في كِتَابِهِ الْبُرْهَانِ كما وَعَدَ قَوْمَ يُونُسَ بِالْعَذَابِ إنْ لم يَتُوبُوا فلما تَابُوا كَشَفَهُ عَنْهُمْ وقال الْآمِدِيُّ يَجُوزُ مُطْلَقًا إذَا كان مِمَّا يَتَكَرَّرُ وَالْخَبَرُ عَامٌّ فَيُبَيِّنُ النَّاسِخُ إخْرَاجَ ما لم يَتَنَاوَلْهُ اللَّفْظُ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ الْمَشْهُورُ في الْخَبَرِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ النَّسْخُ لِأَنَّ صِدْقَهُ مُطَابَقَتُهُ لِلْوَاقِعِ وَذَلِكَ لَا يَرْتَفِعُ وَاخْتَارَ جَمَاعَةٌ من الْفُضَلَاءِ جَوَازَهُ لَكِنْ جَوَازًا مُقَيَّدًا وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ في صُورَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ نَحْوُ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ تَابِعًا لِلْحُكْمِ فَيَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِ الْحُكْمِ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ أَنَّ الْخِلَافَ مَبْنِيٌّ على تَفْسِيرِ النَّسْخِ وَهَلْ هو رَفْعٌ أو بَيَانٌ كما صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فقال ذَهَبَ كُلُّ من قال بِأَنَّ النَّسْخَ بَيَانٌ وَلَيْسَ بِرَفْعٍ حَقِيقِيٍّ إلَى جَوَازِ النَّسْخِ في الْأَخْبَارِ على هذا التَّأْوِيلِ قال وَأَمَّا نَحْنُ إذَا صِرْنَا إلَى أَنَّهُ رَفْعٌ لِثَابِتٍ حَقِيقِيٍّ وَأَنَّ الْمُبَيَّنَ ليس بِنَسْخٍ أَصْلًا فَلَا نَقُولُ على هذا بِنَسْخِ الْأَخْبَارِ لِأَنَّ في تَجْوِيزِهِ حِينَئِذٍ تَجْوِيزَ الْخُلْفِ في خَبَرِ اللَّهِ وهو بَاطِلٌ وَهَذَا بِخِلَافِ تَجْوِيزِ النَّسْخِ في الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا صِدْقٌ وَلَا كَذِبٌ ا هـ وَمِنْ هذا يُعْلَمُ أَنَّ من وَافَقَ الْقَاضِيَ في تَفْسِيرِهِ بِالرَّفْعِ وقال بِتَجْوِيزِ النَّسْخِ في الْأَخْبَارِ فلم يَتَحَقَّقْ ولم يَقِفْ الْهِنْدِيُّ على كَلَامِ الْقَاضِي فقال لَا يُتَّجَهُ الْخِلَافُ إنْ فَسَّرْنَا النَّسْخَ بِالرَّفْعِ لِأَنَّ نَسْخَهُ حِينَئِذٍ يَسْتَلْزِمُ الْكَذِبَ وَإِنَّمَا يَتِمُّ إذَا فَسَّرْنَاهُ بِالِانْتِهَاءِ فإنه لَا يَمْتَنِعُ حِينَئِذٍ أَنْ يُرَادَ من الدَّلِيلِ على ثُبُوتِ الْحُكْمِ في كل الْأَزْمِنَةِ لَا بَعْضِهَا نَسْخُ الْخَبَرِ الذي بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الثَّانِي أَنَّ الْخِلَافَ أَيْضًا في الْخَبَرِ الْمَحْضِ أَمَّا الْخَبَرُ الذي بِمَعْنَى الْأَمْرِ أو النَّهْيِ نَحْوُ وَالْوَالِدَاتِ يُرْضِعْنَ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ فَلَا خِلَافَ في جَوَازِ نَسْخِهِ اعْتِبَارًا بِمَعْنَاهُ قَالَهُ ابن بَرْهَانٍ وَتَبِعَهُ الْهِنْدِيُّ قال وَأَمَّا نَقْلُ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ الْخِلَافَ في الْخَبَرِ عن حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَمَحْمُولٌ على ما كان خَبَرًا لَفْظًا وَمَعْنًى قُلْت لَكِنْ ذَهَبَ أبو بَكْرٍ الْقَفَّالُ من أَصْحَابِنَا إلَى مَنْعِ نَسْخِ الْخَبَرِ وَإِنْ كان حُكْمًا شَرْعِيًّا اعْتِبَارًا بِلَفْظِهِ حَكَاهُ عنه الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في اللُّمَعِ وَشَرْحِهَا وَسُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ
____________________
(3/177)
وقال عبد الْوَهَّابِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْخَبَرِ إلَّا إذَا كان مُرَادًا بِهِ الْأَمْرُ وقال الرُّويَانِيُّ يَجُوزُ نَسْخُ الْأَمْرِ وَإِنْ وَرَدَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ وقال بَعْضُ أَصْحَابِنَا لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالْأَخْبَارِ وهو فَاسِدٌ لِاخْتِصَاصِ الْأَخْبَارِ بِالْإِعْلَامِ وَاخْتِصَاصِ الْأَوَامِرِ بِالْإِلْزَامِ النَّسْخُ في الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الثَّالِثُ النَّسْخُ في الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ نَقَلَ أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ عن شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ مَنْعَ النَّسْخِ فِيهِمَا وَأَمَّا عِنْدَنَا فَكَذَلِكَ في الْوَعْدِ لِأَنَّهُ إخْلَافٌ وَالْخُلْفُ في الْإِنْعَامِ مُسْتَحِيلٌ على اللَّهِ وَبِهِ صَرَّحَ الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِهِ وَأَمَّا الْوَعِيدُ كَآخِرِ الْبَقَرَةِ فَنَسْخُهُ جَائِزٌ كما قَالَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ قال وَلَا يُعَدُّ ذلك خُلْفًا بَلْ عَفْوًا وَكَرَمًا وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْقَطَّانِ السَّابِقِ جَوَازُ نَسْخِهِمَا وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَنْشَأَ الْخِلَافِ أَنَّ الْوَعِيدَ هل هو خَبَرٌ مَحْضٌ أو هو مع ذلك إنْشَاءٌ كَصِيَغِ الْعُقُودِ التي تَقْبَلُ النَّسْخَ لِكَوْنِهِ إخْبَارًا عن إرَادَةِ الْمُتَوَعِّدِ وَعَزْمِهِ كَالْخَبَرِ عن الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمُتَضَمِّنِ خَبَرَهُ عن طَلَبِهِ الْمُتَضَمِّنِ إرَادَتَهُ الشَّرْعِيَّةَ وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى وَإِنْ تُبْدُوا ما في أَنْفُسِكُمْ أو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ عَظُمَ ذلك فَأَمَرَهُمْ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا فلما ذَلَّتْ بها أَلْسِنَتُهُمْ نَسَخَهَا اللَّهُ بِقَوْلِهِ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا قال الْبَيْهَقِيُّ وَهَذَا النَّصُّ بِمَعْنَى التَّخْصِيصِ فإن الْآيَةَ الْأُولَى وَرَدَتْ مَوْرِدَ الْعُمُومِ فَبَيَّنَتْهَا التي بَعْدَهَا أَنَّ مِمَّا لَا يَخْفَى لَا يُؤَاخَذُ بِهِ وهو حَدِيثُ النَّفْسِ الذي لَا يَسْتَطِيعُ الْعَبْدُ دَفْعَهُ عن قَلْبِهِ قال وَكَثِيرٌ من الْمُتَقَدِّمِينَ كَانُوا يُطْلِقُونَ عليه اسْمَ النَّسْخِ على الِاتِّسَاعِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْلَا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ لَكَانَ مُؤَاخَذًا بِجَمِيعِ ذلك قال وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هذا خَبَرًا مُضَمَّنًا لِحُكْمٍ وَكَأَنَّهُ حَكَمَ بِمُؤَاخَذَةِ عِبَادِهِ بِجَمِيعِ ذلك وَتَعَبُّدِهِمْ بِهِ فلما قَابَلُوهُ بِالطَّاعَةِ خَفَّفَ عَنْهُمْ وَوَضَعَ عَنْهُمْ حَدِيثَ النَّفْسِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ خَبَرًا مُضَمَّنًا لِحُكْمٍ أَيْ مُحَاسِبُكُمْ بِهِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ الْآيَةَ قال وَهَذَا كَتَبْته من جُمْلَةِ كَلَامِ الشَّيْخِ أبي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ قال وقال الْخَطَّابِيُّ النَّسْخُ لَا يَجْرِي فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عنه أَنَّهُ كان وَأَنَّهُ فَعَلَ ذلك فِيمَا مَضَى لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الْكَذِبِ وَالْخُلْفِ وَيَجْرِي عِنْدَ بَعْضِهِمْ فِيمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِجَوَازِ تَعْلِيقِهِ بِشَرْطٍ بِخِلَافِ إخْبَارِهِ عَمَّا فَعَلَهُ فإنه لَا يَجُوزُ دُخُولُ الشَّرْطِ فيه
____________________
(3/178)
وَهَذَا أَصَحُّ الْوُجُوهِ وَعَلَيْهِ تَأَوَّلَ ابن عُمَرَ الْآيَةَ وَيَجْرِي ذلك مَجْرَى الْعَفْوِ وَالتَّخْفِيفِ وَلَيْسَ بِخُلْفٍ وقال الصَّيْرَفِيُّ فإن سَبَّبَ على أَحَدِنَا إدْخَالَ الْوَعِيدِ في بَابِ الْأَخْبَارِ فَقَدْ وَهَمَ لِأَنَّ اللَّهَ قد أَخْبَرَ أَنَّهُ يَغْفِرُ ما دُونَ الشِّرْكِ إنْ شَاءَ وقال الْقُرْطُبِيُّ أَمَّا الْوَعِيدُ وَالْوَعْدُ فلما كَانَا مُعَلَّقِينَ على ما يُجَوِّزُ النَّسْخَ وَالتَّبْدِيلَ جَازَ نَسْخُهُمَا نعم قد وَرَدَ في الشَّرْعِ أَخْبَارٌ ظَاهِرُهَا الْإِطْلَاقُ وَقُيِّدَتْ في مَوَاضِعَ أُخْرَى كَقَوْلِهِ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَقَدْ جاء تَقْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إلَيْهِ إنْ شَاءَ وَنَحْوِهِ فَقَدْ يَظُنُّ من لَا بَصِيرَةَ له أَنَّ هذا من بَابِ النَّسْخِ في الْأَخْبَارِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هو من بَابِ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ وقال ابن حَاتِمٍ الْأَزْدِيُّ في اللَّامِعِ وَأَمَّا الْأَوْقَاتُ فَلَا تُنْسَخُ لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ الْعِبَادِ وقال شَارِحُهُ وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنَّمَا نُؤْمَرُ أَنْ نُوقِعَ أَفْعَالَنَا في أَوْقَاتٍ تُعَيَّنُ لها الرَّابِعُ هل يَرِدُ النَّسْخُ في الدُّعَاءِ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عن ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال اللَّهُمَّ الْعَنْ أَبَا سُفْيَانَ اللَّهُمَّ الْعَنْ الْحَارِثَ بن هِشَامٍ اللَّهُمَّ الْعَنْ صَفْوَانَ بن أُمَيَّةَ قَالَهُ عليه السَّلَامُ وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ ثُمَّ أَسْلَمُوا بَعْدَ ذلك قال صَاحِبُ مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ اللَّهُمَّ أَيُّمَا رَجُلٍ سَبَبْته أو شَتَمْته فَاجْعَلْ ذلك قُرْبَةً إلَيْك مُتَّفَقٌ عليه وفي رِوَايَةٍ أَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَسْأَلَةٌ نَسْخُ جَمِيعِ الْقُرْآنِ مُمْتَنِعٌ يَمْتَنِعُ نَسْخُ جَمِيعِ الْقُرْآنِ بِالْإِجْمَاعِ كما قَالَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَغَيْرُهُ وَأَمَّا نَسْخُ بَعْضِهِ فَجَائِزٌ خِلَافًا لِأَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ كما نَقَلَهُ عنه الْإِمَامُ
____________________
(3/179)
فَصْلٌ في وُجُوهِ النَّسْخِ في الْقُرْآنِ وَقَسَمَهُ أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمْ إلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا ما نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَ رَسْمُهُ وَثَبَتَ حُكْمُ النَّاسِخِ وَرَسْمُهُ كَنَسْخِ آيَةِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ وَنَسْخِ الْعِدَّةِ حَوْلًا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فَالْمَنْسُوخُ ثَابِتُ التِّلَاوَةِ مَرْفُوعُ الْحُكْمِ وَالنَّاسِخُ ثَابِتُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ وَمَنَعَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ من ذلك لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من التِّلَاوَةِ حُكْمُهَا فإذا انْتَفَى الْحُكْمُ فَلَا فَائِدَةَ في بَقَائِهَا حَكَاهُ جَمَاعَةٌ من الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمِنْهُمْ من ادَّعَى الْإِجْمَاعَ على الْجَوَازِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ هَكَذَا مَثَّلُوا بِآيَةِ الْعِدَّةِ وَعِنْدِي أنها من الْمَخْصُوصِ لِأَنَّ فيها تَخْصِيصَ بَعْضِ الشُّرُوطِ بِالْإِيجَابِ وَبَعْضِهَا بِالْإِسْقَاطِ الثَّانِي ما نُسِخَ حُكْمُهُ وَرَسْمُهُ وَثَبَتَ حُكْمُ النَّاسِخِ وَرَسْمُهُ كَنَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ وَصِيَامِ عَاشُورَاءَ بِرَمَضَانَ قال أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَمِنْهُمْ من جَعَلَ الْقِبْلَةَ من نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ وَزَعَمَ أَنَّ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالسُّنَّةِ لَا بِالْقُرْآنِ الثَّالِثُ ما نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَ رَسْمُهُ وَرُفِعَ رَسْمُ النَّاسِخِ وَبَقِيَ حُكْمُهُ كَقَوْلِهِ فَأَمْسَكُوهُنَّ في الْبُيُوتِ حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أو يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بِقَوْلِهِ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا من اللَّهِ وقال عُمَرُ كنا نَقْرَؤُهَا على عَهْدِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَوْلَا أَنْ يُقَالَ زَادَ عُمَرُ في كِتَابِ اللَّهِ لَأَثْبَتهَا فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الرَّجْمَ ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ بَلْ إنَّمَا ثَبَتَ بِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ
____________________
(3/180)
وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الرَّجْمُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ قُلْنَا هذا مُقَرِّرٌ لِحُكْمِ تِلْكَ الْآيَةِ وَيُعْرَفُ أَنَّهُ لم يُنْسَخْ وقد يُضَعَّفُ هذا من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ حَمْلَ الحديث على التَّأْسِيسِ وَإِثْبَاتَ الرَّجْمِ ابْتِدَاءً أَوْلَى من حَمْلِهِ على تَأْكِيدِ الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ وَثَانِيهِمَا أَنَّ الحديث وَرَدَ مُبَيِّنًا لِلسَّبِيلِ الْمَذْكُورِ في قَوْلِهِ أو يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا فَدَلَّ على أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِآيَةِ الرَّجْمِ بَلْ هو إمَّا مُسْتَقِلٌّ بِإِثْبَاتِهِ أو مُبَيِّنٌ لِلسَّبِيلِ من الْآيَةِ الْأُخْرَى الرَّابِعُ ما نُسِخَ حُكْمُهُ وَرَسْمُهُ وَنُسِخَ رَسْمُ النَّاسِخِ وَبَقِيَ حُكْمُهُ كَالْمَرْوِيِّ عن عَائِشَةَ كان فِيمَا أُنْزِلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ فَتُوُفِّيَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَهُنَّ مِمَّا يُتْلَى من الْقُرْآنِ قال الْبَيْهَقِيُّ فَالْعَشْرُ مِمَّا نُسِخَ رَسْمُهُ وَحُكْمُهُ وَالْخَمْسُ مِمَّا نُسِخَ رَسْمُهُ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحَابَةَ حين جَمَعُوا الْقُرْآنَ لم يُثْبِتُوهَا رَسْمًا وَحُكْمُهَا بَاقٍ عِنْدَ هُمْ وَقَوْلُهَا وَهِيَ مِمَّا يُقْرَأُ من الْقُرْآنِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ يَعْنِي أَنَّهُ يُتْلَى حُكْمُهُ دُونَ لَفْظِهِ وقال الْبَيْهَقِيُّ يَعْنِي من لم يَبْلُغْهُ نَسْخُ تِلَاوَتِهِ قُرْآنًا فَهَذَا أَوْلَى وَإِنَّمَا احْتَجْنَا لِهَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ لِأَنَّهُ ليس في الْقُرْآنِ الْيَوْمُ وَأَنَّ حُكْمَهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فَكَانَ الْمَنْسُوخُ مَرْفُوعَ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ وَالنَّاسِخُ بَاقِيَ التِّلَاوَةِ وَمَنَعَ قَوْمٌ من نَسْخِ اللَّفْظِ مع بَقَاءِ حُكْمِهِ وَمِنْ نَسْخِ حُكْمِهِ مع بَقَاءِ لَفْظِهِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي أَحَدُهُمَا إلَى أَنْ يَبْقَى الدَّلِيلُ وَلَا مَدْلُولَ وَالْآخَرُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَرْتَفِعَ الْأَصْلُ وَيَبْقَى النَّاسِخُ وَالصَّحِيحُ هو الْجَوَازُ لِأَنَّ التِّلَاوَةَ وَالْحُكْمَ في الْحَقِيقَةِ شَيْئَانِ مُخْتَلِفَانِ فَجَازَ نَسْخُ أَحَدِهِمَا وَتَبْقِيَةُ الْآخَرِ كَالْعِبَادَتَيْنِ وَجَزَمَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ بِامْتِنَاعِ نَسْخِ التِّلَاوَةِ مع بَقَاءِ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ التِّلَاوَةِ وقد أُورِدَ على أَثَرِ عُمَرَ السَّابِقِ كَوْنُهُ مِمَّا نُسِخَ رَسْمُهُ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِ هذا فإن من أَنْكَرَ آيَةً من الْقُرْآنِ كَفَرَ وَبِمِثْلِ هذا لَا يَكْفُرُ فإذا لم يَثْبُتْ كَوْنُهُ قُرْآنًا فَكَيْفَ يُدَّعَى نَسْخُهُ وَالرَّجْمُ ما عُرِفَ بهذا بَلْ بِحَدِيثِ مَاعِزٍ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ فإن الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا تَثْبُتُ بِهِ تِلَاوَةُ ما هو من الْقُرْآنِ وَحُكْمُهُ مَعًا فَإِنَّا لَا نَعْقِلُ كَوْنَهُ مَنْسُوخًا حتى نَعْقِلَ كَوْنَهُ قُرْآنًا وَكَوْنُهُ من الْقُرْآنِ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ في الْقِسْمَيْنِ أَعْنِي في مَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ وَعَكْسِهِ وَلِهَذَا
____________________
(3/181)
قال صَاحِبُ الْمَصَادِرِ وَأَمَّا نَسْخُ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ فَوُجُودُهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ لِأَنَّهُ مَنْقُولٌ من طَرِيقِ الْآحَادِ وَكَذَلِكَ نَسْخُهُمَا جميعا لَا يُقَالُ إنَّ ذلك لم يَكُنْ قُرْآنًا لِقَوْلِ عُمَرَ لَوْلَا أَنْ يَقُولَ الناس زَادَ عُمَرُ في الْقُرْآنِ وَذَلِكَ يَدُلُّ على أَنَّهُ لم يَكُنْ قُرْآنًا قُلْنَا إنَّمَا قال ذلك لِارْتِفَاعِ تِلَاوَتِهِ فلم يَكْتُبْهُ لِأَنَّهُ نُسِخَ رَسْمُهُ وقال لَوْلَا أَنْ يُقَالَ زَادَ في الْقُرْآنِ الْمُثْبَتِ لَكَتَبْت ذلك فَإِنْ قِيلَ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ لم يَثْبُتْ بِالتَّوَاتُرِ بَلْ بِقَوْلِ عُمَرَ وَنَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ مُمْتَنِعٌ سَوَاءٌ كان قُرْآنًا أو خَبَرًا قُلْنَا وَالرَّجْمُ أَيْضًا لم يَثْبُتْ بِالتَّوَاتُرِ بَلْ بِالْآحَادِ وَغَايَتُهُ أَنَّ الرَّجْمَ ثَابِتٌ إجْمَاعًا وَالْإِجْمَاعُ ليس بِنَاسِخٍ وَغَايَتُهُ الْكَشْفُ عن نَاسِخٍ مُتَوَاتِرٍ وقد تَكُونُ سُنَّةً مُتَوَاتِرَةً وَلَيْسَ كَوْنُ أَحَدِهِمَا مُتَوَاتِرًا أَوْلَى من الْآخَرِ وَأَجَابَ الْهِنْدِيُّ عن أَصْلِ السُّؤَالِ بِأَنَّ التَّوَاتُرَ شَرْطٌ في الْقُرْآنِ الْمُثْبَتِ بين الدَّفَّتَيْنِ أَمَّا الْمَنْسُوخُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذلك شَرْطٌ فيه بَلْ يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَكِنَّ الذي قد ثَبَتَ ضِمْنًا بها لَا يَثْبُتُ بِهِ اسْتِقْلَالًا كَالنَّسَبِ بِشَهَادَةِ الْقَوَابِلِ وَكَقَبُولِ قَوْلِ الرَّاوِي في أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَوَاتِرَيْنِ أَنَّهُ قبل الْآخَرِ على رَأْيٍ وَإِنْ لَزِمَ نَسْخُ الْمَعْلُومِ بِقَوْلِهِ وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّ زَمَانَنَا هذا ليس زَمَانَ نَسْخٍ وفي زَمَانِ النَّسْخِ لم يَقَعْ النَّسْخُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ الْقُرْآنُ وَإِنْ لم يَثْبُتْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَكِنْ يَثْبُتُ حُكْمُهُ وَالْعَهْدُ بِهِ بِقَوْلِ عَائِشَةَ وَهِيَ مِمَّا يُتْلَى أَيْ في حَقِّ الْحُكْمِ وَضُعِّفَ هذا بِأَنَّ التِّلَاوَةَ لَا تَجُوزُ بِذَلِكَ وَأَجَابَ آخَرُونَ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ مُطْلَقٌ في الْإِرْضَاعِ وَالْخَبَرُ جاء لِبَيَانِ الْعَدَدِ فَلَفْظُ الْقُرْآنِ مُجْمَلٌ في حَقِّ الْعَدَدِ وَالتَّغَيُّرُ إنَّمَا يَلْحَقُ بِخَبَرِ عَائِشَةَ فَالْآيَةُ إذَا كانت مُبَيَّنَةً بِالْخَبَرِ وكان الْمُرَادُ بِهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ كان الْمَتْلُوُّ خَمْسَ رَضَعَاتٍ يَعْنِي وَهَذَا كَقَوْلِهِ وَأُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ إذَا ثَبَتَ بِالْخَبَرِ بَيَانُ قَدْرِ الزَّكَاةِ نِصْفُ دِينَارٍ وهو الْمُرَادُ بِالْخَبَرِ فَكَانَ قِرَاءَةُ الزَّكَاةِ في الْقُرْآنِ قِرَاءَةَ نِصْفِ دِينَارٍ وَالدَّلِيلُ على جِوَارِ نَسْخِ الْآخَرِ مع بَقَاءِ الْحُكْمِ أَنَّ التِّلَاوَةَ حُكْمٌ فَلَا يَبْعُدُ نَسْخُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ مع بَقَاءِ الْآخَرِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلثَّانِي
____________________
(3/182)
فَرْعٌ هل يَجُوزُ لِلْمُحَدِّثِ مَسُّ الْمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ قال الْآمِدِيُّ تَرَدَّدَ فيه الْأُصُولِيُّونَ وَالْأَشْبَهُ الْمَنْعُ وَخَالَفَهُ ابن الْحَاجِبِ وقال الْأَشْبَهُ الْجَوَازُ وهو أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَنَا وَلِذَلِكَ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِذِكْرِهِ فيها وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ في أَوَّلِ بَابِ حَدِّ الزِّنَى أَنَّ الْقَاضِيَ ابْنَ كَجٍّ حَكَى عن بَعْضِ الْأَصْحَابِ وَجْهًا أَنَّهُ لو قَرَأَ قَارِئٌ آيَةَ الرَّجْمِ في الصَّلَاةِ لم تَفْسُدْ صَلَاتُهُ وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ وَأَمَّا الْمَنْسُوخُ حُكْمُهُ دُونَ لَفْظِهِ فَلَهُ حُكْمُ ما لم يُنْسَخْ بِالْإِجْمَاعِ الْخَامِسُ ما بَقِيَ رَسْمُهُ وَحُكْمُهُ وَلَا نَعْلَمُ الذي نَسَخَهُ كَالْمَرْوِيِّ أَنَّهُ كان في الْقُرْآنِ لو كان لِابْنِ آدَمَ وَادٍ من ذَهَبٍ لَابْتَغَى أَنْ يَكُونَ له ثَانٍ وَلَا يَمْلَأُ فَاهُ إلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ على من تَابَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ من حديث أَنَسٍ مَرْفُوعًا وَرَوَاهُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وقال كان هذا قُرْآنًا فَنُسِخَ خَطُّهُ قال ابن عبد الْبَرِّ في التَّمْهِيدِ قِيلَ إنَّهُ في سُورَةِ ص وفي رِوَايَةٍ عن أَنَسٍ قال فَلَا نَدْرِي أَشَيْءٌ نَزَلَ أَمْ شَيْءٌ كان يَقُولُهُ وَكَمَا رَوَاهُ أَنَسٌ في أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ إنَّهُمْ لَقُوا رَبَّهُمْ فَرَضِيَ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ فَكُنَّا نَقْرَأُ أَنْ قد بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنَّا قد لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ في مُسْتَدْرَكِهِ من حديث زِرِّ بن حُبَيْشٍ عن أُبَيِّ بن كَعْبٍ أَنَّ النبي قَرَأَ عليه لم يَكُنْ وَقَرَأَ فيها إنَّ ذَاتَ الدِّينِ عِنْدَ اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ لَا الْيَهُودِيَّةُ وَلَا النَّصْرَانِيَّةُ وَمَنْ تَعَجَّلَ خَيْرًا فَلَنْ يُكْفَرْ قال الْحَاكِمُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ
____________________
(3/183)
هَكَذَا ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ هذا الْقِسْمَ في الْحَاوِي وَمَثَّلَهُ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَفِيهِ نَظَرٌ كما قَالَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ وقال هذا ليس بِنَسْخٍ حَقِيقَةً وَلَا يَدْخُلُ في حَدِّهِ وَعَدَّهُ غَيْرُهُ مِمَّا نُسِخَ لَفْظُهُ وَبَقِيَ مَعْنَاهُ وَعَدَّهُ ابن عبد الْبَرِّ في التَّمْهِيدِ مِمَّا نُسِخَ خَطُّهُ وَحُكْمُهُ وَحِفْظُهُ يُنْسَى مع رَفْعِ خَطِّهِ من الْمُصْحَفِ وَلَيْسَ حِفْظُهُ على وَجْهِ التِّلَاوَةِ وَلَا يُقْطَعُ بِصِحَّتِهِ عن اللَّهِ وَلَا يَحْكُمُ بِهِ الْيَوْمَ أَحَدٌ قال وَمِنْهُ قَوْلُ من قال إنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ كانت نحو سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْأَعْرَافِ السَّادِسُ نَاسِخٌ صَارَ مَنْسُوخًا وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا لَفْظٌ مَتْلُوٌّ كَالْمَوَارِيثِ بِالْحَلِفِ وَالنُّصْرَةِ نُسِخَ بِالتَّوَارُثِ بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ ثُمَّ نُسِخَ التَّوَارُثُ بِالْهِجْرَةِ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَهَذَا يَدْخُلُ في النَّسْخِ من وَجْهٍ ثُمَّ قال وَعِنْدِي أَنَّ الْقِسْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ تَكَلُّفٌ وَلَيْسَ يَتَحَقَّقُ فِيهِمَا النَّسْخُ وَجَعَلَ أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ التَّوْرِيثَ بِالْهِجْرَةِ من قِسْمِ ما عُلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ ولم يُعْلَمْ نَاسِخُهُ قال وَكَذَا قَوْله تَعَالَى وَإِنْ تُبْدُوا ما في أَنْفُسِكُمْ أو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَهُوَ مَنْسُوخٌ لَا نَدْرِي نَاسِخَهُ وَقِيلَ نَاسِخُهُ لها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا ما اكْتَسَبَتْ وَذَكَرَ أبو إِسْحَاقَ في وُجُوهِ النَّسْخِ في الْقُرْآنِ شيئا أُنْسِيَ فَرُفِعَ بِلَا نَاسِخٍ يُعْرَفُ فلم يَبْقَ له رَسْمٌ وَلَا حُكْمٌ مِثْلُ ما رُوِيَ أَنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ كانت تَعْدِلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَرُفِعَتْ قال وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ في نَسْخِ الْقُرْآنِ أَمَّا نَسْخُ السُّنَّةِ فَإِنَّمَا يَقَعُ في الْحُكْمِ فَأَمَّا الرَّسْمُ فَلَا مَدْخَلَ له مَسْأَلَةٌ لَا يُشْتَرَطُ في النَّاسِخِ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عن الْمَنْسُوخِ في التِّلَاوَةِ وَهَذَا كَالْآيَةِ الدَّالَّةِ على الْبَقَاءِ بِالْبَيْتِ سُنَّةٌ مُتَأَخِّرَةٌ عن الدَّالَّةِ على الْبَقَاءِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا لِأَنَّهَا مُتَقَدِّمَةٌ في النُّزُولِ على أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَلَكِنَّ كِتَابَتَهَا في الْمُصْحَفِ جَاءَتْ على خِلَافِ ما وَقَعَ بِهِ النُّزُولُ كَذَلِكَ نَقَلَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَشَبَّهُوهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ من الناس ما وَلَّاهُمْ عن قِبْلَتِهِمْ التي كَانُوا عليها وَهَذَا نَزَلَ بَعْدَ أَنْ تَوَلَّوْا عن الْقِبْلَةِ الْأُولَى وَتَوَجَّهُوا إلَى الْكَعْبَةِ ثُمَّ جاء بَعْدَ ذلك قد نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا وَقَوْلُهُ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ يَدُلُّ على أَنَّهُ لم يُحَوَّلْ بَعْدُ وَقَوْلُهُ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ نَزَلَ قبل التَّحْوِيلِ وَقَوْلُهُ ما وَلَّاهُمْ نَزَلَ بَعْدَ التَّحْوِيلِ فلم يَأْتِ التَّرْتِيبُ في
____________________
(3/184)
الْكِتَابَةِ على مُقْتَضَى النُّزُولِ فَتَفَهَّمَ هذا الْفَصْلَ فإنه دَقِيقُ الْمَسْأَلَةِ عَزِيزُ الْأَمْثِلَةِ مَسْأَلَةٌ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ لَا خِلَافَ في جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِمِثْلِهَا وَالْآحَادِ بِالْآحَادِ وَالْآحَادِ بِالْمُتَوَاتِرِ وَأَمَّا نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ سُنَّةً أو قُرْآنًا بِالْآحَادِ فَالْكَلَامُ في الْجَوَازِ وَالْوُقُوعِ أَمَّا الْجَوَازُ عَقْلًا فَالْأَكْثَرُونَ عليه وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ عن الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمِنْهُمْ من نَقَلَ فيه الِاتِّفَاقَ وَبِهِ صَرَّحَ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ فقال لَا يَسْتَحِيلُ عَقْلًا نَسْخُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في جَوَازِهِ شَرْعًا وَمَنَعَهُ الْهِنْدِيُّ وَظَاهِرُ كَلَامِ سُلَيْمٍ في التَّقْرِيبِ أَنَّ غير الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ يَقُولُونَ بِمَنْعِهِ عَقْلًا وهو ظَاهِرُ ما نَقَلَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ عن الْجُمْهُورِ وقال إلْكِيَا لَا يُمْنَعُ منه وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى من قال إنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُفِيدُ الظَّنَّ وَكِتَابُ اللَّهِ قَطْعِيٌّ فَكَيْفَ يُرْفَعُ الْمَقْطُوعُ بِمَظْنُونٍ فإن هذا شَاعَ مِمَّا يَلُوجُ في الظَّاهِرِ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَإِنْ كان مُفْضِيًا إلَى الظَّنِّ لَكِنَّ الْعَمَلَ بِهِ مُسْتَنِدٌ إلَى قَاطِعٍ وَذَلِكَ الْقَاطِعُ أَوْجَبَ عَلَيْنَا الْعَمَلَ بِالظَّنِّ وَلَوْلَاهُ لَمَا صِرْنَا إلَى الْعَمَلِ بِهِ فَوُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ مَقْطُوعٌ وَالظَّنُّ وَرَاءَ ذلك فَعَلَى هذا ما رَفَعْنَا الْمَقْطُوعَ بِمَظْنُونٍ وَأَمَّا الْوُقُوعُ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ كما قَالَهُ ابن بَرْهَانٍ وابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمَا إلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ وَنَقَلَ ابن السَّمْعَانِيِّ وَسُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ فيه الْإِجْمَاعَ وَعِبَارَتُهُمَا لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ وَهَكَذَا عِبَارَةُ الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ في شَرْحِ الْكِفَايَةِ وَالشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ في اللُّمَعِ ولم يَحْكِيَا خِلَافًا وَيَنْبَغِي حَمْلُ كَلَامِهِمْ على نَفْيِ الْوُقُوعِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ كانت أَدِلَّتُهُمْ صَرِيحَةً في نَفْيِ الْجَوَازِ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ من أَهْلِ الظَّاهِرِ منهم ابن حَزْمٍ إلَى وُقُوعِهِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عن أَحْمَدَ احْتِجَاجًا بِقِصَّةِ أَهْلِ قُبَاءَ حَكَاهَا ابن عَقِيلٍ وَأَلْزَمَ الشَّافِعِيُّ ذلك أَيْضًا فإنه احْتَجَّ على خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقِصَّةِ قُبَاءَ وَفَصَلَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَالْغَزَالِيُّ وأبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ بين زَمَانِ الرَّسُولِ وما بَعْدَهُ فَقَالَا بِوُقُوعِهِ في زَمَانِهِ وَكَذَا قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ
____________________
(3/185)
على أَنَّ الثَّابِتَ قَطْعًا لَا يَنْسَخُهُ مَظْنُونٌ ولم يَتَعَرَّضْ لِزَمَانِ الرَّسُولِ وَكَأَنَّ الْفَارِقَ أَنَّ الْأَحْكَامَ في زَمَانِ الرَّسُولِ في مَعْرِضِ التَّغَيُّرِ وَفِيمَا بَعْدَهُ مُسْتَقِرَّةٌ فَكَانَ لَا قَطْعَ في زَمَانِهِ مَسْأَلَةٌ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ وَأَمَّا نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كانت السُّنَّةُ آحَادًا فَقَدْ سَبَقَ الْمَنْعُ وَكَرَّرَ ابن السَّمْعَانِيِّ نَقْلَ الِاتِّفَاقِ فيه وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنْ كانت مُتَوَاتِرَةً فَاخْتَلَفُوا فيه فَالْجُمْهُورُ على جَوَازِهِ وَوُقُوعِهِ كما قَالَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وابن بَرْهَانٍ وقال ابن فُورَكٍ في شَرْحِ مَقَالَاتِ الْأَشْعَرِيِّ إلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَإِلَيْهِ يَذْهَبُ شَيْخُنَا أبو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وكان يقول إنَّ ذلك وُجِدَ في قَوْله تَعَالَى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ فإن هذه الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِالسُّنَّةِ وهو قَوْلُهُ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وكان يقول إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا ا هـ وَمِنْ خَطِّ ابْنِ الصَّلَاحِ نَقَلْته قال ابن السَّمْعَانِيِّ وهو مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ وَعَامَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ وقال سُلَيْمٌ هو قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَقَالُوا ليس لِأَبِي حَنِيفَةَ نَصٌّ فيه وَلَكِنْ نَصَّ عليه أبو يُوسُفَ وَاخْتَارَهُ قال وهو مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَسَائِرِ الْمُتَكَلِّمِينَ قال الدَّبُوسِيُّ في التَّقْوِيمِ إنَّهُ قَوْلُ عُلَمَائِنَا يَعْنِي الْحَنَفِيَّةَ قال الْبَاجِيُّ قال بِهِ عَامَّةُ شُيُوخِنَا وَحَكَاهُ أبو الْفَرَجِ عن مَالِكٍ قال وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ عِنْدَهُ لِلْوَارِثِ لِلْحَدِيثِ فَهُوَ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ الْآيَةَ قال عبد الْوَهَّابِ قال الشَّيْخُ أبو بَكْرٍ وَهَذَا سَهْوٌ لِأَنَّ مَالِكًا صَرَّحَ بِأَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ في نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ في عَامَّةِ كُتُبِهِ كما قَالَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ بِحَالٍ وَإِنْ كانت مُتَوَاتِرَةً وَجَزَمَ بِهِ الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِهِ وَالْخَفَّافُ في كِتَابِ الْخِصَالِ وَنَقَلَهُ عبد الْوَهَّابِ عن أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَأَجْمَعَ
____________________
(3/186)
أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ على الْمَنْعِ وَرَأَيْت التَّصْرِيحَ بِهِ في آخِرِ كِتَابِ الْوَدَائِعِ لِابْنِ سُرَيْجٍ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ قَطَعَ الشَّافِعِيُّ جَوَابَهُ بِأَنَّ الْكِتَابَ لَا يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ وَتَرَدَّدَ في عَكْسِهِ قُلْت وَسَيَأْتِي عن الشَّافِعِيِّ حِكَايَةُ خِلَافٍ في نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ فَلْيَجِئْ هُنَا بِطَرِيقٍ أَوْلَى أو نَقْطَعُ بِالْمَنْعِ في الْعَكْسِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَوْلُ على مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَنَعَ منه الْعَقْلُ أو الشَّرْعُ قال وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ مَنَعَ منه الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ جميعا وَكَذَا قَالَهُ قَبْلَهُ سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ وَعِبَارَتُهُ وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذلك شَرْعًا وَلَا عَقْلًا وهو ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ا هـ وَفِيمَا قَالَاهُ نَظَرٌ بَلْ قُصَارَى كَلَامِهِ مَنْعُ الشَّرْعِ كَيْفَ وَالْعَقْلُ عِنْدَهُ لَا يُحَكَّمُ ثُمَّ قال وَالثَّانِي أَنَّهُ مَنَعَ منه الشَّرْعُ دُونَ الْعَقْلِ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بهذا فقال ابن سُرَيْجٍ فِيمَا نَقَلَهُ عنه الشَّيْخُ في التَّبْصِرَةِ وابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ أَنَّ الذي مَنَعَ منه أَنَّ الشَّرْعَ لم يَرِدْ بِهِ وَلَوْ وَرَدَ بِهِ كان جَائِزًا وَهَذَا أَصَحُّ وقال أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ الشَّرْعُ مَنَعَ منه ولم يَكُنْ مُجَوِّزًا فيه ا هـ وقال الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ وَوَافَقَهُ أَصْحَابُهُ وَاخْتَلَفُوا هل مَنَعَ منه الْعَقْلُ أو الشَّرْعُ على وَجْهَيْنِ ا هـ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ منهم من أَجَازَهُ عَقْلًا وَادَّعَى أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَ منه وهو قَوْله تَعَالَى ما نَنْسَخْ من آيَةٍ أو نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ منها وَبِهِ قال ابن سُرَيْجٍ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمِنْهُمْ من قال يَجُوزُ ذلك في الْعَقْلِ ولم يَرِدْ الشَّرْعُ بِمَنْعِهِ إلَّا أَنَّهُ لم يُوجَدْ في الْقُرْآنِ آيَةٌ نُسِخَتْ بِسُنَّةٍ ا هـ وقال في كِتَابِهِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَجْمَعَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ على الْمَنْعِ من نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ وَبِهِ قال أبو الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيُّ وَعَلِيُّ بن مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ من مُتَكَلِّمِيهِمْ وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ في طَرِيقِ الْمَنْعِ منه فَمِنْهُمْ من قال إنَّهُ مُسْتَحِيلٌ من جِهَةِ دَلَالَةِ الْعَقْلِ على اسْتِحَالَتِهِ وَبِهِ نَقُولُ وهو أَيْضًا اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَمِنْهُمْ من قال إنَّ ذلك في الْعَقْلِ جَائِزٌ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ قد وَرَدَ بِالْمَنْعِ منه وهو في قَوْله تَعَالَى ما نَنْسَخْ من آيَةٍ أو نُنْسِهَا فَلَا تَكُونُ السُّنَّةُ خَيْرًا وَلَا مِثْلَهَا فَلَا يَجُوزُ نَسْخُهَا بها وَلَوْلَا هذه الْآيَةُ لَأَجَزْنَا نَسْخَ الْآيَةِ بِالسُّنَّةِ وَهَذَا اخْتِيَارُ أبي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنِ سُرَيْجٍ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ
____________________
(3/187)
وَمِنْهُمْ من قال إنَّ الْعَقْلَ يُجِيزُ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ ولم يَرِدْ الشَّرْعُ بِالْمَنْعِ منه إلَّا أَنَّا لم نَجِدْ في الْقُرْآنِ آيَةً مَنْسُوخَةً بِسُنَّةٍ انْتَهَى وَمِمَّنْ قال بِنَفْيِ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ الْحَارِثُ بن أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بن سَعْدٍ وَالْقَلَانِسِيُّ وَالْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَالظَّاهِرِيَّةُ وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عن الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى وَهِيَ رِوَايَةٌ عن أَحْمَدَ وَمِمَّنْ نَفَى الْجَوَازَ السَّمْعِيَّ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في اللُّمَعِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ قد غَلِطَ الناس في النَّقْلِ عن الشَّافِعِيِّ في هذه الْمَسْأَلَةِ وَنَحْنُ نَذْكُرُ وَجْهَ الصَّوَابِ في ذلك فَنَقُولُ قال الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ وَأَبَانَ اللَّهُ لهم أَنَّهُ إنَّمَا نَسَخَ ما نَسَخَ بِالْكِتَابِ وَأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَكُونُ نَاسِخَةً لِلْكِتَابِ وَإِنَّمَا هِيَ تَبَعٌ لِلْكِتَابِ بِمِثْلِ ما نَزَلَ بِهِ نَصًّا وَمُفَسِّرَةٌ مَعْنًى بِمَا أُنْزِلَ منه حُكْمًا قال تَعَالَى وإذا تُتْلَى عليهم آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قال الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أو بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ من تِلْقَاءِ نَفْسِي إنْ أَتَّبِعُ إلَّا ما يُوحَى إلَيَّ فَفِي قَوْلِهِ ما يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ ما وَصَفْته من أَنَّهُ لَا يَنْسَخُ كِتَابَ اللَّهِ إلَّا كِتَابُهُ كما كان الْمُبْتَدِئُ بِفَرْضِهِ فَهُوَ الْمُزِيلُ الْمُثْبَتُ لِمَا شَاءَ منه وَلَيْسَ ذلك لِأَحَدٍ من خَلْقِهِ وَكَذَلِكَ قال تَعَالَى يَمْحُو اللَّهُ ما يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وهو أَشْبَهُ ما قِيلَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وفي كِتَابِ اللَّهِ دَلَالَةٌ عليه قال تَعَالَى ما نَنْسَخْ من آيَةٍ أو نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ منها أو مِثْلِهَا وقال تَعَالَى وإذا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ انْتَهَى لَفْظُهُ وَمَنْ صَدَّرَ هذا الْكَلَامَ قِيلَ عنه إنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْكِتَابَ وقد اسْتَنْكَرَ جَمَاعَةٌ من الْعُلَمَاءِ ذلك حتى قال إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ هَفَوَاتُ الْكِبَارِ على أَقْدَارِهِمْ وَمَنْ عُدَّ خَطَؤُهُ عَظُمَ قَدْرُهُ قال وقد كان عبد الْجَبَّارِ بن أَحْمَدَ كَثِيرًا ما يَنْصُرُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ في الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فلما وَصَلَ إلَى هذا الْمَوْضِعِ قال هذا الرَّجُلُ كَبِيرٌ وَلَكِنَّ الْحَقَّ أَكْبَرُ منه قال إلْكِيَا في التَّلْوِيحِ لم نَعْلَمْ أَحَدًا مَنَعَ جَوَازَ نَسْخِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَقْلًا فَضْلًا عن الْمُتَوَاتِرِ فَلَعَلَّهُ يقول دَلَّ عُرْفُ الشَّرْعِ على الْمَنْعِ منه وإذا لم يَدُلَّ قَاطِعٌ من السَّمْعِ تَوَقَّفْنَا وَإِلَّا فَمَنْ الذي يقول إنَّهُ عليه السَّلَامُ لَا يُحْكَمُ بِقَوْلِهِ من نَسْخِ ما ثَبَتَ في الْكِتَابِ وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ في الْعَقْلِ قال وَالْمُغَالُونَ في حُبِّ الشَّافِعِيِّ لَمَّا رَأَوْا هذا الْقَوْلَ لَا يَلِيقُ بِعُلُوِّ قَدْرِهِ كَيْفَ وهو الذي مَهَّدَ هذا الْفَنَّ وَرَتَّبَهُ وَأَوَّلُ من أَخْرَجَهُ قالوا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْقَوْلِ
____________________
(3/188)
من هذا الْعَظِيمِ مَحْمَلٌ فَتَعَمَّقُوا في مَحَامِلَ ذَكَرُوهَا قال وَغَايَةُ الْإِمْكَانِ في تَوْجِيهِهِ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الرَّسُولَ كان له أَنْ يَجْتَهِدَ وكان اجْتِهَادُهُ وَاجِبَ الِاتِّبَاعِ قَطْعًا فقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَيِّنَ الرَّسُولُ بِاجْتِهَادِهِ ما يُخَالِفُ نَصَّ الْكِتَابِ مع أَنَّ اجْتِهَادَهُ مَقْطُوعٌ بِهِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ له من مُسْتَنِدٍ في الشَّرْعِ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَلُوحَ له من وَضْعِ الشَّرْعِ ما يَقْتَضِي نَسْخَ الْكِتَابِ وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يَتَطَرَّقُ إلَى النَّسْخِ أَصْلًا الثَّانِي لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قالوا قال اللَّهُ تَعَالَى ما نَنْسَخْ من آيَةٍ أو نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ منها أو مِثْلِهَا يَحْتَمِلُ الْكِتَابَ وَغَيْرَهُ مِمَّا هو أَجْزَلُ في الْمَثُوبَةِ وَأَصْلَحُ في الدَّارَيْنِ فلما قال بَعْدَهُ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ بِمَا تَقَدَّمَ ما تَفَرَّدَ هو بِالْقُدْرَةِ عليه وهو الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قال نَأْتِ بِخَيْرٍ منها مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْقُدْرَةِ عليه وهو بَعِيدٌ فإن الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ الْقَادِرُ على الْعِلْمِ بِالْمَصَالِحِ أو إنْشَائِهَا أو إزَالَتِهَا عن الصُّدُورِ وقد قِيلَ نَأْتِ بِخَيْرٍ منها بَعْدَ النَّسْخِ إذَا قَدَّمَ النَّسْخَ عليه وَلَيْسَ في الْآيَةِ نَسْخُ حُكْمِ الْآيَةِ وَلِأَنَّ الْمُرَادَ خَيْرٌ منها لَكُمْ انْتَهَى كَلَامُهُ وقد صَنَّفَ الْإِمَامُ أبو الطَّيِّبِ سَهْلِ بن سُهَيْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ كِتَابًا في نُصْرَةِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَكَذَلِكَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَتِلْمِيذُهُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ وَكَانَا من النَّاصِرِينَ لِهَذَا الرَّأْيِ وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ في كِتَابِهِ النَّاسِخِ حَكَى نَصَّ الشَّافِعِيِّ بِالْمَنْعِ وَقَرَّرَهُ وقال قال أبو الْعَبَّاسِ بن سُرَيْجٍ كُنْت أَتَأَوَّلُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدِيمًا في الْمَنْعِ أَنَّهُ لم يُرِدْ ذلك فلم يُجَوِّزْهُ وَأَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُهُ حتى تَدَبَّرْت هذه الْآيَةَ ما نَنْسَخْ من آيَةٍ فَقِيلَ له لِمَ لَا يَكُونُ مَعْنَى خَيْرٍ منها حُكْمًا لَكُمْ خَيْرٌ من الْحُكْمِ الْأَوَّلِ وقد يَكُونُ ذلك بِالسُّنَّةِ فقال هذا هَذَيَانٌ لِأَنَّ الْآمِرَ قد يَأْمُرُ بِالشَّيْءِ ثُمَّ يَأْمُرُ بَعْدَهُ بِخِلَافِهِ وَهَذَا جَارٍ في قُدْرَةِ الرَّبِّ الْآمِرِ بِهِ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عز وجل عن قُدْرَتِهِ التي تُعْجِزُ الْخَلْقَ عن إبْدَالِ هذا الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ الذي يَعْجِزُ الْخَلْقُ عن افْتِعَالِ مِثْلِهِ وَذَلِكَ دَلَالَةً على أَنَّهُ حَقٌّ وَأَنَّ الرَّسُولَ الذي جاء بِهِ صَادِقٌ وَأَنَّ الْجَمِيعَ من عِنْدِ اللَّهِ وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ على عَجِيبِ قُدْرَتِهِ فِيمَا ذَكَرَ أَنَّهُ يَفْعَلُ وَإِنَّمَا ذلك في إنْزَالِ الْآيَاتِ الْمُعْجِزَاتِ بَدَلًا من الْآيِ الْمُعْجِزِ وَإِذْ هِيَ
____________________
(3/189)
آيَاتٌ مُعْجِزَاتٌ لِلْخَلْقِ أَنْ يَأْتُوا بمثله وَلِذَلِكَ أتى بِصِفَةِ الْقُدْرَةِ وَمَعْنَى نَأْتِ بِخَيْرٍ منها أَيْ في عَيْنِهَا وَيَجُوزُ إطْلَاقُ ذلك وَالْمُرَادُ أَكْثَرُ ثَوَابًا في التِّلَاوَةِ كما وَرَدَ في أُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ قال أبو إِسْحَاقَ هذا كَلَامُ أبي الْعَبَّاسِ بَعْدَ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وفي كُلٍّ مِنْهُمَا كِفَايَةٌ ثُمَّ أَخَذَ أبو إِسْحَاقَ في الِاسْتِدْلَالِ على الْمَنْعِ وَفِيهِ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ وَهِيَ تَحْرِيرُ النَّقْلِ عن ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ كان أَوَّلًا يَذْهَبُ في تَأْوِيلِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ إلَى مَنْعِ الْوُقُوعِ ثُمَّ ثَبَتَ على الِامْتِنَاعِ فَاعْرِفْ ذلك فإن الناس خَلَطُوا في النَّقْلِ عن ابْنِ سُرَيْجٍ وَكَذَلِكَ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ في الْمَنْعِ حَرَّرَهُ الْإِمَامُ أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِهِ ثُمَّ قال وَجِمَاعُ ما أَقُولُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ لم يُنْسَخْ قَطُّ بِسُنَّةٍ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُرِنَا ذلك فإنه لَا يَقْدِرُ عليه قال وَالشَّافِعِيُّ لم يُحِلْ جَوَازَ الْعِبَادَةِ أَنْ يَأْتِيَ بِرَفْعِ حُكْمِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ وَإِنَّمَا قال لَا يَجُوزُ لِلدَّلَائِلِ التي ذَكَرْنَاهَا فَقِيَامُ الدَّلِيلِ عِنْدَهُ هو الْمَانِعُ من جَوَازِ ذلك وهو كَقَوْلِهِ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُحْرِمِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ كَذَا بِالْخَبَرِ وَغَيْرِ ذلك من قِيَامِ الدَّلِيلِ فَهَذَا وَجْهُ قَوْلِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ تَنْسَخَ السُّنَّةُ الْقُرْآنَ ا هـ وَعَلَى ذلك جَرَى أبو إِسْحَاقَ في اللُّمَعِ فقال لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ من جِهَةِ السَّمْعِ على قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَكَذَا ابن بَرْهَانٍ فقال لَا يَصِحُّ عن الشَّافِعِيِّ ذلك وَإِنَّمَا نُقِلَ عنه امْتِنَاعُ ذلك من جِهَةِ السَّمْعِ لَا من جِهَةِ الْعَقْلِ وقال الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ منهم من يقول يَجُوزُ عَقْلًا وَإِنَّمَا امْتَنَعَ بِأَدِلَّةِ السَّمْعِ قال وَهَذَا هو الظَّنُّ بِالشَّافِعِيِّ مع عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ في هذا الْفَنِّ انْتَهَى وَالْحَاصِلُ على هذا الْوَجْهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لم يَمْنَعْ الْجَوَازَ الْعَقْلِيَّ بَلْ لم يَتَكَلَّمْ فيه أَلْبَتَّةَ لَا في هذا الْمَوْضِعِ وَلَا في غَيْرِهِ وَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِهِ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِ قَائِلُهُ أَنَّهُ يَلْزَمُ من فَرْضِهِ الْمُحَالُ فَبَاطِلٌ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْعَقْلَ يُقْتَضَى تَقْبِيحَهُ فَهُوَ قَوْلٌ مُعْتَزِلِيٌّ وَالشَّافِعِيُّ بَرِيءٌ من الْمَقَالَتَيْنِ فَإِنْ قُلْت فما وَجْهُ قَوْلِ سُلَيْمٍ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ إنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَنَعَ منه الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ جميعا وَكَذَلِكَ نُقِلَ عن أبي الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ مَنَعَ منه بِالْعَقْلِ وَكَذَا الْبَاجِيُّ قُلْت من نَقَلَ عنه الْمَنْعَ الشَّرْعِيَّ فَقَطْ أَعْظَمُ وَأَكْثَرُ فَيُرَجَّحُ على نَقْلِ هَؤُلَاءِ وَلَوْ قَطَعْنَا النَّظَرَ عن كُلٍّ من الْمَقَالَتَيْنِ لَرَجَعْنَا إلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وقد عَلِمْت أَنَّ كَلَامَهُ في نَفْيِ الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ على هذه الْكَيْفِيَّةِ التي بَيَّنَّاهَا لَا الْمَنْعِ مُطْلَقًا وَلِهَذَا احْتَجَّ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَلِهَذَا ذَهَبَ الصُّعْلُوكِيُّ وأبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وأبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ إلَى أَنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّزُ نَسْخَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ وَلَكِنَّ الشَّرْعَ مَانِعٌ منه فِيهِمَا
____________________
(3/190)
جميعا وقال في الْمُقْتَرَحِ لم يُرِدْ الشَّافِعِيُّ مُطْلَقَ السُّنَّةِ بَلْ أَرَادَ السُّنَّةَ الْمَنْقُولَةَ آحَادًا وَاكْتَفَى بهذا الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ الْغَالِبَ في السُّنَنِ الْآحَادُ قُلْت وَالصَّوَابُ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَا يُوجَدَانِ مُخْتَلِفَيْنِ إلَّا وَمَعَ أَحَدِهِمَا مِثْلُهُ نَاسِخٌ له وَهَذَا تَعْظِيمٌ عَظِيمٌ وَأَدَبٌ مع الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفَهْمٌ بِمَوْقِعِ أَحَدِهِمَا من الْآخَرِ وَكُلُّ من تَكَلَّمَ في هذه الْمَسْأَلَةِ لم يَقَعْ على مُرَادِ الشَّافِعِيِّ بَلْ فَهِمُوا خِلَافَ مُرَادِهِ حتى غَلِطُوا وَأَوَّلُوهُ وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ فيه في الْمَسْأَلَةِ بَعْدَهَا وقد احْتَجَّ من خَالَفَ الشَّافِعِيَّ بِآيٍ من الْكِتَابِ نُسِخَتْ أَحْكَامُهَا وَلَا نَاسِخَ لها في الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا نَسَخَتْهَا السُّنَّةُ التي كانت مُتَوَاتِرَةً في الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ثُمَّ اُسْتُغْنِيَ عن نَقْلِهَا بِالْإِجْمَاعِ فَصَارَتْ آحَادًا كَوُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِقَوْلِهِ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وَأَجَابَ الصَّيْرَفِيُّ بِأَنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ نَسَخَتْ وَالرَّسُولُ بَيَّنَ أنها نَاسِخَةٌ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ نُسِخَ بِآيَةٍ أُخْرَى لم يُنْقَلْ رَسْمُهَا وَنَظْمُهَا إلَيْنَا كما قِيلَ في قَوْله تَعَالَى وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ من أَزْوَاجِكُمْ فإن هذا الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ الْيَوْمَ إلَّا أَنَّهُ لم يَظْهَرْ له سُنَّةٌ نَاسِخَةٌ فَإِنْ جَازَ لَكُمْ الْحَمْلُ على سُنَّةٍ لم تَظْهَرْ جَازَ لنا الْحَمْلُ على كِتَابٍ لم يَظْهَرْ انْتَهَى وقال الصَّيْرَفِيُّ وَلَا يُقَالُ إنَّ الرَّجْمَ نُسِخَ بِالْجَلْدِ عن الزَّانِي لِأَنَّ الرَّجْمَ رَفْعٌ لم يَكُنْ الْجَلْدُ عليه بِالْقُرْآنِ فَحَظُّ السُّنَّةِ الْبَيَانُ وَالْإِخْبَارُ عن الْمُرَادِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ السُّنَّةَ لِلْبَيَانِ فَمُحَالٌ أَنْ يُنْسَخَ الشَّيْءُ بِمَا يُبَيِّنُهُ قال وَإِنَّمَا جَازَ نَسْخُ بَعْضِ الْقُرْآنِ بِبَعْضِهِ لِلِاحْتِرَازِ من حُجَّةِ الْكُفَّارِ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ الْمُعْجِزِ وَلَيْسَ هذا في السُّنَّةِ انْتَهَى فَإِنْ قِيلَ قد نُسِخَ قَوْله تَعَالَى قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ الْآيَةَ بِنَهْيِهِ عن أَكْلِ كل ذِي نَابٍ قُلْنَا الْآيَةُ اجْتَمَعَ فيها لَفْظَانِ مُتَعَارِضَانِ فَيَتَعَيَّنُ صَرْفُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ فَلَفْظُ أُوحِيَ مَاضٍ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا حين وُرُودِ الْآيَةِ وَلَفْظُ لَا لِنَفْيِ الْمُسْتَقْبِلِ بِنَصِّ سِيبَوَيْهِ كما في قَوْله تَعَالَى لَا يَمُوتُ فيها وَلَا يحيى وَالْمُرَادُ الِاسْتِقْبَالُ ضَرُورَةً وَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ من صَرْفِ لَا لِأُوحِيَ أو صَرْفِ أُوحِيَ لِلَفْظِ لَا فَإِنْ صَرَفْنَا لَا لِلَفْظِ أُوحِيَ فَلَا نَسْخَ لِعَدَمِ التَّنَاقُضِ بين الْآيَةِ وَالْخَبَرِ
____________________
(3/191)
وَإِنْ عَكَسْنَا كان تَخْصِيصًا لَا نَسْخًا فَلَا حُجَّةَ فيه وَمِمَّا عَارَضَ بِهِ الْخُصُومُ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ عَمِلَ بِأَحَادِيثِ الدِّبَاغِ مع أنها نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ فَنَسَخَ الْكِتَابَ بِالسُّنَّةِ وَلَنَا أَنَّهُ من بَابِ التَّخْصِيصِ لَا النَّسْخِ وقد رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ في حديث شَاةِ مَيْمُونَةَ وَقَوْلُهُ هَلَّا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا فقالت مَيْمُونَةُ نَأْخُذُ مَسْكَ شَاةٍ مَيْتَةٍ فقال لها رسول اللَّهِ إنَّمَا قال اللَّهُ تَعَالَى قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَمًا مَسْفُوحًا أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فإنه رِجْسٌ وَإِنَّكُمْ لَا تَطْعَمُونَهُ حِينَئِذٍ فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً تَحْرِيمُ الْأَكْلِ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَكْلِهِ وهو اللَّحْمُ فلم تَتَنَاوَلْ الْآيَةُ الْجِلْدَ وَهَذَا جَوَابٌ آخَرُ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ إذَا قُلْنَا بِامْتِنَاعِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَمَاذَا يُفْعَلُ فيه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا أبو الْحُسَيْنِ السُّهَيْلِيُّ في كِتَابِهِ أَدَبِ الْجَدَلِ أَحَدُهُمَا يَجِبُ الِاعْتِمَادُ على الْآيَةِ وَتَرْكُ الْخَبَرِ إذْ لم يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُهُ وَلَا يَنْسَخُ الْآيَةَ وَالثَّانِي أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُ الْآيَةِ على أنها نُسِخَتْ بِمِثْلِهَا أو بِمَا يَجُوزُ نَسْخُهَا بِهِ بِدَلِيلِ الْخَبَرِ الصَّحِيحِ بَعْدَهُ بِخِلَافِهِ قال فَأَمَّا إذَا كان الْخَبَرُ مُتَوَاتِرًا وَقُلْنَا بِالْمَنْعِ فَحُكْمُهُ ما سَبَقَ في خَبَرِ الْوَاحِدِ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْمُسْتَفِيضِ من السُّنَّةِ الثَّانِي أَنَّهُمْ تَعَرَّضُوا لِلْآحَادِ وَالتَّوَاتُرِ وَسَكَتُوا عن الْمُسْتَفِيضِ لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ حُكْمُهُ من الْمُتَوَاتِرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وقد تَوَقَّفَ فيه النَّقْشَوَانِيُّ وقال قد جَوَّزُوا التَّخْصِيصَ بِهِ وَالِاحْتِيَاطُ في النَّسْخِ آكَدُ وقد تَعَرَّضَ له ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ في بَابِ الْأَخْبَارِ وَحَكَى عن بَعْضِهِمْ جَوَازَ نَسْخِ الْكِتَابِ بِهِ قال وَمِنْهُمْ من مَنَعَ وَجَوَّزَ الزِّيَادَةَ على الْكِتَابِ بِهِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِنَسْخٍ انْتَهَى وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ في الْحَاوِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بين الْمُسْتَفِيضِ وَالْمُتَوَاتِرِ فإنه حَكَى الْخِلَافَ في نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ ثُمَّ قال وَجَوَّزَ أبو حَنِيفَةَ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ كما نُسِخَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ بِحَدِيثِ لَا وَصِيَّةَ قال وَهَذَا غَلَطٌ
____________________
(3/192)
فإنه إنَّمَا نَسَخَهَا آيَةُ الْمَوَارِيثِ وَكَانَتْ السُّنَّةُ بَيَانًا الثَّالِثُ في الْمَسْأَلَةِ حَدِيثٌ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عن جَابِرٍ رَفَعَهُ كَلَامِي لَا يَنْسَخُ كَلَامَ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ يَنْسَخُ بَعْضُهُ بَعْضًا وقال ابن عَدِيٍّ في الْكَامِلِ إنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ مَسْأَلَةٌ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ وَأَمَّا نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ فَمَنْ جَوَّزَ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ فَأَوْلَى أَنْ يُجَوِّزَ هذا وَأَمَّا الْمَانِعُونَ هُنَاكَ فَاخْتَلَفُوا وَلِلشَّافِعِيِّ فيها قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَسُلَيْمٌ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَصَحَّحُوا الْجَوَازَ وقال ابن بَرْهَانٍ هو قَوْلُ الْمُعْظَمِ وقال سُلَيْمٌ هو قَوْلُ عَامَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ إنَّهُ الْأَوْلَى بِالْحَقِّ وَجَزَمَ بِهِ الصَّيْرَفِيُّ هُنَا مع مَنْعِهِ هُنَاكَ وَظَاهِرُ كَلَامِ أبي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ تَصْحِيحُهُ لَكِنْ حَكَى الرَّافِعِيُّ في بَابِ الْهُدْنَةِ أَنَّ الْمَنْعَ مَنْسُوبٌ إلَى أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي في بَابِ الْقَضَاءِ ظَاهِرُ مَذْهَبِنَا وَجْهَانِ أو قَوْلَانِ التَّرَدُّدُ منه وقال الذي نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ في الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ كَالْعَكْسِ وقال ابن سُرَيْجٍ يَجُوزُ بِخِلَافِ ذلك لِأَنَّ الْقُرْآنَ آكَدُ من السُّنَّةِ وَخَرَّجُوا قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ من كَلَامٍ تَأَوَّلَهُ في الرِّسَالَةِ انْتَهَى مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ في نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ وقال أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ في كِتَابِهِ نَصَّ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ الْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ على أَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ إلَّا السُّنَّةَ وَأَنَّ الْكِتَابَ لَا يَنْسَخُ السُّنَّةَ وَلَا الْعَكْسُ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ الْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ ما يَدُلُّ على أَنَّ نَسْخَ السُّنَّةِ لَا يَجُوزُ وَلَعَلَّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ وَلَوَّحَ في مَوْضِعٍ آخَرَ بِمَا يَدُلُّ على الْجَوَازِ فَخَرَّجَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا على قَوْلَيْنِ وَأَظْهَرُهُمَا من مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَالثَّانِي الْجَوَازُ وهو أَوْلَى بِالْحَقِّ انْتَهَى
____________________
(3/193)
وقد اسْتَعْظَمَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ الْقَوْلَ بِالْمَنْعِ هَاهُنَا أَيْضًا وقال تَوْجِيهُهُ عَسِرٌ جِدًّا وَالْمُمْكِنُ فيه أَنْ يُقَالَ إنَّهُ عليه السَّلَامُ إذَا قال عن اجْتِهَادٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الْكِتَابُ من بَعْدُ بِخِلَافِهِ لِمَا فيه من تَقْرِيرِ الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم على الْبَاطِلِ وَإِيهَامِ الْمُخَالَفَةِ وقال في تَعْلِيقِهِ قد صَحَّ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال في رِسَالَتَيْهِ جميعا إنَّ ذلك غَيْرُ جَائِزٍ وَعَلَى ذلك من هَفَوَاتِهِ وَهَفَوَاتُ الْكِبَارِ على أَقْدَارِهِمْ وَمَنْ عُدَّ خَطَؤُهُ عَظُمَ قَدْرُهُ وقد كان عبد الْجَبَّارِ بن أَحْمَدَ كَثِيرًا ما يَنْصُرُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ في الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فلما وَصَلَ إلَى هذا الْمَوْضِعِ قال هذا الرَّجُلُ كَبِيرٌ لَكِنَّ الْحَقَّ أَكْبَرُ منه ثُمَّ نَصَرَ هو الْحَقَّ قال إلْكِيَا وَالْمُتَغَالُونَ في مَحَبَّةِ الشَّافِعِيِّ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ هذا الْقَوْلَ لَا يَلِيقُ بِهِ طَلَبُوا له مَحَامِلَ فَقِيلَ إنَّمَا قال هذا بِنَاءً على أَصْلٍ وهو جَوَازُ الِاجْتِهَادِ لِلرَّسُولِ فإذا جَازَ له الِاجْتِهَادُ في بِنَصِّ الْكِتَابِ وَحَكَمَ ثُمَّ أَرَادَ الرَّسُولُ نَسْخَهُ بِاجْتِهَادِهِ لَا يَجُوزُ له لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُؤَدِّي إلَى بَيَانِ أَمَدِ الْعِبَادَةِ وَلَا يَهْدِي إلَى مِقْدَارِ وَقْتِهَا وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ مَنَعَ من النَّسْخِ بِالْمُتَوَاتِرِ وَقَضِيَّةُ هذا الْكَلَامِ تَجْوِيزُ نَسْخِ الْقُرْآنِ لِلسُّنَّةِ التي لَا تُوجَدُ وَبَيَانُهُ أَنَّ ما كان بَيَانًا في كِتَابِ اللَّهِ بِالنَّصِّ كان ثُبُوتُهُ عنه بِاجْتِهَادِ الرَّسُولِ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ اسْتِخْرَاجٌ من جِهَةِ اللَّهِ وهو لَا يَجُوزُ مع وُجُودِ الْكِتَابِ فَكَأَنَّهُ يقول الشَّافِعِيُّ يَمْنَعُ من نَسْخِ الْكِتَابِ لِسُنَّةٍ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهَا انْتَهَى كَلَامُهُ قُلْت وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ بَعْدَ الْكَلَامِ السَّابِقِ وَهَكَذَا سُنَّةُ رسول اللَّهِ لَا يَنْسَخُهَا إلَّا سُنَّةٌ لِرَسُولِهِ وَلَوْ أَحْدَثَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ في أَمْرٍ سَنَّ فيه غير ما سَنَّ رسول اللَّهِ لَسَنَّ فِيمَا أَحْدَثَ اللَّهُ إلَيْهِ حتى يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ له سُنَّةً نَاسِخَةً لِلَّتِي قَبْلَهَا مِمَّا يُخَالِفُهَا وَهَذَا مَذْكُورٌ في سُنَّتِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَإِنْ قِيلَ هل تُنْسَخُ السُّنَّةُ بِالْقُرْآنِ قِيلَ لو نُسِخَتْ السُّنَّةُ بِالْقُرْآنِ كان لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم فيه سُنَّةٌ تُبَيِّنُ أَنَّ السُّنَّةَ الْأُولَى مَنْسُوخَةٌ بِسُنَّتِهِ الْأَخِيرَةِ حتى يُقِيمَ الْحُجَّةَ على الناس بِأَنَّ الشَّيْءَ يُنْسَخُ بمثله انْتَهَى وَفِيهِ كَذَلِكَ قَوْلُهُ في الرِّسَالَةِ في مَوْضِعٍ آخَرَ وقد وَرَدَ حَدِيثُ أبي سَعِيدٍ في تَأْخِيرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الصَّلَاةَ يوم الْخَنْدَقِ وَأَنَّ ذلك قبل أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ الْآيَةَ التي ذَكَرَ فيها صَلَاةَ الْخَوْفِ ثُمَّ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ صَلَاةَ النبي بِذَاتِ الرِّقَاعِ ثُمَّ قال وفي هذا دَلَالَةٌ على ما وَصَفْت قبل هذا في هذا الْكِتَابِ من أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا سَنَّ سُنَّةً فَأَحْدَثَ اللَّهُ إلَيْهِ في تِلْكَ السُّنَّةِ نَسْخَهَا أو مَخْرَجًا إلَى سَعَةٍ منها سَنَّ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم سُنَّةً تَقُومُ الْحُجَّةُ
____________________
(3/194)
على الناس بها حتى يَكُونُوا إنَّمَا صَارُوا من سُنَّتِهِ إلَى سُنَّتِهِ التي بَعْدَهَا فَنَسَخَ اللَّهُ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عن وَقْتِهَا في الْخَوْفِ إلَى أَنْ يُصَلُّوهَا كما أَنْزَلَ اللَّهُ وَسَنَّ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في وَقْتِهَا وَنَسَخَ صلى اللَّهُ عليه وسلم سُنَّتَهُ في تَأْخِيرِهَا بِفَرْضِ اللَّهِ في كِتَابِهِ ثُمَّ سُنَّتِهِ صَلَّاهَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في وَقْتِهَا كما وَصَفْت انْتَهَى وَمِنْ صَدْرِ هذا الْكَلَامِ أُخِذَ من قَبْلُ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّ السُّنَّةَ لَا تُنْسَخُ بِالْكِتَابِ وَلَوْ تَأَمَّلَ عَقِبَ كَلَامِهِ بَانَ له غَلَطُ هذا الْفَهْمِ وَإِنَّمَا مُرَادُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الرَّسُولَ إذَا سَنَّ سُنَّةً ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ في كِتَابِهِ ما يَنْسَخُ ذلك الْحُكْمَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسُنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم سُنَّةً أُخْرَى مُوَافِقَةً لِلْكِتَابِ تَنْسَخُ سُنَّتَهُ الْأُولَى لِتَقُومَ الْحُجَّةُ على الناس في كل حُكْمٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ جميعا وَلَا تَكُونُ سُنَّةً مُنْفَرِدَةً تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَقَوْلُهُ وَلَوْ أَحْدَثَ إلَى آخِرِهِ صَرِيحٌ في ذلك وَكَذَلِكَ ما بَعْدَهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَشْتَرِطُ لِوُقُوعِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ سُنَّةً مُعَاضِدَةً لِلْكِتَابِ نَاسِخَةً فَكَأَنَّهُ يقول لَا تُنْسَخُ السُّنَّةُ إلَّا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعًا لِتَقُومَ الْحُجَّةُ على الناس بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا وَلِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ انْفِرَادَ أَحَدِهِمَا من الْآخَرِ فإن الْكُلَّ من اللَّهِ وَالْأُصُولِيُّونَ لم يَقِفُوا على مُرَادِ الشَّافِعِيِّ في ذلك وقد سَبَقَ أَنَّ هذا أَدَبٌ عَظِيمٌ من الشَّافِعِيِّ وَلَيْسَ مُرَادُهُ إلَّا ما ذَكَرْنَاهُ فَإِنْ قِيلَ يَرِدُ عليه الْكِتَابُ الْمُنْفَرِدُ بِلَا سُنَّةٍ وَالسُّنَّةُ الْمُنْفَرِدَةُ بِلَا كِتَابٍ قِيلَ الْحُجَّةُ في ذلك قَائِمَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ جميعا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِتَبْلِيغِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالْعِلْمِ بِاتِّبَاعِهِ له ما تَوَاتَرَ عنه من الْأَمْرِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِقَوْلِهِ وما آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَاجْتَمَعَ في كل مَسْأَلَةٍ دَلِيلَانِ فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا حَاصِلٌ فِيمَا إذَا كان أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ قِيلَ نعم وَلَكِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَأَكْثَرُ أَدَبًا وَمُسَارَعَةً إلَى ما يُؤْمَرُ بِهِ وَلَا يَبْقَى مَكَانُ إزَالَةِ الشُّبْهَةِ عن الناس وَإِزَالَةِ عُذْرِهِمْ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَبْقَى له سُنَّةٌ تُخَالِفُ الْكِتَابَ إلَّا بَيَّنَ أنها مَنْسُوخَةٌ بَيَانًا صَرِيحًا بِقَوْلِهِ أو فِعْلِهِ حتى لَا يَتَعَلَّقَ من في قَلْبِهِ رَيْبٌ بِأَحَدِهِمَا وَيَتْرُكَ الْآخَرَ وَهَذَا من مَحَاسِنِ الشَّافِعِيِّ الذي لم يَسْبِقْهُ غَيْرُهُ إلَى الْإِفْصَاحِ بِهِ وقد وَقَعَ على هذا الْمَعْنَى وَنَبَّهَ عليه جَمَاعَةٌ من أَئِمَّتِنَا منهم أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ في كِتَابِهِ النَّاسِخِ فقال وقد نَقَلَ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَتَيْنِ فذكر الْكَلَامَ السَّابِقَ ثُمَّ قال وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ الْقَدِيمَةِ مَنْعَ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ ثُمَّ قال وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ لَا يَنْسَخُ السُّنَّةَ وَلَوْ أَحْدَثَ اللَّهُ عز وجل لِنَبِيِّهِ في سُنَّةٍ سَنَّهَا غير ما سَنَّ الرَّسُولُ لَبَيَّنَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَيْضًا غير السُّنَّةِ الْأُولَى حتى تَنْسَخَ سُنَّتُهُ الْأَخِيرَةُ سُنَّتَهُ الْأُولَى
____________________
(3/195)
وقال أَيْضًا في الْقَدِيمَةِ في مُنَاظَرَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ حِكَايَةً عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال وإذا كانت لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم سُنَّةٌ فَرَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَعْلَمُ بِمَعْنَى ما أَرَادَ اللَّهُ عز وجل وَلَا يَتَأَوَّلُ على سُنَّةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا يُزْعَمُ أَنَّ الْكِتَابَ يُنْسَخُ بِسُنَّةٍ وَلَكِنَّ السُّنَّةَ تَدُلُّ على مَعْنَى الْكِتَابِ فقال الشَّافِعِيُّ إذًا أَصَبْت وَهَذَا قَوْلُنَا فَكَيْفَ لَا نَقُولُ بِالْيَمِينِ مع الشَّاهِدِ قال أبو إِسْحَاقَ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ الْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ على أَنَّ سُنَّةَ الرَّسُولِ لَا تُنْسَخُ إلَّا بِسُنَّةٍ وَأَنَّ الْكِتَابَ لَا يَنْسَخُ السُّنَّةَ وَلَا السُّنَّةُ تَنْسَخُ الْكِتَابَ وَأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ فِيمَا لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم فيه سُنَّةٌ إنَّمَا يَأْتِي أَمْرٌ ثَانٍ يَنْسَخُ سُنَّتَهُ حتى يَكُونَ هو الْمُتَوَلِّيَ لِنَسْخِهِ وَسُنَّتُهُ أَنْ يَكُونَ ذلك لِئَلَّا يَخْتَلِطَ الْبَيَانُ بِالنَّسْخِ فَلَا يُوجَدُ لِرَسُولِ اللَّهِ سُنَّةٌ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ خِلَافُهَا إلَّا جُعِلَ الْقُرْآنُ نَاسِخًا أو جُعِلَتْ السُّنَّةُ إذَا كان ظَاهِرُهَا خِلَافَ الْقُرْآنِ نَاسِخَةً لِلْقُرْآنِ فَيَكُونُ ذلك ذَرِيعَةً إلَى أَنْ يَخْرُجَ أَكْثَرُ السُّنَنِ من أَيْدِينَا وقد قال الشَّافِعِيُّ في مَوَاضِعَ ما يُوجِبُ أَنَّ الْقُرْآنَ يَنْسَخُ السُّنَّةَ إلَّا أَنَّهُ في أَيْدِينَا وَجَبَ اسْتِعْمَالُهَا على ما يُمْكِنُ مِنْهُمَا وَاَلَّذِي يُمْكِنُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِالنَّصِّ بِعِلْمِنَا ذلك ثُمَّ سَوَاءٌ تَقَدَّمَتْ السُّنَّةُ أو تَأَخَّرَتْ لِأَنَّهَا إنْ تَقَدَّمَتْ فَالْكَلَامُ الْعَامُّ مُثْبَتٌ عليها وَهِيَ بَيَانٌ وَإِنْ تَأَخَّرَتْ فَهِيَ تَفْسِيرُهُ وَهِيَ بَيَانٌ وَمَنْ جَعَلَهَا مَنْسُوخَةً فَإِنَّمَا يُرِيدُ مِنَّا أَنْ نَتْرُكَ الْمُفَسَّرَ بِالْمُجْمَلِ وَالنَّصَّ بِالْمُجْمَلِ وَمَنْ أَرَادَ ذلك مِنَّا قُلْنَا له بَلْ بَيَانٌ كما أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِالْبَيَانِ بِهِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ النَّصِّ بِمَا يَحْتَمِلُ الْمَعَانِي قال وَهَذَا جُمْلَةٌ مِمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ في هذا الْبَابِ وما قَالَهُ أبو الْعَبَّاسِ بن سُرَيْجٍ فيه ا هـ وَمِنْهُمْ أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِهِ فقال وَمَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْقُرْآنَ صَحِيحٌ على الْإِطْلَاقِ لَا يَأْتِي بِرَفْعِ حُكْمِ الْقُرْآنِ أَبَدًا وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنُ السُّنَّةَ إلَّا أَحْدَثَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم سُنَّةً تُبَيِّنُ أَنَّ سُنَّتَهُ الْأُولَى قد أُزِيلَتْ بِهَذِهِ الثَّانِيَةِ كَلَامٌ صَحِيحٌ أَحَالَ أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ تَأْتِي بِرَفْعِ الْقُرْآنِ الثَّابِتِ على ما بَيَّنَّا من قِيَامِ الْأَدِلَّةِ وَأَجَازَ أَنْ يَأْتِيَ الْقُرْآنُ بِرَفْعِ السُّنَّةِ بَلْ قد وَجَدَهُ ثُمَّ قَرَنَهُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ من سُنَّةٍ معه تُبَيِّنُ أَنَّهُ أَزَالَ الْحُكْمَ لِئَلَّا يَجُوزَ أَنْ يُجْعَلَ عُمُومُ الْقُرْآنِ مُزِيلًا لِمَا بَيْنَهُ من سُنَنِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِوَهْمِ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ قَوْلَهُ فَاغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ مُزِيلٌ لِحُكْمِ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ قُلْ لَا أَجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ مُزِيلٌ لِتَحْرِيمِ كل ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ وَنَحْوِهِ وَهَكَذَا قال الشَّافِعِيُّ عِنْدَ ذِكْرِهِ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَحُكِيَ عن أبي سَعِيدٍ صَلَاةُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يوم الْخَنْدَقِ وَذَلِكَ قبل أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ فَرِجَالًا أو رُكْبَانًا فقال وَهَذَا من الذي قُلْت لَك إنَّ اللَّهَ إذَا أَحْدَثَ لِرَسُولِهِ في شَيْءٍ سُنَّةً عليه السَّلَامُ
____________________
(3/196)
فَلَا بُدَّ من سُنَّةٍ تُبَيِّنُ أَنَّ سُنَّتَهُ الْأُولَى مَنْسُوخَةٌ بِسُنَّتِهِ الْأَخِيرَةِ يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ عز وجل رَفَعَ الْحُكْمَ بِالْآيَةِ فَفَعَلَ هذه السُّنَّةَ لِأَنَّ الرَّافِعَ هو الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ هِيَ الْمُثْبِتَةُ أَنَّ الْقُرْآنَ قد رَفَعَ حُكْمَ ما سَنَّهُ وَبَيَانًا لِلْأُمَّةِ أَلَا تَرَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قد عَلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ قد زَالَ بِمَا أَمَرَ وَصَارَ هو الْفَرْضَ بِفِعْلِهِ امْتِثَالًا لِلْمَفْرُوضِ عليه وَعَلَى أُمَّتِهِ وَبَيَانًا لِلْأُمَّةِ أَنَّهُ قد أُزِيلَ ما سَنَّهُ فَيُعْلِمُ بِسُنَّتِهِ الثَّانِيَةِ أَنَّ اللَّهَ قد أَزَالَ سُنَّتَهُ الْأُولَى لِمَا وَصَفْت من احْتِمَالِ تَرْتِيبِ الْآيَةِ على السُّنَّةِ لِئَلَّا يُشْكِلَ ذلك في التَّرْتِيبِ وَالْفَرْضِ وقد نَصَّ الشَّافِعِيُّ على ذلك فقال فِيمَا عَقَدَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِقُرَيْشٍ بِنَقْضِ اللَّهِ الصُّلْحَ من رَدِّ الْمُؤْمِنَاتِ فَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ الْقُرْآنَ هو الذي رَفَعَ السُّنَّةَ انْتَهَى كَلَامُهُ وقال الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ أَمَّا وُرُودُ آيَةٍ على مُنَاقَضَةِ ما تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ فَجَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ قالوا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم هو النَّاسِخُ لِخَبَرِهِ دُونَ الْآيَةِ قال وَهَذَا كَلَامٌ لَا فَائِدَةَ فيه وَلَا اسْتِحَالَةَ في كَوْنِ الْآيَةِ نَاسِخَةً لِلْخَبَرِ وَعُزِيَ إلَى الشَّافِعِيِّ الْمَصِيرُ إلَى اسْتِحَالَتِهِ وَلَعَلَّهُ عَنَى في الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَنْسَخُ وَلَا يُبَيِّنُ وَإِنَّمَا النَّاسِخُ اللَّهُ ا هـ وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ كان الشَّافِعِيُّ يقول بِتَجْوِيزِ وُرُودِ الْقُرْآنِ بِلَفْظٍ يَنْفِي الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالسُّنَّةِ غير أَنَّهُ لَا يَقَعُ النَّسْخُ بِهِ حتى يُحْدِثَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مع الْقُرْآنِ سُنَّةً له أُخْرَى يُبَيِّنُ بها انْتِفَاءَ حُكْمِ السُّنَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهَذَا مِمَّا لَا وَجْهَ له لِأَنَّهُ إذَا كان الْقُرْآنُ من عِنْدِ اللَّهِ وكان ظَاهِرُهُ يَنْفِي حُكْمَ السُّنَّةِ وَجَبَ الْقَضَاءُ على رَفْعِهِ لها وَلَوْ كان ما هذا حُكْمُهُ من الْقُرْآنِ لَا يَكْفِي في ذلك في رَفْعِ حُكْمِ السُّنَّةِ لَفْظُ سُنَّةٍ أُخْرَى يَنْفِي حُكْمَهَا فَإِنْ قِيلَ قد يَلْتَبِسُ الْأَمْرُ في ذلك فَيَظُنُّ سَامِعٌ لَفْظَ الْآيَةِ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ رَفْعُ حُكْمِ السُّنَّةِ قُلْنَا إذَا لم يَحْتَمِلْ اللَّفْظُ غير ما يُضَادُّ حُكْمَ السُّنَّةِ ارْتَفَعَ التَّوَهُّمُ وقال أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ نَصَّ الشَّافِعِيُّ في مَوْضِعٍ آخَرَ على أَنَّ اللَّهَ يَنْسَخُ سُنَّةَ رَسُولِهِ غير أَنَّ قَوْلَهُ لم يُخْتَلَفْ في أَنَّ اللَّهَ إذَا نَسَخَ ذلك لم يَكُنْ بُدٌّ من أَنْ يَكُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم سُنَّةٌ تُبَيِّنُ أَنَّ سُنَّتَهُ الْأُولَى مَنْسُوخَةٌ إمَّا بِالسُّنَّةِ أو بِكِتَابِ اللَّهِ لِأَنَّ الْمَنْعَ من إجَازَةِ نَسْخِ اللَّهِ سُنَّةَ نَبِيِّهِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ الْبَيَانُ بِالنَّسْخِ فَتَخْرُجَ السُّنَنُ من أَيْدِينَا فإذا انْضَمَّ إلَى السُّنَّةِ الْأُولَى وَإِلَى الْقُرْآنِ الذي أتى بِرَفْعِهِ سُنَّةٌ أُخْرَى تَبَيَّنَ أَنَّ السُّنَّةَ الْأُولَى مَنْسُوخَةٌ فَقَدْ زَالَ ما يُخَوِّفُ من اخْتِلَاطِ الْبَيَانِ بِالنَّسْخِ وَلَا يُبَالَى بَعْدَ ذلك أَيُّهُمَا النَّاسِخُ
____________________
(3/197)
لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ الْكِتَابُ لِلسُّنَّةِ أو السُّنَّةُ لِلسُّنَّةِ وَلَيْسَ في أَيْدِينَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ على أَنَّهُ لَا يَنْسَخُ الْكِتَابُ السُّنَّةَ كما أَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْقُرْآنَ قال وَحَكَى أبو الْعَبَّاسِ بن سُرَيْجٍ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَنْسَخُ سُنَّةً إلَّا وَمَعَهَا سُنَّةٌ له تُبَيِّنُ أَنَّ سُنَّتَهُ الْأُولَى مَنْسُوخَةٌ وَإِلَّا خَرَجَتْ السُّنَنُ من أَيْدِينَا ثُمَّ قال وَهَذَا الذي احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ بَيِّنٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قال لِنَبِيِّهِ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ فإذا كانت هذه الْآيَاتُ مُحْتَمِلَةً لِلْخُصُوصِ ثُمَّ جاء عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم ما يَدُلُّ على ذلك فَهُوَ بَيَانٌ منه لها فإذا جُعِلَتْ نَاسِخَةً له فَقَدْ أَدَّى ذلك إلَى إبْطَالِ الْوَضْعِ الذي وَضَعَ اللَّهُ له نَبِيَّهُ من الْإِبَانَةِ عن مَعْنَى الْكِتَابِ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا هِيَ بَيَانٌ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ قال بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ قِيلَ إنَّ قَوْلَهُ وَالْآيَةُ إذَا جَعَلْنَا النَّاسِخَ دَلِيلًا على أَنَّهُ النَّاسِخُ وَأَنَّ الذي يُنَافِيهِ مَنْسُوخٌ كَقَوْلِهِ كُنْت نَهَيْتُكُمْ عن زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا
____________________
(3/198)
تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ قَسَمَ الصَّيْرَفِيُّ ما يَأْتِي من الْقُرْآنِ بِرَفْعِ ما حَكَمَ بِهِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا ما لَا يَحْتَمِلُ الْمُوَافَقَةَ فَبِالْخِطَابِ يُعْلَمُ رَفْعُهُ كَقَوْلِهِ قد نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السَّمَاءِ الْآيَةَ وَكَصُلْحِ الرَّسُولِ لِقُرَيْشٍ على أَنْ يَرُدُّ النِّسَاءَ إلَيْهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ فَهَذَا يُعْلَمُ من ظَاهِرِ الْخِطَابِ أَنَّ الْحُكْمَ قد أُزِيلَ وَيَكُونُ فِعْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَالثَّانِي يَحْتَمِلُ الْمُوَافَقَةَ كَآيَةِ الْوَصَايَا مع الْمِيرَاثِ فإنه يَحْتَمِلُ أَنْ يَجْمَعَ الْوَصِيَّةَ وَالْمِيرَاثَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فَلَا يَثْبُتُ النَّسْخُ إلَّا أَنْ تَأْتِيَ سُنَّةٌ تُبَيِّنُ أَنَّ الْآيَةَ رَافِعَةٌ كَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ اللَّهَ قد أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ قال وَمِثْلُ أَنَّ عُمُومَ آيَةٍ على سُنَّةٍ فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ من سُنَّةٍ تُبَيِّنُ أَنَّ السُّنَّةَ الْأُولَى قد أُزِيلَ حُكْمُهَا بِبَيَانِ السُّنَّةِ الثَّانِيَةِ الثَّانِي أَنَّ الْكَلَامَ هُنَا في الْجَوَازِ هل هو الشَّرْعِيُّ أو الْعَقْلِيُّ فيه ما سَبَقَ وقد صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ بِأَنَّ الْعَقْلِيَّ مَحَلُّ وِفَاقٍ فقال بَعْدَمَا سَبَقَ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في طَرِيقِ الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ في الشَّرْعِ مع جَوَازِهِ في الْعَقْلِ على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا لَا تُوجَدُ سُنَّةٌ إلَّا وَلَهَا في كِتَابِ اللَّهِ أَصْلٌ كانت فيه بَيَانًا لِمُجْمَلِهِ فإذا وَرَدَ الْكِتَابُ بِنَسْخِهَا كان نَسْخًا لِمَا في الْكِتَابِ من أَصْلِهَا فَصَارَ ذلك نَسْخَ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَالثَّانِي يُوحِي إلَى رَسُولِهِ بِمَا تَحَقَّقَهُ من أُمَّتِهِ فإذا أَرَادَ نَسْخَ ما سَنَّهُ الرَّسُولُ أَعْلَمَهُ بِهِ حتى يَظْهَرَ نَسْخُهُ ثُمَّ يَرِدُ الْكِتَابُ بِنَسْخِهِ تَأْكِيدًا لِنَسْخِ رَسُولِهِ فَصَارَ ذلك نَسْخَ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ وَالثَّالِثُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ فَيَكُونُ أَمْرًا من اللَّهِ لِرَسُولِهِ بِالنَّسْخِ فَيَكُونُ اللَّهُ هو الْآمِرُ بِهِ وَالرَّسُولُ هو النَّاسِخُ فَصَارَ ذلك نَسْخَ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ الثَّالِثُ حَكَى أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ من الْحَنَفِيَّةِ في كِتَابِهِ عن بَعْضِهِمْ طَرِيقًا آخَرَ في الِامْتِنَاعِ وهو أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم قد كان يَقِفُ في تَأْوِيلِ مُجْمَلِ الْكِتَابِ على ما لَا يُشْرِكُهُ في الْوُقُوفِ عليه أَحَدٌ من أُمَّتِهِ فَلَيْسَتْ له سُنَّةٌ لَا كِتَابَ فيها إلَّا وقد يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لها في الْكِتَابِ
____________________
(3/199)
جُمْلَةٌ تَدُلُّ عليها فَخَصَّ اللَّهُ رَسُولَهُ بِعِلْمِ ذلك فلم يَثْبُتْ أَنَّ آيَةً نَسَخَتْ سُنَّةً لِأَنَّ تِلْكَ السُّنَّةَ قد تَكُونُ مَأْخُوذَةً من جُمْلَةِ الْكِتَابِ وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْنَا عِلْمُ ذلك بَعْدُ قال أبو بَكْرٍ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم سُنَّةٌ أَصْلًا وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ ما بَيَّنَهُ فَهُوَ بَيَانٌ لِجُمْلَةٍ مَذْكُورَةٍ في الْقُرْآنِ قد عَلِمَهَا دُونَنَا قال وَبُطْلَانُهُ مَعْلُومٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ قُلْت قد حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ في أَوَّلِ الرِّسَالَةِ قَوْلًا عن بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ ثُمَّ حَكَى الرَّازِيَّ عن هذا الْقَائِلِ اسْتِقْرَاءَ أَنَّهُ لم يُرِدْ أَنَّهُ نُسِخَتْ عِنْدَهُ سُنَّةٌ إلَّا وقد وُجِدَ لها حِكْمَةٌ من الْكِتَابِ نَحْوُ ما ادَّعَوْهُ من نَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَاسْتِحْلَالِ الْخَمْرِ وَتَحْرِيمِ الْمُبَاشَرَةِ وَالْفِطْرِ بَعْدَ النَّوْمِ في لَيَالِي الصَّوْمِ فَقَدْ يَكُونُ اسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَأْخُوذًا من قَوْلِهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ من قَوْلِهِ إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ شُرْبَهَا لَا يَحِلُّ وَفِيهِ إثْمٌ وَيَحْرُمُ ما يَحِلُّ لِلْمُفْطِرِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كما كُتِبَ على الَّذِينَ من قَبْلِكُمْ أَيْ على الصِّفَةِ قال وَإِنْ وَرَدَ ما لم يَطَّلِعْ فيه على ذلك فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا من الْكِتَابِ وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ ثُمَّ زَيَّفَ الرَّازِيَّ هذه الْمَقَالَةَ وَرَدَّ هذا كُلَّهُ الرَّابِعُ أَشَارَ الدَّبُوسِيُّ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا نَشَأَ من الْخِلَافِ في أَنَّ الزِّيَادَةَ نَسْخٌ أو بَيَانٌ فَالشَّافِعِيُّ يَرَى أَنَّهُ بَيَانٌ وما وَرَدَ مِمَّا يُوهِمُ النَّسْخَ جَعَلَهُ من قِسْمِ الْبَيَانِ وَعِنْدَنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ نَسْخٌ فَاضْطُرِرْنَا إلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ وَبِالْعَكْسِ وقال ابن الْمُنَيَّر في شَرْحِ الْبُرْهَانِ طَرِيقُ النَّظَرِ عِنْدِي في هذه الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ ما ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ أَمْرٌ قد فُرِغَ منه وَجَفَّ بِهِ الْقَلَمُ فَلَا تَتَوَقَّعْ فيه الزِّيَادَةَ وَيَنْبَغِي أَنْ يُسْمَعَ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنْ لم نَجِدْ شيئا من الذي نُسِخَ بِالسُّنَّةِ وَلَا الْعَكْسِ قَطَعْنَا بِالْوَاقِعِ وَاسْتَغْنَيْنَا عن الْكَلَامِ على الزَّائِدِ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ أَبَدًا قال وَهَا هُنَا مَزَلَّةُ قَدَمٍ لَا بُدَّ من التَّنْبِيهِ عليها وَذَلِكَ أَنَّا قد نَجِدُ حُكْمًا من السُّنَّةِ مَنْسُوخًا وَنَجِدُ في الْكِتَابِ حُكْمًا مُضَادًّا لِذَلِكَ الْمَنْسُوخِ فَيَسْبِقُ الْوَهْمُ إلَى أَنَّهُ النَّاسِخُ وَهَذَا غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّا قد نَجِدُ في السُّنَّةِ نَاسِخًا فَلَعَلَّ الْمَوْجُودَ في السُّنَّةِ هو الذي نَسَخَ وَالْمَوْجُودَ في الْكِتَابِ نَزَلَ بَعْدَ أَنْ اسْتَقَرَّ النَّسْخُ فَلَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُ ذلك هو النَّاسِخُ ثُمَّ نُتْبِعُ ذلك بِالْأَمْثِلَةِ
____________________
(3/200)
مَسْأَلَةٌ إذَا وَرَدَتْ السُّنَّةُ بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ كَقَوْلِهِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَبَيَّنَ الرَّسُولُ الْوُضُوءَ ثُمَّ قال هذا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ قال أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فما كان من السُّنَّةِ من هذا النَّوْعِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ بِالسُّنَّةِ لِأَنَّ الْفَرْضَ إنَّمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ لَا بِالسُّنَّةِ قال وَكَذَلِكَ ما وَرَدَ في الْكِتَابِ مُجْمَلًا فَفَسَّرَتْهُ السُّنَّةُ أو عَامًّا فَخَصَّصَتْهُ أو مُتَشَابِهًا أو بَيَانًا لِلنَّاسِخِ من الْمَنْسُوخِ مِثْلُ وَأُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَا يَجُوزُ نَسْخُ ذلك بِالسُّنَّةِ فِيمَا كان بَيَانًا لِلْجُمْلَةِ التي اُحْتِيجَ إلَى تَفْسِيرِهَا فَأَمَّا ما ضُمَّ هو إلَيْهَا فَيَجُوزُ نَسْخُهُ بِالسُّنَّةِ مَسْأَلَةٌ نُسِخَ كُلُّ وَاحِدٍ من الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ بِالْآخَرِ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ كما قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ أَنَّ الْقَوْلَ لَا يُنْسَخُ إلَّا بِالْقَوْلِ وَأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُنْسَخُ إلَّا بِالْفِعْلِ وقال بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجُوزُ نَسْخُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سُنَّةٌ يُؤْخَذُ بها وقد قال صلى اللَّهُ عليه وسلم في السَّارِقِ فَإِنْ عَادَ في الْخَامِسَةِ فَاقْتُلُوهُ ثُمَّ رُفِعَ إلَيْهِ سَارِقٌ في الْخَامِسَةِ فلم يَقْتُلْهُ فَدَلَّ على أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وقال الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ ثُمَّ رَجَمَ مَاعِزًا ولم يَجْلِدْهُ فَدَلَّ على أَنَّ الْجَلْدَ مَنْسُوخٌ
____________________
(3/201)
وما حَكَيْنَاهُ عن بَعْضِ الْأَصْحَابِ صَحَّحَهُ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وهو الذي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فإنه ذَكَرَ في إيجَابِ الْقُعُودِ إذَا صلى الْإِمَامُ قَاعِدًا أَنَّهُ نُسِخَ بِفِعْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في مَرَضِ مَوْتِهِ وقال الْقَاضِي يَجُوزُ نَسْخُ الْفِعْلِ بِالْفِعْلِ إذَا عُلِمَ كَوْنُهُمَا مُثْبِتَيْنِ لِحُكْمَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ فَأَمَّا النَّسْخُ بِإِقْرَارِ الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم على الْفِعْلِ أو الْمَنْعِ منه فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ في بَابِ الْأَخْبَارِ قال وَاخْتُلِفَ أَيْضًا في نَسْخِ قَوْلِهِ بِفِعْلِهِ فَأَجَازَهُ قَوْمٌ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ وقال ابن عَقِيلٍ من الْحَنَابِلَةِ لَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِالْأَفْعَالِ وَإِنْ جَعَلْنَاهَا دَالَّةً على الْوُجُوبِ دُونَ دَلَالَةِ صَرِيحِ الْقَوْلِ وَالشَّيْءُ إنَّمَا يُنْسَخُ بمثله أو بِأَقْوَى منه وقال ابن فُورَكٍ إذَا أَقَرَّ على غَيْرِ ما أُمِرَ بِهِ هل يَدُلُّ إقْرَارُهُ على نَسْخِ الْأَوَّلِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ نَسْخٌ كما يَقَعُ بِهِ التَّخْصِيصُ على قَوْلِنَا إنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ على الْوُجُوبِ وَمَنْ تَوَقَّفَ في الْفِعْلِ قال وَيُسْتَدَلُّ بِإِقْرَارِهِ على أَنَّهُ قد سَبَقَهُ قَوْلٌ نُسِخَ بِهِ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ فِعْلَهُ يَقَعُ تَخْصِيصًا وَيَقَعُ مُتَعَدِّيًا فَمَنْ قال بهذا فإنه يقول في حديث مُعَاذٍ وكان قد تَقَدَّمَ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِمُعَاذٍ قَوْلٌ في ذلك ثُمَّ قال سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ سُنَّةً فَاتَّبَعُوهُ فَأَضَافَهَا إلَيْهِ تَنْوِيهًا بِذِكْرِهِ لَمَّا كان هو الْمُبْتَدِيَ بِهِ وَمَنْ قال بِالْأَوَّلِ جَعَلَ سُكُوتَهُ على الْإِنْكَارِ نَسْخًا له
____________________
(3/202)
مسألة الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به أما كونه لا ينسخ فلأن الإجماع لا يكون إلا بعد وفاة الرسول والنسخ لا يكون بعد موته هكذا قاله ابن الصباغ وسليم وابن السمعاني وأبو الحسين في المعتمد والإمام فخر الدين وجعلوا هذه المسألة مبنية على أن الإجماع لا ينعقد في زمانه لأن قولهم بدون قوله لاغ وأما معه فالحجة في قوله وقول الغير لاغ وإذا لم ينعقد إلا بعد زمانه فلا يمكن نسخه بالكتاب والسنة لتعذرهما بعد وفاته ولا بإجماع آخر لأن هذا الإجماع الثاني إن كان لا عن دليل فهو خطأ وإن كان عن دليل فقد غفل عنه الإجماع الأول فكان خطأ والإجماع لا يكون خطأ فاستحال النسخ بالإجماع ولا بالقياس لأن من شرط العمل به أن لا يكون مخالفا للإجماع فتعذر نسخ الإجماع مطلقا لأنه لو انتسخ لكان انتساخه بواحد مما ذكرنا والكل باطل وما ذكروه من عدم تصور انعقاد الإجماع في حياته عليه السلام هو ما ذكره أكثر الأصوليين وفيه نظر إذا جوزنا لهم الاجتهاد في زمانه كما هو الصحيح فلعلهم اجتهدوا في مسألة وأجمعوا عليها من غير علمه صلى الله عليه وسلم وقد ذكر أبو الحسين البصري في المعتمد بعد ذلك ما يخالف الأول فإنه جزم بأن الإجماع لا ينسخ لأنه إنما ينعقد بعد وفاته ثم قال نعم يجوز أن ينسخ الله حكما أجمعت عليه الأمة على عهده ثم قال فإن قيل يجوز أن ينسخ إجماع وقع في زمانه قلنا يجوز وإنما منعنا الإجماع بعده أن ينسخ وأما في حياته فالمنسوخ الدليل الذي أجمعوا عليه لا حكمه وقد استشكل القرافي في شرح التنقيح هذا الحكم ونقل عن أبي إسحاق وابن برهان جواز انعقاد الإجماع في زمانه قال وشهادة الرسول لهم بالعصمة متناولة لما في زمانه وما بعده وقال صاحب المصادر ذهب الجماهير إلى أن الإجماع لا يكون ناسخا ولا منسوخا لأنه إنما يستقر بعد انقطاع الوحي والنسخ إنما يكون بالوحي قال الشريف المرتضى وهذا غير كاف لأن دلالة الإجماع عندنا مستقرة في كل حال قبل انقطاع الوحي وبعده قال فالأقرب أن يقال أجمعت الأمة على أن ما ثبت بالإجماع لا
____________________
(3/203)
ينسخ ولا ينسخ به أي لا يقع ذلك لا أنه غير جائز ولا يلتفت إلى خلاف عيسى بن أبان وقوله إن الإجماع ناسخ لما وردت به السنة من وجوب الغسل من غسل الميت انتهى وأما كونه ينسخ به فكما لا يكون منسوخا لا يكون ناسخا لأنه لما كان ينعقد بعد زمانه لم يتصور أن ينسخ ما كان من الشرعيات في زمانه ولأن الأمة لا تجتمع على مثل هذا لأنه يكون إجماعا على خلافه وهم معصومون منه فإن قيل قد نسختم خبر الواحد بالإجماع وهو حديث الغسل من غسل الميت والوضوء من مسه قلنا إنما استدل بمخالفة الإجماع له على تقدير نسخه فصار منسوخا بغير الإجماع لا بالإجماع فصار الإجماع في هذا الموضع دليلا على النسخ لا أنه وقع به النسخ قاله ابن السمعاني في القواطع وقال الأستاذ أبو منصور إذا أجمعت الأمة على حكم واحد ووجدنا خبرا بخلافه استدللنا بالإجماع على سقوط الخبر لا نسخه أو تأويله على خلاف ظاهره وكذا قال الصيرفي في كتابه ليس للإجماع حظ في نسخ الشرع لأنهم لا يشرعون ولكن إجماعهم يدل على الغلط في الخبر أو رفع حكمه لا أنهم رفعوا الحكم وإنما هم أتباع لما أمروا به وقال القاضي من الحنابلة يجوز النسخ بالإجماع لكن لا بنفسه بل بمستنده فإذا رأينا نصا صحيحا والإجماع بخلافه استدللنا بذلك على نسخه وأن أهل الإجماع اطلعوا على ناسخ وإلا لما خالفوه وقال ابن حزم جوز بعض أصحابنا أن يورد حديث صحيح والإجماع على خلافه قال وذلك دليل على أنه منسوخ قال ابن حزم وهذا عندنا خطأ فاحش لأن ذلك معدوم لقوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وكلام الرسول وحي محفوظ ا هـ وممن جوز كون الإجماع ناسخا الحافظ البغدادي في كتاب الفقيه والمتفقه ومثله بحديث الوادي الذي في الصحيح حين نام الرسول وأصحابه فما أيقظهم إلا حر الشمس وقال في آخره فإذا سها أحدكم عن صلاة فليصلها حين يذكرها ومن الغد للوقت
____________________
(3/204)
قال فأعاد الصلاة المنسية بعد قضائها حال الذكر وفي الوقت منسوخ بإجماع المسلمين على أنه لا يجب ولا يستحب ومثله أيضا بحديث أسنده إلى زر قال قلت لحذيفة أي ساعة تسحرتم مع رسول الله قال هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع فقال أجمع المسلمون أن طلوع الفجر يحرم الطعام والشراب على الصائم مع بيان ذلك في قوله تعالى من الفجر انتهى ودعواه النسخ في الثاني بالإجماع فيه نظر فإن قوله تعالى من الفجر صريح في التقييد بالفجر فهو الناسخ حينئذ لا الإجماع إلا أن يريد أن الأمة لما أجمعت على ترك ظاهره دل إجماعهم على نسخه لا أن الإجماع هو الناسخ وقال إلكيا يتصور نسخ الإجماع بأن الأولين إذا اختلفوا على قولين ثم أجمعوا على أحدهما فنقول إن الخلاف نسخ وجزم القول به مع إجماع الأولين على جواز الاختلاف قلنا الصحيح أن الخلاف الأول يزول به ومن قال يزول به قال هذا لا يعد ناسخا لأنهم إنما سوغوا القول الأول بشرط أن لا يكون هناك ما يمنع من الاجتهاد كالغائب عن الرسول لا يجتهد إلا بشرط فقد النص والإجماع كالنص في ذلك والاختلاف مشروط بشرط وهذا بعيد فإن نص الرسول ذلك الحكم المخالف لم يكن حكم الله وهنا الإجماع بعد الخلاف لا يبين أن الخلاف لم يكن شرعيا وإنما اعترض على دوام حكم الخلاف نسخا فإن قيل بهذا المذهب فهو نسخ الإجماع على الخلاف لا محالة انتهى وقال ابن برهان في الأوسط وأما إجماع الطبقة الثانية على أحد القولين فليس بنسخ لأن القول المهجور بطل في نفسه ولهذا قال الشافعي المذاهب لا تموت بموت أربابها وأيضا فلفقد شرط الإجماع وهو أن يكون للمذهب الأول ذاب وناصر وقال ابن السمعاني في القواطع وأما نسخ الإجماع بالإجماع فمثل أن تجمع الصحابة في حكم على قولين ثم يجمع المانعون بعدهم على قول واحد فيكون الصحابة
____________________
(3/205)
مجمعين على جواز الاجتهاد والمانعون مجمعين على عدم جواز الاجتهاد قال وفي هذه المسألة للشافعي قولان وإن قلنا بجوازه لا يكون ناسخا لأن الصحابة وإن سوغوا الاجتهاد فشرطه ما لم يمنع مانع مَسْأَلَةُ الْقِيَاسِ لَا يَنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ أَمَّا كَوْنُهُ نَاسِخًا فَالْجُمْهُورُ على مَنْعِهِ وَمِنْهُمْ الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِهِ وَإِلْكِيَا في التَّلْوِيحِ وابن الصَّبَّاغِ وَسُلَيْمٌ وأبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ في التَّحْصِيلِ وابن السَّمْعَانِيِّ وَنَقَلَهُ أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ عن نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَكَلَامِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَاخْتَارَهُ أَيْضًا وقال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في تَعْلِيقِهِ في بَابِ الْأَقْضِيَةِ إنَّهُ الصَّحِيحُ في الْمَذْهَبِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَنَقَلَهُ في التَّقْرِيبِ عن الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ قالوا فَلَا يَجُوزُ نَسْخُ شَيْءٍ من الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُسْتَعْمَلُ مع عَدَمِ النَّصِّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ النَّصُّ وَلِأَنَّهُ دَلِيلٌ مُحْتَمَلٌ وَالنَّسْخُ يَكُونُ بِأَمْرٍ مَقْطُوعٍ وَلِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَكُونَ في الْأُصُولِ ما يُخَالِفُهُ فَفِي نَسْخِ الْأُصُولِ بِالْقِيَاسِ تَحْقِيقُ الْقِيَاسِ دُونَ شَرْطِهِ وهو مُمْتَنِعٌ وَلِأَنَّهُ إنْ عَارَضَ نَصًّا أو إجْمَاعًا فَالْقِيَاسُ فَاسِدُ الْوَضْعِ وَإِنْ عَارَضَ قِيَاسًا آخَرَ فَتِلْكَ الْمُعَارَضَةُ إنْ كانت بين أَصْلِيِّ الْقِيَاسِ فَهَذَا يُتَصَوَّرُ فيه النَّسْخُ قَطْعًا إذْ هو من بَابِ نَسْخِ النُّصُوصِ وَإِنْ كان بين الْعِلَّتَيْنِ فَهُوَ من بَابِ الْمُعَارَضَةِ في الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لَا من بَابِ الْقِيَاسِ قال الصَّيْرَفِيُّ لَا يَقَعُ النَّسْخُ إلَّا بِدَلِيلٍ تَوْقِيفِيٍّ وَلَا حَظَّ لِلْقِيَاسِ فيه أَصْلًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَرِدَ خَبَرٌ لِمَعْنًى ثُمَّ يَرِدُ نَاسِخٌ لِذَلِكَ الْخَبَرِ الذي فيه ذلك الْمَعْنَى فَيَرْتَفِعُ هو وَدَلَالَتُهُ كما لو حُرِّمَ بَيْعُ الْبُرِّ بِالْبُرِّ لِلْأَكْلِ فَقِسْنَا كُلَّ مَأْكُولٍ عليه ثُمَّ أُحِلَّ الْبُرُّ بِالْبُرِّ فَيَصِيرُ ما قِسْنَاهُ عليه حَلَالًا لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ لِلْمَعْنَى الذي أَوْجَبَهُ ما أَوْجَبَهُ في غَيْرِهَا فَمَتَى أَزَالَ حُكْمَهَا بَطَلَ حُكْمُ ما تَعَلَّقَ بها وَلَيْسَ هذا نَسْخًا بِالْقِيَاسِ إنَّمَا هو نَسْخٌ لِلْمَنْصُوصِ عليه بِالْمَنْصُوصِ وقال كَذَلِكَ ما أَقَرَّ عليه النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَجُوزُ رَفْعُهُ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّهُ قد ثَبَتَ تَحْلِيلُ عَيْنِهِ وَالْقِيَاسُ يَقَعُ فيه الْخَطَأُ انْتَهَى وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي الْجَوَازُ مُطْلَقًا بِكُلِّ دَلِيلٍ يَقَعُ بِهِ التَّخْصِيصُ حَكَاهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ وقال الْجَزَرِيُّ في أَجْوِبَةِ التَّحْصِيلِ لو دَلَّ نَصٌّ على إبَاحَةِ النَّبِيذِ مَثَلًا كما يقول من يُبِيحُهُ ثُمَّ دَلَّ نَصٌّ على تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وكان مُتَرَاخِيًا عن إبَاحَةِ النَّبِيذِ ثُمَّ قِسْنَا
____________________
(3/206)
التَّحْرِيمَ في النَّبِيذِ على الْخَمْرِ كان الْقِيَاسُ الثَّانِي نَاسِخًا وَهَذَا مَبْنِيٌّ على أَمْرَيْنِ تَقَدُّمِ إبَاحَةِ النَّبِيذِ وَكَوْنِ التَّحْرِيمِ في النَّبِيذِ بِالْقِيَاسِ لَا بِالنَّصِّ كما قال بَعْضُهُمْ وَحِينَئِذٍ يُتَصَوَّرُ كَوْنُ الْقِيَاسِ نَاسِخًا لِلنَّصِّ وَحَكَى الْقَاضِي عن بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يُنْسَخُ بِهِ الْمُتَوَاتِرُ وَنَصُّ الْقُرْآنِ وَعَنْ آخَرِينَ أَنَّهُ إنَّمَا يُنْسَخُ بِهِ أَخْبَارُ الْآحَادِ فَقَطْ الثَّالِثُ التَّفْصِيلُ بين الْجَلِيِّ فَيَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ وَبَيْنَ الْخَفِيِّ فَلَا يَجُوزُ حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُ عن أبي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ إجْرَاءً له مُجْرَى التَّخْصِيصِ وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عن ابْنِ سُرَيْجٍ وَحَكَى أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ عن الْأَنْمَاطِيِّ أَنَّهُ كان يقول الْقِيَاسُ الْمُسْتَخْرَجُ من الْقُرْآنِ يُنْسَخُ بِهِ الْقُرْآنُ وَالْقِيَاسُ الْمُسْتَخْرَجُ من السُّنَّةِ يُنْسَخُ بِهِ السُّنَّةُ وَحَكَى في مَوْضِعٍ آخَرَ عنه أَنَّهُ جَوَّزَ ذلك وقال ما لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا وقال جَوَّزَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إلَّا أَنَّهُ لم يَقَعْ وَحَكَى الْبَاجِيُّ عن الْأَنْمَاطِيِّ التَّفْصِيلَ الْأَوَّلَ ثُمَّ قال وَهَذَا ليس بِخِلَافٍ في الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَهُ مَفْهُومُ الْخِطَابِ وهو ليس بِقِيَاسٍ في الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا يَجْرِي مُجْرَى النَّصِّ وَقَسَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا ما عُرِفَ مَعْنَاهُ من ظَاهِرِ النَّصِّ بِغَيْرِ الِاسْتِدْلَالِ كَقَوْلِهِ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ فإنه يَدُلُّ على تَحْرِيمِ الضَّرْبِ قِيَاسًا لَا لَفْظًا على الْأَصَحِّ وفي جَوَازِ النَّسْخِ بِهِ وَجْهَانِ وَالْأَكْثَرُونَ على الْمَنْعِ الثَّانِي ما عُرِفَ كَنَهْيِهِ عن الضَّحِيَّةِ بِالْعَوْرَاءِ وَالْعَرْجَاءِ فَكَانَتْ الْعَمْيَاءُ قِيَاسًا على الْعَوْرَاءِ وَالْعَرْجَاءِ على الْقَطْعِ لِأَنَّ نَقْصَهَا أَكْثَرُ فَهَذَا لَا يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِهِ بِخِلَافِ أَصْلِهِ وَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِالِاتِّفَاقِ لِجَوَازِ وُرُودِ التَّعَبُّدِ في الْفَرْعِ بِخِلَافِ أَصْلِهِ الثَّالِثُ ما عُرِفَ مَعْنَاهُ بِاسْتِدْلَالٍ ظَاهِرٍ بِتَأَدِّي النَّظَرِ كَقِيَاسِ الْأَمَةِ على الْعَبْدِ في السِّرَايَةِ وَقِيَاسِ الْعَبْدِ عليها في تَنْصِيفِ الْحَدِّ فَلَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا ا هـ الرَّابِعُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ تَكُونَ عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةً كَقَوْلِهِ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِأَجْلِ الشِّدَّةِ فَهَذَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ مع التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ وَيُرْفَعُ بِهِ حُكْمُ تَحْلِيلِ الْأَنْبِذَةِ التي فيها الشِّدَّةُ وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مُسْتَنْبَطَةً فَهِيَ على ضَرْبَيْنِ
____________________
(3/207)
أَحَدُهُمَا أَنْ تُسْتَنْبَطَ من خِطَابٍ مُتَأَخِّرٍ عن الْخِطَابِ الْمُعَارِضِ لها فَهَذَا قد كان يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِنَسْخِهَا لِلْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ وَإِنَّمَا مَنَعَ من ذلك الشَّرْعُ وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مُسْتَخْرَجَةً من خِطَابٍ سَابِقٍ على الْخِطَابِ الْمُعَارِضِ لها فَهَذَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَرِدَ شَرْعٌ بِنَسْخِهَا لِلْخِطَابِ الْمُتَأَخِّرِ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ من الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ تَحْرِيمُ الْمُبَاحِ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ ثُمَّ يَرِدُ الْخِطَابُ الْمَنْسُوخُ بَعْدَ الْعِلَّةِ النَّاسِخَةِ بِالْإِبَاحَةِ فَيَجْتَمِعُ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ في حُكْمٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ يَمْنَعُ التَّكْلِيفَ قال الْبَاجِيُّ في أَحْكَامِهِ وَهَذَا هو الْحَقُّ وَفَصَلَ الْآمِدِيُّ بين أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً فَيَصِحُّ وَإِلَّا فَإِنْ كان الْقِيَاسُ قَطْعِيًّا كَقِيَاسِ الْأَمَةِ على الْعَبْدِ في السِّرَايَةِ فإنه وَإِنْ كان مُقَدَّمًا لَكِنْ ليس نَسْخًا لِكَوْنِهِ ليس بِخِطَابٍ وَالنَّسْخُ عِنْدَهُ هو الْخِطَابُ وَإِنْ كان ظَنِّيًّا بِأَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مُسْتَنْبَطَةً فَلَا يَكُونُ نَاسِخًا وقد سَبَقَهُ إلَى هذا التَّفْصِيلِ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ أَيْضًا ثُمَّ قال قال الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ إذَا كان كَذَلِكَ يَعْنِي الْعِلَّةَ مَنْصُوصَةً فَالْأَقْرَبُ أَنَّ النَّاسِخَ هو ما كان من جِهَةِ الرَّسُولِ وَلَكِنْ فَعَلْنَا بِشَرْطٍ وَجَعَلَ الْهِنْدِيُّ مَحَلَّ الْخِلَافِ في حَيَاةِ الرَّسُولِ وقال أَمَّا بَعْدَهُ فَلَا يَنْسَخُ بِالِاتِّفَاقِ وَأَمَّا كَوْنُهُ مَنْسُوخًا فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا مع بَقَاءِ أَصْلِهِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَفِيهِ وَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا نُسِخَ الْأَصْلُ هل يَكُونُ ذلك نَسْخًا لِلْقِيَاسِ قال وَصُورَتُهُ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ في عَيْنٍ بِعِلَّةٍ وَيُقَاسُ عليها غَيْرُهَا ثُمَّ يُنْسَخُ الْحُكْمُ في تِلْكَ الْعَيْنِ الْمَقِيسِ عليها فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْحُكْمُ في الْفَرْعِ لِأَنَّ الْفَرْعَ تَابِعٌ لِلْأَصْلِ فإذا بَطَلَ الْحُكْمُ في الْأَصْلِ بَطَلَ في الْفَرْعِ وقال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ نُقِلَ عن عبد الْجَبَّارِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ نَسْخَ أُصُولِهِ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهِيَ لم تُنْسَخْ وَنُقِلَ عنه قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُهُ قال وَالْحَقُّ ما ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا وهو أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُهُ في زَمَنِ الرَّسُولِ بِالْكِتَابِ لَا السُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا يَجُوزُ ا هـ وَكَذَا قال إلْكِيَا قِيلَ لَا يَصِحُّ نَسْخُهُ لِأَنَّهُ مع الْأُصُولِ فما دَامَتْ الْأُصُولُ ثَابِتَةً فَنَسْخُهُ لَا يَصِحُّ قال وَهَذَا عِنْدَنَا بَعْدَ الرَّسُولِ فإنه إنَّمَا تَبَيَّنَ بُطْلَانُهُ من أَصْلِهِ وَذَلِكَ ليس من النَّسْخِ في شَيْءٍ بَلْ يَظْهَرُ مُخَالِفٌ أو لَا يَظْهَرُ وَكَيْفَمَا قُدِّرَ فَلَا يَكُونُ نَسْخًا وَإِنْ كان في عَهْدِ الرَّسُولِ فَيَجُوزُ ذلك إنْ قُلْنَا بِجَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلْغَائِبِ عنه بِنَاءً
____________________
(3/208)
على الْأُصُولِ فإذا طَرَأَ نَاسِخٌ بَعْدَهُ صَحَّ نَسْخُ الْقِيَاسِ ثُمَّ يَتَّجِهُ أَنْ يُقَالَ ليس نَسْخُ الْقِيَاسِ فإنه تَبَعٌ لِلْأُصُولِ فإذا ارْتَفَعَتْ ارْتَفَعَ التَّبَعُ وَأَطْلَقَ سُلَيْمٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقِيَاسِ قال لِأَنَّهُ يُسْتَفَادُ من أَصْلِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ مع بَقَاءِ حُكْمِ أَصْلِهِ وقال صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ مَنَعَ الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ من نَسْخِ الْقِيَاسِ قال لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْأُصُولِ فلم يَجُزْ مع ثُبُوتِهَا رَفْعُهُ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا ثَبَتَ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ وقال في الدَّرْسِ إنْ كان مَعْلُومَ الْعِلَّةِ جَازَ نَسْخُهُ قال لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لو نَصَّ على أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْبُرِّ هِيَ الْكَيْلُ وَأَمَرَ بِالْقِيَاسِ لَكَانَ ذلك كَالنَّصِّ في تَحْرِيمِ الْأُرْزِ فَكَمَا جَازَ أَنْ يُحَرِّمَ الْأَرُزَّ ثُمَّ يَنْسَخَهُ جَازَ أَنْ يَنْسَخَ عَنَّا تَحْرِيمَ الْأُرْزِ الْمُسْتَفَادِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصِ عليها وَيَمْنَعُ من قِيَاسِهِ على الْبُرِّ وقال الْبَيْضَاوِيُّ في مِنْهَاجِهِ إنَّمَا يُنْسَخُ بِقِيَاسٍ أَجْلَى منه وقال الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ في الْمَحْصُولِ تَبَعًا لِصَاحِبِ الْمُعْتَمَدِ وَابْنِ الصَّبَّاغِ يُنْسَخُ الْقِيَاسُ إنْ كان في حَيَاتِهِ فَلَا يَمْتَنِعُ رَفْعُهُ بِالنَّصِّ وَبِالْإِجْمَاعِ وَبِالْقِيَاسِ أَمَّا بِالنَّصِّ فَبِأَنْ يَنُصَّ عليه السَّلَامُ في الْفَرْعِ بِخِلَافِ حُكْمِ الْقِيَاسِ بَعْدَ اسْتِمْرَارِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ وَأَمَّا بِالْإِجْمَاعِ فإنه إذَا اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ على قَوْلَيْنِ قِيَاسًا ثُمَّ أَجْمَعُوا على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ كان إجْمَاعُهُمْ رَافِعًا لِحُكْمِ الْقِيَاسِ الْمُقْتَضِي لِلْقَوْلِ الْآخَرِ وَأَمَّا بِالْقِيَاسِ فَبِأَنْ يَنُصَّ على صُورَةٍ بِخِلَافِ ذلك الْحُكْمِ وَيَجْعَلَهُ مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ مَوْجُودَةٍ في ذلك الْفَرْعِ وَيَكُونَ أَمَارَةُ عِلِّيَّتِهَا أَقْوَى من أَمَارَةِ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ في الْأَصْلِ الْأَوَّلِ وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فإنه يَجُوزُ نَسْخُهُ في الْمَعْنَى وَإِنْ كان لَا يُسَمَّى نَسْخًا في اللَّفْظِ كما إذَا أَفْتَى الْمُجْتَهِدُ بِالْقِيَاسِ ثُمَّ ظَفِرَ بِالنَّصِّ أو بِالْإِجْمَاعِ أو بِالْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ لِلْأَوَّلِ فَإِنْ قُلْنَا كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ كان هذا الْوُجْدَانُ نَسْخًا لِقِيَاسِهِ الْأَوَّلِ وَإِنْ قُلْنَا الْمُصِيبُ وَاحِدٌ لم يَكُنْ الْقِيَاسُ الْأَوَّلُ مُتَعَبَّدًا بِهِ فلم يَكُنْ النَّصُّ الذي وَجَدَهُ آخِرًا نَاسِخًا لِذَلِكَ الْقِيَاسِ قال صَاحِبُ التَّحْصِيلِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ وفي هذه الْأَقْسَامِ نَظَرٌ فَلْيَتَأَمَّلْهُ النَّاظِرُ وهو كما قال فإن تَجْوِيزَهُ نَسْخَ الْقِيَاسِ في حَيَاةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِالْإِجْمَاعِ يُنَاقِضُ قَوْلَهُ قبل ذلك إنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ في زَمَانِهِ كما قَالَهُ الْقَرَافِيُّ وَنَقْلُهُ الْإِجْمَاعَ على بُطْلَانِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ ليس بِجَيِّدٍ بَلْ الْخِلَافُ ثَابِتٌ في تَجْوِيزِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالْقِيَاسِ كما سَبَقَ وقال بَعْضُهُمْ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ مُطْلَقًا فَإِنَّا وَإِنْ قُلْنَا إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِمَا غَلَبَ على ظَنِّهِ كَالْقِبْلَةِ إذَا لم يُعَيِّنْهَا فإنه تَكْلِيفٌ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ
____________________
(3/209)
اجْتِهَادُهُ وقال ابن بَرْهَانٍ نُقِلَ عن عبد الْجَبَّارِ أَنَّهُ مَنَعَ نَسْخَ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ إنَّمَا تُنْسَخُ أُصُولُهُ وَأُصُولُهُ بَاقِيَةٌ لم تُنْسَخُ وَنُقِلَ عنه الْجَوَازُ وَالْحَقُّ الْبَيِّنُ ما قَسَمَهُ أَصْحَابُنَا فَقَالُوا إذَا كان الْقِيَاسُ في زَمَنِ الرَّسُولِ جَازَ نَسْخُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ فإذا قال لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ وَنَبَّهَ على عِلَّتِهِ فَعَدَّيْنَاهَا إلَى الْأُرْزِ ثُمَّ وُجِدَ نَصٌّ من كِتَابِ اللَّهِ أو سُنَّةِ رَسُولِهِ يَقْتَضِي إبَاحَةَ بَيْعِ الْأُرْزِ بِالْأُرْزِ مُتَفَاضِلًا فإنه نَسْخٌ لِحُكْمِ ذلك الْقِيَاسِ أَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلَا يَجُوزُ نَسْخُهُ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ بَعْدَ الْوَفَاةِ تَجَدُّدُ شَرْعٍ وقال الْآمِدِيُّ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ في الْقِيَاسِ إنْ كانت مَنْصُوصَةً فَهِيَ في مَعْنَى النَّصِّ وَيُمْكِنُ نَسْخُهُ بِنَصٍّ أو قِيَاسٍ في مَعْنَاهُ لو ذَهَبَ إلَيْهِ ذَاهِبٌ بَعْدَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِ على نَاسِخِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ فإنه وَإِنْ وَجَبَ عليه اتِّبَاعُ ما ظَنَّهُ فَرُفِعَ حُكْمُهُ في حَقِّهِ بَعْدَ اطِّلَاعِهِ على النَّاسِخِ لَا يَكُونُ نَسْخًا مُتَجَدِّدًا بَلْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كان مَنْسُوخًا وَإِنْ كانت مُسْتَنْبَطَةً فَحُكْمُهَا في حَقِّهِ غَيْرُ ثَابِتٍ بِالْخِطَابِ فَرَفْعُهُ في حَقِّهِ عِنْدَ الظَّفَرِ بِذَلِكَ مُعَارَضَةٌ وَيَتَرَجَّحُ عليه فَلَا يَكُونُ نَسْخًا لِكَوْنِهِ ليس بِخِطَابٍ لِأَنَّ النَّسْخَ هو الْخِطَابُ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْقِيَاسِ نَسْخُ أَصْلِهِ يُوجِبُ نَسْخَهُ في قَوْلِ الْجُمْهُورِ كما قَالَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ وَصُورَتُهُ ما لو نَصَّ الشَّارِعُ على حُكْمٍ وَعَلَّلَهُ بِعِلَّةٍ وَأَلْحَقَ غَيْرَهُ بِهِ ثُمَّ نُسِخَ الْحُكْمُ في الْأَصْلِ فَهَلْ يَرْتَفِعُ في الْفَرْعِ عِنْدَنَا يَرْتَفِعُ وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ يَبْقَى لِأَنَّهُ لو زَالَ لَكَانَ زَوَالُهُ نَسْخًا بِالْقِيَاسِ وهو مَمْنُوعٌ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يَبْقَى بَعْدَ زَوَالِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ إذَا بَقِيَ لَا يَكُونُ فَرْعًا وَفَصَلَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ بين أَنْ يُنْسَخَ الْأَصْلُ لَا إلَى بَدَلٍ فَلَا يَبْقَى الْفَرْعُ وَبَيْنَ أَنْ يُنْسَخَ إلَى بَدَلٍ فَيَبْقَى وهو غَرِيبٌ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْحَقُّ أَنَّ الْمَعْنَى يَبْقَى اسْتِدْلَالًا وَفِيهِ نَظَرٌ فإن شَرْطَ الِاسْتِدْلَالِ عِنْدَ الْعَامِلِ بِهِ أَنْ لَا يَشْهَدَ عليه أَصْلٌ وَهَذَا الْمَعْنَى قد أَلْغَاهُ النَّاسِخُ وَمُنْشَأُ الْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ الْبَحْثُ في ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً شَرْعًا هل هُمَا مُتَلَازِمَانِ تَلَازُمَهُمَا وَالْحَنَفِيَّةُ يَعْتَقِدُونَهُمَا مُنْفَكَّيْنِ فَلَا يَلْزَمُ من بُطْلَانِ أَحَدِهِمَا بُطْلَانُ الْآخَرِ
____________________
(3/210)
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْبِيرَ في هذه الْمَسْأَلَةِ بِالرَّفْعِ وَقَعَ في عِبَارَاتٍ لِسُلَيْمٍ في التَّقْرِيبِ وَابْنِ بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وهو أَحْسَنُ من تَعْبِيرِ غَيْرِهِمْ كَابْنِ بَرْهَانٍ وَالْهِنْدِيِّ وَغَيْرُهُمَا بِالنَّسْخِ لِأَنَّ أَصْحَابَنَا لَا يَقُولُونَ إنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ يُنْسَخُ بِارْتِفَاعِ حُكْمِ الْأَصْلِ بَلْ يَزُولُ لِزَوَالِ كَوْنِ الْعِلَّةِ مُعْتَبَرَةً وَالْحُكْمُ إذَا زَالَ لِزَوَالِ عِلَّتِهِ لَا يُقَالُ إنَّهُ مَنْسُوخٌ قالوا لو كان نَسْخُ الْأَصْلِ نَسْخَ الْفَرْعِ لَكَانَ ذلك بِالْقِيَاسِ على الْأَصْلِ إذَا لم يَرِدْ نَاسِخٌ لِلْفَرْعِ وَأُجِيبَ بِمَنْعِهِ إذْ لَا جَامِعَ وهو لَا يَتِمُّ بِدُونِهِ بَلْ هو لِزَوَالِ حُكْمِ الْأَصْلِ إذْ الْعِلَّةُ مَبْنِيَّةٌ عليه قال الْهِنْدِيُّ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ في زَوَالِ الْحُكْمِ لَا من حَيْثُ إنَّهُ نَسْخٌ حَقِيقَةً إذْ زَوَالُ الْحُكْمِ لِزَوَالِ عِلَّتِهِ ليس نَسْخًا بِالِاتِّفَاقِ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وَغَيْرُهُمْ قد بَنَتْ الْحَنَفِيَّةُ على أَصْلِهِمْ فَرَعَيْنَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِالنَّبِيذِ الْمُسْكِرِ النِّيءِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ إذَا كان مَطْبُوخًا وقد تَوَضَّأَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِالنِّيءِ وَأَلْحَقُوا بِهِ الْمَطْبُوخَ قِيَاسًا ثُمَّ نُسِخَ التَّوَضُّؤُ بِالنِّيءِ وَبَقِيَ التَّوَضُّؤُ بِالْمَطْبُوخِ وَالثَّانِي ادَّعَوْا أَنَّ يوم عَاشُورَاءَ كان يَجِبُ صَوْمُهُ وَيَجُوزُ إيقَاعُ النِّيَّةِ فيه نَهَارًا فإن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بَعَثَ إلَى أَهْلِ الْعَوَالِي يوم عَاشُورَاءَ أَنَّ من لم يَأْكُلْ فَلِيَصُمْ فَدَلَّ على أَنَّهُ يَجُوزُ إيقَاعُ النِّيَّةِ من النَّهَارِ وَأُلْحِقَ بِهِ رَمَضَانُ من حَيْثُ إنَّهُ صَوْمٌ ثُمَّ نُسِخَ صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَبَقِيَ الْقِيَاسُ مُسْتَمِرًّا في رَمَضَانَ وقد نُوزِعَ في هذا الْمِثَالِ الثَّانِي لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ من جِهَةِ أَنَّ حُكْمَ الْقِيَاسِ مُغَايِرٌ لِلْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ لِأَنَّ حُكْمَ الْقِيَاسِ تَرْكُ التَّبْيِيت وَالْحُكْمُ الْمَنْسُوخُ إنَّمَا هو وُجُوبُ الصَّوْمِ وَلَيْسَتْ مَسْأَلَتُنَا من هذا الْقَبِيلِ وقال إلْكِيَا ذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى جَوَازِ الِاسْتِنْبَاطِ من الْمَنْسُوخِ في أَمْثِلَةٍ لَا بُدَّ من مُسَاعَدَتِهِمْ على بَعْضِهَا كَقَوْلِهِمْ في صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كان وَاجِبًا وَجَوَّزَهُ الرَّسُولُ بِنِيَّةٍ من النَّهَارِ ثُمَّ نُسِخَ وُجُوبُهُ فَادَّعَوْا أَنَّ النَّسْخَ يَرْجِعُ إلَى تَبْدِيلِ النِّيَّةِ وما
____________________
(3/211)
فَهِمْنَاهُ من جَوَازِ النِّيَّةِ من النَّهَارِ بَاقٍ بِحَالِهِ لَا يَتَأَثَّرُ بِنَسْخِهِ فإذا عَرَفْنَا تَمَاثُلَ الْحُكْمَيْنِ عِنْدَ وُجُوبِهَا من النِّيَّةِ فَالنَّسْخُ رَاجِعٌ إلَى أَحَدِهِمَا في الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ الْمَعْنَى الْمَنْقُولُ منه قال إلْكِيَا وَهَذَا حَسَنٌ لَا رَيْبَ فيه نعم لو نُسِخَ الْأَصْلُ لَا إلَى بَدَلٍ فَالْفَرْعُ لَا يَبْقَى دُونَ الْأَصْلِ وَهَاهُنَا نَسْخٌ إلَى بَدَلٍ كما إذَا نُسِخَ تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ في الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِالْمَعْنَى الْمُسْتَنْبَطِ منه في الْمَطْعُومَاتِ لِأَنَّهُ يَكُونُ فَرْعًا بِلَا أَصْلٍ وَعَلَى هذا يَبْطُلُ قَوْلُهُمْ إنَّ التَّوَضُّؤَ بِالنَّبِيذِ جَائِزٌ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَإِنْ تَمَّ أَدَاؤُهُ من حَيْثُ كان نَقْعُ التَّمْرِ وَلَكِنْ يُفْهَمُ منه إجْزَاؤُهُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ حَيْثُ إنَّ هذا فَرْعٌ بِلَا أَصْلٍ قال وقد يَلْتَبِسُ بهذا ما احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ من حَيْثُ وُجُوبُ التَّيَمُّمِ لِكُلِّ صَلَاةٍ تَلَقِّيًا من قَوْلِهِ إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ ثُمَّ فَعَلَ الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَكَانَ التَّيَمُّمُ بِذَلِكَ أَوْلَى ثُمَّ رَوَى الْجَمْعُ بين صَلَاتَيْنِ فَأَكْثَرَ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ وَلَا يَجُوزُ ذلك في التَّيَمُّمِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فلم يَعْقِلْ من حُكْمِ النَّسْخِ ما عَقَلَ من حُكْمِ الْأَصْلِ وَهَذَا خَطَأٌ من الظَّانِّ فإن الظَّاهِرَ دَلَّ عليها مَسْأَلَةٌ في نَسْخِ الْمَفْهُومِ وهو يَنْقَسِمُ إلَى مَفْهُومِ مُخَالَفَةٍ وَمَفْهُومِ مُوَافَقَةٍ أَمَّا الْمُخَالَفَةُ فَيَجُوزُ نَسْخُهُ مع نَسْخِ الْأَصْلِ وَبِدُونِهِ كَقَوْلِهِ إنَّمَا الْمَاءُ من الْمَاءِ فإنه نُسِخَ مَفْهُومُهُ بِقَوْلِهِ إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَبَقِيَ أَصْلُهُ وهو وُجُوبُ الْغُسْلِ من الْإِنْزَالِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ دَلِيلُ الْخِطَابِ يَجُوزُ نَسْخُ مُوجِبِهِ وَلَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِمُوجِبِهِ لِأَنَّ النَّصَّ أَقْوَى من دَلِيلِهِ ا هـ وما ذَكَرَهُ في نَسْخِهِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ وَأَمَّا النَّسْخُ بِهِ فقال الشَّيْخُ في اللُّمَعِ يَجُوزُ لِأَنَّهُ في مَعْنَى النُّطْقِ على الْمَذْهَبِ على الصَّحِيحِ قال وَمِنْ أَصْحَابِنَا من جَعَلَهُ كَالْقِيَاسِ فَعَلَى هذا لَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ا هـ وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا ثَالِثًا وهو التَّفْصِيلُ بين أَقْوَى الْمَفَاهِيمِ وهو ما قِيلَ فيه إنَّهُ مَنْطُوقٌ
____________________
(3/212)
كَالْحَصْرِ وَالشَّرْطِ وَبَيْنَ ما أَجْمَعُوا على أَنَّهُ ليس من قَبِيلِ الْمَنْطُوقِ وَأَمَّا نَسْخُ الْأَصْلِ بِدُونِهِ فَفِي جَوَازِهِ احْتِمَالَانِ لِلصَّفِيِّ الْهِنْدِيِّ قال وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ على الْعَدَمِ بِاعْتِبَارِ ذلك الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ فإذا بَطَلَ تَأْثِيرُ ذلك الْقَيْدُ بَطَلَ ما يُبْنَى عليه فَعَلَى هذا نَسْخُ الْأَصْلِ نَسْخُ الْمَفْهُومِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى فيه أَنْ يُرْفَعَ الْعَدَمُ وَيَحْصُلَ الْحُكْمُ الثُّبُوتِيُّ بَلْ الْمَعْنَى فيه أَنْ يَرْتَفِعَ الْعَدَمُ الذي كان شَرْعِيًّا وَيَرْجِعَ إلَى ما كان عليه قَبْلُ وقال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ في بَابِ الْمَفْهُومِ من أَصْحَابِنَا من قال يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ اللَّفْظُ وَيَبْقَى دَلِيلُ الْخِطَابِ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذلك لِأَنَّ الدَّلِيلَ إنَّمَا هو تَابِعٌ لِلَّفْظِ فَهُوَ تَابِعٌ له وَفَرْعٌ عنه فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَسْقُطَ الْأَصْلُ وَيَكُونَ الْفَرْعُ بَاقِيًا نَسْخُ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ وَالنَّسْخُ بِهِ وَأَمَّا مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ فَهَلْ يَجُوزُ نَسْخُهُ وَالنَّسْخُ بِهِ أَمَّا كَوْنُهُ نَاسِخًا فَجَزَمَ الْقَاضِي بِجَوَازِهِ في التَّقْرِيبِ وقال لَا فَرْقَ في جَوَازِ النَّسْخِ بِمَا اقْتَضَاهُ نَصُّ الْكِتَابِ وَظَاهِرُهُ وَجَوَازُهُ بِمَا اقْتَضَاهُ فَحْوَاهُ وَلَحْنُهُ وَمَفْهُومُهُ وما أَوْجَبَهُ الْعُمُومُ وَدَلِيلُ الْخِطَابِ عِنْدَ مُثْبِتِهَا لِأَنَّهُ كَالنَّصِّ أو أَقْوَى منه انْتَهَى وَكَذَا جَزَمَ ابن السَّمْعَانِيِّ قال لِأَنَّهُ مِثْلُ النُّطْقِ أو أَقْوَى منه قال لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ جَعَلَهُ قِيَاسًا فَعَلَى قَوْلِهِ لَا يَجُوزُ نَسْخُ النَّصِّ بِهِ وَنَقَلَ الْآمِدِيُّ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الِاتِّفَاقَ على أَنَّهُ يُنْسَخُ بِهِ ما يُنْسَخُ بِمَنْطُوقِهِ وهو عَجِيبٌ فإن في الْمَسْأَلَةِ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي وَالشَّيْخُ في اللُّمَعِ وَسُلَيْمٌ وَصَحَّحَا الْمَنْعَ قال سُلَيْمٌ وهو الْمَذْهَبُ لِأَنَّهُ قِيَاسٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَقَعُ النَّسْخُ بِهِ وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عن الْأَكْثَرِينَ قال لِأَنَّ الْقِيَاسَ فَرْعُ النَّصِّ الذي هو أَقْوَى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا له قال وَالثَّانِي وهو اخْتِيَارُ ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٍ الْجَوَازُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَرِدَ التَّعَبُّدُ في فَرْعِهِ بِخِلَافِ أَصْلِهِ صَارَ الْفَرْعُ كَالنَّصِّ فَجَازَ بِهِ النَّسْخُ وَإِنْ كان أَصْلُهُ نَصًّا في الْقُرْآنِ جَازَ أَنْ يُنْسَخَ بِهِ الْقُرْآنُ وَإِنْ كان أَصْلُهُ نَصًّا في السُّنَّةِ جَازَ أَنْ يُنْسَخَ بِهِ السُّنَّةُ دُونَ الْقُرْآنِ قال وَمِنْ هَاهُنَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في قَوْله تَعَالَى إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا من الَّذِينَ كَفَرُوا مع قَوْلِهِ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا
____________________
(3/213)
مِائَتَيْنِ الْآيَةَ أَنَّ نَسْخَ مُصَابَرَةِ عِشْرِينَ مِئَتَيْنِ بِمُصَابَرَةِ عِشْرِينَ أَرْبَعِينَ عُلِمَ بِالْقِيَاسِ أو بِاللَّفْظِ فَمِنْهُمْ من قال عُلِمَ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ اللَّهَ لم يَنُصَّ على حُكْمِ الْعِشْرِينَ وَإِنَّمَا قِسْنَاهُ على حُكْمِ الْمِئَتَيْنِ وَمِنْهُمْ من قال عُلِمَ بِاللَّفْظِ ا هـ وَمُنْشَأُ الْخِلَافِ في أَنَّهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ أو لَا أَنَّ دَلَالَتَهُ لَفْظِيَّةٌ أو عَقْلِيَّةٌ الْتِزَامِيَّةٌ فَإِنْ قُلْنَا لَفْظِيَّةٌ جَازَ نَسْخُهَا وَالنَّسْخُ بها كَالْمَنْطُوقِ وَإِنْ كانت عَقْلِيَّةً كانت قِيَاسًا جَلِيًّا وَالْقِيَاسُ لَا يُنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ وَأَمَّا كَوْنُهُ مَنْسُوخًا فَتَارَةً يَتَوَجَّهُ النَّسْخُ إلَيْهِ مع بَقَاءِ حُكْمِ اللَّفْظِ وَتَارَةً يَتَوَجَّهُ إلَى اللَّفْظِ فَإِنْ تَوَجَّهَ إلَى اللَّفْظِ فَلَا شَكَّ في جَوَازِهِ وَيَكُونُ نَسْخًا لِلْفَحْوَى على الْخِلَافِ الْآتِي وَإِنْ تَوَجَّهَ إلَى الْفَحْوَى فَقَطْ وَحُكْمُ اللَّفْظِ بَاقٍ فَاخْتَلَفَ فيه الْأُصُولِيُّونَ على قَوْلَيْنِ حَكَاهُمَا ابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ أَحَدُهُمَا الْجَوَازُ وَنَقَلَهُ عن أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ كَالنَّصَّيْنِ يَجُوزُ نَسْخُ أَحَدِهِمَا مع بَقَاءِ الْآخَرِ وَنَقَلَهُ سُلَيْمٌ عن الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ من الْمُتَكَلِّمِينَ قال بِنَاءً على أَصْلِهِمْ أَنَّ ذلك مُسْتَفَادٌ من اللَّفْظِ فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ لَفْظَيْنِ فَجَازَ نَسْخُ أَحَدِهِمَا مع بَقَاءِ حُكْمِ الْآخَرِ ا هـ وَجَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ قال لِأَنَّهُمَا في الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ ما تَنَاوَلَهُ الْعُمُومُ من الْمُشْتَبِهَاتِ وَنَسْخُ بَعْضِ ذلك مع بَقَاءِ بَعْضٍ سَائِغٌ قال وَيُفَارِقُ الْقِيَاسُ حَيْثُ يَمْتَنِعُ نَسْخُهُ مع بَقَاءِ أَصْلِهِ لِأَنَّ صِحَّةَ الْأَصْلِ صِحَّةُ الْفَرْعِ فما دَامَ الْأَصْلُ بَاقِيًا وَجَبَتْ صِحَّتُهُ وَالثَّانِي الْمَنْعُ وَصَحَّحَهُ سُلَيْمٌ وَجَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَنَقَلَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ ثُبُوتَ نُطْقِهِ مُوجِبٌ لِفَحْوَاهُ وَمَفْهُومِهِ فلم يَجُزْ نَسْخُ الْفَحْوَى مع بَقَاءِ مُوجِبِهِ كما لَا يُنْسَخُ الْقِيَاسُ مع بَقَاءِ أَصْلِهِ وقال أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ فَأَمَّا نَسْخُ الْفَحْوَى مع بَقَاءِ الْأَصْلِ فَجَوَّزَهُ الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ في الْعُمَدِ وقال في شَرْحِهِ يَجُوزُ ذلك إلَّا أَنْ يَكُونَ نَقْضًا لِلْغَرَضِ وَمَنَعَ منه في الدَّرْسِ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَا يَرْتَفِعُ مع بَقَاءِ الْأَصْلِ إلَّا وقد انْتَقَضَ الْغَرَضُ لِأَنَّهُ إذَا حُرِّمَ التَّأْفِيفُ على سَبِيلِ الْإِعْظَامِ لِلْأَبَوَيْنِ كانت إبَاحَةُ مَضَرَّتِهِمَا نَقْضًا لِلْغَرَضِ وَفَصَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بين أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْمَنْطُوقِ لَا تَحْتَمِلُ التَّغَيُّرَ كَإِكْرَامِ الْوَالِدِ بِالنَّهْيِ عن تَأْفِيفِهِ فَيَمْتَنِعُ نَسْخُ الْفَحْوَى لَتَنَاقُضِ الْمَقْصُودِ وَإِنْ احْتَمَلَتْ النَّقْضَ جَازَ لِاحْتِمَالِ الِانْتِقَالِ من عِلَّةٍ إلَى عِلَّةٍ كما لو قال لِغُلَامِهِ لَا تُعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا يَقْصِدُ بِذَلِكَ حِرْمَانَهُ لِغَضَبِهِ فَفَحْوَاهُ أَنْ لَا يُعْطِيَهُ أَكْثَرَ منه فإذا نَسَخَ ذلك بِأَنْ قال
____________________
(3/214)
أَعْطِهِ أَكْثَرَ من دِرْهَمٍ وَلَا تُعْطِهِ دِرْهَمًا جَازَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ انْتَقَلَ من عِلَّةِ حِرْمَانِهِ إلَى عِلَّةِ مُوَاسَاتِهِ وإذا فَرَّعْنَا على الْجَوَازِ فَفِي اسْتِتْبَاعِ نَسْخِ أَحَدِهِمَا نَسْخَ الْآخَرِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّ نَسْخَ كُلٍّ مِنْهُمَا يَسْتَلْزِمُ نَسْخَ الْآخَرِ وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيُّ لِتَلَازُمِهِمَا وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُ من نَسْخِ أَحَدِهِمَا نَسْخُ الْآخَرِ وَالثَّالِثُ أَنَّ نَسْخَ الْأَصْلِ يَسْتَلْزِمُ نَسْخَ الْفَحْوَى لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ وَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ التَّابِعِ بِدُونِ مَتْبُوعِهِ وَنَسْخُ الْمَفْهُومِ لَا يَتَضَمَّنُ نَسْخَ الْأَصْلِ وَجَعَلَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ الْمَذْهَبَ وَنُقِلَ عن الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ نَسْخَ الْمَنْصُوصِ لَا يَتَضَمَّنُ نَسْخَ الْمَفْهُومِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى النَّسْخِ بِالْقِيَاسِ قال وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عليه إذَا نُسِخَ كان من ضَرُورَتِهِ انْتِسَاخُ الْمَفْهُومِ لِأَنَّهُ من تَوَابِعِهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ التَّابِعِ مع فَقْدِ الْأَصْلِ وَوَجَّهَ غَيْرُهُ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ أَوْلَى بِالثُّبُوتِ من النَّصِّ فَلَا يَكُونُ رَفْعُ الْأَصْلِ مُسْتَلْزِمًا لِرَفْعِهِ قال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وهو مُتَّجِهٌ وَلِهَذَا لو صَرَّحَ بِنَفْيِ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ وَتَحْرِيمِ الضَّرْبِ لم يَكُنْ تَنَاقُضًا وهو على قَوْلِ من يقول نَسْخُ الْوُجُوبِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْجَوَازَ أَلْزَمُ وَبَنَوْا عليه أَنَّ نَسْخَ قَوْلِهِ من قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ لَا يَقْتَضِي نَسْخَ مَفْهُومِهِ وهو أَنَّهُ يُقْتَلُ بِقَتْلِ عبد غَيْرِهِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ أَنَّا إنْ قُلْنَا الْفَحْوَى ثَبَتَ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فَهِيَ على تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ صَرِيحَةٌ وَعَلَى الضَّرْبِ الْتِزَامِيَّةٌ فَهُمَا دَلَالَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ فَلَا يَلْزَمُ من رَفْعِ إحْدَاهُمَا رَفْعُ الْأُخْرَى وَإِنْ قُلْنَا ثَبَتَ بِالْقِيَاسِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَفْعَ حُكْمِ الْأَصْلِ مُوجِبًا لِرَفْعِ حُكْمِ الْفَرْعِ لِاسْتِحَالَةِ بَقَاءِ الْفَرْعِ دُونَ أَصْلِهِ وَإِنْ لم يُسَمَّ ذلك نَسْخًا وَإِنَّ رَفْعَ حُكْمِ الْفَرْعِ لَا يُوجِبُ رَفْعَ حُكْمِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ من رَفْعِ التَّابِعِ رَفْعُ الْمَتْبُوعِ فَرْعَانِ الْأَوَّلُ زَعَمَ في الْمَحْصُولِ أَنَّ الْعَقْلَ يَكُونُ نَاسِخًا في حَقِّ من سَقَطَتْ رِجْلَاهُ فإن الْوُجُوبَ سَاقِطٌ عنه وهو مَرْدُودٌ بِأَنَّ زَوَالَ الْحُكْمِ لِزَوَالِ سَبَبِهِ لَا يَكُونُ نَسْخًا كما
____________________
(3/215)
سَبَقَ وقد قال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ لَا خِلَافَ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ من جِهَةِ الْعَقْلِ إلَى مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ من نَاحِيَةِ ضَرُورَتِهِ أو دَلِيلِهِ نعم حَكَى أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ في كِتَابِهِ عن جَمَاعَةٍ أَنَّ ارْتِفَاعَ الْحُكْمِ لِارْتِفَاعِ شَرْطِهِ أو سَبَبِهِ يُسَمَّى نَسْخًا الثَّانِي وَقَعَ في الْمَحْصُولِ في مَسْأَلَةِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ ما يَقْتَضِي جَعْلَ الْمَوْتِ نَسْخًا وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ لو كان كَذَلِكَ لَكَانَ كُلُّ حُكْمٍ مَنْسُوخًا وَانْتَقَضَ حَدُّ النَّسْخِ وَأَشْكَلَ على الْمُعْتَزِلَةِ النَّسْخُ فَإِنَّهُمْ لَا يُجَوِّزُونَ النَّسْخَ قبل الْفِعْلِ وَكَمْ مَوْتٍ وَقَعَ قبل الْفِعْلِ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومِ الْوُقُوعِ فَجَازَ تَقْدِيمُهُ وَتَأْخِيرُهُ وَلَوْ صَحَّ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ نَسْخًا بِالنِّسْبَةِ إلَى جُمْلَةِ الْحُكْمِ بَلْ بِالنِّسْبَةِ إلَى كل مَيِّتٍ وَيَصِحُّ على هذا أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ غير الشَّرْعِ وَهَذَا كُلُّهُ تَشْوِيشٌ لِلْقَوَاعِدِ مسألة في الزيادة على النص هل تكون نسخا لحكم النسخ اعلم أن الزائد إما أن يكون مستقلا بنفسه أو لا الأول المستقل وهو إما أن يكون من غير جنس الأول كزيادة وجوب الزكاة على الصلاة فليس بنسخ لما تقدمه من العبادات بالإجماع لعدم التنافي وإما أن يكون من جنسه كزيادة صلاة على الصلوات الخمس فليس بنسخ أيضا عند الجماهير وذهب بعض أهل العراق إلى أنها تكون نسخا لحكم المزيد عليه كقوله تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى لأنها تجعلها غير الوسطى قال القاضي عبد الجبار ويلزمهم زيادة عبادة على العبادة الأخيرة فإنها تجعلها غير الأخيرة وتغير عدها وهو خلاف الإجماع الثاني الذي لا يستقل كزيادة ركعة على الركعات والتغريب وصفة رقبة الكفارة من الأيمان وغيرها وكاشتراط النية في الوضوء مع قوله إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم فإن اشتراطها يكون تغييرا لما دل عليه النص من الاكتفاء بالمذكور فيه فاختلفوا على أقوال أحدها أنها لا تكون نسخا مطلقا وبه قالت الشافعية والمالكية والحنابلة وغيرهم من المعتزلة كالجبائي وأبي هاشم وسواء اتصلت بالمزيد عليه أم لا قال الماوردي وهو قول أكثر الأشعرية والمعتزلة قال ولا فرق بين أن تكون هذه مانعة من إجراء المزيد عليه أو غير مانعة وقال ابن فورك وإلكيا قال الشافعي في اليمين مع الشاهد إنه زيادة على ما في الكتاب وليس بنسخ وأن ذلك كالمسح على الخفين وقال
____________________
(3/216)
في المنخول قال الشافعي ليس بنسخ وإنما هي تخصيص عموم يعني حتى يجوز بخبر الواحد والقياس والثاني أنها نسخ وهو قول الحنفية قال شمس الأئمة السرخسي وسواء كانت الزيادة في السبب أو الحكم وقال ابن السمعاني وأما أصحاب أبي حنيفة فقالوا إن الزيادة على النص بعد استقرار حكمه توجب النسخ حكاه الصيمري عن أصحابه على الإطلاق واختاره بعض أصحابنا قال ابن فورك وإلكيا عزي إلى الشافعي أيضا فإنه قال في قوله إنما الماء من الماء منسوخ في وجه دون وجه فإن هذا النص تضمن أمرين أحدهما نصه وهو غير منسوخ والثاني أن لا غسل فيما سواه وهو منسوخ بحديث التقاء الختانين وإنما صار منسوخا بالزيادة على الأصل وحكاه ابن السمعاني وجها لبعض أصحابنا ثم قال وهذا غلط لأن إنما الماء من الماء إنما دل من حيث دليل الخطاب فهو نسخ للمفهوم لا نسخ للنص من حيث الزيادة انتهى ولا يقال إن هذا هو المذهب الآتي القائل بالتفصيل بين ما نفاه المفهوم وما لم ينفه لأن القائل بهذا التفصيل يجعل ما نفاه المفهوم نسخا للنص وأصحابنا لا يجعلون ذلك نسخا للنص ألبتة ولا تعلق له به وإنما هو نسخ للمفهوم غير مستلزم نسخ النص والكلام في هذه المسألة إنما هو فيما يجعل نسخا للنص ولم يقل أحد منا بذلك في نسخ مفهوم المخالفة إلا هذا الوجه الضعيف والثالث إن كان المزيد عليه ينفي الزيادة بفحواه فإن تلك الزيادة نسخ كقوله في سائمة الغنم الزكاة فإنه يفيد دليله نفي الزكاة عن المعلوفة فإن زيدت الزكاة في المعلوفة كان نسخا وإن كان ذكرها لا ينفي تلك الزيادة فوجوده لا يكون نسخا حكاه ابن برهان وصاحب المعتمد وغيرهما والرابع إن غيرت المزيد عليه تغييرا شرعيا حتى صار لو فعل بعد الزيادة على حد ما كان يفعل مثلها لم يعتد به ويجب استئنافه فإنه يكون نسخا كزيادة على
____________________
(3/217)
ركعتين وإن كان المزيد عليه لو فعل على حد ما يكون يفعل قبل الزيادة يصح فعله لم يكن نسخا كزيادة التغريب على الجلد حكاه صاحب المعتمد والقواطع عن عبد الجبار وحكاه سليم عن اختيار القاضي أبي بكر والإستراباذي والبصري قلت وهو ظاهر ما رأيته في التقريب للقاضي فإنه ذكره واستدل له بأمور ثم شرط القاضي لكونها نسخا إذا غيرت المزيد عليه أن يعلم ورودها بعد استمرار الحكم بثبوت الغرض عاريا منها فإن لم يعلم جاز أن يكون على وجه البيان وحكى ابن برهان في الأوسط عن عبد الجبار التفصيل بين أن يتصل به فهو نسخ كزيادة ركعة رابعة على الثلاثة وإن انفصلت لم يكن كضم التغريب إلى الجلد وهذا ما اختاره الغزالي والخامس إن كانت الزيادة مغيرة حكم المزيد عليه في المستقبل كانت نسخا وإن لم تغير حكمه في المستقبل بل كانت مقارنة له لم تكن نسخا فزيادة التغريب في المستقبل على الجلد نسخ وكذا لو زيد في حد القذف عشرون وأما الزيادة التي لا تسقط من المزيد عليه فكوجوب ستر الفخذ ثم يجب ستر بعض الركبة فلا يكون وجوب ستر بعضها نسخا حكاه ابن فورك عن أصحاب أبي حنيفة وقال صاحب المعتمد وبه قال شيخنا أبو الحسن الكرخي وأبو عبد الله البصري والسادس أن الزيادة إن رفعت حكما عقليا أو ما ثبت باعتبار الأصل كبراءة الذمة لم تكن نسخا لأنا لا نعتقد أن العقل يوجب الأحكام ومن يعتقد إيجابه لا يعتقد رفعها نسخا وإن تضمنت رفع حكم شرعي تكون نسخا كقوله في سائمة الغنم الزكاة فإن ظاهره يدل على الوجوب وفحواه يدل على نفي الزكاة عن المعلوفة فلو ورد خبر بإيجاب الزكاة في المعلوفة كان ناسخا لهذه الفحوى لأنه حكم شرعي حكى هذا التفصيل ابن برهان في الأوسط عن أصحابنا وقال إنه الحق واختاره الآمدي وابن الحاجب والإمام فخر الدين والبيضاوي ونقلاه عن اختيار أبي الحسين البصري يعني في المعتمد وهو قضية كلام القاضي أبي بكر في مختصر التقريب وإمام الحرمين في البرهان وقال الصفي الهندي إنه أجود الطرق وأحسنها وقال الأصفهاني لا يتجه على قولنا إن النسخ بيان وحينئذ لا يتجه للآمدي والرازي القول به وحكى القاضي أبو الطيب في شرح الكفاية عن القاضي إن كانت الزيادة شرطا في المزيد عليه كانت نسخا وإلا فلا والذي في كتاب التقريب خلاف ذلك
____________________
(3/218)
فإنه قرر ما سبق نعم قال فإن قيل فيجب على هذا أن تكون زيادة شرط للعبادة لا تصح إلا بها نسخا لها لأنها إن فعلت مع عدمه لم تكن عبادة فإذا فعلت مع عدمها لم تكن صلاة قال وأما زيادة الترتيب والنية في الوضوء فهو من باب النقصان في حكم النص لا الزيادة لأن ظاهر قوله فاغسلوا الآية الإجزاء على أي وجه وقع فإذا وردت السنة بإيجاب النية والترتيب جعلت بعض ما كان مجزئا غير مجزئ فصار بمثابة تقييد الرقبة المطلقة في الكفارة بالأيمان بعد استقرار إطلاقها وإجزاء جميع الرقبات مؤمنة وكافرة فإن قلت لها حكم وإن كان نقصانا قيل إذا أورد بالنص كان تخصيص عموم وإلا فهو نسخ انتهى وقال بعضهم إن هذه التفاصيل لا حاصل لها وليست في محل النزاع فإنه لا ريب عند الكل أن ما رفع حكما شرعيا كان نسخا لأنه حقيقة وليس الكلام هنا في مقام أن النسخ رفع أو بيان وما لا فليس بنسخ فالقائل أنا أفصل بين ما رفع حكما شرعيا وما لم يرفع كأنه قال إن كانت الزيادة نسخا فهي نسخ وإلا فلا وهذا لا حاصل له وإنما النزاع بينهم هل يرفع حكما شرعيا فيكون نسخا أو لا فلا يكون فلو وقع الاتفاق على أنها ترفع حكما شرعيا لوقع الاتفاق على أنها تنسخ أو على أنها لا ترفع لوقع على أنها ليست بنسخ ولكن النزاع في الحقيقة في أنها هل هي رفع أو لا وهذا كما يقول فيما لو لطخ ثوب العبد بالمداد في ثبوت الخيار وجهان منشؤهما أن مثل هذا هل يصلح أن يكون تغريرا والأصح لا لأن الإنسان قد يلبس ثوب غيره عارية فلو وقع الاتفاق على أنها تعزير لوقع على إثبات الخيار أو على عدمه لوقع على عدمه والظاهر أن هؤلاء لم يجعلوا مذاهبهم مغايرة للمذاهب السابقة بل عرضوا الأمر على حقيقة النسخ ليعتبر به وذكر السماني في الكفاية أن الخلاف في هذه المسألة مبني على الخلاف السابق في أن الأمر هل يدل على الإجزاء فإن قلنا يدل كانت نسخا وإلا فلا واعلم أن فائدة هذه المسألة أن ما ثبت أنه من باب النسخ وكان مقطوعا به فلا ينسخ إلا بقاطع كالتغريب فإن أبا حنيفة لما كان عنده نسخا نفاه لأنه نسخ للقرآن بخبر الواحد ولما لم يكن عند الجمهور نسخا قبلوه إذ لا معارضة
____________________
(3/219)
وقد ردوا بذلك أخبارا صحيحة لما اقتضت زيادة على القرآن والزيادة نسخ ولا يجوز نسخ القرآن بخبر الآحاد فردوا أحاديث تعيين الفاتحة في الصلاة والشاهد واليمين وأيمان الرقبة واشتراط النية في الوضوء ويلزمهم أن يجعلوا حديث المسح على الخفين ناسخا لآية الوضوء والحديث الوارد بالتوضؤ بالنبيذ عند عدم الماء مخالفا للقياس وقد رجع فيه إلى الحديث وخالف عادته في حديث المصراة وحديث القرعة بين العبيد لما خالف الأصول والقياس فتحصل من مذهبه طرح حديث لم يخالفه قياس واستعمال حديث جاء بخلاف القياس وإنما قصرنا حديث الشاهد واليمين بالأموال دون غيرها لإجماع الأمة على ذلك لأن معنا قائلين أحدهما تركه أصلا كالحنفية
____________________
(3/220)
والثاني القول به في الأموال خاصة كالشافعي ومالك وإذا قالت الأمة في مسألة بقولين لم يجز إحداث ثالث قال القاضي أبو الطيب وقد تمسك بعض الحنفية في سهم ذي القربى أنه لا يستحق إلا بالحاجة لأنه سهم من الخمس فوجب أن يستحق بالحاجة قياسا على سائر السهام فقلت له لا يصح هذا القياس لأنه زيادة في النص وهو قوله ولذي القربى ولا ينسخ القرآن بالقياس فلم يكن له جواب وقال الأستاذ أبو منصور البغدادي ومن زاد الخلوة على الآيتين الواردتين في الطلاق قبل المسيس في إيجاب العدة وتكميل المهر بخبر عمر مع مخالفة غيره وامتنع من الزيادة على النص بخبر صحيح كان حاكما في دين الله تعالى برأيه ونقض عليهم الأستاذ أبو منصور أيضا فإن زيادة التغريب إن كانت نسخا لزمكم أن يكون إدخال نبيذ التمر بين الماء والتراب نسخا لآيتي الوضوء والتيمم فهو مساو لزيادة التغريب وإنظاره بما تقدم وإن انفصلوا عن هذا بأن نبيذ التمر داخل في عموم الماء لقوله ثمرة طيبة وماء طهور قيل لهم فيكون حينئذ رافعا لإطلاق فاغسلوا وجوهكم ضرورة أنه لا يجوز التوضؤ به عند وجود غيره من المياه وتقييد مدلول النص المطلق نسخ للنص عندهم وقال أبو الطيب فائدة هذه المسألة جواز الزيادة بالقياس وخبر الواحد بعدما جاز التخصيص به جازت الزيادة به وفصل ابن برهان في الأوسط فقال المزيد عليه إن ثبت بخبر الواحد جاز
____________________
(3/221)
إثبات تلك الزيادة بخبر الواحد وإن لم يكن الأصل مما يجوز إثباته بخبر الواحد فلا يجوز إثبات الزيادة به قال وأبو حنيفة يعتقد أن خبر الواحد لا يقبل إذا ورد فيما تعم به البلوى ويعتبر للعمل به شرائط والشافعي لا يلتفت إلى ذلك تنبيه أطلق النص في هذه المسألة وإنما يستمر إذا سمينا الظواهر نصوصا فإن قلنا الظاهر لا يسمى نصا فهذه العبارة مستدركة لأن تغيير النصوص التي لا احتمال فيها نسخ لا محالة نبه عليه المازري في غير هذا الباب فُرُوعٌ الْأَوَّلُ لو أَوْجَبَ الشَّارِعُ الزَّكَاةَ في مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ فَهَلْ يَكُونُ نَسْخًا لِوُجُوبِهَا في السَّائِمَةِ لِأَنَّ مَفْهُومَهُ نَفْيُ إيجَابِهَا في الْمَعْلُوفَةِ فَلَوْ وَجَبَتْ فيها لَكَانَتْ زِيَادَةً نَفَاهَا الْمَفْهُومُ فَمَنْ لم يَقُلْ بِالْمَفْهُومِ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِأَنَّهُ لم يَرْفَعْ شيئا من مَدْلُولِهِ وَإِنَّمَا رَفَعَ الْمَسْكُوتَ عنه وَمَنْ قال بِهِ كان نَسْخًا لو ثَبَتَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مُرَادٌ من الْكِتَابِ الثَّانِي لو زِيدَتْ رَكْعَةٌ في الصُّبْحِ بِحَيْثُ صَارَتْ ثَلَاثًا قال أبو الْحُسَيْنِ ليس بِنَسْخٍ لِحُكْمِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ على وُجُوبِ الصُّبْحِ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ وَلَا بِإِجْزَائِهَا لِأَنَّهُمَا يَجْزِيَانِ وقال ابن الْحَاجِبِ نَسْخُ تَحْرِيمِ الزِّيَادَةِ على الرَّكْعَتَيْنِ وَالتَّحْرِيمُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وقد ارْتَفَعَ بِالزِّيَادَةِ وقال الْآمِدِيُّ هذا ليس بِحَقٍّ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لو كان الْأَمْرُ بِالرَّكْعَتَيْنِ مُقْتَضِيًا لِلنَّهْيِ عن الزِّيَادَةِ عليها وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يُمْكِنُ اسْتِفَادَتُهُ من دَلِيلٍ آخَرَ فَزِيَادَةُ الرَّكْعَةِ على الرَّكْعَتَيْنِ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِحُكْمِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ على وُجُوبِ الرَّكْعَتَيْنِ انْتَهَى وَهَذَا هو الْحَقُّ فإن كَلَامَنَا في أَنَّ الزِّيَادَةَ هل هِيَ نَسْخٌ لِلْمَزِيدِ عليه لَا في كَوْنِهَا نَسْخًا لِأَمْرٍ آخَرَ وقال في الْمَحْصُولِ إنَّهُ نَسْخٌ كَوُجُوبِ التَّشَهُّدِ عَقِيبَ الرَّكْعَتَيْنِ وَوَافَقَهُ الْآمِدِيُّ لِلرَّدِّ بِهِ على أبي الْحُسَيْنِ وَنَازَعَهُ الْهِنْدِيُّ الثَّالِثُ زِيَادَةُ التَّغْرِيبِ على الْجَلْدِ لَا يُزِيلُ نَفْيَ وُجُوبِ ما زَادَ على الْمِائَةِ وَهَذَا النَّفْيُ غَيْرُ مَعْلُومٍ بِالشَّرْعِ لِأَنَّ إيجَابَ الْمِائَةِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بين إيجَابِهَا مع نَفْيِ الزَّائِدِ وَثُبُوتِهِ وما بِهِ الِاشْتِرَاكُ لَا إشْعَارَ له بِمَا بِهِ الِامْتِيَازُ لَكِنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ وَرَفْعُ الثَّابِتِ بِالْعَقْلِ ليس بِنَسْخٍ وقال ابن الْحَاجِبِ هو نَسْخٌ فقال زِيَادَةُ التَّغْرِيبِ نَسْخٌ لِتَحْرِيمِهِ إذْ
____________________
(3/222)
كان يَحْرُمُ التَّغْرِيبُ وقد عَرَفْت أَنَّهُ ليس كَلَامَنَا إلَّا في أَنَّهُ هل هو نَسْخٌ لِلْمَزِيدِ عليه الذي هو الْجَلْدُ لَا غَيْرُهُ الرَّابِعُ إذَا أَوْجَبَ اللَّهُ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ عَيْنًا ثُمَّ خَيَّرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْحِ على الْخُفِّ أو أَخْبَرَ بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ في الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ ثُمَّ زَادَ ثَالِثًا وهو الْعِتْقُ فَهَلْ يَكُونُ نَسْخًا لِوُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ على التَّعْيِينِ قال الْإِمَامُ وَالْآمِدِيَّ ليس بِنَسْخٍ لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِ الْكُلِّ وَاجِبًا على التَّعْيِينِ وُجُوبُهُ وَأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَوُجُوبُهُ لم يَرْتَفِعْ وَإِنَّمَا الْمُرْتَفِعُ عَدَمُ قِيَامِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ وَإِنَّمَا يُنْتَقَضُ النَّفْيُ الْأَصْلِيُّ فَلَا يَكُونُ رَفْعُهُ نَسْخًا وقال ابن الْحَاجِبِ إنَّهُ نَسْخٌ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ وَالتَّعْيِينَ حُكْمَانِ شَرْعِيَّانِ وقد رُفِعَ الْأَوَّلُ لَا الثَّانِي وهو الصَّوَابُ الْخَامِسُ إذَا زِيدَ في الطَّهَارَةِ اشْتِرَاطُ غَسْلِ عُضْوٍ زَائِدٍ على الْأَعْضَاءِ السِّتَّةِ فَلَا يَكُونُ نَسْخًا لِوُجُوبِ غَسْلِهَا إذْ هِيَ وَاجِبَةٌ مع وُجُوبِ غَسْلِ الْعُضْوِ الزَّائِدِ وَلَا لِإِجْزَائِهَا السَّادِسُ قَبِلَ أَصْحَابُنَا خَبَرَ الْوَاحِدِ في الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَرَدَّهُ الْحَنَفِيَّةُ لِأَنَّهُ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رِجَالِكُمْ فَإِنْ لم يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ قالوا فإن الْأَمْرَ كان دَائِرًا بين اثْنَيْنِ فَزِيدَ ثَالِثٌ وَالزِّيَادَةُ نَسْخٌ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يَنْسَخُ الْكِتَابَ وهو ضَعِيفٌ فإن الحديث وَالْآيَةَ لم يَتَوَارَدَا على مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ في الْآيَةِ في الِاسْتِشْهَادِ وَالْحَدِيثَ في الْحُكْمِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَالِاسْتِشْهَادُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا تَعَلُّقَ لِأَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ كَذَا ذَكَرَهُ ابن الْحَاجِبِ وهو حَسَنٌ لَا يُقَالُ مَفْهُومُ الْآيَةِ يَقْتَضِي الْحَصْرَ وَيَمْنَعُ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا يَمْتَنِعُ اسْتِشْهَادُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَنَحْنُ قَائِلُونَ بِذَلِكَ إذْ يَمْتَنِعُ الْإِرْشَادُ في الِاسْتِشْهَادِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَنَحْنُ قَائِلُونَ بِهِ السَّابِعُ تَقْيِيدُ الرَّقَبَةِ الْمُطْلَقَةِ بِالْأَيْمَانِ مَسْأَلَةٌ النُّقْصَانُ من الْعِبَادَةِ هل هو نَسْخٌ لها لَا خِلَافَ أَنَّ النُّقْصَانَ من الْعِبَادَةِ نَسْخٌ لِمَا أُسْقِطَ منها لِأَنَّهُ كان وَاجِبًا في جُمْلَةِ الْعِبَادَةِ ثُمَّ أُزِيلَ وُجُوبُهُ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى نَسْخِ الْبَاقِي فَيَنْظُرُ فَإِنْ كان مِمَّا لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهَا عليه كَسُنَّةٍ من سُنَنِهَا فَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّهُ ليس بِنَسْخٍ لِلْعِبَادَةِ نَقَلَهُ الْآمِدِيُّ
____________________
(3/223)
وَالرَّازِيَّ لَكِنَّ الْغَزَالِيَّ في كَلَامِهِ ما يُشْعِرُ بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ فيه وَبِهِ صَرَّحَ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وَإِنْ كان مِمَّا يَتَوَقَّفُ عليه صِحَّتُهَا من شَرْطٍ أو غَيْرِهِ فَاخْتَلَفُوا فيه على مَذَاهِبَ أَصَحِّهَا أَنَّهُ ليس بِنَسْخٍ لِلْعِبَادَةِ وَيَكُونُ بِمَثَابَةِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ قال ابن بَرْهَانٍ وهو قَوْلُ عُلَمَائِنَا وقال ابن السَّمْعَانِيِّ إلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ وقال الْأَصْفَهَانِيُّ إنَّهُ الْحَقُّ وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ عن الْكَرْخِيِّ وَقِيلَ نَسْخٌ لها وَحَكَاهُ ابن بَرْهَانٍ وابن السَّمْعَانِيِّ عن الْحَنَفِيَّةِ وَفَصَلَ الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ بين الشَّرْطِ الْمُنْفَصِلِ فَلَا يَكُونُ نَسْخًا لها فَنَسْخُ الْوُضُوءِ لَا يَنْسَخُ الصَّلَاةَ وَبَيْنَ الْجُزْءِ كَالْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ في الصَّلَاةِ كان نَسْخًا لها وَوَافَقَهُ الْغَزَالِيُّ في الْجُزْءِ وَتَرَدَّدَ في الشَّرْطِ وَصَحَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ لِأَنَّ الشَّرْطَ خَارِجٌ عن مَاهِيَّةِ الْمَشْرُوطِ بِخِلَافِ الْجُزْءِ أَمَّا الْمُنْفَصِلُ فَلَا خِلَافَ فيه لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مُنْفَصِلَتَانِ وَقِيلَ بِهِ مُطْلَقًا لِزَوَالِ إجْزَائِهَا بِدُونِهِ وَقِيلَ إنْ كان مِمَّا لَا تُجْزِئُ الْعِبَادَةُ قبل النَّسْخِ إلَّا بِهِ فَيُنْسَخُ سَوَاءٌ الْجَزَاءُ وَالشَّرْطُ وَإِنْ كان مِمَّا تُجْزِئُ الْعِبَادَةُ قبل النَّسْخِ مع عَدَمِهِ كَالْوُقُوفِ عن يَمِينِ الْإِمَامِ وَسَتْرِ الرَّأْسِ فَلَيْسَ بِنَسْخٍ حَكَاهُ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وقال إلْكِيَا الذي يَجِبُ أَنْ يُقَالَ هُنَا نَحْوُ ما سَبَقَ في الزِّيَادَةِ على النَّصِّ وَجَعَلَ الْهِنْدِيُّ الْخِلَافَ في الشَّرْطِ الْمُتَّصِلِ نَحْوِ الِاسْتِقْبَالِ فَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ كَالْوُضُوءِ قال فَإِيرَادُ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فيه وَكَلَامُ غَيْرِهِ يَقْتَضِي إثْبَاتَ الْخِلَافِ في الْكُلِّ قُلْت وَبِالْأَوَّلِ صَرَّحَ صَاحِبُ الْمُسَوَّدَةِ فقال الْخِلَافُ في الْمُتَّصِلِ كَالتَّوَجُّهِ فَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ كَالْوُضُوءِ فَلَا يَكُونُ نَسْخًا لها إجْمَاعًا لَكِنَّ ابْنَ السَّمْعَانِيِّ طَرَدَ الْخِلَافَ في الْكُلِّ فقال صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا لو قَدَّرْنَا نَسْخَ الْوُضُوءِ أو نَسْخَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وفي هذا وَأَمْثَالِهِ يَكُونُ الْكَلَامُ ظَاهِرًا في أَنَّهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِلصَّلَاةِ قال فَأَمَّا في إسْقَاطِ الْجُزْءِ كَالرُّكُوعِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ على ما ذَكَرْنَاهُ فِيمَا إذَا زِيدَتْ رَكْعَةٌ على رَكْعَتَيْنِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ يَجِيءُ هُنَا مَذْهَبُ عبد الْجَبَّارِ من التَّفْصِيلِ بين أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ لِغَيْرِ الْمَزِيدِ عليه أو لَا تَنْبِيهٌ دَعْوَى ابْنِ الْحَاجِّ أَنَّ النَّسْخَ يَرِدُ على الْحُكْمِ لَا على الْعِبَادَةِ نَازَعَ ابن الْحَاجِّ في نُكَتِ الْمُسْتَصْفَى في تَرْجَمَةِ الْمَسْأَلَةِ بِنَسْخِ بَعْضِ الْعِبَادَةِ وقال إنَّمَا نَشَأَ هذا من ظَنِّهِمْ كَوْنَ الْعِبَادَةِ تُنْسَخُ وهو فَاسِدٌ لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَرِدُ على الْخِطَابِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَصْلِ الْعِبَادَةِ لَا على الْعِبَادَةِ كَالْخِطَابِ الْوَارِدِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ تُجْزِئُ ثُمَّ
____________________
(3/224)
يَرِدُ خِطَابٌ آخَرُ بِأَنَّهَا لَا تُجْزِئُ بَلْ يُجْزِئُ بَدَلًا منها رَكْعَتَانِ فَأَمَّا الْعِبَادَةُ فَهِيَ الْمَحِلُّ الْقَابِلُ قال فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ إذَا رَفَعَ الْخِطَابُ الْإِجْزَاءَ عن عِبَادَةِ لها أَجْزَاءٌ وَلَا يُوجِبُهُ لِبَعْضِهَا من حَيْثُ هو بَعْضٌ لها بَلْ أَوْجَبَ الْجَزَاءَ لِمَا هو مُسَاوٍ لِبَعْضِهَا فَقَدْ ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ الشَّارِعَ لم يَرْفَعْ حُكْمَهَا رَأْسًا وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ النَّسْخَ وَارِدٌ على الْحُكْمِ لَا على الْعِبَادَةِ فَيَنْدَفِعُ هذا الْخَيَالُ
____________________
(3/225)
فصل في دلائل النسخ إذا ورد في الشيء الواحد حكمان مختلفان ولم يمكن استعمالهما استدل على نسخ أحدهما بأمور أحدها اقتضاء اللفظ له بأن يعلم تقدم أحد الحكمين على الآخر فيكون المتقدم منسوخا والمتأخر ناسخا قال الماوردي المراد بالتقدم التقدم في التنزيل لا التلاوة فإن العدة بأربعة أشهر سابقة في التلاوة على العدة بالحول مع أنها ناسخة لها واقتضاء اللفظ إما بالتصريح كقوله الآن خفف الله عنكم فإنه يقتضي نسخه لثبات الواحد للعشرة بقوله علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فإنه يقتضي نسخ الإمساك بعد الفطر وقوله أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات الآية فإنه يقتضي نسخ الصدقة عند المناجاة وإما بأن يذكر لفظ يتضمن التنبيه على النسخ كما نسخ الإمساك في البيوت حد الزنى بقوله أو يجعل الله لهن سبيلا فنبه على عدم الاستدامة في الإمساك ولذلك قال خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا وإما بالاستدلال بأن تكون إحدى الآيتين مكية والأخرى مدنية فعلم أن المنزل بالمدينة ناسخ للمنزل بمكة قاله أبو إسحاق المروزي وغيره الثاني بقوله عليه السلام هذا ناسخ أو ما في معناه كقوله كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها الثالث فعل النبي صلى الله عليه وسلم كرجم ماعز ولم يجلده يدل على أن قوله الثيب بالثيب جلد مائة ورجمه بالحجارة منسوخ ذكره ابن السمعاني ثم قال وقد قالوا إن الفعل لا ينسخ القول في قول أكثر الأصوليين وإنما يستدل بالفعل على تقدم النسخ بالقول فيكون القول منسوخا بمثله من القول لكن فعله بين ذلك القول
____________________
(3/226)
الرابع إجماع الصحابة كنسخ رمضان صوم يوم عاشوراء ونسخ الزكاة سائر الحقوق في المال ذكره ابن السمعاني أيضا وكذا حديث من غل صدقته فإنا آخذوها وشطر ماله واتفقت الصحابة على ترك استعمالهم هذا فدل عدولهم عنه على نسخه انتهى وقد نص الشافعي على ذلك أيضا فيما نقله البيهقي في المدخل فقال ولا يستدل على الناسخ والمنسوخ إلا بخبر عن الرسول آخر مؤقت يدل على أن أحدهما بعد الآخر أو بقول من سمع الحديث أو العامة انتهى وجرى عليه أبو إسحاق المروزي في الناسخ من كتابه والشيخ في اللمع وسليم في التقريب والماوردي في الحاوي وقال يكون الإجماع مبينا لا ناسخا وكذا قال القاضي يستدل بالإجماع على أن معه خبرا به وقع النسخ لأن الإجماع لا ينسخ ولم يجعل الصيرفي الإجماع دليلا على تعيين النص للنسخ بل جعله مترددا بين النسخ والغلط فإنه قال في كتابه فإن أجمع على إبطال حكم أحدهما فهو منسوخ أو غلط والأمر ثابت انتهى ومعنى قوله أو غلط أي من جهة بعض رواته كما صرح به القفال الشاشي في كتابه فقال إذا روي حديث والإجماع على خلافه دل على أن الخبر منسوخ أو غلط من الراوي هذا لفظه والتحقيق أن الإجماع لا ينسخ به لأنه لا ينعقد إلا بعد الرسول وبعده يرتفع النسخ وإنما النسخ يرفع بدليل الإجماع وعلى هذا ينزل نص الشافعي والأصحاب الخامس نقل الراوي الصحابي تقدم أحد الحكمين وتأخر الآخر إذ لا مدخل للاجتهاد فيه كما لو روي أن أحدهما شرع بمكة والآخر بالمدينة أو أحدهما عام بدر والآخر عام الفتح فإن وجد مثال هذا فلا بد أن يكون المتأخر ناسخا للمتقدم كقول جابر كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار وكقول أبي بن كعب كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم أمر بالغسل كذا قاله ابن
____________________
(3/227)
السمعاني وغيره وهو واضح إن كان الخبران غير متواترين أما إذا قال في أحد الخبرين المتواترين إنه كان قبل الآخر ففي قوله خلاف وجزم القاضي في التقريب بأنه لا يقبل قوله ونقله الهندي عن الأكثرين لأنه يتضمن نسخ المتواتر بالآحاد وهو غير جائز وقال القاضي عبد الجبار يقبل وإن لم يقبل المظنون في نسخ العلوم إذ الشيء يقبل بطريق الضمن والتبع ولا يقبل بطريق الأصالة كما تقبل شهادة القابلة بالولادة ويتضمن ذلك ثبوت النسب وإن كن لو شهدن بالنسب ابتداء لم يقبل وقال أبو الحسين البصري هذا يقتضي الجواز العقلي في قبوله لا في وقوعه ما لم يثبت أنه يلزم من ثبوت أحد الحكمين ثبوت الآخر والجواز العقلي لا نزاع فيه ثم قال القاضي في التقريب لا فرق في ثبوت النسخ بالمتأخر بين أن يكون الراوي للحديثين واحدا أو اثنين لأنه قد يسمعهما الاثنان في وقتين وكذلك الواحد وشرط ابن السمعاني كون الراوي لهما واحدا قال فإن كان راوي المتقدم غير راوي المتأخر نظر فإن كان المتأخر خبر واحد كان ناسخا للمتقدم وإن كان المتقدم من أخبار المتواتر لم يصر منسوخا بخبر الواحد المتأخر وإن كانا متواترين أو آحادا فالمتأخر ناسخ للمتقدم هذا كله إن أخبر أن هذا متأخر فإن قال هذا ناسخ نظر فإن كان ذكر دليله فواضح قاله ابن السمعاني وقال القاضي لا يثبت به النسخ عند الجمهور ولو ذكر دليله لكن ينظر فيه فإن اقتضى النسخ عمل به وإلا فلا وإن أرسله إرسالا ففيه وجهان حكاهما ابن السمعاني أحدهما يقبل قوله في النسخ ونقله عن الكرخي قلت والذي في المعتمد أن أبا عبد الله البصري حكى عن شيخه أبي الحسن الكرخي أنه إن عينه فقال هذا نسخ لهذا لم يرجع إليه لاحتمال أنه قاله عن اجتهاد وإن لم يعينه بل قال هذا منسوخ قبل وحكى الدبوسي في التقويم هذا التفصيل عن أبي عبد الله البصري ثم قال ومنهم من قال لا فرق بينهما والثاني أنه لا يقبل قوله في النسخ ما لم يذكر دليله لجواز أن يعتقد ما ليس بنسخ نسخا ولأن العلماء مختلفون في أسباب النسخ كالزيادة على النص والنقصان منه وكاعتقاد آخرين أن قوله إذا التقى الختانان منسوخ بقوله إنما الماء من الماء ونحو ذلك ولذلك لم يقبل قول من قال إن مسح الخف نسخ بالكتاب وهذا ما نقله القاضي في التقريب عن الجمهور وقال إنه الصحيح وعلله بما ذكرنا وقال ابن السمعاني إنه أظهر الوجهين وكذا صححه في اللمع وسليم وصرح ابن برهان بأنه المذهب فقال في كتابه الأوسط إذا قال الصحابي
____________________
(3/228)
هذا منسوخ لم يقبل منه عندنا خلافا للحنفية لأن مذاهب الناس في النسخ مختلفة فرب شيء يعتقده ناسخا وليس بناسخ ولأن النسخ إسقاط للحديث بالكلية وجزم به الغزالي في المستصفى وإلكيا في التلويح وعلله بما سبق ثم قال فأما إذا قال الصحابي إن كذا كان حكما ثابتا من قبل وإنه نسخ الآن ولم يذكر ما به نسخ فإن الكرخي كان يتابعه كقول ابن مسعود حين ذكر له في التشهد التحيات الزاكيات قال كان هذا ثم نسخ ونحوه ما روي عن ابن عمر وابن عباس في الرضاع أنهما قالا قد كان التوقيت وأما الآن فلا قال والذي رآه أكثر الأصوليين أنه لا يرجع إلى قول الصحابي في ذلك لأنه إذا كان فيما صرح به بأنه ناسخا للأية أن لا يكون ناسخا لها في الحقيقة وإن اعتقده فغير ممتنع أن يطلق ذلك إطلاقا ولا يذكر ما لأجله النسخ ولو ذكره لكان مما لا ينسخ به قال نعم ولو علم من حاله أنه إنما ذكر أنه منسوخ لأمر لا يلتبس وجب الرجوع إلى قوله قال وهذا قريب من مخالفة الراوي مضمون الحديث الذي رواه انتهى وهذا تفصيل حسن وفصل بعض المتأخرين من الحنابلة بين أن يكون هناك نص آخر يخالف ما ادعى نسخه فإنه يقبل قوله لأن الظاهر أن ذلك النص الناسخ ويكون حاصل الصحابي الإعلام بالمتقدم والمتأخر وقوله يقبل في ذلك قال ونقل القاضي أبو يعلى عن أحمد أنه أومأ إلى أن الصحابي إذا قال هذه الآية منسوخة لم يصر إلى قوله حتى يبين الناسخ وقال عبد الوهاب في الملخص إذا قال الصحابي هذا منسوخ فقيل يقبل مطلقا وقيل بالمنع وقيل إن أطلق قبل وإن أضافه إلى ناسخ زعم أنه الذي نسخه نظر فيه فإن كان مما يوجب النسخ حكم به وإلا فلا قال ولست أحفظ في هذا عن أصحابنا شيئا ولكن عندي إن كان في معنى النسخ وصفته وليس فيه خلاف بين الصحابة فالواجب أن يخرج فيه قولان وإن لم يكن بينهم خلاف في صفة النسخ وشروطه وجب قبوله انتهى وأطلق الأستاذ أبو منصور النسخ بقول الصحابي وكذا القاضي أبو الطيب في مسألة قول الراوي أمرنا وجرى عليه المحدثون ومنهم ابن الصلاح وهو ظاهر نص الشافعي السابق ذكره في الإجماع وقد احتج أصحابنا بقول عائشة في الرضعات إن العشر منها نسخن بالخمس واحتجوا على أن قوله تعالى لا يحل لك النساء من بعد
____________________
(3/229)
منسوخ بقوله إنا أحللنا لك لأجل قول عائشة ما مات الرسول حتى أحل الله له النساء اللاتي حظرن عليه لكن أجاب القاضي عن هذا بأنهم لم ينسخوا بقول عائشة بل بحجتها في النسخ فلأجل الآية والتأول لها قالوا وقالت ذلك ووراء ذلك أمور أحدها أن يقول الصحابي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخت عنكم كذا قال القاضي ويجب قبوله إذا كان المنسوخ من غير الآحاد فإن كان مما يوجب العلم لم يرفع مثل هذا إلا أن ينضم ما يوجب القطع الثاني هذا كله إذا صرح بالنسخ قياسا وأما إذا قال قولا يخالف الحديث فلا يقتضي نسخ النص سواء انتشر أم لا قاله القاضي أيضا قال ومن جعل قوله حجة إذا انتشر ولم يحفظ له مخالف ترك به حكم النص وتبين عنده أنه منسوخ لأنه إجماع الثالث إذا كان راوي أحدهما متقدم الصحبة والآخر متأخرا فقسمه ابن السمعاني إلى قسمين أحدهما أن تنقطع صحبة الأول عند صحبة الثاني فيكون الحكم الذي رواه المتأخر ناسخا للذي رواه الأول كرواية قيس بن طلق وأبي هريرة في مس الذكر والثاني أن لا تنقطع صحبة المتقدم عند صحبة المتأخر فلا تكون رواية المتأخر الصحبة ناسخة لرواية المتقدم لجواز أن يكون المتقدم راويا لما تأخر كما لا يجوز أن يكون راويا لما تقدم وإثبات النسخ بمجرد الاحتمال ممتنع كرواية ابن عباس وابن مسعود في التشهد فلا تكون رواية ابن عباس ناسخة لرواية ابن مسعود ولكن يطلب الترجيح من خارج ا هـ والقسم الأول ذكره إلكيا وصاحب المصادر ومثلا به وجزما به لكن القاضي خالفهم
____________________
(3/230)
قال في المصادر وشرط الشريف المرتضى في ذلك أن يكون الذي صحبه آخرا لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئا قبل صحبته له لأنه لا يمتنع أن يراه أولا ويسمع منه وهو مصاحب له ثم رآه ثانيا ويختص به والقسم الثاني ذكره الشيخ في اللمع وجزم بعدم النسخ وكذا الهندي قال ومن هذا يعلم أنه لا يثبت النسخ بكون راوي أحد الخبرين من أحداث الصحابة أو يكون إسلامه متأخرا عن إسلام راوي الآخر وبذلك صرح القاضي في التقريب وأطلق الأستاذ أبو منصور وابن برهان أن رواية المتأخر صحبة ناسخة لرواية المتقدم الرابع أن يكون الراوي لأحدهما أسلم بعد موت الآخر أو بعد قصته وفيه احتمالان للشيخ في اللمع وجزم سليم في صورة الموت بأن رواية المتأخر ناسخة الخامس معرفة التاريخ للواقعتين كحديث شداد بن أوس أنه قال أفطر الحاجم والمحجوم قال الشاشي هو منسوخ بحديث ابن عباس احتجم وهو محرم صائم أخرجه مسلم فإن ابن عباس إنما صحبه محرما في حجة الوداع سنة عشر وفي بعض طرق حديث شداد أن ذلك كان في زمن الفتح وذلك سنة ثمان السادس كون أحد الحكمين شرعيا والآخر موافقا للعادة فيكون الشرعي ناسخا للمعتاد كخبر مس الفرج ذكره الأستاذ أبو منصور وغيره ومنعه القاضي والغزالي لأنه يجوز ورود الشرع بتقرير الوصف ثم يرد نسخه ورده إلى ما كان في العقل فإن الموافق للعقل لم يرد بعد نقل حكمه وقال الماوردي في الحاوي دلائل النسخ يقدم أحدها على الآخر فإن جهل عدل إلى الثاني وهو بيان الرسول فإن ثبت عنه عمل به وكانت السنة مبينة لا ناسخة فإن عدم عدل إلى الثالث وهو الإجماع فإن فقد عدل إلى الرابع وهو
____________________
(3/231)
الاستعمال فإذا كان أحدهما مستعملا والآخر متروكا كان المستعمل ناسخا والمتروك منسوخا فإن فقد عدل إلى الخامس وهو الترجيح بشواهد الأصول والأدلة وكان غاية العمل به وما ذكره في الرابع ينازعه قول الصيرفي إذا وجد حكمان متماثلان وأحدهما منسوخ لم يحكم بأن السابق منهما نسخ بالآخر وذلك كصوم عاشوراء مع صوم رمضان جاء أنه لما نزل فرض رمضان نسخ صوم عاشوراء فنقول اتفق نسخه عند ثبوت فرض رمضان لا أنه نسخه لأنه غير مناف له وحكاه سليم أيضا مَسْأَلَةٌ إذَا لم يُعْلَمْ النَّاسِخُ من الْمَنْسُوخِ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ قال ابن الْحَاجِبِ فَالْوَجْهُ التَّوَقُّفُ إلَى التَّبَيُّنِ بِهِ وَلَا يُتَخَيَّرُ وقال الْآمِدِيُّ إنْ عُلِمَ اقْتِرَانُهُمَا مع تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَعِنْدِي أَنَّ ذلك غَيْرُ مُتَصَوَّرِ الْوُقُوعِ وَإِنْ جَوَّزَهُ قَوْمٌ وَبِتَقْدِيرِ وُقُوعِهِ فَالْوَاجِبُ إمَّا الْوُقُوفُ عن الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا أو التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا إنْ أَمْكَنَ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا لم يُعْلَمْ شَيْءٌ من ذلك وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَهُمْ يَشْمَلُ ما إذَا عُلِمَ اقْتِرَانُهُمَا وَذَلِكَ لَا يَقَعُ وما إذَا لم يُعْلَمْ الْحَالُ أو عُلِمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا مُتَأَخِّرٌ وَلَكِنْ لم تُعْرَفْ عَيْنُهُ وما إذَا عُلِمَ الْمُتَأَخِّرُ ثُمَّ نُسِيَ وقد ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ هذه الْأَقْسَامَ في الْجُمُعَتَيْنِ وَالنِّكَاحِ وَعَقْدِ الْأَمَانِ لِاثْنَيْنِ وَمَوْتِ جَمَاعَةٍ من الْأَقَارِبِ بِهَدْمٍ أو غَرَقٍ فَأَمَّا إذَا عُلِمَ عَيْنُ الْمُتَقَدِّمِ من الْمُتَأَخِّرِ ثُمَّ نُسِيَ فَلَا وَجْهَ لِلتَّخْيِيرِ بَلْ يَتَعَيَّنُ الْوَقْفُ خَاتِمَةٌ أُمُورٌ لَا يَثْبُتُ بها النَّسْخُ لَا يَثْبُتُ النَّسْخُ بِالتَّرْتِيبِ في الْمُصْحَفِ وقد سَبَقَ وَلَا بِكَوْنِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ أَخَفَّ من الْآخَرِ خِلَافًا لِلْقَائِلَيْنِ بِأَنَّهُ لَا يُنْسَخُ الشَّيْءُ إلَّا بِمَا هو أَخَفُّ منه فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ ذلك من أَدِلَّةِ النَّسْخِ وَأَنَّ الْأَخَفَّ هو النَّاسِخُ وَالْأَغْلَظَ هو الْمَنْسُوخُ حَكَاهُ أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَلَا بِكَوْنِ أَحَدِهِمَا يُوَافِقُ الْحَظْرَ وَالْآخَرِ الْإِبَاحَةَ خِلَافًا لِلْقَائِلَيْنِ بِأَنَّ أَصْلَ الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ النَّاسِخَ ما يَقْتَضِي الْحَظْرَ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ من الْحَظْرِ إلَى الْإِبَاحَةِ يُعَيِّنُ الْعَوْدَ إلَى الْإِبَاحَةِ ثَانِيًا فَجُعِلَتْ الْآيَةُ الْمُبِيحَةُ تَأْكِيدًا لِمَا قَبْلَهَا من الْإِبَاحَةِ
____________________
(3/232)
وَالْآيَةُ التي فيها الْحَظْرُ نَاقِلَةً عَمَّا كان عليه من الْإِبَاحَةِ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ على الْحَظْرِ حتى يَأْتِيَ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ فإنه يَجْعَلُ آيَةَ الْإِبَاحَةِ نَاسِخَةً وَيَجْعَلُ التي فيها الْحَظْرُ مُؤَكِّدَةً لِمَا كان عليه من الْحَظْرِ قال أبو إِسْحَاقَ وَهَذَا خِلَافُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَلَيْسَتْ الْأَشْيَاءُ عِنْدَهُ على الْحَظْرِ وَلَا على الْإِبَاحَةِ بَلْ هِيَ على ما شَرَعَ اللَّهُ فَلَا بُدَّ من دَلِيلٍ على النَّسْخِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
____________________
(3/233)
الْكِتَابُ الثَّانِي مباحث السنة
____________________
(3/235)
مَبَاحِثُ السُّنَّةِ تَعْرِيفُ السُّنَّةِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا السُّنَّةُ لُغَةً الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ وَأَصْلُهَا من قَوْلِهِمْ سَنَنْت الشَّيْءَ بِالْمِسَنِّ إذَا أَمْرَرْته عليه حتى يُؤَثِّرَ فيه سُنَنًا أَيْ طَرَائِقَ وقال إلْكِيَا مَعْنَاهَا الدَّوَامُ فَقَوْلُنَا سُنَّةٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِإِدَامَتِهِ من قَوْلِهِمْ سَنَنْت الْمَاءَ إذَا وَالَيْت في صَبِّهِ قال الْخَطَّابِيُّ أَصْلُهَا الطَّرِيقَةُ الْمَحْمُودَةُ فإذا أُطْلِقَتْ انْصَرَفَتْ إلَيْهَا وقد تُسْتَعْمَلُ في غَيْرِهِ مُقَيَّدَةً كَقَوْلِهِمْ من سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً وَتُطْلَقُ على الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ في عُرْفِ اللُّغَوِيِّينَ وَالْمُحَدِّثِينَ وَأَمَّا في عُرْفِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّمَا يُطْلِقُونَهَا على ما ليس بِوَاجِبٍ وَأَطْلَقَهَا بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ هُنَا على الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ وَتُطْلَقُ في مُقَابَلَةِ الْبِدْعَةِ كَقَوْلِهِمْ فُلَانٌ من أَهْلِ السُّنَّةِ قال ابن فَارِسٍ في فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ وَكَرِهَ الْعُلَمَاءُ قَوْلَ من قال سُنَّةُ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَإِنَّمَا يُقَالُ فَرْضُ اللَّهِ وَسُنَّتُهُ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وقال الدَّبُوسِيُّ ذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ السُّنَّةَ الْمُطْلَقَةَ عِنْدَ صَاحِبِنَا تَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ الرَّسُولِ وَأَنَّهُ على مَذْهَبِهِ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ لَا يَرَى اتِّبَاعَ الصَّحَابِيِّ إلَّا بِحُجَّةٍ كما لَا يُتَّبَعُ من بَعْدَهُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَيُحْتَمَلُ لِأَنَّهُ لم يَبْلُغْهُ اسْتِعْمَالُ السَّلَفِ إطْلَاقَ السُّنَّةِ على طَرَائِقِ الْعُمَرَيْنِ وَالصَّحَابَةِ وَأَمَّا في الِاصْطِلَاحِ فَتُطْلَقُ على ما تَرَجَّحَ جَانِبُ وُجُودِهِ على جَانِبِ عَدَمِهِ تَرْجِيحًا ليس معه الْمَنْعُ من النَّقِيضِ وَتُطْلَقُ وهو الْمُرَادُ هُنَا على ما صَدَرَ من الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم من الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالتَّقْرِيرِ وَالْهَمِّ وَهَذَا الْأَخِيرُ لم يَذْكُرْهُ الْأُصُولِيُّونَ وَلَكِنْ اسْتَعْمَلَهُ الشَّافِعِيُّ في الِاسْتِدْلَالِ مَسْأَلَةٌ السُّنَّةُ الْمُسْتَقِلَّةُ بِتَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ وَلِهَذَا لم يُفْرِدْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ السُّنَّةَ عن الْكِتَابِ وقال كُلُّ ما يَقُولُهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عن قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فلم يَكُنْ لِذِكْرِ فَصْلٍ بين الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعْنًى وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ على أَنَّ السُّنَّةَ مُنَزَّلَةٌ كَالْقُرْآنِ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَاذْكُرْنَ ما يُتْلَى في بُيُوتِكُنَّ
____________________
(3/236)
من آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ فذكر السُّنَّةَ بِلَفْظِ التِّلَاوَةِ كَالْقُرْآنِ وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ آتَاهُ مع الْكِتَابِ غير الْكِتَابِ وهو ما سَنَّهُ على لِسَانِهِ مِمَّا لم يَذْكُرْهُ فيه وَلِهَذَا قال صلى اللَّهُ عليه وسلم أَلَا إنِّي قد أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ معه رَوَاهُ أبو دَاوُد وفي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّهُ قال دخل يوم خَيْبَرَ لَمَّا حَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ قال الْحَافِظُ الدَّارِمِيُّ يقول أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَأُوتِيتُ مثله من السُّنَنِ التي لم يَنْطِقْ بها الْقُرْآنُ بِنَصِّهِ وما هِيَ إلَّا مُفَسِّرَةٌ لِإِرَادَةِ اللَّهِ بِهِ كَتَحْرِيمِ لَحْمِ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَكُلِّ ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ وَلَيْسَا بِمَنْصُوصَيْنِ في الْكِتَابِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ من طَرِيقِ ثَوْبَانَ في الْأَمْرِ بِعَرْضِ الْأَحَادِيثِ على الْقُرْآنِ فقال الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ ما رَوَاهُ أَحَدٌ ثَبَتَ حَدِيثُهُ في شَيْءٍ صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ وقد حَكَمَ إمَامُ الحديث يحيى بن مَعِينٍ بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ وَضَعَتْهُ الزَّنَادِقَةُ قال ابن عبد الْبَرِّ في كِتَابِ جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ قال عبد الرحمن بن مَهْدِيٍّ الزَّنَادِقَةُ وَالْخَوَارِجُ وَضَعُوا حَدِيثَ ما أَتَاكُمْ عَنِيفًا عَرِّضُوهُ على كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَأَنَا قُلْته وَإِنْ خَالَفَ فلم أَقُلْهُ قال الْحَافِظُ وَهَذَا لَا يَصِحُّ وقد عَارَضَهُ قَوْمٌ وَقَالُوا نَحْنُ نَعْرِضُهُ على كِتَابِ اللَّهِ فَوَجَدْنَاهُ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ لِأَنَّا لم نَجِدْ فيه لَا يُقْبَلُ من الحديث إلَّا ما وَافَقَ الْكِتَابَ بَلْ وَجَدْنَا فيه الْأَمْرَ بِطَاعَتِهِ وَتَحْذِيرَ الْمُخَالَفَةِ عن أَمْرِهِ حَكَمَ على كل حَالٍ انْتَهَى وقال ابن حِبَّانَ في صَحِيحِهِ في قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً فيه دَلَالَةٌ على أَنَّ السُّنَّةَ يُقَالُ فيها آيٌ وقال الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ في بَابِ فَرْضِ طَاعَةِ الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال تَعَالَى من يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَكُلُّ فَرِيضَةٍ فَرَضَهَا اللَّهُ تَعَالَى في كِتَابِهِ كَالْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لَوْلَا بَيَانُ الرَّسُولِ ما كنا نَعْرِفُ كَيْفَ نَأْتِيهَا وَلَا كان يُمْكِنُنَا أَدَاءُ شَيْءٍ من الْعِبَادَاتِ وإذا كان الرَّسُولُ من الشَّرِيعَةِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ
____________________
(3/237)
كانت طَاعَتُهُ على الْحَقِيقَةِ طَاعَةً لِلَّهِ مَسْأَلَةٌ السُّنَنُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ قال الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بين أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ سُنَنَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم تَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فيه نَصَّ كِتَابٍ فَبَيَّنَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مِثْلَ نَصِّ الْكِتَابِ وَالثَّانِي ما أَنْزَلَ اللَّهُ فيه جُمْلَةَ كِتَابٍ فَبَيَّنَ عن اللَّهِ ما أَرَادَ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ لم يَخْتَلِفُوا فِيهِمَا وَالثَّالِثُ ما سَنَّ الرَّسُولُ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَيْسَ فيه نَصُّ كِتَابٍ وَاخْتَلَفُوا فيه فَمِنْهُمْ من قال جَعَلَ اللَّهُ له بِمَا فَرَضَ من طَاعَتِهِ وَسَبَقَ في عِلْمِهِ من تَوْفِيقِهِ لِرِضَاهُ أَنْ يَسُنَّ فِيمَا ليس فيه نَصُّ كِتَابٍ وَمِنْهُمْ من قال لم يَسُنَّ سُنَّةً قَطُّ إلَّا وَلَهَا أَصْلٌ في الْكِتَابِ وَمِنْهُمْ من قال بَلْ جَاءَتْهُ رِسَالَةُ اللَّهِ فَأَثْبَتَ سُنَّتَهُ بِفَرْضِ اللَّهِ وَمِنْهُمْ من قال أُلْقِيَ في رُوعِهِ كما سَنَّ انْتَهَى وَبِالْقَوْلِ الثَّانِي جَزَمَ أبو الْحَكَمِ بن بُرْجَانَ وَبَنَى عليه كِتَابَهُ الْمُسَمَّى بِالْإِرْشَادِ وَبَيَّنَ كَثِيرًا من ذلك مُفَصَّلًا وقال كُلُّ حَدِيثٍ فَفِي الْقُرْآنِ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ تَعْرِيضًا أو تَصْرِيحًا وما قال مُنْشِئٌ فَهُوَ في الْقُرْآنِ أو فيه أَصْلُهُ قَرُبَ أو بَعُدَ فَهِمَهُ من فَهِمَهُ وَعَمِهَ عنه من عَمِهَ قال تَعَالَى ما فَرَّطْنَا في الْكِتَابِ من شَيْءٍ أَلَا يُسْمَعَ إلَى قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَقَضَى بِالرَّجْمِ وَلَيْسَ هو نَصًّا في كِتَابِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَعْرِيضٌ مُجْمَلٌ في قَوْلِهِ وَيَدْرَأُ عنها الْعَذَابَ وَأَمَّا تَعْيِينُ الرَّجْمِ من عُمُومِ ذلك الْعَذَابِ وَتَفْسِيرُ هذا الْمُجْمَلِ فَهُوَ مُبَيَّنٌ بِحُكْمِ الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فيه وَبِأَمْرِهِ بِهِ
____________________
(3/238)
وَمَوْجُودٌ في عُمُومِ قَوْلِهِ وما آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهَاكُمْ عنه فَانْتَهُوا وَقَوْلُهُ من يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَهَكَذَا جَمِيعُ قَضَائِهِ وَحُكْمِهِ وَإِنَّمَا يُدْرِكُ الطَّالِبُ من ذلك بِقَدْرِ اجْتِهَادِهِ وَبَذْلِ وُسْعِهِ وَيَبْلُغُ منه الرَّاغِبُ فيه حَيْثُ بَلَّغَهُ رَبُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِأَنَّهُ وَاهِبُ النِّعَمِ قال وقد نَبَّهَنَا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم على هذا الْمَطْلَبِ بِمَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ من خِطَابِهِ منها قَوْلُهُ عن الْجَنَّةِ فيها ما لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ بَلْهَ ما أَطْلَعَكُمْ اللَّهُ عليه ثُمَّ قال اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لهم من قُرَّةِ أَعْيُنٍ وَحَدِيثُهُ الْآخَرُ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له فَمَنْ كان من أَهْلِ السَّعَادَةِ فَهُوَ يَعْمَلُ لها وَمَنْ كان من أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَهُوَ يَعْمَلُ لها ثُمَّ قَرَأَ فَأَمَّا من أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا من بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى وَمِنْهَا قَوْلُهُ إنَّ في الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا ثُمَّ قال اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ فَأَعْلَمَ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِمَوَاضِعِ حَدِيثِهِ من الْقُرْآنِ وَنَبَّهَهُمْ على مِصْدَاقِ خِطَابِهِ من الْكِتَابِ لِيَسْتَخْرِجَ عُلَمَاءُ أُمَّتِهِ مَعَانِيَ حَدِيثِهِ منه طَلَبًا لِلْيَقِينِ وَحِرْصًا منه عليه السَّلَامُ على أَنْ يُزِيلَ عَنْهُمْ الِارْتِيَابَ وَأَنْ يَرْتَقُوا في الْأَسْبَابِ مَسْأَلَةٌ حَاجَةُ الْكِتَابِ إلَى السُّنَّةِ قال الْأَوْزَاعِيُّ الْكِتَابُ أَحْوَجُ إلَى السُّنَّةِ من السُّنَّةِ إلَى الْكِتَابِ قال أبو عُمَرَ يُرِيدُ أنها تَقْضِي عليه وَتُبَيِّنُ الْمُرَادَ منه وقال يحيى بن أبي كَثِيرٍ السُّنَّةُ قَاضِيَةٌ على الْكِتَابِ وقال الْفَضْلُ بن زِيَادٍ سَمِعْت أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ وقد سُئِلَ عن الحديث الذي رُوِيَ أَنَّ السُّنَّةَ قَاضِيَةٌ على الْكِتَابِ فقال ما أَجْسُرُ على هذا أَنْ أَقُولَهُ وَلَكِنْ أَقُولُ إنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ الْكِتَابَ وَتُبَيِّنُهُ
____________________
(3/239)
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ الْأَقْوَالُ وَالْمُرَادُ بها التي لَا على وَجْهِ الْإِعْجَازِ وَيَنْقَسِمُ إلَى نَصٍّ وَظَاهِرٍ مُجْمَلٍ وَغَيْرِهِ وقد سَبَقَتْ مَبَاحِثُ الْأَقْوَالِ بِأَقْسَامِهَا من الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَالْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ قال الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ في كِتَابِ فَهْمِ السُّنَنِ وَهَذَا الْقِسْمُ على وُجُوهٍ شَتَّى فَمِنْهَا ما يَبْتَدِئُ ثَمَّ بِتَعْلِيمِ عَامَّتِهِمْ أو بَعْضِهِمْ وَمِنْهَا ما يَسْأَلُهُ بَعْضُهُمْ عنه فَيُخْبِرُهُمْ وَمِنْهَا ما يَكُونُ من بَعْضِهِمْ السَّبَبُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ لِيُعْلِمَهُ بِسَبَبِهِ فَيُبَيِّنُهُ في ذلك تَبْيِينًا له أو يَنْهَى عنه كما كَانُوا يُصَلُّونَ ما سَبَقَهُمْ بِهِ من الصَّلَاةِ ثُمَّ يَدْخُلُونَ معه في الصَّلَاةِ فَجَاءَ مُعَاذٌ فَدَخَلَ معه في الصَّلَاةِ ولم يَبْدَأْ بِمَا سُبِقَ ثُمَّ قَضَى ما سُبِقَ بِهِ لَمَّا سَلَّمَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ مُعَاذًا قد سَنَّ لَكُمْ فَافْعَلُوا ذلك رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عن عَمْرِو بن مُرَّةَ عن عبد الرحمن بن أبي لَيْلَى عن مُعَاذٍ وَمِنْهَا ما يُحْتَكَمُ فيه إلَيْهِ فَيَقْضِي بين بَعْضِهِمْ بِذَلِكَ إيضَاحًا لِمَا أَحَبَّ اللَّهُ وَتَعْلِيمًا لهم وَذَلِكَ كَتَعْلِيمِهِ الصَّلَاةَ لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ وَتَعْلِيمِهِ التَّشَهُّدَ كما يُعَلِّمُ السُّورَةَ من الْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذلك
____________________
(3/240)
الْقِسْمُ الثَّانِي الْأَفْعَالُ وَعَادَتُهُمْ يُقَدِّمُونَ عليها الْكَلَامَ على الْعِصْمَةِ لِأَجْلِ أَنَّهُ يَنْبَنِي عليها وُجُوبُ التَّأَسِّي بِأَفْعَالِهِ عِصْمَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْكَلَامُ قبل النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا أَمَّا قبل النُّبُوَّةِ فقال الْمَازِرِيُّ لَا تُشْتَرَطُ الْعِصْمَةُ وَلَكِنْ لم يَرِدْ في السَّمْعِ وُقُوعُهَا وقال الْقَاضِي عِيَاضٌ الصَّوَابُ عِصْمَتُهُمْ قبل النُّبُوَّةِ من الْجَهْلِ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَالتَّشْكِيكِ في شَيْءٍ من ذلك وقد تَعَاضَدَتْ الْأَخْبَارُ عن الْأَنْبِيَاءِ بِتَبْرِئَتِهِمْ عن هذه النَّقِيصَةِ مُنْذُ وُلِدُوا وَنَشْأَتِهِمْ على التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ وَنَقَلَ ابن الْحَاجِبِ عن الْأَكْثَرِينَ عَدَمَ امْتِنَاعِهَا عَقْلًا وَأَنَّ الرَّوَافِضَ ذَهَبُوا إلَى امْتِنَاعِهَا وَنَقَلَهُ غَيْرُهُ عن الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّ ذلك يُوجِبُ هَضْمَهُ وَاحْتِقَارَهُ وهو خِلَافُ الْحِكْمَةِ وَالْأَصَحُّ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَمِنْهُمْ الْقَاضِي لِأَنَّ السَّمْعَ لَا دَلَالَةَ له على الْعِصْمَةِ قبل الْبَعْثَةِ وَأَمَّا دَلَالَةُ الْعَقْلِ فَمَبْنِيَّةٌ على فَاسِدِ أَصْلِهِمْ في التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ وَوُجُوبِ رِعَايَةِ الْأَصْلَحِ وَالْمَصْلَحَةِ وَأَمَّا بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَالْإِرْسَالِ بِالْمُعْجِزَةِ فَقَدْ دَلَّتْ الْمُعْجِزَةُ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً على صِدْقِهِ وَهَلْ دَلَالَتُهَا عَقْلِيَّةٌ أو عَادِيَةٌ خِلَافٌ سَبَقَ في أَوَّلِ الْكِتَابِ فَكُلُّ أَمْرٍ يُنَافِي دَلَالَتَهَا فَهُوَ على الْأَنْبِيَاءِ مُحَالٌ عَقْلًا وَالْكَلَامُ في الْعِصْمَةِ يَرْجِعُ إلَى أُمُورٍ أَحَدُهَا في الِاعْتِقَادِ وَلَا خِلَافَ بين الْأُمَّةِ في وُجُوبِ عِصْمَتِهِمْ عَمَّا يُنَاقِضُ مَدْلُولَ الْمُعْجِزَةِ وهو الْجَهْلُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالْكُفْرُ بِهِ وَثَانِيهَا أَمْرُ التَّبْلِيغِ وقد اتَّفَقُوا على اسْتِحَالَةِ الْكَذِبِ وَالْخَطَأِ فيه وَثَالِثُهَا في الْأَحْكَامِ وَالْفَتْوَى وَالْإِجْمَاعُ على عِصْمَتِهِمْ فيها وَلَوْ في حَالِ الْغَضَبِ بَلْ يُسْتَدَلُّ بِشِدَّةِ غَضَبِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم على تَحْرِيمِ ذلك الشَّيْءِ
____________________
(3/241)
وَرَابِعُهَا في أَفْعَالِهِمْ وَسِيَرِهِمْ فَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَحَكَى الْقَاضِي إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا على عِصْمَتِهِمْ فيها وَيَلْحَقُ بها ما يُزْرِي بِمَنَاصِبِهِمْ كَرَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ وَالدَّنَاءَاتِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في الطَّرِيقِ هل هو الشَّرْعُ أو الْعَقْلُ فقالت الْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ أَئِمَّتِنَا يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهَا منهم عَقْلًا لِأَنَّهَا مُنَفِّرَةٌ عن الِاتِّبَاعِ وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ عن طَبَقَاتِ الْخَلْقِ قال وَإِلَيْهِ مَصِيرُ جَمَاهِيرِ أَئِمَّتِنَا وقال ابن فُورَكٍ إنَّ ذلك مُمْتَنِعٌ من مُقْتَضَى الْمُعْجِزَةِ وقال الْقَاضِي عِيَاضٌ إنَّهَا مُمْتَنِعَةٌ سَمْعًا وَالْإِجْمَاعُ دَلَّ عليه وَلَوْ رَدَدْنَا إلَى الْعَقْلِ فَلَيْسَ فيه ما يُحِيلُهَا وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا وابن بَرْهَانٍ وقال ابن الْقُشَيْرِيّ إنَّهُ الْمُسْتَقِيمُ على أُصُولِنَا وقال الْمُقْتَرِحُ إنَّهُ الصَّوَابُ لِأَنَّهُ ليس في الْعَقْلِ ما يُحِيلُهُ وَجَعَلَ الْهِنْدِيُّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا لم يُسْنِدْهُ إلَى الْمُعْجِزَةِ في التَّحَدِّي فَإِنْ أَسْنَدَهُ إلَيْهَا كان امْتِنَاعُهُ عَقْلًا الْعِصْمَةُ من الصَّغَائِرِ وَأَمَّا الصَّغَائِرُ التي لَا تُزْرِي بِالْمَنَاصِبِ وَلَا تَقْدَحُ في فَاعِلِهَا فَفِي جَوَازِهَا خِلَافٌ من حَيْثُ السَّمْعُ مَبْنِيٌّ أَوَّلًا على ثُبُوتِ الصَّغِيرَةِ في نَفْسِهَا فَمَنْ نَفَاهَا كَالْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ من حَيْثُ النَّظَرُ إلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ الْآمِرِ فَلَا تَجُوزُ عِنْدَهُ عليهم وَالْعَجَبُ أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ في الْإِرْشَادِ وَافَقَ الْأُسْتَاذَ على مَنْعِ تَصَوُّرِ الصَّغَائِرِ في الذُّنُوبِ وَخَالَفَهُ هُنَا وَالصَّحِيحُ تَصَوُّرُهَا وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهِ هل تَجُوزُ عليهم وإذا جَازَتْ فَهَلْ وَقَعَتْ منهم أَمْ لَا وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَإِلْكِيَا عن الْأَكْثَرِينَ الْجَوَازَ عَقْلًا قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَأَمَّا السَّمَاعُ فَأَبَاهُ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالصَّحِيحُ صِحَّةُ وُقُوعِهَا منهم وَتُتَدَارَكُ بِالتَّوْبَةِ ا هـ وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ عن الْأَكْثَرِينَ عَدَمَ الْوُقُوعِ قال وَأَوَّلُوا تِلْكَ الْآيَاتِ وَحَمَلُوهَا على ما قبل النُّبُوَّةِ وَعَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الذي ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُحَصِّلُونَ أَنَّهُ ليس في الشَّرْعِ قَاطِعٌ في ذلك نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَالظَّوَاهِرُ مُشْعِرَةٌ بِالْوُقُوعِ وَنَسَبَ الْإِبْيَارِيُّ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ الْوُقُوعَ في الْجُمْلَةِ وَالْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ قالوا لَا يُقَرُّونَ عليه وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ تَجْوِيزَ الصَّغَائِرِ وَوُقُوعَهَا عن جَمَاعَةٍ من السَّلَفِ وَمِنْهُمْ أبو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ وَجَمَاعَةٍ من الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وقال في الْإِكْمَالِ إنَّهُ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَلَا بُدَّ من تَنْبِيهِهِمْ عليه إمَّا في الْحَالِ على رَأْيِ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ أو قبل وَفَاتِهِمْ على رَأْيِ بَعْضِهِمْ وَالْمُخْتَارُ امْتِنَاعُ ذلك عليهم وَأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ من الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ جميعا وَعَلَيْهِ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وأبو بَكْرِ بن مُجَاهِدٍ وابن فُورَكٍ كما نَقَلَهُ
____________________
(3/242)
عنهما ابن حَزْمٍ في كِتَابِهِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وقال إنَّهُ الذي نَدِينُ اللَّهَ بِهِ وَاخْتَارَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ وَنَقَلَهُ في الْوَجِيزِ عن اتِّفَاقِ الْمُحَقِّقِينَ وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ في زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ عن الْمُحَقِّقِينَ وقال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في أَوَّلِ الشَّهَادَاتِ من تَعْلِيقِهِ إنَّهُ الصَّحِيحُ من مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا وَإِنْ وَرَدَ فيه شَيْءٌ من الْخَبَرِ حُمِلَ على تَرْكِ الْأَوْلَى وقال الْقَاضِي عِيَاضٌ على ما قبل النُّبُوَّةِ أو فَعَلُوهُ بِتَأْوِيلٍ وهو قَوْلُ أبي الْفَتْحِ الشِّهْرِسْتَانِيّ وَالْقَاضِي عِيَاضٍ وَالْقَاضِي أبي مُحَمَّدٍ بن عَطِيَّةَ الْمُفَسِّرِ فقال عِنْدَ قَوْله تَعَالَى وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ الذي أَقُولُ بِهِ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ من الْجَمِيعِ وَأَنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ إنِّي لَأَتُوبُ في الْيَوْمِ وَأَسْتَغْفِرُ سَبْعِينَ مَرَّةً إنَّمَا هو رُجُوعُهُ من حَالَةٍ إلَى أَرْفَعَ منها لِمَزِيدِ عُلُومِهِ وَاطِّلَاعِهِ على أَمْرِ اللَّهِ فَهُوَ يَتُوبُ من الْمَنْزِلَةِ الْأُولَى إلَى الْأُخْرَى وَالتَّوْبَةُ هُنَا لُغَوِيَّةٌ وَاخْتَارَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الْعِصْمَةَ منها عَمْدًا وَجَوَّزَهَا سَهْوًا وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عن بَعْضِ أَئِمَّتِهِمْ أَنَّهُ على الْقَوْلَيْنِ تَجُبُّ الْعِصْمَةُ من تَكْرَارِ الصَّغَائِرِ لِالْتِحَاقِهَا حِينَئِذٍ بِالْكَبَائِرِ وَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ على الْعِصْمَةِ عن الصَّغِيرَةِ الْمُفْضِيَةِ لِلْخِسَّةِ وَسُقُوطِ الْمُرُوءَةِ وَالْحِشْمَةِ قال بَلْ الْمُبَاحُ إذَا أَدَّى إلَى ذلك كان مَعْصُومًا منه وَنُقِلَ عن بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَوْجَبَ الْعِصْمَةَ عِنْدَ قَصْدِ الْمَكْرُوهِ مَعْنَى الْعِصْمَةِ ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِالْعِصْمَةِ اخْتَلَفُوا في مَعْنَاهَا فَقِيلَ الْمَعْصُومُ من لَا يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِالْمَعَاصِي وَقِيلَ يُمْكِنُهُ ثُمَّ الْأَوَّلُونَ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ إنَّهُ يَخْتَصُّ في نَفْسِهِ أو بَدَنِهِ بِخَاصِّيَّةٍ تَقْتَضِي امْتِنَاعَ إقْدَامِهِ عليها وَقِيلَ هو مُسَاوٍ لِغَيْرِهِ في خَوَاصِّ بَدَنِهِ وَلَكِنْ فَسَّرَ الْعِصْمَةَ بِالْقُدْرَةِ على الطَّاعَةِ وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ على الْمَعْصِيَةِ وهو قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ حَكَاهُ في الْمَحْصُولِ وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ لِإِمْكَانِ الْوُقُوعِ مع أَنَّ اللَّهَ مَنَعَهُمْ منها بِأَلْطَافِهِ بِهِمْ من صَرْفِ دَوَاعِيهِمْ عنها بِمَا يُلْهِمُهُمْ إيَّاهُ من تَرْغِيبٍ أو تَرْهِيبٍ أو كَمَالِ مَعْرِفَةٍ وَنَحْوِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ إنِّي أَخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وقال التِّلِمْسَانِيُّ الْمَعْنِيُّ بِالْعِصْمَةِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ تَهْيِئَةُ الْعَبْدِ لِلْمُوَافَقَةِ مُطْلَقًا وَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى خَلْقِ الْقُدْرَةِ على كل
____________________
(3/243)
طَاعَةٍ أُمِرُوا بها وَالْقُدْرَةُ تُقَارِنُ وُقُوعَ الْمَقْدُورِ كما قالوا إنَّ التَّوْفِيقَ خَلْقُ الْقُدْرَةِ على الطَّاعَةِ فَإِذَنْ الْعِصْمَةُ تَوْفِيقٌ عَامٌّ وَرَدَّتْ الْمُعْتَزِلَةُ الْعِصْمَةَ إلَى خَلْقِ أَلْطَافٍ تُقَرِّبُ فِعْلَ الطَّاعَةِ ولم يَرُدُّوهَا إلَى الْقُدْرَةِ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عِنْدَهُمْ على الشَّيْءِ حَاصِلَةٌ لِضِدِّهِ قال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَلَا تُطْلَقُ الْعِصْمَةُ في غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ على وَجْهِ التَّعْظِيمِ لهم في التَّحَمُّلِ بِمَا يُؤَدُّونَهُ عن اللَّهِ تَعَالَى قُلْت وَوَقَعَ في كَلَامِ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ وَأَسْأَلُهُ الْعِصْمَةَ مَسْأَلَةٌ وُقُوعُ النِّسْيَانِ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَمَّا النِّسْيَانُ فَلَا امْتِنَاعَ في تَجْوِيزِ وُقُوعِهِ من الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ قال ابن عَطِيَّةَ وَكَذَلِكَ ما أَرَادَ اللَّهُ من نَبِيِّهِ نِسْيَانَهُ ولم يُرِدْ أَنْ يُكْتَبَ قُرْآنًا وَأَمَّا ما يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ فَاخْتَلَفُوا فيه قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَاَلَّذِي نَقْطَعُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ عَقْلًا إلَّا أَنْ نَقُولَ النبي لَا يَقَعُ في نِسْيَانٍ وَنُقِيمُ الْمُعْجِزَةَ عليه وإذا ثَبَتَ جَوَازُهُ عَقْلًا فَالظَّوَاهِرُ تَدُلُّ على وُقُوعِهِ وقال قَوْمٌ لَا يُقَرُّونَ عليه بَلْ يُنَبَّهُونَ على قُرْبٍ وَهَذَا لَا يَحْصُلُ فيه وَلَا يَمْتَنِعُ التَّرَاخِي في التَّقْرِيرِ عليه وَلَكِنَّ لَا يَنْقَرِضُ زَمَانُهُمْ وَهُمْ مُسْتَمِرُّونَ على النِّسْيَانِ وَادَّعَى فيه الْإِجْمَاعَ لِلْمُسْلِمِينَ قال ابن الْقُشَيْرِيّ ما أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ فَنَسِيَ فَالْحُكْمُ كما قال فَأَمَّا ما أُمِرَ بِهِ ثُمَّ نَسِيَ فَلَا أُبَعِّدُ أَنْ يَنْسَى ثُمَّ لَا يَتَذَكَّرُ حتى يَنْقَرِضَ زَمَانُهُ وهو مُسْتَمِرٌّ على النِّسْيَانِ مِثْلُ أَنْ يَنْسَى صَلَاةً ثُمَّ لَا يَتَذَكَّرُهَا ا هـ وَفَصَّلَ ابن عَطِيَّةَ في الْكَلَامِ على النَّسْخِ بين ما لَا يَحْفَظُهُ أَحَدٌ من الصَّحَابَةِ فَالنَّبِيُّ مَعْصُومٌ من النِّسْيَانِ قبل التَّبْلِيغِ وَبَعْدَهُ فَإِنْ حَفِظَهُ جَازَ عليه ما يَجُوزُ على الْبَشَرِ لِأَنَّهُ قد بَلَّغَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ وَمِنْهُ قَوْلُ أبي حَسِبْت أنها رُفِعَتْ فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لم تُرْفَعْ وَلَكِنْ نُسِّيتُهَا وقال ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَكَثِيرٌ من الْأَئِمَّةِ إلَى امْتِنَاعِ النِّسْيَانِ وَذَهَبَ الْقَاضِي إلَى جَوَازِهِ وَأَمَّا الْإِمَامُ الرَّازِيَّ فَادَّعَى في بَعْضِ كُتُبِهِ الْإِجْمَاعَ على الِامْتِنَاعِ وَحَكَى الْخِلَافَ في بَعْضِهَا قال الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بن الزَّمْلَكَانِيِّ الظَّاهِرُ أَنَّ ما طَرِيقُهُ التَّبْلِيغُ فيه مِمَّا يُقْطَعُ
____________________
(3/244)
بِدُخُولِهِ تَحْتَ دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ على الصِّدْقِ فَهَذَا هو مَحَلُّ الْإِجْمَاعِ وما طَرِيقُهُ التَّبْلِيغُ وَالْبَيَانُ لِلشَّرَائِعِ فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ فَيُحْمَلُ كَلَامُ الرَّازِيَّ على ذلك وقد أَشَارَ إلَى هذا التَّفْصِيلِ الْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُمَا وَحَاصِلُ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ ذلك هل هو دَاخِلٌ تَحْتَ دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ على التَّصْدِيقِ أَمْ لَا فَمَنْ جَعَلَهُ دَاخِلًا فيها مَنَعَهُ وقال لو جَازَ تَبَعَّضَتْ دَلَالَةُ الْمُعْجِزَةِ على التَّصْدِيقِ وَمَنْ جَعَلَهُ غير دَاخِلٍ فيها جَوَّزَهُ لِعَدَمِ انْتِقَاصِ الدَّلَالَةِ وَأَمَّا الْقَاضِي عِيَاضٌ فَحَكَى الْإِجْمَاعَ على امْتِنَاعِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ في الْأَقْوَالِ الْبَلَاغِيَّةِ وَخَصَّ الْخِلَافَ بِالْأَفْعَالِ وَأَنَّ الْأَكْثَرِينَ ذَهَبُوا إلَى الْجَوَازِ وَأَنَّ الْمَانِعِينَ تَأَوَّلُوا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ في سَهْوِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم على أَنَّهُ تَعَمَّدَ ذلك لِيَقَعَ النِّسْيَانُ فيه بِالْفِعْلِ وَخَطَّأَهُمْ في ذلك لِتَصْرِيحِهِ عليه السَّلَامُ بِالنِّسْيَانِ بِقَوْلِهِ إنَّمَا أنا بَشَرٌ أَنْسَى كما تَنْسَوْنَ فإذا نَسِيت فَذَكِّرُونِي وَلِأَنَّ الْأَفْعَالَ الْعَمْدِيَّةَ تُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَالْبَيَانُ كَافٍ بِالْقَوْلِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْفِعْلِ وَحَيْثُ قُلْنَا بِالْجَوَازِ فَالشَّرْطُ بِالِاتِّفَاقِ أَنْ لَا يُقَرَّ أَحَدُهُمْ عليه فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ لِمَا يُؤَدِّي ذلك إلَيْهِ من فَوَاتِ الْمَقْصُودِ بِالتَّشْرِيعِ وَاشْتَرَطَ الْجُمْهُورُ اتِّصَالًا لِتَنْبِيهٍ بِالْوَاقِعَةِ وَمِيلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ إلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ قال الْقَاضِي عِيَاضٌ وَأَمَّا الْأَقْوَالُ فَلَا خِلَافَ في امْتِنَاعِ ذلك فيها وفي السُّنَنِ من حديث عبد اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ قُلْت يا رَسُولَ اللَّهِ أَكْتُبُ كُلَّ ما أَسْمَعُ مِنْك قال نعم قُلْت في الرِّضَا وَالْغَضَبِ قال نعم فَإِنِّي لَا أَقُولُ إلَّا حَقًّا قال وَتَنْزِيهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عن ذلك كُلِّهِ وَاجِبٌ بُرْهَانًا وَإِجْمَاعًا كما قَالَهُ الْأُسْتَاذُ وفي كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ ما يَقْتَضِي وُجُودَ خِلَافٍ فيه وهو مُؤَوَّلٌ على ما ليس طَرِيقُهُ الْبَلَاغَ وقال الرَّازِيَّ في تَفْسِيرِهِ وَأَمَّا ما يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ فَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ على الْعِصْمَةِ فيه من الْكَذِبِ وَالتَّحْرِيفِ عَمْدًا وَسَهْوًا وَمِنْهُمْ من جَوَّزَهُ سَهْوًا وَلَا يَحْسُنُ حِكَايَةُ الْخِلَافِ بَعْدَ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَالصَّوَابُ ما قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَكَلَامُهُ مُوَافِقٌ لِجُمْهُورِ الْأُمَّةِ في ذلك
____________________
(3/245)
ثُمَّ قال الْقَاضِي وَأَمَّا ما ليس سَبِيلُهُ الْبَلَاغَ وَلَا تَعَلُّقَ له بِالْوَحْيِ وَلَا بِالْأَحْكَامِ فَاَلَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ تَنْزِيهُ النبي عن أَنْ يَقَعَ خَبَرُهُ في شَيْءٍ من ذلك كُلِّهِ بِخِلَافِ مَخْبَرِهِ لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا وَلَا غَلَطًا وَأَنَّهُ مَعْصُومٌ من ذلك كُلِّهِ في كل حَالٍ رِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَمِزَاحِهِ لِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالصَّحَابَةِ على تَصْدِيقِهِ في جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَتَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ عِصْمَةُ الْمَلَائِكَةِ هذا كُلُّهُ في الْأَنْبِيَاءِ أَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَقَدْ تَكَلَّمَ الْقَاضِي على عِصْمَتِهِمْ وقال أَمَّا الرُّسُلُ منهم فَالْقَوْلُ فِيهِمْ كَالْقَوْلِ في الْأَنْبِيَاءِ وقال هُمْ في حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ كَالْأَنْبِيَاءِ في حَقِّ الْأُمَمِ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَلَعَلَّهُ بَنَى هذه اللَّفْظَةَ على تَفْضِيلِهِ الْمَلَائِكَةَ على الرُّسُلِ من بَنِي آدَمَ وَأَمَّا من عَدَّ الرُّسُلَ من الْمَلَائِكَةِ فقال قَوْمٌ بِثُبُوتِ عِصْمَتِهِمْ وَمِنْهُمْ من خَصَّهُ بِالْمُقَرَّبِينَ منهم كَالْحَمَلَةِ وَالْكَرُوبِيِّينَ وَنَحْوِهِمْ وَنَقَلَ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْعِصْمَةِ عن الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ قال وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ يَصِحُّ وُقُوعُ ذلك منهم بِدَلِيلِ قِصَّةِ إبْلِيسَ وقد كان من الْمَلَائِكَةِ فَرْعٌ هل يَجُوزُ أَنْ يَخْلَعَ اللَّهُ نَبِيًّا من النُّبُوَّةِ ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ إنْ قِيلَ هل يَجُوزُ أَنْ يَخْلَعَ اللَّهُ نَبِيًّا من النُّبُوَّةِ قُلْنَا هذا لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا فإن اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشَاءُ وَيَحْكُمُ ما يُرِيدُ قال فَإِنْ قِيلَ لو خَلَعَ كَيْفَ يَكُونُ أَحْوَالُ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ قُلْنَا كانت تُرَدُّ إذَنْ أو تُزَالُ وَأَمَّا شَرْعًا فَمَنْ ثَبَتَتْ له الْعِصْمَةُ لَا تَزُولُ عنه قال وَلَا مُعَوَّلَ على ما نَقَلَهُ الضُّعَفَاءُ من أَنَّ بَلْعَمَ بن بَاعُورَاءَ كان نَبِيًّا فَخَلَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فإن ذلك ضَعِيفٌ لَا يَصِحُّ مَسْأَلَةٌ جَوَازُ الْإِغْمَاءِ على الْأَنْبِيَاءِ أَطْلَقَ أَصْحَابُنَا الْفُقَهَاءُ جَوَازَ الْإِغْمَاءِ على الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّهُ مَرَضٌ وَنَقَلَ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ في تَعْلِيقِهِ في كِتَابِ الصِّيَامِ عن الدَّرْكِ أَنَّ الْإِغْمَاءَ إنَّمَا يَجُوزُ على الْأَنْبِيَاءِ سَاعَةً وَسَاعَتَيْنِ فَأَمَّا الشَّهْرُ وَالشَّهْرَانِ فَلَا يَجُوزُ كَالْجُنُونِ
____________________
(3/246)
مَسْأَلَةٌ وُقُوعُ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يَمْتَنِعُ فِعْلُ الْمُحَرَّمِ عليه لِمَا بَيَّنَّا من الْعِصْمَةِ وَكَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ لَا يَفْعَلُهُ لِيُبَيِّنَ بِهِ الْجَوَازَ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ فيه التَّأَسِّي لِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ على الْجَوَازِ فإذا فَعَلَهُ اُسْتُدِلَّ بِهِ على جَوَازِهِ وَانْتَفَتْ الْكَرَاهَةُ وَقِيلَ بَلْ فِعْلُ الْمَكْرُوهِ في حَقِّهِ في تِلْكَ الْحَالَةِ أَفْضَلُ لِأَجْلِ تَكْلِيفِهِ الْبَيَانَ وقد لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْفِعْلِ وقد صَرَّحَ بِذَلِكَ أَصْحَابُنَا في وُضُوئِهِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ وَنُقِلَ عن الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمْ حَمَلُوا وُضُوءَهُ بِسُؤْرِ الْهِرِّ على بَيَانِ الْجَوَازِ مع الْكَرَاهَةِ تَنْبِيهٌ شَرْطُ إلْحَاقِ فِعْلِهِ بِقَوْلِهِ شَرَطَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ في كِتَابِهِ كَوْنَ فِعْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مُلْحَقًا بِقَوْلِهِ أَنْ يَجْمَعَهُمْ عليه أو بَعْضَهُمْ أو يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ هو وَيُظْهِرَهُ لهم لِيَأْخُذُوهُ عنه يَعْنِي فَإِنْ لم يَكُنْ كَذَلِكَ كان مَخْصُوصًا بِهِ قُلْت وَكَذَلِكَ ما كان يَفْعَلُهُ في خَلَوَاتِهِ من الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ وَلِهَذَا كان أَهْلُهُ يَفْعَلُونَهُ وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ في إظْهَارِ الْبَيَانِ كما في الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ وَالِاغْتِسَالِ من الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَمِنْ ذلك اسْتِدْبَارُهُ الْكَعْبَةَ في الْبُنْيَانِ وَنَحْوِهِ وَشَرَطَ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ أَنْ يَكُونَ لَوْلَا مُبَاشَرَةُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم له ما كنا نَفْعَلُهُ وَإِنَّمَا نَفْعَلُهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ فَعَلَهُ لِأَنَّهُ لو دَلَّ على الْفِعْلِ دَلِيلٌ آخَرُ غَيْرُ فِعْلِهِ لم نَكُنْ مُتَأَسِّينَ أَقْسَامُ الْأَفْعَالِ وَأَمَّا تَقْسِيمُ الْأَفْعَالِ فَفِعْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَنْقَسِمُ إلَى أَقْسَامٍ أَحَدُهَا ما كان من هَوَاجِسِ النَّفْسِ وَالْحَرَكَاتِ الْبَشَرِيَّةِ كَتَصَرُّفِ الْأَعْضَاءِ وَحَرَكَاتِ الْجَسَدِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ أَمْرٌ بِامْتِنَاعٍ وَلَا نَهْيٌ عن مُخَالَفَةٍ أَيْ وَإِنَّمَا يَدُلُّ على الْإِبَاحَةِ الثَّانِي ما لَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادَاتِ وَوَضَحَ فيه أَمْرُ الْجِبِلَّةِ كَأَحْوَالِهِ في قِيَامِهِ وَقُعُودِهِ وَالْمَشْهُورُ في كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يَدُلُّ على الْإِبَاحَةِ وَنَقَلَ الْقَاضِي عن قَوْمٍ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ بِخُصُوصِهِ وَكَذَلِكَ حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وقد كان ابن عُمَرَ لَمَّا حَجَّ جَرَّ خِطَامَ نَاقَتِهِ حتى بَرَّكَهَا حَيْثُ بَرَكَتْ نَاقَةُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم تَبَرُّكًا بِآثَارِهِ الظَّاهِرَةِ الثَّالِثُ ما احْتَمَلَ أَنْ يَخْرُجَ عن الْجَبَلِيَّةِ إلَى التَّشْرِيعِ بِمُوَاظَبَتِهِ على وَجْهٍ خَاصٍّ
____________________
(3/247)
كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللُّبْسِ وَالنَّوْمِ وهو دُونَ ما ظَهَرَ منه قَصْدُ الْقُرْبَةِ وَفَوْقَ ما ظَهَرَ فيه الْجِبِلِّيَّةُ وقد يَخْرُجُ فيه قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ من الْقَوْلَيْنِ في تَعَارُضِ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ التَّشْرِيعِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ شَرْعِيٌّ لِكَوْنِهِ مَنْصُوبًا لِبَيَانِ الشَّرْعِيَّاتِ وقد جاء عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ اسْقِنِي قَائِمًا فإن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم شَرِبَ قَائِمًا وقد صَرَّحَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ بِحِكَايَةِ الْخِلَافِ وَفِيهِ وَجْهَانِ لِلْأَصْحَابِ أَحَدُهُمَا وهو قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ يَصِيرُ سُنَّةً وَشَرِيعَةً وَيُتَّبَعُ وَالْأَصْلُ فيه أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ على إبَاحَةِ ذلك وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يُتَّبَعُ فيه إلَّا بِدَلِيلٍ هَكَذَا حَكَى الْخِلَافَ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ وقال في كِتَابِهِ في الْأُصُولِ يُعْلَمُ تَحْلِيلُهُ على أَظْهَرِ الْوَجْهَيْنِ وَيُتَوَقَّفُ فيه في الْوَجْهِ الْآخَرِ على الْبَيَانِ وَهَكَذَا حَكَى الْخِلَافَ إلْكِيَا وَعَلَّلَ الْوَقْتَ بِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَدُلُّ على جَوَازِ الْإِيقَاعِ وَالْمَصَالِحُ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ قال وفي هذا نَظَرٌ لِلْأُصُولِيِّينَ مُتَّجَهٌ إلَّا أَنَّ الذي عليه الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ مُبَاحٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وقد سُئِلَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عن الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ فَأَجَابَتْ بِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لم يَكُنْ يَبْتَعِدُ عن ذلك ا هـ وَجَزَمَ ابن الْقَطَّانِ بِأَنَّهُ على الْإِبَاحَةِ وَكَذَلِكَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في كِتَابِ الْقَضَاءِ حتى يَقُومَ دَلِيلٌ على اخْتِصَاصِهِ بِهِ وفي الصَّحِيحِ عن عُبَيْدِ بن جُرَيْجٍ قال قُلْت لِابْنِ عُمَرَ رَأَيْتُك تَصْنَعُ أَرْبَعًا وَفِيهَا رَأَيْتُك تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ فقال رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَلْبَسُهَا وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ في بَابِ الِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم اتَّخَذَ خَاتَمًا من ذَهَبٍ فَاِتَّخَذَ الناس خَوَاتِيمَ من ذَهَبٍ فَنَبَذَهُ وقال إنِّي لم أَلْبَسْهُ أَبَدًا فَنَبَذَ الناس خَوَاتِيمَهُمْ
____________________
(3/248)
وَيَخْرُجُ من كَلَامِ الْفُقَهَاءِ ما يَقْتَضِي انْقِسَامَ هذا الْقِسْمِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا ما يَتَرَقَّى إلَى الْوُجُوبِ كَإِيجَابِ الشَّافِعِيِّ الْجُلُوسَ بين الْخُطْبَتَيْنِ لِأَنَّهُ عليه السَّلَامُ كان يَجْلِسُ بين الْخُطْبَتَيْنِ وَثَانِيهَا ما يَتَرَقَّى إلَى النَّدْبِ كَاسْتِحْبَابِ أَصْحَابِنَا الِاضْطِجَاعَ على الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ بين رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ سَوَاءٌ كان الْمَرْءُ تَهَجَّدَ أو لَا لِقَوْلِ عَائِشَةَ كان النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا صلى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ على شِقِّهِ الْأَيْمَنِ وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَمْرِ بِهِ فَمَعْلُولٌ ثَالِثُهَا ما يَجِيءُ فيه خِلَافٌ كَدُخُولِهِ مَكَّةَ من ثَنِيَّةِ كَدَاءَ وَخُرُوجِهِ من ثَنِيَّةِ كَدَاءَ وَحَجِّهِ رَاكِبًا وَذَهَابِهِ إلَى الْعِيدِ في طَرِيقٍ وَرُجُوعِهِ في أُخْرَى وقد اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في هذا هل يُحْمَلُ على الْجِبِلِّيِّ فَلَا يُسْتَحَبُّ أو على الشَّرْعِيِّ فَيُسْتَحَبُّ على وَجْهَيْنِ وقال أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إذَا فَعَلَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فِعْلًا لِمَعْنًى ولم يَكُنْ مُخْتَصًّا بِهِ فَعَلْنَاهُ وَمِنْ طَرِيقٍ الْأَوْلَى إذَا عَرَفْنَا أَنَّهُ فَعَلَهُ لِمَعْنًى يُشَارِكُهُ فيه غَيْرُهُ وقال أبو عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ نَفْعَلُهَا اتِّبَاعًا له سَوَاءٌ عَرَفْنَا أَنَّهُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ أَمْ لَا وقال الرَّافِعِيُّ الذي مَالَ إلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ قَوْلُ ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ ذَكَرَهُ في اسْتِحْبَابِ تَخَالُفِ الطَّرِيقَيْنِ في الْعِيدِ وَعَنْ الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ ما فَعَلَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِمَعْنًى فَزَالَ ذلك الْمَعْنَى فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا قَالَهُ أبو إِسْحَاقَ لَا يُفْعَلُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَالثَّانِي قَالَهُ ابن أبي هُرَيْرَةَ يُفْعَلُ وقال ابن الصَّبَّاغِ في صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ من الشَّامِلِ قال أبو إِسْحَاقَ إذَا عَقَلْنَا مَعْنَى ما فَعَلَهُ وكان بَاقِيًا أو لم نَعْقِلْ مَعْنَاهُ فَإِنَّا نَقْتَدِي بِهِ فيه فَأَمَّا إذَا عَقَلْنَا مَعْنَى فِعْلِهِ ولم يَكُنْ الْغَرَضُ بِهِ بَاقِيًا لم نَفْعَلْهُ لِزَوَالِ مَعْنَاهُ وقال ابن أبي هُرَيْرَةَ نَقْتَدِي بِهِ
____________________
(3/249)
وَإِنْ زَالَ مَعْنَاهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَاتَّبِعُوهُ الْآيَةَ لِأَنَّهُ كان يَفْعَلُ الرَّمَلَ وَالِاضْطِبَاعَ لِإِظْهَارِ الْقُوَّةِ من الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ صَارَ سُنَّةً وَإِنْ زَالَ مَعْنَاهُ وَبَقِيَ قِسْمٌ آخَرُ وهو أَنْ لَا يُعْلَمَ السَّبَبُ وقال النَّوَوِيُّ في الرَّوْضَةِ يُسْتَحَبُّ التَّأَسِّي قَطْعًا الرَّابِعُ ما عُلِمَ اخْتِصَاصُهُ بِهِ كَالضُّحَى وَالْوِتْرِ وَالْمُشَاوَرَةِ وَالتَّخْيِيرِ لِنِسَائِهِ وَالْوِصَالِ وَالزِّيَادَةِ على أَرْبَعٍ فَلَا يُشَارِكُهُ فيه غَيْرُهُ وَتَوَقَّفَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في أَنَّهُ هل يَمْتَنِعُ التَّأَسِّي بِهِ وقال ليس عِنْدَنَا نَقْلٌ لَفْظِيٌّ أو مَعْنَوِيٌّ في أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَقْتَدُونَ بِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في هذا النَّوْعِ ولم يَتَحَقَّقْ عِنْدَنَا ما يَقْتَضِي ذلك فَهَذَا هو مَحَلُّ التَّوَقُّفِ وَتَابَعَهُ على ذلك ابن الْقُشَيْرِيّ وَالْمَازِرِيُّ وَفَصَّلَ الشَّيْخُ الْحَافِظُ شِهَابُ الدِّينِ أبو شَامَةَ الْمَقْدِسِيُّ في كِتَابِهِ الْمُحَقَّقِ في الْأَفْعَالِ بين الْمُبَاحِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ التَّشَبُّهُ فيه بِهِ كَالزِّيَادَةِ على أَرْبَعٍ وَبَيْنَ الْوَاجِبِ فَيُسْتَحَبُّ التَّشَبُّهُ وَكَذَلِكَ التَّنَزُّهُ عن الْمُحَرَّمِ كَأَكْلِ ذِي الرِّيحِ الْكَرِيهَةِ وَطَلَاقِ من تُكْرَهُ صُحْبَتُهُ قال وَهَذَا تَفْصِيلٌ حَسَنٌ لِمَنْ فَهِمَ الْفِقْهَ وَقَوَاعِدَهُ وَلَعَلَّ الْإِمَامَ عَنَى بِذَلِكَ أَنَّهُ لم يُنْقَلْ أَنَّ الصَّحَابَةَ فَعَلُوا ذلك بِمُجَرَّدِ الِاقْتِدَاءِ وَالتَّأَسِّي بَلْ لِأَدِلَّةٍ مُنْفَصِلَةٍ قُلْت
____________________
(3/250)
وقد ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَقَسَّمَا هذا النَّوْعَ إلَى ما أُبِيحَ له وَحُظِرَ عَلَيْنَا كَالْمَنَاكِحِ وَإِلَى ما أُبِيحَ له وَكُرِهَ لنا كَالْوِصَالِ وَإِلَى ما وَجَبَ عليه وَنُدِبَ لنا كَالسِّوَاكِ وَالْوِتْرِ وَالضُّحَى الْخَامِسُ ما يَفْعَلُهُ لِانْتِظَارِ الْوَحْيِ كَابْتِدَاءِ إحْرَامِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِالْحَجِّ حَيْثُ أَبْهَمَهُ مُنْتَظِرًا لِلْوَحْيِ فقال بَعْضُ أَصْحَابِنَا إطْلَاقُ الْإِحْرَامِ أَفْضَلُ من تَعْيِينِهِ تَأَسِّيًا وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ قال الْإِمَامُ في النِّهَايَةِ وَهَذَا عِنْدِي هَفْوَةٌ ظَاهِرَةٌ فإن إبْهَامَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مَحْمُولٌ على انْتِظَارِ الْوَحْيِ قَطْعًا فَلَا مَسَاغَ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ في هذه الْجِهَةِ السَّادِسُ ما يَفْعَلُهُ مع غَيْرِهِ عُقُوبَةً فَلَا شَكَّ أَنَّهُ وَاجِبٌ عليه قال ابن الْقَطَّانِ وَلَا خِلَافَ فيه وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هل غَيْرُهُ مِمَّنْ يُشَارِكُهُ في الْمَعْنَى قِيَاسًا عليه أَمْ على الظَّاهِرِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ ما يَفْعَلُهُ مع غَيْرِهِ إنْ تَعَلَّقَ بِهِ أَحَدُ طَرَفَيْهِ كَالْبُيُوعِ وَالْأَنْكِحَةِ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ على الْجَوَازِ في غَيْرِهِ مُسْتَدَلٌّ على إبَاحَتِهِ وَاخْتَلَفُوا في وُجُوبِ أَوْصَافِهِ على حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَا يَأْتِيهِ من عِبَادَاتِهِ وَإِنْ فَعَلَهُ بين شَخْصَيْنِ مُتَدَاعِيَيْنِ أو على جِهَةِ التَّوَسُّطِ فَهُوَ مَحْمُولٌ على الْوُجُوبِ بِلَا خِلَافٍ وَيَجْرِي مَجْرَى الْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ قال وما تَصَرَّفَ فيه من أَمْلَاكِ الْغَيْرِ فَهُوَ بِالْإِجْمَاعِ مَوْقُوفٌ على مَعْرِفَةِ السَّبَبِ وَيَدْخُلُ فيه جَمِيعُ وُجُوهِ الِاسْتِبَاحَةِ السَّابِعُ ما يَفْعَلُهُ مع غَيْرِهِ إعْطَاءً وقد حَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهَيْنِ في أَنَّ الرَّضْخَ لِلْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مُسْتَحَبٌّ أو وَاجِبٌ قال وَالْمَشْهُورُ وُجُوبُهُ لم يَتْرُكْ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الرَّضْخَ قَطُّ وَلَنَا فيه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الثَّامِنِ الْفِعْلُ الْمُجَرَّدُ عَمَّا سَبَقَ فَإِنْ وَرَدَ بَيَانًا كَقَوْلِهِ صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وخذوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ أو لِآيَةٍ كَالْقَطْعِ من الْكُوعِ الْمُبَيِّنِ لِآيَةِ السَّرِقَةِ فَهُوَ دَلِيلٌ في حَقِّنَا وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ وَاجِبٌ وَحَيْثُ وَرَدَ بَيَانًا لِمُجْمَلٍ فَحُكْمُهُ حُكْمُ ذلك الْمُجْمَلِ إنْ كان وَاجِبًا فَوَاجِبٌ وَإِنْ كان مَنْدُوبًا فَمَنْدُوبٌ كَأَفْعَالِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَصَلَاةِ الْفَرْضِ وَالْكُسُوفِ
____________________
(3/251)
وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَهَذَا على الْقَوْلِ بِجَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ وَمَنْ أَبَاهُ مَنَعَ بَيَانَ الْمُجْمَلِ بِالْفِعْلِ الْمُتَأَخِّرِ عنه وَإِنْ لم يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ وَرَدَ مُبْتَدَأً فَإِنْ عُلِمَتْ صِفَتُهُ في حَقِّهِ من وُجُوبٍ أو نَدْبٍ وَإِبَاحَةٍ فما حُكْمُ الْأُمَّةِ فيه اخْتَلَفُوا فيه على مَذَاهِبَ أَصَحُّهَا أَنَّ أُمَّتَهُ مِثْلُهُ إلَّا أَنْ يَدُلَّ على تَخْصِيصِهِ بِهِ وَثَانِيهَا كما لم تُعْلَمْ صِفَتُهُ وهو قَوْلُ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَثَالِثُهَا مِثْلُهُ في الْعِبَادَاتِ دُونَ غَيْرِهَا وَبِهِ قال أبو عَلِيِّ بن خَلَّادٍ من الْمُعْتَزِلَةِ وَرَابِعُهَا الْوَقْفُ قَالَهُ الرَّازِيَّ وَحَكَى ابن السَّمْعَانِيِّ عن أبي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ شَرْعًا لنا إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عليه ثُمَّ قال ابن السَّمْعَانِيِّ هَكَذَا أَوْرَدَهُ الْأَصْحَابُ وَعِنْدِي أَنَّ ما فَعَلَهُ على جِهَةِ التَّقَرُّبِ سَوَاءٌ عُرِفَ أَنَّهُ فَعَلَهُ على جِهَةِ التَّقَرُّبِ أو لم يُعْرَفْ فإنه شَرْعٌ لنا إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ على تَخْصِيصِهِ بِهِ وقال الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أبو شَامَةَ هذه الْمَسْأَلَةُ لم يُفْصِحْ عنها الْمُحَقِّقُونَ وأنا أَقُولُ إذَا عَلِمْنَا أَنَّ فِعْلَهُ على طَرِيقِ الْوُجُوبِ فَإِنْ عَلِمْنَاهُ وَاجِبًا عليه وَعَلَيْنَا فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِفِعْلِهِ على أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْنَا بَلْ مَرْجِعُنَا إلَى الدَّلِيلِ الدَّالِّ على عَدَمِ خُصُوصِيَّتِهِ وَإِنْ عَلِمْنَاهُ مُخْتَصًّا بِهِ فَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ في خَصَائِصِهِ وَإِنْ شَكَكْنَا فَلَا دَلِيلَ على الْوُجُوبِ إلَّا أَدِلَّةُ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ فِيمَا لم تُعْلَمْ صِفَتُهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى فَرْضِ هذه الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ أَنَّهُ مَعْلُومُ الصِّفَةِ أَوَّلًا وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ أَوْقَعَهُ نَدْبًا فَهُوَ على اخْتِيَارِنَا النَّدْبَ في مَجْهُولِ الصِّفَةِ أو مُبَاحًا فَهُوَ الذي لم يَظْهَرْ فيه قَصْدُ الْقُرْبَةِ ا هـ مُلَخَّصًا وَإِنْ لم نَعْلَمْ صِفَتَهُ في حَقِّهِ فَتَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ الْأَوَّلُ أَنْ يَظْهَرَ فيه قَصْدُ الْقُرْبَةِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ فَذَهَبَتْ طَوَائِفُ من الْمُعْتَزِلَةِ إلَى حَمْلِهِ على الْوُجُوبِ وَبِهِ قال ابن سُرَيْجٍ وابن أبي هُرَيْرَةَ من أَصْحَابِنَا وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يَدُلُّ على الْوُجُوبِ وَلَكِنْ يَقْتَضِي الِاسْتِحْبَابَ قال وفي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ ما يَدُلُّ عليه وَحَكَاهُ غَيْرُهُ عن الْقَفَّالِ وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَذَهَبَ الْوَاقِفِيَّةُ إلَى الْوَقْفِ وَنَسَبَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ لِأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَيُحْكَى عن الدَّقَّاقِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَحَكَاهُ في اللُّمَعِ عن الصَّيْرَفِيِّ وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ ولم
____________________
(3/252)
يَحْكِ الْإِمَامُ قَوْلَ الْإِبَاحَةِ هَاهُنَا لِأَنَّ قَصْدَ الْقُرْبَةِ لَا يُجَامِعُ اسْتِوَاءَ الطَّرَفَيْنِ لَكِنَّ ابْنَ السَّمْعَانِيِّ حَكَاهُ حَمْلًا على أَقَلِّ الْأَحْوَالِ وَكَذَا الْآمِدِيُّ صَرَّحَ بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ الْآتِي في الْحَالَتَيْنِ جميعا وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ بِأَنَّ الْقَصْدَ بِفِعْلِ الْمُبَاحِ جَوَازُ الْإِقْدَامِ عليه وَيُثَابُ عليه السَّلَامُ على هذا الْقَصْدِ فَهُوَ قُرْبَةٌ في حَقِّهِ بهذا الِاعْتِبَارِ الثَّانِي أَنْ لَا يَظْهَرَ فيه قَصْدُ الْقُرْبَةِ بَلْ كان مُجَرَّدًا مُطْلَقًا وَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ الْآتِي وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ التَّحْقِيقُ فِيمَا إذَا لم يُعْرَفْ حُكْمُ ذلك الْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ من الْعِبَادَاتِ فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بين الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وما كان من غَيْرِهَا وهو دُنْيَوِيٌّ كَالتَّنَزُّهِ فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بين الْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ وَإِلَّا كان ظَاهِرًا في النَّدْبِ وَيَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَأَمَّا حُكْمُ ذلك الْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا فَفِيهِ مَذَاهِبُ أَحَدُهَا أَنَّهُ وَاجِبٌ في حَقِّنَا وَحَقِّهِ ما لم يَمْنَعْ مَانِعٌ وَنَسَبُوهُ لِابْنِ سُرَيْجٍ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وهو زَلَلٌ في النَّقْلِ عنه وهو أَجَلُّ قَدْرًا من ذلك وَحَكَاهُ ابن الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ عن الْإِصْطَخْرِيِّ وَابْنِ خَيْرَانَ وَابْنِ أبي هُرَيْرَةَ وَالطَّبَرِيِّ وَأَكْثَرِ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا كما قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وقال سُلَيْمٌ إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَنَصَرَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وقال إنَّهُ الْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَكِنَّهُ لم يَتَكَلَّمْ إلَّا فِيمَا ظَهَرَ فيه قَصْدُ الْقُرْبَةِ وَاخْتَارَهُ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وَنَصَرَ أَدِلَّتَهُ قال وَأَخَذُوهُ من قَوْلِ الشَّافِعِيِّ في الرَّدِّ على أَهْلِ الْعِرَاقِ في سُنَنِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَوَامِرِهِ أَجْمَعْنَا أَنَّ الْأَمْرَ يَخْتَصُّ بِهِ الظَّاهِرُ فَهُوَ إذَا انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ في الْمَعَالِمِ وَمِنْ هذا الْبَابِ جُلُوسُهُ بين الْخُطْبَتَيْنِ يوم الْجُمُعَةِ وَلَيْسَ فيه إلَّا فِعْلُهُ عليه السَّلَامُ وَرَأَى الشَّافِعِيُّ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِتَرْكِهِ وَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ التَّأَسِّي في حَقِّنَا هو الصَّحِيحُ عن مَالِكٍ قَالَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وابن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ وَاخْتَارَهُ وقال عبد الْوَهَّابِ إنَّهُ اللَّائِقُ بِأُصُولِهِمْ قال الْقَرَافِيُّ وهو الذي نَقَلَهُ أَئِمَّةُ الْمَالِكِيَّةِ في كُتُبِهِمْ الْأُصُولِيَّةِ وَالْفُرُوعِيَّةِ وَفُرُوعُ الْمَذْهَبِ مَبْنِيَّةٌ عليه وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ عن أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِرَاقِ منهم الْكَرْخِيّ وَغَيْرُهُ ثُمَّ قال
____________________
(3/253)
الْقَاضِي وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ على طَرِيقَيْنِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّا نُدْرِكُ الْوُجُوبَ بِالْعَقْلِ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّا نُدْرِكُهُ بِالسَّمْعِ وهو الذي أَوْرَدَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا أَقِيسُ من حَيْثُ الْعَقْلُ لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فيه وَالْمُخَالِفُ يُسَلِّمُ ذلك وَلَكِنَّهُ يقول دَلِيلُ السَّمْعِ دَلَّ عليه فَيَرْجِعُ النِّزَاعُ إلَى دَلِيلِ السَّمْعِ إذَنْ لَا مُتَعَلَّقَ لهم وَالْأَلْفَاظُ دَلَّتْ على التَّأَسِّي بِهِ وَتَهْدِيدُ تَارِكِ التَّأَسِّي بِهِ وَالِاتِّبَاعِ له وَالثَّانِي أَنَّهُ مَنْدُوبٌ وهو قَوْلُ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي وابن الصَّبَّاغِ وَسُلَيْمٌ عن الصَّيْرَفِيِّ وَالْقَفَّالِ الْكَبِيرِ فَأَمَّا النَّقْلُ عن الْقَفَّالِ فَصَحِيحٌ فَقَدْ رَأَيْته في كِتَابِهِ وَعِبَارَتُهُ لَا تَدُلُّ على الْوُجُوبِ في حَقِّ الْأُمَّةِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَنَا أُسْوَةٌ بِهِ وهو غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِهِ حتى يُوقَفَ على الْخُصُوصِ وَأَمَّا الصَّيْرَفِيُّ فَسَيَأْتِي عنه الْوَقْفُ وَنَسَبَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وقال ابن الْقُشَيْرِيّ في كَلَامِ الشَّافِعِيِّ ما يَدُلُّ عليه وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ إنَّهُ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَأَطْنَبَ أبو شَامَةَ في نُصْرَتِهِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ مُبَاحٌ وَلَا يُفِيدُ إلَّا ارْتِفَاعَ الْحَرَجِ عن الْأُمَّةِ لَا غَيْرُ وهو الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَنَقَلَهُ الدَّبُوسِيُّ في التَّقْوِيمِ عن أبي بَكْرٍ الرَّازِيَّ وقال إنَّهُ الصَّحِيحُ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ وَأَطْنَبَ في الرَّدِّ على الْأَوَّلِينَ وَنُقِلَ عن مَالِكٍ قال الْقُرْطُبِيُّ وَلَيْسَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أَصْحَابِهِ قال ابن الْقَطَّانِ وَنَسَبُوهُ إلَى الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ قال في كِتَابِ الْمَنَاسِكِ في صَلَاةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَلَا أَدْرِي أَفَرْضٌ أو تَطَوُّعٌ وَلَا أَدْرِي الْفَرِيضَةُ تُجْزِئُ عنها أَمْ لَا إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ إنْ صَلَّاهُمَا أَنَّ عَلَيْنَا صَلَاتَهُمَا وَإِنَّمَا مَنَعَنَا من إيجَابِهِمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الطَّوَافَ ولم يذكر الصَّلَاةَ فَدَلَّ على أَنَّ فِعْلَهُ عليه السَّلَامُ غَيْرُ وَاجِبٍ قال وَذَكَرَ أَيْضًا في الْأَمْرِ قَوْلَ عَائِشَةَ فَعَلْت أنا وَرَسُولُ اللَّهِ اغْتَسَلْنَا وقَوْله تَعَالَى وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْجِمَاعُ وَإِنْ لم يَكُنْ معه إنْزَالٌ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْمَهْرَ ولم يَعُدْ إلَى حديث عَائِشَةَ بَلْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ وَبِاتِّفَاقِهِمْ على إيجَابِ الْمَهْرِ وَإِنْ لم يَكُنْ إنْزَالٌ فَكَذَلِكَ الْغُسْلُ فَلَوْ كان فِعْلُهُ عِنْدَهُ وَاجِبًا لَكَانَ أَوْلَى ما يَحْتَجُّ بِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال وَالْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ أَوَّلُوا هذا إلَى قَوْلِهِمْ ا هـ الرَّابِعُ أَنَّهُ على الْوَقْفِ حتى يَقُومَ دَلِيلٌ على الْوَقْفِ وَبِهِ قال جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا
____________________
(3/254)
منهم الصَّيْرَفِيُّ كما رَأَيْت التَّصْرِيحَ بِهِ في كِتَابِهِ الدَّلَائِلِ وَنَقَلَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن أَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ قال وَاخْتَارَهُ من أَصْحَابِنَا الدَّقَّاقُ وأبو الْقَاسِمِ بن كَجٍّ وقال ابن فُورَكٍ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَكَذَا صَحَّحَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في شَرْحِ الْكِفَايَةِ وَنَقَلَهُ عن كَثِيرٍ من أَصْحَابِنَا منهم ابن كَجٍّ وَالدَّقَّاقُ وَالسُّرَيْجِيُّ قال وَقَالُوا لَا نَدْرِي إنَّهُ لِلْوُجُوبِ أو لِلنَّدَبِ أَوَلِلْإِبَاحَةِ لِاحْتِمَالِ هذه الْأُمُورِ كُلِّهَا وَاحْتِمَالِ أَنَّهُ من خَصَائِصِهِ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَأَتْبَاعُهُ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن الْأَشْعَرِيِّ وَالصَّيْرَفِيِّ وقال ابن الْقَطَّانِ هذا الْقَوْلُ بَعِيدٌ جِدًّا عن الْمَذْهَبِ إلَّا أَنَّهُ أَقْيَسُ من الذي قَبْلَهُ وَصَحَّحَهُ أبو الْخَطَّابِ من الْحَنَابِلَةِ وَذَكَرَهُ عن أَحْمَدَ قال بَعْضُهُمْ وَلِلْوَقْفِ في أَفْعَالِهِ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا الْوَقْفُ في تَعْدِيَةِ حُكْمِهِ إلَى الْأُمَّةِ وَثُبُوتِ التَّأَسِّي وَإِنْ عُرِفَتْ جِهَةُ فِعْلِهِ وَالثَّانِي الْوَقْفُ في تَعْيِينِ جِهَةِ فِعْلِهِ من وُجُوبٍ أو اسْتِحْبَابٍ وَإِنْ كان التَّأَسِّي ثَابِتًا وهو بهذا يَئُولُ إلَى قَوْلِ النَّدْبِ وَالْخَامِسُ أَنَّهُ يَدُلُّ على الْحَظْرِ قال الْغَزَالِيُّ وَتَبِعَهُ الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ وهو قَوْلُ من جَوَّزَ على الْأَنْبِيَاءِ الْمَعَاصِي وهو سُوءُ فَهْمٍ فإن هذا الْقَائِلَ يقول إنَّ غَيْرَهُ يَحْرُمُ عليه اتِّبَاعُهُ فيها لَا إنْ وَقَعَ منه يَكُونُ حَرَامًا كما صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وابن الْقُشَيْرِيّ فَقَالَا ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ اتِّبَاعُهُ وَهَذَا بِنَاءً على أَصْلِهِمْ في الْأَحْكَامِ قبل وُرُودِ الشَّرَائِعِ فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أنها على الْحَظْرِ ولم يَجْعَلُوا فِعْلَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عَلَمًا في تَثْبِيتِ حُكْمٍ فَبَقِيَ الْحُكْمُ على ما كان عليه في قَضِيَّةِ الْعَقْلِ قبل وُرُودِ الشَّرَائِعِ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ الظَّاهِرُ أَنَّ هذا الْخِلَافَ يَجْرِي في حُكْمِ الْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ حُكْمَنَا حُكْمُهُ في الْأَفْعَالِ الْمَعْرُوفَةِ الْأَحْكَامِ ثُمَّ رَأَيْت ابْنَ النَّفِيسِ قال في كِتَابِهِ الْإِيضَاحِ الذي يَظْهَرُ لي أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّ ما يَكُونُ من الْعِبَادَاتِ فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بين الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وما كان من غَيْرِهَا وهو دُنْيَوِيٌّ كَالتَّنَزُّهِ فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بين الْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ وَإِلَّا كان ظَاهِرًا في النَّدْبِ وَيَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَأَمَّا كَوْنُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ وَحَكَى الْخِلَافَ السَّابِقَ الثَّانِي ما أَطْلَقُوهُ من أَنَّ الْفِعْلَ إذَا وَقَعَ بَيَانًا يَصِيرُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُبَيِّنِ في الْوُجُوبِ أو النَّدْبِ أَثَارَ فيه ابن دَقِيقِ الْعِيدِ بَحْثًا وهو أَنَّ الْخِطَابَ الْمُجْمَلَ مُبَيَّنٌ بِأَوَّلِ الْأَفْعَالِ وُقُوعًا فإذا تَبَيَّنَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ لم يَكُنْ ما وَقَعَ بَعْدَهُ بَيَانًا لِوُقُوعِ الْبَيَانِ بِالْأَوَّلِ فَيَبْقَى فِعْلًا
____________________
(3/255)
مُجَرَّدًا لَا يَدُلُّ على الْوُجُوبِ مِثَالُهُ قَوْلُهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَصَحَّ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ وفي حديث عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّهُ افْتَتَحَهَا بَعْدَ التَّكْبِيرِ بِالْفَاتِحَةِ فَيَتَعَارَضَانِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ على وُقُوعِ ذلك الْفِعْلِ الْمُسْتَدَلِّ بِهِ بَيَانًا فَيَتَوَقَّفُ الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ على وُجُودِ ذلك الدَّلِيلِ بَلْ قد يَقُومُ الدَّلِيلُ على خِلَافِهِ كَرِوَايَةِ من رَأَى فِعْلًا لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَسَبَقَنَا له هذه التَّقَاسِيمُ كُلُّهَا في الْأَفْعَالِ بَعْدَ السَّمْعِ وَأَمَّا أَفْعَالُهُ قبل وُرُودِ السَّمْعِ فَحُكْمُهَا مَبْنِيٌّ على أَنَّهُ مُتَعَبَّدٌ بِشَرِيعَةِ من قَبْلَنَا وَسَيَأْتِي مَسْأَلَةٌ حُكْمُ التَّأَسِّي بِالرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في فِعْلِهِ التَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ عليه السَّلَامُ وَاجِبٌ فِيمَا سِوَى خَوَاصِّهِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وما آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وقال عُمَرُ لَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ يُقَبِّلُك ما قَبَّلْتُك وَقِيلَ إنَّ ذلك إنَّمَا يَجِبُ في الْعِبَادَاتِ وَفَسَّرُوا التَّأَسِّي بِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا فَعَلَ فِعْلًا على وَجْهِ الْوُجُوبِ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَفْعَلَهُ كَذَلِكَ وَإِنْ فَعَلَهُ على وَجْهِ الْإِبَاحَةِ أو النَّدْبِ وَجَبَ عَلَيْنَا اعْتِقَادُ أَنَّهُ كَذَلِكَ وَيَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ بهذا من عَرَفَ الْفِعْلَ وَحُكْمَهُ إذْ لو وَجَبَ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ لَكَانَ تَعَلُّمُ مَسَائِلِ الْفِقْهِ من فُرُوضِ الْأَعْيَانِ
____________________
(3/256)
فصل في بَيَانِ الطُّرُقِ التي بها تُعْرَفُ جِهَةُ الْفِعْلِ من كَوْنِهِ وَاجِبًا وَمَنْدُوبًا وَمُبَاحًا لِأَنَّ وُجُوبَ الْمُتَابَعَةِ يَتَوَقَّفُ على ذلك اعْلَمْ أَنَّ فِعْلَهُ عليه السَّلَامُ يَنْحَصِرُ فِيمَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ يَمْتَنِعُ صُدُورُهُ منه إجْمَاعًا وَكَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ عِنْدَنَا بَلْ لَا يَتَصَوَّرُ منه وُقُوعُهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُهُ لِقَصْدِ التَّشْرِيعِ فَهُوَ أَفْضَلُ في حَقِّهِ من التَّرْكِ وَإِنْ كان فِعْلُهُ مَكْرُوهًا لنا ثُمَّ الطَّرِيقُ قد يَعُمُّ هذه الْأُمُورَ وقد يَخُصُّ الْبَعْضَ فَالْعَامُّ أَرْبَعَةٌ أَحَدُهَا أَنْ يَنُصَّ على كَوْنِهِ من الْقِسْمِ الْفُلَانِيِّ ثَانِيهَا أَنْ يُسَوِّيَهُ بِفِعْلٍ عُلِمَتْ جِهَتُهُ ثَالِثُهَا أَنْ يَقَعَ امْتِثَالًا لِآيَةٍ مُجْمَلَةٍ دَلَّتْ على أَحَدِ هذه الثَّلَاثَةِ رَابِعُهَا أَنْ يَقَعَ بَيَانًا لِآيَةٍ مُجْمَلَةٍ دَلَّتْ على أَحَدِهَا وَأَمَّا الْخَاصُّ بِالْوُجُوبِ فَعُرِفَ بِطُرُقٍ أَحَدُهَا أَنْ يَقَعَ على صِفَةٍ تَقَرَّرَ في الشَّرْعِ أنها أَمَارَةُ الْوُجُوبِ كَالصَّلَاةِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ثَانِيهَا أَنْ يَقَعَ قَضَاءً لِعِبَادَةٍ عُلِمَ وُجُوبُهَا عليه ثَالِثُهَا أَنْ يَقَعَ جَزَاءَ شَرْطٍ كَفِعْلِ ما وَجَبَ بِالنَّذْرِ قُلْنَا إنَّ النَّذْرَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ رَابِعُهَا أَنْ يُدَاوِمَ على الْفِعْلِ مع عَدَمِ ما يَدُلُّ على عَدَمِ الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ لو كان غير وَاجِبٍ لَأَخَلَّ بِتَرْكِهِ خَامِسُهَا ذَكَرَ الصَّيْرَفِيُّ أَنْ يَفْعَلَهُ فَصْلًا بين الْمُتَدَاعِيَيْنِ جَزَاءً فَهُوَ دَلِيلٌ على وُجُوبِهِ قال تَعَالَى ثُمَّ لَا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَكَذَلِكَ ما أَخَذَهُ من مَالِ رَجُلٍ وَأَعْطَاهُ لِآخَرَ فَيُعْلَمُ أَنَّ ذلك الْأَخْذَ وَاجِبٌ سَادِسُهَا أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا منه لو لم يَجِبْ كَالْإِتْيَانِ بِالرُّكُوعَيْنِ في صَلَاةِ الْخُسُوفِ فإن الزِّيَادَةَ في الصَّلَاةِ مُبْطِلَةٌ في غَيْرِ الْخُسُوفِ فَمَشْرُوعِيَّتُهَا دَلِيلٌ على وُجُوبِهَا وَهَذَا الْمَعْنَى نَقَلُوهُ عن ابْنِ سُرَيْجٍ في إيجَابِ الْخِتَانِ وهو مُنْتَقِضٌ بِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ منها سُجُودُ السَّهْوِ وَالتِّلَاوَةِ في الصَّلَاةِ فإنه مَمْنُوعٌ منه وَلَمَّا جَازَ لم يَجِبْ وَكَذَلِكَ رَفْعُ الْيَدَيْنِ على التَّوَالِي في تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَغَيْرِهِ وقال الْخَفَّافُ في الْخِصَالِ فِعْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْنَا إلَّا في خَصْلَتَيْنِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ بَيَانًا أو يُقَارِنُهُ دَلَالَةٌ
____________________
(3/257)
وَأَمَّا الْخَاصُّ بِالنَّدْبِ فَأُمُورٌ منها قَصْدُ الْقُرْبَةِ مُجَرَّدًا عن أَمَارَةٍ دَالَّةٍ على الْوُجُوبِ فإنه يَدُلُّ على كَوْنِهِ مَنْدُوبًا وَبِكَوْنِهِ قَضَاءً لِمَنْدُوبٍ وَمُدَاوَمَتُهُ على الْفِعْلِ ثُمَّ يُخِلُّ بِتَرْكِهِ كَتَرْكِهِ الْجُلُوسَ لِلتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَكَذَا تَرْكُهُ الْوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ بَعْدَ وُجُوبِهِ فيه دَلِيلٌ على أَنَّهُ كان غير وَاجِبٍ فيه قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَمِنْهَا بِالدَّلَالَةِ على أَنَّهُ كان مُخَيَّرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِعْلٍ آخَرَ ثَبَتَ عَدَمُ وُجُوبِهِ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ لَا يَقَعُ بين وَاجِبٍ وَغَيْرِ وَاجِبٍ وقد يَكُونُ بَعْضُ النُّدُوبِ آكِدٌ من بَعْضٍ قال الْقَفَّالُ في مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَمِمَّا تُعْرَفُ بها الْآكَدِيَّةُ الْمُدَاوَمَةُ عليه لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمَوَاقِعِ الشُّكْرِ فَيُقَدَّمُ على ما لم يُدَاوِمْ عليه وَمِنْهَا أَدَاؤُهُ في جَمَاعَةٍ فَيَكُونُ آكَدَ مِمَّا شَرَعَهُ مُنْفَرِدًا لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ من شَعَائِرِ الْفَرَائِضِ وَمِنْهَا التَّوْقِيتُ فَالْفِعْلُ الْمُؤَقَّتُ أَفْضَلُ مِمَّا لَا وَقْتَ له لِأَنَّ التَّوْقِيتَ من مَعَالِمِ الْفُرُوضِ وَجُعِلَ منه الْوِتْرُ وَالرَّوَاتِبُ وما نَقَصَ عن ذلك كان بَعْدَهُ في الرُّتْبَةِ وَذَكَرَ الْإِمَامُ في النِّهَايَةِ من أَسْبَابِ الْآكَدِيَّةِ أَنَّ ما اُتُّفِقَ عليه آكَدُ مِمَّا اُخْتُلِفَ فيه وَهَذَا خَارِجٌ عَمَّا نَحْنُ فيه وَتُعْرَفُ الْإِبَاحَةُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ وَتَنْتَفِي نَدْبِيَّتُهُ وَوُجُوبُهُ بِالْبَقَاءِ على حُكْمِ الْأَصْلِ فَيُعْرَفُ أَنَّهُ مُبَاحٌ قال في الْمَحْصُولِ وَبِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ رَاجِحَ التَّرْكِ فَيُعْلَمُ أَنَّ فِعْلَهُ غَيْرُ رَاجِحِ التَّرْكِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ رُجْحَانِ الْفِعْلِ فَثَبَتَتْ الْإِبَاحَةُ قال الصَّيْرَفِيُّ وَبِأَنْ يَفْعَلَهُ بَعْدَ نَهْيٍ منه فَيُعْلَمُ زَوَالُ النَّهْيِ وَمِثْلُهُ بِأَمْرِهِ بِالصَّلَاةِ قُعُودًا خَلْفَ الْإِمَامِ الْقَاعِدِ ثُمَّ صلى قَاعِدًا وَالنَّاسُ قِيَامٌ خَلْفَهُ قال وَهَذَا إنَّمَا يَقَعُ في السُّنَّةِ لِأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْقُرْآنَ مَسْأَلَةٌ ما فَعَلَهُ الرَّسُولُ صلى اللَّهُ عليه وسلم مَرَّةً وَاحِدَةً يَأْتِي بِهِ على أَكْمَلِ وَجْهٍ فِعْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّمَا يُحْمَلُ على بَيَانِ الْجَوَازِ في شَيْءٍ يَتَكَرَّرُ فِعْلُهُ كَثِيرًا فَيَفْعَلُهُ مَرَّةً أو مَرَّاتٍ على الْوَجْهِ الْجَائِزِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَيُوَاظِبُ غَالِبًا على فِعْلِهِ على أَكْمَلِ وُجُوهِهِ كَالْوُضُوءِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا كُلُّهُ ثَابِتٌ وَالْكَثِيرُ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَأَمَّا الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فلم يَتَكَرَّرْ وَإِنَّمَا جَرَى منه مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَا يَقَعُ منه إلَّا على أَكْمَلِ وُجُوهِهِ كَذَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ مُسْلِمٍ وَرَدَّ بِهِ قَوْلَ من قال إنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّمَا أَحْرَمَ من الْمِيقَاتِ
____________________
(3/258)
دُونَ بَلَدِهِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ مَسْأَلَةٌ دُخُولُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فِيمَا وَقَعَ من الْأَفْعَالِ لِلْبَيَانِ إذَا فَعَلَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فِعْلًا لِبَيَانٍ دخل في ذلك هَيْئَةُ الْفِعْلِ وَأَمَّا الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ فَإِنَّمَا يَدْخُلَانِ حَيْثُ يَلِيقُ دُخُولُهُمَا كما في الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالصَّلَوَاتِ في أَوْقَاتِهَا وَقِيلَ إنَّ تَكْرِيرَهُ لِلْفِعْلِ في زَمَانٍ وَاحِدٍ أو مَكَان وَاحِدٍ يَدُلُّ على اعْتِبَارِ ما وَقَعَ فيه وقد سَبَقَتْ في مَبَاحِثِ الْبَيَانِ مَسْأَلَةٌ قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَفِعْلُهُ الْمُوَافِقَانِ لِلْقُرْآنِ هل هُمَا بَيَانٌ لِلْقُرْآنِ أو بَيَانُ حُكْمٍ مُبْتَدَأٍ نَقَلَ السَّرَخْسِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ عن أَصْحَابِهِمْ أَنَّ فِعْلَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أو قَوْلَهُ مَتَى وَرَدَ مُوَافِقًا لِلْقُرْآنِ يُجْعَلُ صَادِرًا عن الْقُرْآنِ وَبَيَانًا لِمَا فيه قال وَالشَّافِعِيَّةُ يَجْعَلُونَهُ بَيَانَ حُكْمٍ مُبْتَدَأٍ حتى يَقُومَ الدَّلِيلُ على خِلَافِهِ قال وَعَلَى هذا قُلْنَا بَيَانُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم التَّيَمُّمَ في حَقِّ الْجُنُبِ صَادِرٌ عَمَّا في الْقُرْآنِ وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ أو لَامَسْتُمْ الْجِمَاعُ دُونَ الْمَسِّ بِالْيَدِ وَهُمْ يَجْعَلُونَ ذلك بَيَانَ حُكْمٍ مُبْتَدَأٍ وَيَحْمِلُونَ قَوْلَهُ أو لَامَسْتُمْ على الْمَسِّ بِالْيَدِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عَمَّا في الْقُرْآنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ شُرِعَ في الْحُكْمِ ابْتِدَاءً وهو في الظَّاهِرِ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِالْآيَةِ فَيُحْمَلُ على أَنَّهُ بَيَانُ حُكْمٍ مُبْتَدَأٍ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَلِمَا فيه من زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ قُلْت وَسَبَقَ في أَوَّلِ الْبَابِ عَكْسُهَا مَسْأَلَةٌ طُرُقُ إثْبَاتِ فِعْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا قُلْنَا في أَمْرٍ من الْأُمُورِ إنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَعَلَهُ فَلَنَا في مَعْرِفَتِهِ ثَلَاثَ طُرُقٍ الْأَوَّلُ أَنْ يُنْقَلَ إلَيْنَا أَنَّهُ فَعَلَهُ تَوَاتُرًا أو آحَادًا كَفِعْلِ التَّكْبِيرِ عِنْدَ التَّحَرُّمِ وَالطُّمَأْنِينَةِ في الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالِاعْتِدَالِ فإنه مَنْقُولٌ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْنَا لِأَنَّهُ عليه السَّلَامُ فَعَلَ ذلك وَكُلُّ ما فَعَلَهُ وَجَبَ عَلَيْنَا فِعْلُهُ الثَّانِي أَنْ نَقُولَ هذا الْفِعْلُ أَفْضَلُ بِالْإِجْمَاعِ وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ لَا يُوَاظِبُ على
____________________
(3/259)
تَرْكِ الْأَفْضَلِ فَيَلْزَمُ أَنْ يُوَاظِبَ على الْأَفْضَلِ وَكَقَوْلِنَا الْوُضُوءُ الْمُرَتَّبُ الْمَنْوِيُّ أَفْضَلُ بِالْإِجْمَاعِ وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلٌ بِأَنَّ أَفْضَلَ الْخَلْقِ لَا يُوَاظِبُ على تَرْكِ الْأَفْضَلِ فَثَبَتَ إتْيَانُهُ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا مِثْلُهُ الثَّالِثُ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لو تَرَكَ النِّيَّةَ وَالتَّرْتِيبَ لَوَجَبَ عَلَيْنَا تَرْكُهُ لِدَلِيلِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ لِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ كما تَكُونُ في الْأَفْعَالِ تَكُونُ في التُّرُوكِ وَلَمَّا لم يَجِبْ عَلَيْنَا تَرْكُهُ ثَبَتَ أَنَّهُ ما تَرَكَهُ بِفِعْلِهِ وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَاظَبَ على التَّكْبِيرِ وَالتَّحِيَّاتِ فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ من إجْمَاعٍ أو نَصٍّ على عَدَمِ وُجُوبِهَا حَكَمْنَا بِهِ وَيَكُونُ تَخْصِيصُ عُمُومٍ وَإِلَّا فَهِيَ وَاجِبَةٌ لَكِنْ لَا نَطْمَعُ بِالْإِجْمَاعِ لِمُخَالَفَةِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَلَا يُفِيدُ الْقِيَاسُ كَقَوْلِهِمْ الْقِيَامُ هَيْئَةٌ مُعْتَادَةٌ وَلَا تَتَمَيَّزُ الْعَادَةُ فيه من الْعِبَادَةِ إلَّا بِسَبَبِ ما فيه من الْقِرَاءَةِ فَلَا جَرَمَ كانت وَاجِيَةً أَعْنِي الْقِرَاءَةَ لَا غَيْرُ وَأَمَّا الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فَهَاهُنَا مُخَالَفَةٌ لِلْعَادَةِ فلم يَكُنْ لِكَوْنِهَا عِبَادَةً حَاجَةٌ إلَى الذِّكْرِ فَلَا تَجِبُ التَّسْبِيحَاتُ فَهَذِهِ ضَعِيفَةٌ في مُقَابَلَةِ ما ذَكَرْنَا من الدَّلِيلِ مَسْأَلَةٌ قال ابن السَّمْعَانِيِّ يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ كَنَهْيِهِ عن الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ رُوِيَ أَنَّهُ صلى صَلَاةً لها سَبَبٌ فَكَانَ ذلك تَخْصِيصًا لِعُمُومِ النَّهْيِ وَكَنَهْيِهِ عن الْقَوَدِ في الطَّرَفِ قبل الِانْدِمَالِ ثُمَّ رُوِيَ أَنَّهُ أَقَادَ قبل الِانْدِمَالِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالنَّهْيِ الْكَرَاهَةَ في وَقْتٍ دُونَ التَّحْرِيمِ وَالرَّابِعُ وهو النَّسْخُ في بَابِهِ فَإِنْ تَعَارَضَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ في الْبَيَانِ فَفِيهِ أَوْجُهٌ أَحَدُهَا تَقْدِيمُ الْقَوْلِ لِتَعَدِّيهِ بِصِيغَتِهِ وَالثَّانِي تَقْدِيمُ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ أَوْلَى وَأَقْوَى في الْبَيَانِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَلَا بُدَّ من دَلِيلٍ آخَرَ لِتَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا قال وَهَذَا هو الْأَوْلَى
____________________
(3/260)
فَصْلٌ سَنَتَكَلَّمُ في بَابِ التَّرْجِيحِ على تَعَارُضِ الْقَوْلَيْنِ وَهُنَا على تَعَارُضِ الْفِعْلَيْنِ لِتَعَلُّقِهِ بِأَحْكَامِ الْأَفْعَالِ وَعَلَى تَعَارُضِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ تَعَارُضُ الْفِعْلَيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعَارُضُ بين الْأَفْعَالِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْبَعْضُ منها نَاسِخًا لِبَعْضٍ أو مُخَصِّصًا له لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ في ذلك الْوَقْتِ وَاجِبًا وفي مِثْلِ ذلك الْوَقْتِ بِخِلَافِهِ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا عُمُومَ له وَتَأَخُّرُ أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ هو النَّاسِخُ في الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ فِعْلَهُ الْأَوَّلَ لَا يَنْتَظِمُ جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَلَا يَدُلُّ على التَّكْرَارِ هَكَذَا جَزَمَ بِهِ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ من الْأُصُولِيِّينَ على اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ وَحَكَى ابن الْعَرَبِيِّ في كِتَابِ الْمَحْصُولِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا التَّخْيِيرُ وَثَانِيهَا تَقْدِيمُ الْمُتَأَخِّرِ كَالْأَقْوَالِ إذَا تَأَخَّرَ بَعْضُهَا وَالثَّالِثُ حُصُولُ التَّعَارُضِ وَطَلَبُ التَّرْجِيحِ من خَارِجٍ قال كما اتَّفَقَ في صَلَاةِ الْخَوْفِ صُلِّيَتْ على أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ صِفَةٍ يَصِحُّ منها سِتَّةَ عَشَرَ خَيَّرَ أَحْمَدُ فيها وقال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَتَرَجَّحُ بِمَا هو أَقْرَبُ لِهَيْئَةِ الصَّلَاةِ وَقَدَّمَ بَعْضُهُمْ الْأَخِيرَ منها إذَا عُلِمَ وَحَكَى صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ عن ابْنِ رُشْدٍ أَنَّ الْحُكْمَ في الْأَفْعَالِ كَالْحُكْمِ في الْأَقْوَالِ وَمَثَّلَهُ بِرِوَايَةِ وَائِلٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَفْعُ الْيَدَيْنِ في تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ وَعَدَمُ ذلك وقال الْقُرْطُبِيُّ يَجُوزُ التَّعَارُضُ بين الْفِعْلَيْنِ عِنْدَ من قال بِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ على الْوُجُوبِ فَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ فَالنَّسْخُ وَإِنْ جُهِلَ فَالتَّرْجِيحُ وَإِلَّا فَهُمَا مُتَعَارِضَانِ كَالْقَوْلَيْنِ وَأَمَّا على الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَدُلُّ على النَّدْبِ أو الْإِبَاحَةِ فَلَا تَعَارُضَ وقال الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ إذَا نُقِلَ فِعْلٌ وَحُمِلَ على الْوُجُوبِ ثُمَّ نُقِلَ فِعْلٌ يُنَاقِضُهُ قال الْقَاضِي لَا يُقْطَعُ على أَنَّهُ نَاسِخٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ انْتِهَاءٌ لِمُدَّةِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ قال وَهَذَا مُحْتَمَلٌ فَيُتَوَقَّفُ في كَوْنِهِ نَاسِخًا وَنَعْلَمُ انْتِهَاءَ ذلك الْحُكْمِ قَطْعًا لِأَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ
____________________
(3/261)
قال وَذَهَبَ مُجَاهِدٌ إلَى أَنَّهُ نَسْخٌ وَتَرَدَّدَ في الْقَوْلِ الطَّارِئِ على الْفِعْلِ قال الْغَزَالِيُّ وَلَا وَجْهَ لِهَذَا الْفَرْقِ وَالْأَصَحُّ ما ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَأَطْلَقَ إلْكِيَا عَدَمَ تَصَوُّرِ تَعَارُضِ الْفِعْلَيْنِ ثُمَّ اسْتَثْنَى من ذلك ما إذَا عُلِمَ بِدَلَالَةٍ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ إدَامَتُهُ في الْمُسْتَقْبَلِ فإنه يَكُونُ ما بَعْدَهُ نَاسِخًا له قال وَعَلَى مِثْلِهِ بَنَى الشَّافِعِيُّ مَذْهَبَهُ في سُجُودِ السَّهْوِ قبل السَّلَامِ وَبَعْدَهُ فقال وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَخْبَارُ في فِعْلِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في ذلك وَلَكِنْ كان آخَرُ الْأَمْرَيْنِ على ما رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ قبل السَّلَامِ وكان يُؤْخَذُ من مَرَاسِيمِ الرَّسُولِ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ وَاسْتَثْنَى ابن الْقُشَيْرِيّ من الْأَفْعَالِ ما وَقَعَ بَيَانًا كَقَوْلِهِ صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَآخِرُ الْفِعْلَيْنِ يَنْبَغِي أَنْ يَنْسَخَ الْأَوَّلَ كَآخِرِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ هذا الْفِعْلَ بِمَثَابَةِ الْقَوْلِ ا هـ وَهَذَا من صُوَرِ ما ذَكَرَهُ إلْكِيَا وَصَرَّحَ ابن الْقُشَيْرِيّ عن الْقَاضِي بِأَنَّ الْأَفْعَالَ التي لَا يَقَعُ فيها التَّعَارُضُ هِيَ الْمُطْلَقَةُ التي لم تَقَعْ مَوْقِعَ الْبَيَانِ من الرَّسُولِ وَهِيَ التي يَتَوَقَّفُ فيها الْوَاقِفِيَّةُ فَلَا يَتَحَقَّقُ فيها التَّعَارُضُ فإن الْأَفْعَالَ صِيَغٌ فيها وَلَا يُتَصَوَّرُ تَعَارُضُ الذَّوَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْمُتَغَايِرَةِ الْوَاقِعَةِ في الْأَوْقَاتِ ولم تَقَعْ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِيُصْرَفَ التَّعَارُضُ إلَى مُوجِبَاتِ الْأَحْكَامِ وَأَمَّا الْأَفْعَالُ الْوَاقِعَةُ مَوْقِعَ الْبَيَانِ فإذا اخْتَلَفَا وَتَنَافَيَا ولم يُمْكِنْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا في الْحُكْمِ فَالتَّعَارُضُ في مُوجِبِهِمَا كَالتَّعَارُضِ في مُوجِبِ الْقَوْلَيْنِ قال وَلَا يَرْجِعُ التَّعَارُضُ إلَى ذَاتَيْ الْفِعْلَيْنِ بَلْ التَّلَقِّي وَالْبَيَانِ الْمَنُوطِ بِهِمَا وَكَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ التَّعَارُضُ في مَعْنَى الْقَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ في الْحُكْمِ الْمُسْتَفَادِ من ظَاهِرِهِمَا ثُمَّ قال وَحَاصِلُ ما نَقُولُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْفِعْلَيْنِ تَجْوِيزُهُمَا إذَا لم يَكُنْ في أَحَدِهِمَا ما يَتَضَمَّنُ حَظْرًا سَوَاءٌ تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا أَمْ لَا قال وَهَذَا ظَاهِرٌ في نَظَرِ الْأُصُولِيِّ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ لَا صِيَغَ لها ثُمَّ فَصَّلَ ابن الْقُشَيْرِيّ بين ما يَقَعُ بَيَانًا وما لَا يَقَعُ بَيَانًا كَقَوْلِهِ صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَآخِرُ الْفِعْلَيْنِ يَنْبَغِي أَنْ يَنْسَخَ الْأَوَّلَ كَآخِرِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ هذا الْفِعْلَ بِمَثَابَةِ الْقَوْلِ وَأَمَّا ما ليس بَيَانًا فَإِنْ كان في مَسَاقِ الْقُرَبِ فَالِاخْتِيَارُ أَنَّهُ على النَّدْبِ فَلْيَجْرِ
____________________
(3/262)
ذلك في آخِرِ الْفِعْلَيْنِ لِأَنَّهُ نَاسِخٌ لِلْمُتَقَدِّمِ كَالْقَوْلَيْنِ الْمُؤَخَّرَيْنِ وقد نُقِلَ عن الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سَجَدَ عليه السَّلَامُ قبل السَّلَامِ وَبَعْدَهُ وكان آخِرُ الْأَمْرَيْنِ منه قَبْلُ فَرَأَى الْعُلَمَاءُ الْأَخْذَ بِذَلِكَ أَوْلَى ثُمَّ قال تَبَعًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَذَهَبَ كَثِيرٌ من الْأَئِمَّةِ فِيمَا إذَا نُقِلَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فِعْلَانِ مُؤَرَّخَانِ مُخْتَلِفَانِ أَنَّ الْوَاجِبَ التَّمَسُّكُ بِآخِرِهِمَا وَاعْتِقَادُ كَوْنِهِ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ وقال وقد ظَهَرَ مَيْلُ الشَّافِعِيِّ إلَى هذا فإنه قال في صَلَاةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ صَحَّ فيها رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ وَرِوَايَةُ خَوَّاتٍ ثُمَّ رَأَى الشَّافِعِيِّ رِوَايَةَ خَوَّاتٍ مُتَأَخِّرَةٌ وَقَدَّرَ ما رَوَاهُ ابن عُمَرَ في غَزْوَةٍ سَابِقَةٍ وَرُبَّمَا سَلَكَ مَسْلَكًا آخَرَ فَسُلِّمَ اجْتِمَاعُ الرِّوَايَتَيْنِ في غَزْوَةٍ وَاحِدَةٍ وَرَآهُمَا مُتَعَارِضَيْنِ ثُمَّ رَجَّحَ أَحَدَهُمَا فَرَجَّحَ رِوَايَةَ خَوَّاتٍ لِقُرْبِهَا من الْأُصُولِ فإن فيها قِلَّةَ الْحَرَكَةِ وَالْأَفْعَالِ وَهِيَ أَقْرَبُ إلَى الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ بَلْ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ يَقْتَضِي عَكْسَ ذلك فإنه قال وَخَوَّاتٌ مُتَقَدِّمُ الصُّحْبَةِ وَالسِّنِّ فَجَعَلَ ذلك مُرَجِّحًا على رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ وَصَرَّحَ قَبْلَهُ بِأَنَّهُ رَجَّحَهَا لِمُوَافَقَةِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ أَقْوَى في مُكَايَدَةِ الْعَدُوِّ وَنَقَلَ إلْكِيَا في مِثْلِ هذا عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَتَلَقَّى مِنْهُمَا جَوَازَ الْفِعْلَيْنِ وَيُحْتَاجُ في تَفْضِيلِ أَحَدِهِمَا على الْآخَرِ إلَى دَلِيلٍ قال إلْكِيَا وَهَذَا هو الْحَقُّ الذي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ وَهَذَا ما نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ وقال إنَّهُ ظَاهِرُ نَظَرِ الْأُصُولِيِّينَ وقال الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ الْمُخْتَارُ إنْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ على صِحَّةِ الْفِعْلَيْنِ وَاخْتَلَفُوا في الْأَفْضَلِ تَوَقَّفْنَا في الْأَفْضَلِ وَإِنْ ادَّعَى كُلُّ فَرِيقٍ يَتَمَسَّكُ بِرِوَايَةٍ بُطْلَانَ مَذْهَبِ صَاحِبِهِ فَيُتَوَقَّفُ وَلَا يُفْهَمُ الْجَوَازُ فِيهِمَا فَإِنَّهُمَا مُتَعَارِضَانِ وَيُعْلَمُ أَنَّ الْوَاقِعَ من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَحَدُهُمَا وَلَا يُرَجَّحُ وَإِنْ اتَّفَقُوا على صِحَّةِ وَاحِدٍ فَنَحْكُمُ بِهِ وَنَتَوَقَّفُ في الْآخَرِ وَالشَّافِعِيُّ إنَّمَا قال ذلك في صَلَاةِ الْخُسُوفِ وقد رَجَّحَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لِقُرْبِهِ إلَى هَيْئَةِ الصَّلَاةِ وقال الْمَازِرِيُّ إذَا نُقِلَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فِعْلَانِ ولم يُمْكِنْ تَأْوِيلُ أَحَدِهِمَا طُلِبَ التَّأْرِيخُ حتى يُعْلَمَ الْآخِرُ فَيَكُونُ هو النَّاسِخَ كَتَعَارُضِ الْقَوْلَيْنِ هذا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَرَأَى الْقَاضِي أَنَّ النُّسَخَ هَاهُنَا لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ كما دَعَتْ في الْأَقْوَالِ لِأَنَّ الْفِعْلَ مَقْصُورٌ على فَاعِلِهِ لَا يَتَعَدَّاهُ وَلَيْسَ كَالصِّيَغِ الْمُشْتَمِلَةِ على مَعَانٍ مُتَضَادَّةٍ فإذا وَجَدْنَا فِعْلَيْنِ
____________________
(3/263)
مُتَعَارِضَيْنِ حَمَلْنَاهُمَا على التَّجْوِيزِ وَالْإِبَاحَةِ وَهَذَا فيه نَظَرٌ إلَّا على رَأْيِ من يقول إنَّ فِعْلَهُ يَدُلُّ على الْإِبَاحَةِ وَلَيْسَ الْقَاضِي من الْقَائِلِينَ بِهِ وَالصَّحِيحُ اتِّبَاعُ آخِرِ الْفِعْلَيْنِ قال وَادَّعَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ قَدَّمَ في صَلَاةِ الْخَوْفِ رِوَايَةَ خَوَّاتٍ على رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ لِتَأَخُّرِ رِوَايَةِ خَوَّاتٍ فَإِنَّهَا في غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ وَرِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ في غَيْرِهَا وَنَازَعَهُ الْمَازِرِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ مُتَأَخِّرَةٌ عنها قال وَلِهَذَا قال الْإِمَامُ بَعْدَهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ قَدَّمَ رِوَايَةَ خَوَّاتٍ لِضَرْبٍ من التَّرْجِيحِ وفي التَّعَادُلِ بَيْنَهُمَا نَظَرٌ فَذَكَرَهُ قال وَأَشَارَ الْإِمَامُ إلَى أَنَّ الْمُخْتَارَ ما قَالَهُ الْفُقَهَاءُ من الْأَخْذِ بِآخِرِ الْأَمْرَيْنِ تَارِيخًا وَإِنْ كان لَا يُقْطَعُ بِذَلِكَ عن الصَّحَابَةِ وَالْأَظْهَرُ عِنْدَهُ من أَفْعَالِهِمْ اتِّبَاعُ آخِرِ الْفِعْلَيْنِ وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ قَدَّمُوا الْمُتَأَخِّرَ تَقْدِمَةً أَوْلَى وَأَفْضَلَ لَا تَقْدِمَةَ نَاسِخٍ على مَنْسُوخٍ ا هـ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ تُخَالِفُ ما سَبَقَ لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ لَا يَقُولُونَ بِأَنَّ الْفِعْلَ الثَّانِي نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ إلَّا إذَا دَلَّ دَلِيلٌ خَاصٌّ على تَكَرُّرِ هذا الْفِعْلِ الْخَاصِّ في حَقِّهِ وَحَقِّ الْأُمَّةِ فَحِينَئِذٍ إذَا تَرَكَهُ بَعْدَ ذلك وَأَتَى بِمُنَاقِضٍ له أو أَقَرَّ أَحَدًا من الْأُمَّةِ على عَمَلٍ يُنَاقِضُهُ كان ذلك مُقْتَضِيًا لِنَسْخِ الثَّانِي وَعَلَى قَوْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْمَازِرِيِّ لَا يُحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ لِذَلِكَ الْفِعْلِ بَلْ يَكْتَفُونَ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ على اقْتِدَاءِ الْأُمَّةِ بِفِعْلِهِ عليه السَّلَامُ مُطْلَقًا أو وُجُوبًا أو نَدْبًا أو إبَاحَةً على اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ فَمَتَى وَقَعَ منه عليه السَّلَامُ نَقِيضُ ذلك الْفِعْلِ شُرِعَ لِلْأُمَّةِ الثَّانِي أَيْضًا كما كان الْأَوَّلُ مَشْرُوعًا لهم لَكِنْ هل يَقْتَضِي ذلك نَسْخَ الْأَوَّلِ وَإِزَالَةَ الْحُكْمِ أو يَكُونُ كُلٌّ من الْفِعْلَيْنِ جَائِزًا وَالثَّانِي هو الْأَوَّلُ هذا هو مَحَلُّ نَظَرِ الْإِمَامِ وَالْمَازِرِيُّ يَمِيلُ إلَى النَّسْخِ أَمَّا إذَا نُقِلَ إلَيْنَا أَخْبَارٌ مُتَعَارِضَةٌ في فِعْلٍ وَاحِدٍ ولم يَصِحَّ عِنْدَنَا أَحَدُهَا كَيْفَ كان فَالْمُكَلَّفُ مُخَيَّرٌ في الْكُلِّ كَسُجُودِ السَّهْوِ قبل السَّلَامِ أو بَعْدَهُ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ في رَفْعِ الْيَدَيْنِ إلَى الْمَنْكِبَيْنِ أو الْأُذُنَيْنِ فَهُنَا يُرَجَّحُ ما يَتَأَيَّدُ بِالْأَصْلِ فَنُرَجِّحُ الْمَنْكِبَيْنِ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَقْلِيلُ الْأَفْعَالِ في الصَّلَاةِ وَهَذَا أَقَلُّ فَإِنْ لم يُوجَدْ هذا التَّرْجِيحُ حُكِمَ بِالتَّخْيِيرِ كَأَخْبَارِ قَبْضِ الْأَصَابِعِ في التَّشَهُّدِ
____________________
(3/264)
التَّعَارُضُ بين الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَأَمَّا الثَّانِي وهو التَّعَارُضُ بين الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَيَتَحَصَّلُ من أَفْرَادِهِ سِتُّونَ صُورَةً وَبَيَانُهُ بِانْقِسَامِهَا أَوَّلًا إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا أَنْ يُعْلَمَ تَقَدُّمُ الْقَوْلِ على الْفِعْلِ وَثَانِيهَا أَنْ يُعْلَمَ تَقَدُّمُ الْفِعْلِ على الْقَوْلِ وَثَالِثُهَا أَنْ يُجْهَلَ التَّارِيخُ وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ إمَّا أَنْ يَتَعَقَّبَ الثَّانِي الْأَوَّلُ بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَهُمَا زَمَانٌ أو يَتَرَاخَى أَحَدُهُمَا عن الْآخَرِ وَهَذَانِ قِسْمَانِ آخَرَانِ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ عَامًّا لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأُمَّتِهِ أو خَاصًّا بِهِ أَوَخَاصًّا بِهِمْ وَالْفِعْلُ إمَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ على وُجُوبِ تَكْرَارِهِ في حَقِّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَوُجُوبِ تَأَسِّي الْأُمَّةِ بِهِ فيه وَإِمَّا أَلَا يَدُلَّ دَلِيلٌ على وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِمَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ على التَّكْرَارِ دُونَ التَّأَسِّي أو الْعَكْسُ هذا حَصْرُ التَّقْسِيمِ فيها وَبَيَانُ ارْتِقَائِهَا إلَى الْعَدَدِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّك إذَا ضَرَبْتَ الْأَقْسَامَ الْأَرْبَعَةَ التي يُعْلَمُ بها تَعَقُّبُ الْفِعْلِ لِلْقَوْلِ أو تَرَاخِيهِ عنه وَتَعَقُّبُ الْقَوْلِ لِلْفِعْلِ أو تَرَاخِيهِ عنه في الثَّلَاثَةِ التي يَنْقَسِمُ إلَيْهَا من كَوْنِهِ يَعُمُّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أو يَخُصُّهُ أو يَخُصُّ الْأُمَّةَ حَصَلَ فيها اثْنَا عَشَرَ قِسْمًا وَمَجْهُولُ الْحَالِ من التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ الْقَوْلِ وَخُصُوصِهِ له ثَلَاثَةٌ أَيْضًا فَهَذِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ قِسْمًا تَضْرِبُهَا في أَقْسَامِ الْفِعْلِ الْأَرْبَعَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّكْرَارِ وَالتَّأَسِّي أو عَدَمِهَا أو وُجُودِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَيَنْتَهِي إلَى السِّتِّينَ صُورَةً من غَيْرِ تَدَاخُلٍ وَأَكْثَرُهَا لَا يُوجَدُ في السُّنَّةِ وَالْحُكْمُ فيها على وَجْهِ التَّفْصِيلِ يَخْتَلِفُ وَيَطُولُ الْكَلَامُ فيه وَلَا تُوجَدُ هذه السِّتُّونَ مَجْمُوعَةً هَكَذَا في كِتَابِ أَحَدٍ من الْأُصُولِيِّينَ وَذَكَرَ ابن الْخَطِيبِ في الْمَحْصُولِ منها خَمْسَةَ عَشَرَ وهو أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ من الْقَوْلِ أو الْفِعْلِ إمَّا أَنْ يَتَعَقَّبَ الْمُتَقَدِّمَ أو يَتَرَاخَى عنه فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ تُضْرَبُ في الثَّلَاثَةِ التي يَنْقَسِمُ الْقَوْلُ إلَيْهَا من كَوْنِهِ عَامًّا لنا وَلَهُ أو خَاصًّا بِهِ أو خَاصًّا بِنَا فَيَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا وَالْمَجْهُولُ الْحَالِ من الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ ثَلَاثَةٌ أُخْرَى بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ الْقَوْلِ وَخُصُوصِهِ أَيْضًا وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ في الْإِحْكَامِ انْقِسَامَ الْفِعْلِ إلَى الْأَرْبَعَةِ وهو إمَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ
____________________
(3/265)
على تَكَرُّرِهِ وَتَأَسِّي الْأُمَّةِ أو لَا أو يَدُلُّ على التَّكْرَارِ دُونَ التَّأَسِّي أو عَكْسُهُ فإذا جَمَعْتَ بين الْكَلَامَيْنِ وَضَرَبْتَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ صُورَةً في الْأَرْبَعَةِ حَصَلَ سِتُّونَ وقد ذَكَرَ خِلَافًا في الْمَوْضِعَيْنِ وهو دَاخِلٌ في هذه الصُّوَرِ السِّتِّينَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُخَاطَبِينَ وقد فَعَلَهُ عليه السَّلَامُ مُطْلَقًا وَوَرَدَ في بَعْضِ صُوَرِ الْعُمُومِ كَنَهْيِهِ عن الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ ثُمَّ صَلَاتُهُ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا قَضَاءً لِسُنَّةِ الظُّهْرِ وَمُدَاوَمَتُهُ عليها بَعْدَ ذلك وَكَنَهْيِهِ عن اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ ثُمَّ فَعَلَ ذلك في الْبُيُوتِ فَفِي مِثْلِ هذه ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا وهو قَوْلُ الْجُمْهُورِ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِفِعْلِهِ في الْحَالَةِ التي وَرَدَ فيها وَجَعَلُوا الْفِعْلَ أَحَدَ الْأَنْوَاعِ التي خُصِّصَ بها الْعُمُومُ وَسَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْفِعْلُ أو تَأَخَّرَ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ وَبُنِيَ الْعَامُّ على الْخَاصِّ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ إنْ تَقَدَّمَ الْفِعْلُ دَلَّ الْقَوْلُ على نَسْخِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِدُخُولِ الْمُخَاطَبِ في عُمُومِ خِطَابِهِ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ عِنْدَ الْمَانِعِينَ له وَالثَّانِي جَعْلُ الْفِعْلِ خَاصًّا بِهِ عليه السَّلَامُ وَإِمْضَاءُ الْقَوْلِ على عُمُومِهِ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عن عبد الْجَبَّارِ قال وَنَسَبَهُ إلَى الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ قال وَعَلَى
____________________
(3/266)
جَعْلِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَهُ عليه السَّلَامُ من قَرَنَ حَجًّا إلَى عُمْرَةٍ فَلْيَطُفْ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا أَوْلَى مِمَّا رُوِيَ أَنَّهُ عليه السَّلَامُ طَافَ طَوَافَيْنِ لَمَّا كان الْأَوَّلُ قَوْلًا وَالثَّانِي حِكَايَةَ فِعْلٍ وَالثَّالِثُ التَّوَقُّفُ كَدَلِيلَيْنِ تَعَارَضَا في الظَّاهِرِ وَيُطْلَبُ وَجْهُ التَّرْجِيحِ وَجَعَلَ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا وَرَدَ قَوْلٌ مُجْمَلٌ ثُمَّ صَدَرَ بَعْدَهُ فِعْلٌ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِذَلِكَ الْمُجْمَلِ وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مَحَلَّ الْخِلَافِ ما إذَا لم يَقُمْ دَلِيلٌ خَاصٌّ على تَأَسِّي الْأُمَّةِ في هذا الْفِعْلِ الْمَخْصُوصِ فَإِنْ دَلَّ عليه دَلِيلٌ خَاصٌّ كان نَاسِخًا لِلْقَوْلِ إنْ تَأَخَّرَ وَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ فَفِيهِ ما يَأْتِي من الْخِلَافِ وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ الْقَوْلُ من صِيَغِ الْعُمُومِ وَيُجْهَلُ التَّارِيخُ في تَقَدُّمِهِ على الْفِعْلِ أو تَأَخُّرِهِ عنه كَقَوْلِهِ لِعُمَرَ بن أبي سَلَمَةَ كُلْ مِمَّا يَلِيك وَتَتَبُّعُهُ الدُّبَّاءَ في جَوَانِبِ الصَّحْفَةِ وَكَنَهْيِهِ عن الشُّرْبِ قَائِمًا وَعَنْ الِاسْتِلْقَاءِ وَوَضْعِ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ على الْأُخْرَى وَثَبَتَ عنه أَنَّهُ فَعَلَ ذلك فَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ من
____________________
(3/267)
الْمُصَنِّفِينَ في مِثْلِ هذا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا وهو مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ تَقْدِيمُ الْقَوْلِ لِقُوَّتِهِ بِالصِّيغَةِ وَأَنَّهُ حُجَّةٌ بِنَفْسِهِ وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ بَرْهَانٍ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ وَجَزَمَ بِهِ إلْكِيَا قال لِأَنَّ فِعْلَهُ لَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَحَقُّ قَوْلِهِ أَنْ يَتَعَدَّاهُ فإذا اجْتَمَعَا تَمَسَّكْنَا بِقَوْلِهِ وَحَمَلْنَا فِعْلَهُ على أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِهِ وَكَذَا جَزَمَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وَالْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ وَالْآمِدِيَّ في الْأَحْكَامِ وَالْقُرْطُبِيُّ وابن حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ وَالثَّانِي تَقْدِيمُ الْفِعْلِ لِعَدَمِ الِاحْتِمَالِ فيه وَنُقِلَ عن اخْتِيَارِ الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُمَا شَيْئَانِ لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَحَكَاهُ ابن الْقُشَيْرِيّ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَنَصَرَهُ وَاخْتَارَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَمِنْهُمْ من جَعَلَ مَحَلَّ هذه الْأَقْوَالِ فِيمَا إذَا تَعَارَضَ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ في بَيَانِ مُجْمَلٍ دُونَ ما إذَا كَانَا مُبْتَدَأَيْنِ وَبِهِ صَرَّحَ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وابن الْقُشَيْرِيّ في كِتَابِهِ وَالْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى وَعَكَسَ الْقُرْطُبِيُّ فَجَعَلَ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا لم تَقُمْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ على أَنَّهُ بَيَانٌ وَجَعَلَ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ مَحَلَّ هذا الْخِلَافِ أَيْضًا فِيمَا إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ الْخَاصُّ على تَكَرُّرِ هذا الْفِعْلِ في حَقِّهِ وَعَلَى تَأَسِّي الْأُمَّةِ بِهِ وَعَلَى أَنَّ الْقَوْلَ الْمُعَارِضَ له خَاصٌّ بِهِ أو بِالْأُمَّةِ وَجُهِلَ التَّارِيخُ في تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا على الْآخَرِ وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ تَقْدِيمَ الْقَوْلِ وَاخْتَارَهُ ابن الْحَاجِبِ إذَا كان الْقَوْلُ خَاصًّا بِالْأُمَّةِ وَأَمَّا إذَا كان خَاصًّا بِالنَّبِيِّ عليه السَّلَامُ فَالْوَقْفُ وَلِلْفُقَهَاءِ في مِثْلِ ما مَثَّلْنَا بِهِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى لم يَذْكُرْهَا أَهْلُ الْأُصُولِ هُنَا وهو حَمْلُ الْأَمْرِ على النَّدْبِ وَالنَّهْيِ على الْكَرَاهَةِ وَجَعْلُ الْفِعْلِ بَيَانًا لِذَلِكَ أو حَمْلُ كُلٍّ من الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ على صُورَةٍ خَاصَّةٍ لَا تَجِيءُ في الْأُخْرَى كَالِاسْتِلْقَاءِ مَنْهِيٌّ عنه إذَا بَدَتْ منه الْعَوْرَةُ وَجَائِزٌ إذَا لم تَبْدُ منه إلَى غَيْرِ ذلك من الصُّوَرِ التي يُمْكِنُ الْجَمْعُ فيها بين الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَيَخْرُجُ من هذا تَخْصِيصُ الْخِلَافِ بِحَالَةِ تَعَذُّرِ إمْكَانِ الْجَمْعِ فإنه الذي يَقَعُ فيها التَّعَارُضُ وَاعْلَمْ أَنَّ هذا الْخِلَافَ إنَّمَا يَتَّجِهُ من الْقَائِلِينَ بِحَمْلِ فِعْلِهِ على الْوُجُوبِ فَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِحَمْلِهِ على الْإِبَاحَةِ وَالْوَقْفِ فَلَا شَكَّ عِنْدَهُمْ في تَقْدِيمِ الْقَوْلِ مُطْلَقًا وقال
____________________
(3/268)
الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَإِلْكِيَا إنْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ وَمَضَى وَقْتُ وُجُوبِهِ ولم يَفْعَلْهُ أو فَعَلَ ضِدَّهُ عَلِمْنَا نَسْخَهُ كَتَرْكِهِ قَتْلَ شَارِبِ الْخَمْرِ في الرَّابِعَةِ بَعْدَ أَمْرِهِ بِهِ وَإِنْ فَعَلَ ما يُضَادُّهُ قبل وَقْتِ وُجُوبِهِ دَلَّ على نَسْخِ حُكْمِ قَوْلِهِ عِنْدَ من أَجَازَ نَسْخَ الشَّيْءِ قبل مَجِيءِ وَقْتِهِ ولم يُنْسَخْ عِنْدَ من مَنَعَهُ وَإِنْ قَدَّمَ الْفِعْلَ كان الْقَوْلُ نَاسِخًا له وقد اسْتَشْكَلَ جَعْلُ الْفِعْلِ نَاسِخًا لِأَنَّ شَرْطَ النَّاسِخِ مُسَاوَاتُهُ لِلْمَنْسُوخِ أو أَقْوَى وَالْفِعْلُ أَضْعَفُ وَأَجَابَ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْمُسَاوَاةُ بِاعْتِبَارِ السَّنَدِ لَا غَيْرُ وَذَلِكَ لَا يُنَاقِضُ كَوْنَهُ فِعْلًا وَلِهَذَا يَجِبُ أَنْ يُفَصَّلَ في هذه الْمَسْأَلَةِ فَيُقَالُ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ إنْ كان في زَمَنِهِ عليه السَّلَامُ وَبِحَضْرَتِهِ فَقَدْ اسْتَوَيَا وَإِنْ نُقِلَا إلَيْنَا تَعَيَّنَ أَنْ لَا يُقْضَى بِالنَّسْخِ إلَّا بَعْدَ اسْتِوَاءِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنْ كان أَحَدُهُمَا مُتَوَاتِرًا وَالْآخَرُ آحَادًا مَنَعْنَا نَسْخَ الْآحَادِ لِلْمُتَوَاتِرِ قال وَهَذَا لَا بُدَّ منه ثُمَّ قال الْأُسْتَاذُ هذا كُلُّهُ فِيمَا إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بين الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ الصَّادِرِ منه عليه السَّلَامُ فَأَمَّا الْقَوْلُ من الْقُرْآنِ وَالْفِعْلُ من النبي عليه السَّلَامُ إذَا تَعَارَضَا فإنه يُحْمَلُ الْفِعْلُ على خَصَائِصِهِ بِهِ وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِفِعْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ
____________________
(3/269)
الْقِسْمُ الثَّالِثُ التَّقْرِيرُ وَصُورَتُهُ أَنْ يَسْكُتَ النبي عليه السَّلَامُ عن إنْكَارِ قَوْلٍ أو فِعْلٍ قِيلَ أو فُعِلَ بين يَدَيْهِ أو في عَصْرِهِ وَعَلِمَ بِهِ فَذَلِكَ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ فِعْلِهِ في كَوْنِهِ مُبَاحًا إذْ لَا يُقِرُّ على بَاطِلٍ وقال الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ هو أَنْ يَرَاهُمْ أو بَعْضَهُمْ يَفْعَلُ الْفِعْلَ أو يُخْبَرُ عَنْهُمْ أو بَعْضِهِمْ وَذَلِكَ الْفِعْلُ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا الطَّاعَةَ من عَمَلٍ في فَرْضٍ أو عَمَلٍ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا الْحِلَّ أو التَّحْرِيمَ عِنْدَهُمْ لَا يَنْهَاهُمْ عنه كَأَكْلِهِمْ الضَّبَّ بِحَضْرَتِهِ وَنَحْوِهِ ثُمَّ قال ابن سُرَيْجٍ في كِتَابِ الْوَدَائِعِ هو على النَّدْبِ فَقَطْ بِخِلَافِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْمَانِعُونَ من التَّعَلُّقِ بِفِعْلِهِ عليه السَّلَامُ يُسَلِّمُونَ أَنَّ تَقْرِيرَهُ لِغَيْرِهِ شُرِعَ لِنَفْيِ رَفْعِ الْحَرَجِ من حَيْثُ تَعَلُّقُ التَّقْرِيرِ بِالْمُقَرَّرِ فَكَانَ ذلك في حُكْمِ الْخِطَابِ بِرَفْعِ الْحَرَجِ وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فيه كما قَالَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إذَا دَلَّ التَّقْرِيرُ على انْتِفَاءِ الْحَرَجِ فَهَلْ يَخْتَصُّ بِمَنْ قُرِّرَ أو يَعُمُّ سَائِرَ الْمُكَلَّفِينَ فَذَهَبَ الْقَاضِي إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ التَّقْرِيرَ ليس له صِيغَةٌ تَعُمُّ وَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ على أَنَّ التَّحْرِيمَ إذَا ارْتَفَعَ في حَقِّ وَاحِدٍ ارْتَفَعَ في حَقِّ الْكَافَّةِ وَذَهَبَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى الثَّانِي وهو الْأَظْهَرُ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ في حُكْمِ الْخِطَابِ وقد تَقَرَّرَ أَنَّ خِطَابَ الْوَاحِدِ خِطَابٌ لِلْجَمِيعِ وَاخْتَارَهُ الْمَازِرِيُّ وَنَقَلَهُ عن الْجُمْهُورِ هذا إذَا لم يَكُنْ التَّقْرِيرُ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ الْمُتَقَدِّمِ فَإِنْ كان كَذَلِكَ فَاخْتَلَفُوا فيه أَيْضًا وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ أَنَّهُ إنْ بَيَّنَ لِذَلِكَ الْفِعْلِ مَعْنًى يَقْتَضِي جَوَازَ مُخَالَفَةِ ذلك الْوَاحِدِ لِلْعُمُومِ فإنه يَتَعَدَّى إلَى كل من وُجِدَ فيه ذلك الْمَعْنَى بِالْقِيَاسِ على ما قُرِّرَ
____________________
(3/270)
وقال الرَّازِيَّ إنْ ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَهُ عليه السَّلَامُ في الْوَاحِدِ حُكْمُهُ في الْكُلِّ كان ذلك التَّقْرِيرُ تَخْصِيصًا في حَقِّ الْكُلِّ وَإِلَّا فَلَا وَاخْتَارَ ابن الْحَاجِبِ عِنْدَ فَهْمِ الْمَعْنَى قَطْعَ الْإِلْحَاقِ وَالِاخْتِصَاصِ بِمَنْ قُرِّرَ فَقَطْ وَاخْتَارَ جَمَاعَةٌ التَّعَدِّيَ إلَى الْكُلِّ وقد صَرَّحَ جَمْعٌ من الْأُصُولِيِّينَ بِأَنَّ الْفِعْلَ إذَا سَبَقَ تَحْرِيمُهُ فَيَبْقَى تَقْرِيرُهُ نَسْخًا لِذَلِكَ الْحُكْمِ وَلَوْلَا أَنَّ التَّقْرِيرَ يَتَعَدَّى حُكْمُهُ لَكَانَ تَخْصِيصًا لَا نَسْخًا وقد نَصَّ الشَّافِعِيُّ على أَنَّ تَقْرِيرَ النبي عليه السَّلَامُ لِلصَّلَاةِ قِيَامًا خَلْفَهُ وهو جَالِسٌ نَاسِخٌ لِأَمْرِهِ السَّابِقِ بِالْقُعُودِ الْأَمْرُ الثَّانِي إذَا تَضَمَّنَ رَفْعَ الْحَرَجِ إمَّا خَاصًّا أو عَامًّا فَهَلْ يُحْمَلُ على الْإِبَاحَةِ أو لَا يَقْضِي بِكَوْنِهِ مُبَاحًا أو وَاجِبًا أو نَدْبًا بَلْ يُحْتَمَلُ فَيَتَوَقَّفُ ذَهَبَ الْقَاضِي إلَى الثَّانِي وابن الْقُشَيْرِيّ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ الْأَقَلُّ وإذا قُلْنَا بِالْإِبَاحَةِ وهو الْمَشْهُورُ فَاخْتَلَفُوا في حُكْمِ الِاسْتِبَاحَةِ لِمَا أَقَرَّ على وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا إلْكِيَا وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُبَاحٌ بِالْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ وهو بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَلَا يَنْتَقِلُ إلَّا بِسَبَبٍ وَهَذَا منهم تَعَلُّقٌ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَالثَّانِي أَنَّهُ مُبَاحٌ بِالشَّرْعِ حين أُقِرُّوا عليها وَهُمَا الْوَجْهَانِ في أَصْلِ الْأَشْيَاءِ قبل وُرُودِ الشَّرْعِ هل كانت على الْإِبَاحَةِ حتى حَظَرَهَا الشَّارِعُ أو على الْحَظْرِ حتى أَبَاحَهَا ولم يَقِفْ الشَّيْخُ السُّبْكِيُّ على هذا الْخِلَافِ وَسَأَلَهُ الصَّدْرُ بن الْوَكِيلِ فلم يَسْتَحْضِرْ فيه نَصًّا وَرَجَّحَ أَنَّهُ يَدُلُّ على الْإِبَاحَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ على فِعْلٍ حتى يُعْرَفَ حُكْمُهُ فَمِنْ هُنَا دَلَّ التَّقْرِيرُ على الْإِبَاحَةِ شُرُوطُ حُجِّيَّةِ التَّقْرِيرِ إذَا ثَبَتَ هذا فَإِنَّمَا يَكُونُ التَّقْرِيرُ حُجَّةً بِشُرُوطٍ أَحَدُهَا أَنْ يَعْلَمَ بِهِ فَإِنْ لم يَعْلَمْ بِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةً وهو ظَاهِرٌ من لَفْظِ التَّقْرِيرِ وَخَرَجَ من هذا ما فُعِلَ في عَصْرِهِ مِمَّا لم يَطَّلِعْ عليه غَالِبًا كَقَوْلِهِمْ كنا نُجَامِعُ وَنَكْسَلُ وما فُعِلَ في عَهْدِهِ عليه السَّلَامُ ولم يُعْلَمْ انْتِشَارُهُ انْتِشَارًا يَبْلُغُ النبي عليه السَّلَامُ فَهَلْ يُجْعَلُ ذلك سُنَّةً وَشَرِيعَةً من شَرَائِعِهِ جَزَمَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في الْمُلَخَّصِ بِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فيه وَلِهَذَا قال في الْأَقِطِ هل يَجُوزُ في الْفِطْرَةِ أَمْ لَا على قَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ لم يَكُنْ قد عُلِمَ أَنَّهُ بَلَغَ النبي عليه السَّلَامُ ما كَانُوا يُخْرِجُونَهُ في الزَّكَاةِ في الْأَقِطِ لِأَنَّهُ رُوِيَ عن بَعْضِ
____________________
(3/271)
الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قال كنا نُخْرِجُ على عَهْدِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صَاعًا من أَقِطٍ فَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ في هذا على وَجْهَيْنِ ا هـ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ إذَا قال الصَّحَابِيُّ كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا وَأَضَافَهُ إلَى عَصْرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وكان مِمَّا لَا يَخْفَى مِثْلُهُ حُمِلَ على الْإِقْرَارِ وَيَكُونُ شَرْعًا لنا وَإِنْ كان مِثْلُهُ يَخْفَى فَإِنْ تَكَرَّرَ منه ذِكْرُهُ حُمِلَ على إقْرَارِهِ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ فِيمَا كَثُرَ أَنَّهُ لَا يَخْفَى كَقَوْلِ أبي سَعِيدٍ كنا نُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ في زَمَنِ النبي عليه السَّلَامُ صَاعًا من تَمْرٍ أو صَاعًا من شَعِيرٍ أو صَاعًا من بُرٍّ قال وَعَلَى هذا إذَا خَرَّجَ الرَّاوِي الرِّوَايَةَ مَخْرَجَ الْكَثِيرِ بِأَنْ قال كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا حُمِلَتْ الرِّوَايَةُ على عَمَلِهِ وَإِقْرَارِهِ وَصَارَ كَالْمَنْقُولِ شَرْعًا وَإِنْ تَجَرَّدَ عن لَفْظِ التَّكْثِيرِ كَقَوْلِهِ فَعَلُوا كَذَا فَهُوَ مُحْتَمَلٌ وَلَا يَثْبُتُ شَرْعٌ بِاحْتِمَالٍ أَمَّا إذَا أَضَافَهُ إلَى عَصْرِ الصَّحَابَةِ أو أَطْلَقَ فَسَيَأْتِي الشَّرْطُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ قَادِرًا على الْإِنْكَارِ كَذَا قال ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ من خَصَائِصِهِ عَدَمَ سُقُوطِ وُجُوبِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْخَوْفِ على النَّفْسِ وَعَدَمَ السُّقُوطِ في الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ منه خَوْفٌ على نَفْسِهِ بَعْدَ إخْبَارِ اللَّهِ بِعِصْمَتِهِ في قَوْلِهِ وَاَللَّهُ يَعْصِمُك من الناس قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في تَعْلِيقِهِ وَإِنَّمَا اخْتَصَّ عليه السَّلَامُ بِوُجُوبِهِ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ له النَّصْرَ وَالظَّفَرَ بِقَوْلِهِ إنَّا كَفَيْنَاك الْمُسْتَهْزِئِينَ الثَّانِي أَنَّهُ لو لم يُنْكِرْهُ لَكَانَ يُوهِمُ أَنَّ ذلك جَائِزٌ وَإِلَّا لَأَمَرَ بِتَرْكِهِ ا هـ وَحِينَئِذٍ فَلَا يُعْقَلُ هذا الشَّرْطُ الشَّرْطُ الثَّالِثُ كَوْنُ الْمُقَرِّ على الْفِعْلِ مُنْقَادًا لِلشَّرْعِ سَامِعًا مُطِيعًا فَالْمُمْتَنِعُ كَالْكَافِرِ لَا يَكُونُ التَّقْرِيرُ في حَقِّهِ دَالًّا على الْإِبَاحَةِ وَأَلْحَقَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمُنَافِقَ وَنَازَعَهُ الْمَازِرِيُّ لِأَنَّا نُجْرِي عليه الْأَحْكَامَ ظَاهِرًا وهو كما قال لِأَنَّهُ من أَهْلِ الِالْتِزَامِ وَالِانْقِيَادِ في الْجُمْلَةِ وَحَكَى الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ في تَقْرِيرِ الْمُنَافِقِ خِلَافًا وَمَالَ إلْكِيَا إلَى ما قَالَهُ إمَامُهُ قال لِأَنَّهُ عليه السَّلَامُ كان كَثِيرًا ما يَسْكُتُ عن الْمُنَافِقِينَ عِلْمًا منه أَنَّ الْعِظَةَ لَا تَنْفَعُ مَعَهُمْ وَإِنْ كان الْعَذَابُ حَقِيقًا بِهِمْ وَشَرَطَ ابن أبي هُرَيْرَةَ في تَعْلِيقِهِ كَوْنَ التَّقْرِيرِ بَعْدَ ثُبُوتِ الشَّرْعِ وَأَمَّا ما كان يُقِرُّ
____________________
(3/272)
عليه قبل اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ حين كان دَاعِيًا إلَى الْإِسْلَامِ فَلَا وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى الثَّانِي وَشَرَطَ ابن السَّمْعَانِيِّ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ إنْكَارٌ سَابِقٌ قال وإذا ذَمَّ الرَّسُولُ فَاعِلًا بَعْدَ إقْرَارِهِ على فِعْلِ مِثْلِهِ دَلَّ على حَظْرِهِ بَعْدَ إبَاحَتِهِ وَإِنْ كان الْآخَرُ هو الذَّمُّ بَعْدَ الْإِقْرَارِ دَلَّ على الْحَظْرِ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ قال وإذا عُلِمَ من حَالِ مُرْتَكِبِ الْمُنْكَرِ أَنَّ الْإِنْكَارَ عليه يَزِيدُهُ إغْرَاءً على مِثْلِهِ فَإِنْ عَلِمَ بِهِ غَيْرُ الرَّسُولِ لم يَجِبْ عليه الْإِنْكَارُ لِئَلَّا يَزْدَادَ من الْمُنْكَرِ بِالْإِغْرَاءِ وَإِنْ عَلِمَ بِهِ الرَّسُولُ فَفِي إنْكَارِهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يَجِبُ لِمَا ذُكِرَ وهو قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالثَّانِي يَجِبُ إنْكَارُهُ لِيَزُولَ بِالْإِنْكَارِ تَوَهُّمُ الْإِبَاحَةِ قال وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ وهو قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَعَلَيْهِ يَكُونُ الرَّسُولُ مُخَالِفًا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ وَالْحَظْرَ شَرْعٌ مُخْتَصٌّ بِالرَّسُولِ دُونَ غَيْرِهِ وَشَرَطَ ابن الْقُشَيْرِيّ أَنْ لَا نَجِدَ لِلسُّكُوتِ مَحْمَلًا سِوَى التَّقْرِيرِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ فَلَوْ كان مُشْتَغِلًا بِبَيَانِ حُكْمٍ مُسْتَغْرِقًا فيه فَرَأَى إنْسَانًا على أَمْرٍ ولم يَتَعَرَّضْ له فَلَا يَكُونُ تَرْكُهُ ذلك تَقْرِيرًا إذْ لَا يُمْكِنُهُ تَقْرِيرُ جَمِيعِ الْمَوَانِعِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ قال وَلِهَذَا أَقُولُ ليس كُلُّ ما كان عليه الناس في صَدْرِ الشَّرْعِ ثُمَّ تَغَيَّرَ الْأَمْرُ لَا يُدَّعَى فيه النَّسْخُ بَلْ إذَا ثَبَتَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ثُمَّ تَغَيَّرَ فَهُوَ النَّسْخُ فَأَمَّا ما كان عليه الناس في الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ قَرَّرَ الرَّسُولُ فيه حُكْمًا فَلَا يُقَالُ كان ذلك الْمُتَقَدِّمُ شَرْعًا مُسْتَمِرًّا ثُمَّ نُسِخَ إذْ رُبَّمَا لم يَتَفَرَّغْ الرَّسُولُ لِبَيَانِهِ أو لم يَتَذَكَّرْهُ مِثَالُهُ قَوْلُ الْخَصْمِ في نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ كان قد تَقَرَّرَ في ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ انْتِفَاءُ الْحَظْرِ في الْمَنْكُوحَاتِ ثُمَّ طَرَأَ الْحَظْرُ فَنُسِخَ ذلك الْحُكْمُ وَهَذَا مُجَازَفَةٌ إذْ من الْمُمْكِنِ أَنَّهُمْ كَانُوا ولم يَكُنْ ذلك شَرْعًا بَلْ جَرْيًا على حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ بَيَّنَ النبي عليه السَّلَامُ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ على أَرْبَعٍ بَيَانًا مُبْتَدَأً وَأَمَّا إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ مَحْمُولًا على أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السَّلَامُ لم يُبَيِّنْ له بَعْدَ ذلك الْحُكْمَ لم يُقْطَعْ بِمَشْرُوعِيَّةِ ذلك التَّقْرِيرِ بَلْ يُقَالُ بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ إذْ لَا عُثُورَ فيه على شَرْعٍ لِانْدِرَاسِ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَهَذَا لَا يُقْضَى فيه بِحُكْمٍ أَصْلًا ا هـ صُوَرُ التَّقْرِيرِ ثُمَّ في التَّقْرِيرِ صُوَرٌ تَعَرَّضَ لها الشَّيْخُ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ إحْدَاهَا أَنْ يُخْبِرَ النبي عليه السَّلَامُ عن وُقُوعِ فِعْلٍ في الزَّمَنِ الْمَاضِي على وَجْهٍ من الْوُجُوهِ وَيَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمٍ من الْأَحْكَامِ هل هو من لَوَازِمِ ذلك الْفِعْلِ فإذا
____________________
(3/273)
سَكَتَ عن بَيَانِ كَوْنِهِ لَازِمًا دَلَّ على أَنَّهُ ليس من لَوَازِمِ ذلك الْفِعْلِ كما لو أَخْبَرَ بِإِتْلَافٍ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ تَعَلُّقِ الضَّمَانِ أو عَدَمِهِ كَإِتْلَافِ خَمْرِ الذِّمِّيِّ مَثَلًا فَسُكُوتُهُ يَدُلُّ على عَدَمِ تَعَلُّقِ الضَّمَانِ بِهِ وَكَمَا لو أَخْبَرَ عن وُقُوعِ الْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ على وَجْهٍ ما وَيَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْقَضَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا فإذا لم يُبَيِّنْهُ دَلَّ على عَدَمِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ وَثَانِيَتُهَا أَنْ يُسْأَلَ عن قَوْلٍ أو فِعْلٍ لَا يَلْزَمُ من سُكُوتِهِ عليه مَفْسَدَةٌ في نَفْسِ الْأَمْرِ لَكِنْ قد يَكُونُ ظَنُّ الْفَاعِلِ أو الْقَائِلِ يَقْتَضِي أَنْ تَتَرَتَّبَ عليه مَفْسَدَةٌ على تَقْدِيمِ امْتِنَاعِهِ فَهَلْ يَكُونُ هذا السُّكُوتُ دَلِيلًا على الْجَوَازِ بِنَاءً على ظَنِّ الْمُتَكَلِّمِ أو لَا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ منه مَفْسَدَةٌ في نَفْسِ الْأَمْرِ لَكِنَّ الْمُطَلِّقَ إنَّمَا أَرْسَلَ الثَّلَاثَ بِنَاءً على ظَنِّهِ بَقَاءَ النِّكَاحِ فَيَقْضِي ظَنُّهُ بِكَوْنِ الْمَفْسَدَةِ وَاقِعَةً على تَقْدِيرِ امْتِنَاعِ الْإِرْسَالِ هذا إذَا ظَهَرَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ وَالْحَاضِرِينَ عَقِبَ طَلَاقِهِ أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِاللِّعَانِ وَإِلَّا فَيَكُونُ الْبَيَانُ وَاجِبًا لِمَفْسَدَةِ الْوُقُوعِ في الْإِرْسَالِ وَمِثَالُهُ أَيْضًا اسْتِبْشَارُهُ عليه السَّلَامُ بِإِلْحَاقِ الْقَائِفِ عليه السَّلَامُ نَسَبَ أُسَامَةَ بن زَيْدٍ فإن الَّذِينَ لَا يَعْتَبِرُونَ إلْحَاقَ الْقَائِفِ يَعْتَذِرُونَ بِأَنَّ الْإِلْحَاقَ مَفْسَدَةٌ في صُورَةِ الِاشْتِبَاهِ وَنَسَبُ أُسَامَةَ لَاحِقٌ بِالْفِرَاشِ في حُكْمِ الشَّرْعِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمَفْسَدَةُ عِنْدَهُمْ في نَفْسِ الْأَمْرِ لَكِنْ لَمَّا كان الطَّاعِنُونَ في النِّسْبَةِ اعْتَقَدُوا أَنَّ إلْحَاقَ الْقَافَةِ صَحِيحٌ اقْتَضَى ذلك الظَّنُّ منهم مع ثُبُوتِ النَّسَبِ شَرْعًا عَدَمَ الْمَفْسَدَةِ في إلْحَاقِ الْقَائِفِ وَثَالِثَتُهَا أَنْ يُخْبَرَ عن حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِحَضْرَتِهِ عليه السَّلَامُ فَيَسْكُتُ عنه فَيَدُلُّ ذلك على الْحُكْمِ كما لو قِيلَ بِحَضْرَتِهِ هذا الْفِعْلُ وَاجِبٌ أو مَحْظُورٌ إلَى غَيْرِهِمَا من الْأَحْكَامِ وَرَابِعَتُهَا أَنْ يُخْبَرَ بِحَضْرَتِهِ عن أَمْرٍ ليس بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا وَأَنْ لَا يَكُونَ فَهَلْ يَكُونُ سُكُوتُهُ دَلِيلًا على مُطَابَقَتِهِ كَحَلِفِ عُمَرَ بِحَضْرَتِهِ أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ الدَّجَّالُ ولم يُنْكِرْ عليه فَهَلْ يَدُلُّ على كَوْنِهِ هو وفي تَرْجَمَةِ بَعْضِ أَهْلِ
____________________
(3/274)
الحديث ما يُشْعِرُ بِأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى ذلك قال الشَّيْخُ وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَدُلُّ لِأَنَّ مَأْخَذَ الْمَسْأَلَةِ وَمَنَاطَهَا أَعْنِي كَوْنَ التَّقْرِيرِ حُجَّةً هو الْعِصْمَةُ من التَّقْرِيرِ على بَاطِلٍ وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ على تَحَقُّقِ الْبُطْلَانِ وَلَا يَكْفِي فيه تَحَقُّقُ الْعِصْمَةِ نعم التَّقْرِيرُ يَدُلُّ على جَوَازِ الْيَمِينِ على حَسَبِ الظَّنِّ وَأَنَّهَا لَا تَتَوَقَّفُ على الْعِلْمِ لِأَنَّ عُمَرَ حَلَفَ على حَسَبِ ظَنِّهِ وَأَقَرَّهُ عليه ا هـ وَيَلْتَحِقُ بِالتَّقْرِيرِ صُوَرٌ أُخْرَى إحْدَاهَا ذَكَرَهَا ابن السَّمْعَانِيِّ وَهِيَ ما يَبْلُغُ النبي عليه السَّلَامُ عَنْهُمْ وَيَعْلَمُهُ ظَاهِرًا من حَالِهِمْ وَتَقَرَّرَ عِنْدَهُ من عَادَاتِهِمْ مِمَّا سَبِيلُهُ الِانْتِشَارُ وَالِاشْتِهَارُ فَلَا يَتَعَرَّضُ له بِنَكِيرٍ كَنَوْمِ الصَّحَابَةِ قُعُودًا يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ فَلَا يَأْمُرُهُمْ بِتَجْدِيدِ الطَّهَارَةِ وَكَعِلْمِهِ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَتَعَامَلُونَ بِالرِّبَا وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَلَا يَتَعَرَّضُ لهم قال وَيَتَّصِلُ بهذا ما اسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا بِهِ من إسْقَاطِ الزَّكَاةِ في أَشْيَاءَ سَكَتَ النبي عليه السَّلَامُ عنها من الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ وَنَحْوِهِمَا وَذَلِكَ أَنَّهُ كان لَا يَخْفَى عليه أَنَّ الناس يَتَّخِذُونَهَا كما يَتَّخِذُونَ الْكُرُومَ وَالنَّخِيلَ وكان الْأَمْرُ في إرْسَالِهِ الْمُصَدِّقِينَ وَالسُّعَاةَ في أَقْطَارِ الْأَرْضِ ظَاهِرًا بَيِّنًا وكان إذَا بَعَثَهُمْ كَتَبَ لهم الْكُتُبَ فَتُقْرَأُ بِحَضْرَتِهِ وَيَشْهَدُ عليها فَلَوْ كان يَجِبُ فيها شَيْءٌ لَأَمَرَ بِأَخْذِهِ وَلَوْ أَمَرَ لَظَهَرَ كما ظَهَرَ غَيْرُهُ من الْأَشْيَاءِ التي فيها الْوُجُوبُ لِلْأَخْذِ فلما لم يَكُنْ كَذَلِكَ دَلَّ على سُقُوطِ الزَّكَاةِ عنها وَأَمَّا قَوْلُ من رَوَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَبِيعُونَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ على عَهْدِ النبي عليه السَّلَامُ فَإِنَّهَا لم تَجْرِ بهذا الْمَجْرَى في الدَّلَالَةِ على جَوَازِ بَيْعِهِنَّ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ هل كان يَبْلُغُهُ هذا الْفِعْلُ عَنْهُمْ أو لم يَظْهَرْ له ذلك وقد قام الدَّلِيلُ على فَسَادِ بَيْعِهِنَّ من وُجُوهٍ فلم يُعْتَرَضْ بِهِ على تِلْكَ الدَّلَالَةِ وَهَكَذَا ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ في كِتَابِهِ من صُوَرِ كَوْنِ الشَّيْءِ من الْأُمُورِ الْعَامَّةِ وَلَا يَتَعَرَّضُ فيه بِالْأَخْذِ وَالْإِيجَابِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ كما قال الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ في الْخَضْرَاوَاتِ كانت على عَهْدِ الرَّسُولِ فلم يَبْلُغْهُمَا أَنَّهُ أَخَذَ منها الزَّكَاةَ أو أَوْجَبَهَا
____________________
(3/275)
قال وَهَذَا فِيمَا إذَا كان تَرْكُهُ يُؤَدِّي إلَى تَرْكِ الْفَرْضِ فَأَمَّا الْمُبَايَعَاتُ وَالْإِجَارَةُ التي لم تَرِدْ فيها النُّصُوصُ الْمُبَيِّنَةُ لِلصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ فَلَا يَكُونُ الْإِمْسَاكُ عنه دَلِيلًا على الصِّحَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَوَاتِ وقد أَقَامَ الدَّلِيلَ عليه من الْمَعَانِي الْمُودَعَةِ في النُّصُوصِ وَلَا يَكْفِي إقَامَةُ الدَّلَالَةِ في مِثْلِ الْخَضْرَاوَاتِ بَلْ الْأَخْذُ وَالتَّقَدُّمُ بِالْإِحْرَامِ إنْ كان فيها فَرْضٌ ا هـ أَحْكَامُ سُكُوتِهِ ثُمَّ تَكَلَّمَ ابن السَّمْعَانِيِّ على أَحْكَامِ سُكُوتِهِ وقد نَقَلَهَا إلَى دَلِيلِ مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا هُنَاكَ فَلْتُرَاجَعْ وقد ذَكَرَهَا إلْكِيَا وهو أَنْ يَسْكُتَ عَمَّا لم تَشْتَمِلْ عليه أَدِلَّةُ الشَّرْعِ وَمِمَّا ذُكِرَ له في الْقُرْآنِ وَالْمُسْتَفْتِي ليس خَبِيرًا بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ بَصِيرًا بِالْأَحْكَامِ قال فَسُكُوتُ الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في مِثْلِ ذلك حُجَّةٌ وَإِلَّا لَزِمَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ فإنه لو كان وَاجِبًا عليه لَبَيَّنَهُ وَمِثَالُهُ ما رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا مُحْرِمًا جاء إلَى الرَّسُولِ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ مُضَمَّخٌ بِالْخَلُوقِ فقال له عليه السَّلَامُ انْزِعْ الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ الصُّفْرَةَ وَاصْنَعْ في حَجَّتِك ما تَصْنَعُ في عُمْرَتِك ولم يَتَعَرَّضْ لِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ وَلَوْ وَجَبَتْ لَبَيَّنَهَا لِجَهْلِ الْأَعْرَابِيِّ فإن من جَهِلَ جَوَازَ اللُّبْسِ فَهُوَ بِالْفِدْيَةِ أَجْهَلُ وَكَذَلِكَ سُكُوتُهُ في قَضِيَّةِ الْأَعْرَابِيِّ الْمَجَامِعِ عن بَيَانِ حَالِ الْمَرْأَةِ قال وَمِنْ هذا الْقَبِيلِ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيِّ في مَسْأَلَةِ الْخَارِجِ من غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ بِأَنَّهُ ليس من الْأَحْدَاثِ لِأَنَّ الْأَحْدَاثَ مُقْصَاةٌ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَوْ كان من قَبِيلِ الْأَحْدَاثِ لَذُكِرَ في الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَوْ كان حَدَثًا كان من الْأَحْدَاثِ الْمَشْهُورَةِ التي تَعُمُّ بها الْبَلْوَى وَاقْتِبَاسُ ذلك من الْقِيَاسِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَكَذَلِكَ قال في صَلَاةِ الْمَغْرِبِ بَيَّنَ جِبْرِيلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَقْتَيْنِ ولم يُبَيِّنُ لِلْمَغْرِبِ وَقْتَيْنِ وَإِنَّمَا جاء مُبَيِّنًا لِلْأَوْقَاتِ فَلَوْ كان لها وَقْتَانِ لَبَيَّنَهُ جِبْرِيلُ قال وَيُشْتَرَطُ في هذا أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عنه لم تَشْمَلْهُ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ فَلَوْ كان له ذِكْرٌ فيها كما لو أتى بِزَانٍ فَأَمَرَ بِالْجَلْدِ ولم يذكر الْمَهْرَ وَالْعِدَّةَ وَنَحْوَهُمَا
____________________
(3/276)
فَذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْتَجُّ بِهِ لِأَنَّ ذلك يُحَالُ بِهِ على الْبَيَانِ في غَيْرِ الْمَوْضِعِ قال وَعَلَى هذا سُكُوتُ الرَّاوِي قد يُحْتَجُّ بِهِ وقد لَا يُحْتَجُّ بِهِ فإذا سَاقَ الرَّاوِي قَضِيَّةً ظَهَرَ منها أَنَّهُ بَعْدَ اسْتِغْرَاقِهَا بِالْحِكَايَةِ أَنَّهُ لم يُغَادِرُ من مَشَاهِيرِ أَحْكَامِهَا شيئا كما نَقَلَ الرَّاوِي قَضِيَّةَ مَاعِزٍ من مُفْتَتَحِهَا إلَى مُخْتَتَمِهَا ولم يَنْقُلْ أَنَّهُ جَلَدَ وَرُدَّ على هذا من ظَنِّ الْمُعْتَرِضِ أَنَّ الْجَلْدَ لَا يَتَشَوَّفُ إلَى نَقْلِهِ عِنْدَ نَقْلِ الرَّجْمِ فإنه غَيْرُ مُحْتَفَلٍ بِهِ في مِثْلِ ذلك وَيُجَابُ بِأَنَّ سِيَاقَ الْقَضِيَّةِ وَاسْتِغْرَاقَهُ بِتَفَاصِيلِهَا بِالْحِكَايَةِ من غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْجَلْدِ دَلِيلٌ على نَفْيِ الْجَلْدِ إذْ لو جَرَى الْجَلْدُ لَنَقَلَهُ وَمِنْهُ حِكَايَةُ الْمَوَاقِعِ في الصُّوَرِ النَّادِرَةِ وَالظَّنُّ بِالرَّاوِي أَنَّهُ إذَا نَقَلَ الحديث أَنْ يَنْقُلَ بِصُورَتِهَا إذَا كانت الصُّورَةُ نَادِرَةً فإذا سَكَتَ عنها فَسُكُوتُهُ حُجَّةٌ مِثَالُهُ ما رُوِيَ أَنَّهُ عليه السَّلَامُ أَقَادَ مُسْلِمًا بِكَافِرٍ وقال أنا أَحَقُّ من وَفَّى بِذِمَّتِهِ قال بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ لَعَلَّ كَافِرًا قَتَلَ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ وفي ذلك نَظَرٌ فإنه لو كان لَنُقِلَ مِثْلُ ذلك على نُدُورٍ وَتَشَوُّفِ الطِّبَاعِ إلَى نَقْلِ الْغَرَائِبِ وَهَذَا حَسَنٌ ا هـ الثَّانِيَةُ إذَا اسْتَبْشَرَ من فِعْلِ الشَّيْءِ أو قَوْلِهِ كان ذلك دَلِيلًا على كَوْنِهِ جَائِزًا حَسَنًا لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحْسِنُ مَمْنُوعًا منه يَبْقَى أَنَّهُ هل اسْتَحْسَنَهُ لِكَوْنِهِ مَنْدُوبًا إلَيْهِ شَرْعًا أو لِكَوْنِهِ لِغَرَضٍ عَادِيٍّ فيه احْتِمَالٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يَطْرُقَهُ الْخِلَافُ السَّابِقُ وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ على الشَّرْعِيِّ لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ من حَالِهِ عليه السَّلَامُ وَلِكَوْنِهِ مَبْعُوثًا لِبَيَانِ الشَّرْعِيَّاتِ وَأَمَّا غَضَبُهُ وَتَغَيُّرُ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ من شَيْءٍ فَذَلِكَ يَدُلُّ على مَنْعِ ذلك الشَّيْءِ ثُمَّ هل ذلك الْمَنْعُ على جِهَةِ التَّحْرِيمِ أو الْكَرَاهِيَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَجِيءَ فيه الْخِلَافُ وَالْمَرْجِعُ في هذا النَّظَرُ في قَرَائِنِ أَحْوَالِهِ وَقْتَ غَضَبِهِ فَيُحْكَمُ بها فَإِنْ لم تَكُنْ قَرِينَةٌ أو لم يَفْعَلْ فَالظَّاهِرُ التَّحْرِيمُ وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِبْشَارَ أَقْوَى في الدَّلَالَةِ على الْجَوَازِ من السُّكُوتِ وَلِذَلِكَ تَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ في إثْبَاتِ الْقِيَافَةِ وَإِلْحَاقِ النَّسَبِ بها بِاسْتِبْشَارِ النبي بِقَوْلِ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ وقد بَدَتْ
____________________
(3/277)
له أَقْدَامُ زَيْدٍ وَأُسَامَةَ إنَّ هذه الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا من بَعْضٍ وَاسْتَضْعَفَهُ الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وقال إنَّمَا سُرَّ بِكَلِمَةِ صِدْقٍ صَدَرَتْ مِمَّنْ هو مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِيمَا بين الْكُفَّارِ على مُنَاقَضَةِ قَوْلِهِمْ لَمَّا قَدَحُوا في نِسْبَةِ أُسَامَةَ إلَى زَيْدٍ إذْ كان رسول اللَّهِ قد تَأَذَّى بِهِ وَغَايَتُهُ أَنَّهُ أَلْحَقَ نَسَبَهُ بِمَعْلُومٍ عِنْدَهُ ا هـ وَرَدَّ عليه الطَّرَسُوسِيُّ وقال لو احْتَجَّ النبي عليه السَّلَامُ عليه بِمَا لَا يَعْتَقِدُهُ لَدُحِضَتْ حُجَّتُهُ عِنْدَهُمْ وَلَقَالُوا كَيْفَ تَحْتَجُّ عَلَيْنَا بِالرَّمْزِ وَالْقِيَافَةِ وَأَنْتَ لَا تَقُولُ بِهِ وَنَقَلَ إلْكِيَا أَنَّ هذا السُّؤَالَ أُورِدَ على الشَّافِعِيِّ فَقِيلَ له إنَّمَا ثَبَتَ نَسَبُهُ بِالرَّسُولِ وَقَوْلُ مُجَزِّزٍ لَغْوٌ إذْ الْقَائِفُ يُقْضَى بِهِ في بَيَانِ نَسَبٍ مُلْتَبِسٍ وَلَكِنْ كان الِاسْتِبْشَارُ لِانْقِطَاعِ مَظَاهِرِ الْكُفَّارِ عن نَسَبِ أُسَامَةَ بن زَيْدٍ فقال مُجِيبًا لو لم يَكُنْ لِلْقِيَافَةِ أَصْلٌ لم يَسْتَبْشِرْ فإن ذلك يُوهِمُ التَّلْبِيسَ وقد كان شَدِيدَ النَّكِيرِ على الْكُهَّانِ وَالْمُنَجِّمِينَ وَمَنْ لَا يَسْتَنِدُ قَوْلُهُمْ إلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ وَلَوْ لم تَكُنْ الْقِيَافَةُ مُعْتَبَرَةً لَكَانَتْ من هذا الْقَبِيلِ
____________________
(3/278)
الْقِسْمُ الرَّابِعُ ما هَمَّ بِهِ وَلِهَذَا اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ في الْجَدِيدِ لِلْخَطِيبِ في الِاسْتِسْقَاءِ مع تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ تَنْكِيسَهُ بِجَعْلِ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ عليه السَّلَامُ اسْتَسْقَى وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ أَسْفَلَهَا فَيَجْعَلَهُ أَعْلَاهَا فلما ثَقُلَتْ عليه قَلَبَهَا على عَاتِقِهِ قال الشَّافِعِيُّ فَيُسْتَحَبُّ الْإِتْيَانُ بِمَا هَمَّ بِهِ الرَّسُولُ وَعِنْدَ التَّعَارُضِ قال الْأَصْحَابُ وَمِنْهُمْ الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ الْإِحْرَامِ نَقْلًا عن الشَّافِعِيِّ إنَّهُ يُقَدَّمُ الْقَوْلُ على الْفِعْلِ ثُمَّ الْهَمُّ الْقِسْمُ الْخَامِسُ ما أَشَارَ إلَيْهِ كَإِشَارَتِهِ عليه السَّلَامُ بِأَصَابِعِهِ الْعَشْرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إلَى أَيَّامِ الشَّهْرِ الْكَامِلِ حَيْثُ قال الشَّهْرُ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ أَشَارَ مِثْلَ ذلك وَقَبَضَ في الثَّالِثَةِ الْإِبْهَامَ فَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْإِشَارَةِ أَنَّ الشَّهْرَ قد يَكُونُ ثَلَاثِينَ وقد يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَقَوْلُهُ الشَّهْرُ عَامٌّ في الشُّهُورِ كُلِّهَا من حَيْثُ إنَّهُ لَا مَعْهُودَ يَصِيرُ إلَيْهِ وَهَذَا مُبْطِلٌ لِقَوْلِ من قال إنَّ رَمَضَانَ لَا يَنْقُصُ حَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ
____________________
(3/279)
الْقِسْمُ السَّادِسُ الْكِتَابَةُ مِثْلُ كِتَابَتِهِ إلَى عُمَّالِهِ في الصَّدَقَاتِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ وزاد الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ التَّنْبِيهَ على الْعِلَّةِ كَحَصْرِهِ الرِّبَا في سِتَّةِ أَشْيَاءَ تَنْبِيهًا على جَرَيَانِهِ في كل ما شَارَكَهَا قال وَيُقَدَّمُ الْقَوْلُ ثُمَّ الْفِعْلُ ثُمَّ الْإِشَارَةُ ثُمَّ الْكِتَابَةُ ثُمَّ التَّنْبِيهُ على الْعِلَّةِ وَهَذَا ذَكَرَهُ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ فذكر أَنَّ سُنَّتَهُ مُنْحَصِرَةٌ في أَرْبَعٍ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالتَّقْرِيرِ ثُمَّ قال وَالرَّابِعُ أَنْ يَرَوْهُ عليه السَّلَامُ يَفْعَلُ أو يَتْرُكُ فَيَفْهَمُهُ أَخِصَّاؤُهُ عنه وما أَرَادَ بِهِ فَيَتَدَيَّنُوا بِذَلِكَ لِفَهْمِهِمْ عن نَبِيِّهِمْ مُرَادَ اللَّهِ في قَوْلِهِ أو فِعْلِهِ وَإِنْ كان الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ في الظَّاهِرِ أَقَلَّ من الْمَعْنَى كَنَهْيِهِ عن الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ الرِّبَوِيَّةِ فَأَجْمَعُوا على أَنَّ كُلَّ طَعَامٍ له مَرْجُوعٌ وَاحِدٌ يَقُومُ مَقَامَ ذلك في الرَّبَّا وَأَجْمَعُوا فَقَالُوا كُلُّ ما لم يُسَمِّهِ لنا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِعَيْنِهِ فَهُوَ لنا مُبَاحٌ وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ في الْبَقَرِ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ الْجَوَامِيسَ كَذَلِكَ إذْ هو في مَعْنَاهُ وَذَكَرَ لِذَلِكَ نَظَائِرَ
____________________
(3/280)
الْقِسْمُ السَّابِعُ التَّرْكُ لم يَتَعَرَّضُوا لِتَرْكِهِ عليه السَّلَامُ وقد احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ دَلَالَةِ الْفِعْلِ على الْوُجُوبِ أَنَّهُ لو دَلَّ عليه لَدَلَّ التَّرْكُ على الْوُجُوبِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ إذَا تَرَكَ الرَّسُولُ شيئا وَجَبَ عَلَيْنَا مُتَابَعَتُهُ فيه أَلَا تَرَى أَنَّهُ عليه السَّلَامُ لَمَّا قُدِّمَ إلَيْهِ الضَّبُّ فَأَمْسَكَ عنه وَتَرَكَ أَكْلَهُ فَأَمْسَكَ عنه الصَّحَابَةُ وَتَرَكُوهُ إلَى أَنْ قال لهم إنِّي أَعَافُهُ وَأَذِنَ لهم في ذلك لِمَعْنًى فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ على الْخِلَافِ فِيمَا إذَا فَعَلَهُ لِمَعْنًى زَالَ هل يَبْقَى سُنَّةً وَمِثَالُهُ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ فإنه عليه السَّلَامُ تَرَكَهَا خَشْيَةَ الِافْتِرَاضِ على الْأُمَّةِ وَهَذَا الْمَعْنَى زَالَ بَعْدَهُ فَمِنْ ثَمَّ حَصَلَ الْخِلَافُ في اسْتِحْبَابِهَا الْحُكْمُ في حَادِثَةٍ لم يَحْكُمْ الرَّسُولُ صلى اللَّهُ عليه وسلم في نَظِيرِهَا بِشَيْءٍ إذَا حَدَثَتْ حَادِثَةٌ بِحَضْرَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ولم يَحْكُمْ فيها بِشَيْءٍ فقال الْقَاضِي أبو يَعْلَى لنا أَنْ نَحْكُمَ في نَظِيرِهَا خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ في قَوْلِهِمْ تَرْكُهُ عليه السَّلَامُ الْحُكْمَ في حَادِثَةٍ يَدُلُّ على وُجُوبِ تَرْكِ الْحُكْمِ في نَظِيرِهَا وقال هذا كَرَجُلٍ شَجَّ رَجُلًا شَجَّةً فلم يَحْكُمْ فيها رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِحُكْمٍ فَيُعْلَمُ بِتَرْكِهِ لِذَلِكَ أَنْ لَا حُكْمَ لِهَذِهِ الشَّجَّةِ في الشَّرِيعَةِ وقال بَعْضُهُمْ يُحْتَمَلُ التَّوَقُّفُ وَلَنَا أَنَّ عَدَمَ نَصِّ اللَّهِ في الْحَادِثَةِ على حُكْمٍ لَا يُوجِبُ تَرْكَ الْحُكْمِ في نَظِيرِهَا فَكَذَلِكَ في السُّنَّةِ
____________________
(3/281)
الْكَلَامُ في الْأَخْبَارِ اعْلَمْ أَنَّ أَسَاسَ النُّبُوَّاتِ وَالشَّرَائِعِ يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْأَخْبَارِ وَأَكْثَرُ الْأَخْبَارِ مُسْتَفَادٌ منها وما هذا شَأْنُهُ فَحَقِيقٌ الِاهْتِمَامُ بِهِ لِمَا يُؤَمَّلُ لِمَعْرِفَتِهِ من صَلَاحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْكَلَامُ في الْخَبَرِ في مَوَاطِنَ الْمَوْطِنُ الْأَوَّلُ في مَدْلُولِهِ أَمَّا لُغَةً فَمُشْتَقٌّ من الْخَبَارِ وَهِيَ الْأَرْضُ الرَّخْوَةُ لِأَنَّ الْخَبَرَ يُثِيرُ الْفَائِدَةَ كما أَنَّ الْأَرْضَ الْخَبَارَ تُثِيرُ الْغُبَارَ إذَا قَرَعَهَا الْحَافِرُ وَيُطْلَقُ في اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ على أُمُورٍ أَحَدُهَا الْمُحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ وهو اصْطِلَاحُ الْأُصُولِيِّينَ وَثَانِيهَا على مُقَابِلُ الْمُبْتَدَأِ نَحْوُ قَائِمٍ من زَيْدٌ قَائِمٌ فإنه خَبَرٌ نَحْوِيٌّ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ لِأَنَّ الْمُفْرَدَ من حَيْثُ هو مُفْرَدٌ لَا يَحْتَمِلُهُمَا وَاَلَّذِي يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ إنَّمَا هو الْمُرَكَّبُ قَسِيمُ الْإِنْشَاءِ لَا خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ اتِّفَاقُهُمْ على أَنَّ أَصْلَ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ الْإِفْرَادُ وَاحْتِمَالُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ إنَّمَا هو من صِفَاتِ الْكَلَامِ وَلِهَذَا ضُعِّفَ مَنْعُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ كَوْنَ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ طَلَبِيَّةً نَظَرًا إلَى أَنَّ الْخَبَرَ ما احْتَمَلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَالطَّلَبُ ليس كَذَلِكَ وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ وما عُلِّلَ بِهِ بَاطِلٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ وَثَالِثُهَا على ما هو أَعَمُّ من الْإِنْشَاءِ وَالطَّلَبِ وَهَذَا كَقَوْلِ الْمُحَدِّثِينَ أَخْبَارُ الرَّسُولِ مع اشْتِمَالِهَا على الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ تَسْمِيَةُ الحديث بِالْخَبَرِ وَمُعْظَمُ السُّنَّةِ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي فَالْجَوَابُ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ حَاصِلَ جَمِيعِهَا آيِلٌ إلَى الْخَبَرِ فَالْمَأْمُورُ بِهِ في حُكْمِ الْمُخْبَرِ عن وُجُوبِهِ وَكَذَا الْقَوْلُ في النَّوَاهِي قال وَالسِّرُّ فيه أَنَّهُ عليه السَّلَامُ ليس آمِرًا على سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ وَإِنَّمَا الْآمِرُ حَقًّا هو اللَّهُ تَعَالَى وَصِيَغُ الْأَمْرِ من الْمُصْطَفَى في حُكْمِ الْإِخْبَارِ عن اللَّهِ
____________________
(3/282)
وَالثَّانِي إنَّمَا سُمِّيَتْ أَخْبَارًا لِنَقْلِ الْمُتَوَسِّطِينَ وَهُمْ يُخْبِرُونَ عَمَّنْ يَرْوِي لهم وَمَنْ عَاصَرَ الرَّسُولَ كان إذَا بَلَغَهُ لَا يقول أخبرنا رسول اللَّهِ بَلْ يقول أَمَرَنَا فَالْمَنْقُولُ إذًا اسْتِجْدَادُ اسْمِ الْخَبَرِ في الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ إلَى حَيْثُ انْتَهَى تَعْرِيفُ الْخَبَرِ في اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ وَأَمَّا في اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ فَيُطْلَقُ الْخَبَرُ على الصِّيغَةِ كَقَوْلِنَا قام زَيْدٌ وَيُطْلَقُ على الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ الذي هو مَدْلُولُ اللَّفْظِ ثُمَّ قال ابن الْحَاجِبِ هو حَقِيقَةٌ فِيهِمَا وَقِيلَ حَقِيقَةٌ في النَّفْسَانِيِّ مَجَازٌ في اللِّسَانِيِّ وَقِيلَ عَكْسُهُ كَالْخِلَافِ في الْكَلَامِ لِأَنَّ الْخَبَرَ قِسْمٌ من أَقْسَامِهِ وَنُقِلَ عن الْأَشْعَرِيَّةِ أَنَّهُ لَا صِيغَةَ لِلْخَبَرِ وَعَنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ خَبَرًا إذَا انْضَمَّ إلَى اللَّفْظِ قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ إلَى الْإِخْبَارِ بِهِ كما قالوا في الْأَمْرِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ له صِيغَةً تَدُلُّ عليه في اللُّغَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ زَيْدٌ قَائِمٌ وما أَشْبَهَهُ وقد اخْتَلَفُوا في الْخَبَرِ هل يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ فَاخْتَارَ السَّكَّاكِيُّ أَنَّهُ غَنِيٌّ عن التَّعْرِيفِ وَكَذَا الْإِمَامُ الرَّازِيَّ قال لِأَنَّ تَصَوُّرَهُ ضَرُورِيٌّ إذْ تَصَوُّرُنَا مَوْجُودٌ ضَرُورِيٌّ وهو خَبَرٌ خَاصٌّ وَالْعَامُّ جُزْؤُهُ فَتَصَوُّرُهُ تَابِعٌ لِتَصَوُّرِ الْكُلِّ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُفَرِّقُ بِالضَّرُورَةِ بين مَعْنَى الْخَبَرِ وَغَيْرِهِ وَالضَّرُورِيُّ لَا يُحَدُّ فَكَذَا الْخَبَرُ قال الْآمِدِيُّ وَهَذَا ضَعِيفٌ إذْ الضَّرُورِيُّ لَا يَفْتَقِرُ إلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ عليه كما فُعِلَ سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ نِسْبَةٌ خَاصَّةٌ لَا بِالْخَبَرِ من جِهَةِ كَوْنِهِ خَبَرًا وَقَوْلُهُمْ الْعَامُّ هو جُزْءُ الْخَاصِّ قُلْنَا يَلْزَمُ انْحِصَارُ الْأَعَمِّ في الْأَخَصِّ وهو مُحَالٌ ثُمَّ هو مَنْقُوضٌ بِالْعَرَضِ الْعَامِّ كَالْأَسْوَدِ وَلَيْسَ السَّوَادُ جُزْءًا من مَعْنَى الْإِنْسَانِ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ انْتِقَاضُهُ بِالْحَدِّ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ إنَّهُ الذي يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ أو الْكَذِبَ لِذَاتِهِ أَيْ الصَّالِحَ لَأَنْ يُجَابَ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ بِصِدْقٍ أو كَذَبَ وَقُلْنَا لِذَاتِهِ لِيَخْرُجَ ما يَصْلُحُ لِذَلِكَ بِالتَّقْدِيرِ كما يُقَدِّرُ النَّحْوِيُّ في النِّدَاءِ وَالتَّعَجُّبِ وَالْمُرَادُ ما يَحْتَمِلُهُ بِصِيغَتِهِ من حَيْثُ هو مع قَطْعِ النَّظَرِ عن الْعَوَارِضِ لِكَوْنِ مُخْبِرِهِ صَادِقًا أو كَاذِبًا وَأَتَى بِصِيغَةٍ أو لِيَحْتَرِزَ بها عن السُّؤَالِ الْمَشْهُورِ وهو أَنَّ خَبَرَ اللَّهِ وَخَبَرَ رَسُولِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ وَهَذَا إنَّمَا يَرِدُ إذَا ذُكِرَ بِالْوَاوِ وَأَمَّا إذَا قِيلَ بِاحْتِمَالِهِ أَحَدَهُمَا فَلَا يَرِدُ
____________________
(3/283)
وقد فَسَّرْنَا الِاحْتِمَالَ بِالْقَبُولِ الذي يُقَابِلُهُ عَدَمُ الْقَبُولِ في نَفْسِ الْأَمْرِ وَعَلَى هذا فَلَا يَنْتَفِي ذلك الْوُجُوبُ بِأَنَّ كُلَّمَا فَهُوَ مُحْتَمَلٌ بهذا التَّفْسِيرِ وَلَا يَضُرُّ اسْتِعْمَالُ أو فيه لِأَنَّ التَّرْدِيدَ في أَقْسَامِ الْمَحْدُودِ لَا الْحَدِّ وَالِاعْتِرَاضُ بِلُزُومِ اجْتِمَاعِهِمَا فَاسِدٌ لِأَنَّ شَرْطَ التَّعْبِيرِ اتِّحَادُ الْمَحْمُولِ وَالْمَوْضُوعِ وَلَا يَتَحَقَّقُ هذا إلَّا في الْجُزْئِيِّ وَالْمَحْدُودُ إنَّمَا هو الْكُلِّيُّ قال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في التَّقْرِيبِ فَإِنْ قِيلَ ما حَدُّ الْخَبَرِ قُلْنَا ما يَصِحُّ أَنْ يَدْخُلَهُ الصِّدْقُ أو الْكَذِبُ وَذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّهُ ما يَصِحُّ أَنْ يَدْخُلَهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ وما قُلْنَا أَوْلَى لِأَنَّ من الْأَخْبَارِ ما لَا يَصِحُّ دُخُولُ الْكَذِبِ فيه وَمِنْهَا ما لَا يَصِحُّ دُخُولُ الصِّدْقِ فيه وَرَدَّهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَجِيءَ بِالْوَاوِ الْجَامِعَةِ يُشْعِرُ بِقَبُولِ الضِّدَّيْنِ وَالْمَحَلُّ لَا يَقْبَلُ إلَّا أَحَدَهُمَا لَا هُمَا مَعًا فَالْمُقْتَضِي الْمَجِيءُ بِأَوْ وَغَلَّطَهُ الْقَرَافِيُّ وقال بَلْ الْمَحَلُّ يَقْبَلُ الضِّدَّيْنِ مَعًا كما يَقْبَلُ النَّقِيضَيْنِ مَعًا وَإِنَّمَا الْمَشْرُوطُ بِعَدَمِ هذا وُقُوعُ الْآخَرِ الْمَقْبُولِ لَا قَبُولُهُ وَالْمُحَالُ اجْتِمَاعُ الْمَقْبُولَيْنِ لَا إجْمَاعُ الْقَبُولَيْنِ وَهَذَا وَاجِبٌ وَالْأَوَّلُ مُسْتَحِيلٌ وَلَا يَلْزَمُ من تَنَافِي الْمَقْبُولَيْنِ تَنَافِي الْقَبُولَيْنِ وَلِهَذَا يُقَالُ الْمُمْكِنُ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَهُمَا مُتَنَاقِضَانِ وَالْقَبُولَانِ يَجِبُ اجْتِمَاعُهُمَا له لِذَاتِهِ لِأَنَّهُ لو وُجِدَ أَحَدُ الْقَبُولَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لم يَكُنْ مُمْكِنًا فإنه لو لم يَقْبَلْ الْوُجُودَ كان مُسْتَحِيلًا وَلَوْ لم يَقْبَلْ الْعَدَمَ كان وَاجِبًا فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِمْكَانُ إلَّا بِاجْتِمَاعِ الْقَبُولَيْنِ وَإِنْ تَنَافِي الْمَقْبُولَانِ وَإِنَّمَا أَوْقَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في ذلك الْتِبَاسَ الْمَقْبُولَيْنِ بِالْقَبُولَيْنِ قُلْت لم يَنْفِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَّا الْمَقْبُولَيْنِ فإنه لم يَتَكَلَّمْ في غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لم يَقُلْ إنَّ الْحَدَّ يَسْتَلْزِمُ اجْتِمَاعَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ الْمَقْبُولَيْنِ وَقِيلَ ما يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ يَرْجِعَانِ إلَى نِسْبَتَيْنِ وَإِضَافَتَيْنِ في نَفْسِ الْأَمْرِ وَهُمَا الْمُطَابَقَةُ في الصِّدْقِ وَعَدَمُهَا في الْكَذِبِ وَالْمُطَابَقَةُ وَالْمُخَالَفَةُ نِسْبَتَانِ بين اللَّفْظِ وَمَدْلُولِهِ وَأَمَّا التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ فَيَرْجِعَانِ إلَى الْإِخْبَارِ عنهما فَقَدْ يُوجَدُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ مع الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ عِنْدَ مُوَافَقَةِ الْأَخْبَارِ لِلْوَاقِعِ وَبِدُونِهِمَا إنْ كان كَذِبًا فَقَدْ يَصْدُقُ وَلَيْسَ بِصَادِقٍ وَيَكْذِبُ وَلَيْسَ بِكَاذِبٍ فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ من وَجْهٍ وَهَذَا الْحَدُّ سَلِمَ مِمَّا وَرَدَ على الْأَوَّلِ من اجْتِمَاعِهِمَا في كل خَبَرٍ وفي هذا رَدٌّ على السَّكَّاكِيِّ حَيْثُ قال إنَّ صَاحِبَ هذا الْحَدِّ ما زَادَ على أَنْ وَسَّعَ الدَّائِرَةَ وَأَوْرَدَ عليه أَنَّهُمَا نَوْعَانِ لِلْخَبَرِ لَا يُعْرَفَانِ إلَّا بِهِ فَلَوْ عُرِفَ بِهِمَا لَزِمَ الدَّوْرُ وَأُجِيبَ بِمَنْعِ نَوْعِيَّتِهِمَا بَلْ هُمَا صِفَتَانِ عَارِضَتَانِ له على سَبِيلِ الْبَدَلِ كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ لِلْإِنْسَانِ
____________________
(3/284)
مَسْأَلَةٌ تَعْرِيفُ الْكَذِبِ الْكَذِبُ الْإِخْبَارُ عن الشَّيْءِ بِخِلَافِ ما هو بِهِ مع السَّهْوِ وَالْعَمْدِ وَشَرَطَتْ الْمُعْتَزِلَةُ الْعَمْدَ وفي الصَّحِيحِ من كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا وَهُنَا تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ ما ذَكَرْنَا من أَنَّ الْخَبَرَ مَوْضُوعٌ لَهُمَا هو الْمَشْهُورُ وَخَالَفَ في ذلك الْقَرَافِيُّ وَادَّعَى أَنَّ الْعَرَبَ لم تَضَعْ الْخَبَرَ إلَّا لِلصِّدْقِ وَلَيْسَ لنا خَبَرُ كَذِبٍ قال وَاحْتِمَالُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ إنَّمَا جاء من جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَا من جِهَةِ الْوَضْعِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُنَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ الْمَجَازَ ليس من الْوَضْعِ الْأَوَّلِ قال وَظَنَّ جَمَاعَةٌ من الْفُقَهَاءِ أَنَّ احْتِمَالَ الْخَبَرِ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ مُسْتَفَادٌ من الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَا يَحْتَمِلُ الْخَبَرُ من حَيْثُ الْوَضْعُ إلَّا الصِّدْقَ لِاتِّفَاقِ اللُّغَوِيِّينَ وَالنُّحَاةِ على أَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا قام زَيْدٌ حُصُولُ الْقِيَامِ في الزَّمَنِ الْمَاضِي ولم يَقُلْ أَحَدٌ منهم إنَّ مَعْنَاهُ صُدُورُ الْقِيَامِ أو عَدَمُهُ وَإِنَّمَا احْتِمَالُهُ من جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَا من جِهَةِ اللُّغَةِ وَهَذَا الذي قَالَهُ الْقَرَافِيُّ مُصَادِمٌ لِإِجْمَاعِ الناس على أَنَّ الْخَبَرَ مَوْضُوعٌ لِأَعَمَّ من ذلك وَقَوْلُهُ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ على أَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا قام زَيْدٌ حُصُولُ الْقِيَامِ مَمْنُوعٌ وَإِنَّمَا مَدْلُولُهُ الْحُكْمِ بِحُصُولِ الْقِيَامِ وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ الثَّانِي الْمَشْهُورُ أَنَّ الْكَذِبَ الْخَبَرُ الْمُخَالِفُ لِلْمُخْبَرِ عنه مَاضِيًا كان أو مُسْتَقْبَلًا خِلَافًا لِأَبِي الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيِّ في كِتَابِ الْأَذْكَارِ بِالْمَسَائِلِ النَّحْوِيَّةِ وَلِابْنِ قُتَيْبَةَ حَيْثُ خَصَّا الْكَذِبَ بِمَا مَضَى وَأَمَّا الْمُسْتَقْبَلُ فَيُقَالُ له خُلْفٌ وَلَا يُقَالُ له كَذِبٌ لنا قَوْله تَعَالَى حِكَايَةٌ عن الَّذِينَ نَافَقُوا لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَكَذِبُهُمْ في خَبَرِهِمْ عن الْمُسْتَقْبَلِ وَكَذَا قَوْلُهُ وَلَوْ تَرَى إذْ وُقِفُوا على النَّارِ إلَى قَوْلِهِ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عن جَابِرٍ أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جاء يَشْكُوا حَاطِبًا
____________________
(3/285)
فقال يا رَسُولَ اللَّهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كَذَبْتَ لَا يَدْخُلُهَا فإنه شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ وفي جَانِبِ الصِّدْقِ قَوْلُهُ عليه السَّلَامُ أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إنْ صَدَقَ فَاسْتَعْمَلَ الصِّدْقَ في الْخَبَرِ عن الْمُسْتَقْبَلِ فَالْحَقُّ أَنَّهُ يُوصَفُ بِهِمَا مَاضِيًا وَمُسْتَقْبَلًا لَكِنْ له وَصْفٌ خَاصٌّ وهو الْخُلْفُ وَالْوَفَاءُ وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ يُفْهِمُ أَنَّ الْكَذِبَ يَخْتَصُّ بِالْمَاضِي إذْ قال لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ وَضَعَّفَ سُؤَالَ من قال لِصَاحِبِهِ غَدًا أُعْطِيكَ دِرْهَمًا ثُمَّ لم يَفْعَلْ كان كَاذِبًا وَالْكَذِبُ حَرَامٌ فَكَيْفَ لَا يُوجِبُونَ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ فقال وَالْحَالَةُ هذه آيَةٌ أَنَّهُ حَاكِمٌ على أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ وَلَا كَذِبَ فيه وَالْوَعْدُ إنْشَاءٌ لَا خَبَرٌ وَإِنَّمَا يُسَمَّى من لم يَفِ بِالْوَعْدِ مُخْلِفًا لَا كَاذِبًا وَلِهَذَا قال عليه السَّلَامُ في حَقِّ الْمُنَافِقِ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وإذا وَعَدَ أَخْلَفَ فَسَمَّاهُ مُخْلِفًا لَا كَاذِبًا وَلَوْ كان الْإِخْلَافُ كَذِبًا دخل تَحْتَ عُمُومِ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وقد يُقَالُ إذَا لم يَدْخُلْهُ الْكَذِبُ لَا يَكُونُ خَبَرًا لِأَنَّ الْخَبَرَ ما يُفِيدُ الْكَذِبَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخَبَرَ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ كما تَقُولُ سَيَخْرُجُ الدَّجَّالُ وَيَصِحُّ فيه التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ وَالْوَعْدُ إنْشَاءٌ لَا خَبَرٌ الثَّالِثُ أَنَّ قَوْلَهُمْ الْخَبَرُ ما يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ هل هو خَاصٌّ بِالْكَلَامِ الذي له خَارِجٌ عن كَلَامِ النَّفْسِ أَمْ يَجْرِي في لَفْظِ خَ بَ رَ وقد اضْطَرَبَ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ في الثَّانِي فَجَعَلُوهُ في مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مَخْصُوصًا بِالصِّدْقِ وَلِهَذَا لو قال إنْ لم تُخْبِرِينِي بِعَدَدِ هذا النَّوَى فَأَنْتِ طَالِقٌ ولم يَكُنْ قَصْدُهُ التَّمْيِيزَ فَلَا يَكْتَفِي بِأَيِّ عَدَدٍ كان إنْ كان الْمُعَلَّقُ عليه لَفْظُ الْإِخْبَارِ وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الْمَاوَرْدِيِّ في الْحَاوِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بين الْبِشَارَةِ وَالْخَبَرِ فِيمَا إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ عليه في أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الصِّدْقُ في وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهِمَا وما ذَكَرَهُ في الْبِشَارَةِ صَحِيحٌ وَأَمَّا في الْخَبَرِ فَكَلَامُهُمْ مُخْتَلِفٌ فيه فَقَدْ قالوا فِيمَا لو قال إنْ لم تُخْبِرِينِي بِمَجِيءِ زَيْدٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَخْبَرَتْهُ بِمَجِيئِهِ كَاذِبَةً أنها لَا تَطْلُقُ لِوُجُودِ الْإِخْبَارِ بِقُدُومِهِ وهو لَا يَشْتَرِطُ فيه الْمُطَابَقَةَ وَلَوْ قال من أَخْبَرَتْنِي مِنْكُمَا بِكَذَا فَهِيَ طَالِقٌ فَأَخْبَرَتَاهُ صَدَقَتَا أو كَذَبَتَا طَلُقَتَا
____________________
(3/286)
وَجَعَلَ الْفُورَانِيُّ الْخَبَرَ لِلصِّدْقِ فَقَطْ إذَا قُرِنَ بِحَرْفِ الْبَاءِ لِأَنَّهُ لِلْإِلْصَاقِ فَيَقْتَضِي وُجُودَ الْمُخْبَرِ بِهِ حتى يُلْصَقَ بِهِ الْخَبَرُ فإذا قال إنْ أَخْبَرْتِنِي أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ فَعَبْدِي حُرٌّ فَأَخْبَرَهُ صَادِقًا أو كَاذِبًا عَتَقَ الْعَبْدُ وَلَوْ قال إنْ أَخْبَرْتِنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ فَعَبْدِي حُرٌّ فَأَخْبَرَهُ كَاذِبًا لَا يَحْنَثُ عِنْدَ الْفُورَانِيِّ وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ وفي فَتَاوَى الْقَفَّالِ لو قال رَجُلٌ لِآخَرَ إنْ أَخْبَرْتَنِي بِخُرُوجِ فُلَانٍ من هذا الْبَلَدِ فَلَكَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَأَخْبَرَهُ هل يَسْتَحِقُّ الْعَشَرَةَ نُظِرَ إنْ كان له غَرَضٌ في خُرُوجِهِ من الْبَلَدِ اسْتَحَقَّ وَإِلَّا فَلَا وَالنُّكْتَةُ في الْجَعَالَةِ فَقَدْ حَكَاهُ عنه الرَّافِعِيُّ ثُمَّ بَحَثَ معه في شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ هل يَتَقَيَّدُ الْخَبَرُ بِالصِّدْقِ فَلَوْ كان كَاذِبًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ شيئا لِانْتِفَاءِ الْمَعْنَى الذي عَلَّلَ بِهِ قُلْت وَلَعَلَّ الْقَفَّالَ يَخُصُّ ذلك بِحَالَةِ وُجُودِ الْبَاءِ كما حَكَيْنَاهُ عن تِلْمِيذِهِ الْفُورَانِيِّ وَالثَّانِي يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ هل يَنَالُهُ تَعَبٌ أَمْ لَا قُلْت وقد حَكَى النَّوَوِيُّ في الرَّوْضَةِ من زَوَائِدِهِ قبل هذا تَصْرِيحَ الْبَغَوِيّ أَنَّهُ لو قال من أخبرني بِكَذَا فَلَهُ كَذَا فَأَخْبَرَهُ إنْسَانٌ فَلَا شَيْءَ له لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فيه إلَى عَمَلٍ ا هـ فَجُعِلَ هذا من زَوَائِدِهِ وَأَقَرَّ الرَّافِعِيَّ على الْبَحْثِ الثَّانِي هُنَاكَ وَيَتَحَصَّلُ في الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ ثَالِثُهَا إنْ اقْتَرَنَ بِالْبَاءِ وَإِلَّا فَلَا الْمَوْطِنُ الثَّانِي في أَنَّ صِدْقَ الْخَبَرِ وَكَذِبَهُ بِمَاذَا يَكُونَانِ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ صِدْقُ الْخَبَرِ وَكَذِبُهُ بِنَفْسِ الْخَبَرِ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِدَلِيلٍ يُضَافُ إلَيْهِ وَالْمَشْهُورُ على الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْوَاسِطَةِ أَنَّ صِدْقَ الْخَبَرِ مُطَابَقَتُهُ لِلْوَاقِعِ سَوَاءٌ وَافَقَ الِاعْتِقَادَ أَمْ لَا وَكَذِبَهُ عَدَمُ مُطَابَقَتِهِ وَعَنْ صُورَةِ الْجَهْلِ احْتَرَزَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِقَوْلِهِ من كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا الحديث وقال النَّظَّامُ صِدْقُهُ مُطَابَقَتُهُ لِاعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ سَوَاءٌ وَافَقَ الْوَاقِعَ أَمْ لَا وَاحْتَجَّ عليه بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّ من اعْتَقَدَ شيئا فَأَخْبَرَ بِهِ ثُمَّ ظَهَرَ على خِلَافِ الْوَاقِعِ يُقَالُ له ما كَذَبَ وَلَكِنْ أَخْطَأَ كما رُوِيَ عن عَائِشَةَ فِيمَنْ شَأْنُهُ كَذَلِكَ وَرُدَّ بِأَنَّ الْمَنْفِيَّ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ لَا الْكَذِبُ مُطْلَقًا الثَّانِي في قَوْله تَعَالَى وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ كَذَّبَهُمْ في قَوْلِهِمْ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ مع كَوْنِهِ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ لِأَنَّهُمْ لم يَعْتَقِدُوهُ فَلَوْ كانت الْعِبْرَةُ بِمَا في نَفْسِ الْأَمْرِ لم يُكَذِّبْهُمْ وَأُجِيبَ
____________________
(3/287)
بِأَنَّ الْمَعْنَى لَكَاذِبُونَ في الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ التَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ فَهِيَ إخْبَارٌ عن اعْتِقَادِهِمْ وهو غَيْرُ مَوْجُودٍ أو كَاذِبُونَ في تَسْمِيَتِهِمْ إخْبَارَهُمْ شَهَادَةً لِأَنَّ الْإِخْبَارَ إذَا خَلَا عن مُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ لم يَكُنْ في الْحَقِيقَةِ شَهَادَةً أو لَكَاذِبُونَ في الْمَشْهُودِ بِهِ في زَعْمِهِمْ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ خَبَرٌ على خِلَافِ ما عليه حَالُ الْمُخْبَرِ عنه لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ فَيَكُونُ كَذِبًا عِنْدَهُمْ وقد يُقَالُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ نُبُوَّةَ الرَّسُولِ وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَاحْتَجَّ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ لِلْمَشْهُورِ بِ لقد كَفَرَ الَّذِينَ قالوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وما من إلَهٍ إلَّا إلَهٌ وَاحِدٌ وَلَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْقَائِلِينَ لِذَلِكَ غَيْرُ عَالِمِينَ بِأَنَّهُ تَعَالَى ليس ما أَخْبَرُوا عنه فَدَلَّ على أَنَّ التَّكْذِيبَ بِاعْتِبَارِ الْوَاقِعِ وَأَصْرَحُ منها قَوْلُهُ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ فإنه يَدُلُّ على أَنَّ الِاعْتِبَارَ في الْكَذِبِ بِالْمُطَابَقَةِ الْخَارِجِيَّةِ أو بها مع الِاعْتِقَادِ فَائِدَةٌ مِمَّا يَتَفَرَّعُ على هذا الْخِلَافِ لو أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً ثُمَّ قال هِيَ كَذِبٌ امْتَنَعَ الْحُكْمُ بها وفي بُطْلَانِ دَعْوَاهُ وَجْهَانِ اخْتِيَارُ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ نعم لِأَنَّ الْكَذِبَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَدَمُ مُطَابَقَةِ الْخَبَرِ لِمَا في الْخَارِجِ وَإِنْ لم يَعْلَمْ الشَّخْصُ ذلك وَأَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ بِكَذِبِ الشُّهُودِ أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا عن غَيْرِ عِلْمٍ فَلَهُمْ حُكْمُ الْكَاذِبِينَ إذْ رَضَوْا بِخَبَرٍ يُجَوِّزْنَ كَذِبَهُ جَوَازًا غير بَعِيدٍ وَذَلِكَ رِضًى بِالْكَذِبِ الْمَوْطِنُ الثَّالِثُ في انْحِصَارِهِ في ذِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بين الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ من كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا لِدَلَالَتِهِ على انْقِسَامِ الْكَذِبِ إلَى عَمْدٍ وَغَيْرِهِ وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَذَبَ نَوْفٌ أَيْ الْبِكَالِيُّ ليس صَاحِبَ الْخَضِرِ مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَمِنْهُمْ من أَثْبَتَ الْوَاسِطَةَ وَاخْتَلَفُوا فيه على أَقْوَالٍ أَحَدُهَا وَنُقِلَ عن أبي عُثْمَانَ الْجَاحِظِ أَنَّ صِدْقَهُ مُطَابَقَتُهُ لِلْوَاقِعِ مع اعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ وَكَذِبَهُ عَدَمُهُمَا وَغَيْرُهُمَا ليس بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ وَكَأَنَّهُ أَجْرَى الصِّدْقَ مَجْرَى الْعِلْمِ فَكَمَا أَنَّ الْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ بِالشَّيْءِ على ما هو بِهِ من جِهَةِ صِحَّتِهِ فَكَذَلِكَ الْخَبَرُ وَيَجُوزُ أَنَّهُ رَاعَى أَصْلَهُ الْفَاسِدَ في التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ فَرَاعَى في كَوْنِهِ صِدْقًا وُقُوعَهُ حَسَنًا لِمُفَارَقَةِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ في حُسْنِ أَحَدِهِمَا وَقُبْحِ الْآخَرِ وَلَا يَكُونُ الْخَبَرُ حَسَنًا إلَّا مع الْمُخْبِرِ
____________________
(3/288)
بِحَالِ الْمَخْبَرِ عنه لِأَنَّ تَجْوِيزَهُ على خِلَافِ ما أَخْبَرَ يَقْتَضِي قُبْحَهُ وَنَحْنُ قد بَيَّنَّا أَنَّ الصِّدْقَ قد يَقْبُحُ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُ صِدْقًا عِلَّةً لِحُسْنِهِ كَكَوْنِهِ كَذِبًا عِلَّةٌ لِقُبْحِهِ بَلْ لو كان كَوْنُهُ صِدْقًا عِلَّةً تَقْتَضِي الْحُسْنَ لَكَانَ الْحُسْنُ إنَّمَا ثَبَتَ إذَا انْتَفَتْ وُجُوهُ الْقُبْحِ الثَّانِي أَنَّ صِدْقَهُ مُطَابَقَتُهُ لِاعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ سَوَاءٌ طَابَقَ الْخَارِجَ أو لَا وَكَذِبُهُ عَدَمُهُمَا فَالسَّاذَجُ وَاسِطَةٌ وَالثَّالِثُ هو قَوْلُ الرَّاغِبِ إنَّ صِدْقَهُ مُطَابَقَتُهُ لِلْخَارِجِ وَالِاعْتِقَادِ مَعًا فَإِنْ فُقِدَا منه لم يَكُنْ صِدْقًا بَلْ لَا يَكُونُ صِدْقًا وقد يُوصَفُ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ بِنَظَرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كما لو كان مُطَابِقًا لِلْخَارِجِ غير مُطَابِقٍ لِلِاعْتِقَادِ كَقَوْلِ الْكَافِرِ أَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ تَعْرِيفُهُمْ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وقال ابن الْحَاجِبِ الْخِلَافُ في هذه الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ وقال الْهِنْدِيُّ إنَّهُ الْحَقُّ لِأَنَّهُ إنْ عَنَى بِالْخَبَرِ الصِّدْقَ ما يَكُونُ مُطَابِقًا لِلْمُخْبَرِ عنه كَيْفَمَا كان وَبِالْكَذِبِ ما لَا يَكُونُ مُطَابِقًا كَيْفَمَا كان فَالْعِلْمُ بِاسْتِحَالَةِ حُصُولِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُمَا ضَرُورِيٌّ وَإِنْ عَنَى بِهِمَا ما يَكُونُ مُطَابِقًا وَغَيْرَ مُطَابِقٍ لَكِنْ مع الْعِلْمِ بِهِمَا فَإِمْكَانُ حُصُولِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُمَا مَعْلُومٌ أَيْضًا بِالضَّرُورَةِ وهو ما لَا يَكُونُ مَعْلُومًا لِمُطَابَقَتِهِ وَعَدَمِ مُطَابَقَتِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ قلت يَتَفَرَّعُ على هذا الْخِلَافِ ما لو قال لَا أُنْكِرُ ما تَدَّعِيهِ وَهِيَ عِبَارَةُ التَّنْبِيهِ أو لَسْتُ مُنْكِرًا له وَهِيَ عِبَارَةُ الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ فَهُوَ إقْرَارٌ وَهَذَا بِنَاءً على أَنَّهُ لَا وَسَاطَةَ بين الْإِقْرَارِ وَعَدَمِ الْإِنْكَارِ فَإِنْ قُلْنَا بَيْنَهُمَا وَسَاطَةٌ وَهِيَ السُّكُوتُ فَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ وهو اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمَوْطِنُ الرَّابِعُ في مَدْلُولِ الْخَبَرِ مَدْلُولُهُ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لَا بِثُبُوتِهَا فإذا قِيلَ زَيْدٌ قَائِمٌ فَلَيْسَ مَدْلُولُهُ نَفْسَ ثُبُوتِ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ في الْخَارِجِ وَإِلَّا لم يَكُنْ شَيْءٌ من الْخَبَرِ كَذِبًا وَإِنَّمَا يُفِيدُ أَنَّكَ حَكَمْتَ بِقِيَامِ زَيْدٍ وَأَخْبَرْتَ عنه ثُمَّ إنْ طَابَقَ ذلك الْوَاقِعَ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ على الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ وَإِلَّا فَلَا هَكَذَا قال الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وهو مَبْنِيٌّ على أَنَّ الْأَلْفَاظَ مَوْضُوعَةٌ لِلْمَعَانِي الذِّهْنِيَّةِ لَا الْخَارِجِيَّةِ لَكِنْ في كَلَامِ الْإِمَامِ إبْهَامٌ فإنه قال إذَا قِيلَ الْعَالَمُ حَادِثٌ فَمَدْلُولُهُ الْحُكْمُ بِثُبُوتِ الْحُدُوثِ لِلْعَالَمِ
____________________
(3/289)
لَا نَفْسُ الْحُدُوثِ لِلْعَالَمِ إذْ لو كان مَدْلُولُهُ نَفْسَ ثُبُوتِ الْحُدُوثِ لِلْعَالَمِ لَكَانَ حَيْثُمَا وَجَدْنَا قَوْلَنَا الْعَالَمُ مُحْدَثٌ كان الْعَالَمُ مُحْدَثًا لَا مَحَالَةَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكَذِبُ خَبَرًا وَلَمَّا بَطَلَ ذلك عَلِمْنَا أَنَّ مَدْلُولَ الصِّيغَةِ هو الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لَا نَفْسِ النِّسْبَةِ انْتَهَى وَاعْتَرَضَ الْقَرَافِيُّ وَصَاحِبُ الْحَاصِلِ والتحصيل على قَوْلِهِ وَإِلَّا لم يَكُنْ الْكَذِبُ خَبَرًا وَقَالُوا صَوَابُهُ الْعَكْسُ أَيْ لَا يَكُونُ الْخَبَرُ كَذِبًا لِأَنَّهُ يُوهِمُ تَحَقُّقَ الْكَذِبِ لَا بِصِيغَتِهِ الْخَبَرِيَّةِ وَالْوَاقِعُ على هذا التَّقْدِيرِ انْتِفَاءُ الْكَذِبِ قال الْقَرَافِيُّ لِأَنَّ الْكَذِبَ إذَا تَعَذَّرَ لَا يَتَّصِفُ الْخَبَرُ أَبَدًا إلَّا بِالصِّدْقِ فَلَا يَكُونُ كَذِبًا وَأَمَّا الْكَذِبُ في نَفْسِهِ فَهُوَ مُتَعَذَّرٌ مُطْلَقًا فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِنَا لَا يَكُونُ الْكَذِبُ خَبَرًا لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّهُ قد يَكُونُ غير خَبَرٍ وَالتَّعَذُّرُ في نَفْسِهِ على هذا التَّقْدِيرِ لَا يُوجَدُ مع الْخَبَرِ وَلَا مع غَيْرِهِ وَقِيلَ الصَّوَابُ عِبَارَةُ الْإِمَامِ وَالِانْتِقَادَاتُ عليهم لَا عليه أَمَّا تَقْرِيرُ عِبَارَتِهِ فَلِأَنَّ مَدْلُولَ النِّسْبَةِ لو كان ثُبُوتِيًّا لَكَانَ الْكَذِبُ غير خَبَرٍ لَكِنَّ اللَّازِمَ مُنْتَفٍ ضَرُورَةً لِأَنَّ الْكَذِبَ أَحَدُ قِسْمَيْ الْخَبَرِ الذي هو صِدْقٌ وَكَذِبٌ فَالْمَلْزُومُ مُنْتَفٍ وَبَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ ثُبُوتَ النِّسْبَةِ وَوُقُوعَهَا في الْخَارِجِ قد يَكُونُ الْإِخْبَارُ عنه كَذِبًا وهو وَاضِحٌ وَأَمَّا تَبْيِينُ فَسَادِ عِبَارَتِهِمْ فإن مَعْنَى قَوْلِنَا وَإِلَّا لم يَكُنْ الْخَبَرُ كَذِبًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ من الْخَبَرِ صِدْقٌ كما أَنَّ منه كَذِبًا نعم اسْتِدْلَالُ الْإِمَامِ على أَنَّ مَدْلُولَهُ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لَا ثُبُوتُهَا بِأَنَّهُ لو لم يَكُنْ كَذَلِكَ لم يَكُنْ شَيْءٌ من الْخَبَرِ بِكَذِبٍ وقد مَنَعَ الْقَرَافِيُّ انْتِفَاءَ الْمُلَازَمَةِ وَادَّعَى أَنَّ الْعَرَبَ لم تَضَعْ الْخَبَرَ إلَّا لِلصِّدْقِ وَسَبَقَ الرَّدُّ عليه الْمَوْطِنُ الْخَامِسُ أَنَّ مَوْرِدَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ النِّسْبَةُ التي تَضَمَّنَهَا فَقَطْ لَا وَاحِدٌ من طَرَفَيْهَا فَهُمَا يَتَوَجَّهَانِ إلَى خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ لَا إلَى صِفَتِهِ فإذا كَذَّبْت الْقَائِلَ في قَوْلِهِ زَيْدُ بن عَمْرٍو كَرِيمٌ فإن التَّكْذِيبَ لَا يَتَوَجَّهُ إلَى كَوْنِهِ ابْنَ عَمْرٍو بَلْ إلَى كَوْنِهِ كَرِيمًا لِأَنَّ الصِّفَةَ ثَابِتَةٌ حَالَ النَّفْيِ ثُبُوتَهَا حَالَ الْإِثْبَاتِ وَلِأَنَّ عِلْمَ الْمُخَاطَبِ بِثُبُوتِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ ليس لِإِثْبَاتِ الْمُتَكَلِّمِ إيَّاهَا له وَأَنَّ الِاحْتِيَاجَ إلَى ذِكْرِهَا لِإِزَالَةِ اللَّبْسِ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً لِلْمُخَاطَبِ وَإِلَّا فَلَا يَحْصُلُ التَّمْيِيزُ وإذا كانت مَعْلُومَةً لِلْمُخَاطَبِ فَلَا يَقْصِدُهَا الْمُتَكَلِّمُ بِإِخْبَارِهِ إيَّاهَا وَالتَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ إنَّمَا يَتَوَجَّهَانِ إلَى ما يَقْصِدُهُ الْمُتَكَلِّمُ لَا إلَى ما لَا يَقْصِدُهُ فإذا قِيلَ قام زَيْدٌ فَقِيلَ صِدْقٌ أو كَذِبٌ انْصَرَفَ ذلك إلَى قِيَامِ زَيْدٍ لَا إلَى ذلك الْمُشَارِ إلَيْهِ بِالْقِيَامِ هل اسْمُهُ زَيْدٌ أو عَمْرٌو وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ هذا فِيمَا لو كان مُخْتَلَفًا في اسْمِهِ فَلَا يُسْتَفَادُ من ذلك أَنَّك حَاكِمٌ بِأَنَّ ذلك اسْمُهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ اُسْتُشْكِلَ قِرَاءَةُ من قَرَأَ وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابن اللَّهِ بِإِسْقَاطِ
____________________
(3/290)
التَّنْوِينِ على أَنَّ الِابْنَ صِفَةٌ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ حِينَئِذٍ هو عُزَيْرُ ابن اللَّهِ أو عُزَيْرُ ابن اللَّهِ إلَهُنَا إمَّا بِحَذْفِ الْمُبْتَدَأِ أو الْخَبَرِ وهو خَطَأٌ لِأَنَّهُ إذَا أَخْبَرَ عن مُبْتَدَأٍ مَوْصُوفٍ أو عن مَوْصُوفٍ غَيْرِ الْمُبْتَدَأِ فإن الْكَذِبَ يَنْصَرِفُ إلَى الْخَبَرِ وَتَبْقَى الصِّفَةُ على أَصْلِ الثُّبُوتِ فَحِينَئِذٍ يَبْقَى كَوْنُهُ ابْنًا لِلَّهِ ثَابِتًا تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يقول الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا وَاَلَّذِي يُقَالُ في تَوْجِيهِ هذه الْقِرَاءَةِ أَنَّ هذا الْكَلَامَ سَبَقَ لِنَفْيِ إلَهِيَّةِ مِثْلِ هذا بَلْ بَيَّنَ جَهْلَهُمْ إذْ ادَّعَوْا الْوَلَدِيَّةَ فيه وَلَا رَيْبَ أَنَّ دَعْوَى الشَّرْطِ أَسْهَلُ من إثْبَاتِ الْوَلَدِيَّةِ له أو على طَرِيقِ الْحِكَايَةِ أَيْ قالوا هذه الْعِبَارَةَ الْمُنْكَرَةَ ولم يَتَعَرَّضْ لِمَا قالوا خَبَرًا عنها فَلَا يُقَدَّرُ هُنَاكَ مَحْذُوفٌ أَصْلًا أو غَيْرُ ذلك كما بَيَّنْته في كِتَابٍ الْبُرْهَانِ في عُلُومِ الْقُرْآنِ وَلِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ قال مَالِكٌ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيمَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِأَنَّ فُلَانَ بن فُلَانٍ وَكِيلُ فُلَانٍ إنَّ شَهَادَتَهُمَا بِالتَّوْكِيلِ لَا يُسْتَفَادُ منها أَنَّهُمَا شَهِدَا بِالْبُنُوَّةِ فَلَيْسَ له إنْ نُوزِعَ في مُحَاكَمَةٍ أُخْرَى في الْبُنُوَّةِ أَنْ يَقُولَ هَذَانِ شَهِدَا لي بِالْبُنُوَّةِ لِقَوْلِهِمَا في شَهَادَةِ التَّوْكِيلِ إنَّ فُلَانَ بن فُلَانٍ لَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أنها شَهَادَةٌ له بِالْوَكَالَةِ أَصْلًا وَبِالنِّسْبَةِ ضِمْنًا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي في بَابِ التَّحَفُّظِ في الشَّهَادَةِ وَالْعِلْمِ بها وَكَذَلِكَ الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ وَالْهَرَوِيُّ في الْأَشْرَافِ فَإِنْ قُلْتَ فَهَذَا يُشْكِلُ على هذا الْأَصْلِ قلت لَا إشْكَالَ لِأَنَّا لَمَّا صَدَّقْنَا الشَّاهِدَيْنِ كان قَوْلُهُمَا مُتَضَمِّنًا لِذَلِكَ نعم احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ على صِحَّةِ أَنْكِحَةِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَبِقَوْلِهِ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فقال ما مَعْنَاهُ سَمَّى كُلًّا مِنْهُمَا امْرَأَةً لِكَافِرٍ وَلَفْظُ الشَّارِعِ مَحْمُولٌ على الشَّرْعِيِّ فَدَلَّ على أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا زَوْجَةٌ لَهُمَا فَعَلَى هذا يَتَوَجَّهُ صِدْقُ الْخَبَرِ لِلطَّرَفَيْنِ وَالنِّسْبَةِ الْمَوْطِنُ السَّادِسُ يَقَعُ الْخَبَرُ الْمُوجَبُ بِهِ مَوْقِعَ الْأَمْرِ وَبِالْعَكْسِ فَمِنْ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ أَيْ لِيُرْضِعْنَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِأَنَّ الرَّضَاعَ في الْوَاقِعِ قد يَكُونُ أَقَلَّ أو أَكْثَرَ منه
____________________
(3/291)
وَمِنْهُ قَوْلُهُ هل أَدُلُّكُمْ على تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ من عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ قال يَغْفِرْ لَكُمْ وَالْمَعْنَى آمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ هَكَذَا جَعَلَ النُّحَاةُ يَغْفِرْ جَوَابًا لِ تُؤْمِنُونَ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ آمِنُوا وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِ هل أَدُلُّكُمْ على حَدِّ قَوْلِهِ هل تَأْتِينِي أُكْرِمْكَ لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ لَا تَجِبُ بِالدَّلَالَةِ وَإِنَّمَا تَجِبُ بِالْإِيمَانِ وَقَوْلُهُ لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ وَقِيلَ إنَّهُ نَهْيٌ مَجْزُومٌ وَلَكِنْ ضُمَّتْ السِّينُ إتْبَاعًا لِلضَّمِيرِ كَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَمِنْ الثَّانِي قَوْله تَعَالَى فَلْيَمْدُدْ له الرَّحْمَنُ مَدًّا الْمَعْنَى مَدَّ وَقَوْلُهُمْ في التَّعَجُّبِ أَحْسِنْ بِزَيْدٍ كَقَوْلِهِ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ أَيْ ما أَسْمَعَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ وَقَوْلُهُ لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ قِيلَ إنَّهُ خَبَرٌ مَنْفِيٌّ وَاقِعٌ مَوْقِعَ النَّهْيِ هذا هو الْمَشْهُورُ وَمَنَعَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَالسُّهَيْلِيُّ وُرُودَ الْخَبَرِ مُرَادًا بِهِ الْأَمْرَ وقال هو بَاقٍ على خَبَرِيَّتِهِ وَلَا يَلْزَمُ الْخُلْفَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعُصَاةِ فإنه خَبَرٌ عن حُكْمِ الشَّرْعِ أَيْ أَنَّ حُكْمَهُنَّ أَنْ يَجِبَ أو يُشْرَعَ رَضَاعُهُنَّ أو عَلَيْهِنَّ الرَّضَاعَةُ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ بَلْ قِيلَ إنَّهُ أَبْلَغُ من الْأَمْرِ الْمَحْضِ إذَا عَلِمْتَ هذا وَوَرَدَ الْخَبَرُ مُرَادًا بِهِ الْأَمْرَ فَهَلْ يَتَرَتَّبُ عليه ما يَتَرَتَّبُ على الْأَمْرِ من الْوُجُوبِ إذَا قُلْنَا الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ أو يَكُونُ مَخْصُوصًا بِالصِّيغَةِ الْمُعَيَّنَةِ التي هِيَ صِيغَةُ افْعَلْ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ فيه نَظَرٌ قُلْتَ الْمَنْقُولُ عِنْدَنَا هو الْأَوَّلُ كَذَا رأيت التَّصْرِيحَ بِهِ في كِتَابِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ وقد سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ في بَابِ الْأَمْرِ الْمَوْطِنُ السَّابِعُ في الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِنْشَاءِ وَذَلِكَ من وُجُوهٍ الْأَوَّلُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ سَبَبٌ لِمَدْلُولِهِ وَلَيْسَ الْخَبَرُ سَبَبًا لِمَدْلُولِهِ فإن الْعُقُودَ إنْشَاءَاتٌ مَدْلُولَاتُهَا وَمَنْطُوقَاتُهَا بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ الثَّانِي أَنَّ الْإِنْشَاءَاتِ يَتْبَعُهَا مَدْلُولُهَا وَالْإِخْبَارَاتِ تَتْبَعُ مَدْلُولَاتِهَا فإن الْمِلْكَ وَالطَّلَاقَ مَثَلًا يَثْبُتَانِ بَعْدَ صُدُورِ صِيَغِ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ وفي الْخَبَرِ قَبْلَهُ فإن قَوْلَنَا قام زَيْدٌ
____________________
(3/292)
تَبَعٌ لِقِيَامِهِ في الزَّمَنِ الْمَاضِي الثَّالِثُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ لَا يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ قال امْرَأَتِي طَالِقٌ صِدْقٌ وَلَا كَذِبٌ إلَّا أَنْ يُرِيدَ الْإِخْبَارَ عن طَلَاقِهَا الرَّابِعُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ يَقَعُ مَنْقُولًا غَالِبًا عن أَصْلِ الصِّيَغِ في صِيَغِ الْعُقُودِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهَا وَلِهَذَا لو قال لِامْرَأَتَيْهِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ مَرَّتَيْنِ يَجْعَلُ الثَّانِي خَبَرًا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى النَّقْلِ وقد يَكُونُ إنْشَاءً بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ كَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَإِنَّهَا لِلطَّلَبِ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ وَالْخَبَرُ يَكْفِي فيه الْوَضْعُ الْأَوَّلُ في جَمِيعِ صُوَرِهِ هذا حَاصِلُ ما ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ وَيَفْتَرِقَانِ أَيْضًا من جِهَةِ أَنَّ الْإِنْشَاءَ كَلَامٌ نَفْسِيٌّ عَبَّرَ عنه لَا بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِالْأَعْيَانِ وَالْجِنَانِ فإنه إذَا قام بِالنَّفْسِ طَلَبٌ مَثَلًا وَقَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ التَّعْبِيرَ عنه بِاعْتِبَارِ الْعِلْمِ وَالْجِنَانِ قال طَلَبْتُ من زَيْدٍ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُعَبِّرَ عنه لَا بِاعْتِبَارِ ذلك قال افْعَلْ أو لَا تَفْعَلْ وَاعْلَمْ أَنَّ كُلًّا من الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ يَسْتَحِيلُ تَعْلِيقُهُ إذْ هُمَا نَوْعَانِ من أَنْوَاعِ الْكَلَامِ يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُمَا حَيْثُ لَا كَلَامَ وَالتَّعْلِيقُ إنَّمَا هو في النِّسْبَةِ الْحَاصِلَةِ بين جُزْأَيْ الْجُمْلَةِ غير أَنَّ النِّسْبَةَ مَوْقُوفَةٌ على ذلك الشَّرْطِ
____________________
(3/293)
أَقْسَامُ الْإِنْشَاءِ إذَا عَلِمْتَ هذا فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا على أَنَّ أَقْسَامَ الْإِنْشَاءِ الْقَسَمُ وَالْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي وَالتَّرَجِّي وَالتَّمَنِّي وَالْعَرْضُ وَالتَّحْضِيضُ وَالْفَرْقُ بين هَذَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ أَنَّ الْعَرْضَ طَلَبٌ بِلِينٍ بِخِلَافِ التَّحْضِيضِ وَالْفَرْقُ بين التَّرَجِّي وَالتَّمَنِّي أَنَّ التَّرَجِّيَ لَا يَكُونُ في الْمُسْتَحِيلَاتِ وَالتَّمَنِّيَ يَكُونُ فيها وفي الْمُمْكِنَاتِ وقال التَّنُوخِيُّ في الْأَقْصَى الْقَرِيبِ الْمُتَمَنَّى يَكُونُ مُتَشَوَّفًا لِلنَّفْسِ وَالْمَرْجُوُّ قد لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَيَكُونُ الْمَرْجُوُّ مُتَوَقَّعًا وَالْمُتَمَنَّى قد لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَالتَّرَجِّي أَعَمُّ من التَّمَنِّي من وَجْهٍ وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيّ أَنَّ الِاسْتِعْطَافَ نَحْوُ بِاَللَّهِ هل قام زَيْدٌ قَسَمٌ وقال ابن النَّحَّاسِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ ليس بِقَسَمٍ لِكَوْنِهِ ليس خَبَرًا وَأَمَّا النِّدَاءُ نَحْوُ يا زَيْدُ فَاتَّفَقُوا على أَنَّهُ إنْشَاءٌ لَكِنْ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ فيه فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ أُنَادِي أو الْحَرْفُ وَحْدَهُ مُفِيدٌ لِلنِّدَاءِ فَقِيلَ على الْأَوَّلِ لو كان الْفِعْلُ مُضْمَرًا لَقَبِلَ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ وَأَجَابَ الْمُبَرِّدُ بِأَنَّ الْفِعْلَ مُضْمَرٌ وَلَا يَلْزَمُ قَبُولُهُ لَهُمَا لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ وَالْإِنْشَاءُ لَا يَقْبَلُهُمَا وَاخْتَلَفُوا في صِيَغِ الْعُقُودِ كما سَبَقَ في مَبَاحِثِ اللُّغَةِ وَمِمَّا لم يَسْبِقْ أَنَّ فَصْلَ الْخِطَابِ في ذلك كما قال بَعْضُهُمْ أَنَّ لِهَذِهِ الصِّيَغَ نِسْبَتَيْنِ نِسْبَةٌ إلَى مُتَعَلِّقَاتِهَا الْخَارِجِيَّةِ وَهِيَ من هذه الْجِهَةِ إنْشَاءَاتٌ مَحْضَةٌ وَنِسْبَةٌ إلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ وَإِرَادَتِهِ وَهِيَ من هذه الْجِهَةِ خَبَرٌ عَمَّا قُصِدَ إنْشَاؤُهُ فَهِيَ إخْبَارَاتٌ بِالنَّظَرِ إلَى مَعَانِيهَا الذِّهْنِيَّةِ وَإِنْشَاءَاتٌ بِالنَّظَرِ إلَى مُتَعَلِّقَاتِهَا الْخَارِجِيَّةِ وَعَلَى هذا فَإِنَّمَا لم يَحْسُنْ أَنْ يُقَابَلَ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَإِنْ كانت أَخْبَارًا لِأَنَّ مُتَعَلَّقَ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ وَمَعْنَاهُمَا مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ لِمُخْبِرِهِ أو عَدَمُ مُطَابَقَتِهِ وَهُنَاكَ الْمُخْبَرُ عنه حَصَلَ بِالْخَبَرِ حُصُولُ الْمُسَبَّبِ لِسَبَبِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فيه تَصْدِيقٌ وَلَا تَكْذِيبٌ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ في خَبَرٍ لَا يَحْصُلُ مُخْبَرُهُ ولم يَقَعْ بِهِ كَقَوْلِكَ قام زَيْدٌ قال ابن الْحَاجِبِ في كُتُبِهِ النَّحْوِيَّةِ وَهِيَ مَسْلُوبَةُ الدَّلَالَةِ على الزَّمَانِ وَخَالَفَهُ ابن مَالِكٍ فقال وَهِيَ مَاضِيَةُ اللَّفْظِ حَاضِرَةُ الْمَعْنَى وَمِنْ الْإِنْشَاءَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الظِّهَارُ كما قَالَهُ الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ الظِّهَارِ وَقِيلَ في تَقْرِيرِهِ لو كان خَبَرًا لَمَا أَحْدَثَ حُكْمًا وَحَكَى الرَّافِعِيُّ في الْفَصْلِ الثَّانِي في التَّعَلُّقِ بِالْمَشِيئَةِ من كِتَابِ الطَّلَاقِ وَجْهًا أَنَّهُ إخْبَارٌ وهو الذي صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ في الْوَجِيزِ وَنَصَرَهُ
____________________
(3/294)
الْقَرَافِيُّ وَغَلِطَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَذَّبَهُمْ بِقَوْلِهِ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا من الْقَوْلِ وَزُورًا وَبِقَوْلِهِ ما هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ وَقَرَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ ثَمَّ أَلْفَاظًا أَبْقَاهَا الشَّارِعُ على مَدْلُولِهَا اللُّغَوِيِّ وَلَكِنْ من قَالَهَا يُلْزَمُ بِأَمْرٍ فإذا قال أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَهُوَ بَاقٍ على وَضْعِهِ الْأَصْلِيِّ وَذَلِكَ كَذِبٌ وَلِهَذَا أَسْمَاهُ اللَّهُ زُورًا وَحُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ كَذَبَ هذا الْكَذِبَ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْعَوْدِ وَكَانَتْ عَلَيَّ حَرَامٌ بَاقٍ على مَوْضُوعِهِ وهو كَذِبٌ وَحُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ قَالَهُ عِنْدَنَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَلَيْسَ ذلك كَبِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ فإن الشَّرْعَ وَضَعَهُمَا لِإِحْدَاثِ ما دَلَّا عليه فَالْأَلْفَاظُ ثَلَاثَةٌ نَحْوُ قام زَيْدٌ وَذَلِكَ خَبَرٌ من كل وَجْهٍ وَنَحْوُ بِعْتُ وَذَلِكَ إنْشَاءٌ مَحْضٌ وَنَحْوُ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَذَلِكَ خَبَرٌ وَمِنْ الْإِنْشَاءَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الطَّلَاقُ على الْمَذْهَبِ وَلَا يَقُومُ الْإِقْرَارُ مَقَامَهُ نعم يُؤَاخَذُ ظَاهِرًا بِمَا أَقَرَّ بِهِ وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ الْإِقْرَارَ على صِيغَتِهِ إنْشَاءً في صُوَرٍ منها إذَا أَقَرَّ بِالطَّلَاقِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا وَحُكِيَ وَجْهٌ أَنَّهُ يَصِيرُ إنْشَاءً حتى يَحْرُمَ بِهِ بَاطِنًا قال الْإِمَامُ وهو تَلْبِيسٌ فإن الْإِقْرَارَ وَالْإِنْشَاءَ يَتَنَافَيَانِ فَذَلِكَ إخْبَارٌ عن مَاضٍ وَهَذَا إحْدَاثٌ في الْحَالِ وَذَلِكَ يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ وَهَذَا بِخِلَافِهِ وَمِنْهَا حُكْمُ الْإِمَامِ وَالْقَاضِي إنْ كان في مَعْرِضِ الْحُكْمِ فَإِنْ لم يَكُنْ فَإِنْ كان في مَعْرِضِ الْحِكَايَاتِ وَالْأَخْبَارِ كَقَوْلِهِ لِزَيْدٍ على عَمْرٍو كَذَا وَفُلَانٌ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ لم يَكُنْ حُكْمًا بَلْ هو كَغَيْرِهِ ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ في بَابِ الْإِقْرَارِ فَإِنْ قال بَعْدَهُ أَرَدْتُ الْحُكْمَ فَيَتَّجِهُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ وَعَلَى هذا فإذا شَكَكْنَا في ذلك لم يَكُنْ حُكْمًا لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ على الْإِخْبَارِ وَعَدَمُ نَقْلِهِ وَمِنْهَا قَوْلُ الشَّاهِدِ أَشْهَدُ إنْشَاءٌ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ التَّكْذِيبُ شَرْعًا وَقِيلَ إخْبَارٌ وَقِيلَ إنْشَاءٌ تَضَمَّنَ الْإِخْبَارَ عَمَّا في النَّفْسِ وَكَأَنَّهُ جَمَعَ بين الْقَوْلَيْنِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في قَوْلِ الْمُلَاعِنِ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ هل هو يَمِينٌ مُؤَكَّدٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ أو يَمِينٌ فيها ثُبُوتُ شَهَادَةٍ وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ الْمَوْطِنُ الثَّامِنُ في تَقْسِيمَاتِهِ اعْلَمْ أَنَّ الْخَبَرَ من حَيْثُ هو مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ لَكِنْ قد يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ أو صِدْقِهِ بِأُمُورٍ خَارِجَةٍ أو لَا يُقْطَعُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِفُقْدَانِ ما يُوجِبُ الْقَطْعَ وَحِينَئِذٍ فَقَدْ يُظَنُّ الصِّدْقُ وقد يُظَنُّ الْكَذِبُ وقد يَسْتَوِيَانِ
____________________
(3/295)
الْأَوَّلُ ما يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ وهو إمَّا أَنْ يُعْلَمَ بِالضَّرُورَةِ أو النَّظَرِ فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِنَا الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَالثَّانِي ضَرْبَانِ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ على صِدْقِ الْخَبَرِ في نَفْسِهِ فَيَكُونُ كُلُّ من يُخْبِرُ بِهِ صَادِقًا وهو ضُرُوبٌ أَحَدُهَا خَبَرُ من دَلَّ الدَّلِيلُ على أَنَّ الصِّدْقَ وَصْفٌ وَاجِبٌ له وهو اللَّهُ تَعَالَى الثَّانِي من دَلَّتْ الْمُعْجِزَةُ على صِدْقِهِ وَهُمْ الْأَنْبِيَاءُ لِأَنَّهُمْ ادَّعَوْا الصِّدْقَ وَظَهَرَتْ الْمُعْجِزَاتُ على الْوَفْقِ الثَّالِثُ من صَدَّقَهُ اللَّهُ أو رَسُولُهُ وهو خَبَرُ كل الْأُمَّةِ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ إنْ قُلْنَا إنَّهُ قَطْعِيٌّ الرَّابِعُ خَبَرُ الْعَدَدِ الْعَظِيمِ عن الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِقُلُوبِهِمْ من الشَّهْوَةِ وَالنَّفْرَةِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ فَلَيْسَ هذا من التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ لِعَدَمِ تَوَارُدِهِ على شَيْءٍ وَاحِدٍ وَالثَّابِتُ في الْمَعْنَوِيِّ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ الْمُتَوَاتِرُ الْخَامِسُ الْمُتَوَاتِرُ وهو لُغَةً تَرَادُفُ الْأَشْيَاءِ الْمُتَعَاقِبَةِ وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ بِمُهْلَةٍ وَاصْطِلَاحًا خَبَرُ جَمْعٍ يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ على الْكَذِبِ من حَيْثُ كَثْرَتُهُمْ عن مَحْسُوسٍ وَإِنَّمَا قال من حَيْثُ كَثْرَتُهُمْ لِيَحْتَرِزَ بِهِ عن خَبَرِ قَوْمٍ يَسْتَحِيلُ كَذِبُهُمْ لِسَبَبٍ آخَرَ خَارِجٍ عن الْكَثْرَةِ وَلَهُ شُرُوطٌ منها ما يَرْجِعُ إلَى الْمُخْبِرِينَ وَمِنْهَا ما يَرْجِعُ إلَى السَّامِعِينَ شُرُوطُ الْمُتَوَاتِرِ التي تَرْجِعُ إلَى الْمُخْبِرِينَ فَاَلَّذِي رَجَعَ إلَى الْمُخْبِرِينَ أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِمَا أَخْبَرُوا بِهِ غير مُجَازِفِينَ فَلَوْ كَانُوا ظَانِّينَ ذلك لم يُفِدْ الْقَطْعَ هَكَذَا شَرَطَهُ جَمَاعَةٌ منهم الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وقال ابن الْحَاجِبِ إنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ عِلْمُ الْجَمِيعِ فَبَاطِلٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ ظَاهِرًا وَمَعَ ذلك يُحَصِّلُ الْعِلْمَ وَإِنْ أُرِيدَ عِلْمُ الْبَعْضِ فَلَازِمٌ من شَرْطِ الْحِسِّ
____________________
(3/296)
ثَانِيهَا أَنْ يَعْلَمُوا ذلك عن ضَرُورَةٍ إمَّا بِعِلْمِ الْحِسِّ من مُشَاهَدَةٍ أو سَمَاعٍ وَإِمَّا أَخْبَارٍ مُتَوَاتِرَةٍ لِأَنَّ ما لَا يَكُونُ كَذَلِكَ يُحْتَمَلُ دُخُولُ الْغَلَطِ فيه فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ فَأَمَّا إذَا تَوَاتَرَتْ أَخْبَارُهُمْ عن شَيْءٍ قد عَلِمُوهُ وَاعْتَقَدُوهُ بِالنَّظَرِ أو الِاسْتِدْلَالِ أو عن شُبْهَةٍ فإن ذلك لَا يُوجِبُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مع تَوَاتُرِهِمْ يُخْبِرُونَ الدَّهْرِيَّةَ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَتَوْحِيدِ الصَّانِعِ وَيُخْبِرُونَ أَهْلَ الذِّمَّةِ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَلَا يَقَعُ لهم الْعِلْمُ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهِ من طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ دُونَ الِاضْطِرَارِ فإن الْمَطْلُوبَ صُدُورٌ عن الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ ثُمَّ قد يَتَرَتَّبُ على الْحَوَاسِّ وَدَرْكِهَا وقد يَحْصُلُ عن قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ وَلَا أَثَرَ لِلْحِسِّ فيها على الِاخْتِصَاصِ فإن الْحِسَّ لَا يُمَيِّزُ احْمِرَارَ الْخَجَلِ وَالْغَضْبَانِ عن اصْفِرَارِ الْمَحْبُوبِ وَالْمَرْغُوبِ وَإِنَّمَا الْعَقْلُ يُدْرِكُ تَمْيِيزَ هذه الْأَحْوَالِ قال فَالْوَجْهُ اشْتِرَاطُ صُدُورِ الْأَخْبَارِ عن الْبَدِيهَةِ وَالِاضْطِرَارِ هذا كَلَامُهُ وَغَايَتُهُ الْحِسُّ أَيْضًا لِأَنَّ الْقَرَائِنَ الْمُفِيدَةَ لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْحِسِّ ثَالِثُهَا أَنْ تَكُونَ مُشَاهَدَةُ الشَّاهِدَيْنِ لِلْمُخْبَرِ عنه حَقِيقَةً وَصَحِيحَةً فَلَا تَكُونُ على سَبِيلِ غَلَطِ الْحِسِّ فَلِذَلِكَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى إخْبَارِ النَّصَارَى بِصَلْبِ الْمَسِيحِ رَابِعُهَا أَنْ يَكُونَ بِصِفَةٍ يُوثَقُ مَعَهَا بِقَوْلِهِمْ فَلَوْ أَخْبَرُوا مُتَلَاعِبِينَ أو مُكْرَهِينَ على ذلك الْخَبَرِ لم يُلْتَفَتْ إلَيْهِ خَامِسُهَا أَنْ يَبْلُغَ عَدَدُ الْمُخْبِرِينَ إلَى مَبْلَغٍ يَمْتَنِعُ عَادَةً تَوَاطُؤُهُمْ على الْكَذِبِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَرَائِنِ وَالْوَقَائِعِ وَالْمُخْبِرِينَ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ بَلْ هذا الْقَدْرُ كَافٍ وَمِنْهُمْ من عَبَّرَ عنه بِأَنْ تَكُونَ شَوَاهِدُ أَحْوَالِهِمْ تَنْفِي عن مِثْلِهِمْ الْمُوَاطَأَةَ وَالْغَلَطَ وَلَا خِلَافَ في هذا وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا هل يُشْتَرَطُ فيه عَدَدٌ مُعَيَّنٌ وَالْجُمْهُورُ على أَنَّهُ ليس فيه حَصْرٌ وَإِنَّمَا الضَّابِطُ حُصُولُ الْعِلْمِ فَمَتَى أَخْبَرَ هذا الْجَمْعُ وَأَفَادَ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ عَلِمْنَا أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ وَإِلَّا فَلَا لَكِنْ منهم من قَطَعَ بِهِ في جَانِبِ النَّفْيِ ولم يَقْطَعْ في جَانِبِ الْإِثْبَاتِ فقال بِعَدَمِ إفَادَةِ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ له وَتَوَقَّفَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وقال يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ من أَرْبَعَةٍ لِأَنَّهُ لو كان خَبَرُ الْأَرْبَعَةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ لَمَا سَأَلَ الْحَاكِمُ عن عَدَالَتِهِمْ إذَا شَهِدُوا عِنْدَهُ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ ذَهَبَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَاتَرَ الْخَبَرُ بِأَقَلَّ من خَمْسَةٍ فما زَادَ فَعَلَى هذا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَاتَرَ بِأَرْبَعَةٍ لِأَنَّهُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ في
____________________
(3/297)
الشَّهَادَةِ الْمُوجِبَةِ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ دُونَ الْعِلْمِ ا هـ وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن الْجُبَّائِيُّ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مُسْتَنَدَهُ عَدَدُ أُولِي الْعَزْمِ وَهُمْ على الْأَشْهَرِ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليهم وَالْمُشْتَرِطُونَ لِلْعَدَدِ اخْتَلَفُوا وَاضْطَرَبُوا اضْطِرَابًا كَثِيرًا فَقِيلَ يُشْتَرَطُ عَشَرَةٌ وَنُسِبَ لِلْإِصْطَخْرِيِّ وَاَلَّذِي في الْقَوَاطِعِ عنه لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَاتَرَ بِأَقَلَّ من عَشَرَةٍ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَتَوَاتَرَ بِالْعَشَرَةِ فما زَادَ لِأَنَّ ما دُونَهَا جَمْعُ الْآحَادِ فَاخْتَصَّ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْعَشَرَةُ فما زَادَ جَمْعُ الْكَثْرَةِ قال وقال قَوْمٌ من غَيْرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَقَلُّ ما يَتَوَاتَرُ بِهِ الْخَبَرُ اثْنَا عَشَرَ لِأَنَّهُمْ عَدَدُ النُّقَبَاءِ وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ عن غَيْرِهِ اعْتِبَارَ الْعَشَرَةِ بِعَدَدِ بَيْعَةِ أَهْلِ الرِّضْوَانِ وهو وَهْمٌ لِمَا سَيَأْتِي وَقِيلَ عِشْرُونَ أَيْ إذَا كَانُوا عُدُولًا كَذَا قَيَّدَهُ الصَّيْرَفِيُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ وَنُقِلَ عن أبي الْهُذَيْلِ وَغَيْرِهِ من الْمُعْتَزِلَةِ وَقِيلَ أَرْبَعُونَ وَقِيلَ سَبْعُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا وَقِيلَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ عَدَدُ أَهْلِ بَدْرٍ وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِذَلِكَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ وَوَقَعَ في التَّقْرِيبِ لِلْقَاضِي وَالْبُرْهَانِ لِلْإِمَامِ وَغَيْرِهِمَا تَقْيِيدُهُمْ بِثَلَاثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ وَحَكَى الْحَافِظُ الدِّمْيَاطِيُّ وَغَيْرُهُ ذلك وَقَوْلًا آخَرَ أَنَّهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَعَشَرَةُ رِجَالٍ وَالْجَمْعُ بين الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ الَّذِينَ خَرَجُوا مع النبي في غَزْوَةِ بَدْرٍ لِلْمُقَاتَلَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةُ رِجَالٍ ولم يَحْضُرْ الْغَزْوَةَ ثَمَانِيَةٌ من الْمُؤْمِنِينَ أَدْخَلَهُمْ النبي عليه السَّلَامُ في حُكْمِ عِدَادِ الْحَاضِرِينَ وَأَجْرَى عليهم حُكْمَهُمْ فَكَانَتْ الْجُمْلَةُ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ فَاعْرِفْ ذلك وَقِيلَ عَدَدُ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَهُمْ أَلْفٌ وَسَبْعُمِائَةٍ قلت وفي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عن جَابِرٍ أَنَّ عَدَدُهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً وفي رِوَايَةٍ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ ثُمَّ رُوِيَ عن قَتَادَةَ قلت لِسَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ كَمْ كان الَّذِينَ شَهِدُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ قال خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً قلت قال جَابِرُ بن عبد اللَّهِ كَانُوا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً قال رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَمَ هو حدثني أَنَّهُمْ كَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً قال الْبَيْهَقِيُّ هذه الرِّوَايَةُ تَدُلُّ على أَنَّهُ كان في الْقَدِيمِ يقول خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً ثُمَّ ذَكَرَ الْوَهْمَ وقال أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً
____________________
(3/298)
وَقِيلَ لَا بُدَّ من خَبَرِ كل الْأُمَّةِ وهو الْإِجْمَاعُ حَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ عن ضِرَارِ بن عَمْرٍو قال طَوَائِفُ من الْفُقَهَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَبْلُغُوا مَبْلَغًا عَظِيمًا أَيْ لَا يَحْوِيهِمْ بَلَدٌ وَلَا يَحْصُرُهُمْ عَدَدٌ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وهو سَرَفٌ وَالْكُلُّ ضَعِيفٌ لِتَعَارُضِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَلَا مُرَجِّحَ لِأَحَدِهَا قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَلَوْ عَنَّ مُرَجِّحٌ فَلَيْسَ ذلك من مَدْلُولِ الْخَبَرِ الْمَقْطُوعِ بِهِ فإن التَّرْجِيحَاتِ ثَمَرَاتُهَا غَلَبَةُ الظُّنُونِ في مُطَّرِدِ الْعَادَةِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ أَمْثَلُ الْأَقَاوِيلِ وَالْبَاقِي ليس بِشَيْءٍ أَيْ فَإِنَّهَا تَحَكُّمَاتٌ فَاسِدَةٌ لَا تُنَاسِبُ الْغَرَضَ وَلَا تَدُلُّ عليه وَتَعَارُضُ أَقْوَالِهِمْ دَلِيلٌ على فَسَادِهَا وَأَمَّا اسْتِخْرَاجُ أبي الْهُذَيْلِ من قَوْلِهِ إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ فَمَرْدُودٌ لِأَنَّ هذا مَنْسُوخٌ ثُمَّ جَعَلَ اللَّهُ الْوَاحِدَ يَقُومُ بِإِزَاءِ الِاثْنَيْنِ فَهَذِهِ الْآيَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْلَى لِأَنَّ فَرْضَ الْعِشْرِينَ أَنْ يَقُومُوا لِمِائَتَيْنِ مَنْسُوخٌ وَصَارَ ثُبُوتُ الْوَاحِدِ لِلِاثْنَيْنِ فَلَوْ اُحْتُجَّ بها عليه في ثُبُوتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لَكَانَ أَقْرَبَ الْأَدِلَّةِ وَبَاقِي الْأَدِلَّةِ لَا تَدُلُّ لِأَنَّهَا أُمُورٌ اتِّفَاقِيَّةٌ فَالْحَقُّ عَدَمُ التَّعْيِينِ مع الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ من عَدَدٍ يَحْصُلُ بِخَبَرِهِمْ الْعِلْمُ وَهَلْ ذلك الْعَدَدُ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ في وَاقِعَةٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ لَا يُفِيدَ في وَاقِعَةٍ أُخْرَى قال الْقَاضِي ذلك مُحَالٌ بَلْ لَا بُدَّ إلَى تَحْصِيلِ ذلك الْعَدَدِ الْعِلْمُ لِكُلِّ من سَمِعَهُ وَمَهْمَا حَصَلَ هذا الْعِلْمُ لِشَخْصٍ فَلَا بُدَّ من حُصُولِهِ لِجَمِيعِ الْأَشْخَاصِ لِتَحَقُّقِ الْمُوجَبِ لِلْعَمَلِ عِنْدَ كل وَاحِدٍ منهم وَهَذَا بَنَاهُ على أَنَّ الْإِخْبَارَ بِمُجَرَّدِهِ يُفِيدُ الْعِلْمَ عَادَةً دُونَ الْقَرَائِنِ وَمَنْعُ إفَادَتِهِ الْعِلْمَ من حَيْثُ انْضِمَامُ الْقَرَائِنِ التي لم يُجْعَل لها أَثَرٌ قال الْغَزَالِيُّ وَهَذَا غَيْرُ مَرْضِيٍّ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ يَجُوزُ أَنْ يُورِثَ الْعِلْمَ وَإِنْ لم تَكُنْ قَرِينَةٌ وَمُجَرَّدُ الْقَرَائِنِ أَيْضًا قد تُورِثُ الْعِلْمَ وَإِنْ لم يَكُنْ مَعَهَا إخْبَارٌ كَعِلْمِنَا بِخَجَلِ الْخَجِلِ وَوَجِلِ الْوَجِلِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُضَمَّ الْقَرَائِنُ إلَى الْأَخْبَارِ فَيَقُومُ بَعْضُ الْقَرَائِنِ مَقَامَ بَعْضِ الْعَدَدِ فَيَحْصُلُ الْعِلْمُ بِمَجْمُوعِهِمَا قال وَهَذَا مِمَّا يُقْطَعُ بِهِ وَالتَّجْرِبَةُ تَدُلُّ عليه وَتَوَسَّطَ الْهِنْدِيُّ فقال الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ إنْ كان حُصُولُ الْعِلْمِ في الصُّورَةِ التي حَصَلَ الْعِلْمُ فيها بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ من غَيْرِ احْتِفَافِ قَرِينَةٍ بِهِ لَا من جِهَةِ الْمُخْبِرِينَ وَلَا من جِهَةِ السَّامِعِينَ حَالِيَّةً كانت أو مَالِيَّةً كان الْإِطْرَادُ وَاجِبًا وَإِنْ لم يَكُنْ بِمُجَرَّدِهِ بَلْ بِانْضِمَامِ أَمْرٍ آخَرَ إلَيْهِ فَلَا يَجِبُ الْإِطْرَادُ
____________________
(3/299)
سَادِسُهَا أَنْ يَتَّفِقُوا على الْخَبَرِ من حَيْثُ الْمَعْنَى وَإِنْ اخْتَلَفُوا في الْعِبَارَةِ فَإِنْ اخْتَلَفُوا في الْمَعْنَى بَطَلَ تَوَاتُرُهُمْ وَشَرَطَ ابن عَبْدَانِ في كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالشَّرَائِطِ في النَّاقِلِينَ شَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعَدَالَةُ قال فَلَا يُقْبَلُ التَّوَاتُرُ من الْفُسَّاقِ وَمَنْ ليس بِعَدْلٍ على الصَّحِيحِ من الْمَذْهَبِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قَبِلَهُ وَالثَّانِي الْإِسْلَامُ قال فَالتَّوَاتُرُ من الْكُفَّارِ لَا يَصِحُّ على الصَّحِيحِ من الْمَذْهَبِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ لَا تُقْبَلُ من الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ وَهِيَ لَا تُوجِبُ الْعِلْمَ فَالتَّوَاتُرُ الذي يُوجِبُ الْعِلْمَ أَوْلَى أَنْ لَا يُقْبَلَ منهم وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال يُقْبَلُ تَوَاتُرُ الْكُفَّارِ ا هـ وَالصَّحِيحُ خِلَافُ ما قال قال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ لَا يُشْتَرَطُ في وُقُوعِ الْعِلْمِ بِالتَّوَاتُرِ صِفَاتُ الْمُخْبِرِينَ بَلْ يَقَعُ ذلك بِإِخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَفَّارِ وَالْعُدُولِ وَالْفُسَّاقِ وَالْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ وَالْكِبَارِ وَالصِّغَارِ إذَا اجْتَمَعَتْ الشُّرُوطُ وَكَذَا قال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ ذَهَبَ قَوْمٌ من أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ شَرْطَ التَّوَاتُرِ في الْكُفَّارِ أَنْ يَكُونَ منهم مُسْلِمُونَ لِلْعِصْمَةِ وَعِنْدَنَا لَا فَرْقَ بين الْكُفَّارِ وَالْمُسْلِمِينَ في الْخَبَرِ وَإِنَّمَا غَلِطَتْ هذه الْفِرْقَةُ فَنَقَلَتْ ما طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ إلَى ما طَرِيقُهُ الْخَبَرُ وَصَرَّحَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ ليس بِشَرْطٍ وَإِنَّمَا رَدَدْنَا خَبَرَ النَّصَارَى بِقَتْلِ عِيسَى لِأَنَّ أَصْلَهُ ليس بِمُتَوَاتِرٍ لِأَنَّهُمْ بَلَّغُوهُ عن خَبَرِ وَلَوْ ما وَمَارِقِينَ ثُمَّ تَوَاتَرَ الْخَبَرُ من بَعْدِهِمْ وَكَذَلِكَ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ قال وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ نَقَلَتُهُ مُؤْمِنِينَ أو عُدُولًا وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِجْمَاعِ حَيْثُ اشْتَرَطَ الْإِيمَانَ وَالْعَدَالَةَ فيه أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَاعْتُبِرَ في أَهْلِهِ كَوْنَهُمْ من أَهْلِ الشَّرِيعَةِ وقال ابن بُرْهَانٍ لَا يُشْتَرَطُ إسْلَامُهُمْ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ وَجَرَى عليه الْمُتَأَخِّرُونَ من الْأُصُولِيِّينَ وَقَطَعَ بِهِ ابن الصَّبَّاغِ في بَابِ السَّلَمِ من الشَّامِلِ فإن الشَّافِعِيَّ قال في الْمُخْتَصَرِ وَلَوْ وَقَّتَ بِفَصْحِ النَّصَارَى لم يَجُزْ لِأَنَّهُ قد يَكُونُ عَامًا في شَهْرٍ وَعَامًا في غَيْرِهِ على حِسَابٍ يَنْسَئُونَ فيه أَيَّامًا فَلَوْ اخْتَرْنَاهُ كنا قد عَمِلْنَا في ذلك بِشَهَادَةِ النَّصَارَى وَهَذَا غَيْرُ حَلَالٍ لِلْمُسْلِمِينَ قال ابن الصَّبَّاغِ هذا ما لم يَبْلُغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ فَإِنْ بَلَغُوهُ بِحَيْثُ يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُهُمْ على الْكَذِبِ فإنه يَكْفِي لِحُصُولِ الْعِلْمِ وَمِنْهُمْ من حَكَى فيه قَوْلًا ثَالِثًا وهو التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَطُولَ الزَّمَانُ فَيُعْتَبَرُ
____________________
(3/300)
الْإِسْلَامُ لِجَوَازِ التَّوَاطُؤِ وَإِلَّا فَلَا يُعْتَبَرُ حَكَاهُ الشَّيْخُ في التَّبْصِرَةِ وَمِنْهُمْ من فَصَّلَ بين ما طَرِيقُهُ الدَّيَّانَاتُ فَلَا مَدْخَلَ لهم فيه وما طَرِيقُهُ الْأَقَالِيمُ وَشَبَهُهَا فَهَلْ لهم مَدْخَلٌ بِالتَّوَاتُرِ فيه هو مَحَلُّ الْخِلَافِ وقد سَبَقَ عن الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ في التَّوَاتُرِ دُونَ الِاسْتِفَاضَةِ وَجَزَمَ الرُّويَانِيُّ بِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ لَا تُشْتَرَطُ وَذَكَرَ وَجْهَيْنِ في انْفِرَادِ الصِّبْيَانِ بِهِ مع شَوَاهِدِ الْحَالِ بِانْتِفَاءِ الْمُوَاطَأَةِ فَتَحَصَّلْنَا على وُجُوهٍ وَلَا يُعْتَبَرُ في الْمُخْبِرِينَ أَنْ لَا يَحْصُرَهُمْ عَدَدٌ وَلَا يَحْوِيَهُمْ بَلَدٌ خِلَافًا لِقَوْمٍ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَامِعِ لو أَخْبَرُوا عن سُقُوطِ الْمُؤَذِّنِ عن الْمَنَارَةِ فِيمَا بين الْخَلْقِ لَأَفَادَ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِمْ أَنْ يَكُونُوا مُخْتَلِفِي الْأَدْيَانِ وَالْأَنْسَابِ وَالْأَوْطَانِ خِلَافًا لِلْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ شَرَطُوا أَنْ لَا يَكُونَ نَسَبُهُمْ وَاحِدًا وَأَنْ لَا يَكُونَ سَكَنُهُمْ وَاحِدًا وَالدَّلِيلُ على فَسَادِ ذلك أَنَّ قَبِيلَةً من الْقَبَائِلِ الْمُتَّفِقَةِ أَدْيَانُهُمْ وَأَنْسَابُهُمْ لو أَخْبَرُوا بِوَاقِعَةٍ في نَاحِيَتِهِمْ حَصَلَ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ ضَرُورَةً وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَعْصُومٌ خِلَافًا لِلشِّيعَةِ وَلِابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ وَاعْلَمْ أَنَّ هذه الشُّرُوطَ لَا بُدَّ منها سَوَاءٌ أَخْبَرَ الْمُخْبِرُونَ عن مُشَاهَدَةٍ أو لَا عن مُشَاهَدَةٍ بَلْ عن سَمَاعٍ من آخَرِينَ فَأَمَّا إذَا حَصَلَ الْوَسَائِطُ فَيُعْتَبَرُ شَرْطٌ آخَرُ وهو وُجُودُ الشُّرُوطِ في كل الطَّبَقَاتِ وهو مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَا بُدَّ من اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَاسِطَةِ فَيَرْوِي الْعَدَدُ الْمَذْكُورُ بِالصِّفَةِ السَّابِقَةِ عن مِثْلِهِ إلَى أَنْ يَتَّصِلَ بِالْمُخْبَرِ عنه أَيْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَالُ من نَقَلَ عن الْأَوَّلِينَ كَحَالِ الْأَوَّلِينَ فِيمَا عَلِمُوهُ ضَرُورَةً وَكَذَلِكَ النَّقَلَةُ في الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ الثَّالِثَةِ ثُمَّ الرَّابِعَةِ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إلَيْنَا وَلِهَذَا لم يَصِحَّ ما نَقَلَهُ النَّصَارَى عن صَلْبِ عِيسَى عليه السَّلَامُ لِأَنَّهُمْ نَقَلُوهُ عن عَدَدٍ لَا تَقُومُ بِهِمْ الْحُجَّةُ ابْتِدَاءً وَكَذَا ما نَقَلَتْهُ الرَّوَافِضُ من النَّصِّ على إمَامَةِ عَلِيٍّ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ التَّوَاتُرَ يَنْقَلِبُ آحَادًا وَرُبَّمَا انْدَرَسَ دَهْرًا فَالْمُتَوَاتِرُ من أَخْبَارِ النبي عليه السَّلَامُ ما اطَّرَدَتْ الشَّرَائِطُ فيه عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ حتى انْتَهَى إلَيْنَا وَهَذَا لَا خَفَاءَ فيه قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَلَكِنَّهُ ليس من شَرْطِهِ التَّوَاتُرُ قال بَلْ حَاصِلُهُ أَنَّ التَّوَاتُرَ قد يَنْقَلِبُ آحَادًا وَلَيْسَ من شَرَائِطِ وُقُوعِ التَّوَاتُرِ فَلَا يَصِحُّ تَعْبِيرُهُمْ بِاسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَاسِطَةِ وَخَالَفَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وقال ما هو من شُرُوطِهِ لَا من شَرْطِ حُصُولِ الْعِلْمِ وَالْعِلْمُ قد يَحْصُلُ من غَيْرِ تَوَاتُرٍ وقد يَنْبَنِي على التَّوَاتُرِ
____________________
(3/301)
شُرُوطُ الْمُتَوَاتِرِ التي تَرْجِعُ إلَى السَّامِعِينَ وَأَمَّا ما يَرْجِعُ إلَى السَّامِعِينَ فَأُمُورٌ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ السَّامِعُ له من أَهْلِ الْعِلْمِ إذْ يَسْتَحِيلُ حُصُولُ الْعِلْمِ من غَيْرِ مُتَأَهِّلٍ له فَلِذَلِكَ لَا يَكُونُ مَجْنُونًا وَلَا غَافِلًا ثَانِيهَا أَنْ يَكُونَ غير عَالِمٍ بِمَدْلُولِهِ ضَرُورَةً وَإِلَّا يَلْزَمُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ فَلَوْ أَخْبَرُوا بِأَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لَا يَجْتَمِعَانِ لم يُفِدْ عِلْمًا قال ابن الْحَاجِبِ وَهَذَا إنَّمَا نَشْرُطُهُ على الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعِلْمَ غَيْرُ نَظَرِيٍّ فَإِنْ قُلْنَا ضَرُورِيٌّ فَلَا يُشْتَرَطُ وَنَازَعَ الْجَزَرِيُّ الْإِمَامَ فَخْرَ الدِّينِ في تَمْثِيلِهِ بِأَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لَا يَجْتَمِعَانِ وقال ليس هذا من بَابِ ما ثَبَتَ بِالْخَبَرِ وهو عَجِيبٌ فإن مَقْصُودَ الْإِمَامِ أَنَّهُ لَمَّا عَلِمَهُ السَّامِعُ صَارَ مَعْلُومًا له بِالضَّرُورَةِ بِإِخْبَارِ الْمُخْبِرِينَ كَإِخْبَارِ الْمُخْبِرِينَ بِأَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لَا يَجْتَمِعَانِ وهو مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ ثَالِثُهَا أَنْ يَكُونَ السَّامِعُ مُنْفَكًّا عن اعْتِقَادِ ما يُخَالِفُ الْخَبَرَ إذَنْ لِشُبْهَةِ دَلِيلٍ أو تَقْلِيدِ إمَامٍ ذَكَرَهُ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَأَمَّا إذَا كان عِنْدَهُ شُبْهَةٌ مُشْكِلَةٌ في صِدْقِ الْخَبَرِ لم يُفِدْ الْعِلْمَ وَمُرَادُ الشَّرِيفِ بِذَلِكَ إثْبَاتُ إمَامَةِ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه بِالتَّوَاتُرِ وَإِنَّمَا لم يَحْصُلْ الْعِلْمُ لنا لِاعْتِقَادِ مُتَابِعِي النَّصِّ لِأَجْلِ الشُّبَهِ الْمَانِعَةِ لنا عنه وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تَقْوَى على دَفْعِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَبَنَاهُ على أَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ عَقِبَ التَّوَاتُرِ بِالْعَادَةِ لَا بِطَرِيقِ التَّوَلُّدِ فَجَازَ إخْلَافُهُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ السَّامِعِينَ فَيَحْصُلُ لِلسَّامِعِ إذَا لم يَكُنْ قد اعْتَقَدَ نَقِيضَ ذلك الْحُكْمِ قبل ذلك وَلَا يَحْصُلُ له إذَا اعْتَقَدَ نَقِيضَهُ قال الْقُرْطُبِيُّ وهو بَاطِلُ بِآيَةِ الِاسْتِوَاءِ وَالْمَجِيءِ فإنه قد اسْتَوَى في الْعِلْمِ بِتَوَاتُرِهَا من اعْتَقَدَ ظَاهِرَهَا وَمَنْ لم يَعْتَقِدْ وقال الْهِنْدِيُّ هذا وَإِنْ بَنَاهُ على أَصْلِهِ الْفَاسِدِ وَلَكِنْ لَا بَأْسَ بِهِ وَقِيلَ يَلْزَمُ عليه أَنْ يُجَوَّزَ صِدْقُ من أخبرنا بِأَنَّهُ لم يَعْلَمْ وُجُودَ الْكِبَارِ وَالْحَوَادِثَ الْعَظِيمَةَ بِالْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ لِأَجْلِ شُبْهَةٍ اعْتَقَدَهَا في نَفْيِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وهو بَاطِلٌ
____________________
(3/302)
ثُمَّ فيه مَسَائِلُ الْأَوَّلُ أَنَّ التَّوَاتُرَ يَدُلُّ على الصِّدْقِ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَزَعَمَ النَّظَّامُ وَأَتْبَاعُهُ من الْقَدَرِيَّةِ أَنَّهُ قد يَكُونُ كَذِبًا وَأَنَّ الْحُجَّةَ فِيمَا غَابَ عن الْحَوَاسِّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْخَبَرِ الذي يَضْطَرُّ سَامِعُهُ إلَى أَنَّهُ صِدْقٌ سَوَاءٌ أَخْبَرَ بِهِ جَمْعٌ أو وَاحِدٌ وَأَجَازَ إجْمَاعُ أَهْلِ التَّوَاتُرِ على الْكَذِبِ وَأَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ وَاقِعًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وهو بَاطِلٌ الثَّانِيَةُ الْجُمْهُورُ على أَنَّ التَّوَاتُرَ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ سَوَاءٌ كان عن أَمْرٍ مَوْجُودٍ في زَمَانِنَا كَالْإِخْبَارِ عن الْبُلْدَانِ الْبَعِيدَةِ وَالْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ كَوُجُودِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَتْ السُّمَنِيَّةُ وَالْبَرَاهِمَةُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بَلْ الظَّنَّ وَجَوَّزَ الْبُوَيْطِيُّ فيه وَفَصَّلَ آخَرُونَ فَقَالُوا إنْ كان خَبَرًا عن مَوْجُودٍ أَفَادَ الْعِلْمَ أو عن مَاضٍ فَلَا يُفِيدُهُ لنا أَنَّا بِالضَّرُورَةِ نَعْلَمُ وُجُودَ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ كَبَغْدَادَ وَالْأَشْخَاصَ الْمَاضِيَةَ كَالشَّافِعِيِّ فَصَارَ وُرُودُهُ كَالْعِيَانِ في وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ اضْطِرَارًا وقد قال الطُّفَيْلُ الْغَنَوِيُّ مع أَعْرَابِيَّتِهِ في وُقُوعِ الْعِلْمِ بِاسْتِفَاضَةِ الْخَبَرِ ما دَلَّتْ عليه الْفِطْرَةُ وَقَادَ إلَيْهِ الطَّبْعُ فقال تَأَوَّبَنِي هَمٌّ من اللَّيْلِ مُنْصِبٌ وَجَاءَ من الْأَخْبَارِ ما لَا يُكَذَّبُ تَظَاهَرْنَ حتى لم يَكُنْ لي رِيبَةٌ ولم يَكُ عَمَّا أَخْبَرُوا مُتَعَقَّبُ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وما نُقِلَ عن السُّمَنِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ مَحْمُولٌ على أَنَّ الْعَدَدَ وَإِنْ كَثُرَ فَلَا اكْتِفَاءَ بِهِ حتى يَنْضَمَّ إلَيْهِ ما يَجْرِي مَجْرَى الْقَرِينَةِ من انْتِفَاءِ الْحَالَاتِ الْمَانِعَةِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ وَأَنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ وُقُوعَ الْعِلْمِ على الْجُمْلَةِ لَكِنَّهُمْ لم يُضِيفُوا وُقُوعَهُ إلَى مُجَرَّدِ الْخَبَرِ بَلْ إلَى قَرِينَةٍ وَوُقُوعُ الْعِلْمِ عن الْقَرَائِنِ لَا يُنْكِرُهُ عَاقِلٌ وقال أبو الْوَلِيدِ بن رُشْدٍ في مُخْتَصَرِ الْمُسْتَصْفَى لم يَقَعْ خِلَافٌ في أَنَّ التَّوَاتُرَ يُفِيدُ الْيَقِينَ إلَّا مِمَّنْ لَا يُؤْبَهُ بِهِ وَهُمْ السُّوفِسْطَائِيَّة وَجَاحِدُ ذلك يَحْتَاجُ إلَى عُقُوبَةٍ لِأَنَّهُ كَاذِبٌ بِلِسَانِهِ على ما في نَفْسِهِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في جِهَةِ وُقُوعِ الْيَقِينِ عنه فَقَوْمٌ رَأَوْهُ بِالذَّاتِ وَقَوْمٌ رَأَوْهُ بِالْعَرَضِ وَقَوْمٌ مُكْتَسَبًا تَنْبِيهٌ ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا في الْفُرُوعِ جَرَيَانُ خِلَافٍ في هذه الْمَسْأَلَةِ فإن بَيْعَ الْغَائِبِ عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ فَلَوْ كان الْبَيْعُ مُنْضَبِطًا بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ فَفِي الْبَحْرِ قال بَعْضُ أَصْحَابِنَا
____________________
(3/303)
بِخُرَاسَانَ فيه طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُطْلَقًا كَالْمَرْئِيِّ وَقِيلَ فيه قَوْلَانِ الثالثة أن هذا العلم ضروري لا نظري ولا حاجة معه إلى كسب كما نقله القاضي في التقريب عن الكل من الفقهاء والمتكلمين وبه قال ابن عبدان في شرائط الأحكام وابن الصباغ وقال ابن فورك إنه الصحيح وقال أبو الطيب إنه الصحيح المشهور وقال سليم إنه قول الكافة إلا البلخي واختاره الإمام الرازي وأتباعه وابن الحاجب وقال صاحب الواضح إنه قول عامة متكلمينا ونقله في المعتمد عن الجبائي وأبي هاشم وذهب الكعبي إلى أنه مستثنى مفتقر إلى تقدم استدلال ويثمر علما نظريا كغيره من العلوم النظرية ووافقه أبو الحسين البصري وابن القطان كما رأيته في كتابه ونقله القاضي أبو الطيب عن الدقاق ونقله الإمام فخر الدين عن الغزالي والذي في المستصفى أنه ضروري بمعنى أنه لا يحتاج إلى حصوله إلى الشعور بتوسط واسطة مفضية إليه مع أن الواسطة حاضرة في الذهن وليس ضروريا بمعنى أنه حاصل من غير واسطة كقولنا القديم لا يكون محدثا والموجود لا يكون معدوما فإنه لا بد فيه من حصول مقدمتين في النفس عدم اجتماع هذا الجمع على الكذب واتفاقهم على الإخبار عن هذه الواقعة وهذا الذي ذكره الغزالي يقرب منه قول إمام الحرمين إنه قد كثر الطاعن على قول الكعبي إنه نظري والذي أراه تنزيل مذهبه عند كثرة المخبرين على النظر في ثبوت أمارات جامعة وانتفائها فلم يعن الرجل نظرا عقليا وفكرا سبريا على مقدمات ونتائج فليس ما ذكره إلا الحق وتبعه ابن القشيري وإذا تبين توارد إمام الحرمين وتلميذه على ذلك وتنزيل مذهب الكعبي عليه لم يبق خلاف وقال إلكيا ما ذكره الكعبي يرجع إلى سبب العلم يعني أن العلم لم يحصل وليس الخلاف في هذا إنما الخلاف في أن الخبر إذا حصل بشرائطه هل يوجب العلم من غير نظر واعلم أن الكعبي لا يجوز أن يخالف في هذا فإنا نرى العلم يحصل للنساء والصبيان من غير نظر وإلا فالكعبي لا ينكر المحسوس ويقول لم أعلم البلاد الغائبة إلا بالنظر وما كان ضروريا يعلم ضرورة لأنه لا يربط النظر قال وقاضينا أبو بكر يقول أعلم أن العلم ضرورة وأعلم بالنظر أنه ضروري فجعل العلم به بالنظر يدرك
____________________
(3/304)
والمعلوم الثاني وهو صدق المخبرين مدركا بالنظر ووجه النظر تيسير مدارك البحث الذي يظن المخالف أنه يتطرق منه إلى العلم وإذن بطل تعين كونه مدركا بالضرورة وهذا بعيد فإنه يلزم مثله في العلم باستحالة اجتماع الضدين فبطل ما رآه القاضي وصح ما قلناه من أن الكعبي إنما ادعى النظر في السبب الأول لا في العلم بصدق المخبرين ا هـ ويدل له أن ابن القطان احتج على أنه ليس ضروريا بأن العلم به لا يزيد المعجزة ونحن لم نعلمها إلا بالاستدلال فكذا الخبر وفي المسألة مذهب ثالث وهو أنه بين المكتسب والضروري وهو أقوى من المكتسب وليس في قوة الضروري قاله صاحب الكبريت الأحمر ورابع وهو الوقف ذهب إليه الشريف المرتضى وقال صاحب المصادر إنه الصحيح واختاره الآمدي وإذا قلنا بأنه نظري فهو بطريق التوليد عند القائلين به وإلا ففيه خلاف عندهم لترتبه على فعل اختياري ووجه الآخر القياس على سائر الضروريات الرَّابِعَةُ إذَا ثَبَتَ وُقُوعُ الْعِلْمِ عنه وَأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ فَاخْتَلَفُوا إلَى مَاذَا يَسْتَنِدُ فَالْجُمْهُورُ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِاسْتِنَادِهِ إلَى الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَأَنْكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هذا وَرَأَى أَنَّهُ يَسْتَنِدُ إلَى الْقَرَائِنِ وَمِنْهَا كَثْرَةُ الْعَدَدِ الذي لَا يُمْكِنُ معه التَّوَاطُؤُ على الْكَذِبِ وَطَرْدُ أَصْلِهِ هذا في خَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا احْتَفَّتْ بِهِ قَرَائِنُ وقال إنَّهُ يُفِيدُ الْقَطْعَ الْخَامِسَةُ أَنَّ هذا الْعِلْمَ عَادِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّزُ الْكَذِبَ على كل عَدَدٍ وَإِنْ عَظُمَ وَإِنَّمَا هذه الِاسْتِحَالَةُ عَادِيَةٌ السَّادِسَةُ قال ابن الْحَاجِبِ في مُخْتَصَرِهِ الْكَبِيرِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ غير شُذُوذٍ على أَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ لَا يُوَلِّدُ الْعِلْمَ لنا أَنَّهُ مَوْجُودٌ وَمُمْكِنٌ وَكُلُّ مَوْجُودٍ مُمْكِنٍ ليس إلَّا بِخَلْقِ اللَّهِ وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ الْقَوْلُ في أَنَّ الْعِلْمَ بِهِ يَقَعُ مُبْتَدَأً من فِعْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ غير مُتَوَلِّدٍ عن الْخَبَرِ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّوَلُّدِ بَاطِلٌ في أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِ خَلْقِهِ على ما بَيَّنَّاهُ في أُصُولِ الدِّيَانَاتِ السَّابِعَةُ إذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ بِحَضْرَةِ خَلْقٍ كَثِيرٍ لَا يَجُوزُ عليهم التَّوَاطُؤُ على الْكَذِبِ ولم يَكْذِبُوهُ وَعُلِمَ أَنَّهُ لو كان كَذِبًا لَعَلِمُوهُ وَلَا حَامِلَ لهم على سُكُوتِهِمْ
____________________
(3/305)
كَالْخَوْفِ وَالطَّمَعِ يَدُلُّ على صِدْقِهِ قَطْعًا قَالَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَسُلَيْمٌ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيُّ وابن الصَّبَّاغِ وَاخْتَارَهُ ابن الْحَاجِبِ قال الْأُسْتَاذُ وَبِهَذَا النَّوْعِ أَثْبَتْنَا كَثِيرًا من مُعْجِزَاتِ الرَّسُولِ قال ابن الصَّبَّاغِ لَكِنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ نَظَرِيٌّ بِخِلَافِ الْمُتَوَاتِرِ فإنه ضَرُورِيٌّ وَقِيلَ ليس صِدْقُهُ قَطْعِيًّا وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لهم اطِّلَاعٌ على كَذِبِهِ أو صِدْقِهِ أو اطَّلَعَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ وَالْعَادَةُ لَا تُحِيلُ سُكُوتَ هذا الْبَعْضِ وَبِتَقْدِيرِ اطِّلَاعِ الْكُلِّ يُحْتَمَلُ أَنَّ مَانِعًا مَنَعَهُمْ من التَّصَرُّفِ بِتَكْذِيبِهِ وَمَعَ هذه الِاحْتِمَالَاتِ يَمْتَنِعُ الْقَطْعُ بِتَصْدِيقِهِ وَهَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ عِنْدَ انْتِفَائِهَا كما نَبَّهَ عليه ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ فَحِينَئِذٍ سُكُوتُهُمْ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِمْ صَدَقْت وَفَصَّلَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وابن الْقُشَيْرِيّ فَقَالَا إنْ أَخْبَرَ بِأَمْرٍ ضَرُورِيٍّ دَلَّ على الصِّدْقِ وَإِنْ أَخْبَرَ بِأَمْرٍ نَظَرِيٍّ فَسَكَتُوا لم يَكُنْ سُكُوتُهُمْ بِمَثَابَةِ تَصْرِيحِهِمْ بِالْحُكْمِ لِأَنَّ الْمَحَلَّ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ وَفَصَّلَ ابن السَّمْعَانِيِّ بين أَنْ يَتَمَادَى على ذلك الزَّمَنَ الطَّوِيلَ وَلَا يَظْهَرُ منهم مُنْكِرٌ فَيَدُلُّ على الصِّدْقِ وَإِلَّا فَلَا قال وَأَلْحَقَ بِهِ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُضَافًا إلَى حَالٍ قد شَاهَدَهَا كَثِيرٌ من الناس ثُمَّ يَرْوِيهِ وَاحِدٌ وَاثْنَانِ وَيَسْمَعُ بِرِوَايَاتِهِ سَائِرُ من شَهِدَ الْحَالَ فَلَا يُكْرَهُ فَيَدُلُّ تَرْكُ إنْكَارِهِمْ له على صِدْقِهِ لِأَنَّهُ ليس في جَارِي الْعَادَةِ إمْسَاكُهُمْ جميعا عن رَدِّ الْكَذِبِ وَتَرْكِ الْإِنْكَارِ وقال وَعَلَى هذا وَرَدَتْ أَكْثَرُ سِيَرِ النبي عليه السَّلَامُ وَأَكْثَرُ أَحْوَالِهِ في مَغَازِيهِ قال وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ جِدًّا الثَّامِنَةُ إذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ بِحَضْرَتِهِ عليه السَّلَامُ وَلَا حَامِلَ له على الْكَذِبِ ولم يُنْكِرْهُ فَيَدُلُّ على صِدْقِهِ قَطْعًا في الْمُخْتَارِ خِلَافًا لِلْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَمِمَّنْ جَزَمَ بِالْأَوَّلِ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَسُلَيْمٌ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وابن السَّمْعَانِيِّ لَكِنَّ شَرْطًا أَنْ يَدَّعِيَ عِلْمَ النبي عليه السَّلَامُ بِهِ وَلَا يُكَذِّبَهُ وَقِيلَ إنْ كان عن أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ لم يَدُلَّ على صِدْقِهِ أو دِينِيٍّ دَلَّ وَاخْتَارَهُ الْهِنْدِيُّ بِشُرُوطِ التَّقْرِيرِ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْقُشَيْرِيّ فإنه قال إذَا أَخْبَرَ الْمُخْبِرُ بين يَدَيْ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ فَتَقْرِيرُ الرَّسُولِ على إخْبَارِهِ وَلَا يُنْكِرُهُ عليه مع دَلَالَةِ الْحَالِ على انْتِفَاءِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ عنه عليه السَّلَامُ يَدُلُّ على صِدْقِهِ قَطْعًا
____________________
(3/306)
وَالْحَقُّ أَنَّ هذا الْخَبَرَ إنْ كان عن أَمْرٍ دِينِيٍّ فَإِنَّمَا يُجْزَمُ بِصِدْقِهِ بِشُرُوطٍ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ وَقْتُ الْعَمَلِ بِهِ قد دخل وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ تَرْكَ الْإِنْكَارِ يُحْتَمَلُ لِأَنَّ له تَأْخِيرَ الْبَيَانِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ ثَانِيهَا أَنْ لَا يَكُونَ سُكُوتُ النبي عليه السَّلَامُ قد تَقَدَّمَهُ بَيَانُ حُكْمِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ فإنه لَا يَجِبُ عليه تَكْرِيرُ الْبَيَانِ كُلَّ وَقْتٍ فَلَعَلَّهُ حِينَئِذٍ إنَّمَا تَرَكَ الْإِنْكَارَ لِاعْتِمَادِهِ على ما تَقَدَّمَ من الْبَيَانِ ثَالِثُهَا أَنْ يَكُونَ ما أَخْبَرَ بِهِ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُشْرَعَ فَلَوْ قال قَائِلٌ أَوْجَبَ اللَّهُ على الناس الطَّيَرَانَ أو تَرْكَ التَّنَفُّسِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ عن الْإِنْكَارِ لِعِلْمِهِ أَنَّ مِثْلَ هذا الْقَوْلِ مِمَّا لَا يُصْغَى إلَيْهِ وَإِنْ كان عن أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ فَقَدْ قِيلَ أَيْضًا إنَّهُ يُجْزَمُ بِصِدْقِهِ إذَا عُلِمَ عِلْمُ الرَّسُولِ بِالْوَاقِعَةِ وَضَعَّفَهُ آخَرُونَ وَقَالُوا الرَّسُولُ لَا يَلْزَمُهُ تَبْيِينُ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِنْكَارُ على الْكَاذِبِ إذَا لم يَحْلِفْ تَنْبِيهٌ الْعِلْمُ في هذا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ نَظَرِيٌّ لِوُقُوعِهِ عن النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ قَالَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في شَرْحِ الْكِفَايَةِ التَّاسِعَةُ خَبَرُ الْوَاحِدِ إذَا صَارَ إلَى التَّوَاتُرِ في الْعَصْرِ الثَّانِي أو الثَّالِثِ أو الرَّابِعِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِصِدْقِهِ قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ قال وَخَالَفَ أَهْلُ الْبِدَعِ وَمِثْلُهُ بِالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ في الرُّؤْيَةِ وَالْقَدَرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَالْحَوْضِ وَالْمِيزَانِ وَالشَّفَاعَةِ وَخَبَرِ الرَّجْمِ وَالْمَسْحِ على الْخُفِّ وَنَحْوِهِ الْعَاشِرَةُ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالطَّائِفَةِ الْمَحْصُورَةِ إذَا أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ على قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ كَإِجْمَاعِهِمْ على الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ في مِيرَاثِ الْجَدَّةِ وفي إنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وفي أَنَّهُ لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ على عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا يَدُلُّ على الصِّدْقِ قَطْعًا عِنْدَ الْأُسْتَاذَيْنِ أبي إِسْحَاقَ وَتِلْمِيذِهِ أبي مَنْصُورٍ وَالْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ وَالشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ وَسُلَيْمٍ الرَّازِيَّ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَنَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ عن الْأُصُولِيِّينَ وَنَقَلَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عن الْأَكْثَرِينَ وَنُقِلَ عن الْكَرْخِيِّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَأَبِي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ
____________________
(3/307)
وقال الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ في كِتَابِ فَهْمِ السُّنَنِ إنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ على إثْبَاتِهِ وَأَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَمَثَّلَهُ بِخَبَرِ في خَمْسِ أَوَاقٍ وَخَمْسِ ذَوْدٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا وَأَرْبَعِينَ من الْغَنَمِ الزَّكَاةُ قال كما أنها إذَا أَجْمَعَتْ على تَرْكِ الْخَبَرِ وَعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ دَلَّ على خِلَافِهِ وَذَهَبَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ إلَى أَنَّهُ لَا يَدُلُّ على الْقَطْعِ بِصِدْقِهِ وَإِنْ تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ قَوْلًا وَنُطْقًا وَقُصَارَاهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُمْ فإن تَصْحِيحَ الْأُمَّةِ لِلْخَبَرِ يَجْرِي على حُكْمِ الظَّاهِرِ فإذا اسْتَجْمَعَ شُرُوطَ الصِّحَّةِ أَطْلَقَ عليه الْمُحَدِّثُونَ الصِّحَّةَ فَلَا وَجْهَ لِلْقَطْعِ وَالْحَالَةُ هذه وَقِيلَ بِالتَّفْصِيلِ بين أَنْ يَتَّفِقُوا على الْعَمَلِ بِهِ فَلَا يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ وَحُمِلَ الْأَمْرُ على اعْتِقَادِهِمْ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِنْ تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ قَوْلًا وَنُطْقًا حُكِمَ بِصِدْقِهِ وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن ابْنِ فُورَكٍ وقال الْمَازِرِيُّ الْإِنْصَافُ التَّفْصِيلُ فَإِنْ لَاحَ من سَائِرِ الْعُلَمَاءِ مَخَايِلُ الْقَطْعِ وَالتَّصْمِيمِ وَأَنَّهُمْ أَسْنَدُوا التَّصْدِيقَ إلَى يَقِينٍ فَلَا وَجْهَ لِلتَّشْكِيكِ وَيُحْمَلُ على أَنَّهُمْ عَلِمُوا صِحَّةَ الحديث من طُرُقٍ خَفِيَتْ عَلَيْنَا إمَّا بِأَخْبَارٍ نُقِلَتْ مُتَوَاتِرَةً ثُمَّ انْدَرَسَتْ أو بِغَيْرِهَا وَإِنْ لَاحَ منهم التَّصْدِيقُ مُسْتَنِدًا إلَى تَحْسِينِ الظَّنِّ بِالْعُدُولِ بِالْبِدَارِ إلَى الْقَبُولِ فَلَا وَجْهَ لِلْقَطْعِ ا هـ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ على الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَجْلِهِ فَهَذَا هو الْمُسَمَّى مَشْهُورًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وهو الذي يَكُونُ وَسَطُهُ وَآخِرُهُ على حَدِّ التَّوَاتُرِ وَأَوَّلُهُ مَنْقُولٌ عن الْوَاحِدِ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذلك لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ ضَرُورَةً فإنه لو أَوْجَبَهُ ثَبَتَتْ حُجَّةُ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَالْمَجُوس في أَشْيَاءَ نَقَلُوهَا عن أَسْلَافِهِمْ وَنَحْنُ نُخَالِفُهُمْ وقد قال أبو هَاشِمٍ في مِثْلِ ذلك إنَّ تَوَافُقَ الْأُمَّةِ على الْعَمَلِ بِهِ يَدُلُّ على أَنَّ الْحُجَّةَ قد قَامَتْ بِهِ في الْأَصْلِ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ فِيمَا قَبِلُوهُ من الْأَخْبَارِ قد جَرَتْ بِأَنَّ ما لم تَقُمْ بِهِ الْحُجَّةُ لَا يُطْبِقُونَ على قَبُولِهِ فلما أَطْبَقُوا على قَبُولِهِ فَقَدْ عَظَّمُوا النَّكِيرَ على من خَالَفَهُمْ وَمِنْهُ أَخْبَارُ أُصُولِ الزَّكَاةِ وَالْعِبَادَاتِ وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِيمَا لم تَقُمْ بِهِ الْحُجَّةُ من الْأَخْبَارِ كَرِوَايَةِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ وَرِوَايَاتِ أبي هُرَيْرَةَ قال وَبِمِثْلِهِ احْتَجَجْنَا بِالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ على صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّهَا وَإِنْ كانت أَخْبَارَ آحَادٍ وَلَكِنْ تَلَقَّتْهَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَمَنَعَتْ بِسَبَبِهَا مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ وَشَدَّدَتْ النَّكِيرَ على الْمُخَالِفِ
____________________
(3/308)
فَإِنْ قِيلَ خَبَرُ الْوَاحِدِ ظَنِّيٌّ وَلَا يَتَّفِقُ جَمْعٌ لَا يُحْصَوْنَ على الظَّنِّ كما لَا يَتَّفِقُونَ على الْقِيَاسِ قِيلَ الصَّحِيحُ جَوَازُ اسْتِنَادِ الْإِجْمَاعِ إلَى الْقِيَاسِ وَنَقَلَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ أَنَّهُ قال لَا تُتَصَوَّرُ هذه الْمَسْأَلَةُ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا لم يُوجِبْ الْعِلْمَ فَلَا يُتَصَوَّرُ اتِّفَاقُ الْأُمَّةِ على انْقِطَاعِ الِاحْتِمَالِ حَيْثُ لَا يَنْقَطِعُ وَاخْتَارَ ذلك ابن بَرْهَانٍ فقال عَدَدُ التَّوَاتُرِ إذَا أَجْمَعُوا على الْعَمَلِ عن الْوَاحِدِ لم يَصِرْ مُتَوَاتِرًا وَهَلْ يُفِيدُ الْقَطْعَ أَمْ لَا قال وَلَا يُتَصَوَّرُ هذا لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَظْنُونٌ وَالظَّنِّيُّ لَا يَنْقَلِبُ قَطْعِيًّا وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ أَنَّ تَلَقِّيَ الْأُمَّةِ بِالْقَبُولِ لَا يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِالصِّدْقِ لِلِاحْتِمَالِ ثُمَّ قال ثُمَّ قِيلَ لِلْقَاضِي لو دَفَعُوا هذا الظَّنَّ وَبَاحُوا بِالصِّدْقِ فقال مُجِيبًا لَا يُتَصَوَّرُ هذا فَإِنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَى الْعِلْمِ بِصِدْقِهِ وَلَوْ نَطَقُوا لَكَانُوا مُجَازِفِينَ وَأَهْلُ الْإِجْمَاعِ لَا يُجْمِعُونَ على بَاطِلٍ قال أبو نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وقد حُكِيَتْ عن الْقَاضِي أَنَّهُ بَيَّنَ في كِتَابِ التَّقْرِيبِ أَنَّ الْأُمَّةَ إذَا أَجْمَعَتْ أو أَجْمَعَ أَقْوَامٌ لَا يَجُوزُ عليهم التَّوَاطُؤُ على الْكَذِبِ من غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ فِيهِمْ التَّوَاطُؤُ على أَنَّ هذا الْخَبَرَ صِدْقٌ كان ذلك دَلِيلًا على الصِّدْقِ قال فَهَذَا عَكْسُ ما حَكَاهُ الْإِمَامُ عنه وَقَوْلُهُ إنَّهُمْ لو نَطَقُوا بهذا عن أَمْرٍ عَلِمُوهُ ذلك كَلَامٌ لَا يَسْتَنِدُ لِأَنَّا لَا نُطَالِبُ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ بِمُسْتَنِدِ إجْمَاعِهِمْ وقال وَلَعَلَّ ما حَكَاهُ الْإِمَامُ فِيمَا إذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَلَكِنْ لم يَحْصُلْ إجْمَاعٌ على تَصْدِيقِ الْمُخْبِرِ فَهَذَا وَجْهُ الْجَمْعِ ا هـ وهو بَعِيدٌ وَكَلَامُ الْإِمَامِ يَأْبَاهُ وَجَزَمَ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ بِصِحَّةِ ما إذَا تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ قال وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا أَجْمَعَتْ على الْعَمَلِ بِمُوجَبِ الْخَبَرِ لِأَجْلِهِ هل يَدُلُّ ذلك على صِحَّتِهِ أَمْ لَا على قَوْلَيْنِ قال وَكَذَلِكَ إذَا عَمِلَ بِمُوجَبِهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَأَنْكَرُوا على من عَدَلَ عنه فَهَلْ يَدُلُّ على صِحَّتِهِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ بِهِ كَحَدِيثِ أبي سَعِيدٍ وَعُبَادَةَ في الرِّبَا وَتَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً بِذَلِكَ وَذَهَبَ عِيسَى بن أَبَانَ إلَى أَنَّهُ يَدُلُّ على حُجِّيَّتِهِ قال فَهَذَا فَرْعُ الْكَلَامِ في خِلَافِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ هل يَكُونُ خِلَافًا مُعْتَدًّا بِهِ وَالصَّحِيحُ الِاعْتِدَادُ بِهِ وَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ مع هذا أَنْ لَا يَدُلَّ على صِحَّةِ الْخَبَرِ ا هـ وقال ابن الصَّلَاحِ إنَّ جَمِيعَ ما اتَّفَقَ عليه الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ
____________________
(3/309)
لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا على صِحَّةِ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ ليس كَذَلِكَ إذْ الِاتِّفَاقُ إنَّمَا وَقَعَ على جَوَازِ الْعَمَلِ بِمَا فِيهِمَا وَذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ ما فِيهِمَا مَظْنُونُ الصِّحَّةِ فإن اللَّهَ تَعَالَى لم يُكَلِّفْنَا الْقَطْعَ وَلِذَلِكَ يَجِبُ الْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْبَيِّنَةِ وَإِنْ لم تُفِدْ إلَّا الظَّنَّ مَسْأَلَةٌ إجْمَاعُهُمْ على الْعَمَلِ على وَفْقِ الْخَبَرِ لَا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْخَبَرِ أَمَّا إجْمَاعُهُمْ على الْعَمَلِ على وَفْقِ الْخَبَرِ فَلَا يَقْتَضِي صِحَّتَهُ فَضْلًا عن الْقَطْعِ بِهِ فَقَدْ يَعْمَلُونَ على وَفْقِهِ بِغَيْرِهِ جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ في الرَّوْضَةِ في كِتَابِ الْقَضَاءِ وفي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ سَيَأْتِي في بَابِ الْإِجْمَاعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَمَّا إذَا افْتَرَقَتْ الْأُمَّةُ شَطْرَيْنِ شَطْرٌ قَبِلُوهُ وَعَمِلُوا بِمُقْتَضَاهُ وَالشَّطْرُ الْآخَرُ اشْتَغَلَ بِتَأْوِيلِهِ فَلَا يَدُلُّ على صِحَّتِهِ على وَجْهِ الْقَطْعِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ كما قَالَهُ الْهِنْدِيُّ وقال إنَّهُ الْحَقُّ وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ في اللُّمَعِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُفِيدُ الْقَطْعَ فإنه قال خَبَرُ الْوَاحِدِ إذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ سَوَاءٌ عَمِلَ الْكُلُّ بِهِ أو الْبَعْضُ وَتَأَوَّلَهُ الْبَعْضُ ا هـ وَتَبِعَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْمَحْفُوفُ بِالْقَرَائِنِ ذَهَبَ النَّظَّامُ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ إلَى أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ وابن الْحَاجِبِ وَالْبَيْضَاوِيُّ وَالْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ وهو الْمُخْتَارُ وَيَكُونُ الْعَمَلُ نَاشِئًا عن الْمَجْمُوعِ من الْقَرِينَةِ وَالْخَبَرِ وَذَهَبَ الْبَاقُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ يَنْقَسِمُ التَّوَاتُرُ بِاعْتِبَارَاتٍ أَحَدُهَا إلَى ما يَتَوَاتَرُ عِنْدَ الْكَافَّةِ وَإِلَى ما يَتَوَاتَرُ عِنْدَ أَهْلِ الصِّنَاعَةِ كَمَسْأَلَةِ عَدَمِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ فَإِنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ دُونَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأَوَّلُ مُنْكِرُهُ مُعَانِدٌ كَافِرٌ كَمُنْكِرِ الْقُرْآنِ بِخِلَافِ السُّنَّةِ إذْ جَازَ أَنْ يَخْتَصَّ بِذَلِكَ أَهْلُ الحديث دُونَ غَيْرِهِمْ فَإِنْ قِيلَ فما قَوْلُك في الْبَسْمَلَةِ إذَا ادَّعَيْتُمْ التَّوَاتُرَ بِكَوْنِهَا من الْفَاتِحَةِ وَخَالَفَكُمْ فيه الْأَئِمَّةُ قُلْنَا لم يَقَعْ النِّزَاعُ في كَوْنِهَا آيَةً من كِتَابِ اللَّهِ لِيَكُونَ جَاحِدُهَا كَافِرًا وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ في تَعَدُّدِ الْمَوْضِعِ وَاتِّحَادِهِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ على تَوَاتُرِ أَصْلِهَا من الْقُرْآنِ قَالَهُ أبو الْعِزِّ الْمُقْتَرِحُ وهو أَحْسَنُ من جَوَابِ ابْنِ الْحَاجِبِ بِقُوَّةِ الشُّبْهَةِ
____________________
(3/310)
ثَانِيهَا التَّوَاتُرُ قد يَكُونُ لَفْظِيًّا وقد يَكُونُ مَعْنَوِيًّا وهو أَنْ يَجْتَمِعَ من سَبَقَ ذِكْرُهُمْ على أَخْبَارٍ تَرْجِعُ إلَى خَبَرٍ وَاحِدٍ كَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه وُجُودِ حَاتِمٍ قالوا وَمُعْجِزَاتُ النبي تَثْبُتُ بهذا النَّوْعِ وهو دُونَ التَّوَاتُرِ اللَّفْظِيِّ لِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ في طَرِيقِ النَّقْلِ قال أبو نَصْرِ بن الصَّبَّاغِ في كِتَابِ الطَّرِيقِ السَّالِمِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمَنْقُولِ بِالتَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ مُتَقَوَّلًا أَلَا تَرَى أَنَّ من قال إنَّ الْآحَادَ كُلَّهَا الْمَرْوِيَّةَ عنه عليه السَّلَامُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ حَكَمَتْ الْعُقُولُ بِكَذِبِهِ وَنَطَقَتْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ كُلِّهَا مُتَقَوَّلَةً وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ فيها شَيْءٌ من ذلك وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَلَا يَكَادُ يَقَعُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ إلَّا في شَيْءٍ من الْأُصُولِ وَمَسَائِلَ قَلِيلَةٍ في الْفُرُوعِ كَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ مع الرَّوَافِضِ وَالْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ مع الْخَوَارِجِ وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ في التَّمْثِيلِ بِشَجَاعَةِ عَلِيٍّ لِأَنَّ أَفْعَالَهُ في الْجَمَلِ وَصِفِّينَ بِأَنْ نَقَلَهُ عَدَدُ التَّوَاتُرِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ الْمُحَصِّلِينَ فَشَجَاعَتُهُ مُتَوَاتِرَةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى تَنْبِيهٌ الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ عِنْدَ أَهْلِ الحديث الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ وَبَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ قال ابن الصَّلَاحِ وَأَهْلُ الحديث لَا يَذْكُرُونَهُ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ الْمُشْعِرِ بِمَعْنَاهُ الْخَاصِّ وَإِنْ كان الْخَطِيبُ ذَكَرَهُ فَفِي كَلَامِهِ ما يُشْعِرُ بِأَنَّهُ اتَّبَعَ أَهْلَ الحديث قُلْت قد ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ وابن عبد الْبَرِّ وابن حَزْمٍ وَغَيْرُهُمْ وَادَّعَى ابن الصَّلَاحِ أَنَّهُمْ إنَّمَا لم يَذْكُرُوهُ لِأَنَّهُ لم تَشْمَلْهُ صِنَاعَتُهُمْ وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ في رِوَايَاتِهِمْ لِنُدْرَتِهِ وَمَنْ سُئِلَ عن مِثَالٍ له أَعْيَاهُ طَلَبُهُ قال وَلَيْسَ منه حَدِيثُ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ لِأَنَّ التَّوَاتُرَ طَرَأَ عليه في وَسَطِ إسْنَادِهِ نعم حَدِيثُ من كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ من النَّارِ مُتَوَاتِرٌ رَوَاهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ من الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَنْهُمْ وَذَكَرَ الْبَزَّارُ أَنَّهُ رَوَاهُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا من الصَّحَابَةِ قُلْت وَأَنْكَرَ الْحَافِظُ ابن حِبَّانَ في صَدْرِ صَحِيحِهِ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ فقال وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَإِنَّهَا كُلَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ لِأَنَّ ليس يُوجَدُ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم خَبَرٌ من رِوَايَةِ عَدْلَيْنِ رَوَى أَحَدُهُمَا عن عَدْلَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عن عَدْلَيْنِ حتى يَنْتَهِي ذلك إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فلما اسْتَحَالَ هذا وَبَطَلَ ثَبَتَ أَنَّ الْأَخْبَارَ كُلَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ وَمَنْ رَدَّ قَبُولَهُ فَقَدْ رَدَّ السُّنَّةَ كُلَّهَا لِعَدَمِ وُجُودِ السُّنَنِ إلَّا من رِوَايَةِ الْآحَادِ ا هـ وفي هذا ما يَرُدُّ على الْحَاكِم دَعْوَاهُ أَنَّ الشَّيْخَيْنِ اشْتَرَطَا أَنْ لَا يَرْوِيَا الحديث إلَّا بِرِوَايَةِ اثْنَيْنِ عن اثْنَيْنِ وَهَكَذَا
____________________
(3/311)
فَصْلٌ في الْمُسْتَفِيضِ تَعْرِيفُ الْمُسْتَفِيضِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُتَوَاتِرِ قِيلَ إنَّهُ وَالْمُتَوَاتِرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وهو الذي جَرَى عليه أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ كما رَأَيْته في كِتَابَيْهِمَا وَقِيلَ بَلْ الْمُسْتَفِيضُ رُتْبَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بين الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَأَتْبَاعُهُ عن الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وَجَرَى عليه تِلْمِيذُهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ في كِتَابِ مِعْيَارِ النَّظَرِ وابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ فقال ضَابِطُهُ أَنْ يَنْقُلَهُ عَدَدٌ كَثِيرٌ يَرْبُو على الْآحَادِ وَيَنْحَطُّ عن عَدَدِ التَّوَاتُرِ وَجَعَلَهُ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ قِسْمًا من الْآحَادِ قال الْآمِدِيُّ وهو ما نَقَلَهُ جَمَاعَةٌ تَزِيدُ على الثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ وهو الْمَشْهُورُ في اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ وَقِيلَ الْمُسْتَفِيضُ ما تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَعَنْ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ أَنَّهُ ما اُشْتُهِرَ عِنْدَ أَئِمَّةِ الحديث ولم يُنْكِرُوهُ وَكَأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِالِاشْتِهَارِ مع التَّسْلِيمِ وَعَدَمِ الْإِنْكَارِ على صِحَّةِ الحديث وقد أَشَارَ ابن فُورَكٍ في صَدْرِ كِتَابِهِ مُشْكِلِ الحديث إلَى هذا أَيْضًا وَمَثَّلَهُ بِخَبَرِ في الرِّقَةِ رُبُعُ الْعُشْرِ وفي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وقال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ الْمُسْتَفِيضُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَلَيْسَ هُنَاكَ رُتْبَةٌ تَدُلُّ على خِلَافِهِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ الشَّائِعُ بين الناس وقد صَدَرَ عن أَصْلٍ لِيُخْرِجَ الشَّائِعَ لَا عن أَصْلٍ وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي وَالرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ تَقْسِيمًا غَرْبِيًّا جَعَلَا فيه الْمُسْتَفِيضَ أَعْلَى رُتْبَةً من الْمُتَوَاتِرِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ فَقَالَا الْخَبَرُ على ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ أَحَدُهَا الِاسْتِفَاضَةُ وهو أَنْ يَنْتَشِرَ من ابْتِدَائِهِ بين الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَيَتَحَقَّقُهُ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ وَلَا يُخْتَلَفُ فيه وَلَا يَشُكُّ فيه سَامِعٌ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ وَعَنَيَا بِذَلِكَ اسْتِوَاءَ الطَّرَفَيْنِ
____________________
(3/312)
وَالْوَسَطِ قَالَا وَهَذَا أَقْوَى الْأَخْبَارِ وَأَثْبَتُهَا حُكْمًا وَالثَّانِي التَّوَاتُرُ وهو أَنْ يَبْتَدِئَ بِهِ الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ حتى يَكْثُرَ عَدَدُهُمْ وَيَبْلُغُوا قَدْرًا يَنْتَفِي عن مِثْلِهِمْ التَّوَاطُؤُ وَالْغَلَطُ فَيَكُونُ في أَوَّلِهِ من أَخْبَارِ الْآحَادِ وفي آخِرِهِ من الْمُتَوَاتِرِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِفَاضَةِ من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا ما ذَكَرْنَاهُ من اخْتِلَافِهِمَا في الِابْتِدَاءِ وَاتِّفَاقِهِمَا في الِانْتِهَاءِ الثَّانِي أَنَّ خَبَرَ الِاسْتِفَاضَةِ لَا تُرَاعَى فيه عَدَالَةُ الْمُخْبِرِ وفي الْمُتَوَاتِرِ يُرَاعَى ذلك وَالثَّالِثُ أَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ تَنْتَشِرُ من غَيْرِ قَصْدٍ له وَالْمُتَوَاتِرُ ما انْتَشَرَ عن قَصْدٍ لِرِوَايَتِهِ وَيَسْتَوِيَانِ في انْتِفَاءِ الشَّكِّ وَوُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِمَا وَلَيْسَ الْعَدَدُ فِيهِمَا مَحْصُورًا وَإِنَّمَا الشَّرْطُ انْتِفَاءُ التَّوَاطُؤِ على الْكَذِبِ من الْمُخْبِرِينَ قَالَا وَالْمُسْتَفِيضُ من أَخْبَارِ السُّنَّةِ مِثْلُ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَالتَّوَاتُرُ منها مِثْلُ وُجُوبِ الزَّكَوَاتِ هَكَذَا قَالَا وهو غَرِيبٌ لَكِنَّ قَوْلَهُمَا في الِاسْتِفَاضَةِ مُوَافِقٌ لِمَا اخْتَارَاهُ من أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالِاسْتِفَاضَةِ من طُرُقِهَا أَنْ يَكُونَ قد سمع ذلك من عَدَدٍ يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ على الْكَذِبِ وهو اخْتِيَارُ ابْنِ الصَّبَّاغِ وَالْغَزَالِيِّ وَالْمُتَأَخِّرِينَ قال الرَّافِعِيُّ وهو أَشْبَهُ بِكَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وأبو حَاتِمٍ الْقَزْوِينِيُّ أَنَّ أَقَلَّ ما ثَبَتَتْ بِهِ الِاسْتِفَاضَةُ سَمَاعُهُ من اثْنَيْنِ وَإِلَيْهِ مَيْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ في مَوْضِعٍ آخَرَ عن ابْنِ كَجٍّ وَنَقَلَ وَجْهَيْنِ في أَنَّهُ هل يُشْتَرَطُ أَنْ يَقَعَ في قَلْبِ السَّامِعِ صِدْقُ الْمُخْبِرِ قال وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هذا غير الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ في أَنَّهُ هل يُعْتَبَرُ خَبَرُ عَدَدٍ يُؤْمَنُ فِيهِمْ التَّوَاطُؤُ مَسْأَلَةٌ إفَادَةُ الْمُسْتَفِيضِ الْعِلْمَ وَالْمُسْتَفِيضُ على الْقَوْلِ بِالْوَاسِطَةِ يُفِيدُ الْعِلْمَ في قَوْلِ الْأُسْتَاذَيْنِ أبي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَأَبِي مَنْصُورٍ التَّمِيمِيِّ وابن فُورَكٍ وَمَثَّلَهُ أبو مَنْصُورٍ في كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ بِالْأُصُولِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ بِالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ في الْمَسْحِ على الْخُفِّ وَأَخْبَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَمَثَّلَهُ ابن بَرْهَانٍ بِحَدِيثِ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَحَدِيثِ لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ على عَمَّتِهَا وقال الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُفِيدُ ظَنًّا قَوِيًّا
____________________
(3/313)
مُتَأَخِّرًا عن الْعَمَلِ مُقَارِبًا لِلْيَقِينِ وَسَبَقَهُ إلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَضَعَّفَ مَقَالَةَ الْأُسْتَاذِ بِأَنَّ الْعُرْفَ وَإِطْرَادَ الِاعْتِبَارِ لَا يَقْتَضِي الصِّدْقَ قَطْعًا بَلْ قُصَارَاهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ وقال الْإِبْيَارِيُّ كَأَنَّ الْأُسْتَاذَ أَرَادَ أَنَّ النَّظَرَ في أَحْوَالِ الْمُخْبِرِينَ من أَهْلِ الثِّقَةِ وَالتَّجْرِبَةِ يَحْصُلُ ذلك وقد مَالَ إلَيْهِ الْغَزَالِيُّ وَلَا وَجْهَ له نعم هو بِغَلَبَةِ الظَّنِّ لَا الْعِلْمِ وإذا قُلْنَا إنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ فَهُوَ نَظَرِيٌّ لَا ضَرُورِيٌّ في قَوْلِ الْأُسْتَاذَيْنِ
____________________
(3/314)
الْقِسْمُ الثَّانِي فِيمَا يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ وهو أَقْسَامٌ أَحَدُهَا الْخَبَرُ الْمَعْلُومُ خِلَافُهُ إمَّا بِالضَّرُورَةِ كَالْإِخْبَارِ بِاجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ أو ارْتِفَاعِهِمَا أو بِالِاسْتِدْلَالِ كَإِخْبَارِ الْفَيْلَسُوفِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ الثَّانِي الْخَبَرُ الذي لو كان صَحِيحًا لَتَوَفَّرَتْ الدَّوَاعِي على نَقْلِهِ مُتَوَاتِرًا إمَّا لِكَوْنِهِ من أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ أَمْرًا غَرِيبًا كَسُقُوطِ الْخَطِيبِ عن الْمِنْبَرِ وَقْتَ الْخُطْبَةِ وَيَتَفَرَّعُ على هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ منها بُطْلَانُ النَّصِّ الذي تَزْعُمُ الرَّوَافِضُ أَنَّهُ دَلَّ على إمَامَةِ عَلِيِّ بن أبي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَعَدَمُ تَوَاتُرِهِ دَلِيلٌ على عَدَمِ صِحَّتِهِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَلَوْ كان حَقًّا لَمَا خَفِيَ على أَهْلِ بَيْعَةِ الثَّقِيفَةِ وَلَتَحَدَّثَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ على مِغْزَلِهَا وَلَا بُدَّ أَنْ يُخَالِفَ أو يُوَافِقَ وَبِهَذَا الْمَسْلَكِ أَيْضًا تَبَيَّنَ بُطْلَانُ قَوْلِ من يقول إنَّ الْقُرْآنَ قد عُورِضَ فإن ذلك لو جَرَى لَمَا خَفِيَ وَالنَّصُّ الذي تَزْعُمُ الْعِيسَوِيَّةُ أَنَّ في التَّوْرَاةِ أَنَّ مُوسَى عليه السَّلَامُ آخِرُ مَبْعُوثٍ وَمُسْتَنَدُ هذا الْحُكْمِ الرُّجُوعُ إلَى الْعَادَةِ وَاقْتِضَائِهَا الِاشْتِهَارَ في ذلك وَالشِّيعَةُ تُخَالِفُ في ذلك وَيَقُولُونَ يَجُوزُ أَنْ لَا يَشْتَهِرَ لِخَوْفٍ أو فِتْنَةٍ وهو بَاطِلٌ لِمَا يُعْلَمُ بِالْعَادَةِ في مِثْلِهِ وَلَيْسَ من هذا ما قَدَحَ بِهِ الرَّوَافِضُ عَلَيْنَا مِثْلُ قَوْلِهِمْ إنَّهُ عليه السَّلَامُ حَجَّ مَرَّةً وَاحِدَةً وَاخْتَلَفَ الناس في نَفْسِ حَجَّتِهِ اخْتِلَافًا لم يَتَحَصَّلْ الْمُخْتَلِفُونَ فيه على يَقِينٍ وَكَذَا الِاخْتِلَافُ في فَتْحِ مَكَّةَ هل كان صُلْحًا أو عَنْوَةً وَكَذَا الْإِقَامَةُ في طُولِ عَهْدِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ يَخْتَلِفُونَ في تَثْنِيَتِهَا وَإِفْرَادِهِ مع أَنَّ ذلك مِمَّا تَتَوَفَّرُ فيه الدَّوَاعِي على نَقْلِهِ قُلْنَا أَمْرُ الْقِرَانِ وَالْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَاضِحٌ لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ عِنْدَ الْكُلِّ جَوَازُ الْكُلِّ لم يَعْتَنُوا بِالتَّفْتِيشِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يُلَقِّنُ الْخَلْقَ إضَافَةَ الْحَجِّ فَنَاقِلُ الْإِفْرَادِ سَمِعَهُ يُلَقِّنُ غَيْرَهُ ذلك وَنَاقِلُ التَّمَتُّعِ كَذَلِكَ
____________________
(3/315)
وَكَذَلِكَ فَتْحُ مَكَّةَ نُقِلَ أَنَّهُ على هَيْئَةِ الْعَنْوَةِ وَالْقَهْرِ وَصَحَّ أَنَّهُ لم يَأْخُذْ مَالًا وَتَوَاتَرَ ذلك وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في أَحْكَامٍ جُزْئِيَّةٍ كَمُصَالَحَةٍ جَرَتْ على الْأَرَاضِي وَغَيْرِهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بها مَنْعُ بَيْعِ دُورِ مَكَّةَ أو تَجْوِيزُهُ قال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَصُورَةُ دُخُولِهِ عليه السَّلَامُ مُتَسَلِّحًا بِالْأَلْوِيَةِ وَالرَّايَاتِ وَبَذْلُهُ الْأَمَانَ لِمَنْ دخل دَارَ أبي سُفْيَانَ وَمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ وَاعْتَصَمَ بِالْكَعْبَةِ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فيه وَإِنَّمَا اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ على أَنَّهُ كان صُلْحًا بِأَنَّهُ وَدَى قَوْمًا قَتَلَهُمْ خَالِدٌ وَنَهْيُهُ عن ذلك وَغَيْرُ هذا مِمَّا يَجُوزُ فيه التَّأْوِيلُ وَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَتَثْنِيَتُهَا وَإِفْرَادُهَا ليس من عَظَائِمِ الْعَزَائِمِ وَلَوْلَا اشْتِهَارُهَا بين أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ لم تَعْلَمْ الْعَامَّةُ تَفْصِيلَهَا فَإِنَّهَا لَا تَهُمُّهُمْ وَالْعُصُورُ تَنَاسَخَتْ وَتَعَلَّقَتْ الْإِقَامَةُ بِالْبَدَلِ وَشَعَائِرُ الْمُلُوكِ وَلَا كَذَلِكَ أَمْرُ الْإِمَامَةِ فَإِنَّهَا من مُهِمَّاتِ الدِّينِ وَتَتَعَلَّقُ بِعَزَائِمِ الْخُطُوبِ وَيَسْتَحِيلُ تَقْدِيرُ دُثُورِهَا على قُرْبِ الْعَهْدِ بِالرَّسُولِ وَأَمَّا انْشِقَاقُ الْقَمَرِ فَمِنْهُمْ من أَنْكَرَهُ لِأَنَّهُ لم يَتَوَاتَرْ وهو لَا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي على نَقْلِهِ وَنُقِلَ ذلك عن الْحَلِيمِيِّ هَكَذَا حَكَاهُ عنه إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيُّ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ إنَّمَا لم يَتَوَاتَرْ لِأَنَّهُ آيَةٌ لَيْلِيَّةٌ تَكُونُ وَالنَّاسُ نِيَامٌ غَافِلُونَ وَإِنَّمَا يَرَى ذلك من نَاظَرَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من قُرَيْشٍ وَصَرَفَ هِمَّتَهُ إلَى النَّظَرِ فيه وَإِنَّمَا انْشَقَّ منه شُعْبَةٌ في مِثْلِ طَرَفِ الْقَمَرِ ثُمَّ رَجَعَ صَحِيحًا وَكَمْ من انْقِضَاضٍ وَرِيَاحٍ تَحْدُثُ بِاللَّيْلِ وَلَا يَشْعُرُ بها أَحَدٌ فَلِهَذَا لم يُنْقَلْ ظَاهِرًا وَإِنَّمَا يَسْتَدِلُّ أَكْثَرُ الناس على انْشِقَاقِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَأَنَّهُ لو أَرَادَ الْإِخْبَارَ عن اقْتِرَابِ انْشِقَاقِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَقُولَ وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ وَلَوَجَبَ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ الرَّسُولُ أَنَّ من الْآيَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ انْشِقَاقَهُ ا هـ وَالْحَقُّ أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ وقد رَوَاهُ خَلْقٌ من الصَّحَابَةِ وَعَنْهُمْ خَلْقٌ كما أَوْضَحْته في تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْمُخْتَصَرِ وَمِنْهَا أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا في الْمُصْحَفِ لِأَنَّ الِاهْتِمَامَ بِهِ من الصَّحَابَةِ الَّذِينَ بَذَلُوا أَرْوَاحَهُمْ في إحْيَاءِ مَعَالِمِ الدِّينِ يَمْنَعُ تَقَدُّرَ دَرْسِهِ وَارْتِبَاطَ مَسَائِلِهِ بِلَا حَاجَةٍ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ اخْتَلَفُوا في الْبَسْمَلَةِ أنها من الْقُرْآنِ أَمْ لَا قِيلَ لِأَنَّهُ لم يَجُزْ دُرُوسُ رَسْمِهَا وَنَظْمِهَا فلم يَكُنْ لِنَقْلِ كَوْنِهَا من السُّوَرِ كَبِيرُ أَثَرٍ في الدِّينِ بَعْدَ الِاهْتِمَامِ بِهِ وَلِهَذَا اخْتَلَفَتْ مُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ عليهم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَمِنْهَا ما نُقِلَ مُتَوَاتِرًا وَمِنْهَا ما نُقِلَ آحَادًا مع أنها أَعَاجِيبُ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ وَكَذَا إذَا كَثُرَتْ
____________________
(3/316)
الْمُعْجِزَاتُ وَكَثُرَتْ فيها عُسْرَتُهُمْ مِثْلُ تَشَوُّقِهِمْ إلَى نَقْلِ آحَادِهَا وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ في الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ ولم يَهْتَمَّ عُثْمَانُ بِجَمْعِ الناس على بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ وَحَرَصَ ابن مَسْعُودٍ على ذلك فَإِنْ قِيلَ يَجْرِي ذلك في الْقُرْآنِ قُلْنَا لَمَّا كان الْقُرْآنُ رُكْنَ الدِّينِ اسْتَوَتْ الْأُمَّةُ في الِاعْتِنَاءِ بِهِ فلم نُجِزْ أَنْ يُنْقَلَ بَعْضُهُ مُتَوَاتِرًا وَبَعْضُهُ آحَادًا مع اسْتِوَاءِ الْجَمِيعِ في تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي على نَقْلِهِ بِخِلَافِ بَاقِي الْمُعْجِزَاتِ فَإِنَّهُمْ اعْتَنَوْا بِنَقْلِ ما يَبْقَى رَسْمُهُ أَبَدَ الدَّهْرِ وقد صَنَّفَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في هذا النَّوْعِ كِتَابِ الِانْتِصَارِ وما أَعْجَبَهُ من كِتَابٍ فَقَدْ أَزَالَ بِهِ الْحَائِكَ عن صُدُورِ الْمُرْتَابِينَ وَمِنْهَا لو غَصَّ الْمَجْلِسُ بِجَمْعٍ كَثِيرٍ وَنَقَلَ كلهم عن صَاحِبِ الْمَجْلِسِ حَدِيثًا وَانْفَرَدَ وَاحِدٌ منهم وهو ثِقَةٌ بِنَقْلِ زِيَادَةٍ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أنها تُرَدُّ وَإِلَّا لَنَقَلَهَا الْبَاقُونَ وهو بَعِيدٌ فإن انْفِرَادَ بَعْضِ النَّقَلَةِ بِمَزِيدِ حِفْظٍ لَا يُنْكَرُ وَالْقَرَائِحُ وَالْفِطَنُ تَخْتَلِفُ وَلَيْسَتْ الرِّوَايَاتُ مِمَّا تَتَكَرَّرُ على الْأَلْسِنَةِ حتى لَا يَشِذَّ شَيْءٌ منها وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبَنَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ على هذا الْأَصْلِ رَدَّ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى كَمَسِّ الذَّكَرِ وَالْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ وَسَتَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَإِنَّمَا قُبِلَتْ من الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ لم يَقَعْ الْإِخْبَارُ بها بِحَضْرَةِ من يَجِبُ تَوَفُّرُ دَوَاعِيهِمْ على النَّقْلِ وَالْإِظْهَارِ لِذَلِكَ وَإِنَّمَا كان يُلْقِيهِ إلَى الْآحَادِ الثَّالِثُ ما نُقِلَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْأَخْبَارِ ثُمَّ فَتَّشَ عنه فلم يُوجَدْ في بُطُونِ الْكُتُبِ وَلَا في صُدُورِ الرُّوَاةِ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَغَيْرُهُ وَغَايَتُهُ الظَّنُّ لَا الْقَطْعُ وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْأَخْبَارِ عَمَّا قبل ذلك في زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ حَيْثُ كانت الْأَخْبَارُ مُنْتَشِرَةً ولم تَعْتَنِ الرُّوَاةُ بِتَدْوِينِهَا قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَفِيمَا ذَكَرُوهُ نَظَرٌ عِنْدِي لِأَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا جَمِيعَ الدَّفَاتِرِ وَجَمِيعَ الرُّوَاةِ فَالْإِحَاطَةُ بِذَلِكَ مُتَعَذِّرَةٌ مع انْتِشَارِ أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ أَرَادُوا أَكْثَرَ من الدَّفَاتِرِ وَالرُّوَاةُ فَهَذَا لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ الْعُرْفِيَّ وَلَا يُفِيدُ الْقَطْعَ الرَّابِعُ خَبَرُ مُدَّعِي الرِّسَالَةَ من غَيْرِ مُعْجِزَةٍ نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ثُمَّ قال وَعِنْدِي فيه تَفْصِيلٌ فَأَقُولُ إنْ زَعَمَ أَنَّ الْخَلْقَ كُلِّفُوا مُتَابَعَتَهُ وَتَصْدِيقَهُ من غَيْرِ آيَةٍ فَهُوَ كَذِبٌ فَإِنْ قال ما أُكَلِّفُ الْخَلْقَ اتِّبَاعِي وَلَكِنْ أُوحِيَ إلَيَّ فَلَا يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ ا هـ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا قبل نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَمَّا بَعْدَهَا فَنَقْطَعُ بِكَذِبِهِ بِكُلِّ حَالٍ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ على أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ
____________________
(3/317)
الْخَامِسُ كُلُّ خَبَرٍ أَوْهَمَ بَاطِلًا ولم يَقْبَلْ التَّأْوِيلَ إمَّا لِمُعَارَضَتِهِ لِلدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أو الْقَطْعِيِّ النَّقْلِيِّ وهو الْمُتَوَاتِرُ عن صَاحِبِ الشَّرْعِ مُمْتَنِعٌ صُدُورُهُ عنه قَطْعًا كَأَخْبَارٍ رَوَتْهَا الزَّنَادِقَةُ تُخَالِفُ الْقَطْعَ قَصْدًا لِشَيْنِ الدِّينِ وقد نُقِلَ عن بَعْضِ من يُنَافِرُ أَهْلَ الحديث كَحَدِيثِ عَرَقِ الْخَيْلِ أَسْبَابُ الْوَضْعِ وَسَبَبُ الْوَضْعِ إمَّا نِسْيَانُ الرَّاوِي لِطُولِ عَهْدِهِ بِالْخَبَرِ الْمَسْمُوعِ وَإِمَّا غَلَطُهُ بِأَنْ أَرَادَ النُّطْقَ بِلَفْظٍ فَسَبَقَ لِسَانُهُ إلَى سِوَاهُ أو وَضَعَ لَفْظًا مَكَانَ آخَرَ ظَانًّا أَنَّهُ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ وَإِمَّا افْتِرَاءُ الزَّنَادِقَةِ وَغَيْرِهِمْ من أَعْدَاءِ الدِّينِ الْوَاضِعِينَ أَحَادِيثَ تُخَالِفُ الْعُقُولَ تَنْفِيرًا عن الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ وَغَيْرُ ذلك السَّادِسُ بَعْضُ الْمَنْسُوبِ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِطَرِيقِ الْآحَادِ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم سَيَكْذِبُ عَلَيَّ فَإِنْ صَحَّ هذا الحديث لَزِمَ وُقُوعُ الْكَذِبِ ضَرُورَةً وَإِنْ لم يَصِحَّ مع كَوْنِهِ رُوِيَ عنه فَقَدْ حَصَلَ الْكَذِبُ فِيمَا رُوِيَ عنه ضَرُورَةً أَخْبَارُ الْآحَادِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ ما لَا يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ وَلَا كَذِبِهِ وهو إمَّا أَنَّهُ يَتَرَجَّحُ احْتِمَالَاتُ صِدْقِهِ كَخَبَرِ الْعَدْلِ أو كَذِبِهِ كَخَبَرِ الْفَاسِقِ أو يَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ كَخَبَرِ الْمَجْهُولِ وَهَذَا الضَّرْبُ لَا يَدْخُلُ إلَّا في الْجَائِزِ الْمُمْكِنِ وُقُوعُهُ وَعَدَمُهُ وَالْكَلَامُ إنَّمَا هو في الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ الذي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ما يَرْوِيهِ الْوَاحِدُ فَقَطْ وَإِنْ كان مَوْضُوعُ خَبَرِ الْوَاحِدِ في اللُّغَةِ يَقْتَضِي وَحْدَهُ الْمُخْبَرَ الذي يُنَافِيهِ التَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ لَكِنْ وَقَعَ الِاصْطِلَاحُ بِهِ على كل ما لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ وَإِنْ كان الْمُخْبِرُ بِهِ جَمْعًا إذَا نَقَصُوا عن حَدِّ التَّوَاتُرِ وَمِنْهُمْ من قال ما لم يَنْتَهِ نَاقِلُهُ إلَى حَدِّ الِاسْتِفَاضَةِ وَالشُّهْرَةِ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ بَرْهَانٍ قال الْهِنْدِيُّ وهو ضَعِيفٌ على رَأْيِ أَصْحَابِنَا وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ على رَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ لِأَنَّهُمْ يُفْرِدُونَ له أَحْكَامًا أُصُولِيَّةً قَرِيبًا من أَحْكَامِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ أَمَّا أَصْحَابُنَا فَلَا وَهَذَا الذي قَالَهُ الْهِنْدِيُّ بَنَاهُ على أَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ من جُمْلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وقد سَبَقَ أَنَّ الْأَمْرَ ليس كَذَلِكَ
____________________
(3/318)
مسألة أقسام خبر الواحد قسم الأقدمون من أصحابنا منهم القفال الشاشي في كتابه والماوردي وابن السمعاني خبر الواحد إلى أقسام أحدها ما يحتج به فيه إجماعا كالشهادات والمعاملات قال القفال ولا خلاف في قبوله لقوله تعالى إذا دعيتم فادخلوا قال الماوردي ومن بعده ولا يراعى فيها عدالة المخبر وإنما يراعى فيها سكون النفس إلى خبره فيقبل من كل بر وفاجر ومسلم وكافر وحر وعبد فإذا قال الواحد منهم هذه هدية فلان إليك أو هذه الجارية وهبها فلان إليك أو كنت أمرته بشرائها فاشتراها كلف المخبر قبول قوله إذا وقع في نفسه صدقه ويحل له استمتاع بالجارية والتصرف في الهدية وكذا الإذن في دخول الدار وهذا شيء متعارف في الأعصار من غير نكير ويلتحق به خبر الصبي في ذلك على الصحيح وأما خبر الشهادات فيعتبر فيه شرطان بالإجماع العدالة والعدد قال القفال وقد ورد الكتاب والإجماع بقبولها في الجملة وإن اختلف في شرط بعضها الأكثرون منا ومن المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار إلى نفيه وهو قول أبي جعفر الطوسي من الإمامية وذهب الأقلون من الفريقين كابن سريج والصيرفي والقفال منا وأبي الحسين البصري من المعتزلة إلى أن الدليل العقلي دل عليه أيضا لاحتياج الناس إلى معرفة بعض الأشياء من جهة الخبر ومن بعدها أعظم الضرر إذ لا يمكنهم التلافي بأجمعهم ونقل عن الإمام أحمد بن حنبل والأول هو الصحيح وفصل أبو عبد الله البصري بين الخبر الدال على ما يسقط بالشبهة وما لا يسقط بها فمنعه في الأول وجوزه في الثاني حكاه في الأحكام وقد بسط الشافعي كلامه في هذا الفصل في كتاب الرسالة وقد احتجوا على وجوب العمل بخبر الواحد بقوله تعالى إن جاءكم فاسق وبقوله فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة وهذا لا يفيد إلا الظن والاستدلال بالثانية أضعف من الأولى قال ابن دقيق العيد والحق عندنا في الدليل بعد اعتقاد أن المسألة علمية أنا
____________________
(3/319)
قاطعون بعمل السلف والأمة بخبر الواحد وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قد ورد منه ما يقتضي العمل بخبر الواحد وهذا القطع حصل لنا من تتبع الشريعة وبلوغ جزيئات لا يمكن حصرها ومن تتبع أخبار النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وجمهور الأمة ما عدا هذه الفرقة اليسيرة علم ذلك قطعا ا هـ ولنا على وجوب العمل به ثلاثة مسالك الأول ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من إنفاذ ولاته ورسله آحادا إلى أطراف البلاد النائية ليعلموا الناس الدين وليوقفوهم على أحكام الشريعة ومن طالع كتب السير ارتوى بذلك والثاني ما علم بالتواتر من عمل الصحابة ورجوعهم إليه عندما يقع لهم من الحوادث والثالث أن العمل بخبر الواحد يقتضي دفع ضرر مظنون فكان العمل به واجبا لأن العدل إذا أخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر بكذا حصل ظن أنه وجد الأمر وأنا لو تركناه لصرنا إلى العذاب وبهذا الدليل استدل ابن سريج ومتابعوه على وجوب العمل به عقلا ونقول سبب الاضطرار إلى العمل به أما في الشهادات والفتوى والأمور الدنيوية كالإذن في دخول الدار ونحوها فظاهر فإنه يشق على الناس الرجوع في ذلك ونحوه إلى الأخبار المتواترة ووقوفهم عندها وقد وقع الاتفاق على ذلك بين جميع العلماء وأما في الأحكام الشرعية فلأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ليعلمها الناس وهو صلى الله عليه وسلم مبعوث لجميع الناس مضطر إلى تبليغ الناس كلهم تلك الأحكام وليس يمكنه ذلك بمشافهة الجميع فلا بد من بعث الرسل إليهم بالتبليغ وليس عليه أن يسير إلى كل بقعة عددا متواترا فلزم بالضرورة أن التبليغ يكون بأخبار الآحاد ويلزم من ذلك وجوب العمل بها وإلا لم يلزم المبعوث إليهم العمل بما يقوله الرسل فبطل فائدتهم هذا إذا كان أكثر عنه مما يكتفى فيه بالظن أما ما يطلب فيه اليقين كالعلم بالله وصفاته فإن ذلك لا يجوز العمل فيه بهذه الأخبار لأنها لا تفيد العلم والظن في ذلك غير جائز فكيف يمكن تبليغ هذه إلى الناس كلهم
____________________
(3/320)
فنقول إن ذلك يمكن بأن يرسل فيها الآحاد أيضا ولكنه يشير في كلامه إلى البرهان العقلي مما يخبرهم به ممن يكون له فطانة فيتنبه بذلك الخبر إلى ذلك البرهان بطريق العقل ومن لا فطانة له فقد يتعلم على الطول وقد يسافر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستقصي به ذهنه شرعا فإن قيل فهلا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في جميع الأحكام الشرعية فكانت كلها علمية قلنا هذا غير ممكن أما إذا قلنا إن الأحكام لا تعرف إلا بالشرع فظاهر وإن قلنا بالعقل فتكليف الناس الوقوف على براهين جميع الأحكام الشرعية مما يشق جدا ويشغلهم عن الأعمال التي لا بد منها في عمارة البلد فلذلك اكتفى الشارع في هذه الأحكام بالظن فكفت فيها أخبار الآحاد وإشارات البراهين العقلية في الأحكام التي لا بد فيها من اليقين وهي التي يتوقف عليها الإيمان فيتم بذلك تبليغه الناس كلهم جميع الأحكام تنبيهات الأول قولهم إنه يوجب العمل قال إمام الحرمين في العبارة تساهل لأن نفس الخبر لو أوجب العمل لعلم ذلك منه وهو لا يثمر علما وإنما وجب العمل عند سماعه بدليل آخر فالتحقيق أنه يجب العمل عنده لا به وهذا سهل الثاني أن الشافعي صنف كتابا في إثبات العمل بخبر الواحد وذكر في أوله الحديث المشهور رحم الله امرأ سمع مقالتي فاعترض أبو داود وقال أثبت خبر الواحد بخبر الواحد والشيء لا يثبت بنفسه كمن ادعى شيئا فقيل له من يشهد لك فقال أنا أشهد لنفسي قال الأصحاب هذا الذي ذكره باطل فإن الشافعي لم يستدل بحديث واحد وإنما ذكر نحوا من ثلاثمائة حديث وذكر وجوه الاستدلال فيها فالمجموع هو الدال عليه ثم قال الشافعي بعد ذلك ومن الذي ينكر خبر الواحد والحكام آحاد والمفتون آحاد والشهود آحاد
____________________
(3/321)
مَسْأَلَةٌ إثْبَاتُ أَسْمَاءِ اللَّهِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ اُخْتُلِفَ في أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى هل تَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالصَّحِيحُ كما قَالَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ في الْمُرْشِدِ وَالْآمِدِيَّ في الْإِحْكَامِ الثُّبُوتُ كما في سَائِرِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِكَوْنِ التَّجْوِيزِ وَالْمَنْعِ من الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَقِيلَ لَا يَثْبُتُ بَلْ لَا بُدَّ من الْقَاطِعِ كَأَصْلِ الصِّفَاتِ مَسْأَلَةٌ إثْبَاتُ الْعَقِيدَةِ بِخَبَرِ الْآحَادِ سَبَقَ مَنْعُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ من التَّمَسُّكِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ فِيمَا طَرِيقُهُ الْقَطْعُ من الْعَقَائِدِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ وَالْعَقِيدَةُ قَطْعِيَّةٌ وَالْحَقُّ الْجَوَازُ وَالِاحْتِجَاجُ إنَّمَا هو بِالْمَجْمُوعِ منها وَرُبَّمَا بَلَغَ مَبْلَغَ الْقَطْعِ وَلِهَذَا أَثْبَتْنَا الْمُعْجِزَاتِ الْمَرْوِيَّةَ بِالْآحَادِ وقال الْإِمَامُ في الْمَطْلَبِ إلَّا أَنَّ هذا الطَّرِيقَ يَنْتَقِضُ بِأَخْبَارِ التَّشْبِيهِ فإن لِلْمُشَبِّهَةِ أَنْ يَقُولُوا إنَّ مَجْمُوعَهَا بَلَغَ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ فَإِنْ مَنَعْنَاهُمْ عن ذلك كان لِخُصُومِنَا في هذه الْمَسْأَلَةِ مَنْعُنَا عنه وَأَيْضًا فَالدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ إذَا صَحَّتْ وَسَاعَدَتْ أَلْفَاظُ الْأَخْبَارِ تَأَكَّدَ دَلِيلُ الْعَقْلِ وَقَوِيَ الْيَقِينُ مَسْأَلَةٌ إفَادَةُ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعِلْمَ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فَهَلْ يُفِيدُ الْعِلْمَ اخْتَلَفُوا فيه فَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إلَى أَنَّهُ يُفِيدُهُ وَحَكَاهُ ابن حَزْمٍ في كِتَابِ الْإِحْكَامِ عن دَاوُد وَالْحُسَيْنِ بن عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيِّ وَالْحَارِثِ بن أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيِّ وَغَيْرِهِمْ قال وَبِهِ نَقُولُ قال وَحَكَاهُ ابن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ عن مَالِكِ بن أَنَسٍ ا هـ وَفِيمَا حَكَاهُ عن الْحَارِثِ نَظَرٌ فَإِنِّي رَأَيْت كَلَامَهُ في كِتَابِ فَهْمِ السُّنَنِ نَقَلَ عن أَكْثَرِ أَهْلِ الحديث وَأَهْلِ الرَّأْيِ وَالْفِقْهِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ ثُمَّ قال وقال أَقَلُّهُمْ يُفِيدُ
____________________
(3/322)
الْعِلْمَ ولم يَخْتَرْ شيئا وَاحْتَجَّ بِإِمْكَانِ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ من نَاقِلِهِ كَالشَّاهِدَيْنِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِمَا لَا الْعِلْمُ وَنَقَلَهُ ابن عبد الْبَرِّ عن الْكَرَابِيسِيِّ وَنَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عن أَحْمَدَ وَابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ وقال الْمَازِرِيُّ ذَهَبَ ابن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ إلَى أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ وَنَسَبَهُ إلَى مَالِكٍ وَأَنَّهُ نَصَّ عليه وَأَطَالَ في تَقْرِيرِهِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ لَكِنْ تَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهُ وَنَازَعَهُ الْمَازِرِيُّ وقال لم يُعْثَرْ لِمَالِكٍ على نَصٍّ فيه وَلَعَلَّهُ رَأَى مَقَالَةً تُشِيرُ إلَيْهِ وَلَكِنَّهَا مُتَأَوَّلَةٌ قال وَقِيلَ إنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ دُونَ الْبَاطِنِ وَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهُ يُثْمِرُ الظَّنَّ الْقَوِيَّ وَحَكَى أبو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ من أَصْحَابِنَا في كِتَابِ أَدَبِ الْجَدَلِ له قَوْلًا غَرِيبًا أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ في إسْنَادِهِ إمَامٌ مِثْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَسُفْيَانَ وَإِلَّا فَلَا يُوجِبُهُ وَعَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ يُوجِبُهُ مُطْلَقًا وَنَقَلَ الشَّيْخُ في التَّبْصِرَةِ عن بَعْضِ أَهْلِ الحديث أَنَّ منها ما يُوجِبُ الْعِلْمَ كَحَدِيثِ مَالِكٍ عن نَافِعٍ عن ابْنِ عُمَرَ وما أَشْبَهَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هو الْقَوْلُ الذي حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ الْبَاطِنَ قَطْعًا بِخِلَافِ الْمُسْتَفِيضِ وَالْمُتَوَاتِرِ وَهَلْ يُوجِبُ الظَّاهِرَ فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْعِلْمِ من نَتَائِجِ بَاطِنِهِ فلم يَفْتَرِقَا وَالثَّانِي يُوجِبُهُ لِأَنَّ سُكُونَ النَّفْسِ إلَيْهِ مُوجِبٌ له وَلَوْلَاهَا كان ظَنًّا ا هـ وَحَكَى صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عن أبي بَكْرٍ الْقَفَّالِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ وَكَأَنَّ مُرَادَهُ غَالِبُ الظَّنِّ وَإِلَّا فَالْعِلْمُ لَا يَتَفَاوَتُ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ ابن فُورَكٍ في كِتَابِهِ فقال قَائِلُ هذا أَرَادَ غَلَبَةَ الظَّنِّ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ في الْعِلْمِ ظَاهِرٌ لَا يَتَحَقَّقُ بِهِ مَعْلُومٌ وَجَزَمَ بِهِ أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فقال خَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ وقال يَعْنِي بِالْعِلْمِ عِلْمَ الْحَقِيقَةِ لَا عِلْمَ الظَّاهِرِ وَنَقَلَهُ عن جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ منهم الشَّافِعِيُّ قال وَالْقَائِلُ بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُفِيدُ الْعِلْمَ إنْ أَرَادَ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ فَقَدْ أَصَابَ وَإِنْ أَرَادَ الْقَطْعَ حتى يَتَسَاوَى مع التَّوَاتُرِ فَبَاطِلٌ وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ كَجٍّ في كِتَابِهِ إنَّا نَقْطَعُ على اللَّهِ بِصِحَّةِ الْقَوْلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ النَّصِّ أَلَا تَرَى أَنَّا نَنْقُضُ حُكْمَ من تَرَكَ أَخْبَارَ الْآحَادِ وَحَكَى عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ أَنَّهُ هل يُفِيدُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ أَمْ لَا ثُمَّ قال إنَّهُ
____________________
(3/323)
خِلَافٌ لَفْظِيٌّ لِأَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّهُ يُوجِبُ غَلَبَةَ الظَّنِّ فَصَارَ الْخِلَافُ في أَنَّهُ هل يُسَمَّى عِلْمًا أَمْ لَا وقال الْهِنْدِيُّ إنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ يُفِيدُ الْعِلْمَ أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ أو أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِمَعْنَى الظَّنِّ فَلَا نِزَاعَ فيه لِتَسَاوِيهِمَا وَبِهِ أَشْعَرَ كَلَامُ بَعْضِهِمْ أو قالوا يُورِثُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِلْمَ ليس له ظَاهِرٌ فَالْمُرَادُ منه الظَّنُّ وَإِنْ أَرَادُوا منه أَنَّهُ يُفِيدُ الْجَزْمَ صَدَقَ مَدْلُولُهُ سَوَاءٌ كان على وَجْهِ الِاطِّرَادِ كما نَقَلَ بَعْضُهُمْ عن الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ أو لَا على وَجْهِ الِاطِّرَادِ بَلْ في بَعْضِ أَخْبَارِ الْآحَادِ دُونَ الْكُلِّ كما نُقِلَ عن بَعْضِهِمْ فَهُوَ بَاطِلٌ ا هـ وَلَعَلَّ مُرَادَ أَحْمَدَ إنْ صَحَّ عنه إفَادَةُ الْخَبَرِ لِلْعِلْمِ بِمُجَرَّدِهِ ما إذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَسَلِمَتْ عن الطَّعْنِ فإن مَجْمُوعَهَا يُفِيدُ ذلك وَلِهَذَا قال يحيى بن مَعِينٍ لو لم نَكْتُبْ الحديث من ثَلَاثِينَ وَجْهًا ما عَقَلْنَاهُ وَحَكَى الْقَاضِي أبو يَعْلَى قَوْلَ أَحْمَدَ في أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ نُؤْمِنُ بها وَنَعْلَمُ أنها حَقٌّ يَقْطَعُ على الْعِلْمِ بها قال فَذَهَبَ إلَى ظَاهِرِ هذا الْكَلَامِ طَائِفَةٌ من أَصْحَابِنَا وَقَالُوا خَبَرُ الْوَاحِدِ إنْ كان شَرْعِيًّا أَوْجَبَ الْعِلْمَ قال وَعِنْدِي هو مَحْمُولٌ على أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ من طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ لَا من جِهَةِ الضَّرُورَةِ وَأَنَّ الْقَطْعَ حَصَلَ اسْتِدْلَالًا بِأُمُورٍ انْضَمَّتْ إلَيْهِ من تَلَقِّي الْأُمَّةِ لها بِالْقَبُولِ أو دَعْوَى الْمُخْبِرِ على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ سَمِعَهُ منه بِحَضْرَتِهِ فَيَسْكُتُ وَلَا يُنْكِرُ عليه أو دَعْوَاهُ على جَمَاعَةٍ حَاضِرِينَ السَّمَاعَ منه فما يُنْكِرُونَهُ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ قد أَكْثَرَ الْأُصُولِيُّونَ من حِكَايَةِ إفَادَتِهِ الْقَطْعَ عن الظَّاهِرِيَّةِ أو بَعْضِهِمْ وَتَعَجَّبَ الْفُقَهَاءُ وَغَيْرُهُمْ منهم لِأَنَّا نُرَاجِعُ أَنْفُسَنَا فَنَجِدُ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُحْتَمِلًا لِلْكَذِبِ وَالْغَلَطِ وَلَا قَطْعَ مع هذا الِاحْتِمَالِ لَكِنَّ مَذْهَبَهُمْ له مُسْتَنَدٌ لم يَتَعَرَّضْ له الْأَكْثَرُونَ وهو أَنْ يُقَالَ ما صَحَّ من الْأَخْبَارِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ لَا من جِهَةِ كَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ فإنه من حَيْثُ هو كَذَلِكَ مُحْتَمِلٌ لِمَا ذَكَرْتُمُوهُ من الْكَذِبِ وَالْغَلَطِ وَإِنَّمَا وَجَبَ أَنْ يُقْطَعَ بِصِحَّتِهِ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عن هذه الْجِهَةِ وهو أَنَّ الشَّرِيعَةَ مَحْفُوظَةٌ وَالْمَحْفُوظُ ما لَا يَدْخُلُ فيه ما ليس منه وَلَا يَخْرُجُ عنه ما هو منه فَلَوْ كان ما ثَبَتَ عِنْدَنَا من الْأَخْبَارِ كَذِبًا لَدَخَلَ في الشَّرِيعَةِ ما ليس منها وَالْحِفْظُ يَنْفِيهِ وَالْعِلْمُ بِصِدْقِهِ من هذه الْجِهَةِ لَا من جِهَةِ ذَاتِهِ فَصَارَ هذا كَالْإِجْمَاعِ فإن قَوْلَ الْأُمَّةِ من حَيْثُ هو وَحُكْمُهُمْ لَا يَقْتَضِي الْعِصْمَةَ لَكِنْ لَمَّا قام الدَّلِيلُ على ذلك وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ
____________________
(3/324)
من هذا الْوَجْهِ لَا من حَيْثُ كَوْنُهُ قَوْلًا لهم وَحُكْمًا وَأَخَذُوا الْحِفْظَ من وَجْهٍ آخَرَ قَرَّرُوهُ يَقَعُ فيه الْبَحْثُ مَعَهُمْ قال وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هذا لِأَنَّ كَثِيرًا من الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ خَارِجٌ عن ضُرُوبِ الْعَقْلِ فَبَيَّنَّا هذا دَفْعًا لِهَذَا الْوَهْمِ وَتَنْبِيهًا لِمَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ وَيُبْحَثَ مَعَهُمْ فيه وهو الْمَحَلُّ الذي ادَّعَوْهُ من قِيَامِ الْقَاطِعِ على ما ذَكَرُوهُ وَأَقْرَبُ ما يُقَالُ لهم فيه إنَّ هذا الْقَاطِعَ أَعْنِي الْعِلْمَ بِصِحَّةِ كل ما صَحَّ عِنْدَنَا وَبِكَذِبِ كل ما لم يَصِحَّ إمَّا أَنْ يُؤْخَذَ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ أو إلَى بَعْضِهَا فَإِنْ أُخِذَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَمِيعِ فَمُسَلَّمٌ وَلَكِنَّهُ لَا يُفِيدُ بِالنِّسْبَةِ إلَى كل فَرْدٍ هُنَا إلَّا إذَا أَثْبَتْنَا الْعَزْمَ بِالنِّسْبَةِ إلَى كل الْأُمَّةِ لَكِنَّ ذلك مُتَعَذِّرٌ وَإِنْ أَخَذْنَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَعْضِ لم يُفِدْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأُمَّةِ قد وَصَلَ إلَيْهِ ذلك الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ وقد وَقَعَ كَثِيرٌ من هذا وهو اطِّلَاعُ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ على حَدِيثٍ لم يَطَّلِعْ عليه غَيْرُهُ وَإِنْ قال إذَا لم أَطَّلِعْ عليه فَالْأَصْلُ عَدَمُ اطِّلَاعِ غَيْرِي عليه فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالنِّسْبَةِ إلَيَّ قُلْنَا أنت تَدَّعِي الْقَطْعَ وَالتَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ هذا كُلُّهُ فِيمَا إذَا انْضَمَّتْ إلَيْهِ قَرِينَةٌ لِغَيْرِ التَّعْرِيفِ فَإِنْ كان لِلتَّعْرِيفِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ فَقَدْ يَدُلُّ على الْقَطْعِ في صُوَرٍ كَثِيرَةٍ قد سَبَقَتْ منها الْإِخْبَارُ بِحَضْرَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَلَا يُنْكِرُهُ أو بِحَضْرَةِ جَمْعٍ يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُهُمْ على الْكَذِبِ وَيُقِرُّوهُ أو بِأَنْ تَتَلَقَّاهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ أو الْعَمَلِ أو بِأَنْ يَحْتَفَّ بِقَرَائِنَ على الْخِلَافِ السَّابِقِ الثَّانِي لم يَتَعَرَّضُوا لِضَابِطِ الْقَرَائِنِ وقال الْمَازِرِيُّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشَارَ إلَيْهَا بِعِبَارَةٍ تَضْبِطُهَا قُلْت وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هِيَ ما لَا يَبْقَى مَعَهَا احْتِمَالٌ وَتَسْكُنُ النَّفْسُ عِنْدَهُ مِثْلُ سُكُونِهَا إلَى الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ أو قَرِيبًا منه الثَّالِثُ زَعَمَ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هو مَعْنَوِيٌّ وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُ في مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ هل يَكْفُرُ جَاحِدُ ما ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إنْ قُلْنَا يُفِيدُ الْقَطْعَ كَفَرَ وَإِلَّا فَلَا وقد حَكَى ابن حَامِدٍ من الْحَنَابِلَةِ أَنَّ في تَكْفِيرِهِ وَجْهَيْنِ وَلَعَلَّ هذا مَأْخَذُهَا
____________________
(3/325)
الثَّانِيَةُ أَنَّهُ هل يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ في أُصُولِ الدِّيَانَاتِ فَمَنْ قال يُفِيدُ الْعِلْمَ قَبِلَهُ وَمَنْ قال لَا يُفِيدُ لم يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِهِ إذْ الْعَمَلُ بِالظَّنِّ فِيمَا هو مَحَلُّ الْقَطْعِ مُمْتَنِعٌ
____________________
(3/326)
فَصْلٌ في شَرْطِ الْفِعْلِ بِخَبَرِ الْآحَادِ منها ما هو في الْمُخْبِرِ وهو الرَّاوِي وَمِنْهَا ما هو في الْمُخْبَرِ عنه وهو مَدْلُولُ الْخَبَرِ وَمِنْهَا ما هو في الْخَبَرِ نَفْسِهِ وهو اللَّفْظُ الشُّرُوطُ التي يَجِبُ تَوَفُّرُهَا في الْمُخْبِرِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَهُ شُرُوطٌ الْأَوَّلُ التَّكْلِيفُ فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ مُمَيِّزًا كان أو لَا لِعَدَمِ الْوَازِعِ عن الْكَذِبِ وَاعْتَمَدَ الْقَاضِي في رَدِّ رِوَايَةِ الصَّبِيِّ الْإِجْمَاعَ وقال الْمُعَلِّقُ عنه وقد كان الْإِمَامُ يَحْكِي وَجْهًا في صِحَّةِ رِوَايَةِ الصَّبِيِّ فَلَعَلَّهُ أَسْقَطَهُ ا هـ وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ مَشْهُورٌ حَكَاهُ ابن الْقُشَيْرِيّ مُعْتَرِضًا بِهِ على الْقَاضِي بَلْ هُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ في إخْبَارِهِ عن الْقُبْلَةِ كما حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في تَعْلِيقِهِ وَلِأَصْحَابِنَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ في قَبُولِ رِوَايَتِهِ في هِلَالِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ بَلْ قال الْفُورَانِيُّ في الْإِبَانَةِ في كِتَابِ الصِّيَامِ الْأَصَحُّ قَبُولُ رِوَايَتِهِ وَحَكَى إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ خَبَرًا في مُسْتَنَدِ رَدِّ أَحَادِيثِ الصَّبِيِّ فَقِيلَ هو مُقْتَبَسٌ من رِوَايَةِ الْفَاسِقِ لِأَنَّ مُلَابَسَةَ الْفِسْقِ تُهَوِّنُ عليه تَوَقِّي الْكَذِبِ وَالصَّبِيُّ أَوْلَى بِذَلِكَ فإن الْفَاسِقَ لَا يَخْلُو عن خِيفَةٍ يَسْتَوْحِشُهَا وَالصَّبِيُّ يُعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ آثِمٍ وَقِيلَ بَلْ ذلك مُتَلَقًّى من الْإِجْمَاعِ قال وَهَذَا أَسَدُّ فإن الصَّحَابَةَ لم يُرَاجِعُوا صَبِيًّا قَطُّ ولم يَسْتَخْبِرُوهُ وقد رَاجَعُوا النِّسَاءَ وَرَاءَ الْخُدُورِ وكان في الصِّبْيَانِ من يَلِجُ على رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَيَطَّلِعُ على أَحْوَالٍ له بِحَيْثُ لو نَقَلَهَا لم يَخْلُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ من فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ ثُمَّ لم يُرَاجَعُوا قَطُّ ا هـ وَجَعَلَ الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ مَحَلَّ الْخِلَافِ في الْمُرَاهِقِ الْمُتَثَبِّتِ في كَلَامِهِ قال أَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يُقْبَلُ قَطْعًا كَالْبَالِغِ الْفَاسِقِ وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْوَاضِحِ قَوْلًا ثَالِثًا في الْمَسْأَلَةِ وهو التَّفْصِيلُ بين الْمُرَاهِقِ وَمَنْ دُونَهُ وَالْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْقَبُولِ اخْتَلَفُوا هل ذلك
____________________
(3/327)
مَظْنُونٌ أو مَقْطُوعٌ بِهِ وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ مَظْنُونٌ هذا كُلُّهُ إذَا أَدَّى في حَالِ صِبَاهُ فَإِنْ تَحَمَّلَ في صِبَاهُ ثُمَّ أَدَّاهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَقَوْلَانِ في شَرْحِ اللُّمَعِ ومختصر التَّقْرِيبِ وَأَصَحُّهُمَا وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُقْبَلُ لِلْإِجْمَاعِ على قَبُولِ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَمُعَاذِ بن بَشِيرٍ من غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بين ما تَحَمَّلُوهُ قبل الْبُلُوغِ وَبَعْدَهُ وقد رَوَى مَحْمُودُ بن الرَّبِيعِ حَدِيثَ الْمَجَّةِ التي مَجَّهَا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وهو ابن خَمْسِ سِنِينَ وَاعْتَمَدَ الْعُلَمَاءُ رِوَايَتَهُ ذلك بَعْدَ بُلُوغِهِ وَجَعَلُوهُ أَصْلًا في سَمَاعِ الصَّغِيرِ وَالْإِجْمَاعُ على إحْضَارِ الصِّبْيَانِ مَجَالِسَ الرِّوَايَاتِ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَلَوْ قِيلَ هذا لِقَبُولِ الْأُمَّةِ رِوَايَاتِ من سَبَقَ كان عِنْدِي أَوْلَى لِتَوَقُّفِ الْأَوَّلِ على أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأَصَاغِرَ رَوَوْا لِلْأَكَابِرِ ما لم يَعْلَمُوهُ إلَّا من جِهَتِهِمْ فَقَبِلُوهُ وَثُبُوتُ مِثْلِ هذا عن كل الصَّحَابَةِ قد يَتَعَذَّرُ وَلَكِنَّ الْأُمَّةَ بَعْدَهُمْ قد قَبِلُوا رِوَايَةَ هَؤُلَاءِ قال وَالتَّمْثِيلُ بِابْنِ عَبَّاسٍ وَنَحْوِهِ ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ وفي مُطَابَقَتِهِ لِحَالِ بَعْضِهِمْ نَظَرٌ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَإِنَّمَا يَصِحُّ من الصَّبِيِّ تَحَمُّلُ الرِّوَايَةِ ثُمَّ أَدَاؤُهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ إذَا كان وَقْتَ التَّحَمُّلِ مُمَيِّزًا فَأَمَّا إذَا كان غير مُمَيِّزٍ ثُمَّ بَلَغَ لم تَصِحَّ رِوَايَتُهُ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ نَقْلُ ما سَمِعَهُ وَلَا يَتَحَقَّقُ نَقْلُ ما سَمِعَهُ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ وَهَذَا إجْمَاعٌ وَلِهَذَا قُلْنَا لو سمع الْمَجْنُونُ ثُمَّ أَفَاقَ لم تُسْمَعْ رِوَايَتُهُ وقال قَوْمٌ لَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ إلَّا من بَالِغٍ عَاقِلٍ وما سَمِعَهُ الصَّبِيُّ في حَالِ صِبَاهُ لَا تَصِحُّ رِوَايَتُهُ وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ وَكَذَا لو تَحَمَّلَ وهو فَاسِقٌ أو كَافِرٌ ثُمَّ رَوَى وهو عَدْلٌ مُسْلِمٌ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَحَكَاهُ في الْقَوَاطِعِ عن الْأُصُولِيِّينَ الْمُرَادُ بِالْعَقْلِ الْمُعْتَبَرُ هُنَا التَّيَقُّظُ وَكَثْرَةُ التَّحَفُّظِ وَلَا يَكْفِي الْعَقْلُ الذي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ قال ابن السَّمْعَانِيِّ فَإِنْ كان يُفِيقُ يَوْمًا وَيُجَنُّ يَوْمًا فَإِنْ أَثَّرَ جُنُونُهُ في زَمَنِ إفَاقَتِهِ لم يُقْبَلْ وَإِلَّا قُبِلَ الثَّانِي كَوْنُهُ من أَهْلِ الْقِبْلَةِ فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْكَافِرِ كَالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ إجْمَاعًا سَوَاءٌ عُلِمَ من دِينِهِ الِاحْتِرَازُ عن الْكَذِبِ أَمْ لَا وَسَوَاءٌ عُلِمَ أَنَّهُ عَدْلٌ في دِينِهِ أَمْ لَا لِأَنَّ قَبُولَ الرِّوَايَةِ مَنْصِبٌ شَرِيفٌ وَمَكْرُمَةٌ عَظِيمَةٌ وَالْكَافِرُ ليس أَهْلًا لِذَلِكَ
____________________
(3/328)
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ في الْمُسْنَدِ من جِهَةِ مُحَمَّدِ بن الْحَنَفِيَّةِ عن عُرْوَةَ بن عَمْرٍو الثَّقَفِيِّ سَمِعْت أَبَا طَالِبٍ قال سَمِعْت ابْنَ أَخِي الْأَمِينَ يقول اُشْكُرْ تُرْزَقْ وَلَا تَكْفُرْ فَتُعَذَّبَ وَرَوَاهُ الْحَافِظُ الصُّرَيْفِينِيُّ وقال غَرِيبٌ عَجِيبٌ رِوَايَةُ أبي طَالِبٍ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حكم ما رواه أهل البدع وأما الذي من أهلها وهم المبتدعة فإن كفر ببدعته كالمجسمة إذا قلنا بتكفيرهم فإن علمنا من مذهبهم جواز الكذب إما لنصرة رأيهم أو غير ذلك لم تقبل روايتهم قطعا كذا قالوه وقيده بعضهم بما إذا اعتقدوا جوازه مطلقا فإن اعتقدوا جوازه في أمر خاص كالكذب فيما يتعلق بنصرة العقيدة أو الترغيب في الطاعة أو الترهيب عن المعصية ردت روايتهم فيما هو متعلق بذلك الأمر الخاص فقط وإن اعتقدوا حرمة الكذب فقولان قال الأكثرون لا تقبل ومنهم القاضيان أبو بكر وعبد الجبار والغزالي والآمدي قياسا على الفاسق بل هو أولى وقال أبو الحسين البصري يقبل وهو رأي الإمام وأتباعه لأن اعتقادهم حرمة الكذب يمنعهم من الإقدام عليه فيحصل صدقه فيجب العمل به وهذا التفصيل في الكافر بالبدعة ذكره في المحصول أطلق القاضي عبد الوهاب في الملخص وابن برهان في الأوسط عدم قبول رواياتهم مطلقا وقال لا خلاف فيه وجرى عليه ابن الصلاح وغيره من المحدثين وأما المبتدع إذا لم يكفر ببدعته فإن كان ممن يرى الكذب والتدين به لم يقبل بالاتفاق وإلا فاختلفوا فيه على أقوال أحدها رد روايته مطلقا لأنه فاسق ببدعته وإن كان متأولا يرد كالفاسق بغير التأويل كما لا يقبل الكافر مطلقا وبه قال القاضي والأستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق في اللمع قال الخطيب البغدادي ويروى عن مالك واستبعده ابن الصلاح لأن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة وقال ابن دقيق العيد لعل هذا القول مبني على القول بتكفيرهم ورواية
____________________
(3/329)
الكافر غير مقبولة وغاية ما يقال في الفرق أنه غير عالم بكفره وذلك ضم جهل إلى كفر فهو أولى بعدم القبول وما قاله ممنوع فإن التفريع على عدم تكفيره بالبدعة وإنما مأخذ الرد عندهم الفسق ولم يعذروه بتأويله وقالوا هو فاسق بقوله وفاسق لجهله ببدعته فتضاعف فسقه والثاني يقبل سواء دعا إلى بدعته أو لا إذا كان ممن لا يستحل الكذب كما سبق من تصوير المسألة وهو قضية مذهب الشافعي قال الحافظ ابن عدي قلت للربيع ما حمل الشافعي على روايته عن إبراهيم بن أبي يحيى مع وصفه إياه بأنه كان قدريا فقال كان الشافعي يقول لأن يخر إبراهيم من السماء أحب إليه من أن يكذب وقال الخطيب وهذا مذهب الشافعي لقوله هل هو إلا من الخطابية الرافضة لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم قال ويحكى عن ابن أبي ليلى والثوري وأبي يوسف القاضي وقال أبو نصر بن القشيري إلى هذا ميل الشافعي وقبل شهادة هؤلاء والخوارج مع استحلالهم الدماء والأموال لتوقيهم الكذب واعتقادهم كفر فاعله وقال ابن برهان إنه الصحيح وقول الشافعي لقوله أقبل شهادة أهل الأهواء والبدع إلا الخطابية فإنهم يتدينون بالكذب وقال محمد بن الحسن إذا كنا نقبل رواية أهل العدل وهم يعتقدون أن من كذب فسق فلأن نقبل رواية أهل الأهواء وهم يعتقدون أن من كذب كفر بطريق الأولى قال وتحقيق ما ذكرناه أن أئمة الحديث كالبخاري ومسلم وغيرهما رووا في كتبهم عن أهل الأهواء حتى قيل لو حذفت رواياتهم لابيضت الكتب ا هـ وقد اعترض الشيخ الهندي في النهاية على كون الخطابية من هذا القبيل بأن المحكي في كتب المقالات ما يوجب تكفيرهم قطعا قال فإن صح ذلك عنهم لم يكونوا من قبيل ما نحن فيه بل من قبيل الكفرة من أهل القبلة فيكون الاستثناء في كلام الشافعي منقطعا وقال ابن دقيق العيد هذا هو المذهب الحق لأنا لا نكفر أحدا من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر عن صاحب الشرع وإذا لم نكفره وانضم إليه التقوى المانعة من الإقدام على ما يعتقد تحريمه فالموجب للقبول موجود وهو الإسلام مع العدالة الموجبة لظن الصدق والمانع المتخيل لا يعارض ذلك الموجب بل قد يقويه كما في الخوارج الذين يكفرون بالذنب والوعيدية الذين يرون الخلود بالذنب وإذا وجد المقتضى
____________________
(3/330)
وزال المانع وجب القبول وأطلق الماوردي والروياني القول بقبول رواياتهم وهو محمول على هذا التفصيل وكذلك قال إلكيا الطبري الفساق بسبب العقيدة كالخوارج والروافض وغيرهم من أهل البدع اختلف في قبول روايتهم والصحيح الذي عليه الجمهور أن رواياتهم مقبولة فإن العقائد التي تحلوا بها لا تهون عليهم افتعال الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم والأصل الثقة وهو في حق المتأول والمحق سواء نعم الشافعي لا يقبل شهادة الكافر على الكافر مع أنه عدل في دينه من حيث إن الشهادة تستدعي رتبة ووقارا ولذلك لم يكن العبد من أهلها بخلاف الرواية فإنها إثبات الشرع على نفسه وغيره فاستدعت مزيد منصب والثالث إن كان داعيا إلى بدعته لم يقبل وإلا قبل وبه جزم سليم في التقريب وحكاه القاضي عبد الوهاب في الملخص عن مالك لقوله لا تأخذ الحديث عن صاحب هوى يدعو إلى هواه قال القاضي عياض وهذا يحتمل أن يريد أنه إذا لم يدع يقبل ويحتمل أنه أراد لا يقبل مطلقا ويكون قوله يدعو لبيان سبب تهمته أي لا تأخذ عن مبتدع فإنه ممن يدعو إلى هواه وهذا هو المعروف من مذهبه ا هـ قال الخطيب وهو مذهب أحمد ونسبه ابن الصلاح للأكثرين قال وهو أعدل المذاهب وأولاها وفي الصحيحين كثير من أحاديث المبتدعة غير الدعاة احتجاجا واستشهادا كعمران بن حطان وداود بن الحصين وغيرهما وقد نقل أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات الإجماع على الأمرين فقال في ترجمة جعفر بن سليمان الضبعي فليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف في أن الصدوق التقي إذا كان فيه بدعة ولم يكن يدعو إليها أن الاحتجاج بأخباره جائز فإذا دعا إلى بدعته سقط الاحتجاج بأخباره ا هـ وقال ابن دقيق العيد جعل بعض المتأخرين من أهل الحديث هذا المذهب متفقا عليه وليس كما قاله نعم في هذا المذهب وجه أنه إذا روى المبتدع الداعية ما يقوي به حجته على خصمه وكذلك إذا لم يكن داعية إلا أنه أضعف من الأول قال نعم الذي أختاره أن الداعية إذا روى فإما أن يروي ما ينفرد به عن غيره ولا يوجد إلا عنده أو ما يوجد عند غيره فإن كان الأول روي عنه لأن الرواية عنه هاهنا في مرتبة الضرورة وإن كان يوجد عند غيره لم يرو عنه لا لأن روايته
____________________
(3/331)
باطلة بل لإهانته وعدم تعظيمه ا هـ وهو تفصيل غريب وما حكاه عن بعض المتأخرين كأنه يريد به ابن القطان المحدث فإنه قال في كتاب الوهم والإيهام الخلاف في غير الداعية أما الداعية فهو ساقط عند الجميع وليس كما قال وفعل أبو علي الغساني من المحدثين فقال إن ضم إلى بدعته افتعاله الحديث وتحريف الرواية لنصرة مذهبه لم يقبل وإلا قبل وهذا التفصيل لا وقع له فإن ذلك متروك ولو لم يكن صاحب بدعة تنبيهات الأول المراد بالداعية إلى البدعة الأول يتبادر أن المراد بالداعية الحامل على بدعته لكن قال أبو الوليد الباجي الخلاف في الداعية بمعنى أنه يظهرها ويحقق عليها فأما الداعي بمعنى حمل الناس عليها فلم يختلف في ترك حديثه الثَّانِي مَتَى تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْكَافِرِ إنَّمَا لَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْكَافِرِ إذَا رَوَى في حَالِ كُفْرِهِ أَمَّا لو تَحَمَّلَ وهو كَافِرٌ ثُمَّ أَدَّى في الْإِسْلَامِ قُبِلَتْ على الصَّحِيحِ قَالَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَجَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ قَالَا وَكَذَلِكَ لو رَوَى وهو فَاسِقٌ ثُمَّ أَدَّى وقد اعْتَدَلَ وفي الصَّحِيحِ عن جُبَيْرٍ بن مُطْعِمٍ أَنَّهُ سمع النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يَقْرَأُ في الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ وَلَمَّا سمع هذا كان كَافِرًا عَقِبَ أَسْرِهِ في غَزْوَةِ بَدْرٍ وَصَرَّحَ بِذَلِكَ في الحديث ثُمَّ أَنَّهُ رَوَاهُ بَعْدَمَا أَسْلَمَ وَأَجْمَعُوا على قَبُولِهِ الشَّرْطُ الثَّالِثُ الْعَدَالَةُ في الدِّينِ فَالْفَاسِقُ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ كما لَا يَوْثُقُ بِشَهَادَتِهِ وَالْعَدْلُ هو الْعَادِلُ تَوَسُّعًا مَأْخُوذٌ من الِاعْتِدَالِ وفي الِاصْطِلَاحِ من تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَيُحْكَمُ بها وَالْعَدَالَةُ في الْأَصْلِ هِيَ الِاسْتِقَامَةِ يُقَالُ طَرِيقٌ عَدْلٌ لِطَرِيقِ الْجَادَّةِ وَضِدُّهَا الْفِسْقُ وهو الْخُرُوجُ عن الْحَدِّ الذي جُعِلَ له وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا تُقْبَلَ رِوَايَتُهُ من حَيْثُ إنَّ هَوَاهُ غَالِبٌ على تَقْوَاهُ فَلَا تَصِحُّ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ ثُمَّ ضَابِطُ الشَّرْعِ في ذلك مُعْتَبَرٌ فَلَوْ لَاحَ بِالْمَخَايِلِ صِدْقُهُ لم يَجُزْ قَبُولُ رِوَايَتِهِ فإنه يُخَالِفُ ضَابِطَ الشَّرْعِ وَلَيْسَ لنا أَنْ نَعْمَلَ بِكُلِّ ظَنٍّ
____________________
(3/332)
بَلْ ظَنٍّ له أَصْلٌ شَرْعًا هذا إذَا رَجَعَ الْفِسْقُ إلَى الدِّيَانَةِ فَلَا خِلَافَ فيه كما قَالَهُ ابن بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ فَإِنْ رَجَحَ إلَى الْعَقِيدَةِ كَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ فَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ قال الْقَاضِي وَلَا تُقْبَلُ مِمَّنْ اُتُّفِقَ على فِسْقِهِ وَإِنْ كان مُتَأَوِّلًا تَعْرِيفُ الْعَدَالَةِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ بِالِاتِّفَاقِ وَلَكِنْ اُخْتُلِفَ في مَعْنَاهَا فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عِبَارَةٌ عن الْإِسْلَامِ مع عَدَمِ مَعْرِفَةِ الْفِسْقِ وَعِنْدَنَا مَلَكَةٌ في النَّفْسِ تَمْنَعُ عن اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَالرَّذَائِلِ الْمُبَاحَةِ كَالْبَوْلِ في الطَّرِيقِ وَالْمُرَادُ جِنْسُ الْكَبَائِرِ وَالرَّذَائِلِ الصَّادِقِ بِوَاحِدَةٍ لَا حَاجَةَ لِلْإِصْرَارِ على الصَّغِيرَةِ لِأَنَّهَا تَصِيرُ كَبِيرَةً قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَاَلَّذِي صَحَّ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال ليس من الناس من يَمْحُضُ الطَّاعَةَ فَلَا يَمْزُجُهَا بِمَعْصِيَةٍ وَلَا في الْمُسْلِمِينَ من يَمْحُضُ الْمَعْصِيَةَ فَلَا يَمْزُجُهَا بِالطَّاعَةِ فَلَا سَبِيلَ إلَى رَدِّ الْكُلِّ وَلَا إلَى قَبُولِ الْكُلِّ فَإِنْ كان الْأَغْلَبُ على الرَّجُلِ من أَمْرِهِ الطَّاعَةَ وَالْمُرُوءَةَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ كان الْأَغْلَبُ الْمَعْصِيَةَ وَخِلَافَ الْمُرُوءَةِ رَدَدْتهَا وهو ظَاهِرٌ في جَرْيِ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ مَجْرًى وَاحِدًا وَعَلَيْهِ جَرَى الْقَاضِي وقال أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ من قَارَفَ كَبِيرَةً رُدَّتْ شَهَادَتُهُ وَمَنْ اقْتَرَفَ صَغِيرَةً لم تُرَدَّ شَهَادَتُهُ وَلَا رِوَايَتُهُ قال وَالْمُوَاظَبَةُ على الصَّغِيرَةِ كَمُقَارَفَةِ الْكَبِيرَةِ وقال لو ثَبَتَ كَذِبُ الرَّاوِي رُدَّتْ رِوَايَتُهُ إذَا تَعَمَّدَ وَإِنْ كان لَا يُعَدُّ ذلك الْكَذِبَ من الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ قَادِحٌ في نَفْسِ الْمَقْصُودِ بِالرِّوَايَةِ وقال الْقَاضِي ما مَعْنَاهُ الْمَعْنِيُّ في الرِّوَايَةِ الثِّقَةُ فَكُلُّ ما لَا يَخْرِمُ الثِّقَةَ لَا يَقْدَحُ في الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا الْقَادِحُ ما يَخْرِمُ الثِّقَةَ ا هـ وقال الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ الْمُرَادُ بِالْعَدْلِ من كان مُطِيعًا لِلَّهِ في نَفْسِهِ ولم يُكْثِرْ من الْمَعَاصِي إلَّا هَفَوَاتٍ وَزَلَّاتٍ إذْ لَا يَعْرَى وَاحِدٌ من مَعْصِيَةٍ فَكُلُّ من أتى كَبِيرَةً فَاسِقٌ أو صَغِيرَةً فَلَيْسَ بِفَاسِقٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ ما تُنْهَوْنَ عنه وَمَنْ تَتَابَعَتْ منه الصَّغِيرَةُ وَكَثُرَتْ وُقِفَ خَبَرُهُ وَكَذَا من جُهِلَ أَمْرُهُ قال وما ذَكَرْتُ من مُتَابَعَةِ الْأَفْعَالِ لِلْعَاصِي أنها عِلْمُ الْإِصْرَارِ لِعِلْمِ الظَّاهِرِ كَالشَّهَادَةِ الظَّاهِرَةِ وَعَلَى أَنِّي على حَقِّ النَّظَرِ لَا أَجْعَلُ الْمُقِيمَ على الصَّغِيرَةِ الْمَعْفُوِّ عنها مُرْتَكِبًا لِلْكَبِيرَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا على الْمَعْصِيَةِ الْمُخَالِفَةِ أَمْرَ اللَّهِ دَائِمًا قال فَكُلُّ من
____________________
(3/333)
ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ فَمَقْبُولٌ حتى يُعْلَمَ الْجَرْحُ وَلَيْسَ لِذَلِكَ غَايَةٌ يُحَاطُ بها وَأَنَّهُ عَدْلٌ في الْحَقِيقَةِ وَلَا يَكُونُ مَوْقُوفًا حتى يُعْلَمَ الْجَرْحُ ا هـ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ لَا بُدَّ في الْعَدْلِ من أَرْبَعِ شَرَائِطَ 1 الْمُحَافَظَةُ على فِعْلِ الطَّاعَةِ وَاجْتِنَابُ الْمَعْصِيَةِ وَأَنْ لَا يَرْتَكِبَ من الصَّغَائِرِ ما يَقْدَحُ في دِينٍ أو عِرْضٍ 3 وَأَنْ لَا يَفْعَلَ من الْمُبَاحَاتِ ما يُسْقِطُ الْقَدْرَ وَيُكْسِبُ النَّدَمَ 4 وَأَنْ لَا يَعْتَقِدَ من الْمَذَاهِبِ ما تَرُدُّهُ أُصُولُ الشَّرْعِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الثِّقَةُ من الْمُعْتَمَدِ عليها فَمَتَى حَصَلَتْ الثِّقَةُ بِالْخَبَرِ قُبِلَ وَهَذَا مَفْهُومٌ من عَادَةِ الْأُصُولِيِّينَ وَهَذَا ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ فإنه قال وَلَيْسَ لِلْعَدْلِ عَلَامَةٌ تُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِ الْعَدْلِ في بَدَنِهِ وَلَا لَفْظِهِ وَإِنَّمَا عَلَامَةُ صِدْقِهِ بِمَا يُخْتَبَرُ من حَالِهِ في نَفْسِهِ فَإِنْ كان الْأَغْلَبُ من أَمْرِهِ ظَاهِرَ الْخَيْرِ قُبِلَ وَإِنْ كان فيه تَقْصِيرٌ من بَعْضِ أَمْرِهِ لِأَنَّهُ لَا يَعْرَى أَحَدٌ رَأَيْنَاهُ من الذُّنُوبِ فإذا خَلَطَ الذُّنُوبَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ فَلَيْسَ فيه إلَّا الِاجْتِهَادُ على الْأَغْلَبِ من أَمْرِهِ وَالتَّمْيِيزُ بين حُسْنِهِ وَقُبْحِهِ ا هـ وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدَالَةَ في الرِّوَايَةِ وَإِنْ كانت عِنْدَنَا شَرْطًا بِلَا خِلَافٍ لَكِنْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هل يَنْتَهِي إلَى الْعَدَالَةِ الْمُشْتَرَطَةِ في الشَّهَادَةِ أَمْ لَا وَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابن عَبْدَانِ في شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ أَحَدُهُمَا أَنْ تُعْتَبَرَ الْعَدَالَةُ مِمَّنْ يَقْبَلُهُ الْحَاكِمُ في الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ وَالْأَمْوَالِ أو زَكَّاهُ مُزَكِّيَانِ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ في نَاقِلِ الْخَبَرِ وَعَدَالَتِهِ ما يُعْتَبَرُ في الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ وَالْأَمْوَالِ بَلْ إذَا كان ظَاهِرُهُ الدِّينَ وَالصِّدْقَ قُبِلَ خَبَرُهُ هذا كَلَامُهُ قُلْت وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ على الْأَوَّلِ فإنه قال في اخْتِلَافِ الحديث في جَوَابِ سُؤَالٍ أَوْرَدَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ شَهَادَتُهُمَا إذَا كَانَا عَدْلَيْنِ في الظَّاهِرِ ا هـ وهو ظَاهِرٌ في أَنَّ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ من يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِ
____________________
(3/334)
ثُمَّ اخْتَلَفُوا في مَوَاطِنَ أَقْسَامُ الذُّنُوبِ أَحَدُهَا أَنَّ الذُّنُوبَ إلَى كَمْ تَنْقَسِمُ على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا إلَى قِسْمَيْنِ صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ وهو الْمَشْهُورُ بين الْفُقَهَاءِ وَيُسَاعِدُهُمْ إطْلَاقَاتُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَكَرَّهَ إلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ فَجَعَلَ الْفُسُوقَ وهو الْكَبَائِرُ تَلِي رُتْبَةَ الْكُفْرِ وَجَعَلَ الصَّغَائِرَ تَلِي رُتْبَةَ الْكَبِيرَةِ وقد خَصَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بَعْضَ الذُّنُوبِ بِاسْمِ الْكَبَائِرِ الثَّانِي هو قِسْمٌ وَاحِدٌ وهو الْكَبَائِرُ وهو طَرِيقَةُ جَمْعٍ من الْأُصُولِيِّينَ منهم الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَنَفْيُ الصَّغَائِرِ وَجَرَى عليه إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْإِرْشَادِ وابن فُورَكٍ في كِتَابِهِ مُشْكِلِ الْقُرْآنِ فقال الْمَعَاصِي عِنْدَنَا كَبَائِرُ وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَعْضِهَا صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى ما هو أَكْبَرُ منها كما يُقَالُ الزِّنَا صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُفْرِ وَالْقُبْلَةُ الْمُحَرَّمَةُ صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا وَكُلُّهَا كَبَائِرُ قال وَمَعْنَى الْآيَةِ إنْ اجْتَنَبْتُمْ كَبَائِرَ ما نَهَاكُمْ عنه وهو الْكُفْرُ بِاَللَّهِ كَفَّرْت عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ التي دُونَ الْكُفْرِ إنْ شِئْت ثُمَّ حَكَى انْقِسَامَ الذُّنُوبِ إلَى صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ عن الْمُعْتَزِلَةِ وَغَلَّطَهُمْ وَلَعَلَّ أَصْحَابَ هذا الْوَجْهِ كَرِهُوا تَسْمِيَةَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ صَغِيرَةً إجْلَالًا لِلَّهِ وَتَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ مع أَنَّهُمْ وَافَقُوا في الْجَرْحِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِمُطْلَقِ الْمَعْصِيَةِ وَالثَّالِثُ قَوْلُ الْحَلِيمِيِّ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ وَفَاحِشَةٍ فَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَبِيرَةٌ فإذا قَتَلَ ذَا رَحِمٍ فَفَاحِشَةٌ فَأَمَّا الْخَدْشَةُ وَالضَّرْبَةُ مَرَّةً أو مَرَّتَيْنِ فَصَغِيرَةٌ وَجَعَلَ سَائِرَ الذُّنُوبِ هَكَذَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ فإن رُتْبَةَ الْكَبَائِرِ تَتَفَاوَتُ قَطْعًا تَعْرِيفُ الْكَبِيرَةِ الثَّانِي إذَا قُلْنَا بِالْمَشْهُورِ فَاخْتَلَفُوا في الْكَبِيرَةِ هل تُعَرَّفُ بِالْحَدِّ أو بِالْعَدِّ على وَجْهَيْنِ وَبِالْأَوَّلِ قال الْجُمْهُورُ وَاخْتَلَفُوا على أَوْجُهٍ قِيلَ الْمَعْصِيَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَدِّ وَقِيلَ ما لَحِقَ صَاحِبَهَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ وَقِيلَ ما تُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ وَرِقَّةِ الدِّيَانَةِ قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَقِيلَ ما نَصَّ الْكِتَابُ على تَحْرِيمِهِ أو وَجَبَ في جِنْسِهِ حَدٌّ وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ قَائِلٍ ذَكَرَ بَعْضَ أَفْرَادِهَا وَيَجْمَعُ الْكَبَائِرَ جَمِيعُ ذلك وَالْقَائِلُونَ بِالْعَدِّ اخْتَلَفُوا في أنها هل تَنْحَصِرُ فَقِيلَ تَنْحَصِرُ وَاخْتَلَفُوا فَقِيلَ
____________________
(3/335)
مُعَيَّنَةٌ وقال الْوَاحِدِيُّ في الْبَسِيطِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ ليس لِلْكَبَائِرِ حَدٌّ يَعْرِفُهُ الْعِبَادُ وَتَتَمَيَّزُ بِهِ عن الصَّغَائِرِ تَمْيِيزَ إشَارَةٍ وَلَوْ عُرِفَ ذلك لَكَانَتْ الصَّغَائِرُ مُبَاحَةً وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْفَى ذلك على الْعِبَادِ لِيَجْتَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ في اجْتِنَابِ ما نُهِيَ عنه رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ مُجْتَنِبًا لِلْكَبَائِرِ وَنَظِيرُهُ إخْفَاءُ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى في الصَّلَوَاتِ وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ في رَمَضَانَ ا هـ ثُمَّ قِيلَ هِيَ سَبْعَةٌ وَقِيلَ أَرْبَعَةَ عَشْرَ وقال ابن عَبَّاسٍ هِيَ إلَى سَبْعِينَ أَقْرَبُ منها إلَى السَّبْعِ وَالصَّحِيحُ أنها لَا تَنْحَصِرُ إذْ لَا يُؤْخَذُ ذلك إلَّا من السَّمْعِ ولم يَرِدْ فيه حَصْرُهَا وقد أَنْهَاهَا الْحَافِظُ الذَّهَبِيِّ في جُزْءٍ صَنَّفَهُ إلَى السَّبْعِينَ وَمِنْ الْمَنْصُوصِ عليه الْقَتْلُ وَالزِّنَا وَاللِّوَاطُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَمُطْلَقُ السُّكْرِ وَالسَّرِقَةُ وَالْغَصْبُ وَالْقَذْفُ وَالنَّمِيمَةُ وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَالْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَالْعُقُوقُ وَالْفِرَارُ وَمَالُ الْيَتِيمِ وَخِيَانَةُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَتَقَدُّمُ الصَّلَاةِ وَتَأْخِيرُهَا وَالْكَذِبُ على مُحَمَّدٍ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَضَرْبُ الْمُسْلِمِ وَسَبُّ الصَّحَابَةِ وَكِتْمَانُ الشَّهَادَةِ وَالرِّشْوَةُ وَالدِّيَاثَةُ وَهِيَ الْقِيَادَةُ على أَهْلِهِ وَالْقِيَادَةُ وَهِيَ على أَجْنَبِيٍّ وَالسِّعَايَةُ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَمَنْعُ الزَّكَاةِ وَالْيَأْسُ من رَحْمَةِ اللَّهِ وَأَمْنُ الْمَكْرِ وَالظِّهَارُ وَأَكْلُ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَفِطْرُ رَمَضَانَ وَالْغُلُولُ وَالْمُحَارَبَةُ وَالسِّحْرُ وَالرِّبَا وَتَرْكُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عن الْمُنْكَرِ وَنِسْيَانُ الْقُرْآنِ بَعْدَ حِفْظِهِ وَإِحْرَاقُ الْحَيَوَانِ بِالنَّارِ وَامْتِنَاعُ الْمَرْأَةِ من زَوْجِهَا بِلَا سَبَبٍ وَتَوَقَّفَ الرَّافِعِيُّ في تَرْكِ الْأَمْرِ وما بَعْدَهُ وَنَقَلَ عن صَاحِبِ الْعُدَّةِ جَعْلَ الْغِيبَةِ من الصَّغَائِرِ وهو يُخَالِفُ نَصَّ الشَّافِعِيِّ كَيْفَ وَهِيَ أُخْتُ النَّمِيمَةِ وقد رَوَى الطَّبَرَانِيُّ حَدِيثَ الْمُعَذَّبَيْنِ في قَبْرِهِمَا فذكر الْغِيبَةَ بَدَلَ النَّمِيمَةِ وَمِنْهَا إدْمَانُ الصَّغِيرَةِ الثَّالِثُ أَنَّ الْإِصْرَارَ على الصَّغَائِرِ حُكْمُهُ حُكْمُ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ الْوَاحِدَةِ على الْمَشْهُورِ وقال أبو طَالِبٍ الْقُضَاعِيُّ في كِتَابِ تَحْرِيرِ الْمَقَالِ في مُوَازَنَةِ الْأَعْمَالِ إنَّ الْإِصْرَارَ حُكْمُهُ حُكْمُ ما أُصِرَّ بِهِ عليه فَالْإِصْرَارُ على الصَّغِيرَةِ صَغِيرَةٌ قال وقد جَرَى على أَلْسِنَةِ الصُّوفِيَّةِ لَا صَغِيرَةَ مع الْإِصْرَارِ وَرُبَّمَا يَرْوِي حَدِيثًا وَلَا يَصِحُّ وَالْإِصْرَارُ يَكُونُ بِاعْتِبَارَيْنِ أَحَدُهُمَا حُكْمِيٌّ وهو الْعَزْمُ على فِعْلِ تِلْكَ الصَّغِيرَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ منها فَهَذَا
____________________
(3/336)
حُكْمُهُ حُكْمُ من كَرَّرَهَا فِعْلًا بِخِلَافِ التَّائِبِ منها فَلَوْ ذَهَلَ من ذلك ولم يَعْزِمْ على شَيْءٍ فَهَذَا هو الذي تُكَفِّرُهُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ من الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَالْجُمُعَةِ وَالصِّيَامِ كما دَلَّ عليه الْأَحَادِيثُ لَكِنْ اُخْتُلِفَ في هذا هل شَرْطُ التَّكْفِيرِ عَدَمُ مُلَابَسَتِهِ لِشَيْءٍ من الْكَبَائِرِ أو لَا يُشْتَرَطُ ذلك على قَوْلَيْنِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الصَّلَاةُ إلَى الصَّلَاةِ كَفَّارَةُ ما بَيْنَهُمَا ما اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ وَحَكَى ابن عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ عن الْجُمْهُورِ الِاشْتِرَاطَ لِظَاهِرِ الحديث وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ قال وَالشَّرْطُ في الحديث بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّقْدِيرُ مُكَفِّرَاتُ ما بَيْنَهُنَّ إلَّا الْكَبَائِرَ وَهَذَا يُسَاعِدُهُ مُطْلَقُ الْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِالتَّكْفِيرِ من غَيْرِ شَرْطٍ وَإِنْ قُلْنَا إنَّ الْمُرَادَ بِالْكَبَائِرِ في الْآيَةِ السَّابِقَةِ الْكُفْرُ كما قال ابن فُورَكٍ فَنَحْمِلُ الحديث عليها وَتَسْقُطُ الدَّلَالَةُ بها لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي الْإِصْرَارُ بِالْفِعْلِ وَيَحْتَاجُ إلَى ضَابِطٍ قال ابن الرِّفْعَةِ لم أَظْفَرْ فيه بِمَا يُثْلِجُ الصُّدُورَ وقد عَبَّرَ عنه بَعْضُهُمْ بِالْمُدَاوَمَةِ وَحِينَئِذٍ هل تُعْتَبَرُ الْمُدَاوَمَةُ على نَوْعٍ وَاحِدٍ من الصَّغَائِرِ أَمْ الْإِكْثَارِ من الصَّغَائِرِ سَوَاءٌ كانت من نَوْعٍ وَاحِدٍ أو أَنْوَاعٍ وَيَخْرُجُ من كَلَامِ الْأَصْحَابِ عنه وَجْهَانِ قال الرَّافِعِيُّ وَيُوَافِقُ الثَّانِي قَوْلَ الْجُمْهُورِ من تَغْلِبُ مَعَاصِيهِ طَاعَتَهُ كَأَنْ يُزَوِّرَ الشَّهَادَةَ قال وإذا قُلْنَا بِهِ لم يَضُرَّهُ الْمُدَاوَمَةُ على نَوْعٍ وَاحِدٍ من الصَّغَائِرِ إذَا غَلَبَتْ الطَّاعَاتُ وَعَلَى الْأَوَّلِ تَضُرُّهُ قال ابن الرِّفْعَةِ وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّ مُدَاوَمَةَ النَّوْعِ تَضُرُّ على الْوَجْهَيْنِ أَمَّا على الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا على الثَّانِي فَلِأَنَّهُ في ضِمْنِ حِكَايَتِهِ قال إنَّ الْإِكْثَارَ من النَّوْعِ الْوَاحِدِ كَالْإِكْثَارِ من الْأَنْوَاعِ وَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ معه التَّفْصِيلُ نعم يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِيمَا إذَا أتى بِأَنْوَاعٍ من الصَّغَائِرِ فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ لم يَضُرَّ وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي ضَرَّ ويتفرع على اشتراط العدالة مسائل أحدها عدم قبول خبر الفاسق والفسق نوعان أحدهما من حيث الأفعال فلا خلاف في رده
____________________
(3/337)
الثاني من جهة الاعتقاد كالمبتدعة وفيه خلاف وحكى مسلم في صحيحه الإجماع على رد خبر الفاسق قال إنه غير مقبول عند أهل العلم كما أن شهادته مردودة عند جميعهم وذكر إمام الحرمين أن الحنفية وإن باحوا بقبول شهادة الفاسق فلم يبوحوا بقبول روايته فإن قال به قائل فهو مسبوق بالإجماع وللمقدم على الفسق أحوال أحدها أن يعلم حرمة ما أقدم عليه والإجماع على رده كذا قال في المحصول وغيره ويتجه تقييده بالمقطوع بكونه فسقا أما المظنون فيشبه تخريج خلاف فيه إذ حكوا وجها فيمن شرب النبيذ وهو يعتقد تحريمه أن شهادته لا ترد والرواية ملحقة بالشهادة فيما يرجع إلى العدالة الثاني أن يقدم على الفسق معتقدا جوازه لشبهة أو تقليد فأقوال ثالثها الفرق بين المظنون والمقطوع وهو ظاهر كلام الشافعي رضي الله عنه فإنه قال في المظنونات أقبل شهادة الحنفي إذا شرب النبيذ وأحده وقال في القطعيات أقبل شهادة أهل البدع والأهواء إلا الخطابية من الرافضة لأنهم يرون شهادة الزور لموافقيهم وحكي في المحصول الاتفاق في المظنون على القبول قال الهندي والأظهر ثبوت الخلاف فيه كما في الشهادة وهذا من الشافعي في المقطوع به إذا لم ير صاحبه جواز الكذب والأكثرون قبلوا روايته وهو اختيار الغزالي والإمام الرازي وأبي الحسين البصري وقال ابن الصباغ في العدة إذا كان فسقه من جهة الاعتقاد لم يرد خبره وقد قبل التابعون أخبار الخوارج وقال الشافعي لا أرد شهادة أهل الأهواء واختار القاضي أبو بكر والجبائي وأبو هاشم عدم القبول وقد نازع في كونه صورة النبيذ ونحوها من الفسق المظنون طائفتان فطائفة قالت ليس هو من الفسق أصلا لأنه مجتهد فيه والمسائل الاجتهادية لا إنكار فيها على المخالف ولا فسق لأن كل مجتهد مصيب أو المصيب واحد لا نعلمه ولا إثم على المخطئ وإلى هذا جنح العبدري في شرح المستصفى وطائفة قالت بل هو من المقطوع به لأن الحد إنما يصح مع التفسيق والفسق رد الشهادة ولهذا قال مالك أحده ولا أقبل شهادته وإلى هذا جنح ابن الحاجب والقرافي وجعل ذلك من الشافعي تناقضا
____________________
(3/338)
لكن الشافعي حقق اختلاف الجهتين فقال الحد للزجر فلم يراع فيه مذهب الشارب للنبيذ والشهادة ترد للكبيرة وهذا يتأول فيمن شرب معتقدا إباحة فعذر بتأويله الثالث أن يقدم غير معتقد بحل ولا حرمة عالما بالخلاف في إباحته وحظره فيحد وفي فسقه ورد شهادته وجهان حكاهما الماوردي ولا يبعد تخريجهما في الرواية أحدهما أنه فاسق مردود الشهادة لأن ترك الإرشاد في الشبهات تهاون والثاني لا يفسق لأن اعتقاد الإباحة أغلظ من التعاطي ولا يفسق معتقد الإباحة الثانية من ظهر عناده فيما ذهب إليه لا تقبل روايته لأنه كذب مع علمه به الثالثة إذا ثبت أن عدالة الراوي شرط فله ثلاثة أحوال لأنه إما أن يعلم عدالته ولا إشكال في قبوله وإما أن يعلم جرحه فلا إشكال في رده وإما أن يجهل حاله وَلَهُ أَحْوَالٌ الرَّاوِي الْمَجْهُولُ الْحَالِ أَحَدُهَا مَجْهُولُ الْحَالِ في الْعَدَالَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مع كَوْنِهِ مَعْرُوفَ الْعَيْنِ بِرِوَايَةِ عَدْلَيْنِ عنه وَفِيهِ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا وهو قَوْلُ الْجَمَاهِيرِ كما حَكَاهُ ابن الصَّلَاحِ أَنَّ رِوَايَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَالثَّانِي تُقْبَلُ مُطْلَقًا وَالثَّالِثُ إنْ كان الرَّاوِيَانِ أو الرُّوَاةُ عنه لَا يَرْوُونَ عن غَيْرِ عَدْلٍ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا الرَّاوِي الْمَسْتُورُ الْحَالِ الثَّانِي الْمَجْهُولُ بَاطِنًا وهو عَدْلٌ في الظَّاهِرِ وهو الْمَسْتُورُ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يُقْبَلُ ما لم يُعْلَمْ الْجَرْحُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُقْبَلُ ما لم تُعْلَمْ الْعَدَالَةُ كَالشَّهَادَةِ وَكَذَا قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَمِمَّنْ نَقَلَهُ عن جَزْمِ الشَّافِعِيُّ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وَنَقَلَهُ إلْكِيَا عن الْأَكْثَرِينَ وَنَقَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ عن مُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ وقال نُصَّ في كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ على أَنَّ خَبَرَ الْمَسْتُورِ كَخَبَرِ الْفَاسِقِ وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَالْعَدْلِ وهو قِيَاسُ قَوْلِهِ في الشَّهَادَةِ قال أبو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ في أَدَبِ الْجَدَلِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ على قَوْلِهِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَإِنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ على جَهَالَةِ الْحَالِ وَالْفَرْقُ أَنَّ في الشَّهَادَةِ خَصْمًا يُطَالِبُ
____________________
(3/339)
بِالْعَدَالَةِ فَجَازَ لِلْقَاضِي الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ إذَا تَرَكَ الْخَصْمُ حَقَّهُ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ كما قُلْنَا بِالِاتِّفَاقِ في الشَّهَادَةِ بِالْحُدُودِ وَوَافَقَ الْحَنَفِيَّةَ مِنَّا الْأُسْتَاذُ أبو بَكْرِ بن فُورَكٍ كما رَأَيْت نَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ في كِتَابِهِ وَكَذَا وَافَقَهُمْ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في كِتَابِ التَّقْرِيبِ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْإِخْبَارَ مَبْنِيٌّ على حُسْنِ الظَّنِّ بِالرَّاوِي وَلِأَنَّ رِوَايَةَ الْأَخْبَارِ تَكُونُ عِنْدَ من يَتَعَذَّرُ عليه مَعْرِفَةُ الْعَدَالَةِ في الْبَاطِنِ فَاقْتُصِرَ فيه على مَعْرِفَةِ ذلك في الظَّاهِرِ وَيُفَارِقُ الشَّهَادَةَ فَإِنَّهَا تَكُونُ عِنْدَ الْحُكَّامِ وَلَا يَتَعَذَّرُ عليهم ذلك فَاعْتُبِرَ فيها الْعَدَالَةُ في الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ قال ابن الصَّلَاحِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ على هذا الرَّأْيِ في كَثِيرٍ من كُتُبِ الحديث الْمَشْهُورَةِ في غَيْرِ وَاحِدٍ من الرُّوَاةِ الَّذِينَ تَقَادَمَ الْعَهْدُ بِهِمْ وَتَعَذَّرَتْ الْخِبْرَةُ الْبَاطِنَةُ بِهِمْ وَإِلَى نَحْوِهِ مَالَ ابن عبد الْبَرِّ فِيمَنْ عُرِفَ بِحَمْلِ الْعِلْمِ وَسَنَذْكُرُهُ قُلْت وَذَكَرَ الْأَصْفَهَانِيُّ أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ من الْحَنَفِيَّةِ قَيَّدُوا ما سَبَقَ عَنْهُمْ بِصَدْرِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ الْغَالِبُ على الناس الْعَدَالَةُ وَأَمَّا الْمَسْتُورُ في زَمَانِنَا فَلَا يُقْبَلُ لِكَثْرَةِ الْفَسَادِ وَقِلَّةِ الرَّشَادِ وَإِنَّمَا كان يُقْبَلُ في زَمَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وقال أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ في التَّقْوِيمِ الْمَجْهُولُ خَبَرُهُ حُجَّةٌ إنْ نَقَلَ عنه السَّلَفُ وَعَمِلُوا بِهِ أو سَكَتُوا عن رَدِّهِ فَإِنْ لم يَظْهَرْ فَيُعْمَلْ بِهِ ما لم يُخَالِفْ الْقِيَاسَ انْتَهَى وَهَذَا تَفْصِيلٌ في الْمَسْأَلَةِ وقد جَرَتْ عَادَةُ ابْنِ حِبَّانَ في كِتَابِ الثِّقَاتِ أَنْ يُوَثِّقَ من كان في الطَّبَقَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ من التَّابِعِينَ قال بَعْضُ الْأَئِمَّةِ اسْتَقْرَيْت ذلك منه لِغَلَبَةِ السَّلَامَةِ على ذلك الْعَصْرِ مع عَدَمِ ظُهُورِ ما يَقْتَضِي التَّضْعِيفَ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ يُوقَفُ وَيَجِبُ الِانْكِفَافُ إذَا رُوِيَ التَّحْرِيمُ إلَى الظُّهُورِ فَتَحَصَّلْنَا على أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ وَأَطْلَقَ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ الْمُهَذَّبِ تَصْحِيحَ قَبُولِ رِوَايَةِ الْمَسْتُورِ وَرُبَّمَا أَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ على انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِمَسْتُورِي الْعَدَالَةِ فَالرِّوَايَةُ أَوْلَى وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ وقال قَبُولُ رِوَايَةِ الْمَسْتُورِ إنَّمَا تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْقَضَاءِ بِالنِّكَاحِ لَا مَنْزِلَةَ انْعِقَادِ النِّكَاحِ وَالنِّكَاحُ لَا يُقْضَى فيه عِنْدَ التَّجَاحُدِ بِشَهَادَةِ مَسْتُورٍ فَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْمَشْهُورِ وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ إنْ كان الشَّافِعِيُّ قد اعْتَقَدَ أَنَّ شُهُودَ النِّكَاحِ عُدُولٌ في ظَاهِرِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ نَاقَضَ ما قَالَهُ في حَدِّ الْعَدَالَةِ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ
____________________
(3/340)
الْإِسْلَامَ أَصْلُ الْعَدَالَةِ وَمُعْظَمُهَا وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ وَحْدَهُ عَدَالَةً فَذَلِكَ بَعِيدٌ من قَوْلِهِ انْتَهَى وَجَوَابُهُ ما ذُكِرَ وَأَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ كَلَامَهُ في اخْتِلَافِ الحديث أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْمَجْهُولُ وهو الذي نَقَلَهُ عنه الْبَيْهَقِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْمَسْتُورِ من يَكُونُ عَدْلًا في الظَّاهِرِ وَلَا تُعْرَفُ عَدَالَتُهُ بَاطِنًا قَالَهُ الْبَغَوِيّ وَالرَّافِعِيُّ وَذُكِرَ في كِتَابِ الصِّيَامِ تَبَعًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ أَنَّ الْعَدَالَةَ الْبَاطِنَةَ هِيَ التي تَرْجِعُ فيها الْقُضَاةُ إلَى قَوْلِ الْمُزَكِّينَ وَسَبَقَ عن النَّصِّ في اخْتِلَافِ الحديث ما يُؤَيِّدُهُ وَفَسَّرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمَسْتُورَ بِاَلَّذِي لم يَظْهَرْ منه نَقِيضُ الْعَدَالَةِ ولم يَبْقَ الْبَحْثُ على الْبَاطِنِ في عَدَالَتِهِ وَكَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ وَمِنْهُمْ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ صَرِيحٌ في أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ الِاسْتِقَامَةُ بِلُزُومِ أَدَاءِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَتَجَنُّبِ مَنَاهِيهِ وما يَثْلِمُ مُرُوءَتَهُ أَيْ سَوَاءٌ ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَمْ لَا قال الْقَاضِي وَلَا يَكْفِيهِ اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ حتى يَتَوَقَّى مع ذلك لِمَا يقول كَثِيرٌ من الناس إنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَغِيرَةً كَالضَّرْبِ الْخَفِيفِ وَتَطْفِيفِ الدَّانِقِ وَنَحْوِهِ الثَّالِثُ مَجْهُولُ الْعَيْنِ وهو من لم يَشْتَهِرْ ولم يَرْوِ عنه إلَّا رَاوٍ وَاحِدٌ فَالصَّحِيحُ لَا يُقْبَلُ وَقِيلَ يُقْبَلُ مُطْلَقًا وهو قَوْلُ من لم يَشْتَرِطْ في الرَّاوِي مَزِيدًا على الْإِسْلَامِ وَقِيلَ إنْ كان الْمُنْفَرِدُ بِالرِّوَايَةِ عنه لَا يَرْوِي إلَّا عن عَدْلٍ كَابْنِ مَهْدِيٍّ وَيَحْيَى بن سَعِيدٍ فَاكْتَفَيْنَا في التَّعْدِيلِ بِوَاحِدٍ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا وَقِيلَ إنْ كان مَشْهُورًا في غَيْرِ الْعِلْمِ بِالزُّهْدِ وَالنَّجْدَةِ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا وهو قَوْلُ ابْنِ عبد الْبَرِّ وَقِيلَ إنْ زَكَّاهُ أَحَدٌ من أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مع رِوَايَتِهِ وَأَخَذَهُ عنه قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا وهو اخْتِيَارُ أبي الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ الْمُحَدِّثِ صَاحِبِ كِتَابِ الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ قال الْخَطِيبُ وَأَقَلُّ ما تَرْتَفِعُ بِهِ الْجَهَالَةُ أَنْ يَرْوِيَ عنه اثْنَانِ فَصَاعِدًا من الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ إلَّا أَنَّهُ لم يَثْبُتْ له حُكْمُ الْعَدَالَةِ بِرِوَايَتِهِمَا عنه وقد رَوَيْنَا ذلك عن مُحَمَّدِ بن يحيى الذُّهْلِيِّ وَغَيْرِهِ قُلْت وَظَاهِرُ تَصَرُّفِ ابْنِ حِبَّانَ في ثِقَاتِهِ وَصَحِيحِهِ ارْتِفَاعُ الْجَهَالَةِ بِرِوَايَةِ عَدْلٍ وَاحِدٍ وَحُكِيَ ذلك عن النَّسَائِيّ أَيْضًا وقال أبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ ذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِ الحديث إلَى أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا رَوَى عنه وَاحِدٌ فَقَطْ فَهُوَ مَجْهُولٌ وإذا رَوَى عنه اثْنَانِ فَصَاعِدًا فَهُوَ مَعْلُومٌ انْتَفَتْ عنه الْجَهَالَةُ قال وَهَذَا ليس بِصَحِيحٍ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ من أَصْحَابِ الْأُصُولِ لِأَنَّهُ قد يَرْوِي الْجَمَاعَةُ عن الرَّجُلِ لَا يَعْرِفُونَ وَلَا يُخْبِرُونَ شيئا من
____________________
(3/341)
أَمْرِهِ وَيُحَدِّثُونَ بِمَا رَوَوْا عنه وَلَا تُخْرِجُهُ رِوَايَتُهُمْ عنه عن الْجَهَالَةِ إذَا لم يَعْرِفُوا عَدَالَتَهُ قُلْت مُرَادُ الْمُحَدِّثِينَ ارْتِفَاعُ جَهَالَةِ الْعَيْنِ لَا الْحَالِ وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّ رِوَايَةَ الِاثْنَيْنِ بِمَنْزِلَةِ التَّرْجَمَةِ في الشَّهَادَةِ قَبُولُ رِوَايَةِ التَّائِبِ عن الْكَذِبِ الرَّابِعَةُ من عُرِفَ بِالْكَذِبِ في أَحَادِيثِ الناس لم تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ وَإِنْ كان يُصَدَّقُ في حديث النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حَكَاهُ عبد الْوَهَّابِ عن مَالِكٍ وَأَمَّا إذَا تَعَمَّدَ الْكَذِبَ في أَحَادِيثِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ أَبَدًا وَإِنْ تَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ كما قَالَهُ جَمَاعَةٌ من الْأَئِمَّةِ منهم أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ وأبو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ بِخِلَافِ التَّائِبِ من الْكَذِبِ في حديث الناس قال ابن الصَّلَاحِ وَأَطْلَقَ أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ في شَرْحِهِ لِرِسَالَةِ الشَّافِعِيِّ كُلُّ من أَسْقَطْنَا خَبَرَهُ من أَهْلِ النَّقْلِ بِكَذِبٍ وَجَدْنَاهُ عليه لم نَعُدْ لِقَبُولِهِ بِتَوْبَةٍ تَظْهَرُ منه وَمَنْ ضَعَّفْنَا نَقْلَهُ لم نَجْعَلْهُ قَوِيًّا بَعْدَ ذلك وَذَكَرَ أَنَّ ذلك مِمَّا فَارَقَتْ فيه الرِّوَايَةُ الشَّهَادَةَ قال وَذَكَرَ أبو الْمُظَفَّرِ بن السَّمْعَانِيِّ أَنَّ من يَكْذِبُ في خَبَرٍ وَاحِدٍ وَجَبَ إسْقَاطُ ما تَقَدَّمَ من حَدِيثِهِ قُلْت وَكَذَا قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ من كَذَبَ في حَدِيثٍ رُدَّ بِهِ جَمِيعُ أَحَادِيثِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَوَجَبَ نَقْضُ ما عُمِلَ بِهِ منها وَإِنْ لم يَنْتَقِضْ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ من حُدِّثَ فِسْقُهُ لِأَنَّ الحديث حُجَّةٌ لَازِمَةٌ لِجَمِيعِ الناس فَكَانَ حُكْمُهُ أَغْلَظَ ا هـ وَحَكَى الرُّويَانِيُّ في بَابِ الرُّجُوعِ عن الشَّهَادَةِ عن الْقَفَّالِ أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا كَذَبَ في حديث النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لم يُقْبَلْ حَدِيثُهُ أَبَدًا وَكَذَا قال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ من قال كَذَبْت في هذا الحديث فَقَدْ فَسَقَ ولم يُؤْخَذْ بَعْدَ ذلك بِحَدِيثٍ حَدَّثَ بِهِ قَبْلَهُ أو بَعْدَهُ قال ثُمَّ إنْ كان له رَاوٍ غَيْرَهُ اُكْتُفِيَ بِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ له رَاوٍ غَيْرَهُ فَقَدْ كان بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجْعَلُ ذلك كَالشَّهَادَةِ وَيَقْبَلُهُ وَبَعْضُهُمْ قال وَلَيْسَ هذا مُتَعَلِّقًا بِالشَّهَادَةِ وَإِلَّا لَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِضَ الْحُكْمُ وَلَا يُسْمَعُ ما لم يَنْفُذْ الْحُكْمُ وَيُقْبَلُ رُجُوعُهُ فِيمَا حُكِمَ وَفِيمَا لم يُحْكَمْ يُعْلَمُ أَنَّ أَخْبَارَهُ كُلَّهَا مَرْدُودَةٌ قال وَجُمْلَتُهُ أَنَّ من قال إذَا رُجِعَ عن خَبَرٍ لَا أَحْكُمُ بِهِ وَمَتَى حَكَمْت بِهِ لم أَنْقُضْ فَأَجْرَاهُ مَجْرَى الشَّهَادَةِ إذَا فَسَقَ قال وَأَمَّا إذَا ارْتَدَّ أو عَمِلَ بِمَا يُوجِبُ رِدَّتَهُ أو فِسْقَهُ لم يُمْنَعْ من قَبُولِ ما تَقَدَّمَ من أَخْبَارِهِ ا ه
____________________
(3/342)
وما حَكَاهُ عن بَعْضِ الْأَصْحَابِ هو الذي أَجَابَ بِهِ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ الشَّامِيُّ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ خَبَرَهُ فِيمَا رُدَّ وَيَقْبَلُ في غَيْرِهِ اعْتِبَارًا بِالشَّهَادَةِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَظَهَرَ بهذا أَنَّ قَوْلَ النَّوَوِيِّ الْمُخْتَارُ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ تَوْبَتِهِ وَقَبُولِ رِوَايَاتِهِ بَعْدَهَا ليس بِمُوَافِقٍ اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ في الْمُعَامَلَاتِ الْخَامِسَةُ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ الْعَدَالَةُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ في خَبَرِ الْوَاحِدِ في الشَّهَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَالسُّنَنِ أَمَّا في الْمُعَامَلَاتِ فَلَا بَلْ الْمُعْتَبَرُ فيها سُكُونُ النَّفْسِ إلَى خَبَرِهِ فإذا قال هذه هَدِيَّةُ فُلَانٍ جَازَ قَبُولُهَا وَالتَّصَرُّفُ فيها وَكَذَا الْإِذْنُ في دُخُولِ الدَّارِ وَتَأْتِي مَسْأَلَةٌ في الصَّبِيِّ ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ في بَابِ التَّيَمُّمِ من الْحَاوِي أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ فَأَرَادَ الطَّلَبَ قبل التَّيَمُّمِ فَأَخْبَرَهُ فَاسِقٌ أَنَّهُ لَا مَاءَ في تِلْكَ الْجِهَةِ فإنه يُعْتَمَدُ عليه فيه بِخِلَافِهِ ما إذَا أخبره بِوُجُودِ الْمَاءِ فإنه لَا يَعْتَمِدُهُ وَسَبَبُهُ أَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ هو الْأَصْلُ فَيَتَقَوَّى خَبَرُ الْفَاسِقِ بِهِ بِخِلَافِ وُجُودِ الْمَاءِ السَّادِسَةُ قَالَا أَيْضًا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ عن غَيْرِ الْعَدْلِ في الْمَشَاهِيرِ وَلَا تَجُوزُ في الْمَنَاكِيرِ السَّابِعَةُ أَصْحَابُ الْحِرَفِ الدَّنِيئَةِ كَالدَّبَّاغِ وَالْجَزَّارِ وما أَشْبَهَهُمَا إذَا حَسُنَتْ طَرِيقَتُهُمْ في الدِّينِ لَا نَصَّ فيه وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ أَخْبَارَهُمْ تَنْبَنِي على الْوَجْهَيْنِ في شَهَادَتِهِمْ فَإِنْ قُلْنَا تُقْبَلُ فَرِوَايَتُهُمْ أَوْلَى وَإِنْ قُلْنَا لَا تُقْبَلُ فَفِي رِوَايَاتِهِمْ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الْقَبُولُ لِأَنَّ هذه مَكَاسِبُ مُبَاحَةٌ وَبِالنَّاسِ إلَيْهَا حَاجَةٌ وَالثَّانِي لَا تُقْبَلُ لِمَا فيها من اخْتِرَامِ الْمُرُوءَةِ الثَّامِنَةُ تَعَاطِي الْمُبَاحَاتِ الْمُسْقِطَةِ لِلْمُرُوءَةِ كَالْجُلُوسِ لِلنُّزْهَةِ على قَارِعَةِ الطُّرُقِ وَالْأَكْلِ فيه وَصُحْبَةِ أَرَاذِلِ الْعَامَّةِ قال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ فَعِنْدَ قَوْمٍ أَنَّهُ شَرْطٌ في عَدَالَةِ الرَّاوِي وَعِنْدَنَا أَنَّ ذلك مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْعَالِمِ وَالْحَاكِمِ
____________________
(3/343)
فَصْلٌ الطَّرِيقُ الذي تَثْبُتُ الْعَدَالَةُ بِهِ وإذا عَرَفْت أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فَلَا بُدَّ من طَرِيقِهَا فَنَقُولُ تَثْبُتُ عَدَالَةُ الرَّاوِي بِالِاخْتِبَارِ أو التَّزْكِيَةِ أَمَّا الِاخْتِبَارُ فَهُوَ الْأَصْلُ إذْ التَّزْكِيَةُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِهِ وهو إنَّمَا يَحْصُلُ بِاعْتِبَارِ أَحْوَالِهِ وَاخْتِبَارِ سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ بِطُولِ الصُّحْبَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ سَفَرًا وَحَضَرًا وَالْمُعَامَلَةِ معه وَلَا يُشْتَرَطُ عَدَمُ مُوَافَقَةِ الصَّغِيرَةِ وَلَكِنْ إذَا لم يُعْثَرْ منه على كَبِيرَةٍ تُهَوِّنُ على مُرْتَكِبِهَا الْأَكَاذِيبَ وَافْتِعَالَ الْأَحَادِيثِ وَلَا تُسْقِطُ الثِّقَةَ وَأَمَّا التَّزْكِيَةُ فَبِأُمُورٍ منها تَنْصِيصُ عَدْلَيْنِ على عَدَالَتِهِ كَالشَّهَادَةِ وَأَعْلَاهُ أَنْ يَذْكُرَ السَّبَبَ معه وهو تَعْدِيلٌ بِاتِّفَاقٍ وَدُونَهُ أَنْ لَا يَذْكُرَهُ وَإِنَّمَا انْحَطَّ عَمَّا قَبْلَهُ لِلِاخْتِلَافِ فيه وَأَنَّهُ لَا بُدَّ من ذِكْرِ السَّبَبِ على قَوْلٍ وَيَكْفِي أَنْ يَقُولَ هو عَدْلٌ وَقِيلَ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ عَدْلٌ لي وَعَلَيَّ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهَذَا تَأْكِيدٌ وقال الْقُرْطُبِيُّ عِنْدَنَا لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ عَدْلٌ مَرْضِيٌّ وَلَا يَكْفِي الِاقْتِصَارُ على أَحَدِهِمَا وَلَا يَلْزَمُهُ زِيَادَةٌ عَلَيْهِمَا وَهَلْ تَثْبُتُ بِوَاحِدٍ فيه أَقْوَالٌ أَحَدُهَا لَا لِاسْتِوَاءِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَحَكَاهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ عن أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ من أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ وقال الْإِبْيَارِيُّ هو قِيَاسُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالثَّانِي الِاكْتِفَاءُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي لِأَنَّهَا نِهَايَةُ الْخَبَرِ قال الْقَاضِي وَاَلَّذِي يُوجِبُهُ الْقِيَاسُ وُجُوبُ قَبُولِ تَزْكِيَةِ كل عَدْلٍ مَرْضِيٍّ ذَكَرٍ أو أُنْثَى حُرٍّ أو عَبْدٍ لِشَاهِدٍ وَمُخْبِرٍ وَالثَّالِثُ الْفَرْقُ بين الشَّهَادَةِ فَيُشْتَرَطُ فيها اثْنَانِ وَالرِّوَايَةُ يُكْتَفَى فيها بِوَاحِدٍ كما يُكْتَفَى بِهِ في الْأَصْلِ لِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يَزِيدُ على الْأَصْلِ وَهَذَا هو الصَّحِيحُ وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ عن الْأَكْثَرِينَ قال ابن الصَّلَاحِ وهو الصَّحِيحُ الذي اخْتَارَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ لِأَنَّ الْعَدَدَ لَا يُشْتَرَطُ في قَبُولِ الْخَبَرِ فَلَا تُشْتَرَطُ في جَرْحِ رِوَايَتِهِمْ وَتَعْدِيلِهِمْ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ
____________________
(3/344)
وَحَاصِلُ الْخِلَافِ كما قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ أَنَّ تَعْدِيلَ الرَّاوِي هل يَجْرِي مَجْرَى الْخَبَرِ أو مَجْرَى الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ حُكْمٌ على غَائِبٍ قَالَا وفي جَوَازِ كَوْنِ الْمُحَدِّثِ أَحَدَهُمَا وَجْهَانِ كما لو عُدِلَ بِشُهُودِ الْأَصْلِ وَجَعَلَا الْخِلَافَ السَّابِقَ في التَّعْدِيلِ وَجَزَمَا في الْجَرْحِ بِالتَّعَدُّدِ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ على بَاطِنٍ مَغِيبٍ وَأَجْرَى الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ الْخِلَافَ فيه كَالتَّعْدِيلِ بِوَاحِدٍ تَزْكِيَةُ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَحَيْثُ اكْتَفَيْنَا بِتَعْدِيلِ الْوَاحِدِ فَأُطْلِقَ في الْمَحْصُولِ قَبُولُ تَزْكِيَةِ الْمَرْأَةِ وَحَكَى الْقَاضِي أبو بَكْرٍ عن أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ النِّسَاءُ في التَّعْدِيلِ لَا في الشَّهَادَةِ وَلَا في الرِّوَايَةِ ثُمَّ اخْتَارَ قَبُولَ قَوْلِهَا فِيهِمَا كما تُقْبَلُ رِوَايَتُهَا وَشَهَادَتُهَا في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَأَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَبْدِ فقال الْقَاضِي يَجِبُ قَبُولُهَا في الْخَبَرِ دُونَ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ خَبَرَهُ مَقْبُولٌ وَشَهَادَتَهُ مَرْدُودَةٌ وَبِهِ جَزَمَ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَغَيْرُهُ قال الْخَطِيبُ وَالْأَصْلُ في هذا سُؤَالُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بَرِيرَةَ في قِصَّةِ الْإِفْكِ عن حَالِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَجَوَابُهَا له وَمِنْهَا أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِ قَالَهُ الْقَاضِي وَالْإِمَامُ وَغَيْرُهُمَا وقال الْقَاضِي وهو أَقْوَى من تَزْكِيَتِهِ بِاللَّفْظِ وَحَكَى الْهِنْدِيُّ فيه الِاتِّفَاقَ لِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِ إلَّا وهو عَدْلٌ عِنْدَهُ قال وهو أَقْوَى من الطَّرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَهُ وَقَيَّدَهُ الْآمِدِيُّ بِمَا إذَا لم يَكُنْ الْحَاكِمُ مِمَّنْ يَرَى قَبُولَ الْفَاسِقِ الذي لَا يَكْذِبُ وهو قَيْدٌ صَحِيحٌ يَأْتِي في الْعَمَلِ بِخَبَرِهِ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَهَذَا قَوِيٌّ إذَا مَنَعْنَا حُكْمَ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ أَمَّا إذَا أَجَزْنَا فَعِلْمُهُ بِالشَّهَادَةِ ظَاهِرًا يَقُومُ معه احْتِمَالٌ أَنَّهُ حُكْمٌ بِعِلْمِهِ بَاطِنًا قُلْت وَحِينَئِذٍ يُتَّجَهُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَعْلَمَ يَقِينًا أَنَّهُ حُكْمٌ بِشَهَادَتِهِ فَتَعْدِيلٌ وَأَنْ لَا يَعْلَمَهُ فَلَا وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْعَبْدَرِيُّ شَارِحُ الْمُسْتَصْفَى
____________________
(3/345)
وَمِنْهَا الِاسْتِفَاضَةُ فَمَنْ اُشْتُهِرَتْ عَدَالَتُهُ بين أَهْلِ الْعِلْمِ وَشَاعَ الثَّنَاءُ عليه بِالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ اُسْتُغْنِيَ بِذَلِكَ عن تَعْدِيلِهِ قَضَاءً قال ابن الصَّلَاحِ وَهَذَا هو الصَّحِيحُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَمِمَّنْ ذَكَرَهُ من الْمُحَدِّثِينَ الْخَطِيبُ وَنَقَلَهُ مَالِكٌ وَشُعْبَةَ وَالسُّفْيَانَانِ وَأَحْمَدُ وابن مَعِينٍ وابن الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُمْ فَلَا يُسْأَلُ عَنْهُمْ وقد سُئِلَ أَحْمَدُ عن إِسْحَاقَ بن رَاهْوَيْهِ فقال مِثْلُ إِسْحَاقَ يُسْأَلُ عنه وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ الشَّاهِدُ وَالْمُخْبِرُ يَحْتَاجَانِ إلَى التَّزْكِيَةِ مَتَى لم يَكُونَا مَشْهُورَيْنِ بِالْعَدَالَةِ وَالرِّضَا وكان أَمْرُهُمَا مُشْكِلًا مُلْتَبِسًا وَيَجُوزُ فيه الْعَدَالَةُ وَغَيْرُهَا لِأَنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ من الِاسْتِفَاضَةِ أَقْوَى من تَعْدِيلِ وَاحِدٍ وَاثْنَيْنِ يَجُوزُ عَلَيْهِمَا الْكَذِبُ وَالْمُحَابَاةُ في تَعْدِيلِهِ وقال ابن عبد الْبَرِّ كُلُّ حَامِلِ عِلْمٍ مَعْرُوفٌ بِالْعِنَايَةِ بِهِ فَهُوَ عَدْلٌ مَحْمُولٌ في أَمْرِهِ على الْعَدَالَةِ حتى يَتَبَيَّنَ جَرْحُهُ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يَحْمِلُ هذا الْعِلْمَ من كل خَلْفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عنه تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَبِعَهُ على ذلك جَمَاعَةٌ من الْمَغَارِبَةِ وَهَذَا أَوْرَدَهُ الْعُقَيْلِيُّ في ضُعَفَائِهِ من جِهَةِ مُعَافَى بن رِفَاعَةَ السُّلَامِيِّ عن إبْرَاهِيمَ بن عبد الرحمن الْعُذُرِيِّ وقال لَا يُعْرَفُ إلَّا بِهِ وهو مُرْسَلٌ أو مُعْضَلٌ ضَعِيفٌ وَإِبْرَاهِيمُ الذي أَرْسَلَهُ قال فيه ابن الْقَطَّانِ لَا نَعْرِفُهُ أَلْبَتَّةَ في شَيْءٍ من الْعِلْمِ غير هذا لَكِنْ في كِتَابِ الْعِلَلِ لِلْخَلَّالِ سُئِلَ أَحْمَدُ عن هذا الحديث فَقِيلَ له كما تَرَى إنَّهُ مَوْضُوعٌ فقال لَا هو صَحِيحٌ قال ابن الصَّلَاحِ وَفِيمَا قَالَهُ اتِّسَاعٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ وَمِنْهَا أَنْ يُعْمَلَ بِخَبَرِهِ إذَا تَحَقَّقَ أَنَّ مُسْتَنَدَهُ ذلك الْخَبَرُ ولم يَكُنْ عَمَلُهُ على الِاحْتِيَاطِ فَهُوَ تَعْدِيلٌ حَكَاهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ عن الْأَصْحَابِ وَنَقَلَ الْآمِدِيُّ فيه الِاتِّفَاقَ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ فَقَدْ حَكَى الْخِلَافَ فيه الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَالْغَزَالِيُّ في
____________________
(3/346)
الْمَنْخُولِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ فيه أَقْوَالٌ أَحَدُهَا أَنَّهُ تَعْدِيلٌ له وَالثَّانِي ليس بِتَعْدِيلٍ وَالثَّالِثُ قال وهو الصَّحِيحُ إنْ أَمْكَنَ أَنَّهُ عَمَلٌ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَوَافَقَ عَمَلَهُ من حَيْثُ الْخَبَرُ الذي رَوَاهُ فَعَمَلُهُ ليس بِتَعْدِيلٍ وَإِنْ بَانَ بِقَوْلِهِ أو بِقَرِينَةٍ إنَّمَا عُمِلَ بِالْخَبَرِ الذي رَوَاهُ ولم يُعْمَلْ بِغَيْرِهِ فَإِنْ كان ذلك من مَسَائِلِ الِاحْتِيَاطِ فَهُوَ تَعْدِيلٌ وَإِلَّا فَلَا وهو اخْتِيَارُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ قال وَفَرْقٌ بين قَوْلِنَا عَمَلٌ بِالْخَبَرِ وَبَيْنَ قَوْلِنَا عَمَلٌ بِمُوجِبِ الْخَبَرِ فإن الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مُسْتَنَدُهُ وَالثَّانِيَ لَا يَقْتَضِي ذلك لِجَوَازِ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ لِدَلِيلٍ غَيْرِهِ وقال الْغَزَالِيُّ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ حَمْلُ عَمَلِهِ على الِاحْتِيَاطِ فَلَا وَإِنْ لم يُمْكِنْ فَهُوَ كَالتَّعْدِيلِ لِأَنَّهُ يُحَصِّلُ الثِّقَةَ وَكَذَا قال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ إنْ كان الذي عُمِلَ بِهِ من بَابِ الِاحْتِيَاطِ ولم يَكُنْ من الْمَحْظُورَاتِ التي يَخْرُجُ الْمُتَحَلِّي بها عن سِمَةِ الْعَدَالَةِ لم يَكُنْ تَعْدِيلًا وَإِلَّا كان تَعْدِيلًا على التَّفْصِيلِ السَّابِقِ قال هذا كُلُّهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ ما عُمِلَ بِهِ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِظَاهِرٍ أو قِيَاسٍ جَلِيٍّ وقد يَنْقَدِحُ في خَاطِرِ الْفَقِيهِ أَنَّهُ وَإِنْ لم يُتَوَصَّلْ إلَيْهِ بِقِيَاسٍ أو ظَاهِرٍ أَمْكَنَ أَنَّهُ عَمَلٌ بِرِوَايَةِ غَيْرِهِ لِهَذَا الحديث لَا من رِوَايَتِهِ وَيُتَّجَهُ على هذا أَنَّهُ إذَا لم يَظْهَرْ عنه رِوَايَةٌ فَلَا مَحْمَلَ له إلَّا رِوَايَتُهُ قال وَمِنْ فُرُوعِ هذا قَبُولُ الْمُرْسَلِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ شَرَطَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنْ لَا يَكُونَ ذلك الْعَمَلُ مِمَّا لَا يُؤْخَذُ فيه بِالِاحْتِيَاطِ حتى يَجُوزَ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي احْتَاطَ لِلْعَمَلِ بِأَنْ أَخَذَ بِالرِّوَايَةِ قال وَهَذَا في الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ لِقَوْلِنَا أَوَّلًا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا عُدِلَ عن الحديث وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ ضَرْبٌ منه وَفَصَّلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بين أَنْ يُعْمَلَ بِذَلِكَ في التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فَلَا يُقْبَلُ لِأَنَّهُ يُتَسَامَحُ فيه بِالضَّعْفِ أو غَيْرِهِمَا فَيَكُونُ تَعْدِيلًا وهو حَسَنٌ وَأَمَّا تَرْكُ الْعَمَلِ بِمَا رَوَاهُ فَهَلْ يَكُونُ جَرْحًا قال الْقَاضِي إنْ تَحَقَّقَ تَرْكُهُ لِلْعَمَلِ بِالْخَبَرِ مع ارْتِفَاعِ الدَّوَافِعِ وَالْمَوَانِعِ وَتَقَرَّرَ عِنْدَنَا تَرْكُهُ مُوجَبَ الْخَبَرِ مع أَنَّهُ لو كان ثَابِتًا لَلَزِمَ الْعَمَلُ بِهِ فَيَكُونُ ذلك جَرْحًا وَإِنْ كان مَضْمُونُ الْخَبَرِ مِمَّا يَسُوغُ تَرْكُهُ ولم
____________________
(3/347)
يُتَبَيَّنْ قَصْدُهُ إلَى مُخَالَفَةِ الْخَبَرِ فَلَا يَكُونُ جَرْحًا كما لو عَمِلَ بِالْخَبَرِ وَجَوَّزْنَا أَنَّهُ كان ذلك بِخَبَرٍ آخَرَ فإنه ليس بِتَعْدِيلٍ وَمِنْهَا أَنْ يَرْوِيَ عنه من لَا يَرْوِي عن غَيْرِ الْعَدْلِ كَيَحْيَى بن سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَشُعْبَةَ وَمَالِكٍ فإنه يَكُونُ تَعْدِيلًا على الْمُخْتَارِ عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَابْنِ الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيِّ وَالْآمِدِيِّ وَالْهِنْدِيِّ وَالْبَاجِيِّ وَغَيْرِهِمْ لِشَهَادَةِ ظَاهِرِ الْحَالِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ في صَحِيحَيْهِمَا وقال الْمَازِرِيُّ هو قَوْلُ الْحُذَّاقِ وَهَذَا على قَوْلِنَا لَا حَاجَةَ لِبَيَانِ سَبَبِ التَّعْدِيلِ فَإِنْ رَوَى عنه من لم يَشْتَرِطْ الرِّوَايَةَ عن الْعَدْلِ فَلَيْسَ بِتَعْدِيلٍ لِأَنَّا رَأَيْنَاهُمْ يَرْوُونَ عن أَقْوَامٍ وَيَجْرَحُونَهُمْ لو سُئِلُوا عَنْهُمْ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ نعم هَاهُنَا أَمْرٌ آخَرُ وهو النَّظَرُ في الطَّرِيقِ التي منها يُعْرَفُ كَوْنُهُ لَا يَرْوِي إلَّا عن عَدْلٍ فَإِنْ كان ذلك بِتَصْرِيحِهِ فَهُوَ أَقْصَى الدَّرَجَاتِ وَإِنْ كان ذلك بِاعْتِبَارِنَا بِحَالِهِ في الرِّوَايَةِ وَنَظَرْنَا إلَى أَنَّهُ لم يَرْوِهِ من عَرَفْنَاهُ إلَّا عن عَدْلٍ فَهَذَا دُونَ الدَّرَجَةِ الْأُولَى وَهَلْ يُكْتَفَى بِذَلِكَ في قَبُولِ رِوَايَتِهِ عَمَّنْ لَا نَعْرِفُهُ فيه وَقْفَةٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِ الحديث مِمَّنْ قَارَبَ زَمَانُنَا زَمَانَهُ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ ا هـ وقال الْمَازِرِيُّ نَعْرِفُ ذلك من عَادَتِهِ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ يُعْرَفُ ذلك بِإِخْبَارِهِ صَرِيحًا أو عَرَفْنَاهُ بِالْقَرَائِنِ الْكَاشِفَةِ عن سِيرَتِهِ قال وَجَرَتْ عَادَةُ الْمُحَدِّثِينَ في التَّعْدِيلِ أَنْ يَقُولُوا فُلَانٌ عَدْلٌ رَوَى عنه مَالِكٌ أو الزُّهْرِيُّ أو هو من رِجَالِ الْمُوَطَّإِ أو من رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ وَالتَّحْقِيقُ في هذا أَنَّهُ إنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِالرِّوَايَةِ عن الْعَدْلِ وَغَيْرِهِ فَلَيْسَتْ رِوَايَتُهُ تَعْدِيلًا وَكَذَلِكَ إذَا لم يُعْلَمْ ذلك من حَالِهِ فإن من الْمُمْكِنِ رِوَايَتَهُ عن رَجُلٍ لم يُعْتَقَدْ عَدَالَتُهُ حتى إذَا اسْتَقْرَى أَحْوَالَهُ وَعَرَفَ عَدَالَتَهُ بِبَيِّنَةٍ فَلَا يَظْهَرُ بِذَلِكَ عَدَالَةُ الْمَرْوِيِّ عنه وَإِنْ اطَّرَدَتْ عَادَتُهُ بِالرِّوَايَةِ عَمَّنْ عَدَّلَهُ وَلَا يَرْوِي عن غَيْرِهِ أَصْلًا فَإِنْ لم يُعْلَمْ مَذْهَبُهُ في التَّعْدِيلِ فَلَا يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُ لِأَنَّهُ لو صَرَّحَ بِالتَّعْدِيلِ لم يُقْبَلْ فَكَيْفَ إذَا رُوِيَ وَإِنْ عَلِمْنَا مَذْهَبَهُ في التَّعْدِيلِ ولم يَكُنْ مُوَافِقًا لِمَذْهَبِنَا لم يُعْتَمَدْ تَعْدِيلُهُ وَرِوَايَتُهُ عنه وَإِنْ كان مُوَافِقًا عُمِلَ بِهِ ا هـ وَقِيلَ الرِّوَايَةُ تَعْدِيلٌ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ لو كان عِنْدَهُ غير عَدْلٍ لَكَانَ رِوَايَتُهُ عنه مع السُّكُوتِ عَبَثًا وَظَاهِرُ الْعَدْلِ التَّقِيِّ الِاحْتِرَازُ عن ذلك حَكَاهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ ثُمَّ قال وقد لَا يَعْلَمُهُ بِعَدَالَةٍ وَلَا جَرْحٍ وَحَكَاهُ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وابن فُورَكٍ عن الْقَاضِي إسْمَاعِيلَ بن إِسْحَاقَ في هذا وفي الشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ لم يَذْكُرْهُ
____________________
(3/348)
بِالْعَدَالَةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ على الْعَدَالَةِ حتى يُعْلَمَ خِلَافُهَا قَالَا وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ عَدْلًا وَعِنْدَ غَيْرِهِ ليس بِعَدْلٍ وَقِيلَ ليس بِتَعْدِيلٍ مُطْلَقًا كما أَنَّ تَرْكَهَا ليس بِجَرْحٍ وَبِهِ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وأبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ وَحُكِيَ عن أَكْثَرِ أَهْلِ الحديث وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ إنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَإِنَّهُ الصَّحِيحُ قال وَالْأَقْرَبُ فيه رِوَايَةُ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ عنه أو رِوَايَةُ الْعُدُولِ الْكَثِيرِ في أنها غَيْرُ تَعْدِيلٍ له قُلْت وَيَخْرُجُ من تَصَرُّفِ الْبَزَّارِ في مُسْنَدِهِ التَّعْدِيلُ إذَا رَوَى عنه كَثِيرٌ من الْعُدُولِ فَوَجَبَ إثْبَاتُ قَوْلٍ بِالتَّفْصِيلِ فَائِدَةٌ الْمُحَدِّثُونَ الَّذِينَ لَا يَرْوُونَ إلَّا عن عُدُولٍ ذَكَرَ ابن عبد الْبَرِّ الَّذِينَ عَادَتُهُمْ لَا يَرْوُونَ إلَّا عن عُدُولٍ ثَلَاثَةٌ شُعْبَةُ وَمَالِكٌ وَيَحْيَى بن سَعِيدٍ وَذَكَرَ الْخَطِيبُ عن عبد الرحمن بن مَهْدِيٍّ ذلك وَذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وزاد عليه مَالِكٌ وَيَحْيَى قال وقد يُوجَدُ في رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ الرِّوَايَةُ عن بَعْضِ الضُّعَفَاءِ لِخَفَاءِ حَالِهِ كَرِوَايَةِ مَالِكٍ عن عبد الْكَرِيمِ بن أبي الْمُخَارِقِ مَسْأَلَةٌ التَّعْدِيلُ الْمُبْهَمُ التَّعْدِيلُ الْمُبْهَمُ كَقَوْلِهِ حدثني الثِّقَةُ وَنَحْوُهُ من غَيْرِ أَنْ يُسَمِّيَهُ لَا يَكْفِي في التَّوْثِيقِ كما جَزَمَ بِهِ أبو بَكْرٍ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَالْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَالصَّيْرَفِيُّ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وابن الصَّبَّاغِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ قال وهو كَالْمُرْسَلِ قال ابن الصَّبَّاغِ وقال أبو حَنِيفَةَ يُقْبَلُ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كان عَدْلًا عِنْدَهُ فَرُبَّمَا لو سَمَّاهُ لَكَانَ مِمَّنْ جَرَحَهُ غَيْرُهُ بَلْ قال الْخَطِيبُ لو صَرَّحَ بِأَنَّ جَمِيعَ شُيُوخِهِ ثِقَاتٌ ثُمَّ رَوَى عَمَّنْ لم يُسَمِّهِ أَنَّا لَا نَعْمَلُ بِرِوَايَتِهِ لِجَوَازِ أَنْ نَعْرِفَهُ إذَا ذَكَرَهُ بِخِلَافِ الْعَدَالَةِ قال نعم لو قال الْعَالِمُ كُلُّ من أَرْوِي عنه وَأُسَمِّيهِ فَهُوَ عَدْلٌ مَرْضِيٌّ مَقْبُولُ الحديث كان هذا الْقَوْلُ تَعْدِيلًا لِكُلِّ من رَوَى عنه وَسَمَّاهُ كما سَبَقَ
____________________
(3/349)
وفي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخْرَى أَحَدُهَا أَنَّهُ يُقْبَلُ مُطْلَقًا كما لو عَيَّنَهُ لِأَنَّهُ مَأْمُونٌ في الْحَالِ وَالثَّانِي التَّفْصِيلُ بين من يُعْرَفُ من عَادَتِهِ إذَا قال أخبرني الثِّقَةُ أَنَّهُ أَرَادَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ وكان ثِقَةً فَيُقْبَلُ وَإِلَّا فَلَا حَكَاهُ شَارِحُ اللُّمَعِ الْيَمَانِيُّ عن صَاحِبِ الْإِرْشَادِ الثَّالِثُ وَحَكَاهُ ابن الصَّلَاحِ عن اخْتِيَارِ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ إنْ كان الْقَائِلُ لِذَلِكَ عَالِمًا أَجْزَأَ ذلك في حَقِّ من يُوَافِقُهُ في مَذْهَبِهِ كَقَوْلِ مَالِكٍ أخبرني الثِّقَةُ وَكَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ ذلك في مَوَاضِعَ وهو اخْتِيَارُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ ابْنِ الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ فإنه قال إنَّ الشَّافِعِيَّ لم يُورِدْ ذلك احْتِجَاجًا بِالْخَبَرِ على غَيْرِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ لِأَصْحَابِهِ قِيَامَ الْحُجَّةِ عِنْدَهُ على الْحُكْمِ وقد عَرَفَ هو من رَوَى عنه الْمُرَادُ بِالثِّقَةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ إنَّمَا يقول الشَّافِعِيُّ ذلك لِبَيَانِ مَذْهَبِهِ وما وَجَبَ عليه مِمَّا صَحَّ عِنْدَهُ من الْخَبَرِ ولم يَذْكُرْهُ احْتِجَاجًا على غَيْرِهِ وَقِيلَ إنَّهُ قد كان أَعْلَمَ أَصْحَابِهِ بِذَلِكَ وَلِهَذَا قِيلَ في بَعْضِهِمْ إنَّهُ أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ وفي بَعْضِهِمْ عَلِيُّ بن حَسَّانَ وفي بَعْضِهِمْ ابن أبي فُدَيْكٍ وَسَعِيدُ بن سَالِمٍ الْقَدَّاحُ وَغَيْرُهُمْ وَقِيلَ إنَّهُ ذُكِرَ فِيمَا يَثْبُتُ من طُرُقٍ مَشْهُورَةٍ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَأَمَّا تَعْبِيرُ الشَّافِعِيِّ بِذَلِكَ فَقَدْ اُشْتُهِرَ أَنَّهُ يَعْنِي بِهِ إبْرَاهِيمَ بن إسْمَاعِيلَ فَصَارَ كَالتَّسْمِيَةِ له وقال ابن بَرْهَانٍ اُخْتُلِفَ فيه فَقِيلَ إنَّهُ كان يُرِيدُ مَالِكًا وَقِيلَ بَلْ مُسْلِمُ بن خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ إلَّا أَنَّهُ كان يَرَى الْقَدَرَ فَاحْتَرَزَ عن التَّصْرِيحِ بِاسْمِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى ا هـ وقال أبو حَاتِمٍ إذَا قال الشَّافِعِيُّ أخبرني الثِّقَةُ عن ابْنِ أبي ذِئْبٍ فَهُوَ ابن أبي فُدَيْكٍ وإذا قال أخبرني الثِّقَةُ قال اللَّيْثُ بن سَعْدٍ فَهُوَ يحيى بن حَسَّانَ وإذا قال أخبرني الثِّقَةُ عن الْوَلِيدِ بن كَثِيرٍ فَهُوَ عَمْرُو بن أبي سَلَمَةَ وإذا قال أخبرني الثِّقَةُ عن ابْنِ جُرَيْجٍ فَهُوَ مُسْلِمُ بن خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ وإذا قال أخبرني الثِّقَةُ عن صَالِحٍ مولى التَّوْأَمَةَ فَهُوَ إبْرَاهِيمُ بن أبي يحيى وقال بَعْضُهُمْ حَيْثُ قال مَالِكٌ عن الثِّقَةِ عِنْدَهُ عن بُكَيْر بن عبد اللَّهِ بن
____________________
(3/350)
الْأَشَجِّ فَالثِّقَةُ مَخْرَمَةُ بن بُكَيْر وَحَيْثُ قال عن الثِّقَةِ عن عَمْرِو بن شُعَيْبٍ فَقِيلَ الثِّقَةُ عبد اللَّهِ بن وَهْبٍ وَقِيلَ الزُّهْرِيُّ وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ في بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ من الْمَعْرِفَةِ عن الرَّبِيعِ إذَا قال الشَّافِعِيُّ أخبرنا الثِّقَةُ يُرِيدُ يحيى بن حَسَّانَ وإذا قال من لَا أَتَّهِمُ فَإِبْرَاهِيمُ بن أبي يحيى وإذا قال بَعْضُ الناس يُرِيدُ أَهْلُ الْعِرَاقِ وإذا قال بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُرِيدُ بِهِ أَهْلَ الْحِجَازِ ثُمَّ قال قال الْحَاكِمُ قد أَخْبَرَ الرَّبِيعُ عن الْغَالِبِ من هذه الرِّوَايَاتِ فإن أَكْثَرَ ما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عن الثِّقَةِ هو يحيى بن حَسَّانَ وقد قال في كُتُبِهِ أخبرنا الثِّقَةُ وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ يحيى بن حَسَّانَ وقال الْبَيْهَقِيُّ وقد فَصَّلَ ذلك شَيْخُنَا الْحَاكِمُ تَفْصِيلًا على غَالِبِ الظَّنِّ فذكر في بَعْضِ ما قَالَهُ أخبرنا الثِّقَةُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ إسْمَاعِيلَ بن عُلَيَّةَ وفي بَعْضِهِ أَبَا أُسَامَةَ وفي بَعْضِهِ عبد الْعَزِيزِ بن مُحَمَّدٍ وفي بَعْضِهِ هِشَامُ بن يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ وفي بَعْضِهِ أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ أو غَيْرُهُ من أَصْحَابِهِ وَلَا يَكَادُ يُعْرَفُ ذلك بِالْيَقِينِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَيَّدَ كَلَامَهُ في مَوَاضِعَ أُخَرَ ا هـ مَسْأَلَةٌ قَوْلُ لَا أَتَّهِمُ هل هو تَعْدِيلٌ فَلَوْ قال لَا أَتَّهِمُ فَلَا يُقْبَلُ في التَّعْدِيلِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَكَذَا قال أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِ الْأَعْلَامِ إذَا قال الْمُحَدِّثُ حدثني الثِّقَةُ عِنْدِي أو حدثني من لَا أَتَّهِمُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِأَنَّ الثِّقَةَ عِنْدَهُ قد لَا يَكُونُ ثِقَةً عِنْدِي فَأَحْتَاجُ إلَى عِلْمِهِ ا هـ مَسْأَلَةٌ هل يَجِبُ ذِكْرُ سَبَبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ هل يُقْبَلَانِ أو أَحَدُهُمَا من غَيْرِ ذِكْرِ سَبَبٍ فيه خِلَافٌ مَنْشَؤُهُ أَنَّ الْمُعَدِّلَ وَالْمُجَرِّحَ هل هو مُخْبِرٌ فَيُصَدَّقُ أو حَاكِمٌ وَمُفْتٍ فَلَا يُقَلَّدُ أَحَدُهَا وهو الصَّحِيحُ يُقْبَلُ التَّعْدِيلُ من غَيْرِ سَبَبٍ بِخِلَافِ الْجَرْحِ لِأَنَّ أَسْبَابَ التَّعْدِيلِ كَثِيرَةٌ فَيَشُقُّ ذِكْرُهَا بِخِلَافِ الْجَرْحِ فإنه يَحْصُلُ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ وَالِاخْتِلَافُ في سَبَبِ الْجَرْحِ فَرُبَّمَا ذَكَرَ شيئا لَا جَرْحَ فيه كما حُكِيَ عن شُعْبَةَ أَنَّهُ قِيلَ
____________________
(3/351)
له لِمَ تَرَكْت حَدِيثَ فُلَانٍ قال رَأَيْته يُرْكِضُ بِرْذَوْنًا فَتَرَكْت حَدِيثَهُ قال الصَّيْرَفِيُّ وَلِأَنَّ الشَّافِعِيَّ حَكَى أَنَّهُ وَقَفَ عِنْدَ بَعْضِ الْقُضَاةِ على رَجُلٍ يَجْرَحُ رَجُلًا فَسُئِلَ فقال رَأَيْته يَبُولُ قَائِمًا فَقِيلَ له فما بَوْلُهُ قَائِمًا قال يَتَرَشْرَشُ عليه وَيُصَلِّي فَقِيلَ له رَأَيْته بَالَ قَائِمًا يَتَرَشْرَشُ عليه ثُمَّ صلى فلم يَكُنْ عِنْدَهُ جَوَابٌ وَلِأَنَّهُ بَالَ قَائِمًا وَهَذَا الْقَوْلُ هو الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ وقال الْقُرْطُبِيُّ هو أَكْثَرُ من قَوْلِ مَالِكٍ قال الْخَطِيبُ وَذَهَبَ إلَيْهِ الْأَئِمَّةُ من حُفَّاظِ الحديث وَنُقَّادِهِ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَالثَّانِي عَكْسُهُ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْجَرْحِ مُبْطِلُ الثِّقَةِ وَمُطْلَقَ التَّعْدِيلِ لَا يَحْصُلُ بِهِ الثِّقَةُ لِتَسَارُعِ الناس إلَى الظَّاهِرِ فَلَا بُدَّ من السَّبَبِ وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ وَإِلْكِيَا في التَّلْوِيحِ وابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ وَالْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ عن الْقَاضِي وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّهُ أَوْقَعُ في مَأْخَذِ الْأُصُولِ وما حَكَوْهُ عن الْقَاضِي وَهْمٌ لِمَا سَيَأْتِي وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَا بُدَّ من السَّبَبِ فِيهِمَا أَخْذًا بِمَجَامِعِ كُلٍّ من الْفَرِيقَيْنِ وَبِهِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وقد رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه زُكِّيَ عِنْدَهُ رَجُلٌ فَسَأَلَ الْمُزَكِّي عن أَحْوَالِهِ فَظَهَرَ له ما لَا يُكْتَفَى بِهِ وَالرَّابِعُ عَكْسُهُ وهو أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذِكْرُ السَّبَبِ فِيهِمَا لِأَنَّهُ إنْ لم يَكُنْ بَصِيرًا بهذا الشَّأْنِ لم يَصْلُحْ لِلتَّزْكِيَةِ وَإِنْ كان بَصِيرًا بِهِ فَلَا مَعْنَى لِلسُّؤَالِ وَهَذَا هو اخْتِيَارُ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ كَذَا نَصَّ عليه في التَّقْرِيبِ وَكَذَا نَقَلَهُ عنه الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ في الْكِفَايَةِ وَالْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى وأبو نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ في كِتَابِهِ وَرَدَّ على إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في نَقْلِهِ عنه ما سَبَقَ وَكَذَا نَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ وَالْقُرْطُبِيُّ في الْأُصُولِ وَالْآمِدِيَّ وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْهِنْدِيُّ وَالْخَامِسُ إنْ كان الْمُزَكِّي عَالِمًا بِأَسْبَابِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ اكْتَفَيْنَا بِإِطْلَاقِهِ فِيهِمَا وَإِنْ لم يُعْرَفْ اطِّلَاعُهُ على شَرَائِطِهِمَا اسْتَخْبَرْنَاهُ عن أَسْبَابِهِمَا وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ إنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَزَاهُ لِلشَّافِعِيِّ قُلْت وهو ظَاهِرُ تَصَرُّفِهِ فَإِنْ وُجِدَ له نَصٌّ بِالْإِطْلَاقِ حُمِلَ على ذلك وَلَا يَخْرُجُ قَوْلَانِ وقد حَكَى الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ في تَعْلِيقِهِ في بَابِ الْأَوَانِي أَنَّ من أَخْبَرَ
____________________
(3/352)
بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ يُعْتَمَدُ خَبَرُهُ إذَا بَيَّنَ السَّبَبَ ثُمَّ قال قال الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ من حَالِ الْمُخْبِرِ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ سُؤْرَ السِّبَاعِ طَاهِرٌ وَأَنَّ الْمَاءَ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَا يُنَجَّسُ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هذا كَلَامُهُ وهو قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ وَالرَّازِيِّ وقال الْهِنْدِيُّ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَإِلَيْهِ مَيْلُ كَلَامِ الْخَطِيبِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هذا هو مَذْهَبُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ عَارِفًا بِشُرُوطِ الْعَدَالَةِ لم يَصْلُحْ لِلتَّزْكِيَةِ وَهَذَا حَكَاهُ ابن الْقُشَيْرِيّ في كِتَابِهِ عن إمَامِ الْحَرَمَيْنِ قال وقد أَشَارَ الْقَاضِي إلَى هذا في التَّقْرِيبِ أَيْضًا وَحَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عن إمَامِ الْحَرَمَيْنِ بِلَفْظِ إنْ كان لَا يُطْلَقُ التَّعْدِيلُ إلَّا بَعْدَ اسْتِقْصَاءٍ كَمَالِكٍ فَمُطْلَقُ تَعْدِيلِهِ كَافٍ وَإِنْ كان من الْمُتَسَاهِلِينَ فَلَا ثُمَّ قال وَيَرِدُ عليه أَنَّهُ إذَا كان من الْعَالِمِينَ بِشَرَائِطِ الْعَدَالَةِ فَالظَّنُّ أَنَّهُ اسْتَقْصَى وَتَقْدِيرُ خِلَافِ ذلك فيه نِسْبَةٌ إلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ فَإِنْ عُلِمَ من حَالِهِ ذلك وَإِلَّا فَلَيْسَ هو من أَهْلِ التَّعْدِيلِ وَكَلَامُنَا في التَّعْدِيلِ الْمُطْلَقِ فِيمَنْ هو من أَهْلِ التَّعْدِيلِ فإن من الناس من يقول هو وَإِنْ كان من أَهْلِ التَّعْدِيلِ إلَّا أَنَّهُ عُرْضَةٌ لِلْغَلَطِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُبَيِّنَ لنا الْمُسْتَنَدَ لِئَلَّا نَكُونَ مُقَلِّدِينَ غير مَعْصُومٍ وَهَذَا هو الْأَصْلُ إلَّا أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُهُ وَالْإِمَامُ يقول الْمُعْتَبَرُ غَلَبَةُ الظَّنِّ مَتَى حَصَلَتْ وإذا لَاحَ لنا من حَالِ مِثْلِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَتَسَاهَلُ حَصَلَتْ غَلَبَةُ الظَّنِّ فَيُقَالُ غَلَبَةُ الظَّنِّ لَا بُدَّ أَنْ تَسْتَنِدَ إلَى ضَابِطِ الشَّرْعِ الْوَاضِحِ وقد رَوَيْنَا من رَوَى عنه مَالِكٌ في الْمُوَطَّإِ وقد طَعَنَ فيه غَيْرُهُ مِثْلُ عبد اللَّهِ بن أبي بَكْرٍ فإنه من رِجَالِ الْمُوَطَّإِ وقد قَدَحَ فيه سُفْيَانُ بن عُيَيْنَةَ فَلَا بُدَّ من بَيَانِ حَالِهِ إلَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ ذلك عُسْرًا كما قَالَهُ الشَّافِعِيُّ ا هـ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ وقد حَكَى هذا الْمَذْهَبَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ في هذا عِنْدَ التَّعْدِيلِ بين يَدَيْ الْحَاكِمِ شَرْطٌ آخَرُ وهو اتِّفَاقُ مَذْهَبِهِ مع مَذْهَبِ الْمُعَدِّلِ في الشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ في التَّزْكِيَةِ وَإِلَّا فَمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُسْلِمَ على الْعَدَالَةِ وَيَكْتَفِي بِظَاهِرِ الْحَالِ فَقَدْ يُزَكِّي من لَا يَقْبَلُهُ من يُخَالِفُهُ في هذا الْمَذْهَبِ وَكَذَا إذَا ظَهَرَ في مُزَكِّي الرُّوَاةِ أَنَّ هذا مَذْهَبٌ لِذَلِكَ الْمُزَكِّي فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ من يُخَالِفُهُ في هذا الْمَذْهَبِ
____________________
(3/353)
تَفْرِيعٌ هل يَكْفِي في الْجَرْحِ الْمُجْمَلِ وَإِذْ ثَبَتَ أَنَّ بَيَانَ السَّبَبِ في الْجَرْحِ شَرْطٌ قال أَصْحَابُنَا وَمِنْهُمْ الصَّيْرَفِيُّ وابن فُورَكٍ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فُلَانٌ ليس بِشَيْءٍ وَلَا فُلَانٌ ضَعِيفٌ وَلَا لَيِّنٌ مَاذَا بِالْكَذَّابِ اُسْتُفْسِرَ وَقِيلَ له ما تَعْنِي أَتَعَمَّدَ الْكَذِبَ فَإِنْ قال نعم تُوُقِّفَ في خَبَرِهِ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ الْكَذِبَ لُغَةً يَحْتَمِلُ الْغَلَطَ وَوَضْعَ الشَّيْءِ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ كَذَبَ أبو مُحَمَّدٍ في حديث الْوِتْرِ يَعْنِي غَلِطَ وَادَّعَى النَّوَوِيُّ في شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ الْمُطْلَقُ وُجُوبُ التَّوَقُّفِ عن الْعَمَلِ بِحَدِيثِهِ إلَى أَنْ يُبْحَثَ عن السَّبَبِ قُلْت وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ وَيُحْتَمَلُ التَّفْصِيلُ بين من عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ فَلَا أَثَرَ لِلْجَرْحِ الْمُطْلَقِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَاسْتَثْنَى ابن الْقَطَّانِ الْمُحَدِّثُ من هذا الْأَصْلِ ما إذَا كان الرَّاوِي لَا يُعْلَمُ حَالُهُ وَلَا وَثَّقَهُ مُوَثِّقٌ قال فَيُقْبَلُ فيه الْجَرْحُ وَإِنْ لم يُفَسَّرْ ما بِهِ جَرْحُهُ لِأَنَّا قد كنا نَتْرُكُ حَدِيثَهُ بِمَا عَدِمْنَا من مَعْرِفَةِ ثِقَتِهِ قُلْت وفي الْحَقِيقَةِ لَا يُسْتَثْنَى وَحَكَى ابن عبد الْبَرِّ في التَّمْهِيدِ عن مُحَمَّدِ بن نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ من ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ بِرِوَايَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ عنه وَحَمْلِهِمْ حَدِيثَهُ فَلَيْسَ يُقْبَلُ فيه تَجْرِيحُ أَحَدٍ حتى يَثْبُتَ عليه ذلك بِأَمْرٍ لَا يُجْهَلُ يَكُونُ بِهِ جَرْحُهُ فَأَمَّا قَوْلُهُمْ فُلَانٌ كَذَّابٌ فَلَيْسَ مِمَّا يَثْبُتُ بِهِ جَرْحٌ حتى يُبَيِّنَ ما قَالَهُ وَوَافَقَهُ على ذلك وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِمَا أبو الْحَسَنِ بن الْمُفَوَّزِ وقال بَلْ الذي عليه أَئِمَّةُ الحديث قَبُولُ تَعْدِيلِ من عَدَّلَ وَتَعْدِيلِ وَتَجْرِيحِ من جَرَّحَ لِمَنْ عُرِفَ وَاشْتُهِرَ بِأَمَانَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِالْحَدِيثِ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فيه إذَا تَعَارَضَ الْجَرْحُ الْمُفَسَّرُ وَالتَّعْدِيلُ في رَاوٍ وَاحِدٍ فَأَقْوَالٌ أَحَدُهَا يُقَدَّمُ الْجَرْحُ مُطْلَقًا وَإِنْ كان الذي عَدَّلَ أَكْثَرَ وَهَذَا ما جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وابن الْقُشَيْرِيّ وقال نَقَلَ الْقَاضِي فيه الْإِجْمَاعَ وَنَقَلَهُ الْخَطِيبُ وَالْبَاجِيُّ عن جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وقال الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيُّ وابن الصَّلَاحِ إنَّهُ الصَّحِيحُ لِأَنَّ مع الْجَارِحِ زِيَادَةَ عِلْمٍ لم يَطَّلِعْ عليها الْمُعَدِّلُ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ مع اعْتِقَادِ الْمَذْهَبِ الْآخَرِ وهو أَنَّ الْجَرْحَ لَا يُقْبَلُ إلَّا مُفَسَّرًا وَبِشَرْطٍ آخَرَ وهو أَنْ يَكُونَ الْجَرْحُ بِنَاءً على أَمْرٍ مَجْزُومٍ بِهِ أَيْ بِكَوْنِهِ جَارِحًا لَا بِطَرِيقٍ اجْتِهَادِيٍّ كما اصْطَلَحَ أَهْلُ الحديث على الِاعْتِمَادِ في الْجَرْحِ
____________________
(3/354)
على اعْتِبَارِ حديث الرَّاوِي مع اعْتِبَارِ حديث غَيْرِهِ وَالنَّظَرِ إلَى كَثْرَةِ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ وَالتَّفَرُّدِ وَالشُّذُوذِ ا هـ وقد اسْتَثْنَى أَصْحَابُنَا من هذا ما إذَا جَرَحَهُ لِمَعْصِيَةٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قد تَابَ منها يُقَدَّمُ التَّعْدِيلُ لِأَنَّ معه زِيَادَةَ عِلْمٍ وَالثَّانِي عَكْسُهُ وهو تَقْدِيمُ التَّعْدِيلِ لِأَنَّ الْجَارِحَ قد يَجْرَحُ بِمَا ليس في نَفْسِ الْأَمْرِ جَارِحًا وَالْمُعَدِّلُ إذَا كان عَدْلًا مُثْبِتًا لَا يُعَدِّلُ إلَّا بَعْدَ تَحْصِيلِ الْمُوجِبِ لِقَبُولِهِ جَزْمًا حَكَاهُ الطَّحْطَاوِيُّ عن أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَضِيَّةُ هذه الْعِلَّةِ تَخْصِيصُ الْخِلَافِ بِالْجَرْحِ غَيْرِ الْمُفَسَّرِ وَالثَّالِثُ يُقَدَّمُ الْأَكْثَرُ من الْجَارِحِينَ أو الْمُعَدِّلِينَ حَكَاهُ في الْمَحْصُولِ لِأَنَّ كَثْرَتَهُمْ تُقَوِّي حَالَهُمْ وَرَدَّهُ الْخَطِيبُ وَالرَّابِعُ أَنَّهُمَا مُتَعَارِضَانِ فَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا إلَّا بِمُرَجِّحٍ حَكَاهُ ابن الْحَاجِبِ ثُمَّ جَعَلَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا كان عَدَدُ الْمُعَدِّلِينَ أَكْثَرَ فَإِنْ اسْتَوَيَا قُدِّمَ الْجَرْحُ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا قال الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ في الْكِفَايَةِ وأبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ وأبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ في الْأَحْكَامِ وَلَيْسَ كما قالوا فَفِيهِ الْخِلَافُ وَمِمَّنْ حَكَاهُ أبو نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ وَأَنَّهُ نُصِبَ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا اسْتَوَى عَدَدُ الْمُعَدِّلِينَ وَالْجَارِحِينَ قال فَإِنْ كَثُرَ عَدَدُ الْمُعَدِّلِينَ وَقَلَّ عَدَدُ الْجَارِحِينَ تَقَبُّلُ الْعَدَالَةِ في هذه الصُّورَةِ أَوْلَى وَاخْتَارَ الْقَاضِي تَقْدِيمَ الْجَرْحِ وقال الْمَازِرِيُّ قد حَكَى ابن شَعْبَانَ في كِتَابِهِ الزَّاهِي الْخِلَافَ عِنْدَ تَسَاوِيهِمَا في الْعَدَدِ أَمَّا إذَا زَادَ عَدَدُ الْمُجَرِّحِينَ فَلَا وَجْهَ لِجَرَيَانِ الْخِلَافِ وَبِهِ صَرَّحَ الْبَاجِيُّ فقال لَا خِلَافَ في تَقْدِيمِ الْجَرْحِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ لَا شَكَّ فيه وهو أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا على نَقْلِ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ قال وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ لم يُمْكِنْ الْجَمْعُ بين الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قال أَحَدُهُمَا هو عَدْلٌ وَالْآخَرُ هو مَجْرُوحٌ قُدِّمَ الْجَرْحُ قَطْعًا وَلَا يَحْسُنُ فيه إجْرَاءُ خِلَافٍ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَدَدُ لِأَنَّ التَّعْدِيلَ مَبْنَاهُ على الظَّاهِرِ بِخِلَافِ الْجَرْحِ قال الْبَاجِيُّ فَلَوْ نَصَّ الْمُجَرِّحُ على سَبَبِهِ في وَقْتٍ بِعَيْنِهِ وَنَفَاهُ الْعَدَدُ تَعَارَضَا قال وَفِيهِ نَظَرٌ وقال الْهِنْدِيُّ في النِّهَايَةِ مَتَى كان الْجَرْحُ مُطْلَقًا أو مُعَيَّنًا بِذِكْرِ سَبَبِهِ ولم يُمْكِنْ ضَبْطُهُ كَقَوْلِهِ رَأَيْته يَشْرَبُ أو سَمِعْت منه الْكَذِبَ قُدِّمَ على التَّعْدِيلِ لِأَنَّهُ
____________________
(3/355)
زِيَادَةٌ لم يَطَّلِعْ عليها الْمُعَدِّلُ وَلَا نَفَاهَا فَإِنْ نَفَاهَا بَطَلَتْ عَدَالَتُهُ لِعِلْمِنَا بِمُجَازَفَتِهِ وَجَزْمِهِ فِيمَا لَا يُمْكِنُ فيه الْجَزْمُ وَإِنْ كان مُعَيَّنًا بِذِكْرِ سَبَبٍ يَنْضَبِطُ بِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ كَقَوْلِهِ رَأَيْته قد قَتَلَ فُلَانًا فَإِنْ لم يَتَعَرَّضْ الْمُعَدِّلُ لِنَفْيِهِ بَلْ اقْتَصَرَ على التَّعْدِيلِ مُطْلَقًا أو مع سَبَبِهِ فَكَالْعَدِمِ وَإِنْ تَعَرَّضَ لِنَفْيِهِ بِأَنْ قال رَأَيْته حَيًّا بَعْدَ ذلك فَهُمَا يَتَعَارَضَانِ وَيُصَارُ إلَى التَّرْجِيحِ بِنَحْوِ كَثْرَةِ الْعَدَدِ وَالضَّبْطِ وَزِيَادَةِ الْوَرَعِ وَغَيْرِهَا
____________________
(3/356)
فَصْلٌ في عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ وما ذَكَرَهُ مِمَّا سَبَقَ من شَرْطِ الْبَحْثِ عن الْعَدَالَةِ في الرَّاوِي إنَّمَا هو في غَيْرِ الصَّحَابَةِ فَأَمَّا فِيهِمْ فَلَا فإن الْأَصْلَ فِيهِمْ الْعَدَالَةُ عِنْدَنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وفي الصَّحِيحِ خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي فَتُقْبَلُ رِوَايَتِهِمْ من غَيْرِ بَحْثٍ عن أَحْوَالِهِمْ قال الْقَاضِي هو قَوْلُ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ قال وَلَعَلَّ السَّبَبَ فيه أَنَّهُمْ نَقَلَةُ الشَّرِيعَةِ وَلَوْ ثَبَتَ تَوَقُّفٌ في رِوَايَتِهِمْ لَانْحَصَرَتْ الشَّرِيعَةُ على عَصْرِ الرَّسُولِ عليه السَّلَامُ وَلَمَا اسْتَرْسَلَتْ على سَائِرِ الْأَعْصَارِ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَعَلَيْهِ كَافَّةُ أَصْحَابِنَا وَأَمَّا ما وَقَعَ بَيْنَهُمْ من الْحُرُوبِ وَالْفِتَنِ فَتِلْكَ أُمُورٌ مَبْنِيَّةٌ على الِاجْتِهَادِ وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أو الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَالْمُخْطِئُ مَعْذُورٌ بَلْ وَمَأْجُورٌ وَكَمَا قال عُمَرُ بن عبد الْعَزِيزِ تِلْكَ دِمَاءٌ طَهَّرَ اللَّهُ منها سُيُوفَنَا فَلَا نُخَضِّبُ بها أَلْسِنَتَنَا قال الصَّيْرَفِيُّ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمْ وَأَمَّا أَمْرُ أبي بَكْرَةَ وَأَصْحَابِهِ فلما نَقَصَ الْعَدَدُ أَجْرَاهُمْ عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه مَجْرَى الْقَذَفَةِ وَحَدُّهُ لِأَبِي بَكْرَةَ بِالتَّأْوِيلِ وَلَا يُوجِبُ ذلك تَفْسِيقًا لِأَنَّهُمْ جَاءُوا مَجِيءَ الشَّهَادَةِ وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ في الْقَذْفِ وقد اخْتَلَفُوا في وُجُوبِ الْحَدِّ فيه وَسُوِّغَ فيه الِاجْتِهَادُ وَلَا تُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِمَا يُسَوَّغُ فيه الِاجْتِهَادُ وَمِنْ الناس من يَزْعُمُ أَنَّ حُكْمَهُمْ في الْعَدَالَةِ كَحُكْمِ غَيْرِهِمْ فَيَجِبُ الْبَحْثُ عنها وهو قَضِيَّةُ كَلَامِ أبي الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ من أَصْحَابِنَا فإنه قال وَحْشِيٌّ قَتَلَ حَمْزَةَ وَلَهُ صُحْبَةٌ وَالْوَلِيدُ شَرِبَ الْخَمْرَ قُلْنَا من ظَهَرَ منه خِلَافُ الْعَدَالَةِ لم يَقَعْ عليه اسْمُ الصُّحْبَةِ وَالْوَلِيدُ ليس بِصَحَابِيٍّ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا هُمْ الَّذِينَ كَانُوا على الطَّرِيقَةِ ا هـ وهو غَرِيبٌ فَقَدْ ذَكَرَهُمَا الْمُحَدِّثُونَ في كُتُبِ الصَّحَابَةِ
____________________
(3/357)
وَقِيلَ حُكْمُهُمْ الْعَدَالَةُ قبل الْفِتَنِ لَا بَعْدَهَا فَيَجِبُ الْبَحْثُ عَنْهُمْ وَقِيلَ عُدُولٌ إلَّا من قَاتَلَ عَلِيًّا فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ وَقِيلَ بِهِ في الْفَرِيقِ الْآخَرِ وَقِيلَ الْحَدِيثُ بِالْعَدَالَةِ يَخْتَصُّ بِمِنْ اُشْتُهِرَ منهم وَالْبَاقُونَ كَسَائِرِ الناس منهم عُدُولٌ وَغَيْرُ عُدُولٍ وَكُلُّ هذه الْأَقْوَالِ بَاطِلَةٌ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَمِنْ الْفَوَائِدِ ما قَالَهُ الْحَافِظُ جَمَالُ الدِّينِ الْمِزِّيُّ إنَّهُ لم تُوجَدْ رِوَايَةٌ عَمَّنْ يُلْمَزُ بِالنِّفَاقِ من الصَّحَابَةِ وقال الْمَازِرِيُّ الْعَدَالَةُ لِمَنْ اُشْتُهِرَ منهم بِالصُّحْبَةِ دُونَ من قَلَّتْ صُحْبَتُهُ أو كان له مُجَرَّدُ الرُّؤْيَةِ فقال لَا نَعْنِي بِالْعَدْلِ كُلَّ من رَآهُ اتِّفَاقًا أو زَارَهُ لِمَامًا أو أَلَمَّ بِهِ وَانْصَرَفَ من قَرِيبٍ لَكِنْ إنَّمَا نُرِيدُ بِهِ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ لَازَمُوهُ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الذي أُنْزِلَ معه وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ يُخْرِجُ كَثِيرًا من الْمَشْهُورِينَ بِالصُّحْبَةِ وَالرِّوَايَةِ عن الْحُكْمِ بِالْعَدَالَةِ كَوَائِلِ بن حُجْرٌ وَمَالِكِ بن الْحُوَيْرِثِ وَعُثْمَانَ بن أبي الْعَاصِ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ وَفَدَ عليه صلى اللَّهُ عليه وسلم ولم يُقِمْ إلَّا أَيَّامًا قَلَائِلَ ثُمَّ انْصَرَفَ وَكَذَلِكَ من لم يُعْرَفْ إلَّا بِرِوَايَةِ الْوَاحِدِ أو الِاثْنَيْنِ فَالْقَوْلُ بِالتَّعْمِيمِ هو الصَّوَابُ كما هو قَضِيَّةُ إطْلَاقِ الْجُمْهُورِ الْمُرَادُ بِعَدَالَةِ الصَّحَابَةِ وقال الْإِبْيَارِيُّ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِعَدَالَتِهِمْ ثُبُوتُ الْعِصْمَةِ لهم وَاسْتِحَالَةُ الْمَعْصِيَةِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ قَبُولُ رِوَايَاتِهِمْ من غَيْرِ تَكَلُّفِ بَحْثٍ عن أَسْبَابِ الْعَدَالَةِ وَطَلَبِ التَّزْكِيَةِ إلَّا من يَثْبُتُ عليه ارْتِكَابُ قَادِحٍ ولم يَثْبُتْ ذلك وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فَنَحْنُ على اسْتِصْحَابِ ما كَانُوا عليه في زَمَنِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم حتى يَثْبُتَ خِلَافُهُ وَلَا الْتِفَاتَ إلَى ما يَذْكُرُهُ أَهْلُ السِّيَرِ فإنه لَا يَصِحُّ وما صَحَّ فَلَهُ تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ وَلَا عِبْرَةَ بِرَدِّ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ رِوَايَاتِ أبي هُرَيْرَةَ وَتَعْلِيلِهِمْ بِأَنَّهُ ليس بِفَقِيهٍ فَقَدْ عَمِلُوا بِرَأْيِهِ في الْغُسْلِ ثَلَاثًا من وُلُوغِ الْكَلْبِ وَغَيْرِهِ وقد وَلَّاهُ عُمَرُ الْوِلَايَاتِ الْجَسِيمَةَ وَيَتَخَرَّجُ على هذا الْأَصْلِ مَسْأَلَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ إذَا قِيلَ في الْإِسْنَادِ عن رَجُلٍ من أَصْحَابِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان حُجَّةً وَلَا تَضُرُّ الْجَهَالَةُ بِهِ لِثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ وَخَالَفَ
____________________
(3/358)
ابن مَنْدَهْ فقال من حُكْمِ الصَّحَابِيِّ أَنَّهُ إذَا رَوَى عنه تَابِعِيٌّ وَإِنْ كان مَشْهُورًا كَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ نُسِبَ إلَى الْجَهَالَةِ فإذا رَوَى عنه رَجُلَانِ صَارَ مَشْهُورًا وَاحْتُجَّ بِهِ قَالَا وَعَلَى هذا بَنَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ صَحِيحَيْهِمَا إلَّا أَحْرُفًا تَبَيَّنَ أَمْرُهَا وَيُسَمِّي الْبَيْهَقِيُّ مِثْلَ ذلك مُرْسَلًا وهو مَرْدُودٌ وقال أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ الْمَجْهُولُ من الصَّحَابَةِ خَبَرُهُ حُجَّةٌ إنْ عَمِلَ بِهِ السَّلَفُ أو سَكَتُوا عن رَدِّهِ مع انْتِشَارِهِ بَيْنَهُمْ فَإِنْ لم يَنْتَشِرْ فَإِنْ وَافَقَ الْقِيَاسَ عُمِلَ بِهِ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ في الْمَرْتَبَةِ دُونَ ما إذَا لم يَكُنْ فَقِيهًا قال يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنَّ خَبَرَ الْمَشْهُورِ الذي ليس بِفَقِيهٍ حُجَّةٌ ما لم يُخَالِفْ الْقِيَاسَ وَخَبَرُ الْمَجْهُولِ مَرْدُودٌ ما لم يَرُدُّهُ الْقِيَاسُ لِيَقَعَ الْفَرْقُ بين من ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ وَمَنْ لم تَظْهَرْ تعريف الصحابي فإن قيل أثبتم العدالة للصحابي مطلقا فمن الصحابي قلنا اختلفوا فيه فذهب الأكثرون إلى أنه من اجتمع مؤمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وصحبه ولو ساعة روى عنه أو لا لأن اللغة تقتضي ذلك وإن كان العرف يقتضي طول الصحبة وكثرتها وقيل يشترط الرواية وطول الصحبة وقيل يشترط أحدهما وقال ابن السمعاني هو من حيث اللغة والظاهر من طالت صحبته مع النبي صلى الله عليه وسلم وكثرت مجالسته له وينبغي أن يطيل المكث معه على طريق التبع له والأخذ عنه ولهذا يوصف من أطال مجالسة أهل العلم بأنه من أصحابه ثم قال هذه طريقة الأصوليين أما عند أصحاب الحديث فيطلقون اسم الصحابة على كل من روى عنه حديثا أو كلمة ويتوسعون حتى يعدون من رآه رؤية ما من الصحابة وهذا لشرف منزلة النبي صلى الله عليه وسلم أعطوا كل من رآه حكم الصحابة لأنه قال طوبى لمن رآني ومن رأى من رآني والأول الصحابة والثاني التابعون
____________________
(3/359)
وقال ابن فورك هو من أكثر مجالسته واختص به ولذلك لم يعد الوافدون من الصحابة وقد يقال فلان من الصحابة بمعنى أنه لقيه وروى عنه وإن لم تطل صحبته ولم يختص به إلا أن ذلك بتقييد والأول بإطلاق انتهى وقال أبو نصر بن القشيري لفظ الصحابي من الصحبة فكل من صحبه صلى الله عليه وسلم لحظة يطلق عليه اسم الصحابي لفظا غير أن العرف اقترن به فلا يطلق هذا اللفظ إلا على من صحبه مدة طالت صحبته فيها قال ولا تضبط هذه المدة بحد معين وكذا قال الغزالي هل للصحبة مدة معينة وحكى شارح البزدوي عن بعضهم تحديدها بستة أشهر وشرط سعيد بن المسيب الإقامة معه سنة أو الغزو معه وضعف بأن جرير بن عبد الله ووائل بن حجر ومعاوية بن الحكم السلمي وغيرهم ممن وفد على النبي صلى الله عليه وسلم عام تسع وبعده فأسلم وأقام عنده أياما ثم رجع إلى قومه وروى عنه أحاديث لا خلاف في عده من الصحابة ونحوه قول إلكيا الطبري هو من ظهرت صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم صحبة القرين قرينه حتى يعد من أحزابه وخدمته المتصلين وذكر صاحب الواضح أن هذا قول شيوخ المعتزلة وقال أبو الحسين في المعتمد هو من طالت مجالسته معه على طريق التبع له والأخذ عنه فمن لم تطل مجالسته كالوافدين أو طالت ولم يقصد الاتباع لا يكون صحابيا ونقله صاحب الكبريت الأحمر عن الجمهور من أصحابهم وقال القاضي أبو عبد الله الصيمري من الحنفية هو من رأى النبي صلى الله عليه وسلم واختص به اختصاص الصاحب بالمصحوب وإن لم يرو عنه ولم يتعلم منه وقال الجاحظ يشترط تعلمه منه وقيل يشترط أن يروي عنه حديثا واحدا هل الْبُلُوغُ شَرْطٌ في اعْتِبَارِ الصُّحْبَةِ وَقِيلَ يُشْتَرَطُ بُلُوغُهُ حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عن الْوَاقِدِيِّ وهو ضَعِيفٌ فإنه يَخْرُجُ نَحْوُ مَحْمُودِ بن الرَّبِيعِ الذي عَقَلَ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مَجَّةً وهو ابن خَمْسِ سِنِينَ وَعَدُوُّهُ من الصَّحَابَةِ وَكَلَامُ السَّفَاقِسِيِّ شَارِحِ الْبُخَارِيِّ يَقْتَضِي اشْتِرَاطَ التَّمْيِيزِ فإنه
____________________
(3/360)
قال في حديث عبد اللَّهِ بن ثَعْلَبَةَ بن صُعَيْرٍ وكان النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قد مَسَحَ وَجْهَهُ عَامَ الْفَتْحِ قال الشَّارِحُ إنْ كان عبد اللَّهِ هذا عَقَلَ ذلك أو عَقَلَ عنه كَلِمَةً كانت له صُحْبَةٌ وَإِنْ لم يَعْقِلْ شيئا كانت تِلْكَ فَضِيلَةً وهو من الطَّبَقَةِ الْأُولَى من التَّابِعِينَ ا هـ اشْتِرَاطُ الرُّؤْيَةِ لِلصُّحْبَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ رُؤْيَتُهُ لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِيَدْخُلَ ابن أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى وَغَيْرُهُ من الْأَضِرَّاءِ وَإِنَّمَا اشْتَرَطْنَا الْإِيمَانَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَدْخُلُونَ في اسْمِ الصُّحْبَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ رَأَوْهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَمِمَّنْ ذَكَرَ هذا الْقَيْدَ الْآمِدِيُّ وابن الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُمَا وَصَرَّحَ بِهِ الْبُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ حَيْثُ قال من صَحِبَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أو رَآهُ من الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ من أَصْحَابِهِ وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عن أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ وَاشْتَرَطَ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ الْعَدَالَةَ قال من لم يَظْهَرْ منه ذلك لَا يُطْلَقُ عليه اسْمُ الصُّحْبَةِ قال وَالْوَلِيدُ الذي شَرِبَ الْخَمْرَ ليس بِصَحَابِيٍّ وَإِنَّمَا أَصْحَابُهُ الَّذِينَ كَانُوا على الطَّرِيقَةِ ا هـ وهو عَجِيبٌ لِمَا قَرَرْنَاهُ من ثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ الْمُطْلَقَةِ ما يَتَرَتَّبُ على الِاخْتِلَافِ في اشْتِرَاطِ الرُّؤْيَةِ ثُمَّ ذَكَرَ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمَا من الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ تُرَتَّبُ عليه فَوَائِدُ منها الْعَدَالَةُ فإن من لَا يَعُدُّ الرَّائِيَ من جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ يَطْلُبُ تَعْدِيلَهُ بِالتَّنْصِيصِ على ذلك كما في سَائِرِ الرُّوَاةِ من التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ وَمَنْ يُثْبِتُ الصُّحْبَةَ بِمُجَرَّدِ اللِّقَاءِ لَا يَحْتَاجُ لِذَلِكَ وَمِنْهَا الْحُكْمُ على ما رَوَاهُ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِكَوْنِهِ مُرْسَلَ صَحَابِيٍّ أَمْ لَا فإن الْجُمْهُورَ على قَبُولِ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ خِلَافًا لِلْأُسْتَاذِ فإذا ثَبَتَ بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَةِ كَوْنُهُ صَحَابِيًّا الْتَحَقَ مُرْسَلُهُ بِمِثْلِ ما رَوَى ابن عَبَّاسٍ وَالنُّعْمَانُ بن بَشِيرٍ وَأَمْثَالُهُمَا وَإِنْ لم نُعْطِهِ اسْمَ الصُّحْبَةِ كان كَمُرْسَلِ التَّابِعِيِّ
____________________
(3/361)
وَمِنْهَا أَنَّ من كان منهم مُجْتَهِدًا أو نُقِلَتْ عنه فَتَاوَى حُكْمِيَّةٌ هل يَلْتَحِقُ ذلك بِكَوْنِهِ قَوْلَ صَحَابِيٍّ حتى يَكُونَ حُجَّةً أَمْ لَا وَمِنْهَا هل يُعْتَبَرُ خِلَافُهُمْ لهم أو يَتَوَقَّفُ إجْمَاعُهُمْ على قَوْلِهِمْ أو غَيْرِ ذلك الذي رَأَى الرَّسُولَ كَافِرًا بِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ هَاهُنَا فَوَائِدُ أَحَدُهَا من اجْتَمَعَ بِهِ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ ولم يَرَهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ رَوَى شيئا سَمِعَهُ منه في حَالِ كُفْرِهِ أو لم يَرْوِهِ هل يَكُونُ صَحَابِيًّا ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَلِهَذَا لم يذكر أَحَدٌ عَبْدَ اللَّهِ بن حَمَّادٍ في الصَّحَابَةِ وقد كَلَّمَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَوَقَفَ معه في قِصَّتِهِ الْمَشْهُورَةِ مع كَوْنِهِ أَسْلَمَ بَعْدَ وَفَاةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فلم يَعْتَدُّوا بِذَلِكَ اللِّقَاءِ وَالْكَلَامِ في الْكُفْرِ من اجْتَمَعَ بِهِ قبل الْبَعْثَةِ ثُمَّ أَسْلَمَ ولم يَلْقَهُ الثَّانِيَةُ من اجْتَمَعَ بِهِ قبل الْمَبْعَثِ وَحَادَثَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ الْمَبْعَثِ ولم يَلْقَهُ فَهَلْ يُكْتَفَى بِاللِّقَاءِ الْأَوَّلِ مع إسْلَامِهِ في زَمَنِهِ فيه نَظَرٌ وقد رَوَى أبو دَاوُد في سُنَنِهِ عن عبد اللَّهِ بن شَقِيقٍ عن أُمَيَّةَ عن عبد اللَّهِ بن أبي الْحَمْسَاءِ قال بَايَعْت النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قبل أَنْ يُبْعَثَ وَبَقِيَتْ له بَقِيَّةٌ فَوَعَدْته أَنْ آتِيَهُ بها في مَكَان وَنَسِيت ثُمَّ إنِّي ذَكَرْت بَعْدَ ثَلَاثٍ فَجِئْت فإذا هو في مَكَانِهِ فقال يا فَتَى لقد شَقَقْت عَلَيَّ أنا في انْتِظَارِك مُنْذُ ثَلَاثٍ أَنْتَظِرُك فَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ كانت قبل النُّبُوَّةِ ولم يَكُنْ ابن أبي الْحَمْسَاءِ أَسْلَمَ إذْ ذَاكَ قَطْعًا وَلَكِنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ ذلك ولم تَثْبُتْ صُحْبَتُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ الثَّالِثَةُ من اجْتَمَعَ بِهِ بَعْدَ الْمَبْعَثِ وَأَسْلَمَ قبل وَفَاتِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ وهو أَوْلَى بِالصُّحْبَةِ من الْقِسْمَيْنِ قَبْلَهُ من أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ الرَّابِعَةُ من صَحِبَهُ ثُمَّ ارْتَدَّ بَعْدَ وَفَاتِهِ ثُمَّ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ هل تُحْبِطُ رِدَّتُهُ تِلْكَ الصُّحْبَةَ السَّالِفَةَ يَنْبَنِي هذا على أَنَّ الْمُرْتَدَّ هل تَحْبَطُ أَعْمَالُهُ بِمُجَرَّدِ الرِّدَّةِ أَمْ لَا بُدَّ من الْوَفَاةِ على الرِّدَّةِ وَالثَّانِي هو الْمَشْهُورُ عِنْدَنَا وَعَلَيْهِ لَا تَحْبَطُ صُحْبَتُهُ وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَعَلَيْهِ تَحْبَطُ فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ هذا إسْلَامًا جَدِيدًا يَجِبُ بِهِ اسْتِئْنَافُ
____________________
(3/362)
الْحَجِّ وَلَا يَعْتَدُّونَ بِمَا سَبَقَ وَالْأَصَحُّ هو الْأَوَّلُ وَيَدُلُّ له إجْمَاعُ الْمُحَدِّثِينَ على عَدِّ الْأَشْعَثِ بن قَيْسٍ من الصَّحَابَةِ وَجَعْلِ أَحَادِيثِهِ مُسْنَدَةً وكان مِمَّنْ ارْتَدَّ بَعْدَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ثُمَّ رَجَعَ بين يَدَيْ الصِّدِّيقِ وَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَيُذَادَنَّ عن حَوْضِي فَأَقُولُ أَصْحَابِي أَصْحَابِي فَيُقَالُ سُحْقًا فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَاذَا أَحْدَثُوا بَعْدَك فَسَمَّاهُمْ أَصْحَابًا بِنَاءً على ما عَلِمَهُ منهم من أَسْلَمَ في حَيَاتِهِ ولم يَرَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ الْخَامِسَةُ من كان مُسْلِمًا في حَيَاتِهِ ولم يَرَهُ قبل مَوْتِهِ لَكِنْ رَآهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَبْلَ الدَّفْنِ هل يَكُونُ صَحَابِيًّا ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عبد الْبَرِّ نعم لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الصُّحْبَةَ لِمَنْ أَسْلَمَ في حَيَاتِهِ وَإِنْ لم يَرَهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُ صَحَابِيٍّ لِعَدَمِ وِجْدَانِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ أو الْمُجَالَسَةِ وَهَذَا كَأَبِي ذُؤَيْبٍ خُوَيْلِدِ بن خَالِدٍ الْهُذَلِيِّ الشَّاعِرِ وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ فإنه أُخْبِرَ بِمَرَضِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَسَافَرَ نَحْوَهُ فَقُبِضَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قبل وُصُولِهِ بِيَسِيرٍ وَحَضَرَ الصَّلَاةَ عليه وَرَآهُ مُسَجًّى وَشَهِدَ دَفْنَهُ السَّادِسَةُ اسْمُ الصَّحَابِيِّ شَامِلٌ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ أَكْثَرُ صَحَابَةِ الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كَانُوا فُقَهَاءَ السَّابِعَةُ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ لَازَمُوا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كَانُوا فُقَهَاءَ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في طَبَقَاتِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ طُرُقَ الْفِقْهِ في حَقِّ الصَّحَابَةِ خِطَابُ اللَّهِ وَخِطَابُ رَسُولِهِ وَأَفْعَالُهُ فَخِطَابُ اللَّهِ هو الْقُرْآنُ وقد نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ وَعَلَى أَسْبَابٍ عَرَفُوهَا فَعَرَفُوا مَنْطُوقَهُ وَمَفْهُومَهُ وَمَنْصُوصَهُ وَمَعْقُولَهُ وَلِهَذَا قال أبو عُبَيْدٍ في كِتَابِ الْمَجَازِ لم يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا من الصَّحَابَةِ رَجَعَ في مَعْرِفَةِ شَيْءٍ من الْقُرْآنِ إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مَسْأَلَةٌ طَرِيقُ مَعْرِفَةِ الصَّحَابِيِّ يُعْرَفُ الصَّحَابِيُّ بِالتَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ وَبِكَوْنِهِ مُهَاجِرًا أو أَنْصَارِيًّا وَبِقَوْلِ صَحَابِيٍّ آخَرَ مَعْلُومِ الصُّحْبَةِ وما يَلْزَمُ منه أَنْ يَكُونَ صَحَابِيًّا كَقَوْلِهِ كُنْت أنا وَفُلَانٌ عِنْدَ
____________________
(3/363)
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أو دَخَلْنَا على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَهَذَانِ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا أَنْ يُعْرَفَ إسْلَامُهُ في تِلْكَ الْحَالَةِ وَيُمَيَّزَ فَأَمَّا إنْ ادَّعَى الْعَدْلُ الْمَعَاصِرُ لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ صَاحَبَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ قال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ نعم لِأَنَّ وَازِعَ الْعَدْلِ يَمْنَعُهُ من الْكَذِبِ إذَا لم يَرِدْ عن الصَّحَابَةِ رَدُّ قَوْلِهِ وَجَرَى عليه ابن الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ وَمِنْهُمْ من تَوَقَّفَ في ثُبُوتِهَا بِقَوْلِهِ لِمَا في ذلك من دَعْوَاهُ رُتْبَةً لِنَفْسِهِ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْقَطَّانِ الْمُحَدِّثِ وهو قَوِيٌّ فإن الشَّخْصَ لو قال أنا عَدْلٌ لم تُقْبَلْ لِدَعْوَاهُ لِنَفْسِهِ مَزِيَّةً فَكَيْفَ إذَا ادَّعَى الصُّحْبَةَ التي هِيَ فَوْقَ الْعَدَالَةِ وَالْأَوَّلُ حَكَاهُ أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ قال إذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ صَاحَبَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وهو مِمَّنْ لَا يُعْرَفُ لم يُقْبَلْ منه حتى تُعْلَمَ عَدَالَتُهُ فإذا عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ قُبِلَ منه أَنَّهُ سمع من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَرَآهُ مع إمْكَانِ ذلك منه لِأَنَّ الذي يَدَّعِيهِ دَعْوَى لَا أَمَارَةَ مَعَهَا وَخَالَفَ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وقال وَمَنْ يَدَّعِي صُحْبَةَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يُقْبَلُ منه حتى تُعْلَمَ صُحْبَتُهُ فإذا عَلِمْنَاهَا فما رَوَاهُ فَهُوَ على السَّمَاعِ حتى يُعْلَمَ من غَيْرِهِ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ فإنه قال تُعْلَمُ الصُّحْبَةِ إمَّا بِطَرِيقٍ قَطْعِيٍّ وهو خَبَرُ التَّوَاتُرِ أو ظَنِّيٍّ وهو خَبَرُ الثِّقَةِ وَيَخْرُجُ من كَلَامِ بَعْضِهِمْ قَوْلٌ ثَالِثٌ وهو التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَدَّعِيَ الصُّحْبَةَ الْيَسِيرَةَ وَقُلْنَا بِالِاكْتِفَاءِ بها في مُسَمَّى الصَّحَابِيِّ فَيُقْبَلُ لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَعَذَّرُ إثْبَاتُهُ بِالنَّقْلِ إذْ رُبَّمَا لَا يَحْضُرُهُ حَالَةَ اجْتِمَاعِهِ بِالنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَحَدٌ أو حَالَ رُؤْيَتِهِ إيَّاهُ وَإِنْ ادَّعَى طُولَ الصُّحْبَةِ وَكَثْرَةَ التَّرَدُّدِ في السَّفَرِ وَالْحَضَرِ فإن مِثْلَ ذلك يُشَاهَدُ وَيُنْقَلُ وَيُشْتَهَرُ فَلَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ ولم يَقِفْ ابن الْحَاجِبِ على نَقْلٍ في هذه الْمَسْأَلَةِ فقال لو قال الْمَعَاصِرُ الْعَدْلُ أنا صَحَابِيٌّ اُحْتُمِلَ الْخِلَافُ وقال أبو عبد اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا الْإِخْبَارُ عن أَحَدٍ بِأَنَّهُ صَحَابِيٌّ إلَّا بَعْدَ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ إمَّا اضْطِرَارًا أو اكْتِسَابًا وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يُخْبَرَ بِذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّحَابِيُّ قُلْت وهو الصَّحِيحُ وقد رَوَى الْبُخَارِيُّ في الْمَغَازِي عن الزُّهْرِيِّ عن سُنَيْنِ بن جَمِيلَةَ قال زَعَمَ أَنَّهُ أَدْرَكَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَخَرَجَ معه عَامَ الْفَتْحِ أَمَّا إذَا أَخْبَرَ عنه عَدْلٌ من التَّابِعِينَ أو تَابِعِيهِمْ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ قال بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ لَا أَعْرِفُ فيه نَقْلًا قال وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ فيه أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ ذلك كما لَا يُقْبَلُ من ذلك مَرَاسِيلُهُ لِأَنَّ تِلْكَ قَضِيَّةٌ لم يَحْضُرْهَا ا ه
____________________
(3/364)
وَالظَّاهِرُ قَبُولُهُ لِأَنَّهُ لَا يقول ذلك إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ إمَّا اضْطِرَارًا أو اكْتِسَابًا وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ السَّابِقُ قال الصَّيْرَفِيُّ وَمَنْ عُلِمَ أَنَّهُ سمع رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فما حَكَاهُ على السَّمَاعِ حتى يُعْلَمَ غَيْرُهُ سَوَاءٌ بَيَّنَ ذلك أو لَا لِظُهُورِ الْعَدَالَةِ في الْكُلِّ مَسْأَلَةٌ تَعْرِيفُ التَّابِعِينَ الْخِلَافُ في التَّابِعِيِّ كَالْخِلَافِ في الصَّحَابِيِّ هل هو الذي رَأَى صَحَابِيًّا أو الذي جَالَسَ صَحَابِيًّا قَوْلَانِ حَكَاهُمَا النَّوَوِيُّ أَوَّلَ تَهْذِيبِهِ وقال الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ هو من صَحِبَ الصَّحَابِيَّ وَكَلَامُ الْحَاكِمِ كما قَالَهُ ابن الصَّلَاحِ يُشْعِرُ بِالِاكْتِفَاءِ بِاللِّقَاءِ وهو أَقْرَبُ منه في الصَّحَابِيِّ نَظَرًا إلَى مُقْتَضَى اللَّفْظَيْنِ فِيهِمَا وقد يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِشَرَفِ الصُّحْبَةِ وَعِظَمِ رُؤْيَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَذَلِكَ أَنَّ رُؤْيَةَ الصَّالِحِينَ لها أَثَرٌ عَظِيمٌ فَكَيْفَ رُؤْيَةُ سَيِّدِ الصَّالِحِينَ فإذا رَآهُ مُسْلِمٌ وَلَوْ لَحْظَةً انْصَبَغَ قَلْبُهُ على الِاسْتِقَامَةِ لِأَنَّهُ بِإِسْلَامِهِ تَهَيَّأَ لِلْقَبُولِ فإذا قَابَلَ ذلك النُّورَ الْعَظِيمَ أَشْرَقَ عليه وَظَهَرَ أَثَرُهُ في قَلْبِهِ وَعَلَى جَوَارِحِهِ الشَّرْطُ الرَّابِعُ من الشُّرُوطِ التي يَجِبُ أَنْ تَتَحَقَّقَ في الْمُخْبِرِ أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا من السَّهْوِ وَالْغَلَطِ ضَابِطًا لِمَا يَتَحَمَّلُهُ وَيَرْوِيهِ لِيَكُونَ الناس على ثِقَةٍ منه في ضَبْطِهِ وَقِلَّةِ غَلَطِهِ فَإِنْ كان قَلِيلَ الْغَلَطِ قُبِلَ خَبَرُهُ إلَّا فِيمَا نَعْلَمُهُ أَنَّهُ غَلِطَ فيه وَإِنْ كان كَثِيرَ الْغَلَطِ رُدَّ إلَّا فِيمَا نَعْلَمُ أَنَّهُ لم يَغْلَطْ فيه قال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَنَحْوُهُ قَوْلُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ لَا يُشْتَرَطُ انْتِفَاءُ الْغَفْلَةِ فَكَوْنُ الرَّاوِي مِمَّنْ تَلْحَقُهُ الْغَفْلَةُ لَا يُوجِبُ رَدَّ حَدِيثِهِ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ قد لَحِقَتْهُ الْغَفْلَةُ فيه بِعَيْنِهِ وَأَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ لَا يَخْلُونَ من جَوَازِ يَسِيرِ الْغَفْلَةِ وَإِنَّمَا يُرَدُّ إذَا غَلَبَتْ الْغَفْلَةُ على أَحَادِيثِهِ وَعَلَيْهِ يَخْرُجُ ما قَالَهُ الشَّافِعِيُّ في إسْمَاعِيلَ بن عَيَّاشٍ قال إنَّهُ كان سَيِّئَ الْحِفْظِ فِيمَا يَرْوِيهِ عن غَيْرِ الشَّامِيِّينَ وَعَنَى بِهِ أَنَّ الْغَفْلَةَ كانت غَالِبَةً عليه في ذلك فَاخْتَلَطَتْ رِوَايَاتُهُ وَلَكِنْ إذَا تَعَارَضَتْ رِوَايَاتُ من تَنَاهَى بِحِفْظِهِ وَمَنْ تَلْحَقُهُ الْغَفْلَةُ رُجِّحَ الْأَوَّلُ وَذَكَرَ نَحْوَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ وقال ابن فُورَكٍ في كِتَابِهِ فَإِنْ لم يَكُنْ ضَابِطًا لِكُلِّ ما حَدَّثَ بِهِ سَاغَ الِاجْتِهَادُ فيه وَإِنْ غَلَبَ عليه تَرْكُ الضَّبْطِ لم يُقْبَلْ خَبَرُهُ كما لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ إنْ كان الرَّاوِي تَلْحَقُهُ الْغَفْلَةُ في حَالَةٍ لَا يُرَدُّ حَدِيثُهُ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ قد لَحِقَتْهُ
____________________
(3/365)
الْغَفْلَةُ في حَدِيثٍ بِعَيْنِهِ وقال أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ من أَخْطَأَ في حَدِيثٍ فَلَيْسَ بِدَلِيلٍ على الْخَطَأِ في غَيْرِهِ ولم يَسْقُطْ بِذَلِكَ حَدِيثُهُ وَمَنْ كَثُرَ خَطَؤُهُ وَغَلَطُهُ لم يُقْبَلْ خَبَرُهُ لِأَنَّ الْمَدَارَ على حِفْظِ الْحِكَايَةِ ا هـ وَهَذَا ما حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ في عِلَلِهِ عن جُمْهُورِ أَهْلِ الحديث فقال كُلُّ من كان مُتَّهَمًا في الحديث بِالْكَذِبِ أو كان مُغَفَّلًا يُخْطِئُ الْكَثِيرَ فَاَلَّذِي اخْتَارَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الحديث من الْأَئِمَّةِ أَنْ لَا يُشْتَغَلَ منه بِالرِّوَايَةِ ا هـ وقال صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ الْأَحْوَالُ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّهُ إنْ غَلَبَ خَطَؤُهُ وَسَهْوُهُ على حِفْظِهِ فَمَرْدُودٌ قَطْعًا وَإِنْ غَلَبَ حِفْظُهُ على اخْتِلَالِهِ فَيُقْبَلُ إلَّا إذَا قام دَلِيلٌ على خَطَئِهِ وَإِنْ اسْتَوَيَا فَخِلَافٌ قال الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ يُقْبَلُ لِأَنَّ جِهَةَ الصِّدْقِ رَاجِحَةٌ في خَبَرِهِ لِعَقْلِهِ وَدِينِهِ ا هـ قُلْت وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ مِمَّنْ غَلَبَ غَلَطُهُ وَأَطْلَقَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ رَدَّ خَبَرِهِ إذَا كَثُرَ منه السَّهْوُ وَالْغَلَطُ وَأَشَارَ بَعْضُ الْخُرَاسَانِيِّينَ من أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ خَبَرُهُ إذَا كان مُفَسَّرًا وهو أَنْ يَذْكُرَ من رَوَى عنه وَيُعَيِّنَ وَقْتَ السَّمَاعِ منه وما أَشْبَهَ ذلك قُلْت وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي أبو الْحُسَيْنِ في كِتَابِ الشَّهَادَاتِ من تَعْلِيقِهِ وَذَكَرَ ابن الرِّفْعَةِ أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ نَقَلَهُ عن الشَّافِعِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّهَادَةِ فَفِي الرِّوَايَةِ أَوْلَى قال وهو ما أَوْرَدَهُ الْفُورَانِيُّ وَالْمَسْعُودِيُّ وَالْغَزَالِيُّ الشَّرْطُ الْخَامِسُ أَنْ لَا يُعْرَفَ بِالتَّسَاهُلِ فِيمَا يَرْوِيهِ وَبِالتَّأْوِيلِ لِمَذْهَبِهِ فَرُبَّمَا أَحَالَ الْمَعْنَى بِتَأَوُّلِهِ وَرُبَّمَا يَزِيدُ في مَوْضِعٍ زِيَادَةً يُصَحِّحُ بها فَاسِدَ مَذْهَبِهِ فلم يُوثَقْ بِخَبَرِهِ قَالَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ وَلَوْ رَوَى الحديث وهو غَيْرُ وَاثِقٍ بِهِ لم يُقْبَلْ وَإِنْ كان يَتَسَاهَلُ في غَيْرِ الحديث وَيَحْتَاطُ في الحديث قُبِلَتْ رِوَايَاتُهُ على الْأَصَحِّ وقال الْمَازِرِيُّ الرَّاوِي إنْ عُرِفَ منه التَّسَاهُلُ في حَدِيثِهِ وَالتَّسَامُحُ لم يُقْبَلْ قَطْعًا وَإِنْ لم يُعْرَفْ ذلك منه وَلَكِنْ نَرَى منه غَفْلَةً وَسَهْوًا فَإِنْ كان ذلك نَادِرًا لم يُؤَثِّرْ ما لم يَلُحْ لِلسَّامِعِ فيه ظُهُورُ مَخَايِلِ الْغَفْلَةِ وَإِنْ كَثُرَتْ فَاخْتَلَفُوا على ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا لَا يُمْنَعُ من قَبُولِهِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ منه مَخَايِلُ الْغَفْلَةِ وَالثَّانِي لَا يُقْبَلُ
____________________
(3/366)
وَالثَّالِثُ يُجْتَهَدُ وَيُبْحَثُ في الحديث الذي سُمِعَ منه حتى يَظْهَرَ ضَعْفُهُ من قُوَّتِهِ وهو مَذْهَبُ عِيسَى بن أَبَانَ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ لَكِنَّهُ مَثَّلَ بِمِثَالٍ فيه نَظَرٌ مَسْأَلَةٌ رُوَاةٌ لَا تُرَدُّ رِوَايَتُهُمْ لَا يُرَدُّ خَبَرُ من قَلَّتْ رِوَايَتُهُ كما لَا تُرَدُّ شَهَادَةُ من قَلَّتْ شَهَادَتُهُ وَلَا يُرَدُّ خَبَرُ من لم يَعْرِفْ مُجَالَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ لِأَنَّهُ قد سمع من حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ قال ابن فُورَكٍ وابن السَّمْعَانِيِّ نعم إنْ رَوَى كَثِيرًا لَا يَحْتَمِلُهُ حَالُهُ لم يُقْبَلْ لِأَنَّ التُّهْمَةَ تَقْوَى فيه فَيَضْعُفُ الظَّنُّ بِقَوْلِهِ مَسْأَلَةٌ التَّدْلِيسُ وَحُكْمُهُ من عُرِفَ بِتَدْلِيسِ الْمُتُونِ فَهُوَ مَجْرُوحٌ مَطْرُوحٌ وهو مِمَّنْ يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عن مَوَاضِعِهِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمْ وَأَمَّا الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ فقال التَّدْلِيسُ في الْمَتْنِ هو الذي يُسَمِّيهِ أَصْحَابُ الحديث بِالْمُدْرَجِ وهو أَنْ يُدْرَجَ في كَلَامِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كَلَامٌ غَيْرُهُ فَيَظُنُّ السَّامِعُ أَنَّ الْجَمِيعَ من كَلَامِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال فَلَا حُجَّةَ فِيمَا هذا سَبِيلُهُ تدليس الرواة وأما من عرف بتدليس الرواة مع صدقه في المتون كشريك وهشيم وقتادة والأعمش وسفيان بن عيينة وقيل إن التدليس في أهل الكوفة أشهر منه في أهل البصرة فله أحوال أحدها أن يكون في إبدال الأسماء بغيرها كما يقول عن اسم زيد بن خالد عمرو بن بكر فهو كذب يرد به حديثه قاله الماوردي والروياني ثانيها أن يسميه بتسمية غير مشهورة وسهل ابن الصلاح أمره وقال ابن السمعاني ليس يجرح إلا أنه بحيث لو سئل عنه لم ينبه عليه وأما أبو الفتح بن برهان فقال هو جرح إلا أن يكون الذي يروي باسمه من أهل الأهواء ولكنه عدل عن اسمه المشهور صونا له عن القدح فلا ترد بذلك روايته لأن من العلماء من قبل أهل
____________________
(3/367)
الأهواء ا هـ وليس من هذا إعطاء شخص اسم آخر تشبيها له كقول القائل أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ويعني به بعض مشايخه تشبيها بالبيهقي يعني الحاكم ثالثها أن يكون التدليس في اطراح اسم الراوي الأقرب وإضافة الحديث إلى من هو أبعد منه فهذا قد فعله سفيان بن عيينة فلا يكون به مجروحا لكن لا يقبل من حديثه إذا روي عن فلان حتى يقول حدثني أو أخبرني قاله الماوردي والروياني وقال إلكيا الطبري من قبل المراسيل لم ير له أثرا إلا أن يدلس لضعف عمن سمع منه فلا يعمل به وأما إذا لم يعلم بمطلق روايته فلا بد أن يقول حدثني أو أخبرني أو سمعته وفصل ابن السمعاني في القواطع بين أن يعرف بالتدليس ويغلب عليه وإذا استكشف لم يخبر باسم من يروي عنه فهذا يسقط الاحتجاج بحديثه لأنه تزوير لا حقيقة له وذلك يؤثر في صدقه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور وبين أن يرى اسم من يروي عنه إلا أنه إذا كشف عنه أخبر باسمه وأضاف الحديث إلى ناقله فهذا لا يسقط الحديث ولا يقتضي القدح في الراوي وقد كان سفيان بن عيينة يدلس فإذا سئل عمن حدثه بالخبر نص على اسمه ومذهب الشافعي أن من اشتهر بالتدليس لا تقبل روايته إلا إذا صرح بالسماع والتحديث فأما إذا قال عن فلان لم يقبل وأما إذا لم يشتهر بالتدليس فيقبل منه إذا حدث بالضعف لأن الناس قد يفعلون ذلك طلبا للخفة والاختصار وقال أبو بكر الصيرفي في كتاب الدلائل والأعلام كل من ظهر تدليسه من غير الثقات لم يقبل خبره حتى يقول حدثني أو سمعت ومن قال في الحديث حدثنا فلان عن فلان قبل خبره لأن الظاهر أنه إنما حكى عنه وإنما توقفنا في المدلس لعيب ظهر لنا فيه وإن لم يظهر فهو على سلامته ولو توقيناها لتوقينا في حدثنا لإمكان أن يكون حدث قبيلته وأصحابه كقول الحسن خطبنا فلان بالبصرة ولم يكن حاضرا لأنه احتمال لاغ فكذلك من علم سماعه إذا كان عن مدلس وكذلك
____________________
(3/368)
إذا قال صحابي كأبي بكر وعمر قال رسول الله كذا فهو محمول على السماع والقائل بخلاف ذلك يغفل وقال أبو الحسين بن القطان في كتابه المدلس هو من يوهم شيئا ظاهره بخلاف باطنه وليس بصريح من الكذب مثل أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون بينه وبين الرسول واسطة فإذا كف ذلك منه وجب أن يكف عن إخباره وقد شدد بعض المحدثين فيه فقال شعبة لأن أدمى أحب إلي من أن أدلس قال ووجدت ابن أخي هشام حكى عن الشافعي أنه لا يجيز التدليس ولا يقول به ويقول هذا سليمان الشاذكوني يقول من أراد أن يتدين بالحديث فلا يكتب عن فلان وفلان شيئا إلا ما قالا حدثنا أو أخبرنا وما سوى ذلك فهو خل وبقل قال ومن عرف بالتدليس وقف في خبره قال أبو الحسين وجملته أن المحدث إن قصد بقوله عن فلان إيهام أنه سمع منه فهو غش وإن كان على طريق الفتوى كقصة أبي هريرة في الجنب يصوم فإن ذلك لا يضره قال والكلام في الصحف وغيرها مثل هذا ولا يقبل ذلك الكتاب إلا أن يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم ككتاب عمرو بن حزم فأما إذا كان كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فيجوز أن يجعل أصلا فيقال به لأنه لم يسمعه إلا وقد صح شرائطه ويجوز أن يقال يقف عنه حتى يعلم من أي وجه كان ا هـ قال ومن عرف بالتدليس لا يقبل منه حرف حتى يبين سماعه ويقبل ذلك من الثقات وقد يعرف التدليس بأن يكثر عن المجهولين ويصل الوقوف وإذا فعل ذلك توقف في خبره وكذلك قال القفال الشاشي في كتابه من عرف بالتدليس لم يقبل خبره حتى يخبر بالسماع فيقول سمعت أو أخبرني أو حدثني ونحوه فأما إذا قال قال فلان فلا يقبل لأن تدليسه ظهر فالواجب التوقف عنه في خبره وإنما يسامح الثقات غير المعروفين بالتدليس في قولهم عن فلان لأن ذلك أخف من الإخبار بالسماع في خبره ويحمل ذلك منهم على السماع على حمله ما عرف منهم فصير ذلك كاللغة الجارية فأما من ظهر فيه التدليس فلا بد من الكشف ليوقف على من سمع منه الخبر لينظر في أحواله ا هـ وقال القاضي أبو الطيب والأستاذ أبو منصور إن عرف بالتدليس لم يقبل حتى يصرح بالتحديث وإن لم يعرف به قبل منه قوله قال فلان إذا حكاه
____________________
(3/369)
عمن أدركه وحمل على سماعه منه قال سليم وذهب بعض المحدثين إلى أنه لا يقبل خبر المدلس بحال وجعله جرحا وقال القاضي عبد الوهاب اختلفوا في قبول خبر المدلس وهو الذي يعزي الرواية إلى رجل بينه وبينه رجل آخر فعن أصحاب أبي حنيفة أنه تقبل روايته وهو قول داود على ما حكاه الجزري ولا شك أن روايته لا تقبل على رأي من رد المراسيل وإنما الخلاف في ذلك فيمن قبلها وحكي عن الشافعي أنه شدد في المنع من قبول روايته حتى قال لا تقبل منه إذا قال أخبرني حتى يقول حدثني أو سمعت لأن هذا القول لا لبس فيه والأول فيه لبس قال وذكر بعض أصحابنا قبول روايته والظاهر على أصول مالك عندي أنها مردودة وحكى المازري الخلاف في قبول حديث المدلس ثم اختار أنه يقدح في ورعه وتحفظه وأما قبول حديثه أو رده فيتوقف على الاطلاع على تأويله وغرضه الباعث له على التدليس وعلى الفطن في مقدار تغريره بالسامعين منه وهل أمن أن يقعوا بما حدثهم في نقل ما لا يحل لهم لو أبدى لهم ما كتم أم لا وقال القاضي في التقريب التدليس يتضمن الإرسال لا محالة لاشتراكهما في حذف الواسطة وإنما يفترقان في أن التدليس يوهم سماع من لم يسمع منه وهو الموهن لأمره والإرسال لا يتضمن التدليس لأنه لا يوهم ذلك والجمهور على قبول خبره وقال به جمهور من قبل المرسل وقيل لا يقبل لما فيه من التوهم والمختار أن من عرف منه لم يقبل إذا أورده على وجه يحتمل السماع وغيره وإن لم يوهم ذلك قبل وقال وأما من قال في الإجازة والمناولة حدثني أو أخبرني فإن قلنا إنه يجوز العمل بالإجازة قبل ومن لا يجوزه لم يقبله لإيهام إرادة ما يجوز العمل به وهو لا يجوزه تَنْبِيهٌ شَرْطُ صِحَّةِ تَحَمُّلِ الرِّوَايَةِ هذه الشُّرُوطُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ حَالَةَ الْأَدَاءِ لَا حَالَةَ التَّحَمُّلِ وَلِهَذَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ ما تَحَمَّلَهُ في حَالِ صَبَاهُ وَكُفْرِهِ وَفِسْقِهِ وَأَدَّاهُ في حَالَةِ الْكَمَالِ على ما سَبَقَ وَشَرْطُ صِحَّةِ التَّحَمُّلِ وُجُودُ التَّمْيِيزِ فَقَطْ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ قَالَا فَلَوْ كان الصَّبِيُّ غير مُمَيِّزٍ لم يَصِحَّ تَحَمُّلُهُ قَالَا وَعَلَى مُتَحَمِّلِ السُّنَّةِ أَنْ يَرْوِيَهَا إذَا سُئِلَ عنها وَلَا يَلْزَمُهُ رِوَايَتُهَا إذَا لم يُسْأَلْ عنها إلَّا أَنْ يَجِدَ الناس على خِلَافِهَا
____________________
(3/370)
فَصْلٌ رِوَايَةُ الْأَعْمَى وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي بَصِيرًا بَلْ يُقْبَلُ خَبَرُ الْأَعْمَى الضَّابِطِ وَاخْتَلَفُوا في جَوَازِ سَمَاعِهِ وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ إذَا حَصَلَتْ الثِّقَةُ بِهِ بِأَنْ يَكُونَ ضَابِطًا لِلصَّوْتِ بِدَلِيلِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ على قَبُولِ حديث عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها من خَلْفِ سِتْرٍ وَهُمْ في تِلْكَ الْحَالَةِ كَالْعُمْيَانِ وقد قَبِلُوا خَبَرَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَعِتْبَانَ بن مَالِكٍ وَحَكَى الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ الشَّهَادَاتِ في رِوَايَةِ الْأَعْمَى وَجْهَيْنِ وَأَنَّ الْإِمَامَ وَالْغَزَالِيَّ صَحَّحَا الْمَنْعَ وَأَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ الْجَوَازُ لِمَا ذَكَرْنَا قال وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا تَحَمَّلَهَا وهو أَعْمَى فَأَمَّا ما سَمِعَهُ قبل الْعَمَى فَتُقْبَلُ رِوَايَتُهُ في الْعَمَى بِلَا خِلَافٍ أَيْ لِلْإِجْمَاعِ على قَبُولِ رِوَايَاتِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ طَرَأَ الْعَمَى عليه رِوَايَةُ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ وَهَلْ تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْأَخْرَسِ إذَا كانت الْإِشَارَةُ مُفْهِمَةً قال بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ لَا أَعْرِفُ فيه نَصًّا وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ أَنْ يَنْبَنِيَ ذلك على الْوَجْهَيْنِ في شَهَادَتِهِ فَإِنْ قُلْنَا تُقْبَلُ فَرِوَايَتُهُ أَوْلَى وَإِنْ قُلْنَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَفِي رِوَايَتِهِ وَجْهَانِ وَالظَّاهِرُ الْقَبُولُ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ أَوْسَعُ من الشَّهَادَةِ رِوَايَةُ الْمَرْأَةِ وَلَا تُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ بَلْ يُقْبَلُ خَبَرُ الْمَرْأَةِ وَالْخُنْثَى وَنَقَلَ صَاحِبُ الْحَاوِي عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ أَخْبَارُ النِّسَاءِ في الدِّينِ إلَّا أَخْبَارَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رضي اللَّهُ عنهما قال الرُّويَانِيُّ هَكَذَا نَقَلَهُ وَلَا يَصِحُّ وهو غَلَطٌ لِأَنَّهُ لو كان نَقْصُ الْأُنُوثَةِ مَانِعًا لَهُنَّ لم يُقْبَلْ قَوْلُهَا في الْفَتْوَى وهو غَلَطٌ ا هـ وَهَذَا النَّقْلُ لَا تَعْرِفُهُ الْحَنَفِيَّةُ وقد قال أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ رِوَايَةُ النِّسَاءِ مَقْبُولَةٌ لِأَنَّهُنَّ في الشَّهَادَةِ فَوْقَ الْأَعْمَى وقد قُبِلَتْ رِوَايَةُ الْأَعْمَى فَالْمَرْأَةُ أَوْلَى وَلِأَنَّ
____________________
(3/371)
الصَّحَابَةَ كَانُوا يَسْأَلُونَ أَزْوَاجَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم نعم في تَعْلِيقِ ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ حِكَايَةُ وَجْهَيْنِ في قَبُولِ فَتْوَى الْمَرْأَةِ لَا يَبْعُدُ جَرَيَانُهُمَا في رِوَايَتِهَا وَخَرَجَ من ذلك طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا الْقَطْعُ بِالْقَبُولِ نعم في تَرْجِيحِ رِوَايَةِ الرَّجُلِ على الْمَرْأَةِ خِلَافٌ حَكَاهُ في الْمَنْخُولِ اشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ وَلَا تُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ بَلْ تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْعَبْدِ وَإِنْ لم تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ قال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ لَا خِلَافَ بين الْعُلَمَاءِ في عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورَةِ اشْتِرَاطُ كَوْنِ الرَّاوِي فَقِيهًا وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ سَوَاءٌ خَالَفَتْ رِوَايَتُهُ الْقِيَاسَ أَمْ لَا وَشَرَطَ عِيسَى بن أَبَانَ فِقْهَ الرَّاوِي لِتَقْدِيمِ الْخَبَرِ على الْقِيَاسِ وَلِهَذَا رَدَّ حَدِيثَ الْمُصَرَّاةِ وَتَابَعَهُ أَكْثَرُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ وَمِنْهُمْ الدَّبُوسِيُّ وَأَمَّا الْكَرْخِيّ وَأَتْبَاعُهُ فلم يَشْتَرِطُوا ذلك بَلْ قَبِلُوا خَبَرَ كل عَدْلٍ إذَا لم يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ أو السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَيُقَدَّمُ على الْقِيَاسِ قال أبو الْيُسْرِ منهم وَإِلَيْهِ مَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ قال صَاحِبُ التَّحْقِيقِ وقد عَمِلَ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ أبي هُرَيْرَةَ إذَا أَكَلَ أو شَرِبَ نَاسِيًا وَإِنْ كان مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ حتى قال أبو حَنِيفَةَ لَوْلَا الرِّوَايَةُ لَقُلْت بِالْقِيَاسِ وقد ثَبَتَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال ما جَاءَنَا عن اللَّهِ وَعَنْ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَعَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَاحْتَجَّ أبو حَنِيفَةَ في مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ على تَقْدِيرِ الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ بِمَذْهَبِ أَنَسِ بن مَالِكٍ مُقَلِّدًا له فما ظَنُّك بِأَبِي هُرَيْرَةَ مع أَنَّهُ أَفْقَهُ من أَنَسٍ قال ولم يُنْقَلْ عن أَحَدٍ من السَّلَفِ اشْتِرَاطُ الْفِقْهِ في الرَّاوِي فَثَبَتَ أَنَّهُ قَوْلٌ مُحْدَثٌ ا هـ وَكَذَا قال بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ قال وَلِهَذَا قُلْنَا بِحَدِيثِ الْقَهْقَهَةِ وَأَوْجَبْنَا الْوُضُوءَ فيها وَلَيْسَتْ بِحَدَثٍ في الْقِيَاسِ وَلِهَذَا لم يُوجِبُوا الْوُضُوءَ على من
____________________
(3/372)
قَهْقَهَ في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ لِأَنَّ النَّصَّ لم يَرِدْ إلَّا في صَلَاةٍ ذَاتِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ قُلْت وَالصَّوَابُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كان من فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وقد أَفْرَدَ الْقَاضِي أبو الْحُسَيْنِ السُّبْكِيُّ جُزْءًا في فَتَاوِيهِ وقال شَارِحُ الْبَزْدَوِيِّ بَلْ كان فَقِيهًا ولم يَعْدَمْ شيئا من آلَاتِ الِاجْتِهَادِ وكان يُفْتِي في زَمَنِ الصَّحَابَةِ وما كان يُفْتِي في ذلك الزَّمَانِ إلَّا فَقِيهٌ مُجْتَهِدٌ وقد انْتَشَرَ عنه مُعْظَمُ الشَّرِيعَةِ فَلَا وَجْهَ لِرَدِّ حَدِيثِهِ بِالْقِيَاسِ ا هـ أُمُورٌ أُخْرَى لَا تُشْتَرَطُ في الرُّوَاةِ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا عِلْمُهُ بِمَا رَوَاهُ وَلَا بِكَوْنِهِ لَا يَدْرِي الْمُرَادَ بِهِ كَالْأَعْجَمِيِّ لِأَنَّ جَهْلَهُ بِمَعْنَى الْكَلَامِ لَا يَمْنَعُ من ضَبْطِهِ لِلْحَدِيثِ وَلِهَذَا يُمْكِنُهُ حِفْظُ الْقُرْآنِ وَإِنْ لم يَعْرِفْ مَعْنَاهُ كما لَا يُرَدُّ بِكَوْنِهِ لم يَرْوِ غير الْقَلِيلِ كَالْحَدِيثِ وَالْحَدِيثَيْنِ وَلَا بِكَوْنِهِ لَا يَعْرِفُ مُجَالَسَةَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا بِطَلَبِهِ لِأَنَّهُ لَا يَقْدَحُ في صِدْقِهِ قَالَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ قال
____________________
(3/373)
وإذا كان الرَّاوِي مُخْتَلَفًا في اسْمِهِ إلَّا أَنَّ له كُنْيَةً أو لَقَبًا يُعْرَفُ بِهِ فَلَا يُرَدُّ بِذَلِكَ خَبَرُهُ لِأَنَّهُ بِهِ يُعْرَفُ وَيَخْرُجُ عن الْجَهَالَةِ وَنُقِلَ في مَوْضِعٍ آخَرَ عن مَالِكٍ اشْتِرَاطُ مَعْرِفَتُهُ بهذا الشَّأْنِ قال وَعَنِيَ بِهِ مَعْرِفَةَ الرِّجَالِ وَالرُّوَاةِ وَأَنْ يَعْرِفَ هل زِيدَ في الحديث بِنَفْيٍ أو نَقْصٍ منه وَالصَّحِيحُ قَبُولُ رِوَايَةِ من صَحَّتْ رِوَايَتُهُ وَلَوْ لم يَعْنِ بهذا الشَّأْنِ وَبِهِ جَزَمَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُ قال وَلَكِنْ يُرَجَّحُ عليه رِوَايَةُ من اعْتَنَى بِالرِّوَايَاتِ وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ أَجْنَبِيًّا فَلَوْ رَوَى خَبَرًا يَنْفَعُ بِهِ نَفْسَهُ أو وَلَدَهُ قُبِلَ فإنه إنَّمَا يَرْجِعُ نَفْعُهُ إلَيْهِ ثُمَّ بَعْدَ مَوْتِهِ يَصِيرُ شَرْعًا وهو لَا يَخْتَصُّ بِأَحَدٍ قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ سَمِعْت وَلَا أخبرنا خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ أو من ذَهَبَ منهم إلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ الْحَدِيثُ إلَّا إذَا قال رَاوِيَةً سَمِعْت أو أخبرنا حتى يَنْتَهِيَ إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَحَكَاهُ أبو الْعَبَّاسِ بن سُرَيْجٍ في كِتَابِ الْإِعْذَارِ الرَّادِّ كِتَابَ الْإِنْذَارِ ثُمَّ قال وَهَذَا يَقْتَضِي رَدَّ أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ إذْ ليس فيها ذلك وَخَافَ إنْ قِيلَ فُلَانٌ عن فُلَانٍ قَبُولَ الْمُرْسَلِ وَذَهَبَ عن الْعُرْفِ لِأَنَّ الناس اسْتَثْقَلُوا أخبرنا وَسَمِعْت فَأَقَامُوا عن مَقَامِهِمَا لِأَنَّهَا أَلْحَقَتْ الْخَبَرَ بِالْمُخْبِرِ ا هـ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَحْلِفَ على رِوَايَتِهِ وَعَنْ عَلِيِّ بن أبي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ كان يُرَهِّبُ الرَّاوِي الثِّقَةَ حتى يَحْلِفَ على خَبَرِهِ وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَلَا يُشْتَرَطُ الِاجْتِمَاعُ بِالرَّاوِي في كل رِوَايَةٍ بَلْ يَكْفِي مُجَرَّدُ الِاجْتِمَاعِ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً وَاشْتَرَطَ الْبُخَارِيُّ الْأَوَّلَ وَنَقَلَهُ مُسْلِمُ بن الْحَجَّاجِ في كِتَابِهِ وقال لَا أَصْلَ له في أَفْعَالِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ وَنَقَلُوا عن الْجُبَّائِيُّ أَنَّهُ اشْتَرَطَ في قَبُولِ الْخَبَرِ رِوَايَةَ اثْنَيْنِ وَشَرَطَ على الِاثْنَيْنِ اثْنَيْنِ حتى يَنْتَهِيَ الْخَبَرُ إلَى السَّامِعِ وَذَكَرَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ مَذْهَبُ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما لِطَلَبِهِمَا الزِّيَادَةَ في الرُّوَاةِ وَنَقَلَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عنه تَعْلِيلَ ذلك فَإِنَّا لو لم نَقُلْ ذلك تَضَاعَفَتْ الْأَعْدَادُ حتى يَخْرُجَ عن الْحَصْرِ كما يُقَالُ ذلك في تَضْعِيفِ أَعْدَادِ بُيُوتِ الشِّطْرَنْجِ قال وَلَا يُتَّجَهُ له اعْتِبَارُ ذلك بِالشَّهَادَةِ لِقِيَامِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا في أُمُورٍ كَثِيرَةٍ فَلَعَلَّهُ اعْتَمَدَ في ذلك على أَخْبَارٍ صَحَّتْ عن الصِّدِّيقِ وَالْفَارُوقِ في الْتِمَاسِ شَاهِدٍ آخَرَ مع الرَّاوِي الْوَاحِدِ كَقَوْلِ الصِّدِّيقِ لِلْمُغِيرَةِ من شَهِدَ معه وَقَوْلِ عُمَرَ الْفَارُوقِ لِأَبِي مُوسَى مثله وهو
____________________
(3/374)
بَاطِلٌ فإنه لَا خَفَاءَ في قَبُولِ الصَّحَابِيِّ رِوَايَةَ الصِّدِّيقِ وَحْدَهُ وَرِوَايَةِ جُلَّةِ الصَّحَابَةِ إلَّا أَنَّهُ طَلَبَ في بَعْضِ الْأَحْوَالِ مَزِيدَ اسْتِقْصَائِهِمْ لِرَيْبٍ اعْتَرَاهُمْ في خُصُوصِ أَحْوَالِهِ كَإِحْلَافِ عَلِيٍّ بَعْضَ الرُّوَاةِ ا هـ وَاعْلَمْ أَنَّ أَثْبَتَ مَنْقُولٍ عن أبي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ في ذلك ما نَقَلَهُ عنه أبو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ في الْمُعْتَمَدِ فقال قال أبو عَلِيٍّ إذَا رَوَى اثْنَانِ خَبَرًا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ رَوَاهُ وَاحِدٌ فَقَطْ لم يَجُزْ إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يُعَضِّدَهُ ظَاهِرٌ أو عَمَلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِهِ أو اجْتِهَادٌ أو يَكُونَ مُنْتَشِرًا وَحَكَى الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ عنه أَنَّهُ لم يَقْبَلْ في الزِّنَا إلَّا خَبَرَ أَرْبَعَةٍ كَالشَّهَادَةِ عليه ولم يَقْبَلْ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ الْوَاحِدَةِ ا هـ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ رِوَايَةُ الْوَاحِدِ مُطْلَقًا بَلْ يَعْتَبِرُ مع ذلك عَاضِدًا له وَيَقُومُ الْعَاضِدُ مَقَامَ الرَّاوِي الْآخَرِ وَهَذَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ عنه وَهُمْ أَعْرَفُ بِمَذْهَبِهِ قُلْت وَلَا نَظُنُّ أَنَّ ما نُقِلَ أَوَّلًا عن الْجُبَّائِيُّ هو مَذْهَبُ الْبُخَارِيِّ فإن الْحَاكِمَ ذَكَرَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ في صَحِيحِهِ اشْتَرَطَ رِوَايَةَ عَدْلَيْنِ عن عَدْلَيْنِ مُتَّصِلَةً أُنْكِرَ ذلك على الْحَاكِمِ قال ابن الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ هذا غَيْرُ صَحِيحٍ منه وقد ظَنَّ ذلك ولم يُصِبْ وَأَيْضًا فَذَلِكَ احْتِيَاطٌ منه لَا اشْتِرَاطٌ في الْعَمَلِ بِهِ وَحَكَى الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ وابن الْأَثِيرِ في جَامِعِ الْأُصُولِ أَنَّ بَعْضَهُمْ اشْتَرَطَ أَرْبَعَةً عن أَرْبَعَةٍ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْإِسْنَادُ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ منهم من شَرَطَ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ عن اثْنَيْنِ في كل عَصْرٍ إلَى أَنْ يَتَّصِلَ بِأَصْلِهِ وهو قَوْلُ الْجُبَّائِيُّ وَمِنْهُمْ من اعْتَبَرَ رِوَايَةَ ثَلَاثَةٍ عن ثَلَاثَةٍ في كل عَصْرٍ وَمِنْهُمْ من اعْتَبَرَ أَرْبَعَةً وَمِنْهُمْ من اعْتَبَرَ خَمْسَةً وَمِنْهُمْ من اعْتَبَرَ سَبْعَةً وَمِنْهُمْ من اعْتَبَرَ عِشْرِينَ وَمِنْهُمْ من اعْتَبَرَ سَبْعِينَ وَهَذَا غَرِيبٌ وَإِنَّمَا قِيلَ بِبَعْضِهِ في الْمُتَوَاتِرِ مَسْأَلَةٌ الِاعْتِمَادُ على كُتُبِ الحديث من غَيْرِ الرِّوَايَةِ بِالْإِسْنَادِ ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ شَرْطَ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ سَمَاعُهُ وَحَكَاهُ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ عن الْمُحَدِّثِينَ ثُمَّ قال وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ كلهم إلَى أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عليه فإذا صَحَّ عِنْدَهُ النُّسْخَةُ من الصَّحِيحَيْنِ مَثَلًا أو من السُّنَنِ جَازَ له الْعَمَلُ منها وَإِنْ لم يَسْمَعْ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إذَا وَجَدَ النَّاظِرُ حَدِيثًا مُسْنَدًا في كِتَابٍ مُصَحَّحٍ ولم يَرْتَبْ في ثُبُوتِهِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ لم يَسْمَعْ الْكِتَابَ فَلَا يَتَوَقَّفُ وُجُوبُ الْعَمَلِ على
____________________
(3/375)
أَنْ تَنْتَظِمَ له الْأَسَانِيدُ وَمَنَعَهُ الْمُحَدِّثُونَ وَاَلَّذِي قُلْنَاهُ مَقْطُوعٌ بِهِ فإن من رَأَى في صَحِيحِ مُسْلِمٍ أو الْبُخَارِيِّ خَبَرًا وَعَلِمَ ثِقَةَ النُّسْخَةِ فَلَا يُتَمَارَى في أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ وهو مَحَلُّ إجْمَاعٍ هَكَذَا نَقَلَهُ عنه ابن الْقُشَيْرِيّ في كِتَابِهِ ثُمَّ قال وإذا كان التَّعْوِيلُ على الثِّقَةِ فَلَوْ رَأَى حَدِيثًا في كِتَابِ رَجُلٍ مَوْثُوقٍ بِهِ عَرَفَ منه أَنَّهُ لَا يُجَازِفُ يَجِبُ عليه الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ لم يَرَهُ مَذْكُورًا بِإِسْنَادِهِ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَوُجُوبُ الْعَمَلِ لَا يَتَوَقَّفُ على الْإِسْنَادِ حِسًّا حتى إذَا رَآهُ في مَوْضِعٍ يَنْتَفِي عنه اللَّبْسُ منه وَهَذَا يُشِيرُ إلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْمَرَاسِيلِ ا هـ وَهَكَذَا جَزَمَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ قَالَا وقال قَائِلُونَ من الْمُحَدِّثِينَ ليس له ذلك وهو بَعِيدٌ وَلَهُ أَنْ يَقُولَ قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مُسْتَنِدًا إلَى كِتَابٍ وَكَمَا أَنَّ عليه أَنْ يَعْمَلَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ على غَيْرِهِ اعْتِمَادًا على ما في الْكِتَابِ وَاسْتِنَادًا إلَيْهِ مَسْأَلَةٌ إذَا رُوِيَتْ لِصَحَابِيٍّ غَابَ عن الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم سُنَّةٌ هل يَلْزَمُهُ سُؤَالُهُ عنها عِنْدَ لُقْيَاهُ لو رُوِيَتْ سُنَّةٌ لِمَنْ غَابَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَعَمِلَ بها ثُمَّ لَقِيَهُ هل يَلْزَمُهُ سُؤَالُهُ عنها فيه وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابن فُورَكٍ وأبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ أَحَدُهُمَا يَلْزَمُهُ لِيَكُونَ على يَقِينٍ من وُجُوبِ الْعَمَلِ بها وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ لو لَزِمَهُ السُّؤَالُ إذَا حَضَرَ لَلَزِمَهُ الْهِجْرَةُ إذَا غَابَ وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في التَّبْصِرَةِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ وابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ وقال ابن فُورَكٍ إنَّهُ الْأَصَحُّ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا كُلِّفُوا بِالظَّاهِرِ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ عن الْحَنَفِيَّةِ قال لَكِنَّ الْأَوْلَى ذلك وقال صَاحِبُ الْحَاوِي الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ وُجُوبَ السُّؤَالِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السُّنَّةِ فَإِنْ كانت تَغْلِيظًا لم يَلْزَمُهُ السُّؤَالُ وَإِنْ كانت تَرْخِيصًا لَزِمَهُ السُّؤَالُ لِأَنَّ التَّغْلِيظَ الْتِزَامٌ وَالتَّرْخِيصَ إسْقَاطٌ قال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وابن فُورَكٍ وَاحْتَجَّ من لم يُوجِبْهُ بِأَنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ لَقِيَ خَلْقٌ منهم النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فلم يَبْلُغْنَا أَنَّ وَاحِدًا منهم سَأَلَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عن مَسْأَلَةٍ مِمَّا كان
____________________
(3/376)
مُعَاذٌ أَدَّاهُ إلَيْهِمْ وَلَمَّا أتى آتٍ أَهْلَ قُبَاءَ فَأَخْبَرَهُمْ لم يَقُلْ أَنَّهُمْ سَأَلُوا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بَعْدَ ذلك وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِالِاعْتِقَادِ فَحَيْثُ يُمْكِنُ فَلَا يُعْدَلُ عنه وَأَهْلُ قُبَاءَ اسْتَغْنَوْا عن السُّؤَالِ بِمُشَاهَدَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم التَّحْوِيلَ وَأَهْلُ الْيَمَنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا سَأَلُوهُ وَمِثْلُهُ بِمَا أَتَاهُمْ آتٍ في تَحْرِيمِ الْخَمْرِ أَرَاقُوهَا ولم يَسْأَلُوا وَبِأَنَّ شُهُودَ الْأَصْلِ إذَا حَضَرُوا كان السَّمَاعُ لهم دُونَ الْفَرْعِ فَكَذَلِكَ هُنَا وقال الْآخَرُونَ يَنْظُرُ في ذلك فَإِنْ كان قد حَكَمَ بِشَهَادَةِ الْفَرْعِ ثُمَّ حَضَرَ شُهُودُ الْأَصْلِ لم يَكُنْ عليه أَنْ يَسْأَلَهُمْ وَهُمَا سَوَاءٌ في الْمَعْنَى ا هـ فَرْعٌ فَلَوْ رَوَى تَابِعِيٌّ عن صَحَابِيٍّ ثُمَّ ظَفِرَ الْمَرْوِيُّ له بِالْمَرْوِيِّ عنه فَهَلْ يَلْزَمُهُ سُؤَالُهُ يُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ إنْ قُلْنَا يَلْزَمُ ذلك في الصَّحَابِيِّ فَهَاهُنَا أَوْلَى وَإِنْ قُلْنَا لَا يَلْزَمُ فَهَاهُنَا وَجْهَانِ مَسْأَلَةٌ إذَا ظَفِرَ الْإِنْسَانُ بِرَاوِي حَدِيثٍ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَتَعَلَّقُ بِالسُّنَنِ وَالْأَحْكَامِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فَإِنْ كان من الْعَامَّةِ الْمُقَلِّدِينَ لم يَلْزَمْهُ سُؤَالٌ لِأَنَّ فَرْضَ السُّؤَالِ عِنْدَ نُزُولِ الْحَوَادِثِ بِهِ وَإِنْ كان من الْخَاصَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ لَزِمَ سَمَاعُ الحديث لِيَكُونَ أَصْلًا في اجْتِهَادِهِ قَالَا وَنَقْلُ السُّنَنِ من فُرُوضِ الْكِفَايَةِ فإذا نَقَلَهَا من فيه كِفَايَةٌ سَقَطَ فَرْضُهَا عن الْبَاقِينَ وَإِلَّا جُرِّحُوا أَجْمَعُونَ فَائِدَةٌ إذَا سمع الحديث من رَجُلٍ ثُمَّ وَجَدَ من هو أَعْلَمُ منه فَالسُّنَّةُ أَنْ يَسْمَعَ منه لِخَبَرِ ضِمَامِ بن ثَعْلَبَةَ قَالَهُ الْبُخَارِيُّ حَكَاهُ عنه الْعَبَّادِيُّ في الطَّبَقَاتِ مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ لِلصَّحَابِيِّ الِاقْتِصَارُ على السَّمَاعِ عن الصَّحَابِيِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ خِلَافًا لِمَنْ قال يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْأَلَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِتَمَكُّنِهِ منه وَقِصَّةُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه في أَمْرِهِ الْمِقْدَادَ بن الْأَسْوَدِ أَنْ يَسْأَلَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم تُبْطِلُ قَوْلَهُمْ قَالَهُ السَّفَاقِسِيُّ شَارِحُ الْبُخَارِيِّ
____________________
(3/377)
مَسْأَلَةٌ إنْكَارُ الشَّيْخِ ما حَدَّثَ بِهِ إذَا رَوَى ثِقَةٌ عن ثِقَةٍ حَدِيثًا ثُمَّ رَجَعَ الشَّيْخُ فَأَنْكَرَهُ فَلَهُ حَالَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُكَذِّبَ الرَّاوِيَ عنه صَرِيحًا كَقَوْلِهِ كَذَبَ عَلَيَّ ما رَوَيْت له هذا قَطُّ فَالْمَشْهُورُ عَدَمُ قَبُولِ الحديث وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْقَاضِيَ عَزَاهُ لِلشَّافِعِيِّ قال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ إنَّهُ الذي عليه الْأَصْحَابُ وَسَوَاءٌ كان الْفَرْعُ جَازِمًا بِالرِّوَايَةِ عنه أو لم يَكُنْ وَيَصِيرُ كَتَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ فَيُرَدُّ ما جَحَدَهُ الْأَصْلُ لِأَنَّ الرَّاوِيَ عنه فَرْعُهُ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَذِّبٌ لِلْآخَرِ فِيمَا يَدَّعِيهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا كَاذِبًا قَطْعًا لَكِنْ لَا يَثْبُتُ كَذِبُ الْفَرْعِ بِتَكْذِيبِ الْأَصْلِ له في غَيْرِ هذا الذي رَوَاهُ بِحَيْثُ أَنْ يَكُونَ ذلك جَرْحًا لِلْفَرْعِ لِأَنَّهُ أَيْضًا يُكَذِّبُ شَيْخَهُ في نَفْيِهِ ذلك وَلَيْسَ قَبُولُ جَرْحِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى من الْآخَرِ فَتَسَاقَطَا وَيُرَدُّ من حديث الْفَرْعِ ما نَفَى الْأَصْلُ تَحْدِيثَهُ بِهِ خَاصَّةً وَلَا يُرَدُّ من حديث الْأَصْلِ نَفْسِهِ إذَا حَدَّثَ بِهِ كما قال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ فِيمَا حَكَاهُ عن الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ وَكَذَا إذَا حَدَّثَ بِهِ فَرْعٌ آخَرُ ثِقَةً عنه ولم يُكَذِّبْهُ الْأَصْلُ فَهُوَ مَقْبُولٌ وَنَقَلَ الْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ في هذه الْحَالَةِ على الرَّدِّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ في الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبَانِ أَحَدُهُمَا التَّوَقُّفُ لِأَنَّهُ تَعَارَضَ أَمْرَانِ قَطَعَ الْمَنْقُولُ عنه بِكَذِبِ الرَّاوِي وَقَطَعَ النَّاقِلُ بِالنَّقْلِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى من الْآخَرِ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ وَنَقَلَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ عن اخْتِيَارِ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَنَقَلَ عن الْقَاضِي أَنَّهُ قَطَعَ بِالرَّدِّ في هذا الْمَوْضِعِ وَنَازَعَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وقال الذي الْتَزَمَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ التَّوَقُّفُ وهو عَيْنُ ما اخْتَارَهُ الْإِمَامُ قال وَهَذَا كَخَبَرَيْنِ تَعَارَضَا فَإِمَّا أَنْ يَتَسَاقَطَا أو يُرَجَّحَ أَحَدُهُمَا إنْ أَمْكَنَ قُلْت رَوَى الْخَطِيبُ في الْكِفَايَةِ بِإِسْنَادِهِ عن الْقَاضِي مِثْلَ ما نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَعَابَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ فَأَمَّا إذَا قال أَعْلَمُ أَنِّي ما حَدَّثْته فَقَدْ كَذَّبَ فَلَيْسَ قَبُولُ جَرْحِ شَيْخِهِ له أَوْلَى من الْعَكْسِ فَيَجِبُ إيقَافُ الْعَمَلِ بهذا الحديث وَيَرْجِعُ في
____________________
(3/378)
الْحُكْمِ إلَى غَيْرِهِ وَيُجْعَلُ بِمَثَابَةِ ما لم يَرِدْ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَرْوِيَهُ الشَّيْخُ مع قَوْلِهِ إنِّي لم أُحَدِّثْ بِهِ هذا الرَّاوِي عَنِّي فَيُعْمَلُ فيه بِرِوَايَتِهِ دُونَ رِوَايَتِهِ عنه ا هـ وَالثَّانِي أَنَّ تَكْذِيبَ الْأَصْلِ لِلْفَرْعِ لَا يُسْقِطَ الْمَرْوِيَّ وَلِهَذَا لو اجْتَمَعَا في شَهَادَةٍ لم تُرَدَّ وَهَذَا ما اخْتَارَهُ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ كما رَأَيْته في كِتَابِهِ وأبو الْمُظَفَّرِ بن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ قال ابن الْقَطَّانِ وهو مُخَالِفٌ لِلشَّهَادَةِ من هذا الْوَجْهِ لِأَنَّ أَمْرَ الشَّهَادَةِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الْخَبَرِ وَجَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ أَيْضًا فَقَالَا لَا يَقْدَحُ ذلك في صِحَّةِ الحديث إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْفَرْعِ أَنْ يَرْوِيَهُ عن الْأَصْلِ الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يُنْكِرَهُ فِعْلًا بِأَنْ يَعْمَلَ بِخِلَافِ الْخَبَرِ فَإِنْ كان قبل الرِّوَايَةِ فَلَا يَكُونُ تَكْذِيبًا بِوَجْهٍ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ تَرَكَهُ لَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ وَكَذَلِكَ إذَا لم يَعْلَمْ التَّارِيخَ حُمِلَ عليه تَحَرِّيًا لِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ وَأَمَّا إذَا كان بَعْدَ الرِّوَايَةِ نُظِرَ فيه فَإِنْ كان الْخَبَرُ يَحْتَمِلُ ما عُمِلَ بِهِ بِضَرْبٍ من التَّأْوِيلِ لم يَكُنْ تَكْذِيبًا لِأَنَّ بَابَ التَّأْوِيلِ في الْأَخْبَارِ غَيْرُ مَسْدُودٍ لَكِنْ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِأَنَّ تَأْوِيلَهُ بِرَأْيِهِ لَا يَلْزَمُ غَيْرُهُ وَإِنْ كان الْخَبَرُ لَا يَحْتَمِلُ ما عُمِلَ بِهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ هَكَذَا قال ابن الْأَثِيرِ في شَرْحِ مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ وَاعْلَمْ أَنَّ هذا التَّفْصِيلِ لِأَبِي زَيْدٍ الدَّبُوسِيِّ وَقِيَاسُ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ لَا يُرَدُّ بِهِ مُطْلَقًا الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يُنْكِرَهُ تَرْكًا فَإِنْ امْتَنَعَ الشَّيْخُ من الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ فَفِيهِ دَلِيلٌ على أَنَّهُ لو عَرَفَ صِحَّتَهُ لَمَا امْتَنَعَ من الْعَمَلِ بِهِ فإنه يَحْرُمُ عليه مُخَالَفَتُهُ مع الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ وَلَهُ حُكْمُ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ أَنْ لَا يُصَرِّحَ الْأَصْلُ بِتَكْذِيبِهِ وَلَكِنْ شَكَّ أو ظَنَّ أو قال لَا أَذْكُرُهُ أو لَا أَعْرِفُهُ وَيَغْلِبُ على ظَنِّي أَنِّي ما حَدَّثْتُك وَالْفَرْعُ جَازِمٌ بِهِ فَهَاهُنَا تَوَقَّفَ الْقَاضِي فِيمَا نَقَلَهُ عنه الْخَطِيبُ في الْكِفَايَةِ وَالْجُمْهُورُ على عَدَمِ التَّوَقُّفِ وهو الذي رَأَيْته في التَّقْرِيبِ لِلْقَاضِي وَاخْتَلَفُوا هل يَكُونُ الْحُكْمُ لِلْفَرْعِ الذَّاكِرِ أو الْأَصْلِ النَّاسِي فيه قَوْلَانِ فَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إلَى الْأَوَّلِ وَوَافَقَنَا محمد بن الْحَسَنِ وَأَنَّ نِسْيَانَ الْأَصْلِ لَا يَسْقُطُ الْعَمَلُ بِمَا فيه قال الْقَاضِي وهو مَذْهَبُ الدَّهْمَاءِ من الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ من أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهَذَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ في نَفْسِهِ تَارِكًا له وَأَنْ يَكُونَ الرَّاوِي النَّاسِي لِمَا رَوَاهُ وَقْتَ رِوَايَتِهِ بِصِفَةِ من يُقْبَلُ خَبَرُهُ وقال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ هو قَوْلُ أَصْحَابِ الحديث بِأَسْرِهِمْ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وقال ابن الْقُشَيْرِيّ هو ما اخْتَارَهُ الْقَاضِي وَادَّعَاهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ قال وَأَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ بِقَبُولِ الحديث وَإِيجَابِ الْعِلْمِ بِهِ
____________________
(3/379)
وقال الْقَاضِي فيه تَفْصِيلٌ وَنَزَلَ عليه كَلَامُ الشَّافِعِيِّ وَذَهَبَ الْكَرْخِيّ وَالرَّازِيَّ وَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ وَلِهَذَا رَدُّوا خَبَرَ أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا الْخَبَرُ لِأَنَّ رَاوِيَهُ الزُّهْرِيُّ قال لَا أَذْكُرُهُ وَكَذَا حَدِيثُ سُهَيْلِ بن أبي صَالِحٍ في الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ في بَابِ الْأَقْضِيَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ ابْنَ كَجٍّ حَكَاهُ وَجْهًا عن بَعْضِ الْأَصْحَابِ وَنَقَلَهُ شَارِحُ اللُّمَعِ عن اخْتِيَارِ الْقَاضِي أبي حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيِّ وَأَنَّهُ قَاسَهُ على الشَّهَادَةِ وَحُكِيَ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَرْوِيَهُ إلَّا الذي نَسِيَهُ فإنه يَسْقُطُ في حَقِّهِ وَلَيْسَ له أَنْ يَرْوِيَهُ عن الْمَرْوِيِّ عنه لِأَنَّهُ فَرْعٌ وَسَتَأْتِي هذه الْمَسْأَلَةُ لنا أَنَّ الرَّاوِي عَدْلٌ جَازِمٌ بِالرِّوَايَةِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ لِحُصُولِ الْيَقِينِ وَتَوَقُّفُ الشَّيْخِ ليس بِمُعَارِضٍ بَلْ يَجِبُ على الشَّيْخِ أَنْ يَقُولَ حدثني فُلَانٌ عَنِّي وَيُعْمَلُ بِهِ قال الْقَرَافِيُّ فَإِنْ قِيلَ هَلَّا حَمَلْتُمْ النِّسْيَانَ على الْكَلَامِيِّ وَتَعْرِيفَهُمْ قِيلَ له النِّسْيَانُ لم يَقَع منه وهو ظَاهِرُ الْعَدَالَةِ قال الْعُلَمَاءُ وَلِأَجْلِ هذا الْخِلَافِ كَرِهَ جَمَاعَةٌ الرِّوَايَةَ عن الْأَحْيَاءِ منهم الشَّعْبِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالشَّافِعِيُّ حَكَاهُ الْخَطِيبُ في الْكِفَايَةِ وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ في الْمَدْخَلِ أَنَّ ابْنَ عبد الْحَكَمِ رَوَى عن الشَّافِعِيِّ حِكَايَةً فَأَنْكَرَهَا الشَّافِعِيُّ ثُمَّ ذَكَرَهَا وقال لَا تُحَدِّثْ عن حَيٍّ فإن الْحَيَّ لَا يُؤْمَنُ عليه النِّسْيَانُ وَفَصَّلَ أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ بين أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ يَغْلِبُ عليه النِّسْيَانُ وَاعْتَادَ ذلك في مَحْفُوظَاتِهِ فَيُقْبَلُ وَإِنْ كان رَأْيُهُ يَمِيلُ إلَى جَهْلِهِ أَصْلًا بِذَلِكَ الْخَبَرِ رَدَّهُ وَفَصَّلَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ مِنَّا بين أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ دَلِيلٌ يَسْتَقِلُّ فإن التَّرَدُّدَ وَإِنْ لم يُعَارِضْ قَطْعَ الرَّاوِي لَكِنَّهُ يُورِثُ ضَعْفًا فَيَصِيرُ بِمَثَابَةِ خَبَرَيْنِ يَتَعَارَضَانِ وَأَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ أَوْثَقُ فإن مُعَارَضَةَ الثَّانِي له تُخْرِجُهُ عن أَحَدِ الْأَدِلَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ وَإِنْ وَجَدْنَا
____________________
(3/380)
وَرَاءَهُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا فَهُوَ أَوْلَى فإن ما في أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ من مَزِيدِ وُضُوحٍ لَا يَسْتَقِلُّ دَلِيلًا قال وَهَذَا حَسَنٌ جِدًّا إلَّا أَنَّا سَنَذْكُرُ تَرَدُّدًا في أَنَّ مَزِيَّةَ الحديث أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ أو الْقِيَاسِ وَيَضْطَرِبُ الرَّاوِي فيه سِيَّمَا إذَا كان الْقِيَاسُ جَلِيًّا كَاَلَّذِي يُقَرِّرُونَهُ في مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ فَإِنْ قِيلَ إذَا لم يَكُنْ مَعَكُمْ خَبَرٌ مُسْتَقِلٌّ في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَعَلَى مَاذَا تَعْتَمِدُونَ ما رَوَاهُ فَقِيلَ رُوِيَ الْخَبَرُ الذي تَرَدَّدَ فيه الزُّهْرِيُّ من طَرِيقٍ آخَرَ غَيْرِ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ قال وكان إمَامُ الْحَرَمَيْنِ يَرَى الْخَبَرَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا مع تَرَدُّدِ الشَّيْخِ وَلَكِنْ كان يَرَى إذَا قَطَعَ الشَّيْخُ بِالرَّدِّ أَنَّ ذَاكَ يَمْنَعُ قَبُولُ رِوَايَتِهِ قال إلْكِيَا وَمَنْ لم يَسْلُكْ الطَّرِيقَ الذي سَلَكْنَاهُ لَا يَعْدَمُ من التَّعَرُّضِ على ما ذَكَرَهُ الْإِمَامُ كَلَامًا مُخَيِّلًا فإن قَطْعَ النَّافِي قد لَا يُعَارِضُ قَطْعَ الْمُثْبِتِ فَمِنْ الْمُمْكِنِ أَنَّهُ رَوَاهُ ثُمَّ نَسِيَ وَظَهَرَ عِنْدَهُ أَنَّهُ لم يَرْوِ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ يَجُوزُ لِلرَّاوِي في هذه الْحَالَةِ أَنْ يَرْوِيَهُ عن الْأَصْلِ بِخِلَافِ ما قَبْلَهَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ والروياني الثَّانِي هذا كُلُّهُ في أَنَّ الْغَيْرَ هل يَجُوزُ له أَنْ يَعْتَمِدَهُ لِأَنَّهُ الطَّرِيقُ له وقد تَمَسَّك الشَّافِعِيُّ بِرِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بن مُوسَى عن الزُّهْرِيِّ مع قَوْلِ الزُّهْرِيِّ لَا أَدْرِي أَمَّا الشَّيْخُ نَفْسُهُ إذَا لم يَتَذَكَّرْ هل له أَنْ يَتَّبِعَ رِوَايَتَهُ وَيَرْوِيَهُ كما يقول سُهَيْلٌ حدثني رَبِيعَةُ عَنِّي قال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ في كِتَابِ نَقْضِ مُفْرَدَاتِ أَحْمَدَ هذا مَوْضِعُ نَظَرٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ تُتْبَعُ رِوَايَتُهُ تَشَوُّفًا إلَى الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ وَيُحْتَمَلُ خِلَافُهُ وَحَكَى بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ من أَهْلِ الْيَمَنِ أَنَّ صَاحِبَ الْأَمْثَالِ حَكَى عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَرْوِيَهُ إلَّا الذي نَسِيَهُ فإنه يَسْقُطُ في حَقِّهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَ عن الرَّاوِي عنه لِأَنَّهُ فَرْعٌ له وَتَابِعٌ له فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الْفَرْعُ أَصْلًا وَالتَّابِعُ مَتْبُوعًا في شَيْءٍ وَاحِدٍ قال وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في الْمُلَخَّصِ صَنَّفَ الدَّارَقُطْنِيُّ جُزْءًا فِيمَنْ رَوَى عَمَّنْ رَوَى عنه يَعْنِي بَعْدَ نِسْيَانِهِ قُلْت وَكَذَلِكَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَذَكَرَ ما أَهْمَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَمَّا عَمَلُهُ بِهِ فَحَكَى الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ اعْتَلُّوا بِأَنَّ الرَّاوِيَ إذَا نَسِيَ الْخَبَرَ حَرُمَ الْعَمَلُ عليه بِمُوجَبِهِ فَكَذَلِكَ يَحْرُمُ على غَيْرِهِ قال الْبَاجِيُّ
____________________
(3/381)
يُقَالُ لهم من سَلَّمَ لَكُمْ هذا بَلْ يَجِبُ عليه الْعَمَلُ بِهِ إذَا أخبره الْعَدْلُ أَنَّهُ كان قد رَوَاهُ الثَّالِثُ مَحَلُّ الْخِلَافِ في إنْكَارِ لَفْظِ الحديث بِالْجُمْلَةِ فَأَمَّا في اللَّفْظَةِ الزَّائِدَةِ فيه إذَا قال رَاوِيهِ لَا أَحْفَظُ هذه اللَّفْظَةَ أو لم أُحَدِّثْك بها فَلَا خِلَافَ في وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَجَعَلَهُ أَصْلًا مَقِيسًا عليه أَصْلُ الحديث وقال لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قال إنَّهُ يَقْدَحُ في الحديث قال وَكَذَا نِسْيَانُ الْإِعْرَابِ وَكَلَامُ ابْنِ فُورَكٍ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْخِلَافِ بِالْوَاحِدِ فَأَمَّا الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ إذَا نَسَبُوا ذلك كان قَادِحًا قَطْعًا لِاسْتِحَالَةِ ذلك في حَقِّهِمْ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ الرَّابِعُ مَحَلُّ الْخِلَافِ أَيْضًا فِيمَا إذَا لم يَجْزِمْ الْأَصْلُ بِهِ وَجَزَمَ بِهِ الْفَرْعُ فَإِنْ كان الْفَرْعُ غير جَازِمٍ بِأَنْ كان شَاكًّا فيه غير ظَانٍّ له لم تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ وَإِنْ حَذَفَهُ الشَّيْخُ لِفَقْدِ شَرْطِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ شَرْطَهَا الْجَزْمُ بها أو الظَّنُّ فَإِنْ كان ظَانًّا وَالْأَصْلُ شَاكٌّ فيه قال الْهِنْدِيُّ فَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ من صُوَرِ الْخِلَافِ وَإِنْ كان الْأَصْلُ ظَانًّا عَدَمَ الرِّوَايَةِ عنه قال فَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ من جُمْلَةِ صُوَرِ الِاتِّفَاقِ على عَدَمِ الْقَبُولِ قال وَالضَّابِطُ فيه أَنَّهُ مَهْمَا كان قَوْلُ الْأَصْلِ مُعَادِلًا لِقَوْلِ الْفَرْعِ فإنه من جُمْلَةِ صُوَرِ الِاتِّفَاقِ وَمَهْمَا كان الْفَرْعُ رَاجِحًا على قَوْلِ الْأَصْلِ فإنه من جُمْلَةِ صُوَرِ الْخِلَافِ وقال الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَيُتَّجَهُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ في كل هذه الْأَقْسَامِ مَقْبُولًا لِأَنَّ الْفَرْعَ لم يُوجَدْ في مُقَابَلَتِهِ من يُعَارِضُهُ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الِاسْتِدْلَال الْخَامِسُ أَنَّ الْخِلَافَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرِّوَايَةِ أَمَّا الشَّهَادَةُ فَمَحَلُّ وِفَاقٍ فإذا أَنْكَرَ شَاهِدُ الْأَصْلِ الشَّهَادَةَ بَطَلَتْ شَهَادَةُ هذا الْفَرْعِ قال ابن بَرْهَانٍ وَهَاهُنَا مَسْأَلَةٌ يُخَالِفُ فيها الْمَذْهَبَانِ أُصُولَهُمْ وَهِيَ ما لو ادَّعَى رَجُلٌ على الْقَاضِي أَنَّك قَضَيْت لي أو سَجَّلَتْ في الْوَاقِعَةِ الْفُلَانِيَّةِ فَأَنْكَرَ الْقَاضِي دَعْوَاهُ وقال ما قَضَيْت وما سَجَّلْت وما عِنْدِي خَبَرٌ بِمَا تَدَّعِيهِ فإن الْمُدَّعِيَ لو أَقَامَ شَاهِدَيْنِ وَشَهِدَا بِمُوجَبِ دَعْوَاهُ لَا تَثْبُتُ هذه الدَّعْوَى بِشَهَادَتِهِمَا وَقِيَاسُ مَذْهَبِنَا أنها تَثْبُتُ لِأَنَّ الْقَاضِيَ كَالْأَصْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشُّهُودِ وَقُصَارَى ما يَصْدُرُ هَاهُنَا إنْكَارُ الْأَصْلِ وَإِنْكَارُ الْأَصْلِ عِنْدَمَا لَا يَمْنَعُ من الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْفَرْعِ في مَذْهَبِنَا في هذه الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافِيَّةِ وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا على الْقَضَاءِ وَالْإِسْجَالِ وَمُقْتَضَى مَذْهَبِهِمْ أَنْ لَا تُقْبَلَ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَعْنِي الْقَاضِيَ أَنْكَرَ وَعِنْدَهُمْ إنْكَارُ الْأَصْلِ يُسْقِطُ الْفَرْعَ
____________________
(3/382)
مَسْأَلَةٌ إذَا رَوَى حَدِيثًا عن شَيْخٍ وَلَيْسَ هو مَعْدُودًا من أَصْحَابِهِ الْمَشَاهِيرِ وَأَنْكَرَ عليه أَصْحَابُهُ هل يُقْبَلُ مِثَالُهُ تَمَسَّك الْحَنَفِيَّةُ في عَدَمِ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِالنَّوْمِ في الصَّلَاةِ بِحَدِيثِ أبي خَالِدٍ الدَّالَانِيِّ ليس الْوُضُوءُ على من نَامَ قَائِمًا أو قَاعِدًا أو رَاكِبًا أو سَاجِدًا وَإِنَّمَا الْوُضُوءُ على من نَامَ مُضْطَجِعًا قال أَصْحَابُنَا ليس هذا الْحَدِيثُ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ نُقِلَ عن الْإِمَامِ أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ أَنَّهُ قال ما لِأَبِي خَالِدٍ الدَّالَانِيِّ يُزَاحِمُ أَصْحَابَ قَتَادَةَ وَلَيْسَ منهم أَشَارَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّهُ لم يُعَدَّ من جُمْلَةِ أَصْحَابِهِ وَرَوَى الحديث دُونَهُمْ فَأَوْرَثَ شَكًّا قال ابن بَرْهَانٍ وَهَذَا الذي تَخَيَّلَهُ أَصْحَابُنَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ الْكَلَامُ وَاقِعٌ في رَجُلٍ ثِقَةٍ عَدْلٍ فَتُقْبَلُ سَائِرُ رِوَايَاتِهِ فَكَيْفَ يُرَدُّ حَدِيثُهُ قال وَهَذَا هو اللَّائِقُ بِمَذْهَبِنَا فَإِنَّا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ الزِّيَادَةَ من الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ وَهَذَا مِثْلُهُ مَسْأَلَةٌ إنْكَارُ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ بَعْدَ رِوَايَتِهِ إنْكَارُ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ بَعْدَ رِوَايَتِهِ حُكْمُهُ مِثْلُ ما ذَكَرْنَاهُ قَالَهُ أبو الْحَسَنِ بن الْقَطَّانِ لِاحْتِمَالِ النِّسْيَانِ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ إذَا رَجَعَ الرَّاوِي عَمَّا رَوَاهُ وقال كُنْت أَخْطَأْت فيه وَجَبَ قَبُولُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ من حَالِ الْعَدْلِ الثِّقَةِ الصِّدْقُ في خَبَرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُقْبَلَ رُجُوعُهُ فيه كَأَصْلِ رِوَايَتِهِ فَإِنْ قال تَعَمَّدْت الْكَذِبَ فقال أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ في أُصُولِهِ لَا يُعْمَلُ بِهِ وَلَا بِشَيْءٍ من خَبَرِهِ فِيمَا نُقِلَ
____________________
(3/383)
مَسْأَلَةٌ إذَا تَشَكَّكَ الرَّاوِي في الحديث بَعْدَ رِوَايَتِهِ له فَأَمَّا ما ذَكَرَ الرَّاوِي شَكًّا مُبْتَدَأً فإنه يَكُونُ قَادِحًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ شَكَّ بَعْدَمَا رَوَاهُ على غَيْرِ ذلك التَّشْكِيكِ قَالَهُ ابن الْقَطَّانِ الْمُحَدِّثُ في الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ وَنَازَعَهُ تِلْمِيذُهُ ابن الْمَوَّاقِ وقال تَشْكِيكُ الرَّاوِي بَعْدَ الْيَقِينِ عِنْدِي غَيْرُ قَادِحٍ فِيمَا حَدَّثَ بِهِ أَوَّلًا على الْيَقِينِ فإن شَكَّهُ بَعْدَ ذلك مَحْمُولٌ على النِّسْيَانِ وَتَغَيُّرِ الْحِفْظِ بِالْكِبَرِ وَغَيْرِهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَاجِعَ الرَّاوِي أُصُولَهُ وَيَسْتَرِيبَ فِيمَا حَدَّثَ بِهِ أَوَّلًا من مَحْفُوظِهِ فإنه حِينَئِذٍ يَلْزَمُ بَيَانُ ذلك لِكُلِّ من حَمَّلَهُ إيَّاهُ فَيُقْبَلُ ذلك عنه وَيُعْرَفُ مَسْأَلَةٌ إذَا قال الرَّاوِي أَظُنُّ أَنَّ فُلَانًا حدثني أو قال هل يَقْدَحُ في الحديث قال ابن الْقَطَّانِ في الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ نعم لِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فيه وقال صَاحِبُ الْإِنْصَافِ هذا فيه نَظَرٌ أُصُولِيٌّ وَلِتَجْوِيزِهِ وَجْهٌ فإن الرَّاوِيَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِدَ في الرِّوَايَةِ إلَى الظَّنِّ وَلِهَذَا له أَنْ يَرْوِيَ على الْخَطِّ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ وفي مُسْلِمٍ في بَابِ الِاغْتِسَالِ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ حَدِيثٌ عن ابْنِ جُرَيْجٍ عن عَمْرِو بن دِينَارٍ قال أَكْبَرُ عِلْمِي وَاَلَّذِي يَخْطُرُ على بَالِي أَنَّ أَبَا الشَّعْثَاءِ أخبرني عن ابْنِ عَبَّاسٍ أخبره أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ وقد اعْتَذَرَ بَعْضُهُمْ عن مُسْلِمٍ في هذا الحديث بِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ مُتَابَعَةً لَا اعْتِمَادًا قُلْت وَهَلْ يُعْمَلُ بِالرِّوَايَةِ إذَا كان ذلك مُسْتَنَدَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ على الْخِلَافِ في الشَّهَادَةِ بِالِاسْتِفَاضَةِ إذَا ذَكَرَهَا في مُسْنَدِهِ هل تُرَدُّ شَهَادَتُهُ مَسْأَلَةٌ إذَا قال الْعَدْلُ في حَدِيثٍ رَوَاهُ الْعَدْلُ الْمَرَضِيُّ إنَّهُ ليس بِصَحِيحٍ ولم يُبَيِّنْ وَجْهَ الْقَدَحِ لم يُسْمَعْ منه قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ لِأَنَّ الْأَسْبَابَ الْمُعَدِّلَةَ إذَا اجْتَمَعَتْ لم يَبْقَ لِلتُّهْمَةِ مَوْضِعٌ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ السَّبَبَ قال وَبِمِثْلِهِ رَدَدْنَا قَوْلَ يحيى بن
____________________
(3/384)
مَعِينٍ لم يَصِحَّ في النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ حَدِيثٌ أَصْلًا وَإِنْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّ مُطْلَقَ قَدَحِهِ يُورِثُ تُهْمَةً قُلْنَا إنَّهُ لَا مُبَالَاةَ بِمُخَايِلِ التُّهْمَةِ إنَّمَا التَّعْوِيلُ على الْأَسْبَابِ ا هـ وَيُتَّجَهُ جَرَيَانُ خِلَافٍ فيه أَنَّ الْجَرْحَ الْمُطْلَقَ هل يُقْبَلُ وَظَاهِرُ تَصَرُّفِ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّ ذلك قَادِحٌ وَكَذَا قال ابن بَرْهَانٍ قَوْلُ الْكَثِيرِ من الْمُحَدِّثِينَ في رِوَايَةِ الْعَدْلِ الثِّقَةِ هذا لَا يَصِحُّ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُرِيدَ نَفْيَ الصِّحَّةِ عِنْدَهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْنَا تَقْلِيدُهُ فإنه لم يَحْتَوِ على جَمِيعِ الطُّرُقِ وَالْأَسَانِيدِ وَإِنْ عَنَى بِهِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ غَيْرِهِ فَذَلِكَ جَرْحٌ مُطْلَقٌ فَلَا يُقْبَلُ حتى يُبَيِّنَ سَبَبَهُ مسألة زيادة الراوي الثقة إذا انفرد الثقة بزيادة في الحديث فتارة تكون لفظية كقوله في ربنا لك الحمد ولك الحمد فإن الواو زيادة في اللفظ وتارة تكون معنوية تفيد معنى زائدا كرواية من المسلمين في حديث زكاة الفطر ولها ثلاثة أحوال لأنه إما أن يعلم تعدد المجلس أو اتحاده أو جهل الأمر الحالة الأولى أن يعلم تعدده فيقبل قطعا لأنه لا يمنع أن يذكر النبي صلى الله عليه وسلم الكلام في أحد المجلسين بدون زيادة وفي الآخر بها وزعم الإبياري وابن الحاجب والهندي وغيرهم أنه لا خلاف في هذا القسم وليس كذلك وقد أجرى فيها ابن السمعاني التفصيل الذي سنحكيه عنه في اتحاد المجلس الحالة الثانية أن يشكل الحال فلا يعلم هل تعدد المجلس أو اتحد فألحقها الإبياري بالتي قبلها حتى يقبل بلا خلاف وقال الهندي ينبغي أن يكون فيها خلاف يترتب على الخلاف في الاتحاد وأولى بالقبول لأن المقتضي لتصديقه حاصل والمعارض له غير محقق قلت وكذا قال الآمدي حكمه حكم المتحد وأولى بالقبول نظرا إلى احتمال التعدد
____________________
(3/385)
وأشار أبو الحسين في المعتمد إلى التوقف والرجوع إلى الترجيح ثم قال والصحيح أنه يجب حمل الخبرين على أنهما جريا في مجلسين لأنهما لو كانا في مجلس واحد جرى على لفظ واحد ولو كان اللفظ واحدا لكان الظاهر من عدالتهما وحفظهما ألا تختلف روايتهما فحصل في هذه الحالة أقوال وقال ابن دقيق العيد قيل إن احتمل تعدد المجلس قبلت الزيادة اتفاقا وهذا فيه نظر في بعض المواضع وهو ما إذا كانت القضية مشتملة على ألفاظ وقرائن تدل على الاتحاد فكذلك إذا رجحت الروايات كلها إلى راو واحد مع عدد المراتب في الرواة وإن طرأ التعدد فهاهنا ضعيف مرجوح وربما جزم ببطلانه كما في قضيته الواهية نفسها فإنها راجعة إلى رواية أبي حازم عن سهل بن سعد واختلف الرواة عن أبي حازم في ألفاظ فيها فالقول بتعدد المجلس في الواقعة هاهنا مع اتحاد السياق وتوافق أكثر الألفاظ واتحاد المخرج للحديث بعيد جدا فالطريق الرجوع إلى الترجيح بين الرواة المذاهب في الزيادة من الراوي إذا اتحد المجلس الحالة الثالثة أن يتحد المجلس وينقل بعضهم الزيادة ويسكت بعضهم عنها ولا يصرح بنفيها وفي المسألة مذاهب أحدها وهو قول الجمهور من الفقهاء والمحدثين أنها مقبولة مطلقا سواء تعلق بها حكم شرعي أم لا وسواء غيرت الحكم الثابت أم لا وسواء أوجب نقصا ثبت بخبر ليس فيه تلك الزيادة أم لا وسواء كان ذلك من شخص واحد بأن رواه مرة ناقصا ومرة بتلك الزيادة أو كانت الزيادة من غير من رواه ناقصا وهي كالحديث التام ينفرد به الثقة فالزيادة أولى لأنها غير مستقلة بل تابعة وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم خبر الأعرابي عن رؤية الهلال مع انفراده برؤيته وقبل خبر ذي اليدين وأبي بكر وعمر وإن انفردوا عن جميع الحاضرين قال ابن السمعاني ولا فرق بين أن يسند الراوي للزيادة والتارك لها ما روياه إلى مجلس واحد أو إلى مجلسين أو يطلقا إطلاقا فتقبل إلا في صورة واحدة وهي أن التارك للزيادة لو كانوا جماعة لا يجوز عليهم الغفلة عنها وكان المجلس واحدا أن لا يقبل رواية راوي الزيادة ونحوه قول ابن الصباغ في العدة إنما يقبل بشرط أن لا يكون من نقل الزيادة واحد ومن رواه ناقصا جماعة لا يجوز عليهم الوهم فإن كان كذلك
____________________
(3/386)
سقطت هذا إذا روياه عن مجلس واحد قال فإن روياه عن مجلسين فإن كانا خبرين عمل بهما قال فإن كان الناقل لها عددا كثيرا فهي مقبولة وإن كان كل منهما واحدا فالأخذ برواية الضابط منهما وإن كانا ضابطين ثقتين كان الأخذ بالزيادة أولى وكلام الإمام في المحصول قريب من هذا التفصيل ونحوه قول الآمدي إذا اتحد المجلس فإن كان من لم يرو الزيادة قد انتهى إلى حد لا يقضي في العادة بغفلة مثله عن سماعها والذي رواها واحد فهي مردودة وإن لم ينتهوا إلى هذا الحد فاتفق جماعة الفقهاء والمتكلمين على قبول الزيادة خلافا لجماعة من المحدثين وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ا هـ وكذلك قال ابن الحاجب والقرافي وغيرهما وخالفهم آخرون فأطلقوا القول بقبول الزيادة مطلقا وحكاه القاضي عبد الوهاب في الملخص عن مالك وأبي الفرج من أصحابه وأصحاب الشافعية وأجرى عليه الإطلاق أبو الحسين بن القطان وإمام الحرمين في البرهان والغزالي في المستصفى وقال سواء كانت الزيادة من حيث اللفظ أو المعنى والشيخ أبو إسحاق في اللمع وابن برهان وقال ابن القشيري بعد حكاية الخلاف والتفصيل والاختيار قبول الزيادة من الثقة في جميع الأحوال واعلم أن إمام الحرمين وغيره أطلقوا النقل عن الشافعي بقبول الزيادة من غير تعرض لشيء من الشروط وسيأتي في بحث المرسل من كلام الشافعي أن الزيادة من الثقة ليست مقبولة مطلقا وهو أثبت نقل عنه في المسألة وسنذكر قريبا عن نصه في الأم أنها لا تقبل إذا خالف الأحفظ والأكثر الثاني لا يقبل مطلقا وعزاه ابن السمعاني لبعض أهل الحديث ونقل عن معظم الحنفية ونقل الإمام عن الشافعي أنه قال من تناقض القول الجمع بين قبول رواية القراءة الشاذة في القرآن ورد الزيادة التي ينفرد بها بعض الرواة وحق القرآن أن ينقل تواترا بخلاف الأخبار وما كان أصله التواتر وقبل فيه زيادة الواحد فلأن يقبل فيما سواه الآحاد أولى وحكاه القاضي عبد الوهاب عن أبي بكر الأبهري وغيره من أصحابهم قال وعلى هذا بنوا الكلام في الزيادة المروية في حديث عدي بن حاتم
____________________
(3/387)
وإن أكل فلا تأكل والثالث الوقف لأن في كل واحد من الاحتمالات بعدا والأصل وإن كان عدم الصدور لكن الأصل أيضا صدق الراوي وإذا تعارضا وجب التوقف حكاه الهندي والرابع إن كان غيره لا يغفل مثله عن مثلها عادة لم تقبل وإلا قبلت وهو قول الآمدي وابن الحاجب والخامس إن كان غيره لا يغفل أو كانت الدواعي لا تتوفر على نقلها وإليه يميل كلام ابن السمعاني كما سبق والسادس أنها لا تقبل ممن رواه ناقصا ثم رواه بتلك الزيادة أو رواه بالزيادة ثم رواه ناقصا وتقبل من غيره من الثقات نقله ابن القشيري والقاضي في التقريب عن فرقة من الشافعية وذكر ابن الصباغ في العدة فيما إذا روى الواحد خبرا ثم رواه بعد ذلك بزيادة فإن ذكر أنه سمع كل واحد من الخبرين في مجلس قبلت الزيادة وإن عزى ذلك إلى مجلس واحد أو تكررت روايته بغير زيادة ثم روى الزيادة فإن قال كنت نسيت هذه الزيادة قبل منه وإن لم يقل ذلك وجب التوقف في الزيادة وقال أبو الحسين في المعتمد إن أسند الروايتين إلى مجلسين قبل وهذا إن لم يعلم الحال حمل على التعدد وإن علم أنه لم يسندها إلى مجلسين وكان قد روى الخبر دفعات كثيرة من غير زيادة ورواه مرة واحدة بالزيادة فالأغلب أنه سها في إثبات الزيادة ولأن سهو الإنسان مرة واحدة أغلب من سهوه مرارا كثيرة فإن قال كنت قد أنسيت هذه الزيادة والآن ذكرتها قبلت الزيادة وحمل أمره على الأقل النادر وإن كان إنما رواها مرة واحدة بروايتها مرة فإن كانت الزيادة تغير إعراب الكلام تعارضت الروايتان وإن كانت الزيادة لا تغير اللفظ احتمل أن يتعارضا لأنه على كل حال قد وهم قال وهذا إذا لم يقارنه استهانة فلو روى الحديث تارة بالزيادة وتارة بحذفها استهانة وقلة تحفظ سقطت عدالته ولم يقبل حديثه
____________________
(3/388)
السابع إن كانت الزيادة تغير إعراب الباقي كما لو روى راو في أربعين شاة شاة وروى الآخر نصف شاة لم يقبل ويتعارضان وهو الحق عند الإمام الرازي وأتباعه وحكاه الهندي عن الأكثرين قال لأن كل واحد منهما يروي غير ما رواه الآخر فيكون منافيا له معارضا فلا يقبل إلا بعد الترجيح قال وخالف أبو عبد الله البصري والمزي وفي المعتمد لأبي الحسين قبل أبو عبد الله البصري الزيادة سواء أثرت في اللفظ أم لا إذا أثرت في المعنى وقبلها القاضي عبد الجبار إذا أثرت في المعنى دون اللفظ ولم يقبلها إذا أثرت في إعراب اللفظ الثامن أنها لا تقبل إلا إذا أفادت حكما شرعيا حكاه القاضي عبد الوهاب فلو لم تفد حكما لم تعتبر كقولهم في محرم وقصت به ناقته في أخافيق جرذان قال فإن ذكر الموضع لا يتعلق به حكم شرعي وهذا حكاه ابن القشيري فقال وقيل إنما تقبل إذا اقتضت فائدة جديدة التاسع عكسه أنها تقبل إذا رجعت إلى لفظ لا يتضمن حكما زائدا كما حكاه ابن القشيري العاشر تقبل لو كانت باللفظ دون المعنى حكاه القاضي أبو بكر في التقريب ويحتمل أنه الذي قبله الحادي عشر بشرط أن يكون راويها حافظا وهو قول أبي بكر الخطيب والصيرفي قال الصيرفي وهو حينئذ بمعنى من نقل تلك الزيادة مستقلا بها لا شريك معه في الرواية ثم قال والحاصل أن كل من لو انفرد بحديث يقبل فإن زيادته مقبولة وإن خالف الحفاظ الثاني عشر إن تكافأ الرواة في الحفظ والإتقان وزاد حافظ عالم بالأخبار زيادة قبلت وإن كان لا يلحقهم في الحفظ لم تقبل وهو قول ابن خزيمة في صحيحه ويحتمل رجوعه لما قبله وإنما اختلفت العبارة الثالث عشر إن كان ثقة ولم يشتهر بنقل الزيادات في الوقائع وإنما كان ذلك منه على طريق الشذوذ قبلت كرواية مالك من المسلمين في صدقة الفطر وإن اشتهر بكثرة الزيادات مع اتحاد المجلس وامتناع الامتياز بسماع فاختلفوا فيه فمذهب الأصوليين قبول زيادته ومذهب المحدثين ردها للتهمة قاله أبو الحسن الإبياري في شرح البرهان
____________________
(3/389)
شُرُوطُ الْمَذْهَبِ الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ الرَّابِعَ عَشَرَ وهو الْمُخْتَارُ عِنْدِي تُقْبَلُ بِشُرُوطٍ أَحَدُهَا أَنْ لَا تَكُونَ مُنَافِيَةً لِأَصْلِ الْخَبَرِ ذَكَرَهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ ثَانِيهَا أَنْ لَا تَكُونَ عَظِيمَةَ الْوَقْعِ بِحَيْثُ لَا يَذْهَبُ عن الْحَاضِرِينَ عِلْمُهَا وَنَقْلُهَا أَمَّا ما يَجُلُّ خَطَرُهُ فَبِخِلَافِهِ قَالَهُ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ ثَالِثُهَا أَنْ لَا يُكَذِّبَهُ النَّاقِلُونَ في نَقْلِ الزِّيَادَةِ فَإِنَّهُمْ إذَا قالوا شَهِدْنَا أَوَّلَ الْمَجْلِسِ وَآخِرَهُ مُصْغِينَ إلَيْهِ مُجَرِّدِينَ له أَذْهَانَنَا فلم نَسْمَعْ الزِّيَادَةَ فَذَلِكَ منهم دَلِيلٌ على ضَعْفِهِ فإنه لو كان لِلِاحْتِمَالِ مَجَالٌ لم يُكَذِّبُوهُ على عَدَالَتِهِ قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَالْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وقال الْإِبْيَارِيُّ أَمَّا إذَا صَرَّحَ الْآخَرُونَ بِالنَّفْيِ وَاتَّحَدَ الْمَجْلِسُ فَقِيلَ هو مُعَارِضٌ فَيُقَدَّمُ أَقْوَاهَا وَقِيلَ الْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ قال وهو الرَّاجِحُ رَابِعُهَا أَنْ لَا يُخَالِفَ الْأَحْفَظَ وَالْأَكْثَرَ عَدَدًا فَإِنْ خَالَفَتْ فَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ في الْأُمِّ في الْكَلَامِ على مَسْأَلَةِ إعْتَاقِ الشَّرِيكِ ما يَقْتَضِي أنها مَرْدُودَةٌ ولم يُفَرِّقْ بين بُلُوغِهِمْ إلَى حَدٍّ يَمْتَنِعُ عليهم الْغَفْلَةُ وَالذُّهُولُ أَمْ لَا بَلْ اعْتَبَرَ الْمُطْلَقَ مِنْهُمَا فإنه قال في كَلَامِهِ على زِيَادَةِ مَالِكٍ وَأَتْبَاعِهِ في حَدِيثٍ وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ منه ما عَتَقَ إنَّمَا يَغْلَطُ الرَّجُلُ بِخِلَافِ من هو أَحْفَظُ منه أو يَأْتِي بِشَيْءٍ فَيَتْرُكُهُ فيه من لم يَحْفَظْ منه ما حَفِظَ منه وَهُمْ عَدَدٌ وهو مُنْفَرِدٌ ا هـ وقال في حديث سَعِيدِ بن أبي عَرُوبَةَ وَإِنْ كان مُعْسِرًا اسْتَسْعَى الْعَبْدُ في قِيمَتِهِ هذه الزِّيَادَةُ وَهِيَ ذِكْرُ الِاسْتِسْعَاءِ تَفَرَّدَ بها سَعِيدٌ وَخَالَفَ الْجَمَاعَةَ فَلَا تُقْبَلُ
____________________
(3/390)
وَلَمَّا رَأَى أَصْحَابُهُ هذا مُخَالِفًا لِمَا عَلِمُوهُ منه في قَبُولِ زِيَادَةِ الثِّقَةِ مُطْلَقًا ولم يَحْمِلُوا كَلَامَهُ على ما ذَكَرْنَا احْتَاجُوا لِتَأْوِيلِهِ فقال سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ لم يَرُدَّ الشَّافِعِيُّ هذه الْجِهَةَ بَلْ إنَّ رِوَايَةَ الْوَاحِدِ عَارَضَهَا رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ فَتُرَجَّحُ الْجَمَاعَةُ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ لِأَنَّ سَعِيدَ بن أبي عَرُوبَةَ رَوَاهُ مُطْلَقًا وَغَيْرُهُ رَوَى الْخَبَرَ وقال قال قَتَادَةُ وَيُسْتَسْعَى فَمَيَّزَ حَدِيثَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم من كَلَامِ قَتَادَةَ فَيَكُونُ هذا الرَّاوِي قد حَفِظَ ما خَفِيَ على الْآخَرِ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَنَحْنُ وَإِنْ قَبِلْنَا الزِّيَادَةَ بِالشَّرْطِ السَّابِقِ فَيَتَطَرَّقُ إلَيْهَا احْتِمَالُ الضَّعْفِ وَيَخْدِشُ وَجْهَ الثِّقَةِ فَلَوْ عَارَضَهُ حَدِيثٌ آخَرُ على مُنَاقَضَةٍ لَقُدِّمَ عليه فَلِأَجْلِهِ قَدَّمَ الشَّافِعِيَّةُ خَبَرَ السِّرَايَةِ على خَبَرِ السِّعَايَةِ لِأَنَّهُ تَفَرَّدَ بِنَقْلِ السِّعَايَةِ سَعِيدُ بن أبي عَرُوبَةَ من بَيْنِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ وَقَسَّمَ ابن الصَّلَاحِ الزِّيَادَةَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا ما كان مُخَالِفًا مُنَافِيًا لِمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ فَمَرْدُودٌ ثَانِيهَا ما لَا يُنَافِي رِوَايَةَ الْغَيْرِ كَالْحَدِيثِ الذي تَفَرَّدَ بِرِوَايَةِ جُمْلَتِهِ ثِقَةٌ من الثِّقَاتِ فَيُقْبَلُ تَفَرُّدُهُ وَلَا يَتَعَرَّضُ فيه لِمَا رَوَاهُ الْغَيْرُ بِمُخَالَفَتِهِ أَصْلًا وَادَّعَى الْخَطِيبُ فيه الِاتِّفَاقَ ثَالِثُهَا ما يَقَعُ بين هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ كَزِيَادَةٍ في لَفْظِ حَدِيثٍ لم يَذْكُرْهَا سَائِرُ رُوَاةِ الحديث يَعْنِي وَلَا اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ وَلَا نَفَاهَا الْبَاقُونَ صَرِيحًا وَتَوَقَّفَ ابن الصَّلَاحِ في قَبُولِ هذا الْقِسْمِ وَحَكَى الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ عنه اخْتِيَارَ الْقَبُولِ فيه وَلَعَلَّهُ قَالَهُ في مَوْضِعٍ غَيْرِ هذا قَوْلُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ إذَا عُلِمَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فَالْقَوْلُ لِلْأَكْثَرِ سَوَاءٌ كَانُوا رُوَاةَ الزِّيَادَةِ أو غَيْرَهُمْ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْكَثْرَةِ فَإِنَّهَا عن الْخَطَأِ أَبْعَدُ فَإِنْ اسْتَوَوْا قُدِّمَ الْأَحْفَظُ وَالْأَضْبَطُ فَإِنْ اسْتَوَوْا قُدِّمَ الْمُثْبِتُ على النَّافِي وَقِيلَ النَّافِي لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الزِّيَادَةَ إنْ نَافَتْ الْمَزِيدَ عليه اُحْتِيجَ لِلتَّرْجِيحِ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ
____________________
(3/391)
كَحَدِيثِ عِتْقِ بَعْضِ الْعَبْدِ فإن أَبَا هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه رَوَى الِاسْتِسْعَاءَ وابن عُمَرَ لم يَرْوِهِ بَلْ قال وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ منه ما عَتَقَ وَهِيَ تُنَافِي الِاسْتِسْعَاءَ وَإِنْ لم تُنَافِهِ لم يَحْتَجْ إلَى التَّرْجِيحِ بَلْ يُعْمَلُ بِالزِّيَادَةِ إذَا أُثْبِتَتْ كما في الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ كَقَوْلِ أَنَسٍ رَضَخَ يَهُودِيٌّ رَأْسَ جَارِيَةٍ فَرَضَخَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم رَأْسَهُ بين حَجَرَيْنِ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ هَكَذَا مُطْلَقًا وَبَعْضُهُمْ يقول فَأَخَذَ الْيَهُودِيُّ فَاعْتَرَفَ فَرَضَخَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم رَأْسَهُ وَهِيَ رِوَايَةُ الصَّحِيحَيْنِ مَذْهَبُ أَهْلِ الحديث قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَالْمُحَقِّقُونَ من أَئِمَّةِ الحديث خُصُوصًا الْمُتَقَدِّمِينَ كَيَحْيَى بن سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَعَبْدِ الرحمن بن مَهْدِيٍّ وَمَنْ بَعْدَهُمَا كَأَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ وَعَلِيِّ بن الْمَدِينِيِّ وَيَحْيَى بن مَعِينٍ وَهَذِهِ الطَّبَقَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَالْبُخَارِيِّ وَأَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيَّيْنِ وَمُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَأَمْثَالِهِمْ وَالدَّارَقُطْنِيِّ كل هَؤُلَاءِ مُقْتَضَى تَصَرُّفِهِمْ في الزِّيَادَةِ قَبُولًا وَرَدًّا التَّرْجِيحُ بِالنِّسْبَةِ إلَى ما يَقْوَى عِنْدَ الْوَاحِدِ منهم في كل حَدِيثٍ وَلَا يَحْكُمُونَ في الْمَسْأَلَةِ بِحُكْمٍ كُلِّيٍّ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَحَادِيثِ وَهَذَا هو الْحَقُّ الصَّوَابُ في نَظَرِ أَهْلِ الحديث وَمِنْهُمْ من قَبِلَ زِيَادَةَ الثِّقَةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ أو تَعَدَّدَ كَثُرَ السَّاكِتُونَ أو تَسَاوَوْا وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْحَاكِمُ وابن حِبَّانَ فَقَدْ أَخْرَجَا في كِتَابَيْهِمَا اللَّذَيْنِ الْتَزَمَا فِيهِمَا الصِّحَّةَ كَثِيرًا من الْأَحَادِيثِ الْمُتَضَمَّنَةِ لِلزِّيَادَةِ التي تَفَرَّدَ بها رَاوٍ وَاحِدٌ وَخَالَفَ فيها الْعَدَدَ وَالْأَحْفَظَ وقد اخْتَارَ الْخَطِيبُ هذا الْمَذْهَبَ وَحَكَاهُ عن جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وقد نُوزِعَ في نَقْلِهِ ذلك عن جُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ وَعُمْدَتُهُمْ هو أَنَّ الْوَاحِدَ لو انْفَرَدَ بِنَقْلِ حَدِيثٍ عن جَمِيعِ الْحُفَّاظِ قُبِلَ فَكَذَلِكَ إذَا انْفَرَدَ بِالزِّيَادَةِ لِأَنَّ الْعَدْلَ لَا يُتَّهَمُ وهو مَرْدُودٌ فَإِنْ تَفَرَّدَ بِأَصْلِ الحديث لَا يَتَطَرَّقُ الْوَهْمُ إلَى غَيْرِهِ من الثِّقَاتِ بِخِلَافِ تَفَرُّدِهِ بِالزِّيَادَةِ إذَا خَالَفَ من هو أَحْفَظُ فإن الظَّنَّ مُرَجِّحٌ لِقَوْلِهِمْ دُونَهُ لَا سِيَّمَا عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ
____________________
(3/392)
تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ لِتَوْجِيهِ إمْكَانِ انْفِرَادِ الرَّاوِي بِالزِّيَادَةِ طُرُقٌ أَحَدُهَا أَنْ يَعْرِضَ لِلرَّاوِي النَّاقِصِ التَّشَاغُلُ عن سَمَاعِ الزِّيَادَةِ مِثْلُ بُلُوغِهِ خَبَرًا مُزْعِجًا أو عَرَضَ له أَلَمٌ أو حَاجَةُ الْإِنْسَانِ كما رَوَى عِمْرَانُ بن حُصَيْنٍ قال دَخَلْت على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَعَقَلْت نَاقَتِي بِالْبَابِ فَأَتَى نَاسٌ من أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالُوا يا رَسُولَ اللَّهِ جِئْنَا لِنَتَفَقَّهَ في الدِّينِ وَلِنَسْأَلَك عن أَوَّلِ هذا الْأَمْرِ ما كان قال كان اللَّهُ ولم يَكُنْ معه شَيْءٌ وكان عَرْشُهُ على الْمَاءِ ثُمَّ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قال عِمْرَانُ ثُمَّ أَتَانِي رَجُلٌ فقال يا عِمْرَانُ أَدْرِكْ نَاقَتَكَ قد ذَهَبَتْ فَانْطَلَقْتُ أَطْلُبُهَا فإذا السَّرَابُ يَنْقَطِعُ دُونَهَا وَأَيْمُ اللَّهِ لَوَدِدْتُ أنها ذَهَبَتْ ولم أَقُمْ الثَّانِي أَنَّ رَاوِيَ النَّاقِصِ دخل في أَثْنَاءِ الحديث وقد فَاتَهُ بَعْضُهُ فَرَوَاهُ من سَمِعَهُ دُونَهُ كما رَوَى عُتْبَةُ بن عَامِرٍ قال كانت عَلَيْنَا رِعَايَةُ الْإِبِلِ فَكَانَتْ نَوْبَتِي أَنْ أَرْعَاهَا فَرَوَّحْتُهَا بَيْتِي فَأَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يحدث الناس فَأَدْرَكْتُ من قَوْلِهِ ما من مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إلَّا وَجَبَتْ له الْجَنَّةُ فَقُلْت ما أَجْوَدَ هذا فإذا عُمَرُ بن الْخَطَّابِ بين يَدَيَّ يقول التي قَبْلَهَا أَجْوَدُ قال ما مِنْكُمْ من أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يقول أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له إلَّا فُتِحَتْ له أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ من أَيُّهَا يَشَاءُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ وَقَعَ في مَجْلِسَيْنِ وفي أَحَدِهِمَا زِيَادَةٌ ولم يَحْضُرْهَا أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وقد كَرَّرَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَذَكَرَهُ أَوَّلًا بِالزِّيَادَةِ وَسَمِعَهُ الْوَاحِدُ ثُمَّ يَذْكُرُهُ بِلَا زِيَادَةٍ اقْتِصَارًا على ما ذَكَرَهُ قَبْلُ كَحَدِيثِ أبي سَعِيدٍ حَيْثُ رَوَى حَدِيثَ الذي يُمَنِّيهِ اللَّهُ تَعَالَى في الْجَنَّةِ فَيَنْتَهِي حَيْثُ تَنْقَطِعُ بِهِ الْأَمَانِيُّ فيقول اللَّهُ عز وجل فإن لك ما تَمَنَّيْتَ وَمِثْلَهُ معه فقال أبو هُرَيْرَةَ وكان سمع هذا الحديث من أبي سَعِيدٍ فإن لك من تَمَنَّيْتَ وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهِ فقال أبو سَعِيدٍ
____________________
(3/393)
لم أَسْمَعْ إلَّا وَمِثْلَهُ معه فقال أبو هُرَيْرَةَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يقول وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهِ فَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَأَتَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِلَفْظَيْنِ أَحَدُهُمَا قبل الْآخَرِ بِوَحْيٍ أو إلْهَامٍ سمع أبو سَعِيدٍ وَمِثْلَهُ معه وَشَغَلَ بِعَارِضٍ عن سَمَاعِ الْآخَرِ الذي سَمِعَهُ أبو هُرَيْرَةَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان في مَجْلِسَيْنِ حَضَرَ أَحَدُهُمَا أبو هُرَيْرَةَ وَالْآخَرُ أبو سَعِيدٍ وفي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ ثُمَّ قال أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ حَدِّثْ بِمَا سَمِعْتَ وَأُحَدِّثُ بِمَا سمعت وفي رِوَايَةٍ لِأَبِي سَعِيدٍ كَرِوَايَةِ أبي هُرَيْرَةَ فَلَعَلَّهُ وَافَقَهُ أو تَذَكَّرَهُ وَمِنْ هذا الْبَابِ حَدِيثُ عُرْوَةَ بن الزُّبَيْرِ قال لِزَيْدِ بن ثَابِتٍ يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَافِعِ بن خَدِيجٍ أنا وَاَللَّهِ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ منه يَعْنِي حَدِيثَ الْمَزَارِعِ إنَّمَا أَتَاهُ رَجُلَانِ من الْأَنْصَارِ قد اقْتَتَلَا فقال إنْ كان هذا شَأْنُكُمْ فَلَا تُكْرُوا الْمَزَارِعَ سمع منه يَعْنِي رَافِعًا قَوْلُهُ لَا تُكْرُوا الْمَزَارِعَ يَعْنِي ولم يَسْمَعْ الشَّرْطَ وَذَكَرَ الْقَاضِي من الْأَسْبَابِ أَنْ يَسْمَعَ الْجَمْعُ الحديث فَيَنْسَى بَعْضُهُمْ الزِّيَادَةَ وَيَحْفَظُهَا الْبَاقِي الثَّانِي قد تَكُونُ الزِّيَادَةُ في الحديث رَافِعَةً لِلْإِشْكَالِ مُزِيلَةً لِلِاحْتِمَالِ وقد تَكُونُ دَالَّةً على إرَادَةِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لَا على خُصُوصِيَّةِ الزِّيَادَةِ أو ضِدِّهَا مِثَالُ الْأَوَّلِ حَدِيثُ إذَا بَلَغَ الْمَاءُ الْقُلَّتَيْنِ لم يَحْمِلْ الْخَبَثَ فإنه يَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَدْفَعُهُ عن نَفْسِهِ لِقُوَّتِهِ كما يُقَالُ فُلَانٌ لَا يَحْتَمِلُ الضَّيْمَ وهو تَأْوِيلُ الْجُمْهُورِ في أَنَّ الْقُلَّتَيْنِ لَا يُنَجَّسُ ما لم يَتَغَيَّرْ وَاحْتُمِلَ أَنَّهُ لم يَحْمِلْ الْخَبَثَ أَيْ يَضْعُفُ عن حَمْلِهِ لِضَعْفِهِ كما يُقَالُ
____________________
(3/394)
الْمَرِيضُ لَا يَحْمِلُ الْحَرَكَةَ وَالضَّرْبَ فَجَاءَ في لَفْظِ أَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ لم يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ فَكَانَ هذا رَافِعًا لِذَلِكَ الْإِجْمَالِ وَمِثَالُ الثَّانِي حَدِيثُ الْوُلُوغِ إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ وفي لَفْظٍ أُولَاهُنَّ وفي لَفْظٍ أُخْرَاهُنَّ فَالتَّقْيِيدُ بِالْأُولَى وَالْأُخْرَى تَضَادٌّ مُمْتَنِعُ الْجَمْعِ فَكَانَ دَلِيلًا على إرَادَةِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وهو غَسْلُ وَاحِدَةٍ أَيَّتَهُنَّ شَاءَ مَسْأَلَةٌ الْحَدِيثُ يَرْوِيهِ بَعْضُهُمْ مُرْسَلًا وَبَعْضُهُمْ مُتَّصِلًا إذَا اخْتَلَفَ الثِّقَاتُ في حَدِيثٍ فَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ مُتَّصِلًا وَبَعْضُهُمْ مُرْسَلًا فَهَلْ الْحُكْمُ لِلْوَصْلِ أو الْإِرْسَالِ أو لِلْأَكْثَرِ أو الْأَحْفَظِ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا أَنَّ الْحُكْمَ لِمَنْ وَصَلَ وَجَزَمَ بِهِ الصَّيْرَفِيُّ فقال إذَا أَرْسَلَ سَعِيدُ بن الْمُسَيِّبِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَوَصَلَهُ أبو سَلَمَةَ بن عبد الرحمن عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَالْحُجَّةُ لِمَنْ وَصَلَ إذَا كان حَافِظًا هذا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ أَقُولُ انْتَهَى وَحَكَى الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في التَّقْرِيبِ فيه اتِّفَاقَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ قال وَالْمُرْسَلُ تَأْكِيدٌ له وَصَحَّحَهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وقال ابن الصَّلَاحِ إنَّهُ الصَّحِيحُ في الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَسُئِلَ الْبُخَارِيُّ عن حديث لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وهو حَدِيثٌ اُخْتُلِفَ فيه على أبي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ رَوَاهُ شُعْبَةُ وَالثَّوْرِيُّ عنه عن أبي بُرْدَةَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مُتَّصِلًا فَحَكَمَ الْبُخَارِيُّ لِمَنْ وَصَلَهُ وقال الزِّيَادَةُ من الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ هذا مع أَنَّ مُرْسِلَهُ سُفْيَانُ وَشُعْبَةُ وَهُمَا ما هُمَا وَالثَّانِي أَنَّ الْحُكْمَ لِمَنْ أَرْسَلَهُ وَحَكَاهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في التَّقْرِيبِ وَالْخَطِيبُ عن أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ وَالثَّالِثُ أَنَّ الْحُكْمَ لِلْأَكْثَرِ فَإِنْ كان من أَسْنَدَهُ أَكْثَرُ مِمَّنْ أَرْسَلَهُ فَالْحُكْمُ لِلْإِرْسَالِ وَإِلَّا فَالْوَصْلُ
____________________
(3/395)
وَالرَّابِعُ أَنَّ الْحُكْمَ لِلْأَحْفَظِ وَعَلَى هذا لو أَرْسَلَ الْأَحْفَظُ فَهَلْ يَقْدَحُ ذلك في عَدَالَةِ من وَصَلَهُ أَمْ لَا قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا وَبِهِ صَدَّرَ ابن الصَّلَاحِ كَلَامَهُ الْمَنْعُ قال وَمِنْهُمْ من قال يَقْدَحُ في سَنَدِهِ وفي عَدَالَتِهِ وفي أَهْلِيَّتِهِ وَالْخَامِسُ قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ إنَّهُ بِمَثَابَةِ الزِّيَادَةِ من الثِّقَةِ فَيُقَدَّمُ الْوَصْلُ بِشَرْطَيْنِ أَنْ لَا يَكُونَ الْحَدِيثُ عَظِيمَ الْوَقْعِ بِحَيْثُ يَزِيدُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ وَأَنْ لَا يُكَذِّبَهُ رَاوِي الْإِرْسَالِ
____________________
(3/396)
فَرْعَانِ الرَّاوِي يَرْوِي الحديث مُتَّصِلًا وَمُرْسَلًا الْأَوَّلُ لو أَرْسَلَهُ هو مَرَّةً وَأَسْنَدَهُ أُخْرَى فَإِنْ فَرَّعْنَا على قَبُولِ الْمُرْسَلِ فَلَا شَكَّ في قَبُولِهِ وَإِلَّا فَاخْتَلَفُوا فَجَزَمَ ابن السَّمْعَانِيِّ وَالرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ بِأَنَّ الْحُكْمَ لِوَصْلِهِ قال ابن الصَّلَاحِ وهو الصَّحِيحُ وَعَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ لِإِرْسَالِهِ وَقِيلَ الِاعْتِبَارُ بِمَا يَقَعُ فيه أَكْثَرُ وَإِنْ وَقَعَ وَصْلُهُ أَكْثَرُ من إرْسَالِهِ فَالْحُكْمُ لِلْوَصْلِ وَإِلَّا فَلَا وَقِيلَ إنْ كان الرَّاوِي ثِقَةً مُتَذَكِّرًا لِرَفْعِهِ جَازَ له أَنْ يُرْسِلَهُ وَلَا يُعَدُّ اضْطِرَابًا وَإِنْ لم يَثِقْ بِحِفْظِهِ فَهُوَ اضْطِرَابٌ في رِوَايَتِهِ قَالَهُ ابن الْقَطَّانِ الْمُحَدِّثُ الثَّانِي من شَأْنُهُ إرْسَالُ الْأَخْبَارِ إذَا أَسْنَدَ خَبَرًا هل يُقْبَلُ أو يُرَدُّ قَوْلَانِ الصَّحِيحُ الْقَبُولُ قال الشَّافِعِيُّ وَإِنَّمَا يُقْبَلُ من حَدِيثِهِ ما قال فيه حدثني أو سَمِعْت وَلَا يُقْبَلُ ما يَأْتِي فيه بِلَفْظٍ مُوهِمٍ وقال بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ لَا يُقْبَلُ إلَّا إذَا قال سَمِعْت فُلَانًا قال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وَأَصْحَابُ الحديث يُفَرِّقُونَ بين أَنْ يَقُولَ حدثني أو أخبرني فَيَجْعَلُونَ الْأَوَّلَ دَالًّا على الْمُشَافَهَةِ وَالثَّانِي مُتَرَدِّدًا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْإِجَازَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَهَذَا عَادَةٌ لهم وَإِلَّا فَظَاهِرُ قَوْلِهِ أخبرني يُفِيدُ أَنَّهُ تَوَلَّى إخْبَارَهُ بِالْحَدِيثِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مُشَافَهَةً مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَارَضَ الْوَقْفُ وَالرَّفْعُ أَمَّا تَعَارُضُ الرَّفْعِ وَالْوَقْفِ فَالْحُكْمُ على الْأَصَحِّ كما قَالَهُ ابن الصَّلَاحِ لِمَا رَوَاهُ الثِّقَةُ من الرَّفْعِ لِأَنَّهُ مُثْبِتٌ وَغَيْرُهُ سَاكِتٌ هذا بِالنِّسْبَةِ إلَى رَاوِيَيْنِ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى رَاوٍ وَاحِدٍ كما لو رَفَعَ حَدِيثًا في وَقْتٍ ثُمَّ وَقَفَهُ مَرَّةً أُخْرَى فَالْحُكْمُ لِرَفْعِهِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ في بَابِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ من الْحَاوِي مَذْهَبُنَا أَنْ يُحْمَلَ الْمَوْقُوفُ على مَذْهَبِ الرَّاوِي وَالْمُسْنَدُ على أَنَّهُ من قَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
____________________
(3/397)
فَصْلٌ الْكَلَامُ على مَتْنِ الحديث وإذا انْقَضَى الْكَلَامُ في شُرُوطِ الرَّاوِي فَالْكَلَامُ في الثَّانِي وهو الْمَتْنُ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَصِحُّ كَوْنُهُ وَلَا يَسْتَحِيلُ في الْعَقْلِ وُجُودُهُ فَإِنْ أَحَالَهُ الْعَقْلُ رُدَّ قال الْغَزَالِيُّ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَأَمَّا أَحَادِيثُ الصِّفَاتِ فَكُلُّ ما صَحَّ تَطَرُّقُ التَّأْوِيلِ إلَيْهِ وَلَوْ على بُعْدٍ قُبِلَ وما لَا يُؤَوَّلُ وَأَوْهَمَ فَهُوَ مَرْدُودٌ وَأَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِنَصٍّ مَقْطُوعٍ بِصِحَّتِهِ وَلَا مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَالصَّحَابَةِ فَإِنْ كان بِخِلَافِ ذلك فَهُوَ إمَّا غَلَطٌ من الرَّاوِي أو مَنْسُوخٌ حُكْمُهُ وَأَنْ لَا يُخَالِفُهُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ على تَقْدِيمِ الْمَقْطُوعِ على الْمَظْنُونِ فَإِنْ خَالَفَهُ قَاطِعٌ عَقْلِيٌّ ولم يَقْبَلْ التَّأْوِيلَ عُلِمَ أَنَّهُ مَكْذُوبٌ على الشَّارِعِ وَإِنْ قَبِلَهُ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُهُ جَمْعًا بين الدَّلِيلَيْنِ وَإِنْ كان سَمْعِيًّا ولم يُمْكِنْ الْجَمْعُ فَكَذَلِكَ وَإِنْ عُلِمَ تَأَخُّرُ الْمَقْطُوعِ عنه حُمِلَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِهِ وَأَنْ لَا يَنْفَرِدَ رَاوِيهِ بِمَا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنْ يَنْقُلَهُ أَهْلُ التَّوَاتُرِ أو يَجِبُ عليهم عِلْمُهُ فَإِنْ انْفَرَدَ لم يُقْبَلْ قَالَهُ في اللُّمَعِ وَكَذَا الْأُسْتَاذَانِ ابن فُورَكٍ وأبو مَنْصُورٍ قَالَا وَلِهَذَا رَدَدْنَا رِوَايَةَ الْإِمَامِيَّةِ في النَّصِّ على خِلَافَةِ عَلِيٍّ وَقُلْنَا لو كان حَقًّا لَظَهَرَ نَقْلُهُ لِأَنَّهُ من الْفُرُوضِ التي لَا يَسَعُ أَحَدًا جَهْلُهَا قال ابن فُورَكٍ فَإِنْ كان مِمَّا لَا يَجِبُ على الْجَمَاعَةِ عَلْمُهُ فَجَاءَ بِنَقْلِهِ الْخَاصَّةُ وَيَرْجِعُ فيه الْعَامَّةُ إلَيْهِمْ وَأَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ منه عَمَلًا فَإِنْ اقْتَضَى عِلْمًا وكان في الْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ ما يَدُلُّ عليه لم يُرَدَّ وَإِلَّا رُدَّ سَوَاءٌ اقْتَضَى مع الْعِلْمِ عَمَلًا أَمْ لَا لِأَنَّهُ لَمَّا كان التَّكْلِيفُ منه فَالْعِلْمُ مع عَدَمِ صَلَاحِيَّتِهِ له كان تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ لَكِنْ لَا يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ عليه السَّلَامُ قَصَدَ بِذَلِكَ إيجَابَ الْعِلْمِ على من شَافَهَهُ دُونَ غَيْرِهِ وهو غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَمِنْ هذا إثْبَاتُ الْقِرَاءَةِ عَبْرَ الْآحَادِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْحُكْمِ وهو الْعَمَلُ لَا الْقُرْآنُ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن الْقَاضِي أَنَّهُ قال إذَا لم يَجِدْ مُعْتَصِمًا مَقْطُوعًا بِهِ في الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يُقْطَعُ بِرَدِّهِ وَمِثَالُهُ إذَا وَرَدَ فَقَبِلَهُ بَعْضُهُمْ وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ ولم يَكُنْ ثَمَّ
____________________
(3/398)
نَصٌّ لِلرَّدِّ وَلَا نَصٌّ قَاطِعٌ في الْقَبُولِ قُطِعَ بِرَدِّهِ لِأَنَّ مُعْتَمَدَنَا في الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْإِجْمَاعُ فَحَيْثُ لَا نَجِدُ قَاطِعًا لَا نَحْكُمُ بِالْعَمَلِ قال الْإِمَامُ وَاَلَّذِي أَرَاهُ يَلْتَحِقُ بِالْمُجْتَهِدَاتِ وَتَعَيَّنَ على كل مُجْتَهِدٍ فيه الْجَرَيَانُ على اجْتِهَادِهِ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ كان يَقَعُ في عَصْرِ الصَّحَابَةِ أَحَادِيثَ قَبِلَهَا بَعْضُهُمْ وَتَوَقَّفَ فيها آخَرُونَ ثُمَّ كان الْعَامِلُونَ لَا يُعَابُونَ وَتَبِعَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وَلَا يُشْتَرَطُ في الْعَمَلِ بِهِ عَدَمُ مُخَالَفَتِهِ لِلْقِيَاسِ بَلْ يَجُوزُ إنْ عَارَضَهُ الْقِيَاسُ إذَا تَبَايَنَا من كل وَجْهٍ فَإِنْ كانت مُقَدَّمَاتُ الْقِيَاسِ قَطْعِيَّةً قُدِّمَ الْقِيَاسُ قَطْعًا وَإِلَّا فَإِنْ كانت كُلُّهَا ظَنِّيَّةً قُدِّمَ الْخَبَرُ قَطْعًا لِقِلَّةِ مُقَدَّمَاتِهِ وَحَكَى الْآمِدِيُّ فيه الْخِلَافَ وَكَذَا إذَا كان الْبَعْضُ قَطْعِيًّا وَالْبَعْضُ ظَنِّيًّا قُدِّمَ الْخَبَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَنَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عن أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ وقال إنَّهُ الْأَصَحُّ وَالْأَظْهَرُ من قَوْلِ مَالِكٍ فإنه سُئِلَ عن حديث الْمُصَرَّاةِ فقال ليس لِأَحَدٍ وَهَذَا رَأْيٌ وَسُئِلَ عن حَدِيثٍ هل يَأْخُذُ بِهِ فَقَرَأَ فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عن أَمْرِهِ الْآيَةَ وَذَهَبَ أبو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيّ وأبو الْفَرَجِ إلَى أَنَّ الْقِيَاسَ أَوْلَى وَقَالُوا إنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَنُقِلَ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ أَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ وقال عِيسَى بن أَبَانَ إنْ كان الرَّاوِي ضَابِطًا عَالِمًا قُدِّمَ خَبَرُهُ وَإِلَّا كان في مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ وما نُقِلَ عن مَالِكٍ من رَدِّ الْخَبَرِ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ لَا أَرَى ثُبُوتَهُ عنه وقال أبو الْحُسَيْنِ يَعِمَنْ لَا خِلَافَ في الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصِ عليها وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في الْمُسْتَنْبَطَةِ وَالْمُخْتَارُ قَوْلُ أبي الْحُسَيْنِ أَنَّهُ يُطْلَبُ التَّرْجِيحُ فَإِنْ كانت أَمَارَةُ الْقِيَاسِ أَقْوَى وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهَا وَإِلَّا فَالْعَكْسُ وَإِنْ اسْتَوَيَا في إفَادَةِ الظَّنِّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ لم أَجِدْ من سَوَّى بين خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ على الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مَظْنُونٌ من وَجْهٍ وَلَوْ صَارَ إلَيْهِ صَائِرٌ لم يَكُنْ بَعِيدًا قُلْت وقد صَارَ إلَيْهِ الْقَاضِي فِيمَا نَقَلَهُ الْبَاجِيُّ قال إلْكِيَا لَكِنَّ الْجُمْهُورَ قَدَّمُوا خَبَرَ الضَّابِطِ على الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ عُرْضَةُ الزَّلَلِ وَالْوَجْهُ التَّعَلُّقُ بِالْإِجْمَاعِ وقد صَحَّ عن عُمَرَ تَرْكُ الرَّأْيِ لِلْخَبَرِ في التَّسْوِيَةِ بين دِيَةِ الْأَصَابِعِ لِلْحَدِيثِ أبو بَكْرٍ حُكْمًا حَكَمَهُ بِرَأْيِهِ لِحَدِيثٍ سَمِعَهُ من بِلَالٍ وَمِنْ هذا قَدَّمْنَا رِوَايَةَ أبي هُرَيْرَةَ في الْمُصَرَّاةِ وَالْعَرَايَا على الْقِيَاسِ قال الْعَجَبُ منهم في رَدِّهِ مع أَنَّ من جُمْلَةِ من رَوَاهُ ابْنَ مَسْعُودٍ
____________________
(3/399)
وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الرَّاوِي إذَا كان فَقِيهًا كَابْنِ مَسْعُودٍ قُبِلَ حَدِيثُهُ سَوَاءٌ وَافَقَ الْقِيَاسَ أَمْ لَا وَلَا يَضُرُّهُ عَمَلُ أَكْثَرِ الْأُمَّةِ بِخِلَافِهِ لِأَنَّ قَوْلَ الْبَعْضِ ليس حُجَّةً خِلَافًا لِقَوْمٍ لَكِنَّ قَوْلَ الْأَكْثَرِ من الْمُرَجِّحَاتِ فَتُقَدَّمُ عِنْدَ التَّعَارُضِ بِمَعْنَى أَنَّهُ إذَا عَارَضَ خَبَرُ الْوَاحِدِ خَبَرًا آخَرَ مثله مُعْتَضِدًا بِعَمَلِ الْأَكْثَرِ قُدِّمَ على الْآخَرِ الذي ليس معه عَمَلُ الْأَكْثَرِ وقال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ ذَهَبَ أَهْلُ الْعِرَاقِ إلَى أَنَّهُ إنْ كان يَتَكَرَّرُ في الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ كَالصَّلَاةِ فَشَرْطُهُ أَنْ يَقْبَلَهُ الْأَكَابِرُ من الصَّحَابَةِ فإذا رَأَيْنَاهُمْ لَا يَقْبَلُونَهُ وَلَا يُخَالِفُونَهُ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَنْسُوخٌ أو مَتْرُوكٌ قال وَهَذَا مَرْدُودٌ لِأَنَّ الْحُجَّةَ في قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حتى يَقُومَ مُعَارِضٌ من نَسْخٍ أو تَأْوِيلٍ وقد وَجَدْنَا الْأَكَابِرَ منهم يَخْفَى عليهم أَشْيَاءُ مَسْأَلَةٌ قال ابن فُورَكٍ وَلَا يُرَدُّ بِأَنْ يَفْعَلَ الرَّسُولُ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِخِلَافِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَافِيًا لِمَا يَقْتَضِي الْعَقْلُ إثْبَاتَهُ فَيُرَدُّ مَسْأَلَةٌ رَدُّ الحديث بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَا يَضُرُّهُ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِخِلَافِهِ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَلِهَذَا لم يَقُلْ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ مع أَنَّهُ الرَّاوِي له قال الْقُرْطُبِيُّ وإذا فُسِّرَ عَمَلُهُمْ بِالْمَنْقُولِ تَوَاتُرًا كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْمُدِّ وَالصَّاعِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ فيه خِلَافٌ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ على أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِالْمَظْنُونِ إذَا عَارَضَهُ قَاطِعٌ وقال الْإِبْيَارِيُّ هذا له صُوَرٌ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ بَلَغَهُمْ فَقَدْ وَافَقَ الْإِمَامُ على سُقُوطِ الْخَبَرِ فيه وَثَانِيهَا أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لم يَبْلُغْهُمْ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ في مِثْلِ هذه الصُّورَةِ أَنْ يَتْرُكَ الْخَبَرَ وهو لو بَلَغَهُمْ لَمَا خَالَفُوهُ وَثَالِثُهَا أَنْ نَجِدَ عَمَلَهُمْ على خِلَافِ الْخَبَرِ ولم يَتَحَقَّقْ الْبُلُوغُ وَلَا انْتِفَاؤُهُ فَالظَّاهِرُ من قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْخَبَرَ مَتْرُوكٌ بِنَاءً منه على أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَخْفَى عليهم لِقُرْبِ دِيَارِهِمْ في زَمَانِهِمْ وَكَثْرَةِ بَحْثِهِمْ وَشِدَّةِ اعْتِنَائِهِمْ بِحِفْظِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَيَقَعُ في قِسْمِ ما إذَا ظَنَنَّا بُلُوغَ الْخَبَرِ ولم نَقْطَعْ بِهِ وقد اخْتَرْنَا في هذه الصُّورَةِ سُقُوطَ
____________________
(3/400)
التَّمَسُّكِ بِالْخَبَرِ وَلُزُومَ التَّمَسُّكِ بِالْفِعْلِ على أَنَّ هذه الْمَسْأَلَةَ اخْتَلَفَ فيها قَوْلُ مَالِكٍ وَرَوَى حَدِيثَ الْبَيِّنَةُ على الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ على من أَنْكَرَ وقال الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ لَا يَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ إلَّا بِمُعَامَلَةٍ أو مُخَالَطَةٍ وَهَذَا مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ في تَعْمِيمِ مُوجَبِ الْيَمِينِ على حَسْبِ ما اقْتَضَاهُ الظَّاهِرُ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في بَابِ التَّرَاجِيحِ إنْ تَحَقَّقَ بُلُوغُهُ لهم وَخَالَفُوهُ مع الْعِلْمِ بِهِ دَلَّ على نَسْخِهِ وَلَيْسَ ذلك تَقْدِيمًا لِأَقْضِيَتِهِمْ على الْخَبَرِ بَلْ هو تَمَسُّكٌ بِالْإِجْمَاعِ على وُجُوبِ حَمْلِهِ على وَجْهٍ مُمْكِنٍ من الصَّوَابِ فَكَانَ تَعَلُّقًا بِالْإِجْمَاعِ في مُعَارَضَةِ الحديث وَإِنْ لم يَبْلُغُهُمْ أو غَلَبَ على الظَّنِّ أَنَّهُ لم يَبْلُغْهُمْ فَالتَّعَلُّقُ حِينَئِذٍ وَاجِبٌ وَظَنِّيٌّ بِدِقَّةِ نَظَرِ الشَّافِعِيِّ في أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْخَبَرُ في مِثْلِ هذه الصُّورَةِ وَإِنْ غَلَبَ على الظَّنِّ أَنَّهُ بَلَغَهُمْ وَتَحَقَّقْنَا مُخَالَفَةَ عَمَلِهِمْ له فَهَذَا مَقَامُ التَّوَقُّفِ فَإِنْ لم نَجِدْ في الْوَاقِعَةِ سِوَى الْخَبَرِ وَالْأَقْضِيَةِ تَعَلَّقْنَا بِالْخَبَرِ وَإِنْ وَجَدْنَا غَيْرَهُ تَعَيَّنَ التَّعَلُّقُ بِهِ قال وَمِنْ بَدِيعِ ما يَنْبَغِي أَنْ يُتَنَبَّهُ له أَنَّ مَذَاهِبَ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ إذَا نُقِلَتْ من غَيْرِ إجْمَاعٍ لَا يَتَعَلَّقُ بها فإذا نُقِلَتْ في مُعَارَضَةِ خَبَرٍ نَصَّ على الْمُخَالَفَةِ تَعَلَّقْنَا بها وَلَيْسَ هو في الْحَقِيقَةِ تَعَلُّقٌ بِالْمَذَاهِبِ بَلْ بِمَا صَدَرَتْ عنه مَذَاهِبُهُمْ قال وما ذَكَرْنَاهُ في أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ يَطَّرِدُ في أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ وفي أَئِمَّةِ كل عَصْرٍ ما لم يُوقَفْ على خَبَرٍ مسألة رد الحديث بعمل الراوي بخلافه ولا يضر عمل الراوي بخلافه خلافا لجمهور الحنفية وبعض المالكية حيث قدموا رأيه على روايته ولذلك لم يوجبوا التسبيع بخبر أبي هريرة في ولوغ الكلب لمخالفته إياه وقد قال عبد الجبار وأبو الحسين إن لم يكن لمذهبه وتأويله وجه إلا أنه علم بالضرورة أنه عليه السلام أراد ذلك الذي ذهب إليه من ذلك الخبر وجب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوزنا أن يكون قد صار إليه لنص أو قياس وجب النظر في ذلك فإن اقتضى ما ذهب إليه وجب المصير إليه وإن لم يقتض ذلك ولم نطلع على مأخذه وجب المصير إلى ظاهر الخبر لأن الحجة إنما هي في كلام الرسول لا في
____________________
(3/401)
مذهب الراوي وظاهر الحديث يدل على معنى غير ما ذهب إليه الراوي فوجب المصير إليه وعدم الالتفات إلى مذهب الراوي وقال الغزالي في المنخول إن أمكن حمل مذهبه على تقدمه على الرواية أو على نسيانه فعل ذلك جمعا بين قبول الحديث وإحسان الظن وإن نقل مقيدا أنه خالف الحديث مع علمه به فالحديث متروك ولو نقل مذهبه مطلقا فلا يترك لاحتمال النسيان نعم يرجح عليه حديث يوافقه مذهب الراوي وقال إمام الحرمين إذا روى خبرا يقتضي رفع الحرج ثم رأيناه متحرجا فالاستمساك بروايته وعمله محمول على الورع والتعلق بالأفضل وقال الصيرفي كل من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرا ثم خالفه لم يكن ذلك مقيدا لخبره لإمكان تأويله أو خبر يعارضه أو معنى بفارق عنده فمتى لم ينكشف لنا شيء من ذلك أمضينا الخبر حتى نعلم خلافه مَسْأَلَةٌ رَدُّ الحديث بِطَعْنِ السَّلَفِ فيه وَلَا يَضُرُّهُ طَعْنُ بَعْضِ السَّلَفِ فيه خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَلِهَذَا رَدُّوا خَبَرَ الْقَسَامَةِ بِطَعْنِ عَمْرِو بن شُعَيْبٍ فيه ثُمَّ نَاقَضُوا فَعَمِلُوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ في نِكَاحِ الْمُحْرِمِ مع أَنَّ سَعِيدَ بن الْمُسَيِّبِ طَعَنَ فيه وَعَارَضَهُ بِمَا هو أَصَحُّ منه
____________________
(3/402)
مَسْأَلَةٌ رَدُّ الحديث بِكَوْنِهِ مِمَّا تَعُمُّ الْبَلْوَى بِهِ وَلَا يَضُرُّهُ كَوْنُهُ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى خِلَافًا لِأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ وَأَبِي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ حَكَاهُ صَاحِبُ الْوَاضِحِ وَلِابْنِ خُوَيْزٍ الْخَارِجِيِّ حَكَاهُ الْبَاجِيُّ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ عن ابْنِ سُرَيْجٍ وَبَنَى الْحَنَفِيَّةُ على هذا رَدَّ خَبَرِ الْوَاحِدِ في نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ وَالْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْهَوِيِّ إلَى الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ منه وَإِيجَابِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ
____________________
(3/403)
خَلْفَ الْإِمَامِ وَالْإِفْرَادِ في الْإِقَامَةِ وَغَيْرِ ذلك فإنه مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَحَقُّهُ الِاشْتِهَارُ وقال الْكَرْخِيّ كُلُّ شَرْطٍ لَا تَتِمُّ صَلَاتُهُ إلَّا بِهِ يَجِبُ نَقْلُهُ كَالْقِبْلَةِ التي ظَهَرَ نَقْلُهَا نَقْلُ الصَّلَاةِ وما يَعْرِضُ لِلصَّلَاةِ أَحْيَانَا فَنَقْلُهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَائِعًا قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ في تَعْلِيقِهِ وَمَعْنَى قَوْلِنَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ وقال صَاحِبُ الْوَاضِحِ مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا غير خَاصٍّ تَحْقِيقُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ لِلْمَسْأَلَةِ قال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَالْحَقُّ في هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَخْبَارَ على قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا يَلْزَمُ الْكَافَّةَ عِلْمُهُ فَذَلِكَ يَجِبُ ظُهُورُهُ لَا مَحَالَةَ وَالثَّانِي ما يَلْزَمُ أَفْرَادُ الناس من الْعُلَمَاءِ الْعِلْمُ بِهِ دُونَ الْعَامَّةِ وَالْعَامَّةُ كُلِّفُوا الْعَمَلَ بِهِ دُونَ الْعِلْمِ أو لم يُكَلَّفُوا بِأَسْرِهِمْ الْعَمَلَ بِهِ نَحْوُ ما يَرْجِعُ الْعَوَامُّ فيه إلَى الْعُلَمَاءِ من الْحَوَادِثِ في إقَامَةِ الْحَدِّ وَغَيْرِهِ فَيَجُوزُ أَنْ تَعُمَّ بِهِ الْبَلْوَى وَلَكِنَّ الْعَامَيَّ فيه مَأْمُورٌ بِالرُّجُوعِ إلَى الْعَالِمِ وإذا ظَهَرَ لِلْعَالِمِ لم يَجِبْ نَقْلُهُ إلَيْهِ وَأَمَّا إذَا كان الْخَبَرُ عن شَيْءٍ اُشْتُهِرَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم على الْكَرَّاتِ كَالْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ وكان النَّاقِلُ مُنْفَرِدًا فَفِيهِ خِلَافٌ وَالْأَكْثَرُونَ على رَدِّهِ وَلِأَجْلِهِ قالوا إنَّهُ عليه السَّلَامُ كان يَجْهَرُ مَرَّةً وَيُخَافِتُ أُخْرَى وَهَذَا مَرْدُودٌ لِأَنَّ هذا الْوَجْهَ لم يُنْقَلْ أَصْلًا وقد يُقَالُ لَعَلَّ ذلك لم يَكُنْ من عِظَامِ الْعَزَائِمِ وَأُمَّهَاتِ الْمُهِمَّاتِ من حَيْثُ الْجَوَازُ فَقَلَّ الِاعْتِنَاءُ بِهِ
____________________
(3/404)
مَسْأَلَةٌ رَدُّ الحديث إذَا كان في الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ في الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَمِنْهُمْ أبو يُوسُفَ وأبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ من الْحَنَفِيَّةِ وَاخْتَارَهُ الْجَصَّاصُ قال عبد الْجَبَّارِ وهو آخِرُ قَوْلَيْ أبي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وَخَالَفَ الْكَرْخِيّ من الْحَنَفِيَّةِ فلم يَقْبَلْهُ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ رَاوِيَهُ كَذَبَ أو سَهَا أو أَخْطَأَ فَكَانَ ذلك شُبْهَةً في دَرْءِ الْحَدِّ وَهَذَا يُشْكِلُ بِإِثْبَاتِ الْحَدِّ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ وَقَوْلِ الْمُفْتِي مَسْأَلَةٌ رَدُّ الحديث بِدَعْوَى أَنَّهُ زِيَادَةٌ على النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ زِيَادَةً على النَّصِّ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ في أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا وَرَدَ بِالزِّيَادَةِ في حُكْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْقَطْعِيَّةِ كان نَسْخًا لَا يُقْبَلُ كَالْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَنَحْوِهِ وَسَبَقَ في النَّسْخِ مَسْأَلَةٌ رَدُّ الحديث بِدَعْوَى مُخَالَفَتِهِ الْأُصُولَ وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ الْأُصُولِ من كِتَابٍ أو سُنَّةٍ مُجْمَعٍ عليها أو إجْمَاعٍ خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَلِهَذَا رَدُّوا خَبَرَ الْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ في زَعْمِهِمْ وَرَدُّوا خَبَرَ الْمُصَرَّاةِ وَالْقُرْعَةِ وَخَبَرَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ في نَفْيِ السُّكْنَى لِلْمُتَغَرِّبَةِ وَلِذَلِكَ زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ كما لَا يَنْسَخُهُ
____________________
(3/405)
السِّرُّ في رَدِّ الْحَنَفِيَّةِ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَهَذِهِ أُصُولٌ مَهَّدُوهَا من أَجْلِ أَخْبَارٍ احْتَجَّ بها أَصْحَابُنَا عليهم في مَوَاضِعَ عَجَزُوا عن دَفْعِهَا فَرَدُّوهَا من هذه الْوُجُوهِ التي ذَكَرْنَاهَا وَقَالُوا بِأَمْثَالِهَا في الضَّعْفِ كَخَبَرِ نَبِيذِ التَّمْرِ مع أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ إذْ الْقُرْآنُ دَلَّ على أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بين الْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَلِلْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُوجِبُ أَنَّ ما امْتَنَعَ التَّوَضُّؤُ بِهِ في الْحَضَرِ امْتَنَعَ في السَّفَرِ وَقَبِلُوا خَبَرَ الْقَهْقَهَةِ في الصَّلَاةِ مع ضَعْفِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِلْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُوجِبُ أَنَّ ما كان حَدَثًا في الصَّلَاةِ كان حَدَثًا في غَيْرِهَا وما لم يَنْقُضْ الطُّهْرَ في غَيْرِهَا لَا يَنْقُضُ فيها وَقَبِلُوا خَبَرًا ضَعِيفًا في إيجَابِ رُبُعِ قِيمَةِ الْبَقَرَةِ في عَيْنِهَا تَخْصِيصًا لها من بَيْنِ سَائِرِ أَطْرَافِهَا وَقَالُوا أَيْضًا بِإِلْزَامِ الْمُدَّعَى عليه الْقَتْلَ الدِّيَةَ مع الْيَمِينِ في الْقَسَامَةِ تَخْصِيصًا لها من بَيْنِ الْأَيْمَانِ فَكَيْفَ أَنْكَرُوا خَبَرَ الْمُصَرَّاةِ مع صِحَّتِهِ لِمُخَالَفَتِهِ الْقِيَاسَ أَتَرَاهُ أَعْظَمَ من تَرْكِهِمْ الْقِيَاسَ بِالِاسْتِحْسَانِ الذي قالوا بِهِ من غَيْرِ دَلَالَةٍ وَلَا أَصْلٍ يَشْهَدُ له وَقَالُوا لنا ما لَا بِهِ نَقْلٌ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رِجَالِكُمْ فَإِنْ لم يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَزِدْتُمْ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ فَقُلْنَا لهم وقد قال اللَّهُ تَعَالَى فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَنَقَلَ من الْمَاءِ إلَى التُّرَابِ ولم يَجْعَلْ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً فَزِدْتُمْ نَبِيذَ التَّمْرِ مع إجْمَاعِ أَهْلِ النَّقْلِ على ضَعْفِ حَدِيثِهِ وَقُوَّةِ حديث الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ فَنَحْنُ لم نَجْعَلْ وَاسِطَةً بين الشَّاهِدَيْنِ وَالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إذَا عُدِمَ ذلك جَازَ الْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَالْقُرْآنُ لَا يَنْفِي ذلك وَإِنَّمَا يَجْعَلُ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ بَدَلًا من الشَّاهِدَيْنِ وَقَالُوا بِحَدِيثِ الْعِينَةِ وَتَرَكُوا ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَخَصَّصُوا ظَاهِرَ الْقُرْآنِ وَقَسَّمَ الْهِنْدِيُّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا خَصَّصَ عُمُومَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أو قَيَّدَ مُطْلَقَهُمَا إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا إلَى ما لَا يُعْلَمُ مُقَارَنَتُهُ له وَلَا تَرَاخِيهِ عنه فقال الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ يُقْبَلُ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَفَعَتْ كَثِيرًا من أَحْكَامِ الْقُرْآنِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ ولم يَسْأَلُوا أنها هل كانت مُقَارِنَةٍ أَمْ لَا قال وهو الْأَوْلَى لِأَنَّ حَمْلَهُ على كَوْنِهِ مُخَصِّصًا مَقْبُولًا أَوْلَى من حَمْلِهِ على كَوْنِهِ نَاسِخًا مَرْدُودًا
____________________
(3/406)
الثَّانِي أَنْ يُعْلَمَ مُقَارَنَتُهُ له فَيَجُوزُ عِنْدَ من يُجَوِّزُ تَخْصِيصَ الْمَقْطُوعِ بِالْمَظْنُونِ وَالثَّالِثُ أَنْ يُعْلَمَ تَرَاخِيهِ عنه فَمَنْ لم يُجَوِّزْ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عن وَقْتِ الْخِطَابِ لم يَقْبَلْهُ لِأَنَّهُ لو قَبِلَهُ لَقَبِلَ نَاسِخًا وهو غَيْرُ جَائِزٍ وَمَنْ جَوَّزَهُ قَبِلَهُ إنْ كان وَرَدَ قبل حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ وَأَمَّا إذَا وَرَدَ بَعْدَهُ فَلَا يُقْبَلُ بِالِاتِّفَاقِ مَسْأَلَةٌ قال سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ لَا يُرَدُّ الْخَبَرُ بِكَوْنِ رَاوِيهِ رَوَى عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ولم يَكُنْ مَعْرُوفًا بِمُجَالَسَتِهِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كانت تَنْقُلُ الْأَخْبَارَ عن الْأَعْرَابِ وَعَمَّنْ لم يُعْرَفْ بِمُجَالَسَتِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مَسْأَلَةٌ رَدُّ الحديث إذَا كان أَحَدُ رَاوِيهِ وَاحِدًا وَلَا يُرَدُّ الْخَبَرُ بِكَوْنِ أَحَدِ رُوَاتِهِ لم يَرْوِ عنه إلَّا وَاحِدٌ خِلَافًا لِابْنِ الْمُنْذِرِ وَحَكَاهُ عنه الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ في تَعْلِيقِهِ في بَابِ التَّفْلِيسِ فإنه طَعَنَ في حديث أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أو أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ فقال رَوَاهُ ابن أبي ذِئْبٍ وَحْدَهُ عن أبي الْمُعْتَمِرِ قال وَالْحَدِيثُ عِنْدَنَا إذَا كان رَاوِيهِ وَاحِدًا فَهُوَ مَجْهُولٌ قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَهَذَا ليس بِاعْتِرَاضٍ فإن الرَّاوِيَ إذَا كان ثِقَةً مَعْرُوفًا يَلْزَمُ قَبُولُ خَبَرِهِ وَإِنْ كان بِصِفَةِ الْوَاحِدِ مَسْأَلَةٌ عَرْضُ الحديث على الْقُرْآنِ لَا يَجِبُ عَرْضُ الْخَبَرِ على الْكِتَابِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى وُجُوبِ عَرْضِهِ فَإِنْ لم يَكُنْ في الْكِتَابِ ما يَدُلُّ على خِلَافِهِ قُبِلَ وَإِلَّا رُدَّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ وقال أبو زَيْدٍ في أُصُولِهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ يُعْتَقَدُ من وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ الْعَرْضُ على كِتَابِ اللَّهِ وَرَوَاجُهُ بِمُوَافَقَتِهِ فَالْتَبَسَ بِمُخَالَفَتِهِ ثُمَّ على
____________________
(3/407)
السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَهِيَ الثَّابِتَةُ بِطَرِيقِ الِاسْتِفَاضَةِ ثُمَّ الْعَرْضُ على الْحَادِثَةِ فَإِنْ كانت مَشْهُورَةً لِعُمُومِ الْبَلْوَى بها وَالْخَبَرُ شَاذٌّ كان ذلك وَمُحْرِبُ وَكَذَا إنْ كان حُكْمُ الْحَادِثَةِ مِمَّا اخْتَلَفَ فيه السَّلَفُ خِلَافًا ظَاهِرًا ولم يُنْقَلْ عَنْهُمْ الْمُحَاجَّةُ بِالْحَدِيثِ كان عَدَمُ ظُهُورِ الْحِجَاجِ وَمُحْرِبُ فيه قال وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ما أَتَاكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ على كِتَابِ اللَّهِ فَلَوْ صَحَّتْ لَاحْتِيجَ إلَى عَرْضِهَا على الْكِتَابِ وقد عَرَضْنَاهَا عليه فلم نَجِدْ فيه ما يَدُلُّ على صِحَّتِهَا بَلْ ما يَدُلُّ على خِلَافِهَا وهو قَوْلُهُ وما آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَرَدَّ ابن السَّمْعَانِيِّ كَلَامَهُ وقال الْخَبَرُ حُجَّةٌ في نَفْسِهِ إذَا ثَبَتَ وَلَا يَجِبُ عَرْضُهُ وَلِهَذَا جَوَّزْنَا تَخْصِيصَ عُمُومِ الْكِتَابِ بِهِ ا هـ وَكَذَلِكَ قال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في كِتَابِهِ قد أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى اتِّبَاعَ نَبِيِّهِ وَالْخَبَرُ أَنَّهُ لَا يَنْطِقُ عن الْهَوَى عَامًّا له بِقَبُولِهِ وَاعْتِقَادِ صِحَّتِهِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ فَهُوَ تَأْكِيدٌ له وَإِمَّا أَنْ لَا يُوجَدَ في الْكِتَابِ فَهُوَ ابْتِدَاءُ شَرْعٍ من اللَّهِ وَلِهَذَا قال اللَّهُ تَعَالَى وما آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وقد يَكُونُ ذلك في الْكِتَابِ وَإِنْ ذَهَبَ عَنَّا وَجْهُهُ قال فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ من قال إذَا رَوَيْت سُنَّةً عَرَضْتهَا على الْقُرْآنِ قال فَإِنْ خَالَفَتْهُ على مَعْنَى وُرُودِ الْكِتَابِ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ أو إبَاحَتِهِ وفي السُّنَّةِ النَّهْيُ عنه أو حَظْرُهُ فَهَذَا لم يُوجَدْ صَحِيحًا إلَّا فِيمَا نَسَخَهُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم من سُنَّتِهِ قُلْت وقد قال الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ وقد سُئِلَ عن أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال ما جَاءَكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ على كِتَابِ اللَّهِ فما وَافَقَهُ فَأَنَا قُلْته وما خَالَفَهُ فلم أَقُلْهُ ما رَوَى هذا أَحَدٌ يَثْبُتُ حَدِيثُهُ في شَيْءٍ صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ ثُمَّ قال وَهَذِهِ رِوَايَةٌ مُنْقَطِعَةٌ عن رَجُلٍ مَجْهُولٍ وَعَمَّنْ لَا يُقْبَلُ عنه مِثْلُ هذه الرِّوَايَةِ في شَيْءٍ انْتَهَى ثُمَّ ذَكَرَ قَوْله تَعَالَى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ على عَمَّتِهَا الحديث ثُمَّ قال فلم أَعْلَمْ مُخَالِفًا في اتِّبَاعِهِ وَكَانَتْ معه دَلَالَتَانِ دَلَالَةٌ على أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ بِحَالٍ وَلَكِنَّهَا سُنَّةٌ عَامًّا وَخَاصًّا وَدَلَالَةً على أَنَّهُمْ قَبِلُوا فيه خَبَرَ الْوَاحِدِ فَلَا نَعْلَمْ أَحَدًا رَوَاهُ من وَجْهٍ يَصِحُّ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَّا أَبَا هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه ا هـ وفي ظَنِّي أَنَّهُ في الْبُخَارِيِّ عن جَابِرٍ
____________________
(3/408)
فَصْلٌ يَجْمَعُ بَعْضَ ما سَبَقَ جُمْلَةُ الشُّبُهَاتِ التي رُدَّتْ بها أَحَادِيثُ الْآحَادِ لَا يُرَدُّ الْخَبَرُ بِنِسْيَانِ الرَّاوِي وَلَا بِمُخَالَفَتِهِ لِلْخَبَرِ أو أَنْ يَقُولَ الرَّاوِي ضَعِيفٌ وَلَا يُبَيِّنُ سَبَبَ الضَّعْفِ أو كَوْنَهُ رُوِيَ مَوْقُوفًا أو أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْأَلْفَاظِ أَدْرَجَهُ الرَّاوِي في الحديث كما قَالَهُ الرَّازِيَّ لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْجَمِيعَ من قَوْلِ الرَّسُولِ لِأَنَّ الْكُلَّ مُرَتَّبٌ بَعْضُهُ على بَعْضٍ لَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْمُحَدِّثِينَ يَأْبَاهُ وَلَا أَنْ يُقَالَ هذه الزِّيَادَةُ لم تُنْقَلْ نَقْلَ الْأَصْلِ لِاحْتِمَالِ ذِكْرِهَا في وَقْتٍ لم يَحْضُرْهُ الْجَمَاعَةُ وَلَا أَنَّ هذا اللَّفْظَ غَيْرُ قَطْعِيٍّ في الرَّفْعِ كَقَوْلِ سُهَيْلٍ مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ يُفَرَّقَ بين الْمُتَلَاعِنَيْنِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إرَادَةُ سُنَّةِ الرَّسُولِ وَلَا بِاحْتِمَالِ اعْتِقَادِ ما ليس بِأَمْرٍ أَمْرًا كَقَوْلِهِ أَمَرَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِكَذَا أو نهى عن كَذَا خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ قال يُحْتَمَلُ أَنَّ الرَّاوِيَ سمع قَوْلًا فَظَنَّهُ أَمْرًا ولم يَكُنْ أَمْرًا لِأَنَّ الْقَوْمَ أَهْلُ اللِّسَانِ وقال الشَّافِعِيُّ إذَا اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ فَلَنَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ فيها نَاسِخٌ وَمَنْسُوخٌ فَالْعَمَلُ بِالنَّاسِخِ وَالثَّانِي أَنْ لَا يَدُلَّ على النَّسْخِ فَيَذْهَبُ إلَى أَثْبَتِ الرِّوَايَتَيْنِ فَإِنْ تَكَافَأَتَا ذَهَبَ إلَى أَشْبَهِ الْحَدِيثَيْنِ من سُنَّتِهِ وَلَا نَقْلُهُ حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْ يُوجَدَ فِيهِمَا هذا أو غَيْرُهُ مِمَّا يَدُلُّ على الْأَثْبَتِ من الرِّوَايَةِ عنه مُسْتَغْنِيًا بِنَفْسِهِ وَإِنْ كان يُرْوَى من دُونِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم حَدِيثٌ يُخَالِفُهُ لم أَلْتَفِتْ إلَى ما خَالَفَهُ خَاتِمَةٌ أَخْذُ الْأَحْكَامِ من الْأَحَادِيثِ التي تَأْتِي لِضَرْبِ الْأَمْثَالِ قِيلَ الْأَحْكَامُ لَا تُؤْخَذُ من الْأَحَادِيثِ التي تَأْتِي لِضَرْبِ الْأَمْثَالِ فإنه مَوْضِعُ تَجَوُّزٍ حَكَاهُ ابن الْعَرَبِيِّ عن إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَأَنَّهُ رَدَّ بِذَلِكَ احْتِجَاجَ الْحَنَفِيَّةِ في وَقْتِ الْعَصْرِ بِحَدِيثِ عَمِلْنَا مع عَمَلِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَنَا قال ابن الْعَرَبِيِّ وَهَذَا وَإِنْ كان مَوْضِعَ تَجَوُّزٍ وَتَوَسُّعٍ كما قال فإن رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يقول إلَّا حَقًّا تَمَثَّلَ أو تَوَسَّعَ
____________________
(3/409)
قُلْت وَالتَّعْلِيلُ بِالتَّوَسُّعِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ وَلَوْ قال لِأَنَّ اللَّفْظَ لم يَظْهَرْ منه قَصْدُ التَّشْرِيعِ فَيَكُونُ قَرِينَةً صَارِفَةً عن الْحُكْمِ لم يَبْعُدْ وقد سَبَقَ مِثْلُهُ في الْعَامِّ إذَا لم يَظْهَرْ منه قَصْدُ التَّعْمِيمِ لَا يَكُونُ عَامًّا لِكَوْنِهِ غير مَقْصُودٍ وَقِيلَ لَا يُؤْخَذُ الْجَوَازُ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ عن أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَنَحْوِهَا كَاحْتِجَاجِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ على أَنَّ الْمَحْرَمَ لَا يُشْتَرَطُ في الْحَجِّ بِحَدِيثِ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْحَلُ من الْحِيرَةِ حتى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إلَّا اللَّهُ قال عَدِيٌّ فَرَأَيْت ذلك رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَقَدَحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ هذا خَبَرٌ منه صلى اللَّهُ عليه وسلم بِأَنَّ ذلك يَقَعُ بَعْدُ ولم يَقُلْ إنَّ ذلك يَجُوزُ وفي الحديث لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حتى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فيقول يا لَيْتَنِي كُنْت مَكَانَهُ وَهَذَا وَإِنْ كان فيه تَمَّنِي الْمَوْتِ الْمَنْهِيِّ عنه لَكِنَّهُ خَبَرٌ منه صلى اللَّهُ عليه وسلم من غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِجَوَازِهِ كَالْإِخْبَارِ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَنَحْوِهَا وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ذلك في مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالِامْتِنَانِ بِإِظْهَارِ الدِّينِ وَلِهَذَا أَخْبَرَ في هذا الحديث بِإِنْفَاقِ كُنُوزِ كِسْرَى في سَبِيلِ اللَّهِ وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَيْضًا ما في الصَّحِيحَيْنِ عن جَابِرٍ قال قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم هل لَكُمْ من أَنْمَاطٍ قُلْت لَا قال أَمَا إنَّهَا سَتَكُونُ لَكُمْ الْأَنْمَاطُ قال فَأَنَا أَقُولُ لها يَعْنِي امْرَأَتَهُ أَخِّرِي عَنِّي أَنْمَاطَك فَتَقُولُ له أَلَمْ يَقُلْ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم سَتَكُونُ لَكُمْ الْأَنْمَاطُ فَأَدَعُهَا وَالْأَنْمَاطُ ضَرْبٌ من الْبُسُطِ له خَمْلٌ رَقِيقٌ فَفَهِمَ الصَّحَابِيُّ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ عن الْأَشْرَاطِ الْجَوَازَ أَيْضًا
____________________
(3/410)
فَصْلٌ أَلْفَاظُ الرُّوَاةِ وَأَمَّا الثَّالِثُ وهو أَلْفَاظُ الرُّوَاةِ في الْخَبَرِ وَكَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ فَلِلرَّاوِي في نَقْلِ ما سَمِعَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ رِوَايَةُ الحديث بِلَفْظِهِ أَحَدُهَا أَنْ يَرْوِيَهُ بِلَفْظِهِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَيَنْظُرُ في هذا بين أَنْ يَكُونَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قَالَهُ ابْتِدَاءً أو جَوَابًا فَإِنْ كان قَالَهُ ابْتِدَاءً وَحَكَاهُ فَقَدْ أَدَّى الْأَمَانَةَ كَقَوْلِهِ تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ وَإِنْ كان جَوَابًا فَإِنْ كان مُغْنِيًا عن ذِكْرِ السُّؤَالِ كَقَوْلِهِ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ فَالرَّاوِي مُخَيَّرٌ بين ذِكْرِ السُّؤَالِ وَتَرْكِهِ فَإِنْ كان مُفْتَقِرًا إلَى ذِكْرِ السُّؤَالِ كما سُئِلَ عن بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فقال أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا جَفَّ قالوا نعم قال فَلَا إذَنْ فَلَا بُدَّ من ذِكْرِ السُّؤَالِ وَإِنْ كان الْجَوَابُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ فإذا نَقَلَ السُّؤَالَ تَعَيَّنَ أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ كما سُئِلَ عن النَّاقَةِ تُذْبَحُ فَيُوجَدُ في بَطْنِهَا جَنِينٌ مَيِّتٌ فقال ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ وَلَوْ قَالَهُ ابْتِدَاءً لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَكَاتُهُ مِثْلَ ذَكَاةِ أُمِّهِ وَاحْتَمَلَ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِذَكَاةِ أُمِّهِ فإذا ذَكَرَ السُّؤَالَ صَارَ الْجَوَابُ مَحْمُولًا على أَنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ فَالْإِخْلَالُ بِالسُّؤَالِ نَقْصٌ وَإِنْ لم يَلْزَمْ ذِكْرُهُ قال وَيَسْتَوِي في هذه الْحَالَةِ التَّابِعِيُّ وَغَيْرُهُ وَبِالْجُمْلَةِ فَذِكْرُ السَّبَبِ حَسَنٌ وَلِهَذَا قال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ أَكْثَرُ ما وَقَعَ الْخِلَافُ فيه بين الْمُجْتَهِدِينَ بِسَبَبِ السَّبَبِ نَقْلُ الحديث بِالْمَعْنَى الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَرْوِيَهُ بِغَيْرِ لَفْظِهِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ نَقْلِ الحديث بِالْمَعْنَى وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَنْقُولَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا الْقُرْآنُ وَلَا شَكَّ في وُجُوبِ نَقْلِ لَفْظِهِ لِأَنَّ الْقَصْدَ منه الْإِعْجَازُ وَالثَّانِي الْأَخْبَارُ فَيَجُوزُ لِلرَّاوِي نَقْلُهَا بِالْمَعْنَى وإذا نَقَلَهَا بِالْمَعْنَى وَجَبَ قَبُولُهُ كَالنَّقْلِ بِاللَّفْظِ هذا هو الصَّحِيحُ من مَذَاهِبَ عَشَرَةٍ سَتَأْتِي وَنُقِلَ عن الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْجُمْهُورِ من الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ لَكِنْ بِشَرَائِطَ
____________________
(3/411)
شُرُوطُ جَوَازِ نَقْلِ الحديث بِالْمَعْنَى أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي عَارِفًا بِدَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ وَاخْتِلَافِ مَوَاقِعِهَا فَإِنْ كان جَاهِلًا بِمَوَاقِعِ الْكَلَامِ امْتَنَعَ بِالْإِجْمَاعِ قَالَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ قال وقد قال الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ يَجِبُ أَنْ يَرْوِيَ الحديث عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِحُرُوفِهِ كما سَمِعَهُ وَلَا يُحَدِّثَ بِهِ على الْمَعْنَى وهو غَيْرُ عَالِمٍ بِمَا يُحِيلُ مَعْنَاهُ لِأَنَّا لَا نَدْرِي لَعَلَّهُ يُحِيلُ الْحَلَالَ إلَى الْحَرَامِ أو الْحَرَامَ إلَى الْحَلَالِ وإذا أَدَّاهُ بِحُرُوفِهِ لم نَجِدْ فيه إحَالَةً قال الْقَاضِي وَظَاهِرُهُ تَحْرِيمُ ذلك على الْجَاهِلِ قُلْت قال الشَّافِعِيُّ في مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ الثَّابِتُ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في صَدَقَةِ الْغَنَمِ مع ما أَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ سَرَدَهُ قال الْأَصْحَابُ فَكَأَنَّ الشَّافِعِيَّ لم يَحْضُرْهُ حِينَئِذٍ لَفْظُ الحديث فَذَكَرَهُ بِالْمَعْنَى وَذَلِكَ دَلِيلٌ على جَوَازِ نَقْلِ الحديث بِالْمَعْنَى عنه وقال الْإِمَامُ في النِّهَايَةِ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ صَادَفَ أو قَاصَّ الْغَنَمَ مُجْمِعًا عليه فلم يَتَأَنَّقَ في نَقْلِ لَفْظِ الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَيَخْرُجُ منه قَوْلٌ بين أَنْ يَقْوَى بِدَلِيلٍ آخَرَ فَيَجُوزُ وَإِلَّا فَيَمْتَنِعُ ثَانِيهَا أَنْ يُبَدِّلَ اللَّفْظَ بِمَا يُرَادِفُهُ كَالْجُلُوسِ بِالْقُعُودِ وَالِاسْتِطَاعَةِ بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ بِالْمَعْرِفَةِ وَجَعَلَ الْإِبْيَارِيُّ هذا مَحَلَّ وِفَاقٍ في الْجَوَازِ وَلَيْسَ كَالْقُرْآنِ لِأَنَّ الْمَقْصِدَ منه الْإِعْجَازُ وَشَرْطُ هذا أَنْ لَا يَحْتَاجَ إلَى النَّظَرِ في التَّرَادُفِ إلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ فَلَوْ اُحْتِيجَ لم يَجُزْ قَطْعًا ثَالِثُهَا أَنْ تَكُونَ التَّرْجَمَةُ مُسَاوِيَةً لِلْأَصْلِ في الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ فَيُبْدِلُ اللَّفْظَ بمثله في الِاحْتِمَالِ وَعَدَمِهِ وَلَا يُبْدِلُ الْأَجْلَى بِالْجَلِيِّ وَعَكْسُهُ وَلَا الْعَامَّ بِالْخَاصِّ وَلَا الْمُطْلَقَ بِالْمُقَيَّدِ وَلَا الْأَمْرَ بِالْخَبَرِ وَلَا الْعَكْسُ لِأَنَّ الْخِطَابَ تَارَةً يَقَعُ بِالْمُحْكَمِ وَتَارَةً يَقَعُ بِالْمُتَشَابِهِ لِحِكَمٍ وَأَسْرَارٍ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهَا عن مَوْضُوعِهَا رَابِعُهَا أَنْ لَا يَكُونَ مِمَّا تُعُبِّدَ بِلَفْظِهِ فَأَمَّا ما تُعُبِّدْنَا بِهِ فَلَا بُدَّ من نَقْلِهِ بِاللَّفْظِ قَطْعًا كَأَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ وَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى بِالِاتِّفَاقِ نَقَلَهُ إلْكِيَا وَالْغَزَالِيُّ وَأَشَارَ إلَيْهِ ابن بَرْهَانٍ وابن فُورَكٍ وَغَيْرُهُمَا وَعَبَّرَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ عن هذا بِأَنْ يَكُونَ سَامِعَ لَفْظِهِ عليه السَّلَامُ عَالِمًا بِمَوْضُوعِ ذلك اللَّفْظِ في اللِّسَانِ وَبِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يُرِيدُ
____________________
(3/412)
بِهِ ما هو مَوْضُوعٌ له فَإِنْ عُلِمَ تَجَوُّزُهُ بِهِ وَاسْتَعَارَ تَرْكَهُ وَجَبَ نَقْلُهُ بِاللَّفْظِ لِيَنْظُرَ فيه خَامِسُهَا أَنْ لَا يَكُونَ من بَابِ الْمُتَشَابِهِ كَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ أَمَّا هِيَ فَلَا يَجُوزُ نَقْلُهَا بِالْمَعْنَى بِالْإِجْمَاعِ حَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُ لِأَنَّ الذي يَحْتَمِلُهُ ما أَطْلَقَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من وُجُوهِ التَّأْوِيلِ لَا نَدْرِي أَنَّ غَيْرَهُ من الْأَلْفَاظِ هل يُسَاوِيهِ أَمْ لَا قال وَكَذَلِكَ الْمُشَكِّكُ وَالْمُشْتَرَكُ لَا يَنْقُلُهُ أَحَدٌ بِالْمَعْنَى لِتَعَذُّرِ نَقْلِهِ بِلَفْظٍ آخَرَ وَكَذَلِكَ الْمُجْمَلُ سَادِسُهَا أَنْ لَا يَكُونَ من جَوَامِعِ الْكَلِمِ فَإِنْ كان كَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَالْبَيِّنَةُ على الْمُدَّعِي الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ وَنَحْوُهُ لم يَجُزْ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ دَرْكُ جَمِيعِ مَعَانِي جَوَامِعِ الْكَلِمِ حَكَاهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ قال وَمِنْ مَشَايِخِنَا من يَفْصِلُ بين الْجَوَامِعِ وَغَيْرِهَا إذَا كان ظَاهِرُ الْمَعْنَى كَغَيْرِهِ من الظَّوَاهِرِ وَجَعَلَ الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ لِلْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَ صُوَرٍ أَحَدُهَا أَنْ يُبْدِلَ اللَّفْظَ بِمُرَادِفِهِ كَالْجُلُوسِ بِالْقُعُودِ فَجَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ وَثَانِيهَا أَنْ يَظُنَّ دَلَالَتَهُ على مِثْلِ ما دَلَّ عليه الْأَوَّلُ من غَيْرِ أَنْ يَقْطَعَ بِذَلِكَ فَلَا خِلَافَ في امْتِنَاعِ التَّبْدِيلِ ثَالِثُهَا أَنْ يَقْطَعَ بِفَهْمِ الْمَعْنَى وَيُعَبِّرَ عَمَّا فَهِمَ بِعِبَارَةٍ يَقْطَعُ بِأَنَّهَا تَدُلُّ على ذلك الْمَعْنَى الذي فَهِمَهُ من غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْأَلْفَاظُ مُتَرَادِفَةً فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ فَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الْقَطْعُ بِفَهْمِ الْمَعْنَى مُسْتَنِدًا إلَى اللَّفْظِ إمَّا بِمُجَرَّدِهِ أو بِهِ مع الْقَرَائِنِ
____________________
(3/413)
الْتَحَقَ بِالْمُرَادِفِ وَكَلَامُ أبي نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ يَدُلُّ لِمَا ذَكَرَهُ في الْحَالَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ على الِاتِّفَاقِ على الْجَوَازِ في الْأُولَى وَعَلَى الْمَنْعِ في الثَّانِيَةِ وقال الْعَبْدَرِيّ في شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى يَجُوزُ لِلْعَالِمِ فِيمَا عَلِمَهُ قَطْعًا لَا في عِلْمِهِ بِنَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ وفي حَقِّ من يُقَلِّدُهُ من الْعَوَامّ خَاصَّةً قال وَعَلَى هذا الْوَجْهِ يَجُوزُ تَفْسِيرُ مَقَالِ الشَّرْعِ بِلُغَةِ الْعَجَمِ على وَجْهِ التَّعْلِيمِ لهم وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَلَا يَجُوزُ له الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ حتى يَنْقُلَ إلَيْهِ لَفْظَ الشَّارِعِ لِأَنَّهُ إنْ قَبِلَهُ بِالْمَعْنَى صَارَ مُقَلِّدًا وفي الصَّحَابِيِّ إذَا نَقَلَهُ بِالْمَعْنَى فَلَا فَرْقَ ا هـ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي الْمَنْعُ مُطْلَقًا بَلْ يَجِبُ نَقْلُ اللَّفْظِ بِصُورَتِهِ سَوَاءٌ الْعَالِمُ وَغَيْرُهُ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عن كَثِيرٍ من السَّلَفِ وَأَهْلِ التَّحَرِّي في الحديث وقال إنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ عن مُعْظَمِ الْمُحَدِّثِينَ وَبَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ وَحَكَاهُ غَيْرُهُ عن أبي بَكْرٍ الرَّازِيَّ من الْحَنَفِيَّةِ وهو مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ كما نَقَلَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْوَاضِحِ عن الظَّاهِرِيَّةِ كما نَقَلَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما وَجَمَاعَةٍ من التَّابِعِينَ منهم ابن سِيرِينَ وَبِهِ أَجَابَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَوَهَمَ صَاحِبُ التَّحْصِيلِ فَعَزَاهُ لِلشَّافِعِيِّ وَحَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن ثَعْلَبٍ من النَّحْوِيِّينَ أَيْ لِأَجْلِ إنْكَارِ أَصْلِ التَّرَادُفِ في اللُّغَةِ وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ عن مَالِكٍ لَا يُنْقَلُ حَدِيثُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِالْمَعْنَى بِخِلَافِ حديث الناس لَكِنْ قال الْبَاجِيُّ لَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ من لَا عِلْمَ له بِمَعْنَى الحديث فَقَدْ نَجِدُ الحديث عنه تَخْتَلِفُ أَلْفَاظُهُ اخْتِلَافًا بَيِّنًا وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ لِلْعَالِمِ النَّقْلُ على الْمَعْنَى وَالثَّالِثُ التَّفْصِيلُ بين ما يُوجِبُ الْعِلْمَ من أَلْفَاظِ الحديث فَالْمُعَوَّلُ فيه على الْمَعْنَى وَلَا يَجِبُ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ وَأَمَّا الذي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ منها فَمِنْهُ ما لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِلَفْظِهِ كَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ خَمْسٌ
____________________
(3/414)
يُقْتَلْنَ في الْحِلِّ وَالْحَرَمِ حَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ وَجْهًا لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا قال وَالْأَصَحُّ الْجَوَازُ بِكُلِّ حَالٍ الرَّابِعُ التَّفْصِيلُ بين الْأَلْفَاظِ التي لَا مَجَالَ لِلتَّأْوِيلِ فيها فَيَجُوزُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى وَإِنْ كان لِلتَّأْوِيلِ فيها مَجَالٌ فلم يَجُزْ إلَّا أَدَاءُ اللَّفْظِ حَكَاهُ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَجَرَى عليه إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَالْخَامِسُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَحْفَظَ اللَّفْظَ فَلَا يَجُوزُ له أَنْ يَرْوِيَهُ بِغَيْرِهِ لِأَنَّ في كَلَامِ الرَّسُولِ من الْفَصَاحَةِ ما لَا يُوجَدُ في كَلَامِ غَيْرِهِ وَإِنْ لم يَحْفَظْ اللَّفْظَ جَازَ أَنْ يُورِدَ مَعْنَاهُ بِغَيْرِ لَفْظِهِ لِأَنَّ الرَّاوِيَ تَحَمَّلَ أَمْرَيْنِ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى فإذا قَدَرَ عَلَيْهِمَا لَزِمَهُ أَدَاؤُهُمَا وَإِنْ عَجَزَ عن اللَّفْظِ وَقَدَرَ على الْمَعْنَى لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ وَبِهَذَا الْقَوْلِ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي وَتَبِعَهُ الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ وَجَعَلَ الْخِلَافَ مَخْصُوصًا بِغَيْرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ قال أَمَّا الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي فَيَجُوزُ رِوَايَتُهُمَا بِالْمَعْنَى كَقَوْلِهِ لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَرُوِيَ أَنَّهُ نهى عن بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَقَوْلُهُ اُقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ في الصَّلَاةِ وَرُوِيَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْأَسْوَدَيْنِ في الصَّلَاةِ قَالَا فَهَذَا جَائِزٌ يَعْنِي بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ افْعَلْ أَمْرٌ ولا تَفْعَلْ نَهْيٌ فَيَتَخَيَّرُ الرَّاوِي بَيْنَهُمَا وَإِنْ كان اللَّفْظُ خَفِيَّ الْمَعْنَى مُحْتَمِلًا كَقَوْلِهِ لَا طَلَاقَ في إغْلَاقٍ وَجَبَ نَقْلُهُ بِلَفْظِهِ وَلَا يُعَبَّرُ عنه بِغَيْرِهِ فإنه لم يَذْكُرْهُ جَلِيًّا وَلَا خَفِيًّا إلَّا لِلْمَصْلَحَةِ وَلِيَكِلَ اسْتِنْبَاطَهُ إلَى الْعُلَمَاءِ وَإِنْ كان الْمَعْنَى جَلِيًّا غير مُحْتَمَلٍ فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ لم يَسْمَعْ كَلَامَهُ من التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يُغَيِّرَ لَفْظَهُ وَيَنْقُلَ مَعْنَاهُ وَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ شَاهَدَهُ من الصَّحَابَةِ أَنْ يُورِدَ الْمَعْنَى بِغَيْرِ لَفْظِهِ فيه وَجْهَانِ
____________________
(3/415)
لِأَصْحَابِنَا أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ كما لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ من التَّابِعِينَ وَالثَّانِي يَجُوزُ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِفَحْوَاهُ من غَيْرِهِ ا هـ وَحَاصِلُهُ تَخْصِيصُ الْخِلَافِ بِالصَّحَابِيِّ وَبِالْجَلِيِّ من غَيْرِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالْجَزْمُ في الْجَلِيِّ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا من التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وهو تَفْصِيلٌ غَرِيبٌ لَكِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ وقال الْقُرْطُبِيُّ قال بَعْضُ مُتَأَخِّرِي عُلَمَائِنَا الْخِلَافُ في هذه الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِالنَّظَرِ إلَى عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لِتَسَاوِيهِمْ في مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ الْجِبِلِّيَّةِ الذَّوْقِيَّةِ وَأَمَّا من بَعْدَهُمْ فَلَا شَكَّ في أَنَّ ذلك لَا يَجُوزُ إذْ الطِّبَاعُ قد تَغَيَّرَتْ وَالْفُهُومُ قد تَبَايَنَتْ وَالْعَوَارِفُ قد اخْتَلَفَتْ قال وَهَذَا هو الْحَقُّ ا هـ وَيَخْرُجُ من ذلك مَذْهَبٌ آخَرُ هو السَّابِعُ بِالنِّسْبَةِ لِمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالثَّامِنُ إنْ كان مُحْكَمًا فَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى إلَّا لِلْعَارِفِ بِاللُّغَةِ وَإِنْ كان ظَاهِرًا يَحْتَمِلُ الْغَيْرَ كَعَامٍّ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ أو حَقِيقَةٍ تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ جَازَ لِلْمُجْتَهِدِينَ فَقَطْ وَإِنْ كان وَجَبَّارُ أو مُشْتَرَكًا فَلَا يَجُوزُ فِيهِمَا النَّقْلُ بِالْمَعْنَى أَصْلًا إذْ الْمُرَادُ بِهِمَا لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالتَّأْوِيلِ وَأَمَّا الْمُجْمَلُ فَلَا يُتَصَوَّرُ فيه النَّقْلُ بِالْمَعْنَى لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عليه إلَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ وَالْمُتَشَابِهُ كَذَلِكَ لِأَنَّا اُبْتُلِينَا بِالْكَفِّ عن طَلَبِ الْمَعْنَى فيه فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى قَالَهُ أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ قال وَأَمَّا ما يَكُونُ من جَوَامِعِ الْكَلِمِ كَقَوْلِهِ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ والعجماء جُبَارٌ وَنَحْوُهُ فَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا نَقْلَهُ بِالْمَعْنَى بِالشَّرْطِ السَّابِقِ في الظَّاهِرِ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِاخْتِصَاصِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بهذا النَّظْمِ وَكَأَنَّ هذا النَّوْعَ هو الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ثُمَّ أَدَّاهَا كما سَمِعَهَا وَذَكَرَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ في كِتَابِهِ قَرِيبًا من هذا التَّفْصِيلِ أَيْضًا وقال أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِهِ اللَّفْظُ الْمَسْمُوعُ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا لَا تَأْوِيلَ فيه كَقَوْلِهِ لَا تَقْرَبْ كَذَا وَافْعَلْ كَذَا فَهَذَا وَنَحْوُهُ لَا يَجْهَلُهُ أَحَدٌ يَنْكَرُهُمَا وَقَعَدَ وَقَامَ وَمَضَى وَذَهَبَ وَصَبَّ وَأَرَاقَ وَهَذَا يَجُوزُ تَأْدِيَتُهُ بِالْمَعْنَى وَالثَّانِي مُودَعٌ في جُمْلَةٍ لَا يَفْهَمُ الْعَامِّيُّ إلَّا بِأَدَاءِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ وَيَكُونُ الِاحْتِمَالُ فِيمَا يَظُنُّهُ الْحَاكِي قَائِمًا فَهَذَا لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُ إلَّا بِاللَّفْظِ الْمُتَعَلَّقِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى فَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ الْمَعْنَى إلَى لَفْظٍ آخَرَ وقد قال الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه وَلَا يُقْبَلُ خَبَرٌ حتى يَكُونَ رَاوِيهِ عَدْلًا عَاقِلًا
____________________
(3/416)
مُمَيِّزًا بين الْمَعَانِي فَمَنْ لم يَكُنْ مُمَيِّزًا بين الْمَعَانِي فَحُكْمُهُ في الْأَدَاءِ على الْأَلْفَاظِ وَكُلُّ من أَدَّى إلَيْنَا شيئا قَبِلْنَاهُ على أَنَّهُ لَفْظُ الْمَحْكِيِّ عنه حتى عَلِمْنَا أَنَّهُ حُكِيَ على خِلَافِ ذلك وَلَا يَجُوزُ نَقْلُ حَدِيثٍ يَكُونُ فيه من الْكَلَامِ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِهِ فَيُحْذَفُ فَيَذْهَبُ مَعْنَاهُ ا هـ وَالتَّاسِعُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يُورِدَهُ على قَصْدِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ وَالْفُتْيَا فَيَجُوزُ له رِوَايَتُهُ بِالْمَعْنَى إذَا كان عَارِفًا بِمَعْنَاهُ وَبَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ التَّبْلِيغَ فَلَا يَحِلُّ له وَيَتَعَيَّنُ اللَّفْظُ لِظَاهِرِ حديث الْبَرَاءِ وَآمَنْتُ بِرَسُولِك الذي أَرْسَلْتَ قَالَهُ ابن حَزْمٍ في كِتَابِ الْإِحْكَامِ وَالْعَاشِرُ التَّفْصِيلُ بين الْأَحَادِيثِ الطِّوَالِ فَيَجُوزُ فيها الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى بِشَرْطِهِ دُونَ الْقِصَارِ حَكَاهُ بَعْضُهُمْ عن الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ ثُمَّ من الْمُتَأَخِّرِينَ من خَصَّ هذا الْخِلَافَ في أَحَادِيثِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَجَوَّزَ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى في كَلَامِ الناس وَمِنْهُمْ من عَكَسَ وهو ما حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ في الْإِشْكَالِ عن مَالِكٍ تَجْوِيزَهُ في حديث الناس وَمَنْعَهُ في كَلَامِ النُّبُوَّةِ فَرْعٌ إذَا قُلْنَا بِالْمَنْعِ وَرُوِيَ بِالْمَعْنَى لَا تَسْقُطُ رِوَايَتُهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اخْتِلَافٍ وَاجْتِهَادٍ فَلَا تَسْقُطُ بِهِ الرِّوَايَةُ قَالَهُ سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يُنْقِصَ من لَفْظِهِ وَيَحْذِفَهُ فَيُنْظَرُ إنْ تَعَلَّقَ بِهِ الْمَحْذُوفُ تَعَلُّقًا لَفْظِيًّا أو مَعْنَوِيًّا لم يَجُزْ بِالِاتِّفَاقِ كما قَالَهُ الْهِنْدِيُّ وَالْإِبْيَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَالتَّعَلُّقُ اللَّفْظِيُّ كَالتَّقْيِيدِ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ وَالْغَايَةِ وَالصِّفَةِ وَالْمَعْنَوِيِّ كما إذَا كان الْمُتَعَلَّقُ مَذْكُورًا بِجُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ لَا يَتَعَلَّقُ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ في الرِّوَايَةِ بها كما في بَيَانِ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ وَبَيَانِ الْمُجْمَلِ بِجُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ وَكَلَامِ ابْنِ الْقُشَيْرِيّ فَيَنْقُصُ عن الْخِلَافِ الْآتِي وَإِنْ لم
____________________
(3/417)
يَكُنْ كَذَلِكَ فَعَلَى الْخِلَافِ في الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى فَالْمَانِعُونَ ثَمَّ مَنَعَ أَكْثَرُهُمْ هَاهُنَا وَأَمَّا الْمُجَوَّزُونَ ثَمَّ فَاخْتَلَفُوا هَاهُنَا على أَقْوَالٍ الْمَذَاهِبُ في جَوَازِ حَذْفِ شَيْءٍ من الحديث أَحَدُهَا أَنَّهُ إنْ كان نَقَلَ ذلك هو أو غَيْرُهُ مَرَّةً بِتَمَامِهِ جَازَ أَنْ يَنْقُلَ الْبَعْضَ وَإِنْ لم يَنْقُلْ ذلك لَا هو وَلَا غَيْرُهُ لم يَجُزْ هَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَالشَّيْخُ في اللُّمَعِ وَغَيْرُهُمَا وَقَيَّدَ الْغَزَالِيُّ الْجَوَازَ في الشِّقِّ الْأَوَّلِ بِأَنْ لَا يَتَطَرَّقَ إلَيْهِ سُوءُ الظَّنِّ بِالتُّهْمَةِ بِاضْطِرَابِ النَّقْلِ وَالثَّانِي الْجَوَازُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ تَعَلَّقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ أَمْ لَا كَذَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في اللُّمَعِ وَكَذَا الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وابن الْقُشَيْرِيّ وهو يُعَكِّرُ على ما حَكَيَاهُ من الِاتِّفَاقِ أَوَّلًا لَكِنَّهُ بَعِيدٌ فإن أَحَدًا لَا يُجَوِّزَ حَذْفَ الْغَايَةِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَالِاقْتِصَارَ على أَصْلِ الْكَلَامِ وَحَكَى سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِيمَا إذَا لم يَتَعَلَّقْ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ طَرِيقَتَيْنِ إحْدَاهُمَا إجْرَاءُ خِلَافِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى وَالثَّانِيَةُ الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ قال وَهِيَ الْمَذْهَبُ قال أَمَّا إذَا رَوَى بَعْضَ الْخَبَرِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْقُلَهُ بِتَمَامِهِ فَإِنْ كان لَا يُفْهَمُ بِأَنَّهُ زَادَ في حَدِيثِهِ قُبِلَ ذلك وَإِنْ كان يُفْهَمُ كان عُذْرًا له في تَرْكِهِ الزِّيَادَةَ وَكِتْمَانِهَا وَكَذَا قال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ مَتَى خَافَ رَاوِي الحديث على التَّمَامِ أَنَّهُ إذَا رَوَاهُ مَرَّةً نَاقِصًا أَنْ يُتَّهَمَ وَجَبَ عليه رِوَايَتُهُ على التَّمَامِ دَفْعًا عن نَفْسِهِ التُّهْمَةَ الْمُسْقِطَةَ لِلرِّوَايَةِ وَشَرَطَ أَيْضًا لِلْجَوَازِ أَنْ يَكُونَ السَّامِعُ مُتَذَكِّرًا لِتَمَامِهِ فَإِنْ خَافَ غَفْلَتَهُ أو نِسْيَانَهُ لم يَحِلَّ له إلَّا رِوَايَتُهُ تَامًّا قال فَإِنْ شَارَكَهُ في السَّمَاعِ غَيْرُهُ لم يَحِلَّ له الِاقْتِصَارُ على الْبَعْضِ لِئَلَّا يُفْسِدَ على السَّامِعِ الْآخَرِ الذي لم يَسْمَعْهُ إلَّا تَامًّا وَالثَّالِثُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَالرَّابِعُ الْحَدِيثُ إنْ كان مَشْهُورًا بِتَمَامِهِ جَازَ نَقْلُ بَعْضِهِ وَإِلَّا فَلَا قَالَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ وَالْخَامِسُ إنْ كان لَا يُعْلَمُ إلَّا من جِهَتِهِ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ لم يَجُزْ أَنْ يَتْرُكَ منه شيئا وَإِنْ لم يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ نُظِرَ فَإِنْ كان النَّاقِلُ فَقِيهًا جَازَ له ذلك وَإِنْ كان
____________________
(3/418)
غير فَقِيهٍ امْتَنَعَ قَالَهُ ابن فُورَكٍ وأبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابَيْهِمَا قَالَا وَإِنْ كان تَقَدَّمَ قبل ذلك جَازَ له الِاكْتِفَاءُ بِالْبَعْضِ كما رُوِيَ أَنَّهُ عليه السَّلَامُ رَدَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ إلَى آيَةِ الْكَلَالَةِ فقال تَكْفِيَك آيَةُ الصَّيْفِ فَلَوْ لم يَكُنْ فيها كِفَايَةٌ لَمَا وَكَّلَهُ إلَيْهَا وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ في حديث الْوَاطِئِ في رَمَضَانَ اكْتِفَاءً بِمَا ذَكَرَهُ في الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَإِنْ كان قد جاء من طَرِيقٍ آخَرَ الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ وَلِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَتَيْت النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ فَرَمَى الرَّوْثَةَ وَتَرَكَ نَقْلَ الْحَجَرِ الْآخَرِ اكْتِفَاءً وقد رَوَى أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ مُسْنَدًا أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال ائْتِنِي بِحَجَرٍ ثَالِثٍ وَكَذَا قال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ الْحَقُّ في هذه الْمَسْأَلَةِ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ حُكْمًا مُتَمَيِّزًا عَمَّا قَبْلَهُ وَالنَّاقِلُ فَقِيهٌ عَالِمٌ بِوَجْهِ التَّمْيِيزِ فَيَجُوزُ كَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَحَيْثُ لم يَنْقُلْ الْحَجَرَ الثَّالِثَ كان مَقْصُودُهُ مَنْعَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالرَّوْثِ وَإِنْ كان مَقْصُودُهُ مُرَاعَاةَ الْعَدَدِ لَوَجَبَ عليه نَقْلُ جَمِيعِهِ وَإِنْ كان النَّاقِلُ ظَاهِرُ حَالِهِ الِاعْتِنَاءُ بِنَقْلِهِ وَاسْتِيفَاءُ رِوَايَتِهِ فَظَاهِرُ حَالِهِ أَنْ لَا يَنْقُلَ سِوَاهُ كَقَضِيَّةِ مَاعِزٍ فإن الرَّاوِيَ اسْتَوْفَاهَا ولم يذكر رَجْمَهُ قال وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَمَسْأَلَةُ نَقْلِ الْخَبَرِ بِالْمَعْنَى في الْمَأْخَذِ وَالْمَنْشَأِ سَوَاءٌ وقد يَنْتَهِي الْأَمْرُ فِيهِمَا إلَى التَّفْصِيلِ بين الرَّاوِي الْفَقِيهِ وَغَيْرِهِ وقد يُسَوَّى بَيْنَهُمَا كما يُسَوَّى بين الرَّاوِي الْفَقِيهِ وَغَيْرِهِ وقال الْقَاضِي يَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَهُ نَاقِصًا لِمَنْ رَوَاهُ له قبل ذلك تَامًّا إذَا غَلَبَ على ظَنِّهِ أَنَّهُ حَافِظٌ لِتَمَامِهِ فَيَذْكُرُ له فَإِنْ بَانَتْ غَفْلَتُهُ وَنِسْيَانُهُ لم يَحِلَّ له إلَّا رِوَايَتُهُ على الْكَمَالِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ إنَّمَا يَجُوزُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مُسْتَقِلًّا بِمَفْهُومِ الْحُكْمِ
____________________
(3/419)
كَقَوْلِهِ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ فَيَجُوزُ له رِوَايَةُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَا عليه لِلْإِبْلَاغِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَيَلْزَمُهُ الْجَمْعُ كَالشَّهَادَةِ فَإِنْ كان الْبَاقِي لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ فَلَا يَجُوزُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ لِتَتِمَّ فَائِدَةُ الْخَبَرِ وَإِنْ كان مَفْهُومًا وَلَكِنَّ ذِكْرَ الْمَتْرُوكِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ في الْمَذْكُورِ كَقَوْلِهِ أَعِدْ أُضْحِيَّتَك فقال ليس عِنْدِي إلَّا جَذَعَةٌ من الْمَعْزِ فقال تُجْزِئُكَ ولم تُجْزِئْ لِأَحَدٍ بَعْدَك فَلَوْ رَوَى أَنَّهُ قال يُجْزِئُك لَفُهِمَ أَنَّهُ يُجْزِئُ عن جَمِيعِ الناس فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ ا هـ وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ اخْتِصَارِهِ بِشَرْطِ الِاسْتِقْلَالِ وقد جاء الْحَدِيثُ الطَّوِيلُ في صِفَةِ الْحَجِّ سَاقَهُ جَابِرٌ سِيَاقًا وَاحِدًا عِنْدَ خُرُوجِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من الْمَدِينَةِ إلَى أَنْ دَخَلَهَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ وأبو دَاوُد على هذا السِّيَاقِ وَجَزَّأَهُ مَالِكٌ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ على الْأَبْوَابِ وقال أبو الْوَلِيدِ بن رُشْدٍ هو عِنْدِي جَائِزٌ إذَا كان مُفِيدًا وَمُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ وَغَيْرَ مُحْتَاجٍ في فَهْمِهِ إلَى ما قَبْلَهُ أو كان ليس يُوجِبُ صِدْقَ ما حُذِفَ منه تَرَدَّدَ الْمَفْهُومُ عنه بين مَعْنَيَيْنِ أو أَكْثَرَ وَسَوَاءٌ جَوَّزْنَا الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى أو لَا وَاسْتَحْسَنَهُ الْعَبْدَرِيّ أَمَّا إذَا كان تَرْكُ بَعْضِهِ يَتَضَمَّنُ تَرْكَ بَيَانِ ما أَوَّلَهُ وَيُوهِمُ منه شيئا يَزُولُ بِذِكْرِ الزِّيَادَةِ لم يَجُزْ حَذْفُهَا مِثْلُ ما ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فقال نَقَلَ بَعْضُ النَّقَلَةِ عن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أتى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ يَسْتَنْجِي فَرَمَى الرَّوْثَةَ وقال إنَّهَا رِكْسٌ وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ رَمَى الرَّوْثَةَ ثُمَّ قال ابْغِ لنا ثَالِثًا وَالسُّكُوتُ عن ذِكْرِ الثَّالِثِ ليس يُخِلُّ بِذِكْرِ رَمْيِ الرَّوْثَةِ وَبَيَانِ أنها رِكْسٌ لَكِنْ يُوهِمُ النَّقْلُ كَذَلِكَ جَوَازُ الِاسْتِنْجَاءِ بِحَجَرَيْنِ وقال الشَّافِعِيُّ فَلَا يَجُوزُ مع هذا الْإِيهَامِ الِاقْتِصَارُ على بَعْضِ الحديث وَتُحْمَلُ رِوَايَةُ الْمُقْتَصِرِ على أَنَّهُ لم تَبْلُغْهُ الزِّيَادَةُ وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في ذلك التَّفْصِيلَ بين أَنْ يَكُونَ مَقْصِدُ الرَّاوِي مَنْعَ اسْتِعْمَالِ الرَّوْثِ فَيَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ وَالْحَقُّ ما قَالَهُ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ الْإِيهَامَ
____________________
(3/420)
حَاصِلٌ وَإِنْ قَصَدَ الرَّاوِي مَنْعَ اسْتِعْمَالِ الرَّوْثِ وقد نُقِلَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ وفي رِوَايَةٍ لم يُنْقَلْ إلَّا الرَّجْمُ قال الشَّافِعِيُّ لَا أَتَلَقَّى سُقُوطَ الْجَلْدِ عن الثَّيِّبِ من اقْتِصَارِ الرَّاوِي إذْ يُحْتَمَلُ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان قد ذَكَرَهُ في هذا الحديث فَاسْتَحْضَرَ الرَّاوِي الرَّجْمَ فَاقْتَصَرَ عليه وَلَكِنَّهُ مَأْخُوذٌ من قَضِيَّةِ مَاعِزٍ وَفِعْلِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَمَّا إذَا اقْتَصَرَ على الزَّوَائِدِ من الْحُرُوفِ التي لَا تُغَيِّرُ الْمَعْنَى وكان عَالِمًا بِمَصَادِرِ الْكَلَامِ وَمَوَارِدِهِ جَازَ إنْ قُلْنَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى وَإِلَّا فَلَا قَالَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ فَرْعٌ الْخَبَرُ الذي فيه لَفْظٌ يُفِيدُ التَّأْكِيدَ لَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ أَطْلَقَ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ أَنَّهُ إذَا كان في الْخَبَرِ لَفْظٌ لَا يُفِيدُ إلَّا التَّأْكِيدَ لم يَجُزْ لِلرَّاوِي إسْقَاطُهُ لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ما ذَكَرَهُ إلَّا لِفَائِدَةٍ وَيَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فيه الْخِلَافُ تَنْبِيهٌ الْجَزْمُ بِمَنْعِ حَذْفِ الصِّفَةِ مُشْكِلٌ ما جَزَمُوا بِهِ من مَنْعِ حَذْفِ الصِّفَةِ مُشْكِلٌ فَقَدْ وَقَعَ في الْقُرْآنِ نَظِيرُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا وَلَيْسَ فيه ذِكْرُ الِاسْتِثْنَاءِ في الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ وَكَذَلِكَ إنَّ عِبَادِي ليس لَك عليهم سُلْطَانٌ في سُبْحَانَ وفي الْحِجْرِ إلَّا من اتَّبَعَك وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى آيَتُك أَلَا تُكَلِّمَ الناس ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا فَقَدْ يُقَالُ إنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي جَوَازَ حَذْفِ الِاسْتِثْنَاءِ من الْخَبَرِ أَيْضًا وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمَحْذُوفِ في الْآيَةِ هو الْمَذْكُورُ في آلِ عِمْرَانَ إلَّا رَمْزًا وَجَوَابُهُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ الرَّمْزَ ليس بِكَلَامٍ فَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ إطْلَاقِ امْتِنَاعِ حَذْفِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمُتَّصِلِ فَائِدَةٌ هل يَجُوزُ إسْقَاطُ حَرْفِ الْعَطْفِ من الْآيَةِ عِنْدَ الِاسْتِدْلَالِ بها وَقَعَ الْبَحْثُ في أَنَّهُ إذَا اسْتَدَلَّ بِآيَةٍ هل يَجُوزُ تَغْيِيرُ لَفْظِهَا بِإِسْقَاطِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى بِدُونِهِ ظَاهِرُ تَصَرُّفِ الْفُقَهَاءِ جَوَازُهُ فَفِي الْوَسِيطِ
____________________
(3/421)
في أَوَّلِ الصَّلَاةِ قال اللَّهُ تَعَالَى أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وفي كِتَابِ الْبَيْعِ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا وفي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ لم يَنْزِلْ عَلَيَّ إلَّا هذه الْآيَةُ الْفَاذَّةُ من يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وفي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ إذَا خَطَبَ إلَيْكُمْ من تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ في الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ وفي حديث الِاسْتِفْتَاحِ وأنا من الْمُسْلِمِينَ الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ أَنْ يَزِيدَ في لَفْظِهِ فَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ شَرْطًا لِبَيَانِ الْحَالِ كَنَهْيِهِ عن تَلَقِّي الرَّكْبَانِ وَبَيْعِ حَاضِرٍ لِبَادٍ فَيَزِيدُ ذِكْرُ السَّبَبِ الذي دَعَاهُ إلَى هذا الْقَوْلِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فَهَذَا يَجُوزُ من الصَّحَابِيِّ لِمُشَاهَدَةِ الْحَالِ وَلَا يَجُوزُ من التَّابِعِيِّ وَإِنْ كان تَفْسِيرًا لِمَعْنَى الْكَلَامِ كَنَهْيِهِ عن الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ فَيُفَسَّرُ مَعْنَاهَا في رِوَايَتِهِ قَالَا فَيَجُوزُ ذلك لِلصَّحَابِيِّ وَالتَّابِعِيِّ لَكِنَّ تَفْسِيرَ الصَّحَابِيِّ يَلْزَمُ فيه قَوْلُهُ بِخِلَافِ تَفْسِيرِ التَّابِعِيِّ قَالَا وَإِنْ خَرَجَتْ الزِّيَادَةُ عن شَرْحِ السَّبَبِ وَتَفْسِيرِ الْمَعْنَى فَلَا يَجُوزُ وَهِيَ كَذِبٌ صَرِيحٌ ا هـ مَسْأَلَةٌ في الرَّجُلِ يَرْوِي خَبَرًا فَيَجْتَهِدُ فيه كَقَوْلِهِ في الْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ فَلَوْ اسْتَزَدْنَاهُ لَزَادَنَا قال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ فَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَذْهَبُ في الْقَدِيمِ إلَى الْمَسْحِ بِغَيْرِ تَوْقِيتٍ قال ابن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ إلَّا أَنَّ الْحَسَنَ بن مُحَمَّدٍ بن الصَّبَّاحِ الزَّعْفَرَانِيَّ قال رَجَعَ الشَّافِعِيُّ بِبَغْدَادَ قبل أَنْ يَخْرُجَ إلَى مِصْرَ عن الْمَسْحِ بِغَيْرِ تَوْقِيتٍ وقال إنَّهُ يُؤَقِّتُ حِينَئِذٍ فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى الْخَبَرِ الْمُؤَقَّتِ وَقَوْلُ خُزَيْمَةَ لو اسْتَزَدْنَاهُ لَزَادَنَا ظَنٌّ منه أَنْ يَزِيدَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَزِيدَ الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ أَنْ يَسْمَعَهُ مَلْحُونًا أو مُحَرَّفًا فَفِي الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنْ يَرْوِيَهُ كما سَمِعَهُ وَبِهِ قال محمد بن سِيرِينَ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ مَنَعَ الرِّوَايَةَ
____________________
(3/422)
بِالْمَعْنَى وَالثَّانِي أَنْ يُغَيِّرَهُ وَيُصْلِحَهُ لِلصَّوَابِ قال ابن الصَّلَاحِ إنَّهُ مَذْهَبُ الْمُحَصِّلِينَ وَالْعُلَمَاءِ من الْمُحَدِّثِينَ وَالثَّالِثُ إنْ كان له وَجْهٌ سَائِغٌ في لُغَةِ الْعَرَبِ وَإِنْ كان في غَيْرِ لُغَةِ قُرَيْشٍ لم يُغَيِّرْ وَإِلَّا غَيَّرَهُ حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ في الْإِلْمَاعِ عن النَّسَائِيّ وَجَزَمَ بِهِ ابن حَزْمٍ في الْإِحْكَامِ وَالرَّابِعُ أَنَّهُ لَا يَرْوِيهِ أَصْلًا لَا على الصَّوَابِ وَلَا على الْخَطَأِ لِأَنَّهُ لم يَسْمَعْهُ من الشَّيْخِ على الصَّوَابِ وَلِعِصْمَةِ الْمُصْطَفَى صلى اللَّهُ عليه وسلم من اللَّحْنِ وَهَذَا حَكَاهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بن دَقِيقِ الْعِيدِ عن شَيْخِهِ ابْنِ عبد السَّلَامِ أَحَدِ سَلَاطِينِ الْعُلَمَاءِ مسألة إذا عمل الصحابي بخلاف حديث رواه فله أحوال أحدها أن يكون الخبر عاما فيخصه بأحد أفراده وقد سبقت المسألة بفروعها في باب التخصيص ثانيها أن يكون مطلقا فيقيده وهو كتخصيص العام بلا فرق ثالثها أن يدعي نسخه وقد سبق في آخر باب النسخ رابعها أن يكون الخبر محتملا لأمرين متنافيين فيحمله الراوي على أحدهما فالذي ذكره جمهور أصحابنا منهم الأستاذ أبو إسحاق وابن فورك والأستاذ أبو منصور إلكيا الطبري وسليم الرازي في التقريب أنه ينظر فإن أجمعوا على أن المراد أحدهما رجع إليه فيه ولهذا رجع الشافعي إلى تفسير ابن عمر التفرق في خيار المجلس بالأبدان وكتفسيره حبل الحبلة ببيعه إلى نتاج النتاج وكفعل عمر في هاء وهاء فقال والله لا تفارقه وبينك وبينه شيء ثم احتج بقوله الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء على المجلس دون المقايضة على الفور وتوقف الشيخ أبو إسحاق في اللمع هذا إن كان صحابيا فإن كان تابعيا لم يلزم كما سبق وقيل لا فرق وإن لم يتنافيا فكالمشترك في حمله على معنييه وإن جوزوا أن يكون المراد غيرهما كتفسير ابن عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم
____________________
(3/423)
فأقدروا له عادة الشهور من تسع وعشرين أو ثلاثين فأوجب صيام الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال تلك الليلة وكانت السماء مغيمة وإنما لم يرجع الشافعي إلى تفسيره ذلك وأوجب استكمال الثلاثين سواء الليلة المغيمة أو المصحية لأن الإجماع لم يقم على أن المراد أحدهما بل جاءت الروايات كلها مصرحة بخلاف روايته كخبر أبي هريرة وابن عباس أن المراد استكمالهن ثلاثين لا العدة المعتادة وأطلق أبو بكر الصيرفي أن تأويل الراوي أولى لمشاهدة الحال إلا أن يقوم دليل على مخالفته فالحكم للدليل كما أوصى أبو سعيد أن يكفن في ثياب جدد لأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول يحشر المؤمن في ثوبه يوجه تأويله إلى الثياب ثم إن الدليل قام على خلافه من قوله يحشر الناس عراة فأول من يلبس إبراهيم فثبت أن المراد بالثوب في الحديث العمل من صالح أو طالح قال وإنما جعل تأويل الراوي أولى لأنه قد شاهد من الأمارات ما لا يقدر على حكايته فيكون تأويله أولى فإذا انكشف خلافه صرنا إليه ومن هذا قال الشافعي ربما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث ثم يسمع سببه أو يسمع آخر كلامه ولم يسمع أوله وعلى كل إنسان أن يحكي ما سمع حتى يسمع خلافه ا هـ قال الآمدي إذا حمل الصحابي ما رواه على أحد محتمليه فإن قلنا إن اللفظ المشترك ظاهر في جميع محامله كالعام فتعود المسألة إلى التخصيص بقول الصحابي وإن قلنا بامتناع حمله على ذلك فلا نعرف خلافا في وجوب حمل الخبر على ما حمله عليه الراوي لأن الظاهر من حال النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا ينطق باللفظ المجمل بقصد التشريع وتعريف الأحكام ويخليه عن قرينة حالية أو مقالية تعين المقصود من الكلام والصحابي الراوي المشاهد للحال أعرف بذلك من غيره فوجب الحمل عليه
____________________
(3/424)
ثم أورد على جهة الاحتمال أن تعيينه ليس أولى من تعيين غيره من المجتهدين حتى ينظر فيه فإن انقدح له وجه يوجب تعيين غير ذلك الاحتمال وجب اتباعه وإلا فتعيين الراوي صالح للترجيح فيجب اتباعه ا هـ وهذا الاحتمال ضعيف لأن الظاهر أن تعيين الصحابي المشاهد للحال إنما يكون عن قرينة حالية أو مقالية شاهدها فلا يعدل عن الظاهر إلا عند قيام ما ترجح عليه لا بمجرد كونه محتملا وقد نقل القاضي أبو بكر وإمام الحرمين نص الشافعي على أن الصحابي إذا نقل خبرا وأوله وذكر مجمله فتأويله مقبول قال أبو نصر بن القشيري وإنما أراد فيما أظن إذا أول الصحابي أو خصص من غير ذكر دليل وإلا فالتأويل المعتضد بالدليل مقبول من كل إنسان لأنه اتباع للدليل لا اتباع ذلك المؤول وقال عبد الوهاب في الإفادة ذهب جمهور أصحاب الشافعي إلى تعيين تأويل الراوي وحكوه عن الشافعي ومنهم من منع ذلك وبنى عليه منع التوقيت في المسح لقول خزيمة لو مضى السائل في مسألته لجعلها خمسا فقالوا هذا ظن والواجب المصير إلى الخبر فقال والصحيح إن كان ذلك مما لا يعلم إلا من قصده صلى الله عليه وسلم فالواجب المصير إليه لأنه ليس يعلم ما لأجله صار إلى ذلك سواه وإن كان مما طريقه الاستدلال لم يلزم لأنه تخصيص العموم إلا أن يكون مما طريقه اللغة دون الأحكام فيلزم المصير إليه لكون الصحابي حجة في اللغة ا هـ وهو تقييد حسن خامسها أن يكون الخبر ظاهرا في شيء فيحمله الصحابي على غير ظاهره إما بصرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه أو بأن يصرفه عن الوجوب إلى الندب أو عن التحريم إلى الكراهة فالذي عليه الجمهور العمل بظاهر الحديث ولا يخرج عنه بمجرد عمل الصحابي وقوله هكذا ذكره الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وابن فورك إلكيا الطبري وغيرهم قال الآمدي وفيه قال الشافعي كيف أترك الخبر لأقوال أقوام لو عاصرتهم لحججتهم بالحديث
____________________
(3/425)
وذهب أكثر الحنفية إلى اتباع قول الراوي في ذلك لما سيأتي وقال بعض المالكية إن كان ذلك مما لا يمكن أن يدرك إلا بشواهد الأحوال والقرائن المقتضية لذلك وليس للاجتهاد مساغ في ذلك اتبع قوله وإن كان صرفه عن ظاهره يمكن أن يكون لضرب من الاجتهاد تعين الرجوع إلى ظاهر الخبر لاحتمال أن لا يكون اجتهاده مطابقا لما في نفس الأمر فلا يترك الظاهر بالمحتمل حكاه عنهم القاضي عبد الوهاب في الملخص وقال القاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري من المعتزلة إن علم أنه لم يكن لمذهب الراوي وتأويله وجه سوى علمه بقصد النبي صلى الله عليه وسلم لذلك التأويل وجب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز أن يكون قد صار إليه لدليل ظهر له من نص أو قياس وجب النظر في ذلك الدليل فإن كان مقتضيا لما ذهب إليه وجب المصير إليه وإلا عمل بالخبر ولم يكن لمخالفة الصحابي أثر سادسها أن تكون المخالفة بترك الحديث بالكلية كرواية أبي هريرة الولوغ سبعا ورأيه بالثلاث وهذا ذكره الإمام فخر الدين مثالا لتخصيص الراوي عموم الخبر وليس منه لأن ألفاظ العدد نصوص لا تحتمل التخصيص فمذهب الشافعي أن الاعتبار بروايته خلافا للحنفية وحكى القاضي عن عيسى بن أبان أنه إن كان من الأئمة دل على نسخ الخبر والمختار عند إمام الحرمين وابن القشيري أنا إن تحققنا نسيانه للخبر الذي رواه أو فرضنا مخالفة لخبر لم يروه وجوزنا أنه لم يبلغه فالعمل بالخبر فإن روى خبرا مقتضاه رفع الحرج والحرج فيما سبق منه تحريم وحظر ثم رأيناه يتحرج فالاستمساك بالخبر أيضا وعمله محمول على الورع وإن ناقض عمله روايته ولم نجد محملا في الجمع امتنع التعلق بروايته فإنه لا يظن بمن هو من أهل الرواية أن يتعمد مخالفة ما رواه إلا عن ثبت يوجب المخالفة قال ابن القشيري وعلى هذا فلا يقطع بأن الحديث منسوخ كما صار إليه ابن أبان ولعله علم شيئا اقتضى ترك العمل بذلك الخبر ويتجه هاهنا أن يقال لو كان ثم سبب يوجب رد الخبر لوجب على هذا الراوي أن يبينه إذ لا يجوز ترك ذكر ما عليه مدار الأمر والمحل محل الالتباس
____________________
(3/426)
ثم قال إمام الحرمين وهذا غير مختص بالصحابي بل لو روى بعض الأئمة خبرا عمل بخلافه فالأمر على ما ذكرناه من التفصيل ولكن قد اعترض الأئمة أمور أسقطت آثار أفعالهم المخالفة لروايتهم وهذا كرواية أبي حنيفة خيار المجلس مع مصيره إلى مخالفته فهذه المخالفة غير قادحة في الرواية لأنه ثبت من أصله تقديم الرأي على الخبر فمخالفته محمولة على قياسه على هذا الأصل الفاسد ولهذا قال أرأيت لو كانا في سفينة وكرواية مالك لهذا الحديث مع مصيره إلى نفي خيار المجلس وهذه المخالفة لا تقدح أيضا في الرواية لأن الذي حمله على هذا فيما أظن تقديمه عمل أهل المدينة على الأحاديث الصحيحة قال ابن القشيري لا ينبغي تخصيص المسألة بالراوي يروي ثم يخالف بل تجري فيمن يبلغه خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخالفه وإن لم يكن هو الراوي لذلك الخبر حتى إذا وجدنا محملا وقلنا إنما خالف لأنه اتهم الراوي فلا يقدح هذا في الخبر وإن لم يتجه وجه لمخالفته إلا ولها الحديث أو المصير إلى استخفافه بالخبر فحينئذ يتعين أن يقال هذا قدح في الخبر وعلم بضعفه قال الإمام وإذا روى الراوي خبرا وكان الأظهر أنه لم يحط بمعناه فمخالفته للخبر لا تقدح في الخبر وإن لم يدر أنه ناس للخبر أو ذاكر لما يحمل بخلافه فيتعلق بالخبر لأنه من أصول الشريعة ونحن على تردد فيما يدفع التعلق به فلا يدفع الأصل بهذا التردد بل إن غلب على الظن أنه خالف الحديث قصدا ولم يتحققه فهذا يعضد التأويل ويؤيده ويحط مرتبة الظاهر ويخف الأمر في الدليل الذي عضده التأويل قال ولو روى خبرا ثم فسق وفي زمان الفسق خالف ما رواه فلا يقدح هذا في الخبر لأنه محمول على مجونه لا على أنه يعرف ضعف الحديث قال ابن القشيري يتجه أن يقال إن الصحابي إذا روى وخالف ما روى قصدا دل على ضعف الحديث لأنهم شاهدوا الوحي وعرفوا من قرائن الأحوال ما لم نعرفه فأما الإمام الآن إذا خالف خبرا رواه وقد عمل به من قبله فهذا الخلاف لا يقدح فيه قال إمام الحرمين وإذا كنا نقول إذا ورد خبر ثم خالفه بعض الأئمة مع ذكره له ولم نجد محملا يقوي ضعف الحديث أو كونه منسوخا فلا عمل بذلك الخبر فلو خالف أقضية الصحابة أو أئمة أي عصر فرضنا الخبر ولم نجد محملا مما ذكرنا
____________________
(3/427)
فلا شك في أن هذا يقدح في الخبر إذ لا محمل لترك العمل بالخبر إلا الاستهانة وترك المبالاة به والعلم بكونه منسوخا وليس بين التقديرين ثالث وقد أجمع المسلمون على وجوب اعتقاد تنزيههم عن الاستهانة بالخبر فتعين حمل الأمر على علمهم بورود النسخ وليس هذا تقديما لأقضيتهم على الخبر بل هو استمساك بالإجماع على وجوب حمل عملهم على وجه يمكن في الصواب فكان تعلقا بالإجماع في معارضة الحديث ومن بديع الأمر أن مذهب الصحابي إذا نقل مفردا لا يحتج به على الصحيح فإذا نقل في معارضة خبر نص على المخالفة التي لا تقبل التأويل تعين التعلق بقول الصحابي ولكن ليس هذا تعلقا بمذهب الصحابي بل هو تعلق بما عنه صدر مذهبه ولهذا طردنا هذا الكلام في أمر كل عصر كما قلنا في الإجماع إن أهل العصر لا يجمعون في مظنون عن مسلك إلا عن ثبت وحمل إمام الحرمين قول الشافعي إذ قال التعويل على الخبر لا على خلاف الراوي على ما لو غلب على الظن أن الراوي كان ناسيا للخبر أو لم يقطع بأنه قصد الخلاف عن تعمد فإن الخبر مقدم عندنا أيضا في هذه الصورة وأما إذا غلب على الظن أن الخبر بلغهم ولكن عملوا بخلافه فقد بينا أن التعلق بالخبر لأنه أصل من الأصول فلا يتركه لشيء تردد فيه وذكر الإمام في كتاب الترجيح هذا وقال إن لم نجد في الواقعة متعلقا سوى الخبر وقول الراوي وهو من الأئمة وهما على التناقض فيتمسك بالخبر وإن وجدنا مسلكا في الدليل سوى الخبر فالتمسك بذلك الدليل أولى قال ولو صح الخبر وعمل به قوم ولم يعمل به قوم والفريقان ذاكران للخبر والمسألة مفروضة حيث لا احتمال إلا النسخ فالذي أراه تقديم عمل المخالفين لأنهم لا يخالفون إلا عن ثبت ويحمل عمل العاملين على التمسك بظاهر الحديث ثم العرف يقضي بأن يتبع المخالفون ما عندهم من العلم بوفاء الحديث وكل هذا ينبني على مسألة وهي أن الإجماع لو انعقد على مخالفة خبر متواتر إن تصور ذلك فالتعلق بالإجماع لأنه حجة قطعية ويتطرق إلى الخبر النسخ فحمل الأمر على ذلك قطعا ويستحيل حصول الإجماع على حكم مع خبر نص على مناقضته مع الإجماع على أنه غير منسوخ فهذا لا يتصور وقوعه قال والذي أراه من ضرورة الإجماع على مناقضة الخبر المتواتر أن يلهج أهل الإجماع بكونه منسوخا قال ابن القشيري وقد بنى الإمام جملة كلامه على أن قول
____________________
(3/428)
الصحابي فيما لا يقاس وفي المقدرات حجة لأنه لا يتكلم بما يخالفه القياس الجلي إلا عن ثبت والقاضي يأبى هذا أشد الإباء ويقول ربما ظن أنه محل الاجتهاد وربما زل إذ ليس بمعصوم
____________________
(3/429)
فَصْلٌ في أَلْفَاظِ الرُّوَاةِ وَكَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ وَيَنْقَسِمُ النَّظَرُ فيه إلَى نَقْلِ الصَّحَابِيِّ وَغَيْرِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَلْفَاظِ الصَّحَابِيِّ مَرَاتِبُ الْأُولَى وَهِيَ أَقْوَاهَا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يقول كَذَا أو حدثني أو أخبرني أو شَافَهَنِي لِعَدَمِ احْتِمَالِ الْوَاسِطَةِ وهو حُجَّةٌ اتِّفَاقًا وَجَعَلَ ابن الْقَطَّانِ قَوْلَ الْمُحَدِّثِ سَمِعْت آكَدَ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى حدثنا حَدَّثَ قَوْمَنَا كَقَوْلِ الْحَسَنِ خَطَبَنَا ابن عَبَّاسٍ الثَّانِيَةُ قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كَذَا وَإِنَّمَا كان دُونَ الْأَوَّلِ لِاحْتِمَالِ الْوَاسِطَةِ في قَوْلِهِ قال لِأَنَّهُ أَعَمُّ من أَنْ يَكُونَ بِوَاسِطَةٍ أو لَا وَالدَّلِيلُ على احْتِمَالِ الْوَاسِطَةِ وُقُوعُهُ وَذَلِكَ كَسَمَاعِ أبي هُرَيْرَةَ من الْفَضْلِ بن الْعَبَّاسِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ له ثُمَّ رَوَاهُ أبو هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ قال وَكَسَمَاعِ ابْنِ عَبَّاسٍ أُسَامَةَ بن زَيْدٍ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّمَا الرِّبَا في النَّسِيئَةِ ثُمَّ رَوَاهُ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كَذَلِكَ وَلَمَّا سُئِلَ أبو هُرَيْرَةَ وابن عَبَّاسٍ عن حَدِيثِهِمَا بَيَّنَا مِمَّنْ سَمِعَاهُ وهو حُجَّةٌ أَيْضًا وَنَقَلَ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ على سَمَاعِهِ بَلْ هو مُحْتَمَلٌ وهو وَهْمٌ وَاَلَّذِي رَأَيْته في كِتَابِ التَّقْرِيبِ التَّصْرِيحَ وَالْجَزْمَ بِأَنَّهُ على السَّمَاعِ وَأَغْرَبُ من ذلك أَنَّ سُلَيْمًا الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ حَكَاهُ عن الْأَشْعَرِيِّ وَأَنَّ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ حَكَاهُ في التَّبْصِرَةِ عن الْأَشْعَرِيِّ وَاخْتَارَهُ أبو الْخَطَّابِ من الْحَنَابِلَةِ وَنَسَبَهُ لِلْأَشْعَرِيَّةِ أَيْضًا وَنَحْوُهُ ما ذَهَبَ إلَيْهِ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ من أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ وَالْجُمْهُورُ على خِلَافِ ذلك وَأَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا أَطْلَقَ ذلك فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ السَّمَاعَ وَلَيْسَ الْمُسْتَنَدُ هذا اللَّفْظَ بَلْ اسْتِقْرَاءُ عَادَتِهِمْ في النَّقْلِ
____________________
(3/430)
الثَّالِثَةُ أَمَرَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِكَذَا أو نهى عن كَذَا أو قَضَى بِكَذَا فَهَذَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ احْتِمَالُ الْوَاسِطَةِ مع احْتِمَالِ ظَنِّهِ ما ليس بِأَمْرٍ أَمْرًا لَكِنَّ الظَّاهِرَ من حَالِ الصَّحَابِيِّ خِلَافُهُ فَلِذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ وَخَالَفَ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ فقال لَا يُحْتَجُّ بِهِ حتى يَنْقُلَ لَفْظَ الرَّسُولِ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ هَكَذَا سَمِعْت الْقَاضِيَ أَبَا الْحَسَنِ الْحَرِيرِيَّ يَقُولُهُ وَيَحْكِيهِ من مَذْهَبِ دَاوُد وَسَمِعْت ابْنَ بَيَانٍ الْقَصَّارَ وكان دَاوُد يُنْكِرُ ذلك وَيَقُولُ يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وقال قَوْمٌ من الْمُتَكَلِّمِينَ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ هَكَذَا قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَتَرْجَمَ الْمَسْأَلَةَ بِقَوْلِهِ أَمَرَنَا وَاحْتَجَّ في أَثْنَائِهَا بِأَنَّهُ إذَا قال نهى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم حُمِلَ على التَّحْرِيمِ وَلِذَلِكَ يُحْمَلُ أَمَرَنَا على الْوُجُوبِ وَهَذَا يَدُلُّ على مُسَاعِدَتِهِمْ في النَّهْيِ وَمِمَّا يُسَاعِدُ ما نَقَلَهُ عن الْحَرِيرِيِّ ما رَأَيْته في كِتَابِ الْإِعْذَارِ الرَّادِّ على كِتَابِ الْإِنْذَارِ لِأَبِي الْعَبَّاسِ بن السِّرَاجِ عن الظَّاهِرِيَّةِ أو من ذَهَبَ منهم إلَى أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الحديث إلَّا إذَا قال رَاوِيهِ سَمِعْت وَأَخْبَرَنَا حتى يَنْتَهِيَ إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وقال ابن حَزْمٍ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ من السُّنَّةِ كَذَا أو أُمِرْنَا بِكَذَا ليس بِمُسْنَدٍ وَتَكَلَّمَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في التَّقْرِيبِ في هذه الْمَسْأَلَةِ في مَقَامَاتٍ أَحَدُهَا أَنَّ الصَّحَابِيَّ عَلِمَ كَوْنَ ذلك أَمْرًا بِذَلِكَ من وَجْهٍ غَيْرِ مُحْتَمَلٍ عِنْدَهُ وَأَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَحُكِيَ في هذه خِلَافُ بَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ قال وَاخْتُلِفَ في طَرِيقِ عِلْمِ الرَّاوِي بِكَوْنِ الْفِعْلِ أَمْرًا فَقِيلَ بِقَوْلِهِ افْعَلُوا وَأَمَرْتُكُمْ وَقِيلَ لَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ كَوْنَهُ مُرِيدًا الِامْتِثَالَ الْمَأْمُورَ بِهِ قال وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَعْلَمَ بِقَوْلِهِ أَمَرْتُكُمْ بِكَذَا وَنَهَيْتُكُمْ عن كَذَا وَبِقَوْلِهِ افْعَلُوا وَيَقْتَرِنُ بِهِ من الْأَحْوَالِ ما يُعْلَمُ بِهِ قَصْدُ الرَّسُولِ إلَى الْأَمْرِ وَهَذَا بَنَاهُ على أَنَّهُ لَا صِيغَةَ لِلْأَمْرِ وَحَكَى الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في التَّقْرِيبِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ في هذا الْمَقَامِ قَوْلًا بِالتَّفْصِيلِ بين أَنْ يَكُونَ النَّاقِلُ له من أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِاللُّغَةِ فَيُجْعَلُ قَوْلُهُ أَمَرَ رسول اللَّهِ كَنَقْلِهِ لَفْظَةَ الْأَمْرِ وَإِنْ لم يَكُنْ عَارِفًا بِاللُّغَةِ فَلَا يُجْعَلُ كَذَلِكَ قال فقال الْقَاضِي وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ إنْ كان الْمَعْنَى الْمَنْقُولِ بِحَيْثُ تَعْتَوِرُ عليه الْعِبَارَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ فَلَا يُجْعَلُ نَقْلُهُ في ذلك كَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَإِنْ كانت بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِفُ
____________________
(3/431)
عليه الْعِبَارَةُ وَلَا تَحُولُ فيه فَهُوَ كَقَوْلِهِ ثَانِيهَا أَنَّهُ هل يُحْمَلُ على التَّعْمِيمِ على كَافَّةِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى ذلك وَاخْتَارَ الْقَاضِي الْوَقْفَ وَلَا يُحْمَلُ على خُصُوصٍ وَلَا عُمُومٍ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ من حَالِ الرَّاوِي ما يَدُلُّ على ذلك قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَإِنَّمَا بَنَى الْقَاضِي على مُعْتَقَدِهِ في الْوَقْفِ ثَالِثُهَا أَنَّ ذلك مَحْمُولٌ على السَّمَاعِ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رُوِيَ له عنه خِلَافٌ وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ وَقِيلَ بِالْوَقْفِ وَمَالَ إلَيْهِ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَحَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ عن دَاوُد الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ أَنْ يَبْنِيَ الصِّيغَةَ لِلْمَفْعُولِ فيقول أُمِرْنَا بِكَذَا أو نُهِينَا عن كَذَا فَهَذَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ من الِاحْتِمَالَاتِ ما يَتَطَرَّقُ لِ قال وأمر وَيَزِيدُ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ وَالنَّاهِي بَعْضَ الْخُلَفَاءِ أو الْأُمَرَاءِ وَاَلَّذِي عليه الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ حُجَّةٌ وَصُرِفَ الْفِعْلُ إلَى من له الْأَمْرُ وهو النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَبِهِ قال عبد الْجَبَّارِ وأبو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وَخَالَفَ أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالْإِسْمَاعِيلِيّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنَّا وَالْكَرْخِيُّ وَالرَّازِيَّ من الْحَنَفِيَّةِ وَأَكْثَرُ مَالِكِيَّةِ بَغْدَادَ وَمَنَعُوا إضَافَةَ ذلك إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِعَدَمِ تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ قَطْعًا فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ بِالِاحْتِمَالِ وَحَكَى أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ في الْجَدِيدِ على أَنَّهُ ليس في حُكْمِ الْمَرْفُوعِ وفي الْقَدِيمِ على أَنَّهُ مَرْفُوعٌ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ وَحَكَى ابن السَّمْعَانِيِّ قَوْلًا ثَالِثًا بِالْوَقْفِ وَحَكَى ابن الْأَثِيرِ الْجَزَرِيُّ في مُقَدَّمَةِ جَامِعِ الْأُصُولِ قَوْلًا رَابِعًا بِالتَّفْصِيلِ بين أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ ذلك الصِّدِّيقَ فَمَرْفُوعٌ لِأَنَّهُ لم يَتَأَمَّرْ عليه غَيْرُهُ وَيَخْرُجُ من كَلَامِ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ خَامِسٌ فإنه قال في شَرْحِ الْإِلْمَامِ إنْ كان قَائِلُهُ من أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ فَيَغْلِبُ على الظَّنِّ غَلَبَةً قَوِيَّةً أَنَّ الْآمِرَ هو الرَّسُولُ وفي مَعْنَاهُمْ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ وَمُعَاذِ بن جَبَلٍ وفي مَعْنَاهُمْ من كَثُرَ إلْمَامُهُ بِالنَّبِيِّ وَمُلَازَمَتُهُ كَأَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنْ كان مِمَّنْ هو بَعِيدٌ عن مِثْلِ ذلك من آحَادِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ تَأَخَّرَ الْتِحَاقُهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أو يَفِدُونَ إلَيْهِ ثُمَّ يَعُودُونَ إلَى بِلَادِهِمْ فإن الِاحْتِمَالَ فِيهِمْ قَوِيٌّ انْتَهَى وَحَاصِلُهُ تَفَاوُتُ الرُّتَبِ في ذلك وَلَا شَكَّ فِيمَا قال وَالْأَظْهَرُ قَبُولُهُ مُطْلَقًا وَإِضَافَتُهُ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَنَّ مُرَادَ الصَّحَابِيِّ إنَّمَا هو الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ أُمِرْنَا فَيَجِبُ حَمْلُ الْأَمْرِ على صُدُورِهِ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ وهو النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إذْ غَيْرُهُ لَا حُجَّةَ في أَمْرِهِ
____________________
(3/432)
قال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَلَا فَرْقَ بين أَنْ يَقُولَ الصَّحَابِيُّ ذلك في زَمَنِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَبَيْنَ قَوْلِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وفي الزَّمَنِ الذي ثَبَتَتْ فيه حُجِّيَّةُ الْإِجْمَاعِ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ أَحَدًا فَصَّلَ ذلك في الصَّحَابِيِّ وَأَمَّا إذَا قَالَهُ من بَعْدَهُ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَمْرَ الْأَئِمَّةِ وَتَرَدَّدَ الْغَزَالِيُّ في أَنَّ قَوْلَ التَّابِعِيِّ ذلك مَوْقُوفٌ أو مَرْفُوعٌ مُرْسَلٌ وَجَزَمَ ابن عَقِيلٍ من الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ أَنْ يَقُولَ رَخَّصَ لنا الْمَرْتَبَةُ السَّادِسَةُ أَنْ يَقُولَ من السُّنَّةِ كَذَا فَاَلَّذِي عليه الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ يُفْهَمُ منه سُنَّةُ الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَيَكُونُ حُجَّةً قَالَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وهو ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ احْتَجَّ على قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ بِصَلَاةِ ابْنِ عَبَّاسٍ على عُبَادَةَ وَقَرَأَ بها وَجَهَرَ وقال إنَّمَا فَعَلْت لِتَعْلَمُوا أنها سُنَّةٌ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وقال ابن فُورَكٍ قال الشَّافِعِيُّ في الْقَدِيمِ إنَّهُ سُنَّةُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في الظَّاهِرِ وَإِنْ جَازَ خِلَافُهُ وقال في الْجَدِيدِ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذلك على مَعْنَى سُنَّةِ الْبَلَدِ وَسُنَّةِ الْأَئِمَّةِ فَلَا نَجْعَلُهُ أَصْلًا حتى يُعْلَمَ وَلَمَّا عَدَلَ الصَّحَابِيُّ عن الْحِكَايَةِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَفْظًا إلَى كَلَامٍ آخَرَ عُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَدُلَّنَا على أَنَّهُ فَهِمَ ذلك الْمَعْنَى من صَرِيحِ قَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ا هـ وقال سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ إنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عليه في الْقَدِيمِ وَتَوَقَّفَ فيه في الْجَدِيدِ فقال هو مُحْتَمَلٌ وَبِهِ قال أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ وَهَكَذَا حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عن الشَّافِعِيِّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ فقال اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فقال في الْقَدِيمِ هو مَرْفُوعٌ في الظَّاهِرِ وقال في الْجَدِيدِ هو مُحْتَمَلٌ ولم يَرَهُ مُسْنَدًا وَهَكَذَا قال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في قَوْلِ الرَّاوِي من السُّنَّةِ كَذَا فَكَانَ يقول في الْقَدِيمِ إنَّهُ يُرِيدُ سُنَّةَ النبي قال وَعَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ أُمِرْنَا وَنُهِينَا لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هذا لَا يَكُونُ إلَّا من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَإِنْ كان يَجُوزُ خِلَافُهُ قال ذلك في دِيَةِ الْمَرْأَةِ إلَى ثُلُثِ دِيَةِ الرَّجُلِ وَاحْتَجَّ بِأَنْ قال وَرَجَعَ عن هذا في الْجَدِيدِ فقال قد يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ سُنَّةُ الْبَلَدِ وَسُنَّةُ الْأَمِيرِ وَأَمَرَنَا الْأَمِيرُ وَأَمَرَنَا الْأَئِمَّةُ فَلَا يُجْعَلُ أَصْلًا حتى يُعْلَمَ جُمْلَتُهُ وقال عُمَرُ لِلصَّبِيِّ بن مَعْبَدٍ هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْحَقَّ من سُنَّةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم انْتَهَى وَهَكَذَا قال الصَّيْدَلَانِيُّ في شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ في بَابِ أَسْنَانِ إبِلِ الْخَطَأِ إنَّهُ حُجَّةٌ على الْقَوْلِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدُ
____________________
(3/433)
أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ فَعَلَى هذا الْمَسْأَلَةُ عِنْدَهُمْ مِمَّا يُفْتَى فيها على الْقَدِيمِ وهو نَوْعٌ غَرِيبٌ في الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ وَإِنْ كَثُرَ ذلك في الْفُرُوعِ قُلْت لَكِنْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ وهو من الْكُتُبِ الْجَدِيدَةِ على أَنَّهُ حُجَّةٌ فقال في بَابِ عَدَدِ الْكَفَنِ بَعْدَ ذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ ما نَصُّهُ قال الشَّافِعِيُّ وابن عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ بن قَيْسٍ رَجُلَانِ من أَصْحَابِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَقُولَانِ السُّنَّةُ إلَّا لِسُنَّةِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ا هـ وَحِينَئِذٍ فَيَصِيرُ في الْجَدِيدِ قَوْلَانِ وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ حُجَّةٌ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عليه في الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ مَعًا وقد سَبَقَ كَلَامُ الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ أَيْضًا وقد جَزَمَ بِهِ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ التَّيَمُّمِ في شَرْحِهِ وقال النَّوَوِيُّ في مُقَدَّمَةِ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ إنَّهُ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُودُ وَجَرَى عليه الْآمِدِيُّ وَالْإِمَامُ وَالْمُتَأَخِّرُونَ وَشَرَطَ الْحَاكِمُ وأبو نُعَيْمٍ في عُلُومِهِمَا كَوْنَ الصَّحَابِيِّ مَعْرُوفًا بِالصُّحْبَةِ وَفِيهِ إشْعَارٌ أَنَّ من قَصُرَتْ صُحْبَتُهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَذَهَبَ الْكَرْخِيّ وَالرَّازِيَّ وَالصَّيْرَفِيُّ إلَى أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ لِأَنَّ الْمُتَلَقَّى من الْقِيَاسِ قد يُقَالُ إنَّهُ سُنَّةٌ لِإِسْنَادِهِ إلَى الشَّرْعِ وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ أَنَّ عليه الْمُحَقِّقِينَ وَجَرَى عليه ابن الْقُشَيْرِيّ وفي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ في حُكْمِ الْوُقُوفِ وَنَقَلَهُ ابن الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ عن الْإِمَامِ أبي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَمَّا لو قال التَّابِعِيُّ من السُّنَّةِ كَذَا فَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ السَّابِقِ أَنَّهُ ليس في حُكْمِ الْمَرْفُوعِ وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ عنه في بَابِ الْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ في الْعَاجِزِ عن النَّفَقَةِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَحُمِلَ قَوْلُ سَعِيدٍ سُنَّةً على سُنَّةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَكَذَلِكَ أَخَذَ في الْقَدِيمِ في الْمَرْأَةِ تُقَابِلُ الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ بِقَوْلِ سَعِيدٍ من السُّنَّةِ فَقَدْ تَضَافَرَ قَوْلُهُ في الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ على ذلك لَكِنْ قال الصَّيْدَلَانِيُّ في الْجِنَايَاتِ إنَّ الشَّافِعِيَّ كان يَرَى أَنَّ ذلك مَرْفُوعٌ إذَا صَدَرَ من الصَّحَابِيِّ وَالتَّابِعِيِّ ثُمَّ رَجَعَ عنه لِأَنَّهُمْ قد يُطْلِقُونَهُ وَيُرِيدُونَ سُنَّةَ الْبَلَدِ انْتَهَى فَتَلَخَّصَ فيها ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وَأَطْلَقَ ابن السَّمْعَانِيِّ أَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي من السُّنَّةِ كَذَا حُجَّةٌ في مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قال ثُمَّ إنْ كان الرَّاوِي صَحَابِيًّا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ كان تَابِعِيًّا كانت
____________________
(3/434)
رِوَايَتُهُ مُرْسَلَةً فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمَرَاسِيلِ وَكَذَا قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في شَرْحِ الْكِفَايَةِ قَوْلُ التَّابِعِيِّ من السُّنَّةِ كَذَا في حُكْمِ الْمَرَاسِيلِ إنْ كان قَائِلُهُ سَعِيدَ بن الْمُسَيِّبِ فَهُوَ حُجَّةٌ وَإِلَّا فَلَا وَعَنْهُ في بَابِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ من تَعْلِيقِهِ حِكَايَةَ وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا وَأَشْهُرُهُمَا أَنَّهُ مَوْقُوفٌ على بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ مَرْفُوعٌ مُرْسَلٌ وقال بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ إنْ كان قَائِلُهُ صَحَابِيًّا فَهُوَ حُجَّةٌ وَإِنْ كان غَيْرُهُ من التَّابِعِينَ فَإِنْ كان غَيْرُ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ قَطْعًا وَإِنْ كان سَعِيدَ بن الْمُسَيِّبِ فَهُوَ حُجَّةٌ على الْمَذْهَبِ وَكَذَا حَكَى ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ الْوَجْهَيْنِ في قَوْلِ سَعِيدٍ خَاصَّةً الْخِلَافُ في قَبُولِ مُرْسَلِهِ وقال ابن عبد الْبَرِّ في التَّقَصِّي إذَا أَطْلَقَ الصَّحَابِيُّ السُّنَّةَ فَالْمُرَادُ بِهِ سُنَّةُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَكَذَلِكَ إذَا أَطْلَقَهَا غَيْرُهُ ما لم تُضَفْ إلَى صَاحِبِهَا كَقَوْلِهِمْ سُنَّةُ الْعُمْرَيْنِ وَنَحْوُ ذلك الْمَرْتَبَةُ السَّابِعَةُ أَنْ يَقُولَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَقِيلَ بِظُهُورِهِ في أَنَّهُ سَمِعَهُ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَيَكُونُ حُجَّةً وَبِهِ قال عبد الْجَبَّارِ وَعَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ وَالْهِنْدِيُّ وَقِيلَ بَلْ ظَاهِرٌ في الْوَاسِطَةِ ولم يُرَجِّحْ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ شيئا الْمَرْتَبَةُ الثَّامِنَةُ أَنْ يَقُولَ كنا نَفْعَلُ في عَهْدِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أو كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا فَأَطْلَقَ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وَالْهِنْدِيُّ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ على أَنَّهُ حُجَّةٌ وَإِنْ لم يُضِفْهُ لِعَهْدِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالتَّحْرِيرُ أَنَّ لِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ أَلْفَاظًا أَحَدُهَا أَنْ يَقُولَ كان الناس يَفْعَلُونَ ذلك في عَهْدِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَلَا يُتَّجَهُ في كَوْنِهِ حُجَّةً خِلَافٌ لِتَصْرِيحِهِ بِنَقْلِ الْإِجْمَاعِ الْمُعْتَضَدِ بِتَقْرِيرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَثَانِيهَا أَنْ يَقُولَ كنا نَفْعَلُ في عَهْدِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَهَذِهِ دُونَ ما قَبْلَهَا لِاحْتِمَالِ عَوْدِ الضَّمِيرِ في كنا إلَى طَائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ في هذه الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ قال فَقَبِلَهُ أبو الْفَرَجِ من أَصْحَابِنَا وَرَدَّهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وهو الْأَظْهَرُ من مَذْهَبِهِمْ قال الْقَاضِي أبو مُحَمَّدٍ يَعْنِي عَبْدَ الْوَهَّابِ وَالْوَجْهُ التَّفْصِيلُ بين ما يَكُونُ شَرْعًا مُسْتَقِرًّا كَقَوْلِ أبي سَعِيدٍ كنا نُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ على عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم صَاعًا من تَمْرٍ أو صَاعًا من شَعِيرٍ الحديث فَمِثْلُ هذا لَا يَسْتَحِيلُ خَفَاؤُهُ عليه صلى اللَّهُ عليه وسلم
____________________
(3/435)
وَإِنْ كان مِمَّا يُمْكِنُ خَفَاؤُهُ فَلَا يُقْبَلُ كَقَوْلِ رَافِعِ بن خَدِيجٍ كنا نُخَابِرُ على عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم حتى رَوَى لنا بَعْضُ عُمُومَتِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن ذلك وَقِيلَ لَعَلَّ الْأَوْلَى في ذلك أَنَّ الصَّحَابِيَّ إنْ ذَكَرَ ذلك في مَعْرِضِ الْحُجَّةِ حُمِلَ على الرَّفْعِ وَإِلَّا فَلَا أَثَرَ وما حَكَاهُ عن الْقَاضِي أبي مُحَمَّدٍ قَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَغَيْرُهُ وَاَلَّذِي رَأَيْته في كَلَامِ الْقَاضِي أبي مُحَمَّدٍ يَعْنِي عَبْدَ الْوَهَّابِ إنَّمَا هو التَّفْصِيلُ بين ما لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْعِ ولم يَكُنْ مُسْتَصْحَبًا يَخْفَى مِثْلُهُ فَيَجِبُ حَمْلُهُ على عَمَلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَمْرِهِ بِهِ كَقَوْلِ أبي سَعِيدٍ في صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَإِنْ كان مِمَّا يَسْتَنِدُ إلَى عَادَةٍ يَفْعَلُونَهَا فَمُحْتَمَلٌ حتى يَقُومَ دَلِيلٌ يَمْنَعُ الِاحْتِمَالَ كَأَنْ يُورِدَهُ على جِهَةِ الِاحْتِجَاجِ وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ إنْ أَضَافَ فِعْلَهُمْ إلَى زَمَنِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَإِيقَاعُهُ على وَجْهٍ يُعْلَمُ عليه السَّلَامُ تَكَرُّرُ وُقُوعِهِ فَهُوَ حُجَّةٌ لِتَقْرِيرِهِ وَإِلَّا فَلَا ثَالِثُهَا أَنْ يَقُولَ كان الناس يَفْعَلُونَ ذلك وَلَا يُصَرِّحُ بِعَهْدِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَهَذِهِ دُونَ الثَّانِيَةِ لِعَدَمِ التَّصْرِيحِ بِالْعَهْدِ وَفَوْقَهَا الْإِضَافَةُ إلَى جَمِيعِ الناس وَحَكَى الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في التَّقْرِيبِ في ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ بِذَلِكَ قَوْلَيْنِ رَابِعُهَا أَنْ يَقُولَ كَانُوا يَفْعَلُونَ أو كنا نَفْعَلُ وهو دُونَ الْكُلِّ لِعَدَمِ التَّصْرِيحِ بِالْعَهْدِ وَبِمَا يَعُودُ عليه الضَّمِيرُ قِيلَ وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إجْمَاعٌ وقال الْغَزَالِيُّ إذَا قال التَّابِعِيُّ كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا فَلَا يَدُلُّ على فِعْلِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ فَلَا حُجَّةَ فيه إلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِنَقْلِ الْإِجْمَاعِ وفي ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ إذَا قال الصَّحَابِيُّ كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا فَهُوَ على ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ أَحَدُهَا أَنْ يُضِيفَهُ إلَى عَصْرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وكان مِمَّا لَا يَخْفَى مِثْلُهُ يُحْمَلُ على إقْرَارِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَيَكُونُ شَرْعًا لنا وَإِنْ كان مِثْلُهُ يَخْفَى بِأَنْ يَكُونَ منهم ذِكْرُهُ حُمِلَ على إقْرَارِهِ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ فِيمَا يَكْثُرُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى كَقَوْلِ أبي سَعِيدٍ كنا نُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ في زَمَنِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صَاعًا من بُرٍّ أو صَاعًا من شَعِيرٍ أو صَاعًا من تَمْرٍ وَعَلَى هذا إذَا
____________________
(3/436)
أَخْرَجَ الرَّاوِي الرِّوَايَةَ مَخْرَجَ التَّكْثِيرِ بِأَنْ قال كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا حُمِلَتْ الرِّوَايَةُ على عَمَلِهِ وَإِقْرَارِهِ فَصَارَ الْمَقُولُ شَرْعًا وَإِنْ تَجَرَّدَ عن لَفْظِ التَّكْثِيرِ كَقَوْلِهِ فَعَلُوا كَذَا فَهُوَ مُحْتَمَلٌ وَلَا يَثْبُتُ شَرْعٌ بِاحْتِمَالٍ الثَّانِي أَنْ يُضِيفَهُ إلَى عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَيُنْظَرُ فَإِنْ كان مع بَقَاءِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ وَإِنْ كان بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِهِمْ فَهُوَ حِكَايَةٌ عن إجْمَاعِهِمْ فَيَكُونُ حُجَّةً الثَّالِثُ أَنْ يُطْلِقَهُ وَلَا يُضِيفَهُ إلَى أَحَدِ الْعَصْرَيْنِ فَإِنْ كان عَصْرُ الصَّحَابَةِ بَاقِيًا فَهُوَ مُضَافٌ إلَى عَصْرِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَإِنْ كان عَصْرُ الصَّحَابَةِ مُنْقَرِضًا فَهُوَ مُضَافٌ إلَى عَصْرِ الصَّحَابَةِ لِأَنَّ الْحِكَايَةَ عن مَاضٍ فَإِنْ كان قبل عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَالْمَاضِي قَبْلَهُ عَصْرُ الرَّسُولِ وَإِنْ كان بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَالْمَاضِي قَبْلَهُ عَصْرُ الصَّحَابَةِ تَنْبِيهٌ فَائِدَةُ رِعَايَةِ هذا التَّرْتِيبِ فَائِدَةُ رِعَايَةِ هذا التَّرْتِيبِ التَّرْجِيحُ عِنْدَ التَّعَارُضِ فما لَا يُحْتَمَلُ أَرْجَحُ مِمَّا يُحْتَمَلُ وما يَحْتَمِلُ احْتِمَالًا وَاحِدًا أَرْجَحُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الِاثْنَيْنِ وَهَكَذَا في الْبَاقِي
____________________
(3/437)
فَصْلٌ أَلْفَاظُ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ وَأَمَّا الثَّانِي وهو أَلْفَاظُ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ فَلِلرَّاوِي حَالَاتٌ بَعْضُهَا أَقْوَى من بَعْضٍ السَّمَاعُ من لَفْظِ الشَّيْخِ أَوَّلُهَا أَنْ يَسْمَعَ من لَفْظِ الشَّيْخِ وهو النِّهَايَةُ في التَّحَمُّلِ لِأَنَّهُ طَرِيقُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فإنه الذي كان يحدث أَصْحَابَهُ كما نَقَلُوهُ عنه وهو أَبْعَدُ من الْخَطَأِ وَالسَّهْوِ وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ قِرَاءَتَك على الْمُحَدِّثِ أَقْوَى من قِرَاءَةِ الْمُحَدِّثِ عَلَيْك قال وَإِنَّمَا كان ذلك لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم خَاصَّةً لِأَنَّهُ مَأْمُونٌ من السَّهْوِ وَلِأَنَّهُ كان يَذْكُرُ ما يَذْكُرُهُ حِفْظًا وَلَا يَكْتُبُ وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِيمَنْ يُخْبِرُ عن كِتَابِهِ لَا عن حِفْظِهِ حتى إذَا كان يَرْوِي عن كِتَابٍ فَالْجَانِبَانِ سَوَاءٌ في نَفْسِ التَّحْدِيثِ بِمَا في الْكِتَابِ ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَعَلَّلَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّ عِنَايَةَ الطَّلَبِ أَشَدُّ عَادَةً لِأَنَّهُ إذَا قَرَأَ التِّلْمِيذُ كانت الْمُحَافَظَةُ من الطَّرَفَيْنِ وإذا قَرَأَ الْأُسْتَاذُ لَا تَكُونُ الْمُحَافَظَةُ إلَّا منه قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَلَا فَرْقَ بين أَنْ يَقْرَأَ من ظَهْرِ قَلْبِهِ أو من كِتَابٍ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَيَصِحُّ تَحَمُّلُهُ عنه سَوَاءٌ كان عن قَصْدٍ أو اسْتِرْعَاءٍ أو اتِّفَاقٍ أو مُذَاكَرَةٍ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ أَعْمَى أو أَصَمَّ وَلَا يَصِحُّ السَّمَاعُ إنْ كان الْمُتَحَمِّلُ أَصَمَّ وَيَصِحُّ إنْ كان أَعْمَى قَالَا فَإِنْ حَدَّثَ عن حِفْظِهِ صَحَّ السَّمَاعُ إذَا وُثِقَ بِهِ وَإِنْ حَدَّثَ من كِتَابِهِ فَإِنْ كان أَعْمَى لم تَصِحَّ رِوَايَتُهُ لِأَنَّ الْكُتُبَ قد تَشْتَبِهُ عليه وَإِنْ كان بَصِيرًا صَحَّ أَنْ يُرْوَى عنه كِتَابُهُ بِشَرْطَيْنِ كَوْنُهُ وَاثِقًا بِهِ وَذَاكِرًا لِوَقْتِ سَمَاعِهِ وَمَنَعَ أبو حَنِيفَةَ أَنْ يَرْوِيَ إلَّا من حِفْظِهِ كَالشَّاهِدِ وَلَوْ صَحَّ ذلك لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الْكِتَابِ قال فَقَدْ صَارَتْ الرِّوَايَةُ في عَصْرِنَا من الْكِتَابِ أَثْبَتَ عِنْدَ أَصْحَابِ الحديث من الْحِفْظِ انْتَهَى وَلِلسَّامِعِ أَنْ يَقُولَ أَسْمَعَنِي وَأَخْبَرَنِي وَحَدَّثَنِي وَأَسْمَعَنَا وَأَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا هذا إنْ قَصَدَ الشَّيْخُ إسْمَاعَهُ إمَّا خَاصَّةً أو مع جَمْعٍ فَإِنْ لم يَقْصِدْ ذلك
____________________
(3/438)
فَلَيْسَ له أَنْ يَقُولَ إلَّا سَمِعْتُهُ يحدث فُلَانًا وَإِنَّمَا جَازَتْ هذه الْأَلْفَاظُ لِمُطَابَقَتِهَا لِمَا في مَعْنَى الْأَمْرِ وَلِلْمُحَدِّثِينَ فيه أَدَبٌ يَقُولُونَ لِمَا سَمِعَهُ مع غَيْرِهِ حدثنا وَأَخْبَرَنَا وما سَمِعَهُ وَحْدَهُ أخبرني وَحَدَّثَنِي قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَهَذَا أَدَبٌ لَا يَنْتَهِي إلَى الْوُجُوبِ ا هـ وَحَكَى الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى في الذَّرِيعَةِ وَصَاحِبُ الْمَصَادِرِ عن بَعْضِهِمْ مَنْعَ لَفْظِ الْجَمْعِ إذَا كان وَحْدَهُ قَالَا وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِهِ على سَبِيلِ التَّفْخِيمِ الْعَرْضُ على الشَّيْخِ الثَّانِيَةُ أَنْ يَقْرَأَ على الشَّيْخِ وهو يَسْمَعُ وَأَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ يُسَمُّونَ الْقِرَاءَةَ على الشَّيْخِ عَرْضًا من حَيْثُ إنَّ الْقَارِئَ يَعْرِضُ على الشَّيْخِ ما يَقْرَأُهُ وَيَقُولُ له بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْقِرَاءَةِ أو قَبْلَهَا هل سَمِعْت فيقول الشَّيْخُ نعم أو يقول بَعْدَ الْفَرَاغِ الْأَمْرُ كما قُرِئَ عَلَيَّ وَلَا خِلَافَ في أنها رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ إلَّا ما نُقِلَ عن بَعْضِ من لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَاخْتَلَفُوا في أنها مِثْلُ السَّمَاعِ من لَفْظِ الشَّيْخِ أو دُونَهُ أو فَوْقَهُ على ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ الْأَوَّلُ هو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ كما نَقَلَهُ الصَّيْرَفِيُّ عنه في كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ فقال وَبَابُ الحديث عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْقِرَاءَةِ على الْمُحَدِّثِ وَالْقِرَاءَةِ عنه سَوَاءٌ إذَا اعْتَرَفَ بِهِ قال وَالدَّلِيلُ عليه قَوْله تَعَالَى أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالوا بَلَى وَقَوْلُهُ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ إلَى قَوْلِهِ نعم وَقَوْلُ ضِمَامِ بن ثَعْلَبَةَ لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنِّي سَائِلُك آاللَّهُ أَرْسَلَك إلَيْنَا قال نعم فَقَوْلُهُ نعم بِمَنْزِلَةِ إنَّ اللَّهَ أَرْسَلَنِي وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَحُجَّ
____________________
(3/439)
انْتَهَى وَبِهِ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَالصَّحِيحُ أنها دُونَهُ شَرْطُ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ عن الشَّيْخِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَشَرْطُ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ عن الشَّيْخِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ عَالِمًا بِقِرَاءَةِ الْقَارِئِ عليه وَلَوْ فُرِضَ منه تَحْرِيفٌ أو تَصْحِيفٌ لَرَدَّهُ عليه وَيُلْتَحَقُ بِهِ ما لو كان بيده نُسْخَةٌ مُهَذَّبَةٌ فَلَوْ كانت بِيَدِ غَيْرِ الشَّيْخِ وَالْأَحَادِيثُ تُقْرَأُ وَذَلِكَ الْغَيْرُ عَدْلٌ مُؤْتَمَنٌ لَا يَأْلُو جَهْدًا في التَّأَمُّلِ فَتَرَدَّدَ فيه جَوَابُ الْقَاضِي وَبَعْدَ مُدَّةٍ ظَهَرَ لي أَنَّ ذلك لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الشَّيْخَ ليس على دِرَايَةٍ منه فَلَا يَنْتَهِضُ منها تَحَمُّلًا قال فَإِنْ كان الشَّيْخُ لَا يُحِيطُ بِالْأَخْبَارِ وَلَا يَنْظُرُ في نُسْخَةٍ مُتَمَيِّزَةٍ وَلَوْ فُرِضَ التَّدْلِيسُ عليه لَمَا شَعَرَ لم تَصِحَّ الرِّوَايَةُ عنه وَأَيُّ فَرْقٍ بين شَيْخٍ يَسْمَعُ أَصْوَاتًا وَأَجْرَاسًا لَا يَأْمَنُ تَدْلِيسًا وَإِلْبَاسًا وَبَيْنَ شَيْخٍ لَا يَسْمَعُ ما يُقْرَأُ عليه قال أبو نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ وَهَذَا الذي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ لم أَرَهُ في كَلَامِ الْقَاضِي فإنه صَرَّحَ بِأَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ يَصِحُّ منه التَّحَمُّلُ وَإِنْ لم يَعْرِفْ مَعْنَاهُ وَيَصِحُّ رِوَايَةُ الحديث عَمَّنْ لم يَعْلَمْ مَعْنَاهُ وَهَذَا فِيمَا أَظُنُّ إجْمَاعٌ من أَئِمَّةِ الحديث وَكَيْفَ لَا وفي الْخَبَرِ رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى من هو أَفْقَهُ منه وَلَوْ شَرَطْنَا عِلْمَ الرَّاوِي بِمَعْنَى الحديث لَشَرَطْنَا مَعْرِفَةَ جَمِيعِ وُجُوهِهِ وَيُسَدُّ بِذَلِكَ بَابُ التَّحْدِيثِ وَبِالْجُمْلَةِ فَمَدَارُ الْأَخْبَارِ على غَلَبَةِ الظَّنِّ فإذا قُرِئَ بين يَدَيْ الصَّبِيِّ وَالْأُمِّيِّ أَخْبَارٌ على شَيْخٍ فَتَحَمَّلَهَا هذا السَّامِعُ وَقُرِئَتْ عليه وَتُحُمِّلَتْ عنه اُكْتُفِيَ بِذَلِكَ وَاشْتِرَاطُ النَّظَرِ في النُّسْخَةِ وَدِرَايَةُ الصَّبِيِّ يُضَيِّقُ الْبِطَانَ في الرِّوَايَةِ وَمِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ في صِفَةِ تَحَمُّلِ الرِّوَايَةِ هو الْمُعْتَبَرُ في صِفَةِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَهَذَا مَحَلُّ النَّظَرِ وقد صَرَّحَ الْإِمَامُ بِجَوَازِ الْإِجَازَةِ وَالتَّعْوِيلِ عليها وقد يَكُونُ الْمُجِيزُ غير مُحِيطٍ بِجُمْلَةِ ما في الْكِتَابِ الْمُجَازِ وقد وَافَقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ على أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ الْعِلْمُ بِمَا يُقْرَأُ وَعَلَيْهِ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَالْمَازِرِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ قال الْمَازِرِيُّ بِشَرْطِ كَوْنِ الشَّيْخِ عَالِمًا بِصِحَّةِ ما قُرِئَ عليه غير غَافِلٍ عن شَيْءٍ منه فَأَمَّا إذَا قَرَأَ من حِفْظِهِ وَأَمْلَى من حِفْظِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ على ثِقَةٍ وقد اجْتَازَ
____________________
(3/440)
بَعْضُهُمْ لِلْحُفَّاظِ أَنْ يَكُونَ بين أَيْدِيهِمْ كُتُبُهُمْ اسْتِظْهَارًا لِلثِّقَةِ وَاحْتِيَاطًا فَإِنْ كان لَا يُعَوِّلُ على حِفْظِهِ وَإِنَّمَا يُعَوِّلُ على كِتَابِهِ نُظِرَ فَإِنْ تَحَقَّقَ سَمَاعُ جَمِيعِ ما في كِتَابِهِ فَظَاهِرٌ وَإِنْ عُلِمَ سَمَاعُهُ وَلَكِنْ نَسِيَ مِمَّنْ سَمِعَهُ فذكر الْقَاضِي أبو بَكْرٍ فيه خِلَافًا في جَوَازِ الرِّوَايَةِ لِمَا في هذا الْكِتَابِ وَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ لَا يَرْوِي رِوَايَةً مَعْمُولًا بها لِأَنَّ هذا مِمَّنْ سمع منه الْكِتَابَ مع عَدَالَتِهِ وَإِنَّمَا عَوَّلَ على ظَنٍّ وَتَخْمِينٍ وَكَذِبٍ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَوْصَى في رِسَالَتِهِ بِقَبُولِ مِثْلِ هذه الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ قال لَا يحدث الْمُحَدِّثُ من كِتَابِهِ حتى يَكُونَ حَافِظًا لِمَا فيه وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إنَّمَا أَشَارَ إلَى من جَهِلَ شَيْخَهُ الذي سمع منه الْكِتَابَ لِأَنَّهُ لو عَلِمَ شَيْخَهُ الذي حدثه بِالْكِتَابِ لم يَشْتَرِطْ حِفْظَهُ إيَّاهُ لِأَنَّ من عَلِمَ شَيْخَهُ الذي حدثه بِهِ وَعَلِمَ بِأَنَّهُ حدثه لِلْجَمِيعِ فإنه لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِمَا في كِتَابِهِ وَهَذَا الذي تَأَوَّلَهُ الْقَاضِي على الشَّافِعِيِّ تَأَوَّلَهُ غَيْرُهُ على غَيْرِ هذا الْوَجْهِ وَسَيَأْتِي وقال ابن فُورَكٍ إنْ رَوَى من كِتَابِهِ ما لم يَذْكُرْهُ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ أَصْلُهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ كَاذِبًا وَالثَّانِي يُقْبَلُ عَمَلًا بِالظَّاهِرِ وقال الْقَاضِي عِيَاضٌ في الْإِلْمَاعِ اُخْتُلِفَ في الْعَمَلِ بِمَا وُجِدَ في الْخَطِّ الْمَضْبُوطِ الْمُحَقَّقِ لِإِمَامٍ إذَا عَمِلَ بِهِ مع اتِّفَاقِهِمْ على مَنْعِ النَّقْلِ وَالدِّرَايَةِ بِهِ فَمُعْظَمُ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْفُقَهَاءِ لَا يَرَوْنَ الْعَمَلَ بِهِ وَحُكِيَ عن الشَّافِعِيِّ جَوَازُ الْعَمَلِ وقال بِهِ طَائِفَةٌ من نُظَّارِ أَصْحَابِهِ وهو الذي نَصَرَهُ الْجُوَيْنِيُّ وَغَيْرُهُ وهو مَبْنِيٌّ على مَسْأَلَةِ الْعَمَلِ بِالْمُرْسَلِ وَحَكَى أبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُحَدِّثَ بِالْخَبَرِ من حِفْظِهِ وَإِنْ لم يَعْلَمْ أَنَّهُ سَمِعَهُ قال وَحُجَّتُهُ أَنَّ حِفْظَهُ لِمَا في كِتَابِهِ كَحِفْظِهِ لِمَا سَمِعَهُ فَجَازَ له أَنْ يَرْوِيَهُ قال الْقَاضِي وَلَا نُورٌ وَلَا بَهْجَةٌ لِهَذِهِ الْحُجَّةِ وَلَا ذَكَرَ هذا عن الشَّافِعِيِّ أَحَدٌ من أَصْحَابِهِ وَلَعَلَّهُ ما قَدَّمْنَاهُ عنه من الْعَمَلِ بِهِ لَا الرِّوَايَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أو يَكُونُ إنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ وَجَدَهُ بِخَطِّهِ وَإِنْ لم يُحَقِّقْ سَمَاعَهُ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَشْهُورَةٌ ا هـ وَاخْتَارَ الْمَازِرِيُّ أَنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ سَمَاعَهُ وَجَهِلَ عَيْنَ الْمُسْمِعِ الْتَحَقَ بِالْمُرْسَلِ وَإِنْ كان الشَّيْخُ سمع الْجَمِيعَ وَلَكِنَّهُ لَا يَحْفَظُهُ وَلَا يَذْكُرُ سَمَاعَهُ لِعَيْنِ كل لَفْظٍ فإن له أَنْ يَرْوِيَهُ وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ لم يذكر السَّمَاعَ وَإِنَّمَا عَوَّلَ على خَطِّهِ كما جَرَتْ عَادَةُ
____________________
(3/441)
الْمُحَدِّثِينَ في الطَّبَقَاتِ فَاخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فيه فَحَكَى عبد الْوَهَّابِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَرَى الْعَمَلَ بِهِ وَأَنَّ ذلك قَضِيَّةُ أُصُولِ مَالِكٍ وَأَشَارَ إلَى تَخْرِيجِهَا على مَنْعِ الشَّاهِدِ من شَهَادَةِ أَمْرٍ لم يَذْكُرْهُ وَإِنَّمَا عَوَّلَ على خَطِّهِ فَلَا يُعْمَلُ بها وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ جَوَّزَهُ كَقَوْلِهِ في الرِّسَالَةِ إنَّهُ لَا يحدث الْمُحَدِّثُ بِمَا في كِتَابِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ حَافِظًا له وَبِهِ قال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بن الْحَسَنِ وَإِنْ كان الْخَطُّ ليس بيده وَإِنَّمَا هو بِخَطِّ غَيْرِهِ كان ذلك أَوْلَى وَإِنْ قُلْنَا يُعَوِّلُ ثُمَّ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَرْوِيَ هذا الْكِتَابَ وَيُطْلِقَ الرِّوَايَةَ عن شَيْخِهِ بِأَنَّهُ حدثه لِأَنَّهُ كَذَبَ أَنَّهُ سمع وَعَلِمَ ثِقَةٌ الْكِتَابَ فَاخْتَلَفُوا في قَبُولِ هذه الرِّوَايَةِ وَالْمُحَدِّثُونَ يَقْبَلُونَهَا قال الْمَازِرِيُّ وَاَلَّذِي أَرَاهُ في ذلك أَنَّهُ إنْ قُلْنَا لَا يُعَوِّلُ على خَطِّ نَفْسِهِ فَفِي خَطِّ غَيْرِهِ أَوْلَى وَإِنْ قُلْنَا يُعَوِّلُ ثَمَّ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَرْوِيَ هذا الْكِتَابَ وَيُطْلِقَ الرِّوَايَةَ عن شَيْخِهِ بِأَنَّهُ حدثه لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَتَلْبِيسٌ بَلْ يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ الْحَالِ فيقول أَخَذْت هذا الْكِتَابَ عن فُلَانٍ لَا شِفَاهًا وَلَكِنْ تَعْوِيلًا على خَطِّ فُلَانٍ أَنِّي سَمِعْتُهُ معه عن فُلَانٍ وَخَطُّ فُلَانٍ أَتَحَقَّقُهُ وَأَتَحَقَّقُ عَدَالَتَهُ فَيُقْبَلُ حِينَئِذٍ وَلَا يَفْتَقِرُ هُنَا إلَى إذْنِ الْكَاتِبِ أَنْ يَنْقُلَ ذلك عنه كما يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِ الشَّاهِدِ في أَنْ يَنْقُلَ عنه شَهَادَتَهُ إذَا تَحَقَّقْنَا هُنَا أَنَّ هذا ما وَضَعَ خَطَّهُ عن لَبْسٍ وَأَمَّا إنْ لم تَكُنْ نُسْخَةُ الْكِتَابِ بيده لَكِنَّهَا كانت بِيَدِ قَارِئٍ مَوْثُوقٍ بِهِ فإن الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ تَرَدَّدَ في الْعَمَلِ بهذا الْخَبَرِ وَصِحَّةِ إسْنَادِهِ وَالْأَظْهَرُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّهُ لم يَحْصُلْ الشَّيْخُ على يَقِينٍ من صِحَّةِ ما حَمَلُوهُ التَّلَامِذَةُ وَخَالَفَهُ الْمَازِرِيُّ وقال إنَّ الشَّيْخَ يَصِيرُ مُعَوِّلًا فِيمَا يَرْوِيهِ وَيَحْمِلُهُ لِتَلَامِذَتِهِ على نَقْلِ غَيْرِهِ عنه أَنَّهُ رَوَى كَذَا ا هـ وَقَطَعَ ابن الْقُشَيْرِيّ فِيمَا إذَا تَحَقَّقَ سَمَاعَهُ وَجَهِلَ عَيْنَ الْمُسْمِعِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ له رِوَايَتُهُ حتى يَعْلَمَ قَطْعًا من بَلَّغَهُ وَنَقَلَهُ عن اخْتِيَارِ الْقَاضِي وَحَكَى عن بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ جَوَّزَ له رِوَايَتَهُ وَعُزِيَ إلَى الشَّافِعِيِّ
____________________
(3/442)
وقال ابن السَّمْعَانِيِّ يَنْبَغِي لِمَنْ لم يَحْفَظْ الحديث رِوَايَتُهُ من الْكِتَابِ وَإِنْ كان يَحْفَظُهُ فَالْأَوْلَى ذلك اتِّفَاقًا وَإِنْ لم يَحْفَظْ وَعِنْدَهُ كِتَابٌ فيه سَمَاعُهُ بِخَطِّهِ وهو يَذْكُرُ سَمَاعَهُ لِلْخَبَرِ جَازَ أَنْ يَرْوِيَهُ وَإِنْ لم يَتَذَكَّرْ سَمَاعَهُ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَهُ فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَجُوزُ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ وهو الْأَصَحُّ لِأَنَّا لَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ رَوَى على خَطِّهِ قال وَلَا بُدَّ من شَيْئَيْنِ في الرِّوَايَةِ من الْكِتَابِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ وَاثِقًا بِكِتَابِهِ سَوَاءٌ كان بِخَطِّهِ أو خَطِّ غَيْرِهِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِوَقْتِ سَمَاعِهِ فَإِنْ أَخَلَّ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لم يَصِحَّ سَمَاعُهُ ا هـ وما صَحَّحَهُ من الْمَنْعِ عِنْدَ عَدَمِ الذِّكْرِ صَحَّحَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ قال لِأَنَّ الْخَطَّ قد يَشْتَبِهُ بِالْخَطِّ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ إذَا لم يَتَذَكَّرْ سَمَاعَهُ بَلْ وَجَدَهُ بِخَطِّهِ أو بِخَطِّ شَيْخِهِ أو خَطِّ مَوْثُوقٍ بِهِ فَهَلْ تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِهِ ثُمَّ نَقَلَ عن جَمَاعَةٍ من أَئِمَّةِ الحديث الْمَنْعَ وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ عليه عَمَلُ الْمُحَدِّثِينَ جَوَازُ ذلك إذَا لم يَظْهَرْ قَرِينَةُ التَّغْيِيرِ لَكِنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ إلَى ذلك بِسَبَبِ انْتِشَارِ الْأَحَادِيثِ وَالرِّوَايَةِ انْتِشَارًا يَتَعَذَّرُ معه الْحِفْظُ لِكُلِّهِ عَادَةً وَاللَّازِمُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَعْتَمِدَ على الظَّنِّ كما ذَكَرْنَاهُ وَإِمَّا أَنْ يَبْطُلَ حَمْلُهُ من السُّنَّةِ أو أَكْثَرِهَا وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَفْسَدَةً من الْبِنَاءِ على الظَّنِّ فَوَجَبَ دَفْعُهُ دَرْءًا لِأَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ ثُمَّ منهم من يَتَحَرَّى بِزِيَادَةِ شَرْطٍ آخَرَ وهو أَنْ لَا يَخْرُجَ الْكِتَابُ عن يَدِهِ بِعَارِيَّةٍ أو غَيْرِهَا وهو احْتِيَاطٌ حَسَنٌ وكان الْمُتَقَدِّمُونَ إذَا كَتَبُوا أَحَادِيثَ الْإِجَازَةِ إلَى غَائِبٍ عَنْهُمْ يَخْتِمُونَهُ بِالْخَاتَمِ إمَّا كلهم أو بَعْضُهُمْ ا هـ أَحْوَالُ الشَّيْخِ فِيمَا قُرِئَ عليه وَاعْلَمْ أَنَّ لِلشَّيْخِ فِيمَا قُرِئَ عليه ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ أَعْلَاهَا أَنْ يَأْذَنَ له في رِوَايَةِ ما قُرِئَ عليه نُطْقًا الثَّانِيَةُ أَنْ يَقْرَأَ عليه وَيَقُولُ له هل سَمِعْت فَيُشِيرُ الشَّيْخُ بِأُصْبُعِهِ أو
____________________
(3/443)
بِرَأْسِهِ فَهِيَ كَالْعِبَارَةِ فِيمَا سَبَقَ وقال الْمَازِرِيُّ إنْ قال الْقَارِئُ عَقِبَ الْقِرَاءَةِ ائْذَنْ لي أَنْ أَرْوِيَ عَنْك ما قَرَأْته عَلَيْك فقال له نعم أو أَشَارَ بِرَأْسِهِ فَاخْتَلَفُوا فيه فَالْجُمْهُورُ على أَنَّهُ مَقْبُولٌ وَقِيلَ لَا يُعْمَلُ بِهِ وَلَا مَعْنَى لِلْخِلَافِ لِأَنَّ قَرَائِنَ الْأَحْوَالِ تُفِيدُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ الثَّالِثَةُ أَنْ يَسْكُتَ الشَّيْخُ وَيَغْلِبَ على ظَنِّ الْقَارِئِ بِقَرِينَةِ الْحَالِ إجَابَتُهُ له فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَطْعًا وَكَذَا جَوَازُ الرِّوَايَةِ على الْأَصَحِّ وَشَرَطَ قَوْمٌ من الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ إقْرَارَ الشَّيْخِ بِهِ نُطْقًا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَوْعُ احْتِيَاطٍ وَسُكُوتُهُ مع سَلَامَةِ الْأَحْوَالِ من إكْرَاهٍ وَغَفْلَةٍ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ تَصْرِيحِهِ وَكَذَا قال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وابن الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُمْ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ وَنَقَلَهُ عن مُعْظَمِ الْمُحَدِّثِينَ وإذا نَصَبَ الشَّيْخُ نَفْسَهُ لِلْقِرَاءَةِ وَانْتَصَبَ لها مُخْتَارًا وهو مُسْتَيْقِظٌ فَهُوَ بِمَثَابَةِ إقْرَارِهِ وَيَمْتَنِعُ في صُورَةِ إشَارَةِ الشَّيْخِ بِالسَّمَاعِ أَنْ يَقُولَ الرَّاوِي عنه حدثني وَأَخْبَرَنِي وَسَمِعْته لِأَنَّهُ ما حدثه وَلَا أخبره وَلَا سمع منه شيئا فَلَوْ قال ذلك لَكَانَ كَذِبًا وَهَذَا منه عَجِيبٌ كما قَالَهُ الْهِنْدِيُّ يُنَاقِضُهُ ما عَلَّلَهُ بِهِ من جَوَازِ ذلك في صُورَةِ السُّكُوتِ وَمِمَّنْ شَرَطَ النُّطْقَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وابن الصَّبَّاغِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ قَطَعَ بِهِ جَمَاعَاتٌ من أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وهو اللَّائِقُ بِمَذْهَبِهِ لِتَرَدُّدِ السُّكُوتِ بين الْإِخْبَارِ وَعَدَمِهِ وقد قال الشَّافِعِيُّ لَا يُنْسَبُ إلَى السَّاكِتِ قَوْلٌ قال وَهَذَا هو الصَّوَابُ وقد يَجُوزُ ذلك اعْتِمَادًا على الْقَرَائِنِ وَظَاهِرِ الْحَالِ قال وَهَذَا أَلْيَقُ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ وَنُقِلَ أَنَّهُ نَصَّ عليه أو على ما يَقْتَضِيهِ ا هـ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ إذَا قُرِئَ على الشَّيْخِ بِحَضْرَتِهِ وهو يَسْمَعُ وَيُصْغِي حَلَّتْ الرِّوَايَةُ إذَا قال الشَّيْخُ هذا الْكِتَابُ سَمَاعِي وَلَا يُشْتَرَطُ لَفْظُ الْإِجَازَةِ وَلَا الْمُنَاوَلَةِ وَلَكِنْ اصْطَلَحَ الْمُحَدِّثُونَ مع ذلك على الْمُنَاوَلَةِ وَالْإِجَازَةِ فإن الْوَاحِدَ قد يقول هذا سَمَاعِي وَيَعْنِي بِهِ أَكْثَرَهُ أو رُبَّمَا كان أَحْكَمَ حُرُوفَهُ فإذا قال أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَهُ عَنِّي كان دَالًّا على الثَّبْتِ وَلِذَلِكَ يُشْتَرَطُ في شُهُودِ الْأَصْلِ تَحَمُّلُ الْفَرْعِ شَهَادَتَهُ قال
____________________
(3/444)
وَهَذَا الذي ذَكَرُوهُ مُحْتَمَلٌ من قَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّيْخَ إذَا قال هو سَمَاعِي صَارَ مُخْبِرًا عن آحَادِ ما في الْكِتَابِ إذَا ثَبَتَ هذا فَلِلْقَارِئِ أَنْ يَقُولَ قَرَأْت على فُلَانٍ وَلِلسَّامِعِ أَنْ يَقُولَ قَرَأَ عَلَيَّ فُلَانٌ وأنا أَسْمَعُ وَلَهُ أَنْ يَقُولَ حدثنا أو أخبرنا قِرَاءَةً عليه قال الْقَاضِي وَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ أخبرني أو حدثني قِرَاءَةً عليه أو قَرَأْت عليه وهو سَاكِتٌ مُقَرِّرٌ فإنه لو أَطْلَقَ لَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ قَرَأَهُ تَصْرِيحًا وَأَنْ يَكُونَ مُكْتَفِيًا بِالسُّكُوتِ فَالِاحْتِيَاطُ التَّمْيِيزُ وَأَمَّا إطْلَاقُ حدثنا أو أَخْبَرْنَا فَفِيهِ مَذَاهِبُ أَحَدُهَا الْمَنْعُ مِنْهُمَا جميعا وَبِهِ قال ابن الْمُبَارَكِ وَيَحْيَى بن يحيى وَأَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ وَالنَّسَائِيُّ لِأَنَّ ظَاهِرَهَا يَقْتَضِي أَنَّ الشَّيْخَ تَوَلَّى الْقِرَاءَةَ بِنَفْسِهِ وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ إنَّهُ الصَّحِيحُ قال وَلِذَلِكَ لَا يقول سَمِعْت وَالثَّانِي التَّجْوِيزُ وَأَنَّهُ كَالسَّمَاعِ من لَفْظِ الشَّيْخِ وَبِهِ قال الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَسُفْيَانُ بن عُيَيْنَةَ وَيَحْيَى بن سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَالْبُخَارِيُّ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وكان قَوْمٌ يَقُولُونَ أخبرنا فِيمَا سَمِعُوهُ وَهِيَ عِبَارَةُ عبد الرَّزَّاقِ وَهُشَيْمٍ وَنَقَلَهُ الصَّيْرَفِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ عن الشَّافِعِيِّ ثُمَّ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ الْأَوْلَى في عُرْفِ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّ حدثنا فِيمَا سَمِعَهُ من لَفْظِ الشَّيْخِ وَأَخْبَرَنَا فِيمَا قَرَأَهُ عليه وَإِنْ سمع هو قال حدثني وَأَخْبَرَنِي أو مع جَمَاعَةٍ قال حدثنا وَأَخْبَرَنَا لِتَكُونَ هذه الْفُرُوقُ مُذَكِّرَةً بِأَحْوَالِ السَّمَاعِ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ فَلَا يقول سَمِعْت فُلَانًا وَمِنْهُمْ من أَجَازَهُ وقال الْهِنْدِيُّ كَلَامُ الْإِمَامِ يَعْنِي فَخْرَ الدِّينِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْخِلَافِ في جَوَازِ سَمِعْت وَكَلَامُ غَيْرِهِ يَدُلُّ على أَنَّهُ لَا خِلَافَ فيها وَالثَّالِثُ الْمَنْعُ من إطْلَاقِ حدثنا وَتَجْوِيزُ أخبرنا وَنُقِلَ عن الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَمُسْلِمُ بن الْحَجَّاجِ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وقال الرَّبِيعُ قال الشَّافِعِيُّ إذَا قَرَأْت على الْعَالِمِ فَقُلْ أخبرنا وإذا قَرَأَ عَلَيْك فَقُلْ حدثنا وَلِهَذَا قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ إنَّهُ الْمَذْهَبُ فِيمَا إذَا قَرَأَ الشَّيْخُ نُطْقًا لِأَنَّ الْإِخْبَارَ يُسْتَعْمَلُ في كل ما يَتَضَمَّنُ الْإِعْلَامَ وَالتَّحْدِيثَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا سمع من فيه قال ابن دَقِيقِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ وهو اصْطِلَاحُ الْمُحَدِّثِينَ في الْآخِرِ وَالِاحْتِجَاجُ له ليس بِأَمْرٍ لُغَوِيٍّ
____________________
(3/445)
وَإِنَّمَا هو اصْطِلَاحٌ منهم أَرَادُوا بِهِ التَّمْيِيزَ بين النَّوْعَيْنِ وَمَنَعَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ في صُورَةِ إشَارَةِ الشَّيْخِ بِالسَّمَاعِ أَنْ يَقُولَ الرَّاوِي عنه حدثني أو أخبرني أو سَمِعْته لِأَنَّهُ ما حدثه وَلَا أخبره وَلَا سمع منه شيئا فَلَوْ قال ذلك لَكَانَ كَاذِبًا وَهَذَا منه عَجِيبٌ كما قَالَهُ الْهِنْدِيُّ يُنَاقِضُهُ ما عَلَّلَ بِهِ من جَوَازِ ذلك في صُورَةِ السُّكُوتِ من أَنَّ الْإِخْبَارَ لُغَةً لِإِفَادَةِ الْخَبَرِ وَالْعِلْمِ وَهَذَا السُّكُوتُ قد أَفَادَهُ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ حدثني وَأَخْبَرَنِي وإذا كان مُجَرَّدُ السُّكُوتِ يُعْطِي ذلك فَلَأَنْ يُعْطِيَهُ السُّكُوتُ مع الْإِشَارَةِ بِالرِّضَى من طَرِيقِ الْأَوْلَى وقال ابن فُورَكٍ بين قَوْلِهِ حدثني وَأَخْبَرَنِي فَرْقٌ لِأَنَّ أخبرني يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالْكِتَابَةِ إلَيْهِ وَحَدَّثَنِي لَا يَحْتَمِلُ غير السَّمَاعِ كِتَابَةُ الشَّيْخِ إلَى غَيْرِهِ الثَّالِثَةُ أَنْ يَكْتُبَ الشَّيْخُ إلَى غَيْرِهِ سَمِعْت من فُلَانٍ كَذَا فَلِلْمَكْتُوبِ إلَيْهِ إذَا عَلِمَ خَطَّهُ أو ظَنَّهُ بِأَنْ أخبره عَدْلٌ بِأَنَّهُ خَطُّهُ أو شَاهَدَهُ يَكْتُبُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ وَيَرْوِيَهُ عنه إذَا اقْتَرَنَتْ الْكِتَابَةُ بِلَفْظِ الْإِجَازَةِ بِأَنْ قال أَجَزْت لَك ما كَتَبْته إلَيْك فَإِنْ تَجَرَّدَتْ الْكِتَابَةُ فَأَجَازَ الرِّوَايَةَ بها كَثِيرٌ من الْمُتَقَدِّمِينَ وَبَالَغَ أبو الْمُظَفَّرِ بن السَّمْعَانِيِّ فقال إنَّهَا أَقْوَى من الْإِجَازَةِ وَظَاهِرُ كَلَامِ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السَّمَاعِ قال لِأَنَّ الْكِتَابَ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ وكان صلى اللَّهُ عليه وسلم يُبَلِّغُ بِالْكِتَابِ الْغَائِبَ وَبِالْخِطَابِ الْحَاضِرَ قال وَلَوْ بَعَثَ إلَيْهِ رَسُولًا وَأَخْبَرَهُ بِالْحَدِيثِ حَلَّتْ له الرِّوَايَةُ لِأَنَّ الرَّسُولَ يَنْقُلُ كَلَامَ الْمُرْسِلِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابِ بَلْ أَوْثَقُ منه لِأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ بِمَا فيه وَالرَّسُولُ نَاطِقٌ وكان عليه السَّلَامُ يَكْتُبُ إلَى عُمَّالِهِ تَارَةً وَيُرْسِلُ أُخْرَى وقال الصَّيْرَفِيُّ كان مَالِكٌ يَكْتُبُ إلَى الرَّجُلِ بِالْبَلَدِ الْآخَرِ قد كَتَبْت كِتَابِي هذا وَخَتَمْته بِخَاتَمِي فَارْوِهِ عَنِّي وقال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ منهم من قال إذَا وَرَدَ عليه كِتَابُهُ وَوَقَعَ في نَفْسِهِ صِحَّةُ ذلك عَمِلَ بِهِ وَقِيلَ لَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ شَهَادَةَ شَاهِدَيْنِ على شَرْطِ كِتَابِ الْقَاضِي وَيَصِيرُ كَأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ هُمَا الْوَاسِطَةُ في ذلك وقال الْبَيْهَقِيُّ في الْمَدْخَلِ الْآثَارُ في هذه كَثِيرَةٌ عن التَّابِعِينَ وَالِاتِّبَاعُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ وَفِيهَا دَلَالَةٌ على أَنَّ جَمِيعَ ذلك وَاسِعٌ عِنْدَهُمْ وَكُتُبُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى عُمَّالِهِ بِالْأَحْكَامِ شَاهِدَةٌ لِقَوْلِهِمْ ا ه
____________________
(3/446)
قال إلَّا أَنَّ ما سَمِعَهُ من الشَّيْخِ فَوَعَاهُ أو قُرِئَ عليه وَأَقَرَّ بِهِ فَحَفِظَهُ يَكُونُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِمَّا كُتِبَ بِهِ إلَيْهِ لِمَا يُخَافُ على الْكِتَابِ من التَّغْيِيرِ وَالْإِحَالَةِ ا هـ وَكَيْفِيَّةُ الرِّوَايَةِ أَنْ يَقُولَ كَتَبَ إلَيَّ وَأَخْبَرَنِي كِتَابَةً لِأَنَّ الْكَاتِبَ قد ذَكَرَ الْإِخْبَارَ في كِتَابِهِ فَلَا بَأْسَ بِقَوْلِهِ أخبرنا وَجَوَّزَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ قَوْلَهُ أخبرني مُجَرَّدًا عن قَوْلِهِ كِتَابَةً لِصِدْقِ ذلك لُغَةً وَجَرَى عليه ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ قال وَأَمَّا تَقْيِيدُهُ بِكِتَابَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هذا أَدَبًا لِأَنَّ الْقَوْلَ إذَا كان مُطَابِقًا جَازَ إطْلَاقُهُ وَلَكِنَّ الْعَمَلَ مُسْتَمِرٌّ على ذلك عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ فَهِيَ بين كَوْنِهِ كِتَابَةً وَإِجَازَةً وَجَوَّزَ اللَّيْثُ بن سَعْدٍ إطْلَاقَ حدثنا وَأَخْبَرَنَا في الرِّوَايَةِ بِالْكِتَابَةِ وَالْمُخْتَارُ خِلَافُهُ وقال الْبَيْهَقِيُّ الْمُجَوِّزُونَ لِلْكِتَابَةِ تَوَسَّعَ فيه بَعْضُهُمْ فَجَوَّزَ أَنْ يَقُولَ أخبرني وَحَدَّثَنِي كما في الْقِرَاءَةِ وَالسَّمَاعِ وَشَرَطَ آخَرُونَ هُنَا التَّعْيِينَ اسْتِعْمَالًا لِلصِّدْقِ في الرِّوَايَةِ هذا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ على جَوَازِ الرِّوَايَةِ بِالْكِتَابَةِ وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ الذي عليه الْجُمْهُورُ من أَرْبَابِ النَّقْلِ وَغَيْرِهِمْ جَوَازُ الرِّوَايَةِ لِأَحَادِيثِ الْكِتَابَةِ وَوُجُوبُ الْعَمَلِ بها وَأَنَّهَا دَاخِلَةٌ في الْمُسْنَدِ وَذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِ صِحَّتِهَا عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ بها وَوُثُوقُهُ بِأَنَّهَا عن كَاتِبِهَا وَمَنَعَ قَوْمٌ من الرِّوَايَةِ بها منهم الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ قَالَا وَأَمَّا كُتُبُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَكَانَتْ تَرِدُ على يَدِ مُرْسَلِهِ فَيُعَوَّلُ على خَبَرِهِمْ وَمِمَّنْ نُقِلَ عنه إنْكَارُ قَبُولِهَا أبو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ الْحَافِظُ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ كُلُّ كِتَابٍ لم يَذْكُرْهُ حَامِلُهُ فَهُوَ مُرْسَلٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَرَى التَّعَلُّقَ بِالْمُرْسَلِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْغَزَالِيُّ أَيْضًا فقال لِأَنَّ رِوَايَتَهُ شَهَادَةٌ عليه بِأَنَّهُ قَالَهُ وَالْخَطُّ لَا يَعْرِفُهُ نعم له أَنْ يَقُولَ رَأَيْته مَكْتُوبًا في كِتَابٍ بِخَطٍّ ظَنَنْت أَنَّهُ خَطُّ فُلَانٍ فإن الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ فَإِنْ عَرَفَ أَنَّهُ خَطُّهُ قَطْعًا بِأَنْ سمع منه يقول هذا خَطِّي أو بِطَرِيقٍ آخَرَ فإنه مع ذلك لَا يَجُوزُ له أَنْ يَرْوِيَ عنه ما لم يُسَلِّطْهُ على الرِّوَايَةِ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ أو قَرَائِنَ تُفِيدُ ذلك كَالْجُلُوسِ لِرِوَايَةِ الحديث لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قد سَمِعَهُ ثُمَّ يَتَشَكَّكُ فيه وَلَا يَرَى رِوَايَتَهُ عنه فإنه ليس كُلُّ ما سَمِعَهُ الْإِنْسَانُ فإنه يَرَى نَقْلَهُ عنه وَمَعَهُ كَيْفَ تَجُوزُ الرِّوَايَةُ وَأَمَّا الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَأَتْبَاعُهُ من الْأُصُولِيِّينَ فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوا الْعَمَلَ بِهِ وَأَنْ يَقُولَ أخبرني في رِوَايَتِهِ عنه وَلَا يقول سَمِعْت وَلَا حدثني وقد جَمَعَ الْهِنْدِيُّ بين هذا وَكَلَامِ الْغَزَالِيِّ بِأَنَّ كَوْنَهُ كَتَبَ إلَيْهِ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ على
____________________
(3/447)
التَّسْلِيطِ على الرِّوَايَةِ عنه عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيُّ يَمْنَعُ ذلك وَالْأَوَّلُ أَوْلَى إذْ لَا فَائِدَةَ في أَنْ يَكْتُبَ إلَيْهِ ذلك فإن مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ عن ذلك مِمَّا لَا فَائِدَةَ له وَبِالْمَنْعِ جَزَمَ الْآمِدِيُّ أَيْضًا هذا كُلُّهُ في غَيْرِ الْأَكْمَهِ فَأَمَّا الْأَكْمَهُ مِثْلُ قَتَادَةَ فَالْمَنْعُ فيه أَقْوَى الْمُنَاوَلَةُ الرَّابِعَةُ مُنَاوَلَةُ الصَّحِيفَةِ وَالْإِقْرَارُ بِمَا فيها دُونَ قِرَاءَتِهَا قال الْبُخَارِيُّ احْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ في الْمُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حَيْثُ كَتَبَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا وقال لَا تَقْرَؤُهُ حتى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا فلما بَلَغَ ذلك الْمَكَانَ قَرَأَهُ على الناس وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَشَارَ الْبَيْهَقِيُّ إلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ في ذلك وَلَهَا صُوَرٌ إحْدَاهَا أَنْ يَقْرُنَهَا بِالْإِجَازَةِ بِأَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ أَصْلَهُ أو فَرْعًا مُقَابِلًا بِهِ وَيَقُولَ هذا سَمَاعِي فَارْوِهِ عَنِّي وَمِنْ صُوَرِهَا أَنْ يَجِيءَ الطَّالِبُ إلَى الشَّيْخِ بِجُزْءٍ من حَدِيثِهِ فَيَعْرِضُهُ عليه فَيَتَأَمَّلَهُ الشَّيْخُ الْعَارِفُ الْمُتَيَقِّظُ ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَيْهِ وَيَقُولُ وَقَفْت على ما فيه وهو حَدِيثِي عن فُلَانٍ أو ثَبَتَ عَلَيَّ ما نَاوَلْتَنِيهِ وهو مَسْمُوعِي عن فُلَانٍ فَارْوِهِ عَنِّي وَهَذَا يُسَمَّى عَرْضَ الْمُنَاوَلَةِ كما أَنَّ الْقِرَاءَةَ على الشَّيْخِ تُسَمَّى عَرْضَ الْقِرَاءَةِ وَلَهُ الرِّوَايَةُ بِذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ كما قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ في الْإِلْمَاعِ وقال الْمَازِرِيُّ لَا شَكَّ في وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَلَا مَعْنَى لِلْخِلَافِ فيه وقد ذَكَرَ ابن وَهْبٍ أَنَّ يحيى بن سَعِيدٍ سَأَلَ مَالِكًا عن شَيْءٍ من أَحَادِيثِهِ فَكَتَبَ له مَالِكٌ بيده أَحَادِيثَ وَأَعْطَاهَا له فَقِيلَ لِابْنِ وَهْبٍ أَقَرَأَهَا يحيى بن سَعِيدٍ على مَالِكٍ فقال ابن وَهْبٍ هو أَفْقَهُ من ذلك يُشِيرُ إلَى أَنَّ ما كَتَبَهُ مَالِكٌ بيده وَنَاوَلَهُ إيَّاهَا يُغْنِي عن قِرَاءَتِهِ إيَّاهَا على مَالِكٍ قُلْت لَكِنَّ الصَّيْرَفِيَّ حَكَى الْخِلَافَ فقال في كِتَابِهِ إذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ كِتَابًا فقال قد عَرَفْتُ جَمِيعَ ما فيه وَحَدَّثَنِي بِجَمِيعِهِ فُلَانٌ فَاحْمِلْ عَنِّي جَمِيعَ ما فيه جَازَ له أَنْ يَحْمِلَهُ على ما قال وَلَا يقول حدثنا وَلَا أخبرنا في كل حَدِيثٍ
____________________
(3/448)
وَمِنْ الناس من جَعَلَ هذا الرَّجُلَ كَرَجُلٍ اعْتَرَفَ بِمَا في صَكٍّ ولم يَقْرَأْ عليه لِيَشْهَدَ عليه بِمَا فيه فَأَجَازَ أَنْ يَقُولَ حدثنا وَأَخْبَرَنَا وَمِنْهُمْ من قال لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ حتى يَقْرَأَ عليه أو يَقْرَأَهُ وَهَكَذَا قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي لَا يَقْبَلُهُ حتى يَشْهَدَ أَنَّ الْقَاضِيَ قَرَأَهُ عَلَيْهِمَا وَلَا يَشْهَدَا عليه إذَا كان مَخْتُومًا حتى يُقْرَأَ عَلَيْهِمَا وَالْحَدِيثُ أَخَفُّ من الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ إذَا اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ حَدِيثُهُ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ في أَشْيَاعِهِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ في الصِّكَاكِ انْتَهَى وَكَلَامُ الْبَيْهَقِيّ يَقْتَضِي أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ الْمَنْعُ فإنه حَكَى عن السَّلَفِ الْخِلَافَ في ذلك بِالنِّسْبَةِ لِلرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ ثُمَّ قال وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فإنه نَصَّ في كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَقْبَلُهُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ وَحَتَّى يَفْتَحَهُ وَيَقْرَأَهُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الْخَاتَمَ قد يُصْنَعُ على الْخَاتَمِ وَحَكَى في تَبْدِيلِ الْكِتَابِ حِكَايَةً قال الْبَيْهَقِيُّ وفي ذلك جَوَابٌ عن احْتِجَاج من احْتَجَّ بِقِصَّةِ عبد اللَّهِ بن جَحْشٍ وَغَيْرِهِ فإن التَّبْدِيلَ فيها كان غَيْرُ مُتَوَهَّمٍ وهو بَعْدَهُ عِنْدَ تَغَيُّرِ الناس مُتَوَهَّمٌ انْتَهَى وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ في الرِّوَايَةِ أَيْضًا فَلْتَمْتَنِعْ نعم اخْتَلَفُوا في شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا هل هِيَ حَالَّةٌ مَحَلَّ السَّمَاعِ وَالصَّحِيحُ أنها مُنْحَطَّةٌ عنه وَحَكَاهُ الْحَاكِمُ عن الشَّافِعِيِّ وَصَاحِبَيْهِ الْمُزَنِيّ وَالْبُوَيْطِيُّ وَعَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَعَنْ مَالِكٍ أنها مُوَازِيَةٌ لِلسَّمَاعِ وَحَكَى الْخَطِيبُ عن ابْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّهُ قال الْإِجَازَةُ وَالْمُنَاوَلَةُ عِنْدِي كَالسَّمَاعِ الصَّحِيحِ وَأَثَرُ الْخِلَافِ يَظْهَرُ في الِاقْتِصَارِ على حدثني وَأَخْبَرَنِي الثَّانِي أنها هل تُفِيدُ تَأْكِيدًا على الْإِجَازَةِ الْمُجَرَّدَةِ فَالْمُحَدِّثُونَ على إفَادَتِهَا وَخَالَفَ في ذلك الْأُصُولِيُّونَ وَرَأَوْا أنها لَا تُفِيدُ تَأْكِيدًا صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيُّ قالوا الْمُنَاوَلَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا وَلَا فيها مَزِيدُ تَأْكِيدٍ وَإِنَّمَا هِيَ زِيَادَةُ تَكَلُّفٍ أَحْدَثَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ وَلَهُ أَنْ يَقُولَ نَاوَلَنِي فُلَانٌ كَذَا وَأَخْبَرَنِي وَحَدَّثَنِي مُنَاوَلَةً بِالِاتِّفَاقِ كما قَالَهُ الْهِنْدِيُّ فَلَوْ اقْتَصَرَ على قَوْلِهِ حدثني أو أخبرني فَاخْتَلَفُوا فيه وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِنُطْقِ الشَّيْخِ بِذَلِكَ وهو كَذِبٌ وَمِنْهُمْ من جَوَّزَهُ كما فِيمَا إذَا قُرِئَ عليه هو سَاكِتٌ بَلْ أَوْلَى الثَّانِيَةُ أَنْ يَتَجَرَّدَ عن الْإِجَازَةِ بِأَنْ يَقُولَ خُذْ هذا الْكِتَابَ أو نَاوَلَهُ
____________________
(3/449)
بِالْفِعْلِ وَلَا يقول ارْوِهِ عَنِّي فَلَا تَجُوزُ له الرِّوَايَةُ بِالِاتِّفَاقِ الثَّالِثَةُ أَنْ يُنَاوِلَهُ الْكِتَابَ وَيَقْتَصِرَ على قَوْلِهِ هذا سَمَاعِي من فُلَانٍ وَلَا يقول ارْوِهِ عَنِّي فقال ابن الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ لَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بها على الصَّحِيحِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ وَحَكَى الْخَطِيبُ عن قَوْمٍ أَنَّهُمْ صَحَّحُوهَا قُلْت وَجَوَّزَ ابن الصَّبَّاغِ الرِّوَايَةَ بها قال الْهِنْدِيُّ وَكَلَامُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ صَرِيحٌ فيه وَكَلَامُ غَيْرِهِ يَدُلُّ على أَنَّهُ لَا يُسَلِّطُهُ عليها وهو الْأَظْهَرُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قد سمع ثُمَّ تَشَكَّكَ فيه وَمَعَهُ لَا تَجُوزُ له الرِّوَايَةُ فَلَا يُرْوَى عنه هذا كُلُّهُ إذَا صَرَّحَ بِسَمَاعِهِ الْكِتَابَ فَلَوْ قال حَدِّثْ عَنِّي أو ارْوِ عَنِّي ما في الْكِتَابِ ولم يَقُلْ إنَّنِي قد سَمِعْته فَلَيْسَ له أَنْ يَرْوِيَ عنه كما جَزَمَ بِهِ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ لِأَنَّ شَرْطَ الرِّوَايَةِ السَّمَاعُ أو ما يَجْرِي مَجْرَاهُ وهو غَيْرُ حَاصِلٍ فيه قال الْهِنْدِيُّ وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلشَّيْخِ التَّصْرِيحُ بِالسَّمَاعِ إذَا عَلِمَ أَنَّ النُّسْخَةَ الْمُشَارَ إلَيْهَا هِيَ النُّسْخَةُ التي سَمِعَهَا بِعَيْنِهَا أو عَلِمَ مُوَافَقَتَهَا لها بِالْمُقَابَلَةِ الْمُتْقَنَةِ فَأَمَّا إذَا لم يَعْلَمْ ذلك لم يَجُزْ له فَعَلَى هذا إذَا سمع الشَّيْخُ نُسْخَةً من كِتَابِ الْبُخَارِيِّ مَثَلًا فَلَيْسَ له أَنْ يَقُولَ ذلك بِالنِّسْبَةِ إلَى نُسْخَةٍ أُخْرَى منه إلَّا بِشَرْطِهِ السَّابِقِ لِأَنَّ النُّسَخَ تَتَفَاوَتُ فَعَلَى هذا لَا يَنْبَغِي له أَنْ يَرْوِيَ إلَّا ما يَقْطَعُ بِسَمَاعِهِ وَحِفْظِهِ وَضَبْطِهِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ بِحَيْثُ يَقْطَعُ أَنَّ ما أَدَّاهُ هو مَعْنَى ما سَمِعَهُ من غَيْرِ تَفَاوُتٍ فَإِنْ شَكَّ في شَيْءٍ من ذلك لم يَجُزْ له الرِّوَايَةُ وَإِنْ غَلَبَ على ظَنِّهِ فَفِيهِ خِلَافٌ فَائِدَتَانِ إحْدَاهُمَا قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ الْمُنَاوَلَةُ حَقِيقَةٌ فِيمَا يُعْطَى بِالْيَدِ وَهِيَ صِيغَةٌ اسْتَعْمَلَهَا الْمُحَدِّثُونَ في بَعْضِ أَنْوَاعِ الرِّوَايَةِ وَجَعَلُوا الْمُنَاوَلَةَ الْإِشَارَةَ وَالْإِخْبَارَ فإذا وُجِدَ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ الْمُسَوِّغُ لِلرِّوَايَةِ وَإِنْ حَصَلَتْ الْمُنَاوَلَةُ وَحْدَهَا فَلَا عِبْرَةَ بها نعم لو كان مُنَاوَلَةً من غَيْرِ الْإِعْطَاءِ فَفِي جَوَازِهِ نَظَرٌ الثَّانِيَةُ نَازَعَ الْعَبْدَرِيّ في إفْرَادِ الْمُنَاوَلَةِ وقال لَا مَعْنَى لها حتى يَقُولَ أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي وَحِينَئِذٍ فَهِيَ قِسْمٌ من أَقْسَامِ الْإِجَازَةِ وَهِيَ جَارِيَةٌ على طَرِيقِ الْأُصُولِيِّينَ من إنْكَارِ مَزِيدِ التَّأْكِيدِ فيها
____________________
(3/450)
حُكْمُ الْعَمَلِ بِالْإِجَازَةِ الرَّابِعَةُ الْإِجَازَةُ بِأَنْ يَقُولَ أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي هذا الحديث بِعَيْنِهِ أو هذا الْكِتَابَ وقد اخْتَلَفُوا في جَوَازِ الْعَمَلِ بها وَالرِّوَايَةِ أَمَّا الْعَمَلُ فَالْجُمْهُورُ على الْعَمَلِ بِأَحَادِيثِ الْإِجَازَةِ وَقِيلَ كَالْمُرْسَلِ حَكَاهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ عن أَهْلِ الظَّاهِرِ وَحَكَى الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ قَوْلًا غَرِيبًا أَنَّهُ يُعَوَّلُ عليها في أَحْكَامِ الْآخِرَةِ دُونَ ما سِوَاهَا وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ فيه على حُصُولِ الثِّقَةِ بِالْخَبَرِ وَهِيَ هَاهُنَا حَاصِلَةٌ وَلِأَنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ سَمَاعُ الشَّيْخِ ثُمَّ ذَكَرَ الْمُتَلَقِّي منه سَمَاعُهُ وَسَوَّغَ له إسْنَادَ مَسْمُوعَاتِهِ إلَى أَخْبَارِهِ فَلَا فَرْقَ بين أَنْ يُعَلِّقَ الْأَخْبَارَ بها جُمْلَةً أو تَفْصِيلًا وَأَمَّا الرِّوَايَةُ فَحَكَى الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَالْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُمَا من الْأُصُولِيِّينَ الِاتِّفَاقَ وَلَكِنْ فيه مَذَاهِبُ مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ في الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ أَحَدُهَا الْمَنْعُ وَبِهِ قال شُعْبَةُ وقال لو صَحَّتْ الْإِجَازَةُ لَبَطَلَتْ الرِّحْلَةُ وأبو زُرْعَةَ الرَّازِيَّ وقال لو صَحَّتْ لَذَهَبَ الْعِلْمُ وَإِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وأبو الشَّيْخِ الْأَصْفَهَانِيُّ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ مِنَّا وأبو طَاهِرٍ الدَّبَّاسِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ وقال من قال لِغَيْرِهِ أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي فَكَأَنَّهُ قال أَجَزْت لَك أَنْ تَكْذِبَ عَلَيَّ وَكَذَا قال ابن حَزْمٍ في كِتَابِ الْإِحْكَامِ وقال إنَّهَا بِدْعَةٌ غَيْرُ جَائِزَةٍ وقال غَيْرُهُ تَقْدِيرُ أَجَزْت لَك أَبَحْتُ لَك ما لَا يَجُوزُ في الشَّرْعِ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يُبِيحُ رِوَايَةَ ما لم يَسْمَعْ وَحَكَى ابن وَهْبٍ عن مَالِكٍ قال لَا أَرَى هذا يَجُوزُ وَلَا يُعْجِبُنِي وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وابن السَّمْعَانِيِّ عن الشَّافِعِيِّ يَعْنِي لِأَنَّ الرَّبِيعُ قال هَمَّ الشَّافِعِيُّ بِالْخُرُوجِ من مِصْرَ وكان قد فَاتَنِي من الْبُيُوعِ من كِتَابِ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثُ وَرَقَاتٍ فَقُلْت له أَجِزْهَا لي قال فَاقْرَأْهَا عَلَيَّ كما قُرِئَ عَلَيَّ وَرَدَّدَ عَلَيَّ ذلك حتى أَذِنَ اللَّهُ فَجَلَسَ وَقُرِئَ عليه وَسَمِعْنَاهُ بَعْدَ ذلك وَتُوُفِّيَ عِنْدَنَا وفي
____________________
(3/451)
رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ عن شَيْخِهِ الْحَاكِمِ بِزِيَادَةٍ يَعْنِي أَنَّهُ كَرِهَ الْإِجَازَةَ قال الْبَيْهَقِيُّ كَذَا في الْحِكَايَةِ يَعْنِي أَنَّهُ كَرِهَ الْإِجَازَةَ قال الْحَاكِمُ فَرَضِيَ اللَّهُ عن الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ لقد كَرِهَ الْمَكْرُوهَ عِنْدَ أَكْثَرِ أَئِمَّةِ هذا الشَّأْنِ ثُمَّ عَابَ شَيْخُنَا رِوَايَةَ ما أُجِيزَ له بِأَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا قال وَبِمِثْلِهِ يَذْهَبُ بَهَاءُ الْعِلْمِ وَالسَّمَاعِ وَالرِّحْلَةِ الثَّانِي وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ الصِّحَّةُ وَحَمَلُوا كَلَامَ الْمَانِعِينَ على الْكَرَامَةِ قال الْخَطِيبُ وقد ثَبَتَ عن مَالِكٍ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِأَحَادِيثِ الْإِجَازَةِ فَدَلَّ على أَنَّ مَنْعَهُ إنَّمَا هو وَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنْ يُجِيزَ الْعِلْمَ لِمَنْ ليس أَهْلَهُ وَلَا خَدَمَهُ وَلَا عَانَى التَّعَبَ وَلِهَذَا قال إنَّمَا يُرِيدُ أحدكم أَنْ يُقِيمَ الْمَقَامَ الْيَسِيرَ وَيَحْمِلَ الْعِلْمَ الْكَثِيرَ قال وَكَذَلِكَ الْمَنْقُولُ عن الشَّافِعِيِّ كَرَاهَةُ الِاتِّكَالِ على الْإِجَازَةِ بَدَلًا عن السَّمَاعِ وقد قال الْكَرَابِيسِيُّ لَمَّا كان قَدْمَةُ الشَّافِعِيُّ الثَّانِيَةِ إلَى بَغْدَادَ آتَيْته فَقُلْت له أَتَأْذَنُ لي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك الْكُتُبَ قال خُذْ كُتُبَ الزَّعْفَرَانِيِّ فَانْسَخْهَا فَقَدْ أَجَزْتُهَا لَك فَأَخَذْتُهَا إجَازَةً قُلْت هذا من قَوْلِهِ في الْقَدِيمِ وَالْأَوَّلُ من قَوْلِهِ في الْجَدِيدِ فَكَيْفَ يُقْضَى لِلْقَدِيمِ على الْجَدِيدِ نعم الْمَنْقُولُ عن الْجَدِيدِ ليس صَرِيحًا في الْمَنْعِ فَلَا تَعَارُضَ وقد رَوَى الرَّبِيعُ عن الشَّافِعِيِّ الْإِجَازَةَ لِمَنْ بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ وَالثَّالِثُ يَجُوزُ بِشَرْطِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ أُصُولَهُ أو فُرُوعًا كُتِبَتْ عنها وَيَنْظُرُ فيها وَيُصَحِّحُهَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ عن أَحْمَدَ بن صَالِحٍ وَالرَّابِعُ إنْ كان الْمُجِيزُ وَالْمُسْتَجِيزُ كِلَاهُمَا يَعْلَمَانِ ما في الْكِتَابِ من الْأَحَادِيثِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا وهو اخْتِيَارُ أبي بَكْرٍ الرَّازِيَّ من الْحَنَفِيَّةِ وَنَقَلُوهُ عن مَالِكٍ فإنه شَرَطَ في الْمُجِيزِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا يُجِيزُ وفي الْمُجَازِ له أَنْ يَكُونَ من أَهْلِ الْعِلْمِ فَعَلَى هذا لَا تَجُوزُ الْإِجَازَةُ بِكُلِّ ما ثَبَتَ أَنَّهُ من مَسْمُوعِ الشَّيْخِ ضَرُورَةً أَنَّهُمَا لَا يَعْلَمَانِ جَمِيعَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ وَالْخَامِسُ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالْمُخَاطَبَةِ فَإِنْ خَاطَبَهُ بها صَحَّ وَإِلَّا فَلَا حَكَاهُ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ الْأُصُولِ التَّفْرِيعُ إنْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ فَاخْتَلَفُوا في مَسَائِلَ إحْدَاهَا هل تَجُوزُ مُطْلَقًا أو بِشَرْطٍ فَأَطْلَقَ الْأَكْثَرُونَ وَسَبَقَ عن مَالِكٍ اشْتِرَاطُ عِلْمِ الْمُجِيزِ وَالْمُجَازِ له وَعَلَى هذا قال ابن عبد الْبَرِّ لَا تَجُوزُ الْإِجَازَةُ إلَّا لِمَاهِرٍ
____________________
(3/452)
بِالصِّنَاعَةِ وفي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَا يُشْكِلُ إسْنَادُهُ وَقَسَّمَ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ الْإِجَازَةَ إلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَعْلَمَ الْمُجَازُ له ما في الْكِتَابِ فَلَهُ الرِّوَايَةُ بها وَالثَّانِي لَا يَعْلَمُ وَلَكِنْ قال الشَّيْخُ أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي فَلَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ إذَا كان الْكِتَابُ يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ قال وَإِنْ لم يَحْتَمِلْهُمَا فَالْمُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لم يَسْمَعْ ولم يَعْلَمْ وإذا كان لَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ له إذَا سمع ولم يَعْلَمْ فَهَذَا أَوْلَى وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يَرْوِي عنه ما صَحَّ عِنْدَهُ من مَسْمُوعَاتِهِ تَوْسِعَةً لِلْأَمْرِ وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ على تَقْدِيرِ أَنَّهُ أخبره بِمَا في الْكِتَابِ إخْبَارًا إجْمَالِيًّا كما إذَا أَرْسَلَ إلَيْهِ كِتَابًا مُشْتَمِلًا على عِدَّةِ مُهِمَّاتٍ انْتَهَى وقال أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ لَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ بِالْإِجَازَةِ حتى يَعْلَمَ الْمُجَازُ له ما في الْكِتَابِ ثُمَّ يقول لِلرَّاوِي أَتَعْلَمُ ما فيه فيقول نعم ثُمَّ يُجِيزُ له أَنْ يَرْوِيَهُ قُلْت وَعَلَى هذا فَلَا تَصِحُّ الْإِجَازَةُ إلَّا لِمَنْ يَصِحُّ سَمَاعُهُ وَحَكَاهُ الْخَطِيبُ عن بَعْضِهِمْ وَأَنَّهُ مَنَعَ صِحَّةَ الْإِجَازَةِ لِلطِّفْلِ قال وَسَأَلْت الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيّ هل يُعْتَبَرُ في صِحَّتِهَا سِنُّهُ أو تَمْيِيزُهُ كما يُعْتَبَرُ ذلك في صِحَّةِ سَمَاعِهِ فقال لَا يُعْتَبَرُ ذلك الثَّانِيَةُ أنها دُونَ السَّمَاعِ على الصَّحِيحِ وقال الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ كَالسَّمَاعِ لِأَنَّ الثِّقَةَ هِيَ الْمَطْلُوبَةُ وهو غَرِيبٌ الثَّالِثَةُ أَنَّهُ يقول فيها حدثني وَأَخْبَرَنِي وَذَكَرَ الْمَازِرِيُّ عن ابْنِ خُوَيْزٍ مَنْدَادٍ إنَّا إذَا قُلْنَا بِالْجَوَازِ أُطْلِقَ ذلك وَإِنْ قُلْنَا بِالْكَرَاهَةِ لم يَقُلْ إلَّا أَجَازَنِي أو حدثني أو أخبرني إجَازَةً وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ الْحَقُّ في ذلك أَنْ يُعْتَبَرَ لَفْظُ الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ وَيُنْظَرَ مُطَابَقَتُهُ لِنَفْسِ الْأَمْرِ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْوَضْعِ فَإِنْ كان الْوَضْعُ لَا يَمْنَعُهُ جَازَ وَإِلَّا فَلَا فَقَوْلُهُ حدثنا بَعِيدٌ جِدًّا وَيَلِيهِ قَوْلُهُ أخبرنا وَأَجْوَدُ الْعِبَارَاتِ في الْإِجَازَةِ أَنْ يُقَالَ أَجَازَ لنا فُلَانٌ أو كَتَبَ إلَيْنَا إنْ كان كِتَابَةً لِأَنَّهُ إخْبَارٌ صَحِيحٌ ا هـ وقال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في الْإِجَازَةِ يَحْكِيهِ على ما قَالَهُ الشَّيْخُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ حدثنا أو أخبرنا قال وَذَهَبَ إلَى هذا أبو بَكْرٍ ا هـ وقال الْمَازِرِيُّ هل يقول حدثني وَأَخْبَرَنِي مُطْلَقًا منهم من أَجَازَهُ
____________________
(3/453)
وَمِنْهُمْ من مَنَعَهُ حتى يُقَيِّدَهُ بِالْإِجَازَةِ وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْأَوْلَى التَّصْرِيحُ بِهِ وَإِنْ صَدَّقَهُ فَلَا لَبْسَ فيه وَحَكَاهُ عنه ابن الْقُشَيْرِيّ وَأَقَرَّهُ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ يَتَعَيَّنُ عليه أَجَازَنِي وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ أخبرني وَحَدَّثَنِي وَهِيَ أَنْوَاعٌ أَحَدُهَا أَنْ يُجِيزَ بِمُعَيَّنٍ لِمُعَيَّنٍ بِأَنْ يَقُولَ أَجَزْت لَك الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ وهو أَعْلَاهَا وَثَانِيهَا لِمُعَيَّنٍ في غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَقَوْلِهِ أَجَزْت لَك أو لَكُمْ جَمِيعَ مَسْمُوعَاتِي وَالْخِلَافُ في هذا أَقْوَى من الْأَوَّلِ وَالْجُمْهُورُ على تَجْوِيزِهِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِيمَا إذَا قال أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي ما صَحَّ عِنْدِي من مَسْمُوعَاتِي فَهَذِهِ إجَازَةٌ مُرَتَّبَةٌ على عَمَايَةٍ وَيَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ لِهَذَا الْفَرْعِ بِصِحَّةِ سَمَاعِ الشَّيْخِ إلَّا بِالتَّعْوِيلِ على خُطُوطٍ مُشْتَمِلَةٍ على سَمَاعِ الشَّيْخِ قال وَإِنْ رَأَى في ذلك مُقْنِعًا فَإِنْ تَحَقَّقَ ظُهُورُ سَمَاعِ مَوْثُوقٍ بِهِ فَإِذْ ذَاكَ وَهَيْهَاتَ وَثَالِثُهَا أَنْ يُجِيزَ مُعَيَّنٌ لِمُعَيَّنٍ بِوَصْفِ الْعُمُومِ مِثْلُ أَجَزْت لِلْمُسْلِمِينَ أو لِمَنْ أَدْرَكَ حَيَاتِي فَمَنَعَهُ جَمَاعَةٌ وَجَوَّزَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ وَجَوَّزَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الْإِجَازَةَ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لِمَنْ كان مَوْجُودًا فِيهِمْ عِنْدَ الْإِجَازَةِ وَرَابِعُهَا الْإِجَازَةُ لِلْمَجْهُولِ أو بِالْمَجْهُولِ مِثْلُ أَجَزْت لِمُحَمَّدِ بن خَالِدٍ الدِّمَشْقِيِّ وفي وَقْتِهِ ذلك جَمَاعَةٌ مُشْتَرِكُونَ في هذا الِاسْمِ وَالنَّسَبِ ثُمَّ لَا يُعَيِّنُ الْمُجَازَ له أو يقول أَجَزْت لِفُلَانٍ أَنْ يَرْوِيَ عَنِّي كِتَابَ السُّنَنِ وهو يَرْوِي جَمَاعَةٌ من كُتُبِ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ بِذَلِكَ وَلَا قَرِينَةَ تَصْرِفُ لِبَعْضِهَا فَهِيَ إجَازَةٌ فَاسِدَةٌ وَلَا فَائِدَةَ لها هَكَذَا قَالَهُ ابن الصَّلَاحِ وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ في الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ بِالْجَوَازِ وَيَسْتَبِيحُ رِوَايَتَهُ جَمِيعَهَا لِأَنَّ اللَّفْظَ ظَاهِرٌ في الْعُمُومِ وَلَا مَانِعَ فيه خَامِسُهَا الْإِجَازَةُ الْمُعَلَّقَةُ بِشَرْطٍ مِثْلُ أَجَزْت لِمَنْ شَاءَ فُلَانٌ أو نَحْوُهُ وهو كَالنَّوْعِ الرَّابِعِ وَفِيهِ جَهَالَةٌ وَتَعْلِيقٌ بِشَرْطٍ وقد أَفْتَى أبو الطَّيِّبِ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ إجَازَةٌ لِمَجْهُولٍ فَصَارَ كَقَوْلِهِ أَجَزْت لِبَعْضِ الناس وَجَوَّزَهُ أبو يَعْلَى بن الْفَرَّاءِ وأبو الْفَضْلِ بن عَمْرُوسٍ الْمَالِكِيُّ وَسَادِسُهَا الْإِجَازَةُ بِمَا لم يَسْمَعْهُ الْمُجِيزُ ولم يَتَحَمَّلْهُ فِيمَا مَضَى لِرِوَايَةِ الْمُجَازِ له إذَا تَحَمَّلَهُ الْمُجِيزُ بَعْدَ ذلك قال ابن الصَّلَاحِ يَنْبَغِي أَنْ يُبْنَى ذلك على أَنَّ الْإِجَازَةَ في حُكْمِ الْإِخْبَارِ بِالْمُجَازِ جُمْلَةً أو هِيَ إذْنٌ فَلَا يَصِحُّ إنْ جُعِلَتْ في حُكْمِ الْإِخْبَارِ إذْ
____________________
(3/454)
كَيْفَ يُجِيزُ ما لَا خَبَرَ عِنْدَهُ منه وَإِنْ جُعِلَتْ إذْنًا بُنِيَ على الْخِلَافِ في تَصْحِيحِ الْوَكَالَةِ فِيمَا لم يَمْلِكْهُ الْمُوَكِّلُ وَالصَّحِيحُ بُطْلَانُ هذه الْإِجَازَةِ سَابِعُهَا إجَازَةُ الْمُجَازِ مِثْلُ أَجَزْت لَك مُجَازَاتِي أو رِوَايَةَ ما أُجِيزَ لي رِوَايَتُهُ وقد مَنَعَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ وقد كان الْفَقِيهُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ يَرْوِي بِالْإِجَازَةِ عن الْإِجَازَةِ ثَامِنُهَا الْإِذْنُ في الْإِجَازَةِ وَهَذَا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَذِنْت لَك أَنْ تُجِيزَ عَنِّي من شِئْت وَهَذَا نَوْعٌ لم يَذْكُرُوهُ وَلَكِنَّهُ وَقَعَ في عَصْرِنَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَصِحُّ كما لو قال وَكِّلْ عَنِّي تَاسِعُهَا الْإِجَازَةُ لِمَنْ ليس أَهْلًا لها حين الْإِجَازَةِ وهو يَشْمَلُ صُوَرًا منها الصَّبِيُّ وقد قال الْخَطِيبُ سَأَلْت الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبَ هل يُعْتَبَرُ في صِحَّةِ الْإِجَازَةِ لِلطِّفْلِ الصَّغِيرِ سِنُّهُ أو تَمْيِيزُهُ كما يُعْتَبَرُ ذلك في صِحَّةِ سَمَاعِهِ فقال لَا يُعْتَبَرُ ذلك فَقُلْت له إنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا قال لَا تَصِحُّ الْإِجَازَةُ لِمَنْ لَا يَصِحُّ سَمَاعُهُ فقال قد يَصِحُّ أَنْ يُجِيزَ لِلْغَائِبِ عنه وَلَا يَصِحُّ السَّمَاعُ له وَاحْتَجَّ الْخَطِيبُ بِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا هِيَ إبَاحَةُ الْمُجِيزِ لِلْمُجَازِ له أَنْ يَرْوِيَ عنه وَالْإِبَاحَةُ تَصِحُّ لِلْمُكَلَّفِ وَغَيْرِهِ وَمِنْهَا الْمَجْنُونُ وَهِيَ صَحِيحَةٌ له ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ وَمِنْهَا الْكَافِرُ وقد صَحَّحُوا تَحَمُّلَهُ إذَا أَدَّاهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَقِيَاسُ إجَازَتِهِ كَذَلِكَ وقد وَقَعَتْ هذه الْمَسْأَلَةُ في زَمَنِ الْحَافِظِ أبي الْحَجَّاجِ الْمِزِّيِّ وكان طَبِيبٌ يُسَمَّى عَبْدَ السَّيِّدِ بن الزَّيَّاتِ وَسَمِعَ الحديث في حَالِ يَهُودِيَّتِهِ على أبي عبد اللَّهِ مُحَمَّدِ بن عبد الْمُؤْمِنِ الصُّورِيِّ وَكَتَبَ اسْمَهُ في طَبَقَةِ السَّمَاعِ مع السَّامِعِينَ وَأَجَازَ ابن عبد الْمُؤْمِنِ لِمَنْ سمع وهو من جُمْلَتِهِمْ وكان السَّمَاعُ وَالْإِجَازَةُ بِحُضُورِ الْمِزِّيِّ وَبَعْضُ السَّمَاعِ بِقِرَاءَتِهِ ثُمَّ هَدَى اللَّهُ ابْنَ عبد السَّيِّدِ الْمَذْكُورِ لِلْإِسْلَامِ وَحَدَّثَ وَتَحَمَّلَ الطَّالِبُونَ عنه وَمِنْهَا الْإِجَازَةُ لِلْفَاسِقِ وَالْمُبْتَدِعِ وَلَا شَكَّ في جَوَازِهَا وَأَوْلَى من الْكَافِرِ وَمِنْهَا الْإِجَازَةُ لِلْحَمْلِ ولم أَرَ فيه نَقْلًا غير أَنَّ الْخَطِيبَ قال لم نَرَهُمْ أَجَازُوا لِمَنْ لم يَكُنْ مَوْلُودًا في الْحَالِ ولم يَتَعَرَّضُوا لِكَوْنِهِ إذَا وَقَعَ هل تَصِحُّ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ من الْمَعْدُومِ وَيَقْوَى إذَا أُجِيزَ له تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ وَيُحْمَلُ بِنَاؤُهُ على أَنَّ الْحَمْلَ هل يُعْلَمُ أَمْ لَا فَإِنْ قُلْنَا لَا يُعْلَمُ كانت كَالْإِجَازَةِ لِلْمَجْهُولِ فَيَجْرِي فيه الْخِلَافُ وَإِنْ قُلْنَا يُعْلَمُ وهو الْأَصَحُّ صَحَّتْ وَمِنْهَا الْإِجَازَةُ لِلْمَعْدُومِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ أَجَزْت لِمَنْ يُولَدُ لِفُلَانٍ جَوَّزَهُ ابن
____________________
(3/455)
الْفَرَّاءِ وابن عَمْرُوسٍ وَالْخَطِيبُ قال ابن الصَّبَّاغِ وَمَأْخَذُهُمْ اعْتِقَادُ أَنَّ الْإِجَازَةَ إذْنٌ في الرِّوَايَةِ لَا مُحَادَثَةٌ وَالصَّحِيحُ الذي اتَّفَقَ عليه رَأْيُ الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ أنها لَا تَصِحُّ أَمَّا إجَازَتُهُ عَطْفًا على الْحَيِّ كَقَوْلِهِ أَجَزْت لَك وَلِوَلَدِك فَهِيَ إذْنٌ إلَى الْجَوَازِ أَوْلَى وَلِهَذَا أَجَازَهُ أَصْحَابُنَا في الْوَقْفِ مَسْأَلَةٌ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِجَازَةِ وإذا جَوَّزْنَا الْإِجَازَةَ فَالشَّرْطُ تَحَقُّقُ رِوَايَةِ الشَّيْخِ لِمَا أَجَازَهُ فَلَوْ لم يَعْلَمْ وَلَكِنَّهُ ظَنَّ فَهَلْ يُعْمَلُ بِمُقْتَضَاهَا قال الشَّافِعِيُّ وأبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ نعم وقال أبو حَنِيفَةَ لَا كَذَا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ قال فَلَوْ شَكَّ في الرِّوَايَةِ لم يَجُزْ قَطْعًا وَكَذَا لو الْتَبَسَ عليه الْمَرْوِيُّ بِغَيْرِهِ لم تَحِلَّ له رِوَايَةُ شَيْءٍ من الْمُخْتَلَطِ وَاَلَّذِي رَأَيْته في كُتُبِ الْحَنَفِيَّة أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا شَرَطَا في الْإِجَازَةِ وَالْمُنَاوَلَةِ عِلْمَ الْمُجِيزِ بِمَا أَجَازَ فَإِنْ لم يَعْلَمْ ما فيه لَا يَجُوزُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ كما في كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَهَذَا لِخَطَرِ أَمْرِ السُّنَّةِ وَتَصْحِيحُ الْإِجَازَةِ من غَيْرِ عِلْمٍ قَبِيحٌ وقال شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ في كِتَابِهِ شَرْطُ الْإِجَازَةِ أَنْ يَكُونَ ما في الْكِتَابِ مَعْلُومًا لِلْمُجَازِ وَالْمُجِيزُ من أَهْلِ الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ فَإِنْ كان الْمُسْتَجِيزُ غير عَالِمٍ بِمَا في الْكِتَابِ فَقَدْ قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ قَوْلَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَصِحُّ وَعَلَى قَوْلِ أبي يُوسُفَ يَصِحُّ قال وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ هذه الْإِجَازَةَ لَا تَصِحُّ في قَوْلِهِمْ جميعا
____________________
(3/456)
فَصْلٌ في الْمُرْسَلِ من الحديث شَرْطُ صِحَّةِ الْإِسْنَادِ الِاتِّصَالُ فَالْمُنْقَطِعُ ليس بِحُجَّةٍ قَطْعًا وَأَمَّا الْمُرْسَلُ وهو تَرْكُ التَّابِعِيِّ ذِكْرَ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كَقَوْلِ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ قال رسول اللَّهِ فَلَوْ سَقَطَ وَاحِدٌ قبل التَّابِعِيِّ كَقَوْلِ الرَّاوِي عن ابْنِ الْمُسَيِّبِ قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَإِنْ سَقَطَ أَكْثَرُ سُمِّيَ مُعْضَلًا هذه طَرِيقَةُ جُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ وَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ الْمُرْسَلُ قَوْلُ من لم يَلْقَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال رسول اللَّهِ سَوَاءٌ التَّابِعِيُّ أَمْ تَابِعُ التَّابِعِيِّ فَمَنْ بَعْدَهُ فَتَعْبِيرُ الْأُصُولِيِّينَ أَعَمُّ قال الْمَازِرِيُّ وهو رِوَايَةُ التِّلْمِيذِ عن شَيْخِ شَيْخِهِ كَقَوْلِ مَالِكٍ قال ابن عُمَرَ لِأَنَّهُ لم يَبْلُغْهُ وَإِنَّمَا أَخَذَ عن الْآخِذِينَ عنه وَهَذَا قد يَقَعُ من الرَّاوِي بِأَنْ يَحْذِفَ ذِكْرَ من رَوَى عنه تَصْرِيحًا وَتَلْوِيحًا وقد يَتَعَرَّضُ لِذِكْرِهِ ذِكْرًا لَا يُفِيدُ فَيُسَمَّى ذلك إرْسَالًا أَيْضًا كَقَوْلِك حدثني رَجُلٌ عن فُلَانٍ وَكَذَا لو أَضَافَ إلَيْهِ الْعَدَالَةَ كَقَوْلِك حدثني عَدْلٌ وَهَذَا يَلْتَحِقُ بِالْمُرْسَلَاتِ على ما ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن الْأُسْتَاذِ أبي بَكْرِ بن فُورَكٍ أَنَّهُ سَمَّى حَذْفَ الرَّاوِي شَيْخَهُ مُنْقَطِعًا كَقَوْلِ التَّابِعِيِّ قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَقَوْلِ تَابِعِ التَّابِعِيِّ قال الصَّحَابِيُّ وَسَمَّى ذِكْرَهُ على الْإِجْمَالِ مُرْسَلًا مِثْلُ قَوْلِ التَّابِعِيِّ سَمِعْت رَجُلًا يقول قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال وفي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ إشَارَةٌ إلَى هذا وَلَيْسَ فيه فَرْقٌ مَعْنَوِيٌّ وَإِنَّمَا هو اصْطِلَاحٌ وَنَازَعَهُ الْمَازِرِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عن ابْنِ فُورَكٍ بِأَنَّ الذي في كِتَابِهِ أَنَّ الْمُرْسَلَ قَوْلُ التَّابِعِيِّ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال كَذَا وَكَذَا انْتَهَى فذكر أَنَّ حَقِيقَتَهُ ما حُذِفَ فيه اسْمُ الرَّاوِي ولم يَذْكُرْهُ لَا مُعَيَّنًا وَلَا مُجْمَلًا لَكِنَّ الْإِمَامَ ثِقَةٌ فِيمَا يَنْقُلُ فَلَعَلَّ الْمَازِرِيَّ سَقَطَ من نُسْخَتِهِ ذلك وقد وَافَقَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ على هذا النَّقْلِ ولم يُنْكِرْهُ وقال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ الْمُرْسَلُ رِوَايَةُ التَّابِعِيِّ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أو يَرْوِي
____________________
(3/457)
رَجُلٌ عَمَّنْ لم يَرَهُ ولم يَكُنْ في زَمَانِهِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ هو رِوَايَةُ التَّابِعِيِّ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أو تَابِعِ التَّابِعِيِّ عن الصَّحَابِيِّ فَأَمَّا إذَا قال تَابِعُ التَّابِعِيِّ أو وَاحِدٌ مِنَّا قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَلَا يُفِيدُ شيئا وَلَا يَقَعُ بِهِ تَرْجِيحٌ فَضْلًا عن الِاحْتِجَاجِ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ بَرْهَانٍ ا هـ وَقِيلَ الْمُرْسَلُ ما رَفَعَهُ التَّابِعِيُّ الْكَبِيرُ وَمَرَاسِيلُ صِغَارِهِمْ تُسَمَّى مُنْقَطِعَةً حَكَاهُ ابن عبد الْبَرِّ عن قَوْمٍ وَقِيلَ ما سَقَطَ رَاوٍ من إسْنَادِهِ فَأَكْثَرَ من أَيِّ مَوْضِعٍ كان فَعَلَى هذا الْمُرْسَلُ وَالْمُنْقَطِعُ وَاحِدٌ وقال ابن الْقَطَّانِ رِوَايَتُهُ عَمَّنْ لم يَسْمَعْ منه فَعَلَى هذا من رَوَى عَمَّنْ سمع منه ما لم يَسْمَعْ منه بَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَاسِطَةٌ ليس بِإِرْسَالٍ بَلْ تَدْلِيسٌ إذَا عَلِمْت هذا فَلَا خِلَافَ في جَوَازِ إرْسَالِ الحديث كَقَوْلِ مَالِكٍ بَلَغَنِي عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَقَوْلِ الْوَاحِدِ قال مَالِكٌ قال الشَّافِعِيُّ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إذَا وَقَعَ هل يَلْزَمُ قَبُولُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ حُكْمُ الْعَمَلِ بِالْمُرْسَلِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى ضَعْفِهِ وَسُقُوطِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ وَنَقَلَهُ مُسْلِمٌ في صَدْرِ صَحِيحِهِ عن قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ لِاحْتِمَالِ سَمَاعِهِ من بَعْضِ التَّابِعِينَ أو مِمَّنْ لَا يُوثَقُ بِصُحْبَتِهِ وقال بِقَبُولِهِ مَالِكٌ وأبو حَنِيفَةَ وَكَذَا أَحْمَدُ في أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عنه وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ منهم أبو هَاشِمٍ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ ثُمَّ غَالَ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِكَوْنِهِ حُجَّةً فَزَعَمَ أَنَّهُ أَقْوَى من الْمُسْنَدِ لِثِقَةِ التَّابِعِيِّ بِصِحَّتِهِ في إرْسَالِهِ وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْوَاضِحِ عن أبي يُوسُفَ وَغَالَ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ فَأَنْكَرَ مُرْسَلَ الصَّحَابَةِ إذَا احْتَمَلَ سَمَاعَهُ من تَابِعِيٍّ قال الْآمِدِيُّ وَفَصَّلَ عِيسَى بن أَبَانَ فَقَبِلَ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ وَمَنْ هو من أَئِمَّةِ النَّقْلِ مُطْلَقًا دُونَ من سِوَاهُمْ وَكَذَا نَقَلَهُ عنه أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ وَالسَّرَخْسِيُّ في عُيُونِ الْمَسَائِلِ وقال إنَّمَا يَعْنِي بِهِ إذَا حَمَلَ الناس عنه الْعِلْمَ وَجَبَ قَبُولُ مُرْسَلِهِ وقال بَعْضُهُمْ أَرَادَ ابن أَبَانَ بِحَمْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَبُولَهُمْ منه لَا على السَّمَاعِ قال وَمَنْ حَمَلَ الناس عنه الحديث الْمُسْنَدَ ولم يَحْمِلُوا عنه الْمُرْسَلَ فَمُرْسَلُهُ مَوْقُوفٌ ا ه
____________________
(3/458)
وَهَذَا هو اخْتِيَارُ ابْنِ الْحَاجِبِ حَيْثُ قال إنْ كان من أَئِمَّةِ النَّقْلِ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا لنا أَنَّهُ لو قُبِلَ الْحَدِيثُ بِلَا إسْنَادٍ لَفَسَدَ الدِّينُ وَلِذَلِكَ قال ابن الْمُبَارَكِ لَوْلَا الْأَسَانِيدُ لَقَالَ من شَاءَ ما شَاءَ وَلِأَنَّ الرَّاوِيَ قد يُرْسِلُ عَمَّنْ هو مَقْبُولٌ عِنْدَهُ وَمَجْرُوحٌ عِنْدَ غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ من الْقَسْمِ أَلَا تَرَى أَنَّ التَّعْدِيلَ لِلْحَاكِمِ لَا إلَى غَيْرِهِ فَكُلُّ الْعَدَالَةِ إنَّمَا هِيَ على ما عِنْدَ الْمَرْوِيِّ له لَا على ما عِنْدَ الرَّاوِي لِأَنَّ مَذَاهِبَ الناس مُخْتَلِفَةٌ في الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ هذا أبو حَنِيفَةَ يقول ما رَأَيْت أَحَدًا أَكْذَبَ من جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ ما الْتَبَسَتْ عليه مَسْأَلَةٌ إلَّا قال حدثني وما رَأَيْت أَحَدًا أَصْدَقَ من عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَالْحَارِثِ الْأَعْوَرِ وَكَانَا عِنْدَ غَيْرِهِ من الضُّعَفَاءِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ لم يَقْبَلْ شَهَادَةَ شُهُودِ الْفَرْعِ من الْمَجَاهِيلِ إلَّا أَنْ يُعَيِّنُوا أَسَامِيَهُمْ فَيَبْحَثَ عن أَحْوَالِهِمْ فَإِنْ قِيلَ الشَّهَادَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالِاحْتِيَاطِ قُلْنَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْعَدَالَةِ سَوَاءٌ وَأَمَّا كَلَامُ الْمُحَدِّثِينَ فقال ابن عبد الْبَرِّ لَا خِلَافَ في أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْمُرْسَلِ إذَا كان مُرْسِلُهُ غير مُحْتَرِزٍ يُرْسِلُ عن غَيْرِ الثِّقَاتِ قال وَهَذَا الِاسْمُ وَاقِعٌ بِالْإِجْمَاعِ على حديث التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مِثْلُ أَنْ يَقُولَ عُبَيْدُ اللَّهِ بن عَدِيِّ بن الْخِيَارِ وأبو أُمَامَةَ بن سَهْلِ بن حُنَيْفٍ أو عبد اللَّهِ بن عَامِرِ بن رَبِيعَةَ وَمَنْ كان مِثْلَهُمْ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَكَذَلِكَ من دُونَ هَؤُلَاءِ كَسَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ وَسَالِمِ بن عبد اللَّهِ وَأَبِي سَلَمَةَ بن عبد الرحمن وَالْقَاسِمِ بن مُحَمَّدٍ وَمَنْ كان مِثْلَهُمْ وَكَذَلِكَ عَلْقَمَةُ وَمَسْرُوقُ بن الْأَجْدَعِ وَالْحَسَنُ وابن سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ وَسَعِيدُ بن جُبَيْرٍ وَمَنْ كان مِثْلَهُمْ الَّذِينَ صَحَّ لهم لِقَاءُ جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ وَمُجَالَسَتِهِمْ وَنَحْوُهُ مُرْسَلُ من هو دُونَهُمْ كَحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَأَبِي حَازِمٍ وَيَحْيَى بن سَعِيدٍ عن النَّبِيّ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَيُسَمَّى مُرْسَلًا كَمُرْسَلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ وقال آخَرُونَ حَدِيثُ هَؤُلَاءِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يُسَمَّى مُنْقَطِعًا لِأَنَّهُمْ لم يَلْقَوْا من الصَّحَابَةِ إلَّا الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ وَأَكْثَرُ رِوَايَتِهِمْ عن التَّابِعِينَ انْتَهَى وَهَذَا التَّمْثِيلُ في بَعْضِهِ مُنَاقَشَةٌ فإن ابْنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ ذُكِرَ أَنَّهُ من صِغَارِ التَّابِعِينَ وَمَعَ ذلك قد سمع من الصَّحَابَةِ أَنَسِ بن مَالِكٍ وَأَشْهَبِ بن سَعْدٍ وَالسَّائِبِ بن يَزِيدَ وَسُنَيْنٍ أَبَا جَمِيلَةَ وَعَبْدِ الرحمن بن أَزْهَرَ وَرَبِيعَةَ بن عِبَادٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَمَحْمُودِ بن الرَّبِيعِ وَعَبْدِ اللَّهِ بن ثَعْلَبَةَ بن صُعَيْرٍ بِضَمِّ الصَّادِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَأَبِي الطُّفَيْلِ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عَامِرِ بن رَبِيعَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدِ بن سَهْلِ بن حُنَيْفٍ بِضَمِّ الْحَاءِ وَرَجُلًا من بَلِيٍّ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ
____________________
(3/459)
اللَّامِ وَكُلُّهُمْ صَحَابَةٌ وَاخْتَلَفُوا في سَمَاعِهِ من ابْنِ عُمَرَ فَأَثْبَتَهُ عَلِيُّ بن الْمَدِينِيِّ وَنَفَاهُ الْجُمْهُورُ وَأَمَّا قَتَادَةُ فَسَمِعَ أَنَسًا وَعَبْدَ اللَّهِ بن سَرْجِسَ وَأَبَا الطُّفَيْلِ وَهُمْ صَحَابَةٌ وَأَمَّا يحيى بن سَعِيدٍ فَسَمِعَ أَنَسًا وَالسَّائِبَ بن يَزِيدَ وَعَبْدَ اللَّهِ بن عَامِرٍ وَرَبِيعَةَ وَأَبَا أُمَامَةَ أَسْعَدَ بن سَهْلِ بن حُنَيْفٍ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ أَنَّهُمْ لم يَلْقَوْا من الصَّحَابَةِ إلَّا الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ وَتَمْثِيلُ أبي عَمْرٍو أَوَّلًا بِأَبِي أُمَامَةَ بن سَهْلٍ وَبِعَبْدِ اللَّهِ بن عَامِرٍ وَأَنَّهُمْ من كِبَارِ التَّابِعِينَ لَا يُتَّجَهُ لِمَا صَرَّحُوا بِهِ من كَوْنِهِمَا من الصَّحَابَةِ كما نَقَلْنَاهُ إلَّا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن عَامِرٍ مَاتَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَهُ أَرْبَعُ سِنِينَ أو خَمْسٌ وَلِهَذَا ما أَخْرَجَا حَدِيثَهُ في الصَّحِيحَيْنِ إنَّمَا رَوَيَا له عن أبيه عَامِرٍ وَعَنْ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ وَعَبْدِ الرحمن بن عَوْفٍ وَعَائِشَةَ وَرَوَى له أبو دَاوُد عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وأبو أُمَامَةَ وُلِدَ في حَيَاةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وهو سَمَّاهُ وَرَوَى له النَّسَائِيّ وابن مَاجَهْ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عن الصَّحَابَةِ وهو صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ وَكَذَا عبد اللَّهِ بن عَامِرٍ وَمَحْمُودُ بن الرَّبِيعِ وأبو الطُّفَيْلِ وَالسَّائِبُ بن يَزِيدَ فَجَعَلَ ابن عبد الْبَرِّ أَبَا أُمَامَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بن عَامِرٍ تَابِعِيِّينَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا من الصَّحَابَةِ قال أبو عُمَرَ وَأَصْلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ من أَصْحَابِهِ أَنَّ مُرْسَلَ الثِّقَةِ تَجِبُ بِهِ الْحُجَّةُ وَيَلْزَمُ بِهِ الْعَمَلُ كما تَجِبُ بِالْمُسْنَدِ سَوَاءٌ قال ما لم يَعْتَرِضْهُ الْعَمَلُ الظَّاهِرُ بِالْمَدِينَةِ وَالثَّانِي قال وَبِهِ قال طَائِفَةٌ من أَصْحَابِنَا مَرَاسِيلُ الثِّقَاتِ أَوْلَى وَاعْتَلُّوا بِأَنَّ من أَسْنَدَ لَك فَقَدْ أَحَالَك على الْبَحْثِ عن أَحْوَالِ من سَمَّاهُ لَك وَمَنْ أَرْسَلَ من الْأَئِمَّةِ حَدِيثًا مع عِلْمِهِ وَدِينِهِ وَثِقَتِهِ فَقَدْ قَطَعَ لَك بِصِحَّتِهِ قال وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ في الْحُجَّةِ لِأَنَّ السَّلَفَ فَعَلُوا الْأَمْرَيْنِ قال وَمِمَّنْ ذَهَبَ إلَيْهِ أبو الْفَرَجِ عُمَرُ بن مُحَمَّدٍ الْمَالِكِيُّ وأبو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ وهو قَوْلُ أبي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَزَعَمَ الطَّبَرِيِّ أَنَّ التَّابِعِينَ بِأَسْرِهِمْ أَجْمَعُوا على قَبُولِ الْمُرْسَلِ فإنه لم يَأْتِ عَنْهُمْ إنْكَارُهُ وَلَا عن أَحَدٍ من الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُمْ إلَى رَأْسِ الْمِائَتَيْنِ كَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَوَّلَ من أَبَى قَبُولَ الْمُرْسَلِ وَلَيْسَ كما زَعَمَ فَلَا إجْمَاعَ سَابِقٌ فَفِي مُقَدَّمَةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ عن عبد اللَّهِ بن
____________________
(3/460)
عَبَّاسٍ أَنَّهُ لم يَقْبَلْ مُرْسَلَ بَعْضِ التَّابِعِينَ وكان من الثِّقَاتِ الْمُحْتَجِّ بِهِمْ في الصَّحِيحَيْنِ وَفِيهِ أَيْضًا عن ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قال كَانُوا لَا يَسْأَلُونَ عن الْإِسْنَادِ فلما وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ قالوا سَمُّوا لنا رِجَالَكُمْ فَنَنْظُرُ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَنَأْخُذُ عَنْهُمْ وَإِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا نَأْخُذُ عَنْهُمْ وَنَقَلَ الْحَافِظُ أبو عبد اللَّهِ الْحَاكِمُ أَنَّ الْمُرْسَلَ ليس بِحُجَّةٍ عن إمَامِ التَّابِعِينَ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ وَمَالِكِ بن أَنَسٍ وَجَمَاعَةٍ من أَهْلِ الحديث وَنَقَلَهُ غَيْرُهُ عن الزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَصَحَّ ذلك عن عبد اللَّهِ بن الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ حُجَّةٌ يُعْمَلُ بِهِ وَلَكِنْ دُونَ الْمُسْنَدِ كَالشُّهُودِ يَتَفَاوَتُونَ في الْفَضْلِ وَالْمَعْرِفَةِ وَإِنْ اشْتَرَكَا في الْعَدَالَةِ قال وهو قَوْلُ أبي عبد اللَّهِ مُحَمَّدٍ بن أَحْمَدَ بن إِسْحَاقَ بن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ الْمَالِكِيِّ الْبَصْرِيِّ وَالرَّابِعُ أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ بَلْ هو مَرْدُودٌ وَنَقَلَهُ عن سَائِرِ أَهْلِ الْفِقْهِ وَجَمَاعَةٍ من أَصْحَابِ الحديث في كل الْأَمْصَارِ لِلْإِجْمَاعِ على الْحَاجَةِ إلَى عَدَالَةِ الْمُخْبِرِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ من عِلْمِ ذلك قال ابن عبد الْبَرِّ ثُمَّ إنِّي تَأَمَّلْت كُتُبَ الْمُنَاظِرِينَ من أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فلم أَرَ أَحَدًا منهم من خَصَمَهُ إذَا احْتَجَّ عليه بِمُرْسَلٍ وَلَا يَقْبَلُ منه في ذلك خَبَرًا مَقْطُوعًا وَكُلُّهُمْ عِنْدَ تَحْصِيلِ الْمُنَاظَرَةِ يُطَالِبُ خَصْمَهُ بِالِاتِّصَالِ في الْأَخْبَارِ قال وَسَبَبُ ذلك أَنَّ التَّنَازُعَ إنَّمَا يَكُونُ بين من لَا يَقْبَلُ الْمُرْسَلَ وَبَيْنَ من يَقْبَلُهُ فَإِنْ احْتَجَّ بِهِ من يَقْبَلُهُ على من لَا يَقْبَلُهُ يقول له فَأْتِ بِحُجَّةٍ غَيْرِهِ وَإِنْ احْتَجَّ بِهِ من لَا يَقْبَلُهُ على من يَقْبَلُهُ قال له كَيْفَ تَحْتَجُّ عَلَيَّ بِمَا ليس حُجَّةً عِنْدَك وَنَحْوُ هذا ولم نُشَاهِدْ نَحْنُ مُنَاظَرَةً بين مَالِكِيٍّ يَقْبَلُهُ وَبَيْنَ حَنَفِيٍّ يَذْهَبُ في ذلك مَذْهَبَهُ وَيَلْزَمُ على أَصْلِ مَذْهَبِهِمَا في ذلك قَبُولُ كل وَاحِدٍ خَبَرَ صَاحِبِهِ الْمُرْسَلَ إذَا أَرْسَلَهُ ثِقَةٌ عَدْلٌ ما لم يَعْتَرِضْهُ من الْأُصُولِ ما يَدْفَعُهُ قال وَأَمَّا الْإِرْسَالُ مِمَّنْ عُرِفَ بِالْأَخْذِ من الضُّعَفَاءِ وَالْمُسَامَحَةِ في ذلك فَلَا يَحْتَجُّ بِهِ تَابِعِيًّا كان أو من دُونَهُ وَكُلُّ من عُرِفَ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ إلَّا عن ثِقَةٍ فَتَدْلِيسُهُ وَمُرْسَلُهُ مَقْبُولٌ ا هـ قُلْت وَعَلَى هذا لو لم نَعْلَمْ هل يَأْخُذُ عن ثِقَةٍ أو لَا تَوَقَّفْنَا فيه وَلَا نَقْبَلُهُ لِلْجَهْلِ بِحَالِ شَيْخِهِ فَمَرَاسِيلُ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ وَمُحَمَّدِ بن سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عِنْدَهُمْ صِحَاحٌ وَقَالُوا مَرَاسِيلُ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ لَا يُحْتَجُّ بها لِأَنَّهُمَا كَانَا يَأْخُذَانِ
____________________
(3/461)
عن كل أَحَدٍ وَكَذَا مَرَاسِيلُ أبي قِلَابَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ هذا حَاصِلُ كَلَامِ ابْنِ عبد اللَّهِ وقال أبو بَكْرٍ الْخَطِيبُ لَا خِلَافَ بين أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ إرْسَالَ الحديث الذي ليس بِتَدْلِيسٍ هو رِوَايَةُ الرَّاوِي عَمَّنْ لم يُعَاصِرْهُ أو لم يَلْقَهُ كَرِوَايَةِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةَ بن الزُّبَيْرِ وَمُحَمَّدِ بن الْمُنْكَدِرِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ من التَّابِعِينَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَبِمَثَابَتِهِ في غَيْرِ التَّابِعِينَ كَمَالِكٍ وَالْقَاسِمِ بن مُحَمَّدٍ وَكَذَا حُكْمُ من أَرْسَلَ حَدِيثًا عن شَيْخٍ لَقِيَهُ ولم يَسْمَعْ ذلك الحديث منه وَسَمِعَ ما عَدَاهُ ثُمَّ قِيلَ هو مَقْبُولٌ إذَا كان الْمُرْسِلُ ثِقَةً عَدْلًا وهو قَوْلُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهِمْ وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ من نُقَّادِ الْأَثَرِ مُرْسَلُ الصَّحَابِيِّ وَاخْتَلَفَ مُسْقِطُو الْعَمَلِ بِالْمُرْسَلِ في قَبُولِ رِوَايَةِ الصَّحَابِيِّ خَبَرًا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لم يَسْمَعْهُ منه كَقَوْلِ أَنَسٍ ذُكِرَ لي أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال لِمُعَاذٍ من لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شيئا دخل الْجَنَّةَ الحديث قال بَعْضُهُمْ لَا تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ الصَّحَابِيِّ لَا لِلشَّكِّ في عَدَالَتِهِ وَلَكِنْ لِأَنَّهُ قد يَرْوِي الرَّاوِي عن تَابِعِيٍّ وَعَنْ أَعْرَابِيٍّ لَا يَعْرِفُ صُحْبَتَهُ وَلَوْ قال لَا أَرْوِي لَكُمْ إلَّا من سَمَاعِي أو من صَحَابِيٍّ وَجَبَ عَلَيْنَا قَبُولُ مُرْسَلِهِ وقال آخَرُونَ مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ مَقْبُولَةٌ لِكَوْنِ جَمِيعِهِمْ عُدُولًا وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ فِيمَا أَرْسَلُوهُ أَنَّهُمْ سَمِعُوهُ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أو من صَحَابِيٍّ سمع من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَمَّا ما رَوَوْهُ عن التَّابِعِينَ فَقَدْ بَيَّنُوهُ وهو أَيْضًا قَلِيلٌ نَادِرٌ لَا اعْتِبَارَ بِهِ قال وَهَذَا هو الْأَشْبَهُ بِالصَّوَابِ قال وَمَنْ قَبِلَ الْمُرْسَلَ اخْتَلَفُوا فيه فَمِنْهُمْ من قَدَّمَ ما أَرْسَلَهُ الْأَئِمَّةُ من الصَّحَابِيِّ وَإِنَّمَا يُرَدُّ من بَعْدَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا في دَرَجَتِهِمْ وَمِنْهُمْ من يَعْمَلُ بِمَرَاسِيلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ دُونَ من قَصُرَ عَنْهُمْ وَمِنْهُمْ من يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ جَمِيعِ التَّابِعِينَ إذَا اسْتَوَوْا في الْعَدَالَةِ وَمِنْهُمْ من يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ من عُرِفَ فيه النَّظَرُ في أَحْوَالِ شُيُوخِهِ وَالتَّحَرِّي في الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ دُونَ من لم يُعْرَفْ عنه ذلك
____________________
(3/462)
قال الْخَطِيبُ وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ سُقُوطُ فَرْضِ اللَّهِ بِالْمُرْسَلِ لِجَهَالَةِ رُوَاتِهِ وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ الْخَبَرِ إلَّا مِمَّنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ وَلَوْ قال الْمُرْسِلُ حدثني الْعَدْلُ الثِّقَةُ عِنْدِي بِكَذَا لم يُقْبَلْ حتى يَذْكُرُوا اسْمَهُ ا هـ الْمَذَاهِبُ في قَبُولِ رِوَايَةِ الْمُرْسَلِ وَيَخْرُجُ من كَلَامِهِ وَكَلَامِ ابْنِ عبد الْبَرِّ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا وَقَفْت عليه في الْمُرْسَلِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَذْهَبًا أَحَدُهَا عَدَمُ قَبُولِ رِوَايَةِ مُرْسَلِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مُطْلَقًا وَقَبُولُ مُرْسَلِ الصَّحَابِيِّ قال أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ وهو قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَحَكَى الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ عنه أَنَّهُ قال إذَا قال الصَّحَابِيُّ قال النبي كَذَا قُبِلَ إلَّا إنْ عُلِمَ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ وَالثَّانِي قَبُولُهُ من الْعَدْلِ مُطْلَقًا وهو مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّالِثُ تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ الصَّحَابِيِّ فَقَطْ حَكَاهُ عبد الْجَبَّارِ في شَرْحِ الْعُدَّةِ وقال إنَّهُ الصَّحِيحُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قال وَأَمَّا مَرَاسِيلُ التَّابِعِينَ فَلَا تُقْبَلُ إلَّا بِالشُّرُوطِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُ وَالرَّابِعُ لَا تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ أَيْضًا وَحُكِيَ عن الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وَحَكَاهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وابن الْقُشَيْرِيّ وَأَغْرَبَ ابن بَرْهَانٍ فقال في كِتَابِ الْأَوْسَطِ إنَّهُ الْأَصَحُّ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ إنَّهُ الظَّاهِرُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَنَقَلَهُ ابن بَطَّالٍ في شَرْحِ الْبُخَارِيِّ تَصْرِيحًا عن الشَّافِعِيِّ وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَالْخَامِسُ تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَمَنْ هو أَئِمَّةُ النَّقْلِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَالسَّادِسُ لَا تُقْبَلُ إلَّا إنْ اُعْتُضِدَ بِأَمْرٍ خَارِجٍ بِأَنْ يُرْسِلَهُ صَحَابِيٌّ آخَرُ أو يُسْنِدَهُ عَمَّنْ يُرْسِلُهُ أو يُرْسِلَهُ رَاوٍ آخَرُ يَرْوِي عن غَيْرِ شُيُوخِ الْأَوَّلِ أو عَضَّدَهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ أو فِعْلُهُ أو قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أو الْقِيَاسُ أو عُرِفَ من حَالِ الْمُرْسِلِ أَنَّهُ
____________________
(3/463)
لَا يَرْوِي عن غَيْرِ عَدْلٍ فَهُوَ حُجَّةٌ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ وَوَافَقَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَلَا فَرْقَ بين سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ وَغَيْرِهِ السَّابِعُ تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ كِبَارِ التَّابِعِينَ دُونَ من صَغُرَ عَنْهُمْ وَالثَّامِنُ أَنَّ الصَّحَابِيَّ وَالتَّابِعِيَّ إذَا عُرِفَ بِصَرِيحِ خَبَرِهِ أو عَادَتُهُ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عن صَحَابِيٍّ قُبِلَ مُرْسَلُهُ وَإِنْ لم يُعْرَفْ بِذَلِكَ فَلَا يُقْبَلُ وَاخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ على قَبُولِ رَدِّ الْمُرْسَلِ وَالتَّاسِعُ تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ من عُرِفَ منه النَّظَرُ في أَحْوَالِ شُيُوخِهِ وَالتَّحَرِّي في الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ دُونَ من لم يُعْرَفْ بِذَلِكَ وَالْعَاشِرُ يُقْبَلُ مُرْسَلُ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ دُونَ غَيْرِهِ وَالْحَادِيَ عَشَرَ من الْقَائِلِينَ بِقَبُولِهِ يُقَدَّمُ ما أَرْسَلَهُ الْأَئِمَّةُ من الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ على من ليس في دَرَجَتِهِمْ حَكَاهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَالثَّانِيَ عَشَرَ منهم من أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِأَنَّ مَرَاسِيلَ الثِّقَاتِ أَوْلَى من الْمُسْنَدَاتِ ولم يُقَيِّدْهُ بِشَيْءٍ وَمِنْهُمْ من قال مُرْسَلُ الْإِمَامِ أَوْلَى من مُسْنَدِهِ وَالثَّالِثَ عَشَرَ منهم من يقول ليس الْمُرْسَلُ أَوْلَى من الْمُسْنَدِ بَلْ هُمَا سَوَاءٌ في وُجُوبِ الْحُجَّةِ وَالِاسْتِعْمَالِ وَالرَّابِعَ عَشَرَ منهم من يقول لِلْمُسْنَدِ مَزِيَّةُ فَضْلٍ لِوَضْعِ الِاتِّفَاقِ وَإِنْ كان الْمُرْسَلُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ الْخَامِسَ عَشَرَ منهم من يُفَرِّقُ فَيَقْبَلُ مَرَاسِيلَ بَعْضِ التَّابِعِينَ دُونَ بَعْضٍ قال أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ أَصَحُّ الْمَرَاسِيلِ مَرَاسِيلُ سَعِيدٍ وقال الشَّافِعِيُّ إرْسَالُ سَعِيدٍ عِنْدَنَا حَسَنٌ السَّادِسَ عَشَرَ من الْمُنْكَرِينَ لِلْمُرْسَلِ من يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لِأَنَّهُمْ يَرْوُونَ عن الصَّحَابَةِ السَّابِعَ عَشَرَ كان أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ يَخْتَارُ الْأَحَادِيثَ الْمَوْقُوفَةَ على الصَّحَابَةِ على الْمُرْسَلَاتِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الثَّامِنَ عَشَرَ لَا يُقْبَلُ الْمُرْسَلُ إلَّا في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنْ يُعَضِّدَهُ إجْمَاعٌ فَيُسْتَغْنَى بِذَلِكَ عن الْمُسْنَدِ قَالَهُ ابن حَزْمٍ في كِتَابِ الْإِحْكَامِ هذا حَاصِلُ ما قِيلَ وفي بَعْضِهَا تَدَاخُلٌ وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرْسِلَ إذَا كان غير ثِقَةٍ لَا يُقْبَلُ إرْسَالُهُ فَإِنْ كان ثِقَةً وَعُرِفَ
____________________
(3/464)
أَنَّهُ يَأْخُذُ عن الضُّعَفَاءِ فَلَا يُحْتَجُّ بِمَا أَرْسَلَهُ سَوَاءٌ التَّابِعِيُّ وَغَيْرُهُ وَكَذَا من عُرِفَ بِالتَّدْلِيسِ الْمُجْمَعِ عليه حتى يُصَرِّحَ بِالتَّحْدِيثِ وَإِنْ كان لَا يَرْوِي إلَّا عن ثِقَةٍ فَمُرْسَلُهُ وَتَدْلِيسُهُ هل يُقْبَلُ فيه الْخِلَافُ وقد تَقَدَّمَ من كَلَامِ ابْنِ عبد الْبَرِّ وهو من الْمَالِكِيَّةِ تَخْصِيصُ مَحَلِّ الْخِلَافِ بِغَيْرِ ذلك وَكَذَلِكَ قال أبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ منهم الْمُرْسَلُ عِنْدَنَا إنَّمَا يُحْتَجُّ بِهِ إذَا كان من عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا عن ثِقَةٍ وَكَذَا قال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ من الْحَنَفِيَّةِ من عَلِمْنَا من حَالِهِ أَنَّهُ يُرْسِلُ الحديث عَمَّنْ لَا يَوْثُقُ بِرِوَايَتِهِ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الحديث عنه فَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِيمَنْ لَا يُرْسِلُ إلَّا عن الثِّقَاتِ وقال الْقُرْطُبِيُّ لِيُعْلَمَ أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ إنَّمَا هو فِيمَا إذَا كان الْمُرْسِلُ ثِقَةً مُتَحَرِّزًا بِحَيْثُ لَا يَأْخُذُ عن غَيْرِ الْعُدُولِ قال وَيَلْزَمُ الشَّافِعِيَّ وَالْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ الْقَوْلُ بِالْمُرْسَلِ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُمَا قَبِلَا التَّعْدِيلَ بِالْمُطْلَقِ وَالْمُرْسِلُ إذَا عُلِمَ من حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عن عَدْلٍ قُبِلَ منه كما لو صَرَّحَ بِاسْمِهِ ا هـ وَعَلَى هذا فَيَرْتَفِعُ النِّزَاعُ في الْمَسْأَلَةِ وَبِهِ صَرَّحَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فقال إذَا تَبَيَّنَ من حَالِ الْمُرْسِلِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عن صَحَابِيٍّ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أو عن رَجُلٍ تَتَّفِقُ الْمَذَاهِبُ على تَعْدِيلِهِ صَارَ حُجَّةً وَادَّعَى أَنَّ ذلك مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ثُمَّ قال وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فيها خِلَافٌ فإن أَحَدًا لَا يُوجِبُ التَّقْلِيدَ وَلَا يُنْكِرُ اخْتِلَافَ الْمَذَاهِبِ في التَّعْدِيلِ وَالشَّافِعِيُّ يقول أخبرني الثِّقَةُ فإنه لَا يَلْزَمُ غير أَهْلِ مَذْهَبِهِ قَبُولُهُ وَإِنَّمَا قال الْأَصْحَابُ مَذْهَبُهُ وَقَوْلُهُ حُجَّةٌ عليهم وَمَذْهَبُهُ في التَّعْدِيلِ مَذْهَبُهُمْ ا هـ وقال شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ لَا خِلَافَ أَنَّ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ فَأَمَّا مَرَاسِيلُ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَحُجَّةٌ في قَوْلِ عُلَمَائِنَا وقال الشَّافِعِيُّ لَا تَكُونُ حُجَّةً إلَّا بِشُرُوطٍ ثُمَّ قال فَأَمَّا مَرَاسِيلُ من بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ فَكَانَ الْكَرْخِيّ لَا يُفَرِّقُ بين مَرَاسِيلِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ وكان عِيسَى بن أَبَانَ يقول من اُشْتُهِرَ في الناس بِحَمْلِ الْعِلْمِ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ مُرْسِلًا وَمُسْنِدًا وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ مُحَمَّدَ بن الْحَسَنِ وَأَمْثَالَهُ من الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ وَمَنْ لم يَشْتَهِرْ يَحْمِلُ الناس الْعِلْمَ عنه مُطْلَقًا وَإِنَّمَا اُشْتُهِرَ بِالرِّوَايَةِ عنه فإن مُسْنَدَهُ يَكُونُ حُجَّةً وَمُرْسَلُهُ يَكُونُ مَوْقُوفًا إلَى أَنْ يُعْرَضَ على من اُشْتُهِرَ بِحَمْلِ الْعِلْمِ عنه ثُمَّ قال وَأَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ في هذا ما قَالَهُ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ أَنَّ مُرْسَلَ من كان من
____________________
(3/465)
الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ ليس حُجَّةً إلَّا من اُشْتُهِرَ وقال عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ قَبُولُ الْمَرَاسِيلِ مُطْلَقًا إذَا كان الْمُرْسِلُ عَدْلًا يَقِظًا وَكَذَا حَكَاهُ عنه أبو الْفَرَجِ فَأَمَّا الْبَغْدَادِيُّونَ من أَصْحَابِنَا كَالْقَاضِي إسْمَاعِيلَ وَالشَّيْخِ أبي بَكْرٍ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ لم يُصَرِّحُوا بِالْمَنْعِ فإن كُتُبَهُمْ تَقْتَضِي مَنْعَ الْقَوْلِ بِهِ لَكِنَّ مَذْهَبَ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ فَصْلٌ تَحْرِيرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ في الْعَمَلِ بِالْمُرْسَلِ وَأَمَّا تَحْرِيرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فإن النَّقْلَ قد اضْطَرَبَ عنه فَنَقَلَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ عنه أَنَّهُ لَا يَرَى الْعَمَلَ بِالْمَرَاسِيلِ إلَّا عِنْدَ شَرِيطَةِ أَنْ يُسْنِدَهُ عَمَّنْ أَرْسَلَهُ أو يَعْمَلَ بِهِ صَاحِبُهُ أو الْعَامَّةُ أو أَنَّ الْمُرْسِلَ لَا يُرْسِلُ إلَّا عن ثِقَةٍ وَلِهَذَا اسْتَحْسَنَ مَرَاسِيلَ سَعِيدٍ وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ الْمُرْسَلَ مُطْلَقًا وَلَكِنْ يَتَطَلَّبُ فيه مَزِيدَ تَأْكِيدٍ لِيَحْصُلَ غَلَبَةُ الظَّنِّ في الثِّقَةِ وَاسْتُنْبِطَ هذا من مَذْهَبِهِ في قَبُولِ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ وَاسْتِحْسَانِهِ مَرَاسِيلَ الْحَسَنِ وَهَذَا ما اخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَرَأَى أَنَّ الرَّاوِيَ الْمَوْثُوقَ بِهِ الْعَالِمَ بِالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ إذَا قال حدثني من أَثِقُ بِهِ وَأَرْضَاهُ يُوجِبُ الثِّقَةَ بِحَدِيثِهِ وَإِنْ قال حدثني رَجُلٌ تَوَقَّفَ عنه وَكَذَلِكَ إذَا قال الْإِمَامُ الرَّاوِي قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَهَذَا بَالِغٌ في ثِقَةِ من رَوَى له قال وقد عَثَرْت في كَلَامِ الشَّافِعِيِّ على أَنَّهُ إذَا لم يَجِدْ إلَّا الْمُرْسَلَ مع الْإِقْرَارِ بِالتَّعْدِيلِ على الْإِجْمَالِ فإنه يُعْمَلُ بِهِ فَكَانَ إضْرَابُهُ عن الْمُرْسَلِ في حُكْمِ تَقْدِيمِ الْمَسَانِيدِ عليها ا هـ وَهَذَا الذي حَكَاهُ الْإِمَامُ عن الشَّافِعِيِّ غَرِيبٌ وهو شَيْءٌ ضَعِيفٌ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا وقد تَنَاهَى ابن السَّمْعَانِيِّ في الرَّدِّ عليه وقال هذا عِنْدِي خِلَافُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وقد أَجْمَعَ كُلُّ من نَقَلَ عنه هذه الْمَسْأَلَةَ من الْعِرَاقِيِّينَ وَالْخُرَاسَانِيِّينَ أَنَّ على أَصْلِهِ لَا يَكُونُ الْمُرْسَلُ حُجَّةً معه بِحَالٍ قال وأنا لَا أَعْجَبُ من أبي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ إنْ
____________________
(3/466)
كان يَنْصُرُ الْقَوْلَ بِالْمُرْسَلِ فإنه كان مَالِكِيَّ الْمَذْهَبِ وَمِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ قَبُولُ الْمَرَاسِيلِ ا هـ وَكَذَا قال ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ الْمُرْسَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِخَبَرِ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ في بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ فَقِيلَ لِأَنَّهُ عُرِفَ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا عن الصَّحَابَةِ وَقِيلَ إنَّ الْمُسْنَدَ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ لِقَوْلِهِ عَمَّا أَسْنَدَهُ غَيْرُهُ قال وَبِهَذَا قال أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ أبي حَاتِمٍ الرَّازِيَّ في قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ليس الْمُنْقَطِعُ بِشَيْءٍ ما عَدَا مُنْقَطِعَ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ قال أبو مُحَمَّدٍ يَعْنِي ما عَدَا مُنْقَطِعَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فإنه يَعْتَبِرُ بِهِ ا هـ فلم يَحْمِلْ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ على أَنَّهُ يَحْتَجُّ بِمُرْسَلِ سَعِيدٍ بَلْ على أَنَّهُ يَعْتَبِرُ بِهِ خَاصَّةً وَأَمَّا الْغَزَالِيُّ فَأَطْلَقَ في الْمُسْتَصْفَى أَنَّ الْمُرْسَلَ مَرْدُودٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي قال وهو الْمُخْتَارُ وقال في الْمَنْخُولِ الْمَرَاسِيلُ مَرْدُودَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إلَّا مَرَاسِيلَ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ وَالْمُرْسَلَ الذي عَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ ثُمَّ قال وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ ثَبَتَ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ قَبُولُ الْمَرَاسِيلِ فإنه قال في الْمُخْتَصَرِ أخبرني الثِّقَةُ وهو الْمُرْسَلُ بِعَيْنِهِ وقد أَوْرَدَهُ بِنَقْلٍ عنه وَيَعْتَقِدُهُ فَيَعْتَمِدُ مَذْهَبَهُ وَعَنْ هذا قَبِلَ مَرَاسِيلَ سَعِيدٍ قال الْقَاضِي وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ الْإِمَامَ الْعَدْلَ إذَا قال قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أو أخبرني الثِّقَةُ قُبِلَ فَأَمَّا الْفُقَهَاءُ وَالْمُتَوَسَّعُونَ في كَلَامِهِمْ فَقَدْ يَقُولُونَهُ لَا عن ثَبْتٍ فَلَا يُقْبَلُ منهم وَمَنْ قَبِلَ هذا قال هذا مَقْبُولٌ من الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ فَلَا يُقْبَلُ في زَمَانِنَا هذا وقد كَثُرَتْ الرِّوَايَةُ وَطَالَ الْبَحْثُ وَاتَّسَعَتْ الطُّرُقُ فَلَا بُدَّ من ذِكْرِ اسْمِ الرَّجُلِ قال الْغَزَالِيُّ وَالْأَمْرُ على ما ذَكَرَهُ الْقَاضِي إلَّا في هذا الْأَخِيرِ فَإِنَّا لو صَادَفْنَا في زَمَانِنَا مُتْقِنًا في نَقْلِ الْأَحَادِيثِ مِثْلَ مَالِكٍ قَبِلْنَا قَوْلَهُ قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَخْتَلِفُ ذلك بِالْأَعْصَارِ ا هـ وما حَكَاهُ عن الْقَاضِي غَرِيبٌ وَاَلَّذِي رَأَيْته في كِتَابِ التَّقْرِيبِ له التَّصْرِيحَ بِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْمُرْسَلَ مُطْلَقًا حتى مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ لَا لِأَجْلِ الشَّكِّ في عَدَالَتِهِمْ وَلَكِنْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ قد يَرْوُونَ عن تَابِعِيٍّ إلَّا أَنْ يُخْبِرَ عن نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أو عن صَحَابِيٍّ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْعَمَلُ بِمُرْسَلِهِ وَنُقِلَ مِثْلُ ذلك عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ رَدَّ
____________________
(3/467)
الْمَرَاسِيلَ وقال بها بِشُرُوطٍ أُخَرَ وقال في آخِرِ الشُّرُوطِ فَاسْتُحِبَّ قَبُولُهَا إذَا كانت كَذَلِكَ قال وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّ الْحُجَّةَ ثَبَتَتْ بها ثُبُوتَهَا بِالْمُتَّصِلِ فَنَصَّ بِذَلِكَ على أَنَّ قَبُولَهَا عِنْدَ تِلْكَ الشُّرُوطِ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ هذا لَفْظُهُ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ قَبِلَ الشَّافِعِيُّ مُرْسَلَ سَعِيدٍ دُونَ غَيْرِهِ ثُمَّ قال إذَا تَبَيَّنَ من حَالِ الْمُرْسِلِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عن صَحَابِيٍّ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أو عن رَجُلٍ تَتَّفِقُ الْمَذَاهِبُ على تَعْدِيلِهِ صَارَ حُجَّةً قال وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَقْبَلُ من الْمَرَاسِيلِ ما أَرْسَلَهُ كُلُّ مُعْتَبَرٍ من الْأَئِمَّةِ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِمَا قُلْنَاهُ انْتَهَى وقال ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمَرَاسِيلَ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بها إلَّا مَرَاسِيلَ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ وَمَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ وما انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ على الْعَمَلِ بِهِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُرْسَلَ بِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةً وقد يَنْضَمُّ إلَيْهِ ما يَكُونُ حُجَّةً على ما سَنُبَيِّنُ ثُمَّ قال وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إنَّمَا رَدَّ الْمُرْسَلَ لِدُخُولِ التُّهْمَةِ فيه فَإِنْ اقْتَرَنَ بِهِ ما يُزِيلُ التُّهْمَةَ فإنه يُقْبَلُ وَذَلِكَ بِأَنْ يُوَافِقَ مُرْسَلُهُ مُسْنَدَ غَيْرِهِ أو تَتَلَقَّاهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ أو انْتَشَرَ ولم يَظْهَرْ له نَكِيرٌ قال بَعْضُهُمْ وَكَذَلِكَ إذَا اُشْتُرِطَ في إرْسَالِهِ عَدْلَانِ فَأَكْثَرُ فَيَقْوَى بِهِ حَالُ الْمُرْسَلِ أو يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ قال وَعِنْدِي أَنَّ الْمُرَجَّحَ إنَّمَا هو في مُسْنَدٍ آخَرَ أو تَلَقِّي الْأُمَّةِ له بِالْقَبُولِ أو اشْتِهَارِهِ من غَيْرِ نَكِيرٍ وما عَدَا ذلك فَلَا يَدُلُّ على قَبُولِ الْمُرْسَلِ انْتَهَى وقال صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ حُكِيَ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ خَصَّ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ بِالْقَبُولِ وَحُكِيَ عنه أَيْضًا أَنَّهُ قال إذَا قال الصَّحَابِيُّ قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كَذَا قَبِلَتْ إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ ا هـ وَلْنَذْكُرْ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ فإنه يُعْرَفُ منه مَذْهَبُهُ قال الْبَيْهَقِيُّ في الْمَدْخَلِ أخبرنا أبو عبد اللَّهِ الْحَافِظُ حدثنا أبو الْعَبَّاسِ محمد بن يَعْقُوبَ أَنْبَأَنَا الرَّبِيعُ بن سُلَيْمَانَ قال الشَّافِعِيُّ يَعْنِي في كِتَابِ الرِّسَالَةِ الْمُنْقَطِعُ يَخْتَلِفُ فَمَنْ شَاهَدَ أَصْحَابَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَرَوَى حَدِيثًا مُنْقَطِعًا عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم اُعْتُبِرَ عليه بِأُمُورٍ منها أَنْ يُنْظَرَ إلَى ما أَرْسَلَهُ من الحديث فَإِنْ شَرَكَهُ الْحُفَّاظُ الْمَأْمُونُونَ
____________________
(3/468)
فَأَسْنَدُوهُ إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِمِثْلِ مَعْنَى ما رَوَى كانت هذه دَلَالَةً وَاضِحَةً على صِحَّةِ من قَبِلَ عنه وَحَفِظَهُ وَإِنْ انْفَرَدَ بِهِ مُرْسَلًا لم يُشْرِكْهُ فيه من يُسْنِدُ قُبِلَ ما يَنْفَرِدُ بِهِ من ذلك وَيُعْتَبَرُ عليه بِأَنْ يُنْظَرَ هل يُوَافِقُهُ مُرْسَلٌ آخَرُ فَإِنْ وُجِدَ ذلك قَوِيَ وَهِيَ أَضْعَفُ من الْأُولَى وَإِنْ لم يُوجَدْ ذلك نَظَرَ إلَى بَعْضِ ما يُرْوَى عن بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَوْلًا له فَإِنْ وَجَدْنَا ما يُوَافِقُ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كانت شَاهِدَةَ دَلَالَةٍ على أَنَّهُ لم يَأْخُذْ مُرْسَلَهُ إلَّا عن أَصْلٍ يَصِحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ إنْ وُجِدَ عَوَامُّ من أَهْلِ الْعِلْمِ يُفْتُونَ بِمِثْلِ مَعْنَى ما رُوِيَ لم يُعْتَبَرْ عليه بِأَنْ يَكُونَ إذَا سَمَّى من رَوَى عنه لم يُسَمِّ مَجْهُولًا وَلَا وَاهِيًا فَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ على صِحَّتِهِ وَيَكُونُ إذَا شَرَكَ أَحَدًا من الْحُفَّاظِ في حَدِيثِهِ لم يُخَالِفْهُ وَوُجِدَ حَدِيثُهُ أَنْقَصَ كانت في هذه دَلَائِلُ على صِحَّةِ مَخْرَجِ حَدِيثِهِ وَمَتَى خَالَفَ ما وَصَفْت أَضَرَّ بِحَدِيثِهِ حتى لَا يَسَعَ أَحَدًا قَبُولُ مُرْسَلِهِ قال وإذا وُجِدَتْ الدَّلَائِلُ بِصِحَّةِ حَدِيثِهِ بِمَا وُصِفَ أَحْبَبْنَا أَنْ نَقْبَلَ مُرْسَلَهُ وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَزْعُمَ أَنَّ الْحُجَّةَ تَثْبُتُ بِهِ ثُبُوتَهَا بِالْمُتَّصِلِ وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْمُنْقَطِعِ مَغِيبٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حُمِلَ عَمَّنْ يُرْغَبُ في الرِّوَايَةِ عنه إذَا سُمِّيَ وَأَنَّ بَعْضَ الْمُنْقَطِعَاتِ وَإِنْ وَافَقَهُ مُرْسَلٌ مِثْلُهُ فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُخَرِّجُهُمَا وَاحِدًا من حَيْثُ لو سُمِّيَ لم يُقْبَلْ وَأَنَّ قَوْلَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ إذَا قال بِرَأْيِهِ لو وَافَقَهُ لم يَدُلَّ على صِحَّةِ مَخْرَجِ الحديث دَلَالَةً قَوِيَّةً إذَا نَظَرَ فيها وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا غَلَطَ بِهِ حين سمع قَوْلَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِمُوَافِقِهِ قال فَأَمَّا من بَعْدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ فَلَا أَعْلَمُ وَاحِدًا يَقْبَلُ مُرْسَلَهُ لِأُمُورٍ أَحَدُهَا أَنَّهُمْ أَشَدُّ تَجَوُّزًا مِمَّنْ يَرْوُونَ عنه وَالْآخَرُ أَنَّهُمْ لم يُوجَدْ عليهم الدَّلَائِلُ فِيمَا أَرْسَلُوا لِضَعْفِ مُخَرِّجِهِ وَالْآخَرُ كَثْرَةُ الْإِحَالَةِ في الْأَخْبَارِ وإذا كَثُرَتْ الْإِحَالَةُ كان أَمْكَنَ لِلْوَهْمِ وَضَعْفِ من يُقْبَلُ عنه انْتَهَى كَلَامُ الشَّافِعِيِّ وقد تَضَمَّنَ كَلَامُهُ رضي اللَّهُ عنه أُمُورًا أَحَدُهَا أَنَّ الْمُرْسَلَ إذَا أُسْنِدَ من وَجْهٍ آخَرَ دَلَّ على صِحَّةِ ذلك الْمُرْسَلِ وَعُلِمَ من كَلَامِ الشَّافِعِيِّ اشْتِرَاطُ صِحَّةِ ذلك الْمُسْنَدِ الثَّانِي أَنَّهُ إذَا لم يُسْنَدْ من وَجْهٍ آخَرَ نُظِرَ هل يُوَافِقُهُ مُرْسَلٌ آخَرُ
____________________
(3/469)
فَإِنْ وَافَقَهُ مُرْسَلٌ آخَرُ قَوِيٌّ لَكِنَّهُ يَكُونُ أَنْقَصَ دَرَجَةً من الْمُرْسَلِ الذي أُسْنِدَ من وَجْهٍ آخَرَ فَإِنْ قِيلَ على هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ إنْ كان الْوَجْهُ الْآخَرُ إسْنَادًا فَالْعَمَلُ حِينَئِذٍ على الْمُسْنَدِ وَإِنْ كان إرْسَالًا فَضَمُّ غَيْرِ مَقْبُولٍ إلَى غَيْرِ مَقْبُولٍ كَانْضِمَامِ الْمَاءِ النَّجِسِ إلَى مِثْلِهِ وَشَهَادَةِ الْفَاسِقِ مع مِثْلِهِ لَا يُفِيدُ الطَّهَارَةَ وَالْقَبُولَ وَهَذَا اعْتَرَضَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ على الشَّافِعِيِّ وَتَبِعُوهُ وهو مَرْدُودٌ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمُسْنَدِ فَقَطْ لِأَنَّ بِالْمُسْنَدِ يَتَبَيَّنُ صِحَّةُ إسْنَادِ الْإِرْسَالِ حتى تَحْكُمَ له مع إرْسَالِهِ بِأَنَّهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَأَيْضًا لو عَارَضَ الْمُسْنَدَ الذي دُونَ الْمُرْسَلِ مُسْنَدٌ آخَرُ يَتَرَجَّحُ صَاحِبُ الْمُرْسَلِ إذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ وَأَيْضًا فَالِاحْتِجَاجُ بِالْمُسْنَدِ إنَّمَا يَنْتَهِضُ إذَا كان بِنَفْسِهِ حُجَّةً وَلَعَلَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ هُنَا بِالْمُسْنَدِ ما لَا يَنْتَهِضُ بِنَفْسِهِ كما أَشَارَ إلَيْهِ الْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ وإذا ضُمَّ إلَى الْمُرْسَلِ قام بِهِ الْمُرْسَلُ وَصَارَ حُجَّةً وَهَذَا ليس عَمَلًا بِالْمُسْنَدِ بَلْ بِالْمُرْسَلِ لِزَوَالِ التُّهْمَةِ عنه وَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ قَبُولِهِ إذَا كان الْقَوِيُّ مُرْسَلًا لِجَوَازِ تَأْكِيدِ أَحَدِ الظَّنَّيْنِ بِالْآخَرِ الثَّالِثُ أَنَّهُ إذَا لم يُوَافِقْهُ مُرْسَلٌ آخَرُ لم يُسْنَدْ من وَجْهٍ آخَرَ وَلَكِنَّهُ وُجِدَ عن بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَوْلٌ له يُوَافِقُ هذا الْمُرْسَلَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم دَلَّ على أَنَّ له أَصْلًا وَلَا يُطْرَحُ وَلَا يُرَدُّ اعْتِرَاضُ الْقَاضِي بِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ عِنْدَهُ ليس بِحُجَّةٍ لِأَنَّ مُرَادَهُ التَّقْوِيَةُ بِهِ لَا الِاسْتِقْلَالُ الرَّابِعُ أَنَّهُ إذَا وُجِدَ جَمْعٌ من أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ بِمَا يُوَافِقُ هذا الْمُرْسَلَ دَلَّ على أَنَّ له أَصْلًا وَاعْتَرَضَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ بِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْأَكْثَرِ الْأُمَّةَ فَهُوَ إجْمَاعٌ وَالْحُجَّةُ حِينَئِذٍ فيه لَا في الْمُرْسَلِ وَإِنْ أَرَادَ بَعْضَ الْأُمَّةِ فَقَوْلُهَا ليس بِحُجَّةٍ وَالْجَوَابُ عنه أَنَّهُ أَرَادَ الثَّانِيَ وَلَا شَكَّ أَنَّ الظَّنَّ يَقْوَى عِنْدَهُ وَكَذَا قَوْلُ الصَّحَابِيِّ وإذا قَوِيَ الظَّنُّ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمُرْسَلِ فَمُجَرَّدُهُ ضَعِيفٌ وَكَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَالَةُ الِاجْتِمَاعِ قد يَقُومُ منها ظَنٌّ غَالِبٌ وَهَذَا شَأْنُ كل ضَعِيفَيْنِ اجْتَمَعَا الْخَامِسُ أَنَّهُ يُنْظَرُ في حَالِ الْمُرْسَلِ فَإِنْ كان إذَا سَمَّى شَيْخَهُ سَمَّى ثِقَةً لم يُحْتَجَّ بِمُرْسَلِهِ وَإِنْ كان إذَا سَمَّى لم يُسَمِّ إلَّا ثِقَةً ولم يُسَمِّ مَجْهُولًا وَلَا وَاهِيًا كان دَلِيلًا على صِحَّةِ الْمُرْسَلِ وقد تَقَدَّمَ أَنَّ هذا مَحَلُّ وِفَاقٍ لَكِنَّهُ دُونَ ما قَبْلَهُ السَّادِسُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى هذا الْمُرْسَلِ له فَإِنْ كان إذَا أَشْرَكَ غَيْرَهُ من الْحُفَّاظِ في حَدِيثٍ وَافَقَهُ فيه ولم يُخَالِفْهُ دَلَّ على حِفْظِهِ وَإِنْ خَالَفَهُ وَوُجِدَ حَدِيثُهُ أَنْقَصَ إمَّا في الْإِسْنَادِ أو الْمَتْنِ كان هذا دَلِيلًا على صِحَّةِ مَخْرَجِ حَدِيثِهِ وَأَنَّ له أَصْلًا فإن
____________________
(3/470)
هذا يَدُلُّ على حِفْظِهِ وَتَحَرِّيهِ بِخِلَافِ ما إذَا كانت مُخَالَفَتُهُ بِزِيَادَتِهِ فإن هذا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ وَالِاعْتِبَارَ وَهَذَا دَلِيلٌ من الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه على أَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ عِنْدَهُ لَيْسَتْ مَقْبُولَةً مُطْلَقًا كما يَظُنُّ جَمَاعَةٌ فإنه اعْتَبَرَ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ هذا الْمُخَالِفِ أَنْقَصَ من حديث من خَالَفَهُ ولم يَعْتَبِرْ الْمُخَالِفَ بِالزِّيَادَةِ وَجَعَلَ نُقْصَانَ هذا الرَّاوِي من الحديث دَلِيلًا على صِحَّةِ مَخْرَجِ حَدِيثِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَتَى خَالَفَ ما وُصِفَ أَضَرَّ ذلك بِحَدِيثِهِ وَلَوْ كانت الزِّيَادَةُ عِنْدَهُ مَقْبُولَةً مُطْلَقًا لم تَكُنْ مُخَالَفَتُهُ بِالزِّيَادَةِ مُضِرًّا بِحَدِيثِهِ السَّابِعُ هذا الْحُكْمُ لَا يَخْتَصُّ عِنْدَهُ بِمُرْسَلِ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ وَزَعَمَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ اخْتِصَاصَهُ بِسَعِيدٍ مُعْتَمِدًا على قَوْلِهِ في الْأُمِّ في كِتَابِ الرَّهْنِ الصَّغِيرِ وقد قِيلَ له كَيْفَ قَبِلْتُمْ عن ابْنِ الْمُسَيِّبِ مُنْقَطِعًا ولم تَقْبَلُوهُ عن غَيْرِهِ قُلْنَا لَا نَحْفَظُ لِسَعِيدٍ مُنْقَطِعًا إلَّا وَجَدْنَا ما يَدُلُّ على تَسْدِيدِهِ وَلَا يَأْثُرُهُ عن أَحَدٍ فِيمَا عَرَفْنَاهُ عنه إلَّا عن ثِقَةٍ مَعْرُوفٍ انْتَهَى وَهَذَا الْقَائِلُ كَأَنَّهُ لم يَنْظُرْ قَوْلَهُ بَعْدَهُ فَمَنْ كان مِثْلَ حَالِهِ قَبِلْنَا مُنْقَطِعَهُ وقد قال الْبَيْهَقِيُّ إنَّ الشَّافِعِيَّ يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ كِبَارِ التَّابِعِينَ إذَا انْضَمَّ إلَيْهَا ما يُؤَكِّدُهَا وَمِمَّنْ وَافَقَ الشَّافِعِيَّ على مُرْسَلِ سَعِيدٍ يحيى بن مَعِينٍ وَأَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ فَقَالَا أَصَحُّ الْمَرَاسِيلِ مُرْسَلُ سَعِيدٍ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إرْسَالُ سَعِيدٍ عِنْدَنَا حَسَنٌ فَقِيلَ إنَّ مَرَاسِيلَ التَّابِعِينَ كُلِّهِمْ حُجَّةٌ وَإِنْ كان الشَّافِعِيُّ نَصَّ على مُرْسِلٍ وَاحِدٍ منهم لِيُسْتَدَلَّ بِهِ على غَيْرِهِ وَقِيلَ لَا يَكُونُ حُجَّةً ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ في مَعْنَى قَوْلِهِ مُرْسَلُ سَعِيدٍ حَسَنٌ فَقِيلَ حَسَنٌ في التَّرْجِيحِ بِهِ لَا في الِاسْتِدْلَالِ وَفِيهِ ضَعْفٌ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِمَرَاسِيلِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَقِيلَ إنَّمَا قَبِلَهَا لِأَنَّهَا وُجِدَتْ مَسَانِيدَ فإن الشَّافِعِيَّ لَمَّا رَوَى حَدِيثَهُ الْمُرْسَلَ في النَّهْيِ عن بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ قال وَإِرْسَالُ سَعِيدٍ عِنْدَنَا حَسَنٌ وَجَعَلَ الْخَبَرَ أَصْلًا لِأَنَّ مَرَاسِيلَهُ مُتَّبَعَةٌ فَوُجِدَتْ كُلُّهَا عن الصَّحَابَةِ من جِهَةِ غَيْرِهِ وَرَدَّ الْخَطِيبُ هذا بِأَنَّ منها ما لم يُوجَدْ مُسْنَدًا بِحَالٍ من وَجْهٍ يَصِحُّ وَقِيلَ إنَّهُ في الْجَدِيدِ لَا يُفَرِّقُ بين مُرْسَلِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرِهِ في الرَّدِّ وَإِنَّمَا فَرَّقَ في الْقَدِيمِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَكَذَا نَقَلَ التَّسْوِيَةَ عن الْجَدِيدِ الْخَطِيبُ في الْكِفَايَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِقَوْلِ الرُّويَانِيِّ
____________________
(3/471)
إنَّ الشَّافِعِيَّ في كِتَابِ الرَّهْنِ الصَّغِيرِ من الْأُمِّ زَعَمَ أَنَّ مُرْسَلَ سَعِيدٍ حُجَّةٌ فَقَطْ وَيَشْهَدُ له عِبَارَةُ الْمُخْتَصَرِ أَنَّهُ حَسَنٌ لَكِنْ أَشَارَ ابن الرِّفْعَةِ إلَى أَنَّ الرَّهْنَ الصَّغِيرَ من الْقَدِيمِ وَإِنْ كان من كُتُبِ الْأُمِّ قال وَلِذَلِكَ نَسَبَ الْمَاوَرْدِيُّ قَبُولَ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ إلَى الْقَدِيمِ فَإِنْ ثَبَتَ هذا فَلَا خِلَافَ بين كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ وَالرُّويَانِيِّ وَلَكِنَّهُ لم يَثْبُتْ وقال ابن أبي هُرَيْرَةَ في كِتَابِ الرِّبَا في تَعْلِيقِهِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في مُرْسَلِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وكان في الْقَدِيمِ يقول بِهِ وفي الْجَدِيدِ يُحَسِّنُهُ وَيُقَوِّي بِهِ ما دَلَّ عليه الْأُصُولُ وَإِنَّمَا قال بِهِ في الْقَدِيمِ لِأَنَّ عَامَّةَ مَرَاسِيلِهِ إذَا تُتُبِّعَ وُجِدَ مُتَّصِلًا انْتَهَى وقال ابن فُورَكٍ في كِتَابِهِ لَا يُقْبَلُ الْمُرْسَلُ وقد قال الشَّافِعِيُّ في الْقَدِيمِ إنَّ إرْسَالَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ حَسَنٌ لِأَنَّهُ كَشَفَ عن حَدِيثِهِ فَوَجَدَهُ مُتَّصِلًا فَاكْتَفَى عن طَلَبِ كل حَدِيثٍ بَعْدَ فَرَاغِهِ من الْجُمْلَةِ وَيَتَقَوَّى بِهِ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ لَا مَحَالَةَ ثُمَّ قال وَاعْتَمَدَ الشَّافِعِيُّ في ذلك على أَنَّ الْمَسْكُوتَ عنه يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا وَأَنْ لَا يَكُونَ إلَى آخِرِهِ فَاقْتَضَى كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ عِنْدَهُ في الْجَدِيدِ في رَدِّهِ مُطْلَقًا وَأَنَّهُ في الْقَدِيمِ اسْتَثْنَى سَعِيدًا وَفِيهِ ما سَبَقَ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ وَأَمَّا مُرْسَلُ سَعِيدٍ فإن الشَّافِعِيَّ قال بِهِ في كُتُبِهِ الْقَدِيمَةِ ولم يُرِدْ بِهِ تَخْصِيصَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ دُونَ غَيْرِهِ من مَذْهَبُهُ مَذْهَبُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ في ذلك لَكِنْ ظَهَرَ لِلشَّافِعِيِّ مَذْهَبُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ لم يُرْسِلْ حَدِيثًا ليس له أَصْلٌ في الْمُتَّصِلِ ولم يَظْهَرْ له مِثْلُ هذا في غَيْرِهِ فَإِنْ عُرِفَ هذا في مُرْسَلِ غَيْرِهِ كَمُرْسَلِ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَمَكْحُولٍ كان الْكَلَامُ فِيهِمْ كَذَلِكَ وقال الْخَفَّافَ في كِتَابِ الْخِصَالِ لَا يَجُوزُ قَبُولُ الْمُرْسَلِ عِنْدَنَا إلَّا في صُورَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنْ يَرْوِيَ الصَّحَابِيُّ عن صَحَابِيٍّ وَلَا يُسَمِّيهِ فَذَلِكَ وَالْمُسْنَدُ سَوَاءٌ وَالثَّانِي التَّابِعِيُّ إذَا أَرْسَلَ وَسَمَّى فَإِنْ كان مَعْرُوفًا أَنْ لَا يَرْوِيَ إلَّا عن صَحَابِيٍّ مِثْلِ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ فَإِرْسَالُهُ وَإِسْنَادُهُ في ذلك سَوَاءٌ انْتَهَى وَهَذَا مَعْنًى آخَرُ في قَبُولِ مُرْسَلِ سَعِيدٍ وَنَحْوِهِ وقال الشَّيْخُ أبو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ في شَرْحِ التَّلْخِيصِ من أَصْحَابِنَا من جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ على قَوْلَيْنِ وَلَيْسَ يُغْنِي وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بين مُرْسَلِ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ في أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ أَبَدًا وفي الْمَوْضِعِ الذي جَعَلَهُ أَرَادَ بِهِ في تَرْجِيحِ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ على الْآخَرِ انْتَهَى
____________________
(3/472)
وقال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ الْمُرْسَلُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ وقد قال الشَّافِعِيُّ في الْقَدِيمِ وَإِرْسَالُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عِنْدَنَا حَسَنٌ وَأَخَذَ بِذَلِكَ في الْجَدِيدِ في مَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ منها بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ عِنْدَنَا إرْسَالُهُ حَسَنٌ أَنَّهُ تَتَبَّعَ أَخْبَارَهُ كُلَّهَا فَوَجَدَهَا أو أَكْثَرَهَا مُتَّصِلَةً فَاكْتَفَى بِذَلِكَ عن تَطَلُّبِ كل حَدِيثٍ بَعْدَ مُرَادِهِ من الْجُمْلَةِ لَا أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ تَخْصِيصَهُ عن سَائِرِ الْمَرَاسِيلِ انْتَهَى وقال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في كِتَابِهِ قد كان الشَّافِعِيُّ في الْقَدِيمِ يَسْتَحْسِنُ إرْسَالَ سَعِيدٍ وَكَأَنَّهُ ذَهَبَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إلَى أَنَّ عَامَّةَ مَرَاسِيلِهِ إذَا انْعَقَدَتْ وُجِدَ لها في الرِّوَايَاتِ الْمَوْصُولَةِ أَصْلٌ وَإِنَّا لم نَعْلَمْ أَحَدًا من الضُّعَفَاءِ أَرْسَلَ عنه وَلَا رَوَى عنه بَلْ جُمْلَةُ رِوَايَاتِهِ عن الصَّحَابَةِ وَالثِّقَاتِ من أَهْلِ النَّقْلِ قال وقد ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ الْجَدِيدَةِ أَنَّ الحديث يُعْتَبَرُ بِأُمُورٍ منها أَنْ يُنْظَرَ إلَى ما أَرْسَلَ فَإِنْ شَرَكَهُ فيه الْحُفَّاظُ الْمَأْمُونُونَ فَأَسْنَدَ قَوْلَهُ إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِمِثْلِ مَعْنَى ما رَوَى كان في ذلك ما يُسْنِدُ وَمِنْهَا ما يُؤْخَذُ عن بَعْضِ الصَّحَابَةِ من قَوْلِهِمْ وما يُوَافِقُ الْخَبَرَ الْمُرْسَلَ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ إذَا سَمَّى من رَوَى عنه لم يُسَمِّ مَجْهُولًا وَلَا مَرْغُوبًا عنه في الرِّوَايَةِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ إذَا أَشْرَكَ أَحَدًا من الْحُفَّاظِ في حَدِيثِهِ لم يُخَالِفْهُ ثُمَّ قال بَعْدَ ذِكْرِ هذه الشَّرَائِطِ وإذا وُجِدَتْ الدَّلَائِلُ بِصِحَّةِ حَدِيثِهِ بِمَا وَصَفْت أَحْبَبْنَا أَنْ يُقْبَلَ مُرْسَلُهُ وَلَا نَزْعُمُ أَنَّ الْحُجَّةَ ثَبَتَتْ ثُبُوتَهَا بِالْمُتَّصِلِ وقال فَأَمَّا من بَعْدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ كَثُرَتْ مُشَاهَدَتُهُمْ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ فَلَا أَعْلَمُ منهم وَاحِدًا يُقْبَلُ مُرْسَلُهُ وقد ذُكِرَ فيه من الشَّرَائِطِ ما ذُكِرَ قال وَأَشَارَ إلَى قُوَّةِ مَرَاسِيلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ على مَرَاسِيلِ من دُونَهُمْ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْحُجَّةُ بِالْمُنْقَطِعِ ثُبُوتَهَا بِالْمُتَّصِلِ فَدَلَّ على أَنَّ أَصْلَ الْمَرَاسِيلِ عِنْدَهُ ضَعِيفٌ وَمَشْهُورٌ على لِسَانِ الْمُوَافِقِ وَالْمُخَالِفِ تَضْعِيفُهُ لِلْمَرَاسِيلِ وَالْوَجْهُ في تَضْعِيفِهِ ما أَوْمَأْنَا إلَيْهِ من جَهَالَةِ الْوَاسِطَةِ انْتَهَى كَلَامُ الْقَفَّالِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ في بَابِ النَّفَقَةِ من الْحَاوِي إنَّ مُرْسَلَ أبي سَلَمَةَ بن عبد الرحمن
____________________
(3/473)
عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَسَنٌ وَأَنَّ الْمُرْسَلَ الذي حَصَلَتْ فيه هذه الشَّوَاهِدُ أو بَعْضُهَا يُسَوَّغُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَلَا يَلْزَمُ لُزُومَ الْحُجَّةِ بِالْمُتَّصِلِ وَكَأَنَّهُ رضي اللَّهُ عنه يُسَوِّغُ الِاحْتِجَاجَ بِهِ ولم يُنْكِرْ على من خَالَفَهُ قال الْبَيْهَقِيُّ في الْمَعْرِفَةِ لم نَجِدْ حَدِيثًا ثَابِتًا مُتَّصِلًا خَالَفَهُ جَمِيعُ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا وقد وَجَدْنَا مَرَاسِيلَ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ على خِلَافِهَا وَذَكَرَ منها حَدِيثَ مُحَمَّدِ بن الْمُنْكَدِرِ الْآتِي قَرِيبًا وَظَنَّ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في كِتَابِ التَّقْرِيبِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ بِالِاسْتِحْبَابِ قَسِيمَ الْوُجُوبِ قال فَقَدْ نَصَّ على أَنَّ الْقَبُولَ عِنْدَ تِلْكَ الشُّرُوطِ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ انْتَهَى وَلَيْسَ كما قال بَلْ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِالِاسْتِحْبَابِ أَنَّ الْحُجَّةَ فيها ضَعِيفَةٌ وَلَيْسَتْ بِحُجَّةِ الْمُتَّصِلِ فإذا انْتَهَضَتْ الْحُجَّةُ وَجَبَ الْأَخْذُ لَا مَحَالَةَ فإذا عَارَضَهُ مُتَّصِلٌ كانت التَّقْدِمَةُ مُقَدَّمَةً عليه إذْ لَيْسَتْ الْأَدِلَّةُ ما يَكُونُ الْأَخْذُ بِهِ مُسْتَحَبًّا أَبَدًا وَلَكِنَّ فيها ما يَتَفَاوَتُ وَيَنْفَعُ ذلك عِنْدَ التَّعَارُضِ وقال الرَّبِيعِيُّ في الْمَدْخَلِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْبَبْنَا أَنْ تُقْبَلَ مُرْسَلُهُ أَرَادَ بِهِ اخْتَرْنَا وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الْقَفَّالِ في شَرْحِ التَّلْخِيصِ في بَابِ اللُّقَطَةِ إنَّ الشَّافِعِيَّ يقول أُحِبُّ وَأُرِيدُ بِهِ الْإِيجَابَ وَزَعَمَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ إذَا لم يُوجَدْ دَلَالَةٌ سِوَاهُ وقال الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ في الْكِفَايَةِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بين مُرْسَلِ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ من التَّابِعِينَ وَإِنَّمَا رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ بِهِ وَالتَّرْجِيحُ بِالْمُرْسَلِ صَحِيحٌ وَإِنْ لم يَكُنْ حُجَّةً بِمُفْرَدِهِ التَّاسِعُ أَنَّ الْمُرْسَلَ الْعَارِيَ من هذه الِاعْتِبَارَاتِ وَالشَّوَاهِدِ التي ذَكَرَهَا ليس بِحُجَّةٍ عِنْدَهُ وَلِهَذَا قال أخبرنا ابن عُيَيْنَةَ عن مُحَمَّدِ بن الْمُنْكَدِرِ أَنَّ رَجُلًا جاء إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لي مَالًا وَعِيَالًا وَإِنَّ لِأَبِي مَالًا وَعِيَالًا فَيُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مَالِي فَيُطْعِمَ عِيَالَهُ فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أنت وَمَالُك لِأَبِيك قال الشَّافِعِيُّ محمد بن الْمُنْكَدِرِ غَايَةٌ في الثِّقَةِ وَالْفَضْلِ وَالدِّينِ وَالْوَرَعِ وَلَكِنْ لَا نَدْرِي عَمَّنْ قَبِلَ هذا الحديث
____________________
(3/474)
الْعَاشِرُ أَنَّ مَأْخَذَ رَدِّ الْمُرْسَلِ عِنْدَهُ إنَّمَا هو احْتِمَالُ ضَعْفِ الْوَاسِطَةِ وَأَنَّ الْمُرْسَلَ لو سَمَّاهُ لَبَانَ أَنَّهُ لَا يَحْتَجُّ بِهِ وَعَلَى هذا الْمَأْخَذِ فإذا كان الْمَعْلُومُ من عَادَةِ الْمُرْسِلِ أَنَّهُ لم يُسَمِّ إلَّا ثِقَةً ولم يُسَمِّ مَجْهُولًا كان مُرْسَلُهُ حُجَّةً وَإِنْ كان يَرْوِي عن الثِّقَةِ وَغَيْرِهِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ وقد صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بهذا الْمَعْنَى في غَيْرِ مَوْضِعٍ فقال وَذَكَرَ حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ في الضَّحِكِ في الصَّلَاةِ مُرْسَلًا قال يَقُولُونَ يُحَابِي وَلَوْ حَابَيْنَا حَابَيْنَا الزُّهْرِيَّ وَإِرْسَالُ الزُّهْرِيِّ ليس بِشَيْءٍ وَذَاكَ أَنَّا نَجِدُهُ يَرْوِي عن سُلَيْمَانَ بن أَرْقَمَ وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ في الْمَسْأَلَةِ وهو مَبْنِيٌّ على أَصْلٍ وهو أَنَّ رِوَايَةَ الثِّقَةِ عن غَيْرِهِ هل هِيَ تَعْدِيلٌ أَمْ لَا وَفِيهِ خِلَافٌ وَالصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ وهو أَنَّ الثِّقَةَ إنْ كان من عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عن ثِقَةٍ كانت تَعْدِيلًا وَإِلَّا فَلَا كما سَبَقَ وَمِنْ هُنَا ظَنَّ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْعِلَّةَ في قَبُولِ الشَّافِعِيِّ لِمُرْسَلِ سَعِيدٍ كَوْنُهُ اعْتَبَرَهَا فَوَجَدَهَا مَسَانِيدَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِلَّا كان الِاحْتِجَاجُ حِينَئِذٍ بِالْمُسْنَدِ فيها وَيَجِيءُ اعْتِرَاضُ الْقَاضِي السَّابِقِ وَلَكِنْ لَمَّا كان حَالُ صَاحِبِهَا أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عن ثِقَةٍ حُمِلَ هذا الْمُرْسَلُ على ما عُرِفَ من عَادَتِهِ صَحِيحٌ بِهِ وَلِهَذَا تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ وَإِنْ اُحْتُمِلَ كَوْنُهُ عن تَابِعِيٍّ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُمْ لَا يَرْوُونَ إلَّا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أو عن صَحَابِيٍّ لَا سِيَّمَا حَالَةَ الْإِطْلَاقِ فَحُمِلَ على الْغَالِبِ الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّ مُرْسَلَ من بَعْدَ التَّابِعِينَ لَا يُقْبَلُ ولم يُحْكَ عن أَحَدٍ قَبُولُهُ لِتَعَدُّدِ الْوَسَائِطِ وَلِأَنَّهُ لو قُبِلَ لَقُبِلَ مُرْسَلُ الْمُحَدِّثِ الْيَوْمَ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مَفَاوِزُ ولم يَقْبَلْهُ أَحَدٌ إلَّا ما سَبَقَ عن الْغَزَالِيِّ في الْمَنْخُولِ وقد رَدَدْنَاهُ الثَّانِيَ عَشَرَ أَنَّ ظَاهِرَهُ قَبُولُ مُرْسَلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ دُونَ صِغَارِهِمْ وَلِهَذَا قال في الرِّسَالَةِ بَعْدَ النَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ بِكَلَامٍ وَمَنْ نَظَرَ في الْعِلْمِ بِخِبْرَةٍ وَقِلَّةِ غَفْلَةٍ اسْتَوْحَشَ من مُرْسَلِ كل من دُونَ كِبَارِ التَّابِعِينَ بِدَلَائِلَ ظَاهِرَةٍ فيها قال له قَائِلٌ فَلِمَ فَرَّقْت بين كِبَارِ التَّابِعِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ شَاهَدُوا أَصْحَابَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَمَنْ شَاهَدَ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقُلْت لِبُعْدِ إحَالَةِ من لم يَشْهَدْ أَكْثَرَهُمْ قال فَلِمَ يُقْبَلُ الْمُرْسَلُ منهم وَمِنْ كل ثِقَةٍ دُونَهُمْ فَقُلْت لِمَا وَصَفْت انْتَهَى فَلْيُعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَهُ ذلك إلَّا أَنْ يُوجَدَ له نَصٌّ بِخِلَافِهِ فَيَكُونُ له قَوْلَانِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَعَلَ لِمُرْسَلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ مَزِيَّةً على من دُونَهُمْ كما جَعَلَ لِمُرْسَلِ سَعِيدٍ مَزِيَّةً على من
____________________
(3/475)
سِوَاهُ منهم لَكِنْ هذا كُلُّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ من كَلَامِهِ ثُمَّ قال الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه في الرِّسَالَةِ فَكُلُّ حَدِيثٍ كَتَبْته مُنْقَطِعًا فَقَدْ سَمِعْته مُتَّصِلًا أو مَشْهُورًا عَمَّنْ رُوِيَ عنه بِنَقْلِ عَامَّةٍ من أَهْلِ الْعِلْمِ يَعْرِفُونَهُ عن عَامَّةٍ وَلَكِنْ كَرِهْت وَضْعَ حَدِيثٍ لَا أُتْقِنُهُ حِفْظًا خَوْفَ طُولِ الْكِتَابِ وَغَابَ عَنِّي بَعْضُ كُتُبِي انْتَهَى فَنَبَّهَ رضي اللَّهُ عنه على أَنَّ كُلَّ ما يُورِدُهُ من الْمُنْقَطِعَاتِ فَهُوَ مُتَّصِلٌ سَوَاءٌ ابن الْمُسَيِّبِ أو غَيْرُهُ وَاسْتَفَدْنَا من هذا أَنَّ ما وَجَدْنَاهُ في كُتُبِهِ من الْمَرَاسِيلِ لَا يَقْدَحُ في مَذْهَبِهِ من عَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بها فَأَبَانَ بهذا أَنَّ ما نَجِدُهُ من الْمُرْسَلِ هو عِنْدَهُ مُتَّصِلٌ وَلَكِنْ تَرَكَ إسْنَادَهُ لِمَا ذَكَرَ الثَّالِثَ عَشَرَ أَنَّهُ لَا يقول بِالْمُرْسَلِ إذَا لم يَعْتَضِدْ بِمَا سَبَقَ وَزَعَمَ الْمَاوَرْدِيُّ في بَابِ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ أَنَّهُ يقول بِهِ إذَا لم يَجِدْ في الْبَابِ سِوَاهُ وهو غَرِيبٌ وَيَعْضُدُهُ عَمَلُ الشَّافِعِيِّ بِأَقَلِّ ما قِيلَ إذَا لم نَجِدْ دَلِيلًا لَكِنْ يَلْزَمُهُ طَرْدُ ذلك في كل حَدِيثٍ ضَعِيفٍ وهو بَعِيدٌ تَنْبِيهٌ أَحَادِيثُ مُرْسَلَةٌ تَرَكَهَا الْمَالِكِيَّةُ قد تَرَكَتْ الْمَالِكِيَّةُ مُرْسَلَ أبي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ في الْوُضُوءِ من الْقَهْقَهَةِ في الصَّلَاةِ وَلَا عِلَّةَ له سِوَى الْإِرْسَالِ وَتَرَكُوا مُرْسَلَ مَالِكٍ عن هِشَامِ بن عُرْوَةَ عن أبيه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى في مَرَضِهِ الذي مَاتَ فيه بِالنَّاسِ جَالِسًا وَالنَّاسُ قِيَامٌ وَأَعْجَبُ من هَذَيْنِ مُرْسَلٌ أَرْسَلَهُ تَابِعُوا فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ الْأَرْبَعَةِ وَهُمْ سَعِيدُ بن الْمُسَيِّبِ وَالْقَاسِمُ بن مُحَمَّدٍ وَسَالِمُ بن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ وأبو سَلَمَةَ بن عبد الرحمن وهو ما رَوَاهُ اللَّيْثُ بن سَعْدٍ عن عُقَيْلِ بن خَالِدٍ عن ابْنِ شِهَابٍ عن أَرْبَعَتِهِمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مُدَّيْنِ مُدَّيْنِ على كل إنْسَانٍ مَكَانَ صَاعٍ من شَعِيرٍ وَذَكَرَ سَعِيدُ بن الْمُسَيِّبِ أَنَّ ذلك كان عَمَلَ الناس أَيَّامَ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما
____________________
(3/476)
أَحَادِيثُ مُرْسَلَةٌ تَرَكَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَكَذَلِكَ أَعْرَضَ الْحَنَفِيَّةُ عن مُرْسَلِ سَعِيدٍ في النَّهْيِ عن بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ مع أَنَّهُ لَا يُرْسَلُ إلَّا عن ثِقَةٍ مَسْأَلَةٌ أُمُورٌ مُلْحَقَةٌ بِالْمُرْسَلِ أو مُخْتَلَفٌ فيها أَلْحَقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِالْمُرْسَلِ قَوْلَهُ في الْإِسْنَادِ عن رَجُلٍ أو شَيْخٍ أو نَحْوِ ذلك وَرَأَيْته كَذَلِكَ في كِتَابِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ لَكِنْ قال الْحَاكِمُ وابن الْقَطَّانِ من الْمُحَدِّثِينَ إنَّهُ لَا يُسَمَّى مُرْسَلًا بَلْ مُنْقَطِعًا قال الْإِمَامُ وَقَوْلُ الرَّاوِي أخبرني رَجُلٌ أو عَدْلٌ مَوْثُوقٌ بِهِ من الْمُرْسَلِ أَيْضًا وَكَذَا قال في الْمَحْصُولِ إذَا سَمَّى الرَّاوِي الْأَصْلَ بِاسْمٍ لَا يُعْرَفُ فَهُوَ كَالْمُرْسَلِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَكَذَلِكَ إضَافَةُ الْخَبَرِ إلَى كِتَابٍ كَتَبَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ من حَمَلَهُ وَنَقَلَهُ وَأَلْحَقَ بِهِ الْمَازِرِيُّ ما وَقَعَ في الصَّحِيحِ من قَوْلِهِ نَادَى مُنَادِي رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّ الْخَمْرَ قد حُرِّمَتْ وَقَوْلُهُ نَادَى مُنَادٍ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ التي طُبِخَ فيها لُحُومُ الْحُمُرِ لِأَنَّ الْمُنَادِيَ إذَا لم يُسَمَّ صَارَ كَكِتَابٍ أُضِيفَ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ أَرْسَلَهُ ولم يُسَمِّ حَامِلَهُ وَنَاقِلَهُ وَلَكِنْ عَلِمَ الْمُحَدِّثُ عَيْنَ النِّدَاءِ فإن ذلك لَا يَخْفَى على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حتى يُعْلَمَ ضَرُورَةً أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَمَرَ بِهِ فَنُزِّلَ ذلك مَنْزِلَةَ سَمَاعِ الْأَمْرِ منه صلى اللَّهُ عليه وسلم وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ كُلُّ كِتَابٍ لم يُذْكَرْ حَامِلُهُ فَهُوَ مُرْسَلٌ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَرَى التَّعَلُّقَ بِالْمُرْسَلِ وَكَذَلِكَ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَمِثْلُهُ ما يَقَعُ في الْأَسَانِيدِ أَنَّ فُلَانًا كَتَبَ إلَيَّ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ لِجَهَالَةِ الْوَاسِطَةِ كَالْمُرْسَلِ لَكِنْ نَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ الذي عليه الْجُمْهُورُ من أَرْبَابِ النَّقْلِ وَغَيْرُهُمْ جَوَازُ الرِّوَايَةِ لِأَحَادِيثِ الْكِتَابَةِ وَوُجُوبُ الْعَمَلِ بها فَإِنَّهَا دَاخِلَةٌ في الْمُسْنَدِ وَذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِ صِحَّتِهَا عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ لها وَوُثُوقِهِ بِأَنَّهَا عن كَاتِبِهَا
____________________
(3/477)
فَصْلٌ في الْفَرْقِ بين الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ قال الْقَرَافِيُّ أَقَمْت زَمَانًا أَتَطَلُّبُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِيقَةِ حتى وَجَدْته مُحَقَّقًا في كَلَامِ الْمَازِرِيِّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ فإن كَثِيرًا من الناس يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا بِاخْتِلَافِهِمَا في بَعْضِ الْأَحْكَامِ وهو إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَحْقِيقِ فَصْلِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ الرِّوَايَةَ وَالشَّهَادَةَ خَبَرَانِ غير أَنَّ الْخَبَرَ إنْ كان عن حُكْمٍ عَامٍّ تَعَلَّقَ بِالْأُمَّةِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنٍ مُسْتَنَدُهُ السَّمَاعُ فَهُوَ الرِّوَايَةُ وَإِنْ كان خَبَرًا جُزْئِيًّا يَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنٍ مُسْتَنَدُهُ الْمُشَاهَدَةُ أو الْعِلْمُ فَهُوَ الشَّهَادَةُ فَالرِّوَايَةُ تَعُمُّ حُكْمَ الرَّاوِي وَغَيْرِهِ على مَمَرِّ الْأَزْمَانِ وَالشَّهَادَةُ مَحْضُ الْمَشْهُودِ عليه وَلَهُ وَلَا يَتَعَدَّاهُمَا إلَّا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ وَمِنْ ثَمَّ كان بَابُ الرِّوَايَةِ أَوْسَعَ من بَابِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ مَبْنَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ على التَّضْيِيقِ وَالرِّوَايَةُ تَقْتَضِي شَرْعًا عَامًّا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنٍ فَتَبْعُدُ فيه التُّهْمَةُ فَلِذَلِكَ تُوُسِّعَ فيه فلم يُشْتَرَطْ فيه انْتِفَاءُ الْقَرَابَةِ وَالْعَرَافَةِ وَلَا وُجُودُ الْعَدَدِ وَالذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ وَاسْتَشْكَلَ الْأَصْفَهَانِيُّ في هذا الْفَرْقِ بِأَنَّ عُمُومَ الْحُكْمِ يَقْتَضِي الِاحْتِيَاطَ وَالِاسْتِظْهَارَ بِالْعَدَدِ وَجَوَابُهُ أَنَّ الرَّاوِيَ يُثْبِتُ حُكْمًا على نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ فلم يَتَطَرَّقْ إلَيْهِ التُّهْمَةُ بِخِلَافِ الشَّاهِدِ فإنه يُثْبِتُ حَقًّا على غَيْرِهِ فَاحْتِيطَ له وقد ذَكَرَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بن عبد السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ وُجُوهًا لِمُنَاسَبَةِ الْعَدَدِ في الشَّهَادَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ منها أَنَّ الْغَالِبَ على الْمُسْلِمِينَ مَهَابَةُ الْكَذِبِ على رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِخِلَافِ شَهَادَةِ الزُّورِ فَاحْتِيجَ إلَى الِاسْتِظْهَارِ فيها وَمِنْهَا أَنَّهُ قد يَنْفَرِدُ بِالْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَلَوْ لم يُقْبَلْ لَفَاتَ على أَهْلِ الْإِسْلَامِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ بِخِلَافِ فَوَاتِ حَقٍّ وَاحِدٍ على شَخْصٍ وَاحِدٍ في الْمُحَاكَمَاتِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْعَمَلَ بِتَزْكِيَةِ الْوَاحِدِ في الرِّوَايَةِ أَحْوَطُ وَمِنْهَا أَنَّ بين كَثِيرٍ من الْمُسْلِمِينَ إحَنًا وَعَدَاوَاتٍ قد تَحْمِلُهُمْ على شَهَادَةِ الزُّورِ بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رضي اللَّهُ عنه قد تَعَرَّضَ لِلْفَرْقِ بين الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ في
____________________
(3/478)
مُنَاظَرَةٍ له مع صَاحِبِ أبي حَنِيفَةَ حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ في بَابِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فقال قال الشَّافِعِيُّ وَالْخَبَرُ ما اسْتَوَى فيه الْمُخْبِرُ وَالْمُخْبَرُ وَالْعَامَّةُ من حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَالشَّهَادَةُ ما كان الشَّاهِدُ فيه خَلِيًّا وَالْعَامَّةُ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْمَشْهُودَةَ عليه ثُمَّ قال الرُّويَانِيُّ فَإِنْ قِيلَ ما مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْخَبَرُ ما اسْتَوَى فيه الْمُخْبِرُ وَالْمُخْبَرُ وَمِنْ الْأَخْبَارِ ما لَا يَلْزَمُ الرَّاوِيَ بِهِ حُكْمٌ وَيَلْزَمُ غَيْرَهُ وَمِنْ الشَّهَادَاتِ ما يَلْزَمُ الشَّاهِدَ بها الْحُكْمُ كما يَلْزَمُ الْمَشْهُودَ عليه وهو الشَّهَادَةُ على الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ قُلْنَا قال الشَّافِعِيُّ هذا وَأَرَادَ ما فَسَّرَهُ بِهِ من تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ اللَّذَيْنِ هُمَا مُؤَبَّدَانِ لَا يَنْقَطِعَانِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ما ذَكَرُوهُ في الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ وَغَيْرِ ذلك مِمَّا يُقْطَعُ وَحَكَى ابن الْقَاصِّ عن أبي الطَّيِّبِ بن سَلَمَةَ أَنَّهُ كان يقول قد يَسْتَوِي الشَّاهِدُ وَالْمَشْهُودُ عليه في الْحُكْمِ وهو ما إذَا شَهِدَ اثْنَانِ من الْوَرَثَةِ على الْمَيِّتِ بِدَيْنٍ لِإِنْسَانٍ فإنه يَلْزَمُهُمَا من الدَّيْنِ ما يَلْزَمُ الْجَاحِدَ من الْوَرَثَةِ وقد يَكُونُ في الْأَخْبَارِ من يَخْتَصُّ بِهِ غَيْرُهُ وَلَا يَجِبُ على الرَّاوِي بِهِ شَيْءٌ وَلَكِنْ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِمَا قَالَهُ الْغَالِبَ من أَمْرِهِمَا فإن الْغَالِبَ من الشَّهَادَةِ أَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَدْخُلُ فِيمَا يَجِبُ له وَالْغَالِبُ من الْخَبَرِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم اسْتِوَاءُ الْمُخْبِرِ وَسَائِرِ الناس فيه انْتَهَى ما يَخْتَلِفُ فيه الرِّوَايَةُ وَالشَّهَادَةُ وَأَمَّا ما يَخْتَلِفَانِ فيه من الْأَحْكَامِ فَكَثِيرٌ أَحَدُهَا عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةَ في الرِّوَايَةِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ وَثَانِيهَا أَنَّ التَّزْكِيَةَ في الشَّهَادَةِ لَا تَكُونُ إلَّا بِاثْنَيْنِ وَيُكْتَفَى في التَّعْدِيلِ في الرِّوَايَةِ بِوَاحِدٍ وَثَالِثُهَا عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ في الرِّوَايَةِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ وَرَابِعُهَا اشْتِرَاطُ الْبَصَرِ وَعَدَمِ الْقَرَابَةِ وَالْعَدَاوَةِ في الشَّهَادَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ وقد قَبِلَتْ الصَّحَابَةُ خَبَرَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ في الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ وَخَامِسُهَا من كَذَبَ ثُمَّ تَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَمَنْ كَذَبَ في حديث رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ثُمَّ تَابَ لم يُقْبَلْ حَدِيثُهُ بَعْدَ ذلك عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَوَافَقَهُمْ أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وابن الْقَطَّانِ وَالْقَفَّالُ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ وهو الصَّحِيحُ خِلَافًا لِلنَّوَوِيِّ كما سَبَقَ وَسَادِسُهَا أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا كَذَبَ في حَدِيثٍ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم رُدَّتْ جَمِيعُ أَحَادِيثِهِ
____________________
(3/479)
السَّالِفَةِ وَوَجَبَ نَقْضُ ما عُمِلَ بِهِ منها وَإِنْ لم يُنْقَضْ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ من حَدَثَ فِسْقُهُ لِأَنَّ الحديث حُجَّةٌ لَازِمَةٌ لِجَمِيعِ الناس وفي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ فَكَانَ حُكْمُهُ أَغْلَظَ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي سَابِعُهَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِمَا يَعُودُ نَفْعُهُ على الرَّاوِي وَلَا يَجُوزُ ذلك في الشَّهَادَةِ لِاشْتِرَاكِ الناس في السُّنَنِ وَالرِّوَايَاتِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ وابن الْقُشَيْرِيّ في أُصُولِهِ وَنَقَلَا ذلك عن الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُمَا قَالَا قال الشَّافِعِيُّ لو رَوَى عَدْلٌ خَبَرًا في أَثْنَاءِ خُصُومَةٍ وكان فَحْوَاهُ حُجَّةً على الْخَصْمِ فَالرِّوَايَةُ مَقْبُولَةٌ وَلَا يَجْعَلُ لِلتُّهْمَةِ مَوْضِعًا وَكَذَا الرِّوَايَةُ الْجَارَّةُ لِلنَّفْعِ وَالدَّفْعِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ هذا لَفْظُهُ وَمِثْلُهُ خَبَرُ الرَّاوِي لِنَفْسِهِ نَفْعًا رَاجِحًا لم يَسْتَحْضِرْ الْقَرَافِيُّ في فُرُوعِهِ فيها نَقْلًا وَحَكَى الرَّافِعِيُّ قبل بَابِ الصِّيَالِ أَنَّ الْعَبْدَ لو رَوَى خَبَرًا يَقْتَضِي إعْتَاقَهُ لم يُقْبَلْ أو إعْتَاقَ من اجْتَمَعَ فيه كَذَا وَكَذَا وَكَانَتْ فيه قِيلَ لِأَنَّهُ ضِمْنٌ لَا قَصْدًا وَهَذَا أَحْسَنُ ثَامِنُهَا إذَا حَدَّثَ الْعَدْلُ بِحَدِيثٍ رَجَعَ عنه لِغَلَطٍ وَجَدَهُ في أَصْلِ كِتَابِهِ أو حِفْظٍ عَادَ إلَيْهِ قُبِلَ منه رُجُوعُهُ وَكَذَا الزِّيَادَةُ بِاللَّفْظِ قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ قال وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ يَحْكُمُ بها الْقَاضِي ثُمَّ يَرْجِعُ الشَّاهِدُ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ حُقُوقًا لِلْآدَمِيِّينَ لَا تَزُولُ بِالرُّجُوعِ وَمَضَى الْحُكْمُ بها وَالْمُخْبِرُ بها يَدْخُلُ في جُمْلَةِ الْمُخْبِرِينَ وَإِنَّمَا هو مُسْتَدْعًى يُؤَدِّي ما اسْتَدْعَى وَلَيْسَ يُطَعْنَ على الْمُحَدِّث إلَّا قَوْلُهُ تَعَمَّدْت الْكَذِبَ فَهُوَ كَاذِبٌ في الْأَوَّلِ وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ بَعْدَ ذلك تَاسِعُهَا أَنَّ إنْكَارَ الْأَصْلِ رِوَايَةَ الْفَرْعِ لَا يَضُرُّ الحديث بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ كما سَبَقَ عَاشِرُهَا قال الشَّافِعِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ لَا يُعَوَّلُ على شَهَادَةِ الْفَرْعِ مع إمْكَانِ السَّمَاعِ من الْأَصْلِ وَيَجُوزُ اعْتِمَادُ رِوَايَةِ الْفَرْعِ من غَيْرِ مُرَاجَعَةِ شَيْخِهِ مع الْإِمْكَانِ وَهَذَا مُجْمَعٌ عليه وقال الْإِمَامُ في النِّهَايَةِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَرْعِ مع حُضُورِ الْأَصْلِ وَلَا خِلَافَ أَنَّ رِوَايَةَ الرَّاوِي مَقْبُولَةٌ وَشَيْخُهُ في الْبَلَدِ قال وَكُلُّ ما لم يَثْبُتْ فيه تَوْقِيفٌ شَرْعِيٌّ تَعَبُّدِيٌّ غَيَّرَ الشَّهَادَةَ فيه عن الرِّوَايَةِ فَلَا يُعَدُّ في وَجْهِ الرَّاوِي التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا انْتَهَى حَادِي عَشَرَهَا لو أَشْكَلَتْ الْحَادِثَةُ على الْقَاضِي فَرَوَى له خَبَرًا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فيها وَقَتَلَ بِهِ الْقَاضِي رَجُلًا ثُمَّ رَجَعَ الرَّاوِي وقال تَعَمَّدْت الْكَذِبَ لَا
____________________
(3/480)
يَجِبُ الْقِصَاصُ بِخِلَافِ الشَّاهِدِ إذَا رَجَعَ فإن الشَّهَادَةَ تَتَعَلَّقُ بِالْحَادِثَةِ وَالْخَبَرُ لَا يَخْتَصُّ بها قَالَهُ الْقَفَّالُ في فَتَاوِيهِ لَكِنْ في فَتَاوَى الْبَغَوِيّ وُجُوبُ الْقِصَاصِ كَالشَّاهِدِ وهو أَحْوَطُ ثَانِي عَشَرَهَا قال الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ وَالرِّسَالَةِ أَقْبَلُ في الحديث حدثني فُلَانٌ عن فُلَانٍ إذَا لم يَكُنْ مُدَلِّسًا وَلَا أَقْبَلُ في الشَّهَادَةِ إلَّا سمعت أو رأيت أو أَشْهَدَنِي ثَالِثَ عَشَرَهَا قال الشَّافِعِيُّ أَيْضًا إذَا اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ أَخَذْت بِبَعْضِهَا اسْتِدْلَالًا بِكِتَابٍ أو سُنَّةٍ أو إجْمَاعٍ أو قِيَاسٍ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَلَا يُؤْخَذُ بِبَعْضِهَا بِحَالٍ رَابِعَ عَشَرَهَا قال أَيْضًا يَكُونُ بَشَرٌ كلهم تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ وَلَا أَقْبَلُ حَدِيثَهُمْ من قِبَلِ ما يَدْخُلُ في الحديث من كَثْرَةِ الْإِحَالَةِ وَإِزَالَةِ بَعْضِ أَلْفَاظِ الْمَعَانِيَ هذا لَفْظُهُ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ من الْأُمِّ لَا يُقْبَلُ الْحَدِيثُ إلَّا من ثِقَةٍ عَالِمٍ حَافِظٍ بِمَا يُحِيلُ مَعْنَى الحديث بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ قال وَلِهَذَا احْتَطْت في الحديث أَكْثَرَ مِمَّا احْتَطْت بِهِ في الشَّهَادَاتِ وَإِنَّمَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ من لَا أَقْبَلُ حَدِيثَهُ لِكِبَرِ أَمْرِ الحديث وَمَوْقِعِهِ من الْمُسْلِمِينَ وَلِأَنَّ اللَّفْظَ قد يُتْرَكُ من الحديث فَيَخْتَلُّ مَعْنَاهُ فإذا كان الْحَامِلُ لِلْحَدِيثِ يَجْهَلُ الْمَعْنَى لم يُقْبَلْ حَدِيثُهُ هذا لَفْظُهُ ثُمَّ قال وَكُلُّ ما لم يَكُنْ حُكْمٌ فَاخْتِلَافُ اللَّفْظِ فيه لَا يُحِيلُ مَعْنَاهُ وَاخْتَلَفُوا عَلَيَّ في اللَّفْظِ فَقُلْت لِبَعْضِهِمْ ذلك فقال لَا بَأْسَ بِهِ ما لم يُخِلَّ مَعْنًى ذَكَرَهُ في الْأُمِّ في بَابِ التَّشَهُّدِ في الصَّلَاةِ وقال إنَّمَا صِرْت لِاخْتِيَارِ تَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ دُونَ غَيْرِهِ لِمَا رَأَيْته وَاسِعًا وَسَمِعْته عن ابْنِ عَبَّاسٍ صَحِيحًا كان عِنْدِي أَجْمَعُ وَأَكْثَرُ لَفْظًا من غَيْرِهِ فَأَخَذْت بِهِ انْتَهَى خَامِسَ عَشَرَهَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى بِشَرْطِهِ السَّابِقِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ وقد قال الْمَاوَرْدِيُّ إذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عِنْدَ شَاهِدَيْنِ فَعَلَيْهِمَا أَنْ يُؤَدِّيَا ما سَمِعَاهُ مَشْرُوحًا فَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ رَهْنٌ بِأَلْفَيْنِ فَإِنْ لم يَكُونَا من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لم يَجُزْ وَكَذَا إنْ كَانَا من أَهْلِهِ على الْأَصَحِّ لِأَنَّ الشَّاهِدَ نَاقِلٌ وَالِاجْتِهَادُ إلَى الْحَاكِمِ وقال ابن أبي الدَّمِ
____________________
(3/481)
لو قال الشَّاهِدُ أَشْهَدُ أَنَّ هذا يَسْتَحِقُّ في ذِمَّةِ هذا دِرْهَمًا هل تُسْمَعُ هذه الشَّهَادَةُ فيه ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الْمَذْهَبُ أنها تُسْمَعُ وَيُعْمَلُ بها وَالثَّانِي لَا لِأَنَّ هذه من وَظِيفَةِ الْحَاكِمِ وَالثَّالِثُ إنْ كان الشَّاهِدُ مُتَمَذْهِبًا بِمَذْهَبِ الْقَاضِي سُمِعَتْ وَإِلَّا فَلَا وَلَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ بِأَنَّهُ قال له زَنَيْت وَآخَرُ أَنَّهُ قال له يا زَانِي لم يَثْبُتْ الْقَذْفُ كما لو شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ بِقَذْفٍ بَلَغَهُ حَكَاهُ في الْكِفَايَةِ في بَابِ الْإِقْرَارِ عن الْمَاوَرْدِيِّ قال وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ أَنَّهُ لو شَهِدَ وَاحِدٌ أَنَّهُ قال قد وَكَّلْتُك في كَذَا وَآخَرُ أَنَّهُ قال له أَذِنْت لَك في التَّصَرُّفِ لم تَثْبُتْ الْوَكَالَةُ لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ وَلَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ على الْمُدَّعِي بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ وَآخَرُ بِالْإِبْرَاءِ منه فَالْمَذْهَبُ في الْإِقْرَارِ من الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ لَا تَلْفِيقَ وَلَوْ شَهِدَ الثَّانِي أَنَّهُ بَرِئَ إلَيْهِ منه قال الْعَبَّادِيُّ تَلَفُّقٌ لِأَنَّ إضَافَتَهَا إلَى الدُّيُونِ عِبَارَةٌ عن الْإِيفَاءِ وَقِيلَ بِخِلَافِهِ قُلْت لَكِنَّ ابْنَ فُورَكٍ في كِتَابِهِ سَوَّى بَيْنَهُمَا فقال لَا فَرْقَ لِأَنَّ الشَّهَادَاتِ يُكْتَفَى فيها بِالْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ سَادِسَ عَشَرَهَا يُشْتَرَطُ في تَوْبَةِ الشَّاهِدِ مُضِيُّ مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ وَلَوْ حُدَّ بَعْضُ شُهُودِ الزِّنَا لِنَقْصِ النِّصَابِ لم تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ حتى يَتُوبُوا وفي قَبُولِ رِوَايَتِهِمْ قبل التَّوْبَةِ وَجْهَانِ في الْحَاوِي قال الْأَشْهَرُ الْقَبُولُ وَالْأَقْيَسُ الْمَنْعُ كَالشَّهَادَةِ سَابِعَ عَشَرَهَا له أَنْ يَرْوِيَ على الْخَطِّ الْمَحْفُوظِ عِنْدَهُ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ قال الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ حَافِظًا لِكِتَابِهِ إنْ حَدَّثَ بِهِ من كِتَابِهِ قال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وهو يَدُلُّ على أَنَّهُ يَسُوغُ له أَنْ يُحَدِّثَ من كِتَابِهِ بِمَا يَحْفَظُ وَإِنْ لم يَعْلَمْ سَمَاعَهُ لِلْحَدِيثِ مِمَّنْ سَمِعَهُ لِأَجْلِ إفْتَائِهِمْ من عِلْمِ سَمَاعِهِ لِلْحَدِيثِ مِمَّنْ سَمِعَهُ منه فإنه لَا يُعْتَبَرُ بِحِفْظِهِ بِمَا سَمِعَهُ وَأَنَّهُ يَجُوزُ له أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ وَإِنْ لم يَحْفَظْهُ إمَامُهُ لِحِفْظِهِ مَقَامَ عِلْمِهِ بِسَمَاعِ الحديث مِمَّنْ حَدَّثَ عنه قال وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ من أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ فَقَالُوا لَا يَجُوزُ ذلك وَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ مِمَّنْ هذا حَالُهُ قال وَهَذَا هو الْحَقُّ كَالشَّهَادَةِ سَوَاءٌ وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ في الْقِرَاءَةِ على الشَّيْخِ ثَامِنَ عَشَرَهَا عَكْسُ ما قَبْلِهِ لو تَحَقَّقَ من عِلْمِ سَمَاعِ ذلك الْخَبَرِ لَكِنَّ اسْمَهُ غَيْرُ مَكْتُوبٍ عليه لم يُجَوِّزْ الْمُحَدِّثُونَ رِوَايَتَهُ وَيَجُوزُ عن طَرِيقِ الْفِقْهِ كَالشَّهَادَةِ قَالَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في فَتَاوِيهِ وقال في التي قَبْلَهَا لو رَأَى اسْمَهُ مَكْتُوبًا في خَبَرٍ بِخَطِّ ثِقَةٍ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ أَدْرَكَ الْمَسْمُوعَ منه وَلَا يَذْكُرُ سَمَاعَهُ منه جَوَّزَ له الْمُحَدِّثُونَ رِوَايَتَهُ كَالْإِجَازَةِ
____________________
(3/482)
وَلَا يَجُوزُ من طَرِيقِ الْفِقْهِ ما لم يَتَذَكَّرْ سَمَاعَهُ تَاسِعَ عَشَرَهَا أَنَّ الْأَخْبَارَ إذَا تَعَارَضَتْ وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ صِرْنَا إلَيْهِ وَإِلَّا قُدِّمَ أَحَدُهُمَا لِمُرَجِّحٍ وَأَمَّا في الشَّهَادَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ فَالْمَذْهَبُ التَّسَاقُطُ وَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ الْعِشْرُونَ عِنْدَ الرِّوَايَةِ في الرِّوَايَةِ تُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْجَمْعِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ على خِلَافٍ فيه يَأْتِي في التَّرَاجِيحِ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ يَمْتَنِعُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ على أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا فَرْضٌ عليه وفي أَخْذِ الْأُجْرَةِ على التَّحْدِيثِ خِلَافٌ وَأَفْتَى الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ فِيمَا حَكَاهُ ابن الصَّلَاحِ بِجَوَازِ أَخْذِهَا لِمَنْ يَنْقَطِعُ عن الْكَسْبِ ضَابِطٌ أَسْمَاءُ الْخَبَرِ في مُخْتَلِفِ أَحْوَالِهِ الْخَبَرُ إنْ كان حُكْمًا عَامًّا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمَّةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهُ السَّمَاعَ فَهُوَ الرِّوَايَةُ وَإِنْ كان مُسْتَنَدُهُ الْفَهْمَ من الْمَسْمُوعِ فَهُوَ الْفَتْوَى وَإِنْ كان خَبَرًا جُزْئِيًّا يَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنٍ مُسْتَنَدُهُ الْمُشَاهَدَةُ أو الْعِلْمُ فَهُوَ الشَّهَادَةُ وَإِنْ كان خَبَرًا عن حَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُخْبَرِ عنه وَالْمُخْبَرِ بِهِ هو مُسْتَحِقُّهُ أو نَائِبُهُ فَهُوَ الدَّعْوَى وَإِنْ كان خَبَرًا عن تَصْدِيقِ هذا الْخَبَرِ فَهُوَ الْإِقْرَارُ وَإِنْ كان خَبَرًا عن كَذِبِهِ فَهُوَ الْإِنْكَارُ وَإِنْ كان خَبَرًا نَشَأَ عن دَلِيلٍ فَهُوَ النَّتِيجَةُ وَيُسَمَّى قبل أَنْ يُحْمَلَ عليه الدَّلِيلُ مَطْلُوبًا وَإِنْ كان خَبَرًا عن شَيْءٍ يُقْصَدُ منه نَتِيجَتُهُ فَهُوَ دَلِيلٌ وَجُزْؤُهُ مُقَدِّمَتُهُ
____________________
(3/483)
كتاب الإجماع
____________________
(3/485)
كِتَابُ الْإِجْمَاعِ وَفِيهِ فُصُولٌ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَفِيهِ عَشَرَةُ مَبَاحِثَ في النَّظَرِ في مُسَمَّاهُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا ثُمَّ في إمْكَانِهِ في نَفْسِهِ ثُمَّ في جَوَازِ الْعِلْمِ بِهِ وَجَوَازِ نَقْلِهِ ثُمَّ في كَوْنِهِ حُجَّةً ثُمَّ بِمَاذَا ثَبَتَتْ حُجِّيَّتُهُ ثُمَّ في كَوْنِهِ قَطْعِيًّا ثُمَّ في اسْتِحَالَةِ الْخَطَأِ فيه ثُمَّ في وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ ثُمَّ في اسْتِصْحَابِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ثُمَّ في كَوْنِهِ من خَصَائِصِ هذه الْأُمَّةِ فَهَذِهِ عَشَرَةُ مَقَاصِدَ الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ في مُسَمَّاهُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا هو لُغَةً يُطْلَقُ بِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعَزْمُ على الشَّيْءِ وَالْإِمْضَاءُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ أَيْ اعْزِمُوا وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ لَا صِيَامَ لِمَنْ لم يُجْمِعْ الصِّيَامَ من اللَّيْلِ وَنَقَضَ ابن الْفَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ هذا بِأَنَّ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ يَتَعَدَّى بِعَلَى وَالْإِجْمَاعُ بِمَعْنَى الْعَزِيمَةِ وَقَطْعِ الرِّوَايَةِ لَا يَتَعَدَّى بِعَلَى قُلْت حَكَى ابن فَارِسٍ في الْمَقَايِيسِ أَجْمَعْت على الْأَمْرِ إجْمَاعًا وَأَجْمَعْته نعم تَعْدِيَتُهُ بِنَفْسِهِ أَفْصَحُ وَالثَّانِي الِاتِّفَاقُ وَمِنْهُ أَجْمَعَ الْقَوْمُ إذَا صَارُوا ذَوِي جَمْعٍ قال الْفَارِسِيُّ كما يُقَالُ أَلْبَنَ وَأَتْمَرَ إذَا صَارَ ذَا لَبَنٍ وَتَمْرٍ وَحَكَى عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ عن قَوْمٍ مَنْعَ كَوْنِهِ بِمَعْنَى الْإِجْمَاعِ كما ظَنَّهُ ظَانُّونَ لِتَغَايُرِهِمَا إذْ يَصِحُّ من الْوَاحِدِ أَنْ يَقُولَ أَجْمَعْت رَأْيِي على كَذَا أَيْ عَزَمْت عليه وَلَا يَصِحُّ الْإِجْمَاعُ إلَّا من اثْنَيْنِ وَالصَّحِيحُ هو الْأَوَّلُ ثُمَّ قال الْغَزَالِيُّ هو مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وقال الْقَاضِي الْعَزْمُ يَرْجِعُ إلَى الِاتِّفَاقِ لِأَنَّ من اتَّفَقَ على شَيْءٍ فَقَدْ
____________________
(3/486)
عَزَمَ عليه وقال ابن بَرْهَانٍ وابن السَّمْعَانِيِّ الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِاللُّغَةِ وَالثَّانِي أَشْبَهُ بِالشَّرْعِ قَالَا وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُمَا في أَنَّ الْإِجْمَاعَ من الْوَاحِدِ هل يَصِحُّ فَعَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَا يَصِحُّ إلَّا من جَمَاعَةٍ وَعَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي يَصِحُّ الْإِجْمَاعُ من الْوَاحِدِ وَأَمَّا في الِاصْطِلَاحِ فَهُوَ اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى اللَّهُ عليه وسلم بَعْدَ وَفَاتِهِ في حَادِثَةٍ على أَمْرٍ من الْأُمُورِ في عَصْرٍ من الْأَعْصَارِ فَخَرَجَ اتِّفَاقُ الْعَوَامّ فَلَا عِبْرَةَ بِوِفَاقِهِمْ وَلَا خِلَافِهِمْ وَيَخْرُجُ أَيْضًا اتِّفَاقُ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَبِالْإِضَافَةِ إلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ خَرَجَ اتِّفَاقُ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَإِنْ قِيلَ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ على رَأْيٍ لَكِنَّ الْكَلَامَ في الْإِجْمَاعِ الذي هو حُجَّةٌ وَقَوْلُنَا بَعْدَ وَفَاتِهِ قَيْدٌ لَا بُدَّ منه على رَأْيِهِمْ فإن الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ في زَمَانِهِ عليه السَّلَامُ كما سَنَذْكُرُهُ وَخَرَجَ بِالْحَادِثَةِ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ على الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ وَالْعَمَلِ بِهِ وَقَوْلُنَا على أَمْرٍ من الْأُمُورِ يَتَنَاوَلُ الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ وَالْعُرْفِيَّاتِ وَاللُّغَوِيَّاتِ وَقَوْلُنَا في عَصْرٍ من الْأَعْصَارِ لِيَرْفَعَ وَهْمَ من يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُجْتَهِدِينَ من يُوجَدُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَذَا التَّوَهُّمُ بَاطِلٌ فإنه يُؤَدِّي إلَى عَدَمِ تَصَوُّرِ الْإِجْمَاعِ وَالْمُرَادُ بِالْعَصْرِ مِنَّا من كان من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ في الْوَقْتِ الذي حَدَثَتْ فيه الْمَسْأَلَةُ وَظَهَرَ الْكَلَامُ فيه فَهُوَ من أَهْلِ ذلك الْعَصْرِ وَمَنْ بَلَغَ هذا بَعْدَ حُدُوثِهَا فَلَيْسَ من أَهْلِ ذلك الْعَصْرِ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أبو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ الزَّجَّاجُ في كِتَابِهِ الْبَيَانِ عن أُصُولِ الْفِقْهِ وهو من أَصْحَابِ أبي الطَّيِّبِ بن سَلَمَةَ من أَصْحَابِنَا وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ هذا التَّعْرِيفِ أَشَارَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ بِقَوْلِهِ وَحَدُّهُ في مَوْضِعٍ آخَرَ بهذا الْمَعْنَى فقال هُمْ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ عليهم أَنْ يَجْهَلُوا حُكْمَ اللَّهِ
____________________
(3/487)
تَنْبِيهٌ الْعَبْدَرِيُّ يَرَى أَنَّ التَّعْرِيفَ السَّابِقَ غَيْرُ جَامِعٍ قال الْعَبْدَرِيّ هَكَذَا رَسَمَ الْأُصُولِيُّونَ الْإِجْمَاعَ وَفِيهِ نَظَرٌ فإنه لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يُقَالُ على ما هو إجْمَاعٌ على الْعَمَلِ يَسْتَنِدُ الْحُكْمُ أَيْ بِدَلِيلِهِ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيُقَالُ ما هو إجْمَاعٌ على اسْتِنْبَاطِ الْحُكْمِ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ وَاَلَّذِي هو إجْمَاعٌ على الْعَمَلِ بِمُسْتَنَدِ الْحُكْمِ يَنْقَسِمُ إلَى إجْمَاعٍ نُقِلَ مُسْتَنَدُهُ إلَى الْمُجْتَهِدِينَ وَإِلَى إجْمَاعٍ دَرَسَ مُسْتَنَدُهُ فلم يُنْقَلْ إلَيْهِمْ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ مُتَبَايِنَةٍ فَيَحْتَاجُ إلَى ثَلَاثَةِ رُسُومٍ الْمَبْحَثُ الثَّانِي في إمْكَانِهِ وقد أَنْكَرَ قَوْمٌ إمْكَانَ الْإِجْمَاعِ مُطْلَقًا وَشَبَّهُوهُ بِإِجْمَاعِ الناس في سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ على مَأْكُولٍ وَاحِدٍ وَهَذَا اسْتِبْعَادٌ بَاطِلٌ وَالدَّوَاعِي وَالْمَآكِلُ مُخْتَلِفَةٌ قَطْعًا بِخِلَافِ الْأَحْكَامِ فإن الْبَوَاعِثَ مُتَّفِقَةٌ على طَلَبِهَا وَمِنْهُمْ من قال ما أَجْمَعُوا عليه من جِهَةِ الْحِكَايَةِ عن النبي فَجَائِزٌ وَأَمَّا من جِهَةِ الرَّأْيِ فَبَاطِلٌ حَكَاهُ الصَّيْرَفِيُّ وقال وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِبُطْلَانِهِ في عِلَّتِهِ فَقِيلَ إمْكَانُ الْخَطَأِ عليه وَقِيلَ اسْتِحَالَةُ نَقْلِ ذلك عَنْهُمْ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ إلَّا بِلُقْيَا الْكُلِّ وَتَوَاتُرِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ وَظَاهِرُ كَلَامِ أبي الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هو في إجْمَاعِ الْخَاصَّةِ أَمَّا ما أَجْمَعَ عليه الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ فَلَيْسَ بِمَوْضِعِ الْخِلَافِ قُلْت وَلَوْ عَكَسَ هذا لم يَبْعُدْ الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ في إمْكَانِ الِاطِّلَاعِ عليه وإذا ثَبَتَ أَنَّهُ مُمْكِنٌ في نَفْسِهِ فَاخْتَلَفُوا في إمْكَانِ الِاطِّلَاعِ عليه فَمَنَعَهُ قَوْمٌ لِاتِّسَاعِ خُطَّةِ الْإِسْلَامِ وَانْتِشَارِهِمْ في أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَتَهَاوُنِ الْفَطِنِ وَتَعَذُّرِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ في تَفَاصِيلَ لَا تَتَوَافَرُ الدَّوَاعِي على نَقْلِهَا وَلِتَعَذُّرِ الْعِلْمِ بِبَقَاءِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ إلَى أَنْ
____________________
(3/488)
يَفْنَى الْآخَرُ وَالصَّحِيحُ إمْكَانُهُ عَادَةً فَقَدْ اجْتَمَعَ على الشَّبَهِ خَلْقٌ كَثِيرُونَ زَائِدُونَ على عَدَدِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَالْإِجْمَاعُ على الْحَقِّ مع ظُهُورِ أَدِلَّتِهِ أَوْلَى نعم الْعَادَةُ مَنَعَتْ اجْتِمَاعَ الْكَافَّةِ فَأَمَّا الْخَلْقُ الْكَثِيرُ فَلَا تَمْنَعُ الْعَادَةُ اتِّفَاقَهُمْ بِوَجْهٍ ما وَاشْتَدَّ نَكِيرُ الْقَاضِي على من أَنْكَرَ تَصَوُّرَ وُقُوعِهِ عَادَةً وَفَصَّلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بين كُلِّيَّاتِ الدِّينِ فَلَا يَمْنَعُ من تَصَوُّرِ الدَّوَاعِي الْمُسْتَحَثَّةِ وَكَمَا صَوَّرَهُ الْقَاضِي في اجْتِمَاعِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَبَيْنَ الْمَسَائِلَ الْمَظْنُونَةِ مع تَفَرُّقِ الْعُلَمَاءِ وَانْتِفَاءِ الدَّوَاعِي فَلَا تُتَصَوَّرُ عَادَةً وَنُقِلَ عن الْإِمَامِ أَحْمَدَ ما يَقْتَضِي إنْكَارَهُ قال في رِوَايَةِ ابْنِهِ عبد اللَّهِ من ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَقَدْ كَذَبَ لَعَلَّ الناس قد اخْتَلَفُوا وَلَكِنْ يقول لَا يَعْلَمُ الناس اخْتَلَفُوا إذْ لم يَبْلُغْهُ قال أَصْحَابُهُ وَإِنَّمَا قال هذا على جِهَةِ الْوَرَعِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ خِلَافٌ لم يَبْلُغْهُ أو قال هذا في حَقِّ من ليس له مَعْرِفَةٌ بِخِلَافِ السَّلَفِ لِأَنَّ أَحْمَدَ قد أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ في مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَأَجْرَاهُ ابن حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ على ظَاهِرِهِ وقال ابن تَيْمِيَّةَ أَرَادَ غير إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لِأَنَّ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عِنْدَهُ حُجَّةٌ مَعْلُومٌ تَصَوُّرُهُ أَمَّا من بَعْدَهُمْ فَقَدْ كَثُرَ الْمُجْتَهِدُونَ وَانْتَشَرُوا قال وَإِنَّمَا قال ذلك لِأَنَّهُ كان يَذْكُرُ الحديث فَيُعَارَضُ بِالْإِجْمَاعِ فيقول إجْمَاعُ من إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إجْمَاعُ أَهْلِ الْكُوفَةِ حتى قال ابن عُلَيَّةَ وَالْأَصَمُّ يَذْكُرُونَ الْإِجْمَاعَ وَجَعَلَ الْأَصْفَهَانِيُّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ في غَيْرِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وقال الْحَقُّ تَعَذُّرُ الِاطِّلَاعِ على الْإِجْمَاعِ لَا إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ حَيْثُ كان الْمُجْمِعُونَ وَهُمْ الْعُلَمَاءُ في قِلَّةٍ أَمَّا الْآنَ وَبَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ وَكَثْرَةِ الْعُلَمَاءِ فَلَا مَطْمَعَ لِلْعِلْمِ بِهِ قال وهو اخْتِيَارُ أَحْمَدَ مع قُرْبِ عَهْدِهِ بِهِ من الصَّحَابَةِ وَقُوَّةِ حِفْظِهِ وَشِدَّةِ اطِّلَاعِهِ على الْأُمُورِ النَّقْلِيَّةِ قال وَالْمُصَنِّفُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا خَبَرَ له من الْإِجْمَاعِ إلَّا ما يَجِدُهُ مَكْتُوبًا في الْكُتُبِ وَمِنْ الْبَيِّنِ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الِاطِّلَاعُ عليه إلَّا بِالسَّمَاعِ منهم أو بِنَقْلِ أَهْلِ التَّوَاتُرِ إلَيْنَا وَلَا سَبِيلَ إلَى ذلك إلَّا في عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَأَمَّا بَعْدَهُمْ فَلَا انْتَهَى وَعَقَدَ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ بَابًا في أَنَّ الْإِجْمَاعَ يَصِحُّ أَنْ يُعْلَمَ وُقُوعُهُ وقال من الناس من مَنَعَ أَنْ يَكُونَ لِلْعِلْمِ بِهِ طَرِيقَةٌ يُعْلَمُ بها حُصُولُهُ ثُمَّ زَيَّفَهُ قال وَالطَّرِيقُ
____________________
(3/489)
شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا الْمُشَاهَدَةُ وَالْآخَرُ النَّقْلُ فَإِنْ كان الْإِجْمَاعُ مُتَقَدِّمًا فَلَيْسَ إلَّا النَّقْلُ لِتَعَذُّرِ الْمُشَاهَدَةِ وَإِنْ كان في الْوَقْتِ فَالْأَمْرَانِ طَرِيقٌ إلَيْهِ وَوَجْهُ الْحَصْرِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ بِالْعَقْلِ وَلَا بِخَبَرٍ من اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ عليه السَّلَامُ لِتَعَذُّرِهِ فَتَعَيَّنَ ما قُلْنَاهُ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مَسَائِلَ الْإِجْمَاعِ أَكْثَرُ من عِشْرِينَ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ وَبِهَذَا يُرَدُّ قَوْلُ الْمُلْحِدَةِ إنَّ هذا الدِّينَ كَثِيرُ الِاخْتِلَافِ إذْ لو كان حَقًّا لَمَا اخْتَلَفُوا فيه فَنَقُولُ أَخْطَأْت بَلْ مَسَائِلُ الْإِجْمَاعِ أَكْثَرُ من عِشْرِينَ أَلْفَ مَسْأَلَةٍ ثُمَّ لها من الْفُرُوعِ التي يَقَعُ الِاتِّفَاقُ منها وَعَلَيْهَا وَهِيَ صَادِرَةٌ عن مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ التي هِيَ أُصُولُ أَكْثَرِ من مِائَةِ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ يَبْقَى قَدْرُ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ هِيَ من مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَالْخِلَافُ في بَعْضِهَا يَحْكُمُ بِخَطَأِ الْمُخَالِفِ على الْقَطْعِ وَبِفِسْقِهِ وفي بَعْضِهَا يَنْقُضُ حُكْمَهُ وفي بَعْضِهَا يُتَسَامَحُ وَلَا يَبْلُغُ ما بَقِيَ من الْمَسَائِلِ التي تَبْقَى على الشُّبْهَةِ إلَى مِائَتَيْ مَسْأَلَةٍ انْتَهَى الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ في كَوْنِهِ حُجَّةً الرَّابِعُ وإذا ثَبَتَ إمْكَانُ الْعَمَلِ بِهِ فَهُوَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ ولم يُخَالِفْ فيه غَيْرُ النَّظَّامِ وَالْإِمَامِيَّةِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَوَّلُ من بَاحَ بِرَدِّهِ النَّظَّامُ ثُمَّ تَابَعَهُ بَعْضُ الرَّوَافِضِ أَمَّا الْإِمَامِيَّةُ فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمْ قَوْلُ الْإِمَامِ دُونَ الْأُمَّةِ وَالنَّظَّامُ يُسَوِّي بين قَوْلِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ وَبَيْنَ قَوْلِ آحَادِهَا في جَوَازِ الْخَطَأِ على الْجَمِيعِ وَلَا يَرَى في الْإِجْمَاعِ حُجَّةً وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ في مُسْتَنِدِهِ إنْ ظَهَرَ لنا وَإِنْ لم يَظْهَرْ لم يُقَدِّرْ له دَلِيلًا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ هَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمْ وَتَبِعَهُمْ الرَّازِيَّ وَنَقَلَ ابن بَرْهَانٍ عنه أَنَّهُ يُحِيلُ الْإِجْمَاعَ وَتَبِعَهُ ابن الْحَاجِبِ وقال بَعْضُهُمْ الصَّحِيحُ عن النَّظَّامِ أَنَّهُ يقول بِتَصَوُّرِ الْإِجْمَاعِ وَأَنَّهُ حُجَّةٌ وَلَكِنْ فَسَّرَهُ بِكُلِّ قَوْلٍ قَامَتْ حُجَّتُهُ وَإِنْ كان قَوْلَ وَاحِدٍ وَيُسَمَّى بِذَلِكَ قَوْلُ النبي عليه السَّلَامُ إجْمَاعًا وَمَنَعَ الْحُجِّيَّةَ عن الْإِجْمَاعِ الذي نُفَسِّرُهُ نَحْنُ بِمَا نُفَسِّرُهُ وَكَأَنَّهُ لَمَّا أَضْمَرَ في نَفْسِهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ بِاصْطِلَاحِنَا غير حُجَّةٍ وَتَوَاتَرَ عِنْدَهُ لم يُخْبِرْ بِمُخَالَفَتِهِ فَحَسَّنَ الْكَلَامَ وَفَسَّرَهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ هَكَذَا قال الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ هذا تَحْرِيرُ النَّقْلِ عِنْدَهُ وَلِأَجْلِهِ قال
____________________
(3/490)
الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ النِّزَاعُ لَفْظِيٌّ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ نُقِلَ عن النَّظَّامِ إنْكَارُ حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ وَرَأَيْت أَبَا الْحُسَيْنِ الْخَيَّاطَ أَنْكَرَ ذلك في نَقْضِهِ لِكِتَابِ الرَّاوَنْدِيُّ وَنَسَبَهُ إلَى الْكَذِبِ إلَّا أَنَّ النَّقْلَ مَشْهُورٌ عن النَّظَّامِ بِذَلِكَ ا هـ وَحَكَى الْجَاحِظُ في كِتَابِ الْفُتْيَا عن النَّظَّامِ أَنَّهُ قال الْحُكْمُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أو الْكِتَابِ أو إجْمَاعِ النَّقْلِ ا هـ لَكِنْ قِيلَ إنَّهُ عَنَى بِهِ التَّوَاتُرَ وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ عن أبي عبد الرحمن الشَّافِعِيِّ وَابْنِ عِيسَى الْوَرَّاقِ أَنَّهُ إذَا أَجْمَعَ أَهْلُ عَصْرٍ على حُكْمٍ جَازَ أَنْ يُخَالِفَهُمْ فيه من لم يَدْخُلْ مَعَهُمْ في الْإِجْمَاعِ وَلَا يَجُوزُ ذلك لِمَنْ وَافَقَهُمْ وَذَهَبَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ إلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةُ اللَّهِ عز وجل في شَرِيعَتِهِ مع اخْتِلَافِهِمْ في شُرُوطِهِ الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ ما ثَبَتَ بِهِ حُجِّيَّةُ الْإِجْمَاعِ الْخَامِسُ في أَنَّهُ ثَبَتَتْ حُجَّتُهُ وقد اُخْتُلِفَ فيه فَقِيلَ دَلَّ عليه الْعَقْلُ وَالْجُمْهُورُ على أَنَّهُ السَّمْعُ وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي وابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا وقال صَاحِبُ الْمَصَادِرِ إنَّهُ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَمَنَعُوا ثُبُوتَهُ من جِهَةِ الْعَقْلِ لِأَنَّ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ وَإِنْ بَعُدَ في الْعَقْلِ اجْتِمَاعُهُمْ على الْكَذِبِ فَلَا يَبْعُدُ اجْتِمَاعُهُمْ على الْخَطَأِ كَاجْتِمَاعِ الْكُفَّارِ على جَحْدِ النُّبُوَّةِ وَغَيْرِ ذلك وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال عليه بِالْإِجْمَاعِ فإن الشَّيْءَ لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ وَلَا الِاسْتِدْلَال عليه بِالْقِيَاسِ فإنه مَظْنُونٌ وَلَا يُحْتَجُّ بِالْمَظْنُونِ على الْقَطْعِيِّ وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ الْبَغْدَادِيَّةِ يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ بِالْإِجْمَاعِ فإنه قال عَقِبَ ما ذَكَرَهُ من أَدِلَّةِ السُّنَّةِ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا من أَهْلِ بَلَدِنَا يَرْضَاهُ وَحَمَلَ عنه إلَّا صَارَ إلَى قَوْلِهِمْ مِمَّا لَا سُنَّةَ فيه ا هـ وَيُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْإِجْمَاعِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ قِيَاسًا على السُّنَّةِ لِأَنَّا لم نَتَعَبَّدْ بِالْقِيَاسِ في أُصُولِ الشَّرِيعَةِ فلم يَبْقَ إلَّا دَلِيلُ النَّقْلِ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وقد أَكْثَرَ منه الْأَئِمَّةُ وزاد الْغَزَالِيُّ ثَالِثًا وهو طَرِيقُ الْمَعْنَى فإن الصَّحَابَةَ إذَا قَضَوْا بِقَضِيَّةٍ وَقَطَعُوا
____________________
(3/491)
بها فَلَا يَكُونُ إلَّا عن مُسْتَنَدٍ قَاطِعٍ فإن الْعَادَةَ تُحِيلُ تَثْبِيتَهُمْ قَاعِدَةَ الدِّينِ بِغَيْرِ قَطْعِيٍّ وَإِلَّا لَزِمَ الْقَدْحُ فِيهِمْ وهو مُنْتَفٍ وَحَكَى سُلَيْمٌ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَجْهًا ثَالِثًا أَنَّ الْعَقْلَ وَالسَّمْعَ دَلَّا عليه وَفَرَّعَ عليه الْجُوَيْنِيُّ في الْمُحِيطِ وابن السَّمْعَانِيِّ إجْمَاعَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ هل هو كَإِجْمَاعِ هذه الْأُمَّةِ وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ فإن إجْمَاعَ هذه الْأُمَّةِ مَعْصُومٌ من الْخَطَأِ وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ عن الْجُمْهُورِ أَنَّ دَلِيلَ الْإِجْمَاعِ سَمْعِيٌّ وَالْعَقْلِيُّ مُؤَكِّدٌ له وهو إحَالَةُ الْعَادَةِ خَطَأُ الْجَمِّ الْغَفِيرِ في حُكْمٍ لَا يُثْبِتُهُ أَحَدٌ لِمَوْقِعِ الْخَطَأِ فيه وَأَنَّ النُّصُوصَ شَهِدَتْ بِعِصْمَتِهِمْ فَلَا يَقُولُونَ إلَّا حَقًّا سَوَاءٌ اسْتَنَدُوا في قَوْلِهِمْ إلَى قَاطِعٍ أو مَظْنُونٍ وَطَرِيقَةُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ تَقْتَضِي أَنَّهُ ليس دَلِيلًا لِنَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ دَلِيلُ الدَّلِيلِ لَكِنَّ دَلَالَتَهُ على الدَّلِيلِ دَلَالَةٌ قَطْعِيَّةٌ عَادِيَّةٌ عِنْدَهُمْ وهو قَرِيبٌ مِمَّا سَبَقَ عن الْغَزَالِيِّ تَنْبِيهٌ وَجْهُ وَضْعِ الْإِجْمَاعِ في أُصُولِ الْفِقْهِ قِيلَ إنَّ هذه الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ من صِنَاعَةِ الْأُصُولِيِّ كما لَا يَلْزَمُ تَثْبِيتُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ تَثْبِيتُ الْإِجْمَاعِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمَّا كان أَمْرًا رَاجِعًا إلَى السُّنَّةِ مَوْجُودًا فيها بِالِاسْتِرْوَاحِ لَا بِالنَّصِّ وَبِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ احْتَاجَ إلَى تَثَبُّتِهِ وَإِخْرَاجِهِ من تِلْكَ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ حتى يَصِيرَ أَصْلًا ثَالِثًا من الْأُصُولِ الْأُوَلِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ في التِّبْيَانِ وَالظُّهُورِ الْمَبْحَثُ السَّادِسُ في أَنَّهُ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ قال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ إذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ على أَحَدِ أَدِلَّتِهِ فَهَلْ يُقْطَعُ على صِحَّتِهِ فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا نعم لِيَصِحَّ قِيَامُ الْحُجَّةِ الثَّانِي الْمَنْعُ اعْتِبَارًا بِأَهْلِهِ في انْتِفَاءِ الْعِصْمَةِ عن آحَادِهِمْ فَكَذَا عن جَمِيعِهِمْ وَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ من الْأُصُولِيِّينَ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ منهم الصَّيْرَفِيُّ وابن بَرْهَانٍ
____________________
(3/492)
وَجَزَمَ بِهِ من الْحَنَفِيَّةِ الدَّبُوسِيُّ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَقَالَا كَرَامَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وقال الْأَصْفَهَانِيُّ إنَّهُ الْمَشْهُورُ وَإِنَّهُ يُقَدَّمُ على الْأَدِلَّةِ كُلِّهَا وَلَا يُعَارِضُهُ دَلِيلٌ أَصْلًا وَنَسَبَهُ إلَى الْأَكْثَرِينَ قال بِحَيْثُ يُكَفَّرُ أو يُضَلَّلُ وَيُبَدَّعُ مُخَالِفُهُ وَخَالَفَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ فَقَالَا إنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ بين ما اتَّفَقَ عليه الْمُعْتَبَرُونَ فَحُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ وَبَيْنَ ما اخْتَلَفُوا فيه كَالسُّكُوتِيِّ وما نَدْرِي مَخَالِفَهُ فَحُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ وقال الْبَزْدَوِيُّ وَجَمَاعَةٌ من الْحَنَفِيَّةِ الْإِجْمَاعُ مَرَاتِبُ فَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مِثْلُ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ وَإِجْمَاعُ من بَعْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْهُورِ من الْأَحَادِيثِ وَالْإِجْمَاعُ الذي سَبَقَ فيه الْخِلَافُ في الْعَصْرِ السَّالِفِ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ في الْكُلِّ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ لَا الْعِلْمَ فَصَارَتْ الْمَذَاهِبُ أَرْبَعَةً يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ لَا يُوجِبُهُمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ حَيْثُ اتَّفَقُوا عليه قَطْعًا يُوجِبُ الْعِلْمَ في إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وقد أَوْرَدَ صَاحِبُ التَّقْوِيمِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ قد يَقَعُ عن أَمَارَةٍ فَكَيْفَ يُوجِبُ الْعِلْمَ إجْمَاعٌ تَفَرَّعَ عن الظَّنِّ وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمُوجِبَ لِذَلِكَ اتِّصَالُهَا بِالْإِجْمَاعِ وقد ثَبَتَ عِصْمَتُهُمْ من الْخَطَأِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الِاتِّصَالِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَتَقْرِيرِهِ على ذلك وَأَمَّا أَنَّ الْإِجْمَاعَ من الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ التي يَحْكُمُ بها على الْقَوَاطِعِ التي هِيَ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَاطِعًا لِاسْتِحَالَةِ رَفْعِ الْقَاطِعِ بِمَا ليس بِقَاطِعٍ وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في تَعْلِيقِهِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ في الذَّخِيرَةِ قَوْلَيْنِ في أَنَّ لَفْظَ الْإِجْمَاعِ هل يُطْلَقُ على الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ أو لَا يُطْلَقُ إلَّا على الْقَطْعِيِّ وَصَرَّحَا بِأَنَّهُ خِلَافٌ في الْعِبَارَةِ مَسْأَلَةٌ ثُبُوتُ الْإِجْمَاعِ بِنَقْلِ الْآحَادِ وَبِالظَّنِّيَّاتِ وَالْعُمُومِيَّاتِ فَعَلَى هذا لَا يُقْبَلُ فيه أَخْبَارُ الْآحَادِ وَلَا الظَّوَاهِرُ وَنُقِلَ عن الْجُمْهُورِ وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ من الْفُقَهَاءِ إلَى ثُبُوتِهِ بِهِمَا في حَقِّ الْعَمَلِ خَاصَّةً وَلَا يُنْسَخُ بِهِ قَاطِعٌ كَالْحَالِ في أَخْبَارِ الْآحَادِ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ في الْعَمَلِيَّاتِ لَا الْعِلْمِيَّاتِ وَأَبَاهُ الْجُمْهُورُ مُفَرِّقِينَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْأَخْبَارَ قد تَدُلُّ على قَبُولِهَا الْأَدِلَّةَ ولم يَثْبُتْ لنا مِثْلُهَا في الْإِجْمَاعِ
____________________
(3/493)
فَإِنْ أَلْحَقْنَاهُ بها كان إلْحَاقًا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ وَلَا يَجْرِي ذلك في الْأُصُولِ إذَا لم يَنْعَقِدْ بِالْقِيَاسِ في قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَهَذَا الْقَوْلُ صَحَّحَهُ عبد الْجَبَّارِ وَالْغَزَالِيُّ قال وَلَسْنَا قَاطِعِينَ بِبُطْلَانِ مَذْهَبِ من تَمَسَّك بِهِ في حَقِّ الْعَمَلِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ لَكِنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ على قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَالظَّوَاهِرِ في الْعَمَلِيَّاتِ لم يُفَرِّقْ بين ما يَثْبُتُ بِوَاسِطَةٍ أو بِغَيْرِهَا وَلِأَنَّ ما قُصِدَ فيه الْعَمَلُ يُكْتَفَى فيه بِالظَّنِّ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَلَيْسَ آكَدُ من سُنَنِ الرَّسُولِ وَهِيَ تَثْبُتُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ قال وَسَوَاءٌ كان النَّاقِلُ له من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَمْ لَا وهو الصَّحِيحُ عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْآمِدِيَّ وَشَنَّعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ على الْفُقَهَاءِ إثْبَاتَهُمْ الْإِجْمَاعَ بِالْعُمُومَاتِ وَالظَّنِّيَّاتِ وَاعْتِقَادَهُمْ أَنَّ مُخَالِفَهَا بِتَأْوِيلٍ لَا يُكَفَّرُ وَلَا يُفَسَّقُ مع قَوْلِهِمْ إنَّ مُخَالِفَ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ يُكَفَّرُ أو يَفْسُقُ وهو تَرْجِيحٌ لِلْفَرْعِ على الْأَصْلِ وَسَيَأْتِي جَوَابُهُ قال الْآمِدِيُّ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ وَالْمَسْأَلَةُ دَائِرَةٌ على اشْتِرَاطِ كَوْنِ دَلِيلِ الْأَصْلِ مَقْطُوعًا بِهِ وَعَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فَمَنْ شَرَطَ الْقَطْعَ مَنَعَ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُفِيدًا في نَقْلِ الْإِجْمَاعِ وَمَنْ لم يَشْتَرِطْ لم يَمْنَعْ وَكَلَامُ الْإِمَامِ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْخِلَافَ ليس مَبْنِيًّا على هذا الْأَصْلِ بَلْ هو جَارٍ مع الْقَوْلِ بِأَنَّ أَصْلَ الْإِجْمَاعِ ظَنِّيٌّ وإذا قُلْنَا بِالِاكْتِفَاءِ بِالْآحَادِ في نَقْلِهِ كَالسُّنَّةِ فَهَلْ يُنَزَّلُ الظَّنُّ الْمُتَلَقَّى من أَمَارَاتٍ وَحَالَاتٍ مَنْزِلَةَ الظَّنِّ الْحَاصِلِ من نَقْلِ الْعُدُولِ قال الْإِبْيَارِيُّ فيه خِلَافٌ وَذَهَبَ الْإِمَامُ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا لِعَمَلٍ وَإِنْ غَلَبَ على الظَّنِّ منها ما يَغْلِبُ على الظَّنِّ من قَوْلِ الشَّارِعِ فِيمَا يَظْهَرُ من لَفْظِهِ مِمَّا يُشْعِرُ بِهِ ظَاهِرُهُ
____________________
(3/494)
الْمَبْحَثُ السَّابِعُ في اسْتِحَالَةِ الْخَطَأِ على الْإِجْمَاعِ وَفِيهِ مَسَائِلُ الْأَوَّلُ أَجْمَعُوا على أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَجْتَمِعَ الْأُمَّةُ على الْخَطَأِ في مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في طَرِيقِهِ فَنَقَلَ الْقَاضِي عن الْجُمْهُورِ أَنَّهُ السَّمْعُ دُونَ الْعَقْلِ وَأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ الْخَطَأُ عليهم عَقْلًا وَلَكِنَّهُ امْتَنَعَ بِالسَّمْعِ وَقِيلَ بَلْ امْتَنَعَ عَقْلًا وَسَمْعًا قال ابن فُورَكٍ قال أَصْحَابُنَا إنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ لَمَّا خَتَمَ أَمْرَ الرِّسَالَةِ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عَصَمَ جُمْلَةَ أُمَّتِهِ من الْإِجْمَاعِ على الْخَطَأِ في كل عَصْرٍ حتى يَكُونُوا مَعْصُومِينَ في التَّبْلِيغِ وَالْأَدَاءِ وَيَكُونُوا كَنَبِيٍّ جَدَّدَ شَرِيعَةً قُلْت وَقُبِلَ قَوْلُهُمْ كَقَوْلِ الْمَعْصُومِ فَإِنْ قِيلَ سَيَأْتِي جَوَازُ رُجُوعِهِمْ عَمَّا أَجْمَعُوا عليه إذَا شَرَطْنَا انْقِرَاضَ الْعَصْرِ قُلْنَا قَائِلُهُ يُجَوِّزُ الْخَطَأُ عليهم لَكِنْ لَا يُقَرُّونَ عليه وَهُمْ مَعْصُومُونَ عن دَوَامِ الْخَطَأِ وَهَذَا يُحْتَمَلُ إنْ قَصُرَ الزَّمَانُ فَإِنْ تَطَاوَلَهُ بِحَيْثُ يَتَّبِعُهُمْ الناس على وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ فَمُسْتَحِيلٌ كما يَمْتَنِعُ في الرِّسَالَةِ الثَّانِيَةُ أَنْ يُخْطِئَ كُلُّ فَرِيقٍ في مَسْأَلَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ عن الْأُخْرَى فَيَجُوزُ الْقَطْعُ بِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَجُوزُ أَنْ يُخْطِئَ الثَّالِثَةُ أَنْ يُجْمِعُوا على الْخَطَأِ في مَسْأَلَتَيْنِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ قَائِلًا بِمَذْهَبِ الْخَوَارِجِ وَالْبَاقِي بِالِاعْتِزَالِ وَالرَّفْضِ وفي الْفُرُوعِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ النِّصْفُ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَرِثُ وَالْبَاقِي بِأَنَّ الْقَاتِلَ عَمْدًا يَرِثُ لِرُجُوعِهِمَا إلَى مَأْخَذٍ وَاحِدٍ وهو مَانِعُ الْمِيرَاثِ فَوَقَعَ الْخَطَأُ فيه كُلِّهِ اخْتَلَفُوا فيه فَمَنْ نَظَرَ إلَى اتِّحَادِ الْأَصْلِ مَنَعَ وَمِنْ نَظَرَ إلَى تَعَدُّدِ الْفُرُوعِ اخْتَارَ وَالْأَكْثَرُونَ كما قال الْهِنْدِيُّ على امْتِنَاعِهِ لِأَنَّهُ إجْمَاعٌ على خَطَأٍ فلم يَقَعْ منهم كما لم يَقَعْ في الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ وَقِيلَ يَصِحُّ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ على خَطَأٍ حَكَاهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ لِأَنَّ الْخَطَأَ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ليس بِقَوْلِ كل الْأُمَّةِ بَلْ الْفَرِيقُ الذَّاهِبُ إلَيْهَا فَقَطْ
____________________
(3/495)
مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمِعُوا على جَهْلِ ما يَلْزَمُهُمْ عِلْمُهُ فإنه لو وَقَعَ لَكَانَ إجْمَاعًا منهم على الْخَطَأِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَضْدَادِ الْعِلْمِ وَالشَّكِّ وَالظَّنِّ أَمَّا ذَهَابُهُمْ عن الْعِلْمِ بِمَا لم يُكَلَّفُوهُ فَجَائِزٌ سَوَاءٌ نُصِبَ عليه دَلِيلٌ أَمْ لَا قَالَهُ عبد الْوَهَّابِ الْمَبْحَثُ الثَّامِنُ وُجُوبُ اتِّبَاعِهِ وَاحْتَجْنَا إلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ من كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا وُجُوبُ اتِّبَاعِهِ بِدَلِيلِ أَنَّا إذَا قُلْنَا كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ لِلْحَقِّ يَجِبُ على مُجْتَهِدٍ آخَرَ اتِّبَاعُهُ وَوَجْهُ الْوُجُوبِ أَنَّ الشَّرْعَ إذَا قال ما أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عليه حَقٌّ وَجَبَ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ كما إذَا قال هذا بَاطِلٌ وَجَبَ اجْتِنَابُهُ الْمَبْحَثُ التَّاسِعُ اسْتِصْحَابُ الْإِجْمَاعِ وَاجِبٌ أَبَدًا لِأَنَّهُ لَا يُنْسَخُ كما يُنْسَخُ النَّصُّ وَلَا يَخْتَصُّ كما يَخْتَصُّ الْمَفْهُومُ نعم إنْ أَجْمَعُوا على شَيْءٍ ثُمَّ حَدَثَ مَعْنًى في ذلك الشَّيْءِ لم يُحْتَجَّ بِالْإِجْمَاعِ الْمُقَدَّمِ خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ وَسَيَأْتِي في بَابِ الِاسْتِصْحَابِ وقد احْتَجَّ ابن دَاوُد على بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فقال اتَّفَقُوا على أنها إذَا كانت أَمَةً تُبَاعُ فَمَنْ ادَّعَى أَنَّ هذا الْحُكْمَ يَزُولُ بِوِلَادَتِهَا فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ فَقَلَبَهُ عليه ابن سُرَيْجٍ وقال اتَّفَقْنَا على أنها إذَا كانت حَامِلًا لَا تُبَاعُ فَمَنْ ادَّعَى أنها لَا تُبَاعُ إذَا وَلَدَتْ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ فَبُهِتَ
____________________
(3/496)
الْمَبْحَثُ الْعَاشِرُ في أَنَّهُ من خَصَائِصِ هذه الْأُمَّةِ أو كان حُجَّةً في الْأُمَمِ السَّابِقَةِ أَيْضًا وَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا وَبِهِ قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ أَنَّهُ كان حُجَّةً وَالْأَصَحُّ كما قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ وابن الْقَطَّانِ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في اللُّمَعِ عن أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ وَجَزَمَ الْقَفَّالُ في تَفْسِيرِهِ وَحُجَّةُ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ من خَصَائِصِ هذه الْأُمَّةِ أَنَّ الدَّلِيلَ إنَّمَا قام على عِصْمَةِ هذه الْأُمَّةِ دُونَ غَيْرِهَا وَتَوَقَّفَ الْقَاضِي في الْمَسْأَلَةِ قال الْإِبْيَارِيُّ وهو الْمُخْتَارُ لَا بِالنَّظَرِ إلَى طَرِيقِهِ بَلْ لِأَنَّهُ لم يَثْبُتْ عِنْدَنَا اسْتِحَالَةُ الْغَلَطِ في مُسْتَنَدِ فَهْمِ الْحُكْمِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ وقال الدَّبُوسِيُّ يُحْتَمَلُ أَنَّ إجْمَاعَهُمْ كان حُجَّةً ما دَامُوا مُتَمَسِّكِينَ بِالْكِتَابِ وَإِنَّمَا لم يَجْعَلْهُ الْيَوْمَ حُجَّةً لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِهِ وَإِنَّمَا يُنْسَبُونَ إلَى الْكِتَابِ بِدَعْوَاهُمْ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنْ قَطَعَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ بِقَوْلِهِمْ في كل أُمَّةٍ فَهُوَ حُجَّةٌ لِاسْتِنَادِهِ إلَى حُجَّةٍ قَاطِعَةٍ فإن الْعَادَةَ لَا تَخْتَلِفُ في الْأُمَمِ وَإِنْ كان الْمُسْتَنَدُ مَظْنُونًا فَالْوَجْهُ الْوَقْفُ وقال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ إنْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ إجْمَاعَهُمْ كان حُجَّةً قُلْنَا بِهِ وَإِنْ لم يَثْبُتْ ذلك لم يُصَرْ إلَيْهِ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ وقال في الْوَجِيزِ الْحَقُّ أَنَّ هذا مَعْلُومٌ من جِهَةِ الْعَقْلِ فَإِنْ ثَبَتَ ذلك بِطَرِيقٍ قَطْعِيٍّ صِرْنَا إلَيْهِ وَنَحْوُهُ قَوْلُ إلْكِيَا لَا مَعْنَى لِلْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّزُ كِلَا الْوَجْهَيْنِ وإذا تَقَابَلَ الْجَائِزَانِ يُوقَفُ الْأَمْرُ على السَّمْعِ وَلَا قَاطِعَ من جِهَتِهِ فَتَوَقَّفْنَا ولم يَثْبُتْ عِنْدَنَا أَنَّ سَلَفَ كل أُمَّةٍ كَانُوا يُنْكِرُونَ على من يُخَالِفُ أَصْحَابَ الْمُرْسَلِينَ في أَحْكَامِ الْوَقَائِعِ بِنَاءً على أَدِلَّةِ تِلْكَ الشَّرَائِعِ وقال الْإِبْيَارِيُّ يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ في هذه الْمَسْأَلَةِ هل لها فَائِدَةٌ في الْأَحْكَامِ وَإِلَّا فَهِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّارِيخِ كَالْكَلَامِ فِيمَا كان عليه السَّلَامُ عليه قبل الْبَعْثَةِ وَالصَّحِيحُ عِنْدِي بِنَاؤُهَا على أَنَّ شَرْعَ من قَبْلَنَا شَرْعٌ لنا أَمْ لَا فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ شَرْعٌ لنا افْتَقَرَ إلَى النَّظَرِ في إجْمَاعِهِمْ هل كان حُجَّةً عِنْدَهُمْ أَمْ لَا وقد حَكَى الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ الْخِلَافَ قَرِيبًا من ذلك فقال وَاخْتَلَفُوا في أُمَّةِ كل نَبِيٍّ هل كان إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً فقال بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إجْمَاعُ غَيْرِ هذه الْأُمَّةِ لَا يَكُونُ حُجَّةً وَبِهِ قال ابن أبي هُرَيْرَةَ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَجْمَعُوا على قَتْلِ عِيسَى
____________________
(3/497)
وَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِكَذِبِهِمْ وقال آخَرُونَ يَكُونُ حُجَّةً على من بَعْدَهُمْ من أُمَّتِهِمْ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِشَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ في عَصْرٍ بَعْدَ عَصْرٍ ما لم يَرِدْ نَسْخُهَا فَائِدَةٌ دَلِيلٌ يَدُلُّ على أَنَّ الْإِجْمَاعَ من خَصَائِصِ هذه الْأُمَّةِ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ على أَنَّهُ من خَصَائِصِ هذه الْأُمَّةِ بِحَدِيثِ نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يوم الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ من قَبْلِنَا ثُمَّ هذا يَوْمُهُمْ الذي فُرِضَ عليهم فَاخْتَلَفُوا فيه فَهَدَانَا اللَّهُ له وَالنَّاسُ لنا تَبَعٌ فيه الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ وَوَجْهُ الِاسْتِنْبَاطِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ من الِاثْنَتَيْنِ أَجْمَعَتْ على تَفْضِيلِ يَوْمٍ وَأَخْطَأَتْ السِّرُّ في اخْتِصَاصِ هذه الْأُمَّةِ بِالصَّوَابِ في الْإِجْمَاعِ وَالسِّرُّ في اخْتِصَاصِ هذه الْأُمَّةِ بِالصَّوَابِ في الْإِجْمَاعِ أَنَّهُمْ الْجَمَاعَةُ بِالْحَقِيقَةِ لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بُعِثَ إلَى الْكَافَّةِ وَالْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ إنَّمَا بُعِثَ النبي لِقَوْمِهِ وَهُمْ بَعْضٌ من كُلٍّ فَيَصْدُقُ على كل أُمَّةٍ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ مُنْحَصِرِينَ فِيهِمْ في عَصْرٍ وَاحِدٍ وَأَمَّا هذه الْأُمَّةُ فَالْمُؤْمِنُونَ مُنْحَصِرُونَ فِيهِمْ وَيَدُ اللَّهِ مع الْجَمَاعَةِ فَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ خَصَّهَا بِالصَّوَابِ
____________________
(3/498)
الْفَصْلُ الثَّانِي فِيمَا يَنْعَقِدُ عنه الْإِجْمَاعُ ولا بُدَّ له من مُسْتَنَدٍ لِأَنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ لَيْسَتْ لهم رُتْبَةُ الِاسْتِقْلَالِ بِإِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ وَإِنَّمَا يُثْبِتُونَهَا نَظَرًا إلَى أَدِلَّتِهَا وَمَأْخَذِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عن مُسْتَنَدٍ لِأَنَّهُ لو انْعَقَدَ من غَيْرِ مُسْتَنَدٍ لَاقْتَضَى إثْبَاتَ الشَّرْعِ بَعْدَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وهو بَاطِلٌ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في بَابِ الْقِرَاضِ من النِّهَايَةِ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال الْإِجْمَاعُ إنْ كان حُجَّةً قَاطِعَةً سَمْعِيَّةً فَلَا يَحْكُمُ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ بِإِجْمَاعِهِمْ وَإِنَّمَا يَصْدُرُ الْإِجْمَاعُ عن أَصْلٍ ا هـ وَحَكَى عبد الْجَبَّارِ عن قَوْمٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ بِالْبَخْتِ وَالْمُصَادَفَةِ بِأَنْ يُوَفِّقَهُمْ اللَّهُ لِاخْتِيَارِ الصَّوَابِ من غَيْرِ مُسْتَنَدٍ وهو بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ من الْبَخْتِ وهو التَّوْفِيقُ وَغَلِطَ صَاحِبُ التَّحْصِيلِ فَظَنَّهُ بِمَعْنَى الشُّبْهَةِ وهو فَاسِدٌ فإن مَعْنَاهُ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ عن تَوْفِيقٍ من اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ دَلَّهُمْ على ذلك بِأَنْ يُوَفِّقَ اللَّهُ لِلصَّوَابِ بِالْإِلْهَامِ لِقَوْلِهِ ما رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وهو ضَعِيفٌ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ في دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ دَلِيلٍ وقد يُتَرْجِمُ الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حُصُولُ الْإِجْمَاعِ إلَّا عن تَوْقِيفٍ وَمُسْتَنَدٍ وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَنَّ الْخِلَافَ في الْجَوَازِ لَا في الْوُقُوعِ وَلَيْسَ كما قال فإن الْخُصُومَ ذَكَرُوا صُوَرًا وَادَّعَوْا وُقُوعَ الْإِجْمَاعِ فيها من غَيْرِ مُسْتَنَدٍ ثُمَّ ذلك الْمُسْتَنَدُ إمَّا من جِهَةِ الْكِتَابِ كَإِجْمَاعِهِمْ على أَنَّ ابْنَ الِابْنِ كَالِابْنِ في الْمِيرَاثِ وَإِمَّا من جِهَةِ السُّنَّةِ كَإِجْمَاعِهِمْ على تَوْرِيثِ كل وَاحِدٍ من الْجَدَّيْنِ السُّدُسَ
____________________
(3/499)
وَعَلَى تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ من دِيَةِ زَوْجِهَا بِالْخَبَرِ في امْرَأَةِ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ أو الِاسْتِفَاضَةِ كَالْإِجْمَاعِ على أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَنُصُبِ الزَّكَوَاتِ أو عن الْمُنَاظَرَةِ وَالْجِدَالِ كَإِجْمَاعِهِمْ على قَتْلِ مَانِعِي الزَّكَاةِ أو عن تَوْقِيفٍ كَإِجْمَاعِهِمْ على أَنَّ الْجُمُعَةَ تَسْقُطُ بِفَرْضِ الظُّهْرِ أو عن اسْتِدْلَالٍ وَقِيَاسٍ كَإِجْمَاعِهِمْ على أَنَّ الْجَوَامِيسَ في الزَّكَاةِ كَالْبَقَرِ قال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَكَإِجْمَاعِهِمْ على خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه بِتَقْدِيمِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إيَّاهُ في مَرَضِهِ لِلصَّلَاةِ بِالنَّاسِ قال الصَّيْرَفِيُّ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَقَعَ منهم الْإِجْمَاعُ بِالتَّوَاطُؤِ وَلِهَذَا كانت الصَّحَابَةُ لَا يَرْضَى بَعْضُهُمْ من بَعْضِ بِذَلِكَ بَلْ يَتَبَاحَثُونَ حتى أَخْرَجَ بَعْضُهُمْ الْقَوْلَ في الْخِلَافِ إلَى الْمُبَاهَلَةِ وَلَا يُمْكِنُ اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا وَقَفُوا عليه لِأَنَّهُ مَذْمُومٌ شَرْعًا فَثَبَتَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَقَعُ منهم إلَّا عن تَوْقِيفٍ أو دَلِيلٍ عَقَلَهُ جَمِيعُهُمْ لَا لِأَنَّ غَيْرَهُ قال بِهِ فقال معه وَجَعَلَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ أَصْلَ الْخِلَافِ أَنَّ الْإِلْهَامَ هل هو دَلِيلٌ أَمْ لَا وَحَيْثُ قُلْنَا لَا بُدَّ من مُسْتَنَدٍ فَلَا يَجِبُ الْبَحْثُ عن مُسْتَنَدِهِمْ إذْ قد ثَبَتَتْ لهم الْعِصْمَةُ وَلَا يَحْكُمُونَ إلَّا عن مُسْتَنَدٍ صَحِيحٍ لَكِنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ الِاطِّلَاعُ عليه وَأَكْثَرُ الْإِجْمَاعَاتِ قد عُرِفَ مُسْتَنَدُهَا وَحَكَى الْإِمَامُ في بَابِ الْقِيَاسِ عن الشَّافِعِيِّ ما يَقْتَضِي الْبَحْثَ عن الْمُسْتَنَدِ حَيْثُ قال لم يُعْهَدْ الْقِرَاضُ في عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَوَّلُ ما جَرَى في زَمَنِ عُمَرَ فقال الشَّافِعِيُّ لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ وَلَوْ كان في الْقِرَاضِ خَيْرٌ لَاعْتُنِيَ بِنَقْلِهِ مَسْأَلَةٌ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالْمُسْتَنَدِ عليه إذَا كان دَلَالَةً وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا كان أَمَارَةً على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا الْجَوَازُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كان جَلِيَّةً أو خَفِيَّةً كَالدَّلَالَةِ وَنَصَّ عليه
____________________
(3/500)
الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ وَجَوَّزَ الْإِجْمَاعَ عن قِيَاسٍ وهو قَوْلُ الْجُمْهُورِ قال الرُّويَانِيُّ وَبِهِ قال عَامَّةُ أَصْحَابِنَا وهو الْمَذْهَبُ وقال ابن الْقَطَّانِ لَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا في جَوَازِ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ عنه في قِيَاسِ الْمَعْنَى على الْمَعْنَى وَالشَّرْطِ وَأَمَّا قِيَاسُ الشَّبَهِ فَاخْتَلَفُوا فيه على وَجْهَيْنِ وإذا وَقَعَ عن الْأَمَارَةِ وَهِيَ الْمُفِيدَةُ لِلظَّنِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ صَوَابًا لِلدَّلِيلِ الدَّالِّ على الْعِصْمَةِ وَمِنْ هُنَا قِيلَ ظَنُّ من هو مَعْصُومٌ عن الْخَطَأِ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ وَمِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَعْدَ الْخِلَافِ وَالثَّانِي الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَبِهِ قال الظَّاهِرِيَّةُ وَمُحَمَّدُ بن جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فَالظَّاهِرِيَّةُ مَنَعُوهُ لِأَجْلِ إنْكَارِهِمْ الْقِيَاسَ وَأَمَّا ابن جَرِيرٍ فقال الْقِيَاسُ حُجَّةٌ وَلَكِنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا صَدَرَ عنه لم يَكُنْ مَقْطُوعًا بِصِحَّتِهِ هَكَذَا حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ قال وَبِهِ قال بَعْضُ الْقَدَرِيَّةِ وهو جَعْفَرُ بن مُبَشِّرٍ ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الظَّاهِرِيَّةُ فَمِنْهُمْ من أَحَالَهُ وَمِنْهُمْ من سَلَّمَ الْإِمْكَانَ وَمَنَعَ الْوُقُوعَ وَادَّعَوْا أَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُهُ في الْجَمْعِ الْعَظِيمِ وَحَكَى الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ عن ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ مَنَعَ منه عَقْلًا وقال لو وَقَعَ لَكَانَ حُجَّةً غير أَنَّهُ مَنَعَ وُقُوعَهُ لِاخْتِلَافِ الدَّوَاعِي وَالْأَغْرَاضِ وَتَفَاوُتِهِمْ في الذَّكَاءِ وَالْفَطِنَةِ وَاحْتَجَّ ابن الْقَطَّانِ على ابْنِ جَرِيرٍ بِأَنَّهُ وَافَقَ على وُقُوعِهِ في خَبَرِ الْوَاحِدِ وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فيه فَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ وَلَا يُقَالُ خَبَرُ الْوَاحِدِ أَجْمَعَتْ عليه الصَّحَابَةُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِأَنَّا نَقُولُ كِلَاهُمَا سَوَاءٌ في إجْمَاعِهِمْ على الْقَوْلِ بِهِ وَمِنْ السُّنَّةِ أَنَّ إمَامَةَ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه ثَبَتَتْ بِالْقِيَاسِ لِقَوْلِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه رَضِينَاهُ لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاهُ لِدُنْيَانَا ثُمَّ اُعْتُرِضَ بِإِجْرَاءِ مِثْلِ ذلك في عبد الرحمن بن عَوْفٍ فإن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى خَلْفَهُ وَأَجَابَ بِالْفَرْقِ وهو أَنَّ الصِّدِّيقَ أَمَرَهُ النبي عليه السَّلَامُ وَعَبْدُ الرحمن وَجَدَهُ يُصَلِّي فَصَلَّى خَلْفَهُ وَكَذَلِكَ صَدَقَةُ الْبَقَرِ ثَبَتَ الْحُكْمُ فيها بِالنَّصِّ ثُمَّ ثَبَتَ الْحُكْمُ في الْجَوَامِيسِ بِالْإِجْمَاعِ بِالْقِيَاسِ على الْبَقَرِ وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا على مِيقَاتِ ذَاتِ عِرْقٍ ولم يَقَعْ النَّصُّ
____________________
(3/501)
قال وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ فيه أَخْبَارًا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ وَقَّتَهُ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ قال وقد أَدْخَلَ في هذا أَصْحَابُنَا ما ليس منه كَصَدَقَةِ الذَّهَبِ وَفِيهَا أَحَادِيثُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ من أَعْتَقَ شِرْكًا له في عَبْدٍ وَالْأَمَةُ في مَعْنَاهُ مع قَوْلِهِمْ إنَّ الْعَبْدَ اسْمٌ لِكُلِّ رَقِيقٍ ذَكَرًا كان أو أُنْثَى قال وَمِنْ أَجْوَدِهِ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ مِيرَاثَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ ولم يذكر شيئا أَنَّهُ من بَعْدِ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ وَالْحُكْمُ فيه من طَرِيقِ الْقِيَاسِ كَذَلِكَ ا هـ وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ التَّفْصِيلُ في الْأَمَارَةِ بين الْجَلِيَّةِ فَيَجُوزُ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عنها دُونَ الْخَفِيَّةِ حَكَاهُ ابن الصَّبَّاغِ وَكَذَا صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا قال وهو ظَاهِرُ مَذْهَبِ أبي بَكْرٍ الْفَارِسِيِّ من الشَّافِعِيَّةِ قال وَلِذَلِكَ اشْتَرَطَ في الْخَبَرِ الذي انْعَقَدَ عن الْإِجْمَاعِ كَوْنَهُ مَشْهُورًا وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ في الْقِيَاسِ إلَّا عن أَمَارَةٍ وَلَا يَجُوزُ عن دَلَالَةِ لِلِاسْتِغْنَاءِ بها عنه حَكَاهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ في الْمِيزَانِ عن بَعْضِ مَشَايِخِهِمْ وهو غَرِيبٌ قَادِحٌ في إطْلَاقِ نَقْلِ جَمَاعَةٍ الْإِجْمَاعَ على جَوَازِهِ عن دَلَالَةٍ مَسْأَلَةٌ وإذا جَوَّزْنَا انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ عن الِاجْتِهَادِ فَهَلْ وَقَعَ فيه خِلَافٌ حَكَاهُ ابن فُورَكٍ وإذا قُلْنَا بِوُقُوعِهِ فَهَلْ يَكُونُ حُجَّةً تَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ أَمْ لَا الْمَشْهُورُ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ نعم وَحَكَى ابن فُورَكٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ وَسُلَيْمٌ عن قَوْمٍ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً وَلَعَلَّهُ قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ السَّابِقِ وَحَكَاهُ عبد الْجَبَّارِ عن الْحَاكِمِ صَاحِبِ الْمُخْتَصَرِ قَالَهُ أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ تَنْبِيهٌ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كان الِاجْتِهَادُ عن أَصْلٍ فَأَمَّا الِاجْتِهَادُ عن غَيْرِ أَصْلٌ كَالِاجْتِهَادِ في جَزَاءِ الصَّيْدِ وَجِهَاتِ الْقِبْلَةِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ فَمَنْ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ بِالْقِيَاسِ كان من هذا أَمْنَعَ وَمَنْ جَوَّزَ ثَمَّ اخْتَلَفُوا فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى امْتِنَاعِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عن مِثْلِ هذا الِاجْتِهَادِ وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ
____________________
(3/502)
فُرُوعٌ لَا يَجِبُ مَعْرِفَةُ دَلِيلِ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلُ قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ لَا يَجِبُ على الْمُجْتَهِدِ طَلَبُ الدَّلِيلِ الذي وَقَعَ الْإِجْمَاعُ بِهِ فَإِنْ ظَهَرَ له ذلك أو نُقِلَ إلَيْهِ كان أَحَدَ أَدِلَّةِ الْمَسْأَلَةِ وقال أبو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ إذَا أَجْمَعُوا على حُكْمٍ ولم يُعْلَمْ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عليه من دَلَالَةِ آيَةٍ أو قِيَاسٍ أو غَيْرِهِ فإنه يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ لِأَنَّهُمْ لَا يُجْمِعُونَ إلَّا عن دَلَالَةٍ وَلَا يَجِبُ مَعْرِفَتُهَا يَجُوزُ لِلْمُجْمِعِينَ تَرْكُ دَلِيلِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ اشْتِهَارِ الْإِجْمَاعِ الثَّانِي قال أَيْضًا يَجُوزُ لِلْمُجْمِعِينَ تَرْكُ الدَّلِيلِ بَعْدَ اشْتِهَارِ الْمَسْأَلَةِ وَانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَرُبَّمَا كان أَصْلُهُ ظَاهِرًا مُحْتَمِلًا أو قِيَاسَ شَبَهٍ عَرَفَ الْعَصْرُ الْأَوَّلُ حِكْمَةَ الْمُشَاهَدَةِ على نَفْيِ الشَّبَهِ فَتَرَكُوا الدَّلِيلَ لِمَا فيه من تَكَرُّهِ التَّأْوِيلِ وَيَقْتَصِرُونَ على إظْهَارِ الْحُكْمِ لِيَكُونَ أَمْنَعَ من الْخِلَافِ وَأَقْطَعَ لِلنِّزَاعِ إذَا احْتَمَلَ إجْمَاعُهُمْ أَنْ يَكُونَ عن قِيَاسٍ أو تَوْقِيفٍ فَعَلَى أَيِّهِمَا يُحْمَلُ الثَّالِثُ إذَا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعُهُمْ عن قِيَاسٍ لِإِمْكَانِهِ في الْحَادِثَةِ أو عن دَلِيلٍ فَهَلْ الْأَوْلَى حَمْلُهُ على أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عن الْقِيَاسِ أو عن التَّوْقِيفِ لَا أَعْلَمُ فيه كَلَامًا لَلْأُصُولِيِّينَ وَيَخْرُجُ من كَلَامِ أَصْحَابِنَا في الْفُرُوعِ فيه وَجْهَانِ فَإِنَّهُمْ قالوا فِيمَنْ قَتَلَ الْحَمَامَ بِمَكَّةَ إنَّ فيها شَاةً لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَاخْتَلَفُوا في بِنَاءِ ذلك على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ إيجَابَهَا لِمَا بَيْنَهُمَا من الشَّبَهِ فإن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَأْلَفُ الْبُيُوتَ وَيَأْنَسُ بِالنَّاسِ وَأَصَحُّهُمَا أَنَّ مُسْتَنَدَهُ تَوْقِيفٌ بَلَغَهُمْ فيه قُلْت لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِمْ أَنَّهُمْ أَخَذُوهُ تَوْقِيفًا مع قِيَامِ الِاحْتِمَالِ بِكَوْنِهِ اسْتِنْبَاطًا وَعَلَى هذا نَصَّ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ فقال أَمَّا ما أَجْمَعُوا عليه فَذَكَرُوا أَنَّهُ حِكَايَةً عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قالوا وَأَمَّا ما لم يَحْكُوهُ فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونُوا قَالُوهُ
____________________
(3/503)
حِكَايَةً عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَاحْتُمِلَ غَيْرُهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَى إلَّا مَسْمُوعًا مَسْأَلَةٌ إذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بِأَحَدِ هذه الدَّلَائِلِ فَهَلْ يَكُونُ مُنْعَقِدًا على الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالدَّلِيلِ أو مُنْعَقِدًا على الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُكْمِ فيه خِلَافٌ حَكَاهُ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ قال فَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْأَشْعَرِيَّةِ إلَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ على الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُكْمِ وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ على الْمُسْتَخْرَجِ من الدَّلَائِلِ الصَّحِيحَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ هو الْمَطْلُوبُ من الدَّلِيلِ وَلِأَجْلِهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ الْإِجْمَاعُ الْوَاقِعُ على وَفْقِ خَبَرٍ هل يَدُلُّ على صِحَّةِ ذلك الْخَبَرِ قال وَيَنْبَنِي على هذا مَسْأَلَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْوَاقِعَ على وَفْقِ خَبَرٍ من الْأَخْبَارِ هل يَكُونُ دَلِيلًا على صِحَّتِهِ منهم من قال يَدُلُّ على ذلك إذَا عُلِمَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا لِأَجْلِهِ وَمِنْهُمْ من قال إنَّ إجْمَاعَهُمْ يَدُلُّ على صِحَّةِ الْحُكْمِ وَلَا يَدُلُّ على صِحَّةِ الْخَبَرِ قال وهو أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اتَّفَقُوا على الْعَمَلِ بِهِ لِأَنَّ التَّعَبُّدَ ثَابِتٌ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَهَذَا التَّعَبُّدُ ثَبَتَ في حَقِّ الْكَافَّةِ فَلِأَجْلِ التَّعَبُّدِ الثَّابِتِ أَجْمَعُوا على مُوجَبِ الْخَبَرِ وَصَارَ الْحُكْمُ مَقْطُوعًا بِهِ لِأَجْلِ إجْمَاعِهِمْ فَإِنْ كان الْإِجْمَاعُ وَلَا دَلِيلَ غَيْرَهُ كان انْعِقَادُهُ دَلِيلًا على أَنَّهُ انْعَقَدَ عن دَلِيلٍ مُوجِبٍ له لِأَنَّهُمْ اسْتَغْنَوْا بِالْإِجْمَاعِ عن نَقْلِ الدَّلِيلِ وَاكْتَفَوْا بِهِ عنه وقال ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ إذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ وكان دَلِيلُهُ مَجْهُولًا عِنْدَ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي وَوَجَدْنَا خَبَرَ وَاحِدٍ فَهَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُسْتَنَدَهُ أَمْ لَا نَقَلَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ قال لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذلك الْخَبَرُ مُسْتَنَدًا لِلْإِجْمَاعِ وَخَالَفَ في ذلك الْأُصُولِيُّونَ ا هـ وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْمَسْأَلَةَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ إذَا كان الْخَبَرُ مُتَوَاتِرًا فَهُوَ مُسْتَنَدُهُمْ بِلَا خِلَافٍ كما قال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ كما يَجِبُ عليهم الْعَمَلُ بِمُوجَبِ النَّصِّ قال وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في خَبَرِ الْآحَادِ وهو ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ أَنْ يُعْلَمَ ظُهُورُهُ بَيْنَهُمْ وَالْعَمَلُ بِمُوجَبِهِ لِأَجْلِهِ أو يُعْلَمَ ظُهُورُهُ بَيْنَهُمْ وَالْعَمَلُ بِمُوجَبِهِ وَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُمْ عَمِلُوا لِأَجْلِهِ
____________________
(3/504)
أو لَا يَكُونَ ظَاهِرًا بَلْ عَمِلُوا بِمَا تَضَمَّنَهُ فَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ ثَالِثُهَا إنْ كان على خِلَافِ الْقِيَاسِ فَهُوَ مُسْتَنَدَهُمْ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَا يَدُلُّ على أَنَّهُمْ عَمِلُوا من أَجْلِهِ وَهَلْ يَدُلُّ إجْمَاعُهُمْ على مُوجَبِهِ على صِحَّتِهِ فيه خِلَافٌ انْتَهَى وقال إلْكِيَا إذَا ظَهَرَ أَنَّ مُسْتَنَدَ الْإِجْمَاعِ نَصٌّ كان هو مُسْتَنَدَ الْحُكْمِ وَنَحْنُ إنَّمَا نَتَلَقَّى الْحُكْمَ من الْإِجْمَاعِ إذَا لم نَرَ مُسْتَنَدًا مَقْطُوعًا بِهِ فَأَمَّا إذَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ على مُوجَبِ الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ من خَبَرِ الْوَاحِدِ فَهَلْ يَدُلُّ الْقَطْعِيُّ على أَنَّ إجْمَاعَهُمْ كان لِأَجْلِهِ أَمْ لَا قال فيه تَفْصِيلٌ وهو إنْ عَمِلُوا بِمَا عَمِلُوا وَحَكَمُوا مُسْتَنِدِينَ إلَى الْخَبَرِ مُصَرِّحِينَ بِالْمُسْتَنَدِ فَلَا شَكَّ وَإِنْ لم يَظْهَرْ ذلك فَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يقول في مَوَاضِعَ من كُتُبِهِ إنَّ إجْمَاعَهُمْ يُصْرَفُ إلَى الْخَبَرِ وَبِهِ قال أبو هَاشِمٍ وزاد عليه فقال أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ على الْقِرَاضِ وَلَا خَبَرَ فيه فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عليه بِخَبَرِ الْمُسَاقَاةِ وَلَكِنْ اُشْتُهِرَ الْإِجْمَاعُ في الْقِرَاضِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ دُونَ الْمُسَاقَاةِ وَذَهَبَ غَيْرُهُمَا إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعُهُمْ لِأَجْلِ الِاجْتِهَادِ أو لِأَجْلِ خَبَرٍ آخَرَ لم يُنْقَلْ وَيَبْعُدُ كُلُّ ذلك ليس خَرْقًا لِلْعَادَةِ وَهَذَا لَا دَافِعَ له إلَّا أَنْ يُقَالَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمِعُوا لِأَجْلِ خَبَرٍ ثُمَّ لَا يُنْقَلُ ما أَجْمَعُوا عليه وَهَذَا لَا يَمْشِي إذْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إجْمَاعُهُمْ أَعْنِي نَقْلَ ما له أَجْمَعُوا ا هـ وما نَقَلَاهُ عن الشَّافِعِيِّ نَقَلَهُ في الْمَحْصُولِ عن أبي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وَخَالَفَهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ ذلك على سَبِيلِ الظَّنِّ الْغَالِبِ لَا أَنَّهُ عنه حَقِيقَةً وقال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ لَا فَائِدَةَ له لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ يَنْعَقِدُ عن الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ قُلْت وَلَهَا نَظَائِرُ منها أَنَّ عَمَلَ الْعَالِمِ أو فُتْيَاهُ على وَفْقِ حَدِيثٍ لَا يَكُونُ حُكْمًا منه بِصِحَّةِ ذلك الحديث لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ ذلك منه احْتِيَاطًا أو لِدَلِيلٍ آخَرَ وَافَقَ ذلك الْخَبَرَ وَكَذَلِكَ مُخَالَفَتُهُ لِلْحَدِيثِ لَيْسَتْ قَدْحًا منه في صِحَّتِهِ وقد سَبَقَ الْخِلَافُ فيها وَمِنْهَا الْإِجْمَاعُ على وَفْقِ خَبَرٍ لَا يَدُلُّ على صِدْقِهِ وقد سَبَقَتْ في بَابِ الْأَخْبَارِ
____________________
(3/505)
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا عَلَّلَ حُكْمَ الْأَصْلِ بِعِلَّةٍ مُنَاسِبَةٍ وَأَلْحَقَ بِهِ الْفَرْعَ فَمَنَعَ الْخَصْمُ كَوْنَ الْعِلَّةِ في الْأَصْلِ هذه وقال الْعِلَّةُ غَيْرُهَا لم يُسْمَعْ منه لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا بُدَّ لها من عِلَّةٍ وقد وُجِدَتْ عِلَّةٌ مُنَاسِبَةٌ فَلْيُضَفْ الْحُكْمُ إلَيْهَا إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ ما سِوَاهَا وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَسْأَلَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ وقد يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ التي قام فيها الْإِجْمَاعُ قد قَامَتْ الْحُجَّةُ على الْعَمَلِ بها وَالْإِضَافَةُ إلَى الحديث من بَابِ تَكْثِيرِ الدَّلَائِلِ لم يُوجِبْ أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ عن ذلك الحديث إذْ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْقِيَاسِ فإنه لَا يَنْتَهِضُ الْإِلْحَاقُ ما لم تَثْبُتْ الْعِلَّةُ فَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْأَصْلَ كَوْنُ الْحُكْمِ مُضَافًا إلَى هذه الْعِلَّةِ مَسْأَلَةٌ في وُجُودِ خَبَرٍ أو دَلِيلٍ لَا تَعَارُضَ فيه تَشْتَرِكُ الْأُمَّةُ في عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ هل يُمْكِنُ وُجُودُ خَبَرٍ أو دَلِيلٍ بِلَا مُعَارِضٍ اشْتَرَكَتْ الْأُمَّةُ في عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ فيه خِلَافٌ وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وَالْهِنْدِيُّ الْجَوَازَ إنْ كان عَمَلُ الْأُمَّةِ مُوَافِقًا لِمُقْتَضَاهُ وَعَدَمَهُ إنْ خَالَفَ وَأَمَّا الرَّازِيَّ فَتَرْجَمَهَا في الْمَحْصُولِ بِأَنَّهُ هل يَجُوزُ اشْتِرَاكُ الْأُمَّةِ في الْجَهْلِ بِمَا لم يُكَلَّفُوا بِهِ وَكَذَلِكَ تَرْجَمَهَا الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ وفي ظَنِّي أَنَّ الْأَصْفَهَانِيَّ ظَنَّهُمَا مَسْأَلَةً وَاحِدَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُمَا مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا هل يَجُوزُ أَنْ تَشْتَرِكَ الْأُمَّةُ في عَدَمِ الْعِلْمِ بِمَا لم يُكَلَّفُوا بِهِ قَوْلَانِ الثَّانِيَةُ هل يُمْكِنُ وُجُودُ خَبَرٍ أو دَلِيلٍ لَا تَعَارُضَ فيه وَتَشْتَرِكُ الْأُمَّةُ في عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ وَالْخِلَافُ في هذه مُرَتَّبٌ على التي قَبْلَهَا فَمَنْ مَنَعَهُ هُنَاكَ لم يُجَوِّزْ هذا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَمَنْ جَوَّزَ هُنَاكَ اخْتَلَفُوا على ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَالْجَوَازُ مُطْلَقًا وَالتَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُمْ مُوَافِقًا لِمُقْتَضَاهُ فَيَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذُهُولُهُمْ عَمَّا كُلِّفُوا بِهِ وَإِلَّا لَزِمَ اجْتِمَاعُهُمْ على الْخَطَأِ وهو مُمْتَنِعٌ
____________________
(3/506)
مَسْأَلَةٌ إذَا أَجْمَعُوا على خِلَافِ الْخَبَرِ إذَا ذَكَرَ وَاحِدٌ من الْمُجْمِعِينَ خَبَرًا عن الرَّسُولِ عليه السَّلَامُ يَشْهَدُ بِضِدِّ الْحُكْمِ الذي انْعَقَدَ عليه الْإِجْمَاعُ قال ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ يَجِبُ عليه تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ وَالْإِصْرَارُ على الْإِجْمَاعِ وقال قَوْمٌ من الْأُصُولِيِّينَ بَلْ يَجِبُ عليه الرُّجُوعُ إلَى مُوجَبِ الحديث وقال قَوْمٌ إنَّ ذلك يَسْتَحِيلُ وهو الْأَصَحُّ من الْمَذَاهِبِ فإن اللَّهَ تَعَالَى عَصَمَ الْأُمَّةَ عن نِسْيَانِ حَدِيثٍ في الْحَادِثَةِ وَلَوْلَا ذلك خَرَجَ الْإِجْمَاعُ عن أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا وَبَنَاهُ في الْأَوْسَطِ على الْخِلَافِ في انْقِرَاضِ الْعَصْرِ فَمَنْ قال ليس بِشَرْطٍ مَنَعَ الرُّجُوعَ وَمَنْ اشْتَرَطَ جَوَّزَهُ وَالْجُمْهُورُ على الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَتَطَرَّقُ إلَى الحديث احْتِمَالَاتٌ من النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ ما لَا يَتَطَرَّقُ إلَى الْإِجْمَاعِ بَلْ لو قَطَعْنَا بِالْإِجْمَاعِ في صُورَةٍ ثُمَّ وَجَدْنَا على خِلَافِهِ نَصًّا قَاطِعًا من كِتَابٍ أو سُنَّةٍ مُتَوَاتِرَةٍ لَكَانَ الْإِجْمَاعُ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ النَّسْخَ بِخِلَافِ النَّصِّ فإنه يَقْبَلُهُ وفي مِثْلِ هذه الصُّورَةِ يُسْتَدَلُّ بِالْإِجْمَاعِ على نَاسِخٍ بَلَغَهُمْ أو مُوجَبٍ لِتَرْكِهِ وَلِهَذَا قَدَّمَ الشَّافِعِيُّ الْإِجْمَاعَ على النَّصِّ لَمَّا رَتَّبَ الْأَدِلَّةَ قُلْت وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ الْإِجْمَاعُ أَكْثَرُ من الْخَبَرِ الْمُنْفَرِدِ وَعَلَى هذا فَيَجِبُ على الرَّاوِي لِلْخَبَرِ أَنْ يَتْرُكَ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى خَبَرِهِ وَيَتَمَسَّكَ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا قال الْإِمَامُ في بَابِ التَّرَاجِيحِ من الْبُرْهَانِ إذَا أَجْمَعُوا على خِلَافِ الْخَبَرِ تَطَرَّقَ الْوَهْنُ إلَى رِوَايَةِ الْخَبَرِ لِأَنَّهُ إنْ كان آحَادًا فَذَاكَ وَإِنْ كان مُتَوَاتِرًا فَالتَّعَلُّقُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ وَأَمَّا الْخَبَرُ فَيَتَطَرَّقُ إلَيْهِ إمْكَانُ النَّسْخِ فَيُحْمَلُ الْإِجْمَاعُ على الْقَطْعِ لِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا على قَطْعٍ وَيُحْمَلُ الْخَبَرُ على مُقْتَضَى النَّسْخِ اسْتِنَادًا وَتِبْيَانًا لَا على طَرِيقِ الْبِنَاءِ ثُمَّ نَبَّهَ على أَنَّ الْكَلَامَ في الْجَوَازِ وَقَطَعَ بِأَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ ثُمَّ قال من ضَرُورَةِ الْإِجْمَاعِ على مُنَاقَضَةِ النَّصِّ الْمُتَوَاتِرِ أَنْ يَلْهَجَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ بِكَوْنِهِ مَنْسُوخًا قُلْت وَيُحْتَمَلُ تَقْيِيدُ الْمَسْأَلَةِ بِانْقِرَاضِ الْعَصْرِ وَإِلَّا فَيُمْكِنُ أَنْ يَتَطَرَّقَ عَدَمُ الْحُجِّيَّةِ إلَيْهِ بِرُجُوعِهِمْ عنه وَيُحْتَمَلُ خِلَافُهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ رُجُوعِهِمْ
____________________
(3/507)
مَسْأَلَةٌ إذَا أَجْمَعُوا على خِلَافِ الْخَبَرِ ثُمَّ رَجَعُوا إلَى الْخَبَرِ فَلَوْ رَجَعَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ لِلْخَبَرِ فَعَمِلُوا بِمُقْتَضَاهُ قال الْغَزَالِيُّ كان ما أَجْمَعُوا عليه حَقًّا في ذلك الزَّمَانِ إذْ لم يُكَلَّفُوا بِمَا لم يُبَلَّغُوا كما يَكُونُ الْحُكْمُ الْمَنْسُوخُ حَقًّا قبل بُلُوغِ النَّاسِخِ وَنُوزِعَ في ذلك بِلُزُومِ إجْمَاعَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ يَنْسَخُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وهو مُحَالٌ وَالظَّاهِرُ الْحُكْمُ بِإِحَالَةِ هذه الصُّورَةِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ تَخْطِئَةُ أَحَدِ الْإِجْمَاعَيْنِ وهو مُحَالٌ
____________________
(3/508)
الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِيمَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ الْوِفَاقُ الْمُعْتَبَرُ في الْإِجْمَاعِ وَلَهُ شُرُوطٌ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ أَنْ يُوجَدَ فيه قَوْلُ الْخَاصَّةِ من أَهْلِ الْعِلْمِ فَلَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِ الْعَامَّةِ وِفَاقًا وَلَا خِلَافًا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأُولُوا الْعِلْمِ وقال الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَاحْتَجَّ الرُّويَانِيُّ بِمَا يُرْوَى أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ خَالَفَ الصَّحَابَةَ وقال الْبَرَدُ لَا يُفْطِرُ الصَّائِمَ لِأَنَّهُ ليس بِطَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ قال فَرَدُّوا قَوْلَهُ ولم يَعْتَدُّوا بِخِلَافِهِ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وهو الصَّوَابُ لِوُجُوبِ رَدِّ الْعَوَامّ إلَى قَوْلِ الْمُجْتَهِدِينَ وَتَحْرِيمِ الْفَتْوَى منهم في الدِّينِ وَقِيلَ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمْ لِأَنَّ قَوْلَ الْأُمَّةِ إنَّمَا كان حُجَّةً لِعِصْمَتِهَا من الْخَطَأِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْعِصْمَةُ من صِفَاتِ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ من الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ من ثُبُوتِ الْعِصْمَةِ لِلْكُلِّ ثُبُوتُهَا لِلْبَعْضِ وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ ابن الصَّبَّاغِ وابن بَرْهَانٍ عن بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ وابن السَّمْعَانِيِّ وَالْهِنْدِيُّ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَنُوزِعُوا في ذلك بِأَنَّ الْمَذْكُورَ في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ خِلَافُهُمْ وَلَا وِفَاقُهُمْ وَكَادَ أَنْ يَدَّعِيَ الْإِجْمَاعَ فيه وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ في الْكَلَامِ على الْمُرْسَلِ لَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ الْعَوَامّ لَا وِفَاقًا وَلَا خِلَافًا ا هـ وَأَقُولُ فَعَلَى هذا من تَصَرُّفِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَعِبَارَةُ التَّقْرِيبِ قد بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ الذي دَلَّ عليه السَّمْعُ صِحَّةُ إجْمَاعِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ وقد ثَبَتَ أَنَّ الْأُمَّةَ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ دُخُولِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ في الْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ لِلْخَاصَّةِ إجْمَاعٌ على شَيْءٍ يَخْرُجُ منه الْعَامَّةُ قال وَالْعَامَّةُ مُجْمِعَةٌ على أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ ما أَجْمَعَتْ عليه الْخَاصَّةُ وَإِنْ لم يَعْرِفْهُ عِيَانًا
____________________
(3/509)
فَإِنْ قِيلَ فإذا لم يَكُنْ الْعَامَّةُ من أَهْلِ الْعِلْمِ بِالدَّقَائِقِ وَالنَّظَرِ فَلَا يَكُونُ لهم مَدْخَلٌ في الْإِجْمَاعِ وَلَا بِهِمْ مُعْتَبَرٌ في الْخِلَافِ قُلْنَا كَذَلِكَ نَقُولُ وَيَقُولُ أَكْثَرُ الناس وَإِنَّمَا وَجَبَ سُقُوطُ الِاعْتِبَارِ بِخِلَافِهِمْ لِإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ من أَهْلِ كل عَصْرٍ على أَنَّهُ حَرَامٌ على عَامَّةِ أَهْلِ كل عَصْرٍ من أَعْصَارِ الْمُسْلِمِينَ مُخَالَفَةُ ما اتَّفَقَ عليه عُلَمَاؤُهُمْ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ بِخِلَافِ الْعَامَّةِ لِأَجْلِ هذا الْإِجْمَاعِ السَّابِقِ على مَنْعِهِمْ من ذلك وَجَوَابٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَرْكُ الِاعْتِبَارِ بِهِمْ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَبَعْضُ الْأُمَّةِ بَلْ مُعْظَمُهَا فَوَجَبَ الِاعْتِبَارُ بِخِلَافِهِمْ وَثَبَتَ أَنَّ ما أَجْمَعَ عليه الْعُلَمَاءُ عَيْنًا وَتَفْصِيلًا إجْمَاعُ الْعَامَّةِ وَإِنْ لم نَعْرِفْهُ عَيْنًا فَإِنْ قِيلَ فما يَقُولُونَ لو صَارَ عَامَّةُ الْأُمَّةِ في بَعْضِ الْأَعْصَارِ إلَى مُخَالَفَةِ إجْمَاعِ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ وَخَطَئِهِمْ هل يَكُونُ إجْمَاعُ الْعُلَمَاءَ حُجَّةً قِيلَ لَا يَكُونُ قَوْلُهُمْ دُونَ قَوْلِ الْعَامَّةِ إجْمَاعًا بِجَمِيعِ الْأُمَّةِ لِأَنَّ الْعَامَّةَ بَعْضُهُمْ لَكِنَّ الْعَامَّةَ مُخْطِئُونَ في مُخَالَفَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا من أَهْلِ الْعِلْمِ بِحُكْمِ اللَّهِ وَأَنَّهُ يَحْرُمُ عليهم الْقَوْلُ في دِينِ اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ وَلَيْسَ خَطَؤُهُمْ من جِهَةِ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ إذْ هُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ وَجَوَابٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ بِخِلَافِ الْعَامَّةِ وَلَا بِدُخُولِهِمْ في الْإِجْمَاعِ لِأَجْلِ ما قَدَّمْنَاهُ من اتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ على تَخْطِئَةِ عَامَّةِ أَهْلِ كل عَصْرٍ في خِلَافِهِمْ على عُلَمَائِهِمْ فَوَجَبَ سُقُوطُ الِاعْتِبَارِ بِقَوْلِ الْعَامَّةِ هذا كَلَامُهُ وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى إطْلَاقِ الِاسْمِ بِمَعْنَى أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ إذَا أَجْمَعُوا هل يَصْدُقُ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ وَيُحْكَمُ بِهِ قَوْلُ الْعَوَامّ فِيهِمْ تَبَعًا فَالْقَاضِي يقول لَا يَصْدُقُ اسْمُ الْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان ذلك لَا يَقْدَحُ في حُجِّيَّتِهِ وهو خِلَافٌ لَفْظِيٌّ في الْحَقِيقَةِ وَلَيْسَ خِلَافًا في أَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ تَقْدَحُ في قِيَامِ الْإِجْمَاعِ وَلِهَذَا قال في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ بَعْدَمَا سَبَقَ فَإِنْ قال قَائِلٌ فإذا أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ على حُكْمٍ من الْأَحْكَامِ فَهَلْ يُطْلِقُونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عليه قُلْنَا من الْأَحْكَامِ ما يَحْصُلُ فيه اتِّفَاقُ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهِمَا فما هذا سَبِيلُهُ يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عليه وَأَمَّا ما أَجْمَعَ عليه الْعُلَمَاءُ من أَحْكَامِ الْفُرُوعِ التي تَشْتَبِهُ على الْعَوَامّ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في ذلك فقال بَعْضُهُمْ الْعَوَامُّ يَدْخُلُونَ في حُكْمِ الْإِجْمَاعِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ وَإِنْ لم يَعْرِفُوا تَفْصِيلَ الْأَحْكَامِ فَقَدْ عَرَفُوا على الْجُمْلَةِ أَنَّ ما أَجْمَعَ عليه عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ من تَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ فَهَذَا مُسَاهَمَةٌ منهم في الْإِجْمَاعِ وَإِنْ لم يَعْلَمُوا مَوَاقِعَهُ
____________________
(3/510)
على التَّفْصِيلِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا من زَعَمَ أَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ مُسَاهِمِينَ في الْإِجْمَاعِ فإنه إنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْإِجْمَاعُ في التَّفَاصِيلِ بَعْدَ الْعِلْمِ بها فإذا لم يَكُونُوا عَالِمِينَ بها فَلَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُمْ من أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَاعْلَمْ أَنَّ هذا خِلَافٌ مَهُولٌ أَمْرُهُ وَيَرْجِعُ إلَى الْعِبَارَةِ الْمَحْضَةِ وَالْحُكْمُ فيه أَنَّا إنْ أَدْرَجْنَا الْعَوَامَّ في حُكْمِ الْإِجْمَاعِ الْمُطْلَقِ أَطْلَقْنَا الْقَوْلَ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَإِنْ لم نُدْرِجْهُمْ في حُكْمِ الْإِجْمَاعِ أو بَدَرَ من بَعْضِ طَوَائِفِ الْعَوَامّ خِلَافٌ فَلَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فإن الْعَوَامَّ مُعْظَمُ الْأُمَّةِ ا هـ وما ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَتَابَعَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ من رُجُوعِ الْخِلَافِ إلَى كَوْنِهِ هل يُسَمَّى إجْمَاعًا أَمْ لَا مع الِاتِّفَاقِ على كَوْنِهِ حُجَّةً مَرْدُودٌ فَفِي الْمُعْتَمَدِ لِأَبِي الْحُسَيْنِ ما لَفْظُهُ اخْتَلَفُوا في اعْتِبَارِ قَوْلِ الْعَامَّةِ في الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ فقال قَوْمٌ الْعَامَّةُ وَإِنْ وَجَبَ عليها اتِّبَاعُ الْعُلَمَاءِ فإن إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ لَا يَكُونُ حُجَّةً على أَهْلِ الْعَصْرِ حتى لَا يَسُوغَ مُخَالَفَتُهُمْ إلَّا بِأَنْ يَتَّبِعَهُمْ الْعَامَّةُ من أَهْلِ عَصْرِهِمْ فَإِنْ لم يَتَّبِعُوهُمْ لم يَجِبْ على أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي من الْعُلَمَاءِ اتِّبَاعُهُمْ وقال آخَرُونَ بَلْ هو حُجَّةٌ اتَّبَعَهُمْ عُلَمَاءُ عَصْرِهِمْ أَمْ لَا انْتَهَى وفي الْمَسْأَلَةِ ثَالِثٌ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ إجْمَاعُهُمْ في الْعَامِّ دُونَ الْخَاصِّ حَكَاهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وابن السَّمْعَانِيِّ وَبِهَذَا التَّفْصِيلِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ في الْمَسْأَلَةِ وَيَنْبَغِي تَنْزِيلُ إطْلَاقِ الْمُطْلِقِينَ عليه وَخَصَّ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ الْخِلَافَ بِالْخَاصِّ وقال لَا يُعْتَبَرُ خِلَافُهُمْ في الْعَامِّ اتِّفَاقًا وَجَرَى عليه الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ فقال إنْ اخْتَصَّ بِمَعْرِفَتِهِ الْعُلَمَاءُ كَنُصُبِ الزَّكَوَاتِ وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا لم يُعْتَبَرْ وِفَاقُ الْعَامَّةِ مَعَهُمْ وَإِنْ اشْتَرَكَ في مَعْرِفَتِهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَتَحْرِيمِ بِنْتِ الْبِنْتِ فَهَلْ يُعْتَبَرُ إجْمَاعُ الْعَوَامّ مَعَهُمْ فيه وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يُعْتَبَرُ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَصِحُّ عن نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ وَالثَّانِي نعم لِاشْتِرَاكِهِمْ في الْعِلْمِ بِهِ وقال سُلَيْمٌ إجْمَاعُ الْخَاصَّةِ هل يُحْتَاجُ مَعَهُمْ فيه إلَى إجْمَاعِ الْعَامَّةِ فيه وَجْهَانِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِمْ
____________________
(3/511)
هل الْخِلَافُ في هذه الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ أَمْ مَعْنَوِيٌّ إذَا عَلِمْت هذا فَقَدْ اخْتَلَفُوا في أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ أو مَعْنَوِيٌّ وَكَلَامُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ كما سَبَقَ أَنَّهُ لَفْظِيٌّ وَكَلَامُ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ بِخِلَافِهِ فإنه قال الْإِجْمَاعُ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا ما اجْتَمَعَ عليه الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ كَاتِّفَاقِهِمْ على عَدَدِ الصَّلَوَاتِ قال وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ وَقَعَ بِهِمْ الِاعْتِبَارُ فَقِيلَ الِاعْتِبَارُ في ثُبُوتِهِ بِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَقِيلَ الِاعْتِبَارُ بِالْكَافَّةِ فَيَدْخُلُ فيه الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ قال وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَتَبَيَّنُ في الضَّرْبِ الثَّانِي من الْإِجْمَاعِ وهو أَنْ يُجْمِعَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالِاجْتِهَادِ على حُكْمِ الْحَادِثَةِ كَالنِّكَاحِ وَالْعِدَّةِ وَالْجَمْعِ بين الْأُخْتَيْنِ بِالزَّوْجِيَّةِ فَمَنْ قال إنَّ الِاعْتِبَارَ في الضَّرْبِ الْأَوَّلِ بِأَهْلِ الْعِلْمِ كَفَرَ الْمُخَالِفُ بِالنَّوْعَيْنِ وَمَنْ قال إنَّ الِاعْتِبَارَ فيه بِالْكَافَّةِ لم يُجْعَلْ الْمُخَالِفُ في الضَّرْبِ الثَّانِي كَالْمُرْتَدِّ وَإِنْ قَطَعَ بِتَخْطِئَتِهِ ا هـ تَنْبِيهٌ اعْتِبَارُ قَوْلِ الْمُقَلِّدِ في الْإِجْمَاعِ حُكْمُ الْمُقَلِّدِ حُكْمُ الْعَامِّيِّ في ذلك إذْ لَا وَاسِطَةَ بين الْمُقَلِّدِ وَالْمُجْتَهِدِ قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مَسْأَلَةٌ إجْمَاعُ الْعَوَامّ عِنْدَ خُلُوِّ الزَّمَانِ من الْمُجْتَهِدِينَ إجْمَاعُ الْعَوَامّ عِنْدَ خُلُوِّ الزَّمَانِ من الْمُجْتَهِدِ لَا عِبْرَةَ بِهِ لِأَنَّا إنْ لم نَعْتَبِرْهُمْ في انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ مَنَعْنَا إمْكَانَ وُقُوعِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ خُلُوُّ الزَّمَانِ عَمَّنْ يَقُومُ بِالْحَقِّ وَإِنْ اعْتَبَرْنَا قَوْلَهُمْ مَنَعْنَا أَنَّ إجْمَاعَهُمْ ليس إجْمَاعًا شَرْعِيًّا مَسْأَلَةٌ الَّذِينَ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمْ في الْإِجْمَاعِ يُشْتَرَطُ في الْإِجْمَاعِ في كل فَنٍّ من الْفُنُونِ أَنْ يَكُونَ فيه قَوْلُ كل الْعَارِفِينَ بِذَلِكَ في ذلك الْعَصْرِ فإن قَوْلَ غَيْرِهِمْ فيه يَكُونُ بِلَا دَلِيلٍ بِجَهْلِهِمْ بِهِ فَيُشْتَرَطُ في الْإِجْمَاعِ في الْمَسْأَلَةِ الْفِقْهِيَّةِ قَوْلُ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ وفي الْأُصُولِ قَوْلُ جَمِيعِ الْأُصُولِيِّينَ وفي النَّحْوِ قَوْلُ
____________________
(3/512)
جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ وَخَالَفَ ابن جِنِّي فَزَعَمَ في كِتَابِ الْخَصَائِصِ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ في إجْمَاعِ النُّحَاةِ ثُمَّ من اعْتَبَرَ قَوْلَ الْعَوَامّ في الْإِجْمَاعِ اعْتَبَرَ قَوْلَ الْفَقِيهِ الْخَالِيَ عن الْأُصُولِ لِلتَّفَاوُتِ في الْأَهْلِيَّةِ وَقَوْلَ الْأُصُولِيِّ الْخَالِيَ عن الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ وَقَوْلَ الْمُتَكَلِّمِ الْخَالِيَ عن الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِمَا بين الْعَامِّيِّ وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ من التَّفَاوُتِ في الْأَهْلِيَّةِ وَصِحَّةِ النَّظَرِ هذا في الْأَحْكَامِ وَهَذَا في الْأُصُولِ وَمَنْ لم يَعْتَبِرْ قَوْلَ الْعَامِّيِّ في الْإِجْمَاعِ اخْتَلَفُوا في الْفَقِيهِ وَالْأُصُولِيِّ على ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ منهم من اعْتَبَرَ قَوْلَ الْجَمِيعِ لِقِيَامِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَامِّيِّ وَمِنْهُمْ من أَلْحَقَهُ بِالْعَامِّيِّ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ في أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَمِنْهُمْ من فَصَّلَ فَاعْتَبَرَ قَوْلَ الْفَقِيهِ وَأَلْغَى قَوْلَ الْأُصُولِيِّ وَمِنْهُمْ من عَكَسَ لِكَوْنِهِ أَعْلَمَ بِمَدَارِكِ الْأَحْكَامِ وَكَيْفِيَّةِ اقْتِنَاصِهَا من مَدَارِكِهَا من الْفَقِيهِ الذي ليس بِأُصُولِيٍّ وَلَا خِلَافَ في اعْتِبَارِ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِ في الْكَلَامِ وَالْأُصُولِيِّ في الْأُصُولِ وَكُلُّ وَاحِدٍ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ إذَا كان من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ في ذلك الْفَنِّ هل لِخِلَافِ الْأُصُولِيِّ في الْفِقْهِ اعْتِبَارٌ وَأَمَّا الْأُصُولِيُّ الْمَاهِرُ الْمُتَصَرِّفُ في الْفِقْهِ فَفِي اعْتِبَارِ خِلَافِهِ في الْفِقْهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَذَهَبَ الْقَاضِي إلَى أَنَّ خِلَافَهُ مُعْتَبَرٌ قال الْإِمَامُ وهو الْحَقُّ وَذَهَبَ مُعْظَمُ الْأُصُولِيِّينَ منهم أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ إلَى أَنَّ خِلَافَهُ لَا يُعْتَبَرُ لِأَنَّهُ ليس من الْمُفْتِينَ وَلَوْ وَقَعَتْ له وَاقِعَةٌ لَلَزِمَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ الْمُفْتِيَ فيها قال إلْكِيَا وَالْحَقُّ قَوْلُ الْجُمْهُورِ لِأَنَّ من أَحْكَمَ الْأُصُولَ فَهُوَ مُجْتَهِدٌ فيها وَيُقَلِّدُ فِيمَا سَنَحَ له من الْوَقَائِعِ وَالْمُقَلِّدُ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَاسْتَبْعَدَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مَذْهَبَ الْقَاضِي وقال إذَا أَجْمَعَ الْمُفْتُونَ وَسَكَتَ الْأُصُولِيُّونَ الْمُتَصَرِّفُونَ فَيَبْعُدُ أَنْ يَتَوَقَّفَ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ على مُرَاجَعَتِهِ فإن الَّذِينَ لَا يَسْتَقِلُّونَ بِأَنْفُسِهِمْ في جَوَابِ مَسْأَلَةٍ وَيَتَعَيَّنُ عليهم تَقْلِيدُ غَيْرِهِمْ من الْمُحَالِ وُجُوبُ مُرَاجَعَتِهِمْ وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُمْ أَبْدَوْا وَجْهًا في التَّصَرُّفِ فَإِنْ كان سَالِفًا فَهُوَ مَحْمُولٌ على إرْشَادِهِمْ وَتَهْدِيَتِهِمْ إلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ وَإِنْ أَبْدَوْا قَوْلَهُمْ إبْدَاءَ من يُزَاحِمُ الْأَحْكَامَ فَالْإِنْكَارُ يَشْتَدُّ عليهم قال وَالْقَوْلُ الْمُغْنِي في ذلك أَنَّهُ لَا قَوْلَ لِمَنْ لم يَبْلُغْ مَبْلَغَ الِاجْتِهَادِ وَلَيْسَ بين
____________________
(3/513)
من يُقَلِّدُ وَيُقَلَّدُ مَرْتَبَةٌ ثَالِثَةٌ ثُمَّ قال وَالنَّظَرُ السَّدِيدُ يَتَخَطَّى كَلَامَ الْقَاضِي وَعَصْرَهُ وَيَتَرَقَّى إلَى الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ وَيُفْضِي إلَى مُدْرِكِ الْحَقِّ قبل ظُهُورِ الْخِلَافِ وَالتَّحْقِيقُ خَالَفَ الْقَاضِي أو وَافَقَ أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ إذَا أَطْبَقُوا لم يَعْتَدَّ بِخِلَافِ الْمُتَصَرِّفِينَ مَذْهَبًا مُخْتَلِفًا بِهِ فإن الْمَذَاهِبَ لِأَهْلِ الْفَتْوَى فَإِنْ بَانَ أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ الذي ذَكَرُوهُ من أَهْلِ الْفَتْوَى فَسَيَأْتِي في بَابِهِ وَالْكَلَامُ الْكَافِي في ذلك أَنَّهُ إنْ كان مُفْتِيًا اُعْتُبِرَ خِلَافُهُ وقال الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِ الدَّلَائِلِ إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ لَا مَدْخَلَ لِغَيْرِهِمْ فيه سَوَاءٌ الْمُتَكَلِّمُ وَغَيْرُهُ وَهُمْ الَّذِينَ تَلْقَوْا الْعِلْمَ من الصَّحَابَةِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ وَهُمْ الْقَائِمُونَ بِعِلْمِ الْفِقْهِ فَأَمَّا من انْفَرَدَ بِالْكَلَامِ في الْخَبَرِ وَالظِّفْرَةِ وَالدَّاخِلَةِ لم يَدْخُلْ في جُمْلَةِ الْعُلَمَاءِ فَلَا يُعَدُّ خِلَافًا على من ليس هو مِثْلُهُ وَإِنْ كَانُوا حُذَّاقًا بِدَقَائِقِ الْكَلَامِ كما لَا يُجْعَلُ الْحَاذِقُ من النُّقَّادِ حُجَّةً على الْبَزَّازِ في الْبَزِّ انْتَهَى مَسْأَلَةٌ دُخُولُ الْمُجْتَهِدِ الْمُبْتَدِعِ في الْإِجْمَاعِ الْمُجْتَهِدُ الْمُبْتَدِعُ إذَا كَفَّرْنَاهُ بِبِدْعَتِهِ غَيْرُ دَاخِلٌ في الْإِجْمَاعِ بِلَا خِلَافٍ لِعَدَمِ دُخُولِهِ في مُسَمَّى الْأُمَّةِ الْمَشْهُودِ لهم بِالْعِصْمَةِ وَإِنْ لم يَعْلَمْ هو كُفْرَ نَفْسِهِ قال الْهِنْدِيُّ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِإِجْمَاعِنَا على كُفْرِهِ بِسَبَبِ ذلك الِاعْتِقَادِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْعَقِدُ إجْمَاعُنَا وَحْدَهُ على كُفْرِهِ لو ثَبَتَ كُفْرُهُ فَإِثْبَاتُ كُفْرِهِ بِإِجْمَاعِنَا وَحْدَهُ دَوْرٌ وَأَمَّا إذَا وَافَقَنَا هو على أَنَّ ما ذَهَبَ إلَيْهِ كُفْرٌ فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ كُفْرُهُ لَا لِأَنَّ قَوْلَهُ مُعْتَبَرٌ في الْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ كَافِرٌ وَلَا لِإِجْمَاعِنَا وَحْدَهُ لِمَا سَبَقَ بَلْ لِأَنَّهُ لو لم يَكُنْ ما ذَهَبَ إلَيْهِ كُفْرًا إذْ ذَاكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ على الْخَطَأِ وَأَدِلَّةُ الْإِجْمَاعِ تَنْفِيهِ
____________________
(3/514)
الْمَذَاهِبُ في خِلَافِ الْمُبْتَدِعِ غَيْرِ الْكَافِرِ وَأَمَّا إذَا اعْتَقَدَ ما لَا يَقْتَضِي التَّكْفِيرَ بَلْ التَّبْدِيعَ وَالتَّضْلِيلَ فَاخْتَلَفُوا على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا اعْتِبَارُ قَوْلِهِ لِكَوْنِهِ من أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَإِخْبَارُهُ عن نَفْسِهِ مَقْبُولٌ إذَا كان يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ الْكَذِبِ وقال الْهِنْدِيُّ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَكَلَامُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ كما سَنَذْكُرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِنَصِّهِ على قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْهَوَى وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ قال أَهْلُ السُّنَّةِ لَا يُعْتَبَرُ في الْإِجْمَاعِ وِفَاقُ الْقَدَرِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ وَالرَّافِضَةِ وَلَا اعْتِبَارَ بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعَةِ في الْفِقْهِ وَإِنْ اُعْتُبِرَ في الْكَلَامِ هَكَذَا رَوَى أَشْهَبُ عن مَالِكٍ وَرَوَاهُ الْعَبَّاسُ بن الْوَلِيدِ عن الْأَوْزَاعِيِّ وأبو سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيَّ عن مُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ وَذَكَرَ أبو ثَوْرٍ في مَنْثُورَاتِهِ أَنَّ ذلك قَوْلُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الحديث ا هـ وقال أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ هل يَقْدَحُ خِلَافُ الْخَوَارِجِ في الْإِجْمَاعِ فيه قَوْلَانِ قال وَلَا يَخْرُجُ عن الْإِجْمَاعِ من كان من أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ بِهِمْ الْأَهْوَاءُ كَمَنْ قال بِالْقَدَرِ من حَمَلَةِ الْآثَارِ وَمَنْ رَأَى الْإِرْجَاءَ وَغَيْرُ ذلك من اخْتِلَافِ آرَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ إذَا كان من أَهْلِ الْفِقْهِ فإذا قِيلَ قالت الْخَطَّابِيَّةُ وَالرَّافِضَةُ كَذَا لم يُلْتَفَتْ إلَى هَؤُلَاءِ في الْفِقْهِ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا من أَهْلِهِ وقال ابن الْقَطَّانِ الْإِجْمَاعُ عِنْدَنَا إجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَأَمَّا من كان من أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَلَا مَدْخَلَ له فيه قال قال أَصْحَابُنَا في الْخَوَارِجِ لَا مَدْخَلَ لهم في الْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ لِأَنَّهُمْ ليس لهم أَصْلٌ يَنْقُلُونَ عنه لِأَنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ سَلَفَنَا الَّذِينَ أَخَذْنَا عَنْهُمْ أَصْلَ الدِّينِ انْتَهَى وَمِمَّنْ اخْتَارَ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ من الْحَنَفِيَّةِ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ وَمِنْ الْحَنَابِلَةِ الْقَاضِي أبو يَعْلَى وَاسْتَقْرَأَهُ من كَلَامِ أَحْمَدَ لِقَوْلِهِ لَا يَشْهَدُ رَجُلٌ عِنْدِي ليس هو عِنْدِي بِعَدْلٍ وَكَيْفَ أُجَوِّزُ حُكْمَهُ قال الْقَاضِي يَعْنِي الْجَهْمِيَّ وَالثَّالِثُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ عليه وَيَنْعَقِدُ على غَيْرِهِ أَيْ أَنَّهُ يَجُوزُ له مُخَالَفَةُ من عَدَاهُ إلَى ما أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَهُ حَكَاهُ الْآمِدِيُّ وَتَابَعَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَأَنْكَرَ عليه بَعْضُهُمْ وقال أَرَى حِكَايَتَهُ لِغَيْرِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ وَمَنَعَ من بَقَائِهِمَا على إطْلَاقِهِمَا لِوُقُوعِ مَسْأَلَتَيْنِ في بَابَيْ الِاجْتِهَادِ
____________________
(3/515)
وَالتَّقْلِيدِ تَنْفِي ذلك إحْدَاهُمَا اتِّفَاقُهُمْ على أَنَّ الْمُجْتَهِدَ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ مَمْنُوعٌ من التَّقْلِيدِ وَأَنَّهُ يَجِبُ عليه الْعَمَلُ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَالْقَوْلُ هُنَا بِأَنَّهُ يَجِبُ عليه الْعَمَلُ بِقَوْلِ من خَالَفَهُ مُعَارِضٌ لِذَلِكَ الِاتِّفَاقِ وَثَانِيهِمَا اتِّفَاقُهُمْ على أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُقَلِّدَ من عُرِفَ بِالْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ وَأَنَّهُ يَحْرُمُ عليه تَقْلِيدُ من عُرِفَ بِضِدِّ ذلك وإذا ثَبَتَ هذا اسْتَحَالَ بَقَاءُ الْقَوْلَيْنِ في هذه الْمَسْأَلَةِ على إطْلَاقِهِمَا وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ من يقول لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِ يَعْنِي في حَقِّ نَفْسِهِ وَمَعْنَى قَوْلِ من يقول فَيَنْعَقِدُ يَعْنِي على غَيْرِهِ وَيَصِيرُ النِّزَاعُ لَفْظًا وَعَلَى هذا يَجِبُ تَأْوِيلُ هذا الْقَوْلِ وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِلٌ وَالرَّابِعُ التَّفْصِيلُ بين الدَّاعِيَةِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَيُعْتَدُّ بِهِ حَكَاهُ ابن حَزْمٍ في كِتَابِ الْإِحْكَامِ وَنَقَلَهُ عن جَمَاهِيرِ سَلَفِهِمْ من الْمُحَدِّثِينَ وقال وهو قَوْلٌ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْمُرَاعَى الْعَقِيدَةُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَثُرَ في عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِينَ خُصُوصًا في عِلْمِ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولُوا عن الرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ خِلَافًا لِمَنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَهَذَا لَا يَنْبَغِي ذِكْرُهُ لِأَنَّهُ كَالتَّنَاقُضِ من حَيْثُ ذِكْرُهُ وقال لَا يُعْتَدُّ بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُمْ التَّشْنِيعُ عليهم بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ فَرْعَانِ أَحَدُهُمَا إذَا لم يُعْتَدَّ بِخِلَافِ من كَفَّرْنَاهُ فَلَوْ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا حَالَ تَكْفِيرِهِ ثُمَّ تَابَ وَأَصَرَّ على ذلك الْخِلَافِ فَهَلْ يُعْتَبَرُ خِلَافُهُ الْآنَ فَلْيُبْنَ على انْقِرَاضِ الْعَصْرِ وَسَنَذْكُرُهُ الثَّانِي أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ لو خَالَفَ الْإِجْمَاعَ الذي خَالَفَ فيه الْمُبْتَدِعَ فَإِنْ لم يَعْلَمْ بِبِدْعَتِهِ أو عَلِمَهَا لَكِنَّهُ لم يَعْلَمْ أنها تُوجِبُ الْكُفْرَ وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِ هل يَكُونُ مَعْذُورًا أَمْ لَا وقال الْهِنْدِيُّ إنْ لم يَعْلَمْ بِدْعَتَهُ فَمَعْذُورٌ إنْ كان مُخْطِئًا فيه حَيْثُ تَكُونُ مُوجِبَةً لِلتَّكْفِيرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَصِّرٍ وَإِنْ عَلِمَهَا لَكِنَّهُ لم يَعْلَمْ اقْتِضَاءَهَا التَّكْفِيرَ فَغَيْرُ مَعْذُورٍ بَلْ كان يَلْزَمُهُ مُرَاجَعَةُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ وَإِنَّ مِثْلَ هذا الِاعْتِقَادِ هل يُكَفِّرُ أَمْ لَا
____________________
(3/516)
مَسْأَلَةٌ الْعُلَمَاءُ الْمُجْتَهِدُونَ الْفَسَقَةُ هل يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمْ في الْإِجْمَاعِ في اعْتِبَارِ الْوَرَعِ في أَهْلِ الْإِجْمَاعِ خِلَافٌ فَالْفَسَقَةُ بِالْفِعْلِ دُونَ الِاعْتِقَادِ إذَا بَلَغُوا في الْعِلْمِ مَبْلَغَ الْمُجْتَهِدِينَ هل يُعْتَبَرُ وِفَاقُهُمْ أو خِلَافُهُمْ فيه وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَذَهَبَ مُعْظَمُ الْأُصُولِيِّينَ كما قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن السَّمْعَانِيِّ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ وَيَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِمْ وقال الرَّازِيَّ من الْحَنَفِيَّةِ إنَّهُ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا قال ابن بَرْهَانٍ وهو قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ قال وَنُقِلَ عن شِرْذِمَةٍ من الْمُتَكَلِّمِينَ منهم إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى أَنَّ خِلَافَهُ مُعْتَدٌّ بِهِ قُلْت وَجَزَمَ بِهِ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُزِيلُ اسْمَ الْإِيمَانِ فَيَكُونُ قَوْلُ من عَدَاهُمْ قَوْلَ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ لَا كُلِّهِمْ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً وَإِلَيْهِ مَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَاسْتُشْكِلَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْفَاسِقَ لَا يَجُوزُ له تَقْلِيدُ غَيْرِهِ فَانْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ في حَقِّهِ مُشْكِلٌ وَلَا يُمْكِنُ تَجْزِئَةُ الْإِجْمَاعِ حتى يَكُونَ حُجَّةً في حَقِّ غَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ حُجَّةً في حَقِّهِ وَاسْتَحْسَنَهُ إلْكِيَا وقال الْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةٌ وَاخْتَلَفَ الْمَانِعُونَ في تَعْلِيلِهِ على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ إخْبَارَهُ عن نَفْسِهِ لَا يَوْثُقُ بِهِ لِفِسْقِهِ فَرُبَّمَا أَخْبَرَ بِالْوِفَاقِ وهو مُخَالِفٌ أو بِالْخِلَافِ وهو مُوَافِقٌ فلما تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ قَوْلِهِ سَقَطَ أَثَرُهُ وَشَبَّهَ بَعْضُهُمْ ذلك بِسُقُوطِ أَثَرِ قَوْلِ الْخَضِرِ عليه السَّلَامُ على الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حَيٌّ لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ وَالثَّانِي أَنَّ الْعَدَالَةَ رُكْنٌ في الِاجْتِهَادِ فإذا فَاتَتْ الْعَدَالَةُ فَاتَتْ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ وَعَلَى الثَّانِي اقْتَصَرَ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ وَفَرَّعُوا عليها ما إذَا أَدَّى الْفَاسِقَ اجْتِهَادُهُ إلَى حُكْمٍ في مَسْأَلَةٍ هل يَأْخُذُ بِقَوْلِهِ من عَلِمَ صِدْقَهُ في فَتْوَاهُ بِقَرَائِنَ وَحَكَى ابن السَّمْعَانِيِّ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْفَاسِقَ يَدْخُلُ في الْإِجْمَاعِ من وَجْهٍ وَيَخْرُجُ من وَجْهٍ لِأَنَّهُ إذَا ظَهَرَ خِلَافُهُ سُئِلَ عن دَلِيلِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَحْمِلَهُ فِسْقُهُ على اعْتِقَادِ شَرْعٍ بِغَيْرِ دَلِيلٍ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَهَذَا التَّقْسِيمُ لَا بَأْسَ بِهِ وهو يَقْرُبُ من مَأْخَذِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَلْيُعَوَّلْ عليه وَرَأَيْت في كِتَابِ
____________________
(3/517)
الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ أَنَّ كُلَّ من كان من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ سَوَاءٌ كان مُدَرِّسًا مَشْهُورًا أو خَامِلًا مَسْتُورًا وَسَوَاءٌ كان عَدْلًا أَمِينًا أو فَاسِقًا مُتَهَتِّكًا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ في ذلك على الِاجْتِهَادِ وَالْمَسْتُورُ كَالْمَشْهُورِ قال وَالْأَحْسَنُ هو الْأَوَّلُ ثُمَّ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَأَمَّا الْفِسْقُ بِتَأْوِيلٍ فَلَا يَمْنَعُ من اعْتِبَارِ من يَعْتَقِدُ في الْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ وقد نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ على قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ في اعْتِقَادِ بِدْعَةٍ لَا تُؤَدِّي إلَى التَّكْفِيرِ فَإِنْ أَدَّتْهُ فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَلَا وِفَاقِهِ وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةُ في الْمُبْتَدِعِ مَسْأَلَةٌ هل يُعْتَبَرُ بِخِلَافِ الظَّاهِرِيَّةِ في الْإِجْمَاعِ ذَهَبَ قَوْمٌ منهم الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَالْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَنَسَبَهُ إلَى الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ من أَنْكَرَ الْقِيَاسَ في الْحَوَادِثِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَابَعَهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ قالوا لِأَنَّ من أَنْكَرَهُ لَا يَعْرِفُ طُرُقَ الِاجْتِهَادِ وَإِنَّمَا هو مُتَمَسِّكٌ بِالظَّوَاهِرِ فَهُوَ كَالْعَامِّيِّ الذي لَا مَعْرِفَةَ له وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أبي عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٍ من أَقْرَانِهِ وقال الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ الْمَحْصُولِ يَلْزَمُ الْقَائِلَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ خِلَافَ مُنْكِرِ الْعُمُومِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا ذَاهِبَ إلَيْهِ قُلْت نَقَلَ الْأُسْتَاذُ عن ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ طَرَدَ قَوْلَهُ في مُنْكِرِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَمَنْ تَوَقَّفَ في الظَّوَاهِرِ وَالْعُمُومِ قال لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ تُسْتَنْبَطُ من هذه الْأُصُولِ فَمَنْ أَنْكَرَهَا وَتَوَقَّفَ فيها لم يَكُنْ من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَلَا يُعْتَبَرُ بِخِلَافِهِ قال النَّوَوِيُّ في بَابِ السِّوَاكِ في شَرْحِ مُسْلِمٍ إنَّ مُخَالَفَةَ دَاوُد لَا تَقْدَحُ في انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ على الْمُخْتَارِ الذي عليه الْأَكْثَرُونَ وَالْمُحَقِّقُونَ وَكَذَا قال صَاحِبُ الْمُفْهِمِ جُلُّ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ على أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ بَلْ هُمْ من جُمْلَةِ الْعَوَامّ وَإِنَّ من اعْتَدَّ بِهِمْ فَإِنَّمَا ذلك لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ خِلَافَ الْعَوَامّ في انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَالْحَقُّ خِلَافُهُ
____________________
(3/518)
وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُمْ في الشَّرْعِيَّاتِ كَالسُّوفِسْطَائِيَّةِ في الْعَقْلِيَّاتِ وَكَذَا قال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ من الْحَنَفِيَّةِ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ وَلَا يُؤْنَسُ بِوِفَاقِهِمْ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ يُعْتَبَرُ كما يُعْتَبَرُ خِلَافُ من يَنْفِي الْمَرَاسِيلَ وَيَمْنَعُ الْعُمُومَ وَمَنْ حَمَلَ الْأَمْرَ على الْوُجُوبِ لِأَنَّ مَدَارَ الْفِقْهِ على هذه الطُّرُقِ وَنَقَلَ ابن الصَّلَاحِ عن الْأُسْتَاذِ أبي مَنْصُورٍ أَنَّهُ حَكَى عن ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ في الْفُرُوعِ وَيُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ في الْأُصُولِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمُحَقِّقُونَ لَا يُقِيمُونَ لِخِلَافِ الظَّاهِرِيَّةِ وَزْنًا لِأَنَّ مُعْظَمَ الشَّرِيعَةِ صَادِرَةٌ عن الِاجْتِهَادِ وَلَا تَفِي النُّصُوصُ بِعُشْرِ مِعْشَارِهَا وقال في كِتَابِ اللِّعَانِ إنَّ قَوْلَ دَاوُد بِإِجْزَاءِ الرَّقَبَةِ الْمَعِيبَةِ في الْكَفَّارَةِ نَقَلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْإِجْمَاعَ على خِلَافِهِ قال وَعِنْدِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ لو عَاصَرَ دَاوُد لَمَا عَدَّهُ من الْعُلَمَاءِ وقال الْإِبْيَارِيُّ هذا غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَنَا على الْإِطْلَاقِ بَلْ إنْ كانت الْمَسْأَلَةُ مِمَّا تَتَعَلَّقُ بِالْآثَارِ وَالتَّوْقِيفِ وَاللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ وَلَا مُخَالِفَ لِلْقِيَاسِ فيها لم يَصِحَّ أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِمْ إلَّا على رَأْيِ من يَرَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يَتَجَزَّأُ فَإِنْ قُلْنَا بِالتَّجَزُّؤِ لم يَمْنَعْ أَنْ يَقَعَ النَّظَرُ في فَرْعٍ هُمْ فيه مُحِقُّونَ كما نَعْتَبِرُ خِلَافَ الْمُتَكَلِّمِ في الْمَسْأَلَةِ الْكَلَامِيَّةِ لِأَنَّ له فيه مَدْخَلًا كَذَلِكَ أَهْلُ الظَّاهِرِ في غَيْرِ الْمَسَائِلِ الْقِيَاسِيَّةِ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ وقال ابن الصَّلَاحِ الذي اسْتَقَرَّ عليه الْأَمْرُ ما اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَحَكَاهُ عن الْجُمْهُورِ وَأَنَّ الصَّحِيحَ من الْمَذْهَبِ الِاعْتِدَادُ بِخِلَافِهِمْ وَلِهَذَا يَذْكُرُ الْأَئِمَّةُ من أَصْحَابِنَا خِلَافَهُمْ في الْكُتُبِ الْفَرْعِيَّةِ ثُمَّ قال وَاَلَّذِي أُجِيبُ بِهِ بَعْدَ الِاسْتِخَارَةِ أَنَّ دَاوُد يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ وَيُعْتَدُّ بِهِ في الْإِجْمَاعِ إلَّا ما خَالَفَ الْقِيَاسَ وما أَجْمَعَ عليه الْقِيَاسِيُّونَ من أَنْوَاعِهِ أو بَنَاهُ على أُصُولِهِ التي قام الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ على بُطْلَانِهَا فَاتِّفَاقُ من سِوَاهُ على خِلَافِهِ إجْمَاعٌ يَنْعَقِدُ فَقَوْلُ الْمُخَالِفِ حِينَئِذٍ خَارِجٌ عن الْإِجْمَاعِ كَقَوْلِهِ في التَّغَوُّطِ في الْمَاءِ الرَّاكِدِ وَتِلْكَ الْمَسَائِلِ
____________________
(3/519)
الشَّنِيعَةِ وفي لَا رِبَا إلَّا في النَّسِيئَةِ الْمَنْصُوصِ عليها فَخِلَافُهُ في هذا وَشَبَهُهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ ا هـ فَتَحَصَّلْنَا على خَمْسَةِ آرَاءً في الْمَسْأَلَةِ وقد اعْتَرَضَ ابن الرِّفْعَةِ على إطْلَاقِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّ الْقَاضِيَ الْحُسَيْنَ نَقَلَ عن الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال في الْكِتَابَةِ لَا أَمْتَنِعُ من كِتَابَةِ الْعَبْدِ عِنْدَ جَمْعِ الْقُوَّةِ وَالْأَمَانَةِ وَإِنَّمَا أَسْتَحِبُّ الْخُرُوجَ من الْخِلَافِ فإن دَاوُد أَوْجَبَ كِتَابَةَ من جَمَعَ بين الْقُوَّةِ وَالْأَمَانَةِ وَدَاوُد من أَهْلِ الظَّاهِرِ وقد أَقَامَ الشَّافِعِيُّ لِخِلَافِهِ وَزْنًا وَاسْتَحَبَّ كِتَابَةَ من ذَكَرَهُ لِأَجْلِ خِلَافِهِ ا هـ وَهَذَا وَهْمٌ عَجِيبٌ من ابْنِ الرِّفْعَةِ لِأَنَّ دَاوُد إنَّمَا وُلِدَ قبل وَفَاةِ الشَّافِعِيِّ بِسَنَتَيْنِ لِأَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَمِئَتَيْنِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ اعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ خِلَافَهُ فَغَلِطَ ابن الرِّفْعَةِ لِأَجْلِ فَهْمِهِ أَنَّ هذه الْجُمْلَةَ من كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ هو بِفَتْحِ الْحَاءِ وهو من كَلَامِ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ وَالْمُسْتَحِبُّ هو الْقَاضِي الْحُسَيْنُ لَكِنَّهُ عَلَّلَهُ بِتَعْلِيلٍ غَيْرِ صَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ نعم أَوْجَبَهَا قَبْلُ غَيْرُ دَاوُد فَالْمُرَادُ الْخِلَافُ الذي عليه دَاوُد لَا خُصُوصُ دَاوُد على أَنَّهُ قد قِيلَ إنَّ كَلَامَ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ مُسْتَقِيمٌ وَالْجُمْلَةُ من قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَلَيْسَ الْمُرَادُ صَاحِبَ الظَّاهِرِ بَلْ الْمُرَادُ بِهِ دَاوُد بن عبد الرحمن الْعَطَّارُ شَيْخُ الشَّافِعِيِّ بِمَكَّةَ الذي قال فيه الشَّافِعِيُّ ما رَأَيْت أَوْرَعَ منه وَلَعَلَّهُ الذي نَقَلَ عنه الشَّافِعِيُّ وُجُوبَ الْعَقِيقَةِ فإن الشَّافِعِيَّ قال كما حَكَاهُ عنه الْإِمَامُ في النِّهَايَةِ في بَابِ الْعَقِيقَةِ أَفْرَطَ في الْعَقِيقَةِ رَجُلَانِ رَجُلٌ قال بِوُجُوبِهَا وهو دَاوُد وَرَجُلٌ قال بِبِدْعَتِهَا وهو أبو حَنِيفَةَ
____________________
(3/520)
وَكَلَامُ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ في التَّعْلِيقِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هو دَاوُد الظَّاهِرِيُّ لِأَنَّهُ نَقَلَ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال أَسْتَحِبُّ كِتَابَةَ من جَمَعَ بين الْقُوَّةِ وَالْأَمَانَةِ لِلْخُرُوجِ من الْخِلَافِ فإن دَاوُد يُوجِبُ كِتَابَةَ من جَمَعَ بين الْقُوَّةِ وَالْأَمَانَةِ ولم يَقُلْ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ كما نَقَلَهُ ابن الرِّفْعَةِ مَسْأَلَةٌ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الشُّهْرَةِ في من يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ في الْإِجْمَاعِ من الْمُجْتَهِدِينَ لَا يُشْتَرَطُ في الْمُجْتَهِدِ الذي يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا في الْفُتْيَا بَلْ يُعْتَبَرُ قَوْلُ الْمُجْتَهِدِ الْخَامِلِ خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّاذِّينَ حَيْثُ فَصَلَ بين الْمَشْهُورِ بِالْفَتْوَى فَيُعْتَبَرُ قَوْلُهُ دُونَ غَيْرِهِ حَكَاهُ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ وَغَيْرُهُ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا فيه من الصِّفَاتِ لَا بِشُهْرَتِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ مَذْهَبٍ بَلْ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ مَهْمَا عُلِمَ أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ مَقْبُولُ الْفُتْيَا بِدَلِيلِ أَنَّ الذي دَلَّ على صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ مُتَنَاوِلٌ له وَلَا مَخْرَجَ عنه فَيُعْتَبَرُ قَوْلُهُ مَسْأَلَةٌ هل يُعْتَدُّ بِقَوْلِ من أَشْرَفَ على رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ من أَحْكَمَ أَكْثَرَ أَدَوَاتِ الِاجْتِهَادِ حتى لم يَبْقَ عليه إلَّا أَدَاةٌ وَاحِدَةٌ كَمَنْ أَحْكَمَ عُلُومَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ولم يَبْقَ عليه إلَّا اللُّغَةُ أو عِلْمُ التَّفْسِيرِ فَهَلْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ قال ابن بَرْهَانٍ ذَهَبَ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَيَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ دُونَهُ وَنُقِلَ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ أَنَّهُ قال لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاع مع خِلَافِهِ قال ابن بَرْهَانٍ ولم يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ سِوَى الْقَاضِي وَتَرْجَمَ إلْكِيَا هذه الْمَسْأَلَةَ بِقَوْلِهِ من أَشْرَفَ على رُتْبَةِ الْمُجْتَهِدِينَ قال أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَصَارَ قَاضِينَا أبو بَكْرٍ إلَى أَنَّهُ يُعْتَدُّ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ نَفْسَهُ في رُتْبَةِ الْمُجْتَهِدِينَ مَسْأَلَةٌ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ إذَا أَحْكَمَا أَدَوَاتِ الِاجْتِهَادِ الصَّبِيُّ إذَا أَحْكَمَ أَدَوَاتِ الِاجْتِهَادِ وَأَنَّى يُتَصَوَّرُ ذلك وَلَكِنْ يُقَدَّرُ على الْبُعْدِ قال ابن بَرْهَانٍ اتَّفَقُوا على أَنَّ خِلَافَهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ لِأَنَّ قَوْلَ الصَّبِيِّ لَا أَثَرَ له في الشَّرْعِ
____________________
(3/521)
وَلِهَذَا أَلْغَى أَقْوَالَهُ قال وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ وَلِهَذَا لم تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ وَلَا رِوَايَتُهُ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في الْفَاسِقِ وقد سَبَقَ مَسْأَلَةٌ الِاعْتِدَادُ في الْإِجْمَاعِ بِمَنْ بَلَغَ مَبْلَغَ الِاجْتِهَادِ من النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَأَمَّا من بَلَغَ من النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ مَبْلَغَ الِاجْتِهَادِ فإنه يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ مع خِلَافِهِ وَالرِّقُّ وَالْأُنُوثَةُ لَا يُؤَثِّرَانِ في اعْتِبَارِ الْخِلَافِ كما لَا يُؤَثِّرَانِ في قَبُولِ الرِّوَايَةِ وَالْفَتْوَى وقد رَجَعَ أَعْلَامُ الصَّحَابَةِ إلَى فَتَاوَى عَائِشَةَ وَسَائِرِ أَزْوَاجِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَإِلَى فَتَاوَى نَافِعٍ مولى ابْنِ عُمَرَ وَعِكْرِمَةَ مولى ابْنِ عَبَّاسٍ قبل عِتْقِهِمَا الشَّرْطُ الثَّانِي اتِّفَاقُ جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ في الْبِقَاعِ وَيَتَفَرَّعُ عليه مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى إذَا اتَّفَقَ الْأَكْثَرُونَ وَخَالَفَ وَاحِدٌ فَلَا يَكُونُ قَوْلُ غَيْرِهِ إجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً هذا هو الْمَشْهُورُ وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَحَكَاهُ أبو بَكْرٍ الرَّازِيّ عن الْكَرْخِيِّ من أَصْحَابِهِمْ وَاحْتَجَّ الْقَفَّالُ بِمُخَالَفَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ في الْعَوْلِ وَدَعْوَتِهِ إلَى الْمُبَاهَلَةِ وَاعْتَدُّوا بِهِ خِلَافًا وَكَذَا جَزَمَ بِهِ ابن الْقَطَّانِ وَالصَّيْرَفِيُّ قال وَلَا يُقَالُ لِهَذَا شَاذٌّ لِأَنَّ الشَّاذَّ ما كان في الْجُمْلَةِ ثُمَّ شَذَّ عليهم وَكَيْفَ يَكُونُ مَحْجُوجًا بِهِمْ وَلَا يَقَعُ اسْمُ الْإِجْمَاعِ إلَّا بِهِ قال إلَّا أَنْ يُجْمِعُوا على شَيْءٍ من جِهَةِ الْحِكَايَةِ فَلَزِمَهُ قَبُولُ خَبَرِهِمْ أَمَّا من جِهَةِ الِاجْتِهَادِ فَلَا لِأَنَّ الْحَقَّ قد يَكُونُ معه وَدَلِيلُ النَّظَرِ بَاقٍ وَاحْتَجَّ جَمْعٌ من أَصْحَابِنَا بِقِصَّةِ الصِّدِّيقِ في قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ قال في الْبَيَانِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَنْكَرُوا على أبي بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه ولم يَكُنْ قَوْلُهُمْ حُجَّةً ا ه
____________________
(3/522)
وَهَذَا ليس مَحَلَّ الْخِلَافِ فإن الْمُجْتَهِدَ ما دَامَ في مُهْلَةِ النَّظَرِ لَا يَكُونُ قَوْلُ غَيْرِهِ حُجَّةً عليه فَإِنْ رَجَعَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ إلَى وَاحِدٍ قال الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لم يَكُنْ قَوْلُهُ حُجَّةً لِأَنَّ اسْمَ الْإِجْمَاعِ يَسْتَدْعِي عَدَدًا فَلَا أَقَلَّ من اثْنَيْنِ أو ثَلَاثَةٍ وَالْمَذْهَبُ انْعِقَادُ إجْمَاعِ الْأَكْثَرِ مع مُخَالَفَةِ الْأَقَلِّ وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ عن مُحَمَّدِ بن جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَبِي الْحُسَيْنِ بن الْخَيَّاطِ من مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ أُسْتَاذِ الْكَعْبِيِّ وزاد الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وابن الْأَخْشَادِ من أَصْحَابِ الْجُبَّائِيُّ وهو رِوَايَةُ أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ ثُمَّ رَدَّهُ بِمُخَالَفَةِ الصِّدِّيقِ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ في قِتَالِ الرِّدَّةِ ثُمَّ رَجَعُوا إلَيْهِ وَإِلَى هذا الْمَذْهَبِ يَمِيلُ كَلَامُ الشَّيْخِ أبي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ فإنه قال في كِتَابِهِ الْمُحِيطِ وَالشَّرْطُ أَنْ يُجْمِعَ جُمْهُورُ تِلْكَ الصَّنْعَةِ وَوُجُوهُهُمْ وَمُعْظَمُهُمْ وَلَسْنَا نَشْتَرِطُ قَوْلَ جَمِيعِهِمْ وَكَيْفَ نَشْتَرِطُ ذلك وَرُبَّمَا يَكُونُ في أَقْطَارِ الْأَرْضِ من الْمُجْتَهِدِينَ من لم يَسْمَعْ بِهِ فإن السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَيَسْتَسِرُّونَ بِالْعِلْمِ فَرُبَّمَا كان الرَّجُلُ قد أَخَذَ الْفِقْهَ الْكَثِيرَ وَلَا يَعْلَمُ ذلك جَارُهُ قال وَالدَّلِيلُ على هذا أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا اسْتَخْلَفُوا أَبَا بَكْرٍ انْعَقَدَتْ خِلَافَتُهُ بِإِجْمَاعِ الْحَاضِرِينَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ من الصَّحَابَةِ من غَابَ قبل وَفَاةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى بَعْضِ الْبُلْدَانِ وَمِنْ حَاضِرِي الْمَدِينَةِ من لم يَحْضُرْ السَّقِيفَةَ ولم يُعْتَبَرْ ذلك مع اتِّفَاقِ الْأَكْثَرِينَ قال الْهِنْدِيُّ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ إجْمَاعٌ مُرَادُهُمْ أَنَّهُ ظَنِّيٌّ لَا قَطْعِيٌّ وَبِهِ يُشْعِرُ إيرَادُ بَعْضِهِمْ وَاحْتَجَّ ابن جَرِيرٍ على عَدَمِ اعْتِبَارِ قَوْلِ الْأَقَلِّ بِارْتِكَابِهِ الشُّذُوذَ الْمَنْهِيَّ عنه وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشُّذُوذَ الْمَنْهِيَّ عنه هو الشَّاقُّ لِعَصَا الْمُسْلِمِينَ لَا في أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ ثُمَّ إنَّ ابْنَ جَرِيرٍ قد شَذَّ عن الْجَمَاعَةِ في هذه الْمَسْأَلَةِ فَيَنْبَغِي أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ خِلَافُهُ وَيَكُونُ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ بِعَيْنِ ما ذَكَرَ وَالثَّالِثُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَرَجَّحَهُ ابن الْحَاجِبِ فإنه قال لو عُدَّ الْمُخَالِفُ مع كَثْرَةِ الْمُجْمِعِينَ لم يَكُنْ إجْمَاعًا قَطْعِيًّا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حُجَّةٌ لِبُعْدِ أَنْ يَكُونَ الرَّاجِحُ مُتَمَسَّكَ الْمُخَالِفِ وَالرَّابِعُ أَنَّ عَدَدَ الْأَقَلِّ إنْ بَلَغَ عَدَدَ التَّوَاتُرِ لم يُعْتَبَرْ بِالْإِجْمَاعِ دُونَهُ وَإِلَّا اُعْتُدَّ بِهِ حَكَاهُ الْآمِدِيُّ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ إنَّهُ الذي يَصِحُّ عن ابْنِ جَرِيرٍ قِيلَ وهو مَبْنِيٌّ على أَنَّ مُسْتَنَدَ الْإِجْمَاعِ الْعَقْلُ لَا السَّمْعُ وَأَنَّ الْإِجْمَاعَ يُشْتَرَطُ له عَدَدُ التَّوَاتُرِ إذْ التَّوَاتُرُ يُفِيدُ الْعِلْمَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مع الْأَقَلِّ الْمُخَالِفِ فَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ دُونَهُ لِأَنَّهُ ليس بِقَاطِعٍ إذَنْ
____________________
(3/523)
وَالْخَامِسُ اتِّبَاعُ الْأَكْثَرِ أَوْلَى وَيَجُوزُ خِلَافُهُ حَكَاهُ الْهِنْدِيُّ وَالسَّادِسُ يَضُرُّ الِاثْنَانِ لَا الْوَاحِدُ وَالسَّابِعُ يَضُرُّ الثَّلَاثَةُ لَا الْوَاحِدُ وَلَا الِاثْنَانِ وَخَصَّ ابن كَجٍّ في كِتَابِهِ خِلَافَ ابْنِ جَرِيرٍ بِالْوَاحِدِ وَحَكَى الِاتِّفَاقَ على أَنَّ خِلَافَ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ يَجْعَلُ الْمَسْأَلَةَ خِلَافًا وَيَخْرُجُ منه طَرِيقَةٌ قَاطِعَةٌ بِضَرَرِ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَالثَّامِنُ إنْ سَوَّغَتْ الْجَمَاعَةُ الِاجْتِهَادَ في مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ كان خِلَافَهُ مُعْتَدًّا بِهِ كَخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ في الْعَوْلِ وَإِنْ أَنْكَرُوهُ لم يُعْتَدَّ بِهِ كَخِلَافِهِ في رِبَا الْفَضْلِ قَالَهُ أبو بَكْرٍ الرَّازِيّ وأبو عبد اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ وقال شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ إنَّهُ الصَّحِيحُ قِيلَ وهو رَاجِعٌ إلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بِالْأَكْثَرِ أَعْنِي تَسْوِيغَهُمْ الْمُخَالَفَةَ وَعَدَمَهُ فَلَوْ لم يَكُنْ اتِّفَاقُهُمْ لم يَكُنْ تَسْوِيغُهُمْ الْمَذْكُورُ حُجَّةً وَإِيجَابُ اعْتِبَارِ الْأَكْثَرِ أَوْلَى وَيَجُوزُ خِلَافُهُ وَالتَّاسِعُ إنْ كان يَدْفَعُ خِلَافَ الْوَاحِدِ نَصٌّ لم يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ كَخِلَافِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِلصَّحَابَةِ في الْفَاتِحَةِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ ولم يَجْعَلْهَا من الْقُرْآنِ فلم يَعْتَدُّوا بِخِلَافِهِ لِوُجُودِ النَّصِّ وَإِنْ كان لَا يَدْفَعُ قَوْلَ مَخَالِفِهِ نَصٌّ كان خِلَافُهُ مَانِعًا من انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ سَوَاءٌ كان من أَكَابِرِ الْعَصْرِ أو من أَصَاغِرِهِمْ سِنًّا كَخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِجَمِيعِ الصَّحَابَةِ في الْعَوْلِ فَصَارَ خِلَافُهُ خِلَافًا وَجَزَمَ بهذا التَّفْصِيلِ الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ في كِتَابِ الْقَضَاءِ وهو قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ الْعَاشِرُ لَا يُعْتَبَرُ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ في أُصُولِ الدِّينِ وَالتَّأْثِيمِ وَالتَّضْلِيلِ بِخِلَافِ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ عن ابْنِ الْأَخْشَادِ وَيَجِيءُ مَذْهَبٌ آخَرُ من الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ الْمُخَالِفُ تَابِعِيًّا وَالْمُجْمِعُونَ صَحَابَةً وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ وَآخَرُ مُفَصِّلٌ بين أَنْ يَنْشَأَ مَعَهُمْ وَيُخَالِفَهُمْ أو يَنْشَأَ بَعْدَهُمْ مَسْأَلَةٌ لَا اعْتِبَارَ لِلْخِلَافِ الثَّانِي الْخِلَافُ الثَّانِي لَا اعْتِبَارَ له كما أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْبَعِيدَ لَا يُخْرِجُ النَّصَّ عن كَوْنِهِ نَصًّا وَلِهَذَا عَدَّ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ جُمْلَةً من التَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ وَهَكَذَا يقول الْحَنَفِيَّةُ في الْخِلَافِ في الشَّاذِّ إنَّهُ لَا خِلَافَ وَلَا اخْتِلَافَ يَعْنُونَ بِذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ الْقَرِيبُ الْمَأْخَذِ بِخِلَافِ الشَّاذِّ الْبَعِيدِ فَهُوَ خِلَافٌ لِأَهْلِ الْحَقِّ
____________________
(3/524)
مَسْأَلَةٌ الْأَوْجُهُ الْمَحْكِيَّةُ هل تَقْدَحُ في الْإِجْمَاعِ الْأَوْجُهُ الْمَحْكِيَّةُ في الْمَذْهَبِ هل تَقْدَحُ في الْإِجْمَاعِ لم أَرَ فيه نَصًّا لِلْأُصُولِيِّينَ وَيُشْبِهُ تَخْرِيجُهُ على أَنَّهُ لَازِمُ الْمَذْهَبِ أَمْ من جِهَةِ أَنَّ الْأَوْجُهَ مَأْخُوذَةٌ من قَوَاعِدَ عَامَّةٍ لِصَاحِبِ الْمَذْهَبِ وَإِلَّا فَلَا لَكِنْ رَأَيْت ابْنَ الرِّفْعَةِ في الْمَطْلَبِ في أَوَّلِ الْقَضَاءِ صَرَّحَ بِحِكَايَةِ خِلَافٍ في أنها هل تَقْدَحُ في الْإِجْمَاعِ أَمْ لَا وقال الصَّحِيحُ أنها تَقْدَحُ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ التَّابِعِيُّ الْمُجْتَهِدُ هل يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ في إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ إذَا أَدْرَكَ عَصْرَهُمْ إذَا أَدْرَكَ التَّابِعِيُّ عَصْرَ الصَّحَابَةِ وهو من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ دخل مَعَهُمْ فيه وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ إلَّا بِهِ على أَصَحِّ الْوُجُوهِ عِنْدَ الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ وَالشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ وَابْنِ الصَّبَّاغِ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ السُّهَيْلِيِّ في كِتَابِ أَدَبِ الْجَدَلِ له قال لِأَنَّهُمَا لم يَخْتَلِفَا إلَّا في رُؤْيَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ كَوْنَ الْحَقِّ معه وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ اللُّبَابِ وَالسَّرَخْسِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ عن أَكْثَرِ أَصْحَابِهِمْ قال وَلِهَذَا قال أبو حَنِيفَةَ لَا يَثْبُتُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ في الْإِشْعَارِ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ كان يَكْرَهُهُ وهو مِمَّنْ أَدْرَكَ عَصْرَ الصَّحَابَةِ فَلَا يَثْبُتُ إجْمَاعُهُمْ بِدُونِ قَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ إذْ ذَاكَ بَعْضُ الْأُمَّةِ وَالْعِصْمَةُ إنَّمَا ثَبَتَتْ لِجَمِيعِهِمْ وَسُئِلَ ابن عُمَرَ عن فَرِيضَةٍ فقال سَلُوا ابْنَ جُبَيْرٍ فإنه أَعْلَمُ بها وكان أَنَسٌ يُسْأَلُ فيقول سَلُوا مَوْلَانَا الْحَسَنَ فإنه سمع وَسَمِعْنَا وَحَفِظَ وَنَسِينَا وَسُئِلَ ابن عَبَّاسٍ عن ذَبْحِ الْوَلَدِ فَأَشَارَ إلَى مَسْرُوقٍ فلما بَلَغَهُ جَوَابُهُ تَابَعَهُ عليه وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَاخْتَارَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ وَنَقَلَهُ في الْأَوْسَطِ عن إسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ وَنُفَاةِ الْقِيَاسِ وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عن ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَقْتَ حُدُوثِ تِلْكَ النَّازِلَةِ فَيُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَإِلَّا فَلَا وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَالرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَالصَّيْرَفِيُّ في الدَّلَائِلِ وَسُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ قال وَمِنْ
____________________
(3/525)
أَصْحَابِنَا من رَتَّبَ الْمَسْأَلَةَ فقال إنْ بَلَغَ التَّابِعِيُّ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ في عَصْرِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ وَقَعَتْ حَادِثَةٌ فَأَجْمَعُوا وَخَالَفَهُمْ اُعْتُدَّ بِخِلَافِهِ وَإِنْ أَجْمَعُوا على قَوْلٍ ثُمَّ أَدْرَكَهُمْ وَخَالَفَهُمْ فَمَنْ لم يَعْتَبِرْ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ لم يَعْتَدَّ بِخِلَافِهِ وَمَنْ اعْتَبَرَ انْقِرَاضَهُ فَفِي الِاعْتِدَادِ بِهِ وَجْهَانِ ا هـ وَصَوَّرَ الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ الْمَسْأَلَةَ بِالْمَعَاصِرِ الْمُجْتَهِدِ فقال يُعْتَبَرُ وِفَاقُهُ في حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا من لم يَعْتَبِرْهُ وهو غَلَطٌ لِأَنَّهُ من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ الْحَادِثَةِ فَاعْتُبِرَ وِفَاقُهُ كَالْوَاحِدِ من الصَّحَابَةِ قال فَأَمَّا من عَاصَرَهُمْ وهو صَبِيٌّ لم يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ ثُمَّ بَلَغَهَا وَخَالَفَهُمْ فَهَلْ يُعَدُّ خِلَافُهُ خِلَافًا وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُعَدُّ لِأَنَّهُ لم يَكُنْ من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ وقال الْقَفَّالُ فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا هذا وَالثَّانِي يُعَدُّ خِلَافًا لِقِصَّةِ ابْنِ عَبَّاسٍ في الْعَوْلِ ا هـ وَاَلَّذِي رَأَيْتُهُ في كِتَابِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ ما نَصُّهُ وَمَتَى أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ على شَيْءٍ ثُمَّ حَدَثَ في عَصْرِهِمْ من بَلَغَ مَبْلَغَ الِاسْتِدْلَالِ لم يَكُنْ له مُخَالَفَةُ إجْمَاعِهِمْ فَإِنْ حَدَثَتْ حَادِثَةٌ في الْوَقْتِ الذي قد جاء فيه التَّابِعِيُّ مُسْتَدِلًّا فَأَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ اسْتِنْبَاطًا وَرَأَى خِلَافَهُ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ خِلَافٌ وَفِيهِ نَظَرٌ هذا كَلَامُهُ وَحَكَى في الْقَوَاطِعِ الْوَجْهَيْنِ ثُمَّ قال هذا إذَا بَلَغَ التَّابِعِيُّ فَأَمَّا إذَا تَقَدَّمَ الْإِجْمَاعُ على قَوْلِ التَّابِعِيِّ فإنه يَكُونُ التَّابِعِيُّ مَحْجُوجًا بِذَلِكَ قَطْعًا وقد اُعْتُبِرَ ذلك من شَرْطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ وقد قُلْنَا إنَّ هذا الِاعْتِبَارَ يُؤَدِّي إلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إجْمَاعٌ ا هـ وَكَلَامُ الْآمِدِيَّ يَقْتَضِي طَرْدَ الْخِلَافِ مُطْلَقًا فإنه قال الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إجْمَاعُهُمْ دُونَهُ اخْتَلَفُوا فَمَنْ لم يَشْتَرِطْ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ قال إنْ كان من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ قبل إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لم يَنْعَقِدْ إجْمَاعُهُمْ مع مُخَالَفَتِهِ وَإِنْ بَلَغَ الِاجْتِهَادَ بَعْدَ انْعِقَادِ إجْمَاعِهِمْ لم يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ قَالَهُ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ وَهِيَ رِوَايَةٌ عن أَحْمَدَ وَمَنْ شَرَطَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ قال لَا يَنْعَقِدُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مع مُخَالَفَتِهِ سَوَاءٌ كان مُجْتَهِدًا حَالَ إجْمَاعِهِمْ أو صَارَ مُجْتَهِدًا بَعْدَ ذلك في عَصْرِهِمْ وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِمُخَالَفَتِهِ أَصْلًا وهو مَذْهَبُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ في الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى
____________________
(3/526)
قال وَالْمُخْتَارُ إنْ كان من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ حَالَ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لم يَنْعَقِدْ إجْمَاعُهُمْ مع مُخَالَفَتِهِ انْتَهَى وَتَحَصَّلَ أَنَّ اللَّاحِقَ إمَّا أَنْ يَتَأَهَّلَ قبل الِانْقِرَاضِ أو بَعْدَهُ وَعَلَى الْأَوَّلِ فَإِمَّا أَنْ يُوَافِقَ أو يُخَالِفَ أو يَسْكُتَ وَالْقَائِلُ بِعَدَمِ اعْتِبَارِهِ لَا يَجْعَلُ لِذَلِكَ أَثَرًا وَالْقَائِلُ بِهِ اثْنَانِ قَائِلٌ إنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ وِفَاقُهُ بَلْ يُعْتَبَرُ عَدَمُ خِلَافِهِ وَقَائِلٌ يَعْتَبِرُهُمَا تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ الْكَلَامُ في هذه الْمَسْأَلَةِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مع الْقَائِلِينَ بِأَنَّ خِلَافَ الْأَقَلِّ يَنْدَفِعُ بِهِ إجْمَاعُ الْأَكْثَرِ فَلِهَذَا ذُكِرَتْ الثَّانِي لَا يَخْتَصُّ هذا بِالتَّابِعِيِّ مع الصَّحَابَةِ بَلْ إذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ الْعَصْرِ على حُكْمٍ فَنَشَأَ قَوْمٌ مُجْتَهِدُونَ قبل انْقِرَاضِهِمْ فَخَالَفُوهُمْ وَقُلْنَا انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطٌ فَهَلْ يَرْتَفِعُ الْإِجْمَاعُ على مَذْهَبَيْنِ وَإِنْ قُلْنَا لَا يُعْتَبَرُ الِانْقِرَاضُ فَلَا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ بِلَا خِلَافٍ بين الْقَائِلِينَ بِحُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ وَهُمْ أَحَقُّ الناس بِذَلِكَ وَنَقَلَ عبد الْوَهَّابِ عن قَوْمٍ من الْمُبْتَدِعَةِ أَنَّ إجْمَاعَهُمْ ليس بِحُجَّةٍ وَهَكَذَا إجْمَاعُ غَيْرِهِمْ من الْعُلَمَاءِ في سَائِرِ الْأَعْصَارِ خِلَافًا لِدَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ حَيْثُ قال إجْمَاعُ اللَّازِمِ يَخْتَصُّ بِعَصْرِ الصَّحَابَةِ فَأَمَّا إجْمَاعُ من بَعْدَهُمْ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ حِبَّانَ الْبُسْتِيِّ مِنَّا في صَحِيحِهِ وَقِيلَ إنَّ أَحْمَدَ عَلَّقَ الْقَوْلَ بِهِ في رِوَايَةِ أبي دَاوُد فقال الْإِجْمَاعُ أَنْ يُتَّبَعَ ما جاء عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَعَنْ الصَّحَابَةِ وهو بَعْدُ في التَّابِعِينَ مُخَيَّرٌ لَكِنَّهُ في الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى سَوَّى بين الْكُلِّ فَمِنْ أَصْحَابِهِ من أَجْرَى له قَوْلَيْنِ وَمِنْهُمْ من قَطَعَ بِالثَّانِي وَحَمَلَ الْأَوَّلَ على آحَادِ التَّابِعِينَ لَا إجْمَاعِهِمْ وَأَمَّا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ إذَا أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ على شَيْءٍ سَلَّمْنَاهُ وإذا أَجْمَعَ التَّابِعُونَ زَاحَمْنَاهُمْ فَلَيْسَ ذلك مُوَافِقًا لِدَاوُدَ لِأَنَّهُ رَأَى نَفْسَهُ من التَّابِعِينَ فَقَدْ رَأَى
____________________
(3/527)
أَنَسًا رضي اللَّهُ عنه وَقِيلَ أَدْرَكَ أَرْبَعَةً منهم وَلَنَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَكُونُ عن أَصْلٍ وهو شَامِلٌ لِلْكُلِّ وَبِالشَّهَادَةِ بِالْعِصْمَةِ وهو عَامٌّ فَتَخْصِيصُهُ تَحَكُّمٌ وهو كَالْقَائِلِ لَا حُجَّةَ إلَّا في قِيَاسِ الصَّحَابَةِ بِدَلِيلِ وَيَتَّبِعْ غير سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَخَصَّ أبو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ في أَدَبِ الْجَدَلِ النَّقْلَ عن دَاوُد بِمَا إذَا أَجْمَعُوا عن نَصِّ كِتَابٍ أو سُنَّةٍ قال فَأَمَّا إذَا أَجْمَعُوا على حُكْمٍ من جِهَةِ الْقِيَاسِ فَاخْتَلَفُوا فيه وقد سَبَقَ وقال ابن الْقَطَّانِ ذَهَبَ دَاوُد وَأَصْحَابُنَا إلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا هو إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَقَطْ وهو قَوْلٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَكُونُ عن تَوْقِيفٍ وَالصَّحَابَةُ هُمْ الَّذِينَ شَهِدُوا التَّوْقِيفَ فَإِنْ قِيلَ فما يَقُولُونَ في إجْمَاعِ من بَعْدَهُمْ أَيَجُوزُ أَنْ يُجْمِعُوا على خَطَأٍ قُلْنَا هذا لَا يَجُوزُ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَجَابَ عن ذلك بِقَوْلِهِ لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ من أُمَّتِي ظَاهِرِينَ على الْحَقِّ وَالثَّانِي أَنَّ سَعَةَ أَقْطَارِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةَ الْعَدَدِ لَا يُمَكِّنُ أَحَدًا ضَبْطَ أَقْوَالِهِمْ وَمَنْ ادَّعَى هذا لَا يَخْفَى على أَحَدٍ كَذِبُهُ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ على الِانْفِرَادِ لَا يَكُونُ حُجَّةً وقال مَالِكٌ إذَا أَجْمَعُوا لم يُعْتَدَّ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ قال الشَّافِعِيُّ في كِتَابِ اخْتِلَافِ الحديث قال بَعْضُ أَصْحَابِنَا إنَّهُ حُجَّةٌ وما سَمِعْت أَحَدًا ذَكَرَ قَوْلَهُ إلَّا عَابَهُ وَإِنَّ ذلك عِنْدِي مَعِيبٌ انْتَهَى وقال الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ في كِتَابِ فَهْمِ السُّنَنِ قال مَالِكٌ إذَا كان الْأَمْرُ بِالْمَدِينَةِ ظَاهِرًا مَعْمُولًا بِهِ لم أَرَ لِأَحَدٍ خِلَافَهُ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُ ا هـ وَنَقَلَ عنه الصَّيْرَفِيُّ في الْأَعْلَامِ وَالرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ وَالْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا هو إجْمَاعُهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ وهو بَعِيدٌ وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ في كِتَابِ الرَّدِّ على الْجُرْجَانِيِّ أَنَّهُ أَرَادَ الْفُقَهَاءَ السَّبْعَةَ وَحْدَهُمْ وقال إنَّهُمْ إذَا أَجْمَعُوا على مَسْأَلَةٍ انْعَقَدَ بِهِمْ الْإِجْمَاعُ ولم يَجُزْ لِغَيْرِهِمْ مُخَالَفَتُهُمْ وَالْمَشْهُورُ عنه الْأَوَّلُ لَكِنْ يُشْكِلُ على ذلك أَنَّهُ في الْمُوَطَّأِ في بَابِ الْعَيْبِ
____________________
(3/528)
في الرَّقِيقِ نَقَلَ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ على أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ لَا يَجُوزُ وَلَا يَبْرَأُ من الْعَيْبِ أَصْلًا عَلِمَهُ أو جَهِلَهُ ثُمَّ خَالَفَهُمْ فَلَوْ كان يَرَى أَنَّ إجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ لم تَسَعْ مُخَالَفَتُهُ وَعَلَى الْمَشْهُورِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فقال الْبَاجِيُّ إنَّمَا أَرَادَ فِيمَا طَرِيقُهُ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ كَالصَّاعِ وَالْمُدِّ وَالْأَذَانِ وَالْإِمَامَةِ وَعَدَمِ الزَّكَوَاتِ في الْخَضْرَاوَاتِ مِمَّا تَقْضِي الْعَادَةُ بِأَنْ يَكُونَ في زَمَنِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فإنه لو تَغَيَّرَ عَمَّا كان عليه لَعُلِمَ فَأَمَّا مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ فَهُمْ وَغَيْرُهُمْ سَوَاءٌ وَحَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ عن شَيْخِهِ الْأَبْهَرِيُّ وَقِيلَ يُرَجَّحُ نَقْلُهُمْ على نَقْلِ غَيْرِهِمْ وقد أَشَارَ الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه إلَى هذا في الْقَدِيمِ وَرَجَّحَ رِوَايَةَ أَهْلِ الدِّينِ على غَيْرِهِمْ وَقِيلَ أَرَادَ بِذَلِكَ الصَّحَابَةَ وَقِيلَ أَرَادَ بِهِ في زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ حَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وابن السَّمْعَانِيِّ وَعَلَيْهِ ابن الْحَاجِبِ وَادَّعَى ابن تَيْمِيَّةَ أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بِنَاءً على قَوْلِهِمَا إنَّ اجْتِهَادَهُمْ في ذلك الزَّمَنِ مُرَجَّحٌ على اجْتِهَادِ غَيْرِهِمْ فَيُرَجَّحُ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ لِمُوَافَقَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وقال مَرَّةً إنَّهُ مَحْمُولٌ على إجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِينَ من أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَحُكِيَ عن يُونُسَ بن عبد الْأَعْلَى قال قال لي الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه إذَا وَجَدْت مُتَقَدِّمِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ على شَيْءٍ فَلَا يَدْخُلْ قَلْبَك شَكٌّ أَنَّهُ الْحَقُّ وَكُلَّمَا جَاءَك شَيْءٌ غَيْرُ ذلك فَلَا تَلْتَفِتْ إلَيْهِ وَلَا تَعْبَأْ بِهِ فَقَدْ وَقَعْتَ في الْبِحَارِ وَوَقَعْتَ في اللُّجَجِ وفي لَفْظٍ له إذَا رَأَيْت أَوَائِلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ على شَيْءٍ فَلَا تَشُكَّنَّ أَنَّهُ الْحَقُّ وَاَللَّهِ إنِّي لَك نَاصِحٌ وَالْقُرْآنِ لَك نَاصِحٌ وإذا رَأَيْت قَوْلَ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ في حُكْمٍ أو سُنَّةٍ فَلَا تَعْدِلْ عنه إلَى غَيْرِهِ وقال مَالِكٌ قَدِمَ عَلَيْنَا ابن شِهَابٍ قَدْمَةً فَقُلْت له طَلَبْتَ الْعِلْمَ حتى إذَا كنت وِعَاءً من أَوْعِيَتِهِ تَرَكْت الْمَدِينَةَ فقال كُنْت أَسْكُنُ الْمَدِينَةَ وَالنَّاسُ نَاسٌ فلما تَغَيَّرَتْ الناس تَرَكْتُهُمْ رَوَاهُ عنه عبد الرَّزَّاقِ ا هـ وَقِيلَ مَحْمُولٌ على الْمَنْقُولَاتِ الْمُسْتَمِرَّةِ كما سَبَقَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَرَافِيُّ في شَرْحِ الْمُنْتَخَبِ وَصُحِّحَ في مَكَان آخَرَ التَّعْمِيمُ في مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَفِيمَا طَرِيقُهُ النَّقْلُ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَلَا فَرْقَ في مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ من الْعُلَمَاءِ إذَا لم يَقُمْ دَلِيلٌ على عِصْمَةِ بَعْضِ الْأُمَّةِ نعم ما طَرِيقُهُ النَّقْلُ إذَا عُلِمَ اتِّصَالُهُ وَعَدَمُ تَغَيُّرِهِ وَاقْتَضَتْهُ الْعَادَةُ من صَاحِبِ الشَّرْعِ وَلَوْ بِالتَّقْرِيرِ عليه فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ قَوِيٌّ يَرْجِعُ إلَى أَمْرٍ
____________________
(3/529)
عَادِيٍّ قَالَهُ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ رَحِمَهُ اللَّهُ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ على ضَرْبَيْنِ نَقْلِيٌّ وَاسْتِدْلَالِيٌّ فَالْأَوَّلُ على ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ منه نَقْلُ شَرْعٍ مُبْتَدَأٍ من جِهَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إمَّا من قَوْلٍ أو فِعْلٍ أو إقْرَارٍ فَالْأَوَّلُ كَنَقْلِهِمْ الصَّاعَ وَالْمُدَّ وَالْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ وَالْأَوْقَاتِ وَالْأَحْبَاسِ وَنَحْوِهِ وَالثَّانِي نَقْلُهُمْ الْمُتَّصِلَ كَعُهْدَةِ الرَّقِيقِ وَغَيْرِ ذلك وَالثَّالِثُ كَتَرْكِهِمْ أَخْذَ الزَّكَاةِ من الْخَضْرَاوَاتِ مع أنها كانت تُزْرَعُ بِالْمَدِينَةِ وكان النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ لَا يَأْخُذُونَهَا منها قال وَهَذَا النَّوْعُ من إجْمَاعِهِمْ حُجَّةٌ يَلْزَمُ عِنْدَنَا الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَتَرْكُ الْأَخْبَارِ وَالْمَقَايِيسِ له لَا اخْتِلَافَ بين أَصْحَابِنَا فيه قال وَالثَّانِي وهو إجْمَاعُهُمْ من طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ ليس بِإِجْمَاعٍ وَلَا مُرَجَّحٍ وهو قَوْلُ أبي بَكْرٍ وَأَبِي يَعْقُوبَ الرَّازِيَّ وَالْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَالطَّيَالِسِيِّ وَأَبِي الْفَرَجِ وَالْأَبْهَرِيُّ وَأَنْكَرُوا كَوْنَهُ مَذْهَبًا لِمَالِكٍ ثَانِيهَا أَنَّهُ مُرَجَّحٌ وَبِهِ قال بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ثَالِثُهَا أَنَّهُ حُجَّةٌ وَإِنْ لم يَحْرُمْ خِلَافُهُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ قَاضِي الْقُضَاةِ أبو الْحُسَيْن بن عُمَرَ انْتَهَى وقال أبو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ أَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُخْتَلَفَ فيه لِأَنَّهُ من بَابِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَلَا فَرْقَ بين الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْإِقْرَارِ إذْ كُلُّ ذلك نَقْلٌ مُحَصِّلٌ لِلْعَمَلِ الْقَطْعِيِّ وَأَنَّهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ تُحِيلُ الْعَادَةُ عليهم التَّوَاطُؤَ على خِلَافِ الصِّدْقِ وَلَا شَكَّ أَنَّ ما كان هذا سَبِيلُهُ أَوْلَى من أَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْأَقْيِسَةِ وَالظَّوَاهِرِ وَأَمَّا الثَّانِي فَالْأَوَّلُ منه أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا انْفَرَدَ وَمُرَجِّحٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَارِضَيْنِ وَدَلِيلُنَا على ذلك أَنَّ الْمَدِينَةَ مُفْرَزُ الْإِيمَانِ وَمَنْزِلُ الْأَحْكَامِ وَالصَّحَابَةُ هُمْ الْمُشَافِهُونَ لِأَسْبَابِهَا الْفَاهِمُونَ لِمَقَاصِدِهَا ثُمَّ التَّابِعُونَ نَقَلُوهَا وَضَبَطُوهَا وَعَلَى هذا فَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ليس بِحُجَّةٍ من حَيْثُ إجْمَاعُهُمْ بَلْ إمَّا هو من جِهَةِ نَقْلِهِمْ الْمُتَوَاتِرِ وَإِمَّا من
____________________
(3/530)
جِهَةِ شَهَادَتِهِمْ لِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ الدَّالَّةِ على مَقَاصِدِ الشَّرْعِ قال وَهَذَا النَّوْعُ الِاسْتِدْلَالِيُّ إنْ عَارَضَهُ خَبَرٌ فَالْخَبَرُ أَوْلَى عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا لِأَنَّهُ مَظْنُونٌ من جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وهو الطَّرِيقُ وَعَمَلُهُمْ الِاجْتِهَادِيُّ مَظْنُونٌ من جِهَةِ مُسْتَنَدِ اجْتِهَادِهِمْ وَمِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ وكان الْخَبَرُ أَوْلَى وقد صَارَ كَثِيرٌ من أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ أَوْلَى من الْخَبَرِ بِنَاءً منهم على أَنَّهُ إجْمَاعٌ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ له بِالْعِصْمَةِ كُلُّ الْأُمَّةِ لَا بَعْضُهَا ا هـ وقد تَحَرَّرَ بهذا مَوْضِعُ النِّزَاعِ وَالصَّحِيحُ من مَذْهَبِهِ وَهَؤُلَاءِ أَعْرَفُ بِذَلِكَ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَاتِبُ عِدَّةٌ وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ التَّحْقِيقُ في هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ منها ما هو كَالْمُتَّفَقِ عليه وَمِنْهَا ما يقول بِهِ جُمْهُورُهُمْ وَمِنْهَا ما يقول بِهِ بَعْضُهُمْ فَالْمَرَاتِبُ أَرْبَعَةٌ إحْدَاهَا ما يَجْرِي مَجْرَى النَّقْلِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كَنَقْلِهِمْ لِمِقْدَارِ الصَّاعِ وَالْمُدِّ فَهَذَا حُجَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ وَلِهَذَا رَجَعَ أبو يُوسُفَ إلَى مَالِكٍ فيه وقال لو رَأَى صَاحِبِي كما رَأَيْت لَرَجَعَ كما رَجَعْت وَرَجَعَ إلَيْهِ في الْخَضْرَاوَاتِ فقال هذه بِقَائِلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لم يُؤْخَذْ منها صَدَقَةٌ على عَهْدِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا أبي بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ وَسَأَلَ عن الْأَحْبَاسِ فقال هذا حَبِيسُ فُلَانٍ وَهَذَا حَبِيسُ فُلَانٍ فذكر أَعْيَانَ الصَّحَابَةِ فقال له أبو يُوسُفَ وَكُلُّ هذا قد رَجَعْت إلَيْك الثَّانِيَةُ الْعَمَلُ الْقَدِيمُ بِالْمَدِينَةِ قبل مَقْتَلِ عُثْمَانَ فَهَذَا كُلُّهُ هو حُجَّةٌ عِنْدَ مَالِكٍ حُجَّةٌ عِنْدَنَا أَيْضًا وَنَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ فقال في رِوَايَةِ يُوسُفَ بن عبد الْأَعْلَى إذَا رَأَيْت قُدَمَاءَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ على شَيْءٍ فَلَا يَبْقَ في قَلْبِك رَيْبٌ أَنَّهُ الْحَقُّ وَكَذَا هو ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ فإن عِنْدَهُ أَنَّ ما سَنَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا وقال أَحْمَدُ كُلُّ بَيْعَةٍ كانت بِالْمَدِينَةِ فَهِيَ خِلَافَةُ نُبُوَّةٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَيْعَةَ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ كانت بِالْمَدِينَةِ وَبَعْدَ ذلك لم يُعْقَدْ بها بَيْعَةٌ وَيُحْكَى عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ قَوْلَ الْخُلَفَاءِ عِنْدَهُ حُجَّةٌ الثَّالِثَةُ إذَا تَعَارَضَ في الْمَسْأَلَةِ دَلِيلَانِ كَحَدِيثَيْنِ وَقِيَاسَيْنِ فَهَلْ يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ مُرَجَّحٌ وَذَهَبَ أبو حَنِيفَةَ إلَى الْمَنْعِ وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ وَبِهِ
____________________
(3/531)
قال الْقَاضِي أبو يَعْلَى وابن عَقِيلٍ وَالثَّانِي مُرَجَّحٌ وَبِهِ قال أبو الْخَطَّابِ وَنُقِلَ عن نَصِّ أَحْمَدَ وَمِنْ كَلَامِهِ إذَا رَوَى أَهْلُ الْمَدِينَةِ حَدِيثًا وَعَمِلُوا بِهِ فَهُوَ الْغَايَةُ الرَّابِعَةُ النَّقْلُ الْمُتَأَخِّرُ بِالْمَدِينَةِ وَالْجُمْهُورُ على أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وَبِهِ قال الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وهو قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ من أَصْحَابِ مَالِكٍ كما ذَكَرَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ فقال إنَّ هذا ليس إجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَإِنَّمَا يَجْعَلُهُ حُجَّةً بَعْضُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ من أَصْحَابِهِ وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ من أَئِمَّةِ النَّظَرِ وَالدَّلِيلِ وَإِنَّمَا هُمْ أَهْلُ تَقْلِيدٍ وَجَعَلَ أبو الْحَسَنِ الْإِبْيَارِيُّ الْمَرَاتِبَ خَمْسَةً أَحَدُهَا الْأَعْمَالُ الْمَنْقُولَةُ عن أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالِاسْتِفَاضَةِ فَلَا خِلَافَ في اعْتِمَادِهَا ثَانِيهَا أَنْ يَرْوُوا أَخْبَارًا وَيُخَالِفُوهَا وقد تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عليه قال وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الرَّاوِيَ الْوَاحِدَ إذَا فَعَلَ ذلك سَقَطَ التَّمَسُّكُ بِرِوَايَتِهِ وَيَرْجِعُ إلَى عَمَلِهِ فما الظَّنُّ بِعُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ جُمْلَةً ثَالِثُهَا أَنْ لَا يَنْقُلُوا الْخَبَرَ وَلَكِنْ يُصَادَفُ خَبَرٌ على نَقِيضِ حُكْمِهِمْ فَهَذِهِ أَضْعَفُ من الْأُولَى وَلَكِنْ غَلَبَةُ الظَّنِّ حَاصِلَةٌ بِأَنَّ الْخَبَرَ لَا يَخْفَى عن جَمِيعِهِمْ لِهُبُوطِ الْوَحْيِ في بَلَدِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِالسُّنَّةِ وَلِهَذَا كَانُوا يَرْجِعُونَ إلَيْهِمْ وَيَبْعَثُونَ يَسْأَلُونَ منهم فَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ ما لو رَأَوْا وَخَالَفُوا رَابِعُهَا أَنْ لَا يُنْقَلَ خَبَرٌ على خِلَافِ قَضَائِهِمْ وَلَكِنَّ الْقِيَاسَ على غَيْرِ ذلك فَهَذَا فيه نَظَرٌ فَقَدْ يُقَالُ إنَّهُمْ لم يُخَالِفُوا الْقِيَاسَ مع كَوْنِهِ حُجَّةً شَرْعِيَّةً إلَّا بِتَوْقِيفٍ وقد يُقَالُ لَا يُوَافَقُونَ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ مَالِكٌ في هذه الصُّورَةِ كَالْقِصَاصِ بين الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ في الْأَطْرَافِ خَامِسُهَا أَنْ يُصَادِفَ قَضَاؤُهُمْ على خِلَافِ خَبَرٍ مَنْقُولٍ عَنْهُمْ أو عن غَيْرِهِمْ لَا عن خِلَافِ قِيَاسِ حتى يُسْتَدَلَّ بِهِ على خَبَرٍ لِأَجْلِ مُخَالِفِ الْقِيَاسِ فَالصَّوَابُ عِنْدِي في هذه الصُّورَةِ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَى الْمَنْقُولِ وَيُتَّبَعُ الدَّلِيلُ ا هـ الرَّدُّ على الْقَوْلِ بِأَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حُجَّةٌ لَا يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ وما قَدَّمْنَاهُ من كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ هو الْمُعْتَمَدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَكِنْ نَبَّهَ الْإِبْيَارِيُّ على مَسْأَلَةٍ حَسَنَةٍ وَهِيَ أَنَّا إذَا قُلْنَا إنَّ إجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ فَلَا يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ إجْمَاعِ جَمِيعِ
____________________
(3/532)
الْأُمَّةِ حتى يُفَسَّقَ الْمُخَالِفُ وَيُنْقَضَ قَضَاؤُهُ وَلَكِنْ يقول هو حُجَّةٌ على مَعْنَى أَنَّ الْمُسْتَنِدَ إلَيْهِ مُسْتَنِدٌ إلَى مَأْخَذٍ من مَآخِذِ الشَّرِيعَةِ كَالْمُسْتَنِدِ إلَى الْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ رُدُودُ الْعُلَمَاءِ على دَعْوَى إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ولم تَزَلْ هذه الْمَسْأَلَةُ مَوْصُوفَةً بِالْإِشْكَالِ وقد دَارَتْ بين أبي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ وَأَبِي عُمَرَ بن عبد الْبَرِّ من الْمَالِكِيَّةِ وَصَنَّفَ الصَّيْرَفِيُّ فيها وَطَوَّلَ في كِتَابِهِ الْأَعْلَامِ الْحِجَاجَ فيها مع الْخَصْمِ وقال قد تَصَفَّحْنَا قَوْلَ من قال الْعَمَلُ على كَذَا فَوَجَدْنَا أَهْلَ بَلَدِهِ في عَصْرِهِ يُخَالِفُونَهُ كَذَلِكَ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ من قَبْلِهِ فإنه مُخَالِفُهُمْ وَلَوْ كان الْعَمَلُ على ما وَصَفَهُ لَمَا جَازَ له خِلَافُهُمْ لِأَنَّ حُكْمَهُ بِالْعَمَلِ كَعِلْمِهِمْ لو كان مُسْتَفِيضًا قال وَهَذَا عِنْدِي من قَوْلِ مَالِكٍ على أَنَّهُ عَمَلُ الْأَكْثَرِ عِنْدَهُ وقد قال رَبِيعَةُ في قَوْلٍ ادَّعَى مَالِكٌ الْعَمَلَ عليه فقال رَبِيعَةُ وقال قَوْمٌ وَهُمْ الْأَقَلُّ ما ادَّعَى مَالِكٌ أَنَّهُ عَمَلُ أَهْلِ الْبَلَدِ وقال مَالِكٌ التَّسْبِيحُ في الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَا أَعْرِفُهُ حَكَاهُ عنه ابن وَهْبٍ ثُمَّ إنَّا رَأَيْنَا ما ادَّعَاهُ من الْعَمَلِ إنَّمَا عَلِمْنَا عنه بِخَبَرِ وَاحِدٍ كَرِوَايَةِ الْقَعْنَبِيِّ وَابْنِ بُكَيْر وَالسُّبْكِيِّ وَابْنِ مُصْعَبٍ وَابْنِ أبي إدْرِيسَ وَابْنِ وَهْبٍ وَهَؤُلَاءِ كلهم يَجُوزُ عليهم الْعِلْمُ وَوَجَدْنَا في كِتَابِ الْمُوَطَّإِ هذه الْحِكَايَةَ ولم نُشَاهِدْ الْعَمَلَ الذي حَكَاهُ وَوَجَدْنَا الناس من أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ على خِلَافِهِ وقال أبو حَيَّانَ التَّوْحِيدِيُّ في الْبَصَائِرِ سَمِعْت الْقَاضِيَ أَبَا حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيَّ يقول ليس الِاعْتِمَادُ في الْإِجْمَاعِ على أَهْلِ الْمَدِينَةِ على ما رَآهُ مَالِكٌ لِأَنَّ مَكَّةَ لم تَكُنْ دُونَ الْمَدِينَةِ وقد أَقَامَ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بها كما أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ وَمَنْ عَدَلَ عن مَكَّةَ وَأَهْلِهَا مع قِيَامِ النبي عليه السَّلَامُ بين أَظْهُرِهِمْ وَسُكَّانُهَا الْغَايَةُ في حَمْلِ الشَّرِيعَةِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ جَازَ أَنْ يَعْدِلَ خَصْمُهُ عن الْمَدِينَةِ وَأَهْلِهَا بِحُجَّةٍ وَذَلِكَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ كَمُلَتْ بين جَمِيعِ أَهْلِ الْعَصْرِ الَّذِينَ تَحَقَّقُوا النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَحَفِظُوا عنه وَابْتُلُوا بِالْحَوَادِثِ فَاسْتَفْتَوْهُ وَاخْتَلَفُوا في الْأَحْكَامِ فَاسْتَقْضَوْهُ وَتَخَوَّفُوا الْعَوَاقِبَ فَاسْتَظْهَرُوا بِهِ ثُمَّ إنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ صَارَ إلَى اللَّهِ كَانُوا بين مُقِيمٍ بِالْمَدِينَةِ وَمُقِيمٍ بِمَكَّةَ وَنَازِلٍ بَيْنَهُمَا وَظَاهِرٍ عنهما إلَى الْأَمْصَارِ الْبَعِيدَةِ وَاسْتَقَرَّتْ الشَّرِيعَةُ على الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الشَّائِعَةِ وَالْقِيَاسِ الْمُنْتَزِعِ وَالرَّأْيِ الْحَسَنِ وَالْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ فلم يَكُنْ بَلَدٌ أَوْلَى من بَلَدٍ وَلَا مَكَانٌ أَوْلَى من مَكَان وَلَا نَاسٌ أَوْلَى وَأَحْفَظَ لِدِينِ اللَّهِ من نَاسٍ وَهُمْ في الْإِصَابَةِ شُرَكَاءُ وفي الْحُكْمِ بِمَا أَلْقَى إلَيْهِمْ مُتَّفِقُونَ قال وكان يُطِيلُ
____________________
(3/533)
الْكَلَامَ في تَهْجِيرِ الْمُدْلِينَ بهذا الْقَوْلِ ا هـ وقال ابن حَزْمٍ في الْأَحْكَامِ هذا الْقَوْلُ لَصِقَ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ مُحْتَجِّينَ بِمَا رُوِيَ في فَضْلِ الْمَدِينَةِ وَلَيْسَ ذلك لِفَضْلِ أَهْلِهَا وقد صَحَّ أَنَّ مَكَّةَ أَفْضَلُ منها وقد كان الصَّحَابَةُ في غَيْرِهَا وقد تَرَكُوا من عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ سُجُودَهُمْ مع عُمَرَ في إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَسُجُودَهُمْ معه إذَا قَرَأَ السَّجْدَةَ وَنَزَلَ عن الْمِنْبَرِ فَسَجَدَ وَفَعَلَ عُمَرُ إذْ أَعْلَمَ عُثْمَانَ وهو يَخْطُبُ يوم الْجُمُعَةِ بِحَضْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَقَالُوا ليس على ذلك الْعَمَلُ وَأَيْضًا فإن مَالِكًا لم يَدَّعِ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إلَّا في ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً في مُوَطَّئِهِ فَقَطْ وقد تَتَبَّعْنَا ذلك فَوَجَدْنَا منها ما هو إجْمَاعٌ وَمِنْهَا ما الْخِلَافُ فيه مَوْجُودٌ في الْمَدِينَةِ كَوُجُودِهِ في غَيْرِهَا وكان ابن عُمَرَ وهو عَمِيدُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَرَى إفْرَادَ الْأَذَانِ وَالْقَوْلُ فيه حَيَّ على خَيْرِ الْعُمُرِ وَبِلَالُ يُكَرِّرُ قد قَامَتْ الصَّلَاةُ وَمَالِكٌ لَا يَرَى ذلك وَالزُّهْرِيُّ يَرَى الزَّكَاةَ في الْخَضْرَاوَاتِ وَمَالِكٌ لَا يَرَاهَا ثُمَّ ذَكَرَ لهم مُنَاقَضَاتٍ كَثِيرَةً إجْمَاعُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَالْمِصْرَيْنِ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ إجْمَاعُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْمِصْرَيْنِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ ليس بِحُجَّةٍ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ ذلك من الْأُصُولِيِّينَ قال الْقَاضِي وَإِنَّمَا صَارُوا إلَى ذلك لِاعْتِقَادِهِمْ تَخْصِيصَ الْإِجْمَاعِ بِالصَّحَابَةِ وَكَانَتْ هذه الْبِلَادُ مَوْطِنَ الصَّحَابَةِ ما خَرَجَ منها إلَّا الشُّذُوذُ ا هـ وَهَذَا صَرِيحٌ بِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ لم يُعَمِّمُوا في كل عَصْرٍ بَلْ في عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَقَطْ وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ قِيلَ إنَّ الْمُخَالِفَ أَرَادَ في زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَإِنْ كان هذا مُرَادُهُ فَمُسَلَّمٌ لو اجْتَمَعَ الْعُلَمَاءُ في هذه الْبِقَاعِ وَغَيْرُ مُسَلَّمٍ أَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا فيها الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ إجْمَاعُ أَهْلِ الْبَيْتِ إجْمَاعُ أَهْلِ الْبَيْتِ ليس بِحُجَّةٍ الْمُرَادُ بِهِمْ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رِضْوَانُ اللَّهِ عليهم خِلَافًا لِلشِّيعَةِ وَبَالَغُوا فَقَالُوا قَوْلُ عَلِيٍّ حُجَّةٌ وَحْدَهُ حَكَاهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في اللُّمَعِ وَعَنْ الْمُعْتَمَدِ لِلْقَاضِي أبي يَعْلَى أَنَّ الْعِتْرَةَ لَا
____________________
(3/534)
تَجْتَمِعُ على خَطَأٍ كما في حديث التِّرْمِذِيِّ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ إجْمَاعُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ قال الْقَاضِي أبو خَازِمٍ بِالْخَاءِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَتَيْنِ من الْحَنَفِيَّةِ إجْمَاعُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ حُجَّةٌ وَحَكَمَ بِذَلِكَ في زَمَنِ الْمُعْتَضِدِ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ ولم يَعْتَدَّ بِخِلَافِ زَيْدٍ وَقَبِلَ منه الْمُعْتَضِدُ ذلك وَرَدَّهَا إلَيْهِمْ وَكَتَبَ بِذَلِكَ إلَى الْآفَاقِ وقال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ وَبَلَغَنِي أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْبَرَاذِعِيَّ كان أَنْكَرَ ذلك عليه قال وَهَذَا فيه خِلَافٌ بين الصَّحَابَةِ فقال أبو حَازِمٍ لَا أَعُدُّ هذا خِلَافًا على الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وقد حَكَمْت بِرَدِّ هذا الْمَالِ إلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَّبِعَهُ بِالنَّسْخِ ا هـ وَهِيَ رِوَايَةٌ عن أَحْمَدَ قال الْمُوَفَّقُ في الرَّوْضَةِ نُقِلَ عن أَحْمَدَ ما يَدُلُّ على أَنَّهُ لَا يُخْرَجُ عن قَوْلِهِمْ إلَى قَوْلِ غَيْرِهِمْ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذلك ليس بِإِجْمَاعٍ وَكَلَامُ أَحْمَدَ في إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَدُلُّ على أَنَّ قَوْلَهُمْ حُجَّةٌ وَلَا يَلْزَمُ من ذلك أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا قُلْت وَيَجْرِي ذلك في كَلَامِ الْقَاضِي أبي حَازِمٍ أَيْضًا وَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ يُقَدَّمُ على قَوْلِ غَيْرِهِمْ وَعَلَى هذا فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ أَصْحَابِنَا حِكَايَتَهُ عن أبي حَازِمٍ فإنه قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ قال ابن كَجٍّ في كِتَابِهِ هُنَا إذَا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ على قَوْلَيْنِ وَكَانَتْ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ مع أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فقال الشَّافِعِيُّ في مَوْضِعٍ يُصَارُ إلَى قَوْلِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وقال في مَوْضِعٍ إنَّهُمَا سَوَاءٌ وَيُطْلَبُ دَلَالَةُ سِوَاهُمَا انْتَهَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أبو حَازِمٍ بَنَاهُ على أَنَّ خِلَافَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ لَا يَقْدَحُ في الْإِجْمَاعِ وهو ظَاهِرُ سِيَاقِ أبي بَكْرٍ الرَّازِيَّ عنه وَقِيلَ إجْمَاعُ الشَّيْخَيْنِ وَحْدَهُمَا حُجَّةٌ لنا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ خَالَفَ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ في خَمْسِ مَسَائِلَ في الْفَرَائِضِ انْفَرَدَ بها وابن مَسْعُودٍ بِأَرْبَعِ مَسَائِلَ ولم يَحْتَجَّ عليهم أَحَدٌ بِإِجْمَاعِ الْأَرْبَعَةِ وَاحْتَجَّ أبو حَازِمٍ بِحَدِيثِ عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَعُورِضَ بِحَدِيثِ أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ
____________________
(3/535)
قال الْقُرْطُبِيُّ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا فإن الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنْ يُقْتَدَى بِالْخُلَفَاءِ فِيمَا اتَّفَقُوا عليه وَالثَّانِي الْأَمْرُ لِلْمُقَلِّدِ بِالتَّخْيِيرِ وَاعْتِبَارِ الْمُجْتَهِدِينَ وَالصَّحَابَةِ فَلَا يُعَارِضُهُ سَلَّمْنَا الْمُعَارَضَةَ لَكِنَّ الْأَوَّلَ صَحِيحٌ وَالثَّانِيَ ضَعِيفٌ وَذَكَرَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ أَنَّ الْقَائِلِينَ بهذا الْمَذْهَبِ أَرَادُوا التَّرْجِيحَ لِقَوْلِهِمْ على قَوْلِ غَيْرِهِمْ لِفَضْلِ سَبْقِهِمْ وَتَعَدُّدِهِمْ وَطُولِ صُحْبَتِهِمْ وَعِنْدَنَا أَنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يُطْلَبُ بِهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ لَا الْعِلْمِ فَائِدَةٌ عُقُودُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَحِمَاهُمْ إذَا عَقَدَ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ عَقْدًا أو حَمَوْا حِمًى لَزِمَ وَلَا يُنْتَقَضُ على أَصَحِّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ حَكَاهُ أبو حَامِدٍ في الرَّوْنَقِ وَمِمَّنْ حَكَى الْقَوْلَ فيه صَاحِبُ التَّلْخِيصِ في بَابِ الْإِحْيَاءِ وَاسْتَقَرَّ بِهِ السِّنْجِيُّ في شَرْحِهِ وقال يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ على قِيَاسِ التَّقْدِيمِ في تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ وَأَمَّا أَصْحَابُنَا على قَوْلِهِ الْجَدِيدِ فَسَوَّوْا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ من بَعْدَهُمْ ا هـ وَالْأَحْسَنُ ما قَالَهُ صَاحِبُ الرَّوْنَقِ الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ الْعِبْرَةُ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ كل عَصْرٍ وِفَاقَ من سَيُوجَدُ لَا يُعْتَبَرُ اتِّفَاقًا حَكَاهُ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ إذْ لو اُعْتُبِرَ لَمَا اسْتَمَرَّ إجْمَاعٌ وَلَا يُعْتَدَّ بِخِلَافِ ابْنِ عِيسَى الْوَرَّاقِ وَأَبِي عبد الرحمن الشَّافِعِيِّ فِيمَا حَكَاهُ عنهما الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَلَا يُطْلَبُ في هذه وِفَاقُ الظَّاهِرِيَّةِ في قَوْلِهِمْ لَا يُعْتَبَرُ إلَّا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ اعْتِبَارَ أَهْلِ الْعَصْرِ الْحَاضِرِينَ فَضْلًا عَمَّنْ سَيُوجَدُ وَإِنَّمَا الْوِفَاقُ الْمَذْكُورُ هو من الْقَائِلِينَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ كل عَصْرٍ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْمُتَرْجِمَةُ أَنَّهُ هل يُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ كل الْمُسْلِمِينَ في سَائِرِ الْأَعْصَارِ وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ كل عَصْرٍ أَمَّا وِفَاقُ من سَيُوجَدُ فَلَا يُعْتَبَرُ أَيْضًا فإذا حَدَثَتْ حَادِثَةٌ لم يَتَقَدَّمْ فيها قَوْلٌ لِمَنْ سَلَفَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بِقَوْلِ أَهْلِ ذلك الْعَصْرِ لِأَنَّ ذلك لو اُعْتُبِرَ لَمَا انْعَقَدَ أَبَدًا إجْمَاعٌ حَكَاهُ عبد الْوَهَّابِ ولم يذكر فيه خِلَافًا
____________________
(3/536)
وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي على خَطَأٍ فَلَا يُخَالِفُ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ من جِهَةِ أَنَّ لَفْظَ الحديث يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ من صَدَّقَ بِهِ وَقْتَ مَبْعَثِهِ وَإِلَى الْأَبَدِ لِأَنَّا عَلِمْنَا بِقَصْدِهِ من هذا أَنَّهُ على وَجْهِ التَّكْلِيفِ وَالِالْتِزَامِ يَمْنَعُ من هذا الْقَوْلِ الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ في زَمَنِ الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ في زَمَانِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كما ذَكَرَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَغَيْرُهُمَا لِأَنَّ قَوْلُهُمْ دُونَهُ لَا يَصِحُّ وَإِنْ كان مَعَهُمْ فَالْحُجَّةُ في قَوْلِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ ذَكَرْنَاهُ في بَابِ النَّسْخِ إذْ جَوَّزْنَا لهم الِاجْتِهَادَ في زَمَانِهِ كما هو الصَّحِيحُ فَلَعَلَّهُمْ اجْتَهَدُوا في مَسْأَلَةٍ وَأَجْمَعُوا عليها من غَيْرِ عِلْمِهِ بِهِمْ وقد نَقَلَ الْقَرَافِيُّ عن أبي إِسْحَاقَ وَابْنِ بَرْهَانٍ جَوَازَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ في زَمَانِهِ قال وَشُهُودُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِالْعِصْمَةِ مُتَنَاوِلٌ لِمَا في زَمَانِهِ وما بَعْدَهُ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ الْأَوَّلُ وَاَلَّذِي وَجَدْته في الْأَوْسَطِ لِابْنِ بَرْهَانٍ في الْكَلَامِ على
____________________
(3/537)
حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً بَعْدَ مَوْتِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ الْإِجْمَاعُ في الْعُصُورِ الْمُتَأَخِّرَةِ هل يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ في زَمَانِنَا لَا نَصَّ فيه وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ فيه خِلَافٌ مَبْنِيٌّ على أَنَّ عَصْرَنَا هل يَخْلُو عن الْمُجْتَهِدِ أَمْ لَا فَإِنْ قُلْنَا لَا يَخْلُو فَلَا شَكَّ في انْعِقَادِهِ وَإِنْ قُلْنَا خِلَافٌ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ لَا يَنْعَقِدُ وَإِنْ كان هُنَاكَ مُجْتَهِدُونَ في الْمَذَاهِبِ وَنَاظِرُونَ في الشَّرِيعَةِ ولم يَتَرَقَّوْا إلَى رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ وَلَيْسَتْ هذه مَسْأَلَةَ اعْتِبَارِ الْعَوَامّ في الْإِجْمَاعِ وَالدَّلِيلُ على ذلك أَنَّ حُجَّةَ الْإِجْمَاعِ إمَّا من السَّمْعِ وهو عَدَمُ اجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ على خِلَافِهِ أو من الْعَقْلِ وهو أَنَّ الْجَمَّ الْغَفِيرَ لَا يَقْدِرُونَ على قَاطِعٍ وَهَؤُلَاءِ جَمْعٌ كَثِيرٌ وَهَذَا الْمَوْجُودُ فِيهِمْ ظُهُورُ الْإِجْمَاعِ وَانْتِشَارُهُ في الْعَصْرِ الذي وَقَعَ فيه الشَّرْطُ الثَّالِثُ أَنْ يَظْهَرَ في الْعَصْرِ حتى يَعْلَمَ أَهْلُ الْعَصْرِ الثَّانِي وقد يُقْتَرَنُ ظُهُورُهُ بِالْعَمَلِ وقد يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ جميعا فَأَمَّا ظُهُورُهُ بِالْقَوْلِ إذَا وُجِدَ صَحَّ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ بِهِ وَحَكَى الرُّويَانِيُّ وابن السَّمْعَانِيِّ عن بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِالْقَوْلِ حتى يَقْتَرِنَ بِهِ الْفِعْلُ لِيَكْمُلَ في نَفْسِهِ قال وَهَذَا ليس بِصَحِيحٍ لِأَنَّ حُجَجَ الْأَقْوَالِ آكَدُ من حُجَجِ الْأَفْعَالِ حُجِّيَّةُ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ ثُمَّ قد يَكُونُ الْقَوْلُ من الْجَمِيعِ وَلَا شَكَّ وقد يَكُونُ من بَعْضِهِمْ وَسُكُوتُ الْبَاقِينَ بَعْدَ انْتِشَارِهِ من غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ مَعَهُمْ اعْتِرَافٌ أو رِضًا بِهِ وَهَذَا هو الْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ وَفِيهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَذْهَبًا أَحَدُهَا أَنَّهُ ليس بِإِجْمَاعٍ وَلَا حُجَّةٍ وَحُكِيَ عن دَاوُد وَابْنِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ وَعَزَاهُ جَمَاعَةٌ إلَى الشَّافِعِيِّ منهم الْقَاضِي وَاخْتَارَهُ وقال إنَّهُ آخِرُ أَقْوَالِهِ وَلِهَذَا قال الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ إنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عليه في الْجَدِيدِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ وَلِهَذَا قال وَلَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ قال وَهِيَ من عِبَارَاتِهِ الرَّشِيقَةِ قُلْت وَمَعْنَاهُ لَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ تَعْيِينُ قَوْلٍ لِأَنَّ السُّكُوتَ يَحْتَمِلُ
____________________
(3/538)
التَّصْوِيبَ أو لِتَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ أو الشَّكِّ فَلَا يُنْسَبُ إلَيْهِ تَعْيِينٌ وَإِلَّا فَهُوَ قَائِلٌ بِأَحَدِ هذه الْجِهَاتِ قَطْعًا ثُمَّ هذا بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ أَعْنِي أَنْ لَا يُنْسَبَ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ إلَّا بِدَلِيلِ على أَنَّ سُكُوتَهُ كَالْقَوْلِ أو حَقِيقَةٍ لِأَنَّ السُّكُوتَ عَدَمٌ مَحْضٌ وَالْأَحْكَامُ لَا تُسْتَفَادُ من الْعَدَمِ وَلِهَذَا لو أَتْلَفَ إنْسَانٌ مَالَ غَيْرِهِ وهو سَاكِتٌ يَضْمَنُ الْمُتْلَفُ أَمَّا إذَا قام الدَّلِيلُ على نِسْبَةِ الْقَوْلِ إلَى السَّاكِتِ عُمِلَ بِهِ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في الْبِكْرِ إذْنُهَا صُمَاتُهَا وَقَوْلُنَا إنَّ إقْرَارَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم على قَوْلٍ أو فِعْلٍ مع عِلْمِهِ بِهِ وَقُدْرَتِهِ على إنْكَارِهِ حُجَّةٌ وَسُكُوتُ أَحَدِ الْمُتَنَاظِرَيْنِ عن الْجَوَابِ لَا يُعَدُّ انْقِطَاعًا في التَّحْقِيقِ إلَّا بِإِقْرَارِهِ أو قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ ظَاهِرَةٍ وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ السُّكُوتِ لَا يَدُلُّ على الِانْقِطَاعِ لِتَرَدُّدِهِ بين اسْتِحْضَارِ الدَّلِيلِ وَتَرَفُّعِهِ عن الْخَصْمِ لِظُهُورِ بَلَادَتِهِ أو تَعْظِيمِهِ أو إجْلَالِهِ عن انْقِطَاعِهِ معه وَالثَّانِي أَنَّهُ إجْمَاعٌ وَحُجَّةٌ قال الْبَاجِيُّ وهو قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا الْمَالِكِيِّينَ وَالْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ وَشَيْخِنَا أبي إِسْحَاقَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ انْتَهَى وقال ابن بَرْهَانٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ منهم الْكَرْخِيّ وَنَصَّ ابن السَّمْعَانِيِّ وَالدَّبُوسِيُّ في التَّقْوِيمِ وقال عبد الْوَهَّابِ هو الذي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ عن الشَّافِعِيِّ فإنه لَمَّا حَكَى الْقَوْلَيْنِ الْمُتَعَاكِسَيْنِ في التَّفْصِيلِ بين الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ قال وَعِلَّةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إجْمَاعًا وَهَذَا مُفَسَّرٌ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ إنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِ إذَا انْتَشَرَ فَإِجْمَاعٌ وَلَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ هذا كَلَامُهُ وقال النَّوَوِيُّ في شَرْحِ الْوَسِيطِ لَا تَغْتَرَّنَّ بِإِطْلَاقِ الْمُتَسَاهِلِ الْقَائِلِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ ليس بِحُجَّةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بَلْ الصَّوَابُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ حُجَّةٌ وَإِجْمَاعٌ وهو مَوْجُودٌ في كُتُبِ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ في الْأُصُولِ وَمُقَدِّمَاتِ كُتُبِهِمْ
____________________
(3/539)
الْمَبْسُوطَةِ في الْفُرُوعِ كَتَعْلِيقَةِ الشَّيْخِ أبي حَامِدٍ وَالْحَاوِي وَمَجْمُوعِ الْمَحَامِلِيِّ وَالشَّامِلِ وَغَيْرِهِمْ انْتَهَى وَيَشْهَدُ له أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى احْتَجَّ في كِتَابِ الرِّسَالَةِ لِإِثْبَاتِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ عَمِلَ بِهِ ولم يَظْهَرْ من الْبَاقِينَ إنْكَارٌ لِذَلِكَ فَكَانَ ذلك إجْمَاعًا إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَلَ ذلك نَصًّا عن جَمِيعِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَشِذُّ منهم أَحَدٌ وَإِنَّمَا نُقِلَ عن جَمْعٍ مع الِاشْتِهَارِ بِسُكُوتِ الْبَاقِينَ لَكِنَّهُ صَرَّحَ في مَوْضِعٍ آخَرَ من الْأُمِّ بِخِلَافِهِ فقال وقد ذُكِرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَسَّمَ فَسَوَّى بين الْحُرِّ وَالْعَبْدِ ولم يُفَضِّلْ بين أَحَدٍ بِسَابِقَةٍ وَلَا نَسَبٍ ثُمَّ قَسَّمَ عُمَرُ فَأَلْغَى الْعَبْدَ وَفَضَّلَ بِالنَّسَبِ وَالسَّابِقَةِ ثُمَّ قَسَّمَ عَلِيٌّ فَأَلْغَى الْعَبِيدَ وَسَوَّى بين الناس ولم يَمْنَعْ أَحَدٌ من أَخْذِ ما أَعْطَوْهُ قال وَفِيهِ دَلَالَةٌ على أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ لِحَاكِمِهِمْ وَإِنْ كان رَأْيُهُمْ على خِلَافِ رَأْيِهِ قال فَلَا يُقَالُ لِشَيْءٍ من هذا إجْمَاعٌ وَلَكِنْ يُنْسَبُ إلَى أبي بَكْرٍ فِعْلُهُ وَإِلَى عُمَرَ فِعْلُهُ وَإِلَى عَلِيٍّ فِعْلُهُ وَلَا يُقَالُ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَخَذَ منهم مُوَافَقَةٌ وَلَا اخْتِلَافٌ وَلَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَى كُلٍّ قَوْلُهُ وَعَمَلُهُ وفي هذا ما يَدُلُّ على
____________________
(3/540)
أَنَّ ادِّعَاءَ الْإِجْمَاعِ في كَثِيرٍ من خَاصِّ الْأَحْكَامِ ليس كما يقول من يَدَّعِيهِ ا هـ وَحِينَئِذٍ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ له في الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ كما حَكَاهُ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْزِلَ الْقَوْلَانِ على حَالَيْنِ فَقَوْلُ النَّفْيِ على ما إذَا صَدَرَ من حَاكِمٍ وَقَوْلُ الْإِثْبَاتِ على ما إذَا صَدَرَ من غَيْرِهِ وَالنَّصُّ الذي سُقْنَاهُ من الرِّسَالَةِ شَاهِدٌ لِذَلِكَ وهو يُؤَيِّدُ تَفْصِيلَ أبي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ الْآتِيَ وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ في تَنْزِيلِ الْقَوْلَيْنِ طَرِيقِينَ أَحَدَهُمَا حَيْثُ أَثْبَتَ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ إجْمَاعٌ أَرَادَ بِذَلِكَ عَصْرَ الصَّحَابَةِ كما اسْتَدَلَّ بِهِ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ وَحَيْثُ قال لَا يُنْسَبُ لِسَاكِتٍ قَوْلٌ أَرَادَ بِذَلِكَ من بَعْدَهُمْ وَهَذَا أَوْلَى من أَنْ يُجْعَلَ له في الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ مُتَنَاقِضَانِ كما ظَنَّ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ في الْمَعَالِمِ وَيَشْهَدُ لِهَذَا ما سَيَأْتِي من كَلَامِ جَمَاعَةٍ تَخْصِيصُ الْمَسْأَلَةِ بِعَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالثَّانِيَ أَنْ يُحْمَلَ نَفْيُهُ على ما لم يَكُنْ من الْقَضَايَا التي تَعُمُّ بها الْبَلْوَى وَيُحْمَلُ الْقَوْلُ الْآخَرُ على ما إذَا كانت كَذَلِكَ كما اخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ مِمَّا يَتَكَرَّرُ وَتَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَكُلٌّ من هَذَيْنِ الطَّرِيقِينَ مُحْتَمَلٌ وقد ذَكَرَ ابن التِّلِمْسَانِيِّ الثَّانِيَ مِنْهُمَا قُلْت النَّصُّ الذي سُقْنَاهُ من الْأُمِّ يَدْفَعُ كُلًّا من الطَّرِيقَيْنِ فإنه نَفَاهُ في عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَفِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَيَحْتَمِلُ ثَالِثَةً وَهِيَ التَّعْمِيمُ وقال ابن الْقَطَّانِ هو في مَعْنَى الْإِجْمَاعِ وَإِنْ كنا نُسَمِّيهِ إجْمَاعًا فَهُوَ من طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ وَلَا يُعَارِضُ هذا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ من نَسَبَ إلَى سَاكِتٍ قَوْلًا فَقَدْ أَخْطَأَ فَإِنَّا لم نَقُلْ إنَّهُمْ قالوا وَإِنَّمَا نَسْتَدِلُّ بِهِ على رِضَاهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ وَصَفَ أُمَّتَنَا بِأَنَّهُمْ آمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ نَاهُونَ عن الْمُنْكَرِ وَلَوْ كان هذا الْقَوْلُ خَطَأً ولم يُنْكِرْهُ لَزِمَ وُقُوعُ خِلَافِ الْخَبَرِ وقال الرَّافِعِيُّ في الشَّرْحِ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ حُجَّةٌ
____________________
(3/541)
وَهَلْ هو إجْمَاعٌ فيه وَجْهَانِ ولم يُرَجِّحْ شيئا وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ إجْمَاعٌ فَقَدْ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ اللُّمَعِ إنَّهُ الْمَذْهَبُ وقال الرُّويَانِيُّ في أَوَائِلِ الْبَحْرِ إنَّهُ حُجَّةٌ مَقْطُوعٌ بها وَهَلْ يَكُونُ إجْمَاعًا فيه قَوْلَانِ وَقِيلَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا وَبِهِ قال الْأَكْثَرُونَ إنَّهُ يَكُونُ إجْمَاعًا لِأَنَّهُمْ لَا يَسْكُتُونَ على الْمُنْكَرِ وَالثَّانِي الْمَنْعُ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ قال لَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ قال وَهَذَا الْخِلَافُ رَاجِعٌ إلَى الِاسْمِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَيَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ قَطْعًا وقال الْخُوَارِزْمِيُّ في الْكَافِي إذَا لم يُنْقَلْ عَنْهُمْ رِضًا وَلَا إنْكَارٌ وَانْقَرَضَ الْعَصْرُ فَذَهَبَ بَعْضٌ إلَى أَنَّ قَوْلَهُ ليس بِإِجْمَاعٍ وَلَا حُجَّةٍ وقال عَامَّةُ أَصْحَابِنَا حُجَّةٌ لِأَنَّ سُكُوتَهُمْ حتى انْقَرَضُوا مع إضْمَارِهِمْ الْإِنْكَارَ بَعِيدٌ وَهَلْ يَكُونُ إجْمَاعًا فيه وَجْهَانِ وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في تَسْمِيَتِهِ إجْمَاعًا مع اتِّفَاقِهِمْ على وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَالْقَطْعُ بِهِ على اللَّهِ تَعَالَى وقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ في أَوَّلِ تَعْلِيقِهِ في الْفِقْهِ هو حُجَّةٌ مَقْطُوعٌ بها وفي تَسْمِيَتِهِ إجْمَاعًا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ وَإِنَّمَا هو حُجَّةٌ كَالْخَبَرِ وَالثَّانِي يُسَمَّى إجْمَاعًا وهو قَوْلٌ لنا ا هـ قال ابن الرِّفْعَةِ في الْمَطْلَبِ الذي صَرَّحَ بِهِ الْفَرْعِيُّونَ من أَصْحَابِنَا في أَوَائِلِ كُتُبِهِمْ أَنَّهُ حُجَّةٌ وقال الرَّافِعِيُّ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ حُجَّةٌ وَهَلْ هو إجْمَاعٌ أَمْ لَا فيه وَجْهَانِ الثَّالِثُ أَنَّهُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَحَكَاهُ أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ عن أبي هَاشِمٍ وهو أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَنَا كما سَبَقَ من كَلَامِ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وابن بَرْهَانٍ عن الصَّيْرَفِيِّ وَكَذَا رَأَيْته في كِتَابِهِ فقال هو حُجَّةٌ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عنه وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ إجْمَاعٌ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ ما عَلِمْنَا فيه مُوَافَقَةَ الْجَمَاعَةِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَإِنَّمَا قِيلَ بهذا الْقَوْلِ لِأَنَّ الْخِلَافَ مَعْدُومٌ وَالْقَوْلُ في أَهْلِ الْحُجَّةِ شَائِعٌ انْتَهَى وَكَذَا قال في شَرْحِ الرِّسَالَةِ عَمَلُ الصَّحَابِيِّ مُنْتَشِرٌ في الصَّحَابَةِ لَا يُنْكِرُهُ مُنْكِرٌ حتى انْقَرَضَ الْعَصْرُ فَهُوَ حُجَّةٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ لَا من جِهَةِ الِاتِّفَاقِ وَلَكِنْ لِعَدَمِ الْخِلَافِ من أَهْلِ الْحُجَّةِ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَوَافَقَهُ ابن الْحَاجِبِ في الْكَبِيرِ وَرَدَّدَ في الصَّغِيرِ اخْتِيَارَهُ بين أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا أو حُجَّةً وَقَيَّدَ الْآمِدِيُّ هذا في مَوْضِعٍ آخَرَ بِمَا قبل انْقِرَاضِ أَهْلِ الْعَصْرِ فَأَمَّا بَعْدَهُ فإنه يَكُونُ إجْمَاعًا وَذَكَرَ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ أَنَّ مُعْتَمَدَ الْقَائِلِينَ بهذا من أَصْحَابِنَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخِلَافِ هُنَا
____________________
(3/542)
وَأَنَّهُ ليس بِإِجْمَاعٍ أَيْ قَطْعِيٍّ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ ابن بَرْهَانٍ عن الصَّيْرَفِيِّ وَكَذَا ابن الْحَاجِبِ وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ فَكَيْفَ يَنْقَسِمُ الشَّيْءُ إلَى نَفْسِهِ وقد سَبَقَ في أَوَّلِ الْبَابِ حِكَايَةُ خِلَافٍ في أَنَّ لَفْظَ الْإِجْمَاعِ هل يُطْلَقُ على الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ أو يَخْتَصُّ بِالْقَطْعِيِّ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ السُّكُوتِيَّ حُجَّةٌ مُثِيرَةٌ لِلظَّنِّ اخْتَلَفُوا في أَنَّهُ قَطْعِيٌّ أَمْ ظَنِّيٌّ فقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وأبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ إنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ أَيْ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى ما ظَنَنَّاهُ لَا الْقَطْعَ بِحُصُولِ الْإِجْمَاعِ وقال آخَرُونَ بَلْ ظَنِّيٌّ تَنْبِيهٌ لم يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُ إجْمَاعٌ لَا حُجَّةٌ قال الْهِنْدِيُّ لم يَصِرْ أَحَدٌ إلَى عَكْسِ هذا أَعْنِي إلَى أَنَّهُ إجْمَاعٌ لَا حُجَّةٌ وَيُمْكِنُ الْقَوْلُ بِهِ كَالْإِجْمَاعِ الْمَرْوِيِّ بِالْآحَادِ عِنْدَ من لم يَقُلْ بِحُجِّيَّتِهِ الشَّرْطُ الرَّابِعُ أَنَّهُ إجْمَاعٌ بِشَرْطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ مع ذلك أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ لَا عن رِضًا وَبِهِ قال أبو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَأَحْمَدُ في رِوَايَةٍ وَنَقَلَهُ ابن فُورَكٍ في كِتَابِهِ عن أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا مِثْلِ أبي بَكْرٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ وقال إنَّهُ الصَّحِيحُ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو طَاهِرٍ الْبَغْدَادِيُّ عن الْحُذَّاقِ من أَصْحَابِنَا وَاخْتَارَهُ ابن الْقَطَّانِ قال لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ له فيه رَأْيٌ فَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْعَصْرَ إذَا انْقَرَضَ ولم يُخَالِفُوا أَنَّ ذلك حَقٌّ وَاخْتَارَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ أَيْضًا وَكَذَا الرُّويَانِيُّ في أَوَّلِ الْبَحْرِ بِشَرْطٍ في هذا الذي ذَكَرْنَاهُ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ عليه حتى يُحْكَمَ بِكَوْنِهِ حُجَّةً قَطْعًا وَإِجْمَاعًا فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمْ صَحَّ رُجُوعُهُ وَعُدَّ خِلَافُهُ خِلَافًا وقال الرَّافِعِيُّ إنَّهُ أَصَحُّ الْأَوْجُهِ عِنْدَ الْأَصْحَابِ وقال الشَّيْخُ في اللُّمَعِ إنَّهُ الْمَذْهَبُ قال فَأَمَّا ما قبل الِانْقِرَاضِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ قَطْعًا وَالثَّانِيَةُ على وَجْهَيْنِ وَكَلَامُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ صَرِيحٌ في أَنَّ الْقَائِلِينَ بهذا هُمْ الْمُشْتَرِطُونَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ في الْإِجْمَاعِ الشَّرْطُ الْخَامِسُ أَنَّهُ إجْمَاعٌ إنْ كان فُتْيَا لَا حُكْمًا وَبِهِ قال ابن أبي هُرَيْرَةَ كَذَا حَكَاهُ عنه الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وابن السَّمْعَانِيُّ وَالْآمِدِيَّ وابن الْحَاجِبِ
____________________
(3/543)
وَاَلَّذِي في الْبَحْرِ لِلرُّويَانِيِّ وَالْأَوْسَطِ لِابْنِ بَرْهَانٍ وَالْمَحْصُولِ لِلْإِمَامِ الرَّازِيَّ عنه لَا إنْ كان من حَاكِمٍ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ إذْ لَا يَلْزَمُ من صُدُورِهِ عن الْحَاكِمِ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ على وَجْهِ الْحُكْمِ وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ نَقْلِ أبي الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ عنه فإنه صَوَّرَ الْمَسْأَلَةَ بِمَا إذْ أَجْرَى سُكُوتَهُمْ على حُكْمٍ حَكَمَتْ بِهِ الْأَئِمَّةُ وَعِبَارَةُ الرُّويَانِيُّ عنه لَا إنْ كان من إمَامٍ أو حَاكِمٍ قال وَالْأَكْثَرُونَ من أَصْحَابِنَا قالوا لَا فَرْقَ بين الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ وقد خَالَفَ الصَّحَابَةُ في الْجَدِّ وَعُمَرُ في الْمُشْتَرِكَةِ وَغَيْرِ ذلك على أَنَّا إنْ اعْتَبَرْنَا في هذا انْقِرَاضَ الْعَصْرِ وَمُحَابَاةَ الْإِمَامِ أو الْحَاكِمِ اخْتَصَّ مَجْلِسُ حُكْمِهِ دُونَ غَيْرِهِ قال وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدِي فَعَلَى هذا الْقَوْلِ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَحْدَهُ هل يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ قَوْلَانِ وقال الْخُوَارِزْمِيُّ في الْكَافِي لو ظَهَرَ هذا من الْإِمَامِ أو الْحَاكِمِ إمَّا بِطَرِيقِ الْفَتْوَى أو الْقَضَاءِ فقال أبو عَلِيٍّ بن أبي هُرَيْرَةَ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَعْتَرِضُ عليه فَلَا يَكُونُ سُكُوتُهُمْ دَلِيلَ الرِّضَا قال وَغَيْرُهُ مِمَّنْ ذَهَبَ إلَى هذا الْقَوْلِ لَا يُفَرِّقُ بين الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ وَمُحَابَاةُ الْحَاكِمِ وَالْإِمَامِ مُخْتَصٌّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ ا هـ وَنَقَلَ ابن السَّمْعَانِيِّ عن ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ احْتَجَّ بهذا بِأَنَّا نَحْضُرُ مَجْلِسَ بَعْضِ الْحُكَّامِ وَنَرَاهُمْ يَقْضُونَ بِخِلَافِ مَذْهَبِنَا وَلَا نُنْكِرُ ذلك عليهم فَلَا يَكُونُ سُكُوتُنَا رِضًا مِنَّا بِذَلِكَ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وهو تَقْرِيرٌ حَسَنٌ لَا بَأْسَ بِهِ وهو نَافِعٌ جِدًّا في صُورَتَيْ الْإِيرَادِ في مَسْأَلَةِ مِيرَاثِ الْمَبْتُوتَةِ وَمَسْأَلَةِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مع وُجُودِ الصِّغَارِ من الْوَرَثَةِ فإنه قد انْتَشَرَ قَضَاءُ عُثْمَانَ في مِيرَاثِ الْمَبْتُوتَةِ وَكَذَلِكَ قَتَلَ الْحُسَيْنُ بن عَلِيٍّ ابْنَ مُلْجِمٍ قِصَاصًا مع وُجُودِ الْوَرَثَةِ الصِّغَارِ وَانْتَشَرَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ بين الصَّحَابَةِ ولم يَكُنْ مُخَالِفٌ وَمَعَ ذلك لم يُقَدِّمُوا ذلك على الْقِيَاسِ على أَنَّهُ قد نُقِلَ عن الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَوْفٍ مُخَالَفَةُ عُثْمَانَ وَأَمَّا قَتْلُ الْحُسَيْنِ لِابْنِ مُلْجِمٍ فَفِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَأَيْضًا فإن الصَّحَابَةَ في ذلك الْوَقْتِ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ لِكَثْرَةِ الْفِتَنِ إذْ ذَاكَ قال وَمِمَّا يُضَمُّ إلَى هذا أَنَّ الْحُكْمَ الصَّادِرَ من الْأَئِمَّةِ لَا يُمَاثِلُ الْفَتْوَى الصَّادِرَةَ من الْمُفْتِي وَحِفْظُ الْأَدَبِ في تَرْكِ الِاعْتِرَاضِ على الْأَئِمَّةِ الشَّرْطُ السَّادِسُ عَكْسُهُ قَالَهُ أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ مُعْتَلًّا بِأَنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ الصَّادِرَ
____________________
(3/544)
من الْحَاكِمِ يَكُونُ على مُشَاوَرَةٍ وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ ابن الْقَطَّانِ عن أبي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالصَّيْرَفِيِّ إلَّا أَنَّهُ خَصَّهُ بِشَيْءٍ وَعِبَارَتُهُ إذَا سَكَتُوا عن حُكْمِ الْأَئِمَّةِ حتى انْقَرَضَ الْعَصْرُ فإن أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا فيه إذَا جَرَى على حُكْمِهِ فَمِنْهُمْ من يقول إنَّهُ إجْمَاعٌ انْتَهَى ثُمَّ اخْتَارَ آخِرًا قَوْلَ ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ وفي هذا النَّقْلِ فَائِدَتَانِ إحْدَاهُمَا اشْتِرَاطُ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ على هذا الْقَوْلِ وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْقَائِلَ بِالْأَوَّلِ هو أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ لِأَنَّ ابْنَ الْقَطَّانِ أَقْدَمُ منه وَإِنَّمَا قُلْنَا ذلك لِأَنَّ الْهِنْدِيَّ في نِهَايَتِهِ نَقَلَهُ عن الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وفي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ التي أَوْرَدَهَا ابن كَجٍّ في كِتَابِهِ إنْ كان على جِهَةِ الْفُتْيَا فَهُوَ إجْمَاعٌ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْكُتُونَ عن شَيْءٍ فيه تَرْكُ الدِّينِ وَهَلْ يُقْطَعُ على اللَّهِ عز وجل أَمْ لَا فيه وَجْهَانِ وَإِنْ كان حُكْمًا وَانْقَرَضَ ذلك الْعَصْرُ ولم يَظْهَرْ له مُخَالِفٌ فَهُوَ على وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ إجْمَاعٌ كَالْفُتْيَا وَالثَّانِي لَا الشَّرْطُ السَّابِعُ إنْ وَقَعَ في شَيْءٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ من إرَاقَةِ دَمٍ أو اسْتِبَاحَةِ فَرْجٍ كان إجْمَاعًا وَإِلَّا فَهُوَ حُجَّةٌ وفي كَوْنِهِ إجْمَاعًا وَجْهَانِ الشَّرْطُ الثَّامِنُ إنْ كان السَّاكِتُونَ أَقَلَّ كان إجْمَاعًا وَإِلَّا فَلَا وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ وَحَكَاهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ عن الشَّافِعِيِّ وهو غَرِيبٌ لَا يَعْرِفُهُ أَصْحَابُهُ الشَّرْطُ التَّاسِعُ إنْ كان في عَصْرِ الصَّحَابَةِ كان إجْمَاعًا وَإِلَّا فَلَا وقال الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي وَالرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ إنْ كان في غَيْرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَلَا يَكُونُ انْتِشَارُ قَوْلِ الْوَاحِدِ منهم مع إمْسَاكِ غَيْرِهِ إجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً وَإِنْ كان في عَصْرِ الصَّحَابَةِ فإذا قال الْوَاحِدُ منهم قَوْلًا أو حَكَمَ بِهِ فَأَمْسَكَ الْبَاقُونَ فَهَذَا ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ كَإِرَاقَةِ دَمٍ أو اسْتِبَاحَةِ فَرْجٍ فَيَكُونُ إجْمَاعًا لِأَنَّهُمْ لو اعْتَقَدُوا خِلَافَهُ لَأَنْكَرُوهُ إذْ لَا يَصِحُّ منهم أَنْ يَتَّفِقُوا على تَرْكِ إنْكَارِ مُنْكَرٍ وَإِنْ كان مِمَّا لَا يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ كان حُجَّةً لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عن غَيْرِهِمْ وفي كَوْنِهِ إجْمَاعًا يَمْنَعُ الِاجْتِهَادَ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَحَدُهُمَا يَكُونُ إجْمَاعًا لَا يَسُوغُ معه الِاجْتِهَادُ وَالثَّانِي لَا يَكُونُ إجْمَاعًا وَسَوَاءٌ كان الْقَوْلُ فُتْيَا أو حُكْمًا على الصَّحِيحِ انْتَهَى
____________________
(3/545)
على أَنَّ الْمَاوَرْدِيَّ أَلْحَقَ التَّابِعِينَ بِالصَّحَابَةِ في ذلك ذَكَرَهُ في بَابِ جَزَاءِ الصَّيْدِ من الْحَاوِي وَأَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُمَاثَلَةِ من الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَمْنَعُ من الِاجْتِهَادِ لِمَنْ بَعْدَهُمْ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْوَافِي هُنَاكَ إلْحَاقَ تَابِعِي التَّابِعِينَ لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَثْنَى عليهم بِقَوْلِهِ خَيْرُ الناس قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ وَصَرَّحَ الرَّافِعِيُّ تَبَعًا لِلْقَاضِي الْحُسَيْنِ وَالْمُتَوَلِّي بِأَنَّ غَيْرَهُمْ من أَهْلِ الْأَعْصَارِ كَذَلِكَ الشَّرْطُ الْعَاشِرُ أَنَّهُ وَإِنْ كان ذلك مِمَّا يَدُومُ وَيَتَكَرَّرُ وُقُوعُهُ وَالْخَوْضُ فيه فإنه يَكُونُ السُّكُوتُ إجْمَاعًا وَهَذَا ما اخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في آخِرِ الْمَسْأَلَةِ وَأَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ إذَا فُرِضَ السُّكُوتُ في الزَّمَنِ الْيَسِيرِ وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْغَزَالِيِّ في الْمَنْخُولِ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً إلَّا في صُورَتَيْنِ إحْدَاهُمَا سُكُوتُهُمْ وقد قَطَعَ بين أَيْدِيهِمْ قَاطِعٌ لَا في مَظِنَّةِ الْقَطْعِ وَالدَّوَاعِي تَتَوَفَّرُ على الرَّدِّ عليه الثَّانِيَةُ ما يَسْكُتُونَ عليه على اسْتِمْرَارِ الْعَصْرِ وَيَكُونُ الْوَاقِعُ بِحَيْثُ لَا يُبْدِي أَحَدٌ خِلَافًا فَأَمَّا إذَا حَضَرُوا مَجْلِسًا فَأَفْتَى وَاحِدٌ وَسَكَتَ آخَرُونَ فَذَلِكَ اعْتِرَاضٌ لِكَوْنِ الْمَسْأَلَةِ مَظْنُونَةً وَالْأَدَبُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَعْتَرِضَ على الْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ الشَّرْطُ الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّهُ إجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ أو حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ فَيُحْتَجُّ بِهِ على كُلٍّ من التَّقْدِيرَيْنِ وَنَحْنُ مُتَرَدِّدُونَ في أَيِّهِمَا أَرْجَحُ وَاخْتَارَهُ ابن الْحَاجِبِ في الصَّغِيرِ وَيَخْرُجُ من كَلَامِ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ حِكَايَةُ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ فإنه حَكَى قَوْلًا أَنَّهُ إنْ كان حُكْمًا فَهُوَ إجْمَاعٌ أو فَتْوَى فَقَوْلَانِ وَحَكَى عَكْسَهُ أَيْضًا الشَّرْطُ الثَّانِيَ عَشَرَ أَنَّهُ إجْمَاعٌ بِشَرْطِ إفَادَةِ الْقَرَائِنِ الْعِلْمَ بِالرِّضَا أَيْ يُوجَدُ من قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ ما يَدُلُّ على رِضَى السَّاكِتِينَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إنَّهُ أَحَقُّ الْأَقْوَالِ لِأَنَّ إفَادَةَ الْقَرَائِنِ الْعِلْمُ بِالرِّضَا كَإِفَادَةِ النُّطْقِ له فَيَصِيرُ كَالْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ من الْجَمِيعِ وَسَيَأْتِي أَنَّ هذا ليس من مَوْطِنِ الْخِلَافِ قال في الْقَوَاطِعِ وَالْمَسْأَلَةُ في غَايَةِ الْإِشْكَالِ من الْجَانِبَيْنِ قال وقد ذَكَرَ أبو الطَّيِّبِ في إثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ في هذه الْمَسْأَلَةِ تَرْتِيبًا في الِاسْتِدْلَالِ اسْتَحْسَنَهُ فَأَوْرَدْتُهُ
____________________
(3/546)
وَيَدْخُلُ فيه الْجَوَابُ عن كَلَامِهِمْ قال وَالدَّلِيلُ على ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ مَبْنِيٌّ على أَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ لَا يَجُوزُ إجْمَاعُهُمْ على الْخَطَأِ وَالثَّانِي أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وما عَدَاهُ بَاطِلٌ فإذا ثَبَتَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ فَلَا يَخْلُو الْقَوْلُ الذي ظَهَرَ من أَنْ يَكُونَ حَقًّا أو بَاطِلًا فَإِنْ كان حَقًّا وَجَبَ اتِّبَاعُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ كان بَاطِلًا فَلَا يَخْلُو عِنْدَ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ من أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ إمَّا أَنْ لَا يَكُونُوا اجْتَهَدُوا أو اجْتَهَدُوا ولم يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُمْ إلَى شَيْءٍ يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أو أَدَّى إلَى صِحَّةِ الذي ظَهَرَ خِلَافُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ اجْتَهَدُوا لِأَنَّ الْعَادَةَ مُخَالِفَةٌ لِهَذَا وَلِأَنَّ النَّازِلَةَ إذَا نَزَلَتْ فَالْعَادَةُ أَنَّ كُلَّ أَهْلِ النَّظَرِ يَرْجِعُونَ إلَى النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ وَلِأَنَّ هذا يُؤَدِّي إلَى خُرُوجِ أَهْلِ الْعَصْرِ بَعْضُهُمْ بِتَرْكِ الِاجْتِهَادِ وَبَعْضُهُمْ بِالْعُدُولِ عن طَرِيقِ الصَّوَابِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمْ لَا يُجْمِعُونَ على الْخَطَأِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُمْ اجْتَهَدُوا فلم يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُمْ إلَى شَيْءٍ يَجِبُ اعْتِقَادُهُ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى خَفَاءِ الْحَقِّ على جَمِيعِ الْأُمَّةِ وهو مُحَالٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُمْ اجْتَهَدُوا فَأَدَّى اجْتِهَادُهُمْ إلَى خِلَافِهِ إلَّا أَنَّهُمْ كَتَمُوا لِأَنَّ إظْهَارَ الْحَقِّ وَاجِبٌ لَا سِيَّمَا مع ظُهُورِ قَوْلٍ هو بَاطِلٌ وإذا بَطَلَتْ هذه الْوُجُوهُ دَلَّ على أَنَّهُمْ إنَّمَا سَكَتُوا لِرِضَاهُمْ بِمَا ظَهَرَ من الْقَوْلِ فَصَارَ كَالنُّطْقِ تنبيهان الأول قيود لا بد منها في الإجماع السكوتي لهذه المسألة قيود الأول أن يكون في مسائل التكليف فقول القائل عمار أفضل من حذيفة لا يدل السكوت فيه على شيء إذ لا تكليف على الناس فيه قاله ابن الصباغ في العدة وابن السمعاني في القواطع وأبو الحسين في المعتمد وغيرهم القيد الثاني أن يعلم أنه بلغ جميع أهل العصر ولم ينكروا وإلا فلا يكون إجماعا سكوتيا قاله الصيرفي وغيره ووراءه حالتان إحداهما أن يغلب على الظن بلوغهم فقال الأستاذ أبو إسحاق هو إجماع على مذهب الشافعي واختاره وجعله درجة دون الأول والثاني أن يحتمل بلوغه وعدمه فالأكثرون على أنه ليس بحجة قال
____________________
(3/547)
الطبري ولهذا لم يستقم للحنفية الاحتجاج في وطء الثيب هل يمنع الرد بالعيب وقيل حجة مطلقا وهو ظاهر كلام القاضي عبد الوهاب وحكاه عن مالك وفصل الرازي والبيضاوي والهندي بين أن يكون هذا القول مما تعم به البلوى كنقض الوضوء من مس الذكر كان كالسكوتي وإلا لم يكن حجة وإذا قلنا هو حجة فليس بالإجماع في قول الجمهور وقيل إجماع لئلا يخلو العصر عن قائم بالحق وقال القاضي الحسين في تعليقه إذا قال الصحابي قولا ولم ينتشر فيما بينهم فإن كان معه قياس خفي قدم على القياس الجلي قولا واحدا وكذلك إذا كان معه خبر مرسل فإن كان متجردا عن القياس فهل يقدم القياس الجلي عليه فيه قولان الجديد يقدم القياس وقال الروياني في البحر هذا إذا بلغ كل الصحابة فإن لم ينتشر في كلهم ولم ير فيه خلافا لمن بعدهم فليس بإجماع وهل يكون حجة يعتبر بما يوافقه من قياس أو يخالف ففيه أربعة أحوال أحدها أن يكون القياس موافقا ثم يكون قوله حجة بالقياس وثانيها أن يكون مخالفا القياس الجلي فالقياس أولى وثالثها أن يكون معه قياس جلي ويخالفه قياس خفي فقوله مع القياس أولى ورابعها أن يكون مع قوله قياس خفي ويخالفه قياس جلي قال في القديم قوله مع القياس الخفي أولى وألزم من القياس الجلي وقال في الجديد القياس الجلي أولى بالعمل من قوله مع القياس الخفي وقال الرافعي هذا إذا نقل السكوت فإن لم ينقل قول ولا سكوت فيجوز أن لا يلحق بهذا ويجوز أن يستدل به على السكوت لأنه لو قال شيئا لنقل كما نقل اختلافهم في مسائل الاختلاف وقال في باب الفرائض إنه يترك للقول المنتشر والحالة هذه القياس الجلي ويعتضد به الخفي وقال النووي المختار أن عدم النقل كنقل السكوت لأنه الأصل والظاهر القيد الثالث كون المسألة مجردة عن الرضى والكراهة فإن ظهر عليهم الرضا بما ذهبوا إليه فهو إجماع بلا خلاف قاله القاضيان الروياني في البحر وعبد الوهاب من المالكية والخوارزمي في الكافي وجرى عليه الرافعي وقضيته أنه إن ظهرت أمارات السخط لم يكن إجماعا قطعا وكلامهم صريح في جريان الخلاف فيه أما إذا استصحب فعل يوافق الفتوى فالأمة حينئذ منقسمة إلى قائل وعامل وذلك إجماع
____________________
(3/548)
فلا نزاع ذكره القاضي عبد الوهاب في الملخص القيد الرابع مضى زمن يسع قدر مهلة النظر عادة في تلك المسألة فلو احتمل أن الساكتين كانوا في مهلة النظر لم يكن إجماعا سكوتيا ذكره الدبوسي وغيره القيد الخامس أن لا يتكرر ذلك مع طول الزمان فإن تكررت الفتيا وطالت المدة مع عدم المخالفة فإن ظن مخالفتهم يترجح بل يقطع بها ذكره إمام الحرمين وإلكيا قال وقول الشافعي لا ينسب إلى ساكت قول أراد به ما إذا كان السكوت في المجلس ولا يتصور السكوت إلا كذلك وفي غيره لا سكوت على الحقيقة وصرح بذلك أيضا التلمساني في شرح المعالم وأنه ليس من محل الخلاف بل هو إجماع وحجة عند الشافعي رحمه الله قال ولهذا استدل على إثبات القياس وخبر الآحاد بذلك لكونه في وقائع وتوهم الإمام في المعالم أن ذلك تناقض من الشافعي وليس كذلك ولذلك جعل إمام الحرمين صورة المسألة ما إذا لم يطل الزمان مع تكرر الوقائع فإن تكررت مع الطول فقضية كلام القاضي جريان الخلاف فيه القيد السادس أن يكون قبل استقرار المذاهب فأما بعد استقرارها فلا أثر للسكوت قطعا كإفتاء مقلد سكت عنه المخالفون للعلم بمذهبهم ومذهبه كشافعي يفتي بنقض الوضوء بمس الذكر فلا يدل سكوت الحنفي عنه على موافقته للعلم باستقرار المذاهب ذكره إلكيا الطبري وغيره التنبيه الثاني أن لهم في تصوير المسألة طريقين إحداهما جعل ذلك عاما في حق كل عصر من المجتهدين وهو الذي صرح به الحنفية في كتبهم وإمام الحرمين في البرهان والشيخ في شرح اللمع والرازي في كتبه وسائر أصحابه والآمدي وابن الحاجب والقرافي من المالكية وغيرهم وقال النووي في شرح الوسيط إذا انتشر قول التابعي ولم يخالف فالصحيح أنه كالصحابي وقيل ليس بحجة قطعا قال صاحب الشامل الصحيح أنه إجماع هذا هو الذي صححه وهو الأظهر لأن المعنى المعتبر في الصحابة موجود فيهم فإن لم ينتشر قول التابعي فليس بحجة بلا خلاف انتهى الثانية قول من خص هذه المسألة ببعض الصحابة دون من بعدهم وهي طريقة القدماء من أصحابنا وغيرهم منهم الشيخ أبو حامد الإسفراييني في تعليقه والماوردي في الحاوي والصيرفي وابن القطان في كتابيهما في أصول الفقه والشيخ أبو
____________________
(3/549)
إسحاق الشيرازي وابن الصباغ في العدة وإلكيا والغزالي في المستصفى والمنخول وابن برهان والخوارزمي في الكافي وأبو الحسين في المعتمد والقاضي عبد الوهاب من المالكية واختاره القرطبي من متأخريهم والموفق الحنبلي في الروضة وابن السمعاني ثم قال في أثناء المسألة وخصصها بعض أصحابنا بعصر الصحابة وأما التابعون ومن بعدهم فلا قال ولا يعرف فرق بين الموضعين والأولى التسوية بين الجميع وأما صاحب المحصول فأطلق المسألة ثم لما انتهى إلى فروع انتشار القول واحتمال بلوغه للباقين خصه بالصحابة وتوهم البيضاوي والهندي أن هذا القيد لا يحتاج إليه وأن الفرع غير مختص بالصحابة ويدل عليه نقل ابن السمعاني والمعنى فيه أن السكوت دليل الرضا فانتهض في الإجماع والثانية وهي هذا الفرع يختص بهم لأن قول البعض ليس بحجة على قول البعض فلا وجه لهذا القول إلا إذا كان القائل صحابيا فيقع الخلاف ناشئا عن أقوال الصحابة هل هي حجة ولذلك أشار القاضي والشيخ أبو إسحاق وغيرهما إلى أن هذا الفرع هو نفس الكلام في أن قول الصحابي هل هو حجة أم لا وأجروا الكلام فيه إلى موضعه والحاصل أنه إن عرف بلوغه الجميع فمسألة السكوتي وإن ظن ففيها خلاف مفرع على مسألة السكوتي كما قاله الأستاذ وإن كان محتملا فهي هذه المسألة ولا وجه للقول بالحجية فيها إلا إن كان من صحابي بناء على أن قوله حجة ومن عمم القول فيها لم يصب وإن لم يكن محتملا أصلا فلا وجه وقيل بل تخصيص المسألة بعصر الصحابة كما فعله الأقدمون أظهر من الطريقة الأولى وذلك لأن من قال يكون حجة لا إجماعا إنما يتوجه فرضه في حق الصحابة لأن منصبهم لا يقتضي السكوت عن مثل ذلك مع مخالفتهم فيه وهذا لا يجيء في حق غيرهم كيف والتعلق هنا إنما هو بقول المفتي والحاكم فقط لأنه مبني على أن الساكت لا ينسب إليه قول كما نقله الإمام عن الشافعي ولا حجة في قول أحد من المجتهدين بعد الصحابة بالاتفاق فإذا لم يكن إجماعا فكيف يكون حجة بخلاف ما إذا كان ذلك قول صحابي فإن ذلك إذا لم يكن سكوتهم عن مثله إجماعا فيصلح للاحتجاج
____________________
(3/550)
مسألة ظهور الإجماع بالفعل وسكوت الآخرين عليه وأما ظهوره بالفعل وحده بأن يتفق أهل الحل والعقد على عمل ولم يصدر منهم قول فاختلفوا على مذاهب أحدها أنه كفعل الرسول صلى الله عليه وسلم لأن العصمة تابعة لإجماعهم كثبوتها للشارع فكانت أفعالهم كأفعاله وقطع به الشيخ أبو إسحاق وغيره وقال في المنخول إنه المختار وقال أبو الحسين في المعتمد يجوز اتفاقهم على القول والفعل والرضى ويخبرون عن الرضى في أنفسهم فيدل على حسن ما رضوا به وقد يجمعون على ترك الفعل وترك الفعل يدل على أنه واجب ويجوز أن ما تركوه مندوب إليه لأن تركه غير محظور وتابعه في المحصول والمذهب الثاني المنع ونقله إمام الحرمين عن القاضي قال بل ربما أنكر تصوره إذ لا يتصور تواطؤ قوم لا يحصون عددا على فعل واحد من غير أرب فالتواطؤ عليه غير ممكن نعم آحادهم يرتكبون ذلك في أوقات متغايرة وذلك لا يعد توافقا أصلا فإن تكلف متكلف تصوره في مجلس واحد فلا احتفال به لإمكان أن يختص به وليس في نفس الفعل دلالة على انتسابه إلى الشرع والقول مصرح بانتسابه إلى الشرع فإذن ليس في الفعل دلالة على كونه صوابا ا هـ واعلم أن الذي رأيته في التقريب للقاضي التصريح بالجواز فقال كل ما أجمعت الأمة عليه يقع بوجهين إما قول وإما فعل وكلاهما حجة انتهى والمذهب الثالث قول إمام الحرمين بأنه يحمل على الإباحة ما لم تقم قرينة دالة على الندب أو الوجوب فإنا نعلم أن الواحد من التابعين لو باشر فعلا فروجع فيه فقال كيف لا أفعله وقد فعله المهاجرون والأنصار قبل المشورة عليه والعادة أيضا تدل على مثل ذلك فإن الأمة إذا اتفقت على فعل وتكرر الفعل فيما بينهم فإن كان معصية اشتهر كونه معصية ولا يخفى قال إلكيا والحق ما قاله فليلتحق بمسائل الإجماع وقال القرافي إنه تفصيل حسن والمذهب الرابع قول ابن السمعاني إن كل فعل خرج مخرج الحكم والبيان
____________________
(3/551)
لا ينعقد به الإجماع كما أن ما لم يخرج من أفعال الرسول مخرج الشرع لا يثبت فيه الشرع وأما الذي خرج من الأفعال مخرج الحكم والبيان يصح أن ينعقد به الإجماع لأن الشرع يؤخذ من فعل الرسول عليه السلام كما يؤخذ من قوله ولا بد من مجيء التفصيل بين أن ينقرض العصر أو لا ومن اشترطه في القولي فهاهنا أولى مسألة وقد يتركب من القول والفعل بأن يقول بعضهم هذا مباح ويقدم الباقي على إباحته بالفعل فيعلم أنه إجماع منهم وإن كان بعضهم قائلا وبعضهم فاعلا قاله القاضي عبد الوهاب تنبيه إذا فعل أهل الإجماع فعلا ولم يعلم أنهم فعلوه على وجه الوجوب أو الندب فعلام يحمل توقف بعضهم فيها من جهة النقل والذي يقتضيه قياس المذهب أن حكمه حكم الفعل من الرسول صلى الله عليه وسلم لأنا قد أمرنا باتباعهم كما أمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم الشَّرْطُ الرَّابِعُ عَدَمُ النَّصِّ في حُكْمِ الْحَادِثَةِ لِأَنَّهُ مع وُجُودِ النَّصِّ لَا اعْتِبَارَ بِالْإِجْمَاعِ هَكَذَا قَالَهُ أبو الْفَضْلِ بن عَبْدَانَ في كِتَابِ شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ فَإِنْ أَرَادَ حَمَلَهُ إذَا كان النَّصُّ على خِلَافِهِ فَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْعَمَلَ بِالْإِجْمَاعِ وَبِهِ تَبَيَّنَّا نَسْخَ النَّصِّ وَإِنْ أَرَادَ ما إذَا كان على وَفْقِهِ فَالنَّصُّ بَيَّنَ لنا مُسْتَنَدَ قَبُولِ الْإِجْمَاعِ الشَّرْطُ الْخَامِسُ أَنْ لَا يَسْبِقَهُ خِلَافٌ فَلَوْ اخْتَلَفَ أَهْلُ عَصْرٍ على قَوْلَيْنِ فَلَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ الْإِجْمَاعُ على أَحَدِهِمَا على الْمَذْهَبِ وَسَيَأْتِي
____________________
(3/552)
فَصْلٌ في أُمُورٍ اُشْتُرِطَتْ في انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَالصَّحِيحُ خِلَافُهَا لَا يُشْتَرَطُ انْقِرَاضُ عَصْرِ الْمُجْمِعِينَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ لَا يُشْتَرَطُ في انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ انْقِرَاضُ عَصْرِ الْمُجْمِعِينَ وَمَوْتُ الْجَمِيعِ على الصَّحِيحِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ بَلْ يَكُونُ اتِّفَاقُهُمْ حُجَّةً في الْحَالِ وَإِنْ لم يَنْقَرِضُوا فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمْ لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ بَلْ يَكُونُ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ مع قَوْلِ الْآخَرِينَ حُجَّةً عليه كما هو حُجَّةٌ على غَيْرِهِ وَكَذَا لو نَشَأَ في الْعَصْرِ مُخَالِفٌ قبل انْقِرَاضِ أَهْلِهِ كما قَالَهُ الْإِمَامُ في النِّهَايَةِ في مَسْأَلَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما وَحَجْبُهُ الْأُمَّ بِثَلَاثَةِ إخْوَةٍ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ قد وُجِدَ وهو صُورَةُ الْإِجْمَاعِ وَلَا مَانِعَ فَيَلْزَمُ الْحُكْمُ قال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وهو قَوْلُ الْجُمْهُورِ وقال الْبَاجِيُّ هو قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وقال عبد الْوَهَّابِ إنَّهُ الصَّحِيحُ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وهو قَوْلُ الْقَلَانِسِيِّ من أَصْحَابِنَا مع الْمُعْتَزِلَةِ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وقال ابن بَرْهَانٍ هو الْقَوْلُ الْمَنْصُورُ عِنْدَنَا وقال ابن السَّمْعَانِيِّ إنَّهُ أَصَحُّ الْمَذَاهِبِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وقال الرَّافِعِيُّ في الْأَقْضِيَةِ إنَّهُ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ وقال الْإِمَامُ في النِّهَايَةِ في بَابِ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ إنَّهُ الْمُخْتَارُ وَجَرَى عليه الدَّبُوسِيُّ في التَّقْوِيمِ وقال أبو سُفْيَانَ إنَّهُ قَوْلُ أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَحَكَاهُ عن الْكَرْخِيِّ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي يُشْتَرَطُ وهو مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَنَصَرَهُ مُحَقِّقُو أَصْحَابِهِ وَاخْتَارَهُ ابن فُورَكٍ وَسُلَيْمٌ وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ من أَصْحَابِنَا عن الْمُعْتَزِلَةِ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ عن الْجُبَّائِيُّ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن الشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَاخْتَلَفُوا في عِلَّتِهِ على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ فَائِدَةَ اشْتِرَاطِهِ إمْكَانُ رُجُوعِ الْمُجْمِعِينَ أو بَعْضِهِمْ وَالثَّانِي جَوَازُ وُجُودِ مُجْتَهِدٍ آخَرَ وَيَنْبَنِي على الْعِلَّتَيْنِ ما لو وُجِدَ مُجْتَهِدٌ قبل انْقِرَاضِهِمْ يُعْتَبَرُ وَفَاقُهُ قال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَالْمُشْتَرِطُونَ افْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ فَمِنْهُمْ من اشْتَرَطَ انْقِرَاضَ
____________________
(3/553)
جَمِيعِ أَهْلِهِ وَمِنْهُمْ من اشْتَرَطَ انْقِرَاضَ أَكْثَرِهِمْ فَإِنْ بَقِيَ وَاحِدٌ أو اثْنَانِ وَنَحْوُهُ مِمَّا لَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِصِدْقِ خَبَرِهِ لم يُعْتَدَّ بِبَقَائِهِ وَمِنْهُمْ من اعْتَبَرَ مَوْتَ الْعُلَمَاءِ فَقَطْ حَكَاهُ عبد الْوَهَّابِ وَكَأَنَّهُ بَنَاهُ على دُخُولِ الْعَامَّةِ في الْإِجْمَاعِ وقال الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ اخْتَلَفَ الْمُشْتَرِطُونَ فَقِيلَ يُكْتَفَى بِمَوْتِهِمْ تَحْتَ هَدْمٍ دُفْعَةً إذْ الْغَرَضُ انْتِهَاءُ عُمُرِهِمْ عليه وقال الْمُحَقِّقُونَ لَا بُدَّ من انْقِضَاءِ مُدَّةٍ تُفِيدُ فَائِدَةً فَإِنَّهُمْ قد يُجْمِعُونَ على رَأْيٍ وهو مُعَرَّضٌ لِلتَّغْيِيرِ وقد رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ أَبْدَى الْخِلَافَ في مَسَائِلَ بَعْدَ اتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ وقال صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ الْقَائِلُونَ بِالِاشْتِرَاطِ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ هو شَرْطٌ في انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَقِيلَ شَرْطٌ في كَوْنِهِ حُجَّةً وإذا قُلْنَا إنَّ الِانْقِرَاضَ شَرْطٌ فَعَلَامَ يُعْتَبَرُ فيه وَجْهَانِ ذَكَرَهُ أبو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ أَحَدُهَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيمَا بُنِيَ أَمْرُهُ على الْمُسَامَحَةِ فَيَتَسَاهَلُ الْأَمْرُ فيه فَأَمَّا ما يَتَعَلَّقُ بِالْإِتْلَافِ من قَتْلٍ أو قَطْعٍ أو ما أَشْبَهَهُ لم يُعْتَبَرْ فيه انْقِرَاضُ الْعَصْرِ وَالثَّانِي أَنَّهُ يُعْتَبَرُ في جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ حَكَاهُ بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ ثُمَّ قال إلْكِيَا مُقْتَضَى اشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ الْإِجْمَاعُ ما بَقِيَ من الصَّحَابَةِ وَاحِدٌ وَلَوْ لَحِقَهُمْ زُمْرَةٌ من الْمُجْتَهِدِينَ قبل أَنْ يَنْقَرِضُوا فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ صَارُوا مُعْتَبَرِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَصَارَ خِلَافُهُمْ مُعْتَبَرًا وَمَعَ هذا أَجْمَعُوا على أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ انْقِرَاضُ عَصْرِ اللَّاحِقِينَ فَإِنَّا لو اعْتَبَرْنَا ذلك لم يَسْتَقِرَّ الْإِجْمَاعُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّاحِقَ صَارَ كَالسَّابِقِ في اعْتِبَارِ قَوْلِهِ وإذا كان اعْتِبَارُ قَوْلِهِ يَمْنَعُ من اسْتِقْرَارِ الْإِجْمَاعِ فَيَنْبَغِي عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ لو خَالَفَ قبل انْقِرَاضِ عَصْرِ الْأَوَّلِينَ اُعْتُبِرَ خِلَافُهُمْ فإذا مَاتَ الْأَوَّلُونَ بَعْدَ تَحَقُّقِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَصِيرَ الْمَسْأَلَةُ إجْمَاعِيَّةً وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ إنْ كان سُكُوتِيًّا اُشْتُرِطَ لِضَعْفِهِ بِخِلَافِ الْقَوْلِيِّ وهو رَأْيُ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَأَبِي مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيِّ فقال أبو مَنْصُورٍ في كِتَابِ التَّحْصِيلِ إنَّهُ قَوْلُ الْحُذَّاقِ من أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ وَاخْتَارَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ أَيْضًا وقال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في بَابِ الْكَفَّارَةِ من تَعْلِيقِهِ إنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَجَعَلَ سُلَيْمٌ مَحَلَّ الْخِلَافِ في الْقَوْلِيِّ قال وَأَمَّا السُّكُوتِيُّ فَانْقِرَاضُ الْعَصْرِ مُعْتَبَرٌ فيه بِلَا خِلَافٍ وَحَاصِلُهُ اخْتِيَارُ هذا الْمَذْهَبِ
____________________
(3/554)
وَمِمَّنْ اخْتَارَهُ من الْمُتَأَخِّرِينَ الْآمِدِيُّ وَاعْلَمْ أَنَّ ما نَقَلْته عن الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ تَابَعْت فيه إمَامَ الْحَرَمَيْنِ لَكِنَّ الذي في تَعْلِيقَةِ الْأُسْتَاذِ عَدَمُ الِاشْتِرَاطِ فِيهِمَا جميعا وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَسْتَنِدَ إلَى قَاطِعٍ فَلَا يُشْتَرَطُ فيه تَمَادِي زَمَانٍ وَيَنْتَهِضُ حُجَّةً على الْفَوْرِ وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَنِدَ إلَى ظَنِّيٍّ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ حتى يَطُولَ الزَّمَانُ وَتَتَكَرَّرَ الْوَاقِعَةُ وَلَوْ طَالَ الزَّمَانُ ولم يَتَكَرَّرْ فَلَا أَثَرَ له وَهَذَا قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ وَمُسْتَنَدُهُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَمَّا اسْتَنَدَتْ إلَى ظَنِّيٍّ وَطَالَتْ الْمُدَّةُ وَتَكَرَّرَتْ الْوَاقِعَةُ ولم يَعْرِضْ لِأَحَدٍ خِلَافٌ اُلْتُحِقَ بِالْمَقْطُوعِ وَصَرَّجَ بِأَنَّهُمْ لو هَلَكُوا عَقِبَ الْإِجْمَاعِ فَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَظَهَرَ بهذا أَنَّ الِانْقِرَاضَ عِنْدَهُ غَيْرُ شَرْطٍ وَلَا مُعْتَبَرٌ في حَالَةٍ من الْأَحْوَالِ وَبِذَلِكَ يُعْرَفُ وَهْمُ ابْنِ الْحَاجِبِ في نَقْلِهِ عنه التَّفْصِيلَ بين الصَّادِرِ عن قِيَاسٍ فَيُشْتَرَطُ فيه الِانْقِرَاضُ وَإِلَّا فَلَا وَلَيْسَ كما قال بَلْ كَلَامُهُ مُصَرِّحٌ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ الِانْقِرَاضِ أَلْبَتَّةَ وَمَعَ ذلك فما قَالَهُ في الظَّنِّيِّ حَكَمَ عليه بِتَقْدِيرِ وُقُوعِهِ وَيَرَى أَنَّهُ غَيْرُ مُتَصَوَّرِ الْوُقُوعِ واشتراطه طُولُ الزَّمَانِ في الظَّنِّيِّ إنَّمَا هو لِيَصِلَ إلَى الْقَطْعِ لَا أَنَّهُ مُتَصَوَّرٌ في نَفْسِهِ ثُمَّ أَشَارَ إلَى ضَابِطِ قَدْرِ الزَّمَانِ بِمَا لَا يُفْرَضُ في مِثْلِهِ اسْتِقْرَارُ الْجَمِّ الْغَفِيرِ على رَأْيٍ إلَّا عن حَامِلٍ قَاطِعٍ أو نَازِلٍ مَنْزِلَةَ الْقَاطِعِ على الْإِصْرَارِ وَاخْتَارَهُ في الْمَنْخُولِ وقال الرُّجُوعُ في مِقْدَارِهِ إلَى الْعُرْفِ وَرَدَّهُ في الْقَوَاطِعِ بِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إلَى أَيِّ شَيْءٍ اسْتِنَادُ الْمُجْمِعِينَ وَلَوْ عُرِفَ اسْتِنَادُهُمْ إلَى الْمَقْطُوعِ كان هو الْحُجَّةَ دُونَ الْإِجْمَاعِ وقال إلْكِيَا قال الْإِمَامُ إنَّ قَطْعَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ في مَظِنَّةِ الظَّنِّ فَلَا يَعْتَبِرُوا انْقِرَاضَهُ فإن ذلك لَا يَصْدُرُ إلَّا عن تَوْقِيفٍ وَتَقْدِيرٍ يَقْتَضِيهِ خَرْقُ الْعَادَةِ وَالْعَادَةُ لَا تُخْرَقُ لَا في لَحْظَةٍ وَلَا في أَمَدٍ طَوِيلٍ قال وَهَذَا الذي ذَكَرَ الْإِمَامُ لَا يَخْتَصُّ بِالْإِجْمَاعِ فإن الْمُجْتَهِدَ لو قَطَعَ في مَظِنَّةِ الظَّنِّ كان كَذَلِكَ وَلَا فَائِدَةَ له كَبِيرَةٌ هُنَا قال وَإِنْ كان الْإِجْمَاعُ في الْحُكْمِ مع الِاعْتِرَافِ بِاسْتِنَادِهِ إلَى اجْتِهَادِهِ فما دَامُوا في مُهْلَةِ الْبَحْثِ فَلَا مَذْهَبَ لهم فَضْلًا عن أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا وَإِنْ جَزَمُوا الْحُكْمَ بِنَاءً على أَحَدِ النَّظَرَيْنِ فَهَذَا مِمَّا يُبْعِدُ الْإِمَامُ وَيَرَى
____________________
(3/555)
أَنَّ الرَّأْيَ الذي أَجْمَعَ عليه أَهْلُ التَّوَاتُرِ مُسْتَنِدٌ لِلْقَاطِعِ وقد بَيَّنَّا من قَبْلُ تَصَوُّرَهُ وَحِينَئِذٍ فَالْمُعْتَبَرُ ظُهُورُ إصْرَارِهِمْ وَالْإِصْرَارُ قد يَتَبَيَّنُ بِالْقَرَائِنِ إمَّا في الْمَجْلِسِ أو بَعْدَهُ وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ يَنْعَقِدُ قبل الِانْفِرَاضِ فِيمَا لَا مُهْلَةَ فيه وَلَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ من قَتْلِ نَفْسٍ أو اسْتِبَاحَةِ فَرْجٍ حَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا وهو نَظِيرُ ما سَبَقَ في السُّكُوتِيِّ وَالْمَذْهَبُ السَّادِسُ أَنَّهُ إذَا لم يَبْقَ من الْمُجْمِعِينَ إلَّا عَدَدٌ يَنْقُصُونَ عن أَقَلِّ عَدَدِ التَّوَاتُرِ فَلَا عِبْرَةَ بِبَقَائِهِمْ وَعُلِمَ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ حَكَاهُ الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ وَأَشَارَ إلَيْهِ ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ وَالْمَذْهَبُ السَّابِعُ إنْ شَرَطُوا في إجْمَاعِهِمْ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ وَجَوَّزُوا الْخِلَافَ اُعْتُبِرَ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ وَإِنْ لم يَشْتَرِطُوا ذلك لم يُعْتَبَرْ حَكَاهُ الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ ثُمَّ قَيَّدَهُ بِالْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ دُونَ مَسَائِلِ الْأُصُولِ التي يُقْطَعُ فيها بِخَطَأِ الْمُخَالِفِ وَالْمَذْهَبُ الثَّامِنُ إنْ كان الْمُجْمَعُ عليه من الْأَحْكَامِ التي لَا يَتَعَلَّقُ بها إتْلَافٌ وَاسْتِهْلَاكٌ اُشْتُرِطَ قَطْعًا وَإِنْ تَعَلَّقَ بها ذلك مِمَّا لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ كَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَاسْتِبَاحَةِ الْفُرُوجِ فَوَجْهَانِ وهو طَرِيقَةُ الْمَاوَرْدِيِّ في الْحَاوِي قال سُلَيْمٌ وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ من اعْتَبَرَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ جَوَّزَ أَنْ يُجْمِعُوا على حُكْمٍ ثُمَّ يَرْجِعُوا عنه أو بَعْضُهُمْ وَمَنْ لم يَعْتَبِرْ لم يُجَوِّزْ ذلك تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ الْمُرَادُ بِانْقِرَاضِ الْعَصْرِ قال ابن بَرْهَانٍ ليس الْمُرَادُ بِالِانْقِرَاضِ مُدَّةً مَعْلُومَةً بَلْ مَوْتُ الْمُجْمِعِينَ الْمُجْتَهِدِينَ فَالْعَصْرُ في لِسَانِهِمْ الْمُرَادُ بِهِ عُلَمَاءُ الْعَصْرِ وَالِانْقِرَاضُ عِبَارَةٌ عن مَوْتِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ حتى لو قُدِّرَ مَوْتُهُمْ في لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ في سَفِينَةٍ فإنه يُقَالُ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ الثَّانِي صَوَّرَ الطَّبَرِيُّ الْمَسْأَلَةَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَظَاهِرُهُ أَنَّ إجْمَاعَ التَّابِعِينَ لَا خِلَافَ في عَدَمِ اشْتِرَاطِ انْقِرَاضِهِمْ وَبِهِ صَرَّحَ بَعْدُ وَكَلَامُ غَيْرِهِ ظَاهِرٌ في التَّعْمِيمِ وَمِنْ الْمُشْتَرِطِينَ من أَحَالَ عَدَمَ بُلُوغِ الْأُمَّةِ في عَصْرٍ حَدَّ التَّوَاتُرِ حَكَاهُ الْقَاضِي
____________________
(3/556)
عبد الْوَهَّابِ وَحِينَئِذٍ فَيَخْرُجُ في الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ ثَامِنٌ الثَّالِثُ أَنَّ الْمُشْتَرِطِينَ قالوا يُحْتَجُّ بِهِ وَإِنْ كان انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطًا كما يَجِبُ عَلَيْنَا طَاعَةُ الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَإِنْ جَازَ تَبْدِيلُهُ بِنَسْخٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ رُجُوعِهِمْ ثُمَّ إذَا رَجَعُوا فَغَايَتُهُ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا على خَطَأٍ لم يُقَرُّوا عليه لَا يُشْتَرَطُ في الْمُجْمِعِينَ بُلُوغُهُمْ حَدَّ التَّوَاتُرِ الْأَمْرُ الثَّانِي لَا يُشْتَرَطُ في الْمُجْمِعِينَ بُلُوغُهُمْ حَدَّ التَّوَاتُرِ خِلَافًا لِلْقَاضِي بَلْ يَجُوزُ انْحِطَاطُهُمْ عنه عَقْلًا وَنَقَلَ ابن بَرْهَانٍ عن مُعْظَمِ الْعُلَمَاءِ وَعَنْ طَوَائِفَ من الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَقْلًا وإذا جَوَّزْنَا فَهَلْ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِهِ فَذَهَبَ مُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً كما قَالَهُ ابن بَرْهَانٍ وهو قَوْلُ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ يَجُوزُ وَلَكِنْ لَا يَكُونُ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً فإن مَأْخَذَ الْخِلَافِ مُسْتَنِدٌ إلَى طَرْدِ الْعَادَةِ وَمَنْ لم يُحْسِنْ اسْتِنَادَ الْإِجْمَاعِ إلَيْهِ لم يَسْتَقِرَّ له قَدَمٌ فيه وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ من دَلَالَةِ الْعَادَةِ أو السَّمْعِ فَمَنْ أَخَذَهُ من دَلَالَةِ الْعَقْلِ وَاسْتِحَالَةِ الْخَطَأِ بِحُكْمِ الْعَادَةِ شَرَطَ التَّوَاتُرَ وَمَنْ أَخَذَهُ من الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ من شَرَطَهُ وَمِنْهُمْ من نَفَاهُ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ صُورَةَ الْإِجْمَاعِ الْمَشْهُودِ بِعِصْمَتِهِ عن الْخَطَأِ قد وَجَبَتْ فَيَتَرَتَّبُ عليها حُكْمُهَا وقال الْهِنْدِيُّ الْمُشْتَرِطُونَ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ إنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْقُصَ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ عن عَدَدِ التَّوَاتُرِ ما دَامَ التَّكْلِيفُ بِالشَّرِيعَةِ بَاقِيًا وَمِنْهُمْ من زَعَمَ أَنَّ ذلك وَإِنْ كان يُتَصَوَّرُ لَكِنْ يُقْطَعُ بِأَنَّ من ذَهَبَ إلَيْهِ دُونَ عَدَدِ التَّوَاتُرِ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ إخْبَارَهُمْ عن إيمَانِهِمْ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ فَلَا يَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ وَمِنْهُمْ من زَعَمَ أَنَّهُ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُعْلَمَ إيمَانُهُمْ بِالْقَرَائِنِ لَا يُشْتَرَطُ فيه ذلك بَلْ يَكْفِي فيه الظُّهُورُ لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً لِكَوْنِهِ كَاشِفًا عن دَلِيلٍ قَاطِعٍ وهو يُوجِبُ كَوْنَهُ مُتَوَاتِرًا وَإِلَّا لم يَكُنْ قَاطِعًا فما يَقُومُ مَقَامَهُ نَقَلَهُ مُتَوَاتِرًا وهو الْحُكْمُ بِمُقْتَضَاهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عن عَدَدِ التَّوَاتُرِ وَإِلَّا لم يُقْطَعْ بِوُجُودِهِ
____________________
(3/557)
فَرْعٌ إذَا لم يَبْقَ إلَّا مُجْتَهِدٌ وَاحِدٌ فَهَلْ قَوْلُهُ حُجَّةٌ كَالْإِجْمَاعِ وَطَرَدَ الْأُسْتَاذُ قِيَاسَهُ فقال يَجُوزُ أَلَّا يَبْقَى في الدَّهْرِ إلَّا مُجْتَهِدٌ وَاحِدٌ وَلَوْ اتَّفَقَ ذلك فَقَوْلُهُ حُجَّةٌ كَالْإِجْمَاعِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلْوَاحِدِ أُمَّةٌ كما قال تَعَالَى إنَّ إبْرَاهِيمَ كان أُمَّةً وَنَقَلَهُ الْهِنْدِيُّ عن الْأَكْثَرِينَ قُلْت وَبِهِ جَزَمَ ابن سُرَيْجٍ في كِتَابِ الْوَدَائِعِ فقال وَحَقِيقَةُ الْإِجْمَاعِ هو الْقَوْلُ بِالْحَقِّ فإذا حَصَلَ الْقَوْلُ بِالْحَقِّ من وَاحِدٍ فَهُوَ إجْمَاعٌ وَكَذَا إنْ حَصَلَ من اثْنَيْنِ أو ثَلَاثَةٍ وَالْحُجَّةُ على أَنَّ الْوَاحِدَ إجْمَاعٌ ما اتَّفَقَ عليه الناس في أبي بَكْرٍ لَمَّا مَنَعَتْ بَنُو حَنِيفَةَ الزَّكَاةَ فَكَانَتْ بِمُطَالَبَةِ أبي بَكْرٍ لها بِالزَّكَاةِ حَقًّا عِنْدَ الْكُلِّ وما انْفَرَدَ بِمُطَالَبَتِهَا غَيْرُهُ هذا كَلَامُهُ وَخِلَافُ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فيه وهو الظَّاهِرُ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ إلَّا من اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا وَنَقَلَ ابن الْقَطَّانِ عن أبي عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ حُجَّةٌ وقال إلْكِيَا الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ على تَصَوُّرِ اشْتِمَالِ الْعَصْرِ على الْمُجْتَهِدِ الْوَاحِدِ وَالصَّحِيحُ تَصَوُّرُهُ وإذا قُلْنَا بِهِ فَفِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بِمُجَرَّدِ قَوْلٍ خِلَافٌ وَبِهِ قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ قال وَاَلَّذِي حَمَلَهُ على ذلك أَنَّهُ لم يَرَ في اخْتِصَاصِ الْإِجْمَاعِ بِمَحَلٍّ مَعْنًى يَدُلُّ عليه فَسَوَّى بين الْعَدَدِ وَالْفَرْدِ وَأَمَّا الْمُحَقِّقُونَ سِوَاهُ فَإِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ الْعَدَدَ ثُمَّ يَقُولُونَ الْمُعْتَبَرُ عَدَدُ التَّوَاتُرِ فَإِذَنْ مُسْتَنِدُ الْإِجْمَاعِ مُسْتَنِدٌ إلَى طَرْدِ الْعَادَةِ بِتَوْبِيخِ من يُخَالِفُ الْعَصْرَ الْأَوَّلَ وهو يَسْتَدْعِي وُفُورَ عَدَدٍ من الْأَوَّلِينَ وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا إذَا لم يَكُنْ في الْعَصْرِ إلَّا مُجْتَهِدٌ وَاحِدٌ فإنه لَا يَظْهَرُ فيه اسْتِيعَابُ مَدَارِكِ الِاجْتِهَادِ قال وَيَنْشَأُ من هذا خِلَافٌ في مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الصَّحَابَةَ إذَا أَجْمَعُوا على قَوْلٍ وَانْفَرَدَ وَاحِدٌ منهم بِخِلَافٍ وَالْمُجْمِعُونَ عَدَدُ التَّوَاتُرِ فَهَلْ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ دُونَهُ فَقِيلَ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ وهو مَذْهَبُ ابْنِ جَرِيرٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ إنْ كان اسْتِنَادُ الْإِجْمَاعِ إلَى قِيَاسٍ إذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ الْجَمَاعَةُ إذَا ابْتَدَرُوا أَجْلَى الْقِيَاسِ وَظَهَرَ الْوَاحِدُ منهم بِقِيَاسٍ غَامِضٍ يُخَالِفُ فيه نعم إنْ قَطَعُوا في مَظِنَّةِ الظَّنِّ فَأَهْلُ التَّوَاتُرِ لَا يَقْطَعُونَ في مَظِنَّةِ الظَّنِّ إلَّا
____________________
(3/558)
بِقَاطِعٍ ثُمَّ ذلك الْقَاطِعُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَظْهَرَ لِلْمُخَالِفِ الثَّانِيَةُ أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ هل يَكُونُ حُجَّةً وَفِيهِ خِلَافٌ وَالْأَكْثَرُونَ على التَّسْوِيَةِ بين إجْمَاعِ الصِّحَابِ وَمَنْ عَدَاهُمْ خِلَافًا لِدَاوُدَ لَا يُشْتَرَطُ التَّوَاتُرُ في نَقْلِ الْإِجْمَاعِ الْأَمْرُ الثَّالِثُ لَا يُشْتَرَطُ التَّوَاتُرُ في نَقْلِهِ بَلْ يُحْتَجُّ بِالْإِجْمَاعِ الْمَرْوِيِّ بِطَرِيقِ الْآحَادِ على الْمُخْتَارِ وَبِهِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْآمِدِيَّ وَنُقِلَ عن الْجُمْهُورِ اشْتِرَاطُهُ وقد سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ في أَوَائِلِ الْبَابِ عِنْدَ كَوْنِهِ قَطْعِيًّا أو ظَنِّيًّا مَسْأَلَةٌ قَوْلُ الْقَائِلِ لَا أَعْلَمُ فيه خِلَافًا هل هو إجْمَاعٌ قَوْلُ الْقَائِلِ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بين أَهْلِ الْعِلْمِ في كَذَا قال الصَّيْرَفِيُّ لَا يَكُونُ إجْمَاعًا لِجَوَازِ الِاخْتِلَافِ وَكَذَا قال ابن حَزْمٍ في الْإِحْكَامِ وقال في كِتَابِ الْإِعْرَابِ إنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عليه في الرِّسَالَةِ وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ قال الصَّيْرَفِيُّ وَإِنَّمَا يَسُوغُ هذا الْقَوْلُ لِمَنْ بَحَثَ الْبَحْثَ الشَّدِيدَ وَعَلِمَ أُصُولَ الْعِلْمِ وَحَمَلَهُ فإذا عَلِمَ على هذا الْوَجْهِ لم يَجُزْ الْخُرُوجُ منه لِأَنَّ الْخِلَافَ لم يَظْهَرْ وَلِهَذَا لَا نَقُولُ لِلْإِنْسَانِ عَدْلٌ قبل الْخِبْرَةِ فإذا عَلِمْنَاهُ بِمَا يُعْلَمُ بِهِ مُسْلِمٌ حَكَمْنَا بِعَدَالَتِهِ وَإِنْ جَازَ خِلَافُ ما عَلِمْنَاهُ وقال ابن الْقَطَّانِ قَوْلُ الْقَائِلِ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا يَظْهَرُ إنْ كان من أَهْلِ الْعِلْمِ فَهُوَ حُجَّةٌ وَإِنْ لم يَكُنْ من الَّذِينَ كَشَفُوا الْإِجْمَاعَ وَالِاخْتِلَافَ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ وقال الْمَاوَرْدِيُّ إذَا قال لَا أَعْرِفُ بَيْنَهُمْ خِلَافًا فَإِنْ لم يَكُنْ من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَمِمَّنْ أَحَاطَ عِلْمًا بِالْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ لم يَثْبُتْ الْإِجْمَاعُ بِقَوْلِهِ وَإِنْ كان من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَأَثْبَتَ الْإِجْمَاعَ بِهِ قَوْمٌ وَنَفَاهُ آخَرُونَ قال ابن حَزْمٍ وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الْعَالِمَ إذَا قال لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فَهُوَ إجْمَاعٌ وهو قَوْلٌ فَاسِدٌ وَلَوْ قال ذلك محمد بن نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ إنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَجْمَعَ منه لِأَقَاوِيلِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَكِنْ فَوْقَ كل ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ
____________________
(3/559)
وقد قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في زَكَاةِ الْبَقَرِ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا في أَنَّهُ ليس في أَقَلَّ من ثَلَاثِينَ منها تَبِيعٌ وَالْخِلَافُ في ذلك مَشْهُورٌ فإن قَوْمًا يَرَوْنَ الزَّكَاةَ على الْخَمْسِ كَزَكَاةِ الْإِبِلِ وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في مُوَطَّئِهِ وقد ذَكَرَ الْحُكْمَ بِرَدِّ الْيَمِينِ وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فيه بين أَحَدٍ من الناس وَلَا بَلَدٍ من الْبُلْدَانِ وَالْخِلَافُ فيه شَهِيرٌ وكان عُثْمَانُ رضي اللَّهُ عنه لَا يَرَى رَدَّ الْيَمِينِ وَيَقْضِي بِالنُّكُولِ وَكَذَلِكَ ابن عَبَّاسٍ وَمِنْ التَّابِعِينَ الْحَكَمُ وَغَيْرُهُ وابن أبي لَيْلَى وأبو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَهُمْ كَانُوا الْقُضَاةَ في ذلك الْوَقْتِ فإذا كان مِثْلَ من ذَكَرْنَا يَخْفَى عليه الْخِلَافُ فما ظَنُّك بِغَيْرِهِ مَسْأَلَةٌ تَعْرِيفُ الشُّذُوذِ اُخْتُلِفَ في الشُّذُوذِ وما هو فَقِيلَ هو قَوْلُ الْوَاحِدِ وَتَرْكُ قَوْلِ الْأَكْثَرِ وقال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ هو أَنْ يَرْجِعَ الْوَاحِدُ عن قَوْلِهِ فَمَتَى رَجَعَ عنه سُمِّيَ شَاذًّا كما يُقَالُ شَذَّ الْبَعِيرُ عن الْإِبِلِ بَعْدَ أَنْ كان فيها يُسَمِّي شَاذًّا فَأَمَّا قَوْلُ الْأَقَلِّ فَلَا مَعْنَى لِتَسْمِيَتِهِ شَاذًّا لِأَنَّهُ لو كان شَاذًّا لَكَانَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ شَاذًّا
____________________
(3/560)
الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِيمَا يَسْتَقِرُّ بِهِ الْإِجْمَاعُ قال الرُّويَانِيُّ وَيَسْتَقِرُّ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ أَحَدُهَا الْعِلْمُ بِاتِّفَاقِهِمْ عليه سَوَاءٌ اقْتَرَنَ بِقَوْلِهِمْ عَمَلٌ أَمْ لَا وَقِيلَ لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ عَمَلٌ لِأَنَّ الْعَمَلَ مُحَقِّقٌ لِلْقَوْلِ قال وَهَذَا لَا وَجْهَ له لِأَنَّ حُجَجَ الْأَقْوَالِ آكَدُ من الْأَفْعَالِ نعم إنْ أَجْمَعُوا على الْقَوْلِ وَاخْتَلَفُوا في الْعَمَلِ يُبْطِلُ الْإِجْمَاعَ ثَانِيهَا أَنْ يَسْتَدِيمُوا ما كَانُوا عليه من الْإِجْمَاعِ وَلَا يَحْدُثُ من أَحَدِهِمْ خِلَافٌ فَإِنْ خَالَفَهُمْ الْوَاحِدُ بَعْدَ إجْمَاعِهِمْ بَطَلَ الْإِجْمَاعُ وَسَاغَ الْخِلَافُ لِأَنَّهُ كما جَازَ حُدُوثُ إجْمَاعٍ بَعْدَ خِلَافٍ جَازَ حُدُوثُ خِلَافٍ بَعْدَ إجْمَاعٍ كما وَقَعَ لِعَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه في بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ قُلْت هذا رَأْيٌ مَرْجُوحٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّ رُجُوعَ الْوَاحِدِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ لَا يَقْدَحُ في الْإِجْمَاعِ بَلْ يَكُونُ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً عليه بِنَاءً على أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ وقد وَافَقَ هو في أَوَّلِ كِتَابِ الْبَحْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ثَالِثُهَا أَنْ يَنْقَرِضَ عَصْرُهُمْ حتى يُؤْمَنَ الْخِلَافُ منهم فَإِنْ بَقِيَ الْعَصْرُ رُبَّمَا أَحْدَثَ بَعْضُهُمْ خِلَافًا كَابْنِ عَبَّاسٍ في الْعَوْلِ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ فَقِيلَ له هَلَّا قُلْته في أَيَّامِهِ قال كان رَجُلًا مَهِيبًا فَهِبْتُهُ الْمُعْتَبَرُ في انْقِرَاضِ الْعَصْرِ قال وَلَا يُعْتَبَرُ في انْقِرَاضِ الْعَصْرِ مَوْتُ جَمِيعِ أَهْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ وقد تَتَدَاخَلُ الْأَعْصَارُ وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ في انْقِرَاضِهِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَسْتَوْلِيَ على الْعَصْرِ الثَّانِي غَيْرُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَنْ يَنْقَضِيَ فِيهِمْ من بَقِيَ من أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ
____________________
(3/561)
لِأَنَّ أَنَسَ بن مَالِكٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بن أبي أَوْفَى عَاشَا إلَى عَصْرِ التَّابِعِينَ وَتَطَاوَلَا إلَى أَنْ جَمَعَا بين عَصْرَيْنِ فلم يَدُلَّ ذلك على بَقَاءِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ منهم قال ثُمَّ إذَا كان انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطًا في اسْتِقْرَارِ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ في الْأَحْكَامِ التي لَا يَتَعَلَّقُ بها إتْلَافٌ وَاسْتِهْلَاكٌ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ قال وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في انْقِرَاضِ الْعَصْرِ هل هو شَرْطٌ في الْإِجْمَاعِ انْعِقَادًا على وَجْهَيْنِ قُلْت وَحَاصِلُهُ أَنَّ الِانْقِرَاضَ شَرْطٌ في اسْتِقْرَارِ الْإِجْمَاعِ قَطْعًا وَهَلْ هو شَرْطٌ في انْعِقَادِهِ فيه الْخِلَافُ السَّابِقُ رَابِعُهَا أَنْ لَا يَلْحَقَ بِالْعَصْرِ الْأَوَّلِ من يُنَازِعُهُمْ من أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي فَإِنْ لَحِقَ بِعَصْرِ الصَّحَابَةِ بَعْضُ التَّابِعِينَ فَخَالَفَ في إجْمَاعِهِمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ وَفَصَّلَ في مَوَاضِعَ أُخَرَ بين أَنْ يَكُونَ من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ حَالَةَ حُدُوثِ الْوَاقِعَةِ فَيُعْتَبَرُ وَإِلَّا فَلَا وقال إنَّهُ الْمَذْهَبُ
____________________
(3/562)
الْفَصْلُ الْخَامِسُ في الْمُجْمَعِ عليه وهو ما يَكُونُ الْإِجْمَاعُ فيه دَلِيلًا وَحُجَّةً وهو كُلُّ أَمْرٍ دِينِيٍّ لَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ على ثُبُوتِهِ لَا كَإِثْبَاتِ الْعَالَمِ لِلصَّانِعِ وَكَوْنِهِ قَادِرًا عَالِمًا مُرِيدًا كَالنُّبُوَّاتِ فإنه لَا يَصْلُحُ إثْبَاتُ شَيْءٍ منها بِالْإِجْمَاعِ لِلُّزُومِ الدَّوْرِ لِتَوَقُّفِ ثُبُوتِ الْمَدْلُولِ على ثُبُوتِ الدَّلِيلِ جَرَيَانُ الْإِجْمَاعِ في الْعَقْلِيَّاتِ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَالشَّيْخُ في اللُّمَعِ وَصَاحِبُ الْقَوَاطِعِ وَغَيْرُهُمْ الْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ في جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْعَقْلِيَّةُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا ما يَجِبُ تَقْدِيمُ الْعَمَلِ بِهِ على الْعِلْمِ بِصِحَّةِ السَّمْعِ كَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَإِثْبَاتِ صِفَاتِهِ فَلَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً فيها كما لَا يَثْبُتُ الْكِتَابُ بِالسُّنَّةِ وَالْكِتَابُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قبل السُّنَّةِ وَالثَّانِي ما لَا يَجِبُ تَقْدِيمُ الْعَمَلِ بِهِ على السَّمْعِ كَجَوَازِ الرِّوَايَةِ وَغُفْرَانِ الذُّنُوبِ وَالتَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ فَالْإِجْمَاعُ فيه حُجَّةٌ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَتَلَخَّصُ في هذه الْمَسْأَلَةِ أَعْنِي جَرَيَانَ الْإِجْمَاعِ في الْعَقْلِيَّاتِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا الْجَوَازُ مُطْلَقًا وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن الْقَاضِي فقال وقال شَيْخُنَا أبو بَكْرٍ محمد بن الطَّيِّبِ الْأَشْعَرِيُّ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِالْإِجْمَاعِ في جَمِيعِ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَلِذَلِكَ اسْتَدَلَّ على نَفْيِ قَدِيمٍ عَاجِزٍ أو مَيِّتٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعُقُولِ على نَفْيِهِ وَالثَّانِي الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَبِهِ جَزَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا اسْتِغْنَاءً بِدَلِيلِ الْعَقْلِ عن الْإِجْمَاعِ قال الْأَصْفَهَانِيُّ وهو الْحَقُّ نعم يُسْتَعْمَلُ الْإِجْمَاعُ في عِلْمِ الْكَلَامِ لَا لِإِفَادَةِ الْعِلْمِ بَلْ لِإِلْزَامِ الْخَصْمِ وَإِفْحَامِهِ وَبِهِ جَزَمَ سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ بِنَاءً على أَنَّ الْإِجْمَاعَ يَثْبُتُ حُجَّةً بِالسَّمْعِ لَا بِالْعَقْلِ وقال إلْكِيَا يَنْشَأُ من أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ من جِهَةِ السَّمْعِ أَنَّهُ إنَّمَا يُحْتَجُّ بِهِ فِيمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ السَّمْعُ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُعْرَفَ بِالْإِجْمَاعِ ما يَجِبُ أَنْ تَتَقَدَّمَ مَعْرِفَتُهُ قبل مَعْرِفَةِ الْإِجْمَاعِ كَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ
____________________
(3/563)
وَالنُّبُوَّاتِ وَالثَّالِثُ التَّفْصِيلُ بين كُلِّيَّاتِ أُصُولِ الدِّينِ كَحُدُوثِ الْعَالَمِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ وَبَيْنَ جُزْئِيَّاتِهِ كَجَوَازِ الرُّؤْيَةِ فَيَثْبُتُ بِهِ ثُمَّ فيه مَسَائِلُ الْأُولَى يَجُوزُ أَنْ يُعْلَمَ بِالْإِجْمَاعِ كُلُّ ما يَصِحَّ أَنْ يُعْلَمَ بِالنُّصُوصِ وَغَيْرِهَا من أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَيَصِحُّ أَنْ تُعْلَمَ السَّمْعِيَّاتُ كُلُّهَا من نَاحِيَتِهِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ الثَّانِيَةُ قد اسْتَدَلَّ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا على كَوْنِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُتَكَلِّمًا صَادِقًا في كَلَامِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَأَلْزَمَ الدَّوْرُ قال الْقُرْطُبِيُّ وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ فَإِنْ قُلْنَا إنَّ الْمُعْجِزَةُ تَدُلُّ على صِدْقِ الْمُتَحَدِّي من حَيْثُ إنَّهَا تَنَزَّلَتْ مَنْزِلَةَ التَّصْدِيقِ بِالْقَوْلِ فَالدَّوْرُ لَازِمٌ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهَا تَدُلُّ دَلَالَةَ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ لم يَلْزَمْ الثَّالِثَةُ قِيلَ يُمْكِنُ إثْبَاتُ حُدُوثِ الْعَالَمِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُنَا إثْبَاتُ الصَّانِعِ بِحُدُوثِ الْأَعْرَاضِ ثُمَّ تُعْرَفُ صِحَّةُ النُّبُوَّةِ بِالْمُعْجِزَةِ ثُمَّ تُعْرَفُ من جِهَةِ النُّبُوَّةِ حُجِّيَّةُ الْإِجْمَاعِ ثُمَّ تُعْرَفُ بِهِ حُدُوثُ الْعَالَمِ قال وَيُمْكِنُنَا التَّمَسُّكُ بِهِ في التَّوَصُّلِ إلَيْهِ وَفِيهِ نَظَرٌ الرَّابِعَةُ اُخْتُلِفَ في الْإِجْمَاعِ في الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَالْآرَاءِ وَالْحُرُوبِ وَالْعَادَةِ وَالزِّرَاعَةِ هل هِيَ حُجَّةٌ فَأَطْلَقَ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ إنَّهُ الْأَصَحُّ قال إلْكِيَا لَا يَبْعُدُ خَطَأُ الْأُمَّةِ في ذلك وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّ الْمَصَالِحَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ فَلَوْ قِيلَ بِحُجِّيَّتِهِ فَرُبَّمَا اخْتَلَفَتْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ في زَمَنٍ وَصَارَتْ في غَيْرِهِ فَيَلْزَمُ تَرْكُ الْمَصْلَحَةِ وَإِثْبَاتُ ما لَا مَصْلَحَةَ فيه وهو مَحْذُورٌ وَمِنْهُمْ من ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ قال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ إنَّهُ الْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ أَصْحَابِهِمْ لِأَنَّ ذلك الْأَمْرَ الذي أَجْمَعَتْ عليه وَإِنْ كان من جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَاجْتِنَابِ الْمَضَارِّ فَقَدْ صَارَ أَمْرًا دِينِيًّا وَجَبَتْ مُرَاعَاتُهُ فَيَتَنَاوَلُ ذلك الْإِجْمَاعُ أَدِلَّةَ الْإِجْمَاعِ وَمِنْهُمْ من فَصَّلَ بين ما يَكُونُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الرَّأْيِ وَبَيْنَ ما يَكُونُ قَبْلَهُ فقال بِحُجِّيَّةِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَلَعَلَّ هذا تَنْقِيحُ ضَابِطٍ لِلْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ
____________________
(3/564)
فَلَا يُعَدُّ قَوْلًا ثَالِثًا وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ في ثُبُوتِ الْحُكْمِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ في الِاسْتِنَادِ إلَى ما لَا يَقَعُ فيه الْخَطَأُ وهو الْإِجْمَاعُ لِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي على الْخَطَأِ ولم يُعَيِّنْ الدِّينِيَّ وَلَك أَنْ تَقُولَ إنَّ الْإِجْمَاعَ في أُمُورِ الدُّنْيَا مُتَعَذِّرٌ لِمُخَالَفَةِ الزُّهَّادِ لِأَهْلِهَا فما يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ مع مُخَالَفَتِهِمْ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ قَوْلُ عبد الْجَبَّارِ في الدِّينِيَّةِ الْخَامِسَةُ إذَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ على أَمْرٍ لُغَوِيٍّ فَإِنْ كان له تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ كان إجْمَاعًا مُعْتَدًّا بِهِ وَإِلَّا فَلَا خِلَافًا لِمَنْ أَطْلَقَ الْأَمْرَ الْمُجْمَعَ عليه السَّادِسَةُ هل يَصِحُّ أَنْ يُجْمِعُوا على أَنَّهُ لَا دَلِيلَ على كَذَا إلَّا ما اسْتَدَلُّوا بِهِ قال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ يُنْظَرُ فَإِنْ كان الدَّلِيلُ الثَّانِي مِمَّا يَتَغَيَّرُ دَلَالَتُهُ صَحَّ إجْمَاعُهُمْ على مَنْعِ كَوْنِهِ دَلِيلًا مِثْلُ أَنْ يَتَعَرَّفَ لِلْخُصُوصِ أو يَنْقُلَهُ إلَى الْمَجَازِ أو النَّسْخِ وَنَحْوِهِ فَإِنْ لم يَتَغَيَّرْ فَلَا يَصِحُّ إجْمَاعُهُمْ على ثَانِي دَلِيلٍ سِوَى ما اسْتَدَلُّوا بِهِ كما لَا يَصِحُّ منهم الْإِجْمَاعُ على أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا
____________________
(3/565)
الْفَصْلُ السَّادِسُ في أَحْكَامِ الْإِجْمَاعِ حُكْمُ مُنْكِرِ الْإِجْمَاعِ وَفِيهِ بَحْثَانِ الْأَوَّلُ في تَحْرِيمِ مُخَالَفَتِهِ وَفِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ أَنَّ من أَنْكَرَ الْإِجْمَاعَ هل يُكَفَّرُ وهو قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا إنْكَارُ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً فَيُنْظَرُ إنْ أَنْكَرَ حُجِّيَّةَ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ أو الْإِجْمَاعِ الذي لم يَنْقَرِضْ أَهْلُ عَصْرِهِ وَنَحْوَ ذلك من الْإِجْمَاعَاتِ التي اعْتَبَرَ الْعُلَمَاءُ الْمُعْتَبَرُونَ في انْتِهَاضِهَا حُجَّةً فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ وَلَا يُبَدَّعُ وَإِنْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْإِجْمَاعِ وَأَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ فَالْقَوْلُ في تَكْفِيرِهِ كَالْقَوْلِ في تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ وَالثَّانِي أَنْ يُنْكِرَ حُكْمَ الْإِجْمَاعِ فيقول مَثَلًا لَيْسَتْ الصَّلَاةُ وَاجِبَةً وَلَيْسَ لِبِنْتِ الِابْنِ مع الْأُمِّ السُّدُسُ فَلَهُ أَحْوَالٌ أَحَدُهَا بِأَنْ يَكُونَ قد بَلَغَهُ الْإِجْمَاعُ في ذلك وَأَنْكَرَهُ وَلَجَّ فيه فَإِنْ كانت مَعْرِفَتُهُ ظَاهِرَةً كَالصَّلَاةِ كَفَرَ أو خَفِيَّةً كَمَسْأَلَةِ الْبِنْتِ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ ثَانِيهَا أَنْ يُنْكِرَ وُقُوعَ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ أَنْ يَبْلُغَهُ فيقول لم يَقَعْ وَلَوْ وَقَعَ لَقُلْتُ بِهِ فَإِنْ كان الْمُخْبِرُ عن وُقُوعِهِ الْخَاصَّةَ دُونَ الْعَامَّةِ كَمَسْأَلَةِ الْبِنْتِ فَلَا يَكْفُرُ على الْأَظْهَرِ وَإِنْ كان الْمُخْبِرُ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ كَالصَّلَاةِ كَفَرَ وَثَالِثُهَا أَنْ لَا يَبْلُغَهُ فَيُعْذَرُ في الْخَفِيِّ دُونَ الْجَلِيِّ إنْ لم يَكُنْ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ من أَصْحَابِنَا منهم الْبَغَوِيّ في أَوَائِلِ التَّهْذِيبِ وَإِلْكِيَا وابن بَرْهَانٍ وابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمْ تَقْسِيمَ الْإِجْمَاعِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ الْأَوَّلُ ما يَشْتَرِكُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ فيه كَأَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ وَرَكَعَاتِهَا وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَزَمَانِهِمَا وَتَحْرِيمِ الزِّنَى وَالْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ فَمَنْ اعْتَقَدَ في شَيْءٍ من ذلك خِلَافَ ما انْعَقَدَ عليه الْإِجْمَاعُ فَهُوَ كَافِرٌ لِأَنَّهُ صَارَ بِخِلَافِهِ جَاحِدًا لِمَا قَطَعَ من دِينِ الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَصَارَ كَالْجَاحِدِ لِصِدْقِهِ قال إلْكِيَا وَيَكْفُرُ مَخَالِفُهُ من حَيْثُ إنَّهُ مَنْقُولٌ عن الشَّرْعِ قَطْعًا فَإِنْكَارُهُ كَإِنْكَارِ أُصُولِ الدِّينِ وَالثَّانِي إجْمَاعُ الْخَاصَّةِ فَقَطْ وهو ما يَنْفَرِدُ بِمَعْرِفَتِهِ الْعُلَمَاءُ كَتَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ على عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا وَإِفْسَادِ الْحَجِّ بِالْوَطْءِ قبل الْوُقُوفِ وَتَوْرِيثِ الْجَدَّةِ السُّدُسَ وَمَنْعِ
____________________
(3/566)
تَوْرِيثِ الْقَاتِلِ وَمَنْعِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ فإذا اعْتَقَدَ في شَيْءٍ من ذلك خِلَافَ ما عليه الْإِجْمَاعُ يُحْكَمُ بِضَلَالِهِ وَخَطَئِهِ وَمَعْصِيَتِهِ بِإِنْكَارِ ما خَالَفَ قال الْبَغَوِيّ وَمِنْهُ أَنَّهُ يُجْمِعُ عُلَمَاءُ كل عَصْرٍ على حُكْمِ حَادِثَةٍ إمَّا قَوْلًا أو فِعْلًا فَهُوَ حُجَّةٌ لَكِنْ لَا يُكَفَّرُ جَاحِدُهُ بَلْ يُخَطَّأُ وَيُدْعَى إلَى الْحَقِّ وَلَا مَسَاغَ له فيه لِاجْتِهَادٍ ا هـ وهو ظَاهِرٌ لِأَنَّ هذا إجْمَاعٌ ظَنِّيٌّ لَا قَطْعِيٌّ لَكِنْ حَكَى الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ خِلَافًا فِيمَنْ جَحَدَ مُجْمَعًا عليه غير مَعْلُومٍ بِالضَّرُورَةِ هل يَكْفُرُ فقال فيه وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ على أَنَّ ما أَجْمَعَ عليه الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ هل الْعَامَّةُ مَقْصُودَةٌ وَجْهَانِ فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَكْفُرُ لِأَنَّهُ لم يُخَالِفْ جَمِيعَ الْمَعْصُومِينَ في الْإِجْمَاعِ وَعَلَى الثَّانِي يَكْفُرُ وهو اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وَأَطْلَقَ الرَّافِعِيُّ الْقَوْلَ بِالْكُفْرِ بِجُحُودِ الْحُكْمِ الْمُجْمَعِ عليه وَاسْتَدْرَكَ عليه النَّوَوِيُّ وَفَصَّلَ بين أَنْ يَكُونَ فيه نَصٌّ وهو من الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ التي يَشْتَرِكُ في مَعْرِفَتِهَا الْخَوَاصُّ وَالْعَوَامُّ فَكَافِرٌ وَإِنْ اخْتَصَّ بِمَعْرِفَتِهِ الْخَاصَّةُ فَلَا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا لَا نَصَّ فيه فَفِي الْحُكْمِ بِتَكْفِيرِهِ خِلَافٌ وَصَحَّحَ في بَابِ الرِّدَّةِ فيه الْقَوْلَ بِالتَّكْفِيرِ وما جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ من التَّكْفِيرِ في الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فيه خِلَافٌ أَشَارَ إلَيْهِ الرَّافِعِيُّ في بَابِ حَدِّ الشُّرْبِ فقال من اسْتَحَلَّ شُرْبَ الْخَمْرِ كَفَرَ لِلْإِجْمَاعِ على تَحْرِيمِهِ ولم يَسْتَحْسِنْ الْإِمَامُ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِتَكْفِيرِ الْمُسْتَحِلِّ فقال كَيْفَ يَكْفُرُ من خَالَفَ الْإِجْمَاعَ وَنَحْنُ لَا نُكَفِّرُ من رَدَّ أَصْلَ الْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا نُبَدِّعُهُ وَنُضَلِّلُهُ وَأَوَّلُ ما ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ على ما إذَا صَدَّقَ الْمُجْمِعِينَ على أَنَّ التَّحْرِيمَ ثَابِتٌ في الشَّرْعِ ثُمَّ حَلَّلَهُ فإنه يَكُونُ رَادًّا لِلشَّرْعِ قال الرَّافِعِيُّ وَهَذَا أَوْضَحُ فَلْيُحَرَّرْ مِثْلُهُ في سَائِرِ ما حَصَلَ بِالْإِجْمَاعِ على افْتِرَاضِهِ فَنَفَاهُ أو تَحْرِيمِهِ فَأَثْبَتَهُ ا هـ وَاَلَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ أَنَّ من اعْتَرَفَ بِالْإِجْمَاعِ وَأَقَرَّ بِصِدْقِ الْمُجْمِعِينَ في النَّقْلِ ثُمَّ أَنْكَرَ ما أَجْمَعُوا عليه كان هذا التَّكْذِيبُ آيِلًا إلَى تَكْذِيبِ الشَّارِعِ وَمَنْ كَذَّبَ الشَّارِعَ كَفَرَ وَالْقَوْلُ الضَّابِطُ فيه أَنَّ من أَنْكَرَ طَرِيقًا في ثُبُوتِ الشَّرْعِ لم يَكْفُرْ وَمَنْ اعْتَرَفَ بِكَوْنِ الشَّيْءِ من الشَّرْعِ ثُمَّ جَحَدَهُ كان مُنْكِرًا لِلشَّرْعِ وَإِنْكَارُ بَعْضِهِ كَإِنْكَارِ كُلِّهِ وقال الشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ في دِيبَاجَةِ كِتَابِهِ الْمُحِيطِ في إنْكَارِ إجْمَاعِ الْخَاصَّةِ
____________________
(3/567)
إنْ كان من الْعُلَمَاءِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عليه وَإِنْ كان من الْعَوَامّ فَفِي الْحُكْمِ بِرِدَّتِهِ وَجْهَانِ وَعَلَيْهِمَا نَقْتُلُهُ لَكِنْ على الثَّانِي نَقْتُلُهُ حَدًّا وَعَلَى الْأَوَّلِ لِلرِّدَّةِ وقال الْإِمَامُ أبو الْفَضْلِ الْفَزَارِيّ فَقِيهُ الْحَرَمِ من جَحَدَ أَصْلًا مُجْمَعًا عليه كَفَرَ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ لَا يُكَفَّرُ إلَّا بِمَا اشْتَرَطْنَا في الْإِسْلَامِ إذَا أَنْكَرَهُ وقال أبو الْحُسَيْنِ السُّهَيْلِيُّ في أَدَبِ الْجَدَلِ الْأَقْرَبُ أَنْ يُنْظَرَ في الْمُخَالِفِ لِلْإِجْمَاعِ فَإِنْ كان لَا يَعْتَقِدُ كَوْنَهُ حُجَّةً فإنه يُخَطَّأُ وَيُفَسَّقُ وَلَا يُكَفَّرُ وَإِنْ كان يَعْتَقِدُ أَنَّهُ حُجَّةٌ فَإِنْ ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ بِالتَّوَاتُرِ فَهُوَ كَافِرٌ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ على نَفْسِهِ بِالْمُعَانَدَةِ وَإِنْ ثَبَتَ بِالْآحَادِ فإنه مُخْطِئٌ أو فَاسِقٌ وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الْآمِدِيَّ وَابْنِ الْحَاجِبِ في هذه الْمَسْأَلَةِ في غَايَةِ الْقَلِقِ فَإِنَّهُمَا حَكَيَا مَذَاهِبَ في مُنْكِرِ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ ثَالِثُهَا الْمُخْتَارُ أَنَّ نحو الْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ يَكْفُرُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ له قَوْلًا بِالتَّكْفِيرِ في الْأَمْرِ الْخَفِيِّ وَقَوْلًا بِعَدَمِهِ في نَحْوِ الْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَعِبَارَةُ الْهِنْدِيِّ في النِّهَايَةِ هُنَا في غَايَةِ الْحُسْنِ فإنه قال جَاحِدُ الْحُكْمِ الْمُجْمَعِ عليه من حَيْثُ إنَّهُ مُجْمَعٌ بِإِجْمَاعٍ قَطْعِيٍّ لَا يَكْفُرُ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِقَوْلِنَا من حَيْثُ إنَّهُ مُجْمَعٌ عليه لِأَنَّ من أَنْكَرَ وُجُوبَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَنَحْوَهَا يَكْفُرُ وهو مُجْمَعٌ عليه لَكِنْ لَا لِأَنَّهُ مُجْمَعٌ عليه بَلْ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ من دِينِ مُحَمَّدٍ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِالْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ لِأَنَّ جَاحِدَ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ الظَّنِّيِّ لَا يُكَفَّرُ وِفَاقًا انْتَهَى وقال أبو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْحَقُّ في هذه الْمَسْأَلَةِ التَّفْصِيلُ فَإِنْ قُلْنَا إنَّ أَدِلَّةَ الْإِجْمَاعِ ظَنِّيَّةٌ فَلَا شَكَّ في نَفْيِ التَّكْفِيرِ لِأَنَّ الْمَسَائِلَ الظَّنِّيَّةَ اجْتِهَادِيَّةٌ وَلَا نُكَفِّرُ فيها بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ قُلْنَا قَطْعِيَّةٌ فَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُخْتَلِفُونَ في تَكْفِيرِهِ وَالصَّوَابُ أَنْ لَا يَكْفُرَ وَإِنْ قُلْنَا إنَّ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ قَطْعِيَّةٌ مُتَوَاتِرَةٌ لِأَنَّ هذا لَا تَعُمُّ مَعْرِفَتُهُ كُلَّ أَحَدٍ بِخِلَافِ من جَحَدَ سَائِرَ الْمُتَوَاتِرَاتِ وَالتَّوَقُّفُ عن التَّكْفِيرِ أَوْلَى من الْهُجُومِ عليه فَقَدْ قال عليه السَّلَامُ من قال لِأَخِيهِ يا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ أَحَدُهُمَا فَإِنْ كان كما قال وَإِلَّا جَاءَتْ عليه ا هـ وقد قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ أَمَّا من قال إنَّ دَلِيلَ الْإِجْمَاعِ ظَنِّيٌّ فَلَا سَبِيلَ
____________________
(3/568)
إلَى تَكْفِيرِ مُخَالِفِهِ كَسَائِرِ الظَّنِّيَّاتِ وَأَمَّا من قال إنَّ دَلِيلَهُ قَطْعِيٌّ فَالْحُكْمُ الْمُخَالِفُ فيه إمَّا أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إثْبَاتِهِ قَطْعِيًّا أو ظَنِّيًّا فَإِنْ كان ظَنِّيًّا فَلَا سَبِيلَ إلَى التَّكْفِيرِ وَإِنْ كان قَطْعِيًّا فَقَدْ اخْتَلَفُوا فيه وَلَا يُتَوَجَّهُ الْخِلَافُ فِيمَا تَوَاتَرَ من ذلك عن صَاحِبِ الشَّرْعِ بِالنَّقْلِ فإنه يَكُونُ تَكْذِيبًا مُوجِبًا لِلْكُفْرِ بِالضَّرُورَةِ وَإِنَّمَا يُتَوَجَّهُ الْخِلَافُ فِيمَا حَصَلَ فيه الْإِجْمَاعُ بِطَرِيقٍ قَطْعِيٍّ أَعْنِي أَنَّهُ ثَبَتَ وُجُودُ الْإِجْمَاعِ بِهِ إذَا لم يَنْقُلْ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ الْحُكْمَ بِالتَّوَاتُرِ عن صَاحِبِ الشَّرْعِ فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ تَارَةً يَصْحَبُهُ التَّوَاتُرُ بِالنَّقْلِ عن صَاحِبِ الشَّرْعِ وَتَارَةً لَا فَالْأَوَّلُ لَا يُخْتَلَفُ في تَكْفِيرِهِ وَالثَّانِي قد يُخْتَلَفُ فيه فَلَا يُشْتَرَطُ في النَّقْلِ عن صَاحِبِ الشَّرْعِ لَفْظٌ مُعَيَّنٌ بَلْ قد يَكُونُ ذلك مَعْلُومًا بِالْقَطْعِ بِأُمُورٍ خَارِجَةٍ عن الْحَصْرِ كَوُجُوبِ الْأَرْكَانِ الْخَمْسَةِ فَتَنَبَّهْ لِهَذَا فَقَدْ غَلَطَ فيه من يَعْتَقِدُ في نَفْسِهِ وَيَعْتَقِدُ من الْمَائِلِينَ إلَى الْفَلْسَفَةِ حَيْثُ حَكَمَ بِكُفْرِ الْفَلَاسِفَةِ لِإِنْكَارِهِمْ عِلْمَ الْبَارِئِ عز وجل بِالْجُزْئِيَّاتِ وَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَحَشْرِ الْأَجْسَادِ فَتَوَهَّمَ هذا الْإِنْسَانُ أَنْ يَخْرُجَ على الْخِلَافِ في مُخَالِفِ الْإِجْمَاعِ وهو خَطَأٌ فَاحِشٌ لِأَنَّ هذا من الْقِسْمِ الذي صَحِبَ التَّوَاتُرُ فيه الْإِجْمَاعَ تَوَاتُرًا قَطْعِيًّا مَعْلُومًا بِأُمُورٍ غَيْرِ مُنْحَصِرَةٍ ا هـ وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ ابْنَ رُشْدٍ فإن له كِتَابَ فَصْلِ الْمَقَالِ فِيمَا بين الشَّرِيعَةِ وَالْحِكْمَةِ من اتِّصَالِ وَرَدَّ على الْغَزَالِيِّ في تَكْفِيرِ الْفَلَاسِفَةِ في ذلك
____________________
(3/569)
الْمَبْحَثُ الثَّانِي فِيمَا يُعَدُّ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ وما لَا يُعَدُّ وَفِيهِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى هل يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ على شَيْءٍ سَبَقَ خِلَافُهُ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ إحْدَاهَا في انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ على شَيْءٍ سَبَقَ خِلَافُهُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنْ يَكُونَ من الْمُجْمِعِينَ كما لو أَجْمَعَ أَهْلُ عَصْرٍ على حُكْمٍ ثُمَّ ظَهَرَ لهم ما يُوجِبُ الرُّجُوعَ وَأَجْمَعُوا عليه فَفِي جَوَازِ الرُّجُوعِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ على اشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ في الْإِجْمَاعِ فَمَنْ اعْتَبَرَهُ جَوَّزَ ذلك وَمَنْ لم يَعْتَبِرْهُ وهو الرَّاجِحُ لم يُجَوِّزْهُ وكان إجْمَاعُهُمْ الْأَوَّلُ حُجَّةً عليهم وَعَلَى غَيْرِهِمْ الثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ من غَيْرِهِمْ فَمَنَعَهُ الْأَكْثَرُونَ أَيْضًا وَإِلَّا لَتَصَادَمَ الْإِجْمَاعَانِ وَجَوَّزَهُ أبو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيُّ قال الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وهو الْأَوْلَى لِأَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ في إجْمَاعِ الْأُمَّةِ على قَوْلٍ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَطْرَأَ عليه إجْمَاعٌ آخَرُ وَلَكِنْ لَمَّا اتَّفَقَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ على أَنَّ كُلَّ ما أَجْمَعُوا عليه فإنه يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ في كل الْأَعْصَارِ أَمْنًا من وُقُوعِ هذا الْجَائِزِ فَعَدَمُ الْجَوَازِ عِنْدَهُ مُسْتَفَادٌ من الْإِجْمَاعِ الثَّانِي لَا من الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ وَعِنْدَ الْجَمَاهِيرِ هو مُسْتَفَادٌ من الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ من غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى الْإِجْمَاعِ الثَّانِي وَالْحَاصِلُ أَنَّ نَفْسَ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةٌ يَقْتَضِي امْتِنَاعَ حُصُولِ إجْمَاعٍ آخَرَ مُخَالِفٍ بَعْدَهُ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّ لَا يَقْتَضِي ذلك لِإِمْكَانِ تَصَوُّرِ كَوْنِهِ حُجَّةً إلَى غَايَةِ إمْكَانِ حُصُولِ إجْمَاعٍ آخَرَ قال الْهِنْدِيُّ وَعِنْدَ هذا ظَهَرَ أَنَّ مَأْخَذَ أبي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ قَوِيٌّ قِيلَ اتَّفَقُوا على أَنَّهُ لم يَقَعْ وما ذُكِرَ من قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَجْمَعُوا على رَدِّ شَهَادَةِ الْعَبْدِ وما رُوِيَ عن أَنَسٍ أَجْمَعُوا على قَبُولِهَا فَاَلَّذِي نُقِلَ عن أَنَسٍ لم يَصِحَّ عنه وَكَذَا قَوْلُنَا أَجْمَعُوا على الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَقَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ أَجْمَعُوا على بُطْلَانِ الْقِيَاسِ مَرْدُودٌ
____________________
(3/570)
وَحَكَى أبو الْحُسَيْنِ السُّهَيْلِيُّ في كِتَابِ أَدَبِ الْجَدَلِ له في هذه الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا غَرِيبًا فقال إذَا أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ على قَوْلٍ ثُمَّ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ على قَوْلٍ آخَرَ فَعَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا وهو الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ مِثْلِهِ لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَخْبَرَ أَنَّ أُمَّتَهُ لَا تَجْتَمِعُ على الضَّلَالَةِ وَالثَّانِي لو صَحَّ وُقُوعُهُ فإنه يَجِبُ على التَّابِعِينَ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِ الصَّحَابَةِ لِأَنَّا لَمَّا وَجَدْنَاهُمْ مُجْمِعِينَ على قَوْلٍ وَاحِدٍ عَلِمْنَا كَوْنَهُمْ مُجْمِعِينَ فيه فلم يَجُزْ تَرْكُهُ بِمَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ حَقًّا وَقِيلَ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ وَصَوَابٌ على قَوْلِ من يقول إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ في حُدُوثِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ سَبْقِ الْخِلَافِ بِأَنْ يَخْتَلِفَ أَهْلُ الْعَصْرِ على قَوْلَيْنِ في مَسْأَلَةٍ لم يَقَعْ الْإِجْمَاعُ منهم على أَحَدِهِمَا وَالتَّفْرِيعُ على جَوَازِ صُدُورِهِ عن الِاجْتِهَادِ كما قَالَهُ إلْكِيَا فَلِلْخِلَافِ حَالَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ بِأَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُونَ في مُهْلَةِ النَّظَرِ ولم يَسْتَقِرَّ لهم قَوْلٌ كَخِلَافِ الصَّحَابَةِ لِأَبِي بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه في قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَإِجْمَاعِهِمْ بَعْدَ ذلك قال الشَّيْخُ في اللُّمَعِ صَارَتْ الْمَسْأَلَةُ إجْمَاعِيَّةً بِلَا خِلَافٍ وَحَكَى الْهِنْدِيُّ تَبَعًا لِلْإِمَامِ أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ خَالَفَ في ذلك ولم أَرَهُ في كِتَابِهِ بَلْ ظَاهِرُ كَلَامِهِ يُشْعِرُ بِالْوِفَاقِ في هذه الْمَسْأَلَةِ وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ يَسْتَقِرُّ وَيَمْضِي أَصْحَابُ الْخِلَافِ عليه مُدَّةً وَفِيهِ مَسَائِلُ إحْدَاهَا إذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَصْرِ على قَوْلَيْنِ فَهَلْ يَجُوزُ لِأَهْلِ ذلك الْعَصْرِ بِعَيْنِهِمْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْخِلَافِ الِاتِّفَاقُ على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَالْمَنْعُ من الْمَصِيرِ إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فيه خِلَافٌ وَبِتَقْدِيرِ وُقُوعِهِ هل يَصِيرُ إجْمَاعًا مُتَّبَعًا أَمْ لَا اخْتَلَفُوا فيه بِنَاءً على مَسْأَلَةِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ في الْإِجْمَاعِ فَإِنْ اشْتَرَطْنَاهُ جَازَ وُقُوعُهُ قَطْعًا وكان حُجَّةً إذْ ليس فيه ما يُوهِمُ تَعَارُضَ الْإِجْمَاعَيْنِ على هذا الرَّأْيِ وَلِأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ على قَوْلَيْنِ ليس بِأَكْثَرَ من إجْمَاعِهِمْ على قَوْلٍ وَاحِدٍ فإذا جَازَ الرُّجُوعُ في الْوَاحِدِ الْمُتَّفَقِ عليه فَفِي الْمُخْتَلَفِ فيه أَوْلَى وَالشَّرْطُ كما قَالَهُ ابن كَجٍّ أَنْ يَرْجِعَ الْجَمِيعُ من قَبْلِ أَنْ يَنْقَرِضَ منهم وَاحِدٌ وَإِنْ لم يُشْتَرَطْ فَفِيهِ مَذَاهِبُ أَحَدُهَا الْمَنْعُ مُطْلَقًا كما لو اتَّفَقُوا على قَوْلٍ ثُمَّ رَجَعُوا بِأَسْرِهِمْ وَلِتَنَاقُضِ الْإِجْمَاعَيْنِ وَبِهِ قال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ عن
____________________
(3/571)
الشَّافِعِيِّ وَبِهِ جَزَمَ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وَالثَّانِي عَكْسُهُ وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيَّ وَالثَّالِثُ الْجَوَازُ فِيمَا دَلِيلُ خِلَافِهِ الْإِمَارَةُ وَالِاجْتِهَادُ دُونَ ما دَلِيلُ خِلَافِهِ الْقَاطِعُ عَقْلِيًّا كان أو نَقْلِيًّا وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ إنْ كان الْخِلَافُ فِيمَا طَرِيقُهُ التَّأْثِيمُ وَالتَّضْلِيلُ جَازَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَ ذلك وَإِنْ كان في مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ في الْفُرُوعِ جَازَ أَيْضًا لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْزِمُوا معه بِتَحْرِيمِ الذَّهَابِ إلَى الْآخَرِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى كَوْنِ أَحَدِ الْإِجْمَاعَيْنِ خَطَأً وَمِنْهُمْ من أَحَالَهُ قَطْعًا وَالرَّابِعُ يَخْرُجُ من كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في مَسْأَلَةِ الِانْقِرَاضِ إنْ قَرُبَ عَهْدُ الْمُخْتَلِفِينَ ثُمَّ اتَّفَقُوا على قَوْلٍ فَهُوَ إجْمَاعٌ وَإِنْ تَمَادَى الْخِلَافُ في زَمَنٍ طَوِيلٍ ثُمَّ اتَّفَقُوا فَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَجُوزُ وُقُوعُهُ وَأَنَّهُ حُجَّةٌ وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ إجْمَاعَ أَصْحَابِنَا على أَنَّهُ حُجَّةٌ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ وَيَخْرُجُ من كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ وَالرُّويَانِيِّ طَرِيقَةٌ قَاطِعَةٌ بِهِ فَإِنَّهُمَا جَزَمَا بِالْجَوَازِ وَقَالَا يَرْتَفِعُ بِهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ ثُمَّ قَالَا وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ آكَدُ من إجْمَاعٍ لم يَتَقَدَّمْهُ خِلَافٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ على ظُهُورِ الْحَقِّ بَعْدَ الْتِبَاسِهِ وَالثَّانِي أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ الْحَقَّ مُقْتَرِنٌ بِكُلٍّ مِنْهُمَا وَمِنْهُمْ من نَقَلَ هَاهُنَا عن الصَّيْرَفِيِّ أَنَّا إذَا لم نَشْتَرِطْ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ لَا يَكُونُ إجْمَاعًا لِتَقَدُّمِ الْإِجْمَاعِ منهم على تَسْوِيغِ الْخِلَافِ وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ فِيمَا نُقِلَ عنه أَيْضًا وقد اسْتَشْكَلَهَا الْغَزَالِيُّ من حَيْثُ إنَّ الْإِجْمَاعَ الْأَوَّلَ قد تَمَّ على تَسْوِيغِ الْخِلَافِ ثُمَّ الِاتِّفَاقُ الثَّانِي قد مَنَعَ الْخِلَافَ فَقَدْ تَنَاقَصَ الْإِجْمَاعَانِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ ما إذَا كان الِاتِّفَاقُ من أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي فإن الْمُخَالِفِينَ في هذه الْمَسْأَلَةِ الْمُتَّفِقُونَ عليها بِخِلَافِ تِلْكَ وقد رَأَى أَنَّ الْمُخَلِّصَ في ذلك الْحُكْمُ بِإِحَالَةِ وُقُوعِ هذه الْمَسْأَلَةِ لِلتَّنَاقُضِ الْمَذْكُورِ وقد أَوْرَدَ عليه أَنَّ ذلك ليس بِمُحَالٍ فَقَدْ وَقَعَ في قَضِيَّةِ خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فقال الْأَنْصَارُ مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ ثُمَّ أَجْمَعُوا عليها فَكَانَ إجْمَاعًا صَحِيحًا وَيُجَابُ بِأَنَّ ذلك لم يَكُنْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْخِلَافِ بَلْ لم يَتِمَّ النَّظَرُ ثُمَّ لَمَّا تَمَّ وَتَبَيَّنَ أَجْمَعُوا وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هِيَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْخِلَافِ وَعَلَى هذا فَالظَّاهِرُ بَحْثًا ما قَالَهُ الْغَزَالِيُّ إذَا عُرِفَ هذا فَلَوْ اخْتَلَفُوا ثُمَّ مَاتَتْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أو ارْتَدَّتْ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَبَقِيَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى على قَوْلِهَا فَهَلْ يُعْتَبَرُ قَوْلُ الْبَاقِينَ إجْمَاعًا وَحُجَّةً
____________________
(3/572)
فَقَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَاخْتَارَ الرَّازِيَّ وَالْهِنْدِيُّ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مُجْمَعًا عليه لَا بِالْمَوْتِ وَالْكُفْرِ بَلْ عِنْدَهُمَا لِكَوْنِهِ قَوْلَ كل الْأُمَّةِ وَذَكَرَ ابن الْحَاجِبِ في الْكَلَامِ على اتِّفَاقِ الْعَصْرِ الثَّانِي على أَحَدِ قَوْلَيْ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ وَحَكَى عن الْآخَرِينَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إجْمَاعًا وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ نَحْوَهُ قُلْت وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ قال لِأَنَّ الْمَيِّتَ في حُكْمِ الْبَاقِي الْمَوْجُودِ وَالْبَاقُونَ من مُخَالِفِيهِ هُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ لَا كُلُّهَا وقال في الْمُسْتَصْفَى إنَّهُ الرَّاجِحُ وَجَزَمَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ في كِتَابِ عِيَارِ الْجَدَلِ وَكَذَا الْخُوَارِزْمِيُّ في الْكَافِي قال لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ لَا يَخْرُجُ عن كَوْنِهِ من الْأُمَّةِ وَنَقَلَ أبو الْحُسَيْنِ السُّهَيْلِيُّ في أَدَبِ الْجَدَلِ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ قال وقال بَعْضُهُمْ وهو أَقْوَى الطُّرُقِ إنَّ هذه الْمَسْأَلَةَ مَبْنِيَّةٌ على أَنَّ الصَّحَابَةَ إذَا اخْتَلَفُوا على قَوْلَيْنِ ثُمَّ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ على أَحَدِهِمَا فَقِيلَ يَصِيرُ إجْمَاعًا وَفِيهِ قَوْلَانِ فَإِنْ قُلْنَا يَصِيرُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْعِ ثَمَّ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لِأَنَّ خِلَافَ من مَاتَ لَا يَنْقَطِعُ وفي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ حَكَاهُ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ إنْ لم يُسَوِّغُوا فيه الِاخْتِلَافَ صَارَ حُجَّةً لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الْمُتَمَسِّكَةَ بِالْحَقِّ لَا يَخْلُو منها زَمَانٌ وقد شَهِدَتْ بِبُطْلَانِ قَوْلِ الْمُنْقَرِضَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهَا حَقًّا وَإِنْ سَوَّغُوا فيه الِاجْتِهَادَ لم يَصِرْ إجْمَاعًا لِإِجْمَاعِ الطَّائِفَتَيْنِ على تَسْوِيغِ الْخِلَافِ قال وَهَذَا منه بِنَاءً على أَنَّ الْإِجْمَاعَ بَعْدَ الْخِلَافِ لَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ إذَا كان طَرِيقُهُ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ الثَّانِيَةُ أَنْ يَمُوتَ بَعْضُهُمْ وَيَرْجِعَ من بَقِيَ إلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ قال ابن كَجٍّ فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إجْمَاعٌ وَبِهِ قال أَهْلُ الْعِرَاقِ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْعَصْرِ وَالثَّانِي الْمَنْعُ لِأَنَّ الصِّدِّيقَ رضي اللَّهُ عنه جَلَدَ في حَدِّ الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ ثُمَّ أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عليهم على ثَمَانِينَ في زَمَنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه فلم يَجْعَلُوا الْمَسْأَلَةَ إجْمَاعًا لِأَنَّ الْخِلَافَ كان قد تَقَدَّمَ وقد مَاتَ من قال بِذَلِكَ وَإِنْ كان فِيهِمْ من رَجَعَ إلَى قَوْلِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه الثَّالِثَةُ أَنْ يَنْقَرِضُوا على خِلَافِهِمْ فَقَدْ حَصَلَ الْإِجْمَاعُ منهم على أَنَّ الْحَقَّ لم يَخْرُجْ عن الْقَوْلَيْنِ وَعَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ في طَلَبِ الْحَقِّ بين الْقَوْلَيْنِ بَلْ جَوَازُ تَقْلِيدِ كل وَاحِدٍ من الْفَرِيقَيْنِ ثُمَّ قال بَعْضُ أَصْحَابِنَا هو إجْمَاعٌ مُبِينٌ وقال بَعْضُهُمْ
____________________
(3/573)
بِشَرْطِ أَنْ لَا يَظْهَرَ على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ دَلِيلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ فَهَلْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ الْإِجْمَاعُ على أَحَدِ ذَيْنِك الْقَوْلَيْنِ فيه قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كما قَالَهُ أبو الْحُسَيْنِ السُّهَيْلِيُّ في أَدَبِ الْجَدَلِ وَأَصَحُّهُمَا امْتِنَاعُهُ وَكَأَنَّهُ حَاضِرٌ وَلَيْسَ مَوْتُهُ مَسْقَطًا لِقَوْلِهِ فَيَبْقَى الِاجْتِهَادُ وَلَا يَخْرُجُ الْخِلَافُ وهو أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَنَصَرَهُ الصَّيْرَفِيُّ في الدَّلَائِلِ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وابن الصَّبَّاغِ عنه عن ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ وَأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن الصَّيْرَفِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَذَكَرَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا وَقَوْلُ الشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ عن جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ قال وَبِهِ نَقُولُ وقال سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَكَذَا قال ابن السَّمْعَانِيِّ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَيْهِ مَيْلُ الشَّافِعِيِّ قال وَمِنْ عِبَارَاتِهِ الرَّشِيقَةِ الْمَذَاهِبُ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ أَرْبَابِهَا أَيْ فَكَانَ الْخِلَافُ بَاقِيًا وَإِنْ ذَهَبَ أَهْلُهُ وقال إلْكِيَا وابن بَرْهَانٍ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ حُكْمَ الْخِلَافِ لَا يَرْتَفِعُ قُلْت وهو يُبَايِنُ ما سَبَقَ عن الشَّافِعِيِّ من امْتِنَاعِهِ في الْعَصْرِ الْوَاحِدِ فَهَاهُنَا وقال الشَّيْخُ أبو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ في شَرْحِ التَّلْخِيصِ إنَّهُ أَصَحُّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وهو الذي نَصَرَهُ ابن الْقَطَّانِ وَنَقَلَ أَنَّهُمْ قالوا إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال حَدُّ الْخَمْرِ أَرْبَعُونَ لِأَنَّهُ مَذْهَبُ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه وقد أَجْمَعُوا بَعْدَ هذا على أَنَّ حَدَّهُ ثَمَانُونَ لِأَنَّهُمْ قالوا نَرَى أَنَّهُ إذَا سَكِرَ هَذَى وإذا هَذَى افْتَرَى وقد أَجْمَعُوا على هذا ولم نَعُدَّهُ إجْمَاعًا لِسِبْقِ خِلَافِ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه قُلْت وَلَا يُشْكِلُ على ذلك أَنَّهُ نَقَضَ في الْجَدِيدِ قَضَاءَ من حَكَمَ بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لِأَجْلِ اتِّفَاقِ التَّابِعِينَ بَعْدَ خِلَافِ الصَّحَابَةِ فَعُدَّ إجْمَاعًا فإنه إنَّمَا اعْتَبَرَ في ذلك إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَجْمَعُوا على الْمَنْعِ وكان عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه فِيهِمْ وَانْقِرَاضُ الْعَصْرِ ليس بِشَرْطٍ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَالثَّانِي أَنَّهُ جَائِزٌ وَبِهِ قال أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ منهم محمد بن الْحَسَنِ وأبو يُوسُفَ وَالْكَرْخِيُّ قال محمد بن الْحَسَنِ في قَاضٍ حَكَمَ بِبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ بَعْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا إنِّي أُبْطِلُ قَضَاءَهُ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ كانت اخْتَلَفَتْ فيها ثُمَّ أَجْمَعَ بَعْدَ ذلك
____________________
(3/574)
قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَفُقَهَاؤُهُمْ على أنها لَا تُبَاعُ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وهو قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْحَارِثِ بن أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيِّ وَأَبِي عَلِيٍّ بن خَيْرَانَ وَكَذَا حَكَاهُ عنهما الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في كِتَابِهِ وقال إنَّهُ الْأَصْوَبُ وَاخْتَارَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وابن الصَّبَّاغِ وَالرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ وَنَقَلَهُ إلْكِيَا عن الْجُبَّائِيُّ وَابْنِهِ وَأَبِي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وفي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ حَكَاهُ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ إنْ كان خِلَافًا يُؤَثِّمُ فيه بَعْضُهُمْ بَعْضًا كان إجْمَاعًا وَإِلَّا فَلَا التَّفْرِيعُ إنْ قُلْنَا بِالِامْتِنَاعِ فقال الصَّيْرَفِيُّ يَكُونُ مَنْزِلَةُ الْمُجْمِعِينَ من التَّابِعِينَ مَنْزِلَةَ من وَافَقَ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ وَلِلنَّاسِ أَنْ يَنْظُرُوا أَيَّ الْفَرِيقَيْنِ أَصْوَبَ وَلَا يَسْقُطُ النَّظَرُ أَبَدًا مع وُجُودِ الْمُخَالِفِ وَإِنْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ فقال أَكْثَرُهُمْ هو حُجَّةٌ يَرْتَفِعُ بِهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ وَتَصِيرُ الْمَسْأَلَةُ إجْمَاعِيَّةً وَلَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يُخَالِفُوهُمْ وَقِيلَ لَا يَكُونُ حُجَّةً وَنَقَلَ ابن الْقَطَّانِ عن قَوْمٍ أَنَّهُ ليس بِإِجْمَاعٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِهَؤُلَاءِ مَزِيَّةٌ على أُولَئِكَ ثُمَّ قَرَّرَهُ بِأَنَّ هذا الْقَائِلَ هل يَرَى أَنَّ هذا الْقَوْلَ أَصَحُّ لِانْفِرَادِهِ في الْعَصْرِ وإذا كان مُنْفَرِدًا في الْعَصْرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ له قال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وَلَيْسَ هذا بِشَيْءٍ إلَّا على طَرِيقَةٍ له في الْقَدِيمِ وَهِيَ أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ على قَوْلَيْنِ أُخِذَ بِقَوْلِ الْأَكْثَرِ فَأَمَّا الْمَشْهُورُ من مَذْهَبِهِ فإنه لَا فَرْقَ بين الْعَدَدِ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ وَنَحْوُهُ ما حَكَاهُ الصَّيْرَفِيُّ عن قَوْمٍ أَنَّ إجْمَاعَ التَّابِعِينَ دَلَّ على الصَّوَابِ من أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ وَلَكِنَّهُ إجْمَاعٌ مَظْنُونٌ فإن مَرَاتِبَ الْإِجْمَاعِ مُتَفَاوِتَةٌ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وقد صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ مُرَادٌ في مَرَاتِبِ الْإِجْمَاعِ حَكَاهُ أبو زَيْدٍ في التَّقْوِيمِ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ ما إذَا لم يُصَرِّحْ الْمَانِعُونَ بِتَحْرِيمِ الْقَوْلِ الْآخَرِ فَإِنْ صَرَّحُوا بِتَحْرِيمِهِ فَقَدْ تَرَدَّدَ أَعْنِي الْغَزَالِيَّ هل يَمْنَعُ ذلك أو لَا وَلَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُمْ فيه هذا في الْجَوَازِ وَأَمَّا الْوُقُوعُ فَظَاهِرُ ما سَبَقَ عن الشَّافِعِيِّ في حَدِّ الْخَمْرِ وُقُوعُهُ وقال ابن الْحَاجِبِ الْحَقُّ في مِثْلِ هذا الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ بَعِيدٌ وُقُوعُهُ لِأَنَّهُ غَالِبًا لَا يَكُونُ إلَّا عن جَلِيٍّ وَتَبِعَهُ غَفْلَةُ الْمُخَاطَبِ عنه لَكِنْ وَقَعَ قَلِيلًا وَالْوُقُوعُ قَلِيلًا لَا يُنَافِي الْبُعْدَ كما
____________________
(3/575)
لَا خِلَافَ في بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ فإنه وَقَعَ بين الصَّحَابَةِ ثُمَّ زَالَ وَنَقَلَ عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ عن الصَّيْرَفِيِّ أَنَّهُ أَحَالَ ذلك وقال لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَ لِلتَّابِعَيْنِ الْإِجْمَاعُ على أَحَدِ قَوْلَيْ الصَّحَابَةِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَعَارُضِ الْإِجْمَاعَيْنِ وَكَوْنُ أَحَدِهِمَا خَطَأً لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ على قَوْلَيْنِ إجْمَاعٌ على تَسْوِيغِ الذَّهَابِ وَرَأْيِ كُلٍّ مِنْهُمَا قُلْت وَكَذَا رَأَيْته في كِتَابِهِ فقال بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ أَنَّهُ ليس بِإِجْمَاعٍ على أَنِّي لَا أَعْلَمُ خِلَافًا وَقَعَ في الصَّحَابَةِ مُنْتَشِرًا فِيهِمْ ثُمَّ وَقَعَ من التَّابِعِينَ الْإِجْمَاعُ على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَاقِلُهُ من جِهَةِ الْآحَادِ فَهَذَا لَا يُتْرَكُ له ما قَامَتْ عليه الدَّلَالَةُ من قَوْلِ من سَلَفَ ا هـ وقال إلْكِيَا ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ هذا النَّوْعَ لَا يُتَصَوَّرُ وَإِلَيْهِ مَيْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَاَلَّذِينَ أَحَالُوا تَصَوُّرَهُ اخْتَلَفُوا فيه على ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ فَقِيلَ لِأَنَّ إجْمَاعَ التَّابِعِينَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ وقد تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّحِيحَ خِلَافُهُ وَإِنْ لم يَكُنْ إجْمَاعُ التَّابِعِينَ حُجَّةً لم يَكُنْ لِهَذَا الْخِلَافِ مَعْنًى وَقِيلَ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَصْدُرُ إلَّا عن اجْتِهَادٍ وَالِاخْتِلَافُ على قَوْلَيْنِ يَقْتَضِي صُدُورَ الْأَقْوَالِ عن اجْتِهَادٍ وقد تَقَدَّمَ ما فيه وقال الْإِمَامُ وَاسْتِحَالَةُ تَصَوُّرِهِ من حَيْثُ إنَّهُ إذَا تَمَادَى الْخِلَافُ في زَمَانٍ مُتَطَاوِلٍ بِحَيْثُ يَقْتَضِي الْعُرْفُ بِأَنَّهُ لو كان يَنْقَدِحُ وَجْهٌ في سُقُوطِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ مع طُولِ الْمُبَاحَثَةِ لَظَهَرَ ذلك لِلْبَاحِثَيْنِ فإذا انْتَهَى الْأَمْرُ إلَى هذا انْتَهَى وَرَسَخَ الْخِلَافُ وَتَنَاهَى الْبَاحِثُونَ ثُمَّ لم يَتَجَدَّدْ بُلُوغُ خَبَرٍ أو أَثَرٍ يَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ فَلَا يَقَعُ في الْعُرْفِ دُرُوسُ مَذْهَبٍ طَالَ الذَّبُّ عنه فَإِنْ فَرَضَ فَارِضٌ ذلك فَالْإِجْمَاعُ مَحْمُولٌ على بُلُوغِ خَبَرٍ يَجِبُ بمثله سِوَى ما كَانُوا خَائِضِينَ فيه من مَجَالِ الظُّنُونِ قال إلْكِيَا وما ذَكَرَهُ الْإِمَامُ مُخَيَّلٌ لَكِنَّ جَوَابَهُ سَهْلٌ فَإِنَّا نَرَى أَهْلَ كل عَصْرٍ يُظْهِرُونَ مَذْهَبًا غير الذي عَهِدَهُ من تَقَدَّمَهُمْ في الْعُصُورِ الْخَالِيَةِ مع أَنَّ النَّظْمَ يَحْتَمِلُهُ وَغَيْرَهُ وإذا ثَبَتَ أَنَّهُ مُتَصَوَّرٌ انْبَنَى عليه أَنَّ الْإِجْمَاعَ هل يُزِيلُ الْحُكْمَ السَّابِقَ أَمْ لَا قال إلْكِيَا وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يُلَاحَظُ في مَجَارِيهَا أَصْلُ تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ قُلْت وَطَرِيقَةٌ رَابِعَةٌ لهم في الْإِحَالَةِ وَهِيَ عليهم فَقَوْلُهُ هُنَا إذَا وُجِدَ إجْمَاعٌ
____________________
(3/576)
بَعْدَ اخْتِلَافٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ خِلَافٌ وَإِنْ لم يَبْلُغْنَا وَإِلَّا لَأَدَّى إلَى تَعَارُضِ الْإِجْمَاعَيْنِ ذَكَرَهُ عبد الْوَهَّابِ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ في حُدُوثِ الْخِلَافِ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِجْمَاعِ قال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ فَإِنْ كان في عَصْرٍ وَاحِدٍ مِثْلَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ثُمَّ يَحْدُثُ من أَحَدِهِمْ خِلَافٌ فَهَذَا الْخِلَافُ الْحَادِثُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ يَعْنِي إنْ شَرَطْنَا انْعِقَادَ الْعَصْرِ وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ كان في عَصْرَيْنِ كَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَخِلَافِ التَّابِعِينَ لهم فَهُوَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُخَالِفُوهُمْ مع اتِّفَاقِ الْأُصُولِ في الْمُجْمَعِ عليها فَهَذَا الْخِلَافُ الْحَادِثُ مَطْرُوحٌ وَالْإِجْمَاعُ الْأَوَّلُ مُنْعَقِدٌ ثَانِيهِمَا أَنْ يَحْدُثَ في الْمُجْمَعِ عليه صِفَةٌ زَائِدَةٌ أو نَاقِصَةٌ فَيَحْدُثُ الْخِلَافُ فيها لِحُدُوثِ تِلْكَ الصِّفَةِ فَيَكُونُ الْإِجْمَاعُ في الصِّفَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ مُنْعَقِدًا وَحُدُوثُ الِاخْتِلَافِ في الصِّفَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ سَائِغٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وقال دَاوُد وَبَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ يُسْتَصْحَبُ حُكْمُ الْإِجْمَاعِ وَاخْتِلَافُ الصِّفَةِ الْحَادِثَةِ لَا يُنْتِجُ الْحُكْمُ فيها إلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ وَجَعَلُوا اسْتِصْحَابَ الْحَالِ حُجَّةً في الْأَحْكَامِ مِثَالُهُ أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ على إبْطَالِ التَّيَمُّمِ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ قبل الصَّلَاةِ فإذا رَأَى الْمَاءَ في الصَّلَاةِ أَبْطَلُوا تَيَمُّمَهُ اسْتِصْحَابًا لِبُطْلَانِهِ قبل الصَّلَاةِ من غَيْرِ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَهُمَا بِقِيَاسٍ وَهَذَا فَاسِدٌ وَلِكُلِّ حَادِثٍ حُكْمٌ يَتَجَدَّدُ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً في الْحَالِ التي وَرَدَ فيها لَا في غَيْرِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ مُوجَبًا لِاسْتِصْحَابِ حُكْمِهِ فإن الْإِجْمَاعَ أَصْلُ تَجْوِيزِ الْقِيَاسِ عليه فَيَكُونُ الْقِيَاسُ هو الذي أَوْجَبَ اسْتِصْحَابَ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ لَا الْإِجْمَاعُ ا هـ وَذَكَرَ الْقَفَّالُ في كِتَابِهِ قَرِيبًا من هذا التَّفْصِيلِ وقال في الْقَوَاطِعِ إذَا حَدَثَ الْخِلَافُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِجْمَاعِ في عَصْرٍ وَاحِدٍ فَهُوَ على ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمُخَالِفُ لم يُوَافِقْ قَبْلُ على خِلَافِهِ فَيَصِحُّ خِلَافُهُ وَلَا يَنْعَقِدُ مع خِلَافِهِ الْإِجْمَاعُ كما خَالَفَ ابن عَبَّاسٍ في الْعَوْلِ مع إجْمَاعِ غَيْرِهِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ وَافَقَهُمْ ثُمَّ خَالَفَهُمْ كَخِلَافِ عَلِيٍّ في بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِ مع عُمَرَ وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ في تَحْرِيمِ بَيْعِهِنَّ فَمَنْ جَعَلَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ شَرْطًا في انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ أَبْطَلَ الْإِجْمَاعَ بِخِلَافِهِ لِحُدُوثِهِ قبل اسْتِقْرَارِهِ وَمَنْ لم يَجْعَلْهُ شَرْطًا أَبْطَلَ خِلَافَهُ بَعْدَ إجْمَاعِهِمْ ثُمَّ قال الِاخْتِلَافُ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ إنْ كان في عَصْرٍ انْبَنَى على أَنَّ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ هل هو شَرْطٌ في انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ أو لَا فَإِنْ قُلْنَا شَرْطٌ جَازَ الِاخْتِلَافُ
____________________
(3/577)
لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لم يَنْعَقِدْ وَإِنْ قُلْنَا ليس بِشَرْطٍ فَلَا يَجُوزُ فَأَمَّا في الْعَصْرَيْنِ وَذَلِكَ بِأَنْ يُجْمِعَ الصَّحَابَةُ على شَيْءٍ ثُمَّ يَخْتَلِفُ التَّابِعُونَ فَلَا يَجُوزُ ذلك وَيَكُونُ خِلَافُهُ مُعَانَدَةً وَمُكَابَرَةً الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إذَا أَجْمَعُوا على شَيْءٍ وَخَالَفَهُمْ من كَفَّرْنَاهُمْ بِالتَّأْوِيلِ فلم يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِمْ لِذَلِكَ ثُمَّ إنَّهُمْ رَجَعُوا إلَى الْحَقِّ وَأَقَامُوا على الْخِلَافِ الذي كان بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ أَيَّامَ كُفْرِهِمْ قال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ يَنْبَنِي على مَسْأَلَةِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ فَإِنْ اعْتَبَرْنَاهُ لم يَكُنْ إجْمَاعًا لِأَنَّ عَصْرَ الْمُؤْمِنِينَ لم يَنْقَرِضْ على الْقَوْلِ حتى يَرْجِعَ الْكَافِرُونَ إلَى الْحَقِّ كما لِلْمُؤْمِنِينَ إنْ رَجَعُوا وَإِنْ قُلْنَا لَا يُعْتَبَرُ وهو الْأَصَحُّ قال الْقَاضِي فَالْوَاجِبُ كَوْنُهُ إجْمَاعًا لِأَنَّهُ قَوْلُ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ قبل إيمَانِ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَوِّلِينَ وَعَلَى هذا فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ من أَسْلَمَ من سَائِرِ الْكُفَّارِ وَبَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ إذَا خَالَفَ من قَبْلَهُ لِأَنَّهُ إجْمَاعٌ على إجْمَاعٍ سَبَقَ خِلَافُهُ وَكَذَلِكَ قال الصَّيْرَفِيُّ في الدَّلَائِلِ إذَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ ثُمَّ أَسْلَمَ كَافِرٌ وَبَلَغَ صَبِيٌّ لم يَكُنْ له مُنَازَعَةٌ مَعَهُمْ وَإِنَّمَا عليه الِاتِّبَاعُ وهو وَاضِحٌ إنْ لم يَشْتَرِطْ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ وَالْحَقُّ أَنْ تُبْنَى الْمَسْأَلَةُ على انْقِرَاضِ الْعَصْرِ فَإِنْ قُلْنَا بِاشْتِرَاطِهِ اُعْتُدَّ بِقَوْلِهِ وَإِلَّا فَلَا المسألة الثالثة قد مر أن الإجماع إذا انعقد على شيء لم يجز مخالفته وأما إذا استدلوا بدليل على حكم أو تأويل لفظ ولم يمنعوا من غيره جاز لمن بعدهم إحداث دليل آخر من غير إلغاء الأول ولا إبطاله ولا يكون ذلك خرقا لإجماعهم لأنه قد يكون على الشيء أدلة فيجوز أن يستدلوا بدليل ثم آخر يدل على الحكم أيضا قاله الصيرفي وسليم وابن السمعاني وغيرهم وحكاه ابن القطان عن أكثر أصحابنا وإنما الإجماع والاختلاف في الفتوى فأما في الدلالة فلا يقال له إجماع لأن الأدلة لا يضر اختلافها قال وذهب بعض أصحابنا إلى أنه ليس لنا أن نخرج عن دلالتهم ويكون إجماعا على الدليل لا على الحكم والأصح هو الأول لأن المطلوب من الأدلة
____________________
(3/578)
أحكامها لا أعيانها ومنعه يسد على المجتهد باب استخراج الأدلة ويستلزم منع كل قول لم يتعرض له الأولون نعم إن أجمعوا على إنكار الدليل الثاني لم يجز إحداثه لمخالفته الإجماع وحكى صاحب الكبريت الأحمر مذهبا ثالثا بالوقف وذهب ابن حزم وغيره إلى التفصيل بين النص فيجوز الاستدلال به وبين غيره فلا يجوز وذهب ابن برهان إلى خامس وهو التفصيل بين الدليل الظاهر فلا يجوز إحداثه وبين الخفي فيجوز لجواز اشتباهه على الأولين ومثل الظاهر بقول ابن أبي طاهر الزيادي من أصحابنا في مسألة المطاوعة سبق فطرها جماعها فلا يجب عليها الكفارة قياسا على ما إذا شرب أو أكل قال لأن أول الحشفة دخل إلى جوفها قبل دخول تمام الحشفة والجماع لا يتحقق إلا إذا تغيب الحشفة قلنا ومثل هذا لا يجوز أن يكون مستندا قبل وصول تمام الحشفة لأن الناس اختلفوا في هذه المسألة فإحداث مثل هذا الدليل لا يجوز لأن مثله لا يجوز أن يشتبه على الأولين هذا كله إذا لم يتعرضوا لذلك الدليل فإن نصوا على صحته فلا شك فيه أو على فساده لم تجز مخالفتهم وإنما الخلاف حيث لم ينصوا على ذلك والصحيح الجواز قال أبو الحسين البصري إلا أن يكون في صحتها إبطال حكم ما أجمعوا وقال سليم إلا أن يقولوا ليس فيها دليل إلا الذي ذكرناه فيمتنع قلت وهذا منهم بناء على صحة ذلك منهم وقد سبق في الفصل السادس فيه تفصيل عن القاضي عبد الوهاب أما إذا اعتلوا بعلة وقلنا يجوز تعليل الحكم بعلتين فهل يجري مجرى الدليل في الجواز والمنع قال الأستاذ أبو منصور وسليم في التقريب نعم هي كالدليل في جواز إحداثها إلا إذا قالوا لا علة لهذه أو لكون العلة الثانية تخالف العلة الأولى في بعض الفروع فتكون الثانية حينئذ فاسدة وقال القاضي عبد الوهاب ينظر فإن كان بحكم عقلي علمنا أن ما عداه ليس بعلة لذلك الحكم لأن الحكم العقلي لا يجب بعلتين فمن جوزه جعلها كالدليل لا يمنع التعدد إلا أن ذلك مشروط بأن لا تنافي العلة الثانية علتهم وأن لا يؤدي إلى خلافهم فرع من فروع علتهم لأنهما إذا تباينا امتنع لذلك لا لتعليل بهما ومن منع التعليل بعلتين فيجب على أصله منع
____________________
(3/579)
التعليل بعلة غير علتهم لأن علتهم مقطوع بصحتها وفي ذلك دليل على فساد غيرها قال وأما تأويلهم الآتي وتخريجهم الأخبار فهو كالمذهب لا كالدليل لأن الآية إذا احتملت معاني واختلفوا في تأويلها أو أجمعوا على تأويل واحد صارت كالحادثة فلا يعدل عما أفتوا به وقال الشريف المرتضى أجمع الأصوليون على التحاق ذلك بالمذاهب لا بالأدلة وعندي أنه بالأدلة أشبه حتى يجوز قطعا ثم مثله بمثال يصح على طريق المعتزلة الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ إذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَصْرِ في مَسْأَلَةٍ على قَوْلَيْنِ فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ فيه مَذَاهِبُ الْأَوَّلُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا وهو كَاتِّفَاقِهِمْ على أَنْ لَا قَوْلَ سِوَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وهو قَوْلُ الْجُمْهُورِ وقال إلْكِيَا إنَّهُ الصَّحِيحُ وَبِهِ الْفَتْوَى وقال ابن بَرْهَانٍ إنَّهُ مَذْهَبُنَا وَجَزَمَ بِهِ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في كِتَابِهِ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَكَذَا الرُّويَانِيُّ وَالصَّيْرَفِيُّ ولم يَحْكِيَا مُقَابِلَهُ إلَّا عن بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ قال الصَّيْرَفِيُّ وقد رَأَيْته مَوْجُودًا في فُتْيَا بَعْضِ الْفُقَهَاءِ من الْمُتَأَخِّرِينَ فَلَا أَدْرِي أَكَانَ قال هذا مُنَاقَضَةً أو غَلَطًا أو كان يَذْهَبُ إلَى هذا الْمَذْهَبِ وَكَذَلِكَ ابن الْقَطَّانِ لم يَحْكِ مُقَابِلَهُ إلَّا عن دَاوُد فقال إذَا اخْتَلَفَ الناس في حَدِّ السُّكْرِ فَقِيلَ ثَمَانُونَ وَقِيلَ أَرْبَعُونَ فَهُوَ إجْمَاعٌ على نَفْيِ ما عَدَاهُمَا وقال دَاوُد لَا يَكُونُ هذا إجْمَاعًا لِأَنَّهَا قد وَقَعَتْ مُخَالَفَةٌ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ اللَّهِ فيها الِاخْتِلَافَ قال وَهَذَا ليس بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الذي اخْتَلَفُوا فيه غَيْرُ الذي اتَّفَقُوا عليه وقال صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ هو مَذْهَبُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَنَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في رِسَالَتِهِ وَكَذَا ذَكَرَهُ محمد بن الْحَسَنِ في نَوَادِرِ هِشَامٍ لِأَنَّهُ عَدَّ الْأُصُولَ وَعَدَّ في جُمْلَتِهَا اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ وَالثَّانِي الْجَوَازُ مُطْلَقًا قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ رَأَيْت بَعْضَ أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ يَخْتَارُهُ وَيَنْصُرُهُ وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ وابن السَّمْعَانِيِّ عن بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ وَنَسَبَهُ جَمَاعَةٌ منهم الْقَاضِي عِيَاضٌ إلَى دَاوُد قال ثُمَّ نَاقَضَ فَشَرَطَ الْوَلِيَّ في صِحَّةِ
____________________
(3/580)
عَقْدِ الْبِكْرِ دُونَ الثَّيِّبِ مع أَنَّ الْخِلَافَ هل يَلْزَمُ فِيهِمَا أو لَا يَلْزَمُ فِيهِمَا وَأَنْكَرَ ابن حَزْمٍ على من نَسَبَهُ لِدَاوُدَ وَإِنَّمَا قال كَلَامًا مَعْنَاهُ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ إذَا رُوِيَا ولم يَصِحَّ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِمَا ولم يَرِدْ عن جَمَاعَةٍ منهم أو وَاحِدٍ إنْكَارٌ وَلَا تَصْوِيبٌ أَنَّ لِمَنْ جاء بَعْدَهُمْ أَنْ يَأْتِيَ بِقَوْلٍ ثَالِثٍ يَدُلُّ عليه النَّصُّ أو الْإِجْمَاعُ فَهَذَا ما قَالَهُ أبو سُلَيْمَانَ فَكَيْفَ يَسُوغُ أَنْ يُنْسَبَ هذا إلَيْهِ وهو يقول إنَّ الْأُمَّةَ إذَا تَفَرَّقَتْ على قَوْلَيْنِ وَكَانَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ منهم قد قَرَنَتْ بِقَوْلِهَا في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مَسْأَلَةً أُخْرَى فإنه يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ لِتِلْكَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِحُكْمٍ وَاحِدٍ فَإِنْ صَحَّتْ إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ فَالْأُخْرَى صَحِيحَةٌ وَلِذَلِكَ حُكِمَ بِالتَّحْلِيفِ بِمَكَّةَ عِنْدَ الْمُقَامِ لِإِجْمَاعِ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ على التَّحْلِيفِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فَيَصِحُّ وُجُوبُهُ عِنْدَ الزِّحَامِ بِمَكَّةَ قال ابن حَزْمٍ وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كنا لَا نَقُولُ بِهِ فَقَدْ قَالَهُ أبو سُلَيْمَانَ وَأَرَدْنَا تَحْرِيرَ النَّقْلِ عنه وَإِنَّمَا قال إنَّ الْخِلَافَ إذَا صَحَّ فَالْإِجْمَاعُ على بَعْضِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلَفِ فيها لَا يَصِحُّ أَبَدًا وَصَدَقَ في ذلك وَهَذَا كَالْخِلَافِ في حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ قِيلَ لَا حَدَّ عليه وَقِيلَ أَرْبَعُونَ وَقِيلَ ثَمَانُونَ فَهَذَا لَا يَنْعَقِدُ عليه إجْمَاعٌ أَبَدًا وَالثَّالِثُ وهو الْحَقُّ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الثَّالِثَ إنْ لَزِمَ منه رَفْعُ ما أَجْمَعُوا عليه لم يَجُزْ إحْدَاثُهُ وَإِلَّا جَازَ وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ يَقْتَضِيهِ حَيْثُ قال في أَوَاخِرِهَا الْقِيَاسُ تَقَدُّمُ الْأَخِ على الْجَدِّ لَكِنْ صَدَّنَا عن الْقَوْلِ بِهِ أَنِّي وَجَدْت الْمُخْتَلِفِينَ مُجْتَمَعِينَ على أَنَّ الْجَدَّ مع الْأَخِ مِثْلُهُ أو أَكْثَرُ حَظًّا منه فلم يَكُنْ لي عِنْدِي خِلَافُهُمْ وَلَا الذَّهَابُ إلَى الْقِيَاسِ وَالْقِيَاسُ مُخْرِجٌ من جَمِيعِ أَقَاوِيلِهِمْ ا هـ وَإِنَّمَا مَنَعَهُ لِأَنَّ في إحْدَاثِ قَوْلٍ ثَالِثٍ رَفْعًا لِلْإِجْمَاعِ وَأَمَّا حَيْثُ لَا رَفْعَ فَتَصَرُّفُهُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْهَرَوِيِّ في الْإِشْرَافِ أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فإنه قال وَمَنْ لَفَّقَ من الْقَوْلَيْنِ قَوْلًا على هذا الْوَجْهِ لَا يُعَدُّ خَارِقًا لِلْإِجْمَاعِ كما ذَكَرْنَا في وَطْءِ الثَّيِّبِ هل يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ تَحَزَّبَتْ الصَّحَابَةُ حِزْبَيْنِ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ يَرُدُّهَا وَيُرَدُّ مَعَهَا عُقْرَهَا وَذَهَبَ حِزْبٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَرُدُّ فَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ في إسْقَاطِ الْعُقْرِ بِقَوْلِ حِزْبٍ وفي تَجْوِيزِ الرَّدِّ بِقَوْلِ حِزْبٍ ولم يُعَدَّ ذلك خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ ا هـ وَلَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ على أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حُدُوثُ إجْمَاعٍ بَعْدَ إجْمَاعٍ سَابِقٍ على خِلَافِهِ فَإِنْ
____________________
(3/581)
قُلْنَا بِالْجَوَازِ كما ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَصْرِيُّ فَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ لَكِنَّهُ لَا يَقَعُ وقد اعْتَرَضَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ على اخْتِيَارِ الثَّالِثِ وقال لَا مَعْنَى له لِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ في أَنَّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ إنْ اسْتَلْزَمَ إبْطَالَ ما أَجْمَعُوا عليه كان مَرْدُودًا وَالْخَصْمُ يَسْتَلْزِمُ هذا لَكِنْ يَدَّعِي أَنَّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ يَسْتَلْزِمُ إبْطَالَ ما أَجْمَعُوا عليه في جَمِيعِ الصُّوَرِ إمَّا في صُورَةٍ وَاحِدَةٍ كما في مَسْأَلَةِ الْعِدَّةِ وَحِرْمَانِ الْجَدِّ وَإِمَّا في مَجْمُوعِ الْمَسْأَلَتَيْنِ في مَسْأَلَةِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ مع الْأَبَوَيْنِ أَحَدُ الشَّمُولَيْنِ ثَابِتٌ وهو ثُلُثُ الْكُلِّ في كِلَيْهِمَا أو ثُلُثُ الْبَاقِي في كِلَيْهِمَا فَثُلُثٌ في أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ قال فَالشَّأْنُ في تَمْيِيزِ صُورَةٍ يَلْزَمُ منها بُطْلَانُ الْإِجْمَاعِ عن صُورَةٍ لَا يَلْزَمُ ذلك فَلَا بُدَّ من ضَابِطٍ وهو أَنَّ الْقَوْلَيْنِ إنْ اشْتَرَكَا في أَمْرٍ هو في الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ وهو من الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الثَّالِثُ مُسْتَلْزِمًا لِإِبْطَالِ الْإِجْمَاعِ وَإِلَّا فَلَا وَعِنْدَ ذلك فَالْمُخْتَلَفُ فيه إمَّا حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِمَحَلٍّ وَاحِدٍ كَمَسْأَلَةِ الْجَدِّ مع الْإِخْوَةِ وَالْعِدَّةِ أو مُتَعَدِّدٍ فَإِنْ كان الثَّابِتُ عن الْبَعْضِ الْوُجُودَ في صُورَةٍ مع الْعَدَمِ في الْأُخْرَى وَعِنْدَ الْبَعْضِ عَكْسَ ذلك كَمَسْأَلَةِ الْخُرُوجِ وَالْمَسِّ فإن الْقَوْلَ بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نَاقِضٌ أو ليس بِنَاقِضٍ لَا يَكُونُ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ ذِكْرُ الْقَوْلَيْنِ مِثَالٌ فَالثَّلَاثَةُ وَأَكْثَرُ كَذَلِكَ كما قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ وَمَثَّلَهُ بِأَقْوَالِهِمْ في الْجَدِّ قال فَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ قَوْلٍ سِوَى ما تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ كَاتِّفَاقِهِمْ على أَنَّهُ لَا قَوْلَ سِوَى هذه الْأَقْوَالِ الثَّانِي أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ أَيْضًا فَرَضَ الْمَسْأَلَةَ في اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فَقَدْ تَوَهَّمَ التَّفْصِيلَ بين ما أُجْمِعَ على أَنَّهُ حُجَّةٌ فَيَمْتَنِعُ فيه الْإِحْدَاثُ دُونَ غَيْرِهِ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ الثَّالِثُ أَنَّهُ نَبَّهَ أَيْضًا على تَصَوُّرِهَا بِالِاخْتِلَافِ الْمُسْتَفِيضِ فِيهِمْ قال فَأَمَّا ما حَكَى من فَتْوَى وَاحِدٍ ولم يَسْتَفِضْ قَوْلُهُ فَيَجُوزُ الْخُرُوجُ عنه إلَى ما أَيَّدَهُ دَلِيلٌ وَيَخْرُجُ منه مَذْهَبٌ آخَرُ مُفَصَّلٌ بين الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ وَغَيْرِهِ الرَّابِعُ قال الْعَبْدَرِيّ إنَّمَا يَصِحُّ فَرْضُ هذه الْمَسْأَلَةِ على مَذْهَبِ من يُجَوِّزُ الْإِجْمَاعَ عن اجْتِهَادٍ وَقِيَاسٍ وَعَلَى أَنْ تَكُونَ اجْتِهَادِيَّةً يَتَجَاذَبُهَا أَصْلَانِ فَيُجْمِعُ الصَّحَابَةُ على أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَ بهذا الْأَصْلِ فَيَكُونُ حَلَالًا وَيَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَ بهذا الْأَصْلِ فَيَكُونُ حَرَامًا فإذا لم يَنْقَرِضْ إلَّا على هذا الْوَجْهِ فَإِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ وَرَابِعٍ وَأَكْثَرَ جَائِزٌ لِأَنَّهَا اجْتِهَادِيَّةٌ وَلَا حَصْرَ في الْمُجْتَهَدَاتِ
____________________
(3/582)
وَأَمَّا إذَا كان مَعْنَى قَوْلِهِمْ إذَا أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ على قَوْلَيْنِ أَجْمَعَ هَؤُلَاءِ على قَوْلٍ وَخَطَّئُوا من خَالَفَهُ وَأَجْمَعَ هَؤُلَاءِ على قَوْلٍ آخَرَ وَخَطَّئُوا من خَالَفَهُ فَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَلَكِنَّهُ خِلَافٌ صَحِيحٌ وإذا لم يَكُنْ إجْمَاعًا فَإِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ أو رَابِعٍ وَأَكْثَرَ فَجَائِزٌ أَيْضًا وَبِالْجُمْلَةِ فلم يَأْخُذُوا في هذه الْمَسْأَلَةِ الْإِجْمَاعَ الشَّرْعِيَّ بَلْ اللُّغَوِيَّ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ الْخَامِسُ لم يَتَعَرَّضُوا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَصْرٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يَخْتَلِفَ الصَّحَابَةُ على قَوْلَيْنِ ثُمَّ يُحْدِثُ بَعْضُهُمْ قَوْلًا ثَالِثًا وَالْقِيَاسُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ الْخِلَافُ فَيَجُوزُ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ فَيَنْبَنِي على الْخِلَافِ في انْقِرَاضِ الْعَصْرِ فَإِنْ قُلْنَا شَرْطٌ جَازَ وَإِلَّا فَلَا وَلَوْ أَدْرَكَ بَعْضُ التَّابِعِينَ عَصْرَ الصَّحَابَةِ فَأَحْدَثَ ثَالِثًا فَالْقِيَاسُ بِنَاؤُهُ على الْوَجْهَيْنِ في الِانْقِرَاضِ أو على الْوَجْهَيْنِ في قَوْلِ التَّابِعِيِّ مع الصَّحَابَةِ وَهَلْ يُعْتَدُّ بِهِ وَمِثَالُهُ ما لو وَجَدَ مَاءً لَا يَكْفِيهِ لِلْوُضُوءِ فَهَلْ يَقْتَصِرُ على التَّيَمُّمِ أو يَسْتَعْمِلُهُ وَيَتَيَمَّمُ قَوْلَانِ لِلصَّحَابَةِ فَأَحْدَثَ الْحَسَنُ قَوْلًا ثَالِثًا فقال يَسْتَعْمِلُ ما معه ثُمَّ يَجْمَعُ ما يَتَسَاقَطُ من الْمَاءِ فَيَعْمَلُ بِهِ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ إذَا تَعَدَّدَ مَحَلُّ الْحُكْمِ بِأَنْ لم يَفْصِلْ أَهْلُ الْعَصْرِ بين مَسْأَلَتَيْنِ بَلْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى حِكَايَةِ وَجْهَيْنِ في هذه الْمَسْأَلَةِ وقال الْأَصَحُّ امْتِنَاعُهُ وَحَكَاهُ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ عن أَصْحَابِهِمْ قال في الْمَحْصُولِ وَهَذَا الْإِجْمَاعُ مُتَأَخِّرٌ عن سَائِرِ الْإِجْمَاعَاتِ في الْقُوَّةِ لِعَدَمِ التَّصْرِيحِ ا هـ وَمِنْهُمْ من فَصَّلَ فقال إنْ كان طَرِيقُ الْحُكْمِ وَاحِدًا لم يَجُزْ الْفَصْلُ وَإِلَّا جَازَ قال الْهِنْدِيُّ وهو الْمُخْتَارُ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُمْ إنْ نَصُّوا على عَدَمِ الْفَرْقِ بِأَنْ قالوا لَا فَصْلَ بَيْنَهُمَا في كل الْأَحْكَامِ أو في الْحُكْمِ الْفُلَانِيِّ امْتَنَعَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا على الصَّحِيحِ وَحَكَى الْهِنْدِيُّ فيه الِاتِّفَاقَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَفِيهِ خِلَافٌ حَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَحَكَاهُ في اللُّمَعِ احْتِمَالًا عن الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ وَإِنْ لم يَنُصُّوا كَمَنْ وَرَّثَ الْعَمَّةَ وَرَّثَ الْخَالَةَ وَمَنْ مَنَعَ إحْدَاهُمَا مَنَعَ الْأُخْرَى لِأَنَّ الْمَأْخَذَ وَاحِدٌ وهو الْمَحْرَمِيَّةُ وَإِنْ لم يَكُنْ
____________________
(3/583)
كَذَلِكَ فَقِيلَ لَا يَجُوزُ الْفَرْقُ وَالْحَقُّ جَوَازُهُ لِأَنَّهُ إذَا لم يَتَّحِدْ الْمَأْخَذُ لم يَمْتَنِعْ الْخِلَافُ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ إنْ عَيَّنُوا الْحُكْمَ وَقَالُوا لَا تَفْصِيلَ حُرِّمَ الْفَصْلُ وَإِنْ لم يُعَيِّنُوا وَلَكِنْ أَجْمَعُوا عليه مُجَمَّلًا فَلَا يُعْلَمُ تَفْصِيلُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ غَيْرِ الْإِجْمَاعِ فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ على أَنَّهُمْ أَرَادُوا مُعَيَّنًا تَعَيَّنَ أو أَرَادُوا الْعُمُومَ تَعَيَّنَ الْعُمُومُ وَمَتَى كان مَدْرُك أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ مُجْمَلًا أو كَادَ أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا جَازَ التَّفْصِيلُ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ وَكَلَامُ التَّبْرِيزِيِّ في التَّنْقِيحِ يَدُلُّ على أَنَّهُ إذَا وَقَعَ الِاشْتِرَاكُ في الْمَأْخَذِ فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ وَأَمَّا إذَا لم يَشْتَرِكَا فيه فَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ وهو خِلَافُ كَلَامِ الرَّازِيَّ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ هل إحْدَاثُ الْفَصْلِ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ كَإِحْدَاثِ قَوْلٍ فِيهِمَا فَيَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ أو ليس كَإِحْدَاثِهِ لِأَنَّ الْمُفَصِّلَ قال في كل مَسْأَلَةٍ بِقَوْلٍ بَيْنَهُمَا ولم يَلْزَمْ من هذه الْمَسْأَلَةِ نِسْبَةُ الْأُمَّةِ إلَى جَمِيعِ الْحَقِّ كما يَلْزَمُ من تِلْكَ فَلَا يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ وهو الصَّحِيحُ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ إنْ نَصُّوا على التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا في حُكْمٍ وَاحِدٍ حُرِّمَ على من بَعْدَهُمْ التَّفْرِيقُ قَطْعًا وَإِنْ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا في حُكْمَيْنِ على الْبَدَلِ فَاخْتَلَفُوا على قَوْلَيْنِ وَبِالْجَوَازِ قال محمد بن سِيرِينَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا في زَوْجٍ أو زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ وَكَذَلِكَ الْجِمَاعُ وَالْأَكْلُ نَاسِيًا وقال سُلَيْمٌ إنْ أَجْمَعُوا على التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا في حُكْمٍ كَقَوْلِهِمْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ من الْجَدَّتَيْنِ أُمِّ الْأُمِّ وَأُمِّ الْأَبِ إذَا انْفَرَدَتْ السُّدُسُ لم يَجُزْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فَيَجْعَلُ لِأُمِّ الْأُمِّ الثُّلُثَ لِأَنَّهُ يُخَالِفُهُمْ في التي تَزِيدُ على فَرْضِهَا وَهَكَذَا إذَا أَجْمَعُوا على التَّفْرِقَةِ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ في الْحُكْمِ كَقَوْلِهِمْ لِلْأُمِّ مع الْأَبِ الثُّلُثُ وَلِلْجَدَّةِ معه السُّدُسُ لم يَجُزْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا وَهَذَانِ لَا خِلَافَ فِيهِمَا وقال ابن الْقَطَّانِ إذَا أَجْمَعُوا على أَنَّ الْكَرْمَ وَالنَّخْلَ في الْمُسَاقَاةِ سَوَاءٌ من يُجِيزُهُمَا وَمَنْ يَأْبَاهُمَا يَرُدُّهَا فقال دَاوُد هذا إجْمَاعٌ وَلَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا وَيَقُولُ قد أَجْمَعُوا على التَّسْوِيَةِ قال وَهَذَا فَاسِدٌ وَعِنْدَنَا أَنَّ ذلك لَا يَكُونُ إجْمَاعًا لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْعِلَّةِ غَيْرُ الِاعْتِبَارِ بهذا لِأَنَّا نَجِدُ من يقول هذه الْعَيْنُ حَلَالٌ وَهَذِهِ حَرَامٌ وَإِنْ كان من قَائِلِينَ فَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ وَالْعَجَبُ من دَاوُد في هذا فَيُقَالُ له خَبَرُنَا عن الْمُسَاقَاةِ
____________________
(3/584)
على الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ من أَيِّ طَرِيقٍ أَخَذْتهَا فقال من طَرِيقِ الْإِجْمَاعِ وهو أَنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فَرَّقُوا في الرَّدِّ وَالْإِجَازَةِ قُلْنَا لهم إنَّمَا أَخَذُوا ذلك عن طَرِيقِ الْقِيَاسِ من الْإِجَازَةِ ثُمَّ هو لَا يُجِيزُ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُجْمِعُونَ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا فَقَالُوا الْكَرْمُ لَا يَجُوزُ كما لَا يَجُوزُ النَّخْلُ وَمَنْ أَجَازَ سَوَّى بَيْنَهُمَا فَلِمَ فَرَّقْت مَسْأَلَةٌ إذَا اخْتَلَفُوا في مَسْأَلَتَيْنِ على قَوْلَيْنِ فقالت طَائِفَةٌ في كُلٍّ من الْمَسْأَلَتَيْنِ قَوْلًا وَقَالَتْ الْأُخْرَى في كُلٍّ مِنْهُمَا أَيْضًا قَوْلًا ثُمَّ قام دَلِيلٌ عن نَصٍّ على صِحَّةِ قَوْلِ أَحَدَيْهِمَا في إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ فَهَلْ يَدُلُّ على صِحَّةِ قَوْلِهَا في الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى أَمْ لَا اخْتَلَفَ في هذه الْمَسْأَلَةِ دَاوُد وَابْنُهُ فَصَارَ دَاوُد إلَى أَنَّهُ دَلِيلٌ على ذلك وَمَنَعَهُ ابْنُهُ هَكَذَا قال ابن حَزْمٍ في الْإِحْكَامِ ثُمَّ قال وَيَقُولُ ابْنُهُ لِأَنَّهُ لو صَحَّ ما قَالَهُ دَاوُد لَكَانَتْ الطَّائِفَةُ التي قام النَّصُّ على صِحَّةِ قَوْلِهَا في مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مُصِيبَةً في جَمِيعِ مَذَاهِبِهَا وَلَا يقول بِهِ أَحَدٌ نعم إنْ صَحَّ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ يَقِينًا على أَنَّ حُكْمَ الْمَسْأَلَتَيْنِ سَوَاءٌ ثُمَّ قام نَصٌّ على صِحَّةِ حُكْمِ ما في إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ فَقَدْ صَحَّ بِلَا شَكٍّ أَنَّ حُكْمَ الْأُخْرَى كَذَلِكَ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ لم يُحْفَظْ عَنْهُمْ فِيهِمَا تَسْوِيَةٌ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ بِخِلَافِ الثَّانِي ثُمَّ مَثَّلَ الْمَسْأَلَةَ بِالْمُسَاقَاةِ فَمِنْهُمْ من مَنَعَهَا جُمْلَةً وَمِنْهُمْ من أَبَاحَهَا جُمْلَةً وَمِنْ مُبِيحٍ لها في النَّخْلِ وَالْعِنَبِ خَاصَّةً وَمَانِعٍ لها في سِوَاهُمَا فلما صَحَّ الْقَوْلُ بِإِبَاحَتِهَا وَبَطَلَ إبْطَالُهَا نَظَرْنَا في الْمُسَاقَاةِ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ فَوَجَدْنَا الْأُمَّةَ مُجْمِعَةً على أَنَّ حُكْمَ الْمُسَاقَاةِ على النِّصْفِ كَحُكْمِهَا على جُزْءٍ مُسَمًّى أَيِّ جُزْءٍ كان وَكَذَلِكَ الْمُزَارَعَةُ الناس فيها على قَوْلَيْنِ الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ فلما قام الدَّلِيلُ على صِحَّتِهَا نَظَرْنَا في الْمُزَارَعَةِ على النِّصْفِ سَوَاءٌ وَكُلُّ من تَكَلَّمَ في هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ فَقَدْ أَجْمَلَ فلما جاء النَّصُّ بِإِبَاحَةِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ على النِّصْفِ وَصَحَّ الْإِجْمَاعُ على أَنَّ حُكْمَ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ على جُزْءٍ مُسَمًّى كَحُكْمِهَا على النِّصْفِ صَحَّتْ الْمُزَارَعَةُ على كل جُزْءٍ مُسَمًّى فَائِدَةٌ مَعْنَى قَوْلِهِمْ هذا لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ إذَا قُلْنَا هذا لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ احْتَمَلَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا الْإِجْمَاعُ على نَفْيِ الصِّحَّةِ وَالثَّانِي نَفْيُ الْإِجْمَاعِ على الصِّحَّةِ وَالثَّانِي أَعَمُّ من الْأَوَّلِ فَلَا يَلْزَمُ من نَفْيِ الْإِجْمَاعِ على الصِّحَّةِ نَفْيُ الصِّحَّةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُخْتَلَفًا فيه فَهُوَ صَحِيحٌ على
____________________
(3/585)
رَأْيٍ فَالْإِجْمَاعُ على الصِّحَّةِ مُنْتَفٍ لَكِنْ هِيَ غَيْرُ مُنْتَفِيَةٍ مُطْلَقًا بَلْ ثَابِتَةٌ على ذلك الرَّأْيِ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ على نَفْيِ الصِّحَّةِ فإنه يَقْتَضِي نَفْيَهَا مُطْلَقًا فإذا قُلْنَا الْوُضُوءُ بِدُونِ مَسْحِ الرَّأْسِ لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ كان هذا إجْمَاعًا على نَفْيِ الصِّحَّةِ وإذا قُلْنَا الْوُضُوءُ بِدُونِ اسْتِيعَابِ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ كان هذا نَفْيًا لِلْإِجْمَاعِ على الصِّحَّةِ لَا لِحَقِيقَةِ الصِّحَّةِ مُطْلَقًا لِأَنَّ ذلك يَصِحُّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْمُثِيرُ لِهَذِهِ الْمُبَاحَثَةِ أَنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ رَأَى شَافِعِيًّا قد تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بَعْضَ رَأْسِهِ فَمَازَحَهُ وقال له وُضُوءُك هذا لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ فَغَضِبَ من ذلك وقال تَزْعُمُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ ليس بِمُعْتَبَرِ الْقَوْلِ قال لَا وقال كَلَامُك يَقْتَضِي ذلك فَبَيَّنَ له هذه النُّكْتَةَ فَزَالَ غَضَبُهُ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَنْفِيَّ هَاهُنَا هو الصِّحَّةُ الْمُطْلَقَةُ أو الْمُقَيَّدَةُ بِكَوْنِهَا مُجْمَعًا عليها فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ فَهُوَ إجْمَاعٌ على النَّفْيِ وَإِنْ أُرِيدَ الثَّانِي فَهُوَ نَفْيُ الْإِجْمَاعِ وَحَاصِلُهُ من جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَوْضِعَ الْإِجْمَاعِ نُصِبَ لَكِنْ هو على التَّمْيِيزِ أو الْحَالِ إنْ قُلْنَا على التَّمْيِيزِ فَهُوَ إجْمَاعٌ على نَفْيِ الصِّحَّةِ إذْ تَقْدِيرُهُ لَا يَصِحُّ إجْمَاعًا إذْ التَّمْيِيزُ رَفْعُ الْإِبْهَامِ عن الذَّاتِ وَنَفْيُ الصِّحَّةِ هُنَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إجْمَاعِيٌّ أو خِلَافِيٌّ فَبِقَوْلِنَا إجْمَاعٌ رَفَعْنَا ذلك الْإِبْهَامَ وَقُلْنَا إنَّ نَفْيَ الصِّحَّةِ إجْمَاعِيَّةٌ وَإِنْ قُلْنَا على الْحَالِ فَهُوَ نَفْيُ الْإِجْمَاعِ على الصِّحَّةِ لَا لِنَفْيِ الصِّحَّةِ لِأَنَّ الْحَالَ نَعْتٌ لِلْفَاعِلِ فَتَقْدِيرُهُ هذا لَا يَصِحُّ مُجْمَعًا عليه وَنَفْيُ الصِّفَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْمَوْصُوفِ خَاتِمَةٌ قد يَكُونُ الْخِلَافُ حُجَّةً قد يَكُونُ الْخِلَافُ حُجَّةً كَالْإِجْمَاعِ في مَوَاضِعَ منها مَنْعُ الْخُرُوجِ منه إذَا انْحَصَرَ على قَوْلَيْنِ أو ثَلَاثَةٍ وَمِنْهَا تَسْوِيغُ الذَّهَابِ إلَى كل وَاحِدٍ من الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلَفِ فيها وَمِنْهَا كَوْنُ الْجَمِيعِ صَوَابًا إنْ قُلْنَا كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَغَيْرُ ذلك ذَكَرَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في مَسْأَلَةِ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ الِاخْتِلَافُ مَذْمُومٌ وَالِاجْتِمَاعُ مَحْمُودٌ وقال الْمُزَنِيّ في كِتَابِ ذَمِّ التَّقْلِيدِ قد ذَمَّ اللَّهُ الِاخْتِلَافَ في غَيْرِ ما آيَةٍ وَلَوْ كان من دِينِهِ ما ذَمَّهُ وَلَوْ كان التَّنَازُعُ من حُكْمِهِ ما رَدَّهُ إلَى كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَلَا أَمَرَ بِإِمْضَاءِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ على ما هُمَا بِهِ وما حَذَّرَ رسول اللَّهِ أُمَّتَهُ من الْفُرْقَةِ وَأَمَرَهَا بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ قال وَلَوْ كان الِاخْتِلَافُ رَحْمَةً لَكَانَ الِاجْتِمَاعُ عَذَابًا لِأَنَّ الْعَذَابَ خِلَافُ الرَّحْمَةِ ثُمَّ قال قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الِاخْتِلَافُ وَجْهَانِ فما كان مَنْصُوصًا لم يَحِلَّ فيه الِاخْتِلَافُ وما كان يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ أو يُدْرَكُ قِيَاسًا فَذَهَبَ الْمُتَأَوِّلُ أو الْمُقَايِسُ إلَى مَعْنًى يَحْتَمِلُ ذلك وَإِنْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ لم أَقُلْ إنَّهُ يُضَيِّقُ عليه ضِيقَ الِاخْتِلَافِ في الْمَنْصُوصِ قال الْمُزَنِيّ فَظَاهِرُ قَوْلِهِ أَنَّهُ ضَيَّقَ الْخِلَافَ كَتَضْيِيقِهِ في الْمَنْصُوصِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
____________________
(3/586)
كِتَابُ الْقِيَاسِ وَالنَّظَرُ فيه أَوْسَعُ من غَيْرِهِ من أَبْوَابِ الْأُصُولِ فَلِهَذَا خَصُّوهُ بِمَزِيدِ اعْتِنَاءٍ وقد قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مُبَيِّنًا لِشَرَفِهِ الْقِيَاسُ مَنَاطُ الِاجْتِهَادِ وَأَصْلُ الرَّأْيِ وَمِنْهُ يَتَشَعَّبُ الْفِقْهُ وَأَسَالِيبُ الشَّرِيعَةِ وهو الْمُفْضِي إلَى الِاسْتِقْلَالِ بِتَفَاصِيل أَحْكَامِ الْوَقَائِعِ مع انْتِفَاءِ الْغَايَةِ وَالنِّهَايَةِ فإن نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَحْصُورَةٌ مَقْصُورَةٌ وَمَوَاضِعُ الْإِجْمَاعِ مَعْدُودَةٌ مَأْثُورَةٌ فما يُنْقَلُ منها تَوَاتُرًا فَهُوَ الْمُسْتَنِدُ إلَى الْقَطْعِ وهو مُعْوِزٌ قَلِيلٌ وما يَنْقُلُهُ الْآحَادُ من عُلَمَاءِ الْأَعْصَارِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَهِيَ على الْجُمْلَةِ مُتَنَاهِيَةٌ وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْوَقَائِعَ التي يَتَوَقَّعُ وُقُوعَهَا لَا نِهَايَةٌ لها وَالرَّأْيُ الْمَبْتُوتُ الْمَقْطُوعُ بِهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا تَخْلُو وَاقِعَةٌ عن حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَلَقًّى من قَاعِدَةِ الشَّرْعِ وَالْأَصْلُ الذي يَسْتَرْسِلُ على جَمِيعِ الْوَقَائِعِ الْقِيَاسُ وما يَتَعَلَّقُ بِهِ من وُجُوهِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَهُوَ إذًا أَحَقُّ الْأُصُولِ بِاعْتِنَاءِ الطَّالِبِ وَفِيهِ أَبْوَابٌ
____________________
(4/3)
الْبَابُ الْأَوَّلُ في حَقِيقَتِهِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا أَمَّا لُغَةً فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ تَقْدِيرُ شَيْءٍ على مِثَالِ شَيْءٍ آخَرَ وَتَسْوِيَتُهُ بِهِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْمِكْيَالُ مِقْيَاسًا وما يُقَدَّرُ بِهِ النِّعَالُ مِقْيَاسًا وَفُلَانٌ لَا يُقَاسُ بِفُلَانٍ أَيْ لَا يُسَاوِيهِ وَقِيلَ هو مَصْدَرُ قِسْت الشَّيْءَ إذَا اعْتَبَرْته أَقِيسُهُ قَيْسًا وَقِيَاسًا وَمِنْهُ قِيسَ الرَّأْيُ وَامْرُؤُ الْقَيْسِ لِاعْتِبَارِ الْأُمُورِ بِرَأْيِهِ وَقُسْته بِضَمِّ الْقَافِ أُقَوِّسُهُ قَوْسًا ذَكَرَ هذه اللُّغَةَ ابن أبي الْبَقَاءِ في نِهَايَتِهِ وَصَاحِبُ الصِّحَاحِ فَهُوَ من ذَوَاتِ الْوَاوِ وَالْيَاءِ وقال ابن مُقْلَةَ في كِتَابِ الْبُرْهَانِ الْقِيَاسُ في اللُّغَةِ التَّمْثِيلُ وَالتَّشْبِيهُ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ التَّشْبِيهُ في الْوَصْفِ أو الْحَدِّ لَا الِاسْمِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في كِتَابِ الْقَضَاءِ الْقِيَاسُ في اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ من الْمُمَاثَلَةِ يُقَالُ هذا قِيَاسُ هذا أَيْ مِثْلُهُ لِأَنَّ الْقِيَاسَ الْجَمْعُ بين الْمُتَمَاثِلَيْنِ في الْحُكْمِ وَقِيلَ إنَّهُ مَأْخُوذٌ من الْإِصَابَةِ يُقَالُ قِسْت الشَّيْءَ إذَا أَصَبْته لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُصِيبُ بِهِ الْحُكْمَ وَحَكَاهَا ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وقال الصَّيْرَفِيُّ الْقِيَاسُ فِعْلُ الْقَائِسِ وهو مَصْدَرُ قِسْت الشَّيْءَ قِيَاسًا وهو الْجَمْعُ بين الشَّيْئَيْنِ إمَّا بِالْمُشَاهَدَةِ فِيهِمَا جميعا أو أَحَدِهِمَا وَالْآخَرِ بِالْفِكْرِ أو جَمِيعِهِمَا بِالْفِكْرِ يُعْلَمُ تَسَاوِيهِمَا في الشَّيْءِ الذي جُمِعَا من أَجْلِهِ بِخِلَافِهِمَا هذه فَائِدَةُ الْقِيَاسِ وَنَتِيجَتُهُ فإذا أَثْمَرَتْ الْمُقَابَلَةُ مُسَاوَاةَ الشَّيْئَيْنِ من حَيْثُ كان جَرَى الْحُكْمُ عَلَيْهِمَا في الشَّيْءِ الذي اجْتَمَعَا فيه وَخُولِفَ بَيْنَهُمَا في شَيْءٍ اخْتَلَفَا فيه وَهَذَا ثَابِتٌ في قَضِيَّةِ الْعُقُولِ أَنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ اشْتَبَهَا في شَيْءٍ ما فَحُكْمُهُمَا من حَيْثُ اشْتَبَهَا وَاحِدٌ وَلَوْلَا ذلك لَمَا كان بين الْمُخْتَلِفِ وَالْمُتَّفِقِ فَرْقٌ وَأَمَّا في الِاصْطِلَاحِ فَاخْتَلَفُوا أَوَّلًا في إمْكَانِ حَدِّهِ فقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ يَتَعَذَّرُ الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ في الْقِيَاسِ لِاشْتِمَالِهِ على حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ كَالْحُكْمِ فإنه قَدِيمٌ وَالْفَرْعُ وَالْأَصْلُ فَإِنَّهُمَا حَادِثَانِ وَالْجَامِعُ فإنه عِلَّةٌ وَوَافَقَهُ ابن الْمُنِيرِ شَارِحُهُ على تَعَذُّرِ الْحَدِّ لَكِنَّ الْعِلَّةَ عِنْدَهُ في ذلك كَوْنُهُ نِسْبَةً وَإِضَافَةً
____________________
(4/4)
وَهِيَ عَدَمِيَّةٌ وَالْعَدَمُ لَا يَتَرَكَّبُ من الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ الْحَقِيقِيَّيْنِ الْوُجُودِيَّيْنِ قال الْإِبْيَارِيُّ الْحَقِيقِيُّ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عَمَّا تَرَكَّبَ من الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذلك في الْقِيَاسِ وَكَلَامُ الْجُمْهُورِ يَقْتَضِي إمْكَانَهُ وَاخْتَلَفُوا فَالْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ مُسَاوَاةُ فَرْعٍ لِأَصْلٍ في عِلَّةِ الْحُكْمِ أو زِيَادَتُهُ عليه في الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرِ في الْحُكْمِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ من أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ فَلَا بُدَّ من حُكْمٍ مَطْلُوبٍ بِهِ وَلَا بُدَّ له من مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ وهو الْفَرْعُ وَذَلِكَ لِثُبُوتِهِ في مَحَلٍّ آخَرَ وهو الْأَصْلُ وَلَا يُمْكِنُ ذلك بين كل شَيْئَيْنِ بَلْ إذَا كان بَيْنَهُمَا أَمْرٌ يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ في الْحُكْمِ وهو الْمُرَادُ بِالْمُسَاوَاةِ في نَفْسِ الْأَمْرِ فَيَخْتَصُّ الْحَدُّ بِالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ هذا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يُزَادَ في نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ سَوَاءٌ ثَبَتَ في نَفْسِ الْأَمْرِ أَمْ لَا كَذَا قَالَهُ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ وَالْحَقُّ أَنَّ التَّعْرِيفَ الْمَذْكُورَ شَامِلٌ لِلْقِيَاسِ الصَّحِيحِ على الْمَذْهَبَيْنِ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ الْمَذْكُورَةَ أَعَمُّ من أَنْ تَكُونَ في نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ أَمْ لَا وَقِيلَ إدْرَاجُ خُصُوصٍ في عُمُومٍ وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ وَقِيلَ إنَّهُ إلْحَاقُ الْمَسْكُوتِ بِالْمَنْطُوقِ وَقِيلَ إلْحَاقُ الْمُخْتَلَفِ فيه بِالْمُتَّفَقِ عليه وَقِيلَ اسْتِنْبَاطُ الْخَفِيِّ من الْجَلِيِّ وَقِيلَ حَمْلُ الْفَرْعِ على الْأَصْلِ بِبَعْضِ أَوْصَافِ الْأَصْلِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ ولم يَرْتَضِهِ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وقال ابن كَجٍّ رَدُّ فَرْعٍ مَسْكُوتٍ عنه وَعَنْ حُكْمِهِ إلَى أَصْلٍ مَنْطُوقٍ بِحُكْمِهِ وَقِيلَ الْجَمْعُ بين النَّظَرَيْنِ وَإِجْرَاءُ حُكْمِ أَحَدِهِمَا على الْآخَرِ وَقِيلَ إنَّهُ بَذْلُ الْجُهْدَ في طَلَبِ الْحَقِّ وهو بَاطِلٌ بِاسْتِخْرَاجِ الْحَقِّ بِالنُّصُوصِ وَالظَّوَاهِرِ وقال أبو هَاشِمٍ حَمْلُ الشَّيْءِ على حُكْمِهِ وَإِجْرَاءُ حُكْمِهِ عليه وهو بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لم يذكر الْجَامِعَ وقال عبد الْجَبَّارِ حَمْلُ الشَّيْءِ على الشَّيْءِ في بَعْضِ أَحْكَامِهِ بِضَرْبٍ من الشَّبَهِ وقال الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى إثْبَاتُ حُكْمِ الْمَقِيسِ عليه لِلْمَقِيسِ وهو رَكِيكٌ فإن الْمَقِيسَ وَالْمَقِيسَ عليه مُشْتَقَّانِ من الْقِيَاسِ فَتَعْرِيفُ الْقِيَاسِ بِهِمَا دَوْرٌ وقال صَاحِبُ الْإِحْكَامِ اسْتِوَاءٌ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ في الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ من حُكْمِ
____________________
(4/5)
الْأَصْلِ وَيَخْرُجُ عنه الْقِيَاسُ إذَا كانت الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً فَإِنْ مُنِعَ كَوْنُهُ قِيَاسًا فَبَاطِلٌ لِأَنَّهُ أَقْوَى أَنْوَاعِ الْأَقْيِسَةِ وقال الْقَاضِي وَاخْتَارَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنَّا كما قَالَهُ في الْمَحْصُولِ هو حَمْلُ مَعْلُومٍ على مَعْلُومٍ في إثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا أو نَفْيِهِ عنهما بِجَامِعِ حُكْمٍ أو صِفَةٍ أو نَفْيِهِمَا فَالْحَمْلُ اعْتِبَارُ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ وَرَدُّهُ إلَيْهِ وَالْمَعْلُومُ يَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ بِخِلَافِ الشَّيْءِ وَالْفَرْعِ يُوهِمُ الْمَوْجُودَ ثُمَّ بَيَّنَ فَبِمَاذَا يَكُونُ الْحَمْلُ بِقَوْلِهِ في إثْبَاتِ حُكْمٍ فَأَفَادَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ وَنَفْيِهَا وَالْمَعْلُومُ الثَّانِي لَا بُدَّ منه إذْ الْقِيَاسُ يَسْتَدْعِي مُنْتَسِبِينَ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْحُكْمِ بِدُونِ الْأَصْلِ ليس بِحُكْمٍ ثُمَّ قَسَّمَ الْجَامِعَ إلَى حُكْمٍ وَصِفَةٍ قال إلْكِيَا وهو أَسَدُّ ما قِيلَ على صِنَاعَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ وقد اعْتَرَضَ عليه بِأُمُورٍ منها إنْ أَرَدْت بِالْحَمْلِ إثْبَاتَ الْحُكْمِ فَقَوْلُك في إثْبَاتِ حُكْمٍ ضَائِعٌ لِلتَّكْرَارِ وَإِنْ أَرَدْت غَيْرَهُ فَبَيِّنْهُ وَذَلِكَ الْغَيْرُ يَكُونُ خَارِجًا عن الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ يَتِمُّ بِإِثْبَاتِ مِثْلٍ مَعْلُومٍ لِآخَرَ بِجَامِعٍ وَمِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ في إثْبَاتِ حُكْمٍ لها يُشْعِرُ بِإِثْبَاتِ حُكْمِ الْأَصْلِ بِالْقِيَاسِ وهو بَاطِلٌ فإن الْقِيَاسَ فَرْعُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ في الْأَصْلِ فَلَوْ كان ثُبُوتُ الْحُكْمِ فَرْعًا عن الْقِيَاسِ لَزِمَ الدَّوْرُ وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْقَاضِيَ لَعَلَّهُ يَرَى أَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ في الْأَصْلِ بِالْعِلَّةِ لَا بِالنَّصِّ وَكَذَلِكَ في الْفَرْعِ وَالْقِيَاسُ كَاشِفٌ عَمَّا ثَبَتَ فِيهِمَا وقال ابن الْمُنِيرِ هذا السُّؤَالُ لَا يَرِدُ من أَصْلِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ بِهِمَا يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفِ صِلَةٍ لِلْحُكْمِ الْمُنَكَّرِ كَأَنَّهُ قال في إثْبَاتِ حُكْمٍ وَذَلِكَ الْحُكْمُ في نَفْسِ الْأَمْرِ ثَابِتٌ لِلْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَالْمُثْبِتُ له في الْأَصْلِ النَّصُّ وفي الْفَرْعِ الْقِيَاسُ فَلَا تَنَاقُضَ وَلَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِإِثْبَاتٍ وَمِنْهَا أَنَّ الصِّفَةَ ثَبَتَتْ أَيْضًا بِالْقِيَاسِ كَقَوْلِهِ إنَّهُ عَالِمٌ فَلَهُ عِلْمٌ كما في الشَّاهِدِ فَإِنْ انْدَرَجَتْ الصِّفَةُ في الْحُكْمِ يَكُونُ قَوْلُهُ بِجَامِعِ حُكْمٍ أو صِفَةٍ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَمَّا كانت أَحَدَ أَقْسَامِ الْحُكْمِ كان ذِكْرُ الصِّفَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْحُكْمِ تَكْرَارًا وَإِنْ لم تَنْدَرِجْ كان التَّعْرِيفُ نَاقِصًا فَهُوَ إمَّا زَائِدٌ وَإِمَّا نَاقِصٌ وَمِنْهَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ في الْقِيَاسِ الْجَامِعُ دُونَ أَقْسَامِهِ وَلَوْ وَجَبَ ذِكْرُ أَقْسَامِهِ
____________________
(4/6)
لَوَجَبَ ذِكْرُ أَقْسَامِ الْحُكْمِ وَمِنْهَا الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ خَارِجٌ عنه لِأَنَّ الْجَامِعَ مَتَى حَصَلَ صَحَّ الْقِيَاسُ وقال إلْكِيَا هو شَامِلٌ لِلصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا يَرْجِعُ إلَى شُرُوطٍ لَا مَدْخَلَ لها في التَّحْدِيدِ وَكَذَلِكَ صَرَّحَ الْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ بِشُمُولِهِ لها وما ذَكَرْنَاهُ من اخْتِصَاصِهِ بِالصَّحِيحِ تَبَعًا لِلْآمِدِيِّ فَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا ذَكَرْنَا وَمِنْهَا قال الْآمِدِيُّ الْحُكْمُ في الْفَرْعِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا يَتَفَرَّعُ على الْقِيَاسِ إجْمَاعًا وَلَيْسَ بِرُكْنٍ في الْقِيَاسِ فإن نَتِيجَةَ الدَّلِيلِ لَا تَكُونُ رُكْنًا في الدَّلِيلِ لِمَا فيه من الدَّوْرِ فَيَلْزَمُ من أَخْذِ الْحُكْمِ في الْفَرْعِ رُكْنًا في الْقِيَاسِ الدَّوْرُ الْمُمْتَنِعُ وَأَجَابَ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّ تَعْرِيفَ الدَّلِيلِ بِنَتِيجَتِهِ تَعْرِيفًا رَسْمِيًّا تَعْرِيفٌ جَائِزٌ لِأَنَّهُ تَعْرِيفٌ بِلَازِمِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ تَعْرِيفِهِ الْحَدِّيِّ وَرَدَّهُ الْأَصْفَهَانِيُّ بِأَنَّ التَّعْرِيفَ بِاللَّازِمِ شَرْطُهُ اللُّزُومُ الْبَيِّنُ من حَيْثُ هو لَازِمٌ وَإِلَّا يَلْزَمُ الدَّوْرُ وَأَجَابَ ابن الْحَاجِبِ بِأَنَّ الْمَحْدُودَ الْقِيَاسُ الذِّهْنِيُّ وَثُبُوتُ حُكْمِ الْفَرْعِ الذِّهْنِيِّ أو الْخَارِجِيِّ ليس فَرْعًا له وَرَدَّهُ الْأَصْفَهَانِيُّ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ حُكْمِ الْفَرْعِ الذِّهْنِيِّ فَرْعُ الْقِيَاسِ الذِّهْنِيِّ لِأَنَّ نَتِيجَتَهُ ذِهْنًا وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ لِلْقِيَاسِ الْخَارِجِيِّ الذي هو دَلِيلٌ على حُكْمِ اللَّهِ وَأَجَابَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ بِأَنَّ الْقَاضِيَ لم يَأْخُذْ في تَعْرِيفِ الْقِيَاسِ إلَّا الْإِثْبَاتَ لَا الثُّبُوتَ وَالْمُتَفَرِّعُ عن الْقِيَاسِ الثُّبُوتُ لَا الْإِثْبَاتُ وَالْحَقُّ أَنَّ الثُّبُوتَ ثَابِتٌ قبل الْقِيَاسِ وَإِنَّمَا النَّاشِئُ بِالْقِيَاسِ اعْتِقَادُ الْمُسَاوَاةِ أو الثُّبُوتِ مُسْتَنِدًا إلَى الْعِلَّةِ لَا مُجَرَّدِ الثُّبُوتِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْإِنْصَافُ أَنَّ ما ذَكَرَهُ الْقَاضِي ليس بِحَدٍّ وَلَا مَطْمَعٍ في الْحَدِّ بِمَا يَتَرَكَّبُ من نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ كما ذَكَرَهُ في الْحُكْمِ وَالْجَامِعِ مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ في نَظَرِ الْأُصُولِيِّينَ حَاصِلُ الْقِيَاسِ في نَظَرِ الْأُصُولِيِّينَ يَرْجِعُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِحُكْمِ شَيْءٍ على آخَرَ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَعَمَّ من الْآخَرِ وَيُسَمِّيهِ قَوْمٌ التَّمْثِيلَ وَأَمَّا في اصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّينَ
____________________
(4/7)
فَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِحُكْمِ الْعَامِّ على حُكْمِ الْخَاصِّ وَيَرْجِعُ إلَى الْمُقَدِّمَاتِ وَالنَّتَائِجِ قال الْإِبْيَارِيُّ وهو أَبْعَدُ عن الْمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ كُلُّ نَبِيذٍ مُسْكِرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ يُنْتَجُ كُلُّ نَبِيذٍ حَرَامٌ ليس فيه اعْتِبَارٌ بِحَالٍ وَإِنَّمَا النَّبِيذُ أَحَدُ الصُّوَرِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ الْعُمُومِ قُلْت بَلْ هو قَرِيبٌ من الْمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ بِمَعْنَى التَّسْوِيَةِ لِأَنَّهُ تَسْوِيَةُ حُكْمِ الْخَاصِّ بِحُكْمِ الْعَامِّ وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ لَفْظَ الْقِيَاسِ قد يُتَجَوَّزُ بِإِطْلَاقِهِ في النَّظَرِ الْمَحْضِ من غَيْرِ تَقْدِيرِ فَرْعٍ وَأَصْلٍ فيقول الْمُفَكِّرُ قِسْت الشَّيْءَ إذَا تَفَكَّرَ فيه وَنَازَعَهُ الْإِبْيَارِيُّ وَلَا مَعْنَى لِنِزَاعِهِ لِوُجُودِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فيه وهو الِاعْتِبَارُ وقال الْغَزَالِيُّ في أَسَاسِ الْقِيَاسِ وَأَمَّا نَحْوُ كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ أُنْتِجَ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ هذا لَا تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ قِيَاسًا وَإِنَّمَا يُسَمِّيهِ ذلك الْمَنْطِقِيُّونَ وهو ظُلْمٌ منهم على الِاسْمِ وَخَطَأٌ على الْوَضْعِ فإن الْقِيَاسَ في وَضْعِ اللِّسَانِ يَسْتَدْعِي مَقِيسًا وَمَقِيسًا عليه لِأَنَّهُ حَمْلُ فَرْعٍ على أَصْلٍ بِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ وَإِطْلَاقُهُ على غَيْرِ هذا خَطَأٌ مَسْأَلَةٌ لَفْظُ الْقِيَاسِ مُشْتَرَكٌ وقال الْغَزَالِيُّ أَيْضًا لَفْظُ الْقِيَاسِ مُشْتَرَكٌ يُطْلَقُ تَارَةً على الرَّأْيِ الْمَحْضِ الْمُقَابِلِ لِلتَّوْقِيفِ حتى يُقَالَ الشَّرْعُ إمَّا تَوْقِيفٌ أو قِيَاسٌ وَهَذَا الذي نُنْكِرُهُ وهو الذي يَتَعَرَّضُ لِتَشْنِيعِ الظَّاهِرِيَّةِ التَّعْلِيمِيَّةِ وَيُطْلَقُ تَارَةً بِمُقَابِلِ التَّعَبُّدِ حتى يُقَالَ الشَّرْعُ يَنْقَسِمُ إلَى ما يُعْقَلُ مَعْنَاهُ وَإِلَى تَعَبُّدٍ كَرَمْيِ الْجِمَارِ وَكِلَاهُمَا تَوْقِيفٌ لَكِنْ يُسَمَّى ما عُقِلَ مَعْنَاهُ قِيَاسًا لِمَا انْقَدَحَ فيه من الْمَعْقُولِ وَهَذَا هو الذي نَقُولُ بِهِ وهو بهذا الْمَعْنَى أَحَدُ نَوْعَيْ التَّوْقِيفِ وَلَيْسَ مُقَابِلًا له
____________________
(4/8)
مسألة يسمى القياس استدلالا في المعتمد لأبي الحسين البصري كان الشافعي رضي الله عنه يسمي القياس استدلالا لأنه فحص ونظر ويسمي الاستدلال قياسا لوجود التعليل فيه وحكى صاحب الكبريت الأحمر عن بعضهم أن القياس والاجتهاد واحد لحديث معاذ أجتهد رأيي والمراد القياس بالإجماع وقال إلكيا يمتاز القياس عن الاجتهاد بأنه في الأصل بذل المجهود في طلب الحق سواء طلب من النص أو القياس وقد قال الشافعي في الرسالة إن القياس الاجتهاد وظاهر ذلك لا يستقيم فإن الاجتهاد أعم من القياس والقياس أخص إلا أنه لما كان الاجتهاد في عرف الفقهاء مستعملا في تعريف ما لا نص فيه من الحكم وعنده أن طريق تعرف ذلك لا يكون إلا بأن يحمل الفرع على الأصل فقط وذلك قياس عنده والاجتهاد عند المتكلمين ما اقتضى غلبة الظن في الأحكام التي لا يتعين فيها خطأ المجتهد ويقال فيها كل مجتهد مصيب والقياس ما ذكرناه والأمر فيه قريب وقال ابن السمعاني هل القياس والاجتهاد متحدان أو مختلفان اختلفوا فيه فقال أبو علي بن أبي هريرة إنهما متحدان ونسب للشافعي وقد أشار إليه في كتاب الرسالة والذي عليه جمهور الفقهاء أن الاجتهاد غير القياس وهو أعم منه لأن القياس يفتقر إلى الاجتهاد وهو من مقدماته وليس الاجتهاد يفتقر إلى القياس ولأن الاجتهاد يكون بالنظر في العمومات وسائر طرق الأدلة وليس ذلك بقياس مَسْأَلَةٌ ما وُضِعَ له الْقِيَاسُ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا كما قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ فِيمَا وُضِعَ له اسْمُ الْقِيَاسِ على
____________________
(4/9)
قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ اسْتِدْلَالُ الْمُجْتَهِدِ وَفِكْرُهُ الْمُسْتَنْبَطُ وَالثَّانِي أَنَّهُ الْمَعْنَى الذي يَدُلُّ على الْحُكْمِ في أَصْلِ الشَّيْءِ وَفَرْعِهِ قال وَهَذَا هو الصَّحِيحُ وَمَنْ فَرَّ منه فَإِنَّمَا فَرَّ لِشُبْهَةٍ تَعُودُ إلَيْهِ في الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ قبل الْقِيَاسِ لَا بُدَّ من أَنْ يَكُونَ له أَصْلٌ وَفَرْعٌ فَإِنْ كان أَصْلًا فَقَدْ وَجَبَ وُجُودُهُ في كل ما يُسَمَّى بِهِ وَاسْتَغْنَى عن الْإِلْحَاقِ وَإِنْ كان فَرْعًا لم يَجُزْ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا على غَيْرِهِ وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ له أَصْلٌ يُسْتَنْبَطُ بِهِ ثُمَّ الْكَلَامُ في أَصْلِهِ كَالْكَلَامِ فيه لِنَفْسِهِ وَهَذَا بِعَيْنِهِ يَسْتَشْكِلُ على الْقَائِلِ الْأَوَّلِ بِأَنْ يُقَالَ الْمُجْتَهِدُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِالنَّظَرِ وَالْإِلْحَاقِ فَإِنْ لم يَكُنْ لم يَتَوَجَّهْ عليه الطَّلَبُ عِنْدَ نُزُولِ الْحَادِثَةِ وَإِنْ كان مَأْمُورًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلًا أو فَرْعًا ثُمَّ يَعُودُ ما سَبَقَ وَمَهْمَا كان جَوَابُهُ فَهُوَ جَوَابُنَا مَسْأَلَةٌ الذي يُثْبِتُهُ الْقِيَاسُ وَاخْتَلَفُوا كما قَالَهُ الْمُقْتَرِحُ في الذي أَثْبَتَهُ الْقِيَاسُ هل هو حُكْمٌ وَاحِدٌ يَشْمَلُ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ أو حُكْمَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ فَذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّهُمَا حُكْمَانِ مُتَمَاثِلَانِ وَقَرَّرَهُ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا جَوَازُ نَسْخِ الْأَصْلِ مع إبْقَاءِ الْفَرْعِ فَدَلَّ على أَنَّهُمَا حُكْمَانِ وَالثَّانِي أَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مُتَعَلَّقِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مُتَعَلَّقَ الْأَصْلِ غَيْرُ الْفَرْعِ فَكَانَا مُخْتَلِفَيْنِ وَذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّهُ حُكْمٌ وَاحِدٌ شَامِلٌ لَهُمَا لِأَنَّا لَا نَنْظُرُ إلَى الْقَضِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَإِنَّمَا النَّظَرُ إلَى الْأَمْرِ الْعَامِّ فَإِنْ أَوْرَدَ جَوَازَ النَّسْخِ قُلْنَا لَا يُتَصَوَّرُ نَسْخُ الْأَصْلِ مع بَقَاءِ الْفَرْعِ مَسْأَلَةٌ اشْتِمَالُ النُّصُوصِ على الْفُرُوعِ الْمُلْحَقَةِ بِالْقِيَاسِ رَوَى الرَّبِيعُ في اخْتِلَافِ الحديث عن الشَّافِعِيِّ ما يَقْتَضِي اشْتِمَالَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ على جَمِيعِ الْفُرُوعِ الْمُلْحَقَةِ بِالْقِيَاسِ أَيْ ابْتِدَاءً أو بِالْوَاسِطَةِ فقال الشَّافِعِيُّ وَلَمَّا قَبَضَ اللَّهُ رَسُولَهُ تَنَاهَتْ فَرَائِضُهُ فَلَا يُزَادُ فيه وَلَا يَنْقُصُ وَنَصَّ في الرِّسَالَةِ على أَنَّ الْقِيَاسَ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ وَرَوَى أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال الْقِيَاسُ ضَرُورَاتٌ
____________________
(4/10)
حَكَاهُ الْعَبَّادِيُّ في طَبَقَاتِهِ وَهَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ اشْتِمَالِهِ عليه فَلْيُؤَوَّلْ وقال ابن كَجٍّ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ على مَرَاتِبِهَا مَعْلُومَةٌ بِالنَّصِّ لَكِنَّ بَعْضَهَا يُعْلَمُ بِظَاهِرٍ وَبَعْضُهَا يُعْلَمُ بِاسْتِنْبَاطٍ وهو الْقِيَاسُ وَلَوْ لَزِمَ أَنْ لَا يَثْبُتَ حُكْمٌ إلَّا بِنَصٍّ لَبَطَلَ أَكْثَرُ الْأَحْكَامِ الْمُسْتَدَلِّ عليها بِفَحْوَى الْخِطَابِ وَدَلِيلِهِ وَزَعَمَ ابن حَزْمٍ أَنَّ النُّصُوصَ مُحِيطَةٌ بِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ وَرُبَّمَا تَمَسَّكَ بِقَوْلِ أَحْمَدَ ما تَصْنَعُ بِالرَّأْيِ وفي الحديث ما يُغْنِيك عنه وَمُقَابِلُهُ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ إنَّ أَكْثَرَ الْحَوَادِثِ لَا نَصَّ فيها بِحَالٍ وَلِذَا قال غَيْرُهُ من الْأَئِمَّةِ إنَّهُ لو لم يُسْتَعْمَلْ الْقِيَاسُ أَفْضَى إلَى خُلُوِّ كَثِيرٍ من الْحَوَادِثِ عن الْأَحْكَامِ لِقِلَّةِ النُّصُوصِ وَكَوْنِ الصُّوَرِ لَا نِهَايَةَ لها وقال بَعْضُهُمْ من اتَّسَعَ عِلْمُهُ بِالنُّصُوصِ قَلَّتْ حَاجَتُهُ إلَى الْقِيَاسِ كَالْوَاجِدِ مَاءً لَا يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ في الْقَلِيلِ وَتَوَسَّطَ بَعْضُهُمْ وقال بِالتَّفْصِيلِ بين أَعْمَالِ الْخَلْقِ الْوَاقِعَةِ وَبَيْنَ الْمَسَائِلِ الْمُوَلَّدَةِ لِأَعْمَالِهِمْ الْمُقَدَّرَةِ فَالْأُولَى عَامَّتُهَا نُصُوصٌ وَأَمَّا الْمُوَلَّدَاتُ فَيَكْثُرُ فيها ما لَا نَصَّ فيه مسألة القياس مظهر لا مثبت الحق أنه مظهر لحكم الله تعالى لا مثبت له ابتداء لأن مثبت الحكم هو الله ومنع الشافعي في الرسالة أن يقال إنه حكم الله على الإطلاق وقال الصيرفي لأن هذا اللفظ إنما ينصرف في الظاهر للمنصوص عليه فيمتنع إطلاقه على القياس وإن كان فيه حكم الله من الاجتهاد إشفاقا أن يقطع على الله بذلك فإن أطلق عليه حكم الله بمعنى أنه أوجبه كان على التقييد وقال الروياني في البحر القياس عندنا دين الله وحجته وشرعه وقال ابن السمعاني إنه دين الله ودين رسوله بمعنى أنه عليه ولا يجوز أن يقال إنه قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم قال أبو الحسين في المعتمد هو مأمور
____________________
(4/11)
به بمعنى أن الله بعثنا على فعله بالأدلة وأما كونه بمعنى صيغة أفعل فصحيح أيضا عند من يحتج بقوله تعالى فاعتبروا وأما كونه من دين الله فلا ريب فيه إذا عنى أنه ليس ببدعة وإن أريد غير ذلك فعند الشيخ أبي الهذيل لا يطلق عليه لأن اسم الدين يقع على ما هو ثابت مستمر وأبو علي الجبائي يصف ما كان واجبا منه بذلك وبأنه إيمان دون ما كان منه ندبا والقاضي عبد الجبار يصف بذلك واجبه ومندوبه وقال الآمدي إن أريد بالدين ما تعبدنا به وهو أصلي فليس القياس من الدين وإن أريد به ما تعبدنا به مطلقا فهو من الدين ويتحصل في كون القياس من الدين أقوال ثالثها حيث يتعين
____________________
(4/12)
الْبَابُ الثَّانِي في مَوْضُوعِهِ قال الرُّويَانِيُّ وَمَوْضُوعُهُ طَلَبُ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْمَسْكُوتِ عنها من الْأُصُولِ الْمَنْصُوصَةِ بِالْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ من مَعَانِيهَا لِيَلْحَقَ كُلُّ فَرْعٍ بِأَصْلِهِ
____________________
(4/13)
الباب الثالث في وجوب العمل به وهو حجة في الأمور الدنيوية بالاتفاق قال الإمام الرازي كما في الأدوية والأغذية والأسعار وكذلك القياس الصادر منه صلى الله عليه وسلم بالاتفاق قال صاحب التلخيص لأن مقدماته قطعية لوجوب علم وقوعه قال وإنما النزاع منا ويجب العمل به إذا عدم النص والإجماع وقال صاحب القواطع ذهب كافة الأئمة من الصحابة والتابعين وجمهور الفقهاء والمتكلمين إلى أن القياس الشرعي أصل من أصول الشرع يستدل به على الأحكام التي لم يرد بها السمع قال الإمام أحمد لا يستغني أحد عن القياس وقال الأستاذ أبو منصور والمثبتون للقياس اختلفوا فيه على أربعة مذاهب أحدها ثبوته في العقليات والشرعيات وهو قول أصحابنا من الفقهاء والمتكلمين وأكثر المعتزلة والثاني ثبوته في العقليات دون الشرعيات وبه قال النظام وجماعة من أهل الظاهر والثالث نفيه في العلوم العقلية وثبوته في الأحكام الشرعية التي ليس فيها نص ولا إجماع وبه قال طائفة من القائلين بأن المعارف ضرورية والرابع نفيه في العقليات والشرعيات وبه قال أبو بكر بن داود الأصفهاني قال والمثبتون له في العقليات والشرعيات أوجبوه في الحوادث التي ليس فيها نص ولا إجماع وأجازوه فيما فيه أحد هذه الأصول إذا لم يرد إلى خلافها انتهى ثم المثبتون له اختلفوا في مواضع أحدها في طريق إثباته فقال الأكثرون هو دليل بالشرع ونص عليه في الرسالة فقال وأما القياس فإنما أخذناه استدلالا بالكتاب والسنة والآثار وقال القفال وأبو الحسين البصري هو دليل بالعقل والأدلة السمعية وردت مؤكدة له ولو قدرنا عدم وجودها لتوصلنا بمجرد العقل إلى انتصاب الأقيسة عللا في الأحكام وقال الدقاق يجب العمل به بالعقل والشرع حكاه في اللمع وجزم به ابن قدامة في الروضة وجعله مذهب أحمد لقوله لا يستغني أحد عن القياس قال وذهب أهل
____________________
(4/14)
الظاهر والنظام إلى امتناعه عقلا وشرعا وإليه مال أحمد في قوله يجتنب المتكلم في الفقه المجمل والقياس وقد تأوله القاضي أبو يعلى على ما إذا كان القياس مع وجود النص مخالفا له لأنه حينئذ يكون فاسد الاعتبار وثانيها هل دلالة السمع عليه قطعية أو ظنية وبالأول قال الأكثرون وبالثاني قال أبو الحسين والآمدي وثالثها قيل إنما يعمل به إذا كانت العلة منصوصة أو بطريق الأولى والجمهور على وجوب العمل به مطلقا وأما المنكرون للقياس فأول من باح بإنكاره النظام وتابعه قوم من المعتزلة كجعفر بن حرب وجعفر بن مبشر ومحمد بن عبد الله الإسكافي وتابعهم من أهل السنة على نفيه في الأحكام داود الظاهري قال أبو القاسم عبد الله بن عمر بن أحمد الشافعي البغدادي في كتاب في القياس مما حكاه عنه ابن عبد البر في كتاب جامع العلم ما علمت أحدا سبق النظام إلى القول بنفي القياس والاجتهاد ولم يلتفت إليه الجمهور وخالف أبو الهذيل فيه ورده عليه انتهى وقرر الناقلون بحث الظاهرية فقال ابن عبد البر في كتاب العلم لا خلاف بين فقهاء الأمصار وسائر أهل السنة في نفي القياس في التوحيد وإثباته في الأحكام إلا داود فإنه نفاه فيهما جميعا قال ومنهم من أثبته في التوحيد ونفاه في الأحكام وأطلق القاضي أبو الطيب عن داود والنهرواني والمغربي والقاشاني أن القياس محرم بالشرع وقال الأستاذ أبو منصور فأما داود فإنه زعم أن لا حادثة إلا وفيها حكم منصوص عليه في القرآن أو السنة أو مدلول عليه بفحوى النص ودليله وذلك مغن عن القياس فمنها ما ذكره الله مفصلا ومنها ما أجمل ذكره في القرآن وأمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالتفصيل والبيان ومنها ما اتفقت عليه الأمة وما ليس فيه نص ولا إجماع فحكمه الإباحة بعفو الله سبحانه عن ذكره وتركه النص على تحريمه أو بإخبار عن فاعل فعله من غير ذم له على فعله أو تورد الرواية عما فعل بحضرته عليه السلام فلم ينكره وقال ابن القطان ذهب داود وأتباعه إلى أن القياس في دين الله تعالى باطل
____________________
(4/15)
ولا يجوز القول به وقال القاضي عبد الوهاب ذهب داود الأصفهاني وغيره إلى أن التعبد بالقياس جائز ولكنه لم يرد وأن القول به والمصير إليه غير جائز لعدم الدليل القاطع أن الله تعالى تعبدنا به وكذا نقل الشيخ في اللمع أنه يجوز العمل به عقلا إلا أن الشرع منع وقال ابن حزم في الإحكام ذهب أهل الظاهر إلى إبطال القول بالقياس جملة وهو قولنا الذي ندين الله تعالى به والقول بالعلل باطل قال وذهب بعض منكري القياس إلى أن الشارع إذا جعل شيئا ما علة لحكم فحيثما وجد ذلك وجب ذلك الحكم كنهيه عن الذبح بالسن قال وإنما السن عظم فهو يدل على أن كل عظم لا يذبح به قال وهذا لا يقول به داود ولا أحد من أصحابنا وإنما هو قول قوم لا يعتد بهم من جملتنا كالقاشاني وضربائه وقالوا أما ما لا نص فيه فلا يجوز أن يقال إن هذا لسبب كذا وقال داود وجميع أصحابه لا يفعل الله شيئا من الأحكام وغيرها لعلة أصلا وإذا نص الشارع على أنه لكذا أو بسبب كذا أو لأنه فهو دال على أنه جعله سببا لتلك الأحكام في تلك المواضع التي جاء النص فيها ولا توجب تلك الأشياء شيئا من تلك الأحكام وغير تلك المواضع المبينة ثم قال ولسنا ننكر وجود بعض أسباب الأحكام الشرعية بل نثبتها ونقول بها لكن نقول إنها لا تكون أسبابا إلا حيث جعلها الله أسبابا ولا يتعدى بها الموضع المنصوص على أنها أسباب له انتهى كلامه وقد عرف به مذهب الظاهرية على الحقيقة وأن داود وأصحابه لا يقولون بالقياس ولو كانت العلة منصوصة وإنما القائل به القاشاني وضرباؤه ونقل القاضي والغزالي عن القاشاني والنهرواني القول به فيما إذا كانت العلة منصوصة أومئ إليها في الأحكام المتعلقة بالأسباب كرجم ماعز لزناه والمعلق باسم مشتق كالسارق وكأنهما يعنيان بهذا القسم تنقيح المناط وقال القاضي واختلف هل هما بهذا من القائلين بالقياس أم لا ونقل الآمدي عنهما القول به في العلة المنصوصة دون ما إذا كان الحكم في الفرع أولى به من الأصل ونقل الأستاذ أبو منصور عن القاشاني أنه قال كل حكم وقع في شخص
____________________
(4/16)
لسبب من الأسباب استدل به على حكم كل ما وجد فيه مثل ذلك السبب إن لم يمنع منه دليل شرعي ونقل عن النهرواني أنه قال استدل على الفأرة تقع في السمن على السنور إذا وقع قال وهذا منهما اعتراف بالقياس وقال أبو بكر الصيرفي في أصوله المنكرون للقياس كأنهم أنكروا التسمية وإلا فهم يعترفون به وهو المغربي وأبو سعيد النهرواني والقاشاني أما القاشاني فإنه يزعم أنه يستدل بأن الكلام إذا شرع على سبب في شخص فالحكم للسبب فيما عدا ذلك الشخص وأنه يساويه فإن جرى علم صحته وإن لم يجر علم بطلانه ويدعي أنه يبطل القياس فهل قال أصحاب القياس شيئا غير هذا وأما النهرواني فإنه يزعم أنه يستدل بالفأرة تقع في السمن على السنور وزعم أن المراد النجاسة ثم سلكا في النفقات والأشياء الظاهرة الجلية أنها معقولة عن الخطاب ومعلومة بالعادة فهؤلاء ما اهتدوا قط لنفي القياس ولم ينف القياس قط في الأحكام غير إبراهيم يعني النظام من المتكلمين وأتباعه ومن الفقهاء داود ومن بعده وكل هؤلاء يزعم أنه لو قيل لنا حرمت الخمر لأنها حلوة لم يحرم غيرها من كل حلو وسواء عليه قال لأنه حلو أو لم يقل انتهى وقال في موضع آخر وقد نقل عن النظام إنكار القياس على أنه قد قال إن الشيء إذا تقدمت إباحته في الجملة واحتاج إلى العبرة اعتبر بعضه ببعض ونص على إيجاب النفقات للأزواج وأنه اعتبر بنظائرها وهذا هو الذي قاله القياسيون إن القياس لا يوجب ابتداء الحكم ووضعها فإذا وضعت الأصول واحتيج إلى تمييزها والتنفيذ للحكم استدل ببعضها على بعض كما ذكر هذا الرجل في النفقات انتهى وقال ابن كج النافي للقياس قائل به في كثير من المسائل فمنه رجم الزاني قياسا على ماعز وإراقة الزبد المتنجس قياسا على السمن وجواز الخرص والمساقاة قياسا على الكرم ومنع التضحية بالعمياء قياسا على العوراء وأن حكم الحاكم وهو يدافع الأخبثين مكروه قياسا على الغضب وقال ابن عبد البر في كتاب جامع العلم وداود وإن أنكر القياس فقد قال بفحوى الخطاب وقد جعله قوم من أنواع القياس وقال أبو الحسن السهيلي في أدب الجدل له كل من منع كون القياس حجة فإنه يستدل به ثم يسميه باسم الاستدلال والاستنباط أو الاجتهاد أو دليل الشرع أو غيره واعلم أن النظام إنما أنكر القياس في شريعتنا خاصة ولم ينكر القياس العقلي
____________________
(4/17)
ولا الشرعي السالف ثم المنكرون للقياس اختلفوا في طريق نفيه فقيل ينفى بالعقل وحده ثم اختلفوا فقيل إن الخوض فيه قبيح لعينه وقيل يجب أن يصطلح لعباده فينص على الأحكام كلها حكاهما إمام الحرمين وقيل لأن الأحكام الشرعية طريقها المصالح ولا يعرف المصالح إلا صاحب الشرع فلا يجوز إثباتها إلا من جهة التوقيف وقيل لأنها جعلت على وجوه لا يمكن العلم بها قياسا كتحمل العاقلة الدية وإيجابه القسامة باللوث والحكم بالشفعة والفرق بين المخابرة والمساقاة وجمعت الشريعة بين أشياء مختلفة وفرقت بين أشياء متفقة فلذلك امتنع القياس ولا وجه إلا امتناع النص وقيل لأن المعارف ضرورية وهو لا يوجب العلم الضروري حكاهما الأستاذ أبو منصور وقيل لأن التعبد بالشرعيات حصل على وجه لا يصح معه القياس فلو وقع على خلافه صح ومنهم من قال لا يجوز ذلك لأن الحكم لا يقتصر على أدنى طرق البيان مع القدرة على أعلاها ولا يعلق عبادته بالظن الذي يخطئ دون العلم لأنه يؤدي إلى التضاد في الأحكام وحكاهما ابن فورك وقيل لضعف البيان الحاصل به حكاه ابن السمعاني وقيل بل ينفى بالشرع والعقل يقتضي جوازه لكن الشرع منع ونقله القاضي وغيره عن داود وقال الأستاذ أبو منصور إنه مذهب أكثر الظاهرية كداود والقاشاني والمغربي وأبي سعيد النهرواني ثم إن القاشاني والنهرواني ناقضا فقال القاشاني كل حكم وقع ونقل إلى آخر ما تقدم عنه وعن صاحبه المذكور ثم قال وأما داود الأصفهاني والنظام فأسرفا فقال داود لو قيل لنا حرم السكر لأنه حلو لم يدل على تحريم كل حلو وقال الغزالي والفرق المبطلة ثلاثة المحيلة له عقلا والموجبة له عقلا والحاظرة له شرعا قلت والمانعون له سمعا افترقوا فرقتين
____________________
(4/18)
فرقة قالت نصوص الكتاب والسنة قد وفت وأثبتت فلا حاجة إلى القياس وهو رأي ابن حزم وفرقة قالت بل حرم القول بالقياس ولو صح ما قاله الظاهري من أن النصوص وافية بحكم الحوادث لما افتقر في كثير من الحوادث إلى استصحاب الحال وأدلة العقل وقال الدبوسي نفاة القياس أربعة منهم من لا يرى دليل العقل حجة والقياس منه ومنهم من لا يراه حجة إلا في موجبات العقول والقياس ليس منها ومنهم من لا يراه حجة لأحكام الشرع ومنهم من لا يراه حجة فيها إلا عند الضرورة ولا ضرورة لأنا نحكم فيما لا نص فيه باستصحاب البراءة الأصلية والصحيح أنه حجة أصلية لا حجة ضرورية وذهب ابن حزم إلى قول غريب لم يذهب إليه غيره فيما أظن وهو أن التعبد بالقياس كان جائزا قبل نزول قوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج وقوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وأما بعدهما فلا يجوز ألبتة لأن وعد الله حق فحاصله أنه منسوخ وهو بدع من القول وهذه المذاهب كلها مهجورة وهو خلاف حادث بعد أن تقدم الإجماع بإثبات القياس من الصحابة والتابعين قولا وعملا قال الغزالي ومن ذهب إلى رد القياس فهو مقطوع بخطئه من جهة النظر محكوم بكونه مأثوما قال القاضي ولست أعد من ذهب إلى هذا المذهب من علماء الشرع ولا أبالي بخلافه قال الغزالي وهو كما قال وقال ابن المنير في شرحه ذكر القاضي بكر بن العلاء من أصحابنا أن القاضي إسماعيل أمر بداود منكر القياس فصفع في مجلسه بالنعال وحمله إلى الموفق بالبصرة ليضرب عنقه لأنه رأى أنه جحد أمرا ضروريا من الشريعة في رعاية مصالح الخلق والجلاد في هؤلاء أنفع من الجدال انتهى وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ فَلَنَا مَسَالِكُ الْأَوَّلُ دَلَالَةُ الْقُرْآنِ وَمِنْ أَشْهَرِهَا قَوْله تَعَالَى فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصَارِ وقد سُئِلَ أبو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بن يحيى ثَعْلَبٌ وهو من أَئِمَّةِ اللِّسَانِ عن الِاعْتِبَارِ فقال أَنْ يَعْقِلَ الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ فَيَعْقِلُ مثله فَقِيلَ أَخْبِرْنَا عَمَّنْ رَدَّ حُكْمَ حَادِثَةٍ إلَى نَظِيرِهَا أَيَكُونُ مُعْتَبَرًا قال نعم هو مَشْهُورٌ في كَلَامِ الْعَرَبِ حَكَاهُ الْبَلْعَمِيُّ في كِتَابِ الْغَرَرِ في الْأُصُولِ وقال بَعْضُهُمْ رَأَيْت الْقَاشَانِيُّ وَابْنَ سُرَيْجٍ
____________________
(4/19)
قد صَنَّفَا في الْقِيَاسِ نحو أَلْفِ وَرَقَةٍ هذا في نَفْيِهِ وَهَذَا في إثْبَاتِهِ اعْتَمَدَ الْقَاشَانِيُّ فيه على قَوْلِهِ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ يُتْلَى عليهم وَاعْتَمَدَ ابن سُرَيْجٍ في إثْبَاتِهِ على قَوْلِهِ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصَارِ وَنَقَلَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في التَّقْرِيبِ اتِّفَاقَ أَهْلِ اللُّغَةِ على أَنَّ الِاعْتِبَارَ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ تَمْثِيلَ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ وَاعْتِبَارَهُ بِهِ وَإِجْرَاءَ حُكْمِهِ عليه وَالتَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا في ذلك وَإِنَّمَا سُمِّيَ الِاتِّعَاظُ وَالْفِكْرُ اعْتِبَارًا لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِهِ التَّسْوِيَةُ بين الْأَمْرِ وَمِثْلِهِ وَالْحُكْمُ فيه بِحُكْمِ نَظِيرِهِ وَلَوْلَا ذلك لم يَحْصُلْ الِاتِّعَاظُ وَالِازْدِجَارُ عن الذَّنْبِ بِنُزُولِ الْعَذَابِ وَالِانْتِقَامِ بِأَهْلِ الْخِلَافِ وَالشِّقَاقِ ثُمَّ حُكِيَ ما سَبَقَ عن ثَعْلَبٍ وَزَعَمَ ابن حَزْمٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاعْتِبَارِ التَّعَجُّبُ بِدَلِيلِ سِيَاقِ الْآيَةِ وَافَقَهُ ابن عبد السَّلَامِ فقال في الْقَوَاعِدِ من الْعَجِيبِ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ على جَوَازِ الْقِيَاسِ مع أَنَّ الِاعْتِبَارَ في الْآيَةِ يُرَادُ بِهِ الِاتِّعَاظُ وَالِازْدِجَارُ وَالْمُطْلَقُ إذَا عُمِلَ بِهِ في صُورَةٍ خَرَجَ عن أَنْ يَكُونَ حُجَّةً في غَيْرِهَا بِالِاتِّفَاقِ قال وَهَذَا تَحْرِيفٌ لِكَلَامِ اللَّهِ عز وجل عن مُرَادِهِ إلَى غَيْرِ مُرَادِهِ ثُمَّ كَيْفَ يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ مع كَوْنِهِ وَاعِظًا بِمَا أَصَابَ بَنِي النَّضِيرِ من الْجَلَاءِ أَنْ يَقْرِنَ ذلك الْأَمْرَ بِقِيَاسِ الدُّخْنِ على الْبُرِّ وَالْحِمَّصِ على الشَّعِيرِ فإنه لو صَرَّحَ بهذا لَكَانَ من رَكِيكِ الْكَلَامِ وَإِدْرَاجًا له في غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَقِرَانًا بين الْمُنَافَرَاتِ انْتَهَى وَالْعَجَبُ من الشَّيْخِ فإن الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فَإِنْ مُنِعَ قُلْنَا هذا يَرْجِعُ إلَى قِيَاسِ الْعِلَّةِ لِأَنَّ إخْرَاجَهُمْ من دِيَارِهِمْ وَتَعْذِيبَهُمْ قد رُتِّبَ على الْمَعْصِيَةِ فَالْمَعْصِيَةُ عِلَّةٌ لِوُقُوعِ الْعَذَابِ فَكَأَنَّهُ قال تَقَعُوا في الْمَعْصِيَةِ فَيَقَعُ بِكُمْ الْعَذَابُ قِيَاسًا على أُولَئِكَ فَهُوَ قِيَاسُ نَهْيٍ على نَهْيٍ بِعِلَّةِ الْعَذَابِ الْمُتَرَتِّبَةِ على الْمُخَالَفَةِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وفي الِاعْتِبَارِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَأْخُوذٌ من الْعُبُورِ وهو يُجَاوِزُ الْمَذْكُورَ إلَى غَيْرِ الْمَذْكُورِ وَهَذَا هو الْقِيَاسُ وَالثَّانِي من الْعِبْرَةِ وهو اعْتِبَارُ الشَّيْءِ بمثله وَمِنْهُ عَبْرُ الْخَرَاجِ أَيْ قِيَاسُ خَرَاجِ عَامٍ بِخَرَاجِ غَيْرِهِ في الْمُمَاثَلَةِ وفي كِلَا الْوَجْهَيْنِ دَلِيلُ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالشَّيْءِ على نَظِيرِهِ وَبِالشَّاهِدِ على الْغَائِبِ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في الرِّسَالَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما
____________________
(4/20)
قَتَلَ من النَّعَمِ وقال فَهَذَا تَمْثِيلُ الشَّيْءِ بِعَدْلِهِ وقال يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَوْجَبَ الْمِثْلَ ولم يَقُلْ أَيَّ مِثْلٍ فَوَكَلَ ذلك إلَى اجْتِهَادِنَا وَأَمَرَنَا بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْقِبْلَةِ بِالِاسْتِدْلَالِ فقال وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَاحْتَجَّ ابن سُرَيْجٍ في الْوَدَائِعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ منهم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ منهم فَأُولُو الْأَمْرِ هُمْ الْعُلَمَاءُ وَالِاسْتِنْبَاطُ هو الْقِيَاسُ فَصَارَتْ هذه الْآيَةُ كَالنَّصِّ في إثْبَاتِهِ وقَوْله تَعَالَى إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فما فَوْقَهَا الْآيَةَ لِأَنَّ الْقِيَاسَ تَشْبِيهُ الشَّيْءِ فإذا جَازَ من فِعْلِ من لَا تَخْفَى عليه خَافِيَةٌ لِيُرِيَكُمْ وَجْهَ ما تَعْلَمُونَ فَهُوَ مِمَّنْ لَا يَخْلُو من الْجَهَالَةِ وَالنَّقْصِ أَجْوَزُ وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى قال من يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَهَذَا صَرِيحٌ في إثْبَاتِ الْإِعَادَةِ قِيَاسًا وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ منهم قال وَالِاسْتِنْبَاطُ مُخْتَصٌّ بِإِخْرَاجِ الْمَعَانِي من أَلْفَاظِ النُّصُوصِ مَأْخُوذٌ من اسْتِنْبَاطِ الْمَاءِ إذَا اُسْتُخْرِجَ من مَعْدِنِهِ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِلْأَحْكَامِ أَعْلَامًا من الْأَسْمَاءِ وَالْمَعَانِي بِالْأَلْفَاظِ ظَاهِرَةٌ وَالْمَعَانِي عِلَلٌ بَاطِنَةٌ فَيَكُونُ بِالِاسْمِ مَقْصُورًا عليه وَبِالْمَعْنَى مُتَعَدِّيًا فَصَارَ مَعْنَى الِاسْمِ أَخَصَّ بِالْحُكْمِ من الِاسْمِ فَعُمُومُ الْمَعْنَى بِالتَّعَدِّي وَخُصُوصُ الِاسْمِ بِالتَّوْقِيفِ وَإِنْ كانت تَابِعَةً لِلْأَسْمَاءِ لِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ فيها فَالْأَسْمَاءُ تَابِعَةٌ لِمَعَانِيهَا لِتَعَدِّيهَا إلَى غَيْرِهَا وَاحْتَجَّ ابن تَيْمِيَّةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعَدْلَ هو التَّسْوِيَةُ بين مِثْلَيْنِ في الْحُكْمِ فَيَتَنَاوَلُهُ عُمُومُ الْآيَةِ الثَّانِي دَلَالَةُ السُّنَّةِ كَحَدِيثِ مُعَاذٍ أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي وَلَا آلُو وقال النبي في خَبَرِ الْمَرْأَةِ أَرَأَيْت لو كان على أَبِيك دَيْنٌ وقال لِرَجُلٍ سَأَلَهُ أَيَقْضِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيُؤْجَرُ عليه قال
____________________
(4/21)
أَرَأَيْت لو وَضَعَهَا في حَرَامٍ كان عليه وِزْرٌ قال نعم قال فَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَهَا في حَلَالٍ كان له أَجْرٌ وقال لِرَجُلٍ من فَزَارَةَ أَنْكَرَ وَلَدَهُ لَمَّا جَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ هل لَك من إبِلٍ قال نعم قال ما أَلْوَانُهَا قال حُمْرٌ قال فيها من أَوْرَقَ قال نعم قال فَمِنْ أَيْنَ قال لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ قال وَهَذَا لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ قال الْمُزَنِيّ فَأَبَانَ له بِمَا يَعْرِفُ أَنَّ الْحُمْرَ من الْإِبِلِ تُنْتِجُ الْأَوْرَقَ فَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْبَيْضَاءُ تَلِدُ الْأَسْوَدَ فَقَاسَ أَحَدَ نَوْعَيْ الْحَيَوَانِ على الْآخَرِ وهو قِيَاسٌ في الطَّبِيعِيَّاتِ لِأَنَّ الْأَصْلَ ليس فيه نَسَبٌ حتى نَقُولَ قِيَاسٌ في إثْبَاتِ النَّسَبِ وقال لِعُمَرَ وقد قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وهو صَائِمٌ فقال أَرَأَيْت لو تَمَضْمَضْت وَمَجَجْته فقال لَا بَأْسَ فقال فَفِيمَ قال الْمُزَنِيّ فَبَيَّنَ له بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عليه كما لَا شَيْءَ في الْمَضْمَضَةِ وَأَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال مُحَرِّمُ الْحَلَالَ كَمُحَلِّلِ الْحَرَامَ وهو كَثِيرٌ وَصَنَّفَ النَّاصِحُ الْحَنْبَلِيُّ جُزْءًا في أَقْيِسَةِ النبي وَثَبَتَ ذلك عن الصَّحَابَةِ كَقَوْلِ عُمَرَ لِأَبِي مُوسَى وَاعْرِفْ الْأَشْبَاهَ وَالْأَمْثَالَ وَقِسْ الْأُمُورَ عِنْدَك وقد تَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ في زَمَنِ النبي في الْعِلَلِ فَفِي الْبُخَارِيِّ عن عبد اللَّهِ بن أبي أَوْفَى لَمَّا نهى عن تَحْرِيمِ الْحُمُرِ يوم خَيْبَرَ قال فَتَحَدَّثْنَا أَنَّهُ إنَّمَا نهى عنها لِأَنَّهَا لم تُخَمَّسْ وقال بَعْضُهُمْ نهى عنها أَلْبَتَّةَ لِأَنَّهَا كانت تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ الثَّالِثُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا على الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ وَنُقِلَ ذلك عَنْهُمْ قَوْلًا وَفِعْلًا قال ابن عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ وقد بَلَغَ التَّوَاتُرُ الْمَعْنَوِيُّ عن الصَّحَابَةِ بِاسْتِعْمَالِهِ وهو قَطْعِيٌّ وقال الْهِنْدِيُّ دَلِيلُ الْإِجْمَاعِ هو الْمُعَوِّلُ عليه جَمَاهِيرُ الْمُحَقِّقِينَ من الْأُصُولِيِّينَ وقال ابن دَقِيقِ
____________________
(4/22)
الْعِيدِ عِنْدِي أَنَّ الْمُعْتَمَدَ اشْتِهَارُ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ في أَقْطَارِ الْأَرْضِ شَرْقًا وَغَرْبًا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ إلَّا عِنْدَ شُذُوذِ مُتَأَخِّرِينَ قال وَهَذَا من أَقْوَى الْأَدِلَّةِ وقال ابن بَرْهَانٍ أَوْجَزَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْعِبَادَةَ فقال انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ على أَنَّ التَّعَبُّدَ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِدَلِيلِهِ جَائِزٌ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ التَّعَبُّدُ بِالْقِيَاسِ الْمَظْنُونِ دَلِيلُهُ الرَّابِعُ طَرِيقُ الْعَقْلِ وهو أَنَّ النُّصُوصَ لَا تَفِي بِالْأَحْكَامِ لِأَنَّهَا مُتَنَاهِيَةٌ وَالْحَوَادِثُ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ فَلَا بُدَّ من طَرِيقٍ آخَرَ شَرْعِيٍّ يُضَافُ إلَيْهِ لَكِنَّ لهم أَنْ يَمْنَعُوا تَنَاهِي النُّصُوصِ فإن الْمَعْنَى إذَا ظَهَرَ تَنَاوَلَ ذلك الْفَرْعَ على سَبِيلِ الْعُمُومِ في جَمِيعِ الْأَذْهَانِ فإن أَفْرَادَ الْعُمُومِ لَا تَتَنَاهَى فإذا تُصُوِّرَ عَدَمُ التَّنَاهِي في الْأَلْفَاظِ فَفِي الْمَعَانِي أَوْلَى قال الْقَفَّالُ وَلِأَنَّهُ لَا حَادِثَةَ إلَّا وَلِلَّهِ فيها حُكْمٌ اشْتَمَلَ الْقُرْآنُ على بَيَانِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ما فَرَّطْنَا في الْكِتَابِ من شَيْءٍ وَرَأَيْنَا الْمَنْصُوصَ لم يُحِطْ بِجَمِيعِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ فَدَلَّ على أَنَّا مَأْمُورُونَ بِالِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسِ وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْمُزَنِيّ في كِتَابِ إثْبَاتِ الْقِيَاسِ لو لم يَكُنْ لِلنَّظِيرِ حُكْمُ نَظِيرِهِ في الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَبَطَلَ الْقِيَاسُ وَلَمَا جَازَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إلَّا بِنَصِّ كِتَابٍ أو سُنَّةٍ وكان ما اُخْتُلِفَ فيه مُهْمَلًا لَا حُكْمَ له وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ قال الْمُزَنِيّ في كِتَابِ إثْبَاتِ الْقِيَاسِ تَعَلَّقَ الْمَانِعُونَ بِآثَارٍ وَرَدَتْ في ذَمِّ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ وَإِنَّمَا هِيَ عِنْدَمَا رَأَى أَهْلُ الْبِدَعِ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا في الدِّينِ رَأْيًا وَسَمَّوْا فُرُوعَهُ قِيَاسًا وَأَغْفَلُوا كَشْفَ الْقَوْلِ في الرَّأْيِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالتَّمْثِيلِ عَلَيْهِمَا غير أَنَّهُ كان لَطِيفًا دَقِيقًا يَحْتَاجُ إلَى حِدَّةِ الْعُقُولِ وَمَعْرِفَةِ مَعَانِي الْأُصُولِ كَتَقْرِيرِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مُعَاذًا على الِاجْتِهَادِ على أَصْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقَوْلِ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه في قَضِيَّةِ الطَّاعُونِ أَرَأَيْت لو كانت لَك إبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا وَعَلَى الْمَذْمُومِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم اتَّخَذَ الناس رُءُوسًا جُهَّالًا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا وَالْجَمْعُ بين الْأَدِلَّةِ أَوْلَى من تَعْطِيلِ بَعْضِهَا قال ابن الْقَفَّالِ وقد قِيلَ إنَّ دَاوُد سَأَلَ الْمُزَنِيّ عن الْقِيَاسِ أَهُوَ أَصْلٌ أَمْ الْفَرْعُ فَأَجَابَهُ الْمُزَنِيّ إنْ قُلْت الْقِيَاسُ أَصْلٌ أو فَرْعٌ أو أَصْلٌ وَفَرْعٌ أو لَا أَصْلٌ وَلَا فَرْعٌ لم تَقْدِرْ على شَيْءٍ وَإِنَّمَا عَنَى بِهِ أَنَّهُ أَصْلٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ
____________________
(4/23)
قال ابن الْقَطَّانِ هو فَرْعٌ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَبَّهَ عليه بِغَيْرِهِ وهو أَصْلٌ وَفَرْعٌ بِاعْتِبَارَيْنِ لَمَّا عَرَفْت أَنَّهُ فَرْعٌ لِغَيْرِهِ الذي عُرِفَ منه وهو الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَا أَصْلٌ وَلَا فَرْعٌ أَنَّهُ فِعْلُ الْقَائِسِ وقال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ سَأَلَ دَاوُد الْقَائِسِينَ سُؤَالًا دَلَّ على جَهْلِهِ بِمَعْنَى الْقِيَاسِ فقال خَبِّرُونِي عن الْقِيَاسِ أَصْلٌ هو أَمْ فَرْعٌ فَإِنْ كان أَصْلًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فيه خِلَافٌ وَإِنْ كان فَرْعًا فَفَرْعٌ على أَيِّ أَصْلٍ قال الرَّازِيَّ وَالْقِيَاسُ إنَّمَا هو فِعْلُ الْقَائِسِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِفِعْلِ الْقَائِسِ إنَّهُ أَصْلٌ أو فَرْعٌ وَإِنَّمَا وَجْهُ تَصْحِيحِ السُّؤَالِ أَنْ يَقُولَ خَبِّرُونِي عن وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ أو الْحُكْمِ بِجَوَازِ الْقِيَاسِ أَهُوَ أَصْلٌ أَمْ فَرْعٌ فَيَكُونُ الْجَوَابُ عنه أَنَّ الْقِيَاسَ أَصْلٌ بِمَا بُنِيَ عليه وَفَرْعٌ على ما بُنِيَ عليه فَأَصْلُهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَفَرْعُهُ سَائِرُ الْحَوَادِثِ الْقِيَاسِيَّةِ التي لَا تَوْقِيفَ فيها وَلَا إجْمَاعَ وقال ابن سُرَيْجٍ في كِتَابِ إثْبَاتِ الْقِيَاسِ قال بَعْضُهُمْ خَبِّرُونَا عن الْقِيَاسِ فَرْضٌ هو أو نَدْبٌ فَإِنْ قُلْتُمْ نَدْبٌ فَقَدْ أَوْجَبْتُمْ التَّشْرِيعَ في الدِّينِ وَإِنْ قُلْتُمْ فَرْضٌ فما وَجَدْنَا ذلك قُلْنَا بَلْ فَرْضٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالنَّفَقَةِ على الزَّوْجَةِ وَبِالْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ على قَاتِلِ الصَّيْدِ وَبِقَبُولِ الْجِزْيَةِ ولم يُبَيِّنْ ذلك فَوَجَبَ النَّظَرُ فيه قال وَحَقِيقَةُ الْقِيَاسِ فِعْلُ أَمْرِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ بِهِ في وَقْتٍ كما أَمَرَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ في وَقْتٍ فَلَا يُسَمَّى الْقِيَاسُ أَصْلًا وَلَا فَرْعًا لِذَلِكَ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ حَرَّرَ الْهِنْدِيُّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فقال إذَا عَلِمْنَا أَنَّ الْحُكْمَ في مَحَلِّ الْوِفَاقِ مُعَلَّلٌ بِكَذَا أو عَلِمْنَا حُصُولَ الْوَصْفِ مع جَمِيعِ ما يُعْتَبَرُ في إفْضَائِهِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ في صُورَةِ النِّزَاعِ عَلِمْنَا حُصُولَ مِثْلِ ذلك الْحُكْمِ في صُورَةِ النِّزَاعِ فَهَذَا النَّوْعُ من الْقِيَاسِ مِمَّا لَا نِزَاعَ فيه بين الْعُقَلَاءِ بَلْ الْكُلُّ أَطْبَقُوا على حُجِّيَّتِهِ فَأَمَّا إذَا كانت هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ ظَنِّيَّتَيْنِ أو إحْدَاهُمَا ظَنِّيَّةً كان حُصُولُ ذلك الْحُكْمِ في صُورَةِ النِّزَاعِ ظَنًّا لَا مَحَالَةَ وَهَذَا لَا نِزَاعَ في أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ وَالْخَبَرَ بِالنَّتِيجَةِ بَلْ إنْ كان في الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَقَدْ اتَّفَقُوا على وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَأَمَّا في الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ أَنَّ هذا مَحَلُّ الْخِلَافِ وَكَلَامُ الْغَزَالِيِّ يَقْتَضِي التَّفْصِيلَ بين ما إذَا كَانَتَا ظَنِّيَّتَيْنِ فَكَذَلِكَ أو إحْدَاهُمَا ظَنِّيَّةً وَالْأُخْرَى قَطْعِيَّةً فَلَيْسَ من مَحَلِّ الْخِلَافِ أَيْضًا على مَعْنَى ما إذَا كانت الْأُولَى قَطْعِيَّةً أَعْنِي كَوْنَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِكَذَا وَالثَّانِيَةُ أَعْنِي تَحْقِيقَهَا في صُورَةِ النِّزَاعِ ظَنِّيَّةٌ فَهَذَا مَحَلُّ وِفَاقٍ أَمَّا
____________________
(4/24)
إذَا كانت هِيَ ظَنِّيَّةً سَوَاءٌ كانت الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ قَطْعِيَّةً أو ظَنِّيَّةً فإنه من مَحَلِّ الْخِلَافِ وَكَلَامُ الْإِمَامِ يَقْتَضِي أَنَّ الْكُلَّ من مَحَلِّ الْخِلَافِ الثَّانِي أَفْرَطَ في الْقِيَاسِ فِرْقَتَانِ الْمُنْكِرُ له وَالْمُسْتَرْسِلُ فيه كَغُلَاةِ أَهْلِ الرَّأْيِ قال ابن الْمُنِيرِ وما شَبَّهْتُ تَصَرُّفَ الْمُجْتَهِدِينَ بِالْعُقُولِ في الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إلَّا بِتَصَرُّفِهِمْ في الْأَفْعَالِ الْوُجُودِيَّةِ أَمْرٌ بين أَمْرَيْنِ لَا جَبْرٌ وَلَا تَفْوِيضٌ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَحْكَامَ كُلَّهَا تَعَبُّدِيَّةٌ لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فيها أَلْحَقَهُ بِجُحُودِ الْجَبْرِيَّةِ وَمَنْ زَعَمَ أنها قِيَاسِيَّةٌ مَحْضَةٌ وَأَطْلَقَ لِسَانَهُ في التَّصَرُّفِ أَلْحَقَهُ بِتَهَوُّرِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْحَقُّ في التَّوَسُّطِ وكان بين ذلك قَوَامًا قُلْت وَمِنْ الْبَلِيَّةِ اقْتِصَارُ كَثِيرٍ من الْفُقَهَاءِ على الِاسْتِدْلَالِ على الْقِيَاسِ وَعَدَمُ بَحْثِهِمْ عن النَّصِّ فيها وهو مَوْجُودٌ لو تَطْلُبُوهُ مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ من أُصُولِ الْفِقْهِ أَيْ أَدِلَّتِهِ خِلَافًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ وَإِلْكِيَا وَاخْتَلَفَتْ مَآخِذُهُمْ فقال الْغَزَالِيُّ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ هِيَ الْمُثْمِرَةُ وَالْأَحْكَامُ وَالْقِيَاسُ من طُرُقِ الِاسْتِثْمَارِ فإنه لَا دَلَالَةَ من حَيْثُ مَعْقُولُ اللَّفْظِ وَأَنَّ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ دَلَالَةٌ من حَيْثُ صِيغَتُهُ وقال الْإِمَامُ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ إنَّمَا تُطْلَقُ على الْمَقْطُوعِ بِهِ وَالْقِيَاسُ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ ثُمَّ اعْتَذَرَ عن إدْخَالِهِ في الْأُصُولِ بِقِيَامِ الْقَاطِعِ على الْعَمَلِ بِهِ وَهَذَا فَرْعٌ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَكُونُ قَطْعِيًّا كما سَيَأْتِي لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ عِبَارَةٌ عن أَدِلَّةٍ فَقَطْ سَلَّمْنَا لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدَّلِيلَ لَا يَقَعُ إلَّا على الْمَقْطُوعِ بِهِ
____________________
(4/25)
مَسْأَلَةٌ وَالْقِيَاسُ ظَنِّيٌّ نَصَّ عليه في الرِّسَالَةِ فقال إنَّهُ حَقٌّ في الظَّاهِرِ عِنْدَ قَائِسِهِ لَا عِنْدَ الْعَامَّةِ من الْعُلَمَاءِ قال الصَّيْرَفِيُّ أَرَادَ أَنَّهُ ليس حَقًّا في الظَّاهِرِ حتى يَلْزَمَ بِظَاهِرِ الْأَدِلَّةِ وَيَجُوزُ الْخِلَافُ فيه وَلَوْ كان قَطْعِيًّا لم يَقَعْ فيه خِلَافٌ انْتَهَى وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ في الْفَحْوَى إنَّهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ مع أَنَّهُ قَطْعِيٌّ على أَنَّهُ قد كَثُرَ الْقَوْلُ فيه كما قَالَهُ الْقَفَّالُ وَأَنَّ دَلَالَتَهُ لَفْظِيَّةٌ على قَوْلٍ فَعَلَى هذا لَا تَظْفَرُ بِقِيَاسٍ قَطْعِيٍّ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَنْصُوصًا عليها على أَنَّ بَعْضَهُمْ لم يَجْعَلْهُ قِيَاسًا قُلْت دَلَالَةُ اللَّفْظِ بِهِ وَلِهَذَا قال بِهِ مُنْكِرُو الْقِيَاسِ وَمِمَّنْ أَطْلَقَ ظَنِّيَّةَ الْقِيَاسِ الْإِمَامَانِ الْجُوَيْنِيُّ وَالرَّازِيَّ وَغَيْرُهُمَا وَحِينَئِذٍ فَيَنْتَهِضُ بِالْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ قال في الْبُرْهَانِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمُ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِأَعْيَانِهَا وَإِنَّمَا يَقَعُ الْعِلْمُ عِنْدَهَا وَالْعِلْمُ بِوُجُوبِهِ مُسْتَنِدٌ إلَى أَدِلَّةٍ قَاطِعَةٍ وَأَمَّا قَوْلُ من قال الظَّاهِرُ الدَّالُّ على كَوْنِ الْقِيَاسِ حُجَّةً فَإِنْ كان بِمُجَرَّدِهِ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ وَلَكِنْ اقْتَرَنَتْ بها أُمُورٌ مَجْمُوعُهَا يُفِيدُ الْقَطْعَ قُلْنَا هذا مُجَرَّدُ دَعْوَى الْقَطْعِ في مَوَاضِعِ الظُّنُونِ وَمُطَالَبَتُهُ بِالدَّلِيلِ على وُجُودِ تِلْكَ الْأُمُورِ الْمَقْرُونَةِ بِالظَّاهِرِ وَلَا نَجِدُ إلَى بَيَانِهَا سَبِيلًا أَصْلًا وَلَوْ أَفَادَ ما ذَكَرَهُ الْقَطْعَ لَمَا عَجَزَ أَحَدٌ عن دَعْوَى الْقَطْعِ في مَوَاضِعِ الظُّنُونِ وَحَكَى سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقِيَاسَ قَطْعِيٌّ بِمَنْزِلَةِ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ إذَا غَلَبَ على ظَنِّ الْحَاكِمِ صِدْقُهُمَا مَسْأَلَةٌ لَا يُحْكَمُ بِفِسْقِ الْمُخَالِفِ وَإِنْ قُلْنَا دَلِيلُهُ قَطْعِيٌّ لِأَنَّهُ مُتَأَوَّلٌ وقال بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّهُ يُحْكَمُ بِفِسْقِهِ حَكَاهُ الْحَلْوَانِيُّ
____________________
(4/26)
مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ يُعْمَلُ بِهِ قَطْعًا الْقِيَاسُ يُعْمَلُ بِهِ قَطْعًا عِنْدَنَا في نَصِّ الشَّارِعِ أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى نَصِّ الْمُجْتَهِدِ كما لو نَصَّ على حُكْمٍ فَهَلْ تُسْتَنْبَطُ الْعِلَّةُ وَيُعَدَّى الْحُكْمُ قال الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ الْقَضَاءِ حَكَى وَالِدِي عن الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بن يحيى الْمَنْعَ في ذلك وَإِنَّمَا جَازَ في نُصُوصِ الشَّارِعِ لِأَنَّا تُعُبِّدْنَا وَأُمِرْنَا بِالْقِيَاسِ وَالْأَشْبَهُ بِصَنِيعِ الْأَصْحَابِ خِلَافُهُ أَلَا تَرَاهُمْ يَنْقُلُونَ الْحُكْمَ ثُمَّ يَخْتَلِفُونَ في أَنَّ الْعِلَّةَ كَذَا وَكَذَا وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُطَّرِدُ الْحُكْمِ في فُرُوعِ عِلَّتِهِ وَهَذَا كما قال وهو الْمُعَبَّرُ عنه بِالتَّخْرِيجِ مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ يُعْمَلُ بِهِ ابْتِدَاءً وَالْقِيَاسُ إنَّمَا يُعْمَلُ بِهِ ابْتِدَاءً فَأَمَّا النَّسْخُ بِهِ فَلَا يَجُوزُ وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ فَلَا يَقَعُ وقد سَبَقَتْ في النَّسْخِ قُلْت وَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ في أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ أَثْبَتْنَاهَا بِالظَّنِّيِّ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ قَالَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ في الْمُرْشِدِ مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَقِيلَ لَا يَجُوزُ مَسْأَلَةٌ هل يَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهَ بِالْقِيَاسِ من عَاصَرَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مَذْهَبُ الْمُعْظَمِ جَوَازُهُ وَقِيلَ لَا يَجُوزُ وَقِيلَ يُفْصَلُ بين الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ هَكَذَا حَكَى الْخِلَافَ هُنَا ابن بَرْهَانٍ وَتَابَعَ فيه الْغَزَالِيُّ فإنه سَوَّى بين التَّعَبُّدِ بِالِاجْتِهَادِ في زَمَانِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَبِالْقِيَاسِ في جَرَيَانِ الْخِلَافِ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ
____________________
(4/27)
مَسْأَلَةٌ التَّعَبُّدُ بِالْقِيَاسِ في الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَا يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِالْقِيَاسِ في جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَنُقِلَ عَمَّنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ خِلَافُهُ قال الْغَزَالِيُّ وابن بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُمَا وقال ابن السَّمْعَانِيِّ يَجُوزُ التَّعَبُّدُ في جَمِيعِ الشَّرْعِيَّاتِ بِالنُّصُوصِ قال وَمِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَنُصَّ اللَّهُ على صِفَاتِ الْمَسَائِلِ في الْجُمْلَةِ فَيَدْخُلُ تَفْصِيلُهَا فيها فَأَمَّا التَّعَبُّدُ في جَمِيعِهَا بِالْقِيَاسِ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْقِيَاسَ حَمْلُ فَرْعٍ على أَصْلٍ فإذا لم يَكُنْ أَصْلٌ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْقِيَاسُ وإذا عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ جَمِيعِهَا بِالْقِيَاسِ فَتَقُولُ ليس بِالْقِيَاسِ تَخْصِيصٌ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ من الْأَحْكَامِ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ جَمِيعُهَا ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ قال فَعَلَى هذا قال الْأَصْحَابُ ثَبَتَتْ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْقِيَاسِ على مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَخَصَّصُ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ بَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ في كل حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَيَتَفَرَّعُ على هذه الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مع الْحَنَفِيَّةِ في اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ في الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ مسألة نص الشارع على الحكم والعلة إذا نص صاحب الشرع على حكم ونص على علته كما لو قال حرمت الخمر لكونها مسكرا أو أعتقت غانما لسواده هل هو إذن منه في القياس أينما وجدت العلة أم لا بد من دليل على القياس فذهب جمهور الفقهاء والأصوليين والمتكلمين والمعتزلة والنظام وبعض الظاهرية من منكري القياس إلى أنه إذن في إلحاق غيره به وإلا لم يكن للعلة فائدة وسواء ورد ذلك قبل ثبوت التعبد بالقياس أو بعد ثبوته قال أبو سفيان من الحنفية وإليه كان يشير شيخنا يعني أبا بكر الرازي في احتجاجه بقوله صلى الله عليه وسلم إنما ذلك دم عرق فتوضئي لكل صلاة في إيجاب الوضوء من الرعاف ونحوه وصار بمثابة قوله الوضوء من كل
____________________
(4/28)
دم عرق قال أبو الحسين وأوجب أبو هاشم القياس بها وإنما لم يرد التعبد بالقياس وصار بعض الظاهرية إلى أنه ليس بإذن بل لا بد معه من دليل ونقله الآمدي عن الأستاذ أبي إسحاق وأكثر الشافعية واختاره تبعا للإمام والغزالي وقال سليم الرازي إنه قول أكثر أصحابنا وعليه الفقهاء والمتكلمون لجواز أن يكون ذكر العلة لتعريف الباعث على الحكم ليكون أقرب إلى الاعتبار لا لأجل الإلحاق ويقوى القول بهذا إذا قلنا إن الدليل الدال على وجوب التعبد بالقياس يجب أن يكون قطعيا فإن غاية هذا الظن فإن قيل النص على العلة في نحو حرمت الخمر لشدتها لو لم يعتبر التعميم لم يكن له فائدة قلنا له فوائد منها معرفة الباعث كما سبق ومنها زوال الحكم عند زوال العلة كزوال التحريم عند زوال الشدة ومنها ما سيأتي في فائدة العلة القاصرة من انقياد المكلف إلى الامتثال لظهور المناسب ومرادهم بالدليل تقدم الإذن بالقياس ولهذا فصل جعفر بن حرب وابن مبشر شيخا المعتزلة بين أن يرد قبل ورود التعبد بالقياس ولا يجوز تعد به وإلا جاز واختاره أبو سفيان من الحنفية وفصل أبو عبد الله البصري بين إن كان الحكم المنصوص عليه من قبيل المحرمات فهو إذن وإن كان من قبيل المباح أو الواجب فلا قال الهندي والمختار أن ذلك لا يفيد ثبوت الحكم في غير الصورة التي نص عليها لا بطريق اللفظ ولا بطريق أنه يفيد الأمر بالقياس وهنا تنبيهان الأول أن القائلين بالاكتفاء مطلقا هم أكثر نفاة القياس ولا يستنكر ذلك منهم لأنهم يرون أن التنصيص على علة الحكم تنزل منزلة اللفظ العام في وجوب تعميم الحكم ولا فرق عندهم بين أن يقول حرمت الخمر لإسكارها أو حرمت على كل مسكر كما صرح به الصيرفي في كتابه هذا تحرير مذهب النظام وغيره ومنكري القياس فكأنه أنكر تسمية هذا قياسا وإن كان قائلا به في المعنى وكذا نقله القاضي عبد الوهاب في الملخص وسليم في التقريب وغيرهما وقد سبق في باب العموم المعنوي أن تعميم مثل هذا هل هو بالقياس أو الصيغة قولان للشافعي والصحيح أنه عمم بالقياس وقال الهندي
____________________
(4/29)
نقل الأكثرون عن النظام أن التعميم فيه بالقياس ونقل الغزالي عنه أنه يجري تعميم الحكم في جميع موارده بطريق اللفظ والعموم ولا شك أنه مخالف لنقل الأكثر ومناف له فإن التعميم بطريق القياس لا يجامع التعميم بالقياس فحينئذ لا يكون ذلك أمرا بالقياس عنده وإن كان الحكم ثابتا عنده في غير الصورة التي نص عليها قلت وما حكاه الغزالي أظهر لما سبق عن النظام من إنكار القول بالقياس ولهذا قال الغزالي ظن النظام أنه منكر للقياس وقد زاد علينا إذ قاس حيث لا يقيس لكنه أنكر اسم القياس انتهى وهو لم يدع أنه بالقياس بل باللفظ فكان من حقه أن يبطل هذه الجهة من القياس وقد يجمع بين إنكاره القياس وما نقله عنه الأكثرون بأنه إذا وقع التنصيص على العلة فمدلول اللفظ الأمر بالقياس لغة ولم يتعرض لوقوعه من الشارع أو غيره وهناك أحال وروده من الشارع لكن يلزم على هذا أن يقول إن الشارع لا يقع منه التنصيص على العلة من حيث هو فمدلوله ما ذكرناه الثاني سبق عن الأستاذ أبي إسحاق نقل التعميم فإنه قال في كتابه إذا نص الشارع على العلة على وجه لا يقبل تأويلها فلا بد أن يعم الحكم إذ لو اختص الحكم لوجب أن تختص العلة ووضع التعليل يناقضه الاختصاص وهذا وإن كان فيه موافقة للنظام لكن مأخذه خلاف مأخذه وهو القول بامتناع تخصيص العلة وليس يرى أن النص على التعليل نص على التعميم ولكن هذا عنده من ضرورة فهم التعليل وهو يمنع النص على التعليل مع النص على التخصيص وينبغي تنزيل إطلاق غيره من أصحابنا الموافقين للنظام على ذلك مسألة إنما يستعمل القياس إذا عدم النص وقد قال الشافعي في آخر الرسالة القياس موضع ضرورة لأنه لا يحل القياس والخبر موجود كما يكون التيمم طهارة عند الإعواز من الماء ولا يكون طهارة إذا وجد الماء انتهى وأطلق الأستاذ أبو إسحاق أن المسألة إذا لم يكن فيها نص ولا إجماع
____________________
(4/30)
وجب القياس فيها وإلا جاز وهل يعمل به قبل البحث عن المنصوص وجميع دلالتها للمسألة أحوال أحدها أن يريد العمل به قبل طلب الحكم من النصوص المعروفة فيمتنع قطعا الثانية قبل طلب نصوص لا يعرفها مع رجاء الوجود أو طلبها فطريقه يقتضي جوازه ومذهب الشافعي ومذهب أحمد وفقهاء الحديث لا يجوز ولهذا جعلوا القياس ضرورات بمنزلة التيمم لا يعدل إليه إلا إذا غلب على ظنه عدم الماء وهو معنى قول أحمد وما تصنع بالقياس وفي الحديث ما يغنيك عنه ولها شبه بجواز الاجتهاد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فإن وجود النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة النص يحتمل الجواز إذا خاف الفوت على حكم الحادثة الثالثة أنه ييأس من النص ويغلب على ظنه عدمه فهاهنا يجوز قطعا وقد سبق قبل هذه المسألة في العمل بالعام قبل البحث عن المخصص والناسخ وأنه إذا اجتهد ولم يجد المعارض عمل به ويزيد هنا أنه هل له أن يقيس عليه قال القاضي عبد الجبار لا لأنه لا يقطع بثبوته وخالف أبو الحسين في المعتمد وهو الأظهر كما يجب أن يقضي بظاهره وهو فرع غريب مَسْأَلَةٌ الْمُرْسَلُ وَالضَّعِيفُ أَوْلَى من الْقِيَاسِ حَكَى ابن حَزْمٍ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخَبَرَ الْمُرْسَلَ وَالضَّعِيفَ أَوْلَى من الْقِيَاسِ وَلَا يَحِلُّ الْقِيَاسُ مع وُجُودِهِ قال وَالرِّوَايَةُ عن الصَّاحِبِ الذي لَا يُعْرَفُ له مُخَالِفٌ منهم أَوْلَى من الْقِيَاسِ وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ مع نَصِّ الْقُرْآنِ أو خَبَرٍ مُسْنَدٍ صَحِيحٍ وَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِهِمَا فإن الْقِيَاسَ وَاجِبٌ في كل حُكْمٍ وقال أبو الْفَرَجِ الْقَاضِي وأبو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ الْمَالِكِيَّانِ الْقِيَاسُ أَوْلَى من خَبَرِ الْوَاحِدِ الْمُسْنَدِ وَالْمُرْسَلِ قال ابن حَزْمٍ وما نَعْلَمُ هذا الْقَوْلَ عن مُسْلِمٍ يَرَى قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ قَبْلَهُمَا وَحَكَى الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أبو شَامَةَ في كِتَابِ الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ عن الْقَاضِي ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ سمع أَبَا الْوَفَاءِ بن عَقِيلٍ في رِحْلَتِهِ إلَى الْعِرَاقِ يقول مَذْهَبُ أَحْمَدَ أَنَّ ضَعِيفَ الْأَثَرِ
____________________
(4/31)
خَيْرٌ من قَوِيِّ النَّظَرِ قال ابن الْعَرَبِيِّ وَهَذِهِ وَهْلَةٌ من أَحْمَدَ لَا تَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ فإن ضَعِيفَ الْأَثَرِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ مُطْلَقًا وقال بَعْضُ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ هذا ما حَكَاهُ عن أَحْمَدَ ابْنُهُ عبد اللَّهِ ذَكَرَهُ في مَسَائِلِهِ وَمُرَادُهُ بِالضَّعِيفِ غَيْرُ ما اصْطَلَحَ عليه الْمُتَأَخِّرُونَ من قِسْمِ الصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ بَلْ عِنْدَهُ الْحَدِيثُ قِسْمَانِ صَحِيحٌ وَضَعِيفٌ وَالضَّعِيفُ ما انْحَطَّ على دَرَجَةِ الصَّحِيحِ وَإِنْ كان حَسَنًا وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ قد يُعْمَلُ بِهِ مع وُجُودِ النَّصِّ في صُوَرٍ منها أَنْ يَكُونَ النَّصُّ عَامًّا وَالْقِيَاسُ خَاصًّا وَقُلْنَا بِقَوْلِ الْجُمْهُورِ إنَّهُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ فَالْقِيَاسُ مُقَدَّمٌ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْقِيَاسِ ثَبَتَ بِنَصٍّ أَقْوَى من ذلك النَّصِّ الْمُعَارِضِ وَقَطَعَ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ في الْفَرْعِ فإنه يُقَدَّمُ على النَّصِّ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ النَّصُّ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ من كل وَجْهٍ على رَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْقِيَاسَ على خَبَرِ الْوَاحِدِ وَحَكَاهُ ابن بَرْهَانٍ عن مَالِكٍ أَيْضًا
____________________
(4/32)
الْبَابُ الرَّابِعُ في أَنْوَاعِهِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وقد قَسَّمَهُ ابن سُرَيْجٍ إلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ وَمِنْ أَصْحَابِنَا من زَادَ على ذلك انْتَهَى النَّوْعُ الْأَوَّلُ قِيَاسُ الْعِلَّةِ وهو أَنْ يَحْمِلَ الْفَرْعَ على الْأَصْلِ بِالْعِلَّةِ التي عَلَّقَ الْحُكْمَ عليها في الشَّرْعِ وَيُسَمَّى قِيَاسُ الْمَعْنَى وَيَنْقَسِمُ إلَى جَلِيٍّ وَخَفِيٍّ فَأَمَّا الْجَلِيُّ فما عُلِمَ من غَيْرِ مُعَانَاةٍ وَفِكْرٍ وَالْخَفِيُّ ما لَا يَتَبَيَّنُ إلَّا بِإِعْمَالِ فِكْرٍ وَالْجَلِيُّ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا ما تَنَاهَى في الْجَلَاءِ حتى لَا يَجُوزَ وُرُودُ الشَّرِيعَةِ في الْفَرْعِ على خِلَافِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَنَحْوِهِ وَثَانِيهِمَا دُونَهُ كَقَوْلِهِ لَا يَقْضِي الْقَاضِي وهو غَضْبَانُ هذا كَلَامُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَقَسَّمَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ قِيَاسَ الْعِلَّةِ إلَى جَلِيٍّ وَوَاضِحٍ وَخَفِيٍّ قال فَالْجَلِيُّ ما عُرِفَتْ عِلَّتُهُ قَطْعًا إمَّا نَصٌّ أو إجْمَاعٌ والواضح ما ثَبَتَتْ عِلَّتُهُ بِضَرْبٍ من الظَّاهِرِ والخفي ما عُرِفَتْ عِلَّتُهُ بِالِاسْتِنْبَاطِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ الْجَلِيُّ ما يَكُونُ مَعْنَاهُ في الْفَرْعِ زَائِدًا على مَعْنَى الْأَصْلِ وَالْخَفِيُّ ما يَكُونُ في الْفَرْعِ مُسَاوِيًا لِمَعْنَى الْأَصْلِ أَقْسَامُ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ ثُمَّ قَسَمَا الْجَلِيَّ تَبَعًا لِلْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ وَغَيْرِهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا ما عُرِفَ مَعْنَاهُ من ظَاهِرِ النَّصِّ بِغَيْرِ اسْتِدْلَالٍ قَالَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ
____________________
(4/33)
يَرِدَ التَّعَبُّدُ فيه بِخِلَافِ أَصْلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ فإنه يَدُلُّ على تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ بِالْبَدِيهَةِ وَعَلَى تَحْرِيمِ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ قِيَاسًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحَرِّمَ التَّأْفِيفَ وَيُبِيحَ الضَّرْبَ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجَازِيَ على قَلِيلِ الطَّاعَةِ وَلَا يُجَازِيَ على كَبِيرِهَا وَيُعَاقِبَ على قَلِيلِ الْمَعْصِيَةِ وَلَا يُعَاقِبَ على كَبِيرِهَا قال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ حُكْمُ ذَرَّةٍ وَنِصْفٍ بِمَنْزِلَةِ ذَرَّةٍ وَإِنَّمَا قال هذا حتى لَا يَقُولَ مَبْهُوتٌ إنَّ الْكَثِيرَ ذَرَّاتٌ فَالِاسْمُ مُتَنَاوِلٌ لها يُشِيرُ إلَى ما حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في مُنَاظَرَةٍ جَرَتْ لِابْنِ سُرَيْجٍ مع مُحَمَّدِ بن دَاوُد إذْ قال له ابن سُرَيْجٍ أنت تَلْزَمُ الظَّاهِرَ وقد قال تَعَالَى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ فما تَقُولُ فِيمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّتَيْنِ فقال مُجِيبًا الذَّرَّتَانِ ذَرَّةٌ وَذَرَّةٌ فقال ابن سُرَيْجٍ لو عَمِلَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَنِصْفٍ فَتَبَلَّدَ وَظَهَرَ انْقِطَاعُهُ وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَا يُسَمَّى هذا قِيَاسًا قُلْت لِأَنَّ الْعَرَبَ وَضَعَتْ هذه اللَّفْظَةَ لِلتَّنْبِيهِ على ما زَادَ عليه فَيَكُونُ النَّهْيُ عن الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ بِاللَّفْظِ وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ مَفْهُومُ الْخِطَابِ وَقِيلَ فَحْوَى الْخِطَابِ قالوا وَالْقِيَاسُ ما خَفِيَ حُكْمُ الْمَنْطُوقِ عنه حتى عُرِفَ بِالِاسْتِدْلَالِ من الْمَنْصُوصِ عليه وما خَرَجَ عن الْخَفَاءِ ولم يَحْتَجْ إلَى الِاسْتِدْلَالِ فَلَيْسَ بِقِيَاسٍ وقال نُفَاةُ الْقِيَاسِ ليس بِقِيَاسٍ بَلْ نَصٌّ وَقِيلَ تَنْبِيهٌ وَضَعْفٌ لِأَنَّ النَّصَّ ما عُرِفَ حُكْمُ مَرَاتِبِهِ وَالْقِيَاسُ ما عُرِفَ حُكْمُهُ من اسْمِ غَيْرِهِ وهو مَوْجُودٌ لِأَنَّ اسْمَ التَّأْفِيفِ لَا يَنْطَلِقُ على الضَّرْبِ كما لَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الضَّرْبِ على التَّأْفِيفِ فَتَحْرِيمُ الضَّرْبِ مَأْخُوذٌ من مَعْنَى التَّأْفِيفِ لَا من اسْمِهِ فَإِنْ امْتَنَعُوا من تَسْمِيَتِهِ قِيَاسًا فَقَدْ خَالَفُوا في الِاسْمِ فَاخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ في الْوُضُوحِ وَالْغُمُوضِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهَا نُصُوصًا فَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْمَعَانِي في الْخَفَاءِ وَالْجَلَاءُ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ قِيَاسًا وَاعْلَمْ أَنَّ هذا الْوَجْهَ من الْقِيَاسِ أَقْرَبُ وُجُوهِهِ إلَى النُّصُوصِ لِدُخُولِ فَرْعِهَا في النَّصِّ الثَّانِي ما عُرِفَ مَعْنَاهُ من ظَاهِرِ النَّصِّ بِغَيْرِ اسْتِدْلَالٍ كَالنَّهْيِ عن التَّضْحِيَةِ بِالْعَوْرَاءِ وَالْعَمْيَاءِ وَالْعَرْجَاءِ فَالْعَمْيَاءُ أَوْلَى قِيَاسًا على الْعَوْرَاءِ وَالْقَطْعَاءُ على الْعَرْجَاءِ لِأَنَّ نَقْصَهَا أَكْثَرُ فَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّ التَّعَبُّدَ بِخِلَافِ أَصْلِهِ وَإِنْ جَازَ التَّعَبُّدُ بِإِبَاحَةِ الْعَمْيَاءِ وَالْقَطْعَاءِ مع تَحْرِيمِ الْعَرْجَاءِ وَالْعَوْرَاءِ وَهَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ فيه نُفَاةُ الْقِيَاسِ فَاقْتَصَرَ بَعْضُهُمْ على تَحْرِيمِ النَّصِّ وَأَبَاحَ ما عَدَاهُ فَأَبَاحَ التَّضْحِيَةَ بِالْعَمْيَاءِ وَالْقَطْعَاءِ
____________________
(4/34)
وَأَثْبَتَ بَعْضُهُمْ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بِالتَّنْبِيهِ دُونَ النَّصِّ وَالثَّالِثُ ما عُرِفَ مَعْنَاهُ من ظَاهِرِ النَّصِّ بِاسْتِدْلَالٍ ظَاهِرٍ كَقِيَاسِ الْأَمَةِ على الْعَبْدِ في السِّرَايَةِ وَقِيَاسِ الْعَبْدِ عليها في تَنْصِيفِ حَدِّ الْقَذْفِ وَقِيَاسِ النِّكَاحِ على الْبَيْعِ في تَحْرِيمِهِ عِنْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ وفي جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ وَهَذِهِ الضُّرُوبُ الثَّلَاثَةُ يَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ بها الْإِجْمَاعُ وَيُنْقَضُ بها حُكْمُ من خَالَفَهَا من الْحُكَّامِ انْتَهَى وقال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ نحو ما سَبَقَ قد عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ في تَسْمِيَةِ هذه الْوُجُوهِ قِيَاسًا وَحَكَى في الرِّسَالَةِ الْجَدِيدَةِ أَنَّ من أَهْلِ الْعِلْمِ من يَمْنَعُ أَنْ يُسَمَّى هذا قِيَاسًا لِأَنَّ الْقِيَاسَ ما اُحْتُمِلَ فيه شَبَهٌ بين مَعْنَيَيْنِ فَنَقِيسُهُ على أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَيَقُولُ غَيْرُهُ من أَهْلِ الْعِلْمِ ما عَدَا النَّصَّ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وكان مَعْنَاهُ فَهُوَ قِيَاسٌ وَلَيْسَ في شَيْءٍ مِمَّا حَكَاهُ فيها أَنَّ ما فُهِمَ من الْمَعْنَى فَهُوَ نَصٌّ وَلَا أَنَّهُ مَفْهُومُ مَعْنَى الِاسْمِ انْتَهَى فَإِنْ قِيلَ فما فَائِدَةُ الْخِلَافِ في هذا الْقَسْمِ مع الِاتِّفَاقِ على الْحُكْمِ قُلْنَا سَبَقَ في بَحْثِ الْمَفْهُومِ له فَوَائِدُ منها أَنَّا لو قَدَّرْنَا في فَرْعٍ من الْفُرُوعِ وُجُودَ نَصٍّ يُشْعِرُ بِنَقِيضِ الْحُكْمِ فَهَلْ يَتَعَارَضَانِ أو يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ فَمَنْ قال إنَّهُ مَأْخُوذٌ من اللَّفْظِ قال فَيَتَعَارَضَانِ أَقْسَامُ الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْخَفِيِّ فَقَسَّمَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ أَيْضًا إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا ما خَفِيَ مَعْنَاهُ فلم يُعْرَفْ إلَّا بِالِاسْتِدْلَالِ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ لَائِحًا وَتَارَةً يَكُونُ الِاسْتِدْلَال مُتَّفَقًا عليه كَقَوْلِهِ تَعَالَى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ الْآيَةَ فَكَانَتْ عَمَّاتُ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ في التَّحْرِيمِ قِيَاسًا على الْأُمَّهَاتِ لِاشْتِرَاكِهِنَّ في الرَّحِمِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى في نَفَقَةِ الْوَلَدِ في صِغَرِهِ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَكَانَتْ نَفَقَةُ الْوَالِدَيْنِ عِنْدَ عَجْزِهِمَا في كِبَرِهِمَا قِيَاسًا على نَفَقَةِ الْوَلَدِ لِصِغَرِهِ وَالْمَعْنَى في هذا الضَّرْبِ لَائِحٌ لِتَرَدُّدِهِ بين الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ وهو من ضُرُوبِ الْخَفِيِّ بِمَنْزِلَةِ الْأَوَّلِ من ضُرُوبِ الْجَلِيِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ بمثله وَهَلْ يُنْقَضُ حُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا خَالَفَ في جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَجْهَانِ
____________________
(4/35)
الثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ غَامِضًا لِلِاسْتِدْلَالِ الْمُخْتَلَفِ فيه كَتَعْلِيلِ الرِّبَا في الْبُرِّ الْمَنْصُوصِ عليه بِالْقُوتِ لِيُقَاسَ عليه كُلُّ مَأْكُولٍ فَهَذَا لَا يُنْتَقَضُ فيه الْحُكْمُ وَلَا يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ الثَّالِثُ ما يَكُونُ شَبَهًا وهو ما احْتَاجَ في نَصِّهِ وَمَعْنَاهُ إلَى اسْتِدْلَالٍ كَاَلَّذِي قَضَى بِهِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ يُعْرَفُ بِالِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْخَرَاجَ هو النَّفَقَةُ وَأَنَّ الضَّمَانَ هو ضَمَانُ النَّفَقَةِ ثُمَّ عُرِفَ مَعْنَى النَّفَقَةِ بِالِاسْتِدْلَالِ فَتَقَابَلَتْ الْمَعَانِي بِالِاخْتِلَافِ فيها فَمَنْ مُعَلِّلٌ لها بِأَنَّهَا آثَارٌ فلم يَجْعَلْ الْمُشْتَرِيَ إذَا رَدَّ بِالْعَيْبِ مَالِكًا لِلْأَعْيَانِ من الثِّمَارِ وَالنِّتَاجِ وَمَنْ مُعَلِّلٌ بِأَنَّهَا ما خَالَفَتْ أَجْنَاسَ أُصُولِهَا فَجَعَلَ مَالِكًا لِلثِّمَارِ دُونَ النِّتَاجِ وَعَلَّلَهَا الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهَا ما يَجْعَلُ مَالِكًا لِكُلِّ ثِمَارٍ من ثِمَارٍ وَنِتَاجٍ فَمِثْلُ هذا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ في حُكْمِ أَصْلِهِ وَلَا يَنْعَقِدُ في مَعْنَاهُ وَلَا يُقْضَى بِقِيَاسِ حُكْمِهِ وَلَا يُخَصُّ بِهِ عُمُومٌ وهو أَضْعَفُ مِمَّا قَبْلَهُ مَسْأَلَةٌ لَا يُشْتَرَطُ في الْمُشَابَهَةِ بِالِاسْتِدْلَالِ في الْقِيَاسِ تَمَامُ الْمُشَابَهَةِ وَلَا يُكْتَفَى بِأَدْنَاهَا بَلْ يُعْتَبَرُ ما يُشِيرُ إلَى الْمَأْخَذِ النَّوْعُ الثَّانِي قِيَاسُ الشَّبَهِ قَالَا وهو ما أُخِذَ حُكْمُ فَرْعِهِ من شَبَهِ أَصْلِهِ وَقَالَا في مَوْضِعٍ آخَرَ هو ما تَجَاذَبَهُ الْأُصُولُ فَأَخَذَ من كل أَصْلٍ شَبَهًا وَسَمَّاهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ قِيَاسَ الدَّلَالَةِ وَفَسَّرَهُ بِأَنْ يُحْمَلَ الْفَرْعُ على الْأَصْلِ بِضَرْبٍ من الشَّبَهِ على الْعِلَّةِ التي عُلِّقَ الْحُكْمُ عليها في الشَّرْعِ قال وَهَذَا الضَّرْبُ لَا تُعْرَفُ صِحَّتُهُ إلَّا بِاسْتِدْلَالِ الْأُصُولِ وهو على ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ أَحَدُهَا أَنْ يُسْتَدَلَّ بِثُبُوتِ حُكْمٍ من أَحْكَامِ الْفُرُوعِ على ثُبُوتِ الْفَرْعِ ثُمَّ رُدَّ إلَى أَصْلٍ كَاسْتِدْلَالِنَا على سُجُودِ التِّلَاوَةِ ليس بِوَاجِبٍ بِأَنَّ سُجُودَهَا يَجُوزُ فِعْلُهُ على الرَّاحِلَةِ من غَيْرِ عُذْرٍ على أَنَّهُ ليس بِوَاجِبٍ وَالثَّانِي أَنْ يُسْتَدَلَّ بِحُكْمٍ يُشَاكِلُ حُكْمَ الْفَرْعِ وَيَجْرِي مَجْرَاهُ على حُكْمِ الْفَرْعِ ثُمَّ
____________________
(4/36)
يُقَاسُ على أَصْلٍ كَقَوْلِنَا في ظِهَارِ الذِّمِّيِّ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ فَيَصِحُّ ظِهَارُهُ فَصِحَّةُ قِيَاسِ الطَّلَاقِ على صِحَّةِ الظِّهَارِ لِأَنَّهُمَا يَجْرِيَانِ مَجْرًى وَاحِدًا أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يَتَعَلَّقَانِ بِالْقَوْلِ وَيَخْتَصَّانِ بِالزَّوْجَةِ فإذا صَحَّ ذلك دَلَّ على صِحَّةِ الْآخَرِ وَالثَّالِثُ أَنْ يُحْمَلَ الْفَرْعُ على الْأَصْلِ بِضَرْبٍ من الشَّبَهِ كَقِيَاسِ من قال إنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مُخَاطَبٌ مُثَابٌ مُعَاقَبٌ فَمُلِّكَ كَالْحُرِّ قال فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ يُسَمَّى قِيَاسُ الشَّبَهِ وفي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَصِحُّ لِأَنَّ عُمَرَ أَمَرَ أَبَا مُوسَى بِاعْتِبَارِهِ وَالثَّانِي الْمَنْعُ لِأَنَّهُ لو جَازَ رَدُّ الْفَرْعِ إلَى الْأَصْلِ بِالشَّبَهِ لَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ كُلُّ قِيَاسٍ لِأَنَّهُ ما من فَرْعٍ إلَّا وَيُمْكِنُ رَدُّهُ إلَى أَصْلٍ بِضَرْبٍ من الشَّبَهِ انْتَهَى وقال الشَّيْخُ في اللُّمَعِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في قِيَاسِ الشَّبَهِ وهو تَرَدُّدُ الْفَرْعِ بين أَصْلَيْنِ لِشَبَهِ أَحَدِهِمَا في ثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ وَالْآخَرِ من وَصْفَيْنِ فَقِيلَ صَحِيحٌ وَلِلشَّافِعِيِّ ما يَدُلُّ عليه في أَوَائِلِ الرِّسَالَةِ وَأَوَاخِرِهَا وَقِيلَ لَا يَصِحُّ وَتَأَوَّلَ ما قَالَهُ الشَّافِعِيُّ على أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنْ يُرَجَّحَ بِهِ قِيَاسٌ بِكَثْرَةِ الْأَشْبَاهِ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهِ في أَنَّهُ هل يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً على قَوْلَيْنِ قال وَالْأَشْبَهُ عِنْدِي أَنَّ قِيَاسَ الشَّبَهِ لَا يَصِحُّ وقال ابن الْقَطَّانِ قِيَاسُ الشَّبَهِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّ الشَّبَهَ يُعْتَبَرُ في الصُّورَةِ أَخْذًا من قَوْلِ الشَّافِعِيِّ في الْجِنَايَاتِ إنَّ الْعَبْدَ إذَا جُنِيَ عليه اُعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ بِالْحُرِّ لِوُقُوعِهِ بين أَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا الْبَهِيمَةُ لِأَنَّهُ سِلْعَةٌ فَيَتَصَرَّفُ فيها وَالثَّانِي الْحُرُّ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مُتَعَبَّدٌ وَقِيلَ هذا خَطَأٌ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَصِحُّ حتى تُسْتَخْرَجَ الْعِلَّةُ من الْمَنْصُوصِ عليه فَيُؤْخَذُ في الْفَرْعِ أَكْثَرُ الْأَوْصَافِ فَيُلْحَقُ حُكْمُهُ بِحُكْمِ ذَاكَ الْأَصْلِ وَهَذَا لَا يُنْقَضُ بِهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا خَالَفَ وَإِنْ كان هُنَاكَ عِلَّةٌ أُخْرَى تُوجِبُ التَّحْلِيلَ بها خَمْسَةُ أَوْصَافٍ وَعِلَّةٌ تُوجِبُ التَّحْرِيمَ بها خَمْسَةُ أَوْصَافٍ فَيُوجَدُ فيها من أَوْصَافِ الْعِلَّةِ الْمُبِيحَةِ أَكْثَرُ من الْمُحَرِّمَةِ فَيُلْحَقُ ذلك بِحُكْمِ التَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ شَبَهًا فإنه لو قِيلَ فما تَقُولُونَ لو تَسَاوَى الْجَرَيَانُ في الْأَصْلَيْنِ وَتَسَاوَتْ الْأَوْصَافُ قُلْنَا عنه جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا يَتَوَقَّفُ فيه لِأَنَّهُمَا يَتَسَاوَيَانِ وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا مَزِيَّةٌ على الْآخَرِ وَهَذَا أَشْبَهُ من الْأَوَّلِ
____________________
(4/37)
وَالثَّالِثُ أَنَّ قِيَاسَ الشَّبَهِ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةً فَتَتَّحِدُ بها فَتَقُومُ الدَّلَالَةُ على إلْحَاقِهَا بِأَحَدِ الْأُصُولِ هو الْأَشْبَاهُ انْتَهَى وقد وَقَعَ في كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ذِكْرُ قِيَاسُ عِلَّةِ الْأَشْبَاهِ فَقِيلَ هو قَسِيمُ قِيَاسُ الْعِلَّةِ وَقِيلَ هو قِيَاسُ الْعِلَّةِ إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ كَثْرَةَ الْأَشْبَاهِ تَرْجِيحًا لِلْعِلَّةِ وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ على الْأَوَّلِ قال وَحَكَى أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ بن سُرَيْجٍ كان يقول إنَّ غَلَبَةَ الْأَشْبَاهِ هِيَ الْعِلَّةُ وَإِنَّ الْأَشْبَاهَ ثَلَاثَةٌ ما حُكِمَ فيه بِالتَّحْرِيمِ وَلَهُ وَصْفَانِ وما حُكِمَ فيه بِالتَّحْلِيلِ وَلَهُ وَصْفٌ وَاحِدٌ وَوَاسِطَةٌ بَيْنَهُمَا لم يُحْكَمْ فيه بِشَيْءٍ قال فإذا تَرَدَّدَ بَيْنَهُمَا كان رَدُّهُ إلَى أَشْبَهِهِمَا أَوْلَى من رَدِّهِ إلَى أَبْعَدِهِمَا منه في الشَّبَهِ قال الْقَاضِي وَهَذَا مُحْتَمِلٌ لَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَرَى الْحُكْمَ بِغَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ من غَيْرِ اعْتِقَادِ كَوْنِهِ عِلَّةً وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ رَدَّهَا إلَى ما هو عِلَّةُ الْحُكْمِ أَوْلَى من رَدِّهِ إلَى ما بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً وقد قِيلَ إنَّ هذا الذي كان يَذْهَبُ إلَيْهِ أبو الْعَبَّاسِ وَأَنْكَرَ الْقِيَاسَ على شَبَهٍ لم يَعْتَبِرْ كَوْنَهُ عِلَّةً وقال الْخَفَّافُ في الْخِصَالِ عِلَّةُ غَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ صَحِيحَةٌ وَالْحُكْمُ بها جَائِزٌ إذَا كانت عِلَّةَ ما وَصَفْنَا غير أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ فيها مع وُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُسْتَخْرَجَةِ وَأَمَّا الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فَفَسَّرَا قِيَاسَ الشَّبَهِ بِمَا تَقَدَّمَ وَقَسَمَاهُ إلَى نَوْعَيْنِ قِيَاسُ تَحْقِيقٍ يَكُونُ الشَّبَهُ في أَحْكَامِهِ وَقِيَاسُ تَقْرِيبٍ يَكُونُ الشَّبَهُ في أَوْصَافِهِ وَقِيَاسُ التَّحْقِيقِ مُقَابِلٌ لِقِيَاسِ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ وَإِنْ ضَعُفَ عنه الْأَوَّلُ قِيَاسُ التَّحْقِيقِ وهو ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا أَنْ يَتَرَدَّدَ حُكْمُ فَرْعٍ بين أَصْلَيْنِ فَيَنْتَقِضُ بِرَدِّهِ إلَى أَحَدِهِمَا وَلَا يَنْتَقِضُ بِرَدِّهِ إلَى الْآخَرِ فَيَرُدُّهُ إلَى الْأَصْلِ الذي لَا يَنْتَقِضُ بِرَدِّهِ إلَيْهِ وَإِنْ كان أَقَلَّ شَبَهًا دُونَ الْآخَرِ وَإِنْ كان أَكْثَرَ شَبَهًا كَالْعَبْدِ يُمَلَّكُ يَتَرَدَّدُ بين الْبَهِيمَةِ وَالْحُرِّ فلما انْتَقَضَ رَدُّهُ إلَى الْمِيرَاثِ حَيْثُ لم يُمَلَّكْ بِهِ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْبَهِيمَةِ لِسَلَامَتِهِ من النَّقْضِ وَإِنْ كان شَبَهُهُ بِالْأَحْرَارِ أَكْثَرَ وَالثَّانِي أَنْ يَتَرَدَّدَ الْفَرْعُ بين أَصْلَيْنِ فَيَسْلَمُ من النَّقْضِ رَدَّهُ إلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وهو بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ أَكْثَرُ شَبَهًا مِثْلُ أَنْ يُشْبِهَ أَحَدَهُمَا من وَجْهٍ وَالْآخَرَ من وَجْهَيْنِ أو أَحَدَهُمَا من وَجْهَيْنِ وَالْآخَرَ من ثَلَاثَةٍ فَيُرَدُّ إلَى الْأَكْثَرِ مِثَالُهُ في الْجِنَايَةِ على طَرَفِ الْعَبْدِ فَيُرَدِّدُهُ بين رَدِّهِ إلَى الْحُرِّ وَإِلَى الْبَهِيمَةِ وهو يُشْبِهُ الْبَهِيمَةَ في أَنَّهُ مَمْلُوكٌ
____________________
(4/38)
وَيُوَرَّثُ عَيْنُهُ وَيُشْبِهُ الْحُرَّ في أَنَّهُ آدَمِيٌّ مُخَاطَبٌ مُكَلَّفٌ يَجِبُ في قَتْلِهِ الْقَوَدُ وَالْكَفَّارَةُ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْحُرِّ في تَقْدِيرِ أَرْشِ طَرَفِهِ دُونَ الْبَهِيمَةِ لِكَثْرَةِ شَبَهِهِ بِالْحُرِّ الثَّالِثُ أَنْ يَتَرَدَّدَ حُكْمُ الْفَرْعِ بين أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الصِّفَتَيْنِ وَيُوجَدُ في الْفَرْعِ بَعْضُ كل وَاحِدٍ من الصِّفَتَيْنِ وَالْأَقَلُّ من الْأُخْرَى فَيَجِبُ رَدُّهُ إلَى الْأَصْلِ الذي فيه أَكْثَرُ صِفَاتِهِ مِثَالُهُ ثُبُوتُ الرِّبَا في السَّقَمُونْيَا لِمَا تَرَدَّدَ بين الْخَشَبِ في الْإِبَاحَةِ لِأَنَّهُ ليس بِغِذَاءٍ وَبَيْنَ الطَّعَامِ في التَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ فَكَانَ رَدُّهُ إلَى الْغِذَاءِ في التَّحْرِيمِ وَإِنْ لم يَكُنْ غِذَاءً أَوْلَى من رَدِّهِ إلَى الْخَشَبِ في الْإِبَاحَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ غِذَاءً لِأَنَّ الْأَكْلَ أَغْلَبُ صِفَاتِهِ الثَّانِي قِيَاسُ التَّقْرِيبِ وهو ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ أَحَدُهَا تَرَدُّدُ الْفَرْعِ بين أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ صِفَةً وقد جَمَعَ الْفَرْعُ مَعْنَى الْأَصْلِ فَيَرْجِعُ في الْفَرْعِ إلَى أَغْلِبْ الصِّفَتَيْنِ مِثَالُهُ في الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ مَعْلُولًا بِالْبَيَاضِ وَالْآخَرُ مَعْلُولًا بِالسَّوَادِ وَيَكُونَ الْفَرْعُ جَامِعًا بين السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فَيُعْتَبَرُ بِحَالِهِ فَإِنْ كان بَيَاضُهُ أَكْثَرَ من سَوَادِهِ رُدَّ إلَى الْأَصْلِ الْمَعْلُولِ بِالْبَيَاضِ ولم يَكُنْ لِلسَّوَادِ فيه تَأْثِيرٌ وَإِنْ كان سَوَادُهُ أَكْثَرَ من بَيَاضِهِ رُدَّ إلَى الْأَصْلِ الْمَعْلُولِ بِالسَّوَادِ ولم يَكُنْ لِلْبَيَاضِ فيه تَأْثِيرٌ وَمِثَالُهُ في الشَّرْعِ الشَّهَادَاتُ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فيها بِقَبُولِ الْعَدْلِ وَرَدِّ الْفَاسِقِ وقد عُلِمَ أَنَّ أَحَدًا غير الْأَنْبِيَاءِ عليهم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يُمْحِضُ الطَّاعَةَ حتى لَا يَشُوبَهَا شَيْءٌ وَيَخْرِمَهَا فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْأَغْلَبِ في حَالَتَيْهِ فَإِنْ كانت الطَّاعَاتُ أَغْلَبَ حُكِمَ بِعَدَالَتِهِ أو الْمَعَاصِي أَغْلَبَ حُكِمَ بِفِسْقِهِ وقال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هذا الضَّرْبُ لَا يُسَمَّى قِيَاسًا لِأَنَّ الْقِيَاسَ ما اُسْتُخْرِجَ عِلَّةُ فَرْعِهِ من أَصْلِهِ وَهَذَا قد اُسْتُخْرِجَ عِلَّةُ أَصْلِهِ من فَرْعِهِ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كان مَعْنَى الْأَصْلِ مَوْجُودًا بِكَمَالِهِ من الْفَرْعِ فإذا وَجَدَ بَعْضَ أَوْصَافِهِ لَا يَصِحُّ إلْحَاقُهُ بِهِ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ صِفَةَ الْعِلَّةِ مُسْتَخْرَجَةٌ من الْفَرْعِ وَحُكْمُ الْعِلَّةِ مُسْتَخْرَجٌ من الْأَصْلِ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَوْضُوعٌ بِحُكْمِ الْعِلَّةِ دُونَ صِفَتِهَا وَهَذَا كما تَقُولُ في الْمَاءِ الْمُطْلَقِ إذَا خَالَطَهُ مَائِعٌ طَاهِرٌ كَمَاءِ الْوَرْدِ ولم يُغَيِّرْهُ نُظِرَ إنْ كان الْمَاءُ أَكْثَرَ حَكَمْنَا له بِالتَّطْهِيرِ وَإِنْ كان فيه ما ليس بِمُطَهِّرٍ وَإِنْ كان مَاءُ الْوَرْدِ أَكْثَرَ حَكَمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُطَهَّرٍ وَإِنْ كان فيه مَاءٌ طَهُورٌ وَأَنَّ الْحَادِثَةَ أَشْبَهَتْ كُلَّ وَاحِدٍ من الْأَصْلَيْنِ في بَعْضِ الْأَوْصَافِ فَلَا بُدَّ من تَعْرِيفِ حُكْمِهَا وَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُهَا بِغَيْرِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلْحَاقُهَا بِمَا لَا يُشْبِهُهَا
____________________
(4/39)
وَتَرْكُهُ ما يُشْبِهُهَا وَلَا إلْحَاقُهُ بِهِمَا لِتَضَادِّهِمَا فَكَانَ أَكْثَرُهَا شَبَهًا أَوْلَى وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ هذا النَّوْعُ في الْقِيَاسِ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ يُقَاسُ على ما يَلْحَقُ بِهِ من غَيْرِ عِلَّةٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلَا يَخْلُو الْوَصْفُ الذي أَشْبَهَ الْأَصْلَ فيه من أَنْ يَكُونَ عِلَّةَ الْأَصْلِ أو ليس بِعِلَّةٍ فَإِنْ كان عِلَّةً فَهُوَ قِيَاسُ الْعِلَّةِ لَا قِيَاسُ الشَّبَهِ وَإِنْ لم يَكُنْ عِلَّةً فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ بِغَيْرِ عِلَّةٍ قال وَمَعْنَى هذا عِنْدَك إذَا تَرَدَّدَ فَرْعٌ بين أَصْلَيْنِ وَقَاسَهُ في كل وَاحِدٍ من الْأَصْلَيْنِ على أَصْلِهِ بِعِلَّةٍ ظَاهِرُهَا الصِّحَّةُ يَحْتَاجُ إلَى التَّرْجِيحِ لِتَغْلِيبِ أَحَدِ الْأَوْصَافِ لِكَثْرَةِ الشَّبَهِ فَيَكُونُ ذلك على سَبِيلِ التَّرْجِيحِ الثَّانِي أَنْ يَتَرَدَّدَ الْفَرْعُ بين أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الصِّفَتَيْنِ وَالصِّفَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ في الْفَرْعِ وَصِفَةُ الْفَرْعِ تُقَارِبُ إحْدَى الصِّفَتَيْنِ وَإِنْ خَالَفَتْهَا مِثَالُهُ في الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ أَصْلَيْنِ مَعْلُولًا بِالْبَيَاضِ وَالْآخَرُ بِالسَّوَادِ وَالْفَرْعُ أَخْضَرُ لَا أَبْيَضُ وَلَا أَسْوَدُ فَرُدَّ إلَى أَقْرَبِ الْأَصْلَيْنِ شَبَهًا بِصِفَتَيْهِ وَالْخُضْرَةُ أَقْرَبُ إلَى السَّوَادِ وَمِثَالُهُ في الشَّرْعِ قَوْله تَعَالَى فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ من النَّعَمِ وَلَيْسَ الْمِثْلُ من النَّعَمِ شَبِيهًا بِالصَّيْدِ في جَمِيعِ أَوْصَافِهِ وَلَا مُنَافِيًا له في جَمِيعِهَا فَاعْتُبِرَ في الْجَزَاءِ أَقْرَبُ الشَّبَهِ بِالصَّيْدِ وقال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِثْلُ هذا لَا يَكُونُ قِيَاسًا لِأَنَّ الْقِيَاسَ ما وُجِدَتْ أَوْصَافُ أَصْلِهِ في فُرُوعِهِ وَأَوْصَافُ الْأَصْلِ في هذا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ في الْفَرْعِ فَصَارَ قِيَاسًا بِغَيْرِ عِلَّةٍ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الْحَادِثَةَ لَا بُدَّ لها من حُكْمٍ وَالْحُكْمُ لَا بُدَّ له من دَلِيلٍ فإذا لم يَكُنْ في الْكِتَابِ وَلَا في السُّنَّةِ وَلَا في الْإِجْمَاعِ دَلِيلٌ عليها لم يَبْقَ لها أَصْلٌ غَيْرُ الْقِيَاسِ كما في أَقْرَبِهِمَا شَبَهًا بِأَصْلٍ هو عِلَّةُ الْقِيَاسِ وقد جَعَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا اجْتِهَادًا مَحْضًا ولم يَجْعَلْهُ قِيَاسًا وَالثَّالِثُ أَنْ يَتَرَدَّدَ الْفَرْعُ بين أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَالْفَرْعُ جَامِعٌ لِصِفَتَيْ الْأَصْلَيْنِ وَأَحَدُ الْأَصْلَيْنِ من جِنْسِ الْفَرْعِ دُونَ الْآخَرِ وَمِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ من الطَّهَارَةِ وَأَحَدُ الْأَصْلَيْنِ من الصَّلَاةِ وَالثَّانِي من الطَّهَارَةِ فَيَكُونُ رَدُّهُ إلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ لِمُجَانَسَتِهِ أَوْلَى من رَدِّهِ إلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ ثُمَّ قَالَا وَهَاهُنَا قِسْمٌ رَابِعٌ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في وُرُودِهِ وهو أَنْ يَتَرَدَّدَ الْفَرْعُ بين أَصْلَيْنِ فيه شَبَهُ كل وَاحِدٍ من الْأَصْلَيْنِ وَلَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ بِشَيْءٍ فَمَنَعَ كَثِيرٌ من أَصْحَابِنَا من وُجُودِهِ وَأَحَالَ تَكَافُؤَ الْأَدِلَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ الْعِبَادَ بِمَا لم يُوصِلْهُمْ إلَى عِلْمِهِ وَلَكِنْ رُبَّمَا خَفِيَ على الْمُسْتَدِلِّ لِقُصُورِهِ في الِاجْتِهَادِ فَإِنْ أَعْوَزَهُ التَّرْجِيحُ بين أَصْلَيْنِ عَدَلَ إلَى الْتِمَاسِ حُكْمِهِ من غَيْرِ الْقِيَاسِ وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى جَوَازِ وُجُودِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ من الْأَدِلَّةِ غَامِضَةٌ
____________________
(4/40)
لِمَا عُلِمَ فيها من الْمَصْلَحَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ فيها مُتَكَافِئَةٌ لِمَا رَآهُ من الْمَصْلَحَةِ أَنْ يَكُونَ لها حُكْمٌ مع التَّكَافُؤِ فَعَلَى هذا اخْتَلَفُوا في حُكْمِ ما تَكَافَأَتْ عليه الْأَدِلَّةُ وَتَرَدَّدَ بين أَصْلَيْنِ حَاظِرٍ وَمُبِيحٍ على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْمُجْتَهِدُ بِالْخِيَارِ في رَدِّهِ إلَى أَيِّ الْأَصْلَيْنِ شَاءَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لو لم يُرِدْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَنَصَبَ على مُرَادِهِ مِنْهُمَا دَلِيلًا وَالثَّانِي يَرُدُّهُ إلَى أَغْلَظِ الْأَصْلَيْنِ حُكْمًا وهو الْحَظْرُ دُونَ الْإِبَاحَةِ احْتِيَاطًا لِأَنَّ أَصْلَ التَّكْلِيفِ مَوْضُوعٌ لِلتَّغْلِيظِ قَالَا فَصَارَ أَقْسَامُ الْقِيَاسِ على ما شَرَحْنَا اثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا سِتَّةٌ منها مُخْتَصَّةٌ بِقِيَاسِ الْمَعْنَى منها ثَلَاثَةٌ في الْخَفِيِّ وَسِتَّةٌ مُخْتَصَّةٌ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ منها ثَلَاثَةٌ في قِيَاسِ التَّحْقِيقِ وَثَلَاثَةٌ في قِيَاسِ التَّقْرِيبِ وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ قِيَاسَ التَّقْرِيبِ بِمَا حَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ من غَيْرِ بِنَاءِ فَرْعٍ على أَصْلٍ وَمِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِ قال قد ثَبَتَ أُصُولٌ مُعَلَّلَةٌ اتَّفَقَ الْقَائِسُونَ على عِلَلِهَا فقال الشَّافِعِيُّ الْحَدُّ في تِلْكَ الْأُصُولِ مَعْنَوِيٌّ وَجَعَلَ الِاسْتِدْلَالَ قَرِيبَةً منها وَإِنْ لم يَكُنْ بِأَعْيَانِهَا حتى كَأَنَّهَا أُصُولٌ مُعْتَمَدَةٌ مَثَلًا وَالِاسْتِدْلَالُ مُعْتَبَرٌ بها وَاعْتِبَارُ الْمَعْنَى بِالْمَعْنَى تَقْرِيبًا أَوْلَى من اعْتِبَارِ صُورَةٍ بِصُورَةٍ لِمَعْنًى جَامِعٍ ثُمَّ مَثَّلَ الْإِمَامُ ذلك بِتَحْرِيمِ وَطْءِ الرَّجْعِيَّةِ بِأَنَّهُ مُعَلَّلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّهَا مُتَرَبِّصَةٌ في تَبْرِئَةِ الرَّحِمِ وَتَسْلِيطُ الزَّوْجِ على رَحِمِهَا في الزَّمَانِ الذي تُؤْمَرُ فيه بِالتَّرَبُّصِ لِلتَّبْرِئَةِ تَنَاقُضُ وَهَذَا مَعْنًى مَعْقُولٌ وَأَنَّ الْمَرْأَةَ لو تَرَبَّصَتْ قبل الطَّلَاقِ وَاعْتَزَلَهَا الزَّوْجُ لم يُعْتَدَّ بِذَلِكَ عِنْدَهُ وَلَوْ طَلَبَ الشَّافِعِيُّ لِهَذَا أَصْلًا لم يَجِدْهُ وَلَكِنَّهُ قَرِيبٌ من الْقَوَاعِدِ وَمَنْ قَاسَ الرَّجْعِيَّةَ على الْبَائِنِ لم يَتِمَّ له ذلك لِأَنَّ الْمُخَالِفَ يقول الْبَيْنُونَةُ هِيَ الْمُسْتَقِلَّةُ بِتَحْرِيمِ الْوَطْءِ وَالرَّجْعِيَّةُ لَيْسَتْ مِثْلَهَا النَّوْعُ الثَّالِثُ قِيَاسُ الْعَكْسِ وهو إثْبَاتُ نَقِيضِ الْحُكْمِ في غَيْرِهِ لِافْتِرَاقِهِمَا في عِلَّةِ الْحُكْمِ كَذَا عَرَّفَهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ وَالْأَحْكَامِ وَغَيْرِهِمَا وقال الْأَصْفَهَانِيُّ إنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ لِأَنَّهُ من جُمْلَةِ أَنْوَاعِ
____________________
(4/41)
الْعَكْسِ الْمُلَازِمَةِ الثَّابِتَةِ بين الشَّيْئَيْنِ الْمَلْزُومُ نَقِيضُ الْمَطْلُوبِ وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ وَالدَّلِيلُ على الْمُلَازَمَةِ الْقِيَاسُ كَقَوْلِنَا لو لم تَجِبْ أَوَّلًا على الصَّبِيِّ لَمَا وَجَبَتْ على الْبَالِغِ قِيَاسًا على الْوُجُوبِ على الصَّبِيِّ وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ إجْمَاعًا فَيَنْتَفِي الْمَلْزُومُ انْتَهَى وقد وَقَعَ في الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اسْتِعْمَالُ هذا النَّوْعِ قال اللَّهُ تَعَالَى لو كان فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم وفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ قالوا يا رَسُولَ اللَّهِ يَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيُؤْجَرُ قال أَرَأَيْتُمْ لو وَضَعَهَا في حَرَامٍ يَعْنِي أَكَانَ يُعَاقَبُ قالوا نعم قال فَمَهْ يَعْنِي أَنَّهُ إذَا وَضَعَهَا في حَرَامٍ يَأْثَمُ كَذَلِكَ إذَا وَضَعَهَا في حَلَالٍ فَقَدْ جَعَلَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم نَقِيضَ حُكْمِ الْوَطْءِ الْمُبَاحِ وهو الْإِثْمُ في غَيْرِهِ وهو الْوَطْءُ الْحَرَامُ لِافْتِرَاقِهِمَا في عِلَّةِ الْحُكْمِ وهو كَوْنُ هذا مُبَاحًا وَهَذَا حَرَامًا وقد اُخْتُلِفَ في تَسْمِيَتِهِ قِيَاسًا فَقِيلَ إنَّهُ قِيَاسٌ حَقِيقَةً وقال صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ هو قِيَاسٌ مَجَازًا وَقِيلَ لَا يُسَمَّى قِيَاسًا وَبِهِ صَرَّحَ ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ لِأَنَّ غَايَتَهُ تُمْسِكُ بِنَظْمِ التَّلَازُمِ وَإِثْبَاتٌ لِإِحْدَى مُقَدِّمَتِهِ بِالْقِيَاسِ وَذَكَرَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في الْمُلَخَّصِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى احْتَجَّ بِهِ على أبي حَنِيفَةَ في إبْطَالِ عِلَّتِهِ في الرِّبَا في الْأَثْمَانِ فقال لو كان الْفِضَّةُ وَالْحَدِيدُ يَجْمَعُهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ في الرِّبَا لم يَجُزْ اسْتِلَامُ أَحَدِهِمَا في الْآخَرِ وَكَذَلِكَ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ لو جَمَعَهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ لم يَجُزْ اسْتِلَامُ أَحَدِهِمَا في الْآخَرِ فلما جَازَ بِالْإِجْمَاعِ اسْتِلَامُ الْفِضَّةِ في الْحَدِيدِ دَلَّ على أَنَّهُ لم يَجْمَعْهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ قال وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في الِاسْتِدْلَالِ بِهِ على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَأَصَحُّهُمَا وهو الْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَصِحُّ وقد اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ في عِدَّةِ مَوَاضِعَ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْعَكْسِ اسْتِدْلَالٌ بِقِيَاسِ مَدْلُولٍ على صِحَّتِهِ بِالْعَكْسِ وإذا صَحَّ الْقِيَاسُ في الطَّرْدِ وهو غَيْرُ مَدْلُولٍ على صِحَّتِهِ فَلَأَنْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال بِالْعَكْسِ وهو قِيَاسُ مَدْلُولٍ على صِحَّتِهِ أَوْلَى وَيَدُلُّ عليه أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى دَلَّ على التَّوْحِيدِ بِالْعَكْسِ فقال تَعَالَى لو كان فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا وَدَلَّ على أَنَّ الْقُرْآنَ من عِنْدِهِ بِالْعَكْسِ قال تَعَالَى وَلَوْ كان من عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فيه اخْتِلَافًا كَثِيرًا قُلْت وقد احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ في الْمُخْتَصَرِ فقال في زَكَاةِ الْخُلْطَةِ وَلَمَّا لم أَعْلَمْ
____________________
(4/42)
مُخَالِفًا إذَا كان ثَلَاثَةٌ خُلَطَاءَ لو كان لهم مِائَةٌ وَعِشْرُونَ أُخِذَتْ منهم وَاحِدَةٌ فَصَدَّقُوا صَدَقَةَ الْوَاحِدِ فَنَقَصُوا الْمَسَاكِينَ شَاتَيْنِ من مَالِ الْخُلَطَاءِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ لو تَفَرَّقَ ما لهم كان فِيهِمْ ثَلَاثُ شِيَاهٍ لم يَجُزْ إلَّا أَنْ يَقُولُوا لو كانت أَرْبَعُونَ بين ثَلَاثَةٍ كانت عليهم شَاةٌ لِأَنَّهُمْ صَدَّقُوا الْخُلَطَاءَ صَدَقَةَ الْوَاحِدِ انْتَهَى فَقَاسَ وُجُوبَ وَاحِدَةٍ من أَرْبَعِينَ لِثَلَاثَةٍ خُلَطَاءَ على سُقُوطِ اثْنَتَيْنِ في مِائَةٍ وَعِشْرِينَ لِثَلَاثَةٍ خُلَطَاءَ وَحَكَى الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ في تَعْلِيقِهِ مُنَاظَرَةً جَرَتْ بين الشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ فقال الشَّافِعِيُّ لِمُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ لَا قَوَدَ على من شَارَكَ الصَّبِيَّ فقال لِأَنَّهُ شَارَكَ من لَا يَجْرِي عليه الْقَلَمُ فقال له الشَّافِعِيُّ فَأَوْجِبْ الْقَوَدَ على من شَارَكَ الْأَبَ لِأَنَّهُ شَارَكَ من جَرَى عليه الْقَلَمُ وإذا لم تُوجِبْ على شَرِيكِ الْأَبِ فَهُوَ تَرْكٌ لِأَصْلِك قال أَصْحَابُ أبي حَنِيفَةَ هذا السُّؤَالُ لَا يَلْزَمُ مُحَمَّدًا لِأَنَّ مُحَمَّدًا عَلَّلَ بِأَنَّهُ شَارَكَ من لَا يَجْرِي عليه الْقَلَمُ فَنَقِيضُهُ أَنَّهُ يُوجَدُ من شَارَكَ من لَا يَجْرِي عليه الْقَلَمُ وَمَعَ هذا يَجِبُ عليه الْقَوَدُ فَأَمَّا من شَارَكَ الْأَبَ فَهُوَ عَكْسُ عِلَّتِهِ لِأَنَّهُ شَارَكَ من يَجْرِي عليه الْقَلَمُ أَجَابَ أَصْحَابُنَا عن هذا فقال الشَّيْخُ أبو عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ هذا يَلْزَمُ مُحَمَّدَ بن الْحَسَنِ وَذَلِكَ أَنَّ الْعِلَّةَ على ضَرْبَيْنِ عِلَّةٌ لِلْأَعْيَانِ وَعِلَّةٌ لِلْجِنْسِ فإذا كانت الْعِلَّةُ لِلْأَعْيَانِ انْقَضَتْ من وَجْهٍ وَاحِدٍ وهو أَنْ تُوجَدَ الْعِلَّةُ وَلَا حُكْمَ كَقَوْلِك لِأَنَّهُ مُرْتَدٌّ فَوَجَبَ أَنْ يُقْتَلَ فَالنَّقْضُ أَنْ يُوجَدَ مُرْتَدٌّ مع أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ وَالثَّانِيَةُ عِلَّةُ الْجِنْسِ فَهَذِهِ تُنْقَضُ من وَجْهَيْنِ أَنْ تُوجَدَ الْعِلَّةُ وَلَا حُكْمَ وَأَنْ يُوجَدَ الْحُكْمُ وَلَا عِلَّةَ كَقَوْلِك عِلَّةُ الْقَتْلِ الْقَتْلُ فَكَأَنَّهُ قال لَا قَتْلَ إلَّا بِقَتْلٍ فَهَذِهِ تُنْقَضُ بِمَا قُلْنَاهُ إنْ قَتَلَ بِغَيْرِ قَتْلٍ انْتَقَضَتْ الْعِلَّةُ وَإِنْ لم يَقْتُلْ مع وُجُودِ الْقَتْلِ انْتَقَضَتْ الْعِلَّةُ وإذا ثَبَتَ هذا فَعِلَّةُ مُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ لِلْجِنْسِ لِأَنَّهُ عَلَّلَ سُقُوطَ الْقَوَدِ عن الشَّرِيكِ دُونَ شَرِيكِ من لَا يَجْرِي عليه الْقَلَمُ فَهَذِهِ لِلْجِنْسِ فَيَنْتَقِضُ من وَجْهَيْنِ أَنْ يُوجَدَ الْعِلَّةُ وَلَا حُكْمَ وَأَنْ يُوجَدَ الْحُكْمُ وَلَا عِلَّةَ فَقَدْ أَوْجَدَ الْحُكْمَ وَلَا عِلَّةَ فَبَطَلَ قَوْلُهُ قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَكُنْت أَجَبْت بِجَوَابٍ آخَرَ وهو أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَلْزَمَهُمْ الْعَكْسَ بِنَاءً على أَصْلِهِمْ لِأَنَّ عِلَّةَ الْعَكْسِ عِنْدَهُمْ دَلِيلُ تَنَاقُضِهِمْ في الْعَكْسِ وَجَوَابٌ آخَرُ جَدِيدٌ وهو أَنَّ مُحَمَّدَ بن الْحَسَنِ فَرَّقَ بين مَسْأَلَتَيْنِ فَطَالَبَهُ الشَّافِعِيُّ بِالْفَرْقِ بين شَرِيكِ الصَّبِيِّ حَيْثُ قُلْت لَا قَوَدَ عليه وقد قُلْت إذَا عَفَا الْوَلِيُّ عن أَحَدِ الْقَاتِلِينَ كان على شَرِيكِهِ الْقَوَدُ فقال مُحَمَّدٌ لِأَنَّ شَرِيكَ الصَّبِيِّ قد شَارَكَ من رُفِعَ عنه
____________________
(4/43)
الْقَلَمُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ما إذَا عَفَا الْوَلِيُّ عن أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ شَارَكَ من الْقَلَمُ جَارٍ عليه فقال الشَّافِعِيُّ هذا بَاطِلٌ بِمَا إذَا شَارَكَ الْأَبَ في قَتْلِ وَلَدِهِ لِأَنَّهُ شَارَكَ من الْقَلَمُ جَارٍ عليه وَمَعَ هذا لَا قَوَدَ عليه عِنْدَك فَأَمَّا الْمُزَنِيّ فإنه تَكَلَّمَ على مَسَائِلِ الشَّافِعِيِّ فإنه قال قد شَرِكَ الشَّافِعِيُّ مُحَمَّدَ بن الْحَسَنِ فِيمَا أَنْكَرَ عليه فإنه أَسْقَطَ الْقَوَدَ عن شَرِيكِ الْخَاطِئِ وَأَوْجَبَهُ على شَرِيكِ الصَّبِيِّ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ قُلْنَا له هذا على الْقَوْلَيْنِ إنْ قُلْنَا في حُكْمِ الْخَطَأِ فَلَا قَوَدَ على شَرِيكِهِ كَمَنْ شَارَكَ الْخَاطِئَ لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ فَإِنْ قُلْنَا عَمْدُهُ عَمْدٌ فَعَلَى شَرِيكِهِ الْقَوَدُ لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ ثُمَّ يُقَالُ لِلْمُزَنِيِّ قد كَسَرَ الشَّافِعِيُّ فَرْقَ مُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ فَأَنْتَ أَوْرَدْت كَلَامًا يَنْقُضُ الْكَسْرَ وَإِنَّمَا تُنَاقَضُ الْعِلَلُ فَأَمَّا الْكَسْرُ فَلَا يُنَاقَضُ فَسَقَطَ هذا وقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ في تَعْلِيقِهِ في بَابِ مَسْحِ الْخُفِّ في تَعْلِيلِ جَوَازِ الِاخْتِصَارِ على الْأَسْفَلِ لَمَّا كان أَسْفَلُ الْخُفِّ كَظَاهِرِهِ في أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عليه إذَا كان مُتَمَزِّقًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَسْفَلُهُ كَأَعْلَاهُ في الِاقْتِصَارِ عليه بِالْمَسْحِ إذَا كان صَحِيحًا ثُمَّ إنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ رَدَّ هذا التَّعْلِيلَ بِأَنَّهُ قِيَاسُ عَكْسٍ فَكَأَنَّهُ رَدَّ قِيَاسَ الْعَكْسِ النَّوْعُ الرَّابِعُ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ وهو أَنْ يَكُونَ الْجَامِعُ وَصْفًا لَازِمًا من لَوَازِمِ الْعِلَّةَ أو أَثَرًا من آثَارِهَا أو حُكْمًا من أَحْكَامِهَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَوْنِ الْمَذْكُورِ في الْجَمِيعِ دَلِيلَ الْعِلَّةِ لَا نَفْسَ الْعِلَّةِ فَالْأَوَّلُ كَقِيَاسِ النَّبِيذِ على الْخَمْرِ بِجَامِعِ الرَّائِحَةِ الْمُلَازِمَةِ وَالثَّانِي كَقَوْلِنَا في الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ قَتْلٌ أَثِمَ بِهِ صَاحِبُهُ من حَيْثُ كَوْنُهُ قَتْلًا فَوَجَبَ فيه الْقِصَاصُ كَالْجَارِحِ فَكَوْنُهُ إثْمًا ليس هو بِعِلَّةٍ بَلْ أَثَرٌ من آثَارِهَا وَالثَّالِثُ كَقَوْلِنَا في مَسْأَلَةِ قَطْعِ الْأَيْدِي بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ إنَّهُ قَطْعٌ مُوجِبٌ لِوُجُوبِ الدِّيَةِ عليهم فَيَكُونُ مُوجِبًا لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عليهم كما لو قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا فَوُجُوبُ الدِّيَةِ على الْجَمَاعَةِ ليس نَفْسَ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ بَلْ حُكْمٌ من أَحْكَامِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ بِدَلِيلِ اطِّرَادِهَا وَانْعِكَاسِهَا كما في الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانُ وَالْخَطَأُ وَشِبْهِ الْعَمْدُ وَاخْتُلِفَ فيه هل هو قِسْمٌ بِرَأْسِهِ أو هو دَائِرٌ بين الْمَعْنَى وَالشَّبَهِ وقال الْإِمَامُ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ هو ما اشْتَمَلَ على ما لَا يُنَاسِبُ بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ يَدُلُّ على مَعْنًى جَامِعٍ ثُمَّ قال وَلَا مَعْنَى لِعَدِّهِ قِسْمًا على حِيَالِهِ فإنه يَقَعُ تَارَةً مُنْبِئًا عن مَعْنًى وَتَارَةً عن
____________________
(4/44)
شَبَهٍ وهو في طَوْرَيْهِ لَا يَخْرُجُ عن قِيَاسِ الْمَعْنَى أو الشَّبَهِ وقال الْغَزَالِيُّ في مِعْيَارِهِ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ إذَا كان عِلَّةً لِلْأَكْبَرِ سَمَّاهُ الْفُقَهَاءُ قِيَاسُ الْعِلَّةِ وَسَمَّاهُ الْمَنْطِقِيُّونَ بُرْهَانُ اللِّمَ أَيْ ذِكْرُ ما يُجَابُ بِهِ عن لِمَ وَإِنْ لم يَكُنْ عِلَّةً سَمَّاهُ الْفُقَهَاءُ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ وَسَمَّاهُ الْمَنْطِقِيُّونَ قِيَاسُ الْبُرْهَانِ أَيْ هو دَلِيلٌ على أَنَّ الْحَدَّ الْأَكْبَرَ مَوْجُودٌ في الْأَصْغَرِ من غَيْرِ بَيَانِ عِلَّةٍ فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِك هذا الْإِنْسَانُ شَبْعَانُ لِأَنَّهُ أَكَلَ الْآنَ وَقِيَاسُ الدَّلَالَةِ عَكْسُهُ وهو أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالنَّتِيجَةِ على الْمُنْتِجِ فيقول شَبْعَانُ فَإِذًا هو قَرِيبُ الْعَهْدِ بِالْأَكْلِ وَقِيَاسُ الْعِلَّةِ هذه عَيْنٌ نَجِسَةٌ فَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ مَعَهَا وفي قِيَاسِ الدَّلَالَةِ هذه عَيْنٌ لَيْسَتْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ مَعَهَا فَإِذًا هِيَ نَجِسَةٌ النَّوْعُ الْخَامِسُ في الْفَارِقِ وقد اُخْتُلِفَ في تَسْمِيَتِهِ قِيَاسًا أو اسْتِدْلَالًا وَالْأَوَّلُ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالثَّانِي قَوْلُ الْغَزَالِيِّ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُقْصَدُ بِهِ التَّسْوِيَةُ وَإِنَّمَا قَصَدَ نَفْيَ الْفَارِقِ بين الْمَحَلَّيْنِ وقد جاء في ضِمْنِ ذلك الِاسْتِوَاءُ في الْعِلَّةِ وَالْقِيَاسُ هو الذي يُبْنَى على الْعِلَّةِ ابْتِدَاءً وَهَذَا لم يُبْنَ على الْعِلَّةِ وَإِنَّمَا جَاءَتْ فيه ضِمْنًا وَزَعَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ وَنَازَعَهُ ابن الْمُنِيرِ فإن الْقَائِلَ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ يقول اللَّفْظُ مُنْقَطِعُ الدَّلَالَةِ لُغَةً عن الْفَرْعِ سَاكِتٌ عنه وَالْحُكْمُ فيه إنَّمَا يُتَلَقَّى من الْقِيَاسِ الْمَأْذُونِ فيه بِالْإِجْمَاعِ وَالْقَائِلُ بِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ يقول لَفْظُ الْأَصْلِ يَتَنَاوَلُ الْفَرْعَ من جِهَةٍ ما لَكِنَّهُمَا اتَّفَقَا على أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْفَرْعَ بِالْمُطَابَقَةِ على حَدِّ تَنَاوُلِ الْأَصْلِ وَفَصَّلَ الْإِمَامُ في مَوْضِعٍ آخَرَ فقال الْوَجْهُ عِنْدَنَا إنْ كان في اللَّفْظِ إشْعَارٌ بِهِ فَلَا نُسَمِّيهِ قِيَاسًا كَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم من أَعْتَقَ شِرْكًا له في عَبْدٍ قُوِّمَ عليه فَهَذَا وَإِنْ كان في ذَكَرٍ فَالْعُبُودِيَّةُ مُسْتَعْمَلَةٌ في الْأَمَةِ وقد قِيلَ لِلْأَمَةِ عَبْدَةٌ وَأَمَّا إذَا كان لم يَكُنْ لَفْظُ الشَّارِعِ مُشْعِرًا بِهِ فَهُوَ قِيَاسٌ قَطْعِيٌّ كَإِلْحَاقِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَرَقَ الْكَلْبِ بِلُعَابِهِ في الْعَدَدِ وَالتَّعْفِيرِ وفي دَعْوَى الْقَطْعِ في الثَّانِي نَظَرٌ
____________________
(4/45)
النَّوْعُ السَّادِسُ ما هو أَوْلَى من الْمَنْصُوصِ كَالضَّرْبِ على التَّأْفِيفِ وَسَبَقَ أَوَّلَ الْبَابِ تَنْبِيهٌ أَعْلَى هذه الْأَقْسَامِ ما كان في مَعْنَى الْمَنْصُوصِ حتى اُخْتُلِفَ أَنَّهُ لَفْظِيٌّ أو قِيَاسٌ وهو الْقَطْعِيُّ ثُمَّ يَلِيهِ قِيَاسُ الْمَعْنَى ثُمَّ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ ثُمَّ قِيَاسُ الشَّبَهِ وَهِيَ الْمَظْنُونَاتُ وَالْإِلْحَاقُ بِنَفْيِ الْفَارِقِ تَارَةً يَكُونُ قَطْعِيًّا وَتَارَةً يَكُونُ ظَنِّيًّا لِأَنَّ الْإِلْحَاقَ يَجِيءُ هَكَذَا تَارَةً وَتَارَةً وَيَأْتِي في التَّرْجِيحَاتِ
____________________
(4/46)
الْبَابُ الْخَامِسُ فِيمَا يَجْرِي فيه الْقِيَاسُ وَفِيهِ مَسَائِلُ مَسْأَلَةٌ قال ابن عَبْدَانِ في شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ شَرْطُ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ حُدُوثُ حَادِثَةٍ تُؤَدِّي الضَّرُورَةُ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهِمَا لِأَنَّ النَّصَّ أَقْوَى من الْقِيَاسِ قال ابن الصَّلَاحِ وَالْأَوَّلُ يَأْبَاهُ وَضْعُ الْأَئِمَّةِ الْكُتُبَ الطَّافِحَةَ بِالْمَسَائِلِ الْقِيَاسِيَّةِ من غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْحَادِثَةِ وَالثَّانِي غَرِيبٌ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذلك بين الْمُنَاظِرِينَ في مَقَامِ الْجَدَلِ قُلْت وَكَأَنَّهُ جَرَى على ظَاهِرِ حديث مُعَاذٍ فإنه يُفْهِمُ عَدَمَ مَشْرُوعِيَّةِ الْقِيَاسِ عِنْدَ وِجْدَانِ النَّصِّ وهو ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْأَصْلُ قُرْآنٌ وَسُنَّةٌ فَإِنْ لم يَكُنْ فَقِيَاسٌ عَلَيْهِمَا لَكِنَّ هذا في الْعَمَلِ بِهِ لَا في صِحَّتِهِ في نَفْسِهِ وقد قال أبو زَيْدٍ في التَّقْوِيمِ قال الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ حَادِثَةً فيها نَصٌّ فَيَزْدَادُ بِالْقِيَاسِ ما كان النَّصُّ سَاكِتًا عنه وَلَا يَجُوزُ إذَا كان مُخَالِفًا لِلنَّصِّ لِأَنَّ الْكَلَامَ وَإِنْ ظَهَرَ مَعْنَاهُ يَحْتَمِلُ الْبَيَانَ الزَّائِدَ وَلَا يَحْتَمِلُ الْخِلَافَ فَيَبْطُلُ الْقِيَاسُ إذَا جاء مُخَالِفًا وقال إلْكِيَا لَا يَمْتَنِعُ الْقِيَاسُ مع وُجُودِ النَّصِّ وَفَائِدَتُهُ تَشْحِيذُ الْخَاطِرِ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ في شُرُوطِ الْفَرْعِ مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ إثْبَاتُ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْمُقَدَّرَاتِ التي لَا نَصَّ فيها وَلَا إجْمَاعَ بِالْقِيَاسِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ قَالَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَسُلَيْمٌ وابن السَّمْعَانِيِّ وَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ قال فَأَمَّا الِاسْتِدْلَال على الْمَنْصُوصِ عليها بِالْقِيَاسِ فَجَائِزٌ وِفَاقًا وَحَكَى الْبَاجِيُّ عن أَصْحَابِهِمْ كَقَوْلِنَا وَحَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ عن الْجُمْهُورِ من أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا وقال إنَّهُ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ وقد قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْأُمِّ وَلَا يَقْطَعُ من قُطَّاعِ الطَّرِيقِ إلَّا من أَخَذَ منهم رُبُعَ دِينَارٍ فَصَاعِدًا قِيَاسًا على السُّنَّةِ في
____________________
(4/47)
السَّارِقِ وَيَتَّجِهُ أَنْ يُخَرَّجَ له في هذه قَوْلَانِ من اخْتِلَافِ قَوْلِهِ في تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ الْأَطْرَافَ وَأُرُوشَ الْجِرَاحَاتِ وَالْحُكُومَاتِ فإنه قال في الْقَدِيمِ لَا يُضْرَبُ على الْعَاقِلَةِ لِأَنَّ الضَّرْبَ على خِلَافِ الْقِيَاسِ لَكِنْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ في النَّفْسِ فَيَقْتَصِرُ عليها وَلِهَذَا لَا قَسَامَةَ وَلَا كَفَّارَةَ في الْأَطْرَافِ وَالْمَشْهُورُ أنها تُضْرَبُ عليهم كَدِيَةِ النَّفْسِ قِيَاسًا بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقَلُّ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ الذي يَثْبُتُ بِهِ الْقِيَاسُ في الشَّرْعِ هو الْأَحْكَامُ الْمُسْتَنْبَطَةُ من النُّصُوصِ فَأَمَّا الْأَسْمَاءُ وَالْحُدُودُ في الْمَقَادِيرِ فَفِي جَوَازِ اسْتِخْرَاجِهَا بِالْقِيَاسِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَجُوزُ إذَا تَعَلَّقَ بِأَسْمَاءِ الْأَحْكَامِ كَتَسْمِيَةِ النَّبِيذِ خَمْرًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْخَمْرِ فيه وَيَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَ الْمَقَادِيرَ قِيَاسًا كما قَدَّرْنَا أَقَلَّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرَهُ وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ لِأَنَّ جَمِيعَهَا أَحْكَامٌ وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ مَأْخُوذَةٌ من اللُّغَةِ دُونَ الشَّرْعِ وَمَعَانِي الْحُدُودِ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ وَالْمَقَادِيرُ مَشْرُوعَةٌ انْتَهَى وفي بَعْضِ النُّسَخِ أَنَّ الْأَوَّلَ هو الصَّحِيحُ لَكِنْ نُقِلَ في كِتَابِ الصِّيَامِ عن عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ أَوْجَبَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كَفَّارَةً فَوْقَ كَفَّارَةِ الْمُرْضِعِ وَالْحَامِلِ وَدُونَ كَفَّارَةِ الْمُجَامِعِ قال وَهَذَا مَذْهَبٌ لَا يَسْتَنِدُ إلَى خَبَرٍ وَلَا إلَى أَثَرٍ وَلَا قِيَاسٍ حَكَاهُ عنه الرَّافِعِيُّ قال صَاحِبُ الذَّخَائِرِ وقد حَكَى أَنَّهُ لَا وَقَصَ في النَّقْدَيْنِ فَيَجِبُ فِيمَا زَادَ على النِّصَابِ بِحِسَابِهِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَنَّهُ اعْتَبَرَهُ بِالْمَاشِيَةِ قال وهو فَاسِدٌ لِأَنَّهُ قِيَاسٌ في غَيْرِ مَحَلِّهِ سِيَّمَا على رَأْيِهِمْ فإن الْقِيَاسَ في الْمُقَدَّرَاتِ مَمْنُوعٌ انْتَهَى وقال الْأَصْحَابُ فِيمَا إذَا قُلْنَا يَمْسَحُ على الْجَبِيرَةِ بِالْمَاءِ هل يَتَقَدَّرُ مُدَّةُ الْمَسْحِ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِلْمُقِيمِ وَثَلَاثَةٍ لِلْمُسَافِرِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا لِأَنَّ التَّقْدِيرَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِنَقْلٍ وَتَوْقِيفٍ ولم يَرِدْ وَنَقَلَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَالشَّيْخُ في اللُّمَعِ عن الْجُبَّائِيُّ مِثْلَ قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَا وَقِيلَ يَجُوزُ إثْبَاتُ ذلك بِالِاسْتِدْلَالِ دُونَ الْقِيَاسِ وقال آخَرُونَ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ مَنَعَ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ جَرَيَانَ الْقِيَاسِ في الزَّكَاةِ وَالْحُدُودِ وَالْمَقَادِيرِ وَرُبَّمَا أَلْحَقَ بها الْكَفَّارَاتِ قال وما من بَابٍ إلَّا وَلَهُمْ فيه ضَرْبٌ من الْقِيَاسِ وَلَا تَعَلُّقَ لهم بِغَيْرِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ اسْتَعْمَلُوهُ في الْوَصْفِ إذَا ثَبَتَ بِغَيْرِ الْأَصْلِ وَمَنَعُوهُ في الْإِيجَابِ وَجَوَّزُوهُ في التَّرْكِ انْتَهَى وَذَكَرَ أبو عبد اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ في كِتَابِهِ في الْأُصُولِ أَنَّهُ رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ إثْبَاتُ الْحُدُودِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ قال فَيَجُوزُ على قَوْلِهِ إثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مُقَدَّمٌ على الْقِيَاسِ وَاحْتَجَّ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ بِأَنَّ هذه الْأَحْكَامَ يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَجَازَ إثْبَاتُهَا
____________________
(4/48)
بِالْقِيَاسِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ تَبْطُلُ بِالنَّسْخِ وقد صَارَ الْمُزَنِيّ إلَى أَنَّ أَقَلَّ النِّفَاسِ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّ أَكْثَرَ النِّفَاسِ مِثْلُ أَكْثَرِ الْحَيْضِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَلْيَكُنْ أَقَلُّهُ مع أَقَلِّهِ كَذَلِكَ وَخَالَفَهُ الْأَصْحَابُ وَقَالُوا أَقَلُّهُ سَاعَةٌ فَقَدْ خَالَفُوا الْأَصْلَ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ مَنَعَ أَصْحَابُ أبي حَنِيفَةَ جَرَيَانَ الْقِيَاسِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ وقال أبو الْحَسَنِ الْكَرْخِيّ لَا يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَلِهَذَا مَنَعَ من قَطْعِ النَّبَّاشِ بِالْقِيَاسِ وَمَنَعَ من إيجَابِ الْحَدِّ على اللِّوَاطِ بِالْقِيَاسِ وَمَنَعَ من الصَّلَاةِ بِإِيمَاءِ الْحَاجِبِ بِالْقِيَاسِ وَمَنَعَ من إيجَابِ الْكَفَّارَةِ في قَتْلِ الْعَمْدِ بِالْقِيَاسِ قال وَلَا فَرْقَ في الْكَفَّارَاتِ الْجَارِيَةِ مَجْرَى الْعُقُوبَاتِ وَبَيْنَ ما لَا يَجْرِي مَجْرَى الْعُقُوبَاتِ وَمَنَعَ أَيْضًا من إثْبَاتِ النُّصُبِ بِالْقِيَاسِ قال وَلِهَذَا الْأَصْلِ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ في الْفُصْلَانِ وَصِغَارِ الْغَنَمِ وَالْأَصَحُّ على مَذْهَبِنَا جَوَازُ الْقِيَاسِ في الْمَقَادِيرِ وَمَنَعَ الْكَرْخِيّ أَيْضًا أَنْ يُعَلَّلَ ما رُخِّصَ فيه لِنَوْعِ مُسَاهَلَةٍ كَأُجْرَةِ الْحَمَّامِ وَقَطْعِ السَّارِقِ وَالِاسْتِصْنَاعِ على أُصُولِهِمْ فِيمَا جَرَتْ الْعَادَةُ فيه مِثْلُ الْخِفَافِ وَالْأَوَانِي وَغَيْرِ ذلك وقد تَتَبَّعَ الشَّافِعِيُّ مَذْهَبَهُمْ وَأَبَانَ أَنَّهُمْ لم يَفُوا بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرُوهُ فقال الشَّافِعِيُّ أَمَّا الْحُدُودُ فَقَدْ كَثُرَتْ أَقْيِسَتُكُمْ فيها تَعَدَّيْتُمُوهَا إلَى الِاسْتِحْسَانِ وهو في مَسْأَلَةِ شُهُودِ الزِّنَى فَإِنَّهُمْ أَوْجَبُوا الْحَدَّ في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَنَصُّوا أَنَّهُ اسْتِحْسَانٌ وَأَمَّا الْكَفَّارَاتُ فَقَدْ قَاسُوا الْإِفْطَارَ بِالْأَكْلِ على الْإِفْطَارِ بِالْوِقَاعِ وَقَاسُوا قَتْلَ الصَّيْدِ نَاسِيًا على قَتْلِهِ عَامِدًا مع تَقْيِيدِ النَّصِّ بِالْعَمْدِ في قَوْله تَعَالَى وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا وَأَمَّا الْمُقَدَّرَاتُ فَقَاسُوا فيها وَمِمَّا أَفْحَشُوا في ذلك تَقْدِيرُ عَدَدِ الدِّلَاءِ عِنْدَ وُقُوعِ الْفَأْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلُوا تَقْدِيرًا على تَقْدِيرٍ فَقَدَّرُوا لِلْحَمَامِ غير تَقْدِيرِ الْعُصْفُورِ وَالْفَأْرَةِ وَقَدَّرُوا الدَّجَاجَةَ على تَقْدِيرِ الْحَمَامَةِ وَقَدَّرُوا الْخِرْصَ بِالْقُلَّتَيْنِ في الْعُشْرِ وَأَمَّا الرُّخَصُ فَقَدْ قَاسُوا فيها وَتَنَاهَوْا في الْقَصْدِ فإن الِاقْتِصَارَ على الْأَحْجَارِ في الِاسْتِجْمَارِ من أَظْهَرِ الرُّخَصِ ثُمَّ اعْتَقَدُوا أَنَّ كُلَّ نَجَاسَةٍ نَادِرَةٍ أو مُعْتَادَةٍ مَقِيسَةٌ على الْأَثَرِ اللَّاصِقِ بِمَحَلِّ النَّجْوِ وَانْتَهَوْا في ذلك إلَى نَحْوِ نَفْيِ إيجَابِ اسْتِكْمَالِ الْأَحْجَارِ مع قَطْعِ كل مُنْصِفٍ بِأَنَّ الَّذِينَ عَاصَرُوا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَهِمُوا هذا التَّخْفِيفَ منه في هذا الْمَوْضِعِ لِشِدَّةِ الْبَلْوَى ثُمَّ قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْ شَنِيعِ ما قالوا في الرُّخَصِ إثْبَاتُهُمْ لها على خِلَافِ وَضْعِ الشَّرْعِ فيها فَإِنَّهَا شُرِعَتْ تَخْفِيفًا وَإِعَانَةً على ما يُعَانِيهِ الْمَرْءُ في سَفَرِهِ من كَثْرَةِ أَشْغَالٍ قَاسُوهَا في سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ فَهَذَا الذي ذَكَرُوهُ يَزِيدُ على الْقِيَاسِ إذْ الْقِيَاسُ تَقْدِيرُ الْمَنْصُوصِ عليه قَرَارُهُ وَإِلْحَاقُ غَيْرِهِ بِهِ وَهَذَا قَلْبُ الْمَوْضُوعِ الْمَنْصُوصِ في
____________________
(4/49)
الرُّخَصِ الْكُلِّيَّةِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَلَيْسَ كُلٌّ من هذه الْمَذْكُورَاتِ يَجُوزُ الْقِيَاسُ فيها بَلْ الضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ جَازَ أَنْ يُسْتَنْبَطَ منه مَعْنًى مُخَيَّلٌ من كِتَابٍ أو سُنَّةٍ فإنه مُعَلَّلٌ وما لَا يَصِحُّ منه مِثْلُ هذا لَا يُعَلَّلُ سَوَاءٌ كان من الْحُدُودِ أو الْكَفَّارَاتِ ثُمَّ قد تَنْقَسِمُ الْعِلَلُ أَقْسَامًا فَقِسْمٌ يُعَلَّلُ جُمْلَتُهُ لَا تَفْصِيلُهُ وهو كُلُّ ما يُمْكِنُ إبْدَاءُ مَعْنًى من أَصْلِهِ وَفَرْعِهِ وَقِسْمٌ يُعَلَّلُ جُمْلَتُهُ وَتَفْصِيلُهُ لِعَدَمِ اطِّرَادِ التَّعْلِيلِ في التَّفَاصِيلِ وَقِسْمٌ آخَرُ لَا تُعَلَّلُ جُمْلَتُهُ لَكِنْ بَعْدَ ثُبُوتِ جُمْلَتِهِ تُعَلَّلُ تَفَاصِيلُهُ كَالْكِتَابَةِ وَالْإِجَازَةِ وَفُرُوعِ تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ وقد يُوجَدُ قِسْمٌ لَا يَجْرِي التَّعْلِيلُ في جُمْلَتِهِ وَتَفَاصِيلِهِ كَالصَّلَاةِ وما تَشْتَمِلُ عليه من الْقِيَامِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرِهِ وَرُبَّمَا يَدْخُلُ فيه الزَّكَاةُ وَمَقَادِيرُ الْأَنْصِبَةِ وَالْأَوْقَاصُ انْتَهَى وقال إلْكِيَا نُقِلَ عن زُعَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ امْتِنَاعُ الْقِيَاسِ في التَّقْدِيرَاتِ وَالْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالرُّخَصِ وَلِذَلِكَ مَنَعُوا إثْبَاتَ حَدِّ السَّارِقِ في الْمُخْتَلِسِ وَحُكِيَ عن أبي حَنِيفَةَ ما يَدُلُّ على ذلك فإنه لم يُثْبِتْ لِهَذَا الْمُحْصَرِ بَدَلًا عن الصَّوْمِ وقال إنَّهُ يَقْتَضِي إثْبَاتَ عِبَادَةٍ مُبْتَدَأَةٍ وكان يقول إنَّ النُّصُبَ لَا يَصِحُّ أَنْ تُبْتَدَأَ بِقِيَاسٍ وَلَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلِذَلِكَ اعْتَدَّ في إسْقَاطِ الزَّكَاةِ في الْفَصِيلِ وكان يُجَوِّزُ أَنْ يَعْمَلَ الْقِيَاسُ في نُصُبِ ما قد يَثْبُتُ الزَّكَاةُ فيها كما يُجَوِّزُ أَنْ يَعْمَلَ الْقِيَاسُ في صِفَةِ الْعِبَادَةِ من وُجُوبٍ وَغَيْرِهِ وَلِذَلِكَ قَبِلُوا خَبَرَ الْوَاحِدِ في إثْبَاتِ النِّصَابِ فِيمَنْ زَادَ على الْمِائَتَيْنِ وفي وُجُوبِ الْوَتْرِ فَقِيلَ لهم تَكَلَّمَ الناس في الْحُدُودِ وَالْأَيْمَانِ بِالْقِيَاسِ فَأَجَابُوا أَنَّهُ ليس لِأَجْلِ إثْبَاتِ حَدٍّ بِهِ وَإِنَّمَا تَكَلَّمُوا لِبَيَانِ الشُّبَهِ الْمُسْقِطَةِ له مع تَحَقُّقِ إثْبَاتِهَا وَسُقُوطُ الْحَدِّ ليس بِحَدٍّ فَيَصِحُّ الْقِيَاسُ وَأَوْجَبُوا الْكَفَّارَةَ على الْقَتْلِ قِيَاسًا على الْمُجَامِعِ وَعَلَى الْمَرْأَةِ كَالرَّجُلِ وَعَلَى الْمُجَامِعِ نَاسِيًا في الْإِحْرَامِ كما لو قَتَلَ الصَّيْدَ خَطَأً وَلَيْسَ في ذلك شَيْءٌ من نَصٍّ وَلَا عُمُومٍ وَلَا إجْمَاعٍ فَأَجَابُوا بِأَنَّ هذا لم نَعْلَمْهُ قِيَاسًا بَلْ اسْتِدْلَالًا بِالْأُصُولِ على الْأَحْكَامِ مُغَايِرٌ لِلْقِيَاسِ لِنَحْوِ السِّرِّ وَهَذَا كُلُّهُ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ فيها غَيْرُ الْقِيَاسِ ثُمَّ بَيَّنَ ذلك وَأَطَالَ وقال الذي يَسْتَقِيمُ مَذْهَبًا لِلْمُحَصِّلِ على ما يَرَاهُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا قال ذلك في إجْرَاءِ الْقِيَاسِ في أُصُولِ الْكَفَّارَاتِ وَأُصُولِ الْحُدُودِ كَإِلْحَاقِ الرِّدَّةِ وَالْقَذْفِ بِالْقَتْلِ في الْكَفَّارَةِ وَكَإِلْحَاقِ من يُكَاتِبُ وَيُطْلِعُهُمْ على عَوْرَاتِنَا بِالسَّارِقِ من حَيْثُ إنَّ ذلك يَقْتَضِي التَّصَرُّفَ في عَلَائِقِ غَيْبٍ لَا يُهْتَدَى إلَيْهِ فَانْعَدَمَ طَرِيقُ الْقِيَاسِ فَامْتَنَعَ الْقِيَاسُ من حَيْثُ إنَّ الذي يُكَاتِبُ الْكُفَّارَ وَإِنْ زَادَ ضَرَرُ فِعْلِهِ على ضَرَرِ السَّارِقِ الْوَاحِدِ فَهُوَ بِالْإِضَافَةِ إلَى سَارِقٍ وَاحِدٍ أَمَّا بِالْإِضَافَةِ إلَى الْجِنْسِ فَلَا من حَيْثُ إنَّ السَّرِقَةَ
____________________
(4/50)