ في أَنَّ الْبَاقِيَ هل يَحْتَاجُ إلَى مُؤَثِّرٍ يَنْبَنِي على اخْتِلَافٍ آخَرَ في أَنَّ عِلَّةَ الْحَاجَةِ إلَى الْمُؤَثِّرِ هل هِيَ الْإِمْكَانُ أو الْحُدُوثُ أو مَجْمُوعُهُمَا أو الْإِمْكَانُ بِشَرْطِ الْحُدُوثِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْعِلَّةَ الْإِمْكَانُ وَأَنَّ الْبَاقِيَ يَحْتَاجُ إلَى مُؤَثِّرٍ كما تَقَرَّرَ في عِلْمِ الْكَلَامِ فَعَلَى هذا لَا تَنْتَهِضُ هذه الطَّرِيقَةُ وَمِمَّنْ زَعَمَ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ ابن بَرْهَانٍ فقال في كِتَابِهِ الْكَبِيرِ إذَا حُقِّقَ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ لم يَبْقَ خِلَافٌ فإن قَوْلَ الْقَائِلِ الْأَصْلُ يَقْتَضِي كَذَا فَإِنَّمَا يَتَمَسَّكُ بِهِ إلَى أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ على خِلَافِهِ إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْأَصْلِ أَصْلَ الشَّرْعِ أو أَصْلَ الْعَقْلِ فَإِنْ أَرَادَ الْعَقْلَ فَالْخَصْمُ لَا يَعْتَرِفُ أَنَّ الْعَقْلَ يَقْتَضِي حُكْمًا وَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْعَقْلِيَّةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ فَلَا يُسْتَصْحَبُ الْحَالُ فيها وَإِنْ أَرَادَ أَصْلَ الشَّرْعِ فَبَاطِلٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِأَدِلَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى وقد يُقَالُ بِالْتِزَامِ الثَّانِي بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُسْتَقْرَأٍ من جُزْئِيَّاتِ الشَّرِيعَةِ في الْعَمَلِ بِهِ وَبَقِيَ من الْأَنْوَاعِ ما ذَكَرَهُ الْقَاضِي شُرَيْحٌ الرُّويَانِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا في كِتَابِ رَوْضَةِ الْحُكَّامِ أَنَّهُ إذَا كان لِلشَّيْءِ أَصْلٌ مَعْلُومٌ من الْوُجُوبِ أو الْحِلِّ أو الْحَظْرِ فإنه يُرَدُّ إلَيْهِ وَلَا يُتْرَكُ بِالشَّكِّ وَلَا يَخْرُجُ عنه إلَّا بِدَلِيلٍ فَلَوْ أَسْلَمَ إلَيْهِ في لَحْمٍ فَأَتَاهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِلَحْمٍ فقال الْمُسْلِمُ هو لَحْمُ مَيْتَةٍ أو ذَكَاةُ مَجُوسِيٍّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ ذلك لِأَنَّ الْحَيَوَانَ إنْ كان مُحَرَّمًا يَبْقَى التَّحْرِيمُ ما لم يُعْلَمْ زَوَالُهُ وَلَوْ اشْتَرَى صَاعًا من مَاءِ بِئْرٍ فيه قُلَّتَانِ ثُمَّ قال أَرُدُّهُ بِالْعَيْبِ فَإِنْ فَأْرَةً وَقَعَتْ فيها فَالْقَوْلُ قَوْلُ الدَّافِعِ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَةُ الْمَاءِ انْتَهَى وَجَعَلَ ابن الْقَطَّانِ الْقَوْلَ بِالِاسْتِصْحَابِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْبَاقِيَ لَا دَلِيلَ عليه وهو أَنَّهُ مَتَى كنا على حَالٍ مُجْمَعٍ عليها فَنَحْنُ عليها فَمَنْ ادَّعَى الِانْفِصَالَ عنها احْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ قال الْقُرْطُبِيُّ الْقَوْلُ بِالِاسْتِصْحَابِ لَازِمٌ لِكُلِّ أَحَدٍ لِأَنَّهُ أَصْلٌ تَنْبَنِي عليه النُّبُوَّةُ وَالشَّرِيعَةُ فَإِنَّا إنْ لم نَقُلْ بِاسْتِمْرَارِ حَالِ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ لم يَحْصُلْ الْعِلْمُ بِشَيْءٍ من تِلْكَ الْأُمُورِ انْتَهَى وقد سَبَقَ أَنَّ هذا مَحَلُّ وِفَاقٍ وَأَمَّا الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ فَجَعَلَ الْخِلَافَ مَعْنَوِيًّا مَبْنِيًّا على الْخِلَافِ في حُكْمِ الْأَشْيَاءِ قبل وُرُودِ الشَّرْعِ فَمَنْ زَعَمَ أنها مُبَاحَةٌ اسْتَصْحَبَ الْحَالَ في كل ما رَآهُ مُبَاحًا فَلَا يَحْظُرُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَمَنْ زَعَمَ أنها مُحَرَّمَةٌ لم يَسْتَصْحِبْ شيئا
____________________
(4/334)
السَّادِسَةُ وَتَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ قَسِيمًا لِمَا سَبَقَ اسْتِصْحَابُ الْحَاضِرِ في الْمَاضِي وهو الْمَقْلُوبُ فإن الْقِسْمَ الْأَوَّلَ ثُبُوتُ أَمْرٍ في الثَّانِي لِثُبُوتِهِ في الْأَوَّلِ لِفُقْدَانِ ما يَصْلُحُ لِلتَّعْيِينِ وَهَذَا الْقِسْمُ في ثُبُوتِهِ في الْأَوَّلِ لِثُبُوتِهِ في الثَّانِي كما إذَا وَقَعَ النَّظَرُ في أَنَّ زَيْدًا هل كان مَوْجُودًا أَمْسِ في مَكَانِ كَذَا وَوَجَدْنَاهُ مَوْجُودًا فيه الْيَوْمَ فَيُقَالُ نعم إذْ الْأَصْلُ مُوَافَقَةُ الْمَاضِي لِلْحَالِ وَهَذَا الْقِسْمُ لم يَتَعَرَّضْ له الْأُصُولِيُّونَ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ من الْمُتَأَخِّرِينَ فَنَقُولُ إذَا ثَبَتَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ في هذا الْمُدَّعِي فَنَدَّعِي أَنَّهُ كان مُسْتَعْمَلًا قبل ذلك لِأَنَّهُ لو كان الْوَضْعُ غَيْرَهُ فِيمَا سَبَقَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قد تَغَيَّرَ إلَى هذا الْوَضْعِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ تَغَيُّرِهِ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَهَذَا كَلَامٌ ظَرِيفٌ وَتَصَرُّفٌ غَرِيبٌ قد يُتَبَادَرُ إلَى إنْكَارِهِ وَيُقَالُ الْأَصْلُ اسْتِقْرَارُ الْوَاقِعِ في الزَّمَنِ الْمَاضِي إلَى هذا الزَّمَنِ أَمَّا أَنْ يُقَالَ الْأَصْلُ انْعِطَافُ الْوَاقِعِ في هذا الزَّمَانِ على الزَّمَانِ الْمَاضِي فَلَا وَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ هذا الْوَضْعُ ثَابِتٌ فَإِنْ كان هو الذي وَقَعَ في الزَّمَانِ الْمَاضِي فَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَإِنْ لم يَكُنْ فَالْوَاقِعُ في الزَّمَنِ الْمَاضِي فَعَادَ الْأَمْرُ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ في الزَّمَنِ الْمَاضِي وَهَذَا وَإِنْ كان طَرِيقًا كما ذَكَرْنَا إلَّا أَنَّهُ طَرِيقُ جَدَلٍ لَا جَلَدٍ وَالْجَدَلُ طَرِيقٌ في التَّحْقِيقِ سَالِكٌ على مَحَجٍّ مُضَيِّقٍ وَإِنَّمَا تَضْعُفُ هذه الطَّرِيقَةُ إذَا ظَهَرَ لنا تَغَيُّرُ الْوَضْعِ فَأَمَّا إذَا اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فَلَا بَأْسَ قُلْت وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَظَاهِرُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْأَصْلَ في كل حَادِثٍ تَقْدِيرُهُ بِأَقْرَبِ زَمَنٍ مُنَافَاةُ هذا الْقِسْمِ وقال بَعْضُهُمْ لم يَقُلْ بِهِ أَصْحَابُنَا الْفُقَهَاءُ إلَّا في صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ ما إذَا اشْتَرَى شيئا وَادَّعَاهُ مُدَّعٍ وَأَخَذَهُ منه بِحُجَّةٍ مُطْلَقَةٍ فإنه يَثْبُتُ له الرُّجُوعُ على الْبَائِعِ قالوا فإن الْبَيِّنَةَ لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ وَلَكِنَّهَا تُظْهِرُهُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ سَابِقًا على إقَامَتِهَا وَيُقَدِّرُ له لَحْظَةً لَطِيفَةً وَمِنْ الْمُحْتَمَلِ انْتِقَالُ الْمِلْكِ من الْمُشْتَرِي إلَى الْمُدَّعِي وَلَكِنَّهُمْ اسْتَصْحَبُوا مَقْلُوبًا وهو عَدَمُ الِانْتِقَالِ فيه فِيمَا مَضَى اسْتِصْحَابًا لِلْحَالِ وَكَذَلِكَ قالوا إذَا وَجَدْنَا رِكَازًا ولم نَدْرِ هل هو إسْلَامِيٌّ أَمْ جَاهِلِيٌّ يَحْكُمُ بِأَنَّهُ جَاهِلِيٌّ على وَجْهٍ لِأَنَّا اسْتَدْلَلْنَا بِوُجُودِهِ في الْإِسْلَامِ على أَنَّهُ كان مَوْجُودًا قبل ذلك قُلْت وَمِثْلُهُ إذَا أَشْكَلَ حَالُ الْقَرْيَةِ التي فيها الْكَنِيسَةُ هل أَحْدَثَهَا الْمُسْلِمُونَ أَمْ لَا فقال الرُّويَانِيُّ تُقَرُّ اسْتِصْحَابًا لِظَاهِرِ الْحَالِ ولم يَحْكِ الرَّافِعِيُّ غَيْرَهُ وَيُقَارِبُهَا صُوَرٌ منها
____________________
(4/335)
لو أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَشَكَّ هل أَحْرَمَ قبل أَشْهُرِهِ أو بَعْدَهَا كان مُحْرِمًا بِالْحَجِّ قالوا لِأَنَّهُ على يَقِينٍ منه هذا الزَّمَنُ وفي شَكٍّ مِمَّا تَقَدَّمَهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ أَيْضًا فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ وَمِنْهَا إذَا اخْتَلَفَ الْغَاصِبُ وَالْمَالِكُ فَالصَّحِيحُ تَصْدِيقُ الْمَالِكِ فَقَدْ اسْتَصْحَبُوا مَقْلُوبًا وهو الْحُدُوثُ فِيمَا مَضَى اسْتِصْحَابًا لِلْحَاضِرِ وَيُمْكِنُ خِلَافُهُ وَكَذَلِكَ مَسَائِلُ الِانْعِطَافِ في اسْتِصْحَابِ حُكْمِ الصَّوْمِ على من نَوَى في النَّفْلِ قبل الزَّوَالِ وَالثَّوَابُ على الْوُضُوءِ جَمِيعِهِ إذَا نَوَى عِنْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ على وَجْهٍ وَتَعْلِيقُ الْعِتْقِ على قُدُومِ زَيْدٍ ثُمَّ يَبِيعُهُ فَقَدِمَ زَيْدٌ ذلك الْيَوْمَ وَنَظَائِرُهُ الْأَخْذُ بِأَقَلِّ ما قِيلَ أَثْبَتَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْقَاضِي قال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَحَكَى بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إجْمَاعَ أَهْلِ النَّظَرِ عليه وَحَقِيقَتُهُ كما قال ابن السَّمْعَانِيِّ أَنْ يَخْتَلِفَ الْمُخْتَلِفُونَ في مُقَدَّرٍ بِالِاجْتِهَادِ على أَقَاوِيلَ فَيُؤْخَذُ بِأَقَلِّهَا عِنْدَ إعْوَازِ الْحُكْمِ أَيْ إذَا لم يَدُلَّ على الزِّيَادَةِ دَلِيلٌ وقال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ هو أَنْ يَرِدَ الْفِعْلُ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مُبَيِّنًا لِمُجْمَلٍ وَيَحْتَاجُ إلَى تَحْدِيدِهِ فَيُصَارُ إلَى أَقَلِّ ما يُؤْخَذُ كما قَالَهُ الشَّافِعِيُّ في أَقَلِّ الْجِزْيَةِ بِأَنَّهُ دِينَارٌ لِأَنَّ الدَّلِيلَ قام أَنَّهُ لَا بُدَّ من تَوْقِيتٍ فَصَارَ إلَى أَقَلِّ ما حَكَى عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ أَخَذَ من الْجِزْيَةِ قال وَهَذَا أَصْلٌ في التَّوْقِيتِ قد صَارَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ في مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ كَتَحْدِيدِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ بِمَرْحَلَتَيْنِ وما لَا يُنَجَّسُ من الْمَاءِ بِالْمُلَاقَاةِ بِقُلَّتَيْنِ وَأَنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وقال ابن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ هو أَنْ يَخْتَلِفَ الصَّحَابَةُ في تَقْدِيرٍ فَيَذْهَبُ بَعْضُهُمْ إلَى مِائَةٍ مَثَلًا وَبَعْضُهُمْ إلَى خَمْسِينَ فَإِنْ كانت دَلَالَةً تُعَضِّدُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ صِيرَ إلَيْهَا وَإِنْ لم تَكُنْ دَلَالَةً فَقَدْ اخْتَلَفَ فيه أَصْحَابُنَا فَمِنْهُمْ من قال نَأْخُذُ بِأَقَلِّ ما قِيلَ من حَيْثُ كان أَقَلَّ وَيَقُولُ إنْ هذا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ قال إنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ الثُّلُثُ وَحَكَى اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ فيه وَأَنَّ بَعْضَهُمْ قال بِالنِّصْفِ وَبَعْضُهُمْ بِالْمُسَاوَاةِ وَبَعْضُهُمْ بِالثُّلُثِ فَكَانَ هذا أَقَلَّهَا وَمِثْلُهُ ما ذَهَبَ إلَيْهِ في الدِّيَةِ أنها أَخْمَاسٌ وَرُوِيَ أنها أَرْبَاعٌ فَكَانَتْ رِوَايَةُ الْأَخْمَاسِ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَقَلُّ ما رُوِيَ فَنَصِيرُ إلَيْهِ
____________________
(4/336)
وَمِنْهُمْ من احْتَجَّ على الْقَوْلِ بِأَقَلِّ ما قِيلَ من كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا لو سَرَقَ رَجُلٌ مَتَاعًا لِرَجُلٍ فَشَهِدَ شَاهِدٌ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إلَّا بِمَا اتَّفَقَا عليه وَمِنْهُمْ من قال هذا قَوْلٌ حَسَنٌ إذَا كان عليه دَلَالَةٌ فَإِنْ لم يَكُنْ معه دَلَالَةٌ فَلَا مَعْنَى له لِأَنَّهُ ليس لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ إلَّا وَلِلْآخَرِ أَنْ يَقُولَ بِمَا هو أَقَلُّ منه أو أَكْثَرُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَائِلِينَ أَجْمَعُوا على هذا الْمِقْدَارِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهُ فَأَخَذَ بِمَا أَجْمَعُوا عليه وَتَرَكَ ما اخْتَلَفُوا فيه يَلْزَمُهُ أَنْ يَقِفَ في الزِّيَادَةِ وَلَا يَقْطَعُ على أَنَّهُ لَا شَيْءَ فيه لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فيه دَلَالَةٌ وَأَمَّا ما قَالُوهُ في دِيَةِ الْيَهُودِيِّ فإن الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَلَكَ فيه غير هذا الطَّرِيقِ وهو أَنَّهُ قال قد دَلَّ على أَنْ لَا مُسَاوَاةَ بِقَوْلِهِ أَفَمَنْ كان مُؤْمِنًا كَمَنْ كان فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ فإذا بَطَلَتْ الْمُسَاوَاةُ فَلَيْسَ لِلنَّاسِ إلَّا قَوْلَانِ فإذا بَطَلَ أَحَدُهُمَا صَحَّ الْآخَرُ وَأَمَّا جَعْلُهُ الدِّيَةَ أَخْمَاسًا فَبِدَلِيلٍ لَا لِأَنَّهُ أَقَلُّ ما قِيلَ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الشَّهَادَةِ فَإِنَّمَا حَكَمَ فيها بِالْأَقَلِّ لِأَنَّهُ ثَبَتَ ذلك بِشَاهِدَيْنِ وَانْفِرَادُ الْآخَرِ ليس بِحُجَّةٍ وَهَذَا لَا خِلَافَ فيه قال وقد مَنَعَ قَوْمٌ من أَهْلِ النَّظَرِ وَقَالُوا إنَّ أَصْلَكُمْ هذا يَنْتَقِضُ بِالْجُمُعَةِ فإن الناس اخْتَلَفُوا هل تَنْعَقِدُ بِأَرْبَعِينَ أو بِاثْنَيْنِ أو بِثَلَاثَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ بِأَقَلِّ ما قِيلَ فَإِنْ قُلْتُمْ الْأَصْلُ هو الظُّهْرُ وَلَا يَنْتَقِلُ عنه إلَّا بِدَلِيلٍ قِيلَ لَكُمْ وَكَذَلِكَ الْأَصْلُ شَغْلُ ذِمَّتِهِ بِالْجِنَايَةِ فَلَا تَبْرَأُ إلَّا بِدَلِيلٍ قالوا وَكَذَلِكَ الْغُسْلُ من وُلُوغِ الْكَلْبِ يَجِبُ أَنْ نَأْخُذَ بِأَقَلَّ ما قِيلَ ثُمَّ أَجَابَ ابن الْقَطَّانِ بِأَنَّ الْكَلَامَ في هذه الْمَسْأَلَةِ ليس في الْحَادِثَةِ التي قام الدَّلِيلُ فيها وَإِنَّمَا كان هُنَا في الْحَادِثَةِ إذَا وَقَعَتْ بين أُصُولِ مُجْتَهِدٍ فيها بِحَادِثَةٍ فَنَصِيرُ إلَى أَقَلِّ ما قِيلَ وَهَذَا هو مَوْضِعُ الْخِلَافِ بين أَصْحَابِنَا الْمَخْرَجُ على وَجْهَيْنِ فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْجُمُعَةِ فَدَلِيلُنَا الْخَبَرُ وَلَوْ صَحَّ السُّؤَالُ عَلَيْنَا لَانْقَلَبَ لِأَبِي ثَوْرٍ على أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ يُجِيزُهَا بِوَاحِدٍ وَأَمَّا وُلُوغُ الْكَلْبِ فَقَدْ صِرْنَا إلَى ما نَصَّ عليه رضي اللَّهُ عنه قال وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ على حَادِثَةٍ قد تَقَدَّمَتْ قَبْلَنَا وَانْقَرَضَ الْعَصْرُ عليها وَاخْتَلَفُوا فيها وَأَمَّا الْيَوْمُ فَالْمَدَارُ على الدَّلِيلِ انْتَهَى وَأَجَابَ الْقَفَّالُ عن مَسْأَلَةِ الْجُمُعَةِ بِأَنَّهَا أَقَلُّ ما قِيلَ لِأَنَّهُ أَقَلُّ ما رُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ جَمَعَ فِيهِمْ في زَمَنِهِ ذلك
____________________
(4/337)
وَقَسَّمَ ابن السَّمْعَانِيِّ الْمَسْأَلَةَ إلَى قِسْمَيْنِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الْجَوَابُ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ ذلك فِيمَا أَصْلُهُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَإِنْ كان الِاخْتِلَافُ في وُجُوبِ الْحَقِّ وَسُقُوطِهِ كان سُقُوطُهُ أَوْلَى لِمُوَافَقَةِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ ما لم يَقُمْ دَلِيلُ الْوُجُوبِ وَإِنْ كان الِاخْتِلَافُ في قَدْرِهِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ على وُجُوبِهِ كَدِيَةِ الذِّمَّةِ إذَا وَجَبَتْ على قَاتِلِهِ فَهَلْ يَكُونُ الْأَخْذُ بِأَقَلِّهِ دَلِيلًا اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فيه على وَجْهَيْنِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ فِيمَا هو ثَابِتٌ في الذِّمَّةِ كَالْجُمُعَةِ الثَّابِتِ فَرْضُهَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في عَدَدِ انْعِقَادِهَا فَلَا يَكُونُ الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ دَلِيلًا لِارْتِهَانِ الذِّمَّةِ بها فَلَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ بِالشَّكِّ وَهَلْ يَكُونُ الْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ دَلِيلًا فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَكُونُ دَلِيلًا وَلَا يَنْتَقِلُ عنه إلَّا بِدَلِيلٍ لِأَنَّ الذِّمَّةَ تَبْرَأُ بِالْأَكْثَرِ إجْمَاعًا وَبِالْأَقَلِّ خِلَافًا فَلِذَلِكَ جَعَلَهَا الشَّافِعِيُّ تَنْعَقِدُ بِأَرْبَعِينَ لِأَنَّ هذا الْعَدَدَ أَكْثَرُ ما قِيلَ الثَّانِي لَا يَكُونُ دَلِيلًا لِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ من الْخِلَافِ دَلِيلٌ في حُكْمٍ وَالشَّافِعِيُّ إنَّمَا اعْتَبَرَ الْأَرْبَعِينَ بِدَلِيلٍ آخَرَ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَهَذَا كُلُّهُ كَلَامُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَلَيْسَ فيه كَبِيرُ مَعْنًى انْتَهَى وَإِنَّمَا يَتِمُّ الْأَخْذُ بِأَقَلِّ ما قِيلَ بِشُرُوطٍ أَحَدُهَا أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ قال بِعَدَمِ وُجُوبِ الشَّيْءِ وَإِلَّا لم يَكُنْ الثُّلُثُ دِيَةَ الذِّمِّيِّ مَثَلًا أَقَلُّ الْوَاجِبِ بَلْ لَا يَكُونُ هُنَاكَ شَيْءٌ هو الْأَقَلُّ ثَانِيهَا أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ قال بِوُجُوبِ شَيْءٍ من ذلك النَّوْعِ كما لو قِيلَ إنَّهُ يَجِبُ هَاهُنَا فَرَسٌ فإن هذا الْقَائِلَ لَا يَكُونُ مُوَافِقًا على وُجُوبِ الثُّلُثِ وَإِنْ نَقَصَ ذلك عن قِيمَةِ الْفَرَسِ وَالْقَائِلُ بِالثُّلُثِ لَا يقول بِالْفَرَسِ وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا عن ثُلُثِ الدِّيَةِ فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ شَيْءٌ هو أَقَلُّ ثَالِثُهَا أَنْ لَا يُوجَدَ دَلِيلٌ أَخَذَ غير الْأَقَلِّ وَإِلَّا كان ثُبُوتُهُ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ لَا بهذا الطَّرِيقِ رَابِعُهَا أَنْ لَا يُوجَدَ دَلِيلٌ يَدُلُّ على ما هو زَائِدٌ وَإِلَّا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ وكان مُبْطِلًا لِحُكْمِ هذا الْأَصْلِ وَلِهَذَا لم يَقُلْ الشَّافِعِيُّ بِانْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِثَلَاثَةِ وَلَا بِالْغُسْلِ من وُلُوغِ الْكَلْبِ ثَلَاثًا وَإِنْ كان أَقَلُّ ما قِيلَ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ على اشْتِرَاطِ ما صَارَ إلَيْهِ وقال بَعْضُ الْفُضَلَاءِ الْأَخْذُ بِأَقَلِّ ما قِيلَ عِبَارَةٌ عن الْأَخْذِ بِالْمُحَقَّقِ وَطَرْحِ الْمَشْكُوكِ فيه فِيمَا أَصْلُهُ الْبَرَاءَةُ وَالْأَخْذُ بِمَا يَخْرُجُ عن الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ فِيمَا أَصْلُهُ اشْتِغَالُ
____________________
(4/338)
الذِّمَّةِ وَلِذَلِكَ جَعَلَ الْأَخْذَ بِأَكْثَرَ في الضَّرْبِ الثَّانِي وهو ما أَصْلُهُ اشْتِغَالُ الذِّمَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَخْذِ بِالْأَقَلِّ في الْأَوَّلِ وقد وَهَمَ بَعْضُهُمْ فَأَوْرَدَ عَدَدَ الْجُمُعَةِ سُؤَالًا ولم يَعْلَمْ أَنَّ الْأَخْذَ فيه بِالْأَكْثَرِ بِمَنْزِلَةِ الْأَخْذِ بِالْأَقَلِّ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُرَكَّبَ من أَجْزَاءٍ على قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا مُرْتَبِطًا بِبَعْضٍ فَلَا يَعْتَدُّ بِهِ إلَّا مع صَاحِبِهِ كَصِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَثَانِيهِمَا أَنْ لَا يَرْتَبِطُ كَمَنْ وَجَبَ عليه لِزَيْدٍ عِشْرُونَ دِرْهَمًا يُؤَدِّيهَا كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا وَنَظِيرُ الثَّانِي دِيَةُ الْيَهُودِيِّ فإن أَبْعَاضَ الدِّيَةِ من حَيْثُ هِيَ لَا تَعَلُّقَ لِبَعْضِهَا بِبَعْضٍ فَمَنْ وَجَبَ عليه مِائَةٌ من الْإِبِلِ وَجَبَ كُلُّ وَاحِدٍ منها من غَيْرِ تَعَلُّقٍ له بِصَاحِبِهَا فإذا خَرَجَ ثُلُثُهَا بَرِئَ قَطْعًا وَبَقِيَ ما وَرَاءَهُ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ فلم يُوجَدْ وَنَظِيرُ الْأَوَّلِ الْجُمُعَةُ فإن أَبْعَاضَ عَدَدِهَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْضٍ فَمَنْ صَلَّاهَا في ثَلَاثَةٍ لم يَخْرُجْ عن الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ ولم يَأْتِ بِمَا أُسْقِطَ عنه شيئا فَأَخَذْنَا بِالْأَصْلِ في الْمَوْضِعَيْنِ وَهُمَا في الْحَقِيقَةِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَحَاصِلُهُ إيجَابُ الِاحْتِيَاطِ فِيمَا أَصْلُهُ الْوُجُوبُ دُونَ غَيْرِهِ وَالْفُرُوعُ في الْمَوْضِعَيْنِ لَا تَخْفَى وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْأَخْذَ بِأَقَلِّ ما قِيلَ مُرَكَّبٌ من الْإِجْمَاعِ وَمِنْ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا يُتَّجَهُ من الْقَائِلِ الْمُخَالَفَةُ فيه وَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ فيه بِالْإِجْمَاعِ وَحْدَهُ كما قال الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ وَتَبِعَهُ ابن الْحَاجِبِ قال الْقَاضِي وَنَقَلَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ تَمَسَّكَ بِالْإِجْمَاعِ وهو خَطَأٌ عليه وَلَعَلَّ النَّاقِلَ زَلَّ في كَلَامِهِ وقال الْغَزَالِيُّ هو سُوءُ ظَنٍّ بِهِ فإن الْمُجْمَعَ عليه وُجُوبُ هذا الْقَدْرِ وَلَا مُخَالَفَةَ فيه وَالْمُخْتَلَفُ فيه سُقُوطُ الزِّيَادَةِ وَالْإِجْمَاعُ عليه نعم الْمُشْكِلُ جَعْلُهُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا مع تَرْكِيبِهِ من دَلِيلَيْنِ فَكَيْفَ يُتَّجَهُ مِمَّنْ يُوَافِقُ على الدَّلِيلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مُخَالَفَةُ الشَّافِعِيِّ فيه وَأَمَّا ابن حَزْمٍ في الْأَحْكَامِ فَأَنْكَرَ الْأَخْذَ بِأَقَلِّ ما قِيلَ وقال إنَّمَا يَصِحُّ إذَا أَمْكَنَ ضَبْطُ أَقْوَالِ جَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَحَكَى قَوْلًا أَنَّهُ يَأْخُذُ بِأَكْثَرِ ما قِيلَ لِيَخْرُجَ عن عَهْدِ التَّكْلِيفِ بِيَقِينٍ قال وَلَيْسَ الثُّلُثُ في دِيَةِ الْيَهُودِيِّ بِأَقَلِّ ما قِيلَ فَقَدْ رَوَيْنَا من طَرِيقِ يُونُسَ بن عُبَيْدٍ عن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ وهو أَقَلُّ من ثُلُثِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَقُولُوا بِهِ لِأَنَّهُ أَقَلُّ ما قِيلَ وَعَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ لَا دِيَةَ لِلْكِتَابِيِّ أَصْلًا فَلَيْسَ ثُلُثُ الدِّيَةِ أَقَلَّ ما قِيلَ قال وَلَنَا فيه تَفْصِيلٌ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْوَاجِبَ الْوَسَطُ من ذلك
____________________
(4/339)
وَأَوْضَحُ مِثَالٍ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قِيمَةُ الْمُتْلَفِ بِأَنْ يَجْنِيَ على سِلْعَةٍ يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ في تَقْوِيمِهَا فَيُقَوِّمُهَا بَعْضُهُمْ بِمِائَةٍ وَبَعْضُهُمْ بِمِائَتَيْنِ وَكَذَلِكَ إذَا جَرَحَهُ جِرَاحَةً ليس فيها أَرْشٌ مُقَدَّرٌ مَسْأَلَةٌ في الْقَوْلِ بِالْأَخَفِّ هذا قد يَكُونُ بين الْمَذَاهِبِ وقد يَكُونُ بين الِاحْتِمَالَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ أَمَارَاتُهَا وقد صَارَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ من حَرَجٍ وَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ وَهَذَا يُخَالِفُ الْأَخْذَ بِالْأَقَلِّ فإن هُنَاكَ يَشْتَرِطُ الِاتِّفَاقَ على الْأَقَلِّ وَلَا يَشْتَرِطُ ذلك هَاهُنَا وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ في الْمَضَارِّ الْمَنْعُ إذْ الْأَخَفُّ مِنْهُمَا هو ذلك وَقِيلَ يَجِبُ الْأَخْذُ بِالْأَشَقِّ كما قِيلَ هُنَاكَ يَجِبُ الْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ مَسْأَلَةٌ النَّافِي لِلْحُكْمِ هل يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ الْمُثْبِتُ لِلْحُكْمِ يَحْتَاجُ لِلدَّلِيلِ بِلَا خِلَافٍ وَأَمَّا النَّافِي فَهَلْ يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ على دَعْوَاهُ فيه مَذَاهِبُ أَحَدُهَا نعم وَجَزَمَ بِهِ الْقَفَّالُ وَالصَّيْرَفِيُّ وَاخْتَارَهُ ابن الصَّبَّاغِ وابن السَّمْعَانِيِّ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن طَوَائِفِ أَهْلِ الْحَقِّ وَنَقَلَهُ ابن الْقَطَّانِ عن
____________________
(4/340)
أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وقال الْمَاوَرْدِيُّ إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَلَا يَجُوزُ نَفْيُ الْحُكْمِ إلَّا بِدَلِيلٍ كما لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عن الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَبِهِ قال الْجُمْهُورُ وقال صَاحِبُ الْمَصَادِرِ إنَّهُ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ وَالْبَيِّنَةُ على الْمُدَّعِي وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لم يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ فَذَمَّهُمْ على نَفْيِ ما لم يَعْلَمُوهُ مُبَيَّنًا فَدَلَّ على أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عليه الدَّلِيلُ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ في جَوَابِ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا عن دَاوُد وَأَهْلِ الظَّاهِرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْأَشْيَاءِ النَّفْيُ وَالْعَدَمُ فَمَنْ نَفَى الْحُكْمَ فَلَهُ أَنْ يَكْتَفِي بِالِاسْتِصْحَابِ لَكِنَّ ابْنَ حَزْمٍ في الْأَحْكَامِ صَحَّحَ الْأَوَّلَ وَالثَّالِثُ أَنْ يَلْزَمَهُ في النَّفْيِ الْعَقْلِيِّ دُونَ الشَّرْعِيِّ حَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وابن فُورَكٍ الرَّابِعُ قال الْغَزَالِيُّ إنَّهُ الْمُخْتَارُ أَنَّ ما ليس بِضَرُورِيٍّ فَلَا يُعْرَفُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَالنَّفْيُ فيه كَالْإِثْبَاتِ بِخِلَافِ الضَّرُورِيِّ وَظَنَّ بَعْضُهُمْ انْفِرَادَ الْغَزَالِيِّ بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَفِي الْكَافِي لِلْخُوَارِزْمِيِّ حِكَايَةُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ قال وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ النَّافِي شَاكًّا في نَفْيِهِ أو نَافِيًا له عن مَعْرِفَةٍ فَإِنْ كان شَاكًّا فَلَا عِلْمَ مع الشَّكِّ وَإِنْ كان يَدَّعِي نَفْيَهُ عن مَعْرِفَةٍ فَتِلْكَ الْمَعْرِفَةُ إمَّا أَنْ تَكُونَ ضَرُورِيَّةً أو اسْتِدْلَالِيَّةً فَإِنْ كانت ضَرُورِيَّةً فَلَا مُنَازِعَ في الضَّرُورِيَّاتِ وَإِنْ كانت اسْتِدْلَالِيَّةً فَلَا بُدَّ من إبْرَازِ الدَّلِيلِ انْتَهَى وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ الْخِلَافُ فِيمَا لَا يُعْلَمُ ثُبُوتُهُ وَانْتِفَاؤُهُ بِالضَّرُورَةِ وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالدَّلِيلِ وَيُمْكِنُ إقَامَتُهُ عليه فَأَمَّا ما يُعْلَمُ حِسًّا وَاضْطِرَارًا فَلَا سَبِيلَ إلَى إقَامَةِ دَلِيلٍ على ثُبُوتِهِ وَنَفْيِهِ كَعِلْمِ الْإِنْسَانِ بِوُجُودِ نَفْسِهِ وما يَجِدُهَا عليه في أَنَّهُ ليس في لُجَّةِ بَحْرٍ وَلَا على جَنَاحِ طَائِرٍ وَنَحْوَهُ الْخَامِسُ إنَّ نَفْيَ عِلْمِ نَفْسِهِ بِأَنْ يَقُولَ لَا أَعْلَمُ فَلَا يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ وَإِنْ كان يَنْفِي الْحُكْمَ فَيَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ لِأَنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ حُكْمٌ كما أَنَّ الْإِثْبَاتَ حُكْمٌ وَمَنْ نَفَى حُكْمًا أو أَثْبَتَهُ احْتَاجَ إلَى الدَّلِيلِ قال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ وَهَذَا التَّفْصِيلُ هو الْحَقُّ
____________________
(4/341)
وَالسَّادِسُ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ إنْ ادَّعَى لِنَفْسِهِ عِلْمًا بِالنَّفْيِ فَلَا بُدَّ له من الدَّلِيلِ على ما يَدَّعِيهِ وَإِنْ نَفَى عِلْمَهُ فَهُوَ مُخْبِرٌ عن جَهْلِ نَفْسِهِ لَكِنَّ الْجَاهِلَ يَجِبُ أَنْ يَتَوَقَّفَ في إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ وَلَا يَحْكُمُ فيها بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ وَاخْتَارَهُ الْمُطَرِّزِيُّ في الْعُنْوَانِ وهو قَرِيبٌ من قَوْلِ أَصْحَابِنَا إنَّ الْإِنْسَانَ إنْ حَلَفَ على فِعْلِ نَفْسِهِ حَلَفَ على الْبَتِّ لِإِمْكَانِ اطِّلَاعِهِ عليه أو على فِعْلِ غَيْرِهِ حَلَفَ على نَفْيِ الْعِلْمِ وَالسَّابِعُ قَالَهُ ابن فُورَكٍ النَّافِي لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ إذَا قال لم أَجِدْ فيه دَلِيلًا وقد تَصَفَّحْت الدَّلَائِلَ وكان من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ كان له دَعْوَى ذلك وَيَرْجِعُ إلَى ما تَقْتَضِيهِ الْعُقُولُ من بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ قال وَهَذَا النَّوْعُ قَرِيبٌ من اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَيَجِيءُ على قَوْلِ من يقول بِالْإِبَاحَةِ أو الْحَظْرِ أَنْ لَا دَلِيلَ عليه فَأَمَّا من قال بِالْوَقْفِ فَلَا يَصِحُّ ذلك إلَّا على طَرِيقِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ الشَّرْعِيِّ وَالثَّامِنُ أَنَّهُ حُجَّةٌ دَافِعَةٌ لَا مُوجِبَةٌ حَكَاهُ أبو زَيْدٍ في التَّقْوِيمِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْقَائِلَ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عليه إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَكْفِيهِ اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ بِأَنَّ الْأَصْلَ يُوجِبُ ظَنَّ دَوَامِهِ فَهُوَ صَحِيحٌ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عليه أَلْبَتَّةَ وَحُصُولُ الْعِلْمِ أو الظَّنِّ بِلَا سَبَبٍ فَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّ النَّفْيَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ وقال الْهِنْدِيُّ في هذه خِلَافٌ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالنَّافِي من يَدَّعِي الْعِلْمَ أو الظَّنَّ بِالنَّفْيِ فَهَذَا يَجِبُ عليه الدَّلِيلُ كما في الْإِثْبَاتِ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِيمَا لَا يُعْلَمُ نَفْيُهُ بِالضَّرُورَةِ وَإِنْ أُرِيدَ من يَدَّعِي عَدَمَ عِلْمِهِ أو ظَنِّهِ فَهَذَا لَا دَلِيلَ عليه لِأَنَّهُ يَدَّعِي جَهْلَهُ بِالشَّيْءِ وَالْجَاهِلُ بِالشَّيْءِ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِالدَّلِيلِ على جَهْلِهِ كما لَا يُطَالِبُ بِهِ من يَدَّعِي أَنَّهُ لَا يَجِدُ أَلَمًا وَلَا جُوعًا وَلَا حَرًّا وَلَا بَرْدًا مُنَاظَرَةٌ قال ابن الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرْت حُكْمًا بِحَضْرَةِ الْإِمَامِ أبي الْوَفَاءِ ابْنِ عَقِيلٍ فَطُولِبْت بِالدَّلِيلِ فَقُلْت لَا دَلِيلَ عَلَيَّ لِأَنِّي نَافٍ وَالنَّافِي لَا دَلِيلَ عليه فقال لي ما دَلِيلُك على أَنَّ النَّافِيَ لَا دَلِيلَ عليه قُلْت هذا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِك أنا نَافٍ أَيْضًا في قَوْلِي لَا دَلِيلَ على النَّافِي فَكَيْفَ تُطَالِبُنِي بِالدَّلِيلِ فَأَجَابَ يَدُلُّ على اللُّزُومِ بِأَنْ يُقَالُ النَّافِي مُفْتٍ كما أَنَّ الْمُثْبِتَ مُفْتٍ وَالْفَتْوَى لَا تَكُونُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَاسْتَشْهَدَ بِمَسْأَلَةٍ وَهِيَ أَنَّهُ لو قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على رَجُلٍ أَنَّهُ كان بِالْكَرْخِ يوم السَّبْتِ وَشَهِدَتْ أُخْرَى
____________________
(4/342)
أَنَّهُ لم يَكُنْ بها يوم السَّبْتِ بَلْ بِالْمَوْصِلِ وَكَذَلِكَ من قال إنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ يُطَالَبُ بِالدَّلِيلِ وَلَيْسَتْ الْوَحْدَانِيَّةُ إلَّا نَفْيَ الثَّانِي فَأَجَبْت بِأَنَّ هذا دَلِيلٌ بَاطِلٌ لِأَنَّك تَرُومُ بِهِ إثْبَاتَ مُحَالٍ وهو الدَّلِيلُ على النَّافِي وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَسْبَابَ الْمُقْتَضِيَةَ مع تَشَعُّبِ طُرُقِهَا وَتَقَارُبِ أَطْرَافِهَا فما من سَبَبٍ يَتَعَرَّضُ لِإِبْطَالِهِ إلَّا وَيَجُوزُ فَرْضُ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ وَهَذَا لَا طَرِيقَ إلَيْهِ مع أَنَّهُ يَفُوتُ بهذا مَقْصُودُ النَّظَرِ من الْعُثُورِ على الْأَدِلَّةِ وَبَدَائِعِ الْأَحْكَامِ قُلْت وما هذا إلَّا كَالْمُدَّعِي وَالْمُنْكِرِ فإن الْمُدَّعِي مُثْبِتٌ وَالْمُنْكِرُ يَنْفِي وَلَا يُطَالَبُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ على نَفْيِهِ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الشَّهَادَةِ فَلَا تَلْزَمُ لِلتَّعَارُضِ بين النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَأَمَّا الْوَحْدَانِيَّةُ فَالتَّعَارُضُ لِإِثْبَاتِ إلَهٍ على صِفَةٍ فَإِثْبَاتُ صِفَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ فيها نَفْيُ الشَّرِكَةِ مَسْأَلَةٌ وَلَهَا تَعَلُّقٌ بِالِاسْتِصْحَابِ نَقَلَ الدَّبُوسِيُّ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ حُجَّةٌ في إبْقَاءِ ما ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ لَا لِمَا لم يَصِحَّ ثُبُوتُهُ قال وَلِهَذَا لم يَجُزْ الصُّلْحُ على الْإِنْكَارِ ولم يَجُزْ شَغْلُ الذِّمَّةِ بِالدَّيْنِ فلم يَصِحَّ الصُّلْحُ قال وَعِنْدَنَا هو جَائِزٌ وَيَقُولُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ ليس بِحُجَّةٍ على الْمُدَّعِي كَقَوْلِ الْمُدَّعِي ليس بِحُجَّةٍ على الْمُنْكِرِ قال وقال بَعْضُهُمْ هذا الذي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ يَكُونُ حُجَّةً في حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَكُونُ حُجَّةً على خَصْمِهِ بِوَجْهٍ انْتَهَى وَأَنْكَرَ عليه ابن السَّمْعَانِيِّ ذلك وقال عَدَمُ الدَّلِيلِ ليس بِحُجَّةٍ في مَوْضِعٍ وَاَلَّذِي ادَّعَاهُ على الشَّافِعِيِّ من مَذْهَبِهِ لَا نَدْرِي كَيْفَ وَقَعَ له وَالْمَنْقُولُ عن الْأَصْحَابِ ما قَدَّمْنَاهُ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الصُّلْحِ على الْإِنْكَارِ فَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ فَسَادِهِ في الْخِلَافِيَّاتِ وَذَكَرَ أَيْضًا مَسْأَلَةَ الشُّفْعَةِ على هذا الْأَصْلِ وَهِيَ أَنَّ من كان في مِلْكِهِ شِقْصٌ وَبَاعَ شَرِيكُهُ نَصِيبَهُ وَأَرَادَ الشَّرِيكُ أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ أو كان جَارًا على أُصُولِهِمْ فَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي الشِّقْصَ مِلْكًا قال عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَلْتَفِتُ إلَى إنْكَارِهِ وَيَثْبُتُ له الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ بِظَاهِرِ مِلْكِهِ بيده وَعِنْدَنَا ليس له حَقُّ الشُّفْعَةِ حتى يُقِيمَ الْبَيِّنَةِ أَنَّ الشِّقْصَ مِلْكُهُ قُلْت وقال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ في بَابِ التَّيَمُّمِ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ السُّكُوتَ وَعَدَمَ النَّقْلِ دَلِيلٌ على عَدَمِ الْحُكْمِ وَلِهَذَا قال في الْمَاسِحِ
____________________
(4/343)
على الْخُفَّيْنِ هل يَلْزَمُهُ إعَادَةُ الصَّلَاةِ إنْ صَحَّ حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه قُلْت بِهِ في الْأَمْرِ بِالْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ لِأَنَّهُ لم يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ فَإِنْ صَحَّ قَطَعْت الْقَوْلَ بِهِ قال فَجَعَلَ سُكُوتَهُ عن الْإِعَادَةِ دَلِيلًا على نَفْيِ وُجُوبِهَا قُلْت بَلْ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي على نَقْلِهِ أَمْ لَا فإنه قال في تَقْدِيرِ أَنَّ خَبَرَ مَاعِزٍ حَيْثُ رُجِمَ ولم يُجْلَدْ نَاسِخٌ لِحَدِيثِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا قال فَإِنْ قال قَائِلٌ لَعَلَّهُ جَلَدَهُ وَرَجَمَهُ قِيلَ كانت قِصَّتُهُ من مَشَاهِيرِ الْقِصَصِ وَلَوْ جُلِدَ لَنُقِلَ فَإِنْ قِيلَ رُبَّ تَفْصِيلٍ في الْقَصَصِ لَا يَتَّفِقُ نَقْلُهُ وَدَوَاعِي النُّفُوسِ إنَّمَا تَتَوَفَّرُ على نَقْلِ كُلِّيَّاتِ الْقَصَصِ فَإِنْ صَحَّ في الحديث الْمُتَقَدِّمِ التَّصْرِيحُ بِالْجِلْدِ فَلَا يُعَارِضُهُ التَّعَلُّقُ بِعَدَمِ نَقْلٍ في حَدِيثٍ مع اتِّجَاهِ وَجْهٍ بِتَرْكِ النَّقْلِ فيه قال الشَّافِعِيُّ مُجِيبًا الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعُ وَلَوْلَا أَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ رَوَى عن جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم رَجَمَ مَاعِزًا ولم يَجْلِدْهُ تَعَارَضَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ بِقِصَّةِ مَاعِزٍ انْتَهَى أَمَّا إذَا لم يُعْلَمْ على الْحُكْمِ سِوَى دَلِيلٍ وَاحِدٍ وَعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فَهَلْ يَكُونُ عَدَمُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَالًّا على عَدَمِ الْحُكْمِ يَنْبَغِي أَنْ يُفَصَّلَ في ذلك بين الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ وَالشَّرْعِيِّ فَيُقَالُ إنْ كان ذلك الْحُكْمُ عَقْلِيًّا فإن الْعَكْسَ فيه غَيْرُ لَازِمٍ إذْ لَا يَلْزَمُ من نَفْيِ دَلِيلٍ مُعَيَّنٍ أو عِلَّةٍ مُعَيَّنَةٍ نَفْيُ الْحُكْمِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ دَلِيلٌ آخَرُ أو عِلَّةٌ أُخْرَى ولم يَعْلَمْ بِهِمَا وَعَدَمُ عِلْمِنَا بِالشَّيْءِ لَا يَدُلُّ على عَدَمِهِ فلم يَحْصُلْ الْقَطْعُ وَالْيَقِينُ بِعَدَمِ ذلك الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ ذلك الدَّلِيلِ أو تِلْكَ الْعِلَّةِ وَإِنْ كان ذلك الْحُكْمُ شَرْعِيًّا فإن الْعَكْسَ فيه لَازِمٌ لِأَنَّا مُكَلَّفُونَ في الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ وَنَحْنُ إذَا لم نَعْلَمْ على الْحُكْمِ سِوَى دَلِيلٍ وَاحِدٍ أو عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ غَلَبَ على الظَّنِّ عَدَمُ الْحُكْمِ من عَدَمِ ذلك الدَّلِيلِ أو عَدَمِ تِلْكَ الْعِلَّةِ وَالظَّنُّ مُتَعَبَّدٌ بِهِ في الشَّرْعِيَّاتِ بِخِلَافِ الْعَقْلِيَّاتِ فإن الْمَطْلُوبَ فيها الْقَطْعُ وَالْيَقِينُ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَظْنُونٍ بِهِ في هذا الْمَوْطِنِ
____________________
(4/344)
مَسْأَلَةٌ إذَا قال الْفَقِيهُ بَحَثْت وَفَحَصْت فلم أَظْفَرْ بِالدَّلِيلِ هل يُقْبَلُ منه وَيَكُونُ الِاسْتِدْلَال بِعَدَمِ الدَّلِيلِ قال الْبَيْضَاوِيُّ نعم لِأَنَّهُ يَغْلِبُ ظَنُّ عَدَمِهِ وقال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ إنْ صَدَرَ هذا عن الْمُجْتَهِدِ في بَابِ الِاجْتِهَادِ وَالْفَتْوَى قُبِلَ منه أو في مَحَلِّ الْمُنَاظَرَةِ لَا يُقْبَلْ لِأَنَّ قَوْلَهُ بَحَثَتْ فلم أَظْفَرْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَمَّا انْتِهَاضُهُ في حَقِّ خَصْمِهِ فَلَا لِأَنَّهُ يَدْعُو نَفْسَهُ إلَى مَذْهَبِ خَصْمِهِ وَقَوْلُهُ لم أَظْفَرْ بِهِ إظْهَارُ عَجْزٍ وَلَا يَحْسُنُ قَبُولُهُ فَيَجِبُ على خَصْمِهِ إظْهَارُ الدَّلِيلِ إنْ كان وَهَذَا التَّفْصِيلُ هو حَاصِلٌ ما ذَكَرَهُ إلْكِيَا على طُولٍ فيه بَعْدَ أَنْ قَيَّدَ الْجَوَازَ عَدَمُ التَّعَلُّقِ بِالدَّلِيلِ بِشَرْطِ الْإِحَاطَةِ بِمَآخِذِ الْأَدِلَّةِ إمَّا من جِهَةِ الْعِبَارَةِ أو غَيْرِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَى مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ فَجَعَلَ عَدَمَ الْوَحْيِ في الْأَمْرِ دَلِيلًا إذْ هو عَالِمٌ بِالْعَدَمِ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ اشْتَهَرَتْ بين الْمُتَأَخِّرِينَ يَسْتَدِلُّونَ بها في مَسَائِلَ لَا تُحْصَى في طُرُقِ النَّفْيِ وهو أَنْ يَقُولَ هذا الْحُكْمُ غَيْرُ ثَابِتٍ لِأَنَّهُ لو ثَبَتَ لَثَبَتَ بِدَلِيلٍ وَلَا دَلِيلَ لِأَنَّهُ إمَّا نَصٌّ أو إجْمَاعٌ أو قِيَاسٌ وَالْأَوَّلُ مُنْتَفٍ لِأَنَّهُ لو كان عن نَصٍّ لَنُقِلَ ولم يُنْقَلْ وَلَوْ نُقِلَ لَعَرَفْنَاهُ بَعْدَ الْبَحْثِ وَالْفَحْصِ التَّامِّ وَالْإِجْمَاعُ مُنْتَفٍ لِوُجُودِ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَالْقِيَاسُ مُنْتَفٍ لِقِيَامِ الْفَارِقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْلِ الذي هو قِيَاسُ عِلَّةِ الْخَصْمِ وَنَازَعَ الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ الْقُدْسِيُّ صَاحِبُ الرُّكْنِ الطَّاوُسِيُّ في كِتَابِهِ الْفُصُولِ بِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الِاطِّلَاعِ على جَمِيعِ النُّصُوصِ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ثُمَّ إلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ وُجُوهِ الدَّلَالَات وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُسْتَطَاعُ لِلْبَشَرِ وَأَسْرَارُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ وَمَظَانُّهَا دَقِيقَةٌ وَعُقُولُ الناس في فَهْمِهَا مُخْتَلِفَةٌ حتى إنَّ منهم من يَتَكَلَّمُ على الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ أو الحديث الْوَاحِدِ مُجَلَّدَاتٍ كَثِيرَةً في فَوَائِدِهَا وَدَلَالَتِهَا وَمَعَ ذلك لَا يَنْتَهِي وَلِذَلِكَ قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في الْقُرْآنِ هو الذي لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ فَلَا يُمْكِنُ الْإِنْسَانُ عِلْمَ عَدَمِ النَّصِّ الدَّالِّ على
____________________
(4/345)
نَفْيِ الْحُكْمِ إلَّا إذَا عَلِمَ ذلك كُلَّهُ وهو مُسْتَحِيلٌ وَلَوْ فُرِضَ عِلْمُهُ بِهِ لَغَفَلَ عنه في بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كما رَوَوْا أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنْكَرَ الْمُغَالَاةَ في الْمَهْرِ حتى قالت له الْمَرْأَةُ كَيْفَ مُنِعْنَاهُ وقد أَعْطَانَا اللَّهُ ثُمَّ قَرَأْت وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا منه شيئا وَلَا شَكَّ أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه كان حَافِظًا لِلْآيَةِ عَالِمًا بها وَلَكِنْ ذَهَبَتْ عنه ذلك الْوَقْتَ فَعَلِمَ أَنَّ ذلك عَسِرٌ جِدًّا فَكَيْفَ يَصِيرُ قَوْلُهُ بَحَثْتُ فلم أَجِدْ دَلِيلًا وقد يَكُونُ عِلْمُهُ قَلِيلًا وَفَهْمُهُ نَاقِصًا وَقَوْلُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فَلَعَلَّهُ وَجَدَ وَكَتَمَ خَوْفًا أو غَيْرَهُ وفي تَجْوِيزِ ذلك فَسَادٌ عَظِيمٌ انْتَهَى مُلَخَّصًا وقال الْحَوَارِيُّ في النِّهَايَةِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَتَكَايَسُ وَيَقُولُ الدَّلِيلُ على أَنَّهُ لَا نَصَّ هَاهُنَا أَنَّهُ لو كان لَعَثَرَ عليه صَاحِبُ الْمَذْهَبِ مع مُبَالَغَتِهِ في الْبَحْثِ وَعِلْمِهِ بِمَوَارِدِ النُّصُوصِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إذَا عَثَرَ على النَّصِّ لَا يُخَالِفُهُ وَهَذَا قَرِيبٌ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي نَفْيَ الْحُكْمِ قَطْعًا بَلْ ظَنًّا فَيَكْفِيهِ نَفْيُ الدَّلِيلِ ظَاهِرًا إنْ تَمَسَّكَ بِالْقِيَاسِ النَّافِي لِلْحُكْمِ شَرْعُ من قَبْلَنَا وَيَشْتَمِلُ على مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا فِيمَا كان النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مُتَعَبِّدًا بِهِ قبل الْبَعْثَةِ وقد اخْتَلَفُوا في ذلك على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ كان مُتَعَبِّدًا بِشَرْعٍ قَطْعًا ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ كان على شَرِيعَةِ آدَمَ عليه السَّلَامُ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الشَّرَائِعِ وَقِيلَ نُوحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى شَرَعَ لَكُمْ من الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحًا قِيلَ إبْرَاهِيمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَحَكَاهُ الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ السِّيَرِ عن صَاحِبِ الْبَيَانِ وَأَقَرَّهُ وقال الْوَاحِدِيُّ إنَّهُ الصَّحِيحُ قال ابن الْقُشَيْرِيّ في الْمُرْشِدِ وَعُزِّيَ لِلشَّافِعِيِّ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَبِهِ نَقُولُ وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عن أَكْثَرِ أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ أبو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَقِيلَ على شَرِيعَةِ مُوسَى وَقِيلَ عِيسَى لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْأَنْبِيَاءِ إلَيْهِ وَلِأَنَّهُ النَّاسِخُ
____________________
(4/346)
الْمُتَأَخِّرُ وَبِهِ جَزَمَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِيمَا حَكَاهُ الْوَاحِدِيُّ عنه لَكِنْ قال ابن الْقُشَيْرِيّ في الْمُرْشِدِ مَيْلُ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ إلَى أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صلى اللَّهُ عليه وسلم كان على شَرْعٍ من الشَّرَائِعِ وَلَا يُقَالُ كان من أُمَّةِ ذَاكَ النبي كما يُقَالُ كان على شَرْعِهِ انْتَهَى وَقِيلَ كان مُتَعَبِّدًا بِشَرِيعَةِ كل من كان قَبْلَهُ إلَّا ما نُسِخَ وَانْدَرَسَ حَكَاهُ صَاحِبُ الْمُلَخَّصِ وَقِيلَ يَتَعَبَّدُ لَا مُلْتَزِمًا دِينًا وَاحِدًا من الْمَذْكُورِينَ حَكَاهُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ وَقِيلَ كان مُتَعَبِّدًا بِشَرْعٍ وَلَكِنَّا لَا نَدْرِي بِشَرْعِ من تَعَبَّدَ حَكَاهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي أَنَّهُ لم يَكُنْ قبل الْبَعْثَةِ مُتَعَبِّدًا بِشَيْءٍ منها قَطْعًا وَحَكَاهُ في الْمَنْخُولِ عن إجْمَاعِ الْمُعْتَزِلَةِ وقال الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ وابن الْقُشَيْرِيّ هو الذي صَارَ إلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُتَكَلِّمِينَ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فقالت الْمُعْتَزِلَةُ بِإِحَالَةِ ذلك عَقْلًا إذْ لو تَعَبَّدَ بِاتِّبَاعِ أَحَدٍ لَكَانَ عَصَى من مَبْعَثِهِ بَلْ كان على شَرِيعَةِ الْعَقْلِ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَهَذَا بَاطِلٌ إذْ ليس لِلْعَقْلِ شَرِيعَةٌ وَذَهَبَتْ عُصْبَةُ أَهْلِ الْحَقِّ إلَى أَنَّهُ لم يَقَعْ وَلَكِنَّهُ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا قال الْقَاضِي وَهَذَا نَرْتَضِيهِ وَنَنْصُرُهُ لِأَنَّهُ لو كان على دَيْنٍ لَنُقِلَ وَلَذَكَرَهُ عليه السَّلَامُ إذْ لَا يُظَنُّ بِهِ الْكِتْمَانُ وَعَارَضَ ذلك إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وقال لو لم يَكُنْ على دِينٍ أَصْلًا لَنُقِلَ فإن ذلك أَبْعَدُ عن الْمُعْتَادِ مِمَّا ذَكَرَهُ الْقَاضِي قال فَقَدْ تَعَارَضَ الْأَمْرَانِ وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ كانت الْعَادَةُ انْخَرَقَتْ في أُمُورِ الرَّسُولِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ منها انْصِرَافُ هَمِّ الناس عن أَمْرِ دِينِهِ وَالْبَحْثِ عنه وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ التَّوَقُّفُ وَبِهِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيِّ وَإِلْكِيَا وَالْآمِدِيُّ وَالشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى في الذَّرِيعَةِ وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ في الرَّوْضَةِ إذْ ليس فيه دَلَالَةُ عَقْلٍ وَلَا ثَبَتَ فيه نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وقال ابن الْقُشَيْرِيّ في الْمُرْشِدِ كُلُّ هذه أَقْوَالٌ مُتَعَارِضَةٌ وَلَيْسَ فيها دَلَالَةٌ قَاطِعَةٌ وَالْعَقْلُ يُجَوِّزُ ذلك لَكِنْ أَيْنَ السَّمْعُ فيه ثُمَّ الْوَاقِفِيَّةُ انْقَسَمُوا فَقِيلَ نَعْلَمُ أَنَّهُ كان مُتَعَبَّدًا وَنَتَوَقَّفُ في عَيْنِ ما كان مُتَعَبِّدًا بِهِ وَمِنْهُمْ من تَوَقَّفَ في الْأَصْلِ فَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ وَأَلَّا يَكُونَ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ الْخِلَافُ في الْفُرُوعِ أَمَّا في الْأُصُولِ فَدِينُ الْأَنْبِيَاءِ كلهم وَاحِدٌ على التَّوْحِيدِ وَمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ
____________________
(4/347)
الثَّانِي قال الْعِرَاقِيُّ في شَرْحِ التَّنْقِيحِ الْمُخْتَارُ في هذه الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ مُتَعَبِّدٌ بِكَسْرِ الْبَاءِ على أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ أَيْ إنَّهُ عليه السَّلَامُ كان كما قِيلَ في سِيرَتِهِ يَنْظُرُ إلَى ما عليه الناس فَيَجِدُهُمْ على طَرِيقَةٍ لَا تَلِيقُ بِصَانِعِ الْعَالَمِ فَكَانَ يَخْرُجُ إلَى غَارِ حِرَاءَ يَتَعَبَّدُ حتى بَعَثَهُ اللَّهُ أَمَّا بِفَتْحِهَا فَيَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَعَبَّدَهُ بِشَرِيعَةٍ سَابِقَةٍ وَذَلِكَ يَأْبَاهُ حِكَايَتُهُمْ الْخِلَافَ هل كان مُتَعَبِّدًا بِشَرِيعَةِ مُوسَى أو عِيسَى فإن شَرَائِعَ بَنِي إسْرَائِيلَ لم تَتَعَدَّ إلَى بَنِي إسْمَاعِيلَ بَلْ كان كُلُّ نَبِيٍّ بين مُوسَى وَعِيسَى يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ فَلَا تَتَعَدَّى رِسَالَتُهُ قَوْمَهُ حتى نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ مُوسَى عليه السَّلَامُ لم يُبْعَثْ إلَى أَهْلِ مِصْرَ بَلْ لِبَنِي إسْرَائِيلَ وَلِيَأْخُذَهُمْ من الْقِبْطِ من يَدِ فِرْعَوْنَ وَلِذَلِكَ لَمَّا جَاوَزَ الْبَحْرَ لم يَرْجِعْ إلَى مِصْرَ لِتَعُمَّ فيها شَرِيعَتُهُ بَلْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ إعْرَاضًا كُلِّيًّا وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى تَعَبَّدَ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صلى اللَّهُ عليه وسلم بِشَرِيعَتِهِمَا أَلْبَتَّةَ فَبَطَلَ قَوْلُنَا أَنَّهُ كان مُتَعَبِّدًا بِفَتْحِ الْبَاءِ بَلْ بِكَسْرِهَا وَهَذَا بِخِلَافِ ما بَعْدَ نُبُوَّتِهِ فإن اللَّهَ تَعَالَى تَعَبَّدَهُ بِشَرْعِ من قَبْلَهُ على الْخِلَافِ بِنُصُوصٍ خَاصَّةٍ فَيَسْتَقِيمُ الْفَتْحُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ دُونَ ما قَبْلَهَا وَكَلَامُ الْآمِدِيَّ يَقْتَضِي خِلَافَ ذلك فإنه قال غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ في الْعُقُولِ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى مَصْلَحَةَ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ في تَكْلِيفِهِ شَرِيعَةَ من قَبْلَهُ وَهَذَا يَقْتَضِي فَتْحَ الْبَاءِ ولم نَرَ لِغَيْرِهِ تَعَرُّضًا لِذَلِكَ قُلْت قد وَقَعَ ذلك في عِبَارَةِ غَيْرِهِ كما سَبَقَ الثَّالِثُ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هذه الْمَسْأَلَةُ لَا يَظْهَرُ لها فَائِدَةٌ بَلْ تَجْرِي مَجْرَى التَّوَارِيخِ الْمَنْقُولَةِ وَوَافَقَهُ الْمَازِرِيُّ وَالْإِبْيَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَيُمْكِنُ أَنْ يَظْهَرَ في إطْلَاقِ النَّسْخِ على ما تَعَبَّدَ بِهِ بِوُرُودِ شَرِيعَتِهِ الْمُؤَيِّدَةِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ في أَنَّهُ هل تَعَبَّدَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ بِشَرْعِ من قَبْلَهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَمْ كان مَنْهِيًّا عنها وَالْبَحْثُ هُنَا مع الْقَائِلِينَ بِالتَّعَبُّدِ قَبْلَهُ وَأَمَّا من نَفَاهُ ثَمَّ فَقَدْ نَفَاهُ هَاهُنَا بِالْأَوْلَى على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ لم يَكُنْ مُتَعَبِّدًا بَلْ كان مَنْهِيًّا عنها وَحَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَجَمَاعَةٍ من أَصْحَابِنَا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ وهو آخَرُ قَوْلَيْ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ كما قَالَهُ في اللُّمَعِ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ في آخَرِ عُمْرِهِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ إنَّهُ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ وَكَذَا قال الْخُوَارِزْمِيُّ في الْكَافِي لِأَنَّهُ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ لم يُرْشِدْهُ بَلْ ذَكَرَ له الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالِاجْتِهَادَ وَنَصَرَهُ الصَّيْرَفِيُّ في الدَّلَائِلِ قال وَأَمَّا
____________________
(4/348)
حَدِيثُ كان يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لم يَنْزِلْ عليه فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مَحْمُولٌ على الِاخْتِيَارِ لَا الْوُجُوبِ انْتَهَى وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ قال بَعْضُهُمْ وَإِنَّمَا ذلك لِأَنَّهُمْ كَانُوا على بَقِيَّةٍ من دِينِ الرُّسُلِ فما تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لم يُحَرِّفُوهُ وَلَا بَدَّلُوهُ فَأَحَبَّ مُوَافَقَتَهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ ثُمَّ قَضِيَّتُهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَبِّدٍ بها وَلَا مَنْهِيٍّ عنها وقال النَّوَوِيُّ في زَوَائِدِهِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ ليس بِشَرْعٍ لنا لَكِنْ نَقَلَ ابن الرِّفْعَةِ عن النَّصِّ خِلَافَهُ وقال ابن حَزْمٍ إنَّهُ الصَّحِيحُ قال وَلَقَدْ قَبَّحَ إسْمَاعِيلُ بن إِسْحَاقَ الْقَاضِي من الْمَالِكِيَّةِ في قَوْلِهِ إنَّ رَجْمَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْيَهُودِيَّيْنِ الزَّانِيَيْنِ تَعَبُّدٌ بِمَا في التَّوْرَاةِ قال وَهَذَا قَرِيبٌ من الْكُفْرِ وقال في كِتَابِهِ الْإِعْرَابِ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِشَيْءٍ من شَرَائِعِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ الْمَذْهَبُ الثَّانِي أَنَّهُ كان مُتَعَبِّدًا بِاتِّبَاعِهَا إلَّا ما نُسِخَ منها وَنَقَلَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَعَنْ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ وَطَائِفَةٍ من الْمُتَكَلِّمِينَ وقال ابن الْقُشَيْرِيّ هو الذي صَارَ إلَيْهِ الْفُقَهَاءُ وقال سُلَيْمٌ أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ أَوَّلًا في التَّبْصِرَةِ وَاخْتَارَهُ ابن بَرْهَانٍ وقال إنَّهُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن مُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ قال وَلِذَلِكَ اسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ صَالِحٍ النبي عليه السَّلَامُ وَقَوْمِهِ في شُرْبِ النَّاقَةِ على إجَازَةِ الْمُهَايَأَةِ وقال الْخَفَّافُ في شَرْحِ الْخِصَالِ شَرَائِعُ من قَبْلَنَا وَاجِبَةٌ عَلَيْنَا إلَّا في خَصْلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنْ يَكُونَ شَرْعُنَا نَاسِخًا لها أو يَكُونُ في شَرَعْنَا ذِكْرٌ لها فَعَلَيْنَا اتِّبَاعُ ما كان من شَرْعِنَا وَإِنْ كان في شَرْعِهِمْ مُقَدَّمًا انْتَهَى وَاخْتَارَهُ ابن الْحَاجِبِ وهو مَعْنَى قَوْلِهِ إذَا وَجَدْنَا حُكْمًا في شَرْعِ من قَبْلَنَا ولم يَرِدْ في شَرَعْنَا نَاسِخٌ له لَزِمَهُ التَّعَلُّقُ بِهِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وقد أَوْمَأَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ في بَعْضِ كُتُبِهِ قُلْت وقال ابن الرِّفْعَةِ في الْمَطْلَبِ إنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عليه في الْأُمِّ في كِتَابِ الْإِجَارَةِ وَأَنَّهُ أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ في الْحَاوِي انْتَهَى
____________________
(4/349)
وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ مَيْلٌ إلَى هذا وَبَنَى عليه أَصْلًا من أُصُولِهِ في كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ وَتَابَعَهُ مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ وقال في النِّهَايَةِ وقد اسْتَأْنَسَ الشَّافِعِيُّ لِصِحَّةِ الضَّمَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلِمَنْ جاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وأنا بِهِ زَعِيمٌ فَكَانَ الْحَمْلُ في مَعْنَى الْجِعَالَةِ لِمَنْ يُنَادِي في الْعِيرِ بِالصُّوَاعِ وَلَعَلَّهُ كان مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ وَتَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِهِ وقال أَيْضًا في كِتَابِ الضَّمَانِ فِيمَنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ مِائَةَ سَوْطٍ فَضَرَبَهُ بِالْعُثْكُولِ إنَّهُ يَبْرَأُ لِقِصَّةِ أَيُّوبَ عليه السَّلَامُ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ على أَنَّ هذه الْآيَةَ مَعْمُولٌ بها في مِلَّتِنَا وَالسَّبَبُ فيه أَنَّ الْمِلَلَ لَا تَخْتَلِفُ في مُوجِبِ الْأَلْفَاظِ وَفِيمَا يَقَعُ بِرًّا وَحِنْثًا وَثَبَتَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَجَدَ في سُورَةِ ص وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ فَاسْتَنْبَطَ التَّشْرِيعَ من هذه الْآيَةِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَسَعِيدُ بن مَنْصُورٍ وقال أبو بَكْرٍ عبد الْوَهَّابِ إنَّهُ الذي تَقْتَضِيهِ أُصُولُ مَالِكٍ وَكَذَا قال الْقُرْطُبِيُّ ذَهَبَ إلَيْهِ مُعْظَمُ أَصْحَابِنَا وقال ابن الْعَرَبِيِّ في الْقَبَسِ نَصَّ عليه مَالِكٌ في كِتَابِ الدِّيَاتِ من الْمُوَطَّإِ وَلَا خِلَافَ عِنْدَهُ فيه وإذا قُلْنَا بِأَنَّهُ شَرْعٌ لنا فَقِيلَ شَرْعُ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليه وَحْدَهُ وَقِيلَ شَرْعُ مُوسَى عليه السَّلَامُ شَرْعُنَا إلَّا ما نُسِخَ بِشَرِيعَةِ عِيسَى وَقِيلَ شَرِيعَةُ عِيسَى وَحْدَهُ حَكَاهُ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَغَيْرُهُمَا وَنَقَلَا الْخِلَافَ بِعَيْنِهِ في الْمِلَّتَيْنِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي ما تَضَمَّنَتْهُ شَرَائِعُ من قَبْلَنَا فِيمَا لم يَقُصَّهُ اللَّهُ عَلَيْنَا في كِتَابِهِ لَا يَلْزَمُنَا حُكْمُهُ لِانْتِقَاءِ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ وَأَمَّا ما قَصَّهُ عَلَيْنَا في كِتَابِهِ لَزِمَنَا فيه شَرَائِعُ إبْرَاهِيمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْك أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ وفي لُزُومِ ما شَرَعَهُ غَيْرُهُ من الْأَنْبِيَاءِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَلْزَمُهُ لِكَوْنِهِ حَقًّا ما لم يَقُمْ دَلِيلٌ على نَسْخِهِ والثاني لَا يَلْزَمُ لِكَوْنِ أَصْلِهِ مَنْسُوخًا انْتَهَى وما ذَكَرَهُ من الْوِفَاقِ على إبْرَاهِيمَ ذَكَرَهُ الْقَاضِي ابن كَجٍّ في أَوَّلِ كِتَابِ التَّجْرِيدِ فقال اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في شَرَائِعِ من قَبْلَنَا هل تَلْزَمُنَا ولم يَخْتَلِفُوا في أَنَّ شَرِيعَةَ إبْرَاهِيمَ لَازِمَةٌ لنا وقال في كِتَابِهِ الْأُصُولِ إذَا ثَبَتَ في شَرِيعَةِ مُوسَى شَيْءٌ هل يَجُوزُ بَعْدَ بَعْثِ مُحَمَّدٍ صلى اللَّهُ عليه وسلم التَّمَسُّكُ بِهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَجِبُ عَلَيْنَا الِاقْتِدَاءُ بِشَرَائِعِهِمْ إلَى أَنْ يَمْنَعَ من ذلك شَرْعُنَا وَالثَّانِي لَا اقْتِدَاءَ إلَّا بِشَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ قال ابن الْقَطَّانِ كان أبو الْعَبَّاسِ بن سُرَيْجٍ يقول ما حَكَى اللَّهُ في كِتَابِهِ عَنْهُمْ فَهُوَ حَقٌّ
____________________
(4/350)
وهو وَاجِبٌ في شَرِيعَتِنَا إلَّا أَنْ يُغَيَّرَ عنه وقد كان سَائِرُ أَصْحَابِنَا يَقُولُونَ ما حُكِيَ لنا عَنْهُمْ مِمَّا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ من الْمُسْتَفِيضِ وَالْمُتَوَاتِرِ سَوَاءٌ في أَنَّهُ على وَجْهَيْنِ انْتَهَى الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ أَنَّهُ لم يَتَعَبَّدْ فيها بِأَمْرِ وَلَا نَهْيٍ حَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ الْوَقْفُ حَكَاهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وَحَكَى ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ عن أبي زَيْدٍ أَنَّ ما أَخْبَرَ اللَّهُ عن الْأَنْبَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَقِسْمَةِ الْمُهَايَأَةِ في قَوْله تَعَالَى وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ وَقَوْلُهُ وَلِمَنْ جاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وأنا بِهِ زَعِيمٌ وَقَوْلُهُ وَكَتَبْنَا عليهم فيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ قال فَهَذَا يَكُونُ شَرْعُنَا لِأَنَّهُ مَصُونٌ عن التَّحْرِيفِ وَهَذَا لَا يَصْلُحُ جَعْلُهُ مَذْهَبًا بِالتَّفْصِيلِ لِاقْتِضَائِهِ أَنَّ الْقَائِلَ بِأَنَّهُ شَرْعٌ بِقَوْلِهِ وَإِنْ احْتَمَلَ التَّبْدِيلَ وهو لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلُ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ عَمَّا في الْقُرْآنِ خَاصَّةً كما هو ظَاهِرُ عِبَارَةِ الْمَاوَرْدِيِّ السَّابِقَةِ فَيَجِيءُ حِينَئِذٍ التَّفْصِيلُ إلَّا أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ وَلِهَذَا قال الْقُرْطُبِيُّ فِيمَا إذَا بَلَغْنَا شَرْعُ من تَقَدَّمَنَا على لِسَانِ الرَّسُولِ أو لِسَانِ من أَسْلَمَ كَعَبْدِ اللَّهِ بن سَلَامٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ ولم يَكُنْ ذلك مَنْسُوخًا وَلَا مَخْصُوصًا بِأَحَدٍ انْتَهَى قُلْت وَيَلْحَقُ بِهِمْ النَّجَاشِيُّ وقد رَوَى ابن حِبَّانَ في صَحِيحِهِ عن عَامِرِ بن شَهْرٍ قال كَلِمَتَانِ سَمِعَتْهُمَا ما أُحِبُّ أَنَّ لي بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الدُّنْيَا وما فيها إحْدَاهُمَا من النَّجَاشِيِّ وَالْأُخْرَى من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَأَمَّا التي سَمِعْتُهَا من النَّجَاشِيِّ فَإِنَّا كنا عِنْدَهُ إذْ جَاءَهُ ابْنٌ له من الْكِتَابِ يَعْرِضُ لَوْحَهُ قال وَكُنْت أَفْهَمُ بَعْضَ كَلَامِهِمْ فَمَرَّ بِأَيَّةٍ فَضَحِكْت فقال ما الذي أَضْحَكَك وَاَلَّذِي نَفْسِي بيده لَأُنْزِلَتْ من عِنْدِ ذِي الْعَرْشِ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قال إنَّ اللَّعْنَةَ تَكُونُ في الْأَرْضِ إذَا كانت إمَارَةُ الصَّبِيَّانِ وَاَلَّذِي سَمِعْتُهُ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يقول اسْمَعُوا من قُرَيْشٍ وَدَعُوا فِعْلَهُمْ قُلْت وقد فَرَّقَهُ أبو دَاوُد فَرَوَى أَوَّلَهُ في كِتَابِ الْجِرَاحِ وَبَاقِيَهُ في كِتَابِ السُّنَّةِ وقال فيه ابن عبد الْبَرِّ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَرَوَى عبد اللَّهِ بن الْمُبَارَكِ عن عبد الرحمن بن يَزِيدَ
____________________
(4/351)
عن عبد الرحمن رَجُلٌ من أَهْلِ صَنْعَاءَ قال أَرْسَلَ النَّجَاشِيُّ ذَاتَ يَوْمٍ وَرَاءَ أَصْحَابِهِ فَدَخَلُوا عليه وقد جَلَسَ على التُّرَابِ وَلَبِسَ الْخُلْقَانَ فَبَشَّرَهُمْ بِنُصْرَةٍ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِبَدْرٍ فَسَأَلُوهُ عن جُلُوسِهِ على هذه الْحَالَةِ فقال إنَّا نَجِدُ في كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الذي أَنْزَلَهُ على عِيسَى صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ حَقًّا على عِبَادِ اللَّهِ أَنْ يُحْدِثُوا لِلَّهِ تَوَاضُعًا عِنْدَ كل ما أَحْدَثَ لهم من نِعْمَةٍ فلما أَحْدَثَ اللَّهُ نَصْرَ نَبِيِّهِ أَحْدَثْت لِلَّهِ هذا التَّوَاضُعَ وَرَوَى الْحَاكِمُ في الْمُسْتَدْرَكِ عن عِكْرِمَةَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال مَكْتُوبٌ في التَّوْرَاةِ من سَرَّهُ أَنْ تَطُولَ حَيَاتُهُ وَيَزْدَادُ في رِزْقِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ وقال حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ولم يُخْرِجَاهُ بِهَذِهِ السِّيَاقَةِ وَالْقَوْلُ بِجَرَيَانِ هذا في أَخْبَارِ من لم يَطَّلِعْ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عليه بَعِيدٌ وقال إلْكِيَا ما حَاصِلُهُ الْمُرَادُ بِشَرْعِ ما قَبْلَنَا ما حَكَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُمْ أَمَّا الْمَوْجُودُ بِأَيْدِيهِمْ فَمَمْنُوعٌ اتِّبَاعُهُ بِلَا خِلَافٍ قال وَعِلَّةُ الْمَنْعِ إمَّا لِتُهْمَةِ التَّحْرِيفِ وَإِمَّا لِتَحَقُّقِ النَّسْخِ قال وَوَقَعَ الْإِجْمَاعُ على أَحَدِ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُمَا فِيمَا حَكَاهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ من شَرْعِهِمْ فَإِنْ قُلْنَا التُّهْمَةُ التَّحْرِيفُ فَلَا يُتَّجَهُ وَإِنْ قُلْنَا لِتَحَقُّقِ النَّسْخِ اطَّرَدَ ذلك في الْمَحْكِيِّ وَغَيْرِهِ قُلْت وَلِهَذَا فَصَّلَ أبو زَيْدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ ما سَبَقَ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ قال الْمُقْتَرِحُ هذا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ على أَنَّ كُلَّ شَرِيعَةٍ لَمَّا وَرَدَتْ كانت خَاصَّةً أو كانت عَامَّةً فَاَلَّذِي فَصَّلَ يُقَدِّرُ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً وَهَلْ انْدَرَسَتْ أَمْ لَا وَاَلَّذِي يَدَّعِي أنها شَرْعٌ لنا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ أنها حَيْثُ وَرَدَتْ دَامَتْ ولم تَنْدَرِسْ وقال ابن بَرْهَانٍ هو مَبْنِيٌّ على أَنَّ نَفْسَ بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ نَاسِخَةً وَمُغَيِّرَةً وَعِنْدَهُمْ تَصْلُحُ لِذَلِكَ الثَّانِي قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ تَظْهَرُ في حَادِثَةٍ ليس فيها نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مَعْلُومٌ في شَرْعٍ قبل هذا الشَّرْعِ هل يَجُوزُ الْأَخْذُ بِهِ أَمْ لَا وَمِنْ فُرُوعِهِ ما إذَا تَعَذَّرَ الِاطِّلَاعُ على حُكْمِ ما يَحِلُّ أَكْلُهُ وَيَحْرُمُ وَثَبَتَ تَحْرِيمُهُ بِشَرْعٍ سَابِقٍ بِنَصٍّ أو شَهَادَةٍ فَقَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّا نَسْتَصْحِبُهُ
____________________
(4/352)
حتى يَظْهَرَ نَاسِخٌ وَنَاقِلٌ وأصحهما لَا بَلْ يُعْمَلُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ من الْحِلِّ وَعَلَى الْأَوَّلِ فَلَوْ اخْتَلَفَ فيه فَفِي الْحَاوِي لِلْمَاوَرْدِيِّ إنَّمَا يُعْتَبَرُ حُكْمُهُ في أَقْرَبِ الشَّرَائِعِ بِالزَّمَنِ لِلْإِسْلَامِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فَوَجْهُهَا تَعَارُضُ الْأَشْبَاهِ الثَّالِثُ قال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ ليس تَحْقِيقُ الْخِلَافِ أَنْ يَقُولَ الْمُخَالِفُ إنَّهُ قد أُمِرَ بِمِثْلِ شَرْعِ من تَقَدَّمَ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُنْكِرُ هذا فَإِنْ كان هذا قَوْلَ الْمُخَالِفِينَ فإنه وَرَدَ عليه أَمْرٌ مُسْتَأْنَفٌ مُبْتَدَأٌ مُوَافِقٌ لِشَرْعِ من قَبْلَهُ فَقَدْ وَافَقُوا على الْمَعْنَى وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في أَنَّهُ هل يَلْزَمُهُ بَعْدَ الْمَبْعَثِ الْعَمَلُ بِشَرِيعَةِ من قَبْلَهُ على وَجْهِ الِاتِّبَاعِ لِنَبِيٍّ قَبْلَهُ وَفَرْضِ لُزُومِ دَعْوَتِهِ قال الْقَاضِي فَهَذَا هو الْبَاطِلُ الذي نُنْكِرُهُ الرَّابِعُ إذَا قُلْنَا بِاسْتِصْحَابِ شَرْعِ من قَبْلَنَا فَلَهُ ثَلَاثُ شُرُوطٍ أَحَدُهَا أَنْ يَصِحَّ النَّقْلُ بِطَرِيقَةِ أَنَّهُ شَرْعُهُمْ وَذَلِكَ بِأَرْبَعِ طُرُقٍ إمَّا بِالْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً أو تَصْحِيحُ السُّنَّةِ كما اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْغَارِ على صِحَّةِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَشِرَائِهِ أو ثَبَتَ نَقْلٌ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ الذي لَا يُمْكِنُ الْغَلَطُ فيه وَلَا يُشْتَرَطُ فيه الْإِيمَانُ على ما سَبَقَ في بَابِ الْخَبَرِ هذا هو الذي يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ لَكِنَّ الظَّاهِرَ خِلَافُهُ وَلِهَذَا قال الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ لَا يُعْتَمَدُ قَوْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِمَّا بِأَنْ يَشْهَدَ بِهِ اثْنَانِ أَسْلَمَا منهم مِمَّنْ يَعْرِفُ الْمُبْدَلَ الشَّرْطُ الثَّانِي أَنْ لَا تَخْتَلِفَ في تَحْرِيمِ ذلك وَتَحْلِيلِهِ شَرِيعَتَانِ فَإِنْ اخْتَلَفَتَا كَأَنْ كان ذلك حَرَامًا في شَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ وَحَلَالًا في شَرِيعَةِ غَيْرِهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُؤْخَذَ بِالْمُتَأَخِّرِ وَيُحْتَمَلُ التَّخْيِيرُ وَإِنْ لم نَقُلْ بِأَنَّ الثَّانِيَ نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ فَإِنْ ثَبَتَ كَوْنُ الثَّانِي نَاسِخًا وَجُهِلَ كَوْنُهُ حَرَامًا في الدِّينِ السَّابِقِ أو اللَّاحِقِ تُوَقِّفَ وَيُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ إلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ الشَّرْطُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ وَالتَّحْلِيلُ ثَابِتًا قبل تَحْرِيفِهِمْ وَتَبْدِيلِهِمْ فَإِنْ اسْتَحَلُّوا وَحَرَّمُوا بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّحْرِيفِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ أَلْبَتَّةَ الْخَامِسُ هذا كُلُّهُ في فُرُوعِ الدِّينِ فَأَمَّا الْعَقَائِدُ فَهِيَ لَازِمَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ قال تَعَالَى أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ احْتَجُّوا على أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حَاكِيًا عن إبْرَاهِيمَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاَللَّهُ خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ ولم يَرُدَّ الْمُعْتَزِلَةُ هذا بِأَنَّهُ شَرْعٌ سَابِقٌ وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمْ بِالْإِيمَانِ تَحْرِيمَ الْقَتْلِ وَالْكُفْرِ وَالسَّرِقَةِ وَالرِّبَا وَنَحْوِهِمَا وقال
____________________
(4/353)
اتَّفَقَتْ الشَّرَائِعُ على تَحْرِيمِهَا وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هل حُرِّمَتْ في شَرْعِنَا بِخِطَابٍ مُسْتَأْنَفٍ أَمْ بِالْخِطَابِ الذي أُنْزِلَ على غَيْرِهِ وَتُعُبِّدَ بِاسْتِدَامَتِهِ ولم يَنْزِلْ عليه الْخِطَابُ إلَّا بِمَا يُخَالِفُ شَرْعَهُمْ فقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَالْغَزَالِيُّ كان ذلك بِخِطَابٍ مُسْتَأْنَفٌ وَطَرَدُوا قَوْلَهُمْ لم يَتَعَبَّدْ بِشَرِيعَةِ من قَبْلَهُ السَّادِسُ ذَكَرَ الْقَاضِي أبو عبد اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ من أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ في كِتَابِهِ مَسَائِلُ الْخِلَافِ في الْأُصُولِ خِلَافًا في أَنَّهُ هل يَجُوزُ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيًّا تَكُونُ شَرِيعَتُهُ مِثْلَ الذي قَبْلَهُ أَمْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ له شَرِيعَةٌ مُفْرَدَةٌ قال أَمَّا من جِهَةِ الْعَقْلِ فَهُوَ جَائِزٌ وَمِنْ الناس من قال لَا بُدَّ أَنْ يَخْتَصَّ بِشَرِيعَةٍ غَيْرِ شَرِيعَةِ من قَبْلَهُ انْتَهَى وَلَعَلَّ هذا الْخِلَافَ هو أَصْلُ الْخِلَافِ في مَسْأَلَتِنَا ثُمَّ رَأَيْت التَّصْرِيحَ بِذَلِكَ في كِتَابِ الذَّرِيعَةِ لِلشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى قال وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ نَبِيًّا بِمِثْلِ شَرِيعَةِ النبي الْأَوَّلِ بِشَرْطَيْنِ أَنْ تَنْدَرِسَ الْأُولَى فَيُجَدِّدُهَا الثَّانِي أو بِأَنْ يَزِيدَ فيها ما لم يَكُنْ فيها فَأَمَّا على غَيْرِ هذا الْوَجْهِ هو عَبَثٌ قال وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ وَلَا عَبَثَ إذَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِالثَّانِي من لَا يَنْتَفِعُ بِالْأَوَّلِ لِتَكُونَ النِّعْمَةُ الثَّانِيَةُ على سَبِيلِ تَرَادُفِ الْأَدِلَّةِ فَائِدَةٌ قال أبو الْفَرَجِ بن الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَدْءُ الشَّرَائِعِ كان في التَّخْفِيفِ وَلَا يُعْرَفُ في شَرْعِ نُوحٍ وَصَالِحٍ وَإِبْرَاهِيمَ ثَقِيلٌ ثُمَّ جاء مُوسَى بِالتَّشْدِيدِ وَالْأَثْقَالِ وَجَاءَ عِيسَى بِنَحْوٍ من ذلك وَكَانَتْ شَرِيعَةٌ نَبِيِّنَا صلى اللَّهُ عليه وسلم تَنْسَخُ تَشْدِيدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا تُطْلِقُ بِتَسْهِيلِ من كان قَبْلَهُمْ فَهِيَ على غَايَةِ الِاعْتِدَالِ مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِنَبِيٍّ أو مُجْتَهِدٍ اُحْكُمْ بِمَا شِئْت من غَيْرِ اجْتِهَادٍ فَهُوَ صَوَابٌ أَيْ فَهُوَ حُكْمِي في عِبَادِي إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَخْتَارُ إلَّا الصَّوَابَ وَيَكُونُ قَوْلُهُ إذْ ذَاكَ من جُمْلَةِ الْمَدَارِكِ الشَّرْعِيَّةِ وَيُسَمَّى التَّفْوِيضُ قَالَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ منهم إلْكِيَا وابن الصَّبَّاغِ وقال إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ قال الْقَاضِي وقال أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَجُوزُ بِنَاءً على رَأْيِهِمْ أَنَّ الشَّرْعَ مَبْنِيٌّ على الْمَصَالِحِ وقد لَا يَكُونُ في اخْتِيَارِهِ مَصْلَحَةٌ وقال الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى في الذَّرِيعَةِ
____________________
(4/354)
الصَّحِيحُ السَّمَاعُ وَلَا بُدَّ في كل حُكْمٍ من دَلِيلٍ لَا يَرْجِعُ إلَى اخْتِيَارِ الْفَاعِلِ وقال خَالَفَ مُوسَى بن عِمْرَانَ في ذلك وقال لَا فَرْقَ بين أَنْ يَنُصَّ له على الْحُكْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَخْتَارُ إلَّا ما هو الْمَصْلَحَةُ فَيُفَوِّضُ ذلك إلَى اخْتِيَارِهِ انْتَهَى وقال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ في أُصُولِهِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذلك إلَّا بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالثَّالِثُ وَبِهِ قال أبو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ في أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَجُوزُ ذلك لِلنَّبِيِّ دُونَ الْعَالِمِ ذَكَرَ ذلك في قَوْله تَعَالَى كُلُّ الطَّعَامِ كان حِلًّا لِبَنِي إسْرَائِيلَ إلَّا ما حَرَّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ قال أبو الْحُسَيْنِ ثُمَّ رَجَعَ عن هذا الْقَوْلِ وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ قال وقد ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ ما يَدُلُّ عليه وقال أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ ما يَدُلُّ على أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ أَنَّ الصَّوَابَ يَتَّفِقُ من نَبِيِّهِ جَعَلَ له ذلك ولم يَقْطَعْ عليه بَلْ جَوَّزَهُ وَجَوَّزَ خِلَافَهُ وقال صَاحِبُ الْمَصَادِرِ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ ما يَدُلُّ على الْجَوَازِ فإنه قال فيها الْحُكْمُ يَثْبُتُ بِالْوَحْيِ أو بِأَنْ يَنْفُثَ في رَوْعِهِ وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إلَى خَاطِرٍ يُلْقَى إلَيْهِ أو بِاجْتِهَادٍ أو بِأَنْ يُوَفَّقَ في الْحُكْمِ قال وهو مَذْهَبُ مُوسَى بن عِمْرَانَ بِعَيْنِهِ وقد رَدُّوا عليه بِأَنَّهُ لَا بُدَّ في الشَّرْعِيَّاتِ من دَلَالَةٍ مُمَيِّزَةٍ لِلصَّلَاحِ من الْفَسَادِ وَاخْتِيَارُ الْمُكَلَّفِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا وقال ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ حُكِيَ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال في كِتَابِ الرِّسَالَةِ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ أَنَّ الصَّوَابَ يَتَّفِقُ من نَبِيِّهِ جَعَلَ ذلك إلَيْهِ ولم يَقْطَعْ بِذَلِكَ قال وَهَذَا لَا يَجِيءُ على قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فإن مَذْهَبَهُ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ نُصِبَتْ عليه أَمَارَةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّهُ جَعَلَهُ إلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ الصَّوَابَ يَتَّفِقُ معه وَحِينَئِذٍ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ مُطْلَقًا بِخِلَافِ غَيْرِهِ من الْمُجْتَهِدِينَ انْتَهَى وَزَعَمَ الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيُّ أَنَّ تَرَدُّدَ الشَّافِعِيِّ في الْجَوَازِ وقال غَيْرُهُمَا بَلْ في الْوُقُوعِ مع الْجَزْمِ بِالْجَوَازِ وهو الْأَصَحُّ نَقْلًا وهو الْمُخْتَارُ إنْ لم يَقَعْ نَقْلًا وَصَرَّحَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ بِالْجَوَازِ وَتَرَدَّدَ في الْوُقُوعِ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ مَحَلُّ الْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هو في الْحُكْمِ بِالرَّأْيِ من غَيْرِ نَظَرٍ في مُسْتَنَدَاتِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِلَّا كان اجْتِهَادًا جَائِزًا لِلْعُلَمَاءِ من غَيْرِ خِلَافٍ وَالنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم على قَوْلٍ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْآتِيَةُ في الِاجْتِهَادِ
____________________
(4/355)
وقال ابن السَّمْعَانِيِّ هذه الْمَسْأَلَةُ وَإِنْ أَوْرَدَهَا مُتَكَلِّمُو الْأُصُولِيِّينَ فَلَيْسَتْ بِمَعْرُوفَةٍ بين الْفُقَهَاءِ وَلَيْسَ فيها كَبِيرُ فَائِدَةٍ لِأَنَّ هذا في غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ لم يُوجَدْ وَلَا يُتَوَهَّمُ وُجُودُهُ في الْمُسْتَقْبَلِ فَأَمَّا في حَقِّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَقَدْ وُجِدَ وَسَبَقَ في كَلَامٍ آخَرَ يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْكَلَامِ في أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا بُدَّ لها من عِلَّةٍ إطْبَاقُ الناس من غَيْرِ نَكِيرٍ هذا الدَّلِيلُ يَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ في مَوَاضِعَ كَاسْتِدْلَالِ أَصْحَابِنَا على طَهَارَةِ الْإِنْفَحَةِ بِإِطْبَاقِ الناس على أَكْلِ الْجُبْنِ وَاسْتِدْلَالُهُمْ على جَوَازِ قَرْضِ الْخُبْزِ وَاسْتِدْلَالُ الْحَنَفِيَّةِ على جَوَازِ الِاسْتِصْنَاعِ لِمُشَاهَدَةِ السَّلَفِ له من غَيْرِ إنْكَارٍ مع ظُهُورِهِ وَاسْتِفَاضَتِهِ وَدُخُولُ الْحَمَّامِ من غَيْرِ شَرْطِ أُجْرَةٍ وَلَا تَقْدِيرِ انْتِفَاعٍ وَغَيْرِ ذلك وهو يَقْرُبُ من الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ من غَيْرِ تَقْرِيرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم على الْفِعْلِ من غَيْرِ نَكِيرٍ يَقُومُ مَقَامَ التَّصْرِيحِ بِالتَّجْوِيزِ لِأَنَّ النَّهْيَ عن الْمُنْكَرِ لَازِمٌ لَلْأُمَّةِ بَلْ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْكَلَامِ على وُجُوبِ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وقد يَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيُّ على وُجُوبِ الشَّيْءِ بِإِطْبَاقِ الناس على الْعَمَلِ وما كان مَقْطُوعًا بِهِ فَالْعَادَةُ لَا تَقْتَضِي تَرَدُّدَ الناس فيه انْتَهَى وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ هذا لَا يَتِمُّ إلَّا إذَا اتَّفَقَ في عَصْرِهِ عليه السَّلَامُ أو في عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَمَّا بَعْدَ ذلك فَتَزَايُدُ الْحَالِ إلَى هذا الزَّمَانِ الذي كَمْ فيه من بِدْعَةٍ وقد تَوَاطَئُوا على عَدَمِ الْإِنْكَارِ لها فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ الْإِطْبَاقَ على الْفِعْلِ مع عَدَمِ النَّكِيرِ دَلِيلًا على الْإِبَاحَةِ على الْإِطْلَاقِ وقد كان عبد اللَّهِ بن الْحَسَنِ يُكْثِرُ الْجُلُوسَ على رَبِيعَةَ فَتَذَاكَرَا يَوْمًا فقال رَجُلٌ ليس الْعَمَلُ على هذا فقال عبد اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ كَثُرَ الْجُهَّالِ حتى يَكُونُوا هُمْ الْحُطَامُ فَهُمْ الْحُجَّةُ على الناس قال رَبِيعَةُ أَشْهَدُ أَنَّ هذا الْكَلَامَ لَا يَقْبَلُهُ إلَّا الْأَنْبِيَاءُ عليهم السَّلَامُ وقال الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامُ الْمُعْتَادَةُ بين الناس ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا ما يَعْتَادُونَهُ في أَكْلِهِمْ وَشُرْبِهِمْ وَلِبَاسِهِمْ وَنَحْوِهِ فَلَا كَلَامَ فيه لِأَنَّ هذا تَابِعٌ لِلْمَقَاصِدِ لَا حَجْرَ فيه وَالثَّانِي ما اعْتَادُوهُ في دِيَانَاتِهِمْ وَهَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ عَادَةً لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ فَلَيْسَ هَؤُلَاءِ حُجَّةً على غَيْرِهِمْ إلَّا بِدَلِيلٍ كَقَوْمٍ أَلِفُوا مَذْهَبَ مَالِكٍ في بَلْدَةٍ وَإِمَّا
____________________
(4/356)
أَنْ يَكُونَ عَادَةً لِجَمِيعِ الناس في جَمِيعِ الْأَمْصَارِ مُسْتَفِيضًا فَهَذَا لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيضُ بَيْنَهُمْ فِعْلُ شَيْءٍ من الْأَشْيَاءِ إلَّا وهو مُبَاحٌ أو مُوجَبٌ على حَسَبِ ما يُلْزِمُونَهُ أَنْفُسَهُمْ فَإِنْ كان ذلك مَوْجُودًا في الْأَغْلَبِ فَلَيْسَ حُجَّةً قال وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَحْكَامَ وَقَعَتْ على الْعَادَاتِ فَغَلَطٌ بَلْ هِيَ مُبْتَدَأَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ دَلَالَةُ السِّيَاقِ أَنْكَرَهَا بَعْضُهُمْ وَمَنْ جَهِلَ شيئا أَنْكَرَهُ وقال بَعْضُهُمْ إنَّهَا مُتَّفَقٌ عليها في مَجَارِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وقد احْتَجَّ بها أَحْمَدُ على الشَّافِعِيِّ في أَنَّ الْوَاهِبَ ليس له الرُّجُوعُ من حديث الْعَائِدُ في هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ في قَيْئِهِ حَيْثُ قال الشَّافِعِيُّ هذا يَدُلُّ على جَوَازِ الرُّجُوعِ إذْ قَيْءُ الْكَلْبِ ليس مُحَرَّمًا عليه فقال أَحْمَدُ أَلَا تَرَاهُ يقول فيه ليس لنا مَثَلُ السُّوءِ الْعَائِدُ في هِبَتِهِ الْحَدِيثُ وهَذَا مَثَلُ سَوْءٍ فَلَا يَكُونُ لنا وَاحْتَجَّ بها في أَنَّ الْمُرَادَ بِأَنَّهُ اسْتِيعَابُهُمْ وَاجِبٌ وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ على الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنْهُمْ من يَلْمِزُك في الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا منها رَضُوا وَإِنْ لم يُعْطَوْا منها إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ فإن اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا رَأَى بَعْضَ من لَا يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ يُحَاوِلُ أَنْ يَأْخُذَ منها وَيَسْخَطُ إذَا لم يُعْطَ يُقْطَعُ طَمَعَهُ بِبَيَانِ أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لها غَيْرُهُ وَهُمْ الْأَصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ وقال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ في كِتَابِ الْإِمَامِ السِّيَاقُ يُرْشِدُ إلَى تَبْيِينِ الْمُجْمَلَاتِ وَتَرْجِيحِ الْمُحْتَمَلَاتِ وَتَقْرِيرِ الْوَاضِحَاتِ وَكُلُّ ذلك بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ فَكُلُّ صِفَةٍ وَقَعَتْ في سِيَاقِ الْمَدْحِ كانت مَدْحًا وَإِنْ كانت ذَمًّا بِالْوَضْعِ وَكُلُّ صِفَةٍ وَقَعَتْ في سِيَاقِ الذَّمِّ كانت ذَمًّا وَإِنْ كانت مَدْحًا بِالْوَضْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ذُقْ إنَّك أنت الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ
____________________
(4/357)
قَوْلُ الصَّحَابِيِّ اتَّفَقُوا على أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ في مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ ليس بِحُجَّةٍ على صَحَابِيٍّ آخَرَ مُجْتَهِدٍ إمَامًا أو حَاكِمًا أو مُفْتِيًا نَقَلَهُ الْقَاضِي وَتَبِعَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ منهم الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمَا فَإِنْ قِيلَ يَقْدَحُ فيه قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ قال الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه في بَعْضِ أَقْوَالِهِ إذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فَالتَّمَسُّكُ بِقَوْلِ الْخُلَفَاءِ أَوْلَى قال الْإِمَامُ وَهَذَا كَالدَّلِيلِ على أَنَّهُ لم يَسْقُطْ الِاحْتِجَاجُ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ من أَجْلِ الِاخْتِلَافِ قُلْنَا مُرَادُهُ أَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَيْنَا لَا على من عَاصَرَهُ من الصَّحَابَةِ نعم هُنَا مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى وُجُوبِ التَّقْلِيدِ والثانية بِالنِّسْبَةِ إلَى جَوَازِهِ وَالْقَاضِي إنَّمَا حَكَى الِاتِّفَاقَ في الْأُولَى وَحَكَى الْخِلَافَ في الثَّانِيَةِ فقال وقد اتَّفَقَ على أَنَّهُ لَا يَجِبُ على الصَّحَابِيِّ تَقْلِيدُ مِثْلِهِ من الصَّحَابَةِ فَبِذَلِكَ لَا يَجِبُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِمْ من الْعُلَمَاءِ لهم لِتَسَاوِي أَحْوَالِهِمْ قال وقد أَجَازَ بَعْضُهُمْ تَقْلِيدَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بَعْضًا وَاحْتَجُّوا بِإِجَابَةِ عُثْمَانَ إلَى تَقْلِيدِ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ في الْأَحْكَامِ وَإِنْ لم نَعْتَبِرْ وُجُوبَ ذلك انْتَهَى وقد يَدَّعِي أنها مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ ويَلْزَمُ من الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ الْوُجُوبُ وَكَلَامُ الشَّيْخِ في اللُّمَعِ يَقْتَضِي ذلك فإنه قال إذَا أَجْمَعُوا بين الصَّحَابَةِ على قَوْلَيْنِ بَنَى على الْقَوْلَيْنِ في أَنَّهُ حُجَّةٌ أَمْ لَا فَإِنْ قُلْنَا ليس بِحُجَّةٍ لم يَكُنْ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً على بَعْضٍ ولم يَجُزْ تَقْلِيدُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَلْ يَرْجِعُ إلَى الدَّلِيلِ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ حُجَّةٌ فَهَاهُنَا دَلِيلَانِ تَعَارَضَا فَيُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ من الْجَانِبَيْنِ أو يَكُونُ فيه إمَامٌ انْتَهَى ثُمَّ هذا الِاتِّفَاقُ صَحِيحٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى زَمَنِهِمْ أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى من بَعْدِهِمْ إذَا اخْتَلَفُوا فَقَدْ ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ حُجِّيَّةَ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ تَزُولُ إذَا خَالَفَهُ غَيْرُهُ من الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُ ليس اتِّبَاعُ قَوْلِ أَحَدِهِمَا أَوْلَى من الْآخَرِ وَتَعَلَّقُوا بِمَا تَقَدَّمَ من نَقْلِ الْإِجْمَاعِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ ذلك إنَّمَا هو بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ من الصَّحَابَةِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ في أَنَّهُ هل هو حُجَّةٌ على التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدِهِمْ من الْمُجْتَهِدِينَ وَفِيهِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا كَغَيْرِهِ من الْمُجْتَهِدِينَ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في الْجَدِيدِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ من أَصْحَابِنَا وَالْمُعْتَزِلَةُ ويُومِئُ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَاخْتَارَهُ أبو الْخَطَّابِ من أَصْحَابِهِ وَزَعَمَ عبد الْوَهَّابِ أَنَّهُ الصَّحِيحُ الذي يَقْتَضِيهِ
____________________
(4/358)
مَذْهَبُ مَالِكٍ لِأَنَّهُ نَصَّ على وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ وَاتِّبَاعِ ما يُؤَدِّي إلَيْهِ صَحِيحُ النَّظَرِ فقال وَلَيْسَ في اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ سَعَةٌ إنَّمَا هو خَطَأٌ أو صَوَابٌ الثَّانِي أَنَّهُ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ مُقَدَّمَةٌ على الْقِيَاسِ وهو قَوْلُهُ في الْقَدِيمِ وَنُقِلَ عن مَالِكٍ وَأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ قال صَاحِبُ التَّقْوِيمِ قال أبو سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيُّ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ وَاجِبٌ يُتْرَكُ بِقَوْلِهِ الْقِيَاسُ وَعَلَيْهِ أَدْرَكْنَا مَشَايِخَنَا وَذَكَرَ محمد بن الْحَسَنِ إنْ شَرَى ما بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ لَا يَجُوزُ وَاحْتَجَّ بِأَثَرِ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها وَالْقِيَاسِ وقال وَلَيْسَ عن أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ مَذْهَبٌ ثَابِتٌ وَالْمَرْوِيُّ عن أبي حَنِيفَةَ إذَا أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ سَلَّمْنَا لهم وإذا جاء التَّابِعُونَ زَاحَمْنَاهُمْ لِأَنَّهُ كان منهم فَلَا يَثْبُتُ لهم بِدُونِ إجْمَاعٍ انْتَهَى وَمِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ في الْقَدِيمِ لَمَّا ذَكَرَ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عليهم وَهُمْ فَوْقَنَا في كل عِلْمٍ وَاجْتِهَادٍ وَوَرَعٍ وَعَقْلٍ وَأَمْرٍ اُسْتُدْرِكَ فيه عِلْمٌ أو اُسْتُنْبِطَ وَآرَاؤُهُمْ لنا أَجْمَلُ وَأَوْلَى بِنَا من آرَائِنَا عِنْدَنَا لِأَنْفُسِنَا وَمَنْ أَدْرَكْنَا مِمَّنْ يَرْضَى أو حَكَى لنا عنه بِبَلَدِنَا صَارُوا فِيمَا لم يُعْلَمْ لِلرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فيه سُنَّةٌ إلَى قَوْلِهِمْ إنْ أَجْمَعُوا وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ إنْ تَفَرَّقُوا فَهَكَذَا نَقُولُ إذَا اجْتَمَعُوا أَخَذْنَا بِاجْتِمَاعِهِمْ وَإِنْ قال وَاحِدُهُمْ ولم يُخَالِفُهُ غَيْرُهُ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا أَخَذْنَا بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ ولم نَخْرُجُ عن أَقَاوِيلِهِمْ كُلِّهِمْ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ منه فَإِنْ لم يَكُنْ على قَوْلِ أَحَدِهِمْ دَلَالَةٌ من كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ كان قَوْلُ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ أَقُولَ من غَيْرِهِمْ أَنْ أُخَالِفَهُمْ من قَبْلُ أَنَّهُمْ أَهْلُ عِلْمٍ وَحِكَايَةٍ ثُمَّ قال وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَفْتُونَ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ يَعْنِي من الصَّحَابَةِ وَلَا دَلِيلَ فِيمَا اخْتَلَفُوا فيه نَظَرْنَا إلَى الْأَكْثَرِ فَإِنْ تَكَافَئُوا نَظَرْنَا إلَى أَحْسَنِ أَقَاوِيلِهِمْ مَخْرَجًا عِنْدَنَا وَاعْلَمْ أَنَّ هذا الْقَوْلَ اُشْتُهِرَ نَقْلُهُ عن الْقَدِيمِ وقد نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ في الْجَدِيدِ أَيْضًا وقد نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ وهو مَوْجُودٌ في كِتَابِ الْأُمِّ في بَابِ خِلَافِهِ مع مَالِكٍ وهو من الْكُتُبِ الْجَدِيدَةِ فَلْنَذْكُرْهُ بِلَفْظِهِ لِمَا فيه من الْفَائِدَةِ قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ما كان الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَوْجُودَيْنِ فَالْعُذْرُ على من سَمِعَهُمَا مَقْطُوعٌ إلَّا بِاتِّبَاعِهِمَا فإذا لم يَكُنْ كَذَلِكَ صِرْنَا إلَى أَقَاوِيلِ أَصْحَابِ الرَّسُولِ أو وَاحِدِهِمْ وكان قَوْلُ الْأَئِمَّةِ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عليهم أَحَبَّ
____________________
(4/359)
إلَيْنَا إذَا صِرْنَا إلَى التَّقْلِيدِ وَلَكِنْ إذَا لم نَجِدْ دَلَالَةً في الِاخْتِلَافِ تَدُلُّ على أَقْرَبِ الِاخْتِلَافِ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَنَتَّبِعُ الْقَوْلَ الذي معه الدَّلَالَةُ لِأَنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ مَشْهُورٌ فإنه يَلْزَمُ الناس وَمِنْ لَزِمَ قَوْلُهُ الناس كان أَظْهَرُ مِمَّنْ يُفْتِي الرَّجُلَ وَالنَّفَرَ وقد يَأْخُذُ بِفُتْيَاهُ وقد يَدَعُهَا وَأَكْثَرُ الْمُفْتِينَ يُفْتُونَ الْخَاصَّةَ في بُيُوتِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَلَا يَعْنِي الْخَاصَّةَ بِمَا قالوا عِنَايَتُهُمْ بِمَا قال الْإِمَامُ ثُمَّ قال فإذا لم يُوجَدْ عن الْأَئِمَّةِ فَأَصْحَابُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في الدِّينِ في مَوْضِعِ الْأَمَانَةِ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِمْ وكان اتِّبَاعُهُمْ أَوْلَى بِنَا من اتِّبَاعِ من بَعْدِهِمْ وَالْعِلْمُ طَبَقَاتٌ الْأُولَى الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إذَا ثَبَتَتْ السُّنَّةُ وَالثَّانِيَةُ الْإِجْمَاعُ مِمَّا ليس في كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَقُولَ بَعْضُ أَصْحَابِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا نَعْلَمُ له مُخَالِفًا فِيهِمْ وَالرَّابِعَةُ اخْتِلَافُ أَصْحَابِ الرَّسُولِ وَالْخَامِسَةُ الْقِيَاسُ على بَعْضِ هذه الطَّبَقَاتِ وَلَا يُصَارُ إلَى شَيْءٍ غير الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُمَا مَوْجُودَانِ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ من أَعْلَى هذا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ وقد رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عن شُيُوخِهِ عن الْأَصَمِّ عن الرَّبِيعِ عنه وَهَذَا صَرِيحٌ منه في أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ عِنْدَهُ حُجَّةٌ مُقَدَّمَةٌ على الْقِيَاسِ كما نَقَلَهُ عنه إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَيَكُونُ له قَوْلَانِ في الْجَدِيدِ وَأَحَدُهُمَا مُوَافِقٌ لِلْقَدِيمِ وَإِنْ كان قد غَفَلَ عن نَقْلِهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّ الصَّحَابَةَ إذَا اخْتَلَفُوا كان الْحُجَّةُ في قَوْلِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ إذَا وَجَدَ عَنْهُمْ لِلْمَعْنَى الذي أَشَارَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وهو اشْتِهَارُ قَوْلِهِمْ وَرُجُوعُ الناس إلَيْهِمْ وقد اسْتَعْمَلَ الشَّافِعِيُّ ذلك في الْأُمِّ في مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ منها قال في كِتَابِ الْحُكْمِ في قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ ما نَصُّهُ وَكُلُّ من يَحْبِسُ نَفْسَهُ بِالتَّرَهُّبِ تَرَكْنَا قَتْلَهُ اتِّبَاعًا لِأَبِي بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه ثُمَّ قال وَإِنَّمَا قُلْنَا هذا اتِّبَاعًا لَا قِيَاسًا وقال في كِتَابِ اخْتِلَافُ أبي حَنِيفَةَ وَابْنِ أبي لَيْلَى في بَابِ الْغَصْبِ أَنَّ عُثْمَانَ قَضَى فِيمَا إذَا شَرَطَ الْبَرَاءَةَ في الْعُيُوبِ في الْحَيَوَانِ قال وَهَذَا يَذْهَبُ إلَيْهِ وَإِنَّمَا ذَهَبْنَا إلَى هذا تَقْلِيدًا وَإِنَّمَا كان الْقِيَاسُ عَدَمُ الْبَرَاءَةِ وقال ابن الصَّبَّاغِ إنَّمَا احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ عُثْمَانَ في الْجَدِيدِ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ إذَا لم يَنْتَشِرْ ولم يَظْهَرْ له مُخَالِفٌ كان حُجَّةً انْتَهَى وقال في عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا تَقْلِيدًا لِعُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي اللَّهُ عنه
____________________
(4/360)
الثَّالِثُ أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ قِيَاسٌ فَيُقَدَّمُ حِينَئِذٍ على قِيَاسٍ ليس معه قَوْلُ صَحَابِيٍّ نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في كِتَابِ الرِّسَالَةِ فقال وَأَقْوَالُ أَصْحَابِ النبي عليه السَّلَامُ إذَا تَفَرَّقُوا نَصِيرُ منها إلَى ما وَافَقَ الْكِتَابَ أو السُّنَّةَ أو الْإِجْمَاعَ أو كان أَصَحَّ في الْقِيَاسِ وإذا قال وَاحِدٌ منهم الْقَوْلُ لَا يُحْفَظُ عن غَيْرِهِ منهم له مُوَافَقَةٌ وَلَا خِلَافًا صِرْتُ إلَى اتِّبَاعِ قَوْلِ وَاحِدِهِمْ وإذا لم أَجِدْ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً وَلَا إجْمَاعًا وَلَا شيئا يَحْكُمُ له بِحُكْمِهِ أو وُجِدَ معه قِيَاسٌ هذا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ وقال ابن الرِّفْعَةِ في الْمَطْلَبِ حَكَى الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَغَيْرُهُ من أَصْحَابِنَا عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَرَى في الْجَدِيدِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ إذَا عَضَّدَهُ الْقِيَاسُ وَكَذَا حَكَاهُ ابن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ فقال نَقُولُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ إذَا كان معه قِيَاسٌ انْتَهَى وَكَذَا قال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في كِتَابِهِ فقال قال في الْجَدِيدِ إنَّهُ حُجَّةٌ إذَا اعْتَضَدَ بِضَرْبٍ من الْقِيَاسِ يَقْوَى بِمُوَافَقَتِهِ إيَّاهُ وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ في بَابِ الْقَوْلِ في مَنْعِ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ لِلْعَالَمِ إنَّ الذي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ في الْجَدِيدِ وَاسْتَقَرَّ عليه مَذْهَبُهُ وَحَكَاهُ عنه الْمُزَنِيّ فقال في الْجَدِيدِ أَقُولُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ إذَا كان معه قِيَاسٌ وقال ابن أبي هُرَيْرَةَ في تَعْلِيقِهِ في بَابِ الرِّبَا عِنْدَنَا أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا كان له قَوْلٌ وكان معه قِيَاسٌ وَإِنْ كان ضَعِيفًا فَالْمُضِيُّ إلَى قَوْلِهِ أَوْلَى خُصُوصًا إذَا كان إمَامًا وَلِهَذَا مَنَعَ الشَّافِعِيُّ بَيْعَ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ بِجِنْسِهِ وَغَيْرِهِ لِأَثَرِ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه قُلْت وَيَشْهَدُ له أَنَّ الشَّافِعِيَّ اسْتَدَلَّ في الْجَدِيدِ على عَدَمِ وُجُوبِ الْمُوَالَاةِ في الْوُضُوءِ بِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما ثُمَّ قال وفي مَذْهَبِ كَثِيرٍ من أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا رَمَى الْجَمْرَةَ الْأُولَى ثُمَّ الْأَخِيرَةَ ثُمَّ الْوُسْطَى أَعَادَ الْوُسْطَى ولم يُعِدْ الْأُولَى وهو دَلِيلٌ في قَوْلِهِمْ على أَنَّ تَقْطِيعَ الْوُضُوءِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يُجْزِئَ عنه كما في الْجَمْرَةِ انْتَهَى فَاسْتَدَلَّ بِفِعْلِ الصَّحَابِيِّ الْمُعْتَضَدِ لِلْقِيَاسِ وهو رَمْيُ الْجِمَارِ وَعَلَى الْغُسْلِ أَيْضًا كما وَقَعَ في أَوَّلِ كَلَامِهِ نعم الْمُشْكِلُ على هذا الْقَوْلِ أَنَّ الْقِيَاسَ نَفْسَهُ حُجَّةٌ فَلَا مَعْنَى حِينَئِذٍ لِاعْتِبَارِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ فيه وَيُؤَوَّلُ حِينَئِذٍ هذا إلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ على انْفِرَادِهِ وَلِهَذَا حَكَى ابن السَّمْعَانِيِّ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا أَنَّ الْحُجَّةَ في الْقِيَاسِ أو في قَوْلِهِ بَعْدَ أَنْ
____________________
(4/361)
قَطَعَ أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا وَافَقَ الْقِيَاسَ وَلِأَجْلِ هذا الْإِشْكَالِ قال ابن الْقَطَّانِ أَجَابَ أَصْحَابُنَا بِجَوَابَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ بِالْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ في الْمَسْأَلَةِ قِيَاسَانِ فَيَكُونُ قَوْلُ الصَّحَابَةِ مع أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ أَوْلَى من الْقِيَاسِ الْمُجَرَّدِ قال وَهَذَا كَالْبَرَاءَةِ من الْعُيُوبِ فإنه اجْتَذَبَهُ قِيَاسَانِ أَحَدُهُمَا يُشْبِهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْبَرَاءَةَ إنَّمَا تَجُوزُ فِيمَا عَلِمَهُ فَأَمَّا الْبَرَاءَةُ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ فَمُمْتَنِعَةٌ وَهَذَا الذي يُوجِبُهُ الْقِيَاسُ على غَيْرِ الْحَيَوَانِ أَنْ يُوجِبَ قِيَاسًا آخَرَ وهو أَنَّ الْحَيَوَانَ مَخْصُوصٌ بِمَا سِوَاهُ من حَيْثُ يُغْتَذَى بِالصِّحَّةِ وَالسُّقُمِ وَيُخْفِي عُيُوبَهُ صَارَ إلَى تَقْلِيدِ عُثْمَانَ مع هذا الْقِيَاسِ وَالثَّانِي كان الشَّافِعِيُّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يُقَالَ عنه إنَّهُ لَا يقول بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ فَاسْتَحْسَنَ الْعِبَارَةَ فقال بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ إذَا كان معه الْقِيَاسُ انْتَهَى وقال ابن فُورَكٍ إنْ قِيلَ كَيْفَ قال الشَّافِعِيُّ إنَّهُ حُجَّةٌ إذَا كان معه قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ في نَفْسِهِ حُجَّةٌ وَحْدَهُ قِيلَ اجْتَذَبَ الْمَسْأَلَةَ وَجْهَانِ من الْقِيَاسِ قَوِيٌّ وَضَعِيفٌ فَقَوِيَ الْقِيَاسُ الضَّعِيفُ بِقَوْلِ عُثْمَانَ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَرَكَ أَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ بِقَوْلِ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ فإنه لو انْفَرَدَ الْقِيَاسَانِ عن قَوْلِ الصَّحَابِيِّ كان إمَّا أَنْ يَتَسَاوَيَا فَيَسْقُطَا أو يَصِحُّ أَحَدُهُمَا فَيَبْطُلُ الْآخَرُ وَإِنْ كان قَوْلُ الصَّحَابِيِّ مع الصَّحِيحِ فَهُوَ تَأْكِيدٌ له قِيلَ له إنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ إذَا لم يُعْلَمْ له مُخَالِفٌ له قُوَّةٌ على قَوْلِ الصَّحَابِيِّ الذي ظَهَرَ خِلَافُهُ كما نَقُولُ إنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ إذَا انْتَشَرَ قَوْلُهُ ولم يُعْلَمْ له مُخَالِفٌ أَقْوَى من قَوْلِ من لم يُنْشَرْ ولم يُعْلَمْ له مُخَالِفٌ فَكَانَ أَدْوَنُ هذه الْمَنَازِلِ إذَا عَضَّدَهُ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ مُلْحَقَةً بِمَنْزِلَةِ الشَّبَهِ وَإِنْ كان ذلك الشَّبَهُ لو انْفَرَدَ لم يَكُنْ حُجَّةً فَأَمَّا أَوْلَى الْقِيَاسَيْنِ فَلَا يَسْلَمُ من مُعَارَضَةِ ما تَبْطُلُ معه دَلَالَتُهُ وهو قَوْلُ الصَّحَابِيِّ الذي لَا مُخَالِفَ له مُقْتَرِنًا بِالشَّبَهِ الذي ذَكَرْنَاهُ وقال الصَّيْرَفِيُّ في الدَّلَائِلِ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ في الْجَدِيدِ أَنَّهُ ليس بِحَجَّةٍ أَنَّهُ إذَا تَجَاذَبَ الْمَسْأَلَةُ أَصْلَانِ مُحْتَمَلَانِ يُوَافِقُ أَحَدُهُمَا قَوْلَ الصَّحَابِيِّ فَيَكُونُ الدَّلِيلُ الذي معه قَوْلُ الصَّحَابِيِّ أَوْلَى في هذا على التَّقْوِيَةِ وَأَنَّهُ أَقْوَى الْمَذْهَبَيْنِ فَلَا يُغْلَطُ على الشَّافِعِيِّ هذا وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ تَقْلِيدَهُ لَا يَلْزَمُ إلَّا أَنْ يُوجَدَ في الْكِتَابِ أو السُّنَّةِ ما يُخَالِفُهُ وَيُعَضِّدُهُ ضَرْبٌ من الْقِيَاسِ وَعَلَى هذا فَهُوَ مُقَوٍّ لِلْقِيَاسِ وَمُغَلِّبٌ له كما يُغَلَّبُ بِكَثْرَةِ الْأَشْبَاهِ
____________________
(4/362)
وَظَاهِرُ نَصِّ الرِّسَالَةِ الْمَذْكُورَةِ يَقْتَضِي تَسَاوِي الْقِيَاسَيْنِ لِأَنَّهُ لم يُفَرِّقْ بين قِيَاسٍ وَقِيَاسٍ نعم قَوْلُهُ وَلَا شيئا في مَعْنَاهُ يَحْكُمُ له بِحُكْمِهِ ظَاهِرٌ في تَقْدِيمِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ على قَوْلِ الصَّحَابِيِّ وهو مُسْتَنَدُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في قَوْلِهِ إنَّ الشَّافِعِيَّ قال في بَعْضِ أَقْوَالِهِ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ وَلَمَّا حَكَى الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ قال وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال الْقَوْلَانِ إذَا لم يَكُنْ معه قِيَاسٌ أَصْلًا فَإِنْ كان مع قَوْلِهِ قِيَاسٌ ضَعِيفٌ فَقَوْلُهُ معه يُقَدَّمُ على الْقِيَاسِ الْقَوِيِّ وهو اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ وَجَمَاعَةٍ وهو ضَعِيفٌ عِنْدِي لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الرُّجُوعُ لِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ بِانْفِرَادِهِ وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ الضَّعِيفُ فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَ ضَعِيفَانِ غَلَبَا الْقَوِيَّ انْتَهَى وما حَكَاهُ عن الْقَفَّالِ حَكَاهُ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ عن الصَّيْرَفِيِّ ثُمَّ خَطَّأَهُ وَحَكَاهُ ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ عن حِكَايَةِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إذَا كان مع قَوْلِ الصَّحَابِيِّ قِيَاسٌ ضَعِيفٌ فَهُوَ أَوْلَى من الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ قَوْلًا وَاحِدًا ثُمَّ ضَعَّفَهُ ابن الصَّبَّاغِ وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ في كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ من الْحَاوِي عن الْقَدِيمِ لَكِنَّهُ قال ذلك في الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ مع الْجَلِيِّ وَأَنَّ الْخَفِيَّ يُقَدَّمُ على الْجَلِيِّ إذَا كان مع الْأَوَّلِ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ قال ثُمَّ رَجَعَ الشَّافِعِيُّ عنه في الْجَدِيدِ وقال الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ أَوْلَى وقال الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا في الْحَاوِي في مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ من الْعُيُوبِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ في الْجَدِيدِ أَنَّ قِيَاسَ التَّقْرِيبِ إذَا انْضَمَّ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ أَوْلَى من قِيَاسِ التَّحْقِيقِ وَكَذَلِكَ قال أبو الْحَسَنِ الْجُورِيُّ في شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ قُلْت وهو ظَاهِرُ إطْلَاقِهِ في الرِّسَالَةِ وقال ابن كَجٍّ في كِتَابِهِ إذَا قال الصَّحَابِيُّ قَوْلًا وَعَارَضَهُ الْقِيَاسُ الْقَوِيُّ نُظِرَ فَإِنْ كان مع الصَّحَابِيِّ قِيَاسٌ خَفِيٌّ كان الْمَصِيرُ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ أَوْلَى لِقَضِيَّةِ عُثْمَانَ في بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ وَإِنْ كان قَوْلُ الصَّحَابِيِّ فَقَطْ وقد عَارَضَهُ الْقِيَاسُ فقال الشَّافِعِيُّ في الْقَدِيمِ إنَّ قَوْلَهُ يُقَدَّمُ لِعِلْمِهِ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وقال في الْجَدِيدِ أَوْلَى وَلِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالرُّجُوعِ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَى الْكِتَابِ وَلِأَنَّ الصَّحَابِيَّ يَجُوزُ عليه السَّهْوُ الرَّابِعُ أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ لِأَنَّهُ لَا مَحْمَلَ له إلَّا التَّوَقُّفُ وَذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ وَالتَّحَكُّمَ في دِينِ اللَّهِ بَاطِلٌ فَيُعْلَمْ أَنَّهُ ما قَالَهُ إلَّا تَوْقِيفًا قال ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ وَهَذَا هو الْحَقُّ الْمُبِينُ قال وَمَسَائِلُ الْإِمَامَيْنِ أبي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنهما تَدُلُّ عليه فإن الشَّافِعِيَّ غَلَّظَ الدِّيَةَ بِالْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ بِأَقْضِيَةِ الصَّحَابَةِ وَقَدَّرَ دِيَةَ الْمَجُوسِيِّ بِقَوْلِ عُمَرَ وَأَبَا
____________________
(4/363)
حَنِيفَةَ قَدَّرَ الْجُعْلَ في رَدِّ الْآبِقِ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا لِأَثَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ وقال الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِهِ هو أَشْبَهُ الْمَذَاهِبِ وقال ابن الْمُنِيرِ هذا الْمَذْهَبُ لَا يَخْتَصُّ الصَّحَابِيَّ فَكُلُّ عَالِمٍ عَدْلٍ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ ظُنَّ بِهِ الْمُخَالَفَةُ لِلتَّوْقِيفِ وَالظَّاهِرُ إصَابَتُهُ في شُرُوطِهِ قُلْت وقد طَرَدَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ فيه كما سَيَأْتِي ثُمَّ قال ثُمَّ هو لَا يَخْتَصُّ غير الصَّحَابِيِّ إذَا كان الْمُخَالِفُ صَحَابِيًّا فَيَجِبُ إذًا على الصَّحَابِيِّ الِاقْتِدَاءُ بِالصَّحَابِيِّ الْمُخَالِفِ لِلْقِيَاسِ وَالْحَاصِلُ عن الشَّافِعِيِّ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا أَنَّهُ حُجَّةٌ مُقَدَّمَةٌ على الْقِيَاسِ كما نَصَّ عليه في اخْتِلَافِهِ مع مَالِكٍ وهو من الْجَدِيدِ وَالثَّانِي أَنَّهُ ليس بِحَجَّةٍ مُطْلَقًا وهو الْمَشْهُورُ بين الْأَصْحَابِ أَنَّهُ الْجَدِيدُ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ قِيَاسٌ فَيُقَدَّمُ حِينَئِذٍ على قِيَاسٍ ليس معه قَوْلُ صَحَابِيٍّ كما أَشَارَ إلَيْهِ في الرِّسَالَةِ ثُمَّ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فيها أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ وَتَقَدَّمَ في نَقْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ عنه في قَوْلِ تَخْصِيصِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ بِتَقْدِيمِهِ على قَوْلِ الصَّحَابِيِّ فَعَلَى هذا يَكُونُ الْمُرَادُ ب الْقِيَاسُ يُعْتَضَدُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ الْقِيَاسَ الْخَفِيِّ وَيَكُونُ فِيمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ قَوْلٌ رَابِعٌ في الْمَسْأَلَةِ من أَصْلِهَا وَتَقَدَّمَ أَيْضًا عن الْمَاوَرْدِيِّ إذَا اعْتَضَدَ بِقِيَاسِ التَّقْرِيبِ فَهُوَ أَوْلَى من قِيَاسِ التَّحْقِيقِ وَعَنْ حِكَايَةِ ابْنِ الصَّلَاحِ إذَا اعْتَضَدَ بِقِيَاسٍ ضَعِيفٍ فَهُوَ أَوْلَى من الْقِيَاسِ الْقَوِيِّ فَيَتَخَرَّجُ من هذا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ إنْ جَعَلْنَا الْقِيَاسَ الضَّعِيفَ أَعَمَّ من قِيَاسِ التَّقْرِيبِ وَغَيْرِهِ وَإِلَّا فَقَوْلٌ خَامِسٌ وَخَصَّ الْمَاوَرْدِيُّ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِمَا إذَا كان مُوَافِقًا لِقِيَاسٍ جَلِيٍّ فَإِنْ لم يَكُنْ معه قِيَاسٌ جَلِيٌّ قَدَّمَ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ قَطْعًا وَخَصَّ الْقَدِيمَ بِمَا إذَا لم يَظْهَرْ له مُخَالِفٌ فَإِنْ ظَهَرَ خِلَافُهُ من صَحَابِيٍّ آخَرَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً على الْقَدِيمِ وفي كِتَابِ الرَّضَاعِ في الْكَلَامِ على اعْتِبَارِ الْعَدَدِ حِكَايَةٌ حَكَاهَا الْمَاوَرْدِيُّ تَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَ الشَّيْخَيْنِ بِخُصُوصِهِمَا حُجَّةٌ فإنه حَكَى عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال من سَأَلَنِي عن شَيْءٍ أَجَبْتُهُ من الْقُرْآنِ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عن مُحْرِمٍ قَتَلَ زُنْبُورًا فقال لَا شَيْءَ عليه فقال أَيْنَ هذا في كِتَابِ اللَّهِ فذكر قَوْله تَعَالَى وما آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
____________________
(4/364)
وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ من بَعْدِي أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وقد سُئِلَ عُمَرُ عن مُحْرِمٍ قَتَلَ زُنْبُورًا فقال لَا شَيْءَ عليه قال ابن الرِّفْعَةِ فَإِنْ صَحَّتْ هذه الْحِكَايَةُ عن الشَّافِعِيِّ لَزِمَ منها أَنْ يَكُونَ قَوْلُ كُلٍّ من الشَّيْخَيْنِ عِنْدَهُ حُجَّةٌ وَمَذْهَبُهُ الْجَدِيدُ أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ انْتَهَى وقال السِّنْجِيُّ في أَوَّلِ شَرْحِ التَّلْخِيصِ قَوْلُ الْوَاحِدِ من الصَّحَابَةِ إذَا انْتَشَرَ ولم يُعْلَمْ له مُخَالِفٌ وَانْقَرَضَ الْعَصْرُ عليه كان عِنْدَنَا حُجَّةٌ مَقْطُوعًا بِصِحَّتِهَا وَهَلْ يُسَمَّى إجْمَاعًا على وَجْهَيْنِ فَقِيلَ لَا لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ لَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ وَالصَّحِيحُ من الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إجْمَاعٌ مَقْطُوعٌ على اللَّهِ بِصِحَّتِهِ وهو مَذْهَبُ كَافَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ ولم يُخَالِفْ فيه إلَّا الْجُعَلُ وَمَنْ تَابَعَهُ فَقَالُوا لَا يَكُون حُجَّةً قال فَأَمَّا إذَا لم يَنْتَشِرْ ولم يُعْرَفْ له مُخَالِفٌ فَلِلشَّافِعِيِّ فيه قَوْلَانِ الْقَدِيمُ أَنَّهُ حُجَّةٌ وَالْجَدِيدُ أَنَّ الْقِيَاسَ أَوْلَى منه وقال في الْقَوَاطِعِ إذَا لم يَنْتَشِرْ ولم يُعْرَفْ له مُخَالِفٌ نُظِرَ فَإِنْ كان مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ فَهُوَ حُجَّةٌ إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا هل الْحُجَّةُ في الْقِيَاسِ أو في قَوْلِهِ على وَجْهَيْنِ وَأَمَّا إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ أو كان مع الصَّحَابِيِّ قِيَاسٌ خَفِيٌّ وَالْجَلِيُّ مُخَالِفٌ مثله فَهَذَا مَوْضِعُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ فَفِي الْقَدِيمِ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ أَوْلَى من الْقِيَاسِ وفي الْجَدِيدِ الْقِيَاسُ أَوْلَى وقال السُّهَيْلِيُّ في أَدَبِ الْجَدَلِ إنْ انْتَشَرَ وَرَضُوا بِهِ فَهُوَ حُجَّةٌ مَقْطُوعٌ بها وَهَلْ يُسَمَّى إجْمَاعًا وَجْهَانِ وَإِنْ انْتَشَرَ ولم يُعْلَمْ منهم الرِّضَا بِهِ فَوَجْهَانِ وَإِنْ لم يَنْتَشِرْ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه على طَرِيقَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ على قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا وهو الْجَدِيدُ أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ والثانية أَنَّهُ إنْ لَنْ يَنْتَشِرَ في الْبَاقِينَ فَهُوَ حُجَّةٌ بِلَا خِلَافٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إذَا عَارَضَهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ فَحِينَئِذٍ قَوْلٌ خَفِيٌّ انْتَهَى وقال إلْكِيَا إنْ لم يُعْرَفْ له مُخَالِفٌ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ فإذا اخْتَلَفُوا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فيه وَقِيلَ يَحْتَجُّ بِأَقْوَالِهِمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ على تَقْدِيرِ اتِّبَاعِ قَوْلِ الْأَعْلَمِ منهم وَبِهِ قال الشَّافِعِيُّ في رِسَالَتِهِ الْقَدِيمَةِ لِأَنَّهُ جَوَّزَ تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ وقال إنْ اخْتَلَفُوا أَخَذَ بِقَوْلِ الْأَئِمَّةِ أو بِقَوْلِ أَعْلَمِهِمْ بِذَلِكَ وَرَجَّحَهُ على الْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ له قال إلْكِيَا وَإِنْ لم يَكُنْ بُدٌّ من تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا يَفْصِلَ بين أَنْ يَخْتَلِفُوا أو لَا لِأَنَّ
____________________
(4/365)
فَقْدَ مَعْرِفَةِ الْخِلَافِ لَا يَنْتَهِضُ إجْمَاعًا وفي جَوَازِ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ من هو أَعْلَمُ منه خِلَافٌ رَأَى محمد بن الْحَسَنِ جَوَازَهُ وَإِنْ لم يُنْقَلْ عنه وُجُوبُ ذلك قال ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ قَدِيمًا وَجَدِيدًا اتِّبَاعُ قَضَاءِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه في تَقْدِيرِ دِيَةِ الْمَجُوسِيِّ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَتَغْلِيظِ الدِّيَةِ بِالْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ اتِّبَاعًا لِآثَارِ الصَّحَابَةِ وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ في سَبَبِ ذلك فَقِيلَ لِأَنَّ الْوَاقِعَةَ اشْتَهَرَتْ وَسَكَتُوا وَذَلِكَ دَلِيلُ الْإِجْمَاعِ وَقِيلَ لِأَنَّهُ يَرَى الِاحْتِجَاجَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ من حَيْثُ لَا مَحْمَلَ له سِوَى التَّوْقِيفِ قال وَيَظْهَرُ هذا في التَّابِعِيِّ إذَا عَلِمَ مَسَالِكَ الْأَحْكَامِ وكان مَشْهُورًا بِالْوَرَعِ لَا يَمِيلُ إلَى الْأَهْوَاءِ إلَّا أَنْ يَلُوحَ لنا في مَجَارِي نَظَرِهِ فَسَادٌ في أَصْلٍ له عليه بَنَى ما بَنَى وَيَخْرُجُ من هذا قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا لم يَكُنْ مُدْرِكًا بِالْقِيَاسِ دُونَ ما لِلْقِيَاسِ فيه مَجَالٍ وَهَذَا الْقَوْلُ هو الْمُخْتَارُ وَبِهِ تُجْمَعُ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه وَهَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَالْغَزَالِيُّ اسْتِنْبَاطًا من قَوْلِ الشَّافِعِيِّ في كِتَابِ اخْتِلَافِ الحديث أَنَّهُ رُوِيَ عن عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ صلى في لَيْلَةٍ سِتَّ رَكَعَاتٍ كُلَّ رَكْعَةٍ بِسِتِّ سَجَدَاتٍ ثُمَّ قال إنْ ثَبَتَ ذلك عن عَلِيٍّ قُلْت بِهِ فإنه لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فيه فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَعَلَهُ تَوْقِيفًا هذا لَفْظُهُ قال الْقَاضِي وَهَذَا من قَوْلِهِ يَدُلُّ على أَنَّهُ كان يَعْتَقِدُ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا قال قَوْلًا ليس لِلِاجْتِهَادِ فيه مَدْخَلٌ فإنه لَا يَقُولُهُ إلَّا سَمْعًا وَتَوْقِيفًا وَأَنَّهُ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ عليه لِأَنَّهُ لَا يقول ذلك إلَّا عن خَبَرٍ انْتَهَى لَكِنَّ الْغَزَالِيَّ جَعَلَهُ من تَفَارِيعِ الْقَدِيمِ وهو مَرْدُودٌ لِأَنَّ اخْتِلَافُ الحديث من الْكُتُبِ الْجَدِيدَةِ قَطْعًا رَوَاهُ عنه الرَّبِيعُ بن سُلَيْمَانَ بِمِصْرَ وَبِهَذَا جَزَمَ ابن الصَّبَّاغِ في كِتَابِ الْكَامِلِ في الْخِلَافِ وقال إلْكِيَا في التَّلْوِيحِ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَكَذَا صَاحِبُ الْمَحْصُولِ في بَابِ الْأَخْبَارِ وَعَلَى هذا يَنْزِلُ كُلُّ ما وَقَعَ في الْجَدِيدِ من التَّصْرِيحِ فيه بِالتَّقْلِيدِ كَاتِّبَاعِهِ الصِّدِّيقَ في عَدَمِ قَتْلِ الرَّاهِبِ وَتَقْلِيدِهِ عُثْمَانَ في الْبَرَاءَةِ وَعُمَرَ في أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ قال في الْأُمِّ إذَا أَصَابَ الرَّجُلُ بِمَكَّةَ حَمَامًا من حَمَامِهَا فَعَلَيْهِ شَاةٌ اتِّبَاعًا لِعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ وقال في اخْتِلَافِ الحديث أَخَذْت بِقَوْلِ عُمَرَ في الْيَرْبُوعِ وَالضَّبُعِ حَمَلٌ وَحَكَى في الْقَدِيمِ هذا الْقَوْلَ عن الْكَرْخِيِّ وَاخْتَارَهُ الْبَزْدَوِيُّ وابن السَّاعَاتِيِّ وَغَيْرُهُمْ من الْحَنَفِيَّةِ وَهَذَا هو الذي يُعَبِّرُ عنه
____________________
(4/366)
ابن الْحَاجِبِ بِقَوْلِهِ إنَّهُ حُجَّةٌ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ نعم تَصَرُّفَاتُ الشَّافِعِيِّ في الْجَدِيدِ تَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةٌ بِشَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلِاجْتِهَادِ فيه مَجَالٌ الثَّانِي أَنْ يَرِدَ في مُوَافَقَةِ قَوْلِهِ نَصٌّ وَإِنْ كان لِلِاجْتِهَادِ فيه مَجَالٌ كما فَعَلَ في مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ مُقَلِّدًا زَيْدًا فيها لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ اخْتَارَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَتْبَعَ مَذْهَبَ زَيْدٍ ولم يَضَعْ لِذَلِكَ كِتَابًا في الْفَرَائِضِ لِعِلْمِهِ بِعِلْمِ الناس بِمَذْهَبِ زَيْدٍ وَإِنَّمَا نَصَّ في مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ في الْكِتَابِ فَجَمَعَهَا الْمُزَنِيّ وَضَمَّ إلَيْهَا مَذْهَبَ زَيْدٍ في الْمَسَائِلِ ولم يَقُلْ تَحَرَّيْت مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ كَقَوْلِهِ في أَوَاخِرِ كُتُبٍ مَضَتْ فإن التَّحَرِّيَ اجْتِهَادٌ وَلَا اجْتِهَادَ في النَّقْلِ وقد تَحَقَّقَ اتِّبَاعُ الشَّافِعِيِّ زَيْدًا وَتَرَدَّدَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ حَيْثُ تَرَدَّدَ قَوْلُ زَيْدٍ وَقَرَّبَ مَذْهَبَ زَيْدٍ إلَى الْقِيَاسِ أَنَّ جَعْلَ الْأُمَّ دُونَ الْأَبِ في النَّصِيبِ قِيَاسَ مِيرَاثِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَكَذَا قَوْلُهُ أَوْلَادُ الْأَبَوَيْنِ يُشَارِكُونَ وَلَدَ الْأُمِّ لِاشْتِرَاكِهِمْ في الْقَرَابَةِ وَجَعَلَ الْأَبَوَيْنِ مَانِعَيْنِ الْأُخُوَّةَ في رَدِّ الْأُمِّ إلَى السُّدُسِ قِيَاسًا على جَعْلِ الْبَنِينَ في مَعْنَى الْبَنَاتِ في اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ وقد أَوْرَدَ على هذا أَنَّهُ خَالَفَ الْقِيَاسَ في مَسَائِلِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَالْمُعَادَةِ وَإِعْطَاءِ الْأُمِّ ثُلُثَ ما يَبْقَى وَلَيْسَ فيه كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا قِيَاسٌ لِأَنَّا سَوَّيْنَا بين الْأَبَوَيْنِ مع الِابْنِ وَمُشَارَكَةُ أَوْلَادِ الْأُمِّ خَارِجَةٌ عن الْقِيَاسِ لِأَنَّا نُعْطِي الْعَشَرَةَ من إخْوَةِ الْأَبَوَيْنِ نِصْفَ السُّدُسِ مَثَلًا وَنُعْطِي الْأُخْتَ الْوَاحِدَةَ لِلْأُمِّ السُّدُسَ فَأَيُّ مُرَاعَاةٍ لِاِتِّخَاذِ الْقَرَابَةِ فَإِنْ قِيلَ إذَا كان دَلِيلُ التَّقْلِيدِ الحديث السَّابِقَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتْبَعَ عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه في قَضَائِهِ وَمُعَاذًا في الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لِقَوْلِهِ أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذٌ وَالْجَوَابُ كما قال إنَّ الْقَضَاءَ يَتَّسِعُ وَيَتَعَلَّقُ بِمَا لَا يُسَوِّغُ التَّقْلِيدَ فيه وَكَذَلِكَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ قال وَعِنْدَنَا أَنَّ الْمَذْهَبَ لَا يَسْتَقِلُّ بِتَقْلِيدِ زَيْدٍ وما انْتَحَلَ مَذْهَبُهُ إلَّا عن أَصْلٍ يَجُوزُ فيه الرَّأْيُ وَلِهَذَا خَالَفَ الصَّحَابَةُ وَالشَّافِعِيُّ لم يَخْلُ بِمَسْأَلَةٍ عن احْتِجَاجٍ وَإِنَّمَا اعْتَصَمَ بِشَهَادَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم تَرْجِيحًا وَبِهَذَا تَبَيَّنَ انْتَهَى وَجَرَى على ذلك
____________________
(4/367)
الرَّافِعِيُّ وَأَمَّا ابن الرِّفْعَةِ فقال الظَّاهِرُ أَنَّ اخْتِيَارَ الشَّافِعِيِّ لِمَذْهَبِ زَيْدٍ اخْتِيَارُ تَقْلِيدٍ كما يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ لَفْظِ الْأُمِّ إذْ قال الشَّافِعِيُّ وَقُلْنَا إذَا وَرِثَ الْجَدُّ مع الْإِخْوَةِ قَاسَمَهُمْ ما كانت الْمُقَاسَمَةُ خَيْرًا له من الثُّلُثِ فإذا كان الثُّلُثُ خَيْرًا له منها أُعْطِيَهُ وَهَذَا قَوْلُ زَيْدِ بن ثَابِتٍ وَعَنْهُ قَبْلَنَا أَكْثَرَ الْفَرَائِضِ وَهِيَ التي لَا نَصَّ فيها وَلَا إجْمَاعَ وَجَعَلَ الرَّافِعِيُّ مَوْضِعَ الْقَوْلَيْنِ ما إذَا لم يَنْتَشِرْ فِيهِمْ قال ثُمَّ عن الصَّيْرَفِيِّ وَالْقَفَّالِ أَنَّ الْقَوْلَ فِيمَا إذَا لم يَكُنْ معه قِيَاسٌ أَصْلًا فَإِنْ كان مع قَوْلِهِ قِيَاسٌ ضَعِيفٌ احْتَجَّ بِهِ وَتَرَجَّحَ على الْقِيَاسِ الْقَوِيِّ قال وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ لَا فَرْقَ قال وَإِنْ انْتَشَرَ فَإِمَّا أَنْ يُخَالِفَهُ غَيْرُهُ أو يُوَافِقُهُ سَائِرُ أَصْحَابِهِ أو يَسْكُتُوا فَإِنْ خَالَفَهُ فَعَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ هو كَاخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ وَعَلَى الْقَدِيمِ هُمَا حُجَّتَانِ تَعَارَضَتَا فَتَرَجَّحَ من خَارِجٍ وَإِنْ وَافَقَهُ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ فَهُوَ إجْمَاعٌ منهم التَّفْرِيعُ على أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ إنْ قُلْنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ فَلَا يَجُوزُ لِلتَّابِعِيِّ مُخَالَفَتُهُ وَلِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ كما يَحْتَجُّ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْأَقْيِسَةِ لَكِنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عنها في الرُّتْبَةِ فَلَا يَتَمَسَّكُ بِشَيْءٍ منها إلَّا عِنْدَ عَدَمِهَا وفي تَقْدِيمِ الْقِيَاسِ عليه الْخِلَافُ السَّابِقُ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ في شَرْعِ من قَبْلَنَا لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ أَدِلَّةِ شَرْعِنَا وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ عُمُومَ كِتَابٍ أو سُنَّةٍ فيه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ فَلَوْ اخْتَلَفُوا قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ كان قَوْلُ الْمُخَالِفِينَ قَبْلَهُمْ بِحُجَّتَيْنِ تَعَارَضَتَا وَبِهِ جَزَمَ الرَّافِعِيُّ قال الشَّيْخُ فَيُرَجَّحُ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ على الْآخَرِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ فَإِنْ اسْتَوَيَا قُدِّمَ بِالْأَئِمَّةِ فَإِنْ كان في أَحَدِهِمَا الْأَكْثَرُ وفي الْآخَرِ الْأَقَلُّ لَكِنَّ مع الْأَقَلِّ أَحَدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ تَسَاوَيَا فَإِنْ اسْتَوَيَا في الْعَدَدِ وَالْأَئِمَّةِ وَمَعَ أَحَدِهِمَا قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ والثاني تَرْجِيحُ الْقَوْلِ الذي معه أَحَدُ الْعُمَرَيْنِ لِحَدِيثِ اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ من بَعْدِي
____________________
(4/368)
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْفَرْقَ بين اخْتِلَافِ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَاخْتِلَافِ الحديث في أَنَّهُ لَا يَجْمَعُ بين أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ بِتَنْزِيلِ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ وَتَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالْخَاصِّ وَتَأْوِيلِ ما يَحْتَمِلُ وَنَحْوَ ذلك مِمَّا يَجْمَعُ بِهِ بين الْأَخْبَارِ الْمُخْتَلِفَةِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّ جَمِيعَ الْأَخْبَارِ صَادِرٌ عن وَاحِدٍ وهو مَعْصُومٌ عليه السَّلَامُ فَلَا يَجُوزُ فيها الِاخْتِلَافُ وَالتَّضَادُّ من كل وَجْهٍ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا مَهْمَا أَمْكَنَ حتى لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُخَالِفًا لِلْآخَرِ وإذا لم يُمْكِنْ ذلك كان الثَّانِي نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ وَأَمَّا أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ إذَا اخْتَلَفَتْ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ مَقَاصِدِهِمْ وَأَنَّ ذلك ليس صَادِرًا عن مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ وقال ابن فُورَكٍ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ في الْقَدِيمِ إلَى قَوْلِ الْأَئِمَّةِ منهم أو أَكْثَرِهِمْ ما لم يَكُنْ فيه وَاحِدٌ من الْأَئِمَّةِ وَمَنْ قال من أَصْحَابِنَا بِتَقْلِيدِ الْعَالِمِ لِمَنْ هو أَعْلَمُ منه قال بِهِ وهو قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وقال الرُّويَانِيُّ في أَوَّلِ الْبَحْرِ إذَا اخْتَلَفُوا على قَوْلَيْنِ فَإِنْ لم يَكُنْ فِيهِمْ إمَامٌ نُظِرَ فَإِنْ كَانُوا في الْعَدَدِ سَوَاءٌ فَهُمَا سَوَاءٌ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَدَدُ فَهَلْ يُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ فَعَلَى قَوْلِهِ في الْجَدِيدِ لَا يُرَجَّحُ وَيَقُولُ ما يُوجِبُهُ الدَّلِيلُ وَعَلَى الْقَدِيمِ يُرَجَّحُ كما في الْأَخْبَارِ وَإِنْ كان منهم إمَامٌ فَإِنْ كَانُوا في الْعَدَدِ سَوَاءٌ فَاَلَّتِي فيها الْإِمَامُ هل هِيَ أَوْلَى قَوْلَانِ قال في الْقَدِيمِ نعم وقال في الْجَدِيدِ لَا وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَدَدُ وَالْإِمَامُ مع الْأَقَلِّ فَهُمَا سَوَاءٌ على كِلَا الْقَوْلَيْنِ وَلَوْ اتَّفَقَا في الْعَدَدِ وفي أَحَدِهِمَا أبو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَعَلَى الْقَدِيمِ فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يُرَجَّحُ قَوْلُ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ على غَيْرِهِمَا قال الرَّافِعِيُّ وَيَنْبَغِي جَرَيَانُ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا لو تَعَارَضَ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ حتى يَسْتَوِيَا على وَجْهٍ وَيُرَجَّحُ طَرَفُ أبي بَكْرٍ على غَيْرِهِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ إذَا اخْتَلَفُوا أَخَذْنَا بِقَوْلِ الْأَكْثَرِ فَإِنْ اسْتَوَيَا أَخَذْنَا بِقَوْلِ من معه أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنْ لم يَكُنْ رَجَعْنَا إلَى التَّرْجِيحِ وقال ابن الْقَطَّانِ من أَصْحَابِنَا في كِتَابِهِ إذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في هذه الْمَسْأَلَةِ فَكَانَ يقول في مَوْضِعٍ من اخْتِلَافِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ إنَّهُمَا سَوَاءٌ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ من الْجَدِيدِ أَنَّهُ يَصِيرُ إلَى قَوْلِ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِيهِمْ عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ فَدَلَّ على مَزِيَّةِ قَوْلِهِمْ على أَهْلِ
____________________
(4/369)
الْفَتْوَى ثُمَّ مَثَّلَ الْمَسْأَلَةَ بِالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ من الْعُيُوبِ فقال قَوْلُ الْأَئِمَّةِ أَوْلَى لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ بَاعَ عَبْدًا بِالْبَرَاءَةِ فقال الْمُشْتَرِي كان فيه عَيْبٌ عَلِمْتُهُ ولم تُسَمِّهِ لي فَكَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَبْرَأُ من ذلك إذَا وَقَفَ عليه ولم يَسْمَعْهُ فقال عُثْمَانُ إنْ لم تَحْلِفْ بِاَللَّهِ على هذا لَزِمَك وإذا كان هذا هَكَذَا فَقَدْ صَارَ إلَى قَوْلِ عُثْمَانَ وَإِنَّمَا صَارَ إلَى الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَعَلَى هذه الْقَاعِدَةِ إذَا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ أَخَذْنَا بِقَوْلِ الْأَكْثَرِ وَذَكَرَ في كِتَابِ اخْتِلَافُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَلِيًّا صلى في زَلْزَلَةِ رَكْعَتَيْنِ في كل رَكْعَةٍ سِتُّ سَجَدَاتٍ قال ابن الْقَطَّانِ وَإِنَّمَا سَلَكَ في هَذَيْنِ كَسُلُوكِهِ في الْأَخْبَارِ بِالتَّرْجِيحِ بِالْكَثْرَةِ وَلِهَذَا خَرَّجَهُ على قَوْلَيْنِ قال ابن قُدَامَةَ في الرَّوْضَةِ إذَا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ على قَوْلَيْنِ لم يَجُزْ لِلْمُجْتَهِدِ الْأَخْذُ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ من غَيْرِ دَلِيلٍ خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ يَجُوزُ ذلك ما لم يُنْكِرْ على الْقَائِلِ قَوْلَهُ لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ دَلِيلٌ على تَسْوِيغِ الْخِلَافِ وَالْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ من الْقَوْلَيْنِ وَلِهَذَا يَرْجِعُ إلَى مُعَاذٍ في تَرْكِ رَجْمِ الْمَرْأَةِ قال وَهَذَا فَاسِدٌ فإن قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَا يَزِيدُ على الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَوْ تَعَارَضَ دَلِيلَانِ من كِتَابٍ أو سُنَّةٍ لم يَجُزْ الْأَخْذُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدُونِ التَّرْجِيحِ وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ صَوَابٌ وَالْآخَرَ خَطَأٌ وَلَا نَعْلَمُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَإِنَّمَا يَدُلُّ اخْتِلَافُهُمْ على تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ في كِلَا الْقَوْلَيْنِ أَمَّا على الْأَخْذِ بِدُونِ مُرَجِّحٍ فَكَلَّا وَأَمَّا رُجُوعُهُمْ إلَى قَوْلِ مُعَاذٍ فَلِأَنَّهُ بَانَ له الْحَقُّ بِدَلِيلِهِ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ انْتَهَى تَنْبِيهٌ قال الشَّافِعِيُّ أَقُولُ بِقَوْلِ الْأَئِمَّةِ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَسَكَتَ عن عَلِيٍّ فَرَدَّ عليه دَاوُد وقال ما بَالُهُ تَرَكَ عَلِيًّا وَلَيْسَ بِدُونِ من رَضِيَهُ في هذا قال ابن الْقَطَّانِ وَلَا نَظُنُّ بِالشَّافِعِيِّ الْإِعْرَاضَ عن أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ وَلَهُ في هذا مَقَاصِدُ منها أَنَّهُ تَرَكَ ذِكْرَهُ اكْتِفَاءً لِأَنَّهُمْ مَعْلُومُونَ بِبَعْضِهِمْ فَنَبَّهَ على الْبَعْضِ وَلِهَذَا قال في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أبو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمِنْهَا أَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ الرَّدَّ على مَالِكٍ لِأَنَّهُ يُخَالِفُهُ في هذه الْمَسْأَلَةِ فقال أَقُولُ بِقَوْلِ الْأَئِمَّةِ إلَى آخِرِهِ لِأَنَّ كَلَامَهُ على من كان بِالْمَدِينَةِ وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في اخْتِلَافِ الحديث أَقُولُ بِقَوْلِ الْأَئِمَّةِ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ
____________________
(4/370)
فَدَلَّ على ما سَبَقَ وَمِنْهَا أَنَّ الْكَلَامَ على ظَاهِرِهِ وَأَرَادَ الثَّلَاثَةَ في صُورَةٍ وَهِيَ ما إذَا انْفَرَدُوا وكان عَلِيٌّ حَاضِرًا وَسَائِرُ أَصْحَابِهِ وَسَكَتُوا عَمَّا حَكَمُوا بِهِ وَأَفْتَوْا صَارَ إجْمَاعًا وَحِينَئِذٍ فَيُصَارُ إلَى قَوْلِهِمْ لِأَنَّ عَلِيًّا مُوَافِقٌ في الْمَعْنَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَمْرُ عَلِيٌّ بِالْكُوفَةِ إنَّمَا كان بِحَضْرَتِهِ من يَأْخُذُ عنه فلم يَكُنْ في سُكُوتِهِمْ له حُجَّةٌ قال ابن الْقَطَّانِ وَالْأَشْبَهُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وهو أَنْ يَكُونَ تَرَكَ ذلك اكْتِفَاءً وَكَذَلِكَ قال ابن الْقَاصِّ في التَّلْخِيصِ وقال السِّنْجِيُّ في شَرْحِهِ إنَّهُ الْأَصَحُّ أَنَّهُ ذَكَرَ الْمُعْظَمَ وَأَرَادَ الْكُلَّ قال وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال لَا يُرَجَّحُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ كما لَا يُرَجَّحُ بِقَوْلِ غَيْرِهِ من الْخُلَفَاءِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِذِكْرِ ما سَبَقَ إذَا لم يَكُنْ قَوْلُهُ صَادِرًا عن رَأْيِ الْكَافَّةِ بِخِلَافِ من قَبْلَهُ تَنْبِيهٌ آخَرُ حَاصِلُ الْخِلَافِ في اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ ثَلَاثُهُ أَقْوَالٍ سُقُوطُ الْحُجَّةِ وَأَنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ قَوْلٌ منها التَّخْيِيرُ فَيَأْخُذُ بِقَوْلِ من شَاءَ منهم وَحَكَاهُ ابن عبد الْبَرِّ عن الْقَاسِمِ بن مُحَمَّدٍ وَعُمَرَ بن عبد الْعَزِيزِ وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يَعْدِلُ إلَى التَّرْجِيحِ وَنَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ فقال نَصِيرُ منها إلَى ما وَافَقَ الْكِتَابَ أو السُّنَّةَ أو الْإِجْمَاعَ أو كان أَصَحُّ في الْقِيَاسِ وهو الْأَصَحُّ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ وَاحْتَجَّ ابن عبد الْبَرِّ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ على تَخْطِئَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَرُجُوعِ بَعْضِهِمْ إلَى قَوْلِ غَيْرِهِ عِنْدَ مُخَالَفَتِهِ إيَّاهُ وهو دَلِيلٌ على أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ عِنْدَهُمْ خَطَأٌ وَصَوَابٌ وقال أبو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُ في كِتَابِ أَدَبِ الْقَضَاءِ وإذا كان من الصَّحَابَةِ خِلَافٌ في الْمَسْأَلَةِ لم يَجُزْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ الْخُرُوجُ عن أَقَاوِيلِهِمْ لِأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يَخْرُجَ الْحَقُّ عن جَمِيعِهِمْ أو يَشْمَلُ الْخَطَأُ كُلَّهُمْ وَقِيلَ يَجُوزُ الْخُرُوجُ عن أَقْوَالِهِمْ وَقِيلَ يَتَخَيَّرُ من غَيْرِ دَلِيلٍ انْتَهَى وَلَعَلَّهُ فَرَّعَهُ على الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ ثُمَّ قال وإذا حَكَى الْقَوْلَ في حَادِثَةٍ عن وَاحِدٍ من الصَّحَابَةِ وَتَظَاهَرَ وَاشْتَهَرَ ولم يُخَالِفْ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ النَّكِيرِ منهم وإذا نَقَلَ الثِّقَاتُ عن وَاحِدٍ منهم قَوْلًا غير مُنْتَشِرٍ في جَمِيعِهِمْ ولم يُرْوَ عن
____________________
(4/371)
وَاحِدٍ منهم وِفَاقُهُ لَا خِلَافُهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ فيه وَالْوَاجِبُ عِنْدَنَا الْمَصِيرُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ في الْمَعْنَى رَاجِعٌ إلَى أَنَّ الْعَصْرَ قد انْخَرَمَ وَالْحَقُّ مَعْدُومٌ وَهَذَا مع اخْتِصَاصِ الصَّحَابَةِ بِمُشَاهَدَةِ الرَّسُولِ وَمَعْرِفَةِ الْخِطَابِ منه إذْ الشَّاهِدُ يَعْرِفُ بِالْحَالِ ما يَخْفَى على من بَعْدَهُ انْتَهَى فَائِدَةٌ قال ابن عبد السَّلَامِ في فَتَاوِيهِ الْمَوْصِلِيَّةِ إذَا صَحَّ عن بَعْضِ الصَّحَابَةِ مَذْهَبٌ في حُكْمٍ من الْأَحْكَامِ لم يَجُزْ مُخَالَفَتُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ أَوْضَحَ من دَلِيلِهِ وَلَا يَجِبُ على الْمُجْتَهِدِينَ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ في مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَلَا يَحِلُّ لهم ذلك مع ظُهُورِ أَدِلَّتِهِمْ على أَدِلَّةِ الصَّحَابَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الْأَدِلَّةِ ولم يُوجِبْ تَقْلِيدَ الْعُلَمَاءِ إلَّا على الْعَامَّةِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ أَدِلَّةَ الْأَحْكَامِ فَائِدَةٌ أُخْرَى ذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ في كِتَابِ الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال إذَا جاء اخْتِلَافٌ عن الصَّحَابَةِ نَظَرَ أَتْبَعَهُمْ لِلْقِيَاسِ إذَا لم يُوجَدْ أَصْلٌ يُخَالِفُهُ فَقَدْ خَالَفَ عَلِيٌّ عُمَرَ في ثَلَاثِ مَسَائِلَ الْقِيَاسُ فيها مع عَلِيٍّ وَبِقَوْلِهِ أَخَذَ منها الْمَفْقُودُ قال عُمَرُ يُضْرَبُ له أَجَلُ أَرْبَعِ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ ثُمَّ تُنْكَحُ وقال عَلِيٌّ لَا تُنْكَحُ أَبَدًا وقد اخْتَلَفَ فيه عن عَلِيٍّ حتى يَصِحَّ مَوْتٌ أو فِرَاقٌ وقال عُمَرُ في الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ في سَفَرِهِ ثُمَّ يَرْتَجِعُهَا فَيَبْلُغُهَا الطَّلَاقُ وَلَا تَبْلُغُهَا الرَّجْعَةُ حتى تَحِلَّ وَتُنْكَحَ أَنَّ زَوْجَهَا الْآخَرَ أَوْلَى إذَا دخل بها وقال عَلِيٌّ هِيَ لِلْأَوَّلِ أَبَدًا وهو أَحَقُّ بها وقال عُمَرُ في الذي يَنْكِحُ الْمَرْأَةَ في الْعِدَّةِ وَيَدْخُلُ بها أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَنْكِحُهَا أَبَدًا وقال عَلِيٌّ يَنْكِحُهَا بَعْدَهُ مَسْأَلَةٌ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ في كِتَابِ الْأُصُولِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ أَرْبَعَةٌ من الصَّحَابَةِ تَكَلَّمُوا في جَمِيعِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ وَهُمْ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وابن عَبَّاسٍ وابن مَسْعُودٍ وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ مَتَى أَجْمَعُوا على مَسْأَلَةٍ على قَوْلٍ فَالْأُمَّةُ فيها مُجْمِعَةٌ على قَوْلِهِمْ غَيْرُ مُبْتَدَعٍ لَا يَعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ انْفَرَدَ فيها عَلِيٌّ بِقَوْلٍ عن سَائِرِ الصَّحَابَةِ تَبِعَهُ فيها ابن أبي لَيْلَى وَالشَّعْبِيُّ وَعُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ انْفَرَدَ فيها زَيْدٌ بِقَوْلٍ تَبِعَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ في أَكْثَرِهِ وَتَبِعَهُ خَارِجَةُ بن زَيْدٍ لَا مَحَالَةَ وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ انْفَرَدَ بها ابن مَسْعُودٍ تَبِعَهُ عَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ وأبو أَيُّوبَ
____________________
(4/372)
فَصْلٌ التَّفْرِيعُ على أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ ليس بِحُجَّةٍ وَإِنْ قُلْنَا ليس بِحُجَّةٍ فَلَا يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً على الْبَعْضِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ تَقْلِيدُ الْآخَرِ وَلَا يَمْنَعُ من تَقْلِيدِهِمْ من ليس بِمُجْتَهِدٍ لَكِنَّ الذي صَرَفَ الناس عن تَقْلِيدِهِمْ أَنَّهُمْ اشْتَغَلُوا بِالْجِهَادِ وَفَتْحِ الْبِلَادِ وَنَشْرِ الدَّيْنِ وَإِعْلَامِهِ فلم يَتَفَرَّغُوا لِتَفْرِيعِ الْفُرُوعِ وَتَدْوِينِهَا وَلَا انْتَشَرَ لهم مَذَاهِبُ يُعْرَفُ آحَادُهُمْ بها كما جَرَى ذلك لِمَنْ بَعْدَهُمْ وَأَمَّا تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ لهم فَفِيهِ ثَلَاثُهُ أَقْوَالِ لِلشَّافِعِيِّ ثَالِثُهَا يَجُوزُ إنْ انْتَشَرَ قَوْلُهُ ولم يُخَالَفْ وَإِلَّا فَلَا وقد أَفْرَدَ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هذه الْمَسْأَلَةَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ الْكَلَامِ في أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ أَمْ لَا فقال في الْمُسْتَصْفَى إنْ قال قَائِلٌ إذَا لم يَجِبْ تَقْلِيدُهُمْ هل يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ قُلْنَا أَمَّا الْعَامِّيُّ فَيُقَلِّدُهُمْ وَأَمَّا الْعَالِمُ فَإِنْ جَازَ له تَقْلِيدُ الْعَالِمِ جَازَ له أَنْ يُقَلِّدَهُمْ وَإِنْ حَرَّمْنَا تَقْلِيدَ الْعَالِمِ لِلْعَالِمِ فَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ فقال في الْقَدِيمِ يَجُوزُ إذَا قال قَوْلًا وَانْتَشَرَ قَوْلُهُ ولم يُخَالَفْ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ يُقَلِّدُ وَإِنْ لم يَنْتَشِرْ وقال وَرَجَعَ في الْجَدِيدِ إلَى أَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ الْعَالِمُ صَحَابِيًّا كما لَا يُقَلِّدُ الْعَالِمُ عَالِمًا آخَرَ نَقَلَ الْمُزَنِيّ عنه ذلك وَأَنَّ الْعَمَلَ على الْأَدِلَّةِ التي فيها يَجُوزُ لِلصَّحَابِيِّ الْفَتْوَى وهو الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا انْتَهَى وقد تَبِعَهُ على إفْرَادِ هذه الْمَسْأَلَةِ وَجَعَلَهَا فَرْعًا لِمَا قَبْلَهَا ابن السَّمْعَانِيِّ وَالرَّازِيُّ وَأَتْبَاعُهُ وَالْآمِدِيُّ وَيُوَافِقُهُ حِكَايَةُ ابْنِ الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ قَوْلَيْنِ في الصَّحَابِيِّ إذَا قال قَوْلًا ولم يَنْتَشِرْ أَحَدُهُمَا أَنَّ تَقْلِيدَهُ وَاجِبٌ وَلَيْسَ لِلتَّابِعِيِّ مُخَالَفَتُهُ والثاني أَنَّ له مُخَالَفَتَهُ وَالنَّظَرَ في الْأَدِلَّةِ وَأَعْرَضَ ابن الْحَاجِبِ عن إفْرَادِ هذه الْمَسْأَلَةِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا عَيْنُ ما قَبْلَهَا وهو الْحَقُّ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ حَيْثُ صَرَّحَ بِتَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ لم يُرِدْ بِهِ التَّقْلِيدَ الْمَشْهُورَ وهو قَبُولُ قَوْلِ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَجِبُ عليه اتِّبَاعُهُ من غَيْرِ حُجَّةٍ بَلْ مُرَادُهُ بِذَلِكَ الِاحْتِجَاجُ فإنه اسْتَعْمَلَهُ في مَوْضِعِ الْحُجَّةِ فقال في مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ في
____________________
(4/373)
بَابِ الْقَضَاءِ في الْكَلَامِ على الْمُشَاوِرِ وَلَا يُقْبَلُ وَإِنْ كان أَعْلَمَ منه حتى يَعْلَمَ كَعِلْمِهِ أَنَّ ذلك لَازِمٌ له فَأَمَّا أَنْ يُقَلِّدَهُ فلم يَجْعَلْ اللَّهُ ذلك لِأَحَدٍ بَعْدَ الرَّسُولِ هذا نَصُّهُ فَأَطْلَقَ اسْمَ التَّقْلِيدِ على الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِ النَّبِيّ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا سِيَّمَا مع ما اسْتَقَرَّ من قَوْلِهِ الْمُتَكَرِّرِ في غَيْرِ مَوْضِعٍ بِالنَّهْيِ عن التَّقْلِيدِ وَالْمَنْعِ منه وَيَدُلُّ على ذلك قَوْلُ الْمَاوَرْدِيِّ وَالْجَوْرِيِّ إنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ في الْقَدِيمِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ بِمُفْرَدِهِ إذَا اشْتَهَرَ ولم يَظْهَرْ له مُخَالِفٌ قال الْمَاوَرْدِيُّ لَا سِيَّمَا إذَا كان الصَّحَابِيُّ إمَامًا وَأَغْرَبَ ابن الصَّبَّاغِ فَحَكَى ذلك عن الْجَدِيدِ وقد سَبَقَ ثُمَّ قَوْلُ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ رَجَعَ عنه في الْجَدِيدِ مُعَارِضٌ بِمَا نَصَّ عليه في كِتَابِ الْأُمِّ في غَيْرِ مَوْضِعٍ بِتَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ كما سَبَقَ في الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ وَقَوْلُهُ قُلْتُهُ تَقْلِيدًا لِعُثْمَانَ نَقَلَهُ الْمُزَنِيّ في مُخْتَصَرِهِ وَالرَّبِيعُ في اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ فَإِنْ كان أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِالتَّقْلِيدِ لِلصَّحَابِيِّ في الْقَدِيمِ مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفَ فَهُوَ كَذَلِكَ هُنَا أَيْضًا في الْجَدِيدِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الِاحْتِجَاجَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ وَأَطْلَقَ اسْمَ التَّقْلِيدِ عليه مَجَازًا كما أَطْلَقَهُ في الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وقد قال الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى بَعْدَمَا سَبَقَ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ تَرَكَ الشَّافِعِيُّ في الْجَدِيدِ الْقِيَاسَ في تَغْلِيظِ الدِّيَةِ في الْحَرَمِ لِقَوْلِ عُثْمَانَ وَلِذَلِكَ فَرَّقَ بين الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ في شَرْطِ الْبَرَاءَةِ لِقَوْلِ عُثْمَانَ قُلْنَا له في مَسْأَلَةِ شَرْطِ الْبَرَاءَةِ أَقْوَالٌ فَلَعَلَّ هذا مَرْجُوعٌ عنه انْتَهَى وَهَذَا مَرْدُودٌ بِأَنَّا قد بَيَّنَّا أَنَّهُ نَصَّ عليه في غَيْرِ مَوْضِعٍ من كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ وقال إنَّهُ الذي ذَهَبَ إلَيْهِ وَبِهِ قَطَعَ أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وابن خَيْرَانَ وَغَيْرُهُمَا ولم يَجْعَلَا لِلشَّافِعِيِّ قَوْلًا في الْمَسْأَلَةِ غَيْرَهُ وهو الذي صَحَّحَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ تَغْلِيظِ الدِّيَةِ فَقَدْ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فيها بِمَا رُوِيَ عن عُثْمَانَ أَنَّهُ قَضَى في امْرَأَةٍ قُتِلَتْ بِالدِّيَةِ وَثُلُثِ الدِّيَةِ وَرُوِيَ نَحْوَهُ عن عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا مُخَالِفَ لهم من الصَّحَابَةِ فَيَكُونُ اعْتَمَدَ ذلك بِنَاءً على أَنَّهُ إجْمَاعٌ سُكُوتِيٌّ أو لِأَنَّهُ قَضَى بِهِ عُثْمَانُ وهو قد نَصَّ في الْجَدِيدِ على الرُّجُوعِ إلَى قَوْلِ أَحَدِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّهُ يَشْتَهِرُ غَالِبًا بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُفْتَى وقد حَكَى الْغَزَالِيُّ أَيْضًا في الْمَوْضِعِ الْمُشَارِ إلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الشَّافِعِيَّ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ الْإِفْتَاءُ وَالْحُكْمُ من الصَّحَابَةِ فقال مَرَّةً الْحُكْمُ أَوْلَى لِأَنَّ الْعِنَايَةَ بِهِ أَشَدُّ
____________________
(4/374)
وَالْمَشُورَةَ فيه أَبْلَغُ وقال مَرَّةً الْفَتْوَى أَوْلَى لِأَنَّ سُكُوتَهُمْ على الْحُكْمِ يُحْمَلُ على الطَّاعَةِ لِأُولِي الْأَمْرِ وَعَزَا هذا الِاخْتِلَافُ لِلْقَدِيمِ وَجَعَلَهُ مَرْجُوعًا عنه وَفِيهِ من النَّظَرِ ما سَلَفَ نَصُّهُ في كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ تَنْبِيهٌ ظَهَرَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَنْ ذَكَرَ الْمِنْهَاجُ هذا الْقَوْلَ الثَّالِثَ في أَصْلِ مَسْأَلَةِ الْحُجِّيَّةِ ليس بِغَلَطٍ كما زَعَمَ شُرَّاحُهُ بَلْ هو الصَّوَابُ
____________________
(4/375)
فَصْلٌ أَمَّا إذَا انْضَمَّ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ الْقِيَاسُ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا إذَا تَعَارَضَ قَوْلُ صَحَابِيَّيْنِ وَاعْتَضَدَ أَحَدُهُمَا بِالْقِيَاسِ وقد سُبِقَتْ عن النَّصِّ الثَّانِيَةُ إذَا تَعَارَضَ قِيَاسَانِ وَاعْتَضَدَ أَحَدُهُمَا بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ فَحَكَى الرَّافِعِيُّ عن الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ قد قِيلَ تَمِيلُ نَفْسُ الْمُجْتَهِدِ إلَى ما يُوَافِقُ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ وَيُرَجَّحُ عِنْدَهُ قال النَّوَوِيُّ وقد صَرَّحَ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وَغَيْرُهُ من الْأَصْحَابِ بِالْجَزْمِ بِالْمُوَافِقِ انْتَهَى وأنا أَقُولُ من يَرَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ بِمُفْرَدِهِ حُجَّةٌ مُقَدَّمَةٌ على الْقِيَاسِ يَكُونُ احْتِجَاجُهُ هُنَا بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَمَنْ يَرَى أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسَانِ صَحِيحَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ أو لَا فَإِنْ كَانَا كَذَلِكَ ولم يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ بِمُرَجِّحٍ في الْأَصْلِ أو حُكْمِهِ أو في الْعِلَّةِ أو دَلِيلِهَا أو في الْفَرْعِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمُعْتَضَدَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ مُقَدَّمٌ وَيَكُونُ ذلك من التَّرْجِيحَاتِ بِالْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ كما تَرَجَّحَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ الْمُعَارِضَيْنِ بِعَمَلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ دُونَ الْآخَرِ وَأَمَّا إذَا كان أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ مُرَجَّحًا على الْآخَرِ في شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا وَمَعَ الْمَرْجُوحِ قَوْلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فَهَذَا مَحَلُّ النَّظَرِ على الْقَوْلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ ليس بِحُجَّةٍ وَالِاحْتِمَالُ مُنْقَدِحٌ وقد تَقَدَّمَ حِكَايَةُ ابْنِ الصَّبَّاغِ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقِيَاسَ الضَّعِيفَ إذَا اعْتَضَدَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ يُقَدَّمُ على الْقِيَاسِ الْقَوِيِّ وَذَاكَ هُنَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَتَقَدَّمَ نَقْلُ الْمَاوَرْدِيِّ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّ رَأْيَهُ في الْجَدِيدِ أَنَّ قِيَاسَ التَّقْرِيبِ إذَا انْضَمَّ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ كان أَوْلَى من قِيَاسِ التَّحْقِيقِ وَمَثَّلَ الْمَاوَرْدِيُّ قِيَاسَ التَّقْرِيبِ بِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ في مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ من الْعُيُوبِ أَنَّ الْحَيَوَانَ يُفَارِقُهُ ما سِوَاهُ لِأَنَّهُ يُغْتَذَى بِالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ وَتَحَوُّلِ طَبَائِعِهِ وَقَلَّمَا يَخْلُو من عَيْبٍ وَإِنْ خَفِيَ فَلَا يُمْكِنُ الْإِخْبَارُ عن عُيُوبِهِ الْخَفِيَّةِ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا وَالْوُقُوفُ عليها وَلَيْسَ كَذَلِكَ غير الْحَيَوَانِ لِأَنَّهُ قد يَخْلُو من الْعُيُوبِ وَيُمْكِنُ الْإِخْبَارُ فيها بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا لِظُهُورِهَا فَدَلَّ على افْتِرَاقِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ من جِهَةِ الْمَعْنَى مع ما رُوِيَ معه من قِصَّةِ عُثْمَانَ وَحَاصِلُهُ على ما نَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عن الْجَدِيدِ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَرْجُوحَ إذَا اعْتَضَدَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ كان مُقَدَّمًا على الْقِيَاسِ الرَّاجِحِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ
____________________
(4/376)
يَكُونَ هذا تَفْرِيعًا منه على أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ كما تَقَدَّمَ عنه في الرِّسَالَةِ الْجَدِيدَةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ على الْقَوْلِ الْآخَرِ الذي اشْتَهَرَ عِنْدَ الْأَصْحَابِ عن الْجَدِيدِ أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ وقد تَرْجَمَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَحَكَى خِلَافَ الْقِيَاسِ وَأَنَّهُ هل يَتَرَجَّحُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ بِذَلِكَ الْقِيَاسِ الضَّعِيفِ على الْقِيَاسِ الْقَوِيِّ أو يَجِبُ الْعَمَلُ بِأَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ ثُمَّ رَجَّحَ هذا الثَّانِي مَسْأَلَةٌ فَإِنْ قال التَّابِعِيُّ قَوْلًا لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فيه لم يَلْتَحِقْ بِالصَّحَابِيِّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلسَّمْعَانِيِّ كما سَبَقَ قال صَاحِبُ الْغَايَةِ من الْحَنَابِلَةِ من قام من نَوْمِ اللَّيْلِ فَغَمَسَ يَدَهُ في إنَاءٍ قبل أَنْ يَغْسِلَهَا ذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إلَى زَوَالِ طَهُورِيَّتِهِ وهو يُخَالِفُ الْقِيَاسَ وَالتَّابِعِيُّ إذَا قال مِثْلَ ذلك كان حُجَّةً لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قال تَوْقِيفًا عن الصَّحَابَةِ أو عن نَصٍّ ثَبَتَ عِنْدَهُ قال صَاحِبُ الْمُسَوَّدَةِ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِذَلِكَ بَلْ يُجْعَلُ كَمُجْتَهَدَاتِهِ الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ قد مَرَّ الْكَلَامُ في الْقِيَاسِ في الْمُنَاسِبِ الذي اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ أو أَلْغَاهُ وَالْكَلَامُ فِيمَا جَهِلَ أَيْ سَكَتَ الشَّرْعُ عن اعْتِبَارِهِ وَإِهْدَارِهِ وهو الْمُعَبَّرُ عنه ب الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَيُلَقَّبُ ب الِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ مُرْسَلَةً أَيْ لم تُعْتَبَرْ ولم تُلْغَ وَأَطْلَقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن السَّمْعَانِيِّ عليه اسْمَ الِاسْتِدْلَالِ وَعَبَّرَ عنه الْخُوَارِزْمِيَّ في الْكَافِي ب الِاسْتِصْلَاحِ قال وَالْمُرَادُ بِالْمَصْلَحَةِ الْمُحَافَظَةُ على مَقْصُودِ الشَّرْعِ بِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ على الْخَلْقِ وَفَسَّرَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ بِأَنْ يُوجَدَ مَعْنَى يُشْعِرُ بِالْحُكْمِ مُنَاسِبٌ له عَقْلًا وَلَا يُوجَدُ أَصْلٌ مُتَّفِقٌ عليه وَالتَّعْلِيلُ الْمُصَوَّرُ جَارٍ فيه وَفَسَّرَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ بِأَنْ لَا يَسْتَنِدَ إلَى أَصْلٍ كُلِّيٍّ وَلَا جُزْئِيٍّ وَفِيهِ مَذَاهِبُ أَحَدُهَا مَنْعُ التَّمَسُّكِ بِهِ مُطْلَقًا وهو قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ منهم الْقَاضِي وَأَتْبَاعُهُ وَحَكَاهُ ابن بَرْهَانٍ عن الشَّافِعِيِّ قال الْإِمَامُ وَبِهِ قال طَوَائِفُ من مُتَكَلِّمِي
____________________
(4/377)
الْأَصْحَابِ الثَّانِي الْجَوَازُ مُطْلَقًا وهو الْمَحْكِيُّ عن مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قال الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ وَأَفْرَطَ في الْقَوْلِ بِهِ حتى جَرَّهُ إلَى اسْتِحْلَالِ الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ لِمَصَالِحَ تَقْتَضِيهَا في غَالِبِ الظَّنِّ وَإِنْ لم يَجِدْ لها مُسْتَنِدًا وَحَكَاهُ غَيْرُهُ قَوْلًا قَدِيمًا عن الشَّافِعِيِّ وقال أبو الْعِزِّ الْمُقْتَرِحُ في حَوَاشِيهِ على الْبُرْهَانِ إنَّ هذا الْقَوْلَ لم يَصِحَّ نَقْلُهُ عن مَالِكٍ هَكَذَا قَالَهُ أَصْحَابُهُ وَأَنْكَرَهُ ابن شَاسٍ أَيْضًا في التَّحْرِيرِ على الْإِمَامِ وقال أَقْوَالُهُ تُؤْخَذُ من كُتُبِهِ وَكُتُبِ أَصْحَابِهِ لَا من نَقْلِ النَّاقِلِينَ وَكَذَلِكَ اسْتَنْكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ في كِتَابِهِ فقال ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمُعْظَمُ أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ إلَى الِاعْتِمَادِ عليه وهو مَذْهَبُ مَالِكٍ قال وقد اجْتَرَأَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَجَازَفَ فِيمَا نَسَبَهُ إلَى مَالِكٍ من الْإِفْرَاطِ في هذا الْأَصْلِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ في كِتَابِ مَالِكٍ وَلَا في شَيْءٍ من كُتُبِ أَصْحَابِهِ وَهَذَا تَحَامُلٌ من الْقُرْطُبِيِّ فإن الْإِمَامَ قد حَمَلَ كَلَامَ مَالِكٍ على ما يَصِحُّ وَسَيَأْتِي وقد قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ نعم الذي لَا شَكَّ فيه أَنَّ لِمَالِكٍ تَرْجِيحًا على غَيْرِهِ من الْفُقَهَاءِ في هذا النَّوْعِ وَيَلِيهِ أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ وَلَا يَكَادُ يَخْلُو غَيْرُهُمَا عن اعْتِبَارِهِ في الْجُمْلَةِ وَلَكِنْ لِهَذَيْنِ تَرْجِيحٌ في الِاسْتِعْمَالِ على غَيْرِهِمَا انْتَهَى وقال الْقَرَافِيُّ هِيَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ في جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ لِأَنَّهُمْ يَعْقِدُونَ وَيَقُومُونَ بِالْمُنَاسَبَةِ وَلَا يَطْلُبُونَ شَاهِدًا بِالِاعْتِبَارِ وَلَا يَعْنِي بِالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ إلَّا ذلك قال وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ قد عَمِلَ في كِتَابِهِ الْغِيَاثِيِّ أُمُورًا وَحَرَّرَهَا وَأَفْتَى بها وَالْمَالِكِيَّةُ بَعِيدُونَ عنها وَحَثَّ عليها وَقَالَهَا لِلْمَصْلَحَةِ الْمُطْلَقَةِ وَكَذَلِكَ الْغَزَالِيُّ في شِفَاءِ الْغَلِيلِ مع أَنَّ الِاثْنَيْنِ شَدِيدَا الْإِنْكَارِ عَلَيْنَا في الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ قُلْت وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ مَذْهَبِ الرَّجُلَيْنِ وقال الْبَغْدَادِيُّ في جَنَّةِ النَّاظِرِ لَا تَظْهَرُ مُخَالَفَةُ الشَّافِعِيِّ لِمَالِكٍ في الْمَصَالِحِ فإن مَالِكًا يقول إنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا اسْتَقْرَأَ مَوَارِدَ الشَّرْعِ وَمَصَادِرَهُ أَفْضَى نَظَرُهُ إلَى الْعِلْمِ بِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ في جُزْئِيَّاتِهَا وَكُلِّيَّاتِهَا وَأَنْ لَا مَصْلَحَةَ إلَّا وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ في جِنْسِهَا لَكِنَّهُ اسْتَثْنَى من هذه الْقَاعِدَةِ كُلَّ مَصْلَحَةٍ صَادَمَهَا أَصْلٌ من أُصُولِ الشَّرِيعَةِ قال وما حَكَاهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عنه لَا يَعْدُو هذه الْمَقَالَةَ إذْ لَا أَخُصُّ منها إلَّا ا
____________________
(4/378)
لأخذ بِالْمَصْلَحَةِ الْمُعْتَبَرَةِ بِأَصْلٍ مُعَيَّنٍ وَذَلِكَ مُغَايِرٌ لِلِاسْتِرْسَالِ الذي اعْتَقَدُوهُ مَذْهَبًا فَبَانَ أَنَّ من أَخَذَ بِالْمَصْلَحَةِ غَيْرِ الْمُعْتَبَرَةِ فَقَدْ أَخَذَ بِالْمُرْسَلَةِ التي قال بها مَالِكٌ إذْ لَا وَاسِطَةَ بين الْمَذْهَبَيْنِ وَالثَّالِثُ إنْ كانت الْمَصْلَحَةُ مُلَائِمَةً لِأَصْلٍ كُلِّيٍّ من أُصُولِ الشَّرْعِ أو لِأَصْلٍ جُزْئِيٍّ جَازَ بِنَاءُ الْأَحْكَامِ وَإِلَّا فَلَا وَنَسَبَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ لِلشَّافِعِيِّ وقال إنَّهُ الْحَقُّ الْمُخْتَارُ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ في الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ إنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا لِأَنَّ الْعِدَّةَ شُرِعَتْ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَالْوَطْءُ سَبَبُ الشَّغْلِ فَلَوْ جَوَّزْنَاهُ في الْعِدَّةِ لَاجْتَمَعَ الضِّدَّانِ فَلَيْسَ لِهَذَا الْأَصْلِ جُزْئِيٌّ وَإِنَّمَا أَصْلُهُ كُلِّيٌّ مُهْدَرٌ وهو أَنَّ الضِّدَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمُعْظَمُ أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ إلَى اعْتِمَادِ تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ بِشَرْطِ مُلَائِمَتِهِ لِلْمَصَالِحِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمَشْهُودِ لها بِالْأُصُولِ وَهَذَا قَرِيبٌ من نَقْلِ ابْنِ بَرْهَانٍ وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْزِلَ على ذلك قَوْلُ الْخُوَارِزْمِيِّ في الْكَافِي إنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ يَقْتَضِي اعْتِبَارَهَا وَتَعْلِيقَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ بها لَكِنْ إذَا قَيَّدْنَاهُ بهذا انْسَلَخَتْ الْمَسْأَلَةُ من الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ فإنه إذَا شَرَطَ التَّقْرِيبَ من الْأُصُولِ الْمُمَهَّدَةِ وَفَسَّرَهُ بِالْمُلَاءَمَةِ كان من بَابِ الْقِيَاسِ في الْأَسْبَابِ فَيَكُونُ من قِسْمِ الْمُعْتَبَرِ وَبِهِ يَخْرُجُ عن الْإِرْسَالِ وَيَعُودُ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا وَلِهَذَا قال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ لَا يَظُنُّ بِمَالِكٍ على جَلَالَتِهِ أَنْ يُرْسِلَ النَّفْسَ على سَجِيَّتِهَا وَطَبِيعَتِهَا فَيَتْبَعُ الْمَصَالِحَ الْجَامِدَةَ التي لَا تَسْتَنِدُ إلَى أُصُولِ الشَّرْعِ بِحَالٍ لَا على كُلِّيٍّ وَلَا على جُزْئِيٍّ إلَّا أَنَّ أَصْحَابَهُ سَمِعُوا أَنَّهُ بَنَى الْأَحْكَامَ على الْمَصَالِحِ الْمُطْلَقَةِ فَأَطْلَقُوا النَّقْلَ عنه في ذلك وَمِثْلُهُ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في بَابِ تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ وَلَا نَرَى التَّعْلِيقَ عِنْدَهُ بِكُلِّ مَصْلَحَةٍ ولم يَرَ ذلك أَحَدٌ من الْعُلَمَاءِ قال وَمَنْ ظَنَّ ذلك بِمَالِكٍ فَقَدْ أَخْطَأَ وقال ابن الْمُنِيرِ في الْخِلَافِ من الْعُلَمَاءِ من رَأَى أَنَّ وُرُودَ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ على الْوَفْقِ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ ثُمَّ الْمُلَائِمَةُ نَازِلَةٌ مَنْزِلَةَ تَزْكِيَةِ الْبَيِّنَةِ بِالشُّهُودِ الْمُقَرَّرَةِ عِنْدَ التُّهْمَةِ فَهَذَا يَرُدُّ الِاسْتِدْلَالَ الْمُرْسَلَ لِأَنَّ صَاحِبَهُ ما أَقَامَ على صِحَّتِهِ بَيِّنَةً غير دَعْوَاهُ فَلَا يَتَوَقَّعُ لِلتَّزْكِيَةِ وَلَا بَيِّنَةَ وَمِنْهُمْ من نَزَّلَ الْمُلَائِمَةَ مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ على صِدْقِ الدَّعْوَى في صِدْقِ الْوَصْفِ وَجَعَلَ وُرُودَ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ على الْوَفْقِ كَالِاسْتِظْهَارِ فلم يَضُرَّهُ فَوَاتُهُ في أَصْلِ الِاعْتِبَارِ وَالرَّابِعُ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَغَيْرُهُمَا تَخْصِيصَ الِاعْتِبَارِ بِمَا إذَا كانت تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ ضَرُورِيَّةً قَطْعِيَّةً كُلِّيَّةً فَإِنْ فَاتَ أَحَدُ هذه الثَّلَاثَةِ لم يَعْتَبِرْ
____________________
(4/379)
وَالْمُرَادُ ب الضَّرُورِيَّةِ ما يَكُونُ من الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ التي يَجْزِمُ بِحُصُولِ الْمَنْفَعَةِ منها والكلية لِفَائِدَةٍ تَعُمُّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ احْتِرَازًا عن الْمَصْلَحَةِ الْجُزْئِيَّةِ لِبَعْضِ الناس أو في حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ كَمَنْ أَجَازَ لِلْمُسَافِرِ إذَا أَعْجَلَهُ السَّفَرُ أَنْ يَدْفَعَ التِّبْرَ لِدَارِ الضَّرْبِ وَيَنْظُرُ مِقْدَارَ ما يَخْلُصُ منه فَيَأْخُذُ بِقَدْرِهِ بَعْدَ طَرْحِ الْمَئُونَةِ فَهَذِهِ مَصْلَحَةٌ لِضَرُورَةِ الِانْقِطَاعِ من الرُّفْقَةِ لَكِنَّهَا جُزْئِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ وَحَالَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَمَثَّلَ الْغَزَالِيُّ لِاسْتِجْمَاعِهِ الشَّرَائِطَ بِمَسْأَلَةِ التَّتَرُّسِ وَهِيَ ما إذَا تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ رَمَيْنَا التُّرْسَ لَقَتَلْنَا مُسْلِمًا من دُونِ جَرِيمَةٍ صَدَرَتْ منه قال الْغَزَالِيُّ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقُولَ الْمُجْتَهِدُ هذا الْأَسِيرُ مَقْتُولٌ بِكُلِّ حَالٍّ لِأَنَّا لو كَفَفْنَا عن التُّرْسِ لَسَلَّطْنَا الْكُفَّارَ على جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْتُلُونَهُمْ ثُمَّ يَقْتُلُونَ الْأَسَارَى أَيْضًا فَحِفْظُ الْمُسْلِمِينَ أَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ لِأَنَّا نَقْطَعُ أَنَّ الشَّارِعَ يَقْصِدُ تَقْلِيلَ الْقَتْلِ كما يَقْصِدُ حَسْمَهُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ فَحَيْثُ لم يَقْدِرْ على الْحَسْمِ فَقَدْ قَدَرْنَا على التَّقْلِيلِ وكان هذا الْتِفَاتًا على مَصْلَحَةِ عِلْمٍ بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهَا مَقْصُودَةً بِالشَّرْعِ لَا بِدَلِيلٍ وَاحِدٍ بَلْ بِأَدِلَّةٍ خَارِجَةٍ عن الْحَصْرِ وَلَكِنَّ تَحْصِيلَ هذا الْمَقْصُودِ بهذا الطَّرِيقِ وهو قَتْلُ من لم يُذْنِبْ لم يَشْهَدْ له أَصْلٌ مُعَيَّنٌ فَيَنْقَدِحُ اعْتِبَارُ هذه الْمَصْلَحَةِ بِالْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ وهو كَوْنُهَا ضَرُورِيَّةً كُلِّيَّةً قَطْعِيَّةً فَخَرَجَ بِ الْكُلِّيَّةِ ما إذَا أَشْرَفَ جَمَاعَةٌ في سَفِينَةِ على الْغَرَقِ وَلَوْ غَرِقَ بَعْضُهُمْ لَنَجَوْا فَلَا يَجُوزُ تَغْرِيقُ الْبَعْضِ وَبِ الْقَطْعِيَّةِ ما إذَا شَكَكْنَا في أَنَّ الْكُفَّارَ يَتَسَلَّطُونَ عِنْدَ عَدَمِ رَمْيِ التُّرْسِ وَبِ الضَّرُورِيَّةِ ما إذَا تَتَرَّسُوا في قَلْعَةٍ بِمُسْلِمٍ فَلَا يَحِلُّ رَمْيُ التُّرْسِ إذْ لَا ضَرُورَةَ بِنَا إلَى أَخْذِ الْقَلْعَةِ وَهَذَا من الْغَزَالِيِّ تَصْرِيحٌ بِاعْتِبَارِ الْقَطْعِ بِحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ لَكِنَّ الْأَصْحَابَ حَكَوْا في مَسْأَلَةِ التَّتَرُّسِ وَجْهَيْنِ ولم يُصَرِّحُوا بِاشْتِرَاطِ الْقَطْعِ وقد يُقَالُ إنَّ هذا التَّفْصِيلَ يُؤَوَّلُ إلَى ما نُقِلَ عن الشَّافِعِيِّ وَلِهَذَا قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هو لَا يَسْتَجِيزُ التَّأَنِّي وَالْإِفْرَاطَ في الْبُعْدِ وَإِنَّمَا يُسَوِّغُ تَعْلِيقَ الْأَحْكَامِ لِمَصَالِحَ رَآهَا شَبِيهَةً بِالْمَصَالِحِ الْمُعْتَبَرَةِ وَفَاءً بِالْمَصَالِحِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى أَحْكَامٍ ثَابِتَةِ الْأُصُولِ وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أو نَحْوًا منه وقال الْقُرْطُبِيُّ هِيَ بِهَذِهِ الْقُيُودِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ في اعْتِبَارِهَا وَأَمَّا ابن الْمُنِيرِ فقال هو احْتِكَامٌ من قَائِلِهِ ثُمَّ هو تَصْوِيرٌ بِمَا لَا يُمْكِنُ عَادَةً وَلَا
____________________
(4/380)
شَرْعًا أَمَّا عَادَةً فَلِأَنَّ الْقَطْعَ في الْحَوَادِثِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ إذْ هو غَيْبٌ عنها وَأَمَّا شَرْعًا فَلِأَنَّ الصَّادِقَ الْمَعْصُومَ أخبرنا بِأَنَّ الْأُمَّةُ لَا يَتَسَلَّطُ عَدُوٌّ عليها لِيَسْتَأْصِلَ شَأْفَتِهَا قال وَحَاصِلُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ رَدُّ الِاسْتِدْلَالِ لِتَضْيِيقِهِ في قَبُولِهِ بِاشْتِرَاطِ ما لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ انْتَهَى وَهَذَا تَحَامُلٌ منه فإن الْفَقِيهَ يَفْرِضُ الْمَسَائِلَ النَّادِرَةَ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا بَلْ الْمُسْتَحِيلَةَ لِلرِّيَاضَةِ وَلَا حُجَّةَ له في الحديث لِأَنَّ الْمُرَادَ كَافَّةُ الْخَلْقِ وَصُورَةُ الْغَزَالِيِّ إنَّمَا هِيَ في أَهْلِ مَحَلَّةٍ بِخُصُوصِهِمْ اسْتَوْلَى عليهم الْكُفَّارُ لَا جَمِيعِ الْعَالَمِ وَهَذَا وَاضِحٌ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ لَسْت أُنْكِرُ على من اعْتَبَرَ أَصْلَ الْمَصَالِحِ لَكِنَّ الِاسْتِرْسَالَ فيها وَتَحْقِيقَهَا يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ شَدِيدٍ رُبَّمَا خَرَجَ عن الْحَدِّ الْمُعْتَبَرِ وقد نَقَلُوا عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قَطَعَ لِسَانَ الْحُطَيْئَةَ بِسَبَبِ الْهَجْوِ فَإِنْ صَحَّ ذلك فَهُوَ من بَابِ الْعَزْمِ على الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ فَحَمْلُهُ على التَّهْدِيدِ الرَّادِعِ لِلْمَصْلَحَةِ أَوْلَى من حَمْلِهِ على حَقِيقَةِ الْقَطْعِ لِلْمَصْلَحَةِ وَهَذَا نَحْوُ النَّظَرِ فِيمَا يُسَمَّى مَصْلَحَةً مُرْسَلَةً قال وقد شَاوَرَنِي بَعْضُ الْقُضَاةِ في قَطْعِ أُنْمُلَةِ شَاهِدٍ وَالْغَرَضُ مَنْعُهُ عن الْكِتَابَةِ بِسَبَبِ قَطْعِهَا وَكُلُّ هذه مُنْكَرَاتٌ عَظِيمَةُ الْوَقْعِ في الدِّينِ وَاسْتِرْسَالٌ قَبِيحٌ في أَذَى الْمُسْلِمِينَ تَنْبِيهٌ حَيْثُ اُعْتُبِرَتْ الْمَصَالِحُ عِنْدَنَا بِالْمَعْنَى السَّابِقِ فَذَاكَ حَيْثُ لم يُعَارِضْهَا قِيَاسٌ فَإِنْ عَارَضَهَا خَرَجَ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فيه قَوْلَانِ من الْقَوْلَيْنِ فِيمَا إذَا وَقَعَ في الْمَاءِ الْقَلِيلِ ما لَا نَفْسَ له سَائِلَةً وَلِهَذَا قال الشَّيْخُ في التَّنْبِيهِ تُنَجِّسُهُ في أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وهو الْقِيَاسُ ولم تُنَجِّسْهُ في الْآخَرِ وهو الْأَصْلَحُ لِلنَّاسِ وقال الشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ في كِتَابِ الْقِرَاضِ من السِّلْسِلَةِ إذَا تَاجَرَ الْعَامِلُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ أو اشْتَرَى بِغَيْرِ الْمَالِ وَرَبِحَ فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ تِلْكَ الْعُقُودَ بَاطِلَةٌ والثاني أَنَّ الْمَالِكَ مُخَيَّرٌ بين إجَازَةِ الْعُقُودِ وَبَيْنَ فَسْخِهَا قال وَالْقِيَاسُ مع الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَالْمَصْلَحَةُ مع الثَّانِي
____________________
(4/381)
سَدُّ الذَّرَائِعِ قال الْبَاجِيُّ ذَهَبَ مَالِكٌ إلَى الْمَنْعِ من سَدِّ الذَّرَائِعِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ التي ظَاهِرُهَا الْإِبَاحَةُ وَيُتَوَصَّلُ بها إلَى فِعْلِ الْمَحْظُورِ مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ بِمِائَةٍ إلَى أَجَلٍ وَيَشْتَرِيهَا بِخَمْسِينَ نَقْدًا فَهَذَا قد تَوَصَّلَ إلَى خَمْسِينَ بِذِكْرِ السِّلْعَةِ وقال أبو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ الْمَنْعُ من سَدِّ الذَّرَائِعِ قُلْنَا قَوْله تَعَالَى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقَوْلُهُ وَاسْأَلْهُمْ عن الْقَرْيَةِ التي كانت حَاضِرَةَ الْبَحْرِ وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عليهم الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ دَعْ ما يَرِيبُك إلَى ما لَا يَرِيبُك وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ انْتَهَى وقال الْقُرْطُبِيُّ وَسَدُّ الذَّرَائِعِ ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَخَالَفَهُ أَكْثَرُ الناس تَأْصِيلًا وَعَمِلُوا عليه في أَكْثَرِ فُرُوعِهِمْ تَفْصِيلًا ثُمَّ حَرَّرَ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فقال اعْلَمْ أَنَّ ما يُفْضِي إلَى الْوُقُوعِ في الْمَحْظُورِ إمَّا أَنْ يَلْزَمَ منه الْوُقُوعُ قَطْعًا أو لَا وَالْأَوَّلُ ليس من هذا الْبَابِ بَلْ من بَابِ ما لَا خَلَاصَ من الْحَرَامِ إلَّا بِاجْتِنَابِهِ فَفِعْلُهُ حَرَامٌ من بَابِ ما لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَاَلَّذِي لَا يَلْزَمُ إمَّا أَنْ يُفْضِيَ إلَى الْمَحْظُورِ غَالِبًا أو يَنْفَكُّ عنه غَالِبًا أو يَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ وهو الْمُسَمَّى ب الذَّرَائِعِ عِنْدَنَا فَالْأَوَّلُ لَا بُدَّ من مُرَاعَاتِهِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فيه فَمِنْهُمْ من يُرَاعِيهِ وَمِنْهُمْ من لَا يُرَاعِيهِ وَرُبَّمَا يُسَمِّيهِ التُّهْمَةَ الْبَعِيدَةَ وَالذَّرَائِعَ الضَّعِيفَةَ
____________________
(4/382)
وَقَرِيبٌ من هذا التَّقْرِيرِ قَوْلُ الْقَرَافِيِّ في الْقَوَاعِدِ إنَّ مَالِكًا لم يَنْفَرِدْ بِذَلِكَ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يقول بها وَلَا خُصُوصِيَّةَ لِلْمَالِكِيَّةِ بها إلَّا من حَيْثُ زِيَادَتُهُ فيها قال فإن من الذَّرَائِعِ ما هو مُعْتَبَرٌ إجْمَاعًا كَالْمَنْعِ من حَفْرِ الْآبَارِ في طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِلْقَاءِ السُّمِّ في طَعَامِهِمْ وَسَبِّ الْأَصْنَامِ عِنْدَ من يُعْلَمْ من حَالِهِ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ ومنها ما هو مَلْغِيٌّ إجْمَاعًا كَزِرَاعَةِ الْعِنَبِ فَإِنَّهَا لَا تُمْنَعُ خَشْيَةَ الْخَمْرِ وَإِنْ كان وَسِيلَةً إلَى الْمُحَرَّمِ ومنها ما هو مُخْتَلَفٌ فيه كَبُيُوعِ الْآجَالِ فَنَحْنُ نَعْتَبِرُ الذَّرِيعَةَ فيها وَخَالَفَنَا غَيْرُنَا فَحَاصِلُ الْقَضِيَّةِ أَنَّا قُلْنَا بِسَدِّ الذَّرَائِعِ أَكْثَرَ من غَيْرِنَا لَا أنها خَاصَّةٌ قال وَبِهَذَا نَعْلَمُ بُطْلَانَ اسْتِدْلَالِ أَصْحَابِنَا على الشَّافِعِيَّةِ في هذه الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ من دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا وَقَوْلُهُ وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدُّوا مِنْكُمْ في السَّبْتِ فَقَدْ ذَمُّهُمْ بِكَوْنِهِمْ تَذَرَّعُوا لِلصَّيْدِ يوم السَّبْتِ الْمُحَرَّمِ عليهم بِحَبْسِ الصَّيْدِ يوم الْجُمُعَةِ وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عليهم الشُّحُومُ الْحَدِيثُ وَبِالْإِجْمَاعِ على جَوَازِ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ مُفْتَرِقَيْنِ وَتَحْرِيمِهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ لِلذَّرِيعَةِ إلَيْهَا وَبِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَظَنِينٍ خَشْيَةَ الشَّهَادَةِ بِالْبَاطِلِ وَمَنْعِ شَهَادَةِ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ هذه الْأَدِلَّةَ لَا تُفِيدُ في مَحَلِّ النِّزَاعِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ على اعْتِبَارِ الشَّرْعِ سَدَّ الذَّرَائِعِ في الْجُمْلَةِ وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عليه وَإِنَّمَا النِّزَاعُ في ذَرِيعَةٍ خَاصَّةٍ وَهِيَ بُيُوعُ الْآجَالِ وَنَحْوُهَا فَيَنْبَغِي أَنْ تُذْكَرَ أَدِلَّةٌ خَاصَّةٌ بِمَحِلِّ النِّزَاعِ وَإِنْ قَصَدُوا الْقِيَاسَ على هذه الذَّرَائِعِ الْمُجْمَعُ عليها فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ حُجَّتُهُمْ الْقِيَاسَ وَحِينَئِذٍ فَلْيَذْكُرُوا الْجَامِعَ حتى يَتَعَرَّضَ الْخَصْمُ لِرَفْعِهِ بِالْفَارِقِ وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ دَلِيلَهُمْ الْقِيَاسُ فإن من أَدِلَّةِ مَحَلِّ النِّزَاعِ حَدِيثَ زَيْدِ بن أَرْقَمَ أَنَّ أَمَةً قالت لِعَائِشَةَ إنِّي بِعْت منه عَبْدًا بِثَمَانِمِائَةٍ إلَى الْعَطَاءِ وَاشْتَرَيْتُهُ نَقْدًا بِسِتِّمِائَةٍ فقالت عَائِشَةُ بِئْسَ ما اشْتَرَيْت وَأَخْبِرِي زَيْدَ بن أَرْقَمَ أَنَّهُ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مع رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَّا أَنْ يَتُوبَ قال أبو الْوَلِيدِ بن رُشْدٍ وَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ كانت من أُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بن أَرْقَمَ وَمَوْلَاهَا قبل الْعِتْقِ فَيَتَخَرَّجُ قَوْلُ عَائِشَةَ على تَحْرِيمِ الرِّبَا بين السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ مع الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ
____________________
(4/383)
هذه الذَّرَائِعِ وَلَعَلَّ زَيْدًا لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ الرِّبَا بين السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ قال وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ في زَيْدٍ أَنَّهُ وَاطَأَ أُمَّ وَلَدِهِ على الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلًا إلَى أَجَلٍ وَقَوْلُ عَائِشَةَ أَحْبَطَ عَمَلَهُ مع أَنَّ الْإِحْبَاطَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالشِّرْكِ لم تُرِدْ إحْبَاطَ الْإِسْقَاطِ بَلْ إحْبَاطَ الْمُوَازَنَةِ وهو وَزْنُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بِشَيْءٍ كَقَوْلِهِ من تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَالْقَصْدُ ثَمَّ الْمُبَالَغَةُ في الْإِنْكَارِ لَا التَّحْقِيقُ وَأَنَّ مَجْمُوعَ الثَّوَابِ الْمُتَحَصِّلِ من الْجِهَادِ ليس بَاقِيًا بَعْدَ هذه السَّيِّئَةِ بَلْ بَعْضُهُ فَيَكُونُ الْإِحْبَاطُ في الْمَجْمُوعِ من حَيْثُ هو مَجْمُوعٌ بِحَيْثُ لو اقْتَدَى بِهِ الناس انْفَتَحَ بَابُ الرِّبَا نَسِيئَةً قال وَوَافَقَنَا أبو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ في سَدِّ ذَرَائِعِ بُيُوعَ الْآجَالِ وَخَالَفَ الشَّافِعِيُّ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا وفي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أتى بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فقال لَا تَفْعَلُوا وَلَكِنْ بِيعُوا تَمْرَ الْجَمْعِ بِالدَّرَاهِمِ وَاشْتَرُوا بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا فَهَذَا بَيْعُ صَاعٍ بِصَاعَيْنِ وَإِنَّمَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا عَقْدُ الدَّرَاهِمِ وَلَيْسَ في الحديث أَنَّ الْعَقْدَ الثَّانِي مع الْبَائِعِ الْأَوَّلِ وَالْكَلَامَ فيه قُلْت وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ عَائِشَةَ إنَّمَا قالت ذلك بِاجْتِهَادِهَا وَاجْتِهَادُ وَاحِدٍ من الصَّحَابَةِ لَا يَكُونُ حُجَّةً على الْآخَرِ بِالْإِجْمَاعِ كما سَبَقَ نَقْلُهُ عن الْقَاضِي ثُمَّ قَوْلُهَا مُعَارِضٌ لِفِعْلِ زَيْدِ بن أَرْقَمَ ثُمَّ إنَّمَا أَنْكَرَتْ ذلك لِفَسَادِ الْبَيْعَيْنِ فإن الْأَوَّلَ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْأَجَلِ فإن وَقْتَ الْعَطَاءِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَالثَّانِي بِنَاءً على الْأَوَّلِ فَيَكُونُ أَيْضًا فَاسِدًا وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ بن الرِّفْعَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ حَاوَلَ تَخْرِيجَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ في الذَّرَائِعِ من نَصِّهِ في بَابِ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ من الْأُمِّ إذْ قال بَعْدَمَا ذَكَرَ النَّهْيَ عن بَيْعِ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلَأَ وَإِنَّمَا يَحْتَمِلُ إنَّمَا كان ذَرِيعَةً إلَى مَنْعِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لم يَحِلَّ وَكَذَا ما كان ذَرِيعَةً إلَى إحْلَالِ ما حَرَّمَ اللَّهُ ما نَصُّهُ وإذا كان هَكَذَا فَفِي هذا ما يَثْبُتُ أَنَّ الذَّرَائِعَ إلَى الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ يُشْبِهُ مَعَانِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ انْتَهَى وَنَازَعَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وقال إنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَحْرِيمَ الْوَسَائِلِ لَا سَدَّ الذَّرَائِعِ وَالْوَسَائِلُ مُسْتَلْزَمَةُ الْمُتَوَسَّلِ إلَيْهِ وَمِنْ هذا بَيْعُ الْمَاءِ فإنه مُسْتَلْزَمٌ عَادَةً
____________________
(4/384)
لِمَنْعِ الْكَلَأِ الذي هو حَرَامٌ وَنَحْنُ لَا نُنَازِعُ فِيمَا يَسْتَلْزِمُ من الْوَسَائِلِ قال وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ في نَفْسِ الذَّرَائِعِ لَا في سَدِّهَا وَالنِّزَاعُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ إنَّمَا هو في سَدِّهَا ثُمَّ قال الذَّرِيعَةُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا ما يَقْطَعُ بِتَوْصِيلِهِ إلَى الْحَرَامِ فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ وَالثَّانِي ما يَقْطَعُ بِأَنَّهَا لَا تُوصِلُ وَلَكِنْ اخْتَلَطَتْ بِمَا يُوصِلُ فَكَانَ من الِاحْتِيَاطِ سَدُّ الْبَابِ وَإِلْحَاقُ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ التي قَطَعَ بِأَنَّهَا لَا تُوصِلُ إلَى الْحَرَامِ بِالْغَالِبِ منها الْمُوصِلُ إلَيْهِ وَهَذَا غُلُوٌّ في الْقَوْلِ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ وَالثَّالِثُ ما يَحْتَمِلُ وَيَحْتَمِلُ وَفِيهِ مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ وَيَخْتَلِفُ التَّرْجِيحُ عِنْدَهُمْ بِسَبَبِ تَفَاوُتِهَا قال وَنَحْنُ نُخَالِفُهُمْ في جَمِيعِهَا إلَّا الْقِسْمَ الْأَوَّلَ لِانْضِبَاطِهِ وَقِيَامِ الدَّلِيلِ انْتَهَى وَقِيلَ أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَوَاضِحٌ بَلْ نَقُولُ بِهِ في الْوَاجِبَاتِ كما نَقُولُ ما لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ أَمَّا مُخَالَفَتُهُمْ في الثَّانِي فَكَذَلِكَ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَعَلَّهُ الذي حَاوَلَ ابن الرِّفْعَةِ تَخْرِيجَ قَوْلٍ منه بِمَا ذَكَرَهُ عن النَّصِّ وقد عَرَفَ ما فيه وَاسْتَشْهَدَ له أَيْضًا بِالْوَصِيِّ يَبِيعُ شِقْصًا على الْيَتِيمِ فَلَا يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ على الْأَصَحِّ عِنْدَ الرَّافِعِيِّ وَبِالْمَرِيضِ يَبِيعُ الشِّقْصَ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ أَنَّ الْوَارِثَ لَا يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ على وَجْهٍ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الشَّرْعِ وَحَاوَلَ ابن الرِّفْعَةِ بِذَلِكَ تَخْرِيجَ وَجْهٍ في مَسْأَلَةِ الْعَيِّنَةِ وَلَا يَتَأَتَّى له هذا فَتِلْكَ عُقُودٌ قَائِمَةٌ بِشُرُوطِهَا وَلَا خَلَلَ فيها وَإِنْ مَنَعَهَا الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وقد يقول بِالْقِسْمِ الثَّالِثِ في مَسَائِلَ منها إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ على قَوْلِ الْإِبْطَالِ وَلَيْسَ ذلك من سَدِّ الذَّرَائِعِ بَلْ لِأَنَّ الْمَرِيضَ مَحْجُورٌ عليه ثُمَّ هو قَوْلٌ ضَعِيفٌ ومنها إذَا ادَّعَتْ الْمُجْبَرَةُ مَحْرَمِيَّةً أو رَضَاعًا بَعْدَ الْعَقْدِ قال ابن الْحَدَّادِ يُقْبَلُ قَوْلُهَا لِأَنَّهُ من الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ وَرُبَّمَا انْفَرَدَتْ بِعِلْمِهِ وقال ابن سُرَيْجٍ لَا يُقْبَلُ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ النِّكَاحَ مَعْلُومٌ وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمَحْرَمِيَّةِ وَفَتْحُ هذا الْبَابِ طَرِيقُ الْفَسَادِ وَلَيْسَ هذا من سَدِّ الذَّرَائِعِ بَلْ اعْتِمَادٌ على الْأَصْلِ قُلْت وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في الْبُوَيْطِيِّ على كَرَاهِيَةِ التَّجْمِيعِ بِالصَّلَاةِ في مَسْجِدٍ قد صُلِّيَتْ فيه تِلْكَ الصَّلَاةُ إذَا كان له إمَامٌ رَاتِبٌ قال وَإِنَّمَا كَرِهْتُهُ لِئَلَّا يَعْمِدَ قَوْمٌ لَا يَرْضَوْنَ إمَامًا فَيُصَلُّونَ بِإِمَامٍ غَيْرَهُ انْتَهَى وقال في الْأُمِّ في مَنْعِ
____________________
(4/385)
قَرْضِ الْجَارِيَةِ التي يَحِلُّ لِلْمُسْتَقْرِضِ وَطْؤُهَا وَتَجْوِيزُ ذلك يُفْضِي إلَى أَنْ يَصِيرَ ذَرِيعَةً أَنْ يَطَأَهَا وهو يَمْلِكُ رَدَّهَا قال الْمَحَامِلِيُّ يَعْنِي أَنَّهُ يَسْتَبِيحُ بِالْقَرْضِ وَطْءَ الْجَارِيَةِ ثُمَّ يَرُدُّهَا على الْمُقْرِضِ فَيَسْتَبِيحُ الْوَطْءَ من غَيْرِ عِوَضٍ قِيلَ وَفِيهِ مَنْعُ الذَّرَائِعِ الِاسْتِحْسَانُ وقد نُوزِعَ في ذِكْرِهِ في جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ بِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ الْعَقْلِيَّ لَا مَجَالَ له في الشَّرْعِ وَالِاسْتِحْسَانُ الشَّرْعِيُّ لَا يَخْرُجُ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ فما وَجْهُ ذِكْرِهِ وهو لُغَةً اعْتِمَادُ الشَّيْءِ حَسَنًا سَوَاءٌ كان عِلْمًا أو جَهْلًا وَلِهَذَا قال الشَّافِعِيُّ الْقَوْلُ بِالِاسْتِحْسَانِ بَاطِلٌ فإنه لَا يُنَبِّئُ عن انْتِحَالِ مَذْهَبٍ بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وما اقْتَضَتْهُ الْحُجَّةُ الشَّرْعِيَّةُ هو الدِّينُ سَوَاءٌ اسْتَحْسَنَهُ نَفْسُهُ أَمْ لَا وَنَسَبَ الْقَوْلَ بِهِ إلَى أبي حَنِيفَةَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ وقد حَكَاهُ عنه الشَّافِعِيُّ وَبِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَأَنْكَرَ أَصْحَابُهُ ما حَكَى الشَّافِعِيُّ عنه وَنَسَبَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى مَالِكٍ وَأَنْكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وقال ليس مَعْرُوفًا من مَذْهَبِهِ وقد أَنْكَرَهُ الْجُمْهُورُ حتى قال الشَّافِعِيُّ من اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ وَهِيَ من مَحَاسِنِ كَلَامِهِ قال الرُّويَانِيُّ وَمَعْنَاهُ أَنْ يَنْصِبَ من جِهَةِ نَفْسِهِ شَرْعًا غير شَرْعِ الْمُصْطَفَى قال أَصْحَابُنَا وَمَنْ شَرَّعَ فَقَدْ كَفَرَ وَسَكَتَ الشَّافِعِيُّ عن الْمُقَدَّمَةِ الثَّانِيَةِ لِوُضُوحِهَا قال السِّنْجِيُّ في شَرْحِ التَّلْخِيصِ مُرَادُهُ لو جَازَ الِاسْتِحْسَانُ بِالرَّأْيِ على خِلَافِ الدَّلِيلِ لَكَانَ هذا بَعْثَ شَرِيعَةٍ أُخْرَى على خِلَافِ ما أَمَرَ اللَّهُ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ أَكْثَرَ الشَّرِيعَةِ مَبْنِيٌّ على خِلَافِ الْعَادَاتِ وَعَلَى أَنَّ النُّفُوسَ لَا تَمِيلُ إلَيْهَا وَلِهَذَا قال عليه السَّلَامُ حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَجُوزُ اسْتِحْسَانُ ما في الْعَادَاتِ على خِلَافِ الدَّلِيلِ وقال الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ الِاسْتِحْسَانُ تَلَذُّذٌ وَلَوْ جَازَ لِأَحَدٍ
____________________
(4/386)
الِاسْتِحْسَانُ في الدِّينِ جَازَ ذلك لِأَهْلِ الْعُقُولِ من غَيْرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَجَازَ أَنْ يَشْرَعَ في الدِّينِ في كل بَابٍ وَأَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدِ لِنَفْسِهِ شَرْعًا وَأَيُّ اسْتِحْسَانٍ في سَفْكِ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى إيجَابِ الْحَدِّ على الْمَشْهُودِ عليه بِالزِّنَى في الزَّوَايَا قال أبو حَنِيفَةَ الْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا رَجْمَ عليه وَلَكِنَّا نَرْجُمُهُ اسْتِحْسَانًا وقال في آخَرِ الرِّسَالَةِ تَلَذُّذٌ وَإِنَّمَا قال ذلك لِأَنَّهُ قد اشْتَهَرَ عَنْهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حُكْمُ الْمُجْتَهِدِ بِمَا يَقَعُ في خَاطِرِهِ من غَيْرِ دَلِيلٍ وقال ابن الْقَطَّانِ قد كان أَهْلُ الْعِرَاقِ على طَرِيقَةٍ في الْقَوْلِ بِالِاسْتِحْسَانِ وهو ما اسْتَحْسَنَتْهُ عُقُولُهُمْ وَإِنْ لم يَكُنْ على أَصْلٍ فَقَالُوا بِهِ في كَثِيرٍ من مَسَائِلِهِمْ حتى قالوا في الْجَزَاءِ إنَّ الْقِيَاسَ أَنَّ فيه الْقِيمَة وَالِاسْتِحْسَانُ شَاةٌ وَقَالُوا في الشُّهُودِ بِالزَّوَايَا الْحَدُّ اسْتِحْسَانًا قال وقد تَكَلَّمَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ عن بُطْلَانِهِ بِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ حين بَعَثَ مُعَاذًا وَدَلَّهُ على الِاجْتِهَادِ عِنْدَ فَقْدِ النَّصِّ ولم يذكر له الِاسْتِحْسَانَ وقد نهى اللَّهُ عن اتِّبَاعِ الْهَوَى وَمِمَّنْ أَنْكَرُوا الِاسْتِحْسَانَ من الْحَنَفِيَّةِ الطَّحْطَاوِيُّ حَكَاهُ ابن حَزْمٍ وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا حُرِّرَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِحْسَانِ زَالَ التَّشْنِيعُ وأبو حَنِيفَةَ بَرِيءَ إلَى اللَّهِ من إثْبَاتِ حُكْمٍ بِلَا حُجَّةٍ قال الْفَارِضُ الْمُعْتَزِلِيُّ في النُّكَتِ وقد جَرَتْ لَفْظَةُ الِاسْتِحْسَانِ لِإِيَاسِ بن مُعَاوِيَةَ وَلِمَالِكِ بن أَنَسٍ في كِتَابِهِ وَلِلشَّافِعِيِّ في مَوَاضِعَ انْتَهَى وَعَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ قال مَالِكٌ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعِلْمِ الِاسْتِحْسَانُ قال أَصْبَغُ بن الْفَرَجِ الِاسْتِحْسَانُ في الْعِلْمِ يَكُونُ أَبْلَغُ من الْقِيَاسِ ذَكَرَهُ في كِتَابِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ من الْمُسْتَخْرَجَةِ نَقَلَهُ ابن حَزْمٍ في الْأَحْكَامِ وقال الْبَاجِيُّ ذَكَرَ محمد بن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ مَعْنَى الِاسْتِحْسَانِ الذي ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ هو الْقَوْلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ كَتَخْصِيصِ بَيْعِ الْعَرَايَا من بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ وَتَخْصِيصُ الرُّعَافِ دُونَ الْقَيْءِ بِالْبِنَاءِ لِلْحَدِيثِ فيه وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لو لم تَرِدْ سُنَّةٌ بِالْبِنَاءِ في الرُّعَافِ لَكَانَ في حُكْمِ الْقَيْءِ في أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْبِنَاءُ لِأَنَّ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي تَتَابُعَ الصَّلَاةِ فإذا وَرَدَتْ السُّنَّةُ في الرُّخْصَةِ بِتَرْكِ التَّتَابُعِ في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ صِرْنَا إلَيْهِ
____________________
(4/387)
وَأَبْقَيْنَا الْبَاقِي على الْأَصْلِ قال وَهَذَا الذي ذَهَبَ إلَيْهِ هو الدَّلِيلُ فَإِنْ سَمَّاهُ اسْتِحْسَانًا فَلَا مُشَاحَّةَ في التَّسْمِيَةِ انْتَهَى وقال الْإِبْيَارِيُّ الذي يَظْهَرُ من مَذْهَبِ مَالِكٍ الْقَوْلُ بِالِاسْتِحْسَانِ لَا على ما سَبَقَ بَلْ حَاصِلُهُ اسْتِعْمَالُ مَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ في مُقَابَلَةِ قِيَاسٍ كُلِّيٍّ فَهُوَ يُقَدِّمُ الِاسْتِدْلَالَ الْمُرْسَلَ على الْقِيَاسِ وَمِثَالُهُ لو اشْتَرَى سِلْعَةً بِالْخِيَارِ ثُمَّ مَاتَ وَلَهُ وَرَثَةٌ فَقِيلَ يُرَدُّ وَقِيلَ يَخْتَارُ الْإِمْضَاءَ قال أَشْهَبُ الْقِيَاسُ الْفَسْخُ وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ إنْ أَرَادَ الْإِمْضَاءَ أَنْ يَأْخُذَ من لم يَمْضِ إذَا امْتَنَعَ الْبَائِعُ من قَبُولِ نَصِيبِ الرَّادِّ وقال ابن الْقَاسِمِ قُلْت لِمَالِكٍ لم يَقْضِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ في جِرَاحِ الْعَمْدِ وَلَيْسَ بِمَالٍ فقال إنَّهُ لِشَيْءٍ اسْتَحْسَنَّاهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَاسَهُ على الْأَمْوَالِ وقال بَعْضُ مُحَقِّقِي الْمَالِكِيَّةِ بَحَثْت عن مَوَارِدِ الِاسْتِحْسَانِ في مَذْهَبِنَا فإذا هو يَرْجِعُ إلَى تَرْكِ الدَّلِيلِ بِمُعَارَضَةِ ما يُعَارِضُهُ بَعْضُ مُقْتَضَاهُ كَتَرْكِ الدَّلِيلِ لِلْعُرْفِ في رَدِّ الْأَيْمَانِ إلَى الْعُرْفِ أو الْمُصَالَحَةِ كما في تَضْمِينِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ وَلِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كما في إيجَابِ غُرْمِ الْقِيمَةِ على من قَطَّ ذَنَبَ بَغْلَةِ الْحَاكِمِ أو في الْيَسِيرِ كَرَفْعِ الْمَشَقَّةِ وَإِيثَارِ التَّوْسِعَةِ كما جَازَ التَّفَاضُلُ الْيَسِيرُ في الْمُرَاطَلَةِ وَإِجَازَةِ بَيْعٍ وَصَرْفٍ في الْيَسِيرِ وقال بَعْضُهُمْ هو مَعْنَى ليس في سُلُوكِهِ إبْطَالُ الْقَوَاعِدِ وَلَا يَجْرِي عليها جَرْيًا مُخْلِصًا كما في مَسْأَلَةِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ إنْ كان الِاسْتِحْسَانُ هو الْقَوْلُ بِمَا يَسْتَحْسِنُهُ الْإِنْسَانُ وَيَشْتَهِيهِ من غَيْرِ دَلِيلٍ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَا أَحَدَ يقول بِهِ ثُمَّ حَكَى كَلَامُ أبي زَيْدٍ أَنَّهُ اسْمٌ لِضَرْبِ دَلِيلٍ يُعَارِضُ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ حتى كان الْقِيَاسُ غير الِاسْتِحْسَانِ على سَبِيلِ الْمُعَارَضَةِ وَكَأَنَّهُمْ سَمَّوْهُ بهذا الِاسْمِ لِاسْتِحْسَانِهِمْ تَرْكَ الْقِيَاسِ أو الْوُقُوفَ عن الْعَمَلِ بِهِ بِدَلِيلٍ آخَرَ فَوْقَهُ في الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ أو مِثْلِهِ ولم يَكُنْ لهم من هذه التَّسْمِيَةِ إلَّا التَّمْيِيزُ بين حُكْمِ الْأَصْلِ الذي يُبْنَى على الْأَصْلِ قِيَاسًا وَاَلَّذِي قال اسْتِحْسَانًا وَهَذَا كما مَيَّزَ أَهْلُ النَّحْوِ بين وُجُوهِ النَّصْبِ فَقَالُوا هذا نُصِبَ على الظَّرْفِ وَهَذَا نُصِبَ على الْمَصْدَرِ ثُمَّ نَبَّهَ ابن السَّمْعَانِيِّ على أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ لَفْظِيٌّ فإن تَفْسِيرَ الِاسْتِحْسَانِ بِمَا يُشَنَّعُ عليهم لَا يَقُولُونَ بِهِ وَاَلَّذِي يَقُولُونَ بِهِ إنَّهُ الْعُدُولُ في الْحُكْمِ من دَلِيلٍ إلَى دَلِيلٍ هو أَقْوَى منه فَهَذَا مِمَّا لم يُنْكِرْهُ لَكِنْ هذا الِاسْمُ لَا نَعْرِفُهُ اسْمًا لِمَا يُقَالُ بِهِ بِمِثْلِ هذا الدَّلِيلِ وَقَرِيبٌ منه قَوْلُ الْقَفَّالِ إنْ كان الْمُرَادُ بِالِاسْتِحْسَانِ ما دَلَّ عليه الْأُصُولُ
____________________
(4/388)
لِمَعَانِيهَا فَهُوَ حَسَنٌ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ له وَتَحْسِينِ الدَّلَائِلِ فَهَذَا لَا نُنْكِرُهُ وَنَقُولُ بِهِ وَإِنْ كان ما يُقَبَّحُ في الْوَهْمِ من اسْتِقْبَاحِ الشَّيْءِ وَاسْتِحْسَانِهِ بِحُجَّةٍ دَلَّتْ عليه من أَصْلٍ وَنَظِيرٍ فَهُوَ مَحْظُورٌ وَالْقَوْلُ بِهِ غَيْرُ سَائِغٍ وقال السِّنْجِيُّ الِاسْتِحْسَانُ كَلِمَةٌ يُطْلِقُهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَهِيَ على ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ وهو أَنْ يُقَدَّمَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ أو الْعَقْلِيُّ على حُسْنِهِ كَالْقَوْلِ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَقِدَمِ الْمُحْدِثِ وَبَعْثِهِ الرُّسُلَ وَإِثْبَاتِ صِدْقِهِمْ وَكَوْنِ الْمُعْجِزَةِ حُجَّةً عليهم وَمِثْلُ مَسَائِلِ الْفِقْهِ لِهَذَا الضَّرْبِ يَجِبُ تَحْسِينُهُ لِأَنَّ الْحُسْنَ ما حَسَّنَهُ الشَّرْعُ وَالْقُبْحُ ما قَبَّحَهُ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ على مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَحْظُورًا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وفي عَادَاتِ الناس إبَاحَتُهُ وَيَكُونُ في الشَّرْعِ دَلِيلٌ يُغَلِّظُهُ وفي عَادَاتِ الناس التَّخْفِيفُ فَهَذَا عِنْدَنَا يَحْرُمُ الْقَوْلُ بِهِ وَيَجِبُ اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ وَتَرْكُ الْعَادَةِ وَالرَّأْيِ وَسَوَاءٌ كان ذلك الدَّلِيلُ نَصًّا أو إجْمَاعًا أو قِيَاسًا وَذَهَبَ أبو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إلَى أَنَّ ذلك الدَّلِيلَ إنْ كان خَبَرَ وَاحِدٍ أو قِيَاسًا اُسْتُحْسِنَ تَرْكُهُمَا وَالْأَخْذُ بِالْعَادَاتِ كَقَوْلِهِ في خَبَرِ الْمُتَبَايِعَيْنِ أَرَأَيْت لو كَانَا في سَفِينَةٍ فَرَدَّ الْخَبَرَ بِالِاسْتِحْسَانِ وَعَادَةِ الناس وَكَقَوْلِهِ في شُهُودِ الزَّوَايَا انْتَهَى إذَا عَلِمْت هذا فَاعْلَمْ أَنَّهُ قد اخْتَلَفَتْ الْحَنَفِيَّةُ في حَقِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ على أَقْوَالٍ
____________________
(4/389)
أَحَدُهَا أَنَّهُ الْعَمَلُ بِأَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ وَعَلَى هذا يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ كما قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ لِأَنَّا نُوَافِقُهُمْ عليه لِأَنَّهُ الْأَحْسَنُ وَالثَّانِي أَنَّهُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ كما خَصَّ خُرُوجَ الْجِصِّ وَالنُّورَةِ من عِلَّةِ الرِّبَا في الْبُرِّ وَإِنْ كان مَكِيلًا وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْعُنْوَانِ قال شَارِحُهُ وفي حَصْرِهِ في هذا الْمَعْنَى نَظَرٌ عِنْدِي وَعَلَى هذا التَّفْسِيرِ قال الْقَفَّالُ وَالْمَاوَرْدِيُّ نَحْنُ نُخَالِفُهُمْ بِنَاءً على أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ عِنْدَنَا قال ابن الصَّبَّاغِ وَلَوْ كان هذا التَّخْصِيصُ لَمَا جَازَ تَرْكُهُ إلَى الْقِيَاسِ كما لَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِالْعَامِّ مع قِيَامِ دَلِيلِ الْمُخَصِّصِ الثَّالِثُ أَنَّهُ تَرَكَ أَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ بِأَضْعَفِهِمَا إذَا كان حَتْمًا كما قال في شُهُودِ الزِّنَى الْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ وَلَكِنْ أَحَدَّهُ اسْتِحْسَانًا قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وهو بهذا التَّفْسِيرِ يُخَالِفُ فيه لِأَنَّ أَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ عِنْدَنَا أَحْسَنُ من أَضْعَفِهِمَا وَلِأَنَّ في مَسْأَلَةِ الزَّوَايَا لَا قِيَاسَ أَصْلًا وَلَا خَبَرًا الرَّابِعُ أَنَّهُ تَخْصِيصُ الْقِيَاسِ بِالسُّنَّةِ حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَلِأَجْلِهِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُمْ رُبَّمَا يُسْنِدُونَ لِمَا يَرَوْنَهُ إلَى خَبَرٍ كَمَصِيرِهِمْ إلَى أَنَّ النَّاسِي بِالْأَكْلِ لَا يُفْطِرُ لِخَبَرِ أبي هُرَيْرَةَ الْخَامِسُ قال إلْكِيَا وهو أَحْسَنُ ما قِيلَ في تَفْسِيرِهِ ما قَالَهُ أبو الْحَسَنِ الْكَرْخِيّ أَنَّهُ قَطَعَ الْمَسَائِلَ عن نَظَائِرِهَا لِدَلِيلٍ خَاصٍّ يَقْتَضِي الْعُدُولَ عن الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فيه إلَى الثَّانِي سَوَاءٌ كان قِيَاسًا أو نَصًّا يَعْنِي أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَعْدِلُ عن الْحُكْمِ من مَسْأَلَةٍ بِمَا يَحْكُمُ في نَظَائِرِهَا إنَّ الْحُكْمَ بِخِلَافِهِ لِوَجْهٍ يَقْتَضِي الْعُدُولَ عنه كَتَخْصِيصِ أبي حَنِيفَةَ قَوْلَ الْقَائِلِ ما لي صَدَقَةٌ على الزَّكَاةِ فإن هذا الْقَوْلَ منه عَامٌّ في التَّصْدِيقِ بِجَمِيعِ مَالِهِ وقال أبو حَنِيفَةَ يَخْتَصُّ بِمَالِ الزَّكَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى خُذْ من أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً وَالْمُرَادُ من الْأَمْوَالِ الْمُضَافَةِ إلَيْهِمْ أَمْوَالُ الزَّكَاةِ فَعَدَلَ عن الْحُكْمِ في مَسْأَلَةِ الْمَالِ الذي ليس هو بِزَكَوِيٍّ بِمَا حَكَمَ بِهِ في نَظَائِرِهَا من الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ إلَى خِلَافِ ذلك الْحُكْمِ لِدَلِيلٍ اقْتَضَى الْعُدُولَ وهو الْآيَةُ وقال عبد الْوَهَّابِ هو قَوْلُ الْمُحَصِّلِينَ من الْحَنَفِيَّةِ قال وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هو الذي قال بِهِ أَصْحَابُنَا فقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذلك الدَّلِيلُ أَقْوَى من الْقِيَاسِ الذي اقْتَضَى إلْحَاقَهَا بِنَظَائِرِهَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْقِيَاسِ وَلَا غَيْرِهِ من الْأَدِلَّةِ إلَّا لِمَا هو أَقْوَى منه وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مَذْهَبُهُ كُلُّهُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ عُدُولٌ بِالْخَاصِّ عن
____________________
(4/390)
بَقِيَّةِ أَفْرَادِ الْعَامِّ لِدَلِيلٍ وَحَكَى ابن الْقَطَّانِ عن الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِأَدَقِّ الْقِيَاسَيْنِ وقال في الْمَنْخُولِ الصَّحِيحُ في ضَبْطِهِ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ وقد قَسَّمَهُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا اتِّبَاعُ الحديث وَتَرْكُ الْقِيَاسِ كما فَعَلُوا في مَسْأَلَةِ الْقَهْقَهَةِ وَنَبِيذِ التَّمْرِ الثَّانِي اتِّبَاعُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ كما قالوا في أُجْرَةِ الْعَبْدِ الْآبِقِ بِأَرْبَعِينَ اتِّبَاعًا لِابْنِ عَبَّاسٍ الثَّالِثُ اتِّبَاعُ الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ كَالْمُعَاطَاةِ فإن اسْتِمْرَارَهَا يَشْهَدُ بِصِحَّةِ نَقْلِهَا خَلَفًا عن سَلَفٍ وَيَغْلِبُ على الظَّنِّ أَنَّهُ في عَصْرِ الرَّسُولِ الرَّابِعُ اتِّبَاعُ مَعْنَى خَفِيٍّ هو أَخَصُّ بِالْمَقْصُودِ كما في إيجَابِ الْحَدِّ بِشُهُودِ الزَّوَايَا لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ فَعْلَةً وَاحِدَةً كَأَنْ يَزْحَفُ فيها قال الْغَزَالِيُّ وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ على الْقِيَاسِ وَجَبَ عِنْدَنَا لَكِنَّ الْخَبَرَ الصَّحِيحَ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ يُتَّبَعُ عِنْدَنَا وَأَمَّا أَنَّ الْأَعْصَارَ لَا تَتَفَاوَتُ فَمَرْدُودٌ لِأَنَّ الْعُقُودَ الْفَاسِدَةَ في الْكَثْرَةِ حَدَثَتْ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ فَأَمَّا الْمَعْنَى الْخَفِيُّ إذَا كان أَخَصَّ فَهُوَ مُتَّبَعٌ وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لم يَكْتَفِ بِمُوجِبِهِ حتى أتى بِالْعَجَبِ فقال يَجِبُ الْحَدُّ على من شَهِدَ عليه أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَى أَرْبَعُ زَوَايَا كُلُّ وَاحِدٍ يَشْهَدُ على زَاوِيَةٍ قال وَلَعَلَّهُ كان يَتَزَحَّفُ في زَنْيَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَيُّ اسْتِحْسَانٍ في سَفْكِ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بهذا الْخَيَالِ انْتَهَى وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ أَنَّ الْخِلَافَ في الثَّالِثِ فقال الْمَنْقُولُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَتَّبِعُ ما اُسْتُحْسِنَ بِالْعَادَةِ وَيَتْرُكُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ وَمَثَّلَهُ بِشُهُودِ الزِّنَى انْتَهَى وَذَكَرَ أبو بَكْرٍ محمد بن أَحْمَدَ الْبَلْعَمِيُّ الْحَنَفِيُّ في كِتَابِ الْغَرَرِ في الْأُصُولِ أَنَّهُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْمَعْنَى الْخَفِيِّ قال وَلَا عَيْبَ إذَنْ في إطْلَاقِهِ بَلْ الْعَيْبُ على من جَهِلَ حَقِيقَتَهُ وقال بِهِ من حَيْثُ عِيبَ عن قَائِلِهِ قال وَذَكَرَ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ في كِتَابِهِ قال حدثني بَعْضُ قُضَاةِ مَدِينَةِ السَّلَامِ مِمَّنْ كان يَلِي الْقَضَاءَ في زَمَانِ الْمُسْتَعِينِ بِاَللَّهِ قال سَمِعْت إبْرَاهِيمَ بن جَابِرٍ وكان رَجُلًا كَثِيرَ الْعِلْمِ صَنَّفَ في اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ وكان يقول بِنَفْيِ الْقِيَاسِ بَعْدَ أَنْ أَثْبَتَهُ
____________________
(4/391)
قُلْت له ما الذي أَوْجَبَ عِنْدَك الْقَوْلَ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ بَعْدَ الْقَوْلِ بِهِ قال قَرَأْت كِتَابَ إبْطَالِ الِاسْتِحْسَانِ لِلشَّافِعِيِّ فَرَأَيْتُهُ صَحِيحًا في مَعْنَاهُ إلَّا أَنَّ جَمِيعَ ما احْتَجَّ بِهِ هو بِعَيْنِهِ يُبْطِلُ الْقِيَاسَ وَصَحَّ بِهِ عِنْدِي بُطْلَانُهُ قال فَهَذِهِ حِكَايَةٌ تُنَادِي على الْخَصْمِ أَنَّهُ يقول بِمَا يَعُودُ عليه بِالنَّقْضِ قُلْت إنْ كان الِاسْتِحْسَانُ كما نَقُولُ فَهُوَ نَوْعٌ من الْقِيَاسِ فَلَا وَجْهَ لِتَسْمِيَتِك بِهِ بِاسْمٍ آخَرَ وَلَئِنْ قُلْت لَا مُشَاحَّةَ في الِاصْطِلَاحِ قُلْنَا هُنَا يُوهِمُ أَنَّهُ دَلِيلٌ غَيْرُ الْقِيَاسِ فَقُلْ هو قِيَاسٌ في الْمَعْنَى وَلَهُ اسْمٌ آخَرُ في اللَّفْظِ وهو أَحَدُ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ وَحِينَئِذٍ فَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ السَّادِسُ أَنَّهُ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ في نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ تَقْتَصِرُ عنه عِبَارَتُهُ فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَفَوَّهَ بِهِ قال الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا هو بَيِّنٌ لِأَنَّ ما يَقْدِرُ على التَّعْبِيرُ عنه لَا يَدْرِي هو وَهْمٌ أو تَحْقِيقٌ وَرَدَّ عليه الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ ما يَحْصُلُ في النَّفْسِ من مَجْمُوعِ قَرَائِنِ الْأَقْوَالِ من عِلْمٍ أو ظَنٍّ لَا يَتَأَتَّى عن دَلِيلِهِ عِبَارَةٌ مُطَابِقَةٌ له ثُمَّ لَا يَلْزَمُ من الِاخْتِلَالِ بِالْعِبَارَةِ الْإِخْلَالُ بِالْمُعَبَّرِ عنه فإن تَصْحِيحَ الْمَعَانِي بِالْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ لَا بِالنُّطْقِ اللَّفْظِيِّ قال وَيَظْهَرُ لي أَنَّ هذا أَشْبَهَ ما يُفَسَّرُ بِهِ الِاسْتِحْسَانُ قُلْت وَعَلَى هذا يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ الْمُجْتَهِدُ فِيمَا غَلَبَ على ظَنِّهِ أَمَّا الْمُنَاظِرُ فَلَا يُسْمَعُ منه بَلْ لَا بُدَّ من بَيَانِهِ لِيَظْهَرَ خَطَؤُهُ من صَوَابِهِ وقال الْخُوَارِزْمِيُّ في الْكَافِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هذا هو مَحَلُّ الْخِلَافِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُجَّةً إذْ لَا شَاهِدَ له السَّابِعُ أَنَّهُ مِمَّا يَسْتَحْسِنُهُ الْمُجْتَهِدُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ وَحَدِيثِهِ من غَيْرِ دَلِيلٍ وَهَذَا هو ظَاهِرُ لَفْظِ الِاسْتِحْسَانِ وهو الذي حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عن أبي حَنِيفَةَ كما قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في تَعْلِيقِهِ قال وَأَنْكَرَهُ أَصْحَابُ أبي حَنِيفَةَ وقال الشَّيْخُ الشِّيرَازِيُّ إنَّهُ الذي يَصِحُّ عنه وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ من اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ وَهَذَا مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ قَوْلٌ في الشَّرِيعَةِ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَمُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وما اخْتَلَفْتُمْ فيه من شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُنْكِرُونَ هذا التَّفْسِيرَ لِمَا فيه من الشَّنَاعَةِ قُلْت وهو الصَّوَابُ في النَّقْلِ عن أبي حَنِيفَةَ وَفْد صَنَّفَ الشَّافِعِيُّ كِتَابًا في الْأُمِّ في الرَّدِّ على أبي حَنِيفَةَ في الِاسْتِحْسَانِ وقال من جُمْلَتِهِ قال أبو حَنِيفَةَ لَمَّا رَدَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ بين الْمُتَتَابِعَيْنِ أَرَأَيْت لو كَانَا في سَفِينَةٍ فَتَرَكَ الحديث الصَّحِيحَ بهذا
____________________
(4/392)
التَّخْمِينِ وقال في مَسْأَلَةِ شُهُودِ الزَّوَايَا الْقِيَاسُ أَنَّهُمْ قَذَفَةٌ يُحَدُّونَ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ لَكِنْ اسْتَحْسَنَ قَبُولَهَا وَرَجْمَ الْمَشْهُودِ عليه قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَيُّ اسْتِحْسَانٍ في قَتْلِ مُسْلِمِينَ وقال في الزَّوْجَيْنِ إذَا تَقَاذَفَا قال لها يا زَانِيَةُ فقالت بَلْ أنت زَانٍ لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ لِأَنِّي أَسْتَقْبِحُ أَنْ أُلَاعِنَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَحُدُّهَا قال الشَّافِعِيُّ وَأَقْبَحُ منه تَعْلِيلُ حُكْمِ اللَّهِ عَلَيْهِمَا انْتَهَى وَهَذَا صَرِيحٌ في أَنَّ الشَّافِعِيَّ فَهِمَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ مُرَادَهُ بِالِاسْتِحْسَانِ هذا فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِ أَصْحَابِهِ ذلك وقد احْتَجَّ أَصْحَابُنَا على بُطْلَانِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إلَى ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا فَجَعَلَ الْأَحْسَنَ ما كان كَذَلِكَ وَقَوْلُهُ وما اخْتَلَفْتُمْ فيه من شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ ولم يَقُلْ إلَى الِاسْتِحْسَانِ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ أَقْوَى من الِاسْتِحْسَانِ بِدَلِيلِ جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِهِ دُونَ الِاسْتِحْسَانِ فلم يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّمَ عليه الِاسْتِحْسَانُ وقد اسْتَدَلَّ الْخَصْمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ ما رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا على أَحْكَامٍ عَدَلُوا عن الْأُصُولِ فيها إلَى الِاسْتِحْسَانِ منها دُخُولُ الْوَاحِدِ إلَى الْحَمَّامِ لِيَسْتَعْمِلَ مَاءً غير مُقَدَّرٍ وَيَشْتَرِي الْمَأْكُولَ بِالْمُسَاوَمَةِ من غَيْرِ عَقْدٍ يَتَلَفَّظُ بِهِ فَدَلَّ على أَنَّ اسْتِحْسَانَ الْمُسْلِمِينَ حُجَّةٌ وَإِنْ لم يَقْتَرِنْ بِحُجَّةٍ وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عن الْآيَةِ بِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْأَخْذَ بِالْأَحْسَنِ دُونَ الْمُسْتَحْسَنِ وهو ما جاء بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا غَيْرُهُمَا وَالْحَدِيثُ مَوْقُوفٌ على ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ الْإِجْمَاعِ بِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ لَا بِالِاسْتِحْسَانِ
____________________
(4/393)
فَصْلٌ ما اسْتَحْسَنَهُ الشَّافِعِيُّ المراد ( ( ( والمراد ) ) ) منه قال ابن الْقَاصِّ لم يَقُلْ الشَّافِعِيُّ بِالِاسْتِحْسَانِ إلَّا في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ قال وَأَسْتَحْسِنُ في الْمُتْعَةِ أَنْ تُقَدَّرَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وقال رأيت بَعْضَ الْحُكَّامِ يَحْلِفُ على الْمُصْحَفِ وَذَلِكَ حَسَنٌ وقال في مُدَّةِ الشُّفْعَةِ وَأَسْتَحْسِنُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وقال الْخَفَّافُ في الْخِصَالِ قال الشَّافِعِيُّ بِالِاسْتِحْسَانِ في سِتَّةِ مَوَاضِعَ فذكر هذه الثَّلَاثَةَ وزاد قَوْلَهُ في بَابِ الصَّدَاقِ من أَعْطَاهَا بِالْخَلْوَةِ فَذَاكَ ضَرْبٌ من الِاسْتِحْسَانِ يَعْنِي قَوْلَهُ الْقَدِيمَ وَكَذَلِكَ في الشَّهَادَاتِ كَتَبَ قَاضٍ إلَى قَاضٍ ذلك اسْتِحْسَانٌ وَمَرَاسِيلُ سَعِيدٍ حَسَنٌ وقد أَجَابَ الْأَصْحَابُ منهم الْإِصْطَخْرِيُّ وابن الْقَاصِّ وَالْقَفَّالُ وَالسِّنْجِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إنَّمَا اسْتَحْسَنَ ذلك بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عليه وهو الِاسْتِحْسَانُ حُجَّةٌ أَيْ أَنَّهُ حَسَنٌ لِأَنَّ كُلَّ ما ثَبَتَتْ حُجَّتُهُ كان حَسَنًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَرَوَاهُ عن ابْنِ عُمَرَ وهو صَحَابِيٌّ فَاسْتَحْسَنَهُ على قَوْلِ غَيْرِهِ وقال الْقَفَّالُ إنَّمَا ذَكَرَهُ في الْقَدِيمِ بِنَاءً على قَوْلِهِ في تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ وقال الصَّيْرَفِيُّ في شَرْحِ الرِّسَالَةِ إنَّمَا اسْتَحَبَّ الْفَضْلَ ولم يُوجِبْهُ وَإِنَّمَا يُنْكَرُ الْقَضَاءُ بِالِاسْتِحْسَانِ فَأَمَّا أَنْ يُسْتَحَبَّ الْكَرَمُ وَالزِّيَادَةُ فَلَا يُنْكَرُ وَأَمَّا الثَّانِي فإن ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ الزُّبَيْرِ فَعَلَاهُ وَأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِاعْتِبَارِ ما فيه إرْهَابٌ وَزَجْرٌ عن الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ وَالتَّحْلِيفُ بِالْمُصْحَفِ تَعْظِيمٌ فَكَأَنَّهُ من بَابِ الْقِيَاسِ تَغْلِيظًا بِالْيَمِينِ كما غَلُظَتْ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ الشَّرِيفَيْنِ وقال الْقَفَّالُ هذا مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ أَلْبَتَّةَ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ الناس أَجْمَعُوا على تَأْجِيلِ الشُّفْعَةِ في قَرِيبٍ من الزَّمَانِ فَجَعَلَهُ هو مُقَدَّرًا بِثَلَاثَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى تَمَتَّعُوا في دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهِيَ حَدُّ الْقُرْبِ وَلِأَنَّهَا مُدَّةٌ مَضْرُوبَةٌ في خِيَارِ الشَّرْطِ وفي مَقَامِ الْمُسَافِرِ وفي
____________________
(4/394)
أَكْثَرِ مُدَّةِ الْمَسْحِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ في الْبَوَاقِي فإنه اسْتَحْسَنَ مَرَاسِيلَ سَعِيدٍ لِأَنَّهُ وَجَدَهَا مُسْنَدَةً وَأَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا عن صَحَابِيٍّ فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ حَيْثُ قال بِهِ كان لِدَلِيلٍ لَا بِاعْتِبَارِ مَيْلِ النَّفْسِ قال الْإِصْطَخْرِيُّ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يُسْتَحْسَنَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ إلَّا من بَابِ الْمُمَاثَلَةِ بِالِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ إلَى الْأُولَى وَإِنَّمَا الْمَذْمُومُ من الِاسْتِحْسَانِ هو الذي يُحَدِّثُهُ الْإِنْسَانُ عن نَفْسِهِ بِلَا مِثَالٍ كما في إيجَابِ الْحَدِّ بِشُهُودِ الزَّوَايَا قُلْت لَكِنْ رَأَيْت في سُنَنِ الشَّافِعِيِّ التي يَرْوِيهَا الْمُزَنِيّ عنه قال الطَّحَاوِيُّ سَمِعْت الْمُزَنِيّ يقول قال الشَّافِعِيُّ إذَا عَلِمَ صَاحِبُ الشُّفْعَةِ فَأَكْثَرُ ما يَجُوزُ له طَلَبُ الشُّفْعَةِ في ثَلَاثِهِ أَيَّامٍ فإذا كان في ثَلَاثِهِ أَيَّامٍ لم يَجُزْ طَلَبُهُ هذا اسْتِحْسَانٌ مِنِّي وَلَيْسَ بِأَصْلٍ انْتَهَى وَالْمُشْكَلُ فيه قَوْلُهُ وَلَيْسَ بِأَصْلٍ وَيَنْبَغِي تَأْوِيلُهُ على أَنَّ الْمُرَادَ ليس بِأَصْلٍ خَاصٍّ يَدُلُّ عليه لَا نَفْيِ الدَّلِيلِ أَلْبَتَّةَ وقال الْغَزَالِيُّ في الْبَسِيطِ قال الشَّافِعِيُّ لو كان بِرَأْسِ الْمُحْرِمِ هَوَامُّ فَنَحَّاهَا تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ ثُمَّ قال لَا أَدْرِي من أَيْنَ قُلْت ما قُلْت قال الْإِمَامُ في النِّهَايَةِ وَالْغَزَالِيُّ في الْبَسِيطِ هذا من قَبِيلِ اسْتِحْسَانِ أبي حَنِيفَةَ وهو مُشْكِلٌ فَالصَّحِيحُ أَنَّ ذلك من الشَّافِعِيِّ اسْتِحْسَانٌ فإنه بَيَّنَ أَنَّهُ لَا أَصْلَ له قُلْت ليس هذا من الِاسْتِحْسَانِ بَلْ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ أَنِّي لَا أَذْكُرُ دَلِيلَ ما قُلْتُهُ لِأَجْلِهِ لَا أَنَّهُ قَالَهُ من غَيْرِ دَلِيلٍ بِهَوَى نَفْسِهِ وقد وَقَعَ الِاسْتِحْسَانُ في كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ بِالْمَعْنَى السَّابِقِ في مَوَاضِعَ أُخْرَى منها قال وَحَسَنٌ أَنْ يَضَعَ الْمُؤَذِّنُ إصْبَعَهُ في أُذُنَيْهِ لِأَنَّ حَدِيثَ بِلَالٍ اشْتَمَلَ على ذلك ومنها قال في الْوَسِيطِ إنَّ الشَّافِعِيَّ ذَهَبَ في أَحَدِ قَوْلَيْهِ لِمَنْعِ قَرْضِ الْجَوَارِي مِمَّنْ هِيَ حَلَالٌ له اسْتِحْسَانًا ومنها قال في التَّغْلِيظِ على الْمُعَطِّلِ أَسْتَحْسِنُ إذَا حَلَفَ أَنْ يُسْأَلَ بِاَللَّهِ الذي خَلَقَك وَرَزَقَك ومنها قال الشَّافِعِيُّ أَسْتَحْسِنُ أَنْ يُتْرَكَ شَيْءٌ من نُجُومِ الْكِتَابَةِ ومنها إذَا قَالَا نَشْهَدُ أَنَّهُ لَا وَارِثَ له قال الشَّافِعِيُّ سَأَلْتُهُمَا عن ذلك فَإِنْ قَالَا هو لَا نَعْلَمُ فَذَا وَإِنْ قالوا تَيَقَّنَّاهُ قَطْعًا فَقَدْ أَخْطَئُوا لَكِنْ لَا تُرَدُّ بِذَلِكَ
____________________
(4/395)
شَهَادَتُهُمَا وَلَكِنْ أَرُدُّهَا اسْتِحْسَانًا حَكَاهُ ابن الصَّبَّاغِ من بَابِ الْإِقْرَارِ من الشَّامِلِ ومنها قال أبو زَيْدٍ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَوْجُهِ في الْجَارِيَةِ الْمُغَنِّيَةِ كُلُّ هذا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ الصِّحَّةُ ومنها قال الرَّافِعِيُّ في الْإِيلَاءِ في وَلِيِّ الْمَجْنُونَةِ وَحَسَنٌ أَنْ يَقُولَ الْحَاكِمُ لِلزَّوْجِ ومنها اسْتِحْسَانُ الشَّافِعِيِّ تَقْدِيرَ نَفَقَةِ الْخَادِمِ ومنها قال في الْوَسِيطِ إذَا أَخْرَجَ السَّارِقُ يَدَهُ الْيُسْرَى بَدَلَ الْيُمْنَى فَالِاسْتِحْسَانُ أَنْ لَا تُقْطَعَ وَقَالُوا في تَعَيُّنِ الرَّمْيِ في النِّضَالِ وَمِنْهَا قال الرُّويَانِيُّ فِيمَا إذَا قال أَمْهِلُونِي لِأَسْأَلَ الْفُقَهَاءَ أَعْنِي الْمُدَّعِيَ في الْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ اسْتَحْسَنَ فيها قُلُوبُنَا إمْهَالَهُ يَوْمًا وَذَكَرَ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في كِتَابِ اقْتِنَاصِ السَّوَانِحِ ثَلَاثَ صُوَرٍ تَرْجِعُ إلَى الِاسْتِحْسَانِ أو الْمَصَالِحِ قال بها الْأَصْحَابُ إحْدَاهَا الْحُصُرُ الْوَقْفُ وَنَحْوُهُ إذَا بَلِيَ قِيلَ إنَّهُ يُبَاعُ وَيُصْرَفُ في مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ وَمِثْلُهُ الْجِذْعُ الْمُنْكَسِرُ وَالدَّارُ الْمُنْهَدِمَةُ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَقِيلَ إنَّهُ يُحْفَظُ فإنه عَيْنُ الْوَقْفِ فَلَا يُبَاعُ وَهَذَا الْقِيَاسُ الثَّانِيَةُ حَقُّ التَّوْلِيَةِ على الْوَقْفِ قِيلَ إنَّهُ لِلْوَاقِفِ وَعَلَّلَ بِأَنَّهُ الْمُتَقَرِّبُ بِصَدَقَتِهِ فَهُوَ أَحَقُّ من يَقُومُ بِإِمْضَائِهَا وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ الثَّالِثَةُ إذَا أَعَارَ أَرْضًا لِلْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ فَبَنَى الْمُسْتَعِيرُ أو غَرَسَ ثُمَّ رَجَعَ وَاتَّفَقَا على أَنْ يَبِيعَ الْأَرْضَ وَالْبِنَاءَ لِثَالِثٍ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ فَقِيلَ هو كما لو كان لِهَذَا عَبْدٌ وَلِهَذَا عَبْدٌ فَبَاعَاهُمَا بِثَمَنٍ وَاحِدٍ وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ لِلْحَاجَةِ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ فَهُوَ اسْتِحْسَانٌ أو اسْتِصْلَاحٌ فَائِدَةٌ قَيَّدَ الطَّبَرِيُّ في الْعُدَّةِ مَحَلَّ الْخِلَافِ في الِاسْتِحْسَانِ بِالْمُخَالِفِ لِلْقِيَاسِ فَإِنْ لم يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ فَهُوَ جَائِزٌ كما اسْتَحْسَنَ الشَّافِعِيُّ الْحَلِفَ بِالْمُصْحَفِ وَنَظَائِرِهِ وهو رَاجِعٌ لِمَا سَبَقَ
____________________
(4/396)
دَلَالَةُ الِاقْتِرَانِ قال بها الْمُزَنِيّ وابن أبي هُرَيْرَةَ وَالصَّيْرَفِيُّ مِنَّا وأبو يُوسُفَ من الْحَنَفِيَّةِ وَنَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عن نَصِّ الْمَالِكِيَّةِ قال وَرَأَيْت ابْنَ نَصْرٍ يَسْتَعْمِلُهَا كَثِيرًا وَقِيلَ إنَّ مَالِكًا احْتَجَّ في سُقُوطِ الزَّكَاةِ عن الْخَيْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً فَقَرَنَ في الذِّكْرِ بين الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ لَا زَكَاةَ فيها إجْمَاعًا فَكَذَلِكَ الْخَيْلُ وَأَنْكَرَهَا الْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ الْقِرَانُ في النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ في الْحُكْمِ وَصُورَتُهُ أَنْ يَدْخُلَ حَرْفُ الْوَاوِ بين جُمْلَتَيْنِ تَامَّتَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ أو فِعْلٌ وَفَاعِلٌ بِلَفْظٍ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ في الْجَمِيعِ أو الْمَعْمُومَ في الْجَمِيعِ وَلَا مُشَارَكَةَ بَيْنَهُمَا في الْعِلَّةِ ولم يَدُلَّ دَلِيلٌ على التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى كُلُوا من ثَمَرِهِ
____________________
(4/397)
إذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يوم حَصَادِهِ وَقَوْلِهِ فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ وَكَاسْتِدْلَالِ الْمُخَالِفِ في أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ يُنَجِّسُهُ بِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لَا يَبُولَنَّ أحدكم في الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلُ فيه من الْجَنَابَةِ لِكَوْنِهِ مَقْرُونًا بِالنَّهْيِ عن الْبَوْلِ فيه وَالْبَوْلُ فيه يُفْسِدُهُ فَكَذَلِكَ الِاغْتِسَالُ فيه وهو غَيْرُ مَرْضِيٍّ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عن الِاغْتِسَالِ فيه لِمَعْنَى غَيْرِ الْمَعْنَى الذي مُنِعَ من الْبَوْلِ فيه لِأَجْلِهِ وَلَعَلَّ الْمَعْنَى في النَّهْيِ عن الِاغْتِسَالِ لَا تَرْتَفِعُ جَنَابَتُهُ كما هو مَذْهَبُ الْحُصَرِيِّ من أَصْحَابِنَا وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بها بِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ وَقِيَاسًا على الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ إذَا عُطِفَتْ على الْكَامِلَةِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ الشَّرِكَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ في النَّاقِصَةِ لِافْتِقَارِهَا إلَى ما تَتِمُّ بِهِ فإذا تَمَّتْ بِنَفْسِهَا لَا تَجِبُ الْمُشَارَكَةُ إلَّا فِيمَا يُفْتَقَرُ إلَيْهِ وَيَدُلُّ على فَسَادِ هذا الْمَذْهَبِ قَوْله تَعَالَى مُحَمَّدٌ رسول اللَّهِ وَاَلَّذِينَ معه أَشِدَّاءُ على الْكُفَّارِ فإن هذه الْجُمْلَةَ مَعْطُوفَةٌ على ما قَبْلَهَا وَلَا تَجِبُ لِلثَّانِيَةِ الشَّرِكَةُ في الرِّسَالَةِ وقَوْله تَعَالَى كُلُوا من ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يوم حَصَادِهِ وَالْإِيتَاءُ وَاجِبٌ دُونَ الْأَكْلِ وَالْأَكْلُ يَجُوزُ في الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَالْإِيتَاءُ لَا يَجِبْ إلَّا في خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ في كل كَلَامٍ تَامٍّ أَنْ يَنْفَرِدَ بِحُكْمِهِ وَلَا يُشَارِكُهُ فيه الْأَوَّلُ فَمَنْ ادَّعَى خِلَافَ هذا في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَلِدَلِيلٍ من خَارِجٍ لَا من نَفْسِ النَّظْمِ أَمَّا إذَا كان الْمَعْطُوفُ نَاقِصًا بِأَنْ لم يُذْكَرْ فيه الْخَبَرُ فَلَا خِلَافَ في مُشَارَكَتِهِ لِلْأَوَّلِ كَقَوْلِك زَيْنَبُ طَالِقٌ وَعَمْرَةٌ لِأَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ الْمُشَارَكَةَ وَأَمَّا إذَا كان بَيْنَهُمَا مُشَارَكَةٌ في الْعِلَّةِ فَيَثْبُتُ التَّسَاوِي من هذه الْحَيْثِيَّةِ لَا من جِهَةِ الْقِرَانِ احْتِجَاجُ أَصْحَابِنَا أَنَّ اللَّمْسَ حَدَثٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى أو جاء أَحَدٌ مِنْكُمْ من الْغَائِطِ أو لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ وَمِثْلُهُ عَطْفُ الْمُفْرَدَاتِ وَاحْتِجَاجُ الشَّافِعِيِّ على إيجَابِ الْعُمْرَةِ بِقَوْلِهِ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ قال الْبَيْهَقِيُّ قال الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه الْوُجُوبُ أَشْبَهَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ قَرَنَهَا بِالْحَجِّ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّهَا لِقَرِينَتِهَا إنَّمَا أَرَادَ بها لِقَرِينَةِ الْحَجِّ في الْأَمْرِ وهو قَوْلُهُ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فَكَانَ احْتِجَاجُهُ بِالْأَمْرِ دُونَ الِاقْتِرَانِ وقال الصَّيْرَفِيُّ في شَرْحِ الرِّسَالَةِ في حديث أبي سَعِيدٍ غُسْلُ الْجُمُعَةِ على كل مُحْتَلِمٍ وَالسِّوَاكُ وَأَنْ تَمَسَّ الطِّيبَ فيه دَلَالَةٌ على أَنَّ الْغُسْلَ غَيْرُ وَاجِبٍ لِأَنَّهُ قَرَنَهُ بِالسِّوَاكِ وَالطِّيبِ وَهُمَا غَيْرُ وَاجِبَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ وقال غَيْرُهُ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ على أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى الصُّبْحُ من حَيْثُ قِرَانُهَا بِالْقُنُوتِ في قَوْلِهِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ولم يُحَرِّمْ الْأَصْحَابُ خِطْبَةَ النِّكَاحِ على الْمُحْرِمِ مع أنها مُقَارِنَةٌ لِلنِّكَاحِ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يَخْطُبُ قال صَاحِبُ الْوَافِي وَلِأَصْحَابِنَا في الْأُصُولِ وَجْهٌ أَنَّ ما ثَبَتَ من الْحُكْمِ لِشَيْءٍ ثَبَتَ لِقَرِينِهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ قَائِلَهُ يُحَرِّمُ الْخِطْبَةَ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ لِلْقَرِينِ إلَّا بِأَنْ يُسَاوِيَهُ في اللَّفْظِ أو يُشَارِكَهُ في الْعِلَّةِ وقد بَيَّنَّا مُفَارَقَةَ الْخِطْبَةِ لِلْعَقْدِ وَهَكَذَا إذَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا في اللَّفْظِ ثُمَّ ثَبَتَ لِأَحَدِهِمَا
____________________
(4/398)
حُكْمٌ بِالْإِجْمَاعِ لم يَثْبُتْ أَيْضًا لِلْآخَرِ ذلك الْحُكْمُ إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ على التَّسْوِيَةِ كَاسْتِدْلَالِ الْمُخَالِفِ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ بَلْ يَجُوزُ بِالْخَلِّ وَنَحْوِهِ بِقَوْلِهِ حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ بِالْمَاءِ فَقَرَنَ بين الْحَتِّ وَالْقَرْصِ وَالْغَسْلِ بِالْمَاءِ وَأَجْمَعْنَا على أَنَّ الْحَتَّ وَالْقَرْصَ لَا يَجِبَانِ فَكَذَلِكَ الْغَسْلُ بِالْمَاءِ وقال بَعْضُهُمْ يُقَوِّي الْقَوْلَ بِهِ إذَا وَقَعَتْ حَادِثَةٌ لَا نَصَّ فيها كان رَدُّهَا إلَى ما قُرِنَ مَعَهَا من الْأَعْيَانِ في بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَوْلَى من رَدِّهَا إلَى غَيْرِ شَيْءٍ أَصْلًا هذا ما يُمْكِنُ خُرُوجُهُ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا إذَا عَطَفَ جُمْلَةً على جُمْلَةٍ فَإِنْ كَانَتَا تَامَّتَيْنِ كانت الْمُشَارَكَةُ في أَصْلِ الْحُكْمِ لَا في جَمِيعِ صِفَاتِهِ وقد لَا يَقْتَضِي مُشَارَكَةً أَصْلًا وَهِيَ التي تُسَمَّى وَاوُ الِاسْتِئْنَافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ على قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ فَإِنْ قَوْلَهُ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا تَعَلُّقَ لها بِمَا قَبْلَهَا وَلَا هِيَ دَاخِلَةٌ في جَوَابِ الشَّرْطِ وَإِنْ كانت الثَّانِيَةُ نَاقِصَةً شَارَكَتْ الْأُولَى في جَمِيعِ ما هِيَ عليه فإذا قال هذه طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهَذِهِ طَلُقَتْ الثَّانِيَةُ ثَلَاثًا بِخِلَافِ ما إذَا قال وَهَذِهِ طَالِقٌ لَا تَطْلُقُ إلَّا وَاحِدَةً لِاسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ بِتَمَامِهَا وَعَلَى هذا بَنَوْا بَحْثَهُمْ الْمَشْهُورَ في قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَسَبَقَ في بَابِ الْعُمُومِ وقد الْتَزَمَ ابن الْحَاجِبِ في أَثْنَاءِ كَلَامٍ له في مُخْتَصَرِهِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ ضَرَبَ زَيْدًا يوم الْجُمُعَةِ وَعَمْرًا يَتَقَيَّدُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ أَيْضًا وَهِيَ تَقْتَضِي أَنَّ عَطْفَ الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ عِنْدَهُ على الْكَامِلَةِ يَقْتَضِي مُشَارَكَتَهَا في أَصْلِ الْحُكْمِ وَتَفَاصِيلِهِ وَحُكِيَ ذلك عن ابْنِ عُصْفُورٍ من النَّحْوِيِّينَ
____________________
(4/399)
وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَكَلَامُهُمْ مُخْتَلِفٌ فَقَالُوا إذَا قال إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ أَنَّ الثَّانِيَةَ تَتَقَيَّدُ أَيْضًا بِالشَّرْطِ وَكَذَا لو قَدَّمَ الْجَزَاءَ وَقَالُوا فِيمَا إذَا قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِرْهَمٌ إنَّهُ لَا يَكُونُ الدِّرْهَمُ مُفَسِّرًا لِلْأَلْفِ بَلْ له تَفْسِيرُهَا بِمَا شَاءَ وهو مَذْهَبٌ وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ وَهَذِهِ وَأَشَارَ إلَى أُخْرَى فَهَلْ تَطْلُقُ أو تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ وَجْهَانِ وَلَوْ قال كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَأَنْتِ يا أُمَّ أَوْلَادِي فقال الْعَبَّادِيُّ لَا تَطْلُقُ فَرْعٌ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ من رَأْسِ الْمَالِ وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بها من الثُّلُثِ فَلَوْ قَرَنَهَا بِأَشْيَاءَ تَخْرُجُ من الثُّلُثِ كَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَسَقْيِ الْمَاءِ فقال ابن أبي هُرَيْرَةَ تُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ لِأَنَّ الِاقْتِرَانَ قَرِينَةٌ تُفِيدُ أَنَّهُ قَصَدَ كَوْنَهُ من الثُّلُثِ وَالْمَذْهَبُ خِلَافُهُ لِأَنَّ اقْتِرَانَ الشَّيْئَيْنِ في اللَّفْظِ لَا يُوجِبُ اقْتِرَانَهُمَا في الْحُكْمِ دَلَالَةُ الْإِلْهَامِ ذَكَرَهَا بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ وقال ما وَقَعَ في الْقَلْبِ من عَمَلِ الْخَيْرِ فَهُوَ إلْهَامٌ أو الشَّرِّ فَهُوَ وَسْوَاسٌ وقال بها بَعْضُ الشِّيعَةِ فِيمَا حَكَاهُ صَاحِبُ اللُّبَابِ قال الْقَفَّالُ وَلَوْ ثَبَتَتْ الْعُلُومُ بِالْإِلْهَامِ لم يَكُنْ لِلنَّظَرِ مَعْنًى ولم يَكُنْ في شَيْءٍ من الْعَالَمِ دَلَالَةٌ وَلَا عِبْرَةٌ وقد قال تَعَالَى سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا في الْآفَاقِ وفي أَنْفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لهم أَنَّهُ الْحَقُّ فَلَوْ كانت الْمَعَارِفُ إلْهَامًا لم يَكُنْ لِإِرَادَةِ الْأَمَارَاتِ وَجْهٌ قال وَيُسْأَلُ الْقَاتِلُ بهذا عن دَلِيلِهِ فَإِنْ احْتَجَّ بِغَيْرِ الْإِلْهَامِ فَقَدْ نَاقَضَ قَوْلَهُ وَإِنْ احْتَجَّ بِهِ أَبْطَلَ بِمِنْ ادَّعَى إلْهَامًا في إبْطَالِ الْإِلْهَامِ وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في بَابِ الْقَضَاءِ في حُجِّيَّةِ الْإِلْهَامِ خِلَافًا وَفَرَّعَا عليه أَنَّ الْإِجْمَاعَ هل يَجُوزُ انْعِقَادُهُ لَا عن دَلِيلٍ فَإِنْ قُلْنَا لم يَصِحَّ جَعْلُهُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا جَوَّزْنَا الِانْعِقَادَ لَا عن دَلِيلٍ وَإِلَّا فَلَا قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَائِلُ بِانْعِقَادِهِ لَا عن دَلِيلٍ هو قَوْلُ من جَعَلَ الْإِلْهَامَ دَلِيلًا قُلْت وقد اخْتَارَ جَمَاعَةٌ من الْمُتَأَخِّرِينَ اعْتِمَادَ الْإِلْهَامِ منهم الْإِمَامُ في تَفْسِيرِهِ في أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ وابن الصَّلَاحِ في فَتَاوِيهِ فقال إلْهَامُ خَاطِرٍ حَقٌّ من الْحَقِّ قال وَمِنْ عَلَامَاتِهِ أَنْ يُشْرَحَ له الصَّدْرُ وَلَا يُعَارِضَهُ مُعَارِضٌ من خَاطِرٍ آخَرَ وقال أبو عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ في كِتَابِ التَّذْكِرَةِ في أُصُولِ الدِّينِ ذَهَبَ بَعْضُ
____________________
(4/400)
الصُّوفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْمَعَارِفَ تَقَعُ اضْطِرَارًا لِلْعِبَادِ على سَبِيلِ الْإِلْهَامِ بِحُكْمِ وَعْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِشَرْطِ التَّقْوَى وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا أَيْ تُفَرِّقُونَ بِهِ بين الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ له مَخْرَجًا أَيْ مَخْرَجًا على كل ما الْتَبَسَ على الناس وَجْهُ الْحُكْمِ فيه وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ فَهَذِهِ الْعُلُومُ الدِّينِيَّةُ تَحْصُلُ لِلْعِبَادِ إذَا زَكَتْ أَنْفُسُهُمْ وَسَلِمَتْ قُلُوبُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى بِتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ وَامْتِثَالِ الْمَأْمُورَاتِ إذْ خَبَرُهُ صِدْقٌ وَوَعْدُهُ حَقٌّ فَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ بَعْدَ الْقَلْبِ لِحُصُولِ الْمُعَارَضَةِ فيه بِطَرِيقِ الْإِلْهَامِ بِحُكْمِ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ كَإِعْدَادِهِ بِإِحْضَارِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ فيه مع التَّفَطُّنِ لِوُجُوهِ لُزُومِ النَّتِيجَةِ عَقِيبَ النَّظَرِ لِقُدْرَةِ اللَّهِ اضْطِرَارًا وَلَا مَدْخَلَ لِلْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ فيه وَأَمَّا حُصُولُ هذه الْمَعَارِفِ على سَبِيلِ إلْهَامِ الْمُبْتَدَأِ من غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ يَكُونُ من الْعَبْدِ فَأَحَدُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ في الْعَقْلِ وَيَمْتَنِعُ في الْعَادَةِ وما ذُكِرَ من أَنَّ مَدَارَكَ الْعُلُومِ الْإِلْهَامُ يَحْتَاجُ إلَى هذا التَّفْصِيلِ وهو غَلَطٌ في الْحَصْرِ إذْ ليس هو جَمِيعُ الْمَدَارِكِ بَلْ مُدْرَكٌ وَاحِدٌ على ما بَيِّنَاهُ وَتَأَوَّلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَوْلَهُمْ وقال يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدُوا أَنَّ الْعُلُومَ كُلَّهَا ضَرُورِيَّةٌ مُخْتَرَعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وقال الْإِمَامُ شِهَابُ الدِّينِ السُّهْرَوَرْدِي رَحِمَهُ اللَّهُ في بَعْضِ أَمَالِيهِ مُحْتَجًّا على الْإِلْهَامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى وَقَوْلِهِ وَأَوْحَى رَبُّكَ إلَى النَّحْلِ فَهَذَا الْوَحْيُ مَجْرَدُ الْإِلْهَامِ ثُمَّ إنَّ من الْإِلْهَامِ عُلُومًا تَحْدُثُ في النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ الْمُطْمَئِنَّةِ قال عليه السَّلَامُ إنَّ من أُمَّتِي لَمُحَدَّثِينَ وَمُكَلَّمِينَ وَإِنَّ عُمَرَ لَمِنْهُمْ وقال تَعَالَى وَنَفْسٍ وما سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا فَأَخْبَرَ أَنَّ النُّفُوسَ مُلْهَمَةٌ فَالنَّفْسُ الْمُلْهَمَةُ عُلُومٌ لَدُنِّيَّةٌ هِيَ التي تَبَدَّلَتْ صِفَتُهَا وَاطْمَأَنَّتْ بَعْدَ أَنْ كانت أَمَّارَةً قال وَهَذَا النَّوْعُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ من عَالِمِ الْمُلْكِ وَالشَّهَادَةِ بَلْ تَخْتَصُّ فَائِدَتُهُ بِصَاحِبِهِ دُونَ غَيْرِهِ إذْ لم تَكُنْ له ثَمَرَةُ السِّرَايَةِ إلَى الْغَيْرِ على طَرِيقِ الْعُمُومِ وَإِنْ كانت له فَائِدَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِبَارِ على وَجْهٍ خَاصٍّ قال وَإِنَّمَا لم تَكُنْ له السِّرَايَةُ إلَى الْغَيْرِ على طَرِيقِ الْعُمُومِ عن مَفَاتِيحِ الْمُلْكِ لِكَوْنِ مَحَلِّهَا النَّفْسَ وَقُرْبِهَا من
____________________
(4/401)
الْأَرْضِ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيُّ بِخِلَافِ الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى وهو الْوَحْيُ الذي قام بِنَقْلِهِ الْمَلَكُ الْمُلَقَّى لِأَنَّ مَحَلَّهُ الْقَلْبُ الْمُجَانِسُ لِلرُّوحِ الرُّوحَانِيِّ الْعُلْوِيِّ قال وَبَيْنَهُمَا ثَالِثَةٌ وَهِيَ النَّفْثُ في الرَّوْعِ يَزْدَادُ بها الْقَلْبُ عِلْمًا بِاَللَّهِ وَبِإِدْرَاكِ الْمُغَيَّبَاتِ وَهِيَ رَحْمَةٌ خَاصَّةٌ تَكُونُ لِلْأَوْلِيَاءِ فيها نَصِيبٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ بَعْثًا في حَقِّ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَتَّصِلُ بِرُوحِ الْقُدْسِ وَتَرِدُ عليه كَمَوْجَةٍ تَرِدُ على الْبَحْرِ فَيَكْشِفُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم جِبْرِيلُ عَقِبَ وُرُودِهَا على جِبْرِيلَ عليه السَّلَامُ فَتَصِيرُ الرَّحْمَةُ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ وَاصِلَةً إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِنَفْثٍ في رَوْعِهِ انْتَهَى وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ بِمَا في الصَّحِيحِ من قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قد كان في الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ في أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ قال ابن وُهَيْبٍ يَعْنِي مُلْهَمُونَ وَلِهَذَا قال صَاحِبُ نِهَايَةِ الْغَرِيبِ جاء في الحديث تَفْسِيرُهُ أَنَّهُمْ الْمُلْهَمُونَ وَالْمُلْهَمُ هو الذي يُلْقَى في نَفْسِهِ الشَّيْءُ فَيُخْبِرُ بِهِ حَدْسًا وَفِرَاسَةً وهو نَوْعٌ يَخُصُّ اللَّهُ بِهِ من يَشَاءُ من عِبَادِهِ كَأَنَّهُمْ حُدِّثُوا بِشَيْءٍ فَقَالُوهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم اسْتَفْتِ قَلْبَك وَإِنْ أَفْتَاك الناس فَذَلِكَ في الْوَاقِعَةِ التي تَتَعَارَضُ فيها الشُّبَهُ وَالرِّيَبُ قال الْغَزَالِيُّ وَاسْتِفْتَاءُ الْقَلْبِ إنَّمَا هو حَيْثُ أَبَاحَ الشَّيْءَ أَمَّا حَيْثُ حُرِّمَ فَيَجِبُ الِامْتِنَاعُ ثُمَّ لَا يُعَوَّلُ على كل قَلْبٍ فَرُبَّ مُوَسْوَسٍ يَنْفِي كُلَّ شَيْءٍ وَرُبَّ مُسَاهِلٍ نَظَرَ إلَى كل شَيْءٍ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَذَيْنِ الْقَلْبَيْنِ وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِقَلْبِ الْعَالِمِ الْمُوَفَّقِ الْمُرَاقِبِ لِدَقَائِقِ الْأَحْوَالِ فَهُوَ الْمِحَكُّ الذي تُمْتَحَنُ بِهِ حَقَائِقُ الصُّوَرِ وما أَعَزَّ هذا الْقَلْبَ وقال الْبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الْإِيمَانِ هذا مَحْمُولٌ على أَنَّهُ يُعْرَفُ في شَأْنِهِ من عِلْمِ الْغَيْبِ ما عَسَى يَحْتَاجُ إلَيْهِ أو يحدث على لِسَانِ مَلَكٍ بِشَيْءٍ من ذلك كما وَرَدَ في بَعْضِ طُرُقِ الحديث وَكَيْفَ يُحَدَّثُ قال يَتَكَلَّمُ الْمَلَكُ على لِسَانِهِ وقد رُوِيَ عن إبْرَاهِيمَ بن سَعْدٍ أَنَّهُ قال في هذا الحديث يَعْنِي يُلْقَى في رَوْعِهِ تَنْبِيهٌ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بهذا في غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السَّلَامُ وَإِلَّا فَمِنْ جُمْلَةِ طُرُقِ الْوَحْيِ الْإِلْهَامُ
____________________
(4/402)
الْهَاتِفُ الذي يُعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ مِثْلُ الذي سَمِعُوهُ يَأْمُرُ بِغُسْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في قَمِيصِهِ كَذَا أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْمُسَوَّدَةِ في ذَيْلِ الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلَفِ فيها قال لَكِنَّهُ من بَابِ الْفَضَائِلِ وَكَذَلِكَ ما اسْتَخَارَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ كَقَوْلِ الْعَبَّاسِ في حَدْوِ الصَّارِخِ اللَّهُمَّ خِرْ لِنَبِيِّك وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْقُرْعَةِ فَعَلَهُ تَكْرِيمًا له قُلْت وقد صَنَّفَ ابن أبي الدُّنْيَا كِتَابًا في الْهَوَاتِفِ وَصَدَّرَهُ بِحَدِيثِ هَتَفَ جِبْرِيلُ بين السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
____________________
(4/403)
رُؤْيَا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في النَّوْمِ على وَجْهٍ حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ يَكُونُ حُجَّةً وَيَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ وقد سَبَقَ فيه مَزِيدُ بَيَانٍ في صَدْرِ الْكِتَابِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَنَامَ لَا يُثْبِتُ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَلَا بَيِّنَةً وَإِنْ كانت رُؤْيَا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حَقًّا وَالشَّيْطَانُ لَا يَتَمَثَّلُ بِهِ وَلَكِنْ النَّائِمُ ليس من أَهْلِ التَّحَمُّلِ وَالرِّوَايَةِ لِعَدَمِ تَحَفُّظِهِ وَأَمَّا الْمَنَامُ الذي رُوِيَ في الْأَذَانِ وَأَمَرَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِالْعَمَلِ بِهِ فَلَيْسَ الْحُجَّةُ فيه الْمَنَامَ بَلْ الْحُجَّةُ فيه أَمْرُهُ بِذَلِكَ في مَدَارِكِ الْعِلْمِ
____________________
(4/404)
كتاب التعادل والتراجيح
____________________
(4/405)
كِتَابٌ التَّعَادُلُ وَالتَّرَاجِيحُ وَالْقَصْدُ منه تَصْحِيحُ الصَّحِيحِ وَإِبْطَالُ الْبَاطِلِ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لم يُنَصِّبْ على جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَدِلَّةً قَاطِعَةً بَلْ جَعَلَهَا ظَنِّيَّةً قَصْدًا لِلتَّوْسِيعِ على الْمُكَلَّفِينَ لِئَلَّا يَنْحَصِرُوا في مَذْهَبٍ وَاحِدٍ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عليه وإذا ثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ في الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْأَدِلَّةُ الظَّنِّيَّةُ فَقَدْ تُعَارَضُ بِعَارِضٍ في الظَّاهِرِ بِحَسَبِ جَلَائِهَا وَخَفَائِهَا فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا وَالْعَمَلُ بِالْأَقْوَى وَالدَّلِيلُ على تَعَيُّنِ الْأَقْوَى أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ أو أَمَارَتَانِ فَإِمَّا أَنْ يَعْمَلَا جميعا أو يُلْغَيَا جميعا أو يُعْمَلَ بِالْمَرْجُوحِ وَالرَّاجِحِ وَهَذَا مُتَعَيَّنٌ وَفِيهِ فَصْلَانِ
____________________
(4/406)
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ في التَّعَارُضِ وَالنَّظَرِ في حَقِيقَتِهِ وَشُرُوطِهِ وَأَقْسَامِهِ وَأَحْكَامِهِ أَمَّا حَقِيقَتُهُ فَهُوَ تَفَاعُلٌ من الْعُرْضِ بِضَمِّ الْعَيْنِ وهو النَّاحِيَةُ وَالْجِهَةُ وَكَأَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَعَارِضَ يَقِفُ بَعْضُهُ في عُرْضِ بَعْضٍ أَيْ نَاحِيَتِهِ وَجِهَتِهِ فَيَمْنَعُهُ من النُّفُوذِ إلَى حَيْثُ وُجِّهَ وفي الِاصْطِلَاحِ تَقَابُلُ الدَّلِيلَيْنِ على سَبِيلِ الْمُمَانَعَةِ أَمَّا شُرُوطُهُ فَمِنْهَا التَّسَاوِي في الثُّبُوتِ فَلَا تَعَارُضَ بين الْكِتَابِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ إلَّا من حَيْثُ الدَّلَالَةُ وَمِنْهَا التَّسَاوِي في الْقُوَّةِ فَلَا تَعَارُضَ بين الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ بَلْ يُقَدَّمُ الْمُتَوَاتِرُ بِالِاتِّفَاقِ كَذَا نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ لَكِنْ قال ابن كَجٍّ في كِتَابِهِ إذَا وَرَدَ خَبَرَانِ أَحَدُهُمَا مُتَوَاتِرٌ وَالْآخَرُ آحَادٌ أو آيَةٌ وَخَبَرٌ ولم يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُهُمَا وَكَانَا يُوجِبَانِ الْعَمَلَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ يَتَعَارَضَانِ وَيَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِمَا لِاسْتِوَائِهِمَا في لُزُومِ الْحُجَّةِ لو انْفَرَدَ كُلٌّ مِنْهُمَا فلم يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا مَزِيَّةٌ على الْآخَرِ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في تَعَارُضِ الظَّاهِرِ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا يُقَدَّمُ الْكِتَابُ لِخَبَرِ مُعَاذٍ وَالثَّانِي يُقَدَّمُ السُّنَّةُ لِأَنَّهَا الْمُفَسِّرَةُ لِلْكِتَابِ وَالْمُبَيِّنَةُ له وَالثَّالِثُ التَّعَارُضُ وَصَحَّحَهُ وَاحْتَجَّ عليه بِالِاتِّفَاقِ السَّابِقِ وَزَيَّفَ الثَّانِيَ بِأَنَّهُ ليس الْخِلَافُ في السُّنَّةِ الْمُفَسِّرَةِ بَلْ الْمُعَارِضَةُ قُلْت وَلِهَذَا نُقِلَ عن أَحْمَدَ أَنَّهُ كان يُقَدِّمُ السُّنَّةَ على الْكِتَابِ بِطَرِيقِ الْبَيَانِ كَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَنَحْوِهِ قال بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَلَيْسَ هذا مُخَالِفًا لِمَا حَكَى من تَقْدِيمِ الْكِتَابِ على السُّنَّةِ لِأَنَّهُ دَلَّ الدَّلِيلُ على كَوْنِهِ بَيَانًا فَيُرَجَّحُ بِاعْتِبَارِ ذلك لَا بِطَرِيقِ تَرْجِيحِ النَّوْعِ على النَّوْعِ وَسَبَقَ في بَابِ
____________________
(4/407)
التَّخْصِيصِ الْخِلَافُ في قِيَاسِ نَصٍّ خَاصٍّ إذَا عَارَضَ عُمُومَ نَصٍّ آخَرَ مَذَاهِبُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا اتِّفَاقُهُمَا في الْحُكْمِ مع اتِّحَادِ الْوَقْتِ وَالْمَحَلِّ وَالْجِهَةِ فَلَا امْتِنَاعَ بين الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ في زَمَانَيْنِ في مَحَلٍّ أو مَحَلَّيْنِ أو مَحَلَّيْنِ في زَمَانٍ أو بِجِهَتَيْنِ كَالنَّهْيِ عن الْبَيْعِ في وَقْتِ النِّدَاءِ مع الْجَوَازِ وَذَكَرَ الْمُنَاطَقَة شُرُوطَ التَّنَاقُضِ في الْقَضَايَا الشَّخْصِيَّةِ ثَمَانِيَةٌ اتِّحَادُ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ وَالْإِضَافَةِ وَالْجُزْءِ وَالْكُلِّ وفي الْقُوَّةِ وَالْفِعْلِ وفي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وزاد بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ تَاسِعًا وهو اتِّحَادُهَا في الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لِيَخْرُجَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى وَتَرَى الناس سُكَارَى وما هُمْ بِسُكَارَى وهو رَاجِعٌ إلَى الْإِضَافَةِ أَيْ يَرَاهُمْ بِالْإِضَافَةِ إلَى أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ سُكَارَى مَجَازًا وما هُمْ بِسُكَارَى بِالْإِضَافَةِ إلَى الْخَمْرِ وَمِنْهُمْ من رَدَّ الثَّمَانِيَةَ إلَى ثَلَاثَةٍ وَهِيَ اتِّحَادُ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ وَالزَّمَانِ وَمِنْهُمْ من يَرُدُّهَا إلَى الْأَوَّلَيْنِ لِانْدِرَاجِ وَحِدَةِ الزَّمَانِ تَحْتَ وَحِدَةِ الْمَحْمُولِ وَمِنْهُمْ من يَرُدُّهَا إلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ وهو الِاتِّحَادُ في النِّسْبَةِ الْحُكْمِيَّةِ لَا غير فَتَنْدَرِجُ الشُّرُوطُ الثَّمَانِيَةُ تَحْتَ هذا الشَّرْطِ الْوَاحِدِ وَنَبَّهَ الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ الْمَحْصُولِ على أَنَّ هذه الشُّرُوطَ ليس الْمُرَادُ بها اعْتِبَارُهَا في تَنَاقُضِ كل وَاحِدَةٍ وَاحِدَةً من الْقَضَايَا بَلْ الْقَضِيَّةُ إنْ كانت مَكَانِيَّةً اُعْتُبِرَ فيها وَحْدَةُ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ وَالْمَكَانِ كَقَوْلِنَا زَيْدٌ جَالِسٌ زَيْدٌ ليس بِجَالِسٍ وَإِنْ كانت زَمَانِيَّةً اُعْتُبِرَ فيها وَحْدَةُ الزَّمَانِ وَبِالْجُمْلَةِ فَوَحْدَةُ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ مُعْتَبَرَةٌ في تَنَاقُضِ الْقَضَايَا بِأَسْرِهَا وَأَمَّا بَقِيَّةُ الشُّرُوطِ فَبِحَسَبِ ما يُنَاسِبُهَا قَضِيَّةً قَضِيَّةً فَافْهَمْهُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَاحِثَ في أُصُولِ الشَّرْعِ الثَّابِتَةِ في نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَجِدُ ما يُحَقِّقُ هذه الشُّرُوطَ فَإِذًا لَا تَنَاقُضَ فيها وَأَمَّا أَقْسَامُهُ فَبِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ عَشَرَةٌ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ أَرْبَعَةٌ ثُمَّ يَقَعُ بين كل وَاحِدٍ منها وَبَاقِيهَا فَيَقَعُ بين الْكِتَابِ وَالْكِتَابِ وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالسُّنَّةِ وَالسُّنَّةِ وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالْقِيَاسِ فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ وَبَيْنَ السُّنَّةِ وَالسُّنَّةِ وَبَيْنَ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَبَيْنَ السُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ وَبَيْنَ الْإِجْمَاعِ وَالْإِجْمَاعِ وَبَيْنَ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ وَالْقِيَاسِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ أَمَّا التَّعَارُضُ بين الْكِتَابِ وَالْكِتَابِ فَلَا حَقِيقَةَ له في نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنَّمَا قد يُظَنُّ
____________________
(4/408)
التَّعَارُضُ بَيْنَهُ ثُمَّ لَا بُدَّ من دَفْعِهِ بِحَمْلِ عَامٍّ على خَاصٍّ أو مُطْلَقٍ على مُقَيَّدٍ أو مُجْمَلٍ على مُبَيَّنٍ وَغَيْرِ ذلك من التَّصَرُّفَاتِ فَأَمَّا التَّعَارُضُ بين الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنْ كان الْخَبَرُ مُتَوَاتِرًا فَالْقَوْلُ فيه كَتَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ وَإِنْ لم يَكُنْ مُتَوَاتِرًا فَالْكِتَابُ مُقَدَّمٌ على ما سَبَقَ وَأَمَّا التَّعَارُضُ بين الْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِنْ ثَبَتَ عِصْمَةُ الْإِجْمَاعِ لم يُتَصَوَّرْ كَالْآيَتَيْنِ وَإِلَّا فَالْكِتَابُ مُقَدَّمٌ وَأَمَّا التَّعَارُضُ بين الْكِتَابِ وَالْقِيَاسِ فَالْكِتَابُ مُقَدَّمٌ طَبْعًا لِعِصْمَتِهِ دُونَ الْقِيَاسِ وَأَمَّا تَعَارُضُ السُّنَّتَيْنِ فَإِنْ كَانَتَا مُتَوَاتِرَيْنِ فَكَالْكِتَابِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَإِنْ كَانَتَا آحَادًا طُلِبَ تَرْجِيحُ إحْدَاهُمَا على الْأُخْرَى بِطَرِيقَةٍ فَإِنْ تَعَذَّرَ فَالْخِلَافُ في التَّخْيِيرِ أو التَّسَاقُطِ وَإِنْ كان إحْدَاهُمَا مُتَوَاتِرًا وَالْأُخْرَى آحَادًا فَالْمُتَوَاتِرُ وَأَمَّا تَعَارُضُ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِنْ كَانَا قَطْعِيَّيْنِ لم يَكُنْ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا كَالْآيَتَيْنِ وَإِنْ كان الْإِجْمَاعُ قَطْعِيًّا مع خَبَرِ الْوَاحِدِ فَالْإِجْمَاعُ مُقَدَّمٌ وَإِنْ كان ظَنِّيًّا مع خَبَرِ الْوَاحِدِ فَقَدْ تَعَارَضَ دَلِيلَانِ وَالِاحْتِمَالَاتُ ثَلَاثَةٌ ثَالِثُهَا يُقَدَّمُ الْإِجْمَاعُ اللَّفْظِيُّ الْمُتَوَاتِرُ دُونَ السُّكُوتِيِّ وَنَحْوِهِ وَأَمَّا تَعَارُضُ السُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ فَلَا شَكَّ في تَقَدُّمِ قَاطِعِ السُّنَّةِ عليه أَمَّا السُّنَّةُ غَيْرُ الْمَقْطُوعِ بها فَإِنْ كان الْقِيَاسُ جَلِيًّا فَفِي تَقْدِيمِهِ عليها وَعَكْسِهِ تَرَدُّدٌ بِنَاءً على أَنَّهُ دَلَالَةٌ لَفْظِيَّةٌ أو قِيَاسِيَّةٌ وَإِنْ كان غير جَلِيٍّ قُدِّمَ الْخَبَرُ وَأَمَّا تَعَارُضُ الْإِجْمَاعِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِنْ ثَبَتَ عِصْمَتُهُمَا لم يَتَقَدَّرْ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا كَالْآيَتَيْنِ وَإِنْ لم يَثْبُتْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أو يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بِقُوَّةِ مُسْتَنَدِهِ أو صِفَتِهِ كَتَقَدُّمِ الْإِجْمَاعِ النَّصِّيِّ على الْقِيَاسِيِّ وَالنُّطْقِيِّ على السُّكُوتِيِّ وَاللَّفْظِيِّ الْحَقِيقِيِّ على الْمَعْنَوِيِّ وَأَمَّا تَعَارُضُ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ فَإِنْ ثَبَتَ عِصْمَةُ الْإِجْمَاعِ قُدِّمَ وَإِنْ لم يَثْبُتْ فَهُوَ تَقَدُّمُ الشَّبَهِيِّ وَالطَّرْدِيِّ وَنَحْوِهِمَا من الْأَقْيِسَةِ الضَّعِيفَةِ أَمَّا الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ مع الْإِجْمَاعِ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ وَأَمَّا تَعَارُضُ الْقِيَاسِ وَالْقِيَاسِ فَهُمَا إمَّا جَلِيَّانِ أو خَفِيَّانِ أو أَحَدُهُمَا جَلِيٌّ دُونَ الْآخِرِ فَالْجَلِيَّانِ يُسْتَعْمَلُ بَيْنَهُمَا التَّرْجِيحُ وَغَيْرُ الْجَلِيَّيْنِ لَا بُدَّ من التَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا جَلِيًّا قُدِّمَ على غَيْرِ الْجَلِيِّ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ
____________________
(4/409)
وَأَمَّا تَقْدِيرُ أَقْسَامِ التَّعَارُضِ من جِهَةِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ قَطْعًا وَمَفْهُومًا وَعُمُومًا وَخُصُوصًا وَغَيْرَ ذلك فَكَثِيرٌ وَسَنُفَصِّلُهَا تَنْبِيهٌ يَقَعُ التَّعَارُضُ في الشَّرْعِ بين الدَّلِيلَيْنِ كما ذَكَرْنَا وَبَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ بِأَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ لِزَيْدٍ بِكَذَا وَلِعَمْرٍو بِهِ وَبَيْنَ الْأَصْلِيَّيْنِ كما لو قَدَّ مَلْفُوفًا وَزَعَمَ الْوَلِيُّ حَيَاتَهُ وَالْجَانِي مَوْتَهُ فإن الْأَصْلَ بَقَاءُ الْحَيَاةِ وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ وَبَيْنَ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ كَثِيَابِ الْكُفَّارِ وَيَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ في ذلك كُلِّهِ وَاتَّفَقُوا على تَغْلِيبِ الْأَصْلِ على الْغَالِبِ في الدَّعَاوَى وَعَلَى تَغْلِيبِ الْغَالِبِ على الْأَصْلِ في الْبَيِّنَةِ فإن الْغَالِبَ صِدْقُهَا وَالْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في بَابِ زَكَاةِ الْفِطْرِ من النِّهَايَةِ تَقَابُلُ الْأَصْلَيْنِ مِمَّا يَسْتَهِينُ بِهِ الْفُقَهَاءُ وهو من غَوَامِضِ مَآخِذِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَكَيْفَ يَسْتَجِيزُ الْمُحَصِّلُ اعْتِقَادَ تَقَابُلِ أَصْلَيْنِ لَا يَرْجَحُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ وَحَكَى فِيهِمَا النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ وَهَذَا لو فُرِضَ لَكَانَ مُبَاهَتَةً وَمُحَاوَرَةً لَا سَبِيلَ إلَى بَتِّ قَوْلٍ فيها في فَتْوَى أو حُكْمٍ إذَا عَلِمَتْ ذلك فَالتَّعَادُلُ بين الدَّلِيلَيْنِ الْقَطْعِيَّيْنِ الْمُتَنَافِيَيْنِ مُمْتَنِعٌ اتِّفَاقًا سَوَاءٌ كَانَا عَقْلِيَّيْنِ أو نَقْلِيَّيْنِ وَكَذَلِكَ بين الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ لِتَقَدُّمِ الْقَطْعِيِّ لِأَنَّهُ لو وَقَعَ لَاجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ أو ارْتَفَعَا وَهَذَا فيه أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بِنَاءٌ منهم على أَنَّ الْعُلُومَ غَيْرُ مُتَفَاوِتَةٍ فَإِنْ قُلْنَا بِتَفَاوُتِهِمَا اتَّجَهَ التَّرْجِيحُ بين الْقَطْعِيَّاتِ لِأَنَّ بَعْضَهَا أَجْلَى من بَعْضٍ ثَانِيهَا أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى ما في نَفْسِ الْأَمْرِ وَأَمَّا في الْأَذْهَانِ فَجَائِزٌ فإنه قد يَتَعَارَضُ عِنْدَ الْإِنْسَانِ دَلِيلَانِ قَاطِعَانِ بِحَيْثُ يَعْجِزُ عن الْقَدْحِ في أَحَدِهِمَا وقد ذَكَرُوا هذا التَّفْصِيلَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَمَارَتَيْنِ فَلْيَجِئْ مِثْلُهُ في الْقَاطِعَيْنِ وَأَمَّا التَّعَادُلُ بين الْأَمَارَتَيْنِ في الْأَذْهَانِ فَصَحِيحٌ وَأَمَّا في نَفْسِ الْأَمْرِ على مَعْنَى أَنَّهُ يُنَصِّبُ اللَّهُ تَعَالَى على الْحُكْمِ أَمَارَتَيْنِ مُتَكَافِئَتَيْنِ في نَفْسِ الْأَمْرِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا مُرَجِّحٌ فَاخْتَلَفُوا فيه فَمَنَعَهُ الكرخي وَغَيْرُهُ وَقَالُوا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ أَرْجَحَ وَإِنْ جَازَ خَفَاؤُهُ على بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ اعْتِدَالِهِمَا قال إلْكِيَا وهو الظَّاهِرُ من مَذْهَبِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَبِهِ قال الْعَنْبَرِيُّ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ إنَّهُ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ وَنَصَرَهُ
____________________
(4/410)
وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ عن أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ وهو الذي ذَكَرَهُ الْقَاضِي وأبو الْخَطَّابِ من أَصْحَابِهِ وَصَارَ صَائِرُونَ إلَى أَنَّ ذلك جَائِزٌ وهو مَذْهَبُ أبي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَنُقِلَ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ قال إلْكِيَا وهو الْمَنْقُولُ عن الشَّافِعِيِّ ثُمَّ اخْتَارَ إلْكِيَا قَوْلَ الْكَرْخِيِّ وَنَقَلَهُ عن إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وقال إنَّهُ قَطَعَ بِهِ قال وَالِاسْتِحَالَةُ مُتَلَقَّاةٌ من الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ وما نَقَلَهُ عن الشَّافِعِيِّ إنْ كان من جِهَةِ قَوْلِهِ بِالْقَوْلَيْنِ في مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ فَلَا يَدُلُّ لِأَنَّهُ تَعَادُلٌ ذِهْنِيٌّ وَلَا نِزَاعَ فيه وَإِنْ كان من جِهَةِ قَوْلِهِ في الْبَيِّنَتَيْنِ فَالْمَأْخَذُ مُخْتَلِفٌ بَلْ نَصَّ على الِامْتِنَاعِ في الرِّسَالَةِ فقال في بَابِ عِلَلِ الْأَحَادِيثِ ولم نَجِدْ عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم حَدِيثَيْنِ نُسِبَا لِلِاخْتِلَافِ فَكَشَفْنَاهُ إلَّا وَجَدْنَا لَهُمَا مَخْرَجًا وَعَلَى أَحَدِهِمَا دَلَالَةٌ بِمُوَافَقَةِ كِتَابٍ أو سُنَّةٍ أو غَيْرِهِ من الدَّلَائِلِ انْتَهَى وَقَرَّرَهُ الصَّيْرَفِيُّ في شَرْحِهَا فقال قد صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَبَدًا حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ مُتَضَادَّانِ يَنْفِي أَحَدُهُمَا ما يُثْبِتُهُ الْآخَرُ من غَيْرِ جِهَةِ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ وَالْإِجْمَالِيِّ وَالتَّفْسِيرِ إلَّا على وَجْهِ النَّسْخِ وَإِنْ لم يَجِدْهُ وقد حَكَى الْجُرْجَانِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ قَوْلَ الْكَرْخِيِّ بِالْمَنْعِ ثُمَّ قال وهو اخْتِلَافُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في سُؤْرِ الْحِمَارِ لَمَّا تَسَاوَى عِنْدَهُ الدَّلِيلَانِ تَوَقَّفَ عنه وَلَيْسَ كما قال لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لم يُخَيِّرْ في الْأَخْذِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ بَلْ أَخَذَ بِالْأَحْوَطِ وَجَمَعَ بين الدَّلِيلَيْنِ فقال يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ نعم حُكِيَ عنه التَّخْيِيرُ في وُجُوبِ زَكَاةِ الْخَيْلِ وَعَدَمِهِ وَهَذَا هو الْخِلَافُ الذي يُعَبِّرُونَ عنه بِتَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ وَالرَّاجِحُ كما قَالَهُ في اللُّمَعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَلْ لَا بُدَّ من تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا على الْآخَرِ وهو الذي نَصَرَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ وقال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ إنَّهُ الْأَشْبَهُ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ أُحَادِيَّةً تُؤَدِّي إلَى تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ وَتَعَارُضِهَا وهو خِلَافُ مَوْضُوعِ الشَّرِيعَةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ خُلُوُّ الْوَقَائِعِ عن حُكْمِ اللَّهِ وَفَصَّلَ الْقَاضِي من الْحَنَابِلَةِ بين مَسَائِلِ الْأُصُولِ فَيَمْتَنِعُ وَبَيْنَ الْفُرُوعِ فَيَجُوزُ فَإِنْ أَرَادَ بِالْأُصُولِ الْقَطْعِيَّ فَلَيْسَ خِلَافُنَا فيه ثُمَّ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ هذا الْخِلَافُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ في الْوُقُوعِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ في التَّجْوِيزِ الْعَقْلِيِّ قُلْت هو جَارٍ فِيهِمَا فَقَدْ حَكَى ابن فُورَكٍ قَوْلًا بِامْتِنَاعِ وُجُودِ خَبَرَيْنِ لَا تَرْجِيحَ بَيْنَهُمَا وَعَزَاهُ ابن بَرْهَانٍ لِأَحْمَدَ وَالْإِمَامِ وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في خِلَافِ تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَنَقَلَ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ على جَوَازِهِ وَوُقُوعِهِ وقد قال عُثْمَانُ رضي اللَّهُ عنه لَمَّا سُئِلَ عن الْجَمْعِ بين
____________________
(4/411)
الْأُخْتَيْنِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ فقال حَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ وَأَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ ثُمَّ قَضِيَّةُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في مَوْضِعِ أَنَّ الْجَوَازَ جَارٍ سَوَاءٌ قُلْنَا الْمُصِيبُ وَاحِدٌ أو كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وقال الْقَاضِي وَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَالْغَزَالِيُّ وابن الصَّبَّاغِ التَّرْجِيحُ بين الظَّوَاهِرِ الْمُتَعَارِضَةِ إنَّمَا يَصِحُّ على قَوْلِ من رَأَى أَنَّ الْمُصِيبَ في الْفُرُوعِ وَاحِدٌ وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَلَا مَعْنَى لِتَرْجِيحِ ظَاهِرٍ على ظَاهِرٍ لِأَنَّ الْكُلَّ صَوَابٌ عِنْدَهُ وَاخْتَارَ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ أَنَّ تَعَادُلَ الْأَمَارَتَيْنِ على حُكْمٍ وَاحِدٍ في فِعْلَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ كَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْنِ من الْإِبِلِ فإن وَاجِبَهُ أَرْبَعُ حِقَاقٍ أو خَمْسُ بَنَاتٍ لَبُونٍ وَأَمَّا تَعَارُضُهُمَا على حُكْمَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ كَالْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ مَثَلًا فإنه جَائِزٌ عَقْلًا وَلَكِنَّهُ مُمْتَنِعٌ شَرْعًا التَّفْرِيعُ التَّعَادُلُ الذِّهْنِيُّ حُكْمُهُ الْوَقْفُ أو التَّسَاقُطُ أو الرُّجُوعُ إلَى غَيْرِهِمَا وَأَمَّا التَّعَادُلُ في نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ وَتَعَادَلَا وَعَجَزَ الْمُجْتَهِدُ عن التَّرْجِيحِ وَتَحَيَّرَ ولم يَجِدْ دَلِيلًا آخَرَ فَاخْتَلَفُوا على مَذَاهِبَ أَحَدِهَا أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ وَبِهِ قال الْجُبَّائِيّ وَابْنُهُ أبو هَاشِمٍ قال إلْكِيَا وَسَوَّيَا في ذلك بين تَعَارُضِ الْخَبَرَيْنِ وَالْقِيَاسَيْنِ وَنَقَلَهُ الرَّازِيَّ وَالْبَيْضَاوِيُّ عن الْقَاضِي وَاَلَّذِي في التَّقْرِيبِ أَنَّهُ رَأْيٌ لِلْقَائِلِينَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالثَّانِي التَّسَاقُطُ كَالْبَيِّنَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا وَيُطْلَبُ الْحُكْمُ من مَوْضِعٍ آخَرَ وَيَرْجِعُ إلَى الْعُمُومِ أو إلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَهَذَا ما قَطَعَ بِهِ ابن كَجٍّ في كِتَابِهِ قال لِأَنَّ دَلَائِلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا تَتَعَارَضُ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِتَعَارُضِهِمَا على وَهَائِهَا جميعا أو وَهَاءِ أَحَدِهَا غير أَنَّا لَا نَعْرِفُهُ فَأَسْقَطْنَاهَا جميعا وَكَلَامُهُ يُشْعِرُ بِتَفْرِيعِهِ على الْقَوْلِ بِمَنْعِ التَّعَادُلِ وَنَقَلَهُ إلْكِيَا عن الْقَاضِي وَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أَهْلِ الظَّاهِرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَدِيثَيْنِ وَأَنْكَرَهُ ابن حَزْمٍ في كِتَابِ الْإِعْرَابِ وقال إنَّمَا هو بَعْضُ شُيُوخِنَا وهو خَطَأٌ بَلْ الْوَاجِبُ الْأَخْذُ بِالزَّائِدِ إذَا لم يَقْدِرْ على اسْتِعْمَالِهَا جميعا فَاسْتَثْنَى أَحَدَهُمَا من الْآخِرِ الثَّالِثُ إنْ كان التَّعَارُضُ بين حَدِيثَيْنِ تَسَاقَطَا وَلَا يُعْمَلُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أو بين قِيَاسَيْنِ فَيَتَخَيَّرُ حَكَاهُ ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ عن الْقَاضِي وَنَصَرَهُ وَالْفَرْقُ أَنَّا نَقْطَعُ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ما يَتَكَلَّمُ بِهِمَا فَأَحَدُهُمَا مَنْسُوخٌ قَطْعًا ولم نَعْلَمْهُ فَتَرَكْنَاهُمَا بِخِلَافِ الْقِيَاسَيْنِ وقد عُرِفَ أَنَّ الْقَاضِيَ نُسِبَ إلَيْهِ كُلٌّ من هذه الْأَقْوَالِ
____________________
(4/412)
الرَّابِعُ الْوَقْفُ كَالتَّعَادُلِ الذِّهْنِيِّ حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ وَجَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ وَاسْتَبْعَدَهُ الْهِنْدِيُّ إذْ الْوَقْفُ فيه إلَى غَايَةٍ وَأَمَدٍ إذْ لَا يُرْجَى فيه ظُهُورُ الرُّجْحَانِ وَإِلَّا لم تَكُنْ مَسْأَلَتَنَا بِخِلَافِ التَّعَادُلِ الذِّهْنِيِّ فإنه يَتَوَقَّفُ فيه إلَى أَنْ يَظْهَرَ الْمُرَجِّحُ قُلْت لَعَلَّ قَائِلَهُ أَرَادَ بِالتَّوَقُّفِ عن الْحُكْمِ وَالْتِحَاقِهِمَا بِالْوَقَائِعِ قبل وُرُودِ الشَّرْعِ فَيَجِيءُ فيه الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ لَا وَقْفُ خَبَرِهِ ولم يذكر الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ غَيْرَهُ قال وَهَذَا حُكْمُ الْأُصُولِيِّ وَلَكِنْ بِمَا يَرَاهُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ إذَا كانت مُتَعَلِّقَةً بِالْمُفْتِينَ ولم يَشْعُرْ الزَّمَانُ منهم فَلَا يَقَعُ مِثْلُ هذه الْوَقْعَةِ وَمِنْ هَاهُنَا حَكَى ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ عن الْإِمَامِ امْتِنَاعَ وُجُودِ خَبَرَيْنِ لَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا على الْآخَرِ وَالْخَامِسُ يَأْخُذُ بِالْأَغْلَظِ كما حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَالسَّادِسُ يُصَارُ إلَى التَّوْزِيعِ إنْ أَمْكَنَ تَنْزِيلُ كل أَمَارَةٍ على أَمْرٍ وَالْأُخْرَى على غَيْرِهِ كما في الثُّلُثَيْنِ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا على قَوْلٍ وَكَمَا في الشُّفْعَةِ تُوَزَّعُ على عَدَدِ الرُّءُوسِ وَتَارَةً على عَدَدِ الْأَنْصِبَاءِ وَالسَّابِعُ إنْ وَقَعَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَاجِبَاتِ فَالتَّخْيِيرُ إذْ لَا يَمْتَنِعُ التَّخْيِيرُ في الشَّرْعِ كَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْنِ من الْإِبِلِ وَإِنْ وَقَعَ بِالنِّسْبَةِ إلَى حُكْمَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ كَالْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ فَالتَّسَاقُطُ وَالرُّجُوعُ إلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ ذَكَرَهُ في الْمُسْتَصْفَى وَالثَّامِنُ يُقَلِّدُ عَالِمًا أَكْبَرَ منه وَيَصِيرُ كَالْعَامِّيِّ لِعَجْزِهِ عن الِاجْتِهَادِ حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالتَّاسِعُ أَنَّهُ كَالْحُكْمِ قبل وُرُودِ الشَّرْعِ فَتَجِيءُ فيه الْأَقْوَالُ الْمَشْهُورَةُ حَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ وهو غَيْرُ قَوْلِ الْوَقْفِ على ما سَبَقَ فيه تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ ما فَرَضْنَاهُ من الْخِلَافِ عِنْدَ الْعَجْزِ عن التَّرْجِيحِ وَعَنْ دَلِيلٍ آخَرَ هو الصَّوَابُ وَصَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ وَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ الْخِلَافَ في مُطْلَقِ التَّعَادُلِ وَمُرَادُهُمْ ما ذَكَرْنَاهُ الثَّانِي سَتَأْتِي فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ على الْعَامِّيِّ جَوَابُ مُفْتِيَيْنِ مَذَاهِبُ أُخْرَى يَنْبَغِي اسْتِحْضَارُهَا هُنَا لَكِنْ الْمَذْهَبُ هُنَاكَ التَّخْيِيرُ وَهُنَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في التَّرْجِيحِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْعَامِّيَّ يُضْطَرُّ إلَى الْمُرَجَّحِ وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَلَهُ تَصَرُّفٌ وَرَاءَ التَّعَارُضِ الثَّالِثُ إذَا تَخَيَّرَ فَلِلْمُنَاظِرِ ثَلَاثَة أَحْوَالٍ فَإِنْ كان مُجْتَهِدًا تَخَيَّرَ في إلْحَاقِهِ بِمَا شَاءَ
____________________
(4/413)
إنْ قُلْنَا كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَإِنْ قُلْنَا الْحَقُّ في وَاحِدٍ امْتَنَعَ التَّخْيِيرُ قَالَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَإِنْ كان مُفْتِيًا فقال الْقَاضِي قالت الْمُصَوِّبَةُ لَا يَجُوزُ له تَأْخِيرُ الْمُسْتَفْتِي بَلْ يَجْزِمُ بِمُقْتَضَى أَحَدِهِمَا وَقِيلَ يَجُوزُ وهو الْأَوْلَى عِنْدَنَا وَبِهِ أَجَابَ في الْمَحْصُولِ وَاسْتَشْكَلَ الْهِنْدِيُّ الْجَزْمَ بِأَحَدِهِمَا وقال ليس في التَّخْيِيرِ الْأَخْذُ بِأَيِّ الْحُكْمَيْنِ شَاءَ وَاخْتَارَ رَأْيًا ثَالِثًا وهو أَنَّ الْمُفْتِيَ بِالْخِيَارِ بين أَنْ يَجْزِمَ له الْفُتْيَا وَبَيْنَ أَنْ يُخَيِّرَهُ إذْ ليس في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخَالَفَةُ دَلِيلٍ وَلَا فَسَادٌ فَيَسُوغُ الْأَمْرَانِ وَإِنْ كان حَاكِمًا فقال الْقَاضِي أَجْمَعَ الْكُلُّ يَعْنِي الْمُصَوِّبَةَ وَالْمُخَطِّئَةَ أَنَّهُ ليس له تَخْيِيرُ الْمُتَحَاكِمَيْنِ في الْحُكْمِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ بَلْ عليه بَتُّ الْحُكْمِ بِاعْتِقَادِهِ لِأَنَّهُ نُصِبَ لِقَطْعِ الْخُصُومَاتِ وَلَوْ خَيَّرَهُمَا لَمَا انْقَطَعَتْ خُصُومَتُهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَخْتَارُ الذي هو أَرْفَقُ له بِخِلَافِ حَالِ الْمُفْتِي فَلَوْ اخْتَارَ الْقَاضِي إحْدَى الْأَمَارَتَيْنِ وَحَكَمَ بها لم يَكُنْ له أَنْ يَحْكُمَ بِالْأُخْرَى في وَقْتٍ آخَرَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اتِّهَامِهِ بِالْحُكْمِ بِالْبَاطِلِ حَكَاهُ الْقَاضِي عن كَثِيرٍ من الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْكُلَّ مُصِيبٌ وَحُكِيَ عن الْعَنْبَرِيِّ جَوَازَهُ وَلَيْسَ ما قَالَهُ بِبَعِيدٍ لِأَنَّ هذه التُّهْمَةَ قَائِمَةٌ في الْحُكْمِ إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ وَحَكَمَ بِالْقَوْلِ وَضِدِّهِ وقد قال عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه في الْمُشَرَّكَةِ ذلك على ما قَضَيْنَا وَهَذَا على ما نَقْضِي نعم احْتَجَّ في الْمَحْصُولِ وَالْمِنْهَاجِ لِلْمَنْعِ بِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه لَا تَحْكُمْ في قَضِيَّةٍ بِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وقد أُنْكِرَ عليهم هذا الْحَدِيثُ وَسُئِلَ عنه الذَّهَبِيُّ فلم يَعْرِفْهُ قُلْت وهو تَحْرِيفٌ وَإِنَّمَا هو لِأَبِي بَكْرَةَ كَذَلِكَ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ في سُنَنِهِ في الْأَقْضِيَةِ مَسْأَلَةٌ تَنَاقَشُوا في الذي يُضَافُ إلَيْهِ التَّعَارُضُ فَمِنْهُمْ من تَسَمَّحَ وَأَضَافَهُ إلَى الْأَمَارَاتِ وَمِنْهُمْ من نَاقَشَ نَفْسَهُ وَأَضَافَهُ إلَى صُوَرِ الْأَمَارَاتِ بِنَاءً على أَنَّ الْمَرْجُوحِيَّةَ لَيْسَتْ بِأَمَارَةٍ حَقِيقَةً إذْ الْحُكْمُ عِنْدَهَا مَفْقُودٌ مَظْنُونٌ الْعَدَمُ نعم صُورَتُهَا مَحْفُوظَةٌ وَمَعْنَى الصُّورَةِ عِنْدَهُمْ رَاجِعٌ إلَى تَقْدِيرِ الِانْفِرَادِ أَيْ لو انْفَرَدَتْ هذه الْأَمَارَةُ عن
____________________
(4/414)
الْمُعَارِضِ لَكَانَتْ أَمَارَةً حَقِيقَةً وَيَلْزَمُ هذا الْقَائِلَ أَنْ يَقُولَ بِتَعَارُضِ الْقَاطِعَيْنِ وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا بهذا الِاعْتِبَارِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْأَمَارَةَ وُجِدَ فيها مُقْتَضَى الصِّحَّةِ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ الْعَمَلُ بها لِمُعَارِضٍ فَجَازَ أَنْ يُطْلَقَ عليها التَّصْحِيحُ وَالتَّرْجِيحُ وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فَلَا مُقْتَضَى فيها لِلصِّحَّةِ أَلْبَتَّةَ وإذا عُرِفَ الْفَرْقُ بين كَوْنِ الشَّيْءِ فيه مُقْتَضَى الصِّحَّةِ وَيَخْتَلِفُ عَمَلُهُ وَبَيْنَ كَوْنِهِ لَا مُقْتَضَى لِلصِّحَّةِ فيه فَبِاعْتِبَارِ مُقْتَضَى الصِّحَّةِ أَطْلَقْنَا على الْمَرْجُوحِيَّةِ أنها أَمَارَةٌ بِخِلَافِ الشُّبْهَةِ في الْقَوَاطِعِ مَسْأَلَةٌ قَوْلُ الْعَالِمِ في الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ لَا يُعْلَمُ قبل الشَّافِعِيِّ بِهِ تَصْرِيحًا وهو رَحِمَهُ اللَّهُ قد ابْتَكَرَ هذه الْعِبَارَةَ وَذَكَرَهَا في كُتُبِهِ وقد أَنْكَرَ عليه كَثِيرٌ من مُخَالِفِيهِ وَنَسَبُوهُ إلَى الْخَطَأِ وَقَالُوا هذا دَلِيلٌ على نُقْصَانِ الْآلَةِ وَقِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ فَقَالُوا وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عن أبي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ رضي اللَّهُ عنهما فَذَلِكَ في حَالَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَالْمُجْتَهِدُ قد يَجْتَهِدُ في مُجْتَهَدٍ في وَقْتٍ فَيُؤَدِّي اجْتِهَادُهُ إلَى شَيْءٍ ثُمَّ يَجْتَهِدُ في وَقْتٍ آخَرَ فَيُؤَدِّي إلَى خِلَافِهِ إلَّا أَنَّ الثَّانِيَ يَكُونُ عن الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا الْمُسْتَنْكَرُ اعْتِقَادُهُ قَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ في وَقْتٍ وَاحِدٍ في حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ فَهَذَا طَعْنُ الْمُخَالِفِينَ في الْقَوْلَيْنِ قال وقد صَنَّفَ بَعْضُهُمْ في ذلك تَصْنِيفًا وَرَأَيْت لِأَبِي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ الْمُلَقَّبِ بِجُعَلٍ في هذا كِتَابًا مُفْرَدًا صَنَّفَهُ لِلْمَعْرُوفِ بِالصَّاحِبِ وهو إسْمَاعِيلُ بن عَبَّادٍ أَيْ في إنْكَارِ ذلك على الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه وقد قَسَّمَ أَصْحَابُنَا الْقَوْلَيْنِ تَقْسِيمًا بَيَّنُوا فيه فَسَادَ هذا الِاعْتِرَاضِ وَأَنَّ الذي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ ليس هو مَوْضِعَ الْإِنْكَارِ ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ الْمَاوَرْدِيِّ الْآتِيَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ في مَسْأَلَةِ الْقَوْلَيْنِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدِهِمَا ما طُعِنَ بِهِ على الشَّافِعِيِّ وَالثَّانِي في كَيْفِيَّةِ إضَافَتِهِمَا إلَيْهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّهُ لَا عَيْبَ فيه بَلْ فيه دَلَالَةٌ على صِحَّةِ قَرِيحَتِهِ وَتَبَحُّرِهِ في الشَّرِيعَةِ مع التَّنْبِيهِ على النَّظَرِ في الْمَأْخَذِ وَمَعْرِفَةِ أُصُولِ الْحَوَادِثِ وَتَعْلِيمِهِمْ طُرُقَ
____________________
(4/415)
الِاسْتِنْبَاطِ وقال سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ الْقَوْلَيْنِ وَقَالُوا إنَّمَا يَسُوغُ ذلك على الْقَوْلِ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَأَمَّا على قَوْلِهِ إنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ فَلَا وقال الْمُحَقِّقُونَ بَلْ لِمَخْرَجِهَا طُرُقٌ فَذَكَرَهَا وقال ابن كَجٍّ وابن فُورَكٍ وَغَيْرُهُمَا من قُدَمَاءِ الْأَصْحَابِ الْمُسْتَنْكَرُ اعْتِقَادُهُمَا مَعًا في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ كما يَسْتَحِيلُ كَوْنُ الشَّيْءِ على ضِدَّيْنِ من الْحُدُوثِ وَالْقِدَمِ وَالْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هذا ليس كَذَلِكَ بَلْ لِقَوْلِهِ مَخَارِجُ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا اعْتِقَادُهُ الْقَطْعَ بِبُطْلَانِ ما عَدَا ذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وقد يَكُونُ وَاقِفًا فِيهِمَا وقد أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ على قَوْلَيْنِ ولم يُنْكَرْ عليهم ثَانِيهَا أَنْ يَخْتَلِفَ قَوْلُهُ لِتَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ كَقَوْلِ عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ ثَالِثِهَا أَنْ يَقُولَهُ على طَرِيقِ التَّخْيِيرِ لِتَسَاوِي الدَّلِيلَيْنِ عِنْدَهُ من جَمِيعِ الْوُجُوهِ بِنَاءً على أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وهو كما عَمِلَ عُمَرُ في الشُّورَى جَعَلَ الْأَمْرَ بين سِتَّةٍ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الِاعْتِذَارَ الْأَوَّلَ عن أبي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيّ وَزَيَّفَهُ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَقْطَعُ بِتَخْطِئَةِ مُخَالِفِهِ وَمَنْ تَدَبَّرَ أُصُولَهُ عَرَفَ ذلك وَحَكَى الثَّالِثَ عن الْقَاضِي وقال إنَّهُ بَنَاهُ على اعْتِقَادِهِ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ تَصْوِيبُ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَذْهَبُهُ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ ثُمَّ لَا يُمْكِنُ التَّخْيِيرُ فِيمَا إذَا كان أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ تَحْرِيمًا وَالْآخَرُ تَحْلِيلًا إذْ يَسْتَحِيلُ التَّخْيِيرُ بين حَرَامٍ وَمُبَاحٍ قال وَعِنْدِي أَنَّهُ حَيْثُ نَصَّ على قَوْلَيْنِ في مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَلَيْسَ له فيها مَذْهَبٌ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ لِتَرَدُّدِهِ فِيهِمَا وَعَدَمِ اخْتِيَارِهِ لِأَحَدِهِمَا وَلَا يَكُونُ ذلك خَطَأً منه بَلْ يَدُلُّ على عُلُوِّ رُتْبَةِ الرَّجُلِ وَتَوَسُّعِهِ في الْعِلْمِ وَعَمَلِهِ بِطُرُقِ الْأَشْبَاهِ فَإِنْ قِيلَ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِكُمْ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ إذْ ليس له على هذه الْمَسَائِلِ قَوْلٌ وَلَا قَوْلَانِ قُلْنَا هَكَذَا نَقُولُ وَلَا نَتَحَاشَى منه وَإِنَّمَا وَجْهُ الْإِضَافَةِ إلَى الشَّافِعِيِّ هو ذِكْرُهُ لَهُمَا وَاسْتِقْصَاؤُهُ وُجُوهَ الْأَشْبَاهِ فِيهِمَا هذا أَسَدُّهَا وَأَوْضَحُهَا وَأَمَّا الثَّانِي فَاعْلَمْ أَنَّهُ نُقِلَ عن مُجْتَهِدٍ في مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ قَوْلَانِ مُتَنَافِيَانِ فَلَهُ حَالَتَانِ الْحَالَةُ الْأُولَى أَنْ يَكُونَ في مَوْضِعٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يَقُولَ في هذه الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ ثُمَّ إمَّا أَنْ يُعَقِّبَ بِمَا يُشْعِرُ بِالتَّرْجِيحِ لِأَحَدِهِمَا بِأَنْ يَقُولَ أَحَبُّهُمَا إلَيَّ وَأَشْبَهُهُمَا
____________________
(4/416)
بِالْحَقِّ عِنْدِي وَهَذَا مِمَّا أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فيه أو يقول هذا قَوْلٌ مَدْخُولٌ أو مُنْكَرٌ فَيَكُونُ ذلك قَوْلَهُ لِأَنَّهُ الذي تَرَجَّحَ عِنْدَهُ قال أبو الْقَاسِمِ بن كَجٍّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ على قَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ الْآخَرَ لِيَبْعَثَ على طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَفْعَلَ ذلك فَاخْتَلَفُوا فيه على ثَلَاثِهِ مَذَاهِبَ أَصَحِّهَا أَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ قَوْلٌ في الْمَسْأَلَةِ بَلْ هو مُتَوَقِّفٌ لِعَدَمِ تَرْجِيحِ دَلِيلِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ في نَظَرِهِ وَقَوْلُهُ فيه قَوْلَانِ أَيْ احْتِمَالَانِ لِوُجُودِ دَلِيلَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ لَا أَنَّهُمَا مَذْهَبَانِ لِمُجْتَهِدَيْنِ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَلَا نَعْرِفُ مَذْهَبَهُ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَذْهَبَيْنِ وَهَذَا ما جَزَمَ بِهِ في الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ وَالثَّانِي يَجِبُ اعْتِقَادُ نِسْبَةِ أَحَدِهِمَا إلَيْهِ وَرُجُوعِهِ عن الْآخَرِ غير مُعَيَّنٍ دُونَ نِسْبَتِهِمَا جميعا وَيَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِهِمَا حتى يَتَبَيَّنَ كَالنَّصَّيْنِ إذَا عَلِمْنَا نَسْخَ أَحَدِهِمَا غير مُعَيَّنٍ وَكَالرَّاوِي إذَا اشْتَبَهَ عليه ما رَوَاهُ من شَيْئَيْنِ وَهَذَا قَوْلُ الْآمِدِيَّ وهو أَحْسَنُ من الذي قَبْلَهُ وَإِنْ كان خِلَافَ عَمَلِ الْفُقَهَاءِ وَالثَّالِثِ أَنَّ له قَوْلَيْنِ وَحُكْمُهُمَا التَّخْيِيرُ قَالَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وَهَذَا بَنَاهُ الْقَاضِي على اعْتِقَادِهِ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ تَصْوِيبُ الْمُجْتَهِدِينَ لَكِنْ الصَّحِيحُ من مَذْهَبِهِ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ فَلَا يُمْكِنُ منه الْقَوْلُ بِالتَّخْيِيرِ وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ الْقَوْلَانِ بِتَحْرِيمٍ وَإِبَاحَةٍ وَيَسْتَحِيلُ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا وَاعْلَمْ أَنَّ وُقُوعَ ذلك في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ من دُونِ تَرْجِيحٍ قَلِيلٌ حتى نَقَلَ ابن كَجٍّ عن الْقَاضِي أبي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيّ أَنَّهُ ليس لِلشَّافِعِيِّ مِثْلُ ذلك إلَّا سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ اللُّمَعِ إلَّا بِضْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا سِتَّةَ عَشَرَ أو سَبْعَةَ عَشَرَ وَوَقَعَ في الْمَحْصُولِ ذلك لِلشَّيْخِ أبي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَجَزَمَ بِأَنَّهَا سَبْعَةَ عَشَرَ وَكَأَنَّهُ اشْتَبَهَ عليه لَكِنْ رأيت بِخَطِّ الشَّيْخِ أبي عَمْرِو بن الصَّلَاحِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا انْتَخَبَهُ من كِتَابِ شَرْحِ التَّرْتِيبِ لِلْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ ما لَفْظُهُ كان أبو حَامِدٍ يَذْكُرُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَبْلُغُ ما له من الْمَسَائِلِ التي اخْتَلَفَ أَقَاوِيلُهُ فيها أَكْثَرَ من أَرْبَعٍ أو خَمْسٍ وَالْبَاقِيَ كُلَّهَا قَطَعَ فيها بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَالْأَقَاوِيلِ فإنه ذَكَرَ في بَعْضِهَا وَهَذَا أَشْبَهُ بِالْحَقِّ وفي بَعْضِهَا وهو الْأَقْيَسُ وفي بَعْضِهَا وهو أَوْلَاهَا وَغَيْرُ ذلك من الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ على الْقَطْعِ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ قال الْمُحَقِّقُونَ إنَّ ذلك لَا يَبْلُغُ عَشَرًا
____________________
(4/417)
وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ قال أَصْحَابُنَا لم يُوجَدْ له من هذا النَّوْعِ إلَّا سِتَّةَ عَشَرَ قالوا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قد تَعَيَّنَ له الْحَقُّ مِنْهُمَا وَمَاتَ قبل بَيَانِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قد تَعَيَّنَ له وكان مُتَوَقِّفًا فِيهِمَا فَإِنْ قِيلَ فإذا لم يَكُونَا مَذْهَبَيْنِ فَلَيْسَ لِذِكْرِهِمَا في مَوْضِعٍ وَاخْتِيَارِ أَحَدِهِمَا مَعْنًى وَكَذَلِكَ إذَا لم يَتَبَيَّنْ له الْحَقُّ فِيهِمَا فَلَيْسَ لِذِكْرِهِمَا فَائِدَةٌ فَالْجَوَابُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَهُمَا لَيُعَلِّمَ أَصْحَابَهُ طُرُقَ اسْتِخْرَاجِ الْعِلَلِ وَالِاجْتِهَادِ وَبَيَانَ ما يُصَحِّحُ الْعِلَلَ وَيُفْسِدُهَا لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يُبَيِّنَ مَدَارِكَ الْأَحْكَامِ كما يُبَيِّنُ الْأَحْكَامَ وَلِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ ما عَدَاهُمَا بَاطِلٌ وَأَنَّ الْحَقَّ في أَحَدِهِمَا انْتَهَى كَلَامُ الْقَاضِي وقال الْغَزَالِيُّ إنَّمَا يَذْكُرُ الْقَوْلَيْنِ في هذه الْحَالَةِ إمَّا لِأَنَّهُ لم يَتِمَّ نَظَرُهُ في الْمَسْأَلَةِ وَإِنَّهُ في مُدَّةِ النَّظَرِ وَيَرْجِعُ حَاصِلُهُ إلَى الْوَقْفِ وَالِاحْتِيَاطِ وَذَلِكَ غَايَةُ الْوَرَعِ وهو دَأْبُ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ كما قال عُثْمَانُ في الْجَمْعِ بين الْأُخْتَيْنِ في مِلْكِ الْيَمِينِ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ قال وَيُتَّجَهُ في هذا ثَلَاثَةُ أَسْئِلَةٍ أَحَدِهَا أَنَّ الْمُفْتِيَ إنَّمَا يُفْتِي بِالْحُكْمِ لَا بِالتَّرَدُّدِ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَسَائِلَ الْمَنْقُولَةَ عن الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في مَسَائِلِ الْفُرُوعِ قَرِيبٌ من سِتِّينَ أَلْفَ مَسْأَلَةٍ على ما حَكَى بَعْضُ الْأَصْحَابِ وَإِنَّمَا جَمْعُ الْقَوْلِ مُتَرَدِّدٌ في بِضْعِ عَشْرَةِ مَسْأَلَةٍ وما نَصَّ عليه يُوجَدُ منه حُكْمُ هذا التَّرَدُّدِ الثَّانِي إنْ كان حَاصِلُهُ التَّرَدُّدَ فما فَائِدَةُ ذِكْرِهَا وَجَوَابُهُ له خَمْسُ فَوَائِدَ 1 وَضْعُ تَصْوِيرِ الْمَسَائِلِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ صَعْبٌ 2 وَالتَّحْرِيكُ لِدَاعِيَةِ النَّظَرِ فيها 3 وَحَثُّهُ لِأَصْحَابِهِ لِتَخْرِيجِهَا على أَشْبَهِ أُصُولِهِ 4 وَإِنَّهُ يَكْفِي مُؤْنَةَ النَّظَرِ من الِاحْتِمَالَاتِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ سِوَى ما ذَكَرَهُ 5 وَذَكَرَ تَوْجِيهَهَا فإنه لَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ وَجْهَ كُلٍّ فَتَحْصُلُ مَعْرِفَةُ الْأَدِلَّةِ وَمَدَارِكُ الْعُلَمَاءِ وَيَهُونُ النَّظَرُ في طَلَبِ التَّرْجِيحِ فإن طَلَبَ التَّرْجِيحِ وَحْدَهُ أَهْوَنُ من طَلَبِ الدَّلِيلِ فَعَلَى كل نَاظِرٍ في الْمَسْأَلَةِ هذه الْوَظَائِفُ الْخَمْسُ تَصْوِيرُهَا وَطَلَبُ الِاحْتِمَالَاتِ فيها وَحَصْرُ ما يَنْقَدِحُ من تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتِ وَطَلَبُ أَدِلَّتِهَا وَطَلَبُ التَّرْجِيحِ وَالشَّافِعِيُّ قام بِالْوَظَائِفِ الْأَرْبَعِ ولم يَتْرُكْ إلَّا الْخَامِسَةَ فَكَيْفَ تُنْكِرُ فَائِدَةَ الْقَوْلَيْنِ الثَّالِثِ ما يَلْزَمُ عليه أَنْ لَا قَوْلَ لِلشَّافِعِيِّ في الْمَسْأَلَةِ فَكَيْفَ يُقَالُ له
____________________
(4/418)
قَوْلَانِ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ تَحْتَمِلُ قَوْلَيْنِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ لِفُلَانٍ في الْحَادِثَةِ رَأْيَانِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا انْتَهَى وَكَذَلِكَ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ لَا يَمْتَنِعُ من إطْلَاقِ الْقَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا وَجْهُ الْإِضَافَةِ إلَى الشَّافِعِيِّ ذِكْرُهُ لها وَاسْتِقْصَاؤُهُ وُجُوهَ الْأَشْبَاهِ فيها الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ في مَوْضِعَيْنِ بِأَنْ يَنُصَّ في مَوْضِعٍ على إبَاحَةِ شَيْءٍ وفي آخَرَ على تَحْرِيمِهِ فَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ الْمُتَأَخِّرَ مِنْهُمَا فَهُوَ مَذْهَبُهُ وَيَكُونُ الْأَوَّلُ مَرْجُوعًا عنه وَيَجْعَلُ الْأَوَّلَ كَالْمَنْسُوخِ فَلَا يَكُونُ الْأَوَّلُ قَوْلًا له قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وابن السَّمْعَانِيِّ وَذَهَبَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ إلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنُصَّ على الرُّجُوعِ فَلَوْ لم يَنُصَّ في الْجَدِيدِ الرُّجُوعَ عن الْقَدِيمِ لم يَكُنْ رُجُوعًا حَكَاهُ الشَّيْخُ وَكَذَا الرَّافِعِيُّ في بَابِ صِفَةِ الْأَئِمَّةِ عن الصَّيْدَلَانِيِّ أَنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا في نَصِّ الشَّافِعِيِّ إذَا خَالَفَ الْآخِرُ الْأَوَّلَ هل يَكُونُ الْآخِرُ رُجُوعًا عن الْأَوَّلِ أَمْ لَا على وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ رُجُوعًا لِأَنَّهُ قد يَنُصُّ في مَوْضِعٍ وَاحِدٍ على قَوْلَيْنِ فَيَجُوزُ أَنْ يَذْكُرَهُمَا مُتَعَاقِبَيْنِ والثاني يَكُونُ رُجُوعًا ولم يُرَجِّحْ الرَّافِعِيُّ شيئا وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لو صَرَّحَ بِالرُّجُوعِ عن الْأَوَّلِ فَلَيْسَ الْأَوَّلُ مَذْهَبًا بِهِ قَطْعًا وَإِنْ لم يُصَرِّحْ فَوَجْهَانِ وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ رُجُوعٌ إلَّا في مَسَائِلَ مُسْتَثْنَاةٍ عِنْدَ الْأَصْحَابِ لِقِيَامِ دَلِيلٍ على الْقَوْلِ بِهِ قال سُلَيْمٌ وَيَكُونُ إضَافَةُ الْقَدِيمِ إلَيْهِ على مَعْنَى أَنَّهُ قَالَهُ في وَقْتٍ لَا على وَجْهٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْلِ الْآخِرِ كما يُقَالُ مِثْلُهُ في إضَافَةِ الرِّوَايَتَيْنِ إلَى أبي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا قُلْت وقد صَحَّ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال لَا أُحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْوِيَ عَنِّي الْكِتَابَ الْقَدِيمَ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِالرُّجُوعِ عَمَّا فيه فَلَا يَبْقَى لِلتَّفْصِيلِ السَّابِقِ وَجْهٌ نعم هذا يُشْكِلُ على أَصْحَابِنَا في مَسَائِلَ عَمِلُوا بها على الْقَدِيمِ حَيْثُ لم يَجِدُوا في الْجَدِيدِ ما يُخَالِفُهَا وَإِمَّا أَنْ يُجْهَلَ الْحَالُ وَلَا يُعْلَمُ التَّارِيخُ فَإِنْ بَيَّنَ اخْتِيَارَهُ من الْقَوْلَيْنِ فَهُوَ مَذْهَبُهُ وَإِنْ لم يُبَيِّنْهُ فَالْوَقْفُ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَالْوَقْفُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ الْوَقْفُ عن الْحُكْمِ بِأَنَّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ مَذْهَبُهُ والثاني أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ وَاقِفٌ غَيْرُ حَاكِمٍ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهَذَا الثَّانِي إنَّمَا يَقْوَى إذَا
____________________
(4/419)
قَالَهُمَا الْمُجْتَهِدُ في وَقْتٍ وَاحِدٍ وَلَيْسَ ذلك صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ وَحِينَئِذٍ فَيُحْكَى عنه قَوْلَانِ من غَيْرِ الْحُكْمِ على أَحَدِهِمَا بِالتَّرْجِيحِ وقد وَقَعَ الْحَالَانِ لِلشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه وهو دَلِيلٌ على عُلُوِّ شَأْنِهِ في الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَمَّا الْعِلْمُ فَلِأَنَّهُ كُلَّمَا زَادَ الْمُجْتَهِدُ عِلْمًا وَتَدْقِيقًا كان نَظَرُهُ أَتَمَّ وَاطِّلَاعُهُ على الْأَدِلَّةِ أَعَمَّ وَأَمَّا الدِّينُ فلم يَكُنْ مِمَّنْ إذَا ظَهَرَ له وَجْهُ الرُّجْحَانِ أَقَامَ على مَقَالَتِهِ الْأُولَى بَلْ صَرَّحَ على بُطْلَانِهَا وَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنْ تَشْنِيعَ الْخَصْمِ بَاطِلٌ وقد صَنَّفَ أَصْحَابُنَا في نُصْرَةِ الْقَوْلَيْنِ منهم ابن الْقَاصِّ وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا وَالرُّويَانِيُّ وَتَكَلَّمَ عليه الْأَصْحَابُ في كُتُبِهِمْ الْأُصُولِيَّةِ وَالْفُرُوعِيَّةِ وقد سَبَقَ بِذَلِكَ السَّلَفُ فإن عُمَرَ نَصَّ في الشُّورَى على سِتَّةٍ وَحَصَرَ الْخِلَافَةَ فِيهِمْ تَنْبِيهًا على حَصْرِ الِاسْتِحْقَاقِ ولم يَعْتَرِضْ أَحَدٌ عليه وَاعْلَمْ أَنَّهُ في هذه الْحَالَةِ تَرَجَّحَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ على الْآخِرِ بِأُمُورٍ منها أَنْ تَكُونَ أُصُولُ مَذْهَبِهِ مُوَافِقَةً دُونَ الْآخَرِ فَيَكُونُ هو الْمَذْهَبُ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ومنها أَنْ يُكَرَّرَ أَحَدُهُمَا أو يُفَرَّعَ عليه فَهَلْ يَكُونُ رُجُوعًا عن الْآخَرِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَنَسَبَ ابن كَجٍّ الرُّجُوعَ في حَالَةِ التَّفْرِيعِ إلَى الْمُزَنِيّ قال وَعَامَّةُ أَصْحَابِنَا أَنَّ ذلك ليس بِرُجُوعٍ وَجَزَمَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ أَنَّهُ رُجُوعٌ في التَّفْرِيعِ وَحَكَى خِلَافَ الْمُزَنِيّ في التَّكْرِيرِ وقال خَالَفَهُ أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيّ فقال هذا لَا يَدُلُّ على اخْتِيَارِهِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَهُ اكْتِفَاءً بِمَا ذَكَرَهُ قال الْقَاضِي وَاَلَّذِي قَالَهُ الْمُزَنِيّ هو الصَّحِيحُ وَكَذَا قال ابن السَّمْعَانِيِّ ومنها ما لو كان أَحَدُهُمَا يُوَافِقُ مَذْهَبَ أبي حَنِيفَةَ فقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ ما يُخَالِفُهُ مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ أَرْجَحُ وَعَكَسَ الْقَفَّالُ وَاخْتَارَهُ ابن الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ وَالْأَصَحُّ التَّرْجِيحُ بِالنَّظَرِ فَإِنْ لم يَظْهَرْ تَرْجِيحٌ فَالْوَقْفُ ومنها أَنْ يَنُصَّ على أَحَدِهِمَا في مَوْضِعٍ آخَرَ فَهَلْ يَكُونُ ذلك اخْتِيَارًا منه لِذَلِكَ الْقَوْلِ فيه وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ قبل الدِّيَاتِ وَحَكَى ابن السَّمْعَانِيِّ عن الْقَاضِي والماوردي أَنَّهُ قَسَمَ الْقَوْلَيْنِ في هذه الْحَالَةِ إلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِسْمًا أَحَدِهَا أَنْ يُقَيِّدَ جَوَابَهُ في مَوْضِعٍ وَيُطْلِقَهُ في آخَرَ كَقَوْلِهِ في أَقَلِّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وفي مَوْضِعٍ آخَرَ يُرِيدُ مع لَيْلَتِهِ فَحَمَلَ الْمُطْلَقَ على الْمُقَيَّدِ لَكِنْ لَا يُقَالُ له قَوْلَانِ
____________________
(4/420)
وَإِنَّمَا هو وَاحِدٌ ثَانِيهَا أَنْ تَخْتَلِفَ أَلْفَاظُهُ مع اتِّفَاقِ مَعَانِيهَا من وَجْهٍ وَاخْتِلَافِهَا من وَجْهٍ فَغَلَّبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا حُكْمَ الِاخْتِلَافِ ولم يُغَلِّبْ حُكْمَ الِاتِّفَاقِ فَخَرَّجَهُمَا على قَوْلَيْنِ كَقَوْلِهِ في الْمُظَاهِرِ أُحِبُّ أَنْ يَمْتَنِعَ عن الْقُبْلَةِ وقال في الْقَدِيمِ رَأَيْت ذلك فَيُحْتَمَلُ حَمْلُهُ على الْإِيجَابِ أو الِاسْتِحْبَابِ فَحَمْلُهَا على ما صَرَّحَ بِهِ من الِاسْتِحْبَابِ أَوْلَى ثَالِثِهَا أَنْ يَخْتَلِفَ قَوْلُهُ لِاخْتِلَافِ حَالَيْهِ كَصَدَاقِ السِّرِّ فإنه قال في مَوْضِعٍ بِاعْتِبَارِهِ وفي مَوْضِعٍ بِاعْتِبَارِ الْعَلَانِيَةِ وَلَيْسَ ذلك بِاخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هو لِاخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَإِنْ اقْتَرَنَ الْعَقْدُ بِصَدَاقِ السِّرِّ فَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ وَإِلَّا فَعَكْسُهُ رَابِعِهَا لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ كَتَرَدُّدِهِ في نَقْضِ الْمَلْمُوسِ لِأَجْلِ لَمَسْتُمْ أو لَامَسْتُمْ وَكَاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ في صَلَاةِ الْعِشَاءِ نِصْفَ اللَّيْلِ أو ثُلُثَهُ خَامِسِهَا لِأَنَّهُ عَمِلَ في أَحَدِهِمَا بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ثُمَّ بَلَغَتْهُ سُنَّةٌ نَقَلَتْهُ عن الْأَوَّلِ كَصِيَامِ الْمُتَمَتِّعِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ ثُمَّ جاء النَّهْيُ عن صِيَامِهَا فَأَوْجَبَ صِيَامَهَا بَعْدَ إحْرَامِهِ وَقِيلَ يوم عَرَفَةَ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ وَمِثْلُ هذا قال في الصَّلَاةِ الْوُسْطَى سَادِسِهَا لِأَنَّهُ عَمِلَ في أَحَدِهِمَا بِالْقِيَاسِ ثُمَّ بَلَغَتْهُ سُنَّةٌ لم تَثْبُتْ عِنْدَهُ فَجَعَلَ مَذْهَبَهُ من بَعْدُ مَوْقُوفًا على ثُبُوتِ السُّنَّةِ كَالصِّيَامِ عن الْمَيِّتِ وَالْغُسْلِ من غَسْلِهِ سَابِعِهَا أَنْ يَقْصِدَ بِذَكَرِهِمَا إبْطَالَ ما عَدَاهُمَا فَيَكُونُ الِاجْتِهَادُ مَقْصُودًا عَلَيْهِمَا وَلَا يَعْدُوهُمَا ثَامِنِهَا أَنْ يَقْصِدَ بِذِكْرِهِمَا إبْطَالَ ما يَتَوَسَّطُهُمَا وَيَكُونُ مَذْهَبُهُ مِنْهُمَا ما حَكَمَ بِهِ وَفُرِّعَ عليه مِثْلُ قَوْلِهِ في وَضْعِ الْجَوَائِحِ وقد قَدَّرَهَا مَالِكٌ بِالثُّلُثِ فقال الشَّافِعِيُّ ليس إلَّا وَاحِدٌ من قَوْلَيْنِ إمَّا أَنْ يُوضَعَ جَمِيعُهَا أو لَا يُوضَعَ شَيْءٌ منها تَاسِعِهَا أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ في مَسْأَلَتَيْنِ مُتَّفِقَتَيْنِ فَخَرَّجَهُمَا أَصْحَابُهُ على قَوْلَيْنِ وَهَذَا على الْإِطْلَاقِ خَطَأٌ لِأَنَّهُ إنْ كان بَيْنَهُمَا فَرْقٌ لم يَسَعْ التَّخْرِيجُ وَإِنْ لم يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ لم يَخْلُ قَوْلَاهُ إمَّا أَنْ يَكُونَا في وَقْتٍ أو وَقْتَيْنِ فَإِنْ كَانَا في وَقْتٍ كما لو قال في مَسْأَلَةٍ بِقَوْلٍ ثُمَّ قال بَعْدَهُ فيها بِقَوْلٍ آخَرَ فَيَكُونُ على ما سَنَذْكُرُهُ وَإِنْ قَالَهُمَا في وَقْتٍ فَيَكُونُ على ما نَذْكُرُهُ في قَوْلِهِ في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ عَاشِرِهَا لِأَنَّهُ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى أَحَدِهِمَا فقال بِهِ ثُمَّ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى الْآخَرِ
____________________
(4/421)
فَعَدَلَ إلَيْهِ فَمَذْهَبُهُ الثَّانِي وَلَا يُرْسِلُ الْقَوْلَيْنِ إلَّا بَعْدَ التَّقْيِيدِ بِالْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ حَادِيَ عَشَرَهَا أَنْ يَكُونَ قال في مَسْأَلَةٍ بِقَوْلٍ في مَوْضِعٍ وقال فيها بِقَوْلٍ في مَوْضِعٍ آخَرَ فَيُخَرِّجُهَا أَصْحَابُهُ على قَوْلَيْنِ وَهَذَا وَإِنْ كان النَّقْلُ صَحِيحًا فَهُوَ في إضَافَتِهِمَا إلَيْهِ على التَّسَاوِي غَلَطٌ وَيُنْظَرُ إنْ تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا فَالْعَمَلُ لِلْمُتَأَخِّرِ وَإِنْ جَهِلَ تَوَقَّفَ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِأَحَدِهِمَا من أُصُولِ مَذْهَبِهِ ما يُوَافِقُهُ فَيَكُونُ هو الْمَذْهَبُ فَإِنْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أو فَرَّعَ عليه قال الْمُزَنِيّ وَطَائِفَةٌ من الْأَصْحَابِ إنَّ الْمُتَكَرِّرَ وَذَا التَّفْرِيعِ مَذْهَبُهُ دُونَ الْآخَرِ ثَانِيَ عَشَرَهَا أَنْ يَذْكُرَهُمَا حِكَايَةً عن مَذْهَبِ غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ نِسْبَتُهُمَا إلَيْهِ وَمَثَّلَهُ ابن كَجٍّ بِقَوْلِهِ في الْجَدِّ مع الْإِخْوَةِ في الْوَلَاءِ قال طَائِفَةٌ بِكَذَا وَقَالَتْ طَائِقَةٌ بِكَذَا ثُمَّ قَطَعَ بِأَحَدِ الْأَقْوَالِ فَإِنْ أَشَارَ إلَيْهِمَا بِالْإِنْكَارِ كان الْحَقُّ عِنْدَهُ في غَيْرِهِمَا أو بِالْجَوَازِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ عِنْدَهُ فِيهِمَا وفي غَيْرِهِمَا أو بِالِاخْتِيَارِ فِيهِمَا ثَالِثَ عَشَرَهَا أَنْ يَذْكُرَهُمَا مُعْتَقِدًا لِأَحَدِهِمَا وَزَاجِرًا بِالْآخَرِ كما فَعَلَ في قَضَاءِ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ وفي تَضْمِينِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ وَعَبَّرَ عنه الشَّيْخُ نَصْرٌ فقال أَنْ يَذْكُرَ أَحَدَهُمَا على طَرِيقِ الْمَصْلَحَةِ وَمَذْهَبُهُ الْأَخِيرُ رَابِعَ عَشَرَهَا أَنْ يَقُولَهُمَا في مَوْضِعٍ فَإِنْ نَبَّهَ على اخْتِيَارِ أَحَدِهِمَا فَهُوَ مَذْهَبُهُ وزاد الْغَزَالِيُّ أَنْ يَذْكُرَهُمَا على سَبِيلِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ الْكُلَّ جَائِزٌ وَأَنْ يَذْكُرَهُمَا على سَبِيلِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا على الْبَدَلِ لَا الْجَمْعِ وقال وَهَذَا الْوَجْهُ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَأَنْكَرَهُ جَمِيعُ الْأَصْحَابِ وَلَيْسَ عِنْدِي بِمُنْكَرٍ بَلْ مُتَّجَهٌ قُلْت ذَكَرَهُ ابن كَجٍّ كما سَبَقَ مَسْأَلَةٌ إذَا قال الشَّافِعِيُّ في مَوْضِعٍ بِقَوْلٍ ثُمَّ قال وَلَوْ قال قَائِلٌ كَذَا وَكَذَا كان مَذْهَبًا لم يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَ ذلك قَوْلًا له على الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عن احْتِمَالٍ في الْمَسْأَلَةِ وَوَجْهٌ من وُجُوهِ الِاجْتِهَادِ
____________________
(4/422)
مَسْأَلَةٌ إذَا لم يُعْرَفْ لِلْمُجْتَهِدِ قَوْلٌ في الْمَسْأَلَةِ لَكِنْ له قَوْلٌ في نَظِيرِهَا ولم يُعْلَمْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فَهُوَ الْقَوْلُ الْمُخَرَّجُ فيها وَلَا يَجُوزُ التَّخْرِيجُ حَيْثُ أَمْكَنَ الْفَرْقُ كما قال ابن كَجٍّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَأَشَارَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في التَّبْصِرَةِ إلَى خِلَافٍ فيه فقال لَا يَجُوزُ على الصَّحِيحِ ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ لِلشَّافِعِيِّ ما يَتَخَرَّجُ على قَوْلِهِ فَيُجْعَلُ قَوْلًا له على الْأَصَحِّ بِنَاءً على أَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ ليس بِمَذْهَبٍ وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ مع قِيَامِ الِاحْتِمَالِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ يُنْسَبُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ما يَقْتَضِيهِ قِيَاسُ قَوْلِهِمَا فَكَذَلِكَ يُنْسَبُ إلَى صَاحِبِ الْمَذْهَبِ ما يَقْتَضِيهِ قِيَاسُ قَوْلِهِ قُلْنَا ما دَلَّ عليه الْقِيَاسُ في الشَّرْعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ قَوْلُ اللَّهِ وَلَا قَوْلُ رَسُولِهِ وَإِنَّمَا يُقَالُ هذا دِينُ اللَّهِ وَدِينُ رَسُولِهِ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ دَلَّ عليه وَمِثْلُهُ لَا يَصِحُّ في قَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَالَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ فَرْعٌ الْأَوْجُهُ الْمَحْكِيَّةُ عن الْأَصْحَابِ هل تُنْسَبُ إلَى الشَّافِعِيِّ لم أَرَ فيها كَلَامًا وَيُشْبِهُ تَخْرِيجُهَا على التي قَبْلَهَا وَيَكُونُ على طَرِيقِ التَّرْتِيبِ وَأَوْلَى بِالْمَنْعِ لِأَنَّهُمْ يُخَرِّجُونَهَا على قَوَاعِدَ عَامَّةٍ في الْمَذْهَبِ وَالْقَوْلُ الْمُخَرَّجُ إنَّمَا يَكُونُ في صُوَرٍ خَاصَّةٍ
____________________
(4/423)
فَصْلٌ وَأَمَّا اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ عن أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَلَيْسَ هو من بَابِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ الْقَوْلَيْنِ نَقْطَعُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَهُمَا بِالنَّصِّ عَلَيْهِمَا بِخِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فإن الِاخْتِلَافَ جاء من جِهَةِ النَّاقِلِ لَا من جِهَةِ الْمَنْقُولِ عنه لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لم يُدَوِّنْ قال أبو بَكْرٍ الْبَلْعَمِيُّ في الْغَرَرِ الِاخْتِلَافُ في الرِّوَايَةِ عن أبي حَنِيفَةَ من وُجُوهٍ منها الْغَلَطُ في السَّمَاعِ كَأَنْ يُجِيبَ بِحَرْفِ النَّفْيِ إذَا سُئِلَ عن حَادِثَةٍ يقول لَا يَجُوزُ فَيُشْتَبَهُ على الرَّاوِي فَيَنْقُلُ ما سمع ومنها أَنْ يَكُونَ لِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلٌ قد رَجَعَ عنه يَعْلَمُ بَعْضُ من يَخْتَلِفُ إلَيْهِ رُجُوعَهُ عنه فَيَرْوِي الْقَوْلَ الثَّانِيَ وَالْآخَرُ لم يَعْلَمْهُ فَيَرْوِي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ ومنها أَنْ يَكُونَ قال أبو حَنِيفَةَ الثَّانِيَ على وَجْهِ الْقِيَاسِ ثُمَّ قال ذلك على وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ فَيَسْمَعُ كُلُّ وَاحِدٍ منه أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ فَيَنْقُلُ كما سمع ومنها أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ في الْمَسْأَلَةِ من وَجْهَيْنِ من جِهَةِ الْحُكْمِ وَمِنْ جِهَةِ الْبَرَاءَةِ لِلِاحْتِيَاطِ فَيَذْكُرُ الْجَوَابَ من جِهَةِ الْحُكْمِ في مَوْضِعٍ وَمِنْ جِهَةِ الِاحْتِيَاطِ في مَوْضِعٍ آخَرَ فَيَنْقُلُ كما سمع قال وَأَمَّا الْفَرْقُ بين الْقَوْلَيْنِ وَالرِّوَايَتَيْنِ فَهُوَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ في الرِّوَايَةِ وَقَعَ من جِهَةِ النَّاقِلِ دُونَ الْمَنْقُولِ عنه فَأَبُو حَنِيفَةَ حَصَلَ على قَوْلٍ وَاحِدٍ وَأَمَّا إطْلَاقُ الْقَوْلَيْنِ وَتَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ من غَيْرِ تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا فَعَجَبٌ انْتَهَى
____________________
(4/424)
الْفَصْلُ الثَّانِي في التَّرْجِيحِ وهو تَقْوِيَةُ إحْدَى الْإِمَارَتَيْنِ على الْأُخْرَى بِمَا ليس ظَاهِرًا مَأْخُوذٌ من رُجْحَانِ الْمِيزَانِ وَفَائِدَةُ الْقَيْدِ الْأَخِيرِ أَنَّ الْقُوَّةَ لو كانت ظَاهِرَةً لم يَحْتَجْ إلَى التَّرْجِيحِ قال إلْكِيَا التَّرْجِيحُ إظْهَارُ الزِّيَادَةِ لِأَحَدِ الْمِثْلَيْنِ على الْآخَرِ أَصْلًا مَأْخُوذٌ من رَجَّحْت الْوَزْنَ إذَا زِدْتَ جَانِبَ الْمَوْزُونِ حتى مَالَتْ كِفَّتُهُ وَلَوْ أَفْرَدْتَ الزِّيَادَةَ على الْوَزْنِ لم يَقُمْ بها الْوَزْنُ في مُقَابِلَةِ الْكِفَّةِ الْأُخْرَى قُلْت هذا حَدٌّ لِلْمُرَجِّحِ لَا لِلتَّرْجِيحِ وَقِيلَ بَيَانُ اخْتِصَاصِ الدَّلِيلِ بِمَزِيدِ قُوَّةٍ عن مُقَابِلِهِ لِيَعْمَلَ بِالْأَقْوَى وَرَجَحَ على الْأَوَّلِ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ يَجْرِي في الظَّوَاهِرِ وَالْأَخْبَارِ تَارَةً وفي الْمَعَانِي أُخْرَى فَالتَّعْرِيفُ الْأَوَّلُ يَخْرُجُ منه الْأَخْبَارُ وَالظَّوَاهِرُ لِاخْتِصَاصِ اسْمِ الْأَمَارَةِ بِالْمَعَانِي وَهَذَا مُنْدَفِعٌ بِالْغَايَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ الْأُولَى أَنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ التَّرْجِيحُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ وَإِهْمَالُ الْآخَرِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ على الْعَمَلِ بِمَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُمْ من الْأَخْبَارِ وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ التَّرْجِيحَ في الْأَدِلَّةِ كما يَنْبَغِي في الْبَيِّنَاتِ وقال عِنْدَ التَّعَارُضِ يَلْزَمُ التَّخْيِيرُ أو الْوَقْفُ قال الْإِمَامُ وقد حَكَاهُ الْقَاضِي عن الْبَصْرِيِّ الْمُلَقَّبِ بِ جُعَلٍ قال ولم أَرَ في شَيْءٍ من مُصَنَّفَاتِهِ مع بَحْثِي عنها وَلَعَلَّ الْقَاضِيَ أَلْزَمَهُ إنْكَارَ الرَّاجِحِ إلْزَامًا على مَذْهَبِهِ في إنْكَارِ التَّرْجِيحِ في الْبَيِّنَاتِ وَاسْتَبْعَدَ الْإِبْيَارِيُّ وُقُوعَ الْقَاضِي في مِثْلِ ذلك وقال ابن الْمُنِيرِ ليس بِبَعِيدٍ لِلْخِلَافِ في أَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ هل هو مَذْهَبٌ فَإِنْ كان الْقَاضِي وَجَدَ له نَصًّا فَذَاكَ وَإِنْ لم يَجِدْهُ بَلْ أَلْزَمَهُ بِجَعْلِهِ مَذْهَبًا له فَصَحِيحٌ عِنْدَ من يَرَى ذلك وَإِنْ ثَبَتَ فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ وهو مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ على اسْتِعْمَالِهِ التَّرْجِيحَ الثَّانِيَةُ سَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا كان التَّرْجِيحُ مَعْلُومًا أو مَظْنُونًا قال الْقَاضِي لَا يَجُوزُ
____________________
(4/425)
الْعَمَلُ بِالتَّرْجِيحِ الْمَظْنُونِ لِأَنَّ الْأَصْلَ امْتِنَاعُ الْعَمَلِ بِشَيْءٍ من الْمَظْنُونِ وَخَرَجَ من ذلك الظُّنُونُ الْمُسْتَقِلَّةُ بِأَنْفُسِهَا لِانْعِقَادِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عليها وما وَرَاءَ ذلك يَبْقَى على الْأَصْلِ وَالتَّرْجِيحُ عَمَلُ نَظَرٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ دَلِيلًا وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ على وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ الذي لَا يَسْتَقِلُّ كما انْعَقَدَ على الْمُسْتَقِلِّ الثَّالِثَةُ أَنَّ الْمَرْجُوحَ هل هو كَالْعَدَمِ شَرْعًا أَمْ نَجْعَلُ له أَثَرًا يَخْرُجُ من كَلَامِهِمْ فيه خِلَافٌ وَكَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ يَقْتَضِي الْأَوَّلَ وَكَلَامُ غَيْرِهِ يَقْتَضِي الثَّانِيَ وَادَّعَى الْإِبْيَارِيُّ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ وقال لو كان كَالْعَدَمِ لَمَا ضَعُفَ الظَّنُّ بِالرَّاجِحِ وَلِذَلِكَ لَا يَبْقَى الْإِنْسَانُ على ظَنِّهِ في الرَّاجِحِ بِمَثَابَةِ ما لو كان الرَّاجِحُ مُنْفَرِدًا بَلْ ظَنًّا بِالرَّاجِحِ إذَا لم يُعَارِضْ أَقْوَى من ظَنِّنَا بِهِ بَعْدَ الْمُعَارَضَةِ وَخَالَفَ ابن الْمُنِيرِ وَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ على أَنَّ الْمَرْجُوحَ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ ثُمَّ لِلتَّرْجِيحِ شُرُوطٌ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ بَيِّنَ الْأَدِلَّةِ فَالدَّعَاوَى لَا يَدْخُلُهَا التَّرْجِيحُ وَانْبَنَى عليه أَنَّهُ لَا يَجْرِي في الْمَذَاهِبِ لِأَنَّهَا دَعَاوَى مَحْضَةٌ تَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ وَالتَّرْجِيحُ بَيَانُ اخْتِصَاصِ الدَّلِيلِ بِمَزِيدِ قُوَّةٍ فَلَيْسَ هو دَلِيلًا وَإِنَّمَا هو قُوَّةٌ في الدَّلِيلِ وَحَكَى عبد الْجَبَّارِ في الْعُمْدَةِ عن بَعْضِ أَصْحَابِهِمْ دُخُولَ التَّرْجِيحِ منها وَضَعُفَ بِأَنَّ التَّرْجِيحَ يَنْشَأُ من مُنْتَهَى الدَّلِيلِ فإذا لم يَكُنْ دَلِيلًا لم يَثْبُتْ التَّرْجِيحُ وَالْحَقُّ أَنَّ التَّرْجِيحَ يَدْخُلُ الْمَذَاهِبَ بِاعْتِبَارِ أُصُولِهَا وَنَوَادِرِهَا وَبَيَانِهَا فإن بَعْضَهَا قد يَكُونُ أَرْجَحَ من بَعْضٍ وَلِذَلِكَ جَرَى التَّرْجِيحُ في الْبَيِّنَاتِ وَأَمَّا إذَا تَعَارَضَ عِنْدَ عَامِّيٍّ قَوْلُ مُجْتَهِدَيْنِ وَقُلْنَا يَجِبُ تَقْلِيدُ الْأَعَمِّ فَلَيْسَ هو من بَابِ التَّرْجِيحِ الثَّانِي قَبُولُ الْأَدِلَّةِ التَّعَارُضَ في الظَّاهِرِ وَيُبْنَى عليه مَسَائِلُ أَحَدُهَا أَنَّهُ لَا مَجَالَ له في الْقَطْعِيَّاتِ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ عِبَارَةٌ عن تَقْوِيَةِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ على الْآخَرِ كَيْ يَغْلِبَ على الظَّنِّ صِحَّتُهُ وَالْأَخْبَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ مَقْطُوعٌ بها فَلَا يُفِيدُ التَّرْجِيحُ فيها شيئا وما يُوجَدُ من ذلك في كُتُبِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّمَا هو تَعَارُضٌ بين دَلِيلٍ وَشِبْهِهِ وَهَذَا وَإِنْ أَطْبَقُوا عليه لَكِنْ سَبَقَ أَنَّ التَّعَادُلَ بين الْقَطْعِيَّيْنِ مُمْكِنٌ في الْأَذْهَانِ فَهَلَّا قِيلَ يَتَطَرَّقُ التَّرْجِيحُ إلَيْهِ بِنَاءً على هذا التَّعَارُضِ كما في الْأَمَارَاتِ ثُمَّ رَأَيْت أَبَا الْحُسَيْنِ صَرَّحَ بِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمَعْلُومَةَ تَقْبَلُ التَّرْجِيحَ وَلَا شَكَّ في جَرَيَانِ هذا النَّصِّ وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ وَلَا بُعْدَ فيه فإن ما مُقَدَّمَاتُهُ أَعْلَى وَأَوْضَحُ رَاجِحًا على
____________________
(4/426)
ما ليس كَذَلِكَ وَرَأَيْت الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ صَرَّحَ بِأَنَّهُ مَنَعَ ذلك بِنَاءً على أَنَّ الْعُلُومَ لَا تَتَفَاوَتُ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ سَبَقَتْ أَوَّلَ الْكِتَابِ والثانية قِيلَ إنَّ الظَّنِّيَّاتِ لَا تَتَعَارَضُ وَالْمُرَادُ بِهِ اجْتِمَاعُ ظَنَّيْنِ بِحُكْمٍ وَاحِدٍ بِأَمَارَتَيْنِ وَسَيَأْتِي في أَوَّلِ تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ عن الْقَاضِي أَنَّهُ يَمْتَنِعُ التَّرْجِيحُ في الْأَقْيِسَةِ الْمَظْنُونَةِ وَتَأَوَّلْنَاهُ الثَّالِثَةُ لَا مَجَالَ له في الْعَقْلِيَّاتِ أَعْنِي التَّقْلِيدَ نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن إطْلَاقِ الْأَئِمَّةِ وَحَكَاهُ في الْمَنْخُولِ عن الْأُسْتَاذِ وقال هذا إشَارَةٌ منه إلَى أنها مَعَارِفُ وَلَا تَرْجِيحَ في الْمَعَارِفِ قال وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْعَقَائِدَ يُرَجَّحُ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ عُلُومًا وَالثِّقَةُ بها مُخْتَلِفَةٌ وَفَصَّلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بين عَقَائِدِ الْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ فَيَجُوزُ في عَقَائِدِ الْعَامَّةِ بِنَاءً على أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِالِاعْتِقَادِ لَا بِالْعِلْمِ وقال الْأُرْمَوِيُّ الْحَقُّ أَنَّا إنْ جَوَّزْنَا لِلْعَوَامِّ التَّقْلِيدَ فيها لم يَمْتَنِعْ ذلك وقال ابن النَّفِيسِ في الْإِيضَاحِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ مُخْتَصًّا بِالْبُرْهَانِيَّةِ منها أَمَّا التي تَكُونُ فيها الْحُجَجُ الظَّنِّيَّةُ فَلَا مَانِعَ من دُخُولِهِ فيها وَكَذَا قال الْهِنْدِيُّ الْقَطْعِيُّ منها لَا يَقْبَلُ التَّرْجِيحَ لَكِنَّهُ ليس مَخْصُوصًا بِهِ بَلْ الْقَطْعِيَّاتُ الشَّرْعِيَّاتُ أَيْضًا لَا تَقْبَلُ التَّرْجِيحَ الثَّالِثُ أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ على التَّرْجِيحِ وَهَذَا على طَرِيقَةِ كَثِيرٍ من الْأُصُولِيِّينَ لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يُخَالِفُونَهُمْ وَتَابَعَهُمْ في الْمَحْصُولِ وَشَرَطُوا أَنْ لَا يُمْكِنَ الْعَمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنْ أَمْكَنَ وَلَوْ من وَجْهٍ امْتَنَعَ بَلْ يُصَارُ إلَى ذلك لِأَنَّهُ أَوْلَى من إلْقَاءِ أَحَدِهِمَا وَالِاسْتِعْمَالُ أَوْلَى من التَّعْطِيلِ قال في الْمَحْصُولِ الْعَمَلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا من وَجْهٍ أَوْلَى من الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ من كل وَجْهٍ وَتَرْكِ الْآخَرِ لِأَنَّ دَلَالَةَ الدَّلِيلِ على بَعْضِ مَدْلُولَاتِهِ تَابِعَةٌ لِدَلَالَتِهِ على كُلِّهَا لِأَنَّ دَلَالَةَ التَّضَمُّنِ تَابِعَةٌ لِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ وَتَرْكُ التَّبَعِ أَوْلَى من تَرْكِ الْأَصْلِ فإذا عَمِلْنَا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَقَدْ تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِالدَّلَالَةِ التَّضْمِينِيَّةِ وَإِنْ عَمِلْنَا بِأَحَدِهِمَا دُونَ الثَّانِي فَقَدْ تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِالدَّلَالَةِ السَّمْعِيَّةِ إذَا عَلِمْت هذا فَالْعَمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا من وَجْهٍ يَقَعُ على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدِهَا تَوْزِيعُ مُتَعَلَّقِ الْحُكْمِ إنْ أَمْكَنَ كما تُقْسَمُ الدَّارُ الْمُدَّعَى مِلْكُهَا عِنْدَ
____________________
(4/427)
تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ ثَانِيهَا يَنْزِلُ على الْأَحْكَامِ بَعْضُ كل وَاحِدٍ عِنْدَ التَّعَدُّدِ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقْتَضِيًا أَحْكَامًا فَيَعْمَلُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا في بَعْضِهَا وَبِالْآخِرِ في الْبَعْضِ الْآخَرِ كَالنَّهْيِ عن الشُّرْبِ وَالْبَوْلِ قَائِمًا ثُمَّ فَعَلَهُ فإن فِعْلَهُ يَقْتَضِي عَدَمَ الْأَوْلَوِيَّةِ وَالْحَرَجِ وَنَهْيُهُ بِالْعَكْسِ فَيُحْمَلُ النَّهْيُ على عَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَالْفِعْلُ على رَفْعِ الْحَرَجِ وَبَيَانِ الْجَوَازِ وَكَنَهْيِهِ عن الِاغْتِسَالِ بِفَضْلِ وُضُوءِ الْمَرْأَةِ ثُمَّ فَعَلَهُ مع عَائِشَةَ ثَالِثِهَا التَّنْزِيلُ على بَعْضِ الْأَحْوَالِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ كَقَوْلِهِ أَلَا أُخْبِرُكُمْ عن خَيْرِ الشُّهُودِ أَنْ يَشْهَدَ الرَّجُلُ قبل أَنْ يَسْتَشْهِدَ وَقَوْلِهِ في حَدِيثٍ آخَرَ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حتى يَشْهَدَ الرَّجُلُ قبل أَنْ يَسْتَشْهِدَ فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ على حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّانِي على حَقِّ الْآدَمِيِّينَ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَطْبَقَ عليها الْفُقَهَاءُ أَعْنِي الْجَمْعَ الْمُسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ من غَيْرِ إقَامَةِ دَلِيلٍ وَعَزَوْا ذلك إلَى تَعَارُضِ الْقِرَاءَتَيْنِ كَقِرَاءَةِ أَرْجُلَكُمْ بِالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ فَحَمَلُوا إحْدَاهُمَا على مَسْحِ الْخُفِّ وَالْأُخْرَى على غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ يَطْهُرْنَ ويطهرن إحْدَاهُمَا على ما دُونَ الْعَشَرَةِ وَالْأُخْرَى على الْعَشَرَةِ وقد ذَكَرَ ذلك من أَصْحَابِنَا الْأُصُولِيِّينَ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ فقال إذَا تَعَارَضَ عَامَّانِ فَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُمَا في حَالَيْنِ اُسْتُعْمِلَا وَإِلَّا وَجَبَ التَّوَقُّفُ وَكَذَا قال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ إذَا وَرَدَ مِثْلُ اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ لَا تَقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ فَيُحْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا على بَعْضِ ما تَنَاوَلَهُ وَيَخُصُّ في الثَّانِي وَقِيلَ يَتَوَقَّفُ فِيهِمَا وَأَمَّا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَنَقَلَ ذلك عن الْفُقَهَاءِ وقال هو مَرْدُودٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ بَلْ لَا بُدَّ من دَلِيلٍ خَارِجٍ عن ذلك وَأَمَّا أَنْ يَجْعَلَ أَحَدَهُمَا دَلِيلًا في تَخْصِيصِ التَّالِي وَالثَّانِيَ في تَخْصِيصِ الْأَوَّلِ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَهَذَا تَابَعَ فيه الْقَاضِي ثُمَّ قال وَكَأَنَّ الْفُقَهَاءَ رَأَوْا تَصَرُّفًا في الظَّوَاهِرِ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا على تَعَارُضِهِمَا إلَّا أَنْ يَتَّجِهَ تَأْوِيلٌ وَيَنْتَصِبَ عليه دَلِيلٌ قال ابن الْمُنِيرِ وَكَأَنَّ الْإِمَامَ ظَنَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَتَحَكَّمُونَ بِتَعْيِينِ
____________________
(4/428)
صُورَةٍ من صُورَةٍ حتى تَكُونَ هذه ثَابِتَةً وَهَذِهِ مُخْرَجَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ صَنِيعُهُمْ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ الْعَمَلَ مع الْإِمْكَانِ خَيْرٌ من التَّعْطِيلِ وَالْقَائِلُ بِالتَّعَارُضِ عَطَّلَهُمَا جميعا وَالْقَائِلُ بِتَخْصِيصِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِبَعْضِ صُوَرِهِ عَمِلَ بِهِمَا جميعا حَسَبَ إمْكَانِهِ ثُمَّ لهم في التَّعْيِينِ طَرِيقَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ صُوَرَ الْعَامِّ لَا بُدَّ أَنْ تَتَفَاوَتَ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ ذلك الْحُكْمِ فَتَعْيِينُ الْفُقَهَاءِ أَوْلَى الصُّوَرِ بِالْحُكْمِ لِأَنَّهُمْ لو عَيَّنُوا الْقِسْمَ الْآخَرَ لَزِمَ عُمُومُ الْحُكْمِ ضَرُورَةَ أَنَّ ثُبُوتَهُ في الْأَدْنَى يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ في الْأَعْلَى مِثَالُهُ إذَا قَابَلْنَا بين حديث أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ الناس حتى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مع قَوْلِهِ خُذْ من كل حَالِمٍ دِينَارًا كان الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي أَنْ لَا تُقْبَلَ الْجِزْيَةُ من أَحَدٍ وَالثَّانِي يَقْتَضِي قَبُولَهَا من كل أَحَدٍ فإذا حَمَلْنَا كُلًّا مِنْهُمَا على بَعْضِ صُوَرِهِ نَظَرْنَا في صُوَرِ الْكُفَّارِ وَجَدْنَاهَا قِسْمَيْنِ كِتَابِيًّا وَغَيْرَ كِتَابِيٍّ فَعَيَّنَّا الْكِتَابِيَّ لِلْجِزْيَةِ وَغَيْرَهُ لِلسَّيْفِ وَلَيْسَ هذا احْتِكَامًا وَلَكِنْ لَمَّا لم يَكُنْ بُدٌّ من التَّخْصِيصِ وَجَدْنَا الْكِتَابِيَّ أَوْلَى بِالْقَبُولِ من غَيْرِهِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى أَنْ يُسْتَبْقَى إذْ له عَقِيدَةٌ ما وَلِهَذَا أَجَازَ الشَّرْعُ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ دُونَ الْوَثَنِيَّاتِ وَلِهَذَا لَمَّا نَشِبَتْ الْحَرْبُ بين فَارِسَ وَالرُّومِ كان الْمُسْلِمُونَ يَتَمَنَّوْنَ نُصْرَةَ الرُّومِ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وكان الْمُشْرِكُونَ يَتَمَنَّوْنَ نُصْرَةَ فَارِسٍ لِأَنَّهُمْ مِثْلُهُمْ بِلَا كِتَابٍ فَبِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ يُعَيِّنُ الْفُقَهَاءُ صُوَرَ الْإِثْبَاتِ من صُوَرِ الْإِخْرَاجِ لَا بِالِاحْتِكَامِ وَبِذَلِكَ يَزُولُ عَنْهُمْ أَلْسِنَةُ الطَّاعِنِينَ وَأَمَّا قَوْلُ الْإِبْيَارِيِّ تَخْصِيصُ الْعُمُومَيْنِ تَعْطِيلٌ لَهُمَا فَلَا يَصِحُّ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ في الْجَمْعِ عَمَلٌ بِهِمَا فَهَذَا يَنْتَقِضُ عليه بِمَا إذَا تَعَارَضَ عَامٌّ وَخَاصٌّ فإنه وَافَقَ على أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْخَاصِّ على الْعَامِّ يَتَعَيَّنُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِهِمَا قُلْت وَالتَّحْقِيقُ إنَّهُ إذَا لم نَجِدْ مُتَعَلِّقًا سِوَاهُمَا تَصَدَّى لنا الْإِلْغَاءُ وَالْجَمْعُ وَالْأَلْيَقُ بِالشَّرْعِ الْجَمْعُ وَإِنْ وَجَدْنَا مُتَعَلِّقًا سِوَاهُمَا فَالْمُتَعَلِّقُ هو الْمُتَّبَعُ وهو الظَّاهِرُ من تَصَرُّفِ الشَّافِعِيِّ فإنه حَمَلَ حَدِيثَ ابْنِ بُرَيْدَةَ على عُمُومِهِ في أَهْلِ الْكِتَابِ وَحَدِيثَ أبي هُرَيْرَةَ في أَهْلِ الْأَوْثَانِ فقال لَا يَقْضِي بِأَحَدِهِمَا على الْآخَرِ لِتَسَاوِيهِمَا في الْقَضَاءِ إلَّا أَنَّهُ
____________________
(4/429)
ليس له أَنْ يَقُولَ حتى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أو يُعْطُوا إلَّا وَلِلْآخَرِ أَنْ يَقُولَ إنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى إحْدَى خِلَالٍ إذَا كَانُوا من أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِذْ تَعَارَضَا رَجَعْنَا إلَى دَلَالَةِ الْكِتَابِ فَقَدْ قال تَعَالَى وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ من الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حتى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ فَدَلَّ على أَنَّ من لم يَكُنْ من أَهْلِ الْكِتَابِ لَا تُؤْخَذُ منه الْجِزْيَةُ وَلِهَذَا امْتَنَعَ عُمَرُ من أَخْذِهَا من مَجُوسِ هَجَرَ وَمِثْلُهُ اخْتِلَافُ قَوْلَيْهِ في إتْمَامِ وُضُوءِ الْجَنَابَةِ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ رِوَايَتَيْ عَائِشَةَ وَمَيْمُونَةَ ولم يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا كما فَعَلَ مَالِكٌ بَلْ رَجَّحَ حَدِيثَ عَائِشَةَ لِمُوَافَقَتِهِ تَشْرِيعَ الْعِبَادَةِ وَكَذَلِكَ فَعَلَ في الْقِرَاءَتَيْنِ فإنه اخْتَلَفَ قَوْلَاهُ في انْتِقَاضِ وُضُوءِ الْمَلْمُوسِ لِأَجْلِ تَعَارُضِ قِرَاءَةِ لَمَسْتُمْ ولامستم وَرَجَّحَ النَّقْضَ بِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ لَمَّا كَثُرَ على عَادَاتِ الْمُتَأَخِّرِينَ طَرِيقَةُ الْجَمْعِ وَتَقْدِيمُهَا على طَرِيقَةِ التَّرْجِيحِ أَخَذَهَا الشَّيْخُ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ مُسَلَّمَةً وزاد فيها قَيْدًا فقال هو عِنْدِي فِيمَا إذَا كان التَّأْوِيلُ في طَرِيقَةِ الْجَمْعِ مَقْبُولًا عِنْدَ النَّفْسِ مُطْمَئِنَّةً بِهِ فَإِنْ لم يَكُنْ كَذَلِكَ فَالْأَشْبَهُ تَقْدِيمُ رُتْبَةِ التَّرْجِيحِ على رُتْبَةِ الْجَمْعِ فَيُنْظَرُ إلَى التَّرْجِيحِ بين الرُّوَاةِ بِحَسَبِ حَالِهِمْ في الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ لِأَنَّ الْأَصْلَ في التَّرْجِيحِ هو سُكُونُ النَّفْسِ وَسُكُونُهَا إلَى احْتِمَالِ الْغَلَطِ في بَعْضِهِمْ أَقْوَى من سُكُونِهَا إلَى التَّأْوِيلَاتِ الْمُسْتَبْعَدَةِ الْمُسْتَنْكَرَةِ عِنْدَهَا لَا سِيَّمَا مع من كانت رِوَايَتُهُ خَطَأً قال فَهَذَا هو الذي اسْتَقَرَّ عليه رَأْيِي وَنَظَرِي وَلَا أَقُولُ هذا في كل تَأْوِيلٍ ضَعِيفٍ مَرْجُوحٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الظَّاهِرِ وَإِنَّمَا ذلك حَيْثُ يَشْتَدُّ اسْتِكْرَاهُهُ ذَكَرَ ذلك في اخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ في تَقْدِيرِ مَدَى حَوْضِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال وَلَقَدْ سَمِعْت الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدِ بن عبد السَّلَامِ يقول قَوْلًا أَوْجَبَتْهُ شَجَاعَةُ نَفْسِهِ لَا أَرَى ذِكْرَهُ وَإِنْ كان صَحِيحًا قُلْت وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْخَ سُئِلَ عن حديث أَنَسٍ الْمُخَرَّجِ في الصَّحِيحَيْنِ ما بين نَاحِيَتَيْهِ كما بين جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ قال عبد اللَّهِ فَسَأَلْت عنهما فقال هُمَا قَرْيَتَانِ بِالشَّامِ بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ ثَلَاثِ لَيَالٍ فَأَجَابَ الشَّيْخُ الْمُرَادُ بِالنَّاحِيَتَيْنِ في حديث الْحَوْضِ الْمُقَدَّرُ بِمَا بين مَكَّةَ وَبُصْرَى نَاحِيَتَاهُ من الْعَرْضِ قُلْت
____________________
(4/430)
وَهَذَا الْجَوَابُ ليس بِصَحِيحٍ كما زَعَمَهُ الشَّيْخُ لِلْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِالتَّسْوِيَةِ بين الْعَرْضِ وَالطُّولِ وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ وفي الصَّحِيحَيْنِ رِوَايَاتٌ سَوَاءٌ أَيْ عَرْضُهُ وَطُولُهُ سَوَاءٌ الثَّانِي سَبَقَ أَنَّ طَرِيقَةَ التَّنْزِيلِ على حَالَتَيْنِ لَيْسَتْ على الْحُكْمِ فَعَلَى هذا إذَا تَعَارَضَ الْخَبَرَانِ وَأَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُمَا في مَوْضِعِ الْخِلَافِ فَهُوَ أَوْلَى من اسْتِعْمَالِهِمَا في غَيْرِ الْمُخْتَلَفِ فيه ذَكَرَهُ ابن الْقَطَّانِ قال وَهَذَا يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا في قَوْلِهِ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ على الصِّغَارِ وَالْمَجَانِينِ وَحَمَلُوا الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا من وَلِيِّهَا وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ مع الثَّيِّبِ أَمْرٌ فَاسْتَعْمَلَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ في الْمَرْأَتَيْنِ وَحَمَلُوا قَوْلَهُ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ على الصِّغَارِ وَالْمَجَانِينِ وَحَمَلُوا الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا على الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ قال أَصْحَابُنَا وَنَحْنُ نَسْتَعْمِلُهَا في الْمَوْضِعِ الْمُخْتَلَفِ فيه وَهِيَ الْبَالِغَةُ لِأَنَّا اسْتَفَدْنَا كَوْنَ الصِّغَارِ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِنَّ إلَّا الْوَلِيُّ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ النِّكَاحِ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ فإذا صَحَّ هذا كان حَمْلُنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ أَكْثَرُ فَائِدَةٍ الشَّرْطُ الرَّابِعُ أَنْ يَتَرَجَّحَ بِالْمَزِيَّةِ التي لَا تَسْتَقِلُّ وَهَلْ يَجُوزُ التَّرْجِيحُ بِالدَّلِيلِ الْمُسْتَقِلِّ فيه قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا نعم كَالْمَزِيَّةِ بَلْ أَوْلَى فإن الْمُسْتَقِلَّ أَقْوَى من غَيْرِ الْمُسْتَقِلِّ والثاني
____________________
(4/431)
وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي وَعَزَاهُ إلَى الْأَكْثَرِينَ الْمَنْعُ لِأَنَّ الرُّجْحَانَ وَصْفٌ لِلدَّلِيلِ وَالْمُسْتَقِلُّ ليس وَصْفًا له وَلِأَنَّهُ إنْ كان دُونَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ لَا تَرْجِيحَ فيه وَإِنْ كان فَوْقَهُ فَهُوَ مُسْتَمْسِكٌ بِهِ لَا بِطَرِيقِ التَّرْجِيحِ وَإِنْ كان مثله رَجَعَ الْبَحْثُ إلَى التَّرْجِيحِ بِالْعَدَدِ وَلِأَنَّ الْأَدِلَّةَ إذَا تَمَاثَلَتْ سَقَطَ الزَّائِدُ لِأَنَّ أَثَرَهُ مِثْلُ الْأَوَّلِ وَإِلَّا يَلْزَمُ اجْتِمَاعُ الْمِثْلَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَزِيَّةِ أَنَّ الْفَضْلَةَ مُسْتَغْنًى عنها لَا اتِّصَالَ لها بِالدَّلِيلِ بِخِلَافِ الدَّلِيلِ فإنه لَا يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عنه وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ بِنَاءً على رُجُوعِهِ إلَى أَوْصَافٍ لَا إلَى ذَوَاتٍ وهو كَثْرَةُ النَّظَائِرِ وَكَثْرَتُهَا وَصْفٌ في الدَّلِيلِ وَلِأَنَّ الْمِزْيَةَ أَيْضًا مُسْتَغْنًى عنها وَلِهَذَا لو فَرَضْنَا خُلُوَّ الدَّلِيلِ منها لَاسْتَقَلَّ وَقَوْلُ النَّافِي يَلْزَمُ اجْتِمَاعُ الْمِثْلَيْنِ مَمْنُوعٌ بَلْ التَّقْوِيَةُ تَرْجِعُ إلَى التَّرْجِيحِ بِأَوْصَافٍ لَا بِذَوَاتٍ وهو كَثْرَةُ النَّظَائِرِ فإن ذلك وَصْفٌ في الدَّلِيلِ وَكَأَنَّا رَجَّحْنَا بِالتَّأْكِيدِ لَا بِالتَّأْسِيسِ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ يُبْعِدُ احْتِمَالَ الْمَجَازِ وَفَصَّلَ صَاحِبُ الْمُقْتَرَحِ فقال إنْ كان الدَّلِيلُ الْمُسْتَقِلُّ مُغْنِيًا عن الْأَوَّلِ لم يَصِحَّ التَّرْجِيحُ بِهِ لِأَنَّهُ تَطْوِيلٌ بِلَا فَائِدَةٍ وَإِنْ لم يَكُنْ مُغْنِيًا عنه صَحَّ التَّرْجِيحُ بِهِ لِأَنَّهُ مَانِعٌ منه وَمَثَّلَ الْأَوَّلَ بِمَا إذَا تَمَسَّكَ بِقِيَاسٍ فَعُورِضَ بِقِيَاسٍ فَرَجَحَ قِيَاسُهُ بِالنَّصِّ فَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ النَّصَّ الذي رَجَحَ بِهِ يُغْنِي عن الْقِيَاسِ فإن ذِكْرَ الْقِيَاسِ تَطْوِيلٌ بِلَا فَائِدَةٍ وَمَثَّلَ الثَّانِيَ بِمَا إذَا تَمَسَّكَ بِنَصٍّ وَهَذَا التَّفْصِيلُ لَا يَرْجِعُ إلَى أَمْرٍ أُصُولِيٍّ بَلْ إلَى أَمْرٍ جَدَلِيٍّ اصْطِلَاحِيٍّ وَانْبَنَى على هذا الْخِلَافِ في هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ منها أَنَّهُ يَجُوزُ التَّرْجِيحُ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ لِأَنَّ الظَّنَّيْنِ أَقْوَى من الظَّنِّ الْوَاحِدِ فَيُعْمَلُ بِالْأَقْوَى ومنها تَرْجِيحُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ على الْآخَرِ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْعَدَدَ إذَا كَثُرَ قَرُبَ من التَّوَاتُرِ فَالْتَحَقَ بِتَقْدِيمِ الْمُتَوَاتِرِ على الْآحَادِ وَالْخِلَافُ في هذا أَضْعَفُ وَلِهَذَا وَافَقَ هُنَا من خَالَفَ وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ الْمَنْعَ كَالشَّهَادَةِ وقال الذي ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ التَّرْجِيحُ بِهِ لِأَنَّهُ يُورِثُ مَزِيدًا في غَلَبَةِ الظَّنِّ وَسَيَأْتِي فيه مَزِيدُ كَلَامٍ ومنها أَنَّهُ انْضَمَّ إلَى أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ قِيَاسٌ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَاَلَّذِي ارْتَضَاهُ الشَّافِعِيُّ تَقْدِيمُ الحديث الْمُوَافِقِ لِلْقِيَاسِ وقال الْقَاضِي لَا مُرَجِّحَ بِهِ لِأَنَّهُ ظَنٌّ مُسْتَقِلٌّ فَتَسَاقَطَا وَيَرْجِعُ إلَى الْقِيَاسِ فَالْمَسْلَكَانِ يُفْضِيَانِ إلَى حُكْمِ الْقِيَاسِ وَلَكِنَّ الشَّافِعِيَّ يَرَى تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالْخَبَرِ الرَّاجِحِ بِمُوَافَقَةِ الْقِيَاسِ فَالْقَاضِي يَعْمَلُ بِالْقِيَاسِ وَيَسْقُطُ
____________________
(4/432)
الْخَبَرُ فَإِنْ قُلْت فَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ قُلْت بَلْ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ تَوْقِيفِيَّةٌ أو قِيَاسِيَّةٌ وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذلك فِيمَا لو حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ يَنْقُضُ وَالصُّورَةُ أَنَّهُ غَيْرُ جَلِيٍّ وفي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ حَكَاهُ أبو الْعِزِّ في شَرْحِ الْمُقْتَرَحِ التَّفْصِيلُ بين ما يَظْهَرُ من قَصْدِ الشَّارِعِ إرَادَةَ الْمُجْمَلِ الظَّاهِرِ فَلَا يَصِحُّ عَضُدُهُ بِقِيَاسٍ وَإِنْ لم يَظْهَرْ قَصْدُهُ لِذَلِكَ فَيَصِحُّ تَفْرِقَةً بين تَأْيِيدِهِ ظُهُورَ اللَّفْظِ في الْمَعْنَى لِظُهُورِ الْقَصْدِ وَبَيْنَ ما لم يَتَأَيَّدْ بِذَلِكَ وقال إلْكِيَا إنْ كان مع أَحَدِهِمَا قِيَاسٌ وفي الْجَانِبِ الْآخَرِ مَزِيدُ وُضُوحٍ كَزِيَادَةِ الرُّوَاةِ وَالْعَدَالَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُعْمَلَ بِالْقِيَاسِ لِاسْتِقْلَالِهِ وَيُحْتَمَلُ خِلَافُهُ من جِهَةِ أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ ضَرُورَةً عِنْدَ فَقْدِ النَّصِّ وَدَلَالَةُ النَّصِّ ثَابِتَةٌ في أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهَا ضَعُفَتْ بِالتَّعَارُضِ وَالْقِيَاسُ مُسْتَقِلٌّ فَيَتَعَارَضُ النَّظَرَانِ قال وَالْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ الرَّاجِحِ ثُمَّ حَكَى قَوْلًا أَنَّهُ كَالْحُكْمِ قبل وُرُودِ الشَّرِيعَةِ فَيَجِيءُ فيه الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ ومنها أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ أَقْرَبَ إلَى الْقَوَاعِدِ وَالْفَرْقُ بين هذا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ في هذا له مُخَالَفَةَ الْقِيَاسِ فإذا ثَبَتَ أَنَّ مُخَالِفَ الْقِيَاسِ يُرَجَّحُ فَكُلَّمَا كان أَقَلَّ مُخَالَفَةً كان أَكْثَرَ قُرْبًا فَكَانَ أَرْجَحَ فَإِنَّا لو أَرَدْنَا أَنْ نُثْبِتَ الْقِيَاسَ على وَفْقِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ لَعَجَزْنَا وَلَا يَجِيءُ هُنَا خِلَافُ الْقَاضِي بِالتَّسَاقُطِ إذْ لو أَسْقَطْنَاهَا لم نَقْدِرْ على إثْبَاتِ هَيْئَةِ الْقِيَاسِ فَتَعَيَّنَ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا بِمُرَجِّحِ الْقُرْبِ مَسْأَلَةٌ قال ابن كَجٍّ يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِوُجُوهٍ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ أَحَدِهَا بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ على اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ ثَانِيهَا بِالنَّقْلِ فإنه يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُوَافِقًا لِمَا قبل الشَّرْعِ وَالْآخَرُ نَاقِلًا فَيُقَدَّمُ لِأَنَّ معه زِيَادَةً كما لو شَهِدَا بِأَنَّ هذه الدَّارَ لِزَيْدٍ خَلَفَهَا لِوَرَثَتِهِ وَشَهِدَ آخَرَانِ بِأَنَّهُ بَاعَهَا من عَمْرٍو تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْبَيْعِ لِأَنَّ أُولَئِكَ بَنَوْا على الْحَالِ الْأَوَّلِ ثَالِثِهَا أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا فَالْمُتَأَخِّرُ أَوْلَى لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ كنا نَأْخُذُ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ رَابِعِهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَشْبَهَ بِاسْتِعْمَالِ الصَّحَابَةِ
____________________
(4/433)
خَامِسِهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَشْبَهَ بِاسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ سَادِسِهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَشْبَهَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ السُّنَنَ أَكْثَرُهَا لها أَصْلٌ في الْكِتَابِ إمَّا نَصًّا أو اسْتِدْلَالًا سَابِعِهَا أَنْ يَكُونَ أَشْبَهَ بِالْقِيَاسِ وَهَذَا كُلُّهُ سَيَأْتِي مُفَصَّلًا وَلَكِنْ أَحْبَبْت مَعْرِفَتَهُ من كَلَامِ الشَّافِعِيِّ مَجْمُوعًا قال ابن كَجٍّ وإذا اجْتَمَعَ مُرَجَّحَاتٌ في خَبَرٍ وَاثْنَانِ في خَبَرٍ فَاَلَّذِي اجْتَمَعَ فيه الثَّلَاثَةُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا عَامَّيْنِ أو خَاصَّيْنِ أو أَحَدُهُمَا عَامًّا وَالْآخَرُ خَاصًّا أو كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامًّا من وَجْهٍ خَاصًّا من وَجْهٍ آخَرَ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ من هذه الْأَنْوَاعِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ لِأَنَّهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ أو مَظْنُونَيْنِ أو أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا وَالْآخَرُ مَظْنُونًا فَحَصَلَ اثْنَا عَشَرَ وَكُلٌّ منها إمَّا أَنْ يُعْلَمَ تَقَدُّمُهُ أو تَأَخُّرُهُ أو يُجْهَلَ فَتَصِيرُ الْقِسْمَةُ من سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ وَيَقَعُ على ثَلَاثِهِ أَضْرُبٍ الضَّرْبُ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ وَعُلِمَ التَّارِيخُ فَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ لِلْمُتَقَدِّمِ سَوَاءٌ كَانَا آيَتَيْنِ أو خَبَرَيْنِ أو أَحَدُهُمَا آيَةً وَالْآخَرُ خَبَرًا عِنْدَ من يُجَوِّزُ النَّسْخَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ أَمَّا من يَمْنَعُهُ فَيَمْنَعُ الْفَسْخَ في هذا الْأَخِيرِ قَالَهُ الْهِنْدِيُّ وقال الْأُرْمَوِيُّ الشَّافِعِيُّ وَإِنْ لم نَقُلْ بِوُقُوعِ نَسْخِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْكِتَابِ وَلَا بِالْعَكْسِ وَلَكِنَّهُ إذَا تَعَارَضَا وَأَحَدُهُمَا مُتَقَدِّمٌ تَعَيَّنَ الْمُتَأَخِّرُ وَهَذَا إذَا كان حُكْمُ الْمُتَقَدِّمِ قَابِلًا لِلنَّسْخِ وَإِلَّا كَصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قال الْإِمَامُ فَيَتَسَاقَطَانِ وَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى دَلِيلٍ وَاعْتَرَضَ عليه النقشواني فإن الْمَدْلُولَ إذَا لم يَقْبَلْ النَّسْخَ يَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِالْمُتَأَخِّرِ فَلَا يُعَارِضُ الْمُتَقَدِّمَ بَلْ يَجِبُ إعْمَالُ الْمُتَقَدِّمِ كما كان قبل وُرُودِ الْمُتَأَخِّرِ قُلْت وَهَذَا إذَا كان نَقْلُ التَّارِيخِ مُتَوَاتِرًا أَيْضًا فَإِنْ كان النَّصَّانِ مُتَوَاتِرَيْنِ وَالنَّسْخُ آحَادًا فَيُتَّجَهُ فيه طَرِيقَتَانِ
____________________
(4/434)
إحْدَاهُمَا إجْرَاءُ خِلَافٍ مَبْنِيٍّ على النَّسْخِ بِالْآحَادِ فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ نَسَخْنَا بِمَا دَلَّتْ الْآحَادُ على أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ وَعَمِلْنَا بِالْمُتَأَخِّرِ وَإِنْ مَنَعْنَاهُ حَكَمْنَا بِتَعَارُضِ الظَّنَّيْنِ وَرَجَعْنَا إلَى الْأَصْلِ أو التَّخْيِيرِ والثانية الْقَطْعُ بِقَبُولِ الْآحَادِ في تَارِيخِ الْمُتَوَاتِرِ وَهِيَ الصَّحِيحَةُ لِأَنَّ انْسِحَابَ الْعَمَلِ بِالْمُتَوَاتِرِ في سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ مَظْنُونٌ فما رَفَضْنَا إلَّا مَظْنُونًا بِمَظْنُونٍ وَأَمَّا عَكْسُ هذه الصُّورَةِ أَنْ يُفْرَضَ التَّارِيخُ مُتَوَاتِرًا أو الْمَتْنُ آحَادًا فَهَذَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ هذا كُلُّهُ إذَا عُلِمَ الْمُتَقَدِّمُ فَإِنْ عُلِمَ مُقَارَنَتُهُمَا فَإِنْ أَمْكَنَ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا تَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِهِ فإنه إذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ لم يَبْقَ إلَّا التَّخْيِيرُ وَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ تَسَاقَطَا وَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى غَيْرِهِمَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هو الْمُتَأَخِّرُ فَيَكُونُ نَاسِخًا إذْ التَّقَدُّمُ يَكُونُ مَنْسُوخًا هَكَذَا أَطْلَقُوهُ وَهَذَا إذَا لم يُمْكِنْ تَطَرُّقُ النَّسْخِ إلَى أَحَدِهِمَا فَإِنْ أَمْكَنَ فَالشَّافِعِيُّ يُرَجِّحُ ما لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ ذلك وَرَآهُ أَوْلَى من الْحُكْمِ بِتَسَاقُطِهِمَا حَكَاهُ عنه الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ وَذَكَرَ له مِثَالَيْنِ تَخْرُجُ مِنْهُمَا صُورَتَانِ إحْدَاهُمَا إذَا أَرَّخَ أَحَدُهُمَا وَسَكَتَ الْآخَرُ عن التَّارِيخِ كَحَدِيثِ إذَا صلى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ مع جُلُوسِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في مَرَضِ وَفَاتِهِ وَالْمُقْتَدُونَ بِهِ قِيَامٌ وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مُطْلَقٌ فَغَلَبَ على الظَّنِّ أَنَّهُ كان قَالَهُ في صِحَّتِهِ والثانية أَنْ يَكُونَ إسْلَامُ رَاوِي أَحَدِهِمَا مُتَأَخِّرًا عن إسْلَامِ الْآخَرِ كَحَدِيثِ قَيْسِ بن طَلْقٍ في عَدَمِ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ وهو مُتَقَدِّمُ الْإِسْلَامِ
____________________
(4/435)
مع حديث أبي هُرَيْرَةَ بِالنَّقْضِ وهو مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ فَيَتَطَرَّقُ النَّسْخُ إلَى حديث قَيْسٍ ثُمَّ حَكَى الْإِمَامُ عن قَوْمٍ بَقَاءَ التَّعَارُضِ إذْ لَا يُصَارُ إلَى الْفَسْخِ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ ثُمَّ تَوَسَّطَ فقال إنْ عَدِمَ الْمُجْتَهِدُ مُتَعَلَّقًا سِوَاهُ فَكَقَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ أَوْلَى من تَعْطِيلِ الْحُكْمِ وَتَعْرِيَةِ الْحَادِثِ عن مُوجِبِ الشَّرْعِ وَإِنْ وَجَدَ غَيْرَهَا وَوَجَدَ الْقِيَاسَ مُضْطَرِبًا عَدَلَ عنهما وَتَمَسَّكَ بِالْقِيَاسِ ثُمَّ الْخَبَرُ الذي بَعْدَ ظَنِّ النَّسْخِ يُسْتَعْمَلُ مُرَجِّحًا لِأَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ على الْآخَرِ وَهَذَا التَّفْصِيلُ يَفْرِضُ الْمَسْأَلَةَ في قِيَاسَيْنِ تَعَارَضَا أو خَبَرَيْنِ كَذَلِكَ وهو مُخَالِفٌ لِتَصْوِيرِهِ السَّابِقِ في تَعَارُضِ خَبَرَيْنِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ وُجِدَ الْقِيَاسُ مع كُلٍّ مِنْهُمَا أو مع أَحَدِهِمَا أو لم يُوجَدْ أَلْبَتَّةَ وَأَوْرَدَ الْإِبْيَارِيُّ على تَفْصِيلِهِ أَنَّهُ هَلَّا عَمِلَ بِالْخَبَرِ الرَّاجِحِ وَجَعَلَ الْقِيَاسَ الْمُوَافِقَ له مُرَجِّحًا وَأَجَابَ ابن الْمُنِيرِ بِأَنَّهُ لَمَّا لم يَجِدْ في التَّوْقِيفِ مُسْتَنَدًا اسْتَأْنَفَ الظَّنَّ في الْأَقْيِسَةِ فَوَجَدَهَا أَيْضًا مُتَعَارِضَةً وَلَكِنْ وَجَدَ أَحَدَ قِيَاسَيْهِ على وَفْقِ الْخَبَرِ الرَّاجِحِ فَجَعَلَ الْقِيَاسَ مُسْتَنَدًا لِأَنَّهُ لو جَعَلَ الْخَبَرَ الرَّاجِحَ مُسْتَنَدًا بَعْدَ أَنْ سَبَقَ منه إلْغَاءُ كَوْنِهِ مُسْتَنَدًا لَكَانَ نَقْضًا لِحُكْمٍ ثَبَتَ وَحَاصِلُ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ تَوْقِيفِيَّةٌ أو قِيَاسِيَّةٌ وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ في نَقْضِ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَنَقَلَ ابن الْمُنِيرِ في الصُّورَةِ الْأُولَى أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ يُقَدَّمُ الْمُؤَرَّخُ على الْمُهْمَلِ لِأَنَّ الْمُؤَرَّخَ يَقْطَعُ بِهِ في وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بِخِلَافِ الْمُهْمَلِ فإنه ما من وَقْتٍ إلَّا وَيُحْتَمَلُ فيه الثُّبُوتُ وَالْعَدَمُ فَيُقَدَّمُ الْمَقْطُوعُ بِهِ في تَارِيخٍ مُعَيَّنٍ لِأَنَّ الْمُبَيَّنُ مُقَدَّمٌ على الْمُجْمَلِ فَالتَّرْجِيحُ في هذه الصُّورَةِ مَبْنِيٌّ على الْمُقَابَلَةِ بين الْبَيَانِ وَالْإِجْمَالِ وَالتَّرْجِيحُ في الثَّانِيَةِ مَبْنِيٌّ على الْمُقَابَلَةِ بين الْإِجْمَالِ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ وَهَذَا يَرُدُّ إيرَادَ الْإِبْيَارِيّ على الْمَنْقُولِ عن الشَّافِعِيِّ احْتِمَالَ أَنَّ مُتَأَخِّرَ الْإِسْلَامِ تَحَمَّلَ في حَالِ الْكِبَرِ وَجَوَابُهُ أَنَّ التَّحَمُّلَ في حَالِ الْإِسْلَامِ أَغْلَبُ وَقَبْلَ الْإِسْلَامِ أَنْدَرُ فَيُقَدَّمُ الْغَالِبُ على النَّادِرِ وَلَيْسَ كُلُّ احْتِمَالٍ وَاقِعًا فَتَأَمَّلْ هذا الْفَصْلَ فإن مَعْرِفَتَهُ من غَايَاتِ الْآمَالِ الضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَا مَظْنُونَيْنِ فَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا على الْآخَرِ نَسَخَ الْمُتَأَخِّرُ الْمُتَقَدِّمَ وَإِلَّا وَجَبَ التَّرْجِيحُ فَيُعْمَلُ بِالْأَقْوَى الضَّرْبُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا وَالْآخَرُ مَظْنُونًا فَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا وكان هو الْمَظْنُونُ كان
____________________
(4/436)
الْمَعْلُومُ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا وَإِنْ كان الْمَعْلُومُ مُتَقَدِّمًا ما لم يَنْسَخْهُ الْمَظْنُونُ فَنَعْمَلُ بِالْمَعْلُومِ وَإِنْ جُهِلَ عُمِلَ بِالْمَعْلُومِ سَوَاءٌ عُلِمَتْ الْمُقَارَنَةُ أو لَا النَّوْعُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَا خَاصَّيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ أو مَظْنُونَيْنِ أو أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا وَالْآخَرُ مَظْنُونًا وَالْحُكْمُ فيها ما تَقَدَّمَ في النَّوْعِ الْأَوَّلِ قال سُلَيْمٌ إنْ تَعَارَضَ نَصَّانِ فَإِنْ كَانَا من أَخْبَارِ الْآحَادِ وَعُلِمَ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا نَسَخَهُ الْمُتَأَخِّرُ وَإِلَّا قُدِّمَ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ بِضَرْبٍ من التَّرْجِيحِ وَإِنْ كَانَا قَطْعِيَّيْنِ كَالْآيَتَيْنِ وَالْخَبَرَيْنِ الْمُتَوَاتِرَيْنِ وَعُلِمَ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا نَسَخَهُ الْمُتَأَخِّرُ وَإِنْ لم يُعْلَمْ تَوَقَّفَ فِيهِمَا ولم يُقَدَّمْ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ بِتَرْجِيحٍ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ طَرِيقَةُ غَلَبَةِ الظَّنِّ فَلَا يَدْخُلُ في تَقْوِيَةِ ما طَرِيقُهُ الْقَطْعُ النَّوْعُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَامًّا وَالْآخَرُ خَاصًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حتى يُؤْمِنَّ مع قَوْلِهِ وَالْمُحْصَنَاتُ من الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ من قَبْلِكُمْ فَفِيهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ فَإِنْ كَانَا مَعْلُومَيْنِ فَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ الْعَامِّ وَتَأَخُّرُ الْخَاصِّ فَأَطْلَقَ في الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْخَاصَّ يَكُونُ نَاسِخًا أَيْ الْعَامَّ في ذلك الْفَرْدِ الذي تَنَاوَلَهُ الْخَاصُّ وَهَذَا حَكَاهُ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ عن بَعْضِ الْأَصْحَابِ وقال إنَّهُ بِنَاءً على أَنَّ تَأَخُّرَ الْبَيَانِ عن وَقْتِ الْخِطَابِ لَا يَجُوزُ وهو قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ قال وَالْمَذْهَبُ أَنْ يَقْضِيَ بِالْخَاصِّ على الْعَامِّ مُطْلَقًا وَقِيلَ يَتَعَارَضَانِ وهو قَوْلُ الْقَاضِي وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ إنْ كان الْخَاصُّ مُخْتَلَفًا فيه وَالْعَامُّ مُجْمَعًا عليه لم يَقْضِ بِهِ على الْعَامِّ وَإِنْ كان مُتَّفَقًا عليه قَضَى بِهِ على الْعَامِّ وقال الْهِنْدِيُّ ما قال في الْمَحْصُولِ مَوْضِعُهُ إذَا وَرَدَ بَعْدَ مَظْنُونٍ وَقْتَ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ فَإِنْ وَرَدَ قبل حُضُورِ وَقْتِهِ كان الْخَاصُّ الْمُتَأَخِّرُ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ وَأَمَّا من لَا يُجَوِّزُ تَأْخِيرَ بَيَانِ التَّخْصِيصِ عن وَقْتِ الْخِطَابِ فَعِنْدَهُ في الصُّورَتَيْنِ يَكُونُ الْخَاصُّ خَاصًّا وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ إطْلَاقُ الْمَحْصُولِ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ وَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ الْخَاصِّ فَعِنْدَنَا يُبْنَى الْعَامُّ على الْخَاصِّ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَنْسَخُهُ وَإِنْ عُلِمَ مُقَارَنَتُهُمَا فَيَكُونُ الْخَاصُّ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ وَإِنْ جُهِلَ يُبْنَى الْعَامُّ على الْخَاصِّ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ يَتَوَقَّفُ فيه وقال سُلَيْمٌ الْحُكْمُ في الْمَسْأَلَتَيْنِ أَعْنِي الْمُقَارَنَةَ وَجَهْلَ التَّارِيخِ أَنْ يُبْنَى الْعَامُّ على الْخَاصِّ وقال عِيسَى بن أَبَانَ وَالْكَرْخِيُّ إنْ عُلِمَ لِلصَّحَابَةِ فيه اسْتِعْمَالٌ عُمِلَ بِهِ وَإِلَّا وَجَبَ
____________________
(4/437)
التَّوَقُّفُ وَإِنْ كَانَا مَظْنُونَيْنِ فَالْحُكْمُ فيه كما كَانَا مَعْلُومَيْنِ إنْ كان أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا وَالْآخَرُ مَظْنُونًا قال الْإِمَامُ فَهَاهُنَا اتَّفَقُوا على تَقْدِيمِ الْمَعْلُومِ على الْمَظْنُونِ إلَّا إذَا كان الْمَعْلُومُ عَامًّا وَالْمَظْنُونُ خَاصًّا وَوَرَدَا مَعًا وَذَلِكَ مِثْلُ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ قال الْهِنْدِيُّ وهو غَيْرُ مَرْضِيٍّ لِإِشْعَارِهِ بِأَنَّ ذلك يَخْتَصُّ بِحَالَةِ وُرُودِهِمَا مَعًا لَكِنَّهُ ليس كَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ أَحَدِهِمَا لو تَأَخَّرَ الْخَاصُّ الْمَظْنُونُ عن الْعَامِّ الْمَعْلُومِ وكان قبل حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ الْمَعْلُومِ كان أَيْضًا مُخَصِّصًا وكان اخْتِلَافُ الناس فيه كما في الْمُتَقَارِنَيْنِ نعم يَسْتَقِيمُ ذلك على مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وثانيهما لو تَقَدَّمَ الْخَاصُّ الْمَظْنُونُ على الْعَامِّ الْمَعْلُومِ فإنه يُبْنَى الْعَامُّ عليه عِنْدَنَا وهو تَقْدِيمُ الْخَاصِّ الْمَظْنُونِ على الْعَامِّ الْمَعْلُومِ مع أَنَّهُمَا لم يَرِدَا مَعًا وَحِينَئِذٍ فَالْحُكْمُ في هذا تَقْدِيمُ الْمَعْلُومِ على الْمَظْنُونِ إلَّا في هذه الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الصُّورَةِ التي ذَكَرَهَا الْإِمَامُ وَالصُّورَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا النَّوْعُ الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَامًّا من وَجْهٍ خَاصًّا من وَجْهٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يَخُصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُمُومَ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَنْ تَجْمَعُوا بين الْأُخْتَيْنِ مع قَوْلِهِ أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فإن الْأُولَى خَاصَّةٌ في الْأُخْتَيْنِ عَامَّةٌ في الْجَمْعِ في مِلْكِ الْيَمِينِ وَالثَّانِيَةَ عَامَّةٌ في الْأُخْتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا خَاصَّةٌ في مِلْكِ الْيَمِينِ وَكَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ من نَامَ عن صَلَاةٍ أو نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا مع نَهْيِهِ عن الصَّلَاةِ في الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ فإن الْأَوَّلَ خَاصٌّ في وَقْتِ الْقَضَاءِ عَامٌّ في الْأَوْقَاتِ وَالثَّانِيَ عَامٌّ في الصَّلَاةِ خَاصٌّ في الْأَوْقَاتِ فَفِيهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ أَيْضًا فَإِنْ كَانَا مَعْلُومَيْنِ وَعُلِمَ الْمُتَقَدِّمُ فَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ عِنْدَ من يقول إنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ يَنْسَخُ الْخَاصَّ الْمُتَقَدِّمَ بَلْ هُنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ لم يَخْلُصْ خُصُوصُ الْأَوَّلِ وَأَمَّا عِنْدَ من لَا يقول بِهِ فَاللَّائِقُ بِمَذْهَبِهِ أَنْ لَا يَقُولَ بِالنَّسْخِ هُنَا كما في الْأَوَّلِ من جِهَةِ الْخُصُوصِ وفي
____________________
(4/438)
الثَّانِي من جِهَةِ الْعُمُومِ بَلْ يَذْهَبُ في التَّرْجِيحِ وَإِنْ لم يَعْلَمْ ذلك سَوَاءٌ عُلِمَتْ الْمُقَارَنَةُ أو لم تُعْلَمْ أَيْضًا فَاللَّائِقُ بِالْمَذْهَبَيْنِ أَنْ يُصَارَ إلَى التَّرْجِيحِ بِكَوْنِ أَحَدِهِمَا حَظْرًا وَالْآخَرِ إبَاحَةً أو بِكَوْنِ أَحَدِهِمَا مُثْبَتًا وَالْآخَرِ مَنْفِيًّا أو شَرْعِيًّا وَالْآخَرِ فِعْلِيًّا لِأَنَّ الْحُكْمَ بِذَلِكَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ وَلَيْسَ في تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا على الْآخَرِ إطْرَاحُ الْآخَرِ بِخِلَافِ الْمُتَعَارِضَيْنِ من كل وَجْهٍ وَأَمَّا إذَا كَانَا مَظْنُونَيْنِ فَكَمَا في الْمَعْلُومَيْنِ إلَّا أَنَّهُ يُرَجَّحُ فيها بِقُوَّةِ الْأَشْبَاهِ وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا وَالْآخَرُ مَظْنُونًا فَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ الْمَعْلُومِ عُمِلَ بِهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا وَإِنْ عُلِمَ تَأْخِيرُهُ عُمِلَ بِهِ لِكَوْنِهِ نَاسِخًا وَهَذَا على رَأْيِ من يَنْسَخُ الْخَاصَّ بِالْعَامِّ وَأَمَّا على رَأَيْنَا فَالْعَمَلُ بِالْمَعْلُومِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا لِتَعَذُّرِ النَّسْخِ وَإِنْ لم يُعْلَمْ ذلك سَوَاءٌ عُلِمَ التَّقَارُنُ أو جُهِلَ فَإِنَّا نَحْكُمُ بِالْمَعْلُومِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا هذا حَاصِلُ ما ذَكَرَهُ أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ وَتَابَعَهُ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَغَيْرُهُ وَأَطْلَقَ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وَسُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ وَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ بِدَلِيلٍ وفي جَوَازِ خُلُوِّ مِثْلِ هذا عن التَّرْجِيحِ قَوْلَانِ وإذا خَلَا سَقَطَا وَرَجَعَ الْمُجْتَهِدُ إلَى الْبَرَاءَةِ وَنَقَلَ سُلَيْمٌ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَقْدِيمَ الْخَبَرِ الذي فيه ذِكْرُ الْوَقْتِ لِأَنَّ الْخِلَافَ وَاقِعٌ في الْوَقْتِ فَقُدِّمَ ما فيه وَذَكَرَ الصَّيْرَفِيُّ في الدَّلَائِلِ في تَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ أَنَّهُ إنْ كان هُنَاكَ تَوْقِيفٌ صِرْنَا إلَيْهِ وَإِنْ لم يَكُنْ إلَّا الْعُمُومُ فَفِيهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّا نَنْظُرُ إلَى أَيِّهِمَا أَعَمَّ اللَّفْظَيْنِ بِوَجْهٍ فَيُجْعَلُ الْآخَرُ في الْخَاصَّةِ والثاني إلَى أَيِّ اللَّفْظَتَيْنِ اُبْتُدِئَ بها فَالْأُخْرَى مَعْطُوفَةٌ عليها لِأَنَّك لو أَثْبَتَّ اللَّفْظَةَ الثَّانِيَةَ كان فيها رَفْعُ ما اُبْتُدِئَ بِذِكْرِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ من الثَّانِيَةِ إلَّا ما لَا يُبْطِلُ الْأُولَى فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِلثَّانِي على ما قُلْنَا في التَّرْتِيبِ كَأَنَّا قُلْنَا كُلُّ مِلْكِ يَمِينٍ فَهُوَ مُبَاحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فذكر عُمُومَ الزَّوْجَاتِ وَعُمُومَ مِلْكِ الْيَمِينِ فَكَانَ أَخَصَّ مِمَّا ذَكَرْت من الزَّوْجَاتِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ فَثَبَتَ أَنَّ الْجَمْعَ بين الْأُخْتَيْنِ الْمِلْكُ وَالنِّكَاحُ مُسْتَثْنَى من عُمُومِ قَوْلِهِ إلَّا على أَزْوَاجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ولم يَصِحَّ أَنْ تُقَابِلَ الْآيَةَ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى لِمَا وَصَفْتُهُ انْتَهَى قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ هذه الْمَسْأَلَةُ من مُشْكِلَاتِ الْأُصُولِ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْوَقْفُ إلَّا بِتَرْجِيحٍ يَقُومُ على أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِ قال وَكَأَنَّ
____________________
(4/439)
مُرَادَهُمْ التَّرْجِيحُ الْعَامُّ الذي لَا يَخُصُّ مَدْلُولَ الْعُمُومِ كَالتَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عن مَدْلُولِ الْعُمُومِ من حَيْثُ هو مَدْلُولُ الْعُمُومِ وَذَكَرَ أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ التَّفْصِيلَ السَّابِقَ ثُمَّ قال وقال الْفَاضِلُ أبو سَعِيدٍ محمد بن يحيى فِيمَا وَجَدْتُهُ مُعَلَّقًا عنه الْعَامَّانِ إذَا تَعَارَضَا فَكَمَا يُخَصَّصُ هذا بِذَاكَ لِمُعَارِضَتِهِ أَمْكَنَ أَنْ يُخَصَّصَ ذلك بهذا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى من الْآخَرِ فَيُنْظَرُ فِيهِمَا إنْ دخل أَحَدَهُمَا تَخْصِيصٌ مُجْمَعٌ عليه فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّخْصِيصِ وَكَذَلِكَ إذَا كان أَحَدُهُمَا مَقْصُودًا بِالْعُمُومِ رَجَحَ على ما كان عُمُومُهُ اتِّفَاقًا انْتَهَى قُلْت وَهَذَا هو اللَّائِقُ بِتَصَرُّفِ الشَّافِعِيِّ في أَحَادِيثِ النَّهْيِ عن الصَّلَاةِ في الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ فإنه قال لَمَّا دَخَلَهَا التَّخْصِيصُ بِالْإِجْمَاعِ في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ضَعُفَتْ دَلَالَتُهَا تَقَدَّمَ عليها أَحَادِيثُ الْمَقْضِيَّةِ وَتَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ وَغَيْرُهَا وَلِذَلِكَ نَقُولُ دَلَالَةُ وَأَنْ تَجْمَعُوا بين الْأُخْتَيْنِ على تَحْرِيمِ الْجَمْعِ مُطْلَقًا في النِّكَاحِ وَالْمِلْكُ أَوْلَى من دَلَالَةِ الثَّانِيَةِ على جَوَازِ الْجَمْعِ بِالْيَمِينِ لِأَنَّ هذه الْآيَةَ ما سِيقَتْ لِبَيَانِ حُكْمِ الْجَمْعِ مَسْأَلَةٌ إذَا عَارَضَ قِيَاسٌ مُسْتَنْبَطٌ من نَصِّ كِتَابٍ ما في حديث آحَادٍ فَقِيلَ إنْ سَمَّيْنَاهُ قِيَاسًا رَجَّحْنَا عليه الْخَبَرَ لِأَنَّ مُسْتَنَدَهُ مَقْطُوعٌ بِهِ قال في الْمَنْخُولِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُرَجَّحُ عليه لِأَنَّ تَسْمِيَتَهُ قِيَاسًا يَرْجِعُ لِلَّقَبِ وهو مَقْطُوعٌ بِهِ كَالْمَنْصُوصِ وَأَخْبَارُ الْآحَادِ تُقَدَّمُ على قِيَاسِ الْمُسْتَنْبَطِ من الْقُرْآنِ مَسْأَلَةٌ قال الصَّيْرَفِيُّ كُلُّ مُتَعَارِضَيْنِ لَا يَخْرُجَانِ عن وَجْهٍ من أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا أَنْ لَا يَكُونَ لها في الْأَصْلِ حُكْمٌ مَعْلُومٌ كَالْوَاقِعِ بِابْتِدَاءِ الشَّرْعِ مِثْلُ الْإِحْدَاثِ في الْوُضُوءِ فَيَتْرُكُ اعْتِقَادَ الْأَمْرِ بِأَحَدِهِمَا وَالنَّهْيَ عن الْآخَرِ لِأَنَّا لَا نَدْرِي أَيَّهُمَا الْأَوْلَى وَيُصَارُ إلَى ما عَضَّدَهُ الدَّلِيلُ أو رَجَّحَهُ بِقِيَاسٍ أو حِفْظٍ أو كَثْرَةِ عَدَدٍ وثانيها أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجِبُ إبَاحَتُهُ أو حَظْرُهُ فَأَيُّ الْخَبَرَيْنِ جاء بِخِلَافِ ما كان مُتَقَدِّمًا في الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ فَالْخَبَرُ هو الذي معه دَلِيلُ الِانْتِقَالِ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا جاء بِتَوْكِيدِ ما تَقَدَّمَ وقد عُلِمَ زَوَالُ الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي ولم يُعْلَمْ زَوَالُ الثَّانِي كَقَوْلِهِ عليه
____________________
(4/440)
السَّلَامُ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ وَقَوْلِهِ ليس فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ وثالثها أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا فَيَأْتِي بِمِثْلِ ما جاء بِهِ الْحُكْمُ كَالْمُزَارَعَةِ فإن الناس كَانُوا يَسْتَبِيحُونَ الْمُزَارَعَةَ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ فَنَهَى عنهما وَوَرَدَ الْخَبَرُ بِإِجَازَتِهِمَا ولم يَفِدْ شيئا أَفَادَ فِيمَا كان الناس عليه فَخَبَرُ النَّهْيِ أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ هذا إذَا عَلِمَ تَقْرِيرَهُ على الْمُزَارَعَةِ مُدَّةً ثُمَّ جاء الْخَبَرَانِ فَإِنْ كَانُوا مُسْتَعْمَلَيْنِ لها وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا عليها فإذا جاء النَّهْيُ عنها ثُمَّ جاء الْخَبَرُ بِإِجَازَتِهَا نَظَرَ فِيهِمَا على هذا الْحَالِ فَأَمَّا آيُ الْقُرْآنِ فَكُلُّ آيَةٍ وَرَدَتْ بِإِبَاحَةِ شَيْءٍ في جُمْلَةِ الْخِطَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا فَأَخْبَرَ بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ فَهِيَ مَخْصُوصَةٌ لَا مَحَالَةَ وَلَوْ جاء خَبَرٌ بِتَحْلِيلِ ما جاء الْخَبَرُ الْآخَرُ بِتَحْرِيمِهِ نَظَرَ في الْخَبَرَيْنِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُوجِبُ خُصُوصَ الْآيَةِ وَالْآخَرَ يُوجِبُ عُمُومَهَا وَلَيْسَ هذا مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَ الْحَظْرِ وَلَا قَبْلَهُ وَلَا في الْأَخْبَارِ لِأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْقُرْآنَ فَإِنْ كان الْحَظْرُ بَيَانَ الْآيَةِ لم يَجُزْ أَنْ يُرْفَعَ ذلك بِالْخَبَرِ لِأَنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ وَيَكُونُ خَبَرُ التَّحْلِيلِ بِإِزَاءِ خَبَرِ التَّحْرِيمِ فَكَأَنَّهُ لم يَقُمْ دَلِيلُ الْخُصُوصِ فَإِنْ قَوِيَ أَحَدُهُمَا على صَاحِبِهِ فَالْحُكْمُ له قال وَيَجِيءُ الْخَبَرَانِ مُخْتَلِفَيْنِ وَالْإِنْسَانُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا كَالْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ لِلْحَاجِّ فَلَا يَضُرُّ ذلك الِاخْتِلَافُ وَإِنْ كان مُحَالًا أَنْ يَفْعَلَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في حَجَّةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ لم يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُهُمَا كَخَبَرِ مَيْمُونَةَ نَكَحَهَا وهو مُحْرِمٌ وما نَكَحَهَا إلَّا وهو حَلَالٌ فَأَحَدُهُمَا غَلَطٌ من الرَّاوِي فَيُصَارُ إلَى الدَّلِيلِ يُعَضِّدُ أَحَدَهُمَا سَبَبُ الِاخْتِلَافِ في الرِّوَايَاتِ قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في الرِّسَالَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يقول الْقَوْلَ عَامًّا يُرِيدُ بِهِ الْعَامَّ وَعَامًّا يُرِيدُ بِهِ الْخَاصَّ وَيُسْأَلُ عن الشَّيْءِ فَيُجِيبُ على قَدْرِ الْمَسْأَلَةِ وَيُؤَدِّي عنه الْمُخْبَرُ الْخَبَرَ مُبَعَّضًا وَالْخَبَرَ مُخْتَصَرًا وَالْخَبَرُ يَأْتِي بِبَعْضِ مَعْنَاهُ دُونَ بَعْضٍ وَيُحَدِّثُ الرَّجُلُ عنه الحديث قد أَدْرَكَ جَوَابَهُ ولم يُدْرِكْ الْمَسْأَلَةَ على حَقِيقَةِ الْجَوَابِ
____________________
(4/441)
لِمَعْرِفَتِهِ السَّبَبَ الذي يُخَرَّجُ عليه الْجَوَابُ وَيَسُنُّ في الشَّيْءِ سُنَّةً وَفِيمَا يُخَالِفُهُ أُخْرَى فَلَا يَخْلُصُ بَعْضُ السَّامِعِينَ من اخْتِلَافِ الْحَالَتَيْنِ اللَّتَيْنِ سُنَّ فِيهِمَا وَيَسُنُّ سُنَّةً في نَصِّ مَعْنَاهُ فَيَحْفَظُهُمَا حَافِظٌ آخَرُ في مَعْنَى يُخَالِفُهُ في مَعْنَى وَيُجَامِعُهُ في مَعْنَى سُنَّةِ غَيْرِهَا لِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ فَيَحْفَظُ غَيْرُهُ تِلْكَ السُّنَّةَ فإذا أَدَّى كُلٌّ ما حَفِظَ رَآهُ بَعْضُ السَّامِعِينَ اخْتِلَافًا وَلَيْسَ فيه شَيْءٌ وَيَسُنُّ بِلَفْظٍ مَخْرَجُهُ عَامٌّ جُمْلَةً بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ أو تَحْلِيلِهِ وَلَيْسَ في غَيْرِهِ خِلَافُ الْجُمْلَةِ فَيُسْتَدَلُّ على أَنَّهُ لم يُرِدْ بِمَا حَرَّمَ ما أَحَلَّ وَلَا بِمَا أَحَلَّ ما حَرَّمَ قال ولم نَجِدْ عنه شيئا مُخْتَلِفًا فَكَشَفْنَاهُ إلَّا وَجَدْنَا له وَجْهًا يَحْتَمِلُ بِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مُخْتَلِفًا وَأَنْ يَكُونُ دَاخِلًا في الْوُجُوهِ التي وُصِفَتْ انْتَهَى الْقَوْلُ في تَرْجِيحِ الظَّوَاهِرِ من الْأَخْبَارِ الْمُتَعَارِضَةِ وهو إنَّمَا يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أو بِمَا يَحْصُلُ من خَلَلٍ بِسَبَبِ الرُّوَاةِ كما سَبَقَ وَأَمَّا التَّعَارُضُ في نَفْسِ الْأَمْرِ بين حَدِيثَيْنِ صَحِيحَيْنِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ قال ابن خُزَيْمَةَ لَا أَعْرِفُ أَنَّهُ رُوِيَ عن الرَّسُولِ حَدِيثَانِ بِإِسْنَادَيْنِ صَحِيحَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ وَمَنْ كان عِنْدَهُ فَلِيَأْتِ بِهِ حتى أُؤَلِّفَ بَيْنَهُمَا وقال الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ ولم نَجِدْ حَدِيثَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ إلَّا وَلَهُمَا مَخْرَجٌ أو على أَحَدِهِمَا دَلَالَةٌ إمَّا مُوَافِقَةُ كِتَابِ اللَّهِ أو غَيْرِهِ من السُّنَّةِ أو بَعْضِ الدَّلَائِلِ انْتَهَى وهو بِاعْتِبَارَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنْ يُرَجَّحَ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ من جِهَةِ الْإِسْنَادِ والثاني بِالْمَتْنِ أَمَّا التَّرْجِيحُ بِالْإِسْنَادِ فَلَهُ اعْتِبَارَاتٌ أَوَّلُهَا بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ فَيُرَجَّحُ ما رُوَاتُهُ أَكْثَرُ على ما رُوَاتُهُ أَقَلُّ بِخِلَافِهِ كَاحْتِجَاجِ الْحَنَفِيَّةِ على عَدَمِ الرَّفْعِ في الرُّكُوعِ بِحَدِيثِ إبْرَاهِيمَ عن عَلْقَمَةَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ ثُمَّ لَا يَعُودُ فيقول قد رَوَى الرَّفْعَ ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ
____________________
(4/442)
صَحَابِيًّا وَكَثِيرٌ منها في الصَّحِيحَيْنِ وَكَرِوَايَةِ التَّغْلِيسِ بِالصُّبْحِ على رِوَايَةِ الْإِسْفَارِ هذا مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ وهو الصَّحِيحُ عِنْدَنَا وَنَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ وقال الْأَخْذُ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بن الصَّامِتِ في الرِّبَا أَوْلَى من حديث
____________________
(4/443)
أُسَامَةَ إنَّمَا الرِّبَا في النَّسِيئَةِ لِأَنَّهُ رَوَاهُ مع عُبَادَةَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وأبو سَعِيدٍ وأبو هُرَيْرَةَ وَرِوَايَةُ خَمْسَةٍ أَوْلَى من رِوَايَةِ وَاحِدٍ وَقَرَّرَهُ الصَّيْرَفِيُّ وَاحْتَجَّ له بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الزِّيَادَةَ من الْعَدَدِ بِالنِّسْبَةِ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مُوجِبًا لِلتَّذَكُّرِ فقال أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَكَذَلِكَ جِنْسُ الرِّجَالِ كُلَّمَا كَثُرَ الْعَدَدُ قَوِيَ الْحِفْظُ وَنَقَلَهُ ابن الْقَطَّانِ عن الْجَدِيدِ قال وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بِأَنَّ الشُّهُودَ مَنْصُوصٌ على عَدَالَتِهِمْ فَكُفِينَا مَئُونَةَ الِاجْتِهَادِ وَالْأَخْبَارُ مَبْنِيَّةٌ على الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالْأَوْلَى تَرْجِيحُ الْأَكْثَرِ لِأَنَّهُمْ عن الْخَطَأِ أَبْعَدُ قال وَذَهَبَ في الْقَدِيمِ إلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَشَبَّهَ بِالشَّهَادَاتِ قلت وَعَكَسَ ابن كَجٍّ وابن فُورَكٍ في كِتَابَيْهِمَا هذا النَّقْلَ فَقَالَا قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في الْقَدِيمِ يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الذي هو أَكْثَرُ رُوَاةً لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْأَخْبَارِ إنَّمَا هو من طَرِيقِ عِلْمِ الظَّاهِرِ وَيُحْتَمَلُ الْغَلَطُ وَالْكَثْرَةُ تَدْفَعُ الْغَلَطَ وقال في الْجَدِيدِ إنَّهُمَا سَوَاءٌ وَعَوَّلَ في ذلك على أَنَّهُمَا قد اسْتَوَيَا جميعا في لُزُومِ الْحُجَّةِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ فإذا اجْتَمَعَا فَقَدْ اسْتَوَيَا وَيَطْلُبُ دَلَالَةً سِوَاهُمَا وَبِالْقِيَاسِ على الشَّهَادَةِ انْتَهَى وقال سُلَيْمٌ أَوْمَأَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ في مَوْضِعٍ آخَرَ وَحَيْثُ قُلْنَا يُرَجَّحُ بِالْكَثْرَةِ فقال الْقَاضِي لَا أَرَاهُ قَطْعِيًّا وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنْ لم يُمْكِنْ الرُّجُوعُ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ قُطِعَ بِاتِّبَاعِ الْأَكْثَرِ فإنه أَوْلَى من الْإِلْغَاءِ وَلِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ لو تَعَارَضَ لهم خَبَرَانِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لم يُعَطِّلُوا الْوَاقِعَةَ بَلْ كَانُوا يُقَدِّمُونَ هذا قال وَأَمَّا إذَا كان في الْمَسْأَلَةِ قِيَاسٌ وَخَبَرَانِ مُتَعَارِضَانِ كَثُرَتْ رُوَاةُ أَحَدِهِمَا فَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ وَالِاعْتِمَادُ على ما يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُ النَّاظِرِ
____________________
(4/444)
وفي الْمَسْأَلَةِ رَأْيٌ رَابِعٌ صَارَ إلَيْهِ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ أَنَّ الِاعْتِمَادَ على ما غَلَبَ على ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ فَرُبَّ عَدْلٍ أَقْوَى في النَّفْسِ من عَدْلَيْنِ لِشِدَّةِ تَيَقُّظِهِ وَضَبْطِهِ فلما كَثُرَ الْعَدَدُ ولم يَقْوَ الظَّنُّ بِصِدْقِهِمْ كان خَبَرُهُمْ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ سَوَاءٌ وَبِالْجُمْلَةِ فَالرَّاجِحُ هو الْأَوَّلُ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ بَلْ هو أَقْوَى الْمُرَجَّحَاتِ فإن الظَّنَّ يَتَأَكَّدُ عن تَرَادُفِ الرِّوَايَاتِ وَلِهَذَا يَقْوَى الظَّنُّ إلَى أَنْ يَصِيرَ الْعِلْمُ بِهِ مُتَوَاتِرًا وَهُنَا تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ لو تَعَارَضَتْ الْكَثْرَةُ من جَانِبٍ وَالْعَدَالَةُ من جَانِبٍ آخَرَ فَفِيهِ احْتِمَالَانِ لِإِلْكِيَا إحْدَاهُمَا تَرْجِيحُ الْكَثْرَةِ لِقُرْبِهَا من الْمُسْتَفِيضِ وَالتَّوَاتُرِ والثاني تَرْجِيحُ الْعَدَالَةِ فإنه رُبَّ رَجُلٍ يَعْدِلُ أَلْفَ رَجُلٍ في الثِّقَةِ وَنَعْلَمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُقَدِّمُونَ رِوَايَةَ الصِّدِّيقِ على رِوَايَةِ عَدَدٍ من أَوْسَاطِ الناس قال وَهَذَا لَا نَجِدُ له مِثَالًا من النَّصِّ فإن الذي أَوْرَدَهُ كَثِيرٌ من الْعُلَمَاءِ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ كَتَعَارُضِ الْأَخْبَارِ في الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَتَعَارُضِ الْأَخْبَارِ في الْأَذَانِ لِلصُّبْحِ قبل الْوَقْتِ وَلِلْقِيَاسِ مَجَالٌ وَرَاءَ الْخَبَرِ وَإِنْ وَجَدْنَا مِثَالًا فَحُكْمُهُ ما ذَكَرْنَا وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قد ذَكَرَهَا أُسْتَاذُهُ في الْبُرْهَانِ وَحَكَى فيها الْخِلَافَ عن الْمُحَدِّثِينَ وَأَنَّ منهم من يُقَدِّمُ الْعَدَدَ وَمِنْهُمْ من يُقَدِّمُ مَزِيَّةَ الثِّقَةِ ثُمَّ قال وَالْمَسْأَلَةُ لَا تَبْلُغُ الْقَطْعَ وَالْغَالِبُ تَقْدِيمُ مَزِيَّةِ الثِّقَةِ الثَّانِي لَا يَخْفَى أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ أَنْ لَا يَبْلُغَ عَدَدُ الْمُخْبِرِينَ في الْكَثْرَةِ إلَى حَالَةٍ تَقْتَضِي الْعِلْمَ الثَّالِثُ أَنَّ هذا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَخْبَارِ أَمَّا الْآيَاتُ فإذا جَاءَتْ آيَتَانِ تَدُلُّ على مَعْنًى وَاحِدٍ وَآيَةٌ وَاحِدَةٌ تَدُلُّ على خِلَافِهِ فَهَلْ تُرَجَّحُ الْأُولَى قال ابن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى تَخَرُّجِهِ على قَوْلَيْنِ فَيُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْآيِ كما يُرَجَّحُ الْخَبَرُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَخْبَارِ أَنَّ الْخَطَأَ من الرُّوَاةِ مُمْكِنٌ وهو شَيْءٌ مَبْنِيٌّ على الِاجْتِهَادِ بِخِلَافِ الْآيِ وَمَنْ قال بِالْأَوَّلِ قال إنَّ ذلك يُسَاوِي الْأَخْبَارَ في قُوَّةِ الدَّلَالَةِ عليها وَالْعُمُومَانِ أَقْوَى في النَّفْسِ من عُمُومٍ وَاحِدٍ كما قال الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه في شَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَشَاهِدَيْنِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِالْأَقْوَى وَتِلْكَ على قَوْلَيْنِ وَهَذِهِ على وَجْهَيْنِ
____________________
(4/445)
ثَانِيهَا بِقِلَّةِ الْوَسَائِطِ وَعُلُوِّ الْإِسْنَادِ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْغَلَطِ وَالْخَطَأِ فِيمَا قَلَّتْ وَسَائِطُهُ أَقَلُّ وهو أَحَدُ فَوَائِدِ طَلَبِ الْإِسْنَادِ الْعَالِي كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ الْإِقَامَةُ مَثْنَى كَالْأَذَانِ لِمَا رَوَى عَامِرٌ الْأَحْوَلُ عن مَكْحُولٍ أَنَّ أَبَا مُحَيْرِيزٍ حدثه أَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ حدثه أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عَلَّمَهُ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ وَذَكَرَ فيه الْإِقَامَةَ مَثْنَى مَثْنَى فَنَقُولُ بَلْ هِيَ فُرَادَى لِمَا رَوَى خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عن أبي قِلَابَةَ عن أَنَسٍ قال أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُشَفِّعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ فإن خَالِدًا وَعَامِرًا من طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ رَوَى عنهما شُعْبَةُ وَحَدِيثُ عَامِرٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ثَلَاثَةٌ وَخَالِدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم اثْنَانِ وَاعْلَمْ أَنَّ التَّرْجِيحَ بهذا ظَاهِرٌ إذَا كان لَا يَعِزُّ وُجُودُ مِثْلِهِ فَإِنْ كان فَهُوَ مَرْجُوحٌ من هذه الْحَيْثِيَّةِ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْأَغْلَبِ مُقَدَّمٌ على الْأَنْدَرِ وَثَالِثُهَا تَقَدُّمُ رِوَايَةِ الْكَبِيرِ على رِوَايَةِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الضَّبْطِ وَمَثَّلُوهُ بِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ الْإِفْرَادَ في الْحَجِّ وَرِوَايَةِ أَنَسٍ الْقِرَانَ وما قِيلَ فيه يَتَوَلَّجُ على النَّسَا وَسَبَبُ هذا التَّرْجِيحِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ زِيَادَةُ الظَّنِّ بِالضَّبْطِ وقد رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ بِتَقْدِيمِ أَنَسٍ في أَحَادِيثِ رِبَا الْفَضْلِ وفي صَلَاةِ الْخَوْفِ فقال بِتَقَدُّمِ أَنَسٍ في الصُّحْبَةِ وَهَلْ تَتَقَدَّمُ رِوَايَةُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ على غَيْرِهِمْ أَمْ لَا فيه رِوَايَتَانِ عن أَحْمَدَ وَمِثْلُهُ رِوَايَةُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ على غَيْرِ الْأَكَابِرِ وَرَابِعُهَا بِفِقْهِ الرَّاوِي سَوَاءٌ كانت الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى أو بِاللَّفْظِ فَتُقَدَّمُ رِوَايَةُ الْفَقِيهِ على من دُونَهُ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ وَقِيلَ هذا في خَبَرَيْنِ مَرْوِيَّيْنِ بِالْمَعْنَى فَإِنْ رُوِيَا بِاللَّفْظِ فَلَا مُرَجِّحَ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ لِلْفَقِيهِ مَزِيَّةُ التَّمْيِيزِ بين ما يَجُوزُ وما لَا يَجُوزُ قال ابن بَرْهَانٍ أو يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَفْقَهَ من الْآخَرِ مِثْلُ رِوَايَةِ عَائِشَةَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يُصْبِحُ جُنُبًا من غَيْرِ احْتِلَامٍ وَيَصُومُ على رِوَايَةِ أبي هُرَيْرَةَ من أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ
____________________
(4/446)
له قال وَسَبَبُ تَقْدِيمِهِ أَنَّ عَائِشَةَ كانت أَفْقَهَ من أبي هُرَيْرَةَ قُلْت وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ هذا مِثَالًا لِتَقْدِيمِ شَاهِدِ الْقِصَّةِ على من لم يُشَاهِدْهَا وَإِنَّمَا أَخْبَرَ بها فإن أَبَا هُرَيْرَةَ لَمَّا سُئِلَ عن ذلك ذَكَرَ أَنَّ الْفَضْلَ بن عَبَّاسٍ حدثه بِهِ وَعَائِشَةُ كانت مُبَاشِرَةً لِلْوَاقِعَةِ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَهَذَا لَا يَنْبَغِي تَمْثِيلُهُ بِالصَّحَابَةِ تَأَدُّبًا وقد مَثَّلَ بِرِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ عن عَلْقَمَةَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ مع رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عن أبي وَائِلٍ عن ابْنِ مَسْعُودٍ فإن الْأَوَّلَيْنِ فَقِيهَانِ مَشْهُورَانِ وَالْأَخِيرَيْنِ إمَّا شَيْخَانِ أو دُونَهُمَا في الْفِقْهِ خَامِسُهَا بِعِلْمِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ فَإِنْ الْعَالِمَ بها يُمْكِنُهُ التَّحَفُّظُ عن مَوَاقِعِ الزَّلَلِ فَيَكُونُ الْوُثُوقُ بِرِوَايَتِهِ أَكْثَرَ قال وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مَرْجُوحٌ لِأَنَّ الْعَالِمَ بها يَعْتَمِدُ على مَعْرِفَتِهِ فَلَا يُبَالِغُ في الْحِفْظِ وَالْجَاهِلُ بها يَكُونُ خَائِفًا فَيُبَالِغُ في الْحِفْظِ سَادِسُهَا الْأَفْضَلِيَّةُ فَتُقَدَّمُ رِوَايَةُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ في رَفْعِ الْيَدَيْنِ على رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ سَابِعُهَا حُسْنُ الِاعْتِقَادِ فَتُقَدَّمُ رِوَايَةُ السُّنِّيِّ على الْمُبْتَدِعِ كَرِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بن أبي يحيى مع غَيْرِهِ قال الْهِنْدِيُّ وَهَذَا فيه نَظَرٌ لِأَنَّ بِدْعَتَهُ إنْ كانت بِذَهَابِهِ إلَى أَنَّ الْكَذِبَ كَبِيرَةٌ كان ظَنُّ صِدْقِهِ أَكْبَرَ ثَامِنُهَا كَوْنُ الرَّاوِي صَاحِبَ الْوَاقِعَةِ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِالْقِصَّةِ كَقَوْلِ مَيْمُونَةَ تَزَوَّجَنِي رسول صلى اللَّهُ عليه وسلم وَنَحْنُ حَلَالَانِ فَتُقَدَّمُ على رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَكَحَهَا وهو مُحْرِمٌ وقد خَالَفَ في هذا الْجُرْجَانِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ
____________________
(4/447)
تَاسِعُهَا كَوْنُ أَحَدِهِمَا مُبَاشِرًا لِمَا رَوَاهُ كَتَرْجِيحِ خَبَرِ أبي رَافِعٍ في تَزْوِيجِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مَيْمُونَةَ وَهُمَا حَلَالَانِ على خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّ أَبَا رَافِعٍ كان السَّفِيرَ بَيْنَهُمَا وَحَدِيثِ عَائِشَةَ في صَوْمِ الْجُنُبِ على أبي هُرَيْرَةَ عَاشِرُهَا الْأَقْرَبُ إلَى الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم على غَيْرِهِ وَإِنَّمَا كان سَبَبًا لِلتَّرْجِيحِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ وَالْغَالِبَ أَنَّ كَثْرَةَ الْمُخَالَطَةِ تَقْتَضِي زِيَادَةً في الِاطِّلَاعِ وَهَذَا ذَكَرَهُ ابن بَرْهَانٍ وَمَثَّلَهُ بِرِوَايَةِ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ما كان يَحْجِزُهُ شَيْءٌ عن الْقُرْآنِ سِوَى الْجَنَابَةِ على رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذلك كَوْنَ أَحَدِهِمَا أَعْرَفَ بِحَالِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من غَيْرِهِ كَأَزْوَاجِهِ فَتُقَدَّمُ رِوَايَتُهُنَّ على رِوَايَةِ غَيْرِهِنَّ حَادِي عَشَرَهَا إذَا كان أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْجِسْمِ كَتَقْدِيمِ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ الْإِفْرَادَ على غَيْرِهِ فإنه قال كنت آخِذًا بِزِمَامِ نَاقَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وقال لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ ذَوُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثَانِي عَشَرَهَا كَوْنُ أَحَدِهِمَا جَلِيسَ الْمُحَدِّثِينَ أو أَكْثَرَ مُجَالَسَةً من الْآخَرِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مَعْرِفَةِ ما يَعْتَوِرُ الرِّوَايَةَ وَيُدَاخِلُهَا من الْخَلَلِ ثَالِثُ عَشَرَهَا كَثْرَةُ الصُّحْبَةِ تُرَجَّحُ رِوَايَتُهُ على قَلِيلِهَا لِمَا يَحْصُلُ من زِيَادَةِ الظَّنِّ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الصُّحْبَةِ في الْمَعْرِفَةِ بِأَحْوَالِ الْمَصْحُوبِ وقد نُقِلَ هذا عن بَعْضِ التَّابِعِينَ فَقَدَّمَ رِوَايَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ على رِوَايَةِ وَائِلٍ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ وَبِسَبَبِ طُولِ الصُّحْبَةِ رَابِعُ عَشَرَهَا بِكَوْنِهِ مُخْتَبَرًا فَيُرَجَّحُ الْعَدْلُ بِالتَّزْكِيَةِ على الْعَدْلِ بِالظَّاهِرِ هذا إنْ قَبِلْنَا رِوَايَةَ الْمَسْتُورِ وَإِلَّا فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا
____________________
(4/448)
خَامِسُ عَشَرَهَا الْعَدْلُ بِالْمُمَارَسَةِ وَالِاخْتِبَارِ على من عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ بِالتَّزْكِيَةِ فإنه ليس الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ سَادِسَ عَشَرَهَا بِكَوْنِهِ مُعَدَّلًا بِصَرِيحِ التَّزْكِيَةِ فَيُرَجَّحُ على الْمُعَدَّلِ بِالْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ لِأَنَّ عَدَالَتَهُ ضِمْنِيَّةٌ سَابِعُ عَشَرَهَا بِكَوْنِهِ مُعَدَّلًا بِالْحُكْمِ بها على الْمُعَدَّلِ بِالْعَمَلِ على رِوَايَتِهِ لِلْخِلَافِ في كَوْنِ ذلك تَعْدِيلًا وَأَطْلَقَ في الْمَحْصُولِ أَنَّ عَمَلَ الْمُزَكَّى بِرِوَايَةِ من زَكَّاهُ مُرَجِّحٌ لِرِوَايَتِهِ على من لم يَعْمَلْ بها ثَامِنُ عَشَرَهَا التَّزْكِيَةُ مع ذِكْرِ أَسْبَابِ الْعَدَالَةِ أَرْجَحُ من التَّزْكِيَةِ الْمُجَرَّدَةِ قَالَهُ في الْمَحْصُولِ تَاسِعُ عَشَرَهَا بِكَثْرَةِ الْمُزَكِّينَ لِلرَّاوِي كَتَقْدِيمِ حديث بُسْرَةَ على حديث طَلْقٍ لِكَثْرَةِ الْمُزَكِّينَ وَالرُّوَاةِ لِبُسْرَةَ وَقِلَّةِ ذلك في حديث طَلْقٍ الْعِشْرُونَ حِفْظُ الرَّاوِي لِلَفْظِ الحديث وَاعْتِمَادُ الْآخَرِ على الْمَكْتُوبِ فَالْحَافِظُ أَوْلَى لِمَا لَعَلَّهُ يَعْتَوِرُ الْخَطَّ من نَقْصٍ وَتَغَيُّرٍ قال الْإِمَامُ وَفِيهِ احْتِمَالٌ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَى في كِتَابِهِ الْمُفْرَدِ في رَفْعِ الْيَدَيْنِ رَوَى حَدِيثَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عن عَاصِمِ بن كُلَيْبٍ عن عبد الرحمن بن الْأَسْوَدِ عن عَلْقَمَةَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ قال أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِصَلَاةِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فلم يَرْفَعْ يَدَيْهِ إلَّا في أَوَّلِ مَرَّةٍ ثُمَّ لم يُعِدْ قال قال أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ عن يحيى بن آدَمَ نَظَرْتُ في كِتَابِ عبد اللَّهِ بن إدْرِيسَ قال عَاصِمٌ فلم أَجِدْ فيه ثُمَّ لم يُعِدْ قال الْبُخَارِيُّ هذا أَصَحُّ لِأَنَّ الْكِتَابَ أَثْبَتُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ قُلْت وَمِنْ هذا يُؤْخَذُ تَرْجِيحُ رِوَايَةِ عبد اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ على رِوَايَةِ أبي هُرَيْرَةَ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عن أبي هُرَيْرَةَ قال ما من أَصْحَابِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَحَدٌ أَكْثَرُ حَدِيثًا عنه مِنِّي إلَّا ما كان من عبد اللَّهِ بن عَمْرٍو فإنه كان يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ
____________________
(4/449)
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ قُوَّةُ حِفْظِهِ وَزِيَادَةُ ضَبْطِهِ وَشِدَّةُ اعْتِنَائِهِ فَيُرَجَّحُ على من كان أَقَلَّ في ذلك حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن إجْمَاعِ أَهْلِ الحديث وَمَثَّلَهُ بِرِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ بن عبد الْعَزِيزِ على رِوَايَةِ عبد اللَّهِ بن عُمَرَ بن عبد الْعَزِيزِ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قال بَيْنَهُمَا فَضْلُ ما بين الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ وَالتَّفْضِيلُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ ثُمَّ قال وهو عِنْدِي كَاخْتِصَاصِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ سُرْعَةُ حِفْظِ أَحَدِهِمَا وَإِبْطَاءُ نِسْيَانِهِ مع سُرْعَةِ حِفْظِ الْآخَرِ وَسُرْعَةِ نِسْيَانِهِ لِأَنَّ نِسْيَانَ الْأَوَّلِ بَعْدَ الْحِفْظِ بَطِيءٌ وَهَذَا ذَكَرَهُ الْهِنْدِيُّ احْتِمَالًا وَصَدَّرَ كَلَامَهُ بِأَنَّهُمَا مُتَعَارِضَانِ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ أَنْ لَا يَكْثُرَ تَفَرُّدُهُ بِالرِّوَايَاتِ عن الْحُفَّاظِ فَإِنْ كَثُرَ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ خَبَرُهُ عليه على خَبَرِهِ قَالَهُ الْغَزَالِيُّ أَيْ وَإِنْ قُلْنَا زِيَادَةَ الثِّقَةِ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ دَوَامُ عَقْلِهِ فَيُرَجَّحُ على من اخْتَلَطَ في عُمُرِهِ ولم يُعْرَفْ أَنَّهُ رَوَى الْخَبَرَ في حَالَةِ سَلَامَةِ عَقْلِهِ أو حَالَ اخْتِلَاطِهِ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ شُهْرَةُ الرَّاوِي بِالْعَدَالَةِ وَالثِّقَةِ فَيُرَجَّحُ رِوَايَةُ الْمَشْهُورِ على الْخَامِلِ لِأَنَّ الدِّينَ كما يَمْنَعُ من الْكَذِبِ كَذَلِكَ الشُّهْرَةُ وَالْمَنْصِبُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ شُهْرَةُ نَسَبِهِ فإن احْتِرَازَ مَشْهُورِ النَّسَبِ مِمَّا يُوجِبُ نَقْصَ مَنْزِلَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فَيَكُونُ أَكْثَرَ قَالَهُ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وَفِيهِ نَظَرٌ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِذَلِكَ في التَّرْجِيحِ نعم قال في الْمَحْصُولِ رِوَايَةُ مَعْرُوفِ النَّسَبِ رَاجِحَةٌ على رِوَايَةِ مَجْهُولِهِ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ عَدَمُ الْتِبَاسِ اسْمِهِ فَيُرَجَّحُ رِوَايَةُ من لم يَلْتَبِسْ اسْمُهُ بِاسْمِ غَيْرِهِ من الضُّعَفَاءِ على رِوَايَةِ من يَلْتَبِسُ فيه ذلك وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَعْسَرَ التَّمْيِيزُ قَالَهُ في الْمُسْتَصْفَى وَالْمَحْصُولِ الثَّانِي بِوَقْتِ الرِّوَايَةِ فَيُرَجَّحُ الرَّاوِي في الْبُلُوغِ على الذي رَوَى في الصِّبَا وفي الْبُلُوغِ لِأَنَّ الْبَالِغَ
____________________
(4/450)
أَقْرَبُ إلَى الضَّبْطِ وَيُرَجَّحُ الْخَبَرُ الذي لم يَتَحَمَّلْ رِوَايَةً إلَّا في زَمَنِ بُلُوغِهِ على من لم يَتَحَمَّلْ إلَّا في زَمَنِ صِبَاهُ وَلِهَذَا قَدَّمَ رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ في الْإِفْرَادِ على رِوَايَةِ أَنَسٍ في الْقِرَانِ فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ قَدَّمَ الشَّافِعِيُّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ في التَّشَهُّدِ على رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ قُلْنَا لِأَنَّ مُتَأَخِّرَ الصُّحْبَةِ مُقَدَّمٌ على مُتَقَدِّمِهَا في الرِّوَايَةِ لِاحْتِمَالِ النَّسْخِ وَيُرَجَّحُ من لم يَرْوِ إلَّا في حَالِ الْإِسْلَامِ وَيُرَجَّحُ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ فَيُرَجَّحُ من تَأَخَّرَ إسْلَامُهُ على من تَقَدَّمَ إسْلَامُهُ لِأَنَّ تَأَخُّرَ الْإِسْلَامِ دَلِيلٌ على رِوَايَتِهِ آخِرًا كَتَقْدِيمِ رِوَايَةِ أبي هُرَيْرَةَ في النَّقْضِ من مَسِّ الذَّكَرِ على رِوَايَةِ قَيْسٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ رِوَايَتَهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ هَكَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وابن بَرْهَانٍ وَتَبِعَهُمْ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ وَجَزَمَ الْآمِدِيُّ بِعَكْسِهِ مُعْتَلًّا بِعَرَاقَةِ الْمُتَقَدِّمِ في الْإِسْلَامِ وَمَعْرِفَتِهِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ يُقَدَّمُ خَبَرُ الْمُتَأَخِّرِ الْإِسْلَامَ إنْ كان في أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ ما يَدُلُّ على أَنَّهُ كان في ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ جَازَ أَنْ تَكُونَ رِوَايَتُهُ مُتَأَخِّرَةً عن رِوَايَةِ الْمُتَأَخِّرِ فإذا مَاتَ الْمُتَقَدِّمُ قبل إسْلَامِ الْمُتَأَخِّرِ وَعَلِمْنَا أَنَّ الْأَكْثَرَ رِوَايَةً الْمُتَقَدِّمُ فَتُقَدَّمُ على رِوَايَةِ الْمُتَأَخِّرِ فَهَاهُنَا نَحْكُمُ بِالرُّجْحَانِ لِأَنَّ النَّادِرَ مُلْحَقٌ بِالْغَالِبِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ إنْ جُهِلَ تَارِيخُهُمَا فَالْغَالِبُ أَنَّ رِوَايَةَ مُتَأَخِّرِ الْإِسْلَامِ نَاسِخٌ كما نَسَخْنَا رِوَايَةَ طَلْقٍ بِرِوَايَةِ أبي هُرَيْرَةَ وَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ في أَحَدِهِمَا وَجُهِلَ في الْآخَرِ نُظِرَ فَإِنْ كان الْمُؤَرَّخُ مِنْهُمَا في آخِرِ أَيَّامِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَهُوَ النَّاسِخُ لِمَا لَا يُعْلَمُ تَارِيخُهُ فَيُنْسَخُ قَوْلُهُ عليه السَّلَامُ إذَا صلى الْإِمَامُ قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا بِصَلَاةِ أَصْحَابِهِ قِيَامًا خَلْفَهُ وهو يُصَلِّي قَاعِدًا في مَرَضِهِ الذي مَاتَ فيه وَإِنْ لم يُعْلَمْ التَّارِيخُ فِيهِمَا وَلَا في أَحَدِهِمَا وَاحْتِيجَ إلَى نَسْخِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَقِيلَ النَّاقِلُ منهم عن الْعَادَةِ أَوْلَى من الْمُوَافِقِ لها وَقِيلَ الْمُحَرِّمُ أَوْلَى من الْمُبِيحِ وَكَذَا الْمُوجِبُ أَوْلَى فَإِنْ كان أَحَدُهُمَا مُوجِبًا وَالْآخَرُ مُحَرِّمًا لم يُقَدَّمْ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ إلَّا بِدَلِيلٍ وقال إلْكِيَا يُرَجَّحُ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ على الْآخَرِ بِإِمْكَانِ تَطَرُّقِ النَّسْخِ إلَى أَحَدِهِمَا إنْ لم يَجِدْ مُتَعَلِّقًا سِوَاهُمَا كَحَدِيثِ طَلْقٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ هذا إذَا لم يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُحْتَمَلًا فَإِنْ كان فَلَا كَحَدِيثِ ابْنِ عُكَيْمٍ جَاءَنَا كِتَابُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قبل مَوْتِهِ بِشَهْرٍ أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا من الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ فإنه يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ قبل الدِّبَاغِ
____________________
(4/451)
فإن الْإِهَابَ اسْمٌ له قبل الدِّبَاغِ وَبَعْدَهُ يُسَمَّى السِّخْتِيَانُ لِلْأَدِيمِ وَيَدْخُلُ في هذا الْقَوْلِ في التَّرْجِيعِ في الْأَذَانِ وَإِيتَارِ الْإِقَامَةِ لِأَنَّ التَّرْجِيعَ في رِوَايَةِ أبي مَحْذُورَةَ وَسَعْدِ الْقَرَظِ مُتَأَخِّرٌ عن أَذَانِ بِلَالٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ التَّرَاجِيحَ كَثِيرَةٌ وَمَنَاطَهَا ما كان إفَادَتُهُ لِلظَّنِّ أَكْثَرَ فَهُوَ الْأَرْجَحُ وقد تَتَعَارَضُ هذه الْمُرَجَّحَاتُ كما في كَثْرَةِ الرُّوَاةِ وَقُوَّةِ الْعَدَالَةِ وَغَيْرِهِ فَيَعْتَمِدُ الْمُجْتَهِدُ في ذلك ما غَلَبَ على ظَنِّهِ فَائِدَةٌ قال إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ إنَّا لَا نُنْكِرُ تَفَاوُتًا بين الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ في جَوْدَةِ الْفَهْمِ وَقُوَّةِ الْحِفْظِ وَمَعَ هذا لم يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ رِوَايَةَ الذَّكَرِ تُقَدَّمُ على رِوَايَةِ الْأُنْثَى لِأَنَّ هذا أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى الْجِنْسِ وَالتَّرْجِيحُ إنَّمَا يَكُونُ بِالنَّوْعِ قُلْت قد حَكَى سُلَيْمٌ فيه الْخِلَافَ فقال لَا تُقَدَّمُ رِوَايَةُ الذَّكَرِ على الْأُنْثَى وَلَا الْحُرِّ على الْعَبْدِ خِلَافًا لِمُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ لِأَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْحُرِّيَّةَ لَا تَأْثِيرَ لَهُمَا في قُوَّةِ الْخَبَرِ فَلَا يَدْخُلَانِ في التَّرْجِيحِ انْتَهَى وَكَذَا قال الْأُسْتَاذُ لَا تُرَجَّحُ رِوَايَةُ الذَّكَرِ وَقِيلَ إنَّمَا يُقَدَّمُ الذَّكَرُ فَيُغَيِّرُ أَحْكَامَ النِّسَاءِ أَمَّا أَحْكَامُهُنَّ فَيُقَدَّمْنَ على غَيْرِهِنَّ لِأَنَّ هِمَّتَهُنَّ وَقَصْدَهُنَّ لِمَا حَفِظْنَهُ أَكْثَرُ وَبِهِ جَزَمَ السُّهَيْلِيُّ في أَدَبِ الْجَدَلِ فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ الثَّالِثُ بِكَيْفِيَّةِ الرِّوَايَةِ فَمِنْهَا يُرَجَّحُ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ على رَفْعِهِ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم على الْمُخْتَلَفِ في رَفْعِهِ وَالْمُتَّفَقُ على وَقْفِهِ كَتَقْدِيمِ حديث عُبَادَةَ في لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ على حديث جَابِرٍ كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فيها بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ وَرَاءَ الْإِمَامِ فإنه مَوْقُوفٌ في الْمُوَطَّإِ وثانيها يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الْمُؤَدَّى بِلَفْظِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم على الْمَرْوِيِّ بِمَعْنَاهُ وَحَكَى
____________________
(4/452)
صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عن الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى أَنَّهُ إنْ كان رَاوِي الْمَعْنَى عَارِفًا فَلَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا على الْآخَرِ وَإِلَّا قُدِّمَ من رَوَى اللَّفْظَ وثالثها يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الذي اتَّفَقَتْ رُوَاتُهُ على أَنَّهُ من لَفْظِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم على الْخَبَرِ الذي اُخْتُلِفَ فيه هل هو من لَفْظِهِ أو هو مُدْرَجٌ من لَفْظِ غَيْرِهِ كَخَبَرِ السِّعَايَةِ وما يُعَارِضُهُ في الْعِتْقِ قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ رَابِعُهَا يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الذي حَكَى الرَّاوِي سَبَبَ وُرُودِهِ على من لم يَحْكِهِ لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ من الْحَاكِي كما رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ رِوَايَةَ مَيْمُونَةَ في النِّكَاحِ وهو حَلَالٌ على رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَمَّا إذَا انْطَبَقَ أَحَدُهُمَا على سَبَبٍ خَاصٍّ وَالْآخَرُ مُطْلَقٌ فَيُقَدَّمُ الْمُطْلَقُ كما قَالَهُ إلْكِيَا بِنَاءً على أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْعُمُومِ قال وقد يُتَصَوَّرُ بِصُورَةِ السَّبَبِ وَلَا يَكُونُ في حَقِيقَتِهِ كما رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً كانت تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ فَتَجْحَدُهُ فَقَطَعَهَا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال قَوْمٌ من الْمُحَدِّثِينَ لَمَّا ذَكَرَ الِاسْتِعَارَةَ وَالْجُحُودَ دَلَّ على أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ إذَا جَحَدَ يُقْطَعُ قِيلَ هذا ظَاهِرُهُ لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنَّمَا نَقَلَ الْجُحُودَ وَالِاسْتِعَارَةَ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِمُوَافَقَةِ ما يُوجِبُ الْقَطْعَ كما قال من يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فيه وَلِأَنَّهُ رُوِيَ في حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ امْرَأَةً مَخْزُومِيَّةً كانت تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ فَتَجْحَدُهُ فَسَرَقَتْ فَأَهَمَّ قُرَيْشًا شَأْنُهَا فقال وَاَللَّهِ لو سَرَقَتْ فُلَانَةُ وَأَشَارَ إلَى امْرَأَةٍ عَظِيمَةِ الْقَدْرِ لَقَطَعْتُهَا فلما ذَكَرَ السَّرِقَةَ عُلِمَ أنها سَبَبُ الْقَطْعِ لَا الِاسْتِعَارَةُ وَأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ كانت سَبَبَ جُرْأَتِهَا على السَّرِقَةِ خَامِسُهَا أَنْ يَتَرَدَّدَ الْأَصْلُ في رِوَايَةِ الْفَرْعِ عنه فَإِنَّهَا مَقْبُولَةٌ على الْمُخْتَارِ إذَا لم يَجْزِمْ بِالْإِنْكَارِ وَحِينَئِذٍ فَالْخَبَرُ الذي لم يَتَرَدَّدْ فيه الْأَصْلُ رَاجِحٌ على هذه سَادِسُهَا أَنْ يَخْتَلِفَ رُوَاةُ أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ وَيَتَّفِقَ رُوَاةُ الْآخَرِ قال أبو مَنْصُورٍ فَرِوَايَةُ من لم تَخْتَلِفْ طُرُقُ رِوَايَاتِهِ أَوْلَى وَذَلِكَ كَرِوَايَةِ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ حَدِيثَ نُصُبِ الزَّكَاةِ أَوْلَى من ذِكْرِ الِاسْتِئْنَافِ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ من الْإِبِلِ لِأَنَّ الِاسْتِئْنَافَ في إحْدَى رِوَايَتَيْ عَلِيٍّ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عنه بِخِلَافِهِ وَحَكَى في اللُّمَعِ فيه وَجْهَيْنِ
____________________
(4/453)
أَحَدَهُمَا تُقَدَّمُ رِوَايَةُ من لم يَخْتَلِفْ عليه والثاني يَتَعَارَضَانِ عَمَّنْ اخْتَلَفَ عليه وَيَتَسَاقَطَانِ وَتَبْقَى رِوَايَةُ من لم يَخْتَلِفْ قُلْت وهو في الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إلَى الْأَوَّلِ وَجَزَمَ ابن بَرْهَانٍ بِالْأَوَّلِ ثُمَّ قال وَمِنْ الناس من قال اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ كَثْرَةِ الرُّوَاةِ لِأَنَّهُ يُوَافِقُ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ في شَيْءٍ وَيُسْتَعْمَلُ بِزِيَادَةٍ فَكَانَ ذلك كَكَثْرَةِ الرُّوَاةِ وَقِيلَ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ لَا يُقَدَّمُ على رِوَايَةِ من لم تَخْتَلِفْ عنه الرِّوَايَةُ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ يَكُونُ لِحِفْظِ الرَّاوِي قال وَمِثَالُ ذلك حَدِيثُ الِاسْتِئْنَافِ وَالِاسْتِقْرَارِ فإن النبي عليه السَّلَامُ قال إذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَعِشْرِينَ اسْتَقَرَّتْ الْفَرِيضَةُ وأبو بَكْرٍ يَرْوِي الِاسْتِقْرَارَ وَرُوِيَ عنه أَيْضًا أَنَّهُ قال اُسْتُؤْنِفَتْ الْفَرِيضَةُ وَمَثَّلَهُ إلْكِيَا بِحَدِيثِ وَائِلٍ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان يَضَعُ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ ولم يَخْتَلِفْ الرُّوَاةُ عنه فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَيْهِ وَرَوَى حَدِيثَ أبي هُرَيْرَةَ مِثْلَ ذلك وَرُوِيَ عنه النَّهْيُ عن الْبُرُوكِ بَرْكَ الْإِبِلِ في الصَّلَاةِ أَيْ وَضْعُ الرُّكْبَتَيْنِ قبل الْيَدَيْنِ فقال الشَّافِعِيُّ حَدِيثُ وَائِلٍ انْفَرَدَ من الْمُعَارَضَةِ فَهُوَ أَوْلَى من حديث أبي هُرَيْرَةَ وَحَدِيثُهُ قد عَاضَدَتْهُ إحْدَى رِوَايَتَيْ أبي هُرَيْرَةَ فَهُوَ أَوْلَى قال وَيَدْخُلُ في هذا نِكَاحُ الْمُحْرِمِ وَتَخْيِيرُ بَرِيرَةَ وَغَيْرُ ذلك وهو رَاجِعٌ إلَى التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ قال وَمِمَّا يُقَارِبُ هذا ما نُقِلَ عن الشَّافِعِيِّ في تَرْجِيحِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ على الْآخَرِ إذَا كان مِثْلُ مَعْنَى أَحَدِهِمَا مَنْقُولًا بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ من وُجُوهٍ كَرِوَايَةِ وَابِصَةَ بن مَعْبَدٍ في الصَّلَاةِ خَلْفَ الصَّفِّ أَعِدْ صَلَاتَك فإنه لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ وَرَوَى الْجُمْهُورُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَقَفَ بين النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَبَيْنَ الناس فَكَانَ يُؤْذِنُهُمْ
____________________
(4/454)
بِتَكْبِيرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَرَوَى من وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَحْرَمَ خَلْفَ الصَّفِّ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَدَخَلَ فيه ولم يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةٍ وَوَقَفَ أَعْرَابِيٌّ على يَسَارِ الرَّسُولِ فَأَدَارَهُ عن يَمِينِهِ وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَّ أَنَسًا وَعَجُوزًا مُنْفَرِدَةً خَلْفَ أَنَسٍ فَتُقَدَّمُ على رِوَايَةِ وَابِصَةَ وهو يَرْجِعُ أَيْضًا إلَى التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ سَابِعُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَحْسَنَ اسْتِيفَاءً لِلْحَدِيثِ من الْآخَرِ كَتَرْجِيحِ رِوَايَةِ جَابِرٍ على رِوَايَةِ غَيْرِهِ في الْإِفْرَادِ لِأَنَّهُ سَرَدَ الحديث من حَالِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من الْمَدِينَةِ إلَى أَنْ عَادَ إلَيْهَا ثَامِنُهَا أَنْ يَسْمَعَ أَحَدٌ الرِّوَايَتَيْنِ من وَرَاءِ حِجَابٍ وَالْآخَرُ شِفَاهًا فإن رِوَايَةَ الْمُشَافَهَةِ تُقَدَّمُ على رِوَايَةِ الْآخَرِ كَحَدِيثِ عُرْوَةَ عن عَائِشَةَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم خَيَّرَ بَرِيرَةَ حين عَتَقَتْ وَلَوْ كان زَوْجُهَا حُرًّا ما خَيَّرَهَا وَرِوَايَةِ الْأَسْوَدِ عن عَائِشَةَ أَنَّهُ كان حُرًّا قُلْنَا رِوَايَتُهُ مُقَدَّمَةٌ لِأَنَّ رَاوِيَهَا عن عَائِشَةَ عُرْوَةُ وهو ابن أُخْتِهَا وكان يَدْخُلُ عليها وَيَسْمَعُ الحديث منها شِفَاهًا وَغَيْرُهُ يَسْمَعُ من وَرَاءِ الْحِجَابِ تَاسِعُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ بِرِوَايَةِ حدثنا وَالْآخَرُ بِرِوَايَةِ أخبرنا فَاَلَّذِي بِرِوَايَةِ حدثنا أَوْلَى قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ في أَدَبِ الْجَدَلِ لِأَنَّ أخبرنا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قُرِئَ عليه فَغَفَلَ أو سَهَا بِخِلَافِ حدثنا وَقِيلَ إنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّهُ كما يُحْتَمَلُ سَهْوُ الشَّيْخِ في أخبرنا يُحْتَمَلُ سَهْوُ الرَّاوِي في حدثنا
____________________
(4/455)
عَاشِرُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يَرْوِيهِ عن حِفْظِهِ وَكِتَابِهِ وَالْآخَرُ يَرْوِيهِ عن أَحَدِهِمَا فَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِبُعْدِهِ من الزَّلَلِ ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ أَيْضًا وَحَكَى صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عن الشَّرِيفِ أَنَّهُ إذَا كان أَحَدُهُمَا رَوَاهُ وَسَمِعَهُ وهو ذَاكِرٌ له وَالْآخَرُ يَرْوِيهِ من كِتَابِهِ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّ جَمِيعَ ما في كِتَابِهِ سَمَاعُهُ فَلَا تَرْجِيحَ حَادِي عَشَرَهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يَرْوِيهِ بِسَمَاعِهِ من لَفْظِ الشَّيْخِ وَالْآخَرُ بِقِرَاءَتِهِ على شَيْخِهِ إذَا قُلْنَا قِرَاءَةُ الشَّيْخِ أَعْلَى كَذَا ذَكَرُوهُ وَهَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا قَرَأَهُ الْعَالِمُ على الْعَالِمِ أَمَّا إذَا قَرَأَهُ الْجَاهِلُ على الْجَاهِلِ فَهُمَا سِيَّانِ ثَانِي عَشَرَهَا ما يَرْوِيهِ بِالسَّمَاعِ على ما يَرْوِيهِ بِالْإِجَازَةِ ثَالِثُ عَشَرَهَا الْمُسْنَدُ رَاجِحٌ على الْمُرْسَلِ إنْ قُبِلَ الْمُرْسَلُ لِلِاتِّفَاقِ على قَبُولِهِ بِخِلَافِ الْمُرْسَلِ وقال قَوْمٌ منهم عِيسَى بن أَبَانَ الْمُرْسَلُ أَوْلَى وقال قَوْمٌ منهم عبد الْجَبَّارِ يَسْتَوِيَانِ قال في الْمَحْصُولِ وما قَالَهُ عِيسَى إنَّمَا يَصِحُّ حَيْثُ يقول الرَّاوِي قال الرَّسُولُ فَأَمَّا إذَا لم يَقُلْ ذلك بَلْ قال ما يَحْتَمِلُهُ كَقَوْلِهِ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا تَرَجُّحَ فيه لِأَنَّهُ في مَعْنَى قَوْلِهِ رُوِيَ عن الرَّسُولِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمَرْجُوحِيَّةَ أو الرَّدَّ وَضَعَّفَهُ الْهِنْدِيُّ بِأَنَّهُ ظَاهِرٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ من سَمَاعٍ ولم يذكر عَمَّنْ بَلَغَهُ ولم يَصْدُرْ منه ما يُنَبِّئُ عن حُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ له فلم تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ قال وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ فيه لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُسْنَدِ وَلِهَذَا قَبِلَهُ من لم يَقْبَلْ الْمُرْسَلَ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ وَهُنَا فَرْعَانِ أَحَدُهُمَا هذا الْخِلَافُ في غَيْرِ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ فإن مَرَاسِيلَهُمْ مَقْبُولَةٌ على الصَّحِيحِ فَهِيَ كَالْمُسْنَدَةِ حتى لو عَارَضَهَا صَحَابِيٌّ صَرَّحَ بِالسَّمَاعِ فَهُمَا سَوَاءٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَتَطَرَّقُهُ خِلَافٌ وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ من صُوَرِ الْخِلَافِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ على مَرَاسِيلِ التَّابِعِيِّ لِأَنَّ ظَاهِرَ رِوَايَتِهِ عن الصَّحَابَةِ وَكُلَّمَا عُلِمَ من الْمَرَاسِيلِ قِلَّةُ الْوَسَائِطِ فَهُوَ أَرْجَحُ على ما لم يُعْلَمْ منه ذلك وَحِينَئِذٍ فَمَرَاسِيلُ كل عَصْرٍ أَوْلَى من مَرَاسِيلِ ما بَعْدَهُ ثَانِيهِمَا إذَا كان لَا يُرْسِلُ إلَّا عن عَدْلٍ كَابْنِ الْمُسَيِّبِ فَهُوَ وَالْمُسْنَدُ سَوَاءٌ وَمِنْ ثَمَّ رَجَّحَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَمَّا إذَا عُلِمَ من حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا إذَا حَصَلَ له غَلَبَةُ الظَّنِّ
____________________
(4/456)
بِصِدْقِ الْخَبَرِ فَمُرْسَلُهُ رَاجِحٌ على مُسْنَدِهِ الرَّابِعُ بِوَقْتِ وُرُودِ الْخَبَرِ وَيُرَجَّحُ بِوُجُوهٍ وَهِيَ غَيْرُ قَوِيَّةٍ في الرُّجْحَانِ كما قال الْإِمَامُ أَوَّلُهَا الْخَبَرُ الْمَدَنِيُّ أَيْ الذي رُوَاتُهُ من الْمَدِينَةِ مُقَدَّمٌ على غَيْرِهِ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ مَهْبِطِ الْوَحْيِ وَمَوْضِعَهُمْ مَوْضِعُ النَّاسِخِ وَلَهُمْ الْعِنَايَةُ بِمَا وَقَعَ عِنْدَهُمْ لِأَنَّ الْمَدَنِيَّاتِ مُتَأَخِّرَةٌ عن الْهِجْرَةِ قال ابن بَرْهَانٍ وَلِذَلِكَ قَدَّمْنَا رِوَايَتَهُمْ على رِوَايَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ في تَرْجِيعِ الْأَذَانِ وَإِفْرَادِ الْإِقَامَةِ قال الْأُسْتَاذُ وَكَذَلِكَ تَعَارُضُ الْآيَتَيْنِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَدَنِيَّةَ نَاسِخَةٌ لِلْمَكِّيَّةِ مع إمْكَانِ نُزُولِ الْمَكِّيَّةِ بَعْدَ النَّسْخِ وَنُزُولِ الْمَدَنِيَّةِ قَبْلَهُ إلَّا أَنَّ نَسْخَ الْمَكِّيَّاتِ بِالْمَدَنِيَّاتِ أَكْثَرُ من الْعَكْسِ ثَانِيهَا تَرْجِيحُ الْخَبَرِ الدَّالِ على عُلُوِّ شَأْنِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم على ما ليس كَذَلِكَ ثَالِثُهَا الْمُتَضَمِّنُ لِلتَّغْلِيظِ على الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان في ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ يَرْأَفُ بِالنَّاسِ وَيَأْخُذُهُمْ شيئا فَشَيْئًا وَلَا يَتَعَبَّدُ بِالتَّغْلِيظِ فَاحْتِمَالُ تَأْخِيرِ التَّشْدِيدِ أَظْهَرُ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ حَيْثُ قال أو شَدِيدُهُ لِتَأَخُّرِ التَّشْدِيدَاتِ لَكِنَّهُ ذَكَرَ قبل ذلك أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَخَفُّ على الْأَثْقَلِ وَكَذَا قال الْبَيْضَاوِيُّ يُقَدَّمُ الْمُتَضَمِّنُ لِلتَّخْفِيفِ رَابِعُهَا يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ مُطْلَقًا على الْمَرْوِيِّ بِتَارِيخٍ مُتَقَدِّمٍ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ أَشْبَهَ بِالتَّأَخُّرِ كَذَا قالوا وهو مُخَالِفٌ لِتَرْجِيحِ الْأَصْحَابِ في الْبَيِّنَاتِ إذَا أُطْلِقَتْ وَاحِدَةٌ وَأُرِّخَتْ الْأُخْرَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ على الْمَذْهَبِ خَامِسُهَا الْمُؤَرَّخُ بِتَارِيخٍ مُضَيَّقٍ في آخِرِ عُمْرِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم على الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ تَأَخُّرًا وَسَبَقَ ما فيه من الْخِلَافِ وَجَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ منه أَخْبَارَ الدِّبَاغِ وقد سَبَقَ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ فيها سَادِسُهَا إذَا حَصَلَ إسْلَامُ رَاوِيَيْنِ مَعًا كَإِسْلَامِ خَالِدٍ وَعَمْرِو بن الْعَاصِ وَعُلِمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا يَحْمِلُ الحديث بَعْدَ إسْلَامِهِ فَيُرَجَّحُ خَبَرُهُ على الْخَبَرِ الذي لَا يُعْلَمُ هل تَحَمَّلَهُ الْآخَرُ قبل الْإِسْلَامِ أو بَعْدَهُ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ تَأَخُّرًا وَهَذَا يَسْتَقِيمُ لو كان ذلك الْخَبَرُ الذي وَقَعَ التَّعَارُضُ فيه على ما ذَكَرَهُ من الْوَصْفِ أو كان يَعْلَمُ أَنَّ أَكْثَرَ رِوَايَاتِ أَحَدِهِمَا كان بِسَمَاعِهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ على هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَلَا يَسْتَقِيمُ
____________________
(4/457)
الْقَوْلُ في التَّرْجِيحِ من جِهَةِ الْمَتْنِ وهو بِاعْتِبَارَاتٍ الْأَوَّلُ التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ اللَّفْظِ وَيَقَعُ بِأُمُورٍ أَوَّلُهَا فَصَاحَةُ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ مع رَكَاكَةِ الْآخَرِ وَهَذَا إنْ قَبِلْنَا كُلًّا مِنْهُمَا فَإِنْ لم نَقْبَلْ الرَّكِيكَ كما صَارَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ لم يَكُنْ مِمَّا نَحْنُ فيه وقال قَوْمٌ يُرَجَّحُ الْأَفْصَحُ على الْفَصِيحِ لِأَنَّ الظَّنَّ بِأَنَّهُ لَفْظُ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقْوَى وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُرَجَّحُ بِهِ لِأَنَّ الْبَلِيغَ قد يَتَكَلَّمُ بِالْأَفْصَحِ وَالْفَصِيحِ لَا سِيَّمَا إذَا كان مع ذَوِي لُغَةٍ لَا يَعْرِفُونَ سِوَى تِلْكَ الْفَصِيحَةِ كَرِوَايَةِ ليس من امْبِرِّ امْصِيَامُ في امْسَفَرِ ثَانِيهَا يُرَجَّحُ الْخَاصُّ على الْعَامِّ قال إلْكِيَا وَالْفِقْهُ على ذلك يَدُورُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ ثُمَّ رُوِيَ أَنَّهُ نهى عن نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَالشِّغَارِ وَالْمُحْرِمِ وَنِكَاحِ الْمَرْأَةِ على عَمَّتِهَا وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَشَاهِدٍ وقال تَعَالَى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ثُمَّ نهى عن بَيْعِ الْغَرَرِ وَالْحَصَاةِ وَبَيْعَتَيْنِ في بَيْعَةٍ وَبَيْعٍ وَسَلَفٍ وقال تَعَالَى قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ الْآيَةُ ثُمَّ نهى عن أَكْلِ ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ من الطَّيْرِ وَلَئِنْ حَمَلَ حَامِلٌ النَّهْيَ على التَّنْزِيهِ بِدَلَالَةِ الْعُمُومِ وَجَدَ مَقَالًا وَلَكِنْ يُقَالُ الْخَاصُّ يَقْضِي على الْعَامِّ فإن الْخَاصَّ أَقْرَبُ إلَى التَّعْيِينِ من الْجُمْلَةِ إذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَقْصِدَ بها تَمْهِيدَ الْأُصُولِ ثَالِثُهَا يُقَدَّمُ الْعَامُّ الذي لم يُخَصَّصْ على الْعَامِّ الذي خُصَّ نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن الْمُحَقِّقِينَ وَجَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ دُخُولَ التَّخْصِيصِ يُضْعِفُ اللَّفْظَ وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ مَجَازًا على قَوْلٍ وقال الْإِمَامُ الرَّازِيَّ لِأَنَّ الذي قد دَخَلَهُ قد أُزِيلَ عن
____________________
(4/458)
تَمَامِ مُسَمَّاهُ وَالْحَقِيقَةُ تُقَدَّمُ على الْمَجَازِ وَاعْتَرَضَ الْهِنْدِيُّ بِأَنَّ الْمَخْصُوصَ رَاجِحٌ من حَيْثُ كَوْنُهُ خَاصًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى ذلك الْعَامِّ الذي لم يَدْخُلْهُ التَّخْصِيصُ وَحَكَى ابن كَجٍّ التَّقْدِيمَ عن قَوْمٍ وَوَجَّهَهُ بِإِجْمَاعِهِمْ على التَّعَلُّقِ بِمَا لم يُخَصَّ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا خُصَّ قال وَعِنْدَنَا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا في حُكْمِ سَمَاعِ الْحَادِثَةِ من هذا اللَّفْظِ كَهُوَ من اللَّفْظِ الْآخَرِ وَأَيْضًا فإن الْمَخْصُوصَ يَدُلُّ على قُوَّتِهِ لِأَنَّهُ قد صَارَ كَالنَّصِّ على تِلْكَ الْعَيْنِ قال وقد أَجْمَعُوا كلهم على أَنَّ الْعُمُومَ إذَا اُسْتُثْنِيَ بَعْضُهُ صَحَّ التَّعَلُّقُ بِهِ وَاخْتَارَ ابن الْمُنِيرِ مَذْهَبًا ثَالِثًا وهو تَقْدِيمُ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ على الْعَامِّ الذي لم يُخَصَّ لِأَنَّ الْمَخْصُوصَ قد قَلَّتْ أَفْرَادُهُ حتى قَارَبَ النَّصَّ إذْ كُلُّ عَامٍّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ نَصًّا في أَقَلِّ مُتَنَاوَلَاتِهِ فإذا قَرُبَ من الْأَقَلِّ بِالتَّخْصِيصِ فَقَدْ قَرُبَ من التَّنْصِيصِ فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّقَدُّمِ رَابِعُهَا يَتَقَدَّمُ الْعَامُّ الْمُطْلَقُ على الْعَامِّ الْوَارِدِ على سَبَبٍ إنْ قُلْنَا الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ يُوهِنُهُ وَيَحُطُّهُ عن رُتْبَةِ الْعُمُومِ الْمُطْلَقِ وَمَبْنَى التَّرْجِيحِ على غَلَبَةِ الظُّنُونِ قَالَهُ الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ وَسَبَقَ مِثْلُهُ عن إلْكِيَا وَقَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وَسُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ وَصَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَغَيْرُهُمْ قالوا لِأَنَّ الْوَارِدَ على غَيْرِ السَّبَبِ مُتَّفَقٌ على عُمُومِهِ وَالْوَارِدَ على سَبَبٍ مُخْتَلَفٌ في عُمُومِهِ قال الْهِنْدِيُّ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هذا التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَتَأَتَّى بِالنِّسْبَةِ إلَى ذلك السَّبَبِ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْأَفْرَادِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ الْعَامَّيْنِ فَلَا وَالْمُرَادُ من قَوْلِهِمْ الْوَارِدُ على سَبَبٍ رَاجِحٍ أَيْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسَبَّبِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَفْرَادِ وَإِنْ كان كَلَامُهُمْ مُطْلَقًا غير مُقَيَّدٍ بِحَالَةٍ دُونَ حَالَةٍ قُلْت وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابن الْحَاجِبِ بِقَوْلِهِ في الْمُسَبَّبِ خَامِسُهَا تَرْجِيحُ الْحَقِيقَةِ على الْمَجَازِ لِتَبَادُرِهَا إلَى الذِّهْنِ وَهَذَا ظَاهِرٌ إذَا لم يُغَلَّبْ الْمَجَازُ فَإِنْ غُلِّبَ كان أَظْهَرَ دَلَالَةً منها فَلَا تُقَدَّمُ الْحَقِيقَةُ عليه سَادِسُهَا أَنْ يَكُونَ مَجَازُ أَحَدِهِمَا أَشْبَهَ بِالْحَقِيقَةِ فَيُقَدَّمُ على ما مَجَازُهُ يُشْبِهُهَا سَابِعُهَا الْمُشْتَمِلُ على الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ أو الشَّرْعِيَّةِ على الْمُشْتَمِلِ على الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ قال في الْمَحْصُولِ وَهَذَا ظَاهِرٌ في اللَّفْظِ الذي صَارَ شَرْعِيًّا أَيْ بِأَنْ
____________________
(4/459)
يَكُونَ اللَّفْظُ وَاحِدًا وَالْمَعْنَى في أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ يَدُلُّ على الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ وفي الْآخَرِ على اللُّغَوِيِّ أَمَّا الذي لم يَثْبُتْ ذلك فيه مِثْلَ أَنْ يَدُلَّ هذا اللَّفْظُ بِوَضْعِهِ الشَّرْعِيِّ على حُكْمٍ وَاللَّفْظُ الثَّانِي بِوَضْعِهِ اللُّغَوِيِّ على حُكْمٍ وَلَيْسَ لِلشَّرْعِ في هذا اللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ عُرْفٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يَسْلَمُ تَرْجِيحُ الشَّرْعِيِّ على اللُّغَوِيِّ لِأَنَّ هذا اللُّغَوِيَّ إذَا لم يَنْقُلْهُ الشَّرْعُ فَهُوَ لُغَوِيٌّ عُرْفِيٌّ شَرْعِيٌّ وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ شَرْعِيٌّ وَلَيْسَ بِلُغَوِيٍّ وَلَا عُرْفِيٍّ وَالنَّقْلُ خِلَافُ الْأَصْلِ ثَامِنُهَا وَالْخَبَرُ الْمُسْتَغْنَى عن الْإِضْمَارِ في الدَّلَالَةِ على الْمُفْتَقِرِ إلَيْهَا تَاسِعُهَا يُقَدَّمُ الْخَبَرُ الدَّالُّ على الْمُرَادِ من وَجْهَيْنِ على الدَّالِّ عليه من وَجْهٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ إنَّمَا الشُّفْعَةُ فِيمَا لم يُقْسَمْ فَقَضِيَّتُهُ أَنَّ ما يُقْسَمُ لَا شُفْعَةَ فيه ثُمَّ قال فإذا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ فَيُقَدَّمُ على رِوَايَةِ الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ لِأَنَّ هذا الحديث يَدُلُّ بِوَجْهٍ وَحَدِيثُنَا يَدُلُّ بِوَجْهَيْنِ عَاشِرُهَا تَرْجِيحُ الْخَبَرِ الدَّالِّ على الْحُكْمِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ على ما يَدُلُّ عليه بِوَاسِطَةٍ لِزِيَادَةِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِقِلَّةِ الْوَاسِطَةِ كَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فإنه لَا يَدُلُّ على بُطْلَانِ نِكَاحِهَا إذَا نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا إلَّا بِوَاسِطَةِ الْإِجْمَاعِ أو يُقَالُ إذَا بَطَلَ عِنْدَ عَدَمِ الْإِذْنِ بَطَلَ بِالْإِذْنِ إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا من وَلِيِّهَا فإنه يَدُلُّ على بُطْلَانِ نِكَاحِهَا إذَا نَكَحَتْ نَفْسَهَا مُطْلَقًا من غَيْرِ وَاسِطَةٍ فَالْحَدِيثُ الثَّانِي أَرْجَحُ حَادِيَ عَشَرَهَا يُرَجَّحُ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ من لَفْظٍ مُومٍ إلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ على ما ليس كَذَلِكَ لِأَنَّ الِانْقِيَادَ إلَيْهِ أَكْثَرُ من الِانْقِيَادِ إلَى غَيْرِ الْمُعَلَّلِ لِأَنَّ ظُهُورَ التَّعْلِيلِ من أَسْبَابِ قُوَّةِ التَّعْمِيمِ كَتَقْدِيمِ قَوْلِهِ عليه السَّلَامُ من بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ على حديث النَّهْيِ عن قَتْلِ النِّسَاءِ من جِهَةِ أَنَّ التَّبْدِيلَ إيمَاءٌ إلَى الْعِلَّةِ
____________________
(4/460)