اسْتَدَلَّ على إبَاحَةِ السَّمَكِ الطَّافِي من قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْحِلُّ مِيتَتُهُ تَنْبِيهٌ الْبَعْضُ وَنَحْوُهُ من الْجُزْءِ وَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ إذَا أُضِيفَ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ وَإِلَّا لَكَانَ قام بَعْضُ الرِّجَالِ مِثْلَ قام كلهم كَذَا قال بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ وَيَنْبَغِي تَخْصِيصُ هذا بِبَعْضِ الْمُحَالِ وهو إذَا لم تَدْعُ إلَى الْعُمُومِ ضَرُورَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ على بَعْضٍ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ أَفْضَلَ من الْآخَرِ فَإِنْ دَعَتْ كان لِلْعُمُومِ وهو حِينَئِذٍ بِالْقَرِينَةِ لَا بِالْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ثُمَّ يوم الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فإنه عَامٌّ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وقَوْله تَعَالَى فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ فإن يَتَسَاءَلُونَ يَدُلُّ على أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ كَذَلِكَ وقَوْله تَعَالَى اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فإن كُلَّ وَاحِدٍ عَدُوُّ الْآخَرِ أَلَا تَرَى أَنَّك لو قُلْت كُلُّكُمْ لِكُلٍّ عَدُوٌّ صَحَّ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا وَيَنْبَغِي النَّظَرُ في مَوْضُوعِ اللَّفْظِ وَفَائِدَةُ هذا فِيمَا يَجُوزُ فيه الْأَمْرَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ النَّكِرَةُ في سِيَاقِ النَّفْيِ النَّكِرَةُ في سِيَاقِ النَّفْيِ بِمَا أو لَنْ أو لم أو ليس وَسَوَاءٌ دخل حَرْفُ النَّفْيِ على فِعْلٍ نَحْوُ ما رَأَيْت رَجُلًا أو على اسْمٍ نَحْوُ لَا رَجُلَ في الدَّارِ وَسَوَاءٌ بَاشَرَهَا النَّفْيُ نَحْوُ ما أَحَدٌ قَائِمًا أو عَامِلَهَا نَحْوُ ما قام أَحَدٌ وَيَدُلُّ له قَوْله تَعَالَى وَلَا يَتَّخِذُ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا من دُونِ اللَّهِ وقال الْآمِدِيُّ في أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ إنَّمَا تَعُمُّ النَّكِرَةُ الْمَنْفِيَّةُ فَأَمَّا التي لَيْسَتْ بِمَنْفِيَّةٍ لَكِنَّهَا في سِيَاقِهِ فَلَا تَعُمُّ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى قُلْ من أَنْزَلَ الْكِتَابَ الذي جاء بِهِ مُوسَى
____________________
(2/270)
في جَوَابِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ على بَشَرٍ من شَيْءٍ فَلَوْ لم يَكُنْ الْعُمُومُ لم يَلْزَمْ الرَّدُّ عليه بِالْوَاحِدِ وَالْمَعْنَى في ذلك أَنَّ النَّكِرَةَ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِمُعَيَّنٍ كَقَوْلِكَ رَأَيْت رَجُلًا وَالنَّفْيُ لَا اخْتِصَاصَ له فإذا انْضَمَّ النَّفْيُ الذي لَا اخْتِصَاصَ له إلَى التَّنْكِيرِ الذي لَا يَخْتَصُّ بِمُعَيَّنٍ اقْتَضَى ذلك الْعُمُومَ احْتَجَّ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ بِأَنَّهَا لو لم تَكُنْ لِنَفْيِ الْعُمُومِ لَمَا كان لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ نَفْيًا لِدَعْوَى من ادَّعَى سِوَى اللَّهِ ثُمَّ إنْ كانت النَّكِرَةُ صَادِقَةً على الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ كَشَيْءٍ وَمَوْجُودٍ وَمَعْلُومٍ أو مُلَازِمَةً لِلنَّفْيِ نَحْوُ أَحَدٍ وما أُلْحِقَ بِهِ مِثْلُ غَرِيبٍ وَدَاعٍ وَمُجِيبٍ أو وَاقِعَةً بَعْدَ لَا الْعَامِلَةِ عَمَلَ إنْ وَهِيَ لَا التي لِنَفْيِ الْجِنْسِ مِثْلُ لَا رَجُلَ في الدَّارِ بِبِنَاءِ رَجُلٍ على الْفَتْحِ أو دَاخِلًا عليها من مِثْلِ ما جَاءَنِي من رَجُلٍ فإن كَوْنَهَا لِلْعُمُومِ من الْوَاضِحَاتِ لَكِنْ هل اُسْتُفِيدَ الْعُمُومُ في قَوْلِك ما جَاءَنِي من رَجُلٍ من لَفْظَةِ من أو كان مُسْتَفَادًا من النَّفْيِ قبل دُخُولِهَا وَدَخَلَتْ هِيَ لِلتَّأْكِيدِ فيه قَوْلَانِ لِلنَّحْوِيِّينَ وَالصَّحِيحُ الثَّانِي وهو قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ حَكَاهُ في الِارْتِشَافِ في الْكَلَامِ على حُرُوفِ الْجَرِّ وَاخْتَارَهُ الْقَرَافِيُّ وَزَعَمَ أنها لَا تَعُمُّ إلَّا إذَا بَاشَرَتْهَا من وَتَمَسَّكَ بِقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ في قَوْله تَعَالَى ما لَكُمْ من إلَهٍ غَيْرُهُ إنَّمَا اُسْتُفِيدَ الْعُمُومُ من لَفْظَةِ من وَلَوْ قال ما لَكُمْ إلَهٌ لم يَعُمَّ مع أَنَّ لَفْظَةَ إلَهٍ نَكِرَةٌ وقد حَكَمَ بِأَنَّهُ لم يَعُمَّ وقد ذَكَرَ الْحَرِيرِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَنَازَعَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ وَقَالَا لَا حُجَّةَ في قَوْلِ صَاحِبِ الْكَشَّافِ مع نَقْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ عن سِيبَوَيْهِ إنَّ ما جَاءَنِي رَجُلٌ عَامٌّ وَالْحَقُّ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِكَلَامِهِ ظَاهِرَهُ فَهُوَ شُذُوذٌ وَيُحْمَلُ أَنْ يُرِيدَ ما أَرَادَهُ غَيْرُهُ من أَنَّهُ بَعْدَ دُخُولِ من في النَّفْيِ يَكُونُ الْعُمُومُ نَصًّا وَدُونَهَا ظَاهِرًا وَالِانْتِقَالُ من الظُّهُورِ إلَى النَّصِّ تَأْكِيدُ تَأْسِيسٍ فإنه تَقْوِيَةٌ مُجَرَّدَةٌ وَكَذَلِكَ ذَهَبَ جُمْهُورُ النُّحَاةِ إلَى أَنَّ لَا التي لِنَفْيِ الْجِنْسِ نَصٌّ في الْعُمُومِ دُونَ لَا التي هِيَ أُخْتُ ليس فإن مَعْنَى من مُتَضَمِّنٌ مع الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ وقال ابن الصَّائِغِ رَادًّا على من قال لَا رَجُلَ بَنَى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى حَرْفِ الِاسْتِغْرَاقِ وهو من قال سِيبَوَيْهِ إنَّهُ لَا يَقْتَضِي عُمُومَ النَّفْيِ وقال الشَّيْخُ أبو حَيَّانَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ ما جَاءَنِي من أَحَدٍ وما جَاءَنِي من رَجُلٍ من في الْمَوْضِعَيْنِ لِتَأْكِيدِ اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ وَهَذَا هو الصَّحِيحُ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في بَابِ التَّأْوِيلِ هِيَ لِلْعُمُومِ ظَاهِرًا عِنْدَ تَقْدِيرِ من فَإِنْ دَخَلَتْ من كانت
____________________
(2/271)
نَصًّا وَهَذَا هو الْحَقُّ وَنَقَلَهُ ابن الْخَبَّازِ في شَرْحِ الْإِيضَاحِ عن النَّحْوِيِّينَ فقال فَرَّقَ النَّحْوِيُّونَ بين قَوْلِنَا ما جَاءَنِي رَجُلٌ وما جَاءَنِي من رَجُلٍ أَنَّ الْأَوَّلَ يَحْتَمِلُ نَفْيَ وَاحِدٍ من الْجِنْسِ فَلَوْ جاء اثْنَانِ أو ثَلَاثَةٌ كان صَادِقًا وَالثَّانِي لَا يَحْتَمِلُ إلَّا نَفْيَ جَمِيعِ الْجِنْسِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فَلَوْ قُلْت بَلْ رَجُلَانِ كان كَذِبًا وَكَذَا قال أبو الْبَقَاءِ إلَّا أَنَّهُ فَرَّقَ بين دُخُولِ من على أَدَاةِ عُمُومٍ كَأَحَدٍ فَجَعَلَهَا مُؤَكِّدَةً لِلْعُمُومِ وَبَيْنَ دُخُولِهَا على غَيْرِهِ كَرَجُلٍ فَجَعَلَهَا مُقَيِّدَةً له وَهَذَا هو الصَّوَابُ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْإِفَادَةِ قد فَرَّقَ أَهْلُ اللُّغَةِ بين النَّفْيِ في قَوْلِهِ ما جَاءَنِي أَحَدٌ وما جَاءَنِي من أَحَدٍ وَبَيْنَ دُخُولِهِ على النَّكِرَةِ من أَسْمَاءِ الْجِنْسِ في ما جَاءَنِي رَجُلٌ وما جَاءَنِي من رَجُلٍ فَرَأَوْا تَسَاوِيَ اللَّفْظَيْنِ في الْأَوَّلِ وَأَنَّ من زَائِدَةٌ فيه وَافْتِرَاقُ الْمَعْنَى في الثَّانِي لِأَنَّ قَوْلَهُ ما جَاءَنِي رَجُلٌ يَصْلُحُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكُلُّ وَأَنْ يُرَادَ بِهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ فإذا دَخَلَتْ من أَخْلَصَتْ النَّفْيَ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَغَيَّرَتْ الْفَائِدَةَ ا هـ لَا لو لم يُفِدْ الْعُمُومَ مع عَدَمِهَا لم يُفِدْ في قَوْله تَعَالَى لَا يَعْزُبُ عنه مِثْقَالُ ذَرَّةٍ لَا تَجْزِي نَفْسٌ عن نَفْسٍ شيئا وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا شَكَّ في إفَادَتِهِ الْعُمُومَ وَلَيْسَ هُنَاكَ من وَأَيْضًا فَإِنَّهَا دَالَّةٌ على الْمَاهِيَّةِ فَدُخُولُ النَّافِي يَنْفِي مَعْنَاهَا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وهو مُطْلَقُ الْمَاهِيَّةِ وَيَلْزَمُ منه الْعُمُومُ وَتَسْمِيَتُهُمْ لَا لِنَفْيِ الْجِنْسِ وهو بِانْتِفَاءِ كل فَرْدٍ أَمَّا النَّكِرَةُ الْمَرْفُوعَةُ بَعْدَ لَا الْعَامِلَةُ عَمَلَ ليس نَحْوُ لَا رَجُلَ في الدَّارِ فَهِيَ لِنَفْيِ الْوَحْدَةِ قَطْعًا لَا لِلْعُمُومِ وَلِهَذَا يُقَالُ في تَوْكِيدِهِ بَلْ رَجُلَانِ أو رِجَالٌ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَا رَجُلَ بِالْفَتْحِ بَلْ رَجُلَانِ وَذَلِكَ يَدُلُّ على اقْتِضَاءِ الثَّانِي التَّعْمِيمَ دُونَ الْأَوَّلِ وَأَنَّ الْمَنْفِيَّ في حَالَةِ الرَّفْعِ الرَّجُلُ الْمُقَيَّدُ بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ وَذَلِكَ لَا يُعَارِضُهُ وُجُودُ الِاثْنَيْنِ أو الْجَمْعِ بِخِلَافِ الْمَنْفِيِّ حَالَةَ الْفَتْحِ فإن الْمَنْفِيَّ فيه الْحَقِيقَةُ لَا بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ وَذَلِكَ يُنَافِيهِ ثُبُوتُ الْفَرْدِ لِأَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ فَرْدٌ ثَبَتَتْ الْحَقِيقَةُ بِالضَّرُورَةِ هَكَذَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ وَحَكَاهُ عن سِيبَوَيْهِ وَالْمُبَرِّدِ وَالْجُرْجَانِيِّ في أَوَّلِ شَرْحِ الْإِيضَاحِ وَابْنِ السَّيِّدِ في شَرْحِ الْجُمَلِ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرِهِمْ وَتَبِعَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ وَحَكَاهُ الشَّيْخُ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ عن بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ ولم يُنْكِرْهُ وَصَرَّحَ بِهِ الْعَلَمُ الْقَرَافِيُّ في مُخْتَصَرِ الْمَحْصُولِ
____________________
(2/272)
وَحَكَاهُ الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ والقرطبي في أُصُولِهِ عن النُّحَاةِ قال وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَبْنِيَّةِ على الْفَتْحِ وَالصَّوَابُ عَدَمُ اقْتِصَارِهَا على نَفْيِ الْوَحْدَةِ بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِنَفْيِ الْجِنْسِ وَأَنْ تَكُونَ لِنَفْيِ الْوَحْدَةِ وَيُقَالُ في تَوْكِيدِهِ على الْأَوَّلِ بَلْ امْرَأَةٌ وَعَلَى الثَّانِي بَلْ رَجُلَانِ أو رِجَالٌ وقد قال الشَّاعِرُ تَعَزَّ فَلَا شَيْءٌ على الْأَرْضِ بَاقِيًا وقد نَقَلَ الشَّيْخُ أبو حَيَّانَ عن سِيبَوَيْهِ أنها لِتَأْكِيدِ الِاسْتِغْرَاقِ مع الْإِعْرَابِ في قَوْلِكَ ما جاء من أَحَدٍ وما قام من رَجُلٍ وَنَقَلَهُ عنه من الْأُصُولِيِّينَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في كَلَامِهِ على حُرُوفِ الْمَعَانِي فقال قال سِيبَوَيْهِ إذَا قُلْت ما جَاءَنِي رَجُلٌ فَاللَّفْظُ عَامٌّ وَلَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُؤَوَّلَ بِمَا جَاءَنِي رَجُلٌ بَلْ رَجُلَانِ فإذا قُلْت ما جَاءَنِي من رَجُلٍ اقْتَضَى نَفْيَ جِنْسِ الرِّجَالِ على الْعُمُومِ من غَيْرِ تَأْوِيلٍ وقد ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ هذا النَّصَّ وَلَكِنَّهُ قال لم أَجِدْهُ في كِتَابِ سِيبَوَيْهِ وَسَأَلْتُ عنه من هو عَالِمٌ بِالْكِتَابِ فقال لَا أَعْرِفُهُ وَهَذَا ضَعِيفٌ فإن الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ على النَّافِي وقد صَنَّفَ ابن خَرُوفٍ في مَوَاضِعَ نَقَلَهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن سِيبَوَيْهِ ولم يَرَهَا في كِتَابِهِ ولم يذكر هذا منها وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إنَّ دَلَالَةَ هذه الْأَقْسَامِ على الْعُمُومِ مُتَفَاوِتَةٌ وَتَجِيءُ على مَرَاتِبَ فَأَدْنَاهَا ما جَاءَنِي رَجُلٌ لِعَدَمِ دُخُولِ من وَلِعَدَمِ اخْتِصَاصِ رَجُلٍ بِالنَّفْيِ وَهِيَ ظَاهِرَةٌ في الْعُمُومِ لَا نَصَّ وَأَعْلَاهَا ما جَاءَنِي من أَحَدٍ لِانْتِفَاءِ الْأَمْرَيْنِ وَهَذَا نَصٌّ في الْعُمُومِ وَالْمَرْتَبَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ ما جَاءَنِي من رَجُلٍ وما جَاءَنِي أَحَدٌ وَهِيَ تَلْحَقُ بِالْقِسْمِ الثَّانِي وَتَلْحَقُ بِهِ النَّكِرَةُ الْمَبْنِيَّةُ مع لَا على الْفَتْحِ فَأَمَّا الْمَرْفُوعَةُ فَلَيْسَتْ نَصًّا بَلْ ظَاهِرٌ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ تَتِمَّاتٌ الْأُولَى أَنَّ حُكْمَ الْمَنْهِيِّ في ذلك حُكْمُ الْمَنْفِيِّ كَقَوْلِكَ لَا تَعِظْ نَاسًا وَلَا تَعِظْ رِجَالًا كما قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ الثَّانِيَةُ زَعَمَ أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ أَنَّ النَّكِرَةَ في النَّفْيِ أَفَادَتْ الْعُمُومَ بِصِيغَتِهَا لَا بِزِيَادَةٍ عليها وَصَرَّحَ الرَّازِيَّ بِخِلَافِهِ وهو الْحَقُّ لِأَنَّ لَا رَجُلَ عَمَّتْ بِزِيَادَةٍ دَخَلَتْ على رَجُلٍ وَكَذَا قال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ إنَّمَا عَمَّتْ النَّكِرَةُ لِضَرُورَةِ صِحَّةِ الْكَلَامِ
____________________
(2/273)
وَتَحْقِيقِ غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ من الْإِفْهَامِ لَا أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْجَمْعَ بِصِيغَتِهِ فَالْعُمُومُ فيه من الْقَرِينَةِ هذا لَفْظُهُ وَقَطَعَ بِهِ أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ في التَّقْوِيمِ فقال النَّكِرَةُ عَمَّتْ اقْتِضَاءً لَا نَصًّا الثَّالِثَةُ اخْتَلَفُوا في أَنَّ النَّكِرَةَ في سِيَاقِ النَّفْيِ هل عَمَّتْ لِذَاتِهَا أو لِنَفْيِ الْمُشْتَرَكِ فيها فقال أَصْحَابُنَا بِالْأَوَّلِ وهو أَنَّ اللَّفْظَ وُضِعَ لِسَلْبِ كل فَرْدٍ فَرْدٍ من أَفْرَادِ الْكُلِّيَّةِ بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ وَأَنَّ سَلْبَ الْكُلِّيِّ حَصَلَ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ لِنَفْيِ الْكُلِّيَّةِ وقال الْحَنَفِيَّةُ إنَّمَا حَصَلَ الْعُمُومُ لِأَنَّ النَّفْيَ فيه لِنَفْيِ الْحَقِيقَةِ الْكُلِّيَّةِ التي هِيَ مَفْهُومُ الرَّجُلِ وَيَلْزَمُ من نَفْيِهِ نَفْيُ كل فَرْدٍ لِأَنَّهُ لو ثَبَتَ فَرْدٌ لَمَا كانت حَقِيقَةُ الرَّجُلِ مَنْفِيَّةً لِاسْتِلْزَامِ ذلك الْفَرْدِ الْحَقِيقَةَ الْكُلِّيَّةَ فإن نَفْيَ الْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ يَلْزَمُ منه نَفْيُ كل فَرْدٍ فَرْدٍ وَنَفْيُ الْأَعَمِّ يَلْزَمُ منه نَفْيُ الْأَخَصِّ فَحَصَلَتْ السَّالِبَةُ الْكُلِّيَّةُ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ لَا لِأَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ في اللُّغَةِ لِلسَّالِبَةِ الْكُلِّيَّةِ وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُنَا النَّكِرَةُ في سِيَاقِ النَّفْيِ لِلْعُمُومِ لَا بِمَعْنَى أَنَّ النَّفْيَ رَفْعٌ لِلْأَفْرَادِ بَلْ رَفَعَ الْحَقِيقَةَ وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ النَّكِرَةَ الْمَنْفِيَّةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْعُمُومِ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إنَّمَا يَقْصِدُ بِنَفْيِهِ نَفْيَ كل رَجُلٍ رَجُلٍ لَا نَفْيَ الْمُشْتَرَكِ فَإِنْ قِيلَ دَلَالَةُ الِالْتِزَامِ لَازِمَةٌ على كِلَا الْقَوْلَيْنِ فإن نَفْيَ الْمُشْتَرَكِ لَازِمٌ لِنَفْيِ كل فَرْدٍ فَرْدٍ وهو عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ وَنَفْيُ كل فَرْدٍ فَرْدٍ لَازِمٌ له قُلْنَا لَكِنَّ نَفْيَ الْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْأَصَالَةِ بِخِلَافِ نَفْيِ كل فَرْدٍ فَرْدٍ فَجَعْلُهُ مَدْلُولًا بِالْمُطَابَقَةِ أَوْلَى من جَعْلِ ذلك لِلْمَاهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ وَالْمُخْتَارُ في هذه الْمَسْأَلَةِ التَّفْصِيلُ بين النَّكِرَةِ الْمَبْنِيَّةِ على الْفَتْحِ فَبِاللُّزُومِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا فَبِالْوَضْعِ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ على هذا الْخِلَافِ فَائِدَةٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَتَفَرَّعُ على هذا الْخِلَافِ أَعْنِي نَفْيَ الْكُلِّيَّةِ أو الْكُلِّيِّ جَوَازُ التَّخْصِيصِ بِالنِّيَّةِ فِيمَا إذَا وَقَعَ الْفِعْلُ الْمُتَعَدِّي جَوَابًا لِقَسَمٍ أو شَرْطًا نَحْوُ وَاَللَّهِ لَا أَكَلْتُ أو إنْ أَكَلْتُ فَعَبْدِي حُرٌّ وَنَوَى مَأْكُولًا فَعِنْدَنَا يُقْبَلُ التَّخْصِيصُ لِأَنَّهُ عَامٌّ قَطْعِيًّا فَتُؤَثِّرُ النِّيَّةُ في بَعْضِ أَفْرَادِهِ وقال أبو حَنِيفَةَ لَا يُقْبَلُ بَلْ يَحْنَثُ بِأَكْلِ كل مَأْكُولٍ بِنَاءً على أَنَّهُ نَفْيٌ لِلْكُلِّيِّ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وقال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ الْمُرَادُ بِقَوْلِنَا النَّكِرَةُ في سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ أنها تُفِيدُ عُمُومَ النَّفْيِ لَا نَفْيَ الْعُمُومِ الذي قد يَكُونُ بِالثُّبُوتِ في الْبَعْضِ وقد يَسْلَمُ لُزُومُهُ من نَفْيِ النَّكِرَةِ لَكِنَّ غَايَتَهُ أَنَّ ذلك بِوَاسِطَةِ نَفْيِ الْمَاهِيَّةِ وهو غَيْرُ قَادِحٍ في مَقْصُودِنَا
____________________
(2/274)
لِأَنَّ الْمَفْهُومَ الْأَوَّلَ يُحَقَّقُ بِطَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا نَفْيُ ما ليس بِعَامٍّ لَكِنْ يَلْزَمُ منه عُمُومُ النَّفْيِ كما هو في نَفْيِ الْمَاهِيَّةِ وَثَانِيهِمَا بِنَفْيِ كل وَاحِدٍ وَاحِدٍ من أَفْرَادِ ما هو عَامٌّ وَمَتَى تَحَقَّقَ الْخَاصُّ تَحَقَّقَ الْعَامُّ الرَّابِعَةِ اسْتَثْنَى من كَوْنِ النَّكِرَةِ في سِيَاقِ النَّفْيِ لِلْعُمُومِ سَلْبَ الْحُكْمِ عن الْعُمُومِ كَقَوْلِنَا ما كُلُّ عَدَدٍ زَوْجًا فإن هذا ليس من بَابِ عُمُومِ السَّلْبِ أَيْ ليس حُكْمًا بِالسَّلْبِ عن كل فَرْدٍ وَإِلَّا لم يَكُنْ في الْعَدَدِ زَوْجٌ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بَلْ الْمَقْصُودُ بِهِ إبْطَالُ قَوْلِ من قال إنَّ كُلَّ عَدَدٍ زَوْجٌ فَأَبْطَلَ السَّامِعُ ما ادَّعَاهُ من الْعُمُومِ وَهَكَذَا اسْتَثْنَاهُ السُّهْرَوَرْدِيّ في التَّنْقِيحَاتِ وَالْقَرَافِيُّ وَغَيْرُهُمَا الْخَامِسَةِ قال أبو حَيَّانَ في آخِرِ جَمْعِ التَّكْسِيرِ من شَرْحِ التَّسْهِيلِ ما ذَكَرَهُ النُّحَاةُ وَالْأُصُولِيُّونَ من أَنَّ النَّكِرَةَ في سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ ليس عِنْدِي على إطْلَاقِهِ فَإِنَّا نُفَرِّقُ بين ما قام كُلُّ رَجُلٍ وما قام رَجُلٌ وَالنَّفْيُ عِنْدِي مَبْنِيٌّ على الْإِثْبَاتِ فَإِنْ كان الْإِثْبَاتُ عَامًّا كان النَّفْيُ عَامًّا وَإِنْ كان الْإِثْبَاتُ خَاصًّا بِمُطْلَقٍ كان النَّفْيُ لِذَلِكَ الْمُطْلَقِ لَكِنْ يَلْزَمُ من انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عن الْمُطْلَقِ انْتِفَاؤُهُ عن كل فَرْدٍ فَرْدٍ من أَفْرَادِ الْمُطْلَقِ فإذا قُلْت قام كُلُّ رَجُلٍ فَهَذَا إثْبَاتٌ لِقِيَامِ كل رَجُلٍ فإذا نَفَيْتَ فَقُلْتَ ما قام كُلُّ رَجُلٍ انْتَفَى الْقِيَامُ عن كل فَرْدٍ فَرْدٍ من الرِّجَالِ وإذا قُلْت قام رَجُلٌ فيه إثْبَاتُ قِيَامٍ لِمُطْلَقِ رَجُلٍ فإذا قُلْت ما قام رَجُلٌ نَفَيْتَ الْقِيَامَ عن مُطْلَقِ رَجُلٍ هذه دَلَالَةُ هذا اللَّفْظِ لَكِنْ يَلْزَمُ من حَيْثُ نَفْيُ الْقِيَامِ عن مُطْلَقِ رَجُلٍ أَنْ لَا يُوجَدَ في صُورَةٍ ما من صُوَرِ الْمُطْلَقِ فَمَعْنَى الْعُمُومِ لَازِمٌ له لَا أَنَّ اللَّفْظَ وُضِعَ لِلْعُمُومِ وَهَذَا لَفْظُهُ وَنَازَعَهُ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ التَّبْرِيزِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وقال ليس هذا الْحُكْمُ على ما ذُكِرَ فإن قَوْلَهُ ما قام كُلُّ رَجُلٍ سَلَبَ الْقِيَامَ عن كل رَجُلٍ وَلَا يَلْزَمُ السَّلْبُ عن كل وَاحِدٍ وَاحِدٍ إذَا سَلَبَ الْجُزْئِيَّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْكُلِّيَّ نعم يَكُونُ سَلْبُ الْقِيَامِ عن كل وَاحِدٍ وَاحِدٍ النَّكِرَةُ في سِيَاقِ النَّفْيِ إذَا كانت جَمْعًا السَّادِسَةُ هذا كُلُّهُ إذَا كانت النَّكِرَةُ الْمَنْفِيَّةُ مُفْرَدَةً فَإِنْ كانت جَمْعًا نَحْوُ ما رَأَيْت رِجَالًا فَفِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ في التَّلْوِيحِ فقال الْقَاضِي هو لِلِاسْتِغْرَاقِ كَنَكِرَةِ الْوَاحِدِ بَلْ أَوْلَى
____________________
(2/275)
وقال أبو هَاشِمٍ لَا يَقْتَضِيهِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى ما لنا لَا نَرَى رِجَالًا وَصَحَّحَهُ إلْكِيَا وقال لِأَنَّ الْإِبْهَامَ في النَّكِرَةِ اقْتَضَى الِاسْتِغْرَاقَ وإذا ثُنِّيَ أو جُمِعَ زَالَ مَعْنَى الْإِبْهَامِ وَيَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ ما رَأَيْت رِجَالًا وَإِنَّمَا رَأَيْت رَجُلًا أو رَجُلَيْنِ وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ ما رَأَيْت رَجُلًا وَإِنَّمَا رَأَيْت رِجَالًا سِيَّمَا إذَا قال ما رَأَيْت من أَحَدٍ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ تَرْجِيحُهُ أَيْضًا فإنه قال وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ فذكر ما ذَكَرَهُ إلْكِيَا وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ نَقَلَ عن سِيبَوَيْهِ جَوَازَ أَنْ يُقَالَ ما رَأَيْت رَجُلًا ثُمَّ يقول ما رَأَيْت رِجَالًا وقال ابن حَزْمٍ في الْأَحْكَامِ الْجَمْعُ بِلَفْظِ الْمَعْرِفَةِ وَالنَّكِرَةِ سَوَاءٌ في اقْتِضَائِهِ الْعُمُومَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وما تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عن قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ فَهُوَ عُمُومٌ لِكُلِّ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ وَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ الْجَمْعَ إذَا جاء بِلَفْظِ النَّكِرَةِ نَحْوُ قال رِجَالٌ لَا يُوجِبُ الْعُمُومَ وهو فَاسِدٌ لَا دَلِيلَ عليه انْتَهَى وإذا جاء هذا في الْإِثْبَاتِ فَلَأَنْ يَقُولَ بِهِ في النَّفْيِ من طَرِيقِ الْأَوْلَى السَّابِعَةُ إنْ كانت النَّكِرَةُ مُثْبَتَةً لم تَعُمَّ هذا هو الْمَشْهُورُ وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن الْأَكْثَرِينَ وقال أَصْحَابُنَا ليس الِاعْتِبَارُ بِالنَّفْيِ وَلَا الْإِثْبَاتِ وَلَكِنْ كُلُّ نَكِرَةٍ لَا تَحْتَمِلُ الِاسْتِثْنَاءَ فَهِيَ غَيْرُ عَامَّةٍ على الِاسْتِغْرَاقِ وَإِنْ صَحَّ عُمُومُهَا على الْبَدَلِ وَكُلُّ نَكِرَةٍ تَحْتَمِلُ الِاسْتِثْنَاءَ فَهِيَ عَامَّةٌ ا هـ وَأَمَّا نَحْوُ عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ وَحَدِيثُ صَلَاةٌ في مَسْجِدِي هذا فَغَيْرُ ما نَحْنُ فيه لِأَنَّ الْحُكْمَ فيه على الْمَاهِيَّةِ من حَيْثُ هِيَ فَجَاءَ الْعُمُومُ فيه بِالْعَرْضِ وَلَيْسَ فيه عُمُومٌ حَقِيقِيٌّ إذْ لَا أَفْرَادَ تَحْتَ مُطْلَقِ الْمَاهِيَّةِ حتى يَعُمَّهَا وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْإِفَادَةِ النَّكِرَةُ قبل دُخُولِ أَلْ عليها تُفِيدُ الْعُمُومَ على الصَّلَاحِ وَعَلَيْهِ حُمِلَ قَوْله تَعَالَى فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا وَلِهَذَا قالوا لو
____________________
(2/276)
قال السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ بِالْبَابِ رِجَالٌ ائْذَنْ لِرَجُلٍ صَلَحَ ذلك لِكُلِّهِمْ على الْبَدَلِ ولم يَحْتَجْ إلَى الِاسْتِفْهَامِ أَيُّهُمْ أَرَادَ ا هـ وَعَلَى الْأَوَّلِ فَيُسْتَثْنَى صُوَرٌ تَعُمُّ فيها مع الْإِثْبَاتِ لِقَرِينَةٍ على خِلَافٍ فيه منها وُقُوعُهَا في سِيَاقِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إنْ امْرُؤٌ هَلَكَ وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ ذَكَرَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وَيَدُلُّ له قَوْله تَعَالَى وَلَوْ أَنَّمَا في الْأَرْضِ من شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالسَّبَبُ فيه أَنَّ الشَّرْطَ لَا اخْتِصَاصَ له فَأَشْبَهَ النَّفْيَ وَقَرَّرَهُ الْمَازِرِيُّ وفي الْحَقِيقَةِ ليس هذا نَقْضًا لِأَنَّ الشَّرْطَ في مَعْنَى الْكَلَامِ الْمَنْفِيِّ لِأَنَّ الْمُشْتَرِطَ لم يُجِزْ وُقُوعَ الشَّرْطِ حَيْثُ جَعَلَهُ شَرْطًا وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ بِالنَّكِرَةِ في سِيَاقِ الثُّبُوتِ الْمَحْضِ كَقَوْلِنَا في الدَّارِ رَجُلٌ وَنَحْوِهِ وَأَمَّا النَّهْيُ وَالشَّرْطُ وَالِاسْتِفْهَامُ فَهُوَ عِنْدَ النُّحَاةِ كُلُّهُ كَلَامٌ غَيْرُ مُوجِبٍ مع أَنَّ الْإِبْيَارِيَّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ رَدَّ عليه حَيْثُ مَثَّلَ بِقَوْلِهِ من يَأْتِنِي بِمَالٍ فَأُكْرِمْهُ وَأَنْكَرَ الْعُمُومَ فقال لو كانت لَمَا اسْتَحَقَّ الْإِكْرَامَ من أتى بِمَالٍ وَاحِدٍ بَلْ كان يَفْتَقِرُ إلَى الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ الْأَمْوَالِ كما لو قال من جَاءَنِي بِكُلِّ مَالٍ وَكَأَنَّ هذا منه اعْتِرَاضٌ على الْمِثَالِ لَا الِاسْتِثْنَاءِ وقال غَيْرُهُ النَّكِرَةُ هُنَا لم تَقْتَضِ عُمُومًا إذْ الْمَطْلُوبُ مَالٌ مُعَيَّنٌ وَإِنَّمَا الْعُمُومُ في سِيَاقِ الشَّرْطِ لَا في مُتَعَلِّقِ الشَّرْطِ وَلَا يَلْزَمُ من عُمُومِ الشَّرْطِ عُمُومُ ما وَقَعَ في مَسَاقِهِ فإذا قُلْت من يَأْتِنِي بِزَيْدٍ فَالْعُمُومُ في الْآتِي لَا في الْمَأْتِيِّ بِهِ وَالْحَقُّ أَنَّ النَّكِرَةَ في سِيَاقِ الشَّرْطِ لَا تَتَنَاوَلُ الْآحَادَ عُمُومًا وَإِنَّمَا تَتَنَاوَلُهَا على الْبَدَلِ وَلَوْ كانت عَامًّا في الشَّرْطِ لَعَمَّتْ مع الْأَمْرِ إذَا قال ائْتِنِي بِثَوْبٍ فَلَوْ أَتَاهُ بِثَوْبٍ وَاحِدٍ لَكَانَ مُمْتَثِلًا وَلَوْ أَتَاهُ بِعَشَرَةٍ كان حَائِدًا عن الْمَطْلُوبِ فَلَوْ كان لَفْظُ الثَّوْبِ يَتَنَاوَلُ الْعَشَرَةَ لَمَا عُدَّ مُخَالِفًا وَمِنْهَا الْوَاقِعَةُ في حَيِّزِ الْإِنْكَارِ الِاسْتِفْهَامِيِّ فَإِنَّهَا لِلْعُمُومِ كَالنَّفْيِ ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْقَرَافِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى هل تَعْلَمُ له سَمِيًّا فَهَلْ تَرَى لهم من بَاقِيَةٍ وَمِنْهَا الْوَاقِعَةُ في سِيَاقِ الِامْتِنَانِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في تَعْلِيقِهِ وَذَكَرَهُ ابن الزَّمْلَكَانِيِّ في الْبُرْهَانِ لَكِنْ أَخَذَهُ من قَوْلِ الْبَيَانِيِّينَ إنَّ النَّكِرَةَ تَأْتِي لِلتَّكْثِيرِ ظَنًّا منه أَنَّ التَّكْثِيرَ هو التَّعْمِيمُ أو مُلَازِمُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّهَا لِلتَّكْثِيرِ الزَّمَخْشَرِيُّ في قَوْله تَعَالَى فيها عَيْنٌ جَارِيَةٌ
____________________
(2/277)
وَمِنْهَا الْوَاقِعَةُ في سِيَاقِ الطَّلَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الْآخِرَةِ حَسَنَةً فإن حَسَنَةً نَكِرَةٌ مُرَادٌ بها التَّعْمِيمُ وَلِهَذَا كان من جَوَامِعِ الْأَدْعِيَةِ وَمِنْهَا في الْأَمْرِ لِلْعُمُومِ وَنَسَبَهُ في الْمَحْصُولِ لِلْأَكْثَرِينَ نَحْوُ أُعْتِقُ رَقَبَةً وَإِلَّا لَمَا خَرَجَ عن الْعُهْدَةِ بِأَيِّ إعْتَاقٍ وَاسْتَشْكَلَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وقال هذا الدَّلِيلُ بِعَيْنِهِ يَدُلُّ على أنها لَيْسَتْ لِلْعُمُومِ لِأَنَّهَا لو كانت لِلْعُمُومِ لَمَا خَرَجَ عن الْعُهْدَةِ إلَّا بِإِعْتَاقِ رِقَابِ الدُّنْيَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ يَجِبُ قَتْلُ جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّوَابُ أنها لَا تَعُمُّ وَبِهِ صَرَّحَ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ فقال إذَا قال الْحَكِيمُ اُقْتُلْ مُشْرِكًا لم يُعْقَلْ منه إلَّا قَتْلُ مُشْرِكٍ ما قال يَجِبُ الْوَقْفُ حتى يَقْتَرِنَ بِهِ الْبَيَانُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ الْمُشْرِكَ الذي صِفَتُهُ كَذَا فَلَا بُدَّ من دَلِيلٍ وَقِيلَ إذَا حُمِلَ على الْجِنْسِ خُصَّ وَوُقِفَ فيه وهو قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ انْتَهَى وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُطْلَقٌ وَلَوْ قام دَلِيلٌ على التَّقْيِيدِ لم يَكُنْ مُخَالِفًا وَلَا مُخَصَّصًا وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلَافَ في عُمُومِ النَّكِرَةِ في الْإِنْشَاءِ لَفْظِيٌّ لِأَنَّ الْقَائِلَ بِالْعُمُومِ لَا يُرِيدُ شُمُولَ الْحُكْمِ لِكُلِّ فَرْدٍ حتى يَجِبَ في مِثْلِ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ذَبْحُ كل بَقَرَةٍ وفي مِثْلِ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ تَحْرِيرُ كل رَقَبَةٍ بَلْ الْمُرَادُ ذَبْحُ أَيِّ بَقَرَةٍ كانت وَعِتْقُ أَيِّ رَقَبَةٍ كانت فَإِنْ سُمِّيَ مِثْلُ هذا عَامًّا فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ تَصَوُّرَهُ لَا يَمْنَعُ الشَّرِكَةَ فيه وَإِنْ جُعِلَ مُسْتَغْرِقًا فَكُلُّ نَكِرَةٍ كَذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا جِهَةَ لِلْعُمُومِ وَمِنْهَا قالت الْحَنَفِيَّةُ قد تَعَرَّضَتْ النَّكِرَةُ لِلْعُمُومِ فِيمَا إذَا وُصِفَتْ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ فَإِنَّهَا تَصِيرُ مَعْرِفَةً لِأَنَّ الْوَصْفَ من التَّعْرِيفِ بِمَنْزِلَةِ اللَّامِ في اسْمِ الْجِنْسِ وَمَثَّلُوهُ بِقَوْلِهِمْ لَا أُكَلِّمُ إلَّا رَجُلًا كُوفِيًّا فإن له أَنْ يُكَلِّمَ جَمِيعَ الْكُوفِيِّينَ وَلَوْ قال إلَّا رَجُلًا فَكَلَّمَ رَجُلَيْنِ حَنِثَ فَعُلِمَ أَنَّ الْعُمُومَ من إلْحَاقِ الْوَصْفِ الْعَامِّ بهذا وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ من مُشْرِكٍ لِأَنَّهُ في مَعْرِضِ التَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حتى يُؤْمِنُوا فَلَوْ لم تَكُنْ الْعِلَّةُ عَامًّا لَمَا صَحَّ التَّعْلِيلُ وَكَذَا قَوْلٌ مَعْرُوفٌ قالوا وَالْمُرَادُ بِالْوَصْفِ الْمَعْنَوِيُّ لَا النَّعْتُ النَّحْوِيُّ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ النَّكِرَةَ قد تَكُونُ خَبَرًا أو صِلَةً أو شَرْطًا وقد صَرَّحُوا في قَوْله تَعَالَى لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أنها نَكِرَةٌ وُصِفَتْ بِحُسْنِ الْعَمَلِ وهو عَامٌّ فَعَمَّتْ لِذَلِكَ وَلَا خَفَاءَ في أنها مُبْتَدَأٌ وَأَحْسَنُ عَمَلًا خَبَرُهُ وقد رُدَّ عليهم بِمَا نَصَّ عليه محمد بن الْحَسَنِ في الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ لو قال
____________________
(2/278)
لَأُكَلِّمَنَّ رَجُلًا كُوفِيًّا بَرَّ بِوَاحِدٍ وَلَوْ اقْتَضَى الْوَصْفُ الْعُمُومَ كما قَالُوهُ لَمَا بَرَّ إلَّا بِالْجَمِيعِ وَلِأَنَّ الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ ليس لِلتَّعْمِيمِ بَلْ لِبَيَانِ الْمُرَادِ بِالنَّكِرَةِ فإن النَّكِرَةَ فيها أَمْرَانِ النَّوْعُ وَالْوَحْدَةُ فإن الرَّجُلَ يُذْكَرُ في مُقَابَلَةِ الْمَرْأَةِ فَيُرَادُ بِهِ النَّوْعُ وفي مُقَابَلَةِ الرَّجُلَيْنِ فَيُفِيدُ الْوَحْدَةَ مع النَّوْعِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا أَعَمُّ من الْكُوفِيِّ وَغَيْرِهِ فإذا قال كُوفِيًّا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا لِلْوَحْدَةِ فَلَا يُكَلِّمُ إلَّا وَاحِدًا كُوفِيًّا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا لِلنَّوْعِ فَلَا يُكَلِّمُ إلَّا النَّوْعَ الْكُوفِيَّ فَإِنْ نَوَى أَحَدَهُمَا اتَّبَعَ وَإِنْ أَطْلَقَ فَالْمُتَّجَهُ حَمْلُهُ على الْوَحْدَةِ وَيَحْنَثُ بِالِاثْنَيْنِ وقد فَرَّعُوا على هذه الْقَاعِدَةِ الْمَسْأَلَةَ السَّابِقَةَ في أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَكَ فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبُوهُ جميعا عَتَقُوا وَأَيُّ عَبْدِي ضَرَبْتَهُ فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبَهُمْ جميعا لَا يُعْتَقُ إلَّا وَاحِدٌ منهم وَالْفَرْقُ أَنَّهُ وُصِفَ في الْأَوَّلِ بِالضَّرْبِ وهو عَامٌّ وفي الثَّانِي قُطِعَ عن الْوَصْفِ لِأَنَّ الضَّرْبَ إنَّمَا أُضِيفَ إلَى الْمُخَاطَبِ لَا إلَى النَّكِرَةِ التي يَتَنَاوَلُهَا أَيْ وهو عَجِيبٌ فإنه إنْ كان الْمُرَادُ بِالْوَصْفِ النَّعْتَ النَّحْوِيَّ فَلَا نَعْتَ في شَيْءٍ من الصُّورَتَيْنِ إذْ النَّكِرَةُ صِلَةٌ أو شَرْطٌ لِأَنَّ أَيًّا هُنَا مَوْصُولَةٌ أو شَرْطِيَّةٌ بِاتِّفَاقِ النُّحَاةِ وَإِنْ كان الْمُرَادُ الْوَصْفَ الْمَعْنَوِيَّ فَأَيُّ مَوْصُوفٍ في الصُّورَتَيْنِ لِأَنَّهُ كما وُصِفَ في الْأُولَى بِالضَّارِبِيَّةِ لِلْمُخَاطَبِ وُصِفَ في الثَّانِيَةِ بالمضروبية له فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْأَوَّلَ وَصْفٌ وَالثَّانِيَ قَطْعٌ عن الْوَصْفِ تَحَكُّمٌ إلَّا أَنَّ يَوْمًا في قَوْلِكَ لَا أَقْرَبُكُمَا الْيَوْمَ أَقْرَبُكُمَا فيه عَامٌّ بِعُمُومِ الْوَصْفِ مع أَنَّهُ مُسْنَدٌ إلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ وَأَجَابَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ بِأَنَّ الضَّرْبَ قَائِمٌ بِالضَّارِبِ فَلَا يَقُومُ بِالْمَضْرُوبِ لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الْوَصْفِ الْوَاحِدِ بِشَخْصَيْنِ بِخِلَافِ الزَّمَانِ فإن الْفِعْلَ مُتَّصِلٌ بِهِ حَقِيقَةً فَيَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ الْيَوْمُ عَامًّا بِهِ وَأَيْضًا الْمَفْعُولُ بِهِ فَضْلَةٌ ثَبَتَ ضَرُورَةً فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ في التَّعْمِيمِ بِخِلَافِ الْمَفْعُولِ فيه فإنه صَرَّحَ بِهِ وَقَصَدَ وَصْفَهُ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ وَفِيهِ نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الضَّرْبَ صِفَةٌ إضَافِيَّةٌ لها تَعَلُّقٌ بِالْفَاعِلِ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ هو وَصْفٌ له وَتَعَلُّقٌ بِالْمَفْعُولِ بِهِ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ هو وَصْفٌ له وَلَا امْتِنَاعَ في قِيَامِ الْإِضَافَاتِ بِالْمُضَافَيْنِ وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ يَحْتَاجُ إلَى الْمَفْعُولِ في التَّعَقُّلِ وَالْوُجُودِ جميعا وَإِلَى الْمَفْعُولِ فيه في الْوُجُودِ فَقَطْ فَاتِّصَالُهُ بِالْأَوَّلِ أَشَدُّ وَأَثَرُ الْمَفْعُولِ بِهِ هَاهُنَا إنَّمَا هو في رَبْطِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ لَا في التَّعْمِيمِ وَكَوْنُهُ ضَرُورِيًّا لَا يُنَافِي الرَّبْطَ وَلَوْ سُلِّمَ فَالْفَاعِلُ أَيْضًا الضَّرُورَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُهُ في التَّعْمِيمِ وَكَوْنُهُ غير
____________________
(2/279)
فَضْلَةٍ لَا يُنَافِي الضَّرُورَةَ بَلْ يُؤَكِّدُهَا الثَّامِنَةُ مِمَّا يَتَفَرَّعُ على أَنَّ النَّكِرَةَ الْمَنْفِيَّةَ لِلْعُمُومِ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ بين الشَّيْئَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ فَهُوَ عَامٌّ عِنْدَنَا لِأَنَّ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ بين الشَّيْئَيْنِ يَقْتَضِي نَفْيَهَا من كل وَجْهٍ حتى احْتَجَّ بِهِ أَصْحَابُنَا على امْتِنَاعِ الْقِصَاصِ من الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الِاسْتِوَاءَ وَاَللَّهُ تَعَالَى قد نَفَاهُ وَخَالَفَتْ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنَعُوا عُمُومَهُ وَبِهِ قالت الْمُعْتَزِلَةُ وَوَافَقَهُمْ الْغَزَالِيُّ وَصَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ والمحصول لِأَنَّ نَفْيَ الِاسْتِوَاءِ الْمُطْلَقِ لَا يَحْتَمِلُ نَفْيَ الِاسْتِوَاءِ من كل وَجْهٍ لِأَنَّ الْأَعَمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ وهو مَرْدُودٌ فإن ذلك في جَانِبِ الثُّبُوتِ أَمَّا في النَّفْيِ فَيَدُلُّ لِأَنَّ نَفْيَ الْعَامِّ يَدُلُّ على نَفْيِ الْخَاصِّ وهو نَفْيُ الْحَقِيقَةِ الْعَامَّةِ فَتَنْتَفِي جُزْئِيَّاتُهَا وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ أَنَّ الْمُسَاوَاةَ في الْإِثْبَاتِ هل مَدْلُولُهَا لُغَةً الْمُشَارَكَةُ في كل الْوُجُوهِ حتى يَكُونَ اللَّفْظُ شَامِلًا أو مَدْلُولُهَا الْمُسَاوَاةُ في بَعْضِ الْوُجُوهِ حتى يَصْدُقَ بِأَيِّ وَجْهٍ فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ لم يَكُنْ النَّفْيُ لِلْعُمُومِ لِأَنَّ نَقِيضَ الْكُلِّيِّ الْمُوجَبِ جُزْئِيٌّ سَالِبٌ وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي كان لِلْعُمُومِ لِأَنَّ نَقِيضَ الْجُزْئِيِّ الْمُوجَبِ كُلِّيٌّ سَالِبٌ وَحَاصِلُهُ أَنَّ صِيغَةَ لَا يَسْتَوِي عُمُومُ سَلْبِ التَّسْوِيَةِ أو سَلْبُ عُمُومِ التَّسْوِيَةِ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ شَيْءٍ من أَفْرَادِهَا وَعَلَى الثَّانِي لَا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ الْبَعْضِ فَإِنْ قُلْت فَهَذَا يُرَجِّحُ مَذْهَبَهُمْ لِأَنَّ حَرْفَ النَّفْيِ سَابِقٌ وهو شَرْطٌ لِسَلْبِ الْعُمُومِ قُلْت الشَّرْطُ أَنْ يَتَقَدَّمَ على لَفْظٍ عَامٍّ تَحْتَهُ مُتَعَدِّدٌ فإذا سُلِبَ عُمُومُهُ نُفِيَ الْحُكْمُ عن بَعْضِ الْأَفْرَادِ نَحْوُ لم أَضْرِبْ كُلَّ الرِّجَالِ بِخِلَافِ لَا يَسْتَوِيَانِ فإن السَّلْبَ دخل على مَاهِيَّةِ الِاسْتِوَاءِ وَالْمَاهِيَّةُ من حَيْثُ هِيَ هِيَ لَا تَعَدُّدَ فيها وَلَا اتِّحَادَ فلم يَبْقَ بَعْدَ سَلْبِهَا شَيْءٌ يَثْبُتُ له الْحُكْمُ فَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ هذه الصِّيغَةَ من بَابِ عُمُومِ السَّلْبِ لَا سَلْبِ الْعُمُومِ وَأَمَّا ابن الْحَاجِبِ فإنه لَمَّا رَأَى الْمَبَاحِثَ مُتَقَابِلَةً من الْجَانِبَيْنِ عَدَلَ عن مَدْلُولِ اللَّفْظِ وَأَحَالَ الْعُمُومَ على النَّفْيِ فإن الْفِعْلَ لَمَّا وَقَعَ في جَانِبِ النَّفْيِ كان نَفْيًا لِمَصْدَرِهِ كما سَيَأْتِي فَلِذَلِكَ قال وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْعُمُومَ من النَّفْيِ وهو الذي عَوَّلَ عليه الْآمِدِيُّ وَسَلَكَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ طَرِيقَةً أُخْرَى فَحَكَى عن قَوْمٍ أَنَّهُ من بَابِ الْمُجْمَلِ لِأَنَّ نَفْيَ الِاسْتِوَاءِ إذَا أُطْلِقَ فِيمَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ مُتَمَاثِلٌ بِالذَّاتِ إنَّمَا يَعْنِي بِهِ في بَعْضِ أَوْصَافِهِ
____________________
(2/280)
وَذَلِكَ غَيْرُ بَيِّنٍ من اللَّفْظِ فَهُوَ مُجْمَلٌ إذْ قال وَمَتَى عُقِّبَ هذا النَّوْعُ بِشَيْءٍ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فيه وَجَبَ حَمْلُ أَوَّلِهِ عليه وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ في الْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ وَلِذَا قال في آخِرِهِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ وَعَلَيْهِ جَرَى الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ فقال الْحَقُّ أَنَّ قَوْلَهُ يَسْتَوِي أو لَا يَسْتَوِي من بَابِ الْمُجْمَلِ من الْمُتَوَاطِئِ لَا من بَابِ الْعَامِّ وَنَظِيرُهُ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ على الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا وَنَظِيرُ هذا الْخِلَافِ خِلَافُ الْأُصُولِيِّينَ في قَوْله تَعَالَى وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى هل هو عَامٌّ حتى يَخُصَّ ما يَخُصُّ من الْأَحْكَامِ بِدَلِيلٍ أو مُجْمَلٌ لِأَنَّا نَعْلَمُ ضَرُورَةَ مُسَاوَاتِهِمَا في الْإِنْسَانِيَّةِ وَغَيْرِ ذلك وَعَلَى الْأَوَّلِ يُحْتَجُّ بِهِ على أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكُونُ قَاضِيًا وَلَا إمَامًا وَلَا يَلْزَمُهَا الْجُمُعَةُ وَغَيْرُ ذلك بِخِلَافِ الثَّانِي تَنْبِيهٌ هذا الْخِلَافُ في عُمُومِ الْمُسَاوَاةِ يَجْرِي في كَلِمَةِ مِثْلِ بَلْ هو أَدَلُّ على الْمُشَابَهَةِ من لَفْظِ الْمُسَاوَاةِ ولم يَذْكُرُوهُ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ لَفْظُ الْمِثْلِ دَالٌّ على الْمُسَاوَاةِ بين الشَّيْئَيْنِ إلَّا فِيمَا لَا يَقَعُ التَّعَدُّدُ إلَّا بِهِ التَّاسِعَةُ إذَا وَقَعَ الْفِعْلُ في سِيَاقِ النَّفْيِ أو الشَّرْطِ فَهُوَ على قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ قَاصِرًا فَهَلْ يَتَضَمَّنُ ذلك الْمَصْدَرُ فَيَكُونُ نَفْيُهُ بِمَصْدَرِهِ وهو نَكِرَةٌ في سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَقْتَضِي الْعُمُومَ أَمْ لَا حَكَى الْقَرَافِيُّ عن الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَعُمُّ وَأَنَّ الْقَاضِيَ عَبْدَ الْوَهَّابِ في الْإِفَادَةِ نَصَّ على ذلك وَظَاهِرُ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ وَالْآمِدِيَّ وَالْهِنْدِيِّ حَيْثُ قَيَّدُوا الْخِلَافَ الْآتِيَ بِالْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي إذَا نُفِيَ هل يَعُمُّ مَفَاعِيلَهُ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّازِمَ لَا يَعُمُّ نَفْيَهُ وَلَا يَكُونُ نَفْيًا لِلْمَصْدَرِ وقال الْأَصْفَهَانِيُّ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَالْخِلَافُ فِيهِمَا على السَّوَاءِ لَكِنَّ الْغَزَالِيَّ حَيْثُ صَوَّرَ الْمَسْأَلَةَ بِمَا سَبَقَ مَثَّلَ بِمَا إذَا قال وَاَللَّهِ لَا أَضْرِبُ أو إنْ ضَرَبْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى الضَّرْبَ بِآلَةٍ بِعَيْنِهَا أو إنْ خَرَجْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى مَكَانًا بِعَيْنِهِ وهو يُخِلُّ بِتَرْجَمَةِ الْمَسْأَلَةِ كما قَالَهُ الْهِنْدِيُّ لِأَنَّ الضَّرْبَ وَالْخُرُوجَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ إلَى الْآلَةِ وَالْمَكَانِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ الْمُتَعَدِّي إلَى مَفْعُولٍ أَعَمُّ من أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ أو بِالْحَرْفِ سَوَاءٌ كان معه الْحَرْفُ أو لم يَكُنْ وَحِينَئِذٍ فَيَشْمَلُ الْخِلَافُ الْأَفْعَالَ كُلَّهَا ثُمَّ إنَّهُ أُطْلِقَ الْفِعْلُ وَلَا بُدَّ من تَقْيِيدِهِ بِالْوَاقِعِ في حَيِّزِ النَّفْيِ أو الشَّرْطِ لَا الْإِثْبَاتِ فَتَفَطَّنْ له وَذَكَرَ الْهِنْدِيُّ أَنَّ ذلك في قُوَّةِ نَفْيِ الْمَصْدَرِ وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ ليس مثله بَلْ أَنْزَلَ منه
____________________
(2/281)
دَرَجَةً وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَعُمُّ كما في نَفْيِ الْمَصْدَرِ مِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى لَا يَمُوتُ فيها وَلَا يحيى لَا يُقْضَى عليهم فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ من عَذَابِهَا إنَّ لَك أَلَّا تَجُوعَ فيها وَلَا تَعْرَى الْآيَةَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّفْيَ في هذا وَأَمْثَالِهِ لِلْعُمُومِ وَأَنَّ الْمَفْهُومَ منه أَنَّهُ نَفْيٌ كما لو قال لَا حَيَاةَ وَلَا مَوْتَ وَلِهَذَا لو حَلَفَ لَا يَبِيعُ وَلَا يُطَلِّقُ حَنِثَ بِأَيِّ بَيْعٍ كان وَأَيِّ طَلَاقٍ كان لِأَنَّهُ لم يُفْهَمْ منه إلَّا نَفْيُ أَفْرَادِ هذا الْجِنْسِ من الْبَيْعِ أو الطَّلَاقِ وَالْأَصْلُ في الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَفْيُ الْفِعْلِ حَقِيقَةً في عُمُومِ نَفْيِ جَمِيعِ الْمَصَادِرِ وهو الْمَطْلُوبُ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا وَوَقَعَ في سِيَاقِ النَّفْيِ أو الشَّرْطِ ولم يُصَرَّحْ بِمَفْعُولِهِ ولم يَكُنْ له دَلَالَةٌ على مَفْعُولٍ لَا وَاحِدٍ وَلَا أَكْثَرَ فَهَلْ يَكُونُ عَامًّا فيها أَمْ لَا كما إذَا قال وَاَللَّهِ لَا أَكَلْتُ أو لَا آكُلُ أو إنْ أَكَلْتُ فَعَلَيَّ كَذَا فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وأبو يُوسُفَ وَغَيْرُهُمْ إلَى أَنَّهُ عَامٌّ فيه وقال أبو حَنِيفَةَ لَا يَعُمُّ وَاخْتَارَهُ الْقُرْطُبِيُّ من الْمَالِكِيَّةِ وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ مِنَّا وَجَعَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ من بَابِ الْأَفْعَالِ اللَّازِمَةِ نَحْوُ يُعْطِي وَيَمْنَعُ فَلَا يَدُلُّ على مَفْعُولٍ لَا بِالْعُمُومِ وَلَا بِالْخُصُوصِ لِأَنَّ هذه الْأَفْعَالَ لَمَّا لم تُقْصَدْ مَفْعُولَاتُهَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ قُصِدَ بها مَاهِيَّاتُ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْمُجَرَّدَةِ عن الْوَحْدَةِ وَالْكَثْرَةِ بَلْ وَعَنْ الْقُيُودِ الْمَكَانِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ وَحُجَّةُ الْأَوَّلِينَ أَنَّ أَصْلَ وَضْعِ هذه الْأَفْعَالِ لِتَدُلَّ على مَاهِيَّاتٍ مُقَيَّدَةٍ بِالْمَحَالِّ التي هِيَ الْمَفْعُولَاتُ كما وُضِعَتْ لِتَدُلَّ على الْفَاعِلِ وَمَعَ ذلك فَقَدْ يُحْذَفُ الْفَاعِلُ في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ لم يُوضَعْ له الْفِعْلُ كما فَعَلُوا في بَابِ إعْمَالِ الْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أو إطْعَامٌ في يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ في التَّخْصِيصِ بِالنِّيَّةِ فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا لو نَوَى بِهِ مَأْكُولًا مُعَيَّنًا قُبِلَ وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ غَيْرِهِ بِنَاءً على عُمُومِ لَفْظِهِ وَقَبُولُ الْعَامِّ لِلتَّخْصِيصِ بِبَعْضِ مَدْلُولَاتِهِ كَسَائِرِ الْعُمُومَاتِ فَصَحَّ أَنْ يَنْوِيَ في هذه الْأَفْعَالِ ما كان أَصْلًا لها مع كَوْنِهِ مَحْذُوفًا لَفْظًا لِأَنَّهَا صَالِحَةٌ له وَضْعًا وَلَا يُقْبَلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ فَرْعُ ثُبُوتِ الْعُمُومِ وَلَا عُمُومَ وقد قال الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ الْأَيْمَانِ لو حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ في الدُّنْيَا وَنَوَى الْبَلَدَ فَهَلْ يُحْمَلُ عليه أو لَا إذْ ليس بِمُسَاكَنَةٍ فَلَا تَعْمَلُ النِّيَّةُ الْمُجَرَّدَةُ وَجْهَانِ وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِتَعْمِيمِهِ قالوا إنَّهُ لَا يَدُلُّ على جَمِيعِ ما يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا له على جِهَةِ الْجَمْعِ بَلْ على جِهَةِ الْبَدَلِ قال وَهَؤُلَاءِ أَخَذُوا الْمَاهِيَّةَ مُقَيَّدَةً وَلَا يَنْبَغِي
____________________
(2/282)
لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يُنَازِعَهُ قال وإذا الْتَفَتَ إلَى هذا ارْتَفَعَ الْخِلَافُ وقال الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ نَظَرُ أبي حَنِيفَةَ في هذه الْمَسْأَلَةِ دَقِيقٌ لِأَنَّ النِّيَّةَ لو صَحَّتْ لَصَحَّتْ إمَّا في الْمَلْفُوظِ أو غَيْرِهِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمَلْفُوظَ هو الْأَكْلُ وهو مَاهِيَّةٌ وَاحِدَةٌ لَا تَقْبَلُ التَّعَدُّدَ فَلَا تَقْبَلُ التَّخْصِيصَ فَإِنْ أُخِذَتْ مع قُيُودٍ زَائِدَةٍ عليها تَعَدَّدَتْ وَحِينَئِذٍ تَصِيرُ مُحْتَمِلَةً لِلتَّخْصِيصِ لَكِنْ تِلْكَ الزَّوَائِدُ غَيْرُ مَلْفُوظٍ بها فَالْمَجْمُوعُ الْحَاصِلُ من الْمَاهِيَّةِ غَيْرُ مَلْفُوظٍ فَيَكُونُ الْقَابِلُ لِنِيَّةِ التَّخْصِيصِ شيئا غير مَلْفُوظٍ وَهَذَا هو الْقِسْمُ الثَّانِي وهو إنْ جَازَ عَقْلًا لَكِنَّهُ بَاطِلٌ شَرْعًا لِأَنَّ إضَافَةَ مَاهِيَّةِ الْأَكْلِ إلَى الْخُبْزِ تَارَةً وَإِلَى غَيْرِهِ أُخْرَى إضَافَاتٌ تَعْرِضُ لها بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَفْعُولِ فيه وَإِضَافَتُهَا إلَى هذا الْيَوْمِ وَذَاكَ وَهَذَا الْمَوْضِعِ وَذَاكَ إضَافَاتٌ عَارِضَةٌ لها بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَفْعُولِ فيه ثُمَّ أَجْمَعْنَا على أَنَّهُ لو نَوَى التَّخْصِيصَ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لم يَصِحَّ فَكَذَا التَّخْصِيصُ بِالْمَفْعُولِ بِهِ وَالْجَامِعُ رِعَايَةُ الِاحْتِيَاطِ في تَعْظِيمِ التَّمْيِيزِ هذا كَلَامُهُ وَالنَّظَرُ الدَّقِيقُ إنَّمَا هو لِأَصْحَابِنَا وما ذَكَرَهُ الْإِمَامُ مَدْخُولٌ وَقَوْلُهُ الْأَكْلُ مَاهِيَّةٌ وَاحِدَةٌ لَا تَقْبَلُ التَّعَدُّدَ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ مع قَرِينَةِ دُخُولِ حَرْفِ النَّفْيِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ له على التَّعَدُّدِ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَلْفُوظَ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ فَغَيْرُ الْمَلْفُوظِ يَقْبَلُهُ وَأُجِيبَ عَمَّا ذَكَرَهُ من الْقِيَاسِ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا بِالْمَنْعِ فإنه يَجُوزُ تَخْصِيصُ النِّيَّةِ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ كما يَجُوزُ بِالْمَأْكُولِ الْمُعَيَّنِ بِلَا خِلَافٍ وقد نَصَّ الشَّافِعِيُّ على أَنَّهُ إذَا قال إنْ كَلَّمْت زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قال أَرَدْت شَهْرًا أَنَّهُ يَصِحُّ وَيُقْبَلُ منه بِلَا فَرْقٍ وَثَانِيهَا أَنَّ قِيَاسَ الْمَفْعُولِ بِهِ على الْمَفْعُولِ فيه ظَاهِرُ التَّعَسُّفِ لِأَنَّ الْمَفْعُولَ بِهِ من مُقَوِّمَاتِ الْفِعْلِ في الْوُجُودِ لِأَنَّ أَكْلًا بِلَا مَأْكُولٍ مُحَالٌ وَكَذَا في الذِّهْنِ فَهْمُ مَاهِيَّةِ الْأَكْلِ دُونَ الْمَأْكُولِ مُسْتَحِيلٌ فَإِلْزَامُ الْأَكْلِ لِلْمَأْكُولِ وَاضِحٌ وَأَمَّا الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ فَلَيْسَا من لَوَازِمِ مَاهِيَّةِ الْفِعْلِ وَلَا من مُقَوِّمَاتِهِ بَلْ هُمَا من لَوَازِمِ الْفَاعِلِ وَلَا شَكَّ أَنَّ دَلَالَةَ الْفِعْلِ على الْمَفْعُولِ بِهِ أَقْوَى من دَلَالَتِهِ على الْمَفْعُولِ فيه وقال محمد بن يحيى في تَعْلِيقِهِ الْخِلَافُ الْمَفْهُومُ من اللَّفْظِ مُنْحَصِرٌ في ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ما وُضِعَ له اللَّفْظُ كَاسْمِ الْبَيْتِ لِلْبَيْتِ وما دَلَّ عليه اللَّفْظُ وما تَضَمَّنَهُ كَدَلَالَةِ اسْمِ الْبَيْتِ على السَّقْفِ وَالْحَائِطِ وما لَزِمَهُ لِضَرُورَةِ الْوُجُودِ كَكَوْنِهِ ذَا ظِلٍّ وَاقِعٍ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ
____________________
(2/283)
فَمِثَالُ الْأَوَّلِ دَلَالَةُ لَفْظِ الْأَيْمَانِ على مَعْنَاهُ وَمِثَالُ الثَّانِي دَلَالَةُ الطَّلَاقِ على الْمُطَلِّقِ وَالْمُطَلِّقَةِ وَمِثَالُ الثَّالِثِ دَلَالَتُهُ على زَمَانِ الطَّلَاقِ وَمَكَانِ الْمُطَلِّقِ أَمَّا الْمَوْضُوعُ فَيَحْتَمِلُ النِّيَّةَ بِالْإِجْمَاعِ كَلَفْظِ الْعَيْنِ وَالْقُرْءِ إذَا نَوَى بِهِ مُسَمَّيَاتِهِ وَأَمَّا اللَّازِمُ فَلَا يَحْتَمِلُهَا كما إذَا نَوَى زَمَانَ الطَّلَاقِ وَمَكَانَهُ وَأَمَّا الْمَدْلُولُ فَمَحَلُّ الْخِلَافِ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ في أَنَّ من قال وَاَللَّهِ لَا آكُلُ وَنَوَى بَعْضَ الْمَأْكُولَاتِ هل يُخَصُّ بِهِ يَمِينُهُ فإن الْمَأْكُولَاتِ التي يَتَعَلَّقُ بها الْأَكْلُ كَثِيرَةٌ وَغَيْرُ مَلْفُوظَةٍ وَضْعًا وَهَلْ يَقُومُ عُمُومُ الْمَدْلُولِ مَقَامَ عُمُومِ اللَّفْظِ حتى يَحْتَمِلَ التَّخْصِيصَ بِنِيَّتِهِ اخْتَلَفُوا فيه مع اتِّفَاقِهِمْ على أَنَّ تَعْيِينَ زَمَانِ الْأَكْلِ لَغْوٌ في نِيَّتِهِ وَالصَّحِيحُ إلْحَاقُ الْمَدْلُولِ بِالْمَوْضُوعِ فإنه مُرَادُ اللَّافِظِ بِلَفْظِهِ فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فيه بِنِيَّتِهِ بِخِلَافِ ما ذَكَرُوهُ من الْمُقْتَضَى فَإِنَّمَا يُضْمَرُ لِضَرُورَةٍ لِصِحَّةِ الْكَلَامِ أو صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ وَلَا دَلَالَةَ لِلَّفْظِ عليه تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ ما حَكَيْنَاهُ عن أبي حَنِيفَةَ في هذه الْمَسْأَلَةِ هو الْمَشْهُورُ وَلِهَذَا قالوا لو قال إنْ تَزَوَّجْت أو أَكَلْت أو شَرِبْت أو سَكَنْت أو لَبِسْت أو اغْتَسَلْت وَنَوَى شيئا دُونَ شَيْءٍ لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ في الْفِعْلِ وَالْفِعْلُ لَا عُمُومَ له قال السُّرُوجِيُّ قد قال أَصْحَابُنَا في تَخْصِيصِ الْفِعْلِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ إذَا قال لها طَلِّقِي نَفْسَك وَنَوَى الثَّلَاثَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ وإذا قال إنْ خَرَجْت وَنَوَى السَّفَرَ صُدِّقَ وإذا قال إنْ سَاكَنْتُك في هذه الدَّارِ وَنَوَى أَنْ يَكُونَ في بَيْتٍ منها غير مُعَيِّنٍ صُدِّقَ وإذا قال إنْ اشْتَرَيْت وَنَوَى الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ صُدِّقَ قال وَوَجْهُ خُرُوجِ هذه الْمَسَائِلِ عن هذا الْأَصْلِ أَنَّ في قَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَك الْمَصْدَرُ فيه مَحْذُوفٌ أَيْ افْعَلِي فِعْلَ الطَّلَاقِ وَالْمَحْذُوفُ له عُمُومٌ لِأَنَّهُ من بَابِ اللُّغَةِ لَا من بَابِ الضَّرُورَةِ وَالْمَعْنَى فيه أَنَّ الْأَمْرَ طَلَبُ إدْخَالِ الْمَصْدَرِ في الْوُجُودِ لِأَنَّ الْأَمْرَ طَلَبُ الْفِعْلِ من الْفَاعِلِ الْمُخَاطَبِ بِخِلَافِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وهو فِعْلٌ فيه طَلَبُ الْمَصْدَرِ وَإِدْخَالُهُ في الْوُجُودِ فَكَانَ أَدَلَّ على الْمَصْدَرِ من مُجَرَّدِ الْفِعْلِ كَالْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ قال وَبِالتَّخْرِيجِ الثَّانِي أَجَبْت قَاضِيَ الْقُضَاةِ تَقِيَّ الدِّينِ بن رَزِينٍ الشَّافِعِيَّ لَمَّا سَأَلَنِي عن الْفَرْقِ بين طَلَّقْتُك وَطَلِّقِي نَفْسَك وَأَمَّا الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ إنْ خَرَجْتُ أَنَّ بهذا الْفِعْلِ شُيُوعًا يُقَالُ خَرَجَ فُلَانٌ إلَى السَّفَرِ وَخَرَجَ من بَيْتِهِ وَدَارِهِ من غَيْرِ سَفَرٍ فَكَانَ السَّفَرُ يَحْتَمِلُ كَلَامَهُ في الْمَسْجِدِ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْمُسَاكَنَةِ فَالْمُفَاعَلَةُ تَقَعُ من اثْنَيْنِ في
____________________
(2/284)
الدَّارِ وَهِيَ في بَيْتٍ منها أَكْمَلُ فَقَدْ نَوَى النَّوْعَ الْكَامِلَ فَيُصَدَّقُ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الشِّرَاءِ فَالشِّرَاءُ أَصَالَةً هو الْأَصْلُ فَكَانَ أَقْوَى فَجَازَ تَخْصِيصُهُ من اشْتَرَيْت وَنَظِيرُهُ عن مُحَمَّدٍ لَا يَتَزَوَّجُ وَنَوَى عَرَبِيَّةً أو حَبَشِيَّةً دِينَ في الْجِنْسِ وَلَوْ نَوَى كُوفِيَّةً أو بَصْرِيَّةً لَا يُقْبَلُ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْمَكَانِ قَلَّمَا يُعْتَبَرُ الثَّانِي أَنَّ الْغَزَالِيَّ حَكَى عن الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمْ رَدُّوا هذه الْمَسْأَلَةَ إلَى أنها من قَبِيلِ الْمُقْتَضَى وَالْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ له في تَقْدِيرِ ما يَصِحُّ بِهِ الْكَلَامُ فَكَذَلِكَ هذه كما أَنَّ مِثْلَ قَوْلِهِ عليه السَّلَامُ رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ يَسْتَدْعِي مُقَدَّرًا لِيَصِحَّ بِهِ الْكَلَامُ ثُمَّ رَدَّ الْغَزَالِيُّ هذا بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا من جِهَةِ أَنَّ الْمَصْدَرَ في الْمُقْتَضَى إنَّمَا هو لِيَتِمَّ الْكَلَامُ بِهِ وَيَكُونَ مُفِيدًا وَلَا كَذَلِكَ الْمَفْعُولُ فإن الْفِعْلَ يَدُلُّ عليه بِصِيغَتِهِ وَوَضْعِهِ فَالْأَكْلُ يَدُلُّ على الْمَأْكُولِ وَهَذَا صَحِيحٌ أَعْنِي دَلَالَةَ الْمَصْدَرِ على الْمَأْكُولِ مُطْلَقًا لَكِنْ من جِهَةِ مُقْتَضَاهُ لَا من جِهَةِ صِيغَتِهِ وَقَوْلُهُ إنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ يَدُلُّ على الْمَفْعُولِ بِصِيغَتِهِ وَوَضْعِهِ مَمْنُوعٌ فَقَدْ قال النَّحْوِيُّونَ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا الْمُتَعَدِّيَةُ وَغَيْرُهَا تَدُلُّ على الْمَصْدَرِ وَالْفَاعِلِ وَظَرْفِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْحَالِ وَالْمَفْعُولِ من أَجْلِهِ وَغَيْرِ ذلك وَتَدُلُّ الْمُتَعَدِّيَةُ على الْمَفْعُولِ بِهِ لَكِنَّ دَلَالَتَهَا على الْأَشْيَاءِ تَخْتَلِفُ فَدَلَالَتُهَا على الْمَصْدَرِ وَظَرْفِ الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ دَلَالَةٌ بِالْوَضْعِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ على الْمَصْدَرِ بِلَفْظِهَا وَعَلَى ظَرْفِ الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ بِصِيغَتِهَا وَدَلَالَتُهَا على الْبَاقِي بِالْمُقْتَضَى لَا بِالْوَضْعِ ثُمَّ إنْ دَلَّتْ على الْمَصْدَرِ بِالْوَضْعِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عليه مُطْلَقًا كَدَلَالَةِ أَكَلَ وَيَأْكُلُ على الْأَكْلِ وَلَا تَدُلُّ على أَنْوَاعِ الْأَكْلِ كَالْخَضْمِ وَالْقَضْمِ وَلَا يَدُلُّ على أَشْخَاصِ أَنْوَاعِهِ كَخَضْمِ زَيْدٍ وَقَضْمِ عَمْرٍو فَدَلَالَتُهَا على الْمَصْدَرِ الْمُطْلَقِ وَعَلَى تَفَاصِيلِهِ مُجْمَلٌ وَلِذَلِكَ تَدُلُّ بِصِيغَتِهَا على الزَّمَانِ الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ مُطْلَقًا كَدَلَالَةِ أَكَلَ على الْمَاضِي وَلَا يَدُلُّ على أَمْسِ الْمُعَيَّنِ وَعَامِ أَوَّلٍ وَدَلَالَةُ يَأْكُلُ على الْمُضَارِعِ وَلَا يَدُلُّ على الْيَوْمِ وَغَدًا فَدَلَالَتُهَا على الْمَاضِي الْمُطْلَقِ أو الْمُضَارِعِ الْمُطْلَقِ نَصٌّ وَدَلَالَتُهَا على أَجْزَاءِ كُلٍّ منها مُجْمَلٌ وقد أُورِدَ على الْحَنَفِيَّةِ مَوَاقِفَهُمْ على نِيَّةِ التَّخْصِيصِ فِيمَا لو صَرَّحَ بِالْمَصْدَرِ فقال لَا آكُلُ أَكْلًا فَالْفِعْلُ دَالٌّ عليه فَلَا فَرْقَ بين التَّصْرِيحِ بِهِ وَعَدَمِهِ وَأَجَابُوا بِأَنَّ الْمَصْدَرَ الثَّابِتَ لُغَةٌ في قَوْلِهِ لَا آكُلُ هو الدَّالُّ على الْمَاهِيَّةِ لَا على الْأَفْرَادِ بِخِلَافِ لَا آكُلُ أَكْلًا فإنه نَكِرَةٌ في مَوْضِعِ الْعُمُومِ فَيَجُوزُ
____________________
(2/285)
تَخْصِيصُهُ بِالنِّيَّةِ وَيُرَدُّ عليه بِأَنَّهُمْ حَنَّثُوهُ بِكُلِّ أَكْلٍ فِيمَا إذَا لم يُصَرِّحْ بِالْمَصْدَرِ وَلَوْ لم يَكُنْ عَامًّا لَمَا تَوَجَّهَ ذلك وَغَايَةُ ما قالوا في تَوْجِيهِهِ أَنَّ قَوْلَهُ لَا آكُلُ مَعْنَاهُ لَا أُوجِدُ مَاهِيَّةَ الْآكِلِ وهو يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ فَرْدٍ من أَفْرَادِهِ وقد اعْتَرَضَ الْقَرَافِيُّ على فَرْقِ الْغَزَالِيِّ بِأَنَّ مَنْعَ عُمُومِ الْمُقْتَضَى لِأَجْلِ أَنَّ صِحَّةَ الْكَلَامِ يَتِمُّ بِتَقْدِيرٍ وَاحِدٍ فَيَقْتَصِرُ عليه وَلَا يَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ فَلَا عُمُومَ وَهَكَذَا يُقَالُ في هذه الْمَفَاعِيلِ وَهَذَا لَا يَجِيءُ على طَرِيقَةِ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يَمْنَعُونَ من دَلَالَتِهِ على مَفْعُولٍ أَلْبَتَّةَ ثُمَّ هو بِنَاءٌ على أَنَّ الْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ له وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ فَوَائِدُ الْكَلَامُ الْمُطْلَقُ إذَا نُوِيَ بِهِ مُقَيَّدٌ كَالْكَلَامِ في الْعَامِّ إذَا نُوِيَ بِهِ الْخَاصُّ وقد رَدَّهُ الْقَرَافِيُّ في هذه الْمَسْأَلَةِ إلَى الْمُطْلَقِ بِنَاءً على قَاعِدَتِهِ أَنَّ الْعَامَّ في الْأَشْخَاصِ مُطْلَقٌ في الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَمْكِنَةِ قال فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مع الْحَنَفِيَّةِ في أَنَّ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ هل يَجُوزُ في غَيْرِ الْمَلْفُوظِ أَيْ فِيمَا دَلَّ عليه الْتِزَامًا أَمْ لَا وقد سَبَقَ رَدُّ هذه الْقَاعِدَةِ مَسْأَلَةٌ إفَادَةُ الْمَصْدَرِ الْعُمُومَ قِيلَ إنَّ مُجَرَّدَ الْمَصْدَرِ يَدُلُّ على اسْتِيعَابِ الْأَفْرَادِ وَحَكَاهُ في الْمَحْصُولِ في الْكَلَامِ على أَنَّ الْمَجَازَ غَالِبٌ في اللُّغَاتِ عن ابْنِ جِنِّي وهو بَعِيدٌ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ مُسْتَغْرِقٌ بِاعْتِبَارِ الصَّلَاحِيَّةِ كما سَيَأْتِي نَظِيرُهُ في الْجَمْعِ الْمُنْكَرِ وَزَعَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يُشْعِرُ بِعُمُومٍ وَلَا خُصُوصٍ قال من قال إنَّهُ مُشْتَرِكٌ بين الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَقَدْ زَلَّ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ من الْفِعْلِ على رَأْيٍ أو الْفِعْلُ منه على آخَرَ وَيَسْتَحِيلُ تَخَيُّلُ الْعُمُومِ في الْفِعْلِ وَلَوْ اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرِينَةُ عُمُومٍ فَالْعُمُومُ منها لَا منه كما لو اقْتَرَنَتْ بِالْفِعْلِ وَأَوْرَدَ أَنَّ وَصْفَهُ بِالْكَثْرَةِ نَحْوُ ضَرْبًا كَثِيرًا يَقْتَضِي أنها أَحَدُ مَحْمَلَيْهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي أنها أَجْنَبِيَّةٌ وَالْمَوْصُوفُ لَا يُشْعِرُ بِالصِّفَةِ وقال الْمَازِرِيُّ أَمَّا كَوْنُهُ غير مُشْعِرٍ بِالْجَمْعِ فَمُتَّفَقٌ عليه وَأَمَّا كَوْنُهُ صَالِحًا لِلْإِشْعَارِ فَمُخْتَلَفٌ فيه وَاخْتَارَ الْإِمَامُ أَنَّهُ غَيْرُ مُشْعِرٍ بِوَاحِدٍ أو جَمْعٍ وَتَمَسَّكَ بِاعْتِذَارِ سِيبَوَيْهِ عن قَوْلِهِمْ ضَرَبْته ضَرْبًا كَثِيرًا نَعْتٌ لِلضَّرْبِ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ في الضَّرْبِ التَّعَدُّدُ وَالْمَنْعُوتُ لَا
____________________
(2/286)
يُشْعِرُ بِنَعْتِهِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِمْ رَأَيْت رَجُلًا عَالِمًا فإن لَفْظَةَ رَجُلٍ لَا تُشْعِرُ بِعَالَمٍ وَأَنْكَرَ عليه ابن خَرُوفٍ ذلك وقال هذا لم يَقُلْهُ سِيبَوَيْهِ وَلَا هو مَذْهَبُهُ قُلْت وقال صَاحِبُ الْبَيَانِ من أَصْحَابِنَا إذَا قُلْت أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا أو أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ فإنه لَا يَقَعُ عليها إلَّا طَلْقَةٌ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يَزِيدُ بِهِ الْكَلَامُ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ ضَرَبْت زَيْدًا ضَرْبًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ ما زَادَ على وَاحِدَةٍ فَيَقَعُ ما نَوَاهُ كما لو لم يَأْتِ بِالْمَصْدَرِ انْتَهَى تَنْبِيهٌ إفَادَةُ الْأَفْعَالِ الْوَاقِعَةِ صِلَةً لِمَوْصُولٍ حَرْفِيٍّ الْعُمُومَ ما أَطْلَقُوهُ من أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَدُلُّ على اسْتِغْرَاقِهِ في حَيِّزِ الْإِثْبَاتِ مَبْنِيٌّ على أَنَّهُ نَكِرَةٌ وقد نَقَلَ الزَّجَّاجِيُّ في الْإِيضَاحِ إجْمَاعَ النَّحْوِيِّينَ على أَنَّ الْأَفْعَالَ نَكِرَاتٌ وَلِهَذَا امْتَنَعَ الْإِضَافَةُ إلَيْهَا لِانْتِفَاءِ فَائِدَةِ الْإِضَافَةِ وَلْيُتَفَطَّنَ لِفَائِدَةٍ حَسَنَةٍ وَهِيَ إنَّمَا هذا في غَيْرِ الْأَفْعَالِ الْوَاقِعَةِ جُمْلَةً لِمَوْصُولٍ حَرْفِيٍّ أَمَّا الْمَذْكُورَاتُ فَإِنَّهَا لِلْعُمُومِ لِأَنَّك إذَا قُلْت أَعْجَبَنِي أَنْ قام زَيْدٌ فَمَعْنَاهُ قِيَامُهُ فَهُوَ اسْمٌ في الْمَعْنَى فَيَجْرِي على حُكْمِ اسْمِ الْجِنْسِ الْمُضَافِ وَهَذَا يَخْرُجُ من كَلَامِ النَّحْوِيِّينَ وَالْبَيَانِيِّينَ
____________________
(2/287)
فَصْلٌ في ذِكْرِ مَرَاتِبِ الصِّيَغِ زَعَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ أَنَّ أَعْلَاهَا أَسْمَاءُ الشَّرْطِ وَالنَّكِرَةُ في النَّفْيِ وَادَّعَى الْقَطْعَ بِوَضْعِ ذلك الْعُمُومِ وَأَنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ تَسْمِيَةٌ خَارِجَةٌ مَخْصُوصَةٌ رَأْسًا قال وَجَمْعُ الْكَثْرَةِ ظَاهِرٌ فيه لَا نَصُّ وَكَلَامُ الْمَحْصُولِ وَأَتْبَاعِهِ مُصَرِّحٌ بِأَنَّ أَعْلَاهَا أَسْمَاءُ الشَّرْطِ وَالِاسْتِفْهَامِ ثُمَّ النَّكِرَةُ الْمَنْفِيَّةُ لِدَلَاتِهَا بِالْقَرِينَةِ لَا بِالْوَضْعِ وَعَكَسَ الْهِنْدِيُّ في بَابِ التَّرَاجِيحِ فَقَدَّمَ النَّكِرَةَ الْمَنْفِيَّةَ على الْكُلِّ فَحَصَّلَ ثَلَاثَةَ آرَاءٍ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ أَلْفَاظُ الْجُمُوعِ أَبْيَنُ وُجُوهِ الْعُمُومِ ثُمَّ يَلِيهَا اسْمُ الْجِنْسِ الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْإِضَافَةَ دُونَ ذلك في الرُّتْبَةِ وَعَكَسَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ هذه الْمَقَالَةَ في تَفْسِيرِهِ فَزَعَمَ أَنَّ الْإِضَافَةَ أَدَلُّ على الْعُمُومِ من الْأَلِفِ وَاللَّامِ وَالنَّكِرَةَ الْمَنْفِيَّةَ أَدَلُّ على الْعُمُومِ منها في سِيَاقِ النَّفْيِ وَاَلَّتِي بِمِنْ أَدَلُّ من الْمُجَرَّدَةِ منها وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُ أبي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ إنَّ مَجِيءَ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ مُعَرَّفَةً بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أَكْثَرُ من مَجِيئِهَا مُضَافَةً وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ في التَّلْوِيحِ أَلْفَاظُ الْعُمُومِ أَرْبَعَةٌ أَحَدُهَا عَامٌّ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ كَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالثَّانِي عَامٌّ بِمَعْنَاهُ لَا بِصِيغَتِهِ كَالرَّهْطِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَغَيْرِهَا من أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فيه وَالثَّالِثُ أَلْفَاظٌ مُبْهَمَةٌ نَحْوُ ما وَمَنْ وَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ وَاحِدٍ وَالرَّابِعُ النَّكِرَةُ في سِيَاقِ النَّفْيِ نَحْوُ لم أَرَ رَجُلًا وَذَلِكَ يَعُمُّ لِضَرُورَةِ صِحَّةِ الْكَلَامِ وَتَحْقِيقِ غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ من الْإِفْهَامِ لَا أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْجَمْعَ بِصِيغَتِهِ فَالْعُمُومُ فيه من الْقَرِينَةِ فَلِهَذَا لم يَخْتَلِفُوا فيه انْتَهَى وقال إلْكِيَا في مَوْضِعٍ آخَرَ الْعَامُّ الذي لم يَرِدْ على سَبَبٍ أَقْوَى من الْوَارِدِ وَلِهَذَا اخْتَلَفُوا في التَّمَسُّكِ بِعُمُومِهِ دُونَ الْأَوَّلِ وقال الشَّيْخُ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ بَحَثَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْبَاحِثِينَ لَا الْمُصَنِّفِينَ في مَنْعِ تَفَاوُتِ رُتَبِ الْعُمُومِ نَظَرًا إلَى أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ الْعَامِّ على أَفْرَادِهِ وَضْعِيَّةٌ وَلَا تَفَاوُتَ في الْوَضْعِ وَتَنَاوُلَهُ لِلْأَفْرَادِ
____________________
(2/288)
وقد صَرَّحَ في الْمُسْتَصْفَى بِتَفَاوُتِ مَرَاتِبِ الْعُمُومِ في تَنَاوُلِهَا لِبَعْضِ الْأَفْرَادِ لَكِنْ هذا التَّفَاوُتُ ليس من جِهَةِ الْوَضْعِ وَإِنَّمَا هو لِأُمُورٍ خَارِجَةٍ عنه وَالْعُمُومُ يَضْعُفُ بِأَنْ لَا يَظْهَرَ فيه قَصْدُ التَّعْمِيمِ وَسِرُّ ذلك بِأَنْ يَكْثُرَ الْمَخْرَجُ منه وَيَتَطَرَّقُ إلَيْهِ تَخْصِيصَاتٌ كَثِيرَةٌ وَمَثَّلَهُ بِأَصْلِ دَلَالَةِ الْبَيْعِ فإن دَلَالَةَ قَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ على تَحْرِيمِ الْأَرُزِّ أَظْهَرُ من دَلَالَةِ هذا الْعُمُومِ على تَحْلِيلِهِ وَلِهَذَا جَوَّزَ عِيسَى بن أَبَانَ دُونَ ما بَقِيَ على الْعُمُومِ قال وَلَا يَبْعُدُ ذلك عِنْدَنَا فِيمَا بَقِيَ عَامًّا لِأَنَّا لَا نَشُكُّ في أَنَّ الْعُمُومَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ الْمُسَمَّيَاتِ تَخْتَلِفُ بِالْقُوَّةِ لِاخْتِلَافِ ظُهُورِ إرَادَةِ قَصْدِ ذلك الْمُسَمَّى بها فإذا تَقَابَلَا وَجَبَ تَقْدِيمُ أَقْوَى الْعُمُومَيْنِ وَكَذَا الْقِيَاسَانِ إذَا تَقَابَلَا وَجَبَ تَقْدِيمُ أَجْلَاهُمَا وَأَقْوَاهُمَا قال الشَّيْخُ أَمَّا ظُهُورُ قَصْدِ التَّعْمِيمِ فَلَا شَكَّ في اقْتِضَائِهِ الْقُوَّةَ لَكِنْ قد يُقَالُ هل الْمُعْتَبَرُ في الضَّعْفِ عَدَمُ قَصْدِ التَّعْمِيمِ أو قَصْدُ عَدَمِ التَّعْمِيمِ وَالظَّاهِرُ الثَّانِي وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُسْتَصْفَى الْأَوَّلُ ثُمَّ ذلك إنَّمَا يَكُونُ بِقَرَائِنَ خَارِجَةٍ عن مَدْلُولِ اللَّفْظِ وَنَحْوِهِ ثُمَّ قَسَّمُوا الْمَرَاتِبَ على ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا أَنْ يَظْهَرَ أَنَّ الرَّسُولَ عليه السَّلَامُ لم يَقْصِدْ التَّعْمِيمَ وَإِنْ كان اللَّفْظُ عَامًّا لُغَةً كَقَوْلِهِ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ فإن سِيَاقَهُ لِبَيَانِ قَدْرِ الْوَاجِبِ لَا غَيْرُ فَهَذَا لَا عُمُومَ له في قَصْدِهِ وَكَذَا قَوْله تَعَالَى وَثِيَابَك فَطَهِّرْ لَا عُمُومَ له في الْآلَةِ الْمُطَهِّرَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَمْرُ بِأَصْلِ التَّطْهِيرِ الثَّانِي لَفْظٌ عَامٌّ ظَهَرَ منه قَصْدُ التَّعْمِيمِ بِقَرِينَةٍ زَائِدَةٍ على اللَّفْظِ فَحَكَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّهُ لَا يُؤَوَّلُ بِقِيَاسٍ قال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنْ كانت الْقَرِينَةُ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالتَّعْمِيمِ صَارَ نَصًّا وَإِنْ لم يُفِدْهُ إلَّا قُوَّةَ الظَّنِّ فما الْمَانِعُ من تَأْوِيلِهِ بِقِيَاسٍ أَجْلَى منه في النَّظَرِ فَلَا وَجْهَ لِهَذَا الْإِطْلَاقِ الثَّالِثُ لَفْظٌ عَامٌّ لُغَةً وَلَا قَرِينَةَ معه في تَعْمِيمٍ وَلَا تَقْتَضِيهِ فَالْوَاجِبُ إذَا أُوِّلَ وَعُضِّدَ بِقِيَاسٍ اتِّبَاعُ الْأَرْجَحِ في الظَّنِّ فَإِنْ اسْتَوَيَا وَقَفَ عِنْدَ الْقَاضِي وَصَوَّبَهُ بَعْضُهُمْ وَقَدَّمَ الْإِمَامُ الْخَبَرَ لِنَصِّيَّتِهِ وهو كَقَوْلِهِ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ انْتَهَى
____________________
(2/289)
وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ يقول إنَّهُ لو قُدِّمَ ظَنِّيُّ الْقِيَاسِ على ظَنِّيِّ اللَّفْظِ لَكَانَ تَقْدِيمًا لِمَرْتَبَةِ الْقِيَاسِ على مَرْتَبَةِ الْخَبَرِ وإذا آلَ الْأَمْرُ إلَى تَقْدِيمِ الْأَرْجَحِ في الظَّنِّ فَقِيَاسُ الشَّبَهِ ضَعِيفٌ فَإِنْ قِيلَ بِهِ فَيُقَدَّمُ عليه الْعُمُومُ بِالنَّظَرِ إلَى رُتْبَتِهِ وَرُتْبَتُهُ الْعُمُومُ وَأَمَّا النَّظَرُ إلَى الْجُزْئِيَّاتِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ الْقِيَاسُ الشَّبَهِيُّ إلَّا عِنْدَ ضَعْفِ الْعُمُومِ ضَعْفًا شَدِيدًا بِحَيْثُ يَكُونُ قِيَاسُ الشَّبَهِ أَغْلَبَ على الظَّنِّ منه فَإِنَّا رَأَيْنَاهُمْ يَسْتَدِلُّونَ بِعُمُومَاتٍ وَنُصُوصٍ بَعِيدَةِ التَّنَاوُلِ في الْقَصْدِ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ بِظُهُورِ الْقَصْدِ وَأَمَّا قِيَاسُ الْعِلَّةِ فَهُوَ أَرْفَعُ من الشَّبَهِ وَأَمَّا ما ليس فيه إلَّا مُجَرَّدُ مُنَاسَبَةٍ يُبْدِيهَا النَّظَرُ لَا تَقْوَى بِالتَّعْلِيلِ فَالْأَوْلَى تَقْدِيمُ الْعُمُومِ وَالظَّاهِرُ عليها لَا سِيَّمَا إذَا قَرُبَ أَنْ يُزَاحِمَ وكان تَرْجِيحُهَا على ما يُعَامَلُ بِهِ ليس بِقَوِيٍّ مَسْأَلَةٌ الْجَمْعُ الْمُنَكَّرُ كَرِجَالٍ فيه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في اللُّمَعِ وَسُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَامٌّ وَنَصَرَهُ ابن حَزْمٍ في كِتَابِ الْإِحْكَامِ وَحَكَاهُ ابن بَرْهَانٍ عن الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ منه قال صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ حَكَاهُ الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ عن أبي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَحُكِيَ عن أبي هَاشِمٍ مُخَالَفَتُهُ وهو قَوْلُ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ وَاخْتَارَهُ الْبَزْدَوِيُّ وابن السَّاعَاتِيِّ وَأَصَحُّهُمَا كما قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ أَنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ ليس بِعَامٍّ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ سَمَّوْهُ نَكِرَةً وَلَوْ تَنَاوَلَ جَمِيعَ الْجِنْسِ لم يَكُنْ نَكِرَةً قال وَعَلَى هذا فِيمَا يُحْمَلُ عليه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا على أَقَلِّ الْجَمْعِ وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ عن أبي هَاشِمٍ وَالثَّانِي يُحْمَلُ على الْجَمْعِ وَلَا يُقْتَصَرُ على أَقَلِّهِ قال سُلَيْمٌ وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ قال صَاحِبُ الْمِيزَانِ وَأَصْلُ الْخِلَافِ أَنَّ النَّكِرَةَ في سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ تَعُمُّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ على طَرِيقِ الْبَدَلِ كما قالوا في خِصَالِ الْكَفَّارَةِ وَمِنْهُمْ من حَكَى في الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ أَصَحُّهَا ليس بِعَامٍّ وَالثَّانِي عَامٌّ وهو رَأْيُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ قالوا الْعَامُّ ما انْتَظَمَ جَمْعًا من الْمُسَمَّيَاتِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ وَاسِطَةٌ بَيْنَهُمَا وهو قَوْلُ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ من الْحَنَفِيَّةِ وهو غَرِيبٌ
____________________
(2/290)
تَنْبِيهَانِ أَحَدُهُمَا أَطْلَقُوا الْخِلَافَ قال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَاَلَّذِي أَظُنُّهُ أَنَّ الْخِلَافَ في غَيْرِ جَمْعِ الْقِلَّةِ وَإِلَّا فَالْخِلَافُ فيه بَعِيدٌ جِدًّا إذْ هو مُخَالِفٌ لِنَصِّهِمْ فَإِنَّهُمْ نَصُّوا على أَنَّهُ لِلْعَشَرَةِ فما دُونَهَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ فَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لِلْعُمُومِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ انْتَهَى لَكِنْ حَكَاهُ الْجُمْهُورُ عن الْجُبَّائِيُّ وَمِنْهُمْ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ مُصَرِّحًا بِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْجَمْعَ الْمُنَكَّرَ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَرَّفِ وَقَضِيَّةُ ذلك عَدَمُ التَّفْرِقَةِ بين جُمُوعِ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وهو قَضِيَّةُ كَلَامِ الْبَزْدَوِيُّ أَعْنِي أَنَّ جُمُوعَ الْقِلَّةِ لِلْعُمُومِ وَإِنْ كانت مُنَكَّرَةً وَعَلَى هذا فَيُحْمَلُ على أَقَلِّ الْجَمْعِ الصَّالِحِ له لَكِنْ فَرَّقَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَهُمَا فقال في جَمْعِ الْقِلَّةِ الْمُنَكَّرِ يُحْمَلُ على الْمُتَيَقَّنِ وهو أَقَلُّ الْجَمْعِ وَجَمْعُ الْكَثْرَةِ يُحْمَلُ على الْعُمُومِ وَإِنْ كان نَكِرَةً وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهُمْ حَكَوْا عن الْجُبَّائِيُّ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ من الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ بين النَّحْوِيِّينَ فَمِنْهُمْ من جَوَّزَهُ لِأَنَّ النَّكِرَةَ مُتَرَدِّدَةٌ بين مَحَالَّ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ لِأَنَّهَا عَامَّةٌ على الْبَدَلِ فَحَسُنَ الِاسْتِثْنَاءُ من أَجْلِ عُمُومِ الْمَحَالِّ وَعَلَى هذا فَنَقُولُ جَاءَنِي رِجَالٌ إلَّا زَيْدٌ وَقِيلَ بِالْمَنْعِ وهو الصَّحِيحُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِأَنَّ النَّكِرَةَ لَا تَتَنَاوَلُ أَكْثَرَ من فَرْدٍ بِلَفْظِهَا فَيَكُونُ الْإِخْرَاجُ منها مُحَالًا وَلِهَذَا كانت في قَوْله تَعَالَى لو كان فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا لِلْوَصْفِ لَا الِاسْتِثْنَاءِ وَيُقَوِّي الْأَوَّلَ قَوْله تَعَالَى إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّهُمْ نَصُّوا على أَنَّ أَلْ الْجِنْسِيَّةَ في الْمَعْنَى كَالنَّكِرَةِ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ الثَّانِي أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ عَامٌّ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِاعْتِبَارِ صَلَاحِيَّتِهِ لِأَفْرَادِ الْجُمُوعِ لَا اسْتِغْرَاقِ الْأَفْرَادِ مسألة ضمير الجمع كقوله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وقوله أنتم للمخاطبين وهم للغائبين فإنه ضمير يرجع إلى المذكورين أولا إن سبق ذكرهم وإلا رجع إلى المدلول الذي يجوز صرف الضمير إليه وإن كان في موضع الخطاب انصرف للمخاطبين
____________________
(2/291)
فالحاصل أن عمومه وخصوصه يتقدر بقدر ما يرجع إليه وفيه دقيقة لا تخفى وهي أن لا يدخله التخصيص لأنه موضوع للكناية عن المراد فإن كان المراد عاما كان حقيقة وإن كان خاصا كان حقيقة فلا يثبت التخصيص لأنه عبارة عن خروج بعض ما يتناوله اللفظ وهو لا يتناول إلا المراد لأنه موضوع للكناية عن المراد فلا يقبل التخصيص وممن ذكر أن الكناية تابعة للمكنى في العموم والخصوص الإمام في المحصول والهندي في النهاية وقال صاحب الكبريت الأحمر أما إذا قال افعلوا فذكر القاضي عبد الجبار في الدرس عن الشيخ أبي عبد الله البصري أنه يحمل على الاستغراق وقال أبو الحسين البصري الأولى أن يصرف إلى المخاطبين سواء كانوا ثلاثة أو أكثر وأطلق سليم في التقريب أن المطلقات لا عموم فيها لقوله تعالى وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ولم يبين فيه ما هم أولى به وإنما يضمر فيه فلا يدعى فيه العموم ولا الخصوص وإنما يدعى في الألفاظ الظاهرة وكذلك الأعلام كزيد وعمرو لا عموم فيها انتهى مَسْأَلَةٌ قد ذَكَرْنَا أَنَّ الْجَمْعَ الْمُنَكَّرَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مَحْمُولٌ على أَقَلِّ الْجَمْعِ فَيَحْتَاجُ إلَى تَعْرِيفِهِ وَالْخِلَافُ في أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ مَاذَا لَا بُدَّ من تَحْرِيرِهِ فَنَقُولُ ليس الْخِلَافُ في مَعْنَى لَفْظِ الْجَمْعِ الْمُرَكَّبِ من الْجِيمِ وَالْمِيمِ وَالْعَيْنِ كما قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ وَسُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ فإن ج م ع مَوْضُوعُهَا يَقْتَضِي ضَمَّ شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ وَذَلِكَ حَاصِلٌ في الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وما زَادَ بِلَا خِلَافٍ قال سُلَيْمٌ بَلْ قد يَقَعُ على الْوَاحِدِ كما يُقَالُ جَمَعْت الثَّوْبَ بَعْضَهُ إلَى بَعْضٍ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ في كِتَابِ التَّرْتِيبِ وَأَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ مَحَلُّ وِفَاقٍ فإنه قال لَفْظُ الْجَمْعِ في اللُّغَةِ له مَعْنَيَانِ الْجَمْعُ من حَيْثُ الْفِعْلُ الْمُشْتَقُّ منه الذي هو مَصْدَرُ جَمَعَ يَجْمَعُ جَمْعًا وَالْجَمْعُ الذي هو لَقَبٌ وهو اسْمٌ لِعَدَدٍ وُضِعَ فَوْقَ الِاثْنَيْنِ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ وَهَذَا اللَّقَبُ لِهَذَا الْعَدَدِ كَسَائِرِ الْأَلْقَابِ كَزَيْدٍ وَحِمَارٍ وَنَارٍ وقال وَبَعْضُ من لم يَهْتَدِ إلَى هذا الْفَرْقِ خَلَطَ الْبَابَ فَظَنَّ أَنَّ الْجَمْعَ الذي هو بِمَعْنَى اللَّقَبِ من جُمْلَةِ الْجَمْعِ الذي بِمَعْنَى الْفِعْلِ فقال إذَا كان الْجَمْعُ من الضَّمِّ
____________________
(2/292)
فَالْوَاحِدُ إذَا أُضِيفَ إلَى الْوَاحِدِ فَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا وَثَبَتَ أَنَّ الِاثْنَيْنِ أَقَلُّ الْجَمْعِ وَخَالَفَ بهذا الْقَوْلِ جَمِيعَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَسَائِرَ من كان مثله من أَهْلِ الْعِلْمِ وقال إنَّ هذا الْمُخَالِفَ هو أبو بَكْرٍ الْقَفَّالُ وَفِيهِ نَظَرٌ فإن الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيَّ حَكَى عن الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ أَنَّهُ قال في أُصُولِهِ أَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ وَضَعَّفَ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ اثْنَانِ وَلَيْسَ من مَحَلِّ الْخِلَافِ أَيْضًا تَعْبِيرُ الِاثْنَيْنِ عن أَنْفُسِهِمَا بِضَمِيرِ الْجَمْعِ نَحْوُ نَحْنُ فَعَلْنَا لِأَنَّ الْعَرَبَ لم تَضَعْ لِلْمُتَكَلِّمِ ضَمِيرَ التَّثْنِيَةِ كما وَضَعَتْ لِلْمُخَاطَبِ وَالْغَائِبِ وَلَيْسَ لِلِاثْنَيْنِ إذَا عَبَّرَا عن أَنْفُسِهِمَا بِمُضْمَرٍ إلَّا الْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَيْضًا أَنَّ الْخِلَافَ ليس في مَدْلُولِ مِثْلِ قَوْلِهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَقَوْلِ الْقَائِلِ ضَرَبْت رُءُوسَ الرَّجُلَيْنِ وَقَطَعْت بُطُونَهُمَا بَلْ الْخِلَافُ في الصِّيَغِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْجَمْعِ سَوَاءٌ كانت لِلسَّلَامَةِ أو التَّكْسِيرِ كما قال إلْكِيَا نَحْوُ مُسْلِمِينَ وَرِجَالٍ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْخِلَافُ في أَقَلِّ الْجَمْعِ الذي تَقْتَضِيهِ صِيغَةُ الْجَمْعِ بِنَفْسِهَا أو بِعَلَامَةِ الْجَمْعِ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ أَيْضًا فإنه جَعَلَ من صُوَرِ الْخِلَافِ لَفْظَ الناس وَفِيهِ مَذَاهِبُ الْمَذَاهِبُ في أَقَلِّ الْجَمْعِ الْأَوَّلُ أَنَّ أَقَلَّهُ اثْنَانِ وهو الْمَرْوِيُّ عن عُمَرَ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ وَحَكَاهُ عبد الْوَهَّابِ عن الْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ قال الْبَاجِيُّ وهو قَوْلُ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَحَكَاهُ هو وابن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ عن مَالِكٍ وَاخْتَارَهُ الْبَاجِيُّ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ كان الْأَشْعَرِيُّ يَخْتَارُهُ وَيَنْصُرُهُ في الْمَجَالِسِ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عن الْقَاضِي أبي يُوسُفَ قال وَلِهَذَا ذَهَبَ إلَى انْعِقَادِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِاثْنَيْنِ سِوَى الْإِمَامِ فَجَعَلَ قَوْلَهُ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ مُتَنَاوِلًا اثْنَيْنِ وَأَنْكَرَ ذلك السَّرَخْسِيُّ كما سَيَأْتِي وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أَهْلِ الظَّاهِرِ وَسُلَيْمٌ عن الْأَشْعَرِيَّةِ وَبَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ وقال ابن حَزْمٍ إنَّهُ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الظَّاهِرِ ثُمَّ أَجَازَ خِلَافَهُ وَحَكَاهُ ابن الدَّهَّانِ النَّحْوِيُّ في الْغُرَّةِ عن مُحَمَّدِ بن دَاوُد وَأَبِي يُوسُفَ وَالْخَلِيلِ وَنِفْطَوَيْهِ قال وَسَأَلَ سِيبَوَيْهِ الْخَلِيلَ عن ما أَحْسَنُ فقال الِاثْنَانِ جَمْعٌ وَعَنْ ثَعْلَبٍ
____________________
(2/293)
أَنَّ التَّثْنِيَةَ جَمْعٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وقد يُحْتَجُّ لِهَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى قالوا يا مُوسَى اجْعَلْ لنا إلَهًا كما لهم آلِهَةٌ لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا إلَهًا مع اللَّهِ ثُمَّ قالوا كما لهم آلِهَةٌ فَدَلَّ على أَنَّهُمْ إذَا صَارَ لهم إلَهَانِ صَارُوا بِمَنْزِلَةِ آلِهَةٍ الثَّانِي أَنَّ أَقَلَّهُ ثَلَاثَةٌ وَبِهِ قال عُثْمَانُ وابن عَبَّاسٍ وهو ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ في كِتَابِ الْعَدَدِ عن نَصِّ الشَّافِعِيِّ قال وهو مَشْهُورُ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وقال إلْكِيَا هو مُخْتَارُ الشَّافِعِيِّ وَنَقَلَهُ ابن حَزْمٍ عن الشَّافِعِيِّ وَبِهِ يَأْخُذُ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ عن أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ إنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَرَأَيْت من حَكَى عنه اخْتِيَارَ الْأَوَّلِ وهو سَهْوٌ وَنَقَلَهُ عبد الْوَهَّابِ عن مَالِكٍ قال وَبِهِ أَجَابَ فِيمَنْ قال عَلَيَّ عُهُودُ اللَّهِ أنها ثَلَاثَةٌ وَلَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ وَنَحْوُهُ وَنَقَلَهُ أبو الْخَطَّابِ من الْحَنَابِلَةِ عن نَصِّ أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ عن أَهْلِ الْعِرَاقِ وَعَامَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَحَكَاهُ ابن الدَّهَّانِ عن جُمْهُورِ النُّحَاةِ وقال ابن خَرُوفٍ في شَرْحِ الْكِتَابِ إنَّهُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ قال وإذا كَانُوا لَا يُوقِعُونَ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ مَوْضِعَ الْقَلِيلِ وَلَا الْقَلِيلَ مَوْضِعَ الْكَثِيرِ إذَا كان لِلِاسْمِ جَمْعُ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ فَأَحْرَى أَنْ لَا يُوقِعُوا على الِاثْنَيْنِ لَفْظَ الْجَمْعِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو بَكْرِ بن طَاهِرٍ الِاثْنَانِ وَإِنْ كان جَمْعًا لَا يُعَبَّرُ عنهما بِذَلِكَ لِلَّبْسِ انْتَهَى وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَنِسْبَتُهُ على أَنَّ الْمُرَادَ أَقَلُّ الْجَمْعِ لِلْعَدَدِ قال فَأَمَّا الِاثْنَانِ فَجَمْعُهُمَا جَمْعُ اجْتِمَاعٍ لَا جَمْعُ عَدَدٍ وقال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في أُصُولِهِ أَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ وَلِهَذَا جَعَلَ الشَّافِعِيُّ أَقَلَّ ما يُعْطَى من الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ثَلَاثَةً وقال في الْوَصِيَّةِ لِلْفُقَرَاءِ إنَّ أَقَلَّهُمْ ثَلَاثَةٌ وَلِأَنَّ الْأَسْمَاءَ دَلَائِلُ على الْمُسَمَّيَاتِ وقد جَعَلُوا لِلْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى صِيغَةً فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِلْجَمْعِ صِيغَةٌ خِلَافُهُمَا وقال الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي إنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ أَيْ أَقَلُّ جَمْعٍ وَمَنْ جَعَلَ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَيْنِ جَعَلَهُمَا أَقَلَّ الْعُمُومِ قال شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَنَصَّ عليه مُحَمَّدٌ في السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يقول إنَّ أَقَلَّهُ اثْنَانِ على قِيَاسِ مَسْأَلَةِ الْجُمُعَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ
____________________
(2/294)
فإن عِنْدَهُ الْجَمْعَ الصَّحِيحَ ثَلَاثَةٌ وإذا قُلْنَا بهذا الْقَوْلِ فَهَلْ يَصِحُّ إطْلَاقُهُ على اثْنَيْنِ على جِهَةِ الْمَجَازِ أَمْ لَا يَصِحُّ أَصْلًا فيه كَلَامٌ وَالْمَشْهُورُ الْجَوَازُ وَحَكَى ابن الْحَاجِبِ قَوْلًا أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ على اثْنَيْنِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا وفي ثُبُوتِهِ نَظَرٌ نَقْلًا وَتَوْجِيهًا ولم يَصِحَّ مَجَازًا من مَجَازِ التَّعْبِيرِ بِالْكُلِّ عن الْبَعْضِ الثَّالِثُ الْوَقْفُ حَكَاهُ الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ عن الْآمِدِيَّ وفي ثُبُوتِهِ نَظَرٌ وَإِنَّمَا أَشْعَرَ بِهِ كَلَامُ الْآمِدِيَّ فإنه قال في آخِرِ الْمَسْأَلَةِ وإذا عُرِفَ مَأْخَذُ الْجَمْعِ من الْجَانِبَيْنِ فَعَلَى النَّاظِرِ الِاجْتِهَادُ في التَّرْجِيحِ وَإِلَّا فَالْوَقْفُ لَازِمٌ هذا كَلَامُهُ وَمُجَرَّدُ هذا لَا يَكْفِي في حِكَايَتِهِ مَذْهَبًا الرَّابِعُ أَنَّ أَقَلَّهُ وَاحِدٌ هَكَذَا حَكَاهُ بَعْضُهُمْ وَأَخَذَهُ من قَوْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الرَّدَّ إلَى وَاحِدٍ ليس بِدَعًا وَلَكِنَّهُ أَبْعَدُ من الرَّدِّ إلَى اثْنَيْنِ كَأَنْ تَرَى امْرَأَةً تَبَرَّجَتْ لِرَجُلٍ فَتَقُولَ أَتَتَبَرَّجِينَ لِلرِّجَالِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إنْ كان مُرَادُ الْإِمَامِ حَمْلُ ذلك بِطَرِيقِ الْمَجَازِ كما نَقَلَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عنه فَهَذَا لَا نِزَاعَ فيه وَلَيْسَ الْكَلَامُ فيه وقد صَرَّحَ بِهِ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ أَيْضًا في كِتَابِهِ في الْأُصُولِ فقال بَعْدَ ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ وقد يَسْتَوِي حُكْمُ التَّثْنِيَةِ وما دُونَهَا بِدَلِيلٍ كَالْمُخَاطِبِ لِلْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ في قَوْله تَعَالَى رَبِّ ارْجِعُونِ وَإِنَّا له لَحَافِظُونَ وقد تَقُولُ الْعَرَبُ لِلْوَاحِدِ افْعَلَا افْعَلُوا هذا كَلَامُهُ وهو ظَاهِرٌ في أَنَّهُ مَجَازٌ لِاشْتِرَاطِهِ الْقَرِينَةَ فيه وَكَذَلِكَ قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ وَذَكَرَ ابن فَارِسٍ في كِتَابِ فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ صِحَّةَ إطْلَاقِ الْجَمْعِ وَإِرَادَةِ الْوَاحِدِ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ وهو وَاحِدٌ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى فلما جاء سُلَيْمَانَ وقال الزَّمَخْشَرِيُّ في قَوْله تَعَالَى كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ الْمُرَادُ بِالْمُرْسَلِينَ نُوحٌ نَحْوُ قَوْلِك فُلَانٌ يَرْكَبُ الدَّوَابَّ وَيَلْبَسُ الْبُرُودَ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ أَنَّ ذلك مَجَازٌ بِالِاتِّفَاقِ قال وَقَوْلُهُ لِامْرَأَتِهِ أَتُكَلِّمِينَ الرِّجَالَ وَيُرِيدُ رَجُلًا وَاحِدًا فَفِيهِ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْجَمْعِ بَدَلًا عن لَفْظِ الْوَاحِدِ لِتَعَلُّقِ غَرَضِ الزَّوْجِ بِجِنْسِ الرِّجَالِ لَا أَنَّهُ عَنَى بِلَفْظِ الرَّجُلِ رَجُلًا وَاحِدًا قُلْت هذا صَحِيحٌ لِأَنَّ الرَّجُلَ لم يُطْلِقْ الرِّجَالَ على وَاحِدٍ بَلْ على جَمْعٍ لِظَنِّهِ أنها ما تَبَرَّجَتْ لِوَاحِدٍ إلَّا وقد تَبَرَّجَتْ لِغَيْرِهِ فَتَبَرُّجُهَا لِوَاحِدٍ سَبَبٌ لِلْإِطْلَاقِ لَا أَنَّ الْمُرَادَ بِرِجَالٍ وَاحِدٌ
____________________
(2/295)
وَذَكَرَ الْمَازِرِيُّ أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ حَكَى الِاتِّفَاقَ على أَنَّهُ مَجَازٌ قال لَكِنْ الْإِمَامُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ خَالَفَ فيه وَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ يَبْقَى في تَنَاوُلِهِ لِلْوَاحِدِ على الْحَقِيقَةِ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنَّا له لَحَافِظُونَ وهو سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ مُنَزِّلُ الذِّكْرَ فإذا ثَبَتَتْ الْعِبَارَةُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ عن الْوَاحِدِ لم يُسْتَنْكَرْ حَمْلُ الْعُمُومِ الْمُخَصَّصِ على الْوَاحِدِ حَقِيقَةً قال الْمَازِرِيُّ وَهَذَا يُجَابُ عنه بِأَنَّ هذا نَوْعٌ آخَرُ من أَلْفَاظِ الْجُمُوعِ وَالْوَاحِدُ الْعَظِيمُ يُخْبِرُ عن نَفْسِهِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَهَذَا مَنْصُوصٌ لِأَهْلِ اللِّسَانِ في مَقَامِ التَّعْظِيمِ فَلَا يَجْرِي هذا في جَانِبِ الْعُمُومِ انْتَهَى وقال الْإِبْيَارِيُّ شَارِحُ الْبُرْهَانِ الذي عليه الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَى وَاحِدٍ لِبُطْلَانِ حَقِيقَةِ الْجَمْعِ وَلِهَذَا صَارَ الْمُعْظَمُ إلَى أَنَّ أَلْفَاظَ الْعُمُومِ نُصُوصٌ في أَقَلِّ الْجَمْعِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا في أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ أو ثَلَاثَةٌ وما ذَكَرَهُ الْإِمَامُ من أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فيه وقد قال هو إنَّهُ ليس من مُقْتَضَى الْجَمْعِ وَإِنَّمَا صَارَتْ رُؤْيَةُ الْوَاحِدِ سَبَبًا لِلتَّوْبِيخِ على التَّبَرُّجِ لِلْجِنْسِ وَلِهَذَا كانت صِيغَةُ الْجَمْعِ هُنَا أَحْسَنَ من الْإِفْرَادِ وَفَرَّقَ بين إطْلَاقِ لَفْظِ الْجَمْعِ على الْوَاحِدِ وَبَيْنَ كَوْنِ الْوَاحِدِ سَبَبًا لِإِطْلَاقِ لَفْظِ الْجَمْعِ على الْحَقِيقَةِ وَأَقُولُ في تَحْرِيرِ مَقَالَةِ الْإِمَامِ إنَّ هَاهُنَا مَقَامَيْنِ أَحَدُهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الِاسْتِعْمَالِ وَالثَّانِي بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَمْلِ كَنَظِيرِهِ في مَسْأَلَةِ الْمُشْتَرَكِ في مَعْنَيَيْهِ فَالْأَوَّلُ أَنْ يُطْلِقَ الْمُتَكَلِّمُ لَفْظَ الْجَمْعِ وَيُرِيدَ بِهِ الْوَاحِدَ وَهَذَا لَا مَنْعَ منه بِالِاتِّفَاقِ لَا سِيَّمَا إذَا كان مُعَظِّمًا نَفْسَهُ وَالثَّانِي أَنْ يُورِدَ لَفْظَ الْجَمْعِ هل يَصِحُّ من السَّامِعِ رَدُّهُ إلَى الْوَاحِدِ وَهَذَا مَوْضِعُ كَلَامِ الْإِمَامِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ كما قال الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِبُطْلَانِ حَقِيقَةِ الْجَمْعِ وَلِذَلِكَ صَارَ الْمُعْظَمُ إلَى أَنَّ أَلْفَاظَ الْعُمُومِ نَصٌّ في أَقَلِّ الْجَمْعِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا في أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ أو ثَلَاثَةٌ وَذَهَبَ الْإِمَامُ إلَى أَنَّهُ يَصِحُّ وَالْحَاصِلُ أَنَّ صِحَّةَ الْإِطْلَاقِ غَيْرُ مُسَلَّمَةِ الرَّدِّ وَأَنَّهُ إنْ وُجِدَ هُنَاكَ ثَلَاثَةٌ صَحَّ الرَّدُّ إلَيْهَا وِفَاقًا وَإِنْ وُجِدَ اثْنَانِ انْبَنَى على الْخِلَافِ في أَنَّهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ وَإِنْ رُدَّ إلَى الْوَاحِدِ بَطَلَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِأَنَّهُ بِانْتِهَاءِ اللَّفْظِ إلَى أَنْ بَطَلَ الْمُخَصَّصُ فِيمَا وَرَاءَ ذلك لِأَنَّ اللَّفْظَ نَصٌّ في أَقَلِّ الْجَمْعِ فَحَمْلُهُ على ما دُونَ ذلك خُرُوجٌ عن حَقِيقَةِ اللَّفْظِ وَعَلَى هذا فَلَا يَحْسُنُ حِكَايَةُ قَوْلٍ في هذه الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ أَقَلَّهُ وَاحِدٌ لَكِنْ تَابَعْتُ ابْنَ الْحَاجِبِ على ما فيه
____________________
(2/296)
وقد جَعَلَ الْإِمَامُ الْمَرَاتِبَ في الرَّدِّ ثَلَاثَةً فإنه يَرَى أَنَّ اللَّفْظَ نَصٌّ في الزِّيَادَةِ على الْوَاحِدِ لَا يَتَغَيَّرُ إلَّا بِقَرِينَةٍ وهو نَصٌّ في الزِّيَادَةِ على الِاثْنَيْنِ لَا يَنْقُصُ عن ذلك إلَّا بِقَرِينَةٍ وَيَرَى أَنَّهُ ليس بِنَصٍّ في الزِّيَادَةِ على الثَّلَاثَةِ بِحَالٍ بَلْ إنَّمَا يَكُونُ ظَاهِرًا في الزِّيَادَةِ فإذا دَلَّ الدَّلِيلُ على إرَادَةِ الظَّاهِرِ تُرِكَ ولم يَقْتَصِرْ على نَوْعٍ مَخْصُوصٍ كَسَائِرِ الظَّوَاهِرِ وقال إنَّ النَّاظِرَ في هذه الْمَسْأَلَةِ في أَوَّلِ مَرَّةٍ لَا يَظْهَرُ له مَقْصُودُهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذلك سَبَبًا لِمَنْعِهِ من التَّكْمِيلِ فإن الْمَقْصُودَ منها يَظْهَرُ على التَّدْرِيجِ انْتَهَى وَتَحْرِيرُ هذا من النَّفَائِسِ التي لم يُسْبَقْ إلَيْهَا وقد حَكَى أَصْحَابُنَا فِيمَا لو وَصَّى لِأَقَارِبِهِ وَلَيْسَ له إلَّا قَرِيبٌ وَاحِدٌ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا يُصْرَفُ إلَيْهِ الْجَمِيعُ لِأَنَّ الْقَصْدَ جِهَةُ الْقَرَابَةِ وَالثَّانِي اعْتِبَارُ الْجَمْعِ من ثَلَاثَةٍ أو اثْنَيْنِ الْخَامِسُ التَّفْرِيقُ بين جَمْعِ الْكَثْرَةِ وَجَمْعِ الْقِلَّةِ وَالْخَامِسُ ما حَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عن إمَامِ الْحَرَمَيْنِ من التَّفْصِيلِ بين جَمْعِ الْكَثْرَةِ فَهُوَ ظَاهِرٌ في الِاسْتِغْرَاقِ وَبَيْنَ جَمْعِ الْقِلَّةِ فَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ وَلَا يَمْتَنِعُ رُجُوعُهُ إلَى الِاثْنَيْنِ بِقَرِينَةٍ وَكَذَلِكَ إلَى الْوَاحِدِ وهو مَجَازٌ هذا كَلَامُهُ وَعَنْ ابْنِ عَرَبِي أَنَّهُ ذَكَرَ في الْفُتُوحَاتِ الْمَلَكِيَّةِ أَنَّهُ رَأَى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في الْمَنَامِ فَسَأَلَهُ عن أَقَلِّ الْجَمْعِ اثْنَانِ أَمْ ثَلَاثَةٌ فقال عليه السَّلَامُ إنْ أَرَدْت أَقَلَّ جَمْعِ الْأَزْوَاجِ فَاثْنَانِ وَإِنْ أَرَدْت أَقَلَّ جَمْعِ الْإِفْرَادِ فَثَلَاثَةٌ تَنْبِيهَاتٌ مَحَلُّ الْخِلَافِ في مَسْأَلَةِ أَقَلِّ الْجَمْعِ الْأَوَّلُ اسْتَشْكَلَ ابن الصَّائِغِ النَّحْوِيُّ وَالْقَرَافِيُّ مَحَلَّ الْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ فقال ابن الصَّائِغِ في شَرْحِ الْجُمَلِ الْخِلَافُ في هذه الْمَسْأَلَةِ إنْ كان الْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرَ الْمَعْنَوِيَّ فَلَا شَكَّ في أَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمْعٌ لِأَنَّهُ ضَمُّ أَمْرٍ إلَى آخَرَ وَإِنْ كان الْمُرَادُ أَنَّهُ إذَا وَرَدَ لَفْظُ الْجَمْعِ فَهَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَصْلَ فيه وَالْأَكْثَرُ إطْلَاقُ لَفْظِ الْجَمْعِ على الثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا وهو قَوْلُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَيَكْفِي فيه قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِعُثْمَانَ ليس الْإِخْوَةُ أَخَوَيْنِ بِلُغَةِ قَوْمِك وَمُوَافَقَةُ عُثْمَانَ له حَيْثُ اسْتَدَلَّ بِغَيْرِ اللُّغَةِ
____________________
(2/297)
وَنَصَّ سِيبَوَيْهِ على أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعَبَّرَ عن الِاثْنَيْنِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ مع أَنَّ لِلتَّثْنِيَةِ لَفْظًا وَحَمَلَهُ عليه قَوْله تَعَالَى لَا تَخَفْ خَصْمَانِ لِأَنَّ الْخِطَابَ وَقَعَ لِدَاوُدَ عليه السَّلَامُ من اثْنَيْنِ وقَوْله تَعَالَى فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ وقال ابن خَرُوفٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ مَعَكُمْ لَهُمَا وَلِفِرْعَوْنَ وَبِهِ جَزَمَ ابن الْحَاجِبِ وقال السِّيرَافِيُّ في قَوْلِهِ في الْآيَةِ الْأُخْرَى إنَّنِي مَعَكُمَا يَدُلُّ على ما قَالَهُ سِيبَوَيْهِ وَأَيْضًا فَالْمَعْنَى وأنا مَعَكُمْ في النُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُشْرِكَهُمَا فِرْعَوْنُ في ذلك وَأَمَّا الْقَرَافِيُّ فَأَطْنَبَ في إشْكَالِ هذه الْمَسْأَلَةِ وقال إنَّ له نَحْوًا من عِشْرِينَ سَنَةً يُورِدُهُ ولم يَتَحَصَّلْ عنه جَوَابٌ وهو أَنَّ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ لِأَنَّهُ إنْ فُرِضَ الْخِلَافُ في صِيغَةِ الْجَمْعِ الذي هو ج م ع امْتَنَعَ إتْيَانُهُ في غَيْرِهَا بَلْ صَرَّحُوا بِعَدَمِ مَجِيئِهِ فيه بَلْ الْخِلَافُ في مَدْلُولِهِ وَحِينَئِذٍ فَمَدْلُولُهَا ما يُسَمَّى جَمْعًا وَصِيَغُ الْجُمُوعِ شَيْئَانِ جَمْعُ قِلَّةٍ وَجَمْعُ كَثْرَةٍ وَاتَّفَقَ النُّحَاةُ على أَنَّ جَمْعَ الْقِلَّةِ مَوْضُوعٌ لِلْعَشَرَةِ فما دُونَهَا إلَى الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ على الْخِلَافِ وَجَمْعَ الْكَثْرَةِ مَوْضُوعٌ لِمَا فَوْقَ الْعَشَرَةِ قال الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ وقد يُسْتَعْمَلُ أَحَدُهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ وَتَصْرِيحُهُمْ بِالِاسْتِعَارَةِ يَقْتَضِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُسْتَعْمَلٌ في مَعْنَى الْآخَرِ مَجَازًا فإن جَمْعَ الْكَثْرَةِ مَوْضُوعٌ لِمَا فَوْقَ الْعَشَرَةِ فإذا اُسْتُعْمِلَ فِيمَا دُونَهَا كان مَجَازًا وَإِنْ كان الْخِلَافُ في جَمْعِ الْكَثْرَةِ لم يَسْتَقِمْ لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ على هذا التَّقْدِيرِ أَحَدَ عَشَرَ وَإِطْلَاقُهُ على الثَّلَاثَةِ حِينَئِذٍ مَجَازٌ وَالْبَحْثُ في هذه الْمَسْأَلَةِ ليس في الْمَجَازِ فإن إطْلَاقَ لَفْظِ الْجَمْعِ على الِاثْنَيْنِ لَا خِلَافَ فيه إنَّمَا الْخِلَافُ في كَوْنِهِ حَقِيقَةً بَلْ لَا خِلَافَ في جَوَازِ إطْلَاقِ لَفْظِ الْجَمْعِ وَإِرَادَةِ الْوَاحِدِ مَجَازًا فَكَيْفَ الِاثْنَانِ وَإِنْ كان الْخِلَافُ في جَمْعِ الْقِلَّةِ وهو الْمُتَّجَهُ لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ لِلْعَشَرَةِ فما دُونَهَا فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَقَلُّهُ اثْنَانِ لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هذا مُرَادَهُمْ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا تَمْثِيلَهُمْ في جُمُوعِ الْكَثْرَةِ فَدَلَّ على أَنَّ مُرَادَهُمْ الْأَعَمُّ من جَمْعِ الْقِلَّةِ وَغَيْرِهِ وقد حَكَى الْأَصْفَهَانِيُّ عنه هذا الْإِشْكَالَ ثُمَّ قال وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلَافَ يَجُوزُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كان جَمْعَ قِلَّةٍ أو كَثْرَةٍ وَنَقُولُ جَمْعُ الْكَثْرَةِ يَصْدُقُ على ما دُونَ الْعَشَرَةِ حَقِيقَةً وَأَمَّا جَمْعُ الْقِلَّةِ فإنه لَا يَصْدُقُ على ما فَوْقَ الْعَشَرَةِ قال وَإِنْ سَاعَدَ على ذلك مَنْقُولُ الْأُدَبَاءِ فَلَا كَلَامَ وَإِلَّا فَمَتَى خَالَفَ فَهُوَ
____________________
(2/298)
مَحْجُوجٌ بِالْأَدِلَّةِ الْأُصُولِيَّةِ الدَّالَّةِ على عُمُومِ الْجَمْعِ على الْإِطْلَاقِ وَلَا يُمْكِنُ ادِّعَاءُ إجْمَاعِهِمْ على خِلَافِ ذلك ا هـ وَيَقْدَحُ في ذلك نَقْلُ الْقَرَافِيِّ عن ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ وَالزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ جَمْعَ الْكَثْرَةِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ إلَّا مُسْتَعَارًا وَيَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ من تَخْصِيصِ الْخِلَافِ بِجَمْعِ الْقِلَّةِ ما نَقَلَهُ إلْكِيَا عن إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وقد سَبَقَ لَكِنْ كَلَامُ إلْكِيَا يُخَالِفُهُ وَأَيْضًا فَقَدْ قال أَصْحَابُنَا لو قال له عَلَيَّ دَرَاهِمُ قُبِلَ تَفْسِيرُهُ بِثَلَاثَةٍ مع أَنَّهُ جَمْعُ كَثْرَةٍ الثَّانِي أَنَّ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هو حَيْثُ قَامَتْ قَرِينَةٌ على أَنَّهُ لم يُرِدْ بِالْجَمْعِ الِاسْتِغْرَاقَ أَمَّا مُطْلَقُ الْكَلَامِ عِنْدَ الْمُعَمِّمِينَ فَحَقِيقَةٌ في الِاسْتِغْرَاقِ قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَهَذَا أَخَذَهُ من شَيْخِهِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فإنه قال هذه الْمَسْأَلَةُ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا إلَّا إذَا قَامَتْ الْمُخَصِّصَاتُ وَإِلَّا فَالْأَلْفَاظُ لِلْعُمُومِ عِنْدَ فُقْدَانِ أَدِلَّةِ التَّخْصِيصِ وَنَازَعَهُ الْإِبْيَارِيُّ وقال إنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لَا على أَصْلِهِ وَلَا على أَصْلِ غَيْرِهِ أَمَّا أَصْلُهُ فإنه يَرَى أَنَّ الْأَلْفَاظَ عِنْدَ التَّنْكِيرِ لِأَقَلِّ الْجَمْعِ فإذا لم يُعْرَفْ أَقَلُّ الْجَمْعِ كَيْفَ يُحْكَمُ بِأَنَّ الْأَلْفَاظَ مُقْتَصِرَةٌ عليه وَكَذَلِكَ نَقُولُ في جَمْعِ الْقِلَّةِ وَإِنْ عُرِفَ أَنَّهُ لِأَقَلِّ الْجَمْعِ فَلَا بُدَّ إذَنْ من بَيَانِ أَقَلِّ الْجَمْعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمْعِ الْمُذَكَّرِ وَإِلَى جَمْعِ الْقِلَّةِ وَإِنْ عُرِفَ وَأَمَّا على رَأْيِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ مُفْتَقِرُونَ إلَى ذلك فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ وَالْإِلْزَامِ وَالِالْتِزَامِ وَالْوَصَايَا وَغَيْرِهَا وَذَكَرَ بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ في جَوَازِ الْكِنَايَةِ عن الِاثْنَيْنِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَلَكِنَّ الْخِلَافَ هل هو حَقِيقَةٌ في الِاثْنَيْنِ أو مَجَازٌ على الْوَجْهَيْنِ الثَّالِثُ اسْتَثْنَى النَّحْوِيُّونَ الْمُشْتَرِطُونَ لِلثَّلَاثَةِ التَّعْبِيرَ عن عُضْوَيْنِ من جَسَدَيْنِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ نَحْوُ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ فإنه لو قِيلَ قَلْبَاكُمَا لَثَقُلَ اجْتِمَاعُ ما يَدُلُّ على التَّثْنِيَةِ فِيمَا هو كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مَرَّتَيْنِ وَشَرَطُوا أَنْ يَكُونَ ذلك الشَّيْءُ مُتَّصِلًا كَالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ وقد سَبَقَ أَصْلُ هذا الِاسْتِثْنَاءِ في كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ الرَّابِعُ قال الْقَاضِي الْمَسْأَلَةُ عِنْدِي من مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ لَا من مَسَائِلِ الْقَطْعِ فَيَكْفِي فيها الظَّنِّيَّاتُ الْخَامِسُ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ تَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا فِيمَنْ أَوْصَى بِشَيْءٍ لِلْفُقَرَاءِ أو لِجِيرَانِهِ وَكَانُوا غير مَحْصُورِينَ فَهَلْ يُفَرَّقُ على ثَلَاثَةٍ أو اثْنَيْنِ على هذا الْخِلَافِ
____________________
(2/299)
الثَّانِي أَنَّ من قال إنَّ أَقَلَّهُ ثَلَاثَةٌ أَجَازَ تَخْصِيصَ الْجَمْعِ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْبَاقِي منه بَعْدَ التَّخْصِيصِ وَإِنْ كان الْبَاقِي منه بَعْدَ التَّخْصِيصِ أَقَلَّ من ثَلَاثَةٍ كان ذلك نَسْخًا ولم يَكُنْ تَخْصِيصًا وَمَنْ قال أَقَلُّهُ اثْنَانِ أَجَازَ التَّخْصِيصَ فيه إلَى أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي اثْنَيْنِ وَلَا يَكُونُ ذلك نَسْخًا عِنْدَهُ فَإِنْ بَقِيَ منه وَاحِدٌ فَقَدْ صَارَ مَنْسُوخًا يَعْنِي على الْقَوْلَيْنِ وقد ذَكَرَ هَاتَيْنِ الْفَائِدَتَيْنِ أَيْضًا الْإِمَامُ في التَّلْخِيصِ والبرهان فقال في التَّلْخِيصِ فَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا أَوْصَى بِمَالِهِ لِأَقَلِّ من يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْمَسَاكِينِ هل يُصْرَفُ لِاثْنَيْنِ أو ثَلَاثَةٍ وقال في الْبُرْهَانِ ذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ من آثَارِ هذا الْخِلَافِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ أو أَوْصَى بِدَرَاهِمَ فَلَفْظُ الْمُقِرِّ وَالْمُوصِي مَحْمُولٌ على الْأَقَلِّ فَإِنْ قِيلَ أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ حُمِلَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ قِيلَ أَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ لم يُقْبَلْ التَّفْسِيرُ بِالِاثْنَيْنِ قال وَلَا أَرَى الْفُقَهَاءَ يَسْمَحُونَ بهذا وَلَا أَرَى لِلنِّزَاعِ في أَقَلِّ الْجَمْعِ مَعْنًى إلَّا ما ذَكَرْته انْتَهَى وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في أُصُولِهِ الْفَائِدَةَ الثَّانِيَةَ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا ثُمَّ قال وَهَذِهِ فَائِدَةٌ مُزَيَّفَةٌ لِأَنَّ أَئِمَّتَنَا مُجْمِعُونَ على جَوَازِ تَخْصِيصِ الْجَمْعِ وَالْعُمُومِ بِمَا هو دَلِيلٌ إلَى أَنْ يَبْقَى تَحْتَهُ وَاحِدٌ انْتَهَى وَلَعَلَّ هذه طَرِيقَةٌ قَاطِعَةٌ تَنْفِي الْخِلَافَ وَإِلَّا فَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ مُصَرِّحٌ بِالْخِلَافِ وَإِنْكَارُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْفَائِدَةَ الْأُولَى لَا وَجْهَ له ثُمَّ اخْتَارَ في الْمَسْأَلَةِ بِنَاءَهَا على الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَرَأَى أَنَّ إفَادَةَ الْجُمُوعِ لِلتَّعْمِيمِ ثَابِتَةٌ على حَسَبِ اخْتِلَافِ طَبَقَاتِ الْعُمُومِ في قُوَّةِ الِاسْتِيعَابِ وَالْخُرُوجُ عن الْعُمُومِ إلَى قَصْرِهِ على الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ في حُكْمِ الْخِطَابِ وَدَلَالَتِهِ من قَصْرِهِ على الْمُحْتَمَلَاتِ فَاقْتَضَى هذا عِنْدَهُ طَلَبَ قُوَّةٍ في الْمُخْرِجِ له عن بَابِهِ وَتَقْدِيمَ ما هو الْأَرْجَحُ من غَيْرِ مَنْعٍ من الرَّدِّ إلَى الِاثْنَيْنِ السَّادِسُ وَقَعَ في عِبَارَةِ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ وَالْمَاوَرْدِيِّ وَغَيْرِهِمَا من كُتُبِ الْفِقْهِ أَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ ثَلَاثَةٌ وَكَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِالْمُطْلَقِ نحو دَرَاهِمَ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ الْجَمْعِ الْمُقَيَّدِ نَحْوُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ أو تِسْعَةٍ أو ثَلَاثَةٍ فإنه جَمْعٌ وَلَيْسَ بِمُطْلَقٍ فَلَا يَتَنَاوَلُ إلَّا مُقَيِّدَهُ فَوَائِدُ ذَكَرَهَا الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ في أُصُولِهِ الْأُولَى اتَّفَقُوا على أَنَّ لَفْظَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ لَا يُحْمَلُ على ما هو أَكْثَرُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَإِنْ كانت ظَوَاهِرُ وَرَدَتْ عليه في مَعْنَاهُ
____________________
(2/300)
الثَّانِيَةُ اخْتَلَفُوا في مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ فَقِيلَ إنَّ آحَادَهُ تُقَابِلُ آحَادَهُ وَقِيلَ بَلْ الْجَمْعُ الْجَمْعَ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الظَّاهِرُ مُوجِبًا تَحْرِيمَ كل من يَقَعُ عليه اسْمُ الْأُمُومَةِ على كل وَاحِدٍ وَالثَّانِي يُوجِبُ تَحْرِيمَ كل أُمٍّ على ابْنِهَا وَيُطْلَبُ في تَحْرِيمِهِ على غَيْرِهِ دَلِيلٌ يَخْتَصُّ بِهِ قال وَالظَّاهِرُ منه مُقَابَلَةُ الْوَاحِدِ بِالْوَاحِدِ كَقَوْلِهِمْ وَصَلَ الناس دُورَهُمْ وَحَصَدُوا زُرُوعَهُمْ ثُمَّ يَكُونُ جَمْعُهُ في الْوَاحِدِ بِمَا عَدَاهُ من الْأَدِلَّةِ الثَّالِثَةُ اخْتَلَفُوا في الطَّائِفَةِ فَقِيلَ كَالْجَمْعِ مُطْلَقُهُ لِثَلَاثَةٍ وَقِيلَ لِلْجُزْءِ وَأَقَلُّهُ وَاحِدٌ ولم يُرَجِّحْ شيئا وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ لِمَا سَبَقَ إيضَاحُهُ نعم جَعَلَهَا الْأَصْحَابُ في بَابِ اللِّعَانِ أَرْبَعَةً فَقَالُوا يُغَلِّظُ الْحَاكِمُ بِحُضُورِ جَمَاعَةٍ أَقَلُّهُمْ أَرْبَعَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ من الْمُؤْمِنِينَ وَفِيهِ إشْكَالٌ لِأَنَّ ذلك إنْ كان من مَدْلُولِ اللَّفْظِ فَمَمْنُوعٌ لِأَنَّ طَائِفَةً تُطْلَقُ على الْوَاحِدِ فَأَكْثَرَ وَإِنْ كان لِأَجْلِ أَنَّهُ زِنًا فَالْإِقْرَارُ بِهِ يَكْفِي فيه رَجُلَانِ على الصَّحِيحِ الرَّابِعَةُ الضَّمَائِرُ الرَّاجِعَةُ إلَى الظَّاهِرِ تُحْمَلُ على ما وُضِعَتْ له في الْأَصْلِ وَإِنْ كان الْمُتَقَدِّمُ عليها مُخَالِفًا ثُمَّ تَنَاوَلَ كُلَّ وَاحِدٍ منها بِدَلِيلٍ على مُوَافَقَةِ صَاحِبِهِ كَقَوْلِهِمْ رَجُلَانِ قالوا وَرِجَالٌ قَالَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ قالوا على الْجَمْعِ وَرَجُلَانِ على التَّثْنِيَةِ في ظَاهِرِ الْكَلَامِ ثُمَّ يُطْلَبُ الدَّلِيلُ الذي يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْهُمَا فَإِنْ قام على أَنَّ الِاسْمَ يُحْمَلُ على الْخَبَرِ حُمِلَ عليه وَإِنْ قام على أَنَّ الْخَبَرَ يُحْمَلُ على الْمُبْتَدَأِ صُيِّرَ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ ضَمَائِرُ الْإِنَاثِ وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ كَقَوْلِهِ رَجُلَانِ قَتَلَهُمْ أو رِجَالٌ قَتَلَهُمَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الِابْتِدَاءُ أَصْلًا وَالْخَبَرُ مُرَكَّبًا عليه وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُرَادًا وَالِابْتِدَاءُ مَحْمُولٌ على ما يُوَافِقُهُ وَلَا يُغَيَّرُ أَحَدُهُمَا عَمَّا وُضِعَ له لِمُوَافَقَةِ صَاحِبِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ يُوجِبُهُ
____________________
(2/301)
فَصْلٌ في الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ وَيَشْتَمِلُ على مَسَائِلَ الْأُولَى الْمُفْرَدُ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ إذَا جَعَلْنَاهُ لِلْعُمُومِ فَالْعُمُومُ فيه من حَيْثُ الْمَعْنَى على أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لَا بُدَّ أَنْ تُفِيدَ التَّعْرِيفَ وَلَيْسَ التَّعْرِيفُ إلَّا تَعْرِيفَ الْجِنْسِ وإذا قُلْنَا إنَّ اللَّفْظَ يُفِيدُ وَاحِدًا خَرَجَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عن كَوْنِهِمَا لِلْجِنْسِ ولم يَبْقَ لَهُمَا فَائِدَةٌ وإذا ثَبَتَ أَنَّهُمَا لِلْجِنْسِ ثَبَتَ الِاسْتِغْرَاقُ لِأَنَّهُ إذَا قال الْإِنْسَانُ أَفَادَ دُخُولَ كل من كان من جِنْسِ الْإِنْسَانِ في اللَّفْظِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إذَا عَلَّقَ الشَّارِعُ حُكْمًا في وَاقِعَةٍ على عِلَّةٍ تَقْتَضِي التَّعَدِّيَ إلَى غَيْرِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ مِثْلُ حَرَّمْت السُّكَّرَ لِكَوْنِهِ حُلْوًا فَإِنْ قَطَعَ بِاسْتِقْلَالِهَا فَالْجُمْهُورُ على التَّعَدِّي قِيَاسًا وَشَذَّ من قال فيه يَتَعَدَّى بِاللَّفْظِ فَإِنْ لم يَقْطَعْ بَلْ كان ظَاهِرًا فيه كما في الْمُحْرِمِ الذي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فإنه يُبْعَثُ يوم الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا فإن الظَّاهِرَ عَدَمُ الِاخْتِصَاصِ بِذَلِكَ الْمُحْرِمِ فَاخْتَلَفُوا في أَنَّهُ يَعُمُّ أَمْ لَا فقال أبو حَنِيفَةَ لَا يَعُمُّ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ تَخْصِيصَ ذلك بِهَذِهِ الْعِلَّةِ لِأَنَّهُ وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ لَا لِمُجَرَّدِ إحْرَامِهِ أو لِأَنَّهُ عُلِمَ من نِيَّتِهِ إخْلَاصُهُ وَغَيْرُهُ لَا يُعْلَمُ منه ذلك وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَحَكَاهُ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَامٌّ وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهِ هل عَمَّ بِالصِّيغَةِ أو بِالْقِيَاسِ على قَوْلَيْنِ مَحْكِيَّيْنِ عن
____________________
(2/302)
الشَّافِعِيِّ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَامٌّ بِالْقِيَاسِ قُلْت وَاَلَّذِي رَأَيْته في كِتَابِ التَّقْرِيبِ لِلْقَاضِي خِلَافَ ما نَقَلَ ابن الْحَاجِبِ عنه إذَا طُرِدَتْ الْعِلَّةُ ولم يُمْكِنْ احْتِمَالُ اخْتِصَاصِ الْعِلَّةِ بِصَاحِبِ الْوَاقِعَةِ فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ خَاصَّةً بِهِ لم يَعُمَّ كَقَوْلِهِ لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فإنه يُبْعَثُ يوم الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا قال يُعَمَّمُ بِتَعْمِيمِ ذلك في كل مُحْرِمٍ وفي الحديث ما يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِذَلِكَ الْمُحْرِمِ فإنه عَلَّلَ الْحُكْمَ بِأَنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا وَهَذَا مِمَّا لَا نَعْلَمُهُ في حَقِّ كل مُحْرِمٍ وَكَذَا حَكَاهُ عنه في الْمُسْتَصْفَى وقال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ يَعُمُّ لِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ حُكْمِي على الْوَاحِدِ حُكْمِي على الْجَمَاعَةِ وهو يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الصِّيغَةِ وَنُقِلَ ذلك عن الصَّيْرَفِيِّ أَيْضًا وَاَلَّذِي وَجَدْته في كِتَابِ الْأَعْلَامِ إطْلَاقُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ في كل من وُجِدَتْ فيه تِلْكَ الْعِلَّةُ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أبي حُبَيْشٍ وقد سَأَلَتْهُ عن الِاسْتِحَاضَةِ دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ التي كُنْت تَحِيضِينَ فيها ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي قال فَلَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَهَا بِذَلِكَ الْحُكْمِ بَلْ يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ بِذَلِكَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى وهو الِاسْتِحَاضَةُ حَيْثُ وُجِدَتْ إلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِالتَّخْصِيصِ وَذَهَبَ حُذَّاقُ الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ يَعُمُّ بِاللَّفْظِ لَا بِالْقِيَاسِ حتى إنَّهُمْ حَكَمُوا بِكَوْنِ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ يُنْسَخُ بها كما يُنْسَخُ بِالنُّصُوصِ وَالظَّوَاهِرِ مع مَنْعِهِمْ من النَّسْخِ بِالْقِيَاسِ ذَكَرَ هذا غَيْرُ وَاحِدٍ منهم الْقَاضِي أبو يَعْلَى وابن عَقِيلٍ وأبو الْخَطَّابِ وابن الزَّاغُونِيِّ وَغَيْرُهُمْ تَنْبِيهٌ إذَا عَلَّقَ غَيْرُ الشَّارِعِ حُكْمًا في وَاقِعَةٍ على عِلَّةٍ هذا بِالنِّسْبَةِ إلَى كَلَامِ الشَّارِعِ وَأَمَّا غَيْرُهُ لو قال وَلَهُ عَبِيدٌ أَعْتَقْتُ هذا الْعَبْدَ لِأَنَّهُ أَبْيَضُ فَلَا يُعْتَقُ الْبَاقُونَ قَالَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في تَعْلِيقِهِ في الْكَلَامِ على وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فَفَرَّقَ بين وُقُوعِ الْعِلَّةِ في كَلَامِ الشَّارِعِ حَيْثُ تَعُمُّ وَبَيْنَ وُقُوعِهَا في كَلَامِ غَيْرِهِ فَلَا تَعُمُّ قال وَلِذَلِكَ إذَا قال الشَّارِعُ لَا تَأْكُلْ الرُّءُوسَ وَجَبَ أَنْ لَا يَأْكُلَ ما وَقَعَ عليه اسْمُ الرَّأْسِ وَلَوْ قال غَيْرُهُ وَاَللَّهِ لَا أَكَلْتَ الرُّءُوسَ
____________________
(2/303)
انْصَرَفَ ذلك إلَى الْمَعْهُودِ انْتَهَى وَهَكَذَا رَأَيْت الْجَزْمَ بِهِ في كِتَابِ الدَّلَائِلِ لِأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ وَكَذَا الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى في بَابِ الْقِيَاسِ فقال الصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ إلَّا غَانِمًا لِقَوْلِهِ أَعْتَقْتُ غَانِمًا لِسَوَادِهِ وَإِنْ نَوَى عِتْقَ السُّودَانِ لِأَنَّهُ بَقِيَ في حَقِّ غَيْرِ غَانِمٍ مُجَرَّدُ السَّوَادِ وَالْإِرَادَةُ فَلَا تُؤْثَرُ انْتَهَى وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ في كِتَابِ الْأَيْمَانِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ له مَاءً من عَطَشٍ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ طَعَامِهِ وَلُبْسِ ثِيَابِهِ وَشُرْبِ الْمَاءِ من غَيْرِ عَطَشٍ وَإِنْ كان دَلَالَةُ الْمَفْهُومِ تَقْتَضِيهِ وَقَضِيَّةُ كَلَامِ جَمَاعَةٍ أَنَّهُ لَا فَرْقَ في الْعُمُومِ وَإِلَيْهِ صَارَ جَمَاعَةٌ من الْحَنَابِلَةِ فقال أبو الْخَطَّابِ لو قال لِوَكِيلِهِ أَعْتِقْ عَبْدِي لِأَنَّهُ أَسْوَدُ سَاغَ له أَنْ يُعْتِقَ كُلَّ عَبْدٍ له أَسْوَدَ وقال ابن عَقِيلٍ في الْفُنُونِ بَدِيهَتِي تَقْتَضِي تَعْدِيَةَ الْعِتْقِ إلَى كل أَسْوَدَ من عَبِيدِهِ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في بَابِ الْقِيَاسِ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قال الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ في وَقَائِعِ الْأَحْوَالِ مع قِيَامِ الِاحْتِمَالِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ في الْمَقَالِ وَعَلَيْهِ اُعْتُمِدَ في صِحَّةِ أَنْكِحَةِ الْكُفَّارِ وفي الْإِسْلَامِ على أَكْثَرَ من أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَغَيْرِ ذلك لِقَضِيَّةِ غَيْلَانَ حَيْثُ لم يَسْأَلْهُ عن كَيْفِيَّةِ وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ في الْجَمْعِ وَالتَّرْتِيبِ فَكَانَ إطْلَاقُ الْقَوْلِ دَالًّا على أَنَّهُ لَا فَرْقَ بين أَنْ تَقَعَ تِلْكَ الْعُقُودُ مَعًا أو على التَّرْتِيبِ وَاسْتَحْسَنَهُ منه محمد بن الْحَسَنِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فيها أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا وَعَلَيْهِ نَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّ اللَّفْظَ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ في جَمِيعِ مَحَامِلِ الْوَاقِعَةِ وَالثَّانِي أَنَّهُ مُجْمَلٌ فَيَبْقَى على الْوَقْفِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ ليس من أَقْسَامِ الْعُمُومِ بَلْ إنَّمَا يَكْفِي الْحُكْمُ فيه من حَالِهِ عليه السَّلَامُ لَا من دَلَالَةِ الْكَلَامِ وهو قَوْلُ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيِّ وَالرَّابِعُ اخْتِيَارُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَابْنِ الْقُشَيْرِيّ أَنَّهُ يَعُمُّ إذَا لم يَعْلَمْ عليه السَّلَامُ تَفَاصِيلَ الْوَاقِعَةِ أَمَّا إذَا عَلِمَ فَلَا يَعُمُّ وَكَأَنَّهُ قَيَّدَ الْمَذْهَبَ الْأَوَّلَ وَاعْتُرِضَ على ما قال بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ عليه السَّلَامُ عَرَفَ حَقِيقَةَ الْحَالِ في تِلْكَ الْوَاقِعَةِ وَلِأَجْلِ هذا حَكَى الشَّيْخُ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ أَنَّ بَعْضَهُمْ زَادَ في هذه الْقَاعِدَةِ فقال
____________________
(2/304)
حُكْمُ الشَّارِعِ الْمُطْلَقِ في وَاقِعَةٍ سُئِلَ عنها ولم تَقَعْ بَعْدُ عَامٌ في أَحْوَالِهَا وَكَذَلِكَ إنْ وَقَعَتْ ولم يَعْلَمْ الرَّسُولُ كَيْفَ وَقَعَتْ وَإِنْ عَلِمَ فَلَا عُمُومَ وَإِنْ الْتَبَسَ هل عَلِمَ أَمْ لَا فَالْوَقْفُ وَأَجَابَ الشَّيْخُ عن الِاعْتِرَاضِ الْمُوجِبِ لِلْوَقْفِ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُقُوعِ بِالْحَالَةِ الْمَخْصُوصَةِ فَيَعُودُ إلَى الْحَالَةِ التي لم تُعْلَمُ حَقِيقَةُ وُقُوعُهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْقَطْعَ وَهَذَا الذي قُلْنَا لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ فَيَتَوَجَّهُ السُّؤَالُ وَتَأَوَّلَ أبو حَنِيفَةَ الحديث على وُقُوعِ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَإِنْ وَقَعَ مُرَتَّبًا فإن الْأَرْبَعَ الْأُوَلَ تَصِحُّ وَيَبْطُلُ فِيمَا عَدَاهُ وَأَجَابَ الْإِمَامُ أبو الْمُظَفَّرِ بن السَّمْعَانِيِّ بِأَنَّ احْتِمَالَ الْمَعْرِفَةِ بِكَيْفِيَّةِ وُقُوعِ الْعَقْدِ من غَيْلَانَ وهو رَجُلٌ من ثَقِيفٍ وَفَدَ على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَزَوْجَاتِهِ في نِهَايَةِ الْبَعْدُ وَنَحْنُ إنَّمَا نَدَّعِي الْعُمُومَ في كل ما يَظْهَرُ فيه اسْتِفْهَامُ الْحَالِ وَيَظْهَرُ من الشَّارِعِ إطْلَاقُ الْجَوَابِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مُسْتَرْسِلًا على الْأَحْوَالِ كُلِّهَا قُلْت وَلَا سِيَّمَا وَالْحَالُ حَالُ بَيَانٍ بِحُدُوثِ عَهْدِ غَيْلَانَ بِالْإِسْلَامِ على أَنَّهُ قد وَرَدَ ما يَدْفَعُ هذا التَّأْوِيلَ وهو ما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِسَنَدِهِ عن عَمْرِو بن الْحَارِثِ عن نَوْفَلِ بن مُعَاوِيَةَ قال أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي خَمْسُ نِسْوَةٍ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال فَارِقْ وَاحِدَةً وَأَمْسِكْ أَرْبَعًا قال فَعُدْتُ إلَى أَقْدَمِهِنَّ عِنْدِي عَاقِرٌ مُنْذُ سِتِّينَ سَنَةً فَفَارَقْتُهَا فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ وَقَعَ مُرَتَّبًا وَالْجَوَابُ وَاحِدٌ وَأَجَابَ الْهِنْدِيُّ أَيْضًا بِأَنَّهُ ليس مُرَادُ الشَّافِعِيِّ احْتِمَالَ لَفْظِ الْحِكَايَةِ لِتِلْكَ الْحَالَةِ وَإِنْ فُرِضَ أَنَّ الْمَسْئُولَ عَالِمٌ بِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ غَيْرُ مُرَادَةٍ لِلسَّائِلِ إمَّا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْقَضِيَّةَ لم تَقَعْ على تِلْكَ الْحَالَةِ أو لِقَرِينَةٍ تَدُلُّ على أَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ غَيْرُ مُرَادَةٍ له بَلْ الْمُرَادُ منه احْتِمَالُ وُقُوعِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ في تِلْكَ الْحَالَةِ عِنْدَ الْمَسْئُولِ مع احْتِمَالِ اللَّفْظِ إيَّاهَا وَعِنْدَ ذلك لَا يَخْفَى أَنَّهُ يَسْقُطُ ما ذَكَرُوهُ من الِاحْتِمَالِ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وقد وَافَقَنَا أَهْلُ الرَّأْيِ على هذا في غُرَّةِ جَنِينِ الْحُرَّةِ
____________________
(2/305)
لِأَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَوْجَبَ فيه غُرَّةً عَبْدًا أو أَمَةً ولم يَسْأَلْ عنه هل كان ذَكَرًا أو أُنْثَى فلما تَرَكَ التَّفْصِيلَ فيه دَلَّ على التَّسْوِيَةِ فِيهِمَا انْتَهَى وَلِذَلِكَ اسْتَدَلُّوا لِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ في أَيَّامِ الْحَيْضِ لِلِاسْتِحَاضَةِ بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ التي كانت تَحِيضُهُنَّ من الشَّهْرِ فَلْتَتْرُكْ الصَّلَاةَ بِقَدْرِهَا قالوا فَأُطْلِقَ الْجَوَابُ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ من غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ عن أَحْوَالِ الدَّمِ من سَوَادٍ وَحُمْرَةٍ وَغَيْرِهِمَا فَدَلَّ هذا على اعْتِبَارِ الْعَادَةِ مُطْلَقًا وَتَقْدِيمِهِ على التَّمْيِيزِ وَأَصْحَابُنَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أبي حُبَيْشٍ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال لها إنَّ دَمَ الْحَيْضِ أَسْوَدُ يُعْرَفُ فإذا كان كَذَلِكَ فَأَمْسِكِي عن الصَّلَاةِ فَأُطْلِقَ اعْتِبَارُ التَّمْيِيزِ من غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ لها هل هِيَ ذَاكِرَةٌ لِعَادَتِهَا أَمْ لَا لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ وقد قَسَّمَ الْإِبْيَارِيُّ هذه إلَى أَقْسَامٍ أَحَدُهَا إنْ تَبَيَّنَ اطِّلَاعُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم على خُصُوصِ الْوَاقِعَةِ فَلَا رَيْبَ في أنها لَا يَثْبُتُ فيها مُقْتَضَى الْعُمُومِ ثَانِيهَا أَنْ لَا يَثْبُتَ بِطَرِيقٍ ما اسْتِفْهَامُ كَيْفِيَّةِ الْقَضِيَّةِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلَى أَقْسَامٍ وَالْحُكْمُ قد يَخْتَلِفُ بِحَسَبِهَا فَيُنَزَّلُ إطْلَاقُهُ الْجَوَابَ فيها مَنْزِلَةَ اللَّفْظِ الذي يَعُمُّ تِلْكَ الْأَقْسَامَ لِأَنَّهُ لو كان الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ حتى يَثْبُتَ تَارَةً وَلَا يَثْبُتَ أُخْرَى لَمَا صَحَّ لِمَنْ الْتَبَسَ عليه الْحَالُ أَنْ يُطْلِقَ الْحُكْمَ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْحَالَةُ وَاقِعَةً على وَجْهٍ لَا يَسْتَقِرُّ مَعَهَا الْحُكْمُ فَلَا بُدَّ من التَّعْمِيمِ على هذا التَّقْدِيرِ بِالْإِضَافَةِ إلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وفي كَلَامِهِ ما يَقْتَضِي الِاتِّفَاقَ على هذه الصُّورَةِ ثَالِثُهَا أَنْ يَسْأَلَ عن الْوَاقِعَةِ بِاعْتِبَارِ دُخُولِهَا الْوُجُودَ لَا بِاعْتِبَارِ وُقُوعِهَا كما إذَا سُئِلَ عَمَّنْ جَامَعَ في نَهَارِ رَمَضَانَ فيقول فيه كَذَا فَهَذَا يَقْتَضِي اسْتِرْسَالَ الْحُكْمِ على جَمِيعِ الْأَحْوَالِ لِأَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عنها على الْإِبْهَامِ ولم يُفَصِّلْ الْجَوَابَ كان عُمُومُهُ مُسْتَرْسِلًا على كل أَحْوَالِهِ رَابِعُهَا أَنْ تَكُونَ الْوَاقِعَةُ الْمَسْئُولُ عنها حَاصِلَةً في الْوُجُودِ وَيُطْلَقُ السُّؤَالُ عنها فَيُجِيبُ أَيْضًا كَذَلِكَ فإن الِالْتِفَاتَ إلَى الْقَيْدِ الْوُجُودِيِّ يَمْنَعُ الْقَضَاءَ على الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَالِالْتِفَاتُ إلَى الْإِطْلَاقِ في السُّؤَالِ يَقْتَضِي اسْتِوَاءَ الْأَحْوَالِ في غَرَضِ الْمُجِيبِ فَالْتَفَتَ الشَّافِعِيُّ إلَى هذا الْوَجْهِ وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِ الْإِرْشَادِ وَإِزَالَةِ الْإِشْكَالِ
____________________
(2/306)
وَحُصُولِ تَمَامِ الْبَيَانِ وأبو حَنِيفَةَ نَظَرَ إلَى احْتِمَالِ خُصُوصِ الْوَاقِعَةِ لِأَنَّهَا لم تَقَعْ في الْوُجُودِ إلَّا خَاصَّةً فقال احْتِمَالُ عِلْمِ الشَّارِعِ بها يَمْنَعُ التَّعْمِيمَ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ إنَّ هذه الْقَاعِدَةَ مَقْصُورَةٌ بِمَا إذْ وُجِدَ اللَّفْظُ جَوَابًا عن السُّؤَالِ فَأَمَّا التَّقْرِيرُ عِنْدَ السُّؤَالِ فَهَلْ يُنَزَّلَ مَنْزِلَةَ اللَّفْظِ حتى يَعُمَّ أَحْوَالَ السُّؤَالِ في الْجَوَابِ وَغَيْرِهِ لم يَتَعَرَّضُوا له وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ الْأَقْرَبُ تَنْزِيلُهُ طَرْدًا لِلْقَاعِدَةِ وَلِإِقَامَةِ الْإِقْرَارِ مَقَامَ الْحُكْمِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ إذْ لَا يَجُوزُ تَقْرِيرُهُ لِغَيْرِهِ على أَمْرٍ بَاطِلٍ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْقَوْلِ الْمُبِينِ لِلْحُكْمِ فَيَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ في الْعُمُومِ فَإِنْ قِيلَ التَّقْرِيرُ لَيْسَتْ دَلَالَتُهُ لَفْظِيَّةً وَالْعُمُومُ من عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ وَلِهَذَا قال الْغَزَالِيُّ لَا عُمُومَ لِلْمَفْهُومِ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ لَيْسَتْ لَفْظِيَّةً فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَنَا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ بِمَعْنَى شُمُولِ الْحُكْمِ لِلْأَحْوَالِ فَلَا يَجْعَلُهُ حَقِيقَةً في الْعُمُومِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ حَدِيثُ هو الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ فإن السَّائِلَ قال لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَمَعَنَا الْقَلِيلُ من الْمَاءِ فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا الحديث فَاسْتَدَلَّ بِهِ على أَنَّ إعْدَادَ الْمَاءِ الْكَافِي لِلطَّهَارَةِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ مع الْقُدْرَةِ عليه غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ الْقَلِيلَ من الْمَاءِ وهو كَالْعَامِّ في حَالَاتِ حَمْلِهِمْ بِالنِّسْبَةِ على الْقُدْرَةِ عليه وَالْعَجْزِ عنه لِضِيقِ مَرَاكِبِهِمْ وَغَيْرِ ذلك بِالنِّسْبَةِ إلَى ما قَبْلَهُ وما بَعْدَهُ أَيْضًا وقد أَقَرَّهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ولم يُنْكِرْ عليه فَيَكُونُ ذلك دَالًّا على جَوَازِهِ في هذه الْأَحْوَالِ كما يَدُلُّ عليه اللَّفْظُ الْوَارِدُ في الْأَمْثِلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مع تَرْكِ الِاسْتِفْصَالِ الثَّانِي أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ مع قِيَامِ الِاحْتِمَالِ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالِاحْتِمَالِ كَيْفَ كان مَرْجُوحًا وَغَيْرَهُ فَيَحْصُلُ التَّعْمِيمُ فيه وفي غَيْرِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْمَرْجُوحَ لَا يَدْخُلُ وَحِينَئِذٍ فَيَحْصُلُ التَّصْوِيرُ بِالِاحْتِمَالَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ وَالْمُتَسَاوِيَةِ في الْإِطْلَاقِ قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وقال جَدُّهُ الْمُقْتَرِحُ لم يُرِدْ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ مُطْلَقَ الِاحْتِمَالِ حتى يَنْدَرِجَ فيه التَّجْوِيزُ الْعَقْلِيُّ وَإِنَّمَا يُرِيدُ احْتِمَالًا يُضَافُ إلَى أَمْرٍ وَاقِعٍ لِأَنَّهُ لو اُعْتُبِرَ التَّجْوِيزُ الْعَقْلِيُّ
____________________
(2/307)
لَأَدَّى إلَى رَدِّ مُعْظَمِ الْوَقَائِعِ التي حَكَمَ فيها الشَّارِعُ إذْ ما من وَاقِعَةٍ إلَّا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فيها تَجْوِيزٌ عَقْلِيٌّ وَيَشْهَدُ لِلْأَوَّلِ قَوْلُهُ في الْأُمِّ في مُنَاظَرَةٍ له قَلَّ شَيْءٌ إلَّا وَيَطْرُقُهُ الِاحْتِمَالُ وَلَكِنْ الْكَلَامُ على ظَاهِرِهِ حتى تَقُومَ دَلَالَةٌ على أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ فَأَبَانَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّهُ لَا نَظَرَ إلَى احْتِمَالٍ يُخَالِفُ ظَاهِرَةَ الْكَلَامِ وإذا ثَبَتَ أَنَّ تَرْكَ الِاسْتِفْصَالِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فَالْعُمُومُ يُتَمَسَّكُ بِهِ من غَيْرِ نَظَرٍ إلَى احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ وَإِمْكَانِ إرَادَتِهِ كَسَائِرِ صِيَغِ الْعُمُومِ بَقِيَ أَنَّ احْتِمَالَ عِلْمِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في صُورَةِ الْحَالِ ما يَقْتَضِي خُرُوجَ الْجَوَابِ على ذلك هل يَكُونُ قَادِحًا في التَّعْمِيمِ قال الْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ نعم وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ يُخَالِفُهُ وهو الصَّوَابُ لِمَا ذَكَرْنَا من أَنَّ التَّمَسُّكَ بِلَفْظِهِ وَلَفْظُهُ مع تَرْكِ الِاسْتِفْصَالِ بِمَنْزِلَةِ التَّنْصِيصِ على الْعُمُومِ فَلَا يُعْدَلُ عنه بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ الثَّالِثُ أَنَّهُ قد اسْتَشْكَلَ هذه الْقَاعِدَةَ بِمَا نُقِلَ عن الشَّافِعِيِّ أَيْضًا أَنَّ قَضَايَا الْأَحْوَالِ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ كَسَاهَا ثَوْبَ الْإِجْمَالِ وَسَقَطَ بها الِاسْتِدْلَال قال الْقَرَافِيُّ سَأَلْتُ بَعْضَ فُضَلَاءِ الشَّافِعِيَّةِ عن ذلك فقال يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ في الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ جَمَعَ الْقَرَافِيُّ بَيْنَهُمَا بِطَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ مُرَادَهُ بِالِاحْتِمَالِ الْمَانِعِ من الِاسْتِدْلَالِ الِاحْتِمَالُ الْمُسَاوِي أو الْقَرِيبُ منه وَالْمُرَادُ بِالِاحْتِمَالِ الذي لَا يَقْدَحُ الِاحْتِمَالُ الْمَرْجُوحُ فإنه لَا عِبْرَةَ بِهِ وَلَا يَقْدَحُ في صِحَّةِ الدَّلَالَةِ فَلَا يَصِيرُ اللَّفْظُ بِهِ مُجْمَلًا إجْمَاعًا لِأَنَّ الظَّوَاهِرَ كُلَّهَا كَذَلِكَ لَا تَخْلُو عن احْتِمَالٍ لَكِنَّهُ لَمَّا كان مَرْجُوحًا لم يَقْدَحْ في دَلَالَتِهَا وَالثَّانِي أَنَّ الِاحْتِمَالَ تَارَةً يَكُونُ في دَلِيلِ الْحُكْمِ وَتَارَةً في مَحَلِّ الْحُكْمِ فَالْأَوَّلُ هو الذي يَسْقُطُ بِهِ الِاسْتِدْلَال دُونَ الثَّانِي وَمَثَّلَ الْأَوَّلَ بِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سِيقَ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ في كل شَيْءٍ حتى الْخَضْرَاوَاتِ كما يقول بِهِ أبو حَنِيفَةَ وَيَكُونُ الْعُمُومُ مَقْصُودًا له لِأَنَّهُ أتى بِلَفْظٍ دَالٍّ عليه وهو ما يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لم يَقْصِدْهُ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّهُ إذَا خَرَجَ اللَّفْظُ لِبَيَانِ مَعْنًى لَا يُحْتَجُّ بِهِ في غَيْرِهِ وَهَذَا إنَّمَا سِيقَ لِبَيَانِ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ دُونَ الْوَاجِبِ فيه فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ على الْعُمُومِ في الْوَاجِبِ فيه وإذا
____________________
(2/308)
تَعَارَضَتْ الِاحْتِمَالَاتُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِهِ على وُجُوبِ الزَّكَاةِ في الْخَضْرَاوَاتِ قال وَمِثْلُهُ الْمُحْرِمُ الذي وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ فَيُحْتَمَلُ التَّخْصِيصُ بِهِ وَيُحْتَمَلُ الْعُمُومُ في غَيْرِهِ وَلَيْسَ في اللَّفْظِ ما يُرَجِّحُ أَحَدَهُمَا فَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلَال على التَّعْمِيمِ في حَقِّ كل مُحْرِمٍ هذا كَلَامُهُ وَهَذَا الْجَمْعُ يُخَالِفُ طَرِيقَةَ الشَّافِعِيِّ يقول الشَّافِعِيُّ يقول بِالْعُمُومِ في مِثْلِ هذه الْحَالَةِ بِالْقِيَاسِ كما سَبَقَ وَلَيْسَ في هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ ما يَبِينُ بِهِ الْفَرْقُ بين الْمَقَامَيْنِ لِأَنَّ غَالِبَ وَقَائِعِ الْأَعْيَانِ الشَّكُّ وَاقِعٌ فيها في مَحَلِّ الْحُكْمِ وَالصَّوَابُ في الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ما ذَكَرَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْأُولَى في تَرْكِ اسْتِفْصَالِ الشَّارِعِ الِاسْتِدْلَال فيها بِقَوْلِ الشَّارِعِ وَعُمُومٌ في الْخِطَابِ الْوَارِدِ على السُّؤَالِ عن الْوَاقِعَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَحْوَالِ وَالْعِبَارَاتُ الثَّانِيَةُ في الْفِعْلِ الْمُحْتَمَلِ وُقُوعُهُ على وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ فَهِيَ في كَوْنِ الْوَاقِعَةِ نَفْسِهَا لم يُفَصَّلْ وَهِيَ تَحْتَمِلُ وُجُوهًا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِهَا فَلَا عُمُومَ له كَقَوْلِهِ صلى في الْكَعْبَةِ أو فَعَلَ فِعْلًا لِتَطَرُّقِ الِاحْتِمَالِ إلَى الْأَفْعَالِ وَالْوَاقِعَةُ نَفْسُهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ وَكَلَامُ الشَّارِعِ حُجَّةٌ لَا احْتِمَالَ فيه الرَّابِعُ أَنَّ الْمُرَادَ بِسُقُوطِ الِاسْتِدْلَالِ في وَقَائِعِ الْأَعْيَانِ إنَّمَا هو بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعُمُومِ إلَى أَفْرَادِ الْوَاقِعَةِ لَا سُقُوطُهُ مُطْلَقًا فإن التَّمَسُّكَ بها في صُورَةٍ ما مِمَّا يُحْتَمَلُ وُقُوعُهَا عليه غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَهَكَذَا الْحَدِيثُ أَنَّهُ عليه السَّلَامُ جَمَعَ بين الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ من غَيْرِ مَرَضٍ وَلَا سَفَرٍ فإن هذا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كان في مَطَرٍ وَأَنَّهُ كان في مَرَضٍ وَلَا عُمُومَ له في جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَلِهَذَا حَمَلُوهُ على الْبَعْضِ وهو الْمَطَرُ لِمُرَجِّحِ لِلتَّعْيِينِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُخَرَّجَ لِلشَّافِعِيِّ في هذه الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ من اخْتِلَافِ قَوْلِهِ إنَّ الْمُعْتَادَةَ الْمُمَيَّزَةَ هل يُحْكَمُ لها بِالتَّمَيُّزِ أو تُرَدُّ إلَى الْعَادَةِ كَغَيْرِهَا وَسَبَبُهُ قَوْلُهُ عليه السَّلَامُ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أبي حُبَيْشٍ دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ التي كُنْتِ تَحِيضِينَ فيها ثُمَّ اغْتَسِلِي
____________________
(2/309)
وَصَلِّي فَرَدَّهَا إلَى الْعَادَةِ ولم يَسْأَلْهَا هل هِيَ مُمَيِّزَةٌ أَمْ لَا فَدَلَّ ذلك على أَنَّ الْحُكْمَ لِلْعَادَةِ مُطْلَقًا كما هو أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لَكِنْ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يُحْكَمُ بِالتَّمْيِيزِ وقد تَعَاكَسَ الشَّافِعِيُّ وأبو حَنِيفَةَ في هذه الْمَسْأَلَةِ مع مَسْأَلَةِ غَيْلَانَ فإن أَبَا حَنِيفَةَ حَمَلَ حَدِيثَ غَيْلَانَ على التَّعَاقُبِ وَالشَّافِعِيُّ حَمَلَهُ على الْعُمُومِ وأبو حَنِيفَةَ حَمَلَ هذا الحديث على الْعُمُومِ وَالشَّافِعِيُّ حَمَلَهُ على أنها كانت مُمَيِّزَةً بِحَدِيثٍ وَرَدَ فيه سَبْقُ ذِكْرِهِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ في أَنَّ الْمُقْتَضَى هل هو عَامٌّ أَمْ لَا وَلَا بُدَّ من تَحْرِيرِ تَصْوِيرِهِ قبل نَصْبِ الْخِلَافِ فَنَقُولُ الْمُقْتَضِي بِكَسْرِ الضَّادِ هو اللَّفْظُ الطَّالِبُ لِلْإِضْمَارِ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا بِإِضْمَارِ شَيْءٍ وَهُنَاكَ مُضْمَرَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ فَهَلْ له عُمُومٌ في جَمِيعِهَا أو لَا يَعُمُّ بَلْ يُكْتَفَى بِوَاحِدٍ منها وَأَمَّا الْمُقْتَضَى بِالْفَتْحِ فَهُوَ ذلك الْمُضْمَرِ نَفْسُهُ هل نُقَدِّرُهُ عَامًّا أَمْ نَكْتَفِي بِخَاصٍّ منه إذَا عَرَفْتَ هذا فَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ في اللُّمَعِ وَشَرْحِهَا وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ أَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا هو في الْقِسْمِ الثَّانِي حَيْثُ قَالَا الْخِطَابُ الذي يَفْتَقِرُ إلَى الْإِضْمَارِ لَا يَجُوزُ دَعْوَى الْعُمُومِ في إضْمَارِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فإنه يَفْتَقِرُ إلَى إضْمَارٍ فَبَعْضُهُمْ يُضْمِرُ وَقْتُ إحْرَامِ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ وَبَعْضُهُمْ يُضْمِرُ وَقْتُ إفْعَالِ الْحَجِّ وَالْحَمْلُ على الْعُمُومِ لَا يَجُوزُ بَلْ يُحْمَلُ على ما يَدُلُّ الدَّلِيلُ على أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ لِأَنَّ الْعُمُومَ من صِفَاتِ النُّطْقِ فَلَا يَجُوزُ دَعْوَاهُ في الْمَعَانِي قَالَا وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ دَعْوَى الْعُمُومِ في لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا في الْمَسْجِدِ ولا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ في نَفْيِ الْفَضِيلَةِ وَمِنْ الْفُقَهَاءِ من يَحْمِلُهُ على الْعُمُومِ في كل ما يَحْتَمِلُهُ لِأَنَّهُ أَعَمُّ فَائِدَةً وَمِنْهُمْ من يَحْمِلُهُ على الْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فيه لِأَنَّ ما سِوَاهُ مَعْلُومٌ بِالْإِجْمَاعِ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَهَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ لِأَنَّ الْحَمْلَ على الْجَمِيعِ لَا يَجُوزُ وَلَيْسَ هُنَاكَ لَفْظٌ يَقْتَضِي الْعُمُومَ وَلَا يُحْمَلُ على مَوْضِعِ الْخِلَافِ
____________________
(2/310)
لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ انْتَهَى وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَوْضِعَ النِّزَاعِ إنَّمَا هو في الْمُضْمَرِ لَا في الْمُضْمَرِ له فإن الْمُضْمَرَ له مَنْطُوقٌ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وأبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ في التَّقْوِيمِ وَصَاحِبُ اللُّبَابِ من الْحَنَفِيَّةِ فَقَالُوا الْمُقْتَضَى ما اقْتَضَاهُ النَّصُّ وَأَوْجَبَهُ شَرْطًا لِتَصْحِيحِ الْكَلَامِ وَالنَّصُّ مُقْتَضٍ له كَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ ولم يَزِدْ غير ذلك لِأَنَّهُ غَيْرُ مَرْفُوعٍ بَلْ رَافِعٌ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمُقْتَضَى الْكَلَامِ الْحُكْمُ أو الْإِثْمُ أو هُمَا جميعا فَالشَّافِعِيُّ أَثْبَتَ لِلْمُقْتَضِي عُمُومًا وَعِنْدَنَا لَا عُمُومَ له لِأَنَّ دَلَالَتَهُ ضَرُورِيَّةٌ لِلْحَاجَةِ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ ما يَصِحُّ الْمَذْكُورُ بِهِ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ الْمُقْتَضَى كَالْمَنْصُوصِ في احْتِمَالِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ الْمُقْتَضَى عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ النَّصِّ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فَكَانَ مَعْدُومًا حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يُجْعَلُ مَوْجُودًا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وما ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وقد أُرِيدَ بِهِ رَفْعُ الْإِثْمِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يُزَادُ عليه ثُمَّ فَرَّعَ السَّرَخْسِيُّ على الْخِلَافِ الْمَسْأَلَةَ السَّابِقَةَ وَهِيَ ما لو قال إنْ أَكَلْتُ فَعَبْدِي حُرٌّ وَنَوَى طَعَامًا قال فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ لِأَنَّ الْأَكْلَ يَقْتَضِي مَأْكُولًا وَذَلِكَ كَالْمَنْصُوصِ عليه فَكَأَنَّهُ قال إنْ أَكَلْتُ طَعَامًا فلما كان لِلْمُقْتَضَى عُمُومٌ عِنْدَهُ عُمِلَ بِنِيَّةِ التَّخْصِيصِ وَعِنْدَنَا لَا يُعْمَلُ لِأَنَّهُ لَا عُمُومَ لِلْمُقْتَضَى وَنِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيمَا لَا عُمُومَ له لَاغِيَةٌ انْتَهَى وَجَعَلَ غَيْرُهُ الحديث من بَابِ الْحَذْفِ لَا من بَابِ الِاقْتِضَاءِ فَكَانَ تَقْدِيرُ الْحُكْمِ وَالْإِثْمِ من بَابِ الِاشْتِرَاكِ وَالْمُشْتَرَكُ لَا عُمُومَ له وَكَذَا قَوْلُهُ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ في الْحَذْفِ يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ من الْمَنْطُوقِ إلَى الْمَحْذُوفِ وفي الْمُقْتَضَى لَا يَنْتَقِلُ من الْمُقْتَضَى شَيْءٌ بَلْ يُقَدَّرُ قَبْلَهُ ما يُصَحِّحُهُ قالوا وَنَظِيرُهُ الْمَيْتَةُ أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ فَيَقْتَصِرُ على سَدِّ الرَّمَقِ وَلَا يَتَنَاوَلُ ما وَرَاءَهُ من الشِّبَعِ بِخِلَافِ الْمَنْصُوصِ فإنه عَامِلٌ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُذَكَّى يَعُمُّ سَائِرَ جِهَاتِ الِانْتِفَاعِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُخَرَّجُ من كَلَامِ الشَّافِعِيِّ في هذه الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ فإنه قال في الْأُمِّ في قَوْله تَعَالَى فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو بِهِ أَذًى من رَأْسِهِ الْآيَةَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا فَتَطَيَّبَ أو لَبِسَ أو أَخَذَ ظُفْرَهُ لِأَجْلِ مَرَضِهِ أو بِهِ أَذًى من رَأْسِهِ فَحَلَقَهُ فَفِدْيَةٌ فَقُدِّرَ جَمِيعُ الْمُضْمَرَاتِ وقال في الْإِمْلَاءِ ليس هذا
____________________
(2/311)
مُضْمَرًا في الْآيَةِ وَإِنَّمَا تَضَمَّنَهُ حَلْقُ الرَّأْسِ فَقَطْ وَالْبَاقِي مَقِيسٌ عليه فَقَدَّرَهُ خَاصًّا وقد حَكَى الْبَصِيرُ الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي والحاصل أَنَّ في الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا وَحَكَاهُ الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ عن شَرْحِ اللُّمَعِ لِلشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ أَنَّهُ عَامٌّ وَبِهِ قال جَمَاعَةٌ من الْحَنَفِيَّةِ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ عن أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَصَحَّحَهُ وَالنَّوَوِيُّ في الرَّوْضَةِ في كِتَابِ الطَّلَاقِ فقال الْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ النَّاسِي لِأَنَّ دَلَالَةَ الِاقْتِضَاءِ عَامَّةٌ يَعْنِي من قَوْلِهِ رُفِعَ عن أُمَّتِي فإنه يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ حُكْمُ الْخَطَأِ أو إثْمُهُ أو كُلٌّ مِنْهُمَا جميعا وَقَاعِدَةُ الشَّافِعِيِّ تَقْتَضِي التَّعْمِيمَ وَلِهَذَا كان كَلَامُ النَّاسِي عِنْدَهُ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وأبو حَنِيفَةَ أَبْطَلَهَا بِهِ لِأَنَّهُ يَرَى عَدَمَ عُمُومِهِ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا عُمُومَ له في كل ما يَصِحُّ التَّقْدِيرُ بِهِ وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالْغَزَالِيُّ وابن السَّمْعَانِيِّ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَالْآمِدِيَّ وابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمْ وقال الشَّيْخُ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ إنَّهُ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ هِيَ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْإِضْمَارِ وَهِيَ الْمُنْدَفِعَةُ بِإِضْمَارٍ وَاحِدٍ وَتَكْثِيرُ الْإِضْمَارِ تَكْثِيرٌ لِمُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ ثُمَّ قال الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ لِلْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ ليس إضْمَارُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ أَوْلَى من الْآخَرِ فَإِمَّا أَنْ لَا يُضْمَرَ حُكْمٌ أَصْلًا وهو غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ تَعْطِيلُ دَلَالَةِ اللَّفْظِ أو يُضْمَرُ الْكُلُّ وهو الْمَطْلُوبُ وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ هذا وَأَجَابَ عنه بِأَنَّ قَوْلَهُمْ ليس إضْمَارُ الْبَعْضِ أَوْلَى من الْبَعْضِ إنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لو قُلْنَا بِإِضْمَارِ حُكْمٍ مُعَيَّنٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إضْمَارُ حُكْمٍ ما وَالتَّعْيِينُ إلَى الشَّارِعِ ثُمَّ أَوْرَدَ عليه أَنَّهُ يَلْزَمُ منه الْإِجْمَالُ فَأَجَابَ بِأَنَّ إضْمَارَ الْكُلِّ يَلْزَمُ منه تَكْثِيرُ مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَعْنِي من الْإِجْمَالِ وَإِضْمَارِ الْكُلِّ خِلَافُ الْأَصْلِ وإذا قُلْنَا بِأَنَّهُ ليس بِعَامٍّ فَهَلْ هو مُجْمَلٌ أَمْ لَا قَوْلَانِ وَإِذْ قُلْنَا ليس بِمُجْمَلٍ فَقِيلَ يُصْرَفُ إطْلَاقُهُ في كل عَيْنٍ إلَى الْمَقْصُودِ اللَّائِقِ بِهِ حَكَاهُ ابن بَرْهَانٍ وَقِيلَ يُضْمَرُ الْمَوْضِعُ الْمُخْتَلَفُ فيه لِأَنَّ الْمُجْمَعَ عليه مُسْتَغْنٍ عن الدَّلِيلِ حَكَاهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وقال الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ إنْ قُلْنَا الْمُقْتَضَى له عُمُومٌ أُضْمِرَ الْكُلُّ وَإِنْ قُلْنَا لَا عُمُومَ له فَهَلْ يُضْمَرُ ما يُفْهَمُ من اللَّفْظِ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ قبل الشَّرْعِ أو يُضْمَرُ حُكْمًا من غَيْرِ تَعَيُّنٍ وَتَعْيِينُهُ إلَى الْمُجْتَهِدِ وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ وَالثَّانِي اخْتِيَارُ الْآمِدِيَّ وَالثَّالِثُ التَّوَقُّفُ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ الْآمِدِيَّ آخِرًا لِتَعَارُضِ الْمَحْذُورَيْنِ كَثْرَةُ
____________________
(2/312)
الْإِضْمَارِ وَالْإِجْمَالُ إذَا قِيلَ بِإِضْمَارِ حُكْمٍ وَأَمَّا ابن الْحَاجِبِ فإنه قال الْتِزَامُ الْإِجْمَالِ أَقْرَبُ من مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ بِتَكْثِيرِ الْإِضْمَارِ وَهَذَا بِعَيْنِهِ هو اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ في مِثْلِ قَوْلِهِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ أَنْ تَكُونَ مُجْمَلَةً وقد صَرَّحَ ابن الْحَاجِبِ هُنَاكَ بِمُخَالَفَتِهِ وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ في بَابِ الْمُجْمَلِ بِأَنَّ الْتِزَامَ مَحْذُورِ الْإِضْمَارِ الْكَثِيرِ أَوْلَى من الْتِزَامِ مَحْذُورِ الْإِجْمَالِ في اللَّفْظِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْإِضْمَارَ في اللُّغَةِ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا من اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ وَلَوْلَا أَنَّ الْمَحْظُورَ في الْإِضْمَارِ أَقَلُّ ما كان اسْتِعْمَالُهُ أَكْثَرَ الثَّانِي أَنَّهُ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ على وُجُودِ الْإِضْمَارِ في اللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ وَاخْتَلَفُوا في جَوَازِ الْإِجْمَالِ فِيهِمَا الثَّالِثُ أَنَّهُ عليه السَّلَامُ قال لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عليهم الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا وَذَلِكَ يَدُلُّ على إضْمَارِ جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشُّحُومِ في التَّحْرِيمِ وَإِلَّا لَمَا أَلْزَمَهُمْ الذَّمُّ بِبَيْعِهَا هذا كُلُّهُ إذَا كانت الْمُقَدَّرَاتُ على حَدٍّ وَاحِدٍ في الدَّلَالَةِ أَمَّا إذَا كان بَعْضُهَا أَعَمَّ من غَيْرِهِ فَاخْتَارَ الْقَرَافِيُّ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ إضْمَارُ الْأَعَمِّ لِمَا فيه من زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ وَتَكْثِيرِهَا مع انْدِفَاعِ الْمَحْذُورِ الذي هو تَكْثِيرُ الْإِضْمَارِ وَقَرَّرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ فقال وَهُنَا وَجْهٌ يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ بِهِ مَقْصُودُ من أَرَادَ التَّعْمِيمَ وهو أَنْ يُضْمِرَ شيئا وَاحِدًا مَدْلُولُ ذلك مُقْتَضٍ لِلْعُمُومِ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ من الْعُمُومِ مع عَدَمِ تَعَدُّدِ الْمُضْمَرِ مِثْلُ أَنْ يُضْمِرَ في قَوْلِهِ رُفِعَ عن أُمَّتِي الْحُكْمُ فَيَعُمُّ الْأَحْكَامَ مع غَيْرِ تَعَدُّدٍ في الْمُضْمَرِ انْتَهَى وَقَدَّرَ فَخْرُ الدِّينِ في تَفْسِيرِهِ في قَوْله تَعَالَى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ التَّصَرُّفَ في الْمَيْتَةِ لِيَعُمَّ تَحْرِيمَ الْأَكْلِ وَالْبَيْعِ وَالْمُلَابَسَةِ وَغَيْرِ ذلك
____________________
(2/313)
تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ أَنَّ الصُّوَرَ في الْمُقَدَّرَاتِ ثَلَاثٌ أَحَدُهَا أَنْ تَتَسَاوَى وَلَا يَظْهَرُ في وَاحِدٍ منها أَنَّهُ أَرْجَحُ فَهَلْ هو عَامٌّ أو مُجْمَلٌ قَوْلَانِ أَرْجَحُهُمَا الثَّانِي ثَانِيهِمَا أَنْ يَتَرَجَّحَ بَعْضُهَا لَا بِدَلِيلٍ من خَارِجٍ بَلْ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَى الْحَقِيقَةِ مِثْلُ لَا صِيَامَ لِمَنْ لم يُبَيِّتْ الصِّيَامَ وَلَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَأَصْحَابُنَا يُقَدِّرُونَ وَاحِدًا ثُمَّ يُرَجِّحُونَ تَقْدِيرَ ما كان أَقْرَبَ إلَى نَفْيِ الْحَقِيقَةِ وهو الْجَوَازُ مَثَلًا سَوَاءٌ كان أَعَمَّ من غَيْرِهِ أَمْ لَا وَالْخَصْمُ يُقَدِّرُ الْكُلَّ ثُمَّ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ يقول هُنَا إنَّ الْخَصْمَ لَا يَنْبَغِي له أَنْ يُقَدِّرَ الْكُلَّ إلَّا إذَا لم يُنَافِ بَعْضُهَا بَعْضًا فَإِنْ تَنَافَيَا وَارْتَكَبَ تَقْدِيرَ الْكُلِّ فَقَدْ أَسَاءَ مِثْلُ لَا صِيَامَ فإن تَقْدِيرَ الْكَمَالِ يُنَافِي تَقْدِيرَ الصِّحَّةِ إذْ نَفْيُ الْكَمَالِ منهم إثْبَاتُ الصِّحَّةِ فَلَا يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ مع تَقْدِيرِ نَفْيِ الصِّحَّةِ معه وَوَافَقَهُ على ذلك ابن السَّمْعَانِيِّ فقال لَا يَجُوزُ انْتِفَاءُ الْفَضِيلَةِ مع انْتِفَاءِ الْجَوَازِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ من وُجُودِ الْجَوَازِ فَيُتَصَوَّرُ انْتِفَاءُ الْفَضِيلَةِ وَجَرَى على ذلك ابن دَقِيقِ الْعِيدِ فإنه قال وَالْخِلَافُ في هذا إنَّمَا يُمْكِنُ فِيمَا لَا تَنَافِيَ بين مَضْمُونِهِ وَثَالِثُهَا أَنْ يَظْهَرَ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ بِدَلِيلٍ مُسْتَفَادٍ من خَارِجٍ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَ هُنَا كما قَالَهُ ابن الْحَاجِبِ بَلْ يُقَدَّرُ ما ظَهَرَ فَإِنْ كان عَامًّا فَهُوَ عَامٌّ وَإِلَّا فَلَا فَالْعَامُّ كَقَوْلِهِ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ أَيْ وَقْتُ الْحَجِّ وَالْخَاصُّ كَقَوْلِهِ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ
____________________
(2/314)
أَيْ لَا تَجِبُ فإن الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ على جَوَازِهَا وَصَرَّحَ الْقَرَافِيُّ بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا تَعَيَّنَ أَحَدُهُمَا بِدَلِيلٍ وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ عَامٌّ كما يقول الشَّافِعِيُّ في الْجَمْعِ بين الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مع أَنَّ الْحَقِيقَةَ قد تَعَيَّنَتْ الثَّانِي أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ قالوا إذَا تَعَيَّنَ لِلْمُقْتَضَى أَحَدُ الْمُضْمَرَاتِ كان كَظُهُورِهِ في اللَّفْظِ وَرَدُّوا ادِّعَاءَ الْكَرْخِيِّ الْإِجْمَالَ فإن الذي يَسْبِقُ إلَى الْفَهْمِ من تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا وَمِنْ تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ تَحْرِيمُ وَطْئِهِنَّ وإذا كان كَذَلِكَ كان كَالْمَلْفُوظِ بِهِ فَلَا إجْمَالَ وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ على قَاعِدَةِ الشَّافِعِيِّ فإن تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ عِنْدَهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَكْلِ بَلْ يَحْرُمُ مُلَابَسَتُهَا في الصَّلَاةِ وَبَيْعُهَا وَغَيْرُ ذلك إلَّا ما خَرَجَ بِدَلِيلٍ كَالْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ ولم يُعَدَّهُ لِلشَّعْرِ لِأَنَّ الدِّبَاغَ لَا يُؤَثِّرُ فيه فَنَجَاسَتُهُ ثَابِتَةٌ عِنْدَهُ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْآمِدِيُّ في قَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ الحديث إلَّا أَنْ يُقَرِّرَ ذلك بِطَرِيقٍ أُخْرَى وهو أَنَّ تَحْرِيمَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ ظَاهِرٌ في نَجَاسَتِهَا وإذا تَنَجَّسَتْ بِالْمَوْتِ لَزِمَ من النَّجَاسَةِ بُطْلَانُ الْبَيْعِ وَعَدَمُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ في شَيْءٍ منها إلَّا ما طَهُرَ بِالدِّبَاغِ فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ نَاشِئَةٌ عن النَّجَاسَةِ الْمَأْخُوذَةِ من تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَلَيْسَ في اللَّفْظِ إجْمَالٌ وَلَا تَكْثِيرُ إضْمَارٍ وَهَذَا تَقْرِيرٌ حَسَنٌ ولم يَسْلُكْ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ في تَفْسِيرِهِ هذه الطَّرِيقَةَ بَلْ قَدَّرَ إنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ التَّصَرُّفَ في الْمَيْتَةِ لِيُفِيدَ عُمُومَ التَّصَرُّفِ كَالْأَكْلِ وَالْبَيْعِ وَالْمُلَابَسَاتِ كما هو مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وقال إنَّهُ الْمُتَعَارَفُ من تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ لَا تَحْرِيمِ أَكْلِهَا وفي هذا الْكَلَامِ ضَعْفٌ لَا يَخْفَى وهو خِلَافُ ما قَرَّرَهُ في الْمَحْصُولِ كما مَرَّ وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ إنَّمَا حُرِّمَ من الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا دَلِيلُ انْصِرَافِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ إلَى أَكْلِهَا وَلَا يَلْزَمُ منه عَدَمُ تَحْرِيمِ الْمُلَابَسَةِ لِمَا مَرَّ أَنَّ تَحْرِيمَ الْأَكْلِ ظَاهِرٌ في النَّجَاسَةِ وهو مَعْنًى مُنَاسِبٌ يَصْلُحُ لِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ وَالنَّجَاسَةِ عليه لِلْمَنْعِ بِمَا ذَكَرَهُ
____________________
(2/315)
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَلَامَ في هذه الْمَسْأَلَةِ مَفْرُوضٌ فِيمَا إذَا لم يَقُمْ على تَعْيِينِ أَحَدِ الْمُقَدَّرَيْنِ دَلِيلٌ أَمَّا إذَا اقْتَرَنَ بِاللَّفْظِ قَرِينَةٌ تُعَيِّنُهُ فإنه يَكُونُ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ كما في قَوْله تَعَالَى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ فإن الْعُرْفَ قَاضٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ من تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ تَحْرِيمُ أَكْلِهَا وَمِنْ تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ تَحْرِيمُ وَطْئِهِنَّ بِخِلَافِ نَحْوِ رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ فإنه لم يَقُمْ دَلِيلٌ يُعَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَرْفُوعِ الْحُكْمُ أو غَيْرُهُ الْفَرْقُ بين دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ وَدَلَالَةِ الْإِضْمَارِ الثَّالِثُ الْكَلَامُ في هذه يَسْتَدْعِي فَهْمَ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ وَهَلْ هِيَ مُغَايَرَةٌ لِلْإِضْمَارِ وقد اُخْتُلِفَ في ذلك فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ من الْحَنَفِيَّةِ منهم أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ إلَى عَدَمِ الْمُغَايَرَةِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عِبَارَةٌ عن إسْقَاطِ شَيْءٍ من الْكَلَامِ لَا يَتِمُّ الْكَلَامُ بِدُونِهِ نَظَرًا إلَى الْعَقْلِ أو الشَّرْعِ أو إلَيْهِمَا لَا إلَى اللَّفْظِ إذْ اللَّفْظُ صَحِيحٌ مِنْهُمَا وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى الْفَرْقِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا في وَجْهِ التَّغَايُرِ على أَقْوَالٍ أَحَدُهَا وَبِهِ يُشْعِرُ كَلَامُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ أَنَّ الِاقْتِضَاءَ إثْبَاتُ شَرْطٍ يَتَوَقَّفُ عليه وُجُودُ الْمَذْكُورِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عليه صِحَّةُ اللَّفْظِ نَحْوُ اصْعَدْ السَّطْحَ فإنه يَقْتَضِي نَصْبَ السُّلَّمِ وهو أَمْرٌ يَتَوَقَّفُ عليه وُجُودُ الصُّعُودِ وَلَا تَتَوَقَّفُ عليه صِحَّةُ اللَّفْظِ بِخِلَافِ الْإِضْمَارِ فإنه إثْبَاتُ أَمْرٍ تَتَوَقَّفُ عليه صِحَّةُ اللَّفْظِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ من بَابِ الْإِضْمَارِ وَلَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ اللَّفْظِ على إضْمَارِ الْأَهْلِ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحِيلُ السُّؤَالَ من الْقَرْيَةِ وَثَانِيهَا ذَكَرَهُ عبد الْعَزِيزِ في الْكَشْفِ شَرْحِ الْبَزْدَوِيِّ أَنَّ في صُورَةِ الْإِضْمَارِ تَغْيِيرُ إسْنَادِ اللَّفْظِ عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِالْمُضْمَرِ كَالْأَهْلِ في وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ بِخِلَافِ الِاقْتِضَاءِ فإنه يَبْقَى الْإِسْنَادُ على حَالِهِ وَرُدَّ أَيْضًا بِاتِّفَاقِ الْأُصُولِيِّينَ على أَنَّ قَوْلَهُ عليه السَّلَامُ رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ من بَابِ الِاقْتِضَاءِ مع أَنَّهُ يَتَغَيَّرُ الْإِسْنَادُ بِالْمُضْمَرِ وَثَالِثُهَا أَنَّ الْمُضْمَرَ كَالْمَذْكُورِ لَفْظًا وَلِهَذَا له عُمُومٌ وَلِهَذَا لو قال لِامْرَأَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَك وَنَوَى ثَلَاثًا صَحَّتْ نِيَّتُهُ إذْ الْمَصْدَرُ مُضْمَرٌ فيه فَكَأَنَّهُ قال طَلِّقِي نَفْسَك طَلَاقًا وَأَمَّا الْمُقْتَضِي فَلَيْسَ هو كَالْمَذْكُورِ لَفْظًا وَكَذَا لَا يَعُمُّ وَرُدَّ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ إضْمَارَ
____________________
(2/316)
الْمَصْدَرِ في الْأُولَى لِأَنَّهُ على خِلَافِ الْأَصْلِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ فيه قال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَالصَّحِيحُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا من حَيْثُ الْمَعْنَى وَاللَّفْظُ أَمَّا من حَيْثُ الْمَعْنَى فَالْمُقْتَضِي أَعَمُّ من الْمُضْمَرِ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ قد يَكُونُ مَشْعُورًا بِهِ لِلْمُتَكَلِّمِ وقد لَا يَكُونُ بِخِلَافِ الْمُضْمَرِ فإنه لَا يَكُونُ إلَّا يَكُونُ مَشْعُورًا بِهِ لِأَنَّهُ اسْمُ مَفْعُولٍ من أَضْمَرَهُ الْمُتَكَلِّمُ فَعَلَى هذا كُلُّ مُضْمَرٍ مُقْتَضًى وَلَا عَكْسُ وَأَمَّا من حَيْثُ اللَّفْظُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِضْمَارَ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ حَيْثُ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عن إسْقَاطِ شَيْءٍ يَدُلُّ عليه الْبَاقِي بِخِلَافِ الِاقْتِضَاءِ فإنه قد يُحْتَاجُ فيه إلَى تَأَمُّلٍ وَنَظَرٍ وَثَانِيهِمَا أَنَّ في صُورَةِ الْإِضْمَارِ تَغْيِيرُ إسْنَادِ اللَّفْظِ عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِالْمُضْمَرِ وفي الِاقْتِضَاءِ قد يَكُونُ كَذَلِكَ كَقَوْلِهِ رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ وقد لَا يَكُونُ كما في اصْعَدْ السَّطْحَ وَكَذَلِكَ في اعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ من جِهَةِ الْغَفْلَةِ عن الشَّيْءِ وَتَغَيُّرِ الْإِسْنَادِ وَهُمَا مُتَّحِدَانِ في أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَلَامِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِمَا وقال عبد الْعَزِيزِ في شَرْحِ الْبَزْدَوِيِّ وَجَعَلَ الْأُصُولِيُّونَ مِنَّا وَمِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ ما يُضْمَرُ في الْكَلَامِ لِتَصْحِيحِهِ على أَقْسَامٍ أَحَدُهَا ما أُضْمِرَ لِضَرُورَةِ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِهِ رُفِعَ عن أُمَّتِي وَالثَّانِي ما أُضْمِرَ لِصِحَّتِهِ عَقْلًا كَقَوْلِهِ وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ وَالثَّالِثُ ما أُضْمِرَ لِصِحَّتِهِ شَرْعًا كَقَوْلِهِ اعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي وَشُمُولُ مُقْتَضًى وَلِذَلِكَ قالوا في حَدِّهِ هو جَعْلُ غَيْرِ الْمَنْطُوقِ مَنْطُوقًا لِتَصْحِيحِ الْمَنْطُوقِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْعُمُومِ في الثَّلَاثَةِ وَبَعْضُهُمْ إلَى الْمَنْعِ فيها وهو أبو زَيْدٍ وَذَهَبَ الْبَزْدَوِيُّ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَصَدْرُ الْإِسْلَامِ إلَى أَنَّ اسْمَ الْمُقْتَضِي يُطْلَقُ على الثَّالِثِ فَقَطْ وَسَمَّوْا الْبَاقِيَ مَحْذُوفًا وَمُضْمَرًا وَقَالُوا بِالْعُمُومِ في الْمُضْمَرِ دُون الْمُقْتَضِي
____________________
(2/317)
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ حَذْفُ الْمَعْمُولِ نَحْوُ زَيْدٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ يُشْعِرُ بِالتَّعْمِيمِ وَقَوْلُهُ وَاَللَّهُ يَدْعُو إلَى دَارِ السَّلَامِ أَيْ كُلَّ أَحَدٍ وَهَذَا لم يَتَعَرَّضْ له الْأُصُولِيُّونَ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْبَيَانِ وَفِيهِ بَحْثٌ فإن ذلك إنَّمَا أُخِذَ من الْقَرَائِنِ وَحِينَئِذٍ فَإِنْ دَلَّتْ الْقَرِينَةُ على أَنَّ الْمُقَدَّرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فَالتَّعْمِيمُ من عُمُومِ الْمُقَدَّرِ سَوَاءٌ ذُكِرَ أو حُذِفَ وَإِلَّا فَلَا دَلَالَةَ على التَّعْمِيمِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعُمُومَ فِيمَا ذُكِرَ إنَّمَا هو دَلَالَةُ الْقَرِينَةِ على أَنَّ الْمُقَدَّرَ عَامٌّ وَالْحَذْفُ إنَّمَا هو لِمُجَرَّدِ الِاقْتِضَاءِ لَا التَّعْمِيمِ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ في أَنَّ الْمَفْهُومَ هل له عُمُومٌ أَمْ لَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ أَنَّهُ عَامٌّ فقال قال أَصْحَابُنَا الْعُمُومُ يَكُونُ في الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي وَدَلَائِلِ الْأَلْفَاظِ من مَفْهُومٍ أو دَلِيلِ خِطَابٍ ا هـ وَظَاهِرُ إيرَادِ الْأَكْثَرِينَ منهم الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ ليس بِعَامٍّ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْعُمُومَ من صِفَاتِ النُّطْقِ وهو اخْتِيَارُ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَالْغَزَالِيِّ وَلِهَذَا مَنَعَا تَخْصِيصَهُ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْعَامِّ وَهَذَا بِنَاءٌ منهم أَنَّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ قِيَاسِيَّةٌ لَا لَفْظِيَّةٌ وهو الصَّحِيحُ كما سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ قُلْنَا إنَّهَا لَفْظِيَّةٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الْخِلَافُ في عُمُومِهِ وَالْعَجَبُ أَنَّ الْغَزَالِيَّ من الْقَائِلِينَ بِأَنَّهَا لَفْظِيَّةٌ وَهُنَا نَفَى الْعُمُومَ وَأَشَارَ إلَى بِنَاءِ هذه الْمَسْأَلَةِ على أَنَّ الْعُمُومَ من عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ أو الْمَعَانِي فقال من يقول بِالْمَفْهُومِ قد يَظُنُّ أَنَّ له عُمُومًا وَيَتَمَسَّكُ بِهِ ثُمَّ رَدَّهُ بِأَنَّ الْعُمُومَ من عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ وَالْمَفْهُومُ لَيْسَتْ دَلَالَتُهُ لَفْظِيَّةً فإذا قال في سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ فَنَفْيُ الزَّكَاةِ عن الْمَعْلُوفَةِ ليس بِلَفْظٍ حتى يَعُمَّ أو يَخُصَّ وَرَدَّ ذلك صَاحِبُ الْمَحْصُولِ وقال إنْ كُنْت لَا تُطْلِقُ عليه لَفْظَ الْعَامِّ فَلَكَ ذلك وَإِنْ عَنَيْتَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْحُكْمِ في جُمْلَةِ صُوَرِ انْتِفَاءِ الصِّفَةِ فَذَلِكَ من تَقَارِيعِ كَوْنِ الْمَفْهُومِ حُجَّةً وَمَتَى جَعَلْتَهُ حُجَّةً لَزِمَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ في جُمْلَةِ صُورَةِ انْتِفَاءِ الصِّفَةِ وَإِلَّا لم يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ قال الْقَرَافِيُّ وَالظَّاهِرُ من حَالِ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ إنَّمَا خَالَفَ في التَّسْمِيَةِ لِأَنَّ لَفْظَ
____________________
(2/318)
الْعُمُومِ إنَّمَا وُضِعَ لِلَّفْظِ لَا لِلْمَعْنَى وَأَمَّا عُمُومُ النَّفْيِ في الْمَنْطُوقِ فَهُوَ من الْقَائِلِينَ بِهِ لِأَنَّهُ من الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ وقال ابن الْحَاجِبِ إنَّمَا أَرَادَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ الْعُمُومَ لم يَثْبُتْ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ فَقَطْ بَلْ بِوَاسِطَتِهِ وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فيه وقال الْخِلَافُ لَا يَتَحَقَّقُ في هذه الْمَسْأَلَةِ وقال الشَّيْخُ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْحَالَ مُخْتَلِفٌ فَإِنْ كان مَحَلُّ النُّطْقِ إثْبَاتٌ فَالْحُكْمُ مُنْتَفٍ في جُمْلَةِ صُورَةِ الْمُخَالَفَةِ وَإِنْ كان نَفْيًا لم يَلْزَمْ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ لِأَنَّهُ إذَا تَخَلَّفَ النُّطْقُ إثْبَاتًا لَزِمَ نَفْيُ الْحُكْمِ إذَا انْتَفَى عن كل أَفْرَادِ الْمُخَالَفَةِ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَدُلَّ على تَنَاوُلِ الْحُكْمِ لِكُلِّ فَرْدٍ من أَفْرَادِ الْمُخَالَفَةِ أو لَا فَإِنْ دَلَّ فَهُوَ لِلْأَفْرَادِ وَإِلَّا فَهُوَ دَالٌّ حِينَئِذٍ على نَفْيِ الْحُكْمِ عن مُسَمَّى الْمُخَالِفِ وَلَزِمَ انْتِفَاؤُهُ عن كل فَرْدٍ ضَرُورَةً وَأَنَّ ما سُلِبَ عن الِاسْمِ مَسْلُوبٌ عن جُمْلَةِ أَفْرَادِهِ وَهَذَا كَتَعْلِيقِ الْوُجُوبِ بِسَائِمَةِ الْغَنَمِ فَإِنْ كان مَحَلُّ النُّطْقِ إثْبَاتًا فَيَقْتَضِي نَفْيَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عن الْمَعْلُوفَةِ وَإِنْ كان بِصِفَةٍ فَذَاكَ وَإِلَّا فَهُوَ سَلْبٌ عن مُسَمَّى الْمَعْلُوفِ فَيَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْوُجُوبِ عن كل أَفْرَادِ الْمَعْلُوفَةِ لِمَا بَيَّنَّاهُ من أَنَّ الْمَسْلُوبَ عن الْأَعَمِّ مَسْلُوبٌ عن كل أَفْرَادِهِ وَأَمَّا إنْ كان مَحَلُّ النُّطْقِ نَفْيًا كَقَوْلِهِ لَا يَبُولَنَّ أحدكم في الْمَاءِ الدَّائِمِ فإنه يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْحُكْمِ عن الْمُخَالِفِ وهو النَّفْيُ فَيَكُونُ الثَّابِتُ لِلْمُخَالِفِ إثْبَاتًا فإن مُطْلَقَ الْحُكْمِ في السَّوْمِ لَا يَلْزَمُ منه الْعُمُومُ كما أَنَّ الْعُمُومَ له صِيَغٌ مَخْصُوصَةٌ لَا كُلُّ صِيغَةٍ فإذا كان بَعْضُ الْأَلْفَاظِ الْمَنْطُوقِ بها لَا يَدُلُّ على الْعُمُومِ إذَا كانت في جَانِبِ الْإِضَافَةِ فما ظَنُّك بِمَا لَا لَفْظَ فيه أَصْلًا وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ مُقْتَضَى الْمَفْهُومِ أَنْ يَدُلَّ على الْعُمُومِ في مِثْلِ هذا احْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ وَقَوْلُ الْإِمَامِ وَمَتَى جَعَلْتَهُ حُجَّةً لَزِمَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عن جُمْلَةِ صُوَرِ انْتِفَاءِ الصِّفَةِ وَإِلَّا لم يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ مَمْنُوعٌ لِأَنَّا إذَا عَلَّقْنَا الْحُكْمَ بِالْمُسَمَّى الْمُطْلَقِ كانت فَائِدَةُ الْمَفْهُومِ حَاصِلَةً في بَعْضِ الصُّوَرِ ضَرُورَةً فَلَا يَخْلُو الْمَفْهُومُ من فَائِدَةٍ وفي مِثْلِ هذا يَتَوَجَّهُ كَلَامُ الْغَزَالِيِّ قال فَهَذِهِ مَبَاحِثُهُ يُنْظَرُ فيها ثُمَّ بَعْدَ ذلك تَقُولُ فَقَدْ نَأْخُذُ عُمُومَ الْأَحْكَامِ في أَفْرَادِ الْمُخَالِفِ من أَمْرٍ خَارِجٍ عن دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ
____________________
(2/319)
الْإِجْمَاعُ قَائِمًا على عَدَمِ اقْتِرَانِ الْأَحْكَامِ أو يَكُونَ الْحُكْمُ في الْمُخَالِفِ ثَابِتًا لِمَعْنًى مَفْهُومٍ لَا يَخْتَصُّ ذلك الْمَعْنَى بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ دُونَ بَعْضٍ وقال الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ الْقَائِلُ بِأَنَّ لِلْمَفْهُومِ عُمُومًا مُسْتَنَدُهُ أَنَّهُ إذَا قال في سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ فَقَدْ تَضَمَّنَ ذلك قَوْلًا آخَرَ وهو لَا زَكَاةَ في الْمَعْلُوفَةِ وهو لو صَرَّحَ بِذَلِكَ لَكَانَ عَامًّا وَالْمَقْصُودُ أَنَّا إذَا وَجَدْنَا صُورَةً من صُوَرِ الْمَفْهُومِ مُوَافَقَةً لِلْمَنْطُوقِ بِهِ فَهَلْ نَقُولُ بَطَلَ الْمَفْهُومُ بِالْكُلِّيَّةِ حتى لَا يَتَمَسَّكَ بِهِ في غَيْرِ تِلْكَ الصُّورَةِ أو نَقُولُ نَتَمَسَّكُ بِهِ فِيمَا وَرَاءَ ذلك هذا مَوْضِعُ نَظَرٍ قال وَالْأَشْبَهُ بِنَاءُ ذلك على أَنَّ مُسْتَنَدَ الْمَفْهُومِ مَاذَا هل هو الْبَحْثُ عن فَوَائِدِ التَّخْصِيصِ كما هو اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ له عُمُومٌ وَإِنْ قُلْنَا اسْتِنَادُهُ إلَى عُرْفٍ لُغَوِيٍّ فَصَحِيحٌ وَخَرَجَ لنا من كَلَامِهِ وَكَلَامِ الشَّيْخِ أَنَّ الْخِلَافَ مَعْنَوِيٌّ وَلَيْسَ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا كما زَعَمُوا وَفَائِدَةٌ أُخْرَى ذَكَرَهَا الشَّيْخُ وَهِيَ أَنَّ خِلَافَ أَصْحَابِنَا في الْمَاءِ النَّجِسِ إذَا كُوثِرَ بِمَاءٍ ولم يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ هل يَطْهُرْ يَنْبَنِي على ذلك فَإِنْ قُلْنَا له عُمُومٌ لم يَطْهُرْ وهو الصَّحِيحُ وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ عليه السَّلَامُ إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لم يَنْجُسْ دَلَّ بِمَفْهُومِهِ على أَنَّ ما دُونَهُمَا يَتَنَجَّسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ سَوَاءٌ تَغَيَّرَ أَمْ لَا كُوثِرَ ولم يَبْلُغْهُمَا أَمْ لم يُكَاثَرْ وَإِنْ قُلْنَا لَا عُمُومَ لِلْمَفْهُومِ لم يَقْتَضِ الْحَدِيثُ النَّجَاسَةَ في هذه الصُّورَةِ وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الْقَلِيلُ الْجَارِي إذَا وَقَعَتْ فيه نَجَاسَةٌ ولم يَتَغَيَّرْ وَالْجَدِيدُ يُنَجِّسُ وَالْقَدِيمُ لَا فَيُبْنَى على ما ذَكَرْنَا تَنْبِيهٌ الْمَفْهُومُ يَكُونُ عَامًّا إذَا كان الْمَنْطُوقُ جُزْئِيًّا ما ذَكَرُوهُ من عُمُومِ الْمَفْهُومِ حتى يُعْمَلَ بِهِ فِيمَا عَدَا الْمَنْطُوقِ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ عليه على أَنَّ الْمُرَادَ ما إذَا كان الْمَنْطُوقُ جُزْئِيًّا وَبَيَانُهُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ على أَنَّ الثَّابِتَ بِالْمَفْهُومِ إنَّمَا هو نَقِيضُ الْمَنْطُوقِ وَالْإِجْمَاعُ على أَنَّ نَقِيضَ الْكُلِّيِّ الْمُثْبَتِ جُزْئِيٌّ سَالِبٌ وَنَقِيضُ الْجُزْئِيِّ الْمُثْبَتِ كُلِّيٌّ سَالِبٌ وَمِنْ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ يُعْلَمُ أَنَّ ما كان مَنْطُوقُهُ كُلِّيًّا سَالِبًا كان مَفْهُومُهُ
____________________
(2/320)
جُزْئِيًّا سَالِبًا فَيَجِبُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْمَفْهُومَ عَامٌّ على ما إذَا كان الْمَنْطُوقُ بِهِ خَاصًّا لِيَجْتَمِعَ أَطْرَافُ الْكَلَامِ وَانْظُرْ إلَى عِبَارَةِ الْإِمَامِ في الْمَحْصُولِ في أَوَّلِ بَابِ الْعُمُومِ وَقَوْلُهُ في سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ أَنَّهُ يَدُلُّ على أَنَّهُ لَا زَكَاةَ في كل ما ليس بِسَائِمَةٍ فإن قَوْلَهُ لَا زَكَاةَ في كل ما ليس بِسَائِمَةٍ من بَابِ سَلْبِ الْعُمُومِ الْمُقْتَضِي لِسَلْبِ الْحُكْمِ عن الْمَجْمُوعِ وَلَيْسَ من بَابِ عُمُومِ السَّلْبِ الْمُقْتَضِي لِسَلْبِ الْحُكْمِ عن كل فَرْدٍ فَرْدٍ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ الْمُشْتَرَكُ إذَا تَجَرَّدَ عن الْقَرَائِنِ صَارَ صَائِرُونَ إلَى أَنَّهُ عَامٌّ إذَا لم يَقُمْ دَلِيلٌ على التَّخْصِيصِ إعْمَالًا لِلَّفْظِ فِيمَا أَمْكَنَ وَنُقِلَ ذلك عن الشَّافِعِيِّ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وهو عِنْدَهُ في حُكْمِ الْعَامِّ لَا نَفْسِهِ لِأَنَّ الْعَامَّ يُحْمَلُ على جَمِيعِ الْأَفْرَادِ بِخِلَافِ هذا وَإِنَّمَا شَابَهُ الْعَامَّ من حَيْثُ شُمُولُهُ مُتَعَدِّدًا وَأَنَّهُ يُحْمَلُ على النَّوْعَيْنِ وقد بَالَغَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ في رَدِّ هذا الْقَوْلِ وقال هذا غَلَطٌ فإنه لم يُوضَعْ وَضْعَ عُمُومٍ وَلَكِنْ وُضِعَ لِآحَادِ الْمَحَامِلِ على الْبَدَلِ فَالتَّعْمِيمُ فيه إخْرَاجُهُ عن مَوْضُوعِهِ وَإِلْحَاقُهُ بِقَبِيلٍ آخَرَ قال وَهَذَا قَاطِعٌ ا هـ وَيَشْهَدُ له أَنَّهُمْ نَقَلُوا عن الْقَاضِي مُوَافَقَةَ الشَّافِعِيِّ مع أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يقول بِصِيَغِ الْعُمُومِ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّمَا أَنْكَرَ وَضْعَ صِيَغِ الْعُمُومِ وَهُنَا جُوِّزَ الِاسْتِعْمَالُ وقد سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةً في مَبَاحِثِ الْمُشْتَرَكِ وَمِمَّا يَفْتَرِقُ فيه حَمْلُ اللَّفْظِ الْعَامِّ على مَعْنَيَيْهِ وَحَمْلُ اللَّفْظِ الْعَامِّ على أَفْرَادِهِ أَنَّ الْعَامَّ يَسْتَرْسِلُ على آحَادِهِ من غَيْرِ تَوَقُّفٍ على الْوُجُودِ حَالَ اللَّفْظِ وَلِهَذَا لو وَقَفَ على أَوْلَادِهِ صُرِفَ إلَى الْمَوْجُودِينَ حَالَ الْوَقْفِ وَلِمَنْ يَحْدُثُ بَعْدَهُمْ لِأَنَّ الصِّيغَةَ عَامَّةٌ وَلَوْ وَقَفَ على مَوَالِيهِ وَلَهُ مَوَالٍ من أَعْلَى وَأَسْفَلَ صُرِفَ إلَيْهِمَا لَا من يَحْدُثُ من الْمَوَالِي من الْأَسْفَلِ
____________________
(2/321)
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ في عُمُومِ الْفِعْلِ الْمُثْبَتِ إذَا كان له جِهَاتٌ الْفِعْلُ الْمُثْبَتُ إذَا كان له جِهَاتٌ ليس بِعَامٍّ في أَقْسَامِهِ لِأَنَّهُ يَقَعُ على صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ عُرِفَ تَعَيَّنَ إلَّا إذَا كان مُجْمَلًا يُتَوَقَّفُ فيه حتى يُعْرَفَ نَحْوُ قَوْلِ الرَّاوِي صلى بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ فَلَا يُحْمَلُ على الْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ وَكَذَلِكَ صلى في الْكَعْبَةِ لَا يَعُمُّ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ وَكَذَلِكَ قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ وَنَحْوِهِ لِجَوَازِ قَضَائِهِ لِجَارٍ كان بِصِفَةٍ يَخْتَصُّ بها هَكَذَا قَالَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَالْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في اللُّمَعِ وسليم الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ قال الْقَفَّالُ قَوْلُ الرَّاوِي فَعَلَ النبي عليه السَّلَامُ كَذَا وَقَضَى بِكَذَا وَغَيْرِهِ لَا يَجْرِي على عُمُومِ ما يَدْخُلُ تَحْتَ اللَّفْظِ إلَّا بِدَلِيلٍ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عن فِعْلٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَاعِلَ لم يَشْتَمِلْ كُلُّ ما اشْتَمَلَ عليه قِسْمَةُ ذلك الْفِعْلِ وَلَعَلَّهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُ فِعْلِهِ فَلَا مَعْنَى لِلْعُمُومِ في ذلك بَلْ يُطْلَبُ على ما وَقَعَ فيه أو بِهِ ذلك الْفِعْلُ جَمِيعُ ما اشْتَمَلَ عليه الْمُسَمَّى فَيَمْضِي على عُمُومِ اللَّفْظِ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ من ذلك دَلِيلٌ قال فَأَمَّا إذَا رُوِيَ عنه عليه السَّلَامُ أَنَّهُ قَضَى بِالْيَمِينِ مع الشَّاهِدِ وَأَنَّ رَجُلًا
____________________
(2/322)
أَفْطَرَ فَأَمَرَهُ بِكَذَا فَنَقُولُ إنَّ الْقَضِيَّةَ وَقَعَتْ في شَيْءٍ بِعَيْنِهِ وَإِنَّ الْإِفْطَارَ وَقَعَ لِشَيْءٍ منه يُوجِبُ طَلَبَ الدَّلِيلِ على ما وَقَعَ الْقَضَاءُ فيه وكان الْإِفْطَارُ بِهِ ثُمَّ يُنْظَرُ في إلْحَاقِ غَيْرِهِ بِدَلِيلٍ آخَرَ انْتَهَى قال الْغَزَالِيُّ وَكَمَا لَا عُمُومَ له بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحْوَالِ الْفِعْلِ فَلَا عُمُومَ له بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَشْخَاصِ بَلْ يَكُونُ خَاصًّا في حَقِّهِ إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ من خَارِجٍ كَقَوْلِهِ صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَقِيلَ ما ثَبَتَ في حَقِّهِ فَهُوَ ثَابِتٌ في حَقِّ غَيْرِهِ إلَّا ما دَلَّ عليه دَلِيلٌ أَنَّهُ خَاصٌّ بِهِ وهو فَاسِدٌ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَالْحَاصِلُ أَنَّا لو تَحَقَّقْنَا أَنَّ الْقَضَاءَ فِعْلٌ فَلَيْسَ بِعَامٍّ وَإِنْ كان لَفْظًا فَإِنْ اخْتَصَّ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ في خُصُومَةٍ بِعَيْنِهَا فَكَذَلِكَ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ على الْعُمُومِ فَإِنْ كان لَفْظًا عَامًّا في وَضْعِ اللُّغَةِ تَمَسَّكْنَا بِعُمُومِهِ وَكَذَا الذي يَقْتَضِيهِ تَصَرُّفُ أَصْحَابِنَا وقد قال الْمَاوَرْدِيُّ وابن أبي هُرَيْرَةَ في تَعْلِيقِهِ وَغَيْرُهُمَا وقد ذَكَرُوا أَنَّ الْجَدَّةَ لَا تَرِثُ مع ابْنِهَا وَأَوْرَدَ الْخَصْمُ عليهم أَنَّ النبي عليه السَّلَامُ وَرَّثَ جَدَّةً وَابْنُهَا حَيٌّ فَأَجَابُوا بِحَمْلِهِ على صُورَةٍ خَاصَّةٍ أو كَكَوْنِهِ قَاتِلًا أو مَمْلُوكًا أو كَافِرًا أو كان ابْنُهَا خَالًا قال ابن أبي هُرَيْرَةَ وَلَيْسَ قَوْلُهُ وَرَّثَ عُمُومًا لِأَنَّ ذلك قَضِيَّةٌ وَالْقَضِيَّةُ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ في نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَإِنَّمَا يُقَالُ عُمُومٌ في الْأَلْفَاظِ انْتَهَى هذا ما وَجَدْته لِقُدَمَاءِ أَصْحَابِنَا وَأَمَّا كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فيه فإنه يَقْتَضِي تَخْرِيجَ قَوْلَيْنِ له في هذه الْمَسْأَلَةِ قال في الْأُمِّ مُجِيبًا عن قَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ له فقال وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ الذي رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَعَنَهُ عِنْدَنَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ضَرْبٌ من نِكَاحِ الْمُتْعَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطْلَقٍ ا هـ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا عُمُومَ له انْتَهَى وَذَكَرَ في مَوْضِعٍ آخَرَ ما يَقْتَضِي أَنَّهُ عَامٌّ فإنه احْتَجَّ على تَأْجِيلِ الدِّيَةِ على الْعَاقِلَةِ ثَلَاثَةَ سِنِينَ في الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِحَدِيثِ ضَرْبُ الْعَقْلِ على الْعَاقِلَةِ في ثَلَاثِ
____________________
(2/323)
سِنِينَ قال الْإِمَامُ في النِّهَايَةِ قال الشَّافِعِيُّ في بَعْضِ مَجَارِي كَلَامِهِ لم يَنْقُلْ النَّقَلَةُ وَاقِعَةً قَضَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِضَرْبِ الْعَقْلِ فيها على الْعَاقِلَةِ إلَّا الْمَرْأَتَيْنِ فَأَمْكَنَ من ذلك أَنْ يَضْرِبَ عَقْلَ الْمَرْأَةِ على الْعَاقِلَةِ في ثَلَاثِ سِنِينَ ثُمَّ إذَا قُلْت ذلك اطَّرَدَ فيه أَنَّ بَدَلَ كل نَفْسٍ مَضْرُوبٌ في ثَلَاثِ سِنِينَ يَعْنِي سَوَاءٌ كان الْوَاجِبُ فيه الدِّيَةَ كَامِلَةً كَالرَّجُلِ أو نِصْفُهَا كَالْمَرْأَةِ قال الْإِمَامُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ قَوْلُ الرَّاوِي قَضَى تَأْسِيسُ شَرْعٍ منه وَلَيْسَ تَمْهِيدًا في قَضِيَّةٍ ولم يَنْقُلْ على التَّخْصِيصِ وَالتَّفْصِيلِ في قَضِيَّةِ الْجَارِيَتَيْنِ فَيَضْرِبُ الْعَقْلَ على الْمَرْأَةِ في ثَلَاثِ سِنِينَ انْتَهَى وَأَطْلَقَ ابن الْحَاجِبِ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُثْبَتَ ليس بِعَامٍّ في أَقْسَامِهِ ثُمَّ اخْتَارَ في نَحْوِ قَوْلِهِ نهى عن بَيْعِ الْغَرَرِ وَقَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ أَنَّهُ يَعُمُّ الْغَرَرُ وَالْجَارُ مُطْلَقًا وقد سَبَقَهُ إلَى هذا شَيْخُهُ الْإِبْيَارِيُّ فإنه ذَكَرَهُ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ سُؤَالًا وَالْآمِدِيَّ بَحْثًا فَارْتَضَاهُ ابن الْحَاجِبِ وَأَقَامَهُ مَذْهَبًا وَتَبِعَهُ ابن السَّاعَاتِيِّ في الْبَدِيعِ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ اخْتَارَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ ابْنَ الْحَاجِبِ عُمُومَ نَحْوِ قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ بِنَاءً على عَدَالَةِ الصَّحَابِيِّ وَمَعْرِفَتِهِ بِاللُّغَةِ وَمَوَاقِعِ اللَّفْظِ مع وُجُوبِ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ على وَفْقِ السَّمَاعِ من غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَمِنْهُمْ من قال لَا يَعُمُّ لِأَنَّ الْحُجَّةَ في الْمَحْكِيِّ وَلَا عُمُومَ في الْمَحْكِيِّ قُلْت وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ عن الْأَكْثَرِينَ وَسَبَقَ ما يُؤَيِّدُهُ وَصَحَّحَهُ في الْمَحْصُولِ وقال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَهَذَا لَا بُدَّ فيه من تَفْصِيلٍ وهو أَنَّ الْمَحْكِيَّ فِعْلًا لو شُوهِدَ لم يَجُزْ حَمْلُهُ على الْعُمُومِ فَلِذَلِكَ وَجْهٌ وَإِنْ كان فِعْلًا لو حُكِيَ لَكَانَ دَالًّا على الْعُمُومِ فَعِبَارَةُ الصَّحَابِيِّ عنه يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُطَابِقَةً لِلْمَقُولِ لِمَا تَقَدَّمَ من مَعْرِفَتِهِ وَعَدَالَتِهِ وَوُجُوبِ مُطَابَقَةِ الرِّوَايَةِ الْمَعْنَى الْمَسْمُوعَ ا هـ وقد اخْتَارَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ قَرِيبًا من هذا فقال وَالْأَقْرَبُ في هذا عِنْدَنَا أَنَّ الصَّحَابِيَّ الْعَالِمَ بِاللِّسَانِ إذَا قال إنَّ النبي عليه السَّلَامُ عَبَّرَ عن إثْبَاتِ مَعْنًى وَحُكْمٍ ليس له في اللِّسَانِ أَلْفَاظٌ مُحْتَمَلَةٌ قبل ذلك بِمَثَابَةِ رِوَايَتِهِ اللَّفْظَ وَإِنْ ذُكِرَ عنه مَعْنًى
____________________
(2/324)
وهو مِمَّا له عِبَارَةٌ مُحْتَمَلَةٌ وَجَبَ مُطَالَبَتُهُ بِحِكَايَةِ اللَّفْظِ ا هـ وَيَشْهَدُ لِهَذَا أَنَّ الْقَرَافِيَّ جَعَلَ هذه الْمَسْأَلَةَ مَبْنِيَّةً على جَوَازِ رِوَايَةِ الحديث بِالْمَعْنَى فَإِنْ مَنَعْنَاهُ امْتَنَعَتْ الْمَسْأَلَةُ لِأَنَّ قَضَى ليس هو لَفْظُ الشَّارِعِ وَإِنْ جَوَّزْنَا وهو الصَّحِيحُ فَشَرْطُهُ الْمُسَاوَاةُ فإذا رَوَى الْعَدْلُ اللَّفْظَ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ كَالْغَرَرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَحْكِيُّ عَامًّا وَإِلَّا كان ذلك قَدْحًا في عَدَالَتِهِ حَيْثُ رَوَى بِصِيغَةِ الْعُمُومِ ما ليس عَامًّا فَلَا يُتَّجَهُ قَوْلُنَا الْحُجَّةُ في الْمَحْكِيِّ لَا في الْحِكَايَةِ بَلْ الْحُجَّةُ في الْحِكَايَةِ لِأَجْلِ قَاعِدَةِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى وفي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ رَابِعٌ وهو التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ الْبَاءُ فَلَا عُمُومَ له كَقَوْلِهِ قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ فَلَا يَدُلُّ على ثُبُوتِهَا لِكُلِّ جَارٍ بَلْ يَدُلُّ على أَنَّ الْحُكْمَ في الْقَضِيَّةِ دُونَ الْقَوْلِ وَبَيْنَ أَنْ يَقْتَرِنَ بِحَرْفِ أَنَّ فَيَكُونُ لِلْعُمُومِ كَقَوْلِهِ قَضَى أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ من ذلك حِكَايَةُ لَفْظِهِ عليه السَّلَامُ فَلِذَلِكَ صَحَّ دَعْوَى الْعُمُومِ فيها حَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَالْإِرْشَادِ وَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ اللُّمَعِ وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَصَحَّحَهُ وَحَكَاهُ عن أبي بَكْرٍ الْقَفَّالِ وَأَصْحَابِنَا وفي نِسْبَةِ ذلك لِلْقَفَّالِ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ من كَلَامِهِ وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ النِّزَاعَ لَفْظِيًّا من جِهَةِ أَنَّ الْمَانِعَ لِلْعُمُومِ يَنْفِي عُمُومَ الصِّيَغِ الْمَذْكُورَةِ نَحْوُ أَمَرَ وَقَضَى وَالْمُثْبِتُ لِلْعُمُومِ يُثْبِتُهُ فيها من دَلِيلٍ خَارِجٍ وهو إجْمَاعُ السَّلَفِ على التَّمَسُّكِ بها بِقَوْلِهِ حُكْمِي على الْوَاحِدِ حُكْمِي على الْجَمَاعَةِ وَالْأَقْرَبُ أَنَّ التَّعْمِيمَ فيها حَاصِلٌ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ كما قَالَهُ أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فَإِنَّا رَأَيْنَا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حَكَمَ بِقَضَاءٍ في وَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ ثُمَّ حَدَثَتْ لنا أُخْرَى مِثْلُهَا وَجَبَ إلْحَاقُهَا بها لِأَنَّ حُكْمَ الْمِثْلَيْنِ وَاحِدٌ وَيَتَحَصَّلُ حِينَئِذٍ في الْمَسْأَلَةِ خَمْسَةُ مَذَاهِبَ
____________________
(2/325)
صِيَغُ الْفِعْلِ الْمُثْبَتِ الذي له أَكْثَرُ من احْتِمَالٍ ثُمَّ الْكَلَامُ على الصِّيَغِ إحْدَاهَا إذَا قال الرَّاوِي سَمِعْته يقول قَضَيْت بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ فقال الْقَاضِي يُحْمَلُ على الْعُمُومِ في كل جَارٍ وَيَحْتَمِلُ الْعَهْدَ وَبِذَلِكَ جَزَمَ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ فقال لَا يَعُمُّ لِاحْتِمَالِ كَوْنِ أَلْ لِلْعَهْدِ وَهَذَا بِنَاءٌ منه على اخْتِيَارِهِ أَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِأَلْ لَا يَعُمُّ فَأَمَّا إذَا كان مُنَوَّنًا كَقَوْلِهِ قَضَيْت بِالشُّفْعَةِ لِجَارٍ فَجَانِبُ الْعُمُومِ أَرْجَحُ قَالَهُ صَاحِبُ الْحَاصِلِ وقال الْأَشْبَهُ أَنَّهُ يُفِيدُ الْعُمُومَ الثَّانِيَةُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ نهى عن بَيْعِ الْغَرَرِ وَعَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ وأمر بِقَتْلِ الْكِلَابِ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ ليس بِعَامٍّ أَيْضًا وَأَنَّهُ مِثْلُ قَضَى وَصَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ وَهَذَا ليس بِصَحِيحٍ كما قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ لِأَنَّ أَمَرَ وَنَهَى عِبَارَةٌ عن أَنَّهُ وَقَعَ منه عليه السَّلَامُ خِطَابَا التَّكْلِيفِ اللَّذَانِ هُمَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فلما لم يذكر الصَّحَابَةُ مَأْمُورًا وَلَا مَنْهِيًّا مَخْصُوصًا عُلِمَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ كُلُّ الْمُكَلَّفِينَ كَسَائِرِ خِطَابَاتِ التَّكْلِيفِ ثُمَّ إنْ صَدَّرَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ يَتَوَجَّهُ لِلْجَمْعِ قُلْت وقد احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ على بُطْلَانِ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ بِمُطْلَقٍ من جِنْسِهِ وَغَيْرِهِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ نهى عن بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ وقد احْتَجَّ أَصْحَابُهُ بِالنَّهْيِ عن بَيْعِ الْغَرَرِ على كَثِيرٍ من الْمَسَائِلِ وَكَذَلِكَ لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ
____________________
(2/326)
وقال الْقَاضِي اسْتِدْلَالُ الْفُقَهَاءِ بِمِثْلِ هذه الصِّيَغِ إنْ اقْتَرَنَ بِهِ ما يَدُلُّ على الْعُمُومِ حُمِلَ عليه وَإِلَّا امْتَنَعَ التَّعَلُّقُ بِهِ وما رُوِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ احْتَجَّ بِقَضِيَّةِ عُمَرَ بن عبد الْعَزِيزِ في ذلك وَأَنَّ عُرْوَةَ بن الزُّبَيْرِ قال لِعُمَرَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قَضَى في مِثْلِ هذا أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ فَإِنَّهُمَا إنَّمَا احْتَجَّا بِذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِمَا أَنَّ حُكْمَهُ على الْوَاحِدِ حُكْمُهُ على الْجَمِيعِ وَأَنَّهُ عَلَّقَ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّعْمِيمَ على أَنَّهُ قد رُوِيَ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ بِدُونِ قَضَى فَيَجِبُ التَّعَلُّقُ بِهِ حِينَئِذٍ وفي الْمُسْتَصْفَى في بَابِ السُّنَّةِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ أَمَرَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِكَذَا أو نهى عن كَذَا قِيلَ إنَّهُ أَمْرٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ من يقول بِصِيغَةِ الْعُمُومِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ في هذا إذْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ما سَمِعَهُ أَمْرًا لِلْأُمَّةِ أو لِطَائِفَةٍ أو لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ فَيَتَوَقَّفُ فيه على الدَّلِيلِ لَكِنْ يَدُلُّ عليه أَنَّ أَمْرَهُ لِلْوَاحِدِ أَمْرٌ لِلْجَمَاعَةِ إلَّا إذَا كان لِوَصْفٍ يَخُصُّهُ من سَفَرٍ أو حَيْضٍ كَقَوْلِنَا أُمِرْنَا إذَا كنا مُسَافِرِينَ نعم إنْ عُلِمَ من عَادَةِ الصَّحَابِيِّ أَنَّهُ لَا يُطْلِقُهُ إلَّا في أَمْرِ الْأُمَّةِ حُمِلَ عليه وَإِلَّا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا له وَلِلْأُمَّةِ وَلِطَائِفَةٍ وقال شَارِحُهُ الْعَبْدَرِيُّ من قال إنَّهُ عَامٌّ فَبَاطِلٌ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَدُلُّ على الْمَفْعُولِ بِصِيغَتِهِ بَلْ بِمُقْتَضَاهُ وَالْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ له الثَّالِثَةُ أَنْ يُورَدَ الْفِعْلُ بِصِيغَةِ كان فَهَلْ هو عَامٌّ أَمْ لَا على وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وابن بَرْهَانٍ وَصَحَّحَ الشَّيْخُ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ لِأَنَّهُ وَإِنْ اقْتَضَى التَّكْرَارَ إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّكْرَارُ على صِيغَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُشَارِكُهَا فيها سَائِرُ الصِّفَاتِ فَأَمَّا إذْ قِيلَ كان يَفْعَلُ كَقَوْلِهِ كان يَجْمَعُ بين الصَّلَاتَيْنِ فَهَذَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ لِخُرُوجِ الْكَلَامِ مَخْرَجَ تَكْرَارِ الْأَفْعَالِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَفْعَلُ ما يَلْزَمُهُ اسْمُ الْجَمْعِ في حَالَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ قال وما هو بِالْبَيِّنِ أَيْضًا وَفَصَلَ ابن بَرْهَانٍ بين أَنْ يَكُونَ ذلك في الْأُمُورِ التي تَشِيعُ وَلَا تَبْقَى في طَيِّ الْكِتْمَانِ كَقَوْلِ عَائِشَةَ كانت الْأَيْدِي لَا تُقْطَعُ في زَمَنِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في الشَّيْءِ التَّافِهِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا على السَّتْرِ وَالْكِتْمَانِ كَالْوَطْءِ فَلَا يَجُوزُ دَعْوَى
____________________
(2/327)
الْعُمُومِ فيه قَطْعًا وَلَا يَكُونُ حُجَّةً كما نُقِلَ في قَضِيَّةِ الِاغْتِسَالِ وَالْأَقْوَالِ كَقَوْلِ زَيْدِ بن ثَابِتٍ كانت عُمُومَتِي يَفْعَلُونَهُ وَلَا يَغْتَسِلُونَ وَهَذَا يَلْتَفِتُ إلَى خِلَافٍ آخَرَ وهو أَنَّهُ هل يَقْتَضِي التَّكْرَارَ أَمْ لَا وَفِيهِ مَذَاهِبُ أَحَدُهَا يَعُمُّ وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ فقال قَوْلُ الرَّاوِي كان يَفْعَلُ كَذَا يُفِيدُ في عُرْفِ اللُّغَةِ تَكْثِيرَ الْفِعْلِ وَتَكْرِيرَهُ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ كان فُلَانٌ يُطْعِمُ الطَّعَامَ وَيَحْمِي الذِّمَارَ إذَا فَعَلَهُ مَرَّةً أو مَرَّتَيْنِ بَلْ يَخُصُّونَ بِهِ الْمُدَاوِمَ على ذلك وقد قال تَعَالَى وكان يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ يُرِيدُ الْمُدَاوَمَةَ على ذلك وَكَذَا قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ هِيَ تَقْتَضِي تَكْرِيرَ الْفِعْلِ من طَرِيقِ اللُّغَةِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ في اللُّغَةِ كان يَفْعَلُ كَذَا إلَّا إذَا تَكَرَّرَ منه وَتَبِعَهُ ابن الْحَاجِبِ في مُخْتَصَرَيْهِ وَالثَّانِي أنها لَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ لَا عُرْفًا وَلَا لُغَةً وَاخْتَارَهُ في الْمَحْصُولِ وقال النَّوَوِيُّ في شَرْحِ مُسْلِمٍ إنَّهُ الْمُخْتَارُ الذي عليه أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ من الْأُصُولِيِّينَ وَإِنَّمَا هِيَ فِعْلٌ مَاضٍ دَلَّ على وُقُوعِهِ مَرَّةً وَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ على التَّكْرَارِ عُمِلَ بِهِ وَإِلَّا فَلَا يَقْتَضِيهَا بِوَضْعِهَا وقال بَعْضُ النُّحَاةِ كان عِبَارَةٌ عن وُجُودِ الشَّيْءِ في زَمَنٍ مَاضٍ على سَبِيلِ الْإِبْهَامِ وَلَيْسَ فيه دَلِيلٌ على عَدَمٍ سَابِقٍ وَلَا انْقِطَاعٍ طَارِئٍ وَالثَّالِثُ أنها لَا تُفِيدُهُ لُغَةً وَتُقَيِّدُهُ عُرْفًا إذْ لَا يُقَالُ كان يَتَهَجَّدُ إذَا فَعَلَهُ مَرَّةً وَنَقَلَهُ أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ عن عبد الْجَبَّارِ بَعْدَ أَنْ عَدَّهَا من صِيَغِ الْعُمُومِ وقال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ إنَّهُ الْأَظْهَرُ وَالتَّحْقِيقُ ما قَالَهُ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ إنَّهُ يُقَالُ كان يَفْعَلُ كَذَا بِمَعْنَى أَنَّهُ تَكَرَّرَ منه فِعْلُهُ وكان عَادَتُهُ كما يُقَالُ كان فُلَانٌ يُقْرِي الضَّيْفَ وكان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَجْوَدَ الناس بِالْخَيْرِ وقد تُسْتَعْمَلُ لِإِفَادَةِ مُجَرَّدِ الْفِعْلِ وَوُقُوعِهِ دُونَ الدَّلَالَةِ على التَّكْرَارِ وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ في الِاسْتِعْمَالِ وَعَلَيْهِ يَنْبَغِي حَمْلُ الحديث
____________________
(2/328)
مَسْأَلَةٌ في عُمُومِ مِثْلِ قَوْلِهِ خُذْ من أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً الْجُمْهُورُ أَنَّ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى خُذْ من أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً قد يَقْتَضِي أَخْذَ الصَّدَقَةِ من كل نَوْعٍ من أَنْوَاعِ الْمَالِ فَكَانَ مَخْرَجُ الْآيَةِ عَامًّا على الْأَمْوَالِ وكان يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضَ الْأَمْوَالِ دُونَ بَعْضٍ فَدَلَّتْ السُّنَّةُ على أَنَّ الزَّكَاةَ في بَعْضِ الْمَالِ دُونَ بَعْضٍ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ وهو الذي نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ في كِتَابِ الرِّسَالَةِ فقال عَقِبَ ذِكْرِ هذه الْآيَةِ إلَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِدَلَالَةٍ من السُّنَّةِ وَلَوْلَا دَلَالَةُ السُّنَّةِ لَكَانَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّ الْأَمْوَالَ كُلَّهَا سَوَاءٌ وَأَنَّ الزَّكَاةَ في جَمِيعِهَا لَا في بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ وَنُقِلَ عن نَصِّهِ أَيْضًا في الْبُوَيْطِيِّ نَحْوُهُ وَلِهَذَا احْتَجَّ بها أَصْحَابُنَا على وُجُوبِ الزَّكَاةِ في مَالِ التِّجَارَةِ وَعَلَى أَخْذِ الشَّاةِ الصَّغِيرَةِ من الصِّغَارِ وَاللَّئِيمَةِ من اللِّئَامِ وَنَحْوِهِ لَكِنَّهُ في مَوْضِعٍ آخَرَ جَعَلَهَا من الْمُجْمَلِ الْمُبَيَّنِ بِالسُّنَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَآتُوا الزَّكَاةَ وَذَهَبَ الْكَرْخِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي أَخْذَ صَدَقَةٍ وَاحِدَةٍ وَنَوْعٍ وَاحِدٍ وَرَجَّحَهُ ابن الْحَاجِبِ لِأَنَّ من لِلْبَعْضِ الْمُطْلَقِ وَالْوَاحِدَةُ من الْجَمِيعِ يَصْدُقُ عليها وَتَوَقَّفَ الْآمِدِيُّ فقال في آخِرِ الْمَسْأَلَةِ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةٌ وَمَأْخَذُ الْكَرْخِيِّ دَقِيقٌ كَذَا نَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ عن الْكَرْخِيِّ وَاَلَّذِي رَأَيْته في كِتَابِ أبي بَكْرٍ الرَّازِيَّ عن شَيْخِهِ أبي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي عُمُومَ وُجُوبِ الْحَقِّ في سَائِرِ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ وَاخْتَارَهُ أبو بَكْرٍ أَيْضًا وهو الصَّوَابُ في النَّقْلِ عنه وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْأَمْوَالَ جَمْعٌ مُضَافٌ وهو من صِيَغِ الْعُمُومِ وَالْمَعْنَى خُذْ من كل نَوْعٍ من أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً وَاعْتَرَضَ الْمُخَالِفُ بِأَنَّ مِثْلَ هذه الصِّيغَةِ لَا تَقْتَضِي التَّعْمِيمَ لِأَجْلِ من وَأَجَابَ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ من تَعَلُّقِهَا بِمَحْذُوفٍ صِفَةِ الصَّدَقَةِ وَالتَّقْدِيرُ كَائِنَةً أو مَأْخُوذَةً من أَمْوَالِهِمْ بَلْ من بَعْضِ أَمْوَالِهِمْ وهو خُصُوصٌ مع أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ لِأَنَّ مَعْنَى كَائِنَةٍ من أَمْوَالِهِمْ أَنْ لَا يَبْقَى نَوْعٌ من الْمَالِ إلَّا وَيُؤْخَذُ منه وَهَذَا هو بَيَانُ الْعُمُومِ هذا هو الذي لَحَظَهُ الشَّافِعِيُّ
____________________
(2/329)
وقال بَعْضُهُمْ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ الذي هو من أَمْوَالِهِمْ إنْ كان مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ خُذْ فَالْمُتَّجَهُ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ لِأَنَّ التَّعَلُّقَ مُطْلَقٌ وَالصَّدَقَةَ نَكِرَةٌ في سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَيَحْصُلُ الِامْتِثَالُ بِصَدَقَةٍ وَاحِدَةٍ من نَوْعٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كان مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ صَدَقَةً فَيَقْوَى قَوْلُ الْجُمْهُورِ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ إنَّمَا تَكُونُ من أَمْوَالِهِمْ إذَا كانت من كل نَوْعٍ من أَمْوَالِهِمْ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إذَا كان الْمُعْتَبَرُ دَلَالَةَ الْعُمُومِ في أَمْوَالِهِمْ وَأَنَّهَا كُلِّيَّةٌ فَالْوَاجِبُ حِينَئِذٍ من كل نَوْعٍ من أَنْوَاعِ الْأَمْوَالِ عَمَلًا بِمُقْتَضَى الْعُمُومِ وَلَا نَظَرَ إلَى تَنْكِيرِ صَدَقَةٍ لِأَنَّهَا مُضَافَةٌ إلَى الْأَمْوَالِ سَوَاءٌ قِيلَ إنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِخُذْ أو بِصَدَقَةٍ وَإِنْ اُعْتُبِرَ لَفْظُ صَدَقَةً وَأَنَّهُ نَكِرَةٌ في سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَلَا عُمُومَ له على الْوَجْهَيْنِ أَيْضًا تَنْبِيهَاتٌ أَحَدُهَا يَتَرَتَّبُ على هذا الْخِلَافِ أَنَّ كُلَّ صِنْفٍ اُخْتُلِفَ في وُجُوبِ الزَّكَاةِ فيه فَلِلْقَائِلِ بِالْعُمُومِ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وهو نَظِيرُ الْخِلَافِ في قَوْلِهِ وَآتُوا الزَّكَاةَ في أنها عَامَّةٌ أو مُجْمَلَةٌ الثَّانِي هل الزَّكَاةُ اسْمٌ لِلْعَيْنِ أو الْفِعْلِ خِلَافٌ حَكَاهُ الْجَاجَرْمِيُّ في رِسَالَتِهِ في الْأُصُولِ فَقِيلَ اسْمٌ لِلْعَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى خُذْ من أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً وَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تُؤْخَذُ من أَغْنِيَائِهِمْ وَالْمُرَادُ الزَّكَاةُ وَمَحَلُّ الْأَخْذِ هو الْعَيْنُ لَا الْفِعْلُ غير أَنَّ اسْمَ الزَّكَاةِ على الْفِعْلِ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ على الْحَالِ وَقِيلَ اسْمٌ لِلْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاَلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يَصِيرُ فَاعِلَ الْفِعْلِ لَا لِمَحَلِّ الْفِعْلِ وَلِأَنَّهُ عليه السَّلَامُ جَعَلَ الزَّكَاةَ عِبَادَةً
____________________
(2/330)
فصل في اشتمال العموم على بعض من يشكل تناوله بالنسبة إلى النساء والعبيد والمخاطب وغيره وفيه مسائل الأولى الألفاظ الدالة على الجمع بالنسبة إلى دلالتها على المذكر والمؤنث على أقسام أحدها ما يختص به أحدهما ولا يطلق على الآخر بحال كرجال للمذكر والنساء للمؤنث فلا يدخل أحدهما في الآخر بالاتفاق إلا بدليل من خارج من قياس أو غيره قاله الأستاذان أبو إسحاق وأبو منصور وغيرهما قيل ومما يختص به الذكور الهاء والميم والواو والنون ومما يختص به الإناث الألف والتاء ومنه الوقف على البنين لا تدخل البنات أو البنات لا تدخل البنون لكن سيأتي في الجموع بالواو والنون ومنه القوم فإنه خاص بالذكور قال تعالى لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولهذا لا يدخلن في الوصية لهم على الأصح الثاني ما يعم الفريقين بوضعه وليس لعلامة التذكير والتأنيث فيه مدخل كالناس والإنس والجن والأناس والبشر فيدخل فيه كل منهما بالاتفاق أيضا وفي كلام الغزالي في المنخول إثبات خلاف وهو بعيد الثالث لفظ يشملها من غير قرينة ظاهرة في أحدهما كمن وهذا من موضع الخلاف فقيل لا يدخل فيه النساء إلا بدليل والصحيح أنه يتناولهما بدليل قوله تعالى ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى فلولا اشتماله عليه لم يحسن التقسيم بعد ذلك وممن حكى الخلاف في هذه المسألة من الأصوليين أبو الحسين في المعتمد وإلكيا الهراسي في التلويح وحكاه غيرهما عن بعض الحنفية وإنهم لذلك قالوا إن المرتدة لا تقتل لعدم دخولها في قوله من بدل دينه فاقتلوه لكن الموجود في
____________________
(2/331)
كتبهم أنها تعم الجميع كقول الجمهور وصرح به البزدوي وشراح كتابه وابن الساعاتي وغيرهما ونقل في المحصول الإجماع على أنه لو قال من دخل داري من أرقائي فهو حر دخل فيه الإماء وكذلك لو علق بهذا اللفظ وصية أو توكيلا أو إذنا في أمر لم يختص بالذكور وكان بعض مشايخنا لهذا ينكر حكاية الخلاف على ابن الحاجب وقد علمت مستنده ثم إن إمام الحرمين خص الخلاف بما إذا كانت شرطية قال الهندي والظاهر أنه لا فرق بينهما وبين من الموصولة والاستفهامية والخلاف جار في الجميع وهو كما قال بناء على عمومهن والإمام إنما فرض الخلاف في الشرطية لأنه لم يذكر عموم غيرها ثم ذكر إمام الحرمين أن مستند القائلين بأنها لا تتناول المؤنث قولهم في باب الحكاية من ومنه يدل على أن اللفظ لا يتناول المؤنث إلا بعلامة تأنيث وأجاب وتبعه ابن القشيري بأنها لغة شاذة وليست من الفصيح وليس كذلك بل هي الفصيحة في باب الحكاية وظن الإمام أنها شرطية وهو وهم بل هي استفهامية ووهم أيضا في قوله إنه قد يعود الضمير مفردا على اللفظ وجمعا على المعنى كقوله تعالى ومنهم من يستمعون إليك ومنهم من ينظر إليك وهذه ليست شرطية بل موصولة وتبعه إلكيا في الموضعين وإنما الجواب ما ذكره ثانيا أن ذلك على وجه الحكاية بأن العرب لم تقصد حينئذ بها معناها الأصلي وإنما تأتي به في حكاية النكرات خاصة فيحصل الشبه بين كلام الحاكي والمخبر فإذا قال جاءتني امرأة قال له المستفهم منه للمحاكاة لا لأن اللفظ لا يتناول المؤنث إلا بعلامة التأنيث وذكر بعضهم أن من وإن لم يكن لها علامة تأنيث يفصل بها بالأصالة لكن يعرف ذلك من تأنيث الفعل الواقع بعدها وتذكيره نحو من فعل كذا ومن فعلت وهذا ضعيف لأنه يصح تذكير الفعل وتأنيثه مراعاة للفظها تارة ولمعناها أخرى قال تعالى ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا فذكر الفعل أولا ثم أنثه والخطاب فيهما للإناث
____________________
(2/332)
فروع ينبغي بناؤها على هذا الأصل منها أن المرتدة هل تقتل بناء على أنها دخلت في قوله من بدل دينه أو لا تعم ومنها إذا قتلت هل لها السلب فيه وجهان والأصح تعم لعموم قوله من قتل فله سلبه ومنها إذا نظرت في بيت بغير إذن صاحبه فالأصح أنها تهدر كالرجل لعموم قوله من اطلع على قوم بغير إذنهم الحديث عُمُومُ الْجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ الذُّكُورَ وَالْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ الْإِنَاثَ الْقِسْمُ الرَّابِعُ لَفْظٌ يُسْتَعْمَلُ فِيهِمَا بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ في الْمُؤَنَّثِ وَبِحَذْفِهَا في الْمُذَكَّرِ كَجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ نَحْوُ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ نَحْوُ قالوا كما قَالَهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في كِتَابِهِ وَهَذَا هو مَحَلُّ الْخِلَافِ وَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النِّسَاءُ فيه إلَّا بِدَلِيلٍ كما لَا يَدْخُلُ الرِّجَالُ في لَفْظِ الْمُؤَنَّثِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَمِمَّنْ نَسَبَهُ لِلشَّافِعِيِّ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وأبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وأبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَالْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي في الْأَقْضِيَةِ وَالرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ في كِتَابِ السِّيَرِ وابن الْقُشَيْرِيّ وَأَخَذُوا ذلك من قَوْلِهِ لَا جِهَادَ على النِّسَاءِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قال جَاهِدُوا وقال حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ على الْقِتَالِ دَلَّ على أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الذُّكُورَ دُونَ الْإِنَاثِ لِأَنَّ الْإِنَاثَ الْمُؤْمِنَاتِ قال الْقَفَّالُ وَأَصْلُ هذا أَنَّ الْأَسْمَاءَ وُضِعَتْ لِلدَّلَالَةِ على الْمُسَمَّى فَخُصَّ كُلُّ نَوْعٍ بِمَا يُمَيِّزُهُ فَالْأَلِفُ وَالتَّاءُ جُعِلَتْ عَلَمًا لِجَمْعِ الْإِنَاثِ وَالْوَاوُ وَالْيَاءُ وَالنُّونُ لِجَمْعِ الذُّكُورِ فَالْمُؤْمِنَاتُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَقَاتِلُوا خِلَافُ قَاتِلْنَ ثُمَّ قد تَقُومُ قَرَائِنُ تَقْتَضِي اسْتِوَاءَهُمَا فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ دُخُولُ الْإِنَاثِ في الذُّكُورِ وقد لَا تَقُومُ فَيَلْحَقْنَ بِالذُّكُورِ بِالِاعْتِبَارِ
____________________
(2/333)
وَالدَّلَائِلِ كما يَلْحَقُ الْمَسْكُوتُ عنه بِالْمَذْكُورِ بِدَلِيلٍ وَمِمَّا يَدُلُّ على هذا إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ على أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ غُلِّبَ الْمُذَكَّرُ فَلَوْلَا أَنَّ التَّسْمِيَةَ لِلْمُذَكَّرِ لم يَكُنْ هو الْغَالِبَ ولم يَكُنْ حَظُّهُ منها كَحَظِّ الْمُؤَنَّثِ وَلَكِنْ مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا إذَا اجْتَمَعَا اسْتَقَلَّ أَفْرَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِوَصْفٍ فَغُلِّبَ الْمُذَكَّرُ وَجُعِلَ الْحُكْمُ له فَدَلَّ على أَنَّ الْمَقْصُودَ هُمْ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ تَوَابِعُ انْتَهَى وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَسُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في الْكِفَايَةِ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ وَنَصَرَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في التَّبْصِرَةِ وَنَقَلَهُ في الْأَوْسَطِ عن مُعْظَمِ الْفُقَهَاءِ وَنَقَلَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ عن مُعْظَمِ أَهْلِ اللُّغَةِ وقال الْقَاضِي إنَّهُ الصَّحِيحُ قال وَلَسْت أَحْفَظُ عن مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا شيئا غير أَنَّ ظَاهِرَ مَذَاهِبِهِمْ الدُّخُولُ وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ كما قَالَهُ سُلَيْمٌ وابن السَّمْعَانِيِّ وابن السَّاعَاتِيِّ قُلْت منهم شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَصَاحِبُ اللُّبَابِ وَغَيْرُهُمْ إلَى أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ وَحَكَاهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ عن أبي حَنِيفَةَ وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عن ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ وَنُسِبَ لِلْحَنَابِلَةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَذْهَبِ قَوْلُهُ عليه السَّلَامُ سَبَقَ الْمُفْرِدُونَ هُمْ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ فَلَوْلَا دُخُولُهَا فيه لم يَحْسُنْ التَّفْسِيرُ بِذَلِكَ رَأَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ انْدِرَاجَ النِّسَاءِ تَحْتَ لَفْظِ الْمُسْلِمِينَ بِقَضِيَّةِ التَّغْلِيبِ لَا بِأَصْلِ الْوَضْعِ إذْ اللَّفْظُ لم يُوضَعْ لَهُنَّ وَهَذَا ما حَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عن أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وقال الْإِبْيَارِيُّ لَا خِلَافَ بين الْأُصُولِيِّينَ وَالنُّحَاةِ أَنَّ جَمْعَ الْمُذَكَّرِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمُؤَنَّثَ بِحَالٍ وَإِنَّمَا ذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى تَنَاوُلِهِ الْجِنْسَيْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ اشْتِرَاكُ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ في الْأَحْكَامِ لم تَقْصُرْ الْأَحْكَامُ على الذُّكُورِ قال وإذا حَكَمْنَا بِتَنَاوُلِ اللَّفْظِ لَهُمَا فَهَلْ تَقُولُ اجْتَمَعَ في اللَّفْظِ مُوجِبُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أو يَكُونُ جميعا مَجَازًا صِرْفًا فيه خِلَافٌ وَقِيَاسُ مَذْهَبِ الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مَجَازًا صِرْفًا وَقِيَاسُ قَوْلِ الْإِمَامِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فيه مُوجِبُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ انْتَهَى
____________________
(2/334)
وَحَاصِلَةُ الْإِجْمَاعِ على عَدَمِ الدُّخُولِ لُغَةً حَقِيقَةٌ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ في ظُهُورِهِ لِاشْتِهَارِهِ عُرْفًا وَغَيْرُهُ أَطْلَقَ الْخِلَافَ وَجَعَلَ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ مَحَلَّهُ ما إذَا وَرَدَ الْجَمْعُ مُجَرَّدًا أَمَّا لو ذُكِرْنَ مع الرِّجَالِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ يا أَيُّهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ من شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فَلَا خِلَافَ في دُخُولِهِنَّ في الْخِطَابِ وهو قَضِيَّةُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ فإنه وَافَقَ على الدُّخُولِ فِيمَا إذَا أَوْصَى لِرِجَالٍ وَنِسَاءٍ بِشَيْءٍ ثُمَّ قال أَوْصَيْت لَكُمْ بِكَذَا فإنه يَدْخُلُ النِّسَاءُ اتِّفَاقًا بِقَرِينَةِ الْإِيصَاءِ الْأَوَّلِ قال الْهِنْدِيُّ وَكَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ يُشْعِرُ بِتَخْصِيصِ الْخِلَافِ بِالْخِطَابَاتِ الْوَارِدَةِ من الشَّرْعِ لِقَرِينَةٍ عليه وَهِيَ الْمُشَارَكَاتُ في الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ قال وَاتَّفَقَ الْكُلُّ على أَنَّ الْمُذَكَّرَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ إنْ وَرَدَ مُقْتَرِنًا بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ وَمِنْ أَقْوَى ما احْتَجَّ بِهِ الْمُعَمِّمُونَ إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ على أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ غُلِّبَ الْمُذَكَّرُ وَعَلَى هذا وَرَدَ قَوْله تَعَالَى اهْبِطُوا منها جميعا في خِطَابِ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِبْلِيسَ قال الْمَاوَرْدِيُّ هذا مَنْشَأُ الْخِلَافِ وَأُجِيبَ عنه بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ من صِحَّةِ إرَادَةِ الشَّيْءِ من الشَّيْءِ إرَادَتُهُ منه إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا من غَيْرِ قَرِينَةٍ كَيْفَ وَالْوَاقِعُ من أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ إنَّمَا هو تَغْلِيبُ الْخِطَابِ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ إذَا اجْتَمَعُوا وَأَنَّهُ يُغَلَّبُ جَانِبُ التَّذْكِيرِ ولم يَذْكُرُوا أَنَّ اللَّفْظَةَ عِنْدَ إطْلَاقِهَا مَوْضُوعَةٌ لِتَنَاوُلِ الْجَمِيعِ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ مَوْضِعُ الْخِلَافِ في الْخِلَافِ غَيْرِ الشِّفَاهِيِّ وَقِيَامِ الْقَرِينَةِ على الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ أَمَّا الْخِطَابُ الشِّفَاهِيُّ كَقَوْلِهِ أَعْطُوا هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ وَهُمْ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ دَخَلْنَ قَطْعًا ولم يَخْتَلِفْ الْمُفَسِّرُونَ في قَوْله تَعَالَى اهْبِطُوا منها جميعا أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ حَوَّاءَ وَأَمَّا الْقَرِينَةُ الْمُخْرِجَةُ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ فَقَدْ خَصَّهُ عليه السَّلَامُ بِغَيْرِ النِّسَاءِ لِنَهْيِهِ عن قَتْلِ النِّسَاءِ وَأَمَّا الْقَرِينَةُ الْمُدْخِلَةُ فَكَقَوْلِهِ أَقِيمُوا الْحُدُودَ على ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فإن الْمَعْنَى في اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ الْمِلْكُ وهو شَامِلٌ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَلِهَذَا أَقَامَتْ عَائِشَةُ الْحَدَّ على أَمَةٍ لها وَيَخْرُجُ من هذا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ ما يَدْخُلْنَ قَطْعًا وما لَا يَدْخُلْنَ قَطْعًا وما يَدْخُلْنَ على الْأَصَحِّ وما لَا يَدْخُلْنَ على الْأَصَحِّ
____________________
(2/335)
الثَّانِي سَكَتُوا عن الْخَنَاثَى هل يَدْخُلُونَ في خِطَابِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَالظَّاهِرُ من تَصَرُّفِ الْفُقَهَاءِ دُخُولُهُمْ في خِطَابِ النِّسَاءِ فِيمَا فيه تَغْلِيظٌ وَخِطَابُ الرِّجَالِ فِيمَا فيه تَخْفِيفٌ وقد يَجْعَلُونَهُ في مَوَاضِعَ خَارِجًا عن الْقِسْمَيْنِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ في دُخُولِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ تَحْتَ الْخِطَابِ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ نَحْوُ يا أَيُّهَا الناس وَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهَا الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي أَحَدُهَا يَدْخُلُونَ فيه لِتَوَجُّهِ التَّكْلِيفِ إلَيْهِمْ الثَّانِي لَا يَدْخُلُونَ إلَّا بِدَلِيلٍ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعُ الْأَحْرَارِ وَالثَّالِثُ إنْ تَضَمَّنَ الْخِطَابُ تَعَبُّدًا تَوَجَّهَ إلَيْهِمْ وَإِنْ تَضَمَّنَ مِلْكًا أو عَقْدًا أو وِلَايَةً لم يَدْخُلُوا فيه قِيلَ وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالْغَزْوِ وَالْخَرَاجِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ له وَإِنْ مَلَكَ وَفِيهِ نَظَرٌ وَاَلَّذِي عليه أَتْبَاعُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وهو الصَّحِيحُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ إتْبَاعًا لِمُوجِبِ الصِّيغَةِ وَلَا يَخْرُجُونَ إلَّا بِدَلِيلٍ كما قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ عن مُعْظَمِ الْأَصْحَابِ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ عن مُعْظَمِ أَصْحَابِهِمْ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ قد جَعَلَ الشَّافِعِيُّ بَعْضَ الظَّوَاهِرِ بِالتَّرْجِيحِ لِلْأَحْرَارِ إذْ كان أَكْثَرُ الْخِطَابِ في الشَّرْعِ مَخْصُوصًا بِهِمْ فَتَوَهَّمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ فيه قَوْلَيْنِ وَلَيْسَ لِذَلِكَ وَإِنَّمَا جُعِلَ في الْأَحْرَارِ بِالتَّرْجِيحِ على حَمَلَةِ الشَّرْعِ وَفَصَّلَ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ من الْحَنَفِيَّةِ بين أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِحَقِّ اللَّهِ فَيَشْمَلُهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِحَقِّ الْآدَمِيِّينَ فَلَا وَلِهَذَا يَمْتَنِعُ شَهَادَةُ الْعَبِيدِ وَلِأَنَّ اسْتِغْرَاقَهُمْ بِحُقُوقِ السَّادَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ على امْتِيَازِهِمْ عن حُكْمِ الْعُمُومِ وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ وَالْمَازِرِيُّ عن ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ منهم وفي دُخُولِ الْمُبَعَّضِ كَلَامٌ سَبَقَ في بَحْثِ التَّكْلِيفِ
____________________
(2/336)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْأَكْثَرُ كما قَالَهُ الْأُسْتَاذُ دُخُولُ الْكَافِرِ في الْخِطَابِ الصَّالِحِ له وَلِلْمُؤْمِنِينَ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا كَيَا أَيُّهَا الناس يا أُولِي الْأَلْبَابِ فَيَعُمُّ وَلَا يَخْرُجُ منها أَحَدٌ إلَّا بِدَلِيلٍ وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْمُؤْمِنِينَ وَقِيلَ يَدْخُلُونَ في حُقُوقِ اللَّهِ دُونَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وقد سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ في بَابِ التَّكْلِيفِ قال الْهِنْدِيُّ وَالْقَائِلُونَ بِعَدَمِ دُخُولِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ إنْ زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهَا من حَيْثُ اللُّغَةُ فَهُوَ مُكَابَرَةٌ وَإِنْ زَعَمُوا التَّنَاوُلَ لَكِنَّ الرِّقَّ وَالْكُفْرَ في الشَّرْعِ خَصَّصَهُمْ فَهُوَ بَاطِلٌ لِلْإِجْمَاعِ على أَنَّهُمَا مُكَلَّفَانِ في الْجُمْلَةِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْخِطَابُ بِيَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يَشْمَلُ الْأُمَّةَ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ لِأَنَّ اللَّفْظَ قَاصِرٌ عليهم قال أبو الْبَرَكَاتِ بن تَيْمِيَّةَ في مُسَوَّدَتِهِ الْأُصُولِيَّةِ هو على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا خِطَابٌ على لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى اللَّهُ عليه وسلم كَقَوْلِهِ يا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا في دِينِكُمْ يا بَنِي إسْرَائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِي فَهَذَا حُكْمُ سَائِرِ الناس فيه حُكْمُ بَنِي إسْرَائِيلَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ إنْ شَارَكُوهُمْ في الْمَعْنَى دَخَلُوا وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ صِنْفٌ من الْمَأْمُورِينَ بِالْقُرْآنِ نَظِيرُ خِطَابِهِ لِوَاحِدٍ من الْأُمَّةِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ في حَقِّ مِثْلِهِ ثُمَّ هل عَمَّ عُرْفًا أو عَقْلًا فيه الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ وَالثَّانِي خِطَابُهُ لهم على لِسَانِ مُوسَى وَغَيْرِهِ من الْأَنْبِيَاءِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ شَرْعِ من قَبْلَنَا وَالْحُكْمُ هُنَا لَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ الْخَطَّابِيِّ قَطْعًا لَكِنْ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ الْعَقْلِيِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كما دَلَّ عليه قَوْله تَعَالَى لقد كان في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَقَوْلُهُ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصَارِ وَنَحْوُهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعُمُومَ يَكُونُ تَارَةً لِلْأَشْخَاصِ وَتَارَةً لِلْأَفْعَالِ وفي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ يَعُمُّ وَهَلْ هو بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ أو بِالْعِبَارَةِ الْعُرْفِيَّةِ أو بِالْعِبْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ
____________________
(2/337)
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الْخِطَابُ بِ يا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ حَكَى ابن السَّمْعَانِيِّ في الِاصْطِلَاحِ عن بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَشْمَلُ غَيْرَهُمْ من الْكُفَّارِ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ ثُمَّ اخْتَارَ التَّعْمِيمَ لهم وَلِغَيْرِهِمْ لِعُمُومِ التَّكْلِيفِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إنَّمَا خُصُّوا بِالذِّكْرِ من بَابِ خِطَابِ التَّشْرِيفِ لَا خِطَابِ التَّخْصِيصِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ من الرِّبَا وقد ثَبَتَ تَحْرِيمُ الرِّبَا في حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ قُلْت وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ في التَّنَاوُلِ بِالصِّيغَةِ لَا بِأَمْرٍ خَارِجٍ وقال بَعْضُهُمْ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ لَفْظًا وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ أو من عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ وَإِلَّا كَيْفَ بِعُمُومِ الشَّرِيعَةِ لهم وَلِغَيْرِهِمْ وَأَمَّا حَيْثُ يَظْهَرُ الْفَرْقُ أو يُمْكِنُ مَعْنًى غَيْرُ شَامِلٍ لهم فَلَا يُقَالُ بِثُبُوتِ ذلك الْحُكْمِ لهم لِأَنَّهُ يَكُونُ إثْبَاتَ حُكْمٍ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَالتَّعَلُّقُ قَدْرٌ زَائِدٌ على الْوُجُوبِ فَلَا يَثْبُتُ في حَقِّهِمْ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا مَعْنًى مَسْأَلَةٌ وقد يَجِيءُ الْخِطَابُ بِيَا أَيُّهَا الناس لِلْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً في قَوْلِهِ يا أَيُّهَا الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا له بِدَلِيلِ قَوْلِهِ إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ من دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ وقال إنَّهُ من الْعُمُومِ الذي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ خِطَابُ الْمُوَاجَهَةِ هل يَشْمَلُ الْمَعْدُومِينَ الْخِطَابُ الْوَارِدُ شِفَاهًا في عَصْرِ النبي عليه السَّلَامُ مِثْلُ يا أَيُّهَا الناس وَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَيُسَمَّى خِطَابَ الْمُوَاجَهَةِ لَا خِلَافَ في شُمُولِهِ لِمَنْ بَعْدَهُمْ من الْمَعْدُومِينَ حَالَ صُدُورِهِ لَكِنْ هل هو بِاللَّفْظِ أو بِدَلِيلٍ آخَرَ من إجْمَاعٍ أو قِيَاسٍ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ من الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ من اللَّفْظِ وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى
____________________
(2/338)
الثَّانِي وَأَنَّ شُمُولَ الْحُكْمِ لِمَنْ بَعْدَهُمْ بِالْإِجْمَاعِ أو الْقِيَاسِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ مِمَّا عُرِفَ بِالضَّرُورَةِ من دِينِهِ عليه السَّلَامُ أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِأَهْلِ زَمَانِهِ فَهُوَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ هُمْ مُكَلَّفُونَ لَا من الْخِطَابِ وَلَكِنْ لَمَّا كانت الرِّسَالَةُ رَاجِعَةً إلَى سَائِرِ الْقُرُونِ كَانُوا سَوَاءً قال تَعَالَى لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ وَقَوْلُهُ بُعِثْت إلَى الناس كَافَّةً قُلْت وَأَصْرَحُ مِنْهُمَا قَوْله تَعَالَى هو الذي بَعَثَ في الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا إلَى قَوْلِهِ وَآخَرِينَ منهم لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وقال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بن دَقِيقِ الْعِيدِ من قال بِخُصُوصِهِ بِالْمُخَاطَبِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَبِرَ فيه أَحْوَالَ الْمُخَاطَبِينَ وَلَا يُدْخِلُ في خِطَابِهِمْ من ليس بِصِفَتِهِمْ إلَّا بِدَلِيلٍ من خَارِجٍ وَهَذَا غَيْرُ الِاخْتِصَاصِ بِأَعْيَانِهِمْ وهو أَعْلَى مَرْتَبَةً منه لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْأَعْيَانِ في الْأَحْكَامِ مَحْمُولٌ غَالِبًا غَلَبَةً كَثِيرَةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ لَا تُعْتَبَرُ أَحْوَالُهُمْ وَصِفَاتُهُمْ إلَّا أَنْ يُحْتَمَلَ اعْتِبَارُهَا لِمُنَاسَبَةٍ أو غَيْرِهَا وَالْأَلْيَقُ بِالتَّخْصِيصِ الْأَوَّلُ وقال في شَرْحِ الْعُنْوَانِ الْخِلَافُ في أَنَّ خِطَابَ الْمُشَافَهَةِ هل يَشْمَلُ غير الْمُخَاطَبِينَ قَلِيلُ الْفَائِدَةِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فيه خِلَافٌ عِنْدَ التَّحْقِيقِ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُنْظَرَ إلَى مَدْلُولِ اللَّفْظِ لُغَةً وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ غير الْمُخَاطَبِ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ الْحُكْمَ يَقْتَصِرُ على غَيْرِ الْمُخَاطَبِ إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ على الْعُمُومِ في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا وَهَذَا بَاطِلٌ لِمَا عُلِمَ قَطْعًا من الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْأَحْكَامَ عَامَّةٌ إلَّا حَيْثُ يَرِدُ التَّخْصِيصُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَبَّرَ جَمَاعَةٌ عن هذه الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ الْخِطَابَ مع الْمَوْجُودِينَ في زَمَنِهِ عليه السَّلَامُ لَا يَتَنَاوَلُ من بَعْدَهُمْ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَذَكَرَهَا بَعْضُهُمْ أَخَصَّ من هذا وَفَرْضُ الْمَسْأَلَةِ في يا أَيُّهَا الناس وَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كما ذَكَرْنَا وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْأَلْفَاظُ لها حَالَتَانِ تَارَةً تَكُونُ مَحْكُومًا بها نَحْوُ زَيْدٌ قَائِمٌ أو مُخَاطَبَةً بِخِطَابِ الْمُوَاجَهَةِ نَحْوُ يا زَيْدُ وَتَارَةً تَكُونُ مُتَعَلَّقَ الْحُكْمِ نَحْوُ اصْحَبْ
____________________
(2/339)
الْعُلَمَاءَ فَالْمُسَمَّيَاتُ في الْحَالَةِ الْأُولَى يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً حَالَ الْحُكْمِ أو الْخِطَابِ فإن الْقَضَاءَ بِالْحَقِيقَةِ في الْخَارِجِ فَرْعُ وُجُودِهَا وَكَذَلِكَ الْمُتَكَلِّمُ مَعَهَا وَمَدَارُهَا في الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً في الْخَارِجِ بَلْ اللَّفْظُ حَقِيقَةٌ فِيمَا وُجِدَ وَسَيُوجَدُ منها كَقَوْلِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ اصْحَبْ الْعُلَمَاءَ لَا فَرْقَ فيه بين من يَكُونُ عَالِمًا حَالَ الْخِطَابِ وَبَيْنَ من سَيَصِيرُ عَالِمًا بَعْدَ ذلك وَكَذَلِكَ اقْطَعُوا السَّارِقَ وَحُدُّوا الزُّنَاةَ وَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ على نَحْوِ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ وَقَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي يَتَنَاوَلُ مُشْرِكِي زَمَانِنَا وَسُرَّاقَهُمْ وَزُنَ لَا على وَجْهِ الْمَجَازِ لَكِنْ اتَّفَقُوا أَيْضًا على أَنَّ الِاتِّصَافَ بِالصِّفَةِ الْمُشْتَقَّةِ لِمَنْ لم تَعُمَّ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى قِيَامِهَا في الْمُسْتَقْبَلِ مَجَازٌ كما في قَوْله تَعَالَى إنَّك مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ وَلَا طَرِيقَ إلَى الْجَمْعِ بين هَذَيْنِ الِاتِّفَاقَيْنِ إلَّا ما ذَكَرْنَاهُ من كَوْنِ الصِّفَةِ مَحْكُومًا بها وَكَوْنِهَا مُتَعَلَّقَ الْحُكْمِ وقد اعْتَرَضَ النَّقْشَوَانِيُّ في تَلْخِيصِ الْمَحْصُولِ على هذه الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِ الْأُصُولِيِّينَ إنَّ الْمَعْدُومَ يَكُونُ مُخَاطَبًا بِالْخِطَابِ السَّابِقِ ولم يُفَرِّقُوا بين خِطَابِ الْمُشَافَهَةِ وَغَيْرِهِ وهو غَفْلَةٌ منهم لِأَنَّ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ إنَّمَا هِيَ في الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ وَالْكَلَامُ النَّفْسِيُّ له تَعَلُّقٌ بِمَنْ سَيُوجَدُ على تَقْدِيرِ وُجُودِهِ وَتَعَلُّقُ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ ليس من بَابِ أَوْضَاعِ اللُّغَةِ في شَيْءٍ بَلْ هو أَمْرٌ عَقْلِيٌّ وَلِذَلِكَ مَثَّلُوهُ بِأَنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ في نَفْسِهِ طَلَبَ الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ وَاَلَّذِي من وَلَدٍ سَيُوجَدُ له على تَقْدِيرِ وُجُودِهِ بِخِلَافِ هذه الْمَسْأَلَةِ فإن مُعْتَمَدَ الْقَوْلِ بِأَنَّ خِطَابَ الْمُشَابَهَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَعْدُومَ أَنَّ الْعَرَبَ لم تَضَعْ مِثْلَ قُومُوا وَلَا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ خِطَابًا لِلْمَعْدُومِ بَلْ وَلَا لِلْمَوْجُودِ الْغَائِبِ بَلْ الْحَاضِرُ الْقَرِيبُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْبَحْثَ في هذه الْمَسْأَلَةِ لُغَوِيٌّ وَتِلْكَ عَقْلِيٌّ فَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَهُمَا وَمِمَّنْ أَوْرَدَ هذا السُّؤَالَ أَيْضًا صَاحِبُ الْبَدِيعِ وَأَجَابَ عنه بِأَنَّ الْكَلَامَ ثَمَّ في تَسْمِيَتِهِ أَمْرًا وَهُنَا في تَسْمِيَتِهِ خِطَابًا وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا فإن مَعْنَى تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِالْمَعْدُومِ التَّعَلُّقُ الْعِلْمِيُّ لَا التَّنْجِيزِيُّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى خِطَابًا لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَمَّا قُصِدَ بِهِ إفْهَامُ من هو مُتَهَيِّئٌ لِلْفَهْمِ وهو غَيْرُ مُمْكِنٍ في الْمَعْدُومِ وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ إذَا قُلْنَا إنَّ كَلَامَ اللَّهِ في الْأَزَلِ لَا يُسَمَّى خِطَابًا فَإِنْ قُلْنَا يُسَمَّى فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ الذي قال بِتَنَاوُلِ الْخِطَابِ لِلْمَعْدُومِ زَمَنَ النبي عليه السَّلَامُ أَرَادَ بِهِ التَّنَاوُلَ عِنْدَ صَيْرُورَتِهِ أَهْلًا لِلْخِطَابِ كما في الْأَمْرِ لَا أَنَّهُ حَالَ عَدَمِهِ مُخَاطَبٌ بِمَعْنًى يَفْهَمُهُ في ذلك الْوَقْتِ
____________________
(2/340)
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ هل خِطَابُ اللَّهِ رَسُولَهُ بِلَفْظٍ يَخْتَصُّ بِهِ يَشْمَلُ أُمَّتَهُ الْخِطَابُ الْمُخْتَصُّ بِالنَّبِيِّ عليه السَّلَامُ بِوَضْعِ اللِّسَانِ مِثْلُ يا أَيُّهَا النبي وَيَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْأُمَّةُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ من قِيَاسٍ وَغَيْرِهِ وَحِينَئِذٍ فَيَشْمَلُهُمْ الْحُكْمُ لَا بِاللَّفْظِ وَقِيلَ يَدْخُلُ في اللَّفْظِ فَهُوَ عَامٌّ إلَّا بِدَلِيلٍ يُخْرِجُهُ وَنُقِلَ عن أبي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ من أَصْحَابِنَا وهو بَعِيدٌ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ على التَّعْبِيرِ بِالْكَبِيرِ عن أَتْبَاعِهِ فَيَكُونُ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً وقال ابن الْقُشَيْرِيّ قالت الْحَنَفِيَّةُ الْأُمَّةُ معه بِشَرْعٍ في الْخِطَابِ الْمُخْتَصِّ وَلِهَذَا قالوا يَصِحُّ لنا النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ قال وَالْمُخْتَارُ أَنْ يُقَالَ أَمَّا اللَّفْظُ في وَضْعِهِ فَمُخْتَصٌّ بِهِ وَأَمَّا أَنَّ الصَّحَابَةَ هل كَانُوا يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ مِثْلًا له في الْخِطَابِ فَلَسْنَا على ثَبْتٍ في ذلك وَالْغَالِبُ على الظَّنِّ أَنَّهُمْ ما كَانُوا يَطْلُبُونَ مُشَارَكَتَهُ فِيمَا اخْتَصَّ بِهِ فَأَمَّا ما لم تَظْهَرْ خَاصَّتُهُ فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ وَفَصَّلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فقال الصِّيغَةُ إمَّا أَنْ تَرِدَ في مَحَلِّ التَّخْصِيصِ أو لَا فَإِنْ وَرَدَتْ فَهُوَ خَاصٌّ وَإِلَّا عَامٌّ لِأَنَّا لم نَجِدْ دَلِيلًا نَاطِقًا على التَّخْصِيصِ وَلَا على التَّعْمِيمِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِلَافَ حَيْثُ لَا يَظْهَرُ اخْتِصَاصُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَإِنْ ظَهَرَ اخْتَصَّ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا مَعْنَى لِهَذَا التَّفْصِيلِ فَكَأَنَّ الْإِمَامَ يقول بِالْعُمُومِ في هذه الْمَسْأَلَةِ فَلِهَذَا نَقَلْنَاهُ عنه أَوَّلًا وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ مُقَيَّدًا بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هو الْمَقْصُودُ بِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَمَّا ما قَامَتْ قَرِينَةٌ على أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحُكْمِ غَيْرُهُ وَأَتَى بِلَفْظِهِ لِجَلَالَةِ وُقُوعِ الْمُشَافَهَةِ معه كما في قَوْله تَعَالَى لَئِنْ أَشْرَكْت لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك فَهَذَا لَا مَدْخَلَ له فيه صلى اللَّهُ عليه وسلم بِلَا خِلَافٍ وَعَلَى هذا فَذِكْرُ ابْنِ الْحَاجِبِ هذه الْآيَةَ في صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ ليس بِجَيِّدٍ وَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِمُخَاطَبَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِذَلِكَ وَهُمْ مَعْصُومُونَ بَلْ ذلك على سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالْمُحَالُ يَصِحُّ فَرْضُهُ لِغَرَضٍ وَحَكَى ابن عَطِيَّةَ عن مَكِّيِّ وَالْمَهْدَوِيِّ أَنَّ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ فَلَا تَكُونَنَّ من الْجَاهِلِينَ لِلنَّبِيِّ عليه السَّلَامُ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ
____________________
(2/341)
قال وَهَذَا ضَعِيفٌ وَلَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ وَارْتَكَبَ شَطَطًا في التَّأْوِيلِ قال وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَعْلَمَ قَوْلَ اللَّهِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هذا وَنَحْوَهُ من بَابِ الْخِطَابِ الْعَامِّ من غَيْرِ قَصْدِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ وَالْمَعْنَى اتِّفَاقُ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ على ذلك وَيُسْتَرَاحُ حِينَئِذٍ من إيرَادِ هذا السُّؤَالِ من أَصْلِهِ أَمَّا فِيمَا لم يَظْهَرْ أَنَّ الْأُمَّةَ مَقْصُودَةٌ بِهِ فَإِنْ قَامَتْ قَرِينَةٌ لَفْظِيَّةٌ على دُخُولِهِمْ فَلَا خِلَافَ في عُمُومِهِ وَتَكُونُ الْقَرِينَةُ مُبَيِّنَةً أَنَّهُ عَبَّرَ بِلَفْظِهِ عنه وَعَنْ غَيْرِهِ مَجَازًا هذا كما في قَوْله تَعَالَى يا أَيُّهَا النبي إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ الْآيَةَ فإن ضَمِيرَ الْجَمْعِ في قَوْلِهِ طَلَّقْتُمْ وَطَلِّقُوهُنَّ قَرِينَةٌ لَفْظِيَّةٌ تَدُلُّ على أَنَّ الْأُمَّةَ مَقْصُودَةٌ معه بِالْحُكْمِ وَأَنَّهُ خُصَّ بِالْخِطَابِ لِكَوْنِهِ مَتْبُوعَهُمْ وَلَوْلَا فَهْمُ عُمُومِهَا لِلْأُمَّةِ لَمَا افْتَتَحَ بها وَاعْلَمْ أَنَّ مِثْلَ هذا الْخِطَابِ نَوْعَانِ نَوْعٌ مُخْتَصٌّ لَفْظُهُ بِالنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَكِنْ يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى كَقَوْلِهِ يا أَيُّهَا النبي لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَك تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِك ثُمَّ قال قد فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَقَوْلُهُ يا أَيُّهَا النبي إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ وَنَوْعٌ يَكُونُ الْخِطَابُ له وَلِلْأُمَّةِ وَأَفْرَدَهُ بِالْخِطَابِ لِكَوْنِهِ هو الْمُوَاجَهُ بِالْوَحْيِ وهو الْأَصْلُ فيه وَالْمُبَلِّغُ لِلْأُمَّةِ وَالسَّفِيرُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ الْخِطَابُ له وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ ولم يُرِيدُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ لم يُخَاطَبْ بِذَلِكَ أَصْلًا كما يقول السُّلْطَانُ لِمُقَدِّمِ الْعَسَاكِرِ اُخْرُجْ غَدًا أو انْزِلْ بِمَكَانِ كَذَا وَاحْمِلْ على الْعَدُوِّ في وَقْتِ كَذَا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى ما أَصَابَك من حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وما أَصَابَك من سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِك بِخِلَافِ قَوْلِهِ وَأَرْسَلْنَاك لِلنَّاسِ رَسُولًا الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ الْخِطَابُ لِلْأُمَّةِ إنْ اخْتَصَّ بِهِمْ نَحْوُ يا أَيُّهَا الْأُمَّةُ فَلَا يَدْخُلُ الرَّسُولُ تَحْتَهُ بِلَا خِلَافٍ كما قال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَأَشَارَ إلَيْهِ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في كِتَابِ الْإِفَادَةِ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ فَالْأَوَّلُ عَامٌّ وَالثَّانِي خَاصٌّ فِينَا دُونَهُ لِأَنَّهُ هو الذي أَمَرَنَا بِالِاسْتِجَابَةِ له وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ
____________________
(2/342)
قد أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولًا تَقْدِيرُهُ اُطْلُبُوا رَسُولًا على الْإِغْرَاءِ وَهَذَا أَيْضًا فِينَا دُونَهُ ا هـ وَإِنْ أَمْكَنَ تَنَاوُلُهُ نَحْوُ يا أَيُّهَا الناس وَيَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَيَا عِبَادِي فَاخْتَلَفُوا فيه فَالْأَكْثَرُ على أَنَّهُ يَشْمَلُهُ وَقِيلَ لَا لِأَجْلِ الْخَصَائِصِ الثَّابِتَةِ له وَالثَّالِثُ نُقِلَ عن أبي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ وَالْحَلِيمِيِّ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَسْبِقَهُ تَبْلِيغٌ نَحْوُ قُلْ وَنَحْوِهِ فَلَا يَشْمَلُهُ فإن الْأَمْرَ بِالتَّبْلِيغِ يُؤَثِّرُ في عُمُومِ الْخِطَابِ وَإِنْ وَرَدَ مُسْتَرْسِلًا فَالرَّسُولُ فيه بِمَثَابَةِ غَيْرِهِ وَاسْتَنْكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ لِأَنَّ الْقَوْلَ فيها جميعا مُسْتَنِدٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالرَّسُولُ مُبَلِّغٌ خِطَابَهُ إلَيْنَا فَلَا مَعْنَى لِلتَّفْرِقَةِ وقال الْمُقْتَرَحُ في تَعْلِيقِهِ الْخِطَابُ إمَّا أَنْ يَكُونَ من الْكِتَابِ أو من السُّنَّةِ فَإِنْ كان من الْكِتَابِ فَهُوَ مُبَلِّغٌ عن اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْمُبَلِّغُ يَنْدَرِجُ تَحْتَ عُمُومِ الْخِطَابِ وَإِنْ كان من السُّنَّةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُجْتَهَدًا أو لَا فَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ مُجْتَهَدٌ فَيَرْجِعُ إلَى أَنْ الْمُخَاطَبَ هل يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ أَمْ لَا وَإِنْ لم يَكُنْ مُجْتَهِدًا فَهُوَ مُبَلِّغٌ وَالْمُبَلِّغُ إذَنْ دَاخِلٌ تَحْتَ الْخِطَابِ ثُمَّ قِيلَ لَا فَائِدَةَ لِلْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ وَقِيلَ بَلْ تَظْهَرُ فَائِدَتُهَا فِيمَا إذَا وَرَدَ الْعُمُومُ وَجَاءَ فِعْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِخِلَافِهِ فَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ دَاخِلٌ في خِطَابِهِ كان فِعْلُهُ نَسْخًا وَإِنْ قُلْنَا ليس بِدَاخِلٍ لم يَخُصَّ فِعْلُهُ الْعُمُومَ وَبَقِيَ على شُمُولِهِ في ذلك الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ الْخِطَابُ الْخَاصُّ لُغَةً بِوَاحِدٍ من الْأُمَّةِ هل يَشْمَلُ غَيْرَهُ من الْأُمَّةِ الْخِطَابُ الْخَاصُّ لُغَةً بِوَاحِدٍ من الْأُمَّةِ إنْ خُصَّ فيه بِالتَّخْصِيصِ فَلَا شَكَّ فيه لِقَوْلِهِ وَلَنْ تَجْزِيَ عن أَحَدٍ بَعْدَك وَإِنْ صَلَحَ أَنْ يَتَنَاوَلَ غَيْرَهُ فَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ من الْأُمَّةِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ على وُجُوبِ تَعْمِيمِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَنَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ قال الْإِمَامُ في بَابِ الرَّضَاعِ من النِّهَايَةِ في الْكَلَامِ على إرْضَاعِ الْكَبِيرِ وقد
____________________
(2/343)
أَشَارَ الشَّافِعِيُّ إلَى تَصَرُّفٍ في حَدِيثٍ سَالِمٍ رَمَزَ إلَيْهِ الْمُزَنِيّ وهو أَنَّ خِطَابَ رسول اللَّهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا اخْتَصَّ بِشَخْصٍ في حِكَايَةِ حَالٍ فَحُكْمُ الصِّيغَةِ اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِالْمُخَاطَبِ وإذا قَضَيْنَا بِأَنَّ الناس في الشَّرْعِ وَاحِدٌ فَهُوَ يُتَلَقَّى من إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لِمَا يُشَاهِدُونَهُ من قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ الدَّالَّةِ على الِاخْتِصَاصِ قُلْنَا اضْطَرَبَ رَأْيُهُمْ في قَضِيَّةِ سَالِمٍ في التَّخْصِيصِ وَاللَّفْظُ في نَفْسِهِ مُخْتَصٌّ بِالْمُخَاطَبِ فلم يَجُزْ تَعْمِيمُ الْحُكْمِ سِيَّمَا إذَا اعْتَقَدَ خِلَافَهُ مِمَّا يَسْتَقِلُّ دَلِيلًا انْتَهَى وقال الْقَاضِي من الْحَنَابِلَة وَغَيْرُهُ عَامٌّ بِنَفْسِهِ قال أبو الْخَطَّابِ منهم هذا إذَا وَقَعَ جَوَابًا لِسُؤَالٍ كَقَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ وَاقَعْت فقال اعْتِقْ فَأَمَّا نَحْوُ قَوْلِهِ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَلَا يَدْخُلُ فيه كُلُّ الصَّحَابَةِ وَكَذَا قَوْلُهُ لِلرَّجُلِ قُمْ فَبَارِزْ فَلَا يَجُوزُ على غَيْرِهِ الْمُبَارَزَةُ قال وَكَذَلِكَ إذَا حُكِمَ صلى اللَّهُ عليه وسلم في حَادِثَةٍ بين نَفْسَيْنِ كان وَاجِبًا على كل أَحَدٍ أَنْ يُحْكَمَ عليه بِمِثْلِ تِلْكَ الْحَادِثَةِ وَهَذَا لَا أَعْلَمُ فيه خِلَافًا انْتَهَى وَاقْتَضَى كَلَامُ الْقَاضِي منهم أَنَّهُ عَامٌّ بِعُرْفِ الشَّرْعِ لَا بِوَضْعِ اللُّغَةِ لِلْقَطْعِ بِاخْتِصَاصِهِ بِهِ لُغَةً وَمِنْ ثَمَّ قال بَعْضُهُمْ ليس النِّزَاعُ لَفْظِيًّا وَحَكَى أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا في الْمَسْأَلَةِ وقال الْأَكْثَرُونَ على الْأَوَّلِ قال وَالثَّانِي أَنَّهُ لِلْعُمُومِ بِدَلِيلِ حُكْمِي على الْوَاحِدِ وَعَلَى هذا فقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في كَيْفِيَّةِ الْحُكْمِ بِذَلِكَ في غَيْرِ السَّائِلِ هل هو بِالْقِيَاسِ أو بِقَوْلِهِ خِطَابِي لِلْوَاحِدِ خِطَابِي لِلْجَمَاعَةِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ انْتَهَى
____________________
(2/344)
وَيَخْرُجُ من كَلَامِ الْإِمَامِ السَّابِقِ رَأْيٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ بِالْإِجْمَاعِ ثُمَّ صَوَّرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا الْمَسْأَلَةَ بِخِطَابِهِ عليه السَّلَامُ وَصَوَّرَهَا الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ في أَعَمَّ من ذلك وَهِيَ مُخَاطَبَةُ الشَّارِعِ وَاحِدًا بِلَفْظٍ مُخْتَصٍّ بِهِ سَوَاءٌ كان الْمُخَاطِبُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم نَحْوُ يا أَيُّهَا النبي حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ على الْقِتَالِ يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ أو الْمُخَاطِبُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَاحِدًا من أُمَّتِهِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ في الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ فقال لَا شَكَّ أَنَّ الْخِطَابَ خُصَّ لُغَةً بِذَلِكَ الْوَاحِدِ وَلَا يَنْبَغِي فيه خِلَافٌ وَأَنَّهُ عَامٌّ بِحَسَبِ الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ وَلَا يَنْبَغِي فيه خِلَافٌ فَلَا مَعْنَى لِلْخِلَافِ في الْمَسْأَلَةِ قال الْمُقْتَرِحُ بَلْ هو مَعْنَوِيٌّ وهو أَنَّا نَقُولُ الْأَصْلُ ما هو هل هو مَوْرِدُ الشَّرْعِ أو مُقْتَضَى الْعُرْفِ وقال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ في الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ بَلْ الذي نُسَلِّمُهُ عُمُومُ مُقْتَضَى الْخِطَابِ غير عُمُومٍ قَطْعًا وَالنِّزَاعُ إنَّمَا هو في الثَّانِي لَا في الْأَوَّلِ وَالْحَقُّ أَنَّ التَّعْمِيمَ مُنْتَفٍ لُغَةً ثَابِتٌ شَرْعًا وَالْخِلَافُ في أَنَّ الْعَادَةَ هل تَقْضِي بِالِاشْتِرَاكِ بِحَيْثُ يَتَبَادَرُ فَهْمُ أَهْلِ الْعُرْفِ إلَيْهَا أو لَا فَأَصْحَابُنَا يَقُولُونَ لَا قَضَاءَ لِلْعَادَةِ في ذلك كما لَا قَضَاءَ لِلُّغَةِ وَالْخَصْمُ يقول إنَّهَا تَقْضِي بِذَلِكَ وَهَذَا نَقْلُ ابن السَّمْعَانِيِّ عَنْهُمْ الِاحْتِجَاجَ بِأَنَّ عَادَةَ أَهْلِ اللِّسَانِ مُخَاطَبَةُ الْوَاحِدِ وَإِرَادَةُ الْجَمَاعَةِ تَنْبِيهٌ تَطْبِيبُهُ عليه السَّلَامُ هل يُفِيدُ التَّعْمِيمَ هذا في الْأَحْكَامِ وَأَمَّا تَطْبِيبُهُ عليه السَّلَامُ لِأَصْحَابِهِ وَأَهْلِ أَرْضِهِ فقال الْحَافِظُ شَمْسُ الدِّينِ الذَّهَبِيُّ في مُخْتَصَرِ الْمُسْتَدْرَكِ هو خَاصٌّ بِطِبَاعِهِمْ وَأَرْضِهِمْ إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ على التَّعْمِيمِ لِأَنَّ تَطْبِيبَهُ من بَابِ الْمُبَاحِ بِخِلَافِ أَوَامِرِهِ الشَّرْعِيَّةِ ذَكَرَهُ في حَدِيثٍ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِصَبِيٍّ لها فقالت أَتْقَأُ منه الْعَذِرَةَ فقال تَحَرَّقُوا حُلُوقَ أَوْلَادِكُمْ خُذِي قُسْطًا هِنْدِيًّا وَوَرْسًا فَأَسْعِطِيهِ إيَّاهُ وقال إسْنَادُهُ
____________________
(2/345)
صَحِيحٌ انْتَهَى وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ وَظَاهِرُ تَصَرُّفِ الْعُلَمَاءِ سِيَّمَا من صَنَّفَ في الطِّبِّ النَّبَوِيِّ إنَّمَا يَفْهَمُ التَّعْمِيمَ كَالْأَوَامِرِ وَلِهَذَا تَكَلَّفُوا الْجَوَابَ عن حديث أَبْرِدُوا الْحُمَّى بِالْمَاءِ مع أَنَّ كَثِيرًا من الْحُمَّيَاتِ لَا يَقْتَضِي الطِّبُّ تَسْوِيغَ ذلك وَحَمَلُوهُ على ما يَقْتَضِي الْحَالَ اللَّائِقَ بِذَلِكَ من أَنْوَاعِ الْحُمَّيَات وَقَوْلُهُ إنَّ التَّطْبِيبَ من بَابِ الْمُبَاحِ مَمْنُوعٌ الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ دُخُولُ الْمُخَاطِبِ في عُمُومِ خِطَابِهِ اخْتَلَفُوا في دُخُولِ الْمُخَاطِبِ بِكَسْرِ الطَّاءِ في عُمُومِ خِطَابِهِ على وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ أَحَدُهُمَا قال وَبِهِ قال أَكْثَرُ الْمُخَالِفِينَ إنَّهُ يُتَنَاوَلُ وَلَا يَخْرُجُ من عُمُومِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ وَالثَّانِي قال وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إنَّهُ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِدَلِيلٍ وهو الصَّحِيحُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قال وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا وَرَدَ منه عليه السَّلَامُ لَفْظٌ عَامٌّ في إيجَابِ حُكْمٍ أو حَظْرِهِ أو إبَاحَتِهِ هل يَدُلُّ ذلك على دُخُولِهِ فيه أَمْ لَا وَكَذَا قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ إذَا أَمَرَ النبي عليه السَّلَامُ أُمَّتَهُ بِأَمْرٍ لم يَدْخُلْ هو في الْأَوَامِرِ خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا كَذَا قال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ إذَا أَمَرَ عليه السَّلَامُ بِأَمْرٍ لم يَدْخُلْ في حُكْمِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ في اللَّفْظِ ما يَقْتَضِيهِ كَقَوْلِهِ افْعَلُوا كَذَا فَإِنَّكُمْ مُكَلَّفُونَ وَقِيلَ يَدْخُلُ مُطْلَقًا وَكَذَا قال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ ذَهَبَ مُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ الْآمِرَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ وَنَقَلَ عبد الْجَبَّارِ وَغَيْرُهُ من الْمُعْتَزِلَةِ دُخُولَهُ وَكَذَا قال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ الْمَسْأَلَةُ مُصَوَّرَةٌ فيه عليه السَّلَامُ إذَا كان آمِرًا وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ على أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فَأَمَّا الْأَمْرُ الْوَارِدُ من اللَّهِ تَعَالَى بِذِكْرِ الناس فَقَدْ اتَّفَقُوا على أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَدْخُلُ في ذلك هَكَذَا قال وقد سَبَقَ الْخِلَافُ فيه وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَذْهَبَنَا عَدَمُ الدُّخُولِ وَلِهَذَا قال النَّوَوِيُّ في الرَّوْضَةِ في كِتَابِ الطَّلَاقِ إنَّهُ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وقد رَأَيْت من أَنْكَرَ عليه ذلك بِنَقْلِ الْمَحْصُولِ عن
____________________
(2/346)
الْأَكْثَرِينَ الدُّخُولَ وقد عَجِبْت من نَقْلِ هَؤُلَاءِ الْفُحُولِ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا تَعَرَّضُوا لِلْأَمْرِ لَا لِلْخَبَرِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ وقد سَوَّى صَاحِبُ الْمَحْصُولِ بَيْنَهُمَا في النَّقْلِ عن الْأَكْثَرِينَ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ في الْمَنْخُولِ حَيْثُ قال بِهِمَا ثُمَّ قال وَالْمُخْتَارُ الِانْدِرَاجُ وَكَذَا قال ابن الْقُشَيْرِيّ في أُصُولِهِ قال صَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُ أَمْرًا قَرِينَةً مُخَصَّصَةً فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَأَدْخَلَهُ في الْخَبَرِ لَا الْأَمْرِ قال صَاحِبُ الْحَاصِلِ وهو الظَّاهِرُ وَعَلَى هذا فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَقْلِ الْجُمْهُورِ وَفَصَّلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فقال اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُهُ نَفْسَهُ وَلَكِنَّهُ خَارِجٌ عنه عَادَةً وقال إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ الْقَوْلُ الْمُوجَزُ فيه أَنَّ مُوجِبَ الْخِلَافِ الِانْدِرَاجُ وَلَكِنْ اُشْتُهِرَ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ بِخِلَافِهِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَأْثِيرًا في مُوجِبِ اللَّفْظِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ رَاجِعًا إلَى غَيْرِ اللَّفْظِ لَا إلَى حَالِ الْمُخَاطِبِ قال وَهَذَا دَقِيقٌ قَاطِعٌ خَيَالَ الْمُخَالِفِ وقال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ هذه الْمَسْأَلَةُ قد تَعْرِضُ في الْأَمْرِ وقد سَبَقَتْ في مَبَاحِثِهِ وَمِثْلُهُ النَّهِيُّ وَمَرَّتْ في الْخَبَرِ وَالْجُمْهُورُ على دُخُولِهِ وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إذَا كان الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ ما وُضِعَ لِلْمُخَاطَبِ يَشْمَلُ الْمُتَكَلِّمَ وَضْعًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنْ كان الْمُرَادُ حُكْمًا فَمُسَلَّمٌ إذَا دَلَّ عليه دَلِيلٌ أو كان الْوَضْعُ شَامِلًا له كَأَلْفَاظِ الْعُمُومِ تَنْبِيهٌ دُخُولُ جِبْرِيلَ في التَّكَالِيفِ التي يَنْزِلُ بها وَقَعَ الْبَحْثُ في أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السَّلَامُ هل يَدْخُلُ في التَّكْلِيفِ بِمَا يَأْتِي بِهِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كُلَّ تَبْلِيغٍ يَتَوَقَّفُ على فِعْلٍ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ الْفِعْلِ كما في إمَامَتِهِ بِالنَّبِيِّ عليه السَّلَامُ في الْيَوْمَيْنِ وَأَمَّا ما لَا يَتَوَقَّفُ على فِعْلٍ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِتَبْلِيغِ ما أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ فَقَطْ
____________________
(2/347)
مَسْأَلَةٌ دُخُولُ الْمُخَاطَبِ في عُمُومِ أَمْرِ الْمُخَاطِبِ له أَمَّا الْمُخَاطَبُ بِالْفَتْحِ فقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في تَعْلِيقِهِ لَا يَدْخُلُ في عُمُومِ أَمْرِ الْمُخَاطِبِ له على الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ وَلِهَذَا لو قال وَكَّلْتُك في إبْرَاءِ غُرَمَائِي وكان هو منهم لم يَدْخُلْ قلت وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ مَسْأَلَةُ أَوَامِرِ اللَّهِ الْعَامَّةِ هل يَدْخُلُ فيها النبي عليه السَّلَامُ وقد سَبَقَتْ لَكِنْ الصَّحِيحُ هُنَاكَ الدُّخُولُ
____________________
(2/348)
فَصْلٌ في الْقَرَائِنِ التي يُظَنُّ أنها صَارِفَةٌ لِلَّفْظِ عن الْعُمُومِ وَفِيهِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْخَارِجُ على جِهَةِ الْمَدْحِ أو الذَّمِّ نَحْوُ إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ وَقَوْلُهُ وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَقَوْلُهُ وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ وَالْمُرَادُ مَدْحُ قَوْمٍ وَذَمُّ آخَرِينَ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ ذِكْرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَذِكْرُ النِّسَاءِ وَمِلْكُ الْيَمِينِ وَنَحْوُ ذلك فَفِي التَّعَلُّقِ بِعُمُومِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ وابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمْ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ وَنُسِبَ لِلشَّافِعِيِّ وَلِهَذَا مُنِعَ التَّمَسُّكُ بِآيَةِ الزَّكَاةِ في وُجُوبِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ لِأَنَّ اللَّفْظَ لم يَقَعْ مَقْصُودًا له وَرُبَّمَا نَقَلُوا عنه أَنَّهُ قال الْكَلَامُ مُفَصَّلٌ في مَقْصُودِهِ وَمُجَمِّلٌ في غَيْرِ مَقْصُودِهِ وَنَقَلَهُ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ عن الْقَاشَانِيِّ وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ عن الْكَرْخِيِّ وَغَيْرِهِ وقال إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَبِهِ جَزَمَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في كِتَابِهِ فقال لَا يُحْكَمُ الْعُمُومُ بِمُجَرَّدِ الْخِطَابِ الْعَامِّ وَلَكِنْ يَكُونُ الْمَخْصُوصُ بِالذِّكْرِ على ما حُكِمَ فيه ثُمَّ يُنْظَرُ فِيمَا عَدَاهُ مِمَّا هو دَاخِلٌ تَحْتَهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ لَا لِلْعُمُومِ وَأَطَالَ في الِاحْتِجَاجِ بِذَلِكَ قال فَلَا يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ على وُجُوبِ الزَّكَاةِ في قَلِيلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَكَثِيرِهِمَا بَلْ مَقْصُودُ الْآيَةِ الْوَعِيدُ لِتَارِكِ الزَّكَاةِ وَكَذَا لَا يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا على أَزْوَاجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ في بَيَانِ ما يَحِلُّ منها وما لَا يَحِلُّ وَلَكِنْ فيها بَيَانُ أَنَّ الْفَرْجَ لَا يَجِبُ حِفْظُهُ عنهما ثُمَّ إذَا اُحْتِيجَ إلَى تَفْصِيلِ ما لَا يَحِلُّ بِالنِّكَاحِ أو بِمِلْكِ الْيَمِينِ صُيِّرَ فيه إلَى ما قُصِدَ تَفْصِيلُهُ مِثْلُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَنَحْوُهُ قال وَمَنْ ضَبَطَ هذا الْبَابَ أَفَادَهُ عِلْمًا كَثِيرًا وَاسْتَرَاحَ من لَا يُرَتِّبُ الْخِطَابَ على وَجْهِهِ وَلَا يَضَعُهُ مَوْضِعَهُ انْتَهَى وَجَزَمَ بِهِ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في تَعْلِيقِهِ في بَابِ ما يَحْرُمُ من النِّكَاحِ وَعِبَارَتُهُ
____________________
(2/349)
قُلْنَا الْآيَةُ إذَا سِيقَتْ لِبَيَانِ مَقْصُودٍ فَإِنَّمَا يُوجَبُ التَّعْمِيمُ في مَحَلِّ الْمَقْصُودِ فَأَمَّا في مَحَلِّ غَيْرِ الْمَقْصُودِ وَالْغَرَضِ بِالْخِطَابِ فَلَا يُقْصَدُ بِالْخِطَابِ بَلْ يُعْرَضُ عنه صَفْحًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ الْآيَةَ ا هـ وَالثَّانِي وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ عَامٌّ وَلَا تَنَافِيَ بين قَصْدِ الْعُمُومِ وَالذَّمِّ قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ إنَّهُ الظَّاهِرُ من الْمَذْهَبِ وقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ إنَّهُ الْمَذْهَبُ وَكَذَا قال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ إنَّهُ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ قال وَكَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ من أَئِمَّتِنَا وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الْمَذْهَبَ الشَّافِعِيَّ الصَّحِيحَ عِنْدَهُ صِحَّةُ ادِّعَاءِ الْعُمُومِ فيه حتى لَا يُعَارِضَهُ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ في كِتَابِ التَّحْصِيلِ عليه أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ وَنَقَلَهُ ابن الْقَطَّانِ عن أَهْلِ الظَّاهِرِ وَجَزَمَ بِهِ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ اللُّمَعِ وَخَطَّأَ مُخَالِفَهُ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وقد جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ طَرِيقَ التَّرْجِيحِ وَلَا يُعْرَفُ أَنَّهُ جَعَلَهُ وَجْهَ الْمَنْعِ من الِاسْتِدْلَالِ بِالظَّاهِرِ قلت وَلِلشَّافِعِيِّ في الْقَدِيمِ ما يَدُلُّ عليه فإنه ذَهَبَ فيه إلَى أَنَّ النَّوْمَ في الصَّلَاةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا قال فَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْمَدْحِ وما خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ يُنْفَى عنه إبْطَالُ الْعِبَادَةِ وَاحْتَجَّ في الْجَدِيدِ على أَصْحَابِ مَالِكٍ في أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ يَبْقَى إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ من حديث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ صلى الْمَغْرِبَ في الْيَوْمِ الْأَوَّلِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وفي الثَّانِي عِنْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ ثُمَّ قال ما بين هَذَيْنِ وَقْتُ الْمَغْرِبِ وَهَذَا نَصٌّ في مُسَاوَاتِهَا في الْوَقْتِ بِغَيْرِهَا فقال الْمُعْتَرِضُ يُحْمَلُ على أَنَّهُ أَرَادَ تَعْلِيمَ وَقْتِ الضَّرُورَةِ فَقِيلَ له لم يَقْصِدْ ذلك وَإِنَّمَا قَصَدَ تَعْلِيمَ أَوَائِلِ أَوْقَاتِ الِاخْتِيَارِ وَآخِرِهَا لَكِنْ نَصَّ في مَوْضِعٍ آخَرَ على مُوَافَقَةِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فإن الْحَنَفِيَّةَ احْتَجُّوا على
____________________
(2/350)
أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ أَطْوَلُ من وَقْتِ الْعَصْرِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ نَحْنُ أَكْثَرُ أَعْمَالًا وَأَقَلُّ أَجْرًا قالوا وَهَذَا يَدُلُّ على سَعَةِ الْوَقْتِ فقال لهم لم يُقْصَدْ بِالْخَبَرِ ذلك لِأَنَّ كَثْرَةَ الْعَمَلِ وَقِلَّتَهُ لَا تَدُلُّ على ما ذَكَرْتُمْ فَمُنِعَ التَّمَسُّكُ بِالْعُمُومِ في غَيْرِ مَقْصُودِهِ وَكَذَا يُمْنَعُ تَمَسُّكُ الْحَنَفِيَّةِ بِحَدِيثِ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ على وُجُوبِ الزَّكَاةِ في الْخَضْرَاوَاتِ وقال إنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا سِيقَ لِبَيَانِ الْجُزْءِ الْوَاجِبِ لَا لِبَيَانِ الْوَاجِبِ فيه لَكِنْ الصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَإِنَّمَا لم يَقُلْ بِهِ الشَّافِعِيُّ هُنَا لِمُعَارِضٍ آخَرَ لَا لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مَسُوقًا لِغَيْرِهِ هذا كُلُّهُ إذَا لم يُعَارِضْهُ عُمُومٌ آخَرُ لم يُقْصَدْ بِهِ الْمَدْحُ أو الذَّمُّ فَإِنْ عَارَضَهُ فَلَا خِلَافَ على الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَتَرَجَّحُ الذي لم يَسْبِقْ لِذَلِكَ فَيَجْرِي على عُمُومِهِ وَيُقْصَرُ ما سِيقَ لِلْمَدْحِ أو الذَّمِّ عَلَيْهِمَا هَكَذَا قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ في كِتَابِ التَّحْصِيلِ وأبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ وَالشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ لَكِنْ حَكَى أبو عبد اللَّهِ السُّهَيْلِيُّ من أَصْحَابِنَا وَجْهًا أَنَّهُ يُوقَفُ هَذَانِ الْعَامَّانِ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ الْحَالُ كَالْمُتَعَارَضِينَ وهو الْقِيَاسُ وَمِثَالُ الْمَسْأَلَةِ قَوْله تَعَالَى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ فَإِنَّهَا سِيقَتْ لِبَيَانِ أَعْيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ دُونَ الْعَدَدِ مع قَوْله تَعَالَى فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ من النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فإنه سِيقَ لِلْعَدَدِ وهو يَعُمُّ الْأُخْتَ وَغَيْرَهَا فَيُقْضَى بِتِلْكَ لِأَنَّهَا مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ الْمُحَرَّمِ وَكَذَا يُقْضَى بها على أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَكَذَا قَوْلُهُ وَأَنْ تَجْمَعُوا بين الْأُخْتَيْنِ مع قَوْلِهِ أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَالْأُولَى سِيقَتْ لِبَيَانِ الْحُكْمِ فَقُدِّمَ على ما سِيَاقُهَا لِلْمَدْحِ وَكَذَا قَوْلُهُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ إذَا قَدَّرْنَا دُخُولَ الشَّعْرِ فيها قُدِّمَ على قَوْلِهِ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مَخْصُوصَةً بِمَا سِيقَ لِلْمَدْحِ أو الذَّمِّ بَلْ هِيَ عَامَّةٌ في كل ما سِيقَ لِغَرَضٍ كما سَبَقَ من نَحْوِ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ وَغَيْرِهِ
____________________
(2/351)
المسألة الثانية وروده على سبب خاص فتقول لا إشكال في صحة دعوى العموم فيما جاء من الشارع ابتداء كقوله مفتاح الصلاة الطهور فأما ما ذكره جوابا لسؤال فأطلق جماعة أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب بلا خلاف ولا بد في ذلك من تفصيل وهو أن الخطاب إما أن يكون جوابا لسؤال سائل أم لا فإن كان جوابا فإما أن يستقل بنفسه أو لا فإن لم يستقل بحيث لا يصح الابتداء به فلا خلاف في أنه تابع للسؤال في عمومه وخصوصه حتى كأن السؤال معاد فيه فإن كان السؤال عاما فعام أو خاصا فخاص مثال خصوص السؤال قوله تعالى فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم وقوله في الحديث أينقص الرطب إذا جف قالوا نعم قال فلا إذن وكقول القائل وطئت في نهار رمضان عامدا فيقول عليك الكفارة فيجب قصر الحكم على السائل ولا يعم غيره إلا بدليل من خارج على أنه عام في المكلفين أو في كل من كان بصفته ومثال عمومه ما لو سئل عمن جامع امرأته في نهار رمضان فقال يعتق
____________________
(2/352)
رقبة فهذا عام في كل واطئ في رمضان وقوله يعتق وإن كان خاصا بالواحد لكنه لما كان جوابا عمن جامع امرأته بلفظ يعم كل من جامع كان الجواب كذلك وصار السؤال معادا في الجواب واختلف أصحابنا في المعنى الذي لأجله حمل هذا الحكم على العموم فقيل لأنه لما لم يستفصل بأي شيء أفطرت دل على أن الحكم باختلاف ما يقع به الفطر وضعف باحتمال علمه بالحال فأجاب على ما علم وقيل لما نقل السبب وهو الفطر فحكم فيه بالعتق صار كأنه علل وجوب العتق بوجود الفطر لأن السبب في الحكم تعليل وهذا موجود في غير السائل وهذا أصح وقيل من قوله حكمي على الواحد حكمي على الجماعة قال الغزالي وهذا يشترط فيه أن يكون حال غير المحكوم عليه كحاله وكل وصف مؤثر للحكم وجعل القاضي في التقريب من هذا الضرب قوله أنتوضأ بماء البحر فقال هو الطهور ماؤه فقال لأن الضمير لا بد له من تعلق بمذكور قبله ولا يحسن أن يبتدأ به وفيه نظر لأن هذا ضمير الشأن ومن شأنه صدر الكلام وإن لم يتعلق بما قبله وقد رجع القاضي في موضع آخر فجعله من القسم الثاني وهو الصواب وبه صرح ابن برهان وغيره وإن استقل الجواب بنفسه بحيث لو ورد مبتدأ لكان كلاما تاما مفيدا للعموم فهو على ثلاثة أقسام لأنه إما أن يكون أخص أو مساويا أو أعم الأول أن يكون مساويا له لا يزيد عليه ولا ينقص كما لو سئل عن ماء بضاعة وماء البحر فقال لا ينجسه شيء فيجب حمله على ظاهره بلا خلاف كما قاله ابن فورك والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وابن القشيري وغيرهم وكذا قال أبو الحسين في المعتمد لا شك في كونه مقصودا فيه ولا يجوز خروج شيء من السؤال عن الجواب إلا بدليل ومثل القاضي أبو الطيب في شرح الكفاية هذا القسم بحديث المجامع في نهار رمضان قال والظاهر تعلق الحكم الذي هو الإعتاق بالوقوع المذكور تعلق الحكم بالعلة لأن السبب هو الذي اقتضى الحكم وآثاره فيعم كل من وجد فيه ذلك قال ولهذا قلنا فيما روي أن أعرابيا جاء إلى النبي عليه السلام وعليه جبة
____________________
(2/353)
مضمخ بالخلوق فقال وعلى هذه الجبة فقال أحرمت انزع الجبة واغسل الصفرة ولم يأمره بالفدية فدل على أن الفدية غير واجبة والسبب علق الحكم بمثله وظاهر كلام الأستاذ أبي منصور جريان الخلاف إلا في هذا القسم أيضا وقال ابن الصباغ في العدة ذكر القاضي أبو الطيب في شرح الكفاية أن المخاطب بذلك يكون أصلا وكل من فعل فعلا مثله يكون فرعا له بعلة تعدت إليه كما كان الأرز فرعا للبر في إثبات الربا فيه قال وهذا فيه نظر لأن خطابه صلى الله عليه وسلم لواحد خطاب للجماعة بالإجماع ولو كان غيره فرعا له لكان هو أيضا فرعا لنفسه وهو محال الثاني أن يكون الجواب أخص من السؤال مثل أن يسأل عن أحكام المياه فيقول ماء البحر طهور فيخص الجواب بالبعض ولا يعم بعموم السؤال بلا خلاف قاله الأستاذ أبو منصور وابن القشيري وغيرهما لكن كلام الأستاذ أبي إسحاق يقتضي جريان الخلاف فيه قال ابن القشيري ولا يجوز أن يصدر مثل هذا من النبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا علم أن الحاجة إنما تمس إلى بيان ما خصصه بالذكر أما إذا علم أن الحاجة عامة في بيان جملة المياه فتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ولهذا قال المازري إن قيل هل يجوز أن لا يطابق النبي صلى الله عليه وسلم السؤال بزيادة أو نقص قلنا أما الزيادة فنعم كقوله الحل ميتته وقد سئل عن الماء وأما النقصان فإن مست الحاجة إلى بيان جميعه ولم يكن في المذكور تنبيه على المسكوت عنه لم يجز وإن كان فيه تنبيه يعلم به السامع حكم المسكوت عنه قبل فوت الحادثة فإن ذلك لا يسوغ فإن لم تمس الحاجة إليه فعلى الخلاف في تأخير البيان وقال القاضي أبو بكر وابن فورك وصاحب المعتمد وغيرهم هذا لا يجوز إلا بثلاثة شروط أن ينبه في الجواب على حكم غيره وأن يكون السائل مجتهدا وإلا لم
____________________
(2/354)
يفد التنبيه ولعلهم أرادوا بالمجتهد من له قوة التنبه وإن لم يبلغ رتبة الاجتهاد وأن يبقى من زمن العمل وقت متسع للاجتهاد فيجيبه النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض ما سأله وينبهه بذلك على جواز البعض الآخر بطريق من طرق العلة كقوله لعمر حين سأله عن القبلة للصائم أرأيت لو تمضمضت وقوله للخثعمية أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أينفعه ذلك قالت نعم قال فدين الله أحق أن يقضى قال وحكمه حينئذ كحكم السؤال لكن لا يسمى عاما لدلالة التنبيه ومتى انتفى شرط من الثلاثة لا يجوز أن يجيب المسئول فيها عن البعض للإخلال بما يجب بيانه ومثل القاضي في شرح الكفاية هذا القسم بما لو سئل عن قتل النساء الكوافر فقال اقتلوا المرتدات قال فيختص القتل بهن ولا تقتل الحربيات لأجل دليل الخطاب ولأن عدوله عن الجواب العام إلى الخاص دليل على قصد المخالفة قال ولهذا قال أصحابنا في حديث جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا علق على اسم الأرض كونها مسجدا وعلق على تربتها كونه طهورا فدل على قصد المخالفة بين المسجد والطهورية خلاف قول الحنفية إن الأرض كلها مسجد وطهور ومنه احتجاج أصحابنا بقوله تعالى أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم إلى قوله حتى يضعن حملهن فأوجب السكنى مطلقا والنفقة بشرط الحمل فدل على قصد المخالفة بينهما وأن المبتوتة الحائل لا نفقة لها ومثل الأستاذ أبو إسحاق هذا القسم بقول السائل هلكت وأهلكت فقال اعتق رقبة فأجاب بما يلزمه ولم يتعرض لحكم الموطوءة قال فمن أسقط السبب واعتبر اللفظ جعله ظاهرا فيها وطلب دلالة في حكمها الثالث أن يكون الجواب أعم من السؤال فيتناول ما سئل عنه وعن
____________________
(2/355)
غيره فهو قسمان أحدهما أن يكون أعم منه في حكم آخر غير ما سئل عنه كسؤالهم عن التوضؤ بماء البحر وجوابه بقوله هو الطهور ماؤه الحل ميتته فلا خلاف أنه عام لا يختص بالسائل ولا بمحل السؤال من ضرورتهم إلى الماء وعطشهم بل يعم حال الضرورة والاختيار قاله أبو بكر بن فورك وصاحب المعتمد والمحصول لكن صرح القاضي أبو الطيب وابن برهان بجريان الخلاف الآتي في هذا القسم وجعل الأستاذ أبو إسحاق هذا الحديث من قسم المساوي وفيه نظر الثاني أن يكون أعم منه في ذلك الحكم الذي سأل عنه كقوله وقد سئل عن بئر بضاعة الماء طهور لا ينجسه شيء وعمن اشترى عبدا فاستعمله ثم وجد به عيبا الخراج بالضمان وفيه مذاهب أحدها وبه قال بعض أصحابنا ونسبه المتأخرون للشافعي أنه يجب قصره على ما أخرج عليه السؤال ونسبه الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وسليم الرازي وابن برهان وابن السمعاني إلى المزني وأبي ثور والقفال والدقاق وفي نسبة ذلك للقفال نظر وهو ظاهر كلام الخفاف في الخصال فإنه جعل من المخصصات خروج الكلام على معهود متقدم ونسبه الأستاذ أبو منصور إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري قال وعليه يدور كلامه في كثير من الآيات يقتصر بها على أسبابها التي ترتب فيها ويجعلها تفسيرا لها ودلالة على المراد باللفظ ونسبه القاضي عبد الوهاب والباجي لأبي الفرج من أصحابهم ونسبه الإمام في البرهان لأبي حنيفة وقال إنه الذي صح عندنا من مذهب الشافعي وكذا قال الغزالي في المنخول وتبعه في المحصول والذي في كتب الحنفية وصح عن الشافعي خلافه كما سيأتي نقله القاضي أبو الطيب والماوردي وابن برهان وابن السمعاني عن مالك قال الماوردي ولهذا لو قذف زوجته ثم وطئها لم يلاعن عنده ويجعل الوطء تكذيبا له لأن آية اللعان وردت في العجلاني على سبب خاص وهو قوله رأيت بعيني وسمعت بأذني وما قربتها منذ سمعت وقصد بذلك أنه ترك إصابتها مدة طويلة واقتضى أن يكون ترك إصابتها شرطا في جواز لعانها
____________________
(2/356)
والثاني أنه يجب حمله على العموم لأن عدول المجيب عن الخاص المسئول عنه إلى العام دليل على إرادة العموم ولأن الحجة في اللفظ وهو مقتضى العموم ووروده على السبب لا يصلح معارضا لجواز أن يكون المقصود عند ورود السبب بيان القاعدة العامة لهذه الصورة وغيرها وهذا مذهب الشافعي كما قاله الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والماوردي وابن برهان في الأوسط وذكر ابن السمعاني في القواطع أن عامة الأصحاب يسنده إلى الشافعي واختاره أبو بكر الصيرفي وابن القطان وقال الأستاذ أبو إسحاق وابن القشيري وإلكيا الطبري والغزالي إنه الصحيح وبه جزم القفال الشاشي في كتابه فقال والأصل أن العموم له حكم إلا أن يخصه دليل والدليل قد يختلف فإن كان في الحال دلالة يعقل بها المخاطب أن جوابه العام يقتصر به على ما أجيب عنه أو على جنسه فذاك وإلا فهو عام في جميع ما يقع عليه عمومه ثم قال والأصل في ذلك أن الأحكام لا يخلو أكثرها عن سبب وأمر يحدث ولا ينظر إلى ذلك وإنما النظر إلى الحكم كيف مورده فإن ورد عاما لم يخص إلا بدليل وإن ورد مطلقا لم يقيد إلا بدليل لأن الأسباب متقدمة والأحكام بعدها فقد ينظمها مع تقدمها كما أن الأحكام لا يخلو أكثرها من أن يقضى به على غير أولها أو فمها وليس في ذلك ما يوجب الاقتصار بالخطاب على العين هذا كلامه وقال القاضي ابن كج في كتابه في الأصول ذهب عامة أصحابنا إلى أن الحكم للفظ وبه قال أبو حنيفة وهو مذهب الشافعي قال نصا والأسباب لا تصنع شيئا وإنما الحكم للألفاظ وقال قوم من أصحابنا إن الحكم للسبب وادعوا أن ذلك مذهب الشافعي لأنه قال في قوله إنما الربا في النسيئة إنه خرج عن سؤال السائل لأنه سأل عن الربا في الجنس انتهى وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أكثر أصحابنا والحنفية وحكاه القاضي عبد الوهاب عن الحنفية وأكثر الشافعية والمالكية وحكاه الباجي عن أكثر المالكية والعراقيين إسماعيل القاضي والقاضي أبي بكر وابن خويز منداد وغيرهم وقال
____________________
(2/357)
إنه الصحيح عندي انتهى وقال القاضي في التقريب إنه الصحيح لأن الحكم يتعلق بلفظ الرسول دون ما وقع عليه السؤال ولو قال ابتداء لوجب حمله على العموم فكذلك إذا صدر جوابا وقال الباجي روي عن مالك المذهبان وقال القاضي أبو بكر روي عن الشافعي المذهبان لأنه جعل الخراج بالضمان عاما وحمله على جميع المبيعات ولم يخصه بمال وهو العبد وقال في موضع آخر إن قوله إنما الربا في النسيئة يحتمل أن يكون خارجا عن سؤال سائل فيجب قصره عليه انتهى مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ في جَوَابٍ يَكُونُ أَعَمَّ من السُّؤَالِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُ الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ وَفُرُوعُ مَذْهَبِهِ تَدُلُّ عليه وقد نَصَّ في الْأُمِّ في كِتَابِ الطَّلَاقِ على أَنَّ الْعَمَلَ لِلْأَلْفَاظِ وَلَا تَعْمَلُ الْأَسْبَابُ شيئا لِأَنَّ السَّبَبَ قد يَكُونُ وَيَحْدُثُ الْكَلَامُ على غَيْرِ السَّبَبِ وَلَا يَكُونُ مُبْتَدَأُ الْكَلَامِ الذي حَكَمَ وَخَدَشَ بَعْضُهُمْ في هذا فإن الشَّافِعِيَّ إنَّمَا ذَكَرَ ذلك في مَعْرِضِ أَنَّ الْغَضَبَ وَغَيْرَهُ من الْأَسْبَابِ التي يَرِدُ عليها الطَّلَاقُ لَا يَدْفَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَنَحْنُ نَقُولُ بَلْ الْعِبْرَةُ في كَلَامِ الشَّافِعِيِّ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَقَوْلُهُ لَا عَمَلَ لِلْأَسْبَابِ على عُمُومِهِ وَلَا يَخُصُّهُ سِيَاقُهُ وقال في الْأُمِّ في بَابِ بَيْعِ الْعَرَايَا لِلْأَغْنِيَاءِ ما نَصُّهُ وَاَلَّذِي أَذْهَبُ إلَيْهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حين أَحَلَّهَا لم يذكر أنها تَحِلُّ لِأَحَدٍ دُونَ أَحَدٍ كما قال تَحِلُّ لَك وَلِمَنْ كان مِثْلَك كما قال في التَّضْحِيَةِ بِالْجَذَعَةِ تَجْزِيكَ وَلَا تَجْزِي عن أَحَدٍ بَعْدَك وَكَمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْتَةَ فلم يُرَخِّصْ فيها إلَّا لِلْمُضْطَرِّ وَكَثِيرٌ من الْفَرَائِضِ نَزَلَ بِأَسْبَابِ قَوْمٍ وكان لهم وَلِلنَّاسِ عَامَّةً إلَّا ما بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ أَحَلَّ لِغَيْرِهِ ضَرُورَةً أو حَاجَةً انْتَهَى وقد نَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ عنه عِنْدَ الْكَلَامِ في أَنَّ قَرِينَةَ الْغَضَبِ لَا تَجْعَلَ الْكِنَايَةَ صَرِيحًا أَنَّهُ إذَا كان لَفْظُهُ عَامًّا لم أَعْتَبِرْ خُصُوصَ السَّبَبِ وَإِنْ كان خَاصًّا لم أَعْتَبِرْ عُمُومَ السَّبَبِ وقال الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ الْأَيْمَانِ لو مَنَّ عليه بِمَالٍ فقال وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ لَك مَاءً من عَطَشٍ انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ على الْمَاءِ وَحْدَهُ وقال مَالِكٌ بِكُلِّ ما
____________________
(2/358)
يَنْتَفِعُ بِهِ من مَالِهِ قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَسَبَبُ الْخِلَافِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ عِنْدَنَا بِاللَّفْظِ وَبِهِ أَعْتُبِرَ عُمُومُهُ وَإِنْ كان السَّبَبُ خَاصًّا وَخُصُوصُهُ وَإِنْ كان السَّبَبُ عَامًّا وَعِنْدَهُ الِاعْتِبَارُ بِالسَّبَبِ دُونَ اللَّفْظِ وقد أَنْكَرَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ في مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ على من نَقَلَ عنه الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وقال مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَصِحَّ هذا النَّقْلُ عنه كَيْفَ وَكَثِيرٌ من الْآيَاتِ نَزَلَ في أَسْبَابِ خَاصَّةٍ ثُمَّ لم يَقُلْ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهَا مَقْصُورَةٌ على تِلْكَ الْأَسْبَابِ وَالسَّبَبُ في وُقُوعِ هذا النَّقْلِ الْفَاسِدِ أَنَّهُ يقول بِأَنَّ دَلَالَتَهُ على سَبَبِهِ أَقْوَى لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ السُّؤَالُ عن تِلْكَ الصُّورَةِ لم يَجُزْ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّفْظُ جَوَابًا عنه وَلَا تَأَخَّرَ الْبَيَانُ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ وأبو حَنِيفَةَ عَكَسَ ذلك وقال دَلَالَتُهُ على سَبَبٍ على النُّزُولِ أَضْعَفُ وَحُكِمَ بِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَلْحَقُهُ وَلَدُ أَمَتِهِ وَإِنْ وَطِئَهَا ما لم يُقِرَّ بِالْوَلَدِ مع أَنَّ قَوْلَهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ إنَّمَا وَرَدَ في أَمَةٍ وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ في عبد ابْنِ زَمْعَةَ فَبَالَغَ الشَّافِعِيُّ في الرَّدِّ على من يُجَوِّزُ إخْرَاجَ السَّبَبِ وَأَطْنَبَ في أَنَّ الدَّلَالَةَ عليه قَطْعِيَّةٌ كَدَلَالَةِ الْعَامِّ عليه بِطَرِيقِ الْعُمُومِ وَكَوْنُهُ وَارِدًا لِبَيَانِ حُكْمِهِ فَتَوَهَّمَ الْمُتَوَهِّمُ أَنَّهُ يقول إنَّ الْعِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ قلت وَأَمَّا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَاسْتَدَلَّ على أَنَّ الشَّافِعِيَّ يقول بِخُصُوصِ السَّبَبِ بِأَنَّهُ لم يَجْعَلْ قَوْله تَعَالَى قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَمًا مَسْفُوحًا الْآيَةَ قَاصِرًا لِلْمُحَرَّمَاتِ في هذه الْأَشْيَاءِ قال لِوُرُودِ الْآيَةِ في الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يُحِلُّونَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَيَتَحَرَّجُونَ عن كَثِيرٍ من مُبَاحَاتِ الشَّرْعِ فَكَانَتْ سَجِيَّتُهُمْ تُخَالِفُ وَضْعَ الشَّرْعِ وَتُضَادُّهُ وكان الْغَرَضُ منه إبَانَةَ كَوْنِهِمْ على مُضَادَّةِ الْحَقِّ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قال لَا حَرَامَ إلَّا ما حَلَّلْتُمُوهُ وَالْقَصْدُ الرَّدُّ عليهم فَقَطْ قال وَلَوْلَا سَبْقُ الشَّافِعِيِّ إلَى ذلك ما كان يَسْتَجِيزُ مُخَالَفَةَ تِلْكَ في مَصِيرِهِ إلَى حَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِيمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى في هذه الْآيَاتِ انْتَهَى وَتَبِعَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ
____________________
(2/359)
وَذَكَرَ غَيْرُهُ مَوَاضِعَ في كَلَامِ الشَّافِعِيِّ يُؤْخَذُ منها ذلك منها أَنَّهُ قال في قَوْلِهِ عليه السَّلَامُ الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ خَرَجَ على سَبَبٍ وهو بِئْرُ بُضَاعَةَ فَقَصَرَهُ على سَبَبِهِ وقال في اخْتِلَافِ الحديث أَمَّا حَدِيثُ بِئْرِ بُضَاعَةَ فإن بِئْرَ بُضَاعَةَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ وَاسِعَةٌ كان يُطْرَحُ فيها من الْأَنْجَاسِ ما لَا يُغَيِّرُ لها لَوْنًا وَلَا طَعْمًا وَلَا رِيحًا فَقِيلَ أَنَتَوَضَّأُ منها وَيُطْرَحُ فيها كَذَا فقال عليه السَّلَامُ مُجِيبًا الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ وكان جَوَابُهُ مُحْتَمِلًا كُلَّ مَاءٍ وَإِنْ قَلَّ وَبَيَّنَّا أَنَّ في الْمَاءِ مِثْلَهَا إذَا كان مُجِيبًا عليها فَلِمَا رَوَى أبو هُرَيْرَةَ عن النبي عليه السَّلَامُ أَنْ يُغْسَلَ الْإِنَاءُ من وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا دَلَّ على أَنَّ جَوَابَهُ في بِئْرِ بُضَاعَةَ عليها وكان الْعِلْمُ أَنَّهُ على مِثْلِهَا أو أَكْثَرِ منها وَلَا يَدُلُّ حَدِيثُ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَحْدَهُ على أَنَّ ما دُونَهَا من الْمَاءِ لَا يُنَجَّسُ وَكَانَتْ آنِيَةُ الناس صِغَارًا وكان في حديث الْوُلُوغِ دَلِيلٌ على أَنَّ قَدْرَ مَاءِ الْإِنَاءِ يُنَجَّسُ بِمُخَالَطَةِ النَّجَاسَةِ له وَإِنْ لم يُغَيَّرْ انْتَهَى وقال في قَوْلِهِ إنَّمَا الرِّبَا في النَّسِيئَةِ إنَّهُ خَرَجَ على سُؤَالِ سَائِلٍ فَقَصَرَهُ وَمِنْهَا قَوْلُهُ إنَّ جِلْدَ الْكَلْبِ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ وَجُعِلَ قَوْلُهُ أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ خَاصًّا بِالْمَأْكُولِ فَقَدْ قَصَرَهُ على سَبَبِهِ وَمِنْهَا أَنَّهُ خَصَّصَ النَّهْيَ عن قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ بِالْحَرْبِيَّاتِ لِخُرُوجِهِ على سَبَبٍ وهو أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم مَرَّ بِامْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ في بَعْضِ غَزَوَاتِهِ فقال لِمَ قُتِلَتْ وَهِيَ لَا تُقَاتِلُ وَنَهَى عن قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ الْحَرْبِيَّاتِ وَتَخَلَّصَ بِذَلِكَ عن اسْتِدْلَالِ أبي حَنِيفَةَ بِهِ على مَنْعِ قَتْلِ الْمُرْتَدَّةِ فَقَدْ أَلْغَى الشَّافِعِيُّ التَّعْمِيمَ وَقَصَرَهُ على السَّبَبِ وَمِنْهَا قال الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّ الصَّوْمَ في السَّفَرِ أَفْضَلُ من الْفِطْرِ لِأَنَّ الْفِطْرَ مَضْمُونٌ بِالْقَضَاءِ وَأَمَّا قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ليس من
____________________
(2/360)
الْبِرِّ الصِّيَامُ في السَّفَرِ فَهَذَا وُرُودٌ على سَبَبٍ وهو أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَرَّ بِرَجُلٍ وقد أَحْدَقَ بِهِ الناس فَسَأَلَ عنه فَقِيلَ مُسَافِرٌ قد أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ فقال ليس من الْبِرِّ الصِّيَامُ في السَّفَرِ وَعِنْدَنَا أَنَّ من أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ فَفِطْرُهُ أَوْلَى ا هـ قُلْت وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَنْبَغِي السَّبَقُ بِهِ إلَى نِسْبَةِ الشَّافِعِيِّ إلَى اعْتِبَارِ خُصُوصِ السَّبَبِ أَمَّا ما ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَلَيْسَ ذلك مُصَيِّرًا إلَى اعْتِبَارِ السَّبَبِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لم يَأْخُذْ التَّخْصِيصَ هُنَا من السَّبَبِ وَإِنَّمَا أَخَذَهُ من التَّأْوِيلِ في اللَّفْظِ وَلَهُ مَحَامِلُ وَقَصْدُهُ بِذَلِكَ تَطَرُّقُ التَّأْوِيلِ إلَى الْآيَةِ التي تَمَسَّكَ بها مَالِكٌ وَلَوْلَا فَتْحُ هذا الْبَابِ لَكَانَتْ الْآيَةُ نَصًّا في الْحَصْرِ وَهِيَ من أَوَاخِرِ ما نَزَلَ من الْقُرْآنِ وَلَا نَسْخَ فيها وَيَدُلُّ على ذلك إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ على تَحْرِيمِ الْحَشَرَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ وَالْعُذُرَاتِ ولم تَنْطَوِ الْآيَةُ عليها وَكَيْفَ تَجْرِي الْآيَةُ مع هذا على الْعُمُومِ وَالثَّانِي أَنَّ النِّزَاعَ في هذه الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ لَا دَلِيلَ يُصْرَفُ إلَى السَّبَبِ وَالشَّافِعِيُّ إنَّمَا قَصَرَ الْآيَةَ على سَبَبِهَا لَمَّا وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِمُحَرَّمَاتٍ كَثِيرَةٍ كَالْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ وَذَكَرَ الْآيَةَ الْأُخْرَى على جَمْعِ الْخَبَائِثِ فَجَمَعَ الشَّافِعِيُّ بين الْأَدِلَّةِ كُلِّهَا بِأَنْ قَصَرَ آيَةَ الْإِبْهَامِ على سَبَبِهَا وقد أَشَارَ الشَّافِعِيُّ إلَى ذلك في الرِّسَالَةِ وهو أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ وَأَمَّا حَدِيثُ الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ وإنما الرِّبَا في النَّسِيئَةِ فَإِنَّمَا فَعَلَ ذلك كما قال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ لِأَنَّهُ رَأَى الْأَخْبَارَ تَعَارَضَتْ فلم يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُهَا على ظَاهِرِهَا فَحَمَلَهَا على السَّبَبِ لِلتَّعَارُضِ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الدِّبَاغِ فلم يَقْصُرْ الْحُكْمَ على السَّبَبِ وَإِلَّا لَقَصَرَهُ على خُصُوصِ الشَّاةِ بَلْ سَائِرُ جِلْدِ الْمَأْكُولِ عِنْدَهُ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا أُخْرِجَ جِلْدُ الْكَلْبِ عن الْعَامِّ بِدَلِيلٍ وَكَذَا مَسْأَلَةُ الْقَطْعِ وَأَمَّا ما قَالَهُ في النَّهْيِ عن قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فإنه إنَّمَا قَصَرَهُ على سَبَبِهِ لَمَّا
____________________
(2/361)
عَارَضَهُ قَوْلُهُ من بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ولم يَكُنْ بِهِ من تَخْصِيصِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَوَجَبَ تَخْصِيصُ الْوَارِدِ على سَبَبِهِ وَحُمِلَ الْآخَرُ على عُمُومِهِ لِأَنَّ السَّبَبَ من أَمَارَاتِ التَّخْصِيصِ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي وَأَمَّا ما قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ حَدِيثُ ليس من الْبِرِّ الصِّيَامُ في السَّفَرِ فَإِنَّمَا اعْتَبَرَ السَّبَبَ لِقَصْدِ الْجَمْعِ بين الْأَحَادِيثِ كَنَظِيرِ ما سَبَقَ في بِئْرِ بُضَاعَةَ كَيْفَ وقد نَصَّ في كِتَابِ اللِّعَانِ على أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ في إقَامَةِ الدَّلِيلِ عليه وَأَمَّا حَدِيثُ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ فقال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في أُصُولِهِ قَصَرَهُ أَصْحَابُنَا على سَبَبِهِ وهو فيه عَبْدٌ بِيعَ فَظَهَرَ فيه عَيْبٌ فَجَهِلَ لِمُشْتَرِيهِ خَرَاجُهُ لِضَمَانِهِ إيَّاهُ لو تَلِفَ قال فَجَعَلَ أَصْحَابُنَا ذلك حُكْمًا في الْبُيُوعِ دُونَ الْغُصُوبِ وَإِنْ كانت الْغُصُوبُ مَضْمُونَةً وقد خَالَفَهُمْ في ذلك غَيْرُهُمْ ا هـ وقال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في تَعْلِيقِهِ الْغَاصِبُ يَضْمَنُ مَنْفَعَةَ الْمَغْصُوبِ اسْتَوْفَاهَا أَمْ لَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ في خَرَاجِ الْمِلْكِ فإنه وَرَدَ في الْمُشْتَرِي إذَا اسْتَعْمَلَ الْمَبِيعَ ثُمَّ اطَّلَعَ على عَيْبٍ فَأَرَادَ الرَّدَّ ا هـ هذا من الْقَفَّالِ وَالْقَاضِي اعْتِبَارًا لِلسَّبَبِ وَاعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَوَى هذا الحديث بِلَفْظِ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قَضَى أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فيه إذْ لَا عُمُومَ لِمِثْلِ هذه الصِّيغَةِ على الْأَصَحِّ كما فِيمَنْ قَضَى بِالشُّفْعَةِ قُلْت لَكِنْ رَوَاهُ أبو دَاوُد عن عَائِشَةَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَهَذِهِ صِيغَةٌ عَامَّةٌ ثُمَّ رَأَيْت الشَّافِعِيَّ قال في الْبُوَيْطِيِّ وَالْحُجَّةُ في أَنَّ على الْغَاصِبِ غَلَّةُ ما اغْتَصَبَهُ وَإِنْ لم يَسْكُنْ الدَّارَ ولم يَرْكَبْ الدَّابَّةَ حَدِيثُ مُجَالِدِ بن خَلَّافٍ حين قال له النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَإِنَّمَا ذلك في عَبْدٍ وَلَيْسَ بِعَيْبِهِ فَقَضَى النبي عليه السَّلَامُ بِالْغَلَّةِ لِمَالِك الرَّقَبَةِ فَذَلِكَ يَقْضِي بِالْغَلَّةِ لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ وهو الْمَغْصُوبُ منه لِأَنَّهُ مَالِكُ الشَّيْءِ ا هـ وَهَذَا الِاسْتِدْلَال يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ وقد قال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ قِيلَ إنَّ الشَّافِعِيَّ أَشَارَ إلَى اعْتِبَارِ خُصُوصِ السَّبَبِ في بِئْرِ بُضَاعَةَ وقال في قَوْلِهِ الْمَاءُ لَا
____________________
(2/362)
يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ مَقْصُودٌ على سَبَبِهِ وقال في قَوْلِهِ لَا قَطْعَ في ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ أَنَّهُ خَرَجَ على عَادَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ في ثِمَارِهِمْ وَأَنَّهَا لم تَكُنْ في مَوَاضِعَ مُحَوَّطَةٍ وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ قالوا إنَّمَا قال الشَّافِعِيُّ هذا لِأَدِلَّةٍ دَلَّتْ عليه فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ هُنَاكَ دَلِيلٌ على التَّخْصِيصِ فَمَذْهَبُهُ إجْرَاءُ اللَّفْظِ على عُمُومِهِ ا هـ وقال أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ في أُصُولِهِ وأبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ أَيْضًا كُلُّ خِطَابٍ حَصَلَ عِنْدَ حُدُوثِ مَعْنًى فَإِنْ كان في الْخِطَابِ أو غَيْرِهِ دَلَالَةٌ على أَنَّهُ أَرَادَ الْحُكْمَ في الْمَعْنَى فَالنَّظَرُ إلَى الْمَعْنَى ابْتِدَاءً سَوَاءٌ كان أَعَمَّ من الِاسْمِ أو أَخَصَّ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ على اعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَإِنْ لم تَقُمْ دَلَالَةٌ فَالْحُكْمُ لِلِاسْمِ حتى يَقُومَ الدَّلِيلُ على خِلَافِهِ انْتَهَى وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ يَقْتَضِي الْقَصْرَ على السَّبَبِ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ كما فَعَلَ في الْآيَةِ وفي حديث الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ وَبِئْرِ بُضَاعَةَ وَغَيْرِهَا وَحَكَاهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وأبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ عن أَصْحَابِنَا وَلَا يَلْزَمُ من الْقَصْرِ على السَّبَبِ لِدَلِيلِ الْعَمَلِ بِهِ مُطْلَقًا فَمِنْ هَاهُنَا مَثَارُ الْغَلَطِ على الشَّافِعِيِّ فَقَدْ عَمِلُوا بِحَدِيثِ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ مُطْلَقًا في الْإِمَاءِ وَالْحَرَائِرِ وَالْأَمَةِ الْمَمْلُوكَةِ وَالْمَنْكُوحَةِ مع أَنَّهُ وَرَدَ في التَّدَاعِي في وَلَدِ الْمَمْلُوكَةِ وَعَمِلُوا بِحَدِيثِ الْعَرَايَا مُطْلَقًا لِلْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ مع أَنَّ الرُّخْصَةَ إنَّمَا وَرَدَتْ في الْفُقَرَاءِ وَكَذَلِكَ مَشْرُوعِيَّةُ الرَّمَلِ ثَبَتَتْ مُطْلَقًا وَإِنْ وَرَدَ على سَبَبٍ خَاصٍّ وقد زَالَ وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ على أَنَّ الْمُحْرِمَ يَحْصُرُهُ عَدُوٌّ أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ سَوَاءٌ كان الْمَانِعُ مُسْلِمًا أو كَافِرًا لِعُمُومِ الْآيَةِ وَإِنْ كانت قد وَرَدَتْ على سَبَبٍ خَاصٍّ وهو صَدُّ الْمُشْرِكِينَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن الْبَيْتِ أو يُقَالُ إنَّ الْعَامَّ الْوَارِدَ على سَبَبٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَرَدَ مَقْصُودًا بِهِ حَقِيقَةُ السَّبَبِ وَمُؤَثِّرًا في دَفْعِهِ وَإِمَّا أَنْ يَرِدَ لِقَصْدِ التَّشْرِيعِ وَالْأَوَّلُ هو مُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِالْحَمْلِ على الْخُصُوصِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ فيه خِلَافٌ وَالثَّانِي هو الْمُرَادُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيَّ لَمَّا جَزَمَ الْقَوْلَ بِالْحُكْمِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ قال
____________________
(2/363)
يَعُمُّ الْعَامُّ الذي لم يَرِدْ على سَبَبٍ أَقْوَى وَهَذَا دُونَهُ قال وَلَا جُرْمَ قال الشَّافِعِيُّ إنَّ قَوْله تَعَالَى قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا الْآيَةَ لَا نَرَى دَلَالَتَهُ على حَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِيمَا رَآهُ مَالِكٌ فإنه نَزَلَ على سَبَبٍ وهو عَادَةُ الْعَرَبِ في تَنَاوُلِ الْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ لَا مُحَرَّمَ مِمَّا يَأْكُلُونَ إلَّا كَذَا وَكَذَا يَعُمُّ قد بَانَ الشَّرْعُ بِصِيغَةٍ في تَمْهِيدِ قَاعِدَةٍ ثُمَّ يُجْعَلُ مَحَلُّ السُّؤَالِ كَالْفَرْعِ له أو كَالْمِثَالِ فَذَلِكَ لَا يُوهِنُ التَّعَلُّقَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ثُمَّ قال فَمَنْ كانت هِجْرَتُهُ الحديث وَمَحَلُّ السُّؤَالِ الْهِجْرَةُ وَلَكِنْ اللَّفْظُ لَا يَتَأَثَّرُ وَلَا يَنْحَطُّ عن غَيْرِهِ على ما قَالَهُ الْإِمَامُ وَفِيهِ بَحْثٌ ا هـ وَيَجْتَمِعُ مِمَّا سَبَقَ في الْمَنْسُوبِ لِلشَّافِعِيِّ في هذه الْمَسْأَلَةِ خَمْسَةُ طُرُقٍ أَحَدُهَا حِكَايَةُ قَوْلَيْنِ له وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَالثَّانِيَةُ تَنْزِيلُهُمَا على حَالَيْنِ وَهِيَ الطَّرِيقَةُ التي ذَكَرْتُهَا أَخِيرًا وَالثَّالِثَةُ الْقَطْعُ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ وَهِيَ طَرِيقَةُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالرَّابِعَةُ الْقَطْعُ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ وَهِيَ الْمَشْهُورُ الْخَامِسَةُ الْقَطْعُ بِاعْتِبَارِهِ فِيمَا لم يَقُمْ دَلِيلٌ على الْقَصْرِ على السَّبَبِ وَهِيَ في الْحَقِيقَةِ مُنَقِّحَةٌ لِلرَّابِعَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بَقِيَّةُ الْمَذَاهِبِ فِيمَا إذَا كان الْجَوَابُ أَعَمُّ من السُّؤَالِ وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ الْوَقْفُ فإنه يَحْتَمِلُ الْبَعْضَ وَيَحْتَمِلُ الْكُلَّ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ حَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ الرَّابِعُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ سُؤَالَ سَائِلٍ فَيَخْتَصُّ بِهِ وَأَنْ يَكُونَ وُقُوعَ حَادِثَةٍ فَلَا حَكَاهُ عبد الْعَزِيزِ في شَرْحِ الْبَزْدَوِيِّ وَالْخَامِسُ إنْ عَارَضَهُ عُمُومٌ خَرَجَ ابْتِدَاءً بِلَا سَبَبٍ قَصَرَ ذلك على سَبَبِهِ وَإِنْ لم يُعَارِضْهُ فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِهِ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ هذا هو الصَّحِيحُ قال وَلِذَلِكَ قَصَرْنَا نَهْيَهُ عليه السَّلَامُ عن قَتْلِ النِّسَاءِ على الْحَرْبِيَّاتِ دُونَ الْمُرْتَدَّاتِ لِمُعَارَضَتِهِ قَوْلَهُ من بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ وقد يُقَالُ هذا عَيْنُ الْمَذْهَبِ الثَّانِي لِأَنَّ الْمُعَمِّمِينَ شَرَطُوا عَدَمَ الْمُعَارِضِ الْخِطَابُ الْوَارِدُ على سَبَبٍ لِوَاقِعَةٍ وَقَعَتْ هذا كُلُّهُ في الْخِطَابِ الْخَارِجِ جَوَابًا لِسُؤَالٍ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ كَذَلِكَ وَلَكِنْ وَرَدَ على سَبَبٍ لِوَاقِعَةٍ وَقَعَتْ فقال الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ إنَّهُ يَجْرِي فيه الْخِلَافُ كَقَوْلِهِ أَيُّمَا
____________________
(2/364)
إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ إمَّا أَنْ يَرِدَ في اللَّفْظِ قَرِينَةٌ تُشْعِرُ بِالتَّعْمِيمِ كَقَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ وَالسَّبَبُ رَجُلٌ سَرَقَ رِدَاءَ صَفْوَانَ فَالْإِتْيَانُ بِالسَّارِقَةِ معه قَرِينَةٌ تَدُلُّ على عَدَمِ الِاقْتِصَارِ على الْمَعْهُودِ وَكَذَلِكَ عن الْإِفْرَادِ إلَى الْجَمْعِ كما في قَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا فَإِنَّهَا نَزَلَتْ في عُثْمَانَ بن طَلْحَةَ أَخَذَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ وَتَغَيَّبَ بِهِ وَأَبَى أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَقِيلَ إنَّ عَلِيًّا أَخَذَهُ منه وَأَبَى أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ فَنَزَلَتْ فَأَعْطَاهُ النبي إيَّاهُ وقال خُذُوهَا يا بَنِي طَلْحَةَ خَالِدَةً مُخَلَّدَةً فِيكُمْ أَبَدًا لَا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إلَّا ظَالِمٌ فَقَوْلُهُ الْأَمَانَاتِ قَرِينَةٌ مُشْعِرَةٌ بِالتَّعْمِيمِ وَإِنْ لم يَكُنْ ثَمَّ قَرِينَةٌ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أو لَا فَإِنْ كان فَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ الْحَمْلُ على الْمَعْهُودِ إلَّا أَنْ يُفْهَمَ من نَفْسِ الشَّارِعِ قَصْدُ تَأْسِيسِ قَاعِدَةٍ فَيَكُونُ دَلِيلًا على الْعُمُومِ وَإِنْ كان الْعُمُومُ لَفْظًا آخَرَ غير الْأَلِفِ وَاللَّامِ فَيَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ هو مَحَلُّ الْخِلَافِ فَتَجْرِي فيه الْأَقْوَالُ السَّابِقَةُ وَيَزِيدُ هُنَا قَوْلٌ آخَرُ وهو التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ ذَكَرَ السَّبَبَ في كَلَامِهِ فَيَقْتَصِرُ عليه وَلَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ إلَّا إذَا وُجِدَ فيه ذلك الْمَعْنَى أو يَلْحَقُ بِبَيَانِ حُكْمِي على الْوَاحِدِ حُكْمِي على الْجَمَاعَةِ كَنَهْيِهِ عن ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ مع قَوْلِهِ إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ من أَجْلِ الدَّافَّةِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ من غَيْرِهِ فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا السَّبَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ فإنه على سَبَبِ الِاخْتِيَانِ ثُمَّ يَدْخُلُ فيه من اخْتَانَ وَمَنْ لم يَخْتَنْ حَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وابن فُورَكٍ وَنَسَبَهُ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ لِأَبِي عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ من أَصْحَابِنَا قال وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ إنَّ سُقُوطَ قِيَامِ اللَّيْلِ مَخْصُوصٌ بِالْمَرَضِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قال عِنْدَ تَخْفِيفِهِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى
____________________
(2/365)
قال أبو الْحُسَيْنِ وَذَكَرَ كَثِيرٌ من الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْأَسْبَابَ على ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَسْبَابٌ تَقْتَضِي لِأَجْلِهَا الْحُكْمَ في الِابْتِدَاءِ فَيَدْخُلُ الْمُتَعَقِّبُ وَالِابْتِدَاءُ وَالثَّانِي لِأَجْلِهَا كان الْحُكْمُ وما يَرْتَفِعُ السَّبَبُ إلَّا يَرْتَفِعُ الْحُكْمُ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُتَأَمَّلَ الْخِطَابُ فَإِنْ كان سَبَبُ الرُّخْصَةِ عَامًّا عَمَّمْنَاهُ ولم يُرَاعَ السَّبَبُ وَإِنْ كانت الرُّخْصَةُ مَنُوطَةً بِالسَّبَبِ عَلَّقْنَاهُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّى السَّبَبُ إلَى غَيْرِهِ وَعَلَى هذا تُحْمَلُ الْأَسْبَابُ كُلُّهَا تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ أَنْ لَا تَظْهَرَ قَرِينَةٌ تُوجِبُ قَصْرَهُ على السَّبَبِ من الْعَادَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنْ ظَهَرَتْ وَجَبَ قَصْرُهُ بِالِاتِّفَاقِ قَالَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وأبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ وَنَقَلَهُ عن أبي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ كَقَوْلِهِ في جَوَابِ تَغَدَّ عِنْدِي وَاَللَّهِ لَا تَغَدَّيْت فَالْعَادَةُ تَقْتَضِي قَصْرَ الْغَدَاءِ عِنْدَهُ وَإِنْ كان مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ يَعْنِي فَلَا يَحْنَثُ إذَا تَغَدَّى عِنْدَ غَيْرِهِ وَكَمَا لو قِيلَ له كَلِّمْ زَيْدًا أو كُلْ هذا الطَّعَامَ فقال وَاَللَّهِ لَا أَكَلْت وَلَا كَلَّمْت فإنه يُعْلَمُ أَنَّ قَصْدَهُ تَخْصِيصُ الْيَمِينِ بِهَذِهِ الْمَوَاضِعِ قال الْقَاضِي وَعِنْدَ هذه الْقَرِينَةِ لَا خِلَافَ في قَصْرِهِ على السَّبَبِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ حَيْثُ لم يُعْلَمْ قال وَالطَّرِيقُ إلَى هذه الْقَرِينَةِ في كَلَامِ اللَّهِ مُتَعَذِّرٌ لَا يُعْلَمُ إلَّا من جِهَةِ الرَّسُولِ أَنَّهُ مَقْصُورٌ على ما خَرَجَ عليه وَكَذَا قال ابن الْقُشَيْرِيّ بَعْدَ أَنْ صَحَّحَ عُمُومَ اللَّفْظِ هذا في الْمُطْلَقِ الذي لَا يَتَقَدَّمُ خُصُوصُهُ بِدَلِيلٍ فَإِنْ عُلِمَ بِقَرِينَةِ حَالٍ إرَادَةُ الْخُصُوصِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ كَلِّمْ زَيْدًا فَيُقَالُ وَاَللَّهِ لَا تَكَلَّمْت فَيُفْهَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ لَا تَكَلَّمْت معه فَلَا يُحْمَلُ في مِثْلِ هذا على التَّعْمِيمِ انْتَهَى وفي قَوْلِ الْقَاضِي لَا خِلَافَ في قَصْرِهِ على السَّبَبِ نَظَرٌ فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ في لَا أَشْرَبُ لَك مَاءً من عَطَشٍ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِأَكْلِ طَعَامِهِ وَلُبْسِ ثِيَابِهِ وَأَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ الِاقْتِصَارُ على مَوْرِدِ الْيَمِينِ وهو الْمَاءُ خَاصَّةً وَحَكَى الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ الْأَيْمَانِ عن الْمُبْتَدِئِ لِلرُّويَانِيِّ أَنَّهُ لو قِيلَ كَلِّمْ زَيْدًا فقال وَاَللَّهُ لَا كَلَّمْته انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ على الْأَبَدِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْيَوْمَ فَإِنْ كان ذلك في طَلَاقٍ وقال أَرَدْت الْيَوْمَ لم يُقْبَلْ في الْحُكْمِ
____________________
(2/366)
وقال الْأَصْحَابُ فِيمَنْ دخل عليه صَدِيقُهُ فقال تَغَدَّ مَعِي فَامْتَنَعَ فقال إنْ لم تَتَغَذَّ مَعِي فَامْرَأَتِي طَالِقٌ فلم يَفْعَلْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لو تَغَدَّى بَعْدَ ذلك معه وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ فَإِنْ نَوَى الْحَالَ فلم يَفْعَلْ وَقَعَ الطَّلَاقُ وهو يُخَالِفُ قَوْلَ الْأُصُولِيِّينَ إنَّ الْجَوَابَ الْمُسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ وَالْعُرْفُ يَقْضِي بِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ في حُكْمِهِ الذي لَا يَسْتَقِلُّ بِوَضْعِهِ فَيَكُونُ على حَسَبِ السُّؤَالِ وَرَأَى الْبَغَوِيّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ على الْحَالِ لِلْعَادَةِ وهو يُوَافِقُ قَوْلَ الْأُصُولِيِّينَ وَلَوْ دُعِيَ إلَى مَوْضِعٍ فيه مُنْكَرٌ فَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يَحْضُرُ في ذلك الْمَوْضِعِ فإن الْيَمِينَ تَسْتَمِرُّ وَإِنْ رُفِعَ الْمُنْكَرُ كما قَالَهُ الرَّافِعِيُّ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ وَالْعُنْوَانِ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا لم يَقْتَضِ السِّيَاقُ التَّخْصِيصَ بِهِ فَإِنْ كان السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ مُنْشَؤُهُمَا يَقْتَضِي ذلك فَهُوَ مُقْتَضٍ لِلتَّخْصِيصِ بِلَا نِزَاعٍ لِأَنَّ السِّيَاقَ مُبَيِّنٌ لِلْمُجْمَلَاتِ مُرَجِّحٌ لِبَعْضِ الْمُحْتَمَلَاتِ وَمُؤَكِّدٌ لِلْوَاضِحَاتِ قال فَلْيُتَنَبَّهْ لِهَذَا وَلَا يُغْلَطْ فيه وَيَجِبُ اعْتِبَارُ ما دَلَّ عليه السِّيَاقُ وَالْقَرَائِنُ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ مَقْصُودُ الْكَلَامِ وَصَرَّحَ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ بِأَنَّ ذلك بَحْثٌ وَكَلَامُ الْقَاضِي السَّابِقُ يَشْهَدُ له الثَّانِي قال الْمَازِرِيُّ لو خَرَجَتْ الْمَسْأَلَةُ على الْخِلَافِ في الْأَلِفِ وَاللَّامِ هل تَقْتَضِي الصِّيَغُ التي دَخَلَتْ عليها الْعُمُومَ أو تُحْمَلُ على الْعَهْدِ لَكَانَ لَائِقًا فَمَنْ يَقْصِرُ اللَّفْظَ على سَبَبِهِ يَجْعَلُهَا لِلْعَهْدِ وَمَنْ يُعَمِّمُهُ لَا يَفْعَلُ ذلك وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ ذلك الْخِلَافَ حَيْثُ لَا قَرِينَةَ تَصْرِفُهُ إلَى الْعَهْدِ وَالْقَائِلُونَ بِالتَّعْمِيمِ في هذه الْحَالَةِ هُمْ مُعْظَمُ الْأُصُولِيِّينَ مع أَنَّ كَثِيرًا منهم يَقْصِرُونَهُ على السَّبَبِ وَعَلَى مُقْتَضَى ما قَالَهُ الْمَازِرِيُّ أَوْرَدَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ سُؤَالًا وهو أَنَّهُ كَيْفَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بين قَوْلِ النُّحَاةِ إنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ حَمْلُهَا على الْعَهْدِ لَا تُحْمَلُ على الْعُمُومِ وَقَوْلِ الْأُصُولِيِّينَ إنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْعُمُومَ لَا يَنْحَصِرُ في الْأَلِفِ وَاللَّامِ بَلْ له صِيَغٌ كَثِيرَةٌ فَإِنْ أَوْرَدَ ما إذَا كانت الصِّيغَةُ الْأَلِفَ وَاللَّامَ قُلْنَا إرَادَةُ الْعُمُومِ قَرِينَةٌ دَلَّتْ على ذلك وقال بَعْضُهُمْ الصَّحِيحُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِلَفْظِهِ فَيَعُمُّ إلَّا إذَا كان في اللَّفْظِ ما يَمْنَعُ الْعُمُومَ كَالْأَلِفِ وَاللَّامِ الْعَهْدِيَّةِ وَهَذَا بِنَاءً على أَنَّ الْعَهْدَ هو الْأَصْلُ فيها وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى الْعُمُومِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَهْدِ
____________________
(2/367)
وَالْحَقُّ أَنَّ السُّؤَالَ غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّ الْأُصُولِيِّينَ لم يَجْمَعُوا بين الْمَقَالَتَيْنِ ولم يُخَالِفُوا أَصْلَهُمْ بَلْ الْأَصْلُ عِنْدَهُمْ في الْأَلِفِ وَاللَّامِ الْعُمُومُ حتى يَقُومَ دَلِيلٌ على خِلَافِهِ فَلِهَذَا لم يُقْصِرُوهُ على سَبَبِهِ وَعِنْدَ النُّحَاةِ الْأَصْلُ الْعَهْدُ حتى يَقُومَ دَلِيلٌ على خِلَافِهِ وقد سَبَقَ في الْكَلَامِ على الصِّيَغِ أَنَّ مُعْظَمَ الْأُصُولِيِّينَ على أنها لِلْعُمُومِ حَيْثُ لَا قَرِينَةَ تَصْرِفُهَا إلَى الْعَهْدِ وَأَنَّ الْمُخَالِفَ فيه ابن مَالِكٍ وَأَنَّ إلْكِيَا الطَّبَرِيَّ نَقَلَهُ عن سِيبَوَيْهِ لَكِنْ في نِسْبَتِهِ لِجَمِيعِ النَّجَاةِ نَظَرٌ فَقَدْ سَبَقَ عن أبي بَكْرِ بن السَّرَّاجِ النَّحْوِيِّ مُوَافَقَةُ الْأُصُولِيِّينَ وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمْ السُّؤَالَ لَا على جِهَةِ الْجَمْعِ فقال إذَا كانت الْقَرِينَةُ تُصْرَفُ إلَى الْعَهْدِ وَتَمْنَعُ من الْحَمْلِ على الْعُمُومِ فَهَلَّا جَعَلْتُمْ الْعَامَّ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ مَصْرُوفًا إلَى الْعَهْدِ بِقَرِينَةِ السَّبَبِ الْخَاصِّ وَقُلْتُمْ وَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ لَا بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَأَجَابَ بِأَنَّ تَقَدُّمَ السَّبَبِ الْخَاصِّ قَرِينَةٌ في أَنَّهُ مُرَادٌ لَا أَنَّ غَيْرَهُ ليس بِمُرَادٍ فَنَحْنُ نَعْمَلُ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ فَنَقُولُ دَلَالَةُ هذا الْعَامِّ على مَحَلِّ السَّبَبِ قَطْعِيَّةٌ وَدَلَالَتُهُ على غَيْرِهِ ظَنِّيَّةٌ إذْ ليس في السَّبَبِ ما يُثْبِتُهَا وَلَا ما يَنْفِيهَا وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْعُدُولَ عَمَّا يَقْتَضِيهِ السَّبَبُ من الْخُصُوصِ إلَى الْعُمُومِ دَلِيلٌ على إرَادَةِ الْعُمُومِ وقد أَشَارَ إلَى هذا الزَّمَخْشَرِيُّ في تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قال فَإِنْ قُلْت فَكَيْفَ قِيلَ مَسَاجِدُ اللَّهِ وَإِنَّمَا وَقَعَ الْمَنْعُ وَالتَّخْرِيبُ على مَسْجِدٍ وَاحِدٍ وهو بَيْتُ الْمَقْدِسِ أو الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قُلْت لَا بَأْسَ أَنْ يَجِيءَ الْحُكْمُ عَامًّا وَإِنْ كان السَّبَبُ خَاصًّا كما تَقُولُ لِمَنْ آذَى صَالِحًا وَاحِدًا وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ آذَى الصَّالِحِينَ وَكَمَا قال اللَّهُ تَعَالَى وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ وَالْمَنْزُولُ فيه الْأَخْنَسُ بن شُرَيْقٍ قال وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَادَ بِ مِمَّنْ مَنَعَ الْعُمُومُ كما أُرِيدَ بِمَسَاجِدِ اللَّهِ وَلَا يُرَادُ الَّذِينَ مَنَعُوا بِأَعْيَانِهِمْ إذَا كان سَبَبُ الْوَاقِعَةِ شَرْطًا فَهَلْ يَعُمُّ الْخِطَابُ الْوَارِدُ على تِلْكَ الْوَاقِعَةِ الثَّالِثُ حَيْثُ قُلْنَا إنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فَاسْتَثْنَى الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بن عبد السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ من ذلك ما إذَا كان السَّبَبُ شَرْطًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى إنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فإنه كان لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا فَالْأَوَّابُونَ عَامٌّ في كل أَوَّابٍ مَاضِيًا كان أو حَاضِرًا أو مُسْتَقْبَلًا قال فَيَجِبُ في هذا الْعُمُومِ أَنْ يُخَصَّصَ بِنَا وَالْعِدَّةُ بِالْغُفْرَانِ لِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ من الْمُخَاطَبِينَ في قَوْله تَعَالَى إنْ تَكُونُوا وَلَا
____________________
(2/368)
يَعُمُّ هذا جَمِيعَ الْخَلَائِقِ وَلَا جَمِيعَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ في ذلك لِأَنَّ التَّعَالِيقَ اللُّغَوِيَّةَ أَسْبَابٌ وَالْجَزَاءُ الْمُرَتَّبُ عليها أَسْبَابُ تِلْكَ التَّعَالِيقِ وَصَلَاحُ الْمُخَاطَبِينَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِصَلَاحِ غَيْرِهِمْ من الْأُمَمِ لِأَنَّ عَمَلَ كل وَاحِدٍ تَخْتَصُّ فَائِدَتُهُ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَنْ ليس لِلْإِنْسَانِ إلَّا ما سَعَى وإذا لم يَكُنْ شَرْطًا فَالْحَقُّ الْعُمُومُ حَكَاهُ الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ عن بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ ثُمَّ قال وهو تَفْصِيلٌ حَسَنٌ لَا بَأْسَ بِهِ قُلْت وَارْتَضَاهُ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَالْقَرَافِيُّ تَحْقِيقُ مُرَادِهِمْ بِالسَّبَبِ الرَّابِعُ ليس الْمُرَادُ بِالسَّبَبِ هُنَا السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحُكْمِ كَزَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ بَلْ السَّبَبُ في الْجَوَابِ قَالَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ وَسَبَقَ مَنْقُولُ أبي الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ عن الْفُقَهَاءِ في ذلك وقال صَاحِبُ الْمَصَادِرِ ليس الْمُرَادُ بِالسَّبَبِ هُنَا ما يُوَلِّدُ الْفِعْلَ بَلْ الْمُرَادُ بِهِ الدَّاعِي إلَى الْخِطَابِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ وَالْبَاعِثِ عليه فَعَلَى هذا لَا بُدَّ في خِطَابِ الْحُكْمِ من أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا على سَبَبِهِ أَيْ دَاعِيَتُهُ وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ في اخْتِلَافِ الحديث كما سَبَقَ في بِئْرِ بُضَاعَةَ يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ ليس الْمُرَادُ بِالسَّبَبِ عَيْنَ ما وَقَعَ الْحُكْمُ بِسَبَبِهِ بَلْ هو أو مِثْلُهُ أو ما هو أَوْلَى بِالْحُكْمِ منه حَيْثُ قال وكان الْعِلْمُ أَنَّهُ على مِثْلِهَا أو أَكْثَرَ منها وَمِنْ هُنَا قال بَعْضُهُمْ لَا مُتَمَسِّكَ لِلْمُسْتَدِلِّينَ بِآيَةِ السَّرِقَةِ وَاللِّعَانِ وَالظِّهَارِ وَغَيْرِهَا على التَّعْمِيمِ وَعَدَمِ الْقَصْرِ على السَّبَبِ فإن الْقَطْعَ وَأَحْكَامَ اللِّعَانِ وَالظِّهَارِ ثَبَتَتْ فِيمَنْ كان مِثْلَ من نَزَلَتْ فيه وَذَلِكَ ليس من الْعُمُومِ وَذَلِكَ أَنْ تَقُولَ إلْحَاقُ مِثْلِهِ أو ما هو أَوْلَى منه إنْ كان بِالْقِيَاسِ فَخُرُوجٌ عن مَوْضُوعِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ كان من اللَّفْظِ لَزِمَ اتِّحَادُ الْقَوْلِ بِالْقَصْرِ على السَّبَبِ وَالْقَوْلُ بِالْعُمُومِ ثُمَّ من أَيِّ الدَّلَالَاتِ هو فَلْيُتَأَمَّلْ ذلك الْخَامِسُ قال الْقَاضِي يَجِبُ أَنْ تُتَرْجَمَ هذه الْمَسْأَلَةُ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ إذَا وَرَدَ على سَبَبٍ خَاصٍّ أو في سَبَبٍ خَاصٍّ وَلَا يُقَالُ عِنْدَ سَبَبٍ خَاصٍّ قال وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّك إذَا قُلْت عِنْدَ سَبَبٍ خَاصٍّ فَلَيْسَ لِلسَّبَبِ تَعَلُّقٌ بِهِ أَصْلًا وَفَرْقٌ بين قَوْلِك ضَرَبْت الْعَبْدَ على قِيَامِهِ وَضَرَبْته عِنْدَ قِيَامِهِ فَفِي الْأَوَّلِ جَعَلْت الْقِيَامَ سَبَبًا لِلضَّرْبِ بِخِلَافِ الثَّانِي قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَهِيَ مُنَاقَشَةٌ لَفْظِيَّةٌ السَّادِسُ هذا الْعَامُّ وَإِنْ كان حُجَّةً في مَوْضِعِ السَّبَبِ أو السُّؤَالِ وَغَيْرِهِ لَكِنْ
____________________
(2/369)
دَلَالَتُهُ على صُورَةِ السَّبَبِ أَقْوَى فَلِهَذَا قال الْأَكْثَرُونَ إنَّهَا قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ فَهُوَ نَصٌّ في سَبَبِهِ ظَاهِرٌ فِيمَا زَادَ عليه وَإِنَّمَا جَعَلُوهَا قَطْعِيَّةً في السَّبَبِ لِاسْتِحَالَةِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ وَلَا يَصِحُّ منه عليه السَّلَامُ أَنْ يُسْأَلَ عن بَيَانِ ما يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِهِ فَيَضْرِبُ عن بَيَانِهِ وَيُبَيِّنُ غَيْرَهُ مِمَّا لم يُسْأَلْ عنه وَعَلَى هذا فَيَجُوزُ تَخْصِيصُ هذا الْعَامِّ بِدَلِيلٍ كَغَيْرِهِ من الْعُمُومَاتِ الْمُبْتَدَأَةِ لَكِنْ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ صُورَةِ السَّبَبِ بِالِاجْتِهَادِ لِأَنَّ الْعَامَّ يَدُلُّ عليه بِطَرِيقِ الْعُمُومِ وَكَوْنُهُ وَارِدًا لِبَيَانِ حُكْمِهِ وَحُكِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ جَوَّزَ إخْرَاجَ صُورَةِ السَّبَبِ عن عُمُومِ اللَّفْظِ إجْرَاءً له مَجْرَى الْعَامِّ الْمُبْتَدَأِ فإنه يَجُوزُ تَخْصِيصُ بَعْضِ آحَادِهِ مُطْلَقًا وَاسْتُنْبِطَ ذلك من مُصَيِّرِهِ إلَى أَنَّ الْحَامِلَ لَا تُلَاعَنُ مع أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ في امْرَأَةِ الْعَجْلَانِيُّ وَكَانَتْ حَامِلًا وَمِنْ مُصَيِّرِهِ إلَى أَنَّ وَلَدَ الْمَشْرِقِيَّةِ يَلْحَقُ بِفِرَاشِ الْمَغْرِبِيِّ مع عَدَمِ الِاحْتِمَالِ تَلَقِّيًا من قَوْلِهِ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وقد وَرَدَ في عبد بن زَمْعَةَ إذْ تَدَاعَى وَلَدَ وَلِيدَةِ أبيه وَكَانَتْ رَقِيقَةً وَلَدَتْهُ على فِرَاشِ أبيه وَعِنْدَهُ أَنَّ الْأَمَةَ إذَا أَتَتْ بِوَلَدٍ لَا يَلْحَقُ السَّيِّدَ إلَّا إنْ أَقَرَّ بِهِ فقال بِالْخَبَرِ فِيمَا لم يَرِدْ فيه وهو الْحُرَّةُ فَأَلْحَقَهُ بِصَاحِبِ فِرَاشِهَا ولم يَقُلْ بِهِ فِيمَا وَرَدَ فيه وهو الْأَمَةُ فلم يَلْحَقْ وَلَدُهَا بِصَاحِبِ فِرَاشِهَا فَاسْتُعْمِلَ عُمُومُ اللَّفْظِ في غَيْرِ ما وَرَدَ فيه وَأُخْرِجَ ما وَرَدَ فيه عن حُكْمِهِ وَأَعْجَبُ من هذا أَنَّهُ عُمِلَ بِعُمُومِ الحديث مُطْلَقًا حَيْثُ أُلْحِقَ الْوَلَدُ بِالْفِرَاشِ في الْحُرَّةِ وَإِنْ تَحَقَّقَ نَفْيُهُ كَالْمَغْرِبِيَّةِ مع الْمَشْرِقِيِّ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَكَذَا خِلَافُهُمْ في تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ هِيَ سُنَّةٌ فِيهِمَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَسْقَطَهَا أبو حَنِيفَةَ في عِيدِ الْفِطْرِ وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ على ما هَدَاكُمْ وقال الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ في الْأَوَّلَيْنِ الظَّنُّ أَنَّ ذلك لَا يَصِحُّ عن أبي حَنِيفَةَ وَكَذَلِكَ أَنْكَرَهُ الْمُقْتَرِحُ وقال لَعَلَّهُ لم يَبْلُغْهُ الْحَدِيثَانِ قُلْت وَلَوْ صَحَّ نِسْبَةُ ذلك إلَى أبي حَنِيفَةَ من هذا لَلَزِمَ نِسْبَتُهُ إلَى مَالِكٍ أَيْضًا فإن مَالِكًا قال بِالْقِيَافَةِ في وَلَدِ الْأَمَةِ لَا الْحُرَّةِ مع أَنَّ حَدِيثَ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ إنَّمَا وَرَدَ في الْحُرَّةِ وَنُقِلَ عنه أَنَّ الْمُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ لَا يُبَاحُ له التَّحْلِيلُ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ بِخِلَافِ الْحَجِّ مع أَنَّ آيَةَ الْإِحْصَارِ إنَّمَا نَزَلَتْ وَالنَّبِيُّ صلى اللَّهُ عليه وسلم مُحْرِمٌ بِالْعُمْرَةِ وَتَحَلَّلَ بِسَبَبِ الْإِحْصَارِ
____________________
(2/370)
وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَوْلُهُمْ إنَّ دُخُولَ السَّبَبِ قَطْعِيٌّ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ فِيمَا إذَا دَلَّتْ قَرَائِنُ حَالِيَّةٌ أو مَقَالِيَّةٌ على ذلك أو على أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ يَشْمَلُهُ بِطَرِيقِ الْوَضْعِ لَا مَحَالَةَ وَإِلَّا فَقَدْ يُنَازِعُ الْخَصْمُ في دُخُولِهِ وَضْعًا بِحَسَبِ اللَّفْظِ الْعَامِّ وَيَدَّعِي أَنَّهُ قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْعَامِّ إخْرَاجَ السَّبَبِ وَبَيَانَ أَنَّهُ ليس دَاخِلًا في الْحُكْمِ فإن لِلْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَقُولُوا في عبد بن زَمْعَةَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَإِنْ كان وَارِدًا في أَمَةٍ فَهُوَ وَارِدٌ لِبَيَانِ حُكْمِ ذلك الْوَلَدِ وَبَيَانُ حُكْمِهِ إمَّا بِالثُّبُوتِ أو الِانْتِفَاءِ فإذا ثَبَتَ أَنَّ الْفِرَاشَ هِيَ الزَّوْجَةُ لِأَنَّهَا هِيَ التي يُتَّخَذُ لها الْفِرَاشُ غَالِبًا وقال الْوَالِدُ لِلْفِرَاشِ كان فيه حَصْرُ أَنَّ الْوَلَدَ لِلْحُرَّةِ وَمُقْتَضَى ذلك لَا يَكُونُ لِلْأَمَةِ فَكَانَ فيه بَيَانُ الْحُكْمَيْنِ جميعا نَفْيُ السَّبَبِ عن الْمُسَبِّبِ وَإِثْبَاتُهُ لِغَيْرِهِ وَلَا يَلِيقُ دَعْوَى الْقَطْعِ هُنَا وَذَلِكَ من جِهَةِ اللَّفْظِ وَهَذَا في الْحَقِيقَةِ نِزَاعٌ في أَنَّ اسْمَ الْفِرَاشِ هل هو مَوْضُوعٌ لِلْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ الْمَوْطُوءَةِ أو الْحُرَّةِ فَقَطْ الْحَنَفِيَّةُ يَدَّعُونَ الثَّانِيَ فَلَا عُمُومَ عِنْدَهُمْ له في الْأَمَةِ فَتَخْرُجُ الْمَسْأَلَةُ عن هذا الْبَحْثِ نعم قَالَهُ هو لَك يا عبد بن زَمْعَةَ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَلْحَقَهُ بِهِ على حُكْمِ السَّبَبِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ من قَوْلِهِ الْفِرَاشَ قُلْت وَمِنْ الْمَسَائِلِ التي يُعَاكِسُ فيها أبو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ أَصْلَهُمَا ذَهَابُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ إلَى أَنَّ التَّحَلُّلَ في الْحَجِّ مَخْصُوصٌ بِحَصْرِ الْعَدُوِّ وَمَنَعَاهُ في الْمَرَضِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فما اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ نَزَلَ في الْحُدَيْبِيَةِ وكان الْحُصْرُ بِعَدُوٍّ فَاعْتَبَرَ خُصُوصَ السَّبَبِ وَخَالَفَهُمَا أبو حَنِيفَةَ في ذلك فَاعْتَبَرَ عُمُومَ اللَّفْظِ لِأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ على جَوَازِ خُرُوجِهِ من الْحَجِّ بِالْأَعْذَارِ فإن الْإِحْصَارَ عِنْدَ الْمُعْتَبِرِينَ من أَهْلِ اللُّغَةِ مَوْضُوعٌ لِإِحْصَارِ الْأَعْذَارِ وَالْحَصْرُ مَوْضُوعٌ لِحَصْرِ الْعَدُوِّ قال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ مَحَلَّ السَّبَبِ يَقْتَضِي حَصْرَ الْعَدُوِّ لِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا دَلَّ على حَصْرِ الْعَدُوِّ كانت دَلَالَتُهُ على حَصْرِ الْأَعْذَارِ من طَرِيقٍ أَوْلَى فَنَزَلَتْ لِتَدُلَّ على إحْصَارِ الْعَدُوِّ بِمَنْطُوقِهَا وَعَلَى إحْصَارِ الْعُذْرِ بِمَفْهُومِهَا فَتَنَاوَلَتْ الْأَمْرَيْنِ جميعا فَإِنْ قِيلَ قد قُرِّرَ بها ما يَدُلُّ على أنها نَزَلَتْ في حَصْرِ الْعَدُوِّ وهو قَوْله تَعَالَى فإذا أَمِنْتُمْ وَالْأَمْنُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ في زَوَالِ الْخَوْفِ من الْأَعْدَاءِ دُونَ زَوَالِ الْمَرَضِ وَالْأَعْذَارِ وَأَجَابَ أَنَّ الْآيَةَ لَمَّا دَلَّتْ على التَّحَلُّلِ بِالْحَصْرِ رَجَعَ الْأَمْرُ إلَى ما دَلَّتْ عليه بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لَا بِطَرِيقِ اللَّفْظِ وَإِنْ جَعَلْنَا حَصَرَ وَأُحْصِرَ
____________________
(2/371)
لُغَتَيْنِ دَلَّ أُحْصِرَ على الْأَمْرَيْنِ وَرَجَعَ لَفْظُ الْأَمْنِ إلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ قال وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا نَظِيرَ له في الشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ فإن من انْكَسَرَتْ رِجْلُهُ وَتَعَذَّرَ عليه الْعَوْدُ إلَى الْحَجِّ أو الْعُمْرَةِ يَبْقَى في بَقِيَّةِ عُمُرِهِ حَاسِرَ الرَّأْسِ مُجَرَّدًا عن اللِّبَاسِ مُحَرَّمًا عليه كُلُّ ما يَحْرُمُ على الْمُحْرِمِ بَعِيدٌ شَرْعًا وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ أَنَّ الْكَلَامَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهَا وَرَدَّ عليه إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِحَدِيثِ التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ قال وَلَوْ جَازَ الْكَلَامُ في مَصْلَحَتِهَا لَمَا أُمِرَ الْمَأْمُورُ في ذلك إذَا نَابَ الْإِمَامَ شَيْءٌ وَيَلْزَمُ مَالِكًا إخْرَاجُ مَحَلِّ السَّبَبِ من الْعُمُومِ فإن الحديث وَرَدَ على شَيْءٍ نَابَ أَبَا بَكْرٍ في صَلَاتِهِ لَمَّا صلى بِهِمْ وَصَفَّقُوا فلما فَرَغَ من الصَّلَاةِ قال صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّمَا التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ السَّبَبِ وَيُعْتَبَرُ اللَّفْظُ حتى لو اسْتَأْذَنَ عليه شَخْصٌ وهو في الصَّلَاةِ أو رَأَى أَعْمَى يَقَعُ في بِئْرٍ فإنه يُفَهِّمُهُ بِالتَّسْبِيحِ السَّابِعُ أَوْرَدَ على قَوْلِهِمْ إنَّ السَّبَبَ دَاخِلٌ قَطْعًا أَنَّهُ قبل نُزُولِ الْآيَةِ وَالْحُكْمُ إنَّمَا يَثْبُتُ من حِينِ نُزُولِهَا فَكَيْفَ يَنْعَطِفُ على ما مَضَى وقد أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ على أَنَّ أَوْسَ بن الصَّامِتِ شَمِلَهُ الظِّهَارُ وَأَمْثَالُهُ من الْأَسْبَابِ وَهَذَا الْإِشْكَالُ وَارِدٌ على سَبَبٍ وَيَخُصُّ آيَةَ الظِّهَارِ وَاللِّعَانِ إشْكَالٌ آخَرُ وهو أَنَّ الَّذِينَ في قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ من نِسَائِهِمْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ فَتَحْرِيرُ أَيْ فَكَفَّارَتُهُمْ تَحْرِيرُ وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عليه وَجَازَ دُخُولُ الْفَاءِ في الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَتَضَمُّنِ الْخَبَرِ مَعْنَى الْجَزَاءِ فإذا أُرِيدَ التَّنْصِيصُ على أَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَحَقٌّ بِالصِّلَةِ دَخَلَتْ الْفَاءُ حَتْمًا لِلدَّلَالَةِ على ذلك وإذا لم تَدْخُلْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا بِهِ أو بِغَيْرِهِ كما لو قِيلَ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ عليهم تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ وَإِنْ كنا نَقُولُ إنَّ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ على الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ وَلَكِنْ ليس بِنَصٍّ وَدُخُولُ الْفَاءِ نَصٌّ إذَا عَرَفْت هذا فَالْآيَةُ لَا تَشْمَلُ إلَّا من وُجِدَ منه الظِّهَارُ بَعْدَ نُزُولِهَا لِأَنَّ نَفْيَ الشَّرْطِ مُسْتَقْبَلٌ فَلَا يَدْخُلُ فيه الْمَاضِي وقد أَوْجَبَ النبي عليه السَّلَامُ الْكَفَّارَةَ على أَوْسِ بن الصَّامِتِ وَذَلِكَ لَا شَكَّ فيه من جِهَةِ أَنَّهُ السَّبَبُ وَأُجِيبَ عنه بِأَنَّ إثْبَاتَ أَحْكَامِ هذه الْآيَاتِ لِمَنْ وُجِدَ منه السَّبَبُ قبل نُزُولِهَا
____________________
(2/372)
لِأَنَّ هذه الْأَفْعَالَ كانت مَعْلُومَةَ التَّحْرِيمِ كَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَى وَوُجُوبُ الْحَدِّ فِيهِمَا لَا يَتَوَقَّفُ على الْعِلْمِ وَالْفَاعِلُ لها قبل نُزُولِ الْآيَةِ إذَا كان هو السَّبَبُ في نُزُولِهَا من حُكْمِ الْمُقَارِنِ لها لِأَنَّهَا نَزَلَتْ مُبَيِّنَةً لِحُكْمِهِ فَلِذَلِكَ ثَبَتَ حُكْمُهَا فيه دُونَ غَيْرِهِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلَ وَسَبَبُ النُّزُولِ حَاضِرٌ أو في الْحُكْمِ الْحَاضِرِ وَأَمَّا دَلَالَةُ الْفَاءِ على الِاخْتِصَاصِ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَقَدْ يُمْنَعُ الثَّامِنُ أَنَّ الْعُمُومَ الْخَارِجَ مَخْرَجَ التَّشْرِيعِ أَوْلَى من الْخَارِجِ على سَبَبٍ كَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ إنَّمَا الرِّبَا في النَّسِيئَةِ مع قَوْلِهِ لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ فَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّشْرِيعِ وَالْأَوَّلُ أَمْكَنَ خُرُوجُهُ على سُؤَالِ سَائِلٍ تَرَكَ الرَّاوِي ذِكْرَ سَبَبِهِ قَالَهُ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وقال الْغَزَالِيُّ يَصِيرُ احْتِمَالُ التَّخْصِيصِ لِلْخَارِجِ على سَبَبٍ أَقْرَبَ مِمَّا لم يَخْرُجْ على سَبَبٍ وَيَقْنَعُ فيه بِدَلِيلٍ أَخَفَّ وَأَضْعَفَ وقد يُصْرَفُ بِقَرِينَةِ اخْتِصَاصٍ بِالْوَاقِعَةِ وَيَأْتِي فيها ما ذُكِرَ في بَابِ التَّرَاجِيحِ التَّاسِعُ لَك أَنْ تَسْأَلَ عن الْفَرْقِ بين هذه الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِمْ إنَّ الْحُكْمَ إذَا شُرِعَ لِحِكْمَةٍ أو سَبَبٍ ثُمَّ زَالَ ذلك السَّبَبُ هل يَبْقَى الْحُكْمُ تَمَسُّكًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ أو لَا يَبْقَى نَظَرًا لِلْعِلَّةِ وَجْهَانِ مَذْكُورَانِ في اسْتِحْبَابِ الذَّهَابِ إلَى الْعِيدِ من طَرِيقٍ الرُّجُوعِ من أُخْرَى وَتَرْجِيحِهِمْ الْمَيْلَ إلَى تَعْمِيمِ الْحُكْمِ كما في الرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ في الطَّوَافِ وَجَعَلَ الرَّافِعِيُّ منه أَنَّ الْعَرَايَا لَا تَخْتَصُّ بِالْمَحَاوِيجِ على الصَّحِيحِ وَإِنْ كان سَبَبٌ على الرُّخْصَةِ وَرَدَ في الْمَحَاوِيجِ تَمَسُّكًا بِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْعَاشِرُ إذَا اعْتَبَرْنَا السَّبَبَ فَلَا يَنْبَغِي جَعْلُهُ من الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ بَلْ من الْعَامِّ الذي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ وَسَيَأْتِي الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا
____________________
(2/373)
فَائِدَةٌ نُزُولُ الْآيَةِ لِمَحَلٍّ لَا يَقْتَضِي تَعَلُّقَهَا بِهِ وقد يَخْرُجُ فيها قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ فإنه ذَهَبَ في الْقَدِيمِ إلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ له صِيَامُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عن تَمَتُّعِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى قَوْله تَعَالَى فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَلَا خِلَافَ بين أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هذه الْآيَةَ نَزَلَتْ في يَوْمِ التَّرْوِيَةِ وهو الثَّامِنُ من ذِي الْحِجَّةِ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بها أَيَّامَ التَّشْرِيقِ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ الْمُوَافِقِ له في الْحُكْمِ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ بَلْ الْأَوَّلُ بَاقٍ على عُمُومِهِ قال الْقَفَّالُ فَصَارَ الْخَاصُّ كَأَنَّهُ وَرَدَ فيه خَبَرَانِ خَبَرٌ يَشْمَلُهُ وَيَشْمَلُ غَيْرَهُ وَخَبَرٌ يَخُصُّهُ خِلَافًا لِأَبِي ثَوْرٍ فإنه خَصَّصَ الدِّبَاغَ بِالْمَأْكُولِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ مع إفْرَادِهِ ذِكْرَ الشَّاةِ في حديث مَيْمُونَةَ وَقَوْلُهُ في قِصَّةِ الْمُجَامِعِ في رَمَضَانَ مع قَوْلِهِ من أَفْطَرَ في رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ ما على الْمُظَاهِرِ إنْ صَحَّ الْخَبَرُ وَنَقَلَهُ عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ عن الْأَكْثَرِينَ من فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ فَأَمَّا مَذْهَبُنَا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَخَرَّجَ فيه الْخِلَافُ إلَّا أَنَّ أَجْوِبَتَهُمْ تَطَّرِدُ على الْأَوَّلِ قال وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ لِخَوْلَةِ في دَمِ الْحَيْضِ اغْسِلِيهِ وفي حديث عَمَّارٍ إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ من الْمَنِيِّ وَالْبَوْلِ وَالدَّمِ وَحَدِيثِ أَسْمَاءَ حُتِّيهِ ثُمَّ اقْرِضِيهِ ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ فَذُكِرَ الْمَاءُ وهو بَعْضُ ما دخل في اللَّفْظِ الْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ جُعِلَتْ لي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وقال في خَبَرٍ آخَرَ وَتُرَابُهَا طَهُورًا وَالتُّرَابُ بَعْضُ
____________________
(2/374)
الْأَرْضِ وَقَوْلُهُ الطَّعَامُ مِثْلًا بِمِثْلٍ وقال في خَبَرٍ آخَرَ الْبُرُّ بِالْبُرِّ فَاخْتَلَفَتْ أَجْوِبَةُ أَصْحَابِنَا في هذه الْأَمْثِلَةِ على الْمَذْهَبِ جميعا انْتَهَى وقال صَاحِبُ الْمَصْدَرِ إنَّمَا قال أبو ثَوْرٍ في قَوْله تَعَالَى وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ وَقَوْلُهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ ما لم تَمَسُّوهُنَّ أو تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ فَأَثْبَتَ الْمُتْعَةَ لِلْمُطَلَّقَةِ التي هذه سَبِيلُهَا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هذا هو الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ وَأَنْ لَا يَثْبُتَ لِغَيْرِ الْمُطَلَّقَةِ التي لم تُمَسَّ ولم يُفْرَضْ لها وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّخْصِيصِ حَيْثُ التَّنَافِي انْتَهَى وقد حَكَى أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ في هذه الْآيَةِ وَسَيَأْتِي في التَّخْصِيصِ بِالْمَفْهُومِ وَقَضِيَّتُهُ جَرَيَانُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ كَمَذْهَبِ أبي ثَوْرٍ وقد احْتَجَّ الْجُمْهُورُ في عَدَمِ التَّخْصِيصِ بِأَنَّ الْمُخَصَّصَ مُنَافٍ ذِكْرَ الْحُكْمِ في بَعْضِ الْأَفْرَادِ ليس بِمُنَافٍ فَذِكْرُ الْحُكْمِ ليس بِمُخَصَّصٍ وَاعْتُرِضَ بِمَنْعِ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ أَنَّ ذِكْرَ الْحُكْمِ في بَعْضِ الْأَفْرَادِ ليس بِمُنَافٍ بِنَاءً على قَاعِدَةِ الْمَفْهُومِ وَفُرِّقَ بين مُنَافَاةِ الْحُكْمِ وَبَيْنَ مُنَافَاةِ الذِّكْرِ فَثُبُوتُ الْحُكْمِ في بَعْضِ الْأَفْرَادِ ليس بِمُنَافٍ لِثُبُوتِهِ في غَيْرِهَا وَأَمَّا الذِّكْرُ فَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ مُنَافَاتِهِ لِأَصْلِ الْمَفْهُومِ الدَّالِّ على نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ إنَّمَا يَتَأَتَّى في ذِكْرِ الْحُكْمِ في بَعْضِ الْأَفْرَادِ فَتَخْصِيصُهُ بِمَا له مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ كَالصِّفَّةِ مَثَلًا وَلَا يَجِيءُ في ذِكْرِ الْحُكْمِ في بَعْضِ الْأَفْرَادِ بِذِكْرِ ما لَا مَفْهُومَ له كَاللَّقَبِ وَاَلَّذِينَ أَوْرَدُوا هذه الْمَسْأَلَةَ أَوْرَدُوهَا عَامَّةً وَمِنْ الناس من أَنْكَرَ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ وقال لَمَّا كان أبو ثَوْرٍ مِمَّنْ يقول بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ ظُنَّ أَنَّهُ يقول بِالتَّخْصِيصِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلَعَلَّ أَبَا ثَوْرٍ يقول إنَّ هذه الصُّورَةَ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا من الْعَامِّ وَتَصِيرُ قَطْعِيَّةً لِمَحَلِّ السَّبَبِ على ما سَبَقَ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فيه خِلَافٌ فَإِنْ قُلْت فَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ ما فَائِدَةُ هذا الْخَاصِّ مع دُخُولِهِ في الْعَامِّ قُلْت يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فَائِدَتُهُ عَدَمَ التَّخْصِيصِ أو التَّفْخِيمِ وَالْمَزِيَّةِ على بَقِيَّةِ الْأَفْرَادِ أو اخْتِصَاصِهِ بِضَرْبٍ من التَّأْكِيدِ إنْ جَدَّتْ وَاقِعَةٌ بَعْدَ وُرُودِ الْعَامِّ وقد يَرْجِعُ مَذْهَبُ
____________________
(2/375)
أبي ثَوْرٍ من جِهَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالِ الْعَامِّ وَإِرَادَةُ الْخَاصِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذلك الْعَامُّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ وَالْقَرِينَةُ فيه الْإِفْرَادُ وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَهُنَا تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ قال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بن دَقِيقِ الْعِيدِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى في تَقْرِيرِ هذه الْفَائِدَةِ وَنِسْبَةُ هذا الْمَذْهَبِ لِأَبِي ثَوْرٍ بهذا الْحَالِ لِأَنَّ اسْتِنْتَاجَ الْكُلِّيَّاتِ من الْجُزْئِيَّاتِ يُعْتَمَدُ كَوْنُهَا الْخُصُوصِيَّاتِ وَيُوجَدُ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ وَأَمَّا الْفَرْدُ الْمُعَيَّنُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فيه لِأَمْرٍ يَخْتَصُّهُ بَيَانُهُ أَنْ يَعْتَقِدَ أبو ثَوْرٍ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ طَهَارَةِ الْجِلْدِ بِالدِّبَاغِ وَيُعْتَقَدُ أَنَّ الْمَأْكُولَ يَخْتَصُّ بِمَعْنًى يُنَاسِبُ التَّطْهِيرَ أو التَّخْفِيفَ فَيُجْعَلُ ذلك قَرِينَةً في تَخْصِيصِ الْعُمُومِ كما جَعَلَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَدَمَ اعْتِبَارِ دِبَاغِ جِلْدِ الْكَلْبِ قَرِينَةً تَخُصُّ هذا الْعُمُومَ أو يُمْنَعُ تَطْهِيرُ جِلْدِ ما لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ بِنَهْيِ النبي عليه السَّلَامُ عن افْتِرَاشِ جُلُودِ السِّبَاعِ كما اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ لِهَذَا الْمَذْهَبِ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ إنْ كان أبو ثَوْرٍ نَصَّ على الْقَاعِدَةِ فَذَاكَ وَإِنْ كان أَخَذَ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ من مَذْهَبِهِ في هذه الْمَسْأَلَةِ فَلَا يَدُلُّ على ذلك قُلْت وَبِذَلِكَ صَرَّحَ أبو ثَوْرٍ في كِتَابِهِ فَقَدْ حَكَى عنه أبو عُمَرَ بن عبد الْبَرِّ في التَّمْهِيدِ أَنَّهُ إنَّمَا صَارَ إلَى تَخْصِيصِ الدِّبَاغِ بِالْمَأْكُولِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ عليه السَّلَامُ في جِلْدِ الشَّاةِ هَلَّا دَبَغْتُمُوهُ وقال في حَدِيثٍ آخَرَ نهى عن جُلُودِ السِّبَاعِ قال أبو ثَوْرٍ فلما رُوِيَ الْخَبَرَانِ أَخَذْنَا بِهِمَا جميعا لِأَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ فِيهِمَا انْتَهَى وَيُقَالُ له هَذَانِ الْخَبَرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامٌّ من وَجْهٍ خَاصٌّ من وَجْهٍ فإن خَبَرَ السِّبَاعِ عَامٌّ في جُلُودِ السِّبَاعِ قبل الدِّبَاغِ وَبَعْدَهُ وَخَاصٌّ بِالسِّبَاعِ وَحَدِيثُ أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ عَامٌّ في كِلَيْهِمَا وَخَاصٌّ بِالدِّبَاغِ وَيَتَأَكَّدُ في مِثْلِهِ التَّرْجِيحُ بِأَمْرِهِ
____________________
(2/376)
خَارِجٌ الثَّانِي أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ مَفْهُومُهُ مُوَافِقًا فَإِنْ كان مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ مِثْلُ خَبَرِ الْقُلَّتَيْنِ وَسَائِمَةِ الْغَنَمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْلِهِ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ وَقَوْلِهِ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ وَنَحْوِهِ فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ وَسَتَأْتِي وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ فقال فَأَمَّا إذَا كان لِلْخَاصِّ دَلِيلُ خِطَابٍ فإنه يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ فَيَخْرُجُ منه ما تَنَاوَلَهُ دَلِيلُهُ كَقَوْلِهِ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ مع قَوْلِهِ في سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ فَتَخْرُجُ الْمَعْلُوفَةُ من قَوْلِهِ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ فَالْمَفْهُومُ كَالْمَنْطُوقِ في وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَاللَّفْظُ الْخَاصُّ يُقْضَى بِهِ على الْعَامِّ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ مع قَوْلِهِ الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا ما غَيَّرَهُ وقال الشَّيْخُ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ مَحَلُّ الْخِلَافِ بِالتَّخْصِيصِ بِمَا ليس له مَفْهُومٌ كَاللَّقَبِ فَأَمَّا ما له مَفْهُومٌ كَالصِّفَاتِ فَعَلَى الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ أَجَازُوا تَخْصِيصَ الْعُمُومِ بِهِ قُلْت وَبِهِ صَرَّحَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في كِتَابِهِ فقال بَعْدَ قَوْلِهِ إنَّ ذلك لَا يُخَصَّصُ أَمَّا إذَا كان إفْرَادُ الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ على مَعْنَى نَفْيِ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ إيَّاهُ كما رُوِيَ في سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ وَرُوِيَ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ فَذِكْرُ السَّوْمِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا يَدُلُّ على نَفْيِ الزَّكَاةِ فِيمَا لَيْسَتْ بِسَائِمَةٍ وَكَأَنَّهُ قِيلَ لَا زَكَاةَ إلَّا في السَّائِمَةِ فَإِنْ لم يَقُمْ دَلِيلٌ على أَنَّ إفْرَادَهُ بِالذِّكْرِ على مَعْنَى مُخَالَفَةِ الْمَسْكُوتِ عنه له في حُكْمِهِ فإنه لَا يُجْعَلُ مُخَصَّصًا لِلْعُمُومِ لِأَنَّ ذلك الْعُمُومَ يَشْتَمِلُ عليه وَعَلَى غَيْرِهِ قال وَلَوْلَا قِيَامُ الدَّلِيلِ على أَنَّ قَوْلَهُ إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لم يَحْمِلْ خَبَثًا على أَنَّهُ تَحْدِيدٌ لَدَخَلَ في جُمْلَةِ قَوْلِهِ الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ انْتَهَى وَكَذَا قال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ الْخِلَافُ في هذه الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ إذَا عُرِّيَ اللَّفْظُ الْخَاصُّ من وُجُودِ الْأَدِلَّةِ التي تَقْتَضِي الْمُنَافَاةَ سِوَى خُصُوصِهِ في ذلك
____________________
(2/377)
الْمُسَمَّى فَإِنْ كان معه ما يَقْتَضِي ذلك فَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ يَخُصُّ الْعُمُومَ إلَّا في الْمَوَاضِعِ التي يُخْتَلَفُ فيها مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فيها مُتَعَلِّقًا بِصِفَةٍ فَيَدُلُّ على ما عَدَاهُ بِخِلَافِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ أو أَنْ يَكُونَ فيه تَعْلِيلٌ يُوجَدُ في بَعْضِ ما دخل تَحْتَ الْعُمُومِ فإذا عُرِّيَ من ذلك فَفِيهِ الْخِلَافُ ذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ هل يُخَصِّصُ الْعَامَّ الثَّالِثُ أَنَّ الْخِلَافَ لَا يَقْصُرُ على وُرُودِ الْخَاصِّ بِالنَّصِّ بَلْ إذَا وَرَدَ الْعَامُّ ثُمَّ وَرَدَ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قَضَاءٌ أو فِعْلٌ بِمَا يُوَافِقُ الْعُمُومَ ولم يَقُمْ دَلِيلٌ على أَنَّ فِعْلَهُ بَيَانٌ لِلْعُمُومِ وَمُفَسِّرٌ له فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ قال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَمَثَّلَهُ بِقَطْعِهِ عليه السَّلَامُ فِيمَا قِيمَتُهُ ثَلَاثُ دَرَاهِمَ أو عَشَرَةٌ وَلَيْسَ فيه أَنَّ ذلك تَفْسِيرٌ لِلْآيَةِ قال وَكَذَلِكَ لم يَجْعَلْ أَصْحَابُنَا ثَلَاثَةَ الدَّرَاهِمِ حَدًّا كما ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَلَا عَشَرَةً كما ذَهَبَ إلَيْهِ أَهْلُ الرَّأْيِ لِأَنَّ الْعُمُومَ قد ثَبَتَ بِقَطْعِ السُّرَّاقِ أَمْرًا وَالتَّقْيِيدُ إنَّمَا يَقَعُ على ما سُرِقَ من قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ لِهَذَا لم يَجْعَلْ الْخَبَرَيْنِ في قِيمَةِ الْمِجَنَّيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ لِأَنَّ قِيمَتَهُمَا قد تَخْتَلِفُ الرَّابِعُ قَيَّدَ ابن الرِّفْعَةِ في بَابِ الْأَوَانِي من الْمَطْلَبِ هذه الْمَسْأَلَةَ فقال مَحَلُّ قَوْلِنَا إنَّ ذِكْرَ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ لَا يُخَصَّصُ ما إذَا لم يُعَارِضْ الْعُمُومَ عُمُومٌ آخَرُ فَإِنْ عَارَضَهُ قُدِّمَ وَمَثَّلَهُ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ هَذَانِ حَرَامٌ على ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ وَرِوَايَةِ أبي مُوسَى حُرِّمَ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ على ذُكُورِ أُمَّتِي فَاقْتَضَى الثَّانِي تَخْصِيصَ الْأَوَّلِ بِاللُّبْسِ وقد عَارَضَ عُمُومَ الْأَوَّلِ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ الذي يَأْكُلُ أو يَشْرَبُ في آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ في جَوْفِهِ نَارَ جَهَنَّمَ فإنه يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْأَوَانِي على الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ لِأَنَّ حَدِيثَ الْأَوَانِي غَيْرُ حديث الِاسْتِعْمَالِ
____________________
(2/378)
فَائِدَةٌ لَا مَعْنَى لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَّا أَنَّا نَقْصُرُ الْحُكْمَ على تِلْكَ الْوَاقِعَةِ أو نَقِيسُ على تِلْكَ الْوَاقِعَةِ ما هو في مَعْنَاهَا من كل مَأْكُولِ اللَّحْمِ كما في شَاةِ مَيْمُونَةَ قال الْإِمَامُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ تَخْصِيصُ الْمَعْنَى الثَّانِي مَسْأَلَةٌ إذَا ذُكِرَ الْعَامُّ وَعُطِفَ عليه بَعْضُ أَفْرَادِهِ مِمَّا حَقُّ الْعُمُومَ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حَافِظُوا على الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى فَهَلْ يَدُلُّ فيه التَّخْصِيصُ على أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ حَكَى الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ عن وَالِدِهِ في كِتَابِ الْوَصِيَّةِ أَنَّهُ حَكَى خِلَافَ الْعُلَمَاءِ في هذه الْمَسْأَلَةِ فقال بَعْضُهُمْ هذا الْمَخْصُوصُ بِالذِّكْرِ لم يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَامِّ لِأَنَّا لو جَعَلْنَاهُ دَاخِلًا تَحْتَهُ لم يَكُنْ لِلْإِفْرَادِ فَائِدَةٌ قُلْت وَعَلَى هذا جَرَى أبو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَتِلْمِيذُهُ ابن جِنِّي وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عليه فإنه قال في حديث عَائِشَةَ في الصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ إنَّهُ يَدُلُّ على أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى لَيْسَتْ الْعَصْرَ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ ثُمَّ قال الرُّويَانِيُّ وقال بَعْضُهُمْ هذا الْمَخْصُوصُ بِالذِّكْرِ هو دَاخِلٌ تَحْتَ الْعُمُومِ وَفَائِدَتُهُ التَّأْكِيدُ أَيْ فَكَأَنَّهُ ذُكِرَ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِالْعُمُومِ وَمَرَّةً بِالْخُصُوصِ وَفَرَّعَ الرُّويَانِيُّ على هذا الْخِلَافِ ما لو أَوْصَى لِزَيْدٍ بِدِينَارٍ وَبِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ وَزَيْدٌ فَقِيرٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى غير الدِّينَارِ لِأَنَّهُ بِالتَّقْدِيرِ قَطَعَ اجْتِهَادَ الْقَاضِي جَزَمَ بِهِ في الْحَاوِي وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ فيه وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا هذا وهو الْأَظْهَرُ وَالثَّانِي أَنَّهُ يُجْمَعُ بين ما أَوْصَى له بِهِ وَبِشَيْءٍ آخَرَ من الثُّلُثِ على ما أَرَادَ الْمُوصِي الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ أَنَّ الْمَعْطُوفَ إذَا كان خَاصًّا لَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ الْمَذْكُورَ في الْمَعْطُوفِ عليه عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَيُوجِبُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَقِيلَ بِالْوَقْفِ لنا أَنَّ الْعَطْفَ لَا يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ في هذه الْأَحْكَامِ وَمِثَالُ الْمَسْأَلَةِ احْتِجَاجُ أَصْحَابِنَا على أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وهو عَامٌّ في الْحَرْبِ وَالذِّمِّيُّ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ في سِيَاقِ النَّفْيِ
____________________
(2/379)
وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ بَلْ هو خَاصٌّ وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَرْبِيُّ بِقَرِينَةِ عَطْفِ الْخَاصِّ عليه وهو قَوْلُهُ وَلَا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ لِأَنَّهُ عليه السَّلَامُ عَطْفٌ عليه قَوْلُهُ وَلَا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ وَلَا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ بِكَافِرٍ على حَدِّ قَوْله تَعَالَى آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ من رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ثُمَّ إنَّ الْكَافِرَ الذي لَا يُقْتَلُ بِهِ ذُو الْعَهْدِ هو الْحَرْبِيُّ فَقَطْ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْمُعَاهَدَ يُقْتَلُ بِالْمُعَاهَدِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ الذي لَا يُقْتَلُ بِهِ الْمُسْلِمُ أَيْضًا هو الْحَرْبِيُّ تَسْوِيَةً بين الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عليه وَهَذَا التَّقْدِيرُ ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْعَطْفَ لَا يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ بين الْمُتَعَاطِفَيْنِ من كل وَجْهٍ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ وَلَا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ كَلَامٌ تَامٌّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إضْمَارٍ قَوْلِهِ بِكَافِرٍ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَالْمُرَادُ حِينَئِذٍ أَنَّ الْعَهْدَ عَاصِمٌ من الْقَتْلِ وقد ذَهَبَ أبو عُبَيْدٍ في غَرِيبِ الحديث إلَى ذلك فقال إنَّ قَوْلَهُ وَلَا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ في عَهْدِهِ لِأَنَّهُ لو اقْتَصَرَ على قَوْلِهِ وَلَا ذُو عَهْدٍ لَتُوُهِّمَ أَنَّ من وُجِدَ منه عَهْدٌ ثُمَّ خَرَجَ منه لَا يُقْتَلُ فلما قال في عَهْدِهِ عَلِمْنَا اخْتِصَاصَ النَّهْيِ بِحَالَةِ الْعَهْدِ فَإِنْ قِيلَ ما وَجْهُ الِارْتِبَاطِ بين هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ على رَأْيِكُمْ إذْ لَا يَظْهَرُ مُنَاسَبَةٌ لِقَوْلِنَا وَلَا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ مُطْلَقًا مع قَوْلِنَا لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ أَجَابَ أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ بِأَنَّ عَدَاوَةَ الصَّحَابَةِ لِلْكُفَّارِ كانت شَدِيدَةً جِدًّا فلما قال عليه السَّلَامُ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ خَشِيَ أَنْ يَتَجَرَّدَ هذا الْكَلَامُ فَتَحْمِلُهُمْ الْعَدَاوَةُ الشَّدِيدَةُ بَيْنَهُمْ على قَتْلِ كل كَافِرٍ من مُعَاهَدٍ وَغَيْرِهِ فَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ ما مَعْنَاهُ وَلَا ذُو عَهْدٍ في زَمَنِ عَهْدِهِ الثَّالِثُ أَنَّ حَمْلَ الْكَافِرِ الْمَذْكُورِ على الْحَرْبِيِّ لَا يَحْسُنُ لِأَنَّ هَدْرَ دَمِهِ من الْمَعْلُومِ من الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَلَا يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ قَتْلَ مُسْلِمٍ بِهِ وَيُبْعِدُ هذا الْجَوَابَ قَلِيلًا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ مَدْلُولَ الحديث مُسْتَغْنًى عنه بِمَا دَلَّ عليه قَوْله تَعَالَى فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ فَالْحَمْلُ على فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ أَوْلَى وَثَانِيهَا أَنَّ صَدْرَ الحديث نَفَى فيه الْقَتْلَ قِصَاصًا لَا مُطْلَقَ الْقَتْلِ فَقِيَاسُ آخِرِهِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ
____________________
(2/380)
الرَّابِعُ سَلَّمْنَا صِحَّةَ التَّقْدِيرِ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ لُزُومَ تَسَاوِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ عليه لِأَنَّهُمَا كَلِمَتَانِ لو لُفِظَ بِهِمَا ظَاهِرَتَيْنِ أَمْكَنَ أَنْ يُرَادَ بِإِحْدَاهُمَا غَيْرُ ما أُرِيدَ بِهِ بِالْأُخْرَى فَكَذَلِكَ مُنِعَ ذِكْرُ إحْدَاهُمَا وَتَقْدِيرُ الْأُخْرَى وَيُؤَيِّدُهُ عُمُومُ وَالْمُطَلَّقَاتُ وَخُصُوصُ وَبُعُولَتُهُنَّ مع عَوْدِ الضَّمِيرِ عليه إذَا عَلِمْت هذا فَاعْلَمْ أَنَّهُ قد اخْتَلَفَ طُرُقُ الْأُصُولِيِّينَ في تَرْجَمَةِ هذه الْمَسْأَلَةِ فَمِنْهُمْ من تَرْجَمَهَا كما ذَكَرْنَا وَادَّعَى أَنَّهُ الصَّوَابُ كما سَيَأْتِي وَمِنْهُمْ من تَرْجَمَهَا كَالْآمِدِيِّ في الْأَحْكَامِ بِأَنَّ الْعَطْفَ على الْعَامِّ هل يَقْتَضِي الْعُمُومَ في الْمَعْطُوفِ وَهَذِهِ تَشْمَلُ ما لَا خِلَافَ فيه وَهِيَ ما لو قال لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ بِحَرْبِيٍّ فَلَا يقول أَحَدٌ بِاقْتِضَاءِ الْعَطْفِ على الْعَامِّ الْعُمُومَ حتى لَا يُقْتَلُ الْمُعَاهَدُ بِكَافِرٍ حَرْبِيًّا كان أو ذِمِّيًّا وَمِنْهُمْ من تَرْجَمَهَا كَالْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَالْهِنْدِيِّ وَغَيْرِهِمْ بِأَنَّ عَطْفَ الْخَاصِّ لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ وَنَاقَشَهُمْ النَّقْشَوَانِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ هذه الْعِبَارَةَ تَشْمَلُ صُورَتَيْنِ إحْدَاهُمَا عَامٌّ مَعْطُوفٌ على عَامٍّ قام الدَّلِيلُ على أَنَّهُ مَخْصُوصٌ كَقَوْلِك لَا تَضْرِبُ رَجُلًا وَلَا امْرَأَةً ثُمَّ تَبَيَّنَ لنا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَرْأَةِ غَيْرُ الْقَاذِفَةِ أو شَارِبَةِ الْخَمْرِ وَوِزَانُهُ هُنَا أَنْ يُقَالَ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ ثُمَّ يُخَصَّصُ الْكَافِرُ في الْمَعْطُوفِ عليه بِدَلِيلٍ وَالثَّانِيَةُ عَطْفُ خَاصٍّ بِلَفْظِهِ على عَامٍّ بِلَفْظِهِ فَهَلْ يَقْتَضِي ذلك تَخْصِيصَ الْأَوَّلِ كَقَوْلِنَا لَا تَضْرِبْ رَجُلًا وَلَا امْرَأَةً كَهْلَةً فَهَلْ يَخُصُّ الرَّجُلَ بِالْكَهْلِ أَيْضًا وَوِزَانُهُ هُنَا أَنْ يُقَالَ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ بِحَرْبِيٍّ قالوا وَمِثَالُهُمْ إنَّمَا هو من الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ولم يَتَعَرَّضُوا لِلثَّانِيَةِ وَالْإِمَامُ تَرْجَمَ لِلثَّانِيَةِ وَمِثَالُهُ إنَّمَا يُطَابِقُ الْأُولَى وَحِينَئِذٍ فَكَانَ من حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ إنَّ تَخْصِيصَ الْمَعْطُوفِ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ عِلَّتِهِ وَنَازَعَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ الْمَحْصُولِ وقال بَلْ كَلَامُهُمْ يَشْمَلُ الصُّورَتَيْنِ فَإِنَّهُمْ أَطْلَقُوا الْخَاصَّ وَمُرَادُهُمْ سَوَاءٌ كان خَاصًّا لَفْظًا أو دَلَّ الدَّلِيلُ على أَنَّهُ مَخْصُوصٌ وَتَبِعَهُ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الْأَصْفَهَانِيُّ من الْمُتَأَخِّرِينَ في مُصَنَّفٍ مُفْرَدٍ في هذه الْمَسْأَلَةِ قال وَالْحَقُّ أَنَّ تَرْجَمَةَ الْإِمَامِ تَعُمُّ الْمَسْأَلَتَيْنِ فإن الْخَاصَّ أَعَمُّ من أَنْ يَكُونَ خُصُوصُهُ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ أو غَيْرِهِ
____________________
(2/381)
لَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ وَإِنْ كانت عَامَّةً تَقَعُ على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ مَذْكُورًا في الْمَعْطُوفِ من غَيْرِ تَقْدِيرٍ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا لَكِنْ لَا يَكُونُ تَقْدِيرُهُ مُسْتَفَادًا من الْمَعْطُوفِ عليه وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرًا من حَيْثُ الْعُمُومُ مُسْتَفَادًا من الْمَعْطُوفِ عليه وَمِنْ حَيْثُ الْخُصُوصُ مُسْتَفَادًا من تَخْصِيصٍ بِمُنْفَصِلٍ وَالْحَدِيثُ من الْوَجْهِ الثَّالِثِ وَالْبَيَانُ في الْجَمِيعِ لَا يَتَفَاوَتُ انْتَهَى وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ الْمَقْصُودُ بِالْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هو أَنَّ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ إذَا عُطِفَتْ على الْأُخْرَى وَكَانَتْ الثَّانِيَةُ تَقْتَضِي إضْمَارًا كَقَوْلِهِ وَلَا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ على ما تَدَّعِيه الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّهَا لَا تَسْتَقِيمُ عِنْدَهُمْ بِدُونِ إضْمَارٍ وَإِلَّا يَلْزَمُ قَتْلُ الْمُعَاهَدِ مُطْلَقًا فَهَلْ يُضْمَرُ ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ثُمَّ إنْ كان عَامًّا اقْتَضَى الْعَطْفُ عليه تَقْدِيرَ الْعَامِّ فَكَانَ الْعَطْفُ على الْعَامِّ يَقْتَضِي الْعُمُومَ لِذَلِكَ أو يُضْمَرُ مِقْدَارُ ما يَسْتَقِلُّ بِهِ الْكَلَامُ فَقَطْ لِأَنَّ ما وَرَاءَهُ تَقْدِيرٌ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ قالت الْحَنَفِيَّةُ بِالْأَوَّلِ وَأَصْحَابُنَا بِالثَّانِي وقد أَجَادَ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ حَيْثُ افْتَتَحَ الْمَسْأَلَةَ بِقَوْلِهِ الْمَعْطُوفُ لَا يَجِبُ أَنْ يُضْمَرَ فيه جَمِيعُ ما يُمْكِنُ إضْمَارُهُ مِمَّا في الْمَعْطُوفِ عليه بَلْ بِقَدْرِ ما يُفِيدُ وَيَسْتَقِلُّ بِهِ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ جَمِيعُ ما سَبَقَ مِمَّا يُمْكِنُ إضْمَارُهُ انْتَهَى وَكَذَا ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ حَيْثُ قال هل يَجِبُ أَنْ يُضْمَرَ في الْمَعْطُوفِ جَمِيعُ ما يُمْكِنُ إضْمَارُهُ مِمَّا في الْمَعْطُوفِ عليه وإذا وَجَبَ ذلك وكان الْمُضْمَرُ في الْمَعْطُوفِ عليه مَخْصُوصًا فَهَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُضْمَرُ في الْمَعْطُوفِ عليه مَخْصُوصًا أَمْ لَا وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخِلَافَ في أَنَّهُ هل يَجِبُ تَقْدِيرُ ما ذُكِرَ في الْأُولَى أو ما يَسْتَقِلُّ بِهِ الْكَلَامُ فَقَطْ فَنَحْنُ لَا نُقَدِّرُ إلَّا ما يَسْتَقِلُّ بِهِ الْكَلَامُ فَقَطْ وَالْحَنَفِيَّةُ يَجْعَلُونَ الْمُضْمَرَ في الثَّانِيَةِ هو الْمُضْمَرَ في الْأُولَى وَقَالُوا حَرْفُ الْعَطْفِ يَجْعَلُ الْمَعْطُوفَ وَالْمَعْطُوفَ عليه كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا في أَصْلِ الْحُكْمِ وَتَفَاصِيلِهِ وَسَاعَدَهُمْ جَمَاعَةٌ من أَصْحَابِنَا حتى قال ابن السَّمْعَانِيِّ كَلَامُهُمْ ظَاهِرٌ جِدًّا وقال ابن الْحَاجِبِ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَفَصَّلَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بين أَنْ يُقَيَّدَ الْمَعْطُوفُ بِقَيْدٍ غَيْرِ قَيْدِ الْمَعْطُوفِ عليه فَلَا يُضْمَرُ فيه وَأَنْ يُطْلَقَ فَيُضْمَرُ فيه وَنَقَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ من أَصْحَابِهِمْ أَنَّهُمْ إنَّمَا يَقُولُونَ بِتَخْصِيصِ الْعَامِّ الْمَعْطُوفِ عليه بِخُصُوصِ الْخَاصِّ الْمَعْطُوفِ فِيمَا هو مَخْصُوصُ الْمَادَّةِ
____________________
(2/382)
كَالْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ وهو أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ في الْمَوْضِعَيْنِ أَمَّا إذَا لم يَتَعَيَّنْ كما لو قال ضَرَبْت زَيْدًا وَعَمْرًا قَائِمًا في الدَّارِ فإن الْمَعْطُوفَ هُنَا خَاصٌّ وهو أَنَّ ضَرَبْت في حَالِ قِيَامِهِ وَحَالَ كَوْنِهِ في الدَّارِ وَالْمَعْطُوفُ عليه عَامٌّ فَلَا يَقُولُونَ بِتَخْصِيصِ الْمَعْطُوفِ عليه وَالضَّابِطُ أَنَّ لِلْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ أَحْوَالًا أَحَدُهَا أَنْ يَتَّضِحُ كَوْنُ الثَّانِيَةِ مُسْتَقِيمَةً وَهَذَا لَا خِلَافَ فيه بين الْفَرِيقَيْنِ وَمِنْهُ فَرِيقٌ لم يُتَرْجِمْ الْمَسْأَلَةَ بِالْعَطْفِ على الْعَامِّ هل يَقْتَضِي الْعُمُومَ فإذا عَطَفْت جُمْلَةً على أُخْرَى وَكَانَتْ الثَّانِيَةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا وَكَانَتْ الْمُشَارَكَةُ في أَصْلِ الْحُكْمِ لَا في جَمِيعِ صِفَاتِهِ وقد لَا يَقْتَضِي مُشَارَكَةً أَصْلًا وَهِيَ التي تُسَمَّى وَاوَ الِاسْتِئْنَافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ على قَلْبِك وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ فإن قَوْلَهُ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا تَعَلُّقَ لها بِمَا قَبْلَهَا وَلَا هِيَ دَاخِلَةٌ في جَوَابِ الشَّرْطِ الثَّانِيَةُ أَنْ لَا يَتَّضِحَ اسْتِقَامَتُهَا إلَّا بِتَقْدِيرٍ وَإِضْمَارٍ وَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ فَالْحَنَفِيَّةُ يُقَدِّرُونَ الْأَوَّلَ ثُمَّ له حَالَتَانِ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا فَيَكُونُ الْمَعْطُوفُ عَامًّا أَيْضًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَاصًّا فَيَكُونُ خَاصًّا وَهَذِهِ الْحَالَةُ عِنْدَهُمْ تُشَارِكُ الثَّانِيَةُ الْأُولَى في جَمِيعِ ما هِيَ عليه وَلِهَذَا لو قال هذه طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهَذِهِ طَلُقَتْ الثَّانِيَةُ ثَلَاثًا بِخِلَافِ ما إذَا قال هذه طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهَذِهِ طَالِقٌ فَلَا يُطَلِّقُ إلَّا وَاحِدَةً لِاسْتِقْلَالِهَا وَوَافَقَهُمْ ابن الْحَاجِبِ وَالْتَزَمَ في أَثْنَاءِ كَلَامٍ له في مُخْتَصَرِهِ الْأُصُولِيِّ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ ضَرَبْت زَيْدًا يوم الْجُمُعَةِ وَعَمْرًا يَتَقَيَّدُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ أَيْضًا وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عَطْفَ الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ عِنْدَهُ على الْكَامِلَةِ يَقْتَضِي مُشَارَكَتَهُمَا في أَصْلِ الْحُكْمِ وَتَفَاصِيلِهِ وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ أَنَّهُ اخْتِيَارُ ابْنِ عُصْفُورٍ من النَّحْوِيِّينَ وَأَمَّا أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ اخْتَلَفُوا في ذلك فَقَالُوا إذَا قال إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ فإن الثَّانِيَةَ تَتَقَيَّدُ أَيْضًا بِالشَّرْطِ وَكَذَا لو قَدَّمَ الْجَزَاءَ على الشَّرْطِ وهو ظَاهِرٌ وَقَالُوا فِيمَا إذَا قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِرْهَمٌ وَنَحْوَهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الدِّرْهَمُ مُفَسِّرًا لِلْأَلْفِ بَلْ له تَفْسِيرُهَا بِمَا شَاءَ وهو مَذْهَبُ مَالِكٍ وقال الْحَنَفِيَّةُ إنْ كان الْمَعْطُوفُ مَكِيلًا أو مَوْزُونًا أو مَعْدُودًا فُسِّرَتْ الْأَلْفُ بِهِ وَإِنْ كان مُتَقَوِّمًا كَالثَّوْبِ وَالْعَبْدِ بَقِيَ الْعَدَدُ الْأَوَّلُ على إبْهَامِهِ
____________________
(2/383)
وَلَوْ قال كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَأَنْتِ يا أُمَّ أَوْلَادِي قال الْعَبَّادِيُّ لَا يَقَعُ عليه الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ قبل النِّكَاحِ لَغْوٌ وقد رَتَّبَ طَلَاقَهَا عليه فَيَلْغُو حَكَاهُ عنه الرَّافِعِيُّ ولم يُنْكِرْهُ ثُمَّ قال وَيَقْرَبُ من هذا ما ذَكَرَهُ غَيْرُهُ أَنَّهُ لو قال لِزَوْجَتِهِ نِسَاءُ الْعَالَمِينَ طَوَالِقُ وَأَنْتِ يا فَاطِمَةُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ عَطَفَ طَلَاقَهَا على طَلَاقِ نِسْوَةٍ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُنَّ وَقَضِيَّةُ هذه الْعِلَّةِ أَنَّهُ إذَا عَطَفَ الطَّلَاقَ على طَلَاقٍ نَافِذٍ يَقَعُ الثَّالِثَةَ أَنْ يَشْكُلَ الْحَالُ فَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أنها مُحْتَاجَةٌ إلَى الْإِضْمَارِ وَآخَرُونَ إلَى أنها غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ كَهَذَا الحديث فإنه عِنْدَنَا تَامٌّ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيرٍ وَهُمْ يُقَدِّرُونَهُ قالوا وَلَوْ لم نُقَدِّرْهُ لَكَانَ مَعْنَاهُ لَا يُقْتَلُ ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ امْتِنَاعُ قَتْلِ الْمُعَاهَدِ مُطْلَقًا قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ لُزُومَهُ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ امْتِنَاعُهُ وَحِينَئِذٍ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ كما يَجُوزُ تَخْصِيصُ قَوْلِهِ بِكَافِرٍ على تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ هو مُقَدَّرًا وقد ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في كِتَابِهِ التَّجْرِيدِ في الحديث تَقْدِيرَيْنِ آخَرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا حَذْفَ فيه وَلَكِنَّهُ على التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالْأَصْلُ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ وَلَا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ بِكَافِرٍ ثُمَّ أَخَّرَ الْمَعْطُوفَ عن الْجَارِ وَالْمَجْرُورِ وإذا ثَبَتَ ذلك فَالْكَافِرُ الذي لَا يُقْتَلُ بِهِ الْمُعَاهَدُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ من لَا عَهْدَ له وهو الْحَرْبِيُّ فَكَذَلِكَ الْكَافِرُ الذي لَا يُقْتَلُ بِهِ الْمُسْلِمُ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ فَرَّ من ضَرُورَةِ تَقْدِيرِ الْحَرْبِيِّ إلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وهو خِلَافُ الْأَصْلِ أَيْضًا وَبِأَنَّ فيه ما سَبَقَ الثَّانِي أَنَّ ذُو عَهْدٍ مُبْتَدَأٌ وفي عَهْدِهِ خَبَرُهُ وَالْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَالْحَالُ أَنَّهُ ليس ذَا عَهْدٍ في عَهْدِهِ وَنَحْنُ لو فَرَضْنَا خُلُوَّ الْوَقْتِ عن عَهْدٍ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ لم يُقْتَلْ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ قال وَمِثْلُهُ في الْمَعْنَى ما أَنْشَدَ أبو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ بِأَيْدِي رِجَالٍ لم يَشِيمُوا سُيُوفَهُمْ ولم تَكْثُرْ الْقَتْلَى بها حَيْثُ سُلَّتْ وَهَذَا فيه بُعْدٌ لِأَنَّ فيه إخْرَاجَ الْوَاوِ عن أَصْلِهَا وهو الْعَطْفُ وَمُخَالَفَةٌ لِرِوَايَةِ من رَوَى وَلَا ذِي عَهْدٍ بِالْخَفْضِ إمَّا عَطْفًا على كَافِرٍ كما يقول الْجُمْهُورُ وَإِمَّا على مُسْلِمٍ كما تَقُولُهُ الْحَنَفِيَّةُ وَلَكِنَّهُ خُفِضَ لِمُجَاوَرَتِهِ لِلْمَخْفُوضِ وَأَيْضًا فإن مَفْهُومَهُ حِينَئِذٍ أَنَّ الْمُسْلِمَ يُقْتَلُ بِالْكَافِرِ مُطْلَقًا في حَالَةِ كَوْنِ ذِي الْعَهْدِ في عَهْدِهِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ فإنه لَا يُقْتَلُ بِالْحَرْبِيِّ اتِّفَاقًا
____________________
(2/384)
مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفُوا في لَفْظِ الْعَامِّ إذَا كان مَعْطُوفًا على عُمُومٍ قَبْلَهُ وَأَمْكَنَ اسْتِعْمَالُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا في نَفْسِهِ إذَا أُفْرِدَ بِالذِّكْرِ من غَيْرِ تَعَلُّقِ الثَّانِي بِمَا قَبْلَهُ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ فَكُلُّ من اعْتَبَرَ خُصُوصَ السَّبَبِ زَعَمَ أَنَّ الثَّانِيَ مَحْمُولٌ على حُكْمِ الْعُمُومِ الذي يَلِيه وَمَنْ اعْتَبَرَ عُمُومَ اللَّفْظِ أَوْجَبَ اعْتِبَارَ الْعُمُومِ الثَّانِي بِظَاهِرِهِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ على تَعَلُّقِهِ بِالْمَعْطُوفِ وَمِثَالُهُ قَوْله تَعَالَى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا إلَى قَوْلِهِ فَمَنْ تَابَ من بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فإن اللَّهَ يَتُوبُ عليه فَمَنْ تَابَ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ مُفْرَدٌ فَلَا يَصِحُّ تَضْمِينُهُ بِمَا قَبْلَهُ من السَّرِقَةِ من سُقُوطِ الْقَطْعِ بِالتَّوْبَةِ بَلْ هو عَامٌّ في السَّرِقَةِ وَغَيْرِهَا إلَّا ما خَصَّهُ الدَّلِيلُ منه وَلَيْسَ هذا كَقَوْلِهِ في آيَةِ الْمُحَارَبَةِ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا الْآيَةُ اسْتَثْنَى لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ قال الْأُسْتَاذُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ هذا الْمَذْهَبُ الذي أَخَتَرَتَاهُ أَوْلَى لِأَنَّهُمْ حَمَلُوا قَوْله تَعَالَى وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ على الْمُطَلَّقَةِ وَعَلَى الْمُتَوَفَّى عنها زَوْجُهَا ولم يَحْمِلُوهَا على الْمَعْطُوفِ عليه في قَوْلِهِ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ المسألة الخامسة إذا ورد اللفظ العام ثم ورد عقيبه تقييد بشرط أو استثناء أو صفة أو حكم وكان ذلك لا يتأتى إلا في بعض ما يتناوله العموم فهل يجب أن يكون المراد بذلك العموم ذلك البعض أو لا فيه قولان والمذهب كما قاله ابن السمعاني أنه لا يجب أن يكون المراد بالعموم تلك الأشياء فقط وبه جزم الشيخ أبو حامد الإسفراييني فقال بل يحمل الأول على عمومه والآخر على أنه بيان لبعض حكم الأول قال وأبو حنيفة يوافقنا على هذه القاعدة وإن خالفنا في مثل لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده انتهى وجزم به أبو بكر الصيرفي في كتاب الدلائل والأعلام والقفال الشاشي في كتابه وابن القشيري وإلكيا الطبري والشيخ أبو إسحاق وسليم في التقريب وابن
____________________
(2/385)
الصباغ في العدة وبه جزم أبو بكر الرازي من الحنفية ونقله عن عيسى بن أبان وغيره وقالت الحنفية إن ذلك يقتضي تخصيصه وبه قال القاضي من الحنابلة وقال إنه ظاهر كلام أحمد قال سليم وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وإنما خالفه في اعتبار مسائل خص عموم أولها بخصوص آخر كقوله لا يقتل مسلم بكافر الحديث فحمل أول الحديث على الكافر الحربي والمستأمن لأجل آخره لنا أن العام إنما يخص بما ينافيه قلت ونقل الرافعي في أول باب قاطع الطريق عن أكثر العلماء من أصحابنا وغيرهم أن الآية في المسلمين دون الكفار وأنهم احتجوا على ذلك بقوله إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم الآية فدل هذا الاستثناء على أنها في المسلمين انتهى وذهب بعض الأصوليين إلى الوقف واختاره أبو الحسين البصري في المعتمد كذا رأيته فيه وكذا حكاه ابن برهان في الأوسط وابن السمعاني في القواطع ونقل ابن الحاجب عنه أنه يخصص وهو وهم قلت ونص عليه الشافعي في الأم ونقله عن ابن عباس واعلم أن للشافعي في المسألة نصا صريحا لكن وقع في كلامه ما يقتضي الأمرين فأما ما يدل على أنه تخصيص فمواضع أحدها أنه قال في الأم في قوله تعالى كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده إن الضمير عائد على بعض ما تقدم وهو الزرع لا النخل والزيتون لأن الحصاد لا يكون إلا في الزرع فلم يوجب الزكاة إلا في الزرع وحمل الإتاء العام عليه لأجل الضمير المخصص الثاني أنه قال في قوله تعالى انفروا خفافا وثقالا إن هذا وإن كان لفظه عاما للحر والعبد إلا أنه خاص بالحر لقوله بعده وجاهدوا بأموالكم والعبد لا يملك الثالث قوله في الاحتجاج على أن العبد لا يملك الطلاق الثلاث بقوله سبحانه الطلاق مرتان لأنه وإن كان عاما لكنه خاص بالحر لأجل قوله ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن والعبد لا يعطي شيئا
____________________
(2/386)
الرابع أنه استدل على أن العبد لا تحل له أربع زوجات بقوله فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع وقال هذا خاص بالحر لقوله أو ما ملكت أيمانكم فإن العبد لا يملك الخامس آية المحاربة السابقة وأما المواضع التي تدل على أنه ليس بتخصيص فمنها أن ظهار الذمي عنده صحيح مع أن قوله تعالى عقب قوله والذين يظاهرون وإن الله لعفو غفور وهو لا يكون إلا للمؤمنين فلم يجعل هذا مخصصا لعموم الذين يظاهرون ومنها أن إيلاء الذمي عنده صحيح مع أن قوله تعالى عقبه للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم فلم يجعله مخصصا فخرج من هذا أن للشافعي في المسألة قولين أصحهما أنه تخصيص كما دل عليه الأكثر من كلامه إلا أن يدل دليل على عدم المخصص فيعمل به كإيلاء الذمي وظهاره وقد مثلوا الاستثناء بقوله تعالى إلا أن يعفون بعد قوله لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ومعلوم أن العفو لا يكون إلا من البالغة الرشيدة فهل يتخصص النساء بهن قال صاحب المصادر وهذا ليس بوزان المسألة لأنه إنما يصح لو لم يذكر بعده أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح فقد ذكر حكم البلغ وحكم غيرهن ومثال الصفة قوله لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا بعد قوله إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ويعني بالأمر الرغبة في رجعتهن ومعلوم أن ذلك لا يتأتى في البائنة فكان الأول عاما في المطلقات قال القفال ولهذا جعل أصحابنا قوله إذا طلقتم النساء فطلقوهن فيما يملك الزوج من عدد الطلاق وإن كان قوله لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا يقتضي تخصيصه بالرجعي ومثال رجوع الضمير قوله والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء فهذا عام في الرجعية والبائن المدخول بها ثم قوله وبعولتهن أحق بردهن وهذا لا يتأتى في البائن وقوله تعالى ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وهذا عام في المسلمين والمشركين ثم
____________________
(2/387)
قال لقد تقطع بينكم وهي خاصة بالمشركين وجعل بعض المتأخرين مدرك الخلاف أن التخصيص هل يدخل على الأسماء المضمرة كما يدخل على الأسماء المظهرة كما يدل عليه التخصيص المتصل في مثل قوله تعالى ما فعلوه إلا قليل منهم فشربوا منه إلا قليلا منهم فمنهم من قال أكثر الناس على الدخول وتوهم بعض المتأخرين أنه لا يدخل في الضمائر لأن المضمر لا يدل بنفسه على جنس من الأجناس وإنما يعود إلى المذكور أو المعلوم فيقل بقلته ويكثر بكثرته فلا حاجة إلى دخول التخصيص عليه وهذا ليس بشيء لأن موضوعه في اللغة أن يعود إلى ما قبله فإذا عاد إلى بعض ما قبله فقد خص ببعض معناه انتهى وجعل الصيرفي من هذا القسم قوله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن إلى قوله إلا أن يعفون فأطلق تعالى الاسم على من طلقت بهذه الصفة وأوجب لها نصف المهر من كل مطلق ثم قال إلا أن يعفون فلو كان الضمير راجعا إلى الكل لجاز أن تعفو غير البالغة لأنه لو كان نصف الصداق لا يكون إلا على الزوج الذي له العفو لامرآته أو لامرآته عليه لكان من لا يكون له العفو لا نصف له من الصداق وإذا بطل هذا علم أن الخطاب بالعفو في بعض المذكورين في الابتداء ثم قال وكل ما يجوز أن يكون في الابتداء على الإطلاق فالضمير راجع إلى هذا الوصف والحكم ثابت على ما ثبت وكل ما لا يصح إلا على الترتيب فالحكم له وما جاز أن يقع على الجميع فالضمير عن جميعه ومثل أيضا بقوله تعالى ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ثم قال وإن جاهداك لتشرك بي فهذا إنما يكون في الكافر والأول على عمومه وكذا قوله يوصيكم الله في أولادكم الآية ثم قال من بعد وصية يوصي بها أو دين وقال أبو الحسين بن القطان الكناية إنما تكون على مذكور متقدم فإن لم يكن لم يجز أن يحمل عليه وقد خاطبنا الله بخطاب مواجهة لم يكن على ما تقدم كقوله تعالى حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وإنما أراد بكم ولو خلينا والظاهر لقلنا فيه إن ذلك ليس بعطف لكن لما تقدم ذكر المواجهة علمنا عوده إليهم نظيره قوله تعالى إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح
____________________
(2/388)
خرجه الشافعي على قولين أحدهما أن المراد به الولي لأنه لو أراد الزوج لواجهه فلما عدل إلى الكناية علمنا أنه لم يرده والثاني أنه رد الكناية إلى المواجهة وهو الزوج لأنه ذكر عفوها وعفو زوجها فكنى كما كنى في جرين بهم قال وهذا يجري في كل موضع إن قام الدليل صرنا إليه وإلا حمل على الظاهر قال وجعل بعض أصحابنا من هذا أن يعطف شيء فيكون حكم الثاني حكم الأول كقوله لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ثم قال ومن قتله منكم متعمدا فكان الصيد اسما للفعل فلما قال لا تقتلوا استحال أن يكون إشارة إلى الفعل فعلم أن الإشارة وقعت إلى عين المصيد ثم عطف بقوله وحرم عليكم صيد البر فكان المعطوف الثاني على العطف الأول وذلك أن أهل اللغة قالوا إن العطف على حكم المتقدم قال ولذلك قال أحل لكم صيد البحر ومن أصحابنا من قال هذا إذا جرين كان للفعل الثاني لأن الأول لم يعهد أن يكون للفعل لقيام الدلالة عليه وإذا لم نقدر على هذا رجعنا في ذلك إلى الحقيقة في الثاني فكان للفعل والأجود أن يقال في هذه الآية إنه للفعل والمصيد نفسه فقد حرم الأمرين جميعا لأنه قد يقع على المصيد وإذا كان يقع عليه حمل على الأمرين ومما يبين هذا أن الآية واردة في القسم الأول أنه للفعل قوله وحرم عليكم صيد البر فلا يجوز أن يقال فعل البر وإنما أراد عين المصيد ومثل ذلك قوله فطلقوهن لعدتهن ثم قال لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا فكان الأول محمولا على البائن والرجعية والثاني محمول على الرجعية مَسْأَلَةٌ وَأَمَّا إذَا كان أَوَّلُ الْكَلَامِ خَاصًّا وَآخِرُهُ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ فَلَا يَكُونُ خُصُوصُ أَوَّلِهِ مَانِعًا من عُمُومِ آخِرِهِ كَالْعَكْسِ ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ وَقَوْلُهُ فَمَنْ تَابَ من بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فإن الْأَوَّلَ في صِنْفٍ من الظَّالِمِينَ وَهُمْ السُّرَّاقُ وَالتَّوْبَةُ بَعْدَ الظُّلْمِ وَالْإِصْلَاحِ لِجَمِيعِ
____________________
(2/389)
الظَّالِمِينَ وَقَوْلُهُ وَاَللَّائِي يَئِسْنَ من الْمَحِيضِ من نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللَّائِي لم يَحِضْنَ فَكَانَ هذا لِلْمُطَلَّقَاتِ ثُمَّ قال وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وهو عَامٌّ في الْمُطَلَّقَاتِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ وَذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ النَّحْوِيُّ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ يُوصِيكُمْ اللَّهُ في أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كان أَوَّلُهُ خَاصًّا بِالْأَوْلَادِ وَآخِرُهُ يَشْمَلُ الْأَوْلَادَ وَالْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ إذَا وَرِثُوا فإن لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَلَوْ قِيلَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كان مَقْصُورًا على الْأَوْلَادِ فلما لم يَقُلْ منهم دَلَّ على إرَادَةِ الْعُمُومِ قلت وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ فيها الْخِلَافُ في الْعَكْسِ وقد سَبَقَ في قَوْلِهِ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ تَنْبِيهٌ إذَا تَقَدَّمَ الْمَعْنَى الْمُخَصَّصُ وَتَأَخَّرَ اللَّفْظُ الْعَامُّ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا التَّخْصِيصُ وَلِهَذَا خَصُّوا قَوْلَهُ عليه السَّلَامُ إنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ بِالْوَصِيَّةِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ وَقَالُوا إذَا أَوْصَى بِعَيْنٍ هِيَ قَدْرُ حِصَّتِهِ يَصِحُّ فلم يَعْتَبِرُوا الْعُمُومَ لِأَجْلِ سَبْقِ الْعِلَّةِ الْمُخَصِّصَةِ مَسْأَلَةٌ وَأَمَّا إذَا ذُكِرَ الْعَامُّ ثُمَّ ذُكِرَ بَعْضُ أَفْرَادِهِ بِقَيْدٍ أو شَرْطٍ فَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَوَّلَ مُرَادٌ بِمَا عَدَا الشَّرْطَ وَيَكُونُ مُخَصِّصًا له قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ قال فَإِنْ كان من قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وهو مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كان من قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لم يُرِدْ مَجْمُوعَ الرَّقَبَتَيْنِ على الْقَاتِلِ إنْ كان الْقَتْلُ من عَدُوٍّ لنا لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمُؤْمِنَ ذِكْرًا عَامًّا فَكَانَ الِاسْمُ يَنْظِمُ من هو عَدُوٌّ لنا وَمَنْ هو من دَارِنَا فلما قال في الثَّانِيَةِ فَإِنْ كان من قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ دَلَّ على مُخَالَفَةِ الْمَوْضِعَيْنِ وَأَنَّ ذِكْرَ الْأَوَّلِ في بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا الذي في غَيْرِ دَارِ الْحَرْبِ وَبِقَوْلِهِ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ثُمَّ قال وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ
____________________
(2/390)
فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ لِأَنَّ الْحُكْمَ الثَّانِيَ مُعَلَّقٌ بِمَعْنًى ليس في أَوَّلِ ما اُبْتُدِئَ بِذِكْرِهِ ا هـ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ إذَا وَرَدَ الْعُمُومُ مُجَرَّدًا من صِفَةٍ ثُمَّ أُعِيدَ بِصِفَةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عنه كَقَوْلِهِ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ مع قَوْلِهِ قَبْلَهُ أو بَعْدَهُ اُقْتُلُوا أَهْلَ الْأَوْثَانِ من الْمُشْرِكِينَ كان ذلك مُوجِبًا لِلتَّخْصِيصِ بِالِاتِّفَاقِ وَيُوجِبُ الْمَنْعَ من أَهْلِ الْكِتَابِ وَيُخَصِّصُ ما بَعْدَ الْعُمُومِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
____________________
(2/391)
مَبَاحِثُ الْخَاصِّ وَالْخُصُوصِ وَالتَّخْصِيصِ تَعْرِيفُ الْخَاصِّ وَالْخُصُوصِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا الْخَاصُّ اللَّفْظُ الدَّالُ على مُسَمًّى وَاحِدٍ وما دَلَّ على كَثْرَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَلِهَذَا قَدَّمَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ على الْبَحْثِ في الْعَامِّ تَقْدِيمًا لِلْمُفْرَدِ على الْمُرَكَّبِ وَالْخُصُوصُ كَوْنُ اللَّفْظِ مُتَنَاوِلًا لِبَعْضِ ما يَصْلُحُ له لَا لِجَمِيعِهِ وقد يُقَالُ خُصُوصٌ في كَوْنِ اللَّفْظِ مُتَنَاوِلًا لِلْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ الذي لَا يَصْلُحُ إلَّا له كَتَنَاوُلِ كل اسْمٍ من أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُخْتَصَّةِ بِهِ له تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَذَكَرَ الْقِسْمَ الثَّانِيَ الزَّجَّاجُ في كِتَابٍ له في أُصُولِ الْفِقْهِ نَقَلَهُ عنه ابن الصَّلَاحِ في فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رضي اللَّهُ عنه عَبَّرَ عن الْمُخْرَجِ مَرَّةً بِالْخَاصِّ وَعَنْ الْمُبْقَى مَرَّةً بِالْخَاصِّ وَالْخُصُوصُ من عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ حَقِيقَةً وفي الْمَعَانِي الْخِلَافُ السَّابِقُ في الْعُمُومِ ولم يَتَعَرَّضُوا لِذَلِكَ وَفَرَّقَ الْعَسْكَرِيُّ بين الْخَاصِّ وَالْخُصُوصِ فقال الْخَاصُّ يَكُونُ فِيمَا يُرَادُ بِهِ بَعْضُ ما يَنْطَوِي عليه لَفْظُهُ بِالْوَضْعِ وَالْخُصُوصُ ما اخْتَصَّ بِالْوَضْعِ لَا بِإِرَادَةٍ وَقِيلَ الْخَاصُّ ما يَتَنَاوَلُ أَمْرًا وَاحِدًا بِنَفْسِ الْوَضْعِ وَالْخُصُوصُ أَنْ يَتَنَاوَلَ شيئا دُونَ غَيْرِهِ وكان يَصِحُّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ ذلك الْغَيْرُ تَعْرِيفُ الْمُخَصَّصِ وَأَمَّا الْمُخَصَّصُ فَيُطْلَقُ على مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ يُوصَفُ الْمُتَكَلِّمُ بِكَوْنِهِ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ بَعْضَ ما يَتَنَاوَلُهُ وَيُوصَفُ النَّاصِبُ لِدَلَالَةِ التَّخْصِيصِ بِأَنَّهُ مُخَصِّصٌ يُوصَفُ الدَّلِيلُ بِأَنَّهُ مُخَصِّصٌ يُقَالُ السُّنَّةُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ وَيُوصَفُ الْمُعْتَقِدُ لِذَلِكَ بِأَنَّهُ مُخَصِّصٌ كما قال الشَّافِعِيُّ يُخَصُّ الْكِتَابُ بِالْخَبَرِ وَغَيْرُهُ لَا يُخَصُّ تَعْرِيفُ التَّخْصِيصِ وَأَمَّا التَّخْصِيصُ وهو الْمَقْصُودُ بِالذِّكْرِ فَهُوَ لُغَةً الْإِفْرَادُ وَمِنْهُ الْخَاصَّةُ وَاصْطِلَاحًا قال ابن السَّمْعَانِيِّ تَمْيِيزُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ بِالْحُكْمِ وَتَخْصِيصُ الْعَامِّ بَيَانُ ما لم يُرِدْ بِلَفْظِ الْعَامِّ
____________________
(2/392)
وقال ابن الْحَاجِبِ قَصْرُ الْعَامِّ على بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ وَرَدَ بِأَنَّ لَفْظَ الْقَصْرِ يَحْتَمِلُ الْقَصْرَ في التَّنَاوُلِ أو الدَّلَالَةِ أو الْحَمْلِ أو الِاسْتِعْمَالِ وَذَكَر ابن الْحَاجِبِ أَنَّ التَّخْصِيصَ يُطْلَقُ على قَصْرِ اللَّفْظِ على بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ عَامًّا كما يُطْلَقُ الْعَامُّ على اللَّفْظِ بِمُجَرَّدِ تَعَدُّدِ مُسَمَّيَاتِهِ كَالْعَشَرَةِ وَالْمُسْلِمِينَ لِمَعْهُودَيْنِ وَضَمَائِرِ الْجَمْعِ وَقِيلَ إخْرَاجُ ما يَتَنَاوَلُ الْخِطَابَ وهو أَحْسَنُ لِأَنَّ الصِّيغَةَ الْعَامَّةَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ مع قَطْعِ النَّظَرِ عن الْمُعَارِضِ مُقْتَضَى الْإِرَادَةِ شُمُولُ الْحُكْمِ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ فَيُخَصَّصُ بَعْضُ الْأَفْرَادِ بِالْحُكْمِ دُونَ بَعْضٍ فَهِيَ دَاخِلَةٌ في جُمْلَةِ مُقْتَضَيَاتِ اللَّفْظِ ظَاهِرًا مُخْرَجَةٌ عنه بِالتَّخْصِيصِ وَحِينَئِذٍ فَالْإِخْرَاجُ عن الدَّلَالَةِ أو التَّنَاوُلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَالْمُمْكِنُ إخْرَاجُ بَعْضِ الْمُتَنَاوَلِ وقال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ إذَا ثَبَتَ تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِبَعْضِ ما اشْتَمَلَ عليه عُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْخِطَابِ وَأَنَّ الْمُرَادَ ما عَدَاهُ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ كان دَاخِلًا في الْخِطَابِ فَخَرَجَ عنه بِدَلِيلٍ وَإِلَّا لَكَانَ نَسْخًا ولم يَكُنْ تَخْصِيصًا فإن الْفَارِقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَالتَّخْصِيصَ بَيَانُ ما قُصِدَ له بِاللَّفْظِ الْعَامِّ وَكَذَا قال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ مَعْنَى قَوْلِنَا إنَّ الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ قد أَرَادَ بَعْضَ ما وُضِعَ له دُونَ بَعْضٍ وَذَلِكَ مَجَازٌ لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِالْخُصُوصِ الذي يُوضَعُ في الْأَصْلِ لِلْخُصُوصِ وَإِرَادَةُ الْبَعْضِ لَا تُصَيِّرُهُ مَوْضُوعًا في الْأَصْلِ لِذَلِكَ وَلَوْ كان حَقِيقَةً لَكَانَ الْعَامُّ خَاصًّا وهو مُتَنَافٍ وَإِنَّمَا يَصِيرُ خَاصًّا بِالْقَصْدِ كَالْأَمْرِ يَصِيرُ أَمْرًا بِالطَّلَبِ وَالِاسْتِدْعَاءِ انْتَهَى وَكَذَا قال الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هذا عَامٌّ مَخْصُوصٌ أو قد خُصَّ لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ يَقُولُونَ هو لِلِاسْتِغْرَاقِ فَإِنْ أُرِيدَ الْبَعْضُ فَقَدْ تَجَوَّزَ بِهِ عن حَقِيقَتِهِ وَوَضْعِهِ فلم يَتَصَرَّفْ في الْوَضْعِ ولم يُغَيِّرْ حتى يُقَالَ ذلك وَإِلَّا فَإِذَنْ هذا اللَّفْظُ مُؤَوَّلٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّ وَضْعَهُ لِلْعُمُومِ وَاسْتُعْمِلَ في غَيْرِ وَضْعِهِ مَجَازًا فَهُوَ عَامٌّ من جِهَةِ اللَّفْظِ بِالْوَضْعِ وَخَاصٌّ بِالْإِرَادَةِ أو التَّجَوُّزِ إذْ قُصِدَ بِهِ بَعْضُ مَدْلُولِهِ وَإِلَّا فَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ بِالْوَضْعِ لَا يَنْقَلِبُ عن وَضْعِهِ بِالْإِرَادَةِ قَالَا وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُتَعَيَّنٌ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ مُحَالٌ بَلْ هو عَلَامَةُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ الْعَامُّ بِالْوَضْعِ أو الصَّالِحُ لِإِرَادَةِ الْعُمُومِ الْخُصُوصَ فَيُقَالُ على سَبِيلِ التَّوَسُّعِ لِمَنْ عَرَفَ ذلك إنَّهُ خَصَّصَ الْعُمُومَ أَيْ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ
____________________
(2/393)
قال الْقَاضِي وَأَمَّا عِنْدَنَا يَعْنِي الْوَاقِفِيَّةَ الْمُنْكِرِينَ لِلصِّيَغِ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِلْعَامِّ وَلَكِنَّهُ بَيَانٌ مُشْتَرَكٌ وَيَحْتَمِلُ من اللَّفْظِ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ لَمَّا كان التَّخْصِيصُ إخْرَاجَ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ عن الْإِرَادَةِ منه وَجَبَ قَطْعًا أَنْ يَكُونَ شَرْطُهُ قَصْدَ الْإِخْرَاجِ عن الْإِرَادَةِ وَأَمَّا الْعَامُّ فَيَتَنَاوَلُ الْأَفْرَادَ بِوَضْعِهِ فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ بِمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخُصَّ من الْأَفْرَادِ وَلَيْسَ من شَرْطِهِ إرَادَةُ الْفَرْدِ الْمُعَيَّنِ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ إذَا لم يَخْرُجْ منه بَعْضُ الْأَفْرَادِ كَفَتْ الْإِرَادَةُ الْعَامَّةُ لِتَنَاوُلِ الْحُكْمِ لِجُمْلَةِ أَفْرَادِهِ حُصُولُ الْحُكْمِ في الْفَرْدِ الْمُعَيَّنِ وَإِنْ لم يَخْطُرْ بِالْبَالِ ذلك الْفَرْدُ بِخُصُوصِهِ قال وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فيه أَعْنِي أَنَّهُ ليس من شَرْطِ الْعَامِّ إرَادَةُ كل فَرْدٍ من أَفْرَادِهِ بِخُصُوصِهِ انْتَهَى وقال الْعَبَّادِيُّ في زِيَادَاتِهِ الْعِبَارَاتُ أَمَارَاتُ الْإِرَادَاتِ فإذا خُصَّتْ الْعِبَارَةُ خُصَّتْ الْإِرَادَةُ وإذا عَمَّتْ عَمَّتْ وهو جَارٍ على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ وَهَلْ يَجِبُ مُقَارَنَةُ الْمُخَصِّصِ الْخِصِّيصَ أَمْ لَا قَوْلَانِ قالت الْأَشْعَرِيَّةُ بِالثَّانِي وَالْمُعْتَزِلَةُ بِالْأَوَّلِ وَهُمَا الْقَوْلَانِ في تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ وقال أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا يَعْنِي الْمُعْتَزِلَةَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ في التَّخْصِيصِ مُقَارَنَةُ اللَّفْظِ الْعَامِّ وَالْعَقْلِيُّ مَحَلُّ وِفَاقٍ في اشْتِرَاطِ الْمُقَارَنَةِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ سَيَأْتِي في بَابِ الْحَجِّ حِكَايَةُ خِلَافٍ في أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَقْتَرِنَ بِالتَّكْلِيفِ ما يَدُلُّ على النَّسْخِ ولم يَذْكُرُوهُ هُنَا لِأَنَّهُ أَخَفُّ الْفَرْقُ بين التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ وَاعْلَمْ أَنَّ التَّخْصِيصَ شَدِيدُ الشَّبَهِ بِالنَّسْخِ لِاشْتِرَاكِهِمَا في اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِنَقْضِ ما يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ وقد فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا من وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ التَّخْصِيصَ تَرْكُ بَعْضِ الْأَعْيَانِ وَالنَّسْخَ تَرْكُ بَعْضِ الْأَزْمَانِ قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ الثَّانِي أَنَّ التَّخْصِيصَ يَتَنَاوَلُ الْأَزْمَانَ وَالْأَعْيَانَ وَالْأَحْوَالَ بِخِلَافِ النَّسْخِ فإنه لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْأَزْمَانَ قال الْغَزَالِيُّ وَهَذَا ليس بِصَحِيحٍ فإن الْأَعْيَانَ وَالْأَزْمَانَ لَيْسَا من أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَالنَّسْخُ يَرِدُ على الْفِعْلِ في بَعْضِ الْأَزْمَانِ وَالتَّخْصِيصُ يَرِدُ على الْفِعْلِ في بَعْضِ الْأَحْوَالِ
____________________
(2/394)
الثَّالِثُ التَّخْصِيصُ لَا يَكُونُ إلَّا لِبَعْضِ الْأَفْرَادِ بِخِلَافِ النَّسْخِ فإنه يَكُونُ لِكُلِّ الْأَفْرَادِ وَعَلَى هذا فَالنَّسْخُ أَعَمُّ قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ لَكِنْ اخْتَارَ إمَامُهُ خِلَافَهُ فإنه قال النَّسْخُ لَا مَعْنَى بِهِ إلَّا تَخْصِيصَ الْحُكْمِ بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ بِطَرِيقٍ خَاصٍّ فَيَكُونُ الْفَرْقُ بين التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ فَرْقَ ما بين الْعَامِّ وَالْخَاصِّ وقد سَبَقَهُ إلَى ذلك الْأُسْتَاذُ فِيمَا نَقَلَهُ عن إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في كِتَابِ النَّسْخِ فقال صَرَّحَ الْأُسْتَاذُ بِأَنَّ النَّسْخَ تَخْصِيصٌ في الزَّمَانِ وَاعْتَرَضَ عليه الرَّابِعُ وَحَكَاهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ التَّخْصِيصَ تَقْلِيلٌ وَالنَّسْخَ تَبْدِيلٌ وقال هذا لَفْظٌ جَمِيلٌ وَلَكِنْ رِيعُهُ قَلِيلٌ وَمَعْنَاهُ مُسْتَحِيلٌ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَبْدِيلٌ وَلَيْسَتْ بِنَسْخٍ قال تَعَالَى فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إثْمُهُ على الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ الْخَامِسُ أَنَّ النَّسْخَ يَتَطَرَّقُ إلَى كل حُكْمٍ سَوَاءٌ كان ثَابِتًا في حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ أو أَشْخَاصٍ كَثِيرَةٍ وَالتَّخْصِيصُ لَا يَتَطَرَّقُ إلَى الْأَوَّلِ وَمِنْهُمْ من عَبَّرَ عنه بِأَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَدْخُلُ في الْأَمْرِ بِمَأْمُورٍ وَاحِدٍ وَالنَّسْخَ يَدْخُلُ فيه السَّادِسُ أَنَّ التَّخْصِيصَ يُبْقِي دَلَالَةَ اللَّفْظِ على ما بَقِيَ تَحْتَهُ حَقِيقَةً كان أو مَجَازًا على الْخِلَافِ وَالنَّسْخُ يُبْطِلُ دَلَالَةَ حَقِيقَةِ الْمَنْسُوخِ في مُسْتَقْبَلِ الزَّمَنِ بِالْكُلِّيَّةِ السَّابِعُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ النَّسْخِ عن وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْمَنْسُوخِ وَأَمَّا التَّخْصِيصُ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عن وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْمَخْصُوصِ وِفَاقًا الثَّامِنُ أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ شَرِيعَةٍ بِشَرِيعَةٍ أُخْرَى وَلَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ قال الْقَرَافِيُّ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ وَقَعَ في كُتُبِ الْعُلَمَاءِ كَثِيرًا وَالْمُرَادُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْمُتَأَخِّرَةَ قد تَنْسَخُ بَعْضَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَمَّا كُلَّهَا فَلَا لِأَنَّ قَوَاعِدَ الْعَقَائِدِ لم تُنْسَخْ وَكَذَلِكَ حِفْظُ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ فَحِينَئِذٍ النَّسْخُ إنَّمَا يَقَعُ في بَعْضِ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ وَإِنْ جَازَ نَسْخُ شَرِيعَةٍ بِشَرِيعَةٍ أُخْرَى عَقْلًا التَّاسِعُ أَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ فإنه بَيَانُ الْمُرَادِ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَالْعَبَّادِيُّ في زِيَادَاتِهِ وَهَذَا على رَأْيِ الْقَاضِي وَأَمَّا على رَأْيِ غَيْرِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ نَقُولَ انْتِهَاءُ حُكْمٍ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ
____________________
(2/395)
الْعَاشِرُ أَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانُ ما أُرِيدَ بِالْعُمُومِ وَالنَّسْخَ بَيَانُ ما لم يُرَدْ بِالْمَنْسُوخِ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّ التَّخْصِيصَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقْتَرِنًا بِالْعَامِّ وَمُقَدَّمًا عليه وَمُتَأَخِّرًا عنه وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مُتَقَدِّمًا على الْمَنْسُوخِ وَلَا مُقْتَرِنًا بِهِ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عنه الثَّانِي عَشَرَ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ إلَّا بِقَوْلٍ وَخِطَابٍ وَالتَّخْصِيصَ قد يَكُونُ بِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ وَالْقَرَائِنِ وَسَائِرِ أَدِلَّةِ السَّمْعِ وَيَقَعُ التَّخْصِيصُ بِالْإِجْمَاعِ وَالنَّسْخُ لَا يَقَعُ بِهِ الثَّالِثَ عَشَرَ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ في الْأَخْبَارِ وَالْأَحْكَامِ وَالنَّسْخُ يَخْتَصُّ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ الرَّابِعَ عَشَرَ التَّخْصِيصُ على الْفَوْرِ وَالنَّسْخُ على التَّرَاخِي ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وفي هذا نَظَرٌ الْخَامِسَ عَشَرَ أَنَّ تَخْصِيصَ الْمَقْطُوعِ بِالْمَظْنُونِ وَاقِعٌ وَنَسْخُهُ لَا يَقَعُ بِهِ السَّادِسَ عَشَرَ أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَدْخُلُ في غَيْرِ الْعَامِّ بِخِلَافِ النَّسْخِ فإنه يَرْفَعُ حُكْمَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ السَّابِعَ عَشَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ الْأَمْرِ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ على خِلَافٍ فيه الثَّامِنَ عَشَرَ أَنَّ التَّخْصِيصَ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعُمُومِ عِنْدَ الْخِطَابِ ما عَدَاهُ وَالنَّسْخُ يُحَقِّقُ أَنَّ كُلَّ ما يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ مُرَادٌ في حَالِ الْحَالِ وَإِنْ كان غير مُرَادٍ فِيمَا بَعْدَهُ وكان اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ لَا يَدُلُّ على الزَّمَانِ أَصْلًا وَإِنَّمَا يَدُلُّ على الْفِعْلِ ثُمَّ الزَّمَانُ ظَرْفٌ وَاعْلَمْ أَنَّ هذه الْفُرُوقَ أَكْثَرُهَا أَحْكَامٌ أو لَوَازِمُ ثَابِتَةٌ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ مَسْأَلَةٌ الْحُكْمُ إذَا عُلِّقَ بَعْدَهُ هل يَكُونُ تَعْلِيقُهُ بِمَا دُونَهُ نَسْخًا أو تَخْصِيصًا فيه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الرُّويَانِيُّ في كِتَابِ الطَّلَاقِ من الْبَحْرِ وَفَرَّعَ عَلَيْهِمَا ما لو قال أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَنَوَى بِقَلْبِهِ إلَّا وَاحِدَةً قال في الْإِفْصَاحِ فَفِيهِ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ في الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ
____________________
(2/396)
وَالثَّانِي يَصِحُّ في الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ وَإِنْ قُلْنَا تَخْصِيصٌ صَحَّتْ نِيَّتُهُ في الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ بهذا إلَى الْفَرْقِ الْحَادِيَ عَشَرَ مَسْأَلَةٌ قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْخِطَابُ في الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ على أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا خِطَابٌ عَامُّ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى اللَّهُ خَالِقُ كل شَيْءٍ قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في الرِّسَالَةِ فَهَذَا عَامٌّ لَا خَاصٌّ وَاعْتَرَضَ ابن دَاوُد عليه فقال كَيْفَ عَدَّ هذه الْآيَةِ في الْعُمُومَاتِ التي لم يَدْخُلْهَا التَّخْصِيصُ وَاَللَّهُ تَعَالَى شَيْءٌ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ وَرَدَّ ابن سُرَيْجٍ عليه وقال أَمَّا عَلِمْت أَنَّ الْمُخَاطِبَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ وقال في كِتَابِ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ لِابْنِ دَاوُد وَأَمَّا ما عَرَّضَ بِهِ من قَوْلِهِ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً وَأَيُّ ضَرُورَةٍ دَعَتْهُ إلَى هذا وَكَيْفَ يَحْتَمِلُ الْعُمُومُ ما أَوْمَأَ إلَيْهِ وقد بَدَأَ اللَّهُ بِنَفْسِهِ فَأَخْبَرَ بِقَوْلِهِ اللَّهُ خَالِقُ كل شَيْءٍ وَهَلْ تَحْتَمِلُ الْأَوْهَامُ في الْمُخَاطَبَةِ ما أَوْمَأَ إلَيْهِ وَلَوْلَا أَنَّ الْقُلُوبَ لَا تُطِيقُ الْكَلَامَ لَكَانَ عليه فيه كَلَامٌ كَثِيرٌ وَيَقُولُ إنَّ الْآيَةَ تَخْرُجُ عَامَّةً في مَذَاهِبِ جَمِيعِ الناس لِأَنَّهُ لَمَّا كان ما عَرَّضَ بِهِ في اللَّهِ مُحَالًا خَارِجًا عن الْوَهْمِ عُلِمَ أَنَّ الْخِطَابَ إنَّمَا يُخَرَّجُ على ما يُعْقَلُ وَيُتَوَهَّمُ دُونَ ما لَا يُعْقَلُ وَلَا يُتَوَهَّمُ فإذا لم يُخَرَّجْ على ما لَا يُتَوَهَّمُ لم يَدْخُلْ في ذلك عُمُومٌ وَلَا خُصُوصٌ ثُمَّ قال بَعْدَ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَهُ في دَفْعِ ما أَوْرَدَهُ ابن دَاوُد مِمَّا يَسْتَحِيلُ انْدِرَاجُهُ في الصِّفَاتِ قد أَوْمَأْنَا إلَى جُمَلٍ وَكَرِهْنَا التَّفْسِيرَ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَصْحَابَهُ بَعْدَهُ يَكْرَهُونَ الْخَوْضَ في هذا انْتَهَى وقال الصَّيْرَفِيُّ في شَرْحِ الرِّسَالَةِ اعْتَرَضَ ابن دَاوُد وَيَحْيَى بن أَكْثَمَ على الشَّافِعِيِّ في قَوْلِهِ في قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ خَالِقُ كل شَيْءٍ إنَّهُ عَامٌّ وَجَهِلُوا الصَّوَابَ وَذَهَبُوا عن اللُّغَةِ وَذَلِكَ لو أَنَّ رَجُلًا من كِبَارِ أَهْلِ بَغْدَادَ قال أَطْعَمْت أَهْلَ بَغْدَادَ جميعا لم يَكُنْ دَاخِلًا فِيهِمْ ولم تَقُلْ له خَرَجْت أنت بِخُصُوصٍ وَإِنَّمَا الْعُمُومُ
____________________
(2/397)
في الْمُطْعَمِينَ سِوَاهُ لِأَنَّهُ هو الْمُطْعِمُ لهم قال وفي الْآيَةِ دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا خَالِقَ سِوَاهُ وَثَانِيهمَا أَنَّ ما سِوَاهُ مَخْلُوقٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ فِيمَا سِوَاهُ قال وَلَا شَكَّ أَنَّ لَفْظَةَ شَيْءٍ لَا تُطْلَقُ على اللَّهِ وَإِنْ شَمِلَتْ الْمَوْجُودَاتِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا وَسَنَدُ الْمَنْعِ كَوْنُ الْأَسْمَاءِ تَوْقِيفِيَّةً وَلِأَنَّ لَفْظَةَ شَيْءٍ مَأْخُوذَةٌ من شَاءَ وَالشَّاءُ من الْمُحْدَثِ الذي ليس بِقَدِيمٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدِيمٌ فَلَا يَصْدُقُ فيه ذلك الثَّانِي خِطَابٌ خَاصُّ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى كَقَوْلِهِ يا أَيُّهَا النبي قُلْ لِأَزْوَاجِك الْآيَةُ فَهَذَا مُخْتَصٌّ بِهِ عليه السَّلَامُ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ على أَحَدٍ التَّخْيِيرُ الثَّالِثُ خِطَابٌ خَاصُّ اللَّفْظِ عَامُّ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى وإذا رَأَيْت الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ الْآيَةُ الْخِطَابُ معه وَالْمُرَادُ بِهِ الْأُمَّةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وقد نَزَّلَ عَلَيْكُمْ في الْكِتَابِ ولم يُنَزِّلْ في الْكِتَابِ إلَّا هذه الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى لَئِنْ أَشْرَكْت لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك وَقَوْلِهِ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَلَا يُصَارُ إلَى ذلك إلَّا بِدَلِيلِ غَيْرِ الْخِطَابِ وَأَنْكَرَ ابن حَزْمٍ في الْإِحْكَامِ وُجُودَ هذا الْقِسْمِ وقال ليس مَوْجُودًا في اللُّغَةِ وهو مَحْجُوبٌ بِمَا ذَكَرْنَا الرَّابِعُ خِطَابٌ عَامُّ اللَّفْظِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ وَهَذَا اُخْتُلِفَ فيه وَالْأَكْثَرُونَ على جَوَازِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِينَ قال لهم الناس إنَّ الناس قد جَمَعُوا لَكُمْ فإن الْمُرَادَ بِالنَّاسِ الْأَوَّلُ نُعَيْمُ بن مَسْعُودٍ أو أَرْبَعَةُ نَفَرٍ كما قال الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ قال الْكَرْخِيُّ وهو مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ وإذا خَاطَبَ بِذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَدُلَّنَا على مُرَادِهِ بِهِ وَهَلْ يَجِبُ مُقَارَنَةُ الدَّلِيلِ الْخِطَابَ أو يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عنه فيه الْقَوْلَانِ وَذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى إنْكَارِ هذا الْقِسْمِ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْخُصُوصِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْجُمْلَةِ وَلَا يَجُوزُ في قَوْله تَعَالَى فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا أَنَّ هذه الصِّيغَةَ مُرَادٌ بها أَلْفُ سَنَةٍ كَامِلَةٍ
____________________
(2/398)
وَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً أَطْلَقُوا الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ منهم صَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَخَصَّهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَصَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ في الْأَحْكَامِ وَغَيْرُهُمْ بِالْخَبَرِ ولم يَنْقُلُوا الْخِلَافَ في الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بَلْ جَعَلُوهُ مَحَلَّ وِفَاقٍ كَالنَّسْخِ وهو الظَّاهِرُ فإن الْمَانِعَ هُنَا في الْخَبَرِ قِيَاسُ التَّخْصِيصِ على النَّسْخِ كما قَالَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُخَالِفَ يَمْنَعُ تَسْمِيَتَهُ عَامًّا مَخْصُوصًا وَيَقُولُ إنَّهُ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَنْتَهِضُ الِاسْتِدْلَال عليه بِمَا ذَكَرُوهُ من الْآيَاتِ الْمُخَصِّصَةِ وهو قَوِيٌّ وَمِنْ هُنَا قال بَعْضُهُمْ يُشْتَرَطُ في التَّخْصِيصِ وُرُودُهُ في الْإِنْشَاءَاتِ لَا في الْأَخْبَارِ فإنه لَا يَكُونُ فيها عَامٌّ مَخْصُوصٌ بَلْ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ فَائِدَةٌ عُمُومَاتُ الْقُرْآنِ مَخْصُوصَةٌ في الْأَكْثَرِ حتى قال الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ ليس في الْقُرْآنِ عَامٌّ غَيْرُ مَخْصُوصٍ إلَّا أَرْبَعَةَ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا قَوْلُهُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ فَكُلُّ من سُمِّيَتْ أُمًّا من نَسَبٍ أو رَضَاعٍ أو أُمِّ أُمٍّ وَإِنْ عَلَتْ فَهِيَ حَرَامٌ ثَانِيهَا قَوْلُهُ كُلُّ من عليها فَانٍ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثَالِثُهَا قَوْلُهُ وَاَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٍ رَابِعُهَا وَأَنَّهُ على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ خَامِسُهَا وما من دَابَّةٍ في الْأَرْضِ إلَّا على اللَّهِ رِزْقُهَا وَغَلِطَ من جَعَلَ منه قَوْله تَعَالَى وَاَللَّهُ على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ إذْ الْقُدْرَةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَحِيلَاتِ لِأَنَّ الْمُمْكِنَ الْمَعْدُومَ لَا يُطْلَقُ عليه شَيْءٌ عِنْدَنَا حَقِيقَةً فما بِالْمُسْتَحِيلِ وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ جِنِّي في الْخَصَائِصِ في قَوْله تَعَالَى له ما في السَّمَوَاتِ وما في الْأَرْضِ عُمُومٌ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ الصَّادِرَةَ من مَخْلُوقَاتِهِ لَيْسَتْ له فَبَنَاهُ على مَذْهَبِهِ الْفَاسِدِ في الِاعْتِزَالِ
____________________
(2/399)
فَصْلٌ في الْفَرْقِ بَيْنِ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ وَالْعَامِّ الذي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ اعْلَمْ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ لم يَتَعَرَّضُوا لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْكَلَامَ فيه مِمَّا أَثَارَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَتْ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا في كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ من أَصْحَابِنَا فَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ في قَوْله تَعَالَى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ هل هو عَامٌّ مَخْصُوصٌ أو عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ في تَعْلِيقِهِ في كِتَابِ الْبَيْعِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الذي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ ما كان الْمُرَادُ بِهِ أَقَلَّ وما ليس بِمُرَادٍ هو الْأَكْثَرُ قال أبو عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هو الْأَكْثَرُ وما ليس بِمُرَادٍ هو الْأَقَلُّ قال وَيَفْتَرِقَانِ في الْحُكْمِ من جِهَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِهِ وَهَذَا يُمْكِنُ التَّعَلُّقُ بِظَاهِرِهِ اعْتِبَارًا بِالْأَكْثَرِ وَفَرَّقَ الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي بَيْنَهُمَا من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَامَ الْمَخْصُوصَ ما يَكُونُ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ أَكْثَرَ وما ليس بِمُرَادٍ بِاللَّفْظِ أَقَلَّ وَالْعَامُّ الذي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ ما يَكُونُ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ أَقَلَّ وما ليس بِمُرَادٍ بِاللَّفْظِ أَكْثَرَ وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ مُتَقَدِّمٌ على اللَّفْظِ وَفِيمَا أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ مُتَأَخِّرٌ عن اللَّفْظِ أو يَقْتَرِنُ بِهِ وَمِمَّنْ تَعَرَّضَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا من الْمُتَأَخِّرِينَ الْإِمَامُ تَقِيُّ الدِّينِ بن دَقِيقِ الْعِيدِ فقال في شَرْحِ الْإِمَامِ يَجِبُ أَنْ يَتَنَبَّهَ لِلْفَرْقِ بين قَوْلِنَا هذا عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ وَبَيْنَ قَوْلِنَا هذا عَامٌّ مَخْصُوصٌ فإن الثَّانِيَ أَعَمُّ من الْأَوَّلِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إذَا أَرَادَ بِاللَّفْظِ أَوَّلًا ما دَلَّ عليه ظَاهِرُ الْعُمُومِ ثُمَّ أَخْرَجَ بَعْدَ ذلك بَعْضَ ما دَلَّ عليه اللَّفْظُ كان عَامًّا مَخْصُوصًا ولم يَكُنْ عَامًّا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ ثُمَّ يُقَالُ إنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَعْضِ الذي أُخْرِجَ وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ إذَا قَصَدَ الْعُمُومَ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَقْصِدَ الْخُصُوصَ
____________________
(2/400)
بِخِلَافِ ما إذَا نَطَقَ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ مُرِيدًا بِهِ بَعْضَ ما يَتَنَاوَلُهُ في هذا وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ من الْمُتَأَخِّرِينَ بَيْنَهُمَا بِوَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إذَا أَطْلَقَ اللَّفْظَ الْعَامَّ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ بَعْضًا مُعَيَّنًا فَهُوَ الْعَامُّ الذي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ وَإِنْ أَرَادَ سَلْبَ الْحُكْمِ عن بَعْضٍ منه فَهُوَ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ مِثَالُهُ قَوْلُهُ قام الناس فإذا أَرَدْت إثْبَاتَ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ مَثَلًا لَا غَيْرُ فَهُوَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ وَإِنْ أَرَدْت سَلْبَ الْقِيَامِ عن زَيْدٍ فَهُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ وَالثَّانِي أَنَّ الْعَامَّ الذي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ إنَّمَا يَحْتَاجُ لِدَلِيلٍ مَعْنَوِيٍّ يَمْنَعُ إرَادَةَ الْجَمِيعِ فَيَتَعَيَّنُ له الْبَعْضُ وَالْعَامُّ الْمَخْصُوصُ يَحْتَاجُ إلَى تَخْصِيصِ اللَّفْظِ غَالِبًا كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَالْغَايَةُ وَالْمُتَّصِلُ نَحْوُ قام الْقَوْمُ ثُمَّ يقول ما قام زَيْدٌ وَفَرَّقَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّ الْعَامَّ الذي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ هو أَنْ يُطْلَقَ الْعَامُّ وَيُرَادَ بِهِ بَعْضُ ما يَتَنَاوَلُهُ هو مَجَازٌ قَطْعًا لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ في بَعْضِ مَدْلُولِهِ وَبَعْضُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ قال وَشَرْطُ الْإِرَادَةِ في هذا أَنْ تَكُونَ مُقَارِنَةً لِأَوَّلِ اللَّفْظِ وَلَا يَكْفِي طُرُوءُهَا في أَثْنَائِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منها نَقْلُ اللَّفْظِ عن مَعْنَاهُ إلَى غَيْرِهِ وَاسْتَعْمَلَهُ في غَيْرِ مَوْضُوعِهِ وَلَيْسَتْ الْإِرَادَةُ فيه إخْرَاجًا لِبَعْضِ الْمَدْلُولِ بَلْ إرَادَةُ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ في شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ مَوْضُوعِهِ كما يُرَاد بِاللَّفْظِ مَجَازُهُ وَأَمَّا الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ فَهُوَ الْعَامُّ الذي أُرِيدَ بِهِ مَعْنَاهُ مُخَرَّجًا منه بَعْضُ أَفْرَادِهِ بِالْإِرَادَةِ إرَادَةً لِلْإِخْرَاجِ لَا إرَادَةً لِلِاسْتِعْمَالِ فَهِيَ تُشْبِهُ الِاسْتِثْنَاءَ فَلَا يُشْتَرَطُ مُقَارَنَتُهَا لِأَوَّلِ اللَّفْظِ وَلَا تَأْخِيرُهَا عنه بَلْ يَكْفِي كَوْنُهَا في أَثْنَائِهِ كَالْمَشِيئَةِ في الطَّلَاقِ وَهَذَا هو مَوْضُوعُ خِلَافِهِمْ في أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ مَجَازٌ أو حَقِيقَةٌ وَمَنْشَأُ التَّرَدُّدِ أَنَّ إرَادَةَ إخْرَاجِ بَعْضِ الْمَدْلُولِ هل تُصَيِّرُ اللَّفْظَ مُرَادًا بِهِ الْبَاقِي أو لَا وهو يُقَوِّي كَوْنَهُ حَقِيقَةً لَكِنَّ الْجُمْهُورَ على الْمَجَازِ وَالنِّيَّةُ فيه مُؤَثِّرَةٌ في نَقْلِ اللَّفْظِ عن مَعْنَاهُ إلَى غَيْرِهِ وَمِنْ هُنَا يُعْرَفُ أَنَّ عَدَّ ابْنِ الْحَاجِبِ الْبَدَلَ في الْمُخَصَّصَاتِ ليس بِجَيِّدٍ لِأَنَّ الْأَوْلَى في قَوْلِنَا أَكَلَتْ الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ أَنَّهُ من الْعَامِّ الْمُرَادِ بِهِ الْخُصُوصُ لَا الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ قال عَلِيُّ بن عِيسَى النَّحْوِيُّ في كِتَابِ الْعَرَضُ وَالْآلَةُ إذَا أتى بِصُورَةِ الْعُمُومِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ فَهُوَ مَجَازٌ إلَّا في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ إذَا صَارَ الْأَظْهَرُ الْخُصُوصَ كَقَوْلِهِمْ غَسَلْت ثِيَابِي وَصَرَمْت نَخْلِي وَجَاءَتْ بَنُو تَمِيمٍ وَجَاءَتْ الْأَزْدُ انْتَهَى
____________________
(2/401)
فَصْلٌ فِيمَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ من حَقِّ التَّخْصِيصِ أَنْ لَا يَكُونَ إلَّا فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ فَاللَّفْظُ الذي لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِمَعْنَى إخْرَاجِ بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ منه لِأَنَّهُ إخْرَاجُ الْبَعْضِ مع بَقَاءِ الْبَعْضِ وَالْوَاحِدُ لَا بَعْضَ له فَاسْتَحَالَ تَخْصِيصُهُ وَلِهَذَا قال ابن الْحَاجِبِ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصٌ إلَّا في ذِي أَجْزَاءٍ يَصِحُّ افْتِرَاقُهَا لِيُمْكِنَ صَرْفُهُ إلَى بَعْضٍ يَصِحُّ الْقَصْرُ عليه وَاعْتَرَضَ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّ الْوَاحِدَ يَنْدَرِجُ فيه الْوَاحِدُ بِالشَّخْصِ وهو يَصِحُّ إخْرَاجُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ لِصِحَّةِ قَوْلِك رَأَيْت زَيْدًا وَتُرِيدُ بَعْضَهُ وَإِنْ تَعَذَّرَ إخْرَاجُ بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ فَيَنْبَغِي التَّفْصِيلُ وَأَمَّا الذي يَتَنَاوَلُ أَكْثَرَ من وَاحِدٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عُمُومُهُ من جِهَةِ اللَّفْظِ أو الْمَعْنَى أَيْ الِاسْتِنْبَاطِ فَالْأَوَّلُ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ التَّخْصِيصُ أَمْرًا أو خَبَرًا نحو فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ خُصَّ الذِّمِّيُّ وَمَنْ في مَعْنَاهُ وَالثَّانِي على ثَلَاثَةٍ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا الْعِلَّةُ وقد اُخْتُلِفَ في تَخْصِيصِهَا على مَذَاهِبَ كَثِيرَةٍ وَالْمَنْقُولُ عن الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ الْمَنْعُ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ في بَابِ الْقِيَاسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُسَمَّاةُ هُنَاكَ بِالنَّقْصِ كَالنَّهْيِ عن بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ لِأَجْلِ النُّقْصَانِ عِنْدَ الْجَفَافِ وَوَجَدْنَا هذه الْعِلَّةَ في الْعَرَايَا مع أَنَّ الشَّارِعَ جَوَّزَهُ فيها الثَّانِي مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ كَدَلَالَةِ التَّأْفِيفِ على حُرْمَةِ الضَّرْبِ فَالتَّخْصِيصُ فيه جَائِزٌ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْمَلْفُوظِ وهو التَّأْفِيفُ في مِثَالِنَا هذا وَمَنَعَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَسُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ من جَوَازِ تَخْصِيصِ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ التَّخْصِيصَ إنَّمَا يَكُونُ في الْعُمُومِ وَلَا عُمُومَ إلَّا في الْأَلْفَاظِ الثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا قال فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وكان الْمَنْعُ من أَجْلِ الْأَذَى لم يَجُزْ أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ على إجَازَةِ الضَّرْبِ مع أَنَّ فيه أَذًى لِأَنَّهُ يُنَاقِضُ الْأَوَّلَ قالوا وَهَكَذَا الْقِيَاسُ لَا يَدْخُلُهُ تَخْصِيصٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ تَنْبَنِيَانِ على الْوَجْهَيْنِ في الْمَعْلُومِ من جِهَةِ الْفَحْوَى هل هو من جِهَةِ اللُّغَةِ أو من جِهَةِ الْقِيَاسِ وَفِيهِ وَجْهَانِ وَشَرَطَ الْهِنْدِيُّ في الْجَوَازِ أَنْ لَا
____________________
(2/402)
يَعُودَ نَقْصًا على الْمَلْفُوظِ كَإِبَاحَةِ ضَرْبِ الْأُمِّ إذَا فَجَرَتْ أَمَّا إذَا عَادَ نَقَضَا على الْمَلْفُوظِ كما إذَا قال فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ لَكِنْ أَبَاحَ له نَوْعًا من أَنْوَاعِ الْأَذَى مُطْلَقًا فَلَا يَجُوزُ هذا كُلُّهُ مع بَقَاءِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ أَمَّا لو وَرَدَ دَلِيلٌ يَدُلُّ على إخْرَاجِ الْمَلْفُوظِ وهو التَّأْفِيفُ مَثَلًا فإنه لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا بَلْ نَسْخًا له وَلِلْمَفْهُومِ أَيْضًا لِأَنَّ رَفْعَ الْأَصْلِ يَسْتَلْزِمُ رَفْعَ الْفَرْعِ الثَّالِثُ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ كَسَائِمَةِ الْغَنَمِ فإن مَفْهُومَهُ نَفْيُ الْإِيجَابِ عن مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ فَيَجُوزُ أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ على ثُبُوتِ مِثْلِ حُكْمِ الْمَذْكُورِ لِبَعْضِ الْمَسْكُوتِ عنه الذي ثَبَتَ فيه الْمَفْهُومُ خِلَافَ ما ثَبَتَ لِلْمَنْطُوقِ وَيُعْمَلُ بِذَلِكَ جَمْعًا بين الدَّلِيلِينَ فَتُخَصُّ الْمَعْلُوفَةُ الْمُعَدَّةُ لِلتِّجَارَةِ من هذا الْعُمُومِ وَشَرَطَ الْبَيْضَاوِيُّ وَصَاحِبُ الْحَاصِلِ لِلْجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُخَصَّصُ رَاجِحًا ولم يَذْكُرْهُ الْإِمَامُ وَالظَّاهِرُ عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ إذْ لَا يُشْتَرَطُ في الْمُخَصَّصِ الرُّجْحَانُ وَمِنْهُمْ من مَنَعَ من تَخْصِيصِهِ كما حَكَاهُ ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ وهو احْتِمَالٌ لِلشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَحَكَى ابن بَرْهَانٍ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ أَنَّهُ مَنَعَ تَخْصِيصَ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ اللَّفْظَ وَاخْتَارَ تَخْصِيصَ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُهُ وَاَلَّذِي رَأَيْته في كِتَابِ التَّقْرِيبِ لِلْقَاضِي الْمَنْعُ فِيهِمَا مُطْلَقًا نعم هذا اخْتِيَارُ سُلَيْمٍ الرَّازِيَّ في كِتَابِ التَّقْرِيبِ فإنه مَنَعَ دُخُولَ التَّخْصِيصِ لِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ ثُمَّ قال وَأَمَّا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ اللَّفْظِ إنْ تَنَاوَلَ وَاحِدًا لم يَدْخُلْهُ تَخْصِيصٌ وَإِنْ تَنَاوَلَ أَشْيَاءَ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ قال شَارِحُ اللُّمَعِ تَخْصِيصُ دَلِيلِ الْخِطَابِ قبل اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ يَنْبَنِي على الْوَجْهَيْنِ فيه هل هو كَالنُّطْقِ أو كَالْقِيَاسِ فَإِنْ قُلْنَا كَالْقِيَاسِ لم يَجُزْ تَخْصِيصُهُ وَإِنْ قُلْنَا كَالنُّطْقِ فَفِي تَخْصِيصِهِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ مَبْنِيَّانِ على الْمَعْنَى في فَحْوَى الْخِطَابِ قال فَأَمَّا إذَا اسْتَقَرَّ كان ما يَرِدُ مُنَاقِضًا له من بَابِ النَّسْخِ مَسْأَلَةٌ الْعُمُومُ الْمُؤَكَّدُ بِكُلٍّ وَنَحْوِهَا هل يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ فيه قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في بَابِ الْقَضَاءِ أَحَدُهُمَا لَا
____________________
(2/403)
وَنَقَلَهُ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ عن بَعْضِهِمْ وَجَزَمَ بِهِ الْمَازِرِيُّ وَلِهَذَا قالوا إنَّ التَّأْكِيدَ يَنْفِي التَّجَوُّزَ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْبَعْضَ وَيَشْهَدُ له قَوْله تَعَالَى يَقُولُونَ هل لنا من الْأَمْرِ من شَيْءٍ قُلْ إنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ في قِرَاءَةِ النَّصْبِ لِأَنَّهُ لو لم يُعَيِّنْهُ لِلْعُمُومِ لَمَا قال هل لنا من الْأَمْرِ من شَيْءٍ وَهَذَا يَدْخُلُ في الْمَجَازِ لَا في التَّخْصِيصِ وَأَصَحُّهُمَا نعم بِدَلِيلِ ما جاء في الحديث فَأَحْرَمُوا كلهم إلَّا أَبَا قَتَادَةَ لم يُحْرِمْ فَدَخَلَهُ التَّخْصِيصُ مع تَأْكِيدِهِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كلهم أَجْمَعُونَ إلَّا إبْلِيسَ إنْ جَعَلْنَا الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا فَإِنْ قِيلَ التَّأْكِيدُ هُنَا مُقَدَّرٌ حُصُولُهُ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ فَالْمُؤَكَّدُ هُنَا إنَّمَا هو غَيْرُ الْمُخْرَجِ قُلْنَا كَيْفَ يَفْعَلُ بِقَوْلِهِ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا وَالِاسْتِغْرَاقُ فيه مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّ آيَاتِ اللَّهِ لَا تَتَنَاهَى قال الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ وَمِمَّا زَلَّ فيه النَّاقِلُونَ عن الْأَشْعَرِيِّ وَمُتَّبِعِيهِ أَنَّ صِيغَةَ الْعُمُومِ مع الْقَرَائِنِ تَبْقَى مُتَرَدِّدَةً وَهَذَا إنْ صَحَّ يُحْمَلُ على مَوَانِعِ الْعُمُومِ كَالصِّيَغِ الْمُؤَكَّدَةِ انْتَهَى وقد صَرَّحَ بِأَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يَرْفَعُ احْتِمَالَ التَّخْصِيصِ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ أَيْضًا فقال في كِتَابِهِ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ الْمُؤَكِّدُ وَمَثَّلَهُ بِالْآيَةِ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ قال وَالتَّأْكِيدُ لَا يُزِيلُ احْتِمَالَ اللَّفْظِ وَإِلَّا لم يَدْخُلْهُ اسْتِثْنَاءٌ وَبِالْجَوَازِ أَيْضًا صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في بَابِ الْقَضَاءِ من كِتَابِهِمَا ثُمَّ قال وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْمُؤَكَّدِ وَهَذَا غَلَطٌ لِوُجُودِ الِاحْتِمَالِ بَعْدَ التَّأْكِيدِ كَوُجُودِهِ من قَبْلُ ا هـ وَهَذَا نَظِيرُ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ حَكَاهَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ أَيْضًا في جَوَازِ نَسْخِ الْحُكْمِ الْمُقَيَّدِ بِالْأَبَدِيَّةِ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْهِنْدِيِّ في بَابِ النَّسْخِ أَنَّهُ إجْمَاعٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ تَنْبِيهٌ إذَا عُطِفَ الْخَاصُّ على الْعَامِّ الْمُتَنَاوِلِ له وَقُلْنَا إنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ الْعُمُومِ وَكَأَنَّهُ ذُكِرَ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِالْخُصُوصِ وَمَرَّةً بِالْعُمُومِ يَجِيءُ في تَخْصِيصِهِ هذا الْخِلَافُ
____________________
(2/404)
مسألة في الغاية التي ينتهي إليها التخصيص اختلف في المقدار الذي لا بد من بقائه بعد التخصيص على مذاهب أحدها أنه لا بد من بقاء جمع كثير ونقله الرازي والآمدي عن أبي الحسين البصري وصححه الرازي وقال في الآمدي وبه قال أكثر أصحابنا وإليه مال إمام الحرمين ونقله ابن برهان عن المعتزلة قلت وعبارة أبي الحسين في المعتمد الأولى المنع من ذلك في جميع أفراد العموم وإيجاب أن يراد بها كثرة وإن لم يعلم قدرها إلا أن يستعمل في الواحد على سبيل التعظيم والإبانة فإن ذلك يجري مجرى الكثير وأما غير ذلك فلا انتهى وقال الأصفهاني ما نسبه الآمدي إلى الجمهور ليس بجيد نعم اختاره الغزالي والرازي واختلف في ذلك الكثير فقال أكثرهم لا بد أن يعرف من مدلول اللفظ العام قبل التخصيص وقال البيضاوي لا بد أن يكون غير محصور وقال ابن برهان في الأوسط لم يحدوا الكثرة هنا بل قالوا تعرف بالقرائن وأغرب بعضهم فادعى أنه ليس المراد بالكثير هنا الكثير عددا بل الكثير وقوعا والغالب وجودا بحيث يقرب أنه مما خطر بالبال عند ذكر اعتبار لفظ العام وقال آخرون شرطه أن يكون الباقي معظم الأمر إما في الكثير وإما في الاعتبار أما في الكثرة فكما إذا قلت كل إنسان مصاب وكل محسن مشكور فإنه وإن كان في الناس من لم يصب بمصيبة إلا أنه يحدث قائل ذلك ويحسن أن لا يقدح في كلامه وأما في الاعتبار فكما إذا قلت خرج الناس كلهم للقاء الملك فإن المراد من له اعتبار وإن كان أكثر الناس لم يخرجوا والثاني أن العام إن كان ظاهرا مفردا كمن والألف واللام نحو اقتل من في الدار واقفع السارق جاز التخصيص إلى أهل المراتب وهو واحد لأن الاسم يصلح لهما جميعا وإن كان بلفظ الجمع كالمسلمين جاز إلى أقل الجمع وذلك إما ثلاثة أو اثنان على الخلاف قاله القفال الشاشي كذا رأيته في كتابه في نسخة قديمة
____________________
(2/405)
واعتمد ابن الصباغ في العدة أيضا فاضبط ذلك فقد زال الناقلون عنه في هذه المسألة فنقل ابن برهان في الأوسط عنه جواز الرد إلى الواحد مطلقا ونقل القاضي أبو الطيب في شرح الكفاية وابن السمعاني في القواطع عنه جواز الرد إلى ثلاثة ولا يجوز إلى ما دونها إلا بما يجوز به النسخ لكن ظاهر كلام القاضي أن من وما محل وفاق فإنه قال لنا إن كل ما جاز تخصيصه إلى ثلاثة جاز تخصيصه إلى ما دونها كمن وما انتهى وبذلك صرح الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني فقال لا خلاف في جواز التخصيص إلى واحد فيما إذا لم تكن الصيغة جمعا كمن وما والمفرد المحلى بالألف واللام وحكى القاضي عبد الوهاب عنه أنه ألحق أسماء الأجناس كالسارق والسارقة بالجمع المعروف في امتناع رده إلى الواحد كذلك والفرق بين الصيغتين أن ألفاظ الجموع موضوعة للجميع ففي التخصيص إلى الواحد إخراج عن الموضع ولا كذلك من وما والمفرد المحلى بالألف واللام لتناول الواحد والاثنين قال الأصفهاني وينبغي أن يلحق أي بمن وما قلت وهو كذلك لوجود العلة وبه صرح إلكيا الطبري وقال بعض المتأخرين ما أظن القفال يقول به في كل تخصيص فإنه لا يخالف في صحة استثناء الأكثر إلى الواحد بل الظاهر قصر قوله على ما عدا الاستثناء من المخصصات بدليل احتجاج بعض أصحابنا عليه بقول القائل علي عشرة إلا تسعة ويحتمل أن يعم الخلاف إلا لأن الظاهر خلاف من المنقول عنه ثم قلت وحكى أبو الحسين بن القطان الخلاف في الاستثناء فقال ذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا يجوز أن يستثنى إلا أن يبقى أقل الجمع وهو ثلاثة وأنه يمتنع إذا بقي منه واحد أو اثنان وذهب بعضهم إلى جوازه وأنه يحل التخصيص محل الاستثناء وقد اتفقنا على جواز استثناء الأقل من الأكثر وعكسه انتهى قال صاحب المصادر والذي ذهب إليه القفال عجيب لأنه إن كان البلوغ في لفظ من إلى الواحد أو الاثنين يجعله مجازا عنده فهلا جاز مثل ذلك في ألفاظ الجمع والثالث التفصيل بين أن يكون التخصيص بالاستثناء والبدل فيجوز إلى الواحد وإلا فلا حكاه ابن المطهر والرابع أنه لا يجوز رده إلى أقل الجمع مطلقا على حسب اختلافهم في أقل الجمع حكاه ابن برهان وغيره والخامس أنه يجوز في جميع ألفاظ العموم ما بقي في قضية اللفظ واحد
____________________
(2/406)
وحكاه إمام الحرمين في التلخيص عن معظم أصحاب الشافعي قال وهو الذي اختاره الشافعي ونقله ابن السمعاني في القواطع عن سائر أصحابنا ما عدا القفال وحكاه الأستاذ أبو إسحاق في أصوله عن إجماع أئمتنا وحكاه ابن الصباغ في العدة عن أكثر أصحابنا وصححه القاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق وقال ابن برهان في الأوسط إنه ظاهر المذهب ونسبه القاضي عبد الوهاب في الإفادة إلى الجمهور وقال صاحب المصادر إنه الصحيح قال إلا أن ألفاظ الجمع كالرجال والناس متى بلغ التخصيص منها إلى أقل من ثلاث صار اللفظ مجازا بخلاف لفظ من ما فإنه لا يصير مجازا وما أظن أصحابنا يوافقون على صحة ذلك وقد قالوا في كتاب الطلاق لو قال نسائي طوالق إلا فلانة وفلانة وفلانة يقبل وقال القاضي الحسين يجب أن لا يقبل لأن النساء لفظ الجمع فينبغي أن يبقى من عدد النساء ما يكون اللفظ مطابقا له لأن أقل الجمع ثلاثة انتهى وكلام القاضي موافق لمذهب القفال والسادس الذي اختاره ابن الحاجب قال الأصفهاني في شرح المحصول ولا نعرفه لغيره أن التخصيص إن كان متصلا فإن كان بالاستثناء أو البدل جاز إلى الواحد نحو أكرم الناس إلا الجهال وأكرم الناس تميم فيجوز وإن لم يكن العالم إلا واحدا إن كان بالصفة والشرط فيجوز إلى اثنين نحو أكرم القوم الفضلاء أو إذا كانوا فضلاء وإن كان التخصيص بمنفصل وكان في العام المحصور القليل كقولك قتلت كل زنديق وكانوا ثلاثة ولم يبق سوى اثنين جاز إلى اثنين إن كان غير محصور أو محصورا جاز بشرط كون الباقي قريبا من مدلول العام وحاصل مذهبنا على ما ذكره الشيخ أبو حامد وسليم في التقريب أن العام إن كان واحدا معرفا باللام كالسارق ونحوه جاز تخصيصه إلى أن يبقى واحد بلا خلاف وكذلك الألفاظ المبهمة كمن وما لا خلاف فيه وفي معناه الطائفة وإن كان كذلك جمعا كالمسلمين أو ما في معناه كالرهط والقوم جاز تخصيصه إلى أن يبقى أقل الجمع وفي جواز تخصيصه إلى أن يبقى أقل من ذلك وجهان أحدهما يجوز وهو قول العراقيين والمعتزلة كما قاله سليم الثاني لا يجوز وهو قول القفال انتهى
____________________
(2/407)
وقال الشيخ أبو حامد والصحيح عندي أنه يجوز التخصيص إلى أقل من ثلاثة وإن كان اللفظ موضوعا للثلاثة في اللغة حقيقة إلا أنه يجوز أن يعدل به إلى المجاز واحتج له بقوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وقال إلكيا الهراسي هذه المسألة تستدعي تقديم أصل وهو القول في أقل الجمع قلت وعلى ما اختاره الجمهور من الجواز إلى الواحد لا يبقى للبناء على ذلك وجه وقد سبق في مسألة أقل الجمع كلام يتعلق بهذا مسألة اختلفوا في العام إذا خص هل يكون حقيقة في الباقي على مذاهب أحدها أنه مجاز مطلقا على أي وجه خص سواء كان التخصيص متصلا أو منفصلا أو غيره ونقله الإمام الرازي عن جمهور أصحابنا والمعتزلة كأبي علي وابنه واختاره البيضاوي وابن الحاجب والهندي قال ابن برهان في الأوسط وهو المذهب الصحيح ونسبه إلكيا الطبري إلى المحققين ونقله في المنخول عن القاضي أبي بكر وحكاه الشيخ أبو حامد الإسفراييني في تعليقه في الأصول وسليم في التقريب عن المعتزلة بأسرها وأكثر الحنفية منهم عيسى بن أبان وغيره قلت وبه جزم الدبوسي والسرخسي والبزدوي وحكوه عن اختيار العراقيين من الحنفية وقال الشيخ أبو حامد وحكاه بعض أصحابنا عن الأشعري أيضا ووجهه أنه وضع للمجموع فإذا أريد به غير ما وضع له بالقرينة صار مجازا ولأنه حقيقة في الاستغراق فلو كان حقيقة في البعض لزم الاشتراك والمجاز خير منه والثاني أنه حقيقة فيما بقي مطلقا سواء خص بدليل متصل كالاستثناء أو منفصل كدليل العقل والقياس وغير ذلك قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني وهذا مذهب الشافعي وأصحابه وهو قول مالك وجماعة من أصحاب أبي حنيفة انتهى وقد وافق أبا حامد على ذلك أئمة أصحابنا كالقاضي أبي الطيب الطبري والشيخ أبي إسحاق في اللمع وابن الصباغ في كتاب العدة وسليم في التقريب فجزموا على أنه حقيقة وحكوا الخلاف فيه بالمجاز عن المعتزلة
____________________
(2/408)
ونقله ابن برهان في الوجيز عن أكثر علمائنا وقال إمام الحرمين في التلخيص وابن القشيري هو مذهب جماهير الفقهاء ونقله الغزالي في المنخول عن الشافعي وقال القاضي عبد الوهاب في الملخص هو قول الكل والأكثر من أصحاب الشافعي وبعض الحنفية والمالكية إذا كان الباقي أقل الجمع فصاعدا وقال صاحب المصادر إنه قول أكثر أصحاب الشافعي والثالث إنه إن خص بمتصل لفظي كالاستثناء فحقيقة أو بمنفصل فمجاز وحكاه الشيخ أبو حامد وسليم وابن برهان وعبد الوهاب عن الكرخي وغيره من الحنفية زاد عبد الوهاب إنه قول أكثرهم قاله ابن برهان وإليه مال القاضي ونقله عن الشيخ أبي إسحاق في اللمع أيضا قلت هو الذي صرح في التقريب فقال ما نصه ولو قررنا القول بالعموم فالصحيح عندنا من هذه المذاهب أن نقول إذا قدر التخصيص باستثناء متصل فاللفظ حقيقة في بقية المسميات وإن قدر بدليل منفصل فاللفظ مجاز لا يستدل به في بقية المسميات وقال كنا قد نصرنا القول بأنه مجاز مطلقا انتهى قال المقترح ذهب القاضي في أحد مصنفاته إلى أنه مجاز مطلقا ثم رجع عنه إلى الفرق بين التخصيص المقارن والمنفصل فقال إن التخصيص المقارن لا يصير اللفظ مجازا بل هو باق حقيقة ونرى أنه كلام واحد والتخصيص المتأخر نقول فيه إنه يبقى مجازا في البقية ويحتمل أن القاضي ما أراد بأنه مجاز إلا في الاقتصار وفيما عدا المبقى أما في دلالة اللفظ وضعا فهو حقيقة والقاضي إنما قال هذا تفريعا على رأي المعممين لأن مذهبه في صيغ العموم الوقف والرابع عكسه كذا حكاه ابن برهان في الأوسط عن عبد الجبار والخامس إن خص بدليل لفظي لم يصر مجازا متصلا كان الدليل أو منفصلا وإن خص بدليل غير لفظي كان مجازا كذا حكاه الآمدي والسادس إن خص بالشرط والتقيد بالصفة فهو حقيقة وإلا فهو مجاز معنى في الاستثناء حكاه أبو الحسين في المعتمد عن عبد الجبار والسابع إن كان المخصص مستقلا فهو مجاز سواء كان عقليا أو لفظيا كقول المتكلم بالعام أردت به البعض المعين إن لم يكن مستقلا فهو حقيقة كالاستثناء والشرط والصفة قاله أبو الحسين البصري واختاره الإمام فخر الدين الرازي ولم يذكروا التقييد بالغاية على هذا المذهب قال الهندي وحكمه حكم أخواته من المتصلات ظاهرا إذ لا
____________________
(2/409)
يظهر فرق بينهما والثامن أنه مجاز فيما أخرج عنه فأما استعماله في بقية المسميات فحقيقة لأنه إذا قال تجب الصلاة على المسلمين ثم أخرجنا من الوجوب المجانين والحيض وأصحاب الأعذار فإطلاق لفظ المسلمين على البقية حقيقة وهو اختيار إمام الحرمين وذكر المقترح في تعليقه على البرهان أنه معنى كلام القاضي قلت وكذا ذكره أبو نصر بن القشيري وهذا الذي قاله الإمام قد أورد القاضي سؤالا على نفسه فقال إن قال قائل إذا خص بعض المسميات فاستعمال اللفظ في الباقي ليس بمجاز بل التجوز في نفي الشمول فلا مجاز إذن في بقية المسميات فالجواب أن هذا ساقط لأن معنى المجاز أن يستعمل اللفظ في غير ما وضع له لغة فترك الاستعمال في المخصص عن المسميات لا يحقق التجوز فيه فإنه عند من استعمل اللفظ الذي وضع فيه فيجب أن يكون في استعمال مجازا إلا فيما ترك استعماله فيه ولفظ الحمار إذا أطلق على البليد لم يكن مجازا لعدم استعماله في الهيئة المخصوصة وإن كان مجازا لاستعماله في غير ما وضع له وكذا ما نحن فيه وإذا بطل طرف وجه التجوز إلى العدم وجب أن يكون مجازا في بقية الأسماء ثم أوضح القاضي هذا فقال لو لم يبق من المسميات إلا واحد فلفظ الجمع مجاز فيه وفاقا ولم يقدر خلافا وإن كان يتناوله اللفظ مع غيره إن قدر عاما فصرف الجمع إلى الواحد كصرف الجمع إلى غير الشمول قال ابن القشيري وهذا الذي ذكره القاضي حق من وجه وكذا الذي ذكره إمام الحرمين حق من وجه وذلك أن انطلاق لفظ المسلمين على جميعهم حقيقة في وضع اللفظ فإذا أخرج الحيض والمجانين تناول لفظ المسلمين البقية بعد هذا الإخراج والتخصيص كتناوله لهم قبل التخصيص لم يتغير منه شيء فمن حيث إن اللفظ يتناولهم فاللفظ حقيقة فيهم ومن حيث إن اللفظ لم يجر على التعميم وإنما وضع التعميم للفظ مجازا ولا بعد أن يكون اللفظ حقيقة من وجه ومجازا من وجه وإنما المحال كونه حقيقة ومجازا من وجه واحد فتأمله انتهى وحاصله أن كونه مجازا من حيث إنه لم يرد به المتكلم بعض مقتضاه لا ينافي أن استعماله في الباقي بجهة الحقيقة وقال الصفي الهندي إنه أجود المذاهب بعد الأول وجزم به في المنخول وفيه نظر إذ ليس للفظ بقضية الوضع جهتان وقال في المستصفى هذا ضعيف فإنه لو رد
____________________
(2/410)
إلى الواحد كان مجازا مطلقا لأنه تغيير عن موضوعه في الدلالة والتاسع إن بقي بعد التخصيص جمع فهو حقيقة فيه وإلا فهو مجاز وحكاه الآمدي عن أبي بكر الرازي واختاره الباجي من المالكية وجعل القاضي والغزالي محل الخلاف فيما إذا كان الباقي أقل الجمع فأما إذا بقي واحد أو اثنان كما لو قال لا تكلم الناس ثم قال أردت زيدا خاصة فإنه يصير مجازا بلا خلاف وإن كان حاصلا فيه لأنه اسم جمع والواحد والاثنان ليسا بجمع قلت لكن القاضي حكى في أواخر كلامه عن بعض أصحابنا أنه حقيقة فيما بقي وإن وكان أقل الجمع ثم استبعده فكأنه لم يعبأ بهذا الخلاف لكن الخلاف فيه ثابت استدركه ابن القشيري في أصوله علي القاضي فقال وذكر القاضي أبو الطيب في أصوله عن بعض أصحابنا أن اللفظ حقيقة فما بقي وإن كان أقل الجمع ا هـ وحكاه الماوردي عن أبي حامد الإسفراييني فقال إذا لم يبق إلا واحد فالمشهور أن اللفظ يتناوله على المجاز فإن العام بصيغة الجمع في أصل اللغة لا يعبر به عن الواحد قال وحكى القاضي أبو بكر فيه الاتفاق لكن أبا حامد الإسفراييني خالف وذهب إلى أنه يبقى في تناوله للواحد على الحقيقة احتجاجا منه بقوله تعالى فقدرنا فنعم القادرون فأخبر سبحانه عن نفسه بلفظ الجمع وهو سبحانه واحد فإذا ثبت حمل الجمع على الواحد فلا يستنكر حمل العموم المخصوص على الواحد حقيقة قال المازري والمشهور أن موضع الخلاف إنما هو فيما إذا بقي أقل الجمع قلت وحكى الباجي عن أبي تمام من شيوخهم أنه يبقى حقيقة وإن انتهى التخصيص إلى الواحد تنبيهات الأول حكى الشيخ أبو حامد عن بعض أصحابنا أنه حكى عن الأشعري القول بأنه مجاز ثم قال وهذا لا يجيء على قوله من وجهين أحدهما أن اللفظ المشترك عنده بين العموم والخصوص إذا دل الدليل على
____________________
(2/411)
العموم كان حقيقة فكيف يصح على قوله إنه حقيقة فيما بقي بعد التخصيص والثاني أن نقول إن اللفظ المستعمل فيما بقي يحتج به مجردا من غير دلالة وهذا معنى قولنا إنه حقيقة في الباقي فإذا سلم هذا لم يبق تحت قولنا إنه مجاز فيما بقي معنى وقال بعض المتأخرين هذا القول أعني كونه مجازا ضعيف أما على قاعدة أصحابنا في إثبات كلام النفس فإن المتكلم بقوله من دخل داري من العلماء فله درهم لم يبين أول كلامه على قصد غير العلماء أصلا فكلام النفس لم يتناول غير العلماء لا حقيقة ولا مجازا لا قبل التخصيص ولا بعده وهي في كلامه سبحانه بمعنى الأول لعلمه بمراده قطعا بل تعبيره بصيغة العموم إنما كان توطئة للإتيان بالخصوص كالجنس مثلا في عموم معناه عندما تورده في تحديد النوع فإنك تأتي به عاما ثم تخصصه باقتران الفصل به فلا يكون العموم من أول القصد أصلا مرادا فكذلك في تخصيص اللفظ العام إذ العموم حقيقة واحدة معقولة في عموم اللفظي كالمعنوي وهذا الذي قاله هذا القائل خارج عن المذاهب السابقة قال وأما على قاعدة المعتزلة في إنكارهم النفسي فهو الحد إذا تصور اللفظ في الذهن للتلفظ به فيكون الخصوص إذن من أول اللفظ وأما علم السامع بالعموم فلا يعتبر إذ ليس له أمر في كلام غيره الثاني أن هذا الخلاف إنما هو في العام المخصوص وهو الذي أريد به معناه مخرجا منه بعض أفراده فإرادة إخراج بعض المدلول هل تعين اللفظ مرادا به الباقي أم لا فإن قلنا بالمنع كان حقيقة وإلا فلا أما العام الذي أريد به الخصوص فالظاهر أنه مجاز قطعا ولا يطرقه هذا الخلاف لأنه مستعمل في بعض مدلوله إلا إذا قلنا إن دلالة العام على كل فرد من أفراده دلالة مطابقة فيحتمل أن يكون حقيقة في كل فرد فيطرقه الخلاف وهو بعيد وقال ابن دقيق العيد في شرح العنوان القول بأنه مجاز صحيح في العموم الذي أريد به بعض ما تناوله عند الإطلاق أما ما وقع التخصيص فيه بعد إرادة العموم به إن صح أنه تخصيص لا نسخ يقوى هذا فيه الثالث إطلاقهم الكلام في هذه المسألة يشمل ما لو كان التخصيص بدليل العقل ونقل بعض الحنفية عن القائلين بأن من المخصصات العقل أنه لا يصير العام ظنيا مثل هذا التخصيص وإنما يصير ذلك فيما يقبل التعليل والتفسير دون ما لا يقبله ألا
____________________
(2/412)
ترى أن الاستثناء وهو من أدلة التخصيص عندهم كدليل العقل لا يخرج العام من القطع إلى الظن لأنه لا يقبل التعليل فكذا هنا الرابع قد يدعى في القولين الأولين أعني أنه حقيقة أو مجاز أنه لم يتوارد الخلاف فيهما على محل واحد فإن القائل مجاز أراد بالنسبة إلى اللغة والقائل بأنه حقيقة أراد أنها حقيقة شرعية فإن الإجماع على العمل به بعد التخصيص بين أن وضع الشرع في العام إذا خص يكون متناولا للباقي فهو إذن حقيقة شرعية أنبأ عن وضعها الإجماع فصار حقيقة شرعية مجازا لغويا الخامس ذكر الشيخ أبو حامد الإسفراييني في تعليقه الأصولي وسليم في كتاب التقريب أن فائدة الخلاف في هذه المسألة أن من يقول إن ذلك حقيقة في الباقي يحتج بلفظ العموم فيما لم يخص منه مجردا من غير دليل يدل عليه ومن يقول إنه يكون مجازا لا يمكنه الاحتجاج بالعموم المخصوص فيما بقي إلا بدليل يدل عليه أي على أن حكمه ثابت في الباقي وظهر بهذا أن الخلاف في كون العام المخصوص حجة فرع الكلام في هذا فلهذا أخرنا ذكرها وبه يتضح تقرير مذهبنا في كونه حقيقة لكن إلكيا الطبري عكس ذلك فقرر كونه حجة ثم قال وإذا تقرر أنه ليس بمجمل فاختلفوا هل هو مجاز أم حقيقة والطريقة الأولى أقعد وأحسن السادس قال الشيخ أبو حامد القائلون بأنه مجاز احتجوا بنكتة واحدة وهي أن لفظ العموم موضوع للاستغراق فإذا دل الدليل على تخصيصه فإنه يعدل به عن موضوعه بالقرينة فيكون مجازا قال ودليلنا أن لفظ العموم إذا ورد مطلقا فإنه يقتضي استغراق الجنس فإذا ورد التخصيص فإن ذلك يبين ما ليس بمراد باللفظ فيخرجه عنه فلم يؤثر فيما بقي بل يكون ما بقي ثابتا فيه باللفظ فحسب والذي يدل على هذا أن دليل التخصيص مناف لحكم ما بقي من اللفظ ومضاد له فلا يجوز أن يؤثر فيه ويثبت الحكم مع مضادته ومنافاته قال ويصير لأهل الحرب عندنا اسمان كل منهما حقيقة أحدهما حقيقة فيهم بمجرده وهو أن يقول اقتلوا أهل الحرب والآخر حقيقة فيهم بعد وجود قرينة وهو أن يقول اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة ولا يمتنع قبل هذا ألا ترى أنه إذا قال أعطوا فلانا ثوبا أبيض أو أصفر كان ذلك حقيقة في الثوب الأصفر بهذا اللفظ وإذا قال أعطوا ثوبا ولا تعطوه غير الأصفر كان حقيقة فيه عند وجود القرينة فكذلك هذا
____________________
(2/413)
ويخالف هذا استعمال اسم الحمار في الرجل البليد واسم الأسد في الشجاع لأن ذلك اللفظ يحمل عليه بالقرينة الدالة عليه لا بمجرد اللفظ فإن القرينة تدل على المراد باللفظ وهي مماثلة له في الحكم فهي دالة على ما أريد به فكان اللفظ مستعملا فيه بالقرينة فكان مجازا وليس كذلك استعمال لفظ العموم في الخصوص فإن القرينة ما بينت المراد باللفظ وإنما بينت ما ليس بمراد فكان استعمال اللفظ في المراد بنفسه لا بالقرينة فإنه لا يجوز أن يكون مستعملا بالقرينة والقرينة مضادة له فكان ذلك حقيقة فيما استعمل فيه لا مجازا قال ودلالة ثانية على من سوى بين القرينة المتصلة والمنفصلة يعني يجعل الجميع مجازا لأنه لا فرق عند أهل اللغة بين أن يقول القائل لفلان علي خمسة دراهم وبين قوله عشر إلا خمسة في أن كلا منهما إقرار بخمسة وأما من فرق بين الدليل المنفصل والمتصل فإنه فصل بينهما بأن الكلام إذا اتصل بعضه ببعض بني بعضه على بعض فكان ذلك حقيقة فيما بقي وإذا انفصل بعضه عن بعض لم يبين فكان مجازا فيه وهذا غلط لأنه لا فرق بين القرينة المتصلة والمنفصلة في أن اللفظ بني عليها ودالة على ما ليس بمراد منه وما بقي يكون ثابتا فيها باللفظ لا بالقرينة فيختار أن لا يفترق حالهما بوجه انتهى مَسْأَلَةٌ الْعَامُّ إذَا خُصَّ فَإِمَّا أَنْ يُخَصَّ بِمُبْهَمٍ أو مُعَيَّنٍ فَإِنْ خُصَّ بِمُبْهَمٍ كما لو قال اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إلَّا بَعْضَهُمْ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ على شَيْءٍ من الْأَفْرَادِ إذْ ما من فَرْدٍ إلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هو الْمُخْرَجُ لِأَنَّ إخْرَاجَ الْمَجْهُولِ من الْمَعْلُومِ يُصَيِّرُهُ مَجْهُولًا وَلِهَذَا لو قال بِعْتُك هذه الصُّبْرَةَ إلَّا صَاعًا منها لَا يَصِحُّ وَمِثْلُهُ في الْمَنْخُولِ بِمَا لو تَمَسَّكَ في مَسْأَلَةِ الْوِتْرِ بِقَوْلِهِ افْعَلُوا الْخَيْرَ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى من عُمُومِ هذا الْأَمْرِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَيَكُونُ مُجْمَلًا وَهَذَا قد ادَّعَى فيه جَمَاعَةٌ الِاتِّفَاقَ منهم الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَالْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ وقال لم يَذْهَبْ أَحَدٌ إلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا كان الْمُخَصَّصُ مُجْمَلًا قال الْقَاضِي وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ إلَّا في أَمْرٍ وَاجِبٍ على التَّرَاخِي عِنْدَ من أَجَازَ تَأْخِيرَ بَيَانِ الْعَامِّ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ من مَنَعَ ذلك في أَمْرٍ على الْفَوْرِ قُلْت وما ذَكَرُوهُ من الِاتِّفَاقِ ليس بِصَحِيحٍ فَقَدْ حَكَى ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ
____________________
(2/414)
الْخِلَافَ في هذه الْحَالَةِ وَبَالَغَ في تَصْحِيحِ الْعَمَلِ بِهِ مع الْإِبْهَامِ وَاعْتَلَّ بِأَنَّا إذَا نَظَرْنَا إلَى فَرْدٍ شَكَكْنَا فيه هل هو من الْمُخَرَّجِ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ فَيَبْقَى على الْأَصْلِ وَيُعْمَلُ بِهِ إلَى أَنْ يُعْلَمَ بِالْقَرِينَةِ أَنَّ الدَّلِيلَ الْمُخَصِّصَ مُعَارِضٌ لِلَّفْظِ الْعَامِّ وَإِنَّمَا يَكُونُ مُعَارِضًا عِنْدَ الْعِلْمِ بِهِ انْتَهَى وهو صَرِيحٌ في الْإِضْرَابِ عن الْمُخَصِّصِ وَالْعَمَلُ بِالْعَامِّ في جَمِيعِ أَفْرَادِهِ وهو بَعِيدٌ وقد رَدَّ الْهِنْدِيُّ هذا الْبَحْثَ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ في الِاحْتِجَاجِ بِهِ في الْكُلِّ الْمَخْصُوصِ وَغَيْرِهِ وَلَا قَائِلَ بِهِ انْتَهَى وَلَيْسَ كما قال فَقَدْ حَكَى الْخِلَافَ فيه صَاحِبُ اللُّبَابِ من الْحَنَفِيَّةِ وَعِبَارَتُهُ وَقِيلَ إنْ كان الْمَخْصُوصُ مَجْهُولًا لم يَثْبُتْ بِهِ الْخُصُوصُ أَصْلًا بَلْ يَبْقَى النَّصُّ عَامًّا كما كان كَذَا حَكَاهُ أبو زَيْدٍ في التَّقْوِيمِ وَمِمَّنْ حَكَى الْخِلَافَ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ فقال في كِتَابِهِ الْخِطَابُ إذَا عُلِمَ خُصُوصُهُ ولم يُعْلَمْ مِمَّا يَخُصُّهُ كَيْفَ يُعْمَلُ بِهِ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى إحَالَةِ هذا وقال إنَّ الْبَيَانَ لَا يَتَأَخَّرُ وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى تَأْخِيرِهِ إنْ أَجَزْنَاهُ وقال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ ذلك وَيُعْتَقَدُ فيه الْعُمُومُ إلَّا مَوْضِعًا خُصَّ منه غير أَنَّهُ إذَا جاء ما يَشْتَمِلُ عليه الْعُمُومُ أَمْضَاهُ لِأَنَّهُ لو كان فيه خُصُوصٌ لَخَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبَيَّنَهُ لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَتَأَخَّرُ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ وَمِنْهُمْ من قال أَقِفُ في هذا لِأَنِّي قد عَلِمْت أَنَّهُ مَخْصُوصٌ وَلَعَلَّ الْحُكْمَ الذي حُكِمَ من حَيِّزِ الْخُصُوصِ كما لو عَلِمَ في الْآيَةِ نَسْخًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْرِيَهُ على الْأَصْلِ لِجَوَازِ النَّسْخِ فَكَذَلِكَ التَّخْصِيصُ انْتَهَى وَكَذَلِكَ حَكَاهُ الْحَنَفِيَّةُ في كُتُبِهِمْ منهم أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُمَا فَقَالُوا إذَا خُصَّ وَجَبَ الْوَقْفُ فيه إلَى الْبَيَانِ سَوَاءٌ خُصَّ بِمَجْهُولٍ أو مَعْلُومٍ لِأَنَّهُ عِنْدَ التَّخْصِيصِ يَصِيرُ مَجَازًا في الْبَعْضِ وَذَلِكَ الْبَعْضُ مَجْهُولٌ فلم يَبْقَ حُجَّةً وَنُقِلَ عن بَعْضِهِمْ أَنَّهُ إنْ خُصَّ بِمَجْهُولٍ لم يَثْبُتْ التَّخْصِيصُ ثُمَّ قال وَاَلَّذِي ثَبَتَ عِنْدِي من مَذْهَبِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ بَاقٍ على عُمُومِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ سَوَاءٌ خُصَّ بِمَجْهُولٍ أو مَعْلُومٍ لَكِنَّ دَلَالَتَهُ على أَفْرَادِهِ تَبْقَى ظَنِّيَّةً وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وقال صَاحِبُ اللُّبَابِ ذَهَبَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنْ يَبْقَى
____________________
(2/415)
عَامًّا فِيمَا وَرَاءَ التَّخْصِيصِ وَيَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِ سَوَاءٌ كان الْمُخَصَّصُ مَعْلُومًا أو مَجْهُولًا وَلَكِنَّهُ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ لَا لِلْعِلْمِ بِخِلَافِ ما قبل التَّخْصِيصِ عِنْدَنَا فإنه قَطْعِيٌّ وَقِيلَ إنْ كان الْمُخَصَّصُ مَعْلُومًا صَحَّ التَّعَلُّقُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا وقال الْكَرْخِيُّ وأبو عبد اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ لَا يَبْقَى لِلْبَاقِي عُمُومٌ وَلَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِ وَلَكِنْ إذَا كان مَعْلُومًا يَبْقَى مُوجِبًا لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ أو مَجْهُولًا لَا يُوجِبُهُمَا بَلْ يُوقَفُ على دَلِيلٍ آخَرَ وَقِيلَ إنْ كان الْمُخَصَّصُ مَجْهُولًا لم يَثْبُتْ بِهِ الْخُصُوصُ أَصْلًا بَلْ يَبْقَى النَّصُّ عَامًا كما كان انْتَهَى وَإِنْ خُصَّ بِمُعَيَّنٍ كما لو قِيلَ اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إلَّا أَهْلَ الذِّمَّةِ أو الْمُسْتَأْمَنَ فَهَلْ يَجُوزُ التَّعْلِيقُ بِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ اخْتَلَفُوا فيه على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ حُجَّةٌ في الْبَاقِي مُطْلَقًا وهو قَوْلُ مُعْظَمِ الْفُقَهَاءِ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيَّ وابن الْحَاجِبِ وقال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ إنَّهُ الْأَصَحُّ وقال ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ إنَّهُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وقال الْقَفَّالُ لَا فَرْقَ بين الِاسْتِثْنَاءِ وَغَيْرِهِ وَلَا بين الْمُتَّصِلِ بِالْخِطَابِ وَالْمُنْفَصِلِ عنه قال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَلَكِنَّهُ دُونَهُ ما لم يَتَطَرَّقْ التَّخْصِيصُ إلَيْهِ فَيُكْسِبُهُ ضَرْبًا من التَّجَوُّزِ وَلَوْ رَجَحَ نَهْيُهُ عليه السَّلَامُ عن أَكْلِ كل ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ من الطَّيْرِ على عُمُومِ قَوْلِهِ قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا الْآيَةُ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا لَكَانَ الْخَمْرُ وَالْقَاذُورَاتُ الْمُحَرَّمَةُ خَارِجَةً عنها وقال أبو زَيْدٍ في التَّقْوِيمِ إنَّهُ الذي صَحَّ عِنْدَهُ من مَذْهَبِ السَّلَفِ قال لَكِنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ قَطْعًا بِخِلَافِ ما قبل التَّخْصِيصِ وَكَذَا قال السَّرَخْسِيُّ قال أبو حَنِيفَةَ خُصَّ هذا الْعَامُّ بِالْقِيَاسِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ لِلْعَمَلِ وَإِنْ لم يُوجِبْ الْعِلْمَ وَنَقَلَهُ عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ عن أَصْحَابِهِمْ وَالشَّافِعِيِّ وَالثَّانِي أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ وَنُقِلَ عن عِيسَى بن أَبَانَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَحَكَاهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ عن أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالْغَزَالِيُّ عن الْقَدَرِيَّةِ قال ثُمَّ منهم من يقول يَبْقَى أَقَلُّ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ قال وَكَلَامُ الْوَاقِفِيَّةِ في الْعُمُومِ الْمَخْصُوصِ أَظْهَرُ لَا مَحَالَةَ وَمُرَادُهُمْ
____________________
(2/416)
أَنَّهُ يَصِيرُ مُجْمَلًا وَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ ما إذَا كان الْمُخَصَّصُ مَجْهُولًا هَكَذَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَإِلْكِيَا قال وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضِعٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَإِنَّمَا يَخْرُجُ عنه بِقَرِينَةٍ وَمِقْدَارُ التَّأْثِيرِ لِلْقَرِينَةِ في اللَّفْظِ مَجْهُولٌ فَلَا يَدُلُّ عليه فَيَصِيرُ مَجْهُولًا قال وهو مُتَّجِهٌ جِدًّا وَغَايَةُ ما يَرُدُّ عليه بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ عَلِمُوا بِمَا تَطَرَّقَ إلَيْهِ التَّخْصِيصُ من الْعُمُومِ وَلَهُ أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّهُمْ نَقَلُوهُ من الْقَرَائِنِ التي شَاهَدُوهَا وَأَلِفُوهَا وَكَانُوا بِمَرْأَى من الرَّسُولِ وَمَسْمَعٍ من الْوَحْي الثَّانِي أَنَّ صِيغَةَ الْعُمُومِ لَيْسَتْ نَصًّا في الِاسْتِغْرَاقِ لِاحْتِمَالِ إرَادَةِ الْخُصُوصِ وَإِجْرَاءِ اللَّفْظِ على غَالِبِ الْمُسَمَّيَاتِ من غَيْرِ قَرِينَةٍ تَخْطُرُ بِالْبَالِ نعم إنْ كان مَضْمُونُ التَّخْصِيصِ اسْتِثْنَاءَ ما لَا يَشِذُّ عن الذِّهْنِ عِنْدَ إطْلَاقِ اللَّفْظِ فَيَتَّجِهُ ما قَالَهُ عِيسَى بن أَبَانَ ثُمَّ قَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ إلَّا بِمَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ بِأَنَّهُ إسْقَاطُ أَمْرِ اللَّفْظِ الْعَامِّ وَالْمُمْكِنِ في الْجَوَابِ عنه أَنَّ الْقَدْرَ الذي ظَهَرَ من الْقَرِينَةِ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ وَلَا يُقَدَّرُ وَرَاءَهُ قَرِينَةٌ هِيَ غَائِبَةٌ عَنَّا فإن ذلك يَلْزَمُ مِثْلُهُ في الْعُمُومِ الذي لم يَتَنَاوَلْهُ تَخْصِيصٌ إجْمَاعًا لِإِمْكَانِ أَنَّهُ بَنَاهُ على سُؤَالٍ وَقَرِينَةِ حَالٍ ا هـ وقال الصَّيْرَفِيُّ الْقَائِلُ بهذا إنْ كان مِمَّنْ يُنْكِرُ الْعُمُومَ فَقَدْ أَثْبَتْنَاهُ وَإِنْ كان مِمَّنْ يُثْبِتُهُ فَمِنْ نَفْسِ قَوْلِهِ يَسْقُطُ قَوْلُهُ هذا لِأَنَّهُ تَوَقَّفَ عَمَّا بَقِيَ لِأَنَّ الْبَعْضَ خَصَّ وما لم يُخَصَّ دَاخِلٌ ولم يَمْتَنِعْ فِيمَا جاء عَامًّا لِإِمْكَانِ خُصُوصِهِ فَلَا يُحْكَمُ بِهِ حتى يُعْلَمَ أَنَّهُ لم يُخَصَّ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ ذَهَبَ كَثِيرٌ من الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ إلَى أَنَّ الصِّيغَةَ الْمَوْضُوعَةَ إذَا خُصَّتْ صَارَتْ مُجْمَلَةً وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بها في بَقِيَّةِ الْمُسَمَّيَاتِ إلَّا بِدَلِيلٍ كَسَائِرِ الْمَجَازَاتِ وَإِلَيْهِ مَالَ عِيسَى بن أَبَانَ وقال الْمُقْتَرِحُ هذا الْمَذْهَبُ يُعْتَبَرُ على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِلْكُلِّ بِمَا هو كُلٌّ وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ كُلُّ وَاحِدٍ فإذا تَبَيَّنَ بِالتَّخْصِيصِ أَنَّ الْكُلَّ ليس مُرَادًا بَقِيَ اللَّفْظُ مُجْمَلًا لَا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ وَلَيْسَ بَعْضُهُ أَوْلَى من بَعْضٍ فَكَانَ مُجْمَلًا
____________________
(2/417)
وَالثَّانِي أَنَّهُ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِصِفَةِ الظُّهُورِ فإذا وَرَدَ التَّخْصِيصُ تَبَيَّنَ أَنَّ الشُّمُولَ ليس مُرَادًا فَيَبْقَى اللَّفْظُ مُجْمَلًا فَيَكْتَسِبُ الْإِجْمَالَ وَالثَّالِثُ إنْ خُصَّ بِمُتَّصِلٍ كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَالصِّفَةِ فَهُوَ حُجَّةٌ فِيمَا بَقِيَ وَإِنْ خُصَّ بِمُنْفَصِلٍ فَلَا بَلْ يَصِيرُ مُجْمَلًا وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن الْكَرْخِيِّ وَمُحَمَّدِ بن شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ وَكَذَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ عن الْكَرْخِيِّ وقال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ في أُصُولِهِ كان شَيْخُنَا أبو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ يقول في الْعَامِّ إذَا ثَبَتَ خُصُوصُهُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِاللَّفْظِ وَصَارَ حُكْمُهُ مَوْقُوفًا على دَلَالَةٍ أُخْرَى من غَيْرِهِ فَيَكُون بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ وكان يُفَرِّقُ بين الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِاللَّفْظِ وَبَيْنَ الدَّلَالَةِ من غَيْرِ اللَّفْظِ فيقول إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ غَيْرُ مَانِعٍ من بَقَاءِ اللَّفْظِ فِيمَا عَدَا الْمُسْتَثْنَى لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَجْعَلُ اللَّفْظَ مَجَازًا فَكَانَ يقول هذا بَدِيهِيٌّ وَلَا أَقْدِرُ أَعْزِيهِ إلَى أَصْحَابِنَا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ محمد بن شُجَاعٍ وَالرَّابِعُ أَنَّ التَّخْصِيصَ إنْ لم يَمْنَعْ اسْتِفَادَةَ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ وَتَعْلِيقِهِ بِظَاهِرِهِ جَازَ التَّعْلِيقُ بِهِ كما في قَوْلِهِ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ قِيَامَ الدَّلَالَةِ على الْمَنْعِ من قَتْلِ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَمْنَعُ من تَعَلُّقِ الْحُكْمِ وهو الْقَتْلُ بِاسْمِ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كان يَمْنَعُ من تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ الْعَامِّ وَيُوجِبُ تَعَلُّقَهُ بِشَرْطِ لَا يُنْبِئُ عنه الظَّاهِرُ لم يَجُزْ التَّعَلُّقُ بِهِ كما في قَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا لِأَنَّ قِيَامَ الدَّلَالَةِ على اعْتِبَارِ النِّصَابِ وَالْحِرْزِ وَكَوْنِ الْمَسْرُوقِ لَا شُبْهَةَ فيه لِلسَّارِقِ يَمْنَعُ من تَعَلُّقِ الْحُكْمِ وهو الْقَطْعُ بِعُمُومِ اسْمِ السَّارِقِ وَيُوجِبُ تَعَلُّقَهُ بِشَرْطٍ لَا يُنْبِئُ عنه ظَاهِرُ اللَّفْظِ وهو قَوْلُ أبي عبد اللَّهِ تِلْمِيذِ الْكَرْخِيِّ وَالْخَامِسُ إنْ كان لَا يَتَوَقَّفُ على الْبَيَانِ كَالْمُشْرِكِينَ فَهُوَ حُجَّةٌ وَإِلَّا فَلَا كَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ فَيَتَوَقَّفُ الْعَمَلُ على بَيَانِ التَّخْصِيصِ وهو إخْرَاجُ الْحَائِضِ وَهَذَا قَوْلُ عبد الْجَبَّارِ وَالسَّادِسُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ في أَقَلِّ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ الْمُتَعَيِّنُ وَلَا يَجُوزُ فِيمَا زَادَ عليه حَكَاهُ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ وابن الْقُشَيْرِيّ وقال إنَّهُ تَحَكُّمٌ وقال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ لَعَلَّهُ قَوْلُ من لَا يُجَوِّزُ التَّخْصِيصَ إلَيْهِ وَحُكِيَ في الْمَنْخُولِ عن أبي هَاشِمٍ أَنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِهِ في وَاحِدٍ وَلَا يَتَمَسَّكُ بِهِ جَمْعًا وَالسَّابِعُ الْوَقْفُ فَلَا نَقُولُ خَاصٌّ أو عَامٌّ إلَّا بِدَلِيلٍ حَكَاهُ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وَجَعَلَهُ مُغَايِرًا لِقَوْلِ عِيسَى بن أَبَانَ وَنُقِلَ عنه أَنَّ الْبَاقِيَ على الْخُصُوصِ
____________________
(2/418)
تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ مَحَلُّ قَوْلِنَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ إنَّمَا هو في الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ أَمَّا الذي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِهِ قَالَهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ في كِتَابِ الْبَيْعِ من تَعْلِيقِهِ وَفِيهِ ما يَدُلُّ على أَنَّ أَبَا عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ قَالَهُ أَيْضًا الثَّانِي حَيْثُ قُلْنَا إنَّهُ مُجْمَلٌ قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هل هو مُجْمَلٌ من حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ الْمُرَادَ من ظَاهِرِهِ إلَّا بِقَرِينَةٍ أو مُجْمَلٌ من حَيْثُ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ وَجْهَانِ قال وَالْأَكْثَرُونَ على الثَّانِي لِأَنَّ افْتِقَارَ الْمُجْمَلِ إلَى الْقَرِينَةِ من جِهَةِ التَّعْرِيفِ بِمَا هو مُرَادٌ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَآتُوا حَقَّهُ يوم حَصَادِهِ وَافْتِقَارُ الْعَامِّ الذي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ إلَى الْقَرِينَةِ من جِهَةِ أَنْ يُعْرَفَ بها ما ليس بِمُرَادٍ بِهِ الثَّالِثُ أَنَّ الْخِلَافَ هُنَا مَبْنِيٌّ على التي قَبْلَهَا فَمَنْ قال إنَّهُ مَجَازٌ لَا يَجُوزُ التَّعَلُّقُ بِهِ وَمَنْ قال إنَّهُ حَقِيقَةٌ جَوَّزَهُ وَأَمَّا من قال إنَّهُ مَجَازٌ ثُمَّ أَجَازَ التَّعَلُّقَ بِهِ يَعْنِي كَالْقَاضِي صَارَ الْخِلَافُ معه لَفْظِيًّا كَذَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ من الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ هذه الْمَسْأَلَةَ مُفَرَّعَةٌ على أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ على أَفْرَادِهِ قَطْعِيَّةٌ أو ظَنِّيَّةٌ فَمَنْ قال قَطْعِيَّةٌ جَعَلَ الذي خُصَّ كَاَلَّذِي لم يُخَصَّ وَإِلَّا فَلَا وَفِيهِ نَظَرٌ وقال غَيْرُهُ يَنْبَنِي على أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ إذَا وَرَدَ هل يَتَنَاوَلُ الْجِنْسَ أو لَا وَتَنْدَرِجُ الْآحَادُ تَحْتَهُ ضَرُورَةَ اشْتِمَالِهِ عليه أو يَتَنَاوَلُ الْآحَادَ وَاحِدًا وَاحِدًا حتى يَسْتَغْرِقَ الْجِنْسَ فَالْمُعْتَزِلَةُ قالوا بِالْأَوَّلِ وهو عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَظْهَرُ عُمُومَهُ فإذا تَخَصَّصَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يُرِدْ الْعُمُومَ وَعِنْدَ إرَادَةِ عَدَمِ الْعُمُومِ ليس بَعْضٌ أَوْلَى من بَعْضٍ فَيَكُونُ مُجْمَلًا
____________________
(2/419)
فَصْلٌ في الْمُخَصِّصِ تَعْرِيفُهُ قد اُخْتُلِفَ فيه على قَوْلَيْنِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ وابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إرَادَةُ الْمُتَكَلِّمِ تَعْرِيفَ بَعْضِ ما يَتَنَاوَلُهُ الْخِطَابُ وَالدَّلِيلُ حَظُّهُ أَنْ يَكْشِفَ عن أَنَّ الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ وَقَعَ بِهِ وَهَذَا ما صَحَّحَهُ ابن بَرْهَانٍ وَفَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ وَغَيْرُهُمَا وَالثَّانِي أَنَّهُ الدَّلِيلُ على الْإِرَادَةِ وقال في الْمَحْصُولِ الْمُخَصِّصُ في الْحَقِيقَةِ هو إرَادَةُ الْمُتَكَلِّمِ لِأَنَّهَا الْمُؤَثِّرَةُ وَتُطْلَقُ على الدَّالِ على الْإِرَادَةِ مَجَازًا وقال أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ الْعَامُّ يَصِيرُ عِنْدَنَا خَاصًّا بِالْأَدِلَّةِ وَيَصِيرُ خَاصًّا في نَفْسِ الْأَمْرِ بِإِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُخَصِّصَ حَقِيقَةٌ هو الْمُتَكَلِّمُ لَكِنْ لَمَّا كان الْمُتَكَلِّمُ يُخَصِّصُ بِالْإِرَادَةِ أُسْنِدَ التَّخْصِيصُ إلَى إرَادَتِهِ فَجُعِلَتْ الْإِرَادَةُ مُخَصِّصَةٌ ثُمَّ جُعِلَ ما دَلَّ على إرَادَتِهِ وهو الدَّلِيلُ اللَّفْظِيُّ أو غَيْرُهُ مُخَصِّصًا في الِاصْطِلَاحِ وَالْمُرَادُ هُنَا إنَّمَا هو الدَّلِيلُ فَنَقُولُ الْمُخَصِّصُ لِلْعَامِّ إمَّا أَنْ يَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ فَهُوَ الْمُنْفَصِلُ وَإِمَّا أَلَا يَسْتَقِلُّ بَلْ يَتَعَلَّقُ مَعْنَاهُ بِاللَّفْظِ الذي قَبْلَهُ فَالْمُتَّصِلُ أَقْسَامُهُ وَقَسَّمَهُ الْجُمْهُورُ إلَى أَرْبَعَةٍ الِاسْتِثْنَاءُ وَالشَّرْطُ وَالصِّفَةُ وَالْغَايَةُ وزاد ابن الْحَاجِبِ وَالْقَرَافِيُّ بَدَلَ الْبَعْضِ من الْكُلِّ وَنَازَعَ الْأَصْفَهَانِيُّ فيه لِأَنَّهُ في نِيَّةِ طَرْحِ ما قَبْلَهُ وقال الْقَرَافِيُّ وقد وَجَدْته بِالِاسْتِقْرَاءِ اثْنَيْ عَشَرَ هذه الْخَمْسَةُ وَسَبْعَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الْحَالُ وَظَرْفُ الزَّمَانِ وَظَرْفُ الْمَكَانِ وَالْمَجْرُورُ وَالتَّمْيِيزُ وَالْمَفْعُولُ معه وَالْمَفْعُولُ لِأَجْلِهِ فَهَذِهِ اثْنَا عَشَرَ ليس فيها وَاحِدٌ يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ وَمَتَى اتَّصَلَ بِمَا يَسْتَقِلُّ
____________________
(2/420)
بِنَفْسِهِ عُمُومًا كان أو غَيْرَهُ صَارَ غير مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ وَيَشْهَدُ لِمَا قال في الْحَالِ حِكَايَةُ سِيبَوَيْهِ عن الْخَلِيلِ أَنَّك إذَا قُلْت مَرَرْت بِالْقَوْمِ خَمْسَتَهُمْ بِالنَّصْبِ كان الْمَعْنَى حَصْرَ الْمَمْرُورِ في خَمْسَةٍ منهم فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَمْرُورُ بِهِ سِتَّةً وإذا رَفَعْت الْخَمْسَةَ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَمْرُورُ بِهِ أَكْثَرَ الْأَوَّلُ الِاسْتِثْنَاءُ وهو لُغَةً بِمَعْنَى الْعَطْفِ وَالْعَوْدِ كَقَوْلِهِمْ ثَنَيْت الْحَبْلَ إذَا عَطَفْت بَعْضَهُ على بَعْضٍ وَقِيلَ بِمَعْنَى الصَّرْفِ وَالصَّدِّ من قَوْلِهِمْ ثَنَيْت فُلَانًا عن رَأْيِهِ وقال ابن فَارِسٍ لِأَنَّهُ قد ثَنَّى ذِكْرَهُ مَرَّةً في الْجُمْلَةِ وَمَرَّةً في التَّفْصِيلِ وَاصْطِلَاحًا الْإِخْرَاجُ بِإِلَّا أو إحْدَى أَخَوَاتِهَا من مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ لِيَخْرُجَ ما لو قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ فقال عليه السَّلَامُ إلَّا زَيْدًا فإنه لَا يُسَمَّى اسْتِثْنَاءً كما قَالَهُ الْقَاضِي وَسَيَأْتِي وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْحُكْمُ بِإِخْرَاجِ الثَّانِي من الْحُكْمِ الْأَوَّلِ بِوَاسِطَةٍ مَوْضُوعَةٍ لِذَلِكَ فَقَوْلُنَا الْحُكْمُ جِنْسٌ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ حُكْمٌ من أَحْكَامِ اللَّفْظِ فَيَشْمَلُ الْمُتَّصِلَ وَالْمُنْقَطِعَ وَخَرَجَ بِالْوَسَائِطِ الْمَوْضُوعَةِ له نَحْوُ قام الْقَوْمُ وَأَسْتَثْنِي زَيْدًا وَخَرَجُوا ولم يَخْرُجْ زَيْدٌ تَنْبِيهٌ الْإِخْرَاجُ إنَّمَا يَأْتِي على قَوْلِ من يَجْعَلُهُ عَامِلًا بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ إذْ الْإِخْرَاجُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ الدُّخُولِ وَأَمَّا على قَوْلِ من يَجْعَلُهُ مَبْنِيًّا فَلَا إخْرَاجَ عنه كما سَنُبَيِّنُهُ وَحَدَّهُ ابن عَمْرُونٍ من النُّحَاةِ بِأَنْ يَنْفِيَ عن الثَّانِي ما يُثْبِتُ لِغَيْرِهِ بِإِلَّا أو كَلِمَةٍ تَقُومُ مَقَامَهَا فَيَشْمَلُ أَنْوَاعَ الِاسْتِثْنَاءِ من مُتَّصِلٍ وَمُنْقَطِعٍ وَمُفْرَدٍ وَجُمْلَةٍ وَتَامٍّ وَمُفَرَّغٍ وَخَرَجَ الْوَصْفُ بِإِلَّا أو غَيْرِهَا وَذَكَرَ ابن الْحَاجِبِ أَنَّ الْمُتَّصِلَ وَالْمُنْقَطِعَ يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ بِحَدٍّ وَاحِدٍ على الْقَوْلِ بِالِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ لِتَغَايُرِ حَقِيقَتِهِمَا إذْ الْأَوَّلُ حَقِيقَةٌ وَالثَّانِي مَجَازٌ وَجَمَعَهُمَا ابن مَالِكٍ في حَدٍّ وَاحِدٍ فقال تَحْقِيقًا أو تَقْدِيرًا وقد يُقَالُ هو في قُوَّةِ حَدَّيْنِ وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في بَابِ الْإِقْرَارِ من النِّهَايَةِ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يُسَمُّونَ تَعْلِيقَ الْأَلْفَاظِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ اسْتِثْنَاءً في مِثْلِ قَوْلِ الْقَائِلِ أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ
____________________
(2/421)
وفي الْمُحِيطِ لِلْحَنَفِيَّةِ يُسَمَّى الِاسْتِثْنَاءُ بِإِلَّا وَأَخَوَاتِهَا اسْتِثْنَاءَ التَّحْصِيلِ وَبِمَشِيئَةِ اللَّهِ اسْتِثْنَاءَ التَّعْطِيلِ قال الْخَفَّافُ الِاسْتِثْنَاءُ ضِدُّ التَّوْكِيدِ يُثْبِتُ الْمَجَازَ وَيُحَقِّقُهُ وَصَرَّحَ النُّحَاةُ بِأَنَّ اللَّفْظَ قبل الِاسْتِثْنَاءِ يَحْتَمِلُ الْمَجَازَ فإذا جاء الِاسْتِثْنَاءُ رُفِعَ الْمَجَازُ وَقَرَّرَهُ فَاللَّفْظُ قبل الِاسْتِثْنَاءِ ظَنِّيٌّ وَبَعْدَهُ قَطْعِيٌّ وَهَذَا مُعَاكِسٌ لِقَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُمْ عَدُّوا الِاسْتِثْنَاءَ من الْمُخَصِّصَاتِ وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْعَامَّ قبل التَّخْصِيصِ قَطْعِيٌّ وَبَعْدَهُ ظَنِّيٌّ قِيلَ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ احْتِمَالَ التَّجَوُّزِ قبل التَّخْصِيصِ ثَابِتٌ وَبَعْدَ التَّخْصِيصِ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُقَرِّرُ الْمَجَازَ في إخْرَاجِ شَيْءٍ وَيُحَقَّقُ أَنَّ الْمُرَادَ ما بَقِيَ تَحْقِيقًا ظَاهِرًا لَا يُخَالِفُ ما لم تَأْتِ قَرِينَةٌ كما قبل الِاسْتِثْنَاءِ إلَّا أَنَّ الْقَرِينَةَ قَبْلَهُ يُشْتَرَطُ فيها الْقُوَّةُ وَهَلْ الْإِخْرَاجُ من الِاسْمِ أو الْحُكْمِ أو مِنْهُمَا أَقْوَالٌ أَصَحُّهَا الثَّالِثُ وهو مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَهَلْ هو إخْرَاجٌ من اللَّفْظِ ما لَوْلَاهُ لَوَجَبَ دُخُولُهُ أو لَجَازَ فيه قَوْلَانِ رَجَّحَ سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ الْأَوَّلَ قال وَإِلَّا لم يَفْتَرِقْ الْحَالُ بين الِاسْتِثْنَاءِ من الْجِنْسِ وَغَيْرِهِ فلما فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَجَعَلَ من الْجِنْسِ حَقِيقَةً وَمِنْ غَيْرِهِ مَجَازًا ثَبَتَ ما قُلْنَاهُ مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ لَا يَصِحُّ إلَّا من مُسْتَثْنًى منه عَامٍّ أو من عَدَدٍ شَائِعٍ فَالْأَوَّلُ نَحْوُ قام الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا قَوْله تَعَالَى فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كلهم أَجْمَعُونَ إلَّا إبْلِيسَ وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا وَلِهَذَا صَحَّ على عَشَرَةٍ إلَّا دِرْهَمًا لِشُيُوعِ الْخَمْسِينَ في مُطْلَقِ الْأَلْفِ وَالْأَلْفُ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ بِزَمَنٍ مَخْصُوصٍ وَشُيُوعُ الْعَشَرَةِ في مُطْلَقِ الْعَدَدِ وَمِثْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً فإن ثَلَاثًا نَكِرَةٌ شَائِعَةٌ تَقَعُ على الطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمُبَاحِ قَالَهُ الْمُوَفَّقُ حَمْزَةُ الْحَمَوِيُّ وَسَنُعِيدُ الْخِلَافَ في الْعَدَدِ مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ من الْجِنْسِ بِلَا خِلَافٍ كَقَامَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا وهو الْمُتَّصِلُ وَمِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ على الْأَصَحِّ وهو الْمُنْقَطِعُ وَيُعَبَّرُ عنه بِالْمُنْفَصِلِ نَحْوُ إلَّا حِمَارًا وَأَفْسَدَ
____________________
(2/422)
تَعْرِيفَ الْمُتَّصِلِ بِقَوْلِنَا ما جَاءَنِي أَحَدٌ إلَّا زَيْدٌ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ زَيْدًا لم يَدْخُلْ تَحْتَ أَحَدٍ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَإِنْ كان من جِنْسِ الْأَوَّلِ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ الْمُتَّصِلُ ما كان اللَّفْظُ الْأَوَّلُ منه يَتَنَاوَلُ الثَّانِيَ نَحْوُ جاء الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا وَالْمُنْقَطِعُ ما لَا يَتَنَاوَلُ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ فيه الثَّانِيَ أو نَقُولُ الْمُتَّصِلُ ما كان الْمُسْتَثْنَى جُزْءًا من الْمُسْتَثْنَى منه وَالْمُنْقَطِعُ ما لَا يَكُونُ قال ابن سِرَاجٍ وَلَا بُدَّ في الْمُنْقَطِعِ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الذي قبل إلَّا قد دَلَّ على ما يُسْتَثْنَى مِمَّا قَبْلَهُ بِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ وَأَوْضَحَهُ ابن مَالِكٍ فقال لَا بُدَّ فيه من تَقْدِيرِ الدُّخُولِ في الْأَوَّلِ كَقَوْلِك قام الْقَوْمُ إلَّا حِمَارًا فإنه بِذِكْرِ الْقَوْمِ يَتَبَادَرُ الذِّهْنُ لِأَتْبَاعِهِمْ الْمَأْلُوفَاتِ فذكر إلَّا حِمَارًا لِذَلِكَ فَهُوَ مُسْتَثْنًى تَقْدِيرًا وَكَذَا قال أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ من غَيْرِ الْجِنْسِ وَلَكِنْ بِشَرْطٍ وهو أَنْ يُتَوَهَّمَ دُخُولُهُ في الْمُسْتَثْنَى منه بِوَجْهٍ ما وَإِلَّا لم يَجُزْ كَقَوْلِهِ وَبَلْدَةٌ ليس بها أَنِيسُ إلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ فَالْيَعَافِيرُ قد تُؤَانِسُ فَكَأَنَّهُ قال ليس بها من يُؤْنَسُ بِهِ إلَّا هذا النَّوْعُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُنْقَطِعَ يَكُونُ مُسْتَثْنًى من مِقْدَارٍ أو من مَفْهُومِ لَفْظٍ لَا من مَنْطُوقِهِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ من غَيْرِ الْجِنْسِ غَالِبًا إذَا تَشَارَكَ الْجِنْسَانِ في مَعْنًى أَعَمَّ كما في السَّلَامِ وَاللَّغْوِ الْمُتَشَارِكَيْنِ في أَصْلِ الْقَوْلِ في قَوْله تَعَالَى لَا يَسْمَعُونَ فيها لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إلَّا قِيلًا سَلَامًا وَقَوْلِهِ ما لهم بِهِ من عِلْمٍ إلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ لِاشْتِرَاكِهِمَا في الرُّجْحَانِ ثُمَّ الْكَلَامُ فيه في مَوَاطِنَ الْأَوَّلُ في أَنَّهُ هل وَقَعَ في اللُّغَةِ فَمِنْهُمْ من أَنْكَرَهُ وَتَأَوَّلَهُ تَأَوُّلًا رَدَّهُ بِهِ إلَى الْجِنْسِ وَحِينَئِذٍ فَلَا خِلَافَ في الْمَعْنَى الثَّانِي أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ وُقُوعَهُ في الْقُرْآنِ وَالصَّوَابُ وُقُوعُهُ قال ابن عَطِيَّةَ لَا يُنْكِرُ وُقُوعَهُ في الْقُرْآنِ إلَّا أَعْجَمِيٌّ الثَّالِثُ اخْتَلَفَ في صِحَّتِهِ في الْمُخَاطَبَاتِ في الْعَادَاتِ وقد اخْتَلَفَتْ طُرُقُ أَصْحَابِنَا فيه فقال الْقَاضِي أبو الْقَاسِمِ بن كَجٍّ في كِتَابِهِ في الْأُصُولِ الِاسْتِثْنَاءُ من غَيْرِ الْجِنْسِ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى جَوَازِهِ وَأَبَى ذلك عَامَّةُ أَصْحَابِنَا فَأَمَّا من جَوَّزَهُ فَقَدْ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قال لو قال له عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا عَبْدًا قُبِلَ منه وَأَيْضًا فإنه وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كلهم أَجْمَعُونَ إلَّا إبْلِيسَ وَدَلِيلُنَا أَنَّ
____________________
(2/423)
الِاسْتِثْنَاءَ شَرْطُهُ أَنْ يُخْرِجَ من دخل تَحْتَ الِاسْمِ غير الْجِنْسِ لم يَدْخُلْ فيه وَالْجَوَابُ عن الْآيَةِ بِأَنَّ إبْلِيسَ دخل تَحْتَ الْأَمْرِ فَرَجَعَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ قد كان أُضْمِرَ فيه وَتَأَوَّلَ قَوْمٌ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّمَا قُبِلَ ثَمَّةَ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى بَيَانِهِ لِأَنَّهُ اقْتَضَى الْإِطْلَاقَ وَالْمَعْنَى إلَّا من ثَمَنِ عَبْدٍ انْتَهَى وَكَذَا قال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ قال وَتَمَسَّكَ الْمُجَوِّزُ بِقَوْلِ الشَّافِعِيُّ في كِتَابِ الْإِقْرَارِ لو قال له عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا عَبْدًا فَقَدْ اسْتَثْنَى الْعَبْدَ من الدَّرَاهِمِ وَلَيْسَ الْعَبْدُ من جِنْسِهَا قال وَهَذَا ليس بِشَيْءٍ لِأَنَّ مَعْنَاهُ إلَّا قِيمَةَ الْعَبْدِ وهو كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا فَدَلَّ على أَنَّهُ أَجْرَاهُ مَجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ من الْجِنْسِ قال وَأَمَّا قَوْلُهُ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كلهم أَجْمَعُونَ إلَّا إبْلِيس مع أَنَّهُ ليس من الْمَلَائِكَةِ فَالْمُرَادُ في قَوْله تَعَالَى وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا أَيْ الْمَلَائِكَةُ وَإِبْلِيسُ فَحُذِفَ فَالِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إلَى الْمُضْمَرِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ في الْأَمْرِ من لم يُذْكَرْ فيه قال وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا على جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ من غَيْرِ الْجِنْسِ بِدَلِيلٍ فَأَمَّا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَلَا وَمِمَّنْ اخْتَارَ الْمَنْعَ من أَصْحَابِنَا إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وابن الْقُشَيْرِيّ عن الْحَنَفِيَّة وَالْأُسْتَاذِ ابْنِ دَاوُد وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عن ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ الْقَطْعُ بِصِحَّتِهِ في الْإِقْرَارِ وَالْخِلَافُ فِيمَا عَدَاهُ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْمَاوَرْدِيِّ قال لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا في صِحَّتِهِ في الْإِقْرَارِ وَاخْتَلَفُوا في غَيْرِ الْإِقْرَارِ على وَجْهَيْنِ وَالثَّالِثَةُ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ على صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ من غَيْرِ الْجِنْسِ قال وَيُعْتَبَرُ فيه الْقِيمَةُ دُونَ الْعَدَدِ في الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ فإذا قال له عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا أَلْفًا جَوَّزَهُ نَظَرًا إلَى قِيمَةِ الْمُسْتَثْنَى فَإِنْ كانت عَشَرَةً فما زَادَ بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ وَإِنْ كانت دُونَهَا صَحَّ وَأَلْزَمَ ما بَقِيَ وَلِهَذَا أَنْكَرَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ الْخِلَافَ فيه وقال لم يَسْتَعْمِلْ اللُّغَوِيُّونَ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في كَوْنِهِ حَقِيقَةً أو مَجَازًا وَكَذَا قال ابن الْقُشَيْرِيّ قال وَحَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا انْطَوَى على التَّعَرُّضِ بِمَا يُنْبِئُ عنه الْمُسْتَثْنَى منه جِنْسًا فَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ الْحَقِيقِيُّ كَقَوْلِك رَأَيْت الناس إلَّا زَيْدًا قال وقد تَرِدُ صِيغَةُ الِاسْتِثْنَاءِ مع اخْتِلَافِ الْجِنْسِ بِلَا خِلَافٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كلهم أَجْمَعُونَ إلَّا إبْلِيسَ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لم يَكُنْ من
____________________
(2/424)
الْمَلَائِكَةِ وقد قال تَعَالَى فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ وما كان لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً وَالْخَطَأُ لَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ قال وَهَذَا لَا خِلَافَ فيه وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في أَنَّهُ هل يُسَمَّى هذا الْجِنْسُ اسْتِثْنَاءً على الْحَقِيقَةِ أو لَا وَالْأَظْهَرُ الْمَنْعُ وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ له عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا فَهُوَ على التَّحْقِيقِ اسْتِثْنَاءُ الشَّيْءِ من جِنْسِهِ لِأَنَّ الْمَعْنَى إلَّا قِيمَةَ ثَوْبٍ وأبو حَنِيفَةَ وَإِنْ أَنْكَرَ هذا فَقَدْ جَوَّزَ اسْتِثْنَاءَ الْمَكِيلِ من الْمَكِيلِ مع اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَاسْتِثْنَاءَ الْمَوْزُونِ من الْهَيْكَلِ ا هـ وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ على أَنَّهُ جَائِزٌ اتِّفَاقًا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في أَنَّهُ هل يُسَمَّى اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً أو مَجَازًا وَعِبَارَةُ بَعْضِهِمْ تَقْتَضِي أَنَّ الْخِلَافَ في الْجَوَازِ وَمِنْهُمْ الْآمِدِيُّ في الْإِحْكَامِ فقال ذَهَبَتْ الْحَنَفِيَّة وَالْمَالِكِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ إلَى صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ من غَيْرِ الْجِنْسِ وَمَنَعَهُ الْأَكْثَرُونَ وَاخْتَارَ التَّوَقُّفَ وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَانِعَ لَا يُسَمَّى ما وَرَدَ من ذلك اسْتِثْنَاءً بَلْ يَجْعَلُ إلَّا بِمَعْنَى لَكِنْ وَسَيَأْتِي في كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ ما يَقْتَضِيه وَحَكَى الْمَازِرِيُّ في التَّعْلِيقَةِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا صِحَّتُهُ وَالِاعْتِدَادُ بِهِ مُطْلَقًا وَعَزَاهُ لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِكٌ وَالثَّانِي عَدَمُ الِاعْتِدَادِ بِهِ وَعَزَاهُ لِمُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ وَالثَّالِثُ إنْ قَدَّرَ بِفَرْدٍ نَحْوُ قَوْلِهِ له عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا مِائَةً مُعَيَّنَةً اعْتَدَّ بِهِ وَيَسْقُطُ مِقْدَارُهُ من الْجُمْلَةِ الْأُولَى وَكَذَلِكَ إذَا قُدِّرَ بِوَزْنٍ أو كَيْلٍ فإن من لَا يُقَدَّرُ بِشَيْءٍ من ذلك لم يُعْتَدَّ بِهِ وَلَزِمَتْ الْجُمْلَةُ الْأُولَى قال وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ حَكَاهُ عنه ابن الْحَكَمِ انْتَهَى وقال ابن الْحَاجِّ في تَعْلِيقِهِ على الْمُسْتَصْفَى الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ مَنَعَهُ قَوْمٌ من جِهَةِ الْغَرَضِ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَأَجَازَهُ الْأَكْثَرُونَ من جِهَةِ وُجُودِهِ في كَلَامِ الْعَرَبِ وَالْمُجَوِّزُونَ لم يَقْدِرُوا أَنْ يَدْفَعُوا وُجُودَهُ في كَلَامِ الْعَرَبِ وَالْمَانِعُونَ لم يَقْطَعُوا الْجِهَةَ التي يَصِحُّ بها الْمُنْقَطِعُ على وَضْعِ الِاسْتِثْنَاءِ قال وقد حَلَّ هذا الشَّكَّ الْقَاضِي أبو الْوَلِيدِ بن رُشْدٍ فقال إنَّ من عَادَةِ الْعَرَبِ إبْدَالَ الْجُزْئِيِّ مَكَانَ الْكُلِّيِّ كما يُبْدَلُ الْكُلِّيُّ مَكَانَ الْجُزْئِيِّ اتِّكَالًا على الْقَرَائِنِ وَالْعُرْفِ مَثَلًا إذَا قال ما في الدَّارِ رَجُلٌ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تُفْهِمُ ما سِوَاهُ
____________________
(2/425)
فَلِذَلِكَ يُسْتَثْنَى وَيَقُولُ إلَّا امْرَأَةً وَعَلَى هذا الْوَجْهِ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ كُلُّهُ مُتَّصِلًا إلَّا أَنَّ الِاتِّصَالَ منه في اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَمِنْهُ في الْمَعْنَى خَاصَّةٌ قال وإذا تَصَفَّحَ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ وُجِدَ على ما قَالَهُ وقد انْفَرَدَ بِحَلِّ هذا الشَّكِّ قال ابن الْخَشَّابِ النَّحْوِيُّ في كِتَابِ الْعَوْنِيِّ أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ الِاسْتِثْنَاءَ من غَيْرِ الْجِنْسِ وَتَأَوَّلُوا تَأَوُّلًا بِهِ إلَى الذي من الْجِنْسِ وَحِينَئِذٍ فَلَا خِلَافَ قال لَكِنَّ النُّحَاةَ قَدَّرُوهُ بِلَكِنَّ وهو غَيْرُ مُشَابِهٍ لِمَا اخْتَلَفَ فيه الْفُقَهَاءُ بَلْ الذي أَجَازَهُ الْفُقَهَاءُ يَنْبَغِي الْقَطْعُ بِامْتِنَاعِهِ فَإِنَّهُمْ مَثَّلُوهُ بِنَحْوِ له عَشَرَةٌ إلَّا ثَوْبًا وَهَذَا فَاسِدٌ من جِهَةِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى أَمَّا اللَّفْظُ فإن اللُّغَةَ لَا تَسْتَعْمِلُ هذا الضَّرْبَ من الِاسْتِثْنَاءِ في الْمُثْبَتِ إنَّمَا تَسْتَعْمِلُهُ في الْمَنْفِيِّ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَمُسْتَحِيلٌ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ في الْأَصْلِ إنَّمَا جِيءَ بِهِ مُقَابِلًا لِلتَّأْكِيدِ فَإِنَّمَا قُلْت جاء الْقَوْمُ كلهم إلَّا زَيْدًا حَقَّقْت بِالِاسْتِثْنَاءِ الْإِشْكَالَ في عُمُومِ الْمَجِيءِ لهم وَأَنَّهُ لم يَتَخَلَّفْ منهم من لم يَجِئْ فإذا قُلْت جاء الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا حَقَّقْت بِالِاسْتِثْنَاءِ الْبَعْضَ لهم وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَصَوُّرُهُ في له عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا ثَوْبًا فَإِنْ قال الْمَعْنَى إلَّا ثَوْبًا وَأَكْثَرَ لَزِمَهُ الْعَشَرَةُ فَأَيْنَ الِاسْتِثْنَاءُ من غَيْرِ الْجِنْسِ قُلْت وَقَوْلُهُ في الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ في الْإِثْبَاتِ مَمْنُوعٌ بَلْ جُمْهُورُ النَّحْوِيِّينَ سَوَّغُوهُ فيه الرَّابِعُ الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ اخْتَلَفُوا في تَسْمِيَتِهِ اسْتِثْنَاءً على مَذَاهِبَ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ يُسَمَّى اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَنَقَلَهُ ابن الْخَبَّازِ عن ابْنِ جِنِّي وقال الْإِمَامُ هو ظَاهِرٌ من كَلَامِ النَّحْوِيِّينَ وَعَلَى هذا فَإِطْلَاقُ الِاسْتِثْنَاءِ على الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْقَطِعِ هل هو بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ أو الْمَعْنَوِيِّ قَوْلَانِ وَالثَّانِي أَنَّهُ مَجَازٌ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ منهم الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ وابن الْأَنْبَارِيِّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ وَسُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وابن الْقُشَيْرِيّ لِأَنَّهُ ليس فيه مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ وَلَيْسَ في اللُّغَةِ ما يَدُلُّ على تَسْمِيَتِهِ وَاخْتَارَهُ الرُّمَّانِيُّ من النَّحْوِيِّينَ في شَرْحِ الْمُوجَزِ وقال ابن أبي الرَّبِيعِ في شَرْحِ الْإِيضَاحِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الناس إلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَّصِلَ هو الْأَصْلُ وَالْمُنْقَطِعَ اتِّسَاعٌ وَمِنْهُمْ من قال كِلَاهُمَا أَصْلٌ انْتَهَى وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى اسْتِثْنَاءً لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا حَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَالْمَازِرِيُّ وَحَكَى الْقَاضِي قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ بِمَعْنَى كَلَامٍ مُبْدَأٍ مُسْتَأْنَفٍ وقال قَوْلُ من قال مُنْقَطِعٌ حَقِيقَةً وَمَنْ قال كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ وَاحِدٌ في الْمَعْنَى
____________________
(2/426)
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَةُ ثُمَّ قال الْقَاضِي وَالْمَازِرِيُّ الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ قُلْت بَلْ هو مَعْنَوِيٌّ فإن من جَعَلَهُ حَقِيقَةً جَوَّزَ التَّخْصِيصَ بِهِ وَإِلَّا فَلَا وَأَيْضًا هو مَبْنِيٌّ على أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ ما لَوْلَاهُ لَوَجَبَ دُخُولُهُ أو لَجَازَ دُخُولُهُ وَاحْتَجَّ في الْمَحْصُولِ على أَنَّهُ ليس بِحَقِيقَةٍ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ من اللَّفْظِ إذْ لم يَتَنَاوَلْهُ اللَّفْظُ فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى صَارِفٍ عنه وَلَا من الْمَعْنَى وَإِلَّا صَحَّ اسْتِثْنَاءُ كل شَيْءٍ من كل شَيْءٍ لِوُجُوبِ اشْتَرَاكِ كل شَيْئَيْنِ في مَعْنًى لو حُمِلَ اللَّفْظُ عليه جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ منه وَحَكَى ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ الْخِلَافَ على نَمَطٍ آخَرَ فقال اخْتَلَفُوا في الِاسْتِثْنَاءِ من غَيْرِ الْجِنْسِ على ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ وَأَحَدُهَا أَنَّهُ مَمْنُوعٌ من طَرِيقِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وهو قَوْلُ كَثِيرٍ من أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجَعَلُوهُ لَغْوًا وَالثَّانِي يَجُوزُ لَفْظًا وَمَعْنًى الثَّالِثُ يَصِحُّ من طَرِيقِ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ قال وهو الْأَوْلَى بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وهو قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ من الْأَصْحَابِ وَلِهَذَا لو قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارًا أو مِائَةُ دِينَارٍ إلَّا ثَوْبًا يَكُونُ مُثْبِتًا لِلدِّينَارِ وَالثَّوْبِ بِالتَّقْدِيرِ قال وَأَمَّا إذَا اسْتَثْنَى من زَيْدٍ وَجْهَهُ أو من الدَّارِ بَابَهَا فَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ في أَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ الشَّيْءِ من جِنْسِهِ أو من غَيْرِ جِنْسِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ من جِنْسِهِ لِأَنَّ وَجْهَ زَيْدٍ جُزْءٌ منه انْتَهَى قِيلَ وَهَذَا الْخِلَافُ غَرِيبٌ وقد جَزَمَ الْأَصْحَابُ بِدُخُولِ بَابِ الدَّارِ في بَيْعِهَا ولم يَحْكُوا خِلَافًا قُلْت يُؤْخَذُ من الْمُسْتَصْفَى الْخِلَافُ فإنه جَزَمَ بِأَنَّهُ من غَيْرِ الْجِنْسِ وَشَرَطَ هو قبل ذلك كَوْنَهُ من الْجِنْسِ قال لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ لَا يَنْطَلِقُ على الْبَابِ وَلَا اسْمُ زَيْدٍ على وَجْهِهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ مِائَةُ ثَوْبٍ إلَّا ثَوْبًا قال وَعَلَى هذا قال قَوْمٌ ليس من شَرْطِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ من الْجِنْسِ وَشَرَطَ هو قبل ذلك كَوْنَهُ من الْجِنْسِ فَجَاءَ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ وَيَجِيءُ على الثَّانِي قَوْلُهُ عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمًا فَمِنْهُمْ من أَلْحَقَهُ بِقَوْلِك رَأَيْت زَيْدًا إلَّا يَدَهُ وَمِنْهُمْ من أَلْحَقَهُ بِاسْمِ الْجُمْلَةِ وهو قَوْلُهُ اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إلَّا أَهْلَ الذِّمَّةِ أو إلَّا زَيْدًا وهو الْأَشْبَهُ فيه وَأَمَّا الْخِلَافُ الْأَوَّلُ فَذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي إذْ قال فَإِنْ عَادَ إلَى غَيْرِ
____________________
(2/427)
جِنْسِهِ صَحَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ في الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ وَأَجَازَهُ قَوْمٌ في اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَأَبْطَلَهُ قَوْمٌ فِيهِمَا وقال الطَّبَرِيُّ في الْعُدَّةِ في بَابِ الْإِقْرَارِ إذَا جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ من غَيْرِ الْجِنْسِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هل هو اسْتِثْنَاءٌ من الْمَعْنَى أو من اللَّفْظِ على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا من الْمَعْنَى فإذا قال له عَلَيَّ مِائَةُ دِينَارٍ إلَّا مِائَةَ دِرْهَمٍ فَكَأَنَّهُ اسْتَثْنَى من قِيمَةِ الدَّنَانِيرِ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَالثَّانِي من اللَّفْظِ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَشْهَدُ لِهَذَا انْتَهَى تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ قال ابن فُورَكٍ في كِتَابِهِ في الْأُصُولِ ليس الْمُرَادُ بِالْجِنْسِ هُنَا ما اصْطَلَحَ عليه الْمُتَكَلِّمُونَ فإن الْجَوَاهِرَ كُلَّهَا عِنْدَهُمْ مُتَجَانِسَةٌ بَلْ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِجِنْسٍ يُسْتَثْنَى منه بِلَفْظٍ لم يُوضَعْ لِذَلِكَ الْجِنْسِ نَحْوُ مَالِي ابْنٌ إلَّا بِنْتٌ فإن لَفْظَ الِابْنِ غَيْرُ جِنْسِ لَفْظِ الْبِنْتِ وقال السُّهْرَوَرْدِيّ لَا نَعْنِي بِالْجِنْسِ هُنَا الْمَنْطِقِيَّ فإن الثَّوْرَ مُجَانِسٌ لِلْإِنْسَانِ وَمُشَارِكٌ له في الْجِنْسِ الْأَقْرَبِ بَلْ نَعْنِي بِهِ غير الْمُشَارِكِ في الدُّخُولِ تَحْتَ الْمَحْكُومِ عليه قال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ الْأَصْلُ كَوْنُهُ من جِنْسِهِ وَمَعْنَى الْمُجَانِسَةِ أَنْ لَا يُقْصَرَ الْمُسْتَثْنَى منه في الْمُسْتَثْنَى في الْفِعْلِ الذي وَرَدَ عليه الِاسْتِثْنَاءُ سَوَاءٌ كان رَاجِحًا عليه أو لَا وَكَذَلِكَ قال مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لو قال إنْ كان في الدَّارِ إلَّا رَجُلٌ فَعَبْدِي حُرٌّ فَكَانَ في الدَّارِ شَاةٌ لَا يَحْنَثُ لِقُصُورِ الشَّاةِ على الْآدَمِيِّ في الْكَيْنُونَةِ في الدَّارِ لِأَنَّ كَيْنُونَةَ الْآدَمِيِّ في الدَّارِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَالِاخْتِيَارِ وَكَيْنُونَةَ الشَّاةِ بِطَرِيقِ الْقَصْرِ وَالتَّبَعِيَّةِ وَلَوْ قال إنْ كان في الدَّارِ إلَّا شَاةً فَعَبْدُهُ حُرٌّ فَكَانَ فيها آدَمِيٌّ حَنِثَ لِقُصُورِ الشَّاةِ عن الْآدَمِيِّ في الْكَيْنُونَةِ الثَّانِي ما ذَكَرْنَاهُ من كَوْنِهِ الِاسْتِثْنَاءَ مُخَصِّصًا يَشْمَلُ الْمُتَّصِلَ وَالْمُنْقَطِعَ وقال بَعْضُهُمْ الِاسْتِثْنَاءُ من غَيْرِ الْجِنْسِ لَا تَخْصِيصَ فيه وَلَا بَيَانَ لِأَنَّهُ لَا يُخْرِجُ من الْمُسْتَثْنَى شيئا وَإِنَّمَا هو جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ فَإِنْ زَعَمَ الْخَصْمُ أَنَّهُ يُخَصَّصُ بِهِ وَأَنَّهُ مع الْمُسْتَثْنَى جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ فَذَلِكَ اعْتِرَافٌ منه بِأَنَّهُ من الْجِنْسِ لَا من غَيْرِهِ وهو الْمَطْلُوبُ
____________________
(2/428)
وقال ابن عَطِيَّةَ في تَفْسِيرِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ يُخَصَّصُ تَخْصِيصًا ما وَلَيْسَ كَالْمُتَّصِلِ لِأَنَّ الْمُتَّصِلَ يُخَصِّصُ من الْجِنْسِ أو الْجُمْلَةِ وَالْمُنْقَطِعَ يُخَصِّصُ أَجْنَبِيًّا من ذلك قُلْت وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُتَّصِلَ يُخَصِّصُ الْمَنْطُوقَ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى منه وَأَمَّا الْمُنْقَطِعُ فَيُخَصِّصُ الْمَفْهُومَ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى منه فإذا قِيلَ قام الْقَوْمُ إلَّا حِمَارًا فَقِيلَ وُرُودُ الِاسْتِثْنَاءِ كان يُفْهَمُ أَنَّهُ لم يَقُمْ غَيْرُهُمْ فَالِاسْتِثْنَاءُ حِينَئِذٍ من الْمَفْهُومِ الْمُقَدَّرِ وَحِينَئِذٍ فَإِنَّمَا يَصِحُّ جَعْلُهُ مُخَصَّصًا إذَا جَعَلْنَا لِلْمَفْهُومِ عُمُومًا مَسْأَلَةٌ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ شُرُوطٌ أَحَدُهَا الِاتِّصَالُ بِالْمُسْتَثْنَى منه لَفْظًا بِأَنْ يُعَدَّ الْكَلَامُ وَاحِدًا غير مُنْقَطِعٍ نَحْوُ له عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمًا أو حُكْمًا بِأَنْ يَكُونَ انْفِصَالُهُ وَتَأَخُّرُهُ على وَجْهٍ لَا يَدُلُّ على أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ قد اسْتَوْفَى غَرَضَهُ من الْكَلَامِ كَالسُّكُوتِ لِانْقِطَاعِ نَفْسٍ أو بَلْعِ رِيقٍ فَإِنْ انْفَصَلَ لَا على هذا الْوَجْهِ لَغَا وَنُقِلَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَوَّزَ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْفَصِلَ على نَحْوِ ما جَوَّزَهُ من تَأْخِيرِ التَّخْصِيصِ عن الْعُمُومِ وَالْبَيَانِ عن الْمُجْمَلِ ثُمَّ اخْتَلَفَ عنه فَقِيلَ إلَى شَهْرٍ وَقِيلَ إلَى سَنَةٍ وَقِيلَ أَبَدًا ثُمَّ منهم من رَدَّهُ وقال لم يَصِحَّ عنه كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ بِمَا يَلْزَمُ منه من ارْتِفَاعِ الثِّقَةِ بِالْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ لِإِمْكَانِ تَرَاخِي الِاسْتِثْنَاءِ وَيَلْزَمُ منه أَنْ لَا يَصِحَّ يَمِينٌ قَطُّ وَمِنْهُمْ من أَوَّلَهُ كَالْقَاضِي أبي بَكْرٍ بِمَا إذَا نَوَى الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ ثُمَّ أَظْهَرَ نِيَّتَهُ بَعْدَهُ فإنه يُدَيَّنُ وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ ما يُدَيَّنُ فيه الْعَبْدُ يُقْبَلُ ظَاهِرًا وَقِيلَ يَجُوزُ بِشَرْطٍ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ قَوْلِهِ إلَّا زَيْدًا أُرِيدَ الِاسْتِثْنَاءُ حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ وَقِيلَ أَرَادَ بِهِ اسْتِثْنَاءَاتِ الْقُرْآنِ فَيَجُوزُ في كَلَامِ اللَّهِ خَاصَّةً وقد قال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إنَّ التَّأْخِيرَ فيه غَيْرُ قَادِحٍ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ خَيَالٌ تَخَيَّلُوهُ من قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ الصَّائِرِينَ إلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْأَزَلِيَّ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا
____________________
(2/429)
التَّرْكِيبُ في جِهَاتِ الْوُصُولِ لِلْمُخَاطَبِينَ لَا في كَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وقال الْمُقْتَرِحُ هو بَاطِلٌ لِأَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالنَّفْسِ فَلَا يَدْخُلُهُ الِاسْتِثْنَاءُ وَكَذَلِكَ الْمُثْبَتُ في اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَالْعَرَبُ لَا تُجَوِّزُ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْفَصِلَ وقال الْقَرَافِيُّ الْمَنْقُولُ عن ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّمَا هو في التَّعْلِيقِ على مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً كَمَنْ حَلَفَ وقال إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَيْسَ هو في الْإِخْرَاجِ بِإِلَّا وَأَخَوَاتِهَا قال وَنَقَلَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مُدْرِكَهُ في ذلك وَلَا تَقَوَّلْنَ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذلك غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ قالوا الْمَعْنَى إذَا نَسِيتَ قَوْلَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقُلْ بَعْدَ ذلك ولم يُخَصِّصْ قُلْت وفي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ عن ابْنِ عَبَّاسٍ قال إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ على يَمِينٍ فَلَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ إلَى سَنَةٍ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هذه الْآيَةُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ قال إذَا ذَكَرَ اسْتَثْنَى وقال صَحِيحٌ على شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ لَكِنْ قال الْحَافِظُ أبو مُوسَى الْمَدِينِيُّ لو صَحَّ هذا عِنْدَهُ لَاحْتَمَلَ رُجُوعَهُ إذْ عُلِمَ أَنَّ ذلك خَاصٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ثُمَّ أَسْنَدَ ذلك من جِهَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وقد ذُكِرَتْ طُرُقُهُ عن ابْنِ عَبَّاسٍ في الْمُعْتَبَرِ في تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْمِنْهَاجِ وَالْمُخْتَصَرِ وَحَكَى ابن النَّجَّارِ في تَارِيخِ بَغْدَادَ أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ أَرَادَ الْخُرُوجَ مَرَّةً من بَغْدَادَ فَاجْتَازَ في بَعْضِ الطُّرُقِ وإذا بِرَجُلٍ على رَأْسِ سَلَّةٍ فيها بَقْلٌ وهو يُحْمَلُ على ثِيَابِهِ وهو يقول لِآخَرَ معه مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ في الِاسْتِثْنَاءِ غَيْرُ صَحِيحٍ إذْ لو كان صَحِيحًا لَمَا قال تَعَالَى لِأَيُّوبَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَخُذْ بِيَدِك ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ بَلْ كان يقول له اسْتَثْنِ وَلَا حَاجَةَ إلَى هذا التَّحَيُّلِ في الْبِرِّ قال فقال أبو إِسْحَاقَ بَلْدَةٌ فيها رَجُلٌ يَحْمِلُ الْبَقْلَ وهو يَرُدُّ على ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تَسْتَحِقُّ أَنْ تَخْرُجَ منها وَمِثْلُهُ احْتِجَاجُ بَعْضِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ فَلَوْ جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ من غَيْرِ شَرْطِ الِاتِّصَالِ لم يَكُنْ لِشَرْعِ الْكَفَّارَةِ وَإِيجَابِهَا مَعْنًى لِأَنَّهُ كان يُسْتَثْنَى وقد حُكِيَ أَنَّ الرَّشِيدَ اسْتَدْعَى أَبَا يُوسُفَ الْقَاضِيَ وقال له كَيْفَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ في الِاسْتِثْنَاءِ فقال له أبو يُوسُفَ إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْفَصِلَ يَلْحَقُ بِالْخِطَابِ وَيُغَيِّرُ حُكْمَهُ وَلَوْ بَعْدَ زَمَانٍ فقال عَزَمَتْ عَلَيْك أَنْ تُفْتِيَ بِهِ وَلَا تُخَالِفَهُ وكان أبو يُوسُفَ
____________________
(2/430)
لَطِيفًا فِيمَا يُورِدُهُ مُتَأَنِّيًا فِيمَا يُرِيدُهُ فقال له رَأْيُ ابن عَبَّاسٍ يُفْسِدُ عَلَيْك بَيْعَتَك لِأَنَّ من حَلَفَ لَك وَبَايَعَك رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ وَاسْتَثْنَى فَانْتَبَهَ الرَّشِيدُ وقال إيَّاكَ أَنْ تُعَرِّفَ الناس مَذْهَبَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَاكْتُمْهُ وقال ابن ظَفَرَ في الْيَنْبُوعِ إذَا حَقَّقْت هذه الْمَسْأَلَةَ ضَعُفَ أَمْرُ الْخِلَافِ فيها وَتَحْقِيقُهَا أَنَّهُ لَا يَخْلُو الْحَالِفُ التَّارِكُ لِلِاسْتِثْنَاءِ من أَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى الْجَزْمَ وَتَرَكَ الِاسْتِثْنَاءَ فما أَظُنُّ الْخِلَافَ يَقَعُ في مِثْلِ هذا أو يَكُونُ نَوَى أَنْ يَسْتَثْنِيَ ولم يَنْطِقْ بِالِاسْتِثْنَاءِ ثُمَّ ذَكَرَ فَتَلَفَّظَ بِهِ فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُعَدَّ اسْتِثْنَاؤُهُ لَغْوًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَاهِلًا عن الْأَمْرَيْنِ مَعًا فَهَذِهِ الصُّورَةُ صَالِحَةٌ لِلِاخْتِلَافِ وَلَا يَظْهَرُ فيها قَوْلُ من صَحَّحَ الِاسْتِثْنَاءَ لِأَنَّ الْآيَةَ لَا تَشْهَدُ له من حَيْثُ إنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لم يَحْلِفْ وَلَا تَضَمَّنَتْ الْآيَةُ ذِكْرَ يَمِينٍ انْتَهَى وَاعْلَمْ أَنَّ سَبَبَ الْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هل هو حَالٌ لِلْيَمِينِ بَعْدَ انْعِقَادِهَا أو مَانِعٌ من الِانْعِقَادِ لَا حَالٌ فَمَنْ قال مَانِعٌ شَرَطَ الِاتِّصَالَ وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ حَالٌ فَقِيلَ بِالْقُرْبِ وَقِيلَ مُطْلَقًا من غَيْرِ تَأْقِيتٍ بِالْقُرْبِ وفي الْبَابِ قَوْلُهُ عليه السَّلَامُ إلَّا الْإِذْخِرَ وَحَدِيثُ سُلَيْمَانَ لَمَّا قال لَأَطُوفَنَّ الحديث وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ في صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ إلَّا سَهْلَ بن بَيْضَاءَ
____________________
(2/431)
الشَّرْطُ الثَّانِي عَدَمُ الِاسْتِغْرَاقِ وَإِلَّا لَتَنَاقَضَ فَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُسْتَغْرِقُ بَاطِلٌ وَيَبْقَى أَصْلُ الْكَلَامِ على حَالِهِ حَكَوْا فيه الْإِجْمَاعَ وفي هذا الْإِطْلَاقِ وَالنَّقْلِ نِزَاعٌ في الْمَذَاهِبِ أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ رَأَيْت في كِتَابِ الْمَدْخَلِ لِابْنِ طَلْحَةَ من الْمَالِكِيَّةِ حِكَايَةَ قَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ في أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا وقد حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ أَيْضًا عنه وَنَقَلَ اللَّخْمِيُّ من الْمَالِكِيَّةِ عن بَعْضِهِمْ في أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إلَّا وَاحِدَةً لَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ لِأَنَّ النَّدَمَ مُنْتَفٍ بِإِمْكَانِ الرَّجْعَةِ بِخِلَافِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا لِظُهُورِ النَّدَمِ وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَيَّدُوا الْبُطْلَانَ بِمَا إذَا كان الِاسْتِثْنَاءُ بِعَيْنِ ذلك اللَّفْظِ نَحْوُ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا نِسَائِي أو أَوْصَيْت بِثُلُثِ مَالِي إلَّا ثُلُثَ مَالِي فَإِنْ كان بِغَيْرِهِ صَحَّ وَإِنْ كان مُسْتَغْرَقًا في الْوَاقِعِ نَحْوُ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا هَؤُلَاءِ وَأَشَارَ إلَيْهِنَّ وَأَوْصَيْت له بِثُلُثِ مَالِي إلَّا أَلْفَ دِرْهَمٍ وهو ثُلُثُ مَالِهِ كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ في الْبَابِ الْأَوَّلِ من الزِّيَادَاتِ وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَصَرُّفٌ لَفْظِيٌّ مَبْنِيٌّ على صِحَّةِ اللَّفْظِ لَا على صِحَّةِ الْحُكْمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو قال أَنْتِ طَالِقٌ عَشْرَ طَلَقَاتٍ إلَّا ثَمَانِيَ طَلْقَاتٍ تَقَعُ طَلْقَتَانِ وَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَإِنْ كانت الْعَشَرَةُ لَا صِحَّةَ لها من حَيْثُ الْحُكْمِ وَمَعَ هذا لَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ قال أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَيُلْغَى ما بَعْدَهُ من الِاسْتِثْنَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ تَتْبَعُ صِحَّةَ اللَّفْظِ دُونَ الْحُكْمِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَتَى وَقَعَ بِغَيْرِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ فَهُوَ يَصْلُحُ لِإِخْرَاجِ ما تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لِعَدَمِ مِلْكِهِ لَا لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إلَى ذَاتِ اللَّفْظِ وَمُتَصَوَّرٌ أَنْ يَدْخُلَ في مِلْكِهِ أَكْثَرُ من هذه النِّسْوَةِ بِخِلَافِ ما إذَا وَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ بِعَيْنِ ذلك اللَّفْظِ فإنه لَا يَصْلُحُ لِإِخْرَاجِ بَعْضِ ما تَنَاوَلَهُ فلم يَصِحَّ اللَّفْظُ فلم يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَأَمَّا عِنْدَنَا أَيْ الشَّافِعِيَّةِ فَهَذَا ما لم يُعَقِّبْهُ بِاسْتِثْنَاءٍ آخَرَ فَلَوْ عَقَّبَهُ بِاسْتِثْنَاءٍ آخَرَ نَحْوُ له عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا عَشَرَةً إلَّا ثَلَاثَةً فَقِيلَ يَلْزَمُهُ عَشَرَةٌ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ لم يَصِحَّ فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ منه وَقِيلَ يَلْزَمُهُ ثَلَاثَةٌ وَقِيلَ سَبْعَةٌ وَالْأَوَّلُ لَا يَصِحُّ وَسَقَطَ من الْبَيْنِ وَأَمَّا إذَا كان زَائِدًا على الْمُسْتَثْنَى منه فَالْمَنْعُ منه أَوْلَى وَعَنْ الْفَرَّاءِ جَوَازُهُ في الْمُنْقَطِعِ نَحْوُ له عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا أَلْفَيْنِ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى من الْمَفْهُومِ وفي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ إنَّمَا لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ من الْكُلِّ لَفْظًا كما لو قال أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا أَمَّا حَالًا وَحُكْمًا فَيَصِحُّ كَقَوْلِهِ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا فُلَانَةَ وَفُلَانَةَ وَفُلَانَةَ وَلَيْسَ له امْرَأَةٌ سِوَاهُنَّ فَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا تَطْلُقُ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ أَرْبَعًا إلَّا ثَلَاثَةً صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَتَقَعُ وَاحِدَةٌ
____________________
(2/432)
ثُمَّ إمَّا أَنْ يُسْتَثْنَى الْأَقَلُّ أو الْأَكْثَرُ أو الْمُسَاوِي أَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْقَلِيلِ من الْكَثِيرِ فَجَائِزٌ وَحَكَى بَعْضُهُمْ فيه الْإِجْمَاعَ وقال الْمَازِرِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ إنْ كان ليس بِوَاحِدٍ فَلَا خِلَافَ في جَوَازِهِ نَحْوُ له عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا حَبَّةً أو إلَّا سُدُسًا وَإِنْ كان جُزْءًا صَحِيحًا كَالْوَاحِدِ وَالثُّلُثِ فَالْمَشْهُورُ جَوَازُهُ وَمِنْهُمْ من اسْتَهْجَنَهُ وقال الْأَحْسَنُ في الْخِطَابِ أَنْ يَقُولَ له عِنْدِي تِسْعَةٌ وَلَا يقول عَشَرَةٌ إلَّا وَاحِدًا وقال في شَرْحِ التَّلْقِينِ عن قَوْمٍ إنَّهُمْ شَذُّوا فَقَالُوا لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ إلَيْهِ كَاسْتِثْنَاءِ الْكُسُورِ كَقَوْلِهِ له عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا رُبْعَ دِرْهَمٍ أو إلَّا نِصْفَ دِرْهَمٍ وَقَالُوا قَوْلُك مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا عَشَرَةً يَعْنِي له عِنْدِي تِسْعُونَ فَنُقِضَ عليهم بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا وفي هذا اسْتِثْنَاءُ الْأَقَلِّ من الْأَكْثَرِ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ كَسْرًا في الْعَدَدِ فَأَجَابُوا بِأَنَّهُ في مَعْنَى الْكَسْرِ لِأَنَّ التَّجْزِئَةَ الْمُقْتَرَحَةَ من النِّصْفِ إلَى الْعُشْرِ وَهَذَا كَالْكَسْرِ لِأَنَّ الْخَمْسِينَ من الْأَلْفِ كَنِصْفِ الْعُشْرِ فَصَارَ في مَعْنَى اسْتِثْنَاءِ الْكَسْرِ وَهَذَا مَرْدُودٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَتَكَلُّفٌ فيه لَا حَاجَةَ إلَيْهِ وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلنُّحَاةِ أَحَدُهُمَا يَمْتَنِعُ وَعَلَيْهِ الزَّجَّاجُ وقال ولم تَرِدْ بِهِ اللُّغَةُ وَلِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا نَقَصَ يَسِيرًا لم يَزُلْ عنه اسْمُ ذلك الشَّيْءِ فَلَوْ اسْتَثْنَى أَكْثَرَ لَزَالَ الِاسْمُ وقال ابن جِنِّي لو قال له عِنْدِي مِائَةٌ إلَّا سَبْعَةً وَتِسْعِينَ ما كان مُتَكَلِّمًا بِالْعَرَبِيَّةِ وكان عَبَثًا من الْقَوْلِ وقال ابن قُتَيْبَةَ في كِتَاب الْمَسَائِلِ لَا يَجْرِي في اللُّغَةِ لِأَنَّ تَأْسِيسَ الِاسْتِثْنَاءِ على تَدَارُكِ قَلِيلٍ من كَثِيرٍ أَغْفَلْتَهُ أو نَسِيتَهُ لِقِلَّتِهِ ثُمَّ تَدَارَكْته بِالِاسْتِثْنَاءِ وَلِأَنَّ الشَّيْءَ قد يَنْقُصُ نُقْصَانًا يَسِيرًا فَلَا يَزُولُ عنه اسْمُ الشَّيْءِ وَأَمَّا مع الْكَثْرَةِ فَيَزُولُ وقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ إنَّهُ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ من النُّحَاةِ وَأَجَازَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْكُوفَةِ منهم وَأَجَازَهُ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ نَحْوُ له عِنْدِي عَشَرَةٌ إلَّا تِسْعَةً فَيَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وهو قَوْلُ السِّيرَافِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ من النُّحَاةِ مُحْتَجِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّ عِبَادِي ليس لَك عليهم سُلْطَانٌ إلَّا من اتَّبَعَك من الْغَاوِينَ وَالْمُتَّبِعُونَ له هُمْ الْأَكْثَرُ بِدَلِيلِ وَقَلِيلٌ من عِبَادِي الشَّكُورُ
____________________
(2/433)
وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ وَالْعِبَادَ الْمُضَافِينَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى هُمْ الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لِتَشْرِيفِ الْمُضَافِ لَكِنَّهُ يَدْخُلُ الْغَاوُونَ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى منه لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ وَالثَّانِي أَنَّهُ مُتَّصِلٌ وَقَوْلُهُ إلَّا من اتَّبَعَكَ من الْغَاوِينَ أَقَلُّ من الْمُسْتَثْنَى منه لِأَنَّ قَوْلَهُ يَتَنَاوَلُ الْمَلَكَ وَالْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَكُلُّ الْغَاوِينَ أَقَلُّ من الْمَلَائِكَةِ وفي الحديث الْمَلَائِكَةُ يَطُوفُونَ بِالْمَحْشَرِ سَبْعَةَ أَدْوَارٍ وَذَلِكَ أَعْظَمُ من في الْمَحْشَرِ وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الْقَاطِعُ في هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَى الْغَاوِينَ من الْمُخْلَصِينَ في هذه الْآيَةِ وَاسْتَثْنَى الْمُخْلَصِينَ من الْغَاوِينَ في قَوْلِهِ حِكَايَةً عن إبْلِيسَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلَّا عِبَادَك منهم الْمُخْلَصِينَ فَلَوْ كان الْمُسْتَثْنَى أَقَلَّ من الْمُسْتَثْنَى منه لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ من الْغَاوِينَ وَالْمُخْلَصِينَ أَقَلَّ من الْآخَرِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ منهم عَائِدٌ لِبَنِي آدَمَ وَالْمُخْلَصُ منهم قَلِيلٌ وَانْفَصَلَ بَعْضُهُمْ عنه فقال الْمُخْلَصُونَ هُنَا هُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ وَسُكَّانُ السَّمَوَاتِ وَهُمْ أَكْثَرُ من الْغَاوِينَ فَيَكُونُ من بَابِ اسْتِثْنَاءِ الْأَقَلِّ من الْأَكْثَرِ وَذَكَرَ الْمَازِرِيُّ وَجْهًا آخَرَ وهو أَنَّهُ إذَا لم يَعْلَمْ السَّامِعُ الْأَقَلَّ من الْأَكْثَرِ جَازَ ذلك وَإِنَّمَا يَقْبُحُ إذَا اسْتَثْنَى ما يَعْلَمُ السَّامِعَ أَنَّهُ أَكْثَرُ مِمَّا أَبْقَاهُ وَنَقَلَ ابن السَّمْعَانِيِّ عن بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ مَنْعَ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ ثُمَّ قال وَاخْتَارَهُ الْأَشْعَرِيَّةُ وهو قَوْلُ أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ في شَرْحِ التَّلْقِينِ عن ابْنِ دُرُسْتَوَيْهِ قال وَذُكِرَ أَنَّهُ نَاظَرَ في ذلك أَبَا عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ وَذَكَرَ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ فيه قَوْلَيْنِ وَكَذَا قال عبد الْوَهَّابِ في الْإِفَادَةِ وهو غَرِيبٌ وَمِنْ شُبَهِ الْمُجَوِّزِينَ الْقِيَاسُ على الْمُخَصَّصِ فإنه يَجُوزُ وَإِنْ كان ما خُصِّصَ أَكْثَرَ مِمَّا بَقِيَ في الْعُمُومِ فَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ إذَا قُلْنَا إنَّ اللُّغَةَ تَثْبُتُ قِيَاسًا فَإِنْ مَنَعْنَاهُ لم يَتِمَّ وَكَثِيرًا ما يَتَّحِدُ الْمَعْنَى وَتَخْتَلِفُ أَحْكَامُ إعْرَابِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ يَحْسُنُ إخْرَاجُ أَكْثَرِ الْعُمُومِ بِغَيْرِ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ وَيَصِحُّ بِهِ ثُمَّ الْمَانِعُونَ لِلْأَكْثَرِ اخْتَلَفُوا في حَدِّ الْقَلِيلِ الذي يُسْتَثْنَى فقال ابن مُغِيثٍ من الْمَالِكِيَّةِ هو الثُّلُثُ فما دُونَهُ هذا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَمَّا الْمُسَاوِي فَمَنْ جَوَّزَ الْأَكْثَرَ فَهُوَ هُنَا أَجْوَزُ وَمَنْ مَنَعَهُ اخْتَلَفُوا على قَوْلَيْنِ وَطَرَدَ ابن دُرُسْتَوَيْهِ فَأَلْحَقَهُ بِأَكْثَرَ في الْمَنْعِ وَالْجُمْهُورُ على الْجَوَازِ وَاحْتَجَّ على اسْتِثْنَاءِ
____________________
(2/434)
النِّصْفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ فَالضَّمِيرُ في نِصْفَهُ عَائِدٌ على اللَّيْلِ قَطْعًا وَنِصْفَهُ بَدَلٌ فَإِمَّا من اللَّيْلِ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ فَيَكُونُ إلَّا قَلِيلًا نِصْفًا وَإِمَّا من قَلِيلٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بِاللَّيْلِ نِصْفَ اللَّيْلِ وَرُبَّمَا تَمَسَّكَ بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْأَكْثَرِ من جِهَةِ قَوْلِهِ أو زِدْ عليه وَأُجِيبَ بِأَنَّ نِصْفَهُ مَفْعُولٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أَيْ قُمْ نِصْفَهُ لَا بَدَلَ لِأَنَّ النِّصْفَ لَا يُقَالُ فيه قَلِيلٌ وَرُدَّ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ على هذا أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ أَوَّلًا بِقِيَامِ اللَّيْلِ إلَّا قَلِيلًا فَيَكُونُ أَمْرًا بِقِيَامِ الْأَكْثَرِ فَقَوْلُهُ بَعْدَهُ نِصْفَهُ مُخَالِفٌ له فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ وَشَرْطُ النَّاسِخِ أَنْ يَكُونَ مُتَرَاخِيًا وقال ابن عُصْفُورٍ بَلْ ضَمِيرُ نِصْفُهُ يَعُودُ على الْقَلِيلِ وهو بَدَلٌ منه بَدَلُ الْبَعْضِ من الْكُلِّ وَجَازَ وَإِنْ كان الْقَلِيلُ مُبْهَمًا لِأَنَّهُ قد تَعَيَّنَ بِالْعَادَةِ أَيْ ما يُسَمَّى قَلِيلًا في الْعَادَةِ وَنَقَلَ الْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ مَنْعَ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ قال وَلَهُ في الْمُسَاوِي وَجْهَانِ وَنَقَلَ الْمَازِرِيُّ وَالْبَاجِيُّ عن الْقَاضِي قَوْلَيْنِ في أَكْثَرَ وَنَقَلَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالْمَازِرِيُّ وَالْآمِدِيَّ عن الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْأَكْثَرُ وَالْمُسَاوِي وَشَرَطُوا أَنْ يَنْقُصَ عن النِّصْفِ وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ في شَرْحِ الْجُزُولِيَّةِ عن الْبَصْرِيِّينَ وَاَلَّذِي في التَّقْرِيبِ لِلْقَاضِي يَمْتَنِعُ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ في الْأَشْبَهِ عِنْدَنَا وَإِنْ كنا قد نَصَرْنَا في غَيْرِ هذا الْمَوْضِعِ جَوَازَهُ وَلِهَذَا قال الْمَازِرِيُّ آخِرُ قَوْلَيْ الْقَاضِي الْمَنْعُ ولم يَتَعَرَّضْ الْقَاضِي لِلْمُسَاوِي وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ كان الْقَاضِي أَوَّلًا يُجَوِّزُ اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ ثُمَّ رَجَعَ عنه آخِرًا في التَّقْرِيبِ وَالْإِرْشَادِ وقال لَا يَجُوزُ ذلك وهو مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ قالوا لو قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ صَحَّ وَاَلَّذِي في كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ تَخْصِيصُ ذلك بِالْعُقُودِ قالوا وَلَا خِلَافَ في جَوَازِهِ إذَا كانت الْكَثْرَةُ من دَلِيلٍ خَارِجٍ لَا من اللَّفْظِ وَعَلَى هذا فَلَا يَحْسُنُ الِاحْتِجَاجُ عليهم بِالْآيَةِ السَّابِقَةِ لِأَنَّهُ ليس فيها عَدَدٌ مَحْصُورٌ وَفَرَّقُوا بِوُرُودِ اللُّغَةِ في هذا دُونَ ذلك وَلِأَنَّ حَمْلَ الْجِنْسِ على الْعُمُومِ إنَّمَا هو من طَرِيقِ الِاحْتِمَالِ لَا من جِهَةِ الْقَطْعِ على جَمِيعِ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْأَعْدَادِ فإن جَمِيعَهَا مَنْطُوقٌ بها فَصَارَ صَرِيحًا قد صَرَّحُوا بِحِكَايَةِ هذا مَذْهَبًا آخَرَ وهو التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ صَرِيحًا فَلَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ نَحْوُ عَشَرَةٌ إلَّا تِسْعَةً وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَيَجُوزُ نَحْوُ خُذْ الدَّرَاهِمَ إلَّا ما في الْكِيسِ الْفُلَانِيِّ وكان ما في الْكِيسِ أَكْثَرَ من الْبَاقِي
____________________
(2/435)
وَحَكَى ابن الْفَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ في كِتَابِ النُّكَتِ له قَوْلًا رَابِعًا عن بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ من أَهْلِ عَصْرِهِ وهو التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى جُمْلَةً فَيَمْتَنِعُ نَحْوُ جاء إخْوَتُك الْعَشَرَةُ إلَّا تِسْعَةً وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُفَصَّلًا وَمُعَدَّدًا فَيَجُوزُ نَحْوُ إلَّا زَيْدًا وَبَكْرًا وَخَالِدًا إلَى أَنْ يَأْتِيَ إلَى التِّسْعَةِ وَيَخْرُجُ من كَلَامِ الْمَازِرِيِّ السَّابِقِ خَامِسٌ وهو التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَعْلَمَ السَّامِعُ الْأَكْثَرَ من الْأَقَلِّ فَيَمْتَنِعُ وَإِلَّا جَازَ وَيَخْرُجُ أَيْضًا من كَلَامِ الْحَنَابِلَةِ قَوْلٌ آخَرُ هو جَوَازُهُ في الْمُنْقَطِعِ دُونَ الْمُتَّصِلِ فَحَصَلَ سِتَّةُ مَذَاهِبَ ثُمَّ يُضَافُ إلَيْهَا الْقَوْلُ الْآتِي أَنَّهُ يَصِحُّ وَلَكِنْ لم تَرِدْ بِهِ اللُّغَةُ وقال ابن قُتَيْبَةَ الْقَلِيلُ الذي يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ الثُّلُثُ فما دُونَهُ وَهَاهُنَا فَوَائِدُ إحْدَاهَا أَشَارَ الْمَازِرِيُّ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ وَأَنَّ بَعْضَهُمْ اعْتَذَرَ عن الْمَانِعِ في الْأَكْثَرِ بِأَنَّهُ لم يُخَالِفْ في الْحُكْمِ وَإِنَّمَا خَالَفَ في اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ في ذلك فَرَأَى أنها لم تَسْتَعْمِلْ اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ من الْأَقَلِّ وما تَمَسَّكَ بِهِ الْخُصُومُ قَابِلٌ لِلتَّأْوِيلِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ لُغَةِ الْعَرَبِ لَكِنَّ الْعَرَبَ وَإِنْ لم تَسْتَعْمِلْهُ فَلَا يَسْقُطُ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ في الْإِقْرَارِ وَغَيْرِهِ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ فقال يَصِحُّ ذلك وَلَكِنْ لم يَقَعْ في اللُّغَةِ وَكَذَا قال ابن الْخَشَّابِ من أَئِمَّةِ النُّحَاةِ أَجَازَ قَوْمٌ اسْتِثْنَاءَ أَكْثَرِ الْجُمْلَةِ وَمَنَعَ آخَرُونَ فلم يُجِيزُوا أَنْ يُسْتَثْنَى إلَّا ما كان دُونَ النِّصْفِ منها وَلِهَذَا الْقَوْلِ يَشْهَدُ قِيَاسُ الْعَرَبِيَّةِ وَبِهِ جاء السَّمَاعُ وقد وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عليه وَالْأَوَّلُ ليس بِمُسْتَحِيلٍ في الْمَعْقُولِ وَلَكِنَّ الْآخَرَ يَمْنَعُهُ وَمَنْ ادَّعَى فيه سَمَاعًا أو اسْتَنْبَطَ منه فَقَدْ أَخْطَأَ وَادَّعَى ما لَا أَصْلَ له الثَّانِيَةُ قال ابن فَارِسٍ في كِتَابِ فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ الصَّحِيحُ في الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ يُسْتَثْنَى الْقَلِيلُ من الْكَثِيرِ وَيُسْتَثْنَى الْكَثِيرُ مِمَّا هو أَكْثَرُ منه فَأَمَّا قَوْلُ من قال يُسْتَثْنَى الْكَثِيرُ من الْقَلِيلِ فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ فَيُقَالُ عَشَرَةٌ إلَّا خَمْسَةً حتى يَبْلُغَ تِسْعَةً الثَّالِثَةُ أَنَّ الْكَلَامَ في الِاسْتِثْنَاءِ من الْعَدَدِ مَبْنِيٌّ على صِحَّتِهِ وَلِلنُّحَاةِ فيه مَذَاهِبُ أَحَدُهَا وهو الْمَشْهُورُ الْجَوَازُ وَعَلَيْهِ بَنَى الْفُقَهَاءُ مَذَاهِبَهُمْ في الْأَقَارِيرِ وَغَيْرِهَا وَالثَّانِي الْمَنْعُ وَاخْتَارَهُ ابن عُصْفُورٍ مُحْتَجًّا بِأَنَّهَا نُصُوصٌ فَالْإِخْرَاجُ منها يُخْرِجُهَا
____________________
(2/436)
عن النَّصِّيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّك إذَا قُلْت ثَلَاثَةٌ بِهِ إلَّا وَاحِدًا كُنْت قد أَوْقَعَتْ الثَّلَاثَةَ على الِاثْنَيْنِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ قَوْلِك جاء الْقَوْمُ إلَّا عَشَرَةً وَأَجَابَ عن قَوْله تَعَالَى فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ بِأَنَّ الْأَلْفَ لَمَّا كان يُسْتَعْمَلُ لِلتَّكْثِيرِ كَقَوْلِك اُقْعُدْ أَلْفَ سَنَةٍ تُرِيدُ بها زَمَنًا طَوِيلًا دخل الِاحْتِمَالُ فَجَازَ أَنْ يُبَيِّنَ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ لم يُسْتَعْمَلْ لِلتَّكْثِيرِ قال أبو حَيَّانَ وَهَذَا هو الصَّحِيحُ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يُمْنَعُ اسْتِثْنَاءُ الْعَقْدِ نَحْوُ قُصِدَ عِشْرُونَ إلَّا عَشَرَةً وَيَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ ما دُونَهُ نَحْوُ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً الشَّرْطُ الثَّالِثُ أَنْ يَقْتَرِنَ قَصْدُهُ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ فَلَوْ بَدَا له عَقِبَ الْفَرَاغِ فَالْأَصَحُّ في كِتَابِ الطَّلَاقِ وَادَّعَى أبو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ الْإِجْمَاعَ عليه الْمَنْعُ لِإِنْشَائِهِ بَعْدَ الْوُقُوعِ وَإِنْ بَدَا له في الْأَثْنَاءِ فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا وهو نَصُّ الْبُوَيْطِيِّ صِحَّتُهُ الشَّرْطُ الرَّابِعُ أَنْ يَلِيَ الْكَلَامَ بِلَا عَاطِفٍ فَلَوْ وَلِيَ الْجُمْلَةَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ كان لَغْوًا بِاتِّفَاقٍ قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَمَثَّلَهُ بِنَحْوِ له عِنْدِي عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَإِلَّا دِرْهَمًا أو فَإِلَّا دِرْهَمًا وَشَرَطَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَرْسِلًا فَإِنْ كان في مُعَيَّنٍ لم يَصِحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ كما لو أَشَارَ إلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فقال هذه الدَّرَاهِمُ لِفُلَانٍ إلَّا هذا فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ على الْأَصَحِّ لِأَنَّهُ إذَا أَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى مُعَيَّنٍ اقْتَضَى الْإِقْرَارُ الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ فيها فإذا أَرَادَ الِاسْتِثْنَاءَ في الْبَعْضِ كان رَاجِحًا لَكِنَّ الْمُرَجَّحَ عِنْدَ الْأَصْحَابِ الصِّحَّةُ وَشَرَطَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ كَوْنَ الِاسْتِثْنَاءِ من جِنْسِ الْأَصْلِ لِيَصِحَّ خُرُوجُ بَعْضِهِ فَإِنْ عَادَ إلَى غَيْرِ جِنْسِهِ صَحَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ في الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ وقد سَبَقَ الْخِلَافُ فيه وَشَرَطَ أَيْضًا أَنْ يُعَلِّقَ على الِاسْتِثْنَاءِ ضِدَّ حُكْمِ الْأَصْلِ فَإِنْ كان الْأَصْلُ إثْبَاتًا جاء الِاسْتِثْنَاءُ نَفْيًا وَإِنْ كان الْأَصْلُ نَفْيًا جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ إثْبَاتًا وَسَيَأْتِي مَسْأَلَةٌ وُجُودُ الِاسْتِثْنَاءِ في لُغَةِ الْعَرَبِ قِيلَ الِاسْتِثْنَاءُ في لُغَةِ الْعَرَبِ مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّهُ إذَا قِيلَ قام الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا في الْعُمُومِ أو غير دَاخِلٍ وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْفِعْلَ لَمَّا نُسِبَ إلَيْهِ مع الْقَوْمِ امْتَنَعَ إخْرَاجُهُ من النِّسْبَةِ وَإِلَّا لَزِمَ تَوَارُدُ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ على مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ وهو مُحَالٌ وَلِهَذَا قال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ في الطَّلَاقِ لَا
____________________
(2/437)
يَصِحُّ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إذَا وَقَعَ لَا يَرْتَفِعُ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ ما لَا يَدْخُلُ لَا يَصِحُّ إخْرَاجُهُ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ تَوَارُدُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ على مَحَلٍّ وَاحِدٍ لو لم يَكُنْ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ وهو مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ إذَا قِيلَ قام الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا فُهِمَ منه الْقِيَامُ بِمُفْرَدِهِ وَالْقَوْمُ بِمُفْرَدِهِ وَأَنَّ منهم زَيْدًا وَفُهِمَ إخْرَاجُ زَيْدٍ من الْقَوْمِ بِقَوْلِهِ إلَّا زَيْدًا ثُمَّ حُكِمَ بِنِسْبَةِ الْقِيَامِ بَعْدَ إخْرَاجِ زَيْدٍ وَعَلَى هذا يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ الذي يُورَدُ على قَوْله تَعَالَى فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا لِأَنَّ الْعَالِمَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ لَا يَحْكُمُ على كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْإِسْنَادِ إلَّا بَعْدَ تَمَامِهِ الْمَذَاهِبُ في تَقْدِيرِ دَلَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَلِقُوَّةِ هذا الْإِشْكَالِ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ في تَقْدِيرِ الدَّلَالَةِ في الِاسْتِثْنَاءِ وَهَلْ هو إخْرَاجٌ قبل الْحُكْمِ على ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا وَنَسَبَهُ ابن الْحَاجِبِ لِلْأَكْثَرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ عَشَرَةٌ في قَوْلِهِ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً سَبْعَةٌ وَقَوْلُهُ إلَّا ثَلَاثَةً قَرِينَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِأَنَّ الْكُلَّ اُسْتُعْمِلَ وَأُرِيدَ بِهِ الْجُزْءُ مَجَازًا كَالتَّخْصِيصِ بِغَيْرِ الِاسْتِثْنَاءِ وَرَدَّهُ ابن الْحَاجِبِ بِالْإِجْمَاعِ على أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَّصِلَ إخْرَاجٌ وَلِأَنَّ الْعَشَرَةَ نَصٌّ في مَدْلُولِهَا وَالنَّصُّ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ تَخْصِيصٌ وَإِنَّمَا التَّخْصِيصُ في الظَّاهِرِ وما قَالَهُ من الْإِجْمَاعِ مَرْدُودٌ فإن الْكُوفِيِّينَ على أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يُخْرِجُ شيئا فإذا قُلْت قام الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا فَإِنَّك أَخْبَرْت بِالْقِيَامِ عن الْقَوْمِ الَّذِينَ ليس فِيهِمْ زَيْدٌ وَزَيْدٌ مَسْكُوتٌ عنه لم يُحْكَمْ عليه بِقِيَامٍ وَلَا بِنَفْيِهِ وما قَالَهُ من أَنَّ الْعَشَرَةَ نَصٌّ فَسَيَأْتِي في كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ الْخِلَافُ فيه وقد قال بَعْضُ الْأَئِمَّةِ لَا يَسْتَقِيمُ غَيْرُ هذا الْمَذْهَبِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قال فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَلَوْ أَرَادَ الْأَلْفَ من لَفْظِ الْأَلْفِ لَمَا تَخَلَّفَ مُرَادُهُ عن إرَادَتِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ ما أَرَادَ إلَّا تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ من الْأَلْفِ كما أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِالْعَشَرَةِ مع اسْتِثْنَاءِ الْوَاحِدِ لم يُرِدْ منها إلَّا التِّسْعَةَ وَالثَّانِي وهو قَوْلُ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ أَنَّ عَشَرَةً إلَّا ثَلَاثَةً بِمَنْزِلَةِ سَبْعَةٍ من غَيْرِ إخْرَاجٍ كَاسْمَيْنِ وُضِعَا لِمُسَمًّى وَاحِدٍ أَحَدُهُمَا مُفْرَدٌ وَالْآخَرُ مُرَكَّبٌ وَجَرَى عليه في
____________________
(2/438)
الْمَحْصُولِ وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَاسْتَنْكَرَ قَوْلَ الْأَوَّلِينَ وقال إنَّهُ مُحَالٌ لَا يَعْتَقِدُهُ لَبِيبٌ قال ابن الْحَاجِبِ وَهَذَا الْمَذْهَبُ خَارِجٌ من قَانُونِ اللُّغَةِ إذْ لم يُعْهَدْ فيها لَفْظٌ مُرَكَّبٌ من ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ وُضِعَ لِمَعْنًى وَاحِدٍ وَلِأَنَّا نَقْطَعُ بِدَلَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بِطَرِيقِ الْإِخْرَاجِ وقال في شَرْحِ الْمُقَدِّمَةِ إنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ أَيْضًا لِأَنَّا قَاطِعُونَ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِالْعَشَرَةِ يُعَبِّرُ بها عن مَدْلُولِهَا وهو خَمْسَتَانِ وَبِإِلَّا عن مَعْنَى الْإِخْرَاجِ وَبِالْوَاحِدِ أَنَّهُ مُخَرَّجٌ وَلَوْ كان كما قالوا لم يَسْتَقِمْ فَهْمُ هذه الْمَعَانِي منها كما لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُفْهَمَ من بَعْضِ حُرُوفِ التِّسْعَةِ عِنْدَ إطْلَاقِهَا على مَدْلُولِهَا مَعْنًى آخَرُ وَهَذَا الذي قَالَهُ مُصَادَرَةٌ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُفْهَمُ من الْعَشَرَةِ خَمْسَتَانِ مع اسْتِثْنَاءِ الدِّرْهَمِ منها بَلْ الْمَفْهُومُ من ذلك تِسْعَةٌ لَا غَيْرُ وَلَا بِإِلَّا مَعْنَى الْإِخْرَاجِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لُغَةً الصَّرْفُ وَالرَّدُّ وَقَوْلُهُ كما لَا يَسْتَقِيمُ ليس بِنَظِيرِ ما نَحْنُ فيه إذْ عَدَمُ فَهْمِ ما ذُكِرَ لِعَدَمِ الْوَضْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ في غَيْرِهَا وَالِاسْتِثْنَاءُ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا ذُكِرَ لُغَةً وَعُرْفًا وَاعْلَمْ أَنَّ قَصْدَ الْبَاجِيِّ بهذا الْقَوْلِ أَنْ يُفَرَّقَ بين التَّخْصِيصِ بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ أو مُنْفَصِلٍ فَإِنْ كان بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ فَمِنْ الْبَاقِي حَقِيقَةً أو مُنْفَصِلٍ فإن الْبَاقِيَ مَجَازٌ وَلِذَلِكَ قال في الِاسْتِثْنَاءِ إنَّ الْكَلَامَ بِجُمْلَتِهِ يَصِيرُ عِبَارَةً عن أَمْرٍ آخَرَ وَالثَّالِثُ وهو الصَّحِيحُ عِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى منه مُرَادٌ بِتَمَامِهِ ثُمَّ أُخْرِجَ الْمُسْتَثْنَى ثُمَّ حُكِمَ بِالْإِسْنَادِ بَعْدَهُ تَقْدِيرًا وَإِنْ كان قَبْلَهُ ذِكْرًا فَالْمُرَادُ بِقَوْلِك عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً عَشَرَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأَفْرَادِ ثُمَّ أُخْرِجَتْ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ أُسْنِدَ إلَى الْبَاقِي تَقْدِيرًا فَالْمُرَادُ بِالْإِسْنَادِ ما يَبْقَى بَعْدَ الْإِخْرَاجِ وَرَجَّحَهُ الْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُ وَلِذَلِكَ لَا يَحْكُمُ عَالِمٌ بِلُغَةِ الْعَرَبِ بِالْإِسْنَادِ قبل تَمَامِهِ لِتَوَقُّعِ التَّغْيِيرِ قَبْلَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ أو غَيْرِهِ وَبِهِ يَنْدَفِعُ ما أُورِدَ على حَقِيقَةِ الِاسْتِثْنَاءِ من كَوْنِهِ إنْكَارًا بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَتَنَاقَضَا وَالْفَرْقُ بين هذا الْمَذْهَبِ وَالْأَوَّلِ أَنَّ الْأَفْرَادَ بِكَمَالِهَا غَيْرُ مُرَادَةٍ في الْمُسْتَثْنَى منه في الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ عليه وفي الثَّالِثِ مُرَادَةٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ إنَّمَا هو لِتَغَيُّرِ النِّسْبَةِ لَا لِلدَّلَالَةِ على عَدَمِ الْمُرَادِ وَيَتَفَرَّعُ على الْمَذَاهِبِ أَنَّهُ هو تَخْصِيصٌ أَمْ لَا فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي ليس تَخْصِيصًا وَعَلَى الْأَوَّلِ تَخْصِيصٌ قَطْعًا وَعَلَى الثَّالِثِ يُحْتَمَلُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ
____________________
(2/439)
خَاصٌّ لِعَدِّهِمْ إيَّاهُ من التَّخْصِيصِ الْمُتَّصِلِ وَتَطَرُّقِهِ إلَى النُّصُوصِ قِيلَ ليس بِتَخْصِيصٍ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ شَرْطُهُ الْإِرَادَةُ وَالْمُقَارَنَةُ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ إلَّا في قَصْدِ الِاسْتِثْنَاءِ وقال الْهِنْدِيُّ في الرِّسَالَةِ السَّيْفِيَّةِ الْجَمْعُ بين احْتِمَالِ كَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ تَخْصِيصًا على هذا الرَّأْيِ مع أَنَّ الْأَفْرَادَ مُرَادَةٌ بِكَمَالِهَا فيه مُشْكِلٌ فَإِنَّهُمْ أَطْبَقُوا على أَنَّ الْمَخْصُوصَ غَيْرُ مُرَادٍ من الذي خَصَّ عنه وُجُودَ التَّنَاوُلِ فَإِنْ قُلْت يُخَصُّ قَوْلُهُمْ ذلك بِالِاسْتِثْنَاءِ من غَيْرِ النُّصُوصِ قُلْت الذي قال بِالْمَذْهَبِ الثَّالِثِ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ من أَلْفَاظِ الْعَدَدِ أو غَيْرِهَا فإن الْكَلَامَ في تَقْدِيرِ دَلَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مُطْلَقٌ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هذا الْمَذْهَبُ مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِهِمْ على أَنَّ الْفَرْدَ الْمَخْصُوصَ من الْعَامِّ ليس مُرَادًا منه وقال الْمَازِرِيُّ أَصْلُ هذا الْخِلَافِ في الِاسْتِثْنَاءِ من الْعَدَدِ هل يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ كَقَرِينَةٍ غَيَّرَتْ وَضْعَ الصِّيغَةِ أو لم تُغَيِّرْهُ وَإِنَّمَا كَشَفَتْ عن الْمُرَادِ بها فَمَنْ رَأَى أَنَّ أَسْمَاءَ الْعَدَدِ كَالنُّصُوصِ التي لَا تَحْتَمِلُ سِوَى ما يُفْهَمُ منها قال بِالْأَوَّلِ وَيُنَزَّلُ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى منه كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ الدَّالَّةِ على عَدَدٍ ما وَيَكُونُ الْمُسْتَثْنَى كَجُزْءٍ من أَجْزَاءِ هذه الْكَلِمَةِ لِمَجْمُوعِ الدَّالِّ على الْعَدَدِ الْمُبْقَى وَمَنْ رَأَى أَنَّ أَسْمَاءَ الْعَدَدِ لَيْسَتْ نَصًّا فإن الْعَشَرَةَ رُبَّمَا اُسْتُعْمِلَتْ في عَشَرَةٍ نَاقِصَةٍ رَأَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ قَرِينَةٌ لَفْظِيَّةٌ دَلَّتْ على الْمُرَادِ بِالْمُسْتَثْنَى منه كما دَلَّ قَوْلُهُ لَا تَقْتُلُوا الرُّهْبَانَ على الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ قال وَهَذَا ظَاهِرٌ على الْقَوْلِ بِأَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ على أَفْرَادِهِ ظَاهِرَةٌ فَإِنْ قُلْنَا نَصٌّ فَلَا يَسْتَقِيمُ ثُمَّ ذَكَرَ من الْفَرْقِ بين التَّخْصِيصِ وَالِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَدْخُلُ على النُّصُوصِ وَالتَّخْصِيصَ لَا يَدْخُلُ عليها وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَذْهَبَ الْأَكْثَرِينَ أَنَّك إذَا اسْتَعْمَلْت الْعَشَرَةَ في سَبْعَةٍ مَجَازًا دَلَّ عليه قَوْلُك إلَّا ثَلَاثَةً وَالْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عِنْدَهُمَا أَنَّ الْمَجْمُوعَ يُسْتَعْمَلُ في السَّبْعَةِ وابن الْحَاجِبِ عِنْدَهُ أَنَّك تَصَوَّرْت مَاهِيَّةَ الْعَشَرَةِ ثُمَّ حَذَفْت منها ثَلَاثَةً ثُمَّ حَكَمْت بِالسَّبْعَةِ فَكَأَنَّهُ قال له عَلَيَّ الْبَاقِي من عَشَرَةٍ أَخْرَجَ منها ثَلَاثَةً أو عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً له عِنْدِي وَكُلُّ من أَرَادَ أَنْ يَحْكُمَ على شَيْءٍ بَدَأَ بِاسْتِحْضَارِهِ في ذِهْنِهِ فَهَذَا الْقَائِلُ بَدَأَ بِاسْتِحْضَارِ الْعَشَرَةِ في ذِهْنِهِ ثُمَّ أَخْرَجَ الثَّلَاثَةَ ثُمَّ حَكَمَ كما أَنَّك تُخْرِجُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ من الْكِيسِ ثُمَّ تَرُدُّ منها إلَيْهِ ثَلَاثَةً ثُمَّ تَهَبُ الْبَاقِي وهو السَّبْعَةُ هذا تَقْرِيرُ مَذْهَبِ ابْنِ الْحَاجِبِ لَكِنَّ تَصْرِيحَهُ بِأَنَّ الْإِسْنَادَ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أَنَّ إلَّا أَدَاةٌ أُخْرِجَتْ من الِاسْمِ وَالْحُكْمِ وَهَذَا إنَّمَا يَأْتِي على الْقَوْلِ
____________________
(2/440)
الْمَرْجُوحِ أَنَّ الْإِخْرَاجَ من الِاسْمِ فَقَطْ وَيُرَدُّ عليه أَيْضًا أَنَّ الْمُفْرَدَ لَا يُسْتَثْنَى منه وَلَوْ اُسْتُثْنِيَ منه لم يَنْتَظِمْ أَنْ يُقَالَ الْعَامِلُ في الْمُسْتَثْنَى هو الْعَامِلُ في الْمُسْتَثْنَى منه كما هو مَذْهَبُ كَثِيرٍ من النُّحَاةِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِسْنَادِ ما يَبْقَى بَعْدَ الْإِخْرَاجِ لِأَنَّ الْإِسْنَادَ لِلْجُمْلَةِ إنَّمَا يَتَبَيَّنُ مَعْنَاهُ بِآخِرِ الْكَلَامِ فَإِنْ عُطِفَ عليها بِأَوْ كان ثَابِتًا لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَإِنْ عُطِفَ عليها بِالْوَاوِ كان ثَابِتًا لِلْمَجْمُوعِ وَإِنْ اُسْتُثْنِيَ منه كان ثَابِتًا لِبَعْضِ مَدْلُولِهَا وَلَيْسَ الِاسْتِثْنَاءُ مُبَيِّنًا لِلْمُرَادِ بِالْأَوَّلِ بَلْ يَحْصُلُ الْإِخْرَاجُ وَالْحَاصِلُ قَبْلَهُ قُصِدَ أَنْ يُسْتَثْنَى لَا بِقَصْدِ الْمَعْنَى حتى لو قال أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً وَوَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ مَوْتِهَا طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَلَوْ كان مُبَيِّنًا لَزِمَهُ وَعَلَى هذا لَا يُسَمَّى تَخْصِيصًا مَسْأَلَةٌ هل يَعْمَلُ الِاسْتِثْنَاءُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ أو الْبَيَانِ تَتَفَرَّعُ على ما سَبَقَ وَتَتَأَصَّلُ على الْخِلَافِ الْآتِي في الِاسْتِثْنَاءِ من الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ وَبِالْعَكْسِ وَهِيَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَعْمَلُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ أو بِطَرِيقِ الْبَيَانِ فقال بِالثَّانِي وهو عِنْدَهُمْ بَيَانٌ مَعْنَوِيٌّ أَيْ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى لم يَكُنْ مُرَادًا لِلْمُتَكَلِّمِ من الْأَصْلِ لِأَنَّهُ مَنَعَ دُخُولَهُ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى منه وَإِمَّا بِالنَّظَرِ إلَى صُورَةِ اللَّفْظِ فَهُوَ اسْتِخْرَاجٌ صُورِيٌّ وَنَسَبُوا لِأَصْحَابِنَا الْأَوَّلَ وهو أَنَّهُ يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ مِثْلُ دَلِيلِ الْخُصُوصِ وَالْمُرَادُ بِالْمُعَارَضَةِ أَنْ يُثْبِتَ حُكْمًا مُخَالِفًا لِحُكْمِ صَدْرِ الْكَلَامِ فإن صَدْرَ الْكَلَامِ يَدُلُّ على إرَادَةِ الْمَجْمُوعِ وَآخِرَهُ يَدُلُّ على إرَادَةِ إخْرَاجِ الْبَعْضِ عن الْإِرَادَةِ فَتَعَارَضَا في ذلك الْبَعْضِ فَتَعَيَّنَ خُرُوجُهُ عن الْمُرَادِ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ كَتَخْصِيصِ الْعَامِّ وَعَلَى مَذْهَبِ الْآخَرِينَ هو مُتَكَلِّمٌ بِالْبَاقِي في صَدْرِ الْكَلَامِ بَعْدَ الْمُسْتَثْنَى قُلْت هو نَظِيرُ الْخِلَافِ في أَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ أو بَيَانٌ وقال صَاحِبُ الْمُحِيطِ الِاسْتِثْنَاءُ تَكَلَّمَ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا أَيْ تَكَلَّمَ بِالْمُسْتَثْنَى منه بَعْدَ صَرْفِ الْكَلَامِ عن الْمُسْتَثْنَى وقال شَمْسُ الْأَئِمَّةِ لو قال عَبِيدِي أَحْرَارٌ إلَّا سَالِمًا أو غَانِمًا لَا يُعْتَقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَإِنْ كان الْمُسْتَثْنَى أَحَدَهُمَا لِأَنَّهُ فيه فَثَبَتَ حُكْمُ الشَّكِّ فِيهِمَا وَيَصِيرُ الْكَلَامُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى بِطَرِيقِ أَنَّهُ لَا بَعْضَ وَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَإِنْ كان الْمُسْتَثْنَى مَجْهُولًا
____________________
(2/441)
لِأَنَّ الْكَلَامَ لم يَتَنَاوَلْ الْمُسْتَثْنَى أَصْلًا فَلَا أَثَرَ لِلْجَهَالَةِ فيه وفي الْمُغْنِي ابن قُدَامَةَ الِاسْتِثْنَاءُ إنَّمَا هو مُبَيِّنٌ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى غَيْرُ مُرَادٍ بِالْكَلَامِ وهو أَنْ يَمْنَعَ أَنْ يَدْخُلَ فيه ما لَوْلَاهُ لَدَخَلَ وقَوْله تَعَالَى إلَّا خَمْسِينَ عَامًا عِبَارَةٌ عن تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً فَخَرَجَ بِالْخَمْسِينَ الْمُسْتَثْنَى وقَوْله تَعَالَى إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إلَّا الذي فَطَرَنِي فَقَدْ تَبَرَّأَ من غَيْرِ اللَّهِ لَا أَنَّهُ تَبَرَّأَ منه أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ عنه وَفَصَّلَ جَمَاعَةٌ من الْحَنَفِيَّةِ بين الِاسْتِثْنَاءِ الْعَدَدِيِّ وَغَيْرِهِ وَقَالُوا في غَيْرِ الْعَدَدِيِّ إنَّهُ إخْرَاجٌ قبل الْحُكْمِ ثُمَّ حُكْمُهُ على الْبَاقِي وَقَالُوا في الْعَدَدِيِّ لَا إخْرَاجَ حتى قالوا في إنْ كان لي إلَّا مِائَةٌ وَكَذَا ولم يَمْلِكْ إلَّا خَمْسِينَ لَا يَحْنَثُ قُلْت وما نَسَبُوهُ لِأَصْحَابِنَا مَمْنُوعٌ وقد قال النَّوَوِيُّ في الرَّوْضَةِ الْمُخْتَارُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانُ ما لم يَرِدْ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ لَا أَنَّهُ إبْطَالُ ما ثَبَتَ وَلِهَذَا لو قال له عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا خَمْسَةً أو سِتَّةً يَلْزَمُهُ أَرْبَعَةٌ لِأَنَّ الدِّرْهَمَ الزَّائِدَ مَشْكُوكٌ فيه فَصَارَ كَقَوْلِهِ عَلَيَّ خَمْسَةٌ أو سِتَّةٌ فإنه يَلْزَمُهُ خَمْسَةٌ وَاحْتَمَلَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ خَمْسَةٌ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْعَشَرَةَ وَالشَّكُّ في الْمَنْفِيِّ قُلْت وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ في الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَنْوِيَهُ من أَوَّلِ الْكَلَامِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُرَادًا بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ وهو يُرِيدُ أَنْ لَا يَكُونَ وَكَذَا قال صَاحِبُ الْمِيزَانِ من الْحَنَفِيَّةِ لو لم يَكُنْ الِاسْتِثْنَاءُ بَيَانًا لَأَدَّى إلَى النَّسْخِ في كَلَامٍ وَاحِدٍ فَيُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ في كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى قال وَمَسَائِلُ الشَّافِعِيِّ كُلُّهَا تُخَرَّجُ على الْبَيَانِ وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ على التَّعَارُضِ لِأَنَّ التَّعَارُضَ إنَّمَا يَكُونُ بين الْمِثْلَيْنِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بين الْمُسْتَثْنَى منه وَالْمُسْتَثْنَى لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى منه مُسْتَقِلٌّ وَالْمُسْتَثْنَى نَاقِصٌ وَلِهَذَا لَا يُبْتَدَأُ بِهِ وَيَدُلُّ على بُطْلَانِ دَعْوَى الْإِخْرَاجِ قَوْله تَعَالَى في حَقِّ نُوحٍ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا إذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ لَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ يُخَرِّجُ الْخَمْسِينَ من الْأَلْفِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ بِلُبْثِهِ الْأَلْفَ بِكَمَالِهِ فلم يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ لَكَانَ صَالِحًا لِدُخُولِ الْخَمْسِينَ تَحْتَ الْأَلْفِ وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ من صَلَاحِيَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مُرِيدٌ لِلْأَلْفِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ ما لَبِثَ الْخَمْسِينَ فَكَيْفَ يُرِيدُهَا وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَضْعُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يُخَرِّجَ ما لَوْلَاهُ لَانْتَظَمَهُ وَذَكَرَ الْإِخْرَاجَ بِاعْتِبَارِ الصَّلَاحِيَّةِ في اللَّفْظِ وَبِهَذَا كُلِّهِ تَبْطُلُ دَعْوَى الْقَرَافِيِّ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا إخْرَاجَ فيه أَصْلًا لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ حَقِيقَةٌ فِيمَنْ اتَّصَفَ بِالدُّخُولِ وَلَا يُقَالُ خَرَجَ زَيْدٌ
____________________
(2/442)
من الدَّارِ إذَا لم يَكُنْ دَخَلَهَا إلَّا مَجَازًا وقد بَيَّنَّا الْمُرَادَ بِالْإِخْرَاجِ من الصَّلَاحِيَّةِ لِلدُّخُولِ لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ وهو كَالتَّخْصِيصِ بِالْمُقَارِنِ يُوجِبُ الْحُكْمَ فِيمَا وَرَاءَ الْخُصُوصِ من الْأَصْلِ وَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَخْصُوصَ وَصَارَ كما لو قال اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الْمُحَارِبِينَ فلم يَكُنْ غَيْرُ الْمُحَارِبِينَ مُرَادًا من الْمُشْرِكِينَ من الِابْتِدَاءِ وَنَظِيرُ هذا الْخِلَافِ في الِاسْتِثْنَاءِ خِلَافُ أَصْحَابِنَا فِيمَا لو قال أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا هل يَقَعُ الثَّلَاثُ عِنْدَ الْفَرَاغِ من قَوْلِهِ ثَلَاثَةً أو نَقُولُ إذَا فَرَغَ من قَوْلِهِ ثَلَاثًا تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الثَّلَاثِ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ وَفَائِدَتُهُ إذَا قال أَنْتِ طَالِقٌ فَمَاتَتْ ثُمَّ قال ثَلَاثًا فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَقَعُ شَيْءٌ تَنْبِيهٌ جَعْلُ الِاسْتِثْنَاءِ من الْمُخَصَّصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ وَاضِحٌ في الْكَلَامِ الْوَاحِدِ أَمَّا لو قال اللَّهُ اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ فقال عليه السَّلَامُ على الِاتِّصَالِ لَا الْحَرْبِيِّينَ فَاخْتَلَفُوا فيه فقال قَوْمٌ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الِاسْتِثْنَاءِ في كَلَامِ اللَّهِ وقال الْقَاضِي الذي أَرْتَضِيهِ أَنَّهُ إنْ أَبْدَى من تِلْقَاءِ نَفْسِهِ كَلَامًا ولم يُضِفْهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْتَحَقَ بِالتَّخْصِيصِ بِالْمُنْفَصِلِ ولم يُجْعَلْ اسْتِثْنَاءً حَقِيقِيًّا بَلْ هو تَخْصِيصٌ سَوَاءٌ قُدِّرَ مُتَّصِلًا أو مُنْفَصِلًا كَذَا حَكَاهُ عنه ابن الْقُشَيْرِيّ في أُصُولِهِ وَأَطْلَقَ الْهِنْدِيُّ تَرْجِيحَ كَوْنِهِ مُنْفَصِلًا وَمِنْ فُرُوعِهِ لو قال لي عَلَيْك أَلْفٌ فقال الْمُدَّعَى عليه إلَّا عَشَرَةً فَهَلْ يَكُونُ مُقِرًّا بِبَاقِي الْأَلْفِ قال في التَّتِمَّةِ الْمَذْهَبُ الْمَنْعُ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ منه إلَّا نَفْيُ ما قَالَهُ خَصْمُهُ وَنَفْيُ الشَّيْءِ لَا يَدُلُّ على ثُبُوتِ غَيْرِهِ مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ من الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ وَمِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ على الْأَصَحِّ وقال الْحَنَفِيَّةُ لَا يَقْتَضِي ذلك وَجَعَلُوا بين الْحُكْمِ بِالْإِثْبَاتِ وَالْحُكْمِ بِالنَّفْيِ وَاسِطَةً وَهِيَ عَدَمُ الْحُكْمِ وَنُقِلَ في الْمَعَالِمِ الِاتِّفَاقُ على الْأَوَّلِ وَالْخِلَافُ في الثَّانِي وَاخْتَارَ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ الْمَعَالِمُ وفي تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ في سُورَةِ النِّسَاءِ وَوَافَقَ الْجُمْهُورَ في الْمَحْصُولِ وَلَيْسَ كما ادَّعَى من الْوِفَاقِ فإن الْخِلَافَ عِنْدَهُمْ مَوْجُودٌ كما ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ قال الْهِنْدِيُّ وَبِهِ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ وهو الْحَقُّ لِأَنَّ الْمَأْخَذَ الذي ذَكَرُوهُ مَوْجُودٌ فِيهِمَا وهو أَنَّ
____________________
(2/443)
بين الْحُكْمِ بِالنَّفْيِ وَبَيْنَ الْحُكْمِ بِالْإِثْبَاتِ وَاسِطَةً وهو عَدَمُ الْحُكْمِ وَتَرْكُهُ على ما كان عليه قبل الِاسْتِثْنَاءِ بِلَا فَرْقٍ بين الِاسْتِثْنَاءِ من النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ إذْ الْوَاسِطَةُ حَاصِلَةٌ نعم يَلْزَمُ النَّفْيُ الْمُسْتَثْنَى من الْإِثْبَاتِ عِنْدَهُ بِنَاءً على أَنَّهُ الْأَصْلُ قبل الْحُكْمِ بِالْإِثْبَاتِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ اقْتَضَى ذلك فَإِنْ قِيلَ له عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمًا كان مَعْنَاهُ عِنْدَهُ أَنَّ الدِّرْهَمَ غَيْرُ مَحْكُومٍ عليه بِاللُّزُومِ لَا أَنَّهُ مَحْكُومٌ عليه بِعَدَمِ اللُّزُومِ وَحِينَئِذٍ فَعَدَمُ اللُّزُومِ لَازِمٌ له بِنَاءً على الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ وَلَعَلَّ الْإِمَامَ لِهَذَا السَّبَبِ خَصَّصَ الْخِلَافَ بِالِاسْتِثْنَاءِ من النَّفْيِ إذْ لَا يَظْهَرُ لِلْخِلَافِ في الْإِثْبَاتِ فَائِدَةٌ فإن النَّفْيَ ثَابِتٌ فيه بِالِاتِّفَاقِ لَكِنَّ الْمَأْخَذَ مُخْتَلِفٌ فَعِنْدَنَا بِسَبَبِ الِاسْتِثْنَاءِ وَعِنْدَهُ بِسَبَبِ الْبَقَاءِ على الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ فَمِنْ هُنَا ظَنَّ عَدَمَ خِلَافِهِ فيها وَلِهَذَا قِيلَ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يُفَرِّقُ بين النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ من جِهَةِ الدَّلَالَةِ الْوَضْعِيَّةِ وَإِنَّمَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا من جِهَةِ الْحُكْمِ وَذَلِكَ أَنَّ السُّكُوتَ عن إثْبَاتِ الْحُكْمِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْحُكْمِ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ بِخِلَافِ السُّكُوتِ عن النَّفْيِ إذْ لَا مُقْتَضَى معه لِلْإِثْبَاتِ فَهُوَ يَحْمِلُ كَلَامَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ على نَفْيِ الْحُكْمِ النَّفْسِيِّ وَكَلِمَةَ التَّوْحِيدِ على عُرْفِ الشَّارِعِ قُلْت وَالْحَنَفِيَّةُ مُوَافِقُونَ لِنُحَاةِ الْكُوفَةِ إذْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ قَوْلَك قام الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ بِالْقِيَامِ عن الْقَوْمِ الَّذِينَ فِيهِمْ زَيْدٌ وَزَيْدٌ مَسْكُوتٌ عنه لم يُحْكَمْ عليه بِقِيَامٍ وَلَا بِنَفْيٍ وأبو حَنِيفَةَ كُوفِيٌّ فَلِهَذَا كان مَذْهَبُهُ كَذَلِكَ وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْأَدَاةَ أَخْرَجَتْ الِاسْمَ الثَّانِيَ من الْأَوَّلِ وَحُكْمَهُ من حُكْمِهِ وَهَذَا الْخِلَافُ في الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ الْخِلَافَ في الْمُتَّصِلِ لَا في الْأَعَمِّ من الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْقَطِعِ بَلْ حَكَى الْقَرَافِيُّ في الْعِقْدِ الْمَنْظُومِ عن الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمْ أَجْرَوْا ذلك في التَّامِّ وَالْمُفَرَّغِ نَحْوُ ما قام إلَّا زَيْدٌ قالوا زَيْدٌ غَيْرُ مَحْكُومٍ عليه بِالْإِثْبَاتِ وَالْمَعْنَى ما قام أَحَدٌ إلَّا زَيْدٌ قال وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يُعْرِبُوهُ بَدَلًا لَا فَاعِلًا وَيَكُونُ الْفَاعِلُ مُضْمَرًا وَتَقْدِيرُهُ ما قام أَحَدٌ فَلَا يَكُونُ زَيْدٌ فَاعِلًا وَالنُّحَاةُ لَا يُجِيزُونَ حَذْفَ الْفَاعِلِ نَحْنُ نَقُولُ زَيْدٌ فَاعِلٌ بِالْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ السَّابِقِ قبل إلَّا وهو الذي نُسِبَ إلَيْهِ عَدَمُ الْقِيَامِ فَهُوَ غَيْرُ قَائِمٍ وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِالْإِجْمَاعِ على الِاكْتِفَاءِ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ في كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ كما قال صلى اللَّهُ عليه وسلم أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ الناس حتى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
____________________
(2/444)
وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ على أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ من النَّفْيِ إثْبَاتٌ قَوْله تَعَالَى فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إلَّا عَذَابًا وَاحْتَجَّ الْخَصْمُ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَأْخُوذٌ من قَوْلِك ثَنَيْت الشَّيْءَ عن جِهَتِهِ إذَا صَرَفْته عنها فإذا قُلْت لَا عَالِمَ إلَّا زَيْدٌ فَهُنَا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا هذا الْحُكْمُ وَالثَّانِي نَفْسُ الْعَدَمِ فَقَوْلُك إلَّا زَيْدٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إلَى الْأَوَّلِ وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ تَحَقُّقُ الثُّبُوتِ إذْ الِاسْتِثْنَاءُ إنَّمَا يُزِيلُ الْحُكْمَ بِالْعَدَمِ فَيَبْقَى الْمُسْتَثْنَى مَسْكُوتًا عنه غير مَحْكُومٍ عليه نَفْيٌ وَلَا إثْبَاتٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إلَى الثَّانِي وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ تَحَقُّقُ الثُّبُوتِ لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْعَدَمِ يُحَصِّلُ الْوُجُودَ لَا مَحَالَةَ لَكِنَّ عَوْدَ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى إذْ الْأَلْفَاظُ وُضِعَتْ دَالَّةً على الْأَحْكَامِ الذِّهْنِيَّةِ لَا على الْأَعْيَانِ الْخَارِجِيَّةِ فَثَبَتَ أَنَّ عَوْدَ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى الثَّانِي ما جاء من وَضْعِ هذا الِاسْتِثْنَاءِ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْإِثْبَاتِ كَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَلَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ وَالْمُرَادُ في الْكُلِّ مُجَرَّدُ الِاشْتِرَاطِ قال وَالصُّوَرُ التي دَلَّ فيها على الْإِثْبَاتِ يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَفَادًا من اللَّفْظِ بَلْ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَأَجَابَ عن الدَّلِيلِ السَّابِقِ بِأَنَّ هذه الْكَلِمَةَ وَإِنْ كانت لَا تُفِيدُ الْإِثْبَاتَ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ لَكِنَّهَا تُفِيدُهُ بِالْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ فإن الْمَقْصُودَ نَفْيُ الشَّرِيكِ وَأَمَّا إثْبَاتُ الْإِلَهِيَّةِ فَمُتَّفَقٌ عليه قال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ وَكُلُّ هذا عِنْدِي تَشْغِيبٌ وَمُرَاوَغَاتٌ جَدَلِيَّةٌ وَالشَّرْعُ خَاطَبَ الناس بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَأَمَرَهُمْ بها لِإِثْبَاتِ مَقْصُودِ التَّوْحِيدِ وَحَصَلَ الْفَهْمُ لِذَلِكَ منهم وَالْقَبُولُ له منهم من غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا احْتِيَاجٍ إلَى أَمْرٍ آخَرَ وَلَوْ كان وَضْعُ اللَّفْظِ لَا يَقْتَضِي التَّوْحِيدَ لَكَانَ أَهَمُّ الْمُهِمَّاتِ تَعْلِيمَ اللَّفْظِ الذي يَقْتَضِيهِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ وَالِاكْتِفَاءُ الذي ذَكَرْنَاهُ عِنْدَنَا في مَحَلِّ الْقَطْعِ بِالظَّنِّ لَكِنْ هل هو لِمَدْلُولِ اللَّفْظِ أو لِقَرَائِنَ اخْتَصَّتْ بِهِ لَا تَبْلُغُ إلَى الْقَطْعِ وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ ما يَسْتَدِلُّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ رَاجِعٌ إلَى الشَّرْطِ وقد اسْتَعْظَمَ الْقَرَافِيُّ شُبْهَتَهُمْ من لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ وَلَيْسَ
____________________
(2/445)
كما زَعَمَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخِلَافَ في غَيْرِ الشَّرْطِ فإن الِاسْتِثْنَاءَ يَقَعُ في الْأَحْكَامِ وَالْمَوَانِعِ وَالشُّرُوطِ مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ من التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ ولم يَتَعَرَّضْ لها الْأُصُولِيُّونَ وَذَكَرَهَا صَاحِبُ الذَّخَائِرِ من الْفُقَهَاءِ في بَابِ الْعَدَدِ في قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحُدَّ على مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا على زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَاسْتُشْكِلَ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ على وُجُوبِ الْإِحْدَادِ على الْمُتَوَفَّى عنها زَوْجُهَا وقال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في تَعْلِيقِهِ هذا الِاسْتِثْنَاءُ لِلْوَاجِبِ من الْمُحَرَّمِ لِأَنَّ الْإِحْدَادَ على غَيْرِ الزَّوْجِ فَوْقَ الثَّلَاثِ حَرَامٌ وَعَلَى الزَّوْجِ وَاجِبٌ وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُسْتَثْنَى الْوَاجِبُ من الْجَائِزِ وَالْحَرَامُ من الْمُبَاحِ وَيُمْكِنُ الِاحْتِجَاجُ بِالْحَدِيثِ على جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ من غَيْرِ الْجِنْسِ مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ من الِاسْتِثْنَاءِ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ من الِاسْتِثْنَاءِ وَحَكَى ابن الْعَرَبِيِّ في الْمَحْصُولِ عن بَعْضِهِمْ مَنْعَهُ وقال صَاحِبُ الذَّخَائِرِ في بَابِ الْإِقْرَارِ حَكَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عن بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مَنْعَهُ لِأَنَّ الْعَامِلَ في الِاسْتِثْنَاءِ الْفِعْلُ الْأَوَّلُ بِتَقْدِيرِ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ وَلَا يَعْمَلُ عَامِلٌ في أَحَدِ الْمَعْمُولَيْنِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى إلَّا آلَ لُوطٍ إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إلَّا امْرَأَتَهُ قال أبو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ اسْتَثْنَى الْآلُ من الْقَوْمِ ثُمَّ اسْتَثْنَى امْرَأَتَهُ قال الْقَاضِي مُجَلِّي في الذَّخَائِرِ في كِتَابِ الطَّلَاقِ وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّ الْأَوَّلَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ ولم يَحْكِ الزَّجَّاجِيُّ سِوَاهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قال إنَّا أُرْسِلْنَا إلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ أَيْ لِإِهْلَاكِهِمْ فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ آلِ لُوطٍ منهم لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا من الْمُجْرِمِينَ بَلْ هو كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مَعْنَاهُ لَكِنَّ آلَ لُوطٍ فَإِنَّهُمْ مُنَجَّوْنَ ثُمَّ قال إلَّا امْرَأَتَهُ اسْتَثْنَاهَا من الْمُنَجِّينَ وَجُعِلَتْ من الْهَالِكِينَ فَتَكُونُ مُسْتَثْنَاةً قال وَهَذَا
____________________
(2/446)
قَدْحٌ في الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ لَكِنَّ الدَّلِيلَ على الْجَوَابِ لِسَانُ الْعَرَبِ وقد تَرْجَمَ عليه سِيبَوَيْهِ بَابَ تَثْنِيَةِ الْمُسْتَثْنَى إذَا ثَبَتَ ذلك فَتَقُولُ الِاسْتِثْنَاءَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ إنْ كان الْبَعْضُ مَعْطُوفًا على الْبَعْضِ كان الْكُلُّ عَائِدًا إلَى الْأَوَّلِ الْمُسْتَثْنَى منه وَأُسْقِطَ الْمَجْمُوعُ من الْعَدَدِ وَيَلْزَمُ الْبَاقِي نَحْوُ له عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا أَرْبَعَةً وَإِلَّا ثَلَاثَةً وَإِلَّا اثْنَيْنِ فَيَلْزَمُهُ وَاحِدٌ هَكَذَا أَطْلَقَهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وأبو مَنْصُورٍ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في تَعْلِيقِهِ هذا إذَا كان الْمَجْمُوعُ نَاقِصًا عن الْمُسْتَثْنَى منه فَإِنْ كان مُسَاوِيًا أو أَزْيَدَ بَعْضَهَا أو مَجْمُوعَهَا فَإِنْ حَصَلَتْ الْمُسَاوَاةُ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ فَلَا شَكَّ في فَسَادِهِ وَإِنْ حَصَلَتْ بِالْأَوَّلِ وَالثَّانِي مَثَلًا وكان الثَّانِي مُسَاوِيًا لِلْأَوَّلِ وقد تَعَذَّرَ رُجُوعُهُ مع الْأَوَّلِ الْمُسْتَثْنَى منه وَتَعَذَّرَ رُجُوعُهُ إلَى الثَّانِي بِالْعَطْفِ وَالْمُسَاوَاةِ فَيَفْسُدُ لَا مَحَالَةَ وَهَلْ يَفْسُدُ معه الْأَوَّلُ أَيْضًا حتى لَا يَسْقُطَ من الْمُسْتَثْنَى منه شَيْءٌ أَمْ يُخَصُّ الثَّانِي بِالْفَسَادِ لِأَنَّهُ نَشَأَ منه فيه احْتِمَالَاتٌ قال الْهِنْدِيُّ وَالظَّاهِرُ الثَّانِي وَإِنْ كان الثَّانِي أَنْقَصَ من الْأَوَّلِ تَعَارَضَا أَمَّا إذَا لم يَكُنْ الْبَعْضُ مَعْطُوفًا على الْبَعْضِ فَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وأبو مَنْصُورٍ إجْمَاعَ أَصْحَابِنَا على رُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي إلَى الْأَوَّلِ وَيُوجِبُ ذلك الزِّيَادَةَ في الْأَصْلِ كَقَوْلِهِ له عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمَيْنِ إلَّا دِرْهَمًا فَأَسْقَطَ من الدِّرْهَمَيْنِ اللَّذَيْنِ اسْتَثْنَاهُمَا من الْعَشَرَةِ دِرْهَمًا فَيَبْقَى دِرْهَمٌ فَيَلْزَمُهُ تِسْعَةٌ وَكَذَا قال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ يَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ إلَى الذي يَلِيهِ فإذا قال له عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا أَرْبَعَةً إلَّا ثَلَاثَةً إلَّا اثْنَيْنِ إلَّا وَاحِدًا لَزِمَهُ ثَمَانِيَةٌ وَكَذَا قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في تَعْلِيقِهِ يَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ منها إلَى الذي يَلِيهِ فَإِنْ كان الْأَوَّلُ إثْبَاتًا كان هو نَفْيًا وَإِنْ كان نَفْيًا كان هو إثْبَاتًا فإذا قال أَنْتِ طَالِقٌ خَمْسًا إلَّا أَرْبَعًا إلَّا اثْنَتَيْنِ إلَّا وَاحِدَةً طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ لِأَنَّ قَوْلَهُ خَمْسًا إثْبَاتٌ وإذا قال إلَّا أَرْبَعًا كان نَفْيًا تَبْقَى وَاحِدَةٌ فإذا قال إلَّا اثْنَيْنِ فَيَقَعُ عليها ثَلَاثٌ فإذا قال إلَّا وَاحِدَةً كان نَفْيًا فَيَبْقَى طَلْقَتَانِ ا هـ قُلْت لَكِنْ لَا إجْمَاعَ فَقَدْ حَكَى الرَّافِعِيُّ عن الْحَنَّاطِيِّ احْتِمَالًا فِيمَا لو قال أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ إلَّا وَاحِدَةً فإنه يُحْتَمَلُ عَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي إلَى أَوَّلِ اللَّفْظِ أَعْنِي الْمُسْتَثْنَى منه قُلْت وهو قَوِيٌّ فإن الْأَوَّلَ ليس له مَأْخَذٌ غَيْرُ الْقُرْبِ وهو لَا يُوجِبُ ذلك إنَّمَا يَقْتَضِي الرُّجْحَانَ قال الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ هذا إذَا كان أَقَلَّ من الْأَوَّلِ يَعْنِي كما دَلَّ عليه أَمْثِلَتُهُمْ
____________________
(2/447)
فَإِنْ كان الثَّانِي أَكْثَرَ من الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ أو مُسَاوِيًا له عَادَ الْكُلُّ إلَى الْمُتَقَدِّمِ وهو الْمُسْتَثْنَى منه نَحْوُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا اثْنَتَيْنِ إلَّا ثَلَاثَةً إلَّا أَرْبَعَةً وَيَلْزَمُهُ وَاحِدٌ وَتَبِعَهُ في الْمِنْهَاجِ وقال صَاحِبُ الذَّخَائِرِ هذا إذَا كان الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي مِمَّا يُمْكِنُ إخْرَاجُهُ من الْأَوَّلِ فَإِنْ لم يُمْكِنْ فإن الثَّانِي لَغْوٌ وَيَعْمَلُ الْأَوَّلُ فإذا قال أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا طَلْقَةً إلَّا طَلْقَةً لَغَا الثَّانِي وَصَارَ كَقَوْلِهِ ثَلَاثٌ إلَّا طَلْقَةً فَتَطْلُقُ طَلْقَتَيْنِ وَكَذَلِكَ إذَا كان الثَّانِي أَكْثَرَ من الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ ثَلَاثًا إلَّا طَلْقَةً إلَّا طَلْقَتَيْنِ يُلْغَى قَوْلُهُ طَلْقَتَيْنِ قال هذا مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ وقد حَكَى السِّيرَافِيُّ عن أَهْلِ اللِّسَانِ في هذا الْمَحَلِّ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا إعْمَالُ الِاسْتِثْنَاءَيْنِ لِجَعْلِهِمَا بِمَثَابَةِ اسْتِثْنَاءٍ وَاحِدٍ حتى لو قال عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمًا إلَّا دِرْهَمًا يَسْقُطَانِ من الْعَشَرَةِ وَيَصِيرُ مُقِرًّا بِثَمَانِيَةٍ وَحُكِيَ عن سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ إذَا قال ما أَتَانِي إلَّا زَيْدٌ إلَّا عَمْرٌو يَكُونَانِ جميعا أَتَيَاهُ فَعَلَى هذا إذَا قال أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً إلَّا وَاحِدَةً تَطْلُقُ طَلْقَةً وإذا قال ثَلَاثَةً إلَّا طَلْقَةً إلَّا طَلْقَتَيْنِ تَطْلُقُ ثَلَاثًا كَقَوْلِهِ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا وَحُكِيَ عن الْفَرَّاءِ أَنَّهُ إذَا كان الثَّانِي أَكْثَرَ من الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً إلَّا أَرْبَعَةً أَنَّ الثَّانِيَ يَكُونُ مَنْفِيًّا كَأَنَّهُ قال عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً بَقِيَتْ سَبْعَةٌ ثُمَّ قال إلَّا أَرْبَعَةً فَيُضَافُ إلَى السَّبْعَةِ فَيَصِيرُ أَحَدَ عَشَرَ فَعَلَى هذا وَمِثْلُهُ الطَّلَاقُ مع الثَّلَاثِ لِأَنَّا إذَا أَضَفْنَا الِاثْنَيْنِ في الِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي إلَى ما بَقِيَ من الثَّلَاثِ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ صَارَ أَرْبَعًا ثُمَّ بَقِيَتْ الثَّلَاثُ انْتَهَى وما نَقَلَهُ عن الْفَرَّاءِ حَكَاهُ غَيْرُهُ وَأَنَّهُ إذَا قال له عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً إلَّا أَرْبَعَةً تَكُونُ الثَّلَاثَةُ مُسْتَثْنَاةً من الْعَشَرَةِ فَيَبْقَى سَبْعَةٌ وَيُزَالُ منها أَرْبَعَةٌ فَيَكُونُ الْمُقَرُّ بِهِ ثَلَاثَةً وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ الْإِقْرَارِ فِيمَا إذَا قال له عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا خَمْسَةً إلَّا خَمْسَةً لُزُومُ عَشَرَةٍ لِأَنَّ الثَّانِيَ مُسْتَغْرِقٌ لِلْأَوَّلِ فَيُلْغِيهِ وَذُكِرَ فيه أَيْضًا فِيمَا إذَا قال له عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً إلَّا ثَلَاثَةً أَنَّ الثَّانِيَ يَكُونُ تَوْكِيدًا وَحَكَى فيه في كِتَابِ الطَّلَاقِ وَجْهَيْنِ من غَيْرِ تَرْجِيحٍ أَحَدُهُمَا هذا وَالثَّانِي يَلْزَمُهُ عَشَرَةٌ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ من النَّفْيِ إثْبَاتٌ أَمَّا إذَا كان الِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ مُسْتَغْرِقًا لِلْمُسْتَثْنَى منه دُونَ الثَّانِي لِأَنَّهُ من بَاطِلٍ يَلْزَمُهُ أَرْبَعَةٌ وَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءَانِ لِأَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يَتِمُّ بِآخِرِهِ قال ابن الصَّبَّاغِ وَهَذَا أَقْيَسُ وَالثَّالِثُ يَلْزَمُهُ سِتَّةٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ بَاطِلٌ وَالثَّانِي يَرْجِعُ إلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ قُلْت وَالثَّانِي هو نَظِيرُ ما صَحَّحُوهُ من الطَّلَاقِ في أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ أَنَّهُ يَقَعُ اثْنَتَانِ
____________________
(2/448)
مسألة الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة يمكن عوده لجمعها ولبعضها ومثله ابن كج في كتابه بقوله والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق إلى قوله إلا من تاب فيه مذاهب أحدها وهو قول الشافعي كما قاله الماوردي والروياني أنه يعود إلى جميعها ما لم يخصه دليل كقوله إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية ونقله البيهقي في سننه في باب شهادة القاذف عن نص الشافعي فقال قال الشافعي والثنيا في سياق الكلام على أول الكلام وآخره في جميع ما يذهب إليه أهل اللغة لا يفرق بين ذلك أحد انتهى وقال في الأم في باب الخلافة في إجازة شهادة القاذف قال الشافعي لمن يناظره أرأيت رجلا لو قال لا أكلمك أبدا ولا أدخل لك بيتا ولا آكل لك طعاما ولا أخرج معك سفرا وإنك لغير حميد عندي ولا أكسوك إن شاء الله أيكون الاستثناء واقعا على ما بعد غير حميد عندي أم على الكلام كله قال بل على الكلام كله انتهى وقال القفال الشاشي إنه الذي جرى عليه الشافعي وقال القاضي أبو الطيب إنه المحكي عن الشافعي وأصحابه قال وما وجدت من كلامه ما يدل عليه إلا أنه قال في كتاب الشاهد واليمين إذا تاب قبلت شهادتهم ذلك بين في كتاب الله تعالى وهذا يدل على أن الاستثناء رده إلى الفسق ورد الشهادة وقد استدل أبو إسحاق المروزي وغيره من أصحابنا على قبول شهادته بعموم الاستثناء وأنه راجع إلى الجميع انتهى وقال المازري نسبه ابن القصار لمالك وهو الظاهر من مذاهب أصحابه وحكاه صاحب المصادر عن القاضي عبد الجبار وقال ابن القشيري قال القاضي لو قلنا بالعموم فأوضح المذاهب صرفه إلى الجميع وهذا الراجح عند الحنابلة ونقلوه عن نص أحمد فإنه قال في قوله صلى الله عليه وسلم لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه قال أرجو أن يكون الاستثناء على كله
____________________
(2/449)
والثاني أنه يعود إلى الأخيرة خاصة إلا أن يقوم الدليل على التعميم وهو قول أبي حنيفة وأكثر أصحابه واختاره الإمام فخر الدين في المعالم وقال الأصفهاني في القواعد إنه الأشبه ونقله صاحب المعتمد عن الظاهرية وحكاه صاحب عن أبي عبد الله البصري وأبي الحسن الكرخي وإليه ذهب أبو علي الفارسي وحكاه إلكيا الطبري وابن برهان عن الفارسي واختاره المهاباذي من النحويين في شرح اللمع وقد يظن أن ذلك مذهب الشافعي فإن الشيخ أبا إسحاق قال وإن قال أنت طالق طلقة وطلقة إلا طلقة ففيه وجهان أحدهما تطلق طلقة والثاني وهو المنصوص أنها تطلق طلقتين لأن الاستثناء يرجع إلى ما يليه وهو الطلقة واستثناء طلقة من طلقة باطل فيسقط وتبقى الطلقات انتهى وقال ابن الصباغ في كتاب الطلاق قال في البويطي إذا قال أنت طالق ثلاثا وثلاثا إلا أربعا وقعت ثلاثا وهذا إنما هو لأنه أوقع جملتين واستثنى إحداهما بجملتها فلم يقع لأن الاستثناء يرجع إلى الأخير من الجملتين أي ولو عاد إلى الجميع لوقع طلقتان وكأنه قال ستا إلا أربعا ا هـ والجواب أنه ليس المأخذ ما ظنوه وإنما قاله الشافعي مفرعا على أن المفرق لا يجمع وهو الأصح فإن قلنا يجمع وقع طلقتان وكأنه قال ستا إلا أربعا تفريعا على أن الاستثناء يرجع إلى الملفوظ فإن عاد إلى المنوي وقع الثلاث ثم إن هذا لبس ويدل لهذا قول القاضي أبي الطيب في باب الإقرار من تعليقه لو قال علي درهم ودرهم إلا درهما فالذي نص عليه الشافعي أنه يلزمه درهمان لأنه ذكر جملتين ثم عقبهما بالاستثناء والاستثناء يرجع لما يليه وهو يستغرقه فلا يبقى شيء فيبطل كما لو قال علي درهم إلا درهما لا يصح الاستثناء فكذلك هنا وكذلك لو قال أنت طالق طلقة وطلقة إلا طلقة يقع طلقتان ونص الشافعي على هذه المسألة في كتاب إباحة الطلاق قال القاضي ومن أصحابنا من خرج فيها وجها أنه يصح الاستثناء ويلزمه درهم واحد وطلقة واحدة واحتج بأن الجملتين إذا كان بينهما حرف العطف كانتا بمنزلة الجملة الواحدة فهو بمنزلة أن يقول علي درهمان إلا درهما وأنت طالق طلقتين إلا طلقة وهذا خلاف النص وإن كان له وجه انتهى وتمسك القائلون بهذا بأن الموجب لتعليق الاستثناء بالمتقدم كونه لا يفيد بنفسه فإذا تعلق بالأخيرة صار مفيدا فلا حاجة إلى صرفه إلى غيره ولنا أن الجمل إذا تعاطفت
____________________
(2/450)
صارت كالجملة الواحدة بدليل الشرط والاستثناء بالمشيئة فإنهما يرجعان إلى ما تقدم إجماعا فإن فرق بأن الشرط قد يتقدم كما يتأخر فيجوز أن يوقف ما قبل الآخر على الاتصال بالشرط ولا كذلك الاستثناء قلنا هذا لا يؤثر في الجمع إذ تعليقه على ما يليه لا يمنع من تعليقه على ما تقدم والذي يليه والمتقدم والمتأخر في هذا الفرق سواء قال القرطبي وقد خالف أبو حنيفة أصله فإنه يلزمه أن لا يقبل التوبة قبل الحد ولا بعده كما ذهب إليه شريح لكنه قال بقبولها قبله لا بعده فخالف أصله تنبيه قياس مذهب الحنفية أن الاستثناء إذا تقدم اختص بالجملة الأولى لأنها التي تليه ويحتمل خلافه والثالث والوقف بين الأمرين فيجوز أن يصرف إلى الأول وإلى المتوسط وإلى الأخير ولكن في الحال توقف والمتبع الدليل فإن قام دليل على انصرافه لأحدها صرنا إليه قال أبو الحسين بن فارس في كتاب فقه العربية فإن دل الدليل على عوده إلى الجميع عاد كآية المحاربة وإن دل على منعه امتنع كآية القذف قال سليم في التقريب وهو مذهب الأشعرية وحكاه ابن برهان عن القاضي واختاره الغزالي والإمام فخر الدين في المنتخب وصرح به في المحصول في الكلام على التخصيص وحكاه إلكيا الطبري عن اختيار إمام الحرمين قال فقيل له فقد قال الشافعي إذا قال الواقف وقفت داري على بني فلان وحبست أرضي على بني فلان وذكر نوعا آخر ثم قال إلا الفساق فيصرف الاستثناء إلى الكل فأجاب بأن ذلك ليس لظهور الاستثناء في الأنواع ولكن للتعارض بين الأمرين وهما احتمال عوده إلى الجميع أو إلى ما يليه والتوقف فيه ولا صرف مع التوقف قال إلكيا وهذا المأخذ غير مرضي فإن التوقف في المستثنى يوجب التوقف في المستثنى منه حتى لا ينصرف إلى العدول أيضا ونحن نصرف كل المال إلى العدول والتوقف يقتضي التوقف في حق الكل فإنا لا ندري أنهم يستحقون أم لا وهو كالتوقف في الميراث للحمل ونقل ابن القشيري والمازري عن إمام الحرمين مسلك التفصيل في التوقف فرأى
____________________
(2/451)
أن الجمل إن كانت متناسبة والغرض منها متحد فاللفظ متردد ولا قرينة وإن كانت مختلفة الجهات متباينة المأخذ فالظاهر الاختصاص بالجملة الأخيرة لانقطاع ما بين الجمل في المعنى والغرض وإن أمكن انعطافه على جميعها وهذا ما اختاره إلكيا الطبري فقال نعم لو تباينت الجمل في الأحكام بأن يذكر حكما ثم يأخذ في حكم آخر فالأول منقطع والاستثناء لا يعمل فيه وإن صرح به والواو هنا لا تعد مشركة ناسفة للنظم كقولك ضرب الأمير زيدا وخرج إلى السفر وخلع على فلان قال وهذا حسن جدا وبه تهذب مذهب الشافعي ويغني عما عداه واعلم أنهم حكوا قول الوقف عن الشريف المرتضى وأنه يغاير مذهب القاضي من جهة أن القاضي توقف لعدم العلم بمدلوله لغة والمرتضى توقف لكونه عنده مشتركا بين عوده إلى الكل وعوده إلى الأخير فقط وهو من باب الاشتراك في المركبات لا في المفردات قلت والذي حكاه صاحب المصادر عن الشريف المرتضى أنه يقطع بعوده إلى الجملة الأخيرة وتوقف في رجوعه إلى غيرها لما تقدم فجوز صرفه إلى الجميع وقصره على الأخيرة كمذهبه في الأمر هذا لفظه وهو أثبت منقول عنه لأنه على مذهبه الشيعي والرابع إن كانت الجمل كلها سيقت لمقصود واحد انصرف إلى الجميع وإن سيقت لأغراض مختلفة اختص بالأخيرة حكاه ابن برهان في الأوسط عن عبد الجبار والخامس إن ظهر أن الواو للابتداء كقوله أكرم بني تميم والنحاة البصريين إلا البغاددة اختص بالأخيرة وإن ترددت بين العطف والابتداء فالواقف والسادس إن كانت الجملة الثانية إعراضا وإضرابا عن الأولى اختص بالأخيرة وإلا انصرف إلى الجميع حكاه ابن برهان عن أبي الحسين البصري والذي وجدته في المعتمد حكاية هذا عن عبد الجبار وسكت عليه أبو الحسين وقرر دليله وحكي في المحصول عن أبي الحسين أنه إن كان بينهما تعلق عاد إلى الجميع وإلا اختص بالأخير وقال إنه دخل التحقيق وإنه حق ثم قال ابن برهان والحق في ذلك قول أبي الحسين البصري وهو المعتمد وهو مذهب الشافعي قال ولم
____________________
(2/452)
ينقل عن الشافعي نص في هذه المسألة بخصوصها وإنما أخذ من مذهبه في مسألة المحدود بالقذف ونحن نبين أن الشافعي إنما صار إلى ذلك لأن ذكر الجمل هناك لم يكن إضرابا عن الجملة المتقدمة لأن الآيات سيقت لغرض واحد هو الجزاء على تلك الجريمة انتهى وقد اختاره ابن السمعاني في القواطع أيضا فقال إذا لم يكن خروجا من قضية إلى قضية أخرى لا يليق بها عاد إلى الكل وإلا اختص بالأخيرة ونظيره اضرب بني تميم والأشراف هم قريش إلا أهل البلد الفلاني وهذا لأنه لما عدل الأول إلى مثل هذا وأحدهما لا يليق بالآخر أو أحدهما قضية والأخرى قضية أخرى دل على أنه استوفى غرضه من الأول لأنه لا شيء أدل على استيفاء الغرض بالكلام من العدول عنه إلى نوع آخر من الكلام وعلى هذا إذا قال من استقامت طريقته فأكرمه ومن عصاك فاضربه إلا أن يتوب فالاستثناء ينصرف إلى ما يليه أيضا انتهى وحاصله أنه إن صلح العود إلى الكل عاد إليه وإلا فلا وهذا تحرير لمذهب الشافعي في الحقيقة كما سيأتي فلا ينبغي أن يعد مذهبا آخر وقال في المقترح لا خلاف في صلاحية اللفظ لعوده إلى الجميع أو البعض وإنما النزاع في أنه هل هو ظاهر في الجميع ولا يحمل على الأخيرة إلا بدليل أو بالعكس فأبو حنيفة يقول بالثاني والشافعي بالأول وقال صاحب المصادر الخلاف في هذه المسألة إنما نشأ من اختلافهم في الفروع من المحدود في القذف هل تقبل شهادته بعد التوبة أم لا على معنى أنهم اختلفوا في هذه المسألة التي هي فرع حداهم هذا الاختلاف الذي هو أصل لذلك الفرع لا أنهم ذهبوا فيما هو فرع هذا الأصل إلى مذاهب ثم رتبوا عليه هذا الأصل لأن هذا عكس الواجب من حيث إن الفرع يترتب على أصله ويستوي عليه لا أن يترتب الأصل على فرعه ويستوي عليه على مقدار المبتاع في أنه غير صحيح ولا يستقيم إذا الصحيح المستقيم أن يستوي مقدار المبتاع الموزون على الصنجة المعتدلة انتهى واعلم أن للقول بعوده إلى الجميع عندنا شروطا الأول أن تكون الجمل متعاطفة فإن لم يكن عطف فلا يعود إلى الجميع قطعا بل يختص بالأخيرة إذ لا ارتباط بين الجملتين وممن صرح بهذا الشرط القاضيان أبو بكر في التقريب وأبو الطيب الطبري والشيخ أبو إسحاق وابن السمعاني وابن القشيري والآمدي وابن الساعاتي والهندي وغيرهم وأما من أطلق فأمره
____________________
(2/453)
محمول على أنه سكت عن ذلك لوضوحه وأمثلتهم وكلامهم يرشد إلى أن المسألة مصورة بحالة العطف ويدل لذلك قول أصحابنا في كتاب الطلاق لو قال يا طالق أنت طالق ثلاثا إن شاء الله أن الاستثناء منصرف إلى الثلاثة ووقعت واحدة بقوله يا طالق ولو كان العطف يشترط لكان الاستثناء عائدا إلى الجميع وأما ما فهمه القرافي من جريان الخلاف وإن لم يعطف فغره إطلاق الرازي وغيره فإنه إذا لم يكن عطف فلا ارتباط بينهما نعم ذكر البيانيون أن ترك العطف قد يكون لكمال الارتباط بين الجملتين كقوله تعالى ذلك الكتاب لا ريب فيه فإذا كان مثل ذلك فلا يبعد مجيء الخلاف ويحتمل أن يقال إنهما كالجملة الواحدة لأن الثانية كالمؤكدة للأولى فيعود للجميع قطعا وقد حكى الرافعي باب الاستثناء في الطلاق به لو قال أنت طالق أنت طالق إن شاء الله وقصد التأكيد أنه يعود للجميع ولم يحك فيه خلافا وكذا لو قال أنت طالق واحدة ثلاثا إن شاء الله من غير واحد فلا يقع شيء لأن الواحدة المتقدمة عائدة إلى الثلاث والاستثناء راجع إلى جميع الكلام نعم قال القرافي في كتاب الأيمان فيما لو قال إن شاء الله أنت طالق عبدي حر أنها لا تطلق ولا يعتق قال وليكن هذا فيما إذا نوى صرف الاستثناء إليهما جميعا فإن أطلق فيشبه أن يجيء فيه خلاف في أنه يختص بالجملة الأولى أم يعمهما قال في الروضة قلت الصحيح التعميم واستفدنا من هذا فائدتين إحداهما أن الخلاف جار مع عدم العطف والثانية أن المسألة لا تخص بما إذا تأخر الاستثناء بل تكون في حالة تأخره وحالة تقدمه وهو خلاف قول الأصوليين في الاستثناء إذا تعقب جملا وهي مسألة حسنة الشرط الثاني أن يكون العطف بالواو فإن كان بثم اختص بالجملة الأخيرة ذكره إمام الحرمين في تدريسه حكاه عنه الرافعي في باب الوقف بعد أن صرح أن أصحابنا أطلقوا العطف وعليه جرى الآمدي وابن الحاجب وابن الساعاتي والعجب أن الأصفهاني في شرح المحصول حكاه عن الآمدي وقال لم أر من تقدمه به لكن ذكر الإمام في النهاية من صور الخلاف التمثيل بثم وصرح بأن مذهبنا عوده إلى الجميع والظاهر أن ثم والفاء وحتى مثل الواو في ذلك وقد صرح القاضي أبو بكر في التقريب بالفاء وغيرها فقال وهذه سبيل
____________________
(2/454)
جمل عطف بعضها على بعض بأي حروف العطف عطفت من فاء وواو وغيرها انتهى وأطلق ابن القشيري والشيخ أبو إسحاق أن صورة المسألة أن يجمع بين الجمل بحرف من حروف العطف جامع في مقتضى الوضع ويوافقه ما ذكره ابن الصباغ في كتاب العدة فإنه قال ومن أصحابنا من احتج بأن واو العطف تشترك بين الجملتين فتجعلان كالجملة الواحدة وهذا يخالف ما نص عليه الشافعي فإنه قال إذا قال أنت طالق وطالق فطالق إلا واحدة لم يصح الاستثناء ولو كان الإيقاع جملة واحدة صح الاستثناء هذا لفظه وهو صريح في أنه لا فرق بين الواو والفاء وإن كانت للترتيب وأما بقية حروف العطف فلا يتأتى فيها ذلك لأن بل ولا ولكن لأحد الشيئين بعينه فلا يصح عوده إليهما وكذلك أو وأم وأما لأحد الشيئين لا بعينه لكن الماوردي وغيره مثلوا المسألة بآية المحاربة مع أن العطف فيها ب أو وحكى الرافعي الخلاف في بل قبيل الطلاق بالحساب فقال لو قال أنت طالق واحدة بل ثلاثا إن دخلت الدار فوجهان أصحهما وبه قال ابن الحداد تقع واحدة بقوله أنت طالق وثنتان بدخول الدار ردا للشرط إلى ما يليه خاصة والثاني يرجع الشرط إليهما جميعا إلا أن يقول أردت تخصيص الشرط بقولي بل ثلاثا الثالث أن لا يتخلل الجملتين كلام طويل فإن تخلل اختص بالأخيرة كما لو قال وقفت على أولادي فمن مات منهم وأعقب كان نصيبه لأولاده للذكر مثل حظ الأنثيين وإلا فنصيبه لمن في درجته فإذا انقرضوا صرف إلى إخواني فلان وفلان الفقراء إلا أن يفسقوا حكاه الرافعي عن إمام الحرمين والمعنى أن طول الفصل يشعر بقطع الأولى عن الثانية الرابع أن تكون الجمل منقطعة بأن تنبئ كل واحدة عما لا تنبئ عنه أخواتها ذكره أبو نصر بن القشيري قال فإن توالت عبارات كلها تنبئ عن معنى واحد ثم عقبها باستثناء كقولك اضرب العصاة والجناة والطغاة والبغاة إلا من تاب رجع الاستثناء إلى الجميع قطعا ويوافقه ما لو قال أنت طالق أربع مرات بنية التكرار وقال في الرابعة إن شاء الله ففي فتاوى الغزالي أنه راجع إلى الجميع قال لأن الكلام ما دام متصلا برابطة التأكيد كان كالجملة الواحدة الخامس أن يكون بين الجمل تناسب فإن لم يكن بينها تناسب لا يصح العطف فضلا عن إرادة البعض أو الكل وهذا الشرط اعتبره البيانيون في صحة عطف
____________________
(2/455)
الجمل فمنعوا عطف الإنشاء على الخبر وعكسه ووافقهم ابن مالك لكن أكثر النحويين على الجواز مطلقا وعلى الأول فلا يحسن التمثيل بآية القذف لأن قوله وأولئك هم الفاسقون جملة خبرية عطفت على إنشائية لكن يقال وإن كانت خبرية لفظا لكنها إنشائية معنى نعم من اشترط في عطف الجمل اتفاقهما في الاسمية أو الفعلية حتى لو اختلفتا امتنع لم يحسن أن تكون الآية منه فإن قوله وأولئك هم جملة اسمية وقوله ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا جملة فعلية بل الواو هنا للاستئناف أو الابتداء وإذا كان كلاما مبتدأ منقطعا عما قبله لم ينصرف الاستثناء إليه السادس أن يمكن عوده إلى كل واحدة على انفرادها فإن تعذر عاد إلى ما أمكن أو اختص بالأخيرة قاله القفال الشاشي وابن فورك والقاضي أبو الطيب في شرح الكفاية وإلكيا الطبري في التلويح قال القفال وهذا كآية الجلد فلا يمكن عود الاستثناء فيها إلى الأول لأنه تعلق به حق آدمي ولهذا لا يسقط عنه الجلد بالتوبة وإن قبلت شهادته وزالت عنه سمة الفسق لأنه من حقوق الآدميين فالتوبة لا ترفعه إنما ترفع حق الله تعالى وحكى الرافعي في باب قاطع الطريق عن ابن كج أنه حكى قولا عن الشافعي في القديم بسقوط الجلد بالتوبة وبه قال الزهري وحكاه النحاس في معاني القرآن عن الشافعي أيضا فعلى هذا يخرج له في هذه المسألة الأصولية قولان ثم أكثرهم يمثلون الآية بهذا الأصل ومنهم من قال على تقدير نظم الاختصاص بالأخيرة إن الأخيرة هي عدم قبول الشهادة فإنه المحكوم به وأما سمة الفسق فهي علة هذا الحكم فالاستثناء إذا تعقب حكما وتعليلا فإما أن يرجع إلى الكل أو إلى الحكم دون التعليل لأنه المقصود ولا سبيل إلى رجوعه إلى التعليل فقط قال الفقهاء وكذا قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فالاستثناء يرجع إلى الأخيرة لأن الدية حق آدمي فيسقط بالعفو والرقبة حق الله فلا يسقط بالعفو من الآدمي وكذا قال الماوردي وغيره قال ابن أبي هريرة في تعليقه إن الاستثناء في قوله تعالى إلا عابري سبيل
____________________
(2/456)
يعود على الذي يليه وهو الجنب لا السكران فإن السكران ممنوع من دخول المسجد لما لا يؤمن من تلويثه إياه وخرج من هذا الشرط ما لو قال أنت طالق طلقة وطلقة إلا طلقة فإن المنصوص للشافعي كما حكاه القاضي أبو الطيب والشيخ في المهذب وابن الصباغ وعليه جمهور الأصحاب لأنها تطلق طلقتين لأنه يمكن عود الاستثناء إلى ما يليه للاستغراق فيسقط ويبقى الطلقتان ولا يظن أن هذا مخالف للقاعدة الأصولية لأن شرط الرجوع إلى الكل ما ذكرناه هو مفقود هاهنا ولو قال له درهمان ودرهم إلا درهما لزم ثلاثة على الأصح المنصوص لأنه استثنى درهما من درهم قاله الرافعي باب الإقرار وقد استشكل ذلك صاحب الوافي في شرح المهذب فقال هذا مذهب الشافعي في الفروع ومذهبه في الأصول أن الاستثناء يعود إلى الجميع ولا أعلم الفرق إلا أن يقال إنه هاهنا احتاط في وقوع الطلاق وليس بشيء انتهى وقد علمت جوابه السابع أن يكون المعمول واحدا كقوله تعالى والذين يرمون المحصنات الآية فإن كان العامل واحدا والمعمول متعددا فلا خلاف في عوده إلى الجميع كقوله اهجر بني فلان وبني فلان إلا من صلح فالاستثناء من الجميع إذا لا موجب للاختصاص ولو ثبت موجب فعل بمقتضاه نحو لا تحدث النساء ولا الرجال إلا زيدا وقد تضمنت الأمرين آية المائدة حرمت عليكم الميتة فاشتملت على ما فيه مانع وهو ما أهل به لغير الله وما قبله وهو وما أكل السبع وإلا ما ذكيتم فهو مستثنى من الخمسة إذ كانت تذكيته سبب موته قال ابن مالك اتفق العلماء على تعلق الشرط بالجميع في نحو لا تصحب زيدا ولا تزن ولا تكلم إلا تائبا من الظلم ومذهب أبي حنيفة والشافعي تساوي الاستثناء والشرط في التعلق بالجميع وهو صحيح للإجماع على سد كل واحد مسد الآخر نحو اقتل الكافر إن لم يسلم واقتله إلا أن يسلم انتهى الثامن أن يتحد العامل فإن اختلف خص بالأخيرة ذكره ابن مالك ونحو اكسوا الفقراء وأطعموا أبناء السبيل إلا من كان مبتدعا وصرح إلكيا الطبري
____________________
(2/457)
بأن الشرط اتحاد العامل والمعمول قال فإن اختلفا اختص بما يليه ونحو ضرب الأمير زيدا وخرج إلى السفر وخلع علي فلان قال وهو حسن جدا وبه يتهذب مذهب الشافعي ا هـ والظاهر أن المراد اتحاده لفظا أو معنى فإن إمام الحرمين جعل من الأمثلة وقفت وحبست وتصدقت ومن أمثلته في الصفة إذ لا فرق بينهما وبين الاستثناء قوله تعالى وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن الشافعي يجعل هذا الوصف وهو قوله اللاتي دخلتم بهن مختصا بالأخيرة وهي قوله وربائبكم لأن الربيبة عنده لا تحرم إلا بالدخول وأم الزوجة تحرم بالعقد وإن لم يدخل قال المبرد والزجاجي وإنما كان كذلك لاختلاف العامل إذ العامل في قوله وأمهات نسائكم الإضافة وفي ربائبكم حرف الجر الذي هو قوله من نسائكم فلما اختلف العامل أشعر بانقطاع الأولى عن الثانية ولك أن تقول إذا جعلنا العامل في الإضافة حرف الجر المقدر اتحد العامل على كل تقدير وهذا الشرط أيضا مخرج مما نقله ابن الحاجب عن أبي الحسين البصري التاسع أن يكون في الجمل فإن كان في المفردات عاد للجميع اتفاقا ونقله ابن القشيري عن اختيار إمام الحرمين ومثله بقولك أكرم زيدا وعمرا وبكرا إلا من فسق منهم ويؤخذ من كلام إمام الحرمين في البرهان وابن الحاجب في جواب شبهة الخصم أن ذلك محل وفاق وحينئذ فتعبير أصحابنا بالجمل ليس للتقيد وإنما جرى الغالب نعم نص الشافعي على أنه إذا قال أنت طالق طلقة وطالقة إلا طلقة أنها تطلق ثنتين فجعل الاستثناء لما يليه في المفردات ومن المهم معرفة المراد بالجملة في هذا الموضوع فالمشهور أنها المركبة من الفعل والفاعل أو المبتدأ والخبر وخالف في ذلك ابن تيمية وقال إنما المراد بها اللفظ الذي فيه شمول ويصح إخراج بعضه ولهذا ذكروا من صورها الأعداد واحتج بآية المحاربة إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله إلى قوله إلا الذين تابوا قال وإنما هي من الجملة بالمعنى الذي فسرناه وبما روى الصحابة أن قوله إلا الذين تابوا في آية القذف عائد إلى الجملتين وقوله عليه السلام لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه إلا بإذنه
____________________
(2/458)
العاشر أن يكون الاستثناء متأخرا على ظاهر عباراتهم بالتعقيب لكن الصواب أن ذلك ليس بشرط والخلاف جار في الجميع كما صرح به الرافعي في كتاب الأيمان وقد سبق التنبيه عليه في الشرط الأول وقد صرح القفال في فتاويه بعود الصفة السابقة إلى الجميع فقال فيما إذا وقف على محاويج حتى يستحقوا لأنه معطوف على محاويج أقاربه والمحاويج هم الذين يكون لهم حاجة بحيث يجوز لهم أخذ الصدقة انتهى الِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَوَسِّطُ أَمَّا الْمُتَوَسِّطُ فَإِنْ تَخَلَّلَ بين جُمْلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مَعْطُوفَةٌ على الْأُخْرَى فَقَلَّ من تَعَرَّضَ له وقد ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذَانِ أبو إِسْحَاقَ وأبو مَنْصُورٍ نَحْوُ أَعْطِ بَنِي زَيْدٍ إلَّا من عَصَاك وَأَعْطِ بَنِي عَمْرٍو قَالَا فَاخْتَلَفَ فيه أَصْحَابُنَا على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَيْهِمَا وَالثَّانِي أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى ما قَبْلَهُ دُونَ ما بَعْدَهُ قَالَا وَسَوَاءٌ كان في الْأَمْرِ أو الْخَبَرِ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ فَإِنْ لم يَكُنْ لَفْظُ الْأَمْرِ أو الْخَبَرِ مَذْكُورًا في الثَّانِيَةِ رَجَعَ إلَيْهِمَا جميعا كَقَوْلِهِ أَعْطِ بَنِي زَيْدٍ إلَّا من عَصَاك وَبَنِي عَمْرٍو الثَّمَنَ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ فَإِنْ كان مَعْطُوفًا عليه يَصِيرُ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ كَالْمُتَقَدِّمِ عليه نَحْوُ أَعْطِ أو أَعْطَيْت بَنِي زَيْدٍ إلَّا من أَطَاعَنِي منهم وَبَنِي عَمْرٍو فَإِنَّهَا صَارَتْ في حُكْمِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى بِالْعَطْفِ على مَوْضِعِ الْفَائِدَةِ وَهَاهُنَا تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ أَنَّ قَوْلَنَا يَعُودُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجَمِيعِ هل مَعْنَاهُ الْعَوْدُ إلَى كل وَاحِدٍ منها بِمُفْرَدِهَا أو الْعَوْدُ إلَى الْمَجْمُوعِ وَيَتَوَزَّعُ عليها فيه خِلَافٌ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ في كِتَابِ الْإِقْرَارِ فِيمَا لو قال له عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَمِائَةُ دِينَارٍ إلَّا خَمْسِينَ وَأَرَادَ بِالْخَمْسِينَ الْمُسْتَثْنَاةِ جِنْسًا غير الدَّرَاهِمِ أو الدَّنَانِيرِ قُبِلَ منه وَكَذَا إنْ أَرَادَ عَوْدَهُ إلَى الْجِنْسَيْنِ مَعًا أو إلَى أَحَدِهِمَا فَإِنْ مَاتَ قبل الْبَيَانِ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يَعُودُ إلَى ما يَلِيهِ وَعِنْدَنَا يَعُودُ إلَى الْمِثَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ من الدَّرَاهِمِ أو الدَّنَانِيرِ ثُمَّ هو على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا يَعُودُ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا جَمِيعُ
____________________
(2/459)
الِاسْتِثْنَاءِ فَيُسْتَثْنَى من أَلْفِ دِرْهَمٍ خَمْسُونَ وَمِنْ مِائَةِ دِينَارٍ خَمْسُونَ وَالثَّانِي يَعُودُ إلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ فَيُسْتَثْنَى من الدَّرَاهِمِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَمِنْ الدَّنَانِيرِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ولم يُصَحِّحْ الْمَاوَرْدِيُّ شيئا وَذَكَرَهَا الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ وَصَحَّحَ الْأَوَّلَ وقال في بَابِ الْعِتْقِ قال الْقَاضِي أبو حَامِدٍ إذَا قال سَالِمٌ وَغَانِمٌ وَزِيَادٌ أَحْرَارٌ يَعْنِي وَلَيْسَ له مَالٌ سِوَاهُمْ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ وَإِنْ قال أَرَدْت من حُرِّيَّةِ الْأَخِيرِ وَحْدَهُ قُبِلَ منه وَأُعْتِقَ من غَيْرِ إقْرَاعٍ وَإِنْ قال أَرَدْتُ حُرِّيَّةَ الْأَوَّلِ أو الثَّانِي لَا يُقْبَلُ لِأَنَّ الناس في الْكِنَايَةِ عن الِاسْتِثْنَاءِ على قَوْلَيْنِ وَمِنْهُمْ من يَرُدُّهُ إلَى الْجَمِيعِ وَمِنْهُمْ من يَرُدُّهُ إلَى الْأَوَّلِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَوْلَيْنِ انْتَهَى وَهَذَا يُخَرَّجُ منه خِلَافٌ آخَرُ وهو أَنَّ الْعَوْدَ إلَى وَاحِدٍ إنَّمَا هو الْأَخِيرُ قلت وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ الذي حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِيمَا إذْ قُلْت أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي بَكْرٍ أو أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ أو بَنِي بَكْرٍ إلَّا ثَلَاثَةً هل مَعْنَاهُ إلَّا ثَلَاثَةً من كل طَائِفَةٍ أو مَجْمُوعَهُمَا يَنْبَنِي على الْخِلَافِ وَيُشْبِهُ أَيْضًا تَخْرِيجَهُ على الْخِلَافِ فِيمَا إذَا عَطَفَ بَعْضَ الْمُسْتَثْنَيَاتِ أو الْمُسْتَثْنَى منه على بَعْضٍ هل يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا حتى يَكُونَا كَالْكَلَامِ الْوَاحِدِ أَمْ لَا فَإِنْ قُلْنَا إنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ فَالْقِيَاسُ جَعْلُ الِاسْتِثْنَاءِ عَائِدًا إلَى الْمَجْمُوعِ وَيَقَعُ فِيمَا لو قال أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ وَوَاحِدَةً إلَّا وَاحِدَةً تَقَعُ ثِنْتَانِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَعُودُ إلَى جَمِيعِ ما سَبَقَ وَإِنْ قُلْنَا لَا يُجْمَعُ فَالِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ بِجُمْلَتِهِ إلَى كل وَاحِدَةٍ وَحِينَئِذٍ فَيَقَعُ ثِنْتَانِ أَيْضًا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَكُونُ من وَاحِدَةٍ وهو بَاطِلٌ لِاسْتِغْرَاقِهِ فَوَقَعَتْ الْوَاحِدَةُ الْمَعْطُوفَةُ وَيَكُونُ من ثِنْتَيْنِ وهو صَحِيحٌ فَيَقَعُ مِنْهُمَا وَاحِدَةٌ فَحِينَئِذٍ يَقَعُ طَلْقَتَانِ على التَّقْدِيرَيْنِ مَعًا الثَّانِي أَنَّ الرَّافِعِيَّ وَجَمَاعَةً من الْأَصْحَابِ مَثَّلُوا الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ الْوَقْفِ بِمَا لو قال وَقَفْتُ على أَوْلَادِي وَأَحْفَادِي وَإِخْوَتِي الْمُحْتَاجِينَ إلَّا أَنْ يَفْسُقَ بَعْضُهُمْ وهو من عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ لَا الْجُمَلِ إلَّا أَنْ يُقَالَ الْعَامِلُ في الْمَعْطُوفِ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ مُقَدَّرٌ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْمُطَابِقُ تَمْثِيلُ الْإِمَامِ في الْبُرْهَانِ بِقَوْلِهِ وَقَفْتُ على بَنِي فُلَانٍ دَارِي وَحَبَسْت على أَقَارِبِي ضَيْعَتِي وَسَبَّلْتُ على خَدَمَتِي بَيْتِي إلَّا أَنْ يَفْسُقَ منهم فَاسِقٌ الثَّالِثُ أَنَّ هذه الْمَسْأَلَةَ قَلَّ من تَعَرَّضَ لها من النَّحْوِيِّينَ وقد سَبَقَ أَنَّ ابْنَ فَارِسٍ ذَكَرَهَا في كِتَابِ فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ وَاخْتَارَ تَوَقُّفَ الْأَمْرِ على الدَّلِيلِ من خَارِجٍ وَذَكَرَهَا الْمَهَابَاذِيُّ في شَرْحِ اللُّمَعِ وَاخْتَارَ رُجُوعَهُ إلَى ما يَلِيهِ كَالْحَنَفِيَّةِ قال وَحَمْلُهُ على أَنْ يُسْتَثْنَى من جَمِيعِ الْكَلَامِ خَطَأٌ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِعَامِلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَيَسْتَحِيلُ ذلك انْتَهَى
____________________
(2/460)
وَكَذَلِكَ قال ابن عَمْرُونٍ في شَرْحِ الْمُفَصَّلِ في قَوْلِنَا لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الِاسْتِثْنَاءُ من الثَّانِيَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ من الْجُمْلَتَيْنِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِعَامِلَيْنِ وَحَسَّنَهُ هُنَا أَنَّ مَعْنَى الثَّانِيَةِ قَرِيبٌ من مَعْنَى الْأُولَى فإذا اُسْتُثْنِيَ من أَحَدِهَا فَكَأَنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ من الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ سَادًّا مَسَدَّ الِاسْتِثْنَاءِ من جُمْلَةٍ مُخْتَلِفَةٍ مَعَانِيهَا وَإِنْ ظَنَّهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ في قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْآيَةَ وَقَاسُوهَا على الشَّرْطِ لِأَنَّهُ مَتَى تَعَقَّبَ عَادَ إلَى الْكُلِّ وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الشَّرْطُ اجْتِمَاعَ عَامِلَيْنِ على مَعْمُولٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ أَنَّهُ مُسْتَثْنًى من لهم وهو في مَوْضِعِ جَرٍّ على الْبَدَلِ من الْهَاءِ وَالْمِيمِ في لهم أو يُنْصَبُ على أَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ وهو أَوْلَى من جَعْلِهِ مُسْتَثْنًى من أُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ فَائِدَةً وَلِهَذَا قال عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه لِلْمَحْدُودِ في الْقَذْفِ تُبْ أَقْبَلْ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ من قَبُولِ الشَّهَادَةِ عَدَمُ الْفِسْقِ بِخِلَافِ ما إذَا اُسْتُثْنِيَ من الْفَاسِقِينَ فَلَا يَلْزَمُ من عَدَمِ الْفِسْقِ قَبُولُ الشَّهَادَةِ وَلَا يُضْمَرُ الْفَصْلُ لِتَعَلُّقِهِ بِهِ وَلَيْسَ بِأَجْنَبِيٍّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنًى من فَاجْلِدُوهُمْ لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ لَا يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَهَذَا منهم بِنَاءً على أَنَّ الْعَامِلَ في الْمُسْتَثْنَى ما قَبْلُ إلَّا فَإِنْ قُلْنَا إنَّ الْعَامِلَ إلَّا كما صَحَّحَهُ ابن مَالِكٍ وَغَيْرُهُ لم يَكُنْ مُسْتَحِيلًا وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِعَوْدِهِ إلَى الْجَمِيعِ إنْ قالوا بِأَنَّ الْعَامِلَ إلَّا فَلَا كَلَامَ وَإِنْ قالوا ما قَبْلَهَا فَعَلَيْهِ هذا الْإِشْكَالُ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ قد نُقِلَ عن أبي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ مُقَدِّمِ أَئِمَّةِ النَّحْوِ وَمَتْبُوعُهُمْ عَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْأَخِيرَةِ كَمَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ وَهَذَا بَنَاهُ أبو عَلِيٍّ على مَذْهَبِهِ أَنَّ الْعَامِلَ في الِاسْتِثْنَاءِ الْفِعْلُ الذي قبل إلَّا وقد قام الدَّلِيلُ اللُّغَوِيُّ وَالْقِيَاسُ النَّحْوِيُّ على أَنْ يَجُوزَ أَنْ يَعْمَلَ عَامِلَانِ في مَعْمُولٍ وَاحِدٍ وَهَذَا مَقْطُوعٌ بِهِ في الْمَعْمُولِ أَيْضًا قال شَيْخُنَا أبو الْحَسَنِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ سَوَادَانِ في مَحَلٍّ وَاحِدٍ لِأَنَّهُمَا لو اجْتَمَعَا لَجَازَ أَنْ يَرْتَفِعَ أَحَدُهُمَا بِضِدِّهِ وإذا جَازَ ذلك عَقْلًا فَلَوْ قَدَّرْنَا رَفْعَ أَحَدِ السَّوَادَيْنِ بِبَيَاضٍ لَأَدَّى إلَى اجْتِمَاعِ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ في مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ عَامِلَانِ في مَعْمُولٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ أَحَدُ الْعَامِلَيْنِ بِضِدِّهِ
____________________
(2/461)
فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا مَثَلًا يُوجِبُ الرَّفْعَ وَالْآخَرُ يُوجِبُ النَّصْبَ فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ مَرْفُوعًا وَمَنْصُوبًا وَذَلِكَ بَاطِلٌ الرَّابِعُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ في الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَقِيبَ الْجُمَلِ مُخْتَلِفٌ فَمِنْهُ ما يَعُودُ إلَى الْكُلِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى في آلِ عِمْرَانَ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ إلَى قَوْلِهِ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وفي الْمَائِدَةِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ إلَى قَوْلِهِ إلَّا ما ذَكَّيْتُمْ قِيلَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ وَقِيلَ مُنْقَطِعٌ يَعُودُ على الْمُنْخَنِقَةِ وما بَعْدَهَا أَيْ ما أَدْرَكْتُمْ ذَكَاتَهُ من الْمَذْكُورَاتِ وَقَوْلُهُ إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْآيَةَ فإن الْإِجْمَاعَ قَائِمٌ كما حَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ على أَنَّ قَوْلَهُ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا عَائِدٌ إلَى الْجَمِيعِ وَمِنْهُ ما يَعُودُ على جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ كَقَوْلِهِ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ من اللَّيْلِ إلَى قَوْلِهِ إلَّا امْرَأَتَك قُرِئَ بِالنَّصْبِ على الِاسْتِثْنَاءِ من الْجُمْلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهَا مُوجِبَةٌ وَبِالرَّفْعِ على الِاسْتِثْنَاءِ من الثَّانِيَةِ لِأَنَّهَا مَنْفِيَّةٌ وقد تَكُونُ خَرَجَتْ مَعَهُمْ ثُمَّ رَجَعَتْ فَهَلَكَتْ قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَمِنْهُ ما يَتَضَمَّنُ عَوْدَهُ إلَى الْأَخِيرَةِ فَقَطْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ كان من قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وهو مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كان من قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَهَذَا رَاجِعٌ إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وهو الدِّيَةُ لَا الْكَفَّارَةُ وَجَعَلَ منه بَعْضُهُمْ آيَةَ الْقَذْفِ فإن اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ ثَلَاثَ جُمَلٍ وَعَقَّبَهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ فَلَا يُمْكِنُ عَوْدُهُ إلَى الْأُولَى بِالِاتِّفَاقِ أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلِبُعْدِهِ عن آخِرِ مَذْكُورٍ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلِخُرُوجِهِ بِدَلِيلٍ وهو أَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ وَلَا إلَى الثَّانِيَةِ لِتَقَيُّدِهَا بِالتَّأْبِيدِ وَبِهِ يَقُومُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ على اخْتِصَاصِهِ بِالْأَخِيرَةِ وقال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ بَلْ رَاجِعٌ إلَى الشَّهَادَةِ فَقَطْ لِأَنَّ التَّفْسِيقَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْخَبَرِ وَالتَّعْلِيلُ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ هو الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فَالِاسْتِثْنَاءُ بِهِ أَوْلَى وَمِنْهُ ما يَتَعَيَّنُ عَوْدُهُ إلَى الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ إلَى قَوْلِهِ إلَّا أَنْ تَتَّقُوا منهم تُقَاةً فَهُوَ عَائِدٌ إلَى النَّهْيِ الْأَوَّلِ دُونَ الْخَبَرِ الثَّانِي وَقَوْلُهُ فَمَنْ شَرِبَ منه فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لم يَطْعَمْهُ فإنه مِنِّي
____________________
(2/462)
إلَّا من اغْتَرَفَ غُرْفَةً بيده فَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالْأَوَّلِ وَلَا يَجُوزُ عَوْدُهُ إلَى الْأَخِيرِ وَإِلَّا يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ من اغْتَرَفَ غُرْفَةً ليس منه وَلَيْسَ الْمَعْنَى عليه فإن الْمَقْصُودَ من لم يَطْعَمْ مُطْلَقًا وَمَنْ اغْتَرَفَ منه غُرْفَةً على حَدٍّ سَوَاءٍ وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ من بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ من أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَك حُسْنُهُنَّ إلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُك فإنه عَائِدٌ إلَى الْأَوَّلِ وَلَا يَجُوزُ عَوْدُهُ إلَى الْأَخِيرَةِ وَإِلَّا يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ قد اسْتَثْنَى الْإِمَاءَ من أَزْوَاجٍ وَكَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ ليس على الْمُسْلِمِ في عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ إلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ فإنه عَائِدٌ إلَى الْأَوَّلِ فَقَطْ وقال الْمُفَسِّرُونَ في قَوْله تَعَالَى وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إلَّا قَلِيلًا أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ من قَوْلِهِ وإذا جَاءَهُمْ أَمْرٌ من الْأَمْنِ أو الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ منهم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ منهم فَهَذَا مَوْضِعُ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ إلَّا قَلِيلًا وَكَقَوْلِهِ إلَّا من خَطِفَ الْخَطْفَةَ بَعْدَ الْجُمَلِ الْمَذْكُورَةِ وهو الْأَوَّلُ وَجَعَلَ ابن جِنِّي في الْخَاطِرِيَّاتِ منه قَوْله تَعَالَى وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ في كل وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لَا يَفْعَلُونَ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً من الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ في يَفْعَلُونَ وَلَوْ كان ما يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا لَكَانَ مَدْحًا لهم وَثَنَاءً عليهم وَهَذَا ضِدُّ الْمَعْنَى هُنَا فَإِنْ قِيلَ هَلَّا كان الْكَلَامُ مَحْمُولًا على الْمَعْنَى أَيْ أَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا قِيلَ فيه شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ الثَّانِي أَنَّ الْمَقْصُودَ ذَمُّ الشُّعَرَاءِ على الْإِطْلَاقِ صَدَقُوا أَمْ كَذَبُوا فَالْمُرَادُ أَنَّ الشُّعَرَاءَ هذه حَالَتُهُمْ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا قال وَحِينَئِذٍ فَفِيهِ جَوَازُ الِاسْتِثْنَاءِ من الْأَوَّلِ الْأَبْعَدِ دُونَ الْآخَرِ الْأَقْرَبِ وهو حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ وهو في الظَّاهِرِ إلَى الْآنِ على أَصْحَابِنَا انْتَهَى وَمِنْهُ ما يَلْتَبِسُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مع اللَّهِ إلَهًا آخَرَ إلَى قَوْلِهِ إلَّا من تَابَ وَآمَنَ فَقَدْ يُتَخَيَّلُ أَنَّهُ من الْجُمَلِ وَإِنَّمَا هو من لَفْظِ من وهو مُفْرَدٌ
____________________
(2/463)
الْخَامِسُ أَنَّهُمْ أَطْلَقُوا النَّقْلَ عن الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَوْجُودُ في كُتُبِهِمْ تَخْصِيصُ هذا الِاسْتِثْنَاءِ بِإِلَّا فَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ نَحْوُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا خِلَافَ عِنْدَهُمْ في عَوْدِهِ إلَى الْجَمِيعِ ذَكَرَ ذلك أبو عَلِيٍّ الْبُخَارِيُّ في كِتَابِ مَعَانِي الْأَدَوَاتِ فقال الِاسْتِثْنَاءُ بِلَفْظِ الْمَشِيئَةِ يُسَمَّى التَّعْطِيلَ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ شَيْءٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ بِإِلَّا يُسَمَّى التَّحْصِيلَ لِأَنَّهُ يَبْقَى بَعْدَهُ شَيْءٌ وَكَذَا وَقَعَ في كَلَامِ الْقَاضِي وَالْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ وَالْآمِدِيَّ وَأَتْبَاعِهِمْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ مَحَلُّ وِفَاقٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وفي الْبُرْهَانِ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَادَّعَى بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ يَقُولُونَ إنَّ الرَّجُلَ إذَا قال نِسْوَتِي طَوَالِقُ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَدُورِي مُحْبَسَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ رَاجِعٌ إلَى ما تَقَدَّمَ وما أَرَاهُمْ يُسَلِّمُونَ ذلك إنْ عَقَلُوا فَإِنْ سَلَّمُوهُ فَطَالِبُ الْقَطْعِ لَا يُغْنِي فيها التَّعَلُّقُ بِهَفَوَاتِ الْخُصُومِ وَمُنَاقَضَاتِهِمْ فَلْيَبْعُدْ طَالِبُ التَّحْقِيقِ عن مِثْلِ هذا انْتَهَى فَائِدَةٌ اُخْتُلِفَ في إنْ شَاءَ اللَّهُ هل هو اسْتِثْنَاءٌ فَظَاهِرُ كَلَامِ طَائِفَةٍ دُخُولُهُ في الِاسْتِثْنَاءِ وَمِنْهُمْ من مَنَعَهُ وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لو قال أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ شَاءَ اللَّهُ لم يَقَعْ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا وَقَعَ الثَّلَاثُ فَدَلَّ على أَنَّهُ ليس بِاسْتِثْنَاءٍ وقال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في قَوْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ هل هو اسْتِثْنَاءٌ يَمْنَعُ من انْعِقَادِ الْيَمِينِ أو يَكُونُ شَرْطًا يُعَلَّقُ بِهِ فلم يَثْبُتْ حُكْمُهُ لِعَدَمِهِ على وَجْهَيْنِ وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ قُلْت وَبِهِ جَزَمَ الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ الطَّلَاقِ ثُمَّ قال وقال الْإِمَامُ لَا يَبْعُدُ عن اللُّغَةِ تَسْمِيَةُ كل تَعْلِيقٍ اسْتِثْنَاءً وإذا قُلْنَا بِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ فَهَلْ هو حَقِيقَةٌ أو مَجَازٌ صَرَّحَ الْإِمَامُ بِالثَّانِي فقال سَمَّاهُ أَئِمَّتُنَا اسْتِثْنَاءً تَجَوُّزًا لِأَنَّهُ ثَنَّى بِمُوجِبِ اللَّفْظِ عن الْوُقُوعِ كَقَوْلِهِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ فإنه ثَنَّى اللَّفْظَ عن إيقَاعِ الثَّلَاثِ لَكِنْ سَمَّاهُ النبي عليه السَّلَامُ اسْتِثْنَاءً في قَوْلِهِ من أَعْتَقَ أو طَلَّقَ ثُمَّ اسْتَثْنَى
____________________
(2/464)
فَلَهُ ثُنْيَاهُ وهو عَامٌّ في قَوْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَغَيْرِهِ مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَدَّدَتْ الْجُمَلُ وَجَاءَ بَعْدَهَا ضَمِيرُ جَمْعٍ فَهُوَ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِهَا كما قُلْنَا في الِاسْتِثْنَاءِ نَحْوُ اُدْخُلْ على بَنِي هَاشِمٍ ثُمَّ بَنِي الْمُطَّلِبِ ثُمَّ سَائِرِ قُرَيْشٍ وَجَالِسْهُمْ وَالْزَمْهُمْ قال بَعْضُهُمْ وَلَا يَجِيءُ فيه خِلَافُ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ مَأْخَذَ الْمُخَالِفِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْفَعُ بَعْضَ ما دخل في اللَّفْظِ وقال من قَصَرَهُ على الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ إنَّ الْمُقْتَضِي لِلدُّخُولِ في الْجُمَلِ السَّابِقَةِ قَائِمٌ وَالْمُخَرَّجُ مَشْكُوكٌ فيه فَلَا يَزَالُ الْمَقْضِيُّ بِالشَّكِّ وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ في الضَّمِيرِ فإن الضَّمِيرَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وهو صَالِحٌ لِلْعُمُومِ على سَبِيلِ الْجَمْعِ وَلَا مُقْتَضِي لِلتَّخْصِيصِ فَيَجِبُ حَمْلُهُ على الْعُمُومِ وَهَذَا إذَا كان الضَّمِيرُ جَمْعًا فَإِنْ كان مُفْرَدًا اخْتَصَّ بِالْأَخِيرَةِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ فَلَوْ قُلْت أَتَانِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَخَالِدٌ فَقَتَلْته لَرَجَعَ الضَّمِيرُ إلَى خَالِدٍ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا يَرْجِعُ إلَى ما قَبْلَهُ إلَّا بِدَلِيلٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فإنه رِجْسٌ فإن الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إلَى اللَّحْمِ لِأَنَّهُ الْمُحَدَّثُ عنه خِلَافًا لِلْمَاوَرْدِيِّ وَابْنِ حَزْمٍ حَيْثُ أَعَادَاهُ إلَى الْخِنْزِيرِ لِأَنَّ اللَّحْمَ دخل في عُمُومِ الْمَيْتَةِ هُرُوبًا من التَّكْرَارِ وَعَمَلًا بِرُجُوعِ الضَّمِيرِ إلَى الْأَقْرَبِ وهو مَرْدُودٌ بِمَا ذَكَرْنَا قال ابن حَزْمٍ في الْإِحْكَامِ وَالْإِشَارَةُ تُخَالِفُ الضَّمِيرَ في عَوْدِهَا إلَى أَبْعَدِ مَذْكُورٍ هذا حُكْمُهَا في اللُّغَةِ إذَا كانت الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ أو تِلْكَ أو أُولَئِكَ أو هو أو هُمْ أو هُنَّ أو هُمَا فَإِنْ كانت بهذا أو هذه فَهِيَ رَاجِعَةٌ إلَى حَاضِرٍ قَرِيبٍ ضَرُورَةً قال وَهَذَا لَا خِلَافَ فيه بين اللُّغَوِيِّينَ وَلِذَلِكَ أَوْجَبْنَا أَنْ يَكُونَ الْقُرْءُ من حُكْمِ الْعِدَّةِ وهو الطُّهْرُ خَاصَّةً دُونَ الْحَيْضِ وَإِنْ كان الْقُرْءُ في اللُّغَةِ وَاقِعًا عَلَيْهِمَا سَوَاءً وَلَكِنْ لَمَّا قال مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حتى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ التي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ
____________________
(2/465)
يُطَلَّقَ لها النِّسَاءُ كَأَنَّ قَوْلَهُ تِلْكَ إشَارَةٌ تَقْتَضِي بَعِيدًا وَأَبْعَدُ مَذْكُورٍ في الحديث قَوْلُهُ تَطْهُرَ فلما تَصِحُّ بهذا الحديث أَنَّ الطُّهْرَ هو الْعِدَّةُ الْمَأْمُورُ أَنْ يُطَلَّقَ لها النِّسَاءُ صَحَّ أَنَّهُ هو الْعِدَّةُ الْمَأْمُورُ بِحِفْظِهَا لِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ مَسْأَلَةٌ إذَا وَقَعَ بَعْدَ الْمُسْتَثْنَى منه وَالْمُسْتَثْنَى جُمْلَةٌ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَظَاهِرُ مَذْهَبِنَا رُجُوعُهَا إلَى الْمُسْتَثْنَى منه وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ إلَى الْمُسْتَثْنَى وَيَتَخَرَّجُ على هذا ما لو قال له عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا مِائَةً قَضَيْته إيَّاهُ قال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً صَحِيحًا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْضِيِّ دُونَ الْقَضَاءِ وَيَصِيرُ مُقِرًّا بِتِسْعِمِائَةٍ قد ادَّعَى قَضَاءَهَا وقال أبو حَنِيفَةَ يَكُونُ مُقِرًّا بِأَلْفٍ مُدَّعِيًا لِقَضَاءِ مِائَةٍ فَيَلْزَمُهُ الْأَلْفُ وَلَا يُقْبَلُ منه دَعْوَى الْقَضَاءِ فَجُعِلَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَوَجِّهًا إلَى الْقَضَاءِ دُونَ الْمَقْضِيِّ الْمُخَصِّصُ الثَّانِي الشَّرْطُ قالوا وهو لُغَةً الْعَلَامَةُ وَاَلَّذِي في الصِّحَاحِ وَغَيْرِهِ من كُتُبِ اللُّغَةِ ذلك في الشَّرَطِ بِالتَّحْرِيكِ وَجَمْعُهُ أَشْرَاطٍ وَمِنْهُ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ أَيْ عَلَامَاتُهَا وَأَمَّا الشَّرْطُ بِالتَّسْكِينِ فَجَمْعُهُ شُرُوطٌ في الْكَثِيرَةِ وَأَشْرُطٌ في الْقِلَّةِ كَفُلُوسٍ وَأَفْلُسٍ وَأَمَّا في الِاصْطِلَاحِ فَذُكِرَ فيه حُدُودٌ أَوْلَاهَا ما ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ وهو أَنَّ الشَّرْطَ ما يَلْزَمُ من عَدَمِهِ الْعَدَمُ وَلَا يَلْزَمُ من وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ لِذَاتِهِ فَاحْتُرِزَ بِالْقَيْدِ الْأَوَّلِ من الْمَانِعِ فإنه لَا يَلْزَمُ من عَدَمِهِ شَيْءٌ وَبِالثَّانِي من السَّبَبِ فإنه يَلْزَمُ من وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَبِالثَّالِثِ مُقَارَنَةُ الشَّرْطِ وُجُودَ السَّبَبِ فَيَلْزَمُ الْوُجُودُ أو وُجُودَ الْمَانِعِ فَيَلْزَمُ الْعَدَمُ لَكِنْ ليس ذلك لِذَاتِهِ بَلْ لِوُجُودِ السَّبَبِ وَالْمَانِعِ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَالشَّرْطُ لَا يَتَخَصَّصُ بِالْوُجُودِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدَمًا لِأَنَّا كما نَشْتَرِطُ في قِيَامِ السَّوَادِ بِمَحَلِّهِ وُجُودَ مَحَلِّهِ
____________________
(2/466)
يُشْتَرَطُ عَدَمُ ضِدِّهِ وَيُشْتَرَطُ عَدَمُ الْقَدْرِ على اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ في صِحَّةِ التَّيَمُّمِ هل لِلشَّرْطِ دَلَالَةٌ في جَانِبِ الْإِثْبَاتِ وَقَعَ في بَابِ الْقِيَاسِ من الْبُرْهَانِ أَنَّ لِلشَّرْطِ دَلَالَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مُصَرَّحٌ بها وَهِيَ إثْبَاتُ الْمَشْرُوطِ عِنْدَ ثُبُوتِ الشَّرْطِ وَالْأُخْرَى ضِمْنِيَّةٌ وَهِيَ الِانْتِفَاءُ وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ غَيْرُهُ من الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الشَّرْطَ لَا دَلَالَةَ له في جَانِبِ الْإِثْبَاتِ بِحَالٍ وَإِنَّمَا يَدُلُّ في جَانِبِ الِانْتِفَاءِ خَاصَّةً وَلَوْ صَحَّ ما قَالَهُ لم يَظْهَرْ فَرْقٌ بين الْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ وَأَمَّا تَمَسُّكُ الْإِمَامِ بِقَوْلِ الْقَائِلِ إنْ جِئْتنِي أَكْرَمْتُك فَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّهُ إذَا جاء اسْتَحَقَّ الْإِكْرَامَ لَكِنْ هل ذلك لِوُجُودِ الشَّرْطِ أو لِأَجْلِ الْإِكْرَامِ الْمَوْقُوفِ على الشَّرْطِ وَكَذَلِكَ لو قال إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهَا إذَا دَخَلَتْ الدَّارَ تَطْلُقُ لَا لِاقْتِضَاءِ الشَّرْطِ ذلك بَلْ لِلِالْتِزَامِ وَالْإِيقَاعِ من جِهَةِ الْمُطَلِّقِ وَهَذَا بِالنَّظَرِ إلَى وَضْعِ اللُّغَةِ وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إلَى الْفِقْهِ فَدُخُولُ الدَّارِ ليس هو سَبَبُ الطَّلَاقِ إذْ لَا يُنَاسِبُ ذلك وَإِنَّمَا السَّبَبُ تَطْلِيقُ الزَّوْجِ الْمَوْقُوفُ على الدُّخُولِ وقد طَوَّلَ الْإِبْيَارِيُّ معه الْكَلَامَ في ذلك وَرَدَّ عليه أبو الْعَبَّاسِ بن الْمُنَيِّرِ وقال قال الْإِمَامُ إنَّ الشَّرْطَ يَدُلُّ في جَانِبِ الْإِثْبَاتِ صَرِيحًا وفي جَانِبِ النَّفْيِ ضِمْنًا وما حَمَلَهُ على ذلك إلَّا رُؤْيَتُهُ الْعِلَلَ تُسْتَعْمَلُ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ كَثِيرًا فَاعْتَقَدَ أَنَّ الشَّرْطَ اللُّغَوِيَّ عِلَّةٌ قال وهو عِنْدِي أَعْذَرُ مِمَّنْ رَدَّ عليه فإن الذي رَدَّ عليه زَعَمَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ شَرْطٌ حَقِيقَةً قال وَالْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ إنَّمَا هِيَ إيقَاعُ الزَّوْجِ عِنْدَ الشَّرْطِ وَإِلَّا فَالدُّخُولُ ليس عِلَّةً لِلطَّلَاقِ شَرْعًا وَهَذَا الرَّدُّ وَهْمٌ من جِهَةِ أَنَّ الدُّخُولَ وَإِنْ كان ليس عِلَّةً لِلطَّلَاقِ شَرْعًا ابْتِدَاءً لَكِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً له بِوَضْعِ الْمُطَلِّقِ وَغَرَضِهِ لِأَنَّهُ قد فَوَّضَ الشَّرْعُ إلَيْهِ في إيقَاعِ الطَّلَاقِ بِلَا سَبَبٍ فَيَلْزَمُ أَنْ يُفَوِّضَ إلَيْهِ في وَضْعِ الْأَشْيَاءِ أَسْبَابًا وَلِهَذَا لَا يُعَلَّقُ الطَّلَاقُ غَالِبًا إلَّا على وَصْفٍ مُشْتَمِلٍ على حِكْمَةٍ عِنْدَهُ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الدَّارُ عَوْرَةً أو فيها ما يُنَافِي غَرَضَهُ فإذا ارْتَكَبَتْ الزَّوْجَةُ ذلك نَاسَبَ الْفِرَاقَ في غَرَضِهِ وَقَصْدِهِ وَكَمَا أَنَّ الطَّلَاقَ غَيْرُ مَشْرُوطٍ شَرْعًا بِدُخُولِ الدَّارِ وقد صَارَ عِنْدَ هذا الْقَائِلِ مَشْرُوطًا بِوَضْعِ الْمُعَلَّقِ فَلَا مَانِعَ من أَنْ يَكُونَ غير مُعَلَّلٍ شَرْعًا وَيَصِيرُ مُعَلَّلًا بِوَضْعِ الْمُطْلَقِ فِعْلًا يَقْتَضِيهِ وَلِهَذَا لو قال
____________________
(2/467)
أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ دَخَلْت الدَّارَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَقَصَدَ ذلك وكان فَصِيحًا طَلُقَتْ في الْحَالِ وكان الدُّخُولُ عِلَّةً لِلطَّلَاقِ لَا شَرْطًا وَفِيهِ مَسَائِلُ الْأُولَى أَنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ شَرْعِيٌّ كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ فَيَلْزَمُ من وُجُودِ الصَّلَاةِ وُجُودُ الطَّهَارَةِ وَلَا يَلْزَمُ من وُجُودِ الطَّهَارَةِ وُجُودُ الصَّلَاةِ وَعَقْلِيٌّ كَالْحَيَاةِ لِلْعِلْمِ فَيَلْزَمُ من وُجُودِ الْعِلْمِ وُجُودُ الْحَيَاةِ وَلَا يَلْزَمُ من وُجُودِ الْحَيَاةِ وُجُودُ الْعِلْمِ وَعَادِيٌّ كَالسُّلَّمِ مع صُعُودِ السَّطْحِ فَيَلْزَمُ من صُعُودِ السَّطْحِ وُجُودُ نَصْبِ السُّلَّمِ وَلَا يَلْزَمُ من نَصْبِ السُّلَّمِ صُعُودُ السَّطْحِ وَلُغَوِيٌّ مِثْلُ التَّعْلِيقَاتِ نَحْوُ إنْ قُمْت وَنَحْوُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَالْمُخْتَصُّ الْمُتَّصِلُ الذي الْكَلَامُ فيه إنَّمَا هو اللُّغَوِيُّ وَالشُّرُوطُ اللُّغَوِيَّةُ أَسْبَابٌ وِفَاقًا لِلْغَزَالِيِّ وَالْقَرَافِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا من الشُّرُوطِ وَلِهَذَا تَقُولُ النُّحَاةُ في الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ بِسَبَبِيَّةِ الْأَوَّلِ وَمُسَبِّبِيَّةِ الثَّانِي وَيَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهَا بِتَبَيُّنِ حَقِيقَةِ السَّبَبِ وَالشَّرْطِ وَالْمَانِعِ الْفَرْقُ بين الشَّرْطِ وَالسَّبَبِ وَالْمَانِعِ فَالسَّبَبُ هو الذي يَلْزَمُ من وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ لِذَاتِهِ وَالْمَانِعُ هو الذي يَلْزَمُ من وُجُودِهِ الْعَدَمُ وَلَا يَلْزَمُ من عَدَمِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ لِذَاتِهِ وَحِينَئِذٍ فَالْمُعْتَبَرُ في الْمَانِعِ وُجُودُهُ وفي الشَّرْطِ عَدَمُهُ وفي السَّبَبِ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ وَمِثَالُهُ الزَّكَاةُ فَالسَّبَبُ النِّصَابُ وَالْحَوْلُ شَرْطٌ وَالدَّيْنُ مَانِعٌ عِنْدَ من يَرَاهُ مَانِعًا وَإِذْ وَضَحَتْ الْحَقِيقَةُ ظَهَرَ أَنَّ الشُّرُوطَ اللُّغَوِيَّةَ أَسْبَابٌ بِخِلَافِ غَيْرِهَا من الشُّرُوطِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَالْعَادِيَّةِ فإنه يَلْزَمُ من عَدَمِهَا الْعَدَمُ في الْمَشْرُوطِ وَلَا يَلْزَمُ من وُجُودِهَا وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ فَقَدْ تُوجَدُ الشُّرُوطُ عِنْدَ وُجُودِهَا كَمُوجِبِ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْحَوْلِ الذي هو شَرْطٌ وقد يُقَارِنُ الدَّيْنَ فَيَمْتَنِعُ الْوُجُوبُ وَأَمَّا الشُّرُوطُ اللُّغَوِيَّةُ التي هِيَ التَّعَالِيقُ نَحْوُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ يَلْزَمُ من الدُّخُولِ الطَّلَاقُ وَمِنْ عَدَمِهِ عَدَمُهُ إلَّا أَنْ يَخْلُفَهُ سَبَبٌ آخَرُ وَحِينَئِذٍ فَإِطْلَاقُ لَفْظِ الشَّرْطِ على الْجَمِيعِ إمَّا بِالِاشْتِرَاكِ أو الْحَقِيقَةِ في وَاحِدٍ وَالْمَجَازِ في الْبَوَاقِي أو بِالتَّوَاطُؤِ إذْ بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وهو مُجَرَّدُ تَوَقُّفِ الْوُجُودِ على الْوُجُودِ وَيَفْتَرِقَانِ فِيمَا عَدَا ذلك ثُمَّ الشَّرْطُ اللُّغَوِيُّ يَمْتَازُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ إمْكَانُ التَّعْوِيضِ عنه وَالْإِخْلَافُ
____________________
(2/468)
وَالْبَدَلُ كما إذَا قال لها إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ يقول لها أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَيَقَعُ الثَّلَاثُ بِالْإِنْشَاءِ بَدَلًا عن الْمُعَلَّقَةِ وَكَمَا إذَا قال إنْ رَدَدْت عَبْدِي فَلَكَ هذا الدِّرْهَمُ ثُمَّ يُعْطِيهِ إيَّاهُ قبل رَدِّ الْعَبْدِ هِبَةً فَتَخْلُفُ الْهِبَةُ اسْتِحْقَاقَهُ إيَّاهُ بِالرَّدِّ وَيُمْكِنُ إبْطَالُ شَرْطِيَّتِهِ كما إذَا نَجَّزَ الطَّلَاقَ أو اتَّفَقَا على فَسْخِ الْجَعَالَةِ وَالشُّرُوطُ الشَّرْعِيَّةُ لَا يَقْتَضِي وُجُودُهَا وُجُودًا وَلَا تَقْبَلُ الْبَدَلَ وَلَا الْإِخْلَافَ وَيُمْكِنُ قَبُولُهَا الْإِبْطَالَ فإن الشَّرْعَ قد يُبْطِلُ شَرْطِيَّةَ الطَّهَارَةِ لِلْعُذْرِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ في صِيغَتِهِ وَهِيَ إنْ وَهِيَ أُمُّ الْأَدَوَاتِ لِأَنَّهَا لَا تَخْرُجُ عن الشَّرْطِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا وَهِيَ لِلتَّوَقُّعِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وإذا وَهِيَ لِلْمُحَقَّقِ كَقَوْلِهِ أنت حُرٌّ إذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ وقد يُسْتَعْمَلُ في التَّوَقُّعِ كَإِنْ مَجَازًا يَجِيءُ شَرْطًا من الْأَسْمَاءِ من وما وَأَيُّ وَمَهْمَا وَمِنْ الظُّرُوفِ أَيْنَ وَأَنَّى وَمَتَى وَحَيْثُمَا وَأَيْنَمَا وَمَتَى وما وَكَيْفَ يُجَازِي بها مَعْنًى لَا عَمَلًا خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ من حَقِّ الشَّرْطِ أَنْ لَا يَدْخُلَ إلَّا على الْمُنْتَظَرِ لِأَنَّ ما انْقَضَى لَا يَصِحُّ الشَّرْطُ فيه وَلِهَذَا كانت الْأَفْعَالُ الْوَاقِعَةُ بَعْدَ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ مُسْتَقْبَلَةً أَبَدًا سَوَاءٌ كان لَفْظُهَا مَاضِيًا مُضَارِعًا إلَّا أَنْ تَدْخُلَ الْفَاءُ فإن الْفِعْلَ يَكُونُ على حَسَبِ لَفْظِهَا ما هو نَحْوُ إنْ يَقُمْ زَيْدٌ فَقَدْ أَكْرَمْته فَإِنْ لم يَكُنْ فَاءٌ فَالْأَمْرُ على ما قُلْنَاهُ إلَّا في كان وَحْدَهَا فإن الْمُبَرِّدَ نُقِلَ عنه أنها تَبْقَى على مُضِيِّهَا فَتَقُولُ إنْ كان زَيْدٌ قَائِمًا قُمْتُ وكان مَاضِيَةٌ وَاحْتَجَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إنْ كنت قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتُهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَإِذْ قال اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ قد كان وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أنها مُسْتَغْرِقَةٌ لِلزَّمَانِ أَلَا تَرَى أنها لَا تَخُصُّ زَمَانًا دُونَ غَيْرِهِ وَزَعَمَ ابن السَّرَّاجِ أَنَّ الْمُبَرِّدَ احْتَجَّ بِالْآيَةِ قال وَفِيهَا نَظَرٌ فلم يَجْزِمْ ولم يَجْعَلْ الْآيَةَ قَطْعِيَّةً في الْمَقْصُودِ وَالصَّحِيحُ عَدَمُ خُرُوجِهَا عن سَائِرِ الْأَفْعَالِ وَنَزَّلَ الْآيَةَ على أَنَّ إنْ دَخَلَتْ على فِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُسْتَقْبَلٍ إمَّا على إضْمَارِ يَكُنْ أَيْ إنْ يَكُنْ قُلْته وَإِمَّا على إضْمَارِ الْقَوْلِ أَيْ إنْ أَكُنْ فِيمَا اسْتَقْبَلَ كُنْت قُلْتُهُ أَيْ مَوْصُوفًا بهذا أو إنْ أَقُلْ كنت قُلْتُهُ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ ابْنِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ الشَّرْطَ لَا يَكُونُ غير مُسْتَقْبَلِ الْمَعْنَى
____________________
(2/469)
بِلَفْظِ كان وَغَيْرِهَا إلَّا مُؤَوَّلًا لَكِنْ ما قَالَهُ مُسْتَدْرَكٌ بِلَوْ وَلَمَّا الشَّرْطِيَّتَيْنِ فإن الْفِعْلَ بَعْدَهَا لَا يَكُونُ إلَّا مَاضِيًا وقال أبو نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ الْمَشْرُوطُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا في الِاسْتِقْبَالِ نَقُولُ لَا أَضْرِبُ زَيْدًا حتى يَقُومَ عَمْرٌو وَلَا يَحْسُنُ لَا أَضْرِبُ زَيْدًا بِالْأَمْسِ حتى يَقُومَ عَمْرٌو فَأَمَّا الشَّرْطُ فَقَالُوا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَرْقُوبًا في الِاسْتِقْبَالِ قال الْقَاضِي وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ قد يَقَعُ الشَّرْطُ كَائِنًا في الْحَالِ غير مُسْتَقْبَلٍ فَيَحْسُنُ أَنْ تَقُولَ إنْ كان زَيْدٌ الْيَوْمَ رَاكِبًا يَرْكَبُ غَدًا فَيُوَافِقُ وُجُودَ الشَّرْطِ لِفِعْلِك وَيَتَقَدَّمُ على الْمَشْرُوطِ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَهَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ لِأَنَّ هذا الْقَوْلَ لَا يَحْسُنُ إذْ مُخَاطِبُك يَعْرِفُ أَنَّ زَيْدًا الْيَوْمَ رَاكِبٌ وَكَذَلِكَ إنْ لم يَعْرِفْ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ عِنْدَ الْجَهْلِ فَكَأَنَّك قُلْت إنْ كان أَوْضَحَ لنا أَنَّ زَيْدًا رَاكِبٌ قُمْتَ غَدًا فَهَذَا الشَّرْطُ إذَنْ على الْحَقِيقَةِ مَرْقُوبٌ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ من أَحْكَامِهِ إخْرَاجُ ما لَوْلَاهُ عُلِمَ إخْرَاجُهُ كَأَكْرِمْ زَيْدًا إنْ اسْتَطَعْت أَوَّلًا كَأَكْرِمْهُ إنْ قام ثُمَّ قد يُوجَدُ دَفْعَةً كَالتَّعْلِيقِ على وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَالْحُكْمُ عِنْدَ أَوَّلِ وُجُودِهِ وقد يُوجَدُ على التَّعَاقُبِ كَالْحَرَكَةِ وَالْكَلَامِ فَعِنْدَ آخِرِ جُزْءٍ إذْ الْعُرْفُ بِوُجُودِهِ حِينَئِذٍ وقد يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ على الْوَجْهَيْنِ كَالطَّهَارَةِ لِمَنْ نَوَى وهو مُنْغَمِسٌ في الْمَاءِ وَلِمَنْ تَوَضَّأَ نَاوِيًا وَقُلْنَا بِتَفْرِيقِ الِارْتِفَاعِ فَالْحُكْمُ عِنْدَ وُجُودِ دَفْعَةٍ إذْ يُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّ وُجُودُهُ حَقِيقَةً وَلَا تَحَقُّقَ لِوُجُودِهِ إلَّا كَذَلِكَ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الثَّانِي الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الشَّرْطُ وَالْمَشْرُوطُ قد يَتَّحِدَانِ نَحْوُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وقد يَتَعَدَّدُ الشَّرْطُ وَيَتَّحِدُ الْمَشْرُوطُ بِأَنْ يَكُونَ لِلْمَشْرُوطِ الْوَاحِدِ شَرْطَانِ فَإِنْ كَانَا على الْجَمْعِ لم يَحْصُلْ الْمَشْرُوطُ إلَّا بِحُصُولِهِمَا مَعًا كَقَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَكَلَّمْت زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ كان على الْبَدَلِ حَصَلَ الْمَشْرُوطُ بِحُصُولِ أَحَدِهِمَا كَقَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ أو كَلَّمْت زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ قال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَمَتَى زِيدَ في شَرْطِهِ زِيدَ في تَخْصِيصِهِ لَا مَحَالَةَ فإنه يَحُطُّهُ في كل دَفْعَةٍ عن رُتْبَةِ الْإِطْلَاقِ قال وَيَنْشَأُ من جَوَازِ مَشْرُوطٍ لِمَشْرُوطٍ أَنْ لَا يُشْعِرَ انْتِفَاءُ الشَّرْطِ
____________________
(2/470)
بِانْعِكَاسِ حُكْمِ الْمَشْرُوطِ إلَّا في الْعُمُومِ وقد يَتَعَدَّدُ الْمَشْرُوطُ وَيَتَّحِدُ الشَّرْطُ بِأَنْ يَكُونَ لِلشَّرْطِ الْوَاحِدِ مَشْرُوطَاتٌ فَإِمَّا على الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ إنْ زَنَيْت جَلَدْتُك وَعَزَّرْتُك فإذا حَصَلَ الزِّنَى حَصَلَ اسْتِحْقَاقُ الْأَمْرَيْنِ وَإِمَّا على الْبَدَلِ كَقَوْلِهِ جَلَدْتُك أو عَزَّرْتُك وَالْمُحَقَّقُ أَحَدُهُمَا الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ لَا يُشْتَرَطُ في الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عن الْمَشْرُوطِ في اللَّفْظِ حتى يَكُونَ كَالِاسْتِثْنَاءِ بَلْ الْأَصْلُ تَقْدِيمُهُ لِأَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ في الْوُجُودِ وَلِأَنَّهُ قِسْمٌ من الْكَلَامِ فَكَانَ له الصَّدْرُ كَالِاسْتِفْهَامِ وَالتَّمَنِّي وَيَجُوزُ تَأَخُّرُهُ لَفْظًا كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ قال في الْمَحْصُولِ وَلَا نِزَاعَ في جَوَازِ تَقْدِيمِهِ وَتَأْخِيرِهِ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ في الْأَوْلَى وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْأَحْرَى هو التَّقْدِيمُ خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ قُلْت قَوْلُهُ لَا نِزَاعَ في تَقْدِيمِهِ وَتَأْخِيرِهِ مَرْدُودٌ فَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الشَّرْطَ له صَدْرُ الْكَلَامِ كَالِاسْتِفْهَامِ فَلَا يَتَقَدَّمُ عليه الْجَوَابُ فَإِنْ تَقَدَّمَ عليه شُبِّهَ بِالْجَوَابِ وَلَيْسَ بِجَوَابٍ وَجَوَّزَهُ الْكُوفِيُّونَ فَنَحْوُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ تَقْدِيرُهُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَلَا تَقْدِيرَ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ بَلْ هو جَوَابٌ مُقَدَّمٌ من تَأْخِيرٍ وَرَدٍّ بِأَنَّهُ لو كان كَذَلِكَ لَمَا افْتَرَقَ الْمَعْنَيَانِ وَهُمَا مُفْتَرِقَانِ فَفِي التَّقْدِيمِ مَبْنَى الْكَلَامِ على الْجَزْمِ ثُمَّ طَرَأَ التَّوَقُّفُ وفي التَّأْخِيرِ مَبْنَى الْكَلَامِ من أَوَّلِهِ على الشَّرْطِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ قَوْلُ الْإِمَامِ إنَّ الْأَوْلَى تَقْدِيمُ الشَّرْطِ وما حَكَاهُ عن الْفَرَّاءِ غَرِيبٌ وقال الصَّفِيُّ في صِحَّةِ النَّقْلِ نَظَرٌ وَإِنْ صَحَّ النَّقْلُ فَضَعْفُهُ بَيِّنٌ وقال شَارِحُ اللُّمَعِ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الشَّرْطُ في اللَّفْظِ كما يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ قِيَاسًا على الِاسْتِثْنَاءِ على الْأَصَحِّ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بين قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ قال وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَقْصِدَ إلَى الشَّرْطِ فَإِنْ جاء بِهِ على جِهَةِ الْعَادَةِ لم يَصِحَّ على الْمَشْهُورِ وفي الْوَقْتِ الذي يُعْتَبَرُ فيه الْقَصْدُ وَجْهَانِ كَالِاسْتِثْنَاءِ قُلْت لو قال لِزَوْجَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا إنْ شِئْت فَطَلَّقَتْ وَاحِدَةً يَقَعُ وَلَوْ قال إنْ شِئْت طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ وَاحِدَةً قال ابن الْقَاصِّ لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَوَافَقَهُ الْأَصْحَابُ وكان يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ وَاحِدَةٌ لِجَوَازِ تَقَدُّمِ الشَّرْطِ وَتَأَخُّرِهِ
____________________
(2/471)
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قد يَرِدُ الْكَلَامُ عَرِيًّا عن الشَّرْطِ مع كَوْنِهِ مُرَادًا فيه وَيُبَيَّنُ في مَوْضِعٍ آخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فإنه مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إلَيْهِ إنْ شَاءَ الشَّرْطُ مُخَصِّصٌ لِلْأَحْوَالِ لَا لِلْأَعْيَانِ الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ نَقَلَ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عن الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى مَنْعَ كَوْنِ الشَّرْطِ يَدُلُّ على التَّخْصِيصِ وقال الشَّرْطُ لَا يُؤَثِّرُ في زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَلَا يَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ وَالصِّفَةِ وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ فقال لَا يَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ في التَّخْصِيصِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَقْلِيلٌ في الْعَدَدِ قَطْعًا بِخِلَافِ الشَّرْطِ لِأَنَّ قَوْلَك أَعْطِ الْقَوْمَ إنْ دَخَلُوا الدَّارَ لَا يُقْطَعُ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ خَارِجٌ من الْعَطِيَّةِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ الْكُلُّ فَيَسْتَحِقُّوا الْعَطِيَّةَ فَإِذَنْ الشَّرْطُ غَيْرُ مُخَصِّصٍ لِلْأَشْخَاصِ وَالْأَعْيَانِ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَإِنَّمَا هو مُخَصِّصٌ لِأَحْوَالٍ من حَيْثُ إنَّ الْأَمْرَ بِالْعَطِيَّةِ لو كان مُطْلَقًا لَا يَسْتَحِقُّونَهَا على كل حَالٍ فإذا شُرِطَ بِدُخُولِ الدَّارِ يُخَصَّصُ بِتِلْكَ الْحَالِ التي هِيَ دُخُولُ الدَّارِ قال وَذَكَرَ الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ أَنَّ الشَّرْطَ بِ إنْ يُخَصِّصُ ما دَخَلَهُ إلَّا أَنْ يَدْخُلَ لِلتَّأْكِيدِ فَلَا كَقَوْلِهِ إنْ تَطَهَّرْت فَصَلِّ لِأَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ في التَّحْقِيقِ انْتَهَى وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الشَّرْطَ من الْمُخَصِّصَاتِ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْجَزَاءَ وَالشَّرْطَ جُمْلَتَانِ صَيَّرَهُمَا حَرْفُ الشَّرْطِ كَلَامًا وَاحِدًا فَيَتَقَيَّدُ إحْدَاهُمَا بِقَيْدِ الْأُخْرَى وَتَخْصِيصُهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ كَذَلِكَ وَبِذَلِكَ أَشْبَهَ الشَّرْطُ الِاسْتِثْنَاءَ فإذا قُلْت أَكْرِمْ بَنِي فُلَانٍ إنْ كَانُوا عُلَمَاءَ صَارَ كَقَوْلِك أَكْرِمْ بَنِي فُلَانٍ إلَّا أَنْ يَكُونُوا جُهَّالًا وَكَذَا إذَا قال من جَاءَك من الناس فَأَكْرِمْهُ وَمَنْ دخل الْكَعْبَةَ فَهُوَ آمِنٌ غير أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا بُدَّ فيه من إخْرَاجٍ كما تَقَدَّمَ وَالشَّرْطُ يُقَيَّدُ فَلَا يُشْتَرَطُ فيه الْإِخْرَاجُ إلَّا على ما سَبَقَ ذِكْرُهُ وقال ابن الْفَارِضِ في النُّكَتِ الِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ الْأَعْيَانَ وَالشَّرْطُ يُخْرِجُ الْأَحْوَالَ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ من حَقِّ الشَّرْطِ أَنْ يَخُصَّ الْمَشْرُوطَ وَلَيْسَ من حَقِّهِ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ إنَّمَا يَكُونُ الشَّرْطُ لِلتَّخْصِيصِ إذَا لم يَقُمْ دَلِيلٌ على خِلَافِهِ وَإِلَّا فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ وَيُصْرَفُ بِالدَّلِيلِ عَمَّا وُضِعَ له من الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاَللَّائِي يَئِسْنَ من الْمَحِيضِ من نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ وَحُكْمُهَا
____________________
(2/472)
في الْعِدَّةِ مع وُجُودِ الرِّيبَةِ وَعَدَمِهَا سَوَاءٌ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ يَكُونُ تَخْصِيصًا إلَّا أَنْ يَقَعَ مَوْقِعَ التَّأْكِيدِ أو غَالِبُ الْحَالِ يُصْرَفُ بِالدَّلِيلِ عن حُكْمِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ إنْ خِفْتُمْ فإن الْخَوْفَ تَأْكِيدٌ لَا شَرْطٌ وَقَوْلُهُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لم تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ لَا خِلَافَ في وُجُوبِ اتِّصَالِ الشَّرْطِ في الْكَلَامِ وَإِنْ اخْتَلَفَ في الِاسْتِثْنَاءِ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ يَجُوزُ تَقَيُّدُ الْكَلَامِ بِشَرْطٍ يَكُونُ الْخَارِجُ بِهِ أَكْثَرَ من الْبَاقِي وَلَا يَأْتِي فيه الْخِلَافُ في الِاسْتِثْنَاءِ قَالَهُ الْإِمَامُ قال الْهِنْدِيُّ وَهَذَا يَجِبُ تَنْزِيلُهُ على ما عُلِمَ أَنَّهُ كَذَلِكَ وَأَمَّا ما يُجْهَلُ فيه الْحَالُ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَيَّدَ وَلَوْ بِشَرْطٍ لَا يَبْقَى من مَدْلُولَاتِهِ شَيْءٌ كَقَوْلِك أَكْرِمْ من يَدْخُلُ الدَّارَ إنْ أَكْرَمَك وَإِنْ اتَّفَقَ أَنَّ أَحَدًا منهم لم يُكْرِمْهُ الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ اخْتَلَفُوا في الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ إذَا تَعَقَّبَهَا شَرْطٌ هل يَرْجِعُ إلَى الْجَمِيعِ أو يَخْتَصُّ بِالْأَخِيرَةِ على طَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا على قَوْلَيْنِ وَمِمَّنْ حَكَاهَا الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِهِ الدَّلَائِلِ فقال اخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ في ذلك فقال قَوْمٌ يَرْجِعُ إلَى ما يَلِيهِ حتى يَقُومَ دَلِيلٌ على إرَادَةِ الْكُلِّ وقال قَوْمٌ بَلْ يَرْجِعُ إلَى الْكُلِّ حتى يَقُومَ دَلِيلُ إرَادَةِ الْبَعْضِ ثُمَّ اخْتَارَ الصَّيْرَفِيُّ رُجُوعَهُ إلَى الْكُلِّ لِأَنَّ الشَّرْطَ وَقَعَ في آخِرِ الْكَلَامِ فلم يَكُنْ آخِرَ الْمَعْطُوفَاتِ أو بِهِ من غَيْرِهِ فَأُمْضِيَ على عُمُومِهِ وَحَكَى الْغَزَالِيُّ عن الْأَشْعَرِيَّةِ عَدَمَ عَوْدِهِ إلَى الْجَمِيعِ قال ابن الْفَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ في النُّكَتِ الذي في كُتُبِ عُلَمَائِنَا كَثِيرًا رُجُوعُهُ إلَى الْجَمِيعِ وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَمِنْهُمْ من سَوَّى بَيْنَهُمَا في رَدِّهِ إلَى الْجَمِيعِ قال وَوَجَدْت بَعْضَ الْأُدَبَاءِ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا في الرُّجُوعِ إلَى ما يَلِيهِمَا وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ الْقَطْعُ بِعَوْدِهِ إلَى الْجَمِيعِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الشَّرْطَ مَنْزِلَتُهُ التَّقَدُّمُ على الْمَشْرُوطِ فإذا أُخِّرَ لَفْظًا كان كَالْمَصْدَرِ في الْكَلَامِ وَلَوْ صَدَرَ لَتَعَلَّقَ بِالْجَمِيعِ فَكَذَا الْمُتَأَخِّرُ وَعَلَى هذا جَرَى ابن مَالِكٍ في بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ من شَرْح التَّسْهِيلِ فقال وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ على تَعَلُّقِ الشَّرْطِ بِالْجَمِيعِ في نَحْوِ لَا تَصْحَبْ زَيْدًا وَلَا تَزُرْهُ وَلَا تُكَلِّمْهُ إنْ ظَلَمَنِي وَاخْتَلَفُوا في الِاسْتِثْنَاءِ انْتَهَى وهو ما أَوْرَدَهُ الْقَفَّالُ وَالْمَاوَرْدِيُّ قَالَا إلَّا أَنْ
____________________
(2/473)
يَخُصَّهُ دَلِيلٌ وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ فيه اتِّفَاقَ أَصْحَابِنَا لَكِنْ في كُتُبِ الْفُرُوعِ عن ابْنِ الْحَدَّادِ إذَا قال أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَثَلَاثًا إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَنَّ الشَّرْطَ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَخِيرَةِ وَنَقَلَ أَصْحَابُ الْمُعْتَمَدِ وَالْمَصَادِرِ والمحصول وِفَاقَ أبي حَنِيفَةَ لنا على ذلك لَكِنَّ الْقَاضِيَ ابْنَ كَجٍّ وَالْمَاوَرْدِيَّ حَكَيَا عن أبي حَنِيفَةَ اخْتِصَاصَهُ بِالْأَخِيرَةِ على قَاعِدَتِهِ في الِاسْتِثْنَاءِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وهو غَلَطٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ إلَى قَوْلِهِ فَمَنْ لم يَجِدْ فَهُوَ عَائِدٌ إلَى جَمِيعِ ما تَقَدَّمَ لَا إلَى الرَّقَبَةِ وَمَثَّلَ الْقَفَّالُ وَالصَّيْرَفِيُّ لِتَخْصِيصِهِ بِبَعْضِ الْمَعْطُوفَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي في حُجُورِكُمْ من نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لم تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فإن الشَّافِعِيَّ قَصَرَ الشَّرْطَ على الرَّبَائِبِ دُونَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ لِدَلِيلٍ قام عِنْدَهُ في ذلك لَا يَصْلُحُ رَدُّهُ إلَى الْأُمَّهَاتِ لِأَنَّ الشَّرْطَ لو اقْتَرَنَ بِهِ لم يَسْتَقِمْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو قِيلَ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ لم يَكُنْ لِلْكَلَامِ مَعْنًى لِأَنَّ أُمَّهَاتِ نِسَائِنَا أُمَّهَاتُ أَزْوَاجِنَا وَهِيَ نِسَاؤُكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ من أَزْوَاجِكُمْ فَكَيْفَ تَرَوْنَ أُمَّهَاتِ أَزْوَاجِنَا من أَزْوَاجِنَا اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وفي هذا بَيَانُ أَنَّ قَوْلَهُ من نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وَصْفٌ لِلرَّبِيبَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ هذه رَبِيبَةٌ لِامْرَأَةٍ لي قد دَخَلْتُ بها وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ هذه أُمُّ امْرَأَتِي من امْرَأَةٍ لم أَدْخُلْ بها وَلِهَذَا بَطَلَ رُجُوعُهُ إلَى الْأُولَى وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءُ وَالشَّرْطُ إلَى جَمِيعِ ما سَبَقَ إذَا صَلُحَ أَنْ يُذْكَرَ مَقْرُونًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كما سَبَقَ انْتَهَى كَلَامُ الْقَفَّالِ وَشَرَطَ ابن الْقُشَيْرِيّ لِلْعَوْدِ إلَى الْجَمِيعِ ما سَبَقَ في الِاسْتِثْنَاءِ فقال إذَا كان الْخِطَابُ على جُمَلٍ منها مُسْتَقِلٍّ وَلَوْ نِيطَتْ وَاحِدَةٌ منها بِشَرْطٍ لم يَقْتَضِ تَعَلُّقُهُ بِالْكُلِّ وَكَذَا إذَا تَوَالَتْ أَلْفَاظٌ عَامَّةٌ يَثْبُتُ الْمُخَصِّصُ في بَعْضِهَا لم يُوجِبْ التَّخْصِيصَ فِيمَا عَدَاهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ الْآيَةَ وَاخْتَارَ الرَّازِيَّ التَّوَقُّفَ هُنَا وَلَا بُعْدَ في تَوَقُّفِ الْقَاضِي فيه على ما تَقَدَّمَ في الِاسْتِثْنَاءِ وَتَكَلُّفُ الْفَرْقِ بَيْنَهَا ضَعِيفٌ
____________________
(2/474)
تَنْبِيهَاتٌ حُكْمُ الشَّرْطِ إذَا تَقَدَّمَ على الْمَعْطُوفِ الْأَوَّلُ هذا إذَا تَأَخَّرَ الشَّرْطُ فَإِنْ تَقَدَّمَ قال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ اخْتَصَّ بِمَا يَلِيهِ عِنْدَ من خَصَّهُ بِجُمْلَةٍ قُلْت وَصَرَّحَ الصَّيْرَفِيُّ بِأَنَّ الْحُكْمَ في تَقَدُّمِ الشَّرْطِ على الْمَعْطُوفَاتِ كَحُكْمِهِ إذَا تَأَخَّرَ في الْعَدَدِ إلَى الْكُلِّ وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ فِيمَا لو قال إنْ شَاءَ اللَّهُ امْرَأَتِي طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ وَمَالِي صَدَقَةٌ وَقَصْدُ الشَّرْطِ أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْجَمِيعِ وَصَرَّحَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ بِأَنَّهُ إذَا قُدِّرَ لِلْعُمُومِ شَرْطٌ مُتَقَدِّمٌ أو مُتَأَخِّرٌ اقْتَضَى تَخْصِيصَ الْمَشْرُوطِ وقال أبو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ من أَصْحَابِنَا في كِتَابِ أَدَبِ الْجَدَلِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَكَثِيرٍ من أَهْلِ اللُّغَةِ عَوْدُ الشَّرْطِ إلَى الْجَمِيعِ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ الشَّرْطُ الْجُمَلَ أو تَأَخَّرَ عنها وقال أبو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَكَثِيرٌ من أَهْلِ اللُّغَةِ إنْ كان في أَوَّلِ كَلَامِهِ رَجَعَ إلَى جَمِيعِ ما يُذْكَرُ عَقِبَهُ وَإِنْ كان في آخِرِهِ رَجَعَ إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ على رُجُوعِهِ إلَى الْجَمِيعِ أو إلَى أَبْعَدِ مَذْكُورٍ انْتَهَى وَهَذَا التَّفْصِيلُ غَرِيبٌ وَجَعَلَ شَارِحُ اللُّمَعِ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا لم يَقُمْ دَلِيلٌ على رُجُوعِهِ إلَى الْجَمِيعِ أو الْبَعْضِ فَإِنْ قام دَلِيلٌ على الْجَمِيعِ تَعَيَّنَ قَطْعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَكَفَّارَتُهُ الْآيَةَ فإن هذا الشَّرْطَ يَرْجِعُ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ قام دَلِيلٌ على رُجُوعِهِ إلَى جُمْلَةٍ منها رَجَعَ إلَيْهَا كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ يا زَانِيَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَالِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إلَى الطَّلَاقِ لَا إلَى الزِّنَا لِأَنَّهُ صِفَةٌ فَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ إذَا لم يَكُنْ الشَّرْطُ مَنْطُوقًا بِهِ فَهَلْ يَعُودُ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ الثَّانِي هذا إذَا كان الشَّرْطُ مَنْطُوقًا بِهِ فَلَوْ لم يَنْطِقْ بِهِ وَلَكِنْ دَلَّ عليه دَلِيلٌ من خَارِجٍ في بَعْضِ الْمَذْكُورَاتِ فَهَلْ يَكُونُ كَالْمَنْطُوقِ حتى يَرْجِعَ إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ فيه وَجْهَانِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ غَرِيبَةٌ لم أَرَهَا إلَّا في تَعْلِيقِ ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ قال في بَابِ قَسْمِ الْفَيْءِ إنَّ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى يَسْتَحِقُّونَهُ مع الْغِنَى بِخِلَافِ الْيَتَامَى فإنه شَرَطَ فِيهِمْ الْحَاجَةَ فَإِنْ قِيلَ إنَّ الشَّرْطَ عِنْدَكُمْ إذَا نِيطَ بِآخِرِ الْكَلَامِ نَصًّا أو دَلَالَةً رَجَعَ إلَى أَوَّلِهِ وقد قام الدَّلِيلُ عِنْدَكُمْ في الْيَتَامَى أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مع الْحَاجَةِ فَوَجَبَ عَوْدُ هذا الشَّرْطِ إلَى ذَوِي الْقُرْبَى قِيلَ له هذا قَوْلٌ قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وهو خَطَأٌ وَنَحْنُ نُفَرِّقُ بين الْمَنْطُوقِ بِهِ
____________________
(2/475)
وَالْمَدْلُولِ عليه هذا لَفْظُهُ الْفَرْقُ بين الشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ فما يُفَارِقُ فيه الشَّرْطُ الِاسْتِثْنَاءَ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ الشَّرْطُ يَتَعَلَّقُ بِهِ إثْبَاتٌ وَنَفْيٌ فَيَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ من جِهَةِ إثْبَاتِهِمَا حُكْمًا وَنَفْيِهِمَا آخَرَ وَيَفْتَرِقَانِ من وُجُوهٍ منها أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُخْرِجُ الْأَعْيَانَ وَالشَّرْطُ يُخْرِجُ الْأَحْوَالَ قَالَهُ ابن الْفَارِضِ في النُّكَتِ وَمِنْهَا أَنَّ الشَّرْطَ يُثْبِتُ الْحُكْمَ في حَالِ وُجُودِهِ وَيَنْفِيهِ في حَالِ عَدَمِهِ وَالِاسْتِثْنَاءُ يَجْمَعُ بين النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَرُبَّمَا يَتَقَدَّمُ الْحُكْمَ شَرْطٌ يَقُومُ الدَّلِيلُ على ثُبُوتِ الْحُكْمِ مع وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ إثْبَاتٌ وَلَا نَفْيٌ وَيُصْرَفُ بِالدَّلِيلِ عَمَّا وُضِعَ له من الْحَقِيقَةِ كَآيَةِ الْعِدَّةِ وَمِنْهَا أَنَّ الشَّرْطَ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ النُّطْقِ بِهِ في الزَّمَانِ عن الْمَشْرُوطِ قَطْعًا وَيَجُوزُ ذلك في الِاسْتِثْنَاءِ على قَوْلٍ وَمِنْهَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْفَعَ جَمِيعَ الْمَنْطُوقِ بِهِ وَيَبْطُلَ حُكْمُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَيَجُوزَ أَنْ يَدْخُلَ الشَّرْطَ كَلَامٌ يُبْطِلُ جَمِيعَهُ بِالْإِجْمَاعِ كَقَوْلِهِ أَنْتُنَّ طَوَالِقُ إنْ دَخَلْتُنَّ الدَّارَ فَلَا تَدْخُلُ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ وَيَبْطُلُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ انْتَهَى وَمِنْهَا أَنَّهُ يَجُوزُ في الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ بِهِ أَكْثَرَ من الْبَاقِي بِلَا نِزَاعٍ بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ على قَوْلٍ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ يَصِحُّ دُخُولُ الشَّرْطِ على الشَّرْطِ فَيَكُونُ الثَّانِي شَرْطًا في الْأَوَّلِ وَيُسَمِّيهِ النَّحْوِيُّونَ اعْتِرَاضَ الشَّرْطِ على الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كان اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ وَمَعْنَاهُ إنْ كان اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ فَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ وَشَرَطَ ابن مَالِكٍ في تَوَالِي الشَّرْطَيْنِ عَدَمَ الْعَطْفِ قال فَلَوْ عُطِفَا فَالْجَوَابُ لَهُمَا مَعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وقد يُقَالُ هذا من تَوَالِي فِعْلَيْ شَرْطٍ لَا من تَوَالِي شَرْطَيْنِ وَاخْتَارَ الْإِمَامُ في النِّهَايَةِ أَنَّ حُكْمَهُ بِالْعَطْفِ كَحُكْمِهِ مع عَدَمِهِ
____________________
(2/476)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ الْمَشْرُوطُ هل يَجِبُ أَنْ يَحْصُلَ آخِرَ جُزْءٍ من الشَّرْطِ أو عَقِبَهُ قال صَاحِبُ النُّكَتِ ذَكَرَ أبو هَاشِمٍ في الْبَغْدَادِيَّاتِ أَنَّهُ يَقَعُ مع آخِرِ جُزْءٍ منه قال وَالْمَحْكِيُّ عن فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَقَعُ بَعْدَ الشَّرْطِ قال وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ في الْإِيقَاعِ وَمِنْهُمْ من فَرَّقَ بين الشَّرْطِ وَالْإِيقَاعِ قال وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ في قَوْلِهِمْ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فإنه يَصِحُّ الْعَقْدُ عِنْدَ أبي هَاشِمٍ وَيُلْغَى الشَّرْطُ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا وَجَبَ حُصُولُ الْمَشْرُوطِ مع حُصُولِ الشَّرْطِ وَالشَّرْطُ هو الْعَقْدُ وَالْمَشْرُوطُ حَلُّهُ وَالْعَقْدُ وَحَلُّهُ لَا يَجْتَمِعَانِ في وَقْتٍ وَاحِدٍ وَجَبَ أَنْ يَلْغُوَ الشَّرْطُ وَيَصِحَّ الْعَقْدُ وَعَلَى قَوْلِ مُخَالِفِيهِ أَنَّ الْمَشْرُوطَ يَقَعُ بَعْدَ الشَّرْطِ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ في الْأَوَّلِ وَيَنْحَلُّ في الثَّانِي وقال الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ الْمَحْصُولِ الْعِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ تَتَقَدَّمُ على مَعْلُولِهَا بِالذَّاتِ لَا بِالزَّمَانِ على ما تَقَرَّرَ في عِلْمِ الْمَعْقُولِ وَالشَّرْطُ مع الْمَشْرُوطِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ لِأَنَّ الشَّرْطَ ما يَتَوَقَّفُ عليه تَأْثِيرُ الْمُؤَثِّرِ فإذا وُجِدَ وُجِدَ الْمُؤَثِّرُ التَّامُّ وَالْمُؤَثِّرُ التَّامُّ يُقَارِنُهُ وُجُودُ الْأَثَرِ من غَيْرِ تَرْتِيبٍ فإن الْمُؤَثِّرَ الشَّرْعِيَّ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُؤَثِّرِ الْعَقْلِيِّ وَذَلِكَ لِمُطَابَقَةِ الشَّرِيعَةِ الْحَقِيقَةَ وَمِنْهُمْ من نَقَلَ الْخِلَافَ في أَنَّهُمَا مَعًا وَلَا بُدَّ من تَرَتُّبِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ في بَابِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهُ عَقِبَهُ وَلِهَذَا لو قال لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بها إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَلَّقَهَا لم يَقَعْ الْمُعَلَّقُ على الْأَصَحِّ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ لَا يَلْزَمُ في الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ أَنْ يَكُونَ اللُّزُومُ بَيْنَهُمَا ضَرُورِيًّا بِالْعَقْلِ بَلْ تَكْفِي الْمُلَازَمَةُ بِالْوَضْعِ فإذا قُلْت إنْ جاء زَيْدٌ أَكْرَمْته فَهَذَا لَازِمٌ بِالْوَضْعِ أَيْ وَضْعِ الْمُتَكَلِّمِ وَلَيْسَ بِالضَّرُورَةِ الْإِكْرَامُ لَازِمًا لِلْمَجِيءِ وَكَلَامُ ابْنِ خَرُوفٍ من النَّحْوِيِّينَ يَقْتَضِي اللُّزُومَ الْعَقْلِيَّ فإنه قُدِّرَ في قَوْله تَعَالَى وَأَدْخِلْ يَدَك في جَيْبِك تَخْرُجْ بَيْضَاءَ أَنَّ الْمَعْنَى وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجُ وَإِنَّمَا قَدَّرَهُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ من إدْخَالِهَا خُرُوجُهَا وتخرج مَجْزُومٌ على الْجَوَابِ فَاحْتَاجَ أَنْ يُقَدِّرَ جَوَابًا لَازِمًا وَشَرْطًا مَلْزُومًا حَذْفًا لِأَنَّهُمَا
____________________
(2/477)
نَظِيرَا ما أَثْبَتَ لَكِنْ وَقَعَ في تَقْدِيرِ ما لَا يُفِيدُ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنَّهُ إنْ أَدْخَلَهَا تَدْخُلُ وَالصَّوَابُ وَبِهِ قال ابن الصَّائِغِ من النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى ذلك فإن الْإِدْخَالَ سَبَبٌ في خُرُوجِهَا بَيْضَاءَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَيْضًا من إخْرَاجِهَا أَنْ تَخْرُجَ بَيْضَاءَ لُزُومًا ضَرُورِيًّا إلَّا بِضَرُورَةِ صِدْقِ الْوَعْدِ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْحُكْمَ هو الْجَزَاءُ وَحْدَهُ وَالشَّرْطُ قَيْدٌ بِمَنْزِلَةِ الظَّرْفِ وَالْحَالِ حتى إنَّ الْجَزَاءَ إنْ كان خَبَرًا فَالشَّرْطِيَّةُ خَبَرِيَّةٌ وَإِنْ كان إنْشَاءً فَإِنْشَائِيَّةٌ وَعِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ أَنَّ مَجْمُوعَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَلَامٌ وَاحِدٌ دَلَّ على رَبْطِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ وَثُبُوتُهُ له على تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ من غَيْرِ دَلَالَةٍ على الِانْتِقَاءِ عِنْدَ الِانْتِفَاءِ وَكُلٌّ من الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَعَلَى الْأَوَّلِ يَتَفَرَّعُ مَذْهَبُنَا في مَفْهُومِ الشَّرْطِ وَعَلَى الثَّانِي يَتَفَرَّعُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ في إنْكَارِهِ وَسَنُبَيِّنُهُ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الثَّالِثُ التَّخْصِيصُ بِالصِّفَةِ وَالْمُرَادُ بها الْمَعْنَوِيَّةُ لَا النَّعْتُ بِخُصُوصِهِ نَحْوُ أَكْرِمْ الْعُلَمَاءَ الزُّهَّادَ فإن التَّقْيِيدَ بِالزُّهَّادِ يُخْرِجُ غَيْرَهُمْ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في بَابِ الْقَضَاءِ من النِّهَايَةِ الْوَصْفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ مَعْنَاهُ التَّخْصِيصُ فإذا قُلْت رَجُلٌ شَاعَ هذا في ذِكْرِ الرِّجَالِ فإذا قُلْتَ طَوِيلٌ اقْتَضَى ذَاكَ تَخْصِيصًا فَلَا تَزَالُ تَزِيدُ وَصْفًا فَيَزْدَادُ الْمَوْصُوفُ اخْتِصَاصًا وَكُلَّمَا كَثُرَ الْوَصْفُ قَلَّ الْمَوْصُوفُ ا هـ وَهِيَ كَالِاسْتِثْنَاءِ في وُجُوبِ الِاتِّصَالِ وَعَوْدِهَا إلَى الْجُمَلِ قال الْمَازِرِيُّ وَلَا خِلَافَ في اتِّصَالِ التَّوَابِعِ وَهِيَ النَّعْتُ وَالتَّوْكِيدُ وَالْعَطْفُ وَالْبَدَلُ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في الِاسْتِثْنَاءِ وقال بَعْضُهُمْ الْخِلَافُ في الصِّفَةِ النَّحْوِيَّةِ وَهِيَ التَّابِعُ لِمَا قَبْلَهُ في إعْرَابِهِ أَمَّا الصِّفَةُ الشَّرْطِيَّةُ فَلَا خِلَافَ فيها وقال أبو الْبَرَكَاتِ بن تَيْمِيَّةَ فَأَمَّا الصِّفَاتُ وَعَطْفُ الْبَيَانِ وَالتَّوْكِيدُ وَالْبَدَلُ وَنَحْوُهَا من الْمُخَصِّصَاتِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وقال الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ إذَا
____________________
(2/478)
تَعَقَّبَتْ الصِّفَةُ شَيْئَيْنِ فَإِمَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى نَحْوُ أَكْرِمْ الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ الْمُؤْمِنِينَ عَادَتْ إلَيْهِمَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ نَحْوُ أَكْرِمْ الْعُلَمَاءَ وَجَالِسْ الْفُقَهَاءَ الزُّهَّادَ فَهَاهُنَا الصِّفَةُ عَائِدَةٌ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ وَلِلْبَحْثِ فيه مَجَالٌ كما في الِاسْتِثْنَاءِ وقال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ إنْ كانت الصِّفَاتُ كَثِيرَةً وَذُكِرَتْ على الْجَمْعِ عَقِبَ جُمْلَةٍ تَقَيَّدَتْ بها أو على الْبَدَلِ فَلِوَاحِدَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ منها وَإِنْ ذُكِرَتْ عَقِبَ جُمَلٍ فَفِي الْعَوْدِ إلَى كُلِّهَا أو إلَى الْأَخِيرَةِ الْخِلَافُ مَسْأَلَةٌ تَوَسُّطُ الْوَصْفِ بين الْجُمَلِ فَأَمَّا إذَا تَوَسَّطَ الْوَصْفُ بين الْجُمَلِ فَفِي عَوْدِهِ إلَى الْأَخِيرَةِ خِلَافٌ حَكَاهُ ابن دَاوُد من أَصْحَابِنَا في شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ قال وَبُنِيَ عَلَيْهِمَا الْقَوْلَانِ في إيجَابِ الْمُتْعَةِ لِلْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ اسْتِنْبَاطًا من لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ ما لم تَمَسُّوهُنَّ أو تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ قال وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَقْصُودَ إنَّمَا هو رَفْعُ الْجُنَاحِ عن الْمُطَلِّقِينَ قبل الْمَسِيسِ وَالْفَرْضِ ثُمَّ إنَّهُ عُطِفَ عليه بِقَوْلِهِ وَمَتِّعُوهُنَّ فَإِنْ أَعَدْنَا الصِّفَةَ إلَيْهِ أَيْضًا لم تَجِبْ الْمُتْعَةُ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ وَكَأَنَّهُ قِيلَ وَمَتِّعُوا الْمَذْكُورَاتِ فَإِنْ لم نَعُدَّهُ وَجَبَتْ كَأَنَّهُ قِيلَ وَمَتِّعُوا النِّسَاءَ وَقَضِيَّتُهُ عَدَمُ تَرْجِيحِ عَوْدِهِ إلَيْهِمَا مَسْأَلَةٌ فَائِدَةُ الصِّفَةِ الْوَصْفُ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَعْرِفَةٍ أو نَكِرَةٍ فَإِنْ كان لِنَكِرَةٍ فَفَائِدَتُهُ التَّخْصِيصُ نَحْوُ مَرَرْت بِرَجُلٍ فَاضِلٍ وَمِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ وَإِنْ كان لِمَعْرِفَةٍ فَفَائِدَتُهُ التَّوْضِيحُ لِيَتَمَيَّزَ بِهِ عن غَيْرِهِ نَحْوُ زَيْدٌ الْعَالِمُ وَمِنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَيُسَمِّيهِ الْبَيَانِيُّونَ الْمُفَارَقَةَ وَخَالَفَهُمْ ابن الزَّمْلَكَانِيِّ تِلْمِيذُ ابْنِ الْحَاجِبِ في كِتَابِ الْبُرْهَانِ فقال إذَا دَخَلَتْ الصِّفَةُ على اسْمِ الْجِنْسِ الْمُعَرَّفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ كانت لِلتَّخْصِيصِ لَا لِلتَّوْضِيحِ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ الْكُلِّيَّةَ لو أُرِيدَتْ بِاسْمِ الْجِنْسِ من حَيْثُ هِيَ هِيَ كان الْوَصْفُ لها نَسْخًا فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ بها الْخَاصُّ ثُمَّ الصِّفَةُ تَأْتِي مُبَيِّنَةً لِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ
____________________
(2/479)
وَيَتَفَرَّعُ على هذا ما لو قال وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ الْمَاءَ الْبَارِدَ فَشَرِبَ الْحَارَّ لم يَحْنَثْ بِخِلَافِ ما لو قال وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا الرَّاكِبَ فَكَلَّمَهُ وهو جَالِسٌ فإنه يَحْنَثُ إذْ لم تُفِدْ الصِّفَةُ فيه تَقْيِيدًا وهو حَسَنٌ وقد يُقَالُ إنَّهُ لَا يُخَالِفُ كَلَامَهُمْ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ عِنْدَهُمْ في الْمَعْنَى وَظَاهِرُ تَصَرُّفِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الصِّفَةَ إذَا وَقَعَتْ لِلنَّكِرَةِ فَهِيَ لِلتَّوْضِيحِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهَا لِلتَّخْصِيصِ وَلِهَذَا كانت الْعَارِيَّةُ عِنْدَنَا على الضَّمَانِ وَعِنْدَهُ على الْأَمَانَةِ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ قَوْلَهُ عليه السَّلَامُ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ هل مَضْمُونَةٌ لِلتَّخْصِيصِ أو لِلتَّوْضِيحِ فَعِنْدَنَا لِلتَّوْضِيحِ وَعِنْدَهُ لِلتَّخْصِيصِ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَمْلِكُ وَمُدْرِكُهُ قَوْله تَعَالَى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ على شَيْءٍ هل هذا الْوَصْفُ لِلتَّوْضِيحِ أو لِلتَّخْصِيصِ فَعِنْدَنَا لِلتَّوْضِيحِ إذْ الْعَبْدُ لَا يَخْرُجُ حَالُهُ عن هذا وَعِنْدَهُ لِلتَّخْصِيصِ على سَبِيلِ الشَّرْطِ تَنْبِيهٌ اتَّفَقُوا على الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالصِّفَةِ وَاخْتَلَفُوا في مَفْهُومِ الصِّفَةِ نَحْوُ في سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ فَلِمَ اخْتَلَفُوا فيه وَاتَّفَقُوا هُنَا وَالْجَوَابُ أَنَّ الصِّفَةَ تَأْتِي لِرَفْعِ احْتِمَالٍ في أَحَدِ مُحْتَمَلَيْنِ على السَّوَاءِ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ تَتَنَاوَلُ الْمُؤْمِنَةَ وَالْكَافِرَةَ فإذا قُيِّدَتْ زَالَ الِاحْتِمَالُ الرَّابِعُ التَّخْصِيصُ بِالْغَايَةِ وَهِيَ نِهَايَةُ الشَّيْءِ وَمُنْقَطَعُهُ وَهِيَ حَدٌّ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ قَبْلَهَا وَانْتِفَائِهِ بَعْدَهَا وَلَهَا لَفْظَانِ حتى وَإِلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ وَقَوْلِهِ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَنَحْوُ أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ حتى يَدْخُلُوا أو إلَى أَنْ يَدْخُلُوا فَيَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِمَا قبل الدُّخُولِ
____________________
(2/480)
وَالْمَقْصُودُ بِالْغَايَةِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لِمَا قَبْلَهَا وَالْمَعْنَى يَرْتَفِعُ بِهَذِهِ الْغَايَةِ لِأَنَّهُ لو بَقِيَ فِيمَا وَرَاءَ الْغَايَةِ لم تَكُنْ الْغَايَةُ مُنْقَطِعًا فلم تَكُنْ الْغَايَةُ غَايَةً لَكِنْ هل يَرْتَفِعُ الْحُكْمُ من غَيْرِ ثُبُوتِ ضِدِّ الْمَحْكُومِ عليه أَمْ تَدُلُّ على ثُبُوتِ الْمَحْكُومِ عليه فَقَطْ هو مَوْضُوعُ الْخِلَافِ كما في الِاسْتِثْنَاءِ وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ وَأَمَّا ما جُعِلَ غَايَةً في نَفْسِهِ فَهَلْ يَنْدَرِجُ في حُكْمِ الْمَعْنَى أَمْ لَا فيه الْخِلَافُ الْآتِي في الْمَفْهُومِ فإذا قُلْت اشْتَرَيْت من كَذَا إلَى كَذَا أو من كَذَا حتى كَذَا فَلَا خِلَافَ فِيمَا قبل الْغَايَةِ أَنَّهُ دَاخِلٌ وَأَنَّ ما بين مُبْتَدَأِ الْغَايَةِ وَمُنْتَهَاهَا دَاخِلٌ إنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ منهم من فَرَّقَ بين حتى فَتَدْخُلَ وإلى فَلَا تَدْخُلْ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَيَتَعَلَّقُ بِالْغَايَةِ إثْبَاتٌ وَنَفْيٌ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ إذْ الشَّرْطُ مُوجِبٌ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ بَعْدَهُ وَلَا يَبْقَى بِهِ قَبْلَهُ وَالْغَايَةُ مُوجِبَةٌ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ قَبْلَهَا لَا بَعْدَهَا فَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْغَايَةِ شَرْطُ الْإِثْبَاتِ بِهِمَا وَالنَّفْيُ بِأَحَدِهِمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ وَهَذَا غَايَةٌ ثُمَّ قال فإذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ وَهَذَا شَرْطٌ فَلَا يُسْتَبَاحُ وَطْؤُهَا إلَّا بِالْغُسْلِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ وَتَنْتَفِي الِاسْتِبَاحَةُ بِعَدَمِهِمَا أو عَدَمِ أَحَدِهِمَا من غَايَةٍ أو شَرْطٍ وَكَذَا جَعَلَ ابن السَّمْعَانِيِّ الْآيَةَ من تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِغَايَةٍ وَشَرْطٍ وَالْغُسْلُ شَرْطٌ فَكَانَا مُعْتَبَرَيْنِ في إبَاحَةِ الْإِصَابَةِ وقال الْأُصُولِيُّونَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ لِلْحُكْمِ غَايَتَانِ كَهَذِهِ الْآيَةِ وقال في الْمَحْصُولِ الْغَايَةُ هِيَ الْأَخِيرَةُ لِأَنَّهَا الذي يَتَرَتَّبُ عليها الْحُكْمُ وَسُمِّيَتْ الْأُولَى غَايَةً مَجَازًا لِقُرْبِهَا من الْغَايَةِ وَاتِّصَالِهَا بها وَنُوزِعَ بِأَنَّ هَاتَيْنِ غَايَتَانِ لِشَيْئَيْنِ فما اجْتَمَعَ غَايَتَانِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ النَّاشِئَ عن دَمِ الْحَيْضِ غَايَتُهُ انْقِطَاعُ الدَّمِ فإذا انْقَطَعَ حَدَثَ تَحْرِيمٌ آخَرُ نَاشِئٌ عن عَدَمِ الْغَسْلِ فَالْغَايَةُ الثَّانِيَةُ غَايَةُ هذا التَّحْرِيمِ الثَّانِي وقال غَيْرُهُ ليس هُنَا غَايَتَانِ لِأَنَّهُمْ قالوا لها حَرْفَانِ حتى وَإِلَى وَلَيْسَ هُنَا غَيْرُ حتى فَلَوْ كان الْحَرْفَانِ هُنَا لَأَمْكَنَ ما قالوا وَإِنَّمَا هو نَظِيرُ قَوْلِك لَا تُكْرِمْ زَيْدًا حتى يَدْخُلَ الدَّارَ فإذا دخل فَأَكْرِمْهُ وَأَيْضًا فَإِنْ كان على قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ في يَطَّهَّرْنَ فَالْغَايَةُ وَاحِدَةٌ وَهِيَ تَأْكِيدٌ لِلْمَعْنَى الْأَوَّلِ على قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ أَيْ يَنْقَطِعُ حَيْضُهُنَّ فَبَعْدَهُ فإذا تَطَهَّرْنَ أَيْ اغْتَسَلْنَ وهو شَرْطٌ فَيَتَعَارَضُ مَفْهُومُ الْغَايَةِ وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ فَأَيُّهُمَا يُقَدَّمُ الظَّاهِرُ تَقْدِيمُ مَفْهُومِ الشَّرْطِ وَحَمْلُ الْقُرْآنِ على تَكْثِيرِ الْفَوَائِدِ من حَمْلِهِ على التَّأْكِيدِ وَحَكَى التَّبْرِيزِيُّ في اخْتِصَارِ الْمَحْصُولِ فِيمَا إذَا كانت الْغَايَةُ لها جُزْءَانِ أو أَجْزَاءٌ
____________________
(2/481)
خِلَافًا في أَنَّ الْغَايَةَ هِيَ الْأُولَى أَمْ الْأَخِيرَةُ قال الْقَرَافِيُّ ولم أَرَهُ إلَّا فيه وَغَيْرُهُ يَحْكِي الِانْدِرَاجَ مُطْلَقًا ولم يَتَعَرَّضْ لِلْأَجْزَاءِ قُلْت وهو قَرِيبٌ من الْخِلَافِ الْفِقْهِيِّ في أَنَّ الْحَدَثَ هل يَرْتَفِعُ عن كل عُضْوٍ بِمُجَرَّدِ غَسْلِهِ أَمْ يَتَوَقَّفُ على تَمَامِ الْأَعْضَاءِ الْأَصَحُّ الْأَوَّلُ فَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حتى يَتَوَضَّأَ فَالْحَدَثُ مُغَيًّا بِالْوُضُوءِ وَالْوُضُوءُ ذُو أَجْزَاءٍ فَهَلْ يَرْتَفِعُ عن الْعُضْوِ بِمُجَرَّدِهِ أَمْ لَا يَرْتَفِعُ شَيْءٌ منه حتى تُوجَدَ الْغَايَةُ بِتَمَامِهَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ إذَا تَطَهَّرَ فَلَبِسَ خُفَّيْهِ هل الْمُرَادُ تَطَهَّرَ طُهْرًا كَامِلًا أو طُهْرًا ما حتى غَسَلَ رِجْلًا وَأَدْخَلَهَا ثُمَّ أُخْرَى وَأَدْخَلَهَا جَازَ وَفِيهِ خِلَافٌ هذا مَأْخَذُهُ وَحَكَى غَيْرُهُ مَذْهَبًا ثَالِثًا بِالتَّفْصِيلِ فقال إنْ كانت مُنْفَصِلَةً عن ذِي الْغَايَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ فَالْغَايَةُ أَوَّلُ جُزْءٍ منه وَإِنْ لم تَكُنْ مُنْفَصِلَةً كَقَوْلِهِ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ فَالْغَايَةُ آخِرُ جُزْءٍ من أَجْزَائِهَا وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ أَطْلَقُوا كَوْنَ الْغَايَةِ من الْمُخَصِّصَاتِ قال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهَذَا الْكَلَامُ مُقَيَّدٌ بِغَايَةٍ تَقَدَّمَهَا لَفْظٌ يَشْمَلُهَا لو لم يُؤْتَ بها كَقَوْلِهِ تَعَالَى حتى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ فإن هذه الْغَايَةَ لو لم يُؤْتَ بها لَقَاتَلْنَا الْمُشْرِكِينَ أَعْطَوْا الْجِزْيَةَ أو لم يُعْطُوهَا وَوَرَاءَهُ صُورَتَانِ إحْدَاهُمَا غَايَةٌ لم يَشْمَلْهَا الْعُمُومُ وَلَا صَدَقَ عليها اسْمُهُ فَلَا يُؤْتَى بها إلَّا لِعَكْسِ ما يُؤْتَى بِالْغَايَةِ في الْقِسْمِ قَبْلَهُ فإن تِلْكَ يُؤْتَى بها لِتَخْصِيصِ الْعُمُومِ أو تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ وَهَذِهِ يُؤْتَى بها لِتَحْقِيقِ الْعُمُومِ وَتَأَكُّدِهِ وَإِعْلَامِ أَنَّهُ لَا خُصُوصَ فيه وَأَنَّ الْغَايَةَ فيه ذَاكِرَةٌ بِحَالِ قَصْدٍ منه أَنْ يَتَعَقَّبَ الْحَالَ الْأُولَى بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّلُهَا شَيْءٌ وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رُفِعَ الْقَلَمُ عن ثَلَاثٍ عن الصَّبِيِّ حتى يَبْلُغَ وَعَنْ النَّائِمِ حتى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حتى يُفِيقَ فَحَالَةُ الْبُلُوغِ وَالِاسْتِيقَاظِ
____________________
(2/482)
وَالْإِفَاقَةِ تُضَادُّ حَالَاتِ الصِّبَا وَالنَّوْمِ وَالْجُنُونِ وَقُصِدَ بِالْغَايَةِ هُنَا اسْتِيعَابُ رَفْعِ الْقَلَمِ لِتِلْكَ الْأَزْمِنَةِ بِحَيْثُ لم يَدَعْ وَلَا آخِرَ الْأَزْمِنَةِ الْمُلَاصِقَةِ لِلْبُلُوغِ وَالِاسْتِيقَاظِ وَالْإِفَاقَةِ وَهَذَا تَحْقِيقٌ لِلْعُمُومِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى حتى مَطْلَعِ الْفَجْرِ قُصِدَ بِهِ تَحْقِيقُ أَنَّ الْحَالَةَ الْمُلَاصِقَةَ لِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِمَّا شَمِلَهُ سَلَامٌ بِمَا قَبْلَهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ فإن حَالَةَ الطُّهْرِ لَا يَشْمَلُهَا اسْمُ الْحَيْضِ وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ غَايَةٌ شَمِلَهَا الْعُمُومُ أَتَتْ أو لم تَأْتِ فَهَذِهِ أَيْضًا لَا يُؤْتَى بها إلَّا لِتَحْقِيقِ الْعُمُومِ كَقَوْلِك قَرَأْتُ الْقُرْآنَ من فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ الْمُرَادُ تَحْقِيقُ قِرَاءَتِك لِلْقُرْآنِ كُلِّهِ بِحَيْثُ لم تَدَعْ منه شيئا وَكَذَلِكَ قَطَعْت أَصَابِعَهُ من الْخِنْصَرِ إلَى الْبِنْصِرِ الْمُرَادُ تَحْقِيقُ الْعُمُومِ وَاسْتِغْرَاقُهُ لَا تَخْصِيصُهُ انْتَهَى وَحَاصِلُهُ أَنَّ ما يَشْمَلُهُ الْعُمُومُ لو لم يَأْتِ هو مُرَادُ الْأُصُولِيِّينَ وَوَرَاءَهُ صُورَتَانِ ما لم يَشْمَلْهُ أَلْبَتَّةَ وما يَشْمَلُهُ وَإِنْ أَتَتْ وَهَاتَانِ لَا تَكُونُ الْغَايَةُ فِيهِمَا لِلتَّخْصِيصِ هذا كُلُّهُ في حُكْمِ ما بَعْدَ الْغَايَةِ نَفْسِهَا هل يَدْخُلُ في الْمُغَيَّا كَقَوْلِك أَكَلْت حتى قُمْتُ هل يَكُونُ الْقِيَامُ مَحَلًّا لِلْأَكْلِ فيه مَذَاهِبُ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا قَبْلَهُ وَالثَّانِي لَا يَدْخُلُ وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ كما قَالَهُ الْإِمَامُ في بَرْهَانٍ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ على شَيْءٍ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ هو ظَاهِرُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ في بَابِ الْوُضُوءِ وَالرَّابِعُ إنْ كان من جِنْسِهِ دخل وَإِلَّا فَلَا نَحْوُ بِعْتُك التُّفَّاحَ إلَى هذه الشَّجَرَةِ فَيُنْظَرُ في تِلْكَ الشَّجَرَةِ أَهِيَ من التُّفَّاحِ فَتَدْخُلُ أَمْ لَا فَلَا تَدْخُلُ قَالَهُ الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ في بَابِ الْوُضُوءِ وَحَكَاهُ أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ عن الْمُبَرِّدِ وَالْخَامِسُ قال في الْمَحْصُولِ وهو الْأَوْلَى إنْ تَمَيَّزَ عَمَّا قَبْلَهُ بِالْحِسِّ نَحْوُ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ فإن حُكْمَ ما بَعْدَهَا خِلَافُ ما قَبْلَهَا وَإِنْ لم يُمَيِّزْ حِسًّا
____________________
(2/483)
اسْتَمَرَّ ذلك الْحُكْمُ على ما بَعْدَهُ مِثْلُ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ فإن الْمِرْفَقَ غَيْرُ مُنْفَصِلٍ عن الْيَدِ بِمِفْصَلٍ مَحْسُوسٍ قال الْقَرَافِيُّ وَقَوْلُ الْإِمَامِ يَكُونُ ما بَعْدَهَا مُخَالِفًا لِمَا قَبْلَهَا مَدْخُولٌ من جِهَةِ أَنَّا لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَعْدَ الْغَايَةِ وَهَذَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْخِلَافِ فيه وَالْخِلَافُ ليس إلَّا في الْغَايَةِ نَفْسِهَا وَالسَّادِسُ إنْ اقْتَرَنَ بِمِنْ لم يَدْخُلْ نَحْوُ بِعْتُك من هذه الشَّجَرَةِ إلَى هذه الشَّجَرَةِ فَلَا يَدْخُلُ في الْبَيْعِ وَإِنْ لم يَقْتَرِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ تَحْدِيدًا وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مع قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ إنَّهُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَأَنْكَرَهُ عليه ابن خَرُوفٍ وقال لم يذكر سِيبَوَيْهِ منه حَرْفًا وَلَا هو مَذْهَبُهُ وَاَلَّذِي قَالَهُ في كِتَابِهِ إنَّ إلَى مُنْتَهَى الِابْتِدَاءِ تَقُولُ من مَكَانِ كَذَا إلَى كَذَا وَكَذَلِكَ حتى قال وَلَهَا في الْفِعْلِ حَالُ ليس لِإِلَى تَقُولُ قُمْت إلَيْهِ فَتَجْعَلُهُ مُنْتَهَاك من مَكَانِك وَلَا تَكُونُ حتى هُنَا فَهَذَا أَثَرُ إلَى وَأَصْلُهَا وَإِنْ اتَّسَعَتْ فَهِيَ أَعَمُّ في الْكَلَامِ من حتى تَقُولُ قُمْتُ إلَيْهِ فَتَجْعَلُهُ مُنْتَهَاك من مَكَانِك وَلَا تَقُولُ حَتَّاهُ هذا لَفْظُ سِيبَوَيْهِ ولم يذكر في كِتَابِهِ غير ذلك وَهَذَا كُلُّهُ في غَايَةِ الِانْتِهَاءِ أَمَّا غَايَةُ الِابْتِدَاءِ فَفِيهَا قَوْلَانِ فَقَطْ قَالَهُ الْقَرَافِيُّ وَطَرَدَ الْأَصْفَهَانِيُّ الْخِلَافَ فيها فقال وَفِيهَا مَذَاهِبُ يَدْخُلَانِ لَا يَدْخُلَانِ ثَالِثُهَا تَدْخُلُ غَايَةُ الِابْتِدَاءِ دُونَ الِانْتِهَاءِ رَابِعُهَا إنْ قَرُبَ حِسًّا خَرَجَتْ وَإِلَّا دَخَلَتْ خَامِسُهَا إنْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ خَرَجَتْ ثُمَّ قال الْقَرَافِيُّ وَهَذَا الْخِلَافُ مَخْصُوصٌ بِإِلَى وَلَا يَجْرِي في حتى لِقَوْلِ النُّحَاةِ إنَّ الْمَعْطُوفَ بِحَتَّى شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ من جِنْسِ ما قَبْلَهَا وَدَاخِلًا في حُكْمِهِ وَآخِرُ جُزْءٍ منه أو مُتَّصِلًا بِهِ أو فيه مَعْنَى التَّعْظِيمِ أو التَّحْقِيرِ فَقَطَعُوا بِانْدِرَاجِ ما بَعْدَهَا في الْحُكْمِ وَخَالَفَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ قال بَلْ يَجْرِي فيها وَهِيَ إذَا جَاءَتْ عَاطِفَةً لَيْسَتْ بِمَعْنَى إلَى فَلَا مُنَافَاةَ بين قَوْلِ النَّحْوِيِّينَ وَالْأُصُولِيِّينَ وَهَاهُنَا أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنَّ هذا الْخِلَافَ مَحَلُّهُ في غَايَةٍ يَتَقَدَّمُهَا لَفْظٌ يَشْمَلُهَا على ما سَبَقَ تَقْرِيرُهُ الثَّانِي أَنَّ من شَرْطِ الْمُغَيَّا أَنْ يَثْبُتَ قبل الْغَايَةِ وَيَتَكَرَّرَ حتى يَصِلَ إلَيْهَا
____________________
(2/484)
كَقَوْلِك سِرْت من الْبَصْرَةِ إلَى الْكُوفَةِ فإن السَّيْرَ الذي هو الْمُغَيَّا ثَابِتٌ قبل الْكُوفَةِ وَيَتَكَرَّرُ في طَرِيقِهَا وَعَلَى هذا يُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى إلَى الْمَرَافِقِ غَايَةً لِغَسْلِ الْيَدِ لِأَنَّ غَسْلَ الْيَدِ إنَّمَا يَحْصُلُ بَعْدَ الْوُصُولِ إلَى الْإِبِطِ فَلَيْسَ ثَابِتًا قبل الْمِرْفَقِ الذي هو غَايَةٌ فَلَا يَنْتَظِمُ غَايَةً له وَإِنَّمَا يَنْتَظِمُ أَنْ لو قِيلَ اغْسِلُوا إلَى الْمَرَافِقِ لِأَنَّ مَطْلُوبَ الْغُسْلِ ثَابِتٌ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَمُتَكَرِّرٌ قال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُغَيَّا غير الْغُسْلِ وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ اُتْرُكُوا من آبَاطِكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ فَيَكُونُ مُطْلَقُ التَّرْكِ ثَابِتًا قبل الْمِرْفَقِ وَيَتَكَرَّرُ إلَيْهِ وَيَكُونُ الْغُسْلُ نَفْسُهُ لم يُغَيَّ في هذا يَتَعَارَضُ الْمَجَازُ وَالْإِضْمَارُ فإنه إمَّا أَنْ يَتَجَوَّزَ بِلَفْظِ الْيَدِ إلَى جُزْئِهَا حتى يَثْبُتَ قبل الْغَايَةِ وَلَا يُضْمَرُ وَإِمَّا أَنْ يُضْمَرَ كما يقول هذا الْحَنَفِيُّ وَمِنْ هذا قَوْله تَعَالَى ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الصِّيَامِ بِوَصْفِ التَّمَامِ قبل غُرُوبِ الشَّمْسِ وَيَتَكَرَّرُ إلَى غُرُوبِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَيُشْكَلُ كَوْنُ اللَّيْلِ غَايَةً لِلصَّوْمِ التَّامِّ وَإِنَّمَا يَنْتَظِمُ لو قِيلَ صُومُوا إلَى اللَّيْلِ قال الْقَرَافِيُّ أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ وَأَجَابَ عنه بِأَنَّ الْمُرَادَ أَتِمُّوا كُلَّ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الصَّوْمِ بِسُنَنِهِ وَفَضَائِلِهِ وَكَرِّرُوا ذلك إلَى اللَّيْلِ وَالْكَمَالُ في الصَّوْمِ قد يَحْصُلُ في جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الصَّوْمِ دُونَ جُزْءٍ من جِهَةِ اجْتِنَابِ الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَغَيْرِ ذلك مِمَّا يَأْبَاهُ الصَّوْمُ وَكَذَلِكَ آدَابُهُ الْخَاصَّةُ كَتَرْكِ السِّوَاكِ وَالتَّفَكُّرِ في أُمُورِ النِّسَاءِ وَغَيْرِ ذلك فَأُمِرْنَا بِتَكْرِيرِ هذا إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ الثَّالِثُ أَنَّ أَصْحَابَنَا في الْفُرُوعِ صَحَّحُوا عَدَمَ دُخُولِهَا فيها إذَا قال بِعْتُك من هذا الْجِدَارِ إلَى هذا الْجِدَارِ لم يَدْخُلْ الْجِدَارَانِ في الْبَيْعِ وَصَحَّحُوا دُخُولَ غَايَةِ الِابْتِدَاءِ دُونَ الِانْتِهَاءِ فِيمَا لو قال له عَلَيَّ من دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ أو ضَمِنْت مَالَك عليه من دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ فَالصَّحِيحُ لُزُومُ تِسْعَةٍ وَلَوْ شُرِطَ في الْبَيْعِ الْخِيَارُ إلَى اللَّيْلِ انْقَطَعَ الْخِيَارُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فإنه أَثْبَتَهُ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَكَذَا إذَا بَاعَهُ بِثَمَنٍ إلَى شَهْرٍ لم يَدْخُلْ الشَّهْرُ الثَّانِي في الْأَجَلِ وَلَوْ وَكَّلَهُ في بَيْعِ عَيْنٍ بِعَشَرَةٍ مُؤَجَّلَةٍ إلَى يَوْمِ الْخَمِيسِ لم يَدْخُلْ يَوْمُ الْخَمِيسِ في الْأَجَلِ قَالَهُ في الْبَحْرِ وَلَوْ حَلَفَ لَيَقْضِيَن حَقَّهُ إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ لم يَدْخُلْ رَأْسُ الشَّهْرِ في الْيَمِينِ بَلْ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْقَضَاءِ عليه وَلَوْ قال أَرَدْت بِإِلَى مَعْنَى عِنْدَ فَفِي قَبُولِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْغَزَالِيُّ في الْبَسِيطِ وَرَجَّحَ الْقَبُولَ
____________________
(2/485)
التَّخْصِيصُ بِالْبَدَلِ أَعْنِي بَدَلَ الْبَعْضِ من الْكُلِّ نَحْوُ أَكَلْت الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ منهم ذَكَرَهُ ابن الْحَاجِبِ في مُخْتَصَرِهِ وَأَنْكَرَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ قال لِأَنَّ الْمُبْدَلَ كَالْمَطْرُوحِ فلم يَتَحَقَّقْ فيه مَعْنَى الْإِخْرَاجِ وَالتَّخْصِيصُ لَا بُدَّ فيه من الْإِخْرَاجِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى وَلِلَّهِ على الناس حِجُّ الْبَيْتِ من اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا أَنَّ تَقْدِيرَهُ وَلِلَّهِ حِجُّ الْبَيْتِ على من اسْتَطَاعَ وَكَذَا أَنْكَرَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ الْمَحْصُولِ وَهَذَا أَحَدُ الْمَذَاهِبِ فيه وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ ليس في نِيَّةِ الطَّرْحِ قال السِّيرَافِيُّ زَعَمَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّهُ في حُكْمِ تَنْحِيَةِ الْأَوَّلِ وهو الْمُبْدَلُ منه وَلَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إلْغَاءَهُ وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ أَنَّ الْبَدَلَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ تَبْيِينًا لِلْأَوَّلِ كَتَبْيِينِ النَّعْتِ الذي هو تَمَامُ الْمَنْعُوتِ وهو معه كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَمِنْهُمْ من قال لَا يَحْسُنُ عَدْلُ الْبَدَلِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ في قَوْلِنَا أَكَلْت الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ يُشْبِهُ الْعَامَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخُصُوصُ لَا الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ إذَا جَعَلْنَاهُ من الْمُخَصِّصَاتِ فَلَا يَجِيءُ فيه خِلَافُ الِاسْتِثْنَاءِ في اشْتِرَاطِ بَقَاءِ الْأَكْثَرِ بَلْ سَوَاءٌ قَلَّ ذلك الْبَعْضُ أو سَاوَاهُ أو زَادَ عليه كَأَكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ أو نِصْفَهُ أو ثُلُثَيْهِ الثَّانِي يُلْتَحَقُ بِبَدَلِ الْبَعْضِ ذلك بَدَلُ الِاشْتِمَالِ لِأَنَّ في كِلَيْهِمَا بَيَانًا وَتَخْصِيصًا لِلْمُبْدَلِ منه التَّخْصِيصُ بِالْحَالِ هو في الْمَعْنَى كَالصِّفَةِ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ أَنَّهُ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا عَادَ إلَى الْجَمِيعِ بِالِاتِّفَاقِ وَنَحْوُ أَكْرِمْ رَبِيعَةَ وَأَعْطِ مُضَرَ نَازِلِينَ بِك لَكِنْ صَرَّحَ في الْمَحْصُولِ بِأَنَّا نَخُصُّهُ بِالْأَخِيرَةِ على قَاعِدَةِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى التَّخْصِيصُ بِالظَّرْفَيْنِ وَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ نَحْوُ أَكْرِمْ زَيْدًا الْيَوْمَ أو في مَكَانِ كَذَا وَلَوْ تَعَقَّبَ جُمَلًا فَظَاهِرُ كَلَامِ
____________________
(2/486)
الْبَيْضَاوِيِّ الِاتِّفَاقُ على رُجُوعِهِ إلَى الْجَمِيعِ وَصَرَّحَ في الْمَحْصُولِ في الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ بِأَنَّا نَخُصُّهُ بِالْأَخِيرَةِ أَمَّا لو تَوَسَّطَ فذكر ابن الْحَاجِبِ في مَسْأَلَةِ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ أَنَّ قَوْلَنَا ضَرَبْت زَيْدًا يوم الْجُمُعَةِ وَعَمْرًا ما يَقْتَضِي أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُقَيِّدُونَ بِهِ الثَّانِي أَيْضًا وقال أبو الْبَرَكَاتِ بن تَيْمِيَّةَ فَأَمَّا الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مِثْلُ أَنْ تَذْكُرَ جُمَلًا ثُمَّ تَقُولَ على أَنَّهُ أو بِشَرْطِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْجَمِيعِ قَوْلًا وَاحِدًا لِتَعَلُّقِهِ بِالْكَلَامِ لَا بِالِاسْمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ اللَّفْظِيِّ التَّمْيِيزُ نَحْوُ له عِنْدِي مِلْءُ هذا ذَهَبًا وَإِنْ تَعَقَّبَ جُمَلًا فَظَاهِرُ كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ عَوْدُهُ إلَى الْجَمِيعِ بِالِاتِّفَاقِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ فيه ما سَبَقَ في الْحَالِ وَيَشْهَدُ لِلْخِلَافِ عِنْدَنَا ما لو قال له عِنْدِي كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا فَيَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ على الْمَذْهَبِ وفي قَوْلٍ دِرْهَمٌ وَشَيْءٌ وَالْأَوَّلُ ظَاهِرٌ في الْعَوْدِ إلَى الْجَمِيعِ وَالثَّانِي ظَاهِرٌ في اخْتِصَاصِهِ بِالْأَخِيرَةِ وما لو قال له عَلَيَّ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا هل قَوْلُهُ دِرْهَمًا تَفْسِيرٌ لِمَا يَلِيهِ من الْجُمْلَتَيْنِ أو هو تَفْسِيرٌ لِلْجُمْلَتَيْنِ فيه وَجْهَانِ وَحَكَاهُمَا الشَّاشِيُّ في الْحِلْيَةِ وَنُسِبَ الْأَوَّلُ لِلْإِصْطَخْرِيِّ وَابْنِ خَيْرَانَ وَالثَّانِي لِلْجُمْهُورِ وَبَنَى عَلَيْهِمَا ما لو قال بِعْتُك هذا بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَصِحُّ وَعَلَى الثَّانِي يَصِحُّ مَسْأَلَةٌ الْمُمَيِّزِ إذَا وَرَدَ على شَيْئَيْنِ وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا لِلْمَجْمُوعِ فيه خِلَافٌ يَتَخَرَّجُ عليه مَسْأَلَةٌ لو قال إنْ حِضْتُمَا حَيْضَةً فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا وَالثَّانِي لِلْمَجْمُوعِ وهو مُحَالٌ فَيَكُونُ تَعْلِيقًا بِمُسْتَحِيلٍ وَمِثْلُهُ إنْ دَخَلْتُمَا هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ
____________________
(2/487)
الْمَفْعُولُ معه وَلَهُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُقَيِّدٌ لِلْفِعْلِ وَيَفْتَرِقَانِ من جِهَةِ أَنَّ الْمَفْعُولَ له هو الْغَرَضُ الْحَامِلُ على الْفِعْلِ فَهُوَ لَازِمٌ لِلْفِعْلِ في الْمَعْنَى بِخِلَافِ الْمَفْعُولِ معه قال بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ وفي الْمَفْعُولِ معه الْفَاعِلُ مُصَاحِبٌ له لَا أَنَّهُ مُشْتَرِكٌ مع صَاحِبِ الْفِعْلِ في الْفِعْلِ مَسْأَلَةٌ قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ في كِتَابِهِ اخْتَلَفُوا في الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَّصِلَتَيْنِ إذَا أَمْكَنَ إفْرَادُ كل وَاحِدٍ بِلَفْظِهَا وَحُكْمِهَا وَقَامَ الدَّلِيلُ على تَخْصِيصِ إحْدَاهُمَا من غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ أو وَصْفٍ مُتَّصِلٍ بِهِمَا فقال الْأَكْثَرُونَ إنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيمَا اتَّصَلَ بِهِ وَلَا يُحْمَلُ على حُكْمِهِ إلَّا بِمِثْلِ دَلِيلِهِ وقال آخَرُونَ إنَّهُ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا وإذا لم يُمْكِنْ إفْرَادُ كل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْحُكْمِ وَاللَّفْظِ كَانَتَا كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ وَالِاسْتِثْنَاءُ عَامِلٌ فيها مَعًا وَإِنْ اخْتَصَّتْ الدَّلَالَةُ بِإِحْدَاهُمَا مَسْأَلَةٌ قال وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ في الضَّمِيرِ وإذا اتَّصَلَ بِأَحَدِ الْأَجْنَاسِ مع الْعَطْفِ فإنه يَعُودُ إلَى الْجَمِيعِ كَقَوْلِهِمْ أَعْطَيْتُ بَنِي زَيْدٍ وَأَكْرَمْتُ بَنِي عَمْرٍو وَأَكْرَمُونِي وَأَعْطَوْنِي وَكَقَوْلِهِمْ جَاءَنِي بَنُو فُلَانٍ وَهُمْ أَكَلُوا فَالْهَاءُ وَالْمِيمُ وَالْوَاوُ وَالْأَلِفُ في الْجَمِيعِ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ ما تَقَدَّمَ لَا يُخَصُّ منه شَيْءٌ إلَّا بِدَلِيلٍ فَإِنْ جُمِعَ بين الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فَإِنْ وُصِلَ الْكَلَامُ بِسِمَةِ الْجَمْعِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْإِنَاثِ كانت لِلْجِنْسِ الْمُخْتَصِّ بها في أَصْلِ الْوَضْعِ كَقَوْلِك جَاءَنِي مُسْلِمُونَ وَمُؤْمِنَاتٌ فَأَكَلْنَ وَيَجُوزُ حَمْلُهُ على الْجَمِيعِ بِدَلِيلٍ نَحْوُ فَأَكَلْنَ وَأَكَلُوا على الِاخْتِصَارِ وَإِنْ وُصِلَ بِالسِّمَةِ الْمَوْضُوعَةِ لِجَمْعِ الذُّكُورِ فَالظَّاهِرُ رُجُوعُهَا إلَى الذُّكُورِ وَلَا يُحْمَلُ على الْجَمِيعِ إلَّا بِدَلِيلٍ قال وَلَا فَرْقَ في ذلك بين تَقْدِيمِهِمْ ما تَعُودُ الْكِنَايَةُ إلَيْهِ على غَيْرِ جِنْسِهِ أو تَقْدِيمِ جِنْسِهِ عليه في أَنَّ الظَّاهِرَ رَدُّ الضَّمِيرِ
____________________
(2/488)
مَسْأَلَةٌ إذَا ذُكِرَ حُكْمٌ وَعُقِّبَ بِشَرْطٍ ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدَهُ إشَارَةٌ هل تَعُودُ لِلشَّرْطِ أو لِلْأَصْلِ فيه خِلَافٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ أَصْلُهُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلْمَكِّيِّ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ وَلَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُكْرَهُ وَيَلْزَمُهُ الدَّمُ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ من قَوْله تَعَالَى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فما اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ إلَى أَنْ قال ذلك لِمَنْ لم يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَعِنْدَنَا ذلك يَرْجِعُ إلَى الدَّمِ وَعِنْدَهُ إلَى أَصْلِ التَّمَتُّعِ
____________________
(2/489)
التَّخْصِيصُ بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُرَادُ منه ما يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ وَلَا يَحْتَاجُ في ثُبُوتِهِ إلَى ذِكْرِ لَفْظِ الْعَامِّ معه وقد ذَكَرُوهَا ثَلَاثَةً الْحِسُّ وَالْعَقْلُ وَالدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ قال الْقَرَافِيُّ وَالْحَصْرُ غَيْرُ ثَابِتٍ فَقَدْ بَقِيَ التَّخْصِيصُ بِالْعَوَائِدِ كَقَوْلِك رَأَيْت الناس أَفْضَلَ من زَيْدٍ الْعَادَةُ تَقْتَضِي بِأَنَّك لم تَرَ كُلَّ الناس وَكَذَا التَّخْصِيصُ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ كَقَوْلِك لِغُلَامِك ائْتِنِي بِمَنْ يُحَدِّثُنِي فإن ذلك لَنْ يَصْلُحَ لِحَدِيثِهِ في مِثْلِ حَالِهِ وَالتَّخْصِيصُ بِالْقِيَاسِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ دُخُولَهُ في السَّمْعِيِّ قُلْت وقد ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ في بَابِ الْوَكَالَةِ أَنَّ الْقَرَائِنَ قد تَقْوَى فَيَتْرُكُ لها إطْلَاقَ اللَّفْظِ قال أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَمَرَهُ في الصَّيْفِ بِشِرَاءِ شَيْءٍ لَا يَشْتَرِيهِ في الشِّتَاءِ قال وقد يَتَعَادَلُ اللَّفْظُ وَالْقَرِينَةُ وَيَنْشَأُ من تَعَادُلِهِمَا خِلَافٌ في الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ نُقِلَ بَعْدَ أَوْرَاقٍ عن الْإِمَامِ في الْكَلَامِ على أَنَّ الْوَكِيلَ هل يُوَكِّلُ أَنَّ الْخِلَافَ نَاظِرٌ إلَى اللَّفْظِ وَالْقَرِينَةِ وفي الْقَرِينَةِ تَرَدُّدٌ في التَّعْمِيمِ وَالتَّخْصِيصِ وفي هذا فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْقَرَائِنَ قد يَثْبُتُ فيها الْعُمُومُ الْأَوَّلُ التَّخْصِيصُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ ضَرُورِيًّا كان أو نَظَرِيًّا فَالْأَوَّلُ كَتَخْصِيصِ قَوْله تَعَالَى اللَّهُ خَالِقُ كل شَيْءٍ فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ ليس خَالِقًا لِنَفْسِهِ وَالثَّانِي كَتَخْصِيصِ قَوْله تَعَالَى وَلِلَّهِ على الناس الْآيَةَ فَإِنَّا نُخَصِّصُ الطِّفْلَ وَالْمَجْنُونَ لِعَدَمِ فَهْمِهِمَا الْخِطَابَ قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَلَا خِلَافَ بين أَهْلِ الْعِلْمِ في ذلك قال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الصِّيغَةَ الْعَامَّةَ إذَا وَرَدَتْ وَاقْتَضَى الْعَقْلُ امْتِنَاعَ تَعْمِيمِهَا فَيُعْلَمُ من جِهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الْمُرَادَ بها خُصُوصُ ما لَا يُحِيلُهُ الْعَقْلُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الْعَقْلَ صِلَةٌ لِلصِّيغَةِ نَازِلَةٌ له مَنْزِلَةَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْكَلَامِ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ ما قَدَّمْنَاهُ أَنَّا نَعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَنَّ مُطْلَقَ الصِّيغَةِ لم يُرَدْ تَعْمِيمُهَا وقد مَنَعَ بَعْضُهُمْ التَّخْصِيصَ بِالْعَقْلِ وهو ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ فإنه قال في بَابِ ما نَزَلَ من كِتَابٍ عَامًّا يُرَادُ بِهِ الْعَامُّ وَيَدْخُلُهُ الْخُصُوصُ ثُمَّ قال
____________________
(2/490)
الشَّافِعِيُّ قال اللَّهُ عز وجل اللَّهُ خَالِقُ كل شَيْءٍ وَذَكَرَ قَوْله تَعَالَى وما من دَابَّةٍ في الْأَرْضِ إلَّا على اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا فَهَذَا عَامٌّ لَا خُصُوصَ فيه فَكُلُّ شَيْءٍ من سَمَاءٍ وَأَرْضٍ وَذِي رُوحٍ وَشَجَرٍ وَغَيْرِ ذلك فَاَللَّهُ خَالِقُهُ وَكُلُّ دَابَّةٍ فَعَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا انْتَهَى وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ من الْعُمُومِ لِمَا يَصِحُّ دُخُولُهُ فيه لَوْلَا دَلِيلُ التَّخْصِيصِ فَأَمَّا الذي يَسْتَحِيلُ دُخُولُهُ في عُمُومِ الْخِطَابِ فَلَيْسَ خُرُوجُهُ عنه تَخْصِيصًا وقال في كِتَابِ التَّحْصِيلِ إنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عليه قال في قَوْله تَعَالَى اللَّهُ خَالِقُ كل شَيْءٍ إنَّهُ عَامٌّ لَا خُصُوصَ فيه وَاعْتَرَضَ ابن دَاوُد عليه بِتَخْصِيصِ كَلَامِهِ وَصَرْفِهِ عن ظَاهِرِهِ وَأَجَابَ ابن سُرَيْجٍ وَالصَّيْرَفِيُّ عنه بِأَنَّ التَّخْصِيصَ مَعْنَاهُ أَنْ يَخْرُجَ عن عُمُومِ اللَّفْظِ بِالدَّلِيلِ ما كان يَجُوزُ دُخُولٌ فيه من طَرِيقِ الْعَقْلِ فَأَمَّا الذي يَسْتَحِيلُ دُخُولُهُ في عُمُومِ اللَّفْظِ فإن خُرُوجَهُ عن الْخِطَابِ لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا انْتَهَى وَفَصَّلَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في اللُّمَعِ بين ما يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ وهو ما يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ من بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ فَيَمْتَنِعُ التَّخْصِيصُ بِهِ لِأَنَّ ذلك إنَّمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِعَدَمِ الشَّرْعِ فإذا وَرَدَ الشَّرْعُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِهِ وَصَارَ الْحُكْمُ لِلشَّرْعِ فَأَمَّا ما لَا يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ كَاَلَّذِي دَلَّ الْعَقْلُ على نَفْيِهِ فَيَجُوزُ نَحْوُ اللَّهُ خَالِقُ كل شَيْءٍ فإن الْمُرَادَ ما خَلَا الصِّفَاتِ لِدَلَالَةِ الْعَقْلِ على ذلك انْتَهَى وَهَذَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ تَقْيِيدًا لِكَلَامِ من أَطْلَقَ لَا مَذْهَبًا آخَرَ ثُمَّ قال الْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُمْ النِّزَاعُ لَفْظِيٌّ إذْ مُقْتَضَى الْعَقْلِ ثَابِتٌ دُونَ اللَّفْظِ إجْمَاعًا لَكِنَّ الْخِلَافَ في تَسْمِيَتِهِ تَخْصِيصًا فَالْخَصْمُ لَا يُسَمِّيهِ لِأَنَّ الْمُخَصِّصَ هو الْمُؤَثِّرُ في التَّخْصِيصِ وهو الْإِرَادَةُ لَا الْعَقْلُ وَلِأَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ سَابِقٌ فَلَا يَعْمَلُ في اللَّفْظِ بَلْ يَكُونُ مُرَتَّبًا عليه وَمَعْنَى قَوْلِنَا إنَّهُ مُخَصِّصٌ أَنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ على أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخُصُوصُ وَلِذَلِكَ الْعَقْلُ هذا الْحَظُّ وَالدَّلِيلُ لَا يُخَصُّ وَلَكِنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ الْقَصْدُ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بين دَلِيلِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ في ذلك
____________________
(2/491)
وَكَذَا قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ أَجْمَعُوا على صِحَّةِ دَلَالَةِ الْعَقْلِ على خُرُوجِ شَيْءٍ عن حُكْمِ الْعُمُومِ وَاخْتَلَفُوا في تَسْمِيَتِهِ تَخْصِيصًا وَمِنْهُمْ من قال إنَّهُ مَعْنَوِيٌّ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ وَجْهُهُ عِنْدَ من لَا يقول بِهِ أَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مَوْضُوعٍ له لِأَنَّهُ لَا يُوضَعُ لِغَيْرِ الْمَعْقُولِ فَيَكُونُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي وهو حُجَّةٌ وَحَقِيقَةٌ عِنْدَهُ قَطْعًا وَمَنْ قال إنَّهُ مُخَصِّصٌ كان مَجَازًا على الْخِلَافِ في الْعَامِّ إذَا خُصَّ فَيَجْرِي فيه الْخِلَافُ على هذا وَلَا يَجْرِي على الْأَوَّلِ وَقِيلَ بَلْ الْخِلَافُ رَاجِعٌ إلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ وهو قَوْلُ أبي الْخَطَّابِ من الْحَنَابِلَةِ قال الْمَنْعُ بِنَاءً على أَنَّ الْعَقْلَ لَا يَحْسُنُ وَلَا يَقْبُحُ وَأَنَّ الشَّرْعَ يَرِدُ بِمَا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ وَأَنْكَرَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ وقال النَّقْشَوَانِيُّ الْكَلَامُ ليس في مُطْلَقِ الْعُمُومِ بَلْ في الْعُمُومَاتِ الدَّالَّةِ على الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فإن الْفَقِيهَ لَا يَنْظُرُ في غَيْرِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَكَذَا الْأُصُولِيُّ وَحِينَئِذٍ فَالْعَقْلُ لَا مَجَالَ له في تَحْصِيلِ هذه الْعُمُومَاتِ إلَّا بِالنَّظَرِ في دَلِيلٍ آخَرَ شَرْعِيٍّ فإذا فَرَضْنَا نَصًّا يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْقَتْلِ فَالْعَقْلُ إنَّمَا يُخَصِّصُهُ لو أَدْرَكَ الْمَصْلَحَةَ وَكَيْفَ يُدْرِكُهَا فَلَا يُخَصِّصُهَا انْتَهَى وَهَذَا الذي قَالَهُ مَرْدُودٌ بِمَا سَبَقَ عن الْقَاضِي وَغَيْرِهِ في تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ اخْتَلَفُوا هل يَدْخُلُ في الْعُمُومِ ما يَمْنَعُ الْعَقْلَ إجْرَاءَ الْحُكْمِ فيه على قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهُ فَيُخْرِجُهُ بِهِ دَلِيلُهُ وَالثَّانِي أَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ كَغَيْرِهِ إلَّا أَنَّ الدَّلِيلَ أَوْجَبَ إخْرَاجَهُ عنه قال وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ هُنَا أَنَّ اللَّفْظَ إذَا وَرَدَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في إسْقَاطٍ أو إيجَابٍ أو حَظْرٍ أو إبَاحَةٍ فَهَلْ يُسْتَدَلُّ بِهِ على وُجُوبِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ عليه أو لَا هذا كَلَامُهُ وهو أَثْبَتُ مَعْقُولٍ في هذه الْمَسْأَلَةِ تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ من أَمْثِلَتِهِمْ وَاَللَّهُ على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الشَّيْءَ مَصْدَرُ شَاءَ يَشَاءُ فَهُوَ من أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ فَإِطْلَاقُهُ على الذَّوَاتِ من بَابِ إطْلَاقِ الْمَصْدَرِ على الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى هذا خَلْقُ اللَّهِ أَيْ مَخْلُوقُ اللَّهِ وَنَحْوُ دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ أَيْ مَضْرُوبُ الْأَمِيرِ فَقَوْلُنَا هذا شَيْءٌ في الذَّوَاتِ أَيْ مُشَاءٌ فَحَقُّهُ أَنْ يَكُونَ ما تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَشِيئَةُ إمَّا بِالْفِعْلِ كَالْمَوْجُودَاتِ أو بِالْقُوَّةِ كَالْمَعْدُومِ الْمُمْكِنِ فَقَوْلُهُ إنَّ اللَّهَ على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ
____________________
(2/492)
شَيْءٍ عَلِيمٌ وما شَاكَلَهُ على عُمُومِهِ لِأَنَّ إلَهًا ثَابِتًا وَنَحْوَهُ من الْمُحَالَاتِ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَشِيئَةُ لَا بِالْفِعْلِ وَلَا بِالْقُوَّةِ فَلَا يُسَمَّى شيئا فَلَا يَدْخُلُ في قَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ فَلَا يُقَالُ إنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ فإنه لم يَدْخُلْ فيه الْمُحَالُ لِذَاتِهِ وَالشَّيْءُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ يَخُصُّ الْمَوْجُودَ لَا الْمَعْدُومَ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ في الْمَعْدُومِ الذي يَصِحُّ وُجُودُهُ شَيْءٌ وَأَمَّا الْمُسْتَحِيلُ فَلَا خِلَافَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ في أَنَّهُ لَا شَيْءَ وَغَلِطَ الزَّمَخْشَرِيّ على الْمُعْتَزِلَةِ فَأَدْخَلَ الْمُسْتَحِيلَ في اسْمِ الشَّيْءِ وَإِنَّمَا هذا مَذْهَبُ النُّحَاةِ فإن سِيبَوَيْهِ وَقَعَ له أَنَّ الشَّيْءَ عَامٌّ مُتَنَاوِلٌ قال هو كما تَقُولُ مَعْلُومٌ وَلَا خَفَاءَ في أَنَّ الْمَعْلُومَ يَدْخُلُ فيه الْمُسْتَحِيلُ على أَنَّ أَبَا هَاشِمٍ يقول الْعِلْمُ بِالْمُسْتَحِيلِ عِلْمٌ لَا مَعْلُومَ له وَمِمَّا يُحَقِّقُ أَنَّ الشَّيْءَ مُخْتَصٌّ بِالْمَوْجُودَاتِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ من شَاءَ يَشَاءُ إذَا قُصِدَ فَكَأَنَّ الشَّيْءَ هو الْمَقْصُودُ إلَيْهِ وَإِنَّمَا يُقْصَدُ الْمَوْجُودُ لَا الْمَعْدُومُ وَالْمُسْتَحِيلُ وَأَيْضًا فَإِطْلَاقُ الشَّيْءِ على الذَّاتِ الْكَرِيمَةِ فيه خِلَافٌ وَلَئِنْ سُلِّمَ فَهُوَ من بَابِ الْمُشْكَلِ لِأَنَّهُ شَيْءٌ قَدِيمٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ لَا يُشَاكِلُهُ شَيْءٌ من الْمَخْلُوقَاتِ وَقِيلَ بَلْ يُسَمَّى شيئا بِمَعْنَى الشَّائِي وَالْمَخْلُوقَاتُ تُسَمَّى شيئا بِمَعْنَى الْمُشَاءِ فَالْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ فَيَكُونُ مُشْتَرِكًا الثَّانِي من حُكْمِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنْ لَا يُخَصَّصَ إلَّا بِالْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ وَمِنْ حُكْمِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ أَنْ لَا يُخَصَّصَ إلَّا بِالْقَضَايَا السَّمْعِيَّةِ وَالدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ لَا يُتَصَوَّرُ فيه إخْرَاجُ أَمْرٍ خَاصٍّ من خِطَابٍ عَامٍّ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذلك في الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ وَالدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ لَا يَكُونُ إلَّا مُتَقَدِّمًا بِخِلَافِ السَّمْعِيِّ ذَكَرَهُ الْعَبْدَرِيّ في شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى
____________________
(2/493)
الثَّانِي دَلِيلُ الْحِسِّ كَقَوْلِهِ وَأُوتِيَتْ من كل شَيْءٍ مع أنها لم تُؤْتَ ما كان في يَدِ سُلَيْمَانَ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ وَقَوْلُهُ يُجْبَى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كل شَيْءٍ وفي عَدِّ هذا نَظَرٌ لِأَنَّهُ من الْعَامِّ الذي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ وهو خُصُوصُ ما أُوتِيَتْهُ هذه وَدَمَّرَتْهُ الرِّيحُ لَا من الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ ولم يَحْكُوا هُنَا الْخِلَافَ السَّابِقَ في التَّخْصِيصِ بِالْعَقْلِ وَيَنْبَغِي طَرْدُهُ وَنَازَعَ الْغَزَالِيُّ في تَفْرِيقِهِمْ بين دَلِيلِ الْحِسِّ وَدَلِيلِ الْعَقْلِ لِأَنَّ أَصْلَ الْعُلُومِ كُلِّهَا الْحِسُّ كما ذَكَرَهُ في مُقَدِّمَةِ الْمُسْتَصْفَى الثَّالِثُ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ وَفِيهِ مَبَاحِثُ الْأَوَّلُ في تَخْصِيصِ الْمَقْطُوعِ بِالْمَقْطُوعِ وَفِيهِ مَسَائِلُ الْأُولَى يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ في قَوْلِ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ خِلَافًا لِبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ الْمُتَمَسِّكِينَ بِأَنَّ الْمُخَصِّصَ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِاللَّفْظِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ إلَّا من السُّنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَنَا أَنَّهُ وَقَعَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قال وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ الْآيَةَ وَهِيَ عَامَّةٌ في الْحَوَامِلِ وَغَيْرِهِنَّ فَخَصَّ أُولَاتِ الْحَمْلِ بِقَوْلِهِ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَخَصَّ بِهِ أَيْضًا الْمُطَلَّقَةَ قبل الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ فما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ من عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا وما قَالُوهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَالْجَمْعُ بين الْآيَتَيْنِ أَنَّ الْبَيَانَ تَحَصَّلَ من الرَّسُولِ عليه السَّلَامُ وَذَلِكَ أَعَمُّ أَنْ يَكُونَ منه أو على لِسَانِهِ وقال الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى في الذَّرِيعَةِ الْخِلَافُ يَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ وَالْمُخَالِفُ يُسَمِّي التَّخْصِيصَ بَيَانًا الثَّانِيَةُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِمِثْلِهَا وَالْخِلَافُ فيه أَيْضًا وَحَكَى الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ عن دَاوُد أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ لَا يَنْبَنِي أَحَدُهُمَا عن الْآخَرِ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ مَنَعَ قَوْمٌ تَخْصِيصَ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ مُبَيِّنًا فَلَوْ
____________________
(2/494)
احْتَاجَتْ إلَى بَيَانٍ لم يَكُنْ لِلرَّدِّ إلَيْهِ مَعْنًى الثَّالِثَةُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ قَوْلًا وَاحِدًا بِالْإِجْمَاعِ كما حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وقال الْآمِدِيُّ لَا أَعْرِفُ فيه خِلَافًا لَكِنْ حَكَى بَعْضُهُمْ في الْفِعْلِيَّةِ خِلَافًا وقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ لَا خِلَافَ في ذلك إلَّا ما يَحْكِي دَاوُد في إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وقال ابن كَجٍّ لَا شَكَّ في الْجَوَازِ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ يُوجِبُ الْعِلْمَ كما أَنَّ ظَاهِرَ الْكِتَابِ يُوجِبُهُ وَأَلْحَقَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ بِالْمُتَوَاتِرِ الْأَخْبَارَ التي يُقْطَعُ بِصِحَّتِهَا كَتَخْصِيصِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ بِحَدِيثِ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وهو مِثَالٌ لِلْقَوْلِيَّةِ وَمَثَّلُوا لِلْفِعْلِيَّةِ بِأَنَّ قَوْلَهُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي مَخْصُوصٌ بِمَا تَوَاتَرَ عِنْدَهُمْ من رَجْمِ الْمُحْصَنِ تَنْبِيهٌ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ يَقْتَضِي أَنَّ السُّنَّةَ لَا تَخُصُّ الْقُرْآنَ إلَّا إذَا كان فيه احْتِمَالُ التَّخْصِيصِ فَإِنْ قال فيها وَيُقَالُ خَاصٌّ حتى تَكُونَ الْآيَةُ تَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بها الْخَاصُّ فَأَمَّا إنْ لم يَكُنْ مُحْتَمَلَةً له فَلَا يُقَالُ فيها بِمَا لَا تَحْتَمِلُ الْآيَةَ وهو الثَّابِتُ في الحديث أَنَّهُ يُؤْخَذُ من كل حَالِمٍ دِينَارٌ وهو نَظِيرُ قَوْلِهِ في نَسْخِ السُّنَّةِ الْقُرْآنَ الرَّابِعَةُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالْكِتَابِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَعَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ أَصْحَابِنَا الْمَنْعُ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ قال ابن بَرْهَانٍ وهو قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وقال مَكْحُولٌ وَيَحْيَى بن أبي كَثِيرٍ السُّنَّةُ تَقْضِي على الْكِتَابِ وَالْكِتَابُ لَا يَقْضِي على السُّنَّةِ
____________________
(2/495)
تَنْبِيهٌ سَيَأْتِي في بَابِ النَّسْخِ من كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ السُّنَّةَ لَا يَنْسَخُهَا الْقُرْآنُ إلَّا إذَا كان مَعَهَا سُنَّةٌ تُبَيِّنُ أنها مَنْسُوخَةٌ وَإِلَّا خَرَجَتْ السُّنَنُ عن أَيْدِينَا فَيُحْتَمَلُ أَنَّ لنا هُنَا اشْتِرَاطَهُ وَيُحْتَمَلُ خِلَافُهُ وَالْفَرْقُ أَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ فَهُوَ أَقْوَى من التَّخْصِيصِ الْخَامِسَةُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ وَكَذَا السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْخَطَأُ فيه وَالْعَامُّ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ الِاحْتِمَالُ قال الْآمِدِيُّ لَا أَعْرِفُ فيه خِلَافًا وَكَذَا حَكَى الْإِجْمَاعَ عليه الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ قال وَمَعْنَاهُ أَنْ يُعْلَمَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ بَعْضُ ما يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ وفي الْحَقِيقَةِ يَكُونُ التَّخْصِيصُ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ لَا بِنَفْسِ الْإِجْمَاعِ لَكِنْ حَكَى الْإِمَامُ بن الْقُشَيْرِيّ الْخِلَافَ هَاهُنَا فقال يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِالْإِجْمَاعِ على مَعْنَى أَنَّهُ إذَا وَرَدَ لَفْظٌ عَامٌّ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ على أَنَّهُ لَا يَجْرِي على عُمُومِهِ فَالْإِجْمَاعُ مُخَصِّصٌ له كما قُلْنَا في دَلِيلِ الْعَقْلِ وَالْمُخَالِفُ في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ يُخَالِفُ في هذه وقد بَيَّنَّا أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ وقال أبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِالْإِجْمَاعِ فإذا أَجْمَعُوا على أَنَّ ما رُفِعَ عن الْعَامِّ خَارِجٌ منه وَجَبَ الْقَطْعُ بِخُرُوجِهِ وَجَوَّزْنَا أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصًا وَأَنْ يَكُونَ نَسْخًا انْتَهَى فِيمَا ذَكَرَهُ من احْتِمَالِ النَّسْخِ نَظَرٌ وقال الْقَرَافِيُّ الْإِجْمَاعُ أَقْوَى من النَّصِّ لِأَنَّ الْخَاصَّ لِأَنَّ النَّصَّ يُحْتَمَلُ نَسْخُهُ وَالْإِجْمَاعُ لَا يُنْسَخُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْعَقِدُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ وَجَعَلَ الصَّيْرَفِيُّ من أَمْثِلَتِهِ قَوْله تَعَالَى إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ من يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا قال وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ لَا جُمُعَةَ على عَبْدٍ وَلَا امْرَأَةٍ وَمَثَّلَهُ ابن حَزْمٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حتى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ على أَنَّهُمْ إنْ بَذَلُوا فَلْسًا أو فَلْسَيْنِ لم يَجُزْ بِذَلِكَ حَقْنُ دِمَائِهِمْ كما قال الْجِزْيَةُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ جِزْيَةً مَعْلُومَةً
____________________
(2/496)
الْبَحْثُ الثَّانِي في تَخْصِيصِ الْمَقْطُوعِ بِالْمَظْنُونِ وَفِيهِ مَسَائِلُ الْأَوَّلُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وهو الْمَنْقُولُ عن الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فإن الْخَبَرَ يَتَسَلَّطُ على فَحْوَاهُ وَفَحْوَاهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَمَنْ شَكَّ أَنَّ الصِّدِّيقَ لو رَوَى خَبَرًا عن الْمُصْطَفَى في تَخْصِيصِ عُمُومِ الْكِتَابِ لَابْتَدَرَهُ الصَّحَابَةُ قَاطِبَةً بِالْقَبُولِ فَلَيْسَ على دِرَايَةٍ في قَاعِدَةِ الْأَخْبَارِ وَاحْتَجَّ ابن السَّمْعَانِيِّ في بَابِ الْأَخْبَارِ على الْجَوَازِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ خَصُّوا قَوْله تَعَالَى يُوصِيكُمْ اللَّهُ في أَوْلَادِكُمْ بِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ فَإِنْ قالوا إنَّ فَاطِمَةَ رضي اللَّهُ عنها طَلَبَتْ الْمِيرَاثَ قُلْنَا إنَّمَا طَلَبَتْ النُّحْلَى لَا الْمِيرَاثَ وَخُصَّ الْمِيرَاثُ بِالْمُسْلِمِينَ عَمَلًا بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَخَصُّوا قَوْله تَعَالَى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا بِمَا وَرَدَ عن أبي سَعِيدٍ في بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَخَصُّوا قَوْله تَعَالَى اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ بِخَبَرِ عبد الرحمن بن عَوْفٍ في الْمَجُوسِ سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسُ مُشْرِكُونَ وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه لَا نَدَعُ كِتَابَ اللَّهِ وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لَا نَدَعُ كِتَابَ نَبِيِّنَا نَسْخًا فإنه لَا يُقَالُ لِمَنْ خَصَّ آيَةً من الْقُرْآنِ أَنَّهُ تَرَكَ الْقُرْآنَ وَإِنَّمَا يُقَالُ ذلك لِمَنْ ادَّعَى النَّسْخَ انْتَهَى
____________________
(2/497)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَبِهِ قال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ كما حَكَاهُ أبو الْخَطَّابِ وَنَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ عن الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّ الْخَبَرَ لَا يُقْطَعُ بِأَصْلِهِ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ عن طَائِفَةٍ من الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَنَقَلَهُ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ عن طَائِفَةٍ من أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَنَّهُمْ لِأَجْلِهِ مَنَعُوا الْحُكْمَ بِالْقُرْعَةِ وَبِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ نَبِيِّهِ وَلَا فَرْقَ بين أَنْ يَكُونَ مُخَصِّصًا لِلظَّاهِرِ أو مُبْتَدِئًا وَلَا مَعْنَى لِإِمْكَانِ التَّخْصِيصِ مع الْقَوْلِ بِحُجِّيَّةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ قال أَهْلُ الْعِرَاقِ بِهِ في الْجُمْلَةِ وَخَالَفُونَا في التَّفْصِيلِ فَقَالُوا وقَوْله تَعَالَى وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ على عَمَّتِهَا وهو خَبَرُ وَاحِدٍ وَكَذَا قَوْله تَعَالَى قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا الْآيَةَ فَقَالُوا بِتَحْرِيمِ أَكْلِ كل ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ الثَّالِثُ التَّفْصِيلُ بين ما دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ وما لم يَدْخُلْهُ فَإِنْ لم يَدْخُلْهُ يَبْقَى على حَقِيقَتِهِ وما دَخَلَهُ بَقِيَ مَجَازًا وَضَعُفَتْ دَلَالَتُهُ وَنَقَلُوهُ عن عِيسَى بن أَبَانَ وهو مُشْكِلٌ بِمَا سَبَقَ عنه من أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ ليس بِحُجَّةٍ لِأَنَّهُ إذَا كان حُجَّةً لم يَبْقَ لِلْقَوْلِ بِتَخْصِيصِهِ فَائِدَةٌ إذْ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ بَيَانُ أَنَّ الصُّورَةَ الْمَخْصُوصَةَ لَا يَتَنَاوَلُهَا حُكْمُ الْعُمُومِ وَالتَّقْدِيرُ لم يَبْقَ له حُكْمٌ أو له حُكْمٌ مُجْمَلٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَيَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ لَا يَبْقَى حُجَّةً مع قَوْلِهِ بِجَوَازِ تَخْصِيصِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وقد حَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ من كِتَابِ التَّقْرِيبِ عنه أَنَّهُ إنْ خُصَّ بِقَطْعِيٍّ جَازَ تَخْصِيصُ بَاقِيهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ افْتِتَاحُ تَخْصِيصِهِ بِهِ ثُمَّ قال وَهَذَا مَبْنِيٌّ على أَصْلٍ له قَدَّمْنَاهُ وهو أَنَّ الْعُمُومَ إذَا خُصَّ بَعْضُهُ صَارَ مُجْمَلًا في بَقِيَّةِ الْمُسَمَّيَاتِ لَا يُسَوِّغُ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ فيها فَجُعِلَ الْخَبَرُ على التَّحْقِيقِ مُثْبِتًا حُكْمًا ابْتِدَاءً وَلَيْسَ سَبِيلُهُ سَبِيلَ التَّخْصِيصِ إذَا حَقَّقْته فإنه لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِاللَّفْظِ الْمُجْمَلِ في عُمُومٍ وَلَا خُصُوصٍ قبل وُرُودِ الْخَبَرِ وَبَعْدَهُ انْتَهَى ولم أَرَ ذلك في التَّقْرِيبِ لِلْقَاضِي وَإِنَّمَا حُكِيَ عنه تَجْوِيزُ تَخْصِيصِ الْعَامِّ الذي أُجْمِعَ على تَخْصِيصِهِ أو قام الدَّلِيلُ على تَخْصِيصِهِ بِكُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّهُ بِالتَّخْصِيصِ حِينَئِذٍ مُجْمَلًا وَمَجَازًا فَيَجُوزُ لِذَلِكَ إعْمَالُ خَبَرِ الْوَاحِدِ في تَخْصِيصِ أَشْيَاءَ أُخَرَ منه
____________________
(2/498)
وَنَحْوُهُ قَوْلُ الشَّيْخِ أبي حَامِدٍ عن أبي حَنِيفَةَ إنْ كانت الْآيَةُ الْعَامَّةُ دَخَلَهَا التَّخْصِيصُ جَازَ تَخْصِيصُهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهَا تَصِيرُ بِالتَّخْصِيصِ كَالْمُجْمَلَةِ فَيَكُونُ ذلك كَالْبَيَانِ وَبَيَانُ الْمُجْمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يَجُوزُ وقال في الْمَحْصُولِ فَأَمَّا قَوْلُ عِيسَى بن أَبَانَ وَالْكَرْخِيِّ فَيُبْنَيَانِ على حَرْفٍ وَاحِدٍ وهو أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ عِنْدَ عِيسَى مَجَازٌ وَالْمَخْصُوصَ بِالدَّلِيلِ الْمُنْفَصِلِ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ مَجَازٌ وإذا صَارَ مَجَازًا صَارَتْ دَلَالَتُهُ مَظْنُونَةً وَمَتْنُهُ مَقْطُوعًا وَخَبَرُ الْوَاحِدِ مَتْنُهُ مَظْنُونٌ وَدَلَالَتُهُ مَقْطُوعَةٌ فَيَحْصُلُ التَّعَادُلُ فَأَمَّا قبل ذلك فإنه حَقِيقَةٌ في الْعُمُومِ فَيَكُونُ قَاطِعًا في مَتْنِهِ وَدَلَالَتِهِ فَلَا يُرَجَّحُ عليه الْمَظْنُونُ وَهَذَا الْمَأْخَذُ الذي ذَكَرُوهُ تَرَدَّدَ فيه أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ في أُصُولِهِ فقال إنْ لم يَثْبُتْ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ لم يَجُزْ تَخْصِيصُهُ وَإِلَّا فَإِنْ ثَبَتَ وَاحْتَمَلَ اللَّفْظُ مَعَانِيَ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فيها وكان اللَّفْظُ يَفْتَقِرُ على الْبَيَانِ جَازَ تَخْصِيصُهُ وَتَبْيِينُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ قال وَهَذَا عِنْدِي مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَعَلَيْهِ تَدُلُّ أُصُولُهُمْ وَمَسَائِلُهُمْ وَاحْتَجَّ بِكَلَامِ عِيسَى بن أَبَانَ وَذَكَرَهُ قال فَنَصَّ عِيسَى على أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ الذي لم يَثْبُتْ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ لَا يُخَصُّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ثُمَّ قال وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قال ذلك لِأَنَّهُ كان من مَذْهَبِهِ أَنَّ الْعَامَّ إذَا خُصَّ سَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِهِ فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصَ على ما كان يَذْهَبُ إلَيْهِ الْكَرْخِيّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُ الْقَوْلَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصَ لِأَنَّهُ أَجَازَ تَخْصِيصَ الْبَاقِي مع ذلك بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ ما ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ مِمَّا سَوَّغَ الِاجْتِهَادَ في تَرْكِ حُكْمِ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ صَارَ مَجَازًا أَمَّا إذَا كان اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِمَعَانٍ فَيُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ في إثْبَاتِ الْمُرَادِ بِهِ انْتَهَى وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن عِيسَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ عُمُومُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قد خُصَّ بِالْإِجْمَاعِ فَيُزَادُ في تَخْصِيصِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ قال وقال وَإِنْ كانت الْآيَةُ مُجْمَلَةً وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ في تَأْوِيلِهَا قُبِلَ خَبَرُ الْوَاحِدِ في تَفْسِيرِهَا وَتَخْصِيصِهَا وقال بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ من الْحَنَفِيَّةِ لَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا في أَنَّ الْعَامَّ إذَا خُصَّ منه شَيْءٌ بِدَلِيلٍ مُقَارِنٍ جَازَ تَخْصِيصُهُ بَعْدَ ذلك مُتَرَاخِيًا وَأَمَّا الْعَامُّ الذي لم يُخَصَّ منه شَيْءٌ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ ابْتِدَاءً بِدَلِيلٍ يَتَأَخَّرُ عنه عِنْدَ الشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَعَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ من أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ مُتَرَاخِيًا ابْتِدَاءً كما يَجُوزُ مُتَّصِلًا
____________________
(2/499)
قال وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْمُتَأَخِّرِ أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ لَا يَكُونُ بَيَانًا فإن الْمُرَادَ من الْعَامِّ بَعْضُهُ ابْتِدَاءً كما هو شَأْنُ التَّخْصِيصِ بَلْ يَكُونُ نَاسِخًا لِبَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِإِخْرَاجِهِ عن حُكْمِ الْعَامِّ بَلْ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فيه مُقْتَصِرًا على الْحَالِ الرَّابِعُ إنْ كان التَّخْصِيصُ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ جَازَ وَإِنْ كان بِمُتَّصِلٍ فَلَا قَالَهُ الْكَرْخِيّ لِأَنَّ تَخْصِيصَهُ بِمُنْفَصِلٍ يُصَيِّرُهُ مَجَازًا على مَذْهَبِهِ فَتَضْعُفُ دَلَالَتُهُ وَهَذَا الْمَذْهَبُ وما قَالَهُ مَبْنِيٌّ على أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ على أَفْرَادِهِ قَطْعِيَّةٌ فَإِنْ قُلْنَا ظَنِّيَّةٌ جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ وَلِهَذَا قال ابن السَّمْعَانِيِّ ما قَالَهُ ابن أَبَانَ مَبْنِيٌّ على أَصْلٍ لَا نُوَافِقُهُ عليه الْخَامِسُ يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِوُرُودِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ لَكِنَّهُ لم يَقَعْ حَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَحَكَى قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ لم يَرِدْ بَلْ وَرَدَ الْمَنْعُ منه السَّادِسُ الْوَقْفُ ثُمَّ قِيلَ بِمَعْنَى لَا أَدْرِي وَقِيلَ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَقَعُ التَّعَارُضُ في ذلك الْقَدْرِ الذي دَلَّ الْعُمُومُ على إثْبَاتِهِ وَالْخُصُوصُ على نَفْيِهِ وَيَجْرِي اللَّفْظُ الْعَامُّ من الْكِتَابِ في بَقِيَّةِ مُسَمَّيَاتِهِ لِأَنَّ الْكِتَابَ أَصْلُهُ قَطْعِيٌّ وَفَحْوَاهُ مَظْنُونٌ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ عَكْسُهُ فَيَتَعَارَضَانِ فَلَا رُجْحَانَ فَيَجِبُ الْوَقْفُ وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ في التَّقْرِيبِ وَحَكَاهُ عنه إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وقال هو مُتَّجَهٌ جِدًّا وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ الْجَوَازُ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عليه في مَسَائِلَ كَنَفْيِ مِيرَاثِ الْقَاتِلِ بِقَوْلِهِ لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ مع قَوْلِهِ يُوصِيكُمْ اللَّهُ وَالنَّهْيُ عن الْجَمْعِ بين الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا مع قَوْلِهِ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ إلَى غَيْرِ ذلك وَغَايَةُ الْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ لَعَلَّ الْخَبَرَ كان مُتَوَاتِرًا عِنْدَهُمْ ثُمَّ اسْتَغْنَى عنه فَصَارَ آحَادًا فَقِيلَ لهم قد رَوَى الصِّدِّيقُ إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ وَطَرَحُوا بِهِ مِيرَاثَ فَاطِمَةَ رضي اللَّهُ عنها فَقَالُوا كَانُوا عَلِمُوا ذلك وَإِنَّمَا ذَكَّرَهُمْ الصِّدِّيقُ قُلْنَا لو كان مُتَوَاتِرًا لم يَخْفَ على فَاطِمَةَ ا ه
____________________
(2/500)
تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ يَجِبُ على أَصْلِ الْقَاضِي أَنْ يَجْزِمَ بِالتَّخْصِيصِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَهُ مُسَاوٍ لِعُمُومِ الْكِتَابِ لِوُقُوفِهِ في تَخْصِيصِهِ له كما سَيَأْتِي فَكَيْفَ يُسَاوِي هو ما دُونَهُ الثَّانِي ذَكَرَ ابن السَّمْعَانِيِّ أَنَّ الْخِلَافَ في أَخْبَارِ الْآحَادِ التي لَا تُجْمِعُ الْأُمَّةُ على الْعَمَلِ بها أَمَّا ما أَجْمَعُوا عليه كَقَوْلِهِ لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وَكَنَهْيِهِ عن الْجَمْعِ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ قَطْعًا وَيَصِيرُ ذلك كَالتَّخْصِيصِ بِالْمُتَوَاتِرِ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ على حُكْمِهَا وَلَا يَضِيرُ عَدَمُ انْعِقَادِهِ على رِوَايَتِهَا وقد سَبَقَ في كَلَامِ الْأُسْتَاذِ أبي مَنْصُورٍ ذلك أَيْضًا فإنه أَلْحَقَ هذا الْقِسْمَ بِالْمُتَوَاتِرِ وقال ابن كَجٍّ في كِتَابِهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ يُخَصُّ بِهِ ظَاهِرُ الْكِتَابِ عِنْدَنَا إذَا كان لم يَجْتَمِعْ على تَخْصِيصِهِ كَآيَةِ الرَّضَاعِ فَإِنْ أُجْمِعَ على تَخْصِيصِهِ جَازَ أَنْ يُقْضَى عليه بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا عَدَا ما أَجْمَعُوا عليه كَآيَةِ السَّرِقَةِ وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الثَّانِيَةُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَيَجْرِي فيه الْخِلَافُ السَّابِقُ كما صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ وَغَيْرُهُمَا فَإِنْكَارُ من أَنْكَرَ على الْبَيْضَاوِيِّ ذلك غَلَطٌ فَرْعٌ هل يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ لم أَرَ فيه نَصًّا وَيَنْبَغِي تَخْرِيجُهُ على الْخِلَافِ في حُجِّيَّتِهَا فَإِنْ قُلْنَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ امْتَنَعَ أو حُجَّةً فَكَخَبَرِ الْوَاحِدِ ثُمَّ رَأَيْت في كِتَابِ أبي بَكْرٍ الرَّازِيَّ تَجْوِيزَهُ إذَا اشْتَهَرَتْ وَاسْتَفَاضَتْ قال وَلِهَذَا أَخَذْنَا بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَمَنَعْنَا بِهِ إطْلَاقَ ما في بَاقِي الْآيَةِ فَإِنْ لم يَكُنْ كَذَلِكَ لم يَجُزْ كَالْخَبَرِ سَوَاءً الثالثة يجوز تخصيص عموم الكتاب والسنة المتواترة بالقياس عند الأئمة الأربعة وقال ابن داود في شرح المختصر إن كلام الشافعي يصرح بالجواز وحكى القاضي من الحنابلة عن أحمد روايتين وبه قال أبو الحسين البصري وأبو هاشم آخرا
____________________
(2/501)
وحكاه الشيخ أبو حامد وسليم عن ابن سريج أنه يجوز من طريق العموم لا القياس وبناء على رأيه في جواز القياس في اللغة وبهذا كله يعلم أن ما نقله المتأخرون عن ابن سريج ليس بصحيح وكذلك حكوا القول بالجواز مطلقا عن الأشعري وأنكره بعضهم وليس كذلك فإن إمام الحرمين في مختصر التقريب حكاه هكذا عن الأشعري وحكى القاضي في التقريب عن الأشعري قولين في المسألة قال سليم الرازي لا يتصور التخصيص على مذهب الأشعرية لأن اللفظ غير موضوع للعموم وإنما هو مشترك كما تقرر فإذا دل الدليل على أنه أريد به أحد الأمرين لم يكن تخصيصا وإنما هو بيان ما أريد به اللفظ انتهى وكذا نقله القاضي في التقريب عن القائلين بإنكار الصيغ واختاره الإمام فخر الدين في المحصول ولذلك استدل على ترجيحه حيث قال لنا أن العموم والقياس إلخ لكنه اختار في المعالم المنع وأطنب في نصرته وهذا الكتاب موضع لاختياراته بخلاف المحصول فإنه موضوع لنقل المذاهب وتحرير الأدلة ثم إنه صرح في المحصول في أثناء المسألة بأن الحق ما قاله الغزالي فيما سيأتي في السادس والثالث المنع مطلقا قاله أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم ثم رجع ابنه ووافق الجمهور ونقله الشيخ أبو حامد وسليم عن أحمد بن حنبل وإنما هي رواية عنه قال بها طائفة من أصحابه ونقله القاضي عن طائفة من المتكلمين قال إمام الحرمين في التلخيص منهم ابن مجاهد من أصحابنا ونقله القاضي في التقريب عن الشيخ أبي الحسن أيضا ونقله الشيخ أبو إسحاق في اللمع عن اختيار القاضي أبي بكر الأشعري وليس كذلك لما سيأتي وقال بعض المتأخرين إنه ظاهر نص الشافعي في الأم وقال الشيخ أبو حامد زعموا أن الشافعي نص عليه في أحكام القرآن فإنه قال إنما القياس الجائز أن يشبه ما لم يأت فيه حديث بحديث لازم فأما أن يعمد إلى حديث عام فيحمل على القياس فأين القياس في هذا الموضع إن كان الحديث قياسا فأين المسمى قال فقد ذكر الشافعي أن القياس لا يعمل في الحديث العام وإنما يعمل في أنه يبتدأ به الحكم في موضع لا يكون فيه حديث أو قياس على موضع فيه حديث فدل على أن مذهبه منع التخصيص بالقياس ورده الشيخ أبو حامد وقال قد ذكر الشافعي في الأم قول الله تعالى
____________________
(2/502)
فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم واحتمل أمره تعالى في الإشهاد أن يكون على سبيل الوجوب كقوله عليه الصلاة والسلام لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل واحتمل أن يكون على الندب كقوله تعالى وأشهدوا إذا تبايعتم وقال الشافعي لما جمع الله بين الطلاق وبين الرجعة وأمر بالإشهاد فيهما ثم كان الإشهاد على الطلاق غير واجب كذلك الإشهاد على الرجعة قال الشيخ أبو حامد قد قاس الشافعي الإشهاد على الرجعة على الإشهاد على الطلاق وخص به ظاهر الأمر بالإشهاد إذ ظاهر الأمر الوجوب قال وإما الكلام الذي تعلق به ذلك القائل فلم يقصد الشافعي منع التخصيص بالقياس وإنما قصد أنه لا يجوز ترك الظاهر بالقياس وذلك أنه ذكر هذا في مسألة النكاح بلا ولي فروى حديث أيما امرأة نكحت ثم حكى عن أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا العلة في طلب الولي أنه يطلب الحظ للمنكوحة ويضعها في كفء فإذا تولت هي ذلك لم يحتج إلى الولي فقال الشافعي هذا القياس غير جائز لأنه يعمد إلى ظاهر الحديث فيسقطه فإن ما ذكره يفضي إلى سقوط اعتبار الولي وذلك يسقط نص الخبر واستعمال القياس هنا لا يجوز إنما يجوز حيث يخص العموم انتهى وحاصله أن استنباط معنى من النص يعود عليه بالإبطال لا يجوز وهو ما ذكره الشافعي وليس مراده تخصيص العموم بالقياس فإن ذلك لا يبطل العموم المذهب الثالث إن تطرق إليه التخصيص بدليل قطعي خص به وإلا فلا وحكاه القاضي في التقريب عن عيسى بن أبان وكذا الشيخ أبو إسحاق في اللمع وحكى الإمام عنه إن تطرق إليه التخصيص بغير القياس جاز وإلا فلا وكذا حكاه الشيخ في اللمع عن بعض العراقيين الرابع إن تطرق إليه التخصيص بمنفصل جاز وإلا فلا قاله الكرخي وقال أبو بكر الرازي كل ما لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد لا يجوز تخصيصه بالقياس لأن خبر الواحد مقدم على القياس فما لا يخصه أولى أن لا يخص بالقياس وقال هذا
____________________
(2/503)
مذهب أصحابنا ونقله عن محمد بن الحسن لأن كل ما ثبت بوجه قطعي لا يرتفع إلا بمثله وقال أبو زيد في التقويم لا يجوز عندنا تخصيص العام ابتداء بالقياس وإنما يجوز إذا ثبت خصوصه بدليل يجوز رفع الكل لها من خبر تأيد بالإجماع أو الاستفاضة لم يقع الإشكال في صارفه إنما من جنس دخل تحت الخصوص أو من جنس ما بقي تحت العموم فيتعرف ذلك بالقياس الخامس إن كان القياس جليا جاز التخصيص به وإن كان قياس شبه أو علة فلا نقله الشيخ أبو حامد وسليم في التقريب عن الإصطخري زاد الشيخ أبو حامد وإسماعيل بن مروان من أصحابنا وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أبي القاسم الأنماطي ومبارك بن أبان وابن علي الطبري وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني القياس إن كان جليا مثل فلا تقل لهما أف جاز التخصيص به بالإجماع وإن كان واضحا وهو المشتمل على جميع معنى الأصل كقياس الربا فالتخصيص به جائز في قول عامة أصحابنا إلا طائفة شذت لا يعتد بقولهم وإن كان خفيا وهو قياس علة الشبه فأكثر أصحابنا أنه لا يجوز التخصيص به ومنهم من شذ فجوزه وقال ابن كج قياس الأصل وقياس العلة لا يختلف المذهب أن التخصيص بهما سائغ جائز وعليه عامة الفقهاء ومنعه داود وأما قياس الشبه فاختلف فيه أصحابنا على وجهين ثم نبه على المراد بالتخصيص بالقياس أن ما دخل تحت العموم في اللفظ بين القياس أن ذلك لم يكن داخلا في اللفظ لا أنه دخل في المراد ثم أخرجه القياس لأن ذلك يكون نسخا ولا يجوز نسخ القرآن بالقياس وقال الأستاذ أبو إسحاق وأبو منصور أجمع أصحابنا على جواز التخصيص بالقياس الجلي واختلفوا في الخفي على وجهين والصحيح الذي عليه الأكثرون جوازه أيضا وكذا قال أبو الحسين بن القطان والماوردي والروياني في باب القضاء وذكر الشيخ أبو إسحاق أن الشافعي نص على جواز التخصيص بالخفي في مواضع ثم اختلفوا في الجلي وهو الذي قضى القاضي بخلافه وقيل هو قياس المعنى والخفي قياس وقيل ما تتبادر علته إلى الفهم مثل لا يقضي القاضي وهو غضبان
____________________
(2/504)
السادس إن تفاوت القياس والعام في غلبة الظن رجح الأقوى فيرجع العام بظهور قصد التعميم فيه ويكون القياس العارض له قياس شبه ويرجح القياس بالعكس من ذلك فإن تعادلا فالوقف وهو مذهب الغزالي واختاره المطرزي في العنوان واعترف الإمام الرازي في أثناء المسألة بأنه حق وكذا قال الأصفهاني شارح المحصول وابن الأنباري وابن التلمساني واستحسنه القرافي والقرطبي وقال لقد أحسن في هذا الاختيار أبو حامد فكم له عليه من شاكر وحامد وقال الشيخ في شرح العنوان أنه مذهب جيد فإن العموم قد تضعف دلالته لبعد قرينته فيكون الظن المستفاد من القياس الجلي راجحا على الظن المستفاد من العموم الذي وصفناه وقد يكون الأمر بالعكس بأن يكون العموم قوي الرتبة ويكون القياس قياس شبه والقاعدة الشرعية أن العمل بأرجح الظنين واجب واعلم أن هذا الذي قاله الغزالي ليس مذهبا ولم يقله الرجل على أنه مذهب مستقل فتأمل المستصفى تجد ذلك ولا يقول أحد إن الظن المستفاد من العموم أقوى ثم يقول القياس تخصيص أو بالعكس ولا خلاف بين العقلاء أن أرجح الظنين عند التعارض معتبر والوقوف عند المستوي ضروري إنما الشأن في بيان الأرجح ما هو ففريق قالوا إن الأرجح العموم فلا يخص بالقياس وهو الإمام في المعالم وقوم قالوا الأرجح القياس فيخص العموم والقولان عن الأشعري كما حكاه القاضي في التقريب السابع الوقف في القدر الذي تعارضا فيه والرجوع إلى دليل آخر سواها وهو مذهب الغزالي واختاره إمام الحرمين والغزالي في المنخول وإلكيا الطبري قال ولا يظهر فيه دعوى القطع من الصحابة بخلافه في خبر الواحد وهذا المذهب شارك القول بالتخصيص من وجه وباينه من وجه أما المشاركة فلأن المطلوب من تخصيص العام بالقياس إسقاط الاحتجاج والواقف يقول به وأما المباينة فهي أن القائل بالتخصيص يحكم بمقتضى القياس والواقف لا يحكم به الثَّامِنُ إنْ كانت الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً مُجْزِئَةً عليها جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا قَالَهُ الْآمِدِيُّ
____________________
(2/505)
التَّاسِعُ إنْ كان الْأَصْلُ الْمَقِيسُ عليه مُخْرَجًا من عَامٍّ جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا الْعَاشِرُ إنْ كان الْأَصْلُ الْمَقِيسُ عليه مُخْرَجًا من غَيْرِ ذلك الْعُمُومِ جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا يُخَرَّجُ من كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فإنه قال في النِّهَايَةِ في بَابِ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ لَا يَمْتَنِعُ التَّصَرُّفُ في ظَاهِرِ الْقُرْآنِ بِالْأَقْيِسَةِ الْجَلِيَّةِ إذَا كان التَّأْوِيلُ مُسَاغًا لَا يَنْبُو نَظَرُ الْمُنْتَصِبِ عنه وَالشَّرْطُ في ذلك التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ صَدَرَ عن غَيْرِ الْأَصْلِ الذي فيه وَرَدَ الظَّاهِرُ فَإِنْ لم يُتَّجَهُ قِيَاسٌ من مَوْرِدِ الظَّاهِرِ لم يَجُزْ إزَالَةُ الظَّاهِرِ بِمَعْنَى يُسْتَنْبَطُ منه يَتَضَمَّنُ تَخْصِيصَهُ وَقَصْرَهُ على بَعْضِ الْمُسَمَّيَاتِ كما في جَوَازِ الْإِبْدَالِ في الزَّكَوَاتِ قُلْت وهو مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَا يُسْتَنْبَطُ من النَّصِّ مَعْنًى يُخَصِّصُهُ وَهَذَا يَصْلُحُ تَقَيُّدًا لِلْجَوَازِ لَا مَذْهَبًا آخَرَ وَعِبَارَةُ الْمَاوَرْدِيِّ وَالرُّويَانِيِّ في الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ وهو ما يُعْرَفُ من ظَاهِرِ النَّصِّ بِغَيْرِ اسْتِدْلَالٍ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ يَدُلُّ على تَحْرِيمِ الضَّرْبِ قِيَاسًا على الْأَصَحِّ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ قَطْعًا وَالْقِيَاسُ الظَّاهِرُ كَالْمَعْرُوفِ بِالِاسْتِدْلَالِ كَقِيَاسِ الْأَمَةِ على الْعَبْدِ في السِّرَايَةِ وفي الْعِتْقِ فَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ لِخُرُوجِهِ عن الْخِلَافِ بِالْإِشْكَالِ وقال شَارِحُ اللُّمَعِ الْجَلِيُّ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ قَطْعًا وَأَمَّا الْخَفِيُّ فَإِنْ كان مُسْتَنْبَطًا من الْأَصْلِ لم يَجُزْ تَخْصِيصُهُ بِهِ قَطْعًا كَعِلَّةِ الْحَنَفِيَّةِ في الرِّبَا أَنَّهُ الْكَيْلُ فَإِنَّهُمْ اسْتَنْبَطُوهَا من حديث عُبَادَةَ وهو عَامٌّ في الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَالْعِلَّةُ التي اسْتَنْبَطُوهَا تُوجِبُ التَّخْصِيصَ فِيمَا لَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَعْتَرِضُ الْفَرْعُ على أَصْلِهِ وهو لَا يَصِحُّ وَإِنْ كان غير مُسْتَنْبَطٍ من الْأَصْلِ جَازَ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ أَطْلَقَ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ تَرْجَمَةَ الْمَسْأَلَةِ لَكِنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ ليس الْقِيَاسَ الْمُعَارِضَ لِلنَّصِّ الْعَامِّ مُطْلَقًا فإن بَعْضَ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ على عُمُومِ النَّصِّ وهو ما إذَا كان حُكْمُ الْأَصْلِ الذي يَسْتَنِدُ إلَيْهِ حُكْمُ الْفَرْعِ مَقْطُوعًا بِهِ وَعِلَّتُهُ مَنْصُوصَةً أو مُجْمَعًا عليها مع تَصَادُقِهِمَا في الشَّرْعِ من غَيْرِ صَارِفٍ قَطْعًا فَهَذَا النَّوْعُ من الْقِيَاسِ لَا أَوَفُقُ الْخِلَافُ فيه في أَنَّهُ يُخَصَّصُ بِهِ عُمُومُ النَّصِّ فَيَجِبُ اسْتِثْنَاءُ هذه الصُّورَةِ من تَرْجَمَةِ الْمَسْأَلَةِ وقد أَشَارَ إلَى ذلك الْإِبْيَارِيُّ شَارِحُ الْبُرْهَانِ وَغَيْرُهُ
____________________
(2/506)
وَجَعَلَ الْغَزَالِيُّ مَحَلُّ الْخِلَافِ في قِيَاسِ النَّصِّ الْخَاصِّ وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لو كان قِيَاسَ نَصٍّ عَامٍّ لم يُخَصَّ بِهِ بَلْ يَتَعَارَضَانِ كَالْعُمُومَيْنِ وَيُشْكِلُ عليه الْمَذْهَبُ الثَّانِي وقال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ هذا كُلُّهُ في الْقِيَاسِ الْمُسْتَنْبَطِ من الْكِتَابِ أو من السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ الْكِتَابِ أو عُمُومِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أو عُمُومِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَأَمَّا الْقِيَاسُ الْمُسْتَنْبَطُ من خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَعَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ أَيْضًا وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ الْكِتَابِ فَيَتَرَتَّبُ على جَوَازِ تَخْصِيصِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَمَنْ لَا يُجَوِّزُ ذلك لَا يُجَوِّزُ بِالْقِيَاسِ الْمُسْتَنْبَطِ منه بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَأَمَّا من يُجَوِّزُ ذلك فَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُجَوِّزَ ذلك لِزِيَادَةِ الضَّعْفِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجَوِّزَ ذلك أَيْضًا كما في الْقِيَاسِ الْمُسْتَنْبَطِ من الْكِتَابِ إذْ قد يَكُونُ قِيَاسُهُ أَقْوَى من عُمُومِ الْكِتَابِ بِأَنْ يَكُونَ قد تَطَرَّقَ إلَيْهِ تَخْصِيصَاتٌ كَثِيرَةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَوَقَّفَ فيه لِتَعَادُلِهِمَا إذْ قد يَظْهَرُ له ذلك الثَّانِي مَثَّلَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ لِلتَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَقَوْلِهِ في الْإِمَاءِ فإذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما على الْمُحْصَنَاتِ من الْعَذَابِ فَدَلَّتْ هذه الْآيَةُ على أَنَّ الْأَمَةَ لم تَدْخُلْ في عُمُومِ من أُمِرَ بِجَلْدِهَا مِائَةً من النِّسَاءِ ثُمَّ قِيسَ الْعَبْدُ على الْأَمَةِ فَجُعِلَ حَدُّهُ خَمْسِينَ جَلْدَةً فَكَانَتْ الْأَمَةُ مَخْصُوصَةً وَالْعَبْدُ مَخْصُوصًا من جُمْلَةِ قَوْلِهِ وَالزَّانِي بِالْقِيَاسِ على الْأَمَةِ قال وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ من شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فيها خَيْرٌ إلَى قَوْلِهِ فَكُلُوا منها فَاحْتَمَلَتْ إبَاحَةَ الْأَكْلِ في جَمِيعِ الْهَدْيِ وَاحْتَمَلَ في الْبَعْضِ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ هَدْيَ جَزَاءِ الصَّيْدِ لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ منه فَكَانَ هذا مَخْصُوصًا بِالْإِجْمَاعِ وَاخْتَلَفُوا في هَدْيِ الْمُتْعَةِ فَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَخَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ فَكَانَ الْوَجْهُ عِنْدَنَا في ذلك أَنَّهُ وَاجِبٌ كَوُجُوبِ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَوُجُوبِ ما يَنْذُرُ الْمَرْءُ إخْرَاجَهُ من مَالِهِ فَقِيسَ الْمُخْتَلَفُ فيه من ذلك على وَالْمُجْمَعِ عليه لِاجْتِمَاعِهِمَا في الْمَعْنَى وهو الْوُجُوبُ وكان جَزَاءُ الصَّيْدِ خَارِجًا من الْعُمُومِ بِالْإِجْمَاعِ وَهَدْيُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ مَخْصُوصٌ بِالْقِيَاسِ على ذلك وَتَبِعَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ في ذلك وَمَثَّلَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ الصَّبِيَّ الذي لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ إذَا مَاتَ وَالْمَرْأَةُ حَامِلٌ لَا تَعْتَدُّ منه لِأَنَّهُ حَمْلٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ من زَوْجِهَا وَمَنْفِيٌّ عنه قَطْعًا فَلَا تَعْتَدُّ منه قِيَاسًا على الْحَمْلِ الْحَادِثِ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَيُخَصَّصُ بهذا الْقِيَاسِ عُمُومُ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ
____________________
(2/507)
الثَّالِثُ أَنَّ الْخِلَافَ في أَصْلِ هذه الْمَسْأَلَةِ اخْتَلَفُوا فيه هل هو من جِنْسِ الْخِلَافِ في الْقَطْعِيَّاتِ أو من الْمُجْتَهَدَاتِ قال الْغَزَالِيُّ يَدُلُّ كَلَامُ الْقَاضِي على أَنَّ الْقَوْلَ في تَقْدِيمِ خَبَرِ الْوَاحِدِ على عُمُومِ الْكِتَابِ وفي تَقْدِيمِ الْقِيَاسِ على الْعُمُومِ مِمَّا يَجِبُ الْقَطْعُ فيه بِخَطَأِ الْمُخَالِفِ لِأَنَّهُ من مَسَائِلِ الْأُصُولِ قال وَعِنْدِي أَنَّ إلْحَاقَ هذا بِالْمُجْتَهَدَات أَوْلَى فإن الْأَدِلَّةَ فيه من الْجَوَانِبِ مُتَفَاوِتَةٌ غَيْرُ بَالِغَةٍ مَبْلَغَ الْقَطْعِ انْتَهَى وَحِينَئِذٍ فَتَوَقُّفُ الْقَاضِي إنَّمَا هو عن الْقَطْعِ وَلَا يُنْكَرُ أَنَّ الْأَرْجَحَ التَّخْصِيصُ وَلَكِنْ عِنْدَهُ أَنَّ الْأَرْجَحِيَّةَ لَا تَكْفِي في هذه الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ مَسَائِلَ هذا الْفَنِّ عِنْدَهُ قَطْعِيَّةٌ لَا ظَنِّيَّةٌ وَحِينَئِذٍ فَنَحْنُ نُوَافِقُهُ على انْتِفَاءِ الْقَطْعِ وَإِنَّمَا نَدَّعِي أَنَّ الظَّنَّ كَافٍ في الْعَمَلِ فَلَا نَتَوَقَّفُ وهو لَا يَكْتَفِي بِالظَّنِّ فَيَتَوَقَّفُ الرَّابِعُ أَنَّ هذه الْمَسْأَلَةَ غَيْرُ مَسْأَلَةِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْمَعْنَى فإن تِلْكَ لِلشَّافِعِيِّ فيها قَوْلَانِ وَلِهَذَا تَرَدَّدَ في نَقْضِ الْوُضُوءِ بِالْمَحَارِمِ لِأَجْلِ عُمُومِ أو لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ وَالتَّخْصِيصُ بِالْمَعْنَى وهو الشَّهْوَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِيهِمْ وَكَذَا في الْقَاتِلِ بِحَقٍّ مع حديث الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ وَقَوْلُهُ أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ اسْتَنْبَطُوا منه ما خَصَّصَ جِلْدَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وقد نَقَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ الْفَارِقَ بين الْمَسَائِلِ فقال بَعْدَ تَجْوِيزِهِ التَّخْصِيصَ بِالْقِيَاسِ هذا فِيمَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ الْمَعْنَى وَأَمَّا ما لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ مَعْنًى مُسْتَمِرٌّ جَائِزٌ على السَّيْرِ فَالْأَصْلُ فيه التَّعَلُّقُ بِالظَّاهِرِ وَتَنْزِيلُهُ مَنْزِلَةَ النَّصِّ وَلَكِنْ قد يَلُوحُ مع هذا مَقْصُودُ الشَّارِعِ بِجِهَةٍ من الْجِهَاتِ فَيَتَعَيَّنُ النَّظَرُ إلَيْهِ وَهَذَا له أَمْثِلَةٌ منها أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْمُلَامَسَةَ في قَوْلِهِ أو لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَجَعَلَهَا الشَّافِعِيُّ على الْجَسِّ بِالْيَدِ ثُمَّ تَرَدَّدَ نَصُّهُ في لَمْسِ الْمَحَارِمِ من جِهَةِ أَنَّ التَّعْلِيلَ لَا جَرَيَانَ له في الْأَحْدَاثِ النَّاقِضَةِ وما لَا يَجْرِي الْقِيَاسُ في إثْبَاتِهِ فَلَا يَكَادُ يَجْرِي في نَفْيِهِ فَمَالَ الشَّافِعِيُّ في ذلك إلَى اتِّبَاعِ اسْمِ النِّسَاءِ وَأَصَحُّ قَوْلَيْهِ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تُنْقَضُ بِمَسِّهِنَّ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُلَامَسَةِ الْمُضَافَةِ إلَى أَنْ يَقَعَ شَيْءٌ من الْأَحْدَاثِ يُشْعِرُ بِلَمْسِ اللَّاتِي يُقْصَدْنَ بِاللَّمْسِ قال فَإِنْ لم يُتَّجَهْ مَعْنًى صَحِيحٌ دَلَّتْ الْقَرِينَةُ على التَّخْصِيصِ كَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ ليس لِلْقَاتِلِ من الْمِيرَاثِ شَيْءٌ فَالْحِرْمَانُ لَا يَنْسَدُّ فيه تَعْلِيلٌ فإذا انْسَدَّ مَسْلَكُ التَّعْلِيلِ اقْتَضَى الْحَالُ التَّعَلُّقَ بِلَفْظِ الشَّارِعِ تَرَدَّدَ الشَّافِعِيُّ في أَنَّ الْقَتْلَ قِصَاصًا أو حَدًّا إذَا صَدَرَ من الْوَارِثِ فَهَلْ يَقْتَضِي حِرْمَانَهُ فَوَجْهُ تَعَلُّقِ الْحِرْمَانِ بِكُلِّ قَتْلٍ التَّعَلُّقُ بِالظَّاهِرِ
____________________
(2/508)
مع حَسْمِ التَّعْلِيلِ وَوَجْهُ إثْبَاتِ الْإِرْثِ التَّطَلُّعُ إلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ وَلَيْسَ بِخَفِيٍّ أَنَّ قَصْدَهُ مُضَادَّةُ غَرَضِ الْمُسْتَعْجِلِ وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ في الْقَتْلِ الْحَقِّ وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عن بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ فَمَنْ عَمَّمَ تَعَلَّقَ بِالظَّاهِرِ وَمَنْ فَصَّلَ بين الرِّبَوِيِّ وَغَيْرِهِ تَشَوَّفَ إلَى دَرْكِ مَقْصُودٍ وهو أَنَّ في الْحَيَوَانِ كما نَبِيعُ الشَّاةَ بِهِ نَبِيعُ الشَّاةَ بِلَحْمِهِ اعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ من النَّصِّ مَعْنًى يُعَمِّمُهُ قَطْعًا كَاسْتِنْبَاطِ ما يُشَوِّشُ الْفِكْرَ من قَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لَا يَقْضِي الْقَاضِي وهو غَضْبَانُ وَكَاسْتِنْبَاطِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْجَامِدِ الظَّاهِرِ الْقَالِعِ من الْأَمْرِ بِالْأَحْجَارِ وهو غَالِبُ الْأَقْيِسَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ منه مَعْنًى يَعُودُ عليه بِالْبُطْلَانِ وَلِهَذَا ضَعُفَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ في قَوْلِهِ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ أَيْ قِيمَةُ شَاةٍ لِأَنَّ الْقَصْدَ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِالشَّاةِ أو الْقِيمَةِ وَيَلْزَمُ منه أَنْ لَا تَجِبَ الشَّاةُ أَصْلًا لِأَنَّهُ إذْ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ لم تَجِبْ الشَّاةُ فَلَا تَكُونُ مُجْزِئَةً وَهِيَ مُجْزِئَةٌ بِالِاتِّفَاقِ فَقَدْ عَادَ الِاسْتِنْبَاطُ على أَصْلِهِ بِالْبُطْلَانِ وَاعْتِرَاضُ بَعْضِهِمْ بِأَنَّ هذه كَاَلَّذِي قَبْلَهُ لِأَنَّ الْحَنَفِيَّ كما يُجَوِّزُ الْقِيمَةَ يُجَوِّزُ الشَّاةَ مَرْدُودٌ بِمَا سَأَذْكُرُهُ في كِتَابِ الْقِيَاسِ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ منه مَعْنًى يُخَصِّصُهُ فيه قَوْلَانِ تَرَدَّدَ فِيهِمَا التَّرْجِيحُ وقال إلْكِيَا في الْمَدَارِكِ الْمَنْقُولُ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْمَعْنَى لِأَنَّ الْعُمُومَ يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ ثُمَّ يُبْحَثَ عن دَلِيلِهِ فإن فَهْمَ مَعْنَى اللَّفْظِ سَابِقٌ على فَهْمِ مَعْنَاهُ الْمُسْتَنْبَطِ وإذا فُهِمَ عُمُومُهُ فَكَيْفَ يُتَّجَهُ بِنَاءُ عِلَّةٍ على خِلَافِ ما فُهِمَ منه قال وَيُتَّجَهُ لِلْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ الْمَعْنَى الذي يُفْهَمُ من الْعُمُومِ في النَّظَرِ الثَّانِي رُبَّمَا نَرَاهُ أَوْفَقَ لِمَوْضُوعِ اللَّفْظِ وَمِنْهَاجِ الشَّرْعِ وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ إمَّا بِفَحْوَى الْخِطَابِ وَمَخْرَجِ الْكَلَامِ وَإِمَّا بِأَمَارَةٍ أُخْرَى تَفْصِلُ بِالْكَلَامِ وَذَلِكَ رَاجِحٌ على ما ظَهَرَ من اللَّفْظِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُقَدَّرُ مُخَالِفًا لِلَّفْظِ وَلَكِنْ يُقَدَّرُ بَيَانًا له فَاَلَّذِي فَهِمْنَاهُ أَوَّلًا الْعُمُومَ ثُمَّ النَّظَرُ الثَّانِي يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخُصُوصُ فَغَلَبَ مَعْهُودُ الشَّرْعِ على مَعْنَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ فَرْعٌ وَلَّدْته هل يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ من الْمُقَيَّدِ مَعْنًى يَعُودُ عليه بِالْإِطْلَاقِ فيه نَظَرٌ وقد جَوَّزَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا الِاسْتِنْجَاءَ بِحَجَرٍ وَاحِدٍ له ثَلَاثُ أَحْرُفٍ نَظَرًا لِلْمَعْنَى وهو الْإِزَالَةُ بِطَاهِرٍ فيه رَفْعُ قَيْدِ الْعَدَدِ في قَوْلِهِ عليه السَّلَامُ فَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ
____________________
(2/509)
الْبَحْثُ الثَّالِثُ في تَخْصِيصِ الْمَظْنُونِ بالقطوع ( ( ( بالقطع ) ) ) يَجُوزُ تَخْصِيصُ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْقُرْآنِ وفي كَلَامِ بَعْضِهِمْ مَجِيءُ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا كان الْخَبَرُ مُتَوَاتِرًا هَاهُنَا وَأَمْثِلَتُهُ عَزِيزَةٌ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ عليه السَّلَامُ ما أُبِينَ من حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ فإنه خُصَّ منه الصُّوفُ وَالشَّعْرُ وَالْوَبَرُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا قُلْت هذه إنْ جَعَلْنَا الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فإن الحديث وَرَدَ على سَبَبٍ وهو حُبِّبَ إلَيْهِ الْغَنَمُ وَالْإِبِلُ فَإِنْ اعْتَبَرْنَا خُصُوصَ السَّبَبِ فَلَيْسَ الْحَدِيثُ عَامًّا وَكَذَا قَوْلُهُ أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ الناس حتى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فإنه خُصَّ منه أَهْلُ الذِّمَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حتى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عن يَدٍ وَكَذَا قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي ما حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا ما لم تَتَكَلَّمْ أو تَعْمَلْ فإنه خُصَّ من الْكَلَامِ سَبْقُ اللِّسَانِ بِالْيَمِينِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ وَكَذَا قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ مُخَصَّصٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فإذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما على الْمُحْصَنَاتِ من الْعَذَابِ مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْقِيَاسِ وفي هذا الْخِلَافُ أَيْضًا كما قال الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ وابن الْقُشَيْرِيّ قَالَا وَلَكِنَّ الْمُخْتَارَ هُنَا التَّوَقُّفُ مَسْأَلَةٌ مَنَعَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ الْإِجْمَاعَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وهو يُشْبِهُ الْخِلَافَ في تَخْصِيصِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ كما هو الْمَشْهُورُ فَكَذَا هُنَا
____________________
(2/510)
مَسْأَلَةٌ هل يُتْرَكُ الْعُمُومُ لِأَجْلِ السِّيَاقِ يُخَرَّجُ من كَلَامِ الشَّافِعِيِّ في هذه الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ فإنه تَرَدَّدَ قَوْلُهُ في الْأَمَةِ الْحَامِلِ إذَا طَلَّقَهَا بَائِنًا هل يَجِبُ لها النَّفَقَةُ أَمْ لَا على قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا نعم لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ وَالثَّانِي لَا لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ يُشْعِرُ بِإِرَادَةِ الْحَرَائِرِ لِقَوْلِهِ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَضَرَبَ أَجَلًا تَعُودُ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مُضِيِّهِ إلَى الِاسْتِقْلَالِ بِنَفْسِهَا وَالْأَمَةُ لَا تَسْتَقِلُّ وَأَطْلَقَ الصَّيْرَفِيُّ في جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالسِّيَاقِ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِينَ قال لهم الناس إنَّ الناس قد جَمَعُوا لَكُمْ وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ يَقْتَضِيهِ بَلْ بَوَّبَ على ذلك بَابًا فقال بَابُ الذي يُبَيِّنُ سِيَاقُهُ مَعْنَاهُ وَذَكَرَ قَوْله تَعَالَى وَاسْأَلْهُمْ عن الْقَرْيَةِ التي كانت حَاضِرَةَ الْبَحْرِ فإن السِّيَاقَ أَرْشَدَ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُهَا وهو قَوْلُهُ إذْ يَعْدُونَ في السَّبْتِ وقال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ نَصَّ بَعْضُ أَكَابِرِ الْأُصُولِيِّينَ على أَنَّ الْعُمُومَ يُخَصُّ بِالْقَرَائِنِ قال وَيَشْهَدُ له مُخَاطَبَاتُ الناس بَعْضِهِمْ بَعْضًا حَيْثُ يَقْطَعُونَ في بَعْضِ الْمُخَاطَبَاتِ بِعَدَمِ الْعُمُومِ بِنَاءً على الْقَرِينَةِ وَالشَّرْعُ يُخَاطِبُ الناس بِحَسَبِ تَعَارُفِهِمْ الْفَرْقُ بين التَّخْصِيصِ بِالْقَرَائِنِ وَالتَّخْصِيصِ بِالسَّبَبِ قال وَلَا يَشْتَبِهُ عَلَيْك التَّخْصِيصُ بِالْقَرَائِنِ بِالتَّخْصِيصِ بِالسَّبَبِ كما اشْتَبَهَ على كَثِيرٍ من الناس فإن التَّخْصِيصَ بِالسَّبَبِ غَيْرُ مُخْتَارٍ فإن السَّبَبَ وَإِنْ كان خَاصًّا فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُورَدَ لَفْظٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُهُ وَغَيْرَهُ كما في قَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا وَلَا يَنْتَهِضُ السَّبَبُ بِمُجَرَّدِهِ قَرِينَةً لِرَفْعِ هذا بِخِلَافِ السِّيَاقِ فإن بِهِ يَقَعُ التَّبْيِينُ وَالتَّعْيِينُ أَمَّا التَّبْيِينُ فَفِي الْمُجْمَلَاتِ وَأَمَّا التَّعْيِينُ فَفِي الْمُحْتَمَلَاتِ وَعَلَيْك بِاعْتِبَارِ هذه في أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمُحَاوَرَاتِ تَجِدُ منه ما لَا يُمْكِنُك حَصْرُهُ قبل اعْتِبَارِهِ انْتَهَى
____________________
(2/511)
مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ سَوَاءٌ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ وَنَقَلَهُ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ عن نَصِّ الشَّافِعِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فقال نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى على الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ وَعَلَى أَنَّهُ يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ فَإِنْ قِيلَ لِمَ قُلْت إنَّهُ يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ وقد يَرِدُ من التَّخْصِيصِ عليه ما يَرِدُ على الْعُمُومِ قِيلَ لِأَنَّ دَلِيلَ الْخِلَافِ يَجْرِي مَجْرَى الْقِيَاسِ في بَابِ الْقُوَّةِ فَلِهَذَا جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ قال وَسَوَاءٌ كان الدَّلِيلُ مُسْتَخْرَجًا من ذلك الْخِطَابِ أو من غَيْرِهِ فإنه يَخُصُّهُ انْتَهَى وقال بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ سَوَاءٌ قُلْنَا إنَّهُ من بَابِ الْقِيَاسِ أو من اللَّفْظِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ فَيُخَصُّ عُمُومُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِفَحْوَى أَدِلَّةِ الْكِتَابِ تَوَاتُرًا كانت السُّنَّةُ أو آحَادًا وَيُخَصُّ عُمُومُ الْقُرْآنِ وَآحَادُ السُّنَّةِ بِفَحْوَى أَدِلَّةِ الْمُتَوَاتِرِ من السُّنَّةِ وَأَمَّا تَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ بِفَحْوَى آحَادِ السُّنَّةِ فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِيهِ وَفِيهِ احْتِمَالٌ انْتَهَى وقال الْآمِدِيُّ لَا أَعْرِفُ خِلَافًا في تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ بين الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ وَالْمَفْهُومِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَحْسُنُ الِاعْتِرَاضُ عليه كما حَكَاهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ عن ابْنِ سُرَيْجٍ وَالْحَنَفِيَّةِ من مَنْعِهِمْ ذلك لِأَنَّهُمْ بَنَوْهُ على مَذْهَبِهِمْ في إنْكَارِ الْمَفْهُومِ لَكِنْ أَطْلَقَ الْإِمَامُ في الْمُنْتَخَبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وقال دَلَالَتُهُ إنْ قُلْنَا بِكَوْنِهِ أَضْعَفَ من النُّطْقِ فَلَا تَخْصِيصَ بِهِ وَتَوَقَّفَ في الْمَحْصُولِ فلم يَخْتَرْ شيئا وقال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ قد رَأَيْت في بَعْضِ مُصَنَّفَاتِ الْمُتَأَخِّرِينَ ما يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْعُمُومِ وفي كَلَامِ صَفِيِّ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ أَنَّ الْخِلَافَ في مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَمَّا مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ فَاتَّفَقُوا على التَّخْصِيصِ بِهِ قُلْت وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ في كِتَابِ الْقَضَاءِ من الْحَاوِي فقال ما عُرِفَ مَعْنَاهُ من ظَاهِرِ النَّصِّ كَقَوْلِهِ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ يَدُلُّ على تَحْرِيمِ الضَّرْبِ قِيَاسًا على الْأَصَحِّ وَهَذَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ بِلَا خِلَافٍ وفي جَوَازِ النَّسْخِ وَجْهَانِ ا هـ وَهَذَا فيه نَظَرٌ أَعْنِي قَطْعَهُ بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهِ مع تَرْجِيحِهِ كَوْنَهُ قِيَاسًا وكان
____________________
(2/512)
يَتَّجِهُ على الْخِلَافِ في التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ لَكِنَّهُ هُنَا أَوْلَى بِالْجَوَازِ لِمَا فيه من أَنَّ دَلَالَتَهُ لَفْظِيَّةٌ وَرُبَّمَا أَيَّدَ ذلك بِدَعْوَى الْآمِدِيَّ وَالْإِمَامِ الِاتِّفَاقَ على جَوَازِ النَّسْخِ بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِيهِمَا أَمَّا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ كما إذَا وَرَدَ عَامٌّ في إيجَابِ الزَّكَاةِ في الْغَنَمِ كَقَوْلِهِ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ ثُمَّ قال في سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ فإن الْمَعْلُوفَةَ خَرَجَتْ بِالْمَفْهُومِ فَيُخَصَّصُ بِهِ عُمُومُ الْأَوَّلِ وَذَكَرَ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ في جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهِ وَمَثَّلَ بِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَا قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ إذَا وَرَدَ الْعُمُومُ مُجَرَّدًا من صِفَةٍ ثُمَّ أُعِيدَ بِصِفَةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عنه كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ مع قَوْلِهِ قَبْلَهُ أو بَعْدَهُ اُقْتُلُوا أَهْلَ الْأَوْثَانِ من الْمُشْرِكِينَ كان ذلك مُوجِبًا لِلتَّخْصِيصِ بِالِاتِّفَاقِ وَيُوجِبُ الْمَنْعَ من قَتْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَيُخَصَّصُ ما بَعْدَهُ من الْعُمُومِ ا هـ وَلَيْسَ كما قَالَا فَفِي شَرْحِ اللُّمَعِ إنْ قُلْنَا إنَّ الْمَفْهُومَ ليس بِحُجَّةٍ امْتَنَعَ التَّخْصِيصُ بِهِ وَإِنْ قُلْنَا حُجَّةٌ ابْتَنَى على أَنَّهُ في أَنَّهُ كَالنُّطْقِ أو كَالْقِيَاسِ فَإِنْ قُلْنَا كَالنُّطْقِ جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ وَإِنْ قُلْنَا قِيَاسٌ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ في التَّخْصِيصِ بِهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ في جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ ا هـ وقد صَرَّحَ ابن كَجٍّ بِالْخِلَافِ فقال عِنْدَنَا دَلِيلُ الْخِطَابِ يَخُصُّ الْعُمُومَ مِثْلُ قَوْلِهِ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ ثُمَّ قال في سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ فَدَلَّ على أَنَّ الْمَعْلُوفَةَ لَا زَكَاةَ فيها فَخَصَّصْنَاهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ وَيَنْقُلُ الْأَوَامِرَ من الْوُجُوبِ إلَى النَّدْبِ وقال مَالِكٌ إنَّ دَلِيلَ الْخِطَابِ لَا يَخُصُّ الْعُمُومَ بَلْ يَكُونُ الْعُمُومُ مُقَدَّمًا وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْعُمُومَ نُطْقٌ وَدَلِيلُ الْخِطَابِ مَفْهُومٌ من النُّطْقِ فَكَانَ النُّطْقُ أَوْلَى وَلَنَا إجْمَاعُنَا نَحْنُ وَأَصْحَابُ مَالِكٍ على الْقَوْلِ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فَجَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ كَغَيْرِهِ من الْأَدِلَّةِ انْتَهَى قالت قَضِيَّةُ كَلَامِ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ في التَّخْصِيصِ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ قَوْلَيْنِ وَأَظْهَرُهُمَا الْجَوَازُ لِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ من النَّصِّ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ فَكَانَ عَامًّا في كُلٍّ مُطَلَّقَةٍ ثُمَّ قال لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ ما لم تَمَسُّوهُنَّ أو تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ فَكَانَ مَفْهُومُهُ أَنْ لَا مُتْعَةَ لِمَدْخُولٍ بها فَخُصَّ بها في أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ عُمُومُ الْمُطَلَّقَاتِ وَامْتَنَعَ من التَّخْصِيصِ على الْقَوْلِ الْآخَرِ
____________________
(2/513)
قُلْت وَذَكَرَ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ هذه الْآيَةَ وَجَعَلَهَا من قَبِيلِ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ من بَابِ ذِكْرِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ قال فَاخْتَلَفَ فيه قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَكَانَ مَرَّةً يَذْهَبُ إلَى أَنَّ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةً التي فُرِضَ لها أو طَلُقَتْ قبل الدُّخُولِ وَيَقُولُ إنَّ قَوْلَهُ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ عَامٌّ وَقَوْلُهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ بَعْضُ ما اشْتَمَلَ عليه الْعُمُومُ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَنَافَيَانِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي إنَّهُ يَقْضِي بِهَذِهِ الْآيَةِ على قَوْلِهِ لِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ لِأَنَّهَا أَخَصُّ قال وقد قِيلَ إنَّ آيَةَ التَّخْصِيصِ لم تَرِدْ في تَعْرِيفِ حُكْمِ الْمُتْعَةِ وَإِنَّمَا وَرَدَتْ في الْفَرْقِ بين الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ وَإِنَّمَا يُخَصُّ الْعَامُّ إذَا كان في الْأَخَصِّ مُرَادُ التَّخْصِيصِ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ في التَّخْصِيصِ إرَادَةٌ لم يَجُزْ أَنْ يُخَصَّ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إلَّا على أَزْوَاجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَلَيْسَ هو حُجَّةٌ في إبَاحَةِ كل مِلْكِ يَمِينٍ لِأَنَّهُ لم يُقْصَدْ بها تَعْرِيفُ الْإِبَاحَةِ وَإِنَّمَا قُصِدَ بها الْمَدْحُ ا هـ ثُمَّ قال بَعْدَ ذلك وَمِنْ الْمُخَصِّصِ أَنْ يَأْتِيَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وهو ما كان له وَصْفَانِ فَتَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِأَحَدِ وَصْفَيْهِ دَلَّ على أَنَّ ما عَدَاهُ بِخِلَافِهِ فَهَذَا يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ قَوْلًا وَاحِدًا ا هـ وقال الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِ الدَّلَائِلِ الْعَامُّ إنْ لم يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُهُ في جَمِيعِ أَفْرَادِهِ يَتَوَقَّفُ على الْبَيَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَآتُوا الزَّكَاةَ فإذا ذُكِرَ بَعْضُ الْأَفْرَادِ عُلِمَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ الْمَذْكُورَةِ كَقَوْلِهِ ليس فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ إنَّمَا هو بَعْضُ الْجِنْسِ فَالْحُكْمُ لِلْعُمُومِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ فَهَذَا عَامٌّ ثُمَّ قال بَعْدَهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ الْآيَةَ فلما احْتَمَلَ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِمَنْ لم يُمَسَّ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا هو ذِكْرٌ لِبَعْضِ الْجِنْسِ الذي أُرِيدَ بِالْمُتْعَةِ ولم يَنْفِ مع الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ في لَفْظٍ وَلَا دَلِيلَ اقْتَضَى الْحُكْمَ على كل مُطَلَّقَةٍ فَإِنْ قِيلَ فَقُلْ هذه في قَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ مع حديث الْقُلَّتَيْنِ وَقُلْ سَائِمَةُ الْغَنَمِ وَالْعَامِلَةِ كَامِلَيْنِ هُنَا قِيلَ لَمَّا كان مَفْهُومُ قَوْلِهِ في سَائِمَةِ الْغَنَمِ كَذَا دَلِيلٌ على أَنَّ الْعَامِلَةَ لَا شَيْءَ فيها وَكَمَا لو رَفَعْنَا دَلَالَةَ ما وَرَدَ في الْقُلَّتَيْنِ بِقَوْلِهِ الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ أَسْقَطْنَا أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ بِالْآخَرِ صَلُحَ أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا عليه ثُمَّ قال وَالْحَاصِلُ أَنَّك تَضُمُّ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ فما أَوْجَبَهُ حُكْمُهُمَا فَالْحُكْمُ له
____________________
(2/514)
وَحَقُّ الْكَلَامِ ما يُقَيَّدُ بِهِ حتى يُعْلَمَ التَّوْكِيدُ فَإِنْ كان إذَا ثَبَتَ الْعُمُومُ سَقَطَ دَلَالَةُ الشَّرْطِ فَالْحُكْمُ لِمَا فيه الشَّرْطُ وَإِنْ كُنْت إذَا أَثْبَتَهُ لم تَنْفِ دَلَالَةَ الْعُمُومِ أَجْرَيْته عَامًّا إلَى أَنْ تَقُومَ دَلَالَةٌ تَدُلُّ على الْجَمْعِ بين السَّائِمَةِ وَالْعَامِلَةِ من غَيْرِ جِهَةِ الْمَفْهُومِ الْمُحْتَمَلِ لَكِنْ ثَبَتَ فَيَكُونُ الْحُكْمُ له قال وقد يُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ على جَوَابِ الشَّافِعِيِّ في الْمُجْمَلِ وَالْمُفَسَّرِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَمَتِّعُوهُنَّ مُرَتَّبًا على قَوْلِهِ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ما لم تَقُمْ دَلَالَةٌ وقد قَامَتْ الدَّلَالَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ وقد عُلِمَ أَنَّهُنَّ مَدْخُولٌ بِهِنَّ فَتَثْبِيتُ الْمُتْعَةِ لِلْمَمْسُوسَةِ وَغَيْرِهَا بهذا الدَّلِيلِ ا هـ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ دَلَالَةُ الْمَفْهُومِ أَقْوَى من دَلَالَةِ الْعُمُومِ الْمَنْطُوقِ فإذا قال أَعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا ثُمَّ قال إنْ دخل الدَّارَ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا كان الثَّانِي أَقْوَى وَالدَّلِيلَانِ إذَا تَعَارَضَا قُضِيَ بِأَقْوَاهُمَا وَهَذَا عَكْسُ قَوْلِ الرَّازِيَّ في دَعْوَاهُ ضَعْفَ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ وقال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ يَعْنِي بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ في قَوْلِ من يُثْبِتُهُ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ مُسْتَفَادٌ من الْآيَةِ فَأَشْبَهَ الْقِيَاسَ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ إذَا قُلْنَا بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فَهَلْ هو بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ أو الْقِيَاسِ فيه وَجْهَانِ حَكَاهُمَا سُلَيْمٌ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ من تَخْصِيصِ الْوَصْفِ بِالْحُكْمِ قال وَهَذَا أَصَحُّ وَالثَّانِي بِمَنْزِلَةِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ اللَّفْظَ لم يَدُلَّ عليه فَثَبَتَ أَنَّهُ مُسْتَفَادٌ من مَعْنَاهُ وَيَنْبَنِي عَلَيْهِمَا ما إذَا عَارَضَهُ لَفْظُ آيَةٍ أو خَبَرٍ فَعَلَى الْأَوَّلِ هو بِمَنْزِلَةِ آيَتَيْنِ أو خَبَرَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ وَعَلَى الثَّانِي يُقَدَّمُ النُّطْقُ الْمُحْتَمَلُ عليه سَوَاءٌ كان أَعَمَّ منه أو أَخَصَّ الثَّانِي ذَكَرَ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ أَنَّ هذا كُلَّهُ إذَا عَارَضَهُ غَيْرُ النُّطْقِ الذي هو أَصْلُهُ فَأَمَّا إذَا عَارَضَ نُطْقَهُ وَأَصْلَهُ فَإِمَّا أَنْ يُسْقِطَهُ وَيُبْطِلَهُ أو يَخُصَّهُ فَقَطْ فَإِنْ اعْتَرَضَ بِالْإِسْقَاطِ وَالْإِبْطَالِ سَقَطَ الْمَفْهُومُ وَذَلِكَ مِثْلُ حديث أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ نَصَّ على الْبُطْلَانِ بِغَيْرِ إذْنٍ وَمَفْهُومُهُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ بِالْإِذْنِ إلَّا أَنَّهُ إذْ أُثْبِتَ النُّطْقُ لِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ على التَّسْوِيَةِ بين أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ
____________________
(2/515)
إذْنِ وَلِيِّهَا وَبَيْنَ أَنْ تُنْكِحَ نَفْسَهَا بِإِذْنِهِ فَعِنْدَنَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ فِيهِمَا وَعِنْدَ الْخَصْمِ يَصِحُّ فِيهِمَا فإذا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ جَوَازُ ذلك بِإِذْنِهِ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ جَوَازُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وإذا ثَبَتَ جَوَازُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ سَقَطَ النُّطْقُ فَيَكُونُ هذا الْمَفْهُومُ مُسْقِطًا لِأَصْلِهِ وَيَثْبُتُ فَيَسْقُطُ النُّطْقُ وَإِنْ كان الْمَفْهُومُ مُعْتَرِضًا على أَصْلِهِ بِالتَّخْصِيصِ كَمَفْهُومِ قَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْكَلْبَ وَحَرَّمَ ثَمَنَهُ فَقَوْلُهُ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْكَلْبَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ جِهَاتِ الِانْتِقَاعِ بِهِ من الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهَا وَقَوْلُهُ حَرَّمَ ثَمَنَهُ يَقْتَضِي أَنَّ غير الثَّمَنِ ليس بِمُحَرَّمٍ فَهَذَا يَخُصُّ عُمُومَ ذلك النُّطْقِ الْمُحَرَّمِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْمَفْهُومَ سَقَطَ وَلَا يُخَصَّصُ عُمُومُ أَصْلِهِ وَحُكِيَ عن أبي الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ أَنَّهُ جَوَّزَ تَخْصِيصَ أَصْلِهِ بِهِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ فَرْعُ الْأَصْلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَرِضَ عليه وَيُسْقِطَ شيئا من حُكْمِهِ وَأَصْحَابُ أبي حَنِيفَةَ يُجِيزُونَ مِثْلَ هذا في الْقِيَاسِ إذَا خَصَّ أَصْلَهُ وَلَا نُجِيزُهُ نَحْنُ وقد تَكَلَّمْنَا نَحْنُ في مَسْأَلَةِ الرِّبَا فَأَمَّا دَلِيلُ الْخِطَابِ فَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ حتى نَتَكَلَّمَ مَعَهُمْ في التَّخْصِيصِ بِهِ ا هـ وقد سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ في دَلِيلِ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ الثَّالِثُ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وَاجِبٌ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ منه دَلِيلٌ من الْمَفْهُومِ فَيَسْقُطُ حِينَئِذٍ الْمَفْهُومُ وَيَبْقَى الْعَامُّ على عُمُومِهِ مِثَالُهُ نَهْيُهُ عن بَيْعِ ما لم يُقْبَضْ مع قَوْلِهِ من ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِيعُهُ حتى يَسْتَوْفِيَهُ فَإِنَّا لم نَقُلْ بِالْمَفْهُومِ وَخَصَّصْنَا بِهِ الْعَامَّ كما فَعَلَ مَالِكٌ حَيْثُ قَصَرَ الْعُمُومَ على الطَّعَامِ لِأَنَّ مَعَنَا دَلِيلًا أَقْوَى من الْمَفْهُومِ وهو التَّنْبِيهُ لِأَنَّ الطَّعَامَ إذَا لم يَجُزْ بَيْعُهُ قبل الْقَبْضِ مع حَاجَةِ الناس إلَيْهِ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ غَيْرُهُ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يُقَدَّمُ على الْمَفْهُومِ وَالْقِيَاسُ يَدُلُّ على أَنَّ غير الطَّعَامِ بِمَنْزِلَتِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا لم يَجُزْ بَيْعُ الطَّعَامِ لِأَنَّهُ لم يَحْصُلْ فيه الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ هذا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ في غَيْرِ الطَّعَامِ على أَنَّ بَعْضَهُمْ أَجَابَ عن هذا بِأَنَّهُ من بَابِ مَفْهُومِ اللَّقَبِ لِأَنَّ الطَّعَامَ اسْمٌ وَتَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ لَا يُخَصِّصُ ما عَدَاهُ قال الْقَاضِي وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ ذلك في الِاسْمِ اللَّقَبِ أَمَّا الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ فإنه يَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ كَالْفَاسِقِ وَالنَّائِمِ وَاعْتَرَضَ أَصْحَابُ أبي حَنِيفَةَ على هذا وَقَالُوا تَرَكَ الشَّافِعِيُّ أَصْلَهُ في قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
____________________
(2/516)
إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ وكان يَجِبُ أَنْ يَقْضِيَ بِمَفْهُومِهِ على عُمُومِ قَوْلِهِ إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ وَالْجَوَابُ ما ذَكَرْنَاهُ وهو أَنَّ التَّنْبِيهَ مُقَدَّمٌ على الْمَفْهُومِ لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عليه وَوَجْهُ التَّنْبِيهِ أَنَّهُ إذَا أُمِرَ بِالتَّحَالُفِ وَهُنَاكَ سِلْعَةٌ قَائِمَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بها على صِدْقِ أَحَدِهِمَا فإذا كانت تَالِفَةً لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بها فَهَذِهِ أَوْلَى بِذَلِكَ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يُوجِبُ تَرْكَ دَلِيلِ الْخِطَابِ لِلْأَمْرِ بِالتَّحَالُفِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُدَّعٍ وَمُدَّعًى عليه وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ مع التَّلَفِ وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ له الْمَفْهُومُ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى التَّخْصِيصِ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ بَعْضِ حُكْمِ اللَّفْظِ فإن اللَّفْظَ يُوجِبُ إثْبَاتًا وَنَفْيًا فَإِسْقَاطُ أَحَدِهِمَا بِالْقِيَاسِ يُمْكِنُ له التَّخْصِيصُ بِهِ مَسْأَلَةٌ التَّخْصِيصُ بِفِعْلِ الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم على الْقَوْلِ بِأَنَّهُ شَرْعٌ لِأُمَّتِهِ إذَا قُلْنَا بِأَنَّ فِعْلَ الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم شَرْعٌ لِأُمَّتِهِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ من أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ إلَى التَّخْصِيصِ بِهِ قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ هذه إذَا قُلْنَا إنَّهَا على الْوُجُوبِ أو النَّدْبِ فَإِنْ قُلْنَا بِالتَّوَقُّفِ فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّخْصِيصُ لِأَنَّهَا غَيْرُ دَالَّةٍ على شَيْءٍ انْتَهَى وَنَفَاهُ الْأَقَلُّونَ منهم الْكَرْخِيّ وَاخْتَارَهُ ابن بَرْهَانٍ وَحَكَاهُ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَنَقَلَ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ عن الْكَرْخِيِّ وَغَيْرِهِ من الْحَنَفِيَّةِ الْمَنْعَ إذَا فَعَلَهُ مَرَّةً لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ من خَصَائِصِهِ ثُمَّ قال أَمَّا إذَا تَكَرَّرَ الْفِعْلُ فإنه يُخَصُّ بِهِ الْعَامُّ بِالْإِجْمَاعِ وَالثَّالِثُ وَحَكَاهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ التَّفْصِيلُ بين الْفِعْلِ الظَّاهِرِ فَيُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ وَبَيْنَ الْفِعْلِ الْمُسْتَتِرِ فَلَا يُخَصُّ بِهِ الرَّابِعُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ لَا يَظْهَرَ كَوْنُ الْفِعْلِ من خَصَائِصِهِ فَيُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ فَإِنْ اُشْتُهِرَ كَوْنُهُ من خَصَائِصِهِ فَلَا يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ وَجَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ إنَّهُ الْأَصَحُّ قال وَلِهَذَا حَمَلَ الشَّافِعِيُّ تَزْوِيجَ مَيْمُونَةَ وهو مُحْرِمٌ على أَنَّهُ كان من خَصَائِصِهِ
____________________
(2/517)
وَالْخَامِسُ الْوَقْفُ وَنُقِلَ عن عبد الْجَبَّارِ وَشَرَطَ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ لِجَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهِ كَوْنَهُ مُنَافِيًا لِلظَّاهِرِ قال فَأَمَّا الْفِعْلُ الْمُوَافِقُ لِلظَّاهِرِ فإنه لَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ كَقَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا فَلَوْ أُتِيَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِسَارِقِ مِجَنٍّ أو رِدَاءٍ فَقَطَعَهُ لم يَدُلَّ على تَخْصِيصِ الْقَطْعِ بِذَلِكَ الْمَسْرُوقِ لِأَنَّهُ بَعْضُ ما اشْتَمَلَتْ عليه الْآيَةُ قُلْت وَيَنْبَغِي لِأَبِي ثَوْرٍ أَنْ يُخَالِفَ في هذا كما سَبَقَ وقال الْغَزَالِيُّ إنَّمَا يُخَصُّ الْفِعْلُ إذَا عُرِفَ من قَوْلِهِ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ بَيَانَ الْأَحْكَامِ كَقَوْلِهِ صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وخذوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ فَإِنْ لم يُبَيِّنْ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْبَيَانَ فَلَا يَرْتَفِعُ أَصْلُ الْحُكْمِ بِفِعْلِهِ الْمُخَالِفِ وَلَكِنَّهُ قد يَدُلُّ على التَّخْصِيصِ كَنَهْيِهِ عن الْوِصَالِ ثُمَّ وَاصَلَ وقال إنِّي لَسْت كَأَحَدِكُمْ فَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يُرِدْ بِفِعْلِهِ بَيَانَ الْحُكْمِ وَكَذَلِكَ نَهْيُهُ عن اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا ثُمَّ رَآهُ ابن عُمَرَ مُسْتَدْبِرًا لِلْكَعْبَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِأَنَّهُ كان بَيَانًا لِلْحُكْمِ وَالنَّهْيِ وَالنَّهْيُ مُطْلَقًا وَيُحْمَلُ أَنَّهُ كان مَخْصُوصًا بِهِ وَفَصَّلَ الْآمِدِيُّ بين أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ شَامِلًا له كما لو قال تَرْكُ الْوِصَالِ وَاجِبٌ على كل مُسْلِمٍ ثُمَّ رَأَيْنَاهُ قد وَاصَلَ فَلَا خِلَافَ أَنَّ فِعْلَهُ يَدُلُّ على إبَاحَتِهِ في حَقِّهِ وَيَكُونُ مُخَصِّصًا له وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ فَإِنْ قُلْنَا التَّأَسِّي بِهِ وَاجِبٌ ارْتَفَعَ الْعُمُومُ وَصَارَ نَسْخًا وَإِنْ قُلْنَا ليس بِوَاجِبٍ بَقِيَ الْعُمُومُ في حَقِّ الْأُمَّةِ وَإِنْ كان عَامًّا لِلْأُمَّةِ دُونَهُ فَفِعْلُهُ لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا لِعَدَمِ دُخُولِهِ فيه وَإِنْ قِيلَ أَيْضًا بِوُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ على الْأُمَّةِ كان نَسْخًا في حَقِّ الْأَمَةِ لَا تَخْصِيصًا ثُمَّ قال وَهَذَا هو التَّفْصِيلُ وَلَا أَرَى لِلْخِلَافِ في التَّخْصِيصِ بِفِعْلِهِ وَجْهًا
____________________
(2/518)
قال فَإِنْ كان الْمُرَادُ تَخْصِيصَهُ وَحْدَهُ فَلَا يَتَأَتَّى فيه خِلَافٌ أو تَخْصِيصَ غَيْرِهِ فَلَا تَخْصِيصَ بَلْ نَسْخٌ مع أَنَّهُمْ فَرَضُوا الْمَسْأَلَةَ في التَّخْصِيصِ ثُمَّ قال وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي الْوَقْفُ لِأَنَّ دَلِيلَ التَّأَسِّي عَامٌّ فَلَيْسَ مُرَاعَاةُ أَحَدِ الْعُمُومَيْنِ أَوْلَى من مُرَاعَاةِ الْآخَرِ وَذَكَرَ الْهِنْدِيُّ في النِّهَايَةِ هذا التَّفْصِيلَ وَحَكَى فِيمَا إذَا كان عَامًّا لِلْأُمَّةِ دُونَهُ فَالْفِعْلُ لَا يَكُونُ مُخَصِّصًا له لِعَدَمِ دُخُولِهِ وَهَلْ يَكُونُ تَخْصِيصًا أو نَسْخًا في حَقِّ الْأُمَّةِ فيه التَّفْصِيلُ وقد احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ خَصَّتْ قَوْلَهُ عليه السَّلَامُ في الْجَمْعِ بين الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ بِفِعْلِهِ في رَجْمِ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَعِنْدِي أَنَّ هذه بِالنَّسْخِ أَشْبَهُ وهو كما قال وَمَثَّلَهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ بِرَجْمِهِ ثُمَّ قال فَهُوَ يَدُلُّ على تَخْصِيصِ آيَةِ الْجَلْدِ بِالْأَبْكَارِ مَسْأَلَةٌ تَقْرِيرُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَاحِدًا من الْمُكَلَّفِينَ على خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَامِّ هل يَكُونُ مُخَصِّصًا إذَا وُجِدَتْ شَرَائِطُ التَّقْرِيرِ بَعْدَ الْإِنْكَارِ في حَقِّ ذلك الْفَاعِلِ قَاطَعَ في تَخْصِيصِ الْعَامِّ في حَقِّهِ إذْ لَا يُقِرُّ على بَاطِلٍ فَإِنْ كان بَعْدَ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ كان نَسْخًا في حَقِّهِ وَأَمَّا في حَقِّ غَيْرِهِ فَإِنْ ثَبَتَتْ مُسَاوَاتُهُ له بِقَوْلِهِ حُكْمِي على الْوَاحِدِ وَنَحْوِهِ ارْتَفَعَ حُكْمُ الْعَامِّ عن الْبَاقِي أَيْضًا وَعَلَى هذا يَكُونُ نَسْخًا لَا تَخْصِيصًا إنْ خَالَفَ ذلك جَمِيعَ ما دَلَّ عليه الْعَامُّ وَيَكُونُ تَخْصِيصًا إنْ خَالَفَ في فَرْدٍ كما لو قال لَا تَقْتُلُوا الْمُسْلِمِينَ وقد رَأَيْنَا أَنَّ شَخْصًا قَتَلَ مُسْلِمًا وَأَقَرَّهُ عليه السَّلَامُ على ذلك فَيُعْلَمُ أَنَّ ذلك الْمَقْتُولَ كان يَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ قَتْلُهُ وَمَثَّلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ بِأَنَّ قَوْلَهُ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ مَخْصُوصٌ بِتَرْكِهِ أَخْذَ الزَّكَاةِ من الْخَضْرَاوَاتِ قال ابن الْقَطَّانِ وَكَذَا تَرْكُهُ أَخْذَ الزَّكَاةِ في النَّوَاضِحِ وَإِقْرَارُهُ تَرْكَ الْوُضُوءِ من النَّوْمِ قَاعِدًا وإذا قُلْنَا بِالتَّخْصِيصِ بِالتَّقْرِيرِ فَهَلْ نَقُولُ وَقَعَ التَّخْصِيصُ بِنَفْسِ التَّقْرِيرِ أَمْ يُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ على أَنَّهُ قد خُصَّ بِقَوْلٍ سَابِقٍ فيه وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابن الْقَطَّانِ وابن فُورَكٍ وَإِلْكِيَا أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ على أَنَّهُ عليه السَّلَامُ قال لهم إذْ لَا يَجُوزُ عليهم أَنْ يَتْرُكُوا ذلك إلَّا بِأَمْرٍ وَالثَّانِي أَنَّ التَّقْرِيرَ وَقَعَ بِهِ التَّخْصِيصُ
____________________
(2/519)
قال ابن فُورَكٍ وَالطَّبَرِيُّ وهو الظَّاهِرُ من الْحَالِ وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْقَطَّانِ يَقْتَضِيَ تَرْجِيحَهُ قَالَا وَعَلَى هذا يَكُونُ ما قَالَهُ الشَّافِعِيُّ في صَلَاةِ النبي عليه السَّلَامُ قَاعِدًا مع صَلَاةِ الصَّحَابَةِ خَلْفَهُ قِيَامًا دَلِيلٌ على أَنَّهُ كان نَسَخَ قَوْلَهُ إذَا صلى الْإِمَامُ قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا على أَنَّهُمْ لم يَكُونُوا لِيَفْعَلُوا ذلك وَيَنْتَقِلُوا عن الْحَالَةِ الْأُولَى إلَّا لِشَيْءٍ مُتَقَدِّمٍ وَلَيْسَ ذلك نَقْلًا عن الْحَالِ إنَّمَا هو بِنَاءٌ على ما كَانُوا عليه وَيُتَوَصَّلُ بِالْحَالِ إلَى الْعِلْمِ بِهِ مَسْأَلَةٌ الْخِطَابُ إذَا عُلِمَ خُصُوصُهُ ولم يُدْرَ ما خَصَّهُ كَيْفَ يُعْمَلُ بِهِ قال ابن فُورَكٍ من أَصْحَابِنَا من يقول الْبَيَانُ لَا يَتَأَخَّرُ فَيُحِيلُ هذا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَأْخِيرِ الْبَيَانِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا من يقول يَجُوزُ هذا وَيُعْتَبَرُ فيه الْعُمُومُ إلَّا مَوْضِعًا خُصَّ غير أَنَّهُ إذَا جاء بِأَمْرٍ يَشْتَمِلُ على الْعُمُومِ أَمْضَيْنَاهُ فيه لِأَنَّهُ لو كان فيه خُصُوصٌ لَخَصَّهُ وَمِنْ أَصْحَابِنَا من يَقِفُ في هذا
____________________
(2/520)
فَصْلٌ فِيمَا ظُنَّ أَنَّهُ من مُخَصِّصَاتِ الْعُمُومِ التَّخْصِيصِ بِالْعَادَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ الْأُولَى أَطْلَقَ جَمْعٌ من أَئِمَّتِنَا كَالشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا بِأَنَّ الْعَادَةَ لَا تُخَصِّصُ وَنَقَلَهُ في الْقَوَاطِعِ عن الْأَصْحَابِ وَحَكَوْا الْخِلَافَ فيه عن الْحَنَفِيَّةِ وقال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ هذا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ النبي عليه السَّلَامُ أَوْجَبَ شيئا أو أَخْبَرَ بِهِ بِلَفْظٍ عَامٍّ ثُمَّ رَأَيْنَا الْعَادَةَ جَارِيَةً بِتَرْكِ بَعْضِهَا أو بِفِعْلِ بَعْضِهَا فَهَلْ تُؤَثِّرُ تِلْكَ الْعَادَةُ في تَخْصِيصِ الْعَامِّ حتى يُقَالَ الْمُرَادُ من ذلك الْعَامِّ ما عَدَا ذلك الْبَعْضَ الذي جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَرْكِهِ أو بِفِعْلِهِ أَمْ لَا تُؤَثِّرُ في ذلك بَلْ هو بَاقٍ على عُمُومِهِ مُتَنَاوِلٌ لِذَلِكَ الْفِعْلِ وَلِغَيْرِهِ انْتَهَى وَهَذِهِ الْحَالَةُ هِيَ التي تَكَلَّمَ فيها صَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَأَتْبَاعُهُ وَاخْتَارَ فيها التَّفْصِيلَ وهو أَنَّهُ إنْ عُلِمَ جَرَيَانُ الْعَادَةِ في زَمَنِ النبي عليه السَّلَامُ مع عَدَمِ مَنْعِهِ عنها فَيُخَصُّ وَالْمُخَصِّصُ في الْحَقِيقَةِ تَقْرِيرُهُ عليه السَّلَامُ وَإِنْ عُلِمَ عَدَمُ جَرَيَانِهَا لم يُخَصَّ إلَّا أَنْ يُجْمَعَ على فِعْلِهَا فَيَكُونُ تَخْصِيصًا بِالْإِجْمَاعِ الْفِعْلِيِّ وَإِنْ جُهِلَ فَاحْتِمَالَاتٌ الثَّانِي أَنْ تَكُونَ الْعَادَةُ جَارِيَةً بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ كَأَكْلِ طَعَامٍ مُعَيَّنٍ مَثَلًا ثُمَّ إنَّهُ عليه السَّلَامُ نَهَاهُمْ عن تَنَاوُلِهِ بِلَفْظٍ مُتَنَاوِلٍ له وَلِغَيْرِهِ كما لو قال نَهَيْتُكُمْ عن أَكْلِ الطَّعَامِ فَهَلْ يَكُونُ النَّهْيُ مُقْتَصِرًا على ذلك الطَّعَامِ بِخُصُوصِهِ أَمْ لَا بَلْ يَجْرِي على عُمُومِهِ وَلَا تُؤَثِّرُ عَادَاتُهُمْ قال الصَّفِيُّ وَالْحَقُّ أنها لَا تُخَصِّصُ لِأَنَّ الْحُجَّةَ في لَفْظِ الشَّارِعِ وهو عَامٌّ وَالْعَادَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ حتى تَكُونَ مُعَارِضَةً له انْتَهَى وَهَذِهِ الْحَالَةُ هِيَ التي تَكَلَّمَ فيها الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ لَا تَعَلُّقَ لِإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى فَتَفَطَّنْ لِذَلِكَ فإن بَعْضَ من لَا خِبْرَةَ له حَاوَلَ الْجَمْعَ بين كَلَامِ الْإِمَامِ وَالْآمِدِيَّ ظَنًّا منه أَنَّهُمَا تَوَارَدَا على مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهُمَا حَالَتَانِ الْقَرَافِيُّ في شَرْحِ التَّنْقِيحِ وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْعَادَةَ السَّابِقَةَ على الْعُمُومِ يَجْعَلُهَا مُخَصِّصَةً وَالطَّارِئَةُ بَعْدَ الْعُمُومِ لَا يُقْضَى بها على الْعُمُومِ قال وَنَظِيرُهُ أَنَّ
____________________
(2/521)
الْعَقْدَ إذَا وَقَعَ في الْبَيْعِ فإن الثَّمَنَ يُحْمَلُ على الْعَادَةِ الْحَاضِرَةِ في النَّقْدِ لَا على ما يَطْرَأُ بَعْدَ ذلك من الْعَوَائِدِ في النُّقُودِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ من الْعَوَائِدِ ما كان مُقَارِنًا لها وَكَذَا نُصُوصُ الشَّارِعِ لَا يُؤَثِّرُ في تَخْصِيصِهَا إلَّا الْمُقَارِنُ وَمِمَّنْ اقْتَصَرَ على إيرَادِ هذه الْحَالَةِ من كِبَارِ أَصْحَابِنَا الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ في تَعْلِيقِهِ في الْأُصُولِ وَسُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ وأبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وابن الْقُشَيْرِيّ وقال الْعَادَةُ لَا تَخُصُّ الْعَامَّ من الشَّارِعِ فَلَوْ عَمَّ في الناس طَعَامٌ وَشَرَابٌ وَكَانُوا لَا يَعْتَادُونَ تَنَاوُلَ غَيْرِهِمَا فإذا وَرَدَ نَهْيٌ مُطْلَقٌ عن الطَّعَامِ لم يَخْتَصَّ بِالْمُعْتَادِ دُونَ غَيْرِهِ وقال أبو حَنِيفَةَ الْعُرْفُ من الْمُخَصِّصَاتِ وَحُمِلَ الطَّعَامُ على الْبُرِّ لِأَنَّهُ في عُرْفِ أَهْلِ الْحِجَازِ كَذَلِكَ وقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ لَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ قال وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَرِدَ عن النبي عليه السَّلَامُ خَبَرٌ في بَيْعٍ أو غَيْرِهِ وَعَادَةُ الناس تُخَالِفُهُ فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِالْخَبَرِ وَإِطْرَاحُ تِلْكَ الْعَادَةِ قال وَلَيْسَ في هذا خِلَافٌ قال فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ قد خَصَّصْتُمْ عُمُومُ لَفْظِ الْيَمِينِ بِالْعَادَةِ فَقُلْتُمْ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بَيْضًا أو لَا يَأْكُلُ الرُّءُوسَ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِمَا يُعْتَادُ أَكْلُهُ من الرُّءُوسِ وَالْبَيْضِ فَهَلَّا قُلْتُمْ في أَلْفَاظِ الشَّارِعِ مِثْلَ ذلك قِيلَ نَحْنُ لَا نَخُصُّ الْيَمِينَ بِعُرْفِ الْعَادَةِ وَإِنَّمَا نَخُصُّهُ بِعُرْفِ الشَّرْعِ مِثْلُ لَا يُصَلِّي أو لَا يَصُومُ فَيَحْنَثُ بِالشَّرْعِيِّ أو بِعُرْفٍ قَائِمٍ بِالِاسْمِ مِثْلُ لَا يَأْكُلُ الْبَيْضَ أو الرُّءُوسَ الذي يُقْصَدُ بِالْأَكْلِ فَيُخَصُّ الْيَمِينُ بِعُرْفٍ قَائِمٍ في الِاسْمِ فَأَمَّا بِعُرْفِ الْعَادَةِ فَلَا يُخَصُّ فإنه لو حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا بِبَلَدٍ لَا يُؤْكَلُ فيه إلَّا خُبْزُ الْأَرُزِّ حَنِثَ بِهِ وَإِنْ كان لَا يُعْتَادُ أَكْلُهُ وقال أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ الِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللِّسَانِ وَلَا اعْتِبَارَ بِعُمُومِ ذلك الِاسْمِ على ما اعْتَادُوهُ لِأَنَّ الْخِطَابَ إنَّمَا يَقَعُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ على حَقِيقَةِ لُغَتِهَا فَلَوْ خَصَّصْنَاهُ بِالْعَادَةِ لَلَزِمَ تَنَاوُلُهُ بَعْضَ ما وُضِعَ له وَحَقُّ الْكَلَامِ الْعُمُومُ وَلَسْنَا نَدْرِي هل أَرَادَ اللَّهُ ذلك أَمْ لَا فَالْحُكْمُ لِلِاسْمِ حتى يَأْتِيَ دَلِيلٌ يَدُلُّ على التَّخْصِيصِ قال وَهَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى خِطَابِ اللَّهِ وَخِطَابِ رَسُولِهِ فَأَمَّا خِطَابُ الناس فِيمَا بَيْنَهُمْ في الْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرِهَا فَيُنَزَّلُ على مَوْضُوعَاتِهِمْ كَنَقْدِ الْبَلَدِ في الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ إذَا أَرَادُوهُ وَإِلَّا عُمِلَ بِالْعَامِّ وَلَا يُحَالُ اللَّفْظُ عن حَقِّهِ إلَّا بِدَلِيلٍ انْتَهَى
____________________
(2/522)
وقال سُلَيْمٌ لَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِالْعَادَةِ مِثْلُ أَنْ يَرِدَ خَبَرٌ عن النبي عليه السَّلَامُ في بَيْعٍ أو غَيْرِهِ وَعَادَةُ الناس تُخَالِفُهُ فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِالْخَبَرِ وَإِطْرَاحُ تِلْكَ الْعَادَةِ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا يَرِدُ لِنَقْلِ الناس عن عَادَتِهِمْ فَلَا يُتْرَكُ بها انْتَهَى وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في بَابِ الزَّكَاةِ من النِّهَايَةِ يَجِبُ في خَمْسٍ شَاةٌ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بين غَنَمِ غَالِبِ الْبَلَدِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال في خَمْسٍ شَاةٌ وَاسْمُ الشَّاةِ يَقَعُ عَلَيْهِمَا جميعا وَلَفْظُ الشَّارِعِ لَا يَتَخَصَّصُ بِالْعُرْفِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ من أَهْلِ الْأُصُولِ ثُمَّ هُنَا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَادَةَ التي تُخَصِّصُ إنَّمَا هِيَ السَّابِقَةُ لِوَقْتِ اللَّفْظِ الْمُسْتَقَرِّ وَقَارَنَتْهُ حتى تُجْعَلَ كَالْمَلْفُوظِ بها فإن الْعَادَةَ الطَّارِئَةَ بَعْدَ الْعَامِّ لَا أَثَرَ لها وَلَا يُنَزَّلُ اللَّفْظُ السَّابِقُ عليها قَطْعًا وَأَغْرَبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَحَكَى خِلَافًا في أَنَّ الْعُرْفَ الطَّارِئَ هل يُخَصِّصُ الْأَلْفَاظَ الْمُتَقَدِّمَةَ الثَّانِي أَطْلَقَ كَثِيرُونَ التَّخْصِيصَ بِالْعَادَةِ وَخَصَّهَا الْمُحَقِّقُونَ بِالْقَوْلِيَّةِ دُونَ الْفِعْلِيَّةِ قال أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ الْعَادَةُ التي تُخَالِفُ الْعُمُومَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا عَادَةٌ في الْفِعْلِ وَالْآخَرُ عَادَةٌ في اسْتِعْمَالِ الْعُمُومِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَبِأَنْ يَعْتَادَ الناس شُرْبَ بَعْضِ الدِّمَاءِ فَيُحَرِّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الدِّمَاءَ بِكَلَامٍ يَعُمُّهَا فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ هذه الْعُمُومِ بَلْ يَجِبُ تَحْرِيمُ ما جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَغَيْرِهِ وَأَمَّا الثَّانِي فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ مُسْتَغْرِقًا في اللُّغَةِ وَيَتَعَارَفُ الناس الِاسْتِعْمَالَ في بَعْضِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ فَقَطْ كَاسْمِ الدَّابَّةِ فإنه في اللُّغَةِ لِكُلِّ ما دَبَّ وقد تُعُورِفَ اسْتِعْمَالُهُ في الْخَيْلِ فَقَطْ فَمَتَى أَمَرَنَا اللَّهُ بِالدَّابَّةِ لِشَيْءٍ حُمِلَ على الْعُرْفِ لِأَنَّهُ بِهِ أَحَقُّ وَلَيْسَ ذلك بِتَخْصِيصٍ على الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا هو تَخْصِيصٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللُّغَةِ وَفَرْقٌ بين
____________________
(2/523)
أَنْ لَا يُعْتَادَ الْفِعْلُ أو لَا يُعْتَادُ إطْلَاقُ الِاسْمِ على الْمُسَمَّى وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ مثله قال الْمَازِرِيُّ إنْ كانت الْعَادَةُ فِعْلِيَّةً لم تَخُصَّ الْعُمُومَ كَغَسْلِ الْإِنَاءِ من وُلُوغِ الْكَلْبِ هل يُحْمَلُ على إنَاءٍ فيه مَاءٌ لِأَنَّهُ لم تَجْرِ عَادَتُهُمْ إلَّا بِهِ أو يَعُمَّ الْمَاءَ وَالطَّعَامَ وَغَيْرَهُ وَفِيهِ خِلَافٌ في مَذْهَبِ مَالِكٍ وَإِنْ كانت قَوْلِيَّةً كَأَنْ يَعْتَادَ الْمُخَاطَبُونَ إطْلَاقَ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ على الضَّأْنِ دُونَ ما سِوَاهُ فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ فَالشَّافِعِيُّ لَا يُخَصِّصُ بِهَذِهِ الْعَادَةِ وأبو حَنِيفَةَ يُخَصِّصُ بها قال وَهَذَا فيها إذَا كان التَّعَارُفُ بين غَيْرِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَأَمَّا تَعَارُفُ أَهْلِ اللُّغَةِ على تَسْمِيَةٍ فإنه يُرْجَعُ إلَيْهِ إذَا وَجَبَ التَّمَسُّكُ بِلُغَتِهِمْ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في تَعَارُفِ من سِوَاهُمْ على قَصْرِ مُسَمَّيَاتِهِمْ على بَعْضِ ما وُضِعَتْ له هل يُقَدَّمُ الْعُرْفِيُّ أو اللُّغَوِيُّ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ الْعَادَةُ إنْ كانت فِعْلِيَّةً لم يُخَصَّ بها مِثْلُ أَنْ يَقُولَ حَرَّمْت عَلَيْكُمْ أَكْلَ اللُّحُومِ وَعَادَتُهُمْ أَكْلُ لُحُومِ الْغَنَمِ فَيَجْرِي الْعَامُّ على عُمُومِهِ وَإِنْ كانت عَادَةً في التَّخَاطُبِ خُصَّ بها الْعُمُومُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لَا تَرْكَبُوا دَابَّةً فَيُخَصُّ بها الْخَيْلُ دُونَ غَيْرِهَا من الْإِبِلِ وَالْحَمِيرِ لِأَنَّ ذلك هو الْمَفْهُومُ في عَادَةِ التَّخَاطُبِ وقال الْقُرْطُبِيُّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْعَادَةِ الْغَالِبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أو جاء أَحَدٌ مِنْكُمْ من الْغَائِطِ فإنه كِنَايَةٌ عن الْخَارِجِ من الْمَخْرَجَيْنِ وهو عَامٌّ غير أَنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِنَا خَصُّوهُ بِالْأَحْدَاثِ الْمُعْتَادَةِ فَلَوْ خَرَجَ ما لَا يُعْتَادُ كَالْحَصَى وَالدُّودِ لم يَكُنْ نَاقِضًا وَإِنَّمَا صَارَ إلَى ذلك لِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا أُطْلِقَ لم يَتَبَادَرْ الذِّهْنُ إلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ نَصًّا وكان غَيْرُهُ غير مُرَادٍ قال وَعَلَى هذا الْخِلَافِ في الْأَصْلِ ابْتَنَى الْخِلَافُ في مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ فإذا حَلَفَ بِلَفْظٍ له عُرْفٌ فِعْلِيٌّ وَوَضْعٌ لُغَوِيٌّ فَهَلْ يُحْمَلُ على الْوَضْعِيِّ أو اللُّغَوِيِّ قَوْلَانِ وقال الْقَرَافِيُّ شَذَّ الْآمِدِيُّ بِحِكَايَةِ الْخِلَافِ في الْعَادَةِ الْفِعْلِيَّةِ وَوَقَعَ في كَلَامِ الْمَازِرِيِّ حِكَايَةُ خِلَافٍ في ذلك عن الْمَالِكِيَّةِ لَعَلَّهُ مِمَّا الْتَبَسَ عليه الْقَوْلِيَّةُ بِالْفِعْلِيَّةِ وَأَظُنُّ أَنِّي سَمِعْت الشَّيْخَ عِزَّ الدِّينِ بن عبد السَّلَامِ يَحْكِي الْإِجْمَاعَ على أنها لَا تُخَصِّصُ أَعْنِي الْفِعْلِيَّةَ وقال الْعَالَمِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ الْعَادَةُ الْفِعْلِيَّةُ لَا تَكُونُ مُخَصِّصَةً إلَّا أَنْ تُجْمِعَ الْأُمَّةُ على اسْتِحْسَانِهَا ثُمَّ قال وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هذا تَخْصِيصٌ بِالْإِجْمَاعِ لَا بِالْعَادَةِ انْتَهَى وقال إلْكِيَا الْخِلَافُ في تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْعَادَةِ لَا يَعْنِي بها الْفِعْلِيَّةَ فإن الْوَاجِبَ على الْمُخَاطَبِينَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا عن تِلْكَ الْعَادَةِ وَإِنَّمَا الْمَعْنِيُّ بها اسْتِعْمَالُ الْعُرْفِ في
____________________
(2/524)
بَعْضِ ما يَتَنَاوَلُهُ وَذَلِكَ على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَعْلَمَ مُوَافَقَةَ الرَّسُولِ عليه السَّلَامُ لهم في مُحَاوَرَاتِهِمْ فَيَبْتَنِي عليها وَالثَّانِي أَنْ لَا يَظْهَرَ ذلك وَيُحْتَمَلُ فَيَتَّبِعُ مَوْضُوعَ اللُّغَةِ وقال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ هذه الْمَسْأَلَةُ تَحْتَاجُ إلَى تَحْرِيرٍ لِأَنَّهُ قد أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِالْخِلَافِ فيها وَتَرْجِيحُ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ فيها وَالصَّوَابُ أَنْ يُفَصِّلَ بين عَادَةٍ تَرْجِعُ إلَى الْفِعْلِ وَعَادَةٍ تَرْجِعُ إلَى الْقَوْلِ فما يَرْجِعُ إلَى الْفِعْلِ يُمْكِنُ أَنْ يُرَجَّحَ فيه الْعُمُومُ على الْعَادَةِ مِثْلُ أَنْ يُحَرَّمَ بَيْعُ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ وَيَكُونَ الْعَادَةُ بَيْعَ الْبُرِّ منه فَلَا يُخَصَّصُ عُمُومُ اللَّفْظِ بِهَذِهِ الْعَادَةِ الْفِعْلِيَّةِ وَأَمَّا ما يَرْجِعُ إلَى الْقَوْلِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْعُرْفِ اعْتَادُوا تَخْصِيصَ اللَّفْظِ بِبَعْضِ مَوَارِدِهِ اعْتِبَارًا بِمَا سَبَقَ الذِّهْنُ بِسَبَبِهِ إلَى ذلك الْخَاصِّ فإذا أُطْلِقَ اللَّفْظُ الْعَامُّ فَيَقْوَى تَنْزِيلُهُ على الْخَاصِّ الْمُعْتَادِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ بِاللَّفْظِ على ما شَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فيه لِأَنَّهُ الْمُتَبَادَرُ إلَى الذِّهْنِ ا هـ وقال صَاحِبُ الْوَاضِحِ الْمُعْتَزِلِيُّ أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُونَ في الْأُصُولِ أَنَّ الْعُمُومَ يُخَصُّ بِالْعَادَاتِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يُخَصُّ بِالْعُرْفِ في الْأَقْوَالِ وَلَا يُخَصُّ بِهِ في الْأَفْعَالِ فإذا قال لِغَيْرِهِ اشْتَرِ دَابَّةً فَاشْتَرَى كَلْبًا كان مُخَالِفًا لِأَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ كان عَامًّا في كل ما دَبَّ إلَّا أَنَّ الْعُرْفَ قد قَيَّدَهُ بِالْخَيْلِ وَلَوْ قال اشْتَرِ لَحْمًا فَاشْتَرَى لَحْمَ كَلْبٍ لم يَكُنْ مُخَالِفًا لِأَنَّ الِاسْمَ عَامٌّ في كل لَحْمٍ وَالْعُرْفُ في الْفِعْلِ خَاصٌّ في بَعْضِ اللُّحْمَانِ فلم يُخَصَّ الْعَامُّ بِالْعُرْفِ في الْفِعْلِ وقال الْإِبْيَارِيُّ لِلْمَسْأَلَةِ أَحْوَالٌ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ عُرْفَ أَهْلِ اللِّسَانِ كَالدَّابَّةِ وَالْغَائِطِ فَهَذَا لَا يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ قَطْعًا إنْ قُلْنَا إنَّ الشَّرْعَ لم يَتَصَرَّفْ في اللُّغَةِ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ يَتَصَرَّفُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ عُرْفِهِ وَوَجَبَ التَّخْصِيصُ بِهِ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ لِغَيْرِ أَهْلِ اللُّغَةِ ولم يَكُنْ الشَّرْعُ يَعْرِفُ غير عُرْفِهِمْ في الِاخْتِصَاصِ فَهَذَا يَجِبُ أَنْ تُنَزَّلَ أَلْفَاظُ الشَّارِعِ على مُقْتَضَاهَا إمَّا في اللُّغَةِ أو في عُرْفِ السَّامِعِ وَهَذَا لَا يُتَّجَهُ فيه خِلَافٌ إذْ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ خِطَابِهِمْ على حَسَبِ عُرْفِهِمْ وهو لَا يَعْرِفُهُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُونَ لَيْسُوا أَهْلَ لُغَةٍ وَالشَّارِعُ يَعْرِفُ عُرْفَهُمْ وَلَكِنْ لم
____________________
(2/525)
يَظْهَرْ منه خِطَابُهُمْ على مُقْتَضَى عُرْفِهِمْ وَلَا يَظْهَرُ الْإِضْرَابُ عن ذلك فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ في أَنَّهُ يُنَزَّلُ على مُقْتَضَى عُرْفِهِمْ أَمْ لَا الرَّابِعُ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ اعْتَادُوا بَعْضَ ما يَدُلُّ عليه الْعُمُومُ كما لو نُهِيَ عن أَكْلِ اللَّحْمِ مَثَلًا وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ أَكْلَ لَحْمٍ مَخْصُوصٍ فَهَلْ يَكُونُ النَّهْيُ مَقْصُورًا على ما اعْتَادُوا أَكْلَهُ أَمْ لَا هذا مَوْضِعُ الْخِلَافِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ تَخْصِيصُ الْأَيْمَانِ بِالْعُرْفِ الْفِعْلِيِّ تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْعَادَةِ الْفِعْلِيَّةِ خِلَافًا لِمَا سَبَقَ عن الْأُصُولِيِّينَ فإنه لَمَّا حُمِلَ الْأَمْرُ في قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في الرَّقِيقِ وَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ الحديث على الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْوُجُوبِ حُمِلَ الْحَدِيثُ على أَنَّ الْخِطَابَ لِلْعَرَبِ الَّذِينَ كانت مَطَاعِمُهُمْ وَمَلَابِسُهُمْ مُتَفَاوِتَةً وكان عَيْشُهُمْ ضَيِّقًا فَأَمَّا من لم يَكُنْ حَالُهُ كَذَلِكَ وَخَالَفَ مَعَاشُهُ مَعَاشَ السَّلَفِ وَالْعَرَبِ في أَكْلِ رَقِيقِ الطَّعَامِ وَلُبْسِ جَيِّدِ الثِّيَابِ فَلَوْ وَاسَى رَقِيقَهُ كان أَكْرَمَ وَأَحْسَنَ وَإِنْ لم يَفْعَلْ فَلَهُ ما قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم نَفَقَتُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ وهو عِنْدَنَا ما عُرِفَ لِمِثْلِهِ في بَلَدِهِ الذي يَكُونُ فيه هذا لَفْظُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قال فَأَنْتَ تَرَاهُ كَيْفَ خَصَّصَ عُمُومَ لَفْظِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِمَا كانت عَادَتُهُمْ فِعْلَهُ في تِلْكَ الْأَزْمَانِ قُلْت إنَّمَا خَصَّصَهُ بِقَوْلِهِ نَفَقَتُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَفَسَّرَ الْمَعْرُوفَ بِالْعُرْفِ وَجَمَعَ بين الْحَدِيثَيْنِ بِذَلِكَ وَسَاعَدَهُ في حَمْلِ الْأَوَّلِ عَادَةُ الْمُخَاطَبِينَ وَكَلَامُنَا في التَّخْصِيصِ بِمُجَرَّدِ الْعَادَةِ لَا بِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ فَلَيْسَ في نَصِّ الشَّافِعِيِّ ما ذُكِرَ الثَّانِي التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُخَصِّصَ هو تَقْرِيرُ الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالْعَادَةُ كَاشِفَةٌ عنه وَكَذَلِكَ لو لم تَكُنْ الْعَادَةُ مَوْجُودَةً في عَهْدِهِ أو كانت ولم يَعْلَمْهَا أو عَلِمَ بها وَلَكِنْ لم يَخُصَّ بها بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْمِثَالَ السَّائِرَ لَا يَكُونُ دَلِيلًا من الشَّرْعِ إلَّا مع الْإِجْمَاعِ وَحِينَئِذٍ
____________________
(2/526)
يَكُونُ الْإِجْمَاعُ هو الْمُخَصِّصُ لَا الْعَادَةُ وَلَا يُعَكِّرُ على هذا إفْرَادُهَا بِمَسْأَلَةِ التَّخْصِيصِ بِتَقْرِيرِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عنها
____________________
(2/527)
التَّخْصِيصُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ عَامًّا فَيَخُصُّهُ الصَّحَابِيُّ بِأَحَدِ أَفْرَادِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هو الرَّاوِي له أو لَا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ أَنْ لَا يَكُونَ هو رَاوِيهِ كَحَدِيثِ أبي هُرَيْرَةَ ليس على الْمُسْلِمِ في عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ قد عَفَوْت لَكُمْ عن صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ وقد رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ تَخْصِيصُ الْخَيْلِ بِمَا يُغْزَى عليها في سَبِيلِ اللَّهِ فَأَمَّا غَيْرُهَا فَفِيهَا الزَّكَاةُ وَعَنْ عُثْمَانَ تَخْصِيصُهُ بِالسَّائِمَةِ وَأَخَذَ من الْمَعْلُوفَةِ الزَّكَاةَ وَعَنْ عُمَرَ نَحْوُهُ فقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَالشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَسُلَيْمٌ وَالشَّيْخُ في اللُّمَعِ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ إذَا انْتَشَرَ ولم يُعْرَفْ له مُخَالِفٌ وَانْقَرَضَ الْعَصْرُ عليه لِأَنَّ ذلك إمَّا إجْمَاعٌ أو حُجَّةٌ مَقْطُوعٌ بِهِ على الْخِلَافِ وَأَمَّا إذَا لم يَنْتَشِرْ في الْبَاقِينَ فَإِنْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ قَطْعًا وَإِنْ لم يُعْرَفْ له مُخَالِفٌ فَعَلَى قَوْلِهِ في الْجَدِيدِ ليس بِحُجَّةٍ فَلَا يُخَصُّ بِهِ وَعَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ هو حُجَّةٌ تُقَدَّمُ على الْقِيَاسِ وَهَلْ يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُخَصُّ بِهِ لِأَنَّهُ على هذا الْقَوْلِ أَقْوَى من الْقِيَاسِ وقد ثَبَتَ جَوَازُ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ فَكَانَ بِمَا هو أَقْوَى منه أَوْلَى وَالثَّانِي لَا يُخَصُّ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كانت تَتْرُكُ أَقْوَالَهَا لِظَاهِرِ السُّنَّةِ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ وما ذَكَرُوهُ من حِكَايَةِ الْوَجْهَيْنِ تَفْرِيعًا على الْقَوْلِ بِحُجِّيَّتِهِ حَكَاهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في كِتَابِهِ أَيْضًا وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في شَرْحِ الْكِفَايَةِ وَنَقَلَهُمَا عن أبي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ في الْإِيضَاحِ وما ذَكَرُوهُ من تَخْرِيجِ الْقَوْلِ بِكَوْنِهِ تَخْصِيصًا على الْقَدِيمِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ على الْمَشْهُورِ من
____________________
(2/528)
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ في الْجَدِيدِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ ليس بِحُجَّةٍ لَكِنْ سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَنْصُوصٌ لِلشَّافِعِيِّ في الْجَدِيدِ أَيْضًا وَلِذَلِكَ اعْتَقَدَ مَذْهَبَ مَعْمَرِ بن نَضْلَةَ في تَخْصِيصِهِ الِاحْتِكَارَ بِالطَّعَامِ حَالَةَ الضِّيقِ على الناس ولم يَعْتَقِدْ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ في تَخْصِيصِ الْمُرْتَدِّ بِالرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ وَلَا قَوْلَ من خَصَّ نَفْيَ الزَّكَاةِ عن الْخَيْلِ بِبَعْضِ أَصْنَافِهَا أَمَّا على الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ في الْجَدِيدِ من أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ ليس بِحُجَّةٍ أو لِأَنَّ غَيْرَهُمْ من الصَّحَابَةِ قد خَالَفُوهُمْ فَقَدْ رُوِيَ عن عَلِيٍّ أَنَّهُ قَتَلَ الْمُرْتَدَّةَ وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ امْتَنَعَ من أَخْذِ الزَّكَاةِ عن الْخَيْلِ لَمَّا سَأَلَهُ أَرْبَابُهَا ذلك وإذا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ تَعَارَضَتْ أَقْوَالُهُمْ فَبَقِيَ الْعَامُّ على عُمُومِهِ وما جَزَمُوا بِهِ من التَّخْصِيصِ إذَا لم يُعْلَمْ مُخَالِفٌ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في هذه الْحَالَةِ خِلَافًا مَبْنِيًّا على الْخِلَافِ في تَقْلِيدِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ هذه مَحَلُّ وِفَاقٍ كما سَيَأْتِي وقال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ ذَهَبَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الظَّاهِرِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ لَا يَقَعُ وقال بَعْضُهُمْ يَجِبُ أَنْ يُخَصَّ الظَّاهِرُ بِهِ إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ قَبُولِ قَوْلِهِ إذَا انْتَشَرَ وَإِنْ لم يُصَادِمْهُ قِيَاسٌ لِأَنَّا نُقَدِّمُهُ على الْقِيَاسِ فإذا خُصَّ بِالْقِيَاسِ كان بِأَنْ يُخَصَّ بِقَوْلِهِ الذي هو مُقَدَّمٌ على الْقِيَاسِ أَوْلَى ثُمَّ قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ فَأَمَّا إذَا كان الْخَبَرُ غير مُحْتَمِلٍ أو عَارَضَهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ فإنه يُعْمَلُ بِالْخَبَرِ وَيُتْرَكُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ وقال أبو حَنِيفَةَ إنْ كان الصَّحَابِيُّ مِمَّنْ يَخْفَى عليه الْخَبَرُ عُمِلَ بِالْخَبَرِ وَإِنْ كان مِمَّنْ لَا يَخْفَى عليه فَالْعَمَلُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ وَلِهَذَا يَقُولُونَ من شَرْطِ صِحَّةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَنْ لَا يَعْتَرِضَ عليه بَعْضُ السَّلَفِ تَخْصِيصُ الحديث بِمَذْهَبِ رَاوِيهِ من الصَّحَابَةِ الضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ هو الرَّاوِي كَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ من بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ فإن لَفْظَةَ من عَامَّةٌ في الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وقد رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ارْتَدَّتْ تُحْبَسُ وَلَا تُقْتَلُ فَخَصَّ الحديث بِالرِّجَالِ فَإِنْ قُلْنَا قَوْلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ خُصَّ على الْمُخْتَارِ وقال الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ وقد نُسِبَ ذلك إلَى الشَّافِعِيِّ في قَوْلِهِ الذي يُقَلِّدُ الصَّحَابِيَّ فيه وَنُقِلَ عنه أَنَّهُ لَا يُخَصَّصُ بِهِ إلَّا إذَا انْتَشَرَ في هذا الْعَصْرِ ولم
____________________
(2/529)
يُنْكِرْهُ وَجُعِلَ ذلك نَازِلًا مَنْزِلَةَ الْإِجْمَاعِ وَإِنْ قُلْنَا قَوْلُهُ غَيْرُ حُجَّةٍ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُخَصُّ بِهِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَشُبْهَتُهُمْ أَنَّ الصَّحَابِيَّ الْعَدْلَ لَا يَتْرُكُ ما سَمِعَهُ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَيَعْمَلُ بِخِلَافِهِ إلَّا لِنَسْخٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ وَلَنَا أَنَّ الْحُجَّةَ في اللَّفْظِ وهو عَامٌّ وَتَخْصِيصُ الرَّاوِي لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَصَّهُ بِدَلِيلٍ لَا يُوَافَقُ عليه لو ظَهَرَ فَلَا يَتْرُكُ الدَّلَالَةَ اللَّفْظِيَّةَ الْمُحَقَّقَةَ لِمُحْتَمَلٍ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وقد يُخَالِفُ في هذا وَيَقُولُ إنَّ الْقَرَائِنَ تُخَصِّصُ الْعُمُومِ وَالرَّاوِي يُشَاهِدُ من الْقَرَائِنِ ما لَا يُشَاهِدُهُ غَيْرُهُ وَعَدَالَتُهُ وَتَيَقُّظُهُ مع عِلْمِهِ بِأَنَّ الْعُمُومَ مِمَّا لَا يُخَصُّ إلَّا بِمُوجِبٍ مِمَّا يَمْنَعُهُ أَنْ يُحْكَمَ بِالتَّخْصِيصِ إلَّا بِمُسْتَنَدٍ وَجَهَالَتُهُ دَلَالَةَ ما ظَنَّهُ مُخَصِّصًا على التَّخْصِيصِ يَمْنَعُ منه مَعْرِفَتُهُ بِاللِّسَانِ وَتَيَقُّظُهُ ا هـ وَجَزَمَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَالشَّيْخُ في شَرْحِ اللُّمَعِ في هذا الضَّرْبِ بِأَنَّ مَذْهَبَهُ لَا يُخَصِّصُ عُمُومَ الحديث وقال سُلَيْمٌ لَا يَخُصُّهُ على الْقَوْلِ الْجَدِيدِ وَكَلَامُ من جَزَمَ مَحْمُولٌ على التَّفْرِيعِ على هذا الْقَوْلِ فإن تَخْرِيجَ الْمَسْأَلَةِ على أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ أَمْ لَا لَا فَرْقَ فيه بين أَنْ يَكُونَ هو الرَّاوِي له أَمْ لَا لِأَنَّ تَخْصِيصَهُ يَدُلُّ على أَنَّهُ اطَّلَعَ من النبي عليه السَّلَامُ على قَرَائِنَ حَالِيَّةٍ تَقْتَضِي التَّخْصِيصَ فَهُوَ أَقْوَى من التَّخْصِيصِ بِمَذْهَبِ صَحَابِيٍّ آخَرَ لم يَرْوِ الْخَبَرَ وَلَعَلَّهُ لم يَبْلُغْهُ وَلَوْ بَلَغَهُ لم يُخَالِفْهُ بِإِخْرَاجِ بَعْضِهِ وَإِلَى هذه الْأَوْلَوِيَّةِ يُرْشِدُ كَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ في الْمُخْتَصَرِ بِقَوْلِهِ مَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ لَا يُخَصِّصُ وَلَوْ كان الرَّاوِي خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيَّ وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فقال إنْ وُجِدَ ما يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِهِ لم يُخَصَّ بِمَذْهَبِ الرَّاوِي بَلْ بِهِ إنْ اقْتَضَى نَظَرُ النَّاظِرِ فيه ذلك وَإِلَّا خُصَّ بِمَذْهَبِ الرَّاوِي وهو مَذْهَبُ الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ وَمَثَّلَ الشَّيْخُ في شَرْحِ اللُّمَعِ هذا الْقِسْمَ بِحَدِيثِ ليس على الْمُسْلِمِ في عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ قال وَحَمَلَهُ الْحَنَفِيَّةُ على فَرَسِ الْغَازِي لِقَوْلِ زَيْدِ بن ثَابِتٍ وَهَذَا فيه نَظَرٌ فإن الحديث لَا يُعْرَفُ من طَرِيقِ زَيْدٍ وقال ابن الْقُشَيْرِيّ إذَا رَوَى الصَّحَابِيُّ
____________________
(2/530)
خَبَرًا وَعَمِلَ بِخِلَافِهِ فَاَلَّذِي نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِرِوَايَتِهِ لَا بِفِعْلِهِ وَنَقَلَ الْقَاضِي أَنَّ مُجَرَّدَ مَذْهَبِ الرَّاوِي لَا يُبْطِلُ الحديث وَلَا يَدْفَعُهُ لَكِنْ إنْ صَدَرَ ذلك الْمَذْهَبُ منه مَصْدَرَ التَّأْوِيلِ وَالتَّخْصِيصِ فَيُقْبَلُ وَتَخْصِيصُهُ أَوْلَى وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمَا رَوَاهُ إذَا كان عَمَلُهُ مُخَالِفًا وَحَكَى الْقَاضِي عن عِيسَى بن أَبَانَ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا كان من الْأَئِمَّةِ وَعَمِلَ بِخِلَافِ ما رُوِيَ كان دَلِيلًا على نَسْخِ الْخَبَرِ قال وَالِاخْتِيَارُ ما ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وهو إنَّا إنْ تَحَقَّقْنَا نِسْيَانَهُ لِلْخَبَرِ الذي رَوَاهُ أو فَرَضْنَا مُخَالَفَتَهُ لِخَبَرٍ لم يَرْوِهِ وَجَوَّزْنَا أَنَّهُ لم يَبْلُغْهُ فَالْعَمَلُ بِالْخَبَرِ وَإِنْ رَوَى خَبَرًا مُقْتَضَاهُ رَفْعُ الْحَرَجِ وَالْحَرَجُ فِيمَا سَبَقَ فيه تَحْرِيمٌ وَحَظْرٌ ثُمَّ رَأَيْنَاهُ يَتَحَرَّجُ فَالِاسْتِمْسَاكُ بِالْخَبَرِ وَعَمَلُهُ مَحْمُولٌ على الْوَرَعِ وَإِنْ نَاقَضَ عَمَلُهُ رِوَايَتَهُ ولم نَجِدْ مَحْمَلًا في الْجَمِيعِ امْتَنَعَ التَّعَلُّقُ بِرِوَايَتِهِ فإنه لَا يُظَنُّ بِمَنْ هو من أَهْلِ الرِّوَايَةِ أَنْ يَعْمِدَ إلَى مُخَالَفَةِ ما رَوَاهُ إلَّا عن سَبَبٍ يُوجِبُ الْمُخَالَفَةَ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ فَعَلَ ما له فِعْلُهُ فَلَا احْتِجَاجَ بِمَا رَوَاهُ وَإِنْ فَعَلَ ما ليس له فِعْلُهُ أَخْرَجَهُ ذلك عن رُتْبَةِ الْفِقْهِ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَعَلَى هذا فَلَا يُقْطَعُ بِأَنَّ الحديث مَنْسُوخٌ كما صَارَ إلَيْهِ ابن أَبَانَ وَلَعَلَّهُ عَلِمَ شيئا يَقْتَضِي تَرْكَ الْعَمَلِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ وَيُتَّجَهُ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ لو كان ثَمَّ سَبَبٌ يُوجِبُ رَدَّ الْخَبَرِ لَوَجَبَ على هذا الرَّاوِي أَنْ يُثْبِتَهُ إذْ لَا يَجُوزُ تَرْكُ ذِكْرِ ما عليه مَدَارُ الْأَمْرِ وَالْمَحَلُّ مَحَلُّ الْتِبَاسٍ ثُمَّ قال الْإِمَامُ إذَا رَوَى الرَّاوِي خَبَرًا وكان الظَّاهِرُ أَنَّهُ لم يُحِطْ بِمَعْنَاهُ فَمُخَالَفَتُهُ لِلْخَبَرِ لَا تَقْدَحُ في الْخَبَرِ وَإِنْ لم يَدْرِ أَنَّهُ نَاسٍ لِلْخَبَرِ أو ذَاكِرٌ لِمَا عَمِلَ بِخِلَافِهِ فَالتَّعَلُّقُ بِالْخَبَرِ لِأَنَّهُ من أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَنَحْنُ على تَرَدُّدٍ فِيمَا يَدْفَعُ التَّعَلُّقَ بِهِ فَلَا يُدْفَعُ الْأَصْلُ بهذا التَّرَدُّدِ بَلْ إنْ غَلَبَ على الظَّنِّ أَنَّهُ خَالَفَ الحديث قَصْدًا ولم نُحَقِّقْهُ فَهَذَا يُعَضِّدُ التَّأْوِيلَ وَيُؤَيِّدُهُ وَيَحُطُّ مَرْتَبَةَ الظَّاهِرِ وَيُخَصُّ الْأَمْرُ في الدَّلِيلِ الذي عَضَّدَهُ التَّأْوِيلُ وقال إلْكِيَا وابن فُورَكٍ الْمُخْتَارُ أَنَّا إنْ عَلِمْنَا من حَالِ الرَّاوِي أَنَّهُ إنَّمَا حَمَلَ على ذلك بِمَا عَلِمَ من قَصْدِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَجَبَ اتِّبَاعُهُ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى مُخَالَفَةِ النبي عليه السَّلَامُ وَإِنْ حَمَلَهُ على وَجْهِ اسْتِدْلَالٍ أو تَخْصِيصًا بِخَبَرٍ آخَرَ فَلَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ قُلْت وَسَكَتَا عن حَالَةٍ ثَالِثَةٍ وَهِيَ إذَا لم يُعْلَمْ الْحَالُ وَكَأَنَّهَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْإِفَادَةِ
____________________
(2/531)
فَالْأَحْوَالُ إذَنْ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهُمَا أَنْ يُعْلَمَ من قَصْدِ النبي عليه السَّلَامُ وَمَخْرَجِ كَلَامِهِ أَنَّ الْمُرَادَ الْخُصُوصُ فَيَجِبُ اتِّبَاعُ الرَّاوِي فيه الثَّانِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ خُصَّ الْخَبَرُ بِدَلِيلٍ آخَرَ أو ضَرْبٍ من الِاسْتِدْلَالِ فَيَجِبُ اسْتِعْمَالُ الْخَبَرِ قَطْعًا الثَّالِثُ أَنْ لَا يُعْلَمَ ما لِأَجْلِهِ خُصَّ الْخَبَرُ وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ بِدَلِيلٍ فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَالرَّاجِحُ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ وقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ إنَّمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الرَّاوِي لِلْخَبَرِ إذَا كان الْخَبَرُ مُحْتَمِلًا لِمَعْنَيَيْنِ قال وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِهِ أَحَدُهُمَا فإذا فَسَّرَهُ بِأَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ أَخَذْنَا بِهِ كما في حديث الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ ما لم يَتَفَرَّقَا حَيْثُ فَسَّرَهُ بِالتَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ فَأَمَّا ما في غَيْرِ ذلك فَلَا يُقْبَلُ وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قال الْكَرْخِيّ وَذَهَبَ أبو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ إلَى أَنَّهُ يُخَصُّ عُمُومُ الْخَبَرِ وَتَرْكُ ظَاهِرِهِ بِقَوْلِ الرَّاوِي وَبِمَذْهَبِهِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ في تَفْسِيرِ الْخَبَرِ بِأَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ فَالْمَكَانُ الذي نَقْبَلُ قَوْلَهُ فيه لَا يَقْبَلُونَهُ وَالْمَكَانُ الذي يَقْبَلُونَهُ لَا نَقْبَلُهُ تَنْبِيهَاتٌ هل يُخَصُّ الْحَدِيثُ بِقَوْلِ رَاوِيهِ من غَيْرِ الصَّحَابَةِ الْأَوَّلُ زَعَمَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كان الرَّاوِي صَحَابِيًّا لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ شَاهَدَ من النبي عليه السَّلَامُ خِلَافَ ما رَوَاهُ فَحَمَلَهُ على ذلك أَمَّا غَيْرُ الصَّحَابِيِّ فَلَا يَتَأَتَّى فيه خِلَافٌ في أَنَّ فِعْلَهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً على رِوَايَتِهِ ا هـ وَغَرَّهُ في ذلك بِنَاؤُهُمْ هذه الْمَسْأَلَةَ على الْخِلَافِ في أَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةٌ أَمْ لَا وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ في الصَّحَابِيِّ لَكِنَّ الْخِلَافَ في التَّخْصِيصِ بِقَوْلِ الرَّاوِي لَا يَخْتَصُّ بِالصَّحَابِيِّ بَلْ وَلَا بِصُورَةِ التَّخْصِيصِ بَلْ الرَّاوِي مُطْلَقًا من الصَّحَابِيِّ وَمَنْ بَعْدَهُ إذَا خَالَفَ الْخَبَرَ بِتَخْصِيصٍ أو بِغَيْرِهِ حتى إذَا تَرَكَهُ بِالْكُلِّيَّةِ كان مَذْهَبُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُقَدَّمًا على الْخَبَرِ وَلِذَلِكَ لم يُقَيِّدْ الْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ بِالرَّاوِي الصَّحَابِيِّ بَلْ أَطْلَقَ وَلَكِنْ قَيَّدَ الْمُخَالَفَةَ بِحَالَةِ التَّخْصِيصِ وَلَا تَتَقَيَّدُ بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ
____________________
(2/532)
وَصَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فقال وَكُلُّ ما ذَكَرْنَاهُ يَعْنِي في هذه الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالصَّحَابِيِّ فَلَوْ رَوَى بَعْضُ الْأَئِمَّةِ حَدِيثًا وَعَمِلَ بِخِلَافِهِ فَالْأَمْرُ على ما فَصَّلْنَاهُ وَلَكِنْ قد اعْتَرَضَ الْأَئِمَّةَ أُمُورٌ أَسْقَطَتْ آثَارَ أَفْعَالِهِمْ الْمُخَالِفَةِ لِرِوَايَتِهِمْ وَهَذَا كَرِوَايَةِ أبي حَنِيفَةَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ مع مَصِيرِهِ إلَى مُخَالَفَتِهِ فَهَذِهِ الْمُخَالَفَةُ غَيْرُ قَادِحَةٍ في الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ من أَصْلِهِ تَقْدِيمُ الرَّأْيِ على الْخَبَرِ فَمُخَالَفَتُهُ مَحْمُولَةٌ على بِنَائِهِ على هذا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ وَلِهَذَا قال أَرَأَيْت لو كَانَا في سَفِينَةٍ وَكَرِوَايَةِ مَالِكٍ لِهَذَا الحديث مع مَصِيرِهِ إلَى نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَهَذِهِ الْمُخَالَفَةُ أَيْضًا لَا تَقْدَحُ في الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الذي حَمَلَهُ على هذا فِيمَا أَظُنُّ تَقْدِيمُهُ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ على الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ وقد حَكَاهُ عنه ابن الْقُشَيْرِيّ في كِتَابِهِ هَكَذَا ثُمَّ قال وَلَا يَنْبَغِي تَخْصِيصُ الْمَسْأَلَةِ بِالرَّاوِي يَرْوِي ثُمَّ يُخَالِفُ بَلْ يَجْرِي فِيمَنْ بَلَغَهُ خَبَرٌ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ثُمَّ يُخَالِفُهُ وَإِنْ لم يَكُنْ هو الرَّاوِي لِذَلِكَ الْخَبَرِ حتى إذَا وَجَدْنَا مَحْمَلًا وَقُلْنَا إنَّمَا خَالَفَ لِأَنَّهُ اتَّهَمَ الرَّاوِي فَلَا يَقْدَحُ هذا في الْخَبَرِ وَإِنْ لم يُتَّجَهْ وَجْهٌ لِمُخَالَفَتِهِ هذا الحديث إلَّا الْمَصِيرُ إلَى اسْتِخْفَافِهِ بِالْخَبَرِ فَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ يُقَالَ هذا قَدْحٌ في الْخَبَرِ وَعِلْمٌ بِضَعْفِهِ ا هـ وَاعْلَمْ أَنَّ عِبَارَاتِ الْحَنَفِيَّةِ في تَقْدِيمِ قَوْلِ الرَّاوِي مُطْلَقَةٌ فلم يُفَرِّقُوا بين الصَّحَابِيِّ وَغَيْرِهِ من التَّابِعِينَ وَتَعَقَّبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ منهم فقال يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَوَّلًا أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ هل تَقَدَّمَ على سَمَاعِهِ من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَإِنْ كان قَوْلُهُ قبل سَمَاعِهِ من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَلَا يَتَأَتَّى هذا الْحَدِيثُ وَالْحَقُّ مع الشَّافِعِيَّةِ وَإِنْ كان رَأْيُهُ بَعْدَ رِوَايَتِهِ اتَّجَهَ قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ ا هـ وَالْخِلَافُ إنَّمَا هو في الْقِسْمِ الْأَخِيرِ وما ذَكَرُوهُ من الدَّلِيلِ مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ على مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ وَهِيَ مَفْقُودَةٌ وَهَذَا الْبَحْثُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْمَسْأَلَةِ بِالصَّحَابِيِّ وَمِثَالُ تَخْصِيصِ الرَّاوِي غَيْرِ الصَّحَابِيِّ حَدِيثُ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ عن مَعْمَرِ بن عبد اللَّهِ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال لَا يَحْتَكِرُ إلَّا خَاطِئٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَفِيهِ وكان سَعِيدُ بن الْمُسَيِّبِ يَحْتَكِرُ فَقِيلَ له فقال كان مَعْمَرٌ يَحْتَكِرُ قال ابن عبد الْبَرِّ كَانَا
____________________
(2/533)
يَحْتَكِرَانِ الزَّيْتَ وَحَمَلَا الحديث على احْتِكَارِ الْقُوتِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَالْغَلَاءِ وَعَلَيْهِ جَرَى الشَّافِعِيُّ لَكِنَّهُ خُصِّصَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ لَا بِقَوْلِ سَعِيدٍ نعم قال الرَّافِعِيُّ في الشَّهَادَاتِ إنَّمَا اخْتَصَّ الْقَضَاءُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينُ بِالْأَمْوَالِ لِأَنَّ عَمْرَو بن دِينَارٍ رَوَى الْخَبَرَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمَّا رَوَاهُ قال وَذَلِكَ في الْأَمْوَالِ وَقَوْلُ الرَّاوِي مُتَّبَعٌ في تَفْسِيرِ ما يَرْوِيهِ وَتَخْصِيصِهِ انْتَهَى الثَّانِي ما ذَكَرْنَا من التَّفْصِيلِ بين أَنْ يَكُونَ هو الرَّاوِي أو غَيْرُهُ وَأَنَّهُ إذَا كان غَيْرَهُ وَانْتَشَرَ ولم يُخَالَفْ خُصَّ بِهِ هو الصَّوَابُ وَهَذِهِ الصُّورَةُ وَارِدَةٌ على من أَطْلَقَ الْكَلَامَ في هذه الْمَسْأَلَةِ كَالْآمِدِيِّ وَغَيْرِهِ فإنه صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا تَخْصِيصَ سَوَاءٌ كان هو الرَّاوِي أو غَيْرُهُ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَتَبِعَهُ ابن الْحَاجِبِ الثَّالِثُ إنْ عَمَلَ الرَّاوِي بِخِلَافِ الحديث يَنْقَسِمُ إلَى أَقْسَامٍ أُخْرَى سَيَأْتِي في بَابِ الْأَخْبَارِ بَيَانُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَسْأَلَةٌ في تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالسَّبَبِ أَقْوَالٌ ثَالِثُهَا الْفَرْقُ بين الْمُسْتَقِلِّ فَيُخَصُّ وَغَيْرُهُ فَلَا حَكَاهُ ابن الْعَرَبِيِّ في الْمَحْصُولِ وقد سَبَقَتْ مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِقَضَايَا الْأَعْيَانِ كَإِذْنِهِ في الْحَرِيرِ لِلْحَكَّةِ وَفِيهِ قَوْلَانِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَذَكَرَ أبو الْخَطَّابِ منهم أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْبَقَاءِ على حُكْمِ الْأَصْلِ الذي هو الِاسْتِصْحَابُ بِلَا خِلَافٍ قال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْإِفَادَةِ ذَهَبَ بَعْضُ ضُعَفَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى أَنَّ الْعُمُومَ يُخَصُّ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ قال لِأَنَّهُ دَلِيلٌ يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ ما لم يَنْقُلْ عنه نَاقِلٌ فَجَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ كَسَائِرِ الْأَدِلَّةِ وَهَذَا في غَايَةِ التَّنَاقُضِ لِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ من حَقِّهِ أَنْ يَسْقُطَ بِالْعُمُومِ فَكَيْفَ يَصِحُّ تَخْصِيصُهُ بِهِ إذْ مَعْنَاهُ التَّمَسُّكُ بِالْحُكْمِ لِعَدَمِ دَلِيلٍ يَنْقُلُ عنه وَالْعُمُومُ دَلِيلٌ نَاقِلٌ
____________________
(2/534)
مَسْأَلَةٌ مَنَعَ بَعْضُهُمْ من تَخْصِيصِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ إذَا كان هو الْأَعْظَمَ الْأَشْرَفَ وَبَنَى عليه مَنْعَ إطْلَاقِ الشَّيْءِ على اللَّهِ تَعَالَى إذْ لو جَازَ لَلَزِمَ دُخُولُ التَّخْصِيصِ في قَوْله تَعَالَى اللَّهُ خَالِقُ كل شَيْءٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وهو مُمْتَنِعٌ لِمَا ذَكَرْنَا حَكَاهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ في الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ في مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ خَاتِمَةٌ ليس من الْمُخَصِّصَاتِ عَطْفُ الْعَامِّ على الْخَاصِّ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَلَا رُجُوعُ الضَّمِيرِ إلَى الْبَعْضِ خِلَافًا لِقَوْمٍ وَلَا ذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ خِلَافًا لِأَبِي ثَوْرٍ وَلَا وُرُودُهُ على سَبَبٍ خَاصٍّ خِلَافًا لِلْمُزَنِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وقد سَبَقَتْ هذه الْمَسَائِلُ في الْعُمُومِ
____________________
(2/535)
الْقَوْلُ في بِنَاءِ الْعَامِّ على الْخَاصِّ وَالْمُرَادُ بِالْبِنَاءِ تَخْصِيصُهُ وَتَفْسِيرُهُ له إذَا وُجِدَ نَصَّانِ أَحَدُهُمَا عَامٌّ وَالْآخَرُ خَاصٌّ وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ في النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا من الْكِتَابِ أو أَحَدُهُمَا منه وَالْآخَرُ من السُّنَّةِ إمَّا مُتَوَاتِرًا وَغَيْرَهُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَا من السُّنَّةِ إمَّا مُتَوَاتِرَيْنِ أو غير مُتَوَاتِرَيْنِ أو أَحَدُهُمَا مُتَوَاتِرٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ مُتَوَاتِرٍ وَالْحُكْمُ في الْكُلِّ وَاحِدٌ إلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّسْخِ عِنْدَمَا يَكُونُ الْمُتَأَخِّرُ ظَنِّيًّا وَالْمُقَدَّمُ قَطْعِيًّا عِنْدَ من مَنَعَهُ وَحَيْثُ أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُمَا صِرْنَا إلَيْهِ وَنَقَلَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ عن دَاوُد أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ النَّصَّانِ من الْكِتَابِ وَيَسْقُطُ الْخَبَرَانِ وَعَنْهُ في الْآيَةِ وَالْخَبَرِ رِوَايَتَانِ هل يُسْتَعْمَلَانِ أو يَتَسَاقَطَانِ ثُمَّ فيه أَقْسَامٌ أَحَدُهُمَا أَنْ يُرَادَا مَعًا كَأَنْ تُنَزَّلَ آيَةٌ عَامَّةٌ ثُمَّ قبل أَنْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُهَا بَيَّنَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم دَلِيلَ التَّخْصِيصِ كَقَوْلِهِ زَكُّوا الْبَقَرَ وَلَا تُزَكُّوا الْعَوَامِلَ فَالْخَاصُّ هُنَا مُقَدَّمٌ على الْعَامِّ بِالْإِجْمَاعِ كما نَقَلَهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ وأبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ في أُصُولِهِ لِأَنَّ الْخَاصَّ مُبَيِّنٌ لِلْعَامِّ وَمُخَصِّصٌ له لَكِنْ في الْمَحْصُولِ أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ ذلك الْقَدْرَ من الْعَامِّ يَصِيرُ مُعَارِضًا لِلْخَاصِّ وقال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ الْمُخَصِّصُ مع الْعَامِّ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مع الْجُمْلَةِ بِلَا خِلَافٍ كَقَوْلِهِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ثُمَّ قال في سِيَاقِ الْآيَةِ فَمَنْ اُضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ فَخَصَّ حَالَ الِاضْطِرَارِ قبل اسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا فَصَارَ عُمُومُ اللَّفْظِ مَبْنِيًّا على الْخُصُوصِ الْمَعْطُوفِ عليه انْتَهَى وَلَا فَرْقَ بين أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ مُقَارِنًا لِلْعَامِّ كما مَثَّلْنَا أو يَكُونَ الْعَامُّ مُقَارِنًا لِلْخَاصِّ كَأَنْ يَقُولَ لَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ ثُمَّ يقول عَقِبَهُ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ وَإِنْ جَوَّزْنَا نَسْخَ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ فَلَا يُمْكِنُ هُنَا لِأَنَّ النَّاسِخَ شَرْطُهُ التَّرَاخِي وهو هَاهُنَا مُقَارِنٌ فَتَعَيَّنَ بِنَاءُ الْعَامِّ على الْخَاصِّ
____________________
(2/536)
الثَّانِي أَنْ يُعْلَمَ تَارِيخُهُمَا فَالْمُتَأَخِّرُ إمَّا الْخَاصُّ وَإِمَّا الْعَامُّ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَتَأَخَّرَ عن وَقْتِ الْعَمَلِ أو عن وَقْتِ الْخِطَابِ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا أَنْ يَتَأَخَّرَ الْخَاصُّ عن وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ فَهَاهُنَا يَكُونُ الْخَاصُّ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ الذي تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ وِفَاقًا وَلَا يَكُونُ تَخْصِيصًا لِأَنَّ تَأْخِيرَ بَيَانِهِ عن وَقْتِ الْعَمَلِ غَيْرُ جَائِزٍ قَطْعًا فَيُعْمَلُ بِالْعَامِّ في بَقِيَّةِ الْأَفْرَادِ في الْمُسْتَقْبَلِ وَثَانِيهَا أَنْ يَتَأَخَّرَ عن وَقْتِ الْخِطَابِ بِالْعَامِّ دُونَ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ فَهَذِهِ مَبْنِيَّةٌ على جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عن وَقْتِ الْخِطَابِ فَمَنْ جَوَّزَهُ جَعَلَ الْخَاصَّ بَيَانًا لِلْعَامِّ وَقَضَى بِهِ عليه وَمَنْ مَنَعَهُ حَكَمَ بِنَسْخِ الْعَامِّ في الْقَدْرِ الذي عَارَضَهُ الْآخَرُ هَكَذَا قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَسُلَيْمٌ قال وَلَا يُتَصَوَّرُ في هذه الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ يَخْتَصُّ بها وَإِنَّمَا يَعُودُ الْكَلَامُ فيها إلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ ا هـ وَذَكَرَ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ نَحْوَهُ وقال ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ إذَا تَأَخَّرَ الْخَاصُّ فَإِنْ وَرَدَ قبل وَقْتِ الْفِعْلِ الذي تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ كان تَخْصِيصًا أو بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهِ كان نَسْخًا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْعُمُومِ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ وقال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ من لم يُجَوِّزْ تَأْخِيرَ بَيَانِ التَّخْصِيصِ عن وَقْتِ الْخِطَابِ ولم يُجَوِّزْ نَسْخَ الْحُكْمِ قبل حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ كَالْمُعْتَزِلَةِ أَحَالَ الْمَسْأَلَةَ وَمَنْ جَوَّزَهُمَا فَاخْتَلَفُوا فيه فَاَلَّذِي عليه الْأَكْثَرُونَ من أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْخَاصَّ مُخَصِّصٌ لِلْعَامِّ لِأَنَّهُ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ من الْعَامِّ لَكِنَّ التَّخْصِيصَ أَقَلُّ مَفْسَدَةً من النَّسْخِ وقد أَمْكَنَ حَمْلُهُ عليه فَيَتَعَيَّنُ وَنُقِلَ عن مُعْظَمِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْخَاصَّ إذَا تَأَخَّرَ عن الْعَامِّ وَتَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا ما يُمْكِنُ الْمُكَلَّفُ فيه من الْعَمَلِ أو الِاعْتِقَادِ بِمُقْتَضَى الْعَامِّ كان الْخَاصُّ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ الذي تَنَاوَلَهُ من الْعَامِّ لِأَنَّهُمَا دَلِيلَانِ وَبَيْنَ حُكْمَيْهِمَا تَنَافٍ فَيُجْعَلُ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ عن الْإِمْكَانِ دَفْعًا لِلتَّنَاقُصِ وهو ضَعِيفٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَثَالِثُهَا أَنْ يَتَأَخَّرَ الْعَامُّ عن وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْخَاصِّ فَهَاهُنَا يُبْنَى الْعَامُّ على الْخَاصِّ عِنْدَنَا لِأَنَّ ما تَنَاوَلَهُ الْخَاصُّ مُتَيَقَّنٌ وما تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ ظَاهِرٌ مَظْنُونٌ وَالْمُتَيَقَّنُ أَوْلَى قال إلْكِيَا وَهَذَا أَحْسَنُ ما عُلِّلَ بِهِ ا هـ وَذَهَبَ أبو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَالْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ إلَى أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ نَاسِخٌ لِلْخَاصِّ الْمُتَقَدِّمِ وَتَوَقَّفَ فيه ابن الْفَارِضِ من الْمُعْتَزِلَةِ
____________________
(2/537)
وقال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ إذَا تَأَخَّرَ الْعَامُّ كان نَسْخًا لِمَا تَضَمَّنَهُ الْخَاصُّ ما لم تَقُمْ دَلَالَةٌ من غَيْرِهِ على أَنَّ الْعُمُومَ مُرَتَّبٌ على الْخُصُوصِ قال وكان يَحْكِي شَيْخُنَا أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا وَمَسَائِلَهُمْ تَدُلُّ عليه وقد جَعَلَ أبو حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ لِأَنَّهُ نَزَلَ بَعْدُ ثُمَّ قال وقد نَاقَضَ الشَّافِعِيُّ أَصْلَهُ في هذه الْمَسْأَلَةِ في مَسَائِلَ منها أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأُنَيْس وَاغْدُ يا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هذا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا قَاضِيًا على قَضِيَّةِ مَاعِزٍ في اعْتِبَارِ تَكْرَارِ الْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ مع أَنَّ قَضِيَّةَ مَاعِزٍ خَاصَّةٌ مُفَسَّرَةٌ وَقَضِيَّةَ أُنَيْسٍ عَامَّةٌ وَمِنْهَا أَنَّهُ قال الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ مَنْسُوخٌ بِأَكْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَحْمًا وَخُبْزًا ولم يَتَوَضَّأْ فَنُسِخَ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ لِأَنَّ الْوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ عَامٌّ في الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِهِمَا وَتَرْكُهُ الْوُضُوءَ منها خَاصٌّ بِهِمَا ثُمَّ يُنْسَخُ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ مع امْتِنَاعِ وُقُوعِ النَّسْخِ في مِثْلِهِ بِغَيْرِ اللَّفْظِ كَيْفَ مُنِعَ من إيجَابِ نَسْخِ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ الْمُشْتَمِلِ عليه وَعَلَى غَيْرِهِ قال وَإِنَّمَا تَرَكْنَا الْوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ لِلْقَاعِدَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَقْبَلُ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَحَمَلْنَا الحديث على غَسْلِ الْيَدِ وَمِنْهَا أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ قَتْلَ شَارِبِ الْخَمْرِ في الرَّابِعَةِ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ فَجَعَلَ الْعَامَّ نَاسِخًا لِلْخَاصِّ وزاد بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ من الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ في حديث عَائِشَةَ في غُسْلِ الْجَنَابَةِ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ
____________________
(2/538)
وفي حديث مَيْمُونَةَ النَّصُّ على تَأْخِيرِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَالْحَدِيثَانِ ثَابِتَانِ ولم يَحْمِلُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمُطْلَقَ على الْمُقَيَّدِ في تَأْخِيرِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ مع أَنَّ الْحَادِثَةَ وَاحِدَةٌ وَمِنْ مَذْهَبِهِ حَمْلُ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ في حَادِثَتَيْنِ فَكَيْفَ في وَاحِدَةٍ وَالْجَوَابُ وَرَابِعُهَا أَنْ يَتَأَخَّرَ الْعَامُّ عن وَقْتِ الْخِطَابِ بِالْخَاصِّ لَكِنَّهُ قبل وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الذي قَبْلَهُ في الْبِنَاءِ وَالنَّسْخِ إلَّا على رَأْيِ من لم يُجَوِّزْ منهم نَسْخَ الشَّيْءِ قبل حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ كَالْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ فإنه لَا يُمْكِنُهُ الْحَمْلُ على النَّسْخِ فَتَعَيَّنَ عليه الْبِنَاءُ أو التَّعَارُضُ فِيمَا تَنَافَيَا فيه وَجَعَلَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ الْخِلَافَ في هذه الْحَالَةِ مَبْنِيًّا على تَأْخِيرِ الْبَيَانِ قال فَمَنْ لم يُجَوِّزْ تَأْخِيرَهُ عن مَوْرِدِ اللَّفْظِ جَعَلَهُ نَسْخًا لِلْخَاصِّ الْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ لَا يُعْلَمَ تَارِيخُهُمَا فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الْخَاصَّ مِنْهُمَا يَخُصُّ الْعَامَّ وهو قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَالْبَاجِيُّ عن عَامَّةِ أَصْحَابِهِمْ وَبِهِ قال الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَذَهَبَ أبو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ إلَى التَّوَقُّفِ إلَى ظُهُورِ التَّارِيخِ وَإِلَى ما يُرَجِّحُ أَحَدَهُمَا على الْآخَرِ أو يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِمَا وَحُكِيَ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَالدَّقَّاقِ أَيْضًا وَكُلٌّ من الْإِمَامَيْنِ ذَهَبَ إلَى ما يَقْتَضِيهِ أَصْلُهُ أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلِأَنَّهُ بَنَى الْعَامَّ على الْخَاصِّ مُطْلَقًا مُتَقَدِّمًا وَمُتَأَخِّرًا وَمُقَارِنًا إذَا عُلِمَ التَّارِيخُ لَكِنْ في بَعْضِ الصُّوَرِ يَكُونُ الْبِنَاءُ على وَجْهِ النَّسْخِ وفي بَعْضِهَا على وَجْهِ التَّخْصِيصِ وَحَالَةُ الْجَهْلِ لَا تَخْلُو عن هذه الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُبْنَى الْعَامُّ على الْخَاصِّ وَالْجَهْلُ بِكَوْنِ الْبِنَاءِ على وَجْهِ النَّسْخِ أو التَّخْصِيصِ لَا مَحْذُورَ فيه لَا في حَقِّ الْعَمَلِ وَلَا في حَقِّ الِاعْتِقَادِ وَأَمَّا أبو حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُ يَنْسَخُ الْخَاصَّ بِالْعَامِّ إذَا كان مُتَقَدِّمًا عليه وَيُخَصِّصُ الْعَامَّ أو يَنْسَخُهُ بِهِ إذَا كان مُتَأَخِّرًا عنه وَعِنْدَ الْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ دَارَ الْأَمْرُ في الْخَاصِّ بين أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا أو مُخَصِّصًا أو نَاسِخًا فَعِنْدَ التَّرَدُّدِ في هذه الْأَقْسَامِ يَجِبُ التَّوَقُّفُ وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ لَمَّا اعْتَقَدُوا في هذه الْحَالَةِ التَّوَقُّفَ إلَى ظُهُورِ الْمُرَجِّحِ ذَكَرُوا في التَّرْجِيحِ في اسْتِعْمَالِهِمَا أو اسْتِعْمَالِ أَحَدِهَا وُجُوهًا فَنَقَلَ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ عن عِيسَى بن أَبَانَ أَنَّهُ قَسَّمَهُ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَعْمَلَ الناس بِهِمَا جميعا فَيُسْتَعْمَلَانِ وَيُرَتَّبُ الْعَامُّ على الْخَاصِّ كَالنَّهْيِ عن بَيْعِ ما ليس عِنْدَك وَتَرْخِيصُهُ في السَّلِمِ وَإِمَّا أَنْ يَتَّفِقُوا على الْعَمَلِ بِمُوجِبِ أَحَدِهِمَا وَيُسْقِطُوا الْآخَرَ
____________________
(2/539)
فَيَجِبُ حَمْلُ ما أَسْقَطُوا على أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِمَا عَمِلُوا بِهِ وَيَخْتَلِفُونَ في ذلك فَيَعْمَلُ بَعْضُهُمْ بِأَحَدِهِمَا وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ يُخَالِفُهُ فَالْعَمَلُ على قَوْلِ الْعَامَّةِ قال أبو بَكْرٍ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ إذَا وَرَدَا وَتَجَرَّدَا عن دَلَالَةِ النَّسْخِ يُسْتَعْمَلَانِ جميعا على التَّرْتِيبِ وَإِنَّهُ إنْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِمَا دَلَّ على أَنَّ أَحَدَهُمَا نَاسِخٌ لِآخَرَ قال وكان أبو الْحَسَنِ الْكَرْخِيّ يُحْكَى عن أبي حَنِيفَةَ في الْخَاصِّ وَالْعَامِّ مَتَى اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ على اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا وَاخْتَلَفُوا في الْآخَرِ كان الْمُتَّفَقُ عليه قَاضِيًا على الْمُخْتَلَفِ فيه كَقَوْلِهِ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ فإنه مُتَّفَقٌ على اسْتِعْمَالِهِ في خَمْسَةِ الْأَوْسُقِ وَحَدِيثُ ليس فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ مُخْتَلَفٌ في اسْتِعْمَالِهِ فَكَانَ خَبَرُ إيجَابِ الْعَشَرَةِ مُطْلَقًا قَاضِيًا عليه بِإِيجَابِهِ قال أبو بَكْرٍ وَهَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ تَسْتَمِرُّ عليه الْمَسَائِلُ وَنَقَلَ غَيْرُهُ عن الْكَرْخِيِّ وَغَيْرِهِ من وُجُوهِ التَّرْجِيحِ تَرْجِيحَ الْخَاصِّ فِيهِمَا على النَّسْخِ وَالْمُفِيدُ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ على الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ وزاد أبو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيُّ كَوْنَ أَحَدِ الْجُزْأَيْنِ بَيَانًا لِلْآخَرِ بِالِاتِّفَاقِ كَاتِّفَاقِهِمْ على نِصَابِ السَّرِقَةِ وَعَدَمِ الْعَمَلِ بِعُمُومِ الْآيَةِ وَغَيْرِ ذلك من طُرُقِ التَّرْجِيحَاتِ تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ قال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ خِلَافُ الْحَنَفِيَّةِ في هذه الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ على أَنَّ الْعَامَّ الذي لم يَدْخُلْهُ التَّخْصِيصُ نَصٌّ في الِاسْتِغْرَاقِ حتى لَا يَجُوزَ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ وَحِينَئِذٍ فإذا قَضَى الْخَاصُّ على الْعَامِّ في جُزْءٍ تَنَاوَلَهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ يَقْضِي على الْخَاصِّ في خَبَرٍ تَنَاوَلَهُ الْعُمُومُ فَيَتَعَارَضَانِ من هذه الْجِهَةِ الثَّانِي قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ إنَّ شَرْطَ الْبِنَاءِ في هذه الْمَسْأَلَةِ التَّنَافِي في الْكُلِّ أو في مَوْضِعِ الْخَاصِّ أَمَّا إذَا لم يَحْصُلْ التَّنَافِي فَلَا وَكَذَا الْقَوْلُ في حَمْلِ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ وَعَلَى هذه فإذا وَرَدَ عَامٌّ وَخَاصٌّ في طَرَفَيْ النَّهْيِ وَالنَّفْيِ فَلَا يُبْنَى الْعَامُّ على الْخَاصِّ وَلَا يُقَيَّدُ
____________________
(2/540)
الْمُطْلَقُ كما في نَهْيِهِ عن مَسِّ الذَّكَرِ بِالْيَمِينِ في الِاسْتِنْجَاءِ وَالنَّهْيِ عن مَسِّهِ بِالْيَمِينِ مُطْلَقًا فَبَقِيَ دَالًّا على عُمُومِهِ لِدَلَالَتِهِ على النَّهْيِ في مَحَلٍّ لَا يَدُلُّ ذلك الْآخَرُ عليه هذا إذَا ثَبَتَ لنا أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ مُتَعَدِّدَانِ لَيْسَا بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ اُخْتُلِفَ في لَفْظِهِ مَسْأَلَةُ تَعَارُضِ الْمُفَسَّرِ وَالْمُجْمَلِ كَالْخَاصِّ وَالْعَامِّ فَيُقَدَّمُ الْمُفَسَّرُ على الْمُجْمَلِ مُطْلَقًا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ
____________________
(2/541)
الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ الْمُطْلَقُ ما دَلَّ على الْمَاهِيَّةِ بِلَا قَيْدٍ من حَيْثُ هِيَ هِيَ وقال في الْمَحْصُولِ ما دَلَّ على الْمَاهِيَّةِ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ له دَلَالَةٌ على شَيْءٍ من قُيُودِهَا وَالْمُرَادُ بها عَوَارِضُ الْمَاهِيَّةِ اللَّاحِقَةُ لها في الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ في الذِّهْنِ أَمَّا إذَا اُعْتُبِرَ مع الْمَاهِيَّةِ عَارِضٌ من عَوَارِضِهَا وَهِيَ الْكَثْرَةُ فَإِنْ كانت مَحْصُورَةً فَهِيَ الْعَدَدُ وَإِلَّا فَالْعَامُّ قال وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ ظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِ من قال الْمُطْلَقُ الدَّالُّ على وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ فإن قَوْلَهُ وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ أَمْرَانِ مُغَايِرَانِ لِلْمَاهِيَّةِ من حَيْثُ هِيَ هِيَ زَائِدَانِ عليها ضَرُورَةَ أَنَّ الْوَحْدَةَ وَعَدَمَ التَّعَيُّنِ لَا يَدْخُلَانِ في مَفْهُومِ الْحَقِيقَةِ على ما ذَكَرْنَا وقال صَاحِبُ الْحَاصِلِ الدَّالُّ على الْمَاهِيَّةِ من حَيْثُ هِيَ هِيَ هو الْمُطْلَقُ وَالدَّالُّ عليها مع وَحْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ هو الْمَعْرِفَةُ وَغَيْرِ مُعَيَّنَةٍ هو النَّكِرَةُ وقال صَاحِبُ التَّنْقِيحِ الدَّالُّ على الْحَقِيقَةِ هو الْمُطْلَقُ وَيُسَمَّى مَفْهُومُهُ كُلِّيًّا وَحَاصِلُ كَلَامِ الْإِمَامِ وَأَتْبَاعِهِ أَنَّ الْمُطْلَقَ الدَّالُّ على مَعْنًى كُلِّيٍّ وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْغَزَالِيِّ في الْمُسْتَصْفَى اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إلَى اشْتِرَاكِ الْمَعْنَى وَخُصُوصِيَّتِهِ يَنْقَسِمُ إلَى لَفْظٍ لَا يَدُلُّ على غَيْرِ وَاحِدٍ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَإِلَى ما يَدُلُّ على أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ تَتَّفِقُ في مَعْنًى وَاحِدٍ وَنُسَمِّيهِ مُطْلَقًا فَالْمُطْلَقُ هو اللَّفْظُ الدَّالُّ على مَعْنًى لَا يَكُونُ تَصَوُّرُهُ مَانِعًا من وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فيه وقال ابن الزَّمْلَكَانِيِّ في الْبُرْهَانِ جَعَلَ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ الْمُطْلَقَ وَالنَّكِرَةَ سَوَاءً وَخَطَّأَ الْقُدَمَاءَ في حَدِّهِمْ له بِمَا سَبَقَ مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْوَحْدَةَ وَالتَّعَيُّنَ قَيْدَانِ زَائِدَانِ على الْمَاهِيَّةِ قال وَيَرِدُ عليه أَعْلَامُ الْأَجْنَاسِ كَأُسَامَةَ وَثُعَالَةَ فَإِنَّهَا تَدُلُّ على الْحَقِيقَةِ من حَيْثُ هِيَ هِيَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً وَرَدَّ عليه الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ وقال لم يَجْعَلْ الْإِمَامُ الْمُطْلَقَ وَالنَّكِرَةَ سَوَاءً بَلْ غَايَرَ بَيْنَهُمَا فإن الْمُطْلَقَ الدَّالُّ على الْمَاهِيَّةِ من حَيْثُ هِيَ هِيَ وَالنَّكِرَةَ الدَّالُّ عليها بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ الشَّائِعَةِ وَأَمَّا إلْزَامُهُ عِلْمَ الْجِنْسِ فَمَرْدُودٌ بِأَنَّهُ وُضِعَ لِلْمَاهِيَّةِ الذِّهْنِيَّةِ بِقَيْدِ التَّشْخِيصِ الذِّهْنِيِّ بِخِلَافِ اسْمِ الْجِنْسِ وَأَمَّا الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ فَقَالَا إنَّهُ الدَّالُّ على الْمَاهِيَّةِ بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ
____________________
(3/3)
الشَّائِعَةِ كَالنَّكِرَةِ قال في الْإِحْكَامِ الْمُطْلَقُ النَّكِرَةُ في سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ وقال ابن الْحَاجِبِ الْمُطْلَقُ ما دَلَّ على شَائِعٍ في جِنْسِهِ وَبِنَحْوِ ذلك عَرَّفَ النَّكِرَةَ في كُتُبِ النَّحْوِ إلَّا أَنَّ الذي دَعَا الْآمِدِيَّ إلَى ذلك هو أَصْلُهُ في إنْكَارِ الْكُلِّيِّ الطَّبِيعِيِّ وَأَمَّا ابن الْحَاجِبِ فإنه لَا يُنْكِرُهُ بَلْ هو مع الْجُمْهُورِ في إثْبَاتِهِ لَكِنَّ الدَّاعِيَ له إلَى ذلك مُوَافَقَةُ النُّحَاةِ في عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بين الْمُطْلَقِ وَالنَّكِرَةِ قال ابن الْخَشَّابِ النَّحْوِيِّ النَّكِرَةُ كُلُّ اسْمٍ دَلَّ على مُسَمَّاهُ على جِهَةِ الْبَدَلِ أَيْ فإنه صَالِحٌ لِهَذَا وَلِهَذَا ا هـ وَلَا يَنْبَغِي ذلك يَعْنِي مُوَافَقَةَ ابْنِ الْحَاجِبِ لِلنُّحَاةِ فإن النُّحَاةَ إنَّمَا دَعَاهُمْ إلَى ذلك أَنَّهُ لَا غَرَضَ لهم في الْفَرْقِ لِاشْتِرَاكِ الْمُطْلَقِ وَالنَّكِرَةِ في صِيَاغَةِ الْأَلْفَاظِ من حَيْثُ قَبُولُ أَلْ وَغَيْرُ ذلك من الْأَحْكَامِ فلم يَحْتَاجُوا إلَى الْفَرْقِ أَمَّا الْأُصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ فَإِنَّهُمَا عِنْدَهُمْ حَقِيقَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ أَمَّا الْأُصُولِيُّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ وَجْهَ الْمُمَيِّزِ فِيهِمَا فَإِنَّا قَطْعًا نُفَرِّقُ بين الدَّالِّ على الْمَاهِيَّةِ من حَيْثُ هِيَ هِيَ وَالدَّالُّ عليها بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ كما نُفَرِّقُ بين الدَّالُّ عليها بِوَحْدَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وهو النَّكِرَةُ وَمُعَيَّنَةٍ وَهِيَ الْمَعْرِفَةُ فَهِيَ حَقَائِقُ ثَلَاثٌ لَا بُدَّ من بَيَانِهَا وَأَمَّا الْفَقِيهُ فَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَخْتَلِفُ عِنْدَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا اسْتَشْعَرَ بَعْضُهُمْ التَّنْكِيرَ في بَعْضِ الْأَلْفَاظِ اشْتَرَطَ الْوَحْدَةَ فقال الْغَزَالِيُّ فِيمَنْ قال إنْ كان حَمْلُهَا غُلَامًا فَأَعْطُوهُ كَذَا فَكَانَ غُلَامَيْنِ لَا شَيْءَ لَهُمَا لِأَنَّ التَّنْكِيرَ يُشْعِرُ بِالتَّوْحِيدِ وَيَصْدُقُ أَنَّهُمَا غُلَامَانِ لَا غُلَامٌ وَكَذَا لو قال لِامْرَأَتِهِ إنْ كان حَمْلُك ذَكَرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ فَكَانَا ذَكَرَيْنِ فَقِيلَ لَا تَطْلُقُ لِهَذَا الْمَعْنَى وَقِيلَ تَطْلُقُ حَمْلًا على الْجِنْسِ من حَيْثُ هو فَانْظُرْ كَيْفَ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بين الْمُطْلَقِ وَالنَّكِرَةِ وَأَقُولُ التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُطْلَقَ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَقَعَ في الْإِنْشَاءِ فَهَذَا يَدُلُّ على نَفْسِ الْحَقِيقَةِ من غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِأَمْرٍ زَائِدٍ وهو مَعْنَى قَوْلِهِمْ الْمُطْلَقُ هو التَّعَرُّضُ لِلذَّاتِ دُونَ الصِّفَاتِ لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً وَالثَّانِي أَنْ يَقَعَ في الْأَخْبَارِ مِثْلُ رَأَيْت رَجُلًا فَهُوَ لِإِثْبَاتِ وَاحِدٍ مُبْهَمٍ من ذلك الْجِنْسِ غَيْرِ مَعْلُومِ التَّعْيِينِ عِنْدَ السَّامِعِ وَجُعِلَ مُقَابِلًا لِلْمُطْلَقِ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ على قَيْدِ الْوَحْدَةِ وَعَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ يُنَزَّلُ كَلَامُ الْمَحْصُولِ وَعَلَى الثَّانِي يُنَزَّلُ كَلَامُ ابْنِ
____________________
(3/4)
الْحَاجِبِ وهو قَطْعِيٌّ في الْمَاهِيَّةِ هذا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَظَاهِرٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَنَظِيرِ الْخِلَافِ في الْعُمُومِ وَلِاسْتِرْسَالِهِ على جَمِيعِ الْأَفْرَادِ يُشْبِهُ الْعُمُومَ وَلِهَذَا قِيلَ إنَّهُ عَامٌّ عُمُومَ بَدَلٍ وَالْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ من عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ بِاعْتِبَارِ مَعَانِيهَا اصْطِلَاحًا وَإِنْ أُطْلِقَ على الْمَعَانِي فَلَا مُشَاحَّةَ في الِاصْطِلَاحِ وَهُمَا أَمْرَانِ نِسْبِيَّانِ بِاعْتِبَارِ الطَّرَفَيْنِ وَيَرْتَقِي إلَى مُطْلَقٍ لَا إطْلَاقَ بَعْدَهُ كَالْمَعْلُومِ وَإِلَى مُقَيَّدٍ لَا تَقْيِيدَ بَعْدَهُ كَزَيْدٍ وَبَيْنَهُمَا وَسَائِطُ وقال الْهِنْدِيُّ الْمُطْلَقُ الْحَقِيقِيُّ ما دَلَّ على الْمَاهِيَّةِ فَقَطْ وَالْإِضَافِيُّ يَخْتَلِفُ نَحْوُ رَجُلٍ وَرَقَبَةٍ فإنه مُطْلَقٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى رَجُلٍ عَالِمٍ وَرَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَمُقَيَّدٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْحَقِيقِيِّ لِأَنَّهُ يَدُلُّ على وَاحِدٍ شَائِعٍ وَهُمَا قَيْدَانِ زَائِدَانِ على الْمَاهِيَّةِ وَالْمُقَيَّدُ مُقَابِلُهُمَا قال صَاحِبُ خُلَاصَةِ الْمَأْخَذِ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ خُرَاسَانَ وما وَرَاءَ النَّهْرِ أَنَّ الْمُطْلَقَ ثَابِتٌ في الْأَذْهَانِ دُونَ الْأَعْيَانِ وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْعَامِّ إلَى قِيَامِ دَلِيلِ التَّعْيِينِ فَائِدَةٌ الْعَمَلُ بِالْمُطْلَقِ قبل الْبَحْثِ عن الْمُقَيَّدِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ على الْخِلَافِ السَّابِقِ في الْعُمُومِ ولم يَذْكُرُوهُ مَسْأَلَةٌ وُرُودُ الْخِطَابِ مُطْلَقًا في مَوْضِعٍ وَمُقَيَّدًا في مَوْضِعٍ اعْلَمْ أَنَّ الْخِطَابَ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا لَا مُقَيِّدَ له حُمِلَ على إطْلَاقِهِ أو مُقَيَّدًا لَا مُطْلَقَ له حُمِلَ على تَقْيِيدِهِ وَإِنْ وَرَدَ مُطْلَقًا في مَوْضِعٍ وَمُقَيَّدًا في آخِرِ فَالْكَلَامُ في مَقَامَيْنِ أَحَدُهُمَا في الْمُقَيَّدِ هل يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَالُهُ مَقْصُورًا على الشَّرْطِ الْمُقَيَّدِ بِهِ أَمْ لَا وَالثَّانِي في الْمُطْلَقِ هل يَجِبُ حَمْلُهُ على حُكْمِ الْمُقَيَّدِ من جِنْسِهِ أَمْ لَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ الْبَحْثُ في أَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ وَالصِّفَةِ حُجَّةٌ أَمْ لَا كما سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ قُلْنَا ليس بِحُجَّةٍ لم يُحْمَلْ الْمُطْلَقُ عليه وَإِنْ قُلْنَا حُجَّةٌ حُمِلَ وَلَا بُدَّ في الْحَمْلِ من تَقْدِيمِ كَوْنِ الْقَيْدِ شَرْطًا فِيمَا قُيِّدَ بِهِ وَالْأُصُولِيُّونَ قد أَهْمَلُوا ذِكْرَهُ هُنَا لِوُضُوحِهِ وَإِنَّمَا تَعَرَّضَ له الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَاعْتَبَرَا مَعْنَى الْمُقَيَّدِ فَإِنْ كان خَاصًّا
____________________
(3/5)
ثَبَتَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ وَإِنْ كان عَامًّا يَسْقُطُ حُكْمُهُ فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أو على سَفَرٍ إلَى قَوْلِهِ فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَقْيِيدُ التَّيَمُّمِ بِالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ شَرْطٌ في إبَاحَتِهِ وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ وإذا ضَرَبْتُمْ في الْأَرْضِ إلَى قَوْلِهِ إنْ خِفْتُمْ فَلَيْسَ الْخَوْفُ شَرْطًا في الْقَصْرِ وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ الْمَقْصُودُ بَعْدَ ثُبُوتِ كَوْنِ التَّقْيِيدِ شَرْطًا في الْمُقَيَّدِ فَيَنْقَسِمُ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ إلَى أَقْسَامٍ أَحَدُهَا أَنْ يَخْتَلِفَا في السَّبَبِ وَالْحُكْمِ فَلَا يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ بِالِاتِّفَاقِ كَتَقْيِيدِ الشَّهَادَةِ بِالْعَدَالَةِ وَإِطْلَاقِ الرَّقَبَةِ في الْكَفَّارَةِ وَشَرَطَ الْآمِدِيُّ أَنْ يَكُونَا ثُبُوتِيَّيْنِ فَإِنْ لم يَكُنْ كما إذَا قال في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَعْتَقَ رَقَبَةً وقال لَا تَمْلِكُ رَقَبَةٌ كَافِرَةٌ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُقَيَّدَ يُوجِبُ تَقْيِيدَ الرَّقَبَةِ الْمُطْلَقَةِ بِالْمُسْلِمَةِ في هذه الصُّورَةِ وَاعْلَمْ أَنَّ الِاتِّفَاقَ في هذا الْقِسْمِ نَقَلَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَإِلْكِيَا وابن بَرْهَانٍ وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرُهُمْ وَذَكَرَ الْبَاجِيُّ عن الْقَاضِي مُحَمَّدٍ من الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ في هذا حَمْلُ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ وَأَخَذَ ذلك من رِوَايَةٍ رُوِيَتْ عنه أَنَّهُ قال عَجِبْت من رَجُلٍ عَظِيمٍ من أَهْلِ الْعِلْمِ يقول إنَّ التَّيَمُّمَ إلَى الْكُوعَيْنِ فَقِيلَ له إنَّهُ حَمَلَ ذلك على آيَةِ الْقَطْعِ فقال وَأَيْنَ هو من آيَةِ الْوُضُوءِ قال الْبَاجِيُّ وَهَذَا التَّأْوِيلُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ حَمْلُهُ عليه بِقِيَاسٍ أو عِلَّةٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في الْحَمْلِ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ وَسَيَأْتِي حِكَايَةُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ أَنَّهُ يُجْزِئُ فيها الْإِطْعَامُ كما في الظِّهَارِ قلت وَمِنْ هذا كُلِّهِ يَخْرُجُ خِلَافٌ في حَمْلِ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ في هذا الْقِسْمِ وَيَنْبَغِي الْتِفَاتُهُ إلَى أَنَّهُ من بَابِ الْقِيَاسِ أو اللَّفْظِ فَإِنْ قُلْنَا من بَابِ الْقِيَاسِ امْتَنَعَ لِأَنَّ من شَرْطِ الْقِيَاسِ اتِّحَادَ الْحُكْمِ وَالْحُكْمُ هُنَا مُخْتَلِفٌ حَيْثُ أُطْلِقَ الْإِطْعَامُ وَقُيِّدَ الصِّيَامُ الْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَتَّفِقَا في السَّبَبِ وَالْحُكْمِ فَيُحْمَلُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ كما لو قال إنْ ظَاهَرْتَ فَاعْتِقْ رَقَبَةً وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ إنْ ظَاهَرْتَ فَاعْتِقْ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً وأبو حَنِيفَةَ يُوَافِقُ في هذا الْقِسْمِ كما قَالَهُ أبو زَيْدٍ في الْأَسْرَارِ وأبو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ في تَفْسِيرِهِ وَغَيْرُهُمَا وَلِهَذَا حُمِلَ قَوْله تَعَالَى فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ على قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ مُتَتَابِعَاتٌ وَكَذَا لو قِيلَ له تَغَدَّ عِنْدِي الْيَوْمَ فقال وَاَللَّهِ لَا
____________________
(3/6)
أَتَغَدَّى حُمِلَ على ذلك الْيَوْمِ حتى لَا يَحْنَثَ بِغَيْرِهِ وَمِمَّنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ في هذا الْقِسْمِ الْقَاضِيَانِ أبو بَكْرٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ وابن فُورَكٍ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُمْ وَكَإِطْلَاقِ تَحْرِيمِ الدَّمِ في مَوْضِعٍ وَتَقْيِيدِهِ في آخَرَ بِالْمَسْفُوحِ وَكَقَوْلِهِ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ منه وقَوْله تَعَالَى من كان يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ له في حَرْثِهِ وَمَنْ كان يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ منها فإنه لو قِيلَ نَحْنُ نَرَى من يَطْلُبُ الدُّنْيَا طَلَبًا حَثِيثًا وَلَا يَحْصُلُ له شَيْءٌ قُلْنَا قال تَعَالَى من كان يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا له فيها ما نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ فَعَلَّقَ ما يُؤْتِيهِ بِالْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ فَحُمِلَ الْمُطْلَقُ على الْمُقَيَّدِ وَكَإِطْلَاقِ الْمَسْحِ في قَوْلِهِ يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَالتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ إذَا تَطَهَّرَ فَلَبِسَ خُفَّيْهِ وَقَوْلُهُ عَمَّنْ تَمُونُونَ مع قَوْلِهِ على كل صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى حُرٍّ وَعَبْدٍ من الْمُسْلِمِينَ وَقَوْلُهُ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ مع قَوْلِهِ إلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وقال ابن الْعَرَبِيِّ في الْمَحْصُولِ هذه الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةُ الْمَفْهُومِ كَقَوْلِهِ في أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ وَهَذَا مُطْلَقٌ وَقَوْلُهُ في الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ فَهَذَا مُقَيَّدٌ بِالسَّوْمِ فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَفْهُومِ حَمَلْنَا الْمُطْلَقَ على الْمُقَيَّدِ على الْخِلَافِ وَالسَّبَبُ وَاحِدٌ وهو الْمِلْكُ لِلْمَالِ الْبَاقِي وَالْحُكْمُ وَاحِدٌ وهو وُجُوبُ الزَّكَاةِ ا هـ وَظَاهِرُهُ جَرَيَانُ خِلَافِ الْحَنَفِيَّةِ في هذا الْقِسْمِ مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ وَبِهِ صَرَّحَ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ فقال اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أبي حَنِيفَةَ في هذا الْقِسْمِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ وَالصَّحِيحُ من مَذْهَبِهِمْ أَنَّهُ يُحْمَلُ قُلْت إلَّا أَنَّهُمْ لم يَحْمِلُوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ كَذَلِكَ بَلْ عَمِلُوا بِالنَّصَّيْنِ
____________________
(3/7)
وقال أبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ حَمْلُ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ في هذا الْقِسْمِ من بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ وقد ذَكَرْنَا أَنَّهُ ليس بِدَلِيلٍ فَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ قال وقد اخْتَلَفَ كَلَامُ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ في ذلك في التَّقْرِيبِ وَحَكَى الطَّرَسُوسِيُّ بِالسِّينَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ الْخِلَافَ فيه عن الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ من هذا الْقِسْمِ ما إذَا كان الْمُقَيَّدُ آحَادًا وَالْمُطْلَقُ مُتَوَاتِرًا قال فَيُبْنَى على مَسْأَلَةِ الزِّيَادَةِ هل هِيَ نَسْخٌ وَعَلَى نَسْخِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ وَالْمَنْعُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَهَذَا كُلُّهُ في الْمُقَيَّدِ مُطْلَقًا فَإِنْ كانت دَلَالَةُ الْمُقَيَّدِ من حَيْثُ الْمَفْهُومُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ من قال بِهِ فَيُقَدَّمُ خَاصُّهُ على الْعُمُومِ وَمَنْ لَا يقول بِالْمَفْهُومِ فَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ قُلْت وَهَكَذَا فَعَلَتْ الْحَنَفِيَّةُ في صَدَقَةِ الْفِطْرِ ولم يَفْعَلُوا ذلك في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ قالوا لِأَنَّهُمَا في الصَّوْمِ وَرَدَا في حُكْمٍ يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ بِمَوْضِعَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ مُقَدِّمًا التَّقْيِيدَ وفي صَدَقَةِ الْفِطْرِ في السَّبَبِ وَلَا مُزَاحَمَةَ وإذا قُلْنَا بِالْحَمْلِ فَاخْتَلَفُوا فَصَحَّحَ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْحَمْلَ بَيَانٌ لِلْمَطْلُوبِ أَيْ دَالٌّ على أَنَّهُ كان الْمُرَادُ بِالْمُطْلَقِ هو الْمُقَيَّدُ وَقِيلَ يَكُونُ نَسْخًا أَيْ دَالًّا على نَسْخِ حُكْمِ الْمُطْلَقِ السَّابِقِ بِحُكْمِ الْمُقَيَّدِ الطَّارِئِ وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ إطْلَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ في هذا الْقِسْمِ في الْحَمْلِ بين أَنْ يَكُونَ الْمُطْلَقُ مُتَقَدِّمًا أو مُتَأَخِّرًا أو جُهِلَ السَّابِقُ مِنْهُمَا وَلِهَذَا قال الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى بَعْدَ تَعَرُّضِهِ لِهَذَا وَهَذَا صَحِيحٌ على مَذْهَبِ من لَا يَرَى بين الْعَامِّ وَالْخَاصِّ تَقَابُلَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَالْقَاضِي مع مَصِيرِهِ إلَى التَّعَارُضِ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ على تَنْزِيلِ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْحُكْمِ ا هـ وَفِيمَا ذَكَرَهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ من صَارَ إلَى أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ لَا يُخَصَّصُ بِالْخَاصِّ الْمُتَقَدِّمِ عِنْدَ التَّعَارُضِ بَلْ يُحْمَلُ على النَّسْخِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْمِلَ الْمُطْلَقُ على الْمُقَيَّدِ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ هَاهُنَا إنَّ الْمُطْلَقَ الْمُتَأَخِّرَ نَاسِخٌ لِلْمُقَيَّدِ الْمُتَقَدِّمِ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ بِمَثَابَةِ الْعَامِّ وَالْمُقَيَّدَ بِمَثَابَةِ الْخَاصِّ وَعَلَى هذا يَلْزَمُ الْوَقْفُ عِنْدَ جَهْلِ التَّارِيخِ كما تَوَقَّفَ هُنَاكَ كَذَا قال الْهِنْدِيُّ والأردبيلي وَيَشْهَدُ له حِكَايَةُ ابْنِ الْحَاجِبِ عن بَعْضِهِمْ أَنَّهُ إذَا كان الْمُقَيَّدُ مُتَأَخِّرًا عن الْمُطْلَقِ يَكُونُ الْمُقَيَّدُ نَاسِخًا لِلْمُطْلَقِ وَزَيَّفَهُ وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَتَّجِهُ فِيمَا إذَا تَأَخَّرَ الْمُقَيَّدُ عن وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْمُطْلَقِ وَإِلَّا فَالْحَمْلُ على النَّسْخِ مع إمْكَانِ حَمْلِهِ على الْبَيَانِ بَعِيدٌ ثُمَّ يَلْزَمُهُ عَكْسُهُ إنْ رَأَى نَسْخَ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ وقد يُقَالُ لَا يَلْزَمُ الْقَائِلَ في الْعَامِّ بِالنَّسْخِ أَنْ يَقُولَ بِهِ هُنَا في الْمُطْلَقِ وَالْفَرْقُ أَنَّ
____________________
(3/8)
الْخَاصَّ يُنَاقِضُ الْعَامَّ في جِهَةِ مَدْلُولِهِ فإن الْعَامَّ يَدُلُّ على إثْبَاتِ الْحُكْمِ في جَمِيعِ أَفْرَادِهِ ظَاهِرًا وَالْخَاصَّ يَنْفِي الْحُكْمَ في بَعْضِهَا فَوَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا من هذا الْوَجْهِ وَأَمَّا الْمُطْلَقُ فَلَا دَلَالَةَ له على حُكْمِ الْمُقَيَّدِ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ فإن الْإِيمَانَ مَثَلًا في قَوْلِهِ أَعْتِقْ رَقَبَةً مَسْكُوتٌ عنه فَلَا يَكُونُ إثْبَاتُهُ بِقَوْلِهِ أَعْتِقْ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً مُنَافِيًا لِحُكْمِ الْإِطْلَاقِ من جِهَةِ الْمَدْلُولِ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ على الْمُقَيَّدِ بِكُلِّ حَالٍ فَصَحَّ نَقْلُ الْإِجْمَاعِ على ذلك وَلَا يَخْرُجُ على الْخِلَافِ في تَقَابُلِ الْعَامِّ الْمُتَأَخِّرِ وَالْخَاصِّ الْمُتَقَدِّمِ لِمَا فيه من الْجَمْعِ بين الدَّلِيلَيْنِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يَخْتَلِفَا في السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ كَإِطْلَاقِ الرَّقَبَةِ في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَتَقْيِيدِهَا بِالْإِيمَانِ في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ وهو وُجُوبُ الْإِعْتَاقِ لَكِنَّ الظِّهَارَ وَالْقَتْلَ سَبَبَانِ مُخْتَلِفَانِ فَهَذَا هو مَوْضِعُ الْخِلَافِ بين الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَمَّا عَكْسُهُ وهو اتِّحَادُ السَّبَبِ وَاخْتِلَافُ الْحُكْمِ فَظَاهِرُ إطْلَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فيه لَكِنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ في الْمَحْصُول جَعَلَهُ من مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَبِهِ تَصِيرُ الْأَقْسَامُ أَرْبَعَةً وَمَثَّلَهُ بِآيَةِ الْوُضُوءِ فإنه قَيَّدَ فيها غَسْلَ الْيَدَيْنِ بِالْمَرَافِقِ وَأَطْلَقَ في آيَةِ التَّيَمُّمِ كَقَوْلِهِ وَأَيْدِيكُمْ منه فإن السَّبَبَ وَاحِدٌ وهو الْحَدَثُ وَحَكَى أبو الْخَطَّابِ من الْحَنَابِلَةِ الْخِلَافَ في اتِّحَادِ السَّبَبِ وَاخْتِلَافِ الْحُكْمِ وَنَقَلَ فيه رِوَايَتَيْنِ عن أَحْمَدَ وَمَثَّلَهُ بِآيَةِ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ أَيْضًا وَكَذَا مَثَّلَ بها الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ في حَمْلِ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ إذَا اخْتَلَفَا في السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ إذَا عَلِمْتَ ذلك فَاخْتَلَفُوا في هذه الْمَسْأَلَةِ على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ على الْمُقَيَّدِ بِمُوجِبِ اللَّفْظِ وَمُقْتَضَى اللُّغَةِ من غَيْرِ دَلِيلٍ ما لم يَقُمْ دَلِيلٌ على حَمْلِهِ على الْإِطْلَاقِ فإن تَقَيُّدَ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ الْآخَرِ لَفْظًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ وَكَمَا في الْعَدَالَةِ وَالشُّهُودِ في قَوْلِهِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رِجَالِكُمْ يُحْمَلُ على قَوْلِهِ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَحَمَلَ إطْلَاقَ الْعِتْقِ في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ على الْعِتْقِ الْمُقَيَّدِ بِالْإِيمَانِ في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في بَابِ الْقَضَاءِ إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وقال
____________________
(3/9)
الْمَاوَرْدِيُّ في بَابِ الظِّهَارِ إنَّ عليه جُمْهُورَ أَصْحَابِنَا وقال سُلَيْمٌ إنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَحَكَاهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ عن جُمْهُورِ أَصْحَابِهِمْ وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا قال وَأَقْرَبُ طَرِيقِ هَؤُلَاءِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ في حُكْمِ الْخِطَابِ الْوَاحِدِ وَحَقُّ الْخِطَابِ الْوَاحِدِ أَنْ يَتَرَتَّبَ فيه الْمُطْلَقُ على الْمُقَيَّدِ قال وَهَذَا من فُنُونِ الْهَذَيَان فإن قَضَايَا الْأَلْفَاظِ في كِتَابِ اللَّهِ مُخْتَلِفَةٌ مُتَبَايِنَةٌ لِبَعْضِهَا حُكْمُ التَّعَلُّقِ وَالِاخْتِصَاصِ وَلِبَعْضِهَا حُكْمُ الِاسْتِدْلَالِ وَالِانْقِطَاعِ فَمَنْ ادَّعَى تَنْزِيلَ جِهَاتِ الْخِطَابِ على حُكْمِ كَلَامٍ وَاحِدٍ مع الْعِلْمِ بِأَنَّ في كِتَابِ اللَّهِ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ وَالْأَمْرَ وَالزَّجْرَ وَالْأَحْكَامَ الْمُتَغَايِرَةَ فَقَدْ ادَّعَى أَمْرًا عَظِيمًا وَلَا تُغْنِي في مِثْلِ ذلك الْإِشَارَةُ إلَى اتِّحَادِ الْكَلَامِ الْأَزَلِيِّ وَمُضْطَرِبُ الْمُتَكَلِّمِينَ في الْأَلْفَاظِ وَقَضَايَا الصِّيَغِ وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ لَا مِرَاءَ في اخْتِلَافِهَا فَسَقَطَ هذا الظَّنُّ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ عليه بِنَفْسِ اللَّفْظِ بَلْ لَا بُدَّ من دَلِيلٍ من قِيَاسٍ أو غَيْرِهِ كما يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ وَغَيْرِهِ وَإِنْ حَصَلَ قِيَاسٌ صَحِيحٌ أو غَيْرُهُ من الْأَدِلَّةِ يَقْتَضِي تَقْيِيدَهُ بِهِ قُيِّدَ وَإِلَّا أُقِرَّ الْمُطْلَقُ على إطْلَاقِهِ وَالْمُقَيَّدُ على تَقْيِيدِهِ قال الْآمِدِيُّ هذا هو الْأَظْهَرُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَصَحَّحَهُ هو وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَأَتْبَاعُهُمَا وقد عَلِمْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ إنَّمَا نَقَلُوا عنه الْأَوَّلَ وَهُمْ أَعْرَفُ من الْآمِدِيَّ بِذَلِكَ وفي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ لِابْنِ أبي حَاتِمٍ الرَّازِيَّ عن يُونُسَ بن عبد الْأَعْلَى قال سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَعِيبُ على من يقول لَا يُقَاسُ الْمُطْلَقُ من الْكِتَابِ على الْمَنْصُوصِ وقال يَلْزَمُ من قال هذا أَنْ يُجِيزَ شَهَادَةَ الْعَبْدِ وَالسُّفَهَاءِ لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل قال وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ مُطْلَقًا وَلَكِنَّ الْمُطْلَقَ يُقَاسُ على الْمَنْصُوصِ في مِثْلِ هذا فَلَا يَجُوزُ إلَّا الْعَدْلُ نعم هذا الْقَوْلُ عليه جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ من أَصْحَابِنَا منهم الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ كما رَأَيْتُهُ في كِتَابِهِ وَنَقَلُوهُ عن ابْنِ فُورَكٍ وَصَحَّحَهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيُّ وابن بَرْهَانٍ وابن السَّمْعَانِيِّ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْعُمْدَةِ إنَّهُ الْأَقْرَبُ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَنَسَبَهُ إلَى الْمُحَقِّقِينَ قال لو جَازَ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ لِتَقْيِيدِ الْمُقَيَّدِ
____________________
(3/10)
لَجَازَ إطْلَاقُ الْمُقَيَّدِ لِإِطْلَاقِ الْمُطْلَقِ وهو لَا يَجُوزُ إجْمَاعًا وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عن أبي عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ ثُمَّ قال وهو قِلَّةُ مَعْرِفَةٍ بِلِسَانِهِمْ لِأَنَّهُمْ تَارَةً يُكَرِّرُونَ الْكَلِمَةَ لِلتَّأْكِيدِ وَتَارَةً يَحْذِفُونَهَا لِلْإِيجَازِ وَتَارَةً يُسْقِطُونَ بَعْضَهَا لِلتَّرْخِيمِ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ عن الْجُمْهُورِ من الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن ابْنِ سُرَيْجٍ وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في بَابِ الْقَضَاءِ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا فَقَالَا وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُطْلَقِ بَعْدَ الْمُقَيَّدِ من جِنْسِهِ مَوْقُوفٌ على الدَّلِيلِ فَإِنْ قام الدَّلِيلُ على تَقْيِيدِهِ قُيِّدَ وَإِنْ لم يَقُمْ على وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَلِيلٌ صَارَ كَاَلَّذِي لم يَرِدْ فيه نَصٌّ فَيُعْدَلُ عنه إلَى غَيْرِهِ من الْأَدِلَّةِ قَالَا وَهَذَا قَوْلُ من ذَهَبَ إلَى وَقْفِ الْعُمُومِ حتى يَقُومَ دَلِيلٌ على تَخْصِيصٍ أو عُمُومٍ وَهَذَا أَفْسَدُ الْمَذَاهِبِ لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمُحْتَمَلَةَ يَكُونُ الِاجْتِهَادُ فيها عَائِدًا إلَيْهَا وَلَا يُعْدَلُ بِالِاحْتِمَالِ إلَى غَيْرِهَا لِيَكُونَ النَّصُّ ثَابِتًا بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ من نَفْيِ الِاحْتِمَالِ عنه وَتَعَيُّنِ الْمُرَادِ بِهِ قال الْأَصْفَهَانِيُّ وَحَيْثُ قُلْنَا يُقَيَّدُ قِيَاسًا أَرَدْنَا بِهِ سَالِمًا عن الْفُرُوقِ وَبِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُهُمْ إنَّ اخْتِلَافَ الْأَسْبَابِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْأَحْكَامِ وقال ابن بَرْهَانٍ كُلُّ دَلِيلٍ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِهِ وما لَا فَلَا لِأَنَّ الْمُطْلَقَ عَامٌّ من حَيْثُ الْمَعْنَى فَيَجُوزُ التَّقْيِيدُ بِفِعْلِهِ عليه السَّلَامُ خِلَافًا لِلْقَاضِي وَتَقْرِيرُهُ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ وَبِمَفْهُومِ الْخِطَابِ وقال ابن فُورَكٍ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يُحْمَلُ عليه من جِهَةِ الْقِيَاسِ اخْتَلَفُوا هل الْقِيَاسُ مُخَصِّصٌ لِلْمُطْلَقِ أو زَائِدٌ فيه فَمِنْهُمْ من قال إنَّهُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْمُطْلَقِ لَا الزِّيَادَةَ فيه قال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وهو الصَّحِيحُ وَمِنْهُمْ من قال يَقْتَضِي الزِّيَادَةَ فيه وَجَوَّزَ الزِّيَادَةَ بِالْقِيَاسِ ولم يُقَدِّرْهُ نَسْخًا وقال صَاحِبُ الْوَاضِحِ اخْتَلَفَ أبو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ في أَنَّ تَقْيِيدَ الرَّقَبَةِ الْمُطْلَقَةِ بِالْإِيمَانِ هل يَقْتَضِي زِيَادَةً أو تَخْصِيصًا فقال الْبَصْرِيُّ هو زِيَادَةٌ لِأَنَّ إطْلَاقَ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي إجْزَاءَ كل ما تَقَعُ عليه الرَّقَبَةُ فإذا اُعْتُبِرَ في إجْزَائِهَا الْإِيمَانُ كان ذلك زِيَادَةً لَا مَحَالَةَ وقال قَاضِي الْقُضَاةِ هو تَخْصِيصٌ لِأَنَّ إطْلَاقَ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي إجْزَاءَ الْمُؤْمِنَةِ وَالْكَافِرَةِ وَالتَّقْيِيدُ بِالْإِيمَانِ يُخْرِجُ الْكَافِرَةَ فَكَانَ تَخْصِيصًا لَا مَحَالَةَ قال وَفَائِدَةُ هذا الْخِلَافِ أَنَّ من قال زِيَادَةٌ يَمْنَعُ الْحَمْلَ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ نَسْخٌ وَالنَّسْخُ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ وَمَنْ قال تَخْصِيصُ جَوَازِ الْحَمْلِ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ ليس هذا بِخِلَافٍ في الْحَقِيقَةِ فَالْقَاضِي أَرَادَ أَنَّ التَّقَيُّدَ بِالصِّفَةِ
____________________
(3/11)
نُقْصَانٌ في الْمَعْنَى وأبو عبد اللَّهِ أَرَادَ زِيَادَةً في اللَّفْظِ ا هـ وقال الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْبَاطُ من مَحَلِّ التَّقْيِيدِ فَلِيَكُنْ من مَحَلٍّ آخَرَ وهو عَدَمُ إجْزَاءِ الْمُرْتَدِّ بِالْإِجْمَاعِ قال وَهَذَا بَاطِلٌ فإن الْمُسْتَنْبَطَ من مَحَلِّ التَّقْيِيدِ إنْ كان مَحِلًّا صَالِحًا قُبِلَ وَإِلَّا فَهُوَ بَاطِلٌ لِعَدَمِ الْإِحَالَةِ وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ قال الْمَاوَرْدِيُّ وهو أَوْلَى الْمَذَاهِبِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَغْلَظَ حُكْمَيْ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ فَإِنْ كان حُكْمُ الْمُطْلَقِ أَغْلَظَ حُمِلَ على إطْلَاقِهِ ولم يُقَيَّدْ إلَّا بِدَلِيلٍ وَإِنْ كان حُكْمُ الْمُقَيَّدِ أَغْلَظَ حُمِلَ الْمُطْلَقُ على الْمُقَيَّدِ ولم يُحْمَلْ على إطْلَاقِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ لِأَنَّ التَّغْلِيظَ إلْزَامٌ وما تَضَمَّنَهُ الْإِلْزَامُ لم يَسْقُطْ الْتِزَامُهُ بِالِاحْتِمَالِ الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ صِفَةً فَيُحْمَلُ كَالْإِيمَانِ في الرَّقَبَةِ أو ذَاتًا فَلَا يُحْمَلُ كَالتَّقْيِيدِ بِالْمَرَافِقِ في الْوُضُوءِ دُونَ التَّيَمُّمِ وهو حَاصِلُ كَلَامِ الْأَبْهَرِيِّ وَسَيَأْتِي ما فيه الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ عليه أَصْلًا لَا من جِهَةِ الْقِيَاسِ وَلَا من جِهَةِ اللَّفْظِ وهو مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَحَكَاهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ عن أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ بَعْدَ أَنْ قال الْأَصَحُّ عِنْدِي الثَّانِي قال ابن السَّمْعَانِيِّ في الِاصْطِلَامِ وَعَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ تَقْيِيدَ الْخِطَابِ بِشَيْءٍ في مَوْضِعٍ لَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ مِثْلِهِ في مَوْضِعٍ آخَرَ كما أَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ في مَوْضِعٍ لَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ الْعُمُومِ في مَوْضِعٍ آخَرَ وَلَوْ وَجَبَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ بِظَاهِرِ الْخِطَابِ لم يَكُنْ ذلك بِأَوْلَى من حَمْلِ الْمُقَيَّدِ على الْمُطْلَقِ بِظَاهِرِ الْوُرُودِ وَهَذَا لِأَنَّ التَّقْيِيدَ له حُكْمٌ وَالْإِطْلَاقَ له حُكْمٌ وَحَمْلُ أَحَدِهِمَا على صَاحِبِهِ مِثْلُ حَمْلِ صَاحِبِهِ عليه لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَرَكَ الْخِطَابَ من تَقْيِيدٍ أو إطْلَاقٍ ا هـ قال في الْمُعْتَمَدِ وَاخْتَلَفُوا في سَبَبِ الْمَنْعِ فَقِيلَ لِأَنَّ تَقْيِيدَهُ بِالْإِيمَانِ زِيَادَةٌ على النَّصِّ وَالزِّيَادَةُ على النَّصِّ نَسْخٌ وَالنَّسْخُ لَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِالْقِيَاسِ وَقِيلَ لِأَنَّ تَقْيِيدَهُ بِالْإِيمَانِ زِيَادَةٌ على حُكْمٍ قُصِدَ اسْتِيفَاؤُهُ وَقِيلَ تَخْصِيصُهُ بِالْإِيمَانِ هو تَخْصِيصُهُ بِحُكْمٍ قد قُصِدَ اسْتِيفَاؤُهُ وقال في الْمَنْخُولِ اخْتَلَفُوا في وَجْهِ النَّسْخِ فَقِيلَ لِأَنَّ فيه شَرْطَ الْإِيمَانِ وَالنَّصُّ لَا يَقْتَضِيهِ وقال الْمُحَقِّقُونَ اقْتَضَى النَّهْيُ إجْزَاءَ ما يُسَمَّى رَقَبَةً فَشَرْطُ
____________________
(3/12)
الْإِيمَانِ بِغَيْرِ مُقْتَضَى النَّصِّ قال وَهَذَا يَقْوَى لهم في مَسْأَلَةِ النِّيَّةِ في الْوُضُوءِ فإن اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى بَيَانَ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ وَأَرْكَانِهِ فَاقْتَضَى ذلك وُقُوعَ الْإِجْزَاءِ بِتَحْصِيلِ ما تَعَرَّضَ له وَشَرْطُ النِّيَّةِ زِيَادَةٌ عليه وقال الشَّافِعِيُّ الزِّيَادَةُ على النَّصِّ تَخْصِيصٌ وَإِنَّمَا قال ذلك لِأَنَّهُ يُسَمِّي الظَّاهِرَ نَصًّا وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وقد بَيَّنَّا أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْقِيَاسِ وَغَيْرِهِ نُقْصَانٌ لَا زِيَادَةٌ فإن الزِّيَادَةَ على النَّصِّ فيها ما هو نَسْخٌ وما ليس بِنَسْخٍ أَسْبَابُ الِاخْتِلَافِ في الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ في أَصْلِ هذه الْمَسْأَلَةِ يَلْتَفِتُ إلَى أُمُورٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْمُطْلَقَ هل هو ظَاهِرٌ في الِاسْتِغْرَاقِ أو نَصٌّ فيه فَإِنْ قُلْنَا ظَاهِرٌ جَازَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ بِالْقِيَاسِ على الْخِلَافِ السَّابِقِ في التَّخْصِيصِ بِهِ وَإِنْ قُلْنَا نَصٌّ فَلَا يَسُوغُ لِأَنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا وَالنَّسْخُ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ قال ابْن رَحَّالٍ وَرَأَيْت لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَذْهَبًا ثَالِثًا وهو أَنَّ الْمُطْلَقَ ليس بِنَصٍّ في الْإِطْلَاقِ وَلَا ظَاهِرٍ فيه بَلْ هو مُتَنَاوِلٌ لِلذَّاتِ غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ لِلْقَيْدِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ وَعَلَى هذا فَلَا يَكُونُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ من بَابِ التَّأْوِيلِ بَلْ يَكُونُ آتِيًا بِمَا لم يُشْعِرْ بِهِ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ وهو بِمَثَابَةِ إيجَابِ الزَّكَاةِ بَعْدَ إيجَابِ الصَّلَاةِ الثَّانِي أَنَّ الزِّيَادَةَ على النَّصِّ نَسْخٌ عِنْدَهُمْ تَخْصِيصٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كما نَقَلَهُ عنه في الْمَنْخُولِ هُنَا وَالنَّسْخُ لَا يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ وَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ الثَّالِثُ الْقَوْلُ بِالْمَفْهُومِ فَهُوَ يَدَّعِي أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ وَعِنْدَنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ فَلِذَا حَمَلْنَاهُ عليه وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ قد تَنَاقَضَ الْحَنَفِيَّةُ في تَقْيِيدِهِمْ رَقَبَةَ الظِّهَارِ بِاشْتِرَاطِ نُطْقِهَا فَلَا يُجْزِئُ عِنْدَهُمْ إعْتَاقُ الْأَخْرَسِ وفي تَقْيِيدِهِمْ الْقُرْبَى بِالْفُقَرَاءِ في قَوْله تَعَالَى وَلِذِي الْقُرْبَى ثُمَّ قال وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُطْلَقَ كَالْعَامِّ فَيَتَقَيَّدُ كَالتَّخْصِيصِ وَالتَّخْصِيصُ تَارَةً يَكُونُ بِقَصْرِ اللَّفْظِ على بَعْضٍ غير مُمَيَّزٍ بِصِفَةٍ كَحَمْلِ الْفُقَرَاءِ على ثَلَاثَةٍ وَتَارَةً على مُمَيَّزٍ بِصِفَةٍ كَحَمْلِ الْمُشْرِكِينَ على الْحَرْبِيِّينَ وقال في الْمُقْتَرَحِ مُطْلَقُ النَّظَرِ في هذه الْمَسْأَلَةِ يُبْنَى على أَنَّ الِاجْتِزَاءَ بِالْمُطْلَقِ يُؤْخَذُ من مُجَرَّدِ اللَّفْظِ أو من عَدَمِ دَلِيلٍ يَدُلُّ على اعْتِبَارٍ زَائِدٍ فَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي فَالْمُطْلَقُ لَا يُشْعِرُ بِالْمُقَيَّدِ فَلَا يُحْمَلُ عليه لِأَنَّ حَمْلَهُ عليه من بَابِ التَّأْوِيلِ بِأَنْ يَكُونَ
____________________
(3/13)
اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ فَيُحْمَلُ على أَحَدِهِمَا بِالدَّلِيلِ وَحِينَئِذٍ فَاللَّفْظُ لَا إشْعَارَ فيه بِالْمُطْلَقِ فَضْلًا عن الْمُقَيَّدِ فَلَا يُحْمَلُ وَإِنْ قُلْنَا مَأْخُوذٌ من إشْعَارِ اللَّفْظِ فَهَلْ هو ظَاهِرٌ في الِاسْتِغْرَاقِ أو نَصٌّ فيه فَإِنْ قُلْنَا ظَاهِرٌ جَازَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ بِقِيَاسٍ على الْخِلَافِ وَإِنْ قُلْنَا نَصٌّ فَلَا يَسُوغُ الْحَمْلُ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا وَالنَّسْخُ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ بِهِ تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ قال الْإِبْيَارِيُّ بَقِيَ قِسْمٌ رَابِعٌ وهو أَنْ يَتَّحِدَ الْمُوجِبُ وَيَخْتَلِفَ صِنْفُ الْمُوجِبِ كما إذَا قَيَّدَ الرَّقَبَةَ في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ بِالْإِسْلَامِ ثُمَّ أَطْلَقَ في جَانِبِ الْإِطْعَامِ ذِكْرَ الْمَسَاكِينِ فَهَلْ يَتَقَيَّدُ بِهِ الْمِسْكِينُ بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا كَالرَّقَبَةِ الْمُعْتَقَةِ وقد أَغْفَلَ الْأُصُولِيُّونَ الْكَلَامَ على هذه الصُّورَةِ وَاَلَّذِي أَقُولُهُ في ذلك أَنَّهُ يَصِحُّ وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْلَكَ بِهِ مَسْلَكَ الْقِيَاسِ كما سَلَكْنَاهُ في مَسْأَلَةِ تَقْيِيدِ الرَّقَبَةِ في الظِّهَارِ على الرَّقَبَةِ في الْقَتْلِ على ذلك الطَّرِيقِ شُرُوطُ حَمْلِ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إذَا عَلِمْت ذلك فَلِحَمْلِ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ عِنْدَنَا على الْوَجْهِ الْمَشْرُوحِ شُرُوطٌ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْقَيْدُ من بَابِ الصِّفَاتِ كَالْإِيمَانِ مع ثُبُوتِ الذَّوَاتِ في الْمَوْضِعَيْنِ فَأَمَّا في إثْبَاتِ أَصْلِ الْحُكْمِ من زِيَادَةٍ خَارِجَةٍ أو عَدَدٍ فَلَا يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ وَهَذَا كَالْإِطْعَامِ في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فإن أَظْهَرَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَإِنْ ذَكَرَهُ اللَّهُ في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ لِأَنَّ هذا إنَّمَا هو إثْبَاتُ الْحُكْمِ لَا صِفَةٌ وَكَذَلِكَ إيجَابُ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ في الْوُضُوءِ مع الِاقْتِصَارِ على عُضْوَيْنِ في التَّيَمُّمِ فإن الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ على أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ إطْلَاقُ التَّيَمُّمِ على تَقْيِيدِ الْوُضُوءِ لِيَسْتَحِقَّ تَيَمُّمُ الْأَرْبَعَةِ لِمَا فيه من إثْبَاتِ حُكْمٍ لم يُذْكَرْ وَحَمْلُ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ يَخْتَصُّ بِالصِّفَةِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَلِهَذَا حَمَلْنَا إطْلَاقَ الْيَدَيْنِ في التَّيَمُّمِ على الْمَرَافِقِ لِتَقْيِيدِ ذلك في الْوُضُوءِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَرْفِقِ صِفَةٌ وَذِكْرَ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ أَصْلٌ وَمِمَّنْ ذَكَرَ هذا الشَّرْطَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَالشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَتَبِعَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ عن الْأَبْهَرِيِّ من الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا لَكِنْ في تَمْثِيلِ الْقَفَّالِ وَالْمَاوَرْدِيِّ بِالتَّيَمُّمِ إلَى الْمَرَافِقِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ أَصْلٍ إذْ هو عُضْوٌ زَائِدٌ لَا وَصْفٌ وَلِذَلِكَ لم
____________________
(3/14)
يَرِدْ الْمُطْلَقُ إلَى تَقْيِيدِهَا بِعَدَدٍ وقد مَنَعَ أَصْحَابُنَا دَعْوَى الْحَنَفِيَّةِ كَوْنَ التَّقْيِيدِ زِيَادَةً على النَّصِّ وَلَا يَتَّجِهُ مَنْعُ كَوْنِهِ زِيَادَةً إلَّا عِنْدَ كَوْنِ الزِّيَادَةِ وَصْفًا أَمَّا إذَا كانت ذَاتًا مُسْتَقِلَّةً فَهِيَ زِيَادَةٌ قَطْعًا وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ في بَابِ الْقَضَاءِ خِلَافًا في هذه الْمَسْأَلَةِ فَجَزَمَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ثُمَّ نَقَلَ عن ابن خَيْرَانَ من أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ على الْمُقَيَّدِ في الْأَصْلِ أَيْضًا فإنه تَعَالَى ذَكَرَ الْإِطْعَامَ في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ولم يَذْكُرْهُ في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَيُحْمَلُ عليها قال وفي هذا إثْبَاتُ أَصْلٍ بِغَيْرِ أَصْلٍ ا هـ وَمِنْ صُوَرِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَصَحَّ في مَذْهَبِنَا أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا قَتَلَ صَيْدًا وَاخْتَارَ من الْخِصَالِ إخْرَاجَ الطَّعَامِ أَنَّهُ يُفَرِّقُهُ على ثَلَاثَةِ مَسَاكِينَ فَصَاعِدًا لِأَنَّهُ أُمِرَ بِإِعْطَائِهِ إلَى جَمْعٍ في قَوْله تَعَالَى أو كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ مع أَنَّهُ وَرَدَ في كَفَّارَةِ الْإِتْلَافِ في الْحَجِّ إعْطَاؤُهَا لِجَمْعٍ مُقَيَّدًا بِكَوْنِهِمْ سِتَّةً لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ ولم يَحْمِلُوا ذلك الْمُطْلَقَ في الْجَمْعِ على هذا الْمُقَيَّدِ وما ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ في حَمْلِهِ زِيَادَةَ أَجْرَامٍ وَهِيَ ثَلَاثَةُ مَسَاكِينَ وَإِلَّا فَلِمَ لَا يُحْمَلُ الشَّرْطُ الثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُطْلَقِ إلَّا أَصْلٌ وَاحِدٌ كَاشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ في الشُّهُودِ على الرَّجْعَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَإِطْلَاقُ الشَّهَادَةِ في الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا فَهِيَ شَرْطٌ في الْجَمِيعِ وَكَذَا تَقْيِيدُهُ مِيرَاثَ الزَّوْجَيْنِ بِقَوْلِهِ من بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بها أو دَيْنٍ وَإِطْلَاقُهُ الْمِيرَاثَ فِيمَا أَطْلَقَ فيه وكان ما أُطْلِقَ من الْمَوَارِيثِ كُلِّهَا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ فَأَمَّا إذَا كان الْمُطْلَقُ دَائِرًا بين قَيْدَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ نُظِرَ فَإِنْ كان السَّبَبُ مُخْتَلِفًا لم يُحْمَلْ إطْلَاقُهُ على أَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلِيلٍ فَيُحْمَلُ على ما كان الْقِيَاسُ عليه أَوْلَى أو ما كان دَلِيلُ الْحُكْمِ عليه أَقْوَى ذَكَرَ هذا الشَّرْطَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في اللُّمَعِ وَإِلْكِيَا وَحَكَى الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ فيه الِاتِّفَاقَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ حَكَى الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فيه خِلَافًا لِأَصْحَابِنَا ولم يُرَجِّحْ شيئا وَمِمَّنْ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ في بَابِ الْكَفَّارَاتِ وَمَثَّلَهُ بِالصِّيَامِ في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فإن في وُجُوبِ تَتَابُعِهِ قَوْلَيْنِ أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ لِأَنَّهُ دَائِرٌ بين قَيْدَيْنِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ التَّتَابُعَ وهو صَوْمُ الظِّهَارِ كما في قَوْله تَعَالَى فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَالْآخَرُ يُوجِبُ التَّفْرِقَةَ وهو صَوْمُ التَّمَتُّعِ في قَوْلِهِ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ وَلَيْسَ حَمْلُهُ على أَحَدِهِمَا أَوْلَى من حَمْلِهِ على الْآخَرِ فَتُرِكَ على إطْلَاقِهِ فَيَكُونُ مُخَيَّرًا بين التَّتَابُعِ فيه وَالتَّفْرِيقِ كَقَضَاءِ رَمَضَانَ لَمَّا أُطْلِقَ وهو بين هَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ حُمِلَ على إطْلَاقِهِ ا هـ وَتَبِعَهُ الرُّويَانِيُّ في مَوَاضِعَ منها كَفَّارَةُ
____________________
(3/15)
الْيَمِينِ قال هذا مِمَّا سَبَقَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ولم يُسْبَقْ فيه وَمَثَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِغَسْلِ الْيَدَيْنِ في الْوُضُوءِ فإنه وَرَدَ مُقَيَّدًا بِالْمَرَافِقِ وَقَطْعُهَا في السَّرِقَةِ مُقَيَّدٌ بِالْكُوعِ بِالْإِجْمَاعِ وَمَسْحُهُمَا في التَّيَمُّمِ وَرَدَ مُطْلَقًا فَهَلْ يُلْحَقُ بِالْقَطْعِ أو بِالْغَسْلِ هذا مَأْخَذُ الْخِلَافِ قال وَالْأَصَحُّ حَمْلُهُ على ما هو أَشْبَهُ بِهِ من الْمُقَيَّدَيْنِ فَيُلْحَقُ بِالْغَسْلِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلُهُ وقال إِلْكِيَا يَجِبُ الْوَقْفُ إذْ لَا قِيَاسَ فَإِنْ غَلَبَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ تَحَقَّقَ الْقِيَاسُ وقال صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ وَتَبِعَهُ في الْمَحْصُولِ إنَّ من لَا يَرَى تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ بِالْمُقَيَّدِ أَصْلًا لَا يُقَيِّدُهُ هُنَا بِأَحَدِهِمَا وَمَنْ يَرَى التَّقْيِيدَ من اللَّفْظِ لَا يَرَاهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ ليس بِأَنْ يُقَيَّدَ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى من الْآخَرِ وَأَمَّا من يَرَاهُ بِالْقِيَاسِ فَأَلْحَقَهُ بِأَحَدِهِمَا إذَا كان الْقِيَاسُ عليه أَوْلَى من الْقِيَاسِ على الْآخَرِ ا هـ وَعَلَى هذا فَقِيلَ يُحْمَلُ على الْكَفَّارَةِ في الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَيْهِ في الْقِيَاسِ لِاشْتِرَاكِهِمَا في الْكَفَّارَةِ بِخِلَافِ وَاجِبِ التَّتَابُعِ وَلِذَلِكَ كان لِلشَّافِعِيِّ في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ في الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ الْجَدِيدُ عَدَمُ وُجُوبِ التَّتَابُعِ وَهَذَا الْبِنَاءُ فيه نَظَرٌ وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ إنَّمَا جاء في وُجُوبِ التَّتَابُعِ من أَجْلِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ حَيْثُ لم تَجْرِ مَجْرَى التَّفْسِيرِ ولم يُعَارِضْهَا خَبَرٌ هل يَجِبُ الْعَمَلُ بها أَمْ لَا وما ذَكَرُوا من وُجُوبِ التَّفْرِيقِ في التَّمَتُّعِ ليس بين الْأَيَّامِ كُلِّهَا بَلْ بين الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعَةِ وَإِنْ كان السَّبَبُ وَاحِدًا كما في حديث الْوُلُوغِ فإنه رُوِيَ إحْدَاهُنَّ وَأُولَاهُنَّ وَأُخْرَاهُنَّ فَالْمُطْلَقُ على إطْلَاقِهِ إذْ ليس إلْحَاقُهُ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى من الْآخَرِ وَالْقِيَاسُ هُنَا مُتَعَذِّرٌ فَيَتَعَارَضَانِ وَبَقِيَ الْمُطْلَقُ على إطْلَاقِهِ وَنَقُولُ بِجَوَازِ التَّعْفِيرِ في كل وَاحِدَةٍ من الْمَرَّاتِ عَمَلًا بِرِوَايَةِ إحْدَاهُنَّ الْمُطْلَقَةِ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ وَمِنْهُمْ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَبِهِ أَجَابَ الْقَرَافِيُّ عن اعْتِرَاضٍ أَوْرَدَهُ بَعْضُ قُضَاةِ الْحَنَفِيَّةِ على الشَّافِعِيَّةِ فإن قَاعِدَتَهُمْ حَمْلُ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ فَكَانَ يَنْبَغِي أُولَاهُنَّ لِوُرُودِ إحْدَاهُنَّ وَأُولَاهُنَّ فَأَجَابَهُ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّهُ قد عَارَضَ رِوَايَةَ أُولَاهُنَّ رِوَايَةُ أُخْرَاهُنَّ يُرِيدُ بِذَلِكَ وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ وَيُرْجَعُ إلَى أَصْلِ الْإِطْلَاقِ وما ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ مَمْنُوعٌ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ الْبَقَاءَ على الْإِطْلَاقِ بَلْ يُحْمَلُ عَلَيْهِمَا على مَعْنَى التَّخْيِيرِ وَمَنْعِ إجْزَاءِ الْمُتَوَسِّطِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التُّرَابُ إلَّا في الْأُولَى أو
____________________
(3/16)
في الْأَخِيرَةِ دُونَ ما سِوَاهُمَا حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ على طَرِيقِ الْبَدَلِ وَعَلَى ذلك نَصَّ الشَّافِعِيُّ في الْبُوَيْطِيِّ وَذَكَرَهُ الْمَرْعَشِيُّ من أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُ وَالْعَجَبُ من قَوْلِ الشَّيْخِ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ في رِوَايَةِ أُولَاهُنَّ أو أُخْرَاهُنَّ الْأَقْرَبُ أَنَّهُ شَكٌّ من الرَّاوِي فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا يقول بِتَعَيُّنِ الْأُولَى أو الْأَخِيرَةِ فَقَطْ بَلْ إمَّا بِتَعَيُّنِ الْأُولَى أو التَّخْيِيرِ بين الْجَمِيعِ ا هـ وَقِيلَ بَلْ على هذا يَنْبَغِي إيجَابُ كُلٍّ مِنْهُمَا الْأُولَى وَالْأَخِيرَةِ لِوُرُودِ الحديث فِيهِمَا وَلَا تَنَافِيَ في الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالثَّامِنَةِ التَّعَدُّدُ لَا الْأَخِيرَةُ فإنه حِينَئِذٍ يَكُونُ مُطْلَقًا كَإِحْدَاهُنَّ وَتَكُونُ رِوَايَةُ إحْدَاهُنَّ وَالثَّامِنَةُ وَاحِدَةً وَمَعْنَى رِوَايَةِ أُولَاهُنَّ يَعُودُ أَصْلُ السُّؤَالِ وَمِنْهُمْ من رَدَّهُ بِأَنَّ رِوَايَةَ أُخْرَاهُنَّ مُسَاوِيَةٌ لِإِحْدَاهُنَّ فَيَبْقَى قَيْدٌ وهو أُولَاهُنَّ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ حِينَئِذٍ عليه وَهَذَا مَرْدُودٌ لِأَنَّ أُخْرَاهُنَّ مُؤَنَّثُ آخِرَ بِكَسْرِ الْخَاءِ لَا مُؤَنَّثُ آخَرَ بِفَتْحِهَا وَذَاكَ لَا يُضَافُ وَهَاهُنَا قد وَقَعَ مُضَافًا فَعُلِمَ أَنَّهُ مُؤَنَّثُ آخِرَ فَجَاءَ الْقَيْدَانِ وَمِنْهُمْ من رَدَّهُ بِأَنَّ شَرْطَ التَّعَارُضِ تَسَاوِي الرِّوَايَاتِ وَعَدَمُ وُجُودِ التَّرْجِيحِ في أَحَدِهَا فَأَمَّا إذَا وُجِدَ ذلك وَجَبَ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ وَإِطْرَاحُ الْمَرْجُوحِ لِامْتِنَاعِ إسْقَاطِ الرَّاجِحِ بِمُعَارَضَةِ الْمَرْجُوحِ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ وَاعْلَمْ أَنَّ هذا السُّؤَالَ لَازِمٌ لِلْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يَحْمِلُونَ الْمُطْلَقَ على الْمُقَيَّدِ إذَا اتَّفَقَ السَّبَبُ وَالْحُكْمُ وهو هَاهُنَا كَذَلِكَ وَيُنَاظِرُ هذا السُّؤَالَ سُؤَالَانِ آخَرَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قال لَا يَجْرِي التَّحَالُفُ بين الْمُتَبَايِعَيْنِ إلَّا إذَا كانت السِّلْعَةُ قَائِمَةً أَمَّا إذَا كانت تَالِفَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي وَعِنْدَنَا يَتَحَالَفَانِ مُطْلَقًا مع أَنَّهُ رُوِيَ عنه عليه السَّلَامُ أَنَّهُ قال إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَرُوِيَ زِيَادَةُ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ فَلِمَ لَا حُمِلَ الْمُطْلَقُ على الْمُقَيَّدِ مع اتِّحَادِ الْقَاعِدَةِ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ وَرَدَ التَّقْيِيدُ بِقَيْدٍ آخَرَ مُضَادٍّ لِلْقَيْدِ السَّابِقِ وهو قَوْلُهُ إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالْمَبِيعُ مُسْتَهْلَكٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فَرَجَعْنَا إلَى أَصْلِ الْإِطْلَاقِ وَأَيْضًا
____________________
(3/17)
فَالْقَيْدَانِ ضَعِيفَا الْإِسْنَادِ وَقَوْلُ الْغَزَالِيِّ في الْمَأْخَذِ ما يَرْوِيهِ أَصْحَابُنَا من التَّقْيِيدِ بِالْهَلَاكِ أَجْمَعَ أَهْلُ الحديث على صِحَّتِهِ بَاطِلٌ الثَّانِي أَنَّ في كِتَابِ فَرِيضَةِ الصَّدَقَةِ في فَرِيضَةِ الْإِبِلِ فَإِنْ زَادَتْ على الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ وهو مُطْلَقٌ في الزِّيَادَةِ وَجَاءَ مُقَيَّدًا في حديث ابْنِ عُمَرَ فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ في مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَبَعْضِ وَاحِدَةٍ إلَّا ما يَجِبُ في مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَقَطْ وَهَذَا السُّؤَالُ إنَّمَا يَرُدُّ على الْإِصْطَخْرِيِّ الْقَائِلِ بِوُجُوبِ ثَلَاثِ بَنَاتِ لَبُونٍ فِيمَا إذَا زَادَتْ بَعْضُ وَاحِدَةٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ حِقَّتَانِ وَفَاءً بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ تَنْبِيهٌ حَيْثُ قُلْنَا بِأَصْلِ الْإِطْلَاقِ في الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ فَيَجِبُ حَمْلُ كل وَاحِدٍ من الْمُقَيَّدَيْنِ على تَقْيِيدِهِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في بَابِ الْقَضَاءِ قَالَا فَأَمَّا حَمْلُهُ على مُقَيَّدِ نَظِيرِهِ فَيُنْظَرُ في صِفَتَيْ التَّقْيِيدِ فِيهِمَا فَإِنْ تَنَافَى الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لم يُحْمَلْ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ وَاخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ بِصِفَتِهِ التي قُيِّدَ بها وَذَلِكَ مِثْلُ تَقْيِيدِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ بِالتَّتَابُعِ وَصَوْمِ التَّمَتُّعِ بِالتَّفْرِيقِ فَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بين التَّتَابُعِ وَالتَّفْرِيقِ فَيُخَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصِفَةٍ وَإِنْ أَمْكَنَ اجْتِمَاعُ الصِّفَتَيْنِ ولم يَتَنَافَيَا فَفِي حَمْلِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على تَقْيِيدِ نَظِيرِهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يُحْمَلُ إلَّا على ما قُيِّدَ بِهِ إذَا قُلْنَا الْمُطْلَقُ لَا يُحْمَلُ على الْمُقَيَّدِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَالثَّانِي يُحْمَلُ على تَقْيِيدِهِ وَتَقْيِيدِ نَظِيرِهِ بِنَظِيرِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَيَّدًا بِالصِّفَتَيْنِ إذَا قُلْنَا يَجُوزُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ فَعَلَى هذا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ ما أُطْلِقَ من جِنْسِهِمَا على تَقَيُّدِهِمَا مَعًا وَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا من النُّصُوصِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَجَانِسَةِ مُقَيَّدًا بِشَرْطَيْنِ ا هـ الشَّرْطُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ في بَابِ الْأَوَامِرِ وَالْإِثْبَاتِ وَأَمَّا في جَانِبِ النَّفْيِ
____________________
(3/18)
وَالنَّهْيِ فَلَا فإنه يَلْزَمُ منه الْإِخْلَالُ بِاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ مع تَنَاوُلِ النَّهْيِ وهو غَيْرُ سَائِغٍ ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ قال لَا خِلَافَ في الْعَمَلِ بِمَدْلُولِهِمَا وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ التَّعَذُّرِ فإذا قال لَا تُعْتِقْ مُكَاتَبًا لَا تُعْتِقْ مُكَاتِبًا كَافِرًا لم يُعْتِقْ مُكَاتِبًا كَافِرًا وَلَا مُؤْمِنًا أَيْضًا إذْ لو أَعْتَقَهُ لم يُعْمَلْ فِيهِمَا لَكِنَّ صَاحِبَ الْمَحْصُولِ سَوَّى بين الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ في الْحَمْلِ وَرَدَّ عليه الْقَرَافِيُّ بِمِثْلِ ما ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ وَأَمَّا الْأَصْفَهَانِيُّ فَتَبِعَ صَاحِبَ الْمَحْصُولِ وقال حَمْلُ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بَلْ يَجْرِي في جَمِيعِ أَقْسَامِ الْكَلَامِ نَقُولُ في الْخَبَرِ جَاءَنِي رَجُلٌ من آلِ عَلِيٍّ ثُمَّ تَقُولُ جَاءَنِي بَقِيَّةُ الْعَلَوِيِّينَ وَمِثَالُ التَّمَنِّي لَيْتَ لي مَالًا ثُمَّ تَقُولُ لَيْتَ لي جَمَلًا فإنه يُحْمَلُ عليه قال وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَئِمَّةُ الْكَلَامَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِمَا في مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَلِأَنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ سَهُلَ تَعْدِيَتُهُ إلَى بَقِيَّةِ أَقْسَامِ الْكَلَامِ ا هـ وَخَالَفَ في ذلك الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ في كِتَابِهِ في الْأُصُولِ فقال فما كان في حُكْمٍ وَاحِدٍ كان أَحَدُهُمَا مَبْنِيًّا على الْآخَرِ كَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ مع قَوْلِهِ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ ثُمَّ قال وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْجَمْعَ بين الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ في الشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ على الثَّانِي فما كان مُكَرَّرًا منه كان لِلتَّأْكِيدِ وما كان مُفْرَدًا كان مُسْتَعْمَلًا على التَّرْتِيبِ فإذا رُوِيَ عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم قَوْلُهُ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ وَرُوِيَ عنه لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ جُمِعَ بين الرِّوَايَتَيْنِ فَكَانَ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ الْمُطْلَقُ دَاخِلًا في الثَّانِي وَحُمِلَ على التَّكْرَارِ وَاسْتُعْمِلَ أَحَدُهُمَا مع الْوَصْفِ ا هـ وقد يُقَالُ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَارُدُ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ في جَانِبِ النَّفْيِ وَلَا النَّهْيِ وما ذَكَرُوهُ من الْمِثَالِ إنَّمَا هو من قَبِيلِ إفْرَادِ بَعْضِ مَدْلُولِ الْعَامِّ بِحُكْمٍ وَفِيهِ ما تَقَدَّمَ من خِلَافِ أبي ثَوْرٍ فَلَا وَجْهَ لِذِكْرِهِ هَاهُنَا وقد خَرَّجَهُ الْهِنْدِيُّ على أَنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ حُجَّةٌ أَمْ لَا فَمَنْ أَنْكَرَهُ لم يُخَصِّصْ وَمَنْ قال بِهِ خَصَّصَ النَّهْيَ الْعَامَّ بِهِ وَمِمَّنْ ذَكَرَ هذا الشَّرْطَ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَشَرَطَهُ أَيْضًا في حَمْلِ الْعَامِّ على الْخَاصِّ وَمَثَّلَهُ بِحَدِيثِ لَا يَمَسَّنَّ أحدكم ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَجَاءَ في رِوَايَةٍ وهو يَبُولُ
____________________
(3/19)
فَالْأُولَى مُطْلَقَةٌ وَالثَّانِيَةُ مُقَيَّدَةٌ لَكِنَّ في تَقْيِيدِهِ بِحَالَةِ الْبَوْلِ تَنْبِيهٌ على رِوَايَةِ الْإِطْلَاقِ وَأَوْلَى لِأَنَّهُ إذَا كان النَّهْيُ عن الْمَسِّ بِالْيَمِينِ حَالَةَ الِاسْتِنْجَاءِ مع مَظِنَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا فَغَيْرُهُ من الْحَالَاتِ أَوْلَى وَمِنْ الْعُلَمَاءِ من خَصَّصَ النَّهْيَ بِمَسِّ الذَّكَرِ بِحَالَةِ الْبَوْلِ أَخْذًا بِظَاهِرِ الحديث وَمِنْهُمْ من أَخَذَ بِالنَّهْيِ عن مَسِّهِ مُطْلَقًا أَخْذًا بِالْإِطْلَاقِ ثُمَّ قال وَيُنْظَرُ إنْ كَانَا حَدِيثَيْنِ فَالْمَعْنَى على ما ذَكَرْنَاهُ وَيُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ وَإِنْ كان حَدِيثًا وَاحِدًا وَمَخْرَجُهُ وَاحِدٌ وَاخْتَلَفَ عليه الرُّوَاةُ فَيَنْبَغِي حَمْلُ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ وَيَكُونُ زِيَادَةً من عَدْلٍ وَهِيَ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْمُحَدِّثِينَ وَهَذَا أَيْضًا يَكُونُ بَعْدَ النَّظَرِ في دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ وما يُعْمَلُ بِهِ منه وما لَا يُعْمَلُ بِهِ وَبَعْدَ أَنْ يُنْظَرَ في تَقْدِيمِ الْمَفْهُومِ على ظَاهِرِ الْعُمُومِ ثُمَّ قال الشَّيْخُ في مَوْضِعٍ آخَرَ وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ على ما يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ من أَنَّ الْعَامَّ في الذَّوَاتِ مُطْلَقٌ في الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ وَأَمَّا على ما نَخْتَارُ نَحْنُ من الْعُمُومِ في الْأَحْوَالِ تَبَعًا لِلْعُمُومِ في الذَّوَاتِ فَهُوَ من بَابِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ انْتَهَى وَبِهَذَا يَسْهُلُ جَعْلُ هذه الصُّورَةِ من بَابِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ تَنْبِيهٌ سَبَقَ في بَابِ الْعُمُومِ خِلَافٌ في أَنَّ التَّخْصِيصَ هل يَدْخُلُ في الْخَبَرِ كما في الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أو لَا وَيَنْبَغِي جَرَيَانُ هذا الْخِلَافِ هُنَا حتى يُشْتَرَطَ على قَوْلِ كَوْنِهِمَا من بَابِ التَّكْلِيفِ لَا من بَابِ الْخَبَرِ ا هـ الشَّرْطُ الرَّابِعُ لَا أَنْ يَكُونَ في جَانِبِ الْإِبَاحَةِ ذَكَرَهُ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ أَيْضًا في الْكَلَامِ على لُبْسِ الْمُحْرِمِ الْخُفَّ وقال إنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُحْمَلُ على الْمُقَيَّدِ في جَانِبِ الْإِبَاحَةِ إذْ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا وفي الْمُطْلَقِ زِيَادَةٌ انْتَهَى وَفِيهِ نَظَرٌ الشَّرْطُ الْخَامِسُ أَنْ لَا يُمْكِنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَإِنْ أَمْكَنَ تَعَيُّنُ إعْمَالِهِمَا فإنه أَوْلَى من تَعْطِيلِ ما دَلَّ عليه أَحَدُهُمَا ذَكَرَهُ ابن الرِّفْعَةِ في الْمَطْلَبِ في الْأُصُولِ وَالثِّمَارِ وَمِثَالُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ من بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ وَجَاءَ في رِوَايَةٍ من ابْتَاعَ عَبْدًا فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ
____________________
(3/20)
الْمُبْتَاعُ فإن الرِّوَايَةَ الْأُولَى تَقْتَضِي أَنَّ بَعْضَ الْعَبِيدِ لَا يَكُونُ له مَالٌ فَيَكُونُ الْإِضَافَةُ فيه لِلتَّمْلِيكِ وَالْمَالُ فيه مَحْمُولٌ على ما يُمَلِّكُهُ السَّيِّدُ إيَّاهُ وَلَيْسَ كُلُّ عَبْدٍ يُمَلِّكُهُ السَّيِّدُ مَالًا وَالثَّانِيَةُ تَشْمَلُ كُلَّ عَبْدٍ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ فيها إضَافَةَ تَخْصِيصٍ لَا تَمْلِيكٍ فَيُحْمَلُ على ثِيَابِهِ التي عليه لِأَنَّ كُلَّ عَبْدٍ لَا بُدَّ له من ثِيَابٍ يَخْتَصُّ بها قال فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُطْلَقَةٌ تَنْزِلُ على ما ذَكَرْنَاهُ وهو أَوْلَى من تَقْيِيدِهَا بِحَالَةِ تَمْلِيكِ السَّيِّدِ الْمَالَ له قال وَلَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ على الْمُقَيَّدِ هُنَا لِأَنَّ الْجَمْعَ مُمْكِنٌ الشَّرْطُ السَّادِسُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُقَيَّدُ ذُكِرَ معه قَدْرٌ زَائِدٌ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْقَيْدُ لِأَجْلِ ذلك الْقَدْرِ الزَّائِدِ فَلَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ على الْمُقَيَّدِ هُنَا قَطْعًا مِثَالُهُ إنْ قَتَلْتَ فَأَعْتِقْ رَقَبَةً مع إنْ قَتَلْتَ مُؤْمِنًا فَأَعْتِقْ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً فَلَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ هُنَاكَ على الْمُقَيَّدِ هُنَا في الْمُؤْمِنَةِ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ هُنَا إنَّمَا جاء لِلْقَدْرِ الزَّائِدِ وهو كَوْنُ الْمَقْتُولِ مُؤْمِنًا وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُحْبِطُ الْعَمَلَ إلَّا بِشَرْطِ الْوَفَاةِ على الْكُفْرِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ تُحْبِطُ بِمُجَرَّدِ الرِّدَّةِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عن دِينِهِ فَيَمُتْ وهو كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ فَمُطْلَقٌ قُيِّدَتْ بِهِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ هَكَذَا قالوا وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا في الْقَيْدِ من الْقَدْرِ الزَّائِدِ وهو الْخُلُودُ في النَّارِ وَأَيْضًا فَلَيْسَتْ الْآيَتَانِ من بَابِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ بَلْ من بَابِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ فَنُعْمِلُ الْخَاصَّ على أَنَّ الْآيَةَ التي تَمَسَّكَ بها الْحَنَفِيَّةُ مُقَيَّدَةٌ وهو قَوْله تَعَالَى وهو في الْآخِرَةِ من الْخَاسِرِينَ فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ من مَاتَ على الْكُفْرِ لِأَنَّ من مَاتَ مُؤْمِنًا لَا يَكُونُ في الْآخِرَةِ خَاسِرًا فَالْمُرَادُ في الْآيَتَيْنِ التَّقْيِيدُ وَلَيْسَ فِيهِمَا مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ على أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ في الْأُمِّ على أَنَّ الرِّدَّةَ بِمُجَرَّدِهَا تُحْبِطُ الْعَمَلَ وَإِنْ لم تَتَّصِلْ بِالْمَوْتِ على مَعْنَى ذَهَابِ الْأَجْرِ الشَّرْطُ السَّابِعُ أَنْ لَا يَقُومَ دَلِيلٌ يَمْنَعُ من التَّقْيِيدِ مِثَالُهُ قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا الْآيَةَ فلم يُقَيَّدْ بِالدُّخُولِ وَقُيِّدَ بِهِ في عِدَّةِ الطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ من قَبْلِ أَنْ
____________________
(3/21)
تَمَسُّوهُنَّ فما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ من عِدَّةٍ ولم يَحْمِلُوا الْمُطْلَقَ هُنَاكَ على الْمُقَيَّدِ لِقِيَامِ الْمَانِعِ وهو أَنَّ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ أو تَخْصِيصَ الْعَامِّ إنَّمَا يَكُونُ بِقِيَاسٍ أو مُرَجِّحٍ وهو هُنَا مُنْتَفٍ لِأَنَّ الْمُتَوَفَّى عنها زَوْجُهَا أَحْكَامُ الزَّوْجِيَّةِ بَاقِيَةٌ في حَقِّهَا بِدَلِيلِ أنها تُغَسِّلُهُ وَتَرِثُ منه اتِّفَاقًا وَلَوْ كانت في حُكْمِ الْمُطَلَّقَاتِ الْبَوَائِنِ لم تَرِثْ فلما ظَهَرَ في الْفَرْعِ ما يَقْتَضِي عَدَمَ إلْحَاقِهِ بِالْأَصْلِ امْتَنَعَ التَّقْيِيدُ بِالْقِيَاسِ أو التَّخْصِيصُ بِهِ مَسْأَلَةٌ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهِ التَّقْيِيدُ فَفِي كَوْنِهِ حُجَّةً في الْبَاقِي قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابن السَّمْعَانِيِّ في الْكِفَايَةِ كَالْخِلَافِ في الْعَامِّ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ التَّخْصِيصُ قال وَتَمْهِيدُ هذا الْخِلَافِ يَسْتَدْعِي بَيَانَ عُمُومِ الْمُطْلَقِ وَيَعْنِي بِهِ الِاسْمَ الْمُفْرَدَ كَالْعَامِّ فإن الْوَاحِدَ يَنْقَسِمُ إلَى وَاحِدٍ بِالْجِنْسِ وَوَاحِدٍ بِالذَّاتِ فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ تَنَاوَلَ جَمِيعَ الذَّوَاتِ لِاشْتِمَالِ الْجِنْسِ على الْأَعْيَانِ وَالذَّوَاتِ بِخِلَافِ الْعَامِّ فإنه يَدُلُّ عَلَيْهِمَا بِالْوَضْعِ وَأَمَّا الْوَاحِدُ بِالْجِنْسِ فَمَعْنَاهُ حَقِيقَةٌ تُوجَدُ في جَمِيعِ الْأَعْيَانِ فَيَقَعُ عُمُومُ الْأَعْيَانِ ضَرُورَةَ اشْتِمَالِهَا على تِلْكَ الْحَقِيقَةِ لَا أنها مَدْلُولُ اللَّفْظِ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْمُطْلَقَ يُفَارِقُ الْعَامَّ من وَجْهٍ وَيُسَاوِيهِ من وَجْهٍ قال فَالصَّائِرُونَ إلَى أَنَّهُ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهِ تَقْيِيدٌ لَا يَبْقَى حُجَّةٌ قالوا لِأَنَّ اللَّفْظَ كان عَامًّا لِأَنَّهُ تَعَرَّضَ لِحَقِيقَةٍ يَسْتَوِي نِسْبَتُهَا إلَى الْأَعْيَانِ فإذا لم يَثْبُتْ الْحُكْمُ في بَعْضِ الْأَعْيَانِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُطْلَقَةَ ما كانت مُرَادَةً فَيَكُونُ الْمُرَادُ الْوَاحِدَ بِالذَّاتِ وهو ضَعِيفٌ لِأَنَّ اللَّفْظَ دَالٌّ على حَقِيقَةٍ مُطْلَقَةٍ تَسْتَوِي نِسْبَتُهَا وَيَدُلُّ على أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بها وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَثْبُتَ الْحُكْمُ في بَعْضِ الْأَعْيَانِ لَا لِخَلَلٍ في الدَّلِيلِ وَلَا لِمَعْنًى في الْمُتَعَلِّقِ وهو الْحَقِيقَةُ بَلْ لِمَعْنًى يَقَعُ من عَوَارِضِ التَّعْيِينِ فَيَنْتَفِي الْحُكْمُ مع وُجُودِ الدَّلِيلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ لِوُجُودِ مُعَارِضٍ دَافِعٍ لِلْحُكْمِ وهو لَا يُبْطِلُ دَلَالَةَ الدَّلِيلِ إلَّا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كما قُلْنَا في الْعَامِّ يُخَصُّ
____________________
(3/22)
خَاتِمَتَانِ الْأَوَّلُ الْمَعْرُوفُ أَنَّ الْمُقَيَّدَ لَا يُحْمَلُ على الْمُطْلَقِ وَوَقَعَ في الْوَسِيطِ في بَابِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ حَيْثُ احْتَجَّ لِلْقَوْلِ الصَّائِرِ إلَى أَنَّهُ لو تَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عليه يَسْقُطُ عنه الْحَدُّ قال لِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّصَ هذا بِقَوْلِهِ من قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عليهم وَأَطْلَقَ في آيَةِ السَّرِقَةِ قَوْلَهُ فَمَنْ تَابَ من بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ انْتَهَى وفي هذا حُمِلَ الْمُقَيَّدُ على الْمُطْلَقِ فإنه حَمَلَ آيَةَ الْمُحَارَبَةِ وقد وَرَدَ فيها التَّقْيِيدُ على ما وَرَدَ فيه الْأَمْرُ مُطْلَقًا وهو السَّرِقَةُ وهو غَرِيبٌ ثُمَّ رَأَيْت الْأَصْحَابَ قد حَمَلُوا ذلك أَيْضًا في مَسْحِ الْخُفِّ فإن قَوْلَهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهِنَّ من بَابِ حَمْلِ الْمُقَيَّدِ على الْمُطْلَقِ على مُقْتَضَى كَلَامِهِمْ لِأَنَّ لَيَالِيَهُنَّ مُقَيَّدٌ بِالْإِضَافَةِ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ لو أَحْدَثَ الْمُسَافِرُ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَا يَمْسَحُ اللَّيْلَةَ الرَّابِعَةَ وقد قالوا إنَّهُ يَمْسَحُ لَيْلَتَهُ حَمْلًا على الْمُطْلَقِ كما لو تَأَخَّرَتْ لَيْلَةُ الْيَوْمِ عنه الثَّانِيَةُ كَثُرَ في كَلَامِ كَثِيرٍ من الْمُتَأَخِّرِينَ أَنْ يَقُولُوا هذا مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ يَكْفِي في الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ إعْمَالُهُ في صُورَةٍ وقد اتَّفَقْنَا على الْعَمَلِ بِهِ في كَذَا فَلَا يَبْقَى حُجَّةٌ في غَيْرِهِ وقد اسْتَعْظَمَ جَمْعٌ هذا السُّؤَالَ وقد أَجَابَ عنه ابن دَقِيقِ الْعِيدِ فِيمَا كَتَبَهُ على فُرُوعِ ابْنِ الْحَاجِبِ بِأَنَّهُ إنَّمَا يُكْتَفَى بِالْعَمَلِ بِهِ في صُورَةٍ حَيْثُ لَا يَلْزَمُ تَرْكُ ما دَلَّ اللَّفْظُ على الْعُمُومِ فيه بَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ في كل صُورَةٍ يَلْزَمُ من تَرْكِ الْعُمُومِ فيها في الْحَالَةِ الْمُطْلَقَةِ تَرْكُ الْعُمُومِ فِيمَا دَخَلَتْ عليه صِيغَةُ الْعُمُومِ مِثَالُهُ قَوْلُ الْحَنَفِيِّ في جَوَابِ الشَّافِعِيِّ في أَنَّ الْوُضُوءَ تَجِبُ فيه النِّيَّةُ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ما مِنْكُمْ من أَحَدٍ يُقَرِّبُ وُضُوءَهُ فَيَقُول الْحَنَفِيُّ هو عَامٌّ في التَّوَضُّؤِ مُطْلَقٌ في الْوُضُوءِ وقد اتَّفَقْنَا على الْعَمَلِ بِهِ في الْوُضُوءِ الْمَنْوِيِّ فَلَا يَبْقَى حُجَّةٌ في غَيْرِهِ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْعُمُومَ في التَّوَضُّؤِ يَلْزَمُ منه الْعُمُومُ في الْوُضُوءِ لِأَنَّهُ ما من نَوْعٍ من أَنْوَاعِ الْوُضُوءِ إلَّا وَفَاعِلُهُ مُتَوَضِّئٌ فَيَنْدَرِجُ تَحْتَ الْعُمُومِ
____________________
(3/23)
فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُثَابًا عليه نَظَرًا إلَى عُمُومِ اللَّفْظِ وقال في شَرْحِ الْإِلْمَامِ أَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ الْمُطْلَقَ يَكْفِي في الْعَمَلِ بِهِ مَرَّةً فَنَقُولُ يُكْتَفَى فيه بِالْمَرَّةِ فِعْلًا أو حُكْمًا الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ الثَّانِي مَمْنُوعٌ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُطْلَقَ إذَا فُعِلَ مُقْتَضَاهُ مَرَّةً وَوُجِدَتْ الصُّورَةُ الْجُزْئِيَّةُ التي يَدْخُلُ تَحْتَهَا الْكُلِّيُّ الْمُطْلَقُ وفي ذلك في الْعَمَلِ بِهِ كما إذَا قال أَعْتِقْ رَقَبَةً فَفَعَلَ ذلك مَرَّةً لَا يَلْزَمُ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ أُخْرَى لِحُصُولِ الْوَفَاءِ بِمُطْلَقِ الْأَمْرِ من غَيْرِ اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْعُمُومَ وَكَذَا إذَا قال إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ مَرَّةً وَحَنِثَ لَا يَحْنَثُ بِدُخُولِهَا ثَانِيًا لِوُجُودِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ فِعْلًا من غَيْرِ اقْتِضَاءِ الْعُمُومِ أَمَّا إذَا عَمِلَ بِهِ مَرَّةً حُكْمًا أَيْ في صُورَةٍ من صُوَرِ الْمُطْلَقِ لَا يَلْزَمُ التَّقْيِيدُ بها وَلَا يَكُونُ وَفَاءً بِالْإِطْلَاقِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ بِالصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ حُكْمًا أَنْ لَا يَحْصُلَ الِاكْتِفَاءُ بِغَيْرِهَا وَذَلِكَ فِيمَا خَصَّ الْإِطْلَاقَ مِثَالُهُ إذَا قال أَعْتِقْ رَقَبَةً فإن مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ أَنْ يَحْصُلَ الْإِجْزَاءُ بِكُلِّ ما يُسَمَّى رَقَبَةً لِوُجُودِ الْمُطْلَقِ في كل مُعْتَقٍ من الرِّقَابِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْإِجْزَاءَ بِهِ فإذا خَصَّصْنَا الْحُكْمَ بِالرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ مَنَعْنَا إجْزَاءَ الْكَافِرَةِ وَمُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ إجْزَاؤُهَا إنْ وَقَعَ الْعِتْقُ لها فَاَلَّذِي فَعَلْنَاهُ خِلَافُ مُقْتَضَاهُ
____________________
(3/24)
الظَّاهِرُ وَالْمُؤَوَّلُ قال ابن بَرْهَانٍ وهو أَنْفَعُ كُتُبِ الْأُصُولِ وَأَجَلُّهَا ولم يَزِلَّ الزَّالُّ إلَّا بِالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ وَأَمَّا ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ فَأَنْكَرَ على إمَامِ الْحَرَمَيْنِ إدْخَالَهُ هذا الْبَابَ في فَنِّ أُصُولِ الْفِقْهِ وقال ليس هذا من أُصُولِ الْفِقْهِ في شَيْءٍ إنَّمَا هو كَلَامٌ يُورَدُ في الْخِلَافِيَّاتِ لَكِنَّا نَذْكُرُ طَرَفًا منه وَلَا نُعْدِمُ النَّاظِرَ فيه نَوْعَ فَائِدَةٍ وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَنْبَغِي حَمْلُ الْخَاطِرِ اسْتِخْرَاجَ التَّأْوِيلَاتِ الْمُسْتَنْكِرَةِ لِلْأَخْبَارِ وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ الْوَرِعِ التَّبَاعُدُ عنه فَالظَّاهِرُ الْوَاضِحُ وهو كما قال الْأُسْتَاذُ وَالْقَاضِي لَفْظُهُ يُغْنِي عن تَفْسِيرِهِ وقال الْغَزَالِيُّ هو الْمُتَرَدِّدُ بين أَمْرَيْنِ وهو في أَحَدِهِمَا أَظْهَرُ وَقِيلَ ما دَلَّ على مَعْنًى مع قَبُولِهِ لِإِفَادَةِ غَيْرِهِ إفَادَةً مَرْجُوحَةً فَانْدَرَجَ تَحْتَهُ ما دَلَّ على الْمَجَازِ الرَّاجِحِ وَيُطْلَقُ على اللَّفْظِ الذي يُفِيدُ مَعْنًى سَوَاءٌ أَفَادَ معه غَيْرُهُ إفَادَةً مَرْجُوحَةً أو لم يُفْدِ وَلِهَذَا يَخْرُجُ النَّصُّ فإن إرَادَتَهُ ظَاهِرَةٌ بِنَفْسِهِ وَنَقَلَ الْإِمَامُ أَنَّ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ كان يُسَمِّي الظَّاهِرَ نَصًّا قال ابن بَرْهَانٍ وَلَعَلَّهُ لَمَحَ فيه الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ فإن النَّصَّ لُغَةً هو الظُّهُورُ وَمِنْهُ الْمِنَصَّةُ وَالنَّصُّ عِنْدَهُ يَنْقَسِمُ إلَى ما يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ وَهَذَا مُرَادِفٌ لِلظَّاهِرِ وَإِلَى ما لَا يَقْبَلُهُ وهو النَّصُّ الصَّحِيحُ مَسْأَلَةٌ الظَّاهِرُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ الظَّاهِرُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ بِدَلِيلِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ على الْعَمَلِ بِظَوَاهِر الْأَلْفَاظِ وهو ضَرُورِيٌّ في الشَّرْعِ كَالْعَمَلِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَإِلَّا لَتَعَطَّلَتْ غَالِبُ الْأَحْكَامِ فإن النُّصُوصَ مُعْوِزَةٌ جِدًّا كما أَنَّ الْأَخْبَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ قَلِيلَةٌ جِدًّا
____________________
(3/25)
مَسْأَلَةٌ وهو قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا الْأَلْفَاظُ الْمُسْتَعَارَةُ وَهِيَ الْمَقُولَةُ أَوَّلًا على شَيْءٍ ثُمَّ اُسْتُعِيرَتْ لِغَيْرِهِ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا كَاسْتِعَارَتِهِمْ أَعْضَاءَ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ الْحَيَوَانِ قالوا رَأْسُ الْمَالِ وَوَجْهُ النَّهَارِ وَحَاجِبُ الشَّمْسِ وَعَيْنُ الْمَاءِ وَكَبِدُ السَّمَاءِ فَهَذَا الْقِسْمُ إذَا وَرَدَ في الشَّرْعِ حُمِلَ على ظَاهِرِهِ وهو الْحَقِيقَةُ حتى يَدُلَّ دَلِيلٌ على أَنَّهُ لِغَيْرِهَا وهو الْمَجَازُ لِأَنَّ الْمَجَازَ فيها لم يَغْلِبْ اسْتِعْمَالُهُ فَإِنْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ حتى صَارَ اسْمًا عُرْفِيًّا بِالْمَعْنَى الثَّانِي كَقَوْلِهِمْ الْغَائِطُ لِلْمُطْمَئِنِّ من الْأَرْضِ كان حَمْلُهُ على الْمَجَازِ هو الظَّاهِرُ حتى يَدُلَّ الدَّلِيلُ على الْحَقِيقَةِ وقد يَتَطَرَّقُ إلَى هذا الْقِسْمِ الْإِجْمَالُ فَإِنْ تَسَاوَى الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ في كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ فإن الْمُرَادَ هَاهُنَا الْعَدْلُ وهو مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ احْتِمَالًا يُسَاوِي الْحَقِيقَةَ فَيُلْحَقُ بِالْمُجْمَلِ وَالثَّانِي من أَقْسَامِ الظَّاهِرِ هِيَ أَلْفَاظُ الْعُمُومِ فَإِنَّهَا ظَاهِرَةٌ في الِاسْتِغْرَاقِ مُحْتَمِلَةٌ لِلتَّخْصِيصِ على ما سَبَقَ هُنَاكَ وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَهُوَ لُغَةً الْمَرْجِعُ من آلَ إلَيْهِ الْأَمْرُ أَيْ رَجَعَ وقال النَّضْرُ بن شُمَيْلٍ مَأْخُوذٌ من الْإِيَالَةِ وَهِيَ السِّيَاسَةُ يُقَالُ فُلَانٌ آيِلٌ عَلَيْنَا أَيْ سَائِسُنَا فَكَانَ الْمُؤَوَّلُ بِالتَّأْوِيلِ كَالْمُتَحَكِّمِ السَّائِسِ على الْكَلَامِ الْمُتَصَرِّفِ فيه وقال ابن فَارِسٍ في فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ التَّأْوِيلُ آخِرُ الْأَمْرِ وَعَاقِبَتُهُ يُقَالُ مَآلُ هذا الْأَمْرِ أَيْ مَصِيرُهُ قال تَعَالَى وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ أَيْ لَا يَعْلَمُ الْآجَالَ وَالْمُدَدَ إلَّا اللَّهُ وَاشْتِقَاقُ الْكَلِمَةِ من الْآلِ وهو الْعَاقِبَةُ وَالْمَصِيرُ وَاصْطِلَاحًا صَرْفُ الْكَلَامِ عن ظَاهِرِهِ إلَى مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ ثُمَّ إنْ حُمِلَ لِدَلِيلٍ فَصَحِيحٌ وَحِينَئِذٍ فَيَصِيرُ الْمَرْجُوحُ في نَفْسِهِ رَاجِحًا لِلدَّلِيلِ أو لِمَا يُظَنُّ دَلِيلًا فَفَاسِدٌ أو لَا لِشَيْءٍ فَلَعِبٌ لَا تَأْوِيلٌ فَإِذَنْ التَّأْوِيلُ صَرْفُ اللَّفْظِ إلَى غَيْرِهِ لَا نَفْسِ الِاحْتِمَالِ وقال الْغَزَالِيُّ وَالرَّازِيَّ هو احْتِمَالٌ يُعَضِّدُهُ دَلِيلٌ يَصِيرُ بِهِ أَغْلَبَ على الظَّنِّ من الظَّاهِرِ وهو غَيْرُ جَامِعٍ لِأَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْفَاسِدَ وَالْيَقِينِيَّ ثُمَّ إنَّهُ جَعَلَهُ عِبَارَةً عن نَفْسِ الِاحْتِمَالِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلَا يَتَطَرَّقُ التَّأْوِيلُ إلَى النَّصِّ وَالْمُجْمَلِ ثُمَّ ليس كُلُّ احْتِمَالٍ يُعَضِّدُهُ دَلِيلٌ فَهُوَ تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ مَقْبُولٌ بَلْ يَخْتَلِفُ ذلك بِاخْتِلَافِ ظُهُورِ الْمُؤَوَّلِ
____________________
(3/26)
فَإِنْ كانت دَلَالَةُ الْمُؤَوَّلِ عليه من الْخَارِجِيِّ تَزِيدُ على دَلَالَتِهِ على ما هو ظَاهِرٌ فيه قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا وقال الْعَبْدَرِيّ هذا التَّعْرِيفُ إنَّمَا يَصِحُّ لو كان لَا يَتَأَوَّلُ إلَّا الْعُمُومُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مُنْعَكِسٍ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ عنه ما هو منه فإن من التَّأْوِيلِ ما هو صَرْفُ اللَّفْظِ عن حَقِيقَةٍ إلَى حَقِيقَةٍ كَاللَّفْظِ الْعُرْفِيِّ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ تَصْرِفُهُ عن الْعُرْفِ وهو حَقِيقَةٌ منه إلَى الْوَضْعِ الْأَوَّلِ وهو حَقِيقَةٌ فيه قال الشَّيْخُ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ اعْلَمْ أَنَّ التَّأْوِيلَ صَرْفُ اللَّفْظِ عن ظَاهِرِهِ وكان الْأَصْلُ حَمْلُهُ على ظَاهِرِهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُعَضَّدَ التَّأْوِيلُ بِدَلِيلٍ من خَارِجٍ لِئَلَّا يَكُونَ تَرْكًا لِلظَّاهِرِ من غَيْرِ مُعَارِضٍ وقد جَعَلُوا الضَّابِطَ فيه مُقَابَلَةَ الظَّاهِرِ بِالتَّأْوِيلِ وَعَاضِدِهِ وَتَقْدِيمِ الْأَرْجَحِ في الظَّنِّ فَإِنْ اسْتَوَيَا فَقَدْ قِيلَ بِالْوَقْفِ وَإِنْ كان ما يَدَّعِي تَأْوِيلًا لَا يَنْقَدِحُ احْتِمَالُهُ فَهُوَ بَاطِلٌ وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيمَ أَرْجَحِ الظَّنَّيْنِ عِنْدَ التَّقَابُلِ هو الصَّوَابُ غير أَنَّا نَرَاهُمْ إذَا انْصَرَفُوا إلَى الظَّنِّ تَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بهذا الْقَانُونِ وَمِنْ أَسْبَابِهِ اشْتِبَاهُ الْمَيْلِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْمَيْلِ الْحَاصِلِ من الْإِلْفِ وَالْعَادَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ فإن هذه الْأُمُورَ تُحْدِثُ لِلنَّفْسِ هَيْئَةً وَمَلَكَةً تَقْتَضِي الرُّجْحَانَ في النَّفْسِ بِجَانِبِهَا بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ النَّاظِرُ بِذَلِكَ وَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ رُجْحَانُ الدَّلِيلِ وَهَذَا مَحَلُّ خَوْفٍ شَدِيدٍ وَخَطَرٍ عَظِيمٍ يَجِبُ على الْمُتَّقِي اللَّهَ أَنْ يَصْرِفَ نَظَرَهُ إلَيْهِ وَيَقِفَ فِكْرُهُ عليه وقال في شَرْحِ الْعُنْوَانِ يَجِبُ إجْرَاءُ اللَّفْظِ على ظَاهِرِهِ دُونَ مَآلِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ على الْخِلَافِ الظَّاهِرِ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ من ذلك الدَّلِيلِ على التَّأْوِيلِ الْمَرْجُوحِ أَقْوَى من الظَّاهِرِ وهو تَصَرُّفٌ حَسَنٌ لو مَشَى عليه في آحَادِ الْمَسَائِلِ حَيْثُ يَقَعُ الْمُتَصَرِّفُ فيها لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْعَمَلَ بِأَقْوَى الظَّنَّيْنِ وَاجِبٌ وَكَلَّمَا كان أَبْعَدَ احْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ أَقْوَى لِمَا ذَكَرْنَا وَاسْتَثْنَى منه الظَّوَاهِرَ الْمُقْتَضِيَةَ لِخِلَافِ ما دَلَّ الْقَوَاطِعُ الْعَقْلِيَّةُ عليه وَقِيلَ لَا فَرْقَ بين الْبَعِيدِ من التَّأْوِيلِ وَالْقَرِيبِ وهو رَاجِعٌ إلَى تَرْجِيحِ الْأَقْوَى لِأَنَّ الْقَاطِعَ لَا يُمْكِنُ صَرْفُهُ عن مَدْلُولِهِ بِخِلَافِ الظَّاهِرِ قُلْت وَكَلَامُ صَاحِبِ الْمُقْتَرَحِ من الْجَدَلِيِّينَ مُصَرِّحٌ بِأَنَّ دَلِيلَ التَّأْوِيلِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا وهو مُخَالِفٌ لِكَلَامِ الْجُمْهُورِ وَحَمَلَهُ بَعْضُ شَارِحِيهِ على أَنَّ دَلِيلَ التَّأْوِيلِ إنْ كان رَاجِحًا تَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَإِنْ كان مُسَاوِيًا كان ذلك مُعَارَضَةً وَكِلَاهُمَا يُزَيِّفُ كَلَامَ الْمُسْتَدِلِّ وَيَمْنَعُهُ من الْعَمَلِ بِدَلِيلِهِ قال وَعَلَى هذا فَيُوَافِقُ كَلَامَ الْأُصُولِيِّينَ وَرَجَعَ الْخِلَافُ إلَى اللَّفْظِ
____________________
(3/27)
فَصْلٌ فِيمَا يَدْخُلُهُ التَّأْوِيلُ وهو يَجْرِي في شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا الْفُرُوعُ وهو مَحَلُّ وِفَاقٍ وَالثَّانِي الْأُصُولُ كَالْعَقَائِدِ وَأُصُولِ الدِّيَانَاتِ وَصِفَاتِ الْبَارِي الْمُوهِمَةِ وقد اخْتَلَفُوا فيه على ثَلَاثِهِ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلتَّأْوِيلِ فيها بَلْ تَجْرِي على ظَاهِرِهَا وَلَا يُؤَوَّلُ شَيْءٌ منها وَهُمْ الْمُشَبِّهَةُ وَالثَّانِي أَنَّ لها تَأْوِيلًا وَلَكِنَّا نُمْسِك عنه مع تَنْزِيهِ اعْتِقَادِنَا عن التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ لِقَوْلِهِ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ قال ابن بَرْهَانٍ وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَالثَّالِثُ أنها مُؤَوَّلَةٌ وَأَوَّلُوهَا قال وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ وَالْآخَرَانِ مَنْقُولَانِ عن الصَّحَابَةِ فَنُقِلَ الْإِمْسَاكُ عن أُمِّ سَلَمَةَ رضي اللَّهُ عنها لِأَنَّهَا سُئِلَتْ عن الِاسْتِوَاءِ فقالت الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِب وَالسُّؤَالُ عنه بِدْعَةٌ وَكَذَلِكَ سُئِلَ عنه مَالِكٌ فَأَجَابَ بِمَا قالت أُمُّ سَلَمَةَ إلَّا أَنَّهُ زَادَ فيه أَنَّ من عَادَ إلَى هذا السُّؤَالِ أَضْرِبُ عُنُقَهُ وَكَذَلِكَ سُئِلَ عنه سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فقال أَفْهَمُ من قَوْلِهِ الرَّحْمَنُ على الْعَرْشِ اسْتَوَى ما أَفْهَمُ من قَوْلِهِ ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَنُقِلَ التَّأْوِيلُ عن عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ وقال وهو الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ بين الْفَرِيقَيْنِ أَنَّهُ هل يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ في الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ فَعِنْدَهُمْ يَجُوزُ وَلِهَذَا مَنَعُوا التَّأْوِيلَ وَاعْتَقَدُوا فيه التَّنْزِيهَ على ما يَعْلَمُ اللَّهُ وَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ ذلك بَلْ الرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَهُ وَعَلَيْهِ انْبَنَى الْخِلَافُ السَّابِقُ في الْوَقْفِ على وَالرَّاسِخُونَ وَنَقَلَ في الْوَجِيزِ قَوْلًا بِتَأْوِيلِ الْوَارِدِ في الْقُرْآنِ دُونَ السُّنَّةِ قال وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ لَا فَرْقَ قال وَذَهَبَ كَثِيرٌ من السَّلَفِ إلَى تَنَكُّبِ تَأْوِيلِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ مع اعْتِقَادِ نَفْيِ التَّشْبِيهِ وَزَعَمُوا أَنَّ الْإِقْدَامَ على التَّأْوِيلِ
____________________
(3/28)
خَطَأٌ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ يَدُلُّ عليه وقال الشَّيْخُ أبو عَمْرِو بن الصَّلَاحِ الناس في هذه الْأَشْيَاءِ الْمُوهِمَةِ لِلْجِهَةِ وَنَحْوِهَا فِرَقٌ ثَلَاثَةٌ فَفِرْقَةٌ تُؤَوِّلُ وَفِرْقَةٌ تُشَبِّهُ وَثَالِثَةٌ تَرَى أَنَّهُ لم يُطْلِقْ الشَّارِعُ مِثْلَ هذه اللَّفْظَةِ إلَّا وَإِطْلَاقُهُ سَائِغٌ وَحَسَنٌ فَنَقُولُهَا مُطْلَقَةً كما قالوا مع التَّصْرِيحِ بِالتَّقْدِيسِ وَالتَّنْزِيهِ وَالتَّبَرِّي من التَّحْدِيدِ وَالتَّشْبِيهِ وَلَا نُهِمُّ بِشَأْنِهَا ذِكْرًا وَلَا فِكْرًا بَلْ نَكِلُ عِلْمَهَا إلَى من أَحَاطَ بها وَبِكُلِّ شَيْءٍ خَبَرًا وَعَلَى هذه الطَّرِيقَةِ مَضَى صَدْرُ الْأُمَّةِ وِسَادَتُهَا وَإِيَّاهَا اخْتَارَ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ وَقَادَتُهَا وَإِلَيْهَا دَعَا أَئِمَّةُ الحديث وَأَعْلَامُهُ وَلَا أَحَدَ من الْمُتَكَلِّمِينَ يَصْدِفُ عنها وَيَأْبَاهَا وَأَفْصَحَ الْغَزَالِيُّ عَنْهُمْ في غَيْرِ مَوْضِعٍ بِتَهْجِيرِ ما سِوَاهَا حتى أَلْجَمَ آخِرًا في إلْجَامِهِ كُلَّ عَالِمٍ وَعَامِّيٍّ عَمَّا عَدَاهَا قال وهو كِتَابُ إلْجَامِ الْعَوَامّ عن عِلْمِ الْكَلَامِ وهو آخِرُ تَصَانِيفِ الْغَزَالِيِّ مُطْلَقًا أو آخِرُ تَصَانِيفِهِ في أُصُولِ الدِّينِ حَثَّ فيه على مَذْهَبِ السَّلَفِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ ا هـ وقال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ في بَعْضِ فَتَاوِيهِ طَرِيقَةُ التَّأْوِيلِ بِشَرْطِهِ أَقْرَبُهُمَا إلَى الْحَقِّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا خَاطَبَ الْعَرَبَ بِمَا يَعْرِفُونَهُ وقد نَصَبَ الْأَدِلَّةَ على مُرَادِهِ من آيَاتِ كِتَابِهِ لِأَنَّهُ قال ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ وقال لِرَسُولِهِ لِتُبَيِّنَّ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَهَذَا عَامٌّ في جَمِيعِ آيَاتِ الْقُرْآنِ فَمَنْ وَقَفَ على الدَّلِيلِ فَقَدْ أَفْهَمَهُ اللَّهُ مُرَادَهُ من كِتَابِهِ وهو أَكْمَلُ مِمَّنْ لم يَقِفْ على ذلك إذْ لَا يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَاَلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ وقال صَاحِبُهُ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَنَقُولُ في الْأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَةِ إنَّهَا حَقٌّ وَصِدْقٌ على الْوَجْهِ الذي أَرَادَهُ وَمَنْ أَوَّلَ شيئا منها فَإِنْ كان تَأْوِيلُهُ قَرِيبًا على ما يَقْتَضِيهِ لِسَانُ الْعَرَبِ وَتَفْهَمُهُ في مُخَاطَبَاتِهَا لم نُنْكِرْ عليه ولم نُبَدِّعْهُ وَإِنْ كان تَأْوِيلُهُ بَعِيدًا تَوَقَّفْنَا عنه اسْتَبْعَدْنَاهُ وَرَجَعْنَا إلَى الْقَاعِدَةِ في الْإِيمَانِ بِمَعْنَاهُ مع التَّنْزِيهِ قُلْت وَحَيْثُ سَاعَدَ التَّأْوِيلُ لُغَةَ الْعَرَبِ فَلَا يُقْطَعُ بِأَنَّهُ هو الْمُرَادُ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ بَلْ نَقُولُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَذَا وقد يَتَرَجَّحُ ذلك بِالْقَرَائِنِ الْمُحْتَفَّةِ بِاللَّفْظِ نَبَّهَ عليه بَعْضُ الْمَشَايِخِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ مَذْهَبُ السَّلَفِ أَسْلَمُ وَمَذْهَبُ الْخَلَفِ أَعْلَمُ فَقَدْ يَتَبَادَرُ الذِّهْنُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَقْوَى في الْعِلْمِ وَإِنَّمَا الْمُرَاد أَنَّهُ أَحْوَجُ إلَى مَزِيدٍ من الْعِلْمِ وَاتِّسَاعٍ فيه لِأَجْلِ أَبْوَابِ التَّأْوِيلِ وَإِنَّمَا كانت طَرِيقَةُ السَّلَفِ أَسْلَمَ لِأَنَّهُمْ لم يَخُوضُوا فيه وَالْخَلَفُ خَاضُوا فيه وَأَوَّلُوهَا على ما يَلِيقُ بِجَلَالِهِ مع جَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غير ما أَوَّلُوهُ مِمَّا يَلِيقُ أَيْضًا بِهِ هَاهُنَا مِثْلُ طَرِيقَةِ السَّلَفِ أَسْلَمُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ طَرِيقَةُ
____________________
(3/29)
الْخَلَفِ لَمَّا كان فيها دَفْعُ إيهَامِ من يَتَوَهَّمُ حَمْلًا لَا يَلِيقُ كانت أَعْلَمَ من تِلْكَ وَرَجَّحَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا طَرِيقَةَ الْخَلَفِ من جِهَةِ أَنَّ السَّلَفَ خَاضُوا أَيْضًا في بَعْضٍ وَقَالُوا إنَّا قَاطِعُونَ بِأَنَّ الظَّاهِرَ الذي لَا يَلِيقُ غَيْرُ مُرَادٍ فَتَرْكُ الْحَمْلِ على ما يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مَسْكُوتٌ عن التَّأْوِيلِ مع الْخَوْضِ في بَعْضِهِ وَنَبْذُ إيهَامِ من لَا يَرْتَقِي إلَى دَرَجَةِ الْفَهْمِ عَنْهُمْ إلَى أَنَّهُمْ إنَّمَا تَرَكُوا ذلك لِاعْتِقَادِهِمْ أنها لِأَمْرٍ زَائِدٍ على ما قَامَتْ الدَّلَالَةُ الْقَاطِعَةُ على إثْبَاتِهِ له تَعَالَى من الصِّفَاتِ اللَّائِقَةِ وفي ذلك مَحْذُورٌ فَطَرِيقَةُ الْخَلَفِ أَعْلَمُ وَأَسْلَمُ قال الْغَزَالِيُّ في كِتَابِ التَّفْرِقَةِ بين الْإِسْلَامِ وَالزَّنْدَقَةِ سَمِعْت الثِّقَاتِ من أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ يَقُولُونَ أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ صَرَّحَ بِتَأْوِيلِ ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ أَحَدُهَا قَوْلُهُ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ في الْأَرْضِ وَالثَّانِي قَوْلُهُ عليه السَّلَامُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بين أُصْبُعَيْنِ من أَصَابِعِ الرحمن وَالثَّالِثُ قَوْلُهُ إنِّي لَأَجِدُ رِيحَ نَفَسِ الرحمن من قِبَلِ الْيَمَنِ وَنَقَلَ الرَّازِيَّ عن الْغَزَالِيِّ في كِتَابِ تَأْسِيسِ التَّقْدِيسِ بَدَلَ الحديث الثَّانِي أنا جَلِيسُ من ذَكَرَنِي وَاَلَّذِي رَأَيْته في كِتَابِ الْغَزَالِيِّ ما ذَكَرْنَاهُ قال الْغَزَالِيُّ فَانْظُرْ كَيْفَ أَوَّلَ أَحْمَدُ لِقِيَامِ الْبُرْهَان عِنْدَهُ على اسْتِحَالَةِ ظَاهِرِهِ مع أَنَّهُ أَبْعَدُ الناس عن التَّأْوِيلِ فيقول الْيَمِينُ تُقَبَّلُ في الْعَادَةِ تَقَرُّبًا إلَى صَاحِبِهَا وَالْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يُقَبَّلُ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مِثْلُ الْيَمِينِ لَا في ذَاتِهِ وَلَا في صِفَةٍ من صِفَاتِهِ وَلَكِنْ في عَارِضٍ من عَوَارِضِهِ فَسُمِّيَ يَمِينًا وَكَذَلِكَ لَمَّا اسْتَحَالَ وُجُودُ الْأُصْبُعَيْنِ فيه حِسًّا إذْ من فَتَّشَ عن صَدْرِهِ لم يُشَاهِدْ فيه أُصْبُعَيْنِ فَأَوَّلَهُ على ما بِهِ تَيَسُّرُ
____________________
(3/30)
تَغْلِيبِ الْأَشْيَاءِ وَقَلْبُ الْإِنْسَانِ بين لَمَّةِ الْمَلَكِ وَلَمَّةِ الشَّيْطَانِ وَبِهِمَا يُقَلِّبُ اللَّهُ الْقُلُوبَ فَكَنَّى بِالْأُصْبُعَيْنِ عنهما قال وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ أَحْمَدُ على تَأْوِيلِ هذه الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ لم يَظْهَرْ عِنْدَهُ الِاسْتِحَالَةُ إلَّا في هذا الْقَدْرِ لِأَنَّهُ لم يَسْتَغْرِقْ الْبَحْثَ عن حَقَائِقَ غَيْرِهَا وَغَيْرُهُ كَالْأَشْعَرِيِّ وَالْمُعْتَزِلِيِّ بَحَثَهَا وَتَجَاوَزَا فَأَوَّلَا كَثِيرًا لِقِيَامِ ما اسْتَحَالَ كَثِيرًا وَأَنْكَرَ ابن تَيْمِيَّةَ هذا على الْغَزَالِيِّ قال إنَّهُ لَا يَصِحُّ عن أَحْمَدَ قُلْت وَنَقْلُ الثِّقَةِ لَا يَنْدَفِعُ وقد نَقَلَ ابن الْجَوْزِيِّ في كِتَابِ مِنْهَاجِ الْوُصُولِ عن أَحْمَدَ أَنَّهُ قال في قَوْله تَعَالَى وَجَاءَ رَبُّكَ أَيْ أَمْرُ رَبِّك
____________________
(3/31)
فَصْلٌ في شُرُوطِ التَّأْوِيلِ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِوَضْعِ اللُّغَةِ أو عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ أو عَادَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَكُلُّ تَأْوِيلٍ خَرَجَ عن هذه الثَّلَاثَةِ فَبَاطِلٌ وقد فَتَحَ الشَّافِعِيُّ الْبَابَ في التَّأْوِيلِ فقال الْكَلَامُ قد يُحْمَلُ في غَيْرِ مَقْصُودِهِ وَيُفْصَلُ في مَقْصُودِهِ وقد اخْتَلَفَتْ الْآرَاءُ في التَّأْوِيلِ وَمَدَارُهُمْ على هذا الْأَصْلِ فَيُضَعَّفُ التَّأْوِيلُ لِقُوَّةِ ظُهُورِ اللَّفْظِ أو لِضَعْفِ دَلِيلِهِ أو لَهُمَا وَمِنْ الثَّانِي مَنْعُ عُمُومِ قَوْلِهِ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ وَفِيمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أو دَالِيَةٍ نِصْفُهُ حتى لَا يَتَمَسَّكَ بِهِ في وُجُوبِ الزَّكَاةِ في الْخَضْرَاوَاتِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منه الْفَصْلُ بين وَاجِبِ الْعُشْرِ وَنِصْفِهِ وَكَاسْتِدْلَالِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا في قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ على الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا وَالْحَنَفِيَّةُ قالوا هذا مُفَصَّلٌ في أَحْكَامِ الْآخِرَةِ مُجْمَلٌ في أَحْكَامِ الدُّنْيَا وفي زَكَاةِ الْحُلِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَالْحَنَفِيَّةُ قالوا هذا مُفَصَّلٌ في تَحْرِيمِ الْكَنْزِ مُجْمَلٌ في غَيْرِهِ وَمِنْ الْأَوَّلِ حَمَلَ بَعْضُهُمْ الِاسْتِجْمَارَ في قَوْلِهِ من اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ على اسْتِعْمَالِهِ الْبَخُورَ لِلتَّطَيُّبِ فإنه يُقَالُ فيه تَجَمَّرَ وَاسْتَجْمَرَ وَاللَّفْظُ قَوِيٌّ ظَاهِرٌ في الِاسْتِنْجَاءِ وَعَلَيْهِ فَهْمُ الناس وَمِنْهُ حَمَلَ بَعْضُهُمْ الْجُلُوسَ في قَوْلِهِ نهى عن الْجُلُوسِ على الْقَبْرِ على الِاسْتِنْجَاءِ عليه وَاللَّفْظُ ظَاهِرٌ في الْمُرَادِفِ لِلْقُعُودِ وَمِنْهُ حَمْلُ الظَّاهِرِيَّةِ حَدِيثَ لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ على بَيْضَةِ
____________________
(3/32)
الْحَدِيدِ وهو بَعِيدٌ لِأَنَّ سِيَاقَ الحديث يَقْتَضِي خِلَافَهُ وَمِنْهُ حَمَلَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ أَيْ دَخَلَا بِذَلِكَ في فِطْرَتِي وَسُنَّتِي لِأَنَّ الْحِجَامَةَ مِمَّا أَمَرَ بِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَاسْتَعْمَلَهُ حَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ تِلْمِيذُ الْبَغَوِيّ عن بَعْضِ مَشَايِخِ نَيْسَابُورَ وَقَسَّمَ شَارِحُ اللُّمَعِ تَأْوِيلَ الظَّاهِرِ إلَى ثَلَاثِهِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا تَأْوِيلُهُ على مَعْنًى يُسْتَعْمَلُ في ذلك كَثِيرًا فَهَذَا يُحْتَاجُ فيه إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ في مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وهو أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ ما حُمِلَ عليه كَحَمْلِ الْأَمْرِ في قَوْله تَعَالَى وَآتُوهُمْ من مَالِ اللَّهِ على الْوُجُوبِ وَحَمْلُهُ على النَّدْبِ بِدَلِيلٍ جَائِزٍ لِاسْتِعْمَالِ الْأَمْرِ مُرَادًا بِهِ النَّدْبُ كَثِيرًا فَيُحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ في أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّدْبُ وَالثَّانِي تَأْوِيلُهُ على مَعْنًى لَا يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فَهَذَا يُحْتَاجُ فيه إلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا بَيَانُ قَبُولِ اللَّفْظِ لِهَذَا التَّأْوِيلِ في اللُّغَةِ وَالثَّانِي إقَامَةُ الدَّلِيلِ على أَنَّ اللَّفْظَ هُنَا يَقْتَضِيهِ وَالثَّالِثُ حَمْلُ اللَّفْظِ على مَعْنًى لَا يُسْتَعْمَلُ أَصْلًا فَلَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ التَّأْوِيلِ أَقْوَى من دَلِيلِ كَقَوْلِهِ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ فإنه يَقْتَضِي الطَّلَاقَ في حَالِ وَقْتِ الْعِدَّةِ وهو زَمَانُ الطُّهْرِ فَلَوْ قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ عَدَدُ الطَّلَاقِ قال وَهَلْ يَجُوزُ التَّأْوِيلُ بِالْقِيَاسِ فيه ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ذَكَرَهَا في الْإِرْشَادِ أَحَدُهَا الْمَنْعُ وَالثَّانِي وهو الصَّحِيحُ الْجَوَازُ لِأَنَّ ما جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ جَازَ التَّأْوِيلُ بِهِ
____________________
(3/33)
كَأَخْبَارِ الْآحَادِ وَالثَّالِثُ بِالْجَلِيِّ دُونَ الْخَفِيِّ وقد جَرَتْ عَادَةُ الْأُصُولِيِّينَ بِذِكْرِ ضُرُوبٍ من التَّأْوِيلَاتِ هَاهُنَا كَالرِّيَاضَةِ لِلْأَفْهَامِ لِيَتَمَيَّزَ الصَّحِيحُ منها عن الْفَاسِدِ حتى يُقَاسَ عليها وَيَتَمَرَّنَ النَّاظِرُ فيها وقد أَوَّلَ الْحَنَفِيَّةُ أَشْيَاءَ بَعِيدَةً حَكَمَ أَصْحَابُنَا بِبُطْلَانِهَا فَمِنْهَا تَأْوِيلُهُمْ قَوْلُهُ عليه السَّلَامُ لِغَيْلَانَ بن سَلَمَةَ الثَّقَفِيِّ وقد أَسْلَمَ على عَشْرِ نِسْوَةٍ أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ بِثَلَاثِ تَأْوِيلَاتٍ أَحَدُهَا أَيْ ابْتَدِئْ الْعَقْدَ إطْلَاقًا لِاسْمِ الْمُسَبَّبِ على السَّبَبِ ثَانِيهَا أَمْسِكْ الْأَوَّلَ وَلَعَلَّ النِّكَاحَ وَقَعَ بَعْدُ على التَّفْرِيقِ ثَالِثُهَا لَعَلَّهُ كان قبل حَصْرِ النِّسَاءِ وَقَبْلَ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بين الْأُخْتَيْنِ فَيَكُونُ الْعَقْدُ على وَفْقِ الشَّرْعِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ فَوَّضَ الْإِمْسَاكَ وَالْفِرَاقَ إلَى الزَّوَاجِ وَلِخُلُوِّهِ عن الْقَرِينَةِ الْمُعَيِّنَةِ له وَالْإِحَالَةُ على الْقِيَاسِ مُمْتَنِعَةٌ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ السَّائِلِ له بِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ وَلِعَدَمِ فَهْمِهِمْ ذلك منه إذْ لو فَهِمُوا لَجَدَّدُوا الْعَقْدَ وَلَنُقِلَ وَإِنْ نَدَرَ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ إطْلَاقُ الْمُنَكَّرِ وَإِرَادَةُ الْمُعَيَّنِ من غَيْرِ قَرِينَةٍ وَلِأَنَّ حَدِيثَ مَرْوَانَ مُصَرِّحٌ بِنَفْيِهِ وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ لِمَا فيه من التَّعْدِيلِ الظَّاهِرِ ثُبُوتُهُ قبل الْإِسْلَامِ وَلِأَنَّهُ لم يُنْقَلْ عن أَحَدٍ من الصَّحَابَةِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ بِأَكْثَرَ من أَرْبَعٍ وَلَا جَمَعَ بين أُخْتَيْنِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَامِلَ لِأَبِي حَنِيفَةَ على هذا التَّأْوِيلِ اعْتِقَادُهُ أَنَّ أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ صَحِيحَةٌ لَكِنْ إذَا وَقَعَ الْعَقْدُ على من يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ وَأَمَّا ما ليس كَذَلِكَ كَالْعَقْدِ على أَكْثَرَ من أَرْبَعٍ أو على من يُمْنَعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَلَا يَصِحُّ وَلَا يُقِرُّهُ الْإِسْلَامُ فلما جاء هذا الْحَدِيثُ وَظَاهِرُهُ مُخَالِفٌ لِقَاعِدَةِ مَذْهَبِهِ تَوَسَّعَ في تَأْوِيلِهِ وَعَضَّدَ تَأْوِيلَهُ بِالْقِيَاسِ من أنها أَنْكِحَةٌ طَرَأَ عليها سَبَبٌ مُحَرِّمٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُفْسَخُ أَصْلُهُ ما لو نَكَحَ امْرَأَةً ثُمَّ تَبَيَّنَ أنها رَضِيعَتُهُ لَكِنَّهُ غَفَلَ عن الْأُمُورِ الْمُوجِبَةِ لِفَسَادِهِ وَهِيَ أَرْبَعٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَوْلُهُ أَمْسِكْ ظَاهِرٌ في اسْتِدَامَةِ ما شَرَعَ في تَنَاوُلِهِ حتى لو قِيلَ
____________________
(3/34)
لِمَنْ في يَدِهِ حَبْلٌ أَمْسِكْ طَرَفَك فُهِمَ اسْتِدَامَةُ ما بيده الثَّانِي أَنَّهُ قَابَلَ لَفْظَةَ الْإِمْسَاكِ بِلَفْظَةِ الْمُفَارَقَةِ وَعَلَى ذلك التَّأْوِيلُ تُرْتَقَعُ الْمُقَابَلَةُ لِأَنَّهُ قد قَيَّدَ الْإِمْسَاكَ بِابْتِدَاءِ عَقْدٍ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ مُفَارَقَةِ من يُرِيدُ إمْسَاكَهَا مِنْهُنَّ وَصَارَ كَأَنَّهُ أَمَرَ بِمُفَارَقَةِ الْجَمِيعِ الثَّالِثُ أَنَّهُ فَوَّضَ له الْخِيَرَةَ فِيمَنْ يُمْسِكُ مِنْهُنَّ وَفِيمَنْ يُفَارِقُ مِنْهُنَّ وَعِنْدَهُمْ الْفِرَاقُ وَاقِعٌ وَالنِّكَاحُ لَا يَبْتَدِئُهُ ما لم تُوَافِقْهُ الْمَرْأَةُ عليه فَصَارَ تَخْيِيرُ التَّفْوِيضِ لَغْوًا لَا فَائِدَةَ له فَقَدْ لَا يَرْضَيْنَ أو بَعْضُهُنَّ الرُّجُوعَ إلَيْهِ الرَّابِعُ أَنَّ قَوْلَهُ أَمْسِكْ ظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ وَكَيْفَ يَجِبُ عليه ابْتِدَاءُ عَقْدِ النِّكَاحِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ في الْأَصْلِ وَلَمَّا دَلَّ مَجْمُوعُ هذه الْأَدِلَّةِ على فَسَادِ هذا التَّأْوِيلِ قال الْقَاضِي أبو زَيْدٍ من الْحَنَفِيَّةِ هذا الْحَدِيثُ لَا تَأْوِيلَ فيه وَلَوْ صَحَّ عِنْدِي لَقُلْت بِهِ وقال الْعَبْدَرِيّ الْخِلَافُ بين الْإِمَامَيْنِ في هذه الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هو مَبْنِيٌّ على الْخِلَافِ في تَعَارُضِ الْقِيَاسِ وَظَاهِرِ الْخَبَرِ وَرَأَى الْأُصُولِيِّينَ فيها أنها مَوْكُولَةٌ إلَى اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ فَمَنْ رَأَى الْخَبَرَ أَقْوَى عَمِلَ بِهِ وَمَنْ رَأَى الْقِيَاسَ أَقْوَى عَمِلَ بِهِ وَلَيْسَ هذا الرَّأْيُ صَحِيحًا بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّ دَلَالَةَ الْمَنْطُوقِ بِهِ أَقْوَى من دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ وَدَلَالَةُ الْمَفْهُومِ أَقْوَى من دَلَالَةِ الْمَعْقُولِ وهو الْقِيَاسُ فَكَمَا يَتَقَدَّمُ الْخَبَرُ الْقِيَاسَ في قُوَّةِ الدَّلَالَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمَ في الْعَمَلِ بِهِ وَلِهَذَا كان الْمُجْتَهِدُ يَطْلُبُ أَوَّلًا الْإِجْمَاعَ فَإِنْ وَجَدَهُ لم يَلْتَفِتْ إلَى غَيْرِهِ وَإِنْ لم يَجِدْهُ طَلَبَ النَّصَّ فَإِنْ لم يَجِدْهُ طَلَبَ الظَّاهِرَ فَإِنْ لم يَجِدْهُ طَلَبَ الْمَفْهُومَ فَإِنْ لم يَجِدْهُ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ إلَى الْقِيَاسِ وقال الْهِنْدِيُّ وَلَوْ قِيلَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي ذلك لَكِنَّهُ ثَبَتَ جَوَازُ الِاخْتِيَارِ رُخْصَةً وَتَرْغِيبًا في الْإِسْلَامِ وَمِنْهَا حَمْلُهُمْ حَدِيثَ أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ على الصَّغِيرَةِ وَرُدَّ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ امْرَأَةً في حُكْمِ اللِّسَانِ كما أَنَّهُ ليس الصَّبِيُّ بَعْلًا وَأَيْضًا فَهَذَا سَاقِطٌ عِنْدَهُمْ فإن الصَّغِيرَةَ لو زُوِّجَتْ انْعَقَدَ النِّكَاحُ عِنْدَهُمْ صَحِيحًا مَوْقُوفًا نَفَاذُهُ على إجَازَةِ الْوَلِيِّ وقد قال صلى اللَّهُ عليه وسلم فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ وَأَكَّدَهُ ثَلَاثًا وَمِنْهُمْ من قال بَاطِلٌ أَيْ يُؤَوَّلُ إلَى الْبُطْلَانِ غَالِبًا لِاعْتِرَاضِ الْوَلِيِّ إجَازَتَهُ لِقُصُورِ نَظَرِهِنَّ وهو بَاطِلٌ لِأَنَّ الْبُطْلَانَ صَرَّحَ بِهِ مُؤَكَّدًا بِالتَّكْرَارِ مُطْلَقًا وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمَا
____________________
(3/35)
يُؤَوَّلُ إلَيْهِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كان ما يُؤَوَّلُ إلَيْهِ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ نَحْوُ إنَّكَ مَيِّتٌ فَفَرُّوا من ذلك وَقَالُوا ذلك مَحْمُولٌ على الْأَمَةِ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ تَسْمِيَةُ السَّيِّدِ وَلِيًّا فَأَلْزَمُوا بُطْلَانَهُ بِأَنَّ نِكَاحَهَا كما ذَكَرْنَا في الصَّغِيرَةِ وَبِأَنَّهُ عليه السَّلَامُ جَعَلَ لها الْمَهْرَ بِمَا أَصَابَ منها وَمَهْرُ الْأَمَةِ لِمَوْلَاهَا فَفَرُّوا من ذلك وَقَالُوا هو مَحْمُولٌ على الْمُكَاتَبَةِ وَأَرَادُوا التَّخَلُّصَ من الْمَهْرِ فإن الْمُكَاتَبَةَ مُسْتَحِقَّةٌ فَرُدَّ بِنُدُورِ الْمُكَاتَبَةِ وَقِلَّتِهَا في الْوُجُودِ وَالْعُمُومُ ظَاهِرٌ فيه فإن أَيًّا كَلِمَةٌ عَامَّةٌ وَأَكَّدَهَا بِمَا هذا مع أَنَّهُ ذَكَرَهُ ابْتِدَاءً تَمْهِيدًا لِلْقَاعِدَةِ لَا في جَوَابِ سَائِلٍ حتى يَظْهَرَ تَخْصِيصُهُ وَاعْلَمْ أَنَّ هذا الصِّنْفَ من التَّأْوِيلِ مَقْبُولٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ من الْفُقَهَاءِ إذَا عَضَّدَهُ دَلِيلٌ وقال الْقَاضِي إنَّهُ مَرْدُودٌ قَطْعًا وَعَزَاهُ إلَى الشَّافِعِيِّ قَائِلًا إنَّهُ على جَلَالَةِ قَدْرِهِ لم يَكُنْ لِتَخْفَى عليه هذه الْجِهَاتُ لِلتَّأْوِيلَاتِ وقد رَأَى الِاعْتِصَامَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها اعْتِصَامُ النَّصِّ وَقَدَّمَهُ على الْأَقْيِسَةِ الْجَلِيَّةِ فَكَانَ ذلك شَاهِدًا عَدْلًا على أَنَّهُ لَا يَرَى التَّعَلُّقَ بِمِثْلِ هذه الْمَسَائِلِ وَذَكَرَ الْقَاضِي ما حَاصِلُهُ أَنَّ النبي عليه السَّلَامُ ذَكَرَ أَعَمَّ الْأَلْفَاظِ إذْ أَدَوَاتُ الشَّرْطِ من أَعَمِّ الصِّيَغِ وَأَعَمُّهَا ما وأي فإذا فُرِضَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كان مُبَالَغًا في مُحَاوَلَةِ التَّعْمِيمِ أَيْ أَنَّ ما لو تَجَرَّدَتْ وَكَانَتْ شَرْطِيَّةً كانت من صِيَغِ الْعُمُومِ وقد أُتِيَ بها زَائِدَةً لِلتَّأْكِيدِ فَكَانَتْ مُقَوِّيَةً لِمَا تَدُلُّ عليه أَيْ من التَّعْمِيمِ كَذَا فَهِمَهُ الْمَازِرِيُّ ولم يُرِدْ أَنَّ ما الْمُتَّصِلَةُ بِأَيْ شَرْطِيَّةٌ كما فَهِمَ ابن الْأَنْبَارِيِّ ثُمَّ اعْتَرَضَ عليه وقال هذه غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ وَوَافَقَهُ ابن الْمُنِيرِ وَنَسَبَاهُ إلَى إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وهو في كَلَامِ الْقَاضِي وَمَعْنَاهُ ما عَرَفْت وَمِنْهَا حَمْلُهُمْ قَوْله تَعَالَى فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا على حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ مُقَامَهُ وَالْمَعْنَى فَإِطْعَامُ طَعَامٍ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَجَوَّزُوا صَرْفَ جَمِيعِ الطَّعَامِ إلَى وَاحِدٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الْحَاجَةِ وَحَاجَةُ السِّتِّينَ كَحَاجَةِ الْوَاحِدِ في سِتِّينَ يَوْمًا فَاسْتَوَيَا في الْحُكْمِ وَهَذَا تَعْطِيلٌ لِلنَّصِّ إذْ جَعَلُوا الْمَعْدُومَ وهو طَعَامٌ مَذْكُورًا لِيَصِحَّ كَوْنُهُ مَفْعُولًا لِإِطْعَامٍ وَالْمَذْكُورُ وهو سِتِّينَ مِسْكِينًا عَدَمًا مع صَلَاحِيَّتِهِ لِكَوْنِهِ مَفْعُولًا لِإِطْعَامٍ مع إمْكَانِ قَصْدِ الْعَدَدِ لِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ وَبَرَكَتِهِمْ وَتَضَافُرِ قُلُوبِهِمْ على الدُّعَاءِ
____________________
(3/36)
لِلْمُحْسِنِ وَهَذِهِ مَعَانٍ لَائِحَةٌ لَا تُوجَدُ في الْوَاحِدِ وَأَيْضًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ من النَّصِّ مَعْنًى يَعُودُ عليه بِالْإِبْطَالِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَلِأَنَّ أَطْعَمَ يَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولَيْنِ وَالْمُهِمُّ مِنْهُمَا ما ذَكَرَ وَالْمَسْكُوتُ عنه غَيْرُ مُهِمٍّ وقد ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَدَدَ الْمَسَاكِينِ وَسَكَتَ عن ذِكْرِ الطَّعَامِ فَاعْتَبَرُوا الْمَسْكُوتَ عنه وهو الْأَمْدَادُ وَتَرَكُوا الْمَذْكُورَ وهو الْأَعْدَادُ وهو عَكْسُ الْحَقِّ أَمَّا الْمَازِرِيُّ فَانْتَصَرَ لِلْحَنَفِيَّةِ بِوَجْهَيْنِ فِقْهِيٌّ وَنَحْوِيٌّ أَمَّا الْفِقْهِيُّ فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ من مَذْهَبِهِمْ إبْطَالُ النَّصِّ إلَّا لو جَوَّزُوا إعْطَاءَ الْمِسْكِينِ الْوَاحِدِ سِتِّينَ مُدًّا في يَوْمٍ وَاحِدٍ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ ذلك بَلْ يُرَاعُونَ صُورَةَ الْعَدَدِ وَيَشْتَرِطُونَ تَكْرِيرَ ذلك على الْمِسْكِينِ الْوَاحِدِ تَكْرِيرَ الْأَيَّامِ فِرَارًا من أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا ولم يُعَيِّنْ مِسْكِينًا من مِسْكِينٍ وَلَا خِلَافَ في عَدَمِ تَعَيُّنِهِمْ فإذا أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَتَكَرَّرَ إطْعَامُهُ بِالْغَدَاةِ وهو بِالْغَدَاةِ مِسْكِينٌ فَكَأَنَّهُ أَطْعَمَ مِسْكِينًا آخَرَ فإذا انْتَهَى التَّكْرَارُ إلَى سِتِّينَ يَوْمًا صَارَ مُطْعِمًا سِتِّينَ مِسْكِينًا لِكَوْنِ هذا الْمِسْكِينِ كُلَّ يَوْمٍ من جُمْلَةِ الْمَسَاكِينِ وَأَمَّا النَّحْوِيُّ فذكر أَنَّ سِيبَوَيْهِ قال إنَّ الْمَصْدَرَ يُقَدَّرُ بِمَا وَأَنَّ فإذا قَدَّرْنَا الْمَصْدَرَ هُنَا وهو الْإِطْعَامُ بِمَعْنَى ما اقْتَضَى ذلك ما قَالَتْهُ الْحَنَفِيَّةُ وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ فَمَنْ لم يَسْتَطِعْ فما يُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُخْرِجُ أَبَا حَنِيفَةَ إلَى الْمَذْهَبِ الذي أَرَادَ وَإِنْ صَدَرَ بِأَنَّ كان التَّقْدِيرُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَهَذَا التَّقْدِيرُ الْأَخِيرُ يُخْرِجُ إلَى ما يُرِيدُ قال وقد زَاحَمْنَا أَبَا الْمَعَالِي فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ من صِنَاعَةِ النَّحْوِ وَذَكَرْنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ تَعَلُّقًا منها من وَجْهٍ آخَرَ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ فيها وهو سِيبَوَيْهِ ا هـ وَيُقَالُ له أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فإن تَعْطِيلَ النَّصِّ حَاصِلٌ بِالِاتِّحَادِ سَوَاءٌ أَعْطَى في سِتِّينَ يَوْمًا أَمْ لَا فَقَدْ عَطَّلُوا من النَّصِّ لَفْظَ السِّتِّينَ وَلِلشَّارِعِ غَرَضٌ صَحِيحٌ في الْعَدَدِ على ما سَبَقَ وَلِأَنَّ في الْكَفَّارَةِ نَوْعُ تَعَبُّدٍ وهو الْعَدَدُ فَالتَّمَسُّكُ بِاللَّفْظِ الْمُحَصِّلِ لِلْمَقْصُودِ من كل وَجْهٍ أَوْلَى وَأَمَّا الثَّانِي فما نَقَلَهُ عن سِيبَوَيْهِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ في كَلَامِهِ وَالْمَنْقُولُ عنه أَنَّ الذي يُقَدَّرُ بِهِ الْمَصْدَرُ الْعَامِلُ أَنَّ الْمُشَدَّدَةُ النَّاصِبَةُ لِضَمِيرِ الشَّأْنِ لَا أَنْ الْمَصْدَرِيَّةُ وما الْمُقَدَّرَةُ حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ بِمَنْزِلَةِ أَنْ وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ ما قَالَهُ الْمَازِرِيُّ إذَا كانت مَوْصُولَةً لَا بِمَعْنَى الذي فَلَا فَرْقَ بين الْإِطْعَامِ وما يُطْعَمُ وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ من أَنْكَرَ نِسْبَةَ هذا التَّأْوِيلِ لِجُمْهُورِهِمْ وَقَدَّرَهُ إعْطَاءُ طَعَامٍ سِتِّينَ مِسْكِينًا
____________________
(3/37)
وَمِنْهَا حَمْلُهُمْ حَدِيثَ في أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ على حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ قِيمَةُ شَاةٍ فَجَوَّزُوا إخْرَاجَ الْقِيمَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ حَاجَةِ الْفَقِيرِ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّاةِ فيها غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَيَصِحُّ الْإِبْدَالُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهَذَا التَّأْوِيلُ يُؤَدِّي إلَى رَفْعِ النَّصِّ وَبُطْلَانِهِ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ وقال الْغَزَالِيُّ إنَّمَا يَلْزَمُ ذلك أَنْ لو قِيلَ إنَّ الشَّاةَ لَا تُجْزِئُ ولم يَقُلْهُ هو وَلَا غَيْرُهُ وَإِنَّمَا قال إنَّ الْقِيمَةَ نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الشَّاةِ إذَا أُخْرِجَتْ وهو تَوْسِيعٌ لِلْمَخْرَجِ لَا إسْقَاطٌ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ مع أبي حَنِيفَةَ في قَوْلِهِ إنَّ مَقْصُودَ الشَّرْعِ سَدُّ الْخَلَّةِ وَنَحْنُ نَقُولُ لَا يَبْعُدُ مع ذلك أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ إعْطَاءَ الْفَقِيرِ من جِنْسِ مَالِ الْغَنِيِّ لِيَنْقَطِعَ تَشَوُّفُ الْفَقِيرِ إلَى ما في يَدِ الْغَنِيِّ وَأَيْضًا فَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ في إيجَابِ تَعَيُّنِهَا وَتَجْوِيزُ الْإِبْدَالِ مُحْوِجٌ إلَى الْإِضْمَارِ وَإِيجَابِ شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ الْمَذْكُورِ خِلَافَ الْأَصْلِ وَمِنْهَا حَمْلُهُمْ حَدِيثَ لَا صِيَامَ لِمَنْ لم يُبَيِّتْ الصِّيَامَ من اللَّيْلِ على صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ وهو بَعِيدٌ لِأَنَّ النَّكِرَةَ الْمَنْفِيَّةَ من أَدَلِّ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ سِيَّمَا ما وَرَدَ ابْتِدَاءً لِلتَّأْسِيسِ فَحَمْلُهُ على النَّادِرِ مُخْرِجٌ لِلَّفْظِ عن الْفَصَاحَةِ وَتَأْوِيلُ نَفْيِ الْكَمَالِ أَقْرَبُ من هذا كما قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَحَمَلَهُ الطَّحَاوِيُّ على نِيَّةِ صَوْمِ الْغَدِ قبل الْمَغْرِبِ وكان يَلْهَجُ بِهِ وهو أَبْعَدُ من الْأَوَّلِ لِأَنَّ سِيَاقَهُ النَّهْيَ عن تَأْخِيرِ النِّيَّةِ عن اللَّيْلِ وَالْحَثَّ على تَقْدِيمِهَا على الْيَوْمِ الذي يَصُومُ فيه وَهَذَا كَالْفَحْوَى له وهو مُضَادٌّ لِمَا ذَكَرُوهُ وَلِأَنَّ حَمْلَ النَّهْيِ على الْمُعْتَادِ أَوْلَى وَتَقْدِيمُ النِّيَّةِ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَحَمْلُهُ على نَفْيِ الْكَمَالِ أَقْرَبُ مِمَّا سَبَقَ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ في الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ فَلَوْ اُسْتُعْمِلَ في غَيْرِهِ لِنَفْيِ الْكَمَالِ وَفِيهِ لِنَفْيِ الصِّحَّةِ لَزِمَ الِاسْتِعْمَالُ لِمَفْهُومَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَمِنْهَا حَمْلُهُمْ قَوْله تَعَالَى وَلِذِي الْقُرْبَى على أَرْبَابِ الْحَاجَاتِ ولم يَشْتَرِطُوا الْقَرَابَةَ فَصَرَفُوا اللَّفْظَ إلَى شَيْءٍ آخَرَ وَاَللَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَرَابَةِ ولم يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ الْحَاجَةِ وَهِيَ مُنَاسِبَةٌ مع ذلك فَاشْتَرَطُوا الْحَاجَةَ ولم يَشْتَرِطُوا الْقَرَابَةَ وَهَذَا خِلَافُ ما تَقْتَضِيهِ لَامُ التَّمْلِيكِ وَتَرَتُّبِ الْحُكْمُ على الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ زِيَادَةٌ على النَّصِّ وَهِيَ نَسْخٌ عِنْدَهُمْ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَكَيْفَ بِالْقِيَاسِ وَكَوْنُهُ مَذْكُورًا مع الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ مع قَرِينَةِ إعْطَاءِ الْمَالِ ليس قَرِينَةً فيه وَإِلَّا
____________________
(3/38)
لَزِمَ النَّقْصُ في حَقِّ الرَّسُولِ لِوُجُودِهَا فيه قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَلَوْ حَتَّمُوا صَرْفَ شَيْءٍ إلَى الْقَرَابَةِ بِشَرْطِ الْحَاجَةِ لَكَانَ قَرِيبًا ا هـ لَكِنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ الْخُمُسَ مَقْسُومٌ على ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَيُعْطِي ذَوِي الْقُرْبَى من سَهْمِ الْمَسَاكِينِ لِفَقْرِهِمْ فَعَلَى هذا ذِكْرُ الْقَرَابَةِ كَالْمُقْحِمِ الْكَيَاظِمِ وهو تَعْطِيلٌ لِلنَّصِّ فَإِنْ قالوا ذِكْرُ الْقَرَابَةِ لِلتَّنْبِيهِ على أَنَّهُ لَا يَجِبُ مَنْعُهُمْ كما في الصَّدَقَاتِ لَا في وُجُوبِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ قُلْنَا هذا بَعِيدٌ لِمَا فيه من إبْطَالِ دَلَالَةِ اللَّامِ وَوَاوِ الْعَطْفِ الْمُقْتَضِي لِلِاسْتِحْقَاقِ وَفِيهِ عَطْفُ الْعَامِّ على الْخَاصِّ مع تَخَلُّلِ الْفَصْلِ وهو غَيْرُ مَعْهُودٍ في اللُّغَةِ وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ هذا التَّأْوِيلَ عِنْدَهُ من مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ وَلَيْسَ من الْمَقْطُوعِ بِبُطْلَانِهِ وَلَيْسَ فيه إلَّا تَخْصِيصُ عُمُومِ لَفْظِ الْقُرْبَى بِالْمُحْتَاجِينَ منهم كما فَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ في اعْتِبَارِ الْحَاجَةِ مع الْيُتْمِ في سِيَاقِ هذه الْآيَةِ ا هـ وما فَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ أَقْرَبُ لِأَنَّ لَفْظَ الْيَتِيمِ مع قَرِينَةِ إعْطَاءِ الْمَالِ يُشْعِرُ بِالْحَاجَةِ فَاعْتِبَارُهَا يَكُونُ اعْتِبَارًا لِمَا دَلَّ عليه لَفْظُ الْآيَةِ فَالْيُتْمُ الْمُجَرَّدُ غَيْرُ صَالِحٍ لِلتَّعْلِيلِ بِخِلَافِ الْقَرَابَةِ فَإِنَّهَا بِمُجَرَّدِهَا مُنَاسِبَةٌ لِلْإِكْرَامِ بِاسْتِحْقَاقِ خُمُسِ الْخُمُسِ وما ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ مَحْمُولٌ على أَنَّهُمْ يُعْطُونَ الْقَرِيبَ بِشَرْطِ الْحَاجَةِ وَلَكِنْ سَبَقَ عَنْهُمْ خِلَافُهُ وَقَوْلُهُ ليس فيه إلَّا تَخْصِيصُ عُمُومِ ذَوِي الْقُرْبَى بِالْمُحْتَاجِينَ قِيلَ عليه كَيْفَ يَصِحُّ ذلك وفي الْآيَةِ ذِكْرُ الْمَسَاكِينِ فَيَلْزَمُ من هذا التَّخْصِيصِ التَّكْرَارُ في الْآيَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُ ذلك في الْيَتَامَى فإن الْيُتْمَ يُفِيدُ الِاحْتِيَاجَ لِلْعَجْزِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ ذِكْرُ الْقَرَابَةِ يُخَصُّ فيه في الْمُحْتَاجِينَ منهم وهو تَوْكِيدُ أَمْرِهِمْ وَمِنْهَا حَمْلُهُمْ حَدِيثَ أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ على أَنْ يُؤَذِّنَ بِصَوْتَيْنِ وَيُقِيمَ بِصَوْتٍ قال ابن السَّمْعَانِيِّ في الِاصْطِلَامِ وَهَذَا ليس بِشَيْءٍ لِأَنَّ في الْخَبَرِ إضَافَةَ الشَّفْعِ وَالْإِيتَارِ إلَى الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ هِيَ الْكَلِمَاتُ لَا الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ فِيهِمَا على أَنَّهُ قال في الْخَبَرِ الْإِقَامَةُ وَعِنْدَهُمْ كما يقول سَائِرُ الْكَلِمَاتِ في الْإِقَامَةِ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ كَذَلِكَ يقول قد قَامَتْ الصَّلَاةُ قد قَامَتْ الصَّلَاةُ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ فَبَطَلَ التَّأْوِيلُ
____________________
(3/39)
مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ الْآيَةَ تَمَسَّكَ بها الشَّافِعِيُّ في قَسْمِ الصَّدَقَاتِ على الثَّمَانِيَةِ الْأَصْنَافِ فإن ظَاهِرَ الْآيَةِ التَّمْلِيكُ وَالْوَاوُ الْعَاطِفَةُ لِلْجَمْعِ وَالتَّشْرِيكِ فَيَجِبُ اشْتِرَاكُ الْجَمِيعِ في مِلْكِ هذا الْمَالِ الذي هو الصَّدَقَةُ وَخَالَفَ مَالِكٌ وَرَأَى أَنَّ اللَّامَ فيها لِلِاسْتِحْقَاقِ وَبَيَانِ الْمَصْرِفِ لَا لِلْمِلْكِ وَالتَّشْرِيكِ فيه لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِدَلِيلِ سِيَاقِ الْآيَةِ فإنه سُبْحَانَهُ ذَكَرَ أَوَّلًا من ليس أَهْلَهَا بِقَوْلِهِ وَمِنْهُمْ من يَلْمِزُكَ في الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا منها رَضُوا وَإِنْ لم يُعْطَوْا منها إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ فَإِنَّهَا مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ من لَا يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ طَلَبَهَا فَأُجِيبَ بِقَوْلِهِ إنَّمَا الصَّدَقَاتُ الْآيَةَ أَيْ ليس الطَّالِبُ لها مُسْتَحِقًّا وَإِنَّمَا الْمُسْتَحِقُّ لها هذه الْأَصْنَافُ الْمَذْكُورَةُ وَلَا يَلْزَمُ من كَوْنِهِمْ مُسْتَحَقِّينَ أَنْ يَشْتَرِكُوا بَلْ اللَّازِمُ من ذلك أَنْ لَا تَخْرُجَ عَنْهُمْ وَتَوْزِيعُهَا عليهم بِحَسَبِ اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فإنه مَأْمُورٌ بِأَخْذِهَا مِمَّنْ وَجَبَتْ عليه وَتَفْرِيقُهَا لِمَنْ يَرَاهُ من الْمُسْتَحَقِّينَ وَدَلَّ عليه قَوْلُهُ عليه السَّلَامُ خُذْ صَدَقَةً من أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ على فُقَرَائِهِمْ ولم يذكر له غير صِنْفٍ قال أَصْحَابُنَا الْمُقْتَصِرُ على الْإِعْطَاءِ لِصِنْفٍ وَاحِدٍ مُعَطِّلٌ لَا مُؤَوِّلٌ وقال الشَّافِعِيُّ ما حَاصِلُهُ ثُمَّ إنَّ الْحَاجَةَ لَيْسَتْ مَرْعِيَّةً في بَعْضِ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ كَالْعَامِلِينَ فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَهَا لَا من جِهَةِ حَاجَتِهِمْ وَكَالْغَارِمِينَ بِسَبَبِ حِمَالَةٍ يَحْمِلُونَهَا لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ فَقَدْ بَطَلَ التَّعْوِيلُ على الْحَاجَةِ وقد نَقَلَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ مَنْعَ الشَّافِعِيُّ الْحُكْمَ لِقُصُورٍ الْإِبْيَارِيِّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ وقال اللَّامُ في لِلْفُقَرَاءِ إمَّا أَنْ تَكُونَ لِلتَّمْلِيكِ أو لِلْأَهْلِيَّةِ وَالِانْتِفَاعِ كَالْجَلِّ لِلْفَرَسِ فَإِنْ كان الْمُرَادُ الْمِلْكَ صَحَّ ما قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَإِلَّا فَلَا لِاشْتِرَاكِ الْكُلِّ في الْأَهْلِيَّةِ وَصِحَّةِ التَّصَرُّفِ قال وَهَذَا هو الْمُخْتَارُ فَيَخْرُجُ الْكَلَامُ بهذا التَّقْرِيرِ عن مَرَاتِبِ النُّصُوصِ فَإِمَّا أَنْ نَقُولَ إنَّهُ مُشْتَرَكٌ بين الْجِهَتَيْنِ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ في الْحَالَيْنِ فَيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مُفْتَقِرًا إلَى الدَّلِيلِ أو نُسَلِّمَ ظُهُورَ ما قَالُوهُ فَتَخْرُجَ الْمَسْأَلَةُ عن تَعْطِيلِ النُّصُوصِ
____________________
(3/40)
وَيَكُونَ من التَّأْوِيلَاتِ الْمَقْبُولَةِ التي يَحْتَاجُ من صَارَ إلَيْهَا إلَى دَلِيلٍ يُعَضِّدُهُ وَالْجَوَابُ أَنَّ أَصْلَ اللَّامِ لِلْمِلْكِ وَاَللَّهُ تَعَالَى كما رَاعَى الْحَاجَةَ رَاعَى من يُصْلِحُ ذَاتَ الْبَيْنِ وَمَنْ يَغْرَمُ وَكُلَّ من يَعْمَلُ عَمَلًا يَعُودُ نَفْعُهُ على الْمُسْلِمِينَ غَنِيًّا كان أو فَقِيرًا تَرْغِيبًا في ذلك الْفِعْلِ ثُمَّ تَجْوِيزُ الدَّفْعِ إلَى الْغَارِمِ الْغَنِيِّ يُنَافِي كَوْنَ الْمَقْصُودِ الْحَاجَةَ وَمِنْهَا تَأْوِيلُ مَالِكٍ الِاسْتِجْمَارُ في قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ على الْبَخُورِ وهو خِلَافُ الظَّاهِرِ من سِيَاقِ الحديث فإنه جَمَعَ كَثِيرًا من أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَلِهَذَا لَمَّا سَمِعَهُ منه الْأَعْرَابِيُّ اسْتَنْكَرَهُ حَكَى ذلك الْمَازِرِيُّ وَمِنْهَا تَأْوِيلُهُ النَّهْيَ عن الْجُلُوسِ على الْقَبْرِ بِالتَّغَوُّطِ وَالْبَوْلِ عليه وَيُعَضِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ لَأَنْ يَجْلِسَ أحدكم على جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إلَى جَسَدِهِ خَيْرٌ له من أَنْ يَجْلِسَ على قَبْرٍ وَمِنْهَا تَأْوِيلُهُ قَوْلَهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ من الْبَيَانِ لَسِحْرًا أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الذَّمَّ وَالْجُمْهُورُ على أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الْمَدْحَ وَسِيَاقُ الحديث يَقْتَضِيهِ وَأَطْلَقَ عليه اسْمَ السِّحْرِ لِأَنَّ مَبْنَى عِلْمِ الْبَيَانِ التَّخْيِيلُ مَسْأَلَةٌ تَأَوَّلَتْ الْحَنَابِلَةُ قَوْلَهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَاقْدُرُوا له على الضِّيقِ أَيْ ضَيَّقُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ بِأَنْ يُجْعَلَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَهَذَا يَرُدُّهُ قَوْلُهُ في الحديث الْآخَرِ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ وَلِهَذَا أَوْرَدَ مَالِكٌ في الْمُوَطَّإِ هذا الحديث عَقِيبَ الْأَوَّلِ لِيُنَبِّهَ على أَنَّهُ كَالْمُفَسِّرِ له وَقَفَا الْبُخَارِيُّ أَثَرَهُ في ذلك وَتَأَوَّلَ ابْنِ سُرَيْجٍ فَاقْدُرُوا له أَيْ مَنَازِلَ الْقَمَرِ خِطَابًا لِلْعَارِفِ بِالنُّجُومِ وَقَوْلُهُ الْعِدَّةُ خِطَابًا لِغَيْرِهِ وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ
____________________
(3/41)
مَسْأَلَةٌ تَأَوَّلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا حَدِيثَ من مَلَك ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ على الْأُصُولِ وَالْفُصُولِ خَاصَّةً لِاخْتِصَاصِهِمَا بِأَحْكَامٍ لَا تَعُمُّ جَمِيعَ الرِّقَابِ وَفِيهِ بُعْدٌ لِتَعْطِيلِ لَفْظِ الْعُمُومِ وَلِأَنَّهُ وَرَدَ ابْتِدَاءً لِتَأْسِيسِ قَاعِدَةٍ لَا لِبَيَانِ جَوَابٍ وَسُؤَالٍ حتى يُخَصَّصَ بِهِ وَلِأَنَّهُ سَلَكَ فيه مَسْلَكَ الْحُدُودِ حَيْثُ بَدَأَ بِالْأَعَمِّ وَخَتَمَ بِالْأَخَصِّ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ يُخَصِّصُهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ عن وَالِدِهِ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ قُلْنَا ذِكْرُ بَعْضِ الْأَفْرَادِ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا قُلْتُمْ بِعُمُومِهِ قُلْنَا لِأَنَّهُ لم يَصِحَّ إسْنَادُهُ بَلْ هو مَوْقُوفٌ على الْحُسْنِ
____________________
(3/42)
مَبَاحِثُ الْمُجْمَلِ الْمُجْمَلُ لُغَةً الْمُبْهَمُ من أَجْمَلَ الْأَمْرَ أَيْ أَبْهَمَ وَقِيلَ الْمَجْمُوعُ من أَجْمَلَ الْحِسَابَ إذَا جُمِعَ وَجُعِلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَقِيلَ التَّحْصِيلُ من أَجْمَلَ الشَّيْءَ إذَا حَصَّلَهُ وَاصْطِلَاحًا قال الْآمِدِيُّ ما له دَلَالَةٌ على أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا على الْآخَرِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَقِيلَ ما لم تَتَّضِحْ دَلَالَتُهُ وقال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وابن فُورَكٍ ما لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ في الْمُرَادِ منه حتى بَيَانِ تَفْسِيرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَآتُوا حَقَّهُ يوم حَصَادِهِ وَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ إلَّا بِحَقِّهَا وَقَوْلِهِ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ قال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الْعَامُّ مُجْمَلًا وَالْخَاصُّ مُفَسِّرًا على مَعْنَى أَنَّ الْعَامَّ جُمْلَةٌ إذْ ليس لَفْظُهُ مَقْصُورًا على شَيْءٍ مَخْصُوصٍ بِعَيْنِهِ وَالْخَاصُّ مُفَسِّرٌ أَيْ فيه بَيَانٌ ما قُصِدَ بِتِلْكَ الْجُمْلَةِ التي هِيَ الْعُمُومُ وقال أبو عبد اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ الْبَصْرِيُّ من أَصْحَابِنَا اعْلَمْ أَنَّ الْفُقَهَاءَ قد اسْتَجَازُوا الْعِبَارَةَ عن الْعُمُومِ بِاسْمِ الْمُجْمَلِ وَإِنْ كانت حَقِيقَتُهُ الْمُفْتَقِرَ إلَى ما يُبَيِّنُهُ وقال الْخُوَارِزْمِيُّ في الْكَافِي هو ما يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ فَصَاعِدًا بِوَضْعِ اللُّغَةِ أو بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ من غَيْرِ تَرْجِيحٍ وَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى شَيْءٍ من احْتِمَالَاتِهِ من غَيْرِ دَلِيلٍ يَدُلُّ على أَنَّ مُرَادَ الشَّرْعِ منه هذا مَسْأَلَةٌ وهو وَاقِعٌ في الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ على الْأَصَحِّ قال أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عَرَبِيٌّ يُخَاطِبُ كما يُخَاطِبُ الْعَرَبَ وَالْعَرَبُ تُجْمِلُ كَلَامَهَا ثُمَّ تُفَسِّرُهُ فَيَكُونُ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ قال وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَبَى هذا غير دَاوُد الظَّاهِرِيِّ ثُمَّ نَاقَضَ منه في صِفَةِ الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مع قَوْلِهِ لَا نِكَاحَ
____________________
(3/43)
إلَّا بِوَلِيٍّ وَاَلَّذِي نَاقَضَ أَصَحُّ من الذي أَعْطَاهُ بَيِّنًا وقد ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إلَى أَنَّ له في الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ وَهَذَا أَصَحُّهُمَا ا هـ وَقِيلَ لم يَبْقَ مُجْمَلٌ في كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ وَفَاتِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمُخْتَارُ أَنَّ ما ثَبَتَ التَّكْلِيفُ بِهِ يَسْتَحِيلُ اسْتِمْرَارُ الْإِجْمَالِ فيه فإنه تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ وما لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ فَلَا يَبْعُدُ اسْتِمْرَارُ الْإِجْمَالِ فيه بَعْدَ وَفَاتِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَاسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِسِرِّهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِجْمَالُ في الْقِيَاسِ وَسَبَقَ مِثْلُهُ عن ابْنِ الْقُشَيْرِيّ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في كِتَابِ الْقَضَاءِ يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِالْخِطَابِ بِالْمُجْمَلِ قبل الْبَيَانِ لِأَنَّهُ عليه السَّلَامُ بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ وقال اُدْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الحديث وَتَعَبُّدُهُمْ بِالْتِزَامِ الزَّكَاةِ قبل بَيَانِهَا وفي كَيْفِيَّةِ تَعَبُّدِهِمْ بِالْتِزَامِهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ مُتَعَبِّدُونَ قبل الْبَيَانِ بِالْتِزَامِهِ بَعْدَ الْبَيَانِ وَالثَّانِي أَنَّهُمْ مُتَعَبِّدُونَ قبل الْبَيَانِ بِالْتِزَامِهِ مُجْمَلًا وَبَعْدَ الْبَيَانِ بِالْتِزَامِهِ مُفَسِّرًا وقال ابن السَّمْعَانِيِّ قالوا إنَّ الْتِزَامَ الْمُجْمَلِ قبل بَيَانِهِ وَاجِبٌ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في كَيْفِيَّةِ الْتِزَامِهِ على وَجْهَيْنِ وَذَكَرَهُمَا قلت وَلَعَلَّ الثَّانِيَ مُرَادُ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَةُ وهو قَرِيبٌ من الْخِلَافِ السَّابِقِ في الْعَامِّ هل يَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ قبل وُرُودِ الْمُخَصِّصِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ إنَّمَا جَازَ الْخِطَابُ بِالْمُجْمَلِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَفْهَمُونَهُ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ لِيَكُونَ إجْمَالُهُ تَوْطِئَةً لِلنَّفْسِ على قَبُولِ ما يَتَعَقَّبُهُ من الْبَيَانِ فإنه لو بَدَأَ في تَكْلِيفِ الصَّلَاةِ وَبَيَّنَهَا لَجَازَ أَنْ تَنْفِرَ النُّفُوسُ منها وَلَا تَنْفِرَ من إجْمَالِهَا وَالثَّانِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ من الْأَحْكَامِ جَلِيًّا وَجَعَلَ منها خَفِيًّا لِيَتَفَاضَلَ الناس في الْعِلْمِ بها وَيُثَابُوا على الِاسْتِنْبَاطِ لها فَلِذَلِكَ جَعَلَ منها مُفَسَّرًا جَلِيًّا وَجَعَلَ
____________________
(3/44)
منها مُجْمَلًا خَفِيًّا ثُمَّ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَمِنْ الْمُجْمَلِ ما لَا يَجِبُ بَيَانُهُ على الرَّسُولِ كَقَوْلِهِ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ من سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عليه رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ فَأَجْمَلَ فيه النَّفَقَةَ في أَقَلِّهَا وَأَوْسَطِهَا وَأَكْثَرِهَا حتى اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ في تَقْدِيرِهَا وَسُئِلَ عن الْكَلَالَةِ فقال آيَةُ الصَّيْفِ فَوَكَلَهُ إلَى الِاجْتِهَادِ ولم يُصَرِّحْ بِالْبَيَانِ قال وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في هذا الْبَيَانِ الصَّادِرِ من الِاجْتِهَادِ هل يُؤْخَذُ قِيَاسًا أو تَنْبِيهًا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يُؤْخَذُ تَنْبِيهًا من لَفْظِ الْمُجْمَلِ وَشُوهِدَ أَحْوَالُهُ لِأَنَّهُ عليه السَّلَامُ قال لِعُمَرَ يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ فَرَدَّهُ إلَيْهَا لِيَسْتَدِلَّ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ من بَيِّنَةٍ وَشَوَاهِدَ قال وَالثَّانِي أَنْ يُؤْخَذَ قِيَاسًا على ما اسْتَقَرَّ بَيَانُهُ من نَصٍّ أو إجْمَاعٍ لِأَنَّ عُمَرَ سَأَلَ عن الْقِبْلَةِ فقال أَرَأَيْت لو تَمَضْمَضْت فَجَعَلَ الْقِبْلَةَ بِغَيْرِ إنْزَالٍ كَالْمَضْمَضَةِ بِغَيْرِ ازْدِرَادٍ ا هـ وما ذَكَرَهُ في الْأَوَّلِ من التَّمْثِيلِ بِالنَّفَقَةِ يُمْكِنُ الْمُنَازَعَةُ فيه فإن بَيَانَهَا قد وَرَدَ في قَضِيَّةِ هِنْدَ حَيْثُ قال خُذِي ما يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ فَبَيَّنَ الْإِجْمَالَ في الْآيَةِ بِالْكِفَايَةِ مَسْأَلَةٌ حُكْمُ الْمُجْمَلِ وَحُكْمُهُ التَّوَقُّفُ فيه إلَى أَنْ يَرِدَ تَفْسِيرُهُ وَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِهِ في شَيْءٍ يَقَعُ فيه النِّزَاعُ قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وقال الْمَازِرِيُّ إنْ كان الِاحْتِمَالُ من جِهَةِ الِاشْتِرَاكِ وَاقْتَرَنَ بِهِ تَنْبِيهٌ أَخَذَ بِهِ وَإِنْ تَجَرَّدَ عن تَنْبِيهٍ وَاقْتَرَنَ بِهِ عُرْفٌ عُمِلَ بِهِ وَإِنْ تَجَرَّدَ عن تَنْبِيهٍ وَعُرْفٍ وَجَبَ الِاجْتِهَادُ في الْمُرَادِ منها وكان من خَفِيِّ الْأَحْكَامِ التي وُكِلَ الْعُلَمَاءُ فيها إلَى الِاسْتِنْبَاطِ فَصَارَ دَاخِلًا في الْمُجْمَلِ لِخَفَائِهِ وَخَارِجًا منه لِإِمْكَانِ
____________________
(3/45)
اسْتِنْبَاطِهِ تَنْبِيهٌ حَمْلُ الْمُجْمَلِ على جَمِيعِ مَعَانِيهِ الْمُتَنَافِيَةِ وقد يُحْمَلُ الْمُجْمَلُ على جَمِيعِ مَعَانِيهِ غَيْرِ الْمُتَنَافِيَةِ نَظِيرَ الْعَامِّ ولم يَتَعَرَّضُوا لِذَلِكَ فيه وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْله تَعَالَى وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فإن السُّلْطَانَ مُجْمَلٌ يَحْتَمِلُ الْحُجَّةَ وَالدِّيَةَ وَالْقَوَدَ وَيَحْتَمِلُ الْجَمِيعَ لَا جَرَمَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يُخَيِّرُ بين الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ الْكُلَّ بِالْإِضَافَةِ إلَى اللَّفْظِ سَوَاءٌ قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ في أَحْكَامِ الْقُرْآنِ مَسْأَلَةٌ الْإِجْمَالُ إمَّا أَنْ يَكُونَ في حَالِ الْإِفْرَادِ أو التَّرْكِيبِ وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَعْرِيفِهِ كَلَفْظَةِ قال من الْقَيْلُولَةِ وَالْقَوْلِ وَكَالْمُخْتَارِ فإنه صَالِحٌ لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ يُقَالُ اخْتَرْت فُلَانًا فَأَمَّا مُخْتَارٌ وهو مُخْتَارٌ قال الْعَسْكَرِيُّ وَيَفْتَرِقَانِ تَقُولُ في الْفَاعِلِ مُخْتَارٌ لِكَذَا وفي الْمَفْعُولِ مُخْتَارٌ من كَذَا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ يُضَارِرُ بِفَتْحِ الرَّاءِ أو بِكَسْرِهَا وقد قُرِئَ بِهِمَا وَمِثْلُهُ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا في احْتِمَالِ الْوَجْهَيْنِ قَالَهُ الْعَبْدَرِيّ في شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِأَصْلِ وَضْعِهِ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَعَانِيهِ مُتَضَادَّةً كَ الْقُرْءِ لِلطُّهْرِ وَالْحَيْضِ والناهل لِلْعَطْشَانِ وَالرَّيَّانِ والشفق لِلْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ وَإِمَّا مُتَشَابِهَةً كَالْفَرَسِ لِلْحَيَوَانِ الْمَعْرُوفِ وَالصُّورَةِ التي تُرْسَمُ على مِثَالِهِ أو لَا يَكُونَ كَذَلِكَ كَالْعَيْنِ لِلْعُضْوِ الْبَاصِرِ وَيَنْبُوعِ الْمَاءِ وَإِنْ شِئْت قُلْت إمَّا أَنْ يَتَنَاوَلَ مَعَانِيَ كَثِيرَةً بِحَسَبِ خُصُوصِيَّاتِهَا فَهُوَ الْمُشْتَرَكُ وَإِمَّا بِحَسَبِ مَعْنًى مُشْتَرَكٍ بَيْنَهَا وهو الْمُتَوَاطِئُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَآتُوا حَقَّهُ يوم حَصَادِهِ وقال أبو الْعِزِّ الْمُقْتَرِحِ الْفَرْقُ بين الْمُجْمَلِ وَالْمُشْتَرَكِ أَنَّ الْمُجْمَلَ يَسْتَدْعِي ثُبُوتَ احْتِمَالَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَهْمِ سَوَاءٌ وُضِعَ اللَّفْظُ لَهُمَا على وَجْهِ الْحَقِيقَةِ أو في أَحَدِهِمَا مَجَازٌ وفي الْآخَرِ حَقِيقَةٌ فَالْإِجْمَالُ إنَّمَا هو بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَهْمِ فإن الْمُشْتَرَكَ قد يَتَسَاوَى بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَضْعِ وَلَا يَتَسَاوَى بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَهْمِ فَلَا يَكُونُ مُجْمَلًا وَأَيْضًا إمَّا أَنْ يَكُونَ في الْأَسْمَاءِ كما سَبَقَ أو في الْأَفْعَالِ كَ عَسْعَسَ بِمَعْنَى أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ أو في الْحُرُوفِ كَتَرَدُّدِ الْوَاوِ بين الْعَطْفِ وَالِابْتِدَاءِ في قَوْله تَعَالَى وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ
____________________
(3/46)
وَتَرَدُّدِهَا بين الْعَطْفِ وَالْحَالِ في قَوْلِهِ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا لِأَنَّهَا إنْ كانت عَاطِفَةً أَوْهَمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِضَعْفِهِمْ حَدَثَ الْآنَ وَبِهِ احْتَجَّ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ على حُدُوثِ الْعِلْمِ تَعَالَى اللَّهُ عن ذلك وَإِنَّمَا الْمُرَادُ إعْلَامُ عِبَادِهِ وَإِنْ جُعِلَتْ غير عَاطِفَةٍ كان تَقْدِيرُهُ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ عَالِمًا أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَلَا يَلْزَمُ منه مَحْذُورٌ وَيَجِبُ إضْمَارُ قد حِينَئِذٍ وَنَحْوُ تَرَدُّدِ من بين ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَالتَّبْغِيضِ كَقَوْلِهِ فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه فقال أبو حَنِيفَةَ هِيَ لِلِابْتِدَاءِ أَيْ اجْعَلُوا ابْتِدَاءَ الْمَسْحِ من الصَّعِيدِ وقال الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ هِيَ لِلتَّبْعِيضِ أَيْ امْسَحُوا وُجُوهَكُمْ بِبَعْضِ الصَّعِيدِ فَلِهَذَا اشْتَرَطْنَا أَنْ يَكُونَ لِمَا يُتَيَمَّمُ بِهِ غُبَارٌ يَعْلَقُ بِالْيَدِ لِتَحَقُّقِ الْمَسْحِ بِبَعْضِهِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُجْمَلًا في تَرْكِيبِهِ وهو أَنْوَاعٌ منها في الْمُرَكَّبِ بِجُمْلَتِهِ في نَحْوِ قَوْله تَعَالَى أو يَعْفُوَ الذي بيده عُقْدَةُ النِّكَاحِ لِتَرَدُّدِهِ بين الزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ وَلِذَلِكَ اُخْتُلِفَ فيه فقال الشَّافِعِيُّ بِالْأَوَّلِ وَمَالِكٌ بِالثَّانِي وَمِنْهَا في الِاسْتِثْنَاءِ كَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ صَلَاةٌ في مَسْجِدِي هذا أَفْضَلُ من أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَلَكِنْ لَا كَبَاقِي الْمَسَاجِدِ بَلْ إنَّمَا أَزِيدُ أو أَنْقُصُ منها وَالثَّانِي أَنَّهُ ليس بِأَفْضَلَ منه بَلْ إمَّا مُسَاوٍ أو الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَفْضَلُ وَمِنْهَا في مَرْجِعِ الضَّمِيرِ إذَا تَقَدَّمَهُ أَمْرَانِ يَصْلُحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لَا يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً في جِدَارِهِ فَضَمِيرُ الْجِدَارِ يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ على نَفْسِهِ أَيْ في جِدَارِ نَفْسِهِ أو على جَارِهِ أَيْ في جِدَارِ جَارِهِ وقد ذَكَرَ أَصْحَابُنَا هذا في كِتَابِ الصُّلْحِ وَالْأَصَحُّ امْتِنَاعُ الْوَضْعِ إلَّا بِإِذْنٍ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا من الصَّالِحِينَ فإن هذا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْبِشَارَةُ بِمِيلَادِهِ فَيَكُونَ الْمَأْمُورُ بِذَبْحِهِ إسْمَاعِيلَ لِأَنَّ هذا الْكَلَامَ في قِصَّةِ الذَّبِيحِ
____________________
(3/47)
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْبِشَارَةُ بِنُبُوَّتِهِ وَيَكُونَ هو الْمَأْمُورَ بِذَبْحِهِ وَمِنْهَا في مَرْجِعِ الصِّفَةِ نَحْوُ زَيْدٌ طَبِيبٌ مَاهِرٌ لِتَرَدُّدِهِ بين الْمَهَارَةِ مُطْلَقًا وَالْمَهَارَةُ في الطِّبِّ كَذَا قَالَهُ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ وقال صَاحِبُ الْبَسِيطِ من النَّحْوِيِّينَ إذَا اجْتَمَعَتْ صِفَتَانِ فَصَاعِدًا لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ قال قَوْمٌ الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ لِلْأَوَّلِ وَحْدَهُ وقال قَوْمٌ هِيَ لِمَجْمُوعِ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ قال الْأَصْحَابُ الْمُجْمَلُ على أَوْجُهٍ منها أَنْ لَا يَرْجِعَ اللَّفْظُ لِلدَّلَالَةِ على شَيْءٍ بِعَيْنِهِ كَقَوْلِهِ وَآتُوا حَقَّهُ يوم حَصَادِهِ وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ إلَّا بِحَقِّهَا فإن الْحَقَّ يَشْتَمِلُ على أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ وهو في هذا الْمَوْضِعِ مَجْهُولٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فإنه صَارَ مُجْمَلًا لِمَا دَخَلَهُ الِاسْتِثْنَاءُ وَمِنْهَا أَنْ يَفْعَلَ صلى اللَّهُ عليه وسلم فِعْلًا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ احْتِمَالًا وَاحِدًا كَالْجَمْعِ بين الصَّلَاتَيْنِ في السَّفَرِ فَهُوَ مُجْمَلٌ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ السَّفَرَ الطَّوِيلَ وَالْقَصِيرَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ على أَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلِيلٍ قال وَهَذِهِ الْوُجُوهُ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ في إجْمَالِهَا وَافْتِقَارِهَا إلَى الْبَيَانِ انْتَهَى وَمِنْهَا في تَعَدُّدِ الْمَجَازَاتِ الْمُتَسَاوِيَةِ مع مَانِعٍ يَمْنَعُ من حَمْلِهِ على الْحَقِيقَةِ فإن اللَّفْظَ يَصِيرُ مُجْمَلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى تِلْكَ الْمَجَازَاتِ إذْ ليس الْحَمْلُ على أَحَدِهَا أَوْلَى من حَمْلِهِ على الْبَعْضِ الْآخَرِ كما هو في الْمُشْتَرَكِ وَالْمُتَوَاطِئِ كَذَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وهو ظَاهِرٌ إنْ لم يُحْمَلْ الْمُشْتَرَكُ على مَعَانِيهِ لَكِنَّ قَاعِدَةَ الشَّافِعِيِّ حَمْلُهُ على سَائِرِ الْمَعَانِي احْتِيَاطٌ وَلَا يَتَوَقَّفُ على بَيَانٍ أَمَّا إذَا تَكَافَأَتْ الْمَجَازَاتُ وَتَرْجِيحُ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ كَنَفَيْ الصِّحَّةِ كَقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ وَلَا صِيَامَ أو لِأَنَّهُ أَظْهَرُ غَرَضًا أو أَعْظَمُ مَقْصُودًا كَرَفْعِ الْحَرَجِ وَتَحْرِيمِ الْأَكْلِ في رُفِعَ عن أُمَّتِي وحرمت عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ حُمِلَ عليه وقد اُخْتُلِفَ في أَلْفَاظٍ منها قَوْله تَعَالَى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ
____________________
(3/48)
وَلِلشَّافِعِيِّ فيه أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا أنها عَامَّةٌ خَصَّصَهَا الْكِتَابُ الثَّانِي أنها عَامَّةٌ خَصَّصَتْهَا السُّنَّةُ الثَّالِثُ أنها مُجْمَلَةٌ بَيَّنَهَا الْكِتَابُ الرَّابِعُ أنها مُجْمَلَةٌ بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ في آيَةِ الزَّكَاةِ وَهِيَ قَوْلُهُ وَآتُوا الزَّكَاةَ على قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أنها عَامَّةٌ خَصَّصَتْهَا السُّنَّةُ وَالثَّانِي أنها مُجْمَلَةٌ بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ وَهُمَا من جِهَةِ اللَّفْظِ وَالتَّعْرِيفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَاحِدٌ وَفِيهِ سُؤَالٌ وهو أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُفْرَدٌ مُعَرَّفٌ فإن عَمَّ من حَيْثُ اللَّفْظُ فَلْيَعُمَّ في الْآيَتَيْنِ أو الْمَعْنَى فَلْيَعُمَّ فِيهِمَا وَإِنْ لم يَعُمَّ من حَيْثُ اللَّفْظُ وَلَا من حَيْثُ الْمَعْنَى فَلْيَسْتَوِيَا فيه مع أَنَّ الصَّحِيحَ في آيَةِ الْبَيْعِ الْعُمُومُ وفي آيَةِ الزَّكَاةِ الْإِجْمَالُ وَسَبَقَ جَوَابُهُ في بَابِ الْعُمُومِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ الصَّحِيحُ أنها لَيْسَتْ مُجْمَلَةً لِأَنَّ الْبَيْعَ مَعْقُولٌ في اللُّغَةِ فَحُمِلَ اللَّفْظُ على الْعُمُومِ إلَّا ما خَصَّهُ الدَّلِيلُ وقال أبو مَنْصُورٍ الصَّحِيحُ أنها مُجْمَلَةٌ في الْبُيُوعِ التي فيها الرِّبَا فَأَمَّا بَيْعٌ لَا رِبَا فيه فَدَاخِلٌ في عُمُومِ التَّحْلِيلِ وَكَذَا قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّهُ مُجْمَلٌ فِيمَا اشْتَمَلَ على جِهَةٍ من جِهَاتِ الزِّيَادَةِ دُونَ ما ليس كَذَلِكَ وَمَأْخَذُهُ مُحْتَمَلٌ لِأَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ في الْمُفْرَدِ لِلْعُمُومِ أو الْجِنْسِ الصَّادِقِ على الْكُلِّ أو الْبَعْضِ أو أَنَّهُ وَإِنْ كان لِلْعُمُومِ لَكِنَّ قَوْلَهُ وَحَرَّمَ الرِّبَا جَارٍ مَجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ فيه وهو مَجْهُولٌ إذْ الرِّبَا هو الزِّيَادَةُ وَلَيْسَ كُلُّ زِيَادَةٍ حَرَامًا وَبِهِ يُشْعِرُ تَفْصِيلُ الْإِمَامِ وَكَلَامُ الْغَزَالِيِّ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لِتَرَدُّدِهِ بين الْعَهْدِ وَالْعُمُومِ وهو بِإِطْلَاقِهِ لَا يَعُمُّ إلَّا عِنْدَ عَدَمِهِ وَيَلْزَمُهُ ذلك في الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ ثُمَّ هو جَزْمٌ بِالْإِجْمَالِ وقال ابن الْقُشَيْرِيّ في تَفْسِيرِهِ قال الْعُلَمَاءُ هذه الْآيَةُ مُجْمَلَةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يَقْتَضِي تَحْلِيلَ كل بَيْعٍ وَقَوْلَهُ وَحَرَّمَ الرِّبَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كل بَيْعٍ لِأَنَّهُ لَا بَيْعَ إلَّا وَتُقْصَدُ منه الزِّيَادَةُ فَالرُّجُوعُ إذْنٌ إلَى بَيَانِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَقِيلَ الْبَيْعُ الذي لَا زِيَادَةَ فيه هو بَيْعُ عَشَرَةٍ بِعَشَرَةٍ مع التَّجَانُسِ فَهُوَ حَلَالٌ ليس فيه إجْمَالٌ وَإِنَّمَا الْإِجْمَالُ فِيمَا يَتَضَمَّنُ زِيَادَةً فَبَعْضُ ما يَتَضَمَّنُ الزِّيَادَةَ حَلَالٌ وَالْبَعْضُ حَرَامٌ وقال غَيْرُهُ هذه الْآيَةُ مُخَصَّصَةٌ لَا مُجْمَلَةٌ فإن قَوْلَهُ وَحَرَّمَ الرِّبَا دَلَّ على أَنَّ الْمُرَادَ في قَوْلِهِ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ الْبَعْضُ دُونَ الْكُلِّ الذي هو ظَاهِرٌ بِأَصْلِ الْوَضْعِ وَقِيلَ إنَّ الْبَيْعَ مُجْمَلٌ لِأَنَّ الرِّبَا مُجْمَلٌ وهو في حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى من الْبَيْعِ
____________________
(3/49)
وَاسْتِثْنَاءُ الْمَجْهُولِ من الْمَعْلُومِ يَعُودُ بِالْإِجْمَالِ على أَصْلِ الْكَلَامِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ فإن الرِّبَا عَامٌّ في الزِّيَادَاتِ كُلِّهَا وَكَوْنُ الْبَعْضِ غير مُرَادٍ فَرْعُ تَخْصِيصٍ فَلَا تَتَغَيَّرُ بِهِ دَلَالَةُ الْأَوْضَاعِ وَمِنْهَا الْآيَاتُ التي ذُكِرَ فيها الْأَسْمَاءُ الشَّرْعِيَّةُ كَقَوْلِهِ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَقَوْله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَقَوْلُهُ وَلِلَّهِ على الناس حِجُّ الْبَيْتِ وَفِيهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أنها عَامَّةٌ غَيْرُ مُجْمَلَةٍ فَتُحْمَلُ الصَّلَاةُ على كل دُعَاءٍ وَالصَّوْمُ على كل إمْسَاكٍ وَالْحَجُّ على كل قَصْدٍ إلَّا ما قام الدَّلِيلُ عليه وَالثَّانِي أنها مُجْمَلَةٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بها مَعَانٍ لَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عليها في اللُّغَةِ وَإِنَّمَا تُعْرَفُ من جِهَةِ الشَّرْعِ فَافْتَقَرَتْ إلَى الْبَيَانِ هَكَذَا حَكَاهُ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وَجَعَلَهُمَا مَبْنِيَّيْنِ على أَنَّ هذه الْأَسْمَاءَ مَنْقُولَةٌ أو حَقَائِقُ شَرْعِيَّةٌ فَمَنْ قال مَنْقُولَةٌ قال هِيَ مُجْمَلَةٌ قال وهو الْأَصَحُّ وَمَنْ قال حَقَائِقُ شَرْعِيَّةٌ قال هِيَ عَامَّةٌ وَنَسَبَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في شَرْحِ الْكِفَايَةِ الْقَوْلَ بِالْإِجْمَالِ في هذا إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قال وَحَكَى أبو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ جَعَلَهُ من الْمُجْمَلِ لِأَنَّ مَدْلُولَ الصَّلَاةِ في اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ مُخْتَلِفٌ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَأَجَازَ الشَّافِعِيُّ الِاسْتِدْلَالَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَإِنْ ضَمَّ إلَيْهِ أَوْصَافًا وَشُرُوطًا فَقَدْ ضَمَّ إلَى السَّرِقَةِ في آيَةِ الْقَطْعِ بها نِصَابًا وَحِرْزًا وَمَعَ ذلك يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِعُمُومِ قَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ إلَّا ما خَصَّهُ الدَّلِيلُ فَكَذَلِكَ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ وَمِنْهَا الْأَلْفَاظُ التي عُلِّقَ التَّحْرِيمُ فيها على الْأَعْيَانِ كَقَوْلِهِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَفِيهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أنها مُجْمَلَةٌ لَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِظَاهِرِهَا لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تُوصَفُ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَإِنَّمَا الْمَوْصُوفُ بِهِمَا أَفْعَالُنَا وَهِيَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فَافْتَقَرَ إلَى بَيَانِ ما يَحْرُمُ من الْأَفْعَالِ وما لَا يَحْرُمُ وَبِهِ قال الْكَرْخِيّ وَتِلْمِيذُهُ أبو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وإذا قُلْنَا بهذا فَاخْتَلَفُوا لِأَيِّ وَجْهٍ الْوَجْهُ الثَّانِي وهو الْأَصَحُّ أنها لَيْسَتْ مُجْمَلَةً لِأَنَّ الْمَعْقُولَ منه التَّصَرُّفُ
____________________
(3/50)
فَيَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ من الْعَقْدِ على الْأُمِّ وَوَطْئِهَا وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالتَّصَرُّفِ فيها وهو حَقِيقَةٌ في ذلك وهو قَوْلُ الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ وَأَبِي عَلِيٍّ وَابْنِهِ أبي هَاشِمٍ وَأَبِي الْحُسَيْنِ من الْمُعْتَزِلَةِ لِقَوْلِهِ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عليهم الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا فَأَكَلُوا ثَمَنَهَا فَدَلَّ على أَنَّ تَحْرِيمَهَا أَفَادَ جَمِيعَ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ وَإِلَّا لم يَتَّجِهْ اللَّعْنُ في الْبَيْعِ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَسُلَيْمٌ هذا هو الصَّحِيحُ وقال ابن بَرْهَانٍ إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَإِنَّ الْأَوَّلَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ ما أُرِيدَ بِهِ تَحْرِيمُ الْعَيْنِ نَفْسِهَا وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ تَحْرِيمُ أَفْعَالِنَا وهو حَقِيقَةٌ فيه وقال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ حَقِيقَةٌ في تَحْرِيمِ الْعَيْنِ مَجَازٌ في تَحْرِيمِ الْفِعْلِ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ احْتَجُّوا بِظَاهِرِ هذه الْآيَاتِ في إثْبَاتِ التَّحْرِيمِ ولم يُنْقَلْ عنه أَنَّهُمْ رَجَعُوا في ذلك إلَى شَيْءٍ آخَرَ وَجَعَلَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ من أَمْثِلَةِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَهُ لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِجُنُبٍ وَلَا حَائِضٍ قال فَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال مُجْمَلٌ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَدْخُلُ في التَّحْرِيمِ إنَّمَا تَدْخُلُ الْأَفْعَالُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمُرُورَ أو الْمُكْثَ فَيَتَوَقَّفُ فيه وَقِيلَ ليس إضْمَارُ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى من الْآخَرِ مُتَعَيِّنًا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَاعْلَمْ أَنَّ هذه الْمَسْأَلَةَ هِيَ عَيْنُ مَسْأَلَةِ الْمُقْتَضَى هل له عُمُومٌ في جَمِيعِ مُقَدَّرَاتِهِ أَمْ لَا وابن الْحَاجِبِ مِمَّنْ يَمْنَعُ الْعُمُومَ في بَابِهِ وَيَقُولُ بِهِ هَاهُنَا إلَّا أَنْ يُدَّعَى أَنَّهُ لَا تَلَازُمَ بين نَفْيِ الْإِجْمَالِ وَالْعُمُومِ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في قَوْلِهِ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ على وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ مُجْمَلٌ لِأَنَّ الْمُجْمَلَ يُوجَدُ بِغَيْرِ النِّيَّةِ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ شَرْطًا في الْجَوَازِ أو الْفَضِيلَةِ وَلَا ذِكْرَ لَهُمَا في الْخَبَرِ فَلَيْسَ إضْمَارُ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى من
____________________
(3/51)
الْآخَرِ وَلَا يَجُوزُ دَعْوَى الْعُمُومِ فِيهِمَا لِأَنَّ الْعُمُومَ لِلْأَلْفَاظِ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فيه وَالثَّانِي ليس بِمُجْمَلٍ لِأَنَّهُ قَصَدَ بَيَانَ الشَّرْعِ دُونَ اللُّغَةِ وَإِضْمَارُ أَحَدِهِمَا خِلَافُ الْأَصْلِ فَيَجِبُ الْعُمُومُ قال وَقُلْت أَمَّا إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَصَدَ بَيَانَ الشَّرْعِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ شَرْطًا في الْعَمَلِ دُونَ صِفَتِهِ فَلَا يَصِحُّ الْعَمَلُ شَرْعًا إلَّا بِالنِّيَّةِ وَهَذَا الْجَوَابُ يُغْنِي عن دَعْوَى الْعُمُومِ فيه وقال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ إذَا قِيلَ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ أَفَادَ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا إذَا وَقَعَ بهذا صَحَّ وإذا لم يَأْتِ بِهِ لم يَصِحَّ وَهَذَا مَعْقُولُ الْخِطَابِ وَقِيلَ أَرَادَ الْكَمَالَ لَا الصِّحَّةَ وَلَنَا إذَا بَطَلَ الصِّحَّةُ بَطَلَ الْكَمَالُ أَيْضًا فَهُوَ أَكْثَرُ عُمُومًا فَهُوَ أَكْثَرُ فَائِدَةً قال وكان ابن أبي هُرَيْرَةَ يقول قَوْلُهُ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ليس الْمُرَادُ إخْرَاجَهُ من الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ صِحَّتَهُ أو كَمَالَهُ لَكِنَّ حَمْلَهُ على الصِّحَّةِ أَوْلَى لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ عَامِلًا بِنِيَّتِهِ وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ لِتَرَدُّدِهِ بين الْكُلِّ وَالْبَعْضِ وَالسُّنَّةُ بَيَّنَتْ الْبَعْضَ وَحَكَاهُ في الْمُعْتَمَدِ عن أبي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وقال آخَرُونَ لَا إجْمَالَ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فقالت الْمَالِكِيَّةُ يَقْتَضِي مَسْحَ الْجَمِيعِ لِأَنَّ الرَّأْسَ حَقِيقَةٌ في جَمِيعِهِمَا وَالْبَاءَ إنَّمَا دَخَلَتْ لِلْإِلْصَاقِ وقال الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِيمَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ إنَّهُ يَقْتَضِي التَّبْعِيضَ قال لِأَنَّ الْمَسْحَ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى حَرْفِ التَّعَدِّيَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ مَسَحْته كُلَّهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُفِيدَ دُخُولُهُ الْبَاءَ فَائِدَةً جَدِيدَةً فَلَوْ لم يُفِدْ التَّبْعِيضَ لَبَقِيَ اللَّفْظُ عَارِيًّا عن الْفَائِدَةِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ إنَّهَا حَقِيقَةٌ فِيمَا يَنْطَلِقُ عليه الِاسْمُ وهو الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بين مَسْحِ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ فَيَصْدُقُ بِمَسْحِ الْبَعْضِ وَنَسَبَهُ في الْمَحْصُولِ لِلشَّافِعِيِّ قال الْبَيْضَاوِيُّ هُنَا وهو الْحَقُّ وهو مُخَالِفٌ لِإِثْبَاتِهِ مَجِيءَ الْبَاءِ لِلتَّبْعِيضِ وَنَقَلَ ابن الْحَاجِبِ عن الشَّافِعِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ ثُبُوتَ التَّبْعِيضِ بِالْعُرْفِ وَاَلَّذِي في الْمُعْتَمَدِ لِأَبِي الْحُسَيْنِ عن عبد الْجَبَّارِ أنها تُفِيدُ في اللُّغَةِ تَعْمِيمَ مَسْحِ الْجَمِيعِ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا يُسَمَّى رَأْسًا وهو اسْمٌ لِلْجُمْلَةِ لَا لِلْبَعْضِ لَكِنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِي إلْحَاقَ الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ إمَّا جَمِيعَهُ وَإِمَّا بَعْضَهُ فَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عليه ثُمَّ قال إنَّهُ الْأَوْلَى ثُمَّ قال ابن الْحَاجِبِ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ لَا إجْمَالَ ا هـ قلت وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ في كِتَابِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ فَكَانَ مَعْقُولًا في الْآيَةِ أَنَّ
____________________
(3/52)
من مَسَحَ من رَأْسِهِ شيئا فَقَدْ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ولم تَحْتَمِلْ الْآيَةُ إلَّا هذا وَهَذَا أَظْهَرُ مَعَانِيهَا أو مَسَحَ الرَّأْسَ كُلَّهُ قال فَدَلَّتْ السُّنَّةُ على أَنْ ليس على الْمَرْءِ مَسْحَ رَأْسِهِ كُلِّهِ وإذا دَلَّتْ السُّنَّةُ على ذلك فَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ من مَسَحَ شيئا من رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ ا هـ فلم يَثْبُتْ التَّبْعِيضُ بِالْعُرْفِ كما زَعَمَ ابن الْحَاجِبِ وقال صَاحِبُ الْمَصَادِرِ يَنْبَغِي على قَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا لِأَنَّهُ إذَا أَفَادَ إلْصَاقَ الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ من غَيْرِ تَعْمِيمٍ أو تَبْعِيضٍ صَارَ مُحْتَمِلًا لَهُمَا فَيَصِيرُ مُجْمَلًا وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ صَارَ مُفِيدًا لِلتَّبْعِيضِ مَمْنُوعٌ وقال الْأَصْفَهَانِيُّ مَذْهَبُ الْأَوَّلِينَ أَقْرَبُ إلَى النَّصِّ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَقْرَبُ إلَى الْفِعْلِ وَمِنْهَا قال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ آيَةُ السَّرِقَةِ مُجْمَلَةٌ إذْ الْيَدُ لِلْعُضْوِ من الْمَنْكِبِ وَالْمَرْفِقِ وَالْكُوعِ لِاسْتِعْمَالِهَا فيها وَالْقَطْعُ لِلْإِبَانَةِ وَالشَّقِّ لِأَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِيهِمَا وَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ بَلْ الْيَدُ حَقِيقَةٌ في الْعُضْوِ إلَى الْمَنْكِبِ وَلِمَا دُونَهُ مَجَازٌ لِصِحَّةِ بَعْضِ الْيَدِ وَلِفَهْمِ الصَّحَابَةِ إذْ مَسَحُوا إلَى الْآبَاطِ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ وَالْمَجَازُ خَيْرٌ من الِاشْتِرَاكِ وقال بَعْضُهُمْ الْيَدُ في الشَّرْعِ تُسْتَعْمَلُ مُطْلَقَةً وَمُقَيَّدَةً فَالْمُطْلَقَةُ تَنْصَرِفُ إلَى الْكُوعِ بِدَلِيلِ آيَةِ التَّيَمُّمِ وَآيَةِ السَّرِقَةِ وَآيَةِ الْمُحَارَبَةِ وَقَوْلِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ حتى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا وَقَوْلِهِ إذَا أَفْضَى بيده إلَى فَرْجِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ وَالْمُقَيَّدَةُ بِحَسَبِ ما قُيِّدَتْ بِهِ كَآيَةِ الْوُضُوءِ فَلَا إجْمَالَ وَالْقَطْعُ حَقِيقَةٌ في الْإِبَانَةِ وَإِطْلَاقُهُ على الشِّقِّ لِوُجُودِهَا فيه وَالتَّوَاطُؤُ خَيْرٌ من الِاشْتِرَاكِ وَمِنْهَا ما وَرَدَ من الْأَوَامِرِ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ وَقَوْلُهُ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ قَوْلُهُ عليه السَّلَامُ الثَّيِّبُ تُشَاوَرُ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أنها تُفِيدُ الْإِيجَابَ وقال قَوْمٌ من الْأُصُولِيِّينَ
____________________
(3/53)
وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إنَّهُ مَوْقُوفٌ فيه إلَى دَلِيلٍ يُعَيِّنُ جِهَةً من الْجِهَاتِ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الْحَمْلُ على ظَاهِرِهِ وهو الْخَبَرُ لِأَنَّا نَجِدُ مُطَلَّقَةً لَا تَتَرَبَّصُ وَجُرْحًا لَا يَقْتَصُّ وَثَيِّبًا لَا تُشَاوَرُ وَاللَّفْظُ لَا يَتَعَرَّضُ لِجِهَةٍ أُخْرَى بِالنَّصِّ فَلَا بُدَّ في تَعْيِينِ الْجِهَةِ من دَلِيلٍ وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أنها خَيْرٌ من اللَّهِ فَلَوْ حُمِلَ على حَقِيقَةِ الْخَبَرِ لَزِمَ الْخُلْفُ في خَبَرِ اللَّهِ فَوَجَبَ حَمْلُهَا على إرَادَةِ الْأَمْرِ كَذَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ وَأَدْخَلَهُ في بَابِ الْإِجْمَالِ مَسْأَلَةٌ حَرْفُ النَّفْيِ قد يَدْخُلُ على الْمَاهِيَّةِ وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْأَصْلِ كَقَوْلِهِ لَا يَسْمَعُونَ فيها لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا وَقَوْلُهُ فَالْيَوْمَ لَا يَخْرُجُونَ منها وقد يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْكَمَالِ مع بَقَاءِ الْأَصْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لهم لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ثُمَّ قال أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ فَنَفَاهَا أَوَّلًا ثُمَّ أَثْبَتَهَا ثَانِيًا فَدَلَّ على أَنَّهُ لم يُرِدْ نَفْيَ الْأَصْلِ بَلْ نَفْيَ الْكَمَالِ وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا أُخِذَ من الْقَرِينَةِ فَأَمَّا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ كَقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ولا صِيَامَ لِمَنْ لم يُبَيِّتْ الصِّيَامَ من اللَّيْلِ ولا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ ولا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا في الْمَسْجِدِ وَنَحْوُهُ فَاخْتَلَفُوا هل هِيَ مُجْمَلَةٌ أَمْ لَا فَنُقِلَ الْإِجْمَالُ عن الْقَاضِيَيْنِ أبي بَكْرٍ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ والْجُبَّائيّيْنِ أبي عَلِيٍّ وَابْنِهِ وَأَبِي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ قال ابن بَرْهَانٍ إلَّا أَنَّ الْجُبَّائِيَّيْنِ ادَّعَيَا الْإِجْمَالَ من وَجْهٍ وَالْقَاضِي من وَجْهٍ آخَرَ وقال ابن الْإِبْيَارِيِّ إنَّمَا صَارَ الْقَاضِي إلَى الْإِجْمَالِ لِأَنَّهُ نَفَى الْأَسْمَاءَ الشَّرْعِيَّةَ وَاَلَّذِي دَلَّ اللَّفْظُ على نَفْيِهِ مَوْجُودٌ فَافْتَقَرَ إلَى التَّقْدِيرِ وَتَعَدُّدِ الْمُقَدَّرِ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أَهْلِ الرَّأْيِ وَنَقَلَ الْمَازِرِيُّ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ الْوَقْفَ قال وهو غَيْرُ مَذْهَبِ الْإِجْمَالِ
____________________
(3/54)
فيقول يَحْتَمِلُ عِنْدِي نَفْيَ الْإِجْزَاءِ وَنَفْيَ الْكَمَالِ لَا أَكْثَرَ من ذلك حتى يَقُومَ دَلِيلٌ على أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَالْقَائِلُ بِالْإِجْمَالِ يقول إنَّهُ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ الصَّالِحَةِ لِلنَّفْيِ قلت وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ بَلْ صَرَّحَ في صَدْرِ كَلَامِهِ بِأَنَّهُ بِمُجْمَلٍ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أنها عَامَّةٌ منهم الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَالْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وابن الْقُشَيْرِيّ عن مُعْظَمِ الْفُقَهَاءِ وَصَحَّحَهُ ابن بَرْهَانٍ وابن السَّمْعَانِيِّ وَحَكَاهُ عن الْأَصْحَابِ وقال ابن الْقَطَّانِ إنَّهُ الظَّاهِرُ قال وَتَجَاهَلَ قَوْمٌ فَقَالُوا ليس فيه دَلَالَةٌ على دَفْعِهِ قال شَارِحُ اللُّمَعِ وَاخْتَلَفُوا إلَى مَاذَا يَعُودُ النَّفْيُ على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا إلَى نَفْيِ الْمَذْكُورِ وهو النِّكَاحُ الشَّرْعِيُّ وَالصَّلَاةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ لِأَنَّهُ الذي وَرَدَهُ بِهِ الشَّرْعُ وَذَلِكَ لم يُوجَدْ مع شَرْطِهِ الْمَذْكُورِ فَاسْتَغْنَى هذا عن دَعْوَى الْعُمُومِ في الْمُضْمَرِ وَعَنْ حَمْلِ الْكَلَامِ على التَّنَاقُضِ وَعَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِأَنَّ النبي عليه السَّلَامُ بُعِثَ لِبَيَانِ الشَّرْعِيَّاتِ وَقِيلَ بَلْ يُرْجَعُ إلَى الصِّفَاتِ التي يَقَعُ بها الِاعْتِدَادُ في الْكِفَايَةِ كما يُرْجَعُ النَّفْيُ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ في قَوْلِ الْقَائِلِ ليس في الْبَلَدِ سُلْطَانٌ على نَفْيِ الصِّفَاتِ التي يَقَعُ بِمَا الْكِفَايَةُ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ وَإِنْ لم تَكُنْ مَذْكُورَةً فَهِيَ مَعْقُولَةٌ من ظَاهِرِ اللَّفْظِ فَنَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الْمَلْفُوظِ بِهِ وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ في النَّفْيِ إذَا وَقَعَ في الشَّرْعِ على مَاذَا يُحْمَلُ فقال بَعْضُهُمْ يُلْحَقُ بِالْمُجْمَلَاتِ لِأَنَّ نَفْيَهُ يَقْتَضِي نَفْيَ الذَّوَاتِ وَمَعْلُومٌ ثُبُوتُهَا حِسًّا فَقَدْ صَارَ الْمُرَادُ مَجْهُولًا وَهَذَا الذي قَالُوهُ خَطَأٌ فإن الْمَعْلُومَ من عَادَةِ الْعَرَبِ أنها لَا تَضَعُ هذا النَّفْيَ لِلذَّاتِ في كل مَكَان وَإِنَّمَا تُورِدُهُ مُبَالَغَةً فَتَذْكُرُ الذَّاتَ لِيَحْصُلَ لها ما أَرَادَتْ من الْمُبَالَغَةِ وقال آخَرُونَ بَلْ يُحْمَلُ على نَفْيِ الذَّاتِ وَسَائِرُ أَحْكَامِهَا وَيُخَصُّ الذَّاتُ بِالدَّلِيلِ على أَنَّ النبي عليه السَّلَامُ لم يُرِدْهُ وقال قَوْمٌ لم تَقْصِدْ الْعَرَبُ إلَى نَفْيِ الذَّاتِ وَلَكِنْ لِنَفْيِ أَحْكَامِهَا وَمِنْ أَحْكَامِهَا الْكَمَالُ وَالْإِجْزَاءُ فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ على الْعُمُومِ فيها وَأَنْكَرَ هذا بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ لِأَنَّ الْعُمُومَ لَا يَصِحُّ دَعْوَاهُ فِيمَا يَتَنَافَى وَلَا شَكَّ أَنَّ نَفْيَ الْكَمَالِ يُشْعِرُ بِحُصُولِ الْإِجْزَاءِ فإذا قُدِّرَ الْإِجْزَاءُ مَنْفِيًّا لِتَحَقُّقِ الْعُمُومِ قُدِّرَ ثَابِتًا لِتَحَقُّقِ إشْعَارِ نَفْيِ الْكَمَالِ بِثُبُوتِهِ وَهَذَا يَتَنَاقَضُ وما يَتَنَاقَضُ لَا يَحْتَمِلُ الْكَمَالَ وَصَارَ الْمُحَقِّقُونَ إلَى التَّوَقُّفِ بين نَفْيِ الْإِجْزَاءِ
____________________
(3/55)
وَنَفْيِ الْكَمَالِ وَادَّعَوْا الِاحْتِمَالَ من هذه الْجِهَةِ لَا بِمَا قال الْأَوَّلُونَ فَعَلَى هذه الْمَذَاهِبِ يَخْرُجُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لم يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَالْقَائِلُونَ اخْتَلَفُوا في سَبَبِهِ على ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أنها ظَاهِرَةٌ في نَفْيِ الْوُجُودِ وهو لَا يُمْكِنُ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ قَطْعًا فَاقْتَضَتْ إيهَامًا وَالثَّانِي أنها ظَاهِرَةٌ في نَفْيِ الْوُجُودِ وَنَفْيِ الْحُكْمِ فَصَارَ مُجْمَلًا وَالثَّالِثُ أنها مُتَرَدِّدَةٌ بين نَفْيِ الْجَوَازِ وَنَفْيِ الْوُجُودِ قال الْمُقْتَرِحُ وهو الْأَلْيَقُ بِمَذْهَبِ الْقَاضِي قُلْت قد سَبَقَ التَّصْرِيحُ بِهِ عنه في كِتَابِ التَّقْرِيبِ وَصَرَّحَ بِنَقْلِهِ عنه ابن الْقُشَيْرِيّ وَرَدَّهُ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الصَّحِيحُ حَمْلُ اللَّفْظِ على نَفْيِ الْمَنْطُوقِ بِهِ دُونَ صِفَتِهِ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَيُغْنِي عن دَعْوَى الْعُمُومِ فيه يَعْنِي أَنَّهُ يَلْزَمُ من نَفْيِ الْأَصْلِ نَفْيُ صِفَتِهِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّ لَفْظَ النَّفْيِ في الشَّرْعِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْعَيْنِ كَقَوْلِهِ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ ولا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ فَأَمَّا قَوْلُهُ لَا وُضُوءَ لِمَنْ لم يذكر اسْمَ اللَّهِ فَإِنَّمَا أَرَادَ ذِكْرَ الْقَلْبِ وَلَا يَصِحُّ بِدُونِهِ وَقَوْلُهُ لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا في الْمَسْجِدِ أَرَادَ بِالْمَسْجِدِ الْمَكَانَ الطَّاهِرَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ جُعِلَتْ لي الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا انْتَهَى وَأَجَازَ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ تَقْدِيرَ نَفْيِ الصِّحَّةِ وَحَكَى عن أَهْلِ الْعِرَاقِ نَفْيَ الْكَمَالِ وَعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَقْتَضِي نَفْيَ الْأَمْرَيْنِ جميعا وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ أَنَّ النَّفْيَ ظَاهِرٌ في الْإِجْزَاءِ مُحْتَمِلٌ على الْخَفَاءِ لِنَفْيِ الْكَمَالِ فَإِنْ عَضَّدَهُ دَلِيلٌ قَوِيٌّ يَزِيدُ على قُوَّةِ الظُّهُورِ انْصَرَفَ إلَى الْكَمَالِ وَإِلَّا فَهُوَ ظَاهِرٌ في الْإِجْزَاءِ فَعُرْفُ الشَّرْعِ عِنْدَهُمْ عُرْفٌ مَقْصُودٌ وَلَهُ في الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ تَصَرُّفٌ وَمَعْنَى الْإِجْزَاءِ عِنْدَهُمْ أَسْمَاءُ الصُّورَةِ الشَّرْعِيَّةِ
____________________
(3/56)
وقال الْمَاوَرْدِيُّ إذَا كان الْحُكْمُ مُطْلَقًا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ وَنَفْيَ الْكَمَالِ قال وَيَجْرِي على مَذْهَبِ من قال يُوقَفُ الْمُحْتَمَلُ يُجْعَلُ هذا مَوْقُوفًا لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ وَالْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ اخْتَلَفُوا هل النَّفْيُ انْصَبَّ إلَى الْأَعْيَانِ وَالْأَحْكَامِ فَهُوَ عَامٌّ فِيهِمَا ثُمَّ خُصَّتْ الْأَعْيَانُ بِدَلِيلِ الْحِسِّ أو الْعَقْلِ وَبَقِيَتْ الْأَحْكَامُ على مُوجِبِهَا وَيَجْرِي ذلك مَجْرَى تَخْصِيصِ اللَّفْظِ الْعَامِّ أو انْصَبَّ إلَى الْأَحْكَامِ فَقَطْ وَلَا يُقَدَّرُ دُخُولُ الْأَعْيَانِ لِيَحْتَاجَ إلَى تَخْصِيصِهِ لِأَنَّهُ عليه السَّلَامُ لم يَتَعَرَّضْ لِلْمَحْسُوسَاتِ فَهُوَ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَفْرَادِ الْأَحْكَامِ على قَوْلَيْنِ حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ اللَّفْظَ ظَاهِرٌ في نَفْيِ الْجَوَازِ مُؤَوَّلٌ في نَفْيِ الْكَمَالِ فَيُحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ على نَفْيِ الْجَوَازِ وَلَا يُحْمَلُ على نَفْيِ الْكَمَالِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَهَكَذَا اخْتَارَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَالْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ وَالْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في كِتَابِ الْقَضَاءِ وَنَقَلَهُ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ في كِتَابِهِ عن عِيسَى بن أَبَانَ ثُمَّ قال إنَّهُ الصَّحِيحُ وَجَزَمَ بِهِ ابن الْقَطَّانِ قال وَلِلتَّعْبِيرِ عنه طَرِيقَانِ إمَّا أَنْ يَقُولَ هو بَاطِلٌ أو يَقُولَ لَا كَذَا إلَّا بِكَذَا فَظَاهِرُ الْبُطْلَانِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ يَصْرِفُهُ عنه إلَى الْكَمَالِ وَالْفَضِيلَةِ قال وَهَذَا من آكَدِ ما يُخَاطَبُ بِهِ في إيجَابِ الشَّيْءِ ثُمَّ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ تَبَعًا لِلْقَاضِي الذي نَرْتَضِيهِ إلْحَاقُ اللَّفْظِ بِالْمُحْتَمَلَاتِ لِتَرَدُّدِ اللَّفْظِ بين الْجَوَازِ وَالْكَمَالِ وَيَسْتَحِيلُ الْحَمْلُ عَلَيْهِمَا جميعا وَلَا طَرِيقَ إلَى التَّوَقُّفِ لِتَعَيُّنِ لَفْظِ الْمُحْتَمَلَيْنِ فَإِنْ قِيلَ هذا هو الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ في ادِّعَاءِ الْإِجْمَالِ قُلْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِينَ ادَّعَوْا الْإِجْمَالَ أَوَّلًا اسْتَنَدُوا إلَى تَوَقُّعِ نَفْيِ الْأَعْيَانِ وهو مُسْتَحِيلٌ وَنَحْنُ أَسْنَدْنَا ادِّعَاءَ الْإِبْهَامِ إلَى الْأَحْكَامِ قال ثُمَّ هذا كُلُّهُ إذَا قُلْنَا بِإِثْبَاتِ صِيَغِ الْعُمُومِ فَإِنْ مَنَعْنَاهُ لم نَحْتَجْ إلَى إيضَاحِ وَجْهِ الْإِجْمَالِ قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ فَقَوْلُهُ لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ من قال إنَّ النَّفْيَ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ مَنَعَ من الِاسْتِدْلَالِ بِهِ على جَوَازِ الصَّلَاةِ وَفَسَادِهَا وقال إنَّ النَّفْيَ يَتَعَلَّقُ بِالصُّورَةِ وقد وُجِدَتْ وَالْمَصِيرُ إلَى الْجَوَازِ وَالْكَمَالِ لَا بُدَّ له من دَلِيلٍ وَمَنْ جَعَلَهُ عَامًّا في الْجَمِيعِ زَعَمَ أَنَّهُ يُوجِبُ نَفْيَ الْحُكْمِ وَثُبُوتُ الْعَيْنِ بِالدَّلِيلِ لَا يَمْنَعُ من اسْتِعْمَالِ الظَّاهِرِ فِيمَا بَعْدَهُ وقال هذا هو الصَّحِيحُ ا هـ وَالْمُخْتَارُ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ إنْ دخل على مُسَمًّى شَرْعِيٍّ كَالصَّلَاةِ فَالْمُرَادُ نَفْيِ
____________________
(3/57)
الصِّحَّةِ لِإِمْكَانِ حَمْلِهِ عليه فَلَا إجْمَالَ وَإِنْ دخل على مُسَمًّى حَقِيقِيٍّ نُظِرَ فيه فَإِنْ لم يَكُنْ إلَّا حُكْمٌ وَاحِدٌ تَعَيَّنَ كَقَوْلِهِ لَا شَهَادَةَ لِمَجْلُودٍ في قَذْفٍ إذْ لَا يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْفَضِيلَةِ وَإِنْ كان حُكْمَانِ الْفَضِيلَةُ وَالْجَوَازُ فَهُوَ مُجْمَلٌ لِعَدَمِ التَّعَيُّنِ وَنَحْوِ لَا يَسْتَوِي لَا يُسَمَّى مُجْمَلًا عِنْدَ من لَا يقول بِعُمُومِهِ فَائِدَةٌ الْمُقَدَّرُ في قَوْلِهِ لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ مَنَعَ ابن الدَّهَّانِ النَّحْوِيُّ تَقْدِيرَ من قَدَّرَ لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ بِقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ كَامِلَةٌ من جِهَةِ الصِّنَاعَةِ لِأَنَّ الصِّنَاعَةَ لَا يَجُوزُ حَذْفُهَا فَلَا يَجُوزُ حَذْفُ بَعْضِهَا قال وَإِنَّمَا التَّقْدِيرُ لَا كَمَالَ صَلَاةٍ فَحَذَفَ الْمُضَافَ فَأَقَامَ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَقَامَهُ وَكَذَا قال الْعَبْدَرِيّ في شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى من قَدَّرَ لَا صِيَامَ صَحِيحٌ أو مُجْمَلٌ فَقَدْ أَبْعَدَ لِأَنَّ حَذْفَ الصِّفَةِ وَإِبْقَاءَ الْمَوْصُوفِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ في كَلَامِ الْعَرَبِ لم يَأْتِ إلَّا في قَوْلِهِمْ سِيرِي سَيْرَ وَأَلْفَاظٌ قَلِيلَةٌ وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ وهو حَذْفُ الْمَوْصُوفِ وَإِبْقَاءُ الصِّفَةِ مَسْأَلَةٌ الْمُقَدَّرُ في مِثْلِ قَوْلِهِ رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ وَهَذَا الْخِلَافُ يَجْرِي في الرَّفْعِ أَيْضًا نَحْوُ رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ رُفِعَ الْقَلَمُ عن الصَّبِيِّ قال الْغَزَالِيُّ قَضِيَّةُ اللَّفْظِ رَفْعُ نَفْسِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وهو غَيْرُ مَعْقُولٍ فَالْمُرَادُ بِهِ رَفْعُ حُكْمِهِ لَا على الْإِطْلَاقِ بَلْ الْحُكْمُ الذي عُلِمَ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ قبل الشَّرْعِ إرَادَتُهُ بهذا اللَّفْظِ وهو دَفْعُ الْإِثْمِ فَلَيْسَ بِعَامٍّ في جَمِيعِ أَحْكَامِهِ من الضَّمَانِ وَلُزُومِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ وَلَا هو يُحْمَلُ بين الْمُؤَاخَذَةِ التي تَرْجِعُ إلَى الذَّمِّ نَاجِزًا وَإِلَى الْعُقُوبَاتِ آجِلًا وَبَيْنَ الْغُرْمِ وَالْقَضَاءِ لَا صِيغَةَ لِعُمُومِهِ حتى يُجْعَلَ عَامًّا في كل حُكْمٍ كما لم يُجْعَلْ قَوْلُهُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ عَامًّا في كل فِعْلٍ مع أَنَّهُ لَا بُدَّ من إضْمَارِ الْفِعْلِ ثُمَّ قال فَأَمَّا إذَا وَرَدَ في مَوْضِعٍ لَا عَيْنَ فيه فَهُوَ مُجْمَلٌ يَحْتَمِلُ نَفْيَ الْأَثَرِ مُطْلَقًا أو نَفْيَ الْبَعْضِ
____________________
(3/58)
وَحَكَى شَارِحُ اللُّمَعِ في هذا وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُجْمَلٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي رَفْعَ الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ وهو مُحَالٌ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى ما ليس بِمَذْكُورٍ وهو إمَّا الْإِثْمُ أو الْحُكْمُ وَلَا يُحْمَلُ على شَيْءٍ إلَّا بِدَلِيلٍ وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال نَحْمِلُهُ على مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَمِنْهُمْ من يَحْمِلُهُ على الْأَعَمِّ فَائِدَةً قال وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ ليس بِمُجْمَلٍ لِأَنَّهُ مَعْقُولٌ لُغَةً فإن السَّيِّدَ لو قال لِعَبْدِهِ رَفَعْت عَنْك جِنَايَتَك عُقِلَ منه رَفْعُ الْمُؤَاخَذِ عن كل ما يَتَعَلَّقُ بِالْجِنَايَةِ فَعَلَى هذا هل يَرْجِعُ الرَّفْعُ إلَى الْإِثْمِ وَالْحَرَجِ أو إلَى جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إلَّا ما أَخْرَجَهُ دَلِيلٌ فيه وَجْهَانِ حَكَاهُمَا في الْإِرْشَادِ وَجَمَعَ الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ الْمَحْصُولِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ مُجْمَلٌ وَالثَّانِي الْحَمْلُ على رَفْعِ الْعِقَابِ آجِلًا وَالْإِثْمِ نَاجِزًا وهو مَذْهَبُ الْغَزَالِيِّ لِأَنَّهُ الْمَفْهُومُ منه في الْعُرْفِ وَلَيْسَ بِعَامٍّ في نَفْيِ الضَّمَانِ الثَّالِثُ وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ في الْمَحْصُولِ حَمَلَهُ على رَفْعِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ قُلْت وَمِمَّنْ حَكَى الثَّلَاثَةَ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ وَنَسَبَ الثَّالِثَ لِأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ من أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِهِمْ وَاخْتَارَ هو الثَّانِيَ أَعْنِي أَنَّهُ مَحْمُولٌ على نَفْيِ الْإِثْمِ وَالْحَرَجِ خَاصَّةً مَسْأَلَةٌ في أَنَّ لَفْظَ الشَّارِعِ إذَا دَارَ بين مَدْلُولَيْنِ إنْ حُمِلَ على أَحَدِهِمَا أَفَادَ مَعْنًى وَاحِدًا وَإِنْ حُمِلَ على الْآخَرِ أَفَادَ مَعْنَيَيْنِ وَلَيْسَ هو أَظْهَرَ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحَدِهِمَا فَهَلْ هو مُجْمَلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْ هو ظَاهِرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى إفَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ قال الْهِنْدِيُّ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى الثَّانِي وَذَهَبَ الْأَقَلُّونَ منهم الْغَزَالِيُّ إلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا قُلْت وَاخْتَارَهُ ابن الْحَاجِبِ وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْآمِدِيَّ تَكْثِيرًا لِلْفَائِدَةِ وَلِمَا فيه من رَفْعِ الْإِجْمَالِ الذي هو خِلَافُ الْأَصْلِ فَمَنْ لم يَجْعَلْهُ مُجْمَلًا يَجْعَلُهُ حَقِيقَةً في الْمَعْنَيَيْنِ مَجَازًا في الْوَاحِدِ وَاللَّفْظُ الدَّائِرُ بين الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ليس بِمُجْمَلٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بَلْ هو ظَاهِرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَقِيقَةِ وَمَنْ جَعَلَهُ مُجْمَلًا لَا يَجْعَلُهُ حَقِيقَةً في أَحَدِهِمَا عَيْنًا بَلْ يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ احْتِمَالًا سَوَاءٌ أو يَكُونُ حَقِيقَةً في الْمَعْنَى الْوَاحِدِ مَجَازًا في الْمَعْنَيَيْنِ وَبِالْعَكْسِ وَأَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِيهِمَا وَلَا يَرْجِعُ لِسَبَبِ إفَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ ثُمَّ قال الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ مَحَلُّ الْخِلَافِ إنَّمَا هو فِيمَا إذَا لم يَكُنْ حَقِيقَةً في الْمَعْنَيَيْنِ فإنه يَكُونُ
____________________
(3/59)
مُجْمَلًا أو حَقِيقَةً في أَحَدِهِمَا فَالْحَقِيقَةُ مُرَجَّحَةٌ قَطْعًا وَظَاهِرُهُ جَعْلُ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا كَانَا مَجَازَيْنِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ حَقِيقَتَيْنِ وَلَا أَحَدُهُمَا حَقِيقَةً وَالْآخَرُ مَجَازًا فما بَقِيَ إلَّا أَنْ يَكُونَا مَجَازَيْنِ وَحِينَئِذٍ فَقَدْ يَسْتَشْكِلُ جَرَيَانُ الْخِلَافِ فيه لِأَنَّ نِسْبَةَ الْمَجَازَيْنِ إلَى اللَّفْظِ نِسْبَةُ الْحَقِيقَتَيْنِ وَالْحَقُّ أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ أَعَمُّ من ذلك وهو اللَّفْظُ الْمُحْتَمِلُ لِمُتَسَاوِيَيْنِ سَوَاءٌ كَانَا حَقِيقَتَيْنِ أو مَجَازَيْنِ أو أَحَدُهُمَا حَقِيقَةً مَرْجُوحَةً وَالْآخَرُ مَجَازًا رَاجِحًا عِنْدَ الْقَائِلِ بِتَسَاوِيهِمَا وَيَكُونُ ذلك بِاعْتِبَارِ الظُّهُورِ وَالْخَفَاءِ وَيَنْزِلُ كَلَامُ الْآمِدِيَّ على ما سَنَذْكُرُهُ وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْجَمَةَ الْمَسْأَلَةِ هَكَذَا تَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ ليس وَاحِدًا من الْمَعْنَيَيْنِ وَالظَّاهِرُ في هذا تَرْجِيحُ الْإِجْمَالِ وَقَوْلُهُمْ الْحَمْلُ على الْمَعْنَيَيْنِ أَكْثَرُ فَائِدَةً مَمْنُوعٌ لِأَنَّ هذا صَحِيحٌ فِيمَا إذَا كان الْمَعْنَى الْوَاحِدَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ وَعَلَى هذه الْحَالَةِ يَنْزِلُ قَوْلُ الْآمِدِيَّ وَالْهِنْدِيِّ أَنَّهُ لم يَقُلْ بِالْحَمْلِ على الْمَعْنَى الْوَاحِدِ أَحَدٌ وَالْإِعْرَاضِ عن الْآخَرِ ذِي الْمَعْنَيَيْنِ الْمُغَايِرَيْنِ لِلْمَعْنَى الْوَاحِدِ بَلْ الظَّاهِرُ الْإِجْمَالُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَجَّحَ الْمُجْمَلُ ذُو الْمَعْنَيَيْنِ لِكَوْنِهِ أَكْثَرَ فَائِدَةً وقد يُمَثَّلُ لِهَذِهِ الْحَالَةِ بِقَوْلِهِ الْمُحْرِمُ لَا يَنْكِحُ وَلَا يُنْكَحُ إذَا قُلْنَا النِّكَاحُ مُشْتَرَكٌ فإنه دَائِرٌ بَيْنَهُمَا من غَيْرِ تَرْجِيحٍ فَإِنْ حُمِلَ على الْوَطْءِ اُسْتُفِيدَ منه مَعْنًى وَاحِدٌ وهو أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَطَأُ وَلَا يُوطَأُ وَإِنْ حُمِلَ على الْعَقْدِ اُسْتُفِيدَ منه شَيْئَانِ بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وهو أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَعْقِدُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَيُعْمَلَ بِهِ قَطْعًا لِأَنَّهُ مُرَادٌ على كل حَالٍ وَيَبْقَى النَّظَرُ في الْمَعْنَى الْآخَرِ وقد يُمَثَّلُ لِهَذِهِ الْحَالَةِ بِقَوْلِهِ الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا فإنه يَحْتَمِلُ أنها أَحَقُّ بِنَفْسِهَا فَتَعْقِدُ على نَفْسِهَا كما يقول بِهِ الْخُصُومُ أو أنها أَحَقُّ بِنَفْسِهَا فَتُمَكَّنُ من أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَأْذَنَ لِمَنْ يَعْقِدُ عليها وَالثَّانِي أَنْ تَعْقِدَ بِنَفْسِهَا وَنُقِلَ ذلك عن نَصِّ الشَّافِعِيِّ إذَا كانت في مَوْضِعٍ لَا وَلِيَّ فيه وَلَا حَاكِمَ وَكَذَا قَوْلُهُ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ أو مِقْدَارَ ما يَجِبُ فيه أو مِقْدَارَ الْوَاجِبِ خَاصَّةً
____________________
(3/60)
مَسْأَلَةٌ الذي له مُسَمًّى شَرْعِيٌّ هل هو مُجْمَلٌ ما له مُسَمًّى شَرْعِيٌّ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ليس بِمُجْمَلٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ بَلْ اللَّفْظُ مَحْمُولٌ على الشَّرْعِيِّ لِأَنَّهُ عليه السَّلَامُ بُعِثَ لِبَيَانِ الشَّرِيعَةِ لَا اللُّغَةِ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ طَارِئٌ على اللُّغَةِ وَنَاسِخٌ لها فَالْحَمْلُ النَّاسِخُ الْمُتَأَخِّرُ أَوْلَى وَلِهَذَا ضَعَّفُوا قَوْلَ من حَمَلَ الْوُضُوءَ من أَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ على النَّظَافَةِ بِغَسْلِ الْيَدِ وَثَانِيهَا أَنَّهُ مُجْمَلٌ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَبِهِ قال الْقَاضِي وقال الْغَزَالِيُّ وَلَعَلَّهُ فَرَّعَهُ على مَذْهَبِ من يُثْبِتُ الْأَسَامِي الشَّرْعِيَّةَ وَإِلَّا فَهُوَ مُنْكِرٌ لها وَثَالِثُهَا وهو الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَرِدَ مُثْبَتًا فَيُحْمَلُ على الشَّرْعِيِّ كَقَوْلِهِ إنِّي إذَنْ صَائِمٌ فَيُسْتَفَادُ منه صِحَّةُ نِيَّةِ النَّهَارِ وَإِنْ وَرَدَ مَنْفِيًّا فَمُجْمَلٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَهُمَا كَالنَّهْيِ عن صِيَامِ يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَلَا يُسْتَفَادُ منه صِحَّةُ صَوْمِهِمَا من جِهَةِ أَنَّ النَّهْيَ عن الْمُمْتَنِعِ مُمْتَنِعٌ وَهَذَا منه بِنَاءً على أَصْلِهِ أَنَّ النَّهْيَ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ ثُمَّ هو مع ذلك لَا يقول بِأَنَّهُ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ وَرَابِعُهَا لَا إجْمَالَ أَيْضًا وَالْمُرَادُ في الْإِثْبَاتِ الشَّرْعِيِّ وفي النَّهْيِ اللُّغَوِيِّ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ لِتَعَذُّرِ حَمْلِهِ على الشَّرْعِيِّ لِأَنَّ الشَّرْعِيَّ يَسْتَلْزِمُ الصِّحَّةَ وَالنَّهْيُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَلِهَذَا اتَّفَقُوا على حَمْلِ قَوْلِهِ دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك على الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ مع أَنَّهُ في مَعْنَى النَّهْيِ تَفْرِيعٌ إذَا تَعَذَّرَ الْحَمْلُ على الشَّرْعِيِّ إنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ أَنَّهُ يُحْمَلُ على الشَّرْعِيِّ فَلَوْ تَعَذَّرَ ولم يُمْكِنْ الرَّدُّ إلَيْهِ إلَّا بِضَرْبٍ
____________________
(3/61)
من التَّجَوُّزِ فَهَلْ يُحْمَلُ على اللُّغَوِيِّ أو يَكُونُ مُجْمَلًا أو يُرَدُّ إلَى الشَّرْعِيِّ فيه ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ الْإِجْمَالَ قال ولم يَثْبُتْ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لم يَنْطِقْ بِالْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ وَلَا بِالِاسْمِ اللُّغَوِيِّ وَلَا بِالْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ فَتَرْجِيحُ الشَّرْعِيِّ تَحَكُّمٌ وَتُمَثَّلُ الْمَسْأَلَةُ بِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ وب الِاثْنَيْنِ فما فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ قال فإنه يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُسَمَّى جَمَاعَةً وَانْعِقَادُ الْجَمَاعَةِ وَحُصُولُ فَضِيلَتِهَا وَالْأَكْثَرُونَ منهم ابن الْحَاجِبِ أَنَّهُ يُحْمَلُ على الشَّرْعِيِّ لِأَنَّ الشَّارِعَ بُعِثَ لِبَيَانِ الشَّرْعِيَّاتِ وهو الْأَغْلَبُ وقال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ في كِتَابِ الْمَجَازِ أَمَّا قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَمَحْمُولٌ على صِيغَةِ إيجَابِ النِّكَاحِ اللُّغَوِيَّةِ دُونَ الشَّرْعِيَّةِ وَذَلِكَ حَقِيقَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللُّغَةِ دُونَ الشَّرْعِ كَالصَّلَاةِ الْمَحْمُولَةِ على الدُّعَاءِ في قَوْلِهِ وَإِنْ كان صَائِمًا فَلْيُصَلِّ أَيْ فَلْيَدْعُ وَكَذَلِكَ نَهْيُهُ عن بَيْعِ الْحُرِّ فإنه مَحْمُولٌ على اللُّغَوِيِّ دُونَ الشَّرْعِيِّ وَأَمَّا نَهْيُ الْحَائِضِ عن الصَّلَاةِ فَلَيْسَتْ الصَّلَاةُ فيه مَحْمُولَةً على الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ لِتَعَذُّرِهِ وَلَا على اللُّغَوِيِّ الذي هو الدُّعَاءُ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا هو مَجَازُ تَشْبِيهٍ لِأَنَّ صُورَةَ صَلَاتِهَا شَبِيهَةٌ بِصُورَةِ الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ فَهُوَ مَجَازٌ عن حَقِيقَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ صَلَاتَهَا مَجَازٌ عن مَجَازٍ شَرْعِيٍّ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللُّغَةِ لِأَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ تَسْمِيَةَ الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ بهذا اللَّفْظِ من مَجَازِ تَسْمِيَةِ الْكُلِّ بِاسْمِ جُزْئِهِ لِأَنَّ الدُّعَاءَ جُزْءٌ من أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَتُجُوِّزَ بِهِ عنها كما تُجُوِّزَ عنها بِالْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَسْأَلَةٌ ما له مُسَمًّى عُرْفِيٌّ وَشَرْعِيٌّ عَلَامَ يُحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَجْهَانِ خَرَّجَهُمَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ من الْخِلَافِ فِيمَنْ نَذَرَ عِتْقَ رَقَبَةٍ هل يُجْزِئُ ما يَقَعُ عليه الِاسْمُ في الْعُرْفِ أو لَا يُجْزِئُ إلَّا ما يُجْزِئُ في الْكَفَّارَةِ فيه وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ قُلْت الرَّاجِحُ الْحَمْلُ على الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوَّلًا ثُمَّ الْعُرْفِيَّةُ وَيَشْهَدُ له ما لو
____________________
(3/62)
وَقَفَ أو أَوْصَى لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلِسَبِيلِ اللَّهِ فإنه يُعْتَبَرُ من اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ في الزَّكَاةِ وَكَذَا لو حَلَفَ لَا يَبِيعُ الْخَمْرَ فإنه لَا يَحْنَثُ بِبَيْعِهِ وَكَذَا لو قال إنْ رَأَيْت الْهِلَالَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهُوَ مَحْمُولٌ على الْعِلْمِ مَسْأَلَةٌ إذَا تَرَدَّدَ اللَّفْظُ بين الْمُسَمَّى الْعُرْفِيِّ وَاللُّغَوِيِّ أَيُّهُمَا يُقَدَّمُ إذَا تَرَدَّدَ اللَّفْظُ بين الْمُسَمَّى الْعُرْفِيِّ وَاللُّغَوِيِّ قُدِّمَ الْعُرْفِيُّ الْمُطَّرِدُ ثُمَّ اللُّغَوِيُّ كَذَا قَالَهُ الْأُصُولِيُّونَ وَيُخَالِفُهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ ما ليس له حَدٌّ في الشَّرْعِ وَلَا في اللُّغَةِ يُرْجَعُ فيه إلَى الْعُرْفِ فإنه صَرِيحٌ في تَأْخِيرِ الْعُرْفِ عن اللُّغَةِ وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِوُجُوهٍ منها عَدَمُ وُرُودِهِمَا على مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَكَلَامُ الْفُقَهَاءِ في الضَّوَابِطِ وَهِيَ في اللُّغَةِ أَضْبَطُ فَتُقَدَّمُ اللُّغَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا وَكَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ في أَصْلِ الْمَعْنَى وهو في الْعُرْفِ أَظْهَرُ فَيُقَدَّمُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَمِنْهَا أَنَّ كَلَامَ الْأُصُولِيِّينَ في اللَّفْظِ الصَّادِرِ من الشَّارِعِ يُنْظَرُ فيه إلَى عُرْفِهِ وهو الشَّرْعِيُّ ثُمَّ عُرْفِ الناس لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يُخَاطِبُهُمْ بِمَا يَتَعَارَفُونَهُ ثُمَّ اللُّغَوِيُّ وَكَلَامُ الْفُقَهَاءِ في الصَّادِرِ من غَيْرِهِ وَلِهَذَا قال الرَّافِعِيُّ في بَابِ الطَّلَاق إذَا تَعَارَضَ الْمَدْلُولُ اللُّغَوِيُّ وَالْعُرْفِيُّ فَكَلَامُ الْأَصْحَابِ يَمِيلُ إلَى اعْتِبَارِ الْوَضْعِ وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ يَرَيَانِ اتِّبَاعَ الْعُرْفِ وَصَحَّحَ الْأَوَّلَ لِأَنَّ الْعُرْفَ لَا يَكَادُ يَنْضَبِطُ وَمِنْهَا قال الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ الْبَاجِيُّ مُرَادُ الْأُصُولِيِّينَ الْعُرْفُ الْكَائِنُ في زَمَنِهِ عليه السَّلَامُ وَمُرَادُ الْفُقَهَاءِ غَيْرُهُ قلت وَيَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَ الْأُصُولِيِّينَ ما إذَا تَعَارَضَ مَعْنَاهُ في اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ يُقَدَّمُ الْعُرْفُ وَمُرَادُ الْفُقَهَاءِ ما إذَا لم يُعْرَفْ حَدُّهُ في اللُّغَةِ فَإِنَّا نَرْجِعُ فيه إلَى الْعُرْفِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِمْ ليس له حَدٌّ في اللُّغَةِ ولم يَقُولُوا ليس له مَعْنًى
____________________
(3/63)
الْبَيَانُ وَالْمُبَيَّنُ قال الْغَزَالِيُّ جَرَتْ عَادَةُ الْأُصُولِيِّينَ بِعَقْدِ كِتَابٍ له وَلَيْسَ النَّظَرُ فيه مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُسَمَّى كِتَابًا فَالْخَطْبُ فيه يَسِيرٌ وَالْأَمْرُ فيه قَرِيبٌ وَأَوْلَى الْمَوَاضِعِ بِهِ أَنْ يُذْكَرَ عَقِبَ الْمُجْمَلِ فإنه الْمُفْتَقِرُ إلَى الْبَيَانِ ا هـ وَأَمْرُهُ ليس بِالسَّهْلِ فإنه من جُمْلَةِ أَسَالِيبِ الْخِطَابِ بَلْ هو من أَهَمِّهَا وَلِهَذَا صَدَّرَ بِهِ الشَّافِعِيُّ كِتَابَ الرِّسَالَةِ وَالْبَيَانُ لُغَةً اسْمُ مَصْدَرِ بَيَّنَ إذَا أُظْهِرَ يُقَالُ بَيَّنَ بَيَانًا وَتِبْيَانًا كَ كَلَّمَ يُكَلِّمُ كَلَامًا وَتَكْلِيمًا قال ابن فُورَكٍ في كِتَابِهِ مُشْتَقٌّ من الْبَيْنِ وهو الْفِرَاقُ شُبِّهَ الْبَيَانُ بِهِ لِأَنَّهُ يُوَضِّحُ الشَّيْءَ وَيُزِيلُ إشْكَالَهُ وقال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ سُمِّيَ بَيَانًا لِانْفِصَالِهِ مِمَّا يَلْتَبِسُ بِهِ من الْمَعَانِي وَيُشْكِلُ من أَجْلِهِ وَأَمَّا في الِاصْطِلَاحِ فَيُطْلَقُ على الدَّالِّ على الْمُرَادِ بِخِطَابٍ ثُمَّ يَسْتَقِلُّ بِإِفَادَتِهِ وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الدَّلِيلُ على الْمُرَادِ وَيُطْلَقُ على فِعْلِ الْمُبَيِّنِ وَلِأَجْلِ إطْلَاقِهِ على الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ اخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِهِ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا فَلَاحَظَ الصَّيْرَفِيُّ فِعْلَ الْمُبَيِّنِ فقال الْبَيَانُ إخْرَاجُ الشَّيْءِ من حَيِّزِ الْإِشْكَالِ إلَى حَيِّزِ التَّجَلِّي وقال الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ وَهَذَا ما ارْتَضَاهُ من خَاضَ في الْأُصُولِ من أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ إنَّهُ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا لِأَنَّ كُلَّ ما كان إيضَاحًا لِمَعْنًى وَإِظْهَارًا له فَهُوَ بَيَانٌ له وَاعْتَرَضَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ بِأَنَّ لَفْظَ الْبَيَانِ أَظْهَرُ من لَفْظِ إخْرَاجِ الشَّيْءِ من حَيِّزِ الْإِشْكَالِ إلَى حَيِّزِ التَّجَلِّي وَلِلصَّيْرَفِيِّ مَنْعُ ذلك وَنُقِضَ أَيْضًا بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ في الْحُكْمِ الْمُبْتَدَأِ من غَيْرِ سَبْقِ إشْكَالٍ فإنه رُبَّمَا وَرَدَ من اللَّهِ تَعَالَى بَيَانٌ لم يَخْطُرْ بِبَالِ أَحَدٍ وَيَخْرُجُ منه بَيَانُ الْمَعْدُومِ فإنه لَا يُقَالُ عليه شَيْءٌ وَبَيَانُ الْمُعَلِّمِ لِمَنْ لَا يَفْهَمُ عنه لِقُصُورِهِ وَلَعَلَّهُ يَمْنَعُ تَسْمِيَةَ ما كان ظَاهِرًا ابْتِدَاءً بَيَانًا وقال الْغَزَالِيُّ هذا الْحَدُّ لِفَرْعٍ من الْبَيَانِ وهو بَيَانُ الْمُجْمَلِ خَاصَّةً وَالْبَيَانُ يَكُونُ فيه وفي غَيْرِهِ ا ه
____________________
(3/64)
وَلَاحَظَ الْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيَّ وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي هَاشِمٍ وَأَبِي الْحُسَيْنِ أَنَّهُ الدَّلِيلُ فَحَدُّوهُ بِأَنَّهُ الدَّلِيلُ الْمُوَصِّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فيه إلَى الْعِلْمِ أو الظَّنِّ بِالْمَطْلُوبِ ا هـ وَلَاحَظَ أبو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيُّ أَنَّهُ نَفْسُ الْعِلْمِ أو الظَّنِّ الْحَاصِلِ من الدَّلِيلِ فَحَدَّهُ بِأَنَّهُ تَبْيِينُ الشَّيْءِ فَهُوَ وَالْبَيَانُ عِنْدَهُ وَاحِدٌ كَذَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ وَحَكَى أبو الْحُسَيْنِ عنه أَنَّهُ الْعِلْمُ الْحَادِثُ لِأَنَّ الْبَيَانَ هو ما بِهِ يَتَبَيَّنُ الشَّيْءُ وَاَلَّذِي بِهِ تَبَيُّنٌ هو الْعِلْمُ الْحَادِثُ قال وَلِهَذَا لَا يُوصَفُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ مُبَيَّنٌ لَمَّا كان عِلْمُهُ لِذَاتِهِ لَا بِعِلْمٍ حَادِثٍ وقال الْعَبْدَرِيّ بَعْدَ حِكَايَةِ الْمَذَاهِبِ الصَّوَابُ أَنَّ الْبَيَانَ هو مَجْمُوعُ هذه الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ فَعَلَى هذا يَكُونُ حَدُّهُ أَنَّهُ انْتِقَالُ ما في نَفْسِ الْمُعَلِّمِ إلَى نَفْسِ الْمُتَعَلِّمِ بِوَاسِطَةِ الدَّلِيلِ لَكِنَّ الِاصْطِلَاحَ إنَّمَا وَقَعَ على ما رَسَمَ بِهِ الْقَاضِي وَذَلِكَ أَنَّ الدَّلِيلَ هو أَقْوَى الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَأَكْثَرُهَا حَظًّا من إفَادَةِ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ الذي عليه جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْبَيَانَ إظْهَارُ الْمُرَادِ بِالْكَلَامِ الذي لَا يُفْهَمُ منه الْمُرَادُ إلَّا بِهِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَهَذَا الْحَدُّ أَحْسَنُ الْحُدُودِ وَيَرِدُ عليه ما أَوْرَدَهُ هو على الصَّيْرَفِيِّ أَعْنِي الْوَارِدَ ابْتِدَاءً من غَيْرِ سَبْقِ إجْمَالٍ وقال شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ من الْحَنَفِيَّةِ في كِتَابِهِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في مَعْنَى الْبَيَانِ فقال أَكْثَرُهُمْ هو إظْهَارُ الْمَعْنَى وَإِيضَاحُهُ لِلْمُخَاطِبِ مُنْفَصِلًا عَمَّا يُسْتَرُ بِهِ وقال بَعْضُهُمْ هو ظُهُورُ الْمُرَادِ لِلْمُخَاطِبِ وَالْعِلْمُ بِالْأَمْرِ الذي حَصَلَ له عِنْدَ الْخِطَابِ قال وهو اخْتِيَارُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الرَّجُلَ يقول بَانَ هذا الْمَعْنَى أَيْ ظَهَرَ وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ أَيْ الْإِظْهَارُ ا هـ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ قال أَصْحَابُنَا في الْبَيَانِ إنَّهُ الْإِفْهَامُ بِأَيِّ لَفْظٍ كان وقال أبو بَكْرٍ الدَّقَّاقُ إنَّهُ الْعِلْمُ الذي يَتَبَيَّنُ بِهِ الْمَعْلُومُ حَكَاهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ أَنَّ الْبَيَانَ اسْمٌ جَامِعٌ لِأُمُورٍ مُتَّفِقَةِ الْأُصُولِ مُتَشَعِّبَةِ الْفُرُوعِ وَأَقَلُّ ما فيه أَنَّهُ بَيَانٌ لِمَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِ فَاعْتَرَضَ عليه أبو بَكْرِ بن دَاوُد وقال الْبَيَانُ أَبْيَنُ من التَّفْسِيرِ الذي فَسَّرَهُ بِهِ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ لم يَقْصِدْ حَدَّ الْبَيَانِ وَتَفْسِيرَ مَعْنَاهُ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ أَنَّ الْبَيَانَ اسْمٌ عَامٌّ جَامِعٌ لِأَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ من الْبَيَانِ وَهِيَ
____________________
(3/65)
مُتَّفِقَةٌ في أَنَّ اسْمَ الْبَيَانِ يَقَعُ عليها وَمُخْتَلِفَةٍ في مَرَاتِبِهَا فَبَعْضُهَا أَجْلَى وَأَبْيَنُ من بَعْضٍ لِأَنَّ منه ما يُدْرَكُ مَعْنَاهُ من غَيْرِ تَدَبُّرٍ وَتَفَكُّرٍ وَمِنْهُ ما يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَلِهَذَا قال عليه السَّلَامُ إنَّ من الْبَيَانِ لَسِحْرًا فَأَخْبَرَ أَنَّ بَعْضَ الْبَيَانِ أَبْلَغُ من بَعْضٍ وَهَذَا كَالْخِطَابِ بِالنَّصِّ وَالْعُمُومِ وَالظَّاهِرِ وَدَلِيلِ الْخِطَابِ وَنَحْوِهِ فَجَمِيعُ ذلك بَيَانٌ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مَرَاتِبُهَا فيه ا هـ وَكَذَا قال الصَّيْرَفِيُّ وابن فُورَكٍ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ اسْمَ الْبَيَانِ يَقَعُ على الْجِنْسِ وَيَقَعُ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةُ الْمَرَاتِبِ في الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ وقال أبو بَكْرٍ الْقَفَّالُ أَرَادَ أَنَّهُ وَإِنْ حَصَلَ من وُجُوهٍ فَكُلُّ ذلك يَجْتَمِعُ في أَنَّهُ يَعُودُ إلَى الْكِتَابِ وَيُسْتَفَادُ منه حَكَاهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في تَقْرِيبِهِ وقال أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ هذا ليس بِحَدٍّ وَإِنَّمَا هو وَصْفٌ لِلْبَيَانِ بِأَنَّهُ يَجْمَعُهُ أَمْرٌ جَامِعٌ وهو أَنَّهُ سُنَّةُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ يَتَشَعَّبُ إلَى أَقْسَامٍ كَثِيرَةٍ فَإِنْ حُدَّ بِأَنَّهُ بَيَانٌ لِمَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِ كان قد حُدَّ الْبَيَانُ بِأَنَّهُ بَيَانٌ وَذَلِكَ حَدُّ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ وَإِنْ كان قد حُدَّ الْبَيَانُ الْعَامُّ فإنه يَخْرُجُ منه الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ وَإِنْ حُدَّ الْبَيَانُ الْخَاصُّ الذي يَتَعَارَفُهُ الْفُقَهَاءُ فإنه يَدْخُلُ فيه الْكَلَامُ الْمُبْتَدَأُ إذَا عُرِفَ بِهِ الْمُرَادُ كَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَغَيْرِهِمَا
____________________
(3/66)
فَصْلٌ في مَرَاتِبِ الْبَيَانِ لِلْأَحْكَامِ وقد ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ في أَوَّلِ الرِّسَالَةِ وَرَتَّبَهَا خَمْسَةَ أَقْسَامٍ بَعْضُهَا أَوْضَحُ بَيَانًا من بَعْضٍ فَأَوَّلُهَا بَيَانُ التَّأْكِيدِ وهو النَّصُّ الْجَلِيُّ الذي لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ تَأْوِيلٌ كَقَوْلِهِ في صَوْمِ التَّمَتُّعِ فَصِيَامُ ثَلَاثَةٍ أَيَّامٍ في الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ بَيَانَ التَّقْرِيرِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ في الْحَقِيقَةِ التي تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ وَالْعَامَّ الْمَخْصُوصَ فَيَكُونُ الْبَيَانُ قَاطِعًا لِلِاحْتِمَالِ مُقَرِّرًا لِلْحُكْمِ على ما اقْتَضَاهُ الظَّاهِرُ ثَانِيهَا النَّصُّ الذي يَنْفَرِدُ بِدَرْكِهِ الْعُلَمَاءُ كَالْوَاوِ وَإِلَى في آيَةِ الْوُضُوءِ فإن هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ يَقْتَضِيَانِ مَعَانِيَ مَعْلُومَةً عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ ثَالِثُهَا نُصُوصُ السُّنَّةِ الْوَارِدَةُ بَيَانًا لِمُشْكِلٍ في الْقُرْآنِ كَالنَّصِّ على ما يَخْرُجُ زَمَنَ الْحَصَادِ مع تَقَدُّمِ قَوْلِهِ وَآتُوا حَقَّهُ يوم حَصَادِهِ ولم يُذْكَرْ في الْقُرْآنِ مِقْدَارُ هذا الْحَقِّ وَرَابِعُهَا نُصُوصُ السُّنَّةِ الْمُبْتَدَأَةُ مِمَّا ليس في الْقُرْآنِ نَصٌّ عليها بِالْإِجْمَالِ وَلَا بِالتَّفْسِيرِ وَدَلِيلُ كَوْنِ هذا الْقِسْمِ من بَيَانِ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى وما آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهَاكُمْ عنه فَانْتَهُوا خَامِسُهَا بَيَانُ الْإِشَارَةِ وهو الْقِيَاسُ الْمُسْتَنْبَطُ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِثْلُ الْأَلْفَاظِ التي اُسْتُنْبِطَتْ منها الْمَعَانِي وَقِيسَ عليها غَيْرُهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ إذَا اُسْتُنْبِطَتْ منه مَعْنًى وَأُلْحِقَ بِهِ غَيْرُهُ لَا يُقَالُ لم يَتَنَاوَلْهُ النَّصُّ بَلْ يَتَنَاوَلُهُ لِأَنَّ النبي عليه السَّلَامُ أَشَارَ إلَيْهِ بِالتَّنْبِيهِ كَإِلْحَاقِ الْمَطْعُومَاتِ في بَابِ الرِّبَا بِالْأَرْبَعَةِ الْمَنْصُوصِ عليها إذْ حَقِيقَةُ الْقِيَاسِ بَيَانُ الْمُرَادِ بِالنَّصِّ وقد أَمَرَ اللَّهُ أَهْلَ التَّكْلِيفِ بِالِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاجْتِهَادِ فَهَذِهِ مَرَاتِبُ الْبَيَانِ في الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وقد اعْتَرَضَ عليه فيها قَوْمٌ وَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ أَهْمَلَ قِسْمَيْنِ وَهُمَا الْإِجْمَاعُ وَقَوْلُ الْمُجْتَهِدِ إذَا انْقَرَضَ عَصْرُهُ وَانْتَشَرَ من غَيْرِ نَكِيرٍ وَإِنَّمَا لم يَذْكُرْهُمَا الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِأَحَدِ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ التي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيّ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ
____________________
(3/67)
لَا يَصْدُرُ إلَّا عن دَلِيلٍ فَإِنْ كان نَصًّا فَهُوَ من الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كان اسْتِنْبَاطًا فَهُوَ من الْخَامِسِ فَإِنْ قِيلَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَذْكُرَ أَيْضًا الْقِيَاسَ لِأَنَّهُ مُسْتَنِدٌ إلَى النَّصِّ قُلْنَا لِأَجْلِ هذا قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ لَا مَدْفَعَ لِلسُّؤَالِ لَكِنَّهُ مَدْفُوعٌ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ على غَيْرِ ما دَلَّ عليه النَّصُّ فَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عن الْآخَرِ بِخِلَافِ الْآخَرِ فإنه إنَّمَا دَلَّ على وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَلَيْسَ دَالًّا على مَدْلُولِهِ فَلِذَلِكَ أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ وَالثَّانِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ تَعَرَّضَ لِمَرَاتِبِ الْبَيَانِ الْمَوْجُودَةِ في كل عَصْرٍ وَالْإِجْمَاعُ لم يُوجَدْ في عَصْرِهِ عليه السَّلَامُ فَلِهَذَا أَغْفَلَهُ وَاعْتَرَضَ آخَرُونَ فَقَالُوا لم يذكر دَلِيلَ الْخِطَابِ وهو حُجَّةٌ عِنْدَهُ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنْ كان مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ فَهُوَ يَدْخُلُ في قِسْمِ الْبَيَانِ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِنْ كان مُخَالَفَةً فَهُوَ من جُمْلَةِ ما اُسْتُنْبِطَ بِالِاجْتِهَادِ فَدَخَلَ في الْقِسْمِ الْخَامِسِ وَتَعَجَّبَ الْمَازِرِيُّ من الْغَزَالِيِّ كَيْفَ حَكَى الِاتِّفَاقَ على أَنَّ مَرَاتِبَ الْبَيَانِ خَمْسَةٌ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في أَوْضَاعِهَا ثُمَّ قال أَئِمَّتُنَا منهم ابن السَّمْعَانِيِّ يَقَعُ بَيَانُ الْمُجْمَلِ لِسِتَّةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا بِالْقَوْلِ وهو الْأَكْثَرُ كَبَيَانِ نُصُب الزَّكَوَاتِ كَقَوْلِهِ لَا قَطْعَ في تَمْرَةٍ وَلَا كِسْرَةٍ وَالْقَطْعُ في رُبُعِ دِينَارٍ وَالثَّانِي بِالْفِعْلِ كَقَوْلِهِ صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ الثَّالِثُ بِالْكِتَابِ كَبَيَانِهِ أَسْنَانَ الدِّيَاتِ وَدِيَاتِ أَعْضَاءَ الْبَدَنِ وَكَذَا الزَّكَوَاتُ الرَّابِعُ بِالْإِشَارَةِ كَقَوْلِهِ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي ثَلَاثِينَ
____________________
(3/68)
يَوْمًا ثُمَّ أَعَادَ الْإِشَارَةَ بِأَصَابِعِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَخَنَسَ إبْهَامَهُ في الثَّالِثَةِ يَعْنِي يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ قُلْت وَكَذَلِكَ حَدِيثُ كَعْبِ بن مَالِكٍ مع أبي حَدْرَدٍ إذْ أَشَارَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَيْهِ بيده أَنْ ضَعْ النِّصْفَ وَمِثْلُهُ في الْمَحْصُولِ بِإِشَارَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى الْحَرِيرِ بيده وقال هذا حَرَامٌ على ذُكُورِ أُمَّتِي الْخَامِسُ بِالتَّنْبِيهِ وهو الْمَعَانِي وَالْعِلَلُ التي نَبَّهَ بها على بَيَانِ الْأَحْكَامِ كَقَوْلِهِ في بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ أَيَنْقُصُ إذَا جَفَّ وَقَوْلِهِ في قُبْلَةِ الصَّائِمِ أَرَأَيْت لو تَمَضْمَضْت السَّادِسُ ما خُصَّ الْعُلَمَاءُ بِبَيَانِهِ عن اجْتِهَادٍ وهو ما فيه الْوُجُوهُ الْخَمْسُ إذَا كان الِاجْتِهَادُ مَوْصُولًا إلَيْهِ من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا من أَصْلِ تَغَيُّرِ هذا الْفَرْعِ بِهِ وَإِمَّا من طَرِيقِ أَمَارَةٍ تَدُلُّ عليه وزاد شَارِحُ اللُّمَعِ سَابِعًا وهو الْبَيَانُ بِالتَّرْكِ كما رُوِيَ أَنَّ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ وقد يُرْجَعُ إلَى الْبَيَانِ بِالْفِعْلِ لِأَنَّ التَّرْكَ كَفٌّ وَالْكَفُّ فِعْلٌ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ قد رَتَّبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ذلك فقال أَعْلَاهَا رُتْبَةً ما وَقَعَ من الدَّلَالَةِ بِالْخِطَابِ ثُمَّ بِالْفِعْلِ ثُمَّ بِالْإِشَارَةِ ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ ثُمَّ بِالتَّنْبِيهِ على الْعِلَّةِ قال وَيَقَعُ الْبَيَانُ من اللَّهِ سُبْحَانَهُ بها كُلِّهَا خَلَا الْإِشَارَةِ وقال الْأُسْتَاذُ رَتَّبَهَا أَصْحَابُنَا فَقَالُوا آكَدُهَا تَبْيِينُ الشَّيْءِ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ مع إعَادَتِهِ نَحْوُ أَعْطِ زَيْدًا أَعْطِ زَيْدًا وفي الحديث فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ ثُمَّ الْمُؤَكَّدُ نَحْوُ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وفي الحديث فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ ثُمَّ يَلِيهِ الْخِطَابُ الْمُسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ
____________________
(3/69)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ ثُمَّ يَلِيهِ ما يَرِدُ على لِسَانِ النبي عليه السَّلَامُ نَحْوُ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ ثُمَّ الْكِتَابَةُ ثُمَّ الْإِشَارَةُ بِتَحْرِيكِ الْيَدِ وَالرَّأْسِ قال وَرَأَيْت أَصْحَابَنَا يُقَدِّمُونَ ما وَرَدَ من الْخِطَابِ الْمُجْمَلِ الذي لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ على مَعْنَاهُ لِلْعُسْرِ في اللِّسَانِ على الْقِيَاسِ وهو أَوْلَى منه وَمُقَدَّمٌ عليه لِاسْتِقْلَالِهِ بِنَفْسِهِ وَإِمْكَانُ الْوُصُولِ إلَى الْمُرَادِ بِأَصْلِهِ وَفَرْعِهِ وَهُمَا قِسْمَانِ من الْبَيَانِ وَأَطْلَقَ جَمْعٌ من أَصْحَابِنَا أَنَّ الْبَيَانَ بِالْفِعْلِ أَقْوَى من الْقَوْلِ قال ابن الرِّفْعَةِ وَشَاهِدُهُ حَلْقُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِالْحَجِّ في أَنَّ اتِّبَاعَ الصَّحَابَةِ له أَقْوَى من أَمْرِهِ وَإِذْنِهِ فيه كما جاء في الْخَبَرِ مَسْأَلَةٌ الْبَيَانُ الْوَاجِبُ على الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَجِبُ على الرَّسُولِ بَيَانُ ما يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ وَاجِبِهَا وَمَنْدُوبِهَا وَحَرَامِهَا وَمَكْرُوهِهَا وَمُبَاحِهَا وقال بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ ما كان وَاجِبًا فَيَجِبُ عليه بَيَانُهُ أو مَنْدُوبًا فَمَنْدُوبٌ أو مُبَاحًا فَمُبَاحٌ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَهَذَا خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ على وُجُوبِ تَبْلِيغِ جَمِيعِ الشَّرْعِيَّاتِ وقال غَيْرُهُ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ الْمُحَرَّمِ مُحَرَّمًا وهو إلْزَامٌ عَجِيبٌ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ ما يَلْزَمُ الرَّسُولَ بَيَانُهُ من الْأَحْكَامِ التي لَيْسَتْ في كِتَابِ اللَّهِ كَالْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ وَبِالدِّيَةِ على الْعَاقِلَةِ وَإِعْطَاءِ السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ وَأَنْ لَا يَرِثَ الْقَاتِلُ وَنَحْوِهِ يَلْزَمُ بَيَانُهُ في حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لهم إلَى الْعِلْمِ بها إلَّا منه وفي لُزُومِ بَيَانِهَا في حَقِّ اللَّهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ على الْخِلَافِ في أَنَّهُ هل هو بِالِاجْتِهَادِ فَإِنْ قُلْنَا له ذلك لَزِمَهُ وَإِلَّا فَلَا وقال الشَّاشِيُّ في كِتَابِهِ الذي يَجِبُ عليه هو الْبَيَانُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَهُ عن الْكَلَالَةِ فقال يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ فَدَلَّ هذا على أَنَّ الْوَاجِبَ من الْبَيَانِ ما لم يُتَوَصَّلْ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا بِبَيَانِهِ فَأَمَّا ما جُعِلَ في الْكِتَابِ بَيَانُهُ وكان يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالتَّدَبُّرِ فَلَيْسَ عليه بَيَانُهُ
____________________
(3/70)
قال وَمَعْقُولٌ أَنَّهُ عليه السَّلَامُ لَا يَجِبُ عليه إبَانَةُ كل الْأَحْكَامِ أَصْلًا وَإِنَّمَا عليه إبَانَةُ الْأُصُولِ التي لِلدَّلَالَةِ على الْفُرُوعِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ من الْمُجْمَلِ ما وُكِلَ الْعُلَمَاءُ إلَى اجْتِهَادِهِمْ في بَيَانِهِ من غَيْرِ سَمْعٍ يَفْتَقِرُ إلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حتى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ فلم يَرِدْ سَمْعٌ بِبَيَانِ أَقَلِّ الْجِزْيَةِ حتى اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ في أَقَلِّهَا وَكَقَوْلِهِ إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ من يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَأَجْهَلَ ذِكْرَ الْعَدَدِ الذي تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ حتى اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ فَهَذَا وَنَحْوُهُ سَاقِطٌ من الرَّسُولِ عليه السَّلَامُ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ من أُصُولِ الْأَدِلَّةِ الْمُسْتَقِرَّةِ وقد سَأَلَ عُمَرَ عن الْكَلَالَةِ فقال يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ فَوَكَلَهُ إلَى الِاجْتِهَادِ ولم يُصَرِّحْ بِالْبَيَانِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في هذا النَّوْعِ من الْبَيَانِ الصَّادِرِ عن الِاجْتِهَادِ هل يُؤْخَذُ قِيَاسًا أو تَنْبِيهًا على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا يُؤْخَذُ تَنْبِيهًا من لَفْظِ الْمُجْمَلِ وَشَوَاهِدِ أَحْوَالِهِ لِأَنَّهُ عليه السَّلَامُ قال لِعُمَرَ يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ فَرَدَّهُ إلَيْهَا لِيَسْتَدِلَّ بِمَا تَضَمَّنَتْهَا من تَنْبِيهٍ وَشَوَاهِدِ حَالٍ وَالثَّانِي يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ قِيَاسًا على ما اسْتَقَرَّ بِنَاؤُهُ من نَصٍّ أو إجْمَاعٍ لِأَنَّ عُمَرَ سَأَلَ عن قُبْلَةِ الصَّائِمِ فقال أَرَأَيْت لو تَمَضْمَضْت فَجَعَلَ الْقُبْلَةَ من غَيْرِ إرَادَةٍ كَالْمَضْمَضَةِ من غَيْرِ ازْدِرَادٍ انْتَهَى
____________________
(3/71)
فَصْلٌ في الْمُبَيَّنِ وَيُطْلَقُ على الْخِطَابِ الْمُحْتَاجِ إلَى الْبَيَانِ وَوَرَدَ بَيَانُهُ وَعَلَى الْخِطَابِ الْمُبْتَدَأِ الْمُسْتَغْنِي عن الْبَيَانِ وهو إمَّا أَنْ يَدُلَّ بِحَسَبِ الْوَضْعِ وهو النَّصُّ وَالظَّاهِرُ أو بِحَسَبِ الْمَعْنَى كَالْمَفْهُومِ وما دَلَّ عليه النَّصُّ بِطَرِيقِ التَّعْلِيلِ نَحْوُ إنَّهَا من الطَّوَّافِينَ أو بِوَاسِطَةِ الْعَقْلِ نَحْوُ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِمَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ وَيُسَمَّى الدَّلِيلُ الذي حَصَلَ بِهِ الْبَيَانُ مُثْبِتًا بِكَسْرِ الْبَاء وَفِيهِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى لَا خِلَافَ أَنَّ الْبَيَانَ يَجُوزُ بِالْقَوْلِ وَاخْتَلَفُوا في وُقُوعِهِ بِالْفِعْلِ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَقَع بَيَانًا خِلَافًا لِأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ مِنَّا وَالْكَرْخِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ حَكَاهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في التَّبْصِرَةِ وَكَلَامُ الْغَزَالِيِّ يُوهِمُهُ فإنه قال وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ تَقَدُّمِهِ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ بَيَانَ الشَّرْعِ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا صِيغَةَ له لَكِنْ أَوَّلَهُ الْهِنْدِيُّ وقال قَوْلُ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ إنَّ الْبَيَانَ مَخْصُوصٌ بِالدَّلِيلِ الْقَوْلِيِّ فَالْمُرَادُ منه التَّسْمِيَةُ اصْطِلَاحًا كما في الْعُمُومِ بِنَاءً على الْغَالِبِ من كَوْنِ الْبَيَانِ قَوْلًا لَا في حَقِيقَةِ ما يَقَعُ بِهِ الْبَيَانُ وَلَا في جَوَازِهِ وَشَرَطَ الْمَازِرِيُّ الْإِشْعَارَ بِهِ من مَقَالٍ أو قَرِينَةِ حَالٍ وَإِلَّا لم يَحْصُلْ لِلْمُكَلَّفِ الْبَيَانُ قال وَعَلَى هذا فَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ قال وَمِنْهُمْ من جَعَلَهُ مَعْنَوِيًّا وهو أَنَّهُ هل يُتَصَوَّرُ فِعْلٌ يُنْبِئُ بِمُجَرَّدِهِ عن الْمُرَادِ من غَيْرِ إسْنَادِ ذلك إلَى قَرِينَةٍ أَمْ لَا قلت وَجَعَلَهُ السَّرَخْسِيُّ مَبْنِيًّا على أَصْلٍ وهو أَنَّ بَيَانَ الْمُجْمَلِ هل يَكُونُ الْمُجْمَلُ مُتَّصِلًا بِهِ فَمَنْ شَرَطَ الِاتِّصَالَ قال لَا يَكُونُ الْبَيَانُ إلَّا بِالْقَوْلِ إذْ الْفِعْلُ لَا يَكُونُ مُتَّصِلًا بِالْقَوْلِ وفي الْمَحْصُولِ لَا يُعْلَمُ كَوْنُ الْفِعْلِ
____________________
(3/72)
بَيَانًا إلَّا بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أو يُعْلَمُ ذلك بِالضَّرُورَةِ من قَصْدِهِ أو بِالدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ كَقَوْلِهِ هذا الْفِعْلُ بَيَانٌ لِهَذَا الْمُجْمَلِ أو بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ بِأَنْ يُذْكَرَ الْمُجْمَلُ وَقْتَ الْحَاجَةِ أَيْ الْعَمَلِ بِهِ ثُمَّ يُفْعَلُ فِعْلًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ سَبْعَ طُرُقٍ وقال صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْفِعْلَ يَصْلُحُ بَيَانًا لَكِنْ بِشَرْطِ انْضِمَامِ بَيَانٍ قَوْلِيٍّ إلَيْهِ كما رُوِيَ عنه عليه السَّلَامُ أَنَّهُ صلى ثُمَّ قال صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَصَارَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَكَمَا رُوِيَ أَنَّهُ اشْتَغَلَ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ ثُمَّ قال خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ أَمَّا الْفِعْلُ السَّاذَجُ فَلَا لِأَنَّهُ بِذَاتِهِ سَاكِتٌ عن جَمِيعِ الْجِهَاتِ فَلَا تَتَعَيَّنُ وَاحِدَةٌ إلَّا بِدَلِيلٍ قال اللَّهُمَّ إلَّا إذَا تَكَرَّرَ الْفِعْلُ عِنْدَهُ يَحْصُلُ الْبَيَانُ قَرِينَةٌ تَدُلُّ على كَوْنِ الْفِعْلِ بَيَانًا إحْدَاهَا وُرُودُهُ عِنْدَ وَقْتِ إيجَابِهِ لِئَلَّا يَتَأَخَّرَ الْبَيَانُ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ الثَّانِي أَنْ يُنْقَلَ إلَيْنَا فِعْلٌ غَيْرُ مُتَّصِلِ كَمَسْحِ الرَّأْسِ وَالْأُذُنَيْنِ من غَيْرِ تَجْدِيدِ الْمَاءِ ثُمَّ يُنْقَلَ إلَيْنَا مع تَجْدِيدِهِ فَيَكُونَ ذلك بَيَانًا لِلْفَضِيلَةِ الثَّالِثَةُ أَنْ يَتْرُكَ ما يَلْزَمُ فَيَكُونَ نَسْخًا الرَّابِعَةُ أَنْ لَا يُقْطَعَ في شَيْءٍ لِيُعْلَمَ نَحْوُ تَخْصِيصِ آيَةِ السَّرِقَةِ الْخَامِسَةُ أَنْ يَفْعَلَ في الصَّلَاةِ ما لم يَكُنْ وَاجِبًا كَالرُّكُوعَيْنِ في صَلَاةِ الْخُسُوفِ السَّادِسَةُ أَنْ يَأْخُذَ الْجِزْيَةَ وَالزَّكَاةَ مُتَّصِلَةً بَعْدَ إجْمَالِهَا في النُّصُوصِ السَّابِعَةُ أَنْ يُعَاقِبَ عُقُوبَةً بِاعْتِقَادِ نَدْبِهِ أو إبَاحَتِهِ تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ هل يَجْرِي خِلَافُ الْفِعْل في الْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ بِهِ وَالظَّاهِرُ الْمَنْعُ وَلِهَذَا قَطَعَ ابن السَّمْعَانِيِّ فِيمَا سَبَقَ بِالْبَيَانِ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةِ مع حِكَايَةِ الْخِلَافِ في الْفِعْلِ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ صَاحِبُ الْوَاضِحِ فقال بَعْدَ حِكَايَةِ الْخِلَافِ في الْفِعْلِ وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا في أَنَّ الْكِتَابَةَ وَالْإِشَارَةَ يَقَعُ بِهِمَا الْبَيَانُ الثَّانِي إنَّمَا يَقَعُ الْفِعْلُ بَيَانًا إذَا لم يَكُنْ هُنَاكَ قَوْلٌ يَصْلُحُ لِلْبَيَانِ وَإِلَّا لم يُرْجَعْ إلَى الْفِعْلِ لِأَنَّ الْقَوْلَ هو الْأَصْلُ في الْبَيَانِ وَالْفِعْلُ إنَّمَا يُجْعَلُ بَيَانًا بِغَيْرِهِ لَا بِنَفْسِهِ قَالَهُ ابن فُورَكٍ وَيَجِيءُ فيه الْخِلَافُ الْآتِي
____________________
(3/73)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْبَيَانُ بِالتَّرْكِ يَقَعُ الْبَيَانُ بِالتَّرْكِ أَيْضًا كَتَرْكِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ بَعْدَ فِعْلِهِ إيَّاهُ فإنه بَيَّنَ كَوْنَهُ غير وَاجِبٍ وَكَسُكُوتِهِ عن بَيَانِ حَادِثَةٍ وَقَعَتْ بين يَدَيْهِ فإنه يَدُلُّ على كَوْنِهِ ليس فيها حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَإِلَّا لَزِمَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ وَأَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الْخِطَابِ يَتَنَاوَلُهُ وَالْأُمَّةُ تَتْرُكُهُ فَيَدُلُّ على أَنَّ الْخِطَابَ لم يَتَنَاوَلْهُ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْبَيَانُ بِالتَّقْرِيرِ يَقَعُ الْبَيَانُ بِالتَّقْرِيرِ ذَكَرَهُ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ في أُصُولِهِ قال كَعِلْمِنَا بِأَنَّ عُقُودَ الْكُفَّارِ كانت في زَمَنِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَعِلْمِهِ بها ولم يُنْكِرْهَا على فَاعِلِهَا يَدُلُّ على إبَاحَتِهَا وَيَجِيءُ فيه من الْوُجُوهِ ما سَبَقَ في الْفِعْلِ المسألة الرابعة ما المبين القول أم الفعل إذا ورد بعد المجمل قول وفعل وكل واحد منهما صالح لبيانه فماذا يكون البيان فإما أن يتفقا في الحكم وإما أن يختلفا فإن اتفقا وعلم سبق أحدهما فهو المبين قولا كان أو فعلا والثاني تأكيد له وقيل إن كان الفعل أضعف دلالة منه لم يحمل على تأكيده إذ يمتنع التأكيد بالأضعف وإن لم يعلم فلا يقضى على واحد منهما بأنه المبين بعينه بل يقضى بحصول البيان بواحد لم يطلع عليه وهو الأول في نفس الأمر والثاني تأكيد وقال صاحب الكبريت الأحمر مكانا يتميز عنهما بيانها وقيل هذا إذا تساويا في القوة فإن اختلفا فالأشبه أن المرجوح هو المتقدم ورودا وإلا لزم التأكيد بالأضعف وإن اختلفا علما كأمره بعد نزول الحج القارن أن يكون طوافا واحدا وروي أنه عليه السلام قرن فطاف لهما طوافين فالمختار عند الجمهور منهم الإمام فخر الدين وأتباعه وابن الحاجب أن المبين هو القول سواء كان متقدما على الفعل أو متأخرا أو يحمل الفعل على الندب
____________________
(3/74)
أو الواجب المختص به وذلك لأن دلالة القول على البيان بنفسه بخلاف الفعل فإنه لا يدل إلا بواسطة انضمام القول إليه والدال بنفسه أولى وقال أبو الحسين البصري المقدم مطلقا هو البيان كما في صورة اتفاقهما الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ بَيَانُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ يَجُوزُ بَيَانُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى يُوصِيكُمْ اللَّهُ في أَوْلَادِكُمْ الْآيَةَ وَالسُّنَّةُ بِالسُّنَّةِ وَالْمُتَوَاتِرُ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ وَالْمُجْمَلُ من آيِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ سَوَاءٌ كان مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى أَمْ لَا وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ إنْ كان مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى لم يَجُزْ حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى وَالْبَاجِيُّ في الْأَحْكَامِ قال ابن حَزْمٍ وَمِمَّا أُجْمِلَ في السُّنَّةِ وَبَيَّنَهُ الْقُرْآنُ قَوْلُهُ عليه السَّلَامُ أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ الناس الحديث ثُمَّ فَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى ذلك وَبَيَّنَهُ في سُورَةِ بَرَاءَةٌ بِقَوْلِهِ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ قال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ وقد يَقَعُ بَيَانُ الْمُجْمَلِ بِالْإِجْمَاعِ كَإِجْمَاعِهِمْ على أَنَّ دِيَةَ الْخَطَإِ على الْعَاقِلَةِ وَاَلَّذِي في كِتَابِ اللَّهِ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ ولم يذكر وُجُوبَهَا على الْعَاقِلَةِ فَبَيَّنَ الْإِجْمَاعَ الْمُرَادَ بها وقد يَكُونُ بَيَانُ الْإِجْمَاعِ بِحُكْمٍ مُبْتَدَإٍ كما يَكُونُ حُكْمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَإِجْمَاعِ السَّلَفِ على حَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ وَتَأْجِيلِ امْرَأَةِ الْعِنِّينِ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَيَانُ كَالْمُبَيَّنِ في الْقُوَّةِ وَهِيَ أَصْلُ التي قَبْلَهَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ كما قَالَهُ الْهِنْدِيُّ إلَى أَنَّ الْبَيَانَ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَالْمُبَيَّنِ في الْقُوَّةِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَدْنَى منه فَيُقْبَلُ الْمَظْنُونُ في بَيَانِ الْمَعْلُومِ خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ فإنه شَرَطَ الْمُسَاوَاةَ وَلِهَذَا لم يَقْبَلْ خَبَرَ الْأَوْسَاقِ مع قَوْلِهِ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ وما نَقَلَهُ عن الْجُمْهُورِ صَحَّحَهُ أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ فقال بَعْدَ حِكَايَةِ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ الصَّحِيحُ جَوَازُ كَوْنِ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ مَعْلُومَيْنِ أو أَمَارَتَيْنِ وَأَنْ يَكُونَ الْمُبَيَّنُ مَعْلُومًا وَبَيَانُهُ مَظْنُونًا كما جَازَ تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ا ه
____________________
(3/75)
وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ وهو اشْتِرَاطُ كَوْنِهِ أَقْوَى دَلَالَةً من الْمُبَيَّنِ قال الْهِنْدِيُّ وَلَا يُتَوَهَّمُ في حَقِّ أَحَدٍ أَنَّهُ ذَهَبَ إلَى اشْتِرَاطِ أَنَّهُ كَالْمُبَيَّنِ في قُوَّةِ الدَّلَالَةِ فإنه لو كان كَذَلِكَ لَمَا كان بَيَانًا له بَلْ كان هو مُحْتَاجًا إلَى بَيَانٍ آخَرَ بَلْ الْمُرَادُ هل هو كَالْمُبَيَّنِ في قُوَّةِ الْمَتْنِ حتى لو كان الْمُبَيَّنُ مَعْلُومًا وَالْبَيَانُ مَظْنُونًا لَا يَكُونُ مَقْبُولًا عِنْدَ من شَرَطَ الْمُسَاوَاةَ هذا في بَيَانِ الْمُجْمَلِ أَمَّا في بَيَانِ التَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ فَالْأَمْرُ فيه أَظْهَرُ ضَرُورَةً أَنَّ الْمُبَيَّنَ هَاهُنَا أَظْهَرُ دَلَالَةً من الْمُجْمَلِ وَمِنْهُمْ من فَصَّلَ فقال إنْ كان الْمُبَيَّنُ مُجْمَلًا كَفَى في تَعْيِينِ أَحَدِ مُحْتَمَلَاتِهِ أَدْنَى ما يُفِيدُ التَّرْجِيحَ وَإِنْ كان عَامًّا أو مُطْلَقًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُخَصِّصُ أو الْقَيْدُ في دَلَالَتِهِ أَقْوَى من دَلَالَةِ الْعَامِّ على صُورَةِ التَّخْصِيصِ وَدَلَالَةُ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ وَإِلَّا لَزِمَ إلْغَاءُ الْأَقْوَى لِأَجْلِ الْأَضْعَفِ وَنُقِلَ عن اخْتِيَارِ الْآمِدِيَّ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَيَانُ كَالْمُبَيَّنِ في الْحُكْمِ على الصَّحِيحِ وقال قَوْمٌ إذَا كان الْمُبَيَّنُ وَاجِبًا كان بَيَانُهُ كَذَلِكَ قال أبو الْحُسَيْنِ فَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ بَيَانٌ لِصِفَةِ شَيْءٍ وَاجِبٍ فَصَحِيحٌ وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ يَدُلُّ على الْوُجُوبِ كما يَدُلُّ الْمُبَيَّنُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ إذَا كان الْمُبَيَّنُ وَاجِبًا كان بَيَانُهُ وَاجِبًا فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ بَيَانَ الْمُجْمَلِ وَاجِبٌ سَوَاءٌ تَضَمَّنَ فِعْلًا وَاجِبًا أَمْ لَا وقال الْهِنْدِيُّ تَبَعًا لِلْمَحْصُولِ نُقِلَ عن قَوْمٍ أَنَّ الْبَيَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَالْمُبَيَّنِ في الْحُكْمِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ الْمُبَيَّنَ إذَا كان وَاجِبًا كان بَيَانُهُ وَاجِبًا وَإِلَّا فَلَا لَا أَنَّهُ بَيَانٌ لِشَيْءٍ وَاجِبٍ فإن ذلك مِمَّا لَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ بَلْ يَنْبُو عنه وَلَا أَنَّهُ يَدُلُّ على ما دَلَّ عليه الْمُبَيَّنُ من الْحُكْمِ حتى يَرِدَ بِأَنَّهُ لم يَكُنْ أَحَدُهُمَا بَيَانًا لِلْآخَرِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ بَيَانًا لِلْآخَرِ إذَا كان دَالًّا على صِفَةِ مَدْلُولِ الْآخَرِ لِأَنَّ ذلك ظَاهِرُ الْفَسَادِ وَلَا أَنَّهُ يَدُلُّ على وُجُوبِ ما تَضَمَّنَهُ من صِفَاتِ مَدْلُولِ الْمُبَيَّنِ أو نَدْبِيَّتِهِ كما دَلَّ الْمُبَيَّنُ على أَصْلِ وُجُوبِهِ أو نَدْبِيَّتِهِ وَهَذَا وَإِنْ كان أَقْرَبَ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ في تَأْوِيلِ ما نَقَلَ عنه لَكِنَّهُ أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْبَيَانَ
____________________
(3/76)
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ هل يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْمُبَيَّنُ على الْمُجْمَلِ فيه قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابن الْقَطَّانِ في أُصُولِهِ أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ وَخَطَّأَهُ وَأَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ قال وَيَجُوزُ أَنْ يَرِدَ مُقْتَرِنًا وَمُرَتَّبًا فَإِنْ قِيلَ فإن التَّفْسِيرَ يَحْتَاجُ إلَى مُفَسِّرٍ فإذا لم يَكُنْ مُفَسِّرٌ لم يَكُنْ تَفْسِيرٌ قِيلَ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إذَا عَلِمَ مَصْلَحَتَنَا في ذلك جَازَ أَنْ يُقَدَّمَ التَّفْسِيرُ فَيَجْتَمِعَانِ جميعا كما يَرِدُ بَعْدَهُ الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ قد يَكُونُ الْبَيَانُ مُنْفَصِلًا قد يَكُونُ الْبَيَانُ مُنْفَصِلًا وهو كَثِيرٌ وقد يَكُونُ مُتَّصِلًا كَتَبْيِينِهِ تَعَالَى الْمُرَادَ من الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى من الْفَجْرِ الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ إذَا صَدَرَ من الرَّسُولِ عليه السَّلَامُ فِعْلٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ في مَكَان أو زَمَانٍ لم يَتَقَيَّدْ مُوجَبُ الْبَيَانِ بِهِمَا وقال بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ يَتَقَيَّدُ بِالْمَكَانِ وَلَا يَتَخَصَّصُ بِالزَّمَانِ وَأَبْعَدَ قَوْمٌ فَقَالُوا يَتَخَصَّصُ بِالزَّمَانِ حَكَاهُ ابن الْقُشَيْرِيّ ثُمَّ قال فَنَقُولُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْقَوْلَ الصَّادِرَ من الرَّسُولِ عليه السَّلَامُ لِبَيَانِ الْحُكْمِ لَا يَتَضَمَّنُ تَخْصِيصَ الِامْتِثَالِ بِمَكَانٍ وَلَا زَمَانٍ فَكَذَا الْفِعْلُ وَأَمَّا السَّرَخْسِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ فَنَقَلَ عن أَصْحَابِنَا التَّقْيِيدَ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَعَنْ أَصْحَابِهِمْ خِلَافَهُ قال وَلِهَذَا كان إحْرَامُ النبي عليه السَّلَامُ بِالْحَجِّ في أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يَقْتَضِي التَّقْيِيدَ بِتِلْكَ الْأَشْهُرِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَكَذَلِكَ فِعْلُهُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ خَلْفَ الْمَقَامِ فَتَحَصَّلَ في الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُمَا يَدْخُلَانِ حَيْثُ يَلِيقُ دُخُولُهُمَا كما في الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالصَّلَوَاتِ في أَوْقَاتِهَا
____________________
(3/77)
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ كُلُّ ما يَحْتَاجُ إلَى تَأْخِيرِ الْبَيَانِ من عَامٍّ وَمُجْمَلٍ وَمَجَازٍ وَمُشْتَرَكٍ وَفِعْلٍ مُتَرَدِّدٍ وَمُطْلَقٍ لِتَأْخِيرِ بَيَانِهِ حَالَانِ الْأَوَّلُ أَنْ يُؤَخَّرَ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ وهو الْوَقْتُ الذي إنْ أُخِّرَ الْبَيَانُ عنه لم يَتَمَكَّنْ الْمُكَلَّفُ من الْمَعْرِفَةِ بِمَا تَضَمَّنَهُ الْخِطَابُ وَذَلِكَ كُلُّ ما كان وَاجِبًا على الْفَوْرِ كَالْإِيمَانِ وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالْوَدَائِعِ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالشَّيْءِ مع عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ مُمْتَنِعٌ بِنَاءً على مَنْعِ تَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ وَمَنْ جَوَّزَهُ أَجَازَهُ لَكِنْ لَا يَقَعُ وَلِهَذَا نُقِلَ إجْمَاعُ أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ على امْتِنَاعِهِ وَالتَّعْبِيرُ بِالْحَاجَةِ لم يَسْتَحْسِنْهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وقال هِيَ عِبَارَةٌ تَلِيقُ بِمَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ بِالْمُؤْمِنِينَ حَاجَةً إلَى التَّكْلِيفِ قال فَالْعِبَارَةُ الصَّحِيحَةُ على مَذْهَبِنَا أَنْ يُقَالَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عن وَقْتِ وُجُوبِ الْفِعْلِ بِالْخِطَابِ انْتَهَى وَهِيَ مُشَاحَّةٌ لَفْظِيَّةٌ وقد عُرِفَ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِالْحَاجَةِ كما قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ تَوَجُّهُ الطَّلَبِ وَتَرَدَّدَ بَعْضُهُمْ هل مَعْنَى التَّأْخِيرِ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ تَأْخِيرُهُ عن زَمَنٍ يُمْكِنُ فيه الْفِعْلُ إلَى زَمَنٍ آخَرَ مُمْكِنٍ أو مَعْنَاهُ تَأْخِيرُهُ إلَى وَقْتٍ لَا يُمْكِنُ فيه الْفِعْلُ كَالظُّهْرِ مَثَلًا هل يَجِبُ بَيَانُهَا بِمُجَرَّدِ دُخُولِ الْوَقْتِ أو لَا يَجِبُ إلَّا إذَا ضَاقَ وَقْتُهَا ا هـ وَالْمُرَادُ الثَّانِي كما بَيَّنَّاهُ أَوَّلًا وَبِهِ صَرَّحَ أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ وَغَيْرِهِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ لَا خِلَافَ بين الْأُمَّةِ في امْتِنَاعِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَى الْفِعْلِ وَلَا خِلَافَ في جَوَازِهِ إلَى وَقْتِ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ قد يُؤَخِّرُ النَّظَرَ وقد يُخْطِئُ إذَا نَظَرَ فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ لَا خِلَافَ فِيهِمَا الْحَالُ الثَّانِي أَنْ يُؤَخَّرَ عن وَقْتِ وُرُودِ الْخِطَابِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَى الْفِعْلِ وهو كُلُّ ما لم يَكُنْ وُجُوبُهُ على الْفَوْرِ كَالْحَجِّ وَغَيْرِهِ وهو إمَّا أَنْ يَكُونَ لَا ظَاهِرَ له كَالْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ وَالْمُشْتَرِكَةِ أو له ظَاهِرٌ وقد اُسْتُعْمِلَ في خِلَافِهِ كَتَأْخِيرِ بَيَانِ التَّخْصِيصِ وَتَأْخِيرِ بَيَانِ النَّسْخِ وَتَأْخِيرِ بَيَانِ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ في غَيْرِ الْمُسَمَّيَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَالصَّلَاةِ مُرَادًا بها الدُّعَاءُ وَنَحْوُهُ وتأخير بيان اسم النكرة إذا أريد بها شيء معين ففي جواز تأخير ذلك مذاهب أحدها الجواز مطلقا قال ابن برهان وعليه عامة علمائنا من الفقهاء
____________________
(3/78)
والمتكلمين ونقله ابن فورك والقاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق وابن السمعاني وغيرهم عن ابن سريج والإصطخري وابن أبي هريرة وابن خيران والقفال وابن القطان والطبري والشيخ أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر وجزم به الخفاف في الخصال ونقله القاضي في مختصر التقريب عن الشافعي وابن سريج والطبري والقفال وعمموا القول في المجمل والعام في الأوامر والنواهي والوعد والوعيد وسائر ضروب الأخبار ونقله ابن القطان عن ابن خيران وابن أبي هريرة قال وكان يحكى عن أبي العباس أنه قال في مسائل المطرز إن قلت لك إن هذا يجوز فما تعمل وإن قلت لك لا يجوز فما تعمل واختاره الرازي وأتباعه وابن الحاجب وقال ابن السمعاني في القواطع هو الذي ننصره قال ونصره عبد الجبار البغدادي في العمد وحكاه عن وأبي هاشم وفيه نظر فالذي نقله أبو الحسين في المعتمد عن هؤلاء المنع مطلقا ونقله سليم عن المزني ونقله المازري عن ابن مطين وأبي الفرج وابن خويز منداد منهم وقال الباجي عليه أكثر أصحابنا كالقاضي أبي بكر وابن خويز منداد وحكاه القاضي عن مالك وإليه ذهب المحققون من الشافعية ومنهم شيخنا القاضي أبو الطيب الطبري وأبو إسحاق الشيرازي ومن أدلتهم قوله تعالى فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه وثم للتعقيب مع التراخي فقد ضمن البيان بعد إلزام الاتباع وقال في قصة نوح وأهلك وعمومه يتناول ابنه ولهذا سأل عن إهلاكه وقوله إنكم وما تعبدون من دون الله ولهذا سأل ابن الزبعرى عن عيسى والملائكة والثاني المنع مطلقا ولم يجوزا أن يقع ذلك إلا والبيان معه ونقله القاضي أبو بكر وابن فورك والشيخ أبو إسحاق وسليم وابن السمعاني وغيرهم عن أبي إسحاق المروزي وأبي بكر الصيرفي والقاضي أبي حامد المروزي ونقله الأستاذ أبو إسحاق عن أبي بكر الدقاق أيضا قال القاضي وهو قول المعتزلة وكثير من الحنفية وإليه صار ابن داود الظاهري ونقله ابن القشيري عن داود ونقله المازري والباجي عن الأبهري منهم وقال القاضي عبد الوهاب قالت المعتزلة والحنفية لا بد أن
____________________
(3/79)
يكون الخطاب متصلا بالبيان أو في حكم المتصل احترازا من انقطاعه كعطاس ونحوه من عطف الكلام بعضه على بعض قال ووافقهم بعض المالكية والشافعية واعلم أن القاضي عبر عن هذا المذهب بقوله وأوجبوا أن لا ترد لفظة إلا ويقترن بها بيانها إذا لم تكن مستقلة بنفسها ا هـ وظاهر هذا التقييد أنهم يجوزون عند الاستقلال وفيه نظر واعلم أن نقل هؤلاء الجماعة المنع عن أبي بكر الصيرفي هو المشهور وقال الأستاذ أبو إسحاق في كتابه هذا مذهب كان يذهب إليه الصيرفي قديما فنزل به الشيخ أبو الحسن الأشعري ضيفا فناظره في هذا واستنزله عن هذه المقالة إلى مذهب الشافعي وسائر المتشيعة ولهذا نقل إمام الحرمين مسألة اعتقاد العموم موافقة للجمهور قلت وقد راجعت كتابه المسمى بالدلائل والأعلام وهو مجلد كبير فرأيته فصل القول في ذلك بين تأخير بيان المجمل فيجوز وتأخير تخصيص العموم ونحوه فيمتنع وها أنا أسوق عبارته لتقف على صواب قوله قال ما نصه القول في الخطاب المجمل الذي لا يعقل من ظاهره مراده قال أبو بكر خطاب لا يعقل من نفس اللفظ بيانه فغير لازم حتى يقع البيان كقوله أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة لا سبيل إلى معرفتها من ظاهر الاسم وحينئذ فوقت التكليف وقت البيان وهذا يجوز أن يتأخر بيانه عن وقت الخطاب إلى وقت الإلزام ويكون فائدة الخطاب الإعلام بأنه أوجب الصلاة التي سيبينها يلزمهم عند البيان قال وليس هذا تأخير البيان لأنهم لا يعرفون ما يلزمهم لأنهم لا يقدرون حينئذ على اعتقاد خلاف المراد ثم قال وأما الخطاب الذي تدرك حقيقته وحده من ظاهر الاسم فلا يحتاج إلى بيان أكثر من لفظه إلا أن يقوم دليل على إرادة بعضه أو فعله في حال دون حال فهذا لا يجوز أن يتأخر بيانه لأنه إن أخره كان الكلام مطلقا ومراده الشرط فيوجب اعتقاده عموما أو اقتضاء أمره مبادرا فيكون قد أمر بما يوجب ظاهره خلاف مراده وهو لا يجوز لما فيه من اللبس ثم ذكر الدلائل على المنع ثم قال وزعم قوم أنه يجوز تأخير بيان بعض المنزلات عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة كما لو أمر بقطع السارق فيجوز تأخير بيان الحد المقطوع إلى أن يحضر سارق يحتاج إلى قطعه وهذه الطائفة من الشافعيين وغيرهم قال أبو بكر لا يقدر
____________________
(3/80)
أحد منهم أن يحكي عن الشافعي نصا في شيء من كتبه ولا يخبر عنه أنه قال إن البيان يجوز تأخيره بل قد حكى عنه المزني أنه لا يجوز تأخيره في مسائل ولا إذا بقي تأخير وهذا أصل من أصول الشافعي فيستدل على قوله أنه غير قابل لما ينتقض من أصله فإذا لم يكن متصلا لأصل له ولا تصح حكايته عنه فيضاف إليه فكيف يجوز أن يجعل ذلك له ثم قال وجماعة من الألباء أنه لا يجوز أن يخاطبنا بخطاب عام ليس في ظاهره ما يوجب التوقف ولا التراخي ولا البعض ويريد التراخي من الوقت أو بعض ما أظهر اسمه ويعريه من دليل يدل به على مراده انتهى ملخصا واعلم أن الصيرفي إنما قال ذلك بناء على اعتقاده أن الصيغة العامة إذا وردت يجب اعتقاد عمومها والعمل بموجبها ويلزم من رجوعه عن منع التأخير فيما نقله الأستاذ عنه رجوعه عن وجوب اعتقاد العموم ضرورة وما ادعاه من أن الشافعي ليس له نص في ذلك ينازعه فيه قول الشاشي في كتابه وقد ذكرنا من قول الشافعي ما يدل على الجواب في غير هذا الكتاب وقال ابن القطان وقد استدل الشافعي بقوله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه قال الشافعي فلما أعطى السلب للقاتل علمنا أن المراد بالآية بعضهم دون بعض وقوله ولذي القربى فلما أعطى النبي عليه السلام بني هاشم وبني المطلب ومنع غيرهم دل على أنه أريد بعضهم دون بعض وكذلك أيضا قول الشافعي روي عن النبي عليه السلام أنه نهى عن المزابنة ثم إن قوما من الأنصار شكوا إلى النبي عليه السلام فرخص لهم في العرايا فأطلق النهي ثم خصه في ثاني الحال وهذا هو تأخير البيان قال وبه كان أبو بكر يعني الصيرفي يذكر أن المزني يذهب إلى أن البيان يتأخر حتى أخرج لنا ابن أبي هريرة كلام المزني في المنثور أن البيان لا يجوز أن يتأخر عن وقت الحاجة فدل على أن المزني كان يذهب إلى ما قلنا وقال ابن أبي هريرة جرت هذه المسألة بين أبي بكر وابن خيران فرأيت ابن خيران فيها ضعيفا فقلت لأبي بكر مقصدنا من هذه المسألة المعنى لا الاسم فإذا
____________________
(3/81)
حصل المعنى فسواء سميته تأخير البيان أو لم تسمه وذلك أنا مثل أن يجوز أن يقول لنا اقطعوا السارق ويكون المراد منه البعض ولا يبينه في الحال ويبينه في ثانيه ولا نسميه تأخير بيان ثم ذكر أنه عكس ذلك عليه في تأخير بيان المجمل وما يقع من البيان بفعل النبي عليه السلام والنسخ وهو أن النسخ سماه الناس بهذا الاسم فخبرني أراد الله منا في الابتداء الصلاة إلى بيت المقدس أبدا ثم رفعه أو أراد منا في الابتداء إلى زمان فإن قلت مؤبدا أخلفت وإن قلت مقيدا قيل لك فأي شيء نسخ عنا فإن قلت سمي هذا نسخا وهو في الحقيقة أمر ثان لأنه انكشف عنا ما لم يكن ظهر لنا قلنا وهذا بعينه موجود في التخصيص وهنا تنبيه آخر يتعلق بمذهب المعتزلة وهو أن الجماهير أطلقوا النقل عنهم بالمنع وذكر بعضهم أنهم استثنوا النسخ وجوزوا تأخير بيانه وبذلك صرح أبو الحسين عنهم في المعتمد ولهذا ادعى الغزالي في المستصفى وابن برهان في الوجيز والسمرقندي من الحنفية في الميزان الاتفاق على جواز تأخير بيان النسخ قال الغزالي بل يجب تأخيره لا سيما عند المعتزلة فإن النسخ عندهم بيان لوقت العبادة ويجوز أن يرد لفظ يدل على تكرار الأفعال على الدوام ثم ينسخ ويقطع الحكم بعد حصول الاعتقاد بلزوم الفعل على الدوام لكن يشترط أن لا يرد نسخ والغزالي أخذ ذلك من قول إمامه وقد ناقضت المعتزلة أصولهم إذ النسخ عندهم بيان مدة التكليف ولم يكن هذا البيان مقترنا بمورد الخطاب الأول قال وليس لهم عن هذا جواب والإمام أخذه من القاضي فإنه قال وما استدل به أصحابنا أن قالوا النسخ تخصيص في الزمان والتخصيص في الأعيان ثم يجوز أن ترد اللفظة مطلقة في الأزمان والمراد بعضها فإن لم يبعد ذلك في الأزمان لم يبعد في الأعيان قال القاضي ولا يستقيم منا الاستدلال بذلك فإن النسخ ليس بتخصيص في الأزمان عندي وعند معظم المحققين من أصحابي وإنما هو رفع والمذهب الثالث يجوز تأخير بيان المجمل دون غيره وهو قول أبي بكر الصيرفي فيما سقناه وكذا حكاه القاضيان أبو الطيب وعبد الوهاب وحكاه ابن
____________________
(3/82)
الصباغ في العدة عن الصيرفي وأبي حامد المروروذي وكذا أبو الحسين بن القطان فإنه قال لا خلاف بين أصحابنا في جواز تأخير بيان المجمل كقوله وأقيموا الصلاة وكذلك لا يختلفون في أن البيان في الخطاب العام يقع بفعل النبي عليه السلام والفعل يتأخر عن القول لأن بيانه بالقول أسرع منه بالفعل وأما العموم الذي يعقل مراده من ظاهره كقوله والسارق والسارقة فقد اختلفوا فيه فمنهم من لم يجوز تأخير بيانه إلى هذا كما في مذهب أبي بكر الصيرفي ا هـ وكذلك ابن فورك والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني فإنهما حكيا اتفاق أصحابنا على جواز تأخير بيان المجمل ثم حكى خلافهم في تأخير اللفظ الذي يوجب تخصيص العموم أو تأويل الظاهر ونسبه القاضي أبو الطيب لأبي حامد المروروذي وحكاه أبو بكر الرازي وصاحب المعتمد عن أبي الحسن الكرخي زاد صاحب الميزان والجصاص قال أبو بكر الرازي وهو عندي مذهب أصحابنا لأنهم يجعلون الزيادة على النص نسخا إذا تراخت عنه ولا يجيزونها إلا بمثل ما يجوز به النسخ ولو جاز عندهم تأخير البيان في مثله لما كانت الزيادة نسخا بل بيانا وقد أجازوا هذه الزيادة في المجمل بالقياس وخبر الواحد ولهذا أسقطوا النية في الصوم ولم يوجب عندهم ذلك نسخه لأنها على وجه البيان وقال السرخسي منهم قال علماؤنا دليل الخصوص إذا اقترن بالعموم كان بيانا وإذا تأخر لم يكن بيانا بل نسخا وقال الشافعي بيان وأصل الخلاف أن مطلق العام قطعي كالخاص وعنده فيكون دليل الخصوص بيان التفسير لا بيان التغيير ونسبه ابن برهان في الوجيز وابن السمعاني لأبي الحسين البصري والذي في المعتمد تفصيل آخر ونقله ابن برهان في الأوسط عن عبد الجبار والذي في المعتمد عنه المنع فيهما والرابع يجوز تأخير بيان العموم لأنه قبل البيان مفهوم ولا يجوز تأخير بيان المجمل لأنه قبل البيان غير مفهوم وحكاه الماوردي والروياني وجها لأصحابنا وقال ابن السمعاني وبه قال بعض أصحاب الشافعي ونقله ابن برهان في الوجيز عن عبد الجبار وأما المازري فحكى هذا المذهب عن بعضهم ثم قال وكنت أصوبه وقد قال القاضي عبد الوهاب في بعض مصنفاته لم يقل به أحد وهذا كله مردود بما ذكرنا
____________________
(3/83)
والخامس يجوز تأخير بيان الأوامر والنواهي ولا يجوز تأخير بيان الأخبار كالوعد والوعيد قال ابن السمعاني هكذا حكاه الماوردي عن الكرخي وبعض المعتزلة وعندي أن مذهب الكرخي هو ما قدمنا قبل قال الماوردي ولم يقل بهذا المذهب أحد من أصحاب الشافعي ا هـ وحكاه القاضي في مختصر التقريب وابن القشيري والشيخ أبو إسحاق والغزالي وأبو الحسين في المعتمد إلا أنه لم يتعرض للنهي والسادس عكسه حكاه الشيخ أبو إسحاق أيضا ونازع بعضهم في حكاية هذا وما قبله فإن موضوع المسألة الخطاب التكليفي فلا يذكر فيهما الأخبار وفيه نظر والسابع يجوز تأخير بيان النسخ دون غيره وحكاه أبو الحسين في المعتمد وأبو علي وابنه وعبد الجبار والثامن التفصيل بين ما ليس له ظاهر كالمشترك قال الإمام فخر الدين والأسماء المتواطئة جاز تأخير البيان لأنه لا محذور من تأخيره وأما ما له ظاهر قد استعمل في غير ظاهره كالعام والمطلق والمنسوخ ونحوه جاز تأخير بيان التفصيل دون الإجمال فإنه يشترط وجوده عند الخطاب حتى يكون مانعا من الوقوع في الخطأ فنقول مثلا المراد من هذا العام هو الخاص أو المطلق أو المقيد أو النكرة المعين أو هذا الحكم سينسخ وأما البيان التفصيلي وهو المشخص بكذا مثلا فليس بشرط وقد نقل الإمام فخر الدين وأتباعه هذا المذهب عن أبي الحسين البصري والدقاق والقفال وأبي إسحاق فأما أبو الحسين فالنقل عنه صحيح وأما الدقاق فسبق النقل عنه بموافقة المعتزلة وأما القفال فالظاهر أنه الشاشي وقد سبق النقل عنه بموافقة الجمهور وقد رأيت في كتابه التصريح بذلك قال ما لفظه البيان للعام والمجمل يجوز أن يتأخر عنه وأن يقارنه وأن يتقدم من الأمور ما يستدل به على المراد مما يحتاج إلى بيانه وذلك كله على حسب ما يقع التعبد به ا هـ وأما أبو إسحاق فإن كان هو المروزي كما صرح به الإمام فقد سبق النقل عنه بموافقة المعتزلة على المنع لكن حكى القاضي عبد الوهاب عنه المذهب الثالث وقال الهندي عن أبي إسحاق المروزي روايتان وإن كان الشيرازي فقد صحح في شرح اللمع الجواز مطلقا والتاسع وحكاه ابن السمعاني عن أبي زيد أن بيان المجمل إن لم يكن تبديلا
____________________
(3/84)
ولا تغييرا جاز مقارنا وطارئا وإن كان بيان تغيير جاز مقارنا ولا يجوز طارئا بحال ثم ذكر أن بيان الاستثناء بيان تغيير قال والخلاف الذي بيننا وبين الشافعي في بيان الخصوص فعندنا هو من قبيل الاستثناء فلا يجوز إلا مقارنا وعند الشافعي هو من قبيل بيان المجمل فيصح مقارنا وطارئا قال ولهذا قال علماؤنا فيمن أوصى له بخاتم ولعمرو بفصه بكلام متصل إن الفص كله لصاحب الفص يكون تخصيصه بيانا كالاستثناء ولو فصل فقال أوصيت لهذا بفصه كان الفصل بين الأول والثاني ولا يصير بيانا عند الفصل قال وأما بيان المجمل منفصلا فجائز ألا ترى أن أصحابنا قالوا فيمن أقر أن لفلان عليه شيئا يكون البيان إليه متصلا أو منفصلا فَائِدَةٌ ذَكَرَ الْمَازِرِيُّ من فَوَائِدِ الْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا وَرَدَ مُتَأَخِّرًا عن عُمُومِ الْكِتَابِ رَافِعٌ لِبَعْضِ مُقْتَضَاهُ كما في قَوْلِهِ عليه السَّلَامُ يوم حُنَيْنٍ من قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ على أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ التَّفْرِيعُ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ اخْتَلَفُوا في جَوَازِ التَّدْرِيجِ بِالْبَيَانِ بِأَنْ يُبَيِّنَ تَخْصِيصًا بَعْدَ تَخْصِيصٍ على مَذَاهِبَ أَحَدُهُمَا يَجُوزُ ذلك في الثَّانِي وَالثَّالِثِ وما بَعْدَهُمَا كَالْأَوَّلِ كما يَجُوزُ تَأْخِيرُ أَصْلِ الْبَيَانِ عن اللَّفْظِ كما لو قال اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ انْسِلَاخِ الشَّهْرِ ثُمَّ قال بَعْدَ زَمَانٍ إذَا كَانُوا حَرْبِيِّينَ ثُمَّ قال إذَا كَانُوا رِجَالًا وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَمِنْهُمْ الْقَاضِي لِأَنَّ الدَّالَّ على جَوَازِ التَّأْخِيرِ دَالٌّ على جَوَازِ التَّدْرِيجِ وَعَلَى هذا فَيَجِيءُ ما سَبَقَ في الْعَامِّ من أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَحْكُمُ بِاللُّزُومِ إلَى أَيِّ زَمَنٍ وَالثَّانِي الْمَنْعُ من ذلك في الثَّانِي وما بَعْدَهُ وَأَنَّ الِاقْتِصَارَ على الْأَوَّلِ يُشْعِرُ بِانْحِصَارِ التَّخْصِيصِ فيه لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ قَصَدَ بَيَانَ الْمُشْكِلِ فَاقْتَضَى الْحَالُ إكْمَالَهُ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِبْهَامَ في تَأْخِيرِ الْبَيَانِ أَكْثَرُ ولم يَمْتَنِعْ
____________________
(3/85)
وَالثَّالِثُ يَجُوزُ ذلك في الْمُجْمَلِ وَلَا يَجُوزُ في الْعُمُومِ كَالْخِلَافِ في الْبَيَانِ الْأَوَّلِ وَالرَّابِعُ يَجُوزُ إذَا أَعْلَمَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ الْمُكَلَّفَ أَنَّ فيه بَيَانًا مُتَوَقَّعًا فَأَمَّا إذَا اتَّصَلَ الْبَيَانُ بِالْمُكَلَّفِينَ من غَيْرِ إشْعَارٍ وَإِعْلَامٍ في مَوْقِعِ الْبَيَانِ فَلَا يَتَرَتَّبُ بَيَانٌ آخَرُ وَأَمَّا الْمَانِعُونَ لِلتَّأْخِيرِ فَاخْتَلَفُوا في مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ هل يَجُوزُ لِلرَّسُولِ عليه السَّلَامُ تَأْخِيرُ تَبْلِيغِ ما أُوحِيَ إلَيْهِ من الْأَحْكَامِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إلَى الْجَوَازِ مُتَمَسِّكِينَ بِأَنَّ وُجُوبَ مَعْرِفَتِهَا إنَّمَا هو لِوُجُوبِ الْعَمَلِ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ التي لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بها وَلَا عَمَلَ قبل الْوَقْتِ فَلَا يَجِبُ تَبْلِيغُهَا وَمَنَعَهُ الْأَقَلُّونَ مُتَمَسِّكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ من رَبِّكَ وَرُدَّ بِأَنَّهُ ليس لِلْفَوْرِ وَبِأَنَّ الْمُرَادَ الْقُرْآنُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ وَحَكَى صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عن عبد الْجَبَّارِ أَنَّهُ إنْ كان الْمُنَزَّلُ قُرْآنًا وَجَبَ تَبْلِيغُهُ في الْحَالِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ انْتِشَارُهُ وَإِبْلَاغُهُ وَإِنْ كان غير قُرْآنٍ لم يَجِبْ تَعْجِيلُ التَّبْلِيغِ وَرَدَّهُ لِأَنَّ حَالَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ فِيمَا أُوحِيَ إلَيْهِ سَوَاءٌ الثَّانِيَةُ في جَوَازِ سَمَاعِ الْمَخْصُوصِ بِدُونِ مُخَصِّصِهِ فقال أَكْثَرُهُمْ يَجُوزُ وَمَنَعَهُ أبو الْهُذَيْلِ وَالْجُبَّائِيُّ في الْمُخَصِّصِ السَّمْعِيِّ دُونَ الْعَقْلِيِّ وقد سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ في بَابِ الْعُمُومِ وَلَيْسَ الْمَسْأَلَةُ السَّابِقَةُ فَرْدًا من أَفْرَادِ هذه لِأَنَّا إذَا فَرَّعْنَا على الْمَنْعِ فَنَحْنُ مَانِعُونَ من وُرُودِ الْعَامِّ إلَّا وَمَعَهُ الْخَاصُّ وَتِلْكَ الْمَسْأَلَةُ في تَبْلِيغِ الْحُكْمِ من حَيْثُ الْجُمْلَةُ سَوَاءٌ الْعَامُّ الْمُقَارِنُ لِلْخَاصِّ وَالْمُطْلَقُ الْمُقَارِنُ لِلْمُقَيَّدِ وَالْمُجْمَلُ الْمُقَارِنُ لِلْمُمَيَّزِ وَالْمُبَيَّنُ بِنَفْسِهِ مَسْأَلَةٌ حَيْثُ وَجَبَ الْبَيَانُ وَالْإِسْمَاعُ فَإِنَّمَا يَجِبُ لِمَنْ أُرِيدَ إفْهَامُهُ قَطْعًا لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَلَا يَجِبُ إذْ لَا تَعَلُّقَ له بِالْخِطَابِ وَكُلٌّ منها قد لَا يُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ وقد يُرَادُ وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي كَالْعُلَمَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى خِطَابِ الصَّلَاةِ وَأَحْكَامِ الْحَيْضِ وَالثَّالِثُ كَأُمَّتِنَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمِلَلِ الْمَاضِيَةِ وَالرَّابِعُ كَالنِّسَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى خِطَابِ أَحْكَامِ الْحَيْضِ
____________________
(3/86)
مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ وَأَحَدُهُمَا بَيَانٌ في شَيْءٍ مُجْمَلٍ في آخَرَ وَالْآخَرُ كَذَلِكَ مِثَالُهُ حَدِيثُ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ بَيَانٌ في الْإِخْرَاجِ مُجْمَلٌ في الْمِقْدَارِ وَحَدِيثُ ليس فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ بَيَانٌ في الْمِقْدَارِ مُجْمَلٌ في الْإِخْرَاجِ فَتَمَسَّكَ أبو حَنِيفَةَ بِالْأَوَّلِ في عَدَمِ اعْتِبَارِ النِّصَابِ وَتَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ بِالثَّانِي في اعْتِبَارِهِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَمَذْهَبُنَا مُتَرَجِّحٌ فإن بَيَانَ الْمِقْدَارِ من خَبَرِنَا قَاضٍ على إجْمَالِ الْمِقْدَارِ من خَبَرِهِمْ كما أَنَّ بَيَانَ الْإِخْرَاجِ من خَبَرِهِمْ قَاضٍ على إجْمَالِ الْإِخْرَاجِ من خَبَرِنَا
____________________
(3/87)
الْمَفْهُومُ اعْلَمْ أَنَّ الْأَلْفَاظَ ظُرُوفٌ حَامِلَةٌ لِلْمَعَانِي وَالْمَعَانِي الْمُسْتَفَادَةُ منها تَارَةً تُسْتَفَادُ من جِهَةِ النُّطْقِ وَالتَّصْرِيحِ وَتَارَةً من جِهَةِ التَّعْرِيضِ وَالتَّلْوِيحِ وَالْأَوَّلُ يَنْقَسِمُ إلَى نَصٍّ إنْ لم يَحْتَمِلْ وَظَاهِرٍ إنْ احْتَمَلَ وَالثَّانِي هو الْمَفْهُومُ وهو بَيَانُ حُكْمِ الْمَسْكُوتِ بِدَلَالَةِ لَفْظِ الْمَنْطُوقِ وَسُمِّيَ مَفْهُومًا لَا لِأَنَّهُ مُفْهِمٌ غَيْرَهُ إذْ الْمَنْطُوقُ أَيْضًا مَفْهُومٌ بَلْ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مُجَرَّدٌ لَا يَسْتَنِدُ إلَى مَنْطُوقٍ فلما فُهِمَ من غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِالتَّعْبِيرِ عنه سُمِّيَ مَفْهُومًا قال الْعَبْدَرِيّ وَالْمَفْهُومُ يَنْقَسِمُ إلَى النَّصِّ وَالْمُجْمَلِ وَالظَّاهِرِ وَالْمُؤَوَّلِ كَانْقِسَامِ الْمَنْطُوقِ قال ابن رُشْدٍ في مُخْتَصَرِهِ فَمِثَالُ النَّصِّ وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ فإنه يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ أَرَادَ أَهْلَ الْقَرْيَةِ وَكَذَا حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ فإن الْمَفْهُومَ منه قَطْعًا تَحْرِيمُ النِّكَاحِ وَمِثَالُ الْمُحْتَمَلِ لَا صِيَامَ فإنه يَحْتَمِلُ نَفْيَ الْقَبُولِ أَصْلًا أو نَفْيَ الْكَمَالِ وَقَوْلُهُ من أَدْرَكَ رَكْعَةً من الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ فإنه مُتَرَدِّدٌ بين فَضْلِ الصَّلَاةِ أو حُكْمِهَا أو وَقْتِهَا ا هـ تَنْبِيهٌ هل الْمَفْهُومُ مُسْتَفَادٌ من دَلَالَةِ الْعَقْلِ أو من اللَّفْظِ وَهَلْ الْمَفْهُومُ مُسْتَفَادٌ من دَلَالَةِ الْعَقْلِ من جِهَةِ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ أو مُسْتَفَادٌ من اللَّفْظِ قَوْلَانِ وَبِالثَّانِي قَطَعَ الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ وَرَدَّهُ الْكَرْخِيّ في نُكَتِهِ بِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يُشْعِرُ بِذَاتِهِ وَإِنَّمَا دَلَالَتُهُ بِالْوَضْعِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَرَبَ لم تَضَعْ اللَّفْظَ دَالًّا على شَيْءٍ مَسْكُوتٍ عنه فإن اللَّفْظَ إمَّا أَنْ يُشْعِرَ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أو الْمَجَازِ وَلَيْسَ الْمَفْهُومُ وَاحِدًا مِنْهُمَا وَبَنَى على هذا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِكَوْنِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ صَارُوا إلَى الْمَفْهُومِ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا أَخَذُوهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعَقْلِ وقد يُخْطِئُونَ فَيَكُونُ إذْنُ نِسْبَتِهِمْ كَنِسْبَةِ غَيْرِهِمْ من الْمُخَالِفِينَ
____________________
(3/88)
تَقْسِيمٌ وهو إمَّا أَنْ يَلْزَمَ عن مُفْرَدٍ أو مُرَكَّبٍ وَاللَّازِمُ عن الْمُفْرَدِ إمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ الصِّدْقُ أو الصِّحَّةُ الْعَقْلِيَّةُ أو الشَّرْعِيَّةُ عليه أو لَا وَالثَّانِي أَنْ يَقْتَرِنَ بِحُكْمٍ لو لم يَكُنْ اقْتِرَانُهُ بِهِ لِتَعْلِيلِهِ كان اللَّفْظُ بِهِ قَصْدًا من الشَّارِعِ فَيُبَيِّنُهُ إيمَاءً كما سَيَأْتِي في بَابِ الْقِيَاسِ وَالْأَوَّلُ يُسَمَّى دَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ بِأَنْ يَتَوَقَّفَ تَحَقُّقُ دَلَالَةِ ذلك الْمُفْرَدِ عليه إمَّا لِوُجُوبِ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِهِ رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ أَيْ حُكْمُ ذلك أو الْمُؤَاخَذَةُ لِأَنَّ عَيْنَ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ مَوْجُودٌ وَإِمَّا لِاسْتِحَالَةِ الْمَنْطُوقِ بِهِ عَقْلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ فإن الْعَقْلَ يُحِيلُ سُؤَالَ الْجُدَرَانِ فَالتَّقْدِيرُ أَهْلَ الْقَرْيَةِ وَإِمَّا لِلصِّحَّةِ الشَّرْعِيَّةِ كَقَوْلِهِ اعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي لِاسْتِدْعَائِهِ تَقْدِيرَ الْمِلْكِ إذْ الْعِتْقُ لَا يَحْصُلُ إلَّا في مِلْكٍ وما ذَكَرْنَاهُ من جَعْلِ الِاقْتِضَاءِ بِأَقْسَامِهِ من فَنِّ الْمَفْهُومِ هو الذي صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى وَجَرَى عليه الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ وَأَمَّا الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ فَجَعَلَاهُ من فَنِّ الْمَنْطُوقِ وَكَذَا الْإِيمَاءُ وَالْإِشَارَةُ مع تَفْسِيرِهِمَا الْمَنْطُوقَ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ في مَحَلِّ النُّطْقِ وَالْمَفْهُومَ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ لَا في مَحَلِّ النُّطْقِ وَهَذَا بَعِيدٌ من التَّوْجِيهِ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ الْأُصُولِ فَإِنَّهُمْ قالوا سُمِّيَ الْمَفْهُومُ مَفْهُومًا لِأَنَّهُ فُهِمَ من غَيْرِ التَّصْرِيحِ بِالتَّعْبِيرِ عنه وَهَذَا الْمَعْنَى شَامِلٌ لِلِاقْتِضَاءِ وَالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ أَيْضًا فَتَكُونُ هذه الْأَقْسَامُ من قَبِيلِ الْمَفْهُومِ لَا الْمَنْطُوقِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ وَاسِطَةً بين الْمَفْهُومِ وَالْمَنْطُوقِ وَلِهَذَا اعْتَرَفَ بها من أَنْكَرَ الْمَفْهُومَ وقد وَقَعَ الْبَحْثُ في كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ هُنَا بين الشَّيْخَيْنِ عَلَاءِ الدِّينِ الْقُونَوِيِّ وَشَمْسِ الدِّينِ الْأَصْفَهَانِيِّ وَكَتَبَا فيها رِسَالَتَيْنِ وَانْتَصَرَ الْأَصْفَهَانِيُّ لِابْنِ الْحَاجِبِ بِأَنْ فَسَّرَ الْمَنْطُوقَ بِمَا دَلَّ عليه اللَّفْظُ في مَحَلِّ النُّطْقِ فَلَزِمَ منه جَعْلُ الثَّلَاثَةِ مَنْطُوقًا لِأَنَّهَا من قَبِيلِ ما دَلَّ عليه اللَّفْظُ في مَحَلِّ النُّطْقِ وَإِنْ لم يُوَضِّحْ اللَّفْظُ لها بِخِلَافِ الْمَفْهُومِ فَلْيُرَاجَعْ كَلَامُهُمَا
____________________
(3/89)
وَجَعَلَ ابن الْحَاجِبِ دَلَالَةَ الْإِشَارَةِ أَنْ لَا يَقْصِدَ وهو في مَحَلِّ النُّطْقِ وَمَثَّلَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الْآيَةَ فإنه يَدُلُّ على أَنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالِاسْتِيلَاءِ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ إلَيْهِ أَيْ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ من غَيْرِ قَصْدٍ إلَى بَيَانِهِ إذْ الْآيَةُ سِيقَتْ لِبَيَانِ اسْتِحْقَاقِهِمْ سَهْمًا من الْغَنِيمَةِ لَا لِبَيَانِ أَنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالِاسْتِيلَاءِ لَكِنْ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ من حَيْثُ إنَّ اللَّهَ سَمَّاهُمْ فُقَرَاءَ مع إضَافَةِ الْأَمْوَالِ إلَيْهِمْ وَالْفَقِيرُ اسْمٌ لِعَدِيمِ الْمَالِ لَا لِمَنْ لَا تَصِلُ يَدُهُ إلَيْهِ مع كَوْنِهِ مَالِكًا له فَلَوْ كانت أَمْوَالُهُمْ بَاقِيَةً على مِلْكِهِمْ لَكَانَتْ التَّسْمِيَةُ الْمَذْكُورَةُ مَجَازًا وهو خِلَافُ الْأَصْلِ وَضُعِّفَ بِأَنَّ التَّسْمِيَةَ وَإِنْ دَلَّتْ على ما ذَكَرُوهُ لَكِنَّ إضَافَةَ الْأَمْوَالِ إلَيْهِمْ تَدُلُّ على بَقَاءِ مِلْكِهِمْ إذْ الْأَصْلُ في الْإِضَافَةِ الْمِلْكُ فَلَيْسَ حَمْلُهُمْ الْإِضَافَةَ على التَّجَوُّزِ وَإِجْرَاءُ التَّسْمِيَةِ الْمَذْكُورَةِ على الْحَقِيقَةِ أَوْلَى من الْعَكْسِ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ وَالْمَعْنَى اللَّازِمُ من اللَّفْظِ الْمُرَكَّبِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَدْلُولِ ذلك الْمُرَكَّبِ في الْحُكْمِ أو مُخَالِفًا له وَالْأَوَّلُ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ لِأَنَّ الْمَسْكُوتَ عنه مُوَافِقٌ لِلْمَلْفُوظِ بِهِ وَيُسَمَّى فَحْوَى الْخِطَابِ لِأَنَّ فَحْوَى الْكَلَامِ ما يُفْهَمُ منه على سَبِيلِ الْقَطْعِ وَهَذَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ من الْمَنْطُوقِ بِهِ أو مُسَاوٍ له وَيُسَمَّى أَيْضًا لَحْنَ الْخِطَابِ لَكِنَّ لَحْنَ الْخِطَابِ مَعْنَاهُ قال تَعَالَى وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْنِ الْقَوْلِ هَكَذَا قال الْأُصُولِيُّونَ وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في بَابِ الْقَضَاءِ في الْفَرْقِ بين الْفَحْوَى وَلَحْنِ الْخِطَابِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْفَحْوَى ما نَبَّهَ عليه اللَّفْظُ وَاللَّحْنُ ما لَاحَ في أَثْنَاءِ اللَّفْظِ وَالثَّانِي الْفَحْوَى ما دَلَّ على ما هو أَقْوَى منه وَلَحْنُ الْقَوْلِ ما دَلَّ على مِثْلِهِ ا هـ وَذَكَرَ الْقَفَّالُ في فَتَاوِيهِ أَنَّ فَحْوَى الْخِطَابِ ما دَلَّ الْمُظْهَرُ على الْمُسْقَطِ وَلَحْنُ الْقَوْلِ ما يَكُونُ مُحَالًا على غَيْرِ الْمُرَادِ في الْأَصْلِ وَالْوَضْعِ من الْمَلْفُوظِ وَالْمَفْهُومُ ما يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الْمُظْهَرَ وَالْمُسْقَطَ كَقَوْلِهِ في سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ فَالْمُرَادُ بِهِ إثْبَاتُ
____________________
(3/90)
الزَّكَاةِ في السَّائِمَةِ وَإِسْقَاطُهَا في غَيْرِهَا وَمِثْلُ فَحْوَى الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ وَقَوْلُهُ أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ أَيْ فَضُرِبَ فَانْفَلَقَ لِأَنَّ الْفَحْوَى هو الْمَعْنَى وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْمُرَادُ بِهِ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ الْمُظْهَرِ على الْمُضْمَرِ الْمَحْذُوفِ قال وكان الشَّيْخُ أبو الْحَسَنِ الْمُقْرِي يُجَوِّزُ الْوَقْفَ على قَوْله تَعَالَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ ثُمَّ يَبْتَدِئُ بِقَوْلِهِ فَانْفَلَقَ فَقُلْت له إنَّ ذلك لَا يَجُوزُ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْ اضْرِبْ وَقَوْلَهُ فَانْفَلَقَ بِمَجْمُوعِهِمَا يَدُلَّانِ على ذلك الْمُسْقَطِ فلم يَجُزْ الْوَقْفُ عليه قال وَأَمَّا لَحْنُ الْقَوْلِ فَهُوَ غَيْرُ هذا وَيُسَمَّى بِهِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ غَيْرُهُ لَكِنْ بِاللَّحْنِ من الْقَوْلِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُهُ كما قال تَعَالَى وَلِتَعْرِفْنَهُمْ في لَحْنِ الْقَوْلِ لِأَنَّهُ قال قبل ذلك حتى إذَا خَرَجُوا من عِنْدِكَ قالوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قال كان الْمُرَادُ أَنَّ ما قال عليه السَّلَامُ ليس بِشَيْءٍ فَهَذَا هو لَحْنُ الْقَوْلِ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ مَاذَا قال مُحَمَّدٌ آنِفًا لم يَكُنْ غَرَضُهُمْ من هذا اللَّفْظِ اسْتِكْشَافَ الْقَوْلِ وَالْفَحْصَ عن مَعْنَاهُ وَهَذَا اللَّفْظُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذلك لَكِنَّ في لَحْنِ الْقَوْلِ قد يُرَادُ بِهِ ما قَدَّرْنَاهُ فَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ذلك وكان ذلك بَيِّنًا في لَحْنِ قَوْلِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَهَذَا الْمَفْهُومُ تَارَةً يَكُونُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ من الْمَنْطُوقِ إمَّا في الْأَكْثَرِ كَدَلَالَةِ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ من قَوْلِهِ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ على تَحْرِيمِ الضَّرْبِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَذَى فإن الضَّرْبَ أَكْثَرُ أَذًى من التَّأْفِيفِ وَكَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في الْمُسْلِمِينَ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ فإنه يُفْهَمُ ثُبُوتُ الذِّمَّةِ لِأَعْلَاهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَإِمَّا في الْأَقَلِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ من إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ مَفْهُومُهُ أَنَّ أَمَانَتَهُ تَحْصُلُ في الدِّرْهَمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَتَارَةً يَكُونُ مُسَاوِيًا كَدَلَالَةِ جَوَازِ
____________________
(3/91)
الْمُبَاشَرَةِ من قَوْلِهِ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغَوْا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ على جَوَازِ أَنْ يُصْبِحَ الرَّجُلُ صَائِمًا جُنُبًا لِأَنَّهُ لو لم يَجُزْ ذلك لم يَجُزْ لِلصَّائِمِ مَدُّهُ الْمُبَاشَرَةَ إلَى الطُّلُوعِ بَلْ وَجَبَ قَطْعُهَا مِقْدَارَ ما يَسَعُ فيه الْغُسْلُ قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيَنْقَسِمُ إلَى قَطْعِيٍّ لِأَنَّهُ لَا احْتِمَالَ كَآيَةِ التَّأْفِيفِ وَإِلَى ظَنِّيٍّ وهو ما فيه احْتِمَالٌ مع الظُّهُورِ وَمَثَّلُوهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فإن هذا عِنْدَ طَائِفَةٍ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْقَاتِلَ عَمْدًا عليه تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ من طَرِيقٍ أَوْلَى لَكِنْ فيه احْتِمَالٌ من جِهَةِ قَصْرِ الْكَفَّارَةِ على الْمُخْطِئِ لِكَوْنِ ذَنْبِ الْمُتَعَمِّدِ أَعْظَمَ من أَنْ يُكَفِّرَ وَلِهَذَا اتَّفَقُوا على الْعَمَلِ بِهِ إذَا كان جَلِيًّا وَتَنَازَعُوا في الْمَظْنُونِ فيه فلم يُوجِبْ مَالِكٌ الْكَفَّارَةَ في الْعَمْدِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ شِئْت فَقُلْ إلَى ضَرُورِيٍّ وَنَظَرِيٍّ وَحَكَى الْمَازِرِيُّ عن بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْمَفْهُومَ إنْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ أَدْنَى احْتِمَالٍ فإنه لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ وَيَرَوْنَ أَنَّ الِاحْتِمَالَ في هذا يَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ بِخِلَافِ اللَّفْظِيِّ وما ذَكَرْنَاهُ من أَنَّ مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ تَارَةً يَكُونُ أَوْلَى وَتَارَةً يَكُونُ مُسَاوِيًا هو ما ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَأَتْبَاعُهُ وَمِنْهُمْ من شَرَطَ فيه الْأَوْلَوِيَّةَ وهو قَضِيَّةُ ما نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ عن كَلَامِ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ وهو قَضِيَّةُ كَلَامِ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ وَعَلَيْهِ جَرَى ابن الْحَاجِبِ في مَوْضِعٍ وَنَقَلَهُ الْهِنْدِيُّ عن الْأَكْثَرِينَ وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ شَرْطُهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَعْنَى في الْمَسْكُوتِ عنه أَقَلَّ مُنَاسَبَةً لِلْحُكْمِ من الْمَعْنَى في الْمَنْطُوقِ فيه فَيَدْخُلُ فيه الْأَوْلَى وَالْمُسَاوِي وهو ظَاهِرُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ من أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ قال الْهِنْدِيُّ وَيَدُلُّ عليه تَسْمِيَةُ الشَّافِعِيِّ له بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ فإنه لَا يُشْتَرَطُ في الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ كَوْنُ الْحُكْمِ في الْمَقِيسِ أَوْلَى من الْمَقِيسِ عليه فَلَا يَحْسُنُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِاشْتِرَاطِ الْأَوْلَوِيَّةِ تَسْمِيَتُهُ جَلِيًّا بَلْ هو عِنْدَهُمْ أَخَصُّ منه وَلَوْ سُمِّيَ بِهِ لَكَانَ من تَسْمِيَةِ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ وَعَلَيْهِ يُنْزِلُونَ تَسْمِيَةَ الشَّافِعِيِّ لَكِنْ يُسَمِّي أَكْثَرُهُمْ الْأَوَّلَ بِفَحْوَى الْخِطَابِ وَالثَّانِي بِلَحْنِهِ وَاخْتَلَفُوا في دَلَالَةِ النَّصِّ عليه هل هِيَ لَفْظِيَّةٌ أو قِيَاسِيَّةٌ على قَوْلَيْنِ
____________________
(3/92)
حَكَاهُمَا الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ تَرْجِيحُ أَنَّهُ قِيَاسٌ وهو الذي صَدَّرَ بِهِ كَلَامَهُ في الرِّسَالَةِ وَأَوْضَحَهُ بِالْأَمْثِلَةِ ثُمَّ قال وقد مَنَعَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُسَمَّى بَيَانًا لِأَنَّهُ نَقَلَهُ من النَّصِّ وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ في بَابِ الْقَضَاءِ على الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ قِيَاسٌ وَكَذَا الْهِنْدِيُّ في النِّهَايَةِ وقال الصَّيْرَفِيُّ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ جُلَّةٌ سَيِّدُهُمْ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ هذا هو الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَذْكُورَ هو الْمُسَمَّى بِاسْمِهِ وهو التَّنْبِيهُ على الْعُمُومِ وإذا كان بِهِ عَقْلٌ كان هو الْأَصْلَ وكان مِمَّا نَبَّهَ عليه فَرْعُهُ وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ اللُّمَعِ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَجَرَى عليه الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فَذَكَرَهُ في أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ وقال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ الشَّافِعِيُّ يُومِئُ إلَى أَنَّهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ لَا يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ قال وَأَنْكَرَ دَاوُد الْمَفْهُومَ قال وَذَهَبَ الْمُتَكَلِّمُونَ بِأَسْرِهِمْ الْأَشْعَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَنَّ الْمَنْعَ من التَّأْفِيفِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَذَى مُسْتَفَادٌ من النُّطْقِ انْتَهَى وقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ الصَّحِيحُ من الْمَذَاهِبِ أَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى النُّطْقِ لَا مَجْرَى الْقِيَاسِ وَسَمَّاهُ الْحَنَفِيَّةُ دَلَالَةَ النَّصِّ وقال آخَرُونَ ليس بِقِيَاسٍ وَلَا يُسَمَّى دَلَالَةَ النَّصِّ لَكِنَّ دَلَالَتَهُ لَفْظِيَّةٌ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ إنَّ الْمَنْعَ من التَّأْفِيفِ مَثَلًا مَنْقُولٌ بِالْعُرْفِ عن مَوْضُوعِهِ اللُّغَوِيِّ إلَى الْمَنْعِ من أَنْوَاعِ الْأَذَى وَقِيلَ إنَّهُ فَهْمٌ بِالسِّيَاقِ وَالْقَرَائِنِ وَعَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ من أَهْلِ هذا الْقَوْلِ كَالْغَزَالِيِّ وَابْنِ الْقُشَيْرِيّ وَالْآمِدِيَّ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَالدَّلَالَةُ عِنْدَهُمْ مَجَازِيَّةٌ من بَابِ إطْلَاقِ الْأَخَصِّ وَإِرَادَةِ الْأَعَمِّ قال الْمَازِرِيُّ وَالْقَائِلُونَ بهذا شَرَطُوا كَوْنَ الْمَسْكُوتِ عنه أَوْلَى بِالْحُكْمِ من الْمَنْطُوقِ بِهِ قال وَالْجُمْهُورُ على أَنَّ دَلَالَتَهُ من جِهَةِ اللُّغَةِ لَا من الْقِيَاسِ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ من بَابِ الْقِيَاسِ وَرُدَّ عليه بِأَنَّ سَامِعَ الْخِطَابِ يُفْهَمُ منه النَّهْيُ عن الضَّرْبِ وَإِنْ لم يَنْظُرْ في طُرُقِ الْقِيَاسِ وَيُؤْمِنْ بِذَلِكَ وَإِنْ لم يُؤْمِنْ بِالتَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ وقال عبد الْعَزِيزِ في كَشْفِ الْأَسْرَارِ ظَنَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ هذا قِيَاسٌ جَلِيٌّ وَأَصْلَهُ التَّأْفِيفُ وَفَرْعَهُ الضَّرْبُ وَعِلَّتَهُ دَفْعُ الْأَذَى وَلَيْسَ كما ظَنُّوا لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَرْبًا من الْفُرُوعِ بِالْإِجْمَاعِ وقد يَكُونُ في هذا أَصْلًا بِمَا يَجْعَلُوهُ فَرْعًا وَلِأَنَّهُ كان ثَابِتًا قبل شَرْعِ الْقِيَاسِ فَعُلِمَ أَنَّهُ من الدَّلَالَاتِ
____________________
(3/93)
اللَّفْظِيَّةِ وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ وَلِهَذَا احْتَجَّ بِهِ نُفَاةُ الْقِيَاسِ وَلِأَنَّ الْمَفْهُومَ نَظَرِيٌّ وَهَذَا ضَرُورِيٌّ قال وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ هل يَعْمَلُ عَمَلَ النَّصِّ وَأَنَّهُ هل يَجْرِي في الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ في كِتَابِ الْقِيَاسِ أَشَارَ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ من فَوَائِدِهِ أَنَّهُ هل يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ إنْ قُلْنَا لَفْظِيَّةٌ جَازَ وَإِلَّا فَلَا وَسَيَأْتِي في النَّسْخِ وَمِنْهَا ما حَكَيْنَاهُ عن صَاحِبِ الْكَشْفِ أَيْضًا وقال الْغَزَالِيُّ في بَابِ الْقِيَاسِ من الْمَنْحُولِ قالوا فَائِدَةُ الْخِلَافِ فيه أَنَّهُ إنْ كان قِيَاسًا قُدِّمَ عليه الْخَبَرُ وَإِلَّا فَلَا وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ هو قِيَاسٌ وَلَكِنْ لَا يُقَدَّمُ على الْخَبَرِ وَهَذَا ما يَعْتَقِدُهُ في مَنْعِ التَّقْدِيمِ وَالْخِلَافُ بَعْدَهُ يَرْجِعُ إلَى عِبَارَةِ انْتَهَى قلت سَيَأْتِي تَقْدِيمُهُ على الْقِيَاسِ عِنْدَ التَّعَارُضِ لِأَنَّهُ أَقْوَى منه نعم لو كان الْقِيَاسُ عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةٌ فَالظَّاهِرُ تَقَدُّمُ الْقِيَاسِ عليه لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ وقال ابن التِّلِمْسَانِيِّ من قال مُسْتَنَدُهُ التَّنْبِيهُ بِالْأَدْنَى على الْأَعْلَى قال لَا فَرْقَ بين أَنْ تَكُونَ الْفَحْوَى قَطْعِيَّةً أو ظَنِّيَّةً وَإِلَيْهِ مَيْلُ الشَّافِعِيِّ فإنه قال في قَوْله تَعَالَى وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ إنَّ تَقْيِيدَ الْقَتْلِ بِالْخَطَأِ في إيجَابِ الْكَفَّارَةِ يَدُلُّ على إيجَابِهَا في الْعَمْدِ أَوْلَى وَهَذَا ظَاهِرٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ وَمَنْ قال مُسْتَنَدُهُ الْقَرَائِنُ وَالسِّيَاقُ وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْحَنَفِيَّةِ لم يَشْتَرِطْ في الْفَحْوَى أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ قال وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ لو وُجِدَ في بَعْضِ الصُّوَرِ لَفْظٌ من الشَّارِعِ يُشْعِرُ بِنَقِيضِ الْحُكْمِ في الْمَسْكُوتِ عنه إنْ قُلْنَا مَأْخُوذٌ من قِيَاسٍ جَلِيٍّ امْتَنَعَ الْقِيَاسُ إلَّا على رَأْيِ من يُقَدِّمُ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ على الظَّاهِرِ وَإِنْ قُلْنَا يَعْتَمِدُ التَّنْبِيهَ أو الْقَرَائِنَ اللَّفْظِيَّةَ تَعَارَضَ اللَّفْظَانِ وَيَبْقَى النَّظَرُ في جِهَاتِ التَّرْجِيحِ
____________________
(3/94)
الثَّانِي الْقَوْلُ بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ من حَيْثُ الْجُمْلَةُ مُجْمَعٌ عليه كما قَالَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ وَوَقَعَ في الْبُرْهَانِ وَغَيْرِهِ ما يَقْتَضِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُنْكِرُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ بَعْدَ كَلَامٍ ذَكَرَهُ أَنَّ من أَنْكَرَ الْمَفْهُومَ سَلَّمَ الْفَحْوَى في مِثْلِ قَوْلِهِ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ قال وَأَمَّا مُنْكِرُو صِيَغِ الْعُمُومِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْمَفْهُومَ وهو بِالتَّوْقِيفِ أَوْلَى لَكِنْ نُقِلَ عن الْأَشْعَرِيِّ ما يَقْتَضِي الْقَوْلَ بِهِ فإنه تَعَلَّقَ في مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى كَلًّا إنَّهُمْ عن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ وقال إذَا ذَكَرَ الْحِجَابَ في إذْلَالِ الْأَشْقِيَاءِ أَشْعَرَ ذلك بِنَقِيضِهِ في السَّعَادَةِ وَأَمَّا الظَّاهِرِيَّةُ فَقَدْ قال الْمَازِرِيُّ نُقِلَ عَنْهُمْ إنْكَارُ الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ على الْإِطْلَاقِ كما حَكَى عن قَوْمٍ من الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مَتَى تَطَرَّقَ إلَيْهِ أَدْنَى احْتِمَالٍ فإنه لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ وَيَرَوْنَ أَنَّ الِاحْتِمَالَ في هذا يَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ بِخِلَافِ الظَّاهِرِ اللَّفْظِيِّ وقال ابن رُشْدٍ لَا يَنْبَغِي لِلظَّاهِرِيَّةِ أَنْ يُخَالِفُوا في مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ لِأَنَّهُ من بَابِ السَّمْعِ وَاَلَّذِي يَرُدُّ ذلك يَرُدُّ نَوْعًا من الْخِطَابِ قلت قد خَالَفَ فيه ابن حَزْمٍ قال ابن تَيْمِيَّةَ وهو مُكَابَرَةٌ الثَّالِثُ اخْتَلَفُوا كما قَالَهُ الْمَازِرِيُّ في جَوَازِ الْحُكْمِ بِنَقِيضِ هذا الْمَفْهُومِ مِثْلُ وَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَاقْتُلْهُمَا قال وَرَأَيْت الْأَذْرِيَّ تَرَدَّدَ فيه فَسَلَّمَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ عَمِلَ قِنْطَارًا لِمَ رَدَّهُ لِلتَّنَاقُضِ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ من كِتَابِهِ إنَّمَا يُسْتَفَادُ الْمَنْعُ من قِبَلِهِمَا لِأَجْلِ تَحْدِيدِ النَّهْيِ عن التَّأْفِيفِ وَأَشَارَ إلَى جَوَازِ مُضَامَّةِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ بَعْضِهِمَا لِبَعْضٍ وَمِنْ الْخِلَافِ يُلْتَفَتُ إلَى أَنَّ دَلَالَةَ هذا هل هِيَ نَصٌّ أو ظَاهِرٌ فَإِنْ قُلْنَا نَهْيٌ لم يَجُزْ وَإِلَّا جَازَ الرَّابِعُ قال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ من فَاسِدِ هذا الضَّرْبِ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ إذَا جَازَ السَّلَمُ في الْمُؤَجَّلِ فَفِي الْحَالِّ أَجْوَزُ وَمِنْ الْغَرَرِ أَبْعَدُ فإنه لَا بُدَّ من اشْتِرَاكِهِمَا في الْمُقْتَضَى وَلَيْسَ الْمُقْتَضِي لِصِحَّةِ السَّلَمِ الْمُؤَجَّلِ بُعْدَهُ عن الْغَرَرِ فَيَلْتَحِقُ بِهِ الْحَالُّ وَالْغَرَرُ مَانِعٌ احْتَمَلَ في الْمُؤَجَّلِ وَالْحُكْمُ لَا يَصِحُّ لِعَدَمِ مَانِعِهِ بَلْ لِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ ثُمَّ لو كان بُعْدُهُ عن الْغَرَرِ عِلَّةَ الصِّحَّةِ مِمَّا وَجَدْت في الْفَرْعِ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْإِلْحَاقُ
____________________
(3/95)
وَالثَّانِي مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ وهو إثْبَاتُ نَقِيضِ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ لِلْمَسْكُوتِ وَيُسَمَّى دَلِيلَ الْخِطَابِ لِأَنَّ دَلِيلَهُ من جِنْسِ الْخِطَابِ أو لِأَنَّ الْخِطَابَ دَالٌّ عليه قال في الْمَنْخُولِ وقد بَدَّلَ ابن فُورَكٍ لَفْظَ الْمَفْهُومِ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ في هذا الْقِسْمِ لِمُخَالَفَتِهِ مَنْظُومَ اللَّفْظِ قال الْقَرَافِيُّ في قَوَاعِدِهِ وَهَلْ الْمُخَالَفَةُ بين الْمَنْطُوقِ وَالْمَسْكُوتِ بِضِدِّ الْحُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ أو بِنَقِيضِهِ الْحَقُّ الثَّانِي وَمَنْ تَأَمَّلْ الْمَفْهُومَاتِ وَجَدَهَا كَذَلِكَ قال وَيَظْهَرُ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا في اسْتِدْلَالِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا على وُجُوبِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ بِقَوْلِهِ في حَقِّ الْمُنَافِقِينَ وَلَا تُصَلِّ على أَحَدٍ منهم مَاتَ أَبَدًا إذْ مَفْهُومُهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّلَاةِ على الْمُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ كما قال بَلْ مَفْهُومُهُ عَدَمُ تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ على الْمُؤْمِنِينَ وَعَدَمُ التَّحْرِيمِ صَادِقٌ مع الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْإِبَاحَةِ فَلَا يَسْتَلْزِمُ الْوُجُوبَ لِأَنَّ الْأَعَمَّ من الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُهُ فَالنَّقِيضُ أَعَمُّ من الضِّدِّ وَأَقْسَامُهُ عَشَرَةٌ اقْتَصَرَ الْأُصُولِيُّونَ منها على ذِكْرِ أَرْبَعَةٍ أو خَمْسَةٍ قال الْمَازِرِيُّ وَحَصَرَهَا الشَّافِعِيُّ في خَمْسٍ فذكر الْحَدَّ وَالْعَدَدَ وَالصِّفَةَ وَالْمَكَانَ وَالزَّمَانَ وَأَشَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى شُمُولِ التَّعْبِيرِ عنها بِالصِّفَةِ وهو صَحِيحٌ لِأَنَّ الصِّفَةَ مُقَدَّرَةٌ في ظَرْفِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ كَكَائِنٍ وَمُسْتَقِرٍّ وَوَاقِعٍ من قَوْلِك زَيْدٌ في الدَّارِ وَالْغُسْلُ يوم الْجُمُعَةِ وَالْجَمِيعُ عِنْدَنَا حُجَّةٌ إلَّا اللَّقَبَ وَأَنْكَرَ أبو حَنِيفَةَ الْجَمِيعَ وَحَكَاهُ الشَّيْخُ في شَرْحِ اللُّمَعِ عن الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ قد تَكَلَّمَ أَصْحَابُنَا في هذا الْبَابِ وَخَلَطُوا فيه وَآخِرُهُمْ أبو بَكْرٍ الْقَفَّالُ وَأَوَّلُ من تَكَلَّمَ فيه أبو الْعَبَّاسِ بن سُرَيْجٍ وَذَكَرَ أَنَّهُ نَظَرَ في كِتَابِ الرِّسَالَةِ وَغَيْرِهَا من كُتُبِ الشَّافِعِيِّ فلم يَنْكَشِفْ له ما
____________________
(3/96)
قَالَهُ الشَّافِعِيُّ كُلَّ الِانْكِشَافِ فَحَسِبَهَا أَجْوِبَةً مُخْتَلِفَةً لِاخْتِلَافِ صُوَرِهَا فقال إنَّمَا قال الشَّافِعِيُّ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ بِدَلِيلٍ يَزِيدُ على نَفْسِ اللَّفْظِ لَا بِنَفْسِ اللَّفْظِ وَمُقْتَضَاهُ مِثْلُ ما ذَكَرَ من قِلَّةِ النَّمَاءِ وَقِلَّةِ الْمَئُونَةِ في الْمَعْلُوفَةِ فَتَلَطَّفَ أبو الْعَبَّاسِ في مَنْعِ الْقَوْلِ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وَصَرَّحَ الْقَفَّالُ بِخِلَافِ الشَّافِعِيِّ فيه ا هـ قال الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى في الذَّرِيعَةِ أَنْكَرَهُ ابن سُرَيْجٍ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ من شُيُوخِهِمْ كَأَبِي بَكْرٍ الْفَارِسِيِّ وَالْقَفَّالِ وَغَيْرِهِمَا وَذَكَرَ ابن سُرَيْجٍ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالصِّفَةِ يَدُلُّ على ما تَنَاوَلَهُ لَفْظُهُ إذَا تَجَرَّدَ وقد تَحْصُلُ منه قَرَائِنُ يَدُلُّ مَعَهَا على أَنَّ ما عَدَاهُ بِخِلَافِهِ كَقَوْلِهِ إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ وَقَوْلُهُ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ في سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ وقال وقد يَقْتَضِي ذلك أَنَّ حُكْمَ ما عَدَاهُ مِثْلُ حُكْمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا وَقَوْلِهِ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَقَوْلِهِ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ على النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ بِالْقَرَائِنِ قال وقد أَضَافَ ابن سُرَيْجٍ قَوْلَهُ هذا إلَى الشَّافِعِيِّ وَتَأَوَّلَ كَلَامَهُ الْمُقْتَضِي لِخِلَافِ ذلك وَبَنَاهُ عليه ا هـ وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ فقال الْقَاضِي وَالْإِمَامُ إنَّ النَّقَلَةَ نَقَلُوا عنه نَفْيَ الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ كما نَقَلُوا عنه نَفْيَ صِيَغِ الْعُمُومِ وقد أُضِيفَ إلَيْهِ خِلَافُ ذلك وَأَنَّهُ قال بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ لِأَجْلِ اسْتِدْلَالِهِ على رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِ رَبَّهُ يوم الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ في الْكَافِرِينَ إنَّهُمْ عن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ في كِتَابِ السِّيَرِ أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ في خِطَابَاتِ الشَّرْعِ قال وَأَمَّا في مُصْطَلَحِ الناس وَعُرْفِهِمْ فَهُوَ حُجَّةٌ وَعَكَسَ ذلك بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَّا فقال حُجَّةٌ في كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وفي كَلَامِ الْمُصَنِّفِينَ وَغَيْرِهِمْ ليس بِحُجَّةٍ
____________________
(3/97)
فَصْلٌ اخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ لِلْمَفْهُومِ في مَوَاضِعَ أَحَدُهَا هل هو دَلِيلٌ من حَيْثُ اللَّفْظُ أو الشَّرْعُ على وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الْمَازِرِيُّ وَالرُّويَانِيُّ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ من حَيْثُ اللُّغَةُ وَوَضْعُ لِسَانِ الْعَرَبِ وقال الْإِمَامُ الرَّازِيَّ في الْمَعَالِمِ لَا يَدُلُّ على النَّفْيِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ لَكِنَّهُ يَدُلُّ عليه بِحَسَبِ الْعُرْفِ الْعَامِّ وَذَكَرَ في الْمَحْصُولِ في بَابِ الْعُمُومِ أَنَّهُ يَدُلُّ عليه الْعَقْلُ فَحَصَلَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ وَحَكَى الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ اخْتَلَفُوا هل نَفْيُ الْحُكْمِ فيه عَمَّا عَدَا الْمَنْطُوقَ بِهِ من قَبِيلِ اللَّفْظِ أو من قَبِيلِ الْمَعْنَى كَعَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ في الْمَعْلُوفَةِ هل هو مَلْفُوظٌ بِهِ حتى نَقُولَ إنَّ الْعَرَبَ إذَا قالت في سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ أَنَّ هذا الْكَلَامَ قَائِمٌ مَقَامَ كَلَامَيْنِ أَحَدُهُمَا وُجُوبُهَا في السَّائِمَةِ وَالْآخَرُ نَفْيُهَا عن الْمَعْلُوفَةِ أَمْ نَقُولُ إنَّ هذا ليس من قَبِيلِ اللَّفْظِ بَلْ من قَبِيلِ الْمَعْنَى قال وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ من قَبِيلِ اللَّفْظِ وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا خُصَّ الْمَفْهُومُ هل يَبْقَى حُجَّةً فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ إنْ قُلْنَا إنَّهُ من قَبِيلِ اللَّفْظِ فَنَعَمْ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ من قَبِيلِ الْمَعْنَى فَلَا ا هـ وَهَذَا الْخِلَافُ غَرِيبٌ وَمِمَّنْ حَكَاهُ أَيْضًا بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ وَيَتَحَصَّلُ حِينَئِذٍ خَمْسَةُ مَذَاهِبَ من جِهَةِ اللُّغَةِ من جِهَةِ الشَّرْعِ من جِهَةِ الْعُرْفِ من جِهَةِ الْعَقْلِ من جِهَةِ الْمَعْنَى الْمَوْضِعُ الثَّانِي اخْتَلَفُوا أَيْضًا في تَحْقِيقِ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ هل دَلَّ على نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَا الْمَنْطُوقَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كان من جِنْسِ الْمُثْبَتِ فيه أَمْ لم يَكُنْ أو اخْتَصَّتْ دَلَالَتُهُ بِمَا إذَا كان من جِنْسِهِ فإذا قال في الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ فَهَلْ نَفَيْنَا الزَّكَاةَ عن الْمَعْلُوفَةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كانت من الْإِبِلِ أو الْبَقَرِ أو الْغَنَمِ أو لم نَنْفِ إلَّا عن مَعْلُوفَةِ
____________________
(3/98)
الْغَنَمِ على وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَسُلَيْمٌ وابن السَّمْعَانِيِّ وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَغَيْرُهُمْ قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَالصَّحِيحُ تَخْصِيصُهُ بِالنَّفْيِ عن مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ فَقَطْ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْمَنْطُوقِ وَوَجْهُ النَّفْيِ مُطْلَقًا أَنَّ السَّوْمَ كَالْعِلَّةِ فَيَنْتَفِي بِانْتِفَائِهَا وَكَذَا صَحَّحَ سُلَيْمٌ أَنَّ النَّفْيَ عن مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ فَقَطْ لَكِنْ صَحَّحَ أبو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ من أَصْحَابِنَا في أَدَبِ الْجَدَلِ له الثَّانِي قال الشَّيْخُ وهو ضَعِيفٌ جِدًّا الثَّالِثُ أَنَّهُ ظَاهِرٌ لَا يَرْتَقِي إلَى الْقَطْعِ وَكَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ يَقْتَضِي أَنَّهُ قد يَكُونُ قَطْعِيًّا وَعَلَى الْأَوَّلِ فَهَلْ يَصِحُّ إسْقَاطُهُ بِجُمْلَتِهِ حتى يَكُونَ كَإِزَالَةِ الظَّاهِرِ أو لَا وَإِنَّمَا يُؤَوَّلُ حتى يُرَدَّ إلَى الْبَعْضِ كما في تَخْصِيصِ الْعُمُومِ قال الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ يَصِحُّ إسْقَاطُهُ بِجُمْلَتِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فإذا دَلَّ الدَّلِيلُ على إسْقَاطِ الْمَفْهُومِ بِكَمَالِهِ بَقِيَ اللَّفْظُ فِيمَا دَلَّ عليه بِالنُّطْقِ فلم يَتَعَطَّلْ اللَّفْظُ بِخِلَافِ ما إذَا خَرَجَ من الْعُمُومِ كُلُّ أَفْرَادِهِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَعْطِيلِ اللَّفْظِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ إسْقَاطَ الْمَفْهُومِ بِالْكُلِّيَّةِ كَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَحُكِيَ في الْمَنْخُولِ عن ابْنِ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ من تَرْكِ بَقِيَّةٍ كما في الْمَنْطُوقِ قال وَالْمُخْتَارُ خِلَافُهُ إذْ ليس الْمَفْهُومُ سَائِرُ الْكَلَامِ وَإِنَّمَا هو بَعْضُ مُقْتَضَيَاتِ اللَّفْظِ فَلَيْسَ في تَرْكِهِ مع تَبْقِيَةِ الْمَنْطُوقِ نَسْخٌ بَلْ هو كَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ الرَّابِعُ إذَا دَلَّ دَلِيلٌ على إخْرَاجِ صُورَةٍ من صُوَرِ الْمَفْهُومِ فَهَلْ يُسْقِطُ الْمَفْهُومَ بِالْكُلِّيَّةِ أو يَتَمَسَّكَ بِهِ في الْبَقِيَّةِ يَنْبَنِي على أَنَّ الْعُمُومَ إذَا خُصَّ هل يَكُونُ مُجْمَلًا فَإِنْ قُلْنَا يَصِيرُ مُجْمَلًا فَالْمَفْهُومُ أَوْلَى وَإِنْ قُلْنَا لَا يَكُونُ مُجْمَلًا فَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تَرْكُ الْمَفْهُومِ بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَلَقَّاهُ بِالنَّظَرِ إلَى فَوَائِدِ التَّخْصِيصِ وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ إلَّا مُخَالَفَةُ الْمَسْكُوتِ عنه لِلْمَنْطُوقِ بِهِ فإذا أَثْبَتَ أَنَّ بَعْضَ الْمَسْكُوتِ عنه يُوَافِقُ الْمَنْطُوقَ بِهِ بَطَلَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ هِيَ الْفَائِدَةُ فَيُطْلَبُ فَائِدَةٌ أُخْرَى وَالْحَقُّ جَوَازُ التَّمَسُّكِ بِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ كما إذَا قِيلَ إنَّمَا الْعَالِمُ زَيْدٌ وَلَا عَالِمَ إلَّا زَيْدٌ فإذا دَلَّ دَلِيلٌ على إثْبَاتِ عَالِمٍ غَيْرِهِ اقْتَصَرْنَا في الْإِثْبَاتِ على ما دَلَّ عليه الدَّلِيلُ الْجَدِيدُ وَيَبْقَى النَّفْيُ فِيمَا سِوَاهُ لِأَنَّ اللَّفْظَ الشَّامِلَ إذَا أُخْرِجَتْ منه صُورَةٌ بَقِيَ على الْعُمُومِ فِيمَا سِوَاهَا وَعَلَى هذا يُقْبَلُ فيه التَّخْصِيصُ كما إذَا حَلَفَ لَا آكُلُ السَّمَكَ مَثَلًا وَنَوَى تَخْصِيصَ النَّفْيِ بِغَيْرِهِ يُقْبَلُ منه
____________________
(3/99)
الْخَامِسُ هل يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قبل الْبَحْثِ عَمَّا يُوَافِقُهُ أو يُخَالِفُهُ من مَنْطُوقٍ آخَرَ فيه خِلَافُ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ قبل الْبَحْثِ عن الْمُخَصِّصِ وَحَكَى الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في كِتَابِهِ وَجْهًا عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ سَبِيلَهُ سَبِيلُ الْعُمُومِ بِنَظَرِهِ عِنْدَ وُرُودِ الْخِطَابِ بِهِ فَإِنْ وُجِدَ ما يَدُلُّ على مُوَافَقَةِ الْمَسْكُوتِ عنه لِلْمَذْكُورِ صُيِّرَ إلَيْهِ وَإِلَّا اقْتَصَرَ على الْمَذْكُورِ وكان الْمَسْكُوتُ عنه مُخَالِفًا له قال وَصَارَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ حتى يَقُومَ دَلِيلٌ على خِلَافِهِ وَاسْتَدَلَّ كُلُّ فَرِيقٍ منهم على صِحَّةِ مَذْهَبِهِ بِأَلْفَاظٍ سَرَدَهَا من كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فَصْلٌ شُرُوطُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ الْعَائِدَةِ إلَى الْمَسْكُوتِ عنه لِلْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ شُرُوطٌ منها ما يَرْجِعُ لِلْمَسْكُوتِ عنه وَمِنْهَا ما يَرْجِعُ لِلْمَذْكُورِ فَمِنْ الْأَوَّلِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عنه أَوْلَى بِذَلِكَ الْحُكْمِ من الْمَنْطُوقِ فَإِنْ كان أَوْلَى منه كان مَفْهُومَ مُوَافَقَةٍ أو مُسَاوِيًا كان قِيَاسًا جَلِيًّا على الْخِلَافِ السَّابِقِ وَمِنْهَا أَنْ لَا يُعَارَضَ بِمَا يَقْتَضِي خِلَافَهُ فَيَجُوزُ تَرْكُهُ بِنَصٍّ يُضَادُّهُ وَبِفَحْوَى مَقْطُوعٍ بِهِ يُعَارِضُهُ كَفَهْمِ مُشَارَكَةِ الْأَمَةِ الْعَبْدَ في سِرَايَةِ الْعِتْقِ فَأَمَّا الْقِيَاسُ فلم يُجَوِّزُ الْقَاضِي تَرْكَ الْمَفْهُومِ بِهِ مع تَجْوِيزِهِ تَرْكَ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ هَكَذَا نَقَلَهُ في الْمَنْخُولِ قال وَلَعَلَّهُ قَرِيبٌ مِمَّا اخْتَرْنَاهُ في الْمَفْهُومِ فإنه تِلْقَاءَ الظَّاهِرِ وَالْعُمُومُ قد لَا يُتْرَكُ بِالْقِيَاسِ بَلْ يَجْتَهِدُ النَّاظِرُ في تَرْجِيحِ أَحَدِ الظَّنَّيْنِ مِنْهُمَا على الْآخَرِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ في الْقِيَاسِ إذَا عَارَضَهُ الْعُمُومُ ا هـ وَاَلَّذِي نَقَلَهُ الْإِمَامُ عن الْقَاضِي التَّوَقُّفُ في تَجْوِيزِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ وقال صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ الْقَوْلُ بِالْمَفْهُومِ عِنْدَ تَجَرُّدِهِ عن الْقَرَائِنِ أَمَّا إذَا اقْتَرَنَ بِظَاهِرِ الْخِطَابِ قَرِينَةٌ فإنه لَا يَكُونُ لِدَلَالَةِ الْخِطَابِ حُكْمٌ بِالْإِجْمَاعِ وقال شَارِحُ اللُّمَعِ دَلِيلُ الْخِطَابِ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً إذَا لم يُعَارِضْهُ ما هو أَقْوَى منه كَالنَّصِّ وَالتَّنْبِيهِ فَإِنْ عَارَضَهُ أَحَدُ هَؤُلَاءِ سَقَطَ وَإِنْ عَارَضَهُ عُمُومٌ صَحَّ التَّعَلُّقُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ على الْأَصَحِّ وَإِنْ عَارَضَهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ قُدِّمَ الْقِيَاسُ وَأَمَّا الْخَفِيُّ فَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَالنُّطْقِ قُدِّمَ دَلِيلُ الْخِطَابِ وَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَالْقِيَاسِ فَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ أَصْحَابِنَا يُقَدِّمُونَ كَثِيرًا الْقِيَاسَ في كُتُبِ الْخِلَافِ وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَبُ أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ قُلْت وما صَحَّحَهُ في مُعَارَضَةِ الْعُمُومِ هِيَ مَسْأَلَةُ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ
____________________
(3/100)
لَكِنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ في الْبُوَيْطِيِّ يُخَالِفُهُ فإنه قال وإذا قَتَلَ الرَّجُلُ صَيْدًا عَمْدًا أو خَطَأً ضَمِنَهُ وَالْحُجَّةُ في ذلك قَوْله تَعَالَى وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا وَالْحُجَّةُ في الْخَطَأِ قَوْلُهُ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا فَدَخَلَ في هذا الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ ا هـ فَقَدْ قُدِّمَ هذا الْعُمُومُ على مَفْهُومِ قَوْلِهِ مُتَعَمِّدًا وَمِنْ الْفَوَائِدِ ما نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ عن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ لَا يُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى وهو شَاهِدٌ لَكِنَّ شُبْهَتَهُ قَوِيَّةٌ فإن مَفْهُومَ قَوْله تَعَالَى وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى لَا يُعَارَضُ بِالْعُمُومِ الذي في قَوْلِهِ وَكَتَبْنَا عليهم فيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ لِأَنَّ هذا خِطَابٌ وَارِدٌ في غَيْرِ شَرِيعَتِنَا وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُخْتَلَفٌ فيها وما قَالَهُ في الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ فيه نَظَرٌ لِأَنَّ الْقِيَاسَ عُمُومٌ مَعْنَوِيٌّ وإذا ثَبَتَ تَقْدِيمُ الْمَفْهُومِ على الْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ فَتَقْدِيمُهُ على الْمَعْنَوِيِّ أَوْلَى وَيَكُونُ خُرُوجُ صُوَرِ الْمَفْهُومِ من مُقْتَضَى الْقِيَاسِ كَخُرُوجِهَا من مُقْتَضَى لَفْظِ الْعُمُومِ وَمِنْهُ حَاجَةُ الْمُخَاطَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ فذكر هذا الْقَيْدَ لِحَاجَةِ الْمُخَاطَبِينَ إلَيْهِ إذْ هو الْحَامِلُ لهم على قَتْلِهِمْ لَا لِاخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِهِ وَنَظِيرُهُ لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً شُرُوطُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ الْعَائِدَةِ لِلْمَذْكُورِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلَهُ شُرُوطٌ أَحَدُهَا أَنْ لَا يَكُونَ خَارِجًا مَخْرَجَ الْغَالِبِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي في حُجُورِكُمْ من نِسَائِكُمْ فإن الْغَالِبَ من حَالِ الرَّبَائِبِ كَوْنُهُنَّ في حُجُورِ أَزْوَاجِ أُمَّهَاتِهِنَّ فذكر هذا الْوَصْفَ لِكَوْنِهِ أَغْلَبَ لَا لِيَدُلَّ على إبَاحَةِ نِكَاحِ غَيْرِهَا وَكَذَلِكَ تَخْصِيصُ الْخُلْعِ بِحَالِ الشِّقَاقِ لَا مَفْهُومَ له إذْ لَا يَقَعُ غَالِبًا في حَالِ الْمُصَافَاةِ وَالْمُوَافَقَةِ خِلَافًا لِابْنِ الْمُنْذِرِ وإذا لَاحَ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ غَيْرُ نَفْيِ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا الْمَنْطُوقَ تَطَرَّقَ الِاحْتِمَالُ إلَى الْمَنْطُوقِ فَصَارَ مُجْمِلًا كَاللَّفْظِ الْمُجْمِلِ قال الشَّافِعِيُّ تَعَارُضُ الْفَوَائِدِ في الْمَفْهُومِ كَتَعَارُضِ الِاحْتِمَالَاتِ في الْمَنْطُوقِ يُكْسِبُهُ نَعْتَ الْإِجْمَالِ فَكَذَلِكَ تَعَارُضُ الِاحْتِمَالَاتِ في الْمَنْطُوقِ يُكْسِبُهُ نَعْتَ الْإِجْمَالِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ قَصَدَ بهذا التَّخْصِيصِ الْمُغَايَرَةَ دُونَ اعْتِبَارِ الْفَائِدَةِ الْأُخْرَى قال الشَّافِعِيُّ وَلَا حَاجَةَ إلَى دَلِيلٍ في تَرْكِ هذا الْمَفْهُومِ وقال الْغَزَالِيُّ في
____________________
(3/101)
الْمَنْخُولِ الْمُخْتَارُ خِلَافُهُ إذْ الشِّقَاقُ يُنَاسِبُ الْخُلْعَ فإنه يَدُلُّ على بُعْدِ الْخِلَافِ وَتَعَذُّرِ اسْتِمْرَارِ النِّكَاحِ فَلَا تُرْفَعُ الْفَحْوَى الْمَعْلُومَةُ منه بِمُجَرَّدِ الْعُرْفِ فَلَا بُدَّ من دَلِيلٍ وَإِنْ لم يَبْلُغْ في الْقُوَّةِ مَبْلَغَ ما يُشْتَرَطُ في تَرْكِ مَفْهُومٍ لَا يُقْصَدُ بِالْعُرْفِ فإنه قَرِينَةٌ مُوهِمَةٌ ا هـ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ وهو الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ قال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ وَالسَّبَبُ فيه أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمَفْهُومِ مَنْشَؤُهُ طَلَبُ الْفَائِدَةِ في التَّخْصِيصِ وَكَوْنُهُ لَا فَائِدَةَ إلَّا الْمُخَالَفَةُ في الْحُكْمِ أو تَكُونُ تِلْكَ الْفَائِدَةُ أَرْجَحَ الْفَوَائِدِ الْمُحْتَمَلَةِ فإذا وُجِدَ سَبَبٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ غير الْمُخَالَفَةِ في الْحُكْمِ وكان ذلك الِاحْتِمَالُ ظَاهِرًا ضَعُفَ الِاسْتِدْلَال بِتَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِالذِّكْرِ على الْمُخَالَفَةِ لِوُجُودِ الْمُزَاحِمِ الرَّاجِحِ بِالْعَادَةِ فَبَقِيَ على الْأَصْلِ قال وَهَذَا أَحْسَنُ إلَّا أَنَّهُ يُشْكِلُ على مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ في قَوْلِهِ في سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ فإنه قال فيه بِالْمَفْهُومِ وَأَسْقَطَ الزَّكَاةَ عن الْمَعْلُوفَةِ مع أَنَّ الْغَالِبَ وَالْعَادَةَ السَّوْمُ فَمُقْتَضَى هذه الْقَاعِدَةِ أَنْ لَا يَكُونَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ مَفْهُومٌ قُلْت قد ذَكَرَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في كِتَابِهِ هذا السُّؤَالَ وَأَجَابَ عنه بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ اشْتِرَاطَ السَّوْمِ لم يَقُلْ بِهِ الشَّافِعِيُّ من جِهَةِ الْمَفْهُومِ بَلْ من جِهَةِ أَنَّ قَاعِدَةَ الشَّرْعِ الْعَفْوُ عن الزَّكَاةِ فِيمَا أُعِدَّ لِلْقُنْيَةِ ولم يُتَصَرَّفْ فيه لِلتَّنْمِيَةِ وَإِنَّمَا أَوْجَبَ في الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ هذا أَصْلُ ما تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ السَّوْمَ شَرْطٌ لَكِنَّ الْقَفَّالَ قَصَدَ بِذَلِكَ نَفْيَ الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ مُطْلَقًا وقد سَبَقَ رَدُّهُ على أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ في الْأُمِّ يُخَالِفُ ذلك فإنه قال في كِتَابِ الزَّكَاةِ وإذا قِيلَ في سَائِمَةِ الْغَنَمِ كَذَا فَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ لَا يَكُونَ في الْغَنَمِ غَيْرِ السَّائِمَةِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ كُلَّمَا قِيلَ في شَيْءٍ بِصِفَةٍ وَالشَّيْءُ يَجْمَعُ صِفَتَيْنِ يُؤْخَذُ حَقُّهُ كَذَا فَفِيهِ دَلِيلٌ على أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ من غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَةِ من صِفَتَيْهِ قال الشَّافِعِيُّ فَلِهَذَا قُلْنَا لَا نَأْخُذُ من الْغَنَمِ غَيْرِ السَّائِمَةِ صَدَقَةَ الْغَنَمِ وإذا كان هذا في الْغَنَمِ فَهَكَذَا في الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ لِأَنَّهَا الْمَاشِيَةُ التي تَجِبُ فيها الصَّدَقَةُ دُونَ ما سِوَاهَا ا هـ فلم يَجْعَلْ الشَّافِعِيُّ الْغَلَبَةَ إلَّا لِذَكَرِ الْغَنَمِ حتى أَلْحَقَ بها الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ ولم يَجْعَلْ السَّوْمَ غَالِبًا وقال ابن الْقُشَيْرِيّ قال الشَّافِعِيُّ الْغَرَضُ من الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ أَنْ لَا يُلْغِي الْقَيْدَ الذي قَيَّدَ بِهِ الشَّارِعُ كَلَامَهُ فإذا ظَهَرَ لِلْقَيْدِ فَائِدَةٌ ما مِثْلُ إنْ خَرَجَ عن الْمُعْتَادِ الْغَالِبِ
____________________
(3/102)
في الْعُرْفِ كَفَى ذلك وَذَكَرَ في الرِّسَالَةِ كَلَامًا بَالِغًا في هذا الْبَابِ وقال إذَا تَرَدَّدَ التَّخْصِيصُ بين تَقْدِيرِ نَفْيِ ما عَدَا الْمُخَصَّصَ وَبَيْنَ قَصْدِ إخْرَاجِ الْكَلَامِ على مَجْرَى الْعُرْفِ فَيَصِيرُ تَرَدُّدُ التَّخْصِيصِ بين هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ كَتَرَدُّدِ اللَّفْظِ بين جِهَتَيْنِ في الِاحْتِمَالِ فَيُلْحَقُ بِالْمُحْتَمَلَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ لم يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَاسْتِشْهَادُ النِّسَاءِ مع التَّمَكُّنِ من إشْهَادِ الرِّجَالِ خَارِجٌ على الْعُرْفِ لِمَا في ذلك من الشُّهْرَةِ وَهَتْكِ السِّتْرِ وَعَسُرَ الْأَمْرُ عِنْدَ إقَامَةِ الشَّهَادَةِ فَجَرَى التَّقْيِيدُ إجْرَاءً لِلْكَلَامِ على الْغَالِبِ وَكَقَوْلِهِ إنْ خِفْتُمْ في قَصْرِ الصَّلَاةِ وَخَالَفَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَرَأَى الْقَوْلَ بِالْمَفْهُومِ في ذلك كُلِّهِ وَأَنَّ دَلِيلَ الْخِطَابِ لم يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِ التَّخْصِيصِ بِالذَّكَرِ إذْ لو كان كَذَلِكَ لَلَزِمَ مِثْلُهُ بِاللَّقَبِ وَلَكِنْ إنَّمَا دَلَّ على ذلك لِمَا في الْكَلَامِ من الْإِشْعَارِ على مُقْتَضَى حَقَائِقِهِ من كَوْنِهِ شَرْطًا فَلَا يَصِحُّ إسْقَاطُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ بِاحْتِمَالٍ يُؤَوَّلُ إلَى الْعُرْفِ نعم يَظْهَرُ مَسْلَكُ التَّأْوِيلِ وَيَخِفُّ الْأَمْرُ على الْمُؤَوِّلِ في قَرِينَةِ الدَّلِيلِ الْعَاضِدِ لِلتَّأْوِيلِ وقد وَافَقَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بن عبد السَّلَامِ وزاد فقال يَنْبَغِي الْعَكْسُ أَيْ لَا يَكُونُ له مَفْهُومٌ إلَّا إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصْفَ الْغَالِبَ على الْحَقِيقَةِ تَدُلُّ الْعَادَةُ على ثُبُوتِهِ لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ فَالْمُتَكَلِّمُ يَكْتَفِي بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ على ثُبُوتِهِ لها عن ذِكْرِ اسْمِهِ فإذا أتى بها مع أَنَّ الْعَادَةَ كَافِيَةٌ فيها دَلَّ على أَنَّهُ إنَّمَا أتى بها لِتَدُلَّ على سَلْبِ الْحُكْمِ عَمَّا يُفْهِمُ السَّامِعَ أَنَّ هذه الصِّفَةَ ثَابِتَةٌ لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ وقد أَجَابَ الْقَرَافِيُّ عن هذا بِأَنَّ الْوَصْفَ إذَا كان غَالِبًا كان لَازِمًا لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ بِسَبَبِ الشُّهْرَةِ وَالْغَلَبَةِ فَذِكْرُهُ إيَّاهُ مع الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْحُكْمِ عليها لِغَلَبَةِ حُضُورِهِ في الذِّهْنِ لَا لِتَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِهِ وَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ غَالِبًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُذْكَرُ مع الْحَقِيقَةِ إلَّا لِتَقْيِيدِ الْحُكْمِ بِهِ لِعَدَمِ مُقَارَنَتِهِ لِلْحَقِيقَةِ في الذِّهْنِ حِينَئِذٍ فَاسْتِحْضَارُهُ معه وَاسْتِجْلَابُهُ لِذِكْرِهِ عِنْدَ الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يَكُونُ لِفَائِدَةٍ وَالْفَرْضُ عَدَمُ ظُهُورِ فَائِدَةٍ أُخْرَى فَيَتَعَيَّنُ التَّخْصِيصُ وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ في هذا الشَّرْطِ أَيْضًا وَاعْتَرَضَ بِالِاسْتِفْسَارِ فقال ما تُرِيدُونَ بِالْغَالِبِ أَعَادَةُ الْفِعْلِ أَمْ عَادَةُ التَّخَاطُبِ فَإِنْ أُرِيدَ عَادَةُ الْفِعْلِ فَلَا نُسَلِّمُ إلَّا إذَا صَحِبَهَا عَادَةُ التَّخَاطُبِ وَدَعْوَى أَنَّ عَادَةَ الْفِعْلِ مُسْتَلْزِمَةٌ عَادَةَ التَّخَاطُبِ ضَعِيفَةٌ بِمَنْعِ
____________________
(3/103)
تَسْلِيمِ اللُّزُومِ وَلِأَنَّهُ إثْبَاتُ اللُّغَةِ لِغَلَبَتِهَا وهو وَاهٍ جِدًّا وَإِنْ أُرِيدَ عَادَةُ التَّخَاطُبِ فَإِثْبَاتُهَا في مَوْضِعِ الدَّعْوَى عَسِيرٌ الثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ عَهْدٌ وَإِلَّا فَلَا مَفْهُومَ له وَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ اللَّقَبِ من إيقَاعِ التَّعْرِيفِ عليه إيقَاعُ الْعِلْمِ على مُسَمَّاهُ وَهَذَا الشَّرْطُ يُؤْخَذُ من تَعْلِيلِهِمْ إثْبَاتَ مَفْهُومِ الصِّفَةِ أَنَّهُ لو لم يَقْصِدْ نَفْيَ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ لَمَا كان لِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ وَقَوْلُهُمْ في مَفْهُومِ الِاسْمِ إنَّهُ إنَّمَا ذُكِرَ لِأَنَّ الْغَرَضَ منه الْإِخْبَارُ عن الْمُسَمَّى فَلَا يَكُونُ حُجَّةً الثَّالِثُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَذْكُورُ قُصِدَ بِهِ زِيَادَةُ الِامْتِنَانِ على الْمَسْكُوتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِتَأْكُلُوا منه لَحْمًا طَرِيًّا فَلَا يَدُلُّ على مَنْعِ الْقَدِيدِ الرَّابِعُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَنْطُوقُ خَرَجَ لِسُؤَالٍ عن حُكْمِ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ وَلَا حَادِثَةَ خَاصَّةٌ بِالْمَذْكُورِ وَلَك أَنْ تَقُولَ كَيْفَ جَعَلُوا هُنَا السَّبَبَ قَرِينَةً صَارِفَةً عن إعْمَالِ الْمَفْهُومِ ولم يَجْعَلُوهُ صَارِفًا عن إعْمَالِ الْعَامِّ بَلْ قَدَّمُوا مُقْتَضَى اللَّفْظِ على السَّبَبِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ كما قَالُوهُ فَهَلَّا جَرَى فيه خِلَافٌ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ أو بِخُصُوصِ السَّبَبِ لَا سِيَّمَا إذَا قُلْنَا إنَّ الْمَفْهُومَ عَامٌّ ثُمَّ رَأَيْت صَاحِبَ الْمُسَوَّدَةِ حَكَى عن الْقَاضِي أبي يَعْلَى من أَصْحَابِهِمْ فيه احْتِمَالَيْنِ وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ ضَعِيفَةٌ تَسْقُطُ بِأَدْنَى قَرِينَةٌ بِخِلَافِ اللَّفْظِ الْعَامِّ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْله تَعَالَى لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً فَلَا مَفْهُومَ لِلْأَضْعَافِ إلَّا عن النَّهْيِ عَمَّا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ بِسَبَبِ الْآجَالِ كان الْوَاحِدُ منهم إذَا حَلَّ دَيْنُهُ يقول له إمَّا أَنْ تُعْطِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ فَيُضَاعَفُ بِذَلِكَ أَصْلُ دَيْنِهِ مِرَارًا كَثِيرَةً فَنَزَلَتْ الْآيَةُ على ذلك الْخَامِسُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَذْكُورُ قُصِدَ بِهِ التَّفْخِيمُ وَتَأْكِيدُ الْحَالِ كَقَوْلِهِ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فإن التَّقْيِيدَ بِالْإِيمَانِ لَا مَفْهُومَ له وَإِنَّمَا ذُكِرَ لِتَفْخِيمِ الْأَمْرِ لَا الْمُخَالَفَةِ وَكَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْحَجُّ عَرَفَةَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ منه إنَّمَا الرِّبَا في النَّسِيئَةِ إذْ كان أَصْلُ الرِّبَا عِنْدَهُمْ وَمُعْظَمُهُ إنَّمَا هو النَّسِيئَةُ
____________________
(3/104)
السَّادِسُ أَنْ يُذْكَرَ مُسْتَقِلًّا فَلَوْ ذُكِرَ على جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ لِشَيْءٍ آخَرَ فَلَا مَفْهُومَ له كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في الْمَسَاجِدِ فإن قَوْلَهُ في الْمَسَاجِدِ لَا مَفْهُومَ له بِالنِّسْبَةِ لِمَنْعِ الْمُبَاشَرَةِ فإن الْمُعْتَكِفَ يَحْرُمُ عليه الْمُبَاشَرَةُ مُطْلَقًا السَّابِعُ أَنْ لَا يَظْهَرَ من السِّيَاقِ قَصْدُ التَّعْمِيمِ فَإِنْ ظَهَرَ فَلَا مَفْهُومَ له كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاَللَّهُ على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ على الْمَعْدُومِ الْمُمْكِنِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ فإن الْمَقْصُودَ بِقَوْلِهِ كل شَيْءٍ التَّعْمِيمُ في الْأَشْيَاءِ الْمُمْكِنَةِ لَا قَصْرُ الْحُكْمِ الثَّامِنُ أَنْ لَا يَعُودَ على أَصْلِهِ الذي هو الْمَنْطُوقُ بِالْإِبْطَالِ فَلَا يُحْتَجُّ على صِحَّةِ بَيْعِ الْغَائِبِ الذي عِنْدَ الْبَائِعِ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ لَا تَبِعْ ما ليس عِنْدَك إذْ لو صَحَّ لَصَحَّ بَيْعُ ما ليس عِنْدَهُ الذي نَطَقَ الْحَدِيثُ بِمَنْعِهِ لِأَنَّ أَحَدًا لم يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا وَشَرَطَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ أَنْ يَكُونَ الْمَنْطُوقُ مَعْنَاهُ خَاصًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أو على سَفَرٍ إلَى قَوْلِهِ فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَتَقْيِيدُ التَّيَمُّمِ بِالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ شَرْطٌ في إبَاحَتِهِ فَإِنْ كان مَعْنَاهُ عَامًّا لم يَكُنْ له مَفْهُومٌ وَسَقَطَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ كَتَقْيِيدِ الْفِطْرِ بِالْخَوْفِ وَالْكَفَّارَةِ بِقَتْلِ الْعَمْدِ وَقَالَا عَمَّمَ دَاوُد وَأَهْلُ الظَّاهِرِ الْحُكْمَ في الْمُقَيَّدِ اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ على النُّصُوصِ دُونَ الْمَعَانِي عِنْدَهُمْ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قال وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ وَلَا يُسْتَبَاحُ قَتْلُهُمْ مع أَمْنِ إمْلَاقٍ وقال وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ على الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا وَلَا يَجُوزُ الْإِكْرَاهُ وَإِنْ لم يُرِدْنَ التَّحَصُّنَ فلما سَقَطَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ في هذا ولم يَصِرْ نَسْخًا جَازَ أَنْ يَسْقُطَ غَيْرُهُ فَإِنْ قِيلَ إذَا سَقَطَ التَّقْيِيدُ كان مُقَيَّدًا قُلْنَا يَحْتَمِلُ ذِكْرُ التَّقْيِيدِ مع سُقُوطِ حُكْمِهِ أُمُورًا منها أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْمَسْكُوتِ عنه مَأْخُوذًا من حُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ لِيَسْتَعْمِلَهُ
____________________
(3/105)
الْمُجْتَهِدُ فِيمَا إذَا لم يَجِدْ فيه نَصًّا فإن الْحَوَادِثَ غَيْرُ مُنْقَرِضَةٍ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لِلتَّنْبِيهِ على غَيْرِهِ كما في قَوْله تَعَالَى وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ من إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ وَمِنْهُمْ من إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ فَنَبَّهَ بِالْقِنْطَارِ على الْكَثِيرِ وَبِالدِّينَارِ على الْقَلِيلِ وَإِنْ كان حُكْمُ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ سَوَاءً وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ هو الْأَغْلَبُ من أَحْوَالِ ما قُيِّدَ بِهِ فَيَذْكُرُهُ لِغَلَبَتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ الْآيَةَ وَإِنْ كانت مُفَادَاةُ الزَّوْجَيْنِ تَجُوزُ مع وُجُودِ الْحَدِّ وَعَدَمِهِ وَإِنْ احْتَمَلَ هذه الْأُمُورَ وَغَيْرَهَا وَجَبَ النَّظَرُ في كل مُقَيَّدٍ فَإِنْ ظَهَرَ دَلِيلٌ على عَدَمِ تَأْثِيرِهِ سَقَطَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ وَصَارَ في عُمُومِ حُكْمِهِ كَالْمُطْلَقِ وَإِنْ عُدِمَ الدَّلِيلُ وَجَبَ حُكْمُهُ على تَقْيِيدٍ وَجُعِلَ شَرْطًا في ثُبُوتِ حُكْمِهِ
____________________
(3/106)
فَصْلٌ في أَنْوَاعِهِ النَّوْعُ الْأَوَّلُ مَفْهُومُ اللَّقَبِ وهو تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ نَحْوُ قام زَيْدٌ أو اسْمِ نَوْعٍ نَحْوُ في الْغَنَمِ زَكَاةٌ فَلَا يَدُلُّ على نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ وقد نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ كما قَالَهُ في الْبُرْهَانِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ لم يَخْتَلِفْ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابُهُ فيه وَخَالَفَ فيه أبو بَكْرٍ الدَّقَّاقُ وَبِهِ اُشْتُهِرَ وَزَعَمَ ابن الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لم يَقُلْ بِهِ من أَصْحَابِنَا غَيْرُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ قال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ ثَارَ إلَيْهِ الدَّقَّاقُ وَغَيْرُهُ من أَصْحَابِنَا وَرَأَيْت في كِتَابِ ابْنِ فُورَكٍ حِكَايَتَهُ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا ثُمَّ قال وهو الْأَصَحُّ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ في التَّلْوِيحِ إنَّ أَبَا بَكْرِ بن فُورَكٍ كان يَمِيلُ إلَيْهِ وَيَقُولُ إنَّهُ الْأَظْهَرُ وَالْأَقْيَسُ وَحَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ في نَتَائِجِ الْفِكْرِ عن أبي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ وَلَعَلَّهُ تَحَرَّفَ عليه بِالدَّقَّاقِ وَنَقَلَهُ عبد الْعَزِيزِ في التَّحْقِيقِ عن أبي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَالْمَعْرُوفُ عن أبي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ إنْكَارُ الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ مُطْلَقًا وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في أَوَائِلِ الْمَفْهُومِ في الْبُرْهَانِ ما صَارَ إلَيْهِ الدَّقَّاقُ صَارَ إلَيْهِ طَوَائِفُ من أَصْحَابِنَا وَنَقَلَهُ أبو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ في التَّمْهِيدِ عن مَنْصُوصِ أَحْمَدَ قال وَبِهِ قال مَالِكٌ وَدَاوُد وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ ا هـ وقال الْمَازِرِيُّ أُشِيرَ إلَى مَالِكٍ الْقَوْلُ بِهِ لِاسْتِدْلَالِهِ في الْمُدَوَّنَةِ على عَدَمِ إجْزَاءِ الْأُضْحِيَّةِ إذَا ذُبِحَتْ لَيْلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ في أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ قال فذكر الْأَيَّامَ ولم يذكر اللَّيَالِي وَنُقِلَ الْقَوْلُ بِهِ عن ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ وَالْبَاجِيِّ وَابْنِ الْقَصَّارِ وَحَكَى ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ قَوْلًا ثَالِثًا عن بَعْضِ عُلَمَائِنَا وهو الْفَرْقُ بين أَسْمَاءِ الْأَنْوَاعِ فَيَدُلُّ على نَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ نَحْوُ في السُّودِ من النَّعَمِ الزَّكَاةُ وَبَيْنَ أَسْمَاءِ
____________________
(3/107)
الْأَشْخَاصِ إلَّا أَنَّ مَدْلُولَ أَسْمَاءِ الْأَنْوَاعِ أَكْثَرُ وَهُمَا في الدَّلَالَةِ مُتَسَاوِيَانِ وَحَكَى ابن حَمْدَانَ وأبو يَعْلَى من الْحَنَابِلَةِ قَوْلًا رَابِعًا وهو الْفَرْقُ بين أَنْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ فَيَكُونَ حُجَّةً كَقَوْلِهِ جُعِلَتْ لي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا إذْ قَرِينَةُ الِامْتِنَانِ تَقْتَضِي الْحَصْرَ فيه قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وقد سَفَّهُ الْأُصُولِيُّونَ الدَّقَّاقَ وَمَنْ قال بِمَقَالَتِهِ وَقَالُوا هذا خُرُوجٌ عن حُكْمِ اللِّسَانِ فإن من قال رَأَيْت زَيْدًا لم يَقْتَضِ أَنَّهُ لم يَرَ غَيْرَهُ قَطْعًا وَلِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ على جَوَازِ التَّعْلِيلِ وَالْقِيَاسِ فَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ تَخْصِيصَ الرِّبَا بِالِاسْمِ لَا يَدُلُّ على نَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ وَلَوْ قُلْنَا بِهِ بَطَلَ الْقِيَاسُ قال وَعِنْدِي أَنَّ الْمُبَالَغَةَ في الرَّدِّ عليه سَرَفٌ لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِعَاقِلٍ التَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ من غَيْرِ غَرَضٍ ثُمَّ اخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالِاسْمِ يَتَضَمَّنُ غَرَضًا مُبْهَمًا وَلَا يَتَعَيَّنُ انْتِفَاءُ غَيْرِ الْمَذْكُورِ ثُمَّ قال وأنا أَقُولُ وَرَاءَ ذلك لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُون من غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ في التَّخْصِيصِ نَفْيُ ما عَدَا الْمُسَمَّى بِلَقَبِهِ فإن الْإِنْسَانَ لَا يقول رَأَيْت زَيْدًا وهو يُرِيدُ الْإِشْعَارَ بِأَنَّهُ لم يَرَ غَيْرَهُ فَإِنْ هو أَرَادَ ذلك قال إنَّمَا رَأَيْت زَيْدًا وما رَأَيْت إلَّا زَيْدًا وَحَاصِلُهُ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِاللَّقَبِ يَتَضَمَّنُ غَرَضًا مُبْهَمًا وَلَا يَتَضَمَّنُ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ في الْمَسْكُوتِ وَالدَّقَّاقُ يقول يَتَضَمَّنُ غَرَضًا مُعَيَّنًا وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ أَنَّهُ حُجَّةٌ مع قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ قال وَلِهَذَا رَدَدْنَا على ابْنِ الْمَاجِشُونِ في تَعْلِيلِهِ تَخْصِيصَ الْأَرْبَعَةِ في الرِّبَا بِالذِّكْرِ حَيْثُ عَلَّلَ الرِّبَا بِالْمَالِيَّةِ الْعَامَّةِ إنْ قُلْنَا لم تَكُنْ الْأَشْيَاءُ الْأَرْبَعَةُ غَالِبَ ما يُعَامَلُ بِهِ وكان الْحِجَازُ مَصَبَّ التُّجَّارِ في الْأَعْصَارِ الْخَالِيَةِ فَلَوْ ارْتَبَطَ الْحُكْمُ بِالْمَالِيَّةِ لَكَانَ التَّنْصِيصُ عليها أَسْهَلَ من التَّخْصِيصِ كما في الْعَارِيَّةِ على الْيَدِ ما أَخَذَتْ حتى تُؤَدِّيَهُ فَكَانَ هذا مَأْخُوذًا من قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مع التَّخْصِيصِ بِاللَّقَبِ
____________________
(3/108)
وَهَاهُنَا أُمُورٌ مُهِمَّةٌ أَحَدُهَا أَنَّ الْأُسْتَاذَ أَبَا إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ قال في كِتَابِهِ شَرْحِ التَّرْتِيبِ إنَّ أَبَا عبد اللَّهِ الْبَصْرِيَّ أَلْزَمَ الدَّقَّاقَ ذلك في مَجْلِسِ النَّظَرِ فَالْتَزَمَهُ قال وَكُنَّا نُكَلِّمُهُ في هذا في الدَّرْسِ فَأَلْزَمْنَاهُ أَنَّهُ إذَا قال له صُمْ يَجِبُ أَنْ يَدُلَّ على مَنْعِ الصَّلَاةِ وإذا قال صَلِّ يَجِبُ أَنْ يَمْتَنِعَ من الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهَا من الْعِبَادَاتِ فقال كَذَلِكَ أَقُولُ فَقُلْنَا إذَا قال لِوَاحِدٍ من جُمْلَةِ الْقَوْمِ يا زَيْدُ تَعَالَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْبَاقِينَ أَنْ يَأْتُوهُ قال كَذَلِكَ أَقُولُ فَقُلْنَا إذَا وَصَلْنَا إلَى هذا سَقَطَ الْكَلَامُ قال الْأُسْتَاذُ وَهَذَا الذي رَكَّبَهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ مِمَّا يَتَخَالَجُ لِقَبُولِهِ في الْقُلُوبِ وَجْهٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ أَلْبَتَّةَ قال وَلَوْ تَصَوَّرَ دَلِيلَ الْخِطَابِ لم يَصِرْ إلَى ذلك ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ صُورَتَهُ أَنْ يَذْكُرَ الشَّيْءَ بِلَفْظِهِ الْعَامِّ مُقَيَّدًا بِأَحَدِ أَوْصَافِهِ نَحْوُ اُقْتُلْ أَهْلَ الْكِتَابِ الْيَهُودَ منهم قال وكان الدَّقَّاقُ إذَا جَرَى له كَلَامٌ في مِثْلِهِ يَذْكُرُهُ في مَجْلِسِ الدَّرْسِ وَيُعِيدُهُ وَيَتَحَجَّجُ له وَيَنْصُرُهُ وَرَأَيْنَاهُ كَأَنَّهُ اسْتَحَى من هذا الْقَوْلِ الذي رَكَّبَهُ في دَلِيلِ الْخِطَابِ فلم نَرَهُ عَادَ إلَيْهِ أو تَكَلَّمَ بِهِ في كِتَابٍ ا هـ وَهَذَا يَدُلُّ على رُجُوعِ الدَّقَّاقِ عن هذا الرَّأْيِ أو تَوَقُّفِهِ فيه وَلَيْسَ ما أُلْزِمَ بِهِ الدَّقَّاقُ بِعَجِيبٍ لِأَنَّهُ يقول أَقُولُ بِذَلِكَ ما لم يَقُمْ دَلِيلُ النُّطْقِ بِخِلَافِهِ الْأَمْرُ الثَّانِي إطْلَاقُ أَنَّ مَفْهُومَ اللَّقَبِ ليس بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا قد اسْتَشْكَلَ فإن أَصْحَابَنَا قد قالوا بِهِ في مَوَاضِعَ وَاحْتَجُّوا بِهِ كَاحْتِجَاجِهِمْ في تَعْيِينِ الْمَاءِ في إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِحَدِيثِ حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ بِالْمَاءِ وَعَلَى تَعْيِينِ التُّرَابِ بِالتَّيَمُّمِ بِقَوْلِهِ وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا وَالْحَقُّ أَنَّ ذلك ليس من اللَّقَبِ بَلْ من قَاعِدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ مَتَى انْتَقَلَ من الِاسْمِ الْعَامِّ إلَى الْخَاصِّ أَفَادَ الْمُخَالَفَةَ فلما تَرَكَ الِاسْمَ الْعَامَّ وهو الْأَرْضُ إلَى الْخَاصِّ وهو التُّرَابُ جُعِلَ دَلِيلًا وَأَمَّا في الِاسْمِ فَلِأَنَّ امْتِثَالَ الْمَأْمُورِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْمُعَيَّنِ وقال في شَرْحِ الْإِلْمَامِ الْأَمْرُ إذَا تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا يَقَعُ الِامْتِثَالُ إلَّا بِذَلِكَ الشَّيْءِ لِأَنَّهُ قبل فِعْلِهِ لم يَأْتِ بِمَا أُمِرَ بِهِ فَلَا يَخْرُجُ عن الْعُهْدَةِ وَسَوَاءٌ كان الذي تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ صِفَةً أو لَقَبًا عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَاهُ من تَوَقُّفِ الِامْتِثَالِ عليه وكان بَعْضُ أَصْحَابِنَا قد اعْتَرَضَ في مَسْأَلَةِ تَعْيِينِ الْمَاءِ في النَّجَاسَةِ بِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ بِأَنَّهُ حُكْمٌ عُلِّقَ بِلَقَبٍ وَمَفْهُومُ اللَّقَبِ ليس بِحُجَّةٍ فَيُقَالُ عليه
____________________
(3/109)
مُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ لَا بُدَّ له منه لِضَرُورَةِ الِامْتِثَالِ وَلَا نَظَرَ هُنَا لِكَوْنِهِ لَقَبًا أو صِفَةً وَإِنَّمَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا في مَحَلِّ الْحُكْمِ وهو الدَّمُ مَثَلًا فَلَا يُقَالُ إنَّهُ يَدُلُّ على أَنَّ غير الدَّمِ يَجُوزُ غَسْلُهُ بِغَيْرِ الْمَاءِ عَمَلًا بِالْمَفْهُومِ لِأَنَّ الدَّمَ لَقَبٌ لَا يَدُلُّ على انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ ا هـ وقال الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى في الذَّرِيعَةِ احْتَجُّوا على أَنَّ غير الْمَاءِ لَا يُطَهِّرُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَنْزَلْنَا من السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا فَنَقُولُ الْحُكْمُ غَيْرُ الْمَاءِ وهو مُتَعَلِّقٌ بِالِاسْمِ لَا بِالصِّفَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ من اسْتَدَلَّ بهذا إنَّمَا عُوِّلَ على أَنَّ الِاسْمَ يَجْرِي فيها مَجْرَى الصِّفَةِ لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ الْمَاءُ يُخَالِفُ اتِّصَافَهُ فَأُجْرِيَ مَجْرَى كَوْنِ الْإِبِلِ سَائِمَةً أو عَامِلَةً وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ إذَا لم يُوجَدْ فيه رَائِحَةُ التَّعْلِيلِ فَإِنْ وُجِدَ كان حُجَّةً وقد أَشَارَ إلَى ذلك ابن دَقِيقِ الْعِيدِ فقال في قَوْلِهِ إذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمْ امْرَأَتُهُ إلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا يُحْتَجُّ بِهِ على أَنَّ الزَّوْجَ يَمْنَعُ امْرَأَتَهُ من الْخُرُوجِ إلَّا بِإِذْنِهِ لِأَجْلِ تَخْصِيصِ النَّهْيِ بِالْخُرُوجِ لِلْمَسَاجِدِ فَيَقْتَضِي بِمَفْهُومِهِ جَوَازُ الْمَنْعِ في غَيْرِ الْمَسَاجِدِ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ هُنَا مَوْجُودٌ وهو أَنَّ الْمَسْجِدَ فيه مَعْنًى مُنَاسِبٌ وهو مَحَلُّ الْعِبَادَةِ فَلَا يُمْنَعُ من التَّعَبُّدِ فَلَا يَكُونُ ذلك من مَفْهُومِ اللَّقَبِ قُلْت وَلِهَذَا يَنْفَصِلُ الْجَوَابُ عن اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ فإن في اخْتِصَاصِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ بِالتُّرَابِ مَعْنًى لَا يُوجَدُ في غَيْرِهِمَا وقال الْإِبْيَارِيُّ ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ الْمَنْفِيَّ مَأْخُوذٌ من الْمَفْهُومِ وهو غَلَطٌ فإذا قال لِوَكِيلِهِ بِعْ غَانِمًا لَا يَتَمَكَّنُ من بَيْعِ سَالِمٍ لَا لِأَجْلِ النَّصِّ على بَيْعِ غَانِمٍ وَلَكِنَّهُ لَا يَبِيعُ إلَّا بِإِذْنٍ وَالْحَجْرُ سَابِقٌ وَالْإِذْنُ قَاصِرٌ فَيَبْقَى الْحَجْرُ على ما كان عليه في غَيْرِ مَحَلِّ الْإِذْنِ قُلْت قال الْأَصْحَابُ لو قال لِوَكِيلِهِ بِعْ هذا من زَيْدٍ تَعَيَّنَ عليه بَيْعُهُ منه فَلَا يَبِيعُهُ من غَيْرِهِ لِأَنَّهُ قد يَكُونُ لِلْمُوَكِّلِ غَرَضٌ في تَخْصِيصِهِ لِكَوْنِ مَالِهِ أَقْرَبَ إلَى الْحِلِّ وَنَحْوِهِ فَفِيهِ رَائِحَةُ التَّعْلِيلِ فَلِهَذَا قُلْنَا بِهِ وَلِهَذَا قال الْمَاوَرْدِيُّ لو مَاتَ
____________________
(3/110)
ذلك الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ بِخِلَافِ ما لو امْتَنَعَ من الشِّرَاءِ فإنه يَجُوزُ أَنْ يَرْغَبَ بَعْدَ ذلك وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ تُبَاعَ الْعَيْنُ الْفُلَانِيَّةُ من زَيْدٍ فَإِنْ كانت مُحَابَاةً صَحَّ وَتَعَيَّنَتْ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ وَإِنْ لم تَكُنْ مُحَابَاةً فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ لِأَنَّهُ لَا قُرْبَةَ حِينَئِذٍ وَلَوْ قالت الْمَرْأَةُ لِلْأَوْلِيَاءِ غَيْرِ الْمُجْبِرِينَ رَضِيت بِأَنْ أُزَوَّجَ من فُلَانٍ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِهِ وَلِكُلٍّ منهم تَزْوِيجُهَا منه فَلَوْ عَيَّنَتْ بَعْدَ ذلك وَاحِدًا فَهَلْ يَنْعَزِلُ الْآخَرُونَ وَجْهَانِ الصَّحِيحُ عَدَمُ الِانْعِزَالِ قال الرَّافِعِيُّ وَبَنَاهُ بَعْضُهُمْ على أَنَّ الْمَفْهُومَ هل هو حُجَّةٌ أَمْ لَا وَلَوْ قال الْيَهُودِيُّ عِيسَى رسول اللَّهِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ الرِّدَّةِ قال لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لو جَحَدَ نُبُوَّتَهُ كَفَرَ وَحَكَاهُ الْإِمَامُ في كِتَابِ الْكَفَّارَاتِ عن الْمُحَقِّقِينَ قال الرَّافِعِيُّ ثَمَّ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافُهُ وفي هذا نَفْيُ الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ الثَّالِثُ قال ابن الْحَاجِّ في تَعْلِيقِهِ على الْمُسْتَصْفَى يَنْبَغِي تَحَقُّقُ الْمُرَادِ بِاللَّقَبِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُرْتَجَلَ فَقَطْ بَلْ الْمُرْتَجَلُ وَالْمَنْقُولُ من الصِّفَاتِ وقد جَعَلَ الْغَزَالِيُّ منه لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ لِأَنَّ الطَّعَامَ لَقَبٌ لِجِنْسِهِ وَإِنْ كان مُشْتَقًّا مِمَّا يُطْعَمُ إذْ لَا يُدْرَكُ فَرْقٌ بين قَوْلِهِ في الْغَنَمِ زَكَاةٌ وفي الْمَاشِيَةِ زَكَاةٌ وَإِنْ كانت الْمَاشِيَةُ مُشْتَقَّةً ا هـ وما ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ من إلْحَاقِ الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ الدَّالِّ على الْجِنْسِ بِاللَّقَبِ تَبِعَهُ عليه الْآمِدِيُّ لِأَنَّ الصِّفَةَ فيه لَيْسَتْ مُتَخَيَّلَةً إذْ الطَّعَامُ لَا يُنَاسِبُ حُكْمَ الرِّبَا لَكِنْ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ يَلْحَقُ بِالصِّفَةِ الصَّرِيحَةِ وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْمُشْتَقَّ يَتَضَمَّنُ صِفَةً وَجَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ وَجَعَلَ الْآمِدِيُّ اسْمَ الْجِنْسِ وَالْعَلَمَ من بَابِ مَفْهُومِ اللَّقَبِ قال لِتَخْصِيصِ الرِّبَوِيَّاتِ السِّتَّةِ بِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ وَقَوْلُنَا زَيْدٌ عَالِمٌ وقال الْقَرَافِيُّ قال التَّبْرِيزِيُّ اللَّقَبُ كَالْأَعْلَامِ وَأَلْحَقَ بها أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ قال وَغَيْرُهُ أَطْلَقَ في الْجَمِيعِ كَأَنَّهُ يُشِيرُ لِلْآمِدِيِّ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَأَمَّا تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ فَضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا اسْمٌ مُشْتَقٌّ من مَعْنًى كَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَالزَّانِي وَالْقَاتِلِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الصِّفَةِ في قَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وقال بَعْضُهُمْ يَنْظُرُ في الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ فَإِنْ كان لِمَعْنَى اشْتِقَاقِهِ تَأْثِيرٌ في الْحُكْمِ اسْتَعْمَلَ دَلِيلَ خِطَابِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ له تَأْثِيرٌ في الْحُكْمِ لم يَسْتَعْمِلْ دَلِيلَ خِطَابِهِ فَإِنْ ما لَا يُؤَثِّرْ في الْحُكْمِ لَا يَكُونُ عِلَّةً في الْحُكْمِ وَالثَّانِي اسْمُ لَقَبٍ غَيْرِ مُشْتَقٍّ من مَعْنًى كَالرَّجُلِ
____________________
(3/111)
وَالْمَرْأَةِ وَنَحْوِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ غَيْرُ حُجَّةٍ وَخَالَفَ فيه الدَّقَّاقُ قال وَيَلْتَحِقُ بِاللَّقَبِ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْأَعْيَانِ كَقَوْلِهِ في هذا الْمَالِ الزَّكَاةُ وَعَلَى هذا الرَّجُلِ الْحَجُّ فَدَلِيلُ خِطَابِهِ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ وَلَا يَدُلُّ وُجُوبُ الزَّكَاةِ في ذلك الْمَالِ على تَرْكِهَا في غَيْرِهِ وَهَذَا عِنْدَنَا كَتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ ا ه
____________________
(3/112)
النَّوْعُ الثَّانِي مَفْهُومُ الصِّفَةِ وهو تَعْلِيقُ الْحُكْمِ على الذَّاتِ بِأَحَدِ الْأَوْصَافِ نَحْوُ في سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ وَكَتَعْلِيقِ نَفَقَةِ الْبَيْنُونَةِ على الْحَمْلِ وَشَرْطِ ثَمَرَةِ النَّخْلِ لِلْبَائِعِ إذَا كانت مُؤَبَّرَةً فَيَدُلُّ على أَنْ لَا زَكَاةَ في الْمَعْلُوفَةِ وَلَا نَفَقَةَ لِلْحَامِلِ وَلَا ثَمَرَةَ لِبَائِعِ النَّخْلَةِ غَيْرِ الْمُؤَبَّرَةِ وَالْمُرَادُ بِالصِّفَةِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ تَقْيِيدُ لَفْظٍ مُشْتَرَكِ الْمَعْنَى بِلَفْظٍ آخَرَ مُخْتَصٍّ ليس بِشَرْطٍ وَلَا غَايَةٍ وَلَا يُرِيدُونَ بها النَّعْتَ فَقَطْ كَالنُّحَاةِ وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ تَمْثِيلُهُمْ بِ مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ مع أَنَّ التَّقْيِيدَ بِهِ إنَّمَا هو بِالْإِضَافَةِ فَقَطْ وقد جَعَلُوهُ صِفَةً إذَا عَلِمْت ذلك فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمُعْظَمُ الْفُقَهَاءِ وَأَصْحَابُ مَالِكٍ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ إلَى أَنَّهُ يَدُلُّ على نَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ عن اخْتِيَارِ الْمُزَنِيّ وَالْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنِ خَيْرَانَ قال وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وأبو ثَوْرٍ قُلْت وأبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَنَقَلَهُ في كِتَابِهِ عن نَصِّ الشَّافِعِيِّ فقال قال الشَّافِعِيُّ وَمَعْقُولٌ في لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا كان له وَصْفَانِ فَوُصِفَ أَحَدُهُمَا بِصِفَةٍ أَنَّ ما لم يَكُنْ فيه تِلْكَ الصِّفَةُ بِخِلَافِهِ ا هـ وَكَذَا حَكَاهُ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وقال إنَّهُ نَصَّ عليه في كِتَابِ الزَّكَاةِ ثُمَّ حَكَى في الْقَوْلِ بِهِ بِمُجَرَّدِهِ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا قال الْقَاضِي وَيَدُلُّ عليه كَلَامُ شَيْخِنَا أبي الْحَسَنِ لِأَنَّهُ قال في إثْبَاتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ قال تَعَالَى إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا مَفْهُومُ ذلك يَدُلُّ على أَنَّ غير الْفَاسِقِ لَا نَتَبَيَّنُهُ وَتَمَسَّكَ أَيْضًا في إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ بِ كَلًّا إنَّهُمْ عن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ قال مَفْهُومُهُ يَقْتَضِي إثْبَاتَ الرُّؤْيَةِ لِأَهْلِ الْجِنَانِ وَهَذَا نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ أَيْضًا في أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وقال عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ قال جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ وَنَصَّ عليه أبو الْفَرَجِ في اللُّمَعِ وهو ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ ا هـ وَبِهَذَا يُرَدُّ نَقْلُ صَاحِبِ الْمَعَالِمِ عن مَالِكٍ مُوَافَقَةً أبي حَنِيفَةَ قال ابن التِّلِمْسَانِيِّ وَلَعَلَّهُمَا يُنْقَلَانِ عنه بِالتَّخْرِيجِ في مَسَائِلَ
____________________
(3/113)
وفي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ في كِتَابِ الْجَنَائِزِ عن ابْنِ مَسْعُودٍ قال قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم من مَاتَ يُشْرِكُ بِاَللَّهِ دخل النَّارَ وَقُلْت أنا من مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شيئا دخل الْجَنَّةَ ا هـ وَهَذَا مُصَيَّرٌ منه إلَى الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ وَذَهَبَ أبو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَطَوَائِفُ من أَصْحَابِنَا وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى نَفْيِهِ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وقد رَآهُ الْحَنَفِيَّةُ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ وَمَنْعُهُمْ من الزِّيَادَةِ على النَّصِّ ا هـ وهو اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَبِهِ قال ابن سُرَيْجٍ وَالْقَفَّالُ زَادَ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ وأبو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ قال وَأَضَافَ ذلك ابن سُرَيْجٍ إلَى الشَّافِعِيِّ وَتَأَوَّلَ كَلَامَهُ الْمُقْتَضِي بِخِلَافِ ذلك وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ أَبَاحَ الْقَفَّالُ بِمُخَالَفَةِ الشَّافِعِيِّ في مَفْهُومِ الصِّفَةِ وَأَمَّا ابن سُرَيْجٍ فَتَلَطَّفَ وقال إنَّمَا قال الشَّافِعِيُّ بِالْمَفْهُومِ بِدَلِيلٍ يَزِيدُ على نَفْسِ اللَّفْظِ لَا من نَفْسِ اللَّفْظِ ا هـ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيَّ وَصَاحِبُ الْمَحْصُولِ فيه وَاخْتَارَ في الْمَعَالِمِ خِلَافَهُ وَمِمَّنْ صَارَ إلَيْهِ من أَهْلِ اللُّغَةِ الْأَخْفَشُ وابن فَارِسٍ في كِتَابِ فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ وابن جِنِّي وَذَهَبَ الْمَاوَرْدِيُّ من أَصْحَابِنَا إلَى التَّفْصِيلِ بين أَنْ يَقَعَ ذلك جَوَابَ سُؤَالٍ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً وَبَيْنَ أَنْ يَقَعَ ذلك ابْتِدَاءً فَيَكُونُ حُجَّةً لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ من مُوجِبٍ فلما خَرَجَ عن الْجَوَابِ ثَبَتَ وُرُودُهُ لِلْبَيَانِ قال وَهَذَا هو الظَّاهِرُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُجْعَلَ هذا مَذْهَبًا آخَرَ لِأَنَّ من شَرْطِ الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ من أَصْلِهِ أَنْ لَا يَظْهَرَ لِلتَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ غَيْرُ نَفْيِ الْحُكْمِ وَذَهَبَ أبو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيُّ فِيمَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ إلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ في ثَلَاثِ صُوَرٍ أَنْ يَرِدَ مَوْرِدَ الْبَيَانِ كَقَوْلِهِ في سَائِمَةِ الْغَنَمِ أو مَوْرِدَ التَّعْلِيمِ نَحْوُ خَبَرِ التَّحَالُفِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ أو يَكُونُ ما عَدَا الصِّفَةَ دَاخِلًا تَحْتَ الصِّفَةِ نَحْوُ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدَيْنِ يَدُلُّ على نَفْيِهِ عن الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ الشَّاهِدَيْنِ وَلَا يَدُلُّ على نَفْيِ الْحُكْمِ فِيمَا سِوَى ذلك وَفَصَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بين الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ وَغَيْرِهِ فقال بِمَفْهُومِ الْأَوَّلِ دُونَ
____________________
(3/114)
الثَّانِي وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ ما نَقَلَهُ الرَّازِيَّ عنه من الْمَنْعِ وابن الْحَاجِبِ من الْجَوَازِ وَإِلَّا فَهُمَا نَقْلَانِ مُتَنَافِيَانِ نعم صُرِّحَ في بَابِ الرِّبَا من الْأَسَالِيبِ بِعَدَمِ الِاشْتِرَاطِ فقال إذَا عَلَّلْنَا بِالشَّيْءِ الْمُحْتَمَلِ فَلَا تُشْتَرَطُ الْإِحَالَةُ في الْمَفْهُومِ بَلْ نَقُولُ إذَا خُصِّصَ مَوْصُوفٌ بِذِكْرٍ أَيَنْفِي الْحُكْمَ عَمَّا عَدَاهُ وَإِنْ لم يَفْدِ إحَالَةً في الصِّفَةِ قال الْإِمَامُ وَمِنْ سِرِّ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ في الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ ما يُشْتَرَطُ في الْعِلَلِ من السَّلَامَةِ عن الْقَوَادِحِ وَصَلَاحِيَّتِهِ اسْتِقْلَالًا لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ في الْمَنْطُوقِ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يُسْنَدُ إلَى الْمَعْنَى وَإِنَّمَا يُسْنَدُ إلَى اللَّفْظِ وَالْمُنَاسَبَةُ عِنْدَهُ مُعْتَبَرَةٌ لِتَرْجِيحِ قَصْدِ اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ وَقَطْعِ الْإِلْحَاقِ وَخَالَفَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الشَّافِعِيَّ في زِيَادَةِ هذا الشَّرْطِ وقال لِأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ لَا يُفْهَمُ منها مُنَاسَبَةُ الْحُكْمِ فَالْمَوْصُوفُ بها كَاللَّقَبِ قُلْت وَخَرَجَ من هذا أَنَّا إذَا أَثْبَتْنَاهُ فَهَلْ هو من جِهَةِ الْعِلَّةِ أو من جِهَةِ اللَّفْظِ قَوْلَانِ وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَهَذَا شَرْطُ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ وَعَلَى هذا مَحَلُّ الْقَوْلِ بِهِ إذَا كانت الصِّفَةُ في الْمَحْكُومِ عليه وَالْحُكْمُ تَعْلِيلٌ بها فَلَا يَثْبُتُ عِنْدَ انْتِفَائِهَا وَهَذَا التَّفْصِيلُ هو قَضِيَّةُ اخْتِيَارِ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ كما ذَكَرَهُ الْمَازِرِيُّ وقد رَدَّ ابن السَّمْعَانِيِّ هذا التَّفْصِيلَ على الْإِمَامِ فإنه خِلَافُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيُّ وَبِأَنَّ الْعِلَّةَ ليس من شَرْطِهَا الِانْعِكَاسُ ا هـ وَالْإِمَامُ قد أَوْرَدَ هذا على نَفْسِهِ وَأَجَابَ بِأَنَّ قَضِيَّةَ اللِّسَانِ هِيَ الدَّالَّةُ عِنْدَ إحَالَةِ الْوَصْفِ على ما عَدَاهُ بِخِلَافِهِ وَزَعَمَ أَنَّ هذا وَضْعُ اللِّسَانِ وَمُقْتَضَاهُ وَالْحَالَةُ هذه وما ذَكَرَهُ من مُقْتَضَيَاتِ اللِّسَانِ بِخِلَافِ الْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ وإذا قُلْنَا حُجَّةٌ فَهَلْ دَلَّ عليه اللُّغَةُ أَمْ اسْتَفَدْنَاهُ من جِهَةِ الشَّرْعِ على وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ وقد سَبَقَ أَنَّ ابْنَ السَّمْعَانِيِّ حَكَاهُمَا في صِيَغِ مَفَاهِيمِ الْمُخَالَفَةِ وَاخْتَارَ الْإِمَامُ في الْمَعَالِمِ أَنَّهُ يَدُلُّ بِالْعُرْفِ لَا بِاللُّغَةِ لِأَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ يَقْصِدُونَهُ وَإِلَّا لم يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ وَأَمَّا انْتِقَاؤُهُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ فَلِأَنَّ مُقْتَضَاهُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ في تِلْكَ الصُّورَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِالصِّفَةِ وهو غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِلِانْتِفَاءِ في الصُّورَةِ الْأُخْرَى وَإِلَّا لَمَا كانت الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ مُمْكِنَةً وهو الْمَطْلُوبُ ثُمَّ إنَّ الصِّفَةَ على قِسْمَيْنِ تَارَةً يُقْتَصَرُ على ذِكْرِ الصِّفَةِ من غَيْرِ ذِكْرِ الْمَوْصُوفِ كَقَوْلِهِ في السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ وَتَارَةً تُذْكَرُ الصِّفَةُ وَالْمَوْصُوفُ مَعًا كَقَوْلِهِ في سَائِمَةِ الْغَنَمِ
____________________
(3/115)
فَدَلَالَةُ هذا على الِاخْتِصَاصِ أَقْوَى من التَّرَتُّبِ على مُجَرَّدِ الصِّفَةِ إذْ لَوْلَا اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِحَالَةِ السَّوْمِ لَوَقَعَ ذِكْرُ السَّوْمِ لَغْوًا لَا فَائِدَةَ فيه وقال بَعْضُهُمْ صُورَةُ مَفْهُومِ الصِّفَةِ أَنْ تُذْكَرَ ذَاتٌ ثُمَّ تُذْكَرَ صِفَتُهَا كَالْغَنَمِ السَّائِمَةِ وَالرَّجُلِ الْقَائِمِ أَمَّا إذَا ذُكِرَ الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ كَالْقَائِمِ فَقَطْ أو السَّائِمَةِ فَقَطْ فَهَلْ هو كَالصِّفَةِ أو لَا مَفْهُومَ له لِأَنَّ الصِّفَةَ إنَّمَا جُعِلَ لها مَفْهُومٌ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لها إلَّا نَفْيُ الْحُكْمِ وَالْكَلَامُ بِدُونِهَا لَا يُحْتَمَلُ وَأَمَّا الْمُشْتَقُّ فَكَاللَّقَبِ يَخْتَلُّ الْكَلَامُ بِدُونِهِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في ذلك كما حَكَاهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَعِبَارَةُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ كَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَالْقَاتِلِ يَجْرِي مَجْرَى تَعْلِيقِهِ بِالصِّفَةِ في اسْتِعْمَالِ دَلِيلِهِ في قَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وقال بَعْضُهُمْ يُنْظَرُ في الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ فَإِنْ صَلَحَ لِلْغَلَبَةِ اُسْتُعْمِلَ وَإِلَّا فَلَا ا هـ وَجَعَلَ أبو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ من أَصْحَابِنَا في كِتَابِ أَدَبِ الْجَدَلِ له مَحَلَّ الْخِلَافِ في الِاقْتِصَارِ على الصِّفَةِ دُونَ الِاسْمِ فإن ذُكِرَا جميعا كَقَوْلِهِ في سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ حُجَّةٌ قَطْعًا يُسْتَدَلُّ بِهِ على نَفْيِ الزَّكَاةِ في الْمَعْلُوفَةِ لَكِنْ اخْتَلَفُوا هل يُسْتَدَلُّ بِهِ على نَفْيِ الزَّكَاةِ عن سَائِمَةِ غَيْرِ الْغَنَمِ على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ وَإِلَّا لَكَانَ اسْتِدْلَالًا بِالْأَلْقَابِ وَأَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِشَرْطَيْنِ كَوْنُهَا غَنَمًا وَكَوْنُهَا سَائِمَةً وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطَيْنِ يَسْقُطُ بِسُقُوطِ أَحَدِهِمَا ا هـ وقد سَبَقَ الْوَجْهَانِ قال فَإِنْ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِنَوْعٍ من جِنْسٍ كَقَوْلِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ فَهَلْ يَدُلُّ على أَنَّ شَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَجِلْدَهُ وَشَعْرَهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَهَلْ يَدُلُّ على أَنَّ لَحْمَ الشَّاةِ وَالْبَقَرَةِ وَغَيْرِهِ حَلَالٌ أَمْ لَا على وَجْهَيْنِ كما ذَكَرْنَا ا هـ وقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ هذا إذَا كانت الصِّفَةُ مَقْصُودَةً فَإِنْ كانت غير مَقْصُودَةٍ لِذَلِكَ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ إلَى قَوْله وَمَتِّعُوهُنَّ لم يَكُنْ له دَلِيلٌ في أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ الصِّفَةَ لم تُذْكَرْ لِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بها وَإِنَّمَا قُصِدَ بَيَانُ رَفْعِ الْحَرَجِ عَمَّنْ طَلَّقَ قبل الْمَسِيسِ وَالْفَرْضِ هذا الْحُكْمُ وهو إيجَابُ الْمُتْعَةِ على وَجْهِ التَّبَعِ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَذْكُورٌ ابْتِدَاءً غير مُعَلَّقٍ على الصِّفَةِ ا هـ وقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْقِيَاسُ تَخْصِيصُ الْمُتْعَةِ لها لِأَنَّ الصِّفَةَ عُلِّقَ بها حُكْمَانِ فَاقْتَضَى انْتِفَاءَ الْحُكْمَيْنِ مَعًا بِانْتِفَائِهَا وقال الْإِبْيَارِيُّ مَوْضِعُ هذا الْخِلَافِ في
____________________
(3/116)
الْأَوْصَافِ التي تَطْرَأُ وَتَزُولُ كَقَوْلِهِ الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا وَالسَّائِمَةُ فيها الزَّكَاةُ وَأَمَّا التَّخْصِيصُ بِالصِّفَاتِ التي لَا تَطْرَأُ وَلَا تَزُولُ كَأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ نَحْوُ لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ فَفِيهِ خِلَافٌ وَجَزَمَ الْعَبْدَرِيّ وابن الْحَاجِّ بِاشْتِرَاطِ هذا وَزَادَا شَرْطًا آخَرَ وهو أَنْ يَكُونَ نَقِيضُ الصِّفَةِ يَخْطِرُ بِالْبَالِ قال الْإِبْيَارِيُّ فَأَمَّا إذَا ذَكَرَ الِاسْمَ الْعَامَّ ثُمَّ ذَكَرَ الصِّفَةَ الْخَاصَّةَ في مَعْرِضِ الِاسْتِدْرَاكِ كَقَوْلِهِ من بَاعَ ثَمَرَةً غير مُؤَبَّرَةٍ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ وَكَقَوْلِهِ من يَلُومُ الْعُلَمَاءَ الصَّالِحِينَ فَقَدْ يُقَالُ لو كان الْحُكْمُ يَعُمُّهَا لَمَا أَنْشَأَ بَعْدَ ذلك اسْتِدْرَاكًا وَهَذَا ضَعِيفٌ نعم التَّخْصِيصُ يُفْهِمُ أَنَّ هذا هو الْمَنْطُوقُ بِهِ أَمَّا إنَّهُ يَنْفِي الْحُكْمَ فِيمَا عَدَاهُ فَلَا ا هـ وقد سَبَقَ في كَلَامِ السُّهَيْلِيِّ هذه الصُّورَةُ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ خَرَجَ لنا من هذا أَنَّ الصُّوَرَ ثَلَاثٌ الِاقْتِصَارُ على الصِّفَةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الِاسْمِ ثُمَّ الصِّفَةُ فِيهِمَا إمَّا أَنْ تَتَبَدَّلَ أو لَا وَبَقِيَتْ صُورَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ تَقَدُّمَ الصِّفَةِ نَحْوُ في سَائِمَةِ الْغَنَمِ وَهَذَا يَسْتَدْعِي تَجْدِيدَ عَهْدٍ بِمَا سَبَقَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصِّفَةِ التَّقْيِيدُ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بين الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ وَالْغَنَمُ مَوْصُوفٌ وَالسَّائِمَةُ صِفَةٌ في الْمَوْضِعَيْنِ قِيلَ وَالظَّاهِرُ تَغَايُرُهُمَا وَأَنَّهُمَا مُشْتَرِكَانِ في أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَفْهُومَ صِلَةٍ لَكِنَّ الْمَفْهُومَ فِيهِمَا مُتَغَايِرٌ فَالْمُقَيَّدُ في قَوْلِنَا في الْغَنَمِ السَّائِمَةِ إنَّمَا هو الْغَنَمُ وفي قَوْلِنَا في سَائِمَةِ الْغَنَمِ إنَّمَا هو السَّائِمَةُ فَمَفْهُومُ الْأَوَّلِ عَدَمُ
____________________
(3/117)
وُجُوبِ الزَّكَاةِ في الْغَنَمِ الْمَعْلُوفَةِ إذْ لَوْلَا التَّقْيِيدُ بِالسَّوْمِ لَشَمِلَهَا لَفْظُ الْغَنَمِ وَمَفْهُومُ الثَّانِي عَدَمُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ في سَائِمَةٍ غَيْرِ الْغَنَمِ كَالْبَقَرِ مَثَلًا إذْ لَوْلَا تَقْيِيدُ السَّائِمَةِ بِإِضَافَتِهَا إلَى الْغَنَمِ لَشَمِلَهَا لَفْظُ السَّائِمَةِ وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ في الْغَنَمِ الْمَعْلُوفَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى هذا التَّرْكِيبِ الثَّانِي فَمِنْ بَابِ مَفْهُومِ اللَّقَبِ وفي هذه الدَّعْوَى نَظَرٌ الثَّانِي هذا إذَا تَجَرَّدَتْ الصِّفَةُ عن دَلِيلٍ آخَرَ فَلَوْ اقْتَرَنَ بِالْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِالصِّفَةِ حُكْمٌ مُطْلَقٌ قال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ فَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في دَلِيلِ الْمُقَيَّدِ بِالصِّفَةِ هل يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا في الْمُطْلَقِ على قَوْلَيْنِ وَمِثَالُهُ قَوْله تَعَالَى إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ من قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ من عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا قَضِيَّتُهُ أَنْ لَا عِدَّةَ على غَيْرِ الْمَدْخُولِ بها وَدَلِيلُهُ وُجُوبُهَا على الْمَدْخُولِ بها ثُمَّ قال فَمَتِّعُوهُنَّ فَهَلْ يَكُونُ إطْلَاقُ الْمُتْعَةِ مَعْطُوفًا على الْعِدَّةِ في اشْتِرَاطِ الدُّخُولِ بها على قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَصِيرُ الْمُتْعَةُ بِالْعَطْفِ على الْعِدَّةِ مَشْرُوطَةً بِعَدَمِ الدُّخُولِ وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ ومتعوهن لَا يُقَيَّدُ بِمَا تَقَدَّمَ الثَّالِثُ قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا ما أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ عن أبي حَنِيفَةَ من إنْكَارِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ ليس على إطْلَاقِهِ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ هُنَا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَرِدَ دَلِيلُ الْعُمُومِ ثُمَّ يَرِدُ إخْرَاجُ فَرْدٍ منه بِالْوَصْفِ فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ كَقِيَامِ الدَّلِيلِ على وُجُوبِ زَكَاةِ الْغَنَمِ مُطْلَقًا ثُمَّ وَرَدَ الدَّلِيلُ بِتَقَيُّدِهَا بِالسَّائِمَةِ فيقول أبو حَنِيفَةَ لَا تَقْتَضِي نَفْيَ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهَا لِقِيَامِ دَلِيلِ الْعُمُومِ فَيَسْتَصْحِبُهُ وَلَا يُجْعَلُ لِلتَّقْيِيدِ بِالْوَصْفِ أَثَرًا معه وَالثَّانِي أَنْ يَرِدَ الْوَصْفُ مُبْتَدَأً كما يقول أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ الطِّوَالَ فَأَبُو حَنِيفَةَ يُوَافِقُ على أَنَّ غير الطِّوَالِ لَا يَجِبُ إكْرَامُهُمْ فَلْيُتَفَطَّنْ لِذَلِكَ الرَّابِعُ أَصْلُ وَضْعِ الصِّفَةِ أَنْ تَجِيءَ لِلتَّخْصِيصِ في النَّكِرَاتِ وَلِلتَّوْضِيحِ في الْمَعَارِفِ نَحْوُ مَرَرْت بِرَجُلٍ عَاقِلٍ وَزَيْدٍ الْعَالِمِ وقد تَجِيءُ لِمُجَرَّدِ الثَّنَاءِ كَصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أو لِمُجَرَّدِ الذَّمِّ نَحْوُ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ أو لِلتَّوْكِيدِ نَحْوُ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ لَا مَفْهُومَ لها وقد تَتَرَدَّدُ بين التَّخْصِيصِ وَالتَّوْضِيحِ كما سَبَقَ ذِكْرُهُ في أَوَائِلِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ فَلْيُرَاجَعْ
____________________
(3/118)
النَّوْعُ الثَّالِثُ مَفْهُومُ الْعِلَّةِ وهو تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ مِثْلُ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِشِدَّتِهَا وَالسُّكْرُ لِحَلَاوَتِهِ يَدُلُّ على أَنَّ غير الشَّدِيدِ وَالْحُلْوِ لَا يُحَرَّمُ وَالْفَرْقُ بين هذا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الصِّفَةَ قد تَكُونُ عِلَّةً كَالْإِسْكَارِ وقد لَا تَكُونُ بَلْ تَتِمَّةً لِلْعِلَّةِ كَالسَّوْمِ فإن الْعَيْنَ هِيَ الْعِلَّةُ وَالسَّوْمَ مُتَمِّمٌ قال الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ وَالْخِلَافُ فيه وفي مَفْهُومِ الصِّفَةِ وَاحِدٌ وَصَمَّمَا على إنْكَارِهِ لَا سِيَّمَا إذَا جَوَّزْنَا تَعْلِيلَ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ عِنْدَ ثُبُوتِهَا وَلَا يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَائِهَا على ما يَقْتَضِيهِ الْأَصْلُ وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْعِلَّةِ مَعْرِفَةُ الْعِلَّةِ فَقَطْ تَنْبِيهٌ أَمَّا فَهْمُ الْعِلَّةِ من إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا فإنه كما فُهِمَ وُجُوبُ الْقَطْعِ وَالْجَلْدِ من الْمَنْطُوقِ بِهِ فُهِمَ كَوْنُ السَّرِقَةِ وَالزِّنَى عِلَّةَ الْحُكْمِ وهو إنْ كان غير مَنْطُوقٍ بِهِ لَكِنْ سَبَقَ إلَى الْفَهْمِ من فَحَوَى الْكَلَامِ فلم يَجْعَلْهُ الْغَزَالِيُّ من الْمَفْهُومِ وَأَلْحَقَهُ بِدَلَالَةِ الْإِشَارَةِ وَجَعَلَهُ ابن الْحَاجِبِ من أَقْسَامِ الْمَنْطُوقِ غَيْرِ الصَّرِيحِ النوع الرابع مفهوم الشرط اعلم أن الشرط في اصطلاح المتكلمين ما يتوقف عليه الشيء ولا يكون داخلا في الشيء ولا مؤثرا فيه وفي اصطلاح النحاة ما دخل عليه أحد الحرفين إن وإذا أو ما يقوم مقامهما من الأسماء والظروف الدالة على سببية الأول ومسببية الثاني وهو المراد هنا أعني اللغوي لا الشرعي والعقلي نحو وإن كن أولات حمل فيتعلق الحكم بوجوده إجماعا وينتفي بعدمه عند القائلين المفهوم قالوا وهو أقوى المفاهيم وأما المنكرون له فاختلفوا فذهب ابن سريج وابن الصباغ والكرخي
____________________
(3/119)
وأبو الحسين البصري إلى لزوم القول به ونقله إمام الحرمين عن أكثر العلماء ونقله ابن القشيري عن معظم أهل العراق ونقله أبو الحسن السهيلي في أدب الجدل عن أكثر الحنفية وذهب أكثر المعتزلة كما نقله في المحصول إلى المنع وقالوا لا ينتفي بعدمه بل هو باق على ما كان عليه قبل التعليق ورجحه المحققون من الحنفية ونقل عن أبي حنيفة ونقله ابن التلمساني عن مالك وهو اختيار القاضي والغزالي والآمدي وقد احتج القاضي حسين في باب الأصول والثمار من تعليقه على الحنفية بحديث يعلى بن أمية أنه قال لعمر بن الخطاب لماذا نقصر وقد أمنا وقال تعالى إن خفتم فقال له عمر تعجبت مما تعجبت منه فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته قال وهما من صميم العرب وأرباب اللسان وعرفا من الآية أن المفهوم يعني الشرطي حجة وإنما تركاه لقول النبي صلى الله عليه وسلم ا هـ وقد بالغ إمام الحرمين في الرد على المنكرين لهذا المفهوم وقال من الصور التي يجب الاعتناء بها الشرط والجزاء فإن سلم الخصم اقتضاء الشرط تخصيص الجزاء به تعدينا هذه الرتبة وإن استقر على النزاع اكتفينا بنسبته إلى الجهالة باللسان أو المراغمة والعناد فنحن نعلم من مذهب العرب قاطبة أنها وضعت باب الشرط لتخصيص الجزاء به فإذا قال القائل من أكرمني أكرمته فقد أشعر باختصاص إكرامه بمن يكرمه ومن جوز أن يكون وضع هذا الكلام على أن يكرم مكرمه ويكرم غيره أيضا فقد آل الكلام معه إلى التسفيه والتجهيل والإحالة على تعلم مذهب العرب قيل وفيه نظر لأن النزاع في هذه المسألة راجع إلى أن مثل قول القائل من أكرمني أكرمته كما أنه يدل على إثبات إكرام مكرمه بطريق المنطوق هل يدل على نفي إكرام غير مكرمه بطريق المفهوم أم لا ولا خلاف في أن هذا الكلام لم يوضع لأن يكرم مكرمه ويكرم غير مكرمه فإنه لا دلالة له على إثبات إكرام غير مكرمه بالاتفاق لا بالمنطوق ولا بالمفهوم ولم
____________________
(3/120)
يصر إليه أحد من منكري المفهوم وإنما قالوا إنه لم يلزم إلا إكرام مكرمه خاصة وأما غير مكرمه فلا مدخل له في هذا الوعد ولا دلالة لمثل هذا الكلام على إكرامه بنفي ولا إثبات بل هو مسكوت عنه وهذا غير محال ولا مناف لاختصاص الجزاء بالشرط تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ سَبَقَ في التَّخْصِيصِ في الْكَلَامِ على الشَّرْطِ خِلَافٌ في أَنَّ مَجْمُوعَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَلَامٌ وَاحِدٌ وَالْحُكْمُ هو الْجَزَاءُ وَالشَّرْطُ قَيْدٌ بِمَنْزِلَةِ الْحَالِ وهو أَصْلُ الْخِلَافِ هُنَا فَعَلَى الثَّانِي يُجْعَلُ التَّعْلِيقُ إيجَادًا لِلْحُكْمِ على تَقْدِيرِ وُجُودِ الشَّرْطِ وَإِعْدَامًا له على تَقْدِيرِ عَدَمِهِ فَصَارَ كُلٌّ من الثُّبُوتِ وَالِانْتِفَاءِ حُكْمًا شَرْعِيًّا ثَابِتًا بِاللَّفْظِ مَنْطُوقًا وَمَفْهُومًا وَعَلَى الْأَوَّلِ يُجْعَلُ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ على تَقْدِيرِ وُجُودِ الشَّرْطِ سَكْتًا عن النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ على تَقْدِيرِ عَدَمِهِ فَصَارَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عَدَمًا أَصْلًا مَبْنِيًّا على دَلِيلِ عَدَمِ الثُّبُوتِ لَا حُكْمًا شَرْعِيًّا مُسْتَفَادًا من النَّظْمِ قال في الْبَدِيعِ وَنَصَّ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْخِلَافَ على حَرْفٍ آخَرَ وهو أَنَّ الشَّرْطَ عِنْدَنَا مَانِعٌ من انْعِقَادِ السَّبَبِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ من الْحُكْمِ فَالتَّعْلِيقُ سَبَبٌ عِنْدَنَا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِعَدَمِ الْحُكْمِ فَيُضَافُ إلَى عَدَمِ سَبَبِهِ وَعِنْدَهُ إلَى انْتِفَاءِ شَرْطِهِ مع وُجُودِ سَبَبِهِ وَفَرَّعَ على هذا أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالْمِلْكِ قَبْلَهُ في الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ صَحِيحٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَكَذَا تَعْجِيلُ النَّذْرِ الْمُعَلَّقِ وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ مُمْتَنِعٌ وَطَوْلُ الْحَرَّةِ غَيْرُ مَانِعٍ من نِكَاحِ الْأَمَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ الثَّانِي أَنَّ هذا الْمَنْزَعُ يَدُلُّ على انْتِفَاءِ الْحُكْمِ قبل وُجُودِ الشَّرْطِ وهو مَعْنَى قَوْلِهِمْ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عُدِمَ قبل وُجُودِ الشَّرْطِ وَإِلَّا لَكَانَ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ نَسْخًا وَلَخَلَا من الْفَائِدَةِ وكان بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَسْتَدِلُّ على أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عُدِمَ قبل وُجُودِ الشَّرْطِ فيقول لو قال لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَإِنَّك طَالِقٌ لَا تَطْلُقُ قبل دُخُولِ الدَّارِ فَلَوْلَا أَنَّ الشَّرْطَ يَنْفِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ قَبْلَهُ لَوَجَبَ الْوُقُوعُ عَمَلًا بِالْمُقْتَضَى وهو قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ الثَّالِثُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّرْطِ هو اللُّغَوِيُّ سَبَقَ وهو مُغَايِرٌ لِلشَّرْعِيِّ وَالْعَقْلِيِّ فإن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْتَفِي الْمُسَمَّى بِانْتِفَائِهِ وَلَا يُوجَدُ بِوُجُودِهِ وَأَمَّا اللُّغَوِيُّ فَلَا يَبْقَى أَثَرُهُ إلَّا في وُجُودِ الْمُعَلَّقِ بِوُجُودِ ما عُلِّقَ عليه لَا غَيْرُ وَأَمَّا عَدَمُهُ فَإِمَّا لِعَدَمِ مُقْتَضِيهِ أو لِأَنَّ
____________________
(3/121)
الْأَصْلَ بَقَاءُ ما كان قبل التَّعْلِيقِ لَا من جِهَةِ الْمَفْهُومِ كما سَبَقَ فَالْخِلَافُ حِينَئِذٍ إنَّمَا نَشَأَ من إطْلَاقِ اسْمِ الشَّرْطِ وَمَنْ قال الْمُعَلَّقُ بِكَلِمَةِ إنْ صَرِيحٌ فَدَلَّ بِمَنْطُوقِهِ على وُجُودِ ما عُلِّقَ عليه عِنْدَ وُجُودِهِ ليس إلَّا أَمَّا الْعَدَمُ عِنْدَ الْعَدَمِ فَلَا يَدُلُّ عليه أَلْبَتَّةَ بَلْ ذلك من بَابِ الْمَفْهُومِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ في انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ وَلَكِنْ هل الدَّالُّ على الِانْتِفَاءِ صِيغَةُ الشَّرْطِ أو الْبَقَاءُ على الْأَصْلِ فَمَنْ جَعَلَهُ حُجَّةً قال بِالْأَوَّلِ وَمَنْ أَنْكَرَهُ قال بِالثَّانِي وَهَاهُنَا أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ أَحَدُهَا ثُبُوتُ الْجَزَاءِ عِنْدَ ثُبُوتِ الشَّرْطِ وَثَانِيهَا عَدَمُ الْجَزَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ وَثَالِثُهَا دَلَالَةُ النُّطْقِ على الْأَوَّلِ وَرَابِعُهَا دَلَالَتُهُ على الثَّانِي فَأَمَّا الدَّلَالَةُ الْأُولَى فَمُتَّفَقٌ عليها وَالرَّابِعُ هو الْمُخْتَلَفُ فيه بَعْدَ الِاتِّفَاقِ على أَنَّ عَدَمَ الْجَزَاءِ ثَابِتٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ لَكِنْ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ ثُبُوتُهُ لِدَلَالَةِ التَّعْلِيقِ عليه وَعِنْدَ النُّفَاةِ ثَابِتٌ بِمُقْتَضَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَالْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عليه وَالْخِلَافُ في عِلَّتِهِ فَالْخِلَافُ إنَّمَا هو في دَلَالَةِ حَرْفِ الشَّرْطِ على الْعَدَمِ عِنْدَ الْعَدَمِ لَا على أَصْلِ الْعَدَمِ عِنْدَ الْعَدَمِ فإن ذلك ثَابِتٌ بِالْأَصْلِ قبل أَنْ يَنْطِقَ النَّاطِقُ بِكَلَامٍ وَهَكَذَا الْكَلَامُ في سَائِرِ الْمَفَاهِيمِ قال أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ وهو من الْمُنْكِرِينَ له انْتِفَاءُ الْمُعَلَّقِ حَالَ عَدَمِ الشَّرْطِ لَا يُفْهَمُ من الْمُتَعَلِّقِ بَلْ يَبْقَى على ما كان قبل وُرُودِ النَّصِّ قال وَحَاصِلُ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الشَّرْطَ هل يَمْنَعُ من انْعِقَادِ عِلَّةِ الْحُكْمِ فَعِنْدَنَا يَمْنَعُ وَعِنْدَهُمْ لَا فإذا لم يَكُنْ الشَّرْطُ عِنْدَهُمْ مِمَّا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ كانت الْعِلَّةُ مَوْجُودَةً وَكَانَتْ مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ وَالشَّرْطُ يَمْنَعُ وُجُودَ الْحُكْمِ وَعِنْدَنَا لَمَّا كان الشَّرْطُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ لم تَكُنْ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةً حتى تُوجِبَ الْحُكْمَ فلم يُتَصَوَّرُ اسْتِنَادُ مَنْعِ الْحُكْمِ إلَى الشَّرْطِ
____________________
(3/122)
فَائِدَةٌ الْغَزَالِيِّ من الْمُنْكِرِينَ لِمَفْهُومِ الشَّرْطِ وَرَأَى مُوَافَقَتَهُ لِلشَّافِعِيِّ في عَدَمِ النَّفَقَةِ لِغَيْرِ الْحَامِلِ مع أَنَّ الشَّافِعِيَّ عُمْدَتُهُ فيه مَفْهُومُ قَوْله تَعَالَى وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ قال إنَّ عَدَمَ النَّفَقَةِ ليس من نَاحِيَةِ الْمَفْهُومِ بَلْ من حَيْثُ إنَّ انْقِطَاعَ مِلْكِ النِّكَاحِ يُوجِبُ سُقُوطَ النَّفَقَةِ إلَّا ما اُسْتُثْنِيَ وَالْحَامِلُ هِيَ الْمُسْتَثْنَى فَنَفْيُ غَيْرِ الْحَامِلِ على أَصْلِ الْمَنْعِ فَانْتَفَتْ نَفَقَتُهَا لَا بِالشَّرْطِ لَكِنْ بِانْتِفَاءِ النِّكَاحِ الذي كان عِلَّةَ النَّفَقَةِ وَهَذَا نَظِيرُ امْتِنَاعِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ على نِكَاحِ الْحُرَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ من الْمَفْهُومِ وَلِهَذَا جَعَلَهُ تَخْصِيصًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَدَمٌ أَصْلِيٌّ لَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يَصْلُحُ تَخْصِيصًا لِأَنَّ الْمُخَصَّصَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَا عَدَمًا أَصْلِيًّا فَهُمَا وَإِنْ اتَّفَقَا على الْحُكْمِ لَكِنْ اخْتَلَفَا في الْأَخْذِ وَفِيمَا قَالُوهُ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ مُخَصَّصًا وَلَا نَاسِخًا يَبْقَى الْجَوَازُ بِالنَّصِّ وهو قَوْلُهُ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَمَنْ لم يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَإِنْ لم يُفْهَمُ مَدْلُولُهُ على ثُبُوتِ هذه الْأَحْكَامِ قبل هذه الشُّرُوطِ ثَبَتَ الْحُكْمُ على الْعَدَمِ ا هـ النَّوْعُ الْخَامِسُ مَفْهُومُ الْعَدَدِ وهو تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ يَدُلُّ على انْتِفَاءِ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا ذلك الْعَدَدِ زَائِدًا كان أو نَاقِصًا كَقَوْلِهِ إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ في إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا وقَوْله تَعَالَى فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وهو دَلِيلٌ مُسْتَعْمَلٌ كَالصِّفَةِ سَوَاءٌ كما قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وابن السَّمْعَانِيِّ وَنَقَلَهُ أبو حَامِدٍ عن نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَكَذَا
____________________
(3/123)
الْقَاضِيَانِ أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ في بَابِ بَيْعِ الطَّعَامِ قبل أَنْ يُسْتَوْفَى وَجَرَى عليه الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ وَسُلَيْمٌ قال وهو دَلِيلُنَا في نِصَابِ الزَّكَاةِ وَالتَّحْرِيمِ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ وقال ابن الرِّفْعَةِ في بَابِ الْجَمَاعَةِ من الْمَطْلَبِ إنَّهُ الْعُمْدَةُ لنا في عَدَمِ تَنْقِيصِ الْأَحْجَارِ في الِاسْتِنْجَاءِ عن الثَّلَاثَةِ وَالزِّيَادَةِ على ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في خِيَارِ الشَّرْطِ وَتَعَجَّبْت من النَّوَوِيِّ في قَوْلِهِ إنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ بَاطِلٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ قال وَلَعَلَّهُ سَبَقَ الْوَهْمُ إلَيْهِ من اللَّقَبِ وَنَقَلَهُ أبو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ عن مَنْصُوصِ أَحْمَدَ وَبِهِ قال مَالِكٌ وَدَاوُد وقال آخَرُونَ لَا يَدُلُّ وهو رَأْيِ مُنْكِرِي الصِّفَةِ كَالْقَاضِي وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وقد قال بِهِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ من الْحَنَفِيَّةِ فقال في قَوْلِهِ خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ في الْحِلِّ وَالْحَرَمِ إنَّهُ يَبْقَى غَيْرُهَا بِالْعَدَدِ وَأَجَابَ عن خَمْسِ رَضَعَاتٍ بِأَنَّهُ إنَّمَا لم يَنْتِفْ تَحْرِيمُ الرَّضْعَةِ لِثُبُوتِهِ في إطْلَاقِ أَرْضَعْنَكُمْ الصَّرِيحِ وقال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ كُنْت أَسْمَعُ كَثِيرًا من مَشَايِخِنَا يَقُولُونَ في الْمَخْصُوصِ إنَّهُ حُجَّةٌ كَقَوْلِهِ خَمْسٌ فَوَاسِقُ وَقَوْلِهِ أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ فَدَلَّ على أَنَّ غَيْرَهُمَا من الْمَيِّتَةِ غَيْرُ مُبَاحٍ وَلَقِيت مُحَمَّدَ بن شُجَاعٍ قد احْتَجَّ بِهِ وَلَا أَعْرِفُ جَوَابَ الْمُتَقَدِّمِينَ من أَصْحَابِنَا عنه قال وَالْقَائِلُونَ بهذا فَرَّقُوا بين أَنْ يُصَرِّحَ بِالْعَدَدِ كما
____________________
(3/124)
ذَكَرْنَا فَيَكُونَ حُجَّةً وَبَيْنَ أَنْ لَا يُصَرِّحَ بِهِ كَقَوْلِهِ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ إلَى آخِرِ الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ فَلَا يَدُلُّ على أَنَّ ما عَدَاهُ بِخِلَافِهِ لِأَنَّهُ لم يَقُلْ إنَّ الرِّبَا في السِّتَّةِ كما قِيلَ خَمْسٌ يَقْتُلهُنَّ الْمُحْرِمُ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أبي حَنِيفَةَ في الْعَدَدِ إذَا وَرَدَ مَقْرُونًا بِاللَّفْظِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ ثُمَّ نَاقَضُوا أَصْلَهُمْ في الزِّيَادَةِ على النَّصِّ فَجَعَلُوهُ أَقْوَى النَّصَّيْنِ وَمَنَعُوا من الزِّيَادَةِ عليه بِالْقِيَاسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَقَالُوا إنَّهُ يَدُلُّ على سُقُوطِ التَّغْرِيبِ وَمِمَّنْ أَنْكَرَ الْعَدَدَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ بَعْدَ تَفْصِيلٍ سَبَقَهُ إلَيْهِ أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ وَنَبَّهَ عليه الْآمِدِيُّ أَيْضًا وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ فإنه قال الْحُكْمُ الْمُقَيَّدُ بِعَدَدٍ إنْ كان مَعْلُولَ ذلك الْعَدَدِ ثَبَتَ في الزَّائِدِ لِوُجُودِهِ فيه كما في جَلْدِ مِائَةٍ أو حُكْمٍ بِأَنَّ الْقُلَّتَيْنِ يَدْفَعَانِ حُكْمَ النَّجَاسَةِ وَإِلَّا يَلْزَمُ كما أَوْجَبَ مِائَةُ جَلْدَةٍ وَالنَّاقِصُ عن ذلك الْعَدَدُ إنْ كان دَاخِلًا فيه وكان الْحُكْمُ إيجَابًا أو إبَاحَةً ثَبَتَ فيه كما أَوْجَبَ أو أَبَاحَ جَلْدَ مِائَةٍ وَإِنْ كان تَحْرِيمًا فَلَا يَلْزَمُ وَإِنْ لم يَكُنْ دَاخِلًا فيه كَالْحُكْمِ بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ فإنه لَا يَدْخُلُ في الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ فَالتَّحْرِيمُ قد ثَبَتَ فيه بِطَرِيقِ الْأُولَى وَالْإِيجَابُ وَالْإِبَاحَةُ لَا يَلْزَمَانِ قال فَثَبَتَ أَنَّ قَصْرَ الْحُكْمِ على الْعَدَدِ لَا يَدُلُّ على نَفْيِهِ عَمَّا زَادَ أو نَقَصَ إلَّا بِدَلِيلٍ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا لم يُقْصَدْ بِهِ التَّكْثِيرُ فَأَمَّا الْمَقْصُودُ بِهِ كَالْأَلْفِ وَالسَّبْعِينَ وَغَيْرِهِمَا فما جَرَى في لِسَانِ الْعَرَبِ لِلْمُبَالَغَةِ فَلَا يَدُلُّ بِمُجَرَّدِهِ على التَّحْدِيدِ ذَكَرَهُ ابن فُورَكٍ وَكَلَامُ الْبَاقِينَ في الْجَوَابِ عن الحديث مُصَرِّحٌ بِهِ وَاسْتَثْنَى ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ ما إذَا كان في الْعَدَدِ تَنْبِيهٌ على ما زَادَ عليه كَقَوْلِهِ إذَا بَلَغَ الْمَاءَ قُلَّتَيْنِ فإنه تَنْبِيهٌ على أَنَّ ما زَادَ عَلَيْهِمَا أَوْلَى بِأَنْ لَا يُحْمَلَ الثَّانِي قال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مَحَلُّ الْخِلَافِ إنَّمَا هو عِنْدَ ذِكْرِ الْعَدَدِ نَفْسِهِ كَاثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ أَمَّا الْمَعْدُودُ فَلَا يَكُونُ مَفْهُومُهُ حُجَّةً كَقَوْلِهِ أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتَانِ
____________________
(3/125)
وَدَمَانِ فَلَا يَكُونُ تَحْرِيمُ مَيْتَةٍ ثَالِثَةٍ مَأْخُوذًا من مَفْهُومِ الْعَدَدِ لَكِنَّ الناس يُمَثِّلُونَ لِمَفْهُومِ الْعَدَدِ بِقَوْلِهِ إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ ليس فيه اسْمُ عَدَدٍ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْعَدَدَ يُشْبِهُ الصِّفَةَ وَالْمَعْدُودَ يُشْبِهُ اللَّقَبَ وَلَا فَرْقَ فيه بين أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أو مُثَنًّى أَلَا تَرَى أَنَّك لو قُلْت رِجَالٌ لم يُتَوَهَّمْ أَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ عَدَدٌ وَلَا يُفْهَمُ منها ما يُفْهَمُ من التَّخْصِيصِ بِالْعَدَدِ فَكَذَلِكَ الْمُثَنَّى لِأَنَّهُ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِاثْنَيْنِ كما أَنَّ الرِّجَالَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِمَا زَادَ فَمِنْ ثَمَّ لم يَكُنْ قَوْلُهُ مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ يَدُلُّ على نَفْيِ حِلِّ مَيْتَةٍ ثَالِثَةٍ كما أَنَّهُ لو قال أُحِلَّتْ لنا مَيْتَةٌ لم يَدُلَّ على عَدَمِ حِلِّ أُخْرَى الثَّالِثُ أَنَّهُ من أَشْهَرِ حِجَجِ الْمُثْبِتِينَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى إنْ تَسْتَغْفِرْ لهم سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لهم قال النبي عليه السَّلَامُ لَأَزِيدَنَّ على السَّبْعِينَ فَعُلِمَ من الْآيَةِ أَنَّ حُكْمَ ما زَادَ على السَّبْعِينَ بِخِلَافِهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَعَلَّهُ
____________________
(3/126)
قَالَهُ رَجَاءَ حُصُولِ الْمَغْفِرَةِ بِنَاءً على بَقَاءِ حُكْمِ الْأَصْلِ فإن رَجَاءَهَا كان ثَابِتًا قبل نُزُولِ الْآيَةِ لَا لِأَنَّهُ فَهِمَهُ من التَّقْيِيدِ وَأَجَابَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُمْ بِالطَّعْنِ في الحديث وَقَالُوا لم يَصِحَّ وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ فإنه مُخَرَّجٌ في الصَّحِيحَيْنِ لَكِنْ بِلَفْظِ سَأَزِيدُ على السَّبْعِينَ قال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ فَأَمَّا ما رَوَاهُ أبو عُبَيْدٍ لَأَزِيدَنَّ على السَّبْعِينَ فَهِيَ رِوَايَةٌ بَاطِلَةٌ لَا تَصِحُّ وَلَا تَجُوزُ عليه فإنه يَمْتَنِعُ غُفْرَانُ ذَنْبِ الْكَافِرِ وَإِنَّمَا الْمَرْوِيُّ لو عَلِمْت أَنْ يُغْفَرَ له إذَا زِدْت على السَّبْعِينَ لَزِدْت قُلْت هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ في بَابِ الْجَنَائِزِ بِلَفْظِ لو عَلِمْت أَنِّي إنْ زِدْت على السَّبْعِينَ يُغْفَرُ له لَزِدْت عليها وقال ابن فُورَكٍ لَا مَعْنَى لِتَوْهِينِ الحديث لِأَنَّهُ قد صَحَّ وَلَيْسَ بِمُنْكَرٍ اسْتِغْفَارُهُ عليه السَّلَامُ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِيلُ عَقْلًا وَالْإِجَابَةُ مُمْكِنَةٌ وَلَوْ خُلِّينَا وَظَاهِرَ الْآيَةِ لَكَانَ الزَّائِدُ على السَّبْعِينَ يَقْتَضِي الْغُفْرَانَ لَكِنَّهُ نَزَلَ بَعْدَهُ وَلَا تُصَلِّ على أَحَدٍ منهم مَاتَ أَبَدًا فَدَلَّ ذلك على زَوَالِ حُكْمِ الْمَفْهُومِ فإن صَلَاتَهُ عليه السَّلَامُ تُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ وَلِهَذَا امْتَنَعَ من الصَّلَاةِ على الْمَدِينِ وَتَلَطَّفَ الْقَاضِي ابن الْمُنِيرِ فقال لَعَلَّ الْقَصْدَ بِالِاسْتِغْفَارِ التَّخْفِيفُ كما في
____________________
(3/127)
دُعَائِهِ لِأَبِي طَالِبٍ وَقَوْلُهُ لَأَزِيدَنَّ على السَّبْعِينَ أَيْ أَفْعَلُ ذلك لِأُثَابَ على الِاسْتِغْفَارِ فإنه عِبَادَةٌ وَقَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ إنَّ أَسْمَاءَ الْعَدَدِ نُصُوصٌ ليس على إطْلَاقِهِ بَلْ هِيَ نُصُوصٌ دَالَّةٌ بِقَرَائِن الْأَحْوَالِ إذَا قَصَدَ الْكَثْرَةَ كَقَوْلِك جِئْت أَلْفَ مَرَّةٍ وَمِنْهُ حَثُّهُ عليه السَّلَامُ على صَوْمِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَإِنَّمَا هو تِسْعَةُ أَيَّامٍ خَاصَّةً وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ هذه الْعَشْرِ لم يَكُنْ نَاذِرًا صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ وَلَا عَاصِيًا بهذا اللَّفْظِ إجْمَاعًا فَدَلَّ على أَنَّ الْعَشَرَةَ قد تُطْلَقُ على التِّسْعَةِ تَقْرِيبًا النَّوْعُ السَّادِسُ مَفْهُومُ الْحَالِ أَيْ تَقْيِيدُ الْخِطَابِ بِالْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في الْمَسَاجِدِ وهو كَالصِّفَةِ قَالَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ ولم يَذْكُرْهُ الْمُتَأَخِّرُونَ لِرُجُوعِهِ إلَى الصِّفَةِ وقد ذَكَرَهُ سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ وَإِلْكِيَا وَمَثَّلَاهُ بِالْآيَةِ وَكَذَلِكَ ابن فُورَكٍ في كِتَابِهِ وقال هذه الْوَاوُ تُنْبِئُ عن حَالِ من وَقَعَ عليه كما تَقُولُ لَا تَأْكُلْ السَّمَكَ وَتَشْرَبُ اللَّبَنَ بِالرَّفْعِ أَيْ في حَالِ شُرْبِك اللَّبَنَ فَيَكُونُ تَخْصِيصًا لِلْحَالِ فَيَدُلُّ على أَنَّ ما لَا حَالَ فيه حُكْمُهُ بِخِلَافِهِ النَّوْعُ السَّابِعُ مَفْهُومُ الزَّمَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ من يَوْمِ الْجُمُعَةِ وهو حُجَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كما نَقَلَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وَلَوْ قال لِوَكِيلِهِ بِعْ يوم الْخَمِيسِ تَعَيَّنَ عليه لِأَنَّهُ قد يَحْتَاجُ إلَى بَيْعِهِ في ذلك الْوَقْتِ لِكَثْرَةِ الرَّاغِبِينَ إذْ ذَاكَ كما إذَا أَمَرَهُ بِبَيْعِ الْفِرَاءِ في الشِّتَاءِ وَلَوْ وَكَّلَهُ بِالْعِتْقِ يوم الْجُمُعَةِ تَعَيَّنَ وَلَيْسَ له عِتْقُهُ في غَيْرِهِ وَلَوْ قال طَلِّقْ زَوْجَتِي يوم الْخَمِيسِ فَالْمَنْقُولُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ قبل ذلك الْوَقْتِ وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَهُ وَقَعَ وَاسْتَشْكَلَهُ النَّوَوِيُّ نعم لو ادَّعَى عليه بِعَشَرَةٍ فقال لَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ هذا الْمَالِ الْيَوْمَ لَا يُجْعَلُ مُقِرًّا بِهِ لِأَنَّ الْأَقَارِيرَ لَا تَثْبُتُ بِالْمَفْهُومِ نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عن الْقَاضِي الْحُسَيْنِ
____________________
(3/128)
النَّوْعُ الثَّامِنُ مَفْهُومُ الْمَكَانِ نَحْوُ جَلَسْت أَمَامَ زَيْدٍ مَفْهُومُهُ أَنَّهُ لم يَجْلِسْ عن شِمَالِهِ وَنَحْوُ اضْرِبْ زَيْدًا في الدَّارِ قال تَعَالَى فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وهو حُجَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا كما نَقَلَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وَلَوْ قال بِعْ في مَكَانِ كَذَا تَعَيَّنَ على الْأَصَحِّ وَهُنَا بَحْثٌ نَفِيسٌ وهو أَنَّهُ هل يُشْتَرَطُ في الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ أَنْ يَكُونَا في الظَّرْفِ أَمْ لَا مُقْتَضَى كَلَامِ النُّحَاةِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ وقد فَرَّقَ أَصْحَابُنَا بين ما لو قال إنْ قَذَفْت زَيْدًا في الْمَسْجِدِ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ لَا بُدَّ من وُجُودِ الْقَاذِفِ وَالْمَقْذُوفِ في الْمَسْجِدِ وَلَوْ قال إنْ قَذَفْت زَيْدًا في الْمَسْجِدِ فَأَنْتِ طَالِقٌ يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْقَاذِفِ في الْمَسْجِدِ وَالتَّحْقِيقُ في هذه الْقَاعِدَةِ التَّفْصِيلُ بين الْمُشَخِّصَاتِ الْحِسِّيَّةِ فَيُشْتَرَطُ وُجُودُهَا كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَإِلَّا فَيُشْتَرَطُ وُجُودُ الْفَاعِلِ في الظَّرْفِ كَالثَّانِيَةِ وَيَنْشَأُ عن هذا الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ في حديث صلى على سُهَيْلِ بن بَيْضَاءَ في الْمَسْجِدِ فَهُمْ يَقُولُونَ كان النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في الْمَسْجِدِ وَسُهَيْلٌ خَارِجَهُ قُلْنَا هذا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الصَّلَاةَ من الْحِسِّيَّاتِ فَلَا بُدَّ من وُجُودِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَأَمَّا من جِهَةِ الْوَاقِعِ فَلَيْسَ في حَائِطِ الْمَسْجِدِ فُرْجَةٌ حتى يَرَاهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَمِثْلُهُ الْبُصَاقُ في الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ هل يَمْتَنِعُ على من بِالْمَسْجِدِ أَنْ يَبْصُقَ إلَى خَارِجِ الْمَسْجِدِ فيه هذا الْعَمَلُ
____________________
(3/129)
تَنْبِيهٌ مَفْهُومُ ظَرْفَيْ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ رَاجِعٌ إلَى الصِّفَةِ عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَشَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى رُجُوعِ هذا وما قَبْلَهُ إلَى الصِّفَةِ لِأَنَّ الظَّرْفَيْنِ يُقَدَّرُ فِيهِمَا الصِّفَةُ فإذا قُلْت زَيْدٌ في الدَّارِ فَالْمُرَادُ كَائِنٌ فيها وإذا قُلْت الْقِيَامُ يوم الْجُمُعَةِ فَالْمُرَادُ وَاقِعٌ يوم الْجُمُعَةِ وَالْكَوْنُ وَالْوُقُوعُ صِفَتَانِ النَّوْعُ التَّاسِعُ مَفْهُومُ الْغَايَةِ وَمَدُّ الْحُكْمِ بِإِلَى وَحَتَّى كَقَوْلِهِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ وَقَوْلِهِ لَا زَكَاةَ في مَالٍ حتى يَحُولَ عليه الْحَوْلُ يَدُلُّ على الْوُجُوبِ عِنْدَ الْحَوْلِ لِأَنَّ الْحَوْلَ جُعِلَ غَايَةً لِلشَّيْءِ وَغَايَةُ الشَّيْءِ آخِرُهُ وقد نَصَّ الشَّافِعِيُّ على الْقَوْلِ بِهِ فقال في الْأُمِّ وما جَعَلَ اللَّهُ له غَايَةً فَالْحُكْمُ بَعْدَ مُضِيِّ الْغَايَةِ فيه غَيْرُهُ قبل مُضِيِّهَا ثُمَّ مَثَّلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وإذا ضَرَبْتُمْ في الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ الْآيَةَ وكان في شَرْطِ الْقَصْرِ لهم بِحَالَةٍ مَوْصُوفَةٍ دَلِيلٌ على أَنَّ حُكْمَهُمْ في غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَةِ غَيْرُ الْقَصْرِ ا هـ وقد اعْتَرَفَ بِهِ جَمْعٌ من مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ الشَّرْطِيِّ كَالْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَالْغَزَالِيِّ وَالْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُعْظَمُ نُفَاةِ الْمَفْهُومِ كما قَالَهُ الْقَاضِي وابن الْقُشَيْرِيّ وَحَكَى ابن بَرْهَانٍ وَصَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ الِاتِّفَاقَ عليه وقال سُلَيْمٌ لم يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِرَاقِ في ذلك وَخَالَفَ الْأَشْعَرِيَّةُ في ذلك وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ صَارَ مُعْظَمُ نُفَاةِ دَلِيلِ الْخِطَابِ إلَى أَنَّ التَّقْيِيدَ بِحُرُوفِ الْغَايَةِ يَدُلُّ على انْتِفَاءِ الْحُكْمِ وَرَاءَ الْغَايَةِ ثُمَّ قال وَكُنَّا قد نَصَرْنَا إبْطَالَ حُكْمِ الْغَايَةِ في كُتُبٍ وَالْأَوْضَحُ عِنْدَنَا الْآنَ الْقَوْلُ بها فإذا قال اضْرِبْ عَبْدِي حتى يَتُوبَ اقْتَضَى ذلك بِالْوَضْعِ الْكَفَّ عن ضَرْبِهِ إذَا تَابَ وَلِهَذَا أَجْمَعُوا على تَسْمِيَتِهَا حُرُوفَ الْغَايَةِ وَغَايَةُ الشَّيْءِ نِهَايَتُهُ فَلَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ بَعْدَهَا لم تَفْدِ تَسْمِيَتُهَا غَايَةً قال وَهَذَا من تَوْقِيفِ اللُّغَةِ مَعْلُومٌ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْغَايَةِ
____________________
(3/130)
مَوْضُوعٌ لِلدَّلَالَةِ على أَنَّ ما بَعْدَهَا بِخِلَافِ ما قَبْلَهَا وَاحْتَجَّ الْقَاضِي أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ على أَنَّك تَقْدِرُ في غَايَةِ الطُّهْرِ فَتَقُولُ في وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ تَقْدِيرُهُ فَاقْرُبُوهُنَّ وفي حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَتَحِلُّ وَنَحْوُ ذلك وَهَذَا الْكَلَامُ من الْقَاضِي يَقْتَضِي أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ من جِهَةِ الْمَنْطُوقِ لَا الْمَفْهُومِ فَتَنَبَّهْ لِذَلِكَ وَكَذَا قال الْعَبْدَرِيُّ في الْمُسْتَوْفَى وابن الْحَاجِّ في تَعْلِيقِهِ على الْمُسْتَصْفَى عَدُّ الْأُصُولِيِّينَ الْمُغَيَّا بِإِلَى وَحَتَّى في الْمَفْهُومِ جَهْلٌ بِكَلَامِ الْعَرَبِ فإن الْمُخَالِفَ بِمَا يَقْتَضِيهِ حتى وَإِلَى لَا من جِهَةِ الْمَفْهُومِ قُلْت وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا بِذَلِكَ في الشَّرْطِ فإن الْجَزَاءَ مُرْتَبِطٌ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ وهو غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ كَالْغَايَةِ وَذَهَبَ الْآمِدِيُّ وَطَائِفَةٌ من الْحَنَفِيَّةِ إلَى الْمَنْعِ تَصْمِيمًا على إنْكَارِ الْمَفْهُومِ وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ عن الْأَزْدِيِّ تِلْمِيذِ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ وقد سَبَقَ في التَّخْصِيصِ بِالْغَايَةِ ما يَسْتَدْعِي تَجْدِيدَ الْعَهْدِ بِهِ هَاهُنَا وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخِلَافَ هُنَا كَخِلَافِ مَفْهُومِ الْحَصْرِ قِيلَ لَا يُفِيدُ وَقِيلَ مَنْطُوقٌ وَقِيلَ مَفْهُومٌ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ فَسَّرُوا الْغَايَةَ بِمَدِّ الْحُكْمِ بِإِلَى وَحَتَّى وَأَلْحَقَ بِهِ بَعْضُهُمْ مَدَّهَا بِصَرِيحِ الْكَلَامِ نَحْوُ صُومُوا صَوْمًا آخِرُهُ اللَّيْلُ قال الْهِنْدِيُّ وَفِيهِ نَظَرٌ الثَّانِي ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ هذا الْخِلَافَ السَّابِقَ هل يَدْخُلُ في الْمُغَيَّا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ ذلك كَلَامٌ في الْغَايَةِ نَفْسِهَا وَالْكَلَامُ هُنَا فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ فَلَنَا في نَحْوِ قَوْله تَعَالَى إلَى الْمَرَافِقِ ثَلَاثُ قَضَايَا غَسْلُ ما دُونَ الْمِرْفَقِ وهو بِالْمَنْطُوقِ وَغَسْلُ الْمِرْفَقِ وهو الْخِلَافُ في أَنَّ الْغَايَةَ هل تَدْخُلُ وَعَدَمُ غَسْلِ ما بَعْدَ الْمِرْفَقِ وهو خِلَافُ الْمَفْهُومِ الثَّالِثُ إذَا تُصُوِّرَ في الْغَايَةِ تَطَاوُلٌ فَهَلْ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِأَوَّلِهَا أَمْ يَتَوَقَّفُ على تَمَامِهَا هذا الْأَصْلُ وَلَّدْته من الْخِلَافِ في أَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ يَجِبُ عِنْدَنَا إذَا فَرَغَ من الْعُمْرَةِ أو أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لِأَنَّهُ بِهِ يُسَمَّى مُتَمَتِّعًا وقال مَالِكٌ ما لم يَقِفْ بِعَرَفَةَ لَا يَجِبُ دَمُ التَّمَتُّعِ بِهِ وقال عَطَاءٌ ما لم يَرْمِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَالدَّلِيلُ في الْمَسْأَلَةِ قَوْله تَعَالَى فَمَنْ
____________________
(3/131)
تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَنَحْنُ نَقُولُ كَلِمَةُ إلَى لِلْغَايَةِ فَيُكْتَفَى بِأَوَّلِهَا وَلَا يُشْتَرَطُ الِاسْتِيعَابُ وَالْخَصْمُ يَشْرِطُهُ وَمَبْنَى حَمْلِنَا قَوْله تَعَالَى ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ فإن اسْتِيعَابَ جَمِيعِ اللَّيْلِ لَا يَكُونُ شَرْطًا فَكَذَا هُنَا النَّوْعُ الْعَاشِرُ مَفْهُومُ الِاسْتِثْنَاءِ نَحْوُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَا عَالِمَ في الْبَلَدِ إلَّا زَيْدٌ وَنَحْوُ ما قام الْقَوْمُ إلَّا زَيْدٌ وهو يَدُلُّ على ثُبُوتِ ضِدِّ الْحُكْمِ السَّابِقِ لِلْمُسْتَثْنَى منه لِلْمُسْتَثْنَى فَإِنْ كانت الْقَضِيَّةُ السَّابِقَةُ نَفْيًا كان الْمُسْتَثْنَى مُثْبَتًا أو إثْبَاتًا كان مَنْفِيًّا وقد اعْتَرَفَ بِهِ أَكْثَرُ مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ كَالْقَاضِي وَالْغَزَالِيِّ وَأَصَرَّتْ الْحَنَفِيَّةُ على الْإِنْكَارِ بِنَاءً على أَنَّهُ لَا عَمَلَ لِلِاسْتِثْنَاءِ في الْمَنْفِيِّ عن غَيْرِهِ وَإِنَّمَا مُقْتَضَاهُ الثُّبُوتُ فَقَطْ وقد سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ في بَابِ التَّخْصِيصِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا في دَلَالَةِ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ على الثُّبُوتِ قِيلَ بِالْمَفْهُومِ وَالصَّحِيحُ أنها بِالْمَنْطُوقِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو قال ما له عَلَيَّ إلَّا دِينَارٌ كان ذلك إقْرَارًا بِالدِّينَارِ حتى يُؤَاخَذَ بِهِ وَلَوْلَا أَنَّهُ مَنْطُوقٌ لَمَا ثَبَتَتْ الْمُؤَاخَذَةُ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ لَا تُعْتَبَرُ في الْإِقْرَارِ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ فقال نَحْوُ قَوْلِهِ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ ولا صِيَامَ لِمَنْ لم يُبَيِّتْ الصِّيَامَ من اللَّيْلِ هِيَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ مَعًا بِالْمَنْطُوقِ وَالْآخَرُ بِالْمَفْهُومِ قال أبو الْحُسَيْنِ هُمَا جميعا بِالْمَنْطُوقِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالْمَفْهُومِ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا صِيَامَ نَفْيٌ لِلصِّيَامِ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ وَإِثْبَاتٌ له عِنْدَ وُجُودِهَا كَقَوْلِك لَا تُعْطِ زَيْدًا شيئا إلَّا أَنْ يَدْخُلَ الدَّارَ فَكَانَ الْعَطَاءُ وَالْمَنْعُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِمَا فَكَذَلِكَ هُنَا ا هـ النَّوْعُ الْحَادِيَ عَشَرَ مَفْهُومُ الْحَصْرِ وَلَهُ صِيَغٌ الْأُولَى وَهِيَ أَقْوَاهَا تَقْدِيمُ النَّفْيِ على إلَّا نَحْوُ ما قام إلَّا زَيْدٌ يَدُلُّ على نَفْيِ
____________________
(3/132)
الْقِيَامِ عن غَيْرِهِ وَإِثْبَاتِهِ له وَنَحْوُ لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ وهو أَحَدُ نَوْعَيْ الِاسْتِثْنَاءِ وقد سَبَقَ بَلْ قال جَمَاعَةٌ إنَّ ذلك مَنْطُوقٌ لَا مَفْهُومٌ وَبِهِ جَزَمَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في الْمُلَخَّصِ وَرَجَّحَهُ الْقَرَافِيُّ في الْقَوَاعِدِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ النَّفْيُ إذَا تَجَرَّدَ عن الْإِثْبَاتِ فَإِنْ كان جَوَابًا لِسُؤَالِ سَائِلٍ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِإِثْبَاتِ ما عَدَاهُ كَقَوْلِهِ لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ فَلَا يَدُلُّ على التَّحْرِيمِ بِالثَّالِثَةِ وَإِنْ كان ابْتِدَاءً كَقَوْلِهِ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ فَيَدُلُّ على ثُبُوتِهَا بِالطُّهُورِ وَيَكُونُ نَفْيُ الْحُكْمِ عن تِلْكَ الصِّفَةِ مُوجِبًا لِإِثْبَاتِهِ عِنْدَ عَدَمِهَا وهو الظَّاهِرُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قال وَيَحْتَمِلُ قَوْلُ من جَعَلَ ما عَدَا الْإِثْبَاتَ في إنَّمَا مَوْقُوفًا أَنْ يَجْعَلَ ما عَدَا النَّفْيَ مَوْقُوفًا وقال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ يُفِيدُ إجْزَاءَ الصَّلَاةِ بِالطُّهُورِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال يُفِيدُ أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ في الصَّلَاةِ وَلَا يُفِيدُ إجْزَاءَهَا وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ إلَّا بِطُهُورٍ يَقْتَضِي رَدَّ جَمِيعِ ما نَفَاهُ بِقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ وَإِثْبَاتُهُ قال وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَدُلُّ على وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ وَذَهَبَ ابن الدَّقَّاقِ إلَى أَنَّهُ يَدُلُّ على وُجُوبِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَغَلِطَ في ذلك لِأَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِعْمَالُ هذا اللَّفْظِ في النَّوَافِلِ فَيُقَالُ لَا صَلَاةَ نَافِلَةٍ إلَّا بِطَهَارَةٍ وَإِنَّمَا يَدُلُّ على صِحَّتِهَا وَإِجْزَائِهَا بِالطَّهَارَةِ وقال إِلْكِيَا الْمَفْهُومُ يَجْرِي في النَّفْيِ كَالْإِثْبَاتِ وَلَا فَرْقَ بين قَوْلِهِ الْقَطْعُ في رُبْعِ دِينَارٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ لَا قَطْعَ إلَّا في رُبْعِ دِينَارٍ قال وَمِنْ الْعُلَمَاءِ من قال إذَا قال لَا قَطْعَ إلَّا في رُبْعِ دِينَارٍ كان نَصًّا في الْقَطْعِ في الرُّبْعِ مَفْهُومًا في الذي فَوْقَهُ وَدُونَهُ وقال ابن الْحَاجِبِ في أَمَالِيهِ الْإِثْبَاتُ بَعْدَ النَّفْيِ في الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ مُفِيدٌ لِلْحَصْرِ أَيْ يَنْفَرِدُ ما بَعْدَ إلَّا بِذَلِكَ دُونَ الْعَامِّ الْمُقَدَّرِ فإذا قُلْت ما جاء إلَّا زَيْدٌ فَزَيْدٌ مُنْفَرِدٌ بِالْمَجِيءِ دُونَ الْآخَرِينَ الْمُقَدَّرِينَ في ما جاء أَحَدٌ وإذا قُلْت ما زَيْدٌ
____________________
(3/133)
إلَّا بَشَرٌ لَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ بَشَرًا غَيْرُهُ لِأَنَّك إنَّمَا أَثْبَتَّهَا له دُونَ غَيْرِهَا من الصِّفَاتِ ولم تَتَعَرَّضْ لِنَفْيِهَا عَمَّنْ عَدَاهُ وَهَكَذَا في كل مُسْتَثْنًى هو في الْحَقِيقَةِ كَالصِّفَةِ وَالْحَالِ نَحْوُ ما جاء زَيْدٌ إلَّا رَاكِبًا وما زَيْدٌ إلَّا عَالِمٌ لم تُرِدْ نَفْيَ الرُّكُوبِ وَالْعِلْمِ عَمَّنْ عَدَاهُ وَإِنَّمَا أَرَدْت ثُبُوتَ هذه الصِّفَاتِ له وَذَلِكَ ثَابِتٌ فَإِنْ قُلْت فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَنْفِيٌّ عَامٌّ وَهَذَا مُثْبَتٌ منه دُونَهُ فَيَكُونَ الْمَعْنَى إثْبَاتَ هذه الصِّفَةِ له دُونَ غَيْرِهَا من الصِّفَاتِ وهو غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ فَإِنَّك إذَا قُلْت ما زَيْدٌ إلَّا قَائِمٌ لم يَسْتَقِمْ نَفْيُ جَمِيعِ الصِّفَاتِ عن زَيْدٍ فَالْجَوَابُ أَنَّ هذا كان الْقِيَاسَ وَلَكِنَّهُ أتى على غَيْرِهِ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لو اُعْتُبِرَ ذلك لَامْتَنَعَ اسْتِعْمَالُ هذا الْبَابِ فيه فَيَفُوتُ كُلُّ مَعْنَاهُ منه وَالثَّانِي أَنَّهُمْ قَصَدُوا إثْبَاتَ ذلك وَنَفْيَ ما يَتَوَهَّمُ الْمُتَوَهِّمُ مِمَّا يُضَادُّ ذلك وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ فإن الْمَعْنَى إثْبَاتُ الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ الْمَشْرُوعَةِ لَا إثْبَاتُ الطَّهَارَةِ لها خَاصَّةً يَلْزَمُ أنها إذَا وُجِدَتْ وُجِدَتْ إذْ قد تُوجَدُ الطَّهَارَةُ وَلَا تُشْرَعُ الصَّلَاةُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ آخَرَ الثَّانِيَةُ وهو قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ في الْقُوَّةِ الْحَصْرُ بِإِنَّمَا نَحْوُ إنَّمَا زَيْدٌ في الدَّارِ مَفْهُومُهُ أَنَّهُ ليس في غَيْرِهَا قال إِلْكِيَا وهو أَقْوَى من الْغَايَةِ وقد نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ فقال وإذا أَسْلَمَ الرَّجُلُ على يَدِ الرَّجُلِ وَوَالَاهُ ثُمَّ مَاتَ لم يَكُنْ له مِيرَاثُهُ من قَبِيلِ قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَهَذَا يَدُلُّ على مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ أَعْتَقَ وَالثَّانِي لَا يَتَحَوَّلُ الْوَلَاءُ عَمَّنْ أَعْتَقَ وَلِهَذَا قال الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أنها في قُوَّةِ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ وَذَهَبَ ابن سُرَيْجٍ وأبو حَامِدٍ وَالْمَرْوَرُوذِيُّ إلَى أَنَّ حُكْمَ ما عَدَا الْإِثْبَاتَ مَوْقُوفٌ على الدَّلِيلِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ من الِاحْتِمَالِ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ أنها في قُوَّةٍ ما وَإِلَّا لَكِنْ اخْتَلَفُوا في أَنَّ الْمَنْفِيَّ فيها بِالْمَنْطُوقِ أو الْمَفْهُومِ على وَجْهَيْنِ قال وَعَلَى هذا فإذا انْتَفَى حُكْمُ الْإِثْبَاتِ عَمَّا عَدَاهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في مُوجِبِ نَفْيِهِ عنه
____________________
(3/134)
أَحَدُهُمَا أَوْجَبَهُ لِسَانُ الْعَرَبِ لُغَةً وَالثَّانِي أَوْجَبَهُ دَلِيلُ الْخِطَابِ شَرْعًا قال وَلَا فَرْقَ في هذا النَّوْعِ بين أَنْ يَقَعَ جَوَابًا أو ابْتِدَاءً بِخِلَافِ ما سَبَقَ في مَفْهُومِ الصِّفَةِ ا هـ وقد قال بِهِ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ إنَّمَا لِتَحْقِيقِ الْمُتَّصِلِ وَتَمْحِيقِ الْمُنْفَصِلِ وَنَقَلَ ابن الْقُشَيْرِيّ عن الْقَاضِي الْقَوْلَ بِهِ بَعْدَ تَرَدُّدِهِ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَفْصِلُ بين قَوْلِك إنَّمَا الرِّبَا في النَّسِيئَةِ وَلَا رِبَا إلَّا في النَّسِيئَةِ وقد سَمَّى أَهْلُ اللُّغَةِ ذلك تَمْحِيقًا وَتَحْقِيقًا وَنَفْيًا وَإِثْبَاتًا قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَلَعَلَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الظَّاهِرَ من هذا اللَّفْظِ اقْتِضَاءُ النَّفْيِ ثُمَّ يَجُوزُ تَرْكُهُ بِدَلِيلٍ فَمَنْ قال بِالْمَفْهُومِ قال هذا نَقِيضُ النَّفْيِ وَمَنْ لم يَقُلْ بِهِ تَرَدَّدَ وَحَكَى الْغَزَالِيُّ عن الْقَاضِي أَنَّهُ ظَاهِرٌ في الْحَصْرِ مُحْتَمَلٌ في التَّأْكِيدِ وَاخْتَارَهُ وقد سَبَقَ في فَصْلِ الْحُرُوفِ في الْكَلَامِ على إنَّمَا بَقِيَّةُ الْمَذَاهِبِ وَفِيهِ ما يَتَعَيَّنُ اسْتِحْضَارُهُ هُنَا الثَّالِثَةُ حَصْرُ الْمُبْتَدَأِ في الْخَبَرِ سَوَاءٌ كان الْخَبَرُ مَقْرُونًا بِاللَّامِ نحو الْعَالِمُ زَيْدٌ أو مُضَافًا نحو صَدِيقِي زَيْدٌ يُفِيدُ حَصْرَ الْمُبْتَدَأِ في الْخَبَرِ عِنْدَ عَدَمِ قَرِينَةِ عَهْدٍ وَمِمَّنْ قال بِإِفَادَتِهِ الْحَصْرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَالْهَرَّاشِيُّ وَغَيْرُهُمْ من الْفُقَهَاءِ وَأَنْكَرَهَا الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَجَمَاعَةٌ من الْمُتَكَلِّمِينَ وَتَبِعَهُمْ الْآمِدِيُّ وَاخْتَلَفَ الْأَوَّلُونَ في أَنَّهُ هل يُفِيدُ الْحَصْرَ بِالْمَنْطُوقِ أو الْمَفْهُومِ فَذَهَبَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَمَنْ تَبِعَهُ إلَى الْأَوَّلِ وَاسْتَدَلَّ في الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ على أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى هو اللَّهُ الْخَالِقُ قال وَهَذَا التَّرْكِيبُ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى الثَّانِي قال الْغَزَالِيُّ وَإِنَّمَا أَفَادَ الْحَصْرَ لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ من الْخَبَر أو مُسَاوِيًا وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ لُغَةً وَعَقْلًا فَلَا يَجُوزُ الْحَيَوَانُ إنْسَانٌ وَلَا الزَّوْجُ عَشَرَةٌ بَلْ الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ وَالْعَشَرَةُ زَوْجٌ وَالْعَرَبُ لم تَتَّبِعْ إلَّا الصِّدْقَ وَالْمُسَاوِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْصُورًا في مُسَاوِيهِ وَالْأَخَصُّ مَحْصُورًا في أَعَمِّهِ وَإِلَّا لم يَكُنْ أَخَصَّ وَلَا مُسَاوِيًا قالوا فَلَوْ لم تَقْتَضِ الْحَصْرَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدَأُ أَعَمَّ من الْخَبَرِ وهو غَيْرُ جَائِزٍ بَيَانُهُ أَنَّا إذَا قُلْنَا الْعَالِمُ زَيْدٌ فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لَيْسَتْ لِلْجِنْسِ قَطْعًا وَلَا لِلْعَهْدِ فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ لِمَاهِيَّةِ الْعَالِمِ وَتِلْكَ الْمَاهِيَّةُ إمَّا أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً في غَيْرِ زَيْدٍ أو لَا فَإِنْ لم تَكُنْ انْحَصَرَتْ الْعَالِمِيَّةُ في زَيْدٍ وهو الْمَطْلُوبُ وَإِنْ كانت مَوْجُودَةً في غَيْرِهِ فَتَكُونُ أَعَمَّ من زَيْدٍ وَزَيْدٌ أَخَصُّ منها
____________________
(3/135)
وقد أَخْبَرْتُمْ عنها فَلَزِمَ الْإِخْبَارُ بِالْأَعَمِّ عن الْأَخَصِّ كما ادَّعَيْنَا قِيلَ وَهَذَا الدَّلِيلُ إنَّمَا يَتِمُّ بِجَعْلِ الْعَالِمِ مُخْبِرًا عنه وَزَيْدٌ مُخْبِرًا بِهِ أَمَّا لو جَعَلَ الْعَالِمَ خَبَرًا مُقَدَّمًا على الْمُخْبَرِ عنه فَحِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بين الْعَالِمُ زَيْدٌ وَزَيْدٌ الْعَالِمُ ثُمَّ نَقُولُ الْعَالِمُ زَيْدٌ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَأَيْضًا لو جَعَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ في الْعَالِمِ لِلْمَعْهُودِ وَهِيَ مَعْنَى الْكَامِلِ وَالْمُشْتَهِرِ في الْعَالِمِيَّةِ فَحِينَئِذٍ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ وَلَا يُفِيدُ الْحَصْرَ هذا إذَا كان الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ مَعْرِفَتَيْنِ وقد خُيِّرْنَا فِيهِمَا أَمَّا إذَا كان الْمُبْتَدَأُ مَعْرِفَةً وَالْخَبَرُ نَكِرَةً نَحْوُ زَيْدٌ قَائِمٌ فَلَا حَصْرَ فيها قَطْعًا فإنه لَا يَنْحَصِرُ زَيْدٌ في الْقِيَامِ قَطْعًا وقال الْعَبْدَرِيُّ ما ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ من أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَدِيقِي زَيْدٌ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ هو جَائِزٌ وَيَكُونُ الْمُبْتَدَأُ لَفْظًا خَاصًّا لَا عَامًّا وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ في هذا الْغَلَطِ كَوْنُ الصَّدَاقَةِ لَفْظًا عَامًّا نعم هو عَامٌّ إذَا انْفَرَدَ فلم يَقَعْ خَبَرًا وَلَا مُبْتَدَأً وَلَا صِفَةً فَيُقَالُ صَدِيقِي يَصْلُحُ لِلْخَبَرِيَّةِ عن وَاحِدٍ وَعَنْ أَكْثَرَ فإذا وُصِفَ بِهِ مَوْصُوفٌ أو أُخْبِرَ بِهِ عن مُبْتَدَأٍ كان مُفْرَدًا إذَا كان الْمُبْتَدَأُ أو الْمَوْصُوفُ مُفْرَدًا فَإِنْ كان الْمُبْتَدَأُ أو الْمَوْصُوفُ مُثَنًّى أو جَمْعًا كان هو كَذَلِكَ وَيَدُلُّ عليه الضَّمَائِرُ الْمُقَدَّرَةُ فيه فَإِنَّمَا تُقَدَّرُ على وَفْقِ من تَعُودُ عليه مِثَالُهُ زَيْدٌ صَدِيقِي هو وَالزَّيْدَانِ صَدِيقِي هُمَا وَالزَّيْدُونَ صَدِيقِي هُمْ وقال ابن الْحَاجِبِ في أَمَالِيهِ زَعَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّك إنْ أَخَّرْت صَدِيقِي كانت الصَّدَاقَةُ غير مَحْصُورَةٍ في زَيْدٍ وَإِنْ قَدَّمْته كانت مَحْصُورَةً فيه وَكَلَامُهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ خَبَرٌ في الْجُمْلَتَيْنِ جميعا وقال غَيْرُهُ هذا الْقَوْلَ وَزَعَمَ أَيَّهُمَا قُدِّمَ فَهُوَ الْمُبْتَدَأُ وقال قَوْمٌ بِاسْتِوَاءِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَوَجَّهَ قَوْمٌ قَوْلَ الْإِمَامِ إنَّ صَدِيقِي مُقْتَضٍ لِلْخَبَرِيَّةِ لِإِفَادَتِهِ النِّسْبَةَ إلَى زَيْدٍ فإذا كان خَبَرًا وَأَخَّرْته لم يَلْزَمْ الْحَصْرُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ أَعَمَّ كَقَوْلِك زَيْدٌ عَالِمٌ فإذا قَدَّمْته مع كَوْنِهِ خَبَرًا فلم تُقَدِّمْهُ إلَّا لِغَرَضٍ وَلَا غَرَضَ إلَّا قَصْدُ الْحَصْرِ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْمَعْرِفَتَيْنِ إذَا اجْتَمَعَا كان أَسْبَقُهُمَا الْمُبْتَدَأَ فإذا قُلْت زَيْدٌ صَدِيقِي فَلَا حَصْرَ لِجَوَازِ عُمُومِ الْخَبَرِ وإذا قُلْت صَدِيقِي زَيْدٌ أَفَادَ الْحَصْرَ لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ صَدِيقِي فَلَوْ قَدَّرْت الْخَبَرَ عَامًّا لم يَسْتَقِمْ فَلَا بُدَّ من مُطَابَقَتِهِ وَأَنْ لَا صَدِيقَ سِوَاهُ قال ابن الْحَاجِبِ وَلَيْسَ الْقَوْلَانِ بِقَوِيَّيْنِ وَالدَّلِيلُ على الْقَوْلِ الثَّالِثِ أَنَّ الْمَعْرِفَتَيْنِ إذَا اجْتَمَعَا فَالْمُقَدَّمُ هو الْمُبْتَدَأُ
____________________
(3/136)
مَذْكُورٌ في مَوْضِعِهِ وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُك صَدِيقِي زَيْدٌ أو زَيْدٌ صَدِيقِي إمَّا أَنْ تُرِيدَ بِالصَّدِيقِ مَعْهُودًا أو عُمُومَ الْأَصْدِقَاءِ فَإِنْ قَصَدَ وَاحِدًا وَقَدَّمَ زَيْدًا أو أَخَّرَهُ فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَإِنْ قَصَدَ عُمُومَ الْأَصْدِقَاءِ وَقَدَّمَ زَيْدًا أو أَخَّرَهُ وَجَبَ الْعُمُومُ فإذا قُلْت صَدِيقِي زَيْدٌ أَيْ إنَّ كُلَّ صَدَاقَةٍ لي مَحْصُورَةٌ في زَيْدٍ أو زَيْدٌ صَدِيقِي فَزَيْدٌ هو الْمُخْبَرُ عنه لَا صَدِيقَ سِوَاهُ وَجَبَ الْحَصْرُ فِيهِمَا جميعا وَلَوْ سَلَّمَ تَعْيِينَ صَدِيقِي لِلْخَبَرِيَّةِ كما قَالَهُ الْإِمَامُ فَالْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ فإنه إنْ أُرِيدَ الْخَاصُّ فَلَا عُمُومَ في التَّقْدِيمِ أو التَّأْخِيرِ أو أُرِيدَ الْمَعْنَى فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ قَدَّمَ أو أَخَّرَ وَإِنَّمَا فُهِمَ التَّغَايُرُ لِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ الْعَالِمُ زَيْدٌ وَلَيْسَ هو نَظِيرَهُ وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا في الْمُبْتَدَأِ إذَا كان مَعْرِفَةً وَالْخَبَرُ نَكِرَةً هل يُفِيدُ الْحَصْرَ فَقِيلَ لَا يُفِيدُ أَصْلًا وَاحْتَجَّ له بِقَوْلِهِ الصِّيَامُ جُنَّةٌ فإنه لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ كَذَلِكَ وقد ثَبَتَ قَوْلُهُ فَلْيَتَّقِ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ وَقِيلَ يُفِيدُهُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا هل يُفِيدُهُ من جِهَةِ الْمَنْطُوقِ أو الْمَفْهُومِ على قَوْلَيْنِ فَقِيلَ إنَّهُ بِالْمَفْهُومِ وَنَقَلَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ عن الْحَنَفِيَّةِ قال وَلِهَذَا لم يَقْبَلُوهُ قال وَعِنْدَنَا أَنَّهُ ليس من قَبِيلِ الْمَفْهُومِ الْمُتَلَقَّى من تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ وَمَنْ قال زَيْدٌ صَدِيقِي لم يَتَضَمَّنْ نَفْيَ الصَّدَاقَةِ عن غَيْرِهِ فَلَوْ قال صَدِيقِي زَيْدٌ اقْتَضَاهُ قال وَلَا يَبْعُدُ ادِّعَاءُ إجْمَاعِ أَهْلِ اللِّسَانِ عليه لِأَنَّهُ غَيَّرَ نَظْمَ الْكَلَامِ فَدَلَّ على قَصْدِ الِاهْتِمَامِ وَحَصْرِ الصَّدَاقَةِ فيه وهو تَابِعٌ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَكَذَلِكَ اخْتَارَ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ مَنْطُوقٌ وَجَعَلَهُ دُونَ إنَّمَا في الْقُوَّةِ وَكَذَلِكَ إِلْكِيَا وقال إنَّ تَلَقِّي الْحَصْرِ فيه مَأْخُوذٌ من حَيْثُ اللَّفْظُ فَجَعَلَ جِنْسَ التَّحْرِيمِ مَحْصُورًا في الْمُسْكِرِ وَالصَّدَاقَةُ مُبْتَدَأً وَالْمُبْتَدَأُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِلْمُخَاطَبِ وَضْعًا وَالصَّدَاقَةُ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِصَرْفِهَا إلَى الْجِنْسِ فَكَأَنَّهُ قال جِنْسُ الصَّدَاقَةِ مَحْصُورٌ في زَيْدٍ وَلَوْ قال زَيْدٌ صَدِيقِي لَا يُفْهَمُ منه أَنَّهُ لَا صَدِيقَ سِوَاهُ لِأَنَّهُ جَعَلَ الصَّدَاقَةَ خَبَرًا ولم يَجْعَلْهَا مُبْتَدَأً فلم يَعْرِفْهُ الْمُخَاطَبُ قال وَيُتَلَقَّى الْحَصْرُ من فَحَوَى اللَّفْظِ وَنَظْمِ الْكَلَامِ قال وَلِهَذَا قال إنَّ تَلَقِّي الْمَفْهُومِ من الْفَحْوَى لَا يَسْقُطُ
____________________
(3/137)
لِظُهُورِ فَائِدَةِ التَّخْصِيصِ من جِهَةِ مُوَافَقَةِ الْعَادَةِ أو السُّؤَالِ حتى يَجُوزَ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ في نَفْيِ الْحُكْمِ حَالَةَ الْمُصَافَاةِ قال فَيَرْجِعُ حَاصِلُ نَظَرِ الْإِمَامَ إلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَدُلُّ على الْمُخَالَفَةِ في هذه الصُّورَةِ وَغَيْرِهَا وَلَكِنَّ حُكْمَ الْمُخَالَفَةِ يُتَلَقَّى من الْفَحْوَى فَهُوَ يَدُلُّ بِالْمَنْطُوقِ لَا بِالْمَفْهُومِ ا هـ مَسْأَلَةٌ هذه صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ في اللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ أَمَّا التي لِلتَّعْرِيفِ أَيْ لِلْعَهْدِ فَلَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الذَّخَائِرِ من الْفُقَهَاءِ قال في بَابِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ في الْكَلَامِ على زَوَائِدِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ وَقَبْلَهُ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ فَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي أنها لِلْبَائِعِ فِيمَا قبل الْقَبْضِ لِأَنَّهُ من ضَمَانِ الْبَائِعِ فَأَجَابَ لِلْمَذْهَبِ أَنَّ هذه الْأَلِفَ وَاللَّامَ في الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ لِلتَّعْرِيفِ فَكَأَنَّهُ قال الْخَرَاجُ في مُقَابَلَةِ مِثْلِ هذا بِالضَّمَانِ وَدَلَّ على هذا التَّقْيِيدِ قِيَامُ الدَّلِيلِ من خَارِجِ أَنَّ ضَمَانَ الْغَاصِبِ وَالْمَقْبُوضِ عن فَسْخِ الْبَيْعِ وَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ الضَّمَانُ فيها وَلَا خَرَاجَ لِلضَّامِنِ بِالضَّمَانِ وقد كانت قِصَّةُ الحديث في بَيْعٍ وُجِدَ فيه الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْخَرَاجِ بِمِلْكٍ أو نَحْوِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ ضَمَانًا إذْ لَا حَصْرَ إلَّا في اللَّقَبِ وَاللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ هذا كَلَامُهُ مَسْأَلَةٌ إفَادَةُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ بين الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ الْحَصْرَ الْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ بين الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ نَحْوُ زَيْدٌ هو الْعَالِمُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى فَاَللَّهُ هو الْوَلِيُّ إنَّ شَانِئَكَ هو الْأَبْتَرُ ذَكَرَهُ الْبَيَانِيُّونَ وقال ابن الْحَاجِبِ في أَمَالِيهِ صَارَ إلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مِثْلُ قَوْله تَعَالَى وَإِنَّ جُنْدَنَا لهم الْغَالِبُونَ فإنه لم يُسَقْ إلَّا لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهُمْ الْغَالِبُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ إنَّ اللَّهَ هو الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
____________________
(3/138)
وَالثَّانِي أَنَّهُ لم يُوضَعْ إلَّا لِلْفَائِدَةِ وَلَا فَائِدَةَ في مِثْلِ قَوْلِهِ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ سِوَى الْحَصْرِ مَسْأَلَةٌ تَقْدِيمُ الْمَعْمُولَاتِ على عَوَامِلِهَا تَقْدِيمُ الْمَعْمُولَاتِ على عَوَامِلِهَا نَحْوُ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ وقد صَرَّحَ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَغَيْرُهُ بِدَلَالَتِهِ على الْحَصْرِ قال بَعْضُهُمْ وَلَا خِلَافَ في إفَادَةِ هذا الْحَصْرِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ من جِهَةِ الْمَفْهُومِ لَا الْمَنْطُوقِ وَذَكَرَهُ الْبَيَانِيُّونَ أَيْضًا وَرَدَّهُ ابن الْحَاجِبِ في شَرْحِ الْمُفَصَّلِ وَالشَّيْخُ أبو حَيَّانَ وقال الذي نَصَّ عليه أَنَّ التَّقْدِيمَ لِلِاهْتِمَامِ وَالْعِنَايَةِ فقال كَأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الذي شَأْنُهُ أَهَمُّ وَهُمْ بِبَيَانِهِ أَعَنَى وَإِنْ كَانَا جميعا مُهْتَمًّا بِهِمَا أو بِعِنَايَتِهِمَا ا هـ وَهَذَا إنَّمَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ في بَابِ الْفَاعِلِ الذي يَتَعَدَّاهُ فِعْلُهُ إلَى مَفْعُولٍ قال وَذَلِكَ قَوْلُك ضَرَبَ زَيْدًا عبد اللَّهِ ثُمَّ قال وَكَأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ إلَى آخِرِهِ وَلَيْسَ هذا مَحَلُّ النِّزَاعِ لِأَنَّ الْكَلَامَ في تَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ على الْعَامِلِ لَا في تَقْدِيمِهِ على الْفَاعِلِ وَذَكَرَهُ في بَابِ ما يَكُونُ فيه الِاسْمُ مَبْنِيًّا على الْفِعْلِ قال وَذَلِكَ قَوْلُك زَيْدًا ضَرَبْت فَالِاهْتِمَامُ وَالْعِنَايَةُ هُنَا في التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ سَوَاءٌ مِثْلُهُ في ضَرَبَ زَيْدٌ عُمْرًا وَضَرَبَ زَيْدًا عَمْرٌو فَهَذَا وَإِنْ كان مَحَلُّ النِّزَاعِ فَلَا حُجَّةَ فيه لِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ من الْجِهَةِ التي شَابَهُ بها تَقْدِيمَ الْفَاعِلِ على الْمَفْعُولِ أو الْعَكْسِ في الْمِثَالَيْنِ وَلَيْسَ فيه من هذه الْجِهَةِ إلَّا الِاهْتِمَامُ وَلَا يَبْقَى ذلك الذي اخْتَصَّ بها إذَا تَقَدَّمَ على الْعَامِلِ وَهِيَ الْحَصْرُ وَالْحَقُّ أَنَّ التَّقْدِيمَ يُفِيدُ الِاهْتِمَامَ وقد يُفِيدُ مع ذلك الِاخْتِصَاصَ بِقَرَائِنَ وهو الْغَالِبُ وقد اجْتَمَعَ الِاخْتِصَاصُ وَعَدَمُهُ في آيَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى أَغْيَر اللَّهِ تَدْعُونَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إيَّاهُ تَدْعُونَ فإن التَّقْدِيمَ في الْأُولَى قَطْعًا لِلِاخْتِصَاصِ وفي إيَّاهُ قَطْعًا لِلِاخْتِصَاصِ وَاَلَّذِي عليه مُحَقِّقُو الْبَيَانِيِّينَ أَنَّ ذلك غَالِبٌ لَا لَازِمٌ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى كُلًّا هَدْينَا وَنُوحًا هَدَيْنَا من قَبْلُ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ إنْ جَعَلْنَا ما بَعْدَ الظَّرْفِ مُبْتَدَأً
____________________
(3/139)
وقد رَدَّ صَاحِبُ الْفَلَكِ الدَّائِرِ الْقَاعِدَةَ بِالْآيَةِ الْأُولَى قِيلَ وَرَدَّ ابن الْحَاجِبِ في شَرْحِ الْمُفَصَّلِ الْقَاعِدَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ مع قَوْلِهِ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا فَدَلَّ على أَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ سَوَاءٌ وَهَذَا فيه نَظَرٌ بَلْ ذلك يَدُلُّ على عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ فإنه حَيْثُ أَخَّرَ الْمَعْمُولَ أتى بِمَا يَنُوبُ عن التَّقْدِيمِ وهو قَوْلُهُ مُخْلِصًا وَلَوْ لم يَذْكُرْهُ مع التَّقْدِيمِ دَلَّ على إفَادَتِهِ الِاخْتِصَاصَ وَالْحَصْرَ وَلَعَلَّ ابْنَ الْحَاجِبِ أَرَادَ الْآيَةَ الْأُخْرَى وَهِيَ قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا له دِينِي فَقَدْ ذَكَرَ مُخْلِصًا فِيهِمَا مع اخْتِلَافِهِمَا بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وقال ابن أبي الْحَدِيدِ في الْفَلَكِ الدَّائِرِ الْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ على الِاخْتِصَاصِ إلَّا بِالْقَرَائِنِ وَإِلَّا فَقَدْ كَثُرَ في الْقُرْآنِ التَّصْرِيحُ بِهِ مع عَدَمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَجَعَلْنَا في الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَلَا يَدُلُّ على أَنَّ غير الرَّوَاسِي لم يَجْعَلْهُ في الْأَرْضِ وَقَوْلِهِ إنَّ لك أَلَّا تَجُوعَ فيها وَلَا تَعْرَى ولم يَكُنْ ذلك مُخْتَصًّا بِهِ فَقَدْ كانت حَوَّاءُ كَذَلِكَ وَقَوْلِهِ إذْ نَفَشَتْ فيه غَنَمُ الْقَوْمِ وَلَا يَدُلُّ على أنها ما نَفَشَتْ إلَّا فيه لِأَنَّ النَّفْشَ انْتِشَارُ الْغَنَمِ من غَيْرِ رَاعٍ سَوَاءٌ كان في حَرْثٍ أو غَيْرِهِ وقال تَعَالَى وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فُقِدَ الظَّرْفُ وَلَا يَدُلُّ على أَنَّهُ لم يَشْهَدْ إلَّا حُكْمَهُمْ وقال وَوَهَبْنَا له يحيى وَأَصْلَحْنَا له زَوْجَهُ وَلَا يَدُلُّ على أَنَّهُ لم يُصْلِحْ زَوْجَةَ أَحَدٍ غَيْرِهِ قال وفي الْكِتَابِ أَلْفُ آيَةٍ مِثْلُ هذه تُبْطِلُ الِاخْتِصَاصَ وَالْحَصْرَ قال وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقَرِينَةَ تَدُلُّ على الِاخْتِصَاصِ لَا بِمُجَرَّدِ الصِّيغَةِ ا هـ وَأَنْتَ إذَا عَرَفْت قَيْدَ الْعِلَّةِ سَهُلَ الْأَمْرُ نعم له شَرْطَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمَعْمُولُ مُقَدَّمًا على الْوَضْعِ فإنه لَا يُسَمَّى مُقَدَّمًا حَقِيقَةً كَأَسْمَاءِ الِاسْتِفْهَامِ وَالْمُبْتَدَأِ عِنْدَ من يَجْعَلُهُ مَعْمُولًا لِخَبَرِهِ وَالثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ التَّقْدِيمُ لِمَصْلَحَةِ التَّرْكِيبِ مِثْلُ وَأَمَّا ثَمُودَ فَهَدَيْنَاهُمْ على قِرَاءَةِ النَّصْبِ وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْبَيَانِيِّينَ أَنَّ الِاخْتِصَاصَ وَالْحَصْرَ وَالْقَصْرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ من الْحَصْرِ تَقْدِيمَ الْخَبَرِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ مُقَيِّدٌ لِلِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ وَحَكَى ابن الْحَاجِبِ عن إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ على أَنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ حُجَّةٌ بِأَنَّهُ لو لم يُفِدْ الْحَصْرَ لم يُفِدْ الِاخْتِصَاصَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَاهُ
____________________
(3/140)
وَخَالَفَهُمْ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ إعْطَاءُ الْحُكْمِ لِشَيْءٍ وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَاهُ فَهُوَ مَسْكُوتٌ عنه وَالْحَصْرُ إعْطَاءُ الْحُكْمِ له وَالتَّعَرُّضُ لِنَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ فَفِي الِاخْتِصَاصِ قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وفي الْحَصْرِ قَضِيَّتَانِ فإذا قُلْت لَا قَائِمَ إلَّا زَيْدٌ فَفِيهِ إثْبَاتُ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ وَنَفْيُهُ عَمَّا عَدَاهُ وَهَلْ ذلك بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ أو الْمَفْهُومِ خِلَافٌ يَنْبَنِي عليه ما إذَا قُلْت بَعْدَهُ وَعَمْرٌو وَهَلْ هو نَسْخٌ أو تَخْصِيصٌ فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْطُوقِ فَهُوَ نَسْخٌ وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَفْهُومِ فَتَخْصِيصٌ قال وَيَدُلُّ على أَنَّ الْحَصْرَ غَيْرُ الِاخْتِصَاصِ قَوْله تَعَالَى يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ من يَشَاءُ فإنه لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يَقْصُرُ رَحْمَتَهُ على من يَشَاءُ لِأَنَّهَا لَا تُقْصَرُ وَلَا تَخْتَصُّ بها لِأَنَّهَا لَا تُخْتَصُّ بَلْ مَدْلُولُ الْآيَةِ أَنَّهُ يَرْحَمُ من يَشَاءُ وَغَيْرُهُمْ يُعْرِضُ عنه تَنْبِيهٌ يَدْخُلُ في هذا الْقِسْمِ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ فإن الْخَبَرَ مَعْمُولٌ لِلْمُبْتَدَأِ على الصَّحِيحِ مَسْأَلَةٌ في إفَادَةِ لَامِ التَّعْرِيفِ في الْخَبَرِ الْحَصْرَ لَامُ التَّعْرِيفِ في الْخَبَرِ نَحْوُ زَيْدٌ الْمُنْطَلِقُ ذَكَرَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ في نِهَايَةِ الْإِعْجَازِ وهو مُقْتَضٍ حَصْرَ الْخَبَرِ في الْمُبْتَدَإِ عَكْسَ الْحَصْرِ في الْمُبْتَدَإِ فإن الْأَوَّلَ يَكُونُ مَحْصُورًا في الثَّانِي فإذا قُلْت الصَّدِيقُ هو الْخَلِيفَةُ وَزَيْدٌ هو الْمُحَدِّثُ أَيْ لَا يَتَكَلَّمُ فيها غَيْرُهُ وَاللَّازِمُ ثُبُوتُهُ في هذه الْمَفْهُومَاتِ هو النَّقِيضُ لَا الْحَصْرُ وَلَا الْخِلَافُ وقال أبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ قد ذَكَرَ شَيْخُنَا أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ أَنَّ لِلْحَصْرِ أَرْبَعَةَ أَلْفَاظٍ إنَّمَا وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ نَحْوُ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلَفْظُ ذلك كَقَوْلِهِ تَعَالَى ذلك لِمَنْ لم يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْإِضَافَةُ كَقَوْلِهِ تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ قال أبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ
____________________
(3/141)
وَاَلَّذِي يَصِحُّ عِنْدِي من ذلك لَفْظَةُ إنَّمَا قال وقد وَرَدَ لِمَالِكٍ ما يَقْتَضِي أَنَّ لَامَ كَيْ عِنْدَهُ من حُرُوفِ الْحَصْرِ وَذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ على الْمَنْعِ من أَكْلِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ بِقَوْلِهِ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً مَسْأَلَةُ التَّعْلِيلِ بِالْمُنَاسَبَةِ قال الشَّيْخُ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ الْخِلَافِيُّونَ من الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُونَ التَّعْلِيلُ بِالْمُنَاسَبَةِ يَقْتَضِي الْحَصْرَ لِأَنَّ قَوْلَنَا افْعَلْ كَذَا لِكَذَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ فَلَعَلَّهُ لِكَذَا في الْعُرْفِ وَالِاسْتِعْمَالِ فإذا قال أَعْطَيْت هذا لِفَقْرِهِ لم يَحْسُنْ أَنْ يَقُولَ أَعْطَيْته لِعِلْمِهِ
____________________
(3/142)
كتاب النسخ
____________________
(3/143)
كِتَابُ النَّسْخِ وَالنَّظَرُ فيه بِحَسَبِ اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ أَمَّا في اللُّغَةِ فَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْإِبْطَالَ وَالْإِزَالَةَ وَمِنْهُ نَسَخَتْ الشَّمْسُ الظِّلَّ وَالرِّيحُ آثَارَ الْقَدَمِ وَمِنْهُ تَنَاسُخُ الْقُرُونِ وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْعَسْكَرِيُّ وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ بَعْدَ الثُّبُوتِ وَمِنْهُ نَسَخْتُ الْكِتَابَ أَيْ نَقَلْته وهو الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّا كنا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَمِنْهُ تَنَاسُخُ الْأَرْوَاحِ وَالْمَوَارِيثِ وَسُمِّيَ قَوْمٌ من الْمُبْتَدِعَةِ الْمُتَنَاسِخَةَ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْأَرْوَاحَ تَنْتَقِلُ من هَيْكَلٍ إلَى هَيْكَلٍ وَمِنْ قَالِبٍ إلَى قَالِبٍ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ كما قَالَهُ الْهِنْدِيُّ إلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ في الْإِزَالَةِ مَجَازٌ في النَّقْلِ وَعَلَيْهِ أبو الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ وَالرَّازِيَّ وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ عن عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وَذَهَبَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ إلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ في النَّقْلِ وَذَهَبَ أبو بَكْرٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْغَزَالِيُّ إلَى أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا لَفْظًا لِاسْتِعْمَالِهِ فِيهِمَا وَذَهَبَ ابن الْمُنِيرِ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ إلَى أَنَّهُ بِالِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ وهو التَّوَاطُؤُ لِأَنَّ بين نَسْخِ الشَّمْسِ الظِّلَّ وَنَسْخِ الْكِتَابِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وهو الرَّفْعُ وهو في نَسْخِ الظِّلِّ بَيِّنٌ لِأَنَّهُ زَالَ بِضِدِّهِ وفي نَسْخِ الْكِتَابِ مُقَدَّرٌ من حَيْثُ إنَّ الْكَلَامَ الْمَنْقُولَ بِالْكِتَابَةِ لم يَكُنْ مُسْتَفَادًا إلَّا من الْأَصْلِ فَكَانَ لِلْأَصْلِ بِالْإِفَادَةِ خُصُوصِيَّةٌ فإذا نَسَخْتُ الْأَصْلَ ارْتَفَعَتْ تِلْكَ الْخُصُوصِيَّةُ وَارْتِفَاعُ الْأَصْلِ وَالْخُصُوصِيَّةِ سَوَاءٌ في مُسَمَّى الرَّفْعِ وَقِيلَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا هو التَّغْيِيرُ وقد صَرَّحَ بِهِ الْجَوْهَرِيُّ وَنَبَّهَ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ على أَنَّ نَسَخْت الْكِتَابَ ليس من بَابِ النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ لم يَنْتَقِلْ على الْحَقِيقَةِ بَلْ يُشْبِهُ الْمَنْقُولَ ثُمَّ قِيلَ الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ وقال ابن بَرْهَانٍ بَلْ مَعْنَوِيٌّ يُبْنَى عليه جَوَازُ النَّسْخِ بِلَا بَدَلٍ فَمَنْ قال حَقِيقَةٌ في الْإِزَالَةِ مَجَازٌ في النَّقْلِ جَوَّزَهُ وَمَنْ قال حَقِيقَةٌ فِيهِمَا مَنَعَهُ وقال أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ فَأَمَّا اسْتِعْمَالُ النَّسْخِ في الشَّرْعِ فقال أبو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيُّ هو مَنْقُولٌ إلَى مَعْنًى في الشَّرْعِ وَلَا يَجْرِي عليه على سَبِيلِ التَّشْبِيهِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِأَنَّهُ يُفِيدُ في الشَّرْعِ مَعْنًى مُمَيَّزًا يَجْرِي مَجْرَى اسْمِ الصَّلَاةِ وقال الشَّيْخُ أبو هَاشِمٍ إنَّهُ يُفِيدُ مَعْنًى في الشَّرْعِ على طَرِيقِ التَّشْبِيهِ بِاللُّغَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ يُفِيدُ إزَالَةَ مِثْلِ
____________________
(3/144)
الْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ كما يُفِيدُ في اللُّغَةِ الْإِزَالَةَ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ قَصَرَهُ على إزَالَةِ مِثْلِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ على وَجْهٍ مَخْصُوصٍ يَجْرِي مَجْرَى قَوْلِنَا دَابَّةٌ في أَنَّهُ غَيْرُ مَنْقُولٍ لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِبَعْضِ ما يَدِبُّ ا هـ قال ابن الصَّبَّاغِ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّهُ مَنْقُولٌ من اللُّغَةِ إلَى الشَّرْعِ كما نُقِلَ اسْمُ الصَّلَاةِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ في الشَّرْعِ بِرَفْعِ مِثْلِ الْحُكْمِ وَإِنْ كان الرَّفْعُ عَامًّا كما خُصِّصَتْ الدَّابَّةُ بِالِاسْمِ وَإِنْ كان غَيْرُهَا يَدِبُّ عليها وَأَمَّا في الِاصْطِلَاحِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ في حَدِّهِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ رَفْعُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِخِطَابٍ وَالْمُرَادُ بِالْحُكْمِ ما يَحْصُلُ على الْمُكَلَّفِ بَعْدَ أَنْ لم يَكُنْ فَلَا يَرِدُ أَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَرْفَعُ وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى التَّعَلُّقِ وهو حَادِثٌ وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ نَفْسُهُ ليس بِحُكْمٍ وَالْمُرَادُ ارْتِفَاعُ دَوَامِ الْحُكْمِ بِمَعْنَى تَكَرُّرِهِ لَا ارْتِفَاعُ الْحُكْمِ الذي هو الْخِطَابُ لِأَنَّ ما ثَبَتَ قِدَمُهُ اسْتَحَالَ عَدَمُهُ وَتَقْيِيدُهُ بِالشَّرْعِيِّ يُخْرِجُ الْعَقْلِيَّ كَالْمُبَاحِ الثَّابِتِ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ فإنه لو حَرَّمَ فَرْدًا من تِلْكَ الْأَفْرَادِ لم يُسَمَّ نَسْخًا وَقُلْنَا بِخِطَابٍ لِيَعُمَّ وُجُوهَ الْأَدِلَّةِ وَلْيَخْرُجْ الْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ النَّسْخُ فِيهِمَا وَلَا بِهِمَا وَلْيَخْرُجْ ارْتِفَاعُهُ بِالْمَوْتِ وَنَحْوِهِ فإنه لَا يُسَمَّى نَسْخًا وَكَمَنْ سَقَطَ رِجْلَاهُ فإنه لَا يُقَالُ نُسِخَ عنه غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ وما قَالَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ في الْمَحْصُولِ من أَنَّهُ نَسْخٌ ضَعِيفٌ وَمِنْهُمْ من زَادَ قَيْدَ التَّرَاخِي لِيَخْرُجَ الْمُتَّصِلُ بِالْحُكْمِ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِغَايَةِ الْحُكْمِ وَلَا يُسَمَّى نَسْخًا لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْكَلَامِ قد مَنَعَ أَوَّلَهُ وَقَوْلُنَا رَفْعُ حُكْمٍ يُغْنِي عن هذا الْقَيْدِ إذْ ليس من ذلك رَفْعُ الْحُكْمِ لِأَنَّ الرَّفْعَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الثُّبُوتِ وَلَيْسَ شَيْءٌ منها ثُبُوتَ الْحُكْمِ لِأَنَّهَا تَخْصِيصَاتٌ وهو يُبَيِّنُ أَنَّهُ غير مُرَادٍ وَقَوْلُنَا بِخِطَابٍ أَيْ بِحَيْثُ لو لم يُرِدْ الثَّانِي لَكَانَ حُكْمُ الْأَوَّلِ بَاقِيًا وما ذَكَرْنَاهُ من كَوْنِ النَّسْخِ رَفْعًا هو مُخْتَارُ الصَّيْرَفِيِّ وَالْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَالشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ وَالْغَزَالِيِّ وَالْآمِدِيَّ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَابْنِ الْإِبْيَارِيِّ وهو الْمُخْتَارُ وقد أَنْكَرَهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ بِنَاءً على أَنَّ الْحُكْمَ رَاجِعٌ إلَى كَلَامِ اللَّهِ وهو قَدِيمٌ وَالْقَدِيمُ لَا يُرْفَعُ وَلَا يُزَالُ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَرْفُوعَ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ النِّسْبِيِّ لَا ذَاتُهُ وَلَا تَعَلُّقُهُ الذَّاتِيُّ وقال بَعْضُ شَارِحِي الْبُرْهَانِ الْحَقُّ ما ذَكَرَهُ الْقَاضِي من أَنَّهُ الرَّفْعُ وَلَا يَلْزَمُهُ ما أَلْزَمَهُ الْإِمَامُ من التَّنَاقُضِ في التَّعَلُّقِ فإن الْقَاضِيَ بَنَى على أَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا
____________________
(3/145)
أَنَّ الْأَمْرَ يُفَارِقُ الْإِرَادَةَ وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ يَتَعَلَّقُ بِمُتَعَلِّقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ على الِاتِّحَادِ في نَفْسِهِ وَالِاخْتِلَافُ رَاجِعٌ إلَى التَّعَلُّقِ فَالْأَمْرُ عِبَارَةٌ عن الطَّلَبِ الْقَائِمِ بِذَاتِ الْبَارِّي سُبْحَانَهُ فَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَطْلُوبِ على الدَّوَامِ قَطْعًا وَتَكُونُ الْإِرَادَةُ غير ذلك وقد يَتَعَلَّقُ بِالْمَطْلُوبِ نَفْسِهِ في بَعْضِ الْأَزْمَانِ وَيَكُونُ هذا التَّعَلُّقُ بَيَانًا لِلْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ أَنَّهُ لم يُرَدْ الدَّوَامُ وَإِنَّمَا أُرِيدَ بَعْضُ الْأَزْمِنَةِ ولم يَتَعَلَّقْ الْعِلْمُ بِالدَّوَامِ وَلَا تَنَاقُضَ في تَعَلُّقِ الطَّلَبِ بِمُتَعَلِّقٍ وَاحِدٍ على صِفَتَيْنِ في وَقْتَيْنِ مَطْلُوبًا على التَّأْبِيدِ في الْوَقْتِ وفي بَعْضِ الْأَزْمَانِ في وَقْتٍ آخَرَ لم يَخْتَلِفْ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ التَّعَلُّقُ وَالزَّمَانُ وَإِنَّمَا يَسْتَحِيلُ هذا أَنْ لو كان الْمُخَاطَبُ يَفْهَمُ في وَقْتٍ وَاحِدٍ وَلَا اسْتِحَالَةَ في وَقْتَيْنِ فَيَرْجِعُ حَاصِلُ النَّسْخِ إلَى بَيَانِ الْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ وَحَدَّهُ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ الْخِطَابُ الدَّالُّ على انْتِهَاءِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مع التَّأْخِيرِ عن مَوْرِدِهِ وَأَلْزَمُوا عليه كَوْنَ النَّسْخِ من بَابِ التَّخْصِيصِ فَيَصِحُّ أَنْ يَنْسَخَ بِمَا بِهِ يُخَصِّصُ فَيَنْسَخُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَبِالْإِجْمَاعِ وهو لَا يَجُوزُ وَإِلَى كَوْنِهِ بَيَانًا ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَسُلَيْمٌ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَغَيْرُهُمْ وَحَكَاهُ في الْمَعَالِمِ عن أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَاخْتَارَهُ الْقَرَافِيُّ وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ النَّسْخَ تَخْصِيصًا وَبَيَانًا أَيْ أَنَّ الْخِطَابَ الثَّانِي بَيَّنَ أَنَّ الْأَزْمِنَةَ بَعْدَهُ لم يَكُنْ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فيها مُرَادًا من الْخِطَابِ الْأَوَّلِ كما أَنَّ التَّخْصِيصَ في الْأَعْيَانِ كَذَلِكَ وَأَوْرَدُوا على من حَدَّهُ بِالرَّفْعِ بِأَنَّ الرَّافِعَ الْحَادِثَ إنْ وُجِدَ حَالَ وُجُودِ الْأَوَّلِ لم يُنَافِهِ وَإِنْ وُجِدَ حَالَ عَدَمِهِ لم يَعْدَمْهُ لِامْتِنَاعِ إعْدَامِ الْمَعْدُومِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الرَّفْعَ كَالْكَسْرِ وَالِارْتِفَاعَ كَالِانْكِسَارِ وَلِذَلِكَ يَجْعَلُونَ الرَّفْعَ كَفَسْخِ الْعُقُودِ وَقَالُوا أَيْضًا إنَّمَا عَدَلْنَا إلَى الْبَيَانِ احْتِرَازًا عن تَعَارُضِ الرَّافِعِ وَالدَّافِعِ وَالرَّفْعُ ليس أَوْلَى من الدَّفْعِ وَهَذَا منهم بِنَاءً على أَنَّ الرَّفْعَ وَالدَّفْعَ من مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْأَلْفَاظُ دَلَائِلُ على إرَادَةِ الشَّارِعِ وَالشَّارِعُ له الْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالثَّانِي أَيْضًا بِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ إمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِدَوَامِ الْحُكْمِ أَبَدًا أو إلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ الرَّفْعُ أَمَّا إذَا تَعَلَّقَ بِالدَّوَامِ فَلِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ رَفْعُهُ لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ خِلَافِ مَعْلُومِهِ وَأَمَّا على التَّقْدِيرِ الثَّانِي وهو أَنْ يُعْلَمَ انْتِهَاؤُهُ إلَى
____________________
(3/146)
الْوَقْتِ وإذا كان الِانْتِهَاءُ وَاجِبًا في ذلك لم يَحْصُلْ الرَّفْعُ الثَّانِي لِأَنَّهُ قد وَجَبَ ارْتِفَاعُهُ وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا تَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِالِانْتِهَاءِ في ذلك الْوَقْتِ يَمْتَنِعُ الرَّفْعُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ تَعَلَّقَ بِالِانْتِهَاءِ في ذلك الْوَقْتِ بِالْحَادِثِ فإن الْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ على ما هو بِهِ وَتَحْرِيرُ هذا الْخِلَافِ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا على أَنَّ الْحُكْمَ السَّابِقَ له انْعِدَامٌ وَتَحَقَّقَ انْعِدَامُهُ لِانْعِدَامِ مُتَعَلَّقِهِ لَا لِانْعِدَامِ ذَاتِ الْحُكْمِ وَاتَّفَقُوا على أَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَأَخِّرَ اللَّاحِقَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُنَافِيًا لِلْأَوَّلِ وَأَنَّ عِنْدَهُ يَتَحَقَّقُ عَدَمُ الْأَوَّلِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا في عَدَمِ الْأَوَّلِ هل هو مُضَافٌ إلَى وُجُودِ الْحُكْمِ الْمُتَأَخِّرِ فَيُقَالُ إنَّمَا ارْتَفَعَ الْأَوَّلُ لِوُجُودِ الْمُتَأَخِّرِ اللَّاحِقِ أو لَا يُضَافُ إلَيْهِ بَلْ يُقَالُ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ انْتَهَى لِأَنَّهُ كان في نَفْسِ الْأَمْرِ مُغَيًّا إلَى غَايَةٍ مَعْلُومَةٍ لِلَّهِ وقد عَلِمْنَاهَا بِالْحُكْمِ اللَّاحِقِ الْمُتَأَخِّرِ فَإِذْنُ النِّزَاعِ في اسْتِنَادِ عَدَمِ السَّابِقِ إلَى وُجُودِ اللَّاحِقِ فَالْأُسْتَاذُ يقول الْحُكْمُ في نَفْسِ الْأَمْرِ لم يَكُنْ له صَلَاحِيَّةُ الدَّوَامِ لِكَوْنِهِ مُغَيًّا إلَى غَايَةٍ مَعْلُومَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا نَعْرِفُهَا إلَّا بَعْدَ وُرُودِ النَّاسِخِ فَيَكُونُ النَّسْخُ بَيَانًا وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ وَهْمُ من قال إنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ وَقَدَّرَ ابن الْمُنِيرِ كَوْنَهُ لَفْظًا بِأَنَّ الْفُقَهَاءَ يُثْبِتُونَ رَفْعًا مع الْبَيَانِ وَالْأُصُولِيُّونَ يُثْبِتُونَ بَيَانًا مع الرَّفْعِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ لَا يُنَازِعُونَ في أَنَّ الْحُكْمَ الْمَنْسُوخَ كان قبل النَّسْخِ ثَابِتًا وهو بَعْدَ النَّسْخِ غَيْرُ ثَابِتٍ وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا رَفْعًا يُنَاقِضُ الْإِثْبَاتَ وَيُجَامِعُهُ وَالْأُصُولِيُّونَ لَا يُنَازِعُونَ في أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ كَانُوا على ظَنٍّ بِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يُنْسَخُ بِنَاءً على أَنَّ الْغَالِبَ في الْأَحْكَامِ الْقَرَارُ وَعَدَمُ النَّسْخِ ثُمَّ بِالنَّسْخِ تَبَيَّنَ لهم أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ من الْأَوَّلِ نَسْخَهُ في الزَّمَانِ الْمَخْصُوصِ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ قَدِيمَةٌ لَا بُدَّ منها اتِّفَاقًا فَلَا يَبْقَى لِلْخِلَافِ مَحَطٌّ وَقَوْلُ ابْنِ الْحَاجِبِ إنَّ انْتِهَاءَ غَايَةِ الْحُكْمِ يُنَافِي بَقَاءَهُ وَلَا نَعْنِي بِالرَّفْعِ إلَّا ذلك مَرْدُودٌ فإن هذا ليس بِرَافِعٍ وَمِنْهُمْ من جَعَلَ الْخِلَافَ هُنَا مَبْنِيًّا على اخْتِلَافِ الْمُتَكَلِّمِينَ في أَنَّ زَوَالَ الْأَعْرَاضِ بِالذَّاتِ أو بِالضِّدِّ فَمَنْ قال بِبَقَائِهَا قال إنَّمَا يَنْعَدِمُ الضِّدُّ الْمُتَقَدِّمُ لِطَرَيَانِ الطَّارِئِ وَلَوْلَاهُ لَبَقِيَ وَمَنْ لم يَقُلْ بِبَقَائِهَا قال إنَّهُ يَنْعَدِمُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ يَحْدُثُ الضِّدُّ الطَّارِئُ وَلَيْسَ له تَأْثِيرٌ في إعْدَامِ الضِّدِّ الْأَوَّلِ وقال إِلْكِيَا زَعَمَ الْقَاضِي أَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا جَعَلْنَا النَّصَّ الْأَوَّلَ مُوجِبًا حَقِيقَةً تَامًّا وَالْمُوجِبُ هو اللَّهُ تَعَالَى وَالْوُجُوبُ بِاقْتِضَائِهِ فَقَدْ تَبَيَّنَ انْتِهَاءُ الْأَوَّلِ في عِلْمِ اللَّهِ بِالنَّسْخِ بِأَمْرٍ يُخَالِفُ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ وَيَسْتَحِيلُ تَقْدِيرُ وَضْعِ أَمْرَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ في زَمَانٍ وَاحِدٍ
____________________
(3/147)
وَاخْتَارَ الْإِمَامُ أَنَّ النَّسْخَ ظُهُورُ ما يُنَافِي اشْتِرَاطَ اسْتِمْرَارِ الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ افْعَلْ من حَيْثُ اللَّفْظُ لِلطَّلَبِ وَلَكِنَّهُ مَشْرُوطٌ بِأَنْ لَا يُنْهَى عنه وَيَصِحُّ منه أَنْ يَقُولَ افْعَلْ إنْ لم أَنْهَكَ عنه وقال اخْتَرْت على هذا الرَّأْيِ النَّسْخَ قبل مُضِيِّ إمْكَانِ الْفِعْلِ وَعَلَى ما ذَكَرَهُ الْأَوَّلُونَ لَا يَجُوزُ فإنه لَا ثُبُوتَ قبل الْإِمْكَانِ فَقِيلَ لِلْإِمَامِ فَهَذَا من قَبِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ فقال الِاسْتِثْنَاءُ هو الْمَقْرُونُ بِاللَّفْظِ وَالنَّسْخُ مُتَرَاخٍ وهو على هذا الْقَوْلِ يَرَى ظُهُورَ الْمُنَافِي بِالْإِضَافَةِ إلَى اعْتِقَادِنَا التَّأْبِيدَ فيه وَعَلَى رَأْيِ الْفُقَهَاءِ النَّسْخُ لَا يُصَادِفُ الْأَمْرَ بَلْ يُصَادِفُ اسْتِمْرَارَهُ وَعَلَى رَأْيِ الْآخَرِينَ لَا يُصَادِفُ لَا الْبَقَاءَ وَلَا الْأَمْرَ وَلَكِنْ يَبْقَى الْحُكْمُ في الِاسْتِقْبَالِ وهو إنَّمَا يُصَادِفُ ما اعْتَقَدْنَاهُ فيه فَيَرْفَعُ اعْتِقَادَنَا وَالْبَقَاءُ ظَاهِرٌ في اعْتِقَادِنَا وهو في حَقِّ اللَّهِ انْتِهَاءٌ فَعَلَى هذا النَّاسِخِ لَا يُضَادُّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ وَلَا تُتَصَوَّرُ الْمُضَادَّةُ في إمْضَاءِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِطَرِيقِ الْبَدَاءِ وهو غَيْرُ جَائِزٍ عليه وَحَدَّتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ بِالْخِطَابِ الدَّالِّ على أَنَّ مِثْلَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ زَائِلٌ وَذَكَرُوا مَثَلًا لِيَحْتَرِزُوا بِهِ عن الرَّفْعِ وَجَوَّزُوا نَسْخَ الْعِبَادَةِ قبل التَّمَكُّنِ من فِعْلِهَا وقال الْعَبَّادِيُّ من أَصْحَابِنَا في كِتَابِ الزِّيَادَاتِ اُخْتُلِفَ في النَّسْخِ فَقِيلَ إزَالَةُ فَرْضِ الْعَمَلِ في الْمُسْتَقْبَلِ وَقِيلَ بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْعِبَادَةِ وَقِيلَ انْتِهَاءُ مُدَّةِ التَّكْلِيفِ على ضَرْبٍ من التَّرَاخِي بِدَلِيلٍ لَوْلَاهُ لَوَجَبَ اسْتِرْسَالُهُ على عَدَمِ الْعُمُومِ وَقِيلَ قَطْعُ حُكْمٍ تُوُهِّمَ دَوَامُهُ قِيلَ وَهَذَا أَصْلُ الْعِبَارَاتِ على أَصْلِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ ما قبل الْعَمَلِ وَبَعْدَهُ ا هـ وَالْحَدُّ الثَّانِي حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ وَضَعَّفَهُ بِأَنَّ النَّسْخَ يَجْرِي في غَيْرِ الْعِبَادَاتِ وقال الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ النَّاسِخُ من الْقُرْآنِ الْأَمْرُ نَزَّلَهُ اللَّهُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِخِلَافِهِ كما حُوِّلَتْ الْقِبْلَةُ وقال في الرِّسَالَةِ وَهَكَذَا كُلُّ ما نَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهِيَ نَسْخُهُ تَرْكَ فَرْضِهِ وكان حَقًّا في وَقْتِهِ وَتَرْكُهُ حَقٌّ إذَا نَسَخَهُ فَيَكُونُ من أَدْرَكَ فَرْضَهُ مُطِيعًا بِاتِّبَاعِ الْفَرْضِ النَّاسِخِ له قال ابن الْقَطَّانِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في النَّسْخِ عِنْدَنَا هو أَنْ يَأْمُرَ بِأَمْرٍ على الْإِطْلَاقِ
____________________
(3/148)
في جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ وَيُرِيدُ منه بَعْضَهَا وَلَا يَكْشِفُ ذلك ثُمَّ يَأْمُرُ بِأَمْرٍ ثَانٍ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ قال وَلَا فَرْقَ بين النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ على هذا إلَّا في خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ التَّخْصِيصَ قد يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقْتَرِنًا مع الْأَمْرِ وَلَا يَجُوزُ ذلك في النَّسْخِ انْتَهَى وَالْحَقُّ أَنَّ النَّسْخَ لِلْحُكْمِ كَالْفَسْخِ لِلْعَقْدِ كَالْكَسْرِ لِلصَّحِيحِ وَالْخِلَافُ في أَنَّ الْفَسْخَ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ من أَصْلِهِ أو من حِينِهِ لَا يَجِيءُ هُنَا تَنْبِيهٌ الْفَرْقُ بين التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ سَبَقَ في بَابِ التَّخْصِيصِ تَفْرِيقُ بَعْضِهِمْ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ التَّخْصِيصَ يَرْفَعُ بَعْضَ الْحُكْمِ وَالنَّسْخَ يَرْفَعُ الْكُلَّ وهو ضَعِيفٌ بَلْ قد يَكُونُ النَّسْخُ رَافِعًا لِلْبَعْضِ لِأَنَّ الشَّارِعَ إذَا أَثْبَتَ الْحُكْمَ في جَمِيعِ أَفْرَادِ الْعَامِّ ثُمَّ رَفَعَ بَعْضَهُ يَكُونُ نَسْخًا لِذَلِكَ الْبَعْضِ كما يُنْسَخُ الْكُلُّ وَمَثَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِالْعَرَايَا وَإِنْ كان الْأَصْحَابُ جَعَلُوهُ من التَّخْصِيصِ لِأَنَّ نَهْيَهُ عن بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ عَامٌّ ثُمَّ رَفَعَ بَعْضَهُ بِالْعَرَايَا وَقَوْلُهُ أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا جَفَّ دَلِيلٌ على أَنَّ قَوْلَهُ لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إيرَادٌ على عُمُومِهِ تَمْرًا أو غير تَمْرٍ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ إبَاحَةُ الْعَرَايَا نَسْخًا لِذَلِكَ الْبَعْضِ لَا تَخْصِيصًا لِأَنَّ التَّخْصِيصَ إخْرَاجُ بَعْضِ ما تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ وَلَا يَكُونُ مُنْدَرِجًا تَحْتَ إرَادَةِ اللَّافِظِ ابْتِدَاءً وَبِهِ يَحْصُلُ الْفَرْقُ بين النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ
____________________
(3/149)
فَصْلٌ في أَرْكَانِ النَّسْخِ أَرْكَانُ النَّسْخِ ثَلَاثَةٌ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ وَالْمَنْسُوخُ عنه أَمَّا النَّاسِخُ فَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى على الْحَقِيقَةِ وَتَسْمِيَةُ خِطَابِهِ الدَّالِّ على النَّسْخِ نَاسِخًا تَوَسُّعٌ إذْ بِهِ يَقَعُ النَّسْخُ كما يُقَالُ صَوْمُ رَمَضَانَ نَاسِخٌ لِصَوْمِ عَاشُورَاءَ وَالْمَنْسُوخُ هو الْمُزَالُ وهو الْحُكْمُ الْمُرْتَفِعُ أو الْمُبَيَّنُ على الْخِلَافِ وَالْمَنْسُوخُ عنه هو الْمُتَعَبِّدُ بِالْعِبَادَةِ الْمُزَالَةِ مَسْأَلَةٌ النَّسْخُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْبَدَاءَ وَلَا يَسْتَلْزِمُ النَّسْخُ الْبَدَاءَ إذْ النَّسْخُ بِأَمْرٍ وَالْبَدَاءُ الظُّهُورُ بَعْدَ أَنْ لم يَكُنْ خِلَافًا لِلرَّافِضَةِ وَالْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ ادَّعَوْا اسْتِلْزَامَهُ فَلَزِمَهُمْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا في الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ فقالت الْيَهُودُ لَا يَجُوزُ النَّسْخُ عليه لِامْتِنَاعِ الْبَدَاءِ عليه وَقَالَتْ الرَّافِضَةُ يَجُوزُ الْبَدَاءُ عليه لِجَوَازِ النَّسْخِ منه وَالْكُلُّ كُفْرٌ وَالثَّانِي أَغْلَظُ إذْ يُمْكِنُ حَمْلُ الْأَوَّلِ على وَجْهٍ لَا يُكَفَّرُ بِأَنْ يُجْعَلَ التَّعَبُّدُ بِكُلِّ شَرْعٍ مُغَيَّا إلَى ظُهُورٍ آخَرَ وَبِهَذَا الْمَعْنَى أَنْكَرَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ وقال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيَّةِ في النَّسْخِ يُؤَدِّي إلَى جَوَازِ الْبَدَاءِ لِأَنَّ اللَّفْظَ بِصِيغَتِهِ عِنْدَهُمْ لَا يَدُلُّ على اسْتِغْرَاقِ الْأَعْيَانِ وَالْأَزْمَانِ حتى يَقْتَرِنَ بِهِ دَلِيلٌ عليه يَخُصُّهُ وَلَفْظُ الْعُمُومِ في الْأَزْمَانِ لَا يَقْتَرِنُ بِهِ ما يُنْسَخُ بَعْضُهُ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ عن الْمَنْسُوخِ مُتَأَخِّرٍ عنه فَلَا بُدَّ في قَوْلِهِ أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ أَنَّهُ قَصَدَ إيجَابَ الْعِبَادَاتِ في عُمُومِ الْأَوْقَاتِ ثُمَّ يَدُلُّ دَلِيلٌ آخَرُ بَعْدَهُ على النَّسْخِ ا هـ وقال إِلْكِيَا لَا يَسْتَلْزِمُ الْبَدَاءَ لِأَنَّ النَّسْخَ هو النَّصُّ الدَّالُّ على أَنَّ مِثْلَ الثَّابِتِ زَائِلٌ في الِاسْتِقْبَالِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْفِعْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ غَيْرُ الْمَنْهِيِّ عنه وَأَنَّ وَقْتَ النَّهْيِ عنه غَيْرُ وَقْتِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَبَنَوْا على هذا الْأَصْلِ أَنَّ نَسْخَ الْفِعْلِ قبل وَقْتِ إمْكَانِهِ غَيْرُ جَائِزٍ وَأَمَّا الْأَشْعَرِيَّةُ فَجَوَّزُوهُ بِنَاءً على أَنَّ الذي أَمَرَ بِهِ لِمَصْلَحَةٍ وَاَلَّذِي نهى عنه لِمَفْسَدَةٍ لَا أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عنه عَبَثًا وَتَقْدِيرُ النَّهْيِ بَعْدَ الْأَمْرِ قبل إمْكَانِ الْأَوَّلِ ضَرْبٌ من الْبَدَاءِ وَغَايَةُ ما تَمَسَّكُوا بِهِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ مَشْرُوطٌ بِبَقَائِهِ أو مَشْرُوطٌ
____________________
(3/150)
بِانْتِفَاءِ النَّهْيِ فإذا نُهِيَ عنه فَقَدْ زَالَ الشَّرْطُ بَعْدَ نَهْيِهِ عن الْفِعْلِ غير الْوَجْهِ الذي أَمَرَ بِهِ وَلَيْسَ كما إذَا قال أَمَرْتُكُمْ بِكَذَا وَكَذَا وَنَهَيْتُكُمْ عنه مُتَّصِلًا بِهِ لِأَنَّهُ نهى عن الْفِعْلِ على وَجْهِ الْأَمْرِ وَهَاهُنَا النَّهْيُ على غَيْرِ وَجْهِ الْأَمْرِ فَهُوَ كَقَوْلِك أَمَرْتُكُمْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَظْهَرَ لَكُمْ ما يُنَافِيهِ فَائِدَةٌ تَحْقِيقٌ لُغَوِيٌّ في لَفْظِ الْبَدَاءِ حَكَى ابن الْفَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ في كِتَابِ النُّكَتِ عن بَعْضِهِمْ أَنَّ لَفْظَ الْبَدَاءِ غَيْرُ صَحِيحٍ في اللُّغَةِ وَإِنَّمَا هو الْبُدُوُّ من بَدَا الشَّيْءُ يَبْدُو بَدْوًا وَبُدُوًّا إذَا ظَهَرَ قال ابن الصَّلَاحِ في فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ وَهَذَا ليس بِصَحِيحٍ فَقَدْ أَوْرَدَ هذا اللَّفْظَ ابن دُرَيْدٍ في قَصِيدَتِهِ في الْمَمْدُودِ وَالْمَقْصُورِ فقال تُوصَى وَعَقْلُك في بَدَا فَكَذَاك رَأْيُك ذُو بَدَاءٍ قال التَّبْرِيزِيُّ الْبَدَا الْمَقْصُورُ مَوْضِعٌ وَقِيلَ إنَّهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ وَالْبَدَاءُ الْمَمْدُودُ من قَوْلِهِمْ بَدَا لي في الْأَمْرِ تُرِيدُ تَغَيَّرَ رَأْيِي فيه عَمَّا كان قُلْت وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ عن سِيبَوَيْهِ فقال بَدَا الشَّيْءُ يَبْدُو بَدْوًا وَبُدُوًّا وَبَدَاءً الْأَخِيرَةُ عن سِيبَوَيْهِ وفي صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ بَدَا له في هذا الْأَمْرِ بَدَاءً مَمْدُودٌ وقد نَبَّهَ عليه أبو مُحَمَّدِ بن بَرِّيٍّ فقال صَوَابُهُ بَدَاءٌ بِالرَّفْعِ لِأَنَّهُ الْفَاعِلُ وقال السُّهَيْلِيُّ في الرَّوْضِ الْمَصْدَرُ الْبُدُوُّ وَالْبَدْوُ وَالِاسْمُ الْبَدَاءُ وَلَا يُقَالُ في الْمَصْدَرِ بَدَا له بُدُوٌّ كما لَا يُقَالُ ظَهَرَ له ظُهُورٌ بِالرَّفْعِ لِأَنَّ الذي يَظْهَرُ وَيَبْدُو هَاهُنَا هو الِاسْمُ نَحْوُ الْبَدَاءِ قال وَمِنْ أَجْلِ أَنَّ الْبُدُوَّ الظُّهُورُ كان الْبَدَاءُ في وَصْفِ الْبَارِئِ سُبْحَانَهُ مُحَالًا لِأَنَّهُ لَا يَبْدُو له شَيْءٌ كان غَائِبًا عنه وقد يَجِيءُ بَدَا بِمَعْنَى أَرَادَ مَجَازًا كَحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ في الثَّلَاثَةِ الْأَقْرَعُ وَالْأَعْمَى وَالْأَبْرَصُ وَأَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال بَدَا لِلَّهِ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ تَنْبِيهٌ مَنَعَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إطْلَاقَ لَفْظِ التَّبْدِيلِ على النَّسْخِ فإنه رَفْعُ الْحُكْمِ
____________________
(3/151)
الْمَنْسُوخِ وَإِقَامَةُ النَّاسِخِ مُقَامَهُ وَذَلِكَ يُوهِمُ الْبَدَاءَ وهو مَحْجُوجٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وإذا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ مَسْأَلَةٌ النَّسْخُ جَائِزٌ عَقْلًا وَوَاقِعٌ شَرْعًا النَّسْخُ جَائِزٌ عَقْلًا وَوَاقِعٌ سَمْعًا خِلَافًا لِلْيَهُودِ غَيْرِ الْعِيسَوِيَّةِ وَبَعْضِ غُلَاةِ الرَّوَافِضِ وَمِنْهُمْ من مَنَعَهُ عَقْلًا وَمِنْهُمْ من جَوَّزَهُ عَقْلًا وَمَنَعَهُ شَرْعًا حَكَاهُ أبو زَيْدٍ قال وَلِذَلِكَ ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَسَمَّاهُ أبو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ من الْمُعْتَزِلَةِ تَخْصِيصًا فَقِيلَ هو إنْكَارٌ لِلْوُقُوعِ وهو مَنْقُولُ الْآمِدِيَّ وَابْنِ الْحَاجِبِ عنه وَقِيلَ إنَّمَا أَنْكَرَ الْجَوَازَ وهو مَنْقُولُ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ وَسُلَيْمٍ وَالْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيَّانِ وَصَرَّحَ بِأَنَّ خِلَافَهُ في الْقُرْآنِ خَاصَّةً قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ نُقِلَ عن بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ إنْكَارُ النَّسْخِ لَا بِمَعْنَى أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ لَا يَرْتَفِعُ بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَنْتَهِي بِنَصٍّ دَلَّ على انْتِهَائِهِ فَلَا يَكُونُ نَسْخًا ا هـ وَحَاصِلُهُ صَيْرُورَةُ الْخِلَافِ لَفْظِيًّا وَبِهِ صَرَّحَ ابن السَّمْعَانِيِّ قال الْهِنْدِيُّ وَلَيْسَ من ضَرُورَةِ الْقَوْلِ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْقَوْلُ بِصِحَّةِ النَّسْخِ حتى يَلْزَمَ من إنْكَارِهِ إنْكَارُ النُّبُوَّةِ وَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُقَالَ إنَّ شَرْعَ الْمَاضِينَ كان مُغَيَّا إلَى ظُهُورِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في اللَّفْظِ وَهُنَا مُبَاحَثَةٌ مع الْيَهُودِ لُعِنُوا بِمَا قالوا وَهِيَ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ التَّعَبُّدَ في الشَّرَائِعِ بِالْعِبَادَاتِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَغَيَّرَ قِيَاسًا على التَّوْحِيدِ فإن التَّعَبُّدَ بِالتَّوْحِيدِ لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ إلَى الْكُفْرِ فَيُقَالُ لهم أَيَجُوزُ أَنْ يُتَعَبَّدَ بِالصَّلَاةِ مَثَلًا في وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ مع الْقُدْرَةِ على الْفِعْلِ فَإِنْ قالوا نعم وهو قَوْلُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِاسْتِغْرَاقِ الزَّمَانِ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَيُقَالُ لهم أَيَجُوزُ أَنْ يُتَعَبَّدَ بِالتَّوْحِيدِ في وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ مع كَمَالِ الْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ فَإِنْ قالوا نعم فَقَدْ جَوَّزُوا تَرْكَ التَّوْحِيدِ وَإِنْ قالوا لَا وهو قَوْلُهُمْ فَقَدْ فَرَّقُوا بين التَّوْحِيدِ وَالشَّرَائِعِ وَحِينَئِذٍ فَلَا امْتِنَاعَ في اخْتِلَافِ التَّعَبُّدِ بِالشَّرَائِعِ في الْكَيْفِيَّةِ وَالْعَدَدِ وَالْوَقْتِ وَالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ
____________________
(3/152)
مسألة يجوز نسخ الحكم عندنا وإن لم يقترن به إعلام بأنه سينسخ قال ابن برهان وعن أبي الحسين البصري وغيره من المعتزلة أنه لا يجوز إلا إذا اقترن به ما يدل على النسخ في الجملة كقوله تعالى قد نرى تقلب وجهك في السماء الآية قالوا فهذه قرينة أن الله تعالى سينسخ القبلة من بيت المقدس وقال الأستاذ أبو إسحاق رأيت بعض من كان يظهر التوحيد ويتهم بالإلحاد يزعم أن النسخ لا يجوز إلا بدليل مقرون باللفظ يعلم أنه كائن بعد وإن لم يبين وقته قال الأستاذ فهذا قول اليهود وقد أجمعت الأمة على خلافه ا هـ ونقل عن أبي الحسين البصري أنه يجب أن يذكر مع المنسوخ ما يدل على أنه منسوخ من حيث الجملة وإلا لكان تلبيسا وخالفه جمهور المعتزلة وأصحابنا قالوا لا يجب ذلك بل يجوز تأخير بيان النسخ من وقت الخطاب إلى وقت الحاجة وقال الماوردي سمعت بعض أهل العلم يقول إن كل آية منسوخة ففي ضمن تلاوتها ما يدل على أن حكمها ليس بثابت على الإطلاق مثل قوله في سورة النساء فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا نبه على أن حكمها لا يدوم فنسختها آية النور بقوله الزانية والزاني الآية ولذا قال صلى الله عليه وسلم قد جعل الله لهن سبيلا قال وهذا الذي ادعاه يبعد أن يوجد في كل آية منسوخة لكنه معتضد لمذهب أبي حنيفة في أن الزيادة على النص تكون نسخا فجعل ذلك من شواهد المنسوخ مَسْأَلَةٌ لَا يَتَحَقَّقُ النَّسْخُ إلَّا مع التَّعَارُضِ فَأَمَّا مع إمْكَانِ الْجَمْعِ فَلَا وَقَوْلُ من قال نُسِخَ صَوْمُ عَاشُورَاءَ بِرَمَضَانَ وَنَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ سِوَاهَا فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا لَا مُنَافَاةَ فيه وَإِنَّمَا وَافَقَ نَسْخُ عَاشُورَاءَ فَرْضَ رَمَضَانَ وَنَسْخُ سَائِرِ الصَّدَقَاتِ فَرْضَ الزَّكَاةِ فَحَصَلَ النَّسْخُ معه لَا بِهِ
____________________
(3/153)
قال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ حَكَى بَعْضُ مَشَايِخِنَا خِلَافًا في أَنَّ النَّسْخَ في الْأَمْرِ أو الْمَأْمُورِ فَقِيلَ وَقَعَ في الْأَمْرِ وَقِيلَ في الْمَأْمُورِ نَفْسِهِ وَالْأَمْرُ هو الْقَوْلُ وَالْمَأْمُورُ هو الْمُخَاطَبُ قال وَاَلَّذِي عِنْدَنَا أَنَّ النَّسْخَ وَقَعَ في الْأَمْرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ما نَنْسَخُ من آيَةٍ فَأَخْبَرَ أَنَّ النَّسْخَ يَقَعُ في الْآيَةِ وَمِمَّنْ تَعَرَّضَ لِهَذَا الْخِلَافِ ابن حَزْمٍ في الْإِحْكَامِ وقال الصَّحِيحُ أَنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ على الْأَمْرِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ على الْمَأْمُورِ بِهِ أَصْلًا لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هو فِعْلُنَا وَفِعْلُنَا إنْ كان قد وَقَعَ مِنَّا فَقَدْ فَنَى وَلَا يَنْهَى عَمَّا مَضَى وَإِنْ لم يَكُنْ قد وَقَعَ بَعْدُ فَكَيْفَ يُنْسَخُ شَيْءٌ لم يَكُنْ بَعْدُ وَيَدُلُّ له قَوْلُهُ ما نَنْسَخْ من آيَةٍ الْآيَةَ فَدَلَّ على أَنَّ الْآيَةَ هِيَ الْمَنْسُوخَةُ لَا أَفْعَالَنَا الْمَأْمُورَ بها وَالْمَنْهِيَّ عنها مَسْأَلَةٌ الْمَنْسُوخُ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا الْحُكْمُ الثَّابِتُ نَفْسُهُ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ مِثْلُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ وَاَلَّذِي قَادَهُمْ إلَى ذلك مَذْهَبُهُمْ في أَنَّ الْأَوَامِرَ مُرَادَةٌ وَأَنَّ الْحُسْنَ صِفَةٌ نِسْبِيَّةٌ لِلْحَسَنِ وَمُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى حَسَنٌ وقد قَامَتْ الْأَدِلَّةُ على أَنَّ الْأَوَامِرَ لَا تَرْتَبِطُ بِالْإِرَادَةِ على أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ في الْأَحْكَامِ إنَّمَا هو من جِهَةِ الشَّرْعِ لَا بِصِفَةٍ نِسْبِيَّةٍ قَالَهُ ابن عَطِيَّةَ في تَفْسِيرِهِ مَسْأَلَةٌ يَجِبُ اعْتِقَادُ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ قبل وُرُودِ النَّاسِخِ إنْ بَقِيَ الْأَمْرُ بِهِ ولم يَرْتَفِعْ عنه بِضِدِّهِ وَإِنْ جَوَّزْنَا النَّسْخَ قبل الْفِعْلِ وَلَا يَجِيءُ الْخِلَافُ السَّابِقُ في الْبَحْثِ عن الْمُخَصَّصِ وقال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَمَّا في حَيَاةِ الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَلَا يُقْطَعُ بِالْحُكْمِ قبل ظُهُورِ نَاسِخِهِ لِأَنَّ دَوَامَهُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ لِجَوَازِ نُزُولِ الْوَحْيِ بِمَا يَنْسَخُهُ وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَقَدْ انْتَفَى احْتِمَالُ النَّسْخِ وَصَارَ الْبَقَاءُ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ نَسْخُ النَّسْخِ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِجَوَازِهِ أَوَّلًا قد يَتَّفِقُ في الثَّانِي وقد وَقَعَ ذلك قال الشَّافِعِيُّ فِيمَا حَكَاهُ الْعَبَّادِيُّ عنه لَا أَعْلَمُ شيئا أُحِلَّ ثُمَّ حُرِّمَ ثُمَّ أُحِلَّ ثُمَّ حُرِّمَ إلَّا الْمُتْعَةَ وَذَكَرَ غَيْرُهُ أنها نُسِخَتْ خَمْسَ مَرَّاتٍ وَمِمَّنْ ذَكَرَ هذه الْمَسْأَلَةَ ابن حَزْمٍ في الْإِحْكَامِ وقال لَا فَرْقَ بين أَنْ يَنْسَخَ
____________________
(3/154)
اللَّهُ حُكْمًا بِغَيْرِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْسَخَ ذلك الثَّانِيَ بِثَالِثٍ وَذَلِكَ الثَّالِثَ بِرَابِعٍ وَهَكَذَا كُلَّمَا زَادَ وقد جاء في بَعْضِ الْآثَارِ أُحِيلَتْ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ وَصَحَّ التَّكْرِيرُ في نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وقال الْقَاضِي ابن الْعَرَبِيِّ نُسِخَتْ الْقِبْلَةُ مَرَّتَيْنِ وَكَذَا نِكَاحُ الْمُتْعَةِ وَلُحُومُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَلَا أَحْفَظُ رَابِعًا قُلْت وَادَّعَى بَعْضُهُمْ تَكَرُّرَ النَّسْخِ في الْكَلَامِ في الصَّلَاةِ مَسْأَلَةٌ شَرِيعَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى اللَّهُ عليه وسلم نَاسِخَةٌ لِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ بِالْإِجْمَاعِ وَاخْتُلِفَ في أَنَّ عِيسَى بُعِثَ مُقَرِّرًا لِشَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أو بِشَرِيعَةٍ مُبْتَدَأَةٍ حَكَاهُ ابن الرِّفْعَةِ في الْمَطْلَبِ ثُمَّ قال وَالْحَقُّ أَنَّهُ لم يَنْسَخْ كُلَّ شَرِيعَةِ مُوسَى وَلِهَذَا قال تَعَالَى وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ لم يُحْلِلْ لهم كُلَّ ما حُرِّمَ عليهم لِأَنَّ منه الزِّنَى وَالْقَتْلَ وَالسَّرِقَةَ وَإِنَّمَا أَحِلَّ لهم السَّبْتَ وَلَحْمَ الْإِبِلِ وَأَشْيَاءُ من الْحِيتَانِ وَالطَّيْرِ تَخْفِيفًا عَنْهُمْ ولم يُوجِبْ عليهم شيئا لم تُوجِبْهُ شَرِيعَةُ مُوسَى وقال الْإِمَامُ في تَفْسِيرِهِ رُوِيَ أَنَّ الرُّسُلَ بَعْدَ مُوسَى عليه السَّلَامُ كانت شَرِيعَتُهُمْ وَاحِدَةً مُوَافِقَةً لِشَرِيعَةِ مُوسَى إلَى أَنْ جاء عِيسَى عليه السَّلَامُ بِشَرِيعَةٍ مُجَدِّدَةٍ قال وَمَنَعَ الْقَاضِي كَوْنَ الرَّسُولِ الثَّانِي يَأْتِي بِشَرِيعَةِ الرَّسُولِ الْأَوَّلِ سَوَاءً أَيْ من غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ إذَا كانت شَرِيعَةُ الْأَوَّلِ مَحْفُوظَةً يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا بِالتَّوَاتُرِ لِأَنَّ الرَّسُولَ إذَا كان كَذَلِكَ لم يُعْلَمْ من جِهَتِهِ إلَّا ما قد عُلِمَ من قَبْلُ فَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْعَثَ رَسُولًا لَا شَرِيعَةَ معه أَصْلًا لِمَا بَيَّنَ في الْعَقْلِيَّاتِ كَذَلِكَ ما نَحْنُ فيه وَأَجَابَ الْإِمَامُ عن ذلك بِمَا يُوقَفُ عليه من كَلَامِهِ
____________________
(3/155)
فَصْلٌ في بَيَانِ الْحِكْمَةِ في نَسْخِ الشَّرَائِعِ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ في الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ وهو أَنَّ الشَّرَائِعَ قِسْمَانِ منها ما يُعْرَفُ نَفْعُهَا بِالْعَقْلِ في الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَمِنْهَا سَمْعِيَّةٌ لَا يُعْرَفُ الِانْتِفَاعُ بها إلَّا من السَّمْعِ فَالْأَوَّلُ يَمْتَنِعُ طُرُوُّ النَّسْخِ عليها كَمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ أَبَدًا وَمَجَامِعُ هذه الشَّرَائِعِ الْعَقْلِيَّةِ أَمْرَانِ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ على خَلْقِ اللَّهِ قال تَعَالَى وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَالثَّانِي ما يُمْكِنُ طَرَيَان النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ عليه أُمُورٌ تَحْصُلُ في كَيْفِيَّةِ إقَامَةِ الطَّاعَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِبَادَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ وَفَائِدَةُ نَسْخِهَا أَنَّ الْأَعْمَالَ الْبَدَنِيَّةَ إذَا وَاظَبُوا عليها خَلَفًا عن سَلَفٍ صَارَتْ كَالْعَادَةِ عِنْدَ الْخَلْقِ وَظَنُّوا أَنَّ أَعْيَانَهَا مَطْلُوبَةٌ لِذَاتِهَا وَمَنَعَهُمْ ذلك من الْوُصُولِ إلَى الْمَقْصُودِ وهو مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَتَمْجِيدُهُ فإذا غَيَّرَ ذلك الطَّرِيقَ إلَى نَوْعٍ من الْأَنْوَاعِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ من هذه الْأَعْمَالِ رِعَايَةُ أَحْوَالِ الْقَلْبِ وَالْأَرْوَاحِ في الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ انْقَطَعَتْ الْأَوْهَامُ عن الِاشْتِغَالِ عن تِلْكَ الصُّوَرِ وَالظَّوَاهِرِ إلَى عَلَّامِ السَّرَائِرِ وَذَكَرَ غَيْرُهُ في ذلك وُجُوهًا منها أَنَّ الْخَلْقَ طُبِعُوا على الْمَلَالَةِ من الشَّيْءِ فَوَضَعَ في كل عَصْرٍ شَرِيعَةً جَدِيدَةً لِيَنْشَطُوا في أَدَائِهَا وَمِنْهَا بَيَانُ شَرَفِ نَبِيِّنَا عليه السَّلَامُ فإنه نَسَخَ بِشَرِيعَتِهِ شَرَائِعَهُمْ وَشَرِيعَتُهُ لَا نَاسِخَ لها وَمِنْهَا ما فيه من حِفْظِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ كَطَبِيبٍ يَأْمُرُ بِدَوَاءٍ في كل يَوْمٍ وفي الْيَوْمِ الثَّانِي بِخِلَافِهِ لِلْمَصْلَحَةِ وَمِنْهَا ما فيه من الْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِرَفْعِ الْخِدْمَةِ وَمُؤْنَتِهَا عَنْهُمْ في الْجَنَّةِ فَجَرَيَانُ النَّسْخِ عليها في الدُّنْيَا يُؤْذِنُ بِرَفْعِهَا في الْجَنَّةِ يَمْحُوَا اللَّهُ ما يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ أَنَّ فَائِدَةَ النَّسْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ بِعِبَادِهِ وَالتَّخْفِيفُ عَنْهُمْ وَأُورِدَ عليه أَنَّهُ قد يَكُونُ بِأَثْقَلَ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ رَحْمَةٌ في الْحَقِيقَةِ بِالْوُجُوهِ التي ذَكَرْنَا
____________________
(3/156)
فَصْلٌ في شُرُوطِ النَّسْخِ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمَنْسُوخُ شَرْعِيًّا لَا عَقْلِيًّا أَيْ قد ثَبَتَ بِالشَّرْعِ ثُمَّ رُفِعَ فَإِنْ كان شيئا يَفْعَلُهُ الناس بِعَادَةٍ لهم أُقِرُّوا عليها ثُمَّ رُفِعَ كَاسْتِبَاحَتِهِمْ الْخَمْرَ في أَوَّلِ الْإِسْلَامِ على عَادَةٍ كانت لهم إلَى أَنْ حُرِّمَ لم يَكُنْ نَسْخًا وَإِنَّمَا هو ابْتِدَاءُ شَرْعٍ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مُنْفَصِلًا عن الْمَنْسُوخِ مُتَأَخِّرًا عنه فإن الْمُقْتَرِنَ كَالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ وَالِاسْتِثْنَاءِ لَا يُسَمَّى نَسْخًا وَإِنَّمَا هو تَخْصِيصٌ كَقَوْلِهِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ فَلَيْسَ ذلك نَاسِخًا لِلصَّوْمِ نَهَارًا وَكَذَا قَوْلُهُ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ قال إِلْكِيَا هذا إذَا كانت الْغَايَةُ مَعْلُومَةً فَإِنْ كانت مُجْمَلَةً وَهِيَ التي رَمَزَ الشَّرْعُ إلَيْهَا وَلَوْ لم تَرِدْ أَمْكَنَ إجْرَاءُ حُكْمِ النَّصِّ كَقَوْلِهِ فَأَمْسِكُوهُنَّ في الْبُيُوتِ حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أو يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا فَهَلْ يُجْعَلُ بَيَانُ الْحُكْمِ على خِلَافِ الْحُكْمِ السَّابِقِ بَعْدَهَا نَسْخًا لِلْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ أَمْ لَا قال فيه قَوْلَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ نَسْخٌ بِحَقِّ شَرْعِيَّةِ الْجَلْدِ بَعْدَ قَوْلِهِ أو يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَبِهِ جَزَمَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ كما لو قال افْعَلُوهُ إلَى أَنْ أَنْسَخَهُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ بِخِطَابٍ شَرْعِيٍّ فَارْتِفَاعُ الْحُكْمِ بِمَوْتِ الْمُكَلَّفِ أو جُنُونِهِ ليس بِنَسْخٍ وَإِنَّمَا هو سُقُوطُ التَّكْلِيفِ جُمْلَةً الرَّابِعُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَرْفُوعُ مُقَيَّدًا بِوَقْتٍ يَقْتَضِي دُخُولُهُ زَوَالَ الْمُغَيَّا بِغَايَةٍ فَلَا يَكُونُ نَسْخًا عِنْدَ وُجُودِهَا الْخَامِسُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ أَقْوَى من الْمَنْسُوخِ أو مثله فَإِنْ كان أَضْعَفَ منه لم يَنْسَخْهُ لِأَنَّ الضَّعِيفَ لَا يُزِيلُ الْقَوِيَّ قال إِلْكِيَا وَهَذَا مِمَّا قَضَى بِهِ الْعَقْلُ بَلْ دَلَّ الْإِجْمَاعُ عليه فإن الصَّحَابَةَ لم يَنْسَخُوا نَصَّ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ السَّادِسُ وَذَكَرَهُ إِلْكِيَا أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضَى بِالْمَنْسُوخِ غير الْمُقْتَضَى بِالنَّاسِخِ حتى لَا يَلْزَمَ الْبَدَاءُ قال وَلَا يُشْتَرَطُ بِالِاتِّفَاقِ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ النَّاسِخُ مُتَنَاوِلًا لِمَا تَنَاوَلَهُ الْمَنْسُوخُ أَعْنِي التَّكْرَارَ وَالْبَقَاءَ إذْ لَا يُمْنَعُ فَهْمُ الْبَقَاءِ بِدَلِيلٍ آخَرَ سِوَى اللَّفْظِ وَمِنْ هُنَا يُفَارِقُ التَّخْصِيصَ السَّابِعُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا وَأَنْ لَا يَكُونَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ
____________________
(3/157)
التَّوْقِيتَ نَسْخًا مع كَوْنِهِ مَشْرُوعًا فَلَا يَدْخُلُ النَّسْخُ أَصْلَ التَّوْحِيدِ بِحَالٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ لم يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَكَذَا ما عُلِمَ بِالنَّصِّ أَنَّهُ يَتَأَبَّدُ وَلَا يَتَأَقَّتُ فَلَا يَدْخُلُهُ نَسْخٌ كَشَرِيعَتِنَا هذه قال سُلَيْمٌ وَكُلُّ ما لَا يَكُونُ إلَّا على صِفَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَنَحْوِهِ فَلَا يَدْخُلُهُ النَّسْخُ وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا نَسْخَ في الْأَخْبَارِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهَا على خِلَافِ ما أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ وَكَذَا قال إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ وقال الضَّابِطُ فِيمَا يُنْسَخُ ما يَتَغَيَّرُ حَالُهُ من حُسْنٍ لِقُبْحٍ وَاعْلَمْ أَنَّ في جَوَازِ نَسْخِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِالتَّأْبِيدِ وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ لِأَنَّ صَرِيحَ التَّأْبِيدِ مَانِعٌ من احْتِمَالِ النَّسْخِ قال وَأَشْبَهَهُمَا الْجَوَازُ قُلْت وَنَسَبَهُ ابن بَرْهَانٍ إلَى مُعْظَمِ الْعُلَمَاءِ وأبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ إلَى الْمُحَقِّقِينَ قال لِأَنَّ الْعَادَةَ في لَفْظِ التَّأْبِيدِ الْمُسْتَعْمَلِ في لَفْظِ الْأَمْرِ الْمُبَالَغَةُ لَا الدَّوَامُ وقال الْمَاوَرْدِيُّ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ كَالْمُؤَكَّدِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ انْقِطَاعُ الْمُؤَبَّدِ بِالِاسْتِثْنَاءِ في قَوْلِهِ وَلَا تَقْبَلُوا لهم شَهَادَةً أَبَدًا الْآيَةَ جَازَ انْقِطَاعُهُ بِالنَّسْخِ كَالْمُطْلَقِ وَنَظِيرُ الْمَسْأَلَةِ تَخْصِيصُ الْحُكْمِ الْمُؤَكَّدِ وقال صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ ظَاهِرُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ جَوَازُ نَسْخِ الْحُكْمِ الْمُصَرَّحِ فيه بِكَلِمَةِ التَّأْبِيدِ وَمَنَعَهُ جَمَاعَةٌ وقال الْجَصَّاصُ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا امْتِنَاعُ نَسْخِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْزَمَنَا اعْتِقَادَ الْحُكْمِ بَاقِيًا على سَبِيلِ التَّأْبِيدِ بِالتَّنْصِيصِ عليه فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَقَاؤُهُ مُؤَقَّتًا إلَى وَقْتٍ وَعَلَى ذلك جَرَى أبو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ وَالدَّبُوسِيُّ والبزدويان الْأَخَوَانِ وَادَّعَى شَارِحُ الْبَزْدَوِيِّ في الْكَشْفِ الِاتِّفَاقَ على أَنَّ التَّنْصِيصَ في وَقْتٍ من أَوْقَاتِ الزَّمَانِ بِخُصُوصِهِ يَمْنَعُ النَّسْخَ وَلَيْسَ كما قال ثُمَّ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ تَخْصِيصُ الْجَوَازِ بِمَا إذَا كان إنْشَاءً نَحْوُ صُومُوا أَبَدًا بِخِلَافِ ما إذَا كان خَبَرًا مِثْلَ الصَّوْمُ وَاجِبٌ مُسْتَمِرٌّ أَبَدًا فَلَا يَجُوزُ نَسْخُهُ وفي كَلَامِ الْآمِدِيَّ إشَارَةٌ إلَيْهِ وَالْفَرْقُ وَاضِحٌ إذْ يَلْزَمُ من نَسْخِ الْخَبَرِ الْخِلَافُ وَكَذَلِكَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ حَيْثُ قال في أَوَّلِ النَّسْخِ فَإِنْ قِيلَ لو قال هذا الْحُكْمُ مُؤَبَّدٌ لَا يَنْسَخُهُ شَيْءٌ فَهَلْ يَجُوزُ تَقْدِيرُ نَسْخِهِ قُلْنَا لَا لِأَنَّ في تَقْدِيرِ وُرُودِهِ تَجْوِيزَ الْخُلْفِ ا هـ وَلَكِنَّ هذه الْعِلَّةَ لَا خُصُوصِيَّةَ لها بِالْمُؤَبَّدِ فإن الْخَبَرَ من حَيْثُ هو يَمْتَنِعُ فيه
____________________
(3/158)
النَّسْخُ لَا من حَيْثُ التَّأْبِيدُ وَصَوَابُ الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ التَّقْيِيدُ بِالتَّأْبِيدِ لَا يَزِيدُ حُكْمًا مُتَجَدِّدًا بَلْ هو تَأْكِيدٌ سَوَاءٌ كان في الْخَبَرِ أَمْ الْإِنْشَاءِ أَمَّا في الْخَبَرِ فَلَا خِلَافَ وَأَمَّا في الْإِنْشَاءِ فَعَلَى الْمُخْتَارِ وقال بَعْضُهُمْ إنَّمَا مَنَعَ ابن الْحَاجِبِ بَعْضَ الْإِنْشَاءَاتِ فَكَأَنَّهُ فَصَلَ بين أَنْ يَكُونَ التَّأْبِيدُ قَيْدًا في فِعْلِ الْمُكَلَّفِ نَحْوُ صُومُوا أَبَدًا فَيَجُوزُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَيْدًا لِلْوُجُوبِ وَبَيَانًا لِمُدَّةِ بَقَائِهِ وَاسْتِمْرَارِهِ فَلَا يَجُوزُ قُلْت وَهَذَا هو الصَّوَابُ كما صَرَّحَ بِهِ في الْمُنْتَهَى مَسْأَلَةٌ في وَقْتِ النَّسْخِ يَجُوزُ النَّسْخُ بَعْدَ اعْتِقَادِ الْمَنْسُوخِ وَالْعَمَلِ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَسَوَاءٌ عَمِلَ بِهِ كُلُّ الناس كَاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أو بَعْضُهُمْ كَفَرْضِ الصَّدَقَةِ عِنْدَ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم نُسِخَتْ بَعْدَ أَنْ عَمِلَ بها عَلِيُّ بن أبي طَالِبٍ رضي اللَّهُ عنه وَأَمَّا النَّسْخُ قبل الْفِعْلِ فَهُوَ على أَقْسَامٍ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ قبل عِلْمِ الْمُكَلَّفِ بِوُجُوبِهِ كما إذَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ جِبْرِيلَ أَنْ يُعْلِمَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِوُجُوبِ شَيْءٍ على الْأُمَّةِ ثُمَّ يَنْسَخُهُ قبل وُصُولِهِ إلَيْهِ فَجَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في بَابِ الْقَضَاءِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّسْخِ عليه لِأَنَّ من شَرْطِ النَّسْخِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ اسْتِمْرَارِ الْفَرْضِ لِيَخْرُجَ عن الْبَدَاءِ إلَى الْإِعْلَامِ بِالْمُدَّةِ قَالَا وَأَمَّا ما رُوِيَ في لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ من فَرْضِ خَمْسِينَ صَلَاةً ثُمَّ اسْتَقَرَّتْ بِخَمْسٍ فَكَانَ على وَجْهِ التَّقْدِيرِ دُونَ الْفَرْضِ لِأَنَّ الْفَرْضَ يَسْتَقِرُّ بِنُفُوذِ الْأَمْرِ ولم يَكُنْ من اللَّهِ تَعَالَى فيه أَمْرٌ إلَّا عِنْدَ اسْتِقْرَارِ الْخَمْسِ انْتَهَى وقد حَكَى ابن السَّمْعَانِيِّ في ذلك الِاتِّفَاقَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ في الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَإِلْكِيَا وقال لَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ لِأَنَّ
____________________
(3/159)
النَّسْخَ نَوْعُ تَكْلِيفٍ أو حَطُّ تَكْلِيفٍ فَإِنْ كان إلَى بَدَلٍ كان تَكْلِيفًا وَإِلَّا حَطَّ تَكْلِيفٍ وقد شُرِعَ لِمِثْلِ ما شُرِعَ له أَصْلُ التَّكْلِيفِ وَالْعِلْمُ شَرْطٌ لِحُصُولِ أَصْلِ التَّكْلِيفِ إلَّا حَيْثُ لَا يَتَوَقَّفُ الْإِمْكَانُ عليه فَالنَّسْخُ مِثْلُهُ بِلَا فَرْقٍ قال وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الْخِلَافُ في أَنَّ الْقَضَاءَ هل يَلْزَمُهُمْ بَعْدَ الْعِلْمِ وَالتَّدَارُكِ أو لَا يَتَحَتَّمُ عليهم وَيَنْبَغِي التَّغَايُرُ على أَنَّ الْقَضَاءَ هل يَجِبُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ أو بِأَمْرٍ جَدِيدٍ فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ وَجَبَ وَإِلَّا فَلَا وَلَا مَزِيدَ على حُسْنِ هذا ا هـ وقال ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ في آخِرِ بَابِ النَّسْخِ نَسْخُ الْحُكْمِ قبل عِلْمِ الْمُكَلَّفِ بِوُجُوبِهِ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَمَنَعَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَأَصْحَابُ أبي حَنِيفَةَ وَبَنَوْا على ذلك أَنَّ عَزْلَ الْوَكِيلِ لَا يَثْبُتُ قبل الْعِلْمِ وَزَعَمُوا أَنَّ النَّسْخَ قبل الْعِلْمِ يَتَضَمَّنُ تَكْلِيفَ الْمُحَالِ قال وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعُ تَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقَ فإذا قَضَيْنَا بِصِحَّتِهِ صَحَّ النَّسْخُ حِينَئِذٍ قال وَاحْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا في هذه الْمَسْأَلَةِ بِقِصَّةِ الْمِعْرَاجِ فإن اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ على الْأُمَّةِ خَمْسِينَ صَلَاةً ثُمَّ نَسَخَهَا قبل عِلْمِهِمْ بِوُجُوبِهَا وَهَذَا لَا حُجَّةَ فيه لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا كان بَعْدَ الْعِلْمِ فإن رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَحَدُ الْمُكَلَّفِينَ وقد عَلِمَ وَلَكِنَّهُ قبل عِلْمِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ وَعِلْمُ الْجَمِيعِ لَا يُشْتَرَطُ فإن التَّكْلِيفَ اسْتَقَرَّ بِعِلْمِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَلَا اعْتِمَادَ على هذا الحديث ا هـ وَظَهَرَ أَنَّ ما قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وابن السَّمْعَانِيِّ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وقد قال ابن حَاتِمٍ الْأَزْدِيُّ تِلْمِيذُ الْقَاضِي في كِتَابِ اللَّامِعِ له من لم يَبْلُغْهُ الْأَمْرُ ولم يَعْلَمْ أَنَّهُ مَأْمُورٌ هل يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ قد يُنْسَخُ عنه الْأَمْرُ أَمْ لَا ثُمَّ قال عِنْدَنَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ قد يُنْسَخُ عنه الْأَمْرُ إذَا بَلَغَهُ وَتَأَدَّى إلَيْهِ لَزِمَهُ الْمَصِيرُ إلَى مُوجَبِ النَّاسِخِ قال عبد الْجَلِيلِ الرَّبَعِيُّ في شَرْحِهِ وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنْ تَجَوَّزَ في قَوْلِهِ يَصِحُّ وَحَقُّهُ أَنْ يَقُولَ يَجِبُ إذْ ليس من شَرْطِ كَوْنِ الْأَمْرِ نَسْخًا أَنْ يُبَلَّغَ الْمَأْمُورُ وَإِنَّمَا الْبَلَاغُ شَرْطُ الِامْتِثَالِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا حين عَدَمِهِ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وابن حَاتِمٍ وَاللَّفْظُ له يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ قد نُسِخَ عنه الْأَمْرُ وإذا بَلَغَهُ لَزِمَهُ الْمَصِيرُ إلَى مُوجَبِ النَّاسِخِ لَا بِالْأَمْرِ الْمُتَقَدِّمِ بَلْ بِاعْتِقَادٍ له آخَرَ وَلَوْ كان على شَيْءٍ آخَرَ فَبَلَغَهُ أَنَّهُ أَمْرٌ ثُمَّ نُسِخَ عنه وَجَبَ أَنْ يَصِيرَ إلَى مُوجَبِ النَّاسِخِ وقال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِثْلُ هذا لَا يَكُونُ نَسْخًا أَمَّا إذَا لم يَبْلُغْهُ الْمَنْسُوخُ فَلَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ النَّاسِخِ كما لم يَبْلُغْهُ حُكْمُ الْمَنْسُوخِ ا هـ وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ نَسْخُ الْحُكْمِ قبل عِلْمِ الْمُكَلَّفِ بِالْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ اتَّفَقَتْ
____________________
(3/160)
الْأَشَاعِرَةُ على جَوَازِهِ وَالْمُعْتَزِلَةُ على مَنْعِهِ وَحَكَى الْفُقَهَاءُ في الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ في الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ وَالثَّانِي الْفَرْقُ بين الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ التَّعْرِيفِيَّةِ فَمَنَعُوهُ في الْأَوَّلِ وَجَوَّزُوهُ في الثَّانِي كَتَكْلِيفِ الْغَافِلِ وهو مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ ا هـ وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسِخَ إذَا كان مع جِبْرِيلَ عليه السَّلَامُ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ قبل أَنْ يَصِلَ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِالِاتِّفَاقِ كما قَالَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَسُلَيْمٌ وَغَيْرُهُ وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ وُصُولِهِ إلَى النبي عليه السَّلَامُ وَقَبْلَ تَبْلِيغِهِ إلَيْنَا هل يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا قبل الْعِلْمِ بِهِ على وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَسُلَيْمٌ وابن الصَّبَّاغِ في الْعِدَّةِ وَغَيْرُهُمْ وَهُمَا قَوْلَانِ لِلْأُصُولِيِّينَ وَاخْتَارَ الثُّبُوتَ وقال سُلَيْمٌ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَنَصَرَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في التَّبْصِرَةِ وقال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ إنَّهُ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَنَصَرَهُ وَنُقِلَ عن أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ ما لم يَصِلْ إلَيْنَا وَاخْتَارَهُ ابن الْحَاجِبِ وَجَزَمَ بِهِ الرُّويَانِيُّ في بَابِ الْقَضَاءِ وَنَسَبَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ لِلْجُمْهُورِ وقال وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يَثْبُتُ النَّسْخُ شَرَطُوا فيه الْبَلَاغَ فَوَجَبَ كَوْنُ الْخِلَافِ لَفْظِيًّا ا هـ وَلَا شَكَّ أَنَّ من لم يَبْلُغْهُ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا الْمُتَمَكِّنُ وهو الثَّابِتُ في حَقِّهِ وَالثَّانِي غَيْرُ الْمُتَمَكِّنِ وهو مَحَلُّ الْخِلَافِ فَالْجُمْهُورُ على أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ في حَقِّهِ لَا بِمَعْنَى الِامْتِثَالِ وَلَا بِمَعْنَى ثُبُوتِهِ في الذِّمَّةِ وقال بَعْضُهُمْ وَيَثْبُتُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي كَالنَّائِمِ ولم يَصِرْ أَحَدٌ إلَى ثُبُوتِهِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ وقال الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ إنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لو قُدِّرَ أَنَّ من لم يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ أَقْدَمَ على الْحُكْمِ الْأَوَّلِ يَكُونُ ذلك خَطَأً منه بَيْدَ أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ وَيُعْذَرُ لِجَهْلِهِ ا هـ وَلَيْسَ كما قال فإن الْأُسْتَاذَ أَبَا مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيَّ قال إنَّ من أَصْحَابِنَا من قال يَصِحُّ عَمَلُهُ بِالْمَنْسُوخِ إلَى وَقْتِ عِلْمِهِ بِالنَّسْخِ وَمِنْهُمْ من قال لَا يَحْسُنُ الْعَمَلُ بِهِ قبل عِلْمِهِ بِالنَّسْخِ لَكِنَّهُ يُعْذَرُ قال وَلِأَجْلِ هذا الْخِلَافِ خَرَّجُوا عَمَلَ الْوَكِيلِ قبل عِلْمِهِ بِالْعَزْلِ على وَجْهَيْنِ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ في التَّأْثِيمِ وَهَلْ يَثْبُتُ في حُكْمِ الْقَضَاءِ إذْ هو من الْأَحْكَامِ الْوَضْعِيَّةِ هذا فيه تَرَدُّدٌ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ فيه تَكْلِيفُ ما
____________________
(3/161)
لَا يُطَاقُ قال ابن بَرْهَانٍ وَهَكَذَا الْقَوْلُ في الْأَحْكَامِ الْوَارِدَةِ من جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى ولم تَتَّصِلْ بِنَا لِأَنَّ الْعَادَةَ تَخْصِيصُ جَانِبِ النَّسْخِ بِالذِّكْرِ دُونَ الْحُكْمِ الْمُبْتَدَأِ ا هـ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ غَرِيبَةٌ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ في حَقِّ من لم يَبْلُغْهُ اتَّفَقُوا على أَنَّهُ يُخَاطَبُ بِحُكْمِ الْأَوَّلِ إلَى أَنْ يَبْلُغَهُ النَّسْخُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا هل يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ نَاسِخًا قبل الْبُلُوغِ كما أَنَّ الْأَمْرَ أَمْرٌ لِلْمَعْدُومِ على شَرْطِ الْوُجُودِ أو لَا يَتَّصِفُ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ قال الْقَاضِي وهو خِلَافٌ لَفْظِيٌّ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ الْحَقِيقِيُّ مع الَّذِينَ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُمْ يَعْنِي الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْحُكْمَ يَرْتَفِعُ عَمَّنْ لم يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ وقد تَبِعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْقَاضِيَ في جَعْلِ الْخِلَافِ لَفْظِيًّا قال لِأَنَّهُ إنْ كان الْمُرَادُ أَنَّ عليهم الْأَخْذَ بِالنَّاسِخِ قبل بُلُوغِهِ فَتَكْلِيفُ ما لَا يُطَاقُ وَإِنْ أُرِيدَ إلْزَامُ التَّدَارُكِ فَلَا مَنْعَ قَطْعًا وقد قال بَلْ تَظْهَرُ فَائِدَتُهُ في أَنَّهُ هل يَحْتَاجُ في التَّدَارُكِ إلَى خِطَابٍ جَدِيدٍ أو يَكْفِي النَّاسِخُ وقد سَبَقَ عن إلْكِيَا ما يَنْبَغِي اسْتِحْضَارُهُ هُنَا قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةٌ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى إلْحَاقِهَا بِالْمُجْتَهَدَات حتى نَقَلُوا فيها قَوْلَيْنِ من الْوَكِيلِ إذَا عُزِلَ ولم يَبْلُغْهُ الْعَزْلُ هذا كُلُّهُ إذَا بَلَّغَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وهو في الْأَرْضِ فَإِنْ بَلَّغَهُ وهو في السَّمَاءِ كَقَضِيَّةِ الصَّلَاةِ فَهَلْ يُسَمَّى نَسْخًا أَمْ لَا ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ تَسْمِيَتُهُ بِهِ وَمَنَعَ أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ في كِتَابِهِ ذلك لِأَنَّ الْأَمْرَ لم يَقَعْ قَطُّ إلَّا في الْوَقْتِ الثَّانِي قال وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ نَسْخًا لِلتَّخَلُّصِ من تَأْخِيرِ الْبَيَانِ لَجَازَ ذلك في قِصَّةِ أَصْحَابِ الْبَقَرَةِ حين أُمِرُوا بِذَبْحِهَا حتى رَاجَعُوا وَعَيَّنَ لهم فَرَدُّوا فَيَنْبَغِي تَسْمِيَتُهُ نَسْخًا لِأَنَّهُ سَبَبٌ حَادِثٌ بَعْدَ الْأَمْرِ الْمُتَقَدِّمِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الْخِطَابَ قد وُجِّهَ بِهِ فَهُوَ أَوْلَى من الذي لم يُوَاجَهْ بِهِ الْمَفْرُوضُ عليه وَلَا نَزَلَ من السَّمَاءِ قال وَلَا يُسَمِّي أَحَدٌ هذا نَسْخًا وقال ابن عَقِيلٍ من الْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ النَّسْخُ في السَّمَاءِ إذَا كان هُنَاكَ تَكْلِيفٌ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ قد أُسْرِيَ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ كَنَبِيِّنَا صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا يَكُونُ ذلك بَدَاءً خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَمَنَعُوا كَوْنَ الْإِسْرَاءِ يَقَظَةً وقال الْإِمَامُ أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ في كِتَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ تَأْلِيفُهُ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا من أَهْلِ الْعِلْمِ اسْتَجَازَ أَنْ يُطْلَقَ اللَّفْظُ بِنَسْخِ الشَّيْءِ قبل أَنْ يَنْزِلَ من السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ قِيلَ الْقَاشَانِيُّ يُسَمِّي الرُّجُوعَ من خَمْسِينَ صَلَاةً إلَى خَمْسٍ نَسْخًا فَخَرَجَ بِذَلِكَ من قَوْلِك الْأُمَّةَ انْتَهَى
____________________
(3/162)
الْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ عِلْمِ بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ بِوُجُوبِهِ وَهَذِهِ هِيَ مَسْأَلَةُ الْمِعْرَاجِ وقد سَبَقَ حُكْمُهَا وقد ذَكَرَهَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ فَقَالَا إنْ أَبْلَغَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى الْبَعْضِ هل يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْغَائِبِينَ فيه وَجْهَانِ أَشْبَهَهُمَا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِأَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ لَمَّا بَلَغَهُمْ نَسْخُ الْقِبْلَةِ وَهُمْ في الصَّلَاةِ اسْتَدَارُوا وَبَنَوْا ولم يَسْتَأْنِفُوا وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في التَّبْصِرَةِ إذَا نَزَلَ النَّسْخُ على الرَّسُولِ ثَبَتَ النَّسْخُ في حَقِّهِ وفي حَقِّهِمْ في قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَمِنْ قَائِلٍ لَا يَثْبُتُ في حَقِّ الْأُمَّةِ قبل أَنْ يَتَّصِلَ ذلك بِهِمْ وهو قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ ثُمَّ نَصَرَ الشَّيْخُ الْأَوَّلَ وَأَجَابَ عن قِصَّةِ أَهْلِ قُبَاءَ بِأَنَّ الْقِبْلَةَ يَجُوزُ تَرْكُهَا بِالْأَعْذَارِ وَلِهَذَا تُتْرَكُ مع الْعِلْمِ بها في نَوَافِلِ السَّفَرِ فَلِهَذَا لم يُؤَمَّرُوا بِالْإِعَادَةِ وَحَكَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مَذْهَبًا ثَالِثًا بِالتَّفْصِيلِ بين الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ وَخِطَابِ الْوَضْعِ فَمَنَعَهُ في الْأَوَّلِ وَجَوَّزَهُ في الثَّانِي لِأَنَّهُ يَلْتَحِقُ بِالْغَافِلِ وَنَحْوِهِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يَعْلَمَ الْمُكَلَّفُ بِوُجُوبِهِ عليه لَكِنْ لم يَدْخُلْ وَقْتُهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَسَّعًا كما لو قال اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ غَدًا ثُمَّ نُسِخَ عَنْهُمْ في ذلك الْيَوْمِ أو يَكُونَ على الْفَوْرِ ثُمَّ يُنْسَخَ قبل التَّمَكُّنِ من الْفِعْلِ أو يُؤْمَرَ بِالْعِبَادَةِ مُطْلَقًا ثُمَّ يُنْسَخَ قبل مُضِيِّ وَقْتِ التَّمَكُّنِ من فِعْلِهَا فَهَاهُنَا اخْتَلَفُوا فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ من أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ إلَى الْجَوَازِ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَسُلَيْمٌ عن أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ عن الْأَشْعَرِيَّةِ وَجَمَاعَةٍ من الْحَنَفِيَّةِ وَنَقَلَهُ غَيْرُهُمْ عن مُعْتَزِلَةِ الْبَصْرَةِ قال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وهو قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ الْحَقِّ وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ كما قَالَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَمِنْهُمْ من قَيَّدَهُ بِمُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ إلَى الْمَنْعِ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ إنَّهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ وَلِهَذَا حَدَّ النَّسْخَ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ على زَوَالِ مِثْلِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ في الْمُسْتَقْبَلِ قال وَإِنَّمَا مَنَعَهُ الْأَشَاعِرَةُ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وهو قَوْلُ شُيُوخِنَا الْمُتَكَلِّمِينَ قال ابن بَرْهَانٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الصَّيْرَفِيُّ وَكَثِيرٌ من أَصْحَابِنَا وَعَامَّةُ الْمُعْتَزِلَةِ
____________________
(3/163)
وقال صَاحِبُ الْمَصَادِرِ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَهَكَذَا حَكَى الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وابن السَّمْعَانِيِّ الْمَنْعَ عن الصَّيْرَفِيِّ وَنَقَلَ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ عن الصَّيْرَفِيِّ الْجَوَازَ وهو الذي رَأَيْته في كِتَابِهِ قال وهو مَذْهَبُ أبي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ وَعَلَيْهِ مَشَايِخُ ما وَرَاءَ النَّهْرِ وَذَكَرَ الْبَزْدَوِيُّ أَنَّ التَّمَكُّنَ من أَدَاءِ الْعِبَادَةِ ليس بِشَرْطٍ في نَسْخِهَا وَإِنَّمَا الْمَشْرُوطُ هو التَّمَكُّنُ من الْعَزْمِ وقال صَاحِبُ اللُّبَابِ اخْتَلَفُوا في التَّمَكُّنِ من الْفِعْلِ هل هو شَرْطٌ لِجَوَازِ النَّسْخِ قال بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ من أَصْحَابِنَا مِثْلُ أبي بَكْرٍ الْجَصَّاصِ وَالْقَاضِي أبي زَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا وَعَامَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ إنَّهُ شَرْطٌ وقال بَعْضُ مَشَايِخنَا وَعَامَّةُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ليس بِشَرْطٍ حتى لو كان الْأَمْرُ مُعَلِّقًا بِوَقْتٍ جَازَ نَسْخُهُ قبل مَجِيءِ الْوَقْتِ وَكَذَلِكَ إذَا كان مُنَجَّزًا غير مُعَلَّقٍ لَكِنْ لَمَّا لم يَتَمَكَّنْ من الِامْتِثَالِ بِهِ فيه وَقَعَ الْخِلَافُ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ التَّمَكُّنَ من الِاعْتِقَادِ شَرْطٌ ا هـ وقال شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ شَرْطُ جَوَازِ النَّسْخِ عِنْدَنَا التَّمَكُّنُ من عَقْدِ الْقَلْبِ وَأَمَّا الْفِعْلُ وَالتَّمَكُّنُ منه فَلَيْسَ بِشَرْطٍ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ التَّمَكُّنُ من الْفِعْلِ شَرْطٌ قال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ قال أَهْلُ الْحَقِّ لَا نَسْخَ على الْحَقِيقَةِ إلَّا قبل دُخُولِ الْوَقْتِ قال وَاخْتَلَفَ الْمُجَوِّزُونَ لِنَسْخِ الشَّيْءِ قبل وَقْتِهِ فَقِيلَ يَجُوزُ مُطْلَقًا وَلَهُ أَنْ يَنْهَى عن نَفْسِ ما أُمِرَ بِهِ قبل دُخُولِ وَقْتِهِ وَقِيلَ إنَّمَا يَجُوزُ بِشَرْطٍ أَنْ يَنْهَى على غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِإِيقَاعِهِ عليه فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عنه في ذلك الْوَقْتِ على ذلك الْوَجْهِ الذي تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ عليه وَاخْتَلَفُوا في وَجْهِ الْمُغَايَرَةِ على طُرُقٍ إنَّمَا يُؤْمَرُ بِالْفِعْلِ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْأَمْرِ فإذا نُهِيَ عنه قبل وَقْتِهِ زَالَ الْأَمْرُ بِهِ فَصَارَ لِذَلِكَ مَأْمُورًا بِهِ على وَجْهٍ وَمَنْهِيًّا عن إيقَاعِهِ على غَيْرِ الْوَجْهِ الذي تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ وَقِيلَ إنَّمَا يُؤْمَرُ بِالْفِعْلِ في الْوَقْتِ مع انْتِفَاءِ النَّهْيِ عنه بَدَلَ الْأَوَّلِ مع بَقَاءِ الْأَمْرِ وَقِيلَ إنَّمَا يُؤْمَرُ بِالْفِعْلِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُمْنَعَ منه وَقِيلَ بِشَرْطِ أَنْ يَخْتَارَهُ الْمُكَلَّفُ وَيَعْزِمَ عليه فإذا نهى عنه فَإِنَّمَا ذلك لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَخْتَارُهُ ثُمَّ قال الْقَاضِي وَالْمُخْتَارُ عَدَمُ الْقَوْلِ بِالْحَاجَةِ إلَى شَيْءٍ من ذلك قال بَعْضُهُمْ وَحَاصِلُ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ قبل التَّمَكُّنِ هل هو ثَابِتٌ مَوْجُودٌ بِالْفِعْلِ فَيَصِحُّ نَسْخُهُ أو غَيْرُ ثَابِتٍ فَلَا يَصِحُّ كما تَقَدَّمَ في مَسْأَلَةِ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ فَائِدَةَ الْأَمْرِ على تَقْدِيرِ تَجْوِيزِ النَّسْخِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ فَائِدَتَهُ اعْتِقَادُ الْوُجُوبِ لِأَنَّ ما يَجِبُ لِلَّهِ يَكُونُ على مَحْضِ الِابْتِلَاءِ وَيَتَحَقَّقُ الِابْتِلَاءُ في التَّكْلِيفِ
____________________
(3/164)
بِاعْتِقَادِ الْوُجُوبِ الْقِسْمُ الرَّابِعُ أَنْ يَدْخُلَ وَقْتُ الْمَأْمُورِ بِهِ لَكِنْ يُنْسَخُ قبل فِعْلِهِ إمَّا لِكَوْنِهِ مُوَسِّعًا وَإِمَّا لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَشْرَعَ فَيَنْسَخَ فقال سُلَيْمٌ وابن الصَّبَّاغِ في الْعِدَّةِ إنَّهُ لَا خِلَافَ بين أَهْلِ الْعِلْمِ في جَوَازِهِ وَجَعَلَا الْخِلَافَ فِيمَا قبل دُخُولِ الْوَقْتِ وَكَذَلِكَ فَعَلَ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ وَالْقَاضِي من الْحَنَابِلَةِ وَكَذَا نَقَلَ فيه الْإِجْمَاعَ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ قال لِلْمَعْنَى الذي جَازَ نَسْخُهُ بَعْدَ إيجَادِهِ وهو انْقِلَابُ الْمَصْلَحَةِ مَفْسَدَةً وَكَذَا الْآمِدِيُّ في أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ فإنه قال وَالْخِلَافُ إنَّمَا هو فِيمَا قبل التَّمَكُّنِ لَا بَعْدَهُ وَكَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ مُصَرِّحٌ بِهِ وَجَرَى عليه الْعَبْدَرِيّ في شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى فقال النَّسْخُ قبل التَّمَكُّنِ من الْفِعْلِ ثَلَاثُ صُوَرٍ إحْدَاهَا أَنْ يَرِدَ بَعْدَ أَنْ مَضَى من الْوَقْتِ قَدْرُ ما تَقَعُ فيه الْعِبَادَةُ كُلُّهَا الثَّانِيَةُ أَنْ يَرِدَ بَعْدَ أَنْ مَضَى من الْوَقْتِ قَدْرُ ما يَقَعُ فيه بَعْضُهَا فَهَاتَانِ الصُّورَتَانِ مُتَّفَقٌ على جَوَازِ النَّسْخِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةُ فِيهِمَا لِأَنَّ شَرْطَ الْأَمْرِ حَاصِلٌ وهو التَّمَكُّنُ من الْفِعْلِ الثَّالِثَةُ أَنْ يَرِدَ الْأَمْرُ قبل وَقْتِهِ الْمُعْتَدِّ بِهِ ثُمَّ يُنْسَخُ قبل دُخُولِ ذلك الْوَقْتِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ ا هـ وفي هذا رَدٌّ على الْقَرَافِيِّ وَغَيْرِهِ حَيْثُ أَجْرَوْا خِلَافَ الْمُعْتَزِلَةِ هُنَا نعم الْخِلَافُ ثَابِتٌ بِنَقْلِ الْهِنْدِيِّ أَنَّ في بَعْضِ الْمُؤَلَّفَاتِ الْقَدِيمَةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَالْكَرْخِيِّ خَالَفَ فيه وقال لَا يَجُوزُ النَّسْخُ قبل الْفِعْلِ سَوَاءٌ مَضَى من الْوَقْتِ مِقْدَارُ ما يَسَعُهُ أَمْ لم يَمْضِ وقد أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ من أَئِمَّتِنَا حِكَايَةَ الْخِلَافِ في النَّسْخِ قبل الْفِعْلِ وهو يَشْمَلُ هذه الصُّورَةَ وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ فيها ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ فقال إذَا وَرَدَ النَّسْخُ قبل اعْتِقَادِ الْمَنْسُوخِ وَقَبْلَ الْعَمَلِ بِهِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا لَا يَجُوزُ كما لَا يَجُوزُ قبل الِاعْتِقَادِ وَالثَّانِي يَجُوزُ كما يَجُوزُ بَعْدَ الْعَمَلِ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ من أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَالثَّالِثُ لَا يَجُوزُ إلَّا إنْ مَضَى بَعْدَ الِاعْتِقَادِ زَمَانُ الْعَمَلِ بِهِ وَإِنْ لم يُعْمَلْ بِهِ لِاخْتِصَاصِ النَّسْخِ بِتَقْدِيرِهِ التَّكْلِيفَ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ بِمُضِيِّ زَمَانِهِ ا هـ وَقَضِيَّتُهُ جَرَيَانُ الْخِلَافِ مُطْلَقًا فِيمَا قبل التَّمَكُّنِ وَبَعْدَهُ
____________________
(3/165)
وَعَنْ أبي الْعَبَّاسِ بن سُرَيْجٍ حِكَايَةُ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ في النَّسْخِ قبل الْفِعْلِ أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ وَالثَّانِي التَّفْصِيلُ بين أَنْ يُنْقَلَ من فَرْضٍ إلَى إسْقَاطِهِ فَيَجُوزَ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ حَصَلَ فيه الْإِثْبَاتُ لِلتَّخْفِيفِ وَهَذَا الْوَجْهُ رَأَيْته مَحْكِيًّا في كِتَابِ أبي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ الذي أَلَّفَهُ في النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ قال بَابُ ذِكْرِ نَسْخِ الْفَرْضِ الْمَأْمُورِ بِهِ قبل أَنْ يُسْتَعْمَلَ منه شَيْءٌ بِإِسْقَاطِهِ أو بِالنَّقْلِ إلَى غَيْرِهِ قال أبو إِسْحَاقَ لَسْت أَحْفَظُ لِلشَّافِعِيِّ في هذا الْبَابِ شيئا نَصًّا إلَّا ما ذَكَرَهُ في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ من أَنَّ اللَّهَ عز وجل إذَا فَرَضَ شيئا اسْتَعْمَلَ عِبَادَهُ بِهِ ما أَحَبَّ ثُمَّ نَقَلَهُمْ منه إذَا شَاءَ هذا مَعْنَاهُ وَلَيْسَ فيه ما يَقْتَضِي الْجَوَازَ أو الْمَنْعَ لَكِنَّهُ إلَى الْمَنْعِ أَقْرَبُ وقد ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى جَوَازِهِ لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فُرِضَ عليه خَمْسُونَ صَلَاةً حَيْثُ أُسْرِيَ بِهِ ثُمَّ رُدَّ إلَى خَمْسٍ فَصَارَ نَسْخًا قبل اسْتِعْمَالِهِ وَكَذَلِكَ قِصَّةُ إبْرَاهِيمَ في الذَّبْحِ وَنَسْخُ الصَّدَقَةِ عِنْدَ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ وَعَهْدُ النبي عليه السَّلَامُ مع قُرَيْشٍ أَنْ يَرُدَّ عليهم من جَاءَهُ من نِسَائِهِمْ وَذَلِكَ نَقْلٌ عَمَّا أُمِرُوا بِهِ قبل اسْتِعْمَالِهِ قال أبو إِسْحَاقَ وَهَذَا كُلُّهُ مُحْتَمَلٌ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي على مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الشَّيْءِ قبل أَنْ يُسْتَعْمَلَ منه شَيْءٌ وَأَمَّا الِانْفِصَالُ عن جَمِيعِ ما ذَكَرَ على مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْجَوَابُ في ذلك على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ شَيْءٍ لم يُسْتَعْمَلْ منه شَيْءٌ بِأَيِّ وُجُوهٍ النَّسْخِ كان نَقْلًا من فَرْضٍ إلَى غَيْرِهِ أو من وُجُوبٍ إلَى إسْقَاطٍ أو من حَظْرٍ إلَى إبَاحَةٍ أو عَكْسِهِ وَالثَّانِي أَنَّ ذلك جَائِزٌ فِيمَا نُقِلَ من فَرْضٍ إلَى إسْقَاطٍ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ قد حَصَلَ منه الِامْتِنَانُ بِالتَّخْفِيفِ وهو الْمَقْصُودُ وَلِهَذَا قال تَعَالَى الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ فَامْتَنَّ بِالتَّخْفِيفِ بَعْدَ التَّغْلِيظِ فَهَذَا جَائِزٌ فَأَمَّا إذَا نُقِلَ من فَرْضٍ إلَى مِثْلِهِ أو أَغْلَظَ منه فَلَيْسَ ذلك مَوْضِعَ الِامْتِنَانِ وَلَا الْمَقْصِدَ في الْأَمْرِ الْأَوَّلِ إلَّا فِعْلَ ما أُمِرُوا بِهِ وَالنَّقْلُ عن ذلك إلَى مِثْلِهِ لَا مَقْصِدَ فيه يُنْسَبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِعْلًا إلَّا وَيَكُونُ في ذلك مَقْصِدٌ مُعْتَزِلِيٌّ مَعْرُوفٌ ثُمَّ قال
____________________
(3/166)
وَإِنَّمَا حَمَلَ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ النَّسْخِ قبل الْفِعْلِ مُرَاعَاةُ مَذْهَبِهِمْ في الْمَنْعِ من تَأْخِيرِ الْبَيَانِ فَأَرَادُوا تَصْحِيحَ مَذْهَبِهِمْ فَسَمَّوْا ما وَقَعَ التَّأْخِيرُ فيه نَسْخًا لِئَلَّا يَلْزَمَهُمْ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ فَعَدَلُوا عن تَسْمِيَتِهِ بَيَانًا إلَى النَّسْخِ لِذَلِكَ قال وَأَوَّلُ من فَعَلَ ذلك الْقَاشَانِيُّ وقد كان قَوْلُهُ بِتَأْخِيرِ الْبَيَانِ أَوْلَى ثَمَّ وَأَشْبَهَ بِمَذَاهِبِ أَهْلِ الْعِلْمِ في جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ ثُمَّ قال فَإِنْ قُلْنَا بِالْوَجْهِ الثَّانِي فما ذَكَرُوهُ من الْأَدِلَّةِ سَاقِطٌ لِأَنَّ جَمِيعَهَا نُقِلَ من فَرْضٍ إلَى إسْقَاطٍ وَالِامْتِنَانُ في جَمِيعِ ذلك ثَابِتٌ وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ وهو نَفْيُ جَوَازِ ذلك مُطْلَقًا فَالْجَوَابُ عنه أنها كُلُّهَا نَسْخٌ بَعْدَ الشُّرُوعِ في الْأَمْرِ وَنَحْنُ إنَّمَا نَمْنَعُ من قبل أَنْ يُؤْتَى منه بِشَيْءٍ وَقِصَّةُ إبْرَاهِيمَ أُتِيَ فيها بِالْإِضْجَاعِ وَإِمْرَارِ السِّكِّينِ وَالطَّعْنِ بِهِ وَكَذَلِكَ قِصَّةُ النَّجْوَى فَقَدْ فَعَلَهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَقِصَّةُ الصَّلَاةِ لَا نُسَمِّيهِ نَسْخًا لِأَنَّهُ لم يَسْتَقِرَّ الْأَمْرُ إلَّا بِخَمْسٍ وَأَمَّا قِصَّةُ الصُّلْحِ فقال الشَّافِعِيُّ إنَّ الصُّلْحَ كان قد وَقَعَ في الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَرَدَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الرِّجَالَ وَمَنَعَ من رَدِّ النِّسَاءِ وَأَعْطَوْا الْغَرَضَ منه فَقَدْ اُسْتُعْمِلَ بَعْدَ الْفِعْلِ وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُ وُقُوعَ النَّسْخِ بَعْدَ أَنْ يُفْعَلَ بَعْضُهُ هذا خُلَاصَةُ كَلَامِهِ الْقِسْمُ الْخَامِسُ أَنْ يَدْخُلَ وَقْتُهُ فَيَشْرَعَ في فِعْلِهِ لَكِنَّهُ يُنْسَخُ قبل تَمَامِهِ وقد سَبَقَ التَّصْرِيحُ من كَلَامِ أبي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ بِجَوَازِ هذه الْحَالَةِ وقد جَعَلَهَا الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ من صُوَرِ الْخِلَافِ وقال الْقَرَافِيُّ لم أَرَ فيه نَقْلًا وَلَكِنَّ مُقْتَضَى قَوْلِنَا الْجَوَازُ مُطْلَقًا وَمُقْتَضَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يُقَالَ إذَا أتى بِبَعْضِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَأْتِيُّ بِهِ تَحْصُلُ بِهِ مَصْلَحَةٌ أو لَا تَحْصُلُ فَإِنْ لم تَحْصُلْ كما إذَا أُمِرَ بِإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ يَأْتِي بِهِ إلَى قَرِيبٍ من الشَّاطِئِ وكان الْغَرِيقُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ السِّبَاحَةُ إلَى طُلُوعِ الْبَرِّ فإن هذه الصُّورَةَ وَأَشْبَاهَهَا لَا يَجُوزُ فيها النَّسْخُ وَإِنْ حَصَلَ بَعْضُ الْمَقْصُودِ كما إذَا أُمِرَ بِإِشْبَاعِ الْجَائِعِ وَسَقْيِ الْعَطْشَانِ وَإِكْسَاءِ الْعُرْيَانِ فَفَعَلَ الْبَعْضُ فإنه
____________________
(3/167)
يَجُوزُ نَسْخُ الْبَاقِي لِأَنَّ الذي فَعَلَهُ مَقْصُودٌ القسم السادس أن يقع بعد خروج الوقت قبل فعله مقتضى استدلال ابن الحاجب أنه يمتنع بالاتفاق ووجه بأن التكليف بذلك الفعل المأمور بعد مضي وقته ينتفي لانتفاء شرطه وهو الوقت وإذا انتفى فلا يمكن رفعه لامتناع رفع المعدوم لكن صرح الآمدي في الإحكام بالجواز وأنه لا خلاف فيه قيل ولا يتأتى الأمر إذا صرح بوجوب القضاء أو قلنا الأمر بالأدلة يستلزمه والصواب هذه الطريقة فإن أبا الحسين البصري من المعتزلة قطع به فقال في المعتمد نسخ الشيء قبل فعله ضربان نسخ له قبل وقته وهو غير جائز عند شيوخنا المتكلمين وذهب بعض الفقهاء إلى جوازه ونسخ له بعد مضي وقته وهو جائز لأن مثل الفعل يجوز أن يصير في مستقبل الأوقات مفسدة قال ولا فرق في جواز ذلك في العقل بين أن يعصي المكلف أو يطيع ا هـ فهذا تصريح بأن خلاف المعتزلة لا يجيء في هذه الصورة بل هي محل وفاق بيننا وبينهم لكن القاضي في التقريب صرح بجريان خلافهم في هذه المسألة فقال لا يستحيل عندنا أن ينسخ الفعل قبل وقوعه وبعد مضي وقته الذي وقته به لا على أن يقال للمكلف لا تفعله في الوقت الماضي الذي كان قد وقت به لاستحالته ولكن يجوز النسخ له والنهي عنه قبل فعله ومع فعله وبعد مضي وقته بأن تعاد القدرة على فعله أو على تركه في المستقبل لأن ذلك يصح ثم يؤمر المكلف بأن يفعله مرة ثانية فيما بعد إذا عرفه بعينه ثم يقال له قبل دخول وقته الذي وقت له ثانيا لا تفعله فقد نهيناك عنه هذا جائز غير ممتنع ويكون نسخا للشيء قبل وقته وقبل إيقاعه ومنع إيقاعه في وقته الأول قال وهذا لا يصح إلا مع القول بجواز إعادة أفعال العبادات والمعتزلة ينكرونه وعلى إعادة الباقي من أفعال العباد وغير الباقي فلذلك أحالوا نسخ الشيء قبل تقضي وقته إما لاختصاصه بالزمان أو لاستحالة الإعادة عليه وإن كان باقيا ومن وافقهم من الفقهاء على مسألة النسخ فلم يعرف ما أرادوا من ذلك فليحذر الفقيه السليم من بدعتهم
____________________
(3/168)
تنبيهات الأول أن القاضي أبا الطيب الطبري ترجم المسألة بالنسخ قبل وقت الفعل ثم قال وقال بعض العلماء بالأصول إنما قلنا نسخ الحكم قبل وقت الفعل ولم نقل قبل فعله لأن المخالف يقول يجوز قبل فعله وهو نسخ الفعل الثاني والثالث وما بعده قال القاضي والصحيح أن النسخ إذا ورد قبل وقت الفعل بينا أن المراد به إيجاب مقدمات الفعل وكل النسخ عندنا هكذا لأنه تخصيص للزمان وبيان لما يراد باللفظ كالتخصيص في الأعيان ولا نقول إن الله نسخ ما أمر به وأوجب علينا فعله وأراد إيجابه لاستلزامه البداء وهو محال ا هـ وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني جوز الجمهور النسخ قبل الفعل وجعلوا الحقيقة إذا قال لهم صلوا غدا واقتلوا زيدا ثم منعهم منه قبل دخول الوقت إنه إنما أمرهم به على وصف إن وجد سقط الأمر كأن قال صلوا غدا واقتلوا زيدا إن لم تموتوا الثاني قال ابن أبي هريرة والأستاذ أبو إسحاق والخفاف في الخصال كل نسخ فإنما يكون قبل الفعل لأن ما مضى يستحيل لحوق النسخ له لأن النسخ رفع الحكم في المستقبل من الزمان فلا معنى لقول من أبطل النسخ قبل الفعل ولهذا قال إمام الحرمين ترجمة المسألة بالنسخ قبل الفعل مختلة يعني لأنها تفهم صحة النسخ بعد الفعل وهو غير صحيح ولا نسخ أبدا إلا قبل الفعل سواء قلنا إنه رفع أو بيان إذ لا ينعطف النسخ على سابق وإنما المراد به هل يجوز نسخ الفعل قبل دخول وقته أو قبل أن يمضي من وقت الأمر به ما يسعه فأهل الحق على جوازه والمعتزلة على منعه ثم احتج بقصة الخليل عليه السلام فإنه نسخ الأمر قبل وقوعه وهذا الدليل لا يطابق المدعى بظاهره وصور الغزالي المسألة في النسخ قبل التمكن من الفعل وأبو الحسين في النسخ قبل وقت الفعل وتبعه ابن الحاجب وغيره والأحسن أن يقال قبل مضي مقدار ما يسعه من وقته ليشمل ما إذا حضر وقت الفعل ولكن لم يمض مقدار ما يسعه فإن هذه الصورة من محل النزاع أيضا قلت والقائلون بالنسخ قيل أرادوا به نسخ الخطاب الذي لم يتقدم به عمل ألبتة وحينئذ فلا يتوجه ما قاله الإمام فإن المراد نسخ الحكم المتلقى من الخطاب قبل التمكن من مقتضاه ألبتة
____________________
(3/169)
الثالث أصل الخلاف هنا الخلاف السابق في صحة التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه عند وقته وكذلك يعلم المأمور كونه مأمورا قبل التمكن من الامتثال والمعتزلة يمنعونه ولهذا أنكروا ثبوت الأمر المقيد بالشرط فمن قال إنه يمتنع كالمعتزلة لزمه هنا عدم جواز النسخ قبل وقته إذ لا يتمكن قبل الوقت فلا أمر والنسخ يستدعي تحقق الأمر السابق فيستحيل النسخ عند عدمه ويلزم إمام الحرمين موافقتهم هنا لأنه وافقهم على ذلك الأصل أما من لم يقل بذلك كالجمهور فيجوز أن يقول بجوازه وأن لا يقول بذلك لما يظهر له من دليل تخصيصه وليست هذه المسألة فرع تلك على الإطلاق أعني في الجواز وعدمه كما أشعر به كلام الغزالي بل في عدم الجواز فقط وفي تقريب القاضي أن أصل الخلاف هنا الخلاف الكلامي في جواز إعادة أفعال العبادة وقد سبق قريبا مَسْأَلَةٌ لَا يُشْتَرَطُ في النَّسْخِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ إشْعَارُ الْمُكَلَّفِ بِوُقُوعِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وقد سَبَقَتْ مسألة لا يشترط في النسخ أن يخلفه بدل كما في نسخ الصدقة في مناجاة الرسول والإمساك بعد الإفطار في ليالي رمضان خلافا للمعتزلة حيث قالوا لا يجوز نسخ الحكم إلى غير بدل حكاه الإمام في مختصر التقريب واستدل القاضي بأنه يجوز ارتفاع التكليف عن المخاطبين جملة فلأن يجوز ارتفاع عبادة بعينها لا إلى بدل أولى قال والمخالفون في ذلك وهم المعتزلة لا يجوزون ارتفاع التكليف فلهذا خالفونا في هذه المسألة فهذا مثار الخلاف بيننا وبينهم ا هـ لكن المجزوم به في المعتمد لأبي الحسين الجواز وإنما نسب الأصوليون المنع في هذه المسألة لبعض الظاهرية هذا بالنسبة إلى الجواز أما الوقوع فالجمهور عليه وقيل لم يقع وهو ظاهر نص الشافعي فإنه قال في الرسالة وليس ينسخ فرض أبدا إلا إذا أثبت مكانه فرض كما نسخت قبلة بيت المقدس فأثبت مكانها الكعبة قال وكل منسوخ في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم هكذا وقال الشافعي في موضع آخر بعد ذكر نسخ التوجه
____________________
(3/170)
لبيت المقدس وهذا مع إبانته لك أن الناسخ والمنسوخ في الكتاب والسنة دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سن سنة حوله الله عنها إلى سنن أخرى غيرها يصير إليها الناس بعد التي حول عنها لئلا يذهب على عامتهم الناسخ فيثبتون على المنسوخ ولئلا يشتبه على أحد بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسن فيكون في الكتاب شيء يرى بعض من جهل اللسان أو العلم بموقع السنة مع الكتاب بمعانيه أن الكتاب ينسخ السنة ا هـ كلامه وليس ذلك مراده بل هو موافق للجماهير على أن النسخ قد يقع بلا بدل وإنما أراد الشافعي بهذه العبارة كما نبه عليه الصيرفي في شرح الرسالة وأبو إسحاق المروزي في كتاب الناسخ أنه ينقل من حظر إلى إباحة أو إباحة إلى حظر أو يجري على حسب أحوال المفروض ومثله بالمناجاة وكان يناجى النبي صلى الله عليه وسلم بلا تقديم صدقة ثم فرض الله تقديم الصدقة ثم أزال ذلك فردهم إلى ما كانوا عليه فإن شاءوا تقربوا بالصدقة إلى الله وإن شاءوا ناجوه من غير صدقة قال فهذا معنى قول الشافعي فرض مكان فرض فتفهمه ا هـ والحاصل أنهم ينقلون من حكم شرعي إلى مثله ولا يتركون غير محكوم عليهم بشيء وهذا صحيح موجود في كل منسوخ قال أبو إسحاق معنى قولنا لا ينسخ الشيء إلا بمثله يعني ما لا بد له من الناسخ كالنقل من الحظر إلى الإباحة أو من الفرض إلى الندب أو إلى الفرض فأما إن أريد إسقاطه فنسخه إما أن ينسخ برسم مع ثبوت الرسم الأول فلا يكون ذلك إلا بقرار رسمه وإما برفع رسمه مع حكمه بأن ينسى فيستغني بذلك عن رسم يرفع به كسورة الأحزاب التي كانت تعدل سورة البقرة وقال ابن القطان قول الشافعي إن النسخ يكون بأن يبدل مكانه شيئا جوابه من وجهين أحدهما أنه أراد أن الأكثر في الفرائض هو الذي ذكره الثاني أن ذلك يجري مجرى أمر ثان بعبارة أخرى والفرض الأول قد تغير لأن الله تعالى حين أمر به أراد في زمان يوصف إنما خفي ذلك علينا وقدر أنه عام في الأزمنة كلها إلا أنه لا بد أن يعلم أن الفرض الأول قد تغير ألا ترى أنه كان خمسين صلاة فكان علينا أن نعتقد أن الكل واجب فإذا سقط البعض تغير الاعتقاد الذي كنا قد اعتقدناه فلا محالة يتغير شيء ما من الفرض الأول ا هـ والحاصل أن الصور أربع الأولى جواز النسخ بلا بدل لا شك فيه وإنما فيه خلاف المعتزلة
____________________
(3/171)
الثانية وقوعه بلا بدل أصلا بحيث يعود الأمر كهو قبل ورود الشرائع ويتركون غير محكوم عليهم بشيء وهذا هو الذي منع الشافعي وقوعه وإن كان جائزا عقلا كما صرح به إمام الحرمين في التلخيص الثالثة يبدل من الأحكام الشرعية إما إحداث أمر مغاير لما كان واجبا أولا كالكعبة قبل القدس أو الحكم بإباحة ما كان واجبا كالمناجاة والنسخ لم يقع إلا هكذا كما قاله الشافعي وبه صرح إمام الحرمين في التلخيص فقال بعد أن ذكر جواز النسخ لا إلى بدل فإن قال قائل كيف يتصور ذلك ولو وجبت عبادة فمن ضرورة نسخ وجوبها إباحة تركها والإباحة حكم من الأحكام وهو بدل من الحكم الثابت أولا وهو الوجوب قلنا من مذهب من يخالفنا أن العبادة لا تقع إلا بعبادة ولا يجوزون نسخا بإباحة على أن ما طالبتمونا به يتصور بأن يقال الرب سبحانه نسخ حكم العبادة وعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل ورود الشرائع فهذا مما يعقل ولا ينكر فإن استروحوا في منع ذلك بقوله ما ننسخ من آية الآية وهي مصرحة بإثبات البدل قلنا هذا إخبار بأن النسخ يقع على هذا الوجه وليس فيه ما يدل على أنه لا يجوز وقوع النسخ على غير هذا الوجه ا هـ فقد صرح بأن النسخ لا يقع إلا على هذا الوجه بعد أن جوز وقوعه لا إلى بدل الرابعة وقوعه ببدل بشرط أن يكون تأصيلا لأمر آخر كالكعبة بعد المقدس ولم يشترطه الشافعي كما توهم عليه
____________________
(3/172)
فَصْلٌ النَّسْخُ بِبَدَلٍ يَقَعُ على وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنْ يُنْسَخَ بمثله في التَّخْفِيفِ أو التَّغْلِيظِ كَنَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالْكَعْبَةِ الثَّانِي نَسْخُهُ إلَى ما هو أَخَفُّ منه كَنَسْخِ الْعِدَّةِ حَوْلًا بِالْعِدَّةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ لَا خِلَافَ فِيهِمَا الثَّالِثُ نَسْخُهُ إلَى ما هو أَغْلَظُ منه وَالْجُمْهُورُ على جَوَازِهِ كَالْعَكْسِ وَلِوُقُوعِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ الْقِتَالَ في أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نَسَخَهُ بِفَرْضِ الْقِتَالِ وَنَسَخَ الْإِمْسَاكَ في الزِّنَا بِالْجَلْدِ وَذَهَبَ قَوْمٌ من الظَّاهِرِيَّةِ إلَى الْمَنْعِ وَإِلَيْهِ صَارَ ابن دَاوُد كما نَقَلَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَانِعُونَ فَقِيلَ مَنَعَ منه الْعَقْلُ لِمَا فيه من التَّنْفِيرِ وَقِيلَ بَلْ الشَّرْعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَزَعَمَ الْهِنْدِيُّ أَنَّ كُلَّ من قال بِالْجَوَازِ قال بِالْوُقُوعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ حَكَى الْقَاضِي قَوْلًا أَنَّهُ جَائِزٌ وَلَكِنَّهُ لم يَقَعْ وَذَكَرَ ابن بَرْهَانٍ أَنَّ بَعْضَهُمْ نَقَلَ الْمَنْعَ عن الشَّافِعِيِّ قال وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَكَذَا حَكَاهُ عبد الْوَهَّابِ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ قُلْت كَأَنَّ مُسْتَنَدَ النَّقْلِ عنه قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ إنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ أَثْبَتَهَا وَأُخْرَى نَسَخَهَا رَحْمَةً وَتَخْفِيفًا لِعِبَادِهِ هذا لَفْظُهُ وقد اخْتَلَفَ فيه أَصْحَابُنَا كما قَالَهُ أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فقال بَعْضُهُمْ أَشَارَ بِهِ إلَى أَنَّ النَّاسِخَ يَكُونُ أَخَفَّ من الْمَنْسُوخِ لِأَنَّهُ جَعَلَ النَّسْخَ رَحْمَةً وَتَخْفِيفًا وما نُسِخَ بِأَغْلَظَ منه كان تَشْدِيدًا لَا تَخْفِيفًا وقال آخَرُونَ لم يُرِدْ بِهِ جَمِيعَ أَنْوَاعِ النَّسْخِ بَلْ الْبَعْضَ قال أبو إِسْحَاقَ وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ مُخَرَّجٌ على وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ أَطْلَقَ اللَّفْظَ على الْأَكْثَرِ من النَّسْخِ لِأَنَّ أَكْثَرَ ما يَقَعُ فيه النَّسْخُ نَقْلٌ من تَغْلِيظٍ إلَى تَخْفِيفٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ لم يَقْصِدْ ذلك وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْفَرَائِضَ وَأَرَادَ ما لم يَلْزَمْ إثْبَاتُهُ من الْفَرَائِضِ فَأُسْقِطَ قُلْت
____________________
(3/173)
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَوْلُ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا هو الْأَشْبَهُ وقد قال بِكُلٍّ مِنْهُمَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَلَيْسَ في ذلك عن الشَّافِعِيِّ شَيْءٌ نَقْطَعُ بِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَشَارَ بِهِ إلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ في النَّسْخِ وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ لِأَنَّ النَّسْخَ لِلِابْتِلَاءِ وقد يَكُونُ لِمَصْلَحَةٍ تَارَةً في النَّقْلِ إلَى ما هو أَخَفُّ وَتَارَةً أُشَقُّ الثَّالِثُ نَسْخُ التَّخْيِيرِ بين أَمْرَيْنِ بِتَعْيِينِ أَحَدِهِمَا وهو رَاجِعٌ إلَى النَّسْخِ بِالْأَثْقَلِ كَاَلَّذِي كان في صَدْرِ الْإِسْلَامِ بين التَّخْيِيرِ في صَوْمِ رَمَضَانَ بِالْفِدْيَةِ وَالصِّيَامِ بِقَوْلِهِ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ الْآيَةَ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَيَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إلَى ما سَقَطَ وُجُوبُهُ إلَى النَّدْبِ كَنَسْخِ ثَبَاتِ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ إلَى ثَبَاتِهِ لِلِاثْنَيْنِ فَكَانَ ثَبَاتُهُ لِلْعَشَرَةِ مَنْدُوبًا وَنَسْخِ وُجُوبِ قِيَامِ اللَّيْلِ فَجُعِلَ نَدْبًا وَإِلَى ما سَقَطَ وُجُوبُهُ إلَى الْإِبَاحَةِ كَتَرْكِ الْمُبَاشَرَةِ بِاللَّيْلِ لِلصَّائِمِ بَعْدَ النَّوْمِ إلَى ما سَقَطَ تَحْرِيمُهُ إلَى الْإِبَاحَةِ كَزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ مَسْأَلَةٌ يَدْخُلُ النَّسْخُ في جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ يَدْخُلُ النَّسْخُ في كل حُكْمٍ شَرْعِيٍّ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِيمَا حُسْنُهُ وَقُبْحُهُ ذَاتِيٌّ أو لَازِمٌ له كَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَوَافَقَهُمْ الصَّيْرَفِيُّ كما رَأَيْته في كِتَابِهِ فقال الْأَشْيَاءُ في الْعُقُودِ على ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ أَحَدُهَا وَاجِبٌ لَا يَجُوزُ النَّهْيُ عنه وهو الِاعْتِرَافُ لِلْمُنْعِمِ بِالْإِحْسَانِ وَلِلْخَالِقِ بِالتَّعْظِيمِ وَاعْتِقَادُ تَوْحِيدِهِ وَالثَّانِي مَحْظُورٌ لَا تَجُوزُ إبَاحَتُهُ كَإِبَاحَةِ الْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَنَحْوِهِ وَالثَّالِثُ ما يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ الْعِبَادُ بِهِ وَيَجُوزَ أَنْ لَا يَأْتُوا وَهَذَا هو الذي يَقَعُ فيه النَّسْخُ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّ النَّهْيَ عنه وَالْأَمْرَ بِهِ لَا يَدْفَعُهُ الْعَقْلُ فَجَازَ أَنْ يُوقِعَهُ اللَّهُ في زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ وفي مَكَان دُونَ مَكَان لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِهِ أَلْبَتَّةَ وَلَا يَقَعُ النَّسْخُ في غَيْرِ ذلك وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ النَّسْخُ في التَّوْحِيدِ وَلَا في صِفَةٍ من صِفَاتِهِ هذا لَفْظُهُ
____________________
(3/174)
وَهَكَذَا قال أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ في كِتَابِهِ لَا يَجُوزُ النَّسْخُ في تَوْحِيدِ اللَّهِ وما أُمِرَ بِهِ من الِاعْتِرَافِ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَالِامْتِثَالِ لِأَمْرِهِ وَالِاتِّبَاعِ لِرُسُلِهِ وَالْكُفْرِ بِالشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَائِهِ وَلَا في صِفَاتِ اللَّهِ ا هـ وقد سَبَقَ مِثْلُهُ عن سُلَيْمٍ وَاتَّفَقَ الْكُلُّ على جَوَازِ زَوَالِ التَّكَالِيفِ بِأَسْرِهَا عن الْمُكَلَّفِ لِزَوَالِ شَرْطِهِ كَالْعَقْلِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى اللَّهُ الْمُكَلَّفَ عن مَعْرِفَتِهِ سُبْحَانَهُ إلَّا إذَا جَوَّزْنَا تَكْلِيفَ ما لَا يُطَاقُ وَاخْتَلَفُوا في زَوَالِهَا بِالنَّسْخِ فَمَنَعَهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْغَزَالِيُّ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ التَّكْلِيفَ بِمَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيِّ حَيْثُ ذَكَرَا فيه لو عَلَّقَ الطَّلَاقَ على ما يَسْتَحِيلُ شَرْعًا كما لو قال إنْ نُسِخَ وُجُوبُ الْمَكْتُوبَاتِ الْخَمْسِ أو صَوْمُ رَمَضَانَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ يَقَعُ في الْحَالِ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ جَوَازُهُ لِأَنَّهَا أَحْكَامٌ كَغَيْرِهَا لَكِنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِنَا كما ذَكَرْنَا على الْمَنْعِ مَسْأَلَةٌ في جَوَازِ نَسْخِ الْمُقِرُّونَ بِكَلِمَةِ التَّأْبِيدِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ وقال قال الْجَصَّاصُ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الْمَنْعُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْزَمَنَا اعْتِقَادَهُ بَاقِيًا على سَبِيلِ التَّأْبِيدِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَقَاؤُهُ مُؤَقَّتًا قال وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ جَوَازُهُ كَالْمُطْلَقِ وَكَلِمَةُ التَّأْبِيدِ تُسْتَعْمَلُ لِلدَّوَامِ الْمَعْهُودِ قُلْت وقد سَبَقَ نَظِيرُهُ في التَّخْصِيصِ لِلْحُكْمِ الْمُؤَكِّدِ مَسْأَلَةٌ في نَسْخِ الْأَخْبَارِ الْخَبَر إمَّا أَنْ يَنْسَخَ لَفْظَهُ أو مَدْلُولَهُ وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَنْسَخَ تَكْلِيفًا بِأَنْ يُخْبِرَ بِهِ أو تِلَاوَتَهُ وَلَا خِلَافَ في جَوَازِهِ سَوَاءٌ كان مَاضِيًا أو مُسْتَقْبَلًا فِيمَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ كَإِيمَانِ زَيْدٍ أَمْ لَا وَسَيَأْتِي حَدِيثُ لو أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ من ذَهَبٍ لَابْتَغَى لَهُمَا ثَالِثًا لِأَنَّهُ من الْمَنْسُوخِ تِلَاوَتُهُ وهو
____________________
(3/175)
خَبَرٌ لَكِنْ هل يَجُوزُ نَسْخُ تَكْلِيفِنَا بِالْإِخْبَارِ عَمَّا لَا يَتَغَيَّرُ تَكْلِيفًا بِالْإِخْبَارِ بِنَقِيضِهِ مَنَعَهُ الْمُعْتَزِلَةُ لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَالتَّكْلِيفُ فيه قَبِيحٌ قال الْآمِدِيُّ وَهَذَا مَبْنِيٌّ على قَاعِدَةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْبَاطِلَةِ عِنْدَنَا قال وَعَلَى هذا فَلَا مَانِعَ من التَّكْلِيفِ بِالْخَبَرِ نَقِيضَ الْحَقِّ وَالثَّانِي وهو نَسْخُ مَدْلُولِهِ وَثَمَرَتِهِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُلَقَّبَةُ بِنَسْخٍ الْأَخْبَارِ بين الْأُصُولِيِّينَ فَنَنْظُرُ فَإِنْ كان مِمَّا لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهُ بِأَنْ لَا يَقَعَ إلَّا على وَجْهٍ وَاحِدٍ كَصِفَاتِ اللَّهِ وَخَبَرِ ما كان من الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ وما يَكُونُ من السَّاعَةِ وَآيَاتِهَا كَخُرُوجِ الدَّجَّالِ فَلَا يَجُوزُ نَسْخُهُ بِالِاتِّفَاقِ كما قَالَهُ أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْكَذِبِ وَإِنْ كان مِمَّا يَصِحُّ تَغْيِيرُهُ بِأَنْ يَقَعَ على غَيْرِ الْوَجْهِ الْمُخْبَرِ عنه مَاضِيًا كان أو مُسْتَقْبَلًا أو وَعْدًا أو وَعِيدًا أو خَبَرًا عن حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ فَذَهَبَ أبو عبد اللَّهِ وأبو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيَّانِ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ إلَى جَوَازِهِ مُطْلَقًا وَنَسَبَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ إلَى الْمُعْظَمِ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إلَى الْمَنْعِ منهم أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ كما رَأَيْته في كِتَابِهِ وأبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ كما رَأَيْته في كِتَابِهِ في النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَالْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ أبو هَاشِمٍ وابن السَّمْعَانِيِّ وابن الْحَاجِبِ وقال الْأَصْفَهَانِيُّ إنَّهُ الْحَقُّ وَمِنْهُمْ من فَصَلَ وَمَنَعَ في الْمَاضِي لِأَنَّهُ يَكُونُ تَكْذِيبًا دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ لِجَرَيَانِهِ مَجْرَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَيَجُوزُ أَنْ يُرْفَعَ وَلِأَنَّ الْكَذِبَ يَخْتَصُّ بِالْمَاضِي وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ وَلِهَذَا قال الشَّافِعِيُّ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ وَإِنَّمَا يُسَمَّى من لم يَفِ بِالْوَعْدِ مُخْلِفًا لَا كَاذِبًا وَهَذَا التَّفْصِيلُ جَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ وَجَرَى عليه الْبَيْضَاوِيُّ في الْمِنْهَاجِ وَسَبَقَهُمَا إلَيْهِ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ فقال الْخَبَرُ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا ما يُمْنَعُ نَسْخُهُ كما حَكَاهُ اللَّهُ لنا عن الْأُمَمِ السَّالِفَةِ كَقَوْلِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا وَالثَّانِي ما كان من بَابِ الْأَخْبَارِ الْكَائِنَةِ كَقَوْلِهِ من صلى دخل الْجَنَّةَ وَمَنْ زَنَى دخل النَّارَ فَهَذَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ فَيُقَالُ بَعْدَ ذلك من صلى أَدْخَلْته النَّارَ على حَسَبِ الْمَصْلَحَةِ ا هـ وَقِيلَ إنْ كان الْخَبَرُ الْأَوَّلُ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أو اسْتِثْنَاءٍ جَازَ نَسْخُهُ قال ابن مُقْلَةَ
____________________
(3/176)