الرَّابِعُ عَكْسُهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قد وُضِعَ لِلْكُلِّ أَيْ لِكُلِّ وَاحِدٍ من تِلْكَ الْمَعَانِي أو لَا وَالْأَوَّلُ الْمُشْتَرَكُ كَالْعَيْنِ لِمَدْلُولَاتِهَا الْمُتَعَدِّدَةِ وَالثَّانِي أَنْ لَا يُوضَعَ لِكُلِّ وَاحِدٍ بَلْ لِمَعْنًى ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ فَإِمَّا أَنْ يَنْتَقِلَ لِعَلَاقَةٍ أو لَا فَإِنْ لم يَنْتَقِلْ لِعَلَاقَةٍ فَهُوَ الْمُرْتَجَلُ قَالَهُ الْإِمَامُ وهو مُخَالِفٌ لِاصْطِلَاحِ النُّحَاةِ فإن الْمُرْتَجَلَ عِنْدَهُمْ هو الذي لم يُسْبَقْ بِوَضْعٍ كَغَطَفَانَ مَأْخُوذٌ من قَوْلِهِمْ شِعْرٌ مُرْتَجَلٌ أَيْ لم يُسْبَقْ بِفِكْرٍ مَأْخُوذٌ من الرِّجْلِ لِأَنَّهُ إذَا لم يُسْبَقْ بِفِكْرِ مُتَأَمِّلِهِ كَالْوَاقِفِ على رِجْلٍ فإنه لَا يَتَمَكَّنُ من النَّظَرِ وَإِنْ نُقِلَ لِعَلَاقَةٍ فَإِمَّا أَنْ تَقْوَى في الثَّانِي أو لَا وَالْأَوَّلُ الْمَنْقُولُ ثُمَّ إنْ كان النَّاقِلُ الشَّرْعَ كَالصَّلَاةِ سُمِّيَ بِالْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ أو الْعُرْفِ الْعَامِّ فَالْعُرْفِيَّةِ أو الْخَاصِّ كَاصْطِلَاحِ النُّحَاةِ على الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ سُمِّيَ بِالِاصْطِلَاحِيَّةِ وَإِنَّمَا أُطْلِقَ على هذا نَقْلًا لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ لَا تَبْقَى زَمَنَيْنِ وما لَا يَقْبَلُ الْبَقَاءَ لَا يَقْبَلُ التَّحْوِيلَ وَلَكِنْ لَمَّا وُضِعَ لِشَيْءٍ ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ في غَيْرِهِ حتى غَلَبَ عليه فَكَأَنَّهُ قد حُوِّلَ من مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ وَالثَّانِي وهو أَنْ لَا يَكُونَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ على الْمَنْقُولِ إلَيْهِ أَقْوَى من دَلَالَتِهِ على الْمَنْقُولِ عنه فإن الْأَوَّلَ يُسَمَّى بِالنِّسْبَةِ إلَى اسْتِعْمَالِهِ في الْأَوَّلِ حَقِيقَةً وَالثَّانِيَ مَجَازًا وقال بَعْضُهُمْ الْمَجَازُ ثَلَاثُهُ أَقْسَامٍ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ في غَيْرِ مَوْضُوعِهِ إنْ لم يَكُنْ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ما وُضِعَ له فَهُوَ الْمُرْتَجَلُ وَإِنْ كان فَإِنْ لم يَحْسُنْ فيه أَدَاةُ التَّشْبِيهِ فَهُوَ الِاسْتِعَارَةُ وَإِنْ حَسُنَ ذلك فَهُوَ مَجَازُ التَّشْبِيهِ وَفَائِدَةُ الْمُرْتَجَلِ التَّوَسُّعُ في الْكَلَامِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَقْسَامَ الْأُوَلَ الْمُتَّحِدَةَ الْمَعْنَى نُصُوصٌ لِأَنَّ لِكُلِّ لَفْظٍ منها فَرْدًا مُعَيَّنًا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ وَقَوْلُنَا الْمُتَّحِدَةَ الْمَعْنَى يُخْرِجُ الْعَيْنَ وَالْقُرْءَ فَإِنَّهَا مُتَبَايِنَةٌ مع أنها لَيْسَتْ بِنُصُوصٍ لِأَجْلِ الِاشْتِرَاكِ وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ دَلَالَتَهُ على كل وَاحِدٍ من الْمَعَانِي على السَّوَاءِ أَيْ مُتَسَاوِيَانِ في الْفَهْمِ فَلَيْسَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمَا مَعًا مُشْتَرَكًا وَبِالنِّسْبَةِ إلَى كل وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ مُجْمَلًا وَإِلَّا فَإِنْ كانت دَلَالَتُهُ على بَعْضِهَا أَرْجَحَ فَالطَّرَفُ الرَّاجِحُ ظَاهِرٌ لِمَا فيه من الظُّهُورِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ وقد سَمَّاهُ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا نَصًّا لِمُلَاحَظَةِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالْمَرْجُوحُ مُؤَوَّلٌ لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَى الظُّهُورِ عِنْدَ مُسَاعَدَةِ الدَّلِيلِ فَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ظَاهِرٌ في نَفْيِ الْإِجْزَاءِ رَاجِحٌ وهو مَرْجُوحٌ في نَفْيِ الْكَمَالِ وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكِ بين النَّصِّ وَالظَّاهِرِ من الرُّجْحَانِ يُسَمَّى الْمُحْكَمَ لِإِحْكَامِ عِبَارَتِهِ
____________________
(1/437)
وَإِثْبَاتِهِ فَالْمُحْكَمُ جِنْسٌ لِنَوْعَيْ النَّصِّ وَالظَّاهِرِ وَمُقَابِلُهُمَا الْمُجْمَلُ وَالْمُؤَوَّلُ وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا من عَدَمِ الرُّجْحَانِ يُسَمَّى الْمُتَشَابِهَ فَهُوَ جِنْسٌ لِنَوْعَيْ الْمُجْمَلِ وَالْمُؤَوَّلِ وَأَصْلُ هذا الِاصْطِلَاحِ مَأْخُوذٌ من قَوْله تَعَالَى منه آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ تَقْسِيمُ اللَّفْظِ الْمُرَكَّبِ وهو إمَّا تَامٌّ أو غَيْرُ تَامٍّ فَأَمَّا التَّامُّ فَهُوَ الذي يَحْسُنُ السُّكُوتُ عليه وَيُسَمَّى كَلَامًا قال الزَّمَخْشَرِيُّ وَجُمْلَةٌ وَالصَّوَابُ أَنَّ الْجُمْلَةَ أَعَمُّ من الْكَلَامِ لِأَنَّ شَرْطَ الْكَلَامِ الْإِفَادَةُ بِخِلَافِ الْجُمْلَةِ وَلِهَذَا يَقُولُونَ جُمْلَةُ الشَّرْطِ جُمْلَةُ الْجَوَابِ وهو ليس بِمُفِيدٍ فَلَيْسَ كَلَامًا وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ شَرَطَ قَوْمٌ من النُّحَاةِ أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا لِلسَّامِعِ فَائِدَةً غير مَعْلُومَةٍ له وَالصَّوَابُ حُصُولُ حَقِيقَةِ الْكَلَامِ بِمُجَرَّدِ الْإِسْنَادِ الذي يَصِحُّ السُّكُوتُ عليه وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الْقَضَايَا الْبَدِيهِيَّةُ كُلُّهَا لَيْسَتْ كَلَامًا وهو بَاطِلٌ لِوُجُوبِ انْتِهَاءِ جَمِيعِ الدَّلَائِلِ إلَيْهَا وَحَكَى ابن فَارِسٍ عن بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمُهْمَلَ يُطْلَقُ عليه كَلَامٌ وَخَطَّأَهُ قال وَأَهْلُ اللُّغَةِ لم يَذْكُرُوهُ في أَقْسَامِ الْكَلَامِ وَحَكَى بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ حَكَى في كِتَابِهِ الْإِرْشَادِ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا في أَنَّ الْمُهْمَلَ كَلَامٌ أو لَا قال وَالْأَشْبَهُ أَنْ يُسَمَّى كَلَامًا مَجَازًا وَلَا يَتَأَلَّفُ الْكَلَامُ إلَّا من اسْمَيْنِ أو اسْمٍ وَفِعْلٍ إمَّا مَلْفُوظٌ بِهِ كَقَامَ زَيْدٌ أو مُقَدَّرٌ كَ يا زَيْدُ فإن حَرْفَ النِّدَاءِ في تَقْدِيرِ الْفِعْلِ وهو أَدْعُو زَيْدًا وَاعْتُرِضَ على هذا بِأَنَّهُ لو كان كَذَلِكَ لَاحْتَمَلَ التَّكْذِيبَ وَالتَّصْدِيقَ وَسَنَذْكُرُ جَوَابُهُ وزاد بَعْضُهُمْ تَرْكِيبَ الْحُرُوفِ مع ما هو في تَقْدِيرِ الِاسْمِ نحو أَمَا أَنَّك ذَاهِبٌ بِفَتْحِ أَنَّ وَزَعَمَ ابن خَرُوفٍ أَنَّ هذا من بَابِ يا زَيْدُ على مَذْهَبِ أبي عَلِيٍّ وهو مَرْدُودٌ بِأَنَّ أَنَّ وَإِنْ كان في تَقْدِيرِ مُفْرَدٍ فإن في الْكَلَامِ مُسْنَدًا وَمُسْنَدًا إلَيْهِ وَجَوَّزَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ ائْتِلَافَهُ من فِعْلٍ وَحَرْفٍ نحو قد قام وهو مَرْدُودٌ بِأَنَّ هذا
____________________
(1/438)
إنَّمَا يُفِيدُ لِتَصَوُّرِ ضَمِيرٍ في الْفِعْلِ الذي هو في قام فَيَكُونُ الْمَعْنَى قد قام فُلَانٌ وَاشْتَرَطَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ فيه أَنْ يَكُونَ من نَاطِقٍ وَاحِدٍ فَلَوْ اصْطَلَحَ اثْنَانِ على أَنْ يَذْكُرَ أَحَدُهُمَا فِعْلًا أو مُبْتَدَأً وَالْآخَرُ فَاعِلُ ذلك الْفِعْلِ أو خَبَرُ ذلك الْمُبْتَدَأِ فَلَيْسَ بِكَلَامٍ وَتَبِعَهُ الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى في الْكَلَامِ على تَخْصِيصِ الْعَامِّ هل يُغَيِّرُ صِفَتَهُ وَرَدَّ ابن مَالِكٍ ذلك وقال الْمَجْمُوعُ كَلَامٌ لِاشْتِمَالِهِ على حَدِّهِ وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ النَّاطِقِ كما لَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الْكَاتِبِ في كَوْنِ الْخَطِّ خَطًّا ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فيه في مَوَاضِعَ أَحَدُهَا أَنَّهُ هل يُحَدُّ فَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ وقال إنَّمَا يُبَيَّنُ بِالتَّفْصِيلِ لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ من الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ وَلَا عِبَارَةَ تُحِيطُ بِذَلِكَ إلَّا بِتَطْوِيلٍ يُصَانُ الْحَدُّ عنه وَالْجُمْهُورُ على أَنَّهُ يُحَدُّ وَلِلْقَاضِي فيه قَوْلَانِ وَاسْتَقَرَّ رَأْيُهُ على أَنَّهُ يُحَدُّ كَالْعَلَمِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فقال الْأَشْعَرِيُّ ما أُوجِبَ لِمَحَلِّ كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْقَوْلُ الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ التي تَدُلُّ عليه الْعِبَارَاتُ وَزُيِّفَ بِأَنَّ الْكَلَامَ هو الْقَوْلُ فَكَيْفَ يُحَدُّ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ وَقَوْلُهُ الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ مَجَازٌ فإن الْقَائِمَ من صِفَاتِ الْعُقَلَاءِ ثُمَّ إنَّ الدَّلَالَةَ لَا تَسْتَقِلُّ بها الْأَلْفَاظُ بَلْ لَا بُدَّ مَعَهَا من قَرِينَةٍ الثَّانِي اخْتَلَفُوا وَهَلْ هو حَقِيقَةٌ في اللِّسَانِيِّ أو النَّفْسَانِيِّ فيه ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ تَقَدَّمَتْ مَحْكِيَّةً عن الْأَشْعَرِيِّ وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُخْتَارُ الثَّانِي وَيَتَخَرَّجُ على ذلك مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الْكَلَامَ في الصَّلَاةِ مُطْلَقًا مُبْطِلٌ فَلَوْ نَظَرَ الْمُصَلِّي في مَكْتُوبٍ غَيْرِ قُرْآنٍ وَرَدَّدَ ما فيه في نَفْسِهِ لم تَبْطُلْ وَقِيلَ تَبْطُلُ إنْ طَالَ حَكَاهُ ابن كَجٍّ عن النَّصِّ الثَّانِي إذَا حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ فَتَكَلَّمَ في نَفْسِهِ من غَيْرِ أَنْ يُخَاطِبَ أَحَدًا أو صلى وسلم في صَلَاتِهِ هل يَحْنَثُ قال الْخُوَارِزْمِيُّ في الْكَافِي يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدَهُمَا لَا يَحْنَثُ وَيُحْمَلُ على الْكَلَامِ الْمُتَعَارَفِ بين الناس قال وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ كَلَامٌ حَقِيقَةً وَاعْلَمْ أَنَّهُ لم يُفَرِّعْ أَئِمَّتُنَا على الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ وَلَا اعْتَبَرُوهُ بِمُجَرَّدِهِ في إثْبَاتِ الْعُقُودِ وَلَا في فَسْخِهَا ولم يُوقِعُوا الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ بِالنِّيَّةِ وَإِنْ صَمَّمَ عليها بِقَلْبِهِ لِأَنَّ النِّيَّةَ غَيْرُ الْمَنْوِيِّ فَلَا يَسْتَلْزِمُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ له بِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ
____________________
(1/439)
لِأُمَّتِي ما حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا ما لم تَكَلَّمْ أو تَعْمَلْ وَوَجْهُ اخْتِلَافِ قَوْلِ الْأَصْحَابِ فِيمَا لو حَرَّكَ لِسَانَهُ بِالطَّلَاقِ ولم يَرْفَعْ صَوْتَهُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ السَّمِيعُ بِنَفْسِهِ أَنَّ تَحْرِيكَ اللِّسَانِ نُطْقٌ وَإِنَّمَا لم يَثْبُتُوا له حُكْمَ الْكَلَامِ على أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ كما لم يَجْعَلُوهُ قِرَاءَةً إذَا لم يُسْمِعْ نَفْسَهُ وَلِأَنَّ الْعُقُودَ الْمُفْتَقِرَةَ إلَى الْإِشْهَادِ تَفْتَقِرُ إلَى سَمَاعِ الشَّاهِدِ وَطَرِيقِ الصَّوْتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَقْسَامُ الْكَلَامِ بِاعْتِبَارِ ما يَتَرَتَّبُ عليه من الْمَعْنَى وَيَنْقَسِمُ الْكَلَامُ بِاعْتِبَارِ ما يَتَرَتَّبُ عليه من الْمَعْنَى إلَى أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُفِيدَ طَلَبًا بِالْوَضْعِ أو لَا وَالْأَوَّلُ إنْ كان الطَّلَبُ لِذِكْرِ مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ فَهُوَ الِاسْتِفْهَامُ كَقَوْلِك ما هذا وَمَنْ هذا وَإِنْ كان لِتَحْصِيلِ أَمْرٍ من الْأُمُورِ فَإِنْ كان مع الِاسْتِعْلَاءِ فَأَمْرٌ أو مع التَّسَاوِي فَالْتِمَاسٌ أو مع التَّسَفُّلِ فَدُعَاءٌ وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ أو لَا وَالْأَوَّلُ الْخَبَرُ وَالثَّانِي التَّنْبِيهُ وَيَنْدَرِجُ فيه التَّمَنِّي وَالتَّرَجِّي وَالْقَسَمُ وَالنِّدَاءُ وَيُسَمَّى الْخَبَرُ قَضِيَّةً لِأَنَّك قَضَيْت فيها بِأَحَدِهِمَا على الْآخَرِ وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ من جُزْئَيْهَا مَحْكُومًا عليه وَالْآخَرُ مَحْكُومًا بِهِ وَالْمَنْطِقِيُّونَ يُسَمُّونَ الْأَوَّلَ مَوْضُوعًا وَالثَّانِيَ مَحْمُولًا ثُمَّ الْقَضِيَّةُ إمَّا كُلِّيَّةً أو جُزْئِيَّةً أو صَالِحَةً لَهُمَا وَتُسَمَّى الْمُهْمَلَةُ وَصِدْقُهَا على الْجُزْئِيِّ ضَرُورِيٌّ فَأَمَّا صِدْقُهَا على الْكُلِّيِّ فَمَنَعَهُ الْمَنْطِقِيُّونَ وَأَمَّا لُغَةُ الْعَرَبِ فَتَقْتَضِي الْحُكْمَ عليه بِالِاسْتِغْرَاقِ وَعَلَيْهِ جَرَى الْأُصُولِيُّونَ وما ذَكَرْنَاهُ من كَوْنِ النِّدَاءِ من جُمْلَةِ أَقْسَامِ الْإِنْشَاءِ لَا شَكَّ فيه وَزَعَمَ ابن بَابْشَاذَ النَّحْوِيُّ أَنَّ قَوْلَهُمْ في الْقَذْفِ يا فَاسِقُ يا زَانِي مِمَّا يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ وَغَلَّطُوهُ بِأَنَّ التَّكْذِيبَ لَا يَرِدُ على النِّدَاءِ إذْ لَا فَرْقَ بين نِدَاءِ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِيقَةِ التَّذْكِيرِ وَإِنَّمَا يُرَدُّ على أَنَّهُ ليس فيه تِلْكَ الصِّفَةُ نَفْسُهَا وَذَلِكَ غَيْرُ النِّدَاءِ وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ بَرْهَانٍ في الْغُرَّةِ إذَا نَادَيْت وَصْفًا فَالْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةٌ وإذا نَادَيْت اسْمًا فَالْجُمْلَةُ لَيْسَتْ بِخَبَرِيَّةٍ وَلِهَذَا لو قال يا زَانِيَةُ وَجَبَ الْحَدُّ نعم اخْتَلَفُوا في نَاصِبِ الْمُنَادَى فَقِيلَ فِعْلٌ مُضْمَرٌ أَيْ أَدْعُو زَيْدًا وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إخْرَاجُ النِّدَاءِ إلَى بَابِ الْإِخْبَارِ الذي يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ وَقِيلَ الْحَرْفُ وهو يا لِأَنَّهُ صَارَ بَدَلًا من الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ بِدَلِيلِ أنها أُمِيلَتْ وقال الْعَبْدَرِيُّ يا اسْمُ فِعْلٍ فَنَصَبَتْ كَنَصْبِهِ لِأَنَّ يا اسْمٌ لِقَوْلِك أُنَادِي
____________________
(1/440)
كما أَنَّ أُفٍّ اسْمٌ لِقَوْلِك أَتَضَجَّرُ وَرُدَّ بِأَنَّ أُنَادِي خَبَرٌ وَلَيْسَ يا بِخَبَرٍ وَمِنْ شَرْطِ اسْمِ الْفِعْلِ أَنْ يُوَافِقَهُ في قَبُولِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَعَدَمِهِ وقد خَطَّأَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ في تَفْسِيرِهِ في أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ من فَسَّرَ قَوْلَنَا يا زَيْدُ بِأُنَادِي من وُجُوهٍ حَاصِلُهَا يَرْجِعُ إلَى أَنَّ يا زَيْدُ إنْشَاءٌ وَقَوْلُنَا أُنَادِي خَبَرٌ وَلِأَنَّهُ لو كان كَذَلِكَ لَصَلَحَ قَوْلُنَا يا زَيْدُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِعَمْرٍو كما صَلَحَ قَوْلُنَا أُنَادِي زَيْدًا لِذَلِكَ وَرَدَّ عليه بَعْضُهُمْ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أُنَادِي الذي هو بِمَعْنَى يا زَيْدُ خَبَرٌ وَإِنَّمَا هو إنْشَاءٌ نعم الْخَبَرُ الذي هو أُنَادِي زَيْدًا ليس هو بهذا الْمَعْنَى وَأَجَابَ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ الْمُرْسِيُّ بِأَنَّ الْخَبَرَ قد يُنْقَلُ من الْخَبَرِيَّةِ إلَى الْإِنْشَائِيَّةِ كَأَلْفَاظِ الْعُقُودِ التي يُقْصَدُ بها اسْتِحْدَاثُ الْأَحْكَامِ بِأَنَّهَا بَعْدَ نَقْلِهَا إلَى الْإِنْشَاءِ لم تَبْقَ تَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَكَذَلِكَ هذا وَكُلُّ هذا غَفْلَةٌ عن تَحْقِيقِ الْمَحْذُوفِ في الْمُنَادَى وَسِيبَوَيْهِ لم يُقَدِّرْ يا زَيْدُ بِأُنَادِي زَيْدًا بَلْ قَدَّرَهُ يا أُنَادِي زَيْدًا كَأَنَّ يا أَوَّلًا تَنْبِيهٌ غَيْرُ خَاصٍّ يُمْكِنُ أَنْ يَتَنَبَّهَ بِهِ من سَمِعَهُ فَبَيَّنَ الْمُنَبَّهُ بَعْدَ هذا التَّنْبِيهِ غَيْرِ الْخَاصِّ أَنَّهُ خَاصٌّ فَتَقْدِيرُ الْفِعْلِ في النِّدَاءِ على مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى وَلَا يُغَيِّرُهُ من بَابِ الْإِنْشَاءِ إلَى الْخَبَرِ كما قالوا بَلْ هو كَتَقْدِيرِ الْمُتَعَلِّقِ في قَوْلِك زَيْدٌ عِنْدَك الذي هو مُسْتَقِرٌّ إذَا قَدَّرْت فَقُلْت زَيْدٌ مُسْتَقِرٌّ عِنْدَك في أَنَّهُ لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى وَلَا يُغَيِّرُهُ وَهَذِهِ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ تَصَيَّدْتهَا من كَلَامِ الْأُسْتَاذِ النَّحْوِيِّ أبي عَلِيٍّ الشَّلَوْبِينِيُّ رضي اللَّهُ عنه
____________________
(1/441)
خاتمة في أمرين يتعين الاهتمام بهما مَبْحَثٌ الِاسْمُ عَيْنُ الْمُسَمَّى أو غَيْرِهِ أَحَدُهُمَا الْكَلَامُ في أَنَّ الِاسْمَ هل هو الْمُسَمَّى أو غَيْرُهُ وقد كَثُرَ خَبْطُ الناس فيها وَقَوْلُهُمْ إنَّ الْخِلَافَ غَيْرُ مُحَقَّقٍ وَأَنَّهُ لو كان الِاسْمُ هو الْمُسَمَّى لَاحْتَرَقَ من نَطَقَ بِاسْمِ النَّارِ وَلَوْ كان غَيْرَهُ لَلَزِمَ كَذَا وَكَذَا وَكُلُّ ذلك نَاشِئٌ عن عَدَمِ فَهْمِ الْمَسْأَلَةِ فَنَقُولُ إذَا سَمَّيْت شيئا بِاسْمٍ فَالنَّظَرُ في ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ ذلك الِاسْمُ وهو اللَّفْظُ وَمَعْنَاهُ قبل التَّسْمِيَةِ وَمَعْنَاهُ بَعْدَهَا وهو الذَّاتُ التي أُطْلِقَ عليها اللَّفْظُ وَالذَّاتُ وَاللَّفْظُ مُتَغَايِرَانِ قَطْعًا وَالنُّحَاةُ إنَّمَا يُطْلِقُونَ الِاسْمَ على اللَّفْظِ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ في الْأَلْفَاظِ وهو غَيْرُ الْمُسَمَّى قَطْعًا عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ وَالذَّاتُ هو الْمُسَمَّى عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ وَلَيْسَ هو الِاسْمُ قَطْعًا وَالْخِلَافُ في الْأَمْرِ الثَّالِثِ وهو مَعْنَى اللَّفْظِ قبل التَّلْقِيبِ فَعَلَى قَوَاعِدِ الْمُتَكَلِّمِينَ يُطْلِقُونَ الِاسْمَ عليه وَيَخْتَلِفُونَ في أَنَّهُ الثَّالِثُ أو لَا فَالْخِلَافُ عِنْدَهُمْ حِينَئِذٍ في الِاسْمِ الْمَعْنَوِيِّ هل هو الْمُسَمَّى أَمْ لَا لَا في الِاسْمِ اللَّفْظِيِّ وَأَمَّا النُّحَاةُ فَلَا يُطْلِقُونَ الِاسْمَ على غَيْرِ اللَّفْظِ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَبْحَثُونَ في الْأَلْفَاظِ وَالْمُتَكَلِّمُ لَا يُنَازِعُ في ذلك وَلَا يَمْنَعُ هذا الْإِطْلَاقَ لِأَنَّهُ إطْلَاقُ اسْمِ الْمَدْلُولِ على الدَّالِّ وَيُرِيدُ شيئا دَعَاهُ عِلْمُ الْكَلَامِ إلَى تَحْقِيقِهِ في مَسْأَلَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَإِطْلَاقُهُمَا على الْبَارِي تَعَالَى مِثَالُهُ إذَا قُلْت عبد اللَّهِ أَنْفُ النَّاقَةِ فَالنُّحَاةُ يُرِيدُونَ بِاللَّقَبِ لَفْظَ أَنْفِ النَّاقَةِ وَالْمُتَكَلِّمُونَ يُرِيدُونَ مَعْنَاهُ وهو ما يُفْهَمُ منه من مَدْحٍ أو ذَمٍّ وَقَوْلُ النُّحَاةِ إنَّ اللَّقَبَ وَيَعْنُونَ بِهِ اللَّفْظَ يُشْعِرُ بِضِعَةٍ أو رِفْعَةٍ لَا يُنَافِيهِ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُشْعِرٌ لِدَلَالَتِهِ على الْمَعْنَى وَالْمَعْنَى في الْحَقِيقَةِ هو الْمُقْتَضِي لِلضِّعَةِ أو الرِّفْعَةِ وَذَاتُ عبد اللَّهِ يَعْنِي اللَّقَبَ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ فَهَذَا تَنْقِيحُ مَحَلِّ الْخِلَافِ وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ الْخِلَافَ خَاصٌّ بِأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ الْمُشْتَقَّةِ لَا في كل اسْمٍ وَالْمَقْصُودُ إنَّمَا هو الْمَسْأَلَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأُصُولِ الدِّينِ في الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وقال بَعْضُ الْأَئِمَّةِ التَّحْقِيقُ أَنَّ الِاسْمَ هو الْمُسَمَّى من حَيْثُ الْمَدْلُولُ وهو
____________________
(1/442)
غَيْرُ الْمُسَمَّى من حَيْثُ الدَّلَالَةُ فإن الدَّلَالَةَ تَتَغَيَّرُ وَتَتَبَدَّلُ وَتَتَعَدَّدُ وَالْمَدْلُولُ يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَدَّلُ وقال الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ بن النَّحَّاسِ قال شَيْخُنَا ابن عَمْرُونٍ هذا الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ ثُمَّ قال وَلَا حَاجَةَ لي إلَى الْخَوْضِ في ذلك بَلْ أَقُولُ بَدَلُ الِاسْمِ الْعِبَارَةُ وَبَدَلُ الْمُسَمَّى الْمُعَبَّرُ عنه وَهَذَا لَا نِزَاعَ فيه وقال الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هذا الْخِلَافَ الصَّحِيحُ أَنْ يُحْمَلَ على اخْتِلَافِ حَالَاتٍ فَإِنَّا إذَا قُلْنَا ضَرَبْت زَيْدًا أو أَكْرَمْت زَيْدًا لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِزَيْدٍ ليس هذه الْحُرُوفَ بَلْ الْمُسَمَّى وإذا قُلْنَا كَتَبْت زَيْدًا أو مَحَوْت زَيْدًا ليس الْمُرَادُ بِهِ إلَّا هذه الْحُرُوفَ لَا الْمُسَمَّى فَعَرَفْنَا أَنَّ الْخِلَافَ يَرْجِعُ إلَى اخْتِلَافِ عِبَارَاتٍ الثَّانِي أَنَّ إثْبَاتَ الْفِعْلِ هل يَسْتَدْعِي إثْبَاتَ مُطَاوِعِهِ أَمْ لَا مِثَالُهُ إذَا قُلْت أَخْرَجْته فَهَلْ يَسْتَدْعِي ذلك حُصُولَ الْخُرُوجِ أو لَا يَسْتَدْعِيهِ حتى يَصِحَّ أَنْ تَقُولَ أَخْرَجْته فما خَرَجَ وَعَلَّمْته فما تَعَلَّمَ وَبِهَذَا صَرَّحَ في الْمَحْصُولِ في الْكَلَامِ على أَنَّ اللُّغَةَ تَوْقِيفِيَّةٌ وَيُنْسَبُ إلَى النِّهَايَةِ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ حِكَايَةٌ فيه وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَوَارِدَ مُخْتَلِفَةٌ وَالِاسْتِعْمَالَانِ وَاقِعَانِ في الْعُرْفِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَوَارِدِ وَنُقِلَ عن الشَّيْخِ عَلَاءِ الدِّينِ الْبَاجِيِّ أَنَّهُ كان يَذْهَبُ إلَى أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَسْتَدْعِي مُطَاوِعَهُ وَيَقُولُ لو لم يَصِحَّ عَلَّمْته فما تَعَلَّمَ لَمَا صَحَّ عَلَّمْته فَتَعَلَّمَ يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ التَّعْلِيمَ لو كان عِلَّةً لِحُصُولِ الْعِلْمِ لَمَا عُطِفَ عليه بِالْفَاءِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ مع مَعْلُولِهَا لَا تَعْقِيبَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ قُلْنَا إنَّ الْمَعْلُولَ يَتَأَخَّرُ لم يَكُنْ فَائِدَةٌ في قَوْلِنَا فَتَعَلَّمَ لِأَنَّ التَّعَلُّمَ فُهِمَ من قَوْلِنَا عَلَّمْته وَهَذَا كَلَامٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ غَيْرُ سَابِقَةٍ لِلْمَعْلُولِ زَمَنًا فَهِيَ سَابِقَةٌ بِالذَّاتِ إجْمَاعًا وَذَلِكَ كَافٍ في تَعْقِيبِ مَعْلُولِهَا فَإِنْ قُلْت أَلَيْسَ يُقَالُ كَسَرْته فما انْكَسَرَ فما وَجْهُ صِحَّةِ قَوْلِنَا مع ذلك عَلَّمْته فما تَعَلَّمَ قُلْت فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ الْعِلْمَ في الْقَلْبِ من اللَّهِ تَعَالَى يَتَوَقَّفُ على أُمُورٍ من الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ فَكَانَ عَلَّمْته مَوْضُوعًا لِلْجُزْءِ الذي من الْعِلْمِ فَقَطْ لِعَدَمِ إمْكَانِ فِعْلٍ من الْمَخْلُوقِ يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ بِخِلَافِ الْكَسْرِ فإنه أَثَرٌ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِانْكِسَارِ وَرَجَّحَ بَعْضُ أَذْكِيَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْفِعْلَ يَسْتَدْعِي حُصُولَ مُطَاوِعِهِ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى من يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي فَأَخْبَرَ عن كل من هَدَاهُ
____________________
(1/443)
بِأَنَّهُ اهْتَدَى وَاهْتَدَى مُطَاوِعُ هَدَى وَأَنَّهُ حَيْثُ وَجَدْنَاهُ في الِاسْتِعْمَالِ بِغَيْرِ ذلك فَهُوَ مَجَازٌ لَكِنْ يَشْهَدُ لِوُجُودِ الْفِعْلِ دُونَ مُطَاوِعِهِ قَوْله تَعَالَى وما نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إلَّا تَخْوِيفًا وَقَوْلُهُ وَنُخَوِّفُهُمْ فما يَزِيدُهُمْ إلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا فإن كُلًّا مِنْهُمَا يَتَضَمَّنُ حُصُولَ التَّخْوِيفِ ولم يَحْصُلْ لِلْكُفَّارِ خَوْفٌ أَعْنِي الْخَوْفَ النَّافِعَ الذي يَصْرِفُهُمْ إلَى الْإِيمَانِ فإنه هو الْمُطَاوِعُ لِلتَّخْوِيفِ الْمُرَادِ في الْآيَةِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَلَيْسَ من ذلك لِأَنَّ الْهُدَى هُنَا بِمَعْنَى الدَّعْوَةِ لَا بِمَعْنَى الرَّشَادِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى على الْهُدَى
____________________
(1/444)
مَبَاحِثُ الِاشْتِقَاقِ هو افْتِعَالٌ من الشَّقِّ بِمَعْنَى الِاقْتِطَاعِ من انْشَقَّتْ الْعَصَا إذَا تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهَا فإن مَعْنَى الْمَادَّةِ الْوَاحِدَةِ تَتَوَزَّعُ على أَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ مُتَقَطِّعَةٍ منها أو من شَقَقْت الثَّوْبَ وَالْخَشَبَةَ فَيَكُونُ كُلُّ جُزْءٍ منها مُنَاسِبًا لِصَاحِبِهِ في الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وهو يَقَعُ بِاعْتِبَارِ حَالَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَرَى لَفْظَيْنِ اشْتَرَكَا في الْحُرُوفِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْمَعْنَى وَتُرِيدُ أَنْ تَعْلَمَ أَيُّهُمَا أَصْلٌ أو فَرْعٌ وَالثَّانِيَةُ أَنْ تَرَى لَفْظًا قَضَتْ الْقَوَاعِدُ بِأَنَّ مثله أَصْلٌ وَتُرِيدُ أَنْ تَبْنِيَ منه لَفْظًا آخَرَ وَالْأُولَى تَقَعُ بِاعْتِبَارٍ عَامٍّ غَالِبًا وَالثَّانِيَةُ بِاعْتِبَارٍ خَاصٍّ إمَّا بِحَسَبِ الْإِحَالَةِ على الْأُولَى أو بِحَسَبِ ما يَخُصُّهَا فَمِنْ الْأُولَى الْكَلَامُ في الْمَصْدَرِ وَالْفِعْلُ أَيُّهُمَا أَصْلٌ وَالْآخَرُ فَرْعٌ وَمِنْ الثَّانِيَةِ الْكَلَامُ في كَيْفِيَّةِ بِنَاءِ اسْمِ فَاعِلٍ من له الطَّلَاقُ مَثَلًا وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُشْتَقَّةَ تُفِيدُ الْمَعْرِفَةَ بِذَاتِ الشَّيْءِ وَصِفَتِهِ وَأَنْشَدَ ابن السَّمْنَانِيِّ في ذلك لِلْحَسَنِ بن هَانِئٍ وَإِنْ اسْمُ حُسْنَى لِوَجْهِهَا صِفَةٌ وَلَا أَرَى ذَا لِغَيْرِهَا اجْتَمَعَا فَهِيَ إذَا سُمِّيَتْ فَقَدْ وُصِفَتْ فَيَجْمَعُ اللَّفْظُ مَعْنَيَيْنِ مَعَا وقال الْأَئِمَّةُ الِاشْتِقَاقُ من أَشْرَفِ عُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَدَقِّهَا وَعَلَيْهِ مَدَارُ عِلْمِ التَّصْرِيفِ في مَعْرِفَةِ الْأَصْلِيِّ وَالزَّائِدِ وَالْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ لِبِنْيَةٍ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهَا في الِاشْتِقَاقِ وَتَوَقَّفَ عليه في النَّحْوِ وَالْكَلَامُ فيه في مَوَاطِنَ الْأَوَّلُ في ثُبُوتِهِ وَحَكَى ابن الْخَشَّابِ فيه ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا جَوَازُهُ مُطْلَقًا فَيَشْتَقُّ ما يُمْكِنُ اشْتِقَاقُهُ وما يَبْعُدُ أو يَسْتَحِيلُ قَالَهُ ابن دُرُسْتَوَيْهِ قُلْت وَكَذَلِكَ أبو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ صَنَّفَ كِتَابًا وَذَكَرَ فيه اشْتِقَاقَ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَالثَّانِي مَنَعَهُ مُطْلَقًا وَلَيْسَ في الْكَلَامِ مُشْتَقٌّ من آخَرَ بَلْ الْجَمِيعُ مَوْضُوعٌ بِلَفْظٍ جَدِيدٍ وهو مَذْهَبُ مُحَمَّدِ بن إبْرَاهِيمَ الْمَعْرُوفِ بِنَفْطَوَيْهِ
____________________
(1/445)
قال وكان ظَاهِرِيًّا في ذَا وفي مَذْهَبِهِ وكان من أَجِلَّةِ أَصْحَابِ دَاوُد وَوَافَقَهُ أبو بَكْرِ بن مِقْسَمٍ الْمُقْرِي وَهَذَانِ الْمَذْهَبَانِ طَرَفَانِ وَالثَّالِثُ وهو الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ وَعَلَيْهِ الْحُذَّاقُ من أَهْلِ عِلْمِ اللِّسَانِ كَالْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَالْأَصْمَعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَقُطْرُبٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ في الْكَلَامِ مُشْتَقًّا وَغَيْرَ مُشْتَقٍّ وهو الْمُرْتَجِلُ قال ابن السَّرَّاجِ لو جَمَدَتْ الْمَصَادِرُ وَارْتَفَعَ الِاشْتِقَاقُ من كل كَلَامٍ لم تُوجَدْ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ وَلَا فِعْلٌ لِفَاعِلٍ وَلَوْلَا الِاشْتِقَاقُ لَاحْتِيجَ في مَوْضِعِ الْجُزْءِ من الْكَلِمَةِ إلَى كَلَامٍ كَثِيرٍ أَلَا تَرَى كَيْفَ تَدُلُّ التَّاءُ في تَضْرِبُ على مَعْنَى الْمُخَاطَبَةِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَالْيَاءُ في يَضْرِبُ على مَعْنَى الْغَيْبَةِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَكَذَا بَاقِي حُرُوفِ الْمُضَارَعَةِ وَلَوْ جُعِلَ لِكُلِّ مَعْنًى لَفْظٌ يَتَبَيَّنُ بِهِ من غَيْرِ أَصْلٍ يُرْجَعُ إلَيْهِ لَانْتَشَرَ الْكَلَامُ وَبَعُدَ الْإِفْهَامُ وَنَقَصَتْ الْقُوَّةُ الثَّانِي في حَدِّهِ قال الرُّمَّانِيُّ هو اقْتِطَاعُ فَرْعٍ من أَصْلٍ يَدُورُ في تَصَارِيفِ الْأَصْلِ قال ابن الْخَشَّابِ وَهَذَا الْحَدُّ صَحِيحٌ وهو عَامٌّ لِكُلِّ اشْتِقَاقٍ صِنَاعِيٍّ وَغَيْرِ صِنَاعِيٍّ وقال الرُّمَّانِيُّ في مَوْضِعٍ آخَرَ هو الْإِنْشَاءُ عن الْأَصْلِ فَرْعًا يَدُلُّ عليه وهو أَيْضًا ما يَكُونُ منه النَّحْتُ وَالتَّغْيِيرُ لِإِخْرَاجِ الْأَصْلِ بِالتَّأَمُّلِ كَأَنَّك تَشُقُّ الشَّيْءَ لِيَخْرُجَ منه الْأَصْلُ وَكَأَنَّ الْأَصْلَ مَدْفُونٌ فيه فَأَنْتَ تَشُقُّهُ لِتُخْرِجَهُ منه قال ابن الْخَشَّابِ وَظَاهِرُهُ أَنَّك اسْتَخْرَجْت الْأَصْلَ من الْفَرْعِ وَإِنَّمَا الْحَقُّ أَنَّهُ رَدُّ الْفَرْعِ إلَى أَصْلِهِ بِمَعْنَى جَمْعِهِمَا وهو خَاصٌّ في أَصْلِ الْوَضْعِ بِالْأَصْلِ وقال الْمَيْدَانِيُّ أَنْ تَجِدَ بين اللَّفْظَيْنِ تَنَاسُبًا في الْمَعْنَى وَالتَّرْكِيبِ فَتَرُدَّ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ وقال صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنْ يَنْتَظِمَ من الصِّفَتَيْنِ فَصَاعِدًا مَعْنًى وَاحِدٌ وهو غَيْرُ مَانِعٍ فإن الضَّارِبَ وَالْمَضْرُوبَ قد انْتَظَمَا في مَعْنًى وَاحِدٍ وهو الضَّرْبُ مع أَنَّهُ لَا اشْتِقَاقَ فِيهِمَا وَكَذَلِكَ يَنْتَظِمُ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا في مَعْنًى وَاحِدٍ وهو مَعْنَى الْمَصْدَرِ مع أَنَّ بَعْضَهَا ليس مُشْتَقًّا من بَعْضٍ لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ الِاشْتِقَاقَ يَكُونُ من ذلك الْمَعْنَى الذي يَنْتَظِمُهَا وهو الضَّرْبُ مَثَلًا
____________________
(1/446)
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الِاشْتِقَاقَ يُحَدُّ تَارَةً بِاعْتِبَارِ الْعِلْمِ وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ الْعَمَلِ فَفِي الْأَوَّلِ إذَا أَرَدْت تَقْرِيرَ أَنَّ الْكَلِمَةَ مِمَّ اشْتَقْت فَإِنَّك تَرُدُّهَا إلَى آخَرَ لِتَعْرِفَ أنها مُشْتَقَّةٌ وَالثَّانِي إذَا أَرَدْت أَنْ تَشْتَقَّ الْكَلِمَةَ من شَيْءٍ فَإِنَّك تَأْخُذُهَا منه فَقَدْ جَعَلْتهَا مُشْتَقَّةً منه فَالتَّفَاوُتُ إنَّمَا يَحْصُلُ من الرَّدِّ وَالْأَخْذِ فَهَذَا قبل الِاشْتِقَاقِ وَالْأَوَّلُ بَعْدَهُ وَالْمُخْتَارُ على الْأَوَّلِ أَنَّهُ رَدُّ لَفْظٍ إلَى آخَرَ أَبْسَطُ مَعْنًى منه حَقِيقَةً أو مَجَازًا لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا في الْمَعْنَى وَالْحُرُوفِ الْأَصْلِيَّةِ كَضَارِبٍ وَضَرَبَ من ضَرْبٍ فَحَكَمْنَا بِاشْتِقَاقِ ضَرَبَ وَضَارِبٍ لِأَنَّ ضَرْبًا أَبْسَطُ منه وَالْبَسِيطُ قبل الْمُرَكَّبِ فَشَمِلَ اللَّفْظُ الْأَسْمَاءَ وَالْأَفْعَالَ على الْمَذْهَبَيْنِ وَالْحُرُوفِ قال ابْنِ جِنِّي الِاشْتِقَاقُ كما يَقَعُ في الْأَسْمَاءِ يَقَعُ في الْحُرُوفِ فإن نعم حَرْفُ جَوَابٍ وَأَرَى أَنَّ نعم وَالنِّعَمَ وَالنَّعْمَاءَ وَالنَّعِيمَ مُشْتَقَّةٌ منه وَكَذَلِكَ أَنْعَمَ صَبَاحًا لِأَنَّ الْجَوَابَ بِهِ مَحْبُوبٌ لِلْقُلُوبِ وَكَذَلِكَ سَوَّفْت من سَوْفَ الذي هو حَرْفُ تَنْفِيسٍ وَلَوْلَيْت إذَا قُلْت له لَوْلَا وَلَيْلَيْت إذَا قُلْت له لَا لَا ثُمَّ قد يَكُونُ الْمَعْنَى الْمُشْتَقُّ حَقِيقَةً كَضَارِبٍ من الضَّرْبِ وقد يَكُونُ مَجَازًا على جِهَةِ الِاتِّسَاعِ نحو ضَرَبَ في الْغَنِيمَةِ وَغَيْرِهَا بِسَهْمٍ أَيْ أَخَذَ وَضَارِبٍ لِفُلَانٍ بِمَالِهِ وَمَالِ فُلَانٍ ضَرَبْت أَيْ نِيلَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إذَا اقْتَسَمُوا غَنِيمَةً أو غَيْرَهَا ضَرَبُوا عليها بِسِهَامِ الْقُرْعَةِ وَهِيَ الْأَقْلَامُ ثُمَّ اضْطَرَدَ ذلك في كل من أَخَذَ نَصِيبًا من شَيْءٍ قد ضَرَبَ فيه بِسَهْمٍ وَالْمُضَارَبَةُ بِالْمَالِ مُشْتَقَّةٌ من الضَّرْبِ في الْأَرْضِ وهو السَّفَرُ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يُسَافِرُ عَالِمًا لِيَطْلُبَ الرِّبْحَ ثُمَّ اطَّرَدَ ذلك في كل مُسَافِرٍ وَإِنْ لم يُضَارِبْ وَخَرَجَ بِاشْتِرَاطِ الْمُنَاسَبَةِ ما لَا يُنَاسِبُهُ أَصْلًا وَبِالْحُرُوفِ عَمَّا لَا يُوَافِقُهُ في الْحُرُوفِ بَلْ في الْمَعْنَى كَمَنْعٍ وَحَبْسٍ فَلَا يُقَالُ إنَّ أَحَدَهُمَا مُشْتَقٌّ من الْآخَرِ وَبِالْأَصْلِيَّةِ التَّنَاسُبُ في الزِّيَادَةِ كَدَخَلَ فإنه مُشْتَقٌّ من الدُّخُولِ مع أَنَّهُ غَيْرُ مُوَافِقٍ مَصْدَرَهُ في الْوَاوِ لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ وَالْمُنَاسَبَةُ في الْمَعْنَى ما يُوَافِقُ في اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى كَضَرَبَ بِمَعْنَى سَافَرَ لَا يَكُونُ مُشْتَقًّا من الضَّرْبِ بِمَعْنَى الْقَتْلِ وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ التَّرْتِيبَ في الْحُرُوفِ أَيْ أَنْ تَبْقَى حُرُوفُ الْأَصْلِ في الْفَرْعِ على تَرْتِيبِهَا في الْأَصْلِ وَتَرْجِعَ تَفَارِيعُ الْمَادَّةِ الْوَاحِدَةِ منه إلَى مَعْنًى مُشْتَرَكٍ في الْجُمْلَةِ كَضَرَبَ من الضَّرْبِ وَكَمَا دَلَّ قَوْلُنَا إلَى آخَرَ على تَغَايُرِ اللَّفْظَيْنِ كَذَلِكَ قَوْلُنَا لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا في الْمَعْنَى يَدُلُّ على تَغَايُرِ الْمَعْنَيَيْنِ إذْ الشَّيْءُ لَا يُنَاسِبُ نَفْسَهُ وَحِينَئِذٍ فَلَا يُرَدُّ الْمَعْدُولُ لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بين الْمَعْدُولِ وَالْمَعْدُولِ عنه في الْمَعْنَى
____________________
(1/447)
الثَّالِثُ في فَائِدَتِهِ وَسَبَقَ صَدْرَ الْبَحْثِ وقال ابن الْحُوبِيِّ فَائِدَتُهُ تَسْهِيلُ السَّبِيلِ على الْوَاضِعِ وَالْمُتَعَلِّمِ جميعا فإن الْمَعْنَى الْوَاحِدَ في الْحَقِيقَةِ يَخْتَلِفُ بِالْعَوَارِضِ فَإِنْ وُضِعَ لِكُلِّ وَاحِدٍ اسْمٌ على حِدَةٍ من حُرُوفٍ مُتَبَايِنَةٍ احْتَاجَ الْوَاضِعُ إلَى صِيَغٍ كَثِيرَةٍ وَالْمُتَعَلِّمُ إلَى حِفْظِ أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ فإذا قال الْوَاضِعُ ما على وَزْنِ الْفَاعِلِ من كل فِعْلٍ هو لِفَاعِلِ ذلك الْفِعْلِ لم يَحْتَجْ إلَى وَضْعِ الضَّارِبِ وَالْقَاتِلِ وَالشَّاتِمِ وَالْمُتَعَلِّمُ إذَا عَلِمَ ضَرَبَ عَلِمَ الضَّارِبَ والمضروب وَالتَّثْنِيَةَ وَالْجَمْعَ وَالتَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ وَالْغَيْبَةَ وَالْحُضُورَ وَهَذَا هو عُمْدَةُ الْعَرَبِيَّةِ الرَّابِعُ في تَقْسِيمِهِ وهو أَصْغَرُ وَأَكْبَرُ وَأَوْسَطُ فَالْأَصْغَرُ ما كانت الْحُرُوفُ الْأَصْلِيَّةُ فيه مُسْتَوِيَةً في التَّرْكِيبِ نحو ضَرَبَ يَضْرِبُ فَهُوَ ضَارِبٌ وَمَضْرُوبٌ وَالْأَكْبَرُ ما كانت الْحُرُوفُ فيه غير مُرَتَّبَةٍ كَالتَّرَاكِيبِ السِّتَّةِ في كُلٍّ من جِهَةِ دَلَالَتِهَا على الْقُوَّةِ فَتُرَدُّ مَادَّةُ اللَّفْظَيْنِ فَصَاعِدًا إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَنَحْوُ ما ذَهَبَ إلَيْهِ ابن جِنِّي من عَقْدِ التَّغَالِيبِ السِّتَّةِ في الْقَوْلِ على مَعْنَى السُّرْعَةِ وَالْخِفَّةِ نحو الْقَوْلِ وَالْقَلْوِ وَالْوَلْقِ وَالْوَقْلِ وَاللَّوْقِ وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ على الشِّدَّةِ كَالْمُلْكِ وَالْكَمَلِ وَاللَّكْمِ قال الشَّيْخُ أبو حَيَّانَ ولم يَقُلْ بهذا الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ أَحَدٌ من النَّحْوِيِّينَ إلَّا أَبَا الْفَتْحِ وَحُكِيَ عن أبي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ كان يَتَأَنَّسُ بِهِ في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ قال أبو حَيَّانَ وَالصَّحِيحُ أَنَّ هذا الِاشْتِقَاقَ غَيْرُ مُعَوَّلٍ عليه لِعَدَمِ اطِّرَادِهِ قُلْت قد ذَهَبَ إلَيْهِ أبو الْحَسَنِ بن فَارِسٍ وَبَنَى عليه كِتَابَهُ الْمَقَايِيسَ في اللُّغَةِ فَيَرُدُّ تَرَاكِيبَ الْمَادَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا وقد يَكُونُ ظَاهِرًا في بَعْضِهَا خَفِيًّا في الْبَعْضِ فَيَحْتَاجُ في رَدِّهِ إلَى ذلك الْمَعْنَى إلَى تَلَطُّفٍ وَاتِّسَاعٍ في اللُّغَةِ وَمَعْرِفَةِ الْمُنَاسَبَاتِ مِثَالُهُ من مَادَّةِ ص ر ب تَصْبِرُ وَتَرَبَّصَ وَتَبَصَّرَ وَالتَّرَاكِيبُ الثَّلَاثَةُ رَاجِعَةٌ إلَى مَعْنَى التَّأَنِّي نحو تَصَبَّرَ على فُلَانٍ إنَّهُ مُعْسِرٌ ثُمَّ طَالَبَهُ وقول الشَّاعِرِ تَرَبَّصْ بها رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا تَطْلُقُ يَوْمًا أو يَمُوتُ حَلِيلُهَا وَمِنْ مَادَّةِ ع ب ر عَبَّرَ وَرَبَّعَ وَبَعَرَ وَبَرَعَ وَرَعَبَ وَهَذِهِ الْمَادَّةُ تَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الِانْتِقَالِ وَالْمُجَاوَزَةِ وَمِنْ ذلك ح س د حَسَدَ دَحَسَ وَحَدَسَ تَرْجِعُ إلَى مَعْنَى
____________________
(1/448)
التَّضْيِيقِ وَالْحَدْسُ جَوْدَةُ الْفِرَاسَةِ وَإِصَابَتُهَا لِأَنَّ الْحَادِسَ يُضَيِّقُ مَجَالَ الْحُكْمِ حتى يَتَعَيَّنَ له مَحْكُومٌ وَاحِدٌ وَأَمَّا الْأَوْسَطُ فَهُوَ أَنْ تَتَّفِقَ أَكْثَرُ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ كَفَلَقَ وَفَلَحَ وَفَلَدَ يَدُلُّ على الشَّقِّ وَوَقَعَ هذا في كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ في مَوَاضِعَ الْخَامِسُ في أَرْكَانِهِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ الْمُشْتَقُّ وَالْمُشْتَقُّ منه وَالْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا في الْحُرُوفِ الْأَصْلِيَّةِ وَالرَّابِعُ التَّغْيِيرُ اللَّاحِقُ فَلَا بُدَّ من التَّغْيِيرِ اللَّفْظِيِّ وَيَحْصُلُ التَّغْيِيرُ الْمَعْنَوِيُّ بِطَرِيقِ التَّبَعِ السَّادِسُ في أَقْسَامِهِ ولم يذكر الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ من أَقْسَامِ التَّغْيِيرِ غير تِسْعَةٍ وَذَكَرَ لها مِثَالَيْنِ أو ثَلَاثَةً وَأَعْرَضَ عن الْبَاقِي ظَنًّا منه سُهُولَةَ اسْتِخْرَاجِهَا وَذَكَرَ ابن الْخَبَّازِ الْمَوْصِلِيُّ أنها كَلِمَةٌ مُشْكِلَةُ التَّحْصِيلِ وَأَنَّهُ ما كان يَتَأَتَّى له اسْتِخْرَاجُهَا إلَّا بَعْدَ إطَالَةِ الْفِكْرِ وَإِدَامَةِ الذِّكْرِ وَأَنَّهُ مَرَّ عليه زَمَانٌ وهو آيِسٌ من تَحْصِيلِهَا وَأَنَّهُ بَحَثَ فيها مع شَيْخِهِ فَخْرِ الدِّينِ عُمَرَ النَّحْوِيِّ الْمُوصِلِيِّ فلم يَزِدْهُ على صُورَةٍ أو صُورَتَيْنِ قال ثُمَّ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِفَتْحِ رِتَاجِ الْإِشْكَالِ فذكر أَمْثِلَةَ التِّسْعَةِ وَذَكَرَهَا رَضِيُّ الدِّينِ بن جَعْفَرٍ الْبَغْدَادِيُّ وَالْقَاضِي نَاصِرُ الدِّينِ الْبَيْضَاوِيُّ وزاد عليها سِتَّةَ أَقْسَامٍ فَبَلَغَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ وقال ابن جَعْفَرٍ لَا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عليها وَرَأَيْت لِلشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ بن مَالِكٍ زِيَادَةً عليها تِسْعَةً أُخْرَى فَبَلَغَتْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وقال وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَ عن أَمْثِلَةِ تَغْيِيرِ الْمُشْتَقِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُشْتَقِّ منه لِيَدْخُلَ في الْفِعْلِ فإنه أَصْلٌ في الِاشْتِقَاقِ إذْ لَا فِعْلَ إلَّا وهو مُشْتَقٌّ من مَصْدَرٍ مُسْتَعْمَلٍ أو مُقَدَّرٍ وَالِاسْمُ تَبَعٌ له وَلِذَلِكَ كَثُرَ منه الْجُمُودُ وَبَعْدَ ذلك فَالِاعْتِبَارُ الصَّحِيحُ يَقْتَضِي كَوْنَ الْمُشْتَقِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُبَايَنَةِ الْمُشْتَقِّ منه عِشْرِينَ قِسْمًا أو أَكْثَرَ من ذلك أَوَّلُهَا زِيَادَةُ الْحَرْفِ فَقَطْ نحو كَاذِبٍ من الْكَذِبِ وَضَاحِكٍ من الضَّحِكِ وَكَرِيمٍ من الْكَرَمِ وَجَزُوعٍ من الْجَزَعِ زِيدَتْ فيها الْحُرُوفُ الْأَلِفُ وَالْيَاءُ وَالْوَاوُ وَمَثَّلَهُ ابن السَّرَّاجِ الْأُرْمَوِيُّ بِطَالِبٍ وقال زِيدَتْ فيه الْأَلِفُ ثُمَّ أَوْرَدَ عليه سُؤَالًا وهو فَإِنْ قُلْت فِيمَا ذَكَرْتُمْ زِيَادَةُ حَرَكَةٍ مع نُقْصَانِهَا فَإِنَّكُمْ نَقَصْتُمْ فَتْحَةَ اللَّامِ التي هِيَ
____________________
(1/449)
عَيْنُ الْفِعْلِ وَزِدْتُمْ كَسْرَتَهَا وَأَجَابَ عنه فقال الْمَعْنَى بِزِيَادَةِ الْحَرَكَةِ تَحْرِيكُ السَّاكِنِ وَبِنُقْصَانِهَا تَسْكِينُ الْمُتَحَرِّكِ وَإِبْدَالُ حَرَكَةٍ بِحَرَكَةٍ ليس من الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ الْمَذْكُورَيْنِ في شَيْءٍ وَلَوْ جَعَلْنَا إبْدَالَ حَرَكَةٍ بِحَرَكَةٍ زِيَادَةَ حَرَكَةٍ وَنُقْصَانٍ أُخْرَى لَكَانَ كَاذِبًا من الْكَذِبِ مِثَالًا له قال الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بن الشَّرِيشِيِّ وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ وَلَوْ جَعَلْنَا إبْدَالَ حَرَكَةٍ إلَخْ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فإنه إبْدَالُ حَرَكَةٍ بِحَرَكَةٍ لَا زِيَادَةَ وَلَا نُقْصَانَ وَإِنْ كان قد يُنْزَعُ بِهِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ما قَالَهُ أَوَّلًا من تَحْرِيكِ السَّاكِنِ وَتَسْكِينِ الْمُتَحَرِّكِ وهو الْمُرَادُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْعَرَبِيَّةِ على ما هو مَذْكُورٌ في التَّصْرِيفِ ثَانِيهَا زِيَادَةُ الْحَرَكَةِ فَقَطْ نحو عَلِمَ من الْعِلْمِ وَضَرَبَ من الضَّرْبِ وَظَرُفَ من الظَّرْفِ زِيدَتْ حَرَكَةُ اللَّامِ وَالرَّاءِ فَإِنَّهَا سَوَاكِنُ في الْمَصْدَرِ وَمَثَّلَهُ ابن جَعْفَرٍ بِقَوْلِهِ طَلَبَ من الطَّلَبِ وقال زِيدَ في الْفِعْلِ حَرَكَةُ الْبِنَاءِ التي في آخِرِهِ وَفِيهِ نِزَاعٌ سَيَأْتِي بَيَانُهُ ثَالِثُهَا زِيَادَتُهُمَا مَعًا كَضَارِبٍ وَعَالِمٍ وَفَاضِلٍ زِيدَتْ الْأَلِفُ وَحَرَكَةُ عَيْنِ الْكَلِمَةِ وَمَثَّلَهُ ابن جَعْفَرٍ بِ طَالَبَ الْفِعْلِ الْمَاضِي قال وهو مُشْتَقٌّ من الطَّلَبِ زِيدَتْ فيه الْأَلِفُ وَفَتْحَةُ الْبِنَاءِ وهو فَاسِدٌ لِأَنَّ طَالَبَ إنَّمَا هو مُشْتَقٌّ من الْمُطَالَبَةِ كَذَا
____________________
(1/450)
قال ابن الشَّرِيشِيِّ قُلْت الظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ جَعْفَرٍ إنَّمَا أَرَادَ طَالِبَ اسْمَ فَاعِلٍ وَبِذَلِكَ مَثَّلَهُ ابن مَالِكٍ رَابِعُهَا نُقْصَانُ الْحَرْفِ كَخَرَجَ من الْخُرُوجِ وَصَهَلَ من الصَّهِيلِ وَذَهَبَ من الذَّهَابِ نَقَصَ منه الْوَاوُ وَالتَّاءُ وَالْأَلِفُ وَمَثَّلَهُ السَّرَّاجُ الْأُرْمَوِيُّ بِشَرِسَ من الشَّرَاسَةِ وقال نَقَصَتْ منه الْأَلِفُ وَالتَّاءُ وَمَثَّلَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وابن جَعْفَرٍ بِخَفْ فِعْلُ أَمْرٍ من الْخَوْفِ نَقَصَتْ الْوَاوُ وَاعْتَرَضَ عليه بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْفَاءَ صَارَتْ في هذا سَاكِنَةً بَعْدَ أَنْ كانت مُتَحَرِّكَةً فَاجْتَمَعَ في هذا الْمِثَالِ نُقْصَانُ الْحَرْفِ وَالْحَرَكَةُ مَعًا وقال ابن الشَّرِيشِيِّ هذا الْمِثَالُ غَيْرُ جَيِّدٍ لِأَنَّ عَيْنَ الْكَلِمَةِ وَهِيَ الْوَاوُ لم تُحْذَفْ لِأَجْلِ الِاشْتِقَاقِ وَإِنَّمَا حُذِفَتْ لِأَجْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ أَلَا تَرَى أنها تَعُودُ عِنْدَ تَحْرِيكِ الْآخَرِ فِيمَا إذَا اتَّصَلَ ضَمِيرُ الِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْمُؤَنَّثِ في قَوْلِهَا خَافَا وَخَافُوا وَخَافِي وَلَيْسَ الْكَلَامُ إلَّا فِيمَا حُذِفَ لِأَجْلِ الِاشْتِقَاقِ حتى يَقَعَ بِهِ الْمُغَايَرَةُ بين الْمُشْتَقِّ وَالْمُشْتَقِّ منه وَأَمَّا الْحَذْفُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ فَلِعِلَّةٍ أُخْرَى بَعْدَ حُصُولِ صُورَةِ الْمُشْتَقِّ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَنَا خَافَا قد عَادَ فيه الْمَحْذُوفُ مع بَقَاءِ الْكَلِمَةِ مُشْتَقَّةً مُعَبِّرَةً عن أَصْلِهَا وَحَقُّ الْأَلِفِ أَنْ تَكُونَ وَاوًا مُتَحَرِّكَةً لِتَقَعَ الْمُغَايَرَةُ بين الْفِعْلِ وَالْمَصْدَرِ بِحَرَكَةِ هذه الْوَاوِ فَإِنَّهَا في الْمَصْدَرِ سَاكِنَةٌ وَحَقُّهَا أَنْ تَكُونَ في الْفِعْلِ مُتَحَرِّكَةٌ وَلَكِنْ طَرَأَ عليها الِاعْتِلَالُ فَانْقَلَبَتْ أَلِفًا سَاكِنَةً ثُمَّ حُذِفَ بَعْدَ ذلك لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ لَا لِلِاشْتِقَاقِ وَكَلَامُنَا إنَّمَا هو فِيمَا حُذِفَ لِلِاشْتِقَاقِ خَامِسُهَا نُقْصَانُ الْحَرَكَةِ كَأَبْيَضَ من الْبَيَاضِ وَأَصْبَحَ من الصَّبَاحِ وَنَحْوَ اُطْلُبْ وَاحْذَرْ وَاضْرِبْ فإنه نَقَصَ منها حَرَكَاتُ أَوَائِلِهَا فَإِنَّهَا مُتَحَرِّكَةٌ في الْمَصْدَرِ سَاكِنَةٌ في الْفِعْلِ فَإِنْ قِيلَ هذه غَيْرُ مُطَابِقَةٍ فإن فيها أَلِفًا زَائِدَةً في أَوَائِلِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ فِيمَا زِيدَ فيه حَرْفٌ وَنَقَصَتْ منه حَرَكَةٌ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَلِفَ التي في أَوَائِلِهَا غَيْرُ مُعْتَدٍّ بها في الِاشْتِقَاقِ فإن صُورَةَ الْمُشْتَقِّ حَاصِلَةٌ بِدُونِهَا في قَوْلِك يا زَيْدُ اضْرِبْ وما أَشْبَهَهُ فَالْأَلِفُ سَاقِطَةٌ مع أَنَّ صُورَةَ الْفِعْلِ الْمُشْتَقِّ حَاصِلَةٌ وَإِنَّمَا يُجَاءُ بها في بَعْضِ الْأَحْوَالِ وهو الِابْتِدَاءُ بها لِسُكُونِ أَوَائِلِهَا وَتَعَذُّرِ الِابْتِدَاءِ بِالسَّاكِنِ وَمَثَّلَهُ الْبَيْضَاوِيُّ بِ ضَرْبٍ الْمَصْدَرُ من ضَرَبَ الْمَاضِي على مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ في اشْتِقَاقِهِمْ الْمَصْدَرَ من الْفِعْلِ الْمَاضِي وَمَثَّلَهُ ابن مَالِكٍ بِ ثَارَ من الثَّارِّ مَصْدَرُ ثِيرَ الْمَكَانُ إذَا كَثُرَتْ حِجَارَتُهُ وَمَثَّلَهُ ابن جَعْفَرٍ بِحَرِرٍ اسْمُ فَاعِلٍ من حُرِّرَ الْفِعْلُ الْمَاضِي فَقَدْ نَقَصَتْ منه حَرَكَةُ الْبِنَاءِ التي في الْفِعْلِ وهو بِنَاءٌ على أَصْلِهِ من اعْتِبَارِ حَرَكَةِ الْبِنَاءِ في صِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي سَادِسُهَا نُقْصَانُهُمَا نحو سِرْ من السَّيْرِ وبع من الْبَيْعِ نَقَصَتْ الْيَاءُ وَحَرَكَةُ الرَّاءِ من الْأَوَّلِ وَالْيَاءُ وَحَرَكَةُ الْعَيْنِ من الثَّانِي وَمَثَّلَهُ ابن مَالِكٍ بِ حَيِيَ من الْحَيَاةِ وَمَثَّلَهُ الْأُرْمَوِيُّ بِ عَصَى من الْعِصْيَانِ
____________________
(1/451)
وقال نَقَصَتْ منه الْأَلِفُ وَالنُّونُ وَالْفَتْحَةُ التي كانت على الْيَاءِ في الْمَصْدَرِ وَمَثَّلَهُ ابن الْخَبَّازِ بِ نَزَا وَغَلَا من النَّزَوَانِ وَالْغَلَيَانِ وَمَثَّلَهُ ابن جَعْفَرٍ بِ عَدَّ من الْعَدِّ فَنَقَصَتْ منه أَلِفٌ وَحَرَكَةُ الدَّالِ وفي هذه الْأَمْثِلَةِ كُلِّهَا نَظَرٌ لِأَنَّ سُقُوطَ الْحَرَكَةِ فيها إنَّمَا هو بِسُكُونِ آخِرِ الْأَفْعَالِ في عَصَى وَنَزَا وَغَلَا وَعَدَّ وَسُكُونُ لَامِ الْكَلِمَةِ وَحَرَكَتُهَا لَا يُعْتَبَرَانِ في صِيغَةِ الْكَلِمَةِ وَبِنْيَتِهَا وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالْحَشْوِ أَلَا تَرَى أَنَّ هذا السُّكُونَ قد يَزُولُ مع بَقَاءِ صُورَةِ الْكَلِمَةِ على حَالِهَا وَلَا يُعَدُّ زَوَالُهُ مُغَيِّرًا لِلْكَلِمَةِ وَذَلِكَ من قَوْلِنَا عَصَيَا وَنَزَوَا وَغَلَيَا وَعَدَّا وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ في التَّغْيِيرِ بِمَا إذَا تَغَيَّرَ من صُورَةِ الْكَلِمَةِ وَبِنْيَتِهَا وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّمَا تُحَرَّكُ آخِرُ هذه الْأَفْعَالِ لِاتِّصَالِ الضَّمَائِرِ بها وكان الْأَصْلُ سُكُونَهَا فَيَكُونُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ صَحِيحًا سَابِعًا زِيَادَةُ حَرْفٍ وَنُقْصَانُ حَرْفٍ نحو تَدَحْرَجَ من الدَّحْرَجَةِ نَقَصَ هَاءُ التَّأْنِيثِ وَزَادَتْ التَّاءُ وَهَذَا الْقِسْمُ أَهْمَلَهُ السَّرَّاجُ الْأُرْمَوِيُّ وَمَثَّلَهُ ابن جَعْفَرٍ بِ دَيَّانٍ من الدِّيَانَةِ وقال نَقَصَتْ منه التَّاءُ وَزِيدَتْ فيه الْيَاءُ الْمُدْغَمَةُ السَّاكِنَةُ ثُمَّ قال وَفِيهِ نَظَرٌ وَمَثَّلَهُ ابن مَالِكٍ بِ رَؤُفَ من الرَّأْفَةِ ثَامِنُهَا زِيَادَةُ الْحَرَكَةِ وَنُقْصَانُ حَرَكَةٍ أُخْرَى نحو اضْرِبْ وَاعْلَمْ وَاشْرَبْ نَقَصَ منها حَرَكَاتُ فَاءِ الْكَلِمَاتِ وَزِيدَ فيها حَرَكَاتُ عَيْنِهَا وَأَلِفُ الْوَصْلِ لَا اعْتِبَارَ بها كما تَقَدَّمَ وَمَثَّلَهُ الْبَيْضَاوِيُّ بِ حَذِرَ من الْحَذَرِ زِيدَتْ فيه كَسْرَةُ الذَّالِ وَنَقَصَتْ فَتْحَتُهُ وَمَثَّلَهُ ابن جَعْفَرٍ ب كَرَمَ من الْكَرَمِ وشرف من الشَّرَفِ وقال نَقَصَتْ حَرَكَةُ الرَّاءِ من الْمَصْدَرِ وَزِيدَتْ فيه ضَمَّةُ الرَّاءِ وفي شَرُفَ كَسْرَتُهَا وَالْحَقُّ أَنَّ هذه الْأَمْثِلَةَ غَيْرُ مُطَابِقَةٍ وَلَيْسَ في هذا نُقْصَانٌ وَلَا زِيَادَةٌ وَإِنَّمَا هو إبْدَالٌ تَاسِعُهَا زِيَادَةُ الْحَرْفِ وَنُقْصَانُ الْحَرَكَةِ نحو تُحَرِّرُ وَتُعَرِّجُ زِيدَ فيه حَرْفُ الْمُضَارَعَةِ وَنَقَصَ منه فَتْحَةُ الْحَاءِ وَالْيَاءِ
____________________
(1/452)
وَذَكَرَ الْبَيْضَاوِيُّ وابن جَعْفَرٍ في مِثَالِهِ عَادَ من الْعَدَدِ زِيدَتْ فيه الْأَلِفُ بَعْدَ الْعَيْنِ وَنَقَصَتْ حَرَكَةُ الدَّالِ الْأُولَى وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الدَّالَ الْمُدْغَمَةَ أَصْلُهَا الْحَرَكَةُ وَإِنَّمَا سَكَنَتْ وَأُدْغِمَتْ لِمَعْنًى آخَرَ غير الِاشْتِقَاقِ وهو تَوَالِي الْمِثْلَيْنِ وَالنَّظَائِرِ وَمَثَّلَهُ السَّرَّاجُ الْأُرْمَوِيُّ بِ أَكْرَمَ من الْكَرَمِ زِيدَ فيه الْأَلِفُ وَنَقَصَتْ حَرَكَةُ الْكَافِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ أَكْرَمَ مُشْتَقٌّ من الْإِكْرَامِ الذي هو مَصْدَرٌ لِدَلَالَتِهِ عليه وَلَوْ جَعَلَ الْإِكْرَامَ هو الْمُشْتَقُّ أَوَّلًا لَحَصَلَ بِهِ الْغَرَضُ عَاشِرٌ زِيَادَةُ الْحَرَكَةِ وَنُقْصَانُ الْحَرْفِ نحو قَدَرَ وَكَتَبَ وَرَحِمَ من الْقُدْرَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالرَّحْمَةِ وَحُرِمَ من الْحِرْمَانِ وَنَقَصَ من النُّقْصَانِ نَقَصَ من الْأَوَّلِ التَّاءُ وَمِنْ الْأَخِيرَيْنِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ وَزِيدَ فيها كُلُّهَا حَرَكَاتُ الْعَيْنَاتِ وَمَثَّلَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وابن جَعْفَرٍ بِ بَنَيْت من الْبُنْيَانِ وقال نَقَصَتْ الْأَلِفُ وَزِيدَ فيه فَتْحَةُ الْبِنَاءِ في الْفِعْلِ وَسَيَأْتِي أَنَّ حَرَكَةَ الْبِنَاءِ لَا يُعْتَدُّ بها حَادِيَ عَشَرَهَا زِيَادَةُ الْحَرْفِ وَالْحَرَكَةِ مَعًا مع نُقْصَانِ حَرَكَةٍ أُخْرَى نحو يَضْرِبُ زِيدَ في حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَحَرَكَةِ عَيْنِ الْكَلِمَةِ وَنَقَصَ منه حَرَكَةُ فَاءِ الْكَلِمَةِ وَمَثَّلَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وابن جَعْفَرٍ وقال زِيدَتْ فيه الْهَمْزَةُ الْمَكْسُورَةُ وَنَقَصَتْ حَرَكَةُ الضَّادِ فَجَعَلَ الْهَمْزَةَ وَحَرَكَتَهَا زَائِدَتَيْنِ وقد تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عليه وَبَيَّنَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ في الْحَرَكَةِ بِأَنْ تَكُونَ على ما كان سَاكِنًا في الْأَصْلِ وَأَنَّ الْأَلِفَ الْمُتَحَرِّكَةَ زَائِدَةٌ وَاحِدَةٌ ثَانِيَ عَشَرَهَا زِيَادَةُ الْحَرَكَةِ مع زِيَادَةِ الْحَرْفِ وَنُقْصَانِهِ نحو قَادِرٍ وَعَاصِمٍ وَرَاحِمٍ وَكَاتِبٍ زِيدَ فيها الْأَلِفُ وَحُرِّكَتْ الْعَيْنَاتُ وَنَقَصَ منها التَّاءُ التي هِيَ أَوَاخِرُهَا وَمَثَّلَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وابن جَعْفَرٍ بِ خَافَ من الْخَوْفِ وقال نَقَصَتْ الْوَاوُ
____________________
(1/453)
وَحَرَكَةُ الدَّالِ وَلَا يَخْفَى بِمَا تَقَدَّمَ فَسَادُهُ ثَالِثَ عَشَرَهَا نُقْصَانُ الْحَرْفِ مع زِيَادَةِ الْحَرَكَةِ وَنُقْصَانِهَا نحو اُنْصُرْ من النُّصْرَةِ وَارْحَمْ من الرَّحْمَةِ وَاقْدِرْ من الْقُدْرَةِ زِيدَ فيها حَرَكَاتُ الْعَيْنَاتِ وَنَقَصَ منها تَاءُ التَّأْنِيثِ وَحَرَكَاتُ فَاءِ الْكَلِمَةِ وَحَرَكَتُهَا وَمَثَّلَهُ الْبَيْضَاوِيُّ بِ عِدْ من الْوَعْدِ زِيدَتْ فيه كَسْرَةُ الْعَيْنِ وَنَقَصَتْ الْوَاوُ وَحَرَكَةُ الدَّالِ وَلَا يَخْفَى ما فيه مِمَّا تَقَدَّمَ رَابِعَ عَشَرَهَا نُقْصَانُ الْحَرَكَةِ مع زِيَادَةِ الْحَرْفِ وَنُقْصَانِهِ نحو يَخْرُجُ ويقصد زِيدَ فيه حَرْفُ الْمُضَارَعَةِ وَنَقَصَ منه الْوَاوُ التي في الْمَصْدَرِ وَفَتْحَةُ فَاءِ الْكَلِمَةِ وَمَثَّلَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وابن جَعْفَرٍ بِ كَالَ من الْكَلَالِ وقال زِيدَ فيه الْأَلِفُ بَعْدَ الْكَافِ وَنَقَصَ منه الْأَلِفُ التي كانت بين اللَّامَيْنِ وَفَتْحَةُ اللَّامِ الْأُولَى الْمُدْغَمَةِ وَالْكَلَامُ فيه كما في عَادَ وقد تَقَدَّمَ خَامِسَ عَاشِرِهَا زِيَادَةُ الْحَرْفِ وَالْحَرَكَةِ مَعًا وَنُقْصَانُهُمَا مَعًا كَالِاحْمِرَارِ من الْحُمْرَةِ نَقَصَتْ منه التَّاءُ وَحَرَكَةُ الْحَاءِ وَزِيدَتْ فيه الرَّاءُ الْأُولَى وَالْأَلِفُ التي بَعْدَهَا وَحَرَكَةُ الْمِيمِ وَكَذَلِكَ ما أَشْبَهَهُ من الِاصْفِرَارِ وَنَحْوِهِ وَمَثَّلَهُ ابن الْخَبَّازِ وَالسَّرَّاجُ الْأُرْمَوِيُّ بِ اسْتَنْوَقَ الْجَمَلُ أَيْ تَحَوَّلَ الْجَمَلُ نَاقَةً وهو مُشْتَقٌّ من النَّاقَةِ نَقَصَتْ منه التَّاءُ وَحَرَكَةُ النُّونِ وَزِيدَتْ فيه السِّينُ وَالتَّاءُ وَحَرَكَةٌ وَالْوَاوُ التي كانت أَلِفًا سَاكِنَةً في النَّاقَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ اسْتَنْوَقَ إنَّمَا هو مُشْتَقٌّ من مَصْدَرِهِ الذي هو الِاسْتِنْوَاقُ لِدَلَالَتِهِ عليه فَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ الِاسْتِنْوَاقُ الذي هو الْمَصْدَرُ هو الْمُشْتَقُّ من النَّاقَةِ وَالْغَرَضُ يَحْصُلُ بِهِ لِأَنَّ النُّقْصَانَ وَالزِّيَادَةَ الْمَطْلُوبَيْنِ في الْمِثَالِ مَوْجُودَانِ فيه لِأَنَّ الْمَصْدَرَ زِيدَتْ فيه السِّينُ وَالتَّاءُ وَالْأَلِفُ التي بَعْدَ الْوَاوِ وَحَرَكَةُ الْوَاوِ وَنَقَصَ منه التَّاءُ وَفَتْحَةُ النُّونِ وكان جَعْلُهُ هو الْمُشْتَقَّ أَوَّلًا أَوْلَى وَمَثَّلَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وابن جَعْفَرٍ بِ ارْمِ من الرَّمْيِ وقال زِيدَتْ فيه الْأَلِفُ وَكَسْرَةُ الْمِيمِ وَنَقَصَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ وَالْيَاءِ وَفِيهِ نَظَرٌ أَمَّا أَلِفُ الْوَصْلِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عليها وَأَمَّا الْيَاءُ فلم تُحْذَفْ لِلِاشْتِقَاقِ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ وهو حَمْلُ الْمَبْنِيِّ على الْمُعْرَبِ لِشَبَهِهِ بِهِ في الصَّحِيحِ فَجَعْلُ الْمُعْتَلِّ كَذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّ هذه الْيَاءَ تُحْذَفُ في الْمُعْرَبِ في قَوْلِنَا لم يَرْمِ لِيَجْزِمَ فَكَذَلِكَ حُذِفَتْ في قَوْلِنَا ارْمِ لِلْبِنَاءِ حَمْلًا لِلْمَبْنِيِّ على الْمُعْرَبِ في الصُّورَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْيَاءَ تَعُودُ عِنْدَ اتِّصَالِ الضَّمِيرِ بِالْفِعْلِ في قَوْلِك ارْمِيَا وَعِنْدَ اتِّصَالِ النُّونَيْنِ الثَّقِيلَةِ وَالْخَفِيفَةِ في قَوْلِك ارْمِيَنْ وَارْمِيَنَّ وَعِنْدَ اتِّصَالِ ضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْإِنَاثِ في قَوْلِك ارْمِينَ يا نِسْوَةُ فَعُلِمَ أَنَّ الْيَاءَ ما حُذِفَتْ لِلِاشْتِقَاقِ وَكَلَامُنَا فِيمَا يُحْذَفُ له أو يَزْدَادُ له فَتَحْصُلُ بِهِ الْمُغَايَرَةُ بين صُورَةِ الْمُشْتَقِّ وَالْمُشْتَقِّ منه لَا فِيمَا يُحْذَفُ أو يُزَادُ لِمَعْنًى آخَرَ وزاد الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ الشَّرِيشِيُّ قِسْمَيْنِ آخَرَيْنِ أَحَدُهُمَا ما فيه تَغْيِيرٌ
____________________
(1/454)
ظَاهِرٌ نحو حَذِرَ من الْحَذَرِ وَفَرِحَ من الْفَرَحِ وَجَزِعَ من الْجَزَعِ وَنَحْوُهُ وَقَعَتْ الْمُغَايَرَةُ بين الْفِعْلِ وَالْمَصْدَرِ بِحَرَكَةِ الْعَيْنِ فَإِنَّهَا في الْمَصْدَرِ مَفْتُوحَةٌ وفي الْفِعْلِ مَكْسُورَةٌ ثَانِيهِمَا ما فيه تَغْيِيرٌ مُقَدَّرٌ نَحْوُ طَلَبَ من الطَّلَبِ وَهَرَبَ من الْهَرَبِ وَغَلَبَ من الْغَلَبِ وَنَحْوُهُ وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا التَّغْيِيرَ لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ صُورَةُ الْمُشْتَقِّ وَبِنْيَتُهُ مُخَالِفَةً لِصُورَةِ الْمُشْتَقِّ منه وَرَأَيْنَا هذه الْأَفْعَالَ لَا تُخَالِفُ صُورَةَ الْمَصَادِرِ الْمُشْتَقِّ منها وَلَيْسَ لها مَصَادِرُ غَيْرُهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فيها تَغْيِيرٌ مُقَدَّرٌ كما قالت النُّحَاةُ في الْفُلْكِ إنَّهُ يَقَعُ على الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَلَا بُدَّ من التَّغَايُرِ بَيْنَهُمَا فَتُقَدَّرُ الضَّمَّةُ إذَا كان جَمْعًا غير الضَّمَّةِ التي فيه إذَا كان مُفْرَدًا تَنْبِيهَاتٌ التنبيه الْأَوَّلُ قد تَقَرَّرَ من جَعْلِ التَّغْيِيرِ من أَرْكَانِ الِاشْتِقَاقِ وُجُودُ التَّغْيِيرِ في كل مُشْتَقٍّ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَصْلِهِ وقد نَجِدُ أَفْعَالًا من مَصَادِرَ من غَيْرِ تَغَيُّرٍ ظَاهِرٍ فيها كَطَلَبَ من الطَّلَبِ وَغَلَبَ من الْغَلَبِ وَجَلَبَ من الْجَلَبِ فَإِنَّهَا مُسَاوِيَةٌ لِمَصَادِرِهَا في الْحُرُوفِ وَالصِّيَغِ بِلَا تَفَاوُتٍ مع اشْتِقَاقِهَا منها وَذَلِكَ يَقْدَحُ في كَوْنِ التَّغْيِيرِ رُكْنًا لِلِاشْتِقَاقِ لِامْتِنَاعِ تَحَقُّقِ الشَّيْءِ بِدُونِ رُكْنِهِ وَحَلُّهُ أَنَّ التَّغْيِيرَ وَإِنْ لم يَكُنْ مَوْجُودًا ظَاهِرًا لَكِنَّهُ مُقَدَّرٌ كما سَبَقَ تَقْرِيرُهُ وَأَجَابَ رَضِيُّ الدِّينِ بن جَعْفَرٍ بِأَنَّ حَرَكَةَ الْإِعْرَابِ سَاقِطَةُ الِاعْتِبَارِ في الِاشْتِقَاقِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بها تَغْيِيرًا إذْ الِاشْتِقَاقُ إنَّمَا هو من صِيغَةِ الْمَصْدَرِ بُنِيَ عليها وَحَرَكَةُ الْإِعْرَابِ طَارِئَةٌ على الصِّيغَةِ بَعْدَ تَمَامِهَا مُنْتَقِلَةٌ غَيْرُ قَادِرَةٍ وَأَمَّا حَرَكَةُ الْبِنَاءِ في آخِرِ الْفِعْلِ الْمَاضِي فَإِنَّهَا لِثَبَاتِهَا وَلُزُومِهَا وَبِنَاءِ الْكَلِمَةِ عليها من أَوَّلِ وَهْلَةٍ صَارَتْ دَاخِلَةً في صِيغَةِ الْفِعْلِ جَارِيَةً مَجْرَى حَرَكَةِ أَوَّلِهِ وَحَشْوِهِ فَاعْتُدَّ بها في الِاشْتِقَاقِ وَجُعِلَ التَّغْيِيرُ بها زِيَادَةً وَنُقْصَانًا وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا على هذا لِأَنَّهُمْ لم يَعْتَدُّوا بِحَرَكَةِ الْإِعْرَابِ وَاعْتَدُّوا بِحَرَكَةِ الْبِنَاءِ وَجُعِلَ التَّغْيِيرُ بها زِيَادَةً وَنُقْصَانًا مِثَالُ الزِّيَادَةِ طَلَبَ من الطَّلَبِ لِأَنَّهُمْ مَثَّلُوهُ لِزِيَادَةِ الْحَرَكَةِ فإن طَلَبَ اُعْتُدَّ بِحَرَكَةِ الْبَاءِ في آخِرِهِ زِيَادَةً لِكَوْنِهَا حَرَكَةَ بِنَاءٍ ولم يَعْتَدُّوا بِالْحَرَكَةِ التي في آخِرِ الْمَصْدَرِ وهو الطَّلَبُ لِكَوْنِهَا حَرَكَةَ إعْرَابٍ وَمِثَالُ النُّقْصَانِ حَذِرٌ اسْمُ فَاعِلٍ من حَذِرَ نَقَصَ من اسْمِ الْفَاعِلِ حَرَكَةُ
____________________
(1/455)
الْبِنَاءِ التي كانت في الْفِعْلِ فَقَدْ يَظُنُّ ظَانٍّ من اعْتِبَارِهِمْ التَّغْيِيرَ اللَّاحِقَ لِلْمُشْتَقِّ اسْتَلْزَمَ حُصُولَ التَّغْيِيرِ في كل مُشْتَقٍّ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَصْلِهِ مع أَنَّهُ نَحْنُ نَجِدُ أَفْعَالًا مَأْخُوذَةً من الْمَصَادِرِ من غَيْرِ تَغْيِيرٍ ظَاهِرٍ فيها كَطَلَبَ من الطَّلَبِ وَحَذِرَ من الْحَذَرِ فإن هذه الْأَفْعَالَ مُسَاوِيَةٌ لِهَذِهِ الْمَصَادِرِ وَأَنَّهُ يَقْدَحُ في كَوْنِ التَّغْيِيرِ رُكْنًا في الِاشْتِقَاقِ وَجَوَابُهُ أَنَّ حَرَكَةَ الْإِعْرَابِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بها وَحَرَكَةُ الْبِنَاءِ مُعْتَدٌّ بها وَنَازَعَهُ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بن الشَّرِيشِيِّ وقال حَرَكَةُ الْإِعْرَابِ كما لَا يُعْتَدُّ بها في صِيغَةِ الْكَلِمَةِ وَبِنْيَتِهَا فَكَذَلِكَ حَرَكَةُ الْبِنَاءِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا طَارِئَةٌ على الْكَلِمَةِ بَعْدَ حُصُولِ صِيغَتِهَا وَتَقْرِيرِ بِنْيَتِهَا إنْ كانت لها بِنْيَةٌ وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ في أَنَّ حَرَكَةَ الْإِعْرَابِ تَتَغَيَّرُ عِنْدَ تَغَيُّرِ الْعَامِلِ أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ خَرَجَ زَيْدٌ خَرَجَ عَمْرٌو فَلَا يَتَغَيَّرُ آخِرُ خَرَجَ وَإِنْ دخل عليه الْعَامِلُ وَتَقُولُ خَرَجْت وَدَخَلْت بِتَغَيُّرِ آخِرِهِ لِاتِّصَالِ الضَّمِيرِ بِهِ مع أَنَّ أَحَدًا من النُّحَاةِ لَا يقول إنَّ بِنْيَةَ الْفِعْلِ تَغَيَّرَتْ فَعُلِمَ أَنَّ حَرَكَةَ لَامِ الْكَلِمَةِ أو سُكُونَهَا غَيْرُ مُعْتَدٍّ بها في بِنْيَةِ الْكَلِمَةِ فَلَا يُعَدُّ وُجُودُهَا زِيَادَةً وَلَا زَوَالُهَا نَقْصًا وَقَوْلُهُ إنْ الْفِعْلُ الْمَاضِي بُنِيَ في أَوَّلِ وَهْلَةٍ على الْحَرَكَةِ مَمْنُوعٌ بَلْ كان يَجِبُ أَنْ يَكُونَ سَاكِنًا كما هو الْأَصْلُ وَلَكِنْ بُنِيَ على حَرَكَةٍ لِعِلَّةٍ أُخْرَى غَيْرِ الِاشْتِقَاقِ وَهِيَ جَوَازُ وُقُوعِهِ مَوْقِعَ الْمُعْرَبِ بِخِلَافِ فِعْلِ الْأَمْرِ فَعُلِمَ أَنَّ حَرَكَةَ الْبِنَاءِ في الْفِعْلِ طَارِئَةٌ عليه بَعْدَ حُصُولِ بِنْيَتِهِ وإذا كانت حَرَكَةُ الْإِعْرَابِ غير مُعْتَدٍّ بها في بِنْيَةِ الْكَلِمَةِ لِكَوْنِهَا طَارِئَةً وَمُتَغَيِّرَةً فَكَذَلِكَ حَرَكَةُ الْبِنَاءِ وَلَا يَكُونُ ثُبُوتُهَا في الْفِعْلِ زِيَادَةً في الصِّيغَةِ وَلَا زَوَالُهَا نَقْصًا فيها التَّنْبِيهُ الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِزِيَادَةِ الْحَرْفِ أو الْحَرَكَةِ أو نُقْصَانِهِمَا جِنْسُ الْحَرْفِ وَجِنْسُ الْحَرَكَةِ لَا وَاحِدٌ فَقَطْ فَقَدْ يَكُونُ الْمَزِيدُ من الْحُرُوفِ أَكْثَرَ من وَاحِدٍ وَكَذَلِكَ في الْحَرَكَةِ وَكَذَلِكَ في النُّقْصَانِ وَعَلَى هذا فَتَكْثُرُ الْأَقْسَامُ وَلَا يَخْفَى حِينَئِذٍ أَمْثِلَتُهَا التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِتَنَوُّعِ الْحَرَكَةِ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ إذْ لو اُعْتُبِرَتْ لَكَثُرَتْ الْأَقْسَامُ
____________________
(1/456)
التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا من أَرْكَانِ الِاشْتِقَاقِ الْمُشَارَكَةَ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ في الْحُرُوفِ الْأَصْلِيَّةِ وَالتَّغْيِيرِ ثُمَّ جَعَلُوا من أَقْسَامِ التَّغْيِيرِ نُقْصَانَ الْحُرُوفِ وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ في الظَّاهِرِ فإنه مَتَى نَقَصْنَا أَحَدَ الْحُرُوفِ الْمُشْتَقِّ من الْمُشْتَقِّ منه زَالَتْ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا في الْحُرُوفِ وَأَجَابَ ابن جَعْفَرٍ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُشَارَكَةَ بَيْنَهُمَا في الْحُرُوفِ الْأَصْلِيَّةِ قد تَكُونُ بِحَقِّ الْأَصْلِ ثُمَّ يَطْرَأُ النُّقْصَانُ الْعَارِضُ نَقِيضُهُ كَقَوْلِنَا خَفْ من الْخَوْفِ وَنَمْ من النَّوْمِ فإن الْوَاوَ سَقَطَتْ فِيهِمَا بَعْدَ انْقِلَابِهِمَا أَلِفًا لِعَارِضِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ فَالْمُشَارَكَةُ فِيهِمَا حَاصِلَةٌ بِالْفِعْلِ لِحُصُولِهِمَا في الْأَصْلِ قبل طُرُوُّ الْحَذْفِ الْعَارِضِ الثَّانِي أَنَّ الْمَصَادِرَ ذَوَاتَ الزِّيَادَةِ كَالْإِنْبَاتِ وَالْغَشَيَانِ وَالنَّزَوَانِ إذَا اشْتَقَقْنَا منها أَفْعَالًا كَنَبَتَ وَغَشِيَ وَنَزَا حَصَلَتْ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَصَادِرِ في الْحُرُوفِ الْأَصْلِيَّةِ وَوُفِرَ التَّغَيُّرُ بِنُقْصَانِ الْحَرْفِ الزَّائِدِ فَقَدْ صَدَقَ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ فِيهِمَا أَعْنِي الْمُشَارَكَةَ مع النُّقْصَانِ فَإِنَّا لم نَشْتَرِطْ الْمُشَارَكَةَ في الْحُرُوفِ الْأَصْلِيَّةِ مع نُقْصَانِ حَرْفٍ أَصْلِيٍّ التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ في اشْتِقَاقِ الْأَفْعَالِ من الْمَصَادِرِ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ الْمَصَادِرَ مُشْتَقَّةٌ من الْأَفْعَالِ وَعَكَسَ الْبَصْرِيُّونَ ذلك وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ مَفْهُومَهُ وَاحِدٌ وَمَفْهُومَ الْفِعْلِ مُتَعَدِّدٌ لِدَلَالَتِهِ على الْحَدَثِ وَالزَّمَانِ وَالْوَاحِدُ قبل الْمُتَعَدِّدِ وإذا كان أَصْلًا لِلْأَفْعَالِ يَكُونُ أَصْلًا لِمُتَعَلِّقَاتِهِ أو لِأَنَّهُ اسْمٌ وَالِاسْمُ مُسْتَغْنٍ عن الْفِعْلِ وَيُقَالُ مَصْدَرٌ لِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ تَصْدُرُ عنه وَكَذَلِكَ الصِّفَاتُ كَأَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ وَالْمَفْعُولِينَ وَتَوَسَّطَ الْفَارِسِيُّ فقال الصِّفَاتُ مُشْتَقَّةٌ من الْأَفْعَالِ لِجَرَيَانِهَا عليها وَعَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ بِهِ فَهِيَ وَإِنْ كانت مُشْتَقَّةً من الْأَفْعَالِ بهذا الِاعْتِبَارِ فَالْأَفْعَالُ أُصُولُهَا الْقَرِيبَةُ وَالْمَصَادِرُ أُصُولُهَا الْبَعِيدَةُ وَذَهَبَ أبو بَكْرِ بن طَلْحَةَ إلَى أَنَّ كُلًّا من الْمَصْدَرِ وَالْفِعْلِ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ ليس
____________________
(1/457)
أَحَدُهُمَا مُشْتَقًّا من الْآخَرِ فَالْحَاصِلُ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ وقد اسْتَشْكَلَ الْمَازِرِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ حَقِيقَةَ الْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ وقال إنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمَا حَقِيقَةٌ وَالْآخَرَ مَجَازٌ فَالْحَقِيقَةُ أَصْلٌ لِلْمَجَازِ فَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ فَلَا خِلَافَ أَنَّا إذَا قُلْنَا قام زَيْدٌ قِيَامًا فإن قَوْلَنَا قام لَفْظَةٌ من الْحَقَائِقِ لَا تَجَوُّزَ فيها وَقَوْلُنَا قِيَامًا لَفْظَةٌ من الْحَقَائِقِ لَا تَجَوُّزَ فيها أَيْضًا فَقَدْ وَضَحَ بُطْلَانُ صَرْفِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْفَرْعِيَّةِ إلَى هذا الْوَجْهِ وَإِنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ هذا أَصْلٌ وَهَذَا فَرْعٌ أَنَّ اللَّفْظَيْنِ حَقِيقَتَانِ وَلَكِنَّ النُّطْقَ بِهَذِهِ سَبَقَ فَهَذَا غَيْبٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَالْبَحْثُ عنه عِيٌّ لَا يُجْدِي وَلَا فَائِدَةَ فيه وَأَيُّ فَائِدَةٍ في السُّؤَالِ عن تَسْمِيَةِ الْحَائِطِ وَالْجِدَارِ أَيُّ اللَّفْظَيْنِ نُطِقَ بِهِ أَوَّلًا انْتَهَى وقال بَعْضُهُمْ إذَا قِيلَ هذا مُشْتَقٌّ من هذا فَلَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ بين الْقَوْلَيْنِ تَنَاسُبًا في اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَسَوَاءٌ تَكَلَّمَ أَهْلُ اللُّغَةِ بِأَحَدِهِمَا قبل الْآخَرِ أَمْ لَا وَعَلَى هذا إذَا قُلْنَا الْمَصْدَرُ مُشْتَقٌّ من الْفِعْلِ أو بِالْعَكْسِ كان كُلٌّ مِنْهُمَا صَحِيحًا وَهَذَا هو الِاشْتِقَاقُ الذي يَقُومُ عليه أَسَاسُ التَّصْرِيفِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَصْلًا لِلْآخَرِ فَهَذَا إنْ عَنِيَ بِهِ أَنَّ أَحَدَهُمَا تُكُلِّمَ بِهِ بَعْدَ الْآخَرِ لم يَقُمْ على هذا دَلِيلٌ في أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ وَإِنْ عَنِيَ بِهِ أَنَّ أَحَدَهُمَا مُقَدَّمٌ على الْآخَرِ في الْعَقْلِ لِكَوْنِ هذا مُفْرَدًا وَهَذَا مُرَكَّبًا فَالْفِعْلُ مُشْتَقٌّ من الْمَصْدَرِ التَّنْبِيهُ السَّادِسُ أَنَّهُ لَا بُدَّ في مَعْرِفَةِ الِاشْتِقَاقِ من التَّصْرِيفِ وهو مَعْرِفَةُ اخْتِلَافِ أَبْنِيَةِ الْكَلِمَةِ وما يَعْرِضُ لها من زِيَادَةٍ وَنَقْصٍ وَقَلْبٍ وَبَدَلٍ وَإِدْغَامٍ لِيُعْرَفَ الْأَصْلِيُّ من الزِّيَادَةِ وَيُرَدُّ الْمَقْلُوبُ إلَى أَصْلِهِ وَيُعْرَفُ الْبَدَلُ من الْمُبْدَلِ منه وَالْمُدْغَمُ من الْمُدْغَمِ فيه وَحُرُوفُ الزِّيَادَةِ عَشَرَةٌ يَجْمَعُهَا قَوْلُك سَأَلْتُمُونِيهَا فإذا عَرَفَ الْأَصْلِيَّ وَالزَّائِدَ قَابَلَ في مِيزَانِ التَّصْرِيفِ الْأَصْلِيَّ بِفَاءِ فِعْلٍ وَعَيْنِهِ وَلَامِهِ وَالزَّائِدَ بِلَفْظِهِ تَقُولُ وَزْنُ ضَارِبٍ فَاعِلٍ فَالْأَلِفُ زَائِدٌ مَذْكُورٌ بِلَفْظِهِ وَالضَّادُ وَالرَّاءُ وَالْبَاءُ أُصُولٌ مُقَابَلَةٌ بِالْفَاءِ وَالْعَيْنِ وَاللَّامِ وَكَذَلِكَ مَضْرُوبٌ مَفْعُولٌ من الضَّرْبِ فَالْوَاوُ وَالْمِيمُ زَائِدَتَانِ وَمِيعَادٌ وَمِيزَانٌ مِفْعَالٌ من الْوَعْدِ وَالْوَزْنِ فَالْمِيمُ وَالْأَلِفُ زَائِدَتَانِ وَالْيَاءُ هِيَ مُنْقَلِبَةٌ عن وَاوٍ لِظُهُورِهَا فِيمَا منه الِاشْتِقَاقُ فَإِنْ قِيلَ جَعَلْتُمْ مَعْرِفَةَ الِاشْتِقَاقِ مُتَوَقِّفَةً على مَعْرِفَةِ التَّصْرِيفِ وَأَهْلُ التَّصْرِيفِ يَجْعَلُونَ مَعْرِفَتَهُ مُتَوَقِّفَةً على مَعْرِفَةِ الِاشْتِقَاقِ لِتَعْرِيفِ الزَّائِدِ فَيُحْكَمُ بِزِيَادَتِهِ فَإِنَّا
____________________
(1/458)
لَا نَعْلَمُ أَنَّ كَوْثَرًا مُشْتَقٌّ من الْكَثْرَةِ حتى يُعْلَمَ أَنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ وَلَا نَعْرِفُ أنها زَائِدَةٌ حتى نَعْلَمَ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ من الْكَثْرَةِ وَذَلِكَ دَوْرٌ فَيَمْتَنِعُ قُلْنَا إذَا عَرَفْنَا الْأَصْلِيَّ من الزَّائِدِ حَكَمْنَا بِاشْتِقَاقِهِ من الْأَصْلِيَّةِ فَكُلٌّ من التَّصْرِيفِ وَالِاشْتِقَاقِ يَفْتَقِرُ إلَى الْآخَرِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عليه التَّنْبِيهُ السَّابِعُ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَعْنَى الْمُشْتَقَّ منه كَالْعِلَّةِ في الْقِيَاسِ وَالْعَلَاقَةُ في الْمَجَازِ حَيْثُ وُجِدَ الِاشْتِقَاقُ كما أَنَّ الْعِلَّةَ حَيْثُ وُجِدَتْ وُجِدَ الْحُكْمُ لَكِنْ لم يَطَّرِدْ ذلك في الِاشْتِقَاقِ فَإِنَّا رَأَيْنَاهُمْ سَمَّوْا الْأَسَدَ ضَيْغَمًا من الضَّغْمِ ولم يُسَمُّوا الْجَمَلَ بِهِ وَأَنَّ الضَّغْمَ هو الْعَضُّ الشَّدِيدُ مَوْجُودًا فيه وَسَمَّوْا الْمَنْزِلَ الذي بَعْدَ الثُّرَيَّا دَبَرَانًا لِاسْتِدْبَارِهِ إيَّاهَا أو الْقِبْلَةَ ولم يُسَمُّوا كُلَّ مُسْتَدْبِرٍ لِلثُّرَيَّا أو الْقِبْلَةِ دَبَرَانًا وَسَمَّوْا الثُّرَيَّا بِاسْمِهَا لِاشْتِقَاقِهَا من الثَّرْوَةِ وَهِيَ الْكَثْرَةُ لِاجْتِمَاعِ نُجُومِهَا ولم يُسَمُّوا كُلَّ أَعْدَادٍ مُجْتَمِعَةٍ ثُرَيًّا وَسَمَّوْا الْقَارُورَةَ وَهِيَ الْوِعَاءُ الْخَاصُّ لِاسْتِقْرَارِ الْمَاءِ فيها ولم يُسَمُّوا كُلَّ مُسْتَقِرٍّ لِمَائِعٍ أو غَيْرِهِ كَالْحَوْضِ وَنَحْوِهِ قَارُورَةً وَالضَّابِطُ في ذلك أَنَّهُ إمَّا أَنْ يُجْعَلَ وُجُودُ مَعْنَى الْأَصْلِ في مَحَلِّ التَّسْمِيَةِ من حَيْثُ إنَّهُ دَاخِلٌ فيها وَالْمُرَادُ ذَاتٌ مع اعْتِبَارِ نِسْبَتِهِ إلَيْهَا فَهَذَا يَطَّرِدُ في كل ذَاتٍ فَهَذَا هو الْمُطَّرِدُ وَإِنْ كان الْمُرَادُ ذَاتًا مَخْصُوصَةً على شَخْصِهِ امْتَنَعَ التَّعَدِّيَةُ لِأَنَّ الِاشْتِقَاقَ من الثَّرْوَةِ وَالِاسْتِدْبَارِ وَالضَّيْغَمِ وَالِاسْتِقْرَارِ بِمَنْزِلَةِ جُزْءِ الْعِلَّةِ الْمُرَكَّبَةِ من الْقِيَاسِ وَالْجُزْءُ الْآخَرُ كَوْنُ هذا الْمُشْتَقِّ عَلَمًا لِهَذَا الْوَضْعِ أو خَاصًّا بِهِ التَّنْبِيهُ الثَّامِنُ قال ابن عُصْفُورٍ لَا يَدْخُلُ الِاشْتِقَاقُ في سَبْعَةِ أَشْيَاءَ وَهِيَ الْأَسْمَاءُ الْعَجَمِيَّةُ كَإِسْمَاعِيلَ وَالْأَصْوَاتُ كَ غَاقٌ وَالْحُرُوفُ وما أَشْبَهَهَا من الْمُتَوَغِّلَةِ في الْبِنَاءِ نحو من وما وَالْأَسْمَاءُ النَّادِرَةُ نَحْوُ طُوبَى له اسْمٌ لِلنِّعْمَةِ وَاللُّغَاتُ الْمُتَدَاخِلَةُ نَحْوُ الْهُونِ لِلْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ وَالْأَسْمَاءُ الْخُمَاسِيَّةُ كَسَفَرْجَلٍ وَيَدْخُلُ فِيمَا عَدَا ذلك انْتَهَى وَأَثْبَتَ ابن جِنِّي الِاشْتِقَاقَ في الْحُرُوفِ وَلَعَلَّ مُرَادَهُ الْأَكْبَرُ
____________________
(1/459)
مَسْأَلَةٌ وقد يَطَّرِدُ بِأَنْ يُطَلَّقَ على كل صُورَةٍ وُجِدَ فيها مَعْنَى الْمُشْتَقِّ منه كَاسْمِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَغَيْرِهِمَا من الصِّفَاتِ كَضَارِبٍ وَمَضْرُوبٍ وَحَسَنٍ وقد يَخْتَصُّ كَالْقَارُورَةِ لَا يُطْلَقُ على غَيْرِ الزُّجَاجَةِ وَالضَّابِطُ أَنَّ الْمُطَّرِدَ ما كان لِذَاتٍ قُصِدَ فيه الْمَعْنَى وَالْمُخْتَصُّ ما قَصَدَ مُجَرَّدَ الذَّاتِ وَالْمَعْنَى تَابِعٌ وقد يُقَالُ إنَّ وُجُودَ مَعْنَى الْأَصْلِ في كل التَّسْمِيَةِ قد تُعْتَبَرُ من حَيْثُ إنَّهُ دخل في التَّسْمِيَةِ وَالْمُرَادُ ذَاتُ ما بِاعْتِبَارِ نِسْبَةٍ له إلَيْهَا فَهَذَا يَطَّرِدُ في كل ذَاتٍ فيه مَعْنَى الْأَصْلِ كَالْأَحْمَرِ فإنه لِذَاتٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْحُمْرَةَ دَاخِلَةٌ فيه وقد يُعْتَبَرُ من حَيْثُ إنَّهُ مُصَحِّحٌ لِلتَّسْمِيَةِ مُرَجِّحٌ لها كَتَسْمِيَةِ الذَّاتِ التي له الْحُمْرَةُ بِالْأَحْمَرِ لِكَوْنِهَا أَحْمَرَ لَكِنْ لَا بِاعْتِبَارِ دُخُولِ الْحُمْرَةِ في مُسَمَّاهُ وَلِهَذَا لو زَالَتْ حُمْرَتُهُ يَصِحُّ إطْلَاقُ الْأَحْمَرِ عليه بِخِلَافِ الِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ وَهَذَا مُسْتَمَدٌّ من قَوْلِ السَّكَّاكِيِّ وَإِيَّاكَ وَالتَّسْوِيَةَ بين تَسْمِيَةِ إنْسَانٍ له حُمْرَةٌ بِأَحْمَرَ وَبَيْنَ وَصْفِهِ بِأَحْمَرَ أَنْ تَزِلَّ فإن اعْتِبَارَ الْمَعْنَى في التَّسْمِيَةِ لِتَرْجِيحِ الِاسْمِ على غَيْرِهِ حَالَ تَخْصِيصِهِ بِالْمُسَمَّى وَاعْتِبَارَ الْمَعْنَى في الْوَصْفِ لِصِحَّةِ إطْلَاقِهِ عليه فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا من الْآخَرِ وَحَاصِلُهُ الْفَرْقُ بين تَسْمِيَةِ الْغَيْرِ لِوُجُودِهِ فيه أو بِوُجُودِهِ فيه فَهُوَ مع اللَّامِ إشَارَةٌ إلَى الْعِلْمِيَّةِ وَمَعَ الْبَاءِ إشَارَةٌ إلَى الْمُصَاحَبَةِ مَسْأَلَةٌ شَرْطُ صِدْقِ الْمُشْتَقِّ صِدْقُ الْمُشْتَقِّ من هـ شَرْطُ صِدْقِ الْمُشْتَقِّ اسْمًا كان أو فِعْلًا صِدْقُ الْمُشْتَقِّ منه فَلَا يَصْدُقُ قَائِمٌ على ذَاتٍ إلَّا إذَا صَدَقَ الْقِيَامُ على تِلْكَ الذَّاتِ وَسَوَاءٌ كان الصِّدْقُ في الْمَاضِي أَمْ في الْحَالِ أَمْ في الِاسْتِقْبَالِ وَأَمَّا إنَّ ذلك هو بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَمْ لَا فَسَيَأْتِي وَالْكَلَامُ في هذه الْمَسْأَلَةِ مع أبي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَابْنِهِ أبي هَاشِمٍ وَهُمَا لم يُصَرِّحَا بِالْمُخَالَفَةِ في ذلك وَلَكِنْ وَقَعَ ذلك مِنْهُمَا ضِمْنًا حَيْثُ ذَهَبَا إلَى الْقَوْلِ بِعَالَمِيَّةِ اللَّهِ دُونَ عِلْمِهِ أَيْ ذَهَبَا إلَى أَنَّ الْعَالَمَ وَغَيْرَهُ من الصِّفَاتِ أَسْمَاءٌ مُشْتَقَّةٌ من الْعِلْمِ وَنَحْوِهِ ثُمَّ إنَّهُمَا يُطْلِقَانِ على اللَّهِ تَعَالَى هذه الْأَسْمَاءَ وَيُنْكِرَانِ حُصُولَ الْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ هِيَ الْمَعَانِي التي تُوجِبُ الْعَالَمِيَّةَ وَالْقَادِرِيَّةَ وَهَذِهِ الْمَعَانِي غَيْرُ
____________________
(1/460)
ثَابِتَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ لِلَّهِ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا حَيَاةٌ مع أَنَّهُ عَالِمٌ قَادِرٌ حَيٌّ وَفِرَارًا من أَنْ يَكُونَ الذَّاتُ قَابِلًا وَفَاعِلًا وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَاتَّفَقُوا على أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْعِلْمِ قَادِرٌ بِالْقُدْرَةِ حَيٌّ بِالْحَيَاةِ هل الْعِلْمُ نَفْسُ الْعَالَمِيَّةِ وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذلك هل الْعِلْمُ نَفْسُ الْعَالَمِيَّةِ أو الْقُدْرَةُ نَفْسُ الْقَادِرِيَّةِ أو هِيَ زَائِدَةٌ عليها وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ وَأَتْبَاعِهِ وَالثَّانِي قَوْلُ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا عَالِمٌ بِالذَّاتِ لَا بِالْعِلْمِ قَادِرٌ بِالذَّاتِ لَا بِالْقُدْرَةِ وَهَكَذَا فَقَدْ جَوَّزُوا صِدْقَ الْمُشْتَقِّ الذي هو الْعَالِمُ بِدُونِ صِدْقِ الْمُشْتَقِّ منه وَاعْلَمْ أَنَّهُمَا يُعَلِّلَانِ الْعَالَمِيَّةَ بِالْعِلْمِ مُطْلَقًا كما صَرَّحُوا بِهِ في كُتُبِهِمْ الْأُصُولِيَّةِ وَيَقُولَانِ إنَّ الْعِلْمَ في اللَّهِ غَيْرُ ذَاتِهِ فَهُمَا لَا يَسْلُبَانِ عنه إلَّا الْعِلْمَ الزَّائِدَ على ذَاتِهِ لَا الْعِلْمَ مُطْلَقًا وَحِينَئِذٍ فَتَخْصِيصُ عَالَمِيَّتِنَا بِالْعِلْمِ كما قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ أو إثْبَاتُ عَالَمِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى مع سَلْبِ الْعِلْمِ عنه كما قَالَهُ في الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّهُمَا لَا يَقُولَانِ بِسَلْبِ عِلِّيَّتِهَا عنه بَلْ يَقُولَانِ إنَّ عِلِّيَّةَ الْعَالَمِيَّةِ هِيَ الْعِلْمُ وَهِيَ غَيْرُ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى هذا أَصْلُ الْخِلَافِ وَمِنْهُ أَخْذُ هذه الْمَسْأَلَةِ الْأُصُولِيَّةِ وَلَا يَنْبَغِي لِجَوَازٍ أَنْ يَكُونَ هذا الْقَائِلُ يقول مُقْتَضَى اللُّغَةِ ما ذَكَرْتُمْ وَلَكِنَّ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ مَنَعَ هُنَا فَاسْتُثْنِيَ ذلك من الْمُشْتَقَّاتِ لِوُجُودِ الْمَانِعِ الْخَاصِّ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَصِحُّ تَعْمِيمُ الْمُشْتَقَّاتِ بِذَلِكَ وَيَخْرُجُ الْكَلَامُ منها عن أُصُولِ الْفِقْهِ إلَى عِلْمِ الْكَلَامِ وَيَصِيرُ الْخِلَافُ مَعْنَوِيًّا لَا لَفْظِيًّا لُغَوِيًّا وَإِنْ رَجَعْنَا بها إلَى أُصُولِ الْفِقْهِ فَنَقُولُ الْمُشْتَقُّ إمَّا أَنْ يَغْلِبَ عليه الِاسْمِيَّةُ أو لَا فَالْأَوَّلُ لَا يُشْتَرَطُ في صِدْقِهِ وُجُودُ الْمَعْنَى وَكَذَلِكَ الْحَارِثُ وَالْعَبَّاسُ فَإِنَّهُمَا يُسَمَّى بِهِمَا وَلَيْسَ بِحَارِثٍ وَلَا كَثِيرِ الْعَبُوسِ وَمَعَ ذلك فَقَدْ لَاحَظَ ذلك الْمَعْنَى الْمُطْلَقَ أو الشَّائِعَ في بَعْضِ الْأَعْيَانِ وَمِنْ ثَمَّ كان النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يَسْتَحِبُّ أَحْسَنَ الْأَسْمَاءِ وَيَكْرَهُ قَبِيحَهَا وَأَمَّا الذي لَا يَغْلِبُ عليه الِاسْمِيَّةُ فَهُوَ الْبَاقِي على أَصْلِ الصِّفَةِ كَالْعَالِمِ وَالْقَائِمِ وَيُشْتَرَطُ في صِدْقِهِ حَقِيقَةُ وُجُودِ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ منه وَإِطْلَاقُهُ مع عَدَمِهِ مَجَازٌ مَحْضٌ غير أَنَّهُ قد كَثُرَ هذا الْمَجَازُ في بَعْضِ الْأَسْمَاءِ وَاشْتَهَرَ وَذَلِكَ كَالْمُؤْمِنِ فإنه يُطْلَقُ على الْغَافِلِ وَالنَّائِمِ وَالْمَيِّتِ مع قِيَامِ مَوَانِعِ الْإِيمَانِ اسْتِصْحَابًا لِلْمَعْنَى السَّابِقِ وَالْحُكْمِ اللَّاحِقِ فَدَلَّ على أَنَّهُ مَجَازٌ هُنَا وَإِنْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ حَقِيقَةً في أَصْلِهِ وَإِنْ قَلَّ اسْتِعْمَالُهُ وَبِهَذَا يَرْتَفِعُ خِلَافُ
____________________
(1/461)
أبي هَاشِمٍ في هذا فإنه يقول إنَّ وُجُودَ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ منه ليس شَرْطًا في صِدْقِ الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ ليس شَرْطًا في أَصْلِ الْوَضْعِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ منه عَدَمُ الْفَرْقِ بين الْمُشْتَقِّ وَغَيْرِهِ وَإِنْ أَرَادَ الِاسْتِعْمَالَ الْعُرْفِيَّ فَهُوَ صَحِيحٌ على ما بَيَّنَّاهُ مَسْأَلَةٌ بَقَاءُ مَعْنَى الْمُشْتَقِّ هل هو شَرْطٌ في أَنَّ دَوَامَ ما منه الِاشْتِقَاقُ أَعْنِي بَقَاءَ مَعْنَى الْمُشْتَقِّ منه هل شَرْطٌ في إطْلَاقِ اسْمِ الْمُشْتَقِّ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَمْ لَا فَمَنْ لم يَشْتَرِطْ وُجُودَهُ لم يَشْتَرِطْ دَوَامَهُ قَطْعًا وَأَمَّا الَّذِينَ يَشْتَرِطُونَ وُجُودَهُ فَاخْتَلَفُوا فيه فَنَقُولُ إطْلَاقُ الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ كَاسْمِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ حَقِيقَةٌ بِلَا خِلَافٍ كَتَسْمِيَةِ الْخَمْرِ خَمْرًا وَبِاعْتِبَارِ الْمُسْتَقْبَلِ مَجَازٌ بِلَا خِلَافٍ كَتَسْمِيَةِ الْعِنَبِ وَالْعَصِيرِ خَمْرًا وَأَمَّا إطْلَاقُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي كَإِطْلَاقِ الضَّارِبِ على من صَدَرَ منه الضَّرْبُ انْتَهَى وَهَذَا هو مَحَلُّ الْخِلَافِ فقال الْجُمْهُورُ منهم الرَّازِيَّ وَالْبَيْضَاوِيُّ إنَّهُ مَجَازٌ وقال ابن سِينَا وَالْفَلَاسِفَةُ وأبو هَاشِمٍ من الْمُعْتَزِلَةِ إنَّهُ حَقِيقَةٌ وَنَقَلَ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ مَذْهَبًا ثَالِثًا أَنَّ مَعْنَى الْمُشْتَقِّ منه إنْ كان مِمَّا يُمْكِنُ بَقَاؤُهُ كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ اُشْتُرِطَ بَقَاؤُهُ في كَوْنِ الْمُشْتَقِّ حَقِيقَةً وَإِلَّا فَلَا كما في الْمَصَادِرِ السَّيَّالَةِ مِثْلِ الْكَلَامِ وَأَنْوَاعِهِ وَنَسَبَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ في النِّهَايَةِ إلَى الْأَكْثَرِينَ وَيَحْتَاجُ إلَى تَثَبُّتٍ فإن الرَّازِيَّ ذَكَرَهُ في أَثْنَاءِ الْمَسْأَلَةِ على سَبِيلِ الْبَحْثِ وقال إنَّهُ لم يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ فَإِنْ كان مُسْتَنِدُ نَقْلِهِمْ هذا فَقَدْ عَلِمْت لَكِنَّ الْإِمَامَ في جَوَابِ الْمُعَارَضَةِ صَرَّحَ بِاخْتِيَارِهِ وَمَنَعَ الْإِجْمَاعَ فقال قُلْنَا الْمُعْتَبَرُ عِنْدَنَا حُصُولٌ بِتَمَامِهِ إنْ أَمْكَنَ أو حُصُولُهُ آخِرَ جُزْءٍ من أَجْزَائِهِ وَدَعْوَى الْإِجْمَاعِ على فَسَادِ هذا التَّفْصِيلِ مَمْنُوعَةٌ هذا لَفْظُهُ في الْمُسَوَّدَةِ الْأُصُولِيَّةِ وَقِيلَ إنَّ ما يُعْدَمُ عَقِبَ وُجُودِ مُسَمَّاهُ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالِاغْتِسَالِ وَالتَّوَضُّؤِ فإن الِاسْمَ يَقَعُ عليه بَعْدَ حَقِيقَةٍ وما يَدُومُ بَعْدَ وُجُودِ الْمُسَمَّى كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ فإذا عُدِمَ الْمُسَمَّى جَمِيعُهُ كان مَجَازًا وَنَقَلَ الْأَصْفَهَانِيُّ عن بَعْضِهِمْ تَفْصِيلًا آخَرَ وقال إنَّهُ الْحَقُّ وهو أَنَّهُ إذَا وَجَدَ مَعْنَى في الْمَحِلِّ وَاشْتَقَّ له منه اسْمًا فَبَعْدَ ذلك إنْ لم يَطْرَأْ على الْمَحِلِّ ما يُنَاقِضُهُ وَيُضَادُّهُ بَقِيَ صِدْقُ الْمُشْتَقِّ كَالْقَاتِلِ وَالزَّانِي وَالسَّارِقِ فَأَمَّا إذَا طَرَأَ على الْمَحِلِّ ما يُضَادُّهُ
____________________
(1/462)
وَاشْتَقَّ له منه اسْمَ الْمُشْتَقِّ الْأَوَّلِ فَحِينَئِذٍ لَا يَصْدُقُ الْمُشْتَقُّ الْأَوَّلُ كَاللَّوْنِ إذَا قام بِهِ الْبَيَاضُ يُسَمَّى أَبْيَضَ فإذا اسْوَدَّ لَا يُقَالُ في حَالَةِ السَّوَادِ إنَّهُ أَبْيَضُ وَالدَّلِيلُ على ذلك أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِجَلْدِ الزَّانِي وَقَطْعِ السَّارِقِ وَلَوْ كان بَقَاءُ وَجْهِ الِاشْتِقَاقِ شَرْطًا لَمَا أَمْكَنَنَا امْتِثَالُ الْأَمْرِ لِأَنَّ حَالَةَ الْجَلْدِ وَالْقَطْعِ ليس بِزَانٍ وَلَا سَارِقٍ حَقِيقَةً فَلَا يَقَعُ الِامْتِثَالُ بِالْأَمْرِ وَيَخْرُجُ من كَلَامِ الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ في مَسْأَلَةِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ قَوْلٌ خَامِسٌ بِالتَّفْصِيلِ بين إطْلَاقِهِ عَقِبَ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ منه فَيَسُوغُ وَبَيْنَ أَنْ يَتَطَاوَلَ الزَّمَانُ فَلَا وَمِنْ كَلَامِ أبي الْخَطَّابِ من الْحَنَابِلَةِ سَادِسٌ وهو التَّفْصِيلُ بين ما يَطُولُ زَمَنُهُ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَبَيْنَ ما يَقْصُرُ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وهو قَرِيبٌ من الْخَامِسِ وَكَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ في الْمَسْأَلَةِ فإنه ذَكَرَ شِبْهَ الْفَرْقِ وَأَجَابَ عن الْجَمِيعِ فَتَحَصَّلْنَا على سَبْعِ مَذَاهِبَ يُشْتَرَطُ بَقَاؤُهُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا التَّفْصِيلُ بين الْمُمْكِنِ وَغَيْرِهِ التَّفْصِيلُ بين طُرُوُّ ما يُنَاقِضُ التَّفْصِيلَ بين الْإِطْلَاقِ عَقِبَهُ أو بَعْدَهُ التَّفْصِيلُ بين طُولِ الزَّمَانِ وَقِصَرِهِ الْوَقْفُ وَالْفَرْقُ بين هذه الْمَسْأَلَةِ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ الْمُخَالِفَ في الْأَوَّلِ يقول بِصِدْقِ الْمُشْتَقِّ كَالْعَالِمِ وَالْقَادِرِ وَإِنْ لم يَكُنْ ما منه الِاشْتِقَاقُ قَائِمًا بِالْمُشْتَقِّ منه وَلَا في وَقْتٍ ما وَأَمَّا الْمُخَالِفُ في هذه فإنه يقول إنْ قام ما منه الِاشْتِقَاقُ بِالشَّيْءِ فَهُوَ صَادِقٌ حَقِيقَةً حِينَئِذٍ وإذا انْقَضَى ولم يَقُمْ بِهِ فَهُوَ يَصْدُقُ عليه مَجَازًا لَا حَقِيقَةً وَعَلَى الْمَذْهَبِ الْآخَرِ عَكْسُهُ
____________________
(1/463)
تَنْبِيهَاتٌ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ اسْمُ الْفَاعِلِ حَقِيقَةً في الْحَالِ مَعْنَى قَوْلِهِمْ حَقِيقَةً في الْحَالِ أَيْ حَالَ التَّلَبُّسِ بِالْفِعْلِ لَا حَالَ النُّطْقِ بِهِ فإن حَقِيقَةَ الضَّارِبِ وَالْمَضْرُوبِ لَا يَتَقَدَّمُ على الضَّرْبِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عنه لِأَنَّهُمَا طَرَفَا النِّسْبَةِ فَهُمَا معه في زَمَنٍ وَاحِدٍ وَمِنْ هذا يُعْلَمُ أَنَّ نحو قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم من قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ أَنَّ قَتِيلًا حَقِيقَةً وَأَنَّ ما ذَكَرُوهُ من أَنَّهُ سُمِّيَ قَتِيلًا بِاعْتِبَارِ مُشَارَفَتِهِ الْفِعْلَ لَا تَحْقِيقَ له إذَا عَلِمْت ذلك فما ذَكَرُوهُ من نَقْلِ الْإِجْمَاعِ على أَنَّهُ حَقِيقَةٌ في الْحَالِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُهُ بَعْدَ وُجُودِ ما يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ منه فَأَمَّا حَالَةُ الشُّرُوعِ قبل وُجُودِ ذلك كَالتَّسَاوُمِ من التَّابِعِينَ قبل الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالْأَكْلُ حين أَخْذِ اللُّقْمَةِ قبل وُجُودِ مُسَمَّى الْأَكْلِ فقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ لَا يُسَمَّى فَاعِلًا إلَّا مَجَازًا وَإِنَّمَا يَكُونُ حَقِيقَةً بَعْدَ وُجُودِ ما يُسَمَّى بَيْعًا وَأَكْلًا وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْتَرَطَ في الْإِطْلَاقِ تَمَامُ الْفِعْلِ وَلِهَذَا قال ابن مَالِكٍ الْمُرَادُ بِالْحَالِ ما قَارَنَ وُجُودُ لَفْظِهِ لِوُجُودِ جُزْءٍ من مَعْنَاهُ كَقَوْلِك هذا زَيْدٌ يَكْتُبُ فَيَكْتُبُ مُضَارِعٌ بِمَعْنَى الْحَالِ وَوُجُودُ لَفْظِهِ مُقَارِنٌ لِوُجُودِ بَعْضِ الْكِتَابَةِ لَا لِجَمِيعِهَا لَا ما يَعْتَقِدُهُ كَثِيرٌ من الناس أَنَّ الْحَالَ هو الْمُقَارِنُ وُجُودُ مَعْنَاهُ لِوُجُودِ لَفْظِهِ لِأَنَّ مُدَّةَ وُجُودِ اللَّفْظِ لَا تَتَّسِعُ لِوُجُودِ مَعْنَى الْفِعْلِ وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْحَالِ عن اللَّفْظِ الدَّالِّ على الْجَمِيعِ لِاتِّصَالِ أَجْزَاءِ الْكَلِمَةِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ التَّنْبِيهُ الثَّانِي نَقْلُ الْإِجْمَاعِ على أَنَّهُ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَقْبِلِ فيه نَظَرٌ فإن الشَّافِعِيَّ رَدَّ قَوْلَ أبي حَنِيفَةَ في خِيَارِ الْمَجْلِسِ سُمِّيَا مُتَبَايِعَيْنِ لِشُرُوعِهِمَا في تَقْرِيرِ الثَّمَنِ وَالْمُبَادَلَةِ فقال الشَّافِعِيُّ لَا يُسَمَّيَانِ مُتَبَايِعَيْنِ بَلْ مُتَسَاوِمَيْنِ وَلِهَذَا لو قال امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إنْ كنا مُتَبَايِعَيْنِ وَكَانَا مُتَسَاوِمَيْنِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ التَّبَايُعُ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ له مَدْلُولَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَسْلُبَ الدَّلَالَةَ على الزَّمَانِ فَلَا يَشْعُرُ بِتَجَدُّدٍ وَلَا حُدُوثٍ نَحْوُهُ
____________________
(1/464)
قَوْلُهُمْ سَيْفُهُ قَطُوعٌ وَزَيْدٌ صَارِعُ مِصْرَ أَيْ شَأْنُهُ ذلك فَهَذَا حَقِيقَةٌ لِأَنَّ الْمَجَازَ يَصِحُّ نَفْيُهُ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ في السَّيْفِ ليس بِقَطُوعٍ وَالثَّانِي أَنْ يُقْصَدَ الْفِعْلُ في الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنْ لم يَتَغَيَّرْ الْفَاعِلُ كَأَفْعَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ من الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ فإنه يُوصَفُ في الْأَزَلِ بِالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ حَقِيقَةً وَإِنْ قُلْنَا إنَّ صِفَاتِ الْفِعْلِ حَادِثَةٌ وَإِنْ كان يَتَغَيَّرُ فَهُوَ مَوْضِعُ الْمَسْأَلَةِ وكان بَعْضُ الْفُضَلَاءِ يقول مُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ سِينَا وَغَيْرِهِ من الْمَنْطِقِيِّينَ أَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَقْبَلِ حَقِيقَةً أَيْضًا لِقَوْلِهِمْ إذَا قُلْنَا كُلُّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ فَمَعْنَاهُ كُلُّ ما هو إنْسَانٌ في الْحَالِ أو قَبْلَهُ أو بَعْدَهُ فَهُوَ حَيَوَانٌ وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَلْ مَعْنَى قَوْلِهِمْ إنَّ الْحُكْمَ على مُسَمَّى الْإِنْسَانِ وَمُسَمَّى الْإِنْسَانِ أَعَمُّ من أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا أو حَاضِرًا أو مُسْتَقْبَلًا وهو حَقِيقَةٌ في الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وُضِعَ له لِأَنَّا لَمَّا أَطْلَقْنَا اللَّفْظَ ما أَرَدْنَا بِهِ إلَّا ذلك الْمَعْنَى وَهَذَا مُرَادُنَا بِقَوْلِنَا إنَّ إطْلَاقَ اللَّفْظِ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ حَقِيقَةٌ أَيْ إذَا أُرِيدَ منه الْحَالُ التي فيها كَذَلِكَ وَإِنْ أُطْلِقَ الْإِنْسَانُ مَثَلًا على النُّطْفَةِ أو الطِّينِ بِاعْتِبَارِ ما سَيَصِيرُ إلَيْهِ فَهَذَا مَجَازٌ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مُسَمَّى الْإِنْسَانِ لِعَلَاقَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُسَمَّاهُ وَكَذَلِكَ إذَا أُطْلِقَ عليه بَعْدَ خُرُوجِهِ عن الْإِنْسَانِيَّةِ وَأُرِيدَ تِلْكَ الْخَارِجَةُ وهو الْمَنْقُولُ فيه الْخِلَافُ عن ابْنِ سِينَا التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ أَنَّ في نَقْلِ الْخِلَافِ عن ابْنِ سِينَا وَأَبِي هَاشِمٍ في هذه الْمَسْأَلَةِ نَظَرًا بَيَّنَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ أَمَّا ابن سِينَا فَلَا يُوجَدُ له مَوْضُوعٌ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَلَا في الْعَرَبِيَّةِ حتى يُؤْخَذَ خِلَافُهُ مِنْهُمَا نعم قال إنَّ الِاصْطِلَاحَ في عِلْمِ الْمَنْطِقِ أَنَّ قَوْلَنَا كُلُّ ج ب أَنَّا لَا نَعْنِي بِهِ ما هو ج دَائِمًا أو في الْحَالِ أو في وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بَلْ ما هو أَعَمُّ من ذلك وهو أَنَّهُ ما صَدَقَ عليه أَنَّهُ ج سَوَاءٌ كان في ذلك الْمَاضِي أو الْمُسْتَقْبَلُ أو الْحَالُ دَائِمًا أو غير دَائِمٍ فَهَذَا ما اُصْطُلِحَ عليه فَعَلَى هذا إذَا قِيلَ الضَّارِبُ مُتَحَرِّكٌ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذلك حُكْمًا على الضَّارِبِ في الْحَالِ بَلْ على ما صَدَقَ عليه الضَّارِبُ سَوَاءٌ كان ذلك الصِّدْقُ في الْمَاضِي أو الْمُسْتَقْبَلِ أو الْحَالِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الِاصْطِلَاحَاتِ لَا مُنَاقَشَةَ فيها وَلَا يَلْزَمُ من الِاصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلْأَوْضَاعِ اللُّغَوِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ إلَّا إذَا ادَّعَى صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ الْمُوَافَقَةَ وابن سِينَا وَغَيْرُهُ من
____________________
(1/465)
الْمَنْطِقِيِّينَ يَدَّعُونَ ذلك على أَنَّ الرَّازِيَّ في كُتُبِهِ الْمَنْطِقِيَّةِ قد وَافَقَ ابن سِينَا في هذا الِاصْطِلَاحِ وَأَمَّا ما نُقِلَ عن أبي هَاشِمٍ فَفِيهِ بَحْثٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ نُقِلَ عنه في الْمَسْأَلَةِ السَّالِفَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ صِدْقُ الْمُشْتَقِّ بِدُونِ ما منه الِاشْتِقَاقُ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ منه أَنْ يُشْتَرَطَ في صِدْقِ الْمُشْتَقِّ أَنْ يَقُومَ بِهِ ما منه الِاشْتِقَاقُ وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْإِمَامَ يقول إنَّ الضَّارِبَ لَا يَصْدُقُ حَقِيقَةً إلَّا في حَالِ صُدُورِ الضَّرْبِ من الضَّارِبِ وأبو هَاشِمٍ يقول يَكْفِي في صِدْقِ الضَّارِبِ حَقِيقَةً أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ وُجِدَ في الْوُجُودِ وَانْقَضَى فَإِنْ لم يَكُنْ وُجِدَ أَصْلًا فَلَا يقول بِصِدْقِ الضَّارِبِ حَقِيقَةً فَيَلْزَمُهُ التَّنَاقُضُ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ ما نُقِلَ عنه أَوَّلًا صُورَتُهُ في صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً بِخِلَافِ غَيْرِهَا من الْمُشْتَقَّاتِ فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ لَكِنَّ الْإِمَامَ جَعَلَ الْمَسْأَلَتَيْنِ من حَيْثُ اللُّغَةِ التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ أَطْلَقُوا الْخِلَافَ في الْمَسْأَلَةِ وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْخِلَافَ لَا يَجْرِي في الصِّفَاتِ الْقَارَّةِ الْمَحْسُوسَةِ كَالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ لِأَنَّا على قَطْعٍ بِأَنَّ اللُّغَوِيَّ لَا يُطْلِقُ على الْأَبْيَضِ بَعْدَ اسْوِدَادِهِ أَنَّهُ أَبْيَضُ وقال الْإِمَامُ في الْمَسْأَلَةِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ نَائِمٌ بِاعْتِبَارِ النَّوْمِ السَّابِقِ وَادَّعَى الْآمِدِيُّ فيه الْإِجْمَاعَ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في الضَّرْبِ وَنَحْوِهِ من الْأَفْعَالِ الْمُنْقَضِيَةِ فَإِطْلَاقُ الْمُشْتَقِّ على مَحِلِّهَا من بَابِ الْأَحْكَامِ فَلَا يَبْعُدُ إطْلَاقُهُ حَالَ خُلُوِّهِ عن مَفْهُومِهِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ وقال الْقَرَافِيُّ أَيْضًا مَحِلُّهُ إذَا كان الْمُشْتَقُّ مَحْكُومًا بِهِ كَقَوْلِك زَيْدٌ مُشْرِكٌ أو زَانٍ أو سَارِقٌ فَإِنْ كان مَحْكُومًا عليه كَقَوْلِك السَّارِقُ تُقْطَعُ يَدُهُ فإنه حَقِيقَةٌ مُطْلَقًا فِيمَنْ اتَّصَفَ بِهِ في الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ قال وَلَوْلَا ذلك لَأَشْكَلَ الْقَطْعُ وَالْجَلْدُ لِأَنَّ هذه الْأَزْمِنَةَ الْمَاضِي وَالْحَالُ وَالِاسْتِقْبَالُ إنَّمَا هِيَ بِحَسَبِ زَمَنِ إطْلَاقِ اللَّفْظِ الْمُشْتَقِّ فَتَكُونُ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ وَنَظَائِرُهَا مَجَازَاتٍ بِاعْتِبَارِ من اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ في زَمَانِنَا لِأَنَّهُمْ في الْمُسْتَقْبَلِ غَيْرُ زَمَنِ الْخِطَابِ عِنْدَ النُّزُولِ على عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا مُخَلِّصَ عن هذا الْإِشْكَالِ إلَّا بِمَا سَبَقَ قال فَاَللَّهُ تَعَالَى لم يَحْكُمْ في تِلْكَ الْآيَاتِ بِشِرْكِ وَاحِدٍ وَلَا زِنَاهُ وَإِنَّمَا حَكَمَ بِالْقَتْلِ وَالْجَلْدِ وَغَيْرِهِمَا وَالْمَوْصُوفُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ يَعُمُّ مُتَعَلِّقَ هذه الْأَحْكَامِ هذا ما ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ وكان يَسْتَشْكِلُ ذلك وكان من في زَمَانِهِ من الْفُضَلَاءِ يَتَخَبَّطُونَ معه في
____________________
(1/466)
ذلك ولم يُوَفَّقُوا لِلصَّوَابِ فيه وقال بَعْضُهُمْ إنَّهُ مُنْدَفِعٌ بِدُونِ هذا فإن الْمَجَازَ وَإِنْ كان الْأَصْلُ عَدَمَهُ إلَّا أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ على أَنَّ الْمُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ بَعْدَ وُرُودِ هذه النُّصُوصِ يَتَنَاوَلُهُمْ وَتَثْبُتُ تِلْكَ الْأَحْكَامُ فِيهِمْ وَالْحَقُّ أَنَّ هَاهُنَا شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا إطْلَاقُ اللَّفْظِ وَإِرَادَةُ الْمَعْنَى من غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِزَمَانٍ كَقَوْلِنَا الْخَمْرُ حَرَامٌ فَهَذَا اللَّفْظُ صَادِقٌ سَوَاءٌ كانت الْخَمْرَةُ مَوْجُودَةً أَمْ لَا وَإِطْلَاقُ الْخَمْرِ في هذه الْقَضِيَّةِ حَقِيقَةٌ لِأَنَّهُ لم يَقْصِدْ غير مَعْنَاهُ وَالْحُكْمُ عليه بِالتَّحْرِيمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَالَةِ اتِّصَافِهِ بِالْخَمْرِيَّةِ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ فَلَا مَجَازَ في ذلك وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا الْقَاتِلُ مَقْتُولٌ وَنَحْوُهُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا وَقَوْلُهُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرُ ذلك من النُّصُوصِ وَالْحُكْمُ في ذلك على من اتَّصَفَ بِالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالشِّرْكِ وَنَحْوِهَا حَاضِرًا كان أو مُسْتَقْبَلًا ولم يُقْصَدْ بِالزَّانِي إلَّا من اُتُّصِفَ بِالزِّنَى حين زِنَاهُ وَكَذَلِكَ بَاقِيهَا الثَّانِي إطْلَاقُهُ بِاعْتِبَارِ ما كان عليه فَهُوَ مَجَازٌ وهو مَوْضِعُ الْخِلَافِ قال الشَّيْخُ الْإِمَامُ أبو الْحَسَنِ السُّبْكِيُّ وَإِنَّمَا الْوَهْمُ سَرَى لِلْقَرَافِيِّ قَوْلُهُ بِأَنَّ الْمَاضِيَ وَالْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ بِحَسَبِ زَمَنِ إطْلَاقِ اللَّفْظِ فَحَصَلَ بِذَلِكَ ما قَالَهُ من الْإِشْكَالِ وَلَا يُنْجِيهِ ما أَجَابَ بِهِ وَالْقَاعِدَةُ صَحِيحَةٌ في نَفْسِهَا وَلَكِنْ لم يَفْهَمُوهَا حَقَّ فَهْمِهَا قال وَهَاهُنَا أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَنَحْوَهُمَا إنَّمَا دَلَّ على شَخْصٍ مُتَّصِفٍ بِالْمَصْدَرِ الْمُشْتَقِّ منه فَضَارِبٌ مَدْلُولُهُ شَخْصٌ مُتَّصِفٌ بِضَرْبٍ صَادِرٍ منه وَلَا تَعَرُّضَ له لِزَمَانٍ كما هو شَأْنُ الْأَسْمَاءِ كُلِّهَا وإذا لم يَدُلَّ على الزَّمَانِ الْأَعَمُّ من الْحَالِ فَلَأَنْ لَا يَدُلَّ على الْحَالِ الْأَخَصُّ منه أَوْلَى فَكَيْفَ يَكُونُ حَقِيقَةً فيه وَأَعْنِي بِالْحَالِ هُنَا زَمَنَ إطْلَاقِ اللَّفْظِ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ يَدُلُّ على ذلك فَقَدْ أَخْطَأَ وَإِنَّمَا الْتَبَسَ على بَعْضِ الْمُبْتَدِئِينَ ذلك من جِهَةِ أَنَّهُمْ يَفْهَمُونَ من قَوْلِنَا زَيْدٌ ضَارِبٌ أَنَّهُ ضَارِبٌ في الْحَالِ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ هذا لِدَلَالَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ عليه وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّك تَقُولُ هذا حَجَرٌ وَتُرِيدُ إنْسَانًا فَيُفْهَمُ منه الْحَالُ أَيْضًا مع أَنَّ الْحَجَرَ وَالْإِنْسَانَ لَا دَلَالَةَ لَهُمَا على الزَّمَانِ
____________________
(1/467)
فَإِنْ قُلْت اسْمُ الْفَاعِلِ يَدُلُّ على الْفِعْلِ وَالْفِعْلُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ في زَمَنٍ فَاسْمُ الْفَاعِلِ دَالٌّ على الزَّمَانِ بِالِالْتِزَامِ قُلْت الْمُعْتَبَرُ في دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ اللُّزُومُ الذِّهْنِيُّ وهو مَمْنُوعٌ هَاهُنَا وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ لَا يَضُرُّ لِأَنَّ الْمَعْنَى فيه مُطْلَقُ الزَّمَانِ وإذا كنا نَقُولُ إنَّ الْيَوْمَ وَغَدًا وَأَمْسَ وَالزَّمَانَ وَالْآنَ أَسْمَاءٌ مع أنها لَا مَدْلُولَ لها غير الزَّمَانِ فما ظَنُّك بِمَا يَسْتَلْزِمُهُ وَاَلَّذِي مَنَعْنَا وُجُودَهُ في الِاسْمِ هو دَلَالَتُهُ على الزَّمَانِ كما يَدُلُّ الْفِعْلُ عليه وَأَعْنِي بِهِ أَنَّهُ يَدُلُّ على زَمَنٍ مَاضٍ غَيْرِ زَمَانِ الْخِطَابِ أو مُقَارِنٍ له أو مُسْتَقْبَلٍ عنه فَهَذَا هو الْقَدْرُ الذي اخْتَصَّ بِهِ الْفِعْلُ وَلَا يُوجَدُ في شَيْءٍ من الْأَسْمَاءِ فَإِنْ قُلْت ضَرَبَ دَلَّ على زَمَانٍ مَاضٍ غَيْرِ زَمَنِ الْخِطَابِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنَّ زَمَنَ الْخِطَابِ مُسْتَقْبَلٌ عنه وَيَضْرِبُ وَاضْرِبْ بِالْعَكْسِ وَتَضْرِبُ إذَا جَعَلْته لِلْحَالِ دَلَّ على زَمَانٍ مَاضٍ وهو زَمَنُ الْخِطَابِ فَكُلُّ وَاحِدٍ من الْأَفْعَالِ دَالٌّ على زَمَانَيْنِ زَمَنِ الْخِطَابِ وَزَمَنٍ مَنْسُوبٍ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَا في الْحَاضِرِ مُتَّحِدَيْنِ وَمِثْلُ هذا لَا يُوجَدُ في شَيْءٍ من الْأَسْمَاءِ لَا بِمَادَّتِهِ وَلَا بِصُورَتِهِ وَقَوْلُ من قال إنَّ الْيَوْمَ وَأَمْسِ وَغَدًا يَدُلُّ على أَحَدِ الْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ بِمَادَّتِهِ وَأَخْذُهُ في حَدِّ الْفِعْلِ أَنْ يَدُلَّ بِبِنْيَتِهِ لِيُحْتَرَزَ عن ذلك مَدْخُولٌ بِمَا حَرَّرْنَاهُ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَا دَلَالَةَ له على زَمَنِ الْخِطَابِ أَلْبَتَّةَ وَأَنَّ قَوْلَنَا إطْلَاقُ اسْمِ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى الْحَالِ حَقِيقَةً ليس بهذا الْمَعْنَى خِلَافًا لِمَنْ غَلِطَ في ذلك الثَّانِي أَنَّ مَدْلُولَ اسْمِ الْفَاعِلِ شَخْصٌ مُتَّصِفٌ بِالْفِعْلِ كما قَدَّمْنَا حَاضِرًا كان أو مَاضِيًا أو مُسْتَقْبَلًا يَعْنِي بِالنِّسْبَةِ إلَى زَمَنِ الْخِطَابِ وَهَذَا الْمَدْلُولُ مُرَكَّبٌ بِقَيْدِ الِاتِّصَافِ بِالْفِعْلِ لَا بُدَّ منه لِأَنَّهُ أَحَدُ جُزْئَيْ الْمَدْلُولِ فَمَتَى لم يَكُنْ لِذَلِكَ الْفِعْلِ وُجُودٌ فيه في زَمَنٍ ما فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إطْلَاقُ اللَّفْظِ عليه لِعَدَمِ حُصُولِ مَدْلُولِهِ وَمَتَى اتَّصَفَ بِالْفِعْلِ في زَمَنٍ بَقِيَ ذلك الزَّمَنُ الْمَدْلُولُ حَاصِلًا بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْفَاعِلِ عليه حَقِيقَةً لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ في مَدْلُولِهِ وَإِطْلَاقُهُ عليه قبل حُصُولِهِ بِاعْتِبَارِ تَوَقُّعِ مَحْصُولِهِ مَجَازٌ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ له في غَيْرِ مَوْضُوعِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا وُضِعَ لِلْمُرَكَّبِ من جُزْأَيْنِ مَوْجُودَيْنِ بِالْفِعْلِ وَهُنَا ليس كَذَلِكَ وَإِطْلَاقُهُ عليه بَعْدَ حُصُولِهِ مَجَازٌ أَيْضًا على الصَّحِيحِ وَهَذَا التَّقْسِيمُ ليس بِالنِّسْبَةِ إلَى وَقْتِ الْخِطَابِ بَلْ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَقْتِ حُصُولِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلِاشْتِقَاقِ وَإِنَّمَا تَطَرَّقَتْ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ إلَيْهِ من جِهَةِ إطْلَاقِ اللَّفْظِ على مَوْضُوعِهِ وَعَلَى غَيْرِ
____________________
(1/468)
مَوْضُوعِهِ فَمَوْضُوعُهُ هو التَّرْكِيبُ وَقْتَ التَّرْكِيبِ فَإِنْ أُرِيدَ كان اللَّفْظُ حَقِيقَةً فيه سَوَاءٌ تَكَلَّمَ بِهِ في ذلك الْوَقْتِ أَمْ غَيْرِهِ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُهُ مَجَازًا سَوَاءٌ تَكَلَّمَ بِهِ ذلك الْوَقْتَ أَمْ غَيْرَهُ وَالْخِلَافُ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ حَالَةَ اقْتِرَانِ الْفِعْلِ بِالشَّخْصِ هل هِيَ شَرْطٌ في الْمَدْلُولِ أَمْ لَا وَالصَّحِيحُ أنها شَرْطٌ لِضَرُورَةِ التَّرْكِيبِ فَلِذَلِكَ اُعْتُبِرَ الْحَالُ وَلَيْسَ مُعْتَبَرًا لِكَوْنِ الزَّمَانِ مَأْخُوذًا في مَوْضُوعِهِ وَلَكِنْ لِأَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِلْمُرَكَّبِ وَحَقِيقَةُ الْمُرَكَّبِ عَقْلًا تَسْتَدْعِي وَقْتَ التَّرْكِيبِ فَكَانَ ذلك الزَّمَانُ شَرْطًا لِوُجُودِ الْمَدْلُولِ الصَّحِيحِ لِلِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقِيِّ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ إنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْفَاعِلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَالِ حَقِيقَةٌ أَيْ مَقْصُودٌ بِهِ الْحَالُ الذي وُجِدَ مَدْلُولُهُ فيها وَهِيَ حَالَ قِيَامِ الْمَعْنَى بِهِ وَإِنَّمَا دَلَّ على ذلك قَاعِدَةُ الِاشْتِقَاقِ وَاسْتِدْعَاؤُهُ وُجُودَ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ منه لِأَنَّ الْمُشْتَقَّ مُرَكَّبٌ وَالْمُشْتَقَّ منه مُفْرَدٌ وَالْمُرَكَّبُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمُفْرَدِ وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ من الناس أَنَّ الْمَقْصُودَ بهذا وَقْتُ الْخِطَابِ فَغَلِطَ وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ إنَّ إطْلَاقَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ مَجَازٌ أَيْ إذَا قَصَدَ تِلْكَ الْحَالَةَ وَإِنْ كان الْإِطْلَاقُ قَبْلَهَا أو بَعْدَهَا وَمَعْنَى قَوْلِنَا قَصَدَ بِهِ تِلْكَ الْحَالَ أَيْ قَصَدَ مَدْلُولَهُ الْكَائِنَ في تِلْكَ الْحَالِ وَأَمَّا الْحَالُ فَلَيْسَ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ مَوْضُوعًا له الثَّالِثُ قد عَرَفْت أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَا يَدُلُّ على الزَّمَانِ وَأَنَّهُ إنْ أُطْلِقَ وَأُرِيدَ بِهِ وَقْتُ حُصُولِ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ منه كان حَقِيقَةً وَإِلَّا كان مَجَازًا وَلَا فَرْقَ في ذلك بين أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا أو مُرَكَّبًا وَاقِعًا جُزْءَ كَلَامٍ وَلَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنُ الْمُفْرَدِ يُوصَفُ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَإِنَّك إذَا ذَكَرْت الْأَسْمَاءَ من غَيْرِ عَقْدٍ وَتَرْكِيبٍ وَأَرَدْت بها حَقَائِقَهَا كانت حَقِيقَةً وَإِلَّا مَجَازًا وإذا وَقَعَ جُزْءُ الْكَلَامِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ طَلَبًا أو خَبَرًا فَإِنْ كان طَلَبًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ اقْتَضَى طَلَبَ قَتْلٍ مُسْتَقْبَلٍ لِأَشْخَاصِ الْمُتَّصِفِينَ بِالشِّرْكِ حين الْقَتْلِ سَوَاءٌ كَانُوا مَوْجُودِينَ حَالَةَ الْخِطَابِ أَمْ حَادِثِينِ بَعْدَهُ وَمِنْهُمْ من يُشْرِكُ بَعْدُ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا لِأَنَّهُ ما قُصِدَ بِهِ إلَّا من هو مُتَّصِفٌ بِالشِّرْكِ فَكَيْفَ يَكُونُ مَجَازًا وَلَا يَدْخُلُ من أَشْرَكَ ثُمَّ أَسْلَمَ وَلَا من ظُنَّ أَنَّهُ مُشْرِكٌ بَعْدَ ذلك لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يُسَمَّى مُشْرِكًا حَقِيقَةً بَلْ مَجَازًا لِأَنَّ اللَّفْظَ إنَّمَا يُحْمَلُ على حَقِيقَتِهِ
____________________
(1/469)
وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ سُؤَالَ الْقَرَافِيِّ لَا وَقْعَ له وَقَوْلُهُ إنَّ الْمُرَادَ في هذه الْمَسْأَلَةِ الْمَحْكُومُ بِهِ يُقَالُ له إنَّ قَوْلَهُ اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ مَعْنَاهُ الَّذِينَ هُمْ مُشْرِكُونَ فَقَدْ وَقَعَ اسْمُ الْفَاعِلِ مَحْكُومًا بِهِ وَقَوْلُهُ إنَّ مُتَعَلِّقَ الْحُكْمِ ليس يُرَادُ يَرُدُّ عليه قَوْلُك الْقَاتِلُ يُقْتَلُ أو الْكَافِرُ يُقْتَلُ وَأَرَدْت بِهِ مَعْهُودًا حَاضِرًا فإنه لَا يَكُونُ حَقِيقَةً حتى يَكُونَ الْقَتْلُ قَائِمًا بِهِ من حِينِ الْخِطَابِ وهو مِمَّا اقْتَضَتْهُ الْقَاعِدَةُ في الْمَسْأَلَةِ هذا حُكْمُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَإِنْ كان الْكَلَامُ خَبَرًا فَإِنْ كان مَاضِيًا وَاسْمُ الْفَاعِلِ نَكِرَةً غير عَامَّةٍ كَقَوْلِك قَتَلْت كَافِرًا فَصِدْقُهُ بِوُجُودِ تِلْكَ الصِّفَةِ في الْمَاضِي حَالَةَ الْقَتْلِ وَإِنْ كانت مُضَافَةً إلَيْهَا كُلَّ كَقَوْلِك قَتَلْتُ كُلَّ كَافِرٍ اقْتَضَتْ تَعْمِيمَ الْقَتْلِ لِكُلِّ كَافِرٍ في الْمَاضِي وَهَلْ الْكَافِرُ في الْمُسْتَقْبَلِ خَارِجٌ عن ذلك بِقَرِينَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي فَيَكُونُ مَخْصُوصًا أو لم يَدْخُلْ أَلْبَتَّةَ في الدَّلَالَةِ فيه ما أَشَرْنَا إلَيْهِ من الِاحْتِمَالَيْنِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ حَقِيقَةٌ في شَخْصٍ مُتَّصِفٍ بِحَدَثٍ حَالَ قِيَامِهِ بِهِ وَمَجَازٌ فِيمَا سَيَتَّصِفُ بِهِ وَكَذَا فِيمَا انْقَضَى اتِّصَافُهُ بِهِ على الصَّحِيحِ وَلَا فَرْقَ في الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ بين أَنْ يَكُونَ إطْلَاقُ ذلك في تِلْكَ الْحَالَةِ أو في غَيْرِهَا فَالِاعْتِبَارُ في الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِزَمَانِ الِاتِّصَافِ لَا بِزَمَانِ الْإِطْلَاقِ وَلَا فَرْقَ بين أَنْ يَكُونَ مَحْكُومًا عليه أو بِهِ أو تَعَلَّقَ الْحُكْمُ حَيْثُ وُجِدَ في قَضِيَّةٍ فِعْلِيَّةٍ مُقَيَّدًا بِزَمَانِ فِعْلِهَا وفي قَضِيَّةٍ اسْمِيَّةٍ إنْ قُيِّدَتْ تَقَيَّدَتْ وَإِنْ أُطْلِقَتْ حُمِلَتْ على الْحَالِ بِاسْمِ فَاعِلٍ كان الْمَحْكُومُ أو غَيْرُهُ من الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ أو الْجَامِدَةِ
____________________
(1/470)
مَسْأَلَةٌ الِاشْتِقَاقُ من الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالشَّيْءِ في الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالشَّيْءِ هل يَجِبُ أَنْ يُشْتَقَّ لِمَحِلِّهِ منه اسْمٌ قال الرَّازِيَّ إنْ لم يَكُنْ لِذَلِكَ الْمَعْنَى اسْمٌ كَأَنْوَاعِ الرَّوَائِحِ وَالْآلَامِ اسْتَحَالَ أَنْ يُشْتَقَّ لِمَحِلِّهِ منه اسْمٌ بِالضَّرُورَةِ وَإِنْ كان له اسْمٌ فَفِيهِ مَقَامَانِ أَحَدُهَا هل يَجِبُ أَنْ يُشْتَقَّ اسْمٌ لها منها الظَّاهِرُ من مَذْهَبِ أَئِمَّتِنَا الْمُتَكَلِّمِينَ وُجُوبُهُ فإن الْمُعْتَزِلَةَ لَمَّا قالوا إنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ كَلَامَهُ في جِسْمٍ قال أَصْحَابُنَا لهم لو كان كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يُشْتَقَّ من ذلك اسْمُ الْمُتَكَلِّمِ من ذلك الْكَلَامِ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ إذَا لم يُشْتَقَّ لِمَحِلِّهِ منه اسْمٌ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَقَّ لِغَيْرِ ذلك الْمَحِلِّ منه اسْمٌ فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا لَا وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ نعم لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا بِالِاتِّفَاقِ وهو اسْمٌ مُشْتَقٌّ من الْكَلَامِ ثُمَّ إنَّ الْأَشَاعِرَةَ أَطْلَقُوا على اللَّهِ ما منه الِاشْتِقَاقُ قَائِمٌ بِذَاتِهِ الْكَرِيمَةِ وهو الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ وَلَا يُطْلِقُونَ ذلك على من لم يَقُمْ بِهِ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ يُطْلِقُونَ اسْمَ الْمُتَكَلِّمِ على اللَّهِ بِاعْتِبَارِ خَلْقِهِ لِلْكَلَامِ في اللَّوْحِ أو في غَيْرِهِ وَلَا يَعْتَرِفُونَ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ فَإِذَنْ اسْمُ الْمُتَكَلِّمِ صَادِقٌ على اللَّهِ ولم يَقُمْ بِذَاتِ اللَّهِ الْكَلَامُ وَيُسَمَّى مُتَكَلِّمًا وما قام بِهِ لَا يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا هذا حَاصِلُ ما قَالَهُ ثُمَّ إنَّهُ مَالَ إلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وقال ليس من شَرْطِ الْمُشْتَقِّ منه قِيَامُهُ بِمَنْ له الِاشْتِقَاقُ إذْ الْكَيُّ وَالْحِدَادُ وَنَحْوُهُمَا مُشْتَقَّةٌ من أُمُورٍ يَمْتَنِعُ قِيَامُهَا بِمَنْ له الِاشْتِقَاقُ وَرُدَّ ما قَالَهُ بِأَنَّ الْأَصْحَابَ إنَّمَا ادَّعَوْا ذلك في الْمُشْتَقَّاتِ من الْمَصَادِرِ التي هِيَ أَسْمَاءُ الْمَعَانِي وما ذَكَرَهُ مُشْتَقٌّ من الزَّوَائِدِ وَأَسْمَاءِ الْأَعْيَانِ فَلَا يَرُدُّ عليهم وقال الْقَرَافِيُّ هذه الْأَشْيَاءُ أَجْسَامٌ وَالْكَلَامُ في الْمَعَانِي لَا في الْأَجْسَامِ وَهَذَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْمَسْأَلَةِ بِالْمَصَادِرِ ذَاتِ الْمَعَانِي وقال الْجَزَرِيُّ إنَّ النَّقْصَ بِهَذِهِ إنَّمَا وَرَدَ على قَوْلِ الْأَصْحَابِ إنَّ الْمَعْنَى إذَا لم
____________________
(1/471)
يَقُمْ بِالْمَحِلِّ لم يُشْتَقَّ له منه اسْمٌ فَقِيلَ هذه الْأَشْيَاءُ لم تَقُمْ بِمَحَالِّهَا وقد اُشْتُقَّ منها أَسْمَاءٌ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَجْسَامَ لَا لَبْسَ في عَدَمِ قِيَامِهَا بِمَحَالِّ الْأَسْمَاءِ وَلَا كانت الْمَعَانِي يَصِحُّ قِيَامُهَا بِالْمَحَالِّ التي أُخِذَتْ لها منها الْأَسْمَاءُ فإذا أُطْلِقَتْ على غَيْرِ مَحَالِّهَا الْتَبَسَ الْأَمْرُ فيه قال وَلَوْ قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إنَّمَا هِيَ النِّسَبُ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ بِالْمَحَالِّ فَمِنْ النِّسْبَةِ أُخِذَتْ الْأَسْمَاءُ لَا من الْمُنْتَسَبِ إلَيْهِ كان له وَجْهٌ قُلْت وَكَأَنَّ كَلَامَ الْأَصْحَابِ على إطْلَاقِهِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ ظَنَّ من لم يُحَصِّلْ عِلْمَ هذا الْبَابِ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَصَفُوا الرَّبَّ تَعَالَى بِكَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا وَزَعَمُوا أَنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ وَلَيْسَ هذا مَذْهَبَ الْقَوْمِ بَلْ حَقِيقَةَ مُعْتَقَدِهِمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِعْلٌ من أَفْعَالِ اللَّهِ كَخَلْقِهِ الْجَوَاهِرَ وَأَعْرَاضَهَا فَلَا يَرْجِعُ إلَى حَقِيقَتِهِ وُجُودُ حُكْمٍ من أَحْكَامِ الْكَلَامِ فَمَحْصُولُ أَصْلِهِمْ أَنَّهُ ليس لِلَّهِ كَلَامٌ وَلَيْسَ قَائِلًا آمِرًا نَاهِيًا وَإِنَّمَا يَخْلُقُ أَصْوَاتًا في جِسْمٍ من الْأَجْسَامِ دَالٍّ على إرَادَتِهِ ا هـ وَعَلَى هذا فَتَنْسَلِخُ هذه الْمَسْأَلَةُ من هذا الطِّرَازِ وَلْنُنَبِّهْ أَنَّ هذه الْمَسْأَلَةَ هَكَذَا من بَحْثِ اللُّغَاتِ لم تُنْقَلْ عن الْمُعْتَزِلَةِ ثُمَّ لَا يُمْكِنُهُمْ اطِّرَادُ ذلك في كل مَوْضِعٍ وَإِلَّا لَكَانَ جَهْلًا بِالْمَوْضُوعَاتِ اللُّغَوِيَّةِ وَخُرُوجًا عن الْعَقْلِ وَإِنَّمَا أَلْجَأَهُمْ إلَى الْقَوْلِ بِهِ هُنَا أَنَّ الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ عِنْدَهُمْ مُسْتَحِيلٌ وَاللَّفْظِيَّ كَذَلِكَ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَاتُهُ مَحِلًّا لِلْحَوَادِثِ وَالِاتِّفَاقُ على أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَكَلِّمٌ فَاحْتَاجُوا إلَى أَنْ قالوا سُمِّيَ مُتَكَلِّمًا لِكَوْنِهِ يَخْلُقُ الْكَلَامَ في جِسْمٍ أُخِذَ من اعْتِقَادِهِمْ هذا جَوَازُ اشْتِقَاقِ الْفَاعِلِ لِشَيْءٍ وَالْفِعْلُ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ وَالْحَقُّ أَنَّ ذلك غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ ليس بِمَذْهَبٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُورَدَ الْمَسْأَلَةُ هَكَذَا فَائِدَةٌ قد يَخْرُجُ على قَوْلِهِمْ لَا يُشْتَقُّ اسْمُ الْفَاعِلِ لِشَيْءٍ وَالْفِعْلُ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ ما لو حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا فَوَكَّلَ من يَفْعَلُهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْفِعْلَ لم يَقَعْ منه فَلَا يُسَمَّى فَاعِلًا وَكَذَا لو وُكِّلَ بِالْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ ثُمَّ قال وَاَللَّهِ لَسْت بِبَائِعٍ وَلَا مُطَلِّقٍ هل يَحْنَثُ
____________________
(1/472)
مَسْأَلَةٌ دَلَالَةُ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ الْأَسْمَاءُ الْمُشْتَقَّةُ لَا تَدُلُّ على خُصُوصِيَّاتِ الذَّوَاتِ التي قَامَتْ تِلْكَ الْمَعَانِي بها بَلْ على اتِّصَافِهَا بِالْمَصْدَرِ فَإِذَنْ قَوْلُنَا أَسْوَدُ يَدُلُّ على شَيْءٍ ما له السَّوَادُ أَيْ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بين الْمَوْجُودَاتِ وَأَمَّا أَنَّ ذلك الشَّيْءَ جِسْمٌ فَلَا يَدُلُّ ذلك من اللَّفْظِ بَلْ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ أَنَّ السَّوَادَ لَا يَقُومُ إلَّا بِجِسْمٍ فَدَلَّ على الْجِسْمِيَّةِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ لَا بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ وَالتَّضَمُّنِ فَنَقُولُ ضَارِبٌ يَدُلُّ على قِيَامِ الضَّرْبِ بِذَاتٍ وَأَمَّا أنها إنْسَانٌ أو حَيَوَانٌ أو غَيْرُهُمَا فَلَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ مَسْأَلَةٌ قال الصَّفَّارُ في شَرْحِ سِيبَوَيْهِ الْمُشْتَقَّاتُ بِالِاسْتِقْرَارِ تَدُلُّ على ما يَدُلُّ عليه الْمُشْتَقُّ منه وَزِيَادَةٍ وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ فَائِدَةُ الِاشْتِقَاقِ نحو أَحْمَرَ يَدُلُّ على الْحُمْرَةِ وَعَلَى الشَّخْصِ وَكَذَلِكَ ضَارِبٌ يَدُلُّ على الضَّرْبِ وَعَلَى الشَّخْصِ وَلِهَذَا قال الْبَصْرِيُّونَ إنَّ الْفِعْلَ مُشْتَقٌّ من الْمَصْدَرِ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ على ما يَدُلُّ عليه الْمَصْدَرُ وَزِيَادَةٍ وهو الزَّمَانُ وَخِلَافُ الْكُوفِيِّينَ يَدُلُّ على مُخَالَفَتِهِمْ هذا الْأَصْلَ
____________________
(1/473)
مَبَاحِثُ التَّرَادُفِ وهو مُشْتَقٌّ من مُرَادَفَةِ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَمْلُهَا اثْنَيْنِ أو أَكْثَرَ على ظَهْرِهَا وَرِدْفِهَا وفي الِاصْطِلَاحِ هو الْأَلْفَاظُ الْمُفْرَدَةُ الدَّالَّةُ على شَيْءٍ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارٍ وَاحِدٍ وَاحْتُرِزَ بِالْمُفْرَدَةِ عن دَلَالَةِ الِاسْمِ وَالْحَدِّ فَإِنَّهُمَا يَدُلَّانِ على شَيْءٍ وَاحِدٍ وَلَيْسَا مُتَرَادِفَيْنِ لِأَنَّ الْحَدَّ مُرَكَّبٌ وَخَرَجَ بِاعْتِبَارٍ وَاحِدٍ الْمُتَزَايِلَانِ كَالسَّيْفِ وَالصَّارِمِ فإن مَدْلُولَهُمَا وَاحِدٌ وَلَكِنْ بِاعْتِبَارَيْنِ وَفِيهِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى في وُقُوعِهِ مَذَاهِبُ أَحَدُهَا أَنَّهُ وَاقِعٌ مُطْلَقًا وهو الصَّحِيحُ من لُغَةٍ وَاحِدَةٍ وَمِنْ لُغَتَيْنِ وَبِحَسَبِ الشَّرْعِ كَالْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ عِنْدَنَا وَبِحَسَبِ الْعُرْفِ الثَّانِي الْمَنْعُ مُطْلَقًا لِأَنَّ وَضْعَ اللَّفْظَيْنِ لِمَعْنًى وَاحِدٍ عِيٌّ يَجِلُّ الْوَاضِعُ عنه وَكُلُّ ما اُدُّعِيَ فيه التَّرَادُفُ فإن بين مَعْنَيْهِمَا تَوَاصُلًا لِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ الِاشْتِقَاقَ الْأَكْبَرَ وَاخْتَارَهُ أبو الْحُسَيْنِ بن فَارِسٍ في كِتَابِهِ فِقْهِ اللُّغَةِ وَحَكَاهُ عن شَيْخِهِ ثَعْلَبٍ وقال ابن سِيدَهْ في الْمُخَصَّصِ كان محمد بن السَّرِيِّ يَعْنِي ابْنَ السِّرَاجِ يَحْكِي عن أَحْمَدَ بن يحيى ثَعْلَبٍ مَنْعَهُ وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْعُهُ سَمَاعًا أو قِيَاسًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمَاعًا فإن كُتُبَ الْعُلَمَاءِ بِاللُّغَةِ وَنُقَلَهَا طَافِحَةٌ بِهِ في تَصْنِيفِهِ كِتَابَ الْأَلْفَاظِ فَإِنْ قال في كل لَفْظَةٍ مَعْنًى ليس في الْأُخْرَى كما في مَضَى وَذَهَبَ قِيلَ نَحْنُ نُوجِدُ له ما لَا تَجِدُ بُدًّا من أَنْ تَقُولَ إنَّهُ لَا زِيَادَةَ مَعْنَى في وَاحِدَةٍ منها دُونَ الْأُخْرَى وَذَلِكَ نَحْوُ الْكِتَابَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَك ضَرَبَك وما ضَرَبَ إلَّا إيَّاكَ وَجِئْتنِي وما جَاءَنِي إلَّا أنت وَنَحْوُهُ يُفْهَمُ من كل لَفْظَةٍ ما يُفْهَمُ من الْأُخْرَى من الْغَيْبَةِ وَالْخِطَابِ وَالْإِضْمَارِ وَالْمَوْضِعِ من الْإِعْرَابِ لَا زِيَادَةَ في ذلك فإذا جَازَ في شَيْءٍ وَشَيْئَيْنِ وَثَلَاثَةٍ جَازَ فِيمَا زَادَ على ذلك وَصَنَّفَ الزَّجَّاجُ كِتَابًا ذَكَرَ فيه التَّرَادُفَ وَكِتَابًا ذَكَرَ فيه اشْتِقَاقَ الْأَسْمَاءِ وَصَنَّفَ أبو هِلَالٍ الْعَسْكَرِيُّ مُصَنَّفًا آخَرَ مَنَعَ فيه التَّرَادُفَ وَسَمَّاهُ الْفُرُوقَ قال وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ من الْعُلَمَاءِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُبَرِّدُ في قَوْله تَعَالَى لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا قال فَعَطَفَ مِنْهَاجًا على شِرْعَةٍ
____________________
(1/474)
لِأَنَّ الشِّرْعَةَ لِأَوَّلِ الشَّيْءِ وَالْمِنْهَاجَ لِعَظِيمِهِ وَمُتَّسَعِهِ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِمْ شَرَعَ فُلَانٌ في كَذَا إذَا ابْتَدَأَهُ وَأَنْهَجَ الْبَلَاءَ في الثَّوْبِ إذَا اتَّسَعَ فيه قال أبو هِلَالٍ وقال بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدُلَّ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ على الْمَعْنَيَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ حتى تَضَامَّهُ عَلَامَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِلَّا أَشْكَلَ فَالْتَبَسَ على الْمُخَاطَبِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَدُلَّ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ على مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظَانِ يَدُلَّانِ على مَعْنًى وَاحِدٍ لِأَنَّ فيه تَكْثِيرًا لِلُّغَةِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فيه وقال الْمُحَقِّقُونَ من أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَخْتَلِفَ الْحَرَكَاتُ في الْكَلِمَتَيْنِ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ قالوا فإذا كان الرَّجُلُ عِنْدَهُ الشَّيْءُ قِيلَ فيه مَفْعَلُ كَمِرْحَمٍ وَمِحْرَبٍ وإذا كان قَوِيًّا على الْفِعْلِ قِيلَ فَعُولٌ كَصَبُورٍ وَشَكُورٍ فإذا تَكَرَّرَ منه الْفِعْلُ قِيلَ فَعَّالٌ كَعَلَّامٍ وَجَبَّارٍ وإذا كان عَادَةً له قِيلَ مِفْعَالٌ كَمِعْوَانٍ وَمِعْطَافٍ وَمَنْ لَا يُحَقِّقُ الْمَعَانِيَ يَظُنُّ أنها مُتَرَادِفَةٌ وَلِهَذَا قال الْمُحَقِّقُونَ إنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ لَا تَتَعَاقَبُ حتى قال ابن دُرُسْتَوَيْهِ في جَوَازِ تَعَاقُبِهَا إبْطَالُ حَقِيقَةِ اللُّغَةِ وَإِفْسَادُ الْحُكْمِ فيها لِأَنَّهَا إذَا تَعَاقَبَتْ خَرَجَتْ عن حَقَائِقِهَا وَوَقَعَ كُلُّ وَاحِدٍ منها بِمَعْنَى الْآخَرِ فَأَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ لَفْظَانِ مُخْتَلِفَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَالْمُحَقِّقُونَ يَأْبَوْنَهُ هذا كَلَامُهُ وَمِمَّنْ اخْتَارَ ذلك من الْمُتَأَخِّرِينَ الْجُوَيْنِيُّ في الْيَنَابِيعِ وقال أَكْثَرُ ما يُظَنُّ أَنَّهُ من الْمُتَرَادِفِ ليس كَذَلِكَ بَلْ اللَّفْظَانِ مَوْضُوعَانِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَكِنَّ وَجْهَ الْخِلَافِ خَفِيٌّ وَالثَّالِثُ يَقَعُ في اللُّغَةِ لَا في الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ في الْمَحْصُولِ فقال في آخِرِ مَسْأَلَةِ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ بَعْدَمَا ذَكَرَ وُقُوعَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ وَأَمَّا التَّرَادُفُ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لم يُوجَدْ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ على خِلَافِ الْأَصْلِ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ ا هـ هذا وَالْإِمَامُ نَفْسُهُ مِمَّنْ يقول بِأَنَّ الْفَرْضَ وَالْوَاجِبَ مُتَرَادِفَانِ وَالسُّنَّةَ وَالتَّطَوُّعَ ثُمَّ الْخِلَافُ في اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ أَمَّا اللُّغَتَانِ فَلَا يُنْكِرُهُمَا أَحَدٌ قَالَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ قُلْت وَنَصَّ عليه الْعَسْكَرِيُّ وهو مِمَّنْ يُنْكِرُ أَصْلَ التَّرَادُفِ فقال لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ وأفعل بِمَعْنًى وَاحِدٍ كما لَا يَكُونَانِ على بِنَاءٍ وَاحِدٍ إلَّا أَنْ يَجِيءَ ذلك في لُغَتَيْنِ وَأَمَّا في لُغَةٍ فَمُحَالٌ فَقَوْلُك سَقَيْت الرَّجُلَ يُفِيدُ أَنَّك أَعْطَيْته ما يَشْرَبُهُ أو صَبَبْته في حَلْقِهِ وَأَسْقَيْته يُفِيدُ أَنَّك جَعَلْت له سَقْيًا أو حَظًّا من الْمَاءِ وَقَوْلُك شَرِقَتْ الشَّمْسُ يُفِيدُ خِلَافَ غَرَبَتْ وَأَشْرَقَتْ يُفِيدُ أنها صَارَتْ ذَاتَ إشْرَاقٍ انْتَهَى
____________________
(1/475)
مَسْأَلَةٌ هل وَقَعَ في الْقُرْآنِ تَرَادُفٌ إذَا قُلْنَا بِوُقُوعِهِ في اللُّغَةِ فَهَلْ وَقَعَ في الْقُرْآنِ نُقِلَ عن الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ الْمَنْعُ كَذَا رَأَيْته في أَوَّلِ شَرْحِ الْإِرْشَادِ لِأَبِي إِسْحَاقَ بن دِهَاقٍ الشَّهِيرِ بِابْنِ الْمِرْآةِ فقال ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ إلَى مَنْعِ تَرَادُفِ اسْمَيْنِ في كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى على مُسَمًّى وَاحِدٍ فقال في قَوْلِهِ هو اللَّهُ الْخَالِقُ إنَّهُ بِمَعْنَى الْمُعَدِّلِ من قَوْلِ الشَّاعِرِ وَلَأَنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْت وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي فَمَعْنَاهُ يَمْضِي وَيَقْطَعُ ما قَدَّرْت من غَيْرِ تَوَقُّفٍ وَصَفَهُ بِحَصَافَةِ الْعَقْلِ وَجَوْدَةِ الرَّأْيِ ا هـ وَهَذَا هو ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُبَرِّدِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ أَبْدَى لِكُلِّ مَعْنًى وَالصَّحِيحُ الْوُقُوعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كل أُمَّةٍ وفي مَوْضِعٍ أَرْسَلْنَا وهو كَثِيرٌ مَسْأَلَةٌ في سَبَبِ التَّرَادُفِ وهو إمَّا أَنْ يَكُونَ من وَاضِعَيْنِ وهو السَّبَبُ الْأَكْثَرُ كما قَالَهُ الْإِمَامُ وَيَلْتَبِسُ وَإِمَّا من وَاضِعٍ وَاحِدٍ وَلَهُ فَوَائِدُ منها التَّوْسِعَةُ لِتَكْثِيرِ الطُّرُقِ على التَّعْبِيرِ عن الْمَعَانِي الْمَطْلُوبَةِ وَلِهَذَا يَجْتَنِبُ وَاصِلُ بن عَطَاءٍ اللَّفْظَةَ التي فيها الرَّاءُ لِلُثْغَتِهِ حتى كَأَنَّ الرَّاءَ لَيْسَتْ عِنْدَهُ من حُرُوفِ الْمُعْجَمِ وَمِنْهَا تَيْسِيرُ النَّظْمِ لِلرَّوِيِّ وَالنَّثْرِ لِلزِّنَةِ وَالتَّجْنِيسِ وَالْمُطَابِقَةِ مَسْأَلَةٌ التَّرَادُفُ خِلَافُ الْأَصْلِ التَّرَادُفُ خِلَافُ الْأَصْلِ فإذا دَارَ اللَّفْظُ بين كَوْنِهِ مُتَرَادِفًا أو مُتَبَايِنًا فَحَمْلُهُ على الْمُتَبَايِنِ أَوْلَى لِأَنَّ الْقَصْدَ الْإِفْهَامُ فَمَتَى حَصَلَ بِالْوَاحِدِ لم يَحْتَجْ إلَى الْأَكْثَرِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَعْرِيفُ الْمُعَرَّفِ وَلِأَنَّهُ يُوجِبُ الْمَشَقَّةَ في حِفْظِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ في الْمَحْصُولِ حَكَى خِلَافًا في أَنَّ الْمُتَرَادِفَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّرَادُفِ وَذَكَرَ الْحُجَّةَ السَّابِقَةَ
____________________
(1/476)
لِكُلٍّ من الْمَقَالَيْنِ وَفِيهِ إشَارَةٌ لِاتِّحَادِهِمَا وَالْحَقُّ أَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ في لُغَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ بِإِزَاءِ مَعْنًى وَاحِدٍ لَفْظٌ وَاحِدٌ وَاقْتَضَى كَلَامُ الْمَحْصُولِ وُجُودَ خِلَافٍ في الْمَسْأَلَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْأَصْلِ الْغَالِبُ فَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْخِلَافُ وإذا أُرِيدَ بِهِ الْقِيَاسُ فَيُمْكِنُ قَوْلُهُ في التَّرَادُفِ من وَاضِعٍ وَاحِدٍ لَا من وَاضِعَيْنِ مَسْأَلَةٌ إطْلَاقُ كل وَاحِدٍ من الْمُتَرَادِفَيْنِ على الْآخَرِ الْمُتَرَادِفَانِ يَصِحُّ إطْلَاقُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ لِأَنَّهُ لَازِمٌ لِمَعْنَى الْمُتَرَادِفَيْنِ وَلَا خِلَافَ في هذا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في حَالِ التَّرْكِيبِ على ما يَدُلُّ عليه كَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ في الْمُنْتَهَى وَالْبَيْضَاوِيُّ أَيْ إذَا صَحَّ النُّطْقُ بِأَحَدِهِمَا في تَرْكِيبٍ يَلْزَمُ أَنْ يَصِحَّ النُّطْقُ فيه بِالْآخَرِ اخْتَلَفُوا فيه وهو مَعْنَى قَوْلِ الْمَحْصُولِ يَجِبُ صِحَّةُ إقَامَتِهِ مَقَامَهُ وَفِيهِ ثَلَاثُ مَذَاهِبَ أَصَحُّهَا عِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ اللُّزُومُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من التَّرْكِيبِ إنَّمَا هو الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ فإذا صَحَّ النُّطْقُ مع أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ وَجَبَ بِالضَّرُورَةِ أَنْ يَصِحَّ مع اللَّفْظِ الْآخَرِ قال الْإِمَامُ الرَّازِيَّ إنَّهُ الْأَظْهَرُ في أَوَّلِ النَّظَرِ وَعَلَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ التَّرْكِيبَ من عَوَارِضِ الْمَعَانِي دُونَ الْأَلْفَاظِ فإذا صَحَّ تَأَلُّفُ الْمَعْنَى مع الْمَعْنَى فَلَا نَظَرَ إلَى التَّعْبِيرِ عنه بِأَيِّ لَفْظَةٍ كانت وَمُقْتَضَى ذلك أَنَّهُ إذَا لم يَصِحَّ التَّأْلِيفُ لَا يَجُوزُ كما في صلى وَدَعَا فإن أَئِمَّةَ اللُّغَةِ قالوا إنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ مع أَنَّهُ لم يَقُمْ أَحَدُ الْمُتَرَادِفَيْنِ مَقَامَ الْآخَرِ فإنه يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ صلى عليه فَتَرَكَّبَ صلى مع لَفْظَةِ على في طَلَبِ الْخَيْرِ لِلْمَدْعُوِّ له وَلَوْ رَكَّبْتهَا مع دَعَا فَقُلْت دَعَا عليه لم يَصِحَّ وَانْعَكَسَ الْمَعْنَى لِلشَّرِّ قَالَهُ الْقَرَافِيُّ وَغَيْرُهُ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ كُلًّا من صلى وَدَعَا مُشْتَرَكٌ بين مَعَانٍ وَالصَّلَاةُ من اللَّهِ لَيْسَتْ بِالدُّعَاءِ بَلْ هِيَ الْمَغْفِرَةُ فَمَعْنَى صلى اللَّهُ على زَيْدٍ غَفَرَ له غير أَنَّ التَّعَدِّيَةَ مُخْتَلِفَةٌ فَأَتَى في الصَّلَاةِ بِعَلَى مُبَالَغَةً في اسْتِعْلَاءِ الْفِعْلِ على الْمَفْعُولِ وَالثَّانِي أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ وَاخْتَارَهُ في الْحَاصِلِ والتحصيل وقال في الْمَحْصُولِ إنَّهُ الْحَقُّ لِأَنَّ صِحَّةَ الضَّمِّ قد تَكُونُ من عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ أَيْضًا لِأَنَّهُ
____________________
(1/477)
يَصِحُّ قَوْلُك خَرَجْت من الدَّارِ مع أَنَّك لو أَبْدَلْت لَفْظَةَ من وَحْدَهَا بِمُرَادِفِهَا بِالْفَارِسِيَّةِ لم يَجُزْ قال وإذا قُلْنَا ذلك في لُغَتَيْنِ لم يَمْتَنِعْ وُقُوعُ مِثْلِهِ في اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ وَالثَّالِثُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ من لُغَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَصِحُّ وَإِلَّا فَلَا وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَالْهِنْدِيُّ وقال هذا الْقَوْلُ وَإِنْ لم يُلْفَ صَرِيحًا لَكِنْ يُلْفَى ضِمْنًا في كَلَامِهِمْ وقال النَّقْشَوَانِيُّ الصَّحِيحُ أَنَّ اللُّغَةَ الْوَاحِدَةَ فيها تَفْصِيلٌ فإنه إنْ لم يَكُنْ الْمَقْصُودُ إلَّا مُجَرَّدَ الْفَهْمِ قام أَحَدُ الْمُتَرَادِفَيْنِ مَقَامَ الْآخَرِ وَإِنْ كان الْمَقْصُودُ قَافِيَةَ الْقَصِيدَةِ وَرَوِيَّ الشِّعْرِ وَأَنْوَاعَ الْجِنَاسِ فَلَا يَقُومُ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ فإنه قد يَكُونُ ذلك مَوْجُودًا في الْبُرِّ دُونَ الْقَمْحِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ في الْمَحْصُولِ نَصَبَ الْخِلَافَ في وُجُوبِ إقَامَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ قال الْأَصْفَهَانِيُّ وَمُرَادُهُ بِالْوُجُوبِ اللُّزُومُ بِمَعْنَى أَنَّ من لَوَازِمِ صِحَّةِ انْضِمَامِ الْمَعَانِي صِحَّةُ انْضِمَامِ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عليها وَاخْتَارَ أَنَّ جَوَازَ تَبْدِيلِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ غَيْرُ لَازِمٍ وَعَلَى هذا فَمَنْ نَقَلَ عن الْإِمَامِ اخْتِيَارَ الْمَنْعِ مُطْلَقًا ليس بِجَيِّدٍ وَكَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ في الْمُنْتَهَى يَقْتَضِي أَنَّ الْخِلَافَ في الْجَوَازِ حَيْثُ لم يَتَغَيَّرْ الْمَعْنَى فَإِنْ تَغَيَّرَ بِهِ فَلَا يَجُوزُ قَطْعًا وَلَا شَكَّ فيه وَكَلَامُهُ في الْمُخْتَصَرِ صَرِيحٌ في أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هو في تَبْدِيلِ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ الْمُرَكَّبَةِ دُونَ الْبَعْضِ وَلِهَذَا مَثَّلَ بِ خداي أَكْبَرُ قال وَأُجِيبَ بِالْفَرْقِ بِاخْتِلَاطِ اللُّغَتَيْنِ فَأَرْشَدَ إلَى أَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ قَاصِرَةٌ على تَرْجَمَةِ بَعْضِ الْمُرَكَّبِ لَا كُلِّهِ أَمَّا تَبْدِيلُ أَلْفَاظِ الْمُتَكَلِّمِ كُلِّهَا أَلْفَاظًا من غَيْرِ لُغَتِهِ فَلَا شَكَّ في جَوَازِهِ وقد نَقَلَ ابن الْحَاجِبِ فيه الْإِجْمَاعَ في بَابِ الْأَخْبَارِ فَلْيُتَفَطَّنْ له فَإِنْ قُلْت كَيْفَ يَتَّجِهُ جَوَازُ تَبْدِيلِ الْجَمِيعِ بِالْإِجْمَاعِ وَالْمَنْعِ على قَوْلٍ إذَا بَدَّلَ الْبَعْضَ قُلْت لِأَنَّ تَبْدِيلَ الْبَعْضِ جَمْعٌ بين اللُّغَتَيْنِ في كَلَامٍ وَاحِدٍ فَرُبَّمَا خَلَطَ على السَّامِعِ فَيُخِلُّ بِالْفَهْمِ بِخِلَافِ تَبْدِيلِ الْجَمِيعِ وَأَوْضَحَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمَسْأَلَةَ فقال أَحَدُ الْمُتَرَادِفَيْنِ إمَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَ مُفْرَدًا أو مُرَكَّبًا الْحَالَةُ الْأُولَى الْإِفْرَادُ وقد نَصُّوا على أَنَّهُ لَا خِلَافَ في قِيَامِ أَحَدِ الْمُتَرَادِفَيْنِ مِنْهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ قُلْت منهم ابن الْحَاجِبِ في الْمُنْتَهَى ا ه
____________________
(1/478)
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُفْرَدَ ذُو التَّرَادُفِ له أَحْوَالٌ الْأَوَّلُ أَنْ يَقْصِدَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ عِنْدَ تَعْدَادِ الْمُفْرَدَاتِ حَيْثُ لَا إعْرَابَ وَلَا بِنَاءَ كَقَوْلِهِ أَسَدٌ عَيْنٌ حِنْطَةٌ فَهُوَ مُخَيَّرٌ في النُّطْقِ بِأَيِّ اللَّفْظَيْنِ شَاءَ بِلَا إشْكَالٍ من لَيْثٍ أو مُقْلَةٍ أو بُرٍّ الثَّانِي أَنْ يَتَكَلَّمَ زَيْدٌ بِالْمُفْرَدِ فَيُرِيدُ أَنْ يَحْكِيَهُ فيقول قال زَيْدٌ أَسَدٌ وَيَكُونُ إنَّمَا قال لَيْثٌ الثَّالِثُ أَنْ يَأْمُرَك زَيْدٌ بِأَنْ تَقُولَ لَيْثٌ فَتَقُولُ أَسَدٌ فَهَاتَانِ الصُّورَتَانِ من قِسْمِ الْمُفْرَدِ وَلِلنِّزَاعِ فيها مَجَالٌ عِنْدَ تَعَيُّنِ حِكَايَةِ اللَّفْظِ لَا سِيَّمَا إنْ مَنَعْنَا النَّقْلَ بِالْمَعْنَى وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازُ بِمُرَادِفِهِ لِأَنَّ ذلك لَعَلَّهُ خَاصٌّ بِحِكَايَةِ كَلَامِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَكَذَلِكَ في صُورَةِ الْأَمْرِ يَحْتَمِلُ الِامْتِثَالَ بِالْمُرَادِفِ وَإِلَّا قُلْت قد صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إذَا قال الْقَاضِي له قُلْ بِاَللَّهِ فقال بِالرَّحْمَنِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ نُكُولًا وفي الْمُكْرَهِ لو قال له قُلْ أَنْتِ طَالِقٌ فقال بَائِنٌ إنَّهُ يَكُونُ اخْتِيَارًا وَحِينَئِذٍ فَإِطْلَاقُ الْإِجْمَاعِ على الْمُفْرَدِ مَمْنُوعٌ الْمُرَكَّبُ وَأَمَّا الْمُرَكَّبُ فَلَهُ أَحْوَالٌ أَحَدُهَا أَنْ يَقْصِدَ الْمُتَكَلِّمُ النُّطْقَ فَيَنْطِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيْسَ ذلك مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً وَيُبَدِّلُ بِأَلْفَاظِ الْمُتَكَلِّمِ كُلِّهَا أَلْفَاظًا من غَيْرِ لُغَتِهِ فَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ كما قَالَهُ ابن الْحَاجِبِ في بَابِ الْأَخْبَارِ الثَّالِثُ أَنْ يُبَدِّلَ كُلَّهَا بِأَلْفَاظٍ مُتَرَادِفَةٍ من لُغَتِهَا مِثْلَ أَنْ يُقَالَ حَضَرَ الْأَسَدُ فَيُقَالُ قال زَيْدٌ جاء اللَّيْثُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هذا ليس مَحَلَّ النِّزَاعِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَحْصُولِ مِمَّنْ اخْتَارَ أَنَّهُ لَا يُقَامُ أَحَدُ الْمُتَرَادِفَيْنِ مَقَامَ الْآخَرِ مع جَزْمِهِ بِجَوَازِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى بِغَيْرِ الْمُتَرَادِفِ فَضْلًا عن الْمُتَرَادِفِ الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ في امْتِثَالِ الْأَمْرِ كَأَنْ يَقُولَ زَيْدٌ قُلْ جاء الْأَسَدُ فيقول حَضَرَ اللَّيْثُ أو يُعَبِّرُ عنه بِالْعَجَمِيَّةِ فَيَحْتَمِلُ الْمَنْعُ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمَقْصُودَ اللَّفْظُ وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازُ إلَّا حَيْثُ تَعَبَّدْنَا بِاللَّفْظِ كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَغَيْرِهَا الْخَامِسُ أَنْ يُبَدِّلَ بَعْضَ أَلْفَاظِ الْمُرَكَّبِ دُونَ بَعْضٍ كَأَنْ يَقُولَ حَضَرَ الْأَسَدُ مَكَانَ حَضَرَ اللَّيْثُ وَكَذَلِكَ خداي أَكْبَرُ في غَيْرِ الصَّلَاةِ فَهَذَا مَوْضِعُ النِّزَاعِ هذا
____________________
(1/479)
كَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ جَوَازُ إقَامَةِ كُلٍّ من الْمُتَرَادِفَيْنِ مُخْتَلِفَيْ اللُّغَةِ مَقَامَ الْآخَرِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فيه الْأَلْفَاظُ كَعُقُودِ الْبِيَاعَاتِ وَغَيْرِهَا وَأَمَّا ما وَقَعَ النَّظَرُ في أَنَّ التَّعَبُّدَ هل وَقَعَ بِلَفْظَةٍ فَلَيْسَ من هذا الْبَابِ لِأَنَّ الْمَانِعَ إذْ ذَاكَ من إقَامَةِ أَحَدِ الْمُتَرَادِفَيْنِ مُخْتَلِفَيْ اللُّغَةِ مَقَامَ الْآخَرِ ليس لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ ذلك بَلْ لِمَا وَقَعَ من التَّعَبُّدِ بِجَوْهَرِ لَفْظِهِ كَالْخِلَافِ في أَنَّ لَفْظ النِّكَاحِ هل يَنْعَقِدُ بِالْعَجَمِيَّةِ وَأَنْظَارِهِ وَجَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ في بَابِ النِّكَاحِ لِلْأَلْفَاظِ سِتَّ مَرَاتِبَ الْأَوَّلُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فَلَفْظُهُ مُتَعَيِّنٌ الثَّانِي ما تَعَبَّدْنَا بِلَفْظِهِ وَإِنْ كان الْغَرَضُ الْأَكْبَرُ مَعْنَاهُ كَالتَّكْبِيرِ وَالتَّشَهُّدِ الثَّالِثُ لَفْظُ النِّكَاحِ تَرَدَّدُوا هل الْمَرْعِيُّ فيه التَّعَبُّدُ وَإِنَّمَا تَعَيَّنَتْ أَلْفَاظُهُ لِحَاجَةِ الْإِشْهَادِ وَيَلْزَمُ على الثَّانِي أَنَّ أَهْلَ قُطْرٍ لو تَوَاطَئُوا على لَفْظٍ في إرَادَةِ النِّكَاحِ يَنْعَقِدُ بِهِ الرَّابِعُ الطَّلَاقُ الْخَامِسُ الْعُقُودُ سِوَى النِّكَاحِ السَّادِسُ ما لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبُولٍ كَالْإِبْرَاءِ وَالْفَسْخِ مَسْأَلَةٌ اللُّغَاتُ ما عَدَا الْعَرَبِيَّةَ سَوَاءٌ اللُّغَاتُ ما عَدَا الْعَرَبِيَّةَ سَوَاءٌ على الْأَصَحِّ وَمِنْ فُرُوعِهَا أَنَّ من لم يُطَاوِعْهُ لِسَانُهُ على التَّكْبِيرِ في الصَّلَاةِ تَرْجَمَ قال في الْحَاوِي إذَا لم يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ وَأَحْسَنَ الْفَارِسِيَّةَ وَالسُّرْيَانِيَّة فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا يُكَبِّرُ بِالْفَارِسِيَّةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ اللُّغَاتِ إلَى الْعَرَبِيَّةِ وَالثَّانِي بِالسُّرْيَانِيَّةِ لِشَرَفِهَا بِإِنْزَالِ كِتَابٍ لها وَالثَّالِثُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا فَإِنْ أَحْسَنَ التُّرْكِيَّةَ وَالْفَارِسِيَّةَ فَهَلْ تَتَعَيَّنُ الْفَارِسِيَّةُ أو يَتَخَيَّرُ وَجْهَانِ وَإِنْ أَحْسَنَ التُّرْكِيَّةَ وَالْهِنْدِيَّةَ يَتَخَيَّرُ بِلَا خِلَافٍ قال الشَّاشِيُّ وَهَذَا التَّخْرِيجُ فَاسِدٌ فإن اللُّغَاتِ بَعْدَ الْعَرَبِيَّةِ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ الْعَرَبِيَّةُ بِذَلِكَ تَعَبُّدًا
____________________
(1/480)
مَسْأَلَةٌ تَرَادُفُ الْحَدِّ وَالْمَحْدُودِ قِيلَ الْحَدُّ وَالْمَحْدُودُ مُتَرَادِفَانِ وَالصَّحِيحُ تَغَايُرُهُمَا لِأَنَّ الْمَحْدُودَ يَدُلُّ على الْمَاهِيَّةِ من حَيْثُ هِيَ وَالْحَدُّ يَدُلُّ عليها بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ على أَجْزَائِهَا فَالِاعْتِبَارَانِ مُخْتَلِفَانِ وقال الْقَرَافِيُّ الْحَدُّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ إنْ أُرِيدَ بِهِ اللَّفْظُ وَنَفْسُهُ إنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى فَلَفْظُ الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ الذي وَقَعَ الْحَدُّ بِهِ هو الْإِنْسَانُ قَطْعًا وَمَدْلُولُ هذا اللَّفْظِ هو غَيْرُ الْإِنْسَانِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْحَدَّ وَالْمَحْدُودَ إنْ لم يَتَّحِدَا في الذَّاتِ كَذَبَ الْحَدُّ ولم يَكُنْ حَدًّا وَإِنْ اتَّحَدَا صَدَقَ الْحَدُّ وَلَيْسَ هو الْمَحْدُودَ لِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُ النَّحْوِيِّينَ يَجِبُ اتِّحَادُ الْخَبَرِ بِالْمُبْتَدَأِ وَإِلَّا لم يَكُنْ خَبَرًا وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هو هو من كل وَجْهٍ وَإِلَّا لم يَكُنْ كَلَامًا أَلْبَتَّةَ فإن قَوْلَك زَيْدٌ زَيْدٌ إذَا لم يُقَدَّرْ زَيْدٌ الثَّانِي بِمَعْنًى يَزِيدُ على الْأَوَّلِ كان مُهْمَلًا وَالْفَائِدَةُ في الْخَبَرِ مع الِاتِّحَادِ تَنْزِيلُ الْكُلِّيِّ على الْجُزْئِيِّ فإن هذا اسْمُ إشَارَةٍ فَيُطْلَقُ على كل مُشَارٍ إلَيْهِ سَوَاءٌ زَيْدٌ وَغَيْرُهُ فلما حَمَلْنَاهُ على زَيْدٍ جَاءَتْ الْفَائِدَةُ مَسْأَلَةٌ الْإِتْبَاعُ من كَلَامِهِمْ الْإِتْبَاعُ وهو أَنْ تَتْبَعَ الْكَلِمَةُ الْكَلِمَةَ على وَزْنِهَا أو رَوِيِّهَا إتْبَاعًا وَتَوْكِيدًا قال ابن فَارِسٍ وقد شَارَكَ الْعَجَمُ الْعَرَبَ في هذا وهو يُشْبِهُ أَسْمَاءَ الْمُتَرَادِفِ من حَيْثُ إنَّهُمَا اسْمَانِ وُضِعَا لِمُسَمًّى وَاحِدٍ وَيُشْبِهُ أَسْمَاءَ التَّوْكِيدِ من حَيْثُ إنَّهَا تُفِيدُ تَقْوِيَةَ الْأَوَّلِ غير أَنَّ التَّابِعَ وَحْدَهُ لَا يُفِيدُ بَلْ شَرْطُ إفَادَتِهِ تَقَدُّمُ الْمَتْبُوعِ عليه وَصَنَّفَ فيه ابن خَالَوَيْهِ كِتَابًا سَمَّاهُ الْإِتْبَاعَ وَالْأَلْبَابَ وأبو الطَّيِّبِ عبد الْوَاحِدِ اللُّغَوِيُّ أَيْضًا وأبو الْحُسَيْنِ بن فَارِسٍ وَغَيْرُهُمْ قِيلَ إنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ لِأَنَّ التَّابِعَ لَا يَدُلُّ على ما يَدُلُّ عليه الْمَتْبُوعُ إلَّا بِتَبَعِيَّةِ الْأَوَّلِ وإذا قُطِعَ عنه لَا يَدُلُّ على شَيْءٍ أَصْلًا بِخِلَافِ الْمُتَرَادِفِ
____________________
(1/481)
فإن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدُلُّ على ما يَدُلُّ عليه الْآخَرُ وَحْدَهُ قال ابن الْأَعْرَابِيِّ قُلْت لِأَبِي الْمَكَارِمِ ما قَوْلُكُمْ في جَامِعٍ تَابِعٍ قال إنَّمَا هو شَيْءٌ نَتِدُ بِهِ كَلَامَنَا أَيْ نُؤَكِّدُ بِهِ قال بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ ولم يَسْمَعْ الْإِتْبَاعَ في أَكْثَرَ من خَمْسَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُمْ كَثِيرٌ بَتِيرٌ عَمِيرٌ بَرِيرٌ بَجِيرٌ بَدِيرٌ وَقِيلَ مُجِيرٌ بِالْمِيمِ فَأَمَّا الِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ فَكَثِيرٌ قالوا حَسَنٌ بَسَنٌ مَسَنٌ وَجَارَ بَارَ حَارَ وَسَمَّى أبو الطَّيِّبِ كِتَابَهُ بِالْإِتْبَاعِ وَالتَّوْكِيدِ قال وَإِنَّمَا قَرَنَّا الْإِتْبَاعَ بِالتَّوْكِيدِ وَإِنْ كان كُلُّ إتْبَاعٍ تَوْكِيدًا وَكُلُّ تَوْكِيدٍ إتْبَاعًا في الْمَعْنَى لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اخْتَلَفُوا فِيهِمَا فَمِنْهُمْ من جَعَلَهُمَا وَاحِدًا وَأَجَازَ أَكْثَرُهُمْ الْفَرْقَ فَجَعَلُوا الْإِتْبَاعَ ما لَا يَدْخُلُ عليه الْوَاوُ نحو قَوْلِهِمْ عَطْشَانُ نَطْشَانُ وَشَيْطَانُ لَيْطَانُ وَالتَّوْكِيدُ ما دخل عليه الْوَاوُ نحو قَوْلِهِمْ هو في حَلٍّ وَبَلٍّ وَأَخَذَ في كل حَسَنٍ وَسَنٍ قال وَنَحْنُ نَذْهَبُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ إلَى أَنَّ إتْبَاعَ ما لَا يَخْتَصُّ بِمَعْنًى يُمْكِنُ إفْرَادُهُ وَالتَّوْكِيدُ ما اخْتَصَّ بِمَعْنًى وَجَازَ إفْرَادُهُ بِهِ وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُمْ هذا جَائِعٌ فَائِعٌ فَهُوَ عِنْدَهُمْ إتْبَاعٌ ثُمَّ يَقُولُونَ في الدُّعَاءِ على الْإِنْسَانِ جُوعًا وَبُوعًا فَيُدْخِلُونَ الْوَاوَ وهو مع ذلك إتْبَاعٌ إذْ كان مُحَالًا أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ مَرَّةً إتْبَاعًا وَمَرَّةً غير إتْبَاعٍ فَقَدْ وَضَحَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ ليس بِالْوَاوِ ا هـ وَمِنْهُمْ من فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ التَّابِعَ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ على زِنَةِ الْمَتْبُوعِ بِخِلَافِ التَّوْكِيدِ قَالَهُ الْآمِدِيُّ وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ من الِاسْتِقْرَاءِ فإنه لم يُنْقَلْ إلَّا كَذَلِكَ قال الْآمِدِيُّ التَّابِعُ قد لَا يُفِيدُ مَعْنًى أَصْلًا وَلِهَذَا قال ابن دُرَيْدٍ سَأَلْت أَبَا حَاتِمٍ عن مَعْنَى قَوْلِهِمْ بَسَنٌ في قَوْلِهِمْ حَسَنٌ بَسَنٌ فقال لَا أَدْرِي ما هو وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ التَّابِعَ يُفِيدُ التَّقْوِيَةَ فإن الْعَرَبَ لم تَضَعْهُ عَبَثًا فَإِنْ قُلْت فَصَارَ كَالتَّأْكِيدِ لِأَنَّهُ أَيْضًا إنَّمَا يُفِيدُ التَّقْوِيَةَ قُلْت التَّأْكِيدُ يُفِيدُ مع التَّقْوِيَةِ نَفْيَ احْتِمَالِ الْمَجَازِ وقال ابن الدَّهَّانِ النَّحْوِيُّ في الْغُرَّةِ اُخْتُلِفَ في الْإِتْبَاعِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّهُ في حُكْمِ التَّأْكِيدِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَبْنِيٍّ لِمَعْنًى في نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ كَأَكْتَعَ وَأَبْصَعَ مع أَجْمَعَ فَكَمَا لَا يَنْطِقُ بِأَكْتَعَ بِغَيْرِ أَجْمَعَ فَكَذَا هذه الْأَلْفَاظُ مع ما قَبْلَهَا وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَرَّرْت بَعْضَ حُرُوفِهَا في مِثْلِ حَسَنٌ بَسَنٌ كما قِيلَ في أَكْتَعَ وَأَبْصَعَ مع أَجْمَعَ وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ التَّأْكِيدَ غَيْرُ الْإِتْبَاعِ وَاخْتَلَفُوا في الْفَرْقِ فَقِيلَ الْإِتْبَاعُ ما لم يَحْسُنْ فيه وَاوُ الْعَطْفِ كَقَوْلِك حَسَنٌ بَسَنٌ وَالتَّأْكِيدُ يَحْسُنُ فيه نَحْوُ حِلَّ وَبِلَّ
____________________
(1/482)
وَقِيلَ الْإِتْبَاعُ يَكُونُ لِلْكَلِمَةِ وَلَا مَعْنَى لها غير التَّبَعِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ على هذا أَنْ يُسَمَّى تَابِعٌ تَابِعًا قُلْت وَقِيلَ التَّأْكِيدُ يَدُلُّ على مَعْنًى في الْجُمْلَةِ وهو تَقْوِيَةُ مَدْلُولِ اللَّفْظِ السَّابِقِ كَيْفَ كان وَالتَّابِعُ إنَّمَا يُذْكَرُ بَعْدَ الِاسْمِ الْأَوَّلِ وقال الْآمِدِيُّ إنَّ التَّابِعَ لم يُوضَعْ لِمُسَمًّى في نَفْسِهِ وَيَشْهَدُ لِمَا نَقَلَهُ ابن الدَّهَّانِ عن الْأَكْثَرِينَ عن ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ من قَوْلِهِمْ هو شَيْءٌ نَتِدُ بِهِ كَلَامَنَا أَيْ نُقَوِّيهِ وَلَا مَعْنَى لِلتَّأْكِيدِ إلَّا هذا وقال أبو عَمْرٍو محمد بن عبد الْوَاحِدِ في كِتَابِ فَائِتِ الْجَمْهَرَةِ سَمِعْت الْمُبَرِّدَ وَثَعْلَبًا يَقُولَانِ الْإِتْبَاعُ لَا يَكُونُ بِحَرْفِ النَّسَقِ إنَّمَا الْإِتْبَاعُ أَنْ يَقُولَ حِلٌّ بَلْ وَشَيْطَانُ لَيْطَانُ فَأَمَّا قَوْلُ الْعَبَّاسِ لَا أُحِلُّهَا لِمُغْتَسَلٍ وَهِيَ لِشَارِبٍ حِلٌّ وَبِلٌّ أَيْ حَلَالٌ وَمُبَاحٌ لِأَنَّهُ ليس كُلُّ حَلَالٍ مُبَاحًا لِأَنَّ أَكْلَ الرُّطَبِ حَلَالٌ وَلَيْسَ بِمُبَاحٍ حتى يَشْتَرِيَهُ أو يَسْتَوْهِبَهُ ا هـ وَهَذَا فَرْقٌ غَرِيبٌ مَسْأَلَةٌ التَّأْكِيدُ وَاقِعٌ في اللُّغَةِ التَّأْكِيدُ وَاقِعٌ في اللُّغَةِ وَحَكَى الطُّرْطُوشِيُّ في الْعُمْدَةِ عن قَوْمٍ إنْكَارَهُ قال وَمَنْ أَنْكَرَهُ فَهُوَ مُكَابِرٌ إذْ لَوْلَا وُجُودُهُ لم يَكُنْ لِتَسْمِيَتِهِ تَأْكِيدًا فَائِدَةٌ فإن الِاسْمَ لَا يُوضَعُ إلَّا لِمُسَمًّى مَعْلُومٍ وَكَذَلِكَ وَقَعَ في الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَأَنْكَرَتْ الْمَلَاحِدَةُ الثَّانِيَ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ أَنَّ خِلَافَهُمْ في الْأَوَّلِ أَيْضًا وهو مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُمْ حَكَمُوا بِكَوْنِهِ في لِسَانِ الْعَرَبِ لِنَوْعٍ من الْقُصُورِ عن تَأْدِيَةِ ما في النَّفْسِ فَاحْتِيجَ إلَى التَّأْكِيدِ وَاَللَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عن ذلك وَضَلُّوا من حَيْثُ جَهِلُوا لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَمِنْوَالِ كَلَامِهِمْ وهو من مَحَاسِنِ الْكَلَامِ وَفِيهِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى هل التَّأْكِيدُ حَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ إذَا ثَبَتَ وُقُوعُهُ لُغَةً فَهُوَ حَقِيقَةٌ وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ مَجَازٌ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا ما أَفَادَهُ الْمَذْكُورُ الْأَوَّلُ حَكَاهُ الطُّرْطُوشِيُّ ثُمَّ قال وَمَنْ سَمَّى التَّأْكِيدَ مَجَازًا فَيُقَالُ له إذَا كان
____________________
(1/483)
التَّأْكِيدُ بِلَفْظِ الْأَوَّلِ نحو عَجِّلْ عَجِّلْ وَنَحْوُهُ فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مَجَازًا كان الْأَوَّلُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا لَفْظٌ وَاحِدٌ على مَعْنًى وَاحِدٍ وإذا بَطَلَ حَمْلُ الْأَوَّلِ على الْمَجَازِ بَطَلَ حَمْلُ الثَّانِي عليه لِأَنَّهُ مِثْلُهُ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ التَّأْكِيدُ على خِلَافِ الْأَصْلِ أَنَّهُ على خِلَافِ الْأَصْلِ فَلَا يُحْمَلُ اللَّفْظُ عليه إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِهِ على فَائِدَةٍ مُجَدِّدَةٍ وهو مَعْنَى قَوْلِهِمْ إذَا دَارَ اللَّفْظُ بين حَمْلِهِ على التَّأْسِيسِ أو التَّأْكِيدِ فَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَكْثَرُ فَائِدَةً الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ أَنَّهُ يَكْتَفِي في تِلْكَ الْفَائِدَةِ بِأَيِّ مَعْنًى كان وَشَرَطَ الطُّرْطُوشِيُّ كَوْنَهَا من مُقْتَضَى اللِّسَانِ فَحَذَا بها حَذْوَ اللَّفْظِ قال وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ على فَائِدَةٍ يُخْرِجُهَا الْفُقَهَاءُ لَيْسَتْ من مُقْتَضَى لِسَانِ الْعَرَبِ لِأَنَّ ذلك وَضْعُ لُغَةٍ عليهم وما قَالَهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ من دَلَالَةِ اللَّفْظِ ليس من بَابِ اللَّفْظِ حتى يَلْتَزِمَ فيه أَحْكَامَ اللَّفْظِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ أَقْسَامُ التَّأْكِيدِ يَنْقَسِمُ إلَى لَفْظِيٍّ وَمَعْنَوِيٍّ فَاللَّفْظِيُّ يَجِيءُ لِخَوْفِ النِّسْيَانِ أو لِعَدَمِ الْإِصْغَاءِ أو لِلِاعْتِنَاءِ وهو تَارَةً بِإِعَادَةِ اللَّفْظِ وَتَارَةً يَقْوَى بِمُرَادِفِهِ وَيَكُونُ في الْمُفْرَدَاتِ وَالْمُرَكَّبَاتِ وَزَعَمَ الرَّافِعِيُّ في الطَّلَاقِ أَنَّهُ أَعْلَى دَرَجَاتِ التَّأْكِيدِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَيَنْبَغِي فيه شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا الِاحْتِيَاطُ بِإِيصَالِ الْكَلَامِ إلَى فَهْمِ السَّامِعِ إنْ فُرِضَ ذُهُولٌ أو غَفْلَةٌ وَالثَّانِي إيضَاحُ الْقَصْدِ إلَى الْكَلَامِ وَالْإِشْعَارِ بِأَنَّ لِسَانَهُ لم يَسْبِقْ إلَيْهِ وَيُمَثِّلُهُ النَّحْوِيُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى كَلًّا إذَا دُكَّتْ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّك وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجَعْلُهُمْ صَفًّا صَفًّا تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا مَرْدُودٌ فإنه ليس بِتَأْكِيدٍ قَطْعًا بَلْ هو تَأْسِيسٌ وَالْمُرَادُ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ وَدَكًّا بَعْدَ دَكٍّ وَكَذَلِكَ أَلْفَاظُهُ إذَا كُرِّرَتْ فَكُلٌّ منها بِنَاءٌ على حِدَتِهِ وَالْعَجَبُ منهم كَيْفَ خَفِيَ عليهم
____________________
(1/484)
وَالْمَعْنَوِيُّ وهو إمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِالْمُفْرَدِ كَالنَّفْسِ وَالْعَيْنِ وَجَمْعَاءَ وَكَتْعَاءَ أو بِالِاثْنَيْنِ كَكِلَا وَكِلْتَا أو بِالْجَمْعِ كَكُلِّ وَأَجْمَعِينَ وَجَمْعٍ وَكَتْعٍ وَكُلُّ وما في مَعْنَاهُ لِلتَّجَزُّؤِ وَالنَّفْسُ وَالْعَيْنُ لِلْمُتَشَخِّصِ غَيْرِ الْمُتَجَزِّئِ وَإِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِالْجُمَلِ كَكَأَنَّ وَإِنَّ وما في مَعْنَاهُمَا وَفَائِدَتُهُ تَمْكِينُ الْمَعْنَى في نَفْسِ السَّامِعِ وَرَفْعُ التَّجَاوُزَاتِ الْمُتَوَهَّمَةِ فإن التَّجَوُّزَ يَقَعُ في اللُّغَةِ كَثِيرًا فَيُطْلَقُ الشَّيْءُ على أَسْبَابِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ فإنه يُقَالُ وَرَدَ الْبَرْدُ إذَا وَرَدَتْ أَسْبَابُهُ وَيُطْلَقُ اسْمُ الْكُلِّ على الْبَعْضِ نَحْوُ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ قَيَّدَ بِالْكَمَالِ لِيَخْرُجَ احْتِمَالُ تَوَهُّمِ بَعْضِ الْحَوْلِ الثَّانِي وَالتَّوْكِيدُ يُحَقِّقُ أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فَإِنْ قِيلَ إذَا كان رَافِعًا لِاحْتِمَالِ التَّخْصِيصِ في نَحْوِ قام الْقَوْمُ كلهم وَلِلْمَجَازِ في نَحْوِ جاء زَيْدٌ نَفْسُهُ فَهَذِهِ فَائِدَةٌ جَدِيدَةٌ فَكَيْفَ أَطْبَقُوا على أَنَّ الْمَقْصُودَ منه التَّقْوِيَةُ قُلْت إنَّ الِاحْتِمَالَ الْمَرْفُوعَ تَارَةً يَكُونُ اللَّفْظُ مُتَرَدَّدًا فيه وفي غَيْرِهِ على السَّوَاءِ وَتَارَةً يَكُونُ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا وَرَفْعُ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ لِأَنَّ تَرَدُّدَ اللَّفْظِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ليس فيه دَلَالَةٌ على أَحَدِهِمَا كما أَنَّ الْأَعَمَّ لَا يَدُلُّ على الْأَخَصِّ فَدَفْعُ ذلك الِاحْتِمَالِ تَأْسِيسٌ أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْمَرْجُوحُ فَهُوَ مَرْفُوعٌ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَنْصَرِفُ إلَى الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّأْكِيدُ يُقَوِّي ذلك الظَّاهِرَ وَهَاهُنَا أُمُورٌ أَحَدُهَا أَثْبَتَ ابن مَالِكٍ قِسْمًا ثَالِثًا وهو ما له شَبَهٌ بِالْمَعْنَوِيِّ وَشَبَهٌ بِاللَّفْظِيِّ وَإِلْحَاقُهُ بِهِ أَوْلَى كَقَوْلِكَ أنت بِالْخَيْرِ حَقِيقٌ قَمِينٌ وَنُوزِعَ في هذا الْمِثَالِ وَلَا نِزَاعَ لِإِجْمَاعِ النَّحْوِيِّينَ على أَنَّ من التَّوْكِيدِ مَرَرْت بِكُمْ أَنْتُمْ الثَّانِي هل أَنَّهُ يُوجِبُ رَفْعَ احْتِمَالِ الْمَجَازِ أو يُرَجِّحُهُ يَخْرُجُ من كَلَامِ النَّحْوِيِّينَ فيه قَوْلَانِ فَفِي التَّسْهِيلِ أَنَّهُ رَافِعٌ وَكَلَامُ ابْنِ عُصْفُورٍ وَغَيْرِهِ يُخَالِفُهُ وهو الْحَقُّ وَكَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ يَقْتَضِيهِ فإنه قال في الْبُرْهَانِ وَمِمَّا زَالَ فيه النَّاقِلُونَ عن الْأَشْعَرِيِّ وَيَقْتَضِيهِ أَنَّ صِيغَةَ الْعُمُومِ مع الْقَرَائِنِ تَبْقَى مُتَرَدِّدَةً وَهَذَا وَإِنْ صَحَّ يُحْمَلُ على تَوَابِعِ الْعُمُومِ كَالصِّيَغِ الْمُؤَكِّدَةِ ا هـ فَقَدْ صُرِّحَ بِأَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يَرْفَعُ احْتِمَالَ الْخُصُوصِ وَيُؤَيِّدُهُ ما في الحديث فَأَحْرَمُوا كلهم إلَّا أبو قَتَادَةَ لم يُحْرِمْ فَدَخَلَهُ التَّخْصِيصُ مع تَأْكِيدِهِ وَكَذَا قَوْلُهُ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كلهم أَجْمَعُونَ إنْ كان الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا وَهَلْ يَجْرِي ذلك في التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِيضَاحِ الْبَيَانِيِّ نعم وَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ
____________________
(1/485)
النُّحَاةُ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي ذلك وَأَنَّ الْقَائِلَ إذَا قال قام زَيْدٌ زَيْدٌ فَإِنَّمَا يُفِيدُ تَقْرِيرَ الْكَلَامِ في ذِهْنِ السَّامِعِ لَا رَفْعَ التَّجَوُّزِ وَحَكَى الرُّمَّانِيُّ في شَرْحِ أُصُولِ ابْنِ السَّرَّاجِ الْأَمْرَيْنِ فقال في قَوْله تَعَالَى وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فيها مَخْرَجُهُ مَخْرَجَ التَّمْكِينِ وقد يَكُونُ لِرَفْعِ الْمَجَازِ إذْ لَا يَمْنَعُ أَنْ يُقَالَ هُمْ في الْجَنَّةِ خَالِدِينَ في غَيْرِهَا فَأُزِيلَ هذا بِالتَّأْكِيدِ وَدَلَّ على أَنَّهُمْ في الْجَنَّةِ التي يَدْخُلُونَهَا مُخَلَّدُونَ فيها وَلَا يُنْقَلُونَ عنها إلَى جَنَّةٍ أُخْرَى الثَّالِثُ أَنَّ التَّوْكِيدَ اللَّفْظِيَّ أَكْثَرُ ما يَقَعُ مَرَّتَيْنِ كَقَوْلِهِ أَلَا حَبَّذَا حَبَّذَا حَبَّذَا وَأَمَّا الْمَعْنَوِيُّ فَذَكَرُوا أَنَّ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ كُلَّهَا تَجْتَمِعُ وَالْفَرْقُ أَنَّ هذا أَثْقَلُ لِاتِّحَادِ اللَّفْظِ وقال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بن عبد السَّلَامِ اتَّفَقَ الْأُدَبَاءُ على أَنَّ التَّأْكِيدَ إذَا وَقَعَ بِالتَّكْرَارِ لَا يَزِيدُ على ثَلَاثِ مَرَّاتٍ يَعْنِي بِالْأَصْلِ وَإِلَّا فَفِي الْحَقِيقَةِ التَّأْكِيدُ بِمَرَّتَيْنِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى في الْمُرْسَلَاتِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَيْ بهذا فَلَا يَجْتَمِعَانِ على مَعْنًى وَاحِدٍ فَلَا تَأْكِيدَ وَكَذَلِكَ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَنَحْوُهُ وَكَذَلِكَ قال السُّبْكِيُّ في شَرْحِ الْكَافِيَةِ لم تَتَجَاوَزْ الْعَرَبُ في تَأْكِيدِ الْأَفْعَالِ ثَلَاثًا كما فَعَلُوا في تَأْكِيدِ الْأَسْمَاءِ قال تَعَالَى فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا فلم يَزِدْ على ثَلَاثَةٍ مَهِّلْ وَأَمْهِلْ وَرُوَيْدٍ وَكُلُّهَا لِمَعْنًى وَاحِدٍ قال وَمِمَّا يَدُلُّ على صِحَّةِ هذا أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَكَادُ يُكَرِّرُونَ الْفِعْلَ مع تَأْكِيدِهِ بِالنُّونِ خَفِيفَةً وَلَا شَدِيدَةً لِأَنَّ تَكْرِيرَهُ مع الْخَفِيفَةِ مَرَّتَيْنِ كَالتَّلَفُّظِ بِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَمَعَ الشَّدِيدَةِ كَالتَّلَفُّظِ بِهِ سِتَّ مَرَّاتٍ ا هـ لَكِنْ فِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ في الْإِتْبَاعِ أَنَّهُ سمع خَمْسَةً مع أَنَّهُ تَأْكِيدٌ في الْمَعْنَى وقال الزَّمَخْشَرِيُّ في تَفْسِيرِ سُورَةِ الرحمن كانت عَادَةُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْ يُكَرِّرَ عليهم ما كان يَعِظُ بِهِ وَيَنْصَحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَسَبْعًا لِيُرَكِّزَهُ في قُلُوبِهِمْ وَيَغْرِزَهُ في صُدُورِهِمْ وفي الحديث الصَّحِيحِ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ فما زَالَ يُكَرِّرُهَا حتى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ ثُمَّ لَا يَشُكُّ أَنَّ الثَّلَاثَةَ في عَادَتِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كَالْمَرَّةِ في حَقِّ غَيْرِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ
____________________
(1/486)
كان قد زَادَ على الثَّلَاثِ ثُمَّ مُرَادُ الشَّيْخِ التَّأْكِيدُ اللَّفْظِيُّ أَمَّا الْمَعْنَوِيُّ فَنَصَّ النَّحْوِيُّونَ على أَنَّ أَلْفَاظَهُ الصِّنَاعِيَّةَ كُلَّهَا تُجْمَعُ وَفَرَّقُوا بِمَا سَبَقَ الرَّابِعُ أَنَّ التَّأْكِيدَ نَظِيرُ الِاسْتِثْنَاءِ وَحِينَئِذٍ فَيَأْتِي فيه شُرُوطُهُ السَّابِقَةُ من اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فيه وَمَحِلِّهَا وَاتِّصَالِهِ بِالْمُؤَكَّدِ لَكِنْ جَوَّزَ النَّحْوِيُّونَ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ الْخَامِسُ إنَّ كَوْنَ التَّوْكِيدِ يَرْفَعُ التَّجَوُّزَ إنَّمَا هو بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَاعِلِ فإذا قُلْت جاء زَيْدٌ اُحْتُمِلَ مَجِيئُهُ بِنَفْسِهِ وَمَجِيءُ جَيْشِهِ فإذا قُلْت نَفْسُهُ انْتَفَى الثَّانِي أَمَّا التَّأْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ نحو ضَرَبْت ضَرْبًا فَنَصَّ ثَعْلَبٌ في أَمَالِيهِ وابن عُصْفُورٍ في شَرْحِ الْجُمَلِ الصَّغِيرِ وَالْأَبْذَوِيُّ في قَوْله تَعَالَى وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا أَنَّهُ يَدُلُّ على رَفْعِ الْمَجَازِ وَأَنَّهُ كَلَّمَهُ بِنَفْسِهِ وَهَكَذَا احْتَجَّ بها أَصْحَابُنَا الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُعْتَزِلَةُ في إثْبَاتِ كَلَامِ اللَّهِ وهو غَلَطٌ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ بِالْمَصْدَرِ إنَّمَا يَرْفَعُ التَّجَوُّزَ عن الْفِعْلِ نَفْسِهِ لَا عن الْفَاعِلِ فإذا قُلْت قام زَيْدٌ قِيَامًا فَالْأَصْلُ قام زَيْدٌ قام زَيْدٌ فَإِنْ أَرَدْت تَأْكِيدَ الْفَاعِلِ أَتَيْت بِالنَّفْسِ وَهَاهُنَا إنَّمَا أَكَّدَ الْفِعْلَ وَلَوْ قَصَدَ تَأْكِيدَ الْفَاعِلِ لَقَالَ وَكَلَّمَ اللَّهُ نَفْسُهُ مُوسَى فَلَا حُجَّةَ فيه إذَنْ عليهم السَّادِسُ في الْفَرْقِ بين التَّرَادُفِ وَالتَّأْكِيدِ أَنَّ الْمُؤَكِّدَ يُقَوِّي الْمُؤَكَّدَ وهو اللَّفْظُ الْأَوَّلُ كَقَوْلِنَا جاء زَيْدٌ نَفْسُهُ بِخِلَافِ التَّرَادُفِ فإن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدُلُّ على الْمَعْنَى بِمُجَرَّدِهِ وَالتَّأْكِيدُ تَقْوِيَةُ مَدْلُولِ ما ذُكِرَ بِلَفْظٍ آخَرَ مُسْتَقِلٍّ لِيَخْرُجَ التَّابِعُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّابِعِ قد سَبَقَ
____________________
(1/487)
مَبَاحِثُ الْمُشْتَرَكِ وَهَذَا هو الْأَصْلُ وقد يَحْذِفُونَ فيه إمَّا لِكَثْرَةِ دَوَرَانِهِ في كَلَامِهِمْ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ جُعِلَ لَقَبًا قال ابن الْحَاجِبِ في شَرْحِ الْمُفَصَّلِ وهو اللَّفْظُ الْوَاحِدُ الدَّالُّ على مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أو أَكْثَرَ دَلَالَةً على السَّوَاءِ عِنْدَ أَهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ سَوَاءٌ كانت الدَّلَالَتَانِ مُسْتَفَادَتَيْنِ من الْوَضْعِ الْأَوَّلِ أو من كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ أو اُسْتُفِيدَتْ إحْدَاهُمَا من الْوَضْعِ وَالْأُخْرَى من كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وهو في اللُّغَةِ على الْأَصَحِّ وقد اُخْتُلِفَ فيه هل هو وَاجِبٌ أَمْ لَا وَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا فَهَلْ هو مُمْتَنِعٌ أو مُمْكِنٌ وَبِتَقْدِيرِ إمْكَانِهِ فَهَلْ هو وَاقِعٌ أو لَا فَهَذِهِ احْتِمَالَاتٌ أَرْبَعٌ بِحَسَبِ الِانْقِسَامِ الْعَقْلِيِّ وقد ذَهَبَ إلَى كُلٍّ منها فَرِيقٌ فَأَحَالَهُ ثَعْلَبٌ وأبو زَيْدٍ الْبَلْخِيّ وَالْأَبْهَرِيُّ على ما حَكَاهُ ابن الْعَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ في كِتَابِ النُّكَتِ وَصَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ وَمَنَعَهُ قَوْمٌ في الْقُرْآنِ خَاصَّةً وَنُسِبَ لِأَبِي دَاوُد الظَّاهِرِيِّ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ في الحديث وَنَقَلَ عبد الْجَبَّارِ عن جَمَاعَةٍ من مُتَأَخِّرِي زَمَانِهِ إنْكَارَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِضِدَّيْنِ فَإِنْ خَصُّوهُ بِهِمَا دُونَ غَيْرِهِمَا كما هو ظَاهِرُ كَلَامِهِ فَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ وقد صَارَ إلَيْهِ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فقال يَمْتَنِعُ بين النَّقِيضَيْنِ فَقَطْ لِخُلُوِّهِ عن الْفَائِدَةِ وَرَدَّ عليه صَاحِبُ التَّحْصِيلِ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَاضِعٍ وَاحِدٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُرَادُ الْإِمَامِ لِأَنَّ عَدَمَ الْعَبَثِ بِالنِّسْبَةِ إلَى فَاعِلَيْنِ لَا يَلْزَمُ من فِعْلِ أَحَدِهِمَا عِلْمُ الْآخَرُ بِهِ وَقِيلَ يَمْتَنِعُ في اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ من وَاضِعٍ وَاحِدٍ وَيَجُوزُ في لُغَتَيْنِ من وَاضِعَيْنِ حَكَاهُ الصَّفَّارُ في شَرْحِ سِيبَوَيْهِ وقال صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ أَصْلٌ في الْوَضْعِ وَالْمُتَعَيِّنُ كَالْمُتَبَايِنِ وَالْمُتَرَادِفِ وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ ليس بِأَصْلٍ في ذلك وَإِنَّمَا هو في الْمُتَبَايِنَةِ أو الْمُتَرَادِفَةِ في حَقِّ الْوَضْعِ وَالتَّعَيُّنُ كَالْمَجَازِ من الْحَقِيقَةِ فَتَحَصَّلْنَا على تِسْعَةِ مَذَاهِبَ وقد مَنَعَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ وقال ليس إلَّا قَوْلَانِ الْوُقُوعُ وَعَدَمُهُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ هَاهُنَا هو الْوُجُوبُ بِالْغَيْرِ إذْ لَا مَعْنَى لِلْوُجُوبِ بِالذَّاتِ وَالْمُمْكِنُ الْوَاقِعُ هو الْوُجُوبُ بِالْغَيْرِ ا هـ وَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِ ذلك وهو قَوْلٌ ثَالِثٌ مَنْقُولٌ وَقَوْلُ الْوُجُوبِ كما قَالَهُ شَارِحُ الْمَحْصُولِ إنَّ الْحَاجَةَ الْعَامَّةَ اقْتَضَتْ أَنْ يَكُونَ في اللُّغَاتِ وَقَوْلُ الْوُقُوعِ مع
____________________
(1/488)
الْإِمْكَانِ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ لم تَقْتَضِ ذلك وَلَكِنَّهُ وَقَعَ اتِّفَاقًا مع إمْكَانِهِ كَوُقُوعِ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ وَالْمُخْتَارُ جَوَازُهُ عَقْلًا وَوُقُوعُهُ سَمْعًا قال سِيبَوَيْهِ وَيْلٌ له دُعَاءٌ وَخَبَرٌ وَالصَّحِيحُ وُقُوعُهُ في الْقُرْآنِ كما في الْقُرْءِ والصريم ( ( ( و ) ) ) ووالليل ( ( ( الصريم ) ) ) إذَا عَسْعَسَ فَلَا وَجْهَ لِمَنْ أَنْكَرَ ذلك وَمَنَعَ قَوْمٌ الِاشْتِرَاكَ بين الشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ وَيَرُدُّهُ عَسْعَسَ فإنه مَوْضُوعٌ لِلْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ إلَّا على رَأْيِ من يَزْعُمُ أنها مُشْتَرِكَةٌ بين إدْخَالِ الْغَايَةِ وَعَدَمِهِ وَاخْتَلَفُوا في وُقُوعِ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ الشَّرْعِيَّةِ قال الرَّازِيَّ وَالْحَقُّ الْوُقُوعُ لِأَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ مُسْتَعْمَلٌ في مَعَانٍ شَرْعِيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ بِالْحَقِيقَةِ ليس فيها قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بين الْجَمِيعِ وقال تِلْمِيذُهُ الْحُوبِيُّ في الْيَنَابِيعِ أَمَّا في لُغَتَيْنِ فَلَا شَكَّ فيه فإن الشَّهْرَ في الْعَرَبِيَّةِ لِزَمَانِ ما بين الاستهلالين وفي الْفَارِسِيَّةِ لِلْبَلَدِ وهو مَكَانٌ ما بين حَدَّيْنِ وَأَمَّا في لُغَةٍ وَاحِدَةٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَصْلٌ وَالْآخَرَ فَرْعٌ كَالْعَيْنِ في الْعُضْوِ أَصْلٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ اُشْتُقَّ منه فِعْلٌ تَقُولُ عَانَهُ أَصَابَهُ بِعَيْنِهِ وَالذَّهَبُ سُمِّيَ بِهِ لِعِزَّتِهِ كَعِزَّةِ الْعَيْنِ وَسَمَّى الْفَوَّارَةَ عَيْنًا لِخُرُوجِ الْمَاءِ منها كما أَنَّ الْعَيْنَ مَنْبَعُ النُّورِ وَالْمَاءُ عَزِيزٌ كَنُورِ الْعَيْنِ وَمِنْهُ ما وُضِعَ لِمَعْنًى جَامِعٍ لِشَيْئَيْنِ فَاسْتُعْمِلَ في كُلٍّ مِنْهُمَا فَظَنَّ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْءُ من ذلك مَسْأَلَةٌ الْعِلْمُ بِكَوْنِ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا يَحْصُلُ إمَّا بِالضَّرُورَةِ وهو ما يُدْرَكُ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ من أَهْلِ اللُّغَةِ كَوْنُهُ مُشْتَرَكًا وَإِمَّا بِالنَّظَرِ بِأَنْ يُوجَدَ في كُلٍّ من الْمَعْنَيَيْنِ طَرِيقٌ من الطُّرُقِ الدَّالَّةِ على كَوْنِ اللَّفْظِ حَقِيقَةً وَمِنْهُمْ من قال يُسْتَدَلُّ عليه بِحُسْنِ الِاسْتِفْهَامِ عن مَدْلُولِ اللَّفْظِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ هو طَلَبُ الْفَهْمِ وهو لَا يَكُونُ عِنْدَ تَرَدُّدِ الذِّهْنِ بين الْمَعْنَيَيْنِ وَرَدَّهُ الْإِمَامُ فإن الِاسْتِفْهَامَ قد يَكُونُ لِمَعَانٍ شَتَّى غير الِاشْتِرَاكِ وَمِنْهُمْ من قال يُسْتَدَلُّ عليه بِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ بين مَعْنَيَيْنِ ظَاهِرًا وَضَعَّفَهُ الْإِمَامُ
____________________
(1/489)
مَسْأَلَةٌ في حَقِيقَةِ وُقُوعِ الْمُشْتَرَكِ وَذَلِكَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا وهو الْأَكْثَرُ يَقَعُ من وَاضِعَيْنِ بِأَنْ يَضَعَ أَحَدُهُمَا لَفْظًا لِمَعْنًى ثُمَّ يَضَعُهُ الْآخَرُ لِمَعْنًى آخَرَ كَالسُّدْفَةِ في لُغَةِ نَجْدٍ الظُّلْمَةُ وفي لُغَةِ غَيْرِهِمْ الضَّوْءُ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ في الصِّحَاحِ وَلَا حَاجَةَ لِقَيْدِ الْتِبَاسِ الْوَاضِعَيْنِ كما قَالَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ زَاعِمًا أَنَّ اللَّفْظَ بِالنِّسْبَةِ إلَى كل وَاحِدٍ مُنْفَرِدٌ إذْ ليس ذلك بِشَرْطٍ لِأَنَّهُ صَدَقَ عليه أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِمَعْنَيَيْنِ وَإِنْ كان وَاضِعَاهُ مَعْرُوفَيْنِ الثَّانِي وَاضِعٌ وَاحِدٌ وَلَهُ فَوَائِدُ منها غَرَضُ الْإِبْهَامِ على السَّامِعِ حَيْثُ يَكُونُ التَّصْرِيحُ سَبَبًا لِمَفْسَدَةٍ وَمِنْهَا اسْتِعْدَادُ الْمُكَلَّفِ لِلْبَيَانِ هَكَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَغَيْرُهُ وَعَنْ الْمُبَرِّدِ وَغَيْرِهِ من أَئِمَّةِ اللُّغَةِ إنْكَارُ وُقُوعِهِ من وَاضِعٍ وَاحِدٍ وَسَبَقَ كَلَامُ ابْنِ الْحُوبِيِّ مَسْأَلَةٌ الْمُشْتَرَكُ خِلَافُ الْغَالِبِ وهو خِلَافُ الْأَصْلِ وَالْمُرَادُ بِالْأَصْلِ هُنَا الْغَالِبُ فإذا جَهِلْنَا كَوْنَ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا أو مُنْفَرِدًا فَالْغَالِبُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ فَيُحْكَمُ بِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ لِلِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَلْفَاظِ مُفْرَدَةٌ وَإِلَّا لَمَا حَصَلَ التَّفَاهُمُ في الْخِطَابِ دُونَ الِاسْتِفْسَارِ وَقَبُولُهُ دُونَهُ مَعْلُومٌ فَإِنْ قُلْت إنَّ الِاشْتِرَاكَ أَغْلَبُ لِأَنَّ الْحُرُوفَ كُلَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بِشَهَادَةِ النُّحَاةِ وَالْمَاضِي مُشْتَرَكٌ بين الْخَبَرِ وَالدُّعَاءِ وَالْمُضَارِعُ بين الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَالْأَسْمَاءُ فيها الِاشْتِرَاكُ كَثِيرٌ فإذا ضَمَمْتهَا إلَى الْقِسْمَيْنِ كان الِاشْتِرَاكُ أَكْثَرَ أُجِيبَ بِأَنَّ أَغْلَبَ الْأَلْفَاظِ أَسْمَاءٌ وَالِاشْتِرَاكُ فيها قَلِيلٌ
____________________
(1/490)
مَسْأَلَةٌ اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ أَصْلٌ قال صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ أَصْلٌ في الْوَضْعِ وَالتَّعْيِينِ كَالْمُتَبَايِنِ وَالْمُتَرَادِفِ وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ ليس بِأَصْلٍ في تِلْكَ وَإِنَّمَا هو من الْمُتَبَايِنَةِ أو الْمُتَرَادِفَةِ في حَقِّ الْوَضْعِ وَالتَّعْيِينِ كَالْمَجَازِ من الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ وُضِعَ لِلْإِفْهَامِ وَالْمُشْتَرَكُ إلَى الْإِبْهَامِ أَقْرَبُ منه إلَى الْإِفْهَامِ فَكَيْفَ يَكُونُ أَصْلًا في وَضْعِ الْإِفْهَامِ وَلَنَا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ على السَّوِيَّةِ في الْمَعَانِي وَالِاسْتِعْمَالُ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ وَلَا إبْهَامَ مع الْقَرِينَةِ الْمُمَيِّزَةِ مَسْأَلَةٌ الْمُشْتَرَكُ له مَفْهُومَانِ فَصَاعِدًا الْمُشْتَرَكُ لَا بُدَّ له من مَفْهُومَيْنِ فَصَاعِدًا فَمَفْهُومَاهُ إمَّا أَنْ يَتَبَايَنَا أَيْ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا في الصِّدْقِ على شَيْءٍ وَاحِدٍ كَالْقُرْءِ لِلطُّهْرِ وَالْحَيْضِ وَسَوَاءٌ تَبَايَنَا بِالتَّضَادِّ أو غَيْرِهِ على الْأَصَحِّ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ وَضْعَهُ لِلضِّدَّيْنِ وَإِمَّا أَنْ يَتَوَاصَلَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا جُزْءًا لِلْآخَرِ أو لَازِمًا له وَالْأَوَّلُ كَالْإِمْكَانِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَالثَّانِي كَالْكَلَامِ فإنه مُشْتَرَكٌ بين النَّفْسَانِيِّ وَاللِّسَانِيِّ مع أَنَّ اللِّسَانِيَّ دَلِيلٌ على النَّفْسَانِيِّ وَالدَّلِيلُ يَسْتَلْزِمُ مَدْلُولَهُ مَسْأَلَةٌ تَجَرُّدُ الْمُشْتَرَكِ من الْقَرِينَةِ الْمُشْتَرَكُ إمَّا أَنْ يَتَجَرَّدَ عن الْقَرِينَةِ فَمُجْمَلٌ يَتَوَقَّفُ على الْمُرَجِّحِ إنْ مَنَعْنَا حَمْلَ الْمُشْتَرَكِ على مَعْنَيَيْهِ وَكَذَا إنْ قُرِنَ بِهِ ما يُوجِبُ اعْتِبَارَ الْكُلِّ وَكَانَتْ مَعَانِيهِ مُتَنَافِيَةً فَإِنْ لم تَكُنْ مُتَنَافِيَةً فقال بَعْضُهُمْ يَقَعُ التَّعَارُضُ بين الْقَرِينَةِ وَبَيْنَ الدَّلَالَةِ الْمَانِعَةِ من إعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ في مَفْهُومَاتِهِ فَيُصَارُ إلَى التَّرْجِيحِ وهو خَطَأٌ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ الْمَانِعَةَ قَاطِعَةٌ لَا تَحْتَمِلُ الْمُعَارَضَةَ وَلَئِنْ قُلْت فَلَا مُعَارَضَةَ هُنَا فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا قَالَهُ الْإِمَامُ في
____________________
(1/491)
الْمَحْصُولِ مع أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ الْمُشْتَرَكُ في مَعْنَيَيْهِ وقد يُمَثَّلُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ فإنه يَحْتَمِلُ إرَادَةَ نَفْسِ الصَّلَاةِ وَمَوَاضِعِهَا وَقَوْلُهُ حتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ قَرِينَةٌ لِإِرَادَةِ الصَّلَاةِ وَقَوْلُهُ إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ قَرِينَةٌ لِإِرَادَةِ مَوَاضِعِهَا وَيُسَمِّيهِ أَهْلُ الْبَدِيعِ الِاسْتِخْدَامَ اقْتِرَانُ الْقَرِينَةِ بِالْمُشْتَرَكِ وَإِمَّا أَنْ تَقْتَرِنَ بِهِ قَرِينَةٌ وهو على أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ الْأَوَّلُ أَنْ تُوجِبَ تِلْكَ الْقَرِينَةُ اعْتِبَارَ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ مِثْلَ إنِّي رَأَيْت عَيْنًا بَاصِرَةً فَتَعَيَّنَ حَمْلُ ذلك اللَّفْظِ على ذلك الْوَاحِدِ قَطْعًا الثَّانِي أَنْ تُوجِبَ اعْتِبَارَ أَكْثَرِ من وَاحِدٍ فَيَتَعَيَّنُ ذلك عِنْدَ من يُجَوِّزُ إعْمَالَ الْمُشْتَرَكِ في مَعْنَيَيْهِ كَقَوْلِهِ رَأَيْت عَيْنًا صَافِيَةً وَالصَّفَاءُ مُشْتَرَكٌ بين الْجَارِيَةِ وَالْبَاصِرَةِ وَالشَّمْسِ الثَّالِثُ أَنْ تُوجِبَ تِلْكَ الْقَرِينَةُ إلْغَاءَ الْبَعْضِ فَيَنْحَصِرُ الْمُرَادُ في الْبَاقِي أَيْ يَتَعَيَّنُ ذلك الْبَاقِي إنْ كان وَاحِدًا نحو دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك الرَّابِعُ أَنْ تُوجِبَ إلْغَاءَ الْكُلِّ فَيُحْمَلُ على مَجَازِهِ بِحَسَبِ تِلْكَ الْحَقَائِقِ فإذا كان ذَا مَجَازَاتٍ كَثِيرَةٍ وَتَعَارَضَتْ فَهِيَ مُتَسَاوِيَةٌ أو بَعْضُهَا رَاجِحٌ فَإِنْ رَجَحَ بَعْضُهَا فَالْحَقَائِقُ إمَّا مُتَسَاوِيَةٌ أو بَعْضُهَا أَجْلَى فَإِنْ كانت مُتَسَاوِيَةً حُمِلَ على الْمَجَازِ الرَّاجِحِ وَإِلَّا حُمِلَ على الْأَجْلَى إنْ كان حَقِيقَةُ ذلك الْمَجَازِ الرَّاجِحَ مسألة في حكمه بالنسبة إلى معنييه أو معانيه اعلم أن معاني المشترك إما أن يمتنع الجمع بينهما كالضدين والنقيضين إذا فرعنا على جواز الوضع لهما وهو الصحيح فلا يحمل على معنييه قطعا وكذا الاستعمال فيهما بلا خلاف كذا قالوا لكن حكى صاحب الكبريت الأحمر عن أبي الحسن الأشعري أنه يجوز أن يراد به معنياه وإن كان بينهما منافاة وهو غريب مثال النقيضين لفظة إلى على رأي من يزعم أنها مشتركة بين إدخال الغاية وعدمه ومثال الضدين صيغة افعل عند من يجعلها حقيقة في الطلب وفي
____________________
(1/492)
التهديد فإنها مشتركة بين معنيين متضادين لا يمكن الجمع بينهما ولا الحمل عليهما ولهذا لو قال أنت علي حرام ونوى الطلاق والظهار لم يثبتا لأنهما وإن اشتركا في التحريم لكن بينهما منافاة لأن الطلاق يفك قيد الزوجية بخلاف الظهار قال الأستاذ أبو منصور وابن القشيري وحينئذ يصير مجملا فيطلب البيان من غيره قال الأستاذ وكذلك في الحقيقة والمجاز والكناية والصريح لكن هاهنا الحقيقة أولى من المجاز والصريح أولى من الكناية قال ولولا الإجماع على أن المراد بآية القرء في العدة أحد الجنسين من طهر أو حيض لحملناها عليهما لوقوع اسم القرء عليهما لكن لما أجمعوا على أن المراد به أحدهما توقف في الدليل لكاشف عن المراد وما حكيناه عن الإجماع عن المنع في هذه الحالة حكاه غير واحد منهم الأستاذ وأغرب صاحب الكبريت الأحمر فقال وقال أبو الحسن الأشعري يجوز ذلك وإن كان بينهما منافاة وأما إذا أمكن الجمع بينهما فإن تكلم به مرات جاز أن يستعمل في كل مرة غير ما استعمله في الأخرى وإنما الخلاف فيما إذا تكلم به مرة واحدة ثم الكلام فيه في مواطن ثلاثة استعمال اللفظ في حقيقته وفي حقيقته ومجازه وفي مجازيه فأما الأول فله مقامان أحدهما هل يجوز أن يراد به جميع المتناولات فيه مذاهب أحدها الجواز ونسب للشافعي وقطع به ابن أبي هريرة في تعليقه ومثله بقوله تعالى إن الله وملائكته يصلون فالاسم واحد واختلف المراد به فكانت الصلاة من الله رحمة ومن المؤمنين دعاء ومن الملائكة استغفارا وكذلك شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم فكانت شهادته علمه وشهادة الملائكة إقرارهم بذلك وقوله لا تقربوا الصلاة يعني وضعها للجنس وموضعها وفعلها للسكران وهو الذي نص عليه القاضي في التقريب قال ولا يحتاج إلى تكرارها والتكلم بها في وقتين لعلم كل عاقل أنه يصح قصده من نفسه بقول لا تنكح ما نكح أبوك إلى نهيه عن العقد وعن الوطء جميعا ونقله إمام الحرمين في التلخيص عن مذاهب المحققين وجماهير الفقهاء قال ابن القشيري في أصوله قال القاضي وهو الاختيار عندنا أنه يجوز
____________________
(1/493)
إذا دلت عليه القرينة فلا يمتنع أن تقول العين مخلوقة ونعني جميع محاملها وحكاه صاحب المعتمد والقواطع عن أبي علي الجبائي والقاضي عبد الجبار وقال صاحب الكبريت الأحمر إنه مذهب أكثر أصحاب أبي حنيفة وحكاه أبو سفيان في العيون عن أبي يوسف ومحمد وحملوا من حلف لا يشرب من الإناء على الكرع والشرب من الإناء وحمله أبو حنيفة على الكرع ونسبه القاضي عبد الوهاب لمذهبهم قال وهو قول جمهور أهل العلم وقد قال سيبويه يجوز أن يراد باللفظ الواحد الدعاء على الغير والخبر على حال المدعو عليه نحو الويل له فهذا دعاء عليه وخبر عنه ولهما معنيان مختلفان ثم اختلف المجوزون في موضعين أحدهما أن استعماله في الجميع هل هو بطريق الحقيقة أو المجاز قال الأصفهاني واللائق بمذهب الشافعي جواز استعماله بطريق الحقيقة لأنه يوجب حمله على الجميع ونقله الآمدي عن الشافعي والقاضي كسائر الألفاظ العامة في صيغ العموم ولهذا حملت على التجرد على الجميع ونقل صاحب التلخيص عن الشافعي أنه بطريق المجاز وهو ميل إمام الحرمين واختاره ابن الحاجب الثاني اختلفوا في أنه إذا أراد المعنيين هل يتعلق بهما إرادة واحدة أم إرادتان وقال الإمام في التلخيص وابن القشيري والأصح أن الإرادة الواحدة لا تتعلق إلا بمراد واحد فلا يتحقق إرادة المرادين إلا بإرادتين وفصل القاضي في التقريب فقال إن كان المتكلم بها هو الله عز وجل فإنما يريدها وجميع أراد به بإرادة واحدة وإن كان المتكلم محدثا فإنما يريدهما جميعا بإرادتين غير متضادتين ولو كان يريدهما بإرادة واحدة لاستحال أن يراد أحدهما دون الآخر وشرط أبو الحسن بن الصائغ النحوي في شرح الجمل كون المشترك يدل على معنى يعم مدلوليه وهو الصريح في الاشتراك كاللمس الذي يراد به المس مطلقا والوقاع قال فإن لم يدل فينبغي امتناعه بلا خلاف كما لو قلت رأيت زيدا أو عمرا أخاك وأردت برأيت زيدا أبصرته وبه مع ما بعده علمت أو رأيت زيدا والطائر تريد في الطائر ضربت رئته وفي زيد الإبصار فينبغي أن يجوز هذا باتفاق لعدم الصراحة
____________________
(1/494)
المذهب الثاني المنع ونصره ابن الصباغ في العدة وإليه ذهب أبو هاشم والكرخي وأبو عبد الله البصري وفخر الدين وغيرهم قال الأستاذ وحكاه الكرخي عن أبي حنيفة وقال أبو بكر الرازي كان الكرخي يحكيه عن أبي حنيفة وأن أبا يوسف جوزه وقال القاضي في التقريب زعم ابن الجبائي ووافقه جماعة من أصحاب أبي حنيفة أنه غير جائز وأنه متى أريد بها معنيان مختلفان فلا بد من تكرارها والتكلم بها في وقتين يراد بها في أحدهما أحد المعنيين وفي الآخر المعنى الآخر ا هـ ومراده بابن الجبائي أبو هاشم كما قاله القاضي عبد الوهاب قال صاحب المعتمد وشرط أبو عبد الله في المنع شروطا أربعة اتحاد المتكلم والعبارة والوقت وأن يكون المعنيان مختلفين لا ينتظمهما فائدة واحدة فمتى انخرم شرط جاز أن يرادا وما حكيناه عن أبي هاشم صرح به أبو الحسين في المعتمد عنه لكن أفاد صاحب الكبريت الأحمر أن له في المسألة قولين وأنه ذهب في كتاب البغداديات إلى الجواز إذا لم يكن بينهما منافاة وفي غيره إلى المنع مطلقا ثم اختلف المانعون في سبب المنع فقيل أمر يرجع إلى القصد أي لا يصح أن يقصد باللفظ المشترك جميع مفهوماته من حيث اللغة لا حقيقة ولا مجازا ولكنه يمكن أن يقصد باللفظ الدلالة على المعنيين جميعا بالمرة الواحدة ويكون خالف الوضع اللغوي وابتدأ بوضع جديد ولكل أحد أن يطلق لفظا ويريد به ما شاء وهذا ما ذهب إليه الغزالي وأبو الحسين البصري وهو ضعيف إذ لا استحالة في ذلك وقيل سببه الوضع الحقيقي أي أن الواضع لم يضع اللفظ المشترك لهما على الجميع بل على البدل فلا يصحح إطلاقه بطرق الحقيقة على الجميع ولا يلزم من وضع اللفظ لمعنيين على البدل أن يكون موضوعا لهما على الجميع والمشترك إنما وضع لكل منهما على البدل فاستعماله في الجميع استعمال اللفظ في غير موضوعه ولكن يجوز أن يراد جميع محامله على جهة المجاز إذا اتصل بقرينة مشعرة بذلك وهذا ما اختاره ابن الحاجب والسهروردي في التنقيحات وفخر الدين الرازي
____________________
(1/495)
وغيرهم وكلام إمام الحرمين محتمل لهما والمذهب الثالث لا يستعمل في الجميع إذا تجرد عنه القرائن ويجوز مع القرينة المتصلة وهو ظاهر كلام إمام الحرمين في البرهان والمذهب الرابع الفرق بين النفي والإثبات والفرق أن النكرة في سياق النفي تعم فيجوز إرادة مدلولاته المختلفة ورد بأن النفي لا يرفع إلا ما يقتضي الإثبات وهذا القول حكاه ابن الحاجب وإنما هو احتمال أنه أبداه صاحب المعتمد وتبعه في المحصول وقيل إن الماوردي حكاه وجها لأصحابنا في كتاب الأشربة وهو ظاهر كلام الحنفية فإنهم قالوا إذا حلف لا يكلم موالي فلان يتناول الأعلى والأسفل وقوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء يتناول الوطء والعقد إن قلنا إنه مشترك والمذهب الخامس يجوز في الجمع كقوله اعتدي بالأقراء دون المفرد لأن الجمع في حكم تعديد الأفراد وحكاه الماوردي عن بعض أصحابنا في كتاب الأشربة وهذا مفرع على جواز تثنية المشترك وجمعه وقد منعه أكثر النحاة وجوزه ابن الأنباري وابن مالك وقال ابن الحاجب الأكثر أن جمعه باعتبار معنييه مبني على الخلاف في المفرد فإن جاز ساغ وإلا فلا وقيل بل يجوز وإن لم يجز في المفرد وذكر في شرح المفصل أن تثنيته شاذة وأن الأكثر المستعمل خلافه المذهب السادس أنه ينظر في المعنى فإن كان أحدهما يتعلق بالآخر من جهة المعنى كالنكاح فإنه يتناول العقد والوطء واللمس يتناول الوطء والمس باليد وكل منهما متعلق بالآخر يجوز إرادتهما والحمل عليهما وإن كان أحدهما غير متعلق بالآخر لم تجز إرادتهما والحمل عليهما بلفظ واحد حكاه بعض شراح اللمع وهو غريب المذهب السابع الوقف واختاره الآمدي ونبه القاضي في التقريب على أن محل الخلاف في إرادتهما في وقت واحد من غير تكرار وأنه متى أريد بهما المعنيان وكررا في وقتين أريد
____________________
(1/496)
به في أحدهما أحد المعنيين وفي الآخر الأخرى فلا خلاف في الجواز المقام الثاني إذا جوزنا الاستعمال فهل يجب على السامع حمله على ذلك إذا تجرد عن قرينة صارفة فيه مذاهب أحدهما أنه يحمل على جميع المعاني قال ابن القشيري وعليه يدل كلام الشافعي لأنه لما تمسك بقوله تعالى أو لامستم النساء فقيل أراد بالملامسة المواقعة فقال أحمله على الجس باليد حقيقة وعلى الوقاع مجازا يعني وإذا قال ذلك في الحقيقة والمجاز ففي الحقيقتين أولى وقال الأستاذ أبو منصور إنه قول أكثر أصحابنا ولهذا حملنا آية اللمس على الجماع وعلى الجس باليد ونقله غيرهما عن الشافعي والقاضي صريحا وقال القرطبي الحق أن في النقل عنهما في هذا خللا ونقله الإمام الرازي في المناقب عن القاضي عبد الجبار والبيضاوي في الكلام على الجمع المنكر عن الجبائي لأنه لو لم يجب فإما أن يحمل على واحد منهما ويلزم تعطيل النص ولأن العمل بالدليل واجب ما أمكن وليس من عادة العرب تفهيم المراد باللفظ المشترك من غير قرينة فيصير انتفاء القرينة المخصصة قرينة تعميم ولما فيه من الاحتياط الثاني المنع وهو قول ابن عقيل من الحنابلة وقال الرافعي في باب التدبير إنه الأشبه فقال والأشبه أن اللفظ المشترك مراد به جميع معانيه ولا يحمل عند الإطلاق على جميعها وليس كما قال وإنما هذا مذهب الحنفية كما قاله أبو زيد الدبوسي في تقويم الأدلة قال ولهذا قال علماؤنا من أوصى لمواليه وله موال أعتقوه وموال أعتقهم أن الوصية باطلة لأن معنى الولاءين مختلف فيراد بالوصية للأعلى الجزاء وللأسفل زيادة الإنعام وإذا قال لامرأة إن نكحتك فأنت طالق لم ينصرف إلى العقد والوطء جميعا لأنهما مختلفان ا هـ وبه قال الإمام فخر الدين تفريعا على القول بجواز الاستعمال والثالث التوقف لا يحمل على شيء إلا بدليل ويصير مجملا وبه قال القاضي كما سنذكره قال القاضي أبو منصور وهو قول الواقفية في صيغ العموم ا هـ واختاره ابن القشيري في أصوله وتفسيره لأنه ليس موضوعا للجميع بل لآحاد مسميات
____________________
(1/497)
على البدل وادعاء إشعارها بالجميع بعيد قال نعم يجوز أن يريد المتكلم به جميع المحامل ولا يستحيل ذلك في العقل وفي مثل هذا فقال يحتمل أن يكون المراد كذا يحتمل أن يكون كذا ا هـ والرابع إن كان بلفظ المفرد فهو مجمل أو بلفظ الجمع وجب به الحمل وهو قول القاضي عن الحنابلة في الكفاية هذا كله حيث لا قرينة تعين مراد اللافظ فإن وجدت قرينة بواحد منها نظر فإن كان بين تلك المعاني منافاة بقي اللفظ مجملا إلى المرجح وإن كانت معانيه متساوية فالمشهور أنه يجب حمل اللفظ عليها وإن قلنا لا يحمل عند عدم القرينة وحكي في المحصول عن بعضهم أنه يتعارض الدليل المانع من حمل المشترك على جميع معانيه والقرينة الموجبة تحمله عليها فيعتبر بينهما الترجيحات قال وهذا خطأ لإمكان الجمع بأن يقال المتكلم تكلم به مرات وأراد بكم مرة معنى من معانيه والدليل المانع لا ينفي ذلك وقال بعض شراح اللمع إن دل الدليل على أحدهما حمل عليه قطعا وإن دل على أن المراد أحدهما ولم يعين وجب الوقف حتى يعلم ذلك الواحد بعينه قطعا وإن لم يعلم المراد به فهو موضع الخلاف تنبيهات التنبيه الأول في تحرير النقل عن الشافعي والقاضي في هذه المسألة أما الشافعي فقد اشتهر عنه في كتب المتأخرين القول الأول وقد أنكر ذلك أبو العباس بن تيمية وقال ليس للشافعي نص صريح فيه وإنما استنبطوا هذا من نصه فيما إذا أوصى لمواليه وله موال أعلى وأسفل أو وقف على مواليه فإنه يصرف للجميع وهذا الاستنباط لا يصح لاحتمال أنه يرى أن اسم الموالي من الأسماء المتواطئة وأن موضوعه للقدر المشترك بين الموليين ولا يلزم من هذا أن يحكى عنه قاعدة كلية في الأسماء التي لا شركة بين معانيها وإنما الاشتراك بينهما في مجرد اللفظ قلت وهذا نقله ابن الرفعة في الكفاية عن شيخه الشريف عماد الدين وأن تناول الاسم لهما معنى واحد على جهة التواطؤ وهي الموالاة والمناصرة ثم نازع فيه في باب الوصية من المطلب بأن هذا يقتضي التصحيح وصرف الريع والوصية إليهما
____________________
(1/498)
والسؤال إنما يتجه على القول بعدم الصحة ا هـ ويحتمل أن يقال إن مواليه جمع مضاف فالتعميم من هذه الحيثية لا من جهة الاشتراك لكن كلام الشافعي في مواضع يدل للقول الأول منها أنه احتج في الأم على استحباب الكتابة فيما إذا جمع العبد بين الأمانة والقوة على الكسب بقوله تعالى فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ففسر الخير بالأمرين قال وأظهر معاني الخير قوة العبد بدلالة الكتاب الاكتساب مع الأمانة فأحب أن لا يمتنع من مكاتبته إذا كان هكذا ا هـ ومنها أنه نص في الأم في لفظة عند المشترك بين إفادة الحضور والملك في حديث حكيم بن حزام لا تبع ما ليس عندك قال وكان نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع المرء ما ليس عنده يحتمل أن يبيع بحضرته فيراه المشتري كما يراه البائع عند تبايعهما ويحتمل أن يبيع ما ليس عنده ما ليس يملك تعيينه فلا يكون موضوعا مضمونا على البائع يؤخذ به ولا في ملكه فيلزمه أن يسلمه إليه لأنه يعينه وعنى هذين المعنيين ومنها حمله اللمس في الآية كما سبق عن القشيري فإن قيل فلم لم يحمل الشفق على معنييه بل اعتبر في آخر وقت المغرب غيبوبة الشفق الأحمر قلنا لأنه ورد في حديث آخر تعيينه بالأحمر فلهذا لم يقل بالاشتراك وأما النقل عن القاضي فأنكره ابن تيمية أيضا قال لأن من أصله الوقف في صيغ العموم وأنه لا يجوز حملها على الاستغراق إلا بدليل فمن يقف في ألفاظ العموم كيف يجزم في الألفاظ المشتركة بالاستغراق بغير دليل وإنما الذي ذكره في كتبه إحالة الاشتراك أصلا وأن ما يظن من الأسماء المشتركة هي عنده من الأسماء المتواطئة قلت وممن استشكل ذلك الإبياري وتابعه القرافي لكن القاضي إنما ينكر وضعها للعموم ولا ينكر استعمالها وكلامنا في الاستعمال ويحتمل أنه فرعه على القول
____________________
(1/499)
بصيغ العموم على أن الذي رأيته في التقريب للقاضي بعد أن قرر صحة إرادة المعنيين من المتكلم قال فإن قيل هل يصح أن يراد المعنيان أي يحمل عليهما بالظاهر أم بدليل يقترن بهما قيل بل بدليل يقترن بهما لموضع احتمالهما للقصد تارة إليهما وتارة إلى أحدهما وكذلك سبيل كل محتمل من القول وليس بموضوع في الأصل لأحد محتمليه ا هـ وزاد عند إمام الحرمين في تلخيص التقريب فإنا نقول إذا احتمل إرادة المعنيين واحتمل تخصيص اللفظ بأحدهما فيتوقف في معنى اللفظ على قرينة تدل على الجمع والتخصيص وكيف لا نقول ذلك ونحن على نصرة نفي صيغة العموم انتهى فظهر أن الصواب في النقل عن القاضي المذهب الثالث وهو التوقف التَّنْبِيهُ الثَّانِي إنَّ الْخِلَافَ في حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ على مَعَانِيهِ إنَّمَا هو في الْكُلِّيِّ الْعَدَدِيِّ أَيْ في كل فَرْدٍ فَرْدٍ وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلَهُ يَدُلُّ على كُلٍّ مِنْهُمَا على حِدَتِهِ بِالْمُطَابَقَةِ في الْحَالَةِ التي تَدُلُّ على الْمَعْنَى الْآخَرِ بها وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْكُلِّيُّ الْمَجْمُوعَ أَيْ بِجَعْلِ مَجْمُوعِ الْمَعْنَيَيْنِ مَدْلُولًا مُطَابِقًا كَدَلَالَةِ الْخَمْسَةِ على آحَادِهَا وَلَا الْكُلِّيِّ الْبَدَلِيِّ أَيْ بِجَعْلِ كل وَاحِدٍ مَدْلُولًا مُطَابِقًا على الْبَدَلِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّحْصِيلِ وَكَذَا قال عبد الْعَزِيزِ في شَرْحِ الْبَزْدَوِيُّ إنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا أُرِيدَ بِالْمُشْتَرَكِ كُلُّ وَاحِدٍ من مَعْنَيَيْهِ وَأَمَّا إرَادَةُ الْمَجْمُوعِ من حَيْثُ هو مَجْمُوعٌ فَلَا نِزَاعَ فيه لِأَنَّهُ يُصَيِّرُ كُلَّ وَاحِدٍ من الْمَعْنَيَيْنِ جُزْءًا لِمَعْنًى بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فإنه يُصَيِّرُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هو الْمَعْنَى بِتَمَامِهِ وقال الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ إنَّهُ رَآهُ في تَصْنِيفٍ آخَرَ لِصَاحِبِ التَّحْصِيلِ أَنَّ الْأَظْهَرَ من كَلَامِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْخِلَافَ في الْكُلِّيِّ الْمَجْمُوعُ فإن أَكْثَرَهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَالْعَامِّ
____________________
(1/500)
التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ جَعَلَ النَّقْشَوَانِيُّ في التَّلْخِيصِ مَحَلَّ الْخِلَافِ في الْمَذْكُورِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ قال فَأَمَّا الْمُفْرَدُ الْمُنَكَّرُ إذَا لم يُكَرَّرُ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِمَا سَوَاءٌ كان مُثْبَتًا أو مَنْفِيًّا لِأَنَّ التَّنْكِيرَ يَقْتَضِي التَّوْحِيدَ فَإِنْ تَكَرَّرَ بِقَوْلِهِ اعْتَدِّي قُرْءًا وَقُرْءًا فَقَدْ جَوَّزَ اسْتِعْمَالَهُ فِيهِمَا حَقِيقَةً وَإِنْ كان مُفْرَدًا مُعَرَّفًا بِأَلْ مُكَرَّرًا فَكَذَلِكَ وَإِنْ لم يَتَكَرَّرْ وَكَانَتْ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ على أَحَدِهِمَا بِخُصُوصٍ وَجَبَ الْحَمْلُ عليه وَإِنْ لم تُوجَدْ الْقَرِينَةُ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ الشَّافِعِيُّ يُوجِبُ الْحَمْلَ على الْمَعْنَيَيْنِ جميعا في هذا الْوَقْتِ قال الْأَصْفَهَانِيُّ وَجَعْلُهُ مَوْضِعَ الْخِلَافِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْعَمَلِ مَمْنُوعٌ بَلْ نَقُولُ جَوَازُ الْخِطَابِ بِاللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ يَنْبَنِي على أَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ هل يُحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ على جَمِيعِ مَعَانِيهِ أَمْ لَا فَإِنْ قُلْنَا بِالْحَمْلِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَيَانِ وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْعِ فَلَا يَجُوزُ وُرُودُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ من غَيْرِ بَيَانٍ التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ إذَا قُلْنَا بِالْحَمْلِ فَهَلْ هو من بَابِ الْعُمُومِ أو الِاحْتِيَاطِ فيه طَرِيقَتَانِ إحْدَاهُمَا وَعَلَيْهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيَّ وابن الْحَاجِبِ أَنَّهُ كَالْعَامِّ وَأَنَّ نِسْبَةَ الْمُشْتَرَكِ إلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ كَنِسْبَةِ الْعَامِّ إلَى أَفْرَادِهِ وَالْعَامُّ إذَا تَجَرَّدَ عن الْقَرَائِنِ وَجَبَ حَمْلُهُ على الْجَمِيعِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ فَكَذَا الْمُشْتَرَكُ وَضَعَّفَهُ النَّقْشَوَانِيُّ لِأَنَّهُ يُصَيِّرُ اللَّفْظَ حِينَئِذٍ مُتَوَاطِئًا لَا مُشْتَرَكًا قال وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ الْأَئِمَّةَ لم يُرِيدُوا الْعُمُومَ وَأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ من جِهَةِ النَّاقِلِ عَنْهُمْ لَمَّا رَأَى في كُتُبِهِمْ حَمْلَ الْمُشْتَرَكِ على مَعْنَيَيْهِ ظَنَّ أَنَّهُمْ أَلْحَقُوهُ بِالْعَامِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَفْرَادِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَنَازَعَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ لِمَا فيه من تَوْهِيمِ الْأَئِمَّةِ قال وما اسْتَبْعَدَ النَّقْلُ ضَعِيفٌ فإن مُرَادَهُمْ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ كَالْعَامِّ في مَعْنَى اسْتِغْرَاقِهِ لِمَدْلُولَاتِهِ وَوُجُوبِ الْحَمْلِ على جَمِيعِ مَعَانِيهِ الْمُخْتَلِفَةِ عِنْدَ التَّجَرُّدِ عن الْقَرَائِنِ فَهُوَ كَالْعَامِّ من هذا الْوَجْهِ لِأَنَّ الْأَفْرَادَ الدَّاخِلَةَ تَحْتَ الْمُشْتَرَكِ مِثْلُ الْأَفْرَادِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْعَامِّ حتى يَلْزَمَ التَّوَاطُؤُ
____________________
(1/501)
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ وَعَلَيْهَا الْإِمَامُ الرَّازِيَّ أَنَّهُ من بَابِ الِاحْتِيَاطِ وَتَقْدِيرُهَا أَنَّ لِلسَّامِعِ أَحْوَالًا ثَلَاثَةً إمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ فَيَلْزَمُ التَّعْطِيلُ لَا سِيَّمَا عِنْدَ وَقْتِ الْحَاجَةِ أو يُحْمَلَ أَحَدُهُمَا فَيَلْزَمُ التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ لم يَبْقَ إلَّا الْحَمْلُ على الْمَجْمُوعِ وهو أَحْوَطُ لِاشْتِمَالِهِ على مَدْلُولَاتِ اللَّفْظِ بِأَسْرِهَا وَلِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ غَيْرُ جَائِزٍ فإذا جاء وَقْتُ الْعَمَلِ بِالْخِطَابِ ولم يَتَبَيَّنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَحَدُهُمَا عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْمَجْمُوعُ وَعَلَى هذه الطَّرِيقَةِ جَرَى الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بن دَقِيقِ الْعِيدِ فقال إنْ لم يَقُمْ دَلِيلٌ على تَعْيِينِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ لِلْإِرَادَةِ حَمَلْنَاهُ على كُلٍّ مِنْهُمَا لَا لِأَنَّهُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَضْعًا بَلْ لِأَنَّ اللَّفْظَ دَلَّ على أَحَدِهِمَا ولم يَتَعَيَّنْ وَلَا يَخْرُجُ عن عُهْدَتِهِ إلَّا بِالْجَمِيعِ قال وَلَا فَرْقَ في ذلك بين أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ وُجُوبًا أو كَرَاهَةً وَلَوْ لم يَقُمْ دَلِيلٌ على تَعْيِينِ الْقُرْءِ لِلطُّهْرِ عِنْدَ من يَرَاهُ وَلَا على تَعْيِينِهِ لِلْحَيْضِ عِنْدَ من يَرَاهُ لَوَجَبَ أَنْ تَتَرَبَّصَ الْمَرْأَةُ مِنْهُمَا جميعا لِأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ تَعْلِيقُ الْوُجُوبِ بِالْقُرْءِ وَإِنَّمَا الْمُبْهَمُ تَعَيُّنُ الْمُرَادِ مِنْهُمَا وَلَا يَخْرُجُ عن عُهْدَةِ وُجُوبِ التَّرَبُّصِ وَالْحَلِّ لِلْأَزْوَاجِ إلَّا بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ أَقُولُ إنْ صَحَّ أَنَّ الشَّفَقَ مُشْتَرَكٌ بين الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ ولم يَقُمْ دَلِيلٌ على تَعْيِينِ أَحَدِهِمَا لِلْإِرَادَةِ وَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاةُ الْعِشَاءِ إلَّا بَعْدَ غَيْبُوبَةِ آخِرِهِمَا وهو الْبَيَاضُ وَمَنْ رَجَّحَ الْحَمْلَ على أَحَدِهِمَا فَلَا بُدَّ له من دَلِيلٍ يَدُلُّ على تَعَيُّنِهِ لِلْإِرَادَةِ بِخُصُوصِهِ فَإِنْ قُلْت قد ذُكِرَ أَنَّهُ يُعْمَلُ على تَقْدِيرِ الِاشْتِرَاكِ بِالْأَمْرَيْنِ مع أَنَّ عَدَمَ تَعَيُّنِ الْمُرَادِ يُوجِبُ الْإِجْمَالَ وَالْإِجْمَالُ يُوجِبُ التَّوَقُّفَ وَذَلِكَ خِلَافُ ما قُلْت قُلْت هذا صَحِيحٌ إذَا لم يَكُنْ تَعَلُّقُ الْمُبَيَّنِ من وَجْهٍ كما لو قال ائْتِنِي بِعَيْنٍ وَأَمَّا إذَا كان مُبَيَّنًا من وَجْهٍ كَالنَّهْيِ عن الْقَزْعِ مَثَلًا وكان الِامْتِثَالُ مُمْكِنًا فإنه يَتَعَيَّنُ الْخُرُوجُ عن الْعُهْدَةِ في التَّكْلِيفِ الْمُبَيَّنِ وَذَلِكَ مُمْكِنٌ بِالْعَمَلِ في الْأَمْرَيْنِ وَصَارَ هذا كَقَوْلِ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ في الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ أَنَّهُ يُخْتَنُ في فَرْجَيْهِ مَعًا وَالْخِتَانُ إنَّمَا هو في فَرْجٍ فَأَحَدُ الْفَرْجَيْنِ خَتْنُهُ وَالْآخَرُ خَتْنُهُ وَلَمَّا كان وُجُوبُ الْخِتَانِ أَمْرًا مُبِينًا لَا إجْمَالَ فيه وَالْخُرُوجُ عن الْعُهْدَةِ مُمْكِنٌ بِالْخِتَانِ فِيهِمَا أَوْجَبُوهُ قُلْت وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ من الطَّرِيقِ الْأُولَى أَنَّهُ كَالْعَامِّ حَقِيقَةً كَيْفَ وَأَفْرَادُهُ مَحْصُورَةٌ وقد حَمَلُوهُ على مَفْهُومِيَّةِ حَالَةِ الْإِفْرَادِ من غَيْرِ تَعْرِيفٍ وَلَا إضَافَةٍ بَلْ أَجْرَوْهُ في الْأَفْعَالِ حَيْثُ مَثَّلُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ وَقَوْلِهِ أو لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ وَمَعْلُومُ الْفِعْلِ لَا عُمُومَ له
____________________
(1/502)
التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ أَنَّ الْقُرْءَ على الصَّحِيحِ مُشْتَرَكٌ بين الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ في كل قُرْءٍ طَلْقَةً طَلُقَتْ في كل قُرْءٍ طَلْقَةً وقد يُقَالُ لَا طَلُقَتْ في الطُّهْرِ وَاحِدَةً وفي الْحَيْضِ أُخْرَى حَمْلًا لِلْمُشْتَرَكِ على مَعْنَيَيْهِ وَجَوَابُهُ أَنَّ قَصْدَ الْمُطَلِّقِ بِتَفْرِيقِ الطَّلَاقِ أَنْ لَا يَقَعَ في بِدْعَةٍ وهو جَمْعُ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ فَلَا تُوقِعُهُ في بِدْعَةٍ أَشَدَّ منها وهو الْوُقُوعُ في الْحَيْضِ وَلِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ على مُقَيَّدِ الشَّرْعِ الْمَوْطِنُ الثَّانِي في اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ في حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مِثْلَ أَنْ يُطْلِقَ النِّكَاحَ وَيُرِيدَ بِهِ الْعَقْدَ وَالْوَطْءَ جميعا وَفِيهِ الْحَالَانِ السَّابِقَانِ من الِاسْتِعْمَالِ وَالْحَمْلِ أَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَفِيهِ مَذَاهِبُ أَحَدُهَا وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا كما قَالَهُ النَّوَوِيُّ في بَابِ الْأَيْمَانِ من الرَّوْضَةِ جَوَازُ إرَادَةِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَكَأَنَّ الرَّافِعِيَّ لم يَقِفْ على النَّقْلِ عِنْدَنَا في ذلك فقال اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ في الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مُسْتَبْعَدٌ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ وهو قَوْلُ الْقَاضِي صَرَّحَ بِهِ في كِتَابِ التَّقْرِيبِ وَغَلِطَ من نَقَلَ عنه الْمَنْعَ وَإِنَّمَا مَنَعَ الْحَمْلَ لَا الِاسْتِعْمَالَ كما سَنُحَقِّقُهُ عنه وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَجَرَى على مِنْوَالٍ وَاحِدٍ فَجَوَّزَ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ في حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ وَحَمَلَهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَيْهِمَا وَأَخْرَجَ ابن الرِّفْعَةِ نَصَّهُ على ذلك في الْأُمِّ عِنْدَ الْكَلَامِ فِيمَا إذَا عَقَدَ لِرَجُلَيْنِ على امْرَأَةٍ ولم يَعْلَمْ السَّابِقَ مِنْهُمَا ذَكَرَ ذلك في بَابِ الْوَصِيَّةِ من الْمَطْلَبِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ إنَّهُ ظَاهِرُ اخْتِيَارِ الشَّافِعِيِّ فإنه قال في مُفَاوَضَةٍ له في آيَةِ اللَّمْسِ هِيَ مَحْمُولَةٌ على الْجَسِّ بِالْيَدِ حَقِيقَةً وَعَلَى الْوِقَاعِ مَجَازًا قُلْت وَكَذَلِكَ نَصُّهُ في قَوْله تَعَالَى لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى فإنه احْتَجَّ بِهِ على جَوَازِ الْعُبُورِ في الْمَسْجِدِ لِقَوْلِهِ إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ وقال أَرَادَ مَوَاضِعَ الصَّلَاةِ وَحَمَلَ اللَّفْظَ على الصَّلَاةِ وَعَلَى مَوَاضِعِهَا وَدَلَّ على الصَّلَاةِ قَوْلُهُ حتى تَعْلَمُوا وَعَلَى مَوَاضِعِهَا قَوْلُهُ إلَّا عَابِرِي
____________________
(1/503)
سَبِيلٍ فَحُمِلَ اللَّفْظُ على حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ وَأَمَّا نَصُّهُ في الْبُوَيْطِيِّ على أَنَّهُ لو أَوْصَى لِمَوَالِيهِ وَلَهُ عُتَقَاءُ وَلَهُمْ عُتَقَاءُ أنها تَخْتَصُّ بِالْأَوَّلِينَ مع أَنَّهُمْ مَوَالِيهِ وَالْآخَرُونَ مَجَازًا بِالسَّبَبِيَّةِ وَكَذَلِكَ لو وَقَفَ على أَوْلَادِهِ لم يَدْخُلْ وَلَدُ الْوَلَدِ على الْأَصَحِّ فَلَيْسَ ذلك لِأَجْلِ مَنْعِ الْجَمْعِ بين الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بَلْ لِأَنَّ مَسْأَلَتَنَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالْقَرِينَةُ هُنَا عَيَّنَتْ الْحَقِيقَةَ أَمَّا الْأُولَى فَلِأَنَّ وَلَاءَ مَوَالِيهِمْ لهم دُونَهُ أَمَّا الثَّانِيَةُ قال الْغَزَالِيُّ وَالتَّعْمِيمُ بين الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَقْرَبُ منه بين حَقِيقَتَيْنِ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي وهو قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَاخْتَارَهُ من أَصْحَابِنَا ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ وابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ عن أبي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَالْكَرْخِيِّ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ أَصْلٌ وَالْمَجَازَ مُسْتَعَارٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمَا كما لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُ الثَّوْبِ على اللَّابِسِ مِلْكًا وَعَارِيَّةً في وَقْتٍ وَاحِدٍ وَنَقَضَ ابن السَّمْعَانِيِّ عليهم بِقَوْلِهِمْ لو حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ في الدَّارِ فَدَخَلَ رَاكِبًا وَمَاشِيًا حَنِثَ قال تَنَاوَلَ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ قال لو قال الْيَوْمَ الذي يَدْخُلُ فُلَانٌ الدَّارَ فَعَبْدُهُ حُرٌّ فَدَخَلَ لَيْلًا وَنَهَارًا حَنِثَ وَقَالُوا في السِّيَرِ الْكَبِيرِ لو أَخَذَ الْأَمَانَ لِبَنِيهِ دخل بَنُوهُ وَبَنُو بَنِيهِ وَالظَّاهِرُ من مَذْهَبِنَا في الْأُولَى عَدَمُ الْحِنْثِ لِأَنَّهُ لَا قَرِينَةَ على إرَادَةِ الْأَشْهَرِ فَخَالَفْنَا الْقَاعِدَةَ لِهَذَا وفي الثَّانِيَةِ مُوَافَقَتُهُمْ لِأَنَّهُ نَقَلَ الرَّافِعِيُّ عن التَّتِمَّةِ لو قال أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ طَلُقَتْ في الْحَالِ وَإِنْ كان بِاللَّيْلِ وَيَلْغُوا الْيَوْمُ لِأَنَّهُ لم يُعَلِّقْ وَإِنَّمَا سَمَّى الْوَقْتَ بِغَيْرِ اسْمِهِ وفي الثَّالِثَةِ عَدَمُ الدُّخُولِ كما في الْوَقْفِ على الْأَوْلَادِ ولم يُحَكِّمُوا بَقِيَّةَ الْمَذَاهِبِ السَّابِقَةِ في الْحَقِيقَتَيْنِ وَلَا يَبْعُدُ مَجِيئُهَا وَأَمَّا الْحَمْلُ فَالْمَنْقُولُ عن الشَّافِعِيِّ الْجَوَازُ طَرْدًا لِأَصْلِهِ هُنَاكَ وَأَمَّا الْقَاضِي أبو بَكْرٍ فَسَبَقَ عنه هُنَاكَ الْإِجْمَالُ وَأَنَّهُ لَا يُحْمَلُ إلَّا بِقَرِينَةٍ وَأَمَّا هَاهُنَا فقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ وقد عَظُمَ نَكِيرُ الْقَاضِي على من يَرَى الْحَمْلَ على الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعًا وقال في تَحْقِيقِ إنْكَارِهِ اللَّفْظَةُ إنَّمَا تَكُونُ حَقِيقَةً إذَا انْطَبَقَتْ على ما وُضِعَتْ له في أَصْلِ اللِّسَانِ وَإِنَّمَا تَصِيرُ مَجَازًا إذَا تُجُوِّزَ بها عن مُقْتَضَى الْوَضْعِ وَيَحِيلُ الْجَمْعُ بين الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مُحَالَ الْجَمْعِ بين النَّقِيضَيْنِ قُلْت من هُنَا نُقِلَ عن الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ حَقِيقَتُهُ وَمَجَازُهُ مَعًا كما يَلْزَمُ منه في الْجَمْعِ بين النَّقِيضَيْنِ ولم يُرِدْ الْقَاضِي ذلك وقد صَرَّحَ في التَّقْرِيبِ بِجَوَازِ الْإِرَادَةِ وَإِنَّمَا الذي مَنَعَهُ الْحَمْلُ عَلَيْهِمَا
____________________
(1/504)
قال الْإِمَامُ وَقَوْلُ الْقَاضِي هو جَمْعٌ بين النَّقِيضَيْنِ يَرْجِعُ إلَى اشْتِقَاقِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وقال الْمَازِرِيُّ في شَرْحِ التَّلْقِينِ اسْتَدْرَكَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ على الْقَاضِي هذا وقال إنَّمَا يُمْنَعُ في حَقِّ من خَطَرَ بِبَالِهِ من الْمَخْلُوقِينَ في خِطَابِهِ حَقِيقَةُ الْحَقِيقَةِ وَحَقِيقَةُ الْمَجَازِ وَأَمَّا إذَا كان الْقَصْدُ إرْسَالَ اللَّفْظَةِ على جَمِيعِ ما تُطْلَقُ عليه دُونَ الْقَصْدِ إلَى حَقَائِقَ أو مَجَازٍ فإن هذا يَصِحُّ دَعْوَى الْعُمُومِ فيه وَحَقَّقَ ابن الْقُشَيْرِيّ مَذْهَبَ الْقَاضِي فقال وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُطْلِقَ الْمُطْلِقُ لَفْظَ اللَّمْسِ وَيُرِيدُ بِهِ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ فيقول اللَّمْسُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وهو يَعْنِيهِمَا وقد صَرَّحَ بِتَجْوِيزِهِ في بَعْضِ كُتُبِهِ قال الْقَاضِي وفي هذا أَصْلٌ يَدِقُّ على الْفَهْمِ وهو أَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ لو خَطَرَ له أَنْ يَسْتَعْمِلَ اللَّفْظَ حَقِيقَةً وَيَسْتَعْمِلَهُ مَجَازًا لم يُتَصَوَّرْ الْجَمْعُ بين الْمَعْنَيَيْنِ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ تَقْتَضِي قَصْرَهَا وَالتَّجَوُّزَ يَقْتَضِي تَعْدِيَتَهَا عن أَصْلِ وَضْعِهَا وَأَمَّا من أَرَادَ بِاللَّفْظِ الْمُسَمَّيَيْنِ من غَيْرِ تَعَرُّضِ الِاسْتِعْمَالِ حَقِيقَةً وَتَجَوُّزًا فَهَذَا هو الْجَائِزُ قال ابن الْقُشَيْرِيّ يَعْنِي بهذا أَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا في شَيْءٍ وَاحِدٍ حتى يَكُونَ الْأَسَدُ في الْبَهِيمِيَّةِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا وَأَيْضًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ هذا اللَّفْظُ حَقِيقَةً من غَيْرِ تَعْدِيَةٍ في حَالِ ما تُرِيدُ أَنْ تَسْتَعْمِلَهُ مَجَازًا مع التَّعْدِيَةِ فإنه مُتَنَاقِضٌ قال وما أَوْهَمَهُ كَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ من أَنَّ لِلْقَاضِي خِلَافًا في الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ وَهْمٌ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بهذا الذي ذَكَرْنَاهُ فقال كُلُّ لَفَظَّةٍ تُنْبِئُ عن مَعْنَيَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَلَا تَجُوزُ إرَادَتُهُمَا بِاللَّفْظَةِ الْوَاحِدَةِ كَلَفْظِ افْعَلْ عِنْدَ مُنْكِرِي الصِّيغَةِ مُتَرَدِّدًا بين الْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ وَالنَّهْيِ فَلَا يَصِحُّ إرَادَةُ هذه الْمَعَانِي بِاللَّفْظَةِ الْوَاحِدَةِ لِتَنَاقُضِهَا قُلْت هذا إنَّمَا قَالَهُ الْقَاضِي شَرْطًا لِلْجِوَارِ وهو أَنَّهُ حَيْثُ يَصِحُّ الْجَمْعُ كما اشْتَرَطَ ذلك في الْحَقِيقَتَيْنِ لَا مَنْعَ الْإِرَادَةِ مُطْلَقًا وقال في التَّقْرِيبِ وَلَخَّصَهُ الْإِمَامُ في التَّلْخِيصِ اعْلَمْ أَنَّ إرَادَةَ الْجَمْعِ إنَّمَا تَصِحُّ مِمَّنْ لَا يَخْطِرُ له التَّعَرُّضُ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَلَكِنْ يَقْتَصِرُ على إرَادَةِ الْمُسْلِمِينَ من غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِوَجْهِ الِاسْتِعْمَالِ حَقِيقَةً وَتَجَوُّزًا وفي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ صَارَ إلَيْهِ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ أَنَّهُ يُحْمَلُ على الْحَقِيقَةِ خَاصَّةً لِأَنَّهَا الْأَصْلُ وَرَابِعٌ حَكَاهُ الْقَاضِي أَيْضًا أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ فيه حتى يَبِينَ الْمُرَادُ
____________________
(1/505)
تَنْبِيهَاتٌ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ إذَا قُلْنَا بِالْحَمْلِ في هذه الْحَالَةِ فَإِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ قِيَامِ قَرِينَةِ الْمَجَازِ لَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ كما اقْتَضَاهُ كَلَامُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ إذْ قال وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ على الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ إذَا تَسَاوَيَا في الِاسْتِعْمَالِ لَكِنْ إذَا عَرِيَ عن عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ لم يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ على الْمَجَازِ إلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ على أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ وَقِيَامُ الدَّلَالَةِ على إرَادَةِ الْمَجَازِ لَا يَنْفِي عن اللَّفْظِ إرَادَةَ الْحَقِيقَةِ هذا لَفْظُهُ وهو الْحَقُّ قال وَالْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ في اللَّفْظِ الذي اشْتَرَكَ في عُرْفِ اسْتِعْمَالِهِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ مَعًا وقال ابن حَاتِمٍ الْأَزْدِيُّ صَاحِبُ الْقَاضِي إذَا كان اللَّفْظُ مَوْضُوعًا حَقِيقَةً لِشَيْءٍ وَمَجَازًا لِغَيْرِهِ ثُمَّ وَرَدَ هل يُحْمَلُ على الْحَقِيقَةِ مُطْلَقًا وَبِالْقَرِينَةِ على الْمَجَازِ أَمْ تَتَوَقَّفُ الدَّلَالَةُ وَلَا يُحْمَلُ على وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا بِدَلِيلٍ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه فَمِنْهُمْ من قال يُحْمَلُ على الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَمِنْهُمْ من قال لَا يُصْرَفُ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا بِدَلِيلٍ ا هـ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَاللَّفْظُ وَالْحَالَةُ هذه حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ بِاعْتِبَارَيْنِ وَزَعَمَ ابن الْحَاجِبِ أَنَّ اللَّفْظَ حِينَئِذٍ مَجَازٌ قَطْعًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ اسْتِعْمَالٌ في غَيْرِ ما وُضِعَ له وَحَكَاهُ ابن عبد السَّلَامِ في كِتَابِ الْمَجَازِ عن بَعْضِهِمْ وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْخِلَافُ في هذه الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هو إذَا ظَهَرَ قَصْدُ الْمَجَازِ بِقَرِينَةٍ مع السُّكُوتِ عن الْحَقِيقَةِ أو قَصْدُهُمَا مَعًا أَمَّا إذَا قَصَدَ الْحَقِيقَةَ فَقَطْ فَالْحَمْلُ عليها فَقَطْ بِلَا نِزَاعٍ أو الْمَجَازَ فَقَطْ اخْتَصَّ بِهِ بِلَا نِزَاعٍ وَإِنْ لم يَظْهَرْ قَصْدٌ فَلَا مَدْخَلَ لِلْحَمْلِ على الْمَجَازِ فإن اللَّفْظَ إنَّمَا يُحْمَلُ على مَجَازِهِ بِقَرِينَةٍ وَلِهَذَا قالوا فِيمَا إذَا قال وَقَفْتُ على أَوْلَادِي وَنَظَائِرُهُ أَنَّهُ لَا يُدْخِلُ أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ على الصَّحِيحِ وَنَظِيرُهُ ما لو أَوْصَى لِإِخْوَةِ فُلَانٍ وَكَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا إخْوَةً وَأَخَوَاتٍ قال الْإِمَامُ في بَابِ الْوَصِيَّةِ من النِّهَايَةِ مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْوَصِيَّةِ الْإِخْوَةُ دُونَ الْأَخَوَاتِ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لِلْجَمِيعِ
____________________
(1/506)
وَكَذَا كَلَامُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ السَّابِقُ وقد أَفَادَ حَالَةً أُخْرَى وَهِيَ ما إذَا تَسَاوَيَا في الِاسْتِعْمَالِ بِأَنْ يَكْثُرَ الْمَجَازُ كَثْرَةً تُوَازِي الْحَقِيقَةَ فَيَتَسَاوَيَانِ فِيهِمَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَيَحْصُلُ أَنَّ الصُّوَرَ أَرْبَعٌ أَحَدُهُمَا أَنْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ على إرَادَةِ الْمَجَازِ مع السُّكُوتِ عن الْحَقِيقَةِ ثَانِيهَا أَنْ تَدُلَّ على إرَادَتِهِمَا جميعا ثَالِثُهَا أَنْ لَا تَكُونَ قَرِينَةٌ وَلَكِنْ لِلْمَجَازِ شُهْرَةٌ وَازَى بها الْحَقِيقَةَ وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ في الْكُلِّ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا الْحَمْلُ عليها رَابِعُهَا حَالَةُ الْإِطْلَاقِ مع عَدَمِ شُهْرَةِ الْمَجَازِ فَلَا يُحْمَلُ فِيهِمَا على الْمَجَازِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الْخِلَافَ مَدْفُوعٌ ما لم يَدُلَّ عليه دَلِيلٌ وإذا ضَمَمْت الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ إلَى الْمُشْتَرَكِ خَرَجَ منه مَذَاهِبُ ثَالِثُهَا التَّفْصِيلُ بين الْحَقِيقَتَيْنِ فَيَجُوزُ وَبَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَيَمْتَنِعُ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي وَتُفَارِقُ هذه الْحَالَةُ ما قَبْلَهَا على مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ يُحْمَلُ على مَعْنَيَيْهِ حَالَةَ الْإِطْلَاقِ وَالْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِمَا إلَّا إذَا سَاوَى الْمَجَازُ الْحَقِيقَةَ لِشُهْرَةٍ أو نَحْوِهِمَا كما تَقَدَّمَ وَرَابِعُهَا عَكْسُهُ وهو الْمَنْعُ في الْحَقِيقَتَيْنِ قَطْعًا وَتُرَدَّدُ في الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَإِلَيْهِ صَارَ الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى فإنه قَطَعَ بِالْجَمْعِ في الْحَقِيقَتَيْنِ ثُمَّ قال في الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ هو عِنْدَنَا كَالْمُشْتَرَكِ وَإِنْ كان التَّعْمِيمُ منه أَقْرَبَ قَلِيلًا التَّنْبِيهُ الثَّانِي احْتَجَّ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ لِلْجَمْعِ بين الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم صُبُّوا عليه ذَنُوبًا من مَاءٍ من جِهَةِ أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ تَوَجَّهَتْ إلَى صَبِّ الذَّنُوبِ وَالْقَدْرُ الذي يَغْمُرُ النَّجَاسَةَ وَاجِبٌ في إزَالَتِهَا فَتَنَاوُلُ الصِّيغَةِ لها اسْتِعْمَالٌ لِلَّفْظِ في الْحَقِيقَةِ وهو الْوُجُوبُ وَالزَّائِدُ على ذلك مُسْتَحَبٌّ فَتَنَاوُلُ الصِّيغَةِ له اسْتِعْمَالٌ في النَّدْبِ وهو مَجَازٌ فيه فَقَدْ اُسْتُعْمِلَتْ صِيغَةُ الْأَمْرِ في حَقِيقَتِهَا وَمَجَازِهَا وَذَكَرَ الْإِبْيَارِيُّ من فَوَائِدِ الْخِلَافِ أَنَّهُ هل يَصِحُّ أَنْ يُعَلَّقَ الْأَمْرُ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا على جِهَةِ الْوُجُوبِ وَالْآخَرُ على جِهَةِ النَّدْبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى
____________________
(1/507)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فإن أَتِمُّوا يَقْتَضِي وُجُوبَ إتْمَامِ الْحَجِّ وَاسْتِحْبَابَ إتْمَامِ الْعُمْرَةِ إنْ قُلْنَا بِعَدَمِ وُجُوبِهَا التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ احْتَجُّوا على الْحَقِيقَتَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ فإن الصَّلَاةَ من اللَّهِ الرَّحْمَةُ وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ الِاسْتِغْفَارُ وَاسْتَشْكَلَ ذلك بِأَنَّ الْفِعْلَ مُتَعَدِّدٌ لِتَعَدُّدِ الضَّمَائِرِ فَكَأَنَّهُ كَرَّرَ لَفْظَ يُصَلِّي فَلَا تَكُونُ الْآيَةُ من مَوْضِعِ النِّزَاعِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّعَدُّدَ بِحَسَبِ الْمَعْنَى لَا بِحَسَبِ اللَّفْظِ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ من بَابِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ في مَعْنَيَيْهِ لِأَنَّ سِيَاقَهَا إنَّمَا هو لِإِيجَابِ اقْتِدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ في الصَّلَاةِ على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَلَا بُدَّ من اتِّحَادِ مَعْنَى الصَّلَاةِ في الْجَمِيعِ لِأَنَّهُ لو قِيلَ إنَّ اللَّهَ يَرْحَمُ النبي وَالْمَلَائِكَةُ يَسْتَغْفِرُونَ له يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو اُدْعُوا له لَكَانَ رَكِيكًا فَلَا بُدَّ من اتِّحَادِ مَعْنَى الصَّلَاةِ إمَّا حَقِيقَةً أو مَجَازًا أَمَّا حَقِيقَةً فَالدُّعَاءُ إيصَالُ الْخَيْرِ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ومن لَوَازِمِهِ الرَّحْمَةُ ليس لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا وَأَمَّا مَجَازًا فَكَإِرَادَةِ الْخَيْرِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَلِيقُ بِالْمَقَامِ ثُمَّ إنْ اخْتَلَفَ ذلك الْمَعْنَيَانِ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْمَوْصُوفِ يَضُرُّ وَلَيْسَ من الِاشْتِرَاكِ بِحَسَبِ الْمَوْضِعَ وَكَذَلِكَ الِاحْتِجَاجُ بِآيَةِ السُّجُودِ ليس من هذا الْبَابِ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسُّجُودِ الِانْقِيَادَ في الْجَمِيعِ أو وَضْعَ الْجَبْهَةِ وَلَا يَسْتَحِيلُ في الْحَادِثِ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ حَاصِلَةٌ لِهَذَا الْمَوْطِنُ الثَّالِثُ في اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ في مَجَازَيْهِ إذَا خَرَجَتْ الْحَقِيقَةُ عن الْإِرَادَةِ مِثْلُ أَنْ تَقُولَ وَاَللَّهِ لَا أَشْتَرِي وَتُرِيدُ بِهِ السَّوْمَ وَشِرَاءَ الْوَكِيلِ وَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ صَرَّحَ بِهِ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَالْهِنْدِيُّ وَالْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ وَشُرِطَ لِلْجَوَازِ أَنْ لَا تَكُونَ تِلْكَ الْمَجَازَاتُ مُتَنَافِيَةً كَالتَّهْدِيدِ وَالْإِبَاحَةِ إذَا قُلْنَا إنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ حَقِيقَةٌ في الْإِيجَابِ مَجَازٌ في الْإِبَاحَةِ وَالتَّهْدِيدِ ولم يَتَعَرَّضْ الْجُمْهُورُ لِلْحَمْلِ في هذا الْمَوْطِنِ وَالْقِيَاسُ جَوَازُهُ إذَا تَسَاوَى الْمَجَازَانِ وَيَكُونُ من بَابِ الِاحْتِيَاطِ وَيَجِبُ هُنَا طَرْدُ قَوْلِ الْإِجْمَالِ في الْحَقِيقَتَيْنِ بَلْ أَوْلَى وَبِهِ صَرَّحَ في الْمَحْصُولِ في تَفَارِيعِ الْمَسْأَلَةِ قال
____________________
(1/508)
وَتَصِيرُ هذه اللَّفْظَةُ مُجْمَلَةً بِالنِّسْبَةِ لِلْمَجَازَاتِ ضَرُورَةً وَلَا يَجُوزُ الْحَمْلُ على جَمِيعِهَا بِنَاءً على امْتِنَاعِ حَمْلِ اللَّفْظِ على مَجْمُوعِ مَعَانِيهِ سَوَاءٌ كانت حَقِيقِيَّةً أو مَجَازِيَّةً وَبِهِ صَرَّحَ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ في بَابِ الْمُجْمَلِ مع أَنَّهُمَا هُنَا رَجَّحَا خِلَافَهُ في الْحَقِيقَتَيْنِ وَالْإِمَامُ مَشَى على مِنْوَالٍ وَاحِدٍ حَيْثُ مَنَعَ في الْمَوْضِعَيْنِ وقال ابن الصَّبَّاغِ في أَوَاخِرِ الْعُدَّةِ وَبَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ إذَا كان الِاسْمُ له حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ وَوَرَدَ الْخِطَابُ بِهِ فإنه يُحْمَلُ على الْحَقِيقَةِ فَإِنْ قام دَلِيلٌ على أَنَّهُ لم يُرَدْ بِهِ الْحَقِيقَةُ نُظِرَ فَإِنْ كان له مَجَازٌ وَاحِدٌ حُمِلَ عليه وَإِنْ كان أَكْثَرَ نُظِرَ فَإِنْ كان مَحْصُورًا كَلَفْظِ الْأَمْرِ انْبَنَى على الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا فَإِنْ قُلْنَا لَا يَجُوزُ حَمْلُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ على مَعْنَيَيْنِ فَهَذَا أَوْلَى فَعَلَى هذا يَكُونُ اللَّفْظُ مُجْمَلًا وَإِنْ قُلْنَا يَجُوزُ ثُمَّ نَظَرْت فَإِنْ كان بين الْمَعَانِي تَضَادٌّ وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ قال ابن عبد رَبِّهِ حُمِلَ على أَحَدِهِمَا على سَبِيلِ الْبَدَلِ قال الشَّارِحُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُحْمَلَ على وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا بِدَلِيلٍ إذْ ليس أَحَدُهُمَا أَوْلَى من الْآخَرِ وَإِنْ لم يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَضَادٌّ وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ فَهَلْ يُحْمَلُ على أَحَدِهِمَا أو على الْجَمِيعِ وَجْهَانِ وَإِنْ كان مَجَازُهُ غير مَحْصُورٍ كَلَفْظِ الدَّابَّةِ فَإِنْ دَلَّ على الْمُرَادِ بِهِ دَلِيلٌ صِرْنَا إلَيْهِ وَإِلَّا انْبَنَى على الْوَجْهَيْنِ في الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا مَسْأَلَةٌ مُفَرَّعَةٌ على امْتِنَاعِ الْجَمْعِ بين الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ الْخِطَابُ الذي له حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ وَمُوجِبُ الْمَجَازِ ثَابِتٌ في بَعْضِ الصُّوَرِ هل يَقْتَضِي إسْنَادُهُ إلَى ذلك الْمَجَازِ حتى يَكُونَ مُرَادًا من ذلك الْخِطَابِ وَيَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَحْتَمِلَ ذلك الْخِطَابُ على الْحَقِيقَةِ وَأَنْ لَا يَلْزَمَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ في حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ وهو بَاطِلٌ لِأَنَّا نُفَرِّعُ على هذه الْمَسْأَلَةِ أَمْ لَا يَقْتَضِي ذلك فَاخْتَارَ الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ وَالرَّازِيَّ في الْمَحْصُولِ أَنَّ مُوجِبَ الْمَجَازِ يَدُلُّ على أَنَّهُ مُرَادٌ بِالْخِطَابِ وَاخْتَارَ الْبَصْرِيُّ من الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ يَدُلُّ وَنُسِبَ إلَى الْكَرْخِيِّ مِثَالٌ لَفْظُ الْمُلَامَسَةِ حَقِيقَةٌ في الْجَسِّ بِالْيَدِ وهو مَجَازٌ في الْوِقَاعِ فَقَدْ ثَبَتَ مُوجِبُ الْمَجَازِ في قَوْله تَعَالَى أو لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ على وُجُوبِ التَّيَمُّمِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ وَثُبُوتُ مَعْنًى هَاهُنَا لَا يَدُلُّ على أَنَّهُ مُرَادٌ بِالْخِطَابِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا تَكُونَ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً بِالْخِطَابِ على ما بَيَّنَّا فَصَارَ النِّزَاعُ في أَنَّ ثُبُوتَ مُوجِبِ الْمَجَازِ
____________________
(1/509)
في صُورَةٍ من الصُّوَرِ يَمْنَعُ إجْرَاءَ الْخِطَابِ على حَقِيقَتِهِ على رَأْيٍ وَلَا يُمْنَعُ على الْآخَرِ وَأَوْضَحَهُمَا الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ في الْعُمْدَةِ فقال اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالدَّلِيلِ فَإِنْ كان لَفْظُ النَّصِّ يَتَنَاوَلُهُ على الْحَقِيقَةِ قَطَعْنَا بِأَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ إنْ لم يَمْنَعْ منه دَلِيلٌ وَإِنْ كان لَفْظُ النَّصِّ يَتَنَاوَلُهُ على جِهَةِ الْمَجَازِ لم يَجِبْ أَنْ نَقْطَعَ بِذَلِكَ إلَّا بِدَلِيلٍ فَإِنْ دَلَّ عليه دَلِيلٌ قُضِيَ بِهِ وَإِلَّا حُكِمَ بِثُبُوتِهِ بِالدَّلِيلِ الذي أَوْجَبَ ذلك مِثَالُهُ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ إقَامَتُهَا وكان قَوْله تَعَالَى وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ يَتَنَاوَلُهَا على الْحَقِيقَةِ قُطِعَ بِأَنَّهَا مُرَادَةٌ وإذا ثَبَتَ أَنَّهُ يَجِبُ على الْمُصَلِّي أَنْ يُصَلِّيَ على مُحَمَّدٍ وَآلِهِ في التَّشَهُّدِ كان قَوْلُنَا صَلَاةٌ يَتَنَاوَلُهَا على جِهَةِ الْمَجَازِ لم يَجِبْ أَنْ يَكُونَ ذلك مُرَادًا بِقَوْلِهِ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَإِلَّا أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ سِوَى ذلك ثَابِتُ وُجُوبِهِ يَدُلُّ على أَنَّهُ قد أُرِيدَ ذلك وَلِهَذَا لم يَصِحَّ عِنْدَنَا إبْطَالُ ما يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ إنَّ اللَّمْسَ هو بِالْيَدِ بِأَنْ يُقَالَ قد ثَبَتَ أَنَّ الْجِمَاعَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ وهو النَّقْضُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بها وإذا صَارَ مُرَادًا بها بَطَلَ أو يُرَادُ بها اللَّمْسُ بِالْيَدِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ كَوْنَ الْجِمَاعِ مُرَادًا لَا يَمْنَعُ كَوْنَ اللَّمْسِ مُرَادًا وَالثَّانِي أَنَّ ثُبُوتَ هذا الْحُكْمِ لِلْجِمَاعِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْأَمْرِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ في قَوْله تَعَالَى وَلَا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آبَاؤُكُمْ أَنَّ ثُبُوتَ الْوَطْءِ مُرَادٌ بِهِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْعَقْدِ مُرَادًا بِهِ تَنْبِيهٌ حَمْلُ الْمُتَوَاطِئِ على مَعَانِيهِ وَأَمَّا الْمُتَوَاطِئُ فَهَلْ يُحْمَلُ على مَعَانِيهِ قال الْأَصْفَهَانِيُّ في قَوَاعِدِهِ لَا عُمُومَ فيه إجْمَاعًا وَصَرَّحَ في الْمَحْصُولِ في بَابِ الْمُجْمَلِ بِأَنَّهُ مُجْمَلٌ وَأَلْحَقَهُ بِالْمُشْتَرَكِ على رَأْيِهِ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَآتُوا حَقَّهُ يوم حَصَادِهِ وَأَمَّا الْمُشَكَّكُ فقال ابن الصَّائِغِ النَّحْوِيُّ في شَرْحِ الْجُمَلِ من جَوَّزَ ذلك في الْمُشْتَرَكِ رُبَّمَا يُجَوِّزُهُ في الْمُشَكَّكِ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ لِأَنَّ أَفْرَادَهُ مُتَفَاوِتَةٌ فَيَنْبَغِي الْحَمْلُ على الْأَقْوَى رِعَايَةً لِتِلْكَ الْأَوْلَوِيَّةِ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَكِ فَإِنَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ قَلَّ من تَعَرَّضَ لَهُمَا
____________________
(1/510)
مَسْأَلَةٌ اتِّفَاقُ اللَّفْظَيْنِ وَاخْتِلَافُ الْمَعْنَيَيْنِ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَقْسَامَ أَرْبَعَةٌ اخْتِلَافُ اللَّفْظَيْنِ لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ وهو الْقِيَاسُ الذي يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عليه الْأَلْفَاظُ لِأَنَّ بِذَلِكَ تَنْفَصِلُ الْمَعَانِي وَلَا تَلْتَبِسُ وَاخْتِلَافُ اللَّفْظَيْنِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وهو التَّرَادُفُ وَعَكْسُهُ الِاشْتِرَاكُ وَبَقِيَ قِسْمٌ آخَرُ أَهْمَلَهُ الْأُصُولِيُّونَ وهو اتِّفَاقُ اللَّفْظَيْنِ وَاخْتِلَافُ الْمَعْنَيَيْنِ وهو بَابُ الْأَضْدَادِ قال أبو مُحَمَّدِ بن الْخَشَّابِ في بَعْضِ مُؤَلَّفَاتِهِ الضِّدُّ مَعْنَاهُ الْمِلْءُ يُقَالُ ضَدَدْت الْإِنَاءَ أَضُدُّهُ ضَدًّا إذَا مَلَأْتُهُ فإن كُلَّ وَاحِدٍ من الضِّدَّيْنِ يَشْغَلُهُ الْحَيِّزُ عن الْآخَرِ قد مُلِئَ دُونَهُ قال وقد صَنَّفَ اللُّغَوِيُّونَ فيها كُتُبًا كَالْأَصْمَعِيِّ وَغَيْرِهِ وَأَحْسَنُ من جاء بَعْدَهُ أبو بَكْرِ بن مُحَمَّدِ بن الْقَاسِمِ الْأَنْبَارِيُّ وَمِمَّنْ أَنْكَرَهُ أَحْمَدُ بن يحيى بن ثَعْلَبٍ ولم يُوَافِقْهُ الْأَكْثَرُونَ على مَذْهَبِهِ قال الْفَارِسِيُّ وَلَا خِلَافَ في أَنَّ اللَّفْظَةَ الْوَاحِدَةَ تَقَعُ لِلشَّيْءِ وَخِلَافِهِ كَوَجَدْت اُسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى غَضِبْتُ وَبِمَعْنَى حَزِنْتُ فإذا جَازَ ذلك جَازَ وُقُوعُهَا لِلشَّيْءِ وَضِدِّهِ لِكَوْنِ الضِّدِّ ضَرْبًا من الْخِلَافِ انْتَهَى هَكَذَا نَسَبَ ابن الْخَشَّابِ الْجَوَازَ لِلْأَكْثَرِينَ وقال أبو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ في كِتَابِ إفْسَادِ الْأَضْدَادِ ذَهَبَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَجَمِيعُ النَّحْوِيِّينَ الْمَوْثُوقُ بِعِلْمِهِمْ وَاَلَّذِي كان عليه شَيْخَا الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ محمد بن يَزِيدَ الْمُبَرَّدِ وَأَحْمَدُ بن يحيى بن ثَعْلَبٍ دَفْعُ أَنْ تَكُونَ الْعَرَبُ وَضَعَتْ اسْمًا وَاحِدًا لِلشَّيْءِ وَضِدِّهِ إلَّا ما وَضَعَتْ من أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ نحو لَوْنٍ فإنه لِمَعْنًى يَنْطَلِقُ على السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ يُطْلَقُ على الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وقال أبو الْفَتْحِ بن جِنِّي إنَّ الْأَضْدَادَ وَاقِعَةٌ في اللُّغَةِ لَكِنْ تَتَدَاخَلُ اللُّغَاتُ لَا أنها اجْتَمَعَتْ على وَضْعِهَا قَبِيلَةٌ وَاحِدَةٌ في وَقْتٍ وَاحِدٍ بَلْ قَبَائِلُ ثُمَّ فَشَتْ اللُّغَاتُ وَتَدَاخَلَتْ بِالْمُلَاقَاةِ وَالْمُجَاوَرَةِ فَنُقِلَتْ إلَى كُلٍّ لُغَةُ صَاحِبِهِ وَحَاوَلَ بَعْضُهُمْ ما جاء من ذلك على التَّوَاطُؤِ فيقول في الصَّرِيمِ إنَّمَا سُمِّيَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ صَرِيمًا لِانْصِرَامِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عن صَاحِبِهِ وَالضَّوْءُ وَالظُّلْمَةُ إنَّمَا سُمِّيَا سُدْفَةً من قَوْلِك أنا في سُدْفِك أَيْ مُسْتَتِرٌ بِك وَهَذَا في الظُّلْمَةِ وَاضِحٌ وفي الضَّوْءِ
____________________
(1/511)
لِأَنَّهَا تُقَالُ في الظُّلْمَةِ التي يُخَالِطُهَا مُقَدِّمَةُ ضَوْءٍ وَتَقُولُ في مِثْلِ الْجَلَلِ إنَّهُ الْعَظِيمُ بِحَقِّ الْإِثْبَاتِ وَعَلَى الصَّغِيرِ بِالسَّلْبِ كَقَوْلِهِمْ ب وَنَائِمٌ وَأَعْجَمْتُ الْكِتَابَ وَرَجُلٌ مُبَطَّنٌ أَيْ خَمِيصُ الْبَطْنِ فَعَلَى هذا الْقَوْلِ يَكُونُ اجْتِمَاعُ الْأَضْدَادِ في الشِّعْرِ إيطَاءً وقال ابن الْحَاجِّ الْإِشْبِيلِيُّ تِلْمِيذُ الشَّلَوْبِينَ الْحَقُّ أَنَّ التَّضَادَّ في اللُّغَةِ مَوْجُودٌ على ما صَوَّرْته من التَّدَاخُلِ وَلَعَمْرِي لقد كان يُمْكِنُ دُونَ تَدَاخُلٍ وَلَكِنْ بِتَوَاضُعٍ وَاحِدٍ وَلَكِنْ بِحَسَبِ قَصْدَيْنِ أو وَقْتَيْنِ وَإِنَّمَا الْمُحَالُ أَنْ يَقْصِدَ الْوَاضِعُ وَضْعَ لَفْظٍ لِمَعْنَيَيْنِ ضِدَّيْنِ أو غَيْرَيْنِ مُلْتَبِسًا لِذَلِكَ غير مُبَيِّنٍ له فإن ذلك يَقْتَضِي وَضْعَ اللُّغَةِ وَيُبْطِلُ حِكْمَةَ الْمُخَاطَبَةِ وقال ابن سِيدَهْ في الْمُخَصَّصِ أَمَّا في اتِّفَاقِ اللَّفْظَيْنِ وَاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ قَصْدًا في الْوَضْعِ وَلَا أَصْلًا لَكِنَّهُ من تَدَاخُلِ اللُّغَاتِ أو يَكُونُ لَفْظُهُ يُسْتَعْمَلُ لِمَعْنًى ثُمَّ يُسْتَعَارُ لِشَيْءٍ فَيَكْثُرُ وَيَغْلِبُ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْلِ قال الْفَارِسِيُّ وكان أَحَدُ شُيُوخِنَا يُنْكِرُ الْأَضْدَادَ التي حَكَاهَا أَهْلُ اللُّغَةِ وَأَنْ تَكُونَ لَفْظَةً لِشَيْءٍ وَضِدِّهِ وَالْقَوْلُ في ذلك أَنَّهُ لَا يَخْلُو إنْكَارُهُ لِذَلِكَ من حُجَّةٍ سَمَاعًا أو قِيَاسًا فَلَا حُجَّةَ له من جِهَةِ السَّمَاعِ بَلْ الْحُجَّةُ من هذه الْجِهَةِ في الْمُرَادِ عليه لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ كَأَبِي زَيْدٍ وَغَيْرِهِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيِّ وَمَنْ بَعْدَهُمْ قد حَكَوْا ذلك وَصَنَّفُوا فيه الْكُتُبَ فَإِنْ قال الْحُجَّةُ من الْجِهَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الضِّدَّ بِخِلَافِ ضِدِّهِ فإذا اشْتَرَكَتَا في لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ ولم يَخُصَّ كُلُّ وَاحِدٍ منها بِلَفْظٍ يَتَمَيَّزُ بِهِ أَلْبَسَ وَأَشْكَلَ فَصَارَ الضِّدُّ شَكْلًا وَالشَّكْلُ ضِدًّا وَهَذَا إلْبَاسٌ قِيلَ له هل يَجُوزُ عِنْدَك أَنْ يَجِيءَ في اللُّغَةِ لَفْظَانِ مُتَّفِقَانِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِنْ مَنَعَ ذلك فَقَدْ مَنَعَ ما ثَبَتَ جَوَازُهُ وَقَوْلُ الْعُلَمَاءِ له فإذا لم يَكُنْ سَبِيلٌ إلَى مَنْعِ هذا ثَبَتَ جَوَازُ اللَّفْظَةِ الْوَاحِدَةِ لِلشَّيْءِ وَخِلَافِهِ وإذا جَازَ وُقُوعُهَا لِلشَّيْءِ وَخِلَافِهِ جَازَ وُقُوعُهَا لِلشَّيْءِ وَضِدِّهِ إذْ الضِّدُّ ضَرْبٌ من الْخِلَافِ وَإِنْ لم يَكُنْ خِلَافٌ ضِدًّا قال وَيَدُلُّ على جِوَازِ وُقُوعِ اللَّفْظَةِ الْوَاحِدَةِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ قَوْله تَعَالَى في وَصْفِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لم يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ فَلَا يَكُونُ الطَّمَعُ هذا إلَّا بِمَعْنَى الْيَقِينِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ من الذي يُطْمَعُ فيه وَيَقَعُ خِلَافُهُ لِأَنَّهُ ليس في الْآخِرَةِ شَكٌّ وَكَذَا قَوْله تَعَالَى حِكَايَةٌ عن إبْرَاهِيمَ وَاَلَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لي خَطِيئَتِي يوم الدِّينِ فَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بِمَعْنَى الْعِلْمِ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ لَا يَشُكُّ في الْمَغْفِرَةِ انْتَهَى
____________________
(1/512)
مباحث الحقيقة والمجاز قال ابن فَارِسٍ الْحَقِيقَةُ من قَوْلِنَا حَقَّ الشَّيْءُ إذَا وَجَبَ وَاشْتِقَاقُهُ من الشَّيْءِ الْمُحَقِّ وهو الْمُحْكَمُ تَقُولُ ثَوْبٌ مُحَقَّقُ النَّسْجِ أَيْ مُحْكَمٌ وقال غَيْرُهُ اشْتِقَاقُهَا من الِاسْتِحْقَاقِ لَا من الْحَقِّ وَإِلَّا لَكَانَ الْمَجَازُ بَاطِلًا وَتُطْلَقُ الْحَقِيقَةُ وَيُرَادُ بها ذَاتُ الشَّيْءِ وَمَاهِيَّتُهُ كما يُقَالُ حَقِيقَةُ الْعَالِمِ من قام بِهِ الْعِلْمُ وَحَقِيقَةُ الْجَوْهَرِ الْمُتَمَيِّزُ وَهَذَا مَحَلُّ نَظَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ تُطْلَقُ بِمَعْنَى الْيَقِينِ وفي الحديث لَا يَبْلُغُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَلَيْسَ غَرَضَنَا هُنَا وَتُطْلَقُ وَيُرَادُ بها الْمُسْتَعْمَلُ في أَصْلِ ما وُضِعَتْ له في اللُّغَةِ وهو مُرَادُنَا وقد مَنَعَ قَوْمٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلُنَا حَقِيقَةً يَنْطَبِقُ على ما عَدَا هذا لِأَنَّ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ لَا يَصِحُّ إلَّا فِيمَا يَصِحُّ فيه الْمَجَازُ حَكَاهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَزَيَّفَهُ بِأَنَّ اللُّغَةَ لَا تَمْنَعُ وقد بَيَّنَّا لِلْحَقِيقَةِ فيها اسْتِعْمَالَاتٍ وَلِأَنَّ من الْكَلَامِ ما هو حَقِيقَةٌ وَإِنْ لم يَصِحَّ الْمَجَازُ فيه فَقَوْلُنَا الْمُسْتَعْمَلُ خَرَجَ بِهِ اللَّفْظُ قبل الِاسْتِعْمَالِ فَلَيْسَ بِحَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازٍ وَقَوْلُنَا ما وُضِعَ له أَخْرَجَ الْمَجَازَ إنْ قُلْنَا إنَّهُ ليس بِمَوْضُوعٍ فَإِنْ قُلْنَا مَوْضُوعٌ قُلْنَا وُضِعَ أَوَّلًا وَهَلْ إطْلَاقُهَا بهذا الِاصْطِلَاحِ حَقِيقَةٌ أو مَجَازٌ اخْتَلَفُوا فيه فَذَهَبَ الْإِمَامُ وَأَتْبَاعُهُ إلَى أَنَّهُ مَجَازٌ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ فَعِيلَةٌ من الْحَقِّ إمَّا بِمَعْنَى الْفَاعِلِ أَيْ الثَّابِتِ وَلِهَذَا دَخَلَتْ التَّاءُ وَإِمَّا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَيْ الْمُثْبَتِ وَعَلَى هذا فَدُخُولُ التَّاءِ فيها لِنَقْلِ الِاسْمِ من الْوَصْفِيَّةِ إلَى الِاسْمِيَّةِ الْمَحْضَةِ وَالْحَقُّ أنها إنْ كانت بِمَعْنَى الْفَاعِلِ فَهِيَ على بَابِهَا لِلتَّأْنِيثِ وَإِنْ كانت بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ فَيُحْتَمَلُ أنها لِلتَّأْنِيثِ وَالتَّاءُ لِنَقْلِ الِاسْمِيَّةِ وقال السَّكَّاكِيُّ هِيَ عِنْدِي لِلتَّأْنِيثِ في الْوَجْهَيْنِ لِتَقْدِيرِ لَفْظِ الْحَقِيقَةِ قبل الِاسْمِيَّةِ صِفَةَ مُؤَنَّثٍ غير مُجْرَاةٍ على الْمَوْصُوفِ وهو الْكَلِمَةُ ثُمَّ نُقِلَتْ إلَى الِاعْتِقَادِ الْمُطَابِقِ ثُمَّ من الِاعْتِقَادِ إلَى اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيمَا وُضِعَ له تَحْقِيقًا لِذَلِكَ الْوَضْعِ فَظَهَرَ أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْحَقِيقَةِ على هذا الْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ ليس حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً بَلْ مَجَازًا وَاقِعًا في الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ
____________________
(1/513)
وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ إطْلَاقُ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ وهو الذي يَظْهَرُ تَرْجِيحُهُ بهذا الْمَعْنَى وَيَدُلُّ عليه كَلَامُ أَهْلِ اللُّغَةِ قال ابن سِيدَهْ في الْمُحْكَمِ الْحَقِيقَةُ في اللُّغَةِ ما أُقِرَّ في الِاسْتِعْمَالِ على أَصْلِ وَضْعِهِ وَالْمَجَازُ بِخِلَافِ ذلك وَحَكَاهُ في الْمَحْصُولِ عن ابْنِ جِنِّي وقال إنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ لِخُرُوجِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ وهو غَيْرُ وَارِدٍ لِأَنَّ كَلَامَهُ كَالْمُصَرِّحِ بِأَنَّ الْمُرَادَ اللُّغَوِيَّةُ فَقَطْ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ لَفْظُ الْحَقِيقَةِ لَا الْمَعْنَى ثُمَّ تَعْدَادُ هذه الْمَرَاتِبِ وَجَعْلُهُ مَجَازًا في الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ وَلِمَ لَا يَكُونُ نُقِلَ من أَوَّلِ وَهْلَةٍ إلَى الْمَقْصُودِ وَالْعَلَاقَةُ مَوْجُودَةٌ ثُمَّ إنَّ دَعْوَى الْمَجَازِ في لَفْظَيْ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ إنَّمَا هو بِحَسَبِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ وَلَا إشْكَالَ في أنها صِفَتَانِ عُرْفِيَّتَانِ مَسْأَلَةٌ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ وَحُكْمُ الْحَقِيقَةِ وُجُوبُ الْعَمَلِ بها عِنْدَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ في حَقِيقَةٍ من غَيْرِ بَحْثٍ عن الْمَجَازِ وَادَّعَى بَعْضُهُمْ فيه الْإِجْمَاعَ وَأَنَّهُ لَا يَتَخَرَّجُ على الْخِلَافِ الْآتِي في الْعَامِّ من الْعَمَلِ بِهِ قبل الْبَحْثِ عن الْمُخَصَّصِ وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّ احْتِمَالَ وُجُودِ الْمُخَصَّصِ أَقْوَى إذْ ما من عَامٍّ إلَّا وقد تَطَرَّقَ إلَيْهِ التَّخْصِيصُ كما قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ لَكِنْ صَرَّحَ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّ الْمَسْأَلَتَيْنِ على السَّوَاءِ في جَرَيَانِ الْخِلَافِ وَيُقَوِّيهِ إذَا قُلْنَا إنَّ الْمَجَازَ غَالِبٌ في اللُّغَاتِ وقال سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ أَمَّا الْحَقَائِقُ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَا تُحْمَلُ على مُسَمَّيَاتِهَا حتى يُنْظَرَ هل هُنَاكَ ما يُعْدَلُ بِهِ عن الْحَقِيقَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهَا إذَا عُدِلَتْ عن مُقْتَضَاهَا حُمِلَتْ على الْمَجَازِ وَقِيلَ الْعُمُومُ إذَا حُمِلَ على الْخُصُوصِ لم يُحْمَلْ على الْمَجَازِ أَقْسَامُ الْحَقِيقَةِ وَتَنْقَسِمُ الْحَقِيقَةُ إلَى لُغَوِيَّةٍ وَعُرْفِيَّةٍ وَشَرْعِيَّةٍ لِأَنَّ الْوَضْعَ الْمُعْتَبَرَ فيه إمَّا وَضْعُ اللُّغَةِ وَهِيَ اللُّغَوِيَّةُ كَالْأَسَدِ لِلْحَيَوَانِ الْمُفْتَرِسِ أَوَّلًا وهو إمَّا وَضْعُ الشَّارِعِ وَهِيَ الشَّرْعِيَّةُ كَالصَّلَاةِ لِلْأَرْكَانِ وقد كانت في اللُّغَةِ لِلدُّعَاءِ أَوَّلًا وَهِيَ الْعُرْفِيَّةُ الْمَنْقُولَةُ عن مَوْضِعِهَا الْأَصْلِيِّ إلَى غَيْرِهِ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ وَلْتَتَنَبَّهْ لِأَمْرَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّ اللُّغَوِيَّةَ أَصْلُ الْكُلِّ فَالْعُرْفُ نَقَلَهَا عن اللُّغَةِ إلَى الْعُرْفِ وَالشَّرْعُ نَقَلَهَا عن اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ
____________________
(1/514)
الثَّانِي أَنَّ الْوَضْعَ في اللُّغَوِيَّةِ غَيْرُ الْوَضْعِ في الشَّرْعِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ فإنه في اللُّغَةِ تَعْلِيقُ اللَّفْظِ بِإِزَاءِ مَعْنًى لم يُعْرَفْ بِهِ غَيْرُ ذلك الْوَضْعِ وَأَمَّا في الشَّرْعِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ فَبِمَعْنَى غَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ دُونَ الْمَعْنَى السَّابِقِ فإنه لم يُنْقَلْ عن الشَّارِعِ أَنَّهُ وَضَعَ لَفْظَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ بِإِزَاءِ مَعَانِيهَا الشَّرْعِيَّةِ بَلْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الشَّارِعِ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِإِزَاءِ تِلْكَ الْمَعَانِي حَيْثُ صَارَتْ الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ مَهْجُورَةً وَكَذَلِكَ الْعُرْفُ فإن أَهْلَهُ لم يَضَعُوا لَفْظَ الْقَارُورَةِ مَثَلًا لِلظَّرْفِ من الزُّجَاجِ على جِهَةِ الِاصْطِلَاحِ كما أَنَّ الشَّرْعَ لم يَضَعْ لَفْظَ الزَّكَاةِ لِقَطْعِ طَائِفَةٍ من الْمَالِ لِلْفُقَرَاءِ بَلْ صَارَتْ هذه الْأَلْفَاظُ شَرْعِيَّةً وَعُرْفِيَّةً بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ دُونَ أَنْ يَسْبِقَهُ تَعْرِيفٌ بِتَوَاضُعِ الِاسْمِ وَمِنْ هَاهُنَا مَنَعَ بَعْضُهُمْ إدْخَالَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ في الْحَدِّ لِاخْتِلَافِ مَعْنَى الْوَضْعِ فيها فإن الِاصْطِلَاحَ غَيْرُ غَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَإِنْ خَصَصْنَا الْوَضْعَ بِالِاصْطِلَاحِ خَرَجَتْ الْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْعُرْفِيَّةُ وَإِنْ لم نَخُصَّهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا وَالْحُدُودُ تُصَانُ عنه فَيَنْبَغِي إفْرَادُهَا بِحَدٍّ كَأَنْ يُقَالَ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ في الِاصْطِلَاحِ الذي يَقَعُ بِهِ التَّخَاطُبُ لَكِنْ هذه مُضَايَقَةٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهَا بَلْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ لِلشَّرْعِ وَضْعًا كَاللُّغَةِ فإن الْوَضْعَ تَعْلِيقُ لَفْظٍ بِإِزَاءِ مَعْنًى وهو يَشْمَلُهُمَا لَكِنْ يَخْتَلِفَانِ في سَبَبِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ فَفِي اللُّغَةِ إعْلَامُ الْغَيْرِ بِأَنَّهُ وُضِعَ لِذَلِكَ وفي الشَّرْعِ بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ لِيَرْفَعَ الْوَضْعَ السَّابِقَ إنْ كان وإذا عَلِمْت هذا فَلْنَتَكَلَّمْ على هذه الْأَقْسَامِ فَنَقُولُ أَمَّا اللُّغَوِيَّةُ فَهِيَ التي عليها جُلُّ الشَّرِيعَةِ عِنْدَ قَوْمٍ وَهُمْ الْمُثْبِتُونَ لِلنَّقْلِ الشَّرْعِيِّ وَالْعُرْفِيِّ أو كُلُّهَا عِنْدَ آخَرِينَ وَهُمْ النَّافُونَ له فَيَقُولُونَ إنَّ جَمِيعَ ما وَرَدَ في الشَّرْعِ بِحُرُوفِ اللُّغَةِ وَنَظْمِهَا وَالْمَقْصُودُ بِهِ من نُطْقِ الشَّرْعِ هو الْمَقْصُودُ عِنْدَهُمْ ثُمَّ لَا خِلَافَ في إمْكَانِهَا وَوُقُوعِهَا في الْمَعْنَى الْوَاحِدِ وَأَمَّا الْمُفِيدُ لِلشَّيْءِ وَخِلَافِهِ على طَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ فَمَنَعَهُ قَوْمٌ وقد سَبَقَتْ في مَبَاحِثِ الِاشْتِرَاكِ وقال بَعْضُهُمْ يُمْكِنُ النِّزَاعُ في الْحَقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ بِأَنْ يُقَالَ إنَّهَا انْتَسَخَتْ وَصَارَتْ الْأَلْفَاظُ بِأَسْرِهَا شَرْعِيَّةً أو عُرْفِيَّةً لِكَثْرَةِ النَّقْلِ وَالتَّغْيِيرِ في انْتِقَالَاتِ الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ وَعَلَى هذا يَجِبُ تَتَبُّعُ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ إنْ وَجَدْنَاهَا في أَلْفَاظِ الْخِطَابِ فَإِنْ لم نَجِدْهَا فَالْحَقَائِقُ الْعُرْفِيَّةُ وَأَمَّا ما يُنْقَلُ من وَاضِعِي اللُّغَاتِ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ لِأَنَّهَا تَغَيَّرَتْ وَانْتَسَخَتْ فَلَا يُخَاطِبُنَا الشَّرْعُ بها وَالْجَوَابُ هذا مَمْنُوعٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ على الْوُقُوفِ لِنَقْلِ اللُّغَةِ في مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ كما في الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ الْأَكْلِ وَبِالصَّلَاةِ لِمَنْ دُعِيَ إلَى
____________________
(1/515)
وَلِيمَةٍ وهو صَائِمٌ وَغَيْرِ ذلك وَأَمَّا الْعُرْفِيَّةُ فَتَنْقَسِمُ إلَى خَاصَّةٍ وَعَامَّةٍ فَإِنْ كان النَّاقِلُ طَائِفَةً مَخْصُوصَةً سُمِّيَتْ خَاصَّةً وَإِنْ كان عَامَّةَ الناس سُمِّيَتْ عَامَّةً وقد أَوْضَحَ مَعْنَى الْعُرْفِيَّةِ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ فقال في التَّقْرِيبِ مَعْنَى وَصْفِ الِاسْمِ بِأَنَّهُ عُرْفِيٌّ أَنَّ الْمَفْهُومَ من إطْلَاقِهِ بِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ في بَعْضِ ما وُضِعَ له أو غَيْرِهِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً وَالدَّلِيلُ على أَنَّ هذا الْمَعْنَى عُرْفِيٌّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ اُبْتُدِئَ وَضْعُهُ لِمَا جَرَى عليه لِأَنَّ ذلك يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ عُرْفِيَّةً وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أنها أَسْمَاءٌ مُجَرَّدَةٌ مُبْتَدَأَةٌ لِأَنَّ ذلك سَبِيلُ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أنها أَسْمَاءٌ ابْتَدَأَهَا وَوَضَعَهَا غَيْرُ أَهْلِ اللُّغَةِ من الْعُلَمَاءِ بِضُرُوبِ الْعَلَامَاتِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَنَّهُ نُقِلَ عن مَعْنَاهُ إلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ ذلك هو الْمَجَازُ وَتَسْمِيَتُهُ مَجَازًا أَحَقُّ وَأَوْلَى انْتَهَى قال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَالِاعْتِبَارَاتُ في الْعُرْفِ إنَّمَا هو بِعُرْفِ من هو له دُونَ من ليس من أَهْلِ ذلك الْعُرْفِ لِأَنَّا قد قُلْنَا إنَّ الْعُرْفَ بِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ يَقُومُ مَقَامَ ابْتِدَاءِ الْمُوَاضَعَةِ فإذا اخْتَصَّ ابْتِدَاءُ الْمُوَاضَعَةِ بِأَهْلِهَا فَكَذَلِكَ الْعُرْفُ ا هـ مَسْأَلَةٌ إمْكَانُ الْعُرْفِيَّةِ وَلَا خِلَافَ في إمْكَانِ الْعُرْفِيَّةِ وَأَمَّا الْوُقُوعُ فَلَا نِزَاعَ في وُجُودِ الْخَاصَّةِ منها لِاسْتِقْرَاءِ كَلَامِ ذَوِي الْعُلُومِ وَالصِّنَاعَاتِ التي لَا يَعْرِفُهَا أَهْلُ اللُّغَةِ كَالْقَلْبِ وَالنَّقْضِ وَالْجَمْعِ وَالْفَرْقِ وَأَمَّا الْعُرْفِيَّةُ الْعَامَّةُ فَمِنْهُمْ من أَنْكَرَ وُجُودَهَا وَالْأَكْثَرُونَ على الْوُقُوعِ قَالَهُ الْهِنْدِيُّ وَتَابَعَ فيه في الْمَحْصُولِ وَاسْتَغْرَبَ شَارِحُهُ الْأَصْفَهَانِيُّ هذا الْخِلَافَ وقال إنَّمَا الْمَعْرُوفُ الْخِلَافُ في الشَّرْعِيَّةِ قُلْت حَكَى الْخِلَافَ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ ثُمَّ قال وَاَلَّذِينَ أَجَازُوا انْتِقَالَ الِاسْمِ عن مَوْضُوعِهِ في اللُّغَةِ بِالْعُرْفِ إنَّمَا أَجَازُوا ذلك ما لم يَكُنْ الِاسْمُ اللُّغَوِيُّ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَإِنْ تَعَلَّقَ لم يَجُزْ نَقْلُهُ عن مَوْضِعِهِ إلَى مَعْنًى آخَرَ قَطْعًا لِأَنَّهُ يَرْجِعُ حِينَئِذٍ إلَى التَّكْلِيفِ ا هـ فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ وَيَخْرُجُ من كَلَامِ الْقَاضِي وَأَتْبَاعِهِ وَالْإِمَامِ الرَّازِيَّ رَابِعٌ فَإِنَّهُمْ قَسَّمُوا النَّقْلَ الْعُرْفِيَّ إلَى قِسْمَيْنِ
____________________
(1/516)
أَحَدِهِمَا أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ قد وُضِعَ لِمَعْنًى عَامٍّ ثُمَّ تَخَصَّصَ بِالْعُرْفِ الْعَامِّ لِبَعْضِ أَنْوَاعِهِ كَلَفْظِ الدَّابَّةِ فإنه مَوْضُوعٌ لِكُلِّ ما يَدِبُّ على وَجْهِ الْأَرْضِ ثُمَّ خَصَّصَهَا الْعُرْفُ الْعَامُّ بِذَاتِ الْحَوَافِرِ وَثَانِيهِمَا أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ في أَصْلِ اللُّغَةِ قد وُضِعَ لِمَعْنًى ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا له بِهِ نَوْعُ مُنَاسَبَةٍ وَمُلَابَسَةٍ بِحَيْثُ لَا يُفْهَمُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ كَالْغَائِطِ وَالْأَوَّلُ نُقِلَ إلَى الْحَقِيقَةِ وَالثَّانِي إلَى الْمَجَازِ قال الْقَاضِي وَالْأَسْمَاءُ الْعُرْفِيَّةُ مُنْحَصِرَةٌ في هَذَيْنِ وَلَا يُنْبِئُ الْعُرْفُ عن الْوَضْعِ لِلْإِجْمَاعِ على اخْتِصَاصِهِ بِبَعْضِ الْأَسَامِي وَلَوْ صُرِفَ إلَى أَصْلِ الْوَضْعِ لَلَزِمَ تَسْمِيَةُ جُمْلَةِ اللُّغَةِ عُرْفِيَّةً وَلَا يُنْبِئُ عن تَجْدِيدِ الْوَضْعِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ اللُّغَةِ فإن هذا سَبِيلُ كل لُغَةٍ سَبَقَهَا أُخْرَى وَإِنَّمَا تُنْبِئُ عَمَّا يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُهُ عُرْفًا من الْمَجَازَاتِ أو يَغْلِبُ تَخْصِيصُهُ بِبَعْضِ الْمُقْتَضَيَاتِ وَكَذَا قال في الْمَحْصُولِ التَّصَرُّفُ الْوَاقِعُ على هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ هو الذي ثَبَتَ عن أَهْلِ الْعُرْفِ وَأَمَّا على غَيْرِهِمَا فلم يَثْبُتْ عَنْهُمْ وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ وَذَكَرَ غَيْرُهُ من أَقْسَامِ الْعُرْفِيَّةِ أَنْ يُوضَعَ اللَّفْظُ لِشَيْءٍ في اللُّغَةِ لَكِنْ لم يُسْتَعْمَلْ فِيمَا وُضِعَ له فيها فَيَسْتَعْمِلُهُ الْعُرْفُ في غَيْرِهِ كَعَسَى فإنه وُضِعَ أَوَّلًا لِلْفِعْلِ الْمَاضِي ولم يُسْتَعْمَلْ فيه قَطُّ بَلْ اُسْتُعْمِلَ في الْإِنْشَاءِ بِوَضْعِ الْعُرْفِ فَصَارَتْ الْعُرْفِيَّةُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ فِيمَا لم يُوضَعْ له في اللُّغَةِ أَصْلًا إذَا لم يَسْتَعْمِلْهُ اللُّغَوِيُّ أَيْضًا أو كان له وَضْعٌ في اللُّغَةِ وَاسْتُعْمِلَ فيه لَكِنْ هُجِرَ كَالْغَائِطِ أو لم يُهْجَرْ وَلَكِنْ قَصَرَهُ الْعُرْفُ على بَعْضِ مَوْضُوعَاتِهِ كَالدَّابَّةِ وَأَمَّا الشَّرْعِيَّةُ فَهِيَ من مُهِمَّاتِ هذا الْمَوْضِعِ ولم أَرَ من أَحْكَمَ شَرْحَهَا وَيَتَعَلَّقُ بها مَبَاحِثُ الْأَوَّلُ في تَحْقِيقِ الْمُرَادِ بِالِاسْمِ الشَّرْعِيِّ وَهِيَ اللَّفْظَةُ التي اُسْتُفِيدَ وَضْعُهَا لِلْمَعْنَى من جِهَةِ الشَّرْعِ كَذَا قَالَهُ في الْمَحْصُولِ وَسَبَقَهُ إلَيْهِ أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ وقال الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ ما كان مَعْنَاهُ ثَابِتًا بِالشَّرْعِ وَالِاسْمُ مَوْضُوعٌ له فيه وقال ابن بَرْهَانٍ هو ما اُسْتُفِيدَ من الشَّرْعِ وَاللَّفْظِ من اللُّغَةِ وَمَرَّةً يُسْتَفَادُ الْمَعْنَى من وَضْعِ اللُّغَةِ وَاللَّفْظِ في الشَّرْعِ وَالْكُلُّ أَسَامِي شَرْعِيَّةٌ وقال بَعْضُهُمْ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ له أَوَّلًا في الشَّرْعِ وَقِيلَ الِاسْمُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ له في الشَّرْعِ لِأَنَّ الِاسْتِقْرَارَ دَلَّ على عَدَمِ الْفِعْلِ وَالْحَرْفِ الشَّرْعِيَّيْنِ إلَّا بِالتَّبَعِ
____________________
(1/517)
وَهَلْ الْمُرَادُ بِالْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ كُلُّ ما وَرَدَ على لِسَانِ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ مِمَّا هو مُخَالِفٌ لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ أو سَوَاءٌ كان مُوَافِقًا لِلْمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ أَمْ لَا وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ فإن اللَّفْظَ الذي أَرَادَ بِهِ الشَّارِعُ مَعْنًى يَصِحُّ إطْلَاقُ ذلك اللَّفْظِ عليه في اللُّغَةِ حَقِيقَةً لَا ضَرُورَةَ بِنَا إلَى أَنْ نَقُولَ إنَّهُ تَجَوَّزَ بِهِ عن الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُرَادَةِ كَإِطْلَاقِ الصَّلَاةِ على الدُّعَاءِ في قَوْله تَعَالَى وَصَلِّ عليهم لَا نَقُولُ إنَّهُ مَجَازٌ بِحَسَبِ الصَّلَاةِ ذَاتِ الْأَرْكَانِ بَلْ هو الدُّعَاءُ وَهَذَا حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ وإذا أَمْكَنَتْ فما الدَّاعِي لِلْمَجَازِ الشَّرْعِيِّ أقسام الحقيقة الشرعية وأقسامها أربعة الأول أن يكون اللفظ والمعنى معلومين لأهل اللغة لكنهم لم يضعوا ذلك الاسم لذلك المعنى الثاني أن يكونا غير معلومين لهم الثالث أن يكون اللفظ معلوما لهم والمعنى غير معلوم الرابع عكسه والمنقولة الشرعية أخص من الحقيقة الشرعية ثم من المنقولة ما نقل إلى الدين وأصوله كالإيمان والإسلام والكفر والفسق وتخص بالدينية وما نقل إلى فروعه كالصلاة والزكاة وتختص بالفرعية قال الصفي الهندي وهذه الأقسام الأربعة الأشبه وقوعها أما الأول فكلفظ الرحمن لله فإن هذا اللفظ كان معلوما لهم والثاني كأوائل السور والثالث كلفظ الصلاة والصوم والرابع كلفظ الأب ولهذا لما نزل قوله تعالى وفاكهة وأبا قال عمر ما الأب ا هـ والنزاع في الكل على السواء واعلم أن هذا القسم ذكره الإمام في المحصول فتابعوه وإنما ذكره صاحب المعتمد على أصل المعتزلة وكذلك تفسير الشرعي بما سبق وهو ماش على مذهبهم الآتي وأما على أصلنا فلا يستقيم ذلك بل الشرط كما قاله الأصفهاني كون اللفظ والمعنى من حيث هو مجاز لغوي يعلمها أهل اللغة لاستحالة نقل الشرع لفظة لغوية إلى معنى مجاز لغة ولا يعرفهما أهل اللغة الثاني في إمكانها عقلا ونقل الإمام في المحصول والآمدي في
____________________
(1/518)
الإحكام الإجماع على إمكان الحقيقة الشرعية وأن الخلاف إنما هو في الوقوع وليس كذلك ففي شرح العمد لأبي الحسين عن قوم إنكار إمكانها فقال وقد أبى قوم جواز ذلك واختلف تعليلهم فعلة بعضهم دالة على أنه منع من إمكان ذلك وعلة الآخرين دالة على أنهم منعوا من حسنه ا هـ وممن حكى الخلاف أيضا ابن برهان في الأوسط فقال وأما إمكان نقل الأسامي أو نقلها من اللغة إلى الشرع فقد جوزه كافة العلماء ومنعه طائفة يسيرة وبناء المسألة على حرف واحد وهو أن نقلها من اللغة إلى الشرع لا يؤدي إلى قلب الحقائق وعنده يؤدي الثالث أنه إذا ثبت إمكانه فهو حسن وليس بقبيح وإنما هو بمثابة النسخ في الأحكام الشرعية فإنه يجوز نسخها وتبديلها باعتبار المصالح ويكون ذلك حسنا فلأن يحسن ذلك في الأسامي أولى وقيل وإن جاز عقلا لكنه لا ينتقل لأنه قبيح لإفضائه إلى إسقاط الأحكام الشرعية وهو لا يجوز إلا بالنسخ ذكره ابن برهان الرابع إنه إذا ثبت هذا فهل وقع أو لا فيه مذاهب أحدها أنها ليست بواقعة مطلقا سواء الدينية وهي المتعلقة بأصول الدين كالإيمان والكفر والفرعية وهي المتعلقة بالفروع قال المازري في شرح البرهان وهو رأي المحققين من أئمتنا الفقهاء والأصوليين وهو قول القاضي أبي بكر والإمام أبي نصر بن القشيري ونقله عن أصحابنا فقال وقال أصحابنا لم ينقل الشرع شيئا من الأسامي اللغوية بل النبي صلى الله عليه وسلم كلم الخلق بلسان العرب وإلى هذا ميل القاضي ا هـ ونقله الأستاذ أبو منصور عن القاضي أبي حامد المروذي والشيخ أبي الحسن الأشعري فقال أجمع أصحاب الشافعي على أنه قد نقل بالشرع أسماء كثيرة عن معانيها في اللغة إلى معان سواها إلا أبا حامد المروذي فإنه زعم أن الأسامي كلها باقية على مقتضاها في اللغة قبل الشرع وبه قال أبو الحسن الأشعري ومثال ذلك الإيمان في اللغة بمعنى التصديق وقد صار بالشرع عند أصحاب الشافعي اسما لجميع الطاعات وعند الأشعري أنه الآن أيضا بمعنى التصديق وكذلك الصلاة والحج والعمرة أسماء لأفعال مخصوصة زائدة على ما كان مفعولا منها في اللغة قبل الشرع عندنا وهي عند الأشعري ثابتة على ما كان عليه قبل الشرع إلا أنها لا يحتسب بها إلا إذا أتى على
____________________
(1/519)
الشروط التي علقتها الشريعة بها ا هـ وكذلك حكاه عن الأشعري الأستاذ أبو بكر بن فورك في جزء جمعه في بيان الإسلام والإيمان فقال واختلفوا في مسألة الإيمان هل نقلت الشريعة أسماء اللغة عن موضوعاتها إلى غيرها فمنهم من قال إنها نقلت وإن من ذلك الإيمان فإنه لغة التصديق وإنما قيل في الشريعة للطاعات كلها إيمان وذلك شرعي لا لغوي وكذلك الصلاة والزكاة والحج والوضوء فجمعه منقول عن اللغة وقال أبو الحسن الأشعري إن الأسماء كلها لغوية وإنه لم ينقل منها شيء عن موضوع اللغة وأن لا إيمان إلا بتصديق وأن لا تصديق إلا بإيمان وقال إن الصلاة لغة الدعاء والحج القصد والزكاة النماء والوضوء النظافة ولكن الشرع أتى بفعلها عن وجه دون وجه وفرق أبو الحسن بين الإيمان والإسلام فقال كل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيمانا وقال إن الإسلام هو الاستسلام والانقياد والمتابعة لله في طاعاته والإيمان به وهو الاستسلام له بالتصديق بالقلب وقال إن المنافق مسلم غير مؤمن لأنه مستسلم في الظاهر غير مصدق في الباطن ولذلك قال الله تعالى قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ففرق بين الإسلام والإيمان ا هـ النافون للحقيقة ثم اختلف النافون على مذهبين أحدهما أنها مقرة على حقائق اللغات لم تنقل ولم يزد في معناها ونقله إمام الحرمين وابن السمعاني عن القاضي أبي بكر والثاني أنها أقرت وزيد في معناها في الشرع ونقلاه عن طائفة من الفقهاء قلت وهو ما نصه ابن فورك في كتابه فقال وليس ذلك بنقل الاسم عن اللغة إلى الشرع وإنما هو إبانة موضع ما أريد بإيقاعه فيه فالصلاة في اللغة من معانيها الدعاء ولم يخرج بالشرع عن معناه بل أتى بوضعه الذي جعل فيه فقيل ندعو على صفة كذا ولا يتغير معنى الاسم بذلك ا هـ ويخرج من أدلتهم مذهب ثالث وهو التفضيل بين أن يتعلق بالاسم فرض فلا يجوز نقله عن معناه لأن النقل يؤدي إلى تغيير الأحكام وبين أن لا فلا يمتنع وقد سبق نقله صريحا في الحقيقة العرفية ولا شك أن قائله يطرده هنا
____________________
(1/520)
المذهب الثاني أنها واقعة وهو قول الجمهور من الفقهاء والمعتزلة كما قاله أبو الحسين في المعتمد وحكاه ابن برهان وابن السمعاني عن أكثر المتكلمين والفقهاء وصححه وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ في كَيْفِيَّةِ وُقُوعِهَا على مَذْهَبَيْنِ أَحَدِهِمَا أنها حَقَائِقُ وَضَعَهَا الشَّارِعُ مُبْتَكَرَةً لم يُلَاحَظْ فيها الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ أَصْلًا وَلَيْسَ لِلْعَرَبِ فيها تَصَرُّفٌ وهو مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ قالوا وَتَارَةً يُصَادِفُ الْوَضْعُ الشَّرْعِيُّ عَلَاقَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فَيَكُونُ اتِّفَاقِيًّا غير مُلْتَفَتٍ إلَيْهِ وَتَارَةً لَا يُصَادِفُهُ وَقَالُوا نَقَلَ الشَّارِعُ هذه الْأَلْفَاظَ من الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِهِمَا من مُسَمَّيَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ وَابْتِدَاءً وَضْعَهَا لِهَذِهِ الْمَعَانِي فَلَيْسَتْ حَقَائِقَ لُغَوِيَّةً وَلَا مَجَازَاتٍ عنها وَالثَّانِي أنها مَأْخُوذَةٌ من الْحَقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ على سَبِيلِ الْمَجَازِ بِأَنْ يَكُونَ اُسْتُعِيرَ لَفْظُهَا لِلْمَدْلُولِ الشَّرْعِيِّ لِعَلَاقَةٍ وهو اخْتِيَارُ الْإِمَامِ في الْمَحْصُولِ وهو في الْحَقِيقَةِ تَوَسَّطَ بين الْمَذْهَبَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فإنه لم يَرَ أَنَّ الشَّرْعَ نَقَلَهَا نَقْلًا كُلِّيًّا فإن مَعَانِيَ اللُّغَةِ لَا تَخْلُو منها وَلَا اسْتَعْمَلَهَا اسْتِعْمَالًا كُلِّيًّا وَإِلَّا لَتَبَادَرَ الذِّهْنُ إلَى حَقَائِقِهَا اللُّغَوِيَّةِ فلم يَسْتَعْمِلْهَا في حَقِيقَتِهَا اللُّغَوِيَّةِ بَلْ في مَجَازِهَا اللُّغَوِيِّ فإن الْعَرَبَ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِالْحَقِيقَةِ كما يَتَكَلَّمُونَ بِالْمَجَازِ وَمِنْ مَجَازِهَا تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ أَجْزَائِهِ وَالصَّلَاةُ كَذَلِكَ فإن الدُّعَاءَ جُزْءٌ منها بَلْ الْمَقْصُودُ منها قال فلم يَخْرُجْ اسْتِعْمَالُهُ عن وَضْعِ اللُّغَةِ وقد قال ابن السَّمْعَانِيِّ في ذَيْلِ الْمَسْأَلَةِ وهو مِمَّنْ صَحَّحَ الْوُقُوعَ رَدًّا على من قال من أَصْحَابِنَا إنَّهَا مَجَازَاتٌ شَرْعِيَّةٌ ثُمَّ قال وَالْأَصَحُّ أنها حَقَائِقُ شَرْعِيَّةٌ ثُمَّ حَقَّقَ وقال وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هذه الْأَسْمَاءُ حَقَائِقُ شَرْعِيَّةٌ فيها مَعْنَى اللُّغَةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَخْلُو عن الدُّعَاءِ في أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ وَالْأَخْرَسُ نَادِرٌ وَلِأَنَّا لو اعْتَبَرْنَا ذلك فَقَدْ يَخْلُو في بَعْضِ الْمَرْضَى عن مُعْظَمِ الْأَفْعَالِ وَبِهَذَا اللَّفْظِ لَا بَأْسَ بِهِ ا هـ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الشَّارِعَ تَجَوَّزَ وَوَضَعَ اللَّفْظَ بِإِزَاءِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ وَضْعًا حَقِيقِيًّا وقال الْغَزَالِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ ثَبَتَ منها قَصْرُ التَّسْمِيَةِ على بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهَا فإن الصَّلَاةَ لُغَةً الدُّعَاءُ وَقَصَرَهُ الشَّرْعُ على دُعَاءٍ مَخْصُوصٍ وَثَبَتَ أَيْضًا إطْلَاقُهَا على الْأَفْعَالِ من السُّجُودِ وَنَحْوِهِ تَوَسُّعًا وَاسْتِعَارَةً من الدُّعَاءِ لِأَنَّ الدَّاعِيَ خَاضِعٌ فَكَذَلِكَ السَّاجِدُ فَالْمُثْبِتُ لِلنَّقْلِ إنْ أَرَادَ الْقَصْرَ أو التَّجَوُّزَ فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِهِ وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهُ فَبَاطِلٌ وَنَازَعَهُ الْمَازِرِيُّ وقال الْقَصْرُ وَالتَّجَوُّزُ لَا تَغْيِيرَ فيه فإن الْعَرَبَ قد تَقْصُرُ الشَّيْءَ على غَيْرِ ما وَضَعَتْهُ له وَيَصِيرُ بِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ حَقِيقَةً مَهْجُورَةً كما في حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ لَا يُفْهَمُ منه إلَّا تَحْرِيمُ الْوَطْءِ وهو مَجَازٌ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ
____________________
(1/521)
لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ الزِّيَادَةُ على وَضْعِهِمْ تَغْيِيرٌ فَكَذَلِكَ النَّقْصُ منه لِتَعَدِّيهِ إلَى غَيْرِهِ وَالتَّحْقِيقُ فيه أَنَّ الْمَوْضُوعَاتِ الشَّرْعِيَّةَ مُسَمَّيَاتٌ لم تَكُنْ مَعْهُودَةً من قَبْلُ فَلَا بُدَّ من أَسَامِي تُعْرَفُ بها تِلْكَ الْمُسَمَّيَاتُ وَعِنْدَ هذا لَا بُدَّ من الْجَوَابِ عن شُبْهَةِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ هذا وُضِعَ ابْتِدَاءً من قِبَلِ الشَّارِعِ وَنَحْنُ نَقُولُ في الْجَوَابِ جَعْلُهُ عُرْفِيًّا على مِثَالِ أَهْلِ الْعُرْفِ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّ الشَّارِعَ يَضَعُ الشَّرْعِيَّاتِ أَبَدًا على وَزْنِ الْعُرْفِيَّاتِ حتى تَكُونَ الطِّبَاعُ أَقْبَلَ عليها الثَّانِي أَنَّ اللَّفْظَ أُطْلِقَ وَأَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ على الْوَجْهِ الذي ذَكَرْنَاهُ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عليه لِأَنَّ الْأَصْلَ هو التَّقْرِيرُ وَفِيمَا قُلْنَاهُ تَقْرِيرٌ من وَجْهٍ وَعِنْدَ هذا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عن اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ لِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْإِيمَانِ عن الصَّلَاةِ وَبِالصَّلَاةِ عن الْإِيمَانِ إنَّمَا كان لِنَوْعِ تَعَلُّقٍ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الصَّلَاةَ دَلِيلُ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ شَرْطُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وفي اللُّغَةِ يَجُوزُ التَّعْبِيرُ بِأَحَدِ الْمُتَعَلِّقَيْنِ عن الْآخَرِ وَمِنْ فَوَائِدِ هذا الْخِلَافِ الثَّانِي أَنَّهُ هل يَحْتَاجُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ إلَى عَلَاقَةٍ أَمْ لَا فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَحْتَاجُ وَعَلَى الثَّانِي نعم قال الْمَاوَرْدِيُّ في كِتَابِ الصَّلَاةِ من الْحَاوِي وَاَلَّذِي عليه جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الشَّرْعَ لَاحَظَ فيها الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ قُلْت وَنَصُّ الشَّافِعِيِّ في الْأُمِّ صَرِيحٌ في أنها مَجَازَاتٌ لُغَوِيَّةٌ قَالَهُ ابن اللَّبَّانِ في تَرْتِيبِ الْأُمِّ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ في وُقُوعِ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهُ هل وَقَعَ النَّقْلُ فيها مُطْلَقًا سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِأُصُولِ الدِّينِ كَالْإِيمَانِ أو فُرُوعِهِ أو إنَّمَا وَقَعَ في فُرُوعِهِ فَقَطْ فَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا في التَّسْمِيَةِ فَخَصُّوا اللَّفْظَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْفُرُوعِ بِالشَّرْعِيِّ وَبِالْأُصُولِ بِالدِّينِيِّ وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إلَى أَنَّ النَّقْلَ إنَّمَا وَقَعَ في فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فَقَطْ وهو رَأْيُ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ منهم الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ في شَرْحِ اللُّمَعِ وابن الصَّبَّاغِ فَعُلِمَ من هذا أَنَّ الْفَرْعِيَّةَ مَحَلُّ وِفَاقٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في الدِّينِيَّةِ وَمِنْهُمْ من عَكَسَ فَحَكَى الْخِلَافَ في الشَّرْعِيَّةِ وَالْقَطْعَ بِالْمَنْعِ في الدِّينِيَّةِ وهو قَضِيَّةُ كَلَامِ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ فإنه قال في الْقَوَاطِعِ وَصُورَةُ الْخِلَافِ في الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَنَحْوِ ذلك وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ
____________________
(1/522)
وَالْحَاصِلُ أَنَّ من النَّاس من نَفَى النَّقْلَ مُطْلَقًا في الدِّينِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ كَالْقَاضِي وَمَنْ أَثْبَتَهُ مُطْلَقًا كَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ فَرَّقَ بين الدِّينِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ فَأَثْبَتَ الشَّرْعِيَّةَ وَنَفَى الدِّينِيَّةَ وهو الْمُخْتَارُ ولم يَقُلْ أَحَدٌ بِعَكْسِهِ فَالْقَاضِي يقول إنَّهَا مُقَرَّةٌ على حَقَائِقِهَا في اللُّغَةِ لم تُنْقَلْ ولم يُزَدْ فيها وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يقول كَذَلِكَ زِيدَ في الِاعْتِدَادِ بِمَدْلُولَاتِهَا أُمُورٌ أُخْرَى وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ يقول إنَّهَا مُقَرَّةٌ على مَجَازَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ نُقِلَتْ عن مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةِ نَقْلًا بِالْكُلِّيَّةِ إلَى مَعَانٍ أُخْرَى شَرْعِيَّةٍ من غَيْرِ مُرَاعَاةِ النَّقْلِ إلَى الْمَجَازِ اللُّغَوِيِّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ يَقُولَانِ اسْتَعْمَلَهَا الشَّارِعُ مَجَازَاتٍ ثُمَّ اُشْتُهِرَتْ فَصَارَتْ حَقَائِقَ شَرْعِيَّةً لِغَلَبَتِهَا فِيمَا نُقِلَتْ إلَيْهِ وهو قَرِيبٌ من مَذْهَبِ الرَّازِيَّ وَلِهَذَا نَقَلَ الْهِنْدِيُّ عن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثِ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا من الْمَنْقُولَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ما كان لُغَوِيًّا كما في الْحَقَائِقِ الْعُرْفِيَّةِ دُونَ ما ليس كَذَلِكَ بِأَنْ كان مَنْقُولًا عنها بِالْكُلِّيَّةِ وهو مُخَالِفٌ لِلْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلِيَّيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَفَى النَّقْلَ جُمْلَةً وَأَمَّا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ لم يَشْتَرِطُوا في النَّقْلِ أَنْ يَكُونَ الْمَنْقُولُ إلَيْهِ مَجَازًا لُغَوِيًّا وقال ابن بَرْهَانٍ عِنْدَنَا أَنَّ هذه الْأَلْفَاظَ مَجَازَاتٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَضْعِ اللُّغَةِ فإنه أُفِيدَ بها ما لم يُوضَعْ له وَهِيَ حَقَائِقُ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَضْعِ الشَّرْعِ فإنه لم يَضَعْهَا إلَّا لِتِلْكَ الْمَعَانِي وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا بِاعْتِبَارَيْنِ وَتَوَقَّفَ الْآمِدِيُّ في الْمَسْأَلَةِ فلم يَخْتَرْ شيئا تَنْبِيهَانِ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ هذا الْخِلَافُ يَضْمَحِلُّ إذَا حُقِّقَ الْأَمْرُ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا على أَنَّ هذه الْأَسْمَاءَ يُسْتَفَادُ منها في الشَّرْعِ زِيَادَةٌ على أَصْلِ وَضْعِ اللُّغَةِ لَكِنْ اخْتَلَفُوا هل ذلك الْمَعْنَى يُصَيِّرُ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ مَوْضُوعَةً كَالْوَضْعِ الِابْتِدَائِيِّ من قِبَلِ الشَّرْعِ أو هِيَ مُبْقَاةٌ على الشَّرْعِ أو هِيَ مُبْقَاةٌ على الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعُ إنَّمَا تَصَرَّفَ في شُرُوطِهَا وَأَحْكَامِهَا فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ وإذا قُلْنَا بِأَنَّ الشَّارِعَ تَصَرَّفَ فيها فذكر الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في كِتَابِ الصِّيَامِ من تَعْلِيقِهِ كَيْفِيَّةَ ذلك فقال الْأَسْمَاءُ التي نَقَلَهَا الشَّارِعُ من اللُّغَةِ إلَى الشَّرْعِ على ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا ما زَادَ فيه من كل وَجْهٍ كَالصَّلَاةِ فَإِنَّهَا في اللُّغَةِ الدُّعَاءُ فَأَبْقَاهَا الشَّارِعُ على مَعْنَى الدُّعَاءِ وزاد الْقِرَاءَةَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ
____________________
(1/523)
وَالثَّانِي ما نَقَصَ من كل وَجْهٍ كَالْحَجِّ فإنه في اللُّغَةِ الْقَصْدُ وفي الشَّرْعِ الْقَصْدُ إلَى بَيْتِهِ الْحَرَامِ الثَّالِثُ ما نَقَصَ فيه من وَجْهٍ وزاد فيه من وَجْهٍ كَالصَّوْمِ فإنه في اللُّغَةِ الْإِمْسَاكُ وفي الشَّرْعِ إمْسَاكٌ مَخْصُوصٌ مع شُرُوطٍ وَالنِّيَّةِ وَغَيْرِهَا التَّنْبِيهُ الثَّانِي إذَا أَثْبَتْنَا النَّقْلَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَكَلَّمَ الشَّارِعُ بِالِاسْمِ الشَّرْعِيِّ وَنَعْنِي بِهِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيَّ وَنَعْلَمُ أَنَّهُ عَنَى بِبَيَانٍ مُتَقَدِّمٍ أو مُقَارَنٍ إنْ مَنَعْنَا تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عن وَقْتِ الْخِطَابِ أو بَيَانٍ مُتَأَخِّرٍ إنْ جَوَّزْنَاهُ الْبَحْثُ الْخَامِسُ في تَبَيُّنِ الْمُرَادِ بِالدِّينِيِّ وَالشَّرْعِيِّ قَسَّمَتْ الْمُعْتَزِلَةُ اللَّفْظَ إلَى دِينِيٍّ وَشَرْعِيٍّ فَالْأَسْمَاءُ الدِّينِيَّةُ ثَلَاثَةٌ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ وَالْفِسْقُ وَهِيَ عِنْدَهُمْ مُسْتَعْمَلَةٌ في الشَّرْعِ في غَيْرِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ حَقِيقَةً وَمَجَازًا وَغَرَضُهُمْ أَنَّ الشَّرْعَ اسْتَعْمَلَهَا في غَيْرِ ما اسْتَعْمَلَهَا الْوَاضِعُ اللُّغَوِيُّ وَلِهَذَا أَثْبَتُوا الْوَاسِطَةَ بين الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَأَمَّا الشَّرْعِيَّةُ فَهِيَ عِنْدَهُمْ أَسْمَاءٌ لُغَوِيَّةٌ نُقِلَتْ في الشَّرْعِ عن أَصْلِ وَضْعِهَا إلَى أَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ فَزَعَمُوا أَنَّ هذه الْأَحْكَامَ إنَّمَا حَدَثَتْ في الشَّرْعِ نُقِلَتْ إلَيْهَا هذه الْأَسْمَاءُ من اللُّغَةِ وما ذَكَرْنَاهُ من تَفْسِيرِ الدِّينِيَّةِ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي في الْقَرِيبِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وَالْبُرْهَانُ وابن الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمْ وفي الْمَحْصُولِ عن الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الشَّرْعِيَّةَ تَخْتَصُّ بِأَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالدِّينِيَّةُ بِأَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ كَالْمُؤْمِنِ وَالْفَاسِقِ وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ كُلَّ ما كان من أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ دَاخِلٌ في الشَّرْعِيِّ فَيَدْخُلُ فيه الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ وَالْفِسْقُ في الشَّرْعِيَّةِ وَيَخْرُجُ عن الدِّينِيَّةِ وَأَنَّ أَسْمَاءَ الْفَاعِلِينَ كُلَّهَا دِينِيَّةٌ فَيَدْخُلُ فيه الْمُصَلِّي وَالْمُزَكِّي وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُمَا تَابِعَانِ لِلصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّهُمَا شَرْعِيَّانِ وَالْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ أَصْلٌ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فَهُمَا من الدِّينِيَّةِ وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا عَمَلِيَّةٌ وَهِيَ الشَّرْعِيَّةُ أو اعْتِقَادِيَّةٌ وَهِيَ الدِّينِيَّةُ الْبَحْثُ السَّادِسُ أَنَّ الشَّرْعِيَّةَ تُطْلَقُ على مَعْنَيَيْنِ ما في كَلَامِ الشَّارِعِ وما في كَلَامِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ من الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَهَذَا الْخِلَافُ إنَّمَا هو بِالنِّسْبَةِ إلَى كَلَامِ الشَّارِعِ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى
____________________
(1/524)
الْمُتَشَرِّعَةِ فَلَيْسَتْ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً بَلْ عُرْفِيَّةً وَلَيْسَتْ من مَحَلِّ النِّزَاعِ في شَيْءٍ ولم أَرَ من نَبَّهَ على الْفَصْلِ بين الْمَقَامَيْنِ غير الْقَاضِي عَضُدِ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ الْبَحْثُ السَّابِعُ أَنَّ منهم من تَرْجَمَ هذه الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّ الْحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ هل هِيَ وَاقِعَةٌ أَمْ لَا كما في الْمَحْصُولِ وَمِنْهُمْ من تَرْجَمَهَا بِالْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ كما عَبَّرَ بِهِ ابن الْحَاجِبِ في الْمُنْتَهَى وَالْبَيْضَاوِيُّ في مِنْهَاجِهِ وهو الصَّوَابُ لِيَشْمَلَ كُلًّا من الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَجَازَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فإن الْبَحْثَ جَارٍ فِيهِمَا وِفَاقًا وَخِلَافًا الْبَحْثُ الثَّامِنُ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ هذه أَوَّلُ مَسْأَلَةٍ نَشَأَتْ في الِاعْتِزَالِ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِمَنْزِلَةٍ بين الْمَنْزِلَتَيْنِ أَيْ جَعَلُوا الْفِسْقَ مَنْزِلَةً مُتَوَسِّطَةً بين الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ في اللُّغَةِ التَّصْدِيقُ وَالْفَاسِقُ مُوَحِّدٌ وَمُصَدِّقٌ فَقَالُوا هذه حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ في اللُّغَةِ وَنُقِلَ في الشَّرْعِ إلَى من يَرْتَكِبُ شيئا من الْمَعَاصِي فَمَنْ ارْتَكَبَ شيئا منها خَرَجَ عن الْإِيمَانِ ولم يَبْلُغْ الْكُفْرَ ثُمَّ أَجَازَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَبْقَى على مَوْضُوعِهِ في اللُّغَةِ وَأَنَّ الْأَلْفَاظَ التي ذَكَرْنَاهَا من الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذلك مَنْقُولَةٌ قال وَلَيْسَ من ضَرُورَةِ النَّقْلِ أَنْ يَكُونَ في جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ وَإِنَّمَا يَكُونُ على حَسَبِ ما يَقُومُ عليه الدَّلِيلُ وَنَقَلَ الْإِمَامُ محمد بن نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ عن أبي عُبَيْدٍ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ على أَنَّ الشَّارِعَ نَقَلَ الْإِيمَانَ عن مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ إلَى الشَّرْعِيِّ بِأَنَّهُ نَقَلَ الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ وَنَحْوَهُمَا إلَى مَعَانٍ أُخْرَى قال فما بَالُ الْإِيمَانِ وَهَذَا يَدُلُّ على تَخْصِيصِ الْخِلَافِ بِالْإِيمَانِ وهو الذي وَقَعَ فيه النِّزَاعُ في ظُهُورِ الِاعْتِزَالِ وقال ابن بَرْهَانٍ حَرْفُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِنَقْلِ الْأَسَامِي لَا يُفْضِي إلَى تَفْسِيقِ الصَّحَابَةِ وَلَا إلَى خُرُوجِ الْفَاسِقِ إلَى الْإِيمَانِ وَعِنْدَهُمْ يُفْضِي إلَى ذلك الْبَحْثُ التَّاسِعُ أَنَّ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ تَظْهَرُ فَائِدَتُهُ في مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا وهو أَصْلُهُ أَنَّهُ هل بين الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَاسِطَةٌ وهو الْفِسْقُ أَمْ لَا فَأَهْلُ السُّنَّةِ لَا يُثْبِتُونَهُ وَأَثْبَتَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ قَائِلِينَ بِأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ ليس بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ أَمَّا أَنَّهُ
____________________
(1/525)
ليس بِكَافِرٍ فَبِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا أَنَّهُ ليس بِمُؤْمِنٍ فَلِأَنَّ الْإِيمَانَ فِعْلُ الْوَاجِبِ الذي منه كَفُّ النَّفْسِ عن الشَّهَوَاتِ وقد أَخَلَّ بِهِ فَرَأَوْا أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالتَّسْمِيَةِ وَقَعَ من الشَّرْعِ وَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَعْنًى لم تُرِدْهُ الْعَرَبُ وَحَمَلُوا على ذلك ظَوَاهِرَ الْأَحَادِيثِ النَّافِيَةِ لِلْإِيمَانِ عن مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ نحو لَا يَزْنِي الزَّانِي وهو مُؤْمِنٌ وَأَنَّهُ لم يُرِدْ نَفْيَ التَّصْدِيقِ وَأَمَّا الْأَشْعَرِيَّةُ فَيُؤَوِّلُونَهُ على الْمُسْتَحِيلِ وَغَيْرِهِ وَمَنَعُوا كَوْنَ الشَّرْعِ غير اللُّغَةِ بَلْ التَّصْدِيقُ بَاقٍ فيه وَقَالُوا صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ مُطِيعٌ بِإِيمَانِهِ وَكَذَا الْقَوْلُ في الْأَسْمَاءِ الْفَرْعِيَّةِ كَمَنْ صلى بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ فَمَنْ رَأَى أنها بَاطِلَةٌ قال إنَّهُ ما أتى بِمَا يُسَمَّى صَلَاةً في اللُّغَةِ وقد قال تَعَالَى وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ صَحَّحَهَا قال دُعَاءُ الشَّرْعِ غَيْرُ دُعَاءِ اللُّغَةِ وَكَذَا الْبَاقِي وَاسْتَشْكَلَ الْإِمَامُ في الْمَعَالِمِ على الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْمَاهِيَّةَ الْمُرَكَّبَةَ تَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْءٍ من أَجْزَائِهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ مُرَكَّبَةٌ من قَوْلٍ وَعَمَلٍ وَاعْتِقَادٍ فَيَنْبَغِي إذَا انْتَفَى الْعَمَلُ أَنْ يَنْتَفِيَ الْإِيمَانُ قال وهو سُؤَالٌ صَعْبٌ وَلِأَجْلِهِ طَرَدَتْ الْمُعْتَزِلَةُ مَذْهَبَهُمْ فَسَلَبُوا الْإِيمَانَ عنه وقد ذَكَرَ هذه الشُّبْهَةَ الْإِمَامُ محمد بن نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ في كِتَابِ تَعْظِيمِ قَدْرِ الصَّلَاةِ وَأَجَابَ عنها بِأَنَّ لِلْإِيمَانِ أَصْلًا مَتَى نَقَصَ عنه مِثْقَالَ ذَرَّةٍ زَالَ عنه اسْمُ الْإِيمَانِ وَقَوْلُهُ يَنْقُصُ لم يَزُلْ الِاسْمُ وَلَكِنْ يَزْدَادُ بَعْدُ إيمَانًا إلَى إيمَانِهِ فَإِنْ نَقَصَتْ الزِّيَادَةُ التي بَعْدَ الْأَصْلِ لم يَنْقُصْ الْأَصْلُ الذي هو التَّصْدِيقُ وَذَلِكَ كَنَخْلَةٍ تَامَّةٍ ذَاتِ أَغْصَانٍ وَوَرَقٍ فَكُلَّمَا قُطِعَ منها غُصْنٌ لم يَزُلْ عنها اسْمُ الشَّجَرَةِ وَكَانَتْ دُونَ ما كانت عليه من الْكَمَالِ من غَيْرِ أَنْ يَزُولَ اسْمُهَا وَهِيَ شَجَرَةٌ نَاقِصَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهَا من اسْتِكْمَالِهَا التَّامَّةَ الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ هذه الْأَسْمَاءَ إذَا وُجِدَتْ في كَلَامِ الشَّارِعِ مُجَرَّدَةً عن الْقَرِينَةِ مُحْتَمِلَةً الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ وَالشَّرْعِيَّ فَعَلَى أَيِّهِمَا يُحْمَلُ فَمَنْ أَثْبَتَ النَّقْلَ قال إنَّهَا مَحْمُولَةٌ على عُرْفِ الشَّارِعِ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ كُلَّ مُتَكَلِّمٍ يُحْمَلُ لَفْظُهُ على عُرْفِهِ وَقِيَاسُهُ قَوْلُ الْقَاضِي حَمْلُهَا على الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لَكِنَّ الْمَنْقُولَ عن الْقَاضِي أنها مُجْمَلَةٌ وهو مُشْكِلٌ على أَصْلِهِ هُنَا
____________________
(1/526)
قال الْإِبْيَارِيُّ قَوْلُ الْقَاضِي إنَّهُ مُجْمَلٌ يُنَاقِضُ مَذْهَبَهُ في حُجَّةِ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ له قَوْلٌ آخَرُ بِإِثْبَاتِهَا وَإِلَّا فَالْإِجْمَالُ مع اتِّحَادِ جِهَةِ الدَّلَالَةِ مُحَالٌ أو يَكُونَ ذلك منه تَفْرِيعًا على قَوْلِ من يُثْبِتُهَا وَهَذَا ضَعِيفٌ فإنه من أَيْنَ له الْحُكْمُ عليهم فَإِنَّهُمْ يُسَوُّونَ بين النِّسْبَةِ إلَى الْمُسَمَّيَيْنِ قُلْت وَبِهَذَا الْأَخِيرِ صَرَّحَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ فقال فَإِنْ قِيلَ ما تَقُولُونَ لو ثَبَتَ أَسْمَاءٌ شَرْعِيَّةٌ هل تُحْمَلُ على مُوجِبِ اللُّغَةِ أو الشَّرْعِ قُلْنَا يَجِبُ الْوَقْفُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بها ما هو لها في اللُّغَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ ما هو في الشَّرْعِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الْأَمْرَيْنِ فَيَجِبُ لِتَجْوِيزِ ذلك الْوَقْفِ حتى يَدُلَّ دَلِيلٌ على الْمُرَادِ وقال السُّهْرَوَرْدِيّ تَرَدَّدَ الْقَاضِي بين نَفْيِ الْكَمَالِ وَالصِّحَّةِ ليس لِاعْتِرَافِهِ بِاللُّغَاتِ الشَّرْعِيَّةِ بَلْ لِأَنَّهُ يَرَى الْإِضْمَارَ وَلَا تَعَيُّنَ لِأَحَدِ الْإِضْمَارَيْنِ وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّرْعِيَّةَ تُطْلَقُ على مَعْنَيَيْنِ ما في كَلَامِ الشَّارِعِ وما في كَلَامِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ من الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَهَذَا الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ في الشَّرْعِيَّةِ إنَّمَا هو بِالنِّسْبَةِ إلَى كَلَامِ الشَّارِعِ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّرْعِيَّةِ فَيُحْمَلُ على الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ لَا حَاجَةَ لهم فيها إلَى الْقَرِينَةِ كما هو حُكْمُ الْحَقَائِقِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي في أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في أَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا هل لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ إلَّا بِالشَّرْعِ أو هو ظَاهِرٌ قبل وُرُودِ الْبَيَانِ على وَجْهَيْنِ وَبَنَوْا عَلَيْهِمَا أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ هل جاء بِهِ الشَّرْعُ كما جاء بِبَيَانِ الْحُكْمِ أو كان مَعْرُوفًا عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ وَالشَّرْعُ اخْتَصَّ بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ فَمَنْ قال بِالْأَوَّلِ قال إنَّ الشَّرْعَ أَحْدَثَ الِاسْمَ كَالْحُكْمِ وَمَنْ قال بِالثَّانِي قال إنَّ الِاسْمَ مَأْخُوذٌ من أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْبَيَانُ من الشَّرْعِ وقال أَيْضًا اخْتَلَفُوا في اسْمِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ هل جاء بِبَيَانِ الشَّرْعِ كما جاء بِبَيَانِ الْحُكْمِ كان مَعْرُوفًا عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ وَالشَّرْعُ اخْتَصَّ بِبَيَانِ الْحُكْمِ على ثَلَاثِ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ أَحْدَثُ الْأَسْمَاءِ شَرْعًا كَالْأَحْكَامِ وَهَذَا قَوْلُ من زَعَمَ أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ مُجْمَلٌ فَجَعَلَهُ مُسْتَحْدَثًا بِالشَّرْعِ لِأَنَّ الْعَرَبَ لم تَكُنْ تَعْرِفُهُ على هذه الصِّفَةِ وَالثَّانِي أَنَّ الشَّرْعَ مُخْتَصٌّ بِوُرُودِ الْأَحْكَامِ وَإِنَّمَا الْأَسْمَاءُ مَأْخُوذَةٌ من أَهْلِ اللُّغَةِ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ لو وَرَدَتْ شَرْعًا لَصَارُوا مُخَاطَبِينَ بِمَا ليس من لُغَتِهِمْ وَهَذَا قَوْلُ من قال إنَّهَا لَيْسَتْ بِمُجْمَلَةٍ وَالثَّالِثُ وهو قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَافَّةِ أَهْلِ اللُّغَةِ أنها أَسْمَاءٌ قد كان لها في
____________________
(1/527)
اللُّغَةِ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ فَكَانَ حَقِيقَتُهَا ما نَقَلَهَا الشَّرْعُ عنه وَمَجَازُهَا ما قَرَّرَهَا الشَّرْعُ عليه لِوُجُودِ مَعْنًى من مَعَانِي الْحَقِيقَةِ فَعَلَى هذا سُمِّيَتْ صَلَاةً لِمَا تَضَمَّنَتْ من الدُّعَاءِ هو مُسَمًّى في اللُّغَةِ صَلَاةً مَسْأَلَةٌ كما زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ بَعْضَ الْأَسْمَاءِ اسْتَعْمَلَهُ الشَّارِعُ في غَيْرِ مَعْنَاهُ في اللُّغَةِ زَعَمَ آخَرُونَ أَنَّهُ وَرَدَ فيه كَلِمَاتٌ لَيْسَتْ بِصِيَغٍ عَرَبِيَّةٍ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْمُعَرَّبِ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا ما أَصْلُهُ عَجَمِيٌّ ثُمَّ عُرِّبَ اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ على نَحْوِ اسْتِعْمَالِهَا لِكَلَامِهَا فَقِيلَ مُعَرَّبٌ مُتَوَسِّطًا بين الْعَجَمِيِّ وَالْعَرَبِيِّ وهو عَكْسُ الْمَجَازِ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالُ الْمَعْنَى بِغَيْرِ اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ له في تِلْكَ اللُّغَةِ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ وَاقِعٌ في اللُّغَةِ وفي وُقُوعِهِ في الْقُرْآنِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ على إثْبَاتِ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَمَنْ أَثْبَتَهَا وَجَعَلَهَا مَجَازَاتٍ لُغَوِيَّةٍ لَا يَلْزَمُ من قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ في الْقُرْآنِ غَيْرُ عَرَبِيٍّ وقال ابن الْقُشَيْرِيّ ليس هذا الْخِلَافُ مع من يقول في الشَّرِيعَةِ أَسْمَاءٌ مَنْقُولَةٌ من اللُّغَةِ إلَى الشَّرْعِ بَلْ ذَاكَ فَنٌّ آخَرُ وقد أَثْبَتَهُ جَمَاعَةٌ منهم ابن عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ وَاخْتَارَهُ ابن الْحَاجِبِ وَنَفَاهُ الْأَكْثَرُونَ منهم الْإِمَامُ وَأَتْبَاعُهُ وَالْقَاضِي أبو بَكْرٍ وأبو بَكْرٍ الْقَفَّالُ كما رَأَيْته في كِتَابِهِ وأبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ وأبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وابن السَّمْعَانِيِّ وابن الْقُشَيْرِيِّ قال وَعَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ قال ابن فَارِسٍ في فِقْهِ اللُّغَةِ وهو قَوْلُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وقال ابن بَرْهَانٍ وَعُزِيَ إلَى الشَّافِعِيِّ قُلْت نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ في الْبَابِ الْخَامِسِ فقال وقد تَكَلَّمَ في الْعِلْمِ من لو أَمْسَكَ عن بَعْضِ ما تَكَلَّمَ فيه لَكَانَ الْإِمْسَاكُ أَوْلَى له فقال منهم قَائِلٌ إنَّ في الْقُرْآنِ عَرَبِيًّا وَأَعْجَمِيًّا وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ على أَنَّهُ ليس في كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ إلَّا بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَوَجَدْنَا قَائِلَ هذا الْقَوْلِ من قَبْلِ ذلك منه تَقْلِيدًا وَتَرْكًا لِلْمَسْأَلَةِ له عن حُجَّةٍ وَمَسْأَلَةِ غَيْرِهِ مِمَّنْ خَالَفَهُ وَبِالتَّقْلِيدِ أَغْفَلَ من أَغْفَلَ منهم وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لنا وَلَهُمْ ا هـ وقد نَقَلَهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ في تَعْلِيقِهِ في أُصُولِ الْفِقْهِ عن نَصِّ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ ثُمَّ قال الذي عليه الشَّافِعِيُّ وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَلَيْسَ فيه شَيْءٌ غَيْرُ الْعَرَبِيِّ وهو قَوْلُ الْمُتَكَلِّمِينَ بِأَسْرِهِمْ ثُمَّ نَصَرَهُ
____________________
(1/528)
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُثْبِتِينَ له كِبَارٌ فَيَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلِ كَلَامِهِمْ فقال الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ لَعَلَّ قَائِلَهُ أَرَادَ أَنَّ فيه ما يَجْهَلُ مَعْنَاهُ بَعْضُ الْعَرَبِ وَلِهَذَا قال عُمَرُ لَمَّا سمع فَاكِهَةً وَأَبًّا لَا أَدْرَى ما الْأَبُّ وقال ابن عَبَّاسٍ ما كُنْت أَدْرِي مَعْنَى افْتَحْ بَيْنَنَا حتى سَمِعْت أَعْرَابِيَّةً تَقُولُ تَعَالَ أُفَاتِحْك إلَى الْقَاضِي وَلَا يَلْزَمُ من كَوْنِهِ غير مَعْلُومٍ لِوَاحِدٍ أو اثْنَيْنِ أَنْ لَا يَكُونَ عَرَبِيًّا وقال غَيْرُهُ أَرَادَ أَعْجَمِيًّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَصْلَ اسْتِعْمَالِهَا في كَلَامِ الْعَجَمِ فَحَوَّلَتْهَا الْعَرَبُ إلَى لُغَتِهِمْ وَإِلَى هذا ذَهَبَ أبو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بن سَلَامٍ في غَرِيبِهِ فَنَقَلَ عن أبي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بن الْمُثَنَّى أَنَّهُ قال من زَعَمَ أَنَّ في الْقُرْآنِ لِسَانًا سِوَى الْعَرَبِيَّةِ فَقَدْ أَعْظَمَ على اللَّهِ الْقَوْلَ وَنُقِلَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ فيه من غَيْرِ لِسَانِ الْعَرَبِ مِثْلَ سِجِّيلٍ وَمِشْكَاةٍ وَالْيَمِّ والطور ( ( ( و ) ) ) وأباريق ( ( ( الطور ) ) ) وإستبرق ( ( ( و ) ) ) وَغَيْرِ ذلك ثُمَّ قال وَهَؤُلَاءِ أَعْلَمُ من أبي عُبَيْدَةَ وَلَكِنَّهُمْ ذَهَبُوا إلَى مَذْهَبٍ وَذَهَبَ هو إلَى غَيْرِهِ وَكِلَاهُمَا مُصِيبٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَذَلِكَ أَنَّ هذه الْحُرُوفَ بِغَيْرِ لِسَانِ الْعَرَبِ في الْأَصْلِ فقال أُولَئِكَ على الْأَصْلِ ثُمَّ لَفَظَتْ بِهِ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا فَعَرَّبَتْهَا فَصَارَ عَرَبِيًّا بِتَعْرِيبِهَا إيَّاهُ فَهِيَ عَرَبِيَّةٌ في هذه الْحَالِ أَعْجَمِيَّةُ الْأَصْلِ فَهَذَا الْقَوْلُ يُصَدِّقُ الْقَوْلَيْنِ جميعا ا هـ وقال ابن خَرُوفٍ النَّحْوِيُّ جَمِيعُهَا من كَلَامِ الْعَرَبِ ولم يَخْتَلِفْ أَحَدٌ من أَرْبَابِ اللِّسَانِ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ وَأَجْمَعُوا على أنها أَعْجَمِيَّاتٌ تَلَقَّتْهَا الْعَرَبُ وَعَمِلَتْ بها وَأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ مَلْآنُ من ذلك مِثْلَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجِبْرِيلَ وَيُوسُفَ وَيُونُسَ وَغَيْرِ ذلك وقد نَصَّ عليه سِيبَوَيْهِ في مَوَاضِعَ من كِتَابِهِ فِيمَا لَا يَنْصَرِفُ وفي النَّسَبِ وَالْأَمْثِلَةِ وأبو عُبَيْدَةَ وَإِنْ أَنْكَرَ ذلك في الْقُرْآنِ فَهُوَ مَحْجُوجٌ فإنه مُجْمِعٌ مَعَهُمْ على أَنَّ كَلَامَ الْعَرَبِ مَلْآنُ من ذلك وَالْأَعْلَامُ أَعْجَمِيَّةٌ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ في الْكَلَامِ أَعْجَمِيَّةٌ وفي الْقُرْآنِ عَرَبِيَّةٌ وَحَاصِلُهُ أَنَّ ما في الْقُرْآنِ من الْأَلْفَاظِ الْأَعْجَمِيَّةِ مُعَرَّبَةٌ فَصِيحَةٌ ولم يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّ في الْقُرْآنِ كَلِمَةً وَاحِدَةً أَعْجَمِيَّةً لَا تُعْرِبُهَا الْعَرَبُ وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِالْأَعْلَامِ ذَكَرَهُ ابن الْحَاجِبِ وَشَيْخُهُ الْإِبْيَارِيُّ وَيَرُدُّ عليهم بِأَنَّهُ ليس في مَحَلِّ الْخِلَافِ فإن الْخِلَافَ في غَيْرِ الْأَعْلَامِ كَاللِّجَامِ وَالْفِرِنْدِ أَمَّا فيها فَلَا وَلِهَذَا اتَّفَقُوا على مَنْعِ صَرْفِ نَحْوِ إبْرَاهِيمَ لِلْعَجَمِيَّةِ وَالْعَلَمِيَّةِ
____________________
(1/529)
تَنْبِيهٌ قد سَبَقَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ في وُقُوعِ الْمُعَرَّبِ في اللُّغَةِ وَأَطْلَقُوا هذا إطْلَاقًا وَذَكَرَ حَازِمٌ في مِنْهَاجِ الْبُلَغَاءِ تَقْسِيمًا حَسَنًا فقال إنْ كان اللَّفْظُ غير مَوْجُودٍ في كَلَامِ الْعَرَبِ فَلَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ اسْمًا أو فِعْلًا أو حَرْفًا فَإِنْ كان فِعْلًا أو حَرْفًا فَلَا يَجُوزُ إيقَاعُهُ أَلْبَتَّةَ فِيمَا أُجْرِيَ من الْكَلَامِ على قَوَانِينِ الْعَرَبِ وَمَجَارِي كَلَامِهَا وَإِنْ كان اسْمًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لِمُسَمَّاهُ اسْمٌ في كَلَامِ الْعَرَبِ أو لَا فَإِنْ كان فَلَا يَخْلُوَا إمَّا أَنْ يَكُونَ الِاسْمَانِ الْعَرَبِيُّ وَالْعَجَمِيُّ عَلَمَيْنِ على الْمُسَمَّى أو نَكِرَتَيْنِ فَإِنْ كَانَا عَلَمَيْنِ جَازَ تَعْرِيبُ الْعَجَمِيِّ وَإِنْ كَانَا نَكِرَتَيْنِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ غَيْرِ الْعَرَبِيِّ إذْ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ عَرَبِيٍّ أَنْ يُعَرِّبَ غير الْأَعْلَامِ وَأَعْنِي بِالتَّعْرِيبِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيمَا أَجْرَى من الْكَلَامِ على قَوَانِينِ كَلَامِ الْعَرَبِ بِأَنْ يُلْحِقَهُ لَوَاحِقَ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ لِلْمُسَمَّى اسْمٌ في كَلَامِ الْعَرَبِ فَجَائِزٌ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الِاسْمَ الذي ليس بِعَرَبِيٍّ في الدَّلَالَةِ على ذلك الشَّيْءِ حَيْثُ يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ سَوَاءٌ كان ذلك الِاسْمُ من وَضْعِ من لَا يَتَكَلَّمُ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ على وَجْهِهِ أو كان وَاقِفًا في بَعْضِ أَلْسُنِ الْعَجَمِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذلك الِاسْمُ يَعْرِفُهُ أَهْلُ زَمَانِ من يُرِيدُ اسْتِعْمَالَهُ وَسَوَاءٌ كان ذلك مَعْرِفَةً أو نَكِرَةً وقد تَقَدَّمَ أَنَّ غير الْعَلَمِ الذي ليس بِعَرَبِيٍّ لَا يَجُوزُ تَعْرِيبُهُ مع وُجْدَانِ الْبَدَلِ منه في كَلَامِ الْعَرَبِ وَإِنْ كانت الْعَرَبُ قد عَرَّبَتْ أَسْمَاءً أَعْجَمِيَّةً نَكِرَاتٍ فَذَلِكَ شَيْءٌ مَقْصُورٌ عليها وَلَعَلَّهُمْ أَيْضًا إنَّمَا عَرَّبُوهَا وَلَيْسَ في كَلَامِهِمْ ما يَقُومُ مَقَامَهَا فَيَكُونُ وَجْهُ تَعْرِيبِهِمْ إيَّاهَا الْوَجْهَ الذي اسْتَنْسَبُوا معه لِلْمُحْدَثِ أَنْ يُعَرِّبَ النَّكِرَةَ حَيْثُ لَا يَجِدَ بَدَلًا منها فَأَمَّا الْعَلَمُ فَسَائِغٌ لِلْمُحْدَثِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِيمَا يُعَرِّبُ من كَلَامِهِ وَجَدَ بَدَلًا منه أَمْ لَا فَائِدَةٌ قال الثَّعَالِبِيُّ في فِقْهِ اللُّغَةِ فَصْلٌ في ذِكْرِ أَسْمَاءٍ قَائِمَةٍ في لُغَةِ الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ على لَفْظٍ وَاحِدٍ التَّنُّورُ الْخَمِيرُ الرُّمَّانُ اللَّبَنُ الدِّينَارُ الدِّرْهَمُ
____________________
(1/530)
فَصْلٌ في أَسْمَاءٍ تَفَرَّدَتْ بها الْفُرْسُ دُونَ الْعَرَبِ وَاضْطُرَّتْ الْعَرَبُ إلَى تَعْرِيبِهَا أو تَرْكِهَا كما هِيَ فَمِنْهَا من الْأَوَانِي الْكُوزُ الْجَرَّةُ الْإِبْرِيقُ الطَّشْتُ الْخُوَانُ الطَّبَقُ الْقَصْعَةُ السُّكْرُجَةُ وَمِنْ الْمَلَابِسِ السُّمُورُ السِّنْجَابُ الْخَزُّ الدِّيبَاجُ السُّنْدُسُ النَّاصِحُ الرَّاجِحُ وَمِنْ الْجَوَاهِرِ الْيَاقُوتُ الْفَيْرُوزَجُ الْبَلُّورُ وَمِنْ الْمَأْكُولَاتِ السَّمِيدُ الجردق الدرمك الْكَعْكُ السِّكْبَاجُ الزيرياج الطباهج الْجَرْدَانُ الزماورد الفالوذج اللَّوْزِينَجُ الْجُوزَيَنْجُ السكنجبين الْخَلَنْجَيِينُ وَمِنْ الْأَقَاوِيَّةِ وَالرَّيَاحِينِ الْقِرْفَةُ الدَّارَصِينُ الْفُلْفُلُ الكراويا الزَّنْجَبِيلُ الخولنجان السَّوْسَنُ الْمَرْكُوشُ الْيَاسَمِينُ الْجُلَّنَارُ الْكَافُورُ والصندل الْقُرُنْفُلُ مَسْأَلَةٌ الْمُعَرَّبُ وَاقِعٌ في السُّنَّةِ أَيْضًا وَمِنْهُمْ من نَصَبَ الْخِلَافَ فيه كَابْنِ الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرِهِ وقد بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ بَابَ من تَكَلَّمَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَالرَّطَانَةِ وَأَسْنَدَ فيه عن أُمِّ خَالِدٍ أَتَيْت النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مع أبي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم سنه سنه قال ابن الْمُبَارَكِ هِيَ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنَةٌ وفي الصَّحِيحِ أَيْضًا وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ قِيلَ وما الْهَرْجُ قال الْقَتْلُ قال أبو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ هِيَ لُغَةُ الْحَبَشَةِ
____________________
(1/531)
فُرُوعٌ على جَوَازِ النَّقْلِ الْأَوَّلُ النَّقْلُ خِلَافُ الْأَصْلِ بِمَعْنَى أَنَّهُ إذَا دَارَ اللَّفْظُ بين احْتِمَالِ النَّقْلِ وَبَقَائِهِ على الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ كان حَمْلُهُ على الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فيه وَالْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ مُتَّفَقٌ عليها فَيَكُونُ الْأَخْذُ بها أَوْلَى الثَّانِي قد سَبَقَ انْقِسَامُ الْحَقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ الْمُتَبَايِنَةِ وَالْمُتَوَاطِئَةِ وَالْمُتَرَادِفَةِ وَالْمُشْتَرَكَةِ وَالْمُشَكَّكَةِ فَهَلْ هذه الْأَقْسَامُ في الْمَنْقُولَاتِ الشَّرْعِيَّةِ أَمْ لَا فَنَقُولُ أَمَّا الْمُتَبَايِنَةُ فَلَا شَكَّ فيها كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَكَذَلِكَ الْمُتَوَاطِئَةُ كَالصَّلَاةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَفْرُوضَةِ وَالنَّافِلَةِ وَصَلَاةِ الْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ وَالصَّوْمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَرْضِ وَالنَّقْلِ وَزَعَمَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْبَيْضَاوِيُّ أَنَّ إطْلَاقَ الصَّلَاةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّلَاةِ الْأُخْرَى وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْمُومِئِ بِالظَّهْرِ وَنَحْوِهِ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ لِأَنَّهُ ليس بَيْنَهُمَا أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ يُمْكِنُ جَعْلُهُ مَدْلُولَ اللَّفْظِ قال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وهو ضَعِيفٌ فإن كَوْنَ الْفِعْلِ وَاقِعًا بِالتَّحَرُّمِ وَالتَّحَلُّلِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بين تِلْكَ الصَّلَوَاتِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُهَا وَالْأَقْرَبُ أنها مُتَوَاطِئَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُلِّ إذْ التَّوَاطُؤُ خَيْرٌ من الِاشْتِرَاكِ وَذَكَرَ صَاحِبُ التَّحْصِيلِ نَحْوَهُ وَأَمَّا الْمُشْتَرَكَةُ فَالْأَشْبَهُ وُقُوعُهَا أَيْضًا فإن إطْلَاقَ الطَّهُورِ على الْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَعَلَى ما يُدْفَعُ بِهِ ليس اشْتِرَاكًا مَعْنَوِيًّا إذْ ليس بَيْنَهُمَا مَعْنًى مُشْتَرَكٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولَ اللَّفْظِ كَذَا قال الْهِنْدِيُّ وهو مُعْتَرَضٌ بِمِثْلِ ما اُعْتُرِضَ بِهِ على الْإِمَامِ في الصَّلَاةِ وَأَمَّا الْمُشَكَّكَةُ فَالْأَظْهَرُ أنها وَاقِعَةٌ أَيْضًا وَهِيَ كَالْفَاسِقِ بِالنِّسْبَةِ إلَى من فَعَلَ الْكَبِيرَةَ الْوَاحِدَةَ وَبِالنِّسْبَةِ إلَى فِعْلِ الْكَبَائِرِ الْمُتَعَدِّدَةِ فإن تَنَاوُلَهُ لِلثَّانِي بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَأَمَّا الْمُتَرَادِفُ فَالْأَظْهَرُ وُقُوعُهُ أَيْضًا خِلَافًا لِلرَّازِيِّ كَالْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ عِنْدَنَا وَالتَّزْوِيجِ وَالْإِنْكَاحِ وَالْمُسْتَحَبِّ وَالْمَنْدُوبِ هذا كُلُّهُ نَقْلٌ في الْأَسْمَاءِ وَهِيَ أَيْضًا على قِسْمَيْنِ أَحَدِهِمَا ما وَضَعَهُ بِإِزَاءِ الْمَاهِيَّاتِ الْجَعْلِيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَأَمْثَالِهَا وَالثَّانِي الْأَسْمَاءُ الْمُتَّصِلَةُ بِالْأَفْعَالِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ الْمَصْدَرُ وَاسْمُ الْفَاعِلِ وَاسْمُ الْمَفْعُولِ وَالصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ وَأَسْمَاءُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فَاسْمُ الْفَاعِلِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَاسْمُ الْمَفْعُولِ يُسْتَعْمَلُ في الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْوَكَالَةِ وَيَقْرُبُ منه أَنْتِ
____________________
(1/532)
حَرَامٌ وَأَنْتَ حُرٌّ وَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيِّ وَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَقَدْ اُسْتُعْمِلَ في الطَّلَاقِ في قَوْلِهِ أَنْتِ الطَّلَاقُ وَهَلْ هو صَرِيحٌ أو كِنَايَةٌ فيه خِلَافٌ وَلَا يَبْعُدُ جَرَيَانُ مِثْلِهِ في الْعِتْقِ وفي الضَّمَانِ ذَكَرُوا في صِيغَةِ أنا ضَامِنٌ وَكَفِيلٌ وَقَبِيلٌ وفي قَبِيلٍ وَجْهٌ قال الرَّافِعِيُّ يَطَّرِدُ في الْحَمِيلِ وَأَمَّا الْحُرُوفُ فلم يُنْقَلْ منها شَيْءٌ كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَالْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَالْحَقُّ أَنَّهُ كَالْأَفْعَالِ في ذلك فإن نَقْلَ مُتَعَلِّقِ مَعَانِي الْحُرُوفِ من الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ إلَى الشَّرْعِيَّةِ مُسْتَلْزِمٌ لِنَقْلِهَا أَيْضًا وفي نعم بَحْثٌ مَبْنِيٌّ على قَاعِدَةِ أَنَّ السُّؤَالَ هل هو كَالْمُعَادِ في الْجَوَابِ وَأَمَّا الْأَفْعَالُ فلم يُوجَدْ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَيُوجَدُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِمَصَادِرِهَا فَإِنْ كان الْمَصْدَرُ شَرْعِيًّا كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ كان الْفِعْلُ الدَّالُّ عليه شَرْعًا كَصَلَّى وَزَكَّى وَإِنْ كان لُغَوِيًّا كان الْفِعْلُ أَيْضًا لُغَوِيًّا كَأَكْثَرِ الْأَفْعَالِ أَقْسَامُ الْفِعْلِ وَالْفِعْلُ يَنْقَسِمُ إلَى مَاضٍ وَأَمْرٍ وَمُضَارِعٍ فَأَمَّا الْمُضَارِعُ فلم يُسْتَعْمَلْ في الشَّرْعِ في شَيْءٍ أَصْلًا إلَّا في لَفْظَةِ أَشْهَدُ في الشَّهَادَةِ فَإِنَّهَا تَعَيَّنَتْ ولم يَقُمْ غَيْرُهَا مَقَامَهَا وَكَذَلِكَ في اللِّعَانِ سَوَاءٌ قُلْنَا إنَّهُ يَمِينٌ أو شَهَادَةٌ أو فيه شَائِبَةٌ من أَحَدِهِمَا وَيَجُوزُ في الْيَمِينِ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ وَأَشْهَدُ وَلَا يَتَعَيَّنُ وَأَمَّا الْمَاضِي فَيُعْمَلُ بِهِ في الْإِنْشَاءَاتِ كَالْعُقُودِ وَالطَّلَاقِ وَأَمَّا فِعْلُ الْأَمْرِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْإِيجَابِ وَالِاسْتِيجَابِ في الْعُقُودِ وَالطَّلَاقِ فَكَذَا يُعْمَلُ بِهِ في كل مَوْضِعٍ يُعْمَلُ بِالْمَاضِي على الصَّحِيحِ الثَّالِثُ صِيَغُ الْعُقُودِ كَبِعْتُ وَطَلَّقْت لَا شَكَّ في كَوْنِهَا وُضِعَتْ في اللُّغَةِ لِلْإِخْبَارِ عن أَمْرٍ مَاضٍ وَأَمَّا في الشَّرْعِ فَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كَذَلِكَ كما إذَا صَدَرَ عن إنْسَانٍ بَيْعٌ أو طَلَاقٌ أو غَيْرُهُمَا ثُمَّ قال بِعْتُ أو طَلَّقْتُ وَمُرَادُهُ الْإِخْبَارُ عَمَّا نَصَّ وقد يُسْتَعْمَلُ لِاسْتِحْدَاثِ أَحْكَامٍ لم تَكُنْ قَبْلُ فَهَلْ هِيَ إخْبَارَاتٌ وَالْحَالَةُ هذه بَاقِيَةٌ على الْأَوْضَاعِ اللُّغَوِيَّةِ أو إنْشَاءَاتٌ بِمَعْنَى أَنَّ الشَّارِعَ نَقَلَهَا إلَى الْإِنْشَاءَاتِ الْمَخْصُوصَةِ فيه قَوْلَانِ وَالْأَكْثَرُونَ منهم الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ على الثَّانِي وَنُسِبَ الْأَوَّلُ لِلْحَنَفِيَّةِ وَأَنْكَرَهُ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ السُّرُوجِيُّ في الْغَايَةِ وقال الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أنها إنْشَاءَاتٌ
____________________
(1/533)
قُلْت وما قَالَهُ صَاحِبُ الْبَدِيعِ إنَّهُ الْحَقُّ حِينَئِذٍ فَلَا خِلَافَ بين الْفَرِيقَيْنِ وَلِهَذَا أَجْمَعُوا على ثُبُوتِ أَحْكَامِهَا عِنْدَ التَّلَفُّظِ بها وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هل يَثْبُتُ مع آخِرِ حَرْفٍ من حُرُوفِهَا أو عَقِبَهُ وَنَسَبَ الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا إخْبَارَاتٌ لِاخْتِبَارِ أَئِمَّةِ النَّظَرِ من الْخِلَافِيِّينَ قالوا وهو تَفْرِيعٌ على الْقَوْلِ بِالنَّقْلِ الشَّرْعِيِّ إمَّا مُطْلَقًا كَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أو إلَى مَجَازَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ وَلَا يَتَأَتَّى على رَأْيِ الْقَاضِي وَتَحْرِيرُ الْقَوْلِ بِالْإِخْبَارِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِك بِعْت الْإِخْبَارُ عَمَّا في قَلْبِك فإن أَصْلَ الْبَيْعِ هو التَّرَاضِي وَوُضِعَتْ لَفْظَةُ بِعْت لِلدَّلَالَةِ على الرِّضَى فَكَأَنَّهُ أَخْبَرَ بها عَمَّا في ضَمِيرِهِ بِتَقْدِيرِ وُجُودِهَا قُبَيْلَ اللَّفْظِ لِلضَّرُورَةِ وَغَايَةُ ذلك أَنْ يَكُونَ مَجَازًا وهو أَوْلَى من النَّقْلِ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا إنْشَاءٌ قالوا ليس مَعْنَاهُ أنها نُقِلَتْ عن مَعْنَى الْإِخْبَارِ بِالْكُلِّيَّةِ وَوُضِعَتْ لِإِيقَاعِ هذه الْأُمُورِ بَلْ مَعْنَاهُ أنها صِيَغٌ يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ مَدْلُولَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ على ثُبُوتِ هذه الْأُمُورِ من جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ فَاعْتَبَرَ الشَّرْعُ إيقَاعَهَا من جِهَتِهِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ تَصْحِيحًا لِهَذِهِ الْأُمُورِ من حَيْثُ إنَّهَا لم تَكُنْ تَابِعَةً وَلِهَذَا كان جَعْلُهُ إنْشَاءً لِلضَّرُورَةِ حتى لو أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِكَوْنِهِ إخْبَارًا لم يُجْعَلْ إنْشَاءً بِأَنْ يَقُولَ لِلْمُطَلَّقَةِ وَالْمَنْكُوحَةِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا قال قَصَدْت الْأَجْنَبِيَّةَ تَنْبِيهٌ كَذَا فَرَضُوا الْخِلَافَ في الْعُقُودِ وَيُلْتَحَقُ بِهِ الْحُلُولُ كَفَسَخْتُ وَطَلَّقْت فَالطَّلَاقُ إنْشَاءٌ لَا يَقُومُ الْإِقْرَارُ مَقَامَهُ وَلَكِنْ يُؤَاخَذُ ظَاهِرًا بِمَا أَقَرَّ بِهِ وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ الْإِقْرَارَ بِالطَّلَاقِ على صِيغَتِهِ حتى يَنْفُذَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَحُكِيَ وَجْهٌ أَنَّهُ يَصِيرُ إنْشَاءً حتى يَنْفُذَ بَاطِنًا قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وهو مُتَلَبِّسٌ فإن الْإِقْرَارَ وَالْإِنْشَاءَ يَتَنَافَيَانِ فَذَلِكَ إخْبَارٌ عن مَاضٍ وَهَذَا إحْدَاثٌ في الْمُسْتَقْبَلِ وَذَلِكَ يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ وَهَذَا بِخِلَافِهِ
____________________
(1/534)
الْمَجَازُ الْمَجَازُ مُشْتَقٌّ من الْجَوَازِ وَالْجَوَازُ في الْأَمَاكِنِ حَقِيقَةٌ وهو الْعُبُورُ يُقَالُ جُزْت الدَّارَ أَيْ عَبَرْتهَا وَيُسْتَعْمَلُ في الْمَعَانِي وَمِنْهُ الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ قال الْإِمَامُ وهو حَقِيقَةٌ في الْمَصْدَرِ وَنُقِلَ منه إلَى الْفَاعِلِ وهو الْجَائِزُ لِمَا بَيْنَهُمَا من الْعَلَاقَةِ ثُمَّ نُقِلَ منه إلَى الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عليه وهو اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ في مَعْنًى غَيْرِ مَوْضُوعٍ له أَوَّلًا يُنَاسِبُ الْمُصْطَلَحَ وَهَذَا التَّعْرِيفُ إنْ قُلْنَا الْمَجَازُ ليس بِمَوْضُوعٍ فَإِنْ قُلْنَا مَوْضُوعٌ فَلْنَقُلْ بِوَضْعٍ ثَانٍ وَخَرَجَ الْحَقِيقَةُ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ وَأَشَارَ بِالْقَيْدِ الْآخَرِ إلَى شُمُولِ الْحَدِّ كُلَّ مَجَازٍ من شَرْعِيٍّ وَعُرْفِيٍّ عَامٍّ وَخَاصٍّ وَلُغَوِيٍّ وَأَنَّ الْعَلَاقَةَ شَرْطٌ وَيَجِيءُ الْخِلَافُ السَّابِقُ في أَنَّ انْتِقَالَهُ بهذا الْمَعْنَى حَقِيقَةٌ أو مَجَازٌ وَكَلَامُ ابْنِ سِيدَهْ السَّابِقُ يَقْتَضِي أَنَّ له اسْتِعْمَالًا في اللُّغَةِ وقال أبو حَيَّانَ التَّوْحِيدِيُّ في الْبَصَائِرِ الْمَجَازُ طَرِيقُ الْمَعْنَى بِالْقَوْلِ تَقُولُ جَازَ يَجُوزُ جَوَازًا وَمَجَازًا وَإِنْ جَعَلْته مَصْدَرًا من ذلك كان الْجَوَازُ كَالسُّلُوكِ فَكَأَنَّهُ سُلُوكُ الْمَعْنَى بِاللَّفْظِ وقال الْقَاضِي يُسَمَّى مَجَازًا لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يُجَاوِزُونَ بِهِ عن أَصْلِ الْوَضْعِ تَوَسُّعًا منهم كَتَسْمِيَةِ الرَّجُلِ الشُّجَاعِ أَسَدًا وَالْبَلِيدِ حِمَارًا فصل اخْتَلَفُوا في أَنَّ الْمَجَازَ مَوْضُوعٌ أَمْ لَا فَقِيلَ مَوْضُوعٌ كَالْحَقِيقَةِ إلَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ بِوَضْعٍ أَصْلِيٍّ وَالْمَجَازُ بِوَضْعٍ طَارٍ وَقِيلَ ليس بِمَوْضُوعٍ بَلْ الْمَوْضُوعُ طَرِيقُهُ دُونَ لَفْظِهِ لِأَنَّ في وَضْعِهِمْ الْحَقِيقَةَ غُنْيَةً عن وَضْعِ الْمَجَازِ وَلَكِنْ وَضَعُوا الْمَجَازَ تَوْسِعَةً لِلنَّاسِ في الْكَلَامِ وَقِيلَ لم يَضَعُوا لَفْظَهُ وَلَا طَرِيقَهُ لِأَنَّهُ عِلَّةٌ له وَمَتَى كانت الْعِلَّةُ مَوْضُوعَةً كان الْحُكْمُ مَنْصُوصًا عليه كَالْعِلَّةِ في الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إذَا كانت مَنْصُوصَةً كان الْحُكْمُ الثَّابِتُ فيها مَنْصُوصًا فَيَفْسُدُ بَابُ الْمَجَازِ وهو خِلَافُ إجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْكَلَامَ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ لَكِنَّ الْمَجَازَ عُرِفَ بِالتَّأَمُّلِ في أَشْعَارِهِمْ وَهَذَا الْخِلَافُ حَكَاهُ صَاحِبُ الْمِيزَانِ من الْحَنَفِيَّةِ
____________________
(1/535)
تَنْبِيهٌ الْوَضْعُ في الْمَجَازِ خِلَافُ الْوَضْعِ في الْحَقِيقَةِ فإنه في الْحَقِيقَةِ تَعَلُّقُ اللَّفْظِ بِإِزَاءِ الْمَعْنَى الذي جُعِلَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً له وَأَمَّا الْوَضْعُ في الْمَجَازِ على الْخِلَافِ فيه فَالْمُرَادُ بِهِ كما قَالَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ أَنْ يَكُونَ نَوْعُ ذلك الْمَجَازِ مَنْقُولًا عن الْعَرَبِ اسْتِعْمَالُهُ فيه كَاسْتِعْمَالِهِمْ الْكُلَّ في الْجُزْءِ وَعَكْسِهِ هَكَذَا جَعَلَ هذا الْخِلَافَ هو الْخِلَافُ الْآتِي في أَنَّهُ هل يُشْتَرَطُ النَّقْلُ وَفِيهِ نَظَرٌ كما سَبَقَ وَقِيلَ الْخِلَافُ فيه يَلْتَفِتُ على تَفْسِيرِ الْوَضْعِ بِأَنَّهُ التَّعْيِينُ مُطْلَقًا أو التَّعْيِينُ الذي بِنَفْسِهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وقال بَعْضُهُمْ هو مَوْضُوعٌ لَا بِمَعْنَى تَوَقُّفِ الِاسْتِعْمَالِ بَعْدَ الْمُنَاسَبَةِ بِإِذْنِ الْوَاضِعِ بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَفَرَّعُ على وَضْعِ الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا كان وَضْعًا غير أَوْلَى مَسْأَلَةٌ إذَا قُلْنَا إنَّهُ مَوْضُوعٌ انْقَسَمَ كَالْحَقِيقَةِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ لُغَوِيٍّ وَشَرْعِيٍّ وَعُرْفِيٍّ فَالشَّرْعِيُّ وَالْعُرْفِيُّ يَجِيءُ فِيهِمَا الْخِلَافُ السَّابِقُ في الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ وَأَمَّا اللُّغَوِيُّ فَالْمَجَازُ وَاقِعٌ في اللُّغَةِ خِلَافًا لِلْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ حَيْثُ قال لَا مَجَازَ فيها لِأَنَّ الْحَقَائِقَ شَمِلَتْ جَمِيعَ الْمُسَمَّيَاتِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّجَوُّزِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وَالظَّنُّ بِالْأُسْتَاذِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عنه وَإِنْ أَرَادَ أَهْلُ اللُّغَةِ لم يُسَمُّوهُ بِذَلِكَ بَلْ اسْمُهُ مع قَرِينَةٍ حَقِيقَةٌ فَمَمْنُوعٌ فإن كُتُبَهُمْ مَشْحُونَةٌ بِتَلْقِيبِهِ مَجَازًا وَلَوْ صَحَّ كَوْنُ الْمَجْمُوعِ حَقِيقَةً لم يَقْدَحْ في تَسْمِيتِهِمْ الِاسْمَ بِانْفِرَادِهِ مَجَازًا وَقِيلَ الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ إذْ هو لَا يُنْكِرُ اسْتِعْمَالَ الْأَسَدِ لِلشُّجَاعِ وَأَمْثَالِهِ بَلْ يَشْتَرِطُ في ذلك الْقَرِينَةَ وَيُسَمِّيهِ حِينَئِذٍ حَقِيقَةً وَلَكِنْ يُنْكِرُ تَسْمِيَتَهُ مَجَازًا قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وقال الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ لَعَلَّ الْأُسْتَاذَ أَرَادَ أَنَّهُ ليس بِثَابِتٍ ثُبُوتَ الْحَقِيقَةِ وَلَا يُظَنُّ بِالْأُسْتَاذِ إنْكَارُ الِاسْتِعَارَاتِ مع كَثْرَتِهَا ثُمَّ قال في بَابِ التَّأْوِيلِ مَسْأَلَةٌ قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الظَّاهِرُ هو الْمَجَازُ وَالنَّصُّ هو الْحَقِيقَةُ وَرُبَّ مَجَازٍ هو نَصٌّ كَقَوْلِنَا الْخَمْرُ مُحَرَّمَةٌ وَالتَّحْرِيمُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَمْرِ حَقِيقَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَالْحَافِظَاتِ خطأ ( ( ( بعد ) ) ) قَوْلِهِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ مَجَازٌ في حِفْظِ
____________________
(1/536)
الْفَرْجِ على الْخُصُوصِ وهو نَصٌّ في مَقْصُودِهِ فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ الظَّاهِرُ ما يَغْلِبُ على الظَّنِّ فَهْمُ مَعْنًى منه ا هـ فَلْيُنْظَرْ في مُطَابَقَةِ هذا النَّقْلِ لِلْمَنْقُولِ منه هُنَا وَرَأَيْت بِخَطِّ ابْنِ الصَّلَاحِ في فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ أَنَّ أَبَا الْقَاسِمِ بن كَجٍّ حَكَى عن أبي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ إنْكَارَ الْمَجَازِ كَقَوْلِ الْأُسْتَاذِ وهو غَرِيبٌ عَكْسُ مَقَالَةِ تِلْمِيذِهِ ابْنِ جِنِّي وَفِيهِ نَظَرٌ فإن تِلْمِيذَهُ أَبَا الْفَتْحِ بن جِنِّي أُعْرَفُ بِمَذْهَبِهِ وقد نَقَلَ عنه في كِتَابِ الْخَصَائِصِ عَكْسَ هذه الْمَقَالَةِ أَنَّ الْمَجَازَ غَالِبُ اللُّغَاتِ كما هو مَذْهَبُ ابْنِ جِنِّي وقال فَإِنْ قُلْت فَقَدْ أَحَالَ سِيبَوَيْهِ قَوْلَنَا شَرِبْت مَاءَ الْبَحْرِ وَهَذَا مَنْعٌ منه لِوُقُوعِ الْمَجَازِ قُلْت الذي مَنَعَهُ سِيبَوَيْهِ حَقِيقَةً لِامْتِنَاعِ تَصَوُّرِهِ ذلك أَمَّا إذَا أُرِيدَ الْبَعْضُ فَلَا شَكَّ في جَوَازِهِ تَنْبِيهٌ لم يُبَيِّنُوا الْكَلَامَ في هذه الْمَسْأَلَةِ هل هو في الْوُجُوبِ وَالِامْتِنَاعِ أو في الْجَوَازِ كما هو في الْمُشْتَرَكِ وَالْمُرَادِفِ وَظَاهِرُ دَلِيلِ الْأُسْتَاذِ أَنَّهُ في الِامْتِنَاعِ لِاحْتِجَاجِهِ فإنه مُخِلٌّ بِالتَّفَاهُمِ وَهَذَا يُنَاسِبُ الْمَنْعَ مَسْأَلَةٌ بَالَغَ ابن جِنِّي فَادَّعَى أَنَّ الْغَالِبَ على اللُّغَةِ الْمَجَازُ وَنَقَلَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن أبي زَيْدٍ الدَّبُوسِيِّ وقال تِلْمِيذُ ابْنِ جِنِّي عبد اللَّهِ بن مَتَّوَيْهِ الْكُلُّ مَجَازٌ وَهُمَا شَاذَّانِ وَعِبَارَةُ ابْنِ جِنِّي وَأَكْثَرُ اللُّغَةِ لِمَنْ تَأَمَّلَ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ وَذَلِكَ عَامَّةُ الْأَفْعَالِ نحو قام زَيْدٌ وَقَعَدَ عَمْرٌو وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لم يَكُنْ منه جَمِيعُ الْقِيَامِ وَكَيْفَ يَصِحُّ ذلك وهو جِنْسٌ وَالْجِنْسُ يُطْلَقُ على الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَإِنَّمَا هو على وَضْعِ الْكُلِّ مَوْضِعَ الْبَعْضِ لِلِاتِّسَاعِ وَالْمُبَالَغَةِ وَتَشْبِيهِ الْقَلِيلِ بِالْكَثِيرِ وَحُكِيَ قَرِيبًا من ذلك عن أبي عَلِيٍّ وَغَرَضُ ابْنِ جِنِّي من هذا أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ خَالِقٍ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ كما صَرَّحَ بِهِ بَعْدُ حَيْثُ قال وَكَذَلِكَ أَفْعَالُ الْقَدِيمِ نحو خَلْقِ اللَّهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَنَحْوَهُ قال
____________________
(1/537)
لِأَنَّهُ تَعَالَى لم يَكُنْ بِذَلِكَ خَالِقًا لِأَفْعَالِنَا وَلَوْ كان حَقِيقَةً لَا مَجَازًا لَكَانَ خَالِقًا لِلْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ وَغَيْرِهِمَا من أَفْعَالِنَا وَيَتَعَالَى عن ذلك قال وَكَذَلِكَ عِلْمُ اللَّهِ بِقِيَامِ زَيْدٍ مَجَازٌ أَيْضًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ الْحَالَةُ التي عَلِمَ عليها قِيَامَ عَمْرٍو وَلَسْنَا نُثْبِتُ له تَعَالَى عِلْمًا لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِنَفْسِهِ إلَّا مع ذلك فَعَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَتْ حَالَةُ عِلْمِهِ بِجُلُوسِ عَمْرٍو هِيَ حَالَةُ عِلْمِهِ بِقِيَامِ زَيْدٍ قال وَكَذَلِكَ ضَرَبْتُ عَمْرًا مَجَازٌ لِأَنَّ الضَّرْبَ إنَّمَا وَقَعَ على بَعْضِهِ قُلْت وقد اسْتَدْرَكَ بهذا الْمَرْكَبِ الصَّعْبِ إلَى أُمُورٍ قَبِيحَةٍ تَنَزَّهَ اللَّهُ عنها
____________________
(1/538)
مَسْأَلَةٌ الْمَجَازُ في الْقُرْآنِ وَوَقَعَ في الْقُرْآنِ على الْأَصَحِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ لَمَّا طَغَى الْمَاءُ وقد صَنَّفَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عِزُّ الدِّينِ بن عبد السَّلَامِ كِتَابًا حَافِلًا في ذلك وَبِهِ قال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ منهم أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ فإنه قال في قَوْله تَعَالَى إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى هذا من مَجَازِ اللُّغَةِ يقول الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ سَنُجْرِي عَلَيْك رِزْقَك إنَّا نَشْتَغِلُ بِك وَمَنَعَهُ آخَرُونَ وَنَسَبَهُ الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ إلَى الْحَشْوِيَّةِ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَحُكِيَ عن الْأُسْتَاذِ أَيْضًا وقال ابن بَرْهَانٍ وَالْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ إذَا أَنْكَرَ الْمَجَازَ في اللُّغَةِ فَلَأَنْ يُنْكِرَهُ في الْقُرْآنِ من طَرِيقٍ أَوْلَى لِأَنَّ الْقُرْآنَ إنَّمَا نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ قُلْت وَكَذَا حَكَاهُ ابن بَرْهَانٍ في شَرْحِ الْإِرْشَادِ عن الْأُسْتَاذِ وَابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ وهو قَوْلُ أبي الْعَبَّاسِ بن الْقَاصِّ من أَصْحَابِنَا فِيمَا حَكَاهُ الْعَبَّادِيُّ في الطَّبَقَاتِ وَحَكَوْهُ عن دَاوُد الظَّاهِرِيِّ وَابْنِهِ وَحَكَاهُ أبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ عن ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ من الْمَالِكِيَّةِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُنْذِرُ بن سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيُّ في أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَحَكَاهُ أبو عبد اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ في كِتَابِهِ في الْأُصُولِ عن أبي مُسْلِمِ بن يحيى الْأَصْفَهَانِيِّ وقال الْقَاضِي أبو يَعْلَى من الْحَنَابِلَةِ عن أبي الْفَضْلِ التَّمِيمِيِّ إنَّهُ حَكَاهُ في كِتَابِهِ الْأُصُولِ عن أَصْحَابِهِمْ وَلِذَلِكَ قال أبو حَامِدٍ في أُصُولِهِ ليس في الْقُرْآنِ مَجَازٌ لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عن أَحْمَدَ خِلَافُهُ وَقِيلَ إنَّمَا أَنْكَرَتْ الظَّاهِرِيَّةُ مَجَازَ الِاسْتِعَارَةِ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ عن أبي الْفَتْحِ الْمَرَاغِيّ وَشُبْهَتُهُمْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَعْدِلُ عن الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ إلَّا إذَا ضَاقَتْ بِهِ الْحَقِيقَةُ فَيَسْتَعِيرُ وهو مُسْتَحِيلٌ على اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا بَاطِلٌ وَلَوْ وَجَبَ خُلُوُّ الْقُرْآنِ من الْمَجَازِ لَوَجَبَ خُلُوُّهُ من التَّوْكِيدِ وَتَثْنِيَةِ الْقَصَصِ وَالْإِشَارَاتِ إلَى الشَّيْءِ دُونَ النَّصِّ وَلَوْ سَقَطَ الْمَجَازُ من الْقُرْآنِ ذَهَبَ شَطْرُ الْحُسْنِ وَقَوْلُهُمْ إنَّ الْمَجَازَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ مَمْنُوعٌ بَلْ قد يُرَادُ بِهِ امْتِحَانُ
____________________
(1/539)
الْعُلَمَاءِ وَإِتْعَابُ خَوَاطِرِهِمْ وَحَدُّ فِكْرِهِمْ بِاسْتِخْرَاجِهِ وَطَلَبِ مَعَانِيهِ لِرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ وَإِكْرَامِ مَنَازِلِهِمْ كما في الْخِطَابِ بِالْمُجْمَلِ وَالْمُشْتَرَكِ وَالْمُتَشَابِهِ وَغَيْرِهِ من الْأَشْيَاءِ التي فيها أَمَارَةُ الْحُكْمِ على وَجْهٍ خَفِيٍّ وقال الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ يَلْزَمُ من إثْبَاتِ الْمَجَازِ في اللُّغَةِ إثْبَاتُهُ في الْقُرْآنِ وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ فُورَكٍ من أَنْكَرَ الْمَجَازَ في الْقُرْآنِ فَقَدْ قال إنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانٍ غَيْرِ عَرَبِيٍّ لِأَنَّ في اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ مَجَازًا وَحَقِيقَةً وَالْقُرْآنُ نَزَلَ على لُغَتِهِمْ وَمَنْ نَازَعَ في إعْطَاءِ التَّسْمِيَةِ لِأَنَّهُ مَجَازٌ وَاسْتِعَارَةٌ فَقَدْ نَازَعَ في اللَّفْظِ مع تَسْلِيمِ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَاسْتَدَلَّ ابن سُرَيْجٍ على أبي بَكْرِ بن دَاوُد بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ فقال الصَّلَوَاتُ لَا تُهْدَمُ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَوَاضِعَ الصَّلَوَاتِ وَعَبَّرَ بِالصَّلَوَاتِ عنها على سَبِيلِ الْمَجَازِ فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَقَامَهُ قال فلم يَكُنْ له عنه جَوَابٌ قُلْت ذَكَرَ أبو عُبَيْدٍ في كِتَابِ الْأَمْوَالِ أَنَّ الصَّلَوَاتِ بُيُوتٌ تُبْنَى في الْبَرَارِيِ لِلنَّصَارَى يُصَلُّونَ فيها في أَسْفَارِهِمْ تُسَمَّى صلوتا فَعُرِّبَتْ صَلَوَاتٍ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ إنَّمَا أَرَادَ هذه الْبُيُوتَ على ما يُرْوَى في التَّفْسِيرِ هذا كَلَامُهُ وهو غَرِيبٌ وَعَلَيْهِ فَلَا حُجَّةَ على دَاوُد إذْ لَا مَجَازَ حِينَئِذٍ وَالْحَقُّ في هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْقُرْآنِ نَفْسُ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ فَلَا مَجَازَ فيه أو الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عليه فَلَا شَكَّ في اشْتِمَالِهَا عليه وقال الْغَزَالِيُّ في إثْبَاتِ الْقِيَاسِ الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ فإن الْحَقِيقَةَ قد يُرَادُ بها الْحَقُّ وهو ما بِهِ الشَّيْءُ حَقُّ في نَفْسِهِ وَيُقَابِلُهُ الْمَجَازُ وَيَكُونُ تَقَابُلُهُمَا تَقَابُلَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهَذَا الْمَعْنَى يَجِبُ الْقَطْعُ بِنَفْيِ الْمَجَازِ عنه وقد يُرَادُ بِالْحَقِيقَةِ اللَّفْظُ الْعَرَبِيُّ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ له وَبِالْمَجَازِ ما اُسْتُعْمِلَ في غَيْرِ مَوْضُوعِهِ وهو بهذا الْمَعْنَى يَشْتَمِلُ عليه قَطْعًا وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ الْمُخَالِفُ في وُقُوعِهِ في اللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُخَالِفَ في أَنَّ ما فِيهِمَا لَا يُسَمَّى مَجَازًا أو في أَنَّ ما فيها ما هو مُسْتَعْمَلٌ في غَيْرِ مَوْضُوعِهِ فَإِنْ كان الْأَوَّلُ رَجَعَ الْخِلَافُ إلَى اللَّفْظِ لِأَنَّا لَا نَدَّعِي أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ وَضَعُوا لَفْظَ الْمَجَازِ لِمَا اسْتَعْمَلُوهُ فِيمَا لم يُوضَعْ لِإِفَادَتِهِ لِأَنَّ ذلك مَوْضُوعٌ في لُغَتِهِمْ لِلْمَمَرِّ وَالطَّرِيقِ وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَ الْعُلَمَاءُ هذه اللَّفْظَةَ في هذا الْمَعْنَى اصْطِلَاحًا منهم وَإِنْ كان الثَّانِي تَحَقَّقَ الْخِلَافُ في الْمَعْنَى لِأَنَّ غَرَضَنَا بِإِثْبَاتِ الْمَجَازِ يَرْجِعُ إلَى كَيْفِيَّةِ الِاسْتِعْمَالِ وَأَنَّهُ قد
____________________
(1/540)
يُسْتَعْمَلُ الْكَلَامُ في غَيْرِ ما وُضِعَ له فَيَدُلُّ عليهم وُجُودُهُ في لُغَتِهِمْ بِمَا لَا تُنْكِرُهُ الْأَكَابِرُ مَسْأَلَةٌ عن ابْنِ دَاوُد إنْكَارُ وُقُوعِ الْمَجَازِ حَكَى الْإِمَامُ الرَّازِيَّ عن ابْنِ دَاوُد إنْكَارَ وُقُوعِهِ في الحديث أَيْضًا وَاسْتَنْكَرَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ وقال تَفَرَّدَ بِهِ قُلْت هو لَازِمٌ من إنْكَارِهِ في اللُّغَةِ وقال ابن حَزْمٍ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ مَجَازٍ إلَّا بَعْدَ وُرُودِهِ في كِتَابِ اللَّهِ أو سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالْحَاصِلُ خَمْسَةُ مَذَاهِبَ الْمَنْعُ مُطْلَقًا الْمَنْعُ في الْقُرْآنِ وَحْدَهُ الْمَنْعُ في الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ دُونَ ما عَدَاهُمَا الْوُقُوعُ مُطْلَقًا وَالْخَامِسُ التَّفْصِيلُ بين ما فيه حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَغَيْرِهِ وهو قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ وَسَيَأْتِي وَالدَّلِيلُ على وُقُوعِهِ في الحديث قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تَبِيعُوا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ وَأَرَادَ بِالصَّاعِ ما فيه بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ على الْحَالِّ وَقَوْلُهُ أنت وَمَالُك لِأَبِيك وَقَوْلُهُ وقد رَكِبَ فَرَسَ أبي طَلْحَةَ إنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا وقال الْبُخَارِيُّ في كِتَابِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ أَمَّا بَيَانُ الْمَجَازِ من التَّحْقِيقِ مِثْلَ قَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِلْفَرَسِ وَجَدْتُهُ بَحْرًا وَاَلَّذِي يَجُوزُ فِيمَا بين الناس وَالْحَقِيقَةِ أَنَّ مَشْيَهُ حَسَنٌ كَقَوْلِك عِلْمُ اللَّهِ مَعَنَا وَفِينَا
____________________
(1/541)
وقد صَنَّفَ الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ مُجَلَّدًا في مَجَازَاتِ الْآثَارِ كما صَنَّفَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ في مَجَازِ الْقُرْآنِ تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ كَذَا فَرَضُوا الْخِلَافَ في الْوُقُوعِ وهو مُقْتَضَى الْجَزْمِ بِالْجَوَازِ لَكِنْ قال الْقَاضِي ابن كَجٍّ في كِتَابِهِ وقال قَوْمٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَاطِبَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْمَجَازِ وَأَنَّهُ يَكُونُ كَذِبًا وَتَمَحَّلُوا لِلْمَجَازَاتِ في الْقُرْآنِ حَقَائِقَ بِوَجْهِ تَعَبُّدٍ ثُمَّ قال وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالُوهُ إنَّهُ كَذِبٌ أَنَّهُمْ إمَّا أَنْ يُرِيدُوا بِهِ في الْجُمْلَةِ أو في مَوْضُوعِ اللُّغَةِ وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِلِاسْتِقْرَاءِ بِوُجُودِهِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ بِالْعُمُومِ لِأَنَّهُ قد خَاطَبَنَا بِهِ وهو يُرِيدُ الْخُصُوصَ فيه الثَّانِي مُرَادُنَا بِوُقُوعِهِ في الْقُرْآنِ على نَحْوِ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ الْمُسْتَعْذَبَةِ لَا الْمَجَازِ الْبَعِيدِ الْمُسْتَكْرَهِ وقد تَوَسَّعَ فيه قَوْمٌ فَضَلُّوا قال الطُّرْطُوشِيُّ من هذا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ أَعْنِي الْمَجَازَ في الْقُرْآنِ ضَلَّ أَكْثَرُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالضَّلَالَاتِ في تَأْوِيلِ أَكْثَرِ الْآيَاتِ قال وَكَذَلِكَ من جِهَةِ وُجُودِ الْمَجَازِ في التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ غَلِطَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى في تَأْوِيلِ كَثِيرٍ منه وقد قال بَعْضُ عُلَمَائِنَا إنَّ الْقَدَرِيَّةَ قد رَكِبُوا هذا فَحَمَلُوا آيَاتٍ كَثِيرَةٍ من الْقُرْآنِ هِيَ حَقَائِقُ على الْمَجَازَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ له كُنْ فَيَكُونُ قالوا ليس فيه دَلِيلٌ على كَوْنِهِ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا هو إخْبَارٌ عن سُرْعَةِ إيجَادِهِ لِأَفْعَالِهِ وَقَالُوا في قَوْله تَعَالَى قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ إنَّ هذا مَجَازٌ نحو امْتَلَأَ الْحَوْضُ وقال قُطْنِيٌّ وَأَنْكَرُوا أَيْضًا قَوْلَ جَهَنَّمَ هل من مَزِيدٍ وقَوْله تَعَالَى فيها تَدْعُوا من أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَزَعَمُوا أَنَّ مَعْنَاهُ مَصِيرُ من أَدْبَرَ وَتَوَلَّى إلَيْهَا وَهَذِهِ تَأْوِيلَاتٌ اسْتَنْبَطُوهَا على قَوَاعِدِهِمْ الْفَاسِدَةِ وَلَيْسَ في وُجُودِ الْمَجَازِ في الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ما يُوجِبُ تَأْوِيلَ الْحَقَائِقِ على الْمَجَازِ وَقَوْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا حَقِيقَةٌ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في صِفَةِ الْحَقِيقَةِ فقال الْأَشْعَرِيُّ الْحَيَاةُ شَرْطٌ في النُّطْقِ يَخْلُقُ اللَّهُ فيها الْحَيَاةَ في وَقْتِ نُطْقِهَا فَ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ وَالْقَلَانِسِيُّ من أَصْحَابِنَا لم يَشْتَرِطْ الْحَيَاةَ في الْكَلَامِ
____________________
(1/542)
وَأَجَازَ وُجُودَ الْكَلَامِ في الْجَمَادَاتِ بِأَنْ يُخْلَقَ فيها الْكَلَامُ وَغَيْرُ ذلك وقال صَاحِبُ الْمَصَادِرِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ في الْخِطَابِ بِالْمَجَازِ وَجْهٌ زَائِدٌ على ما ثَبَتَ بِالْحَقِيقَةِ خِلَافًا لِمَنْ قال يَجُوزُ أَنْ يَتَسَاوَى الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازِ من جَمِيعِ الْوُجُوهِ عِنْدَ الْحَكِيمِ ثُمَّ يَعْدِلُ عن الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالْمَجَازِ عَادِلٌ عن الْحَقِيقَةِ الْمَوْضُوعَةِ وَيَقْصِدُ إلَى ما لم يُوضَعْ له وَذَلِكَ لَا يَفْعَلُهُ الْحَكِيمُ إلَّا لِغَرَضٍ زَائِدٍ وَمِنْ فَوَائِدِهِ التَّعْرِيضُ بِزِيَادَةِ الثَّوَابِ لِأَنَّهُ يَسْتَدْعِي فِكْرًا وَنَظَرًا كما يقول في الْخِطَابِ بِالْمُتَشَابِهِ وَمِنْهَا كَوْنُ الْكَلَامِ أَدْخَلَ في الْفَصَاحَةِ وَأَبْلَغَ وَأَوْجَزَ فَائِدَةٌ في تَحْرِيرِ النَّقْلِ عن الظَّاهِرِيَّةِ في نَفْيِ الْمَجَازِ قال الْإِمَامُ أبو عبد اللَّهِ محمد بن أَحْمَدَ بن سَعِيدٍ الدَّاوُدِيُّ في كِتَابِهِ الْمَوْسُومِ بِ أُصُولِ الْفَتْوَى وَهَذَا الْكِتَابُ عُمْدَةُ الظَّاهِرِيَّةِ فِيمَا صَحَّ عن دَاوُد وَابْنِهِ فقال ما نَصُّهُ اخْتَلَفَ الناس في الْمَجَازَاتِ وَالِاسْتِعَارَاتِ فقال أَكْثَرُهُمْ في الْقُرْآنِ ما هو مَحْمُولٌ على الظَّاهِرِ وَالْحَقِيقَةِ وَمِنْهَا ما هو مَحْمُولٌ على الْمَجَازِ وَالتَّوَسُّعِ وما كان منه من الْمَجَازِ وَالتَّوَسُّعِ فَهُوَ مَرْدُودٌ إلَيْهِمَا دُونَ رَدِّهِ إلَى الظَّاهِرِ وَالْحَقِيقَةِ وقال بَعْضُهُمْ ليس في الْقُرْآنِ مَجَازٌ أَلْبَتَّةَ وَالِاسْتِعَارَةُ بِوَجْهٍ وَجَمِيعُهُ على ما هو بِهِ وَرُوِيَ عن دَاوُد بن عَلِيٍّ قَرِيبٌ من هذه الرِّوَايَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ من مُوَافِقِيهِ إلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ وَبِهِ قال ابْنُهُ أبو بَكْرٍ محمد بن دَاوُد في آخَرِينَ وكان يقول الْمُسْتَعِيرُ في الْحَقِيقَةِ هو الْآخِذُ ما ليس له فإذا سَمَّى الرَّجُلُ لَفْظَةً في الْقُرْآنِ مُسْتَعَارَةً فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهَا قد وُضِعَتْ في غَيْرِ مَوْضِعِهَا قال وَهَذَا خَطَأٌ من قَائِلِهِ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ الْأَصْلِيَّةَ التي جَعَلَتْ الْأُخْرَى مُسْتَعَارَةً منها لَنْ تَخْلُوَ أَنْ تَكُونَ إنَّمَا صَارَتْ أَصْلِيَّةً لِخَاصِّيَّةٍ فيها مَوْجُودَةٍ في عَيْنِهَا أو لِأَنَّ اللُّغَةَ جَاءَتْ بها فَإِنْ كان الْأَوَّلُ فما تِلْكَ الْعِلَّةُ التي أَوْجَبَتْ ذلك الِاسْمَ لها ولم يَجِدْ مُدَّعٍ إلَى تَصْحِيحِهَا سَبِيلًا وَإِنْ كان إنَّمَا صَارَتْ أَصْلِيَّةً لِأَنَّ الْعَرَبَ تَكَلَّمَتْ بها فَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ في الْكَلِمَةِ التي سَمَّتْهَا مُسْتَعَارَةً فَيَجِبُ على هذا الْأَصْلِ أَلَّا يُزَالَ اسْمُ الِاسْتِعَارَةِ عنها فَتَصِيرَ أَصْلِيَّةً قَائِمَةً بها فَإِنْ قِيلَ فما مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّك إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ وَقَوْلُهُ وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ
____________________
(1/543)
قِيلَ لِهَذِهِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ منها أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ اللُّغَةِ زَعَمَ أَنَّ اسْمَ الْقَرْيَةِ يَقَعُ على جَمَاعَةِ الرِّجَالِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا وَإِلَّا لَقَالَ أَهْلَكْنَاهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْأَلْ الْقَرْيَةَ وَالْبِنَاءَ يُخْبِرَاك عن صِدْقِنَا وَيَكُونُ ذلك مُعْجِزَةً في أَمْرِ يَعْقُوبَ وَوَلَدِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كما ادَّعَاهُ خُصُومُنَا من أَنَّ قَوْلَهُ وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ أَيْ أَهْلَهَا وَأَنَّ قَرْيَةً اسْمٌ لِلْبُنْيَانِ وَالْأَرْضِ وَأَنْ تَكُونَ اسْتِحَالَةُ سُؤَالِ الْأَرْضِ دَلِيلًا على أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ سُؤَالَ الناس وَيَكُونُ هذه حَقِيقَةً في مَعْنَاهَا لَا اسْتِعَارَةً ا هـ مُلَخَّصًا وقال أبو مُحَمَّدِ بن حَزْمٍ في كِتَابِهِ الْإِحْكَامِ اخْتَلَفَ الناس في الْمَجَازِ فَقَوْمٌ أَجَازُوهُ في الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَقَوْمٌ مَنَعُوا منه وَاَلَّذِي نَقُولُ أَنَّ الِاسْمَ إذَا تَيَقَّنَّا بِدَلِيلِ نَصٍّ أو إجْمَاعٍ أو طَبِيعَةٍ أَنَّهُ مَنْقُولٌ عن مَوْضُوعِهِ في اللُّغَةِ إلَى مَعْنًى آخَرَ وَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَهُ قال اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَلَهُ أَنْ يُسَمِّيَ ما شَاءَ فَإِنْ لم نَجِدْ دَلِيلًا على نَقْلِ الِاسْمِ عن مَوْضُوعِهِ في اللُّغَةِ إلَى مَعْنًى آخَرَ فَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَقُولَ إنَّهُ مَنْقُولٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يقول وما أَرْسَلْنَا من رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ فَكُلُّ خِطَابٍ خَاطَبَنَا اللَّهُ بِهِ أو رَسُولُهُ فَهُوَ على مَوْضُوعِهِ في اللُّغَةِ إلَى مَعْنًى فإذا وَجَدْنَا ذلك نَقَلْنَاهُ إلَيْهِ قال وَهَذَا الذي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ فَكُلُّ كَلِمَةٍ نَقَلَهَا اللَّهُ من مَوْضُوعِهَا في اللُّغَةِ إلَى مَعْنًى آخَرَ فَإِنْ تَعَبَّدْنَا بها قَوْلًا وَعَمَلًا كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذلك فَلَيْسَ شَيْءٌ منها مَجَازًا بَلْ حَقِيقَةً وَأَمَّا ما نَقَلَهُ عن مَوْضُوعِهِ في اللُّغَةِ إلَى مَعْنًى قد تَعَبَّدْنَا بِهِ دُونَ أَنْ نُسَمِّيَهُ بِذَلِكَ الِاسْمِ فَهَذَا هو الْمَجَازُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ من الرَّحْمَةِ فَإِنَّمَا تَعَبَّدَنَا تَعَالَى بِأَنْ نَذِلَّ لِلْأَبَوَيْنِ وَنَرْحَمَهُمَا وَلَنْ يُلْزِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ أَنْ نَنْطِقَ وَلَا يَدِينَنَا بِأَنَّ لِلذُّلِّ جَنَاحًا وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فإنه لَا خِلَافَ في أَنَّهُ افْتَرَضَ عَلَيْنَا تَسْمِيَتَهَا هذه بِأَعْيَانِهَا قال وَاحْتَجَّ من مَنَعَ الْمَجَازَ بِأَنَّهُ كَذِبٌ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ يَبْعُدَانِ عنه قال فَيُقَالُ له صَدَقْت وَلَيْسَ نَقْلُ اللَّهِ تَعَالَى الِاسْمَ عَمَّا كان اللَّهُ تَعَالَى عَلَّقَهُ عليه في مَوْضِعٍ ما إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ كَذِبًا بَلْ الْكَذِبُ ما لم يَنْقُلْهُ تَعَالَى بَلْ ما نَقَلَهُ هو الْحَقُّ نَفْسُهُ وقال في كَلَامِهِ على قَوْله تَعَالَى وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ وقد ذَكَرَ رَجُلٌ من الْمَالِكِيِّينَ من أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُعْرَفُ بِابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ أَنَّ لِلْحِجَارَةِ عَقْلًا
____________________
(1/544)
وَلَعَلَّ تَمْيِيزَهُ يَقْرُبُ من تَمْيِيزِهَا فَقَدْ شَبَّهَ اللَّهُ قَوْمًا زَاغُوا عن الْحَقِّ بِالْأَنْعَامِ وَصَدَقَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا قال هذا الْجَاهِلُ من الدَّلِيلِ على أَنَّ لِلْحِجَارَةِ تَعَقُّلًا قَوْله تَعَالَى وَإِنَّ من الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ منه الْأَنْهَارُ وَإِنَّ منها لَمَا يَشَّقَّقُ الْآيَةَ فَدَلَّ على أَنَّ لها عَقْلًا قال أبو مُحَمَّدٍ وَمِنْ الْعَجَبِ اسْتِدْلَالُهُ على أَنَّهُ لَا يَخْشَى اللَّهَ إلَّا ذُو عَقْلٍ وَكَيْفَ يَكُونُ لها تَمْيِيزٌ وَعَقْلٌ وَاَللَّهُ شَبَّهَ قُلُوبَ الْكُفَّارِ بِالْحِجَارَةِ في أنها لَا تَعْقِلُ الْحَقَّ وَلَا تُذْعِنُ له انْتَهَى مُلَخَّصًا قال الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ كَلَامُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في الْأَحْكَامِ لَا يُحْمَلُ على الِاسْتِعَارَةِ ما أَمْكَنَ فَإِنَّهَا لَا تَلِيقُ إلَّا بِوَاعِظٍ أو خَطِيبٍ أو شَاعِرٍ يَنْتَحِي السَّجْعَ لِإِيقَاعِهِ في الْقُلُوبِ فإن الشَّارِعَ إذَا بَيَّنَ حُكْمًا لِمَعْجُوزٍ مَثَلًا فَيَبْعُدُ منه التَّجَوُّزُ وهو تَشَدُّقٌ وقد نهى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عنه نعم لَا يَبْعُدُ في الِاسْتِعَارَةِ إذَا ذُكِرَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَوَصْفُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لِيُعَظِّمَ وَقْعَهُ في الصَّدْرِ مسألة في السَّبَبِ الدَّاعِي إلَى المجاز الْعُدُولِ عن الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ وَلَهُ فَوَائِدُ منها التَّعْظِيمُ كَقَوْلِهِ سَلَامٌ على الْمَجْلِسِ الْعَالِي وَمِنْهَا التَّحْقِيرُ لِذِكْرِ الْحَقِيقَةِ كما في قَوْله تَعَالَى أو جاء أَحَدٌ مِنْكُمْ من الْغَائِطِ وَمِنْهَا الْمُبَالَغَةُ في بَيَانِ الْعِبَارَةِ على الْإِيجَازِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَمِنْهَا تَفْهِيمُ الْمَعْقُولِ في صُورَةِ الْمَحْسُوسِ لِتَلْطِيفِ الْكَلَامِ وَزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ وَيُسَمَّى اسْتِعَارَةً تَخَيُّلِيَّةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ من الرَّحْمَةِ وَمِنْهَا زِيَادَةُ بَيَانِ حَالِ الْمَذْكُورِ نَحْوُ رَأَيْت أَسَدًا فإنه أَبْلَغُ في الدَّلَالَةِ على الشَّجَاعَةِ لِمَنْ حَكَمْت عليه في قَوْلِك رَأَيْت إنْسَانًا كَالْأَسَدِ شَجَاعَتُهُ وَمِنْهَا تَكْثِيرُ الْفَصَاحَةِ لِأَنَّ فَهْمَ الْمَعْنَى منه يَتَوَقَّفُ على قَرِينَةٍ وفي ذلك
____________________
(1/545)
غُمُوضٌ يَحُوجُ إلَى حَرَكَةِ الذِّهْنِ فَيَحْصُلُ من الْفَهْمِ شَبِيهُ لَذَّةِ الْكَسْبِ وَكَذَلِكَ ما يَدُلُّ عليه اللَّفْظُ بِالِالْتِزَامِ أَحْسَنُ مِمَّا يَدُلُّ عليه بِالْمُطَابَقَةِ لِمَا في دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ تَصَرُّفُ الذِّهْنِ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمَعْنَى الذي عَبَّرَ عنه بِالْمَجَازِ لَفْظٌ حَقِيقِيٌّ إنْ قُلْنَا لَا يَسْتَلْزِمُهُ أو أَنْ يَجْهَلَ الْمُتَكَلِّمُ أو الْمُخَاطَبُ لَفْظَهُ الْحَقِيقِيَّ وَمِنْهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ إنَّ حَشِيشَ الْحَرَمِ لَا يَجُوزُ نَقْلُهُ وَأَرَادُوا الْأَخْضَرَ وَإِلَّا فَفِي اللُّغَةِ أَنَّ الرَّطْبَ يُقَالُ له خَلَا وَالْيَابِسُ حَشِيشٌ فَكَأَنَّ الْفُقَهَاءَ آثَرُوا تَسْمِيَةَ الرَّطْبِ حَشِيشًا مَجَازًا بِاعْتِبَارِ ما يَئُولُ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَى أَفْهَامِ الْعَامَّةِ وَلِجَهْلِهِمْ مَعْنَى الْخَلَا وَبِهَذَا يَغْلُظُ من غَلَّطَهُمْ أو لِثِقَلِ لَفْظِ الْحَقِيقَةِ على اللِّسَانِ كَالْخِنْفِقِيقِ اسْمٌ لِلدَّاهِيَةِ أو تَيْسِيرُ التَّجْنِيسِ وَالْجَمْعِ وَسَائِرِ أَصْنَافِ الْبَدِيعِ تَنْبِيهٌ اتَّفَقَ الْأُدَبَاءُ على أَنَّ الْمَجَازَ أَبْلَغُ من الْحَقِيقَةِ قال الْجُرْجَانِيُّ وَلَيْسَ ذلك لِأَنَّ الْمَجَازَ تَارَةً يُفِيدُ زِيَادَةً في الْمَعْنَى نَفْسِهِ لَا تُفِيدُهَا الْحَقِيقَةُ بَلْ إنَّمَا يُفِيدُ تَأْكِيدَ الْمَعْنَى فَلَيْسَ قَوْلُنَا رأيت زَيْدًا يُفِيدُ زِيَادَةً في مُسَاوَاتِهِ الْأَسَدَ عن قَوْلِنَا رَأَيْت رَجُلًا مُسَاوِيًا لِلْأَسَدِ في الشَّجَاعَةِ بَلْ قَوْلُنَا إنَّ الْمَجَازَ أَبْلَغُ على مَعْنَى أَنَّهُ أَفَادَ تَأْكِيدَ مُسَاوَاةٍ لم تُفِدْهَا الْحَقِيقَةُ قالوا وَالسَّبَبُ فيه أَنَّ الِانْتِقَالَ فيه من اللُّزُومِ إلَى اللَّازِمِ فَيَكُونُ إثْبَاتُ الْمَعْنَى بِهِ كَادِّعَاءِ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ وَدَعْوَى الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ أَبْلَغُ من دَعْوَاهُ بِلَا دَلِيلٍ ا هـ وَأُورِدَ عليه أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ أَصْلُهَا التَّشْبِيهُ وَأَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ في الْمُشَبَّهِ بِهِ أَتَمُّ منه في الْمُشَبَّهِ وَالِاسْتِعَارَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ قَوْلُنَا رَأَيْت أَسَدًا يُفِيدُ له شَجَاعَةً أَكْثَرَ مِمَّا يُفِيدُهَا قَوْلُك رأيت رَجُلًا كَالْأَسَدِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ هذا لَا يَرِدُ على مِثَالِهِ وَإِنَّمَا يَرِدُ على إطْلَاقِهِ أَنَّهُ ليس في الْمَجَازِ زِيَادَةٌ على الْحَقِيقَةِ وَيُمْكِنُ تَخْصِيصُهُ بِالْمِثَالِ وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الْأُصُولِيِّينَ في التَّرْجِيحِ بين الِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ يَقْتَضِي أَنَّ الْبَلَاغَةَ تَارَةً تَكُونُ في الْحَقِيقَةِ وَتَارَةً في الْمَجَازِ وهو الْحَقُّ فَلَا يَنْبَغِي إطْلَاقُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ يَكُونُ لها من الْبَلَاغَةِ ما ليس في الْمَجَازِ وَبِالْعَكْسِ وَيَكُونُ مُرَادُ من أَطْلَقَ أَنَّ الْمَجَازَ أَبْلَغُ من الْحَقِيقَةِ أَنَّ مَجَازَ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ أَبْلَغُ من حَقِيقَةِ ذلك اللَّفْظِ وَأَمَّا مَجَازُ لَفْظٍ وَحَقِيقَةُ لَفْظٍ آخَرَ فَلَا وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا انْتِسَابٌ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ في مَحَلِّهِ له حُكْمٌ فَتَفَطَّنْ له وقال أبو زَكَرِيَّا التَّبْرِيزِيُّ في شَرْحِ الْحَمَاسَةِ أَكْثَرُ كَلَامِهِمْ الِاسْتِعَارَاتُ
____________________
(1/546)
جَيِّدُهَا أَحْسَنُ من الْحَقِيقَةِ وهو مُقَدَّمٌ عليها في الِاسْتِحْسَانِ فَأَمَّا في الْأَحْكَامِ فَتُقَدَّمُ الْحَقِيقَةُ على الْمَجَازِ فَحَصَلَ في هذه الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ مَسْأَلَةٌ الْمَجَازُ خِلَافُ الْأَصْلِ وهو خِلَافُ الْأَصْلِ وَالْأَصْلُ هُنَا بِمَعْنَى الرَّاجِحِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ لِلْوَضْعِ الْأَوَّلِ وَإِلَى الْعَلَاقَةِ وَإِلَى النَّقْلِ إلَى الْمَعْنَى الثَّانِي وَالْحَقِيقَةُ تَحْتَاجُ إلَى الْوَضْعِ الْأَوَّلِ فَقَطْ وَإِنَّمَا عَدَلَ إلَيْهِ لِلْفَوَائِدِ الْمُتَقَدِّمَةِ وإذا كان كَذَلِكَ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِقَرِينَةٍ وَآحَادُهَا غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ وَالضَّابِطُ أَنْ يُنْظَرَ إلَى أَصْلِ وَضْعِ اللَّفْظِ وَتَحَقُّقِهِ فإذا حَصَلَ فَانْظُرْ هل بَقِيَ في الِاسْتِعْمَالِ على ما وُضِعَ له أو لَا وَالْأَوَّلُ هو الْحَقِيقَةُ الْأَصْلِيَّةُ وَإِنْ عَدَلَ عنه فَإِمَّا لِعَلَاقَةٍ أو لَا وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَشْتَهِرَ حتى يَكُونَ أَسْبَقَ إلَى الْفَهْمِ من الْأَصْلِ أو لَا فَإِنْ كان سَبَبُ الِاشْتِهَارِ اسْتِعْمَالَ الْعُرْفِ فَهُوَ الْمَجَازُ الْعُرْفِيُّ وَإِنْ كان الشَّرْعَ فَهُوَ الشَّرْعِيُّ وَهَذَانِ الِاسْمَانِ أَوْلَى بِهِمَا من أَنْ يُقَالَ عَلَيْهِمَا حَقِيقَتَانِ لِمَا بَيَّنَّاهُ وَإِنْ كان الثَّانِيَ وهو الذي عَدَلَ عنه لَا لِعَلَاقَةٍ فَهُوَ الْمَنْقُولُ وَالْمُرْتَجَلُ كما سَبَقَ مَسْأَلَةٌ الْمَجَازُ يَحْتَاجُ إلَى الْعَلَاقَةِ أو الْقَرِينَةِ الْمَجَازُ يَحْتَاجُ إلَى الْعَلَاقَةِ وَإِلَى الْقَرِينَةِ فَالْعَلَاقَةُ هِيَ الْمُجَوِّزَةُ لِلِاسْتِعْمَالِ وَالْقَرِينَةُ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْحَمْلِ فَأَمَّا الْقَرِينَةُ فَلَا بُدَّ لِلْمَجَازِ من قَرِينَةٍ تَمْنَعُ من إرَادَةِ الْحَقِيقَةِ عَقْلًا أو حِسًّا أو عَادَةً أو شَرْعًا وَهِيَ إمَّا خَارِجَةٌ عن الْمُتَكَلِّمِ وَالْكَلَامِ فَالْمُتَكَلِّمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاسْتَفْزِزْ من اسْتَطَعْت منهم بِصَوْتِك فَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْصِيَةِ أو من الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ فإن السِّيَاقَ وهو قَوْلُهُ إنَّا أَعْتَدْنَا يُخْرِجُهُ عن أَنْ يَكُونَ لِلتَّخْيِيرِ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ لَا بُدَّ من الْقَرِينَةِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هل الْقَرِينَةُ دَاخِلَةٌ في مَفْهُومِ الْمَجَازِ وهو رَأْيُ الْبَيَانِيِّينَ أو شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ وَاعْتِبَارِهِ وهو رَأْيُ الْأُصُولِيِّينَ
____________________
(1/547)
وَأَمَّا الْعَلَاقَةُ فَلَا بُدَّ في التَّجَوُّزِ من الْعَلَاقَةِ بين الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ الِاشْتِرَاكِ في أَمْرٍ ما وَإِلَّا لَجَازَ إطْلَاقُ كل شَيْءٍ على ما عَدَاهُ فَجِنْسُ الْعَلَاقَةِ شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ وَشَخْصُهَا ليس بِشَرْطٍ بِالْإِجْمَاعِ فإذا رَأَيْنَاهُمْ أَطْلَقُوا الشُّجَاعَ على رَجُلٍ لم يَحْتَجْ إلَى إطْلَاقِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى آخَرَ وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إنَّمَا هو في الْأَنْوَاعِ أَيْ إذَا عَلِمْنَا أَنَّهُمْ أَطْلَقُوا اسْمَ اللَّازِمِ على الْمَلْزُومِ يَكْفِينَا هذا في إطْلَاقِ كل لَازِمٍ على مَلْزُومِهِ أو لَا بُدَّ في كل صُورَةٍ من جُزْئِيَّاتِ إطْلَاقِ اللَّوَازِمِ على الْمَلْزُومَاتِ من السَّمَاعِ عَنْهُمْ في ذلك اللَّازِمِ بِعَيْنِهِ وَاللُّزُومِ بِعَيْنِهِ وَهَذَا أَقْرَبُ من قَوْلِ بَعْضِهِمْ إنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هو في أَنَّهُ هل يُكْتَفَى بِالْعَلَاقَةِ التي نَظَرَ الْعَرَبُ إلَيْهَا كَإِطْلَاقِ السَّبَبِ على الْمُسَبَّبِ وَيَزِيدُ عليه الْمُسَبَّبُ على السَّبَبِ أو لَا يَتَعَدَّى عَلَاقَةَ السَّبَبِ إلَى عَلَاقَةٍ أُخْرَى وَإِنْ سَاوَتْهَا ما لم تَفْعَلْ الْعَرَبُ ذلك وَهَذَا هو الْخِلَافُ في أَنَّ الْمَجَازَ هل يَتَوَقَّفُ على السَّمْعِ وَيُشْتَرَطُ فيه الْوَضْعُ أَمْ لَا فَاخْتَارَ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ الْأَوَّلَ فَهُوَ يُجَوِّزُ إطْلَاقَ اللَّفْظِ بِاعْتِبَارِ ما كان وَإِنْ لم تَسْتَعْمِلْهُ الْعَرَبُ لِاسْتِعْمَالِهِمْ ما هو نَظِيرُهُ أو دُونَهُ وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وَالرَّازِيَّ وَغَيْرُهُمَا الثَّانِيَ وَتَوَقَّفَ الْآمِدِيُّ وقال ابن الْحَاجِبِ في أَمَالِيهِ الْإِنْصَافُ أَنَّ الْمَجَازَ إنْ كان بِاعْتِبَارِ الْأَلْفَاظِ مُفْرَدَةً احْتَاجَ إلَى النَّقْلِ وَإِنْ كان بِاعْتِبَارِ الْمَعَانِي الْحَاصِلَةِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْأَلْفَاظِ مِثْلُ طَلَعَ فَجْرٌ وَعَلَا وَشَابَتْ لِمَّةُ رَأْسِهِ وَأَشْبَاهُهُ لم يَحْتَجْ إلَى النَّقْلِ لِمَا عُلِمَ من اسْتِعْمَالِ الْعُلَمَاءِ من كل طَائِفَةٍ أَمْثَالَ ذلك في تَصَانِيفِهِمْ وَخَطِّهِمْ وَرَسَائِلِهِمْ فَظَهَرَ أَنَّ الْخِلَافَ مَخْصُوصٌ بِالْأَنْوَاعِ لَا في جُزْئِيَّاتِ الْمَجَازِ الْمُشَخَّصَةِ إنْ أَوْهَمَهُ كَلَامُ بَعْضِهِمْ فَلَا بُدَّ أَنْ تَضَعَ الْعَرَبُ نَوْعَ التَّجَوُّزِ بِالْكُلِّ إلَى الْجُزْءِ وَبِالسَّبَبِ إلَى الْمُسَبَّبِ وَغَيْرِهِمَا من الْأَنْوَاعِ وَأَمَّا وَضْعُهَا التَّعْبِيرَ بهذا الْكُلِّ الْمُعَيَّنِ أو التَّجَوُّزِ بهذا الْمُسَبَّبِ الْمُعَيَّنِ إلَى هذا السَّبَبِ فَلَا يَشْتَرِطُهُ أَحَدٌ قَطْعًا ولم تَزَلْ الْأُدَبَاءُ في الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ يَكْتَفُونَ بِمُجَرَّدِ الْعَلَاقَةِ من غَيْرِ فَحْصٍ عن الْوَضْعِ وَيَتَحَصَّلُ صُوَرٌ أَحَدُهَا آحَادُ الْعَلَاقَاتِ أَعْنِي إذَا وُجِدَتْ عَلَاقَةٌ لم يُنْقَلْ عن الْعَرَبِ التَّجَوُّزُ بها فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَجَوَّزَ بها هذا مَوْضِعُ الْخِلَافِ كما ذَكَرَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ وَالْقَرَافِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ من شُرَّاحِ ابْنِ الْحَاجِبِ منهم الْقُطْبُ الشِّيرَازِيُّ أَنَّهُ لَا خِلَافَ في امْتِنَاعِ هذا الْقِسْمِ
____________________
(1/548)
الثَّانِيَةُ الْعَلَاقَةُ التي ثَبَتَ عن الْعَرَبِ اعْتِبَارُهَا وَتَجَوَّزَتْ بِسَبَبِهَا إلَى لَفْظَةٍ هل لنا أَنْ نَتَجَوَّزَ بِتِلْكَ الْعَلَاقَةِ بِعَيْنِهَا لِلَفْظَةٍ أُخْرَى كما إذَا ثَبَتَ عَنْهُمْ إطْلَاقُ الْأَسَدِ على الشُّجَاعِ لِلشَّجَاعَةِ فَهَلْ لنا أَنْ نُطْلِقَ عليه اللَّيْثَ كَذَلِكَ وهو من مَوْضِعِ الْخِلَافِ على ما ذَكَرَهُ شُرَّاحُ الْمُخْتَصَرِ الثَّالِثَةُ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ الْعَلَاقَةِ أَنْوَاعٌ تَحْتَ كل نَوْعٍ جِهَاتٌ فَهَلْ يَكُونُ أَنْوَاعُ الْجُزْئِيَّاتِ مُلْحَقَةً بِمَا فَوْقَهَا حتى يُشْتَرَطَ فيها النَّقْلُ قَطْعًا أو بِمَا تَحْتَهَا حتى يَكُونَ مَحَلَّ الْخِلَافِ هذا فيه نَظَرٌ مِثَالٌ إذَا ثَبَتَ أَنَّ من الْعَلَاقَةِ الْمُشَابَهَةَ في صِفَةٍ ظَاهِرَةٍ فإذا ثَبَتَ عَنْهُمْ التَّجَوُّزُ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ كَصِفَةِ الشَّجَاعَةِ في لَفْظِ الْأَسَدِ لِلرَّجُلِ الشُّجَاعِ فَأَرَدْنَا أَنْ نَتَجَوَّزَ بِصِفَةِ الْكَرْمِ في لَفْظِ الْبَحْرِ لِلْجَوَادِ فَالْأَقْرَبُ إلْحَاقُهُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ الرَّابِعَةُ إنْ ثَبَتَتْ بِاعْتِبَارِ نَوْعِ الْعَلَاقَةِ الْخَاصِّ بِالنَّقْلِ وَالتَّجَوُّزِ في لَفْظَةٍ بِعَيْنِهَا كَإِطْلَاقِ الْأَسَدِ على شَخْصٍ بِعَيْنِهِ لِلشَّجَاعَةِ فَهَلْ لنا إطْلَاقُ الْأَسَدِ على عَمْرٍو كَذَلِكَ قَطْعًا أو نُلْحِقُهَا بِالثَّانِيَةِ في الْخِلَافِ فيه نَظَرٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ قَطْعًا وَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّقْلَ وَاجِبٌ بِالِاتِّفَاقِ في نَوْعِ الْعَلَاقَةِ أَعْنِي النَّوْعَ الْأَصْلِيَّ وَغَيْرُ شَرْطٍ بِالِاتِّفَاقِ في مُشَخِّصَاتِ اللَّفْظَةِ الْوَاحِدَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ مَجَازًا في شَخْصٍ بِعَيْنِهِ وَمُخْتَلَفٌ فيه فِيمَا عَدَا ذلك وهو ما بين هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ وقال صَاحِبُ اللُّبَابِ من الْحَنَفِيَّةِ الْمَجَازُ يَقْتَضِي الْمُنَاسَبَةَ بين اللَّفْظَيْنِ في الْمَعْنَى فَكُلُّ لَفْظٍ جُعِلَ مَجَازًا في غَيْرِهِ لَا بُدَّ من وُجُودِ الْمُشَارَكَةِ بَيْنَهُمَا في الْمَعْنَى كَالْأَسَدِ اُسْتُعِيرَ لِلشُّجَاعِ وَالْحِمَارِ لِلْبَلِيدِ وَالْعِتْقِ لِلطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ قال وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في شَرْطٍ آخَرَ وهو كَمَالُ الْمَعْنَى في الْمُسْتَعَارِ منه هل هو شَرْطٌ أَمْ لَا فَمِنْهُمْ من شَرَطَهُ وَإِلَّا لم يَكُنْ الْعُدُولُ عن الْحَقِيقَةِ مُفِيدًا وَمِنْهُمْ من قال يَجُوزُ تَسَاوِيهِمَا في الْمَعْنَى وَقِيلَ هو مُشْتَرَطٌ في كَمَالِ الْبَلَاغَةِ في الِاسْتِعَارَةِ نَفْسِهَا فَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ الْحَقِيقَةُ تَتَوَقَّفُ على النَّقْلِ عن وَاضِعِ اللُّغَةِ كَالنُّصُوصِ في بَابِ الشِّعْرِ وَأَمَّا الْمَجَازُ فَاخْتَلَفُوا فيه فَذَهَبَ أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فيه السَّمَاعُ بَلْ يُعْتَبَرُ الْمَعْنَى الذي اعْتَبَرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ وَمِنْهُمْ من اعْتَبَرَهُ وَكَلَامُهُ يَدُلُّ على أَنَّ هذا هو الْخِلَافُ في أَنَّ الْمَجَازَ هل له عُمُومٌ أَمْ لَا وَفَرَّعَ عليه امْتِنَاعَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ على الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ كَالثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا وَعَارِيَّةً
____________________
(1/549)
ثُمَّ حَكَى ابن السَّمْعَانِيِّ عن بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَعْنَى الذي اعْتَبَرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ في الْمَجَازِ هو أَنْ يَكُونَ بين الْمُسْتَعَارِ منه وَالْمُسْتَعَارِ له اشْتِرَاكٌ في الْمَعْنَى وَذَلِكَ الْمَعْنَى في الْمُسْتَعَارِ منه أَبْلَغُ وَأَبْيَنُ وَنَقَلَهُ عن أَهْلِ اللُّغَةِ منهم عَلِيُّ بن عِيسَى الرُّمَّانِيُّ قال وَإِنَّمَا اشْتَرَطْنَا هذا لِأَنَّ تَرْكَ الْحَقِيقَةِ مع الْقُدْرَةِ على الِاسْتِعْمَالِ لها وَالْمَيْلُ إلَى الْمَجَازِ فيه نَوْعُ إيهَامٍ وَتَلْبِيسٍ لَا يَجُوزُ إلَّا لِفَائِدَةٍ لَا تُوجَدُ في الْحَقِيقَةِ قال وَهَذَا مِثْلُ قَوْله تَعَالَى فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ مَعْنَاهُ امْتَثِلْ بِمَا تُؤْمَرُ فَقَدْ اسْتَعَارَ قَوْلَهُ اصْدَعْ مَكَانَ قَوْلِهِ امْتَثِلْ وَالصَّدْعُ هو الشَّقُّ وَالِامْتِثَالُ هو التَّأْثِيرُ فإن الشَّقَّ له تَأْثِيرٌ في الشُّقُوقِ وَالِامْتِثَالُ له أَثَرٌ في الْمَأْمُورِ بِهِ إلَّا أَنَّ تَأْثِيرَ الشَّقِّ في الشُّقُوقِ أَبْيَنُ من تَأْثِيرِ الِامْتِثَالِ في الْمُمْتَثَلِ فَكَانَ في الْمَجَازِ زِيَادَةُ بَيَانٍ وَلِهَذَا يُقَالُ لِلشُّجَاعِ من الناس أَسَدٌ لِاشْتِرَاكِهِمَا في الْمَعْنَى وهو الشَّجَاعَةُ وَهَذَا الْمَعْنَى في الْأَسَدِ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ أَشْجَعُ الْحَيَوَانِ وَكَذَا اسْتِعَارَةُ الْحِمَارِ لِلْبَلِيدِ وَزَعَمَ عَلِيٌّ هذا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ جَعْلُ لَفْظِ الطَّلَاقِ كِنَايَةً عن الْعِتْقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ أَبْلَغُ في الْإِزَالَةِ وَالطَّلَاقُ دُونَهُ وَلِهَذَا لو قال الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ الذي هو أَكْبَرُ سِنًّا منه هذا ابْنِي أَنَّهُ يُعْتَقُ وَيَصِيرُ قَوْلُهُ هذا أبي أَبْلَغُ في إفَادَةِ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْحُرِّيَّةَ قبل قَوْلِهِ بِزَمَانٍ كَثِيرٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أنت حُرٌّ فإنه لَا يُوجِبُهَا إلَّا في الْحَالِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَهَذَا الشَّرْطُ الذي ذَكَرَهُ لَا يُعْرَفُ في اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ ولم يَذْكُرْهُ أَحَدٌ من أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَمَّا الِاسْتِعَارَةُ في الْكَلَامِ لِضَرْبٍ من التَّوَسُّعِ وَلِتَظْهَرَ بَرَاعَةُ الْمُتَكَلِّمِ وَحُسْنُ بَصِيرَتِهِ في الْكَلَامِ وَاقْتِدَارُهُ عليه وَلَيْسَ لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ أَفَادَتْ مَعْنًى زَائِدًا على ما يُفِيدُهُ التَّصْرِيحُ وَيَدُلُّ لِأَنَّ ما قَالُوهُ ليس بِشَرْطِ اسْتِعَارَتِهِمْ لَفْظَ الْمَسِّ لِلْوَطْءِ وَالْقُرْبَانِ لِلدُّخُولِ وَلَيْسَ فيه زِيَادَةٌ على ما يُفِيدُهُ لَفْظُ الْجِمَاعِ وَأَمَّا إذَا قال لِغُلَامِهِ الْأَكْبَرِ منه هذا أبي فَإِنَّمَا لم يَصْلُحْ عِنْدَنَا مَجَازًا عن الْعِتْقِ لِأَنَّ اللَّفْظَ إنَّمَا يَصْلُحُ مَجَازًا إذَا كان حَقِيقَةً وَهَذَا اللَّفْظُ في هذا الْمَحَلِّ لَا حَقِيقَةَ له لِأَنَّهُ لَغْوٌ وَهَذَيَانٌ وَإِنْ قُلْتُمْ إنَّ السَّبَبَ في الْجُمْلَةِ يُوجِبُ الْعِتْقَ فَإِنَّمَا يُوجِبُ في مَحَلٍّ يُتَصَوَّرُ فيه السَّبَبُ لَا فِيمَا لَا يُتَصَوَّرُ اسْتِعْمَالُهُ فيه فَلَيْسَ اسْتِعْمَالُهُ فيه مَجَازًا ا هـ مُلَخَّصًا
____________________
(1/550)
مَسْأَلَةٌ شَرَطَ قَوْمٌ في الْعَلَاقَةِ أَنْ تَكُونَ ذِهْنِيَّةً أَيْ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمُتَجَوَّزُ يَتَبَادَرُ له الْفَهْمُ عِنْدَ سَمَاعِ اللَّفْظِ وهو الْمُخْتَارُ في الْمَعَالِمِ وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمَجَازَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ عَارِيَّةٌ عن اللُّزُومِ الذِّهْنِيِّ مَسْأَلَةٌ التَّجَوُّزُ بِالْمَجَازِ عن الْمَجَازِ يُتَجَوَّزُ بِالْمَجَازِ عن الْمَجَازِ خِلَافًا لِلْآمِدِيِّ ذَكَرَهُ في التَّرْجِيحِ بين الْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ وهو أَنْ يُجْعَلَ الْمَجَازُ الْمَأْخُوذُ عن الْحَقِيقَةِ بِمَثَابَةِ الْحَقِيقَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَجَازٍ آخَرَ فَيُتَجَوَّزُ بِالْمَجَازِ الْأَوَّلِ عن الثَّانِي لِعَلَاقَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي وَلَهُ أَمْثِلَةٌ منها قَوْله تَعَالَى وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا فإنه مَجَازٌ عن مَجَازٍ فإن الْوَطْءَ تَجَوَّزَ عنه السِّرُّ لِأَنَّهُ يَقَعُ غَالِبًا في السِّرِّ فلما لَازَمَهُ سُمِّيَ سِرًّا وَتَجَوَّزَ بِالسِّرِّ عن الْعَقْدِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ فيه فَالْمُصَحِّحُ لِلْمَجَازِ الْأَوَّلِ الْمُلَازَمَةُ وَالْمُصَحِّحُ لِلْمَجَازِ الثَّانِي التَّعْبِيرُ بِاسْمِ الْمُسَبَّبِ الذي هو السِّرُّ عن الْعَقْدِ الذي هو سَبَبٌ كما سُمِّيَ عَقْدُ النِّكَاحِ نِكَاحًا لِكَوْنِهِ سَبَبًا في النِّكَاحِ وَكَذَلِكَ سُمِّيَ الْعَقْدُ سِرًّا لِأَنَّهُ سَبَبٌ في السِّرِّ الذي هو النِّكَاحُ فَهَذَا مَجَازٌ عن مَجَازٍ مع اخْتِلَافِ الْمُصَحِّحِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا لَا تُوَاعِدُوهُنَّ عَقْدَ نِكَاحٍ وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ إذَا حُمِلَ على ظَاهِرِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مَجَازٌ عن تَصْدِيقِ الْقَلْبِ بِمَدْلُولِ هذا اللَّفْظِ وَالتَّعْبِيرُ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عن الْوَحْدَانِيَّةِ من مَجَازِ التَّعْبِيرِ بِالْقَوْلِ عن الْقَوْلِ منه وَالْأَوَّلُ من مَجَازِ التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ السَّبَبِ عن الْمُسَبَّبِ لِأَنَّ تَوْحِيدَ اللِّسَانِ مُسَبَّبٌ عن تَوْحِيدِ الْجِنَانِ
____________________
(1/551)
مَسْأَلَةٌ يَجِيءُ الْمَجَازُ بِمَرَاتِبَ قد يَجِيءُ الْمَجَازُ بِمَرَاتِبَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قد أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ لِأَنَّ الْمُنَزَّلَ عليهم ليس هو نَفْسَ اللِّبَاسِ بَلْ إنَّمَا هو الْمَاءُ الْمُنْبِتُ لِلزَّرْعِ الْمُتَّخَذِ منه الْغَزْلُ الْمَنْسُوجُ منه اللِّبَاسُ وَصَارَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَظِيمِ الشَّانِ صَارَ الثَّرِيدُ في رُءُوسِ الْعِيدَانِ فَسَمَّى السُّنْبُلَ في رُءُوسِ الْعَصْفِ ثَرِيدًا وَإِنَّمَا يَصِيرُ ثَرِيدًا بَعْدَ أَنْ يُحْصَدَ ثُمَّ يُدْرَسَ ثُمَّ يُصَفَّى ثُمَّ يُطْحَنَ ثُمَّ يُخْبَزَ ثُمَّ يُثْرَدَ وَسَمَّى ابن السَّيِّدِ الْبَطَلْيُوسِيُّ هذا وَأَمْثَالَهُ مَجَازَ الْمَرَاتِبِ وهو من غَرَائِبِ مَسَائِلِ الْمَجَازِ
____________________
(1/552)
فَصْلٌ في سَرْدِ أَنْوَاعِ الْعَلَاقَةِ النَّوْعُ الْأَوَّلُ السَّبَبِيَّةُ وَهِيَ إطْلَاقُ اسْمِ السَّبَبِ على الْمُسَبَّبِ وَإِنْ شِئْت فَقُلْ إطْلَاقُ الْعِلَّةِ على الْمَعْلُولِ وَسَوَاءٌ كانت الْعِلَّةُ فَاعِلِيَّةً أو قَابِلِيَّةً أو صُورِيَّةً أو غَائِيَّةً مِثَالُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُمْ نَزَلَ السَّحَابُ أَيْ الْمَطَرُ فإن السَّحَابَ في الْعُرْفِ سَبَبٌ فَاعِلِيٌّ في الْمَطَرِ كما يُقَالُ النَّارُ تُحْرِقُ الثَّوْبَ وَمِنْهُ إطْلَاقُ اسْمِ النَّظَرِ على الرُّؤْيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ أَيْ له رَائِيَةٌ وَنَحْوُ نَظَرْت إلَى فُلَانٍ أَيْ رَأَيْته لِأَنَّ النَّظَرَ فِعْلُ الْفَاعِلِ وهو سَبَبُ الرُّؤْيَةِ وَمِثَالُ الثَّانِي قَوْلُهُمْ سَالَ الْوَادِي فإن السَّائِلَ هو الْمَاءُ وَالْوَادِي سَبَبٌ قَابِلٌ لِسَيْلِ الْمَاءِ فيه هَكَذَا مِثْلُهُ في الْمَحْصُولِ وَفِيهِ نَظَرٌ فإن الْوَادِيَ ليس جُزْءًا لِلْمَاءِ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا قَابِلًا له بَلْ هو من قَبِيلِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ على الْحَالِّ وَمِثَالُ الثَّالِثِ إطْلَاقُ الْيَدِ على الْقُدْرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وَالْيَدُ صُورَةٌ خَاصَّةٌ يَتَأَتَّى بها الْإِقْدَارُ على الشَّيْءِ فَشَكْلُهَا مع الْإِقْدَارِ كَشَكْلِ السَّرِيرِ مع الِاضْطِجَاعِ وهو سَبَبٌ صُورِيٌّ فَتَكُونُ الْيَدُ كَذَلِكَ فَإِطْلَاقُهَا على الْقُدْرَةِ إطْلَاقٌ لِاسْمِ السَّبَبِ الصُّورِيِّ على السَّبَبِ وَوَجْهُ كَوْنِ صُورَةِ الْيَدِ سَبَبًا لِلْقُدْرَةِ أنها لو خُلِقَتْ على غَيْرِ هذه الصُّورَةِ الْمُخْتَصَّةِ بها لَنَقَصَ فِعْلُهَا وَبَطَلَ فَبِتِلْكَ الصُّورَةِ تَتِمُّ قُدْرَةُ الْيَدِ على ما هو الْمَطْلُوبُ منها فَإِنْ قِيلَ إذَا كان الْمُرَادُ الْقُدْرَةَ فَلِمَ ثُنِّيَتْ وَجُمِعَتْ وَالْقُدْرَةُ وَاحِدَةٌ وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا جُمِعَتْ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلَّقَاتِهَا فَاسْتَقَرَّ لها ما صَدَرَ عنها من الْآثَارِ الْعَدِيدَةِ وَيَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ آثَارَهَا قِسْمَانِ إمَّا لِأَنَّهَا لَا تَنْحَصِرُ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أو لِأَنَّ آثَارَهَا الْجَوَاهِرُ وَالْأَعْرَاضُ أو الْخَيْرُ وَالشَّرُّ وقد انْعَكَسَ هذا الْمِثَالُ على الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ وَأَتْبَاعِهِ وَقَالُوا كَتَسْمِيَةِ الْيَدِ قُدْرَةً قال الْقَرَافِيُّ صَوَابُهُ كَتَسْمِيَةِ الْقُدْرَةِ بِالْيَدِ فإن الْيَدَ سَبَبُ الْقُدْرَةِ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ هِيَ سَبَبُ الْيَدِ إذْ لَا تُوضَعُ إلَّا بها فإن من الْوَاضِحِ أَنَّ الْمَعْنَى بِالْيَدِ هُنَا إنَّمَا هو الْمَعْنَى الْمُسَوِّغُ لِلتَّصَرُّفِ لَا الْجَارِحَةُ
____________________
(1/553)
وَاعْتَرَضَ الْأَصْفَهَانِيُّ أَيْضًا بِأَنَّ الْقُدْرَةَ لَيْسَتْ صُورَةَ الْيَدِ بَلْ لَازِمَةٌ لِصُورَةِ الْيَدِ وَجَوَابُهُ أنها صُورَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ وَمِثَالُ الرَّابِعِ تَسْمِيَةُ الْعَصِيرِ خَمْرًا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى قد أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا وَقَوْلُهُ رَعَيْنَا الْغَيْثَ أَيْ النَّبَاتَ الذي سَبَبُهُ الْغَيْثُ قال الشَّاعِرُ إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا وهو الْمَطَرُ لِأَنَّهُ سَبَبٌ غَائِيٌّ لِلْمَطَرِ وَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اقْرَءُوا على مَوْتَاكُمْ يس أَيْ من اُحْتُضِرَ وَقَوْلُهُ من قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَجَعَلَ منه الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ تَسْمِيَةَ الْفَجْرِ خَيْطًا في قَوْله تَعَالَى حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ من الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ من الْفَجْرِ قال لِأَنَّهُ يَمْتَدُّ من الْجَنُوبِ إلَى الشِّمَالِ كَامْتِدَادِ الْخَيْطِ على الْأُفُقِ أَحَدُ طَرَفَيْهِ في الْجَنُوبِ وَالْآخَرُ في الشِّمَالِ وَتَشْبِيهُ سَوْدَاءِ الْفَجْرِ الْأَوَّلِ بِخَيْطٍ طَرَفُهُ في الْأُفُقِ وَأَعْلَاهُ مِصْعَدٌ في السَّمَاءِ وَوَصَفَهُ بِالسَّوَادِ لِأَنَّهُ يَضْمَحِلُّ فَيَصِيرُ مَكَانَهُ سَوَادُ اللَّيْلِ فَوُصِفَ بِمَا يَئُولُ إلَيْهِ كَقَوْلِهِ إنَّا نُبَشِّرُك بِغُلَامٍ عَلِيمٍ وهو مَعْنَى ما ذَكَرَهُ أبو عُبَيْدٍ وهو من أَحْسَنِ ما قِيلَ إذْ لَا يَصِحُّ تَشْبِيهُ اللَّيْلِ الْمُطْبِقِ لِلْآفَاقِ بِالْخَيْطِ وَلَا يَصِحُّ تَشْبِيهُ طَرَفِهِ الْمُلْتَصِقِ بِبَيَاضِ الْفَجْرِ بِبَيَاضِ الْخَيْطِ لِأَنَّهُ لَا تَشْبِيهَ بِخِلَافِ الْفَجْرِ الثَّانِي وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِلَّةَ الْغَائِيَّةَ أَقْوَى من الْجَمِيعِ لِأَنَّهَا حَالَ كَوْنِهَا ذِهْنِيَّةً عِلَّةُ الْعِلَلِ وَحَالُ كَوْنِهَا خَارِجِيَّةً مَعْلُولُهَا فَقَدْ حَصَلَ لها الْعَلَاقَتَانِ الْعَلَاقَةُ الثَّانِيَةُ الْمُسَبَّبِيَّةُ وَهِيَ إطْلَاقُ اسْمِ الْمُسَبَّبِ على السَّبَبِ كَتَسْمِيَتِهِمْ الْمَرَضَ الْمُهْلِكَ مَوْتًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ في الْعِبَادِ سَبَبًا لِلْمَوْتِ وَكَقَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ اعْتَدِّي وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَك يُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ لِأَنَّهُمَا مُسَبَّبَانِ عنه وَمِنْهُ أَمْطَرَتْ السَّمَاءُ نَبَاتًا فَذُكِرَ النَّبَاتُ وَأُرِيدَ بِهِ الْغَيْثُ لِأَنَّ الْغَيْثَ سَبَبٌ لِلنَّبَاتِ وَعَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى وَأَنْزَلَ لَكُمْ من الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ
____________________
(1/554)
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّجَوُّزَ بِلَفْظِ السَّبَبِ عن الْمُسَبَّبِ أَوْلَى من الْعَكْسِ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُعَيَّنَ يَسْتَدْعِي مُسَبَّبًا مُعَيَّنًا كَالزِّنَى بَعْدَ الْإِحْصَانِ فإنه يَقْتَضِي مُسَبَّبًا مُعَيَّنًا وهو الرَّجْمُ وَالْمُسَبَّبُ الْمُعَيَّنُ لَا يَسْتَدْعِي سَبَبًا مُعَيَّنًا بَلْ سَبَبًا ما كَإِبَاحَةِ الدَّمِ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي سَبَبًا غير مُعَيَّنٍ وهو إمَّا الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ أو الزِّنَى بَعْدَ الْإِحْصَانِ أو قَتْلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا يَقْتَضِي وَاحِدًا من هذه الْأُمُورِ بِعَيْنِهِ وما اقْتَضَى الشَّيْءَ الْمُعَيَّنَ أَقْوَى مِمَّا يَقْتَضِي الْمُطْلَقَ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْمُعَيَّنِ يَقْتَضِي الْمُطْلَقَ وَزِيَادَةً وَهِيَ التَّعْيِينُ فَكَانَ أَوْلَى كَالضَّرْبِ فإنه يَقْتَضِي الْأَلَمَ جَزْمًا بِخِلَافِ الْأَلَمِ فإنه لَا يَقْتَضِي الضَّرْبَ على التَّعْيِينِ لِجَوَازِ أَنْ يَخْلُفَهُ سَبَبٌ آخَرُ فَكَانَ فَهْمُ الْمُسَبَّبِ من اسْمِ السَّبَبِ فَوْقَ فَهْمِ السَّبَبِ من اسْمِ الْمُسَبَّبِ فَكَانَ أَبْلَغَ إفَادَةً لِلْمَقْصُودِ وَهَكَذَا يقول إطْلَاقُ اسْمِ اللُّزُومِ على اللُّزُومِ أَوْلَى من الْعَكْسِ وَكَذَا إطْلَاقُ اسْمِ الْكُلِّ على الْجُزْءِ وقد يُقَالُ إنَّ إطْلَاقَ اسْمِ السَّبَبِ على الْمُسَبَّبِ أَوْلَى من إطْلَاقِ اسْمِ الْمَلْزُومِ على اللَّازِمِ لِمَا بين السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ من الِاتِّصَالِ وَالْمُنَاسَبَةِ الْعَلَاقَةُ الثَّالِثَةُ الْمُشَابَهَةُ وَهِيَ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مُشَبَّهِهِ إمَّا في الصُّورَةِ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْأَسَدِ على الْمَنْقُوشِ في الْحَائِطِ بِصُورَتِهِ وَإِمَّا في الْمَعْنَى كَالصِّفَةِ الظَّاهِرَةِ لِلْحَقِيقَةِ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْأَسَدِ على الشُّجَاعِ فَلَا يَجُوزُ في الْحَقِيقَةِ كَاسْتِعَارَةِ لَفْظِ الْأَسَدِ لِلرَّجُلِ الْأَبْخَرِ إذْ هِيَ صِفَةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ وقال الْقَرَافِيُّ إنَّهُ يُشْتَرَطُ فيها أَنْ تَكُونَ أَشْهَرَ صِفَاتِ الْمَحَلِّ وَمِنْ هَاهُنَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ اشْتِرَاطَ كَوْنِ الْعَلَاقَةِ أَمْرًا ذِهْنِيًّا كما سَبَقَ وَنَحْنُ إنْ اشْتَرَطْنَا الظُّهُورَ فَلَا نَشْرِطُ كَوْنَهُ ذِهْنِيًّا وقد اجْتَمَعَتْ الْمُشَابَهَةُ في الصُّورَةِ وَالصِّفَةِ الظَّاهِرَةِ مَعًا في قَوْله تَعَالَى فَأَخْرَجَ لهم عِجْلًا جَسَدًا له خُوَارٌ فإن الْعَلَاقَةَ مَجْمُوعُ الشَّكْلِ وَالْخُوَارِ وَإِمَّا بِدُونِ أَدَاةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ أَيْ مِثْلُ أُمَّهَاتِهِمْ في الْحُرْمَةِ وَتَحْرِيمِ الْمُنَاكَحَةِ وَقَوْلُهُمْ أبو يُوسُفَ أبو حَنِيفَةَ وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ الْكَافِرِ كَافِرًا إذْ حَقِيقَةُ الْكُفْرِ سَتْرُ جُرْمٍ بِجُرْمٍ وَتَغْطِيَتُهُ لِئَلَّا تَرَاهُ الْعُيُونُ وَلَمَّا كان الْكُفْرُ وَاحِدًا وَالْإِيمَانُ وَاقِعٌ لِلْبَصِيرَةِ عن إدْرَاكِ الْحَقِّ شُبِّهَ بِمَا يَمْنَعُ الْإِبْصَارَ من الْمَحْسُوسَاتِ وَقِيلَ في قَوْله تَعَالَى أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ أَيْ الزُّرَّاعَ لِكُفْرِهِمْ الْحَبَّ في الْأَرْضِ وَيُسَمَّى الْمَجَازُ الذي عَلَاقَتُهُ الْمُشَابَهَةُ اسْتِعَارَةً فَالِاسْتِعَارَةُ أَخَصُّ من الْمَجَازِ وَخَصَّ الْإِمَامُ الِاسْتِعَارَةَ بِالْمُتَشَابِهِ الْمَعْنَوِيِّ لَا الصُّورِيِّ وَتَبِعَهُ
____________________
(1/555)
الْهِنْدِيُّ وَحَكَى عبد اللَّطِيفِ الْبَغْدَادِيُّ عن بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمَجَازَ وَالِاسْتِعَارَةَ مُتَرَادِفَانِ وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمَجَازَ مُنْحَصِرٌ في الْمُشَابَهَةِ وَاخْتَلَفُوا هل الْمُعْتَبَرُ الْمُشَابَهَةُ بين لَفْظَيْ الْمُسْتَعَارِ منه وَالْمُسْتَعَارِ له في بَعْضِ ما وُضِعَ اسْمُ الْمُسْتَعَارِ منه لَا بين ذَاتَيْهِمَا أو الْمُعْتَبَرُ الْمُشَابَهَةُ بين ذَاتَيْهِمَا في الْمَعْنَى اللَّازِمِ الْمَشْهُورِ في الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمُشَابَهَةِ وفي مَعْنَى اسْمِهَا لُغَةً وَهَذَا الْقَوْلُ صَحَّحَهُ صَاحِبُ الْمِيزَانِ من الْحَنَفِيَّةِ وَشَرَطَ عَلِيُّ بن عِيسَى الرُّمَّانِيُّ في إعْجَازِ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ ذلك الْمَعْنَى الْمُسْتَعَارُ منه أَبْلَغَ حتى يَكُونَ لِلِاسْتِعَارَةِ فَائِدَةٌ قال السَّمَرْقَنْدِيُّ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذلك ليس بِشَرْطٍ وَإِنْ كان هو الْغَالِبَ وَسَبَقَ في كَلَامِ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ وقال الْحَاجَوِيُّ في رِسَالَاتِهِ شَرَطُوا في صِحَّةِ الْمَجَازِ كَوْنَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ مَشْهُورًا في الْأَصْلِ كَالشَّجَاعَةِ التي هِيَ صِفَةٌ مَشْهُورَةٌ لِلْأَسَدِ وَالْبَلَادَةِ التي هِيَ صِفَةٌ مَشْهُورَةٌ لِلْحِمَارِ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذلك حتى تَصِحَّ تَسْمِيَتُهُ أَسَدًا وَإِنْ لم يَكُنْ الْبَخَرُ صِفَةً مَشْهُورَةً لِلْأَسَدِ مَسْأَلَةٌ اللَّفْظُ الْمُسْتَعَارُ إذَا اُسْتُعِيرَ من الْمُسْتَعَارِ منه إلَى الْمُسْتَعَارِ له فَالْعَامِلُ اللَّفْظُ الْمُسْتَعَارُ وهو عِبَارَةٌ عن اسْمِ الْمُسْتَعَارِ له حتى كَأَنَّهُ ذَكَرَهُ بِاسْمِهِ صَرِيحًا وَهَذَا قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ قال صَاحِبُ الْمِيزَانِ منهم وَفُرُوعُ الشَّافِعِيِّ تَدُلُّ على أَنَّ الْعَامِلَ هو الِاسْمُ الذي قام لَفْظُ الْمُسْتَعَارِ مَقَامَهُ فإنه قال فِيمَنْ قال لِامْرَآتِهِ أَنْتِ بَائِنٌ إنَّهُ رَجْعِيٌّ لِأَنَّهُ صَارَ مَجَازًا عن قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ كَأَنَّهُ نَصَّ عليه وَكَذَا قال بِأَنَّ الْعَتَاقَ يَقَعُ بِأَلْفَاظِ الطَّلَاقِ كَقِيَامِ لَفْظِ الطَّلَاقِ مَقَامَهُ حتى كَأَنَّهُ نَصَّ على لَفْظِ الْعَتَاقِ وَهَذَا يَسْتَقِيمُ على قَوْلِ بَعْضِهِمْ إنَّ الْمُشَابَهَةَ في الِاسْتِعَارَةِ مُعْتَبَرَةٌ بين اللَّفْظَيْنِ وقال محمد بن يحيى من أَصْحَابِنَا في تَعْلِيقِهِ الْخِلَافُ لِلَّفْظِ إذَا جُعِلَ كِنَايَةً عن غَيْرِهِ فَالْمَذْكُورُ حَقِيقَةً هو الْمَنْوِيُّ الْمُكَنَّى عنه دُونَ الْمَلْفُوظِ أَلَا تَرَى أَنَّ من قال لِلشُّجَاعِ يا أَسَدُ وَلِلْبَلِيدِ يا حِمَارُ كان الْمُنَادَى هو الْآدَمِيَّ دُونَ السَّبُعِ وَالْبَهِيمَةِ وَمَنْ قال لِزَوْجَتِهِ أَعْتَقْتُك وَنَوَى الطَّلَاقَ كان الصَّادِرُ حَقِيقَةً هو الطَّلَاقَ وَكَانَتْ الْإِبَانَةُ لَيْسَتْ تَصَرُّفًا مَوْضُوعًا شَرْعًا إنَّمَا الْمَوْضُوعُ هو الطَّلَاقُ غير أَنَّ الشَّارِعَ جَوَّزَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ
____________________
(1/556)
فيه لَفْظٌ آخَرُ يَقْرُبُ منه في الْمَعْنَى ثُمَّ الْمُتَصَرِّفُ هو الْمُسْتَعَارُ منه دُونَ ما عنه الِاسْتِعَارَةُ وَيَدُلُّ عليه أَنَّ نِيَّةَ الطَّلَاقِ لَا بُدَّ منها حتى لو قال أَبَنْتُكِ بَيْنُونَةَ النِّكَاحِ أو قَطَعْت نِكَاحَك لم يَعْمَلْ دُونَ النِّيَّةِ مع أَنَّ اللَّفْظَ خَرَجَ عن الْإِجْمَالِ أَعْنِي إجْمَالَ جِهَاتِ الْبَيْنُونَةِ الْعَلَاقَةُ الرَّابِعَةُ التَّضَادُّ وَهِيَ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ ضِدِّهِ وَأَكْثَرُ ما يَقَعُ في الْمُتَقَابِلَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَطْلَقَ على الْجَزَاءِ سَيِّئَةً مع أَنَّهُ عَدْلٌ لِكَوْنِهِ ضِدَّهَا وفي هذا رَدُّ الثَّانِي إلَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَفِيهِ رَدُّ الْأَوَّلِ إلَى لَفْظِ الثَّانِي لِأَنَّ الْقِصَاصَ ليس بِمُعَاقَبَةٍ وَمِنْهُ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَجُوزُ جَعْلُهُ من الْمُشَابَهَةِ وَجَعَلَ صَاحِبُ الْمَثَلِ السَّائِرِ من هذا الْقِسْمِ قَوْلَهُمْ الْجَوْنُ لِلْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ وهو وَهَمٌ لِأَنَّ هذا اشْتِرَاكٌ كَالنَّاهِلِ لِلرَّيَّانِ وَالظَّمْآنِ لَا أَنَّهُ مَجَازٌ وإذا وَقَعَ التَّعَارُضُ بين هذا وما قَبْلَهُ فَالسَّابِقُ أَوْلَى وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَلَاقَةَ في إطْلَاقِ اسْمِ أَحَدِ الْمُتَقَابِلَيْنِ على الْآخَرِ ليس هو اللُّزُومَ الذِّهْنِيَّ لِلِاتِّفَاقِ على امْتِنَاعِ إطْلَاقِ الْأَبِ على الِابْنِ بَلْ هو من قَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ بِتَنْزِيلِ الْمُقَابِلِ مَنْزِلَةَ الْمُنَاسِبِ بِوَاسِطَةِ تَمْلِيحٍ أو تَهَكُّمٍ كما في إطْلَاقِ الشُّجَاعِ على الْجَبَانِ أو تَفَاؤُلٍ كما في إطْلَاقِ الْبَصِيرِ على الْأَعْمَى أو مُشَاكَلَةٍ كما في إطْلَاقِ السَّيِّئَةِ على جَزَاءِ السَّيِّئَةِ الْعَلَاقَةُ الْخَامِسَةُ الْكُلِّيَّةُ وَهِيَ إطْلَاقُ اسْمِ الْكُلِّ على الْجُزْءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ أَيْ أَنَامِلَهُمْ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَضَعُ أُصْبُعَهُ في أُذُنِهِ وَقَوْلُهُ وُجُوهٌ يَوْمئِذٍ نَاضِرَةٌ إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ أَيْ أَعْيُنٌ لِأَنَّ النَّظَرَ بِالْعَيْنِ لَا بِالْوَجْهِ وَجَعَلَ منه ابن جِنِّي قَوْلَك ما فَعَلَ زَيْدٌ فَيُقَالُ الْقِيَامُ وَالْقِيَامُ إنَّمَا هو جِنْسٌ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِهِ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ فيه نَظَرٌ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ قالوا إنَّ الْقِيَامَ دَالٌّ على الْمَصْدَرِ فَلَا يَدُلُّ بِمُطْلَقِهِ على أَنْوَاعِ الْقِيَامِ بَلْ يَدُلُّ على الْحَقِيقَةِ لَا غَيْرُ وَهَاهُنَا بَحْثٌ وهو أَنَّهُ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ التي في الْقِيَامِ الِاسْتِغْرَاقُ فَلَا مُشَاحَةَ له في ذلك لِأَنَّ الْكُلَّ غَيْرُ مُرَادٍ قَطْعًا وَإِنْ أَرَادَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ تَعْرِيفَ الْمَصْدَرِ فَهَذَا مَوْضِعُ النَّقْدِ عليه لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يَدُلُّ إلَّا على قِيَامٍ ما وَلَا يُقَالُ فيه إنَّهُ بَعْضُ الْقِيَامِ وَلَا كُلُّهُ فَلَا يَسْتَقِيمُ له ما أَرَادَ من إدْخَالِهِ في بَابِ الْمَجَازِ وَعَلَى
____________________
(1/557)
هذا فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ الْقِيَامُ أُرِيدَ بِهِ الْمَجَازُ بَلْ الْحَقِيقَةُ وَهَذَا النَّوْعُ يُقَالُ له إطْلَاقُ الْعَامِّ وَإِرَادَةُ الْخَاصِّ وَشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ وَعِنْدَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ من الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَتُسَمَّى قَاصِرَةً بِنَاءً على أَنَّهُ في الْمَجَازِ يَجِبُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ في غَيْرِ ما وُضِعَ له وَالْجُزْءُ ليس غير الْكُلِّ كما أَنَّهُ ليس عَيْنَهُ لِأَنَّ الْغَيْرَيْنِ مَوْجُودَانِ يَجُوزُ وُجُودُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ وَيَمْتَنِعُ وُجُودُ الْكُلِّ بِدُونِ الْجُزْءِ فَلَا يَكُونُ غَيْرَهُ فَعِنْدَهُ اللَّفْظُ إنْ اُسْتُعْمِلَ في غَيْرِ ما وُضِعَ له أَيْ في مَعْنًى خَارِجٍ عَمَّا وُضِعَ له فَمَجَازٌ وَإِلَّا فَإِنْ اُسْتُعْمِلَ في عَيْنِهِ فَحَقِيقَةٌ وَإِلَّا فَحَقِيقَةٌ قَاصِرَةٌ الْعَلَاقَةُ السَّادِسَةُ الْجُزْئِيَّةُ وَهِيَ إطْلَاقُ الْجُزْءِ وَإِرَادَةُ الْكُلِّ كَقَوْلِهِمْ فُلَانٌ يَمْلِكُ كَذَا رَأْسًا من الْغَنَمِ أو ذَبَحَ كَذَا رَأْسًا من الْبَقَرِ وَكَاسْتِعْمَالِ الْعَيْنِ التي هِيَ الْجَارِيَةُ في الْجَاسُوسِ وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ على الْيَدِ ما أَخَذَتْ حتى تُؤَدِّيَهُ وقد فَرَّعَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا على هذا مَسْأَلَةَ إضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَى الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَنَحْوِهِمَا لَكِنَّ الْأَصَحَّ جَعْلُهُ من بَابِ السِّرَايَةِ وإذا تَعَارَضَ هذا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْكُلَّ يَسْتَلْزِمُ الْجُزْءَ وَلَا عَكْسَ فَكَانَتْ دَلَالَةُ الْأَوَّلِ أَقْوَى وَهَذَا وَاضِحٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى إطْلَاقِ الْأَعَمِّ على الْكُلِّ أَمَّا في إطْلَاقِ الْجُزْءِ الْخَاصِّ بِالشَّيْءِ كَالنَّاطِقِ مَثَلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِنْسَانِ فَلَا لِأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ له فَيَحْتَاجُ في تَعْلِيلِ أَوْلَوِيَّةِ الْأَوَّلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى هذا الْجُزْءِ إلَى وَجْهٍ آخَرَ وهو أَنَّ الْكُلَّ يَسْتَلْزِمُ الْجُزْءَ من حَيْثُ إنَّهُ كُلٌّ وَأَمَّا الْجُزْءُ الذي يَسْتَلْزِمُ الْكُلَّ فإنه لَا يَسْتَلْزِمُهُ من حَيْثُ إنَّهُ جُزْءٌ بَلْ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ وما بِالذَّاتِ يَكُونُ أَوْلَى وَأَقْدَمَ مِمَّا بِالْعَرَضِ قَالَهُ الْهِنْدِيُّ الْعَلَاقَةُ السَّابِعَةُ إطْلَاقُ ما بِالْفِعْلِ على ما بِالْقُوَّةِ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ الْمُسْتَعِدِّ لِأَمْرٍ بِاسْمِ ذلك الْأَمْرِ كَتَسْمِيَةِ الْخَمْرِ حَالَ كَوْنِهِ في الدَّنِّ بِالْمُسْكِرِ وَإِطْلَاقُ الْكَاتِبِ على الْعَارِفِ بِالْكِتَابَةِ عِنْدَ مُبَاشَرَتِهِ لها وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ إطْلَاقَ ما بِالْفِعْلِ على ما بِالْقُوَّةِ الْعَلَاقَةُ الثَّامِنَةُ الْمُجَاوَرَةُ وَهِيَ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ ما يُجَاوِرُهُ كَإِطْلَاقِ لَفْظِ
____________________
(1/558)
الرَّاوِيَةِ على الْقِرْبَةِ التي هِيَ ظَرْفٌ لِلْمَاءِ فإن الرَّاوِيَةَ في الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْبَعِيرِ ثُمَّ أُطْلِقَ على الْقِرْبَةِ لِمُجَاوَرَتِهِ لها وَكَذَا قَوْلُهُمْ جَرَى الْمِيزَابُ وَكَالْغَائِطِ لِلْفَضْلَةِ الْمُسْتَقْذَرَةِ لِأَنَّهَا تُجَاوِرُ الْمَكَانَ الْمُطْمَئِنَّ غَالِبًا كَقَوْلِهِ فَشَكَكْت بِالرُّمْحِ الْأَصَمِّ ثِيَابَهُ ليس الْكَرِيمُ على الْقَنَا بِمُحَرَّمِ أَرَادَ بِثِيَابِهِ نَفْسَهُ الْعَلَاقَةُ التَّاسِعَةُ اعْتِبَارُ ما كان عليه تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاعْتِبَارِ ما كان عليه كَتَسْمِيَةِ الْمُعْتَقِ عَبْدًا وَالْآدَمِيِّ مُضْغَةً وقَوْله تَعَالَى وَابْتَلُوا الْيَتَامَى إذْ لَا يُتْمَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقِيلَ إنَّ هذا الْقِسْمَ حَقِيقَةٌ وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ أَنَّ الضَّارِبَ الْحَقِيقِيَّ هل هو من اتَّصَفَ بِإِيجَادِ الضَّرْبِ أو من هو آخِذٌ في إيجَادِهِ وقد سَبَقَتْ في مَبَاحِثِ الِاشْتِقَاقِ على أَنَّ الْقَائِلَ بِكَوْنِهِ حَقِيقَةً لم يُرِدْ تَحْقِيقَ الْمَعْنَى عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَمَّا إذَا أُرِيدَ جَعْلُهُ ضَارِبًا بَعْدَ ضَرْبِهِ بِتَخَيُّلِ ضَرْبٍ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَهُوَ مَجَازٌ قَطْعًا وَاعْلَمْ أَنَّ شَرْطَ هذه الْعَلَاقَةِ أَنْ لَا يَكُونَ مُتَلَبِّسًا الْآنَ بِضِدِّهِ فَلَا يُقَالُ لِلشَّيْخِ إنَّهُ طِفْلٌ بِاعْتِبَارِ ما كان وَلَا لِلثَّوْبِ الْأَسْوَدِ إنَّهُ أَبْيَضُ بِاعْتِبَارِ ما كان وَلِهَذَا امْتَنَعَ إطْلَاقُ الْكَافِرِ على الْمُسْلِمِ لِكُفْرٍ تَقَدَّمَ عليه الْعَلَاقَةُ الْعَاشِرَةُ اعْتِبَارُ ما يَئُولُ إلَيْهِ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاعْتِبَارِ ما يَئُولُ إلَيْهِ إمَّا بِالْفِعْلِ كَإِطْلَاقِ الْخَمْرِ على الْعِنَبِ أو بِالْقُوَّةِ كَإِطْلَاقِ الْمُسْكِرِ على الْخَمْرِ إنْ بَقِيَتْ قِيلَ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ آيِلًا بِنَفْسِهِ لِيَخْرُجَ الْعَبْدُ فإنه لَا يُطْلَقُ عليه حُرٌّ بِاعْتِبَارِ ما يَئُولُ إلَيْهِ وفي تَعْلِيقِ الْخِلَافِ لِإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيِّ إنَّمَا يُسَمَّى الشَّيْءُ بِاعْتِبَارِ ما يَئُولُ إلَيْهِ إذَا كان الْمَآلُ مَقْطُوعًا بِوُجُودِهِ كَالْقِيَامَةِ لَا بُدَّ منها وَالْمَوْتُ لَا بُدَّ من نُزُولِهِ فَيَبْطُلُ تَأْوِيلُ الْحَنَفِيَّةِ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ على أَنَّهُ سَيَبْطُلُ وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَفْسَخَهُ وَذَكَرَ ابن يحيى في تَعْلِيقِهِ نَحْوَهُ فقال إذَا كان الْمَآلُ مَقْطُوعًا بِهِ نَحْوُ إنَّك مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ أو غَالِبًا لَا نَادِرًا كَتَأْوِيلِ الْحَنَفِيَّةِ
____________________
(1/559)
وَهَاهُنَا تَنْبِيهَاتٌ أَحَدُهَا أَنَّ منهم من اكْتَفَى عن هذه الْعَلَاقَةِ بِالسَّابِعَةِ أَعْنِي بِعَلَاقَةِ الِاسْتِعْدَادِ وهو ظَاهِرُ تَمْثِيلِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالْإِمَامِ في الْمَحْصُولِ وَالْحَقُّ تَغَايُرُهُمَا لِأَنَّ الْمُسْتَعِدَّ لِلشَّيْءِ قد لَا يَئُولُ إلَيْهِ بَلْ هو مُسْتَعِدٌّ له وَلِغَيْرِهِ كما أَنَّ الْعَصِيرَ قد لَا يَئُولُ إلَى الْخَمْرِيَّةِ وَإِنْ كان مُسْتَعِدًّا لها وَلِغَيْرِهَا الثَّانِي أَنَّ هذه وَاَلَّتِي قَبْلَهَا لَا بُدَّ من تَقْيِيدِهِمَا لِأَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الشَّيْءِ بِاعْتِبَارِ ما كان عليه أو بِمَا سَيَئُولُ إلَيْهِ تَارَةً يُقَدَّرُ أَنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ لِكَوْنِهَا كانت أو سَتَكُونُ كَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ وَيُتَخَيَّلُ ذلك فَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ وهو من الْقِسْمِ الْمُسَمَّى بِالْمُشَابَهَةِ في الصِّفَةِ وَتَارَةً لَا يُتَخَيَّلُ ذلك بَلْ يُطْلَقُ ذلك الِاسْمُ لِكَوْنِهِ كان أو سَيَكُونُ من غَيْرِ تَخَيُّلِ هذه الصِّفَةِ مَوْجُودَةً وهو مُرَادُ الْأُصُولِيِّينَ الثَّالِثُ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بين هذه الْعَلَاقَةِ وَبَيْنَ التي قَبْلَهَا أَعْنِي بِاعْتِبَارِ ما كان فَالْأُولَى أَوْلَى لِكَوْنِهِ وَصْفًا بِأَمْرٍ مُحَقَّقٍ لِأَنَّهُ وُصِفَ بِمَا وَقَعَ بِخِلَافِ هذه وَلِهَذَا اخْتَلَفُوا في الْأُولَى هل هِيَ حَقِيقَةٌ وَاتَّفَقُوا في الثَّانِيَةِ على أَنَّهُ مَجَازٌ وقال بَعْضُهُمْ الْمُعْتَبَرُ في الْمَجَازِ بِاعْتِبَارِ ما كان حُصُولُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِلْمُسَمَّى الْمَجَازِيِّ في الزَّمَانِ السَّابِقِ على حَالَةِ اعْتِبَارِ الْحُكْمِ إلَى زَمَانِ وُقُوعِ النِّسْبَةِ وفي الْمَجَازِ بِاعْتِبَارِ ما يَئُولُ حُصُولُهُ في الزَّمَانِ اللَّاحِقِ وَيَمْتَنِعُ فِيهِمَا حُصُولُهُ في زَمَانِ اعْتِبَارِ الْحُكْمِ وَإِلَّا لَكَانَ الْمُسَمَّى من أَفْرَادِ الْمَوْضُوعِ له فَيَكُونُ اللَّفْظُ فيه حَقِيقَةً لَا مَجَازًا فَفِي مِثْلِ وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وأعصر خَمْرًا وُضِعَ الْكَلَامُ على أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةُ الْيُتْمِ حَاصِلَةً لهم وَقْتَ إيتَاءِ الْمَالِ إيَّاهُمْ وَحَقِيقَةُ الْخَمْرِ حَاصِلَةٌ له حَالَ الْعَصِيرِ فَلَوْ حَصَلَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ في هذه الْحَالِ كما هو مُقْتَضَى وَضْعِ الْكَلَامِ لم يَكُنْ اللَّفْظُ مَجَازًا بَلْ حَقِيقَةً فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحُصُولُ في زَمَانٍ سَابِقٍ لِيَكُونَ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ ما كان أو لَاحِقٍ لِيَكُونَ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ ما يَئُولُ هذا بِالنِّسْبَةِ إلَى الِاسْمِ وَأَمَّا في الْفِعْلِ إذَا أُطْلِقَ الْمُسْتَقْبَلُ وَأُرِيدَ بِهِ الْمَاضِي أو عَكْسُهُ فَالْمُرَادُ بِاللَّفْظِ نَفْسُ الْفِعْلِ وَبِالزَّمَانِ زَمَانُ ما يَدُلُّ عليه الْفِعْلُ بِهَيْئَتِهِ فإذا قُلْنَا يُكْتَبُ مَجَازًا عن كُتُبٍ بِاعْتِبَارِ ما كان بِمَعْنَى حُصُولِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِلْمُسَمَّى أو
____________________
(1/560)
جَوْهَرِ الْحُرُوفِ وهو الْحَدَثُ حَاصِلٌ لِلْمُسَمَّى في زَمَانٍ سَابِقٍ على الزَّمَانِ الذي هو مَدْلُولُ الْفِعْلِ أَعْنِي الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ إذْ لو كان حَاصِلًا له في ذلك الزَّمَانِ لَكَانَ الْفِعْلُ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا وإذا قُلْنَا كَتَبَ زَيْدٌ مَجَازًا عن يَكْتُبُ بِاعْتِبَارِ ما يَئُولُ إلَيْهِ بِمَعْنَى حُصُولِ الْفِعْلِ الْحَقِيقِيِّ لِلْمُسَمَّى أَنَّ الْحَدَثَ حَاصِلٌ له في زَمَانٍ لَاحِقٍ مُتَأَخِّرٍ عن الزَّمَانِ الْمَاضِي الذي يَدُلُّ عليه الْفِعْلُ بِهَيْئَتِهِ إذْ لو كان حَاصِلًا في الزَّمَانِ الْمَاضِي لَكَانَ الْفِعْلُ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا وَالزَّمَانُ الذي يَحْصُلُ فيه الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ الْمُسَمَّى في الصُّورَتَيْنِ مُغَايِرٌ لِلزَّمَانِ الذي وُضِعَ لَفْظُ الْفِعْلِ له لِحُصُولِ الْحَدَثِ فيه وَهَذَا فيه نَظَرٌ فإنه ليس مَدْلُولُهُ الْمُسَمَّى الْمُطْلَقُ عليه لَفْظُ الْمَجَازِ الذي هو لَفْظُ الْفِعْلِ وَإِنَّمَا الْمَدْلُولُ الْمَجَازِيُّ هو الْحَدَثُ الْمُقَارَنُ بِزَمَانٍ سَابِقٍ أو لَاحِقٍ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ التَّعْبِيرَ عن الْمَاضِي بِالْمُضَارِعِ وَعَكْسُهُ من بَابِ الِاسْتِعَارَةِ بِتَشْبِيهِ غَيْرِ الْحَاصِلِ بِالْحَاصِلِ في تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ وَتَشْبِيهُ الْمَاضِي بِالْحَاضِرِ في كَوْنِهِ نُصْبَ الْعَيْنِ ثُمَّ اُسْتُعِيرَ لَفْظُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ الْعَلَاقَةُ الْحَادِيَةُ عَشْرَةَ الْمَجَازُ بِالزِّيَادَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ليس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهَلْ الزَّائِدُ كَافٌ أو مِثْلِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في الْإِرْشَادِ هل الْمَجَازُ الزَّائِدُ عن الْآيَةِ لَا غَيْرُ أو الْكَلِمَةُ التي وَصَلَتْهَا الزِّيَادَةُ وَجْهَانِ وَسَيَأْتِي عن الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْكَافَ زَائِدَةٌ فَقَطْ لِأَنَّهَا لو كانت أَصْلِيَّةً لَلَزِمَ إثْبَاتُ الْمِثْلِ وهو مُحَالٌ وَرُدَّ بِدَعْوَى الْأَصَالَةِ وَأَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ مِثْلِ الْمِثْلِ وَيَلْزَمُ من نَفْيِ مِثْلِ الْمِثْلِ نَفْيُ الْمِثْلِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ مِثْلٌ إذْ الْمُمَاثَلَةُ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا من الْجَانِبَيْنِ وقال بَعْضُهُمْ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ ليس شَيْءٌ كَمِثْلِهِ فَشَيْءٌ اسْمُ ليس وهو الْمُبْتَدَأُ وَكَمِثْلِهِ خَبَرٌ فَالشَّيْءُ الذي هو الْمَوْضُوعُ قد نُفِيَ عنه الْمِثْلُ الذي هو الْمَحْمُولُ فَهُوَ مَنْفِيٌّ عنه لَا مَنْفِيٌّ فَيَكُونُ ثَابِتًا فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الذَّاتُ الْمُقَدَّسَةُ مَنْفِيَّةً وَإِنَّمَا الْمَنْفِيُّ مِثْلُ مِثْلِهَا وَلَازِمُهُ نَفْيُ مِثْلِهَا وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَنْفِيٌّ عنها وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ قِيلَ إنَّ الْكَافَ زَائِدَةٌ أو الْمِثْلَ زَائِدٌ قال وَنَرَى الْقَاضِي يَمِيلُ إلَى ذلك وَيَعُدُّهُ من الْمَجَازِ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ قد اُخْتُلِفَ في كَيْفِيَّةِ كَوْنِ هذا مَجَازًا فقال الْجُمْهُورُ إنَّ الْكَلِمَةَ تَصِيرُ بِالزِّيَادَةِ مَجَازًا وقال قَوْمٌ إنَّ نَفْسَ الزِّيَادَةِ تَكُونُ مَجَازًا دُونَ جَمِيعِ الْكَلِمَاتِ لِأَنَّ الْكَافَ هِيَ الْمُسْتَعْمَلَةُ في غَيْرِ مَوْضِعِهَا وَالْمِثْلُ مُسْتَعْمَلٌ في مَوْضِعِهِ قال وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْحَرْفَ الْوَاحِدَ لَا يُفِيدُ بِنَفْسِهِ وما لَا يُفِيدُ
____________________
(1/561)
بِنَفْسِهِ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَلَا مَجَازٌ وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِذَلِكَ الْكَلَامُ الْمُفِيدُ وَالْكَافُ لَا تُفِيدُ إلَّا بِانْضِمَامِهَا إلَى الْمِثْلِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مَجَازًا انْتَهَى وقال الْعَبْدَرِيّ في الْمُسْتَوْفَى وابن الْحَاجِّ في تَنْكِيتِهِ على الْمُسْتَصْفَى الزِّيَادَةُ لَيْسَتْ من أَنْوَاعِ الْمَجَازِ بَلْ فيها ضَرْبٌ من التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى ليس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فيه مُبَالَغَةٌ في نَفْيِ مِثْلِ الْمِثْلِ كَأَنَّهُ قِيلَ ليس مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ وَالْمَعْنَى ليس مثله وَالزِّيَادَةُ حَقِيقِيَّةٌ الْعَلَاقَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ الْمَجَازُ بِالنُّقْصَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ أَيْ أَهْلَ اللَّهِ قال الْإِمَامُ في التَّلْخِيصِ وهو مِثَالٌ سَدِيدٌ وَقَوْلُهُ وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ فإن الْمُرَادَ أَهْلُهَا وَمِنْهُمْ من لم يَجْعَلْهُ مَجَازًا وقال لَا نَقُولُ أُقِيمَتْ الْقَرْيَةُ مَقَامَ أَهْلِهَا بَلْ حُذِفَ من الْخِطَابِ ذِكْرُ الْأَهْلِ لِدَلَالَةِ بَقِيَّةِ الْخِطَابِ عليه وَالْإِضْمَارُ وَالْحَذْفُ لَيْسَا من الْمَجَازِ فإن الْمَجَازَ هو اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ في غَيْرِ ما وُضِعَ له حَكَاهُ الْإِمَامُ في التَّلْخِيصِ وابن الْقُشَيْرِيّ في أُصُولِهِ وَقَالَا مَيْلُ الْقَاضِي إلَى أَنَّهُ يُسَمَّى مَجَازًا قال وهو الظَّاهِرُ وَالْخِلَافُ فيه سَهْلٌ وَكَذَا قال إلْكِيَا الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ وَلَا خِلَافَ في الْمَعْنَى وَحَاصِلُ الْخِلَافِ أَنَّ الْمُضْمَرَ هل هو سَبَبُ التَّجَوُّزِ أو مَحَلُّ التَّجَوُّزِ وَطَرِيقَةُ الْبَيَانِيِّينَ تَقْتَضِي الثَّانِيَ قال الْمُطَرِّزِيُّ وَإِنَّمَا يَكُونُ كُلٌّ من الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ إذَا تَغَيَّرَ بِسَبَبِهِ حُكْمٌ وَإِنْ لم يَتَغَيَّرْ فَلَا فَلَوْ قُلْت زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ وَعَمْرٌو وَحَذَفْت الْخَبَرَ لم يُوصَفْ بِالْمَجَازِ لِأَنَّهُ لم يُؤَدِّ إلَى تَغْيِيرِ حُكْمٍ من أَحْكَامِ ما بَقِيَ من الْكَلَامِ انْتَهَى وَالتَّمْثِيلُ بِالْآيَةِ مَبْنِيٌّ على أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَرْيَةِ الْأَبْنِيَةُ وَهِيَ لَا تُسْأَلُ وَقِيلَ إنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الناس الْمُجْتَمِعِينَ فيها وَقِيلَ بَلْ الْقَرْيَةُ حَقِيقَةٌ في الناس بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَكَمْ قَصَمْنَا من قَرْيَةٍ كانت ظَالِمَةً وَكَأَيِّنْ من قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لها وَهِيَ ظَالِمَةٌ وَكَمْ أَهْلَكْنَا من قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا وَلِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ من الْقَرِّ وهو الْجَمْعُ وَمِنْهُ قَرَأْت الْمَاءَ في الْحَوْضِ أَيْ جَمَعْته وَمِنْهُ الْقِرَى وَهِيَ الضِّيَافَةُ لِاجْتِمَاعِ الناس لها وَقِيلَ إنَّهَا من بَابِ إطْلَاقِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِّ لَا من الْحَذْفِ وَقِيلَ لَا مَجَازَ أَصْلًا وَلَا حَذْفَ بَلْ السُّؤَالُ حَقِيقِيٌّ لها وَيَكُونُ مُعْجِزَةً
____________________
(1/562)
لِأَنَّهُ في زَمَنِ النُّبُوَّةِ وَالصَّحِيحُ من هذا كُلِّهِ هو الْأَوَّلُ وهو الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ في كِتَابِ الرِّسَالَةِ وَنَقَلَهُ عن أَهْلِ الْعِلْمِ بِاللِّسَانِ وَجَعَلَ هذه الْآيَةَ من الدَّالِّ لَفْظِهِ على بَاطِنِهِ دُونَ ظَاهِرِهِ فقال قال اللَّهُ تَعَالَى وهو يَحْكِي قَوْلَ إخْوَةِ يُوسُفَ لِأَبِيهِمْ وما شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا وما كنا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ التي كنا فيها وَالْعِيرَ التي أَقْبَلْنَا فيها وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فَهَذِهِ الْآيَةُ في مَعْنَى الْآيَاتِ قَبْلَهَا لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِاللِّسَانِ أَنَّهُمْ إنَّمَا يُخَاطِبُونَ أَبَاهُمْ بِمَسْأَلَةِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ وَأَهْلِ الْعِيرِ لِأَنَّ الْقَرْيَةَ وَالْعِيرَ لَا يُنْبِئَانِ عن صِدْقِهِمْ ا هـ كَلَامُهُ وقد أَشْكَلَ على جَمَاعَةٍ جَعْلُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ من أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ لِأَنَّ الْمَجَازَ الْإِفْرَادِيَّ لَفْظٌ مُسْتَعْمَلٌ في غَيْرِ ما وُضِعَ له وَجَمِيعُ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ في الْآيَتَيْنِ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وُضِعَ له فَالْقَرْيَةُ في الْقَرْيَةِ وَالسُّؤَالُ في السُّؤَالِ وَكَذَا الْآيَةُ الْأُخْرَى فلم يَبْقَ إلَّا الْمَحْذُوفُ وهو الْأَصْلُ وَالْمَحْذُوفُ مَسْكُوتٌ عنه لم يُسْتَعْمَلْ أَلْبَتَّةَ وَالزَّائِدُ كَذَلِكَ لم يُسْتَعْمَلْ في شَيْءٍ وما لَا يُسْتَعْمَلُ في شَيْءٍ لَا يَكُونُ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ من مَجَازِ التَّرْكِيبِ لَا الْإِفْرَادِ وَاخْتَارَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ وَجَمَاعَةٌ لِأَنَّ الْعَرَبَ وَضَعَتْ السُّؤَالَ لِتَرْكِيبِ لَفْظَةٍ مع لَفْظَةٍ فِيمَا يَصْلُحُ لِلْإِجَابَةِ فَحَيْثُ رَكَّبَتْهُ مع ما لَا يَصْلُحُ فَقَدْ عَدَلَتْ عن التَّرْكِيبِ الْأَصْلِيِّ إلَى تَرْكِيبٍ آخَرَ وَلَا مَعْنَى لِلْمَجَازِ الْمُرَكَّبِ إلَّا هذا وَكَذَلِكَ حُرُوفُ الزِّيَادَةِ وَضَعَتْهَا لِتُرَكِّبَهَا مع مَعْنًى فإذا رَكَّبَتْهَا لَا مع مَعْنًى فَهُوَ مَجَازٌ في التَّرْكِيبِ وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَجَازَ في الْمَذْكُورِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُغَيِّرُ حُكْمَ إعْرَابِهِ لِأَنَّ الْقَرْيَةَ مع ذِكْرِ الْأَهْلِ مَجْرُورَةٌ وَعِنْدَ حَذْفِهَا مَنْصُوبَةٌ وَكَذَلِكَ مِثْلِ مَجْرُورَةٌ بِزِيَادَةِ الْكَافِ وكان حُكْمُهُ في الْأَصْلِ النَّصْبَ فَإِنَّمَا وَقَعَ الْمَجَازُ في الْجَرِّ وَالنَّصْبِ من الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وقد صَرَّحَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْبَيَانِ وَشَرَطُوا في مَجَازِ الْحَذْفِ أَنْ يَتَغَيَّرَ حُكْمُ إعْرَابِ الْكَلِمَةِ فَإِنْ لم يَتَغَيَّرْ لم يَكُنْ مَجَازًا وَإِنْ كان ثَمَّ حَذْفٌ وَمِثَالُهُ قَوْله تَعَالَى فَقَبَضْتُ قَبْضَةً من أَثَرِ الرَّسُولِ فإن الْمُقَدَّرَ من أَثَرِ فَرَسِ الرَّسُولِ فَالْمَذْكُورُ هُنَا لم يَتَغَيَّرْ حُكْمُ إعْرَابِهِ فَلَا يَكُونُ مَجَازًا
____________________
(1/563)
الثَّانِي أَنَّ تَعْرِيفَ الْمَجَازِ الْإِفْرَادِيِّ صَادِقٌ عليه وَإِنْ لم يُلْحَظْ لَك لِأَنَّ قَوْلَهُ وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ مَوْضُوعٌ لِسُؤَالِهَا مُسْتَعْمَلٌ في سُؤَالِ أَهْلِهَا فَكَانَ مَجَازًا وَلَيْسَ هو مَجَازًا في التَّرْكِيبِ فإن مَجَازَ التَّرْكِيبِ مِثْلُ قَوْلِك أَنْبَتَ الرَّبِيعُ الْبَقْلَ لَفْظٌ مُسْتَعْمَلٌ في مَوْضُوعِهِ فَمُقْتَضَاهُ إسْنَادُ الْإِثْبَاتِ إلَى الرَّبِيعِ وَلَكِنَّا عَلِمْنَا بِالْعَقْلِ أَنَّهُ ليس كَذَلِكَ وَإِنَّمَا هو من اللَّهِ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَجَازِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ أَنَّ اللَّفْظَةَ الزَّائِدَةَ وَحْدَهَا أو النَّاقِصَةَ وَحْدَهَا مَجَازٌ وَلَا نَعْنِي بِمَجَازِ التَّرْكِيبِ إلَّا إسْنَادَ الْفِعْلِ إلَى الْفَاعِلِ وهو الذي يَكُونُ فيه من جِهَةِ الْمَوْضُوعِ اللُّغَوِيِّ صَحِيحًا وَإِنَّمَا جاء الْمَجَازُ من جِهَةِ الْعَقْلِ حتى لو فُرِضَ هذا الْكَلَامُ من كَافِرٍ يَعْتَقِدُ حَقِيقَتَهُ لم يَكُنْ مَجَازًا الْعَلَاقَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ التَّعْلِيقُ الْحَاصِلُ بين الْمَصْدَرِ وَاسْمِ الْمَفْعُولِ أو الْفَاعِلِ فَمِنْ إطْلَاقِ الْمَصْدَرِ على الْمَفْعُولِ قَوْله تَعَالَى هذا خَلْقُ اللَّهِ أَيْ مَخْلُوقَةٌ وقَوْله تَعَالَى وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ من عِلْمِهِ أَيْ من مَعْلُومِهِ فَسُمِّيَ الْمَعْلُومُ عِلْمًا لِمَا بين الْمَعْلُومِ وَالْعِلْمِ من التَّعَلُّقِ وَلَفْظَةُ من تَقْتَضِي أَنَّ الْعِلْمَ نَفْسَهُ ليس مُرَادًا فَإِنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ وَعِلْمُ اللَّهِ لَا يَتَبَعَّضُ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ من مَعْلُومَاتِهِ وَعَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِجَابًا مَسْتُورًا أَيْ سَاتِرًا إنَّهُ كان وَعْدُهُ مَأْتِيًّا أَيْ آتِيًا على قَوْلٍ وَمِنْ إطْلَاقِ الْمَصْدَرِ على الْفَاعِلِ رَجُلٌ عَدْلٌ وَصَوْمٌ أَيْ عَادِلٌ وَصَائِمٌ وَعَكْسُهُ كَقَوْلِهِمْ قُمْ قَائِمًا أَيْ قِيَامًا وَاسْكُتْ سَاكِتًا أَيْ سُكُوتًا الْعَلَاقَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ إطْلَاقُ اسْمِ اللَّازِمِ على الْمَلْزُومِ كَالْمَسِّ على الْجِمَاعِ الْعَلَاقَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ عَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَمْ أَنْزَلْنَا عليهم سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ أَيْ يَدُلُّ وَالدَّلَالَةُ من لَوَازِمِ الْكَلَامِ الْعَلَاقَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ تَسْمِيَةُ الْحَالِّ بِاسْمِ الْمَحَلِّ كَالْغَائِطِ وَقَوْلُهُمْ لَا فُضَّ فُوك أَيْ أَسْنَانُك وَقَوْلُهُ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ الْعَلَاقَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ عَكْسُهُ كَقَوْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ أَيْ في الْجَنَّةِ لِأَنَّهَا من مَحَلِّ رَحْمَتِهِ وَكَإِطْلَاقِ اللِّسَانِ على الْكَلَامِ كما في قَوْله تَعَالَى وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَقَوْلُهُ وَاجْعَلْ لي لِسَانَ صِدْقٍ وقد اجْتَمَعَ هذا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ في قَوْله تَعَالَى خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كل مَسْجِدٍ فإن الزِّينَةَ حَالَّةٌ في الثِّيَابِ وَالْمَسْجِدُ مَحَلُّ الصَّلَاةِ فَفِي الْأَوَّلِ إطْلَاقُ الْحَالِّ وَإِرَادَةُ الْمَحَلِّ وَالثَّانِي إطْلَاقُ
____________________
(1/564)
الْمَحَلِّ وَإِرَادَةُ الْحَالِ وَهِيَ الصَّلَاةُ الْعَلَاقَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ إطْلَاقُ الْمُنَكَّرِ وَإِرَادَةُ الْمُعَرَّفِ مِثْلُ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً عِنْدَ من يقول كانت مُعَيَّنَةً الْعَلَاقَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ عَكْسُهُ مِثْلُ اُدْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا عِنْدَ من زَعَمَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ دُخُولُ أَيِّ بَابٍ كان الْعَلَاقَةُ الْعِشْرُونَ إطْلَاقُ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ وَإِرَادَةُ الْجِنْسِ نَحْوُ الرَّجُلُ خَيْرٌ من الْمَرْأَةِ الْعَلَاقَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ إطْلَاقُ النَّكِرَةِ وَإِرَادَةُ الْجِنْسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ وَقَوْلُهُ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا عِنْدَ من لم يَجْعَلْهُ اسْمَ جِنْسٍ كَالصِّفَةِ الْعَلَاقَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ إطْلَاقُ اسْمِ الْمُقَيَّدِ على الْمُطْلَقِ كَقَوْلِ الْقَاضِي شُرَيْحٍ أَصْبَحْت وَنِصْفُ الناس عَلَيَّ غَضْبَانُ فإنه أَرَادَ بِالنِّصْفِ الْبَعْضَ الْعَلَاقَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ عَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ من قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا عِنْدَ من يقول رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ قال الْأَصْفَهَانِيُّ وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إطْلَاقُ اسْمِ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ من بَابِ إطْلَاقِ الْعَامِّ على الْخَاصِّ لِأَنَّ الْعَامَّ هو الْكُلُّ وَالْخَاصُّ هو الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ بِالْعَكْسِ من ذلك ضَرُورَةَ أَنَّ الْمُطْلَقَ جُزْءٌ من الْمُقَيَّدِ ا هـ وَهَذَا سَهْوٌ منه بَلْ هو دَاخِلٌ في إطْلَاقِ الْخَاصِّ وَإِرَادَةُ الْعَامِّ الذي أَرَادَ بِهِ الْإِمَامُ إطْلَاقَ الْجُزْءِ وَإِرَادَةَ الْكُلِّ الْعَلَاقَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ تَسْمِيَةُ الْبَدَلِ بِاسْمِ الْمُبْدَلِ منه كَتَسْمِيَةِ الدِّيَةِ بِالدَّمِ في قَوْلِهِمْ أَكَلَ فُلَانٌ دَمَ فُلَانٍ أَيْ دِيَتَهُ الْعَلَاقَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ عَكْسُهُ كَتَسْمِيَةِ الْأَدَاءِ بِالْقَضَاءِ في قَوْله تَعَالَى فإذا قَضَيْتُمْ الصَّلَاةَ أَيْ أَدَّيْتُمْ هذا جُمْلَةُ ما ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ الْعَلَاقَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ الْقَلْبُ كَقَوْلِهِمْ خَرَقَ الثَّوْبُ الْمِسْمَارَ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى ما إنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ الْعَلَاقَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ التَّشْبِيهُ كَقَوْلِهِمْ تَعَالَى كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ النُّحَاةِ وَتَبِعَهُمْ صَاحِبُ الِارْتِشَافِ وَالْحَقُّ أَنَّ التَّشْبِيهَ حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ الْعَلَاقَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ قَلْبُ التَّشْبِيهِ كَقَوْلِهِ يَكُونُ مِزَاجُهَا عَسَلًا وَمَاءً
____________________
(1/565)
الْعَلَاقَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ الْكِنَايَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ وفي هذا أَيْضًا نِزَاعٌ الْعَلَاقَةُ الثَّلَاثُونَ التَّعْرِيضُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قال يا قَوْمِ ليس بِي سَفَاهَةٌ الْعَلَاقَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ الِانْقِطَاعُ من الْجِنْسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إلَّا إبْلِيسَ الْعَلَاقَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ وُرُودُ الْمَدْحِ في صُورَةِ الذَّمِّ وَعَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ذُقْ إنَّك أنت الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ وَقَالُوا ما أَشْعَرَهُ قَاتَلَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ اللَّهُ ما أَفْصَحَهُ الْعَلَاقَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ وُرُودُ الْأَمْرِ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ وَعَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَقَوْلِهِ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ الْعَلَاقَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ وُرُودُ الْوَاجِبِ أو الْمُحَالِ في صُورَةِ الْمُمْكِنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَسَى أَنْ يَبْعَثَك رَبُّك وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ لَعَلَّ مَنَايَانَا تَحَوَّلْنَ أَبْؤُسَا الْعَلَاقَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاَلَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحَوَى وَالْغُثَاءُ ما احْتَمَلَهُ السَّيْلُ من الْحَشِيشِ وَالْأَحْوَى الشَّدِيدُ الْخُضْرَةِ من النِّعْمَةِ الْعَلَاقَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ إضَافَةُ الشَّيْءِ إلَى ما ليس له كَقَوْلِهِ تَعَالَى بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الْعَلَاقَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ الْإِخْبَارُ عن الشَّيْءِ وَوَصْفُهُ لِغَيْرِهِ كَقَوْلِهِمْ نَهَارُهُ صَائِمٌ وَلَيْلُهُ قَائِمٌ الْعَلَاقَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ تَجَاهُلُ الْعَارِفِ وَتَجَنَّبَ السَّكَّاكِيُّ هذه الْعِبَارَةَ لِوُقُوعِهِ في التَّنْزِيلِ وَسَمَّاهُ سِيَاقَ الْمَعْلُومِ مَسَاقَ الْمَجْهُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حَاكِيًا عن الرُّسُلِ وَإِنَّا أو إيَّاكُمْ لِعَلَى هُدًى أو في ضَلَالٍ مُبِينٍ ذَكَرَ هذه الثَّلَاثَةَ عَشْرَةَ الْأَخِيرَةَ أبو إِسْحَاقَ النَّهَاوِيُّ من النَّحْوِيِّينَ في شَرْحِ الْجُمَلِ وَإِنَّمَا لم يَتَعَرَّضْ له الْأُصُولِيُّونَ لِأَنَّ الْمَجَازَ فيها في التَّرْكِيبِ لَا في الْإِفْرَادِ فَاعْلَمْ ذلك فَقَدْ غَلِطَ من سَاقَ الْجَمْعَ مَسَاقًا
____________________
(1/566)
وَاحِدًا مَسْأَلَةٌ يَقَعُ الْمَجَازُ في الْمُفْرَدَاتِ وَالتَّرْكِيبِ الْمَجَازُ إمَّا أَنْ يَقَعَ في مُفْرَدَاتِ الْأَلْفَاظِ أو في تَرْكِيبِهَا فَالْأَوَّلُ كَإِطْلَاقِ الْأَسَدِ على الشُّجَاعِ وهو الذي تَكَلَّمَ فيه الْأُصُولِيُّ وَيُسَمَّى لُغَوِيًّا وَلَفْظِيًّا وَأَنْكَرَهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَمَنْ معه كما سَبَقَ وَالثَّانِي حَيْثُ تَكُونُ الْمُفْرَدَاتُ حَقَائِقَ إنَّمَا وَقَعَ التَّجَوُّزُ بِاعْتِبَارِ الْإِسْنَادِ فَإِنْ أُسْنِدَ إلَى ما ليس له في نَفْسِ الْأَمْرِ كَسَبَ زَيْدٌ أَبَاهُ إذَا كان سَبَبًا له وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى يَنْزِعُ عنهما لِبَاسَهُمَا وهو الذي يَتَكَلَّمُ الْبَيَانِيُّون فيه وَيُسَمَّى عَقْلِيًّا وَحُكْمِيًّا فإذا وَصَفْنَا الْمُفْرَدَ بِالْمَجَازِ كَقَوْلِنَا الْيَدُ مَجَازٌ في النِّعْمَةِ كان حُكْمًا من طَرِيقِ اللُّغَةِ وَمَتَى وَصَفْنَا الْجُمْلَةَ بِذَلِكَ كان من طَرِيقِ الْمَعْقُولِ وَالْكَلَامُ فيه من وُجْهَاتٍ تَعْرِيفُ الْمَجَازِ الْأَوْلَى في حَدِّهِ اُخْتُلِفَ فيه فقال عبد الْقَاهِرِ وَالسَّكَّاكِيُّ هو الْكَلَامُ الْمُفَادُ بِهِ خِلَافُ ما عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ فيه بِضَرْبٍ من التَّأْوِيلِ إفَادَةً لِلْخِلَافِ لَا بِوَاسِطَةِ الْوَضْعِ فَخَرَجَ بِالْمُفَادِ بِهِ خِلَافُ ما عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ الْحَقِيقَةُ وبضرب من التَّأْوِيلِ الْكَذِبُ وَبِالْأَخِيرِ الْمَجَازُ اللُّغَوِيُّ وقال الزَّمَخْشَرِيُّ إسْنَادُ الْفِعْلِ إلَى شَيْءٍ يَلْتَبِسُ بِاَلَّذِي هو له في الْحَقِيقَةِ الثَّانِيَةُ أَنَّ الْمَجَازَ هل هو نَفْسُ اللَّفْظِ أو الْإِسْنَادُ فيه خِلَافٌ يَنْشَأُ من الْحَدَّيْنِ فَعَلَى الْأَوَّلِ هو الْكَلَامُ وَعَلَى الثَّانِي هو الْإِسْنَادُ وَلِهَذَا صَرَّحَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ بِأَنَّهُ الْإِسْنَادُ نَفْسُهُ وهو ما نَقَلَهُ ابن الْحَاجِبِ عن الشَّيْخِ عبد الْقَاهِرِ لَكِنْ صَرَّحَ الشَّيْخُ في مَوَاضِعَ من دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ بِأَنَّ الْمُسَمَّى بِالْمَجَازِ الْكَلَامُ لَا الْإِسْنَادُ وَعَلَيْهِ جَرَى السَّكَّاكِيُّ في الْمِفْتَاحِ وَلِهَذَا يقول في جَمِيعِ الْبَابِ إسْنَادُ حَقِيقَةٍ وَإِسْنَادُ مَجَازٍ كما قال غَيْرُهُ وهو الصَّوَابُ لِأَنَّ الْمُسَمَّى حَقِيقَةً أو مَجَازًا على هذا نَقِيسُهُ بِلَا وَاسِطَةٍ لِاشْتِمَالِ الْإِسْنَادِ على ما يُنْسَبُ إلَيْهِ الْعَقْلُ نَفْسُهُ قِيلَ وَالْخِلَافُ في الْعِبَارَةِ لَا الْمَعْنَى لِأَنَّ الذي يَنْسُبُهُ إلَيْهِ الْكَلَامُ إنَّمَا يُرِيدُ بِهِ الْإِسْنَادَ لِأَنَّ
____________________
(1/567)
الْكَلَامَ يَسْتَلْزِمُ الْإِسْنَادَ الذي يُوصَفُ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَلِاسْتِلْزَامِهِ ذلك جَازَ الْإِطْلَاقُ وَلَا شَكَّ أَنَّ إطْلَاقَهُمَا على الْإِسْنَادِ أَوْضَحُ وُجُودُ الْمَجَازِ الثَّالِثَةُ هل هو مَوْجُودٌ أَمْ لَا وَالْجُمْهُورُ من الْبَيَانِيِّينَ على إثْبَاتِهِ وَوَافَقَهُمْ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَغَيْرُهُ وَأَنْكَرَهُ السَّكَّاكِيُّ وابن الْحَاجِبِ أَمَّا ابن الْحَاجِبِ فقال إنَّهُ حَقِيقَةٌ وَإِسْنَادُ السُّرُورِ إلَى الرُّؤْيَةِ ليس بِمَجَازٍ لِأَنَّهُ يَصِحُّ إسْنَادُهُ إلَيْهَا بِحُكْمِ الْعَادَةِ وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إلَى ما هو له عَادَةً حَقِيقَةٌ وَالْمَجَازُ إنَّمَا هو في الْمُفْرَدِ أَيْ في الْفِعْلِ وَأَمَّا السَّكَّاكِيُّ فقال إنَّهُ رَاجِعٌ إلَى اسْتِعَارَةٍ بِالْكِنَايَةِ فَقَوْلُهُمْ أَنْبَتَ الرَّبِيعُ الْبَقْلَ اسْتِعَارَةٌ بِالْكِنَايَةِ عن الْفَاعِلِ الْحَقِيقِيِّ بِوَاسِطَةِ الْمُبَالَغَةِ في التَّشْبِيهِ على قَاعِدَةِ الِاسْتِعَارَةِ وَنِسْبَةُ الْإِنْبَاتِ إلَيْهِ قَرِينَةُ الِاسْتِعَارَةِ وَهَكَذَا يَصْنَعُ في بَقِيَّةِ الْأَمْثِلَةِ وَاحْتَجَّ الْمُنْكِرُ بِأَنَّ الْمُسْنَدَ وَالْمُسْنَدَ إلَيْهِ إمَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَا في مَوْضُوعِهِمَا فَيَكُونُ الِاسْتِعْمَالُ حَقِيقِيًّا أو يُسْتَعْمَلَ أَحَدُهُمَا في غَيْرِ مَوْضُوعِهِ فَالْإِسْنَادُ لِلْمَعْنَى لَا لِلَّفْظِ فَاللَّفْظُ مَجَازٌ وَالْإِسْنَادُ حَقِيقَةٌ وَإِسْنَادُ مَدْلُولِ الْمَجَازِ لِمَدْلُولِ الْمَجَازِ أو لِمَدْلُولِ الْحَقِيقَةِ حَقِيقَةٌ مِثَالُهُ أَحْيَانِي اكْتِحَالِي بِطَلْعَتِك فَالْإِحْيَاءُ مَجَازٌ أو عن السُّرُورِ وَالِاكْتِحَالُ مَجَازٌ عن الرُّؤْيَةِ وَإِسْنَادُ السُّرُورِ إلَى الرُّؤْيَةِ حَقِيقَةٌ فَالْإِسْنَادُ دَائِمًا لِلْمَعْنَى وَالْمَعْنَى نِسْبَةُ شَيْءٍ فَلَا يَخْتَلِفُ وَأَجَابَ الْقَرَافِيُّ عن هذا بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّا في مَجَازِ التَّرْكِيبِ لَا نُلَاحِظُ الْمَعْنَى أَصْلًا بَلْ مُجَرَّدُ اللَّفْظِ هل وُضِعَ لِيُرَكَّبَ مع هذا اللَّفْظِ أو لَا فما وُضِعَ لِيُرَكَّبَ مع اللَّفْظِ فَهُوَ مَجَازٌ في التَّرْكِيبِ ثَانِيهِمَا أَنَّ السُّؤَالَ مُغَالَطَةٌ لِأَنَّا ادَّعَيْنَا أَنَّ تَرْكِيبَ لَفْظِ الْإِحْيَاءِ مع لَفْظِ الِاكْتِحَالِ مَجَازٌ في التَّرْكِيبِ وَأَنْتُمْ أَثْبَتُّمْ تَرْكِيبَ لَفْظِ السُّرُورِ مع الرُّؤْيَةِ وهو غَيْرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ ا هـ قِيلَ وَهُمَا فَاسِدَانِ أَمَّا قَوْلُهُ في مَجَازِ التَّرْكِيبِ لَا نُلَاحِظُ الْمَعْنَى فَمَمْنُوعٌ وَأَيُّ مَجَازٍ لَا يُلَاحَظُ فيه الْمَعْنَى وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ ذلك وَالْمَجَازُ بِنَوْعَيْهِ شَرْطُهُ الْعَلَاقَةُ وَهِيَ مَعْنًى وَأَمَّا الثَّانِي فَنَقُولُ أَيُّ فَرْقٍ بين تَرْكِيبِ لَفْظِ الْإِحْيَاءِ وَالِاكْتِحَالِ وَلَفْظِ السُّرُورِ وَالرُّؤْيَةِ وَكُلُّ ما ثَبَتَ لِلشَّيْءِ ثَبَتَ لِمُسَاوِيهِ وَالْإِحْيَاءُ وَالِاكْتِحَالُ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ مُسَاوِيَانِ لِلسُّرُورِ وَالرُّؤْيَةِ وَمِمَّنْ أَنْكَرَ مَجَازَ التَّرْكِيبِ ابن الْحَاجِبِ في مُخْتَصَرِهِ الْكَبِيرِ
____________________
(1/568)
وأماليه وَاسْتَبْعَدَهُ في الصَّغِيرِ وَرَدَّ على عبد الْقَاهِرِ في قَوْلِهِ في نَحْوِ أَحْيَانِي اكْتِحَالِي بِطَلْعَتِك أَنَّ الْمَجَازَ في الْإِسْنَادِ قال ما مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْمَجَازَ وَالْحَقِيقَةَ مُعْتَوِرَانِ شيئا بِحَسَبِ جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ كَالْأَسَدِ يَكُونُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا بِاعْتِبَارِ الْحَيَوَانِ الْمُفْتَرِسِ وَالرَّجُلِ الشُّجَاعِ وَأَمَّا إسْنَادُ الْإِحْيَاءِ إلَى الِاكْتِحَالِ فَلَيْسَ له إلَّا جِهَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقَعَ من غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ مَجَازًا في التَّرْكِيبِ وَلِعَبْدِ الْقَاهِرِ أَنْ يَقُولَ نَظِيرُ الْأَسَدِ إنْ أَخَذْت الْإِحْيَاءَ مُسْنَدًا إلَى شَيْءٍ فَهُوَ حِينَئِذٍ له جِهَتَانِ جِهَةٌ يُسْنَدُ فيها إلَى ما هو له وَجِهَةٌ يُنْسَبُ إلَى غَيْرِ ما هو له وَإِنْ أَخَذْت الْإِحْيَاءَ بِقَيْدِ إسْنَادِهِ إلَى الِاكْتِحَالِ فَنَظِيرُهُ الْأَسَدُ بِقَيْدِ إرَادَةِ الرَّجُلِ الشُّجَاعِ ليس له إلَّا جِهَةٌ وَاحِدَةٌ وقال بَعْضُ الْأَئِمَّةِ في قَوْلِ من قال إنَّ الْمَجَازَ في التَّرْكِيبِ مِثْلُ أَحْيَانِي اكْتِحَالِي بِطَلْعَتِك فيه نَظَرٌ لِأَنَّك إذَا رَدَدْت الْمُفْرَدَاتِ إلَى ما هِيَ مَجَازٌ عنه لم يَبْقَ في التَّرْكِيبِ مَجَازٌ وَذَلِكَ يَدُلُّ على أَنَّ الْمَجَازَ في الْمُفْرَدَاتِ وَطَرِيقُ رَدِّهَا إلَى ما هِيَ مَجَازٌ عنه أَنَّ أَحْيَانِي مَجَازٌ عن سَرَّنِي وَاكْتِحَالِي مَجَازٌ عن رُؤْيَتِي وَطَلْعَتُك مَجَازٌ عن وَجْهِك وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَجَازُ في التَّرْكِيبِ في مِثْلِ قَوْلِ الْقَائِلِ أَحْيَا الْأَرْضَ شَبَابُ الزَّمَانِ لِأَنَّكَ وَإِنْ رَدَدْت الْمُفْرَدَاتِ إلَى ما هِيَ عليه بَقِيَ الْمَجَازُ في الْإِسْنَادِ لِأَنَّ إحْيَاءَهَا في الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هو من اللَّهِ تَعَالَى قُلْت وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هذا الْخِلَافُ ليس في جَوَازِهِ وَلَا في وُقُوعِهِ بِدَلِيلِ الْأَمْثِلَةِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في كَوْنِهِ عَقْلِيًّا أو لُغَوِيًّا أَيْ في أَنَّ الْقَوْلَ في هذا الْمَجَازِ هل هو حُكْمٌ عَقْلِيٌّ أو لَفْظٌ وَضْعِيٌّ وَسَنَذْكُرُهُ وقد عَكَسَ أبو الْمُطَرِّفِ بن عَمِيرَةَ في كِتَابِ الشُّبُهَاتِ قَوْلَ ابْنِ الْحَاجِبِ وقال الْمَجَازُ قَطُّ لَا يَكُونُ إلَّا في التَّرْكِيبِ وَلَا يَكُونُ في الْمُفْرَدِ نعم عِنْدَ التَّعْلِيمِ بِالْمِثَالِ قد يُجَاءُ بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ فَيُقَالُ كما يُقَالُ لِلشُّجَاعِ هو أَسَدٌ وَلِلْبَلِيدِ هو حِمَارٌ وَالنَّحْوِيُّ يقول إعْرَابُ الْفَاعِلِ الرَّفْعُ وَالْمَفْعُولِ النَّصْبُ كما يقول زَيْدٌ إذَا جَعَلْته فَاعِلًا وَزَيْدًا إذَا جَعَلْته مَفْعُولًا فَكَانَ يَلْزَمُ على هذا إذَا قِيلَ ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا أَنْ يُقَالَ في الْإِعْرَابِ الْإِفْرَادِيِّ وفي هذا التَّرْكِيبِيُّ أو الْإِسْنَادِيُّ وَالْإِعْرَابُ حَقِيقَةً إنَّمَا هو في هذا وَانْظُرْ أَمْثِلَتَهُمْ في الْإِسْنَادِيِّ وفي الْإِفْرَادِيِّ تَجِدْهَا وَاحِدَةً الْمَجَازُ التَّرْكِيبِيُّ عَقْلِيٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ
____________________
(1/569)
الرَّابِعَةُ إذَا أَثْبَتْنَا الْمَجَازَ التَّرْكِيبِيَّ فَهَلْ هو لُغَوِيٌّ أَمْ عَقْلِيٌّ وَالْجُمْهُورُ على أَنَّهُ عَقْلِيٌّ ولم يُسَمُّوهُ مَجَازًا لِكَوْنِهِ وُضِعَ لِمَعْنًى ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ في غَيْرِهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ له جِهَتَانِ جِهَةُ الْحَقِيقَةِ وَجِهَةُ الْمَجَازِ كما في الْمَجَازِ الْمُفْرَدِ وَذَلِكَ لِأَنَّ صِيَغَ الْأَفْعَالِ فيه مُسْتَعْمَلَةٌ في مَوْضُوعَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ وَكَذَا صِيَغُ الْفَاعِلِ فَلَا مَجَازَ فيه إلَّا في نِسْبَةِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ إلَى أُولَئِكَ الْفَاعِلِينَ وهو أَمْرٌ عَقْلِيٌّ لَا وَضْعِيٌّ وَكَذَلِكَ لَا نُسَمِّيهِ مَجَازًا لُغَوِيًّا لِعَدَمِ رُجُوعِهِ إلَى الْوَضْعِ بِخِلَافِ الْمَجَازِ في الْمُفْرَدِ فإنه عِبَارَةٌ عن اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ في غَيْرِ مَوْضُوعِهِ فَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْجِهَتَيْنِ جِهَةِ الْحَقِيقَةِ وَجِهَةِ الْمَجَازِ وَأَيْضًا فإن وَاضِعَ اللُّغَةِ لَا صُنْعَ له بَعْدَ وَضْعِ الْمُفْرَدِ لَا يُسْنَدُ إلَيْهِ بَلْ يَكِلُ ذلك إلَى خِبْرَةِ الْمُتَكَلِّمِ أَلَا تَرَى أَنَّ إسْنَادَ الْوَشْيِ إلَى الرَّبِيعِ لَا الْقَادِرِ في قَوْلِك خَيْطٌ أَحْسَنُ من وَشْيِ الرَّبِيعِ ليس مُسْتَفَادًا من اللُّغَةِ وَقِيلَ بَلْ هو لُغَوِيٌّ لِأَنَّ وَاضِعَ اللُّغَةِ وَضَعَ الْمُفْرَدَ لِيُرَكِّبَهُ مع ما يُنَاسِبُهُ كما صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَغَيْرُهُ وَالْمُنَاسَبَةُ مَعْلُومَةٌ بِطُرُقِهَا وَحَجَرَ أَيْضًا في التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالْحَذْفِ وَالذِّكْرِ إلَى غَيْرِ ذلك فَهُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لُغَوِيٌّ وَاعْلَمْ أَنَّ هذا الْخِلَافَ يَتَوَقَّفُ على أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَرَبَ هل وَضَعَتْ الْمُرَكَّبَاتِ أو لَا وَفِيهِ خِلَافٌ الثَّانِي في مَدْلُولِ نِسْبَةِ الْأَفْعَالِ إلَى فَاعِلِهَا فَنَقُولُ الْفِعْلُ تَارَةً يُرَادُ بِهِ وُقُوعُهُ من فَاعِلِهِ حَقِيقَةً أو قُدْرَةُ الْفَاعِلِ كَقَوْلِنَا خَلَقَ اللَّهُ زَيْدًا وَكَذَلِكَ كُلُّ فِعْلٍ نُسِبَ إلَى اللَّهِ وَتَارَةً يُرَادُ بِهِ وُقُوعُهُ من فَاعِلِهِ حُكْمًا كَقَوْلِنَا قام زَيْدٌ فإن اللَّهَ تَعَالَى هو الْفَاعِلُ وَلَكِنَّ الْقِيَامَ مَنْسُوبٌ فِعْلُهُ لِزَيْدٍ حُكْمًا وَتَارَةً يُرَادُ بِمُجَرَّدِ اتِّصَافِهِ بِهِ كَقَوْلِنَا مَرِضَ زَيْدٌ وَنَحْوُهُ مِمَّا لَا تَسَبُّبَ فيه كَبَرْدِ الْمَاءِ وَكُلُّ هذه الْأَقْسَامِ الْإِسْنَادُ فيها حَقِيقِيٌّ لِأَنَّ الْعَرَبَ وَضَعَتْ لها ولم تَقْتَصِرْ على الْإِسْنَادِ إلَى الْمُوجِدِ وَالْإِسْنَادُ لِغَيْرِ الْمُوجِدِ لَا يُنَافِي الْحَقِيقَةَ إذْ لَا مَعْنَى لِلْحَقِيقَةِ إلَّا ما وَضَعَتْ الْعَرَبُ بِإِزَائِهِ وَالْعَرَبُ تَقْصِدُ النِّسْبَةَ لِهَذِهِ الْأُمُورِ حَقِيقَةً بِدَلِيلِ تَبَادُرِ الذِّهْنِ إلَى الْإِسْنَادِ من غَيْرِ الْمُوجِدِ إنَّمَا الْمَجَازُ التَّرْكِيبِيُّ النِّسْبَةُ لِغَيْرِ هذه الْأَقْسَامِ وَمَعْنَى نِسْبَةِ الشَّيْءِ لِغَيْرِ فَاعِلِهِ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا وَلَا بِمَعْنَى اتِّصَافِهِ بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ كَأَنْبَتَ الرَّبِيعُ الْبَقْلَ فإن الرَّبِيعَ ليس بِمُنْبِتٍ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا وَلَا مُتَّصِفٍ بِذَلِكَ في وَضْعِ الْعَرَبُ إذَا تَقَرَّرَ هذا فَنَقُولُ إنْ فَرَّعْنَا على مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ من أَنَّ الْمُرَكَّبَاتِ مَوْضُوعَةٌ فَالْمَجَازُ في التَّرْكِيبِ لُغَوِيٌّ لِأَنَّهُ إسْنَادٌ لِغَيْرِ مَوْضُوعِهِ وَإِنْ قُلْنَا لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً فَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ عَقْلِيٌّ لَا مَدْخَلَ لِلُّغَةِ فيه فَمِنْ هُنَا جاء الْخِلَافُ في أَنَّ الْمَجَازَ
____________________
(1/570)
التَّرْكِيبِيَّ عَقْلِيٌّ لَا لُغَوِيٌّ مَسْأَلَةٌ الْمَجَازُ قد يَكُونُ بِالْأَصَالَةِ أو التَّبَعِيَّةِ الْمَجَازُ الْوَاقِعُ في الْكَلَامِ قد يَكُونُ بِالْأَصَالَةِ وقد يَكُونُ بِالتَّبَعِيَّةِ وَالْأَوَّلُ لَا يَدْخُلُ في أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ الْحُرُوفُ أَحَدُهَا الْحَرْفُ لِأَنَّ مَفْهُومَهُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ قال الْإِمَامُ فَإِنْ ضُمَّ إلَى ما يَنْبَغِي ضَمُّهُ إلَيْهِ كان حَقِيقَةً وَإِلَّا فَهُوَ مَجَازٌ في التَّرْكِيبِ لَا في الْمُفْرَدِ وَخَالَفَهُ النَّقْشَوَانِيُّ مُدَّعِيًا أَنَّ الْحُرُوفَ لها مُسَمًّى في الْجُمْلَةِ وقد اُسْتُعْمِلَ في مَوْضُوعِهِ فَيَكُونُ حَقِيقَةً سَوَاءٌ كان الِاسْتِعْمَالُ عِنْدَ ضَمِّهِ إلَى غَيْرِهِ أو عِنْدَ عَدَمِ الضَّمِّ فإذا اُسْتُعْمِلَ في غَيْرِ مَوْضُوعِهِ لِعَلَاقَةٍ كان مَجَازًا من غَيْرِ تَفَاوُتٍ وَمِثَالُهُ قَوْله تَعَالَى وَلِأُصَلِّبَنَّكُمْ في جُذُوعِ النَّخْلِ فإن الصَّلْبَ مُسْتَعْمَلٌ في مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ وَكَذَلِكَ جُذُوعُ النَّخْلِ ولم يَقَعْ الْمَجَازُ إلَّا في حَرْفِ في فَإِنَّهَا لِلظَّرْفِيَّةِ في الْأَصْلِ وقد اُسْتُعْمِلَتْ هُنَا لِغَيْرِ الظَّرْفِيَّةِ قال لو لم يَدْخُلْ الْمَجَازُ في الْحَرْفِ بِالذَّاتِ لَمَا دَخَلَتْ فيه الْحَقِيقَةُ وَأَطَالَ في ذلك وَكَذَلِكَ أَطْلَقَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ في كِتَابِ الْمَجَازِ دُخُولَهُ في الْحُرُوفِ وَمَذْهَبُ نُحَاةِ الْكُوفَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ نِيَابَةُ بَعْضِ الْحُرُوفِ عن بَعْضٍ وَخَالَفَهُمْ الْبَصْرِيُّونَ وَجَعَلُوا ذلك على طَرِيقِ التَّضْمِينِ وهو لَا يَخْرُجُ عن الْمَجَازِ الْأَفْعَالُ وَالْمُشْتَقَّاتُ الثَّانِي الْأَفْعَالُ وَالْمُشْتَقَّاتُ لِأَنَّهُمَا يَتْبَعَانِ أُصُولَهُمَا وَأَصْلُ كُلٍّ مِنْهُمَا الْمَصْدَرُ فَإِنْ كَانَا حَقِيقَةً كَانَا كَذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَنَاقَشَهُ النَّقْشَوَانِيُّ أَيْضًا فقال قَوْلُكُمْ هُنَا لَا يَدْخُلُ الْمَجَازُ في الْفِعْلِ إلَّا بِوَاسِطَةِ دُخُولِهِ في الْمَصْدَرِ يُنَاقِضُ قَوْلَكُمْ اسْتِعْمَالُ الْمُشْتَقِّ بَعْدَ زَوَالِ الْمُشْتَقِّ منه مَجَازٌ وقال الْأَصْفَهَانِيُّ كَوْنُ الْمَجَازِ لَا يَدْخُلُ في الْفِعْلِ إلَّا بِوَاسِطَةِ دُخُولِهِ في الْمَصْدَرِ مُفَرَّعٌ على قَوْلِنَا الْفِعْلُ مُشْتَقٌّ من الْمَصْدَرِ قال وقد يَدْخُلُ الْمَجَازُ في الْأَفْعَالِ فإن الْمَاضِيَ يُسْتَعْمَلُ في الْمُسْتَقْبَلِ
____________________
(1/571)
كَقَوْلِهِ تَعَالَى أتى أَمْرُ اللَّهِ وَعَكْسُهُ نَحْوُ إنْ قام عَمْرٌو وَهَذَا مَجَازٌ في الْمَاضِي مع عَدَمِ دُخُولِهِ في الْمَصْدَرِ قُلْت وَكَذَا اسْتِعْمَالُ ظَنَّ بِمَعْنَى تَيَقَّنَ في قَوْله تَعَالَى إنِّي ظَنَنْت أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ وَعَلِمَ بِمَعْنَى ظَنَّ في قَوْلِهِ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ وَمِنْ مِثْلِهِ قَوْلٌ لِأَبِي الطَّيِّبِ إنَّ الْكَرِيمَ إذَا أَقَامَ بِبَلْدَةٍ سَالَ النِّضَارُ بها وَسَالَ الْمَاءُ وقال الْوَاحِدِيُّ أَيْ سَالَ الذَّهَبُ إلَى أَنْ مَلَأَ الْبِطَاحَ وَالْبَرَارِيَ وَالْأَوْدِيَةَ إلَى أَنْ مَلَأَ الْأَنْهُرَ فَمَنَعَ الْمَاءَ من أَنْ يَسْتَقِرَّ وَيَنْبَنِي على تَصَوُّرِ الْمَجَازِ في الْأَفْعَالِ أَنَّا لو جَمَعْنَا اسْمَيْنِ بِفِعْلٍ نَحْوِ ضَرَبَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو هل يَجُوزُ مع إرَادَةِ يَضْرِبُ الْإِيلَامُ وَالسَّفَرُ أَمْ لَا الْأَسْمَاءُ الْعَامَّةُ الثَّالِثُ الْأَسْمَاءُ الْعَامَّةُ التي تَسْتَغْرِقُ كُلَّ مُسَمًّى بِأَصْلِ الْوَضْعِ نَحْوُ الْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ وَالْمَعْلُولِ وَالْمَدْلُولِ فإنه في أَيِّ شَيْءٍ اُسْتُعْمِلَ كان حَقِيقَةً فيه وَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فَلَا يَقْبَلُ الْمَجَازَ إذْ جَمِيعُ الْمُسَمَّيَاتِ دَلَّتْ عليها حَقِيقَةً فَكَيْفَ يُتَجَوَّزُ بها إلَى غَيْرِ مَدْلُولِهَا الْأَصْلِيِّ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وابن فُورَكٍ وَغَيْرُهُمَا الْعَلَمُ الرَّابِعُ الْعَلَمُ لِأَنَّ الْأَعْلَامَ لم تُنْقَلْ لِعَلَاقَةٍ كَذَا أَطْلَقَهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ وَالْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمَجَازَ يَدْخُلُ في كل اسْمٍ أَفَادَ مَعْنًى في الْمَنْقُولِ إلَيْهِ غَيْرُ الْمَعْنَى الذي أَفَادَهُ في الِاسْمِ الْمَنْقُولِ منه وَذَلِكَ كَقَوْلِنَا الْبَحْرُ حَقِيقَةٌ في الْمَاءِ الْكَثِيرِ ثُمَّ نَقَلْنَاهُ إلَى الْعَالَمِ لِكَثْرَةِ عِلْمِهِ فَأَفَادَنَا في حَقِيقَتِهِ كَثْرَةَ الْمَاءِ وفي مَجَازِهِ كَثْرَةَ الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ ما أَشْبَهَهُ فَأَمَّا زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَنَحْوُهُمَا من الْأَعْلَامِ فَإِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْفَرْقِ بين الْأَعْيَانِ وَالْأَجْسَامِ وَذَلِكَ حَقِيقَةٌ فَلَوْ اسْتَعْمَلْنَا اسْمَ زَيْدٍ في غَيْرِهِ مِمَّا لَا يُسَمَّى زَيْدًا لم يُفِدْنَا ذلك غير ذلك الْمَعْنَى الذي أَفَادَهُ في حَقِيقَتِهِ وهو الْفَرْقُ بين الْأَجْسَامِ وَالْأَعْيَانِ فلم يُتَصَوَّرْ دُخُولُ الْمَجَازِ فيها وَقَيَّدَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ في النِّهَايَةِ بِالْأَعْلَامِ الْمَنْقُولَةِ وَكَذَا قال الْجَارْبُرْدِيُّ الذي يَدُورُ في خَلَدِي أَنَّ الْمُرَادَ الْأَعْلَامُ الْمَنْقُولَةُ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بين الْمَنْقُولَةِ وَالْمُرْتَجَلَةِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّ الْأَعْلَامَ الْمَوْضُوعَةَ بِوَضْعِ أَهْلِ اللُّغَةِ حَقَائِقُ لُغَوِيَّةٌ كَأَسْمَاءِ
____________________
(1/572)
الْأَجْنَاسِ وقد قال غَيْرُهُمَا سَوَاءٌ كان الْعَلَمُ مُرْتَجَلًا أو مَنْقُولًا لِغَيْرِ عَلَاقَةٍ فَإِنْ نُقِلَ لِعَلَاقَةٍ كَمَنْ سَمَّى وَلَدَهُ بِالْمُبَارَكِ لِمَا ظَنَّهُ فيه من الْبَرَكَةِ فَكَذَلِكَ بِدَلِيلِ صِدْقِهِ عليه مع زَوَالِهَا وَصَارَ ابن فُورَكٍ إلَى أنها حَقَائِقُ عُرْفِيَّةٌ فقال في كِتَابِهِ وَجُمْلَةُ أَسْمَاءِ الْأَلْقَابِ مَنْقُولَةٌ عن أُصُولِهَا وَمَوْضُوعِهَا إلَى غَيْرِهِمَا على طَرِيقِ الِاصْطِلَاحِ لِيَجْعَلُوهَا بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ أَخَصَّ بها وَأَشْهَرَ من غَيْرِهَا حتى إذَا ذُكِرَ بِهِ لم يَدُلَّ إلَّا عليه قال وَكَذَلِكَ قال سِيبَوَيْهِ إنَّ قَوْلَهُمْ زَيْدٌ الِاسْمُ الْجَامِعُ لِلْأَوْصَافِ لِمَا كان قُصِدَ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْعَلَمُ الْخَاصُّ له من سَائِرِ مُسَمَّيَاتِ جِنْسِهِ ا هـ وَاعْلَمْ أَنَّ هذا الْحُكْمَ ليس مُتَّفَقًا عليه فَقَدْ حَكَى الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ الْخِلَافَ في دُخُولِ الْمَجَازِ في الْأَعْلَامِ وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ من الْحَنَفِيَّةِ فقال الْأَعْلَامُ هل يَدْخُلُهَا الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ قال وَالْأَكْثَرُونَ على الدُّخُولِ وَكَذَا قَالَهُ ابن لُقْمَانَ الْكُرْدِيُّ في كِتَابِهِ الْفُصُولِ ذَهَبَ عَامَّتُهُمْ إلَى أَنَّ الْأَعْلَامَ يَدْخُلُ فيها الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ وَمِنْ هُنَا قال ابن السَّاعَاتِيِّ إنَّ كُلَّ كَلَامٍ عَرَبِيٍّ مُسْتَعْمَلٍ لَا يَخْرُجُ عن الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ إذْ الْأَعْلَامُ عَرَبِيَّةٌ وفي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ جَزَمَ بِهِ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَالْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى وهو التَّفْصِيلُ بين الْأَعْلَامِ التي لم تُوضَعْ إلَّا لِلْفَرْقِ بين الذَّوَاتِ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو فَلَا يَدْخُلُهَا الْمَجَازُ لِأَنَّهَا لم تُوضَعْ لِلْفَرْقِ بين الصِّفَاتِ وَبَيْنَ الْأَعْلَامِ الْمَوْضُوعَةِ لِلصِّفَةِ كَالْأَسْوَدِ وَنَحْوِهِ إذْ لَا يُرَادُ بِهِ الدَّلَالَةُ على الصِّفَةِ مع أَنَّهُ وُضِعَ لها فَيَكُونُ مَجَازًا وَعَلَى هذا جَرَى ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ فقال الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ لَا يَدْخُلَانِ في أَسْمَاءِ الْأَلْقَابِ وَيَدْخُلَانِ في أَسْمَاءِ الِاشْتِقَاقِ قال بَعْضُ شَارِحِي الْمَحْصُولِ إنَّمَا قال الْغَزَالِيُّ ذلك بِنَاءً على مَذْهَبِهِ في عَدَمِ اعْتِبَارِ الْعَلَاقَةِ في الْمَجَازِ فإن الْمَجَازَ عِنْدَهُ ما اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ في غَيْرِ مَوْضُوعِهِ فما ذَكَرَهُ مُسْتَقِيمٌ على مَذْهَبِهِ لَا غَيْرُ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لو كان مَأْخَذُهُ في هذا عَدَمَ اعْتِبَارِ الْعَلَاقَةِ لم يُفَرِّقْ بين زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَيْنَ الْأَسْوَدِ وَالْحَارِثِ بَلْ جَعَلَ الْكُلَّ مَجَازًا إذْ يَصْدُقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَنَّهُ اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ وقال بَعْضُ نُفَاةِ الْمَجَازِ تَصَوُّرُ هذه الْمَسْأَلَةِ مُحَالٌ إذْ يَسْتَحِيلُ وَضْعُ سَابِقٍ على الِاسْتِعْمَالِ ثُمَّ يَطْرَأُ الِاسْتِعْمَالُ فَصَارَ بِاعْتِبَارِهِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا وَلَا يُعْرَفُ تَجَرُّدُ اللَّفْظِ عن الِاسْتِعْمَالِ وهو مُسْتَحِيلٌ وَإِنَّ تَجَرُّدَهُ عن الِاسْتِعْمَالِ كَتَجَرُّدِ الْحَرَكَةِ عن الْمُتَحَرِّكِ نعم إنَّمَا يَتَجَرَّدُ وَهِيَ حِينَئِذٍ لَيْسَتْ لَفْظًا وَإِنَّمَا هِيَ على تَقْدِيرِ أَلْفَاظٍ لَا حُكْمَ
____________________
(1/573)
لها وَثُبُوتُهَا في الرَّسْمِ مَسْبُوقٌ بِالنُّطْقِ بها فإن الْخَطَّ يَسْتَلْزِمُ اللَّفْظَ من غَيْرِ عَكْسٍ قالوا وَيَسْتَلْزِمُ أَمْرًا فَاسِدًا وهو أَنَّهُ إذَا تَجَرَّدَ الْوَضْعُ عن الِاسْتِعْمَالِ جَازَ أَنْ يُوضَعَ لِلْمَعْنَى الثَّانِي من غَيْرِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ في مَعْنَاهُ الْأَوَّلِ فَيَكُونَ مَجَازًا لَا حَقِيقَةَ له وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمْ على الْقَائِلِينَ إنَّ الْأَعْلَامَ لَا يَدْخُلُهَا الْمَجَازُ نَحْوُ قَوْلِنَا أبو يُوسُفَ أبو حَنِيفَةَ وَزَيْدٌ زُهَيْرٌ شِعْرًا وَهَذَا لَا يَرِدُ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْآنَ في أَنَّ الْعَلَمَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَدْلُولِهِ ليس بِمَجَازٍ وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الْعَلَمَ في غَيْرِ مَدْلُولِهِ كَاسْتِعْمَالِ أبي حَنِيفَةَ في أبي يُوسُفَ وَاسْتِعْمَالِ زُهَيْرٍ في زَيْدٍ وَكَذَلِكَ اشْتَرَيْت سِيبَوَيْهِ وَتُرِيدُ كِتَابَهُ فَقَدْ يُقَالُ كَيْفَ يَجُوزُ ذلك وَالْمَجَازُ فيه غَيْرُ الْعَلَمِ وَالْعَلَمُ إذَا لم يَكُنْ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا فَكَيْفَ يُجْعَلُ الْمَجَازُ نَاشِئًا عنه وَأَجَابَ التَّبْرِيزِيُّ في كَلَامِهِ على الْمَحْصُولِ بِجَوَابَيْنِ أَحَدُهُمَا أنها في هذه الْحَالَةِ خَرَجَتْ عن الْعَلَمِيَّةِ الثَّانِي أَنَّهُ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ ما اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَصَرَّحَ بِهِ النُّحَاةُ أَنَّهُ على حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ أبو يُوسُفَ مِثْلُ أبي حَنِيفَةَ وَزَيْدٌ مِثْلُ زُهَيْرٍ وَاشْتَرَيْت كِتَابَ سِيبَوَيْهِ وقد تَحَصَّلْنَا في هذه الْمَسْأَلَةِ على مَذَاهِبَ وَيَجِبُ تَخْصِيصُ مَحَلِّ الْخِلَافِ بِالْأَعْلَامِ الْمُجَدَّدَةِ دُونَ الْمَوْضُوعَةِ بِوَضْعِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَإِنَّهَا حَقَائِقُ لُغَوِيَّةٌ مسألة الحقيقة لا تستلزم المجاز قالوا لا خلاف في أن الحقيقة لا تستلزم المجاز إذ الوضع لا يستلزم الثاني والأصل لا يستلزم الفرع وليس كل الحقيقة تكون في غيرها علاقة فيها مسوغة للتجوز بل الحقيقة يكون لها مجاز كالبحر وقد لا يكون كالفرس قال الشيخ أبو إسحاق ومن حكم هذا أنه إذا ورد به الشرع فهل هو على حقيقته ولا يعدل به عنها إلى المجاز إلا بدليل وكان ينبغي أن يجيء في هذه المسألة خلاف من الخلاف في أن الأول هل يستلزم ثانيا كما فرع عليه الفقهاء إذ الحقيقة فيها قيد الأولية ثم رأيت القاضي أبا بكر في كتاب التقريب حكى عن بعض القدرية أن كل حقيقة لا بد لها من مجاز وما لا مجاز له فلا يقال إن له حقيقة وهو يرد على
____________________
(1/574)
حكايتهم الإجماع فيما سبق واختلفوا في المجاز هل يستلزم الحقيقة على معنى أنه هل يشترط في استعمال اللفظ في غير موضوعه أن تكون الحقيقة قد وجدت واستعملت في ذلك المعنى أو لا على قولين أحدهما نعم وبه جزم الشيخ في اللمع والقاضي أبو بكر وابن فورك قال كما أن لكل فرع أصلا وابن برهان في الأوسط وابن السمعاني في القواطع وأبو الحسين البصري في المعتمد والقاضي عبد الوهاب في الملخص والقاضي عبد الجبار والإمام فخر الدين والإبياري في شرح البرهان وغيرهم فكل مجاز لا بد أن يكون له حقيقة لأنه فرعها والفرع يستلزم الأصل ولأن الثاني يستدعي أولا وأصحهما عند الآمدي وابن الحاجب المنع ونقله ابن الساعاتي عن المحققين واختاره البيضاوي في المرصاد لأن المجاز وإن كان مستعملا في غير ما وضع له ففائدة الوضع التهيؤ للاستعمال ولأن اللفظ بعد وضعه وقبل استعماله لا حقيقة ولا مجاز ويجوز أن يسمى به حينئذ غيره لعلاقة بينهما فيكون مجازا لا حقيقة له والحق أن المجاز يفتقر إلى سبق وضع أول لا إلى سبق حقيقة وكذا قال الأصفهاني الحق أن المجاز يستلزم اللفظ الموضوع بإزاء معنى من المعاني والحقيقة ليست اللفظ الموضوع بل المستعمل فيما وضع له اللفظ واختلف كلام الرازي في منتخبه وأوله ابن التلمساني بأنه حيث قال لا يستلزم أراد به الجواز العقلي وحيث يقال يستلزمه أراد به الوضع فإنا لم نعرف أن الألفاظ موضوعة بإزاء ما دلت عليه إلا بالاستعمال ولا نعرف عين الواضع من توقف أو مصطلح وزعم بعضهم أن الخلاف في هذه المسألة إنما هو في المفرد لا المركب والمانعون تمسكوا بأن الرحمن مجاز في الباري تعالى لأنه موضوع للواحد المذكر الموصوف بالتعطف وليس له حقيقة لأنه لم يستعمل إلا في الله واعترض بأنه كان يقال علي رحمان اليمامة وأجيب بأنه على سبيل المجاز أيضا ومعناه منعم اليمامة وبأنه لا يلتفت إليهم لأنه تعنت منهم وقيل في الجواب نظر لأنه لا ينفي الاستعمال في حق الباري سبحانه غايته أنه يعلل الواقع وهو تأكد الاستعمال لكنه ضعيف إذ لا اعتداد بالاستعمال إذا كان على خلاف أصل الوضع مضادا له منافيا إياه وظهر من هذا أنه مجاز ليس
____________________
(1/575)
بحقيقة مسألته هل يتجوز بالمجازعن المجاز هل من شَرْطِ الْمَجَازِ أَنْ يُتَجَوَّزَ بِهِ عن الْحَقِيقَةِ أَمْ يَجُوزُ أَنْ يُتَجَوَّزَ عن الْمَجَازِ هذا لم يَتَعَرَّضْ له الْأُصُولِيُّونَ وَسَبَقَ عَقْدُ مَسْأَلَةٍ فيه وَيَخْرُجُ من كَلَامِ أَصْحَابِنَا فيه خِلَافٌ فَإِنَّهُمْ قالوا فِيمَا إذَا قال لِزَوْجَتِهِ أو أَمَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخِنْزِيرِ فَإِنْ نَوَى صَرِيحَ الطَّلَاقِ أو الظِّهَارِ أو الْعِتْقِ صَحَّ وَإِنْ نَوَى كِنَايَةً بِأَنْ أَرَادَ لَفْظَ التَّحْرِيمِ فَيُجْعَلُ قَائِمًا مَقَامَ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَإِنْ قُلْنَا الْحَرَامُ صَرِيحٌ في وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فَهَذَا كِنَايَةٌ عنه لِأَنَّ الصَّرِيحَ يُكَنَّى عنه فَتَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ كِنَايَةٌ فيها لم يَجِبْ هُنَا شَيْءٌ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ يَكُونُ لها كِنَايَةٌ لِضَعْفِهَا وَإِنَّمَا الْكِنَايَةُ عن الصَّرِيحِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ وَحَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عن الشَّيْخِ أبي حَامِدٍ ثُمَّ قال وَلَا يَكَادُ يَتَحَقَّقُ هذا التَّصْوِيرُ لِأَنَّهُ يَنْوِي بِاللَّفْظِ مَعْنَى لَفْظٍ آخَرَ لَا صُورَةَ اللَّفْظِ وإذا كان الْمَنْوِيُّ الْمَعْنَى فَلَا فَرْقَ بين أَنْ يُقَالَ نَوَى التَّحْرِيمَ وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ نَوَى أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ مَسْأَلَةٌ الْمَجَازُ فَرْعٌ لِلْحَقِيقَةِ الْمَجَازُ خَلَفٌ عن الْحَقِيقَةِ بِالِاتِّفَاقِ أَيْ فَرْعٌ لها بِمَعْنَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ هِيَ الْأَصْلُ الرَّاجِحُ الْمُقَدَّمُ في الِاعْتِبَارِ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ شَرْطَ الْخَلَفِ انْعِدَامُ الْأَصْلِ لِلْحَالِ على احْتِمَالِ الْوُجُودِ لَكِنْ اخْتَلَفُوا في جِهَةِ الْخَلَفِيَّةِ هل ذلك في حَقِّ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ أو في حَقِّ الْحُكْمِ فَذَهَبَ أبو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ خَلَفٌ عن الْمُتَكَلِّمِ سَوَاءٌ كان مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ مَقْصُودًا فيه أَمْ لَا لِأَنَّهُمَا من عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ وَذَهَبَ صَاحِبَاهُ إلَى أَنَّهُ خَلَفٌ عن حُكْمِ ذلك يَعْنِي أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُوجِبًا حَقِيقَةً ثُمَّ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهِ لِمَعْنًى فَحِينَئِذٍ يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ وهو ظَاهِرُ مَذْهَبِنَا لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ من الْكَلَامِ وَلِأَنَّ الْمَجَازَ الذي لَا يُمْكِنُ صِحَّةُ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ في الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْبُلَغَاءِ أَكْثَرُ من أَنْ يُحْصَى وَمَعْنَى هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إذَا اُسْتُعْمِلَ لَفْظٌ وَأُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ هل يُشْتَرَطُ إمْكَانُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ
____________________
(1/576)
بهذا اللَّفْظِ أو لَا فَعِنْدَنَا يُشْتَرَطُ فَحَيْثُ يَمْتَنِعُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لَا يَصِحُّ الْمَجَازُ وَعِنْدَهُ لَا بَلْ يَكْفِي صِحَّةُ اللَّفْظِ من حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ احْتِرَازًا من إلْغَاءِ الْكَلَامِ وَنَكْتُبُهَا أَنَّ اللَّفْظَ عِنْدَنَا إذَا كان مُحَالًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَقِيقَةِ لَغْوٌ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يُحْمَلُ على الْمَجَازِ وَعَلَى هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ منها إذَا قال الرَّجُلُ لِلْعَبْدِ الْأَكْبَرِ منه سِنًّا هذا ابْنِي فَحَقِيقَتُهُ مُسْتَحِيلَةٌ إذْ يَسْتَحِيلُ كَوْنُهُ ابْنَهُ فَهَلْ يُنَزَّلُ على الْمَجَازِ وَيُقَالُ الْمُرَادُ مِثْلُ ابْنِي في الْحُرِّيَّةِ فَيُعْتَقُ عليه لِهَذَا اللَّفْظِ أو لَا يُنَزَّلُ عليه بَلْ يَلْغُو قال أبو حَنِيفَةَ بِالْأَوَّلِ وقال صَاحِبَاهُ بِالثَّانِي وَلَا خِلَافَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فيه وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا عِنْدَ الْإِمْكَانِ إذَا كان الْمُقِرُّ بِنَسَبِهِ بَالِغًا وَكُذِّبَ الْمُقِرُّ فإن النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ جَزْمًا وفي ثُبُوتِ الْعِتْقِ وَجْهَانِ لِلْإِمْكَانِ على الْجُمْلَةِ وَقَالُوا لو حَلَفَ لِيَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ فإن يَمِينَهُ تَنْعَقِدُ على الْأَصَحِّ لِإِمْكَانِ الْبِرِّ وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَصْعَدُ السَّمَاءَ لم يَنْعَقِدْ يَمِينُهُ على الْأَصَحِّ لِأَنَّ الْحِنْثَ فيه غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ لَكِنْ خَالَفُوهُ فِيمَا لو قال لَأَشْرَبَنَّ مَاءَ هذه الْإِدَاوَةِ وَلَا مَاءَ فيها فَقَالُوا يَحْنَثُ على الْأَصَحِّ وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ وكان يَنْبَغِي تَصْحِيحُ عَدَمِ الِانْعِقَادِ لِأَنَّ الْأَصْلَ وهو الْبِرُّ غَيْرُ مُمْكِنٍ لنا أَنَّ الْمَجَازَ يَنْتَقِلُ الذِّهْنُ من الْمَوْضُوعِ له إلَى لَازِمِهِ فَاللَّازِمُ مَوْقُوفٌ على الْمَوْضُوعِ له فَيَكُونُ اللَّازِمُ خَلَفًا وَفَرْعًا لِلْمَوْضُوعِ له فَلَا بُدَّ من إمْكَانِ الْأَوَّلِ لِتَوَقُّفِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ عليه فَاَلَّذِي ثَبَتَ بهذا اللَّفْظِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ ثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ مَثَلًا فَلَفْظُ هذا ابْنِي خَلَفٌ عن الْحُكْمِ الذي ثَبَتَ بهذا اللَّفْظِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ كَثُبُوتِ الْبُنُوَّةِ مَثَلًا وقال أبو حَنِيفَةَ لَفْظُ هذا ابْنِي خَلَفٌ عن لَفْظِ هذا حُرٌّ فَيَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ بِاللَّفْظِ الذي يُفِيدُهُ الْمَعْنَى بِطَرِيقِ الْمَجَازِ خَلَفًا عن الْمُتَكَلِّمِ بِاللَّفْظِ الذي يُفِيدُ عَيْنَ ذلك الْمَعْنَى بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَقِيلَ بَلْ أَرَادَ أَنَّ لَفْظَ هذا ابْنِي إنْ أُرِيدَ بِهِ الْحُرِّيَّةُ خَلَفٌ عن لَفْظِ هذا ابْنِي إذَا أُرِيدَ بِهِ الْبُنُوَّةُ وقد أَوْرَدَ على الصَّاحِبَيْنِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ بهذا قَوْلُهُمْ هذا أَسَدٌ لِلرَّجُلِ الشُّجَاعِ لِمَا تَحَقَّقَ أَنَّ الْهَيْكَلَ الْمَخْصُوصَ في حَقِّ الْإِنْسَانِ مُحَالٌ وقد أَطْبَقَ على صِحَّتِهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ليس نَظِيرَ ما نَحْنُ فيه لِأَنَّ قَوْلَهُ هذا أَسَدٌ ليس مُسْتَعَارًا بِجُمْلَتِهِ بَلْ أَسَدٌ مُسْتَعَارٌ وَهَذَا اسْتِعَارَةٌ له وَأَمَّا هَاهُنَا فَهَذَا ابْنِي بِجُمْلَتِهِ مُسْتَعَارٌ في حَقِّ إثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ
____________________
(1/577)
مَسْأَلَةٌ الْعِبْرَةُ بِالْحَقِيقَةِ إذَا كانت الْحَقِيقَةُ مُسْتَعْمَلَةً وَالْمَجَازُ غير مُسْتَعْمَلٍ أو كَانَا مُسْتَعْمَلَيْنِ وَالْحَقِيقَةُ أَغْلَبُ اسْتِعْمَالًا فَالْعِبْرَةُ بِالْحَقِيقَةِ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ ولم يُوجَدْ ما يُعَارِضُهُ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ كَانَا في الِاسْتِعْمَالَيْنِ سَوَاءً فَالْعِبْرَةُ بِالْحَقِيقَةِ أَيْضًا وَمِنْهُمْ من نَقَلَ الِاتِّفَاقَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ حَكَى الْخِلَافَ فيه جَمَاعَةٌ منهم أبو يُوسُفَ في الْوَاضِحِ فقال وَأَمَّا إذَا كان يُفِيدُ مَجَازًا مُتَعَارَفًا وَحَقِيقَةً مُتَعَاَرَفَةً فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه فقال أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ يَجِبُ حَمْلُهُ على الْحَقِيقَةِ وَقِيلَ بَلْ يُحْمَلُ عَلَيْهِمَا وقال صَاحِبُ الْمَصَادِرِ الْقَوْلُ إذَا كانت له حَقِيقَةٌ مُتَعَارَفَةٌ فيه وَمَجَازٌ مُتَعَارَفٌ كَقَوْلِهِ لَا أَشْرَبُ من هذا النَّهْرِ فَحَقِيقَتُهُ الْعُرْفِيَّةُ الْكَرْعُ وَمَجَازُهُ أَنْ يَغْتَرِفَ منه فَيَشْرَبَ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى وُجُوبِ حَمْلِهِ على الْحَقِيقَةِ لِقُوَّتِهَا وَآخَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ قال وَاَلَّذِي أَقُولُهُ أَنَّ حُكْمَ هذا الْقَوْلِ حُكْمُ الْحَقَائِقِ الْمُشْتَرَكَةِ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ في الْمَعْنَى الْأَوَّلِ بِحُكْمِ الْوَضْعِ وَحَقِيقَةٌ في الْمَعْنَى الثَّانِي بِحُكْمِ الْعُرْفِ الطَّارِئِ وَكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وهو حَقِيقَةٌ فِيهِمَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ وَالْعُرْفِ وَتَسْمِيَتُهُ مَجَازًا خَطَأٌ ا هـ وَكَذَلِكَ حَكَى الْخِلَافَ أَيْضًا الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ وَجَزَمَ بِهِ في الْمَحْصُولِ في الْمَسْأَلَةِ السَّابِعَةِ من الْبَابِ التَّاسِعِ بِالْمُسَاوَاةِ وقال الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِهِ إنَّهُ الْحَقُّ وَإِنْ هُجِرَتْ الْحَقِيقَةُ بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ لَا تُرَادُ في الْعُرْفِ فَالْعِبْرَةُ بِالْمَجَازِ بِالِاتِّفَاقِ كما لو حَلَفَ لَا يَأْكُلُ من هذه النَّخْلَةِ فإنه يَحْنَثُ بِثَمَرِهَا لَا بِخَشَبِهَا وَإِنْ كان هو الْحَقِيقَةَ لِأَنَّهَا قد أُمِيتَتْ بِحَيْثُ لَا تُرَادُ في الْعُرْفِ أَلْبَتَّةَ وَأَمَّا إذَا غَلَبَ الْمَجَازُ في الِاسْتِعْمَالِ وَالْحَقِيقَةُ تُتَعَاهَدُ في بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فقال أبو حَنِيفَةَ الْحَقِيقَةُ أَوْلَى لِأَنَّهَا رَاجِحَةٌ بِحَسَبِ الْأَصْلِ وَكَوْنُهَا مَرْجُوحَةً أَمْرٌ عَارِضٌ لَا عِبْرَةَ بِهِ وقال صَاحِبَاهُ الْمَجَازُ أَوْلَى لِكَوْنِهِ رَاجِحًا في الْحَالِ ظَاهِرًا فيه قال الْقَرَافِيُّ في شَرْحِ التَّنْقِيحِ وهو الْحَقُّ لِأَنَّ الظُّهُورَ هو الْمُكَلَّفُ بِهِ وَاخْتَارَ الْإِمَامُ في الْمَعَالِمِ وَالْبَيْضَاوِيُّ في الْمِنْهَاجِ اسْتِوَاءَهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ رَاجِحٌ
____________________
(1/578)
على الْآخَرِ من وَجْهٍ فَالْحَقِيقَةُ بِالْأَصْلِ وَالْمَجَازُ بِالْغَلَبَةِ فَيَتَعَادَلَانِ وَلَا يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَهَذَا يَتَوَقَّفُ على ثُبُوتِ تَعَادُلِ الْمُرَجِّحَيْنِ وقال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَعُزِيَ ذلك إلَى الشَّافِعِيِّ قُلْت وَيَشْهَدُ له الْمِثَالُ فَإِنَّهُمْ مَثَّلُوا الْمَسْأَلَةَ بِمَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ من الْفُرَاتِ وَلَا نِيَّةَ له فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ إنَّمَا يَحْنَثُ بِالْكَرْعِ منه وَلَا يَحْنَثُ بِالشُّرْبِ من الْأَوَانِي الْمَمْلُوءَةِ منه وَعِنْدَنَا يَحْنَثُ بِالِاغْتِرَافِ منه كما يَحْنَثُ بِالْكَرْعِ منه لِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ وهو الْمَنْقُولُ عِنْدَنَا كما قَالَهُ الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ الْأَيْمَانِ في النَّوْعِ الثَّانِي من أَلْفَاظِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ قالوا وَالْخِلَافُ في هذه الْمَسْأَلَةِ يَرْجِعُ إلَى الْأَصْلِ السَّابِقِ وهو أَنَّ الْمَجَازَ هل هو خَلَفٌ عن الْحَقِيقَةِ في حَقِّ الْمُتَكَلِّمِ أو في الْحُكْمِ فَإِنْ كان الْمَجَازُ خَلَفًا في حَقِّ الْمُتَكَلِّمِ لَا تَثْبُتُ الْمُزَاحَمَةُ بين الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ فَيُجْعَلُ اللَّفْظُ عَامِلًا في حَقِيقَتِهِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ هذا تَحْرِيرُ التَّصْوِيرِ في هذه الْمَسْأَلَةِ وَالنَّقْلِ وَالتَّمْثِيلِ فَاعْتَمِدْهُ وَاطْرَحْ ما عَدَاهُ وَجَعَلَ الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا صَدَرَ ذلك مِمَّنْ لَا عُرْفَ له وَلَا قَرِينَةَ فَإِنْ صَدَرَ ذلك من الشَّارِعِ حُمِلَ على الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ قَطْعًا أو من أَهْلِ الْعُرْفِ حُمِلَ عليها وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَجَازَ إنْ تَرَجَّحَ على الْحَقِيقَةِ بِحَيْثُ يَتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إطْلَاقِ اللَّفْظِ كَالْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ أو الْعُرْفِيَّةِ الْعَامَّةِ أو الْخَاصَّةِ يُحْمَلُ على الشَّرْعِيَّةِ إنْ صَدَرَ من الشَّرْعِ وَعَلَى الْعُرْفِيَّةِ إنْ صَدَرَ منهم وَإِنْ تَرَجَّحَ على الْحَقِيقَةِ وَلَكِنْ لم يَنْتَهِ إلَى حَدِّ الشَّرْعِيَّةِ أو الْعُرْفِيَّةِ أو انْتَهَى إلَيْهِ وَلَكِنْ لم يَصْدُرْ من أَهْلِ الشَّرْعِ أو الْعُرْفِ فَيَكُونُ اللَّفْظُ مُجْمَلًا وَلَا يُحْمَلُ على أَحَدِهِمَا إلَّا بِالْقَرِينَةِ أو النِّيَّةِ وَهَاهُنَا أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنَّ الْآمِدِيَّ ذَكَرَ في بَابِ الْمُجْمَلِ أَنَّ ما له مَوْضُوعٌ شَرْعِيٌّ وَلُغَوِيٌّ قِيلَ هو مُجْمَلٌ وَأَنَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُحْمَلُ على الشَّرْعِيَّةِ وَفَرَّقَ الْغَزَالِيُّ بين حَالَةِ الْإِثْبَاتِ فَكَذَلِكَ أو النَّفْيِ فَمُجْمَلٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ من الْمَجَازِ الرَّاجِحِ ولم يَظْهَرْ لي بَيْنَهُمَا فَرْقٌ في جَرَيَانِ الْخِلَافِ في كُلٍّ من الْمَسْأَلَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى لَكِنَّ كَلَامَ الْأَصْفَهَانِيِّ السَّابِقَ يَأْبَاهُ وقال صَاحِبُ الْمَصَادِرِ بَعْدَ أَنْ حَكَى الْخِلَافَ وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُهُ على الْمَعْنَى الْمُتَعَارَفِ وَلَكِنْ لَا أُسَمِّيهِ مَجَازًا بَلْ هو حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ كَالْغَائِطِ وَرَأَيْت في
____________________
(1/579)
شَرْحِ الْوَسِيطِ لِلشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ بن الرِّفْعَةِ في بَابِ الْإِيلَاءِ وقد تَعَرَّضَ لِحِكَايَةِ الْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ فقال مَحَلُّ هذا الْخِلَافِ في جَانِبِ الْإِثْبَاتِ وَأَمَّا في جَانِبِ النَّفْيِ فَيُعْمَلُ بِالْمَجَازِ الرَّاجِحِ جَزْمًا لِأَنَّا إنْ نَظَرْنَا إلَى الْمَجَازِ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ نَظَرْنَا إلَى الْحَقِيقَةِ فَسَلْبُهَا يَقْتَضِي سَلْبَ سَائِرِ الْأَفْرَادِ وَمِنْ جُمْلَتِهَا ما يُرَجَّحُ في الِاسْتِعْمَالِ قال وَلِهَذَا جَزَمَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ لَفْظَيْ الْجِمَاعِ وَالْإِيلَاءِ صَرِيحَانِ وَإِنْ حَكَوْا الْقَوْلَيْنِ في قَوْلِهِ لَا أُبَاشِرَنَّك وَلَا أَقْرَبَنَّك لِمُلَاحَظَةِ أَصْلِ الْحَقِيقَةِ وَالرُّجْحَانُ في لَا أُجَامِعُك دُونَهُمَا ا هـ وَفِيهِ بُعْدٌ عن كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ الثَّانِي مَثَّلَ في الْمَعَالِمِ هذه الْمَسْأَلَةَ بِمَا إذَا قال لِأَمَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى الْعِتْقَ هل يَكُونُ كِنَايَةً فَتُعْتَقُ بِهِ لِأَنَّ مَادَّةَ ط ل ق حَقِيقَتُهَا في الْخَلِيَّةِ وَحِلِّ الْقَيْدِ سَوَاءٌ من النِّكَاحِ وَالرِّقِّ فَيَكُونُ حَقِيقَةً في عِتْقِهَا بِالْوَضْعِ لَكِنَّهَا مَرْجُوحَةٌ لِاشْتِهَارِهَا في الطَّلَاقِ الذي هو حِلُّ قَيْدِ النِّكَاحِ وهو مَجَازٌ رَاجِحٌ ثُمَّ أَوْرَدَ أَنَّهُ يَلْزَمُ على هذا أَنْ لَا يُصْرَفَ إلَى الْمَجَازِ الرَّاجِحِ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو قال لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ من غَيْرِ نِيَّةٍ وَأَجَابَ بِأَنَّ هذا غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّهُ إذَا قال لِمَنْكُوحَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فَإِنْ عَنَى بهذا اللَّفْظِ الْحَقِيقَةَ الْمَرْجُوحَةَ وهو إزَالَةُ مُطْلَقِ الْقَيْدِ وَجَبَ أَنْ يَزُولَ مُسَمَّى الْقَيْدِ وإذا زَالَ هذا الْمُسَمَّى فَقَدْ زَالَ الْقَيْدُ الْمَخْصُوصُ وَإِنْ عَنَى بِهِ الْمَجَازَ الرَّاجِحَ فَقَدْ زَالَ قَيْدُ النِّكَاحِ فلما كان يُفِيدُ الزَّوَالَ على التَّقْدِيرَيْنِ اسْتَغْنَى عن النِّيَّةِ قال ابن التِّلِمْسَانِيِّ وَالسُّؤَالُ لَازِمٌ إذْ الْكَلَامُ مَفْرُوضٌ فِيمَا إذَا ذَكَرَهُ ولم يَنْوِ شيئا فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُحْمَلُ على الطَّلَاقِ فَقَوْلُهُ إنْ نَوَى حُمِلَ على السُّؤَالِ وقال بَعْضُهُمْ هذا الذي قَالَهُ صَاحِبُ الْمَعَالِمِ لَا يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ مِمَّا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ بَلْ هو مُبَايِنٌ لهم لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا يَصْلُحُ لِلْإِيقَاعِ وَهَذَا مَبْحَثٌ في أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ أَوَّلًا وهو بَحْثٌ صَحِيحٌ مُفَرَّعٌ على الْقَوْلِ بِاسْتِوَاءِ الْحَقِيقَةِ الْمَرْجُوحَةِ وَالْمَجَازِ الرَّاجِحِ إلَّا إنْ قِيلَ إنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ نَقَلَهُ إلَى حِلِّ قَيْدِ النِّكَاحِ وَصَارَ فيه حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً أو عُرْفِيَّةً وَارْتَفَعَ عن هذا الْمَجَازِ الرَّاجِحِ بِذَلِكَ كَسَائِرِ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ وَمَسْأَلَةُ التَّعَارُضِ فِيمَا إذَا لم يَصِلْ الْمَجَازُ إلَى هذا الْحَدِّ وَالظَّاهِرُ أنها مَمَاتُهُ وَالْحَقِيقَةُ هُنَا لم تَمُتْ لَكِنَّ سِيَاقَ كَلَامِ صَاحِبِ الْمَعَالِمِ أَنَّهُ يَنْوِي الْحَقِيقَةَ وهو مُطْلَقُ الْقَيْدِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ إنَّمَا قالوا يَنْوِي الْعِتْقَ وهو إزَالَةُ قَيْدٍ خَاصٍّ وهو مِلْكُ
____________________
(1/580)
الْيَمِينِ وهو مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ فَخَرَجَ عن مَعْنَى الْحَقِيقَةِ الْمَرْجُوحَةِ وَالْمَجَازِ الرَّاجِحِ فَيَبْطُلُ الْيَمِينُ في هذه الْجِهَةِ وَلَا نَدْرِي ما يقول الْأَصْحَابُ في هذه الْمَسْأَلَةِ إذَا نَوَى بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلْأَمَةِ إزَالَةَ مُطْلَقِ الْقَيْدِ من غَيْرِ نِيَّةِ الْعِتْقِ بِخُصُوصِهِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ تُعْتَقُ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ من إزَالَةِ الْأَعَمِّ إزَالَةُ الْأَخَصِّ وَبَعْدُ فَلَا يَسْتَقِيمُ التَّمْثِيلُ بِالطَّلَاقِ لِأَنَّهُ صَارَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً أو عُرْفِيَّةً في حِلِّ قَيْدِ النِّكَاحِ وَهُمَا مُقَدَّمَتَانِ على الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ قَطْعًا مَسْأَلَةٌ قِلَّةُ اسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةِ فَلَا يُفْهَمُ مَعْنَاهَا إلَّا بِقَرِينَةٍ قد يَقِلُّ اسْتِعْمَالُ الْحَقِيقَةِ في مَعْنَاهَا فَتَصِيرُ بِحَيْثُ إذَا أُطْلِقَتْ لَا يُفْهَمُ الْمَعْنَى الذي كانت حَقِيقَةً فيه إلَّا بِقَرِينَةٍ فَتُلْحَقُ بِالْمَجَازِ كَالْغَائِطِ لِلْمَكَانِ الْمُطْمَئِنِّ فإنه حَقِيقَةٌ ثُمَّ هُجِرَ وَيَكْثُرُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ في الْمَعْنَى الذي كان مَجَازًا فيه فَيَصِيرُ بِحَيْثُ إذَا أُطْلِقَ فُهِمَ منه ذلك الْمَعْنَى من غَيْرِ قَرِينَةٍ فَيُلْتَحَقُ بِالْحَقَائِقِ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ هذه الْأَلْفَاظِ في مَعَانِيهَا تَابِعٌ لِاخْتِيَارِ الْوَاضِعِ وَالْمُسْتَعْمِلِ لَا لِأَنْفُسِهَا وَحَكَى الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ عن قَوْمٍ مَنَعُوا ذلك وَقَالُوا لَا يَجُوزُ أَنْ تُغَيَّرَ الْحَقِيقَةُ عن دَلَالَتِهَا لَا بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ في مَجَازِهَا وَلَا بِقِلَّتِهِ فيها وَلَا بِغَيْرِ ذلك وَكَذَا مَنَعُوا أَنْ يَتَغَيَّرَ الْمَجَازُ عن دَلَالَتِهِ بِأَنْ يَصِيرَ يَدُلُّ على الْمُرَادِ بِلَا قَرِينَةٍ قالوا لِأَنَّ ذلك يُوجِبُ قَلْبَ دَلَالَةِ الِاسْمِ وَمَعْنَاهُ وَالْأَدِلَّةُ لَا تَنْقَلِبُ عَمَّا هِيَ عليه قال الْقَاضِي وَهَذَا بَاطِلٌ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ وَضْعَ هذه الْأَلْفَاظِ ليس عن عِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ أو دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَإِنَّمَا حَصَلَ الِاتِّفَاقُ بِالْمُوَاطَأَةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ على أَنَّهُ لو اُتُّفِقَ على تَسْمِيَةِ كل مُسَمًّى بِغَيْرِ اسْمِهِ لَدُلَّ عليه كَدَلَالَةِ الْيَوْمِ على ما اُتُّفِقَ عليه وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ يُوجِبُ قَلْبَ الْأَدِلَّةِ فَذَلِكَ في الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ أَمَّا ما ثَبَتَ بِالْمُوَاطَأَةِ وَالْمُوَاضَعَةِ فَلَا يَمْنَعُ ذلك وقال صَاحِبُ الْمَصَادِرِ ما ذَكَرْنَاهُ من صَيْرُورَةِ الْمَجَازِ حَقِيقَةً وَالْحَقِيقَةِ مَجَازًا إنَّمَا نُجَوِّزُهُ قبل نُزُولِ الْقُرْآنِ وَاسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ فَأَمَّا بَعْدَ نُزُولِهِ فَلَا وَإِلَّا لَانْسَدَّ عَلَيْنَا طَرِيقُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ بِمُرَادِ خِطَابِهِ وَيَتَطَرَّقُ الْوَهْمُ إلَى الْحَقَائِقِ ا ه
____________________
(1/581)
وَالْمَشْهُورُ الْجَوَازُ مُطْلَقًا مَسْأَلَةٌ تَعَدُّدُ وُجُوهِ الْمَجَازِ إذَا تَعَذَّرَتْ الْحَقِيقَةُ وَتَعَدَّدَتْ وُجُوهُ الْمَجَازِ وكان بَعْضُهَا أَقْرَبَ إلَى الْحَقِيقَةِ تَعَيَّنَ الْحَمْلُ عليه قال ابن دَقِيقٍ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ هذه إذَا كانت الْمَجَازَاتُ بَيْنَهَا تَنَافٍ في الْحَمْلِ فَإِنْ لم يَكُنْ وَمَنَعَ من الْحَمْلِ عليها مَانِعٌ وَأَحَدُهَا أَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ تَعَيَّنَ الْحَمْلُ على الْأَقْرَبِ مِنْهُمَا أو يُحْمَلُ عَلَيْهِمَا جميعا لِتَنَاوُلِ ذلك الْوَجْهِ الْعَامِّ لها وَعَدَمُ الْمُنَافِي يُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ على الْأَقْرَبِ إلَى الْحَقِيقَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ في الْحَمْلِ على الْأَقْرَبِ مَحْذُورَ التَّخْصِيصِ مع إمْكَانِ التَّعْمِيمِ بِخِلَافِ ما إذَا تَعَدَّدَتْ وُجُوهُ الْمَجَازِ وَوَقَعَ التَّنَافِي في الْحَمْلِ فإنه ليس فيه هذا الْمَحْذُورُ وَمِثَالُ ما إذَا تَعَذَّرَ الْحَمْلُ على الْحَقِيقَةِ وَتَعَدَّدَتْ وُجُوهُ الْمَجَازِ مع التَّنَافِي ما إذَا دخل على الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ وَتَعَذَّرَ الْحَمْلُ عليها كما في لَا عَمَلَ إلَّا بِنِيَّةٍ مَثَلًا فإن الْحَقِيقَةَ مُتَعَذِّرَةٌ وَاحْتُمِلَ أَنْ يُقَدَّرَ لَا صِحَّةَ عَمَلٍ وَاحْتُمِلَ أَنْ يُقَدَّرَ لَا كَمَالَ عَمَلٍ فَهَذَانِ وَجْهَانِ من الْمَجَازِ وفي الْحَمْلِ على أَحَدِهِمَا مُنَافَاةٌ لِلْآخَرِ لِأَنَّا إذَا قُلْنَا لَا صِحَّةَ لَزِمَ انْتِفَاءُ الْكَمَالِ وإذا قُلْنَا لَا كَمَالَ لم يَلْزَمْ انْتِفَاءُ الصِّحَّةِ وَالْحَمْلُ على الصِّحَّةِ أَقْرَبُ إلَى انْتِفَاءِ الْحَقِيقَةِ من الْحَمْلِ على الْكَمَالِ قُلْت وَمِنْ الْمُرَجِّحَاتِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ وَتَعَدُّدِ الْمَجَازِ فيها ما تَحَقَّقَتْ عَلَاقَتُهُ فَهُوَ أَوْلَى مِمَّا لم تَتَحَقَّقْ عَلَاقَتُهُ مِثَالُهُ قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ ما لم يَتَفَرَّقَا فإن الْحَنَفِيَّةَ حَمَلُوهُ على الْمُتَسَاوِيَيْنِ وَأَطْلَقَ عَلَيْهِمَا بَائِعَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَقْبَلِ وَالشَّافِعِيَّةُ حَمَلُوهُ على من صَدَرَ مِنْهُمَا الْبَيْعُ بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَجَازٌ لَكِنَّ مَجَازَ
____________________
(1/582)
الشَّافِعِيَّةِ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَلَاقَةَ مُتَحَقِّقَةٌ بِخِلَافِ إطْلَاقِ الْفِعْلِ وَإِرَادَةِ الْمُسْتَقْبَلِ فإنه قد لَا يَتَحَقَّقُ صُدُورُ الْبَيْعِ الثَّانِي الِاتِّفَاقُ على مَجَازِيَّتِهِ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَقْبَلِ وَالِاخْتِلَافُ فيه بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي هل هو حَقِيقَةٌ أَمْ لَا فَكَانَ رَاجِحًا بهذا الِاعْتِبَارِ مَسْأَلَةٌ الْوَاسِطَةُ بين الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَلَنَا وَاسِطَةٌ بين الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ قال ابن الْخَبَّازِ النَّحْوِيُّ في كِتَابِ النِّهَايَةِ وهو لَفْظٌ مُسْتَعْمَلٌ لِشَيْءٍ وَضَعَ الْوَاضِعُ مثله لِعَيْنِهِ كَالْأَعْلَامِ لِلشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ وقال الْأُصُولِيُّونَ اللَّفْظُ لَا يَكُونُ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا كَاللَّفْظِ قبل الِاسْتِعْمَالِ لِأَنَّ شَرْطَهُمَا الِاسْتِعْمَالُ وهو مُنْتَفٍ وَكَالْأَعْلَامِ الْمُتَجَدِّدَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُسَمَّيَاتِهَا فَإِنَّهَا أَيْضًا لَيْسَتْ بِحَقِيقَةٍ لِأَنَّ مُسْتَعْمِلَهَا لم يَسْتَعْمِلْهَا فِيمَا وُضِعَتْ له إمَّا لِأَنَّهُ اخْتَرَعَهَا من غَيْرِ سَبْقِ وَضْعٍ كَالْمُرْتَجَلَةِ أو نَقَلَهَا عَمَّا وُضِعَتْ له كَالْمَنْقُولَةِ وَلَيْسَتْ مَجَازًا لِأَنَّهَا لم تُنْقَلْ لِعَلَاقَةٍ قَالَهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ والمحصول أَمَّا الْأَعْلَامُ الْمَوْضُوعَةُ بِوَضْعِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَهِيَ حَقَائِقُ لُغَوِيَّةٌ كَأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ وَعَلَى هذا فَلَا فَرْقَ بين الْمَنْقُولَةِ وَالْمُرْتَجَلَةِ خِلَافًا لِلْهِنْدِيِّ حَيْثُ خَصَّهَا بِالْمَنْقُولَةِ وقد سَبَقَتْ مَسْأَلَةٌ كما أَنَّهُ من الْأَلْفَاظِ ما ليس بِحَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازٍ كَذَلِكَ فيها ما هو حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ إمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَعْنَيَيْنِ أو مَعْنًى وَاحِدٍ بِحَسَبِ وَضْعَيْنِ كَلُغَوِيٍّ وَعُرْفِيٍّ مَثَلًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ وَضْعٍ وَاحِدٍ لِاجْتِمَاعِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ
____________________
(1/583)
فَصْلٌ في الْحَقِيقَةِ الْحَقِيقَةُ تَتَوَقَّفُ على النَّقْلِ عن وَاضِعِ اللُّغَةِ كَالنُّصُوصِ في بَابِ الشَّرْعِ حَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ عن أبي زَيْدٍ الدَّبُوسِيِّ ولم يُخَالِفْهُ وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَا يَطْرُقُهُ الْخِلَافُ في الْمَجَازِ وَفِيهِ نَظَرٌ وَأَمَّا الْمَجَازُ فَيُعْرَفُ إمَّا بِالنَّصِّ من الْعَرَبِ أو الِاسْتِدْلَالِ وَالنَّصُّ بِأَنْ يَقُولَ هذا حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ وَيَنْقُلُ ذلك أَئِمَّةُ اللُّغَةِ قال ابن الْعَارِضِ في نُكَتِهِ وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا نَصَّ أَهْلِ اللُّغَةِ لِأَنَّهُمْ إنْ قَالُوهُ نَقْلًا عن الْعَرَبِ فَهُوَ حُجَّةٌ أو إجْمَاعٌ بِإِجْمَاعِهِمْ كَذَلِكَ ا هـ وقد تَصَدَّى لِذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ في كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِأَسَاسِ الْبَلَاغَةِ وَقِيلَ يُعْرَفُ بِالضَّرُورَةِ بِثَلَاثَةِ طُرُقٍ بِأَنْ يُصَرِّحَ أَهْلُ اللُّغَةِ بِاسْمِهِ بِأَنْ يَقُولُونَ هذا اللَّفْظُ مَجَازٌ في الْمَعْنَى الْفُلَانِيِّ أو بِحَدِّهِ بِأَنْ يَقُولُونَ هو مَوْضُوعٌ فيه بِوَضْعٍ ثَانٍ أو بِخَاصَّتِهِ كما يُقَالُ اسْتِعْمَالُ هذا اللَّفْظِ في ذلك يَحْتَاجُ إلَى الْعَلَاقَةِ وَهَذَا قَالَهُ في الْمَحْصُولِ وَيُمْكِنُ رُجُوعُ الثَّالِثِ إلَى الْقِسْمِ النَّظَرِيِّ الْمَذْكُورِ آنِفًا وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِالْعَلَامَاتِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ وقد أَنْكَرَ هذا الْقِسْمَ الْعَبْدَرِيُّ وابن الْحَاجِّ في كَلَامِهِمَا على الْمُسْتَصْفَى وَقَالَا الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ الْمَجَازِ إلَّا بِالنَّقْلِ وَالتَّصَفُّحِ لِلِسَانِ الْعَرَبِ ا هـ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ خِلَافُهُ فَمِنْ خَوَاصِّ الْحَقِيقَةِ وَهِيَ أَقْوَاهَا تَبَادُرُ الذِّهْنِ إلَى فَهْمِ الْمَعْنَى بِغَيْرِ قَرِينَةٍ لِأَجْلِ الْعِلْمِ بِالْوَضْعِ يَعْنِي أَنَّ من عَلِمَ الْوَضْعَ وَسَمِعَ اللَّفْظَ بَادَرَ إلَى حَمْلِهِ على ذلك الْمَعْنَى من غَيْرِ قَرِينَةٍ وَاحْتَرَزْنَا بِقَوْلِنَا لِأَجْلِ الْعِلْمِ بِالْوَضْعِ عَمَّا إذَا بَدَرَ الْفَهْمُ إلَى الْمَعْنَى لِأَجْلِ أَمْرٍ خَارِجٍ عن الْوَضْعِ كَقَرَائِنَ احْتَفَتْ بِهِ أو غَلَبَةِ اسْتِعْمَالٍ لَا تَنْتَهِي إلَى كَوْنِ اللَّفْظِ مَنْقُولًا إلَى ذلك الْمَعْنَى وَرُبَّمَا يَتَبَادَرُ الْفَهْمُ إلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ من غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مُخْتَصَّةً بِهِ وَيَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْنًى آخَرَ لم يَتَبَادَرْ الْفَهْمُ إلَيْهِ ولم يَحْضُرْ السَّامِعَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَلَا تَكُونُ الْمُبَادَرَةُ إلَى ذلك الْمَعْنَى الْأَوَّلِ دَلِيلًا على اخْتِصَاصِ الْحَقِيقَةِ بِهِ
____________________
(1/584)
قَالَهُ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وهو حَسَنٌ وَبِهِ يَنْدَفِعُ إيرَادُ من أَوْرَدَ على طَرْدِ هذه الْعَلَامَةِ الْمَجَازَ الْمَنْقُولَ وَالْمَجَازَ الرَّاجِحَ وَعَلَى عَكْسِهَا الْمُشْتَرَكُ فإنه حَقِيقَةٌ في مَدْلُولَاتِهِ مع عَدَمِ التَّبَادُرِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَنْقُولَ إنَّمَا يَتَبَادَرُ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فيه وَلَا يُنَافِي ذلك لِكَوْنِهِ مَجَازًا وَأَمَّا الْمَجَازُ الرَّاجِحُ فَنَادِرٌ وَالتَّبَادُرُ في الْأَغْلَبِ لَا يُوجَدُ إلَّا في الْحَقِيقَةِ وَتَخَلُّفُ الْمَدْلُولِ على الدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ لَا يَقْدَحُ فيه حَقِيقَةً وَأَمَّا الْمُشْتَرَكُ فَالتَّعْرِيفُ بِالْعَلَامَةِ لَا يُشْتَرَطُ فيه الِانْعِكَاسُ وَمِنْهَا عَدَمُ احْتِيَاجِهِ إلَى الْقَرِينَةِ وَلَا يَرُدُّ الْمُشْتَرَكُ حَقِيقَتَيْنِ فإنه لِعَارِضِ الِاشْتِرَاكِ لَا لِذَاتِهِ وَمِنْ خَوَاصِّ الْمَجَازِ إطْلَاقُ اللَّفْظِ على ما يَسْتَحِيلُ تَعَلُّقُهُ بِهِ إذْ الِاسْتِحَالَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ غير مَوْضُوعٍ له فَيَكُونَ مَجَازًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ أَيْ أَهْلَهَا كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَأَتْبَاعُهُ وَاسْتَشْكَلَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ بِالْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ نَحْوُ وَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا فإنه كَذَلِكَ مع أَنَّهُ ليس مَجَازًا لُغَوِيًّا فَإِنْ أَرَادَ بِاسْتِحَالَةِ التَّعَلُّقِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ فَبَاطِلٌ قُلْت قد سَبَقَ أَنَّ الْمَجَازَ الْعَقْلِيَّ لُغَوِيٌّ على الصَّحِيحِ وَمِنْهَا أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ في الْمَعْنَى الْمَنْسِيِّ بِأَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى له أَفْرَادٌ فَيَتْرُكُ أَهْلُ الْعُرْفِ اسْتِعْمَالَهُ في بَعْضِ تِلْكَ الْأَفْرَادِ بِحَيْثُ يَصِيرُ ذلك الْبَعْضُ مَنْسِيًّا ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ اللَّفْظُ في ذلك الْمَعْنَى الْمَنْسِيِّ فَيَكُونُ مَجَازًا عُرْفِيًّا كَالدَّابَّةِ فإنه مَوْضُوعٌ لِكُلِّ ما يَدِبُّ على الْأَرْضِ فَتَرَكَ بَعْضُ أَهْلِ الْبُلْدَانِ اسْتِعْمَالَهَا في الْحِمَارِ بِحَيْثُ نُسِيَ فَإِطْلَاقُهَا عليه عِنْدَهُمْ مَجَازٌ لِأَنَّهُ مَجَازٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ وَمِنْهَا صِحَّةُ نَفْيِ اللَّفْظِ عن الْمَعْنَى في نَفْسِ الْأَمْرِ كَتَسْمِيَةِ الْجَدِّ أَبًا حَكَاهُ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ في أُصُولِهِ عن الْكَرْخِيِّ وَكَقَوْلِك لِلْبَلِيدِ ليس بِحِمَارٍ وَقُلْنَا في نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ يُقَالُ لِلْبَلِيدِ ليس بِإِنْسَانٍ فَقَدْ نَفَيْت الْحَقِيقَةَ لَكِنْ ليس في نَفْسِ الْأَمْرِ وَهَذَا بِعَكْسِ الْحَقِيقَةِ فإن عَلَامَتَهَا عَدَمُ صِحَّةِ النَّفْيِ إذْ لَا يُقَالُ لِلْبَلِيدِ ليس بِإِنْسَانٍ في نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ عِنْدَ قَصْدِ الْمُبَالَغَةِ وَتَشْبِيهِهِ بِالْحِمَارِ وقد اجْتَمَعَ نَفْيُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ في قَوْله تَعَالَى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فيها وَلَا يَحْيَا ومنها أن الحقيقة يجب اطرادها في سائر المواضع التي ثبت فيها معناها إلا لمانع ومعنى ذلك أنا إذا سمينا إنسانا بضارب لوقوع الضرب منه أو محلا بأنه أسود لحلول
____________________
(1/585)
السواد فيه وجب أن يسمى كل من صدر منه الضرب بأنه ضارب وكل من ماحله السواد واتصف به بأنه أسود وإلا لانتقض قولنا إنه سمي ضاربا لوقوع الضرب منه بخلاف المجاز فإنه لا يجب اطراده بل يقر حيث ورد فلا يستعمل إلا فيما استعمله أهل اللغة فيه أو في نظيره فكما يستدل بالاطراد على الحقيقة يستدل بعدم الاطراد على المجاز كالنخلة للإنسان الطويل فلا يقال لكل طويل نخلة كذا ذكره جماعة منهم الغزالي وابن برهان وقيده الهندي بأمرين أحدهما الوجوب أي يجب كون الحقيقة جارية على الاطراد لئلا يرد المجاز المطرد نقضا على طرده فإنه وإن كان مطردا لكنه لا يجب طرده بدليل عدم اطراد مثله في المجاز وثانيهما بشرط عدم المانع أي يجب أن تكون مطردة إن لم يمنع مانع شرعي أو عقلي أو لغوي لئلا يرد مثل السخي والفاضل بالنسبة إلى الله تعالى نقضا على عكسه ا هـ وممن ذكر أن علامة الحقيقة الاطراد دون المجاز القاضي أبو بكر فيما نقله إمام الحرمين عنه في التلخيص ثم قال وهو سديد إلا أنه لا يقتضي كبير معنى فإن الأصل في الحقائق نتبع أصل الوضع وفي المجاز نتبع استعمال أهل اللغة وإنما سمي كل من صدر عنه الضرب ضاربا بالاتباع لا بالقياس وحكاه أبو الحسين في المعتمد عن بعضهم ثم قال والصحيح أن نفس الاطراد من غير منع دليل على أن الاسم مجاز لأنه قد ثبت وجوب اطراد الاسم في حقيقته واطراده لا يدل على أنه حقيقة لأن المجاز وإن لم يجب اطراده فلا يمنع مانع من اطراده وقيل ليس الاطراد من علامات الحقيقة فإن من المجاز ما قد يطرد كإطلاق اسم الكل على الجزء ونحوه وقال إلكيا الهراسي الخلاف في هذه مبني على أن الحقائق تقاس عليها قال وفيه نظر لأنا قد بينا أن لا قياس في اللغة أصلا فلا يسمى من صدر منه الضرب ضاربا قياسا ولكن توقيفا ولو ثبت الاطراد في المجاز نقلا طردناه وَمِنْهَا أَنَّا إذَا وَجَدْنَا لَفْظَةً صَالِحَةً لِمَعْنَيَيْنِ وَجَمْعُهَا بِحَسَبِهِمَا مُخْتَلِفٌ عَلِمْنَا أنها مَجَازٌ في أَحَدِهِمَا سَوَاءٌ عَلِمْنَا أنها حَقِيقَةٌ في الْآخَرِ أَمْ لَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فقال إنْ تَخْتَلِفْ صِيغَةُ الْجَمْعِ على الِاسْمِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ مَجَازٌ في أَحَدِهِمَا وَسَبَقَهُ إلَيْهِ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَمِثْلُهُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ فإنه حَقِيقَةٌ في الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ وَجَمْعُهُ بهذا الْمَعْنَى
____________________
(1/586)
أَوَامِرُ وإذا أُطْلِقَ على الْفِعْلِ جُمِعَ على أُمُورٍ وَخَالَفَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن بَرْهَانٍ وَصَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ وَغَيْرُهُمْ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْجَمْعِ لَا مَدْخَلَ له في كَوْنِ اللَّفْظِ حَقِيقَةً أو مَجَازًا إلَّا أَنْ يَدَّعِي فيه اسْتِقْرَاءً فَيُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِهِ حِينَئِذٍ وقد يَتَّحِدُ الْجَمْعُ مع اخْتِلَافِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ كَالْحُمُرِ جَمْعُ حِمَارٍ وَالْأُسُدُ جَمْعٌ لِلرَّجُلِ وَغَيْرِهِ وقد يَخْتَلِفُ مع كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِيهِمَا كَالْيَدِ فَإِنَّهَا حَقِيقَةٌ في النِّعْمَةِ وَالْجَارِحَةُ على قَوْلٍ وَجَمْعُ النِّعْمَةِ على أَيَادٍ وَجَمْعُ الْجَارِحَةِ على أَيْدٍ قِيلَ وَعَلَى من اعْتَبَرَ هذه الْعَلَامَةَ سُؤَالٌ فإنه إذَا اعْتَبَرْنَا اخْتِلَافَ الْجَمْعِ وَجَعْلَهُ مع اتِّحَادِ الْمُفْرَدِ دَلِيلًا على اخْتِلَافِ الْمَعْنَى فَهَلَّا فُعِلَ ذلك عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَصْدَرِ مع اتِّحَادِ الْفِعْلِ مِثْلُ شَعَرَ فإنه مُشْتَرَكٌ بين الْعِلْمِ وَالنَّظْمِ وَمَصْدَرُهُ في النَّظْمِ شِعْرٌ وفي الْعِلْمِ شُعُورٌ وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْفِعْلِ في الْحَرَكَاتِ مع اتِّحَادِ الْمَصْدَرِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ اخْتِلَافُ أَحَدِهِمَا دَلِيلًا على أَنَّ الْآخَرَ مَجَازٌ في أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ بَلْ هذا أَوْلَى لِأَنَّ الْمَصْدَرَ وَالْفِعْلَ بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَحَدَهُمَا فَرْعُ الْآخَرِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ فَرْعَ الْفِعْلِ أو بِالْعَكْسِ على اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ بِخِلَافِ الْجَمْعِ فإنه ليس فَرْعَ الْمُفْرَدِ بَلْ بِمَثَابَةِ تَكْرَارِهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ شَعَرَ مَجَازٌ في أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ لِاخْتِلَافِ الْمَصْدَرِ كما أَنَّ الْأَمْرَ مَجَازٌ في أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ لِاخْتِلَافِ الْجَمْعِ وقال ابن التِّلِمْسَانِيِّ في تَعْلِيقِهِ على الْمُنْتَخَبِ وَالْحَقُّ أَنَّ اخْتِلَافَ الْجَمْعِ لَا يَدُلُّ مُطْلَقًا إلَّا بِزِيَادَةِ قَيْدٍ وهو أَنْ يُقَالَ مَثَلًا أَجْمَعْنَا على أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ إذَا أُطْلِقَ على الصِّيغَةِ الدَّالَّةِ على طَلَبِ الْفِعْلِ على جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ حَقِيقَةٌ وَأَنَّهُ يُجْمَعُ على أَوَامِرَ فإذا أُطْلِقَ على الْفِعْلِ جُمِعَ على أُمُورٍ فَخُولِفَ بِهِ جَمْعَ الْحَقِيقَةِ فَقَدْ عُدِلَ بِهِ عن الْحَقِيقَةِ وما عُدِلَ بِهِ عن الْحَقِيقَةِ يَكُونُ مَجَازًا وَهَذَا إنَّمَا ذَكَرْنَاهُ لِلتَّمْثِيلِ وَإِلَّا فَالْأَمْرُ لَا يُجْمَعُ على أَوَامِرَ قِيَاسًا وَإِنَّمَا هو جَمْعُ آمِرَةٍ كَفَاطِمَةَ وَفَوَاطِمَ وَتَسْمِيَةُ الصِّيغَةِ أَمْرًا مَجَازٌ ومنها أن الحقيقة يشتق منها الصفة والمجاز لا يشتق منه لأن الأمر بمعنى الطلب حينئذ يشتق منه فيقال أمر يأمر أمرا فهو آمر وبمعنى البيان والصفة مجاز لا يتصرف ذكره القاضي والغزالي وإلكيا الهراسي وغيرهم وخالفهم ابن برهان بأنه رب مجاز يشتق منه إذا وقع موقع المصدر كالغائط فإنه يقال تغوط الرجل يتغوط تغوطا وإن كان مجازا في الفضلة
____________________
(1/587)
وكذلك قال القاضي أبو الطيب الفعل شأن حقيقة ثم لا يقال شأن يشأن فهو شائن ورب مجاز يتصرف وكذلك قال إمام الحرمين في التلخيص رب حقيقة لا يصدر عنها الاشتقاق وهو إذا لم يكن مصدرا ورب مجاز ورد التجوز بنعوت صادرة عنه فكل ما حل محل المصادر وضعا واستعمالا فالأغلب أن يصدر منه النعوت وهذا هو قضية كلام أهل البيان فإنهم قالوا إن الاستعارة لا تدخل في الأفعال إلا بطريق التبع للمصادر وذلك بأن يتجوز في المصدر أولا ثم يشتق منه الفعل ا هـ وأورد أبو الحسين في المعتمد الرائحة فإنها حقيقة في مسماها مع أنه لا يشتق منها اسم الفاعل لمحلها وهو ممنوع بل يقال للجسم الذي فيه متروح وأورد بعضهم أن ظن بمعنى أيقن مجاز ويصح أن يشتق منه اسم فاعل فيقال ظان وَمِنْهَا الْتِزَامُ تَقْيِيدٍ في مَعْنَى مع اسْتِعْمَالِهِ مُطْلَقًا في الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ كَجَنَاحِ الذُّلِّ وَنَارِ الْحَرْبِ وَرَحَى الْحَرْبِ كِنَايَةٌ عن شِدَّتِهِ وَالْتِهَابِهِ وَإِنَّمَا كان الْتِزَامُ التَّقْيِيدِ دَالًّا على التَّجَوُّزِ لِأَنَّ الْحَقَائِقَ الْأَصْلُ فيها الْإِطْلَاقُ لِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ له مَعْنًى يَخُصُّهُ مَعْلُومٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّقْيِيدِ بِالْقَرِينَةِ فَجُعِلَ الْتِزَامُ التَّقَيُّدِ دَلِيلَ الْمَجَازِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالِالْتِزَامِ الْمَنْعَ من الِاسْتِعْمَالِ من غَيْرِ قَيْدٍ بَلْ الْمُرَادُ بِهِ اسْتِقْرَاءُ كَلَامِهِمْ قال الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ وَفِيهِ نَظَرُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بين مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا نِسْبِيٌّ وَالْآخَرُ غَيْرُ نِسْبِيٍّ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ إطْلَاقُهُ على أَحَدِ الْمُسَمَّيَيْنِ مُتَوَقِّفًا على إطْلَاقِهِ على الْمُسَمَّى الْآخَرِ فَالتَّوَقُّفُ مَجَازٌ سَوَاءٌ كان ذلك مَلْفُوظًا بِهِ كَقَوْلِهِ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ أو مُقَدَّرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إذْ لم يَتَقَدَّمْ لِمَكْرِهِمْ ذِكْرٌ في اللَّفْظِ لَكِنَّهُ مَذْكُورٌ مَعْنًى وَكَثِيرٌ من الناس لَا يَعْلَمُ هذا التَّقْرِيرَ فَيَظُنُّ بُطْلَانَ الْقَاعِدَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمِنْهَا أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ له تَعَلُّقٌ بِالْغَيْرِ فإذا اُسْتُعْمِلَ في مَعْنًى ولم يُسْتَعْمَلْ له تَعَلُّقٌ فَيَكُونُ مَجَازًا فيه كَالْقُدْرَةِ إذَا أُرِيدَ بها الصِّفَةُ اُسْتُعْمِلَ فيه الْمَقْدُورُ وَإِنْ أُرِيدَ بها الْمَقْدُورُ كَإِطْلَاقِهَا على النَّبَاتِ الْحَسَنِ الْعَجِيبِ كما تَقُولُ لِمَنْ تُنَبِّهُهُ على حُسْنِ النَّبَاتِ اُنْظُرْ إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ أَيْ إلَى مَقْدُورِهِ وهو النَّبَاتُ هُنَا لم يَكُنْ له مُتَعَلِّقٌ إذْ النَّبَاتُ لَا مَقْدُورَ له ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَضَعَّفَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فيها وَيَكُونَ له بِحَسَبِ إحْدَى حَقِيقَتَيْهِ مُتَعَلِّقٌ دُونَ الْأُخْرَى وَرَدَّهُ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا بِأَنَّ عَدَمَ التَّعَلُّقِ في الْمَجَازِ هُنَا لم يَكُنْ لِأَجْلِ الْمَجَازِ بَلْ لِأَنَّهُ نُقِلَ إلَى النَّبَاتِ وَلَا مُتَعَلِّقَ له
____________________
(1/588)
فَلَوْ نُقِلَ إلَى شَيْءٍ له مُتَعَلِّقٌ كما لو أَطْلَقَ على الْإِرَادَةِ قُدْرَةً مَجَازًا لَكَانَ له تَعَلُّقٌ وَمِنْهَا أَنَّ الْحَقِيقَةَ تُؤَكَّدُ بِالْمَصْدَرِ وَبِأَسْمَاءِ التَّوْكِيدِ بِخِلَافِ الْمَجَازِ فإنه لَا يُوَكَّدُ بِشَيْءٍ من ذلك ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَتَمَدَّحَ بِذِكْرِهِ وقال هو من الْفُرُوقِ الْمَغْفُولِ عنها قُلْت قد ذَكَرَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ قال فَلَا يَقُولُونَ أَرَادَ الْجِدَارَ إرَادَةً وَلَا قالت الشَّمْسُ وَطَلَعَتْ قَوْلًا وَكَذَلِكَ وُرُودُ الْكَلَامِ في الشَّرْعِ لِأَنَّهُ على طَرِيقَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ قال وَلِهَذَا كان قَوْله تَعَالَى إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ له كُنْ فَيَكُونُ حَقِيقَةً لَا على مَعْنَى التَّكْوِينِ كما يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ من حَيْثُ أَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا يُفِيدُ الْحَقِيقَةَ وَأَنَّهُ أَسْمَعَهُ كَلَامَهُ وَكَلَّمَهُ بِنَفْسِهِ لَا كَلَامًا قام بِغَيْرِهِ ا هـ وقد سَبَقَ أَنَّ التَّأْكِيدَ بِالْمَصْدَرِ إنَّمَا يَرْفَعُ التَّجَوُّزَ عن الحديث لَا عن الْمُحَدَّثِ عنه فَلَيْسَ فيه حُجَّةُ تَكْلِيمِهِ بِنَفْسِهِ وَلَك أَنْ تُورِدَ مِثْلَ قَوْلِ الشَّاعِرِ بَكَى الْحُرُّ من رُوحٍ وَأَنْكَرَ جِلْدَهُ وَعَجَّتْ عَجِيجًا من جُذَامِ الْمَطَارِقِ وَيُجَابُ عنه بِأَنَّهُ قَصَدَ فيه الْمُبَالَغَةَ بِإِجْرَائِهِ مَجْرَى الْحَقِيقَةِ فَأَكَّدَهُ وَذَكَرَ بَعْضُ أَئِمَّةِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ لم يَأْتِ تَأْكِيدُ الْمَجَازِ إلَّا في هذا الْبَيْتِ الْوَاحِدِ وَأَوَّلَهُ على أَنَّ الْمَعْنَى عَجَّتْ لو كانت غَافِلَةً قُلْت وَأَنْشَدَ ابن بَرْهَانٍ قَرَعْت طَنَابِيبَ الْهَوَى يوم عَالِجٍ وَيَوْمَ اللِّوَى حتى قَسَرْت الْهَوَى قَسْرَا وقال فيه حُجَّةٌ على أَنَّ التَّأْكِيدَ بِالْمَصْدَرِ لَا يَرْفَعُ الْمَجَازَ
____________________
(1/589)
فصل في ذِكْرِ تَعَارُضِ ما يُخِلُّ بِالْفَهْمِ وَهِيَ عَشَرَةٌ منها ما يَرْجِعُ لِعَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ وَهِيَ خَمْسَةٌ الْمَجَازُ وَالِاشْتِرَاكُ وَالنَّقْلُ وَالْإِضْمَارُ وَالتَّخْصِيصُ وَمِنْهَا ما يَرْجِعُ لِغَيْرِ ذلك إمَّا لِلْحُكْمِ كَالنَّسْخِ أو لِلتَّرْكِيبِ كَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ أو لِلْوَاقِعِ كَالْمُعَارِضِ الْعَقْلِيِّ أو لِلُّغَةِ كَتَغْيِيرِ الْإِعْرَابِ وَإِنَّمَا تَعَرَّضُوا لِلْخَمْسَةِ السَّابِقَةِ فَقَطْ لِرُجُوعِهَا إلَى اللَّفْظِ وَاحْتَجُّوا على الْحَصْرِ بِأَنَّهُ إذَا انْتَقَى احْتِمَالُ الِاشْتِرَاكِ وَالنَّقْلِ كان اللَّفْظُ حَقِيقَةً في مَعْنًى وَاحِدٍ وإذا انْتَفَى احْتِمَالُ الْإِضْمَارِ كان الْمُرَادُ منه مَدْلُولَ اللَّفْظِ وإذا انْتَفَى احْتِمَالُ الْمَجَازِ كان الْمُرَادُ منه مَدْلُولَهُ الْحَقِيقِيَّ وإذا انْتَفَى احْتِمَالُ التَّخْصِيصِ كان الْمُرَادُ منه جَمِيعَ ما وُضِعَ له بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَحِينَئِذٍ لم يَبْقَ خَلَلٌ في الْفَهْمِ أَلْبَتَّةَ وَأُورِدَ على الْحَصْرِ أُمُورٌ أَحَدُهَا احْتِمَالُ النَّسْخِ فإن السَّامِعَ إذَا جَوَّزَ على حُكْمِ اللَّفْظِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ فَلَا يَجْزِمُ بِثُبُوتِهِ الثَّانِي احْتِمَالُ التَّقْيِيدِ الثَّالِثُ احْتِمَالُ الِاقْتِضَاءِ فإن قَوْلَهُ عليه السَّلَامُ رُفِعَ عن أُمَّتِي لِمَا عُلِمَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا غَيْرُ مَرْفُوعٍ لِوُقُوعِهِ في الْأُمَّةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ عليه السَّلَامُ شيئا آخَرَ لِئَلَّا يَلْزَمَ كَذِبُهُ وهو غَيْرُ مَعْلُومٍ من ظَاهِرِ الْكَلَامِ فَقَدْ نَشَأَ الْخِلَافُ في فَهْمِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ من غَيْرِ الِاحْتِمَالَاتِ الْخَمْسَةِ وَأُجِيبَ عن الْأَوَّلِ بِأَنَّ النَّسْخَ دَاخِلٌ في التَّخْصِيصِ وقد صَرَّحَ بِذَلِكَ الْإِمَامُ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا عُمُومَ في الْأَزْمَانِ وَالْأَمْرُ لَا يَقْتَضِي بِصِيغَتِهِ فِعْلَ الْمَأْمُورِ أَبَدًا وَالْحَقُّ في الْجَوَابِ أَنَّ النَّسْخَ من عَوَارِضِ الْأَحْكَامِ لَا الْأَلْفَاظِ فَإِنْ قِيلَ قد تُنْسَخُ التِّلَاوَةُ وَلَيْسَتْ مَعْنًى قُلْنَا نَسْخُهَا أَيْضًا عَدَمُ جَوَازِ تِلَاوَةِ ذلك الْمَنْسُوخِ قَالَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ قَرِيبٌ من التَّخْصِيصِ وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الِاقْتِضَاءَ رَاجِعٌ لِلْإِضْمَارِ على رَأْيِ جَمْعٍ من الْأُصُولِيِّينَ منهم أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عِبَارَةٌ عن إسْقَاطِ شَيْءٍ من الْكَلَامِ لَا يَتِمُّ الْكَلَامُ بِدُونِهِ نَظَرًا إلَى الْعَقْلِ أو الشَّرْعِ
____________________
(1/590)
أو إلَيْهِمَا لَا نَظَرًا إلَى اللَّفْظِ فَأَمَّا من قال إنَّهُ مُغَايِرٌ لِلْإِضْمَارِ فَنَقُولُ إنَّ الْخَلَلَ النَّاشِئَ من احْتِمَالِ الِاقْتِضَاءِ مِثْلُهُ النَّاشِئُ من احْتِمَالِ الْإِضْمَارِ فَكَانَ ذِكْرُهُ مُغْنِيًا عن ذلك وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ فَالْعَوَارِضُ الْمُخِلَّةُ بِالْفَهْمِ تَرْجِعُ إلَى احْتِمَالِ الِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ وَلِهَذَا اقْتَصَرَ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ على ذِكْرِهَا لِأَنَّ النَّقْلَ وَالْإِضْمَارَ وَالتَّخْصِيصَ يَرْجِعُ لِلْمَجَازِ فإن الْمَجَازَ يَكُونُ بِالنُّقْصَانِ وَالْعَامُّ إذَا خُصَّ يَكُونُ مَجَازًا في الْبَاقِي على الصَّحِيحِ فَإِذَنْ الْمُرَادُ بِالْمَجَازِ الْأَعَمُّ من ذلك لَا الْمُقَابِلُ لِلْإِضْمَارِ وَالتَّخْصِيصِ فَإِنْ كان الْكَلَامُ في هذه الْمُحْتَمَلَةِ من حَيْثُ الْجِنْسُ فَلَا حَاجَةَ لِذِكْرِ الْإِضْمَارِ وَالتَّخْصِيصِ لِأَنَّهُمَا من أَنْوَاعِ الْمَجَازِ فَيَنْدَرِجَانِ تَحْتَ مُطْلَقِهِ وَعَلَى هذا فَالْأَحْوَالُ ثَلَاثَةٌ وَإِنْ كان الْكَلَامُ فيها من حَيْثُ النَّوْعُ فَلَا شَكَّ أَنَّ أَنْوَاعَ الْمَجَازِ لَا تَنْحَصِرُ في خَمْسَةٍ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ التَّوَسُّعُ وَاقْتُصِرَ على هَذَيْنِ من بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ لِغَلَبَتِهِمَا في الْكَلَامِ على أَنَّهُ سَبَقَ خِلَافٌ في أَنَّ الْإِضْمَارَ ليس بِمَجَازٍ وَالتَّخْصِيصُ أَيْضًا كَذَلِكَ فإنه فِعْلُ الْمُخَصَّصِ وَلَيْسَ بِلَفْظٍ حتى يُحْكَمَ عليه بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وقد أُورِدَ على مَوْضِعِ الْمَسْأَلَةِ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ هذه الِاحْتِمَالَاتِ ليس شَيْءٌ منها مُخِلًّا بِالْفَهْمِ لِأَنَّ الظَّنَّ حَاصِلٌ مع تَجْوِيزِهَا إنَّمَا الْمُمْتَنِعُ الْقَطْعُ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منها مُخِلٌّ بِالْفَهْمِ على تَقْدِيرِ إرَادَتِهِ مع عَدَمِ الْقَرِينَةِ كَإِرَادَةِ الْمَجَازِ مع عَدَمِهَا فإنه يُخِلُّ بِالْفَهْمِ وَيُوقِعُ في الْحَقِيقَةِ وَالثَّانِي أَنَّ الْإِضْمَارَ وَالتَّخْصِيصَ نَوْعَانِ من أَنْوَاعِ الْمَجَازِ فَكَيْفَ جَعَلَهُمَا مُقَابِلَيْنِ له وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ التَّوَسُّعُ وَاقْتَصَرَ على هَذَيْنِ من بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ لِغَلَبَتِهِمَا في الْكَلَامِ على أَنَّهُ سَبَقَ خِلَافٌ في أَنَّ الْإِضْمَارَ ليس بِمَجَازٍ وَالتَّخْصِيصُ أَيْضًا كَذَلِكَ فإنه فِعْلُ الْمُخَصَّصِ وَلَيْسَ بِلَفْظٍ حتى يُحْكَمَ عليه بِالْحَقِيقَةِ أو الْمَجَازِ ثُمَّ التَّعَارُضُ الذي يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ بين هذه الِاحْتِمَالَاتِ الْخَمْسَةِ يَقَعُ على عَشَرَةِ أَوْجُهٍ وَهَذِهِ لِأَنَّ التَّعَارُضَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بين الشَّيْئَيْنِ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعَارِضُ نَفْسَهُ فَكُلُّ وَاحِدٍ من هذه الِاحْتِمَالَاتِ الْخَمْسَةِ إنَّمَا يُعَارِضُ الْأَرْبَعَةَ الْأَخِيرَةَ فيها فَتُضْرَبُ الْخَمْسَةُ في الْأَرْبَعَةِ فَحَصَلَ عِشْرُونَ وَجْهًا من التَّعَارُضِ لَكِنَّ الْعِدَّةَ مُكَرَّرَةٌ فَيَجِبُ حَذْفُهَا بِنَفْيِ عَشَرَةٍ تُكَرَّرُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى وهو أَنَّهُ قد يَقَعُ التَّعَارُضُ بين الِاشْتِرَاكِ وَبَيْنَ الْأَرْبَعَةِ فَيَحْصُلُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ ثُمَّ
____________________
(1/591)
من تَعَارُضِ النَّقْلِ مع الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ صَارَتْ سَبْعَةً ثُمَّ من تَعَارُضِ الْمَجَازِ مع الْبَاقِينَ وَجْهَانِ صَارَتْ تِسْعَةً ثُمَّ من تَعَارُضِ الْمَجَازِ مع التَّخْصِيصِ وَجْهٌ وَاحِدٌ فَصَارَ الْمَجْمُوعُ عَشَرَةً وقد نَظَمَ ذلك بَعْضُهُمْ فقال تَجُوزُ ثُمَّ إضْمَارٌ وَبَعْدَهُمَا نَقْلٌ تَلَاهُ اشْتِرَاكٌ فَهُوَ يَخْلُفُهُ وَأَرْجَحُ الْكُلِّ تَخْصِيصٌ وَآخِرُهُمْ نَسْخٌ فما بَعْدَهُ قِسْمٌ يَخْلُفُهُ وَالضَّابِطُ تَقَدُّمُ التَّخْصِيصِ فَالْإِضْمَارِ فَالْمَجَازِ فَالنَّقْلِ فَالِاشْتِرَاكِ وَالتَّخْصِيصُ يُرَجَّحُ على سَائِرِ الْوُجُوهِ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ رَاجِحٌ على الْإِضْمَارِ وَالْمَجَازِ فإن فيه عَمَلًا بِالْحَقِيقَةِ من وَجْهٍ بِخِلَافِ الْأَوَّلَيْنِ وَعَلَى النَّقْلِ لِتَوَقُّفِ النَّقْلِ على ما لَا يَتَوَقَّفُ عليه التَّخْصِيصُ وَعَلَى الِاشْتِرَاكِ لِإِخْلَالِهِ بِالْفَهْمِ الْأَوَّلُ التَّعَارُضُ بين الِاشْتِرَاكِ وَالنَّقْلِ لِأَنَّهُ على تَقْدِيرِ النَّقْلِ يَكُونُ مَعْنَى اللَّفْظِ مُفْرَدًا قبل النَّقْلِ وَبَعْدَهُ لِأَنَّهُ قَبْلَهُ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْأَصْلِيِّ وَبَعْدَهُ لِلْعُرْفِيِّ أو الشَّرْعِيِّ الذي نُقِلَ إلَيْهِ وَعَلَى تَقْدِيرِ الِاشْتِرَاكِ يَكُونُ مَعْنَاهُ مُتَعَدِّدًا في جَمِيعِ الْأَحْوَالِ كَالْمُجْمَلِ مِثَالُهُ لَفْظُ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ في النَّمَاءِ وفي الْقَدْرِ الْمُخْرَجِ من النِّصَابِ فَيُحْتَمَلُ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهُمَا أو في الْأَصْلِ لِلنَّمَاءِ وَاسْتُعْمِلَتْ في الثَّانِي بِطَرِيقِ النَّقْلِ فَحَمْلُهَا عليه أَوْلَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَجَّحَ الِاشْتِرَاكُ لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي نَسْخَ وَضْعٍ سَابِقٍ بِخِلَافِ النَّقْلِ وَالْإِجْمَاعِ على وُقُوعِ الِاشْتِرَاكِ وَالِاخْتِلَافِ في النَّقْلِ وَأَنْكَرَهُ كَثِيرٌ من الْمُحَقِّقِينَ كَالْقَاضِي وَغَيْرِهِ الثَّانِي التَّعَارُضُ بين الِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ فَالْمَجَازُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا من الْمُشْتَرَكِ بِالِاسْتِقْرَاءِ وَالْحَمْلُ على الْأَكْثَرِ أَوْلَى وَإِعْمَالُ اللَّفْظِ فيه مع الْقَرِينَةِ فَيَكُونُ مَجَازًا وَدُونَهَا فَيَكُونُ حَقِيقَةً بِخِلَافِ الْمُشْتَرَكِ فإنه عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ يَجِبُ التَّوَقُّفُ هذا هو الْمَشْهُورُ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ وابن الْحَاجِبِ وَأَمَّا الْآمِدِيُّ فَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ في مَبَاحِثِ الْأَمْرِ تَرْجِيحُ الِاشْتِرَاكِ وقد اُسْتُشْكِلَ تَصْوِيرُ التَّعَارُضِ بين الِاشْتِرَاكِ وَالنَّقْلِ وَالْمَجَازِ فإن الِاشْتِرَاكَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اسْتِوَاءِ حَالَاتِهِ في دَلَالَتِهِ على الْمَعْنَيَيْنِ أو الْمَعَانِي وَالْمَجَازُ إنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ يَكُونُ دَلَالَتُهُ في أَحَدِهِمَا ضَعِيفَةً وَالْأُخْرَى قَوِيَّةً وَاللَّفْظُ إنَّمَا يَصِيرُ مَنْقُولًا إذَا يُطْلَبُ دَلَالَتُهُ الْأُولَى وَارْتَفَعَتْ وَأُجِيبَ بِتَصَوُّرِ ذلك في لَفْظٍ اُسْتُعْمِلَ في مَعْنَيَيْنِ ولم يُعْلَمْ تَسَاوِي دَلَالَتِهِ عَلَيْهِمَا وَلَا رُجْحَانُهَا في أَحَدِهِمَا فَيُحْتَمَلُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِمَا بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ أو
____________________
(1/592)
بِطَرِيقِ النَّقْلِ أو حَقِيقَةً في أَحَدِهِمَا وَمَجَازًا في الْآخَرِ على السَّوَاءِ الثَّالِثُ الْإِضْمَارُ أَوْلَى من الِاشْتِرَاكِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَرِينَةِ إلَّا في صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ إرَادَةُ الْمَعْنَى الْإِضْمَارِيِّ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَكِ فإنه مُفْتَقِرٌ إلَى الْقَرِينَةِ في جَمِيعِ صُوَرِهِ إذْ ليس الْبَعْضُ منه أَوْلَى من الْبَعْضِ الرَّابِعُ التَّخْصِيصُ خَيْرٌ من الِاشْتِرَاكِ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ خَيْرٌ من الْمَجَازِ وَالْمَجَازُ خَيْرٌ من الِاشْتِرَاكِ وَالْخَيْرُ من الْخَيْرِ خَيْرٌ فَكَانَ التَّخْصِيصُ خَيْرًا من الِاشْتِرَاكِ وَعُلِمَ من هذه الْأَرْبَعَةِ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ أَضْعَفُ الْخَمْسَةِ الْخَامِسُ الْمَجَازُ خَيْرٌ من النَّقْلِ لِاسْتِلْزَامِ النَّقْلِ نَسْخَ الْأَوَّلِ وَتَغْيِيرَ الْوَضْعِ كَدَعْوَى الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ مَنْقُولَةٌ إلَى الْأَفْعَالِ وَالْجُمْهُورُ قالوا مَجَازَاتٌ لُغَوِيَّةٌ وهو أَوْلَى السَّادِسُ الْإِضْمَارُ أَوْلَى من النَّقْلِ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ مُسَاوٍ لِلْمَجَازِ وَالْمَجَازُ أَوْلَى من النَّقْلِ السَّابِعُ التَّخْصِيصُ خَيْرٌ من النَّقْلِ لِأَنَّهُ خَيْرٌ من الْمَجَازِ وَالْمَجَازُ خَيْرٌ من النَّقْلِ وَعُلِمَ بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ أَنَّ النَّقْلَ أَضْعَفُ من الثَّلَاثَةِ بَعْدُ الثَّامِنُ إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بين الْإِضْمَارِ وَالْمَجَازِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ قِيلَ الْمَجَازُ أَوْلَى لِكَثْرَتِهِ وَبِهِ جَزَمَ في الْمَعَالِمِ وَاخْتَارَهُ الْهِنْدِيُّ وَقِيلَ بِالْعَكْسِ وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ وَاخْتَارَهُ في الْمَحْصُولِ وَتَبِعَهُ في الْمِنْهَاجِ لِاحْتِيَاجِ كُلٍّ مِنْهُمَا إلَى قَرِينَةٍ تَمْنَعُ من فَهْمِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَكَمَا أَنَّ الْحَقِيقَةَ تُعِينُ على فَهْمِ الْمَجَازِ كَذَلِكَ تُعِينُ على فَهْمِ الْمُضْمَرِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ هَذَيْنِ نَوْعَا مَجَازٍ فَيَنْبَغِي ذِكْرُهُ في تَرْجِيحِ أَنْوَاعِ بَعْضِ الْمَجَازِ على بَعْضٍ التَّاسِعُ التَّخْصِيصُ أَوْلَى من الْمَجَازِ لِأَنَّ الْبَاقِيَ من أَفْرَادِ الْعَامِّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ يَتَعَيَّنُ بِخِلَافِ الْمَجَازِ فإنه رُبَّمَا لَا يَتَعَيَّنُ وَمِنْ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ يُعْلَمُ أَنَّ الْمَجَازَ أَضْعَفُ من الْإِضْمَارِ وَالتَّخْصِيصِ الْعَاشِرُ التَّخْصِيصُ خَيْرٌ من الْإِضْمَارِ لِأَنَّهُ خَيْرٌ من الْمَجَازِ وَالْمَجَازُ مُسَاوٍ لِلْإِضْمَارِ على ما في الْمَحْصُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ فَهَذَا خِطَابٌ خَاصٌّ لِلْوَرَثَةِ لِأَنَّهُمْ إذَا اقْتَصُّوا حَصَلَتْ الْحَيَاةُ لهم بِدَفْعِ شَرِّ هذا الْقَاتِلِ الذي صَارَ عَدُوًّا لهم أو هو عَامٌّ وَالْمَشْرُوعِيَّةُ مُضْمَرَةٌ لِأَنَّ الناس إذَا عَلِمُوا مَشْرُوعِيَّتَهُ كان أَنْفَى لِلْقَتْلِ فيها بَيْنَهُمْ وَهَذَا مِثَالٌ وَإِلَّا فَالرَّاجِحُ الِاحْتِمَالُ الثَّانِي
____________________
(1/593)
فُرُوعٌ أَحَدُهَا الِاشْتِرَاكُ خَيْرٌ من النَّسْخِ لِأَنَّهُ لَا إبْطَالَ فيه بِالْكُلِّيَّةِ بِخِلَافِ النَّسْخِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عليه فإنه يُحْمَلُ على كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ حَقِيقَةً بِدَلِيلِ لِئَلَّا يَلْزَمَ نَسْخُ ما وَرَدَ من الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ على إبَاحَةِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ إنْ كان الْقُرْآنُ مُتَأَخِّرًا أو نَسْخُهُ إنْ كان مُتَقَدِّمًا أو لَا سَبِيلَ إلَى التَّخْصِيصِ لِأَنَّهُ ليس أَحَدُهُمَا أَخَصَّ من الْآخَرِ حتى يُصَارَ إلَيْهِ ثَانِيهَا إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بين الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ فَالْمَعْنَوِيُّ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا يَتَعَطَّلُ فيه النَّصُّ بِحَالٍ بِخِلَافِ اللَّفْظِ فإنه عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ يَتَعَطَّلُ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ رَجَّحَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ما كان حَقِيقَةً في الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ على الْمُشْتَرَكِ وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَلَيْسَ بِصَوَابٍ على الْإِطْلَاقِ فإن الْمَجَازَ وَإِنْ كان خِلَافَ الْأَصْلِ فَقَدْ تُقَدَّمُ الدَّلَالَةُ عليه فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ لِسَبْقِ الذِّهْنِ إلَى فَهْمِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ من اللَّفْظِ عِنْدَ الْعَالِمِ بِالْوَضْعِ وَافْتِقَارِ الْمَعْنَى الْآخَرِ إلَى الْقَرِينَةِ الْحَامِلَةِ عليه ثَالِثُهَا إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بين كَوْنِ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا بين عَلَمَيْنِ أو بين عَلَمٍ وَمَعْنًى أو بين مَعْنَيَيْنِ كان جَعْلُهُ مُشْتَرَكًا بين عَلَمَيْنِ أو مَعْنَيَيْنِ أَوْلَى وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ كَيْفَ يُدَّعَى الِاشْتِرَاكُ في الْأَعْلَامِ وَالِاشْتِرَاكُ إنَّمَا يَكُونُ بين الْحَقَائِقِ وَالْأَعْلَامُ لَيْسَتْ بِحَقَائِقَ كما سَبَقَ رَابِعُهَا إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بين الْمُشْتَرَكِ وَالْمُشَكَّكِ فَالْمُشَكَّكُ أَوْلَى لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمُتَوَاطِئَ من وَجْهٍ وَالْمُتَوَاطِئُ رَاجِحٌ على الْمُشْتَرَكِ وَالْمُشَابِهُ لِلرَّاجِحِ رَاجِحٌ وَلِأَنَّ اخْتِلَالَ الْفَهْمِ فيه أَقَلُّ خَامِسُهَا إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بين الْمُتَوَاطِئِ وَبَيْنَ الْمُشَكِّكِ فَالْمُتَوَاطِئُ أَوْلَى سَادِسُهَا إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بين احْتِمَالِ النَّسْخِ وَاحْتِمَالِ التَّخْصِيصِ فَفِي تَقْدِيمِ أَيِّهِمَا أَوْلَى قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ في كِتَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ تَأْلِيفُهُ قال وَأَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ على حَمْلِهِ على النَّسْخِ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ في أَكْثَرِ ذلك إلَى حَمْلِهِ على التَّخْصِيصِ حتى يَقُومَ دَلِيلٌ على النَّسْخِ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حتى يُؤْمِنَّ
____________________
(1/594)
فإنه عَامٌّ في الْكِتَابِيَّاتِ وَغَيْرِهِنَّ فلما جاء قَوْله تَعَالَى وَالْمُحْصَنَاتُ من الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ من الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ من قَبْلِكُمْ وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ إلَى أَنَّهُ نَاسِخٌ في تَحْرِيمِ الْمُشْرِكَاتِ وَخَرَّجَ الشَّافِعِيُّ ذلك على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا النَّسْخُ كما قالوا وَالثَّانِي التَّخْصِيصُ ثُمَّ قَطَعَ بِأَنَّ ذلك خُصُوصٌ وَعُمُومٌ لَمَّا عَدِمَ الدَّلِيلَ أَنَّ ذلك على النَّسْخِ ا ه
____________________
(1/595)
فصل في التَّرْجِيحَاتِ بين أَفْرَادِ الْمَجَازِ إذَا كان لِلْمَجَازِ عَلَاقَتَانِ أو أَكْثَرُ وَاحْتُمِلَ التَّجَوُّزُ عن كُلٍّ مِنْهُمَا فَمُقْتَضَى كَلَامِ الْإِمَامِ الرَّازِيَّ أَنَّ أَوْلَاهَا إطْلَاقُ الْكُلِّ على الْبَعْضِ لِأَنَّهُ جَعْلُ التَّخْصِيصِ جُزْءًا من الْمَجَازِ وَالتَّخْصِيصُ من الْمَجَازِ هو كَذَلِكَ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أَحْسَنَ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الِاسْتِعَارَةُ فَلْتَكُنْ أَقْوَاهَا وَلِقُوَّتِهَا ادَّعَى بَعْضُهُمْ أنها حَقِيقَةٌ ثُمَّ يَلِيهَا الْإِضْمَارُ لِأَنَّ الْإِخْلَالَ بِالْفَهْمِ فيه إنَّمَا هو من أَمْرٍ مَحْذُوفٍ لَا مَذْكُورٍ وَاللَّفْظُ الْمَذْكُورُ لم يُوجِبْ بِمُجَرَّدِهِ خَلَلًا فَكَانَ قَوِيًّا وَبَقِيَّةُ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ مُتَقَارِبَةٌ وَقَالُوا إنَّ إطْلَاقَ اسْمِ السَّبَبِ على الْمُسَبَّبِ أَحْسَنُ من الْعَكْسِ كما تَقَدَّمَ وَقَالُوا في بَابِ التَّرْجِيحِ إنَّ الْعِلَّةَ الْغَائِيَّةَ اجْتَمَعَ فيها السَّبَبُ وَالْمُسَبَّبُ فَكَانَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فيها أَوْلَى في سَائِرِ الْمَوَاضِعِ وَإِنْ تَعَارَضَ مَجَازَانِ وَأَحَدُهُمَا تَحَقَّقَتْ عَلَاقَتُهُ فَهُوَ أَوْلَى من الذي لم تَتَحَقَّقْ كما في قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ ما لم يَتَفَرَّقَا فإن الْحَنَفِيَّةَ حَمَلُوهُ على الْمُسَاوِمَيْنِ وَأُطْلِقَ عَلَيْهِمَا بَائِعَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَقْبَلِ وَالشَّافِعِيَّةُ حَمَلُوهُ على من صَدَرَ مِنْهُمَا الْبَيْعُ بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَجَازٌ وَمَجَازُ الشَّافِعِيَّةِ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَلَاقَةَ فيه مُتَحَقِّقَةٌ فيه بِخِلَافِ إطْلَاقِ الْفِعْلِ وَإِرَادَةِ الْمُسْتَقْبَلِ فإنه قد لَا يَتَحَقَّقُ صُدُورُ الْبَيْعِ وَالثَّانِي الِاتِّفَاقُ على مَجَازِيَّتِهِ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَقْبَلِ وَالِاخْتِلَافُ فيه بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي هل هو حَقِيقَةٌ أَمْ لَا فَرُجِّحَ بهذا الِاعْتِبَارِ
____________________
(1/596)
فصل في الصريح والكناية والتعريض في الصريح والكناية والتعريض في الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ وقد يَكُونُ ذلك في أَبْوَابِ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَالْقَذْفِ الصَّرِيحُ فَأَمَّا الصَّرِيحُ فَفِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا هو ظَاهِرُ الْمُرَادِ عِنْدَ السَّامِعِ بِحَيْثُ يَسْبِقُ إلَى أَفْهَامِ السَّامِعِينَ الْمُرَادُ منه نَحْوُ أَنْتِ طَالِقٌ بِعْت وَاشْتَرَيْت مَأْخُوذٌ من قَوْلِهِمْ الْحَقُّ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْقَصْرُ صَرْحًا لِظُهُورِهِ وَارْتِفَاعِهِ على سَائِرِ الْأَبْنِيَةِ وَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ هو ما انْكَشَفَ الْمُرَادُ منه في نَفْسِهِ فَيَدْخُلُ فيه الْمُبَيَّنُ وَالْمُحْكَمُ الْكِنَايَةُ وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ اسْمٌ لِمَا اسْتَتَرَ فيه مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ من حَيْثُ اللَّفْظُ كَقَوْلِهِ في الْبَيْعِ جَعَلْته لَك بِكَذَا وفي الطَّلَاقِ أَنْتِ خَلِيَّةٌ وَيَدْخُلُ فيه الْمُجْمَلُ وَنَحْوُهُ مَأْخُوذٌ من قَوْلِهِمْ كَنَّيْت وَكَنَوْتُ قال الشَّاعِرُ وَإِنِّي لَأَكْنُو عن قُدُورٍ بِغَيْرِهَا وَأُعْرِبُ أَحْيَانًا بها وَأُصَارِحُ وَعِنْدَ الْبَيَانِيِّينَ أَنْ يُذْكَرَ لَفْظٌ دَالٌّ على شَيْءٍ لُغَةً وَيُرَادَ بِهِ غَيْرُ الْمَذْكُورِ لِمُلَازَمَةٍ بَيْنَهُمَا خَاصَّةٍ وَالْغَرَضُ منه إمَّا قُبْحُ ذِكْرِ الصَّرِيحِ نَحْوُ أو جاء أَحَدٌ مِنْكُمْ من الْغَائِطِ أو إخْفَاءُ الْمُكَنَّى عنه عن السَّامِعِ وَاخْتَلَفُوا هل الْكِنَايَةُ من بَابِ الْمَجَازِ أَمْ لَا فَقِيلَ مَجَازٌ وَكَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ يَقْتَضِيهِ في مَوْضِعٍ من الْكَشَّافِ فإنه قال في قَوْله تَعَالَى وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ من خِطْبَةِ النِّسَاءِ أو أَكْنَنْتُمْ الْكِنَايَةُ أَنْ يَذْكَرَ الشَّيْءَ بِغَيْرِ لَفْظِهِ الْمَوْضُوعِ له وَالتَّعْرِيضُ أَنْ يَذْكُرَ شيئا يَدُلُّ على شَيْءٍ لم يَذْكُرْهُ وَكَلَامُ غَيْرِهِ من الْبَيَانِيِّينَ يَقْتَضِي أنها حَقِيقَةٌ وَوَقَعَ في كَلَامِ السَّكَّاكِيِّ أَيْضًا أنها لَيْسَتْ بِحَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازٍ لِأَنَّهُ قال الْكَلِمَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ إمَّا أَنْ يُرَادَ بها مَعْنَاهَا وَحْدَهُ أو مَعْنَاهَا وَغَيْرُ مَعْنَاهَا مَعًا وَالْأَوَّلُ الْحَقِيقَةُ في الْمُفْرَدِ وَالثَّانِي الْمَجَازُ في الْمُفْرَدِ وَالثَّالِثُ الْكِنَايَةُ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ أَرَادَ هُنَا بِالْحَقِيقَةِ
____________________
(1/597)
التَّصْرِيحَ بها بِقَرِينَةِ جَعْلِهَا في مُقَابَلَةِ الْكِنَايَةِ وَتَصْرِيحُهُ فِيمَا بَعْدُ بِأَنَّ الْحَقِيقَةَ وَالْكِنَايَةَ يَشْتَرِكَانِ في كَوْنِهِمَا حَقِيقَتَيْنِ وَيَفْتَرِقَانِ بِالتَّصْرِيحِ وَعَدَمِهِ وَجَزَمَ الْجَاجَرْمِيُّ في رِسَالَتِهِ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ من الْمَجَازِ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ في غَيْرِ مَوْضُوعِهِ وَالْكِنَايَةُ اسْتِعْمَالُهُ في مَوْضُوعِهِ غير أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ مَعْنًى ثَانٍ فإذا قُلْت فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ فَإِنَّك تُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ حَقِيقَةَ طُولِ النِّجَادِ دَلِيلًا على طُولِ الْقَامَةِ فَقَدْ اسْتَعْمَلْت اللَّفْظَ في مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ لَكِنَّ غَرَضَك مَعْنًى ثَانٍ يَلْزَمُ الْأَوَّلَ وهو طُولُ الْقَامَةِ وإذا شُرِطَ في الْكِنَايَةِ اعْتِبَارُ الْمَوْضُوعِ الْأَصْلِيِّ لم تَكُنْ مَجَازًا وَكَذَلِكَ إذَا قُلْت لِزَوْجَتِك أَنْتِ بَائِنٌ فَقَدْ اسْتَعْمَلْت لَفْظَ الْبَيْنُونَةِ في مَوْضُوعِهَا الْأَصْلِيِّ وهو انْقِطَاعُ الْوَصْلَةِ غير أَنَّ مَقْصُودَك الطَّلَاقُ وَلِهَذَا قالوا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ في الْكِنَايَةِ وَلَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ في الْمَجَازِ ا هـ وَفِيمَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ وهو فيه مُتَابِعٌ لِلْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ فإنه قال في نِهَايَةِ الْإِيجَازِ وَاللَّفْظَةُ إذَا أُطْلِقَتْ وكان الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ غير مَعْنَاهَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا مَقْصُودًا أَيْضًا لِيَكُونَ دَالًّا على ذلك الْغَرَضِ الْأَصْلِيِّ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ فَالْأَوَّلُ هو الْكِنَايَةُ وَالثَّانِي هو الْمَجَازُ فَالْكِنَايَةُ كَقَوْلِهِمْ فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ كَثِيرُ الرَّمَادِ فَقَوْلُنَا طَوِيلُ النِّجَادِ اُسْتُعْمِلَ لَا لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَصْلِيَّ مَعْنَاهُ بَلْ ما يَلْزَمُهُ من طُولِ الْقَامَةِ قال وَلَيْسَتْ الْكِنَايَةُ من الْمَجَازِ بِدَلِيلِ أنها تُفِيدُ الْمَقْصُودَ بِمَعْنَى اللَّفْظِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مُعْتَبَرًا وإذا كان مُعْتَبَرًا فِيمَا نُقِلَتْ اللَّفْظَةُ عن مَوْضُوعِهَا فَلَا تَكُونُ مَجَازًا فإذا قُلْت فُلَانٌ كَثِيرُ الرَّمَادِ فَإِنَّك تُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ حَقِيقَةَ كَثْرَةِ الرَّمَادِ دَلِيلًا على كَوْنِهِ جَوَادًا فَأَنْتَ اسْتَعْمَلْت هذه الْأَلْفَاظَ في مَعَانِيهَا الْأَصْلِيَّةِ غير مُنْكِرٍ أَنَّ في إفَادَةِ كَوْنِهِ كَثِيرَ الرَّمَادِ مَعْنًى ثَانِيًا يَلْزَمُ الْأَوَّلُ وهو الْجُودُ وإذا وَجَبَ في الْكِنَايَةِ اعْتِبَارُ مَعَانِيهَا الْأَصْلِيَّةِ لم تَكُنْ مَجَازًا انْتَهَى وَيَشْهَدُ لِتَغَايُرِهِمَا ما قَالَهُ الْأَصْحَابُ في كِتَابِ الطَّلَاقِ إنَّ الْكِنَايَةَ إنَّمَا تُؤَثِّرُ فيها النِّيَّةُ دُونَ الْقَرَائِنِ مع أَنَّ الْمَجَازَ تُؤَثِّرُ فيه الْقَرِينَةُ بِالِاتِّفَاقِ وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْكِنَايَةُ تَارَةً تَكُونُ حَقِيقَةً وَتَارَةً تَكُونُ مَجَازًا إلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ منها الْإِشْعَارُ بِمَا كَنَّى بها عنه إمَّا حَقِيقَةً أو مَجَازًا فَالْكِنَايَةُ أَعَمُّ لِانْقِسَامِهَا إلَيْهِمَا فَالْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ وَصْفَانِ لِلَّفْظِ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ على الْمَعْنَى وَالِاسْتِعْمَالُ غَيْرُ الدَّلَالَةِ فَافْهَمْ هذا
____________________
(1/598)
فَائِدَةٌ ظَاهِرُ كَلَامِ صَاحِبِ الْكَشَّافِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ في الْكِنَايَةِ إمْكَانُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِأَنَّهُ ذَكَرَ في مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يوم الْقِيَامَةِ أَنَّهُ مَجَازٌ عن الِاسْتِهَانَةِ وَالسَّخَطِ وَأَنَّ النَّظَرَ إلَى فُلَانٍ بِمَعْنَى الِاعْتِدَادِ بِهِ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِ كِنَايَةٌ إذَا أُسْنِدَ إلَى من يَجُوزُ عليه النَّظَرُ وَمَجَازٌ إذَا أُسْنِدَ إلَى من لَا يَجُوزُ عليه التَّعْرِيضُ وَأَمَّا التَّعْرِيضُ فَهُوَ لُغَةً ضِدُّ التَّصْرِيحِ قال الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ في تَفْسِيرِهِ وَمَعْنَاهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْكَلَامَ ما يَصْلُحُ لِلدَّلَالَةِ على مَقْصُودِهِ وَتَحْصُلُ الدَّلَالَةُ على غَيْرِ مَقْصُودِهِ إلَّا أَنَّ إشْعَارَهُ بِخِلَافِ الْمَقْصُودِ أَتَمُّ وَأَرْجَحُ وَأَصْلُهُ من عَرْضِ الشَّيْءِ وهو جَانِبُهُ كَأَنَّهُ يَحُومُ بِهِ حَوْلَهُ وَلَا يُظْهِرُهُ قال وَالْفَرْقُ بين الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ أَنَّ الْكِنَايَةَ أَنْ تَذْكُرَ الشَّيْءَ بِذِكْرِ لَوَازِمِهِ كَقَوْلِك فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ كَثِيرُ الرَّمَادِ وَالتَّعْرِيضُ أَنْ تَذْكُرَ كَلَامًا مُحْتَمِلًا لِمَقْصُودِك إلَّا أَنَّ قَرَائِنَ أَحْوَالِك تُؤَكِّدُ حَمْلَهُ على غَيْرِ مَقْصُودِك قِيلَ وَالتَّعْرِيضُ أَخَصُّ من الْحَقِيقَةِ مُطْلَقًا لَا يَصْدُقُ على الْمَجَازِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُرَادُ اسْتِعْمَالُهُ في الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لَكِنْ يَلُوحُ بِهِ إلَى غَرَضٍ آخَرَ هو الْمَقْصُودُ فَهُوَ يُشْبِهُ الْكِنَايَةَ إذَا قُصِدَ بها الْحَقِيقَةُ وهو أَخَصُّ من الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهَا مُرَادَةٌ من حَيْثُ هِيَ هِيَ وهو إنَّمَا يُرَادُ منه الْحَقِيقَةُ من حَيْثُ إشْعَارُهَا بِالْمَقْصُودِ لَا بُدَّ فيها من قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ فإن اللَّفْظَ الْمُجَرَّدَ لَا يَكْفِي فيها فَمِنْ الْكِنَايَةِ الْمَسُّ وَالْإِفْضَاءُ وَالدُّخُولُ كِنَايَةٌ عن الْجِمَاعِ وَمِنْ التَّعَرُّضِ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ عليه السَّلَامُ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا أَيْ أَنَّ كَبِيرَ الْأَصْنَامِ غَضِبَ أَنْ تُعْبَدَ هذه الْأَصْنَامُ الصِّغَارُ فَكَسَّرَهَا فَكَذَلِكَ اللَّهُ يَغْضَبُ لِعِبَادَةِ من دُونَهُ فَكَلَامُ إبْرَاهِيمَ في حَقِّ نَفْسِهِ ضَرَبَهُ مَثَلًا لِمَقْصُودِهِ من التَّعْرِيضِ فَهُوَ من مَجَازِ التَّمْثِيلِ وَيَكُونُ التَّعْرِيضُ مِمَّا لَا يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ بَلْ ضَرَبَ الْمَثَلُ هذا وَمِنْهُ ما يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ وَيُشَارُ بِهِ إلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ الذي هو الْمَقْصُودُ من التَّعْرِيضِ هذا حَدُّهُ بِاصْطِلَاحِ الْبَيَانِيِّينَ وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَقَدْ ذَكَرُوا الْكِنَايَاتِ وَالظَّاهِرُ أنها عِنْدَهُمْ مَجَازٌ فإذا قال الزَّوْجُ أَنْتِ خَلِيَّةٌ مُرِيدًا الطَّلَاقَ فَهُوَ مَجَازٌ وَيُسَمِّيهِ الْفَقِيهُ كِنَايَةً فَلَوْ أَرَادَ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ لِكَوْنِهِ
____________________
(1/599)
لَازِمًا لِلطَّلَاقِ فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ نَظَرٌ ولم يَتَعَرَّضُوا لِلْفَرْقِ بين الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ إلَّا في بَابِ اللِّعَانِ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا الصَّرِيحَ وَالْكِنَايَةَ وَالتَّعْرِيضَ أَقْسَامًا وَذَكَرُوا في الْخِطْبَةِ التَّصْرِيحَ وَالتَّعْرِيضَ ولم يَذْكُرُوا الْكِنَايَةَ وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ إنَّ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ يُطْلَقُ عليها كِنَايَةٌ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْكِنَايَةِ ما اسْتَتَرَ الْمُرَادُ بِهِ وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مَعَانِيهَا غَيْرُ مُسْتَتِرَةٍ بَلْ ظَاهِرَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ من أَهْلِ اللِّسَانِ لَكِنَّهَا شَابَهَتْ الْكِنَايَةَ من جِهَةِ الْإِبْهَامِ وَلِهَذَا اُشْتُرِطَتْ فيها النِّيَّةُ لِيَزُولَ الْإِبْهَامُ وَتَتَعَيَّنَ الْبَيْنُونَةُ عن وَصْلَةِ النِّكَاحِ وَهَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّ مَفْهُومَاتِهَا اللُّغَوِيَّةَ ظَاهِرَةٌ غَيْرُ مُسْتَتِرَةٍ فَهَذَا لَا يُنَافِي الْكِنَايَةَ وَاسْتِتَارُ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بها كما في جَمِيعِ الْكِنَايَاتِ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ ما أَرَادَهُ الْمُتَكَلِّمُ بها ظَاهِرٌ لَا اسْتِتَارَ فيه فَمَمْنُوعٌ كَيْفَ وَلَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إلَيْهِ إلَّا بِبَيَانٍ من جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَهُمْ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّهَا من جِهَةِ الْمَحَلِّ مُبْهَمَةٌ مُسْتَتِرَةٌ ولم يُفَسِّرُوا الْكِنَايَةَ إلَّا بِمَا اسْتَتَرَ الْمُرَادُ منه سَوَاءٌ كان ذلك بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ أو غَيْرِهِ ولم يَشْتَرِطُوا إرَادَةَ اللَّازِمِ ثُمَّ الِانْتِقَالَ منه إلَى الْمَلْزُومِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْحَقِيقَةَ الْمَهْجُورَةَ وَالْمَجَازَ الْمُتَعَارَفَ كِنَايَةً لِمُجَرَّدِ اسْتِتَارِ الْمُرَادِ
____________________
(1/600)
أَدَوَاتُ الْمَعَانِي وَإِنَّمَا احْتَاجَ الْأُصُولِيُّ إلَيْهَا لِأَنَّهَا من جُمْلَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَتَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ الْفِقْهِيَّةُ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ مَعَانِيهَا قال ابن السَّيِّدِ النَّحْوِيُّ يُخْبِرُ عَمَّنْ تَأَمَّلَ غَرَضَهُ وَمَقْصِدَهُ فإن الطَّرِيقَةَ الْفِقْهِيَّةَ مُفْتَقِرَةٌ إلَى عِلْمِ الْأَدَبِ مُؤَسَّسَةٌ على أُصُولِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَنَّ مَثَلَهَا وَمَثَلَهُ قَوْلُ أبي الْأَسْوَدِ فَإِنْ لَا يَكُنْهَا أو تَكُنْهُ فإنه أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلَبَانِهَا قال ابن فَارِسٍ في كِتَابِ فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ رَأَيْت أَصْحَابَنَا الْفُقَهَاءَ يُضَمِّنُونَ كُتُبَهُمْ في أُصُولِ الْفِقْهِ حُرُوفًا من حُرُوفِ الْمَعَانِي وما أَدْرِي ما الْوَجْهُ في اخْتِصَاصِهِمْ إيَّاهَا دُونَ غَيْرِهَا فَذَكَرْت عَامَّةَ الْمَعَانِي رَسْمًا وَاخْتِصَارًا ا هـ وَأَقُولُ تَنْقَسِمُ حُرُوفُ الْمَعَانِي إلَى ما هو على حَرْفٍ وَاحِدٍ وَعَلَى حَرْفَيْنِ وما هو على أَكْثَرَ من ذلك فَمِنْ الْأَوَّلِ الْوَاوُ الْعَاطِفَةُ وَفِيهَا مَذَاهِبُ أَحَدُهَا وهو الصَّحِيحُ أنها لَا تَدُلُّ على التَّرْتِيبِ لَا في الْفِعْلِ كَالْفَاءِ وَلَا في الْمَنْزِلَةِ كَثُمَّ وَلَا في الْأَحْوَالِ كَ حتى وَإِنَّمَا هو لِمُجَرَّدِ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ كَالتَّثْنِيَةِ فإذا قُلْت مَرَرْت بِزَيْدٍ وَعَمْرٍو فَهُوَ كَقَوْلِك مَرَرْت بِهِمَا قال سِيبَوَيْهِ في مَرَرْت بِرَجُلٍ وَحِمَارٍ لم يَجْعَلْ الرَّجُلَ بِمَنْزِلَةِ تَقْدِيمِك إيَّاهُ يَكُونُ بها أَوْلَى من الْحِمَارِ كَأَنَّك قُلْت مَرَرْت بِهِمَا وَلَيْسَ في هذا دَلِيلٌ على أَنَّهُ بَدَأَ بِشَيْءٍ قبل شَيْءٍ انْتَهَى فَتَبَيَّنَ بهذا أنها لِمُجَرَّدِ الْجَمْعِ وَأَنَّهَا كَالتَّثْنِيَةِ لَا تَرْتِيبَ فيها وَلَا مَعِيَّةَ فَلِذَلِكَ تَأْتِي بِعَكْسِ التَّرْتِيبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى كَذَلِكَ يُوحِي إلَيْك وَإِلَى الَّذِينَ من قَبْلِك وَالْمَعِيَّةُ نَحْوُ اخْتَصَمَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَلِلتَّرْتِيبِ نَحْوُ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلك دَحَاهَا ولم تُوضَعْ لِشَيْءٍ بِخُصُوصِهِ بَلْ لِمَا يَعُمُّهَا من الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ
____________________
(2/3)
وَفَهِمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ منه تَعَيُّنَ إرَادَةِ الْجَمْعِ فَاعْتَرَضَ عليهم بِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قال جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو لَا تَفْهَمُ الْعَرَبُ مَجِيئَهُمَا مَعًا بَلْ يُحْتَمَلُ الْمَعِيَّةُ وَالتَّرْتِيبُ وقد عَلِمْت أَنَّ هذا خِلَافُ مُرَادِهِمْ وَإِنَّمَا عَنَوْا أنها تَدُلُّ على التَّشْرِيكِ بين الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عليه في الْحُكْمِ الذي أُسْنِدَ إلَيْهِمَا من غَيْرِ أَنْ تَدُلَّ على أَنَّهُمَا مَعًا بِالزَّمَانِ أو أَحَدُهُمَا قبل الْآخَرِ وَنَقَلَ الْفَارِسِيُّ وَالسِّيرَافِيُّ في شَرْحِ سِيبَوَيْهِ وَالسُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُمْ إجْمَاعَ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ عليه قِيلَ وَنَصَّ عليه سِيبَوَيْهِ في سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا من كِتَابِهِ وَحَكَاهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في شَرْحِ الْكِفَايَةِ عن أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ وقال ابن بَرْهَانٍ هو قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَسْرِهِمْ وَمُعْظَمِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قُلْت وهو الذي صَحَّ عن الشَّافِعِيِّ فإنه نَصَّ على أَنَّهُ إذَا قال هذه الدَّارُ وَقْفٌ على أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي أَنَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فيه بِخِلَافِ ما لو قال ثُمَّ أَوْلَادِي فَلَوْ كانت الْوَاوُ كَ ثُمَّ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشَارِكَ كما في ثُمَّ وَنَصَّ أَيْضًا على أَنَّهُ إذَا قال إذَا مِتُّ فَسَالِمٌ وَغَانِمٌ وَخَالِدٌ أَحْرَارٌ وكان الثُّلُثُ لَا يَفِي إلَّا بِأَحَدِهِمْ فإنه يُقْرَعُ فَلَوْ اقْتَضَتْ الْوَاوُ التَّرْتِيبَ لَعَتَقَ سَالِمٌ وَحْدَهُ وَمِنْ حُجَجِهِمْ قَوْله تَعَالَى حَاكِيًا عن مُنْكِرِي الْبَعْثِ إنْ هِيَ إلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا اسْتَدَلَّ بِهِ ابن الْخَشَّابِ وابن مَالِكٍ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ هذا من عَطْفِ الْجُمَلِ وما أَخْرَجَهُ أبو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عن حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال لَا تَقُولُوا ما شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ وَلَكِنْ قُولُوا ما شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ فَلَوْ كانت لِلتَّرْتِيبِ لَسَاوَتْ ثُمَّ وَلَمَا فُرِّقَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْنَهُمَا قال ابن الْخَشَّابِ إذَا تَأَمَّلْت الْوَاوَ الْعَاطِفَةَ في التَّنْزِيلِ وَجَدْتهَا كُلَّهَا جَامِعَةً لَا مُرَتَّبَةً وَكَذَا في غَيْرِ التَّنْزِيلِ قال وما أَحْسَنَ ما سَمَّى النَّحْوِيُّونَ الْحَرَكَةَ الْمَأْخُوذَةَ من الْوَاوِ وَهِيَ بَعْضُهَا عِنْدَهُمْ بِالضَّمَّةِ لِأَنَّ الضَّمَّ الْجَمْعُ فَكَانَ ما هو من الضَّمِّ لِلْجَمْعِ وَلَا دَلَالَةَ فيه على التَّرْتِيبِ قال وَهَذَا من بَابِ إمْسَاسِ الْأَلْفَاظِ أَشْبَاهَ الْمَعَانِي وهو بَابٌ شَرِيفٌ في الْعَرَبِيَّةِ نَبَّهَ عليه ابن جِنِّي في الْخَصَائِصِ وَغَيْرِهِ الثَّانِي أنها لِلتَّرْتِيبِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ الْعَطْفُ في الْمُفْرَدَاتِ وَالْجُمَلِ صَحَّ ذلك عن
____________________
(2/4)
ابْنِ عَبَّاسٍ كما سَيَأْتِي وهو قَوْلُ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ منهم ثَعْلَبٌ وَالْفَرَّاءُ وَهِشَامٌ وأبو عَمْرٍو الزَّاهِدُ وَمِنْ الْبَصْرِيِّينَ قُطْرُبٌ عَلِيُّ بن عِيسَى الرَّبَعِيُّ وابن دُرُسْتَوَيْهِ حَكَاهُ عَنْهُمْ جَمَاعَةٌ من النُّحَاةِ وَعُزِيَ لِلشَّافِعِيِّ وَذَكَرَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ نَصَّ عليه في كِتَابِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَبَعْضُهُمْ أَخَذَهُ من لَازِمِ قَوْلِهِ في اشْتِرَاطِ التَّرْتِيبِ في الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ وَمَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ ليس مَدْرَكُهُ في ذلك كَوْنَهَا لِلتَّرْتِيبِ بَلْ من دَلِيلٍ آخَرَ وَإِنَّمَا هذا وَجْهٌ حُكِيَ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَأَغْرَبَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فقال في كِتَابِهِ في أُصُولِ الْفِقْهِ الظَّاهِرُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أنها تَدُلُّ على التَّرْتِيبِ وَالِابْتِدَاءِ بِفِعْلِ ما بُدِئَ بِذِكْرِهِ في الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ انْتَهَى وَكَذَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ في بَابِ الْوُضُوءِ من الْحَاوِي عن جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا وَكَذَا الصَّيْدَلَانِيُّ في شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ فقال وَقَوْلُنَا إنَّ الْوَاوَ تُوجِبُ التَّرْتِيبَ قَوْلُ أبي عُبَيْدٍ وَالْفَرَّاءِ وَغُلَامِ ثَعْلَبٍ انْتَهَى وَعِبَارَةُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في الْأَسَالِيبِ وَصَارَ عُلَمَاؤُنَا أَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَتَكَلَّفُوا نَقْلَ ذلك عن بَعْضِ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ انْتَهَى وَكَذَا قال في الْبُرْهَانِ إنَّهُ الذي اُشْتُهِرَ عن أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَنَصَرَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في التَّبْصِرَةِ وَحَكَى ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ عن قَوْمٍ من أَصْحَابِنَا أنها تُفِيدُ التَّرْتِيبَ مع التَّشْرِيكِ قُلْت وَجَزَمَ بِهِ ابن سُرَيْجٍ في كِتَابِ الْوَدَائِعِ وَاعْتَمَدَهُ في وُجُوبِ التَّرْتِيبِ في الْوُضُوءِ وَعِبَارَتُهُ وَوَاوُ النَّسَقِ تَدُلُّ على فِعْلِ ذلك مُتَوَالِيًا وَهَذَا لَا خِلَافَ فيه بين أَهْلِ اللُّغَةِ هذا لَفْظُهُ وَنَقَلَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في التَّبْصِرَةِ كَوْنَهَا لِلتَّرْتِيبِ عن ثَعْلَبٍ وَأَبِي عُمَرَ الزَّاهِدِ غُلَامِهِ وفي ذلك نَظَرٌ فَفِي كِتَابِ أبي بَكْرٍ الرَّازِيَّ قال لي أبو عُمَرَ وَغُلَامُ ثَعْلَبٍ الْوَاوُ عِنْدَ الْعَرَبِ لِلْجَمْعِ وَلَا دَلَالَةَ عِنْدَهُمْ فيها على التَّرْتِيبِ وَأَخْطَأَ من قال إنَّهَا تَدُلُّ على التَّرْتِيبِ انْتَهَى وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ ادَّعَى جَمَاعَةٌ من أَصْحَابِنَا أنها لِلتَّرْتِيبِ وَنَسَبُوهُ لِلشَّافِعِيِّ حَكَى عن بَعْضِ نُحَاةِ الْكُوفَةِ وَأَمَّا عَامَّةُ أَهْلِ اللُّغَةِ فَعَلَى أنها لِلْجَمْعِ وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ التَّرْتِيبُ بِقَرَائِنَ انْتَهَى
____________________
(2/5)
وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَصِحَّ هذا النَّقْلُ عن الشَّافِعِيِّ بَلْ الْوَاوُ عِنْدَهُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ وَإِنَّمَا نُسِبَ لِلشَّافِعِيِّ من إيجَابِهِ التَّرْتِيبَ في الْوُضُوءِ ولم يُوجِبْهُ من الْوَاوِ بَلْ لِدَلِيلٍ آخَرَ وهو قَطْعُ النَّظِيرِ عن النَّظِيرِ وَإِدْخَالُ الْمَمْسُوحِ بين الْمَغْسُولَيْنِ وَالْعَرَبُ لَا تَفْعَلُ ذلك إلَّا إذَا أَرَادَتْ التَّرْتِيبَ قُلْت وَاَلَّذِي يَظْهَرُ من نَصِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْوَاوَ عِنْدَهُ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ لُغَةً وَتُفِيدُ في الِاسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيِّ فإنه أَوْجَبَ التَّرْتِيبَ في الْوُضُوءِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ ولم يَقْتَصِرْ عليها بَلْ تَمَسَّكَ بِمَا صَحَّ من حديث جَابِرٍ سَمِعْت النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حين خَرَجَ من الْمَسْجِدِ وهو يُرِيدُ الصَّفَا يقول نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ فَبَدَأَ بِالصَّفَا وَعَلَى هذا فإذا تَرَدَّدْنَا فيه وَجَبَ حَمْلُهَا على الْمَحْمَلِ الشَّرْعِيِّ فإنه مُقَدَّمٌ على اللُّغَوِيِّ وَبِهَذَا يَجْتَمِعُ كَلَامُهُ وَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ وَيَزُولُ الِاسْتِشْكَالُ وقال ابن الْأَنْبَارِيِّ في مُصَنَّفِهِ الْمُفْرَدِ في هذه الْمَسْأَلَةِ وما نُقِلَ عن ابْنِ دُرُسْتَوَيْهِ وَالزَّاهِدِ وَابْنِ جِنِّي وَابْنِ بَرْهَانٍ وَالرَّبَعِيِّ من اقْتِضَائِهَا التَّرْتِيبَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَكُتُبُهُمْ تَنْطِقُ بِضِدِّ ذلك نعم لَمَّا ذَكَرَ عَلِيُّ بن عِيسَى الرَّبَعِيُّ في شَرْحِ كِتَابِ الْجَرْمِيِّ أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ قال هذا مَذْهَبُ النَّحْوِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ إلَّا الشَّافِعِيَّ وَلِقَوْلِهِ وَجْهٌ انْتَهَى وَهَذَا لَا يَدُلُّ على أَنَّهُ كان يَذْهَبُ إلَيْهِ وقال الشَّيْخُ أبو حَيَّانَ حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ على أنها لِلْجَمْعِ غَيْرُ صَحِيحٍ وقال ابن مَالِكٍ في شَرْحِ الْكَافِيَةِ زَعَمَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ أنها لِلتَّرْتِيبِ وَعُلَمَاءُ الْكُوفَةِ بَرَاءٌ من ذلك وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ النَّحْوِيُّ عن قُطْرُبٍ وَالرَّبَعِيِّ وَاسْتَدَلَّ لَهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هو وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ وَبِقَوْلِهِ إذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ثُمَّ رُدَّ ذلك وَاسْتَدَلَّ على أنها لَيْسَتْ لِلتَّرْتِيبِ بِقَوْلِهِ فَكَيْفَ كان عَذَابِي وَنُذُرِ قال وَالنُّذُرُ قبل الْعَذَابِ بِدَلِيلِ وما كنا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا
____________________
(2/6)
وَمِنْ حُجَجِ الْقَائِلِينَ بِالتَّرْتِيبِ ما رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عن الْبَرَاءِ قال أتى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ فقال يا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُ وَأُسْلِمُ قال أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَاتَلَ فَقُتِلَ فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عَمِلَ قَلِيلًا وَأُوجِرَ كَثِيرًا وَأَسْنَدَ ابن عبد الْبَرِّ في التَّمْهِيدِ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قال ما نَدِمْت على شَيْءٍ لم أَكُنْ عَمِلْت بِهِ ما نَدِمْت على الْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَنْ لَا أَكُونَ مَشَيْت لِأَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يقول حين ذَكَرَ إبْرَاهِيمُ وَأُمِرَ أَنْ يُنَادِيَ في الناس بِالْحَجِّ يَأْتُوك رِجَالًا وَعَلَى كل ضَامِرٍ فَبَدَأَ بِالرِّجَالِ قبل الرُّكْبَانِ قال فَهَذَا ابن عَبَّاسٍ قد صَرَّحَ بِأَنَّ الْوَاوَ تُوجِبُ عِنْدَهُ التَّرْتِيبَ انْتَهَى وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِحَدِيثِ بِئْسَ الْخَطِيبُ أنت فَلَا حُجَّةَ فيه لِأَنَّهُ إنَّمَا نَهَاهُ لِأَنَّ الْأَدَبَ أَنْ لَا يَجْمَعَ بين اسْمِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ في ضَمِيرٍ وَلِهَذَا قال قالوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ولم يَقُلْ وَصَدَقَا بَلْ فيه تَنْبِيهٌ على أنها لِلْجَمْعِ لَا لِلتَّرْتِيبِ وَذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ هذا الضَّمِيرِ وهو هُمَا بِمَنْزِلَةِ التَّثْنِيَةِ في الْأَسْمَاءِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَّفِقَةِ في قَوْلِك الزَّيْدَانِ وَالْعَمْرَانِ وَلَا يَخْتَلِفُونَ في أَنَّ أَصْلَ التَّثْنِيَةِ الْعَطْفُ وَحُكْمُ ضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ حُكْمُ التَّثْنِيَةِ في أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فيها تَرْتِيبٌ في الْمَعْنَى وَلَا تَقْدِيمُ احْتِفَالٍ في اللَّفْظِ وَأَمَّا وُجُوبُ التَّرْتِيبِ في قَوْله تَعَالَى إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ حَيْثُ رَتَّبَ الْعَمَلَ على الْإِيمَانِ ولم يُعْتَبَرْ بِدُونِهِ فلم يُسْتَفَدْ ذلك من الْوَاوِ بَلْ من دَلِيلٍ خَارِجِيٍّ وهو قَوْله تَعَالَى وَمَنْ يَعْمَلْ من الصَّالِحَاتِ وهو مُؤْمِنٌ
____________________
(2/7)
الثَّالِثُ أنها لِلْجَمْعِ تُفِيدُ الْمَعِيَّةَ فإذا اُسْتُعْمِلَتْ في غَيْرِ ذلك كانت مَجَازًا وَنُسِبَ لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَأَنْكَرَهُ عليهم ابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ وقال لم يَتَعَرَّضُوا لِغَيْرِ كَوْنِ الْوَاوِ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ من غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِاقْتِرَانٍ وَلَا تَرْتِيبٍ وَنَسَبَهُ بَعْضُهُمْ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ وَأَخَذَهُ من قَوْلِهِمَا فِيمَا إذَا عَقَدَ رَجُلٌ لِغَيْرِهِ نِكَاحَ أُخْتَيْنِ في عَقْدٍ وَاحِدٍ من غَيْرِ إذْنِهِ فَإِنَّهُمَا قَالَا إذَا بَلَغَهُ الْخَبَرُ فَإِنْ أَجَازَ نِكَاحَهُمَا مَعًا بَطَلَ فِيهِمَا وَإِنْ أَجَازَ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا ثُمَّ نِكَاحَ الْأُخْرَى بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ وَإِنْ قال أَجَزْت نِكَاحَ فُلَانَةَ وَفُلَانَةَ فَهُوَ كما لو أَجَازَ نِكَاحَهُمَا مَعًا فَيَلْزَمُ من ذلك أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْجَمْعِ تُفِيدُ الْمَعِيَّةَ كما لو أَجَازَ نِكَاحَهُمَا مَعًا وَمِنْ قَوْلِهِمَا فِيمَا إذَا قال إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ فَطَالِقٌ تَقَعُ الثَّلَاثُ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَاحِدَةٌ وَرُبَّمَا نُسِبَ هذا الْمَذْهَبُ لِلشَّافِعِيِّ في الْقَدِيمِ وَلِمَالِكٍ حَيْثُ قَالَا في غَيْرِ الْمَدْخُولِ بها إذَا قال لها أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ تَقَعُ الثَّلَاثُ لِأَنَّ الْوَاوَ تُوجِبُ الْمُقَارَنَةَ الرَّابِعُ أنها لِلتَّرْتِيبِ حَيْثُ يَسْتَحِيلُ الْجَمْعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا حَكَاهُ بَعْضُهُمْ عن الْفَرَّاءِ وَاحْتَجَّ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا في آيَةِ الْوُضُوءِ قال إلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ وَيُشْبِهُ إنْ صَحَّ هذا عن الْفَرَّاءِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ في الْمَعْنَى يُفِيدُ التَّرْتِيبَ إذَا كان الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَا يَصْلُحُ من حَيْثُ اللَّفْظُ وَلِأَنَّ اللَّفْظَ لو أَفَادَ ذلك لَأَفَادَهُ وَإِنْ صَحَّ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ مُوجِبَهُ لَا يَتَغَيَّرُ كما لَا يَتَغَيَّرُ ما يَقْتَضِيهِ ثُمَّ وَالْفَاءُ كَذَلِكَ فَإِنْ كان في هذا التَّأْوِيلِ بُعْدٌ فَقَوْلُ الْجُمْهُورِ وقال الْمَرَاغِيُّ نَظَرْت في كِتَابِ الْفَرَّاءِ فما أَلْفَيْت في شَيْءٍ منها هذا ثُمَّ فيه دَلَالَةٌ لو صَحَّ على أَنَّ أَصْلَهَا الْجَمْعُ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لها التَّرْتِيبُ لِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ الْخَامِسُ وهو قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ إنْ دَخَلَتْ بين أَجْزَاءِ بَيْنِهَا ارْتِبَاطٌ اقْتَضَتْ التَّرْتِيبَ كَآيَةِ الْوُضُوءِ فإن هذه الْأَفْعَالَ هِيَ أَجْزَاءُ فِعْلٍ وَاحِدٍ مَأْمُورٍ بِهِ وهو الْوُضُوءُ فَدَخَلَتْ الْوَاوُ بين الْأَجْزَاءِ لِلرَّبْطِ فَأَفَادَتْ التَّرْتِيبَ وَإِنْ دَخَلَتْ بين أَفْعَالٍ لَا ارْتِبَاطَ بَيْنَهَا نَحْوُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ لَا تُفِيدُهُ وهو قَوْلُ ابْنِ مُوسَى من الْحَنَابِلَةِ وَرَجَّحَهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ السَّادِسُ إنَّمَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ في عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ دُونَ عَطْفِ الْجُمَلِ حَكَاهُ ابن الْخَبَّازِ من النُّحَاةِ عن شَيْخِهِ
____________________
(2/8)
السَّابِعُ أنها لِلْعَطْفِ وَالِاشْتِرَاكِ وَلَا تَقْتَضِي بِأَصْلِهَا جَمْعًا وَلَا تَرْتِيبًا وَإِنَّمَا ذلك يُؤْخَذُ من أَمْرٍ زَائِدٍ عليها حَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ في تَعْلِيقِهِ عن إمَامِ الْحَرَمَيْنِ قال وكان سَيِّئَ الرَّأْيِ في قَوْلِ التَّرْتِيبِ وفي قَوْلِ الْجَمْعِ قال وَأَنْكَرَ الْإِمَامُ أبو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ هذا وقال الْقَائِلُ قَائِلَانِ قَائِلٌ بِالْجَمْعِ وَقَائِلٌ بِالتَّرْتِيبِ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ على ذلك فَإِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ لَا يَجُوزُ ا هـ وَنَقَلْته من فَوَائِدِ رِحْلَةِ ابْنِ الصَّلَاحِ بِخَطِّهِ لَكِنَّ الْقَاضِيَ عبد الْوَهَّابِ قال في بَعْضِ كُتُبِهِ الْخِلَافِيَّةِ اخْتَلَفَ الناس في الْوَاوِ على ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أنها تَقْتَضِي الْجَمْعَ وَالثَّانِي تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَالثَّالِثُ لَا تَقْتَضِي وَاحِدًا منها وَإِنَّمَا تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ في الْمَعْنَى وَالْإِعْرَابِ فَقَطْ الثَّامِنُ وَحَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّهُ قال الْوَاوُ لها ثَلَاثَةُ مَوَاضِعَ حَقِيقَةٌ مَجَازٌ وَمُخْتَلَفٌ في حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ فَالْحَقِيقَةُ أَنْ تُسْتَعْمَلَ في الْعَطْفِ لِلْجَمْعِ وَالِاشْتِرَاكِ كَقَوْلِك جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَالْمَجَازُ أَنْ تُسْتَعْمَلَ بِمَعْنَى أو كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ من النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ وَالْمُخْتَلَفُ في حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ في التَّرْتِيبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْفُقَهَاءِ إلَى أنها تَكُونُ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ في التَّرْتِيبِ مَجَازًا وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أنها تَكُونُ حَقِيقَةً فيه فإذا اُسْتُعْمِلَتْ في مَوْضِعٍ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ حُمِلَتْ على التَّرْتِيبِ دُونَ الْجَمْعِ لِزِيَادَةِ الْفَائِدَةِ وَحَيْثُ قُلْنَا بِالصَّحِيحِ قال ابن مَالِكٍ هو ظَاهِرٌ فيه وَاحْتِمَالُ تَأْخِيرِ الْمَعْطُوفِ كَثِيرٌ وَتَقَدُّمُهُ قَلِيلٌ وَالْمَعِيَّةُ احْتِمَالٌ رَاجِحٌ هذا كَلَامُهُ في الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ أَمَّا التي بِمَعْنَى مع في الْمَفْعُولِ معه قال الْهِنْدِيُّ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ تَقْتَضِي الْجَمْعَ بِصِفَةِ الْمَعِيَّةِ كما في قَوْلِهِمْ جاء الْبَرْدُ وَالطَّيَالِسَةُ وقال بَعْضُهُمْ في الْوَاوِ نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ لَا تُوجَدُ في سَائِرِ حُرُوفِ الْعَطْفِ وَهِيَ أَنَّ دَلَالَتَهَا على الْجَمْعِ أَعَمُّ من دَلَالَتِهَا على الْعَطْفِ بَيَانُهُ أنها لَا تَخْلُو عن الْجَمْعِ وَتَخْلُو عن الْعَطْفِ كَوَاوِ الْمَفْعُولِ معه وَوَاوِ الْقَسَمِ لِأَنَّهَا نَائِبَةٌ عن الْبَاءِ وَهِيَ لِلْإِلْصَاقِ وَالشَّيْءُ إذَا لَاصَقَ الشَّيْءَ بَعْدُ جَامَعَهُ وَوَاوُ الْحَالِ لَا فيها من مَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ وَكَذَا قَوْلُهُمْ لَا تَأْكُلْ السَّمَكَ وَتَشْرَبْ اللَّبَنَ لِلْجَمْعِ دُونَ الْعَطْفِ
____________________
(2/9)
قِيلَ وَقَوْلُهُمْ الْوَاوُ حَرْفُ عَطْفٍ فيه تَجَوُّزٌ لِأَنَّ الْوَاوَ اسْمٌ لَيْسَتْ حَرْفًا وَإِنَّمَا الْعَطْفُ ووحده وقال ابن عُصْفُورٍ في شَرْحِ الْإِيضَاحِ إنَّ الْخِلَافَ في أَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ مَحَلُّهُ ما إذَا كان الْفِعْلُ صُدُورُهُ من وَاحِدٍ فَأَمَّا نَحْوُ اخْتَصَمَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو فَلَا خِلَافَ في أَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَذَكَرَ في شَرْحِ الْجُمَلِ مُحْتَجًّا على الْقَائِلِينَ بِالتَّرْتِيبِ بِأَنَّ هذه الْأَفْعَالَ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ فَكَذَلِكَ غَيْرُهَا فَائِدَتَانِ إحْدَاهُمَا قال الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ إنَّ الْوَاوَ إذَا دَخَلَتْ في الْجُمَلِ فَلَيْسَ لها فَائِدَةٌ إلَّا التَّحْسِينُ اللَّفْظِيُّ وَرَدَّ عليه ابن الْحَاجِبِ في أَمَالِيهِ بِالْفَاءِ وَثُمَّ فَإِنَّك لو قُلْت قام زَيْدٌ فَخَرَجَ أو ثُمَّ خَرَجَ عَمْرٌو فإنه يُفْهَمُ من الْمُفْرَدِ وهو أَنَّ هذا يُشْعِرُ بِالتَّعْقِيبِ وَلَا مُهْلَةَ وَهَذَا يُشْعِرُ بِالتَّعْقِيبِ وَالْمُهْلَةِ إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا في الْمُفْرَدَاتِ أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا في إعْرَابٍ بِعَامِلٍ وَهَذِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ الثَّانِيَةُ قال ابن أبي الرَّبِيعِ جَالِسْ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ لِأَنَّك أُمِرْت بِمُجَالَسَتِهِمَا مَعًا وَتَقُولُ أَيْضًا هذا وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنَّهُمَا جميعا أَهْلُ الْمُجَالَسَةِ فَإِنْ أَرَدْت وَجَالِسْ أَحَدَهُمَا لم تَكُنْ عَاصِيًا وَعَلَى هذا أَخَذَ مَالِكٌ قَوْله تَعَالَى إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَعَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وهو أَظْهَرُ وَقَوْلُ مَالِكٍ مُمْكِنٌ إنْ عُضِّدَ بِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ الفاء وَمِنْهَا الْفَاءُ وَهِيَ لِلتَّرْتِيبِ وَزِيَادَةٍ وَهِيَ التَّعْقِيبُ أَيْ أَنَّ الْمَعْطُوفَ بَعْدَ الْمَعْطُوفِ عليه بِحَسَبِ ما يُمْكِنُ وهو مَعْنَى قَوْلِهِمْ إنَّهَا تَدُلُّ على التَّرْتِيبِ بِلَا مُهْلَةٍ أَيْ في عَقِبِهِ وَلِهَذَا قال الْمُحَقِّقُونَ منهم إنَّ مَعْنَاهَا التَّفَرُّقُ على مُوَاصَلَةٍ وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تُحْكَى عن الزَّجَّاجِ وَأَخَذَهَا ابن جِنِّي في لُمَعِهِ وَمَعْنَى التَّفَرُّقِ أنها لَيْسَتْ لِلْجَمْعِ كَالْوَاوِ وَمَعْنَى على مُوَاصَلَةٍ أَيْ أَنَّ الثَّانِيَ لَمَّا كان يَلِي الْأَوَّلَ من غَيْرِ فَاصِلٍ زَمَانِيٍّ كان مُوَاصِلًا له
____________________
(2/10)
وَاسْتَدَلَّ الْفَارِسِيُّ في الْإِيضَاحِ على ذلك بِوُقُوعِهَا في جَوَابِ الشَّرْطِ نَحْوُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ يُرِيدُ أَنَّ الْجَوَابَ يَلِي الشَّرْطَ عَقِبَهُ بِلَا مُهْلَةٍ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى وَكَمْ من قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا قال الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ مَعْنَاهُ قَرُبَ هَلَاكُهَا وقال الْمُتَأَخِّرُونَ أَيْ أَرَدْنَا إهْلَاكَهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا وَفِيهِ نَظَرٌ من جِهَةِ عِلْمِ الْكَلَامِ وَقِيلَ لَمَّا كان مَجِيءُ الْبَأْسِ مَجْهُولًا عِنْدَ الناس قُدِّرَ كَالْعَدَمِ وَلَمَّا حَصَلَ الْهَلَاكُ اعْتَقَدُوا وُجُودَهُ فَحَسُنَ دُخُولُ الْفَاءِ وَقِيلَ لَيْسَتْ عَاطِفَةً وَإِنَّمَا هِيَ سَبَبِيَّةٌ وَالْفَاءُ السَّبَبِيَّةُ لَا يُشْتَرَطُ فيها التَّعْقِيبُ فَإِنَّك تَقُولُ أَكْرَمْت زَيْدًا أَمْسِ فَأَكْرَمَنِي الْيَوْمَ وَهَذَا تَأْوِيلٌ ظَاهِرٌ وَعَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْله تَعَالَى فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً ثُمَّ التَّرْتِيبُ إمَّا في الزَّمَانِ نَحْوُ خَلَقَك فَسَوَّاك وَلِهَذَا كَثُرَ كَوْنُ تَابِعِهَا مُسَبَّبًا نَحْوُ ضَرَبْته فَهَلَكَ أو في الذِّكْرِ وهو عَطْفُ مُفَصَّلٍ على مُجْمَلٍ هو نَحْوُ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فقال رَبِّ أو مُتَأَخِّرٌ عَمَّا قَبْلَهُ في الْإِخْبَارِ نَحْوُ بِسَقْطِ اللِّوَى
____________________
(2/11)
بين الدُّخُولِ فَحَوْمَلِ وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أنها تَأْتِي لِغَيْرِ التَّرْتِيبِ وَهَذَا مع ما نُقِلَ عنه من أَنَّ الْوَاوَ تُفِيدُ التَّرْتِيبَ عَجِيبٌ وهو يُوقِعُ خَلَلًا في ذلك النَّقْلِ فإنه قد ذُكِرَ هذا في مَعَانِي الْقُرْآنِ في قَوْله تَعَالَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى الْمَعْنَى ثُمَّ تَدَلَّى فَدَنَا وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ إذَا كان الْمَعْنَى في الْفِعْلَيْنِ وَاحِدًا أو كَالْوَاحِدِ قَدَّمْت أَيَّهُمَا شِئْت فَقُلْت دَنَا فَقَرُبَ أو قَرُبَ فَدَنَا وَشَتَمَنِي فَأَسَاءَ أو أَسَاءَ فَشَتَمَنِي لِأَنَّ الشَّتْمَ وَالْإِسَاءَةَ وَاحِدٌ وَنُوقِشَ بِأَنَّ الْقَلْبَ إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مُسَبَّبًا وَسَبَبًا من وَجْهَيْنِ فَيَكُونُ التَّرْتِيبُ حَاصِلًا قَدَّمْت أو أَخَّرْت فَقَوْلُكَ دَنَا فَقَرُبَ الدُّنُوُّ عِلَّةُ الْقُرْبِ وَالْقُرْبُ غَايَتُهُ فإذا قُلْت دَنَا فَقَرُبَ فَمَعْنَاهُ لَمَّا دَنَا حَصَلَ الْقُرْبُ وإذا عَكَسْت فَقُلْت قَرُبَ فَدَنَا فَمَعْنَاهُ قَرُبَ فَلَزِمَ منه الدُّنُوُّ وَلَا يَصِحُّ في قَوْلِك ضَرَبْته فَبَكَى لِأَنَّ الضَّرْبَ ليس غَايَتَهُ الْبُكَاءُ بَلْ الْأَدَبُ أو شَيْءٌ آخَرُ وَكَذَلِكَ أَعْطَيْته فَشَنَّعَا وقال الْجَرْمِيُّ لَا تُفِيدُ الْفَاءُ التَّرْتِيبَ في الْبِقَاعِ وَلَا في الْأَمْطَارِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بين الدُّخُولِ فَحَوْمَلِ وقال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بن عبد السَّلَامِ نَصَّ الْفَارِسِيُّ في الْإِيضَاحِ على أَنَّ ثُمَّ أَشَدُّ تَرَاخِيًا من الْفَاءِ فَدَلَّ على أَنَّ الْفَاءَ لها تَرَاخٍ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ غَيْرُهُ من الْمُتَقَدِّمِينَ ولم يَدَّعِ أنها لِلتَّعْقِيبِ إلَّا الْمُتَأَخِّرُونَ قُلْت وَهِيَ عِبَارَةُ أبي بَكْرِ بن السَّرَّاجِ في أُصُولِهِ فقال وثم مِثْلُ الْفَاءِ إلَّا أنها أَشَدُّ تَرَاخِيًا وقال ابن الْخَشَّابِ ظَاهِرُهُ أَنَّ في الْفَاءِ تَرَاخِيًا جَمًّا لِأَنَّ أَشَدَّ أَفْضَلُ لِلتَّفْضِيلِ وَلَا يَقَعُ التَّفْضِيلُ إلَّا بين مُشْتَرِكَيْنِ في مَعْنًى ثُمَّ يَزِيدُ الْمُفَضَّلُ على الْمُفَضَّلِ عليه في ذلك الْمَعْنَى وَلَا تَرَاخِيَ تَدُلُّ عليه الْفَاءُ فِيمَا بَعْدَهَا عَمَّا قَبْلَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ أبو بَكْرٍ عَدَّ تَعْقِيبَ الْفَاءِ وَتَرْتِيبَهَا تَرَاخِيًا فَذَلِكَ تَسَاهُلٌ في الْعِبَارَةِ وَتَسَامُحٌ ثُمَّ شَرَعَ في تَأْوِيلِ عِبَارَةِ أبي بَكْرٍ على أَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ قد لَا يُرَادُ بِهِ ظَاهِرُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَمِنْ الْبَيِّنِ أَنَّهُ لَا خَيْرَ في مُسْتَقَرِّ أَهْلِ النَّارِ قُلْت وَلَا حَاجَةَ إلَى هذا فَقَدْ صَرَّحَ عبد الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ فقال في الْفَاءِ إنَّ أَصْلَهَا الْإِتْبَاعُ وَلِذَلِكَ لَا تَعْرَى عنه مع تَعَرِّيهَا عن الْعَطْفِ في جَوَازِ الشَّرْطِ وَلَكِنْ مع ذلك لَا يُنَافِي التَّرَاخِي الْيَسِيرُ ا هـ وَكَذَا قال غَيْرُهُ مَعْنَى التَّرَاخِي فيها وَإِنْ لَطُفَ فإن من ضَرُورَةِ التَّعْقِيبِ تَرَاخِي الثَّانِي عن الْأَوَّلِ بِزَمَانٍ وَإِنْ قَلَّ بِحَيْثُ لَا يُدْرَكُ إذْ لو لم يَكُنْ كَذَلِكَ كان مُقَارَنًا وَالْقُرْآنُ ليس بِمُوجِبٍ له وَأَنْتَ إذَا عَلِمْت تَفْسِيرَنَا التَّعْقِيبَ بِحَسَبِ ما يُمْكِنُ زَالَ الْإِشْكَالُ وقد جَوَّزُوا دَخَلْت الْبَصْرَةَ فَالْكُوفَةَ وَبَيْنَ الدُّخُولَيْنِ تَرَاخٍ وَمُهْلَةٌ وقال تَعَالَى وَاَلَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحَوَى فإن بين الْإِخْرَاجِ وَالْإِحْوَاءِ وَسَائِطَ وقال ابن أبي الرَّبِيعِ الِاتِّصَالُ يَكُونُ حَقِيقَةً وَيَكُونُ مَجَازًا فإذا كان حَقِيقَةً فَلَا تَرَاخِيَ فيه وإذا كان مَجَازًا فَفِيهِ تَرَاخٍ بِلَا شَكٍّ كَقَوْلِك دَخَلْت الْبَصْرَةَ فَالْكُوفَةَ وَإِنَّمَا جَاءَتْ الْفَاءُ لِأَنَّ سَبَبَ دُخُولِ الْكُوفَةِ اتَّصَلَ بِدُخُولِ الْبَصْرَةِ فلم يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُهْلَةٌ وقد يَكُونُ التَّرَاخِي بَيْنَهُمَا قَلِيلًا فَيَكُونُ كَالْمُسْتَهْلِكِ لِكَوْنِهِ غير مُفْتَقِرٍ لِعِلَّتِهِ فَتَدْخُلُ الْفَاءُ كَذَلِكَ وَمِنْ هذا يُعْلَمُ وَجْهُ التَّعْقِيبِ في قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ
____________________
(2/12)
مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ وَبِظَاهِرِهِ تَمَسَّكَ أَهْلُ الظَّاهِرِ في إيجَابِ عِتْقِهِ وَأَنَّهُ لَا يُعْتَقُ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ فإنه لو أَعْتَقَ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ لم يَكُنْ لِقَوْلِهِ فَيُعْتِقَهُ مَعْنًى وقال الْأَئِمَّةُ فَائِدَتُهُ التَّنْبِيهُ على أَنَّ الْإِعْتَاقَ بِذَلِكَ الشِّرَاءِ لَا بِسَبَبٍ آخَرَ كما يُقَالُ أَطْعَمَهُ فَأَشْبَعَهُ وَسَقَاهُ فَأَرْوَاهُ أَيْ بهذا الْإِطْعَامِ إذْ لو كان الْإِشْبَاعُ بِغَيْرِهِ لم يَكُنْ مُتَّصِلًا بِهِ لَا يُقَالُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْإِعْتَاقُ حُكْمًا لِلشِّرَاءِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مَوْضُوعٌ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ وَالْإِعْتَاقُ إزَالَةٌ فَكَانَ مُنَافِيًا له وَالْمُنَافِي لِحُكْمِ الشَّيْءِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّهُ بِنَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا له وَلَكِنَّهُ يَصْلُحُ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِالشِّرَاءِ يَصِيرُ مُتَمَلَّكًا وَالْمِلْكُ في الْوَقْتِ إكْمَالٌ لِعِلَّةِ الْعِتْقِ فَيَصِيرُ الْعِتْقُ مُضَافًا إلَى الشِّرَاءِ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ وإذا صَارَ مُضَافًا إلَيْهِ يَصِيرُ بِهِ مُعْتَقًا وَحِينَئِذٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعْتَاقٍ آخَرَ ثُمَّ ظَاهِرُ كَلَامِ جَمَاعَةٍ أَنَّهُ لَا فَرْقَ في كَوْنِهَا لِلتَّعْقِيبِ بين الْعَاطِفَةِ وَالْوَاقِعَةِ جَوَابًا لِلشَّرْطِ وَسَبَقَ في كَلَامِ الْفَارِسِيِّ الِاسْتِدْلَال بِجَوَابِ الشَّرْطِ فَاقْتَضَى أَنَّهُ مَحَلُّ وِفَاقٍ وقال ابن الْخَشَّابِ في الْعَوْنِيِّ الْمَعْنَى الْخَاصُّ بِالْفَاءِ التَّعْقِيبُ فَلَا تَكُونُ عَاطِفَةً إلَّا مُعَقِّبَةً وقد تَكُونُ مُعَقِّبَةً غير عَاطِفَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا وَالْفَاءُ في هذا وَشَبَهِهِ عَاطِفَةٌ مُعَقِّبَةٌ وَنَظِيرُهُ في الْكَلَامِ جاء زَيْدٌ فَعَمْرٌو وَأَمَّا الْمُعَقِّبَةُ غَيْرُ الْعَاطِفَةِ كَالْوَاقِعَةِ في جَوَابِ الشَّرْطِ لِأَنَّ الْجَوَابَ يَعْقُبُ الشَّرْطَ وَلَا يُعْطَفُ عليه إذْ لو عُطِفَ عليه لَكَانَ شَرْطًا أَيْضًا لَا جَوَابًا انْتَهَى وقال أبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ هِيَ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ لِلتَّعْقِيبِ في الْعَطْفِ وَأَمَّا في الْجَوَابِ فَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إلَى أنها لِلتَّعْقِيبِ أَيْضًا وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى لَا تَفْتَرُوا على اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَلِأَنَّك تَقُولُ إذَا دَخَلْت مَكَّةَ فَاشْتَرِ لي عَبْدًا فإنه لَا يَقْتَضِي التَّعْقِيبَ انْتَهَى وَلِهَذَا اخْتَارَ الْقُرْطُبِيُّ أنها رَابِطَةٌ لِلْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ لَا غَيْرُ وَأَنَّ التَّعْقِيبَ غَيْرُ لَازِمٍ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى فَيُسْحِتَكُمْ وَقَوْلُهُ وَإِنْ كُنْتُمْ على سَفَرٍ ولم تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ
____________________
(2/13)
مَقْبُوضَةٌ وَلَيْسَ فيها جَزَاءٌ عَقِبَ شَرْطِهِ وَحَمَلَهُ الْأَوَّلُونَ على الْمَجَازِ لِأَنَّ الْإِسْحَاتَ لَمَّا تَحَقَّقَ وُقُوعُهُ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ عَقِبَهُ وما نَقَلَهُ الْبَاجِيُّ يُبَايِنُهُ مُبَايَنَةً ظَاهِرَةً ما نَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ في أُصُولِهِ فإنه قال ما نَصُّهُ إنَّ الْفَاءَ إنْ كانت لِلْجَزَاءِ فَلَا خِلَافَ أنها لِلتَّعْقِيبِ كَقَوْلِك جَاءَنِي فَضَرَبْته وَشَتَمَنِي فَحَدَدْته وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا كانت لِلْعَطْفِ فَقِيلَ كَالْأَوَّلِ وَقِيلَ كَالْوَاوِ ا هـ لَكِنْ الْخِلَافُ في الْجَزَاءِ ثَابِتٌ وَجَعَلُوا من فَوَائِدِهِ الْخِلَافَ في وُجُوبِ اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ فإنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال من بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ فَإِنْ جَعَلْنَاهُ لِلتَّعْقِيبِ كان دَلِيلًا على عَدَمِ الْوُجُوبِ وَإِلَّا فَلَا وَأَنْكَرَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ كَوْنَهَا لِلتَّعْقِيبِ إذَا وَقَعَتْ في جَوَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَدَافَعَ الْمُعْتَزِلَةُ عن الِاسْتِدْلَالِ على خَلْقِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى كُنْ فَيَكُونُ فإن الْفَاءَ هُنَا لِلتَّعْقِيبِ من غَيْرِ تَرَاخٍ وَلَا مُهْلَةٍ وإذا كان الْكَائِنُ الْحَادِثُ عَقِبَ قَوْلِهِ كُنْ من غَيْرِ تَرَاخٍ وَلَا مُهْلَةٍ اقْتَضَى ذلك حَدَثُ الْقَوْلِ الذي هو كُنْ وَاشْتَدَّ نَكِيرُ الْقَاضِي في كَوْنِ الْفَاءِ تَقْتَضِي التَّعْقِيبَ في مِثْلِ هذا وَرَأَى أنها تَقْتَضِيهِ في الْعَطْفِ فَقَطْ وَلَيْسَ هذا منه وَعَلَى هذا فَلَا يَحْسُنُ الِاسْتِدْلَال بها على التَّرْتِيبِ في قَوْله تَعَالَى إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وَأَنَّهُ إذَا ثَبَتَتْ الْبُدَاءَةُ بِالْوَجْهِ ثَبَتَ التَّرْتِيبُ في الْبَاقِي إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ قِيلَ وَأَصْلُ الْفَاءِ أَنْ تَدْخُلَ على الْمَعْلُولِ لِأَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ وَالْمَعْلُولُ يَعْقُبُ الْعِلَّةَ وقد تَدْخُلُ على الْعِلَّةِ بِاعْتِبَارِ أنها مَعْلُولٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَتَزَوَّدُوا فإن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَسَيَأْتِي له مَزِيدٌ في بَابِ الْقِيَاسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَاءُ وَهِيَ لِلْإِلْصَاقِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ أَيْ إلْصَاقِ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ وهو تَعْلِيقُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ وَاتِّصَالُهُ بِهِ وقال عبد الْقَاهِرِ قَوْلُهُمْ الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ إنْ حُمِلَ على ظَاهِرِهِ أَدَّى إلَى الِاسْتِحَالَةِ لِأَنَّهَا تَجِيءُ بِمَعْنَى الْإِلْصَاقِ نَفْسِهِ كَقَوْلِنَا أَلْصَقْت بِهِ وَحِينَئِذٍ فَلَا بُدَّ من تَأْوِيلِ كَلَامِهِمْ وَالْوَجْهُ فيه أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُمْ أَنْ يَقُولُوا لِلْمُتَعَلِّمِ اُنْظُرْ إلَى قَوْلِك أَلْصَقْته بِكَذَا وَتَأَمَّلْ الْمُلَابَسَةَ التي بين الْمُلْصَقِ وَالْمُلْصَقِ بِهِ تَعْلَمْ أَنَّ الْبَاءَ أَيْنَمَا كانت
____________________
(2/14)
الْمُلَابَسَةُ التي تَحْصُلُ بها شَبِيهَةٌ بِهَذِهِ الْمُلَابَسَةِ التي تَرَاهَا في قَوْلِك أَلْصَقْته بِهِ انْتَهَى وَتَجِيءُ لِلِاسْتِعَانَةِ نَحْوُ ضَرَبْت بِالسَّيْفِ وَكَتَبْت بِالْقَلَمِ وَبِمَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ كَاشْتَرَيْت الْفَرَسَ بِسَرْجِهِ وَجَاءَ زَيْدٌ بِسِلَاحِهِ وَبِمَعْنَى الظَّرْفِ نَحْوُ جَلَسْت بِالسُّوقِ وَتَكُونُ لِتَعْدِيَةِ الْفِعْلِ نَحْوُ مَرَرْت بِزَيْدٍ قال الْقُرْطُبِيُّ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ هذه الْمَوَاضِعَ كُلَّهَا رَاجِعَةٌ إلَى الْمُلَابَسَةِ فَيَشْتَرِكُ في مَعْنًى كُلِّيٍّ وهو أَوْلَى دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ قال وَأَظُنُّ أَنَّ ابْنَ جِنِّي أَشَارَ إلَى هذا وَقِيلَ إنَّهَا حَيْثُ دَخَلَتْ على الْآلَةِ فَهِيَ لِلْإِلْصَاقِ وَاخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّةِ الْإِلْصَاقِ فَقِيلَ تُفِيدُ التَّعْمِيمَ فيه فَعَلَى هذا لَا إجْمَالَ في قَوْله تَعَالَى وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ بَلْ تُفِيدُ تَعْمِيمَ مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ وَقِيلَ إنَّمَا تُفِيدُ إلْصَاقَ الْفِعْلِ بِبَعْضِ الْمَفْعُولِ وَعَلَى هذا فَهِيَ مُجْمَلَةٌ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ أَنَّ مَسْحَ أَيِّ بَعْضٍ من الرَّأْسِ وَاجِبٌ وَقِيلَ تَقْتَضِي الْإِلْصَاقَ بِالْفِعْلِ مُطْلَقًا وَلَا تَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ تَعْمِيمًا وَلَا تَبْعِيضًا وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ ثُمَّ قال وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إنْ دَخَلَتْ على فِعْلٍ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ أَفَادَتْ التَّبْعِيضَ لِأَنَّ الْإِلْصَاقَ الذي هو التَّعَدِّي مَفْهُومٌ من دُونِهَا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِدُخُولِهَا فَائِدَةٌ وَإِنْ لم يَكُنْ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ فإن فَائِدَتَهُ الْإِلْصَاقُ وَالتَّعْدِيَةُ اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْمَحْصُولِ والمنهاج وَغَيْرِهِمَا أَعْنِي أنها إذَا دَخَلَتْ على فِعْلٍ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ اقْتَضَتْ التَّبْعِيضَ وَنَسَبَ ذلك بَعْضُهُمْ إلَى الشَّافِعِيِّ أَخْذًا من آيَةِ الْوُضُوءِ وهو وَهَمٌ عليه فإن مَدْرَكًا آخَرَ كما سَبَقَ في الْوَاوِ وَاحْتَجَّ الْإِمَامُ بِأَنَّا نُفَرِّقُ بِالضَّرُورَةِ بين قَوْلِنَا مَسَحْتُ يَدِي بِالْمِنْدِيلِ وَبِالْحَائِطِ وَبَيْنَ قَوْلِنَا مَسَحْت الْمِنْدِيلَ وَالْحَائِطَ في أَنَّ الْأَوَّلَ لِلتَّبْعِيضِ وَالثَّانِيَ لِلشُّمُولِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذلك أَمْرٌ آخَرُ يَرْجِعُ إلَى الْإِفْرَادِ وَالتَّرْكِيبِ وهو أَنَّ مَسَحْت يَدِي بِالْمِنْدِيلِ سِيقَ لِإِفَادَةِ مَمْسُوحٍ وَمَمْسُوحٍ بِهِ وَالْبَاءُ إنَّمَا جِيءَ بها لِتُفِيدَ إلْصَاقَ الْمَمْسُوحِ بِهِ التي هِيَ الْآلَةُ بِمَسْحِ الْمَحَلِّ الذي هو الْيَدُ وَقَوْلُهُ مَسَحْت الْمِنْدِيلَ وَالْحَائِطَ إنَّمَا سِيقَ إلْصَاقُ الْمَسْحِ بِالْمَمْسُوحِ وإذا كان كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِعَوْدِ الْفَرْقِ إلَى التَّبْعِيضِ مع أَنَّهُ لَا تَبْعِيضَ في الْكَلَامِ وَقِيلَ إنْ دَخَلَتْ الْبَاءُ على آلَةِ الْمَسْحِ نَحْوُ مَسَحْت بِالْحَائِطِ وَبِالْمِنْدِيلِ فَهِيَ لِلْكُلِّ وَإِنْ دَخَلَتْ على
____________________
(2/15)
الْمَحَلِّ نَحْوُ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ لَا يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْآلَةَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بَلْ هِيَ وَاسِطَةٌ بين الْفَاعِلِ وَالْمُنْفَعِلِ في وُصُولِ أَثَرِهِ إلَيْهِ وَالْمَحَلُّ هو الْمَقْصُودُ في الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي فَلَا يَجِبُ اسْتِيعَابُ الْآلَةِ بَلْ يَكْفِي فيها ما يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ وَأَنْكَرَ ابن جِنِّي وَصَاحِبُ الْبَسِيطِ مَجِيئَهَا لِلتَّبْعِيضِ وَقَالَا لم يَذْكُرْهُ أَحَدٌ من النُّحَاةِ قُلْت أَثْبَتَهُ جَمَاعَةٌ منهم ابن مَالِكٍ وقال ذَكَرَهُ الْفَارِسِيُّ في التَّذْكِرَةِ وَنُقِلَ عن الْكُوفِيِّينَ وَتَبِعَهُمْ فيه الْأَصْمَعِيُّ وَالْعُتْبِيُّ انْتَهَى وَكَذَا ابن مَخْلَدٍ في شَرْحِ الْجُمَلِ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ مَسَحْت بِالْحَائِطِ وَتَيَمَّمْت بِالتُّرَابِ وَاسْتَحْسَنَهُ الْعَبْدَرِيُّ في شَرْحِ الْإِيضَاحِ قال وَوَجْهُهُ عِنْدِي أَنَّ الْبَاءَ الدَّالَّةَ على الْآلَةِ لَا يَلْزَمُ فيها أَنْ يُلَابِسَ الْفِعْلُ جَمِيعَهَا وَلَا يَكُونَ الْعَمَلُ بها كُلِّهَا بَلْ بِبَعْضِهَا وَالْحَقُّ أَنَّ التَّبْعِيضَ الْأَوَّلَ بِالْقَرِينَةِ لَا بِالْوَضْعِ وَلَيْسَتْ الْحُجَّةُ بَلْ هِيَ لَيْسَتْ نَصًّا في الِاسْتِيعَابِ فَهِيَ مُجْمَلَةٌ فَيُكْتَفَى فيه بِمَا يَقَعُ عليه الِاسْمُ وَلَوْ شَعْرَةً وقال أبو الْبَقَاءِ التَّبْعِيضُ لَا يُسْتَفَادُ من الْبَاءِ بَلْ من طَرِيقِ الِاتِّفَاقِ وهو يُحَصِّلُ الْغَرَضَ من الْفِعْلِ بِتَبْعِيضِ الْآلَةِ بَلْ ظَاهِرُ الْحَقِيقَةِ يُغَطِّي الْجَمِيعَ أَلَا تَرَاك إذَا قُلْت مَسَحْت رَأْسَ الْيَتِيمِ فَحَقِيقَتُهُ إنْ تَمَّ الْمَسْحُ بِجَمِيعِهِ وإذا أَمَرَّ بِبَعْضِهِ صَحَّ أَنْ يُقَالَ بِبَعْضِ رَأْسِهِ فَلَوْ كانت لِلتَّبْعِيضِ لَا يَسْتَوِي ذِكْرُ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ وهو خِلَافُ الْحَقِيقَةِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عنه ابن السَّمْعَانِيِّ الْبَاءُ مَوْضُوعَةٌ لِإِلْصَاقِ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ كَقَوْلِك مَسَحْت يَدَيَّ بِالْمِنْدِيلِ وَكَتَبْت بِالْقَلَمِ وقد يُسْتَعْمَلُ في التَّبْعِيضِ إذَا أَمْكَنَ حَذْفُهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ أَيْ بَعْضِ رُءُوسِكُمْ قال وهو حَقِيقَةٌ في قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَجَازٌ في قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ انْتَهَى وقال الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ ظَنَّ ظَانُّونَ أَنَّهُ لِلتَّبْعِيضِ مَصْدَرٌ يَسْتَقِلُّ بِدُونِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِمْ أَخَذْت زِمَامَ النَّاقَةِ إذَا أَخَذَهَا من الْأَرْضِ وَأَخَذْت بِزِمَامِهَا إذَا أَخَذْت طَرَفَهُ وَلَيْسَتْ الْبَاءُ لِلتَّبْعِيضِ أَصْلًا وَهَذَا خَطَأٌ في أَخْذِ الزِّمَامِ وَلَكِنْ من الْمَصَادِرِ ما يَقْبَلُ الصِّلَاتِ كَقَوْلِهِمْ شَكَرْت له وَنَصَحْت له وَأَمَّا التَّبْعِيضُ في مَسْأَلَةِ الْمَسْحِ مَأْخُوذٌ من صِفَةِ الْمَصْدَرِ فَمَصْدَرُ الْمَسْحِ لَا يَصِيرُ إلَى الِاسْتِيعَابِ كَمَصْدَرِ الضَّرْبِ بِخِلَافِ الْغُسْلِ انْتَهَى قِيلَ وَمِمَّا يَقْطَعُ النِّزَاعَ في كَوْنِهَا لَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ أنها لو كانت كَذَلِكَ لِامْتِنَاعِ
____________________
(2/16)
دُخُولِهَا على بَعْضٍ لِلتَّكْرَارِ وَالتَّأْكِيدِ فِيمَا دَخَلَتْهُ بِكُلٍّ لِلتَّنَاقُضِ فَكَانَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ مَسَحْت بِبَعْضِ رَأْسِي لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ بَعْضِ بَعْضِ رَأْسِي وَلَا أَنْ تَقُولَ مَسَحْت بِرَأْسِي كُلِّهِ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلتَّبْعِيضِ وَكُلٌّ لِتَأْكِيدِ الْجَمْعِ وَجَمْعُهُمَا على شَيْءٍ وَاحِدٍ تَنَاقُضٌ تَنْبِيهٌ جَعَلُوهَا لِلتَّبْعِيضِ في آيَةِ الْوُضُوءِ ولم يَجْعَلُوهَا لِلتَّبْعِيضِ في آيَةِ التَّيَمُّمِ في قَوْله تَعَالَى فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَفَرَّقُوا بِأَنَّ مَسْحَ الْوَجْهِ في التَّيَمُّمِ بَدَلٌ وَلِلْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ فَقِيلَ لهم إنْ أَرَدْتُمْ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْأَصْلِ في الْإِجْزَاءِ فَتُحْكَمُ وَلَا يُفِيدُكُمْ في الْفَرْقِ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّ صُورَةَ الْبَدَلِ لِصُورَةِ أَصْلِهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ فإن التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عن الْوُضُوءِ وهو في عُضْوَيْنِ وَالْوُضُوءُ في أَرْبَعَةٍ وَبِأَنَّ مَسْحَ الْخُفِّ بَدَلٌ عن غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَلَا يَجِبُ في ذلك الِاسْتِيعَابُ أَجَابُوا عن ذلك بِأَنَّ ذلك يُفْسِدُ الْخُفَّ وَلِأَنَّ مَبْنَاهُ على التَّخْفِيفِ حتى جَازَ مع الْقُدْرَةِ على غَسْلِ الرِّجْلِ بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ نُكْتَتَانِ في الْبَاءِ يَغْلَطُ الْمُصَنِّفُونَ فيها الْأُولَى أَنَّهُمْ يُدْخِلُونَهَا مع فِعْلِ الْإِبْدَالِ على الْمَتْرُوكِ فَيَقُولُونَ لو أُبْدِلَتْ ضَادًا بِطَاءٍ وَالصَّوَابُ الْعَكْسُ فإذا قُلْت أَبْدَلْت دِينَارًا بِدِرْهَمٍ فَمَعْنَاهُ اعْتَضْت دِينَارًا عِوَضَ دِرْهَمٍ فَالدِّينَارُ هو الْحَاصِلُ لَك الْمُعَوِّضُ وَالدِّرْهَمُ هو الْخَارِجُ عَنْك الْمُعَوَّضُ بِهِ وَهَذَا عَكْسُ ما فَهِمَهُ الناس وَعَلَى ما ذَكَرْنَا جاء كَلَامُ الْعَرَبِ قال الشَّاعِرُ تَضْحَكُ مِنِّي أُخْتُ ذِي النَّحْيَيْنِ أَبْدَلَهُ اللَّهُ بِلَوْنِ لَوْنَيْنِ سَوَادِ وَجْهٍ وَبَيَاضِ عَيْنَيْنِ أَلَا تَرَى كَيْفَ أَدْخَلَ الْبَاءَ على الْمُعَوَّضِ منه وهو قَوْلُهُ بِلَوْنِ وَنَصَبَ لَوْنَيْنِ وهو الْمُعَوِّضُ وقال تَعَالَى وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ وبدلناهم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هو أَدْنَى بِاَلَّذِي هو خَيْرٌ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ أَيْ يَسْتَبْدِلْ بِكُمْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وقال تَعَالَى عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا منها
____________________
(2/17)
فَحَذَفَ بها أَيْ بِالْجَنَّةِ التي طِيفَ بها وقال فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا أَيْ يُبْدِلَهُمَا بِهِ وقد حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ لِدَلَالَةِ فِعْلِ الْإِبْدَالِ على الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ أَيْ بِسَيِّئَاتِهِمْ وَهَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ في جُمُوعِ التَّكْسِيرِ من شَرْحِ التَّسْهِيلِ وَكَتَبَ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ التَّبْرِيزِيُّ على الْحَاشِيَةِ قال تَعَالَى إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى من الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لهم الْجَنَّةَ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَنَّةَ عِوَضٌ لَا مُعَوَّضٌ وَعَلَى هذا يَتَخَرَّجُ كَلَامُ الْمُصَنَّفِينَ حَيْثُ أَدْخَلُوا الْبَاءَ على الْمَأْخُوذِ وَإِنْ لم يَكُنْ في الْآيَةِ فِعْلُ الْإِبْدَالِ لَكِنْ الْأَكْثَرُ هو الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فَصَحِيحٌ عَرَبِيٌّ قُلْت الدَّعْوَةُ مع فِعْلِ الْإِبْدَالِ وفي جَرَيَانِ ذلك في كل ما دَلَّ على مُعَاوَضَةٍ نَظَرٌ فإنه لم يَطَّرِدْ فيه فَقَدْ جاء اشْتَرَوْا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَقَدْ دَخَلَتْ على الْمَتْرُوكِ وَجَاءَ عَكْسُهُ وهو قَوْله تَعَالَى فَلْيُقَاتِلْ في سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَحْسُنُ رَدُّ التَّبْرِيزِيِّ بِالْآيَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ في هذه الْآيَةِ إنَّ الضَّمِيرَ في يُقَاتِلْ عَائِدٌ على الْمُسْلِمِينَ وَاَلَّذِينَ يَشْتَرُونَ مَفْعُولٌ وَفِيهِ نَظَرٌ وكان الْمَعْنَى في دُخُولِ الْبَاءِ على كُلٍّ مِنْهُمَا مع الشِّرَاءِ أَنَّ اشْتَرَيْت وبعت كُلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَعْمَلٌ بِمَعْنَى الْآخَرِ لَكِنَّ الْأَكْثَرَ في بِعْت الْإِخْرَاجُ عن الْمِلْكِ وفي اشْتَرَيْت الْإِدْخَالُ الثَّانِيَةُ إدْخَالُهُمْ الْبَاءَ مع فِعْلِ الِاخْتِصَاصِ على الْمُخْتَصِّ وَالصَّوَابُ إدْخَالُهَا على الْمُخْتَصِّ بِهِ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ إفْرَادُ بَعْضِ الشَّيْءِ عَمَّا لَا يُشَارِكُهُ فيه بِالْجُمْلَةِ فإذا قُلْت اخْتَصَّ زَيْدٌ بِالْمَالِ فَمَعْنَاهُ أَنَّ زَيْدًا مُنْفَرِدٌ عن غَيْرِهِ بِالْمَالِ فَهُوَ الْمُخْتَصُّ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ وَالْمَالُ مُخْتَصٌّ بِهِ وَالْمُخْتَصُّ أَبَدًا هو الْمُنْفَرِدُ الْمُحْتَوِي أَبَدًا على الشَّيْءِ فَهُوَ كَالظَّرْفِ له وَالْمُخْتَصُّ بِهِ أَبَدًا هو الْمَأْخُوذُ كَالْمَظْرُوفِ فَلَوْ قُلْت اخْتَصَّ الْمَالُ بِزَيْدٍ تُرِيدُ ما أَرَدْته بِالْمِثَالِ السَّابِقِ لم يَصِحَّ لِأَنَّك في الْمِثَالِ الْأَوَّلِ حَصَرْت الْمَالَ في زَيْدٍ وفي الثَّانِي حَصَرْت زَيْدًا في الْمَالِ فَلَا يَكُونُ له صِفَةٌ غَيْرُ الِاحْتِوَاءِ على الْمَالِ وهو غَيْرُ الْمُرَادِ فإن زَيْدًا قد يَكُونُ له صِفَاتٌ من دِينٍ وَعِلْمٍ وَغَيْرِهِمَا وَبِهَذَا يَظْهَرُ حُسْنُ عِبَارَةِ التَّسْهِيلِ وَخُصَّ الْجَرُّ بِالِاسْمِ على عِبَارَةِ الْخُلَاصَةِ
____________________
(2/18)
وَالِاسْمُ قد خُصِّصَ بِالْجَرِّ اللَّامُ حَقِيقَةٌ في الِاخْتِصَاصِ كَقَوْلِك الْمَالُ لِزَيْدٍ وَقَوْلُهُمْ لِلْمِلْكِ مَجَازٌ من وَضْعِ الْخَاصِّ مَوْضِعَ الْعَامِّ لِأَنَّ الْمِلْكَ اخْتِصَاصٌ وَلَيْسَ كُلُّ اخْتِصَاصٍ مِلْكًا فإذا قِيلَ هِيَ لِلِاخْتِصَاصِ دخل فيه الْمِلْكُ وَغَيْرُهُ كَقَوْلِك السَّرْجُ لِلدَّابَّةِ وَالْبَابُ لِلْمَسْجِدِ أَيْ هُمَا مُخْتَصَّانِ بِهِمَا ولم يُوجَدْ فِيهِمَا حَقِيقَةُ الْمِلْكِ وَجَعَلَهَا الْجُرْجَانِيُّ حَقِيقَةً في الْمِلْكِ وَمَتَى اُسْتُعْلِمَتْ في غَيْرِهِ فَبِقَرِينَةٍ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ مَعْنًى عَامٌّ لِجَمِيعِ مَوَارِدِ اسْتِعْمَالِهَا وَبِأَيِّ مَعْنًى اُسْتُعْمِلَتْ لَا تَخْلُو منه قال ابن يَعِيشَ إنَّمَا قُلْنَا أَصْلُهَا الِاخْتِصَاصُ لِعُمُومِهِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَالِكٍ مُخْتَصٌّ بِمِلْكِهِ وَلِهَذَا لم يذكر في الْمُفَصَّلِ غَيْرَهُ ولم يذكر أنها لِلْمِلْكِ وقال ابن الْخَشَّابِ قال الْحُذَّاقُ اللَّامُ تُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ الذي يَدْخُلُ فيه الْمِلْكُ وَلِذَلِكَ يقول الْعَبْدُ سَيِّدٌ لي قبل الْعِتْقِ وَمَوْلًى لي بَعْدَهُ كما قال السَّيِّدُ عَبِيدٌ لي التَّنْزِيلُ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ وَفِيهِ وَلِلَّهِ على الناس حِجُّ الْبَيْتِ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ قال فما لَا يَصْلُحُ له التَّمَلُّكُ قِيلَ اللَّامُ معه لَامُ الِاسْتِحْقَاقِ وما صَحَّ أَنْ يَقَعَ فيه التَّمَلُّكُ وَأُضِيفَ إلَيْهِ ما ليس بِمَمْلُوكٍ له قِيلَ اللَّامُ معه لَامُ الِاسْتِحْقَاقِ وما عَدَا ذلك فَاللَّامُ فيه عِنْدَهُمْ لَامُ الْمِلْكِ وَفَرَّقَ الْقَرَافِيُّ بين الْمِلْكِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَالِاخْتِصَاصِ فقال الْمَالُ إنْ أُضِيفَ إلَى من يَعْقِلُ كانت لِلْمِلْكِ وَإِلَّا فَإِنْ شَهِدَتْ الْعَادَةُ له بِهِ فَلِلِاسْتِحْقَاقِ كَالسَّرْجِ لِلدَّابَّةِ وَإِنْ لم تَشْهَدْ بِهِ بَلْ كانت من شَهَادَةِ الْعَادَةِ وَغَيْرِهَا فَهُوَ لِلِاخْتِصَاصِ فَالْمِلْكُ أَخَصُّ من الِاسْتِحْقَاقِ وَالِاسْتِحْقَاقُ أَخَصُّ من الِاخْتِصَاصِ وما قَالَهُ ابن الْخَشَّابِ في الْفَرْقِ أَحْسَنُ وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ اللَّامَ في قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم من بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ لِلِاخْتِصَاصِ
____________________
(2/19)
إذْ لو كانت لِلْمِلْكِ لَتَنَافَى مع قَوْلِهِ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ وَحَكَى الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ الْإِفْرَادِ عن الْأَصْحَابِ أَنَّ اللَّامَ تَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ بِالْمِلْكِ أو غَيْرِهِ فَإِنْ تَجَرَّدَتْ وَأَمْكَنَ الْحَمْلُ على الْمِلْكِ حُمِلَ عليه لِأَنَّهُ أَظْهَرُ وُجُوهِ الِاخْتِصَاصِ وَإِنْ وَصَلَ بها وَذَكَرَ وَجْهًا آخَرَ من الِاخْتِصَاصِ أو لم يُمْكِنْ الْحَمْلُ على الْمِلْكِ كَقَوْلِنَا الْحَبْلُ لِلْفَرَسِ حُمِلَ عليه وَتَأْتِي لِلتَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ على اللَّهِ حُجَّةٌ وَلِلْعَاقِبَةِ نَحْوُ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لهم عَدُوًّا وَحَزَنًا قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَعِنْدِي أَنَّهُ مَجَازٌ وقال الزَّمَخْشَرِيُّ التَّحْقِيقُ أنها لَامُ الْعِلَّةِ وَالتَّعْلِيلُ فيها وَارِدٌ على طَرِيقِ الْمَجَازِ لَا الْحَقِيقَةِ وقال الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بن هِشَامٍ في الْمُغْنِي أَنْكَرَ الْبَصْرِيُّونَ لَامَ الْعَاقِبَةِ قُلْت في كِتَابِ الْمُبْتَدِئِ في النَّحْوِ لِابْنِ خَالَوَيْهِ فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لهم عَدُوًّا فَهِيَ لَامُ كَيْ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَلَامُ الصَّيْرُورَةِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ انْتَهَى وَنَقَلَ ابن بَرْهَانٍ في الْغُرَّةِ عن الْكُوفِيِّينَ أَنَّ تَقْدِيرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ وفي أَمَالِي الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ الْمُفَرِّقُ بين لَامِ الصَّيْرُورَةِ كما في قَوْله تَعَالَى لِيَكُونَ لهم عَدُوًّا وَلَامُ التَّعْلِيلِ كما في قَوْله تَعَالَى لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا أَنَّ لَامَ التَّعْلِيلِ تَدْخُلُ على ما هو غَرَضٌ لِفَاعِلِ الْفِعْلِ وَيَكُونُ مُرَتَّبًا على الْفِعْلِ وَلَيْسَ في لَامِ الصَّيْرُورَةِ إلَّا التَّرْتِيبُ فَقَطْ قال ابن فُورَكٍ عن الْأَشْعَرِيِّ كُلُّ لَامٍ نَسَبَهَا اللَّهُ عز وجل لِنَفْسِهِ فَهِيَ لَامُ الصَّيْرُورَةِ لِاسْتِحَالَةِ الْغَرَضِ مَكَانَ الْمُخْبِرِ في لَامِ الصَّيْرُورَةِ قال فَعَلْت هذا بَعْدَ هذا لِأَنَّهُ غَرَضٌ لي
____________________
(2/20)
وَمِنْ الثَّانِي أَنْ الْمَفْتُوحَةُ السَّاكِنَةُ تَدْخُلُ على الْمُضَارِعِ لِتَخَلُّصِهِ لِلِاسْتِقْبَالِ وَتَلِي الْمَاضِيَ فَلَا تُغَيِّرُهُ عن مَعْنَاهُ نَحْوُ سَرَّنِي أَنْ ذَهَبَ زَيْدٌ وَاخْتُلِفَ هل هِيَ الدَّاخِلَةُ على الْمُضَارِعِ لِأَنَّهَا في الْمَوْضِعَيْنِ مُؤَوَّلَةٌ بِالْمَصْدَرِ وَالصَّرِيحُ أنها غَيْرُهَا وَإِلَّا لَزِمَ انْصِرَافُ الْمَاضِي مَعَهَا إلَى الِاسْتِقْبَالِ كما أَنَّ إنْ الشَّرْطِيَّةَ الدَّاخِلَةَ على الْمَاضِي لَمَّا كانت بِمَعْنَى الدَّاخِلَةِ على الْمُضَارِع قَلَبَتْ الْمَاضِيَ إلَى الِاسْتِقْبَالِ وما ذَكَرْنَاهُ من تَخْلِيصِهَا الْمُضَارِعَ إلَى الِاسْتِقْبَالِ مُجْمَعٌ عليه بين النُّحَاةِ وَزَعَمَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَتَبِعَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ أنها تَكُونُ غير مُخَلِّصَةٍ لِلِاسْتِقْبَالِ بَلْ تَكُونُ لِلْحَالِ وَاحْتَجُّوا بِذَلِكَ على الْمُعْتَزِلَةِ في قَوْله تَعَالَى إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ له كُنْ فَيَكُونُ فَقَوْلُهُ أَنْ نَقُولَ حَالٌّ لِأَنَّهُ لو كان مُسْتَقْبَلًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ مَخْلُوقًا تَعَالَى اللَّهُ عز وجل عن ذلك وَتَابَعَهُمْ أبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ وقال في كِتَابِ التَّسْدِيدِ إنَّ الْقَوْلَ بِتَخْلِيصِهَا لِلِاسْتِقْبَالِ قَوْلٌ ضَعَّفَهُ النُّحَاةُ وَهَذَا عَجِيبٌ وَاحْتَجَّ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِقَوْلِ سِيبَوَيْهِ أَنْ مَفْتُوحَةٌ على أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنْ تَكُونَ أَنْ وما تَعْمَلُ فيه من الْفِعْلِ بِمَنْزِلَةِ مَصَادِرِهَا فَكَمَا أَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يَخُصُّ زَمَانًا بِعَيْنِهِ فَكَذَلِكَ ما كان بِمَنْزِلَتِهِ وَتَضَمَّنَ مَعْنَاهُ قال ابن خَرُوفٍ وَكَلَامُ سِيبَوَيْهِ في هذا قَوْلُهُ أَنْ الْمَفْتُوحَةُ تَكُونُ على وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنْ تَكُونَ أَنْ وما تَعْمَلُ فيه من الْفِعْلِ بِمَنْزِلَةِ مَصَادِرِهَا وَبَاقِي الْكَلَامِ لِأَبِي الْمَعَالِي وَلَيْسَ في كَلَامِ سِيبَوَيْهِ أَكْثَرُ من أَنَّ أَنْ مع الْفِعْلِ بِتَأْوِيلِ مَصْدَرٍ وَلَا يَلْزَمُ من جَعْلِ الشَّيْءِ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ في حُكْمٍ ما أَنْ يُشْبِهَهُ من جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَغَرَضُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ أَنْ مع الْفِعْلِ بِتَأْوِيلِ اسْمٍ يَجْرِي بِوُجُوهِ الْإِعْرَابِ كَقَوْلِك أَعْجَبَنِي أَنْ قُمْت وَيُعْجِبُنِي أَنْ تَقُومَ فَالْأَوَّلُ مَاضٍ وَالثَّانِي مُسْتَقْبَلٌ فَإِنْ أَرَدْت الْحَالَ قُلْت يُعْجِبُنِي أَنَّك تَقُومُ فَجِئْت بها مُثْقَلَةً وإذا قُلْت يُعْجِبُنِي قِيَامُك احْتَمَلَ الْأَزْمِنَةَ الثَّلَاثَةَ وَلِأَجْلِ الدَّلَالَةِ على الزَّمَانِ جِيءَ بِأَنْ وَالْفِعْلِ
____________________
(2/21)
وَأَمَّا الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ التي تَمَسَّكَ بها الْقَاضِي وَمُتَابِعُوهُ فَأَجَابَ ابن عُصْفُورٍ فِيمَا حَكَاهُ عن الصَّفَّارِ أَنَّ الْقَوْلَ قد يَكُونُ خِلَافَ الْكَلَامِ لُغَةً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ امْتَلَأَ الْحَوْضُ وقال الْقُرْطُبِيُّ فَجَعَلَ ما يُفْهَمُ منه كَلَامًا فَيَكُونُ الْقَوْلُ هُنَا مُتَجَوَّزًا فيه فَكَأَنَّهُ قال إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا عَلَّقَ إرَادَتَهُ على الشَّيْءِ أَنْ يُعَلِّقَهَا عليه فَيَكُونُ فَجَعَلَ تَعْلِيقَ الْإِرَادَةِ على الشَّيْءِ قَوْلًا لِأَنَّهَا يَكُونُ عنها الشَّيْءُ كما يَكُونُ عن الْأَمْرِ فَلَا يَكُونُ في ذلك إثْبَاتُ خَلْقِ الْقُرْآنِ وَهَذَا بِنَاءً على أَنَّ التَّعْلِيقَ حَادِثٌ وَفِيهِ كَلَامٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا لِلْحَالِ وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ كما في مَرَرْت بِرَجُلٍ معه صَقْرٌ صَائِدٌ بِهِ غَدًا فإن مَعْنَاهُ مُقَدَّرٌ إلَّا أَنَّ الصَّيْدَ بِهِ غَدًا وَذَلِكَ لَا يُنَافِي قَوْلَ النُّحَاةِ أنها تُخَلِّصُهُ لِلِاسْتِقْبَالِ وَاحْتَجُّوا على أنها تَكُونُ لِلْمَاضِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى وما نَقَمُوا منهم إلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا قالوا فَوُقُوعُ الْمَاضِي قَبْلَهَا دَلِيلٌ على أنها تَكُونُ لِغَيْرِ الِاسْتِقْبَالِ وَلَيْسَ كما زَعَمُوا لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَبِدَلِيلِ أَنَّهُمْ لم يُقْتَلُوا على ما سَلَفَ منهم من الْإِيمَانِ وَبِذَلِكَ وَرَدَ خَبَرُهُمْ في حديث الْفَتَى وَالرَّاهِبِ وَالْمَلِكِ فَذُكِرَا بِفِعْلٍ قَبْلَهَا بِلَفْظِ الْمَاضِي وَالثَّانِي بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ لِيَعُمَّ الْأَزْمِنَةَ الثَّلَاثَةَ على حَدِّ قَوْلِهِ وَنَدْمَانَ يَزِيدُ الْكَأْسَ طِيبًا سَقَيْت إذَا تَغَوَّرَتْ النُّجُومُ وَتَجِيءُ أَنْ لِلتَّعْلِيلِ وَلِهَذَا لو قال أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ دَخَلْت الدَّارَ بِفَتْحِ أَنْ وَقَعَ في الْحَالِ إنْ كان نَحْوِيًّا لِأَنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ وَلَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْعِلَّةِ وقد نَاظَرَ فيه الْكِسَائِيُّ مُحَمَّدَ بن الْحَسَنِ بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ فَزَعَمَ الْكِسَائِيُّ أنها بِمَعْنَى إذْ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى يَمُنُّونَ عَلَيْك أَنْ أَسْلَمُوا وَقَوْلُهُ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وهو مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ وَخَالَفَهُمْ الْبَصْرِيُّونَ وَأَوَّلُوا على أنها مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ إسْلَامُهُمْ وَلَكِنْ قَبْلَهَا لَامُ الْعِلَّةِ مَقْدِرَةٌ وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ انْتِصَارُ السُّرُوجِيِّ في الْغَايَةِ لِمُحَمَّدٍ فإن التَّعْلِيلَ مَلْحُوظٌ وَإِنْ لم يَجْعَلْهَا لِلتَّعْلِيلِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْإِيقَاعَ في الْحَالِ
____________________
(2/22)
تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ في الْفَرْقِ بين أَنْ وَالْفِعْلِ وَالْمَصْدَرِ وَذَلِكَ من أَوْجُهٍ أَحَدُهَا دَلَالَةُ الْفِعْلِ على الْمُضِيِّ أو الِاسْتِقْبَالِ بِخِلَافِ الْمَصْدَرِ الثَّانِي دَلَالَةُ أَنْ وَالْفِعْلِ على إمْكَانِ الْفِعْلِ دُونَ وُجُوبِهِ وَاسْتِحَالَتِهِ بِخِلَافِ الْمَصْدَرِ الثَّالِثُ تَحْصِيرُ أَنْ بِمَعْنَى الْحُدُوثِ دُونَ احْتِمَالِ مَعْنًى زَائِدٍ عليه فإن قَوْلَك كَرِهْت قِيَامَك قد يَكُونُ لِصِفَةٍ في ذلك الْقِيَامِ وَقَوْلُك كَرِهْت أَنْ قُمْت يَقْتَضِي أَنَّك كَرِهْت نَفْسَ الْقِيَامِ الرَّابِعُ امْتِنَاعُ الْإِخْبَارِ عن أَنْ وَالْفِعْلِ في نَحْوِ قَوْلِك أَنْ قُمْت خَيْرٌ من أَنْ قَعَدْت بِخِلَافِ الْمَصْدَرِ قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ الْخَامِسُ أَنْ وَالْفِعْلُ يَدُلُّ على الْوُقُوعِ بِخِلَافِ الْمَصْدَرِ قَالَهُ صَاحِبُ الْبَسِيطِ من النُّحَاةِ كَذَا نَقَلَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَإِنَّمَا قال صَاحِبُ الْبَسِيطِ ذلك في أَنَّ الْمُشَدَّدَةَ لَا الْمُخَفَّفَةَ فَفُرِّقَ بين عَجِبْت من انْطِلَاقِك وَعَجِبْت من أَنَّك مُنْطَلِقٌ بِمَا ذُكِرَ ثُمَّ ما قَالَهُ في الْمَصْدَرِ يُخَالِفُ قَوْلَ أَصْحَابِنَا في كِتَابِ الظِّهَارِ في مَسْأَلَةِ إنْ وَطِئْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ عن ظِهَارِي ولم يَكُنْ ظِهَارٌ فإنه يُحْكَمُ بِهِ ظِهَارٌ لِإِقْرَارِهِ وقال ابن عَطِيَّةَ أَنْ مع الْفِعْلِ تُعْطِي اسْتِئْنَافًا ليس في الْمَصْدَرِ في أَغْلَبِ أَمْرِهَا وقد تَجِيءُ في مَوَاضِعَ لَا يُلَاحَظُ فيها الزَّمَانُ وَتَفْتَرِقَانِ في الْأَحْكَامِ في أُمُورٍ منها أَنَّهُ لَا يُؤَكَّدُ بِأَنْ وَالْفِعْلِ بِخِلَافِ الْمَصْدَرِ لِأَنَّهُ مُبْهَمٌ وَهِيَ مُعَيَّنَةٌ فَكَانَ الْمَصْدَرُ الْمُصَرَّحُ بِهِ أَشْيَاءَ بِمَا أَكَّدَ فقال ضَرَبْت زَيْدًا ضَرْبًا وَلَا تَقُولُ ضَرَبْت زَيْدًا أَنْ ضَرَبْت وَمِنْهَا أَنَّ الْمَصْدَرَ الصَّرِيحَ قد يَقَعُ حَالًا وقد لَا يَقَعُ وأن وَالْفِعْلُ الْمُنْسَبِكُ مِنْهُمَا الْمَصْدَرُ لَا يَقَعُ حَالًا أَلْبَتَّةَ وَمِنْهَا أَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنُوبَ مَنَابَ الْمَفْعُولَيْنِ في بَابِ ظَنَنْت وَيَنُوبُ أَنْ مع الْفِعْلِ مَنَابَهُمَا فَلَا تَقُولُ ظَنَنْت قِيَامَك وَتَقُولُ ظَنَنْت أَنْ يَقُومَ زَيْدٌ
____________________
(2/23)
قَالَهُ الصَّفَّارُ وَإِنَّمَا جَازَ مع أَنْ لِلطُّولِ قال وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ ظَنَنْت قِيَامَ زَيْدٍ على حَذْفِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي أَيْ وَاقِفًا وَمِنْهَا أَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يُحْذَفُ معه حَرْفُ الْجَرِّ فَلَا تَقُولُ عَجِبْت ضَرْبَك تُرِيدُ من ضَرْبِك وَيُحْذَفُ مع أَنْ ذَكَرَهُ الصَّفَّارُ أَيْضًا وَمِنْهَا أَنَّ الْمَصْدَرَ يَقَعُ قَبْلَهُ كُلُّ فِعْلٍ وَلَا يَقَعُ قبل أَنْ إلَّا أَفْعَالُ الظَّنِّ وَالشَّكِّ وَنَحْوِهَا دُونَ أَفْعَالِ التَّحْقِيقِ لِأَنَّهَا تُخَلِّصُ الْفِعْلَ لِلِاسْتِقْبَالِ وَلَيْسَ فيها تَأْكِيدٌ كما في أَنْ فلم يَكُنْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ فِعْلِ التَّحْقِيقِ نِسْبَةٌ وَمِنْهَا أَنَّ الْمَصْدَرَ يُضَافُ إلَيْهِ فَيُقَالُ جِئْت مَخَافَةَ ضَرْبِك وَلَا يُضَافُ إلَى أَنْ فَلَا يُقَالُ مَخَافَةَ أَنْ تَضْرِبَ وما سُمِعَ منه فإنه على حَذْفِ التَّنْوِينِ تَخْفِيفًا وَالْمَصْدَرُ عِنْدَهُ مَنْصُوبٌ قَالَهُ ابن طَاهِرٍ وَزَيَّفَهُ الصَّفَّارُ بِأَنَّهُ لم يَثْبُتْ في كَلَامِهِمْ حَذْفُ التَّنْوِينِ تَخْفِيفًا وَإِنَّمَا حُذِفَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَكَلَامُ الْفُقَهَاءِ في أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مَلَكَ أَنْ يَنْتَفِعَ حتى لَا يُعِيرَ وَالْمُسْتَأْجِرُ مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ حتى إنَّهُ يُؤَجِّرُ يَقْتَضِي فَرْقًا آخَرَ إنْ تَجِيءُ لِلشَّرْطِ نَحْوُ إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لهم ما قد سَلَفَ وَالْغَالِبُ اسْتِعْمَالُهَا فِيمَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ نَحْوُ إنْ قام زَيْدٌ وَنَقَلَ في الْمُحَقَّقِ نحو إنْ مَاتَ زَيْدٌ زُرْتُك وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى أَفَإِنْ مَاتَ أو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ على أَعْقَابِكُمْ وَقَوْلُهُ كَمْ شَامِتٍ بِي إنْ هَلَكْت وَقَائِلٍ لِلَّهِ دَرُّهُ إلَّا أنها إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِيمَا لَا بُدَّ من وُقُوعِهِ فَلَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا كان زَمَنَ وُقُوعِهِ مُبْهَمًا وَلِهَذَا دَخَلَتْ في قَوْله تَعَالَى وَلَئِنْ مُتُّمْ فَإِنْ عُلِمَ زَمَنُ وُقُوعِهِ فَلَا تُسْتَعْمَلُ فيه فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ إنْ احْمَرَّ الْبُسْرُ فَأْتِنِي فإن احْمِرَارَهُ لَا بُدَّ منه وَوَقْتُهُ مَعْلُومٌ بِالتَّقْرِيبِ وَالْمُتَلَخِّصُ من كَلَامِهِمْ أَنَّ إنْ وإذا يَشْتَرِكَانِ في عَدَمِ الدُّخُولِ على الْمُسْتَحِيلِ إلَّا لِنُكْتَةٍ نَحْوُ قُلْ إنْ كان لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ وَتَنْفَرِدُ إنْ بِالْمَشْكُوكِ فيه وَالْمَوْهُومِ وَتَنْفَرِدُ إذَا بِالْمَجْزُومِ بِهِ وَهَلْ تَدْخُلُ على الْمَظْنُونِ
____________________
(2/24)
خِلَافٌ وَتَجِيءُ لِلنَّفْيِ إنْ تَلَاهَا إلَّا نَحْوُ إنْ الْكَافِرُونَ إلَّا في غُرُورٍ أو لَمَّا نَحْوُ إنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عليها حَافِظٌ أو غَيْرُهُمَا نَحْوُ إنْ عِنْدَكُمْ من سُلْطَانٍ بهذا وَفِيهِ رَدٌّ على من ادَّعَى مُلَازَمَتَهُ لِ إلَّا ولما أو لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أو الْأَشْيَاءِ شَاكًّا كان أو إبْهَامًا تَخْيِيرًا كان أو إبَاحَةً فَإِنْ كَانَا مُفْرَدَيْنِ أَفَادَا ثُبُوتَ الْحُكْمِ لِأَحَدِهِمَا وَإِنْ كَانَا جُمْلَتَيْنِ أَفَادَ حُصُولَ مَضْمُونِ أَحَدِهِمَا وَلِذَلِكَ يُفْرَدُ ضَمِيرُهُمَا نَحْوُ زَيْدٍ أو عَمْرٍو قام وَلَا تَقُلْ قَامَا بِخِلَافِ الْوَاوِ فَتَقُولُ زَيْدٌ وَعَمْرٌو قَامَا وَلَا تَقُلْ قام وَحَقِيقَتُهَا أنها تُفْرِدُ شيئا من شَيْءٍ وَوُجُوهُ الْإِفْرَادِ تَخْتَلِفُ فَتَتَقَارَبُ تَارَةً وَتَتَبَاعَدُ أُخْرَى حتى تُوهِمَ أنها قد تَضَادَّتْ وَهِيَ في ذلك تَرْجِعُ إلَى الْأَصْلِ الذي وُضِعَتْ له وقد وُضِعَتْ لِلْخَبَرِ وَالطَّلَبِ فَأَمَّا في الْخَبَرِ فَمَعْنَاهَا الْأَصْلِيُّ قِيَامُ الشَّكِّ فَقَوْلُك زَيْدٌ أو عَمْرٌو قام أَصْلُهُ أَنَّ أَحَدَهُمَا قام ثُمَّ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ شَاكًّا لَا يَدْرِي أَيُّهُمَا الْقَائِمُ فَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنْ يَحْمِلَهُ السَّامِعُ على جَهْلِ الْمُتَكَلِّمِ وقد يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ غير شَاكٍّ وَلَكِنَّهُ أُبْهِمَ على السَّامِعِ لِغَرَضٍ وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ الشَّكَّ وَالثَّانِي التَّشْكِيكَ وَالْإِبْهَامَ أَيْضًا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى وَإِنَّا أو إيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أو في ضَلَالٍ مُبِينٍ وَكَذَلِكَ جَاءَتْ في خَبَرِ اللَّهِ نَحْوُ وَأَرْسَلْنَاهُ إلَى مِائَةِ أَلْفٍ أو يَزِيدُونَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أو أَشَدُّ قَسْوَةً وما أَمْرُ السَّاعَةِ إلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أو هو أَقْرَبُ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أو أَدْنَى فَإِنْ قُلْت كَيْفَ يَقَعُ الْإِبْهَامُ من اللَّهِ وَإِنَّمَا الْقَصْدُ منه الْبَيَانُ قُلْت إنَّمَا خُوطِبُوا على قَدْرِ ما يَجْرِي في كَلَامِهِمْ وَلَعَلَّ الْإِبْهَامَ على السَّامِعِ لِعَجْزِهِ عن بُلُوغِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ الْقَصْدُ من الْإِبْهَامِ في الْخَبَرِ تَهْوِيلُ الْأَمْرِ على الْمُخَاطَبِ من إطْلَاقِهِ على حَقِيقَتِهِ وَحَمْلُهَا على ذلك الْمَعْنَى هو من صِنَاعَةِ الْحُذَّاقِ وَذَلِكَ أَوْلَى من إخْرَاجِهَا إلَى مَعْنَى الْوَاوِ
____________________
(2/25)
وَبِالْجُمْلَةِ الْإِخْبَارُ بِالْمُبْهَمِ لَا يَخْلُو عن غَرَضٍ إلَّا أَنَّ الْمُتَبَادَرَ منه الشَّكُّ فَمِنْ هُنَا ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ أو لِلشَّكِّ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ لِأَنَّهُمْ لم يُرِيدُوا إلَّا تَبَادُرَ الذِّهْنِ إلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وما ذَكَرُوهُ من أَنَّ وَضْعَ الْكَلَامِ لِلْإِبْهَامِ على تَقْدِيرِ تَمَامِهِ إنَّمَا يَدُلُّ على أَنَّ أو لم تُوضَعْ لِلتَّشْكِيكِ وَإِلَّا فَالشَّكُّ أَيْضًا مَبْنِيٌّ يُقْصَدُ إبْهَامُهُ بِأَنْ يَقْصِدَ الْمُتَكَلِّمُ إخْبَارَ الْمُخَاطَبِ بِأَنَّهُ شَاكٌّ في تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِخِلَافِ الْإِنْشَاءِ فإنه لَا يَحْتَمِلُ الشَّكَّ وَلَا التَّشْكِيكَ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ الْكَلَامِ ابْتِدَاءً وقد يَحْسُنُ دُخُولُ أو بين أَشْيَاءَ يَتَنَاوَلُهَا الْفِعْلُ في أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَيُرَادُ بِالْخَبَرِ إفْرَادُ كل وَاحِدَةٍ منها في وَقْتِهِ كَقَوْلِك إذَا قِيلَ لَك ما كُنْت تَأْكُلُ من الْفَاكِهَةِ قُلْت آكُلُ التِّينَ أو الْعِنَبَ أو الرُّمَّانَ أَيْ إفْرَادُ هذا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً ولم تُرِدْ الشَّكَّ وَلَا الْإِبْهَامَ هذا شَأْنُهَا في الْخَبَرِ وَأَمَّا في الطَّلَبِ أَعْنِي الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فَتَقَعُ على وَجْهَيْنِ كِلَاهُمَا لِلْإِفْرَادِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ له أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إذَا اخْتَارَهُ وَلَا يَتَجَاوَزُهُ وَالْآخَرُ مَحْظُورٌ عليه وَالثَّانِي يَكُونُ اخْتِيَارُ كُلٍّ مِنْهُمَا غير مَحْظُورٍ عليه الْآخَرُ وَسَمَّوْا الْأَوَّلَ تَخْيِيرًا وَالثَّانِيَ إبَاحَةً وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ إنْ كان بين شَيْئَيْنِ يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَهِيَ لِلتَّخْيِيرِ وَإِلَّا فَلِلْإِبَاحَةِ فَالْأَوَّلُ نَحْوُ خُذْ من مَالِي دِرْهَمًا أو دِينَارًا حَيْثُ يَكُونُ مَقْصُودُهُ أَنْ يَأْخُذُوا وَاحِدًا فَقَطْ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا أو لِمَا يَقْتَضِيهِ حَظْرُ مَالِ غَيْرِهِ عنه إلَّا بِسَبَبٍ تُصَحَّحُ بِهِ إبَاحَتُهُ له وَالسَّبَبُ هُنَا تَخْيِيرُ الْمَأْمُورِ بِاجْتِنَابِهِ فَقَدْ أَبَاحَهُ بِالتَّخْيِيرِ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ فَأَيَّهُمَا اخْتَارَ كان هو الْمُبَاحَ وَيَبْقَى الْآخَرُ على حَظْرِهِ وَكَذَلِكَ كُلْ سَمَكًا أو لَبَنًا لِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ على الْمَنْعِ من الْجَمْعِ وَالثَّانِي نَحْوُ جَالِسْ الْحَسَنَ أو ابْنَ سِيرِينَ أَيْ جَالِسْ هذا الْجِنْسَ من الْعُلَمَاءِ فَلَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَكَذَلِكَ تَعَلَّمْ فِقْهًا أو نَحْوًا قال سِيبَوَيْهِ تَقُولُ جَالِسْ الْحَسَنَ أو ابْنَ سِيرِينَ أو زَيْدًا كَأَنَّك قُلْت جَالِسْ أَحَدَ هَؤُلَاءِ ولم تُرِدْ إنْسَانًا بِعَيْنِهِ فَفِي هذا دَلِيلٌ على أَنَّ كُلَّهُمْ أَهْلٌ أَنْ يُجَالَسَ كَأَنَّك قُلْت جَالِسْ هذا الضَّرْبَ من الناس وَتَقُولُ كُلْ خُبْزًا أو لَحْمًا أو تَمْرًا فَكَأَنَّك قُلْت كُلْ أَحَدَ هذه الْأَشْيَاءِ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الذي قَبْلَهُ انْتَهَى
____________________
(2/26)
وَاعْلَمْ أَنَّ أو من حَيْثُ هِيَ تَدُلُّ على الشَّيْئَيْنِ أو الْأَشْيَاءِ مِثْلُ إمَّا وَيَنْفَصِلُ التَّخْيِيرُ عن الْإِبَاحَةِ بِالْقَرِينَةِ وَسِيَاقِ الْكَلَامِ وَهِيَ تُسَاوِي إمَّا في التَّخْيِيرِ التي يُسَمِّيهَا الْمَنْطِقِيُّونَ مُنْفَصِلَةً مَانِعَةَ الْجَمْعِ وفي الْإِبَاحَةِ مُنْفَصِلَةً مَانِعَةَ الْخُلُوِّ وما ذَكَرُوهُ من أَنَّ الشَّيْئَيْنِ إنْ كَانَا أَصْلُهُمَا على الْمَنْعِ فَلِلتَّخْيِيرِ وَإِلَّا فَلِلْإِبَاحَةِ إنَّمَا أَخَذُوهُ من أَمْثِلَتِهِمْ حتى مَثَّلُوا الْأَوَّلَ بِ خُذْ دِرْهَمًا أو دِينَارًا وَالثَّانِي يُجَالِسُ الْحَسَنَ أو ابْنَ سِيرِينَ وَلَيْسَ هذا بِمُطَّرِدٍ فَقَدْ تَقُولُ له جَالِسْ أَحَدَهُمَا وَتَقْصِدُ الْمَنْعَ من الْجَمْعِ وقد يَأْذَنُ له في أَخْذِ شَيْءٍ من مَالِهِ وَيَرْضَى بِالْجَمْعِ وَإِنَّمَا الْمُعْتَمَدُ في الْفَرْقِ الْقَرَائِنُ كما ذَكَرْنَا وَلِذَلِكَ أَجْمَعُوا على أَنَّ أو في آيَةِ الْكَفَّارَةِ لِلتَّخْيِيرِ وَيُسَمُّونَهَا الْوَاجِبَ الْمُخَيَّرَ مع أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ السُّؤَالُ بِالْآيَةِ عِنْدَهُمْ وَلَا حَاجَةَ لِلتَّكَلُّفِ عن ذلك وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ التَّخْيِيرَ وَالْإِبَاحَةَ قِسْمٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِبَاحَةِ هِيَ التَّخْيِيرُ وَإِنَّمَا امْتَنَعَ الْجَمْعُ في الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ لِلْقَرِينَةِ الْعُرْفِيَّةِ لَا لِمَدْلُولِ اللَّفْظِ كما أَنَّ الْجَمْعَ بين صُحْبَةِ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ وَصْفُ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فيه قال ابن الْخَشَّابِ مَعْنَاهَا الْأَصْلِيُّ في الطَّلَبِ التَّخْيِيرُ وَأَمَّا الْإِبَاحَةُ فَطَارِئَةٌ عليه وَلَيْسَتْ فيه خَارِجَةً عن وَضْعِهَا لِأَنَّهُ إذَا أَفْرَدَ أَحَدَهُمَا بِالْمُجَالَسَةِ كان مُمْتَثِلًا وَلَمَّا كانت مُجَالَسَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا في مُجَالَسَةِ الْآخَرِ سَاغَ له الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَكَأَنَّهُ قال أَبَحْت لَك مُجَالَسَةَ هذا الضَّرْبِ وَكَذَلِكَ لو أتى بِالْوَاوِ فقال جَالِسْ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ لم يَتَمَثَّلْ إلَّا بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَاعْرِفْ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَهَذَا أَوْلَى من قَوْلِ السِّيرَافِيِّ أو التي لِلْإِبَاحَةِ مَعْنَاهَا مَعْنَى وَاوِ الْعَطْفِ وَالتَّسْوِيَة نُسِبَتْ لِلْإِبَاحَةِ لِمَا بَيْنَهُمَا من الْمُضَارَعَةِ وَلِهَذَا قالوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا قِيَامُك وَقُعُودُك وَسَوَاءٌ عَلَيَّ قِيَامُك أو قُعُودُك وما أَحْسَنَ قَوْلَ الْجُرْجَانِيِّ في كِتَابِ الْعَوَامِلِ أو تُوجِبُ الشَّرِكَةَ على سَبِيلِ الْجَوَازِ وَالْوَاوُ على سَبِيلِ الْوُجُوبِ قال وَحَيْثُ أُرِيدَ بها الْإِبَاحَةُ فَلَا بُدَّ من أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جِنْسًا مَخْصُوصًا فَلَا يَصِحُّ كُلْ السَّمَكَ أو اشْرَبْ اللَّبَنَ أو اضْرِبْ زَيْدًا أو عَمْرًا إلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِمَا أَنَّهُمَا مَثَلَانِ في الشُّرْبِ وَاسْتِحْقَاقِ الضَّرْبِ وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَكَذَلِكَ كُلْ صَيْحَانِيًّا أو بَرْنِيًّا قال وإذا أَمْعَنْت النَّظَرَ لم تَجِدْ أو زَائِلَةً عن مَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ وهو كَوْنُهَا لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أو الْأَشْيَاءِ انْتَهَى
____________________
(2/27)
وَلَا بُدَّ هَاهُنَا من اسْتِحْضَارِ أَنَّ التَّخْيِيرَ لَا يَكُونُ إلَّا بين مُبَاحَيْنِ لَا مُبَاحٍ وَمَحْظُورٍ إذَا عَلِمْت مَعْنَى الْإِبَاحَةِ في قَوْلِهِمْ جَالِسْ الْحَسَنَ أو ابْنَ سِيرِينَ وكان ذلك في الْأَمْرِ وَفِيمَا خُيِّرَ فيه بين مُبَاحَيْنِ أَحَدُهُمَا بِمَعْنَى الْآخَرِ فَبِإِزَاءِ ذلك النَّهْيِ التَّضَمُّنِيِّ التَّخْيِيرُ بين الْإِيقَاعِ من كل وَاحِدٍ من مَحْظُورَيْنِ أَحَدُهُمَا في مَعْنَى الْآخَرِ في الْحَظْرِ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ لَا تَأْتِ زِنًى أو قَتْلِ نَفْسٍ وقَوْله تَعَالَى وَلَا تُطِعْ منهم آثِمًا أو كَفُورًا لِأَنَّهُ يَجِبُ تَرْكُ طَاعَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا مُفْرَدَيْنِ وَمُجْتَمِعَيْنِ وَكَأَنَّهُ قال حَظَرْت عَلَيْك طَاعَةَ هذا الضَّرْبِ من الناس إذْ كان تَرْكُ كُلٍّ مِنْهُمَا في الْمَعْنَى تَرْكَ طَاعَةِ الْآخَرِ كما كانت الْإِبَاحَةُ في مُجَالَسَةِ الْحَسَنِ أو ابْنِ سِيرِينَ كَذَلِكَ وَأَمَّا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ لو قال أو لَا تُطِعْ كَفُورًا لَانْقَلَبَ الْمَعْنَى فَصَحِيحٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ لِلْإِبَاحَةِ أو التَّخْيِيرِ بِالْمَعْنَى السَّابِقِ في قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ فإذا قال أو لَا تُطِعْ كَفُورًا صَارَتْ في أَثْنَاءِ قَضِيَّتَيْنِ الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا التي تَلِي أو غَيْرُ الْأُولَى التي قَبْلَهَا فَتَخْرُجُ بِذَلِكَ إلَى مَعْنَى بَلْ إذَا كانت بَلْ لَا تَرِدُ في أَثْنَاءِ قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَصَارَتْ أو بِمَعْنَى الْإِضْرَابِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ أَضْرَبَ عن النَّهْيِ عن طَاعَةِ الْآثِمِ وَانْتَقَلَ إلَى النَّهْيِ عن طَاعَةِ الْكَفُورِ وَهَذَا قَلْبٌ لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ من الْآيَةِ من تَرْكِ طَاعَتِهِمَا أو مُنْفَرِدَيْنِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّهْيَ إذَا دخل على أو التي لِلْإِبَاحَةِ حُظِرَ الْكُلُّ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا كما في لَا تَتَعَلَّمْ الشِّعْرَ أو أَحْكَامَ النُّجُومِ فَهِيَ نَهْيٌ جَمْعًا وَإِفْرَادًا كما كان له في الْأَمْرِ في الْإِبَاحَةِ فِعْلُهُمَا جَمْعًا وَإِفْرَادًا وإذا دخل على أو التي لِلتَّخْيِيرِ كَقَوْلِك لَا تَأْخُذْ دِرْهَمًا أو دِينَارًا فَالْأَشْبَهُ في أَنَّهُ يَجِبُ عليه الِامْتِنَاعُ من أَحَدِهِمَا قالوا فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَفِيهِ نَظَرٌ هل يَكُونُ مُطِيعًا أو عَاصِيًا قال ابن الْخَشَّابِ وَجْهُ النَّظَرِ أَنَّ التَّخْيِيرَ الذي كان في الْأَمْرِ هل هو بَاقٍ في النَّهْيِ أَمْ لَا لِأَنَّ النَّهْيَ في الْأَمْرِ بِمَنْزِلَةِ النَّفْيِ من الْإِيجَابِ في الْخَبَرِ وقد يَتَنَاوَلُ النَّفْيُ الْكَلَامَ الْمُوجِبَ فَيَنْفِيهِ بِمَعْنَاهُ وقد لَا يَكُونُ كَذَلِكَ في مَوَاضِعَ تَنَازَعَهَا الْعُلَمَاءُ وَقَصَدْت فيها رَأْيَ الْمُحَقِّقِينَ منهم وَكَذَلِكَ النَّهْيُ حُكْمُهُ في تَنَاوُلِ الْمَأْمُورِ بِهِ حُكْمُ تَنَاوُلِ النَّفْيِ الْمُوجِبِ فَإِنْ كان التَّخْيِيرُ الذي كان في الْأَمْرِ بَاقِيًا مع النَّهْيِ بِحَالِهِ لم يَكُنْ الْمَنْهِيُّ الْجَمْعَ بين الْأَمْرَيْنِ وَإِنْ لم يَكُنْ بَاقِيًا فَالْأَمْرُ بِخِلَافِ ذلك وقال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ في أُصُولِهِ أو تَتَنَاوَلُ وَاحِدًا مِمَّا دَخَلَتْ عليه لَا جَمِيعَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أو كِسْوَتُهُمْ أو تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَهَذَا في
____________________
(2/28)
الْإِثْبَاتِ وَأَمَّا في النَّفْيِ فَهِيَ تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ على حِيَالِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تُطِعْ منهم آثِمًا أو كَفُورًا وَقَوْلُهُ أو الْحَوَايَا أو ما اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ فَفِي كل وَاحِدٍ على حِيَالِهِ لَا على تَعَيُّنِ الْجَمْعِ وَلِهَذَا قال أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قال وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمَنَّ زَيْدًا أو عَمْرًا إنَّهُ يَحْنَثُ بِكَلَامِ أَيِّهِمَا وَقَعَ وَحَكَى السِّيرَافِيُّ في شَرْحِ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْمُزَنِيّ من أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ سُئِلَ عن رَجُلٍ حَلَفَ وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْت أَحَدًا إلَّا كُوفِيًّا أو بَصْرِيًّا فقال ما أَرَاهُ إلَّا حَانِثًا فذكر ذلك لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ فقال خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا إلَى قَوْلِهِ إلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أو الْحَوَايَا أو ما اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ وَكُلُّ ذلك ما كان مُبَاحًا خَارِجًا بِالِاسْتِثْنَاءِ من التَّحْرِيمِ وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لقد هَمَمْت أَنْ لَا أَقْبَلَ هَدِيَّةً إلَّا من قُرَشِيٍّ أو ثَقَفِيٍّ فَالْقُرَشِيُّ وَالثَّقَفِيُّ جميعا مُسْتَثْنَيَانِ فَرَجَعَ الْمُزَنِيّ إلَى قَوْلِهِ وَيَرِدُ على ما قَرَّرَهُ في النَّفْيِ ما ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ في قَوْله تَعَالَى يوم يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّك لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا لم تَكُنْ آمَنَتْ من قَبْلُ أو كَسَبَتْ في إيمَانِهَا خَيْرًا يَعْنِي أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِيمَانِ بِدُونِ الْعَمَلِ لَا يَنْفَعُ وَلَا يُحْمَلُ على عُمُومِ النَّفْيِ أَيْ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ الْإِيمَانُ حِينَئِذٍ النَّفْسَ التي لم تُقَدِّمْ الْإِيمَانَ وَلَا كَسَبَتْ الْخَيْرَ في الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ إذَا نُفِيَ الْإِيمَانُ كان نَفْيُ كَسْبِ الْخَيْرِ في الْإِيمَانِ تَكْرَارًا فَيَجِبُ حَمْلُهُ على نَفْيِ الْعُمُومِ أَيْ النَّفْسُ التي لم تَجْمَعْ بين الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ تَنْبِيهٌ أو لها اسْتِعْمَالَانِ في التَّخْيِيرِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَسْتَوِيَ طَرَفَاهُ عِنْدَ الْمَأْمُورِ وَلَا يُؤْمَرُ فيه بِاجْتِهَادٍ كَآيَةِ الْكَفَّارَةِ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا فيه بِالِاجْتِهَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً فإن الْإِمَامَ يَتَخَيَّرُ في الْأَسِيرِ تَخَيُّرَ اجْتِهَادٍ وَمَصْلَحَةٍ لَا تَشَهٍّ وقد تَدْخُلُ أو لِلتَّبْعِيضِ وَالتَّفْصِيلِ وهو أَنْ يَذْكُرَ عن جَمَاعَةٍ قَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ على أَنَّ بَعْضَهُمْ قال أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ وَبَعْضُهُمْ قال الْقَوْلَ الْآخَرَ كَقَوْلِك أَجْمَعَ
____________________
(2/29)
الْقَوْمُ فَقَالُوا حَارِبُوا أو صَالِحُوا أَيْ قال بَعْضُهُمْ حَارِبُوا وقال بَعْضُهُمْ صَالِحُوا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أو نَصَارَى تَهْتَدُوا وقد عُلِمَ أَنَّهُ ليس في الْفِرَقِ فِرْقَةٌ تُخَيِّرُ بين الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَإِنَّمَا هو إخْبَارٌ عن جُمْلَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّهُمْ قالوا ثُمَّ فَصَّلَ ما قَالَهُ كُلٌّ منهم وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ في تَخْيِيرِ الْإِمَامِ في عُقُوبَةِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْآيَةَ وَأَنْكَرَ غَيْرُهُ التَّخْيِيرَ في الْآيَةِ وَاخْتَارَ السِّيرَافِيُّ أَنَّ أو فيها من هذا الْبَابِ لِلتَّفْصِيلِ وَتَرْتِيبِ اخْتِيَارِ هذه الْعُقُوبَاتِ على أَصْنَافِ الْمُحَارَبِينَ كَالْآيَةِ السَّابِقَةِ على أَنَّ بَعْضًا وَهُمْ الَّذِينَ قَتَلُوا يُقَتَّلُونَ وَبَعْضًا وَهُمْ الَّذِينَ أَخَذُوا تُقَطَّعُ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وقد تُسْتَعَارُ أو إذَا وَقَعَ بَعْدَهَا مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ نَحْوُ لَأَلْزَمَنَّكَ حتى تُعْطِيَنِي وَلِهَذَا قال النُّحَاةُ إنَّهَا بِمَعْنَى إلَى لِأَنَّ الْفِعْلَ الْأَوَّلَ يَمْتَدُّ إلَى وُقُوعِ الثَّانِي أو يَمْتَدُّ في جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ إلَى وَقْتِ وُقُوعِ الثَّانِي بَعْدَهُ فَيَنْقَطِعُ امْتِدَادُهُ وقد مَثَّلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ليس لَك من الْأَمْرِ شَيْءٌ أو يَتُوبَ عليهم أَيْ حتى تَقَعَ تَوْبَتُهُمْ أو تَعْذِيبُهُمْ وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إلَى أَنَّهُ عَطْفٌ على ما سَبَقَ وليس لك من الْأَمْرِ شَيْءٌ اعْتِرَاضٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَالِكُ أَمْرِهِمْ فَإِمَّا أَنْ يُهْلِكَهُمْ أو يَهْزِمَهُمْ أو يَتُوبَ عليهم أو يُعَذِّبَهُمْ فَلَوْ قال وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هذه الدَّارَ أو أَدْخُلَ تِلْكَ بِالنَّصْبِ كان بِمَعْنَى حتى وما يُقَالُ من أَنَّ تَقْدِيرَ الْعَطْفِ من جِهَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ مَنْفِيٌّ ليس بِمُسْتَقِيمٍ إذْ لَا امْتِنَاعَ في الْعَطْفِ الْمُثْبَتِ على الْمَنْفِيِّ وَبِالْعَكْسِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ أو في قَوْله تَعَالَى لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ ما لم تَمَسُّوهُنَّ أو تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً عَاطِفَةٌ مُقَيِّدَةٌ لِلْعُمُومِ أَيْ عَدَمُ الْجُنَاحِ مُقَيَّدٌ بِانْتِفَاءِ الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي الْمُجَامَعَةَ وَتَقْرِيرَ الْمَهْرِ حتى لو وُجِدَ أَحَدُهُمَا كان الْجُنَاحُ أَيْ وَجَبَ الْمَهْرُ فَيَكُونُ تَفْرِضُوا مَجْزُومًا عَطْفًا على تَمَسُّوهُنَّ وَلَا حَاجَةَ إلَى ما ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ من أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ على مَعْنَى إلَى أَنْ تَفْرِضُوا أو حتى تَفْرِضُوا أَيْ إذَا لم تُوجَدْ الْمُجَامَعَةُ فَعَدَمُ الْجُنَاحِ يَمْتَدُّ إلَى تَقْرِيرِ الْمَهْرِ
____________________
(2/30)
لو لو حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِامْتِنَاعٍ هذه عِبَارَةُ الْأَكْثَرِينَ وَاخْتَلَفُوا في الْمُرَادِ بها على قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا ولم يذكر الْجُمْهُورُ غَيْرَهُ أَنَّهُ امْتَنَعَ الثَّانِي لِامْتِنَاعِ الْأَوَّلِ نَحْوُ لو جِئْتنِي لَأَكْرَمْتُك انْتَفَى الْإِكْرَامُ لِانْتِفَاءِ الْمَجِيءِ فَلَا يَكُونُ فيها تَعَرُّضٌ لِلْوُقُوعِ إلَّا بِالْمَفْهُومِ وَالثَّانِي عَكْسُهُ أَيْ أَنَّهُ امْتَنَعَ الْأَوَّلُ لِامْتِنَاعِ الثَّانِي وهو ما صَارَ إلَيْهِ ابن الْحَاجِبِ وَصَاحِبُهُ ابن الزَّمْلَكَانِيِّ في الْبُرْهَانِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ سَبَبٌ لِلثَّانِي وَانْتِفَاءُ السَّبَبِ لَا يَدُلُّ على انْتِفَاءِ الْمُسَبَّبِ لِجَوَازِ أَنْ يَخْلُفَهُ سَبَبٌ آخَرُ يَتَوَقَّفُ عليه الْمُسَبَّبُ إلَّا إذَا لم يَكُنْ لِلْمُسَبَّبِ سَبَبٌ سِوَاهُ وَيَلْزَمُ من انْتِفَاءِ الْمُسَبَّبِ انْتِفَاءُ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ حُكْمٍ بِدُونِ سَبَبٍ فَصَحَّ أَنْ يُقَالَ امْتَنَعَ الْأَوَّلُ لِامْتِنَاعِ الثَّانِي أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى لو كان فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا كَيْفَ سِيقَ لِلدَّلَالَةِ على انْتِفَاءِ التَّعَدُّدِ لِانْتِقَاءِ الْفَسَادِ لَا لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْفَسَادِ لِامْتِنَاعِ التَّعَدُّدِ لِأَنَّهُ خَالَفَ الْمَفْهُومَ وَلِأَنَّ نَفْيَ الْآلِهَةِ غَيْرِ اللَّهِ لَا يَلْزَمُ منه فَسَادُ الْعَالَمِ قِيلَ وقد خَرَقَ إجْمَاعَ النَّحْوِيِّينَ وَبَنَاهُ على رَأْيِهِ أَنَّ الشُّرُوطَ اللُّغَوِيَّةَ أَسْبَابٌ وَالسَّبَبُ يَقْتَضِي الْمُسَبَّبَ لِذَاتِهِ فَيَلْزَمُ من عَدَمِ السَّبَبِ عَدَمُ الْمُسَبَّبِ وهو ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ على تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ ذلك فَقَدْ يَتَخَلَّفُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أو وُجُودِ مَانِعٍ وَعَدَمُ مَانِعٍ وَعَدَمُ سَبَبٍ آخَرَ شَرْطٌ في انْتِفَاءِ الْمُسَبَّبِ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ لَكِنَّ السَّبَبَ الْآخَرَ مَوْجُودٌ ثُمَّ كَيْفَ يُصْنَعُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ فإن الْمُرَادَ نَفْيُ السَّمَاعِ وَعَدَمُ الْخَيْرِ فيه لَا الْعَكْسُ وَالتَّحْقِيقُ أنها تُسْتَعْمَلُ في كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ لَكِنْ بِاعْتِبَارَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ وَالتَّعْلِيلِ وَبِاعْتِبَارِ الْعِلْمِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَتَقُولُ لَمَّا كان الْمَجِيءُ عِلَّةً لِلْإِكْرَامِ بِحَسَبِ الْوُجُودِ فَانْتِفَاءُ الْإِكْرَامِ لِانْتِفَاءِ الْمَجِيءِ انْتِفَاءُ الْمَعْلُولِ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ وَأَيْضًا لَمَّا لم يُعْلَمْ انْتِفَاءُ الْإِكْرَامِ فَقَدْ يُسْتَدَلُّ منه على انْتِفَاءِ الْمَجِيءِ اسْتِدْلَالًا بِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ على انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ وَكَذَا في الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ تَقُولُ في مَقَامِ التَّعْلِيلِ انْتِفَاءُ الْفَسَادِ لِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ أَيْ التَّعَدُّدُ في مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ يُعْلَمُ من انْتِفَاءِ التَّعَدُّدِ انْتِفَاءُ الْفَسَادِ فَمَنْ قال بِالْأَوَّلِ نَظَرَ إلَى اعْتِبَارِ الْأَوَّلِ وَمَنْ قال بِالثَّانِي نَظَرَ إلَى الِاعْتِبَارِ الثَّانِي
____________________
(2/31)
وَعَلَى عِبَارَةِ الْأَكْثَرِينَ فَالْجُمْلَتَانِ بَعْدَهَا لَهُمَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ إمَّا أَنْ تَكُونَا مُوجِبَتَيْنِ نَحْوُ لو زُرْتنِي لَأَكْرَمْتُك فَيَقْتَضِي امْتِنَاعَهُمَا وَإِمَّا أَنْ تَكُونَا مَنْفِيَّتَيْنِ نَحْوُ لو لم تَزُرْنِي لم أُكْرِمْك فَيَقْتَضِي وُجُودَهَا وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ لو لَمَّا كان مَعْنَاهَا الِامْتِنَاعَ لِامْتِنَاعٍ وقد دخل الِامْتِنَاعُ على النَّفْيِ فِيهِمَا فَامْتَنَعَ النَّفْيُ وإذا امْتَنَعَ النَّفْيُ صَارَ إثْبَاتًا وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا مُوجَبَةً وَالْأُخْرَى مَنْفِيَّةٌ وَتَحْتَهُ صُورَتَانِ يُعْلَمُ حُكْمُهُمَا من التي قَبْلَهُمَا وقد أَوْرَدَ على ذلك مَوَاضِعَ ظَنَّ أَنَّ جَوَابَهَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عليهم كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ وَلَوْ أَنَّمَا في الْأَرْضِ من شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَقَوْلُ عُمَرَ نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ لو لم يَخَفْ اللَّهَ لم يَعْصِهِ وَغَيْرُ ذلك أَمَّا لو جَرَيْنَا على ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ لَلَزِمَ منه عَكْسُ الْمُرَادِ ثُمَّ تَفَرَّقَ الْمُعْتَرِضُونَ الَّذِينَ رَأَوْا لُزُومَ هذا السُّؤَالِ فَمِنْهُمْ من صَارَ إلَى أنها لَا تُفِيدُ الِامْتِنَاعَ بِوَجْهٍ بَلْ لِمُجَرَّدِ الرَّبْطِ وَالتَّعَلُّقِ في الْمَاضِي كما دَلَّتْ على أَنَّ الْمُتَعَلِّقَ في الْمُسْتَقْبَلِ وهو قَوْلُ الشَّلَوْبِينَ وَابْنِ هِشَامٍ الْخَضْرَاوِيِّ وَابْنِ عُصْفُورٍ وَغَيْرِهِمْ وَتَابَعَهُمْ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا قال فَلَوْ أَفَادَتْ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ لَزِمَ التَّنَاقُضُ لِأَنَّ الْأُولَى تَقْتَضِي أَنَّهُ ما عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا وما أَسْمَعَهُمْ وَالثَّانِيَةَ أَنَّهُ تَعَالَى ما أَسْمَعَهُمْ وَلَا تَوَلَّوْا لَكِنْ عَدَمُ التَّوَلِّي خَيْرٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قد عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا وما عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا قال فَعَلِمْنَا أَنَّ كَلِمَةَ لو لَا تُفِيدُ إلَّا الرَّبْطَ وَمِنْهُمْ من تَوَسَّطَ بين الْمَقَالَيْنِ وقال إنَّهَا تُفِيدُ امْتِنَاعَ الشَّرْطِ خَاصَّةً وَلَا دَلَالَةَ لها على امْتِنَاعِ الْجَوَابِ وَلَا على ثُبُوتِهِ إلَّا أَنَّ الْأَكْثَرَ عَدَمُهُ وَهِيَ طَرِيقَةُ ابْنِ مَالِكٍ وَسَلَكَ الْقَرَافِيُّ طَرِيقًا عَجِيبًا فقال لو كما تَأْتِي لِلرَّبْطِ تَأْتِي لِقَطْعِ الرَّبْطِ فَتَكُونُ جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُحَقَّقٍ أو مُتَوَهَّمٍ وَقَعَ فيه قَطْعُ الرَّبْطِ فَتَقْطَعُهُ أنت لِاعْتِقَادِك بُطْلَانَ ذلك كما لو قال الْقَائِلُ لو لم يَكُنْ هذا زَوْجًا لم يَرِثْ فَتَقُولُ أنت لو لم يَكُنْ زَوْجًا لم يَحْرُمْ الْإِرْثُ أَيْ لِكَوْنِهِ ابْنَ عَمٍّ وَادَّعَى أَنَّ هذا يُتَخَلَّصُ بِهِ عن الْإِشْكَالِ وَأَنَّهُ خَيْرٌ من ادِّعَاءِ أَنَّ لو بِمَعْنَى أَنْ لِسَلَامَتِهِ من ادِّعَاءِ النَّقْلِ وَمِنْ حَذْفِ الْجَوَابِ وَلَيْسَ كما قال فإن كَوْنَ لو مُسْتَعْمَلًا لِقَطْعِ الرَّبْطِ لَا دَلِيلَ عليه ولم يَصِرْ
____________________
(2/32)
إلَيْهِ أَحَدٌ مع مُخَالَفَتِهِ الْأَصْلَ بِخِلَافِ ادِّعَاءِ أنها بِمَعْنَى أَنَّ أو أَنْ وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ فَقَدْ صَارَ إلَيْهِ جَمَاعَةٌ وَالظَّاهِرُ عِبَارَةُ الْأَكْثَرِينَ لِمُوَافَقَتِهَا غَالِبَ الِاسْتِعْمَالَاتِ وَأَمَّا الْمَوَاضِعُ التي نَقَضُوا بها عليهم فَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عنها وَرُجُوعُهَا إلَى قَاعِدَتِهِمْ أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَالْمَعْنَى ما كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَامْتِنَاعُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ صَادِقٌ بِعَدَمِ وِجْدَانِ هذه الْأُمُورِ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ إذْ الْمُرَادُ لَامْتَنَعَ إيجَابُهُمْ لِهَذَا التَّقْدِيرِ وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَقَوْلُهُمْ يَلْزَمُ نَفَادُ الْكَلِمَاتِ عِنْدَ انْتِفَاءِ كَوْنِ ما في الْأَرْضِ من شَجَرَةٍ أَقْلَامًا وهو الْوَاقِعُ فَيَلْزَمُ النَّفَادُ وهو مُسْتَحِيلٌ وَجَوَابُهُ أَنَّ النَّفَادَ إنَّمَا يَلْزَمُ انْتِفَاؤُهُ لو كان الْمُتَقَدِّمُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ في الْعَقْلِ أَنَّهُ مُقْتَضٍ لِلِانْتِفَاءِ أَمَّا إذَا كان مِمَّا يَتَصَوَّرُهُ الْعَقْلُ مُقْتَضِيًا فإنه لَا يَلْزَمُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى فَمَعْنَى لو في الْآيَةِ أَنَّهُ لو وُجِدَ الْمُقْتَضَى لَمَا وُجِدَ الْحُكْمُ لَكِنْ لم يُوجَدْ فَكَيْفَ يُوجَدُ وَلَيْسَ الْمَعْنَى لَكِنْ لم يُوجَدْ فَوُجِدَ لِامْتِنَاعِ وُجُودِ الْحُكْمِ بِلَا مُقْتَضٍ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لو كان الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَاسْتَقَرَّ في الْعِبَادِ ولم يَحْصُلْ النَّفَادُ لَكِنَّهُ لم يَمْتَنِعْ ذلك لِأَنَّهُمْ ما اعْتَمَدُوا الْبِحَارَ لِعَدَمِ وُجُودِهَا وَأَمَّا الْأَثَرُ فَلِمَا سَبَقَ في الذي قَبْلَهُ أَنَّ مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ عَارَضَ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ وَبِأَنَّ الْمَنْفِيَّ وهو مَعْصِيَتُهُ لَا يَنْشَأُ عن خَوْفٍ لِأَنَّ عَدَمَ الْعِصْيَانِ له سَبَبَانِ الْخَوْفُ وَالْإِجْلَالُ وقد اجْتَمَعَا في صُهَيْبٍ فَلَوْ قُدِّرَ فيه عَدَمُ الْخَوْفِ لم يَعْصِهِ فَكَيْفَ وَعِنْدَهُ مَانِعٌ آخَرُ وهو الْإِجْلَالُ فَالْقَصْدُ نَفْيُ الْمَعْصِيَةِ بِكُلِّ حَالٍ كما يُقَالُ لو كان فُلَانٌ جَاهِلًا لم يَقُلْ هذا فَكَيْفَ وهو عَالِمٌ أو يُقَالُ لو لم يَخَفْ اللَّهَ لم يَعْصِهِ فَكَيْفَ يَعْصِي اللَّهَ وهو يَخَافُهُ وإذا لم يَعْصِهِ مع عَدَمِ الْخَوْفِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَعْصِيَهُ مع وُجُودِهِ وَيُحْكَى أَنَّ الشَّلَوْبِينَ سُئِلَ عن مَعْنَاهُ فَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ فَلَوْ أَصْبَحَتْ لَيْلَى تَدِبُّ على الْعَصَا لَكَانَ هَوَى لَيْلَى جَدِيدًا أَوَائِلُهْ يُرِيدُ أَنَّ حُبَّهَا مَطْبُوعٌ في جِبِلَّتِهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ كَتَغَيُّرِ الْمُحِبِّينَ فَكَذَلِكَ جِبِلَّةُ صُهَيْبٍ مَطْبُوعَةٌ على الْخَيْرِ فَلَوْ لم يَخَفْ لم يَعْصِ لِجِبِلَّتِهِ الْفَاضِلَةِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْك بَعْدَ هذا اسْتِعْمَالُ مِثْلِ هذه الْأَجْوِبَةِ في بَقِيَّةِ الْمَوَاضِعِ الْمُعْتَرَضِ بها وَالضَّابِطُ أَنْ تَقُولَ يُؤْتَى بها لِثُبُوتِ الْحُكْمِ على تَقْدِيرٍ لَا يُنَاسِبُ الْحُكْمَ لِتُفِيدَ ثُبُوتَ الْحُكْمِ على خِلَافِهِ الذي يُنَاسِبُهُ وَيَكُونُ ذلك من طَرِيقِ الْأَوْلَى فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ مُطْلَقًا
____________________
(2/33)
ثُمَّ يُرَدُّ على الْقَائِلِ بِالرَّبْطِ وَأَنَّهَا لَا تَدُلُّ على امْتِنَاعٍ أَلْبَتَّةَ غَالِبُ الِاسْتِعْمَالَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي فإن الْمَعْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي فلم أَشَأْ أو لم أَشَأْ حَقَّ الْقَوْلِ وقَوْله تَعَالَى وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ في الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أَيْ فلم يُرِكَهُمْ لِذَلِكَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بها وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الْأَرْضِ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الْأَرْضُ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ ما اقْتَتَلَ الَّذِينَ من بَعْدِهِمْ من بَعْدِ ما جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ من آمَنَ وَمِنْهُمْ من كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ ما اقْتَتَلُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالنَّبِيِّ وما أُنْزِلَ إلَيْهِ ما اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ في الْمِيعَادِ لو أَنْفَقْت ما في الْأَرْضِ جميعا ما أَلَّفْت بين قُلُوبِهِمْ لو كان عَرَضًا قَرِيبًا وَغَيْرِهَا من الْآيَاتِ وَمِنْ الحديث لو كُنْت مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَوْ يُعْطَى الناس بِدَعْوَاهُمْ إلَى غَيْرِ ذلك لَوْلَا لَوْلَا من حَقِّ وَضْعِهَا أَنْ تُدْرَجَ في صِنْفِ الثُّلَاثِيِّ وَلَكِنْ الْمُشَاكَلَةُ أَوْجَبَتْ ذِكْرَهَا هُنَا وَيَمْتَنِعُ بها الشَّيْءُ لِوُجُودِ غَيْرِهِ وَأَصْلُهَا لو ولا فلما رُكِّبَا حَدَثَ لَهُمَا مَعْنًى ثَالِثٌ غَيْرُ الِامْتِنَاعِ الْمُفْرَدِ وَغَيْرُ النَّفْيِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ لو يَمْتَنِعُ بها الشَّيْءُ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ فَفِيهَا امْتِنَاعَانِ ولا نَافِيَةٌ وَالنَّفْيُ إذَا دخل على الْمَنْفِيِّ صَارَ إثْبَاتًا وفي تَفْسِيرِ ابْنِ بُرْجَانَ عن الْخَلِيلِ كُلُّ ما في الْقُرْآنِ فَهِيَ بِمَعْنَى هَلَّا إلَّا في قَوْلِهِ فَلَوْلَا أَنَّهُ كان من الْمُسَبِّحِينَ من من لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَهِيَ مُنَاظِرَةٌ لِ إلَى في الِانْتِهَاءِ وَالْغَايَةُ إمَّا مَكَانًا نَحْوُ من أَوَّلِ يَوْمٍ وَعَلَامَتُهَا أَنْ تَصْلُحَ أَنْ تُقَارِنَهَا إلَى لَفْظًا نَحْوُ من الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أو مَعْنًى نَحْوُ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَزَيْدٌ أَفْضَلُ من عَمْرٍو
____________________
(2/34)
وَاتَّفَقَ النُّحَاةُ على كَوْنِهَا لِابْتِدَاءِ غَايَةِ الْمَكَانِ وَاخْتَلَفُوا في الزَّمَانِ فقال سِيبَوَيْهِ إنَّهَا لَا تَكُونُ له فقال وَأَمَّا من فَتَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ في الْأَمَاكِنِ وَأَمَّا مُنْذُ فَتَكُونُ لِلِابْتِدَاءِ في الْأَزْمَانِ وَالْأَحْيَانِ وَلَا تَدْخُلُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا على صَاحِبَتِهَا وَاخْتَارَهُ جُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ وَكَلَامُ سِيبَوَيْهِ في مَوْضِعٍ آخَرَ يَقْتَضِي أنها تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ في الزَّمَانِ فإنه قال في بَابِ ما يُضْمَرُ فيه الْفِعْلُ الْمُسْتَعْمَلُ إظْهَارُهُ بَعْدَ حَرْفٍ وَمِنْ ذلك قَوْلُ بَعْضِ الْعَرَبِ من لَدٌّ شَوْلًا فَإِلَى إتْلَائِهَا نَصَبَ لِأَنَّهُ أَرَادَ زَمَانًا وَالشَّوْلُ لَا يَكُونُ زَمَانًا وَلَا مَكَانًا فَيَجُوزُ فيها الْجَرُّ نَحْوُ من لَدُنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى وَقْتِ كَذَا فلما أَرَادَ الزَّمَانَ حُمِلَ الشَّوْلُ على ما يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ زَمَانًا إذَا عَمِلَ في الشَّوْلِ كَأَنَّك قُلْت من لَدُنْ كانت شَوْلًا هذا نَصُّهُ وهو يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ لِابْتِدَاءِ غَايَةِ الزَّمَانِ وَبِهِ قال الْكُوفِيُّونَ وَالْأَخْفَشُ وَالْمُبَرِّدُ وابن دُرُسْتَوَيْهِ وابن مَالِكٍ وَجَعَلُوا منه قَوْله تَعَالَى لِلَّهِ الْأَمْرُ من قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ وَلَمَّا كَثُرَتْ ارْتَابَ الْفَارِسِيُّ وقال يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ فِيمَا جاء من هذا فَإِنْ كَثُرَ قِيسَ عليه وَإِلَّا تُؤَوَّلُ قال ابن عُصْفُورٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لم يَكْثُرْ كَثْرَةً تُوجِبُ الْقِيَاسَ بَلْ لم يَجُزْ إلَّا هذا فَلِذَلِكَ تُؤَوَّلُ جَمِيعُهُ على حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ من تَأْسِيسِ أَوَّلِ يَوْمٍ انْتَهَى وهو مَرْدُودٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ من يَوْمِ الْجُمُعَةِ وفي الحديث من الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وفي حديث عَائِشَةَ في قِصَّةِ الْإِفْكِ ولم يَجْلِسْ عِنْدِي من يَوْمِ قِيلَ لي ما قِيلَ وهو كَثِيرٌ وَمَعَ الْكَثْرَةِ فَلَا
____________________
(2/35)
حَاجَةَ إلَى الْإِضْمَارِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَالْقِيَاسُ على إلَى فَإِنَّهَا لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ زَمَانًا وَمَكَانًا ومن مُقَابَلَتِهَا فَتَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَذَكَرَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ أنها حَقِيقَةٌ في ابْتِدَاءِ غَايَةِ الْأَمْكِنَةِ وَيَتَجَوَّزُ بها عن ابْتِدَاءِ غَايَةِ الْأَزْمِنَةِ وهو حَسَنٌ يُجْمَعُ بِهِ بين الْقَوْلَيْنِ وَذَكَرَ السَّكَّاكِيُّ في الْمِفْتَاحِ في الْكَلَامِ على الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ أَنَّ قَوْلَهُمْ في من لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ مُتَعَلِّقَ مَعْنَاهَا ابْتِدَاءً الْغَايَةُ لَا أَنَّ مَعْنَاهَا ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ إذْ لو كانت كَذَلِكَ لَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ اسْمًا لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ على الِاسْمِ إلَّا اسْمٌ وهو عَجِيبٌ تَبْيِينُ الْجِنْسِ وَتَكُونُ لِتَبْيِينِ الْجِنْسِ وَضَابِطُهَا أَنْ يَتَقَدَّمَهَا عَامٌّ وَيَتَأَخَّرَ عنها خَاصٌّ كَقَوْلِك ثَوْبٌ من صُوفٍ وَخَاتَمٌ من حَدِيدٍ وَعَلَيْهِ حُمِلَ قَوْلُ صَاحِبِ الْكِتَابِ هذا بَابُ عِلْمِ ما الْكَلِمُ من الْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّ الْكَلِمَ كما تَكُونُ عَرَبِيَّةً تَكُونُ غير عَرَبِيَّةٍ وَمِنْهُمْ من رَدَّ هذا الْقِسْمَ إلَى التَّبْعِيضِ التَّبْعِيضُ وَتَجِيءُ لِلتَّبْعِيضِ نَحْوُ منهم من كَلَّمَ اللَّهُ منهم من قَصَصْنَا عَلَيْك حتى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَضَابِطُهَا أَنْ يَصْلُحَ فيه بَعْضٌ مُضَافًا إلَى الْبَعْضِ وَمِثْلُهُ شَرِبْت من الْمَاءِ وَحَكَى ابن الدَّهَّانِ عن بَعْضِهِمْ اشْتِرَاطَ كَوْنِ الْبَعْضِ أَكْثَرَ من النِّصْفِ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى منهم الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى منهم من قَصَصْنَا عَلَيْك وَمِنْهُمْ من لم نَقْصُصْ عَلَيْك فَإِنْ كان أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ أَكْثَرَ من الْآخَرِ بَطَلَ الشَّرْطُ وَإِنْ تَسَاوَيَا فَكَذَلِكَ وَمِنْهُ زَيْدٌ أَفْضَلُ من عَمْرٍو لِأَنَّك تُرِيدُ تَفْضِيلَهُ على بَعْضٍ وَلَا يَعُمُّ وَلَوْ كانت هُنَا لِلِابْتِدَاءِ لَاقْتَضَى ذلك انْتِهَاءَ ما بَيْنَهُمَا وقال الْمُبَرِّدُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيْ غَايَةِ التَّفْضِيلِ لِأَنَّ عَمْرًا هو الْمَوْضِعُ الذي اُبْتُدِئَ منه فَضْلُ زَيْدٍ في الزِّيَادَةِ وَكَذَا قال في التَّبْعِيضِ وَتَبِعَهُ الْجُرْجَانِيُّ وقال اخْتَلَفُوا في أنها حَقِيقَةٌ في مَاذَا من هذه الِاسْتِعْمَالَاتِ على أَقْوَالٍ أَحَدُهَا أَنَّ أَصْلَهَا ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ وَالْبَاقِي رَاجِعٌ إلَيْهَا وَحَكَاهُ أبو الْبَقَاءِ في شَرْحِ الْإِيضَاحِ عن الْمُبَرِّدِ
____________________
(2/36)
وَمَعْنَاهُ في التَّبْعِيضِ أَنَّ ابْتِدَاءَ أَخْذِك كان من الْمَالِ وَقَطَعَ بِهِ عبد الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ وقال لَا تَنْفَكُّ من عن ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ التَّبْعِيضُ وَبَيَانُ الْجِنْسِ بِقَرِينَةٍ وَهَذَا أَوْلَى من الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ وَمِنْ الْمَجَازِ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ صَاحِبِ الْمُفَصَّلِ أَيْضًا وَحَكَاهُ ابن الْعَرَبِيِّ في الْمَحْصُولِ عن شَرْحِ سِيبَوَيْهِ لِابْنِ السَّرَّاجِ ثُمَّ قال وهو صَحِيحٌ فإن كُلَّ تَبْعِيضٍ ابْتِدَاءُ غَايَةٍ وَلَيْسَ كُلُّ ابْتِدَاءِ غَايَةٍ تَبْعِيضًا وَجَرَى عليه إلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ وَأَنْكَرَ مَجِيئَهَا لِلتَّبْعِيضِ قال وَإِنَّمَا وُضِعَتْ لِلِابْتِدَاءِ عَكْسُ إلَى وَرَدَّ بَعْضُهُمْ التَّبْيِينَ إلَى ذلك فقال في قَوْله تَعَالَى فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ من الْأَوْثَانِ إنَّ الْمُرَادَ ابْتِدَاءُ اجْتِنَابِهِمْ الرِّجْسَ من الْأَوْثَانِ وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ مَعْنَى الِابْتِدَاءِ مَغْمُورٌ في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَغَيْرُ مَقْصُودٍ وفي بَعْضِهَا لَا يَجِيءُ إلَّا بِتَمَحُّلٍ وَالثَّانِي أنها حَقِيقَةٌ في التَّبْيِينِ وَرُدَّ الْبَاقِي إلَيْهِ فإنه قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بين الْجَمِيعِ فإن قَوْلَك سِرْت من الدَّارِ إلَى السُّوقِ بَيَّنَتْ مَبْدَأَ السَّيْرِ وَكَذَا الْبَاقِي وقال في الْمَحْصُولِ إنَّهُ الْحَقُّ الثَّالِثُ أَنَّ أَصْلَ وَضْعِهَا لِلتَّبْعِيضِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ وهو ضَعِيفٌ لِإِطْبَاقِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ على أنها لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَالرَّابِعُ وَنَقَلَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن الْفُقَهَاءِ أنها لِلتَّبْعِيضِ وَالْغَايَةِ جميعا وَكُلُّ وَاحِدٍ في مَوْضِعِهِ حَقِيقَةٌ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه فقالت الْحَنَفِيَّةُ من لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ حتى لَا يَجِبَ أَنْ يَعْلَقَ التُّرَابُ بِالْيَدِ بَلْ الْوَاجِبُ ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ من الْأَرْضِ وَلَا يَجِبُ عليه نَقْلُ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ حتى لو مَسَحَ بيده على الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ وَالْحَجَرِ الصَّلْدِ يَكْفِيهِ ذلك لِأَنَّهُ قد ابْتَدَأَ بِالْأَرْضِ وَلَوْ مَسَحَ على حَيَوَانٍ أو الثِّيَابِ لَا يَكْفِيهِ وَعِنْدَنَا أَنَّهُ لِلتَّبْعِيضِ حتى يَجِبَ أَنْ يَعْلَقَ التُّرَابُ بِالْيَدَيْنِ وَحَمْلُهُ على ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ من شَأْنِهِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْفِعْلُ كَقَوْلِك هذا الْمَكَانُ من فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ وَهَاهُنَا الْفِعْلُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ قال تَعَالَى فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه وَمَنْ جَعَلَ ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ وَالْمَسْحُ من الْآيَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالصَّعِيدِ فَلَا يَصِحُّ حَمْلُ قَوْلِهِ منه على أَنَّهُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَمِمَّنْ حَكَى الْخِلَافَ في هذه الْآيَةِ هَكَذَا صَاحِبُ الْمَصَادِرِ وابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيِّ
____________________
(2/37)
وَمِنْهُمْ من أَضَافَ إلَيْهَا مَعْنًى آخَرَ وهو انْتِهَاءُ الْغَايَةِ وَمُثِّلَ بِقَوْلِهِمْ رأيت من دَارِي الْهِلَالَ من ذلك السَّحَابِ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ انْتَهَى وقال سِيبَوَيْهِ تَقُولُ رَأَيْته من ذلك الْمَوْضِعِ فَجُعِلَتْ غَايَتُهُ لِرُؤْيَتِك أَيْ مَحَلًّا لِلِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ ال تَكُونُ حَرْفًا إذَا دَخَلَتْ على الْجَامِدِ وَتَكُونُ اسْمًا إذَا دَخَلَتْ على الْمُشْتَقِّ فَتَكُونُ بِمَعْنَى الذي كَالضَّارِبِ وَاحْتُجَّ على أنها اسْمٌ بِعَوْدِ الضَّمِيرِ عليها وَخَالَفَ الْمَازِنِيُّ وقال حَرْفٌ بِدَلِيلِ تَخَطِّي الْعَامِلِ في قَوْلِك مَرَرْت بِالْقَائِمِ وَلَوْ كانت اسْمًا لَكَانَتْ فَاصِلَةً بين حَرْفِ الْجَرِّ وَمَعْمُولِهِ وَالِاسْمُ لَا يَتَخَطَّاهُ الْعَامِلُ وَتَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَهُ وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِعَوْدِ الضَّمِيرِ فَلَا حُجَّةَ فيه لِأَنَّ أَبَا عَلِيٍّ قال في الْإِيضَاحِ وَالضَّمِيرُ يَعُودُ إلَى ما يَدُلُّ عليه الْأَلِفُ وَاللَّامُ من الذي ثُمَّ اللَّامُ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُقْصَدَ بها تَعْرِيفُ مُعَيَّنٍ وهو الْعَهْدُ وَيَنْقَسِمُ إلَى ذِكْرِيٍّ وهو تَقْدِيمُهُ في اللَّفْظِ نَحْوُ فَأَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ وَإِلَى ذِهْنِيٍّ نَحْوُ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَقَوْلُهُ إذْ هُمَا في الْغَارِ وقد اجْتَمَعَا في قَوْله تَعَالَى وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى فَالْأُولَى لِلذِّهْنِيِّ وَالثَّانِيَةُ لِلذِّكْرِيِّ وَالثَّانِي أَنْ يُقْصَدَ بها تَعْرِيفُ ما كان مَنْكُورًا بِاعْتِبَارِ حَقِيقَتِهِ وَهِيَ على ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا أَنْ يُرَادَ بها الْحَقِيقَةُ من حَيْثُ هِيَ مع قَطْعِ النَّظَرِ عن الشَّخْصِ وَالْعُمُومِ كَقَوْلِك الرَّجُلُ خَيْرٌ من الْمَرْأَةِ وَجَعَلَ منه ابن دَقِيقِ الْعِيدِ قَوْلَ عبد اللَّهِ بن أبي أَوْفَى غَزَوْنَا مع رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ الثَّانِي أَنْ يُرَادَ بها الْحَقِيقَةُ بِاعْتِبَارِ قِيَامِهَا بِوَاحِدٍ وَتُعْرَفُ بِأَنَّهَا إذَا نُزِعَتْ لَا يَحْسُنُ مَوْضِعَهَا كُلٌّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَجَعَلْنَا من الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَيْ جَعَلْنَا مَبْدَأَ كل حَيٍّ هذا الْجِنْسَ الذي هو الْمَاءُ فَهَذَا النَّوْعُ التَّعْرِيفُ قَرِيبٌ في الْمَعْنَى من النَّكِرَةِ وَلِهَذَا وُصِفَ بِهِ في الْجُمْلَةِ في قَوْلِهِ
____________________
(2/38)
وَلَقَدْ أَمُرُّ على اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي وهو يَدُلُّ على حَقِيقَةٍ مَعْقُولَةٍ مُتَّحِدَةٍ في الذِّهْنِ بِاعْتِبَارِ وَضْعِهِ فَإِنْ دَلَّ على تَعَدُّدٍ فَهُوَ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ لَا بِاعْتِبَارِ مَوْضُوعِهِ وإذا أُطْلِقَ على الْوُجُودِ أُطْلِقَ على غَيْرِ ما وُضِعَ له وَيَتَعَيَّنُ في بَعْضِ الْمُحَالِ إرَادَةُ الْحَقِيقَةِ مِثْلُ الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ وَالْحَدُّ لِلذِّهْنِيِّ لَكِنْ صِحَّتُهُ على الْوُجُودِ شَرْطٌ فيه وهو في بَعْضِهَا اسْتِعْمَالٌ مَجَازِيٌّ نَحْوُ أَكَلْت الْخُبْزَ وَشَرِبْت الْمَاءَ لِبُطْلَانِ إرَادَةِ الْجِنْسِ وَالثَّالِثُ أَنْ يُرَادَ بها الْحَقِيقَةُ بِاعْتِبَارِ كُلِّيَّةِ ذلك الْمَعْنَى وَتُعْرَفُ بِأَنَّهَا إذَا نُزِعَتْ حَسُنَ أَنْ يَخْلُفَهَا في مَوْضِعِهَا لَفْظُ كُلٍّ على سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ وَصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ من مَصْحُوبِهَا مع كَوْنِهِ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا فإنه يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّ كُلَّ إنْسَانٍ وقد اسْتَثْنَى منه الَّذِينَ آمَنُوا وَذَكَرَ ابن مَالِكٍ عَلَامَةً ثَالِثَةً وَهِيَ جَوَازُ وَصْفِ مَصْحُوبِهَا بِالْجَمْعِ مع كَوْنِهِ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ كَقَوْلِهِمْ أَهْلَكَ الناس الدِّينَارُ الْحُمْرُ وَالدِّرْهَمُ الْبِيضُ وقَوْله تَعَالَى أو الطِّفْلِ الَّذِينَ لم يَظْهَرُوا على وَرَدَّهُ شَيْخُنَا ابن هِشَامٍ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَلْ فِيهِمَا لَيْسَتْ لِعُمُومِ الْإِفْرَادِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ قِيَامُ كُلٍّ مَقَامَهَا بَلْ هِيَ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ من حَيْثُ هو هو أَيْ تَعْرِيفُ الْمَاهِيَّةِ وَالثَّانِي أَنَّ الطِّفْلَ من الْأَلْفَاظِ التي تُسْتَعْمَلُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ كَجُنُبٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا وَلَيْسَ فيه أَلِفٌ وَلَامٌ قُلْت وَمِنْ أَمْثِلَةِ هذا الْقِسْمِ قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَسَوَاءٌ كان الشُّمُولُ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ كَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أو بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ كَالسَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ في كِتَابِ الْأَيْمَانِ عِنْدَ الْكَلَامِ في لَا أَشْرَبُ الْمَاءَ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ تَارَةً تَكُونُ لِلْجِنْسِ وَتَارَةً لِلْعَهْدِ وَأَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِيهِمَا وَظَاهِرُ كَلَامِ أَهْلِ الْبَيَانِ وَالنَّحْوِ أنها حَقِيقَةٌ في الْعَهْدِ وَلِهَذَا يَحْمِلُونَهَا على
____________________
(2/39)
ذلك لِأَنَّ الْمَعْهُودَ أَقْرَبُ إلَى التَّحَقُّقِ من الْجِنْسِ وَمَتَى كان هُنَاكَ عَهْدٌ ذِكْرَى فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهَا على الْخَارِجِيِّ بِشَخْصِهِ وَلَا على الْجِنْسِ من حَيْثُ هو هو فإنه الْحَقِيقَةُ إذَا أُرِيدَ بها شَيْءٌ بِعَيْنِهِ مَجَازًا حُمِلَ على الْمُبَالَغَةِ وَالْكَمَالِ فيها وَالْمَقَامُ لَا يَقْتَضِي ذلك وقال صَاحِبُ الْبَسِيطِ أَقْوَى تَعْرِيفٍ لِ لَامِ الْحُضُورُ ثُمَّ الْعَهْدُ ثُمَّ الْجِنْسُ وَزَعَمَ السَّكَّاكِيُّ أَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ تَكُونُ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ لَا غَيْرُ وَرَدَّ الْبَاقِيَ إلَيْهِ وَبَنَاهُ على قَوْلِ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ إنَّ اللَّامَ مَوْضُوعَةٌ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ لَا غَيْرُ وَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ الْفَرْقُ بين لَامِ الْجِنْسِ وَلَامِ الْعُمُومِ وَفَرَّقَ ابن عُصْفُورٍ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهَا إنْ أَحْدَثَتْ في الِاسْمِ مَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ كانت لِلْجِنْسِ نَحْوُ دِينَارٍ يَنْطَلِقُ على كل دِينَارٍ على سَبِيلِ الْبَدَلِ فإذا عَرَّفْته دَلَّ على الشُّمُولِ بِخِلَافِ قَوْلِك لَبَنٌ فإنه وَاقِعٌ على جِنْسِ اللَّبَنِ فإذا قُلْت اللَّبَنُ بِ أَلْ عَرَفْت الْجِنْسَ ولم تُصَيِّرْهُ جِنْسًا بَلْ دَخَلَتْ لِتُعَرِّفَ الْجِنْسَ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَلْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ في الدِّينَارِ وَاللَّبَنِ على السَّوَاءِ فَإِنَّهَا إنْ دَخَلَتْ على كُلِّيٍّ فَلِلْجِنْسِ أو على جُزْئِيٍّ فَلِلْعَهْدِ أو على كُلٍّ فَلِلْعُمُومِ ولم يَقُلْ أَحَدٌ في الِاسْمِ إنَّهُ يَدُلُّ على الْكُلِّيِّ لِصِدْقِهِ على الْآحَادِ على الْبَدَلِ وَذَكَرَ ابن مَالِكٍ من أَقْسَامِهَا تَعْرِيفَ الْحُضُورِ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ ليس قَسِيمًا بَلْ هو قِسْمٌ من الْأَوَّلِ فى في لِلْوِعَاءِ إمَّا حَقِيقَةً وَهِيَ اشْتِمَالُ الظَّرْفِ على ما يَحْوِيهِ كَقَوْلِك الْمَالُ في الْكِيسِ وَإِمَّا مَجَازًا كَقَوْلِك فُلَانٌ يَنْظُرُ في الْعِلْمِ وَالدَّارُ في يَدِهِ فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى وَلِأُصَلِّبَنَّكُمْ في جُذُوعِ النَّخْلِ فقال الْمُبَرِّدُ بِمَعْنَى على وقال الْحُذَّاقُ على حَقِيقَتِهَا لِأَنَّ الْجِذْعَ يَصِيرُ مُسْتَقَرًّا لِهَذَا الْفِعْلِ وقال الْأَصْفَهَانِيُّ الذي يَظْهَرُ من كَلَامِ الْأُدَبَاءِ أنها حَقِيقَةٌ في الظَّرْفِيَّةِ الْمُحَقَّقَةِ مَجَازٌ في غَيْرِهَا سِوَى الزَّمَخْشَرِيِّ فإنه قال في قَوْله تَعَالَى وَلِأُصَلِّبَنَّكُمْ في جُذُوعِ النَّخْلِ ما يَدُلُّ على أنها على بَابِهَا قال وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ كان بين الْمُحَقَّقِ وَالْمُقَدَّرِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فَهِيَ لِلْمُشْتَرَكِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ وَإِلَّا فَهِيَ حَقِيقَةٌ في الْمُحَقَّقِ مَجَازٌ في الْمُقَدَّرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ وَضْعُ اللَّفْظِ بِإِزَاءِ
____________________
(2/40)
الْمُحَقَّقِ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ في حُكْمِ الْمَقْرُورِ بِهِ وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِيمَنْ قال لِزَيْدٍ عَلَيَّ أو عِنْدِي ثَوْبٌ في مِنْدِيلٍ إنَّ إقْرَارَهُ يَتَنَاوَلُ الثَّوْبَ دُونَ الْمِنْدِيلِ وَزَعَمَ الْعِرَاقِيُّ أَنَّهُ إقْرَارٌ بِهِمَا وَأَجْمَعَ الْفَرِيقَانِ على أَنَّهُ لو أَقَرَّ بِعَبْدٍ لي في دَارٍ أو فَرَسٍ في إصْطَبْلٍ أو سَرْجٍ على دَابَّةٍ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالظَّرْفِ وَأَنْكَرَ قَوْمٌ مَجِيئَهَا لِلسَّبَبِيَّةِ وَأَثْبَتَهُ آخَرُونَ منهم ابن مَالِكٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ وَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم في النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ من الْإِبِلِ أَيْ قَتْلُ النَّفْسِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ هذا الْمِقْدَارِ وَقِيلَ بِرُجُوعِهَا إلَى الظَّرْفِ مَجَازًا وَمِنْهُمْ من تَأَوَّلَهَا بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْأَمْرُ فيه قَرِيبٌ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ مَعْنَى الِاسْتِعْمَالِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا فَمَمْنُوعٌ وَإِنْ أَرَادَ اسْتِعْمَالَهَا مَجَازًا وَعُنِيَ الْمَجَازُ في ظَرْفِيَّةِ الْمَعْنَى مَثَلًا فَهُوَ مَجَازٌ رَجَّحَهُ على مَجَازٍ آخَرَ وهو مَجَازُ السَّبَبِيَّةِ فَإِنْ وُجِدَ له مُرَجِّحٌ عُمِلَ بِهِ وقال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ لَمَّا كان الْمُسَبَّبُ مُتَعَلِّقًا بِالسَّبَبِ جُعِلَ السَّبَبُ ظَرْفًا لِمُتَعَلِّقِ الْمُسَبَّبِ لَا لِنَفْسِ الْمُسَبَّبِ فَلِذَلِكَ يُفِيدُ الظَّرْفُ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ وقال من لَا يَفْهَمُ الْقَاعِدَةَ يَجْهَلُ كَوْنَ في دَالًّا على السَّبَبِيَّةِ عن عن مَعْنَاهَا الْمُجَاوَزَةُ لِلشَّيْءِ وَالِانْصِرَافُ إلَى غَيْرِهِ نَحْوُ عَدَلْت عن زَيْدٍ أَيْ انْصَرَفْت عنه وقال صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ تَكُونُ بِمَعْنَى من إلَّا في مَوَاضِعَ خَاصَّةٍ قالوا من تَكُونُ لِلِانْفِصَالِ وَالتَّبْعِيضِ وعن لَا تَقْتَضِي الْفَصْلَ فَيُقَالُ أَخَذْت من مَالِ فُلَانٍ وَيُقَالُ أَخَذْت عن عَمَلِ فُلَانٍ وقد اخْتَصَّتْ الْأَسَانِيدُ بِالْعَنْعَنَةِ وَكَلِمَةُ من لَا تُسْتَعْمَلُ في مَوْضِعِهَا وَقَالُوا من لَا تَكُونُ إلَّا حَرْفًا وعن تَكُونُ اسْمًا وَفِيمَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ
____________________
(2/41)
لَنْ تَنْصِبُ الْمُضَارِعَ وَتُخَلِّصُهُ لِلِاسْتِقْبَالِ نَحْوُ لَنْ يَقُومَ زَيْدٌ وَهِيَ تُفِيدُ تَأْكِيدَ مُطْلَقِ النَّفْيِ وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ في الْكَشَّافِ أنها تُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ وَوَافَقَهُ ابن الْخَبَّازِ وفي الْأُنْمُوذَجِ تَأْبِيدَهُ وَوَافَقَهُ أبو جَعْفَرٍ الطُّرْسِيُّ وقال ابن مَالِكٍ حَمَلَهُ عليه اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى وهو بَاطِلٌ وَيَظُنُّ كَثِيرٌ تَفَرُّدَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ لَكِنْ جَزَمَ بِهِ ابن الْخَشَّابِ في كِتَابِهِ الْعَوْنِيِّ بِأَنَّهُ لم يَجْعَلْ التَّأْبِيدَ عِبَارَةً عن الذي لَا يَنْقَطِعُ بَلْ عن الزَّمَنِ الطَّوِيلِ وَاقْتَضَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ مُوَافَقَةَ الزَّمَخْشَرِيِّ أَيْضًا وَأَنَّ ذلك مَوْضُوعُ اللُّغَةِ وَلَوْ على هذا الْمَنْفِيِّ بِمُجَرَّدِهِ لِتَضَمُّنِ أَنَّ مُوسَى لَا يَرَاهُ أَبَدًا وَلَا في الْآخِرَةِ لَكِنْ قام الدَّلِيلُ من خَارِجٍ على ثُبُوتِ الرُّؤْيَةِ في الْآخِرَةِ وقد رُدَّ على الزَّمَخْشَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ بِأَنَّهَا لو كانت لِلتَّأْبِيدِ لم يُقَيَّدْ مَنْفِيُّهَا بِالْيَوْمِ في قَوْله تَعَالَى فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إنْسِيًّا وَلَكِنْ ذَكَرَ التَّأْبِيدَ في قَوْله تَعَالَى وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا تَكْرَارٌ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ لَا تَأْتِي مَزِيدَةً وَغَيْرَ مَزِيدَةٍ فَالْمَزِيدَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ما مَنَعَك أَلَّا تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُك لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَشَرَطَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ في زِيَادَتِهَا قَصْدَ تَأْكِيدِ مَعْنَى النَّفْيِ الذي انْطَوَى عليه سِيَاقُ الْكَلَامِ كما في قَوْله تَعَالَى ما مَنَعَك أَلَّا تَسْجُدَ بِدَلِيلِ حَذْفِهَا في الْآيَةِ الْأُخْرَى يَعْنِي أنها تَوْكِيدٌ لِلنَّفْيِ الْمَعْنَوِيِّ الذي تَضَمَّنَهُ مَنَعَك وَلِهَذَا قال بَعْضُهُمْ تُزَادُ في الْكَلَامِ الْمُوجِبِ الْمَعْنَى إذَا تَوَجَّهَ عليه فِعْلٌ مَنْفِيٌّ في الْمَعْنَى قال الْمَازِرِيُّ وَيُطَالَبُ بِإِبْرَازِ مِثْلِ هذا الْمَعْنَى في قَوْلِهِ لِئَلَّا يَعْلَمَ قال وَلَهُ أَنْ يَقُولَ اسْتَقَرَّ الْكَلَامُ أَيْضًا بِمَعْنَى النَّفْيِ لِأَنَّهُ إذَا كان الْقَصْدُ إكْرَامَ الْمُؤْمِنِ لِيَعْلَمَ الْكُفَّارُ هَوَانَهُمْ فَهُمْ الْآنَ غَيْرُ عَالِمِينَ بِهَوَانِهِمْ فَقَدْ تَضَمَّنَ سِيَاقُ الْخِطَابِ الْإِشْعَارَ بِانْتِفَاءِ الْعِلْمِ عَنْهُمْ وَحَرْفُ لَا لِلنَّفْيِ قُلْت أَمَّا الْأُولَى في لِئَلَّا يَعْلَمَ فَزَائِدَةٌ بِالِاتِّفَاقِ وَنَصَّ عليها سِيبَوَيْهِ في كِتَابِهِ وَيَدُلُّ لها قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَاصِمٍ الْجَحْدَرِيِّ لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَقَرَأَ سَعِيدُ بن
____________________
(2/42)
جُبَيْرٍ لَأَنْ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ تَفْسِيرٌ لِزِيَادَتِهَا وَأَمَّا لَا الثَّانِيَةُ في قَوْلِهِ أَنْ لَا يَقْدِرُونَ فَكَذَلِكَ زِيدَتْ تَوْكِيدًا لِلنَّفْيِ الْمَوْجُودِ بِمَا تَوَجَّهَ عليه الْعِلْمُ وَغَيْرُ الْمَزِيدَةِ إمَّا نَاهِيَةٌ في عَوَامِلِ الْأَفْعَالِ الْجَازِمَةِ وَإِمَّا نَافِيَةٌ قال صَاحِبُ الْبُرْهَانِ وَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ في الْمَظْنُونِ حُصُولُهُ بِخِلَافِ لَنْ فَإِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ في الْمَشْكُوكِ حُصُولُهُ وَمِنْ ثَمَّ كان النَّفْيُ بِ لَنْ آكَدُ قال ابن مَالِكٍ لَا لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ كَإِنَّ لِتَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ وَجَعَلَ ذلك عُمْدَتَهُ في إعْمَالِ لَا عَمَلَ إنَّ وَأَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ النَّقِيضَ على النَّقِيضِ وقد اُسْتُنْكِرَ ذلك منه من جِهَةِ أَنَّ إنَّ دَاخِلَةٌ على الْإِثْبَاتِ فَأَكَّدَتْهُ ولا لم تَدْخُلُ على نَفْيٍ وَجَوَابُهُ أَنَّ مُرَادَهُ أنها لِنَفْيٍ مُؤَكَّدٍ أو بِمَعْنَى أنها تُرَجِّحُ ظَرْفَ النَّفْيِ الْمُحْتَمِلِ في أَصْلِ الْقَضِيَّةِ رُجْحَانًا قَوِيًّا أَكْثَرَ من تَرْجِيحِ ما وَيَدُلُّ عليه بِنَاءُ الِاسْمِ مَعَهَا لِيُفِيدَ نِسْبَةَ الْعُمُومِ وَهِيَ إمَّا تَتَنَاوَلُ الْأَفْعَالَ وَتَكُونُ عَاطِفَةً وَفِيهَا مَعْنَى النَّفْيِ نَحْوُ قام زَيْدٌ لَا عَمْرٌو فَلَا تَعْمَلُ في لَفْظِهَا شيئا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ فَأَمَّا قَوْلُهُ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صلى فَقَالُوا الْمَعْنَى لم يُصَدِّقْ ولم يُصَلِّ وَإِمَّا أَنْ تَتَنَاوَلَ الْأَسْمَاءَ فَإِمَّا أَنْ تَلِيَ الْمَعَارِفَ أو النَّكِرَاتِ فَاَلَّتِي تَلِي النَّكِرَاتِ إنْ أُرِيدَ بِنَفْيِهَا نَفْيُ الْجِنْسِ بُنِيَتْ مع اسْمِهَا وَإِنْ أُرِيدَ نَفْيُ الْوِحْدَةِ فَهِيَ الْعَامِلَةُ عَمَلَ ليس وَبِهَذَا تَقُولُ لَا رَجُلَ فيها بَلْ رَجُلَانِ وَاَلَّتِي تَلِي الْمَعَارِفَ لَا تَعْمَلُ فيها شيئا وَيَلْزَمُهَا التَّكْرَارُ نَحْوُ لَا زَيْدٌ فيها وَلَا عَمْرٌو وقال ابن الْخَشَّابِ وَهِيَ عَكْسٌ بَلْ لِأَنَّ بَلْ أَضْرَبْت بها عن الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي فَثَبَتَ الْمَعْنَى الذي كان لِلْأَوَّلِ لِلثَّانِيَّ ولا بَدَّلَتْ مَعَهَا بِإِثْبَاتِ الْمَعْنَى لِلْأَوَّلِ فَانْتَفَى بها عن الثَّانِي وَلِهَذَا لم يُعْطَفْ بها بَعْدَ النَّفْيِ فَتَقُولُ ما جَاءَنِي زَيْدٌ لَا عَمْرٌو لِأَنَّك لم تُثْبِتْ لِلْأَوَّلِ شيئا فَتَنْفِيه بها عن الثَّانِي
____________________
(2/43)
مع لِلْمُقَارَنَةِ وَالضَّمِّ فَلَوْ قال لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بها أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً مع طَلْقَةٍ أو مَعَهَا طَلْقَةٌ تَقَعُ ثِنْتَانِ كما لو قال أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ وَلَوْ قال له عَلَيَّ دِرْهَمٌ مع دِرْهَمٍ أو معه دِرْهَمٌ فَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ دِرْهَمٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مع دِرْهَمٍ لي أو معه دِرْهَمٌ لي وقال الدَّارَكِيُّ مع الْهَاءِ دِرْهَمَانِ وَمَعَ حَذْفِهَا دِرْهَمٌ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ هِيَ لِلْجَمْعِ بين شَيْئَيْنِ فَقَوْلُهُ رَأَيْت زَيْدًا مع عَمْرٍو اقْتَضَى ذلك اجْتِمَاعَهُمَا في رُؤْيَتِهِ وقال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ هِيَ لِلِاشْتِرَاكِ مع الِاقْتِرَانِ في الزَّمَانِ تَقُولُ جاء زَيْدٌ وَعَمْرٌو مَعًا أَيْ في زَمَانٍ وَاحِدٍ انْتَهَى وما ذَكَرَاهُ من دَلَالَتِهِمَا على الِاتِّحَادِ في الْوَقْتِ نَقَلُوهُ عن ثَعْلَبٍ أَيْضًا لَكِنْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ على أنها لَا تَقْتَضِي الِاتِّحَادَ في الزَّمَانِ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ مَالِكٍ فإنه قال إنَّهَا إذَا قُطِعَتْ عن الْإِضَافَةِ نُوِّنَتْ وَتَسَاوَيَا جميعا في الْمَعْنَى وقال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ قِيلَ مَعْنَى مع الْمُصَاحَبَةُ بين أَمْرَيْنِ وَكُلُّ أَمْرَيْنِ لَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا مُصَاحَبَةٌ وَاشْتِرَاكٌ إلَّا في حُكْمٍ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ الْوَاوُ التي بِمَعْنَى مع إلَّا بَعْدَ فِعْلٍ لَفْظًا أو تَقْدِيرًا لِتَصِحَّ الْمَعِيَّةُ وَكَمَالُ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ في الْأَمْرِ الذي بِهِ الِاشْتِرَاكُ في زَمَانِ ذلك الِاشْتِرَاكِ وَتُسْتَعْمَلُ أَيْضًا لِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ الذي بِهِ الِاشْتِرَاكُ وَالِاجْتِمَاعُ دُونَ زَمَانِ ذلك فَالْأَوَّلُ في أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ وَالْعِلَاجِ نحو دَخَلْت مع زَيْدٍ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى وَدَخَلَ معه السِّجْنَ فَتَيَانِ وَقَوْلُهُ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ وَالثَّانِي يَكْثُرُ في الْأَفْعَالِ الْمَعْنَوِيَّةِ نحو آمَنْت مع الْمُؤْمِنِينَ وَتُبْت مع التَّائِبِينَ وَفَهِمَتْ الْمَسْأَلَةَ مع من فَهِمَهَا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى وَارْكَعِي مع الرَّاكِعِينَ وَقِيلَ اُدْخُلَا النَّارَ مع الدَّاخِلِينَ إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى إنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ أَيْ بِالْعِنَايَةِ وَالْحِفْظِ يوم لَا يُخْزِي اللَّهُ النبي وَاَلَّذِينَ آمَنُوا معه يَعْنِي الَّذِينَ
____________________
(2/44)
شَارَكُوهُ في الْإِيمَانِ وَاَلَّذِي وَقَعَ بِهِ الِاجْتِمَاعُ وَالِاشْتِرَاكُ في الْأَحْوَالِ وقد ذَكَرَ الِاحْتِمَالَاتِ في قَوْله تَعَالَى وَاتَّبَعُوا النُّورَ الذي أُنْزِلَ معه فَقِيلَ إنَّهُ من بَابِ الْمَعِيَّةِ بل بَلْ حَرْفُ إضْرَابٍ عن الْأَوَّلِ وَإِثْبَاتٌ لِلثَّانِي وَتُسْتَعْمَلُ بَعْدَ النَّفْيِ وَالْإِيجَابِ وَيَأْتِي بَعْدَهَا الْمَنْفِيُّ كما يَأْتِي الْمُوجَبُ قالوا وَهِيَ أَعَمُّ في الِاسْتِدْرَاكِ بها من لَكِنْ تَقُولُ في الْمُوجَبِ قام زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو وفي الْمَنْفِيِّ ما قام زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو وقال تَعَالَى إنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ في غَمْرَةٍ وَمِثَالُ الْمَنْفِيِّ بَعْدَهَا أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ قالوا بَلْ لم تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَقِيلَ هِيَ لِلْإِعْرَاضِ عَمَّا قَبْلَهَا أَيْ جَعْلُهُ في حُكْمِ الْمَسْكُوتِ عنه فإذا انْضَمَّ إلَيْهَا لَا صَارَ نَصًّا في نَفْيِ الْأَوَّلِ
____________________
(2/45)
نحو جاء زَيْدٌ لَا بَلْ عَمْرٌو ثُمَّ إنْ تَلَاهَا جُمْلَةٌ كانت بِمَعْنَى الْإِضْرَابِ إمَّا الْإِبْطَالِيُّ نَحْوُ قالوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ أَيْ بَلْ هُمْ وَإِمَّا الِانْتِقَالِيُّ أَيْ الِانْتِقَالُ بها من غَرَضٍ إلَى غَرَضٍ آخَرَ وَزَعَمَ صَاحِبُ الْبَسِيطِ وابن مَالِكٍ أنها لَا تَقَعُ في التَّنْزِيلِ إلَّا على هذا الْوَجْهِ مِثَالُهُ قَوْله تَعَالَى وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ من أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ فَاسْتَدْرَكَ بِبَيَانِ عُدْوَانِهِ وَخَرَجَ من قِصَّةٍ إلَى أُخْرَى وَهِيَ في ذلك كُلِّهِ حَرْفُ ابْتِدَاءٍ لَا عَاطِفَةٌ على الصَّحِيحِ وقال ابن الْخَشَّابِ إذَا قُلْت جاء زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو لم يَجُزْ لَك أَنْ تُقَدِّرَ لَكِنْ حَرْفًا عَاطِفًا جُمْلَةً على جُمْلَةٍ وَإِنْ شِئْت اعْتَقَدْتهَا حَرْفَ ابْتِدَاءٍ يُسْتَأْنَفُ عِنْدَهَا الْكَلَامُ وَهَكَذَا إذَا جَاءَتْ في الْقُرْآنِ فَإِنْ اعْتَقَدْتهَا عَاطِفَةً فَلَا وَقْفَ على ما قَبْلَهَا دُونَهَا إذْ لَا تَقِفُ على الْمَعْطُوفِ عليه وَتَبْتَدِئُ بِالْمَعْطُوفِ وَإِنْ اعْتَقَدْتهَا حَرْفَ ابْتِدَاءٍ فَلَكَ الْخِيَارُ في الْوَقْفِ على ما قَبْلَهَا وَوَصْلِهِ انْتَهَى وَإِنْ تَلَاهَا مُفْرَدٌ فَهِيَ عَاطِفَةٌ ثُمَّ إنْ تَقَدَّمَهَا أَمْرٌ أو إيجَابٌ كَاضْرِبْ زَيْدًا بَلْ عُمْرًا أو قام زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو فَهِيَ تَجْعَلُ ما قَبْلَهَا كَالْمَسْكُوتِ عنه وَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ لِمَا بَعْدَهَا وَإِنْ تَقَدَّمَهَا نَفْيٌ أو نَهْيٌ لِتَقْرِيرِ ما قَبْلَهَا على حَالَتِهِ وَجَعْلِ ضِدِّهِ لِمَا بَعْدَهَا نحو ما قام زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو وَلَا يَقُومُ زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو وَأَجَازَ الْمُبَرِّدُ وَمَنْ تَبِعَهُ أَنْ يَكُونَ ما قَبْلَهُ مَعْنَى النَّفْيِ وَالنَّهْيِ لَا بَعْدَهَا فإذا قُلْت ما رَأَيْت زَيْدًا بَلْ عَمْرًا بَلْ ما رَأَيْت عَمْرًا لِأَنَّك إذَا أَضْرَبْت عن مُوجَبٍ في رَأَيْت زَيْدًا بَلْ عَمْرًا أَضْرَبْت إلَى مُوجَبٍ فَكَذَلِكَ تُضْرِبُ عن مَنْفِيٍّ إلَى مَنْفِيٍّ وَرُدَّ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلِاسْتِعْمَالِ وهو مُقَدَّمٌ على الْقِيَاسِ وإذا تَحَقَّقَ مَعْنَى الْإِضْرَابِ بِطَلَبِ شَبَهِهِ وَحَقِيقَتُهُ تَرْكُ الشَّيْءِ وَالْأَخْذُ في غَيْرِهِ وهو الثَّانِي من وما قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ أَصْلُهُمَا وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ الْعَرَبَ خَصَّتْ من بِأَهْلِ التَّمْيِيزِ أو من يَصِحُّ منه وما بِمَنْ سِوَاهُمْ قال وقد تَقُومُ إحْدَاهُمَا مَقَامَ الْأُخْرَى في مَعْنَاهَا وَلَا يُصَارُ إلَيْهَا إلَّا بِدَلِيلٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَالسَّمَاءِ وما بَنَاهَا وقال النَّحْوِيُّونَ ما تَقَعُ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ وَعَلَى صِفَاتِ من يَعْقِلُ وقد تَقَعُ على مُبْهَمِ من يَعْقِلُ وَيَتَفَاوَتُ ذلك بِحَسَبِ ظُهُورِ الْإِبْهَامِ أو صِفَاتِهِ قال تَعَالَى فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ وقال لَا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَتَصَوُّرُ الْإِبْهَامِ في الْآيَةِ الْأُولَى أَظْهَرُ وَإِنَّمَا التَّحْقِيقُ في هذا على الصِّفَةِ فَأَمَّا قَوْلُهُ وَالسَّمَاءِ وما بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وما طَحَاهَا فَهِيَ وَاقِعَةٌ على الصِّفَةِ فإن لِلَّهِ أَسْمَاءً وَصِفَاتٍ فإذا كَنَّيْت عن الِاسْمِ فَبِمَنْ وإذا كَنَّيْت عن الصِّفَةِ فَبِمَا فَكَأَنَّ الْأَصْلَ هُنَا وَالسَّمَاءِ وَخَالِقِهَا وَبَانِيهَا فَأُوقِعَتْ ما مَكَانَ الْخَالِقِ وَالْبَارِئِ من الصِّفَاتِ وَلَوْ قِيلَ السَّمَاءُ وَمَنْ بَنَاهَا لَقُلْنَا كان الْأَصْلُ وَالسَّمَاءُ وَاَلَّذِي بَنَاهَا فَأَوْقَعَ من في مَكَانِ اسْمِهِ تَعَالَى وَلَا الْتِفَاتَ لِمَنْ قال إنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ فَإِنَّهَا حَرْفٌ وَالْحَرْفُ لَا يَعُودُ عليه ضَمِيرٌ وقد عَادَ هُنَا الضَّمِيرُ على ما من قَوْلِهِ بَنَاهَا وَمِنْ الثُّلَاثِيِّ فَأَكْثَرَ بَلَى وَهِيَ جَوَابٌ لِلنَّفْيِ سَوَاءٌ كان النَّفْيُ عَارِيًّا من حُرُوفِ الِاسْتِفْهَامِ نحو بَلَى لِمَنْ قال ما قام زَيْدٌ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً فَجَاءَ الرَّدُّ عليهم بِإِيجَابِ النَّارِ لِمَنْ مَاتَ كَافِرًا فقال بَلَى من كَسَبَ سَيِّئَةً
____________________
(2/46)
وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ الْآيَةَ أو مَقْرُونَةً بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالوا بَلَى لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهُ رَبُّهُمْ فَرَدُّوا النَّفْيَ الذي بَعْدَ أَلْفِ الِاسْتِفْهَامِ وإذا رَدُّوا نَفْيَ الشَّيْءِ ثَبَتَ إيجَابُهُ وقال ابن عَطِيَّةَ حَقُّ بَلَى أَنْ تَجِيءَ بَعْدَ نَفْيِ غَلَبَةِ تَقْرِيرٍ وَهَذَا الْقَيْدُ الذي ذَكَرَهُ من كَوْنِ النَّفْيِ غَلَبَةَ تَقْرِيرٍ لم يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ بَلْ الْكُلُّ أَطْلَقُوا بِأَنَّهَا جَوَابُ النَّفْيِ وقال الشَّيْخُ أبو حَيَّانَ إنَّهَا حَقُّهَا أَنْ تَدْخُلَ على النَّفْيِ ثُمَّ حُمِلَ التَّقْرِيرُ على النَّفْيِ وَلِذَلِكَ لم يَحْمِلْهُ عليه بَعْضُ الْعَرَبِ وَأَجَابَهُ بِ نعم وَوَقَعَ ذلك في كَلَامِ سِيبَوَيْهِ نَفْسِهِ أَجَابَ التَّقْرِيرَ بِ نعم اتِّبَاعًا لِبَعْضِ الْعَرَبِ وَأَنْكَرَهُ عليه ابن الطَّرَاوَةِ وقال الْجَوْهَرِيُّ رُبَّمَا نَاقَضَتْهَا نعم وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي أنها تُنَاقِضُهَا قَلِيلًا بَلْ هِيَ مُنَاقِضَةٌ لها دَائِمًا لِأَنَّ نعم تَصْدِيقٌ لِمَا قَبْلَهَا وَبَلَى رَدٌّ له وَلِهَذَا قِيلَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّهُمْ لو قالوا نعم كَفَرُوا وَحَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن سِيبَوَيْهِ فَأَنْكَرَهُ عليه ابن خَرُوفٍ وَإِنَّمَا قال دُخُولُ نعم هُنَا لَا وَجْهَ له وَيُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ الْجَوْهَرِيُّ بِذَلِكَ أَنَّهُ قد يقول الْقَائِلُ في جَوَابِ من قال أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ لم يَقُمْ زَيْدٌ نعم وَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ قام زَيْدٌ وَيُرِيدُ أَنَّهُ في هذا الْوَجْهِ تَكُونُ نعم مُنَاقِضَةً لِ بَلَى وَكَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةِ يَقْتَضِي جَوَازَ وُقُوعِ نعم في الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فإنه قال في سُورَةِ الْأَنْعَامِ وبلى هِيَ التي تَقْتَضِي الْإِقْرَارَ بِمَا اُسْتُفْهِمَ عنه مَنْفِيًّا وَلَا تَقْتَضِي نَفْيَهُ وَجَحْدَهُ وَنَعَمْ تَصْلُحُ لِلْإِقْرَارِ بِهِ كما وَرَدَ ذلك في قَوْلِ الْأَنْصَارِ لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم حَيْثُ عَاتَبَهُمْ في غَزْوَةِ حُنَيْنٍ وَتَصْلُحُ أَيْضًا لِجَحْدِهِ فَلِذَلِكَ لَا تُسْتَعْمَلُ وَأَمَّا قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَغَيْرِهِ إنَّهَا إنَّمَا تَقْتَضِي جَحْدَهُ وَأَنَّهُمْ لو قالوا بِهِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ لَكَفَرُوا فَقَوْلُهُ خَطَأٌ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ انْتَهَى وقال الشَّلَوْبِينُ لَا يَمْتَنِعُ في الْآيَةِ أَنْ يَقُولُونَ نعم لَا على جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ وَلَكِنْ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ في قَوْلِهِ أَلَسْت بِرَبِّكُمْ تَقْرِيرٌ وَالتَّقْرِيرُ خَبَرٌ مُنَجَّزٌ فَجَازَ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَهُ نعم كما يَأْتِي بَعْدَ الْخَبَرِ الْمُوجَبِ وَتَكُونُ نعم لَيْسَتْ جَوَابًا على جَوَابِ التَّصْدِيقِ وَعَلَى هذا فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بين هذا وَبَيْنَ ما قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ لِأَنَّهُمَا لم يَتَوَارَدَا على مَحَلٍّ وَاحِدٍ فإن الذي مَنَعُوهُ إنَّمَا هو على أَنَّهُ جَوَابٌ وإذا كانت جَوَابًا فَإِنَّمَا يَكُونُ تَصْدِيقًا لِمَا بَعْدَ أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ وَاَلَّذِي جَوَّزَهُ إنَّمَا هو على التَّصْدِيقِ لَا الْجَوَابِ كما في قَوْلِك نعم لِمَنْ قال قام زَيْدٌ
____________________
(2/47)
قال بَعْضُهُمْ وَصَارَتْ الْأَجْوِبَةُ ثَلَاثَةً نعم تَصْدِيقٌ لِلْكَلِمِ السَّابِقِ من الْإِثْبَاتِ ولا لِرَدِّ الْإِثْبَاتِ وبلى لِرَدِّ النَّفْيِ وَلَا يُجَابُ بَعْدَ النَّفْيِ بِنَعَمْ لِأَنَّهُ تَقْرِيرٌ على ضِدِّهِ فَإِنْ وَرَدَتْ بَعْدَ نَفْيٍ فَلَيْسَتْ جَوَابًا وَلَكِنَّهَا تَصْدِيقٌ لِلَفْظِهِ الذي جاء على النَّفْيِ لكن لَكِنْ مُخَفَّفَةُ النُّونِ حَرْفٌ عَاطِفٌ مَعْنَاهُ الِاسْتِدْرَاكُ أَيْ التَّدَرُّكُ وَفَسَّرَهُ الْمُحَقِّقُونَ بِرَفْعِ التَّوَهُّمِ النَّاشِئِ من الْكَلَامِ السَّابِقِ مِثْلُ ما جَاءَنِي زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو إذَا تَوَهَّمَ الْمُخَاطَبُ عَدَمَ مَجِيءِ عَمْرٍ أَيْضًا بِنَاءً على مُخَالَطَتِهِ وَمُلَابَسَتِهِ بَيْنَهُمَا وفي الْمِفْتَاحِ أَنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ زَيْدًا جَاءَك دُونَ عَمْرٍو وَبِالْجُمْلَةِ وَضَعَهَا لِلِاسْتِدْرَاكِ وَمُغَايَرَةِ ما بَعْدَهَا لِمَا قَبْلَهَا فإذا عُطِفَ بها مُفْرَدٌ وهو لَا يَحْتَمِلُ النَّفْيَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ما قَبْلَهَا مَنْفِيًّا لِتَحْصِيلِ الْمُغَايَرَةِ وإذا عُطِفَ بها جُمْلَةٌ فَهِيَ تَحْتَمِلُ الْإِثْبَاتَ فَيَكُونُ ما قَبْلَهَا مَنْفِيًّا وَتَحْتَمِلُ النَّفْيَ فَيَكُونُ ما قَبْلَهَا مُثْبَتًا فَحَصَلَ اخْتِلَافُ الْكَلَامَيْنِ سَوَاءٌ كان الْمَنْفِيُّ هو الْأَوَّلَ أَمْ الثَّانِيَ قال النَّحْوِيُّونَ وَهِيَ في عَطْفِ الْجُمَلِ نَظِيرُ بَلْ أَيْ في الْوُقُوعِ بَعْدَ النَّفْيِ وَالْإِيجَابِ كما أنها في عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ نَقِيضُ لَا حَيْثُ تَخْتَصُّ لَا بِمَا بَعْدَ الْإِيجَابِ ولكن بِمَا بَعْدَ النَّفْيِ وَإِنَّمَا تَعْطِفُ بَعْدَ النَّفْيِ نحو ما جاء زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو فَإِنْ جَاءَتْ بَعْدَ الْإِثْبَاتِ كانت عِنْدَهُمْ لِتَرْكِ قَضِيَّةٍ تَامَّةٍ إلَى قَضِيَّةٍ أُخْرَى تَامَّةٍ مُخَالِفَةٍ لِلْأُولَى كَقَوْلِك جاء زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو لم يَأْتِ وَهِيَ في النَّفْيِ بِمَنْزِلَةِ بَلْ لَكِنْ بَلْ أَعَمُّ منها في الِاسْتِدْرَاكِ وَمَوْضُوعُهَا مُخَالَفَةُ ما قَبْلَهَا لِمَا بَعْدَهَا من الْإِيجَابِ وَالنَّفْيِ لَكِنَّ وَأَمَّا مُشَدَّدَةُ النُّونِ النَّاصِبَةُ لِلِاسْمِ الرَّافِعَةُ لِلْخَبَرِ فَمَعْنَاهَا الِاسْتِدْرَاكُ أَيْضًا وَقَوْلُ سِيبَوَيْهِ إنَّ لَكِنَّ لَا تَدَارُكَ فيها وَإِنَّمَا جِيءَ بها لِيَثْبُتَ ما بَعْدَ النَّفْيِ فَإِنَّمَا ذُكِرَ ذلك في أَثَرٍ ذَكَرَهُ بَلْ وَرَأَى أَنَّ بَلْ كَأَنَّهَا يُتَدَارَكُ بها نِسْيَانٌ أو غَلَطٌ فَفَرَّقَ بين لَكِنَّ وَبَيْنَ بَلْ بِنَفْيِ ما أَثْبَتَهُ دَلِيلٌ عنها لَا أَنَّ لَكِنَّ لَيْسَتْ لِلِاسْتِدْرَاكِ فَتَفَطَّنْ لِذَلِكَ فإنه من دَقَائِقِ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ
____________________
(2/48)
على لِلِاسْتِعْلَاءِ حِسًّا نَحْوُ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ أو مَعْنًى نَحْوُ وَلِلَّهِ على الناس حِجُّ الْبَيْتِ وَنَحْوُ لِزَيْدٍ عَلَيَّ كَذَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ وَالدَّيْنَ يَعْلُوهُ وَيَرْكَبُ في الْمَعْنَى وَلِهَذَا قالوا إنَّهَا لَتُسْتَعْمَلُ لِلْإِيجَابِ قال ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ نَحْوُ له عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَإِنَّمَا قَبِلْنَا تَفْسِيرَهَا الْوَدِيعَةِ لِأَنَّ عليه تَسْلِيمَهَا وَحِفْظَهَا وَتُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى يُبَايِعْنَك على أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شيئا قِيلَ وهو في الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ بِمَعْنَى الْبَاءِ إجْمَاعًا مَجَازٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ وهو الشَّرْطُ لَا يُمْكِنُ في الْمُعَاوَضَاتِ لِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ الشَّرْطَ فإذا قُلْت بِعْتُك هذا الْعَبْدَ على أَلْفٍ فَالْمَعْنَى بِأَلْفٍ وَكَذَا في الطَّلَاقِ وقال أبو حَنِيفَةَ على في الطَّلَاقِ لِلشَّرْطِ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ الشَّرْطَ فَيُحْمَلُ على مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ فإذا قالت طَلِّقْنِي ثَلَاثًا على أَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً لَا يَجِبُ ثُلُثُ الْأَلْفِ عِنْدَهُ لِأَنَّهَا لِلشَّرْطِ وَأَجْزَاءُ الشَّرْطِ لَا تَنْقَسِمُ على أَجْزَاءِ الْمَشْرُوطِ وَيَجِبُ عِنْدَ صَاحِبَيْهِ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْبَاءِ عِنْدَهُمَا فَتَكُونُ الْأَلْفُ عِوَضًا لَا شَرْطًا عند عِنْدَ لِلْحَضْرَةِ وَلِلْإِقْرَارِ بِالْعَيْنِ فَلَهُ عِنْدِي أَلْفٌ إقْرَارٌ بِالْعَيْنِ وَلَيْسَ فيه إشْعَارٌ بِالضَّمَانِ بَلْ قال النَّوَوِيُّ هو مُشْعِرٌ بِالْأَمَانَةِ حتى لو ادَّعَى بَعْدَ الْإِقْرَارِ أنها كانت وَدِيعَةً تَلِفَتْ أو رَدَدْتهَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ إذا إذَا ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ غَالِبًا نَحْوُ قُمْت إذَا قام زَيْدٌ قال ابن خَرُوفٍ وَزَعَمَ أبو الْمَعَالِي أنها تَكُونُ لِلْمَاضِي كَ إذْ وَخَالَفَ الْجَمَاعَةُ وَهَذَا منه عَجِيبٌ فَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ من النَّحْوِيِّينَ إلَى ذلك وَجَعَلُوا منه قَوْله تَعَالَى وَلَا على الَّذِينَ إذَا ما أَتَوْك لِتَحْمِلَهُمْ قُلْت لَا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عليه وإذا رَأَوْا تِجَارَةً أو لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا وَقَوْلُهُ
____________________
(2/49)
وَنَدْمَانَ يَزِيدُ الْكَأْسَ طِيبًا سَقَيْت إذَا تَغَوَّرَتْ النُّجُومُ بَلْ صَارَ جَمَاعَةٌ إلَى مَجِيئِهَا لِلْحَالِ بَعْدَ الْقَسَمِ نحو وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى فإذا هُنَا مُجَرَّدَةٌ عن الشَّرْطِ لِأَنَّ الْجَوَابَ في الشَّرْطِ لَا بُدَّ من ذِكْرِهِ أو من شَيْءٍ مُتَقَدِّمٍ يَدُلُّ عليه فَلَوْ دَلَّ عليه الْمُتَقَدِّمُ لَصَارَ الْمَعْنَى إذَا يَغْشَى اللَّيْلُ اقْسِمْ وكان الْقَسَمُ مُعَلَّقًا على شَرْطٍ وهو ظَاهِرُ الْفَسَادِ لَكِنَّ الْأَقْوَى أنها بَدَلٌ من اللَّيْلِ أَيْ وَقْتَ غَشَيَانِهِ وما مَنَعُوا بِهِ تَعْلِيقَ الْقَسَمِ بِغَشَيَانِ اللَّيْلِ وَتَقْيِيدُهُ بِذَلِكَ الْوَقْتِ هو بِعَيْنِهِ يَقْتَضِي مَنْعَ كَوْنِهِ حَالًا من اللَّيْلِ لِأَنَّهُ أَيْضًا يُفِيدُ تَقْيِيدَ الْقَسَمِ بِذَلِكَ الْوَقْتِ وَعَلَى هذا بَنِي أَصْحَابُنَا ما لو قال إذَا لم أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَمَضَى زَمَنٌ فلم يُطَلِّقْ وَقَعَ وَبَنَوْهُ على أَنَّ إذَا لِلْوَقْتِ وَأَنَّهَا تَنْفَكُّ عن الشَّرْطِ وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ على أنها لِلْوَقْتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ قالوا وَلِهَذَا دَخَلَتْ على الِاسْمِ وَهَذَا ضَعِيفٌ بَلْ هِيَ في الْآيَةِ لِلشَّرْطِ وَلِهَذَا أتى فيها بِالْجَوَابِ وهو قَوْلُهُ عَلِمَتْ نَفْسٌ وَالشَّمْسُ مَرْفُوعَةٌ بِالْفَاعِلِيَّةِ وَرَافِعُهَا تَفْسِيرُهُ فِعْلٌ مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ كُوِّرَتْ لِأَنَّ إذَا تَطْلُبُ الْفِعْلَ لِمَا فيها من مَعْنَى الشَّرْطِ وقال شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ في أُصُولِهِ إذَا عِنْدَ نُحَاةِ الْكُوفَةِ تُسْتَعْمَلُ لِلْوَقْتِ تَارَةً وَلِلشَّرْطِ أُخْرَى فَتُجَازِي إنْ أُرِيدَ بها الشَّرْطُ وَلَا يُجَازَى بها إنْ أُرِيدَ بها الْوَقْتُ وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ لِلْوَقْتِ فَإِنْ اُسْتُعْمِلَتْ لِلشَّرْطِ لَا تَخْلُو عن الْوَقْتِ وقال الْبَزْدَوِيُّ عِنْدَ نُحَاةِ الْكُوفَةِ تُسْتَعْمَلُ لِلْوَقْتِ وَالشَّرْطِ على السَّوَاءِ فَيُجَازَى بها على اعْتِبَارِ سُقُوطِ الْوَقْتِ عنها كَأَنَّهَا حَرْفُ شَرْطٍ وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ كما قال سِيبَوَيْهِ في إذْ ما يُجَازَى بها فَتَكُونُ حَرْفًا وقال السَّرَخْسِيُّ وَتَصِيرُ مِثْلَ إنْ وقال ابن عَمْرُونٍ في شَرْحِ الْمُفَصَّلِ إذَا دَخَلَتْهَا ما يُجَازَى بها في الْأَخْبَارِ بِدُونِ ما لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تُزِيلُ إبْهَامَهَا فإذا كَفَّتْهَا ما عن الْإِضَافَةِ بَقِيَ إبْهَامُهَا فَجُوزِيَ بها وقال أبو الْبَقَاءِ في اللُّبَابِ إنَّمَا لم يُجَازَ بها في الْأَخْبَارِ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَا بُدَّ من وُقُوعِهِ مِثْلُ إذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ وإذا طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَوَقْتُهُ مُتَعَيِّنٌ لِمَا يُضَافُ وَبَابُ الشَّرْطِ الْإِبْهَامُ وَالْفَرْقُ بين إذَا ومتى أَنَّ الْوَقْتَ في مَتَى لَازِمٌ لِلْمَجَازَاتِ دُونَ إذَا
____________________
(2/50)
عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَالْمُبَرِّدِ من الْبَصْرِيِّينَ وَالْخِلَافُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ فَلَوْ نَوَى بها آخِرَ عُمُرِهِ فإنه يَصْدُقُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِلَا خِلَافٍ قالوا وَلَوْ لم يَكُنْ حَقِيقَةً في الشَّرْطِ لَمَا صُدِّقَ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ نَوَى بها مَجَازَ كَلَامِهِ وَفِيهِ تَخْفِيفٌ على نَفْسِهِ وفي مِثْلِهِ لَا يُصَدَّقُ وقال أَصْحَابُنَا في كِتَابِ الْخُلْعِ لو قال إذَا أَعْطَيْتنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ اُشْتُرِطَ إعْطَاؤُهَا على الْفَوْرِ وَلَيْسَ ذلك من جِهَةِ الصِّيغَةِ وَلِهَذَا أَلْحَقُوا بها إنْ في ذلك قال الشَّيْخُ في الْمُهَذَّبِ كَذَا ذَكَرَ الْأَصْحَابُ وَعِنْدِي أَنَّ إذَا حُكْمُهَا حُكْمُ مَتَى وَأَيّ وَقْتٍ في اقْتِضَاءِ التَّرَاخِي وَلِهَذَا لو قال مَتَى الْقِتَالُ جَازَ أَنْ يَقُولَ إذَا شِئْت كما يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ مَتَى شِئْت بِخِلَافِ إنْ فإنه لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنْ شِئْت انْتَهَى وما ذَكَرَهُ الشَّيْخُ من دَلَالَةِ إذَا على الزَّمَانِ صَحِيحٌ لَكِنْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَتَى فَرْقٌ لِأَنَّ مَتَى عَامَّةً تَقْتَضِي الدَّلَالَةَ على كل زَمَانٍ بِخِلَافِ إذَا وَاخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ في عُمُومِهَا قِيلَ إذَا قُلْت إذَا قام زَيْدٌ قام عَمْرٌو كانت بِمَنْزِلَةِ كُلَّمَا وَقِيلَ إنَّمَا يَلْزَمُ قِيَامَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا تَقْتَضِي تَكْرَارًا قال ابن عُصْفُورٍ وَالْأَصَحُّ هو الْأَوَّلُ كَسَائِرِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ وَيَدُلُّ عليه قَوْلُ الشَّاعِرِ إذَا وَجَدْت أُوَارَ الْحُبِّ في كَبِدِي أَقْبَلْت نحو سِقَاءِ الْقَوْمِ أَنْبَرِدُ فإن الْمَعْنَى على الْعُمُومِ كَأَنَّهُ قال مَتَى وَجَدْت غير غَيْرُ اسْمٌ لَازِمٌ لِلْإِضَافَةِ في الْمَعْنَى وَيَجُوزُ قَطْعُهُ عنها إنْ فُهِمَ مَعْنَاهَا وَتَقَدَّمَتْ عليها كَلِمَةُ ليس قال الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ في الْمُغْنِي وَقَوْلُهُمْ لَا غير لَحْنٍ وَلَيْسَ كما قال فإنه مَسْمُوحٌ في قَوْلِ الشَّاعِرِ جَوَابًا بِهِ تَنْجُو اعْتَمِدْ فَوَرَبِّنَا لَعَنْ عَمَلٍ أَسْلَفْتَ لَا غير تُسْأَلُ وقد احْتَجَّ بِهِ ابن مَالِكٍ في بَابِ الْقَسَمِ من شَرْحِ التَّسْهِيلِ وَكَأَنَّ الشَّيْخَ تَابَعَ السِّيرَافِيَّ فإنه قال الْحَذْفُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ إذَا كانت إلَّا وغير بَعْدَ ليس وَلَوْ كان مَكَانَ ليس غَيْرُهَا من أَلْفَاظِ الْجَحْدِ لم يَجُزْ الْحَذْفُ وَلَا يَتَجَاوَزُ بِذَلِكَ مَوْرِدَ السَّمَاعِ انْتَهَى وقد سُمِعَ كما ذَكَرْنَا وَهِيَ عَكْسُ لَا فإن شَرْطَ غير أَنْ يَكُونَ ما قَبْلَهَا صَادِقًا على ما بَعْدَهَا تَقُولُ مَرَرْت بِرَجُلٍ غَيْرِ فَقِيهٍ وَلَا يَجُوزُ غَيْرِ امْرَأَةٍ بِخِلَافِ لَا
____________________
(2/51)
النَّافِيَةِ فَإِنَّهَا بِالْعَكْسِ وَالْأَصْلُ في غير أَنْ تَكُونَ صِفَةً وقد يُسْتَثْنَى بها قال الرُّمَّانِيُّ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا في الْحَالَتَيْنِ أنها إذَا كانت صِفَةً لم تُوجِبْ شيئا لِلِاسْمِ الذي بَعْدَهَا ولم تَنْفِ عنه نحو جَاءَنِي رَجُلٌ رَشِيدٌ غَيْرُ زَيْدٍ فَوَصَفْتَ بها ولم تَنْفِ عن زَيْدٍ الْمَجِيءَ وَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مَجِيئُهُ وَأَنْ لَا يَقَعَ وإذا كانت اسْتِثْنَاءً فإذا كان ما قَبْلَهَا إيجَابًا كان ما بَعْدَهَا نَفْيًا أو نَفْيًا فَإِيجَابًا وإذا كانت صِفَةً وُصِفَ بها الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وإذا كانت اسْتِثْنَاءً فَلَا تَأْتِي إلَّا بَعْدَ جَمْعٍ أو مَعْنَاهُ وَكَذَا قال الشَّلَوْبِينُ إنَّهَا إذَا كانت صِفَةً لم تُوجِبْ شيئا لِلِاسْمِ الذي بَعْدَهَا ولم تَنْفِ عنه وَفِيمَا قَالَاهُ نَظَرٌ وفي كَلَامِ سِيبَوَيْهِ خِلَافُهُ وقد أَجَازَ في قَوْلِك مَرَرْت بِرَجُلٍ غَيْرِك ثَلَاثَةَ مَعَانٍ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَاحِدًا خِلَافَك الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ وَاحِدٌ صِفَتُهُ مُخَالِفَةٌ لِصِفَتِك فَالْإِبْهَامُ فيه أَقَلُّ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أنت مع غَيْرِك وَهَذَا الثَّالِثُ يَحْتَاجُ إلَى تَقْرِيرٍ وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا لو قال لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ غَيْرُ طَلْقَةٍ أَنَّهُ يَقَعُ ثَلَاثٌ وَقَوْلُ أَصْحَابِنَا كُلُّ امْرَأَةٍ غَيْرِك طَالِقٌ يَقَعُ على الْمُخَاطَبَةِ إلَّا أَنْ يَعْزِلَهَا بِالنِّيَّةِ وقال صَاحِبُ الْبُرْهَانِ إذَا قُلْت ما جَاءَنِي غَيْرُ زَيْدٍ احْتَمَلَ أَنْ تُرِيدَ نَفْيَ أَنْ يَكُونَ قد جاء معه إنْسَانٌ آخَرُ وَأَنْ تُرِيدَ نَفْيَ أَنْ يَكُونَ قد جاء غَيْرُهُ لَا هو وَلَا يَصِحُّ ما جَاءَنِي غَيْرُ زَيْدٍ لَا عَمْرٍو كما لم يَجُزْ ما جَاءَنِي إلَّا زَيْدٌ لَا عَمْرٌو لِأَنَّ غير فيها مَعْنَى النَّفْيِ وَمِنْ ثَمَّ جاء حَرْفُ النَّفْيِ مع الْمَعْطُوفِ عليها في قَوْله تَعَالَى غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عليهم وَلَا الضَّالِّينَ كيف كَيْفَ إنْ وَقَعَ بَعْدَهَا مُفْرَدٌ كانت في مَوْضِعِ الْخَبَرِ نَحْوُ كَيْفَ زَيْدٌ فَإِنْ وَقَعَ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ اُخْتُلِفَ في إعْرَابِهَا فَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إلَى أنها في مَوْضِعِ نَصْبٍ على الظَّرْفِ لِأَنَّهَا في تَقْدِيرِ الظَّرْفِ وَلِذَلِكَ يُقَدَّرُ بِ على أَيِّ حَالٍ فَإِنْ قُلْت كَيْفَ زَيْدٌ قَائِمٌ فَتَقْدِيرُهُ عِنْدَهُ على أَيِّ حَالٍ زَيْدٌ قَائِمٌ وَمَذْهَبُ الْأَخْفَشِ وَالسِّيرَافِيِّ وَابْنِ جِنِّي أنها في مَوْضِعِ نَصْبٍ على الْحَالِ وَضَعَّفَهُ ابن عُصْفُورٍ بِأَنَّ الْحَالَ خَبَرٌ وكيف اسْتِفْهَامٌ فَلَا يَصِحُّ وُقُوعُهَا خَبَرًا قال ابن الصَّائِغِ وهو غَلَطٌ فَاحِشٌ فَلَيْسَ مَعْنَى
____________________
(2/52)
قَوْلِهِمْ في الْحَالِ أنها خَبَرٌ قَسِيمُ الْإِنْشَاءِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وقال ابن مَالِكٍ لم يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ كَيْفَ ظَرْفٌ إذْ لَيْسَتْ زَمَانًا وَلَا مَكَانًا وَلَكِنَّهَا لَمَّا كانت تُفَسَّرُ بِقَوْلِك على أَيِّ حَالٍ لِكَوْنِهَا سُؤَالًا عن الْأَحْوَالِ سُمِّيَتْ ظَرْفًا وَلِأَنَّهَا في تَأْوِيلِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ وَاسْمُ الظَّرْفِ يُطْلَقُ عليها مَجَازًا ثُمَّ هِيَ لِلِاسْتِفْهَامِ أَيْ لِلسُّؤَالِ عن الْحَالِ خَاصَّةً وَهَلْ يُلْحَظُ فيها مَعْنَى الْأَصْلِ لِأَنَّ الْحَالَ يَسْتَدْعِي وُجُودَ ذلك وَلِهَذَا قِيلَ يَقُول خَلِيلِي كَيْفَ صَبْرُك بَعْدَنَا فَقُلْت وَهَلْ صَبْرٌ فَيُسْأَلُ عن كَيْفَ وَمِنْ ثَمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا لو قال أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْت أنها تَطْلُقُ إنْ شَاءَتْ أَمْ لَا تَطْلُقُ حتى تَشَاءَ على وَجْهَيْنِ قال الْبَغَوِيّ وَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا لو قال أَنْتِ طَالِقٌ على أَيِّ وَجْهٍ شِئْت قُلْت وَهَذَا منه تَفْرِيعٌ على أنها في مَوْضِعِ النَّصْبِ على الظَّرْفِ لِأَنَّهُ سَوَّى بين هذا وَبَيْنَ كَيْفَ قِيلَ إنَّهَا في الْأَصْلِ بِمَنْزِلَةِ أَيِّ الِاسْتِفْهَامِيَّة وَلِهَذَا يُفَسِّرُونَ كَيْفَ شِئْت بِأَيِّ حَالَةٍ شِئْت فَاسْتُعِيرَتْ لِأَيِّ الْمَوْصُولَةِ بِجَامِعِ الْإِبْهَامِ على مَعْنَى أَنْتِ طَالِقٌ بِأَيِّ كَيْفِيَّةٍ شِئْتهَا من الْكَيْفِيَّاتِ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ سَلَبَ عنها مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ وَاسْتُعْمِلَتْ اسْمًا لِلْحَالِ كما حَكَى قُطْرُبٌ اُنْظُرْ إلَى كَيْفَ تَصْنَعُ أَيْ إلَى حَالِ صُنْعِهِ وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ تَكُونُ كَيْفَ مَنْصُوبَةً بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَذَكَرَ كَثِيرٌ من النَّحْوِيِّينَ أنها تَأْتِي شَرْطًا بِنَاءً على أنها لِلْحَالِ وَالْأَحْوَالُ شُرُوطٌ وَمُرَادُهُمْ الشَّرْطُ في الْمَعْنَى لَا الْعَمَلِ وهو الْجَزْمُ فإنه إنَّمَا يُجْزَمُ بها إلَّا إذَا انْضَمَّتْ إلَيْهَا ما نحو كَيْفَ تَصْنَعْ أَصْنَعْ كل كُلٌّ تُلَازِمُ الْإِضَافَةَ مَعْنًى وَلَا يَلْزَمُ إضَافَتُهَا لَفْظًا إذَا وَقَعَ تَوْكِيدًا وَنَعْتًا وَإِضَافَتُهَا مَنْوِيَّةٌ عِنْدَ تَجَرُّدِهَا عنها وإذا كان الْمُضَافُ إلَيْهِ الْمَحْذُوفُ مَعْرِفَةً بَقِيَ كُلٌّ على تَعْرِيفِهِ فَلَا تُبَاشِرُهُ اللَّامُ وَنَصْبُهُ على الْحَالِ في قِرَاءَةِ إنَّا كُلًّا فيها شَاذٌّ وَإِنْ أُضِيفَ إلَى نَكِرَةٍ رُوعِيَ في عَوْدِ الضَّمِيرِ وَغَيْرِهِ الْمُضَافُ إلَيْهِ وَإِنْ أُضِيفَ إلَى مَعْرِفَةٍ جَازَ مُرَاعَاةُ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَمُرَاعَاةُ لَفْظِ كُلٍّ
____________________
(2/53)
كلما أَمَّا كُلَّمَا فَهِيَ مُضَافَةٌ إلَى ما وَهِيَ مَصْدَرِيَّةٌ لَكِنَّهَا نَائِبَةٌ بِصِلَتِهَا عن ظَرْفِ زَمَانٍ كما يَنُوبُ عن الْمَصْدَرِ الصَّرِيحِ وَالْمَعْنَى كُلُّ وَقْتٍ وَلِذَا تُسَمَّى ما هذه الْمَصْدَرِيَّةَ الظَّرْفِيَّةَ أَيْ النَّائِبَةَ عن الظَّرْفِ لَا أنها ظَرْفٌ في نَفْسِهَا فَكُلٌّ من كُلَّمَا مَنْصُوبٌ على الظَّرْفِيَّةِ لِإِضَافَتِهِ إلَى شَيْءٍ هو قَائِمٌ مَقَامَ الظَّرْفِ ثُمَّ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ أَنَّ كُلَّمَا لِلتَّكْرَارِ قال الشَّيْخُ أبو حَيَّانَ وَإِنَّمَا ذلك من عُمُومِ ما لِأَنَّ الظَّرْفِيَّةَ يُرَادُ بها الْعُمُومُ فإذا قُلْت أَصْحَبُك ما ذَرَّ لِلَّهِ شَارِقٌ فَإِنَّمَا تُرِيدُ الْعُمُومَ فَكُلٌّ أَكَّدَتْ الْعُمُومَ الذي أَفَادَتْهُ ما الظَّرْفِيَّةُ لَا أَنَّ لَفْظَ كُلَّمَا وُضِعَ لِلتَّكْرَارِ كما يَدُلُّ عليه كَلَامُهُمْ وَإِنَّمَا جَاءَتْ كُلٌّ تَوْكِيدًا لِلْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ من ما الظَّرْفِيَّةِ فإذا قُلْت كُلَّمَا جِئْتنِي أَكْرَمَتْك فَالْمَعْنَى أُكْرِمُك في كل فَرْدٍ فَرْدٍ من جِيئَاتِك إلَيَّ انْتَهَى وَقَوْلُهُ إنَّ التَّكْرَارَ من عُمُومِ ما مَمْنُوعٌ فإن ما الْمَصْدَرِيَّةَ لَا عُمُومَ لها وَلَا يَلْزَمُ من نِيَابَتِهَا عن الْعُمُومِ دَلَالَتُهَا على الْعُمُومِ وَإِنْ اُسْتُفِيدَ عُمُومٌ في مِثْلِ هذا الْكَلَامِ من ما إنَّمَا هو من التَّرْكِيبِ بِجُمْلَتِهِ بعد بَعْدُ تَقَعُ لِلتَّرْتِيبِ وَتَحْتَمِلُ الْفَوْرَ وَالتَّرَاخِيَ قَالَهُ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ إلى إلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ زَمَانًا وَمَكَانًا وَلَا يَأْتِي فيها خِلَافُ من في الزَّمَانِ وَعِبَارَةُ الرَّاغِبِ حَرْفٌ يُحَدُّ بِهِ النِّهَايَةُ من الْجَوَانِبِ السِّتَّةِ وَهَلْ يَدْخُلُ ما بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا أَمْ لَا أَمْ يُفَرَّقُ بين أَنْ يَكُونَ من جِنْسٍ لِلْغَايَةِ فَيَدْخُلُ وَإِلَّا فَلَا خِلَافٌ وَنُسِبَ الثَّالِثُ إلَى سِيبَوَيْهِ كما قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ قُلْت وَرَأَيْته مَجْزُومًا بِهِ لِابْنِ سُرَيْجٍ في كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْوَدَائِعِ بِمَنْصُوصِ الشَّرَائِعِ في بَابِ الْوُضُوءِ قال وَمَنْ أَوْجَبَ إدْخَالَ الْمِرْفَقَيْنِ في الْغُسْلِ لِأَنَّهُ من جِنْسِهِ لِأَنَّ الْيَدَ من أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ إلَى الْمَنْكِبِ وَقِيلَ يَدْخُلُ أَوَّلُ جُزْءٍ من الْمُنْتَهَى إلَيْهِ كما يَدْخُلُ آخِرُ جُزْءٍ من الْمُبْتَدَأِ منه حَكَاهُ النِّيلِيُّ وقال ابن الْحَاجِبِ في شَرْحِ الْمُفَصَّلِ جَاءَتْ وما بَعْدَهَا دَاخِلٌ وَجَاءَتْ وما بَعْدَهَا خَارِجٌ فَمِنْهُمْ من حَكَمَ بِالِاشْتِرَاكِ وَمِنْهُمْ من حَكَمَ بِظُهُورِ الدُّخُولِ وَمِنْهُمْ من
____________________
(2/54)
حَكَمَ بِظُهُورِ انْتِفَاءِ الدُّخُولِ وَعَلَيْهِ النَّحْوِيُّونَ انْتَهَى وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا عن سِيبَوَيْهِ التَّفْصِيلَ بين أَنْ تَقْتَرِنَ بِمَنْ فَتَقْتَضِيَ التَّحْدِيدَ وَلَا يَدْخُلُ الْحَدُّ في الْمَحْدُودِ نَحْوُ بِعْتُك من هذه الشَّجَرَةِ إلَى تِلْكَ فَلَا يَدْخُلَانِ في الْبَيْعِ وَإِنْ لم تَقْتَرِنْ جَازَ أَنْ تَكُونَ تَحْدِيدًا وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى مع كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ وَأَنْكَرَ ابن خَرُوفٍ هذا على إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وقال لم يذكر سِيبَوَيْهِ في كِتَابِهِ من هذا وَلَا حَرْفًا وَلَا هو مَذْهَبُهُ وَاَلَّذِي قَالَهُ في بَابِ عِدَّةِ الْكَلِمِ وَأَمَّا إلَى فَمُنْتَهَى الِابْتِدَاءِ تَقُولُ من مَكَانِ كَذَا إلَى كَذَا وَكَذَلِكَ حتى وقد بَيَّنَ ذلك في بَابِهَا بِمَعْنَى حتى وَلَهَا في الْفِعْلِ حَالٌ ليس لِ إلَى تَقُولُ لِلرَّجُلِ إنَّمَا أنا إلَيْك أَيْ إنَّمَا أنت مَطْلُوبِي وَغَايَتِي وَلَا تَكُونُ حتى هُنَا فَهَذَا أَمْرُ إلَى وَأَصْلُهَا وَإِنْ اتَّسَعَتْ وَهِيَ أَعَمُّ في الْكَلَامِ من حتى تَقُولَ قُمْت إلَيْهِ بِجَعْلِهِ مُنْتَهَاك من مَكَانِك وَلَا تَقُولُ حَتَّاهُ انْتَهَى وَلَيْسَ فيه إلَّا أنها لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ وَإِنْ اتَّسَعَ فيها وقال الزَّمَخْشَرِيُّ الْغَايَةُ لَا تُدْخِلُ شيئا وَلَا تُخْرِجُهُ بَلْ إنْ كان صَدْرُ الْكَلَامِ مُتَنَاوَلًا قبل دُخُولِ حَرْفِ الْغَايَةِ يَكُونُ دَاخِلًا وَإِلَّا فَلَا وقال إلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ وما ذَكَرُوهُ من دُخُولِهِ في الْمَحْدُودِ ليس مَأْخُوذًا من مَعْنَى إلَى وَإِنَّمَا فَائِدَةُ إلَى التَّنْبِيهُ عن أنها ما اُبْتُدِئَ بِهِ فَبِمِنْ وَأَمَّا دُخُولُ ما يَنْتَهِي إلَيْهِ فيه وَعَدَمُهُ فَبِدَلِيلٍ من خَارِجٍ وقال بَعْضُ النُّحَاةِ لَا تُفِيدُ إلَّا انْتِهَاءَ الْغَايَةِ من غَيْرِ دَلَالَةٍ على الدُّخُولِ أو عَدَمِهِ بَلْ هو رَاجِعٌ إلَى الدَّلِيلِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ إلَى لِلنِّهَايَةِ فَجَازَ أَنْ يَقَعَ على أَوَّلِ الْحَدِّ وَأَنْ يَتَوَغَّلَ في الْمَكَانِ لَكِنْ تَمْتَنِعُ الْمُجَاوَزَةُ لِأَنَّ النِّهَايَةَ غَايَةٌ وما كان بَعْدَهُ شَيْءٌ لم يُسَمَّ غَايَةً قُلْت وَهَذَا هو ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ حَيْثُ قال وَدَلَّتْ السُّنَّةُ على أَنَّ الْكَعْبَيْنِ وَالْمِرْفَقَيْنِ مِمَّا يُغْسَلُ لِأَنَّ الْآيَةَ تَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا حَدَّيْنِ لِلْغَسْلِ وَأَنْ يَكُونَا دَاخِلَيْنِ في الْغَسْلِ فلما قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ من النَّارِ دَلَّ ع
____________________
(2/55)
لى أَنَّهُ غَسْلٌ انْتَهَى وَتَجِيءُ بِمَعْنَى مع في قَوْلِ بَعْضِهِمْ وَالْمُحَقِّقُونَ أنها على بَابِهَا وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عليه الْكَلَامُ وَالتَّقْدِيرُ في قَوْله تَعَالَى وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ أَيْ لَا تُضِيفُوهَا إلَى أَمْوَالِكُمْ فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى وَأَيْدِيكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ فَمَنْ أَوْجَبَ غَسْلَهَا قال بِمَعْنَى مع وَعَلَى قَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ هِيَ على بَابِهَا وَلَا تُفِيدُ انْتِهَاءَ الْغَسْلِ إلَى الْمَرَافِقِ قال الْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ إنَّ لَفْظَ الْيَدِ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجَارِحَةِ من رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ فَالْمَرَافِقُ دَاخِلَةٌ في حَقِيقَةِ الْيَدِ وإذا جَاءَتْ إلَى التَّحْدِيدِ بِبَعْضِ الشَّيْءِ دخل الْمَحْدُودُ إلَيْهِ في الْحَدِّ كَقَوْلِك بِعْتُك من هذا الْحَائِطِ إلَى هذه الشَّجَرَةِ فإن الشَّجَرَةَ تَدْخُلُ فَعَلَى هذا لَا يُحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلِهَا بِمَعْنَى مع وَقِيلَ دَخَلَتْ الْمَرَافِقُ في الْغَسْلِ لِأَنَّ الْمَرَافِقَ مُنْتَهَى الذِّرَاعِ فَلَزِمَ من وُجُوبِ غَسْلِ الذِّرَاعِ وُجُوبُ غَسْلِ الْمَرَافِقِ وَقِيلَ إنَّهَا غَايَةٌ لِلْإِسْقَاطِ لَا لِمَدِّ الْحُكْمِ وَذَكَرُوا لِهَذَا الْكَلَامِ تَفْسِيرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ إذَا كان مُتَنَاوِلًا لِلْغَايَةِ كَالْيَدِ فَإِنَّهَا اسْمٌ لِلْمَجْمُوعِ إلَى الْإِبْطِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْغَايَةِ لِإِسْقَاطِ ما وَرَاءَهَا لَا لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَيْهَا لِأَنَّ الِامْتِدَادَ حَاصِلٌ فَيَكُونُ قَوْلُهُ إلَى الْمَرَافِقِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ اغْسِلُوا وَغَايَةُ لَكِنْ لِأَجْلِ إسْقَاطِ ما وَرَاءَ الْمِرْفَقِ عن حُكْمِ الْغَسْلِ الثَّانِي أَنَّهُ غَايَةٌ لِلْإِسْقَاطِ وَمُتَعَلِّقٌ بِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ اغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ مُسْقِطِينَ إلَى الْمَرَافِقِ فَتَخْرُجُ عن الْإِسْقَاطِ فَتَبْقَى دَاخِلَةً تَحْتَ الْغَسْلِ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِظُهُورِ أَنَّ الْجَارَ وَالْمَجْرُورَ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ الْمَذْكُورِ وَأَثَارَ بَعْضُهُمْ هُنَا بَحْثًا وهو أَنَّهُ إذَا قَرَنَ بِالْكَلَامِ غَايَةً أو اسْتِثْنَاءً أو شَرْطًا لَا يُعْتَبَرُ بِالْمُطْلَقِ لم يَخْرُجْ بِالْقَيْدِ عن الْإِطْلَاقِ بَلْ يُعْتَبَرُ مع الْقَيْدِ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَالْفِعْلُ مع الْغَايَةِ كَلَامٌ وَاحِدٌ لِلْإِيجَابِ إلَيْهَا لَا لِلْإِيجَابِ وَالْإِسْقَاطِ لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ فَلَا يَثْبُتَانِ إلَّا بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ مع الْغَايَةِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ مَجِيئُهَا بِمَعْنَى مع لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا قال بِعْتُك بِشَرْطِ الْخِيَارِ إلَى اللَّيْلِ إنَّ اللَّيْلَ لَا يَدْخُلُ في زَمَنِ الْخِيَارِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ قال الشَّيْخُ في الْمُهَذَّبِ وَتَرِدُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ نَحْو فُلَانٌ خَارِجٌ إلَى شَهْرٍ أَيْ أَنَّ
____________________
(2/56)
ابْتِدَاءَ خُرُوجِهِ إلَى شَهْرٍ وَفُرِّعَ عليه أَنْتِ طَالِقٌ إلَى شَهْرٍ فَلَا تَطْلُقُ إلَّا بَعْدَ شَهْرٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عن الْمُتَوَلِّي حتى حتى لِلْغَايَةِ كَ إلَى وَهِيَ عَاطِفَةٌ وَجَارَةٌ وَفِيهَا مَذَاهِبُ أَحَدُهَا أَنْ ما بَعْدَهَا غَيْرُ دَاخِلٍ في حُكْمِ ما قَبْلَهَا في جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَعُزِيَ لِأَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ منهم ابن جِنِّي قال أبو جَعْفَرِ بن النَّحَّاسِ في كِتَابِ الْكَافِي اعْلَمْ أَنَّ حتى فيها مَعْنَى الْغَايَةِ وَإِنْ عَطَفْت بها وَلِهَذَا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ لِإِخْرَاجِ شَيْءٍ من شَيْءٍ انْتَهَى يُرِيدُ أَنَّ الْعَاطِفَةَ لَا تَخْرُجُ عن مَعْنَى الْغَايَةِ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا من الْمَعْطُوفِ عليه وَهَذَا الْحُكْمُ تَقْتَضِيهِ حتى من جِهَةِ كَوْنِهَا لِلْغَايَةِ لَا من جِهَةِ كَوْنِهَا لِلْعَطْفِ فإن الْأَصْلَ في الْعَطْفِ الْمُغَايَرَةُ وَالثَّانِي أَنَّهُ دَاخِلٌ سَوَاءٌ الْجَارَّةُ وَالْعَاطِفَةُ وَبِهِ جَزَمَ الْجُرْجَانِيُّ في الْمُقْتَصَدِ وَغَيْرِهِ وَسَنَذْكُرُ عِبَارَتَهُ وَتَابَعَهُ صَاحِبُ الْمُفَصَّلِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنْ يَقْتَضِيَ الشَّيْءُ الذي يَتَعَلَّقُ بِهِ شيئا فَشَيْئًا حتى يَأْتِيَ الْفِعْلُ على ذلك الشَّيْءِ كُلِّهِ فَلَوْ انْقَطَعَ الْأَكْلُ عِنْدَ الرَّأْسِ لَا يَكُونُ فِعْلُ الْآكِلِ آتِيًا على السَّمَكَةِ كُلِّهَا وَلِهَذَا امْتَنَعَ أَكَلْت السَّمَكَةَ حتى نِصْفِهَا وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْقَائِلِينَ بهذا ما إذَا دَلَّتْ قَرِينَةٌ على خُرُوجِهِ كَصُمْتُ الْأَيَّامَ حتى يوم الْفِطْرِ بِنَصَبِ الْيَوْمِ وَجَرِّهِ وَالثَّالِثُ إنْ كان ما بَعْدَهَا بَعْضًا لِمَا قَبْلَهَا دخل نحو سَبَقَنِي الناس حتى الْعَبِيدِ وَإِلَّا فَلَا نَحْوُ قَرَأَتْ الْقُرْآنَ حتى الصَّبَاحِ وهو قَوْلُ الْمُبَرِّدِ في الْمُقْتَضَبِ وَالْفَرَّاءِ في الْمَعَانِي وَابْنِ الْوَرَّاقِ في الْفُصُولِ وقال بَعْضُهُمْ الْجَارَّةُ يَأْتِي فيها الْخِلَافُ الذي في إلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى حتى مَطْلَعِ الْفَجْرِ وإذا لم يَكُنْ مَعَهَا قَرِينَةٌ تَقْتَضِي دُخُولَ ما بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا أو عَدَمَ دُخُولِهِ حُمِلَتْ على الدُّخُولِ بِخِلَافِ إلَى فَإِنَّهَا تُحْمَلُ على عَدَمِ الدُّخُولِ حَمْلًا على الْغَالِبِ في الْبَابَيْنِ وَأَمَّا إذَا كانت عَاطِفَةً فما بَعْدَهَا دَاخِلٌ فِيمَا قَبْلَهَا قَطْعًا لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَاوِ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِمَّا قَبْلَهَا جِيءَ بِهِ لِتَعْظِيمِهِ أو لِتَحْقِيرِهِ وَزَعَمَ الْقَرَافِيُّ أَنَّهُ لَا خِلَافَ في وُجُوبِ دُخُولِ ما بَعْدَ حتى وهو مَحْمُولٌ على الْعَاطِفَةِ كما قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ في أُصُولِهِ لَا الْخَافِضَةِ فإن الْخِلَافَ فيها مَشْهُورٌ وقال الْكِسَائِيُّ
____________________
(2/57)
حتى مع الْجُثَثِ بِمَعْنَى مع وَمَعَ الْمَصَادِرِ وَظُرُوفِ الزَّمَانِ بِمَعْنَى إلَى تَقُولُ انْتَظَرْتُك حتى اللَّيْلِ وَحَتَّى قُدُومِ عَمْرٍو بِمَعْنَى إلَى فِيهِمَا وَنَحْوُ بِعْتُك الدَّارَ حتى بَابِهَا أَيْ مع وَكَلَّمْت الْقَوْمَ حتى زَيْدٍ أَيْ مع مَسْأَلَةٌ حتى الْعَاطِفَةُ هل تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ اُخْتُلِفَ في الْعَاطِفَةِ هل تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فَأَثْبَتَهُ ابن الْحَاجِبِ وابن مُعْطٍ حَيْثُ قَالَا إنَّهَا كَالْفَاءِ بَلْ هذه الْعِبَارَةُ تُوهِمُ أنها لِلتَّعْقِيبِ وهو بَعِيدٌ وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا أنها بِمَعْنَى الْفَاءِ لِلْمُنَاسَبَةِ الظَّاهِرَةِ بين التَّعْقِيبِ وَالْغَايَةِ وقال صَاحِبُ الْبَسِيطِ هِيَ مِثْلُ ثُمَّ في التَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ كَوْنُ مَعْطُوفِهَا جُزْءًا من الْمَعْطُوفِ عليه وَيَصِحُّ جَعْلُهُ غَايَةً له فَعُلِمَ مِنْهُمَا مُخَالَفَتُهُ لِلْأَوَّلِ فِيمَا أَوْجَبَ الْمُهْلَةَ من ضَعْفٍ أو قُوَّةٍ كَ قَدِمَ الْحَجَّاجُ حتى الْمُشَاةُ وقال الْجُمْهُورُ إنَّهَا كَالْوَاوِ وقال ابن مَالِكٍ في شَرْحِ الْعُمْدَةِ هِيَ في عَدَمِ التَّرْتِيبِ كَالْوَاوِ وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أنها تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ حَفِظْت حتى سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَإِنْ كانت الْبَقَرَةُ أَوَّلَ مَحْفُوظِك أو مُتَوَسِّطَهُ وفي الحديث كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ حتى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ وَلَا فَرْقَ في تَعَلُّقِ الْقَضَاءِ بِالْمَقْضِيَّاتِ وَإِنَّمَا التَّرْتِيبُ في كَوْنِهَا أَيْ وُجُودِهَا وقال ابن مَالِكٍ في شَرْحِ الْعُمْدَةِ هِيَ في عَدَمِ التَّرْتِيبِ كَالْوَاوِ وقال ابن أَيَازٍ التَّرْتِيبُ الذي تَقْتَضِيهِ حتى ليس على تَرْتِيبِ الْفَاءِ وَثُمَّ وَذَلِكَ أَنَّهُمَا يُرَتِّبَانِ أَحَدَ الْفِعْلَيْنِ على الْآخَرِ في الْوُجُودِ وَهِيَ تُرَتِّبُ تَرْتِيبَ الْغَايَةِ وَالنِّهَايَةِ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ ما بَعْدَهَا من جِنْسِ ما قَبْلَهَا وَلَا يَحْصُلُ ذلك إلَّا بِذَكَرِ الْكُلِّ قبل الْجُزْءِ قال الْجُرْجَانِيُّ الذي أَوْجَبَ ذلك أنها لِلْغَايَةِ وَالدَّلَالَةِ على أَحَدِ طَرَفَيْ الشَّيْءِ وَطَرَفُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ من غَيْرِهِ وَلِهَذَا كان فيه مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالتَّحْقِيرِ وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْءَ إذْ أَخَذْته من أَعْلَاهُ فَأَدْنَاهُ غَايَتُهُ وهو الْمُحَقَّرُ وَإِنْ أَخَذْته من أَدْنَاهُ فَأَعْلَاهُ غَايَتُهُ وهو الْمُعَظَّمُ وَلِهَذَا أَيْضًا لم يَكُنْ ما بَعْدَ حتى وَإِنْ كان من جِنْسِ ما قَبْلَهَا إلَّا بَعْضًا وَجُزْءًا منه تَقُولُ جاء الْقَوْمُ حتى زَيْدٌ وَلَا تَقُولُ حِمَارٌ وَكَذَلِكَ لَا تَقُولُ جاء زَيْدٌ حتى الْقَوْمُ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ بِضْعًا لِشَيْءٍ وَجُزْءًا منه وَلَا جاء زَيْدٌ حتى عَمْرٌو
____________________
(2/58)
كَذَلِكَ أَيْضًا وَلِلْمُسَاوَاةِ وَكُلُّ هذا لَا يَمْتَنِعُ في الْوَاوِ وَهُنَا تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ حتى لِلْغَايَةِ إمَّا في نَقْصٍ أو زِيَادَةٍ نَحْوُ عَلَيْك الناس حتى النِّسَاءُ وَاخْتُطِفَتْ الْأَشْيَاءُ حتى مَثَاقِيلُ الدُّرِّ ثُمَّ قالوا إنَّهَا لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ بَلْ تَكُونُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ كَالْوَاوِ وَالْجَمْعُ بين الْكَلَامَيْنِ مُشْكِلٌ فَإِنْ قُلْت الْغَايَةُ في نَفْسِ الْأَمْرِ وَالْوَاقِعُ ليس هو هذا بَلْ من الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ هو الْأَوَّلَ وما بَعْدَهُ أو الْأَخِيرُ وَمَعَ هذا الِاحْتِمَالِ لَا تَكُونُ لِلتَّرْتِيبِ قُلْت لو لم تَكُنْ لِلتَّرْتِيبِ لم يَكُنْ لِاشْتِرَاطِ الْقُوَّةِ أو الضَّعْفِ فَائِدَةٌ وَلَوْ لم تَقْتَضِ التَّأْخِيرَ عَقْلًا وَعَادَةً لم يَحْسُنْ ذلك فَإِنْ قُلْت فَائِدَتُهُ إفَادَةُ الْعُمُومِ قُلْت الْعُمُومُ مَأْخُوذٌ من الْمَفْهُومِ وَفِيهِ نَظَرٌ التَّنْبِيهُ الثَّانِي حتى الدَّاخِلَةُ على الْأَفْعَالِ قد تَكُونُ لِلْغَايَةِ وَلِمُجَرَّدِ السَّبَبِيَّةِ وَالْمُجَازَاةِ وَلِلْعَطْفِ الْمَحْضِ أَيْ التَّشْرِيكِ من غَيْرِ اعْتِبَارِ غَايَتِهِ وَسَبَبِيَّتِهِ فَالْأَوَّلُ هو الْأَصْلُ فَيُحْمَلُ عليه ما أَمْكَنَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حتى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ فإن الْقَتْلَ يَصْلُحُ لِلِامْتِدَادِ وَقَبُولُ الْجِزْيَةِ يَصْلُحُ مُنْتَهًى له وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى حتى تَسْتَأْنِسُوا أَيْ تَسْتَأْذِنُوا فإن الْمَنْعَ من دُخُولِ بَيْتِ الْغَيْرِ يَحْتَمِلُ الِامْتِدَادَ وَالِاسْتِئْذَانُ يَصْلُحُ مُنْتَهًى له وَجَعَلَ حتى هذه دَاخِلَةً على الْفِعْلِ نَظَرًا لِظَاهِرِ اللَّفْظِ وَإِلَّا فَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ فَهِيَ في الْحَقِيقَةِ إنَّمَا دَخَلَتْ على الِاسْمِ هذا إذَا احْتَمَلَ صَدْرُ الْكَلَامِ الِامْتِدَادَ وَالْآخَرُ الِانْتِهَاءَ إلَيْهِ فَإِنْ لم يَحْتَمِلْ ذلك فَإِنْ صَلَحَ الصَّدْرُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلثَّانِي كانت بِمَعْنَى كَيْ فَتُفِيدُ السَّبَبِيَّةَ وَالْمُجَازَاةَ نَحْوُ أَسْلَمْت حتى أَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَإِنْ لم يَصْلُحْ لِذَلِكَ فَهِيَ لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ من غَيْرِ دَلَالَةٍ على غَايَةٍ أو مُجَازَاةٍ إذن إذَنْ لِلْجَوَابِ وَالْجَزَاءِ تَقُولُ لِمَنْ قال أنا أَزُورُك إذَنْ أُكْرِمَك وَتَأْتِي صِلَةً إذَا كانت مُتَوَسِّطَةً
____________________
(2/59)
قال الْبَاجِيُّ وَلِهَذَا قال أَصْحَابُنَا في قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنِّي إذَنْ صَائِمٌ خَبَرٌ عن صِيَامٍ مُتَقَدِّمٍ لَا عن صِيَامٍ ابْتَدَأَهُ لِوَقْتِهِ وَحَاوَلُوا بهذا الرَّدَّ على من حَاوَلَ إنْشَاءَ الصَّوْمِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَدَافَعُوا بهذا التَّأْوِيلِ عن الِاسْتِدْلَالِ بهذا اللَّفْظِ وَحَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عن ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ ثُمَّ قال وَلَا أَرَى لِمَا قَالُوهُ وَجْهًا أَمَّا كَوْنُهَا هَاهُنَا مُلْغَاةً فَصَحِيحٌ لِأَنَّهَا حَالَتْ بين حَرْفِ أَنْ وَاسْمِهَا وَبَيْنَ الْخَبَرِ وهو صَائِمٌ وَلَكِنْ ليس في ذلك ما يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ بهذا الْقَوْلِ أَنَّهُ عَقَدَ الصَّوْمَ الْآنَ أو سَبَقَ بَلْ قَوْلُهُ صَائِمٌ اسْمُ فَاعِلٍ يَحْتَمِلُ الْحَالَ متى مَتَى شَرْطٌ يُجْزَمُ بِهِ الْمُضَارِعُ مِثْلُ مَتَى تَخْرُجْ أَخْرُجْ وَهِيَ لَازِمَةٌ لِلظَّرْفِيَّةِ لَا تَتَجَرَّدُ عنها بِخِلَافِ إذَا في قَوْلِهِ وإذا تُصِبْك خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلْ وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا إذَا مُتَمَحِّضًا لِلشَّرْطِ بِوَاسِطَةِ وُقُوعِهِ في بَيْتٍ شَاذٍّ جَازِمًا لِلْمُضَارِعِ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا على خَطَرِ الْوُجُودِ ولم يَجْعَلُوا مَتَى مُتَمَحِّضًا لِلشَّرْطِ مع دَوَامِ ذلك فيه وَحَقُّهُ في اللُّغَةِ التَّكْرَارُ وَاصْطَلَحَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ على أنها لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ كَقَوْلِك إذَا فَعَلَتْ قَالَهُ في الْقَوَاطِعِ قال وَمَذْهَبُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إذَا قال لِامْرَأَتِهِ إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ على مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَكَذَا إذَا فَعَلَتْ بِخِلَافِ كُلَّمَا فَإِنَّهَا لِلتَّكْرَارِ قال الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ الْأَيْمَانِ لو قال مَتَى خَرَجْت أو مَتَى ما أو مَهْمَا كَكُلَّمَا في اقْتِضَاءِ التَّكْرَارِ وهو خِلَافُ قَضِيَّتِهِ في الْأُمِّ انْتَهَى وَحَكَى أبو الْبَقَاءِ عن ابْنِ جِنِّي أَنَّ مَهْمَا لِلتَّكْرَارِ بِخِلَافِ مَتَى إلا إلَّا لِلِاسْتِثْنَاءِ قال الْفَرَّاءُ وَيَأْتِي بِمَعْنَى سِوَى وَذَلِكَ في اسْتِثْنَاءٍ زَائِدٍ من نَاقِصٍ قال تَعَالَى خَالِدِينَ فيها ما دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إلَّا ما شَاءَ رَبُّك
____________________
(2/60)
يَعْنِي سِوَى ما شَاءَ رَبُّك من زِيَادَةِ الْمُضَاعَفَةِ لَا إلَى نِهَايَةٍ فَعَلَى هذا لو قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا أَلْفَيْنِ فَقَدْ أَقَرَّ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ قال في الْقَوَاطِعِ وَهَذَا لَا يَعْرِفُهُ الْفُقَهَاءُ قُلْت لَكِنَّهُ صَحِيحٌ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ يَكُونُ من عُمُومِ الْمَفْهُومِ فلما قال عَلَيَّ أَلْفٌ كَأَنَّهُ قال لَا غَيْرُهَا وَهَذَا عَامٌّ فَاسْتَثْنَى منه أَلْفَيْنِ وَتَجِيءُ بِمَعْنَى غير كَقَوْلِهِ تَعَالَى لو كان فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا وَجَعَلَ الْخَطَّابِيُّ منه قَوْلَنَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ قال فَإِلَّا هُنَا بِمَعْنَى غير لَا بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إمَّا من جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى منه أو من غَيْرِ جِنْسِهِ وَمَنْ تَوَهَّمَ في صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدًا من الْأَمْرَيْنِ فَقَدْ أَبْطَلَ قال عبد الْقَاهِرِ وَهَذَا تَوَهُّمٌ منه من غَيْرِ أَصْلٍ وَيَلْزَمُ عليه أَنْ لَا تَكُونَ إلَّا في قَوْله تَعَالَى فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَقَوْلُهُ ضَلَّ من تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ اسْتِثْنَاءٌ وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى غير وَلَا يَقُولهُ أَحَدٌ لِأَنَّ إلَّا إذَا كانت صِفَةً كان الِاسْمُ الْوَاقِعُ بَعْدَهَا إعْرَابَ الْمَوْصُوفِ بِهِ أو كان تَابِعًا له في الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ قال وَالِاسْمُ بَعْدَ إلَّا في الْآيَتَيْنِ مَنْصُوبٌ كما تَرَى وَلَيْسَ قبل إلَّا في وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَنْصُوبٌ فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مَوْصُوفٌ بِإِلَّا ثم ثُمَّ يَتَعَلَّقُ الْكَلَامُ فيها بِمَبَاحِثَ الْأَوَّلُ في التَّرْتِيبِ وهو يَقْتَضِي على الصَّحِيحِ وَنَقَلَ ابن أبي الدَّمِ عن ابْنِ عَاصِمٍ الْعَبَّادِيِّ من أَصْحَابِنَا أنها كَالْوَاوِ في اقْتِضَاءِ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ وَوَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ وَقَفْت إنْشَاءٌ فَلَا يَدْخُلُ فيه التَّرْتِيبُ كَقَوْلِك بِعْتُك هذا ثُمَّ هذا وَهَذَا غَلَطٌ وَإِنَّمَا قال الْعَبَّادِيُّ ذلك إذَا قال وَقَفْت على أَوْلَادِي ثُمَّ على أَوْلَادِ أَوْلَادِي بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ أنها لِلْجَمِيعِ وَوَجْهُهُ أَنَّ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ عِنْدَهُ لِلْجَمْعِ لَا لِلتَّرْتِيبِ وَالْكَلَامُ بِآخِرِهِ فَالْجَمْعُ من هذه الْحَيْثِيَّةِ لَا من جِهَةِ ثُمَّ وَنَقَلَ صَاحِبُ الْبَسِيطِ من النَّحْوِيِّينَ عن ابْنِ الدَّهَّانِ أَنَّ الْمُهْلَةَ وَالتَّرْتِيبَ في الْمُفْرَدَاتِ وَأَمَّا الْجُمَلُ فَلَا يَلْزَمُ ذلك فيها بَلْ قد يَدُلُّ على تَقْدِيمِ ما بَعْدَهَا على ما قَبْلَهَا قال وَالْأَصَحُّ الْمُحَافَظَةُ على مَعْنَاهَا أَيْنَمَا وَقَعَتْ وَتَأْوِيلُ ما خَالَفَ مَعْنَاهَا
____________________
(2/61)
وَنَقَلَ ابن الْخَبَّازِ عن شَيْخِهِ أَنَّ ثُمَّ إذَا دَخَلَتْ على الْجُمَلِ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَكُّ رَقَبَةٍ إلَى قَوْلِهِ ثُمَّ كان من الَّذِينَ آمَنُوا فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَمَّا في الزَّمَانِ نَحْوُ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَقَوْلُهُ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ من سُلَالَةٍ من طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ أو في الْمَرْتَبَةِ نَحْوُ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى أو لِلتَّرْتِيبِ في الْأَخْبَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِاَلَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ في يَوْمَيْنِ ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَالسَّمَاءُ مَخْلُوقَةٌ قبل الْأَرْضِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلك دَحَاهَا وقال الرَّاغِبُ تَقْتَضِي تَأَخُّرَ ما بَعْدَهَا عَمَّا قَبْلَهُ إمَّا تَأَخُّرًا بِالذَّاتِ أو بِالْمَرْتَبَةِ أو بِالْوَضْعِ وَنَقَلَ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ فَصْلًا عن الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بن بَرِّيٍّ في التَّرْتِيبِ بِ ثُمَّ ضَعَّفَ فيه الْقَوْلَ بِالتَّرْتِيبِ الْإِخْبَارِيِّ قال بَعْدَ أَنْ قَرَرْت أَنَّ ثُمَّ لِتَرْتِيبِ الثَّانِي على الْأَوَّلِ في الْوُجُودِ بِمُهْلَةٍ بَيْنَهُمَا في الزَّمَانِ أَنَّ ثُمَّ تَأْتِي أَيْضًا لِتَفَاوُتِ الرُّتْبَةِ ثُمَّ قال وَيَجِيءُ هذا الْمَعْنَى مَقْصُودًا بِالْفَاءِ الْعَاطِفَةِ نحو خُذْ الْأَفْضَلَ فَالْأَكْمَلَ وَاعْمَلْ الْأَحْسَنَ فَالْأَجْمَلَ وَنَحْوُ رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ فَالْمُقَصِّرِينَ فَالْفَاءُ في الْمِثَالِ الْأَوَّلِ لِتَفَاوُتِ رُتْبَةِ الْفَضْلِ من الْكَمَالِ وَالْحُسْنِ في الْحَالِ وفي الثَّانِي لِتَفَاوُتِ رُتْبَةِ الْمُحَلِّقِينَ من الْمُقَصِّرِينَ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَلْقِهِمْ وَتَقْصِيرِهِمْ وقَوْله تَعَالَى وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا تَحْتَمِلُ الْفَاءُ فيه الْمَعْنَيَيْنِ مَجَازًا فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ تَفَاوُتُ رُتْبَةِ الصَّفِّ من الزَّجْرِ وَرُتْبَةِ الزَّجْرِ من التِّلَاوَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بها تَفَاوُتُ رُتْبَةِ الْجِنْسِ الصَّافِّ من الْجِنْسِ الزَّاجِرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى صَفِّهِمْ وَزَجْرِهِمْ وَرُتْبَةُ الْجِنْسِ الزَّاجِرِ من الثَّانِي بِالنِّسْبَةِ إلَى زَجْرِهِ وَتِلَاوَتِهِ ثُمَّ قال وَهَذَا أَوْلَى من قَوْلِ من يقول هِيَ لِتَرْتِيبِ الْجُمَلِ في الْأَخْبَارِ لَا لِتَرْتِيبِ الْخَبَرِيَّةِ في الْوُجُودِ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ في الْمَعْنَى لِبُعْدِ الْمُهْلَةِ فيه حَقِيقَةً وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِهِ بِقَوْلِ إنَّ من سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لِتَفَاوُتِ رُتْبَةِ الِابْنِ من أبيه أو لِتَفَاوُتِ رُتْبَةِ سِيَادَتِهِ من سِيَادَةِ
____________________
(2/62)
أبيه وَمَجَازُ اسْتِعْمَالِهَا لِتَفَاوُتِ أنها مَوْضُوعَةٌ لِلْمُهْلَةِ وَالتَّفَاوُتُ بِمُهْلَةٍ في الْمَعْنَى وَلِأَنَّ بَيْنَهُمَا قَدْرًا مُشْتَرَكًا وهو الِانْفِصَالُ قُلْت وَهَذَا طَرِيقٌ آخَرُ لِلتَّرْتِيبِ وهو التَّرْتِيبُ بِالرُّتَبِ أَعْنِي تَفَاوُتَ رُتَبِ الْفِعْلِ أو رُتَبِ الْفَاعِلِينَ ثُمَّ قال وَهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ في الْفَاءِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ من نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَالْفَاءُ في قَوْله تَعَالَى فَإِنْ فَاءُوا إنَّمَا دَخَلَتْ لِتُبَيِّنَ حُكْمَ الْمَوْلَى في زَمَنِ التَّرَبُّصِ بِجُمْلَتَيْ الشَّرْطِ بَعْدَهَا لَا لِتَعْقِيبِهَا زَمَنَ التَّرَبُّصِ وَهَكَذَا قال أبو حَنِيفَةَ قال وَلَا يُفْصَلُ بِ ثُمَّ وَالْفَاءُ في هذا الْمَعْنَى تَرْتِيبٌ وُجُودِيٌّ بَلْ تَفْصِيلٌ مَعْنَوِيٌّ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَك اغْتَسَلَ فَأَفَاضَ الْمَاءَ على شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ على شِقِّهِ الْأَيْسَرِ ليس الْقَصْدُ بِهِ إلَّا الْبَيَانَ لَا التَّرْتِيبَ فَلَوْ قَدَّمْتَ أو أَخَّرْتَ جَازَ وَكَذَا لو أَتَيْتَ بِالْفَاءِ مَوْضِعَ ثُمَّ فَإِنْ كان الْمَوْضِعُ يَحْتَمِلُ التَّرْتِيبَ جَازَ أَنْ يُقْصَدَ التَّرْتِيبُ وَجَازَ أَنْ يُقْصَدَ التَّفْصِيلُ نَحْوُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثُمَّ يَدَيْهِ فَإِنْ أَرَدْتَ التَّرْتِيبَ لَا يَجُوزُ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ وَإِنْ أَرَدْتَ التَّفْصِيلَ جَازَ وَإِنَّمَا اُسْتُعْمِلَتْ ثُمَّ وَالْفَاءُ لِلتَّفْصِيلِ حَمْلًا على أو في نَحْوِ قَوْلِك الْجِسْمُ إمَّا سَاكِنٌ أو مُتَحَرِّكٌ الْإِنْسَانُ ذَكَرٌ أو أُنْثَى قال الشَّيْخُ وما حَكَيْنَاهُ عن ابْنِ بَرِّيٍّ من أَنَّ التَّفْصِيلَ الْمُبْهَمَ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ قد وَافَقَهُ عليه بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمَبْحَثُ الثَّانِي في اقْتِضَائِهَا التَّرَاخِيَ وَكَمَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ يُوجِبُ تَرَاخِيَ الثَّانِي عن الْأَوَّلِ وَالْمُهْلَةَ بَيْنَهُمَا وَعَدَمَ الْفَوْرِيَّةِ وَالْمُهْلَةِ وَاحْتَجَّ عليه ابن الْخَشَّابِ بِامْتِنَاعِ وُقُوعِ ما بَعْدَهَا جَوَابًا لِلشَّرْطِ كما جَازَ ذلك في الْفَاءِ فَلَا تَقُولُ إنْ تَقُمْ ثُمَّ أنا أَقُومُ كما قُلْت إنْ تَقُمْ فَأَنَا أَقُومُ وقال ابن يَعِيشَ وَلَمَّا تَرَاخَى لَفْظُهَا بِكَثْرَةِ حُرُوفِهَا تَرَاخَى مَعْنَاهَا لِأَنَّ قُوَّةَ اللَّفْظِ مُؤْذِنَةٌ بِقُوَّةِ الْمَعْنَى قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ تَرَاخِيَ مَعْنَاهَا يَقَعُ كَتَرَاخِي لَفْظِهَا وهو مَعْلُولٌ له قال وهو عَكْسُ ما وَجَدْتُهُ عن أبي الْحَسَنِ بن عُصْفُورٍ فإنه لَمَّا تَعَرَّضَ لِبَيَانِ قَوْلِ أبي عَلِيٍّ إنَّ ثُمَّ مِثْلُ الْفَاءِ إلَّا أَنَّ فيها مُهْلَةً قال فَإِنَّمَا يَعْنِي أنها مِثْلُهَا في التَّرْتِيبِ إلَّا أَنَّهُ تَرْتِيبٌ فيه مُهْلَةٌ وَتَرَاخٍ وَكَأَنَّهُ لَمَّا اخْتَصَّتْ بِمَعْنًى يَزِيدُ على مَعْنَى الْفَاءِ خُصَّ لَفْظُهَا بِلَفْظٍ أَزْيَدَ من لَفْظِ الْفَاءِ وَكَانَتْ على أَكْثَرَ من حَرْفٍ وَالْفَاءُ على حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ زِيَادَةُ اللَّفْظِ تَبَعًا لِزِيَادَةِ الْمَعْنَى وَيَكُونُ اللَّفْظُ مُوَافِقًا لِمَا
____________________
(2/63)
ذُكِرَ عن ابْنِ دُرُسْتَوَيْهِ أَنَّ الْوَاوَ وَهِيَ الْأَصْلُ في هذه الثَّلَاثَةِ الْوَاوُ وَالْمِيمُ مُتَقَارِبَانِ في الْمَخْرَجِ إذْ الْفَاءُ من بَاطِنِ الشَّفَةِ وَالْوَاوُ وَالْمِيمُ من نَفْسِ الشَّفَةِ فَلِذَلِكَ جُعِلَتْ هذه الْحُرُوفُ الثَّلَاثَةُ تَجْمَعُ ما بين الشَّيْئَيْنِ في اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَخُصَّتْ بِالِاسْتِعْمَالِ دُونَ غَيْرِهَا وَلَمَّا اخْتَصَّتْ ثُمَّ بِمَعْنًى زَائِدٍ على الْفَاءِ اخْتَصَّتْ بِالثَّاءِ الْمُقَارِبَةِ لِمَخْرَجِ الْفَاءِ لِتَدُلَّ على مَعْنًى ثَالِثٍ ثُمَّ لَا خِلَافَ في اقْتِضَائِهَا التَّرَاخِيَ وَكَلَامُ ابْنِ الْخَشَّابِ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِالْمُفْرَدَاتِ وَأَنَّهُ في عَطْفِ الْجُمَلِ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ كما سَبَقَ مِثْلُهُ في التَّرْتِيبِ قال وقد يَتَجَرَّدُ عن التَّرَاخِي إذَا كُرِّرَتْ على التَّعْظِيمِ وَالتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وما أَدْرَاك ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْرَاك ما يَوْمُ الدِّينِ وَالْمَعْطُوفُ هُنَا هو لَفْظُ الْمَعْطُوفِ عليه وَكَقَوْلِهِ كَلًّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلًّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ وَالْمَعْطُوفَاتُ كُلُّهَا جُمَلٌ فيها مَعْنَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ من نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالوا فقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ التَّرَاخِي ظَاهِرٌ فيه لِأَنَّهُ لَا بُدَّ من تَأَخُّرِ الْعَوْدِ عن الظِّهَارِ بِفَصْلٍ وهو زَمَنُ إمْكَانِ الطَّلَاقِ وقد اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ في أَثَرِ التَّرَاخِي فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ هو رَاجِعٌ إلَى التَّكَلُّمِ بِمَعْنَى الِانْقِطَاعِ الْمُطْلَقِ بِمَنْزِلَةِ ما لو سَكَتَ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ قَوْلًا بَعْدَ الْأَوَّلِ وقال صَاحِبَاهُ رَاجِعٌ إلَى الْحُكْمِ مع الْوَصْلِ في الْمُتَكَلِّمِ لِمُرَاعَاةِ مَعْنَى الْعَطْفِ فيه لِأَنَّ الْكَلَامَ مُنْفَصِلٌ حَقِيقَةً أو حِسًّا فَيَكُونُ في الْحُكْمِ كَذَلِكَ فإذا قال لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بها أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٍ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَمَّا كان في الْحُكْمِ مُنْقَطِعًا وَقَعَ وَاحِدَةٌ في الْحَالِ وَيُلْغَى الْبَاقِي لِعَدَمِ الْمَحَلِّ كما لو قال أَنْتِ طَالِقٌ وَسَكَتَ ثُمَّ قال أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ وَلَوْ كان كَذَلِكَ لم يَتَعَلَّقْ الطَّلَاقُ بِالشَّرْطِ فَكَذَا هُنَا وَعِنْدَهُمَا لَمَّا كان الْمُتَكَلِّمُ مُتَّصِلًا حُكْمًا تَعَلَّقَتْ جميعا بِالشَّرْطِ إلَّا أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ يَقَعُ وَاحِدَةٌ عَمَلًا بِالتَّرَاخِي الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ إذَا ثَبَتَ أنها لِلتَّرَاخِي فَلَا دَلِيلَ على مِقْدَارِهِ من جِهَةِ اللَّفْظِ قَالَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ وَقَالَهُ غَيْرُهُ الْمُرَادُ بِالتَّرَاخِي الزَّمَانِيُّ فإنه حَقِيقَةٌ فيه فَإِنْ اُسْتُعْمِلَ في تَرَاخِي الرُّتْبَةِ أو في تَرَاخِي الْأَخْبَارِ كان مَجَازًا وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا حَقِيقَةٌ في أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ بين هذه الْأَنْوَاعِ أَعْنِي التَّرَاخِيَ في الزَّمَانِ وَالرُّتْبَةِ وَالْأَخْبَارِ
____________________
(2/64)
الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ أَنَّ التَّرَاخِيَ قد يَتَزَايَدُ في عَطْفِ الْجُمَلِ بَعْضِهَا على بَعْضٍ فإذا قُلْت جاء زَيْدٌ ثُمَّ جاء عَمْرٌو كان أَدَلَّ على التَّرَاخِي من قام زَيْدٌ ثُمَّ عَمْرٌو فَإِنْ تَغَايَرَ الْفِعْلَانِ فَقُلْت قام زَيْدٌ ثُمَّ انْطَلَقَ كان كَالثَّانِي وقد قال تَعَالَى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ فَعَطَفَ أَوَّلًا بِالْفَاءِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا نُطَفًا فَجَعَلَ فِيهِمْ حَيَاةً عَقِبَ حَالَةِ كَوْنِهِمْ أَمْوَاتًا ثُمَّ تَرَاخَى حَالَةَ إمَاتَتِهِمْ بِمُدَّةِ حَيَاتِهِمْ وَآجَالِهِمْ الْمَقْسُومَةِ فَعَطَفَ الْإِمَاتَةَ ثُمَّ تَرَاخَى الْإِحْيَاءُ الْمُتَعَقِّبُ عن الْإِمَاتَةِ بِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ في الْبَرْزَخِ فَعَطَفَ يُحْيِيكُمْ بِ ثُمَّ ثُمَّ تَرَاخَى الْإِحْيَاءُ لِلْبَعْثِ عن الْإِمَاتَةِ بِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ في الْبَرْزَخِ فَعَطَفَ عليهم بِ ثُمَّ ثُمَّ إلَيْهِ الرُّجُوعُ بَعْدَ هذا كُلِّهِ قِيلَ وَيَجِيءُ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَقَوْلِهِ ثُمَّ اسْتَوَى على الْعَرْشِ ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ قالوا هِيَ فيها بِمَعْنَى الْوَاوِ لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ صِفَةُ ذَاتٍ وَهِيَ قَدِيمَةٌ وَالتَّعْقِيبُ بِالتَّرَاخِي لَا يُوصَفُ بِهِ الْقَدِيمُ وَأَمَّا من ذَهَبَ إلَى أنها صِفَةُ فِعْلٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ وقد تَأَوَّلَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِوَاءِ هُنَا الِاسْتِعَارَةُ فإنه تَعَالَى فَرَغَ من إكْمَالِ الْخَلِيقَةِ وَأَمَرَ وَنَهَى وَكَلَّفَ ثُمَّ اسْتَوَى على الْعَرْشِ وَالْمُرَادُ الْإِشَارَةُ إلَى ما قُلْنَاهُ من إكْمَالِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ هذا الْمَعْنَى فَيَصِحُّ فيه التَّعْقِيبُ إنما إنَّمَا وَالْكَلَامُ فيها في مَوَاضِعَ الْأَوَّلُ هل هِيَ تُفِيدُ الْحَصْرَ أو لَا قَوْلَانِ وإذا قُلْنَا تُفِيدُهُ فَهَلْ هو بِالْمَنْطُوقِ يَعْنِي أنها وُضِعَتْ لِلْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ مَعًا أَيْ لِإِثْبَاتِ الْمَذْكُورِ وَنَفْيِ ما عَدَاهُ أو لِلْإِثْبَاتِ خَاصَّةً وَلِلنَّفْيِ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ قَوْلَانِ وَبِالْأَوَّلِ قال الْقَاضِي أبو حَامِدٍ الْمَرُّوذِيُّ فِيمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في التَّبْصِرَةِ قال مع نَفْيِهِ الْقَوْلَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ لَكِنَّ الْمَاوَرْدِيَّ في أَقْضِيَةِ الْحَاوِي نَقَلَ عن أبي حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيُّ وَابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ حُكْمَ ما عَدَا الْإِثْبَاتَ مَوْقُوفٌ على الدَّلِيلِ من الِاحْتِمَالِ وَبِالثَّانِي قال الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ وَذَكَرَاهُ في بَحْثِ الْمَفَاهِيمِ وقال سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ إنَّهُ الصَّحِيحُ وقال ابن الْخُوبِيِّ هذا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ على أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ من النَّفْيِ إثْبَاتٌ أَمْ
____________________
(2/65)
لَا فَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ إثْبَاتٌ فَالْحَصْرُ ثَابِتٌ بِالْمَنْطُوقِ وَإِلَّا فَهُوَ من طَرِيقِ الْمَفْهُومِ وَهَذَا الْكَلَامُ يَقْتَضِي جَرَيَانَ هذا الْخِلَافِ في ما وإلا وهو بَعِيدٌ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا لَا تُفِيدُهُ أَصْلًا هو رَأْيُ الْآمِدِيَّ وَإِنَّمَا يُفِيدُ تَأْكِيدَ الْإِثْبَاتِ وَبِهِ يُشْعِرُ كَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ حَيْثُ قال فَأَمَّا ما ليس له مَعْنًى فما الْكَافَّةُ تَعْمَلُ ما يَعْمَلُ دُونَهَا تَقُولُ إنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ وَإِنَّمَا زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ وَحَكَاهُ ابن الْفَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ في النُّكَتِ عن أبي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَابْنِهِ أبي هَاشِمٍ قال وهو يُحْكَى عن أَهْلِ اللُّغَةِ وَنَصَرَهُ ابن بَرْهَانٍ النَّحْوِيُّ في شَرْحِ اللُّمَعِ وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أبو حَيَّانَ وَاشْتَدَّ نَكِيرُهُ على من خَالَفَهُ وَنَقَلَهُ عن الْبَصْرِيِّينَ وَنَقَلَ الْغَزَالِيُّ عن الْقَاضِي أَنَّهُ ظَاهِرٌ في الْحَصْرِ وَيَحْتَمِلُ التَّأْكِيدَ ثُمَّ قال وهو الْمُخْتَارُ وَوَافَقَهُ إلْكِيَا وَاَلَّذِي في التَّقْرِيبِ لِلْقَاضِي أنها مُحْتَمِلَةٌ لِتَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ وَمُحْتَمِلَةٌ لِلْحَصْرِ وَزَعَمَ أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَعْمَلَتْهَا لِكُلٍّ من الْأَمْرَيْنِ ثُمَّ قال وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا ظَاهِرَةٌ في الْحَصْرِ وَأَنْكَرَ ابن الْحَاجِّ في تَعْلِيقِهِ على الْمُسْتَصْفَى وَالْعَبْدَرِيُّ في شَرْحِهِ إفَادَتَهَا الْحَصْرَ وَقَالَا إنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ في اللُّغَةِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ الِاقْتِصَارُ على الشَّيْءِ قال ابن السَّيِّدِ قال نُحَاةُ الْبَصْرَةِ مَعْنَاهَا الِاقْتِصَارُ كَقَوْلِك إنَّمَا زَيْدٌ شُجَاعٌ لِمَنْ ادَّعَى له غير ذلك من الصِّفَاتِ وَالتَّحْقِيرُ كَقَوْلِك إنَّمَا وَهَبَتْ دِرْهَمًا لِمَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ وَهَبَ أَكْثَرَ من ذلك وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى الِاقْتِصَارِ وقد يُسْتَعْمَلُ في رَدِّ النَّفْيِ إلَى حَقِيقَتِهِ إذَا وُصِفَ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ إنَّمَا أنا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وهو رَاجِعٌ لِلْأَوَّلِ قَالَا فَإِنْ أَرَادَ الْقَاضِي بِالْحَصْرِ الِاقْتِصَارَ فَقَدْ أَصَابَ وَإِلَّا فَفِيهِ نَظَرٌ وَتَابَعَهُمَا الشَّيْخُ أبو حَيَّانَ في إنْكَارِ إفَادَتِهَا الْحَصْرَ وقال إنَّهُ مَعْرُوفٌ في اللُّغَةِ وهو عَجِيبٌ فَقَدْ حَكَاهُ ابن السَّيِّدِ في الِاقْتِضَابِ عن الْكُوفِيِّينَ فقال وَذَكَر الْكُوفِيُّونَ أنها تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى النَّفْيِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ وَإِنَّمَا يُدَافِعُ عن أَحْسَابِهِمْ أنا أو مِثْلِي وَمَعْنَاهُ ما يُدَافِعُ إلَّا أنا أو مِثْلِي هذا كَلَامُهُ وفي الزَّاهِرِ لِلْأَزْهَرِيِّ عن أَهْلِ اللُّغَةِ أنها تَقْتَضِي إيجَابَ شَيْءٍ وَنَفْيَ غَيْرِهِ وقال صَاحِبُ الْبُرْهَانِ قال أبو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ وَاَلَّذِي أَخْتَارُهُ في قَوْله تَعَالَى إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ أَنْ تَكُونَ ما هِيَ التي تَمْنَعُ إنَّ من الْعَمَلِ وَيَكُونُ الْمَعْنَى ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا الْمَيْتَةَ لِأَنَّ إنَّمَا تَأْتِي لِإِثْبَاتِ ما بَعْدَهَا وَنَفْيِ ما
____________________
(2/66)
عَدَاهُ وقال أبو عَلِيٍّ في الشِّيرَازِيَّاتِ يقول نَاسٌ من النَّحْوِيِّينَ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ الْمَعْنَى ما حَرَّمَ إلَّا الْفَوَاحِشَ قال وَأُجِيبَ ما يَدُلُّ على صِحَّةِ الْقَوْلِ في ذلك وهو قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ وَإِنَّمَا يُدَافِعُ عن أَحْسَابِهِمْ أنا أو مِثْلِي وَعَزَاهُ ابن السَّيِّدِ لِلْكُوفِيِّينَ ولم يَعْنُوا بِذَلِكَ أَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمُتَرَادِفِينَ فإنه يَمْتَنِعُ إيقَاعُ كُلٍّ منها مَوْضِعَ الْآخَرِ على الْإِطْلَاقِ انْتَهَى وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهُمَا لِلْحَصْرِ الرُّمَّانِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى إنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ فقال إنَّمَا تُفِيدُ تَخْصِيصَ الْمَذْكُورِ بِالصِّفَةِ دُونَ غَيْرِهِ بِخِلَافِ إنَّ كَقَوْلِك إنَّ الْأَنْبِيَاءَ في الْجَنَّةِ فَلَا تَمْنَعُ هذه الصِّيغَةُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُمْ فيها كما مَنَعَ إنَّمَا هُمْ في الْجَنَّةِ انْتَهَى وَكَذَا قال الزَّمَخْشَرِيُّ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَكَذَا ابن عَطِيَّةَ في غَيْرِ مَوْضِعٍ وقال ابن فَارِسٍ سَمِعَتْ عَلِيَّ بن إبْرَاهِيمَ الْقَطَّانَ يقول سَمِعْت ثَعْلَبًا يقول سَمِعْت سَلَمَةَ يقول سَمِعَتْ الْفَرَّاءَ يقول إذَا قُلْت إنَّمَا قُمْت فَقَدْ نَفَيْت عن نَفْسِك كُلَّ فِعْلٍ إلَّا الْقِيَامَ وإذا قُلْت إنَّمَا قام أنا فَقَدْ نَفَيْت الْقِيَامَ عن كل أَحَدٍ وَأَثْبَتَّهُ لِنَفْسِك قال الْفَرَّاءُ وَلَا يَكُونُ ابْتِدَاءُ إلَّا رَدًّا على أَمْرٍ وَلَا يَكُونُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ قال ابن فَارِسٍ وَاَلَّذِي قَالَهُ الْفَرَّاءُ صَحِيحٌ وَحُجَّتُهُ إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ قُلْت يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ لِأَمْرٍ مُحَقَّقٍ أو مُقَدَّرٍ وَإِلَّا لَوَرَدَ عليه إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَنَحْوُهُ من أَحْسَنِ ما يُسْتَدَلُّ بِهِ أنها لِلْحَصْرِ قَوْله تَعَالَى إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ من الْمُتَّقِينَ لِأَنَّهُ لم يَتَقَبَّلْ من أَخِيهِ فَلَوْ كان يَتَقَبَّلُ من غَيْرِ الْمُتَّقِينَ لم يَجُزْ الرَّدُّ على الْأَخِ بِذَلِكَ وَلَوْ كان الْمَانِعُ من عَدَمِ الْقَبُولِ فَوَاتَ مَعْنًى في الْمُتَقَرَّبِ بِهِ لَا في الْفَاعِلِ لم يَحْسُنْ ذلك فَكَأَنَّهُ قال اسْتَوَيْنَا في الْفِعْلِ وَانْحَصَرَ الْقَبُولُ في بِعِلَّةِ
____________________
(2/67)
التَّقْوَى وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغُ فَإِنَّهَا لو لم تَكُنْ لِلْحَصْرِ لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِك فَإِنْ تَوَلَّوْا فَعَلَيْك الْبَلَاغُ وهو عليه الْبَلَاغُ تَوَلَّوْا أَمْ لَا وَإِنَّمَا الذي رَتَّبَ على تَوَلِّيهمْ نَفْيَ غَيْرِ الْبَلَاغِ لِيَكُونَ تَسْلِيَةً له أَنَّ تَوَلِّيَهُمْ لَا يَضُرُّهُ وَهَكَذَا أَمْثَالُ هذه الْآيَةِ مِمَّا يَقْطَعُ النَّاظِرُ بِفَهْمِ الْحَصْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ إنَّمَا أنت مُنْذِرٌ إنَّمَا أنت نَذِيرٌ إنَّمَا تَعْبُدُونَ من دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا إنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا إنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ إنَّمَا السَّبِيلُ على الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ إنَّمَا يَسْتَأْذِنُك الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ إنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ إنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وقَوْله تَعَالَى إنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أنا نَذِيرٌ مُبِينٌ قُلْ إنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إنْ شَاءَ قُلْ إنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فإنه إنَّمَا يَحْصُلُ بها مُطَابَقَةُ الْجَوَابِ إذَا كانت إنَّمَا لِلْحَصْرِ لِيَكُونَ مَعْنَاهَا لَا آتِيكُمْ إنَّمَا يَأْتِي بِهِ اللَّهُ وَلَا أَعْلَمُهَا إنَّمَا يَعْلَمُهَا اللَّهُ وَقَوْلُهُ وَلَمَنْ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ ما عليهم من سَبِيلٍ إنَّمَا السَّبِيلُ على الَّذِينَ يَظْلِمُونَ الناس قال ابن فَارِسٍ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ مَجِيئَهَا لِلتَّحْقِيرِ تَقُولُ إنَّمَا أنا بَشَرٌ مُحَقِّرًا لِنَفْسِك وَرَدَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ وَحَكَى ابن بَابْشَاذَ عن بَعْضِ النُّحَاةِ أنها تَجِيءُ لِلتَّعْلِيلِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ سِيبَوَيْهِ إنَّمَا سِرْت حتى أَدْخُلَهَا أَنَّك إذَا بَيَّتَّ السَّيْرَ وَقِيلَ تَجِيءُ لِلتَّأْكِيدِ نَحْوُ إنَّمَا الرَّجُلُ زَيْدٌ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَالْأَقْرَبُ أنها فيه لِلْحَصْرِ الْمَجَازِيِّ أو بِجَعْلِ الْمَجَازِ في الْأَلْفِ وَاللَّامِ التي في الرَّجُلِ بِأَنْ يُسْتَعْمَلَ لِلْكَمَالِ وَيَحْصُرَ الْكَمَالَ فيه الثَّانِي من الْمَوَاضِعِ في سَبَبِ إفَادَتِهَا الْحَصْرَ وَيُعْرَفُ من أنها مُفْرَدَةٌ أو مَرْكَبَةٌ وَفِيهِ طُرُقٌ أَحَدُهَا أنها لَفْظَةٌ مُفْرَدَةٌ وُضِعَتْ لِلْحَصْرِ ابْتِدَاءً من غَيْرِ اعْتِبَارِ تَرْكِيبٍ وَمِنْ غَيْرِ وَضْعِهَا لِمَعْنًى ثُمَّ نَقْلُهَا لِمَعْنَى الْحَصْرِ وَدَلِيلُهُ أنها لِلْحَصْرِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّرْكِيبِ
____________________
(2/68)
وَالنَّقْلِ وَكَوْنُهَا على صُورَةٍ إنَّ مع ما لَا يَسْتَدْعِي التَّرْكِيبَ مِنْهُمَا بَلْ الْمَجْمُوعُ حَرْفٌ وَاحِدٌ كما أَنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ من لَفْظِ إنْسَانٍ على صُورَةِ حَرْفِ الشَّرْطِ وَلَيْسَ مَرْكَبًا منه الثَّانِيَةُ لِلْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيَّ أَنَّ إنَّ لِلْإِثْبَاتِ وما لِلنَّفْيِ فإذا جُمِعَا فَقِيلَ إنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ فَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَعْنَاهُ بَعْدَ التَّرْكِيبِ على ما كان عليه وَلَيْسَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ مُتَوَجِّهَيْنِ إلَى الْمَذْكُورِ وَلَا إلَى غَيْرِ الْمَذْكُورِ لِلتَّنَاقُضِ بَلْ أَحَدُهُمَا لِلْمَذْكُورِ وَالْآخَرُ لِغَيْرِ الْمَذْكُورِ وَلَيْسَ إنَّ لِإِثْبَاتِ ما عَدَا الْمَذْكُورَ وما لِنَفْيِ الْمَذْكُورِ وِفَاقًا فَتَعَيَّنَ عَكْسُهُ وهو مَعْنَى الْقَصْرِ وَرُدَّ بِأَنَّ حُكْمَ الْإِفْرَادِ غَيْرُ حُكْمِ التَّرْكِيبِ وَلَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُمَا كَلِمَتَيْنِ بَلْ كَلِمَةً وَاحِدَة وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّرْكِيبِ وَالنَّقْلِ وَأَيْضًا حُكْمُ غَيْرِهِ لم يُذْكَرْ فَكَيْفَ يُنْفَى حُكْمُهُ هذا على تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ الْمُقَدَّمَتَيْنِ وَهُمَا أَنْ إنَّ لِلْإِثْبَاتِ وما لِلنَّفْيِ لَكِنَّهُمَا مَمْنُوعَتَانِ بِاتِّفَاقِ النُّحَاةِ أَمَّا إنَّ فَلَيْسَتْ لِلْإِثْبَاتِ وَلَا ما لِلنَّفْيِ بِدَلِيلِ اسْتِعْمَالِهَا مع كُلٍّ مِنْهُمَا تَقُولُ إنَّ زَيْدًا قَائِمٌ وَإِنَّ زَيْدًا لَا يَقُومُ فَلَوْ كانت لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لم تُسْتَعْمَلْ مَعَهُمَا وَأَمَّا ما فَلَيْسَتْ لِلنَّفْيِ وَإِنَّمَا هِيَ كَافَّةٌ وَأُجِيبَ عن ذلك بِأَنَّ الْكُفْرَ حُكْمٌ لَفْظِيٌّ لَا يُنَافِي أَنْ يُقَارِنَهُ حُكْمٌ مَعْنَوِيٌّ وَاسْتَدَلَّ السَّكَّاكِيُّ على أنها لَيْسَتْ بِنَافِيَةٍ بِأَنَّ النَّافِيَةَ لها صَدْرُ الْكَلَامِ وَهَذِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَبِأَنَّهُ يَلْزَمُ اجْتِمَاعُ حَرْفَيْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ بِلَا فَاصِلٍ وَبِأَنَّهُ لو كانت النَّافِيَةَ لَجَازَ نَصْبُ قَائِمٍ في إنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ لِأَنَّ الْحَرْفَ وَإِنْ زِيدَ يَعْمَلُ وَلَكَانَ مَعْنَى إنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ تَحَقُّقَ عَدَمِ قِيَامِ زَيْدٍ لِأَنَّ ما يَلِي النَّفْيَ مَنْفِيٌّ وَالتَّوَالِي الْأَرْبَعَةُ بَاطِلَةٌ وَانْتَصَرَ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ لِلْإِمَامِ وقال مُرَادُهُ أَنَّ كَلِمَةَ إنَّمَا هَكَذَا لِلْحَصْرِ كَسَائِرِ الْكَلِمَاتِ الْمُرَكَّبَةِ الْمَوْضُوعَةِ لِمَعْنًى لَا أَنَّ لَفْظَةَ إنَّ وَلَفْظَةَ ما رُكِّبَتَا وَبَقِيَتَا على أَصْلِهِمَا حتى لَا يَرِدَ عليه الِاعْتِرَاضَاتُ وما ذَكَره الْإِمَامُ بَيَانُ وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ النَّقْلُ الذي هو خِلَافُ الْأَصْلِ لَكِنْ يَرِدُ عليه في بَيَانِ وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ قَوْلَك ما لِنَفْيِ غَيْرِ الْمَذْكُورِ كَنَفْيِ غَيْرِ قِيَامِ زَيْدٍ في قَوْلِك إنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِنَفْيِ قِيَامِ غَيْرِ زَيْدٍ وقال الشَّيْخُ أبو حَيَّانَ كَوْنُ ما هُنَا لِلنَّفْيِ قَوْلُ من لم يَشْتَمَّ رَائِحَةَ النَّحْوِ قُلْت قد حَكَاهُ في الْمَحْصُولِ عن الْفَارِسِيِّ في الشِّيرَازِيَّاتِ أَنَّهُ حَكَاهُ عن النَّحْوِيِّينَ قال وَقَوْلُهُمْ حُجَّةٌ لَكِنْ قال الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ في الْمُغْنِي لم يَقُلْ ذلك الْفَارِسِيُّ في الشِّيرَازِيَّاتِ وَلَا قَالَهُ نَحْوِيٌّ غَيْرُهُ وَإِنَّمَا الذي في الشِّيرَازِيَّاتِ أَنَّ الْعَرَبَ عَامَلُوا إنَّمَا مُعَامَلَةَ النَّفْيِ وَإِلَّا في فَصْلِ الضَّمِيرِ
____________________
(2/69)
قُلْت سَبَقَ من كَلَامِهِ ما يَدُلُّ على أَنَّهُ أَرَادَ إشْرَابَهَا مَعْنَى النَّفْيِ أَيْضًا وقال ابن بَرْهَانٍ من أَئِمَّةِ النَّحْوِيِّينَ في شَرْحِ اللُّمَعِ ما نَصُّهُ تَأَوَّلَ قَوْمٌ إنَّمَا على مَعْنَى ما وَإِلَّا وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ وَإِنَّمَا يُدَافِعُ عن أَحْسَابِهِمْ أنا أو مِثْلِي وَهَذَا قَوْلٌ ذَكَرَهُ أبو عَلِيٍّ عن بَعْضِ الْبَغْدَادِيِّينَ في قَوْله تَعَالَى إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ منها أَيْ ما حَرَّمَ إلَّا الْفَوَاحِشَ وَهَذَا قَوْلٌ لَا نَتَبَيَّنُ صِحَّتَهُ عِنْدَنَا وقد قال تَعَالَى إنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ انْتَهَى وَسَيَأْتِي جَوَابُهُ أَنَّهُ لم يَخْرُجْ عن الْحَصْرِ لَكِنَّهُ مَجَازِيٌّ الثَّالِثَةُ إنَّ لِلتَّأْكِيدِ وما حَرْفٌ زَائِدٌ لِلتَّأْكِيدِ وَلَا فَائِدَةَ لَهُمَا مُجْتَمَعَيْنِ إلَّا الْحَصْرَ لِأَنَّهُ تَأْكِيدٌ ثَانٍ وَهَذَا حَكَاهُ السَّكَّاكِيُّ عن عَلِيِّ بن عِيسَى وَاسْتَلْطَفَهُ وَحَكَاهُ ابن بَابْشَاذَ في شَرْحِ الْجُمَلِ عن الْمُحَقِّقِينَ من أَصْحَابِهِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ النَّفْيَ عن غَيْرِهِ ليس تَأْكِيدًا لِثُبُوتِهِ لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ وَيَرُدُّهُ اجْتِمَاعُ إنَّ وما النَّافِيَتَيْنِ وَلَا يُفِيدُ إلَّا النَّفْيَ وَكَذَلِكَ يَجْتَمِعُ الْمُؤَكِّدَانِ وَلَا يُفِيدُ إلَّا التَّأْكِيدَ وَأَوْلَى لِأَنَّ النَّفْيَ قد يُنْفَى وَأَيْضًا فَإِنَّك تَقُولُ قام الْقَوْمُ كلهم أَجْمَعُونَ وَلَيْسَ بِحَصْرٍ وَنَقُولُ وَاَللَّهِ إنَّ زَيْدًا لَيَقُومَنَّ فَقَدْ حَصَلَ التَّأْكِيدُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ولم يَقُلْ أَحَدٌ بِاقْتِضَائِهِ الْحَصْرَ قال الْقَاضِي الْعَضُدُ وهو الذي قَالَهُ الرَّبَعِيُّ من بَابِ إيهَامِ الْعَكْسِ فإنه لَمَّا رَأَى أَنَّ الْقَصْرَ تَأْكِيدٌ على تَأْكِيدٍ ظَنَّ أَنَّ كُلَّ ما كان تَأْكِيدًا على تَأْكِيدٍ كان حَصْرًا وَأَيْضًا يَلْزَمُ تَخْصِيصُ كَوْنِهِ لِلْحَصْرِ بِمَا وَقَعَ في جَوَابِ الرَّدِّ لَكِنَّهُ لِلْحَصْرِ في جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ الرَّابِعَةُ لِلْإِمَامِ في الْمَعَالِمِ وَاعْتَمَدَهُ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّ أَهْلَ اللِّسَانِ فَهِمُوا ذلك فإن ابْنَ عَبَّاسٍ فَهِمَ الْحَصْرَ من قَوْلِهِ عليه السَّلَامُ إنَّمَا الرِّبَا في النَّسِيئَةِ وَخَالَفَهُ الصَّحَابَةُ بِدَلِيلٍ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ رِبَا الْفَضْلِ ولم يُخَالِفْ في فَهْمِهِ الْحَصْرَ فَكَانَ إجْمَاعًا انْتَهَى وهو حَسَنٌ إلَّا أَنَّ فيه نَظَرًا من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قد ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةُ لَا رِبَا إلَّا في النَّسِيئَةِ فَلَعَلَّهُ فَهِمَ الْحَصْرَ من هذه الصِّيغَةِ لَا من إنَّمَا وَلَوْ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمَتْهُ من
____________________
(2/70)
قَوْلِهِ إنَّمَا الْمَاءُ من الْمَاءِ لَكَانَ أَقْرَبَ ثَانِيهمَا أَنَّ الْمُخَالِفَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَذْكُرَ جَمِيعَ أَوْجُهِ الِاعْتِرَاضِ بَلْ قد يَكْتَفِي بِأَحَدِهَا إذَا كان قَوِيًّا ظَاهِرًا وَحِينَئِذٍ فَلَا يَلْزَمُ من اسْتِنَادِهِمْ إلَى الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ وَاقْتِصَارِهِمْ عليه تَسْلِيمُ كَوْنِهَا لِلْحَصْرِ الْخَامِسَةُ اخْتِيَارُ السَّكَّاكِيِّ وهو أَقْرَبُهَا أَنَّا وَجَدْنَا الْعَرَبَ عَامَلَتْهَا في الْكَلَامِ مُعَامَلَةَ إلَّا الْمَسْبُوقَةِ بِالنَّفْيِ وَهِيَ مُفِيدَةٌ لِلْحَصْرِ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ قُمْت ولم يَقُمْ زَيْدٌ وَلَا يَقُولُونَ قام أنا ولم يَقُمْ زَيْدٌ فإذا أَدْخَلُوهَا قالوا إنَّمَا قام أنا ولم يَقُمْ زَيْدٌ كما يَقُولُونَ ما قام إلَّا أنا فَأَجْرَوْا الضَّمِيرَ مع إنَّمَا مَجْرَى الْمُضْمَرِ مع إلَّا وَتِلْكَ تُفِيدُ الْحَصْرَ كَقَوْلِهِ ما قَطَرَ الْفَارِسَ إلَّا أنا الثَّالِثُ الْقَائِلُونَ بِالْحَصْرِ قال مُحَقِّقُوهُمْ هِيَ حَاصِرَةٌ أَبَدًا لَكِنْ يَخْتَلِفُ حَصْرُهَا فَقَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ وقد يَكُونُ مَجَازِيًّا على الْمُبَالَغَةِ نَحْوُ إنَّمَا الشُّجَاعُ عَنْتَرَةُ وَحَمَلَ عليه ابن عَطِيَّةَ قَوْلَهُ إنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ وَقَوْلَهُ إنَّمَا أنا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ مَحْمُولٌ على مَعْنَى التَّوَاضُعِ وَالْإِخْبَاتِ أَيْ ما أنا إلَّا عَبْدٌ مُتَوَاضِعٌ وَمِنْهُمْ من يقول تَارَةً يَكُونُ مُطْلَقًا نَحْوُ إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ وَتَارَةً يَكُونُ مَخْصُوصًا بِقَرِينَةٍ نَحْوُ إنَّمَا أنت مُنْذِرٌ فإنه لَا يَنْحَصِرُ في النِّذَارَةِ إنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَيْسَتْ مُنْحَصِرَةً في ذلك لِأَنَّهَا مَزْرَعَةٌ لِلْآخِرَةِ وَإِنَّمَا الْحَصْرُ بِالنِّسْبَةِ فَقَوْلُهُ إنَّمَا أنت مُنْذِرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى خِطَابِ الْكُفَّارِ لِنَفْيِ كَوْنِهِ قَادِرًا على إنْزَالِ ما اقْتَرَحُوهُ من الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ ما على الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ وَقَوْلُهُ إنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ أَيْ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ آثَرَهَا ولم يَعْمَلْ فيها لِلْآخِرَةِ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ كَلِمَةُ إنَّمَا لِلْحَصْرِ وَالْحَصْرُ فيها على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَكُونَ فِيمَا دَخَلَتْ عليه تَخْصِيصٌ وَلَا تَقْيِيدٌ إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ إنَّمَا إلَهُكُمْ اللَّهُ إنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالثَّانِي أَنْ يَقَعَ فِيمَا دَخَلَتْ عليه إمَّا في جَانِبِ الْإِثْبَاتِ بِأَنْ يَكُونَ هو الْمَقْصُودَ
____________________
(2/71)
أو في جَانِبِ النَّفْيِ بِأَنْ يَكُونَ هو الْمَقْصُودَ وَالْقَرَائِنُ تَرْشُدُ إلَى الْمُرَادِ وهو في الْعُمَدِ الْكُبْرَى في فَهْمِهِ نَحْوُ إنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ إنَّمَا أنا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إنَّمَا أنت مُنْذِرٌ فإن جَمِيعَ هذه الْأَوْصَافِ التي دَخَلَتْ عليها إنَّمَا لَيْسَتْ لِلْعُمُومِ بَلْ تَخْتَصُّ كَوْنَهَا لَعِبًا وَلَهْوًا بِمَنْ لَا يُرِيدُ بِعَمَلِهِ فيها الْآخِرَةَ وَالتَّزَوُّدَ بها وَالرَّسُولُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَنْحَصِرُ في الْبَشَرِيَّةِ وَالنِّذَارَةِ بَلْ له أَوْصَافٌ أُخْرَى جَلِيلَةٌ زَائِدَةٌ على الْبَشَرِيَّةِ وَالنِّذَارَةِ لَكِنْ فُهِمَ منه أَنَّهُ ليس على صِفَةٍ تَقْتَضِي الْعِلْمَ بِالْغَيْبِ أو أنها في قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّمَا أنا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وفي إنَّمَا أنا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يُفْهَمُ من أَنَّهُ ليس قَادِرًا على خَلْقِ الْإِيمَانِ قَهْرًا لِسَبْقِ قَوْله تَعَالَى وَقَالُوا قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إلَيْهِ وفي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِك حِجَابٌ فَاعْمَلْ إنَّنَا عَامِلُونَ قُلْ إنَّمَا أنا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَيْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا أَقْدِرُ على إجْبَارِكُمْ على الْإِيمَانِ وَكَذَلِكَ أَمْرُ النِّذَارَةِ لَا يَنْحَصِرُ فيها إنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا إذَا عَرَفَتْ هذا فَإِنْ دَلَّتْ الْقَرَائِنُ وَالسِّيَاقُ على التَّخْصِيصِ فَاحْمِلْهُ على الْعُمُومِ فِيمَا دَخَلَتْ عليه إنَّمَا على هذا حَمَلَ ابن عَبَّاسٍ إنَّمَا الرِّبَا على الْعُمُومِ حتى نَفَى رِبَا الْفَضْلِ وَقِيلَ إنَّهُ رَجَعَ عنه وَحَمَلَ غَيْرُهُ إنَّمَا الْمَاءُ من الْمَاءِ على ذلك ولم يُوجِبْ الْغُسْلَ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَمَنْ خَالَفَ في الْأَمْرَيْنِ فَبِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ الرَّابِعُ زَعَمَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ الْأَخِيرَ هو الْمَحْصُورُ فإذا قُلْت إنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ فَالْقَائِمُ هو الْمَحْصُورُ وإذا قُلْت إنَّمَا الْمَالُ لَك فَالْمَحْصُورُ أنت أَيْ لَا غَيْرُك وإذا قُلْت إنَّمَا لَك الْمَالُ فَالْمَحْصُورُ الْمَالُ أَيْ لَا غَيْرُهُ وَعَلَى هذا قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ لَا يَحْسُنُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ على مَشْرُوعِيَّةِ النِّيَّةِ في كل عَمَلٍ إذْ الْمَحْصُورُ النِّيَّةُ لَا الْعَمَلُ وَلَكِنْ إجْمَاعُ الْأَئِمَّةِ على خِلَافِهِ وَأَجْمَعَ النُّحَاةُ على أَنَّهُ مَتَى أُرِيدَ الْحَصْرُ في وَاحِدٍ من الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ مع إنَّمَا
____________________
(2/72)
يَجِبُ تَأْخِيرُهُ وَتَقْدِيمُ الْآخَرِ فَتَقُولُ إنَّمَا ضَرَبَ عَمْرٌو هِنْدًا إذَا أَرَدْت الْحَصْرَ في الْمَفْعُولِ وَإِنَّمَا ضَرَبَ هِنْدًا عَمْرٌو إذَا أَرَدْت الْحَصْرَ في الْفَاعِلِ وَاخْتَلَفُوا فيه إذَا كان مع ما وإلا على ثَلَاثَةٍ مَذَاهِبَ فَذَهَبَ قَوْمٌ منهم الْجُزُولِيُّ وَالشَّلُوبِينَ إلَى أَنَّهُ كَذَلِكَ في إنَّمَا إنْ أُرِيدَ الْحَصْرُ فيه وَجَبَ تَأْخِيرُهُ كَ إلَّا وَتَقْدِيمُ غَيْرِ الْمَحْصُورِ وَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ فيه من التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ما جَازَ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا لم يَكُنْ معه ما وَإِلَّا وَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ وَالْفَرَّاءُ وابن الْأَنْبَارِيِّ إلَى أَنَّهُ إنْ كان الْفَاعِلُ هو الْمَقْرُونَ بِإِلَّا وَجَبَ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ وَإِنْ كان الْمَفْعُولُ هو الْمَقْرُونَ بِإِلَّا لم يَجِبْ تَقْدِيمُ الْفَاعِلِ على الْمَفْعُولِ بَلْ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْفَاعِلِ على الْمَفْعُولِ وَتَأْخِيرُهُ وَحَكَاهُ عنه الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ بن النَّحَّاسِ في التَّعْلِيقَةِ الْخَامِسُ ادَّعَى الزَّمَخْشَرِيُّ في كَشَّافِهِ أَنَّ أَنَّمَا الْمَفْتُوحَةَ لِلْحَصْرِ قَالَهُ في قَوْله تَعَالَى إنَّمَا يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ وَبِهِ صَرَّحَ التَّنُوخِيُّ في الْأَقْصَى الْقَرِيبِ وَأَنْكَرَهُ الشَّيْخُ ابن حَيَّانَ وقال إنَّمَا يُعْرَفُ في الْمَكْسُورَةِ لَا الْمَفْتُوحَةِ وَاعْتِرَاضُهُ مَرْدُودٌ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَكْسُورَةَ هِيَ الْأَصْلُ وَأَنَّ الْمَفْتُوحَةَ فَرْعُهَا على الصَّحِيحِ وإذا ثَبَتَ هذا الْحُكْمُ في الْمَكْسُورَةِ ثُمَّ عَرَضَ لها الْفَتْحُ لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْمُفْرَدِ فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي بَقَاءَ ذلك الْمَعْنَى وَثَانِيهمَا أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ بَنَاهُ على رَأْيِهِ في إنْكَارِ الصِّفَاتِ نعم رَأَيْت في كِتَابِ سِيبَوَيْهِ ما يَدُلُّ على أنها لَا تَقْتَضِي الْحَصْرَ فإنه قال في بَابِ إنَّمَا وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَقَعُ فيه أَنَّ يَقَعَ أَنَّمَا وما بَعْدَهَا صِلَتُهَا كما في الذي وَلَا تَكُونُ هِيَ عَامِلَةً فِيمَا بَعْدَهَا كما لَا يَكُونُ الذي عَامِلًا فِيمَا بَعْدُ فَمِنْ ذلك قَوْله تَعَالَى إنَّمَا أنا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَإِنَّمَا وَقَعَتْ أَنَّمَا هَاهُنَا لِأَنَّك لو قُلْت أَنَّ إلَهَكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ كان حَسَنًا انْتَهَى
____________________
(2/73)
سقط قواعد نافعة الْأُولَى حُرُوفُ الْجَرِّ يُسَمِّيهَا الْكُوفِيُّونَ الصِّفَاتِ لِنِيَابَتِهَا عن الصِّفَاتِ وَيُجَوِّزُونَ دُخُولَ بَعْضِهَا على بَعْضٍ أَيْ أَنَّ هذا الْحَرْفَ بِمَعْنَى حَرْفِ كَذَا وَمَنَعَ الْبَصْرِيُّونَ ذلك وَعَدَلُوا عنه إلَى تَضْمِينِ الْفِعْلِ مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ إبْقَاءً لِلَفْظِ الْحَرْفِ على حَقِيقَتِهِ وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا التَّجَوُّزَ في الْفِعْلِ أَخَفَّ من التَّجَوُّزِ في الْحَرْفِ وَالْكُوفِيُّونَ عَكَسُوا ذلك وقال ابن السَّيِّدِ في الْقَوْلَيْنِ جميعا نَظَرٌ لِأَنَّ من أَجَازَ مُطْلَقًا يَلْزَمُهُ أَنْ يُجِيزَ سِرْت إلَى زَيْدٍ يُرِيدُ مع زَيْدٍ وَمَنْ مَنَعَ مُطْلَقًا لَزِمَهُ أَنْ يَتَعَسَّفَ في التَّأْوِيلِ الْكَثِيرِ فَالْحَقُّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ على السَّمَاعِ وَغَيْرُ جَائِزٍ في الْقِيَاسِ ثُمَّ ذَكَرَ ما حَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى التَّضْمِينِ هو تَضْمِينُ الْحَرْفِ مَعْنًى آخَرَ لِيُفِيدَ الْمَعْنَيَيْنِ كَقَوْلِهِ إذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ لَعَمْرُ اللَّهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا قِيلَ إنَّمَا عُدِّيَ رضي بِعَلَيَّ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى أَقْبَلَتْ وقال أبو الْفَتْحِ بن دَقِيقِ الْعِيدِ الْمَانِعُونَ إنَّمَا يَمْنَعُونَ الِاسْتِعْمَالَ حَقِيقَةً وَمَجَازًا أو حَقِيقَةً فَقَطْ وَالْمُجَوِّزُونَ إمَّا أَنْ يَدَّعُوا في الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةَ فيه أو يَقُولُوا بِالْمَجَازِ فيه فَإِنْ ادَّعَى الْمَانِعُونَ الْعُمُومَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لم يَصِحَّ لِأَنَّهُمْ إذَا رَدُّوا على الْمُجِيزِينَ جَعَلُوا مَدْلُولَ اللَّفْظِ حَقِيقَةً مَعْنًى من الْمَعَانِي ثُمَّ رَدُّوا الِاسْتِعْمَالَ الذي يَذْكُرُهُ الْمُجَوِّزُونَ بِالتَّأْوِيلِ إلَى ذلك الْمَعْنَى وهو يُقَرِّبُ الْمَجَازَ فَعَلَى هذا يُؤَوَّلُ تَصَرُّفُ الْبَصْرِيِّينَ إلَى الْمَجَازِ أَيْضًا وَيَرْجِعُ الْخِلَافُ في تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمَجَازَيْنِ على الْآخَرِ لَا في الْمَنْعِ من الِاسْتِعْمَالِ أو الْحَمْلِ أو الْجَوَازِ فِيهِمَا وَإِنْ كان الْكُوفِيُّونَ يَرَوْنَ الِاسْتِعْمَالَ في هذه الْمَعَانِي التي يُورِدُونَهَا حَقِيقَةً وَالْبَصْرِيُّونَ يَقُولُونَ مَجَازٌ فَالْمَجَازُ خَيْرٌ من الِاشْتِرَاكِ وَالِاشْتِرَاكُ لَازِمٌ على هذا الْقَوْلِ لِاتِّفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ على اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ في مَعْنًى حَقِيقَةً وَالْكُوفِيُّونَ على هذا التَّقْدِيرِ يَرَوْنَ اسْتِعْمَالَهُ في مَعَانِي حَقِيقَةً فَيَلْزَمُ الِاشْتِرَاكُ على هذا التَّقْدِيرِ قَطْعًا قال وَلَسْت أَذْكُرُ التَّصْرِيحَ من مَذْهَبِ الْمُجَوِّزِينَ في أَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ قَوْلُهُمْ وَيَكُونُ كَذَا بِمَعْنَى كَذَا وَلَيْسَ فيه دَلِيلٌ على أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فيه
____________________
(2/74)
الثَّانِيَةُ الْمَقْصُودُ من عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ إنَّمَا هو النُّطْقُ بِالصَّوَابِ وَذَلِكَ حُكْمٌ لَفْظِيٌّ وما عَدَاهُ من التَّقْدِيرَاتِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَا يَقْدَحُ في اللَّفْظِ ليس هو بِالْمَقْصُودِ فيها فَمَتَى احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِشَيْءٍ مَسْمُوعٍ من الْعَرَبِ لِمَذْهَبِهِ فَذُكِرَ فيه تَأْوِيلٌ وكان ذلك التَّأْوِيلُ مِمَّا يَطَّرِدُ في جُمْلَةِ مَوَارِدِ الِاسْتِعْمَالِ فَحِينَئِذٍ لَا يَظْهَرُ لِلِاخْتِلَافِ فَائِدَةٌ لَفْظِيَّةٌ لِأَنَّ اللَّفْظَ جَائِزُ الِاسْتِعْمَالِ على الصُّورَةِ وَالْهَيْئَةِ الْمَذْكُورَةِ على كل تَقْدِيرٍ إمَّا من غَيْرِ تَأْوِيلٍ كما يَذْهَبُ إلَيْهِ الْمُسْتَدِلُّ وَإِمَّا بِتَأْوِيلٍ مُطَّرِدٍ في الْمَوَارِدِ كما ذَكَرَ الْمُجِيبُ فَلَا يَظْهَرُ لِلِاخْتِلَافِ فَائِدَةٌ في الْحُكْمِ اللَّفْظِيِّ وهو الْمَقْصُودُ من عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ مِثَالُهُ إذَا قُلْنَا فإن في أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالْآخَرِ شِفَاءً فَأَوَّلَهُ مُؤَوِّلٌ بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ وَأَوَّلَ قَوْلَنَا ما كُلُّ سَوْدَاءَ تَمْرَةً وَلَا كُلُّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً بِحَذْفِ الْمُضَافِ فَاللَّفْظُ على الْهَيْئَةِ الْمَذْكُورَةِ غَيْرُ خَارِجٍ عن الصَّوَابِ غَايَةُ ما في الْبَابِ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ وَقَعَ في وَجْهِ جَوَازِهِ فَقَائِلٌ يقول هو على حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِلْغَاءِ عَمَلِهِ وهو جَائِزٌ وَقَائِلٌ يقول هو على تَقْدِيرِ الْعَطْفِ على عَامِلَيْنِ وهو جَائِزٌ فَالِاتِّفَاقُ وَقَعَ على الْجَوَازِ وَاخْتُلِفَ في عِلَّتِهِ وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً لَفْظِيَّةً اللَّهُمَّ إلَّا إذَا بُيِّنَ في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَائِدَةٌ بِأَنْ يَكُونَ الْجَوَازُ صَحِيحًا بِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ الْفَائِدَةُ الْمُحَقَّقَةُ الْمُعْتَبَرَةُ في عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ فَانْظُرْ هذا فإنه يَقَعُ في مَوَاضِعَ من مَبَاحِثِ النَّحْوِيِّينَ الثَّالِثَةُ الْأَفْعَالُ بِاعْتِبَارِ تَعْلِيقِهَا بِمَفْعُولَاتِهَا على الِاسْتِيعَابِ وَعَدَمِهِ على أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا ما يُسْتَوْعَبُ ليس إلَّا نحو اشْتَرَيْت الدَّارَ وَأَكَلْت الرَّغِيفَ فَلَا يُحْمَلُ على الْبَعْضِ إلَّا مَجَازًا قال ابن الْمُنَيِّرِ في تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ وَمِنْ ثَمَّ أَشْكَلَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في تَحْنِيثِ الْحَالِفِ بِبَعْضِ الْمَحْلُوفِ عليه فإنه إلْزَامٌ له بِمُقْتَضَى خِلَافِ حَقِيقَةِ لَفْظِهِ
____________________
(2/75)
وَحُمِلَ عليه أَنَّهُ أَرَادَ الْمَجَازَ وهو يقول ما أَرَدْته فَاحْمِلُوا لَفْظِي على الْحَقِيقَةِ أو عَسَى أَنَّ مُكَلَّفًا قَدَّرَ الْجُمْلَةَ في الْمَعْنَى بِالْأَجْزَاءِ فَكَانَ مَعْنَى لَفْظِهِ عِنْدَهُ لَا أَكَلْت جُزْءًا من الرَّغِيفِ وَأُخِذَ ذلك في أَجْوِبَةِ الدَّعَاوَى فِيمَا إذَا قال لَا تُسْتَحَقُّ عَلَيَّ الْعَشَرَةُ فإن مَحْمَلَ النَّفْيِ على الْأَجْزَاءِ أَيْ وَلَا شَيْءَ منها وَلِهَذَا يَلْزَمُهُ في أَجْوِبَةِ الدَّعَاوَى وَلَا شَيْءَ منها مع قَرِينَةِ كَوْنِ الْحَالِفِ في مِثْلِهِ يُرِيدُ الِاجْتِنَابَ وَمُبَاعَدَةَ الْمَحْلُوفِ عليه فَمَتَى أُكِلَ الرَّغِيفُ إلَّا لُقْمَةً فإنه مَقْصُودُ الِاجْتِنَابِ الثَّانِي مُقَابِلُ الْأَوَّلِ لَا يَقْتَضِي الْفِعْلَ في الِاسْتِيعَابِ كَقَوْلِك شَجَّ زَيْدٌ عَمْرًا فَلَا خَفَاءَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ إلَّا جُرْحَهُ في رَأْسِهِ خَاصَّةً بَعْضَ الْوَجْهِ وَلَا تَكُونُ الشَّجَّةُ إلَّا كَذَلِكَ وَمِنْهُ ضَرَبْت زَيْدًا الثَّالِثُ كَالثَّانِي إلَّا أَنَّ الْعُرْفَ هو الْمَانِعُ لِلِاسْتِيعَابِ كَقَوْلِك جَعَلْت الْخَيْطَ في الْإِبْرَةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ وَقَفْته على جُمْلَةِ الْإِبْرَةِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ الرَّابِعُ يَخْتَلِفُ الْحَالُ فيه بِدُخُولِ حَرْفِ الْجَرِّ فيه وَعَدَمِهِ وَمِنْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِعْلُ الْمَسْحِ إنْ اقْتَرَنَ بِالْبَاءِ كان لِلتَّبْعِيضِ وَإِلَّا لِلِاسْتِيعَابِ وَكَذَلِكَ ما يقول أبو عَلِيٍّ في السَّيْرِ وَالْيَوْمِ لو قُلْت سِرْت الْيَوْمَ فَظَاهِرُهُ الِاسْتِيعَابُ وَإِنْ قُلْت سِرْت في الْيَوْمِ فَظَاهِرُهُ عَدَمُ الِاسْتِيعَابِ وَتَتَحَقَّقُ الظَّرْفِيَّةُ بِدُخُولِ في وَتَغْلِبُ الِاسْمِيَّةُ بِسُقُوطِهَا وَلِهَذَا كان الْأَوْلَى حين تَتَحَقَّقُ الظَّرْفِيَّةُ النَّصْبَ تَقُولُ سِرْت الْيَوْمَ فيه وَحِينَ تَغْلِبُ الِاسْمِيَّةُ الرَّفْعَ تَقُولُ الْيَوْمَ سِرْته وَيَنْبَنِي على هذا الْفَرْقِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ منها لو قال أَنْتِ طَالِقٌ في يَوْمِ السَّبْتِ يَقَعُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَوْ نَوَى وُقُوعَهُ في آخِرِهِ يُدَيَّنُ ولم يُقْبَلْ ظَاهِرًا عِنْدَنَا وقال أبو حَنِيفَةَ يُقْبَلُ وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ وَجَعَلَ السُّرُوجِيُّ مَأْخَذَهُمَا أَنَّ حَذْفَ حَرْفِ الْجَرِّ وَإِثْبَاتَهُ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ في الْحَالَيْنِ فَصَارَ كما لو قال صُمْت يوم الْجُمُعَةِ وفي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فإن الْحُكْمَ فِيهِمَا سَوَاءٌ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحَذْفَ لِلْحَرْفِ قد يُحْدِثُ مَعْنًى لَا يَكُونُ مع إثْبَاتِهِ لِأَنَّ في قد تُفِيدُ التَّبْعِيضَ في الظَّرْفِ الدَّاخِلِ عليه إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ وَلِهَذَا قالوا في قَوْلِهِمْ سِرْت فَرْسَخًا وَسِرْت في فَرْسَخٍ إنَّ الظَّاهِرَ في الْأَوَّلِ الِاسْتِغْرَاقُ في السَّيْرِ وفي الْآخَرِ عَدَمُهُ وَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ حتى يَخْرُجَ صُمْت في يَوْمِ الْجُمُعَةِ فإن صَوْمَ بَعْضِ الْيَوْمِ لَا يُمْكِنُ وَرَدُّوا صُمْت شَهْرَ رَمَضَانَ أو شَهْرَ رَمَضَانَ إلَى الْأَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ صَوْمَ الشَّهْرِ يَقْبَلُ التَّبْعِيضَ
____________________
(2/76)
الرَّابِعَةُ الْأَفْعَالُ الْمَاضِيَةُ تُفِيدُ بِالْوَضْعِ أَمْرًا أَنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ التي تَلِيهَا الزَّمَنُ الْمَاضِي فَقَطْ لَا غَيْرُ وَلَا دَلَالَةَ لها نَفْسِهَا على انْقِطَاعِ ذلك الْمَعْنَى وَلَا بَقَائِهِ بَلْ إنْ أَفَادَ الْكَلَامُ شيئا من ذلك كان لِدَلِيلٍ آخَرَ هذا هو التَّحْقِيقُ وَاخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ في دَلَالَةِ كان على التَّكْرَارِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ لم يَذْكُرْهَا النُّحَاةُ في دَلَالَتِهَا على الِانْقِطَاعِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ لم يَذْكُرْهَا الْأُصُولِيُّونَ قال ابن عُصْفُورٍ في شَرْحِ الْجُمَلِ وَأَصَحُّهَا وهو قَوْلُ الْجُمْهُورِ نعم فإذا قُلْت كان زَيْدٌ قَائِمًا دَلَّ على أَنَّهُ قام فِيمَا مَضَى وَلَيْسَ الْآنَ بِقَائِمٍ وَقِيلَ بَلْ لَا يُعْطِي الِانْقِطَاعَ بِدَلِيلِ وكان اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وَأَجَابَ بِأَنَّ ذلك قد يُتَصَوَّرُ فيه الِانْقِطَاعُ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كان فِيمَا مَضَى غَفُورًا رَحِيمًا كما هو الْآنَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ الْقَصْدُ الْإِخْبَارَ بِثُبُوتِ هذا الْوَصْفِ في الْمَاضِي ولم يُتَعَرَّضْ لِخِلَافِ ذلك وَأَجَابَ السِّيرَافِيُّ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ الِانْقِطَاعُ بِمَعْنَى أَنَّ الْمَغْفُورَ لهم وَالْمَرْحُومِينَ قد زَالُوا وَالْأَحْسَنُ في الْجَوَابِ أَنَّ في صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مَسْلُوبَةَ الدَّلَالَةِ على تَعْيِينِ الزَّمَانِ وَصَارَ صَالِحًا لِلْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ بِحُدُوثِ الزَّمَانِ وَقِدَمِ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَكَذَا الْفِعْلِيَّةُ على رَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ وَالتَّحْقِيقُ خِلَافُ الْقَوْلَيْنِ كما سَبَقَ وَلِهَذَا قال الزَّمَخْشَرِيُّ في قَوْله تَعَالَى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ كان عِبَارَةٌ عن وُجُودِ الشَّيْءِ في زَمَنِ مَاضٍ على سَبِيلِ الْإِبْهَامِ وَلَيْسَ فيه دَلِيلٌ على عَدَمٍ سَابِقٍ وَلَا على انْقِطَاعٍ طَارِئٍ وَمِنْهُ وكان اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وقال ابن مُعْطٍ في أَلْفِيَّتِهِ وكان لِلْمَاضِي الذي ما انْقَطَعَا وَحَكَى ابن الْخَبَّازِ في شَرْحِهَا قَوْلًا أنها تُفِيدُ الِاسْتِمْرَارَ مُحْتَجًّا بِالْآيَةِ وَسَمِعْت شَيْخَنَا أَبَا مُحَمَّدِ بن هِشَامٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُنْكِرُهُ عليه وَيَقُولُ غَرَّهُ فيه عِبَارَةُ ابْنِ مُعْطٍ ولم يَصِرْ إلَيْهِ أَحَدٌ بَلْ الْخِلَافُ في أنها تُفِيدُ الِانْقِطَاعَ أو لَا تَقْتَضِي الِانْقِطَاعَ وَلَا عَدَمَهُ وَأَمَّا إثْبَاتُ قَوْلِهِ بِالِاتِّصَالِ وَالدَّوَامِ فَلَا يُعْرَفُ قُلْت وقال الْأَعْلَمُ تَأْتِي لِلْأَمْرَيْنِ فَالِانْقِطَاعُ نحو كُنْت غَائِبًا وَأَمَّا الْآنَ حَاضِرٌ وَالِاتِّصَالُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وكان اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وهو في كل حَالٍ مَوْصُوفٌ بِذَلِكَ وَهَاهُنَا قَاعِدَةٌ من قَوَاعِدِ التَّفْسِيرِ وَهِيَ أَنَّهُ وَقَعَ في الْقُرْآنِ إخْبَارُ اللَّهِ عن
____________________
(2/77)
صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ وَغَيْرِهَا بِلَفْظِ كان كَثِيرًا كان اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا وَاسِعًا حَكِيمًا غَفُورًا رَحِيمًا تَوَّابًا رَحِيمًا وَأَنَّهَا لم تُفَارِقْ ذَاتَهُ وَلِهَذَا يُقَدِّرُهَا بَعْضُهُمْ بِمَا زَالَ فِرَارًا مِمَّا يَسْبِقُ إلَى الْوَهْمِ من أَنَّ كان تُفِيدُ انْقِطَاعَ الْمُخْبَرِ بِهِ من الْوُجُودِ كَقَوْلِهِمْ دخل في خَبَرِ كان قالوا فَكَانَ وما زَالَ أُخْتَانِ فَجَازَ أَنْ تُسْتَعْمَلَ إحْدَاهُمَا في مَعْنَى الْأُخْرَى مَجَازًا بِالْقَرِينَةِ وهو تَكَلُّفٌ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا ما ذَكَرْنَا من أَزَلِيَّةِ الصِّفَاتِ ثُمَّ يَسْتَفِيدُ مَعْنَاهَا من الْحَالِ وَفِيمَا لَا يَزَالُ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَحَيْثُ الْإِخْبَارُ بها عن صِفَةٍ فِعْلِيَّةٍ فَالْمُرَادُ تَارَةً الْإِخْبَارُ عن قُدْرَتِهِ عليها في الْأَزَلِ نحو كان اللَّهُ خَالِقًا وَرَزَّاقًا وَمُحْيِيًا وَمُمِيتًا وَتَارَةً تَحْقِيقُ نِسْبَتِهِ إلَيْهِ نحو وَكُنَّا فَاعِلِينَ وَتَارَةً ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ وَإِنْشَاؤُهُ نحو وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ فَالْإِرْثُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِينَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَالِكُ كل شَيْءٍ على الْحَقِيقَةِ من قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَحَيْثُ أُخْبِرَ بها عن صِفَاتِ الْآدَمِيِّينَ فَالْمُرَادُ بها التَّنْبِيهُ على أنها غَرِيزِيَّةٌ وَطَبِيعِيَّةٌ نحو وكان الْإِنْسَانُ عَجُولًا إنَّهُ كان ظَلُومًا جَهُولًا وَيَدُلُّ عليه إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وإذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا أَيْ خُلِقَ على هذه الصِّفَةِ وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ أو بِالْقُوَّةِ لم يَخْرُجْ إلَى الْفِعْلِ وَحَيْثُ أُخْبِرَ بها عن أَفْعَالِهِ دَلَّتْ على اقْتِرَانِ مَضْمُونِ أَمْرِ الْجُمْلَةِ بِالزَّمَانِ نحو إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ في الْخَيْرَاتِ وَمِنْ هذا الثَّانِي الْحِكَايَةُ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِلَفْظِ كان نحو كان يَقُومُ وكان يَفْعَلُ وَسَنَتَكَلَّمُ عليه في بَابِ الْعُمُومِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَامِسَةُ النِّسْبَةُ الْمَنْفِيَّةُ إذَا قُيِّدَتْ بِحَالٍ تَسَلَّطَ النَّفْيُ على الْحَالِ وَلِلْعَرَبِ فيه طَرِيقَانِ أَكْثَرُهُمَا نَفْيُ الْمُقَيَّدِ وهو الْحَالُ فَتَقُولُ ما زَيْدٌ أَقْبَلَ ضَاحِكًا فَيَكُونُ الضَّحِكُ مَنْفِيًّا وَزَيْدٌ قد أَقْبَلَ غير ضَاحِكٍ وَالثَّانِي نَفْيُ الْمُقَيَّدِ وَالْقَيْدِ فَيَكُونُ زَيْدٌ لم يَضْحَكْ ولم يُقْبِلْ وَمِنْ ثَمَّ رُدَّ على أبي الْبَقَاءِ تَجْوِيزُهُ عَمَلَ بِمُؤْمِنِينَ في الْحَالِ وهو يُخَادِعُونَ إذْ ليس مَعْنَى الْآيَةِ نَفْيَ الْخِدَاعِ أَلْبَتَّةَ وَالْعَجَبُ منه كَيْفَ تَنَبَّهَ فَمَنَعَ الصِّفَةَ وَعَلَّلَهُ بِمَا ذَكَرْنَا وَأَجَازَ الْحَالَ وَلَا فَرْقَ وَلِأَبِي الْبَقَاءِ أَنْ يَقُولَ الْفَرْقُ وَاضِحٌ فإذا قُلْت ما زَيْدٌ ضَاحِكٌ رَاكِبًا فَمَعْنَاهُ
____________________
(2/78)
نَفْيُ الضَّحِكِ في حَالِ الرُّكُوبِ وهو لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ حَالِ الرُّكُوبِ إذْ الْحَالُ كَالظَّرْفِ فَالْمَنْفِيُّ الْكَوْنُ الْوَاقِعُ في الْحَالِ لَا الْحَالُ كما في قَوْلِك ما زَيْدٌ ضَاحِكٌ في الدَّارِ وَهَذَا بِخِلَافِ الصِّفَةِ إذْ هِيَ كَوْنٌ من الْأَكْوَانِ فَيَقْتَضِي نَفْيَهَا بِهِ وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ يَظُنُّ كَثِيرٌ من الناس مِمَّنْ لَا تَحْقِيقَ له أَنَّ في مَدْلُولِ لَا يَسْأَلُونَ الناس إلْحَافًا وَقَوْلِهِ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ وَنَظَائِرِهِ مَذْهَبَانِ أَحَدُهُمَا نَفْيُ الْإِلْحَافِ وَحْدَهُ وَالثَّانِي نَفْيُ السُّؤَالِ وَالْإِلْحَافِ مَعًا وَيُنْشَدُ على لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ ولم يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ نَفْيَهُمَا مَعًا في الْآيَةِ من مَدْلُولِ اللَّفْظِ بَلْ هو من جُمْلَةِ مَحَامِلِهِ كما أَنَّ زَيْدًا من جُمْلَةِ مَحَامِلِ رَجُلٍ وقد تَقَرَّرَ في الْمَعْقُولِ أَنَّ الْقَضِيَّةَ السَّالِبَةَ لَا تَسْتَدْعِي وُجُودَ مَوْضُوعِهَا فَكَذَلِكَ سَلْبُ الصِّفَةِ لَا يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْمَوْصُوفِ وَلَا نَفْيَهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمَلٌ وَلَا دَلَالَةَ له على وَاحِدٍ من الطَّرَفَيْنِ بِعَيْنِهِ وَلَيْسَ هو مُتَرَدِّدًا بَيْنَهُمَا بَلْ مَدْلُولُهُ أَعَمُّ مِنْهُمَا وَإِنْ كان الْوَاقِعُ لَا يَخْلُو عن أَحَدِهِمَا وَالْمُتَحَقِّقُ فيه انْتِقَاءُ الصِّفَةِ لِأَنَّهُ على التَّقْدِيرَيْنِ وَانْتِفَاءُ الْمَوْصُوفِ مُحْتَمَلٌ لَا دَلَالَةَ لِنَفْيِ الْمُرَكَّبِ على انْتِفَائِهِ وَلَا ثُبُوتِهِ لَكِنْ إذَا جَعَلْنَا الصِّفَةَ تُشْعِرُ بِهِ نُزِعَ إلَى الْقَوْلِ بِعُمُومِ الصِّفَةِ فَمَنْ أَنْكَرَهُ فَوَاضِحٌ وَمَنْ أَثْبَتَهُ وقال إنَّهُ من جِهَةِ الْعِلَّةِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ مَحَلَّهُ إذَا كانت الصِّفَةُ الْمَحْكُومُ عليها وَالْحُكْمُ مُعَلَّلًا بها فَلَا يَثْبُتُ عِنْدَ انْتِفَائِهَا وَهُنَا الصِّفَةُ في الْحُكْمِ وَمَنْ أَثْبَتَهُ وقال إنَّهُ من جِهَةِ اللَّفْظِ فَيُنَاسِبُهُ الْقَوْلُ بِهِ هُنَا إلَّا أَنْ يَظْهَرَ غَرَضٌ سِوَاهُ كما هو مُبَيَّنٌ هُنَاكَ
____________________
(2/79)
الأمر قدم الكلام فيه على الكلام في النهي لتقدم الإثبات على النفي أو لأنه طلب إيجاد الفعل والنهي طلب الاستمرار على عدمه فقدم الأمر تقديم الموجود على المعدوم وهو التقديم بالشرف ولو لوحظ التقديم الزماني لقدم النهي تقديم العدم على الموجود لأن العدم أقدم وجمعه الأصوليون على أوامر وقد سبق في الفرق بين الحقيقة والمجاز أنه بمعنى القول المخصوص يطلق على أوامر وبمعنى الفعل على أمور ولم يساعدهم على هذا الجمع من أهل اللغة سوى الجوهري في الصحاح وأما الأزهري فقال في التهذيب الأمر ضد النهي واحد الأمور وذكر ابن سيده في المحكم أن الأمر لا يكسر على غير أمور وأما أئمة النحو قاطبة فلم يذكر أحد منهم أن فعلا يكسر على فواعل مع ذكرهم الصيغ الشاذة والمشهورة وقد تنبه لهذا الموضع الإمام أبو الحسن الإبياري في شرح البرهان وذكر أن قول الجوهري شاذ غير معروف عند أئمة العربية قلت ذكر ابن جني في كتاب التعاقب له نظيرا وعلل هاتين اللفظتين أعني أوامر ونواه بما يسوغ إجازتهما ثم ذكر الإبياري عن بعضهم أن الأوامر جمع آمر وهذا فيه تجوز لأن الآمر حقيقة هو المتكلم ونقله إلى المصدر مجاز ثم قال إن المراد الصيغة فإنه قد تسمى الصيغة آمرة تجوزا وإذا كان المفرد فاعله صح الجمع على أوامر فواعل اسما كان المفرد كفاطمة وفواطم أو صفة ككاتبة وكواتب قال وهذا بعيد في التجوز وليس هو المقصود هاهنا إذ الكلام في الأمر الحقيقي لا في الألفاظ وحكى الأصفهاني في شرح المحصول عن بعضهم أن الأوامر جمع الجمع فالأوامر أولا جمع جمع قلة على أأمر بوزن أفعل ثم جمع هذا على أوامر نحو كلب وأكالب فإنه أفاعل وفيه نظر لأن أوامر ليس أفاعل بل هو فواعل بخلاف أكالب فإنه أفاعل ثم قال الأصفهاني وهذا لا يتم في النواهي فإن النون فاء الكلمة فيمكن أن يكون ذلك من باب التغليب كما في الغدايا والعشايا ويمكن رد النواهي أيضا إلى أنه جمع ناهية مصدر كما تقدم في الآمرة وفيه نظر لأن المصادر مسموعة ولا يدخلها
____________________
(2/80)
القياس إذا ثبت ذلك فاعلم أن هاهنا مباحث أحدها في لفظ الأمر والثاني في مدلوله والثالث في صيغة افعل فأما لفظ أمر فإنه يطلق لغة على ضد النهي وهو ظاهر ويطلق على الفعل بدليل قوله تعالى وما أمر فرعون برشيد أي فعله فإذن لفظ الأمر عام للقول المخصوص والفعل وكل لفظ عام لشيئين فصاعدا فلا يخلو إما أن يكون حقيقة في كل واحد أو لا والثاني مجاز والأول إما أن يتفقا في اللغة أيضا وهو المتواطئ أو لا يتفقا وهو المشترك فهذه ثلاث احتمالات قد ذهب إلى كل واحد منها صائر واتفقوا على أن إطلاقه على القول الطالب للفعل حقيقة وهو قولك افعل وما يجري مجراه واختلفوا في وقوعه على العقل ونحوه من الشأن والصفة والقصة والمقصود والغرض على مذاهب أحدها أنه حقيقة في الكل فإن القائل لو قال أمر لا يدري السامع أي الأمور أراد فإذا قال أمر بكذا فهم القول فإذا قال أمر فلان مستقيم فهم الشأن والطريقة فإذا قال زيد في أمر عظيم فهم الفعل وحكاه ابن برهان عن كافة العلماء وحكاه القاضي عبد الوهاب والباجي عن أكثر أصحابنا قال صاحب المعتمد ولهذا قالوا إن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم على الوجوب لأنها داخلة تحت قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره والثاني أنه حقيقة في القول مجاز في الفعل ووجه العلاقة فيه المشابهة فإن الفعل يشبه القول في الافتقار إلى مصدر يصدر به وهذا يعم الأفعال والأقوال وقيل لأن جملة أفعال الإنسان لما دخل فيها الأقوال سميت الجملة باسم جزئها ونقله في المحصول عن الجمهور وحكاه القاضي عبد الوهاب في الملخص عن أكثر أصحابهم مع أنه في الإفادة حكى الأول عنهم وعن أصحاب الشافعي والثاني عن الحنفية خاصة قال الباجي وإليه ذهب أصحاب أبي حنيفة والمعتزلة ونقله صاحب الإفادة عن أحمد بن حنبل وحكاه صاحب المعتمد والمصادر عن الأكثرين وحكى صاحب المصادر عن الشريف المرتضى أنه حقيقة في القول والفعل مشترك بينهما وذكر الآمدي وتبعه ابن الحاجب قولا على جهة الإلزام أنه متواطئ بينهما واختار أبو
____________________
(2/81)
الحسين البصري في المعتمد أنه مشترك بين الشيء والصفة والشأن والطريق وبين جملة الشأن والطريق وبين القول المخصوص انتهى وقضيته أنه عنده مشترك بين خمسة أشياء لكنه في شرح العمدة فسر الشأن والطريق بمعنى واحد فيكون الحاصل أربعة ونقل البيضاوي عنه أنه موضوع للفعل بخصوصه حتى يكون مشتركا وهو غلط فقد صرح بأنه غير موضوع له وإنما يدخل في الشأن وحكى صاحب المصادر عن أبي القاسم البستي أنه حقيقة في القول والشأن والطريق دون آحاد الأفعال قال وهذا هو الأقرب لأن من صدر منه فعل قليل غير معتد به كتحريك أصابعه وأجفانه فإنه لا يقال إنه مشغول بأمر أو هو في أمر قال والذي أداهم إلى هذا البحث في هذه المسألة اختلافهم في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم هل هي على الوجوب أم لا وقال الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم هل تتضمن أمرا فيه وجهان أصحهما لا وفرع عليه في المحصول ما لو قال إن أمرت فلانا فعبدي حر ثم أشار بما يفهم منه مدلول الصيغة فإن لا يحنث ولو كان حقيقة في غير القول لزم العتق قال ولا يعارض هذا بما إذا خرس وأشار فإنه يعتق لأنا نمنع هذه المسألة البحث الثاني في مَدْلُولِ الْأَمْرِ وقد اُخْتُلِفَ فيه بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ في إثْبَاتِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ وَنَفْيِهِ فَصَارَ النُّفَاةُ إلَى أَنَّهُ عِبَارَةٌ عن اللَّفْظِ اللِّسَانِيِّ فَقَطْ وَالْأَمْرُ وَسَائِرُ الْكَلَامِ لَا حَقِيقَةَ له عِنْدَهُمْ إلَّا الْعِبَارَاتِ فَقَالُوا إنَّهُ اللَّفْظُ الدَّالُّ على طَلَبِ الْفِعْلِ مِمَّنْ هو دُونَهُ وَصَارَ الْمُثْبِتُونَ إلَى تَفْسِيرِهِ بِالْمَعْنَى الذِّهْنِيِّ وهو ما قام بِالنَّفْسِ من الطَّلَبِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَقِيقَةِ هو ذلك الطَّلَبُ وَاللَّفْظُ دَالٌّ عليه فقال الْقَاضِي هو الْقَوْلُ الْمُقْتَضِي بِنَفْسِهِ طَاعَةَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَيُرِيدُ بِالِاقْتِضَاءِ الطَّلَبَ فَيَخْرُجُ الْخَبَرُ وَغَيْرُهُ من أَقْسَامِ الْكَلَامِ وَيُحْتَرَزُ بِقَوْلِهِ بِنَفْسِهِ عن الصِّيَغِ الدَّالَّةِ عليه فَإِنَّهَا لَا تَقْتَضِي بِنَفْسِهَا بَلْ إنَّمَا يُشْعَرُ مَعْنَاهَا بِوَاسِطَةِ الْوَضْعِ وَالِاصْطِلَاحِ وَقَوْلُهُ طَاعَةُ الْأَمْرِ لِيَنْفَصِلَ الْأَمْرُ عن الدُّعَاءِ وَالرَّهْبَةِ وَهَذَا تَعْرِيفُ النَّفْسَانِيِّ فَإِنْ أَرَدْت اللِّسَانِيَّ أَسْقَطْت قَوْلَهُ بِنَفْسِهِ وَاعْتُرِضَ عليه بِأَنَّهُ عَرَّفَ الشَّيْءَ بِمَا يُسَاوِيهِ في الْخَفَاءِ لِأَنَّ من لَا يَعْرِفُ الْأَمْرَ لَا
____________________
(2/82)
يَعْرِفُ الْمَأْمُورَ فإنه تَعْرِيفٌ له بِمَا لَا يُعْرَفُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ فإن الطَّاعَةَ عِبَارَةٌ عن مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ فَمَنْ لَا يَعْرِفُهُ لَا يَعْرِفُهَا ثُمَّ يَلْزَمُ الدَّوْرُ وَيُجَابُ من جِهَةِ الطَّاعَةِ أَنَّ الْمُرَادَ منها الطَّاعَةُ اللُّغَوِيَّةُ وَالصَّحِيحُ فيه أَنَّهُ اللَّفْظُ الدَّالُّ على طَلَبِ فِعْلٍ غَيْرِ كَفٍّ بِالْوَضْعِ فَخَرَجَ النَّهْيُ فإنه طَلَبُ فِعْلٍ أَيْضًا وَلَكِنْ هو كَفٌّ وَخَرَجَ بِالْأَمْرِ نحو أَوْجَبْت عَلَيْك كَذَا فإنه صَادِقٌ عليه مع كَوْنِهِ خَبَرًا قال الْإِمَامُ وَالْحَقُّ أَنَّهُ اسْمٌ لِمُطْلَقِ اللَّفْظِ الدَّالِّ على الطَّلَبِ الْمَانِعِ من النَّقِيضِ لَا لِمُطْلَقِ اللَّفْظِ الدَّالِّ على مُطْلَقِ الطَّلَبِ قال وَذَلِكَ إنَّمَا يَظْهَرُ بِبَيَانِ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ وَهَذَا جَارٍ على قَوْلِهِ إنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ هو صِيغَةُ افْعَلْ وَالصَّوَابُ تَغَيُّرُهُمَا وَيَدُلُّ له ذَهَابُ الْجُمْهُورِ وَمِنْهُمْ الْقَاضِي إلَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ مَأْمُورٌ بِهِ مع قَوْلِهِمْ إنَّ صِيغَةَ افْعَلْ حَقِيقَةٌ في الْوُجُوبِ قال الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ الْأَمْرُ الْحَقِيقِيُّ مَعْنًى قَائِمٌ بِالنَّفْسِ وَحَقِيقَتُهُ اقْتِضَاءُ الطَّاعَةِ ثُمَّ ذلك يَنْقَسِمُ إلَى نَدْبٍ وَوُجُوبٍ لِيَتَحَقَّقَ الِاقْتِضَاءُ فِيهِمَا وَأَمَّا الْعِبَارَةُ الدَّالَّةُ على الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ افْعَلْ فَمُتَرَدِّدٌ بين الدَّلَالَةِ على الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ وَالتَّهْدِيدِ فَيُتَوَقَّفُ فيها حتى يَثْبُتَ بِقُيُودِ الْمَآلِ أو بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ تَخْصِيصُهَا بِبَعْضِ الْمُقْتَضِيَاتِ فَهَذَا ما نَرْتَضِيهِ من الْمَذَاهِبِ قال الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الْجَزَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في أَجْوِبَةِ التَّحْصِيلِ لَفْظُ أَمْرٍ يَشْتَرِكُ بين الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ وَالْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالذَّاتِ وَذَلِكَ الْمَعْنَى هل هو طَلَبٌ أو إرَادَةٌ اخْتَلَفَ فيها أَصْحَابُنَا وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْقَدِيمُ هو الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالذَّاتِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَلَكِنْ لَا نَصِيرُ مَأْمُورِينَ بِهِ إلَّا إذَا دَلَّ على ذلك الْمَعْنَى الْأَمْرُ الْقَوْلِيُّ فَائِدَةٌ قال الْإِمَامُ محمد بن يحيى تَفْسِيرُ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالطَّلَبِ مُحَالٌ فإن الْمَفْهُومَ منه في حَقِّنَا مَيْلُ النَّفْسِ وهو مُنَزَّهٌ عن ذلك وَتَفْسِيرُهُ بِالْأَدَاةِ وَالصِّيغَةِ مُمْتَنِعٌ فَيَجِبُ تَفْسِيرُهُ بِالْإِخْبَارِ عن الثَّوَابِ على الْقَوْلِ لَا غَيْرُ تَارَةً وَالْعِقَابِ على التَّرْكِ أُخْرَى حَكَاهُ أبو الْمَحَاسِنِ الْمَرَاغِيُّ في كِتَابِ غُنْيَةً الْمُسْتَرْشِدِ وهل يعتبر في الأمر العلو أو الاستعلاء فيه أربعة مذاهب أحدها يعتبران وبه جزم ابن القشيري والقاضي عبد الوهاب في مختصره
____________________
(2/83)
الصغير والثاني وهو المختار لا يعتبران ونقله الإمام الرازي في أول المسألة الخامسة عن أصحابنا لكن احتج بقوله تعالى حكاية عن فرعون فماذا تأمرون وهو مردود لأن المراد به المشورة وأحسن منه الاحتجاج بقوله تعالى ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك وقطع به العبدري في المستوفى محتجا بإجماع النحويين على ذلك الأمر والنهي وأنه لا رتبة بينهما وذكروا أيضا الدعاء في حق الله تعالى وقسموه إلى ما يأتي بلفظ الأمر نحو ارحمنا وبلفظ النهي نحو لا تعذبنا قال سيبويه واعلم أن الدعاء بمنزلة الأمر والنهي وإنما قيل له الدعاء لأنه استعظم أن يقال أمر ونهي انتهى ولم يذكروا المقابل للدعاء اسما لأنهم لم يجدوه في كلام العرب وكان هذا أمرا طارئا على اللغة بعد استقرارها قال فالصواب أن صيغة افعل ظاهر في اقتضاء الفعل سواء كان من أعلى أو مساو أو دون لكن يتميز بالقرينة فإن كان المخاطب مخلوقا كانت قرينة دالة على حمله على الدعاء بالاصطلاح العرفي الشرعي لا اللغوي ويشهد لما قاله قول ابن فارس في كتابه فقه العربية وهو من فرسان اللغة الأمر عند العرب فإذا لم يفعله المأمور به سمي المأمور به عاصيا والثالث يعتبر العلو بأن يكون الطالب أعلى رتبة من المطلوب منه فإن تساويا فالتماس أو كان دونه فسؤال وبه قالت المعتزلة واختاره القاضي أبو الطيب الطبري وعبد الوهاب في الملخص ونقله عن أهل اللغة ونقله ابن الفارض المعتزلي عن أبي بكر بن الأنباري واختاره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وأبو نصر بن الصباغ وحكاه عن أصحابنا وابن السمعاني وسليم الرازي وابن عقيل من الحنابلة وأبو بكر الرازي من الحنفية وأبو الفضل بن عبدان في كتابه شروط الأحكام وشرط مع ذلك أن يكون الأمر ممن تجب طاعته وإلا فلا يقال له أمر والرابع وبه قال أبو الحسين من المعتزلة يعتبر الاستعلاء لا العلو وهو أن يجعل نفسه عاليا وقد لا يكون في نفس الأمر كذلك وصححه الإمام والآمدي وابن الحاجب وابن برهان في الأوسط
____________________
(2/84)
مسألة اعتراض على حد الأمر لما أخذوا الطلب في حد الأمر اعترض عليهم بأن الطلب أخفى من الأمر والتعريف بالأخفى يمتنع فقال الجمهور الطلب بديهي التصور لأن كل واحد يعرف بالبديهة تفرقة بين طلب الفعل وطلب الترك ثم قالوا معنى الطلب هو غير الصيغة لاتحاده واختلافها وتبدله وثبوتها بل هو معنى قائم بنفس المتكلم يجري مجرى العلم والقدرة وسائر الصفات وهذه الصيغ المخصوصة دالة عليها ويتفرع على هذه القاعدة مسائل الأولى أن دلالة صيغة الأمر على الطلب يكفي فيها الوضع ولا يشترط أن يكون الآمر مريدا للمأمور به هذا قول أهل السنة واختاره الكعبي وقال أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم وتبعهما القاضي عبد الجبار وأبو الحسين لا بد معه من إرادة المأمور به في دلالة الأمر عليه وحكاه أبو سفيان في العيون عن سفيان الثوري وقالوا لا ينفك الأمر عن الإرادة محتجين بأن الصيغة كما ترد للطلب ترد للتهديد مع خلوه عن الطلب فلا بد من مميز بينهما ولا مميز سوى الإرادة وأجيب بأن التمييز حاصل بدونها لأن صيغة الأمر حقيقية في القول المخصوص مجاز في غيره وهذا كاف في التمييز وقال بعضهم ذهب المعتزلة إلى أنه لا يكون أمرا إلا بالإرادة فإن لم تعلم إرادته لم يكن أمرا واختلفوا هل تعتبر إرادة الأمر أو إرادة المأمور به فاعتبر بعضهم إرادة الأمر المنطوق به واعتبر آخرون منهم إرادة الفعل المأمور به والذي عليه جمهور الفقهاء أن الأمر دليل على الإرادة وليست الإرادة شرطا في صحة الأمر وإن كانت موجودة مع الأمر فيستدل بالأمر على الإرادة ولا يستدل بالإرادة على الأمر وقد حرر ابن برهان هذه المسألة فقال في كتاب الأوسط اعتبر بعضهم لمصير الصيغة أمرا ثلاث إرادات إحداها أن يكون الآمر مريدا لإيجاد الصيغة حتى إذا لم يكن مريدا لها بأن يكون ساهيا أو ذاهلا أو نائما لا تكون الصيغة الصادرة منه أمرا والثانية أن يكون مريدا لصرف صيغة الأمر من غير جهة الأمر إلى جهة
____________________
(2/85)
الأمر فإن الأمر قد يطلق على جهات كالتعجيز والتكوين والوعيد والزجر وغيره فلا بد أن يكون مريدا لصرف الصيغة من هذه الجهات إلى جهة الأمر وعبر الشيخ أبو الحسن الأشعري عن هذا فقال فلا بد أن يكون مريدا بالصيغة ما هو المعنى القائم بالنفس والثالثة هي إرادة فعل المأمور والامتثال فأما الأولى وهي إرادة إيجاد الصيغة فلا خلاف في اعتبارها وَأَمَّا الثَّانِيَةُ وَهِيَ إرَادَةُ صَرْفِ الصِّيغَةِ من غَيْرِ جِهَةِ الْأَمْرِ إلَى جِهَةِ الْأَمْرِ فَاخْتَلَفَ فيه أَصْحَابُنَا فَذَهَبَ الْمُتَكَلِّمُونَ إلَى اعْتِبَارِهَا وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ منهم إلَى أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ لَكِنْ إذَا وَرَدَتْ الصِّيغَةُ مُجَرَّدَةً عن الْقَرَائِنِ حُمِلَتْ عليه وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَهِيَ مَحَلُّ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ فَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا على أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ وَاتَّفَقَ الْمُعْتَزِلَةُ على اعْتِبَارِهَا قال وهو يَنْبَنِي على أَصْلٍ كَبِيرٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ وهو أَنَّ الْكَائِنَاتِ بِأَسْرِهَا وَحَيِّزِهَا لَا تَجْرِي عِنْدَنَا إلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَأَمَّا الْمَازِرِيُّ فَنَقَلَ عن الْمُعْتَزِلَةِ اشْتِرَاطَ الْإِرَادَاتِ الثَّلَاثِ إلَّا الْكَعْبِيَّ فإنه لم يَعْتَبِرْ الْأُولَى قال الْمُقْتَرَحُ فَمَذْهَبُ الْكَعْبِيِّ مُتَهَافِتٌ فإنه نَفْيٌ لِلْإِرَادَةِ عن الْقَدِيمِ تَعَالَى وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْبَارِي تَعَالَى آمِرًا وَفِيهِ رَفْضُ الشَّرَائِعِ عن آخِرِهَا وَلَمَّا قِيلَ له إنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ طَافِحٌ بِنِسْبَةِ الْإِرَادَةِ إلَيْهِ تَعَالَى فَكَيْفَ جَوَابُك قال إنْ أُرِيدَ بِأَنَّهُ مُرِيدٌ لِأَفْعَالِهِ كان مَعْنَاهُ أَنَّهُ خَالِقُهَا وَمُنْشِئُهَا وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ مُرِيدٌ لِأَفْعَالِ عِبَادِهِ كان مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَمَرَ بها وَهَذَا الْكَلَامُ ظَاهِرُ التَّنَاقُضِ من جِهَةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ في حَقِيقَةِ الْأَمْرِ الْإِرَادَةُ ثُمَّ يُجْعَلُ إطْلَاقُ الْإِرَادَةِ في حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى الْآمِرِ وَلِمَنْ يَنْتَصِرُ لِلْكَعْبِيِّ أَنْ يَقُولَ هو لم يَنْفِهَا غَايَتُهُ أَنَّهُ لم يَشْتَرِطْهَا وَلَا يَلْزَمُ من عَدَمِ الِاشْتِرَاطِ النَّفْيُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ عِنْدَنَا غَيْرُ الْإِرَادَةِ لِأَنَّهُ قد يَقُومُ بِالنَّفْسِ عِنْدَ الطَّلَبِ مَعْنًى غَيْرُ إرَادَةِ الْفِعْلِ فَإِنَّا نَجِدُ الْآمِرَ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُ وهو آمِرٌ وَإِلَّا لَمَا عُدَّ تَارِكُهُ مُخَالِفًا وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ هو إرَادَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَيَلْزَمُهُمْ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ تَكُونَ الْمَعَاصِي الْوَاقِعَةُ مَأْمُورًا بها لِأَنَّهَا مُرَادَةٌ أو لَا يَكُونُ وُقُوعُهَا بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُحَالٌ وَلِلتَّخَلُّصِ من هذه الْوَرْطَةِ صَارَ أَصْحَابُنَا إلَى التَّغَايُرِ بَيْنَهُمَا لَكِنْ لهم أَنْ يَقُولُوا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَمْرَ بِمَا لَا يُرِيدُهُ حَقِيقَةٌ غَايَةُ ما في الْبَابِ أَنَّ صِيغَتَهُ صِيغَةُ الْأَمْرِ وقد يُمْنَعُ بِمَا سَبَقَ فإنه يُعَدُّ تَارِكُهُ مُخَالِفًا وَعِنْدِي أَنَّ الْخِلَافَ لم يَتَوَارَدْ على مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَإِنَّا نُرِيدُ بِالْإِرَادَةِ الطَّلَبَ النَّفْسِيَّ الذي لَا يَتَخَلَّفُ وَالْمُعْتَزِلَةُ لَا يُرِيدُونَ ذلك لِإِنْكَارِهِمْ كَلَامَ النَّفْسِ وَإِنَّمَا يَقُولُونَ
____________________
(2/86)
إنَّ الْوَاضِعَ وَضَعَ هذه اللَّفْظَةَ لِلطَّلَبِ الذي يَعْرِفُهُ كُلُّ وَاحِدٍ وَذَلِكَ هو الْإِرَادَةُ فَعَلِمْنَا أَنَّ هذه الصِّيغَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلْإِرَادَةِ وَقَالُوا الطَّلَبُ الذي يُغَايِرُ الْإِرَادَةَ لو صَحَّ الْقَوْلُ بِهِ لَكَانَ أَمْرًا خَفِيًّا لَا يَطَّلِعُ عليه إلَّا الْخَوَاصُّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوضَعَ اللَّفْظُ لِمَعْنًى خَفِيٍّ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ ثُمَّ هو أَمْرٌ بِصِيغَتِهِ وَلَيْسَ بِأَمْرٍ بِالْإِرَادَةِ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ هو أَمْرٌ بِإِرَادَةِ الْآمِرِ الْمَأْمُورَ بِهِ وَهِيَ تَنْبَنِي على مَسْأَلَةٍ كَلَامِيَّةٍ فإن عِنْدَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِالشَّيْءِ وَلَا يُرِيدَهُ وقد أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إبْلِيسَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ ولم يُرِدْ أَنْ يَسْجُدَ وَنَهَى آدَمَ عن أَكْلِ الشَّجَرَةِ وَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ وَأَمَرَ إبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ ابْنِهِ ولم يُرِدْ أَنْ يُذْبَحَ وَهَذَا لِأَنَّ ما أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَلِأَنَّ السَّيِّدَ إذَا قال لِعَبْدِهِ افْعَلْ فقال أَمَرْته بِكَذَا ولم يَعْلَمْ مُرَادَهُ فَدَلَّ على أَنَّ الْأَمْرَ أَمْرٌ بِصِيغَتِهِ فَقَطْ انْتَهَى وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْحَقُّ أَنَّ الْأَمْرَ يَسْتَلْزِمُ الْإِرَادَةَ الدِّينِيَّةَ وَلَا يَسْتَلْزِمُ الْإِرَادَةَ الْكَوْنِيَّةَ فإنه لَا يَأْمُرُ إلَّا بِمَا يُرِيدُهُ شَرْعًا وَدِينًا وقد يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُهُ كَوْنًا وَقَدَرًا كَإِيمَانِ من أَمَرَهُ بِالْإِيمَانِ ولم يُؤْمِنْ وَأَمَرَ خَلِيلَهُ بِالذَّبْحِ ولم يَذْبَحْ وَأَمَرَ رَسُولَهُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً ولم يُصَلِّ وَفَائِدَتُهُ الْعَزْمُ على الِامْتِثَالِ وَتَوْطِينُ النَّفْسِ عليه وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ على التَّغَايُرِ بِأَنَّ من حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ زَيْدًا دَيْنَهُ غَدًا وقال إنْ شَاءَ اللَّهُ ولم يَقْضِهِ لم يَحْنَثْ في يَمِينِهِ مع كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِقَضَاءِ دَيْنِهِ فَلَوْ كان تَعَالَى قد شَاءَ لِمَا أَمَرَهُ بِهِ وَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ في يَمِينِهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ إذَا كان حَالًّا وَصَاحِبُهُ يَطْلُبُهُ فإذا كان مُؤَجَّلًا فَقَدْ يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْوَفَاءِ في غَدٍ إذَا لم يَكُنْ غَدًا مَحَلَّ الْأَجَلِ وَأَمَّا إذَا كان حَالًّا وَصَاحِبُهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ فَفِي وُجُوبِ الْوَفَاءِ على الْفَوْرِ وَجْهَانِ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ ثُمَّ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مُعَلَّقٌ على الْمَشِيئَةِ التي هِيَ مَدْلُولُ الْأَمْرِ حتى يَحْنَثَ لِتَحَقُّقِ الْأَمْرِ بَلْ هو مُعَلَّقٌ على الْمَشِيئَةِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى التي لم يَدُلَّ عليها الْأَمْرُ فَإِنْ صُرِّحَ بِتَعْلِيقِهِ على تِلْكَ الْمَشِيئَةِ مَنَعْنَا حُكْمَ الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةُ أَنَّ الْأَمْرَ هل هو حَقِيقَةٌ في ذلك الطَّلَبِ النَّفْسِيِّ مَجَازٌ في الْعِبَادَةِ الدَّالَّةِ عليه أو بِالْعَكْسِ أو مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا أَقُولُ كَالْخِلَافِ في سَائِرِ أَقْسَامِ الْكَلَامِ وَاعْلَمْ أَنَّ هذا غَيْرُ الْخِلَافِ السَّابِقِ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ هل هو مُشْتَرَكٌ بين الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ فإنه هُنَا لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مع الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ كَلَامِ النَّفْسِ
____________________
(2/87)
المبحث الثالث صيغة الأمر في صِيغَتِهِ وَهِيَ افْعَلْ وفي مَعْنَاهُ لِيَفْعَلْ قال ابن فَارِسٍ الْأَمْرُ بِلَفْظِ افْعَلْ وَلْيَفْعَلْ نحو وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ وقد اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ في أَصْلِ فِعْلِ الْأَمْرِ هل هو افْعَلْ أو لِيَفْعَلْ فَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ لِيَفْعَلْ لِأَنَّ الْأَمْرَ مَعْنًى وَالْأَصْلُ في الْمَعَانِي أَنْ تُسْتَفَادَ بِالْحُرُوفِ كَالنَّهْيِ وَغَيْرِهِ وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ افْعَلْ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ بِلَا وَاسِطَةٍ بِخِلَافِ لِيَفْعَلْ فإنه يُسْتَفَادُ من اللَّامِ حَكَاهُ الْعُكْبَرِيُّ في شَرْحِ الْإِيضَاحِ فَأَمَّا مُنْكِرُو الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ فَذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْعَرَبَ لم تَضَعْ له صِيغَتَهُ لِأَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَهُمْ هو الصِّيغَةُ فَكَيْفَ تُوضَعُ صِيغَةٌ لِلصِّيغَةِ وَإِضَافَتُهُ إلَيْهِ من بَابِ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ وقال ابن الْقُشَيْرِيّ الصِّيغَةُ الْعِبَارَةُ الْمَصُوغَةُ لِلْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِيِّ فإذا قُلْنَا هل الْأَمْرُ صِيغَةٌ فَالْمَعْنِيُّ بِهِ أَنَّ الْأَمْرَ الْقَائِمَ بِالنَّفْسِ هل صِيغَتْ له عِبَارَةٌ مُشْعِرَةٌ بِهِ وَمَنْ نَفَى كَلَامَ النَّفْسِ إذَا قال صِيغَةُ الْأَمْرِ كَذَا فَنَفْسُ الصِّيغَةِ عِنْدَهُ هِيَ الْأَمْرُ فإذا أُضِيفَتْ الصِّيغَةُ إلَى الْأَوَامِرِ لم تَكُنْ الْإِضَافَةُ حَقِيقِيَّةً بَلْ هو من بَابِ قَوْلِك نَفْسُ الشَّيْءِ ذَاتُهُ وَلِرُجُوعِ أَقْسَامِ الْكَلَامِ عِنْدَهُمْ إلَى الْعِبَارَةِ وَأَمَّا أَصْحَابُنَا الْمُثْبِتُونَ لِكَلَامِ النَّفْسِ فَاخْتَلَفُوا هل لِلْأَمْرِ صِيغَةٌ مَخْصُوصَةٌ أَيْ أَنَّ الْعَرَبَ صَاغَتْ لِلْأَمْرِ لَفْظًا يَخْتَصُّ بِهِ أَيْ وَضَعَتْ لِلدَّلَالَةِ على ما في النَّفْسِ لَفْظَةً تَدُلُّ على كَوْنِهَا أَمْرًا وإذا قُلْنَا بِأَنَّ لها صِيغَةً فما مُقْتَضَى تِلْكَ الصِّيغَةِ فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وأبو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَجَمَاعَةٌ من أَهْلِ الْعِلْمِ كما قَالَهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ إلَى أَنَّ له صِيغَةً تَدُلُّ على كَوْنِهِ أَمْرًا إذَا تَجَرَّدَتْ عن الْقَرَائِنِ وهو قَوْلُ الْبَلْخِيّ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ وَبِهِ قال عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ انْتَهَى وَنُقِلَ عن الشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ لَا صِيغَةَ له تَخْتَصُّ بِهِ وَأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ افْعَلْ مُتَرَدِّدٌ بين الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَإِنْ فُرِضَ حَمْلُهُ على غَيْرِ النَّهْيِ فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بين جَمِيعِ مُحْتَمَلَاتِهِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَحُكِيَ ذلك عن ابْنِ سُرَيْجٍ وَلَا يَصِحُّ عنه وقال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وَحُكِيَ ذلك عن ابْنِ سُرَيْجٍ وَنَسَبَهُ إلَى الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ قال في
____________________
(2/88)
أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لَمَّا قال تَعَالَى فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ من النِّسَاءِ احْتَمَلَ أَمْرَيْنِ قال فلما احْتَمَلَ الشَّافِعِيُّ الْأَمْرَ في تِلْكَ دَلَّ على أَنَّهُ وُقِفَ بِهِ الدَّلِيلُ قال أَصْحَابُنَا وَهَذَا تَعَنُّتٌ من أبي الْعَبَّاسِ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ يقول ذلك كَثِيرًا وَيُرِيدُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَرِدَ دَلَالَةٌ تَخُصُّهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُخَلَّى وَالْإِطْلَاقُ وَإِنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ كما يقول بمثله في الْعُمُومِ قال وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْأَمْرَ إذَا اقْتَرَنَ بِهِ الْوَعِيدُ يَكُونُ على الْوُجُوبِ ا هـ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في تَنْزِيلِ مَذْهَبِهِ فَقِيلَ اللَّفْظُ صَالِحٌ لِجَمِيعِ الْمَحَامِلِ صَلَاحَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ لِلْمَعَانِي التي ثَبَتَ اللَّفْظُ بها وَقِيلَ لَا خِلَافَ أَنَّ قَوْلَ الشَّارِعِ أَمَرْتُكُمْ وَنَحْوَهُ دَلَّ على الْأَمْرِ وَلَكِنَّ الْخِلَافَ في أَنَّ قَوْلَهُ افْعَلْ هل يَدُلُّ على الْأَمْرِ مُجَرَّدُ صِيغَتِهِ أَمْ لَا بُدَّ من قَرِينَةٍ وَقِيلَ أَرَادَ الْوَقْفَ بِمَعْنَى لَا نَدْرِي على أَيِّ وَضْعٍ جَرَى فَهُوَ مَشْكُوكٌ ثُمَّ نَقَلُوا عنه أَنَّهُ يَسْتَمِرُّ على الْقَوْلِ بِهِ مع فَرْضِ الْقَرَائِنِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وهو ذلك بَيِّنٌ في النَّقْلِ عنه وقال لَعَلَّهُ في مَرَاتِبِ الْمَقَالِ دُونَ الْحَالِ انْتَهَى وَلَا مَعْنَى لِاسْتِبْعَادِ ذلك فإن الْقَرَائِنَ لَا تُبَيِّنُ الْمَوْضِعَ الذي وَقَفَ الشَّيْخُ فيه وَإِنَّمَا تُبَيِّنُ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ ثُمَّ قال وَاَلَّذِي أَرَاهُ في ذلك قَاطِعًا بِهِ أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ لَا يُنْكِرُ صِيغَةً مُشْعِرَةً بِالْوُجُوبِ الذي هو مُقْتَضَى الْكَلَامِ الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ نحو قَوْلِ الْقَائِلِ أَوْجَبْت أو أَلْزَمْت وَنَحْوِهِ وَإِنَّمَا الذي يَتَرَدَّدُ فيه مُجَرَّدُ قَوْلِ الْقَائِلِ افْعَلْ من حَيْثُ وَجَدَهُ في وَضْعِ اللِّسَانِ مُتَرَدِّدًا وَحِينَئِذٍ فَلَا يُظَنُّ بِهِ عِنْدَ الْقَرِينَةِ نَحْوُ افْعَلْ حَتْمًا أو وَاجِبٌ نعم قد يَتَرَدَّدُ في الصِّيغَةِ التي فيها الْكَلَامُ إذَا قُرِنَتْ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ فَالْمُشْعِرُ بِالْأَمْرِ النَّفْسِيِّ الْأَلْفَاظُ الْمُقْتَرِنَةُ بِقَوْلِ الْقَائِلِ افْعَلْ أَمْ لَفْظُ افْعَلْ وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ تَفْسِيرٌ لها وَهَذَا تَرَدُّدٌ قَرِيبٌ ثُمَّ ما نَقَلَهُ النَّقَلَةُ يَخْتَصُّ بِقَرَائِنِ الْمَقَالِ على ما فيه من الْخَبْطِ فَأَمَّا قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ فَلَا يُنْكِرُهَا أَحَدٌ وَهَذَا هو التَّنْبِيهُ على سِرِّ مَذْهَبِ أبي الْحَسَنِ وَالْقَاضِي وَطَبَقَةِ الْوَاقِفِيَّةِ انْتَهَى وَاسْتَبْعَدَ الْغَزَالِيُّ النَّقْلَ عن الشَّيْخِ وَالْقَاضِي بِالْوَقْفِ عنهما أَنَّ له صِيغَةً مُخْتَصَّةً بِهِ إجْمَاعًا وهو قَوْلُهُ أَمَرْتُك أو أنت مَأْمُورٌ بِهِ قال الْهِنْدِيُّ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ ذلك ليس صِيغَةً لِلْأَمْرِ بَلْ هو إخْبَارٌ عن وُجُودِ الْأَمْرِ وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ ذلك يُسْتَعْمَلُ إنْشَاءً فَلَيْسَ فيه دَلَالَةٌ على الْمَطْلُوبِ وهو كَوْنُ الصِّيغَةِ مُخْتَصَّةً بِهِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِخْبَارِ فَلَا تَكُونُ الصِّيغَةُ مُخْتَصَّةً بِهِ وقال ابن بَرْهَانٍ إنَّمَا صَارَ شَيْخُنَا أبو الْحَسَنِ إلَى أَنَّهُ لَا صِيغَةَ لِلْأَمْرِ لِأَنَّ
____________________
(2/89)
ذلك لَا يُتَلَقَّى من الْعَقْلِ إذْ الْعَقْلُ لَا يَدُلُّ على وَضْعِ الصِّيَغِ وَالْعِبَارَاتِ وَإِنَّمَا يُتَلَقَّى من جِهَةِ النَّقْلِ وقد اسْتَعْمَلَتْهَا الْعَرَبُ في جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ فَدَلَّ على أنها مُشْتَرَكَةٌ وقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ في كِتَابِهِ فَذَهَبَ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ له صِيغَةٌ تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا على كَوْنِهَا أَمْرًا إذَا تَعَرَّتْ عن الْقَرَائِنِ وَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ غير الْبَلْخِيّ إلَى أَنَّهُ لَا صِيغَةَ له وَلَا يَدُلُّ اللَّفْظُ بِمُجَرَّدِهِ على كَوْنِهِ أَمْرًا وَإِنَّمَا يَكُونُ أَمْرًا بِقَرِينَةِ الْإِرَادَةِ قال وَذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ هو مَعْنًى قَائِمٌ بِنَفْسِ الْأَمْرِ لَا يُفَارِقُ الذَّاتَ وَلَا يُزَايِلُهَا وَكَذَلِكَ عنه سَائِرُ أَقْسَامِ الْكَلَامِ من النَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ وَغَيْرِ ذلك كُلُّ هذه عِنْدَهُ مَعَانٍ قَائِمَةٌ بِالذَّاتِ لَا تُزَايِلُهَا كَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وكان ابن كِلَابٍ يقول هِيَ حِكَايَةُ الْأَمْرِ وَخَالَفَهُ الْأَشْعَرِيُّ وقال لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هِيَ حِكَايَةٌ لِاسْتِلْزَامِهَا أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مِثْلَ الْمَحْكِيِّ لَكِنْ هو عِبَارَةٌ عن الْأَمْرِ الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ قال وَعَلَى هذا فَلَا خِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ في الْمَعْنَى لِأَنَّهُ إذَا كان الْأَمْرُ عِنْدَهُمْ هو الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالنَّفْسِ فَذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يُقَالُ إنَّهُ له صِيغَةٌ أو لَيْسَتْ له صِيغَةٌ وَإِنَّمَا يُقَالُ ذلك في الْأَلْفَاظِ وَلَكِنْ يَقَعُ الْخِلَافُ في اللَّفْظِ الذي هو عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عن الْأَمْرِ وَلَا دَالًّا على ذلك بِمُجَرَّدِ صِيغَتِهِ وَلَكِنْ يَكُونُ مَوْقُوفًا على ما بَيَّنَهُ الدَّلِيلُ فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ على أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْعِبَارَةُ عن الْأَمْرِ حُمِلَ عليه وَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ على أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْعِبَارَةُ عن غَيْرِهِ من التَّهْدِيدِ وَالتَّعْجِيزِ وَالتَّحْقِيرِ وَغَيْرِ ذلك حُمِلَ عليه ثُمَّ احْتَجَّ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ على أَنَّ الْأَمْرَ له صِيغَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شيئا أَنْ يَقُولَ له كُنْ فَيَكُونُ قال فَفِي هذه رَدٌّ على من يقول لَا صِيغَةَ لِلْأَمْرِ حَيْثُ قال إنَّمَا أَمْرُهُ فَجَعَلَ أَمْرَهُ كُنْ وَهِيَ صِيغَةٌ وَفِيهَا رَدٌّ على الْقَائِلِينَ إنَّ الْأَمْرَ يَتَضَمَّنُ الْإِرَادَةَ فإن الْآيَةَ فيها الْفَصْلُ بين الْإِرَادَةِ وَالْأَمْرِ قال إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ قال وَالدَّلِيلُ الْمُعْتَمَدُ لِأَصْحَابِنَا أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِمْ يُفَرِّقُونَ بين صِيغَةِ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ وَغَيْرِ ذلك من أَقْسَامِ الْكَلَامِ وقال الْمَازِرِيُّ ذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ من الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى الْقَوْلِ بِالْوَقْفِ وَحُكِيَ عن الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ قال في قَوْله تَعَالَى وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ من عِبَادِكُمْ لَا يُسْتَدَلُّ بها على إيجَابِ الْعَقْدِ وَعَلَى وَلِيِّ الْمَرْأَةِ لِتَرَدُّدِ الْأَمْرِ بين الْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ لَكِنَّ الْوَاقِفِيَّةِ اخْتَلَفُوا في حَقِيقَةِ الْوَقْفِ هل هو وَقْفُ جَهَالَةٍ بِمَا عِنْدَ الْعَرَبِ أو وَقْفُ عَارِفٍ بِمَا عِنْدَهُمْ وهو كَوْنُ هذا اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا بين الْمَصَارِفِ الْآتِيَةِ
____________________
(2/90)
فَيَقِفُ حتى يَتَبَيَّنَ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ الْمُجْمَلِ على قَوْلَيْنِ قال وَأَمَّا من نَقَلَ عن الْأَشْعَرِيِّ الْوَقْفَ وَإِنْ ظَهَرَتْ الْقَرَائِنُ فَقَدْ أَغْلَى وَلَوْ ثَبَتَ فَلَعَلَّ الْوَقْفَ في الْإِفَادَةِ بِمَا جُعِلَتْ هذه اللَّفْظَةُ أو اللِّسَانُ انْتَهَى وَذَهَبَ غَيْرُ الْوَاقِفِيَّةِ إلَى أنها ظَاهِرَةٌ في الْوُجُوبِ وَنَقَلَهُ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ عن أَصْحَابِنَا قال وقد ذَكَرَ اللَّهُ في كِتَابِهِ الْأَمْرَ على أَوْجُهٍ كَثِيرَةٍ وَالظَّاهِرُ منها لِلْوُجُوبِ إلَّا أَنَّ الدَّلِيلَ قام في بَعْضِهَا على غَيْرِ الْوُجُوبِ وَمُخْتَارُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْقَطْعُ بِاقْتِضَائِهَا الطَّلَبَ الْمُنْحَصِرَ مَصِيرًا إلَى أَنَّ الْعَرَبَ فَصَلَتْ بين قَوْلِ الْقَائِلِ افْعَلْ وَبَيْنَ قَوْلِهِ لَا تَفْعَلْ الْأَوَّلُ هل لِلْأَمْرِ صِيغَةٌ خَطَّأَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ تَرْجَمَةَ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ الْأَمْرَ هل له صِيغَةٌ لِأَنَّ قَوْلَ الشَّارِعِ أَمَرْتُكُمْ بِكَذَا صِيغَةٌ دَالَّةٌ على الْأَمْرِ وَقَوْلُهُ نَهَيْتُكُمْ صِيغَةٌ دَالَّةٌ على النَّهْيِ وَقَوْلُهُ أَوْجَبْت صِيغَةٌ دَالَّةٌ على الْوُجُوبِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فيه وَإِنَّمَا صِيغَةُ افْعَلْ إذَا أُطْلِقَتْ هل تَدُلُّ على الْأَمْرِ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ أو لَا تَدُلُّ عليه إلَّا بِقَرِينَةٍ هذا مَوْضِعُ الْخِلَافِ وقال الْآمِدِيُّ لَا مَعْنَى لِهَذَا الِاسْتِبْعَادِ وَقَوْلُ الْقَائِلِ أَمَرْتُك وَأَنْتَ مَأْمُورٌ لَا يَرْفَعُ هذا الْخِلَافَ إذْ الْخِلَافُ في أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ صِيغَةُ الْإِنْشَاءِ وَقَوْلُ الْقَائِلِ أَمَرْتُك وَأَنْتَ مَأْمُورٌ إخْبَارٌ وقد سَبَقَ كَلَامُ الْهِنْدِيِّ فيه الثَّانِي الْمُرَادُ بِصِيغَةِ افْعَلْ الْمُرَادُ بِصِيغَةِ افْعَلْ لَفْظُهَا وما قام مَقَامَهَا من اسْمِ الْفِعْلِ كَصَهْ وَالْمُضَارِعُ الْمَقْرُونُ بِاللَّامِ مِثْلَ لِيَقُمْ على الْخِلَافِ السَّابِقِ فيه وَصِيَغُ الْأَمْرِ من الثُّلَاثِيِّ افْعَلْ نحو اسْمَعْ نحو احْضَرْ وَافْعِلْ نحو اضْرِبْ وَمِنْ الرُّبَاعِيِّ فَعْلَلٌّ نحو قَرْطِسْ وَأَفْعِلْ نحو أَعْلِمْ وَفَعِّلْ نحو عَلِّمْ وَفَاعِلْ نحو نَاظِرْ وَمِنْ الْخُمَاسِيِّ تَفَعْلَلْ نحو تَقَرْطَسْ وَتَفَاعَلْ نحو تَقَاعَسْ وَانْفَعِلْ نحو انْطَلِقْ وَافْتَعِلْ نحو اسْتَمِعْ وَافْعَلْ نحو احْمَرَّ وَمِنْ السُّدَاسِيِّ اسْتَفْعِلْ نحو اسْتَخْرِجْ وَافْعَوْعِلْ نحو اغْدَوْدِنْ وَافْعَالَّ نحو احْمَارَّ وَافْعَنْلِلْ نحو اقْعَنْسِسْ وَافْعَوِّلْ نحو اعْلَوِّطْ
____________________
(2/91)
وَكَذَلِكَ الْمَصْدَرُ الْمَجْعُولُ جَزَاءَ الشَّرْطِ بِحَرْفِ الْفَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أَيْ فَحَرِّرُوا وَقَوْلُهُ فَضَرْبَ الرِّقَابِ أَيْ فَاضْرِبُوا الرِّقَابَ وَقَوْلُهُ فَفِدْيَةٌ من صِيَامٍ أَيْ فَافْدُوا وَقَوْلُهُ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ أَيْ صُومُوا قَالَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في أَوَّلِ بَابِ الرَّهْنِ من تَعْلِيقِهِ وَإِنَّمَا خَصَّ الْأُصُولِيُّونَ افْعَلْ بِالذِّكْرِ لِكَثْرَةِ دَوَرَانِهِ في الْكَلَامِ وَتَرِدُ صِيغَةُ افْعَلْ لِنَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ مَعْنًى أَحَدُهَا الْإِيجَابُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ الثَّانِي كَقَوْلِهِ فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَمَثَّلَهُ محمد بن نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ في كِتَابِ تَعْظِيمِ قَدْرِ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ وَمَثَّلَهُ ابن فَارِسٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَانْتَشِرُوا في الْأَرْضِ وَأَشَارَ الْمَازِرِيُّ إلَى أَنَّ هذا الْقِسْمَ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا قُلْنَا الْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ الثَّالِثُ الْإِرْشَادُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَسَمَّاهُ الشَّافِعِيُّ في أَحْكَامِ الْقُرْآنِ الرُّشْدَ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ سَافِرُوا تَصِحُّوا وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ فقال وفي كل حَتْمٍ من اللَّهِ رُشْدٌ فَيَجْتَمِعُ الْحَتْمُ وَالرُّشْدُ وَسَمَّاهُ الصَّيْرَفِيُّ الْحَظَّ وَفَرَّقَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَغَيْرُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّدْبِ بِأَنَّ الْمَنْدُوبَ مَطْلُوبٌ لِمَنَافِعِ الْآخِرَةِ وَالْإِرْشَادُ لِمَنَافِعِ الدُّنْيَا وَالْأَوَّلُ فيه الثَّوَابُ وَالثَّانِي لَا ثَوَابَ فيه الرَّابِعُ التَّأْدِيبُ وَعَبَّرَ عنه بَعْضُهُمْ بِالْأَدَبِ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ قال وَلَيْسَ في الْقُرْآنِ غَيْرُهُ وَمَثَّلَهُ الْقَفَّالُ بِالْأَمْرِ بِالِاسْتِنْجَاءِ بِالْيَسَارِ أَكْلُ الْإِنْسَانِ مِمَّا يَلِيهِ وَمَثَّلَهُ ابن الْقَطَّانِ بِالنَّهْيِ عن التَّعْرِيسِ على قَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالْأَكْلُ من وَسَطِ الْقَصْعَةِ وَأَنْ يُقْرَنَ بين التَّمْرَتَيْنِ قال فَيُسَمَّى هذا أَدَبًا وهو أَخَصُّ من النَّدْبِ فإن التَّأْدِيبَ يَخْتَصُّ بِإِصْلَاحِ الْأَخْلَاقِ وَكُلُّ تَأْدِيبٍ نَدْبٌ من غَيْرِ عَكْسٍ الْخَامِسُ الْإِبَاحَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى كُلُوا من الطَّيِّبَاتِ
____________________
(2/92)
فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ من النِّسَاءِ وَأَنْكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ذلك وقال لم يَثْبُتْ عِنْدِي لُغَةً وَالتَّمْثِيلُ بِمَا ذَكَرُوهُ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا كان الْأَصْلُ في الْأَشْيَاءِ الْحَظْرَ السَّادِسُ الْوَعْدُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ التي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ السَّابِعُ الْوَعِيدُ وَيُسَمَّى التَّهْدِيدَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ إنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا وَقَوْلِهِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فإن مَصِيرَكُمْ إلَى النَّارِ وَمِنْهُمْ من قال التَّهْدِيدُ أَبْلَغُ من الْوَعِيدِ وَمَثَّلَ محمد بن نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ التَّهْدِيدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ من دُونِهِ وَقَوْلِهِ لِإِبْلِيسَ وَاسْتَفْزِزْ من اسْتَطَعْتَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم من بَاعَ الْخَمْرَ فَلْيُشَقِّصْ الْخَنَازِيرَ قال وَكِيعٌ مَعْنَاهُ يَعَضُّهَا الثَّامِنُ الِامْتِنَانُ كَقَوْلِهِ كُلُوا من طَيِّبَاتِ ما رَزَقْنَاكُمْ وَسَمَّاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْإِنْعَامَ وهو وَإِنْ كان بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ لَكِنَّ الظَّاهِرَ منه تَذْكِيرُ النِّعْمَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِبَاحَةِ أَنَّ الْإِبَاحَةَ مُجَرَّدُ إذْنٍ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ من اقْتِرَانِ الِامْتِنَانِ بِذِكْرِ احْتِيَاجِ الْخَلْقِ إلَيْهِ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عليه وَنَحْوِ ذلك كَالتَّعَرُّضِ في هذه الْآيَةِ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هو الذي رَزَقَهُ التَّاسِعُ الْإِنْذَارُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ تَمَتَّعُوا ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّهْدِيدِ من وِجْهَتَيْنِ أَحَدُهُمَا
____________________
(2/93)
الْإِنْذَارُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَقْرُونًا بِالْوَعِيدِ كَالْآيَةِ وَالتَّهْدِيدُ لَا يَجِبُ فيه ذلك بَلْ قد يَكُونُ مَقْرُونًا بِهِ وقد لَا يَكُونُ وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْفِعْلَ الْمُهَدَّدَ عليه يَكُونُ ظَاهِرُهُ التَّحْرِيمَ وَالْبُطْلَانَ وفي الْإِنْذَارِ قد يَكُونُ كَذَلِكَ وقد لَا يَكُونُ الْعَاشِرُ الْإِكْرَامُ اُدْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ قال الْقَفَّالُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ اُثْبُتْ مَكَانَك الْحَادِيَ عَشَرَ السُّخْرِيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْأَمْرُ إلَّا بِالْمَقْدُورِ عليه وَجَعَلَهُ الصَّيْرَفِيُّ وابن فَارِسٍ من أَمْثِلَةِ التَّكْوِينِ قال ابن فَارِسٍ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا من اللَّهِ تَعَالَى وَمَثَّلَ بها ابن الْحَاجِبِ في أَمَالِيهِ لِلتَّسْخِيرِ وَمَثَّلَ لِلْإِهَانَةِ بِقَوْلِهِ كُونُوا حِجَارَةً قال وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّسْخِيرَ عِبَارَةٌ عن تَكْوِينِهِمْ على جِهَةِ التَّبْدِيلِ لِمَنْ جَعَلْنَاهُمْ على هذه الصِّفَةِ وَالْإِهَانَةُ عِبَارَةٌ عن تَعْجِيزِهِمْ فِيمَا يَقْدِرُونَ عليه أَيْ أَنْتُمْ أَحْقَرُ من ذلك تَنْبِيهٌ وَقَعَ في عِبَارَتِهِمَا التَّسْخِيرُ وَالصَّوَابُ ما ذَكَرْنَاهُ فإن السُّخْرِيَةَ الْهُزْءُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كما تَسْخَرُونَ وَأَمَّا التَّسْخِيرُ فَهُوَ نِعْمَةٌ وَإِكْرَامٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ الثَّانِيَ عَشْرَ التَّكْوِينُ كَقَوْلِهِ كُنْ فَيَكُونُ وَسَمَّاهُ الْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيَّ كَمَالَ الْقُدْرَةِ وَسَمَّاهُ الْقَفَّالُ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ التَّسْخِيرَ
____________________
(2/94)
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّخْرِيَةِ أَنَّ التَّكْوِينَ سُرْعَةُ الْوُجُودِ عن الْعَدَمِ وَلَيْسَ فيه انْتِقَالٌ إلَى حَالٍ مُمْتَهَنَةٍ بِخِلَافِ السُّخْرِيَةِ فإنه لُغَةً الذُّلُّ وَالِامْتِهَانُ الثَّالِثَ عَشَرَ التَّعْجِيزُ نحو فَأْتُوا بِسُورَةٍ من مِثْلِهِ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إنْ كَانُوا صَادِقِينَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّسْخِيرِ أَنَّ التَّسْخِيرَ نَوْعٌ من التَّكْوِينِ فإذا قِيلَ كُونُوا قِرَدَةً مَعْنَاهُ انْقَلِبُوا إلَيْهَا وَالتَّعْجِيزُ إلْزَامُهُمْ بِالِانْقِلَابِ لِيَظْهَرَ عَجْزُهُمْ لَا لِيَنْقَلِبُوا إلَى الْحِجَارَةِ وَمَثَّلَهُ الصَّيْرَفِيُّ وَالْقَفَّالُ بِقَوْلِهِ كُونُوا حِجَارَةً أو حَدِيدًا قال وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ ليس في قُدْرَتِهِمْ قَلْبُ الْأَعْيَانِ ولم يَكُنْ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مِمَّنْ يَخْتَرِعُ وَيُسَخِّرُ عُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ كُونُوا كَذَا تَعْجِيزٌ أَيْ أَنَّكُمْ لو كُنْتُمْ حِجَارَةً أو حَدِيدًا لم تُمْنَعُوا من جَرْيِ قَضَاءِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَكَذَا جَعَلَهُ ابن بَرْهَانٍ وَالْآمِدِيَّ من أَمْثِلَةِ التَّعْجِيزِ وقال ابن عَطِيَّةَ في تَفْسِيرِهِ عِنْدِي في التَّمْثِيلِ بِهِ نَظَرٌ وَإِنَّمَا التَّعْجِيزُ حَيْثُ يُقْتَضَى بِالْأَمْرِ فِعْلُ ما لَا يَقْدِرُ عليه الْمُخَاطَبُ كَقَوْلِهِ فَادْرَءُوا عن أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ وَنَحْوِهِ وَأَمَّا هذه الْآيَةُ فَمَعْنَاهَا كُونُوا بِالتَّوَهُّمِ وَالتَّقْدِيرُ كَذَا وَكَذَا الرَّابِعَ عَشَرَ التَّسْوِيَةُ بين شَيْئَيْنِ نحو فَاصْبِرُوا أو لَا تَصْبِرُوا هَكَذَا مَثَّلُوا بِهِ وَعَلَى هذا فَقَوْلُهُ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِقَوْلِهِ فَاصْبِرُوا أو لَا تَصْبِرُوا لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ لَمَّا لم يَكُنْ بِالصَّرِيحِ أَرْدَفَهُ مُبَالَغَةً في الْحَسْرَةِ عليهم وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنَّ صِيغَةَ افْعَلْ أو لَا تَفْعَلْ وَحْدَهَا لَا تَقْتَضِي التَّعْجِيزَ وَلَا اسْتَعَارَ لها بِالتَّسْوِيَةِ إلَّا من جِهَةِ أَنَّ التَّخْيِيرَ بين الشَّيْئَيْنِ يَقْتَضِي اسْتِوَاءَهُمَا فِيمَا خُيِّرَ الْمُخَاطَبُ بِهِ أو يُقَالُ إنَّ صِيغَةَ افْعَلْ وَحْدَهَا لم تَقْتَضِ التَّسْوِيَةَ لَكِنَّ الْمَجْمُوعَ الْمُرَكَّبَ من افْعَلْ أو لَا تَفْعَلْ فَعَلَى هذا لَا يَصْدُقُ عليه أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ صِيغَةُ الْأَمْرِ من حَيْثُ هِيَ صِيغَةُ الْأَمْرِ فَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُمْ هذا الْمِثَالَ من صِيغَةِ افْعَلْ وَعُذْرُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِعْمَالُهَا حَيْثُ يُرَادُ التَّسْوِيَةُ بِالْكَلَامِ الذي هِيَ فيه الْخَامِسَ عَشَرَ الِاحْتِيَاطُ ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا قام أحدكم من النَّوْمِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ في الْإِنَاءِ حتى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فإنه لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ أَيْ فَلَعَلَّ يَدَهُ لَاقَتْ نَجَاسَةً من بَدَنِهِ لم يَعْلَمْهَا فَلْيَغْسِلْهَا قبل إدْخَالِهَا لِئَلَّا
____________________
(2/95)
يُفْسِدَ الْمَاءَ السَّادِسَ عَشَرَ الدُّعَاءُ وَالْمَسْأَلَةُ نحو رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا رَبَّنَا اغْفِرْ لنا وقد أَوْرَدَ على تَسْمِيَتِهِمْ ذلك في الْأُولَى سُؤَالًا قَوْله تَعَالَى وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَأَجَابَ الْعَسْكَرِيُّ في الْفُرُوقِ بِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْوَقْفِ في الْكَلَامِ وَاسْتِعْطَافِ السَّامِعِ بِهِ وَمَثَّلَ محمد بن نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ الْأَمْرَ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ كَقَوْلِك كُنْ بِخَيْرٍ السَّابِعَ عَشَرَ الِالْتِمَاسُ كَقَوْلِك لِنَظِيرِك افْعَلْ وَهَذَا أَخَصُّ من إرَادَةِ الِامْتِثَالِ الْآتِي الثَّامِنَ عَشَرَ التَّمَنِّي كَقَوْلِك لِشَخْصٍ تَرَاهُ كُنْ فُلَانًا كَذَا مَثَّلَهُ ابن فَارِسٍ وَنَحْوُهُ تَمْثِيلُ الْأُصُولِيِّينَ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِي فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ انْجَلِي بِمَعْنَى الِانْجِلَاءِ لِطُولِهِ وَنَزَّلُوا لَيْلَ الْمُحِبِّ لِطُولِهِ مَنْزِلَةَ ما يَسْتَحِيلُ انْجِلَاؤُهُ مُبَالَغَةً وَإِلَّا فَانْجِلَاءُ اللَّيْلِ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ وَيَجِيءُ من هذا الْمِثَالِ السُّؤَالُ السَّابِقُ في التَّسْوِيَةِ فإن الْمُسْتَعْمَلَ في التَّمَنِّي هو صِيغَةُ الْأَمْرِ مع صِيغَةِ إلَّا لَا الصِّفَةُ وَحْدَهَا فَالْأَحْسَنُ مِثَالُ ابْنِ فَارِسٍ التَّاسِعَ عَشَرَ الِاحْتِقَارُ قال أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ يَعْنِي أَنَّ السِّحْرَ وَإِنْ عَظُمَ شَأْنُهُ فَفِي مُقَابَلَةِ ما أتى بِهِ مُوسَى عليه السَّلَامُ حَقِيرٌ الْعِشْرُونَ الِاعْتِبَارُ وَالتَّنْبِيهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَوَلَمْ يَنْظُرُوا في مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَقَوْلِهِ قُلْ سِيرُوا في الْأَرْضِ فَانْظُرُوا وَمَثَّلَهُ الْعَبَّادِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى اُنْظُرُوا إلَى ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَجَعَلَهُ الصَّيْرَفِيُّ من أَمْثِلَةِ تَذْكِيرِ النِّعَمِ لهم الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ التَّحْسِيرُ وَالتَّلْهِيفُ ذَكَرَهُ ابن فَارِسٍ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ وقَوْله تَعَالَى اخْسَئُوا فيها وَلَا تُكَلِّمُونِ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ التَّصْبِيرُ كَقَوْلِهِ لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا وقَوْله تَعَالَى فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا وَقَوْلِهِ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا ذَكَرَ هذه الثَّلَاثَةَ الْأَخِيرَةَ الْقَفَّالُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ الْخَبَرُ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا
____________________
(2/96)
الْمَعْنَى أَنَّهُمْ سَيَضْحَكُونَ وَيَبْكُونَ وَمَثَّلَهُ محمد بن نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ من اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَيْ أُذِنْتُمْ بِحَرْبٍ أَيْ كُنْتُمْ أَهْلَ حَرْبٍ وَمِنْهُ على أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ إذَا لم تَسْتَحِ فَاصْنَعْ ما شِئْت أَيْ صَنَعْت ما شِئْت وَعَكْسُهُ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ الْمَعْنَى لِتُرْضِعْنَ الْوَالِدَاتُ أَوْلَادَهُنَّ وَهَكَذَا أَبْلَغُ من عَكْسِهِ لِأَنَّ النَّاطِقَ بِالْخَبَرِ مُرِيدًا بِهِ الْأَمْرَ كَأَنَّهُ نَزَّلَ الْمَأْمُورَ بِهِ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ التَّحْكِيمُ وَالتَّفْوِيضُ كَقَوْلِهِ فَاقْضِ ما أنت قَاضٍ ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَسَمَّاهُ ابن فَارِسٍ وَالْعَبَّادِيُّ التَّسْلِيمَ وَسَمَّاهُ ابن نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ الِاسْتِبْسَالَ قال أَعْلَمُوهُ أَنَّهُمْ قد اسْتَعَدُّوا له بِالصَّبْرِ وَأَنَّهُمْ غَيْرُ تَارِكِينَ لِدِينِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَسْتَقِلُّونَ بِمَا هو فَاعِلٌ في جَنْبِ ما يَتَوَقَّعُونَهُ من ثَوَابِ اللَّهِ قال وَمِنْهُ قَوْلُ نُوحٍ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ أَخْبَرَهُمْ بِهَوَانِهِمْ عليه الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ التَّعَجُّبُ ذَكَرَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أو حَدِيدًا وَجَعَلَهُ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ من قِسْمِ التَّعْجِيزِ وَنَقَلَ الْعَبَّادِيُّ في الطَّبَقَاتِ وُرُودَ التَّعَجُّبِ عن أبي إِسْحَاقَ الْفَارِسِيِّ وَمَثَّلَهُ قَوْله تَعَالَى اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَك الْأَمْثَالَ وَمَثَّلَ ابن فَارِسٍ وَالْعَلَمُ الْقَرَافِيُّ لِلتَّعَجُّبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ وهو أَلْيَقُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ بِمَعْنَى التَّكْذِيبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَقَوْلِهِ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ الْآيَةَ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ الْمَشُورَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ذَكَرَهُ الْعَبَّادِيُّ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ السُّؤَالَ يَحِلُّ مَحَلَّ الْحَاجَةِ إلَى ما يُسْأَلُ وَالْمَشُورَةُ تَقَعُ تَقْوِيَةً لِلْعَزْمِ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ قُرْبُ الْمَنْزِلَةِ ذَكَرَهُ الصَّيْرَفِيُّ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ الْإِهَانَةُ كَقَوْلِهِ ذُقْ إنَّك أنت الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ فَكِيدُونِي جميعا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ وَقَوْلِهِ وَأَجْلِبْ
____________________
(2/97)
عليهم بِخَيْلِك وَرَجِلِك وَشَارِكْهُمْ في الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ذَكَرَهُ ابن الْقَطَّانِ وَالصَّيْرَفِيُّ قَالَا وَلَيْسَ هذا أَمْرَ إبَاحَةٍ لِإِبْلِيسَ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ ما يَكُونُ مِثْلَ ذلك لَا يَضُرُّ عِبَادِي كَقَوْلِهِ إنَّ عِبَادِي ليس لَك عليهم سُلْطَانٌ وَسَمَّاهُ جَمَاعَةٌ بِالتَّهَكُّمِ وَضَابِطُهُ أَنْ يُؤْتَى بِلَفْظٍ دَالٍّ على الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ وَالْمُرَادُ ضِدُّهُ وَفَرَّقَ جَمَاعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّخْيِيرِ بِأَنَّ الْإِهَانَةَ إنَّمَا تَكُونُ بِالْقَوْلِ أو بِالْفِعْلِ أو تَرْكِهِمَا دُونَ مُجَرَّدِ الِاعْتِقَادِ وَالِاحْتِقَارُ إمَّا مُخْتَصٌّ بِهِ أو وَإِنْ لم يَكُنْ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ لَا مَحَالَةَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الِاعْتِقَادِ بِدَلِيلِ أَنَّ من اعْتَقَدَ في شَيْءٍ أَنَّهُ لَا يَعْبَأُ بِهِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ يُقَالُ إنَّهُ احْتَقَرَهُ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ أَهَانَهُ ما لم يَصْدُرْ منه قَوْلٌ أو فِعْلٌ يُنْبِئُ عنه الثَّلَاثُونَ التَّحْذِيرُ وَالْإِخْبَارُ عَمَّا يَئُولُ إلَيْهِ أَمْرُهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى تَمَتَّعُوا في دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَكَرَهُ الصَّيْرَفِيُّ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ إرَادَةُ الِامْتِثَالِ كَقَوْلِك عِنْدَ الْعَطَشِ اسْقِنِي مَاءً فَإِنَّك لَا تَجِدُ من نَفْسِك عِنْدَ التَّلَفُّظِ بِهِ إلَّا إرَادَةَ السَّقْيِ أَعْنِي طَلَبَهُ فَإِنْ فُرِضَ ذلك من السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ تُصُوِّرَ أَنْ يَكُونَ لِلْوُجُوبِ أو النَّدْبِ مع هذه الزِّيَادَةِ وهو إتْحَافُ السَّيِّدِ بِغَرَضِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ في حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ إرَادَةُ الِامْتِثَالِ لِأَمْرٍ آخَرَ كَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ فإنه لم يَقْصِدْ الْأَمْرَ بِأَنْ يَقْتُلَ وَإِنَّمَا الْقَصْدُ بِهِ الِاسْتِسْلَامُ وَعَدَمُ مُلَابَسَةِ الْفِتَنِ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ التَّخْيِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أو أَعْرِضْ عَنْهُمْ ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ وَفِيهِ ما سَبَقَ في التَّسْوِيَةِ ثُمَّ قال وَأَقْسَامُ الْأَوَامِرِ كَثِيرَةٌ لَا تَكَادُ تَنْضَبِطُ كَثْرَةً وَكُلُّهَا تُعْرَفُ بِمَخَارِجِ الْكَلَامِ وَسِيَاقِهِ وَبِالدَّلَائِلِ التي يَقُومُ عليها ثُمَّ تَكَلَّمَ على الْقَرَائِنِ السَّابِقَةِ في حَمْلِ الصِّيغَةِ على ما سَبَقَ قال وَكُلُّ ما كان من بَابِ الْمُعَامَلَاتِ وَالْمُعَاوَضَاتِ فَالْأَمْرُ فيه إرْشَادٌ وَحَظْرٌ وَإِبَاحَةٌ كَالْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ بِالْبَيْعِ وَقَوْلُهُ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عليه أَيْ إنْ شِئْتُمْ وَلِهَذَا قال فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ له قال
____________________
(2/98)
وَكُلُّ ما جَازَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ على خُصُوصِ الْعَامِّ جَازَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ على أَنَّ الْأَمْرَ ليس لِلْوُجُوبِ قال وقد تَرِدُ الْآيَةُ الْوَاحِدَةُ بِأَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِمَعْنَيَيْنِ نحو قَوْلِهِ كُلُوا من ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يوم حَصَادِهِ وَقَوْلِهِ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَقَوْلِهِ فَكَاتِبُوهُمْ ثُمَّ قال وَآتُوهُمْ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ أَجْمَعُوا على أنها مَتَى كانت بِمَعْنَى الطَّلَبِ وَالشَّفَاعَةِ أو التَّعْجِيزِ أو التَّهْدِيدِ أو الْإِهَانَةِ أو التَّقْرِيعِ أو التَّسْلِيمِ وَالتَّحْكِيمِ لم يَكُنْ أَمْرًا وَأَمَّا التَّكْوِينُ فَقَدْ سَمَّاهُ أَصْحَابُنَا أَمْرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى كُنْ فَيَكُونُ وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ بِمَعْنَى الْإِيجَابِ أَمْرٌ وَاخْتَلَفُوا في النَّدْبِ وَالتَّرْغِيبِ لِاخْتِلَافِهِمْ في الْأَمْرِ بِالنَّوَافِلِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وقال بَعْضُ أَصْحَابِنَا إنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَاخْتَلَفُوا فيه بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ فقال الْجُمْهُورُ هو غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ وقال طَائِفَةٌ من مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ إنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ انْتَهَى إذَا عَلِمْت هذا فَلَا خِلَافَ أنها لَيْسَتْ حَقِيقَةً في جَمِيعِ هذه الْمَعَانِي لِأَنَّ أَكْثَرَهَا لم يُفْهَمْ من صِيغَةِ افْعَلْ لَكِنْ بِالْقَرِينَةِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في بَعْضِهَا قال الْإِمَامُ الْخِلَافُ في أُمُورٍ خَمْسَةٍ منها وَهِيَ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ وَلَيْسَ كما زَعَمَ لِمَا سَيَأْتِي وعبارة أبي الحسين بن القطان اختلف أصحابنا فيما قام الدليل على عدم وجوبه من هذه الصيغ هل يسمى أمرا على قولين انتهى وفي كتاب المصادر عن الشريف المرتضى أنها حقيقة في طلب الفعل والإباحة والتهديد والتحذير وقد اختلفوا في ذلك على بضعة عشر قولا الأول أنها حقيقة في الوجوب فقط مجاز في البواقي وهو قول الفقهاء وجماعة المتكلمين ونقل عن الشافعي قاله إمام الحرمين في التلخيص أما الشافعي فقد ادعى كل من أهل هذه المذاهب أنه على وفاقه وتمسكوا بعبارات متفرقة في كتبه حتى اعتصم القاضي بألفاظ له من كتبه واستنبط منها مصيره إلى الوقف وهذا عدول عن سنن الإنصاف فإن الظاهر والمأثور من مذهبه حمل الأمر على الوجوب وقال ابن القشيري إنه مذهب الشافعي وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني وهذا الذي
____________________
(2/99)
ذكرناه من أن الأمر بمجرده يحمل على الوجوب هو الظاهر من كلام الشافعي فإنه قال في الرسالة وما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على التحريم حتى تأتي دلالة تدل على غير ذلك ثم قال يعني الشافعي بعد ذلك بكلام كثير ويحتمل أن يكون الأمر كالنهي وأنهما على الوجوب إلى أن يدل دليل على خلاف ذلك فقد قطع القول في النهي أنه على التحريم وسوى بين الأمر في ظاهر كلامه والثاني وذكر أبو علي الوجوب إلا أنه لم يصرح بذلك في الأمر كتصريحه إياه في النهي فجملته أن ظاهر مذهب الشافعي أن الأمر بمجرده على الوجوب إلى أن يدل دليل على خلافه وهو قول أكثر أصحابنا منهم أبو العباس وأبو سعيد وابن خيران وغيرهم وهو قول مالك وأبي حنيفة وجمهور الفقهاء انتهى قلت الذي يقتضيه كلام الشافعي أن النهي للتحريم قولا واحدا حتى يرد ما يصرفه وأن له في الأمر قولين أرجحهما أنه مشترك بين الثلاثة أعني الإباحة والوجوب الثاني أنه للوجوب وهو الأقوى دليلا فإنه قال في أحكام القرآن فيما جاء من أمر النكاح قال الشافعي رضي الله عنه على قوله تعالى وأنكحوا الأيامى منكم والأمر في الكتاب والسنة وكلام الناس يحتمل معاني أحدها أن يكون الله عز وجل حرم شيئا ثم أباحه كقوله وإذا حللتم فاصطادوا وأن يكون دلهم على ما فيه رشدهم كقوله صلى الله عليه وسلم سافروا تصحوا وأن يكون حتما وفي كل حتم من الله الرشد فيجتمع الحتم والرشد وقال بعض أهل العلم الأمر كله للإباحة حتى توجد دلالة من الكتاب أو السنة أو الإجماع على أنه أريد به الحتم فيكون فرضا قال الشافعي وما نهى الله أو رسوله عنه محرم حتى توجد الدلالة على أن النهي على غير التحريم وإنما أريد به الإرشاد أو تنزها أو تأدبا والفرق بين الأمر والنهي من قوله صلى الله عليه وسلم إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فانتهوا ويحتمل أن يكون الأمر في معنى النهي فيكونان لازمين إلا
____________________
(2/100)
بدلالة أنهما غير لازمين انتهى وقال الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع وابن برهان في الوجيز هو حقيقة في الوجوب عند الفقهاء واختاره الإمام وأتباعه قال الشيخ أبو إسحاق وهو الذي أملاه الشيخ أبو الحسن على أصحاب الشيخ أبي إسحاق المروزي ببغداد وقال الأستاذ أبو إسحاق إنه لا يجوز غيره في تركه دفع الشريعة وقال القاضي عبد الوهاب إنه قول مالك وكافة أصحابه وقال في الملخص هو قول أصحابنا وأكثر الحنفية والشافعية والأقلين من الأصوليين وقال أبو بكر الرازي هو مذهب أصحابنا وإليه كان يذهب شيخنا أبو الحسن الكرخي وقال أبو زيد الدبوسي هو قول جمهور العلماء ثم ظاهر إطلاقهم أنا نقطع بأنه للوجوب وقال المازري بل ظاهر فيه مع احتمال غيره لكن الوجوب أظهر وهل ذلك بوضع اللغة أو الشرع فقيل اللغة وصححه أبو إسحاق ونقله إمام الحرمين في مختصر التقريب عن الأكثرين من القائلين باقتضاء الصيغة للوجوب وأنه كذلك بأصل الوضع لأنه قد ثبت في إطلاق أهل اللغة تسمية من قد خالف مطلق الأمر عاصيا وتوبيخه بالعصيان عند مجرد ذكر الأمر واقتضى ذلك دلالة الأمر المطلق على الوجوب وقال المازري صرح بعض أصحابنا بأن الوعيد مستفاد من اللفظ كما يستفاد منه الاقتضاء الجازم وقيل بوضع الشرع وحكاه صاحب المصادر عن الشريف المرتضى واختاره وقيل بضم الشرع إلى الفقه وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني فيما حكاه المازري في شرح البرهان واختاره إمام الحرمين أيضا ونزل عليه كلام عبد الجبار وهو المختار فإن الوعيد لا يستفاد من اللفظ بل هو أمر خارجي عنه وعن المستوعب للقيرواني حكاية قول رابع أنه يدل بالعقل قال الشيخ أبو إسحاق وفائدة الوجهين في الاقتضاء باللغة أو بالشرع أنا إن قلنا يقتضيه من حيث اللغة وجب حمل الأمر على الوجوب سواء كان من الشارع أو غيره إلا ما خرج بدليل وإن قلنا من حيث الشرع كان الوجوب مقصورا على أوامر صاحب الشرع حكاه بعض شراح اللمع وأغرب صاحب المصادر فحكى عن الأكثرين أنه يقتضي الوجوب بمجرده ثم
____________________
(2/101)
حكى قولا آخر أنه يقتضي الإيجاب قال والفرق بينهما أن من قال يقتضي الوجوب أراد به أنه يدل على وجوبه لا أنه يؤثر في وجوبه ومن قال يقتضي الإيجاب أراد به أنه بالأمر يصير الفعل واجبا ويؤثر في وجوبه والثاني أنها حقيقة في الندب وهو قول كثير من المتكلمين منهم أبو هاشم وقال الشيخ أبو حامد إنه قول المعتزلة بأسرها وقال أبو يوسف في الواضح هو أظهر قولي أبي علي وإليه ذهب عبد الجبار وربما نسب للشافعي قال القاضي عبد الوهاب كلامه في أحكام القرآن يدل عليه قال الشيخ أبو إسحاق وحكاه الفقهاء عن المعتزلة وليس هو مذهبهم على الإطلاق بل ذلك بواسطة أن الأمر عندهم يقتضي الإرادة والحكيم لا يريد إلا الحسن والحسن ينقسم إلى واجب وندب فيحمل على المحقق وهو الندب فليست الصيغة عندهم مقتضية للندب إلا على هذا التقدير وقال إمام الحرمين هذا أقرب إلى حقيقة مذهب القوم وقال الأستاذ أبو منصور هو قول المعتزلة لأن عندهم أن الأمر يقتضي حسن المأمور به وقد يكون الحسن واجبا وقد يكون ندبا وكونه ندبا يقين وفي وجوبه شك فلا يجب إلا بدليل وذكر ابن السمعاني نحوه والثالث أنها حقيقة في الإباحة التي هي أدنى المراتب وحكاه البيهقي في سننه عن حكاية الشافعي في كتاب النكاح فقال وقال بعضهم الأمر كله على الإباحة والدلالة على المرشد حتى توجد الدلالة على أنه أريد بالأمر الحتم وما نهى الله عنه فهو محرم حتى توجد الدلالة بأنه على غير التحريم واحتج له بحديث أبي هريرة إذا أمرتكم بأمر ثم قال قال الشافعي وقد يحتمل أن يكون الأمر في معنى النهي فيكونان لازمين إلا بدلالة أنهما غير لازمين ويكون قوله فأتوا منه ما استطعتم أن عليهم الإتيان بما استطاعوا لأن الناس إنما يلزمون بما استطاعوا وعلى أهل العلم طلب الدلائل حتى يفرقوا بين الأمر والنهي معا انتهى وقال الأستاذ أبو إسحاق في شرح الترتيب حكي عن بعض أصحابنا أن الأمر للندب وأنه للإباحة وهذا لا يعرف عنهم بل المعروف من عصر الصحابة إلى وقتنا هذا أن الأمر على الوجوب وإنما هذا قول قوم ليسوا من الفقهاء أدخلوا أنفسهم فيما بين الفقهاء كما نسب قوم إلى الشافعي القول بالتوقف في العموم وليس هو مذهبه انتهى
____________________
(2/102)
الرابع أنها مشتركة بالاشتراك اللفظي بين الوجوب والندب وحكي عن المرتضى من الشيعة وليس كذلك فقد سبق عن صاحب المصادر حقيقة مذهبه وقال الغزالي صرح الشافعي في كتاب أحكام القرآن بتردد الأمر بين الوجوب والندب وقد سبق تأويله من كلام ابن القطان الخامس أنها حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو الطلب لكن يحكم بالوجوب ظاهرا في حق العمل احتياطا دون الاعتقاد وبه قال أبو منصور الماتريدي السادس حقيقة إما في الوجوب وإما في الندب وإما فيهما جميعا بالاشتراك اللفظي لكنا ما ندري ما هو الواقع من هذه الأقسام الثلاثة ونعرف أن لا رابع وحكي عن بعض الواقفية كالشيخ والقاضي وحكاه بعضهم عن ابن سريج وقال إنه صار إلى التوقف حتى يتبين المراد والتوقف عنده في تعيين المراد عند الاستعمال لا في تعيين الموضوع له لأنه عنده موضوع بالاشتراك العقلي للوجوب والندب والإباحة والتهديد وذهب الغزالي وجماعة من المحققين إلى التوقف في تعيين الموضوع له أنه للوجوب فقط أو الندب فقط أو مشترك بينهما اشتراكا لفظيا السابع مشتركة بين الثلاثة أعني الوجوب والندب والإباحة وهل هو بالاشتراك اللفظي أو المعنوي رأيان الثامن أنها مشتركة بين الخمسة هذه الثلاثة والكراهة والتحريم حكاه في المحصول التاسع مشتركة بين الوجوب والندب والإباحة والإرشاد والتهديد حكاه الغزالي ونسبه للأشعري والقاضي وأصحابهما قال وعندهم أنها مشتركة بحكم الوضع الأصلي فيكون حقيقة في كل واحد منهما بظاهره وإنما يحمل عليه بدليل وغاير ابن برهان بين مذهب الشيخ والقاضي ذهب الشيخ وأصحابه إلى أن الأمر ليست له صيغة تخصه وإنما قول القائل افعل مشترك بين الأمر والنهي والتهديد والتعجيز والتكوين لا يحمل على شيء منها إلا بدليل ثم ذكر مذهب القاضي كما سيأتي العاشر أنه حقيقة في الطلب مجاز فيما سواه قال الآمدي وهو الأصح
____________________
(2/103)
الحادي عشر أن أمر الله للوجوب وأمر النبي صلى الله عليه وسلم للندب إلا ما كان موافقا لنص أو مبينا لمجمل حكاه القاضي عبد الوهاب في الملخص عن شيخه أبي بكر الأبهري وكذا حكاه عنه المازري في شرح البرهان وقال إن النقل اختلف عنه فروي عنه كذا وروي عنه موافقة من قال إنه للندب على الإطلاق وقال القاضي عبد الوهاب في كلامه على الأدلة وأما ما حكيناه عن الأبهري فإنه ذكره في شرحه وهو كالمتروك وكان يستدل على ذلك بأن المسلمين فرقوا بين السنن والفرائض فأضافوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدل ذلك على ما قلناه وبهذا فارق بيان المجمل من الكتاب لأنه ليس بابتداء منه قال والصحيح هذا الذي كان يقوله آخر أمره وأنه لا فرق بين أوامر الله تعالى وأوامر رسوله من كون جميعها على الوجوب الثاني عشر وحكاه ابن برهان عن القاضي وأصحابه أنه ليست له صيغة تخصه وليست مشتركة بين الأمر وغيره ولا يدل عند قول القائل افعل على معنى أو مشترك وإنما يدل عند انضمام القرينة إليها ونزول الصيغة من القرينة منزلة الزاي من زيد لا يدل على تركب من الزاي والياء والدال حينئذ يدل على معنى وكذلك قولك افعل بدون القرينة لا يدل على شيء فإذا انضمت القرينة إليه حينئذ دل على المقصود وقال الشيح أبو حامد الإسفراييني ذهب الأشعري ومن تابعه إلى أن لفظ الأمر لا يدل على وجوب ولا غيره بمجرده ولا يحمل على شيء إلا بدليل تنبيهات الأول قال أبو الحسين البصري المسألة ظنية لأنها وسيلة إلى العمل فتنتهض فيها الأدلة الظنية وقال غيره قطعية إذ هي من قواعد أصول الفقه وبنى الصفي الهندي على هذا فقال المطلوب في هذه المسألة إن كان هو القطع فالحق فيها هو التوقف وإن كان أعم منه وهو الحكم إما على سبيل القطع أو الظن وهو الأشبه فالأغلب على الظن أن الحق فيما هو القول بالوجوب الثَّانِي أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ حَقِيقَةً في شَيْءٍ مَجَازًا في غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ تُرَدَّ تِلْكَ الْأَنْوَاعُ إلَى الْعَلَاقَةِ قال الْأَصْفَهَانِيُّ يُمْكِنُ رَدُّهُ إلَى مَجَازِ التَّشْبِيهِ لِأَنَّ الْبَعْضَ يُوجَدُ فيه فَأَشْبَهَ الطَّلَبَ بِوَجْهٍ فإن التَّعْجِيزَ وَالتَّكْوِينَ وَالتَّخْيِيرَ طَلَبٌ بِوَجْهٍ ما وَكَذَا النَّهْيُ
____________________
(2/104)
الثَّالِثُ أَنَّهُ تَرِدُ صِيغَةُ الْخَبَرِ لِلْأَمْرِ نحو وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ وهو مَجَازٌ وَالْعَلَاقَةُ فيه ما يَشْتَرِكُ كُلُّ وَاحِدٍ منها في تَحْقِيقِ ما تَعَلَّقَ بِهِ وَكَذَا الْخَبَرُ بِمَعْنَى النَّهْيِ نحو لَا تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ نعم هَاهُنَا بَحْثٌ دَقِيقٌ أَشَارَ إلَيْهِ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ وهو أَنَّهُ إذَا وَرَدَ الْخَبَرُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ فَهَلْ يَتَرَتَّبُ عليه ما يَتَرَتَّبُ على الْأَمْرِ من الْوُجُوبِ إذَا قُلْنَا الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ أو يَكُونُ ذلك مَخْصُوصًا بِالصِّيغَةِ الْمَعْنِيَّةِ وَهِيَ صِيغَةُ افْعَلْ ولم يُرَجِّحْ شيئا وَهَذَا الْبَحْثُ قد دَارَ بين الشَّيْخَيْنِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَابْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ في مَسْأَلَةِ الزِّيَارَةِ فَادَّعَى ابن تَيْمِيَّةَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ وَجَعَلَ قَوْلَهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثٍ في مَعْنَى النَّهْيِ وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ كما أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ وَنَازَعَهُ ابن الزَّمْلَكَانِيِّ وقال هذا مَحْمُولٌ على الْأَمْرِ بِصِيغَةِ افْعَلْ وَعَلَى النَّهْيِ بِصِيغَةِ لَا تَفْعَلْ إذْ هو الذي يَصِحُّ دَعْوَى الْحَقِيقَةِ فيه وَأَمَّا ما كان مَوْضُوعًا حَقِيقَةً لِغَيْرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَيُفِيدُ مَعْنَى أَحَدِهِمَا كَالْخَبَرِ بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّفْيِ بِمَعْنَى النَّهْيِ فَلَا يُدَّعَى فيه أَنَّهُ حَقِيقَةٌ في وُجُوبٍ وَلَا تَحْرِيمٍ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْأَمْرُ أو النَّهْيُ فَدَعْوَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً في إيجَابٍ أو تَحْرِيمٍ وهو مَوْضُوعٌ لِغَيْرِهِمَا مُكَابَرَةٌ قال وَهَذَا مَوْضِعٌ يَغْلَطُ كَثِيرٌ من الْفُقَهَاءِ وَيَغْتَرُّونَ بِإِطْلَاقِ الْأُصُولِيِّينَ وَيُدْخِلُونَ فيه كُلَّ ما أَفَادَ نَهْيًا أو أَمْرًا وَالْمُحَقِّقُ الْفَاهِمُ يَعْرِفُ الْمُرَادَ وَيَضَعُ كُلَّ شَيْءٍ في مَوْضِعِهِ قُلْت صَرَّحَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في كِتَابِهِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَلْحَقَهُ بِالْأَمْرِ ذِي الصِّيغَةِ قال وَمِنْ الدَّلِيلِ على أَنَّ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ دُخُولُ النَّسْخِ فيه وَالْأَخْبَارُ الْمَحْضَةُ لَا يَلْحَقُهَا النَّسْخُ وَلِأَنَّهُ لو كان خَبَرًا لم يُوجَدْ خِلَافُهُ قال وَمِنْ هذا الْبَابِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا قَوْله تَعَالَى لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ
____________________
(2/105)
وقال بَعْضُهُمْ لَا إذَا كانت نَافِيَةً أَبْلَغُ في الْخِطَابِ من النَّهْيِ لِأَنَّ النَّهْيَ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْحُكْمَ قد كان قَارًّا قبل وُرُودِهِ وَالنَّفْيُ يَتَضَمَّنُ الْإِخْبَارَ عن حَالَتِهِ وَأَنَّهَا كانت مَنْفِيَّةً فلم تَكُنْ ثَابِتَةً قبل ذلك وَهَاهُنَا فَوَائِدُ إحْدَاهَا في الْعُدُولِ عن صِيغَةِ الطَّلَبِ إلَى صِيغَةِ الْخَبَرِ وَفَوَائِدُ منها أَنَّ الْحُكْمَ الْمُخْبَرَ بِهِ يُؤْذِنُ بِاسْتِقْرَارِ الْأَمْرِ وَثُبُوتِهِ على حُدُوثِهِ وَتَجَدُّدِهِ فإن الْأَمْرَ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا فِعْلًا حَادِثًا فإذا أُمِرَ بِالشَّيْءِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ آذَنَ ذلك بِأَنَّ هذا الْمَطْلُوبَ في وُجُوبِ فِعْلِهِ وَلُزُومِهِ بِمَنْزِلَةِ ما قد حَصَلَ وَتَحَقَّقَ فَيَكُونُ ذلك أَدْعَى إلَى الِامْتِثَالِ وَمِنْهَا أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ وَإِنْ دَلَّتْ على الْإِيجَابِ فَقَدْ يُحْتَمَلُ الِاسْتِحْبَابُ فإذا جِيءَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ عُلِمَ أَنَّهُ أَمْرٌ ثَابِتٌ مُسْتَقِرٌّ وَانْتَفَى احْتِمَالُ الِاسْتِحْبَابِ وَمِنْهَا أَنَّ الْأَحْكَامَ قِسْمَانِ خِطَابُ وَضْعٍ وَأَخْبَارٌ وهو جَعْلُ الشَّيْءِ سَبَبًا وَشَرْطًا وَمَانِعًا وَهَذَا من النَّوْعِ فإن الطَّلَاقَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ فإذا جِيءَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ كان فيه دَلَالَةٌ على أَنَّهُ من قَبِيلِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْأَخْبَارِ الْمُمْتَازَةِ عن سَائِرِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ وَيُوَضِّحُ هذا أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ لو كانت مَجْنُونَةً ثَبَتَ حُكْمُ الْعِدَّةِ في حَقِّهَا وَإِنْ لم تَكُنْ مُكَلَّفَةً الثَّانِيَةُ الْخَبَرُ الذي هو مَجَازٌ عن الْأَمْرِ في مِثْلِ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ هل هو مَجْمُوعُ الْمُبْتَدَإِ وَالْخَبَرِ أو خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَحْدَهُ كَلَامُ صَاحِبِ الْكَشَّافِ يَمِيلُ إلَى الثَّانِي وَأَنَّ الْمَعْنَى وَالْوَالِدَاتُ لَيُرْضِعْنَ وَبَعْضِهِمْ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ لَا يَكُونُ جُمْلَةً إنْشَائِيَّةً الثَّالِثَةُ الْمَشْهُورُ جَوَازُ وُرُودِ صِيغَةِ الْخَبَرِ وَالْمُرَادُ بها الْأَمْرُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ جَمَعَ رَجُلٌ عليه ثِيَابَهُ وَحَسْبُك دِرْهَمٌ أَيْ اكْتَفِ بِهِ وَمَنَعَهُ السُّهَيْلِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ قال وَإِنَّمَا هو خَبَرٌ عن حُكْمِ الشَّرْعِ فَإِنْ وُجِدَتْ مُطَلَّقَةٌ لَا تَتَرَبَّصُ فَلَيْسَ من الشَّرْعِ وَلَا يَلْزَمُ من ذلك وُقُوعُ خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى على خِلَافِ مُخْبَرِهِ وَقِيلَ لِتَتَرَبَّصَ بِحَذْفِ اللَّامِ
____________________
(2/106)
سقط مسألة إذَا دَلَّ على انْتِفَاءِ الْوُجُوبِ فَهَلْ يُحْمَلُ على النَّدْبِ أو يُتَوَقَّفُ وَلَا يُحْمَلُ عليه وَلَا على غَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ فيه قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْإِفَادَةِ وَعُزِيَ الثَّانِي لِأَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ من أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ قال فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ على انْتِفَاءِ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ كان لِلْإِبَاحَةِ فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ على نَفْيِ الْإِبَاحَةِ فَفِي جَوَازِ الْفِعْلِ وهو أَنْ يَكُونَ غير مَحْظُورٍ وَلَا يَكُونُ له حُكْمُ الْبَاطِلِ قال وَهَذَا مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ من الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَكَلَامُ أَصْحَابِنَا بَعِيدٌ عنه إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ على انْتِفَاءِ الْوُجُوبِ وَحُمِلَ على النَّدْبِ فَهَلْ هو مَأْمُورٌ بِهِ حَقِيقَةً أو مَجَازًا خِلَافٌ سَبَقَ في بَحْثِ النَّدْبِ وَقِيلَ إطْلَاقُ الْأَمْرِ عليها من بَابِ الْمُشَكَّكِ كَالْوُجُودِ وَالْبَيَاضِ لِأَنَّهُ في الْوُجُوبِ أَوْلَى إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ على انْتِفَاءِ الْوُجُوبِ وَحُمِلَ على الْإِبَاحَةِ فَعَنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ مَجَازٌ وَاخْتَارَهُ ابن عَقِيلٍ وَنَقَلَهُ عن جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ وَذَكَرَ أبو الْخَطَّابِ منهم أَنَّ هذه الْمَسْأَلَةَ من فَوَائِدِ الْأَمْرِ هل هو حَقِيقَةٌ في النَّدْبِ فَيَجِيءُ فيها الْخِلَافُ وَحَكَى ابن عَقِيلٍ أَنَّ الْإِبَاحَةَ أَمْرٌ وَالْمُبَاحُ مَأْمُورٌ بِهِ عِنْدَ الْبَلْخِيّ إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ على أَنَّهُ لم يُرَدْ بِهِ الْوُجُوبُ فَهَلْ يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ في الْجَوَازِ فيه وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي الطَّبَرِيُّ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ اللُّمَعِ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَصَحَّحُوا الْمَنْعَ لِأَنَّ الْأَمْرَ لم يُوضَعْ لِلْجَوَازِ وَإِنَّمَا وُضِعَ لِلْإِيجَابِ وَالْجَوَازُ يَدْخُلُ فيه تَبَعًا فإذا سَقَطَ الْأَصْلُ سَقَطَ التَّابِعُ وقد سَبَقَتْ أَيْضًا مَسْأَلَةُ إذَا صَدَرَ من الشَّارِعِ مُجَرَّدًا عن الْقَرِينَةِ وَقُلْنَا يُحْمَلُ على الْوُجُوبِ وَجَبَ الْفِعْلُ لَا مَحَالَةَ وفي وُجُوبِ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ قبل الْبَحْثِ خِلَافُ الْعَامِّ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ في كِتَابِهِ في بَابِ الْعُمُومِ قال فَعَلَى
____________________
(2/107)
قَوْلِ الصَّيْرَفِيِّ يُحْمَلُ الْأَمْرُ على الْوُجُوبِ بِظَاهِرِهِ وَالنَّهْيُ على التَّحْرِيمِ بِظَاهِرِهِ وَعَلَى هذا الْقَوْلُ يُتَوَقَّفُ وَسَيَأْتِي في بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وقد تَعَرَّضَ هَاهُنَا صَاحِبُ الْمِيزَانِ من الْحَنَفِيَّةِ فقال إذَا صَدَرَ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ من مُفْتَرِضِ الطَّاعَةِ فَحُكْمُهُ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ وَاعْتِقَادُهُ قَطْعًا هذا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وقال مَشَايِخُ سَمَرْقَنْدَ منهم الْمَاتُرِيدِيُّ إنَّ حُكْمَهُ من حَيْثُ الظَّاهِرُ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا على طَرِيقِ التَّعْيِينِ وهو أَنْ لَا يُعْتَقَدَ فيه نَدْبٌ وَلَا ما يُنَافِيهِ وَلَا خِلَافَ في وُجُوبِ الْعَمَلِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في وُجُوبِ الِاعْتِقَادِ بِطَرِيقِ التَّعْيِينِ وَبُنِيَ على هذا ما لو اقْتَرَنَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ قَرِينَةُ النَّدْبِ أو الْإِبَاحَةِ أو التَّهْدِيدِ فَمَنْ قال الْوُجُوبُ عَيْنًا فَلَيْسَ بِأَمْرٍ عِنْدَهُ لِانْعِدَامِ حُكْمِهِ بَلْ إطْلَاقُ لَفْظِ الْأَمْرِ عليه مَجَازًا انْتَهَى وَأَقُولُ الْأَمْرُ ضَرْبَانِ أَمْرُ إعْلَامٍ وَأَمْرُ إلْزَامٍ فَأَمَّا أَمْرُ الْإِعْلَامِ فَمُخْتَصٌّ بِالِاعْتِقَادِ دُونَ الْفِعْلِ وَيَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْأَمْرُ على الِاعْتِقَادِ بِزَمَانٍ وَاحِدٍ وهو وَقْتُ الْعِلْمِ بِهِ وَأَمَّا أَمْرُ الْإِلْزَامِ فَمُتَوَجِّهٌ إلَى الِاعْتِقَادِ وَالْفِعْلِ فَيَجْمَعُ بين اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ وَإِيجَابِ الْفِعْلِ وَلَا يُجْزِئُهُ الِاقْتِصَارُ على أَحَدِهِمَا فَإِنْ فَعَلَهُ قبل اعْتِقَادِ وُجُوبِهِ لم يَجُزْ وَإِنْ اعْتَقَدَ وُجُوبَهُ ولم يَفْعَلْ كان مَأْخُوذًا بِهِ وَلَا يَلْزَمُ تَجْدِيدُ الِاعْتِقَادِ عِنْدَ الْفِعْلِ إذَا كان على ما تَقَدَّمَ من اعْتِقَادِهِ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ تَعَبُّدُ إلْزَامٍ وَالْفِعْلُ تَأْدِيَةُ مُسْتَحَقٍّ وَيَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْأَمْرُ على الْفِعْلِ بِزَمَانِ الِاعْتِقَادِ وَاخْتُلِفَ في اعْتِبَارِ تَقْدِيمِهِ بِزَمَانِ الْمُتَأَهِّبِ لِلْفِعْلِ على مَذْهَبَيْنِ أَحَدُهُمَا وهو قَوْلٌ شَاذٌّ من الْفُقَهَاءِ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ على الْفِعْلِ بِزَمَانَيْنِ أَحَدُهُمَا زَمَانُ الِاعْتِقَادِ وَالثَّانِي زَمَانُ التَّأَهُّبِ لِلْفِعْلِ وَبِهِ قال من الْمُتَكَلِّمِينَ من اعْتَبَرَ الْقُدْرَةَ قبل الْفِعْلِ وَالثَّانِي وهو قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ يُعْتَبَرُ تَقْدِيمُ الْأَمْرِ على الْفِعْلِ بِزَمَانِ الِاعْتِقَادِ وَحْدَهُ وَالتَّأَهُّبُ لِلْفِعْلِ شُرُوعٌ فيه فلم يُعْتَبَرْ تَقْدِيمُهُ عليه وَبِهِ قال من الْمُتَكَلِّمِينَ من اعْتَبَرَ الْقُدْرَةَ مع الْفِعْلِ وَسَبَقَتْ في مَبَاحِثِ التَّكْلِيفِ
____________________
(2/108)
مسألة يجوز تقديم الأمر يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْأَمْرِ على وَقْتِ الْفِعْلِ خِلَافًا لِمَنْ قال لَا تَكُونُ صِيغَةُ افْعَلْ قبل وَقْتِ الْفِعْلِ أَمْرًا بَلْ يَكُونُ إعْلَامًا وَسَبَقَتْ في مَبَاحِثِ التَّكْلِيفِ مسألة قول الصحابى أمرنا رسول الله إذَا قال الرَّاوِي أَمَرَنَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِكَذَا قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبُ الطَّبَرِيُّ وَجَبَ حَمْلُهُ على الْوُجُوبِ قال وَحَكَى الْقَاضِي أبو الْحَسَنِ الْحَرِيرِيُّ عن دَاوُد أَنَّهُ قال لَا حُجَّةَ فيه حتى يَنْقُلَ لَفْظَ الرَّسُولِ لِاخْتِلَافِ الناس هل الْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ أو النَّدْبَ وَذَكَرَ نَحْوَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ وَجَعَلَهَا مَبْنِيَّةً على أَنَّ الْمَنْدُوبَ ليس مَأْمُورًا بِهِ وَعِنْدَنَا مَأْمُورٌ بِهِ مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ هل يَقْتَضِي الْجَوَازَ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي جَوَازَهُ في قَوْلِ مُعْظَمِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ كما قَالَهُ الْإِمَامُ في التَّلْخِيصِ قال وَأَنْكَرَ هذا الْإِطْلَاقَ وقال الْأَمْرُ إذَا اقْتَضَى إيجَابَ الشَّيْءِ فما الْمَعْنَى بِالْجَوَازِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْإِيجَابِ فَإِنْ قَيَّدْتُمْ الْجَوَازَ بِنَفْسِ الْوُجُوبِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ وَالْخِلَافُ في الْعِبَارَةِ فَإِنَّا لَا نَسْتَحْسِنُ تَسْمِيَةَ الْوُجُوبِ جَوَازًا وَإِنْ عَنَيْتُمْ بِالْجَوَازِ شيئا آخَرَ سِوَى الْوُجُوبِ فَهُوَ مُحَالٌ وَيُؤَوَّلُ إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ مُبَاحٌ وقال شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ الصَّحِيحُ أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يَثْبُتُ حُسْنُ الْمَأْمُورِ بِهِ شَرْعًا وَاتَّفَقُوا على ثُبُوتِ صِفَةِ الْجَوَازِ لِلْمَأْمُورِ بِهِ لِأَنَّ الْحُسْنَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لَا يُثْبِتُ جَوَازَ الْأَدَاءِ حتى يَقْتَرِنَ بِهِ دَلِيلٌ بِدَلِيلِ من ظَنَّ طَهَارَتَهُ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ فإنه مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ شَرْعًا وَلَا تَكُونُ جَائِزَةً إذَا أَدَّاهَا على هذه الصِّفَةِ وَمَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْأَدَاءِ شَرْعًا وَلَا يَكُونُ الْمُؤَدَّى جَائِزًا إذَا أُدِّيَ وَهَذَا مَمْنُوعٌ حُكْمًا وَتَوْجِيهًا
____________________
(2/109)
مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ وَهَلْ يَقْتَضِيهَا شَرْعًا أو لُغَةً يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ على الْخِلَافِ الْآتِي في النَّهْيِ مَسْأَلَةٌ مُطْلَقُ الْأَمْرِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ مُطْلَقُ الْأَمْرِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ كَذَا حَكَاه إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وابن السَّمْعَانِيِّ وابن بَرْهَانٍ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ وَالْبَاجِيُّ في الْأَحْكَامِ وَغَيْرُهُمْ وَخَرَّجُوا على ذلك الْوُضُوءَ الْمُنَكَّسَ وَالطَّوَافَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ نُهِيَ عنه إجْمَاعًا أَمَّا عِنْدَنَا فَنَهْيُ تَحْرِيمٍ وَأَمَّا عِنْدَهُمْ فَنَهْيُ تَنْزِيهٍ وإذا كَانَا مَنْهِيَّيْنِ لم يَكُونَا مَأْمُورَيْنِ لِمَا بين الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ من التَّضَادِّ وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ يَصِحَّانِ لِأَنَّ مُطْلَقَ أَمْرِ الشَّارِعِ يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ وَاَلَّذِي رَأَيْته في كِتَابِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ حِكَايَةَ ذلك عن أبي بَكْرٍ الرَّازِيَّ فَقَطْ ثُمَّ قال وَالصَّحِيحُ أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ كما يُثْبِتُ صِفَةَ الْجَوَازِ وَالْحُسْنِ شَرْعًا يُثْبِتُ انْتِفَاءَ صِفَةِ الْكَرَاهَةِ وقال الْمَازِرِيُّ اخْتَارَ ابن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ كَوْنَهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ وَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ قال وَهِيَ كَمَسْأَلَةِ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ في تَضْمِينِ الْوُجُوبِ لِلْجَوَازِ حتى إذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ بَقِيَ الْجَوَازُ وَلِهَذَا الْأَصْلِ فُرُوعٌ سَبَقَتْ في فَصْلِ الْمَكْرُوهِ وقال ابن تَيْمِيَّةَ في هذه الْمَسْأَلَةِ تَلْبِيسٌ فإن الْأَمْرَ إنَّمَا هو بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ وَلَيْسَ في الْأَمْرِ تَعَرُّضٌ لِكَرَاهَةٍ وَلَا غَيْرِهَا فإذا قَارَنَتْهَا الْكَرَاهَةُ فقال قَائِلٌ صَلِّ صَلَاةً غير مَأْمُورٍ بها كان ذلك تَدْلِيسًا فإن الْأَمْرَ لم يَتَعَرَّضْ لِلْكَرَاهَةِ بَلْ أَمْرٌ بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ فَلَا يُقَالُ هذه الصَّلَاةُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بها
____________________
(2/110)
مَسْأَلَةٌ وُرُودُ صِيغَةِ الْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ هل تُفِيدُ الْوُجُوبَ إذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ من اقْتِضَاءِ صِيغَةِ الْأَمْرِ الْوُجُوبَ فَلَوْ وَرَدَتْ صِيغَةٌ بَعْدَ الْحَظْرِ كَالْأَمْرِ بِحَلْقِ الرَّأْسِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ عليه بِالْإِحْرَامِ وَالْأَمْرُ بِحَمْلِ السِّلَاحِ في صَلَاةِ الْخَوْفِ بَعْدَ تَحْرِيمِ حَمْلِهِ فيها فَهَلْ يُفِيدُ الْوُجُوبَ أَمْ لَا فيه مَذَاهِبُ أَحَدُهَا أَنَّهُ على حَالِهَا في اقْتِضَاءِ الْوُجُوبِ كما لو وَرَدَتْ ابْتِدَاءً وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ في شَرْحِ الْكِفَايَةِ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ عن أبي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وهو كما قال فإنه نَصَرَهُ في كِتَابِهِ وَنَقَلَهُ عن أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا ثُمَّ قال وهو قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ هو قَوْلُ أَهْلِ التَّحْصِيلِ مِنَّا وقال سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَنَصَرَهُ وقال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ إلَيْهِ ذَهَبَ مُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ وَنَقَلَهُ في الْوَجِيزِ عن الْقَاضِي وَاَلَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي كما حَكَاهُ عنه إمَامُ الْحَرَمَيْنِ لو كُنْت من الْقَائِلِينَ بِالصِّيغَةِ لَقَطَعْت بِأَنَّ الصِّيغَةَ الْمُطْلَقَةَ بَعْدَ الْحَظْرِ مُجْرَاةٌ على الْوُجُوبِ وَصَرَّحَ الْمَازِرِيُّ عن الْقَاضِي بِالْوَقْفِ هُنَا كما هُنَاكَ وَحَكَى عن الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَقْوَى تَأْكِيدُ الْوُجُوبِ فيه عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ كَتَأْكِيدِ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ عن تَقَدُّمِ حَظْرٍ حتى إنَّ هذا يُتْرَكُ عن ظَاهِرِهِ بِدَلَائِلَ لَا تَبْلُغُ في الْقُوَّةِ مَبْلَغَ الْأَدِلَّةِ التي يُتْرَكُ لِأَجْلِهَا ظَاهِرُ الْمُجَرَّدِ عن ذلك قال الْمَازِرِيُّ وَهَذَا عَيْنُ ما اخْتَرْته في الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ كما سَبَقَ وَحَكَاهُ أبو الْحُسَيْنِ وَصَاحِبُ الْوَاضِحِ عن الْمُعْتَزِلَةِ وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عن الشِّيعَةِ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ إنَّهُ الْأَقْوَى في النَّظَرِ وقال في الْإِفَادَةِ ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُونَ أو أَكْثَرُهُمْ وَالثَّانِي أَنَّهُ على الْإِبَاحَةِ وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ عن أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَبِهِ جَزَمَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في كِتَابِهِ وَالْخَفَّافُ في كِتَابِ الْخِصَالِ بِأَنَّهُ شَرَطَ لِلْأَمْرِ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَهُ حَظْرٌ وقال صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ إنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ في أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَكَذَا حَكَاهُ عن الشَّافِعِيِّ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ وقال الْقَاضِي صَارَ إلَيْهِ
____________________
(2/111)
الشَّافِعِيُّ في أَظْهَرِ أَجْوِبَتِهِ وَمِمَّنْ نَقَلَهُ عن الشَّافِعِيِّ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ في تَعْلِيقِهِ في بَابِ الْكِتَابَةِ وقال في كِتَابِهِ في أُصُولِ الْفِقْهِ قال الشَّافِعِيُّ في أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَأَوَامِرُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ تَحْتَمِلُ مَعَانِيَ منها الْإِبَاحَةُ كَالْأَوَامِرِ الْوَارِدَةِ بَعْدَ الْحَظْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وإذا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا فإذا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا قال فَنَصَّ على أَنَّ الْأَمْرَ الْوَارِدَ بَعْدَ الْحَظْرِ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ دُونَ الْإِيجَابِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ من أَصْحَابِنَا انْتَهَى وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ لِلشَّافِعِيِّ كَلَامٌ يَدُلُّ عليه وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ هو ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ من تَكَلَّمَ في أُصُولِ الْفِقْهِ وقال سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْإِفَادَةِ إنَّهُ الذي صَارَ إلَيْهِ الْفُقَهَاءُ من أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَطْلَقُوا على أَنَّ ذلك قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَنَّهُ نَصَّ عليه في كَثِيرٍ من كَلَامِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ معه أَنَّهُ مَذْهَبُهُ خِلَافُهُ لَكِنْ قال إلْكِيَا الْهِرَّاسِيِّ الشَّافِعِيُّ يَجْعَلُ تَقَدُّمَ الْحَظْرِ من مُوَلِّدَاتِ التَّأْوِيلِ وَهَذَا منه اعْتِرَافٌ بِأَنَّ تَقْدِيمَ الْحَظْرِ يُوهِنُ الظُّهُورَ وَلَكِنْ لَا يُسْقِطُ أَصْلَ الظُّهُورِ كَانْطِبَاقِ الْعُمُومِ على سَبَبٍ انْتَهَى وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَالْبَاجِيُّ وابن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ إنَّهُ قَوْلُ مَالِكٍ وَلِذَلِكَ احْتَجَّ على عَدَمِ وُجُوبِ الْكِتَابَةِ بِقَوْلِهِ فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا فقال هو تَوْسِعَةٌ لِقَوْلِهِ وإذا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَالثَّالِثُ إنْ كان الْحَظْرُ السَّابِقُ عَارِضًا لِعِلَّةٍ وَسَبَبٍ وَعُلِّقَتْ صِيغَةُ افْعَلْ بِزَوَالِهَا كَقَوْلِهِ وإذا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَكَقَوْلِهِ كُنْت نَهَيْتُكُمْ عن ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَادَّخِرُوا فإن الْحَظْرَ السَّابِقَ إنَّمَا يَثْبُتُ لِسَبَبٍ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ إذَا وَرَدَتْ صِيغَةُ افْعَلْ مُعَلَّقَةً بِرَفْعِهِ دَلَّ في عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ على أَنَّهُ لِدَفْعِ الذَّمِّ فَقَطْ وَيَغْلِبُ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ على الْوَضْعِ وَأَمَّا إنْ كان الْحَظْرُ السَّابِقُ قد عَرَضَ لَا لِعِلَّةٍ وَلَا أَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ عُلِّقَتْ بِزَوَالِ ذلك كَالْجَلْدِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَقِيبَ الزِّنَا بَعْدَ النَّهْيِ عن الْإِيلَامِ فَتَبْقَى صِيغَةُ افْعَلْ على ما دَلَّتْ عليه قبل ذلك فَمَنْ قال إنَّهَا لِلْوُجُوبِ قبل ذلك فَهِيَ لِلْوُجُوبِ بِحَالِهَا وَمَنْ قال إنَّهَا مَوْقُوفَةٌ قال هِيَ أَيْضًا مُتَرَدِّدَةٌ بين
____________________
(2/112)
الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَيُرِيدُ هُنَا أَيْضًا احْتِمَالَ الْإِبَاحَةِ وَلَا تَنْقُصُ الْإِبَاحَةُ بِسَبَبِهَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ هُنَا دَعْوَى عُرْفٍ أو اسْتِعْمَالٍ حتى يُقَالَ بِأَنَّهُ يَغْلِبُ الْعُرْفُ الْوَضْعَ في هذه الصُّورَةِ بِخِلَافِ الْأُولَى بَلْ يَبْقَى التَّرَدُّدُ لَا غَيْرُ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ وقال أَمَّا إذَا أُطْلِقَ غير مُعَلَّلٍ بِعَارِضٍ ثُمَّ تَعَقَّبَهُ لَفْظُ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ فَهُوَ مَحَلُّ التَّرَدُّدِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِمَا تَقَدَّمَ من الْحَظْرِ بِالْكَلَامِ فَإِنْ انْتَفَى التَّعَلُّقُ لم يُؤَثِّرْ قَطْعًا وَيُحْتَمَلُ وَأَمَّا إذَا لم تَرِدْ صِيغَةُ افْعَلْ كَقَوْلِك قال إذَا حَلَلْتُمْ فَأَنْتُمْ مَأْمُورُونَ بِالِاصْطِيَادِ فَهَذَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَالنَّدْبَ وَالْإِبَاحَةَ وَالرَّابِعُ الْوَقْفُ بين الْإِبَاحَةِ وَالْوُجُوبِ وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ عن الْمُتَكَلِّمِينَ وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مع كَوْنِهِ أَبْطَلَ الْوَقْفَ في لَفْظِهِ ابْتِدَاءً من غَيْرِ تَقَدُّمِ حَظْرٍ وقال الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ إنَّهُ الْمُخْتَارُ وقال ابن الْقُشَيْرِيّ إنَّهُ الرَّأْيُ الْحَقُّ وَالْخَامِسُ أَنَّهُ لِلِاسْتِحْبَابِ وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في بَابِ الْكِتَابَةِ من تَعْلِيقِهِ وَالسَّادِسُ أنها تَرْفَعُ الْحَظْرَ السَّابِقَ وَتُعِيدُ حَالَ الْفِعْلِ إلَى ما كان قبل الْحَظْرِ فَإِنْ كان مُبَاحًا كانت لِلْإِبَاحَةِ كَقَوْلِهِ وإذا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا أو وَاجِبًا فَوَاجِبٌ كَقَوْلِهِ فَأْتُوهُنَّ من حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْوَطْءِ وَهَذَا ما اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ من الْحَنَابِلَةِ وَنَسَبَهُ لِلْمُزَنِيِّ قال وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ قَوْله تَعَالَى فإذا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ فإن الصِّيغَةَ رَفَعَتْ الْحَظْرَ وَأَعَادَتْهُ إلَى ما كان أَوَّلًا وَهَذَا هو الْمُخْتَارُ عِنْدِي قُلْت وهو ظَاهِرُ اخْتِيَارِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ فإنه قال كُلُّ ما حُرِّمَ لِحُدُوثِ مَعْنًى فيه وكان قُبَيْلَ حَظْرِهِ غير وَاجِبٍ فِعْلُهُ فإذا وَقَعَ الْأَمْرُ بِهِ بَعْدَ الْحَظْرِ فَالظَّاهِرُ منه الْإِبَاحَةُ وَرَدُّ الشَّيْءِ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى أَلَا تَرَى أَنَّ وَطْءَ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ لم يَكُنْ فَرْضًا عليه ثُمَّ حَرُمَ بِحُدُوثِ الْحَيْضِ فلما قِيلَ فإذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ من حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ لم يَكُنْ ذلك إيجَابًا بَلْ إبَاحَةً كَأَنَّهُ قال فإذا تَطَهَّرْنَ فَهِيَ على الْحَالَةِ الْأُولَى وَكَذَا قَوْلُهُ كُنْت نَهَيْتُكُمْ عن زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا أَيْ فَقَدْ أَبَحْت لَكُمْ
____________________
(2/113)
الْآنَ ما حَظَرْته عَلَيْكُمْ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَقَدُّمَ الْحَظْرِ على الْأَمْرِ هل هو قَرِينَةٌ تُوجِبُ خُرُوجَهُ عن مُقْتَضَاهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَمْ لَا فَالْقَائِلُونَ بِالْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ لَا يَرَوْنَهُ قَرِينَةً مُوجِبَةً لِلْخُرُوجِ عن ذلك وَالْقَائِلُونَ بِالْإِبَاحَةِ يَرَوْنَ تَقَدُّمَ الْحَظْرِ قَرِينَةً خَارِجَةً لِلْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عن مُقْتَضَاهُ وَهُمْ مُطَالَبُونَ بِدَلِيلٍ على ذلك وَلَا مُسْتَنَدَ لهم إلَّا دَعْوَى الْفَرْقِ في صَرْفِ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ عن مُقْتَضَاهُ أو دَعْوَى أَكْثَرِيَّةِ الِاسْتِعْمَالِ في ذلك وَطَرِيقُهُمْ في ذلك إيرَادُ النَّظَائِرِ كَقَوْلِهِ وإذا حَلَلْتُمْ فإذا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ وَإِلَّا فَلَا إشْكَالَ في إمْكَانِ الِانْتِقَالِ من بَعْضِ الْأَحْكَامِ إلَى بَعْضٍ كَيْفَ كانت قال وَمِنْ هذا تَبَيَّنَ لَك أَنَّ ما قَالَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ في هذه وهو مِمَّنْ اخْتَارَ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْوُجُوبِ قَائِمٌ وَالْوُجُودُ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا وَقَرَّرَ كَوْنَ الْمَوْجُودِ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ من الْحَظْرِ إلَى الْوُجُوبِ ليس بِقَوِيٍّ لِأَنَّ الْإِمْكَانَ جَائِزٌ من غَيْرِ شَكٍّ وَإِنَّمَا الْمُخَالِفُ يَدَّعِي أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ وَالْعُرْفَ دَالَّانِ على صَرْفِ الْأَمْرِ على ظَاهِرِهِ في هذا الْمَحَلِّ وَهَذَا لَا يُنَافِيهِ جَوَازُ الِانْتِقَالِ وَإِنَّمَا الطَّرِيقُ مُنَازَعَةُ الْخَصْمِ في ذلك وَإِلْزَامُهُ لِلْحُجَّةِ على ما قال وَأَمَّا النَّاظِرُ في نَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى اعْتِبَارِ الْإِطْلَاقَاتِ وَأَمْرِ الْعُرْفِ فَإِنْ صَحَّ عِنْدَهُ ما ادَّعَاهُ الْمُخَالِفُ قال بِهِ وَإِلَّا فَلَا تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ جَعَلَ صَاحِبُ الْوَاضِحِ الْمُعْتَزِلِيُّ وَصَاحِبُ الْمَصَادِرِ الشِّيعِيُّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا كان الْحَظْرُ السَّابِقُ شَرْعِيًّا قَالَا فَإِنْ كان عَقْلِيًّا فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ مَدْلُولُهُ عَمَّا كان لِوُرُودِهِ ابْتِدَاءً وَصَرَّحَ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ في الْحَظْرِ بين الْعَقْلِيِّ وَالشَّرْعِيِّ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ
____________________
(2/114)
وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ لِلْمَسْأَلَةِ حَالَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُبَاحًا في أَصْلِهِ إمَّا بِحُكْمِ الْعَقْلِ على الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَصْلَ في مُجَوِّزَاتِ الْعُقُولِ مُبَاحٌ أو بِتَوَقُّفٍ من الشَّرْعِ على ذلك ثُمَّ يَرِدُ حَظْرٌ مُعَلَّقٌ بِغَايَةٍ أو شَرْطٍ أو عِلَّةٍ فإذا وَرَدَ افْعَلْ بَعْدَ زَوَالِ ما عَلَّقَ الْحَظْرَ بِهِ فإنه يُفِيدُ الْإِبَاحَةَ وَيَرْفَعُ الْحَظْرَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَرِدَ حَظْرٌ مُبْتَدَأٌ غَيْرُ مُعَلَّلٍ بَعْلَةٍ عَارِضَةٍ وَلَا مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ وَلَا غَايَةٍ ثُمَّ يَرِدَ بَعْدَهُ صِيغَةُ الْأَمْرِ فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَمِثْلُهُ بِالْكِتَابَةِ قال وَيَجُوزُ رُجُوعُهَا إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ مَنْعَ الْكِتَابَةِ إنَّمَا كان لِدُخُولِهَا في الْغَرَرِ وَحَظْرُ الْغَرَرِ مُبْتَدَأٌ الثَّانِي ليس الْمُرَادُ بِالْحَظْرِ في هذه الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا فَقَطْ بَلْ الْمُرَادُ ذلك أو أَنَّهُ كان من حَقِّهِ التَّحْرِيمُ فإن الشَّافِعِيَّ رضي اللَّهُ عنه مَثَّلَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَجَوَازُ الْكِتَابَةِ على خِلَافِ الْقِيَاسِ وَمِثْلُ ذلك الْإِجَارَةُ وَالْمُسَاقَاةُ الثَّالِثُ قال الْمَازِرِيُّ تَرْجَمَةُ الْمَسْأَلَةِ بِالْأَمْرِ الْوَارِدِ بَعْدَ الْحَظْرِ لِلْإِبَاحَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ كَالْمُتَنَاقِضِ إذْ الْمُبَاحُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تَقْتَضِي كَوْنَهُ مَأْمُورًا بِهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَقُولَ افْعَلْ إذَا وَرَدَ بَعْدَ الْحَظْرِ وقال عبد الْجَلِيلِ الرَّبَعِيُّ في شَرْحِ اللَّامِعِ هذه الْعِبَارَةُ رَغِبَ عنها الْقَاضِي وقال الْأَوْلَى فيها أَنْ يُقَالَ افْعَلْ بَعْدَ الْحَظْرِ لِأَنَّ افْعَلْ يَكُونُ أَمْرًا تَارَةً وَغَيْرَ أَمْرٍ وَالْمُبَاحُ لَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ وَإِنَّمَا هو مَأْذُونٌ فيه الرَّابِعُ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْإِبَاحَةِ بِأَنَّ تَقَدُّمَ الْحَظْرِ قَرِينَةٌ صَرَفَتْ لِلْأَمْرِ عن الْوُجُوبِ وَعَارَضَ ابن عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ فقال إذَا رَاعَيْتُمْ الْحَظْرَ الْمُتَقَدِّمَ وَجَعَلْتُمُوهُ قَرِينَةً صَارِفَةً له عن مُقْتَضَاهُ فَكَانَ من حَقِّكُمْ أَنَّهُ يَكُونُ تَهْدِيدًا وَوَعِيدًا وَيَكُونُ قَرِينَةُ الْحَظْرِ صَارِفَةً له إلَى التَّهْدِيدِ حتى تَكُونَ الْقَرِينَةُ مُبَيِّنَةً لِحُكْمٍ من جِنْسِهَا ثُمَّ يَلْزَمُهُمْ النَّهْيُ إذَا وَرَدَ بَعْدَ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ الْمُتَقَدِّمُ قَرِينَةً تَصْرِفُهُ عن ظَاهِرِهِ إلَى الْكَرَاهَةِ وَأُجِيبَ عن الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ إنَّمَا لم يُحْمَلْ على التَّهْدِيدِ لِئَلَّا يَبْطُلَ مَقْصُودُ الْأَمْرِ فَحُمِلَ على الْإِبَاحَةِ مُرَاعَاةً له وَصُرِفَ عن الْوُجُوبِ مُرَاعَاةً لِلْقَرِينَةِ وَلِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَقُولَ ما رَاعَى الْأَمْرَ فَلَا بُدَّ من جَوَابٍ صَحِيحٍ الْخَامِسُ قِيلَ يُحْتَاجُ إلَى الْجَمْعِ بين هذه الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ ما كان
____________________
(2/115)
مَمْنُوعًا منه لو لم يَجِبْ فإذا جَازَ وَجَبَ كَالْخِتَانِ وَقَطْعِ الْيَدِ في السَّرِقَةِ وَقَضِيَّةُ هذا الْجَزْمِ بِأَنَّهُ لِلْوُجُوبِ قُلْنَا الْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ مَفْرُوضَةٌ في شَيْءٍ كان مَمْنُوعًا على تَقْدِيرِ عَدَمِ الْوُجُوبِ وَالْأُصُولِيَّةُ فِيمَا هو مَمْنُوعٌ منه لَا على هذه الصُّورَةِ مَسْأَلَةٌ النَّهْيُ الْوَارِدُ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ أَمَّا النَّهْيُ الْوَارِدُ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَهُوَ كَالنَّهْيِ الْمُطْلَقِ بِلَا خِلَافٍ قَالَهُ صَاحِبُ الْوَاضِحِ وَالْمَصَادِرِ وَأَمَّا الْوَارِدُ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَمَنْ قال هُنَاكَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ قال هُنَا يُفِيدُ التَّحْرِيمَ وَحَكَى في الْمَنْخُولِ فيه الِاتِّفَاقَ وَمَنْ قال هُنَاكَ بِالْإِبَاحَةِ فَاخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ من طَرَدَ الْخِلَافَ وَحَكَمَ بِالْإِبَاحَةِ وَمِنْهُمْ من قال لَا تَأْثِيرَ هُنَا لِلْوُجُوبِ الْمُتَقَدِّمِ بَلْ لِلنَّهْيِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ وَبِهِ قال الْأُسْتَاذُ وقال لَا يَنْهَضُ الْوُجُوبُ السَّابِقُ قَرِينَةً في حَمْلِ النَّهْيِ على رَفْعِ الْوُجُوبِ وَادَّعَى الْإِجْمَاعَ في تِلْكَ وَتَبِعَ في دَعْوَى الْإِجْمَاعِ الْإِمَامَ في التَّلْخِيصِ وهو مَمْنُوعٌ فإن الْخِلَافَ ثَابِتٌ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَمَّا أنا فَأَسْحَبُ ذَيْلَ الْوَقْفِ عليه كما قَدَّمْته في صِيغَةِ الْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وما أَرَى الْمُخَالِفِينَ الْحَامِلِينَ الْأَمْرَ بَعْدَ الْحَظْرِ لِلْإِبَاحَةِ يُسَلِّمُونَ ذلك وَعَلَى هذا فَالْفَرْقُ بين الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَنَّ النَّهْيَ لِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ وَالْأَمْرُ لِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ أو اعْتِنَاءُ الشَّارِعِ بِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ أَكْثَرُ من اعْتِنَائِهِ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ لِأَنَّ الْمَفَاسِدَ في الْوُجُودِ أَكْثَرُ وَلِأَنَّ النَّهْيَ عن الشَّيْءِ مُوَافِقٌ لِلْأَصْلِ الدَّالِّ على عَدَمِ الْفِعْلِ بِخِلَافِ الْأَمْرِ مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ عَقِيبَ الِاسْتِئْذَانِ الْأَمْرُ عَقِيبَ الِاسْتِئْذَانِ وَالْإِذْنِ حُكْمُهُ في إفَادَةِ الْوُجُوبِ كَالْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ مِثْلَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ على فِعْلِ شَيْءٍ فَيَقُولَ افْعَلْ ذَكَرَهُ في الْمَحْصُولِ وهو حَسَنٌ نَافِعٌ في الِاسْتِدْلَالِ على وُجُوبِ التَّشَهُّدِ بِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إذْ سَأَلُوهُ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك قال
____________________
(2/116)
قُولُوا الحديث أَمَّا النَّهْيُ عَقِيبَ الِاسْتِئْذَانِ كَقَوْلِ سَعْدٍ أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ قال لَا وَقَوْلُهُمْ أَيَنْحَنِي بَعْضُنَا لِبَعْضٍ قال لَا فَالْأَصْلُ في هذا الِاسْتِفْهَامِ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عن الْخَبَرِ وقد تَأْتِي قَرِينَةٌ دَالَّةٌ على إرَادَةِ الِاسْتِفْهَامِ عن الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إمَّا الْوُجُوبُ أو الْجَوَازُ أو الِاسْتِحْبَابُ وقد يَكُونُ اسْتِرْشَادًا أَيْضًا كما مَثَّلْنَا وَالظَّاهِرُ فيها أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ عن الْجَوَازِ وَلِذَلِكَ كان الِانْحِنَاءُ حَرَامًا قال في الْبَحْرِ وَتَحْرُمُ الْوَصِيَّةُ بِمَا زَادَ على الثُّلُثِ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ خِلَافُهُ وَيُتَّجَهُ تَخْرِيجُهُ على هذا الْأَصْلِ مسألة ورود الأمر مقيدا بمرة أو بتكرار الأمر إن ورد مقيدا بمرة أو بتكرار حمل عليه قطعا وإن ورد مقيدا بصفة أو شرط فسيأتي وإن ورد مطلقا عاريا عن القيود فاختلفوا في اقتضائه التكرار وعدمه وسواء قلنا إنه للوجوب أو الطلب على مذاهب أحدها أنه لا يدل بذاته لا على التكرار ولا على المرة وإنما يفيد طلب الماهية من غير إشعار بالوحدة والكثرة ثم لا يمكن إدخال الماهية في الوجود بأقل من مرة فصارت المرة من ضروريات الإتيان بالمأمور به إلا أن الأمر لا يدل عليها بذاته بل بطريق الالتزام وقال الخطابي في المعالم إنه قول أكثر الناس وقال ابن السمعاني وهو قول أكثر أصحابنا وقال إلكيا الطبري إنه الصحيح وهو رأي القاضي على تولعه بالوقف في أصل صيغة الأمر والعموم واختاره الإمام فخر الدين والآمدي وأتباعهما ونقله في المعتمد عن الأكثرين وقال صاحب اللباب من الحنفية والباجي من المالكية هو قول عامة
____________________
(2/117)
أصحابنا وحكى ابن السمعاني خلافا عن القائلين بأنه لا يفيد التكرار منهم من قال لا يحتمله أصلا ومنهم من قال يحتمله قال وهو الأولى وهو ظاهر كلام الإمام في البرهان فإنه قال إنه في الزائد على المرة متوقف لا ننفيه ولا نثبته وقال أبو زيد الدبوسي الصحيح أنه لا يقتضي التكرار ولا يحتمله ولكن يحتمل كل الفعل المأمور به ويقتضيه غير أن الكل لا يثبت إلا بدليل وعليه دلت مسائل علمائنا وكذا قال شمس الأئمة السرخسي والثاني أنه للتكرار المستوعب لزمان العمر إجراء له مجرى النهي إلا أن يدل دليل على أنه أريد مرة واحدة وبه قال الأستاذ أبو إسحاق ونقله الشيخ أبو إسحاق عن شيخه أبي حاتم القزويني وعن القاضي أبي بكر وذكر الأصفهاني أن العالمي نقله عن أكثر الشافعية وحكاه شمس الأئمة السرخسي عن المزني ونقله في المنخول عن أبي حنيفة والمعتزلة ونقله الباجي عن ابن خويز منداد وحكاه ابن القصار عن مالك وحكاه أبو الخطاب الحنبلي عن شيخهم لكن شرط هذا القول الإمكان دون أزمنة قضاء الحاجة واليوم وضروريات الإنسان كما صرح به أبو الحسين بن القطان والشيخ أبو إسحاق وإمام الحرمين وابن الصباغ والآمدي وغيرهم قال الصفي الهندي ثم لا يخفى عليك أنه ليس المراد من التكرار هنا معناه الحقيقي وهو إعادة الفعل الأول فإن ذلك غير ممكن من المكلف وإنما المراد تحصيل مثل الفعل الأول واعلم أن بعضهم يعبر عن التكرار بالعموم لأن أوامر الشرع مما يستلزم فيه العموم التكرار إن قلنا إن العام في الأشخاص عام في الأحوال والأزمنة والثالث أنه نص في المرة الواحدة فقط ولا يحتمل التكرار وإنما يحمل عليه بدليل وحكاه في التلخيص عن الأكثرين والجماهير من الفقهاء وقال ابن فورك إنه المذهب قال أبو الحسين بن القطان وهو مذهب الشافعي وأصحابه وحذا قال الغزالي في المنخول وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني في كتابه في أصول الفقه إنه هو الذي يدل عليه كلام الشافعي في الفروع قال لأنه قال في الطلاق إذا قال لزوجته إذا دخلت الدار فأنت طالق لم تطلق إلا طلقة واحدة بالدخول إلى الدار لأن إطلاق ذلك اقتضى مرة واحدة قال وعليه أكثر الأصحاب وهو الصحيح الأشبه بمذاهب العلماء قلت بل نص عليه في الرسالة صريحا في باب الفرائض المنسوبة إلى سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم معها قال فكان ظاهر قوله فاغسلوا وجوهكم أقل ما يقع
____________________
(2/118)
عليه اسم الغسل مرة واحتمل أكثر وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء مرة فوافق ظاهر القرآن ولو لم يرد الحديث به لاستغني عنه بظاهر القرآن انتهى وممن اختاره ابن الصباغ في العدة ونقله الأستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق وسليم الرازي وابن برهان في الأوسط عن أكثر أصحابنا وأبي حنيفة وأكثر الفقهاء وحكاه الشيخ أبو إسحاق عن اختيار شيخه القاضي أبي الطيب ونقله القاضي عبد الوهاب عن أصحاب مالك ونقله صاحب المصادر عن شيوخ المعتزلة وأبي الحسن الكرخي وقال ظاهر قول الشافعي يدل عليه قيل وأكثر النقلة لا يفرقون بين هذا والقول الأول وليس غرضهم إلا نفي التكرار والخروج عن العهدة بالمرة ولذلك لم يحك أحد المذهب المختار مع حكاية هذا وإنما هو خلاف في العبارة قلت بينهما فرق من جهة أن دلالته على المرة هل هي بطريق المطابقة والالتزام وإن عدم دلالته على التكرار هل هي لعدم احتمال اللفظ له أصلا أو لأنه يحتمله ولكن لما لم يتعين توقف فيه والرابع أنه يدل على المرة الواحدة قطعا ولا ينبئ عن نفي ما عداها ولكن يتردد الأمر في الزائد على المرة الواحدة وهو الذي ارتضاه القاضي كما نقله إمام الحرمين في التلخيص قال والفرق بين هذا والذي قبله أن الأولين قطعوا بأن الأمر يحمل على المرة الواحدة ولا يحتمل معنى غيرها فافهم الفصل بين هذه المذاهب قال الصفي الهندي القائلون باقتضائه للمرة الواحدة اختلفوا فمنهم من قال يقتضيها لفظا ومنهم من نفى ذلك وزعم أن اقتضاءه لها إنما هو بحسب الدلالة المعنوية وهي أنه لا يفيد إلا الطلب بتحصيل الماهية من غير إشعار بالوحدة والكثرة لكن لما لم يمكن تحصيلها بدون المرة الواحدة قلنا دل عليها الأمر ضرورة بخلاف الكثرة فإنها لا تدل عليها لفظا ولا معنى قال وهذا اختيار أبي الحسين البصري والإمام فخر الدين ومنهم من قال إن مقتضى الصيغة الامتثال والمرة الواحدة لا بد منها وأما الزائد عليها فيتوقف فيه وهو اختيار إمام الحرمين وإليه ميل الغزالي انتهى وهذا الأخير حكاه صاحب المصادر عن الشريف المرتضى وقال إنه
____________________
(2/119)
الصحيح والذي في البرهان للإمام أنه يتضمن الامتثال بالمرة وهو في الزيادة عليها على الوقف بتوقف على القرينة وهو يرد نقل الآمدي عنه الثالث فاعلمه والخامس الوقف في الكل وهو رأي القاضي أبي بكر وجماعة الواقفية بمعنى أنه يحتمل المرة ويحتمل لعدد محصور زائد على المرة والمرتين ويحتمل التكرار في جميع الأوقات كذا صرح به في التقريب ثم ادعى قيام الإجماع على انتفاء ما عدا التكرار والمرة بالحصر وتوقف حينئذ بالمرة والتكرار ثم ادعى الاتفاق على أن فعل المرة متفق عليه وهو واضح ثم قال تفريعا على القول بعدم الوقف إن المفهوم فعل مرة واحدة هذا تحقيق مذهب القاضي ونقل بعضهم قول الوقف وقال هو محتمل لشيئين أن يكون مشتركا بين التكرار والمرة فيتوقف إعماله في أحدهما على قرينة والثاني أنه لأحدهما ولا نعرفه فيتوقف لجهلنا بالواقع والسادس أنه إن كان فعلا له غاية يمكن إيقاعه في جميع المدة فيلزمه في جميعها وإلا فلا فيلزمه الأول حكاه الهندي عن عيسى بن أبان ونقل في المعتمد عن أبي عبد الله البصري أن ورود النسخ والاستثناء على الأمر يدلان على أنه قد أريد به التكرار والسابع إن كان الطلب راجعا إلى قطع الواقع كقولك في الأمر الساكن تحرك فللمرة وإن رجع إلى اتصال الواقع واستدامته كقولك في الأمر المتحرك تحرك فللاستمرار والدوام ويجيء هذا في النهي أيضا وهو مذهب حسن مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ أو صِفَةٍ أو وَقْتٍ أَمَّا الْأَمْرُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ أو صِفَةٍ أو وَقْتٍ نَحْوُ إنْ كان زَانِيًا فَارْجُمْهُ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ فَهَلْ يَقْتَضِي تَكْرَارَ الْمَأْمُورِ بِهِ بِتَكْرَارِهَا من قال الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَهَاهُنَا أَوْلَى وهو عِنْدَكُمْ آكَدُ التَّكْرَارِ من الْمُجَرَّدِ وَمَنْ قال لَا يَقْتَضِيهِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَاهُنَا على وَجْهَيْنِ حَكَاهُ الصَّيْرَفِيُّ وابن الْقَطَّانِ وَالشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ في أُصُولِهِمْ وَحَرَّرَ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وَالْهِنْدِيُّ مَحَلَّ النِّزَاعِ الْمُعَلَّقِ إمَّا أَنْ يَثْبُتَ كَوْنُهُ عِلَّةً لِوُجُوبِ الْفِعْلِ مِثْلُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا وَقَوْلُنَا إنْ كان هذا
____________________
(2/120)
الْمَائِعُ خَمْرًا فَهُوَ حَرَامٌ فإن الْحُكْمَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ اتِّفَاقًا من الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ وَإِنْ لم يَثْبُتْ كَوْنُهُ عِلَّةً بَلْ تَوَقَّفَ الْحُكْمُ عليه من غَيْرِ تَأْثِيرٍ له كَالْإِحْصَانِ الذي يَتَوَقَّفُ عليه الرَّجْمُ فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ انْتَهَى وَبِهِ صَرَّحَ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ وهو قَضِيَّةُ كَلَامِ أبي الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ فإنه قال الْمُرَادُ هُنَا بِالصِّفَةِ ما عَلَّقَ بِهِ الْحُكْمَ من غَيْرِ أَنْ يَتَنَاوَلَ لَفْظَ تَعْلِيلٍ وَلَا شَرْطٍ كَقَوْلِهِ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ وَجَزَمَ بَعْدَ ذلك بِالتَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ جَرَيَانُ الْخِلَافِ مُطْلَقًا وقد يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْآمِدِيَّ فَرَضَ الْكَلَامَ مع الْقَائِلِينَ بِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ على الْوَصْفِ يُفِيدُ الْعِلِّيَّةَ وَالْإِمَامُ تَكَلَّمَ في أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مع الْمُخَالِفِ في الْمَوْضِعَيْنِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعَلَّقَ على سَبَبٍ كَ أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ واقطعوا ( ( ( و ) ) ) واجلدوا ( ( ( اقطعوا ) ) ) في الْآيَتَيْنِ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ اتِّفَاقًا وَالْمُعَلَّقُ على شَرْطٍ هو مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَأَمَّا تَكْرَارُ الْأَمْرِ بِالتَّطْهِيرِ بِتَكَرُّرِ الْجَنَابَةِ وَتَكْرَارُ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ بِتَكَرُّرِ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ فَيَرْجِعُ إمَّا إلَى السَّبَبِيَّةِ أو بِدَلِيلٍ من خَارِجٍ وَيُعْرَفُ السَّبَبُ بِمُنَاسَبَتِهِ أو بِعَدَمِ دُخُولِ أَدَاةِ الشَّرْطِ عليه وَجَعَلَ الْغَزَالِيُّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ في الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ قال فَأَمَّا الْعَقْلِيَّةُ فإن الْحُكْمَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهَا اتِّفَاقًا ثُمَّ في الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ أَحَدُهَا أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي فِعْلَ مَرَّةٍ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ على التَّكْرَارِ قال أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ إنَّهُ أَنَظْرُ الْقَوْلَيْنِ وقال ابن فُورَكٍ إنَّهُ الْأَصَحُّ وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَالشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ إنَّهُ الصَّحِيحُ كَالْمُطْلَقِ وَنَقَلَهُ في الْمُعْتَمَدِ عن أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَكَذَا قَالَهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ وزاد أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا عبد اللَّهِ الْبَصْرِيَّ وقال السَّرَخْسِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ إنَّهُ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ وَنَقَلَهُ في الْمُلَخَّصِ عن أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ من الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْأُصُولِيِّينَ وَرُبَّمَا نُسِبَ لِلشَّافِعِيِّ قال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ لِأَنَّهُ قال فِيمَا لو قال لِامْرَأَتِهِ كُلَّمَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنَّهَا تَطْلُقُ بِكُلِّ دَخْلَةٍ وَلَوْ قال إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وإذا
____________________
(2/121)
طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَنَّ ذلك يُحْمَلُ على فِعْلِ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فَفَرَّقَ بين إذَا وكلما وَهَذَا مَوْضِعُ اللِّسَانِ فَدَلَّ على أَنَّ إحْدَاهُمَا لِلتَّكْرَارِ وَالْأُخْرَى لَا تَقْتَضِيهِ وَاخْتَارَ هذا الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وَالثَّانِي أنها تَقْتَضِيَهُ كَالنَّهْيِ قال ابن الْقَطَّانِ قال أَصْحَابُنَا وهو أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ قال في التَّيَمُّمِ لِكُلِّ صَلَاةٍ لِمَا قال اللَّهُ تَعَالَى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وَكُلُّ من قام وَجَبَ عليه الْوُضُوءُ قال فلما تَوَضَّأَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِلصَّلَوَاتِ وُضُوءًا وَاحِدًا دَلَّنَا على أَنَّ الْمُرَادَ من ذلك في الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ وَبَقِيَ في التَّيَمُّمِ في الظَّاهِرِ وَلِأَنَّهُ يقول بِالْعُمُومِ وَهَذَا عَامٌّ في سَائِرِ الْأَوْقَاتِ قال وأبو بَكْرٍ خَرَّجَهَا على وَجْهَيْنِ ثُمَّ قال وَالْأَقْيَسُ أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ وَالْأَظْهَرُ على الْمَذَاهِبِ التَّكْرَارُ انْتَهَى وَقَوْلُهُ وَالْأَظْهَرُ هو من كَلَامِ أبي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ كما رَأَيْته في كِتَابِهِ فَاعْلَمْهُ وَحَكَى هذا الِاسْتِدْلَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَرَدَّهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ أَيْ مُحْدِثِينَ بِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ وَعَلَى هذا يَسْتَوِي حُكْمُ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ وقال ابن فُورَكٍ ما تَعَلَّقُوا بِهِ من احْتِجَاجِ الشَّافِعِيِّ في التَّيَمُّمِ فَلَا حُجَّةَ فيه لِأَنَّ وُجُوبَ تَكْرِيرِ التَّيَمُّمِ لَا يَصْلُحُ الِاسْتِدْلَال عليه بِذَلِكَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَصِحَّ وُجُوبُ تَكْرِيرِ الصَّلَاةِ فَيُجْرَى أَمْرُ التَّيَمُّمِ على ما يُجْرَى عليه أَمْرُهَا وَالثَّالِثُ إنْ كان الشَّرْطُ مُنَاسِبًا لِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عليه بِحَيْثُ يَكُونُ عِلَّتُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا وَكَآيَةِ الْقَذْفِ وَنَحْوِهِ فإنه يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ لِلِاتِّفَاقِ على أَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّلَ يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِهَا وَإِنْ لم يَكُنْ كَذَلِكَ لم يَتَكَرَّرْ إلَّا بِدَلِيلٍ من خَارِجٍ وَالرَّابِعُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عليه من جِهَةِ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ لم يُوضَعْ اللَّفْظُ له وَلَكِنْ يَدُلُّ من جِهَةِ الْقِيَاسِ بِنَاءً على الصَّحِيحِ أَنَّ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ على الْوَصْفِ يُشْعِرُ بِالْعِلِّيَّةِ وَاخْتَارَهُ في الْمَحْصُولِ وَالْبَيْضَاوِيُّ في الْمِنْهَاجِ وَالْخَامِسُ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَالْمُعَلَّقُ بِصِيغَةٍ يَقْتَضِيهِ من طَرِيقِ الْقِيَاسِ وهو قَضِيَّةُ كَلَامِ الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ الذي يَصِحُّ وَارْتَضَاهُ الْقَاضِي أَنَّ الْأَمْرَ الْمُقَيَّدَ بِشَرْطٍ لَا يَتَضَمَّنُ تَكْرَارَ
____________________
(2/122)
الِامْتِثَالِ عِنْدَ تَكَرُّرِ الشَّرْطِ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي مَرَّةً وَاحِدَةً وهو على الْوَقْفِ فِيمَا عَدَاهَا وَصَرَّحَ بَعْدَ ذلك بِالتَّكْرَارِ في الْعِلِّيَّةِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ كما فَصَّلَ الْآمِدِيُّ في الصِّيغَةِ التَّفْصِيلَ السَّابِقَ فَصَّلَ الْقُرْطُبِيُّ في الشَّرْطِ فقال إنْ اقْتَضَى التَّكْرَارَ نَحْوُ كُلَّمَا جَاءَك وَمَتَى ما جَاءَك فَأَعْطِهِ فإنه يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِحُكْمِ الْقَرِينَةِ وَإِنْ لم يَقْتَضِهِ فَلَا تَخْرُجُ صِيغَتُهُ عن مَوْضُوعِهَا الْأَصْلِيِّ قال إلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ مَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى الشَّرْطِ هل تَدُلُّ على فِعْلِ الشَّرْطِ مُؤَثِّرًا كَالْعِلَّةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ إلَّا على كَوْنِهِ أَمَارَةً على جَوَازِ الْفِعْلِ وَالْعِلَّةُ وُضِعَتْ مُؤَثِّرَةً جَالِبَةً وَالْخَصْمُ يقول ما يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ يَدُلُّ على كَوْنِهِ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ هذا كُلُّهُ في الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَمَّا في تَصَرُّفِ الْمُكَلَّفِينَ فَلَا يَقْتَضِي تَكْرَارًا لِمُجَرَّدِهِ وَإِنْ كان عِلَّةً فإنه لو قال أَعْتَقْت غَانِمًا لِسَوَادِهِ وَلَهُ عَبِيدٌ آخَرُونَ سُودٌ لم يُعْتَقُوا قَطْعًا وَالشَّرْطُ أَوْلَى كَقَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فإذا دَخَلَتْ مَرَّةً وَقَعَ الْمُعَلَّقُ عليه وَانْحَلَّتْ الْيَمِينُ ثُمَّ لَا يَتَعَدَّدُ بِتَكَرُّرِ الْمُعَلَّقِ عليه إلَّا في كُلَّمَا وَمِنْهُ يَتَبَيَّنُ فَسَادُ قَوْلِ بَعْضِهِمْ يَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ فيه هذا الْخِلَافُ الْأُصُولِيُّ مَسْأَلَةٌ أَمَّا إذَا تَكَرَّرَ لَفْظُ الْأَمْرِ نَحْوُ صَلِّ ثَلَاثًا صَلِّ ثَلَاثًا فَإِنْ قُلْنَا في الْأَمْرِ الْوَاحِدِ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَهَاهُنَا هو تَأْكِيدٌ قَطْعًا وَإِنْ قُلْنَا إنَّ مُطْلَقَهُ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَفِي تَكَرُّرِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَأْكِيدٌ له فَلَا يَقْتَضِي من الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ هو قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَنَسَبَهُ ابن فُورَكٍ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وابن الصَّبَّاغِ لِلصَّيْرَفِيِّ وقد رَأَيْت التَّصْرِيحَ بِهِ في كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ فقال مَتَى خُوطِبْنَا بِإِيجَابِ شَيْءٍ وَكُرِّرَ لم يَتَكَرَّرْ الْفِعْلُ لِتَكَرُّرِ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ في مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَالدَّلِيلُ عليه حَدِيثُ الْأَقْرَعِ بن حَابِسٍ في الْحَجِّ وَقَوْلُهُ إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الْآيَةَ لَمَّا أَمَرَ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ وَأَنَّهُ يَغْسِلُ كُلَّ الْأَعْضَاءِ لِلْجَنَابَةِ لم يَجِبْ أَنْ يَغْسِلَ الْأَعْضَاءَ مَرَّتَيْنِ من أَجْلِ الْحَدَثِ أو الْجَنَابَةِ لِأَنَّهُ أَمَرَ من قام إلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَدْخُلَ فيها بِالصَّلَاةِ التي وَضَعَهَا ولم يَجْعَلْ اللَّهُ تَعَالَى الْوُضُوءَ من الْحَدَثِ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْحَدَثَ إنَّمَا هو عَلَمٌ لِنَقْضِ الطَّهَارَةِ لَا لِإِيجَابِهَا وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَكَانَ إذَا
____________________
(2/123)
أَحْدَثَ وَجَبَ أَنْ يَتَطَهَّرَ لَا لِلصَّلَاةِ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الطَّهَارَةَ لِلصَّلَاةِ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ وَلَوْ كان من أَجْلِ الْحَدَثِ لَلَزِمَ تَكْرَارُ الْغُسْلِ كما يَلْزَمُ من أُمِرَ إنْ فَعَلَ شيئا من أَجْلِ شَيْءٍ وَفَعَلَ مثله من أَجْلِ غَيْرِهِ كَأَمْرِنَا بِالْفِدْيَةِ إذَا حَلَقَ وإذا لَبِسَ نَعْلَيْهِ وَبِهِ جَزَمَ أبو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ في تَمْهِيدِهِ وَالثَّانِي أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ فَيَقْتَضِي الْأَمْرَ بِتَكْرِيرِ الْفِعْلِ وَنَسَبَهُ ابن الصَّبَّاغِ لِأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ له وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ وقال ابن بَرْهَانٍ إنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَحَكَاهُ الْهِنْدِيُّ عن الْأَكْثَرِينَ وَنَسَبَهُ صَاحِبُ الْوَاضِحِ الْمُعْتَزِلِيُّ لِعَبْدِ الْجَبَّارِ وَنَسَبَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ لِأَهْلِ الرَّأْيِ وَقَطَعَ بِالْأَوَّلِ وقال الْبَاجِيُّ هو قَوْلُ جَمَاعَةٍ من شُيُوخِنَا وهو ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَامَّةُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَنَقَلَ وَجْهًا ثَالِثًا وهو أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ على التَّأْكِيدِ وَالتَّكْرَارِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَنَسَبَهُ لِابْنِ فُورَكٍ وَرَأَيْت في كِتَابِهِ أَنَّهُ الصَّحِيحُ وَهَذَا قَوْلُ الْوَقْفِ الذي حَكَاهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُ عن الْوَاقِفِيَّةِ أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بين التَّأْكِيدِ وَغَيْرِهِ فَيَتَوَقَّفُ على الْقَرِينَةِ قال وَكَلَامُ الْقَاضِي مُتَرَدِّدٌ فَتَارَةً يَمِيلُ إلَى الْوَقْفِ وهو الصَّحِيحُ وَتَارَةً يقول يَقْتَضِي إنْشَاءً لَا مُتَجَدِّدًا انْتَهَى وَمِمَّنْ حَكَى الْوَقْفَ عنه أبو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ في هذه الْمَسْأَلَةِ من قَوْلِ الشَّافِعِيِّ في الْفُرُوعِ فِيمَا إذَا قال أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ ولم يَكُنْ له في الثَّانِيَةِ نِيَّةٌ هل يَقْتَضِي التَّأْكِيدَ أو الِاسْتِئْنَافَ قَوْلَانِ وَلِمَحَلِّ الْخِلَافِ شُرُوطٌ أَحَدُهَا أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ ما يَمْنَعُ التَّكْرَارَ فَإِنْ كان فَهُوَ لِلتَّأْكِيدِ قَطْعًا كَالْأَمْرِ بِالْقَتْلِ وَالْعِتْقِ إذَا تَكَرَّرَا في شَخْصٍ وَاحِدٍ فإنه لَا يُمْكِنُهُ قَتْلُهُ وَعِتْقُهُ مَرَّتَيْنِ ذَكَرَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ الثَّانِي أَنْ يَرِدَ التَّكْرَارُ قبل الِامْتِثَالِ فَإِنْ وَرَدَ بَعْدَهُ حُمِلَ الثَّانِي على الِاسْتِئْنَافِ قَالَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وَالْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُمَا الثَّالِثُ أَنْ يَتَّحِدَ مَدْلُولُ اللَّفْظَيْنِ نَحْوُ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ فَإِنْ اخْتَلَفَا اقْتَضَى التَّكْرَارَ قَطْعًا قَالَهُ الْبَاجِيُّ وَصَاحِبُ الْوَاضِحِ نَحْوُ اضْرِبْ زَيْدًا أَعْطِهِ دِرْهَمًا اضْرِبْ زَيْدًا اضْرِبْ عَمْرًا صَلِّ رَكْعَتَيْنِ صُمْ يَوْمًا وَلَا فَرْقَ في هذا الْقِسْمِ بين أَنْ
____________________
(2/124)
يُقْرَنَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ أو لَا وَلَا بين التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ كما ذَكَرَهُ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ وَغَيْرُهُ قال نعم إنْ دَلَّ الدَّلِيلُ على أَنَّ الثَّانِيَ ذُكِرَ تَأْكِيدًا أو أُفْرِدَ عَمَّا عَدَاهُ تَفْخِيمًا فَالْحُكْمُ لِلدَّلِيلِ نَحْوُ عَطْفُ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ على الْمَلَائِكَةِ وقال صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ إنْ وَرَدَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ بِالنَّكِرَةِ وَالثَّانِي بِالْمَعْرِفَةِ فإنه يَنْصَرِفُ الثَّانِي إلَى ما انْصَرَفَ إلَيْهِ الْأَوَّلُ سَوَاءٌ بِالْعَطْفِ وَغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ إذَا وَرَدَا بِالْمَعْرِفَةِ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ مَتَى ظَفِرَا بِمَعْهُودٍ فَإِنَّهُمَا يَنْصَرِفَانِ إلَيْهِ إلَّا لِمَانِعٍ وَلِهَذَا حَمَلَ ابن عَبَّاسٍ الْعُسْرَ الثَّانِيَ على الْأَوَّلِ في قَوْله تَعَالَى فإن مع الْعُسْرِ يُسْرًا إنَّ مع الْعُسْرِ يُسْرًا حتى قال لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنَ الرَّابِعُ أَنْ لَا يُعْطَفَ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ فَإِنْ عُطِفَ فَلَا خِلَافَ في حَمْلِ الثَّانِي على الِاسْتِئْنَافِ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعْطَفُ على نَفْسِهِ قَالَهُ الْبَاجِيُّ وَصَاحِبُ الْوَاضِحِ وَبِهِ جَزَمَ ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ وَلَكِنَّهُ خَصَّ ذلك بِمَا إذَا لم يَكُنْ فيه لَامُ التَّعْرِيفِ فَإِنْ كانت مِثْلَ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ قال فَاخْتَلَفُوا فيه فَقِيلَ يُحْمَلُ على الِاسْتِئْنَافِ وَقِيلَ بِالْوَقْفِ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايِرَةَ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ تَقْتَضِي الِاتِّحَادَ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ إذَا أَمَرَ بِفِعْلٍ ثُمَّ عَطَفَ عليه بِآخَرَ فَلِلْمَسْأَلَةِ أَحْوَالٌ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ الثَّانِي خِلَافَ الْأَوَّلِ نحو وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَهُمَا مُتَغَايِرَانِ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ ضِدَّهُ فَكَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ كَقَوْلِهِ لَا تَمَسَّ زَيْدًا بِسُوءٍ وَلَا تَضْرِبْهُ ثُمَّ تَقُولُ اضْرِبْهُ وَشَرْطُهُ أَنْ يَتَعَدَّدَ الْوَقْتُ فَلَوْ اتَّحَدَ لم يَجُزْ وَإِنْ وَرَدَ حُمِلَ على التَّخْيِيرِ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ الثَّانِي مِثْلَ مُوجِبِ الْأَوَّلِ فَهَذَا وَضْعُ الْخِلَافِ فَذَهَبَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ إلَى أَنَّ الثَّانِيَ غَيْرُ الْأَوَّلِ ما لم يَمْنَعْ مَانِعٌ وَهَذَا الذي يَجِيءُ على قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّ الثَّانِيَ هو الْأَوَّلُ وَلَا بُدَّ أَيْضًا في هذا من اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْفِعْلِ مِمَّا يَصِحُّ تَكْرَارُهُ قال فَإِنْ كان الْأَمْرُ الْأَوَّلُ مُتَنَاوِلًا لِجَمِيعِ الْجِنْسِ وَالْمَعْطُوفُ مُتَنَاوِلًا لِبَعْضِهِ فَقِيلَ بِالتَّغَايُرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حَافِظُوا على الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى فَقِيلَ إنَّ هذا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْوُسْطَى غير الصَّلَوَاتِ
____________________
(2/125)
الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهَا لِأَنَّ الْعَطْفَ لِلتَّغَايُرِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذلك مَحْمُولٌ على ما سَبَقَ إلَى الْوَهْمِ عِنْدَ سَمَاعِهِ وهو التَّفْخِيمُ وَالتَّعْظِيمُ وَأَمَّا عَكْسُهُ وهو كَوْنُ الثَّانِي أَعَمَّ من الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ اُقْتُلْ أَهْلَ الْأَدْيَانِ وَاقْتُلْ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ فَاخْتُلِفَ فيه هُنَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ على الْمُغَايَرَةِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ التَّفْخِيمُ وَالْبُدَاءَةُ بِمَا هو الْأَهَمُّ قال وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لم تَقُمْ دَلَالَةٌ على أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ التَّأْكِيدِ فَإِنْ قَامَتْ دَلَالَةٌ على غَيْرِ ذلك صِرْنَا إلَيْهِ انْتَهَى الشَّرْطُ الْخَامِسُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ في وَقْتَيْنِ كَذَا صَوَّرَ بِهِ سُلَيْمٌ مَسْأَلَةَ الْخِلَافِ وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ إذَا كَرَّرَهُ في وَقْتٍ وَاحِدٍ يُحْمَلُ على التَّأْكِيدِ قَطْعًا لَكِنْ صَرَّحَ ابن الْقُشَيْرِيّ في كِتَابِهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بين أَنْ يَتَخَلَّلَهُ زَمَانٌ أَمْ لَا ثُمَّ قال وقال الْقَاضِي إنَّ فَرْضَ الْكَلَامِ في الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الصَّادِرِ من الْخَلْقِ فَلَا يَبْعُدُ التَّفْصِيلُ بين ما يُرِيدُ من الْأَوَامِرِ على التَّوَالِي أو مع التَّخَلُّلِ بِزَمَانٍ فَإِنْ تَخَلَّلَ حُمِلَ على التَّجَدُّدِ وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ على التَّأْكِيدِ فَأَمَّا ما في أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا فَرْقَ وَلِذَلِكَ جَازَ التَّخْصِيصُ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَهَذَا الذي قَالَهُ الْقَاضِي مَحَلُّ نَظَرٍ فإن ما اتَّصَلَ بِنَا من كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عِبَارَاتُهُ دَالَّةٌ عليه فَأَيُّ فَرْقٍ وَلَوْ صَحَّ هذا لَصَحَّ تَأْخِيرُ الِاسْتِثْنَاءِ على الْمُسْتَثْنَى منه السَّادِسُ أَنْ تَتَكَرَّرَ صِيغَةُ الْأَمْرِ فَإِنْ تَكَرَّرَ الْمَأْمُورُ بِهِ دُونَ صِيغَتِهِ نَحْوُ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فلم يُصَرِّحْ بها الْأُصُولِيُّونَ وَيَخْرُجُ من كَلَامِ الْفُقَهَاءِ منها خِلَافٌ وَالصَّحِيحُ لَا فَرْقَ فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا في قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ هل هو بِمَثَابَةِ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أو تَقَعُ طَلْقَةٌ قَطْعًا فيه وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ مَسْأَلَةٌ تَصْرِيحُ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ في أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ الْأَمْرُ إنْ صَرَّحَ الْآمِرُ فيه بِالْفِعْلِ في أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ أو قال لَك التَّأْخِيرُ فَهُوَ لِلتَّرَاخِي بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ صَرَّحَ بِهِ لِلتَّعْجِيلِ فَهُوَ لِلْفَوْرِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كان مُطْلَقًا أَيْ مُجَرَّدًا عن دَلَالَةِ التَّعْجِيلِ أو التَّأْخِيرِ وَجَبَ الْعَزْمُ على الْفَوْرِ على الْفِعْلِ قَطْعًا قَالَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَهَلْ يَقْتَضِي الْفِعْلَ على الْفَوْرِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ الْمُبَادَرَةُ عَقِبَهُ إلَى الْإِتْيَانِ بِالْأُمُورِ بِهِ أو التَّرَاخِي أَمَّا الْقَائِلُونَ بِاقْتِضَائِهِ التَّكْرَارَ فَالْفَوْرُ من ضَرُورِيَّاتِهِ كما قَالَهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ
____________________
(2/126)
وَأَمَّا الْمَانِعُونَ فَاخْتَلَفُوا على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ وَبِهِ قالت الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةُ وَاخْتَارَهُ من أَصْحَابِنَا أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالْقَاضِي أبو حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيُّ وَالدَّقَّاقُ كما حَكَاهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ وقال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في بَابِ الْحَجِّ من تَعْلِيقِهِ إنَّهُ الصَّحِيحُ من مَذْهَبِنَا قال وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا تَأْخِيرَ الْحَجِّ بِدَلِيلٍ من خَارِجٍ وَحَكَى في كِتَابِهِ الْأَسْرَارِ عن الْقَفَّالِ الْجَزْمَ بِهِ مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي اعْتِقَادًا بِالْقَلْبِ وَمُبَاشَرَةً بِالْبَدَنِ ثُمَّ الِاعْتِقَادُ على الْفَوْرِ فَكَذَا الْمُبَاشَرَةُ وَأَيْضًا فإن أَوَامِرَ الْعِبَادِ حُمِلَتْ على الْفَوْرِ وَجَزَمَ بِهِ الْمُتَوَلِّي في بَابِ الزَّكَاةِ من التَّتِمَّةِ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عن الْمُزَنِيّ وَأَبِي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وهو قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَدَاوُد وَحَكَاهُ الْكَرْخِيُّ عن أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَنَصَرَهُ أبو زَيْدٍ الرَّازِيَّ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ عليه تَدُلُّ أُصُولُ أَصْحَابِنَا وقال إنَّهُ الذي يَنْصُرُهُ أَصْحَابُنَا وَيَذْكُرُونَ أَنَّهُ قَضِيَّةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وقال أبو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ في التَّمْهِيدِ إنَّهُ الذي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِمْ وَالْقَائِلُونَ بِالْفَوْرِيَّةِ اخْتَلَفُوا كما قَالَهُ الْأُسْتَاذُ وابن فُورَكٍ وَصَاحِبُ الْمَصَادِرِ إذَا لم يَفْعَلْهُ في أَوَّلِ الْوَقْتِ فَقِيلَ يَجِبُ بِظَاهِرِهِ أَنْ يَفْعَلَ في الثَّانِي وَقِيلَ لَا يَجِبُ إلَّا بِأَمْرٍ ثَانٍ وَلَا يَقْتَضِي إلَّا إيقَاعَ الْفِعْلِ عَقِبَهُ فَقَطْ وَسَيَأْتِي قال ابن فُورَكٍ وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هل اقْتِضَاؤُهُ الْفَوْرَ من مُقْتَضَى اللَّفْظِ أَيْ بِاللُّغَةِ أو بِالْعَقْلِ وَزَيَّفَ الثَّانِي وقال إنَّمَا النِّزَاعُ في مُقْتَضَاهُ في اللِّسَانِ وَالثَّانِي أَنَّ الْوَاجِبَ إمَّا الْفَوْرُ أو الْعَزْمُ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عن أبي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ وَحَكَاهُ ابن الْحَاجِبِ عن الْقَاضِي قِيلَ وَبَنَاهُ على أَصْلِهِ في الْمُوَسَّعِ لَكِنَّ الذي رَأَيْته في التَّقْرِيبِ لِلْقَاضِي اخْتِيَارَ أَنَّهُ على التَّرَاخِي وَبُطْلَانَ الْقَوْلِ بِالْوَقْفِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في مُخْتَصَرِهِ وهو الْأَصَحُّ إذْ الْمَصِيرُ إلَيْهِ يُؤَدِّي إلَى خَرْقِ الْإِجْمَاعِ أو يَلْزَمُهُ ضَرْبٌ من التَّنَاقُضِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْفَوْرَ وَلَهُ التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَمُوتَ حتى يَفْعَلَهُ وهو قَوْلُ الْجُمْهُورِ من أَصْحَابِنَا كما قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ قال وهو ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ في الْحَجِّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ طَائِفَةٌ من الْأَشْعَرِيَّةِ وَسَائِرُ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَقَلَهُ أبو
____________________
(2/127)
الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ عن نَصِّ الشَّافِعِيِّ لَمَّا ذَكَرَهُ في تَأْخِيرِ الْحَجِّ وقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَمْرَ على التَّرَاخِي على حَسَبِ ما قَالَهُ في الْحَجِّ وهو الصَّحِيحُ من الْمَذْهَبِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ عَزَوْهُ إلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وهو اللَّائِقُ بِتَفْرِيعَاتِهِ بِالْفِقْهِ وَإِنْ لم يُصَرِّحْ بِهِ في مَجْمُوعَاتِهِ في الْأُصُولِ وقال ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ لم يُنْقَلْ عن الشَّافِعِيِّ وَلَا أبي حَنِيفَةَ نَقْلٌ في الْمَسْأَلَةِ وَإِنَّمَا فُرُوعُهُمَا تَدُلُّ على ما نُقِلَ عنهما قال وَهَذَا خَطَأٌ في نَقْلِ الْمَذَاهِبِ إذْ الْفُرُوعُ تُبْنَى على الْأُصُولِ لَا الْعَكْسُ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وابن الصَّبَّاغِ عن أبي عَلِيِّ بن خَيْرَانَ وَابْنِ أبي هُرَيْرَةَ وَأَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ وَأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ صَاحِبِ الْإِفْصَاحِ وَكَذَا نَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ عن الْقَاضِي وزاد أَبَا عَلِيٍّ وَأَبَا هَاشِمٍ الْجُبَّائِيَّيْنِ وَنَقَلَهُ عنهما صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ أَيْضًا قال وَجَوَّزُوا تَأْخِيرَ الْمَأْمُورِ بِهِ عن أَوَّلِ وَقْتِ الْإِمْكَانِ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْإِمَامُ وَالْهِنْدِيُّ وَأَتْبَاعُهُمْ وقال في الْبُرْهَانِ ذَهَبَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ الْبَصْرِيُّ إلَى ما اُشْتُهِرَ عن الشَّافِعِيِّ من حَمْلِ الصِّيغَةِ على اتِّبَاعِ الِامْتِثَالِ من غَيْرِ نَظَرٍ إلَى وَقْتٍ مُقَدَّمٍ أو مُؤَخَّرٍ وَهَذَا يَدْفَعُ من قِيَاسِ مَذْهَبِهِ مع اسْتِمْسَاكِهِ بِالْوَقْفِ وَتَجْهِيلِهِ من لَا يَرَاهُ وَالرَّابِعُ أَنَّهُ يَقْتَضِي التَّرَاخِيَ كَذَا أَطْلَقَهُ جَمَاعَةٌ منهم الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وابن بَرْهَانٍ وابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمْ وَحَكَوْهُ عَمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ من أَصْحَابِنَا وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ إنَّهُ الْوَجْهُ عِنْدَهُ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ إنَّهُ الصَّحِيحُ قال وَمَعْنَى قَوْلِنَا إنَّهُ على التَّرَاخِي أَنَّهُ ليس على التَّعْجِيلِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ له أَنْ يُؤَخِّرَهُ عن أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْفِعْلِ قال وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ قَوْلَهُ افْعَلْ ليس فيه عِنْدَنَا دَلِيلٌ إلَّا على طَلَبِ الْفِعْلِ فَحَسْبُ من غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْوَقْتِ انْتَهَى وَعَلَى هذا فَهُوَ الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ وقال السَّرَخْسِيُّ الذي يَصِحُّ عِنْدِي من مَذْهَبِ عُلَمَائِنَا أَنَّهُ على التَّرَاخِي وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ على الْفَوْرِ بِمُطْلَقِ الْأَمْرِ نَصَّ عليه في الْجَامِعِ فَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ شَهْرًا له أَنْ يَعْتَكِفَ أَيَّ شَهْرٍ شَاءَ وكان الْكَرْخِيُّ يقول إنَّهُ على الْفَوْرِ وهو الظَّاهِرُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَكَذَا حَكَاهُ صَاحِبُ اللُّبَابِ عن الْبَزْدَوِيِّ فقال قال الْإِمَامُ أبو الْيُسْرِ الْبَزْدَوِيِّ لَا خِلَافَ عِنْدَنَا أَنَّ الْوُجُوبَ مُطْلَقٌ على حَسَبِ إطْلَاقِ الْأَمْرِ
____________________
(2/128)
لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَفُوتَ الْأَدَاءُ قبل الْمَوْتِ وقال أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لَا بَلْ مُطْلَقُ الْأَمْرِ عن الْوَقْتِ الْمُبَادَرَةُ وَإِنَّمَا يُبَيَّنُ هذا في بَابِ الزَّكَاةِ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ هل يَصِيرُ مُكَلَّفًا بِالْأَدَاءِ لِلْحَالِ فَعِنْدَنَا لَا يَصِيرُ مُكَلَّفًا بَلْ الْأَدَاءُ مُوَسَّعٌ له في عُمُرِهِ وَعِنْدَهُمْ يَتَحَتَّمُ الْأَدَاءُ في الْحَالِ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في التَّقْرِيبِ الْوَجْهُ عِنْدَنَا في ذلك الْقَوْلِ بِأَنَّهُ على التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ وَالْوَقْتِ انْتَهَى وَهَذَا خِلَافُ ما تَقَدَّمَ النَّقْلُ عنه وَالْخَامِسُ الْوَقْفُ إمَّا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِمَدْلُولِهِ أو لِأَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَصَحَّحَهُ الْأَصْفَهَانِيِّ في قَوَاعِدِهِ وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عن الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى فقال وَذَهَبَ إلَى الْوَقْفِ من جِهَةِ اللُّغَةِ وَأَمَّا من حَيْثُ عُرْفُ الشَّرْعِ فإنه عِنْدَهُ على الْفَوْرِ ثُمَّ افْتَرَقَتْ الْوَاقِفِيَّةُ فَقِيلَ إذَا أتى بِالْمَأْمُورِ بِهِ في أَوَّلِ الْوَقْتِ كان مُمْتَثِلًا قَطْعًا وَإِنْ أَخَّرَ عن الْوَقْتِ الْأَوَّلِ لَانْقَطَعَ بِخُرُوجِهِ عن الْعُهْدَةِ وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ وفي كَلَامِ الْآمِدِيَّ خَلَلٌ عنه وَقِيلَ إنَّهُ وَإِنْ بَادَرَ إلَى فِعْلِهِ في الْوَقْتِ لَا يُقْطَعُ بِكَوْنِهِ مُمْتَثِلًا وَخُرُوجُهُ عن الْعُهْدَةِ لِجَوَازِ إرَادَةِ التَّرَاخِي قال ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ وَقَائِلُ هذا لَا يُجَوِّزُ فِعْلَهُ على الْفَوْرِ لَكِنَّهُ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ قَبْلَهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مَذْهَبٌ مَنْسُوبٌ إلَى خَرْقِ الْإِجْمَاعِ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ أَنَّ الْكَلَامَ في هذه الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ على ثُبُوتِ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ وهو الصَّحِيحُ وَمَنْ لَا يَعْتَرِفُ بِهِ فَلَا كَلَامَ معه قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ الثَّانِي أَنَّهُ قد اُشْتُهِرَ حِكَايَةُ قَوْلِ التَّرَاخِي وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُمْ إنَّ هذا الْإِطْلَاقَ مَدْخُولٌ إذْ مُقْتَضَاهُ أَنَّ الصِّيغَةَ الْمُطْلَقَةَ تَقْتَضِي التَّرَاخِي حتى لو فُرِضَ الِامْتِثَالُ على الْبِدَارِ لم يُعْتَدَّ بِهِ وَهَذَا لم يَصِرْ إلَيْهِ أَحَدٌ فَالْأَحْسَنُ في الْعِبَارَةِ عن هذا الْقَوْلِ أَنْ يُقَالَ الْأَمْرُ يَقْتَضِي الِامْتِثَالَ من غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِوَقْتٍ انْتَهَى وَلِهَذَا قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ إنَّ الْعِبَارَةَ الصَّحِيحَةَ أَنْ يُقَالَ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ
____________________
(2/129)
وَالتَّعْجِيلَ قال وَمَعْنَى أَنَّهُ على التَّرَاخِي أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ لَا أَنَّهُ يَجِبُ تَأْخِيرُهُ فإن أَحَدًا لَا يقول ذلك انْتَهَى لَفْظُهُ وقد سَبَقَ عن ابْنِ الصَّبَّاغِ حِكَايَةُ قَوْلِ إنَّ الْمُبَادَرَةَ لَا يُعْتَدُّ بها وَحَكَى الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى الْخِلَافَ أَيْضًا في الْمُبَادِرِ هل هو مُمْتَثِلٌ أَمْ لَا فقال أَمَّا الْمُبَادِرُ فَمُمْتَثِلٌ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ من غَلَا فقال يُتَوَقَّفُ في الْمُبَادِرِ وَحَكَى الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ أَنَّ بَعْضَ الْأُصُولِيِّينَ ذَهَبَ إلَى أَنَّ من أَخَّرَ لَا يُعْتَدُّ منه بِمَا فَعَلَ مُؤَخَّرًا قال وَعَلَى هذا فَالتَّرْجَمَةُ لَا مُؤَاخَذَةَ عليها وَعَلَى ما ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فَالتَّعْبِيرُ بِالْفَوْرِ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُؤَخِّرَ ليس بِمُمْتَثِلٍ وقد قال الْإِمَامُ في آخِرِ الْمَسْأَلَةِ إنَّهُ لم يَقُلْهُ أَحَدٌ الثَّالِثُ قِيلَ الْخِلَافُ في هذه الْمَسْأَلَةِ لَا يَكُونُ إلَّا في الْوَاجِبِ دُونَ النَّدْبِ وَقِيلَ يَكُونُ فِيهِمَا قال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وهو الصَّحِيحُ قال وَاتَّفَقُوا على أنها لَا تُتَصَوَّرُ على مَذْهَبِ من يقول الْأَمْرُ لِلدَّوَامِ وَالتَّكْرَارِ لِأَنَّهُ إذَا كان كَذَلِكَ اسْتَغْرَقَ الْأَوْقَاتَ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفَوْرِيَّةُ هل يَجِبُ تَعَلُّقُ الْأَمْرِ الْمُدَّعَى ذلك فيه بِفِعْلٍ وَاحِدٍ أو بِجُمْلَةِ أَفْعَالٍ فَقِيلَ يَخْتَصُّ بِالْفِعْلِ الْوَاحِدِ وَقِيلَ يَعُمُّهَا وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي وَاحِدًا إذَا تَرَكَ الْمُكَلَّفُ إيقَاعَهُ عَقِبَ الْأَمْرِ هل يَجِبُ عليه فِعْلٌ مِثْلُهُ أو بَدَلٌ منه بِنَفْسِ الْأَمْرِ بِهِ أو لَا يَجِبُ إلَّا بِأَمْرٍ مُسْتَأْنَفٍ وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالتَّرَاخِي هل يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إلَى غَايَةٍ مَحْدُودَةٍ أو لَا فَقِيلَ يَجُوزُ إلَى غَايَةٍ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ فَإِنْ مَاتَ قبل الْأَدَاءِ مَاتَ آثِمًا وَقِيلَ لَا إثْمَ إلَّا أَنْ يَغْلِبَ على ظَنِّهِ فَوَاتُهُ إنْ لو لم يَفْعَلْ وَفَصَّلَ آخَرُونَ فَقَالُوا قد يَكُونُ إلَى غَايَةٍ وَهِيَ أَنْ لَا يَغْلِبَ على ظَنِّهِ أَنَّهُ يَمُوتُ فَإِنْ مَاتَ كان مَعْذُورًا غير آثِمٍ وقد يَكُونُ إلَى غَايَةٍ مُحَدَّدَةٍ وَهِيَ أَنْ يَغْلِبَ على ظَنِّهِ الِاخْتِرَامُ عِنْدَ حُصُولِهَا فَحِينَئِذٍ يَتَعَجَّلُ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي انْتَهَى وقال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ حَيْثُ قُلْنَا لَا يُفِيدُ الْفَوْرَ فَلَهُ التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَمُوتَ حتى يَفْعَلَهُ فَإِنْ قِيلَ فإذا أَخَّرَ لم يَأْثَمْ فَلِمَ أَثَّمْتُمُوهُ بَعْدَ الْمَوْتِ قُلْنَا إنَّمَا جَوَّزْنَا له التَّأْخِيرَ على وَصْفٍ فإذا مَاتَ ولم يَفْعَلْهُ عَلِمْنَا أَنَّهُ لم يَكُنْ له التَّأْخِيرُ قال وَنَظِيرُهُ رَامِي الْغَرَضِ يَرْمِي على غَرَرٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يُصِيبَ وَأَنْ لَا يُصِيبَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ في الْوَصِيَّةِ وَالْكَفَّارَةِ فَإِنْ قِيلَ مَتَى يَكُونُ عَاصِيًا قِيلَ من أَصْحَابِنَا من قال يَكُونُ في جَمِيعِ السِّنِينَ عَاصِيًا كما يقول في السُّكْرِ إنَّهُ لم يَقَعْ بِالْقَدَحِ الْأَخِيرِ
____________________
(2/130)
دُونَ ما تَقَدَّمَهُ من الْأَقْدَاحِ كَذَلِكَ هذا وكان أبو حَفْصٍ يقول إذَا مَضَتْ عليه سَنَةٌ فَأَمْكَنَهُ أَنْ يَحُجَّ فلم يَفْعَلْ وَمَاتَ قبل السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عُلِمَ أَنَّ حَجَّهُ لم يَكُنْ له إلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ فَكَانَ عَاصِيًا فإذا بَقِيَ إلَى السَّنَةِ الْأُخْرَى فَأَخَّرَ عنها وَمَاتَ عُلِمَ أَنَّ حَجَّهُ كان له وَمَاتَ فَكَانَ عَاصِيًا بِهِ في السَّنَةِ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ الْمُعَلَّقُ بِالْفَاءِ هذا كُلُّهُ في الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ فَأَمَّا ما عُلِّقَ بِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا فإذا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَك قال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ على الْفَوْرِ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ وَالثَّانِي لَا يَقْتَضِيهِ قال وَالصَّحِيحُ هو الْأَوَّلُ لِلْإِجْمَاعِ على أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ وَلَوْ خُلِّينَا وَالظَّاهِرَ في قَوْلِهِ إذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَك لَعَمِلْنَا بِهِ لَكِنْ صِرْنَا إلَى أَدِلَّةٍ أُخْرَى مسألة إذا ورد الخطاب من الشارع بفعل عبادة في وقت معين فخرج ذلك الوقت ولم يفعل فهل يجب القضاء بأمر جديد ابتداء أم يجب بالسبب الذي يجب به الأداء وهو الأمر السابق أي يتضمنه ويستلزمه لا أنه عينه فيه قولان وأكثر المحققين من أصحابنا على الأول منهم أبو بكر الصيرفي وابن القشيري قال الشيخ أبو حامد وسليم وابن الصباغ وهو قول أكثر أصحابنا وقال الشيخ أبو حامد وأبو إسحاق إنه الصحيح ونقل عن المعتزلة منهم أبو عبد الله البصري وحكاه عن الكرخي وقال العالمي من الحنفية إنه اللائق بفروع أصحابنا وقال الباجي إنه الصحيح ونقله عن القاضي أبي بكر وابن خويز منداد وقال عبد العزيز الحنفي إنه مذهب أصحابنا ووجهه أن صيغة التأقيت تقتضي اشتراط
____________________
(2/131)
الوقت في الاعتداد بالمؤقت فإذا انقضى الوقت فليس في الأمر بالأداء أمر بالقضاء فلا بد من أمر ثان ولأن التكليف يتبع مقتضى الأمر وما دلت عليه الصيغة والصيغة لا تدل إلا على الأمر في الوقت المخصوص فدلالتها على الفعل في غيره قاصرة عنه وما وجب القضاء فيه فبدليل من خارج وذهب الحنابلة وأكثر الحنفية إلى الثاني منهم شمس الأئمة والجصاص والرازي وغيرهم وبه قال عبد الجبار وأبو الحسين من المعتزلة وحكاه الآمدي عن الحنابلة وحكاه عبد العزيز في الكشف عن عامة أصحاب الحديث قلت وهو ظاهر نص الشافعي في الأم فإنه قال فيما إذا ظاهر عنهما ظهارا مؤقتا إن العود لا يحصل إلا بالوطء قال ووجبت الكفارة واستقرت لا لأجل استحلال للوطء ثم قال ولو طلقها بعد العود أو لاعنها فحرمت عليه على الأبد ولزم كفارة الظهار وكذلك لو ماتت أو ارتدت فقتلت على الردة ومعنى قوله تعالى من قبل أن يتماسا وقت لأن يؤدي ما وجب عليه في الكفارة قبل المماسة فإذا كانت المماسة قبل الكفارة فذهب الوقت لم تبطل الكفارة ولم يزد عليه فيها كما يقال له أد الصلاة في وقت كذا وقبل وقت كذا فيذهب الوقت فيؤديها لأنها فرض عليه فإذا لم يؤدها في الوقت وأداها بعده فلا يقال له زد فيها لذهاب الوقت قبل أن يؤديها انتهى قال ابن الرفعة في المطلب وهذا من الشافعي يدل على أنه لا يرى القضاء بأمر جديد بل بالأمر الأول إذ لو كان لا يجب إلا بأمر جديد عنده لم يقسه على الصلاة لأن الأمر الجديد ورد فيها لكن إمام الحرمين في باب التطوع من النهاية قال إن القضاء بأمر يجدد عند الشافعي ويؤيده نصه في الرسالة على أن الصوم لا يجب على الحائض وإنما وجب القضاء بأمر جديد ونقل الهندي عن صاحب التقويم قولا ثالثا أنه يجب بالقياس على العبادات الفائتة عن وقتها الواجب قضاؤها في الشرع فإنه الأكثر بجامع استدراك مصلحة الفائتة وقال بعضهم وعند أبي زيد الدبوسي أن وجوب القضاء إنما هو بقياس الشرع وأضافه إلى الشرع لتخرج المقدمتان والنتيجة فإن ذلك قياس العقل والمراد بقياس الشرع رد فرع إلى أصل بعلة جامعة بينهما فكأنه قاس القضاء على المعاوضات الشرعية وذهب بعض المتأخرين إلى وجوبه بالأمر الأول باعتبار آخر مخالف لما يقوله
____________________
(2/132)
الحنابلة وبرهانه العلم القديم لم يتعلق بالأداء في حق من يستحيل وقوعه منه لأن ذاته معدومة في الموجودين فلو كلف العبد به كلف بما لا يطاق فإذن تعلق الأمر إنما هو بالفعل الذي يسمى قضاء وهو أمر واحد وهو الأمر الأول في حق القضاء إذ لا أداء هناك ولا فائت لعدمه في الموجودين العلمي والخارجي ومعنى هذا الخلاف أنه هل يستفاد من الأمر ضمنا الأمر بالقضاء أي يستلزم ذلك كما يستفاد منه جميع الفوائد الضمنية أو لا يستفاد هذا هو الصواب وصرح به المازري وغيره وزعم الأصفهاني في شرح المحصول أن القائلين بأن القضاء بالأمر الأول يقولون إنه يدل عليه مطابقة وأن هذا هو محل الخلاف ويساعده عبارة ابن برهان هل بقيت واجبة بالأمر السابق أم وجبت بأمر جديد وقال عبد العزيز موضع الخلاف في القضاء بمثل معقول فأما القضاء بمثل غير معقول فلا يمكن إيجابه إلا بنص جديد بالاتفاق وهذا كله في العبادة المؤقتة أما المطلقة إذا لم يفعل في أول أزمنة الإمكان على رأي من يجعل الأمر للفور فإن فعله بعده ليس قضاء عند الجمهور خلافا للقاضي أبي بكر ومن فروعه ما لو استأجر الولد سنة معينة ثم لم يسلمه حتى مضت انفسخ العقد ولا يجب بدلها سنة أخرى اعتبارا بالعقد الأول بل لا بد من إنشاء عقد جديد إن أرادها وقال صاحب الواضح المعتزلي هذا الخلاف لا يجيء إلا من القائلين بأن الأمر يقتضي الفور وأما القائل بأنه للتراخي فلا لأن عنده أن الفعل في الوقت الثاني والثالث وفيما بعدها مراد وأن لفظ الأمر بإطلاقه يتناول الفعل في أي وقت شاء وبذلك صرح أبو الحسين في المعتمد فقال أما القائلون بنفي الفور فيقولون باقتضائه فيما بعد ولا يحتاج إلى دليل ثان وأما القائلون بالفور هل يقتضي الفعل فيما بعد أو لا وقال الشيخ أبو إسحاق ليس الغرض بهذه المسألة الكلام في أعيان المسائل التي اتفقنا فيها على وجوب القضاء في العبادة المؤقتة كالصلاة والصوم وإنما الغرض بيان إثبات هذا الأصل من مقتضى الأمر المطلق في موضع لا إجماع فيه قال وكذلك جميع مسائل الأصول التي نتكلم فيها المقصود إثبات أصل عند التجرد من القرائن قال وفائدة الخلاف في هذه المسألة جواز الاستدلال بالأوامر المطلقة في أداء العبادة على قضائها إن قلنا يجب ما يجب به الأداء ومنعه وإن قلنا يجب بأمر
____________________
(2/133)
جديد قيل ومنشأ الخلاف يرجع إلى قاعدتين الأولى أن الأمر بالمركب أمر بأجزائه الثانية أن الفعل في وقت معين لا يكون إلا لمصلحة تختص بذلك الوقت فمن لاحظ القاعدة الأولى قال القضاء بالأول لأنه اقتضى شيئين الصلاة وكونها في ذلك الوقت فهو مركب فإذا تعذر أحد جزأي المركب وهو خصوص الوقت بقي الجزء الآخر وهو الفعل فيوقعه في أي وقت شاء ومن لاحظ الثانية قال القضاء بأمر جديد لأنه إذا كان تعين الوقت لمصلحة فقد لا يشاركه الزمن في تلك المصلحة وإذا شككنا لم يثبت وجوب الفعل الذي هو القضاء في وقت آخر بدليل منفصل والمراد بالأمر الجديد إجماع أو خطاب جلي على وجوب فعل مثل الفائت خارج الوقت لا أنه يتجدد عند فوات كل واجب الأمر بالقضاء لأن زمن الوحي قد انقرض مَسْأَلَةٌ فَوَاتُ الِامْتِثَالِ بِالْأَمْرِ إذَا قُلْنَا الْأَمْرُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ فَأَخَّرَ عنه فَهَلْ يَفْعَلُهُ بَعْدَ ذلك بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ أو يَحْتَاجُ إلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ قال ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ إنْ قُلْنَا الْمُؤَقَّتُ لَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَإِنْ قُلْنَا يَسْقُطُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَاهُنَا على قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَسْقُطُ أَيْضًا بِفَوَاتِ الْفَوْرِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ في الْوَقْتِ فإذا مَاتَ سَقَطَ كَالْمُؤَقَّتِ وَالثَّانِي لَا يَسْقُطُ لِأَنَّ الْأَمْرَ يَتَنَاوَلُ فِعْلَهُ مُطْلَقًا لَا لِوَقْتٍ وَإِنَّمَا وَجَبَ الْفَوْرُ لِئَلَّا يَقْتَضِيَ وُجُوبَهُ مَسْأَلَةٌ احْتِيَاجُ الْإِجْزَاءِ إلَى دَلِيلٍ إتْيَانُ الْمُكَلَّفِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ على الْمَشْرُوعِ مُوجِبٌ لِلْإِجْزَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِأَبِي هَاشِمٍ وَالْقَاضِي وَعَبْدِ الْجَبَّارِ حَيْثُ قَالَا الْإِجْزَاءُ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وهو خِلَافٌ مَرْدُودٌ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ على خِلَافِهِ وَنَقَلَ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ قَوْلًا ثَالِثًا أَنَّ الْأَمْرَ مَوْقُوفٌ
____________________
(2/134)
على ما يُثْبِتُهُ الدَّلِيلُ وَنَسَبَاهُ لِلْأَشْعَرِيَّةِ قال سُلَيْمٌ وهو قَرِيبٌ من مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَفِيهَا مَذْهَبٌ رَابِعٌ وهو أَنَّهُ يَقْتَضِي الْإِجْزَاءَ من حَيْثُ عُرْفُ الشَّرْعِ وَلَا يَقْتَضِيهِ من حَيْثُ وَضْعُ اللُّغَةِ حَكَاهُ في الْمَصَادِرِ عن الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى وَخَامِسٌ وهو التَّفْصِيلُ بين ما يَقَعُ على الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ كَالصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ بِشُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا فَهُوَ مَوْصُوفٌ بِالْإِجْزَاءِ وَبَيْنَ ما يَدْخُلُهُ ضَرْبٌ من الْخَلَلِ إمَّا من جِهَةِ الْمُكَلَّفِ أو غَيْرِهِ كَالْوَطْءِ في الْحَجِّ وَالصَّوْمِ فَلَا يَدُلُّ على الْإِجْزَاءِ حَكَاهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ ثُمَّ قال وَلَيْسَ هذا في الْحَقِيقَةِ مَذْهَبًا آخَرَ لِأَنَّا لَا نَقُولُ بِالْإِجْزَاءِ على أَيِّ أَمْرٍ وَقَعَ وَإِنَّمَا يُجْزِئُ إذَا وَقَعَ على الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ وقال الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى إذَا قُلْنَا إنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ وَأَنَّهُ مِثْلُ الْوَاجِبِ الْأَوَّلِ فَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ لَا يَمْنَعُ إيجَابَ مِثْلِهِ بَعْدَ الِامْتِثَالِ لَكِنْ إنَّمَا سُمِّيَ قَضَاءً إذَا كان فيه تَدَارُكُ الْفَائِتِ من أَصْلِ الْعِبَادَةِ وَوَضْعِهَا فَإِنْ لم يَكُنْ فَوَاتٌ اسْتَحَالَ تَسْمِيَتُهُ قَضَاءً يَعْنِي شَرْعًا لَا عَقْلًا وَلَا بُدَّ من تَحْرِيرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ فَنَقُولُ الْإِجْزَاءُ يُطْلَقُ بِاعْتِبَارَيْنِ أَحَدُهُمَا الِامْتِثَالُ وَالثَّانِي إسْقَاطُ الْقَضَاءِ فَالْمُكَلَّفُ إذَا أتى بِالْمَأْمُورِ على وَجْهِهِ فَعَلَى الْأَوَّلِ هو مُجْزِئٌ بِالِاتِّفَاقِ وَعَلَى الثَّانِي هو مَوْضِعُ الْخِلَافِ كما صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ وَالْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى وَغَيْرُهُمَا أَيْ هل يَسْتَلْزِمُ سُقُوطَ الْقَضَاءِ لَا يَسْتَلْزِمُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ الْحَكِيمُ افْعَلْ كَذَا فإذا فَعَلْت أَدَّيْت الْوَاجِبَ وَيَلْزَمُك مع ذلك الْقَضَاءُ قال الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ في الْمُعْتَمَدِ وَهَذَا هو مَعْنَى قَوْلِنَا إنَّهُ غَيْرُ مُجْزِئٍ وَلَا يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لم يُمْتَثَلْ وَلَا أَنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ فيه وَلَا يَكُونُ وَقَعَ مَوْقِعَ الصَّحِيحِ الذي لَا يَقْتَضِي هذا تَحْرِيرُ مَذْهَبِ عبد الْجَبَّارِ في الْمَسْأَلَةِ وَمِمَّنْ اعْتَنَى بِهِ أَيْضًا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ فقال وَتَحْرِيرُ الْخِلَافِ فيه أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ هل هو من مَدْلُولِ الْأَمْرِ وَمُقْتَضَاهُ أو هو من مَجْمُوعِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِ الْغَيْرِ وَأَمَّا كَوْنُهُ إذَا فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ يَبْقَى مَطْلُوبًا فما زَادَ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ أَصْلًا لِأَنَّ الْأَمْرَ انْقَطَعَ تَعَلُّقُهُ عَمَّا عَدَا الْمَأْمُورَ بِهِ فَلَوْ بَقِيَ عليه شَيْءٌ آخَرُ من جِهَةِ الْأَمْرِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ مُنْقَطِعًا في تَعَلُّقِهِ وَفِيهِ جَمْعٌ بين
____________________
(2/135)
النَّقِيضَيْنِ وهو مُحَالٌ انْتَهَى وقد وَقَعَ في الْمَسْأَلَةِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا إطْلَاقُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَفَخْرِ الدِّينِ وَأَتْبَاعِهِ الْخِلَافَ في أَنَّ الِامْتِثَالَ هل يُوجِبُ الْإِجْزَاءَ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ لم يُخَالِفْ في الْإِجْزَاءِ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا خَالَفَ فيه بِالثَّانِي وَالْخِلَافُ في الْأَوَّلِ بَعِيدٌ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ قال الْهِنْدِيُّ وَعَلَى هذا تَرْجَمَةُ الْمَسْأَلَةِ بِمَا ذَكَرُوهُ لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ الْإِجْزَاءَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ ليس عِبَارَةً عن سُقُوطِ الْقَضَاءِ بِالْفِعْلِ فَلَا يَلْزَمُ من كَوْنِ الْفِعْلِ سُقُوطُ الْقَضَاءِ بَلْ يَنْبَغِي تَرْجَمَتُهَا على ما قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي وُقُوعَ الْإِجْزَاءِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وقال الْمُتَكَلِّمُونَ لَا يَقْتَضِي فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْصِيصِ على هذا بِبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ كَأَبِي هَاشِمٍ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ فإن كُلَّ من قال الْإِجْزَاءُ ليس عِبَارَةً عن سُقُوطِ الْقَضَاءِ على التَّفْسِيرِ الْمُتَقَدِّمِ يَلْزَمُ أَنْ يَقُولَ لَا يَلْزَمُ من كَوْنِ الْفِعْلِ مُجْزِئًا سُقُوطُ الْقَضَاءِ وَلَعَلَّ الْأَقْرَبَ أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هو في سُقُوطِ الْقَضَاءِ لَا في سُقُوطِ التَّعَبُّدِ بِهِ وَكَوْنُهُ امْتِثَالًا وَطَاعَةً لِأَنَّ ذلك كَالتَّنَاقُضِ فَيَبْعُدُ وُقُوعُ الْخِلَافِ فيه لِأَنَّ أَدِلَّتَهُمْ تُشْعِرُ بِذَلِكَ الثَّانِي أَنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ لَا يَسْتَلْزِمُهُ أَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا يَمْنَعُ من الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ على الْإِجْزَاءِ وَإِنَّمَا الْإِجْزَاءُ مُسْتَفَادٌ من عَدَمِ دَلِيلٍ يَدُلُّ على وُجُوبِ الْإِعَادَةِ وَلَا خِلَافَ بين عبد الْجَبَّارِ وَغَيْرِهِ في بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ عِنْدَ الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ وَاتَّفَقُوا على أَنَّ الْبَرَاءَةَ الْأَصْلِيَّةَ اقْتَضَتْ الْعَدَمَ السَّابِقَ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ يقول الْعَدَمُ اللَّاحِقُ الْكَائِنُ بَعْدَ الْفِعْلِ مُسْتَفَادٌ أَيْضًا من الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ كَالْأَعْدَامِ الْكَائِنَةِ قبل الْفِعْلِ وقد شَبَّهَ الْقَرَافِيُّ هذا الْخِلَافَ بِالْخِلَافِ في مَفْهُومِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَمَنْ نَفَاهُ قال عَدَمُ عِتْقِهِ ما لم يَأْتِ بِالْمَشْرُوطِ مُسْتَفَادٌ من الْمِلْكِ السَّابِقِ وَمَنْ أَثْبَتَهُ قال هو مُسْتَفَادٌ من ذلك وَمِنْ مَفْهُومِ الشَّرْطِ أَيْضًا وَظَهَرَ بهذا أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ لِأَنَّهُ أتى بِالْمَأْمُورِ على وَجْهِهِ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ يُمْكِنُ إيرَادُ أَمْرٍ ثَانٍ بِعِبَادَةٍ يُوقِعُهَا الْمَأْمُورُ على حَسَبِ ما أَوْقَعَ الْأُولَى لِأَنَّهُ كَاسْتِئْنَافِ شَرْعٍ وَتَعَبُّدٍ ثَانٍ وَالنِّزَاعُ في تَسْمِيَةِ هذا الْأَمْرِ الثَّانِي قَضَاءٌ لِلْأَوَّلِ فَالْجُمْهُورُ يَنْفُونَهُ
____________________
(2/136)
لِأَنَّ الْقَضَاءَ عِنْدَهُمْ ما فُعِلَ بَعْدَ وَقْتِ الْأَدَاءِ اسْتِدْرَاكًا لِمَا سَبَقَ وُجُوبُهُ وَهَذَا ليس كَذَلِكَ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ بِنَاءُ من بَنَى عليه صَلَاةَ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ إذَا تَمَكَّنَ من أَحَدِهِمَا هل يُعِيدُ قال ابن الْحَاجِبِ في مُخْتَصَرِهِ الْكَبِيرِ إنْ أَرَادَ عبد الْجَبَّارِ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَرِدَ أَمْرٌ بَعْدَهُ بمثله فَمُسَلَّمٌ وَمَرْجِعُ النِّزَاعِ في تَسْمِيَتِهِ قَضَاءً وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ على سُقُوطِهِ فَسَاقِطٌ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ الْخِلَافُ في هذه الْمَسْأَلَةِ لَا يَتَحَقَّقُ لِأَنَّهُ إنْ كان الْمُرَادُ لُزُومَ الْإِتْيَانِ بمثله فَهِيَ مَسْأَلَةُ التَّكْرَارِ وَالْأَوَّلُ يُجْزِئُ عن الْآخَرِ لَكِنْ لم يَسْتَكْمِلْ وَإِنْ كان لِأَنَّهُ لم يَقَعْ الْمَوْقِعَ فَهُوَ غَيْرُ مُجْزِئٍ بِالِاتِّفَاقِ وقال هذه الْمَسْأَلَةُ مَقْلُوبَةٌ بِالْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ كَوْنُ النَّهْيِ يَدُلُّ على الْفَسَادِ مَسْأَلَةٌ تَعْلِيقُ الْأَمْرِ بِمُعَيَّنٍ الْأَمْرُ إنْ تَعَلَّقَ بِمُعَيَّنٍ لم يَخْرُجْ الْمُكَلَّفُ عن عُهْدَتِهِ إلَّا بِالْإِتْيَانِ بِهِ قَطْعًا وَإِنْ تَعَلَّقَ بِمُطْلَقٍ وهو الْمُتَنَاوِلُ وَاحِدًا لَا بِعَيْنِهِ فَاخْتَلَفُوا في الْمَطْلُوبِ بِهِ هل هو الْمَاهِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ أو جُزْءٌ من جُزْئِيَّاتِهَا قال الْآمِدِيُّ هو أَمْرٌ يُجْزِئُ مُعَيَّنٌ من جُزْئِيَّاتِ الْمَاهِيَّةِ لَا بِالْكُلِّيِّ الْمُشْتَرَكِ وقال الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ هو أَمْرٌ بِالْكُلِّيِّ الْمُشْتَرَكِ بين الْأَفْرَادِ لَا بِجُزْءٍ مُعَيَّنٍ وَلَا بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ لِأَنَّ الدَّالَّ على الْأَعَمِّ غَيْرُ دَالٍّ على الْأَخَصِّ فإذا قال في الدَّارِ جِسْمٌ لَا يَدُلُّ على أَنَّهُ حَيَوَانٌ لِأَنَّ الْجِسْمَ أَعَمُّ وَهَذَا ما حَكَاهُ أبو الْمَنَاقِبِ الزَّنْجَانِيّ عن مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَنَّ الْأَوَّلَ مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ وَاخْتَارَ الثَّانِيَ أَيْضًا الْقَرَافِيُّ وَالْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحَا الْمَحْصُولِ وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ هِيَ هِيَ وَلَا لَازِمَةً لها فلم يَدُلَّ عليها لَا مُطَابَقَةً وَلَا الْتِزَامًا فَعَلَى هذا الْأَمْرُ بِالْجِنْسِ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِشَيْءٍ من أَنْوَاعِهِ أَلْبَتَّةَ وَذَلِكَ كَالْمَأْمُورِ بِالْبَيْعِ أَعَمُّ من أَنْ يَكُونَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ أو بِغَبْنٍ فَاحِشٍ أو غَيْرِ ذلك لِأَنَّ الْبَيْعَ مُشْتَرَكٌ بين هذه الْأُمُورِ وَحَيْثُ حُمِلَ على مُعَيَّنٍ كَالْأَمْرِ من الْمُوَكِّلِ لِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا فإنه مَحْمُولٌ على الشَّيْءِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ فَإِنَّمَا هو لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَحَيْثُ لم يُوجَدْ دَلِيلٌ مُنْفَصِلٌ يُخَيَّرُ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ من تَحْصِيلِ الْمَاهِيَّةِ وَلَا يُمْكِنُ ذلك إلَّا في ضِمْنِ جُزْئِيٍّ وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى من الْبَعْضِ فَيَتَعَيَّنُ التَّخْيِيرُ
____________________
(2/137)
وَتَوَسَّطَ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ فقال الْمَطْلُوبُ الْمَاهِيَّةُ من حَيْثُ هِيَ هِيَ لَا بِقَيْدِ الْجُزْئِيَّةِ وَلَا بِقَيْدِ الْكُلِّيَّةِ وَلَا يَلْزَمُ من عَدَمِ اعْتِبَارِ أَحَدِهَا اعْتِبَارُ الْآخَرِ وَأَنَّ ذلك غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ بَلْ هو مَوْجُودٌ في ضِمْنِ الْجُزْئِيَّاتِ قال وَيُوَضِّحُ هذا كَلَامُهُمْ في الْفَرْقِ بين الْمَاهِيَّةِ بِشَرْطِ شَيْءٍ وَبِشَرْطِ لَا شَيْءٍ وَلَا بِشَرْطٍ وقال الْأَصْفَهَانِيُّ هذه الْمَسْأَلَةُ تَسْتَدْعِي تَجْدِيدَ الْعَهْدِ بِمَسْأَلَةٍ مَنْطِقِيَّةٍ وَهِيَ أَنَّ الْكُلِّيَّ إمَّا مَنْطِقِيٌّ أو طَبِيعِيٌّ أو عَقْلِيٌّ لِأَنَّا إذَا قُلْنَا الْبَيْعُ كُلِّيٌّ فَهُنَاكَ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ الْأَوَّلُ مَاهِيَّةُ الْبَيْعِ من حَيْثُ هِيَ هِيَ وهو الطَّبِيعِيُّ الثَّانِي قَيَّدَ كَوْنَهُ كُلِّيًّا أَيْ يَشْتَرِكُ في مَفْهُومِهِ كَثِيرُونَ وَهِيَ الْمَنْطِقِيُّ وَالثَّالِثُ تِلْكَ الْمَاهِيَّةُ بِقَيْدِ كَوْنِهَا كُلِّيَّةً وهو الْعَقْلِيُّ فَأَمَّا الطَّبِيعِيُّ فَهُوَ مَوْجُودٌ في الْأَعْيَانِ لِأَنَّ هذا الْبَيْعَ مَوْجُودٌ وَجُزْءُ هذا الْبَيْعِ نَفْسُ الْبَيْعِ بِالضَّرُورَةِ وَجُزْءُ الْمَوْجُودِ مَوْجُودٌ وَأَمَّا الْمَنْطِقِيُّ وَالْعَقْلِيُّ فَفِي وُجُودِهِمَا في الْخَارِجِ خِلَافٌ يَتَفَرَّعُ على أَصْلٍ آخَرَ وهو أَنَّ الْأُمُورَ النِّسْبِيَّةَ هل لها وُجُودٌ في الْخَارِجِ أَمْ لَا وَفِيهِ خِلَافٌ بين الْعُقَلَاءِ قال وَبِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ يَتَبَيَّنُ ضَعْفُ كَلَامِ الْآمِدِيَّ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَيْعَ وهو الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بين الْبِيَاعَاتِ هو الْكُلِّيُّ الطَّبِيعِيُّ وَلَا شَكَّ في وُجُودِهِ في الْأَعْيَانِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في الْكُلِّيَّيْنِ الْآخَرَيْنِ وَبِهِ يَنْدَفِعُ عَدَمُ تَصَوُّرِهِ في نَفْسِ الطَّلَبِ وَلُزُومِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُطْلَقِ غَيْرُ الْقَيْدِ في اللَّفْظِ بِقَيْدٍ أو وَصْفِهِ بَلْ أَطْلَقَ إنْ طُلِبَ فِعْلٌ من الْأَفْعَالِ وَلَا شَكَّ أَنَّ ما لَا يُطْلَبُ إيقَاعُهُ في الْأَعْيَانِ لَا يَكُونُ كُلِّيًّا لِأَنَّ الْكُلِّيَّ ليس في الْخَارِجِ وَلَا يَقْبَلُهُ الْخَارِجُ وإذا كان هَكَذَا فَيَكُونُ الْمَطْلُوبُ جُزْئِيًّا قُلْنَا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جُزْئِيًّا مُعَيَّنًا عِنْدَ الْمُكَلَّفِ تَقَعُ فيه الْإِشَارَةُ إلَيْهِ لِأَنَّ ذلك مُتَعَذِّرٌ قَطْعًا فَإِذَنْ يَكُونُ الْمَطْلُوبُ جُزْئِيًّا غير مُعَيَّنٍ مِثْلَ النَّكِرَاتِ كُلِّهَا كما تَقُولُ إذَا لَقِيت رَجُلًا فَأَكْرِمْهُ فَلَا شَكَّ أَنَّ الذي يَلْقَاهُ هو جُزْئِيٌّ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ وَيُفَسِّرُ اللِّقَاءُ بِمُعَيَّنٍ وَالْقَائِلُ الْآخَرُ يقول الْمَطْلُوبُ الْمَاهِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ وَيَتَفَسَّرُ بِجُزْءٍ منها أو جُزْئِيَّاتٍ
____________________
(2/138)
مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ الْأَمْرُ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ ليس أَمْرًا بِذَلِكَ الشَّيْءِ ما لم يَدُلَّ عليه دَلِيلٌ وَإِلَّا لَزِمَ التَّخَلُّفُ في مِثْلِ قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ كَذَا قال الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ كما كان على ضَرْبَيْنِ بِوَسَطٍ وَبِغَيْرِ وَسَطٍ جَعَلُوا الْأَمْرَ بِوَسَطٍ ليس أَمْرًا حَقِيقِيًّا وَنَقَلَ الْعَالَمِيُّ عن بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَمْرٌ وَنَصَرَهُ الْعَبْدَرِيُّ وابن الْحَاجِّ في كَلَامِهِمَا على الْمُسْتَصْفَى وَقَالَا هو أَمْرٌ حَقِيقَةً لُغَةً وَشَرْعًا بِدَلِيلِ قَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ آللَّهُ أَمَرَكَ بهذا فقال نعم فَفَهِمَ الْأَعْرَابِيُّ الْجَافِي من أَمْرِ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَبَادَرَ إلَى الطَّاعَةِ قَائِلًا وَأَيُّ فَرْقٍ بين قَوْلِهِ لِلنَّاسِ افْعَلُوا كَذَا وَقَوْلِهِ لِنَبِيِّهِ مُرْهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ أَيْضًا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فإنه قد جاء في رِوَايَةٍ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا وفي رِوَايَةٍ فَأَمَرَهُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْ يُرَاجِعَهَا فَفِي هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ الْأَمْرُ له وهو رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَلَوْ لم يَكُنْ قَوْلُهُ في الرِّوَايَةِ الْأُولَى مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا دَالًّا على أَنَّهُ مَأْمُورٌ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَا كان مَرْوِيًّا في الرِّوَايَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ بِالْمَعْنَى لِأَنَّ الْمَعْنَى يَكُونُ مُخْتَلِفًا حِينَئِذٍ وَكَلَامُ سُلَيْمٍ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَجِبُ على الثَّانِي الْفِعْلُ جَزْمًا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في تَسْمِيَتِهِ أَمْرًا أَمْ لَا فإنه قال إذَا أَمَرَ
____________________
(2/139)
اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِأَنْ يَأْمُرَ أُمَّتَهُ بِشَيْءٍ فإن ذلك الشَّيْءَ يَجِبُ فِعْلُهُ عليهم من حَيْثُ الْمَعْنَى وَهَكَذَا إذَا أَمَرَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْوَاحِدَ من أُمَّتِهِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِشَيْءٍ كان دَالًّا على وُجُوبِ الْفِعْلِ عليه وَيَصِيرُ ذلك بِمَنْزِلَةِ وُرُودِ الْأَمْرِ ابْتِدَاءً عليه انْتَهَى وَجَعَلَ ابن الْحَاجِبِ في الْمُنْتَهَى مَوْضِعَ الْخِلَافِ نحو مُرْ فُلَانًا بِكَذَا أَمَّا لو قال قُلْ لِفُلَانٍ افْعَلْ كَذَا فَالْأَوَّلُ آمِرٌ وَالثَّانِي مُبَلِّغٌ قَطْعًا وَمِثْلُهُ قَوْلُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ الْخِلَافُ في أَمْرِ الِاسْتِصْلَاحِ نَحْوُ مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ فَأَمَّا ما أُرِيدَ بِهِ التَّبْلِيغُ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الثَّالِثَ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ الْأَمْرِ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ على أَنَّ من طَلَّقَ زَوْجَتَهُ في الْحَيْضِ بِغَيْرِ عِوَضٍ بَعْدَ الدُّخُولِ اُسْتُحِبَّ له أَنْ يُرَاجِعَهَا لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِعُمَرَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا فَلَوْ كان لِلْخِلَافِ في هذه الْحَالَةِ مَجَالٌ لَجَرَى خِلَافٌ في الِاسْتِحْبَابِ وَفَصَّلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فقال إنْ قَامَتْ قَرِينَةٌ تَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ التَّبْلِيغُ كان ذلك أَمْرًا لِلثَّانِي وَإِلَّا فَلَا وهو حَسَنٌ وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ إنْ كان لِلْأَوَّلِ بِأَمْرِ الثَّالِثِ فَالْأَمْرُ الثَّانِي بِالْأَمْرِ الثَّالِثِ وَإِلَّا فَلَا وَمَعْنَى هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الشَّارِعَ إذَا أَمَرَ مُبَلِّغًا بِشَيْءٍ فَهَلْ هو أَمْرٌ لِلْمَأْمُورِ الثَّانِي بِذَلِكَ كما لو تَوَجَّهَ نَحْوَهُ الْأَمْرُ من غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَالْجُمْهُورُ على أَنَّهُ ليس كَذَلِكَ وَنُقِلَ فيه خِلَافٌ ولم يُسَمِّ قَائِلَهُ نعم الْخِلَافُ بين أَصْحَابِنَا الْفُقَهَاءِ مَشْهُورٌ في أَنَّ الصَّبِيَّ مَأْمُورٌ بِأَمْرِ الْوَلِيِّ فَقَطْ أو مَأْمُورٌ بِأَمْرِ الشَّارِعِ وَرَجَّحُوا الْأَوَّلَ وَذَلِكَ نَظَرٌ إلَى وَضْعِ اللَّفْظِ فَقَطْ وَجُنُوحٌ إلَى أَنَّ الصَّبِيَّ خَارِجٌ عن حُكْمِ الْخِطَابِ وهو مُقْتَضَى حَدِّ الْحُكْمِ بِأَنَّهُ الْخِطَابُ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَالْأَحْسَنُ التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ وَمَثَّلَ جَمَاعَةٌ منهم الْغَزَالِيُّ هذه الْمَسْأَلَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى خُذْ من أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً الْآيَةَ وَقَالُوا إنَّ ذلك بِمُجَرَّدِهِ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْإِعْطَاءِ إلَّا من جِهَةِ وُجُوبِ طَاعَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في الْجُمْلَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ ليس أَمْرًا إلَّا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ الذي اقْتَضَاهُ وُجُوبُ طَاعَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بَلْ هذه الْآيَةُ تَرْجِعُ إلَى أَنَّ ما لَا يَتِمُّ الشَّيْءُ الْمَأْمُورُ بِهِ وَلَيْسَ من فِعْلِ الْمُكَلَّفِينَ هل يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ أَمْ لَا وَلَا تَعَلُّقَ لِذَلِكَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
____________________
(2/140)
مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ بِالْإِتْمَامِ الْأَمْرُ بِالْإِتْمَامِ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالشُّرُوعِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِتْمَامُ إلَّا بَعْدَ الشُّرُوعِ وَلِهَذَا احْتَجَّ أَصْحَابُنَا على وُجُوبِ الْعُمْرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَسْأَلَةٌ إيجَابُ اللَّهِ على رَسُولِهِ شيئا إذَا أَوْجَبَ اللَّهُ على رَسُولِهِ شيئا لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِغَيْرِهِ مِثْلُ أَنْ يُوجِبَ عليه أَخْذَ الزَّكَاةِ فَهَلْ يَتَضَمَّنُ هذا الْأَمْرُ إيجَابَ إعْطَاءِ الزَّكَاةِ على أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ أَمْ لَا فيه خِلَافٌ حَكَاهُ ابن الْقُشَيْرِيّ فقال قال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَجِبُ عليهم بِنَفْسِ ذلك الْأَمْرِ وَلَعَلَّهُمْ يُقَرِّبُونَ هذا من قَوْلِنَا الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ أَمْرٌ بِالْوُضُوءِ وقال الْقَاضِي يَجِبُ على أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ الِابْتِدَارُ إلَى الْإِعْطَاءِ لَا من جِهَةِ الْأَمْرِ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ ليس في إيجَابِ الْأَخْذِ على الرَّسُولِ إيجَابُ الْإِعْطَاءِ على الْغَيْرِ بَلْ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ عليه الْأَخْذُ فَيَأْمُرُ بِالْإِعْطَاءِ وَأَمْرُهُ وَاجِبٌ وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ على وُجُوبِ الْإِعْطَاءِ عِنْدَ وُجُوبِ الْأَخْذِ عليه حُكْمًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عليه مَسْأَلَةٌ الْآمِرُ هل يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ اخْتَلَفُوا في أَنَّ الْآمِرَ هل يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ أَمْ لَا على وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ وَنَصَّ على عَدَمِ الدُّخُولِ وَكَذَا نَصَرَهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وقال الْقَوْلُ بِالدُّخُولِ ظَاهِرُ الْفَسَادِ وَقَطَعَ بِهِ الْجُرْجَانِيُّ في كِتَابِ الْوَصِيَّةِ قال لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَأْمُورَ غَيْرُهُ وَلَا بُدَّ من تَحْرِيرِ النِّزَاعِ فَنَقُولُ له حَالَاتٌ إحْدَاهَا أَنْ يَقُولَ لِنَفْسِهِ افْعَلِي مُرِيدًا ذلك الْفِعْلَ من نَفْسِهِ وَلَا نِزَاعَ في جَوَازِهِ وَهَلْ يُسَمَّى حَسَنًا أَمْ لَا قال الْهِنْدِيُّ الْحَقُّ الْمَنْعُ إذْ لَا فَائِدَةَ فيه
____________________
(2/141)
وَهَلْ يُسَمَّى أَمْرًا إنْ شَرَطْنَا الْعُلُوَّ أو الِاسْتِعْلَاءَ امْتَنَعَ وَإِنْ لم نَشْرِطْهُ فَيُحْتَمَلُ الْمَنْعُ أَيْضًا لِأَنَّ الْمُغَايَرَةَ بين الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ مُعْتَبَرَةٌ وَهِيَ مَفْقُودَةٌ هَاهُنَا فَإِنْ لم نَعْتَبِرْهَا سُمِّيَ بِهِ وهو بَعِيدٌ الثَّانِيَةُ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِلَفْظٍ خَاصٍّ بِهِ لَا يَتَنَاوَلُهُ فَلَا يَدْخُلُ الْآمِرُ تَحْتَهُ قَطْعًا سَوَاءٌ أَمَرَ عن نَفْسِهِ أو أَخْبَرَ بِالْأَمْرِ عن غَيْرِهِ الثَّالِثَةُ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِلَفْظٍ عَامٍّ مُتَنَاوِلٍ له فَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَ بِأَمْرٍ الْغَيْرِ قال الْهِنْدِيُّ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ في دُخُولِهِ تَحْتَ الْأَمْرِ كما إذَا تَلَا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَ بِأَمْرِ نَفْسِهِ كَقَوْلِهِ يا أَيُّهَا الناس أو يا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ افْعَلُوا كَذَا فَهَذَا هو مَحَلُّ النِّزَاعِ وَالْأَكْثَرُونَ على دُخُولِهِ نَظَرًا إلَى عُمُومِ اللَّفْظِ فإن كَوْنَهُ أَمْرًا لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا له وَلِهَذَا دخل عليه السَّلَامُ في كَثِيرٍ من أَوَامِرِهِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ دَلِيلٍ آخَرَ كَذَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُ وَسَيَأْتِي في الْعُمُومِ لَكِنَّ الْأَكْثَرِينَ وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ على عَدَمِ دُخُولِهِ وقال صَاحِبُ الْوَاضِحِ الْمُعْتَزِلِيُّ لَا خِلَافَ في أَنَّ الْآمِرَ لَا يَدْخُلُ في الْأَمْرِ إذَا أَمَرَ عن نَفْسِهِ فَأَمَّا إذَا أَخْبَرَ بِالْأَمْرِ عن غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لِأُمَّتِهِ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ بِصَوْمِ يَوْمٍ فَاخْتَلَفُوا فيه على قَوْلَيْنِ وَالصَّحِيحُ دُخُولُهُ قال وَأَمَّا الْمُخْبِرُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَدْخُلُ في الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ من قَعَدَ في الْمَطَرِ ابْتَلَّ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُخْبِرُ عن نَفْسِهِ لِأَنَّهُ عَبَثٌ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَصِيرُ مُخْبِرًا لِغَيْرِهِ عن نَفْسِهِ أَنَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَكَلَامُ الْهِنْدِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ الْخَبَرَ مَحَلُّ وِفَاقٍ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ قال وَلِهَذَا قِيلَ وَلَا أنت يا رَسُولَ اللَّهِ وَمَرْتَبَتُهُ كَوْنُهُ مُخَاطِبًا لَا يَخُصُّهُ وَكَذَا في الْأَمْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ بِمَزِيدِ تَتِمَّةٍ في بَابِ الْعُمُومِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
____________________
(2/142)
مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ بِالصِّفَةِ الْأَمْرُ بِالصِّفَةِ أَمْرٌ بِالْمَوْصُوفِ فإذا أَمَرَ بِالطُّمَأْنِينَةِ في الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ كان أَمْرًا بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ قال وَغَلِطَتْ الْحَنَفِيَّةُ حَيْثُ اسْتَدَلُّوا على وُجُوبِ التَّلْبِيَةِ في الْإِحْرَامِ بِمَا رُوِيَ أَنْ جِبْرِيلَ عليه السَّلَامُ نَزَلَ على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال مُرْ أَصْحَابَك لِيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ فَجَعَلُوا النَّدْبَ إلَى الصِّفَةِ وَهِيَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ دَلِيلًا على وُجُوبِ التَّلْبِيَةِ وَهَذَا غَلَطٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ قد يُنْدَبُ إلَى صِفَةِ ما هو وَاجِبٌ وَمُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ في نَدْبِهِ إلَى الصِّفَةِ ما يَقْتَضِي إيجَابَ الْمَوْصُوفِ وَاَلَّذِي يَتَنَاوَلُهُ بِصَرِيحِهِ هو رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ وَنَفْسُ التَّلْبِيَةِ إنَّمَا يُعْلَمُ من ضَمِيمِهِ على سَبِيلِ التَّبَعِ له وما تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ غَيْرُ وَاجِبٍ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ ما كان مُسْتَفَادًا من ضِمْنِهِ الْمُتَوَصَّلِ إلَيْهِ أَوْلَى وَفِيمَا أُطْلِقَ حِكَايَتُهُ عن الْحَنَفِيَّةِ نَظَرٌ وقال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إذَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِهَيْئَةٍ أو صِفَةٍ لِفِعْلٍ دَلَّ الدَّلِيلُ على أنها مُسْتَحَبَّةٌ جَازَ التَّمَسُّكُ بِهِ على وُجُوبِ أَصْلِ الْفِعْلِ لِتَضَمُّنِهِ الْأَمْرَ بِهِ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ وُجُوبُهَا فإذا خُولِفَ في الصَّرِيحِ بَقِيَ التَّضَمُّنُ على أَصْلِ الِاقْتِضَاءِ قال ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا وَنَصَّ عليه أَحْمَدُ حَيْثُ تَمَسَّكَ على وُجُوبِ الِاسْتِنْشَاقِ بِالْأَمْرِ بِالْمُبَالَغَةِ وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا حَكَاهُ الْجُرْجَانِيُّ لَا يَبْقَى دَلِيلٌ على وُجُوبِ الْأَصْلِ انْتَهَى وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ الْأَمْرُ بِإِيجَادِ الصِّفَةِ وَإِدْخَالِهَا في الْوُجُودِ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِالْمَوْصُوفِ لِاسْتِحَالَةِ دُخُولِ الصِّفَةِ في الْوُجُودِ بِدُونِ الْمَوْصُوفِ وما لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وقد يَكُونُ الْأَمْرُ بِالصِّفَةِ على تَقْدِيرِ وُجُودِ الْمَوْصُوفِ وقد
____________________
(2/143)
يَحْتَمِلُ الْحَالُ الْأَمْرَيْنِ كَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ هل الْمُرَادُ إدْخَالُ إفْشَاءِ السَّلَامِ في الْوُجُودِ فَيَكُونُ أَمْرًا بِأَصْلِ السَّلَامِ أو الْمُرَادُ إفْشَاؤُهُ على تَقْدِيرِ وُجُودِهِ أَيْ إذَا سَلَّمْتُمْ فَلْيَكُنْ فَاشِيًّا مَسْأَلَةٌ وُرُودُ الْأَمْرِ بِإِيجَادِ الْفِعْلِ إذَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِإِيجَادِ فِعْلٍ فَهَلْ يَقَعُ الِاكْتِفَاءُ بِمَا يَقَعُ الِاسْمُ عليه أَمْ لَا قال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ اخْتَلَفَ فيه الْأُصُولِيُّونَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُجْزِئُ ما وَقَعَ عليه الِاسْمُ وقال سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ الْأَمْرُ بِفِعْلِ الشَّيْءِ يَتَضَمَّنُ وُجُوبَ أَدْنَى ما يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ ذلك الْفِعْلِ وَقِيلَ يَقْتَضِي الْأَكْثَرَ لنا أَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فإذا وَرَدَ مُطْلَقُ الْأَمْرِ تَعَلَّقَ بِالْمُتَيَقَّنِ وَالزِّيَادَةُ مَشْكُوكٌ فيها قال وإذا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ فَزَادَ عليه فَالزِّيَادَةُ تَطَوُّعٌ وَعَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْجَمِيعَ وَاجِبٌ مسألة الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده إن كان له ضد واحد كصوم العيد فالنهي عن صومه أمر بضده وهو الفطر فلا خلاف وإلا لأدى إلى التناقض ومثله الأمر بالإيمان نهي عن الكفر وإن كان له أضداد كالأمر بالقيام فإن له أضدادا من القعود والركوع والسجود والاضطجاع ونحوها وكالزنى فإن من أضداده الصلاة والنوم والمشي وغيرها فهو محل الخلاف قيل نهي عن جميع أضداده وقيل عن واحد منها لا بعينه حكاه عبد العزيز في شرح البزدوي واعلم أن الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين أحدهما النفساني واختلف المثبتون له في أن الأمر بشيء معين هل هو نهي عن ضده الوجودي على مذاهب
____________________
(2/144)
أحدها أنه ليس نهيا عن ضده لا لفظا ولا يقتضيه عقلا واختاره الإمام والغزالي وإلكيا الطبري وحكاه الشيخ أبو حامد وسليم وابن برهان وصاحب الواضح والمعتمد وإمام الحرمين في التلخيص عن المعتزلة بناء على أصلهم في اعتبار إرادة الناهي وذلك غير معلوم لكن نقل إمام الحرمين في البرهان عنهم أنه يتضمنه وهو محمول على اللسان كما سيأتي فتفطن له وقال إمام الحرمين وإلكيا في تعليقه إن هذا الذي استقر عليه رأي القاضي أبي بكر بعد أن كان يقول إنه نهي عن ضده والثاني أنه نفس النهي عن ضده من حيث اللفظ والمعنى بناء على أن الأمر لا صيغة له واتصافه بكونه أمرا ونهيا بمثابة اتصاف الكون الواحد بكونه قريبا من شيء بعيدا من شيء وهذا قول الشيخ أبي الحسن الأشعري والقاضي وأطنب في نصرته في التقريب ونقله عن جميع أهل الحق النافين لخلق القرآن ونقله في المنخول عن الأستاذ أبي إسحاق والكعبي ونقله ابن برهان في الأوسط عن العلماء قاطبة وقال صاحب اللباب هو قول أبي بكر الجصاص وهو أشبه وقال القاضي عبد الوهاب في الملخص هو قول المتكلمين منهم الأشعري وغيره أنه نهي عن ضده من حيث اللفظ والمعنى لأن الأمر لا صيغه له قال ابن دقيق العيد وهذا المذهب لا يتأتى مع القول بأن الأمر هو القول لأن إحدى الصيغتين لا تكون عين الأخرى قطعا فليؤول على أنه يستلزمه انتهى وهو عجب لأن الأشعري بناه على أن الأمر لا صيغه له كما سبق نقله عن القاضي عبد الوهاب وغيره وكذلك قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني بنى الأشعري هذا على أصله في أن الأمر لا صيغه له وإنما هو معنى قائم بالنفس وكذلك للنهي فالأمر عندهم هو نفس النهي من هذا الوجه وقال الهندي لم يرد القائل أن صيغة تحرك مثلا غير صيغة لا تسكن فإن ذلك معلوم الفساد بالضرورة بل يعني أن المعنى المعبر عنه ب تحرك عين المعنى المعبر عنه ب لا تسكن وقالوا إن كونه أمرا ونهيا بالنسبة إلى الفعل وضده الوجودي لكون الحركة قربا وبعدا بالنسبة إلى جهتين وقد وجهه الماوردي بأن الأمر له متعلقان متلازمان اقتضاء الفعل والإيقاع والنهي عن الفعل والاجتناب وترك الفعل فعل
____________________
(2/145)
آخر وهو ضد المتروك والثالث أنه ليس هو ولكن يتضمنه من طريق المعنى وبه جزم القاضي أبو الطيب ونصره الشيخ أبو إسحاق في التبصرة وابن الصباغ في العدة ونقله الشيخ أبو حامد الإسفراييني وسليم عن أكثر أصحابنا قال وهو قول أكثر الفقهاء كافة وقال ابن السمعاني هو مذهب عامة الفقهاء ونقله عبد الوهاب عن أكثر أصحاب الشافعي قال وهو الذي يقتضيه مذهب أصحابنا وإن لم يصرحوا به وقال الباجي عليه عامة الفقهاء واختاره الآمدي والإمام فخر الدين وقال أبو زيد الدبوسي في التقويم إنه المختار وبه جزم أبو منصور الماتريدي فقال إنه نهي عن ضده بدلالة الالتزام وكذا ا قال البزدوي والسرخسي منهم وقال إمام الحرمين وابن القشيري والمازري إن القاضي مال إليه في آخر مصنفاته وقال صاحب الواضح وقصد الفقهاء من هذه المسألة أن الأمر للوجوب فلهذا قالوا إنه نهي عن ضده ثم رد الإمام على من قال هو عينه بأنه جحد للضرورة فإن القول المعبر عنه ب افعل مغاير للمعبر عنه ب لا تفعل قيل وهذا منه غلط أو مغالطة إذ ليس الكلام في افعل ولا تفعل بل في افعل ولا تترك وليس بطلان اتحاد مدلولهما ضروريا وأبطل مذهب التضمن بأن الأمر قد لا يخطر له الضد ولو خطر له فلا قصد له في تركه إلا على معنى أن ذلك وسيلة إلى المأمور به واعترف بأنه يرى استلزام الوجوب الوعيد على الترك فكيف لا يخطر له الضد من الترك ولا بد أن يكون متوعدا عليه ثم هذا الخلاف في الكلام النفسي بالنسبة إلى المخلوق لأنه الذي يغفل عن الضد وأما الله تعالى فكلامه واحد لا يتطرق إليه ذهول كما صرح به الغزالي وابن القشيري واحترزنا بقولنا معين عن الواجب المخير والموسع فإن الأمر بهما ليس نهيا عن الضد والمسألة مقصورة على الواجب المعين صرح به الشيخ أبو حامد الإسفراييني والقاضي في التقريب واحترزنا بالوجودي عن الترك فإن الأمر بالشيء نهي عن تركه بطريق التضمن قطعا كما قاله الهندي وغيره وإنما الخلاف في أنه هل هو نهي عن ضده الوجودي المقام الثاني بالنسب إلى الكلام اللساني عند من رأى أن للأمر صيغة وفيه مذهبان أحدهما أن الأمر يتضمن النهي عن الضد وهو رأي المعتزلة منهم عبد الجبار وأبو الحسين قال ابن الأنباري وإنما ذهبوا إلى ذلك لإنكارهم كلام النفس والكلام عندهم
____________________
(2/146)
ليس إلا العبارات فلم يمكنهم أن يقولوا الأمر بالشيء نهي عن ضده لاختلاف الألفاظ قطعا فقالوا إنه يقتضيه ويتضمنه وليس يعنون بذلك إشعارا لغويا أو أمرا لفظيا فقط ولكنهم يقولون الأمر قول القائل لمن دونه افعل مع إرادات ومريد الشيء لا بد وأن يكون كارها لضده فيلزم أن يكون الأمر بالشيء نهيا عن ضده وفرق إمام الحرمين بين هذا القول وقول القاضي آخرا بأن المعتزلة يقولون صيغه الأمر تقتضي النهي وذلك الاقتضاء راجع إلى فهم معنى من لفظ من يشعر به والقاضي يقول بالكلام النفسي وما يقوم بالنفس لا إشعار له بغيره ولكنه يقول إذا قام بالنفس الأمر الحقيقي فمن ضروراته أن يقوم بالنفس معه قول آخر هو نهي عن أضداد المأمور به كما يقتضي قيام العلم بالمحل قيام الحياة به والثاني أنه لا يدل عليه أصلا وجزم به النووي في الروضة في كتاب الطلاق ولا يمكن أحد هنا أن يقول إنه هو فإن صيغة تحرك غير صيغة لا تسكن قطعا ولبعض المعتزلة مذهب ثالث وهو أن أمر الإيجاب يكون نهيا عن أضداده ومقبحا لها لكونها مانعة من فعل الواجب المندوب فإن أضداده مباحة غير منهي عنها ولا تنزيه غالبا واختار الآمدي أن يقال إن جوزنا تكليف ما لا يطاق فالأمر بالفعل ليس نهيا عن الضد ولا مستلزما للنهي عنه بل يجوز أن يؤمر بالفعل وبضده في الحالة الواحدة وإن منع فالأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده واختاره الهندي أنه نهي عن ضده بطريق الاستلزام لا أنه وضده يستلزم ذلك بل مع مقدمة أخرى وهي أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب لو قيل باستحالة تكليف ما لا يطاق وقال أبو الحسين في المعتمد ليس الخلاف في تسمية الأمر حقيقة لبطلانه ولا في أن صيغة لا تفعل موجودة في الأمر لأن الحس يدفعه بل في أنه نهي عن ضده في المعنى واعلم أن الذي دلنا على الفصل بين المقامين وتنزيل خلاف كل قوم على حالة أن الشيخ والقاضي لم يتكلما إلا في النفسي ويدل لذلك قولهما إن اتصافه بالأمر والنهي على ما سبق والإمام في المحصول اختار أن الأمر يتضمن النهي عن ضده والظاهر أن كلامه في اللساني لأنه عبر بالصيغة وخلاف المعتزلة أنما يتصور فيه لأنهم ينكرون النفسي ولا أمر عندهم إلا بالعبارة إذا علمت ذلك فقد استشكل تصوير المسألة بأنه إن كان الكلام في النفساني
____________________
(2/147)
بالنسبة إلى الله تعالى فالله تعالى بكل شيء عليم وكلامه واحد وهو أمر ونهي وخبر واحد بالذات متعدد بالمتعلقات وحينئذ فأمر الله عين نهيه فكيف يتجه فيه خلاف وإن كان الخلاف بالنسبة إلى المخلوق فقط كما صرح به الغزالي وابن القشيري فكيف يقال هو أو يتضمنه مع احتمال ذهوله عن الضد مطلقا وهذا هو عمدة إمام الحرمين كما سبق وجوابه أن القائل بأنه أجراه مجرى العلم المتعلق بمتلازمين كيمين وشمال وفوق وتحت فإن من المستحيل علم الفوق وجهل التحت وعكسه وكذلك يستحيل أن يتعلق الأمر بالنفسي باقتضاء فعل ولا يتعلق النهي عن تركه وإنما الإشكال على القول بتضمنه النهي وجوابه ما ذكره إمام الحرمين أن هؤلاء لا يعنون بالاقتضاء ما يريده المعتزلة وإنما هؤلاء يعتقدون أن الأمر النفسي مقارنة نهي نفسي أيضا يجري ذلك مجرى الحياة في العلم فإن العلم إذا وجد اقتضى وجود الحياة وممن جزم أن الخلاف في هذه المسألة إنما هو بالنسبة إلى الكلام اللساني لا النفساني القرافي وتبعه عليه التبريزي في التنقيح فقال لا يتحقق هذا الخلاف في كلام الله تعالى لأن مثبتي كلام النفس مطبقون على اتحاد كلام الله من أمر ونهي ووعد ووعيد واستفهام إلى جميع الأقسام الواقعة في الكلام فهو تعالى آمر بعين ما هو ناه عنه ولا شك أن قول القائل تحرك غير قوله لا تسكن وإنما النظر في قوله افعل إنما يتضمن ذلك على خلاف فيه طلب الفعل فهو طالب ترك ضده أم لا وكذا قال الصفي الهندي هذا النزاع غير متصور في كلام الله تعالى على رأي من يرى اتحاده بل في كلام المخلوقين وفي كلام الله تعالى على رأي من يرى تعدده وقال ابن القشيري الكلام في هذه المسألة مع مثبتي كلام النفس أما من نفاه فلا يمكنه أن يقول الأمر عين النهي فإن صيغة افعل غير صيغة لا تفعل لكنهم قالوا يقتضيه من طريق المعنى قال وصار إلى هذا ضعفة الفقهاء ومن لم يتحقق عنده كلام النفس ثم قال الخلاف في أمر المخلوق أما كلام الله فهو قديم وهو صفة واحدة يكون أمرا بكل مأمور ونهيا عن كل نهي خبرا عن كل مخبر ثم قال في آخر المسألة والقول بأن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده يلزم المصير إلى مذهب الكعبي لأن من ضرورة ارتكاب المباح أن يترك محظورات فوجه النظر إلى مقصود
____________________
(2/148)
الآمر والناهي والمبيح لا فيما يقع من ضرورة الجبلة وهذا نهاية المسألة النَّهْيُ عن الشَّيْءِ إنْ كان له أَضْدَادٌ أَمَّا النَّهْيُ عن الشَّيْءِ فَأَمْرٌ بِضِدِّهِ إنْ كان له ضِدٌّ وَاحِدٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالنَّهْيِ عن الْحَرَكَةِ يَكُونُ أَمْرًا بِالسُّكُونِ وَإِنْ كان له أَضْدَادٌ فَاخْتَلَفُوا فيه فَقِيلَ نَفْسُ الْأَمْرِ بِضِدِّهِ كما في جَانِبِ الْأَمْرِ قَالَهُ الْقَاضِي ثُمَّ مَالَ آخِرًا إلَى أَنَّهُ يَتَضَمَّنُهُ وَقِيلَ بَلْ ذلك في جَانِبِ الْأَمْرِ لَا النَّهْيِ فَلَا يَجْرِي الْخِلَافُ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ الذي ذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ أَنَّ النَّهْيَ عن الشَّيْءِ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِ الْمَنْهِيِّ عنه وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن جَمِيعِ أَضْدَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَجَرَى عليه الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ فَقَالُوا إنْ كَالَ له ضِدٌّ وَاحِدٌ فَهُوَ أَمْرٌ بِذَلِكَ الضِّدِّ أَيْ تَضَمُّنًا كما قَالَهُ سُلَيْمُ كَالصَّوْمِ في الْعِيدَيْنِ وَكَقَوْلِهِ لَا تَكْفُرْ فإنه أَمْرٌ بِالْإِيمَانِ وَإِنْ كان له أَضْدَادٌ كَثِيرَةٌ فَهُوَ أَمْرٌ بِضِدٍّ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى تَرْكِ الْمَنْهِيِّ عنه إلَّا بِهِ فَأَمَّا إثْبَاتُ الْأَمْرِ بِسَائِرِ الْأَضْدَادِ فَلَا مَعْنَى له وَحَكَاهُ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ عن الْعُلَمَاءِ قَاطِبَةً وقال صَاحِبُ اللُّبَابِ من الْحَنَفِيَّةِ النَّهْيُ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِضِدِّهِ إنْ كان ذَا ضِدٍّ وَاحِدٍ فَإِنْ كان له أَضْدَادٌ فقال أبو عبد اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ لَا يَقْتَضِي أَمْرًا بها وقال الشَّافِعِيُّ يَقْتَضِي أَمْرًا بِالْوَاحِدِ وهو قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا انْتَهَى وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ قَوْلًا ثَالِثًا أَنَّهُ ليس بِأَمْرٍ بِشَيْءٍ مُطْلَقًا وَشَنَّعَ على من قال بِأَنَّ النَّهْيَ عن ذِي أَضْدَادٍ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ فقال من قال إنَّ النَّهْيَ عن الشَّيْءِ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ فَقَدْ اقْتَحَمَ أَمْرًا عَظِيمًا وَبَاحَ بِالْتِزَامِ مَذْهَبِ الْكَعْبِيِّ في نَفْيِ الْإِبَاحَةِ فإنه إنَّمَا صَارَ إلَى ذلك من حَيْثُ قال الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن الْأَضْدَادِ وَيَتَضَمَّنُ لِذَلِكَ من حَيْثُ تَفَطَّنَ لِغَائِلَةِ الْمَعْنَى فَقَدْ نَاقَضَ كَلَامَهُ فإنه كما يَسْتَحِيلُ الْإِقْدَامُ على الْمَأْمُورِ بِهِ دُونَ الِانْكِفَافِ عن أَضْدَادِهِ فَيَسْتَحِيلُ الِانْكِفَافُ عن الْمَنْهِيِّ عنه دُونَ الِاتِّصَافِ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ وَالتَّحْقِيقُ في هذه الْمَسْأَلَةِ ما أَشَارَ إلَيْهِ ابن الْقُشَيْرِيّ أَنَّ هَاهُنَا شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا كَوْنُ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ هل هو نَهْيٌ عن ضِدِّهِ أَمْ لَا الثَّانِي الْمَأْمُورُ بِشَيْءٍ مَنْهِيٌّ عن جَمِيعِ أَضْدَادِهِ وَأَنَّ الْآمِرَ بِهِ نَاهٍ عن جَمِيعِ
____________________
(2/149)
الْأَضْدَادِ فَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي فيه الْإِجْمَاعَ وقال أبو نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ أنا لَا أَشُكُّ أَنَّ هذا مَمْنُوعٌ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْقَاضِيَ قال إنْ مَنَعَ ذلك مَانِعٌ قِيلَ له هذا خَرْقُ ما عليه الْكَافَّةُ مع أَنَّا نُلْجِئُهُ إلَى ما قِيلَ له بِهِ فَنَقُولُ إذَا وَرَدَ الْأَمْرُ على الْجَزْمِ بِشَيْءٍ وهو مُقَيَّدٌ بِالْفَوْرِ وَانْتَفَى عنه سِمَةُ التَّخْيِيرِ فَتَحْرِيمُ ضِدِّ الِامْتِثَالِ لَا شَكَّ فيه إذْ لو لم يَحْرُمْ فما مَعْنَى وُجُوبِ الِامْتِثَالِ انْتَهَى وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا سَبِيلَ إلَى الْقَوْلِ بِهِ مع تَجْوِيزِ عَدَمِ خُطُورِهِ بِالْبَالِ وَعَلَى تَقْدِيرِ الْخُطُورِ فَلَيْسَ الضِّدُّ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ وَإِنَّمَا هو ضَرُورِيٌّ دَعَا إلَيْهِ تَحَقُّقُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَيْسَ كُلُّ ضَرُورِيٍّ لِلشَّيْءِ يُقَالُ له إنَّهُ مَدْلُولُهُ أو يَتَضَمَّنُهُ قال وَهَذَا التَّحْقِيقُ تَحْرِيرٌ في أَنَّ الْآمِرَ بِالشَّيْءِ ليس نَاهِيًا عن أَضْدَادِهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْقِيَامِ طَالِبٌ له وقد يَخْطِرُ له ضِدُّهُ فَكَيْفَ يَطْلُبُ وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا على أَنَّ عَيْنَ الْأَمْرِ لَا يَكُونُ نَهْيًا عن ضِدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ وَكَذَا النَّهْيُ عن الشَّيْءِ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِضِدِّ الْمَنْهِيِّ عنه لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا في أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هل يُوجِبُ حُكْمًا في ضِدِّ ما أُضِيفَ إلَيْهِ فَذَهَبَ أبو هَاشِمٍ وَغَيْرُهُ من مُتَأَخِّرِي الْمُعْتَزِلَةِ إلَى أَنَّهُ لَا حُكْمَ له في ضِدِّهِ أَصْلًا بَلْ هو مَسْكُوتٌ عنه وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ كَعَبْدِ الْجَبَّارِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ يُوجِبُ حُرْمَةَ ضِدِّهِ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ من مُحَقِّقِي الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ يَدُلُّ على كَرَاهَةِ ضِدِّهِ وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّ من قال لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الضِّدِّ قال إذَا أَدَّى الِاشْتِغَالُ بِهِ إلَى فَوَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ حَرُمَ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الْمَأْمُورِ بِهِ حَرَامٌ فلما نهى الْمُحْرِمَ عن لُبْسِ الْمَخِيطِ دَلَّ على أَنَّ من السُّنَّةِ لُبْسَ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ أَطْلَقُوا الْأَمْرَ وهو يَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ وَبِهِ صَرَّحَ الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ وَجَعَلَهَا نَهْيًا عن الضِّدِّ تَحْرِيمًا وَتَنْزِيهًا وَنُقِلَ تَخْصِيصُهُ بِالْوَاجِبِ عن بَعْضِ أَهْلِ الْحَقِّ وهو الذي حَكَاهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ عن الشَّيْخِ فقال ذَهَبَ الشَّيْخُ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن ضِدِّهِ إنْ كان له ضِدٌّ وَاحِدٌ وَأَضْدَادُهُ إنْ كان ذَا أَضْدَادٍ وَحَكَى الْقَاضِي أَنَّهُ يَعْنِي الشَّيْخَ شَرَطَ في ذلك أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لَا نَدْبًا قال وقد حُكِيَ عن الشَّيْخِ أَنَّهُ قال في بَعْضِ كُتُبِهِ إنَّ النَّدْبَ حَسَنٌ وَلَيْسَ
____________________
(2/150)
مَأْمُورًا بِهِ وَعَلَى هذا الْقَوْلِ لَا يَحْتَاجُ إلَى اشْتِرَاطِ الْوُجُوبِ في الْأَمْرِ إذْ هو حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ إلَّا وَاجِبًا ثُمَّ قال الْقَاضِي وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن ضِدِّهِ من وُجُوبٍ وَنَدْبٍ قال وَلَا بُدَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الشَّيْخُ في ذلك شَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مع وُجُوبِهِ مُضَيِّقًا مُسْتَحِقَّ الْعَيْنِ لِأَجْلِ أَنَّ الْوَاجِبَ الْمُوَسِّعَ ليس بِنَهْيٍ عن ضِدِّهِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ نَهْيًا عن ضِدِّهِ وَضِدُّ الْبَدَلِ منه الذي هو بَدَلُ لَا ما إذَا كان أَمْرٌ على غَيْرِ وَجْهِ التَّخْيِيرِ انْتَهَى وَهَذَا الشَّرْطُ الثَّانِي قد سَبَقَ تَصْوِيرُ الْمَسْأَلَةِ بِهِ وقد ذَكَرَهُمَا الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ في كِتَابِهِ فقال إذَا كان شَيْءٌ وَاحِدٌ مُضَيِّقٌ مُعَيَّنٌ لَا بَدَلَ له وَذَكَرَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ أَيْضًا فقال هذا في الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ على التَّنْصِيصِ لَا على التَّخْيِيرِ فإن الْأَمْرَ على التَّخْيِيرِ قد يَتَعَلَّقُ بِالشَّيْءِ وَضِدِّهِ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ أَحَدَهُمَا لَا بِعَيْنِهِ وَذَكَرَ عبد الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ إنَّمَا يَكُونُ عن ضِدِّهِ إذَا كان الْمَأْمُورُ بِهِ مُضَيَّقَ الْوُجُوبِ بِلَا بَدَلٍ وَلَا تَخْيِيرٍ كَالصَّوْمِ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ نَهْيًا عن ضِدِّهِ كَالْكَفَّارَاتِ وَاحِدَةٌ منها وَاجِبَةٌ مَأْمُورٌ بها غَيْرُ مَنْهِيٍّ عن تَرْكِهَا لِجَوَازِ رَدِّهَا إلَى غَيْرِهَا كما في الْأَمْرِ وقد احْتَرَزَ الْقَاضِي عن هذا فقال الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن أَضْدَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَبَدَلِهِ الْقَائِمِ مَقَامَهُ إنْ كان له بَدَلٌ فَيَخْرُجُ بِذَلِكَ الْأَمْرُ الْمُشْتَمِلُ على التَّخْيِيرِ انْتَهَى وَذَكَرَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ بِمَا إذَا كان الْأَمْرُ يُوجِبُ تَحْصِيلَ الْمَأْمُورِ بِهِ على الْفَوْرِ فَلَا بُدَّ من تَرْكِ ضِدِّهِ عَقِبَ الْأَمْرِ كما لَا بُدَّ من فِعْلِهِ عَقِبَ الْأَمْرِ فَأَمَّا إذَا كان الْأَمْرُ على التَّرَاخِي فَلَا وَهَكَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ كَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ إنَّمَا يَقْتَضِي النَّهْيَ عن ضِدِّهِ إذَا اقْتَضَى التَّحْصِيلَ على الْفَوْرِ وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَاسْتُشْكِلَ وَجْهُهُ الْمُوَسَّعُ إنْ لم يَصْدُقْ عليه أَنَّهُ وَاجِبٌ فَأَيْنَ الْأَمْرُ حتى يُسْتَثْنَى منه قَوْلُهُمْ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن ضِدِّهِ وَإِنْ صَدَقَ عليه وَاجِبٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إخْلَاءُ الْوَقْتِ عنه فَضِدُّهُ الذي يَلْزَمُ من فِعْلِهِ تَفْوِيتُهُ مَنْهِيٌّ عنه وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إنْ صَدَقَ الْأَمْرُ عليه انْقَدَحَ كَوْنُهُ نَهْيًا عن ضِدِّهِ وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِاسْتِثْنَائِهِ كما قُلْنَا في الْمُخَيَّرِ
____________________
(2/151)
الثَّانِي ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هو في الضِّدِّ الذي هو الْأَمْرُ الْوُجُودِيُّ الذي هو من لَوَازِمِ نَقِيضِ الشَّيْءِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَالْأَمْرُ بِالْحَرَكَةِ هل هو نَهْيٌ عن نَفْسِ السُّكُونِ الذي هو ضِدٌّ أَمْ لَا هذا هو مَوْضِعُ الْخِلَافِ أَمَّا النَّقِيضُ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ هو عَيْنُ النَّهْيِ عن نَقِيضِهِ فإن الْحَرَكَةَ نَقِيضُ اللَّا حَرَكَةَ فَاللَّا حَرَكَةَ نَقِيضٌ وَلَيْسَ بِضِدٍّ بَلْ ضِدُّ الْحَرَكَةِ هو السُّكُونُ وَهَذَا أَمْرٌ وُجُودِيٌّ إلَّا أَنَّهُ لَازِمٌ مُسَاوٍ لِنَقِيضِ الْحَرَكَةِ فإذا وُجِدَ الْأَمْرُ بِالْحَرَكَةِ فَهَذَا بِعَيْنِهِ نَهْيٌ عن نَقِيضِهَا لِأَنَّ النَّهْيَ عن نَقِيضِهَا هو سَلْبٌ لِسَلْبِهَا وهو في نَفْسِهِ عِبَارَةٌ عن سَلْبِ الْحَرَكَةِ وَسَلْبُ سَلْبِ الْحَرَكَةِ هو نَفْسُ الْحَرَكَةِ لِأَنَّ سَلْبَ السَّلْبِ إثْبَاتٌ وَطَلَبُ سَلْبِ الْحَرَكَةِ هو طَلَبُ سَلْبِ نَفْسِ الْحَرَكَةِ فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْحَرَكَةِ هو بِعَيْنِهِ نَهْيًا عن نَقِيضِهَا وهو سَلْبُ الْحَرَكَةِ الثَّالِثُ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ إذَا لم يَقْصِدْ الضِّدَّ بِالنَّهْيِ فَإِنْ قَصَدَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ فإن الضِّدَّ مِثْلُ هذه الصُّورَةِ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ
____________________
(2/152)
النَّهْيُ هو اقْتِضَاءُ كَفٍّ عن فِعْلٍ فَالِاقْتِضَاءُ جِنْسٌ وكف مُخْرِجٌ لِلْأَمْرِ لِاقْتِضَائِهِ غير الْكَفِّ وَشَرَطَ ابن الْحَاجِبِ هُنَا على جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ كما شَرَطَهُ في الْأَمْرِ وقال الْقَرَافِيُّ لم يَذْكُرُوا الْخِلَافَ السَّابِقَ في الْأَمْرِ في اشْتِرَاطِ الْعُلُوِّ أو الِاسْتِعْلَاءِ هُنَا وَيَلْزَمُهُمْ التَّسْوِيَةُ بين الْبَابَيْنِ قُلْت قد أَجْرَاهَا ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَلَيْسَ من شَرْطِ النَّهْيِ كَرَاهَةُ الْمَنْهِيِّ عنه كما ليس من شَرْطِ الْأَمْرِ إرَادَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ اعْتَبَرُوا إرَادَةَ التَّرْكِ كما في الْأَمْرِ وَلِلنَّهْيِ صِيغَةٌ مُبَيِّنَةٌ له تَدُلُّ بِتَجْرِيدِهَا عليه وَهِيَ قَوْلُ الْقَائِلِ لَا تَفْعَلْ وَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ في الْأَمْرِ وقال الْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ ليس له صِيغَةٌ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وإذا قُلْنَا له صِيغَةٌ فَفِيهِ مَذَاهِبُ أَحَدُهَا وَنُسِبَ لِلْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَغَيْرَهُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ لِلتَّنْزِيهِ حَقِيقَةً لَا لِلتَّحْرِيمِ لِأَنَّهَا يَقِينٌ فَحُمِلَ عليه ولم يُحْمَلْ على التَّحْرِيمِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَحَكَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَجْهًا وَعَزَاهُ أبو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ لِقَوْمٍ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ حَقِيقَةً كما أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَجَعُوا في التَّحْرِيمِ إلَى مُجَرَّدِ النَّهْيِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى وما نَهَاكُمْ عنه فَانْتَهُوا وَهَذَا هو الذي عليه الْجُمْهُورُ وَتَظَاهَرَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ عليه فقال في الرِّسَالَةِ في بَابِ الْعِلَلِ في الْأَحَادِيثِ وما نهى عنه رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَهُوَ على التَّحْرِيمِ حتى يَأْتِيَ دَلَالَةٌ على أنها إنَّمَا أَرَادَ بِهِ غير التَّحْرِيمِ وقال في الْأُمِّ في كِتَابِ صِفَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ النَّهْيُ من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنْ كان ما نهى عنه فَهُوَ مُحَرَّمٌ حتى تَأْتِيَ دَلَالَةٌ أَنَّهُ بِمَعْنَى غَيْرِ التَّحْرِيمِ وَنَصَّ عليه في أَحْكَامِ الْقُرْآنِ أَيْضًا قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ قَطَعَ الشَّافِعِيُّ قَوْلَهُ إنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ بِخِلَافِ الْأَمْرِ فإنه في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لَيَّنَ الْقَوْلَ فيه وَهَذَا الذي قَالَهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ هو الذي دَلَّ عليه كَلَامُ الشَّافِعِيِّ كما سَبَقَ فَنَقُولُ إنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ قَوْلًا وَاحِدًا حتى يَرِدَ ما يَصْرِفُهُ وَلَهُ في الْأَمْرِ
____________________
(2/153)
قَوْلَانِ وَعَلَى هذا فَهَلْ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ من جِهَةِ اللُّغَةِ أَمْ من جِهَةِ الشَّرْعِ فيه وَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ في الْأَمْرِ ثُمَّ الْمُرَادُ صِيغَةُ لَا تَفْعَلْ فَأَمَّا لَفْظُ ن هـ ى فإنه لِلْقَوْلِ الطَّالِبِ لِلتَّرْكِ أَعَمُّ من أَنْ يَكُونَ حَرَامًا أو مَكْرُوهًا وقال ابن فُورَكٍ صِيغَتُهُ عِنْدَنَا لَا تَفْعَلْ وانته ( ( ( و ) ) ) واكفف ( ( ( انته ) ) ) وَنَحْوُهُ
____________________
(2/154)
وُرُودُ صِيغَةِ النَّهْيِ لِمَعَانٍ وَتَرِدُ صِيَغُهُ النَّهْيِ لِمَعَانٍ أَحَدُهَا لِلتَّحْرِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا الثَّانِي الْكَرَاهَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عليه وَمَثَّلَهُ الْهِنْدِيُّ بِقَوْلِهِ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ أَيْ على عُقْدَةِ النِّكَاحِ وقد يَدُلُّ عليه السِّيَاقُ كَقَوْلِهِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ منه تُنْفِقُونَ قال الصَّيْرَفِيُّ لِأَنَّهُ حَثَّهُمْ على إنْفَاقِ أَطْيَبِ أَمْوَالِهِمْ لَا أَنَّهُ يَحْرُمُ عليهم إنْفَاقُ الْخَبِيثِ من التَّمْرِ أو الشَّعِيرِ من الْقُوتِ وَإِنْ كَانُوا يَقْتَاتُونَ ما فَوْقَهُ وَهَذَا إنَّمَا نَزَلَ في الْأَقْنَاءِ التي كانت تُعَلَّقُ في الْمَسْجِدِ فَكَانُوا يُعَلِّقُونَ الْحَشَفَ قال فَالْمُرَادُ بِالْخَبِيثِ هُنَا الْأَرْدَأُ وقد يَقَعُ على الْحَرَامِ كَقَوْلِهِ وَيُحَرِّمُ عليهم الْخَبَائِثَ وقد يُعَلَّلُ بِالتَّوَهُّمِ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا اسْتَيْقَظَ أحدكم من نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ في الْإِنَاءِ حتى يَغْسِلَهَا فإنه لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَدِيٍّ في الْعَبْدِ إنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ قد أَمْسَكَ على نَفْسِهِ فَنَبَّهَهُ على مَظِنَّةِ الشُّبْهَةِ احْتِيَاطًا الثَّالِثُ الْأَدَبُ كَقَوْلِهِ وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ الرَّابِعُ التَّحْقِيرُ لِشَأْنِ الْمَنْهِيِّ عنه كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَمُدَّن عَيْنَيْك إلَى ما مَتَّعْنَا بِهِ الْخَامِسُ التَّحْذِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ السَّادِسُ بَيَانُ الْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا السَّابِعُ الْيَأْسُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَا تَعْتَذِرُوا الثَّامِنُ لِلْإِرْشَادِ إلَى الْأَحْوَطِ بِالتَّرْكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَا تَسْأَلُوا عن أَشْيَاءَ
____________________
(2/155)
وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تُعْمِرُوا وَلَا تُرْقِبُوا قال الرَّافِعِيُّ في بَابِ الْهِبَةِ قال الْأَئِمَّةُ هذا إرْشَادٌ مَعْنَاهُ لَا تُعْمِرُوا طَمَعًا في أَنْ يَعُودَ إلَيْكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ سَبِيلَهُ سَبِيلُ الْمِيرَاثِ التَّاسِعُ اتِّبَاعُ الْأَمْرِ من الْخَوْفِ كَقَوْلِهِ وَلَا تَخَفْ إنَّك من الْآمَنِينَ الْعَاشِرُ الدُّعَاءُ كَقَوْلِهِ لَا تَكِلْنَا إلَى أَنْفُسِنَا الْحَادِيَ عَشَرَ الِالْتِمَاسُ كَقَوْلِك لِنَظِيرِك لَا تَفْعَلْ هذا الثَّانِيَ عَشَرَ التَّهْدِيدُ كَقَوْلِك لِمَنْ لَا يَمْتَثِلُ أَمْرَك لَا تَمْتَثِلْ أَمْرِي الثَّالِثَ عَشَرَ الْإِبَاحَةُ وَذَلِكَ في النَّهْيِ بَعْدَ الْإِيجَابِ فإنه إبَاحَةٌ لِلتَّرْكِ الرَّابِعَ عَشَرَ الْخَبَرُ وَمَثَّلَهُ الصَّيْرَفِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَا تَنْفُذُونَ إلَّا بِسُلْطَانٍ فَالنُّونُ في تَنْفُذُونَ جُعِلَ خَبَرًا لَا نَهْيًا يَدُلُّ على عَجْزِهِمْ عن قُدْرَتِهِمْ وَلَوْلَا النُّونُ لَكَانَ نَهْيًا وَأَنَّ لهم قُدْرَةً كَفَّهُمْ عنها النَّهْيُ وَعَكْسُهُ قَوْلُهُ لَا رَيْبَ فيه أَيْ لَا تَرْتَابُوا فيه على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ لم يَنْهَهُمْ عن الْمَوْتِ في وَقْتٍ لِأَنَّ ذلك ليس إلَيْهِمْ وقَوْله تَعَالَى الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أو مُشْرِكَةً لَفْظُهُ الْخَبَرُ وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ أَيْ لَا تَنْكِحُوا وَلَيْسَتْ حَقِيقَةً في الْكُلِّ اتِّفَاقًا بَلْ في الْبَعْضِ وهو إمَّا تَحْرِيمٌ فَقَطْ وَإِمَّا الْكَرَاهَةُ فَقَطْ وَإِمَّا هو مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا أو هِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا أَقْوَالٌ وَالْأَوَّلُ مَعْنَوِيٌّ وَالثَّانِي لَفْظِيٌّ أو لَا يُدْرَى حَالُ هذه الْأَقْسَامِ مع أَنَّهُ غَيْرُ خَارِجٍ عنها أو الْوَقْفُ على ما سَبَقَ في الْأَمْرِ وَحَكَى الْغَزَالِيُّ الْقَوْلَ بِالْإِبَاحَةِ هُنَا وَرَأَيْت من يُنْكِرُهُ عليه وَإِنَّمَا قال الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ إنَّ من حَمَلَ الْأَمْرَ على الْإِبَاحَةِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ حَمَلَ هذا على رَفْعِ الْحَرَجِ في تَرْكِ الْفِعْلِ وقال أبو زَيْدٍ في التَّقْوِيمِ لم أَقِفْ على الْخِلَافِ في حُكْمِ النَّهْيِ كما في الْأَمْرِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أَقْوَالُهُمْ في النَّهْيِ حَسَبَ اخْتِلَافِهِمْ في الْأَمْرِ فَمَنْ قال بِالْوَقْفِ ثَمَّ يقول بِهِ هُنَا وَمَنْ قال بِالْإِبَاحَةِ ثَمَّ يقول بِالْإِبَاحَةِ هُنَا وهو إبَاحَةُ الِانْتِهَاءِ وَمَنْ قال بِالنَّدْبِ هُنَاكَ يُنْدِبُ الِانْتِهَاءَ هُنَا وَمَنْ قال بِالْوُجُوبِ ثَمَّ يقول بِهِ هَاهُنَا وقال الْبَزْدَوِيُّ إنَّ الْمُعْتَزِلَةَ قالوا بِالنَّدْبِ في بَابِ الْأَمْرِ وفي النَّهْيِ قالوا بِالْوُجُوبِ لِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي حُسْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْدُوبُ وَالْوَاجِبُ في اقْتِضَاءِ الْحُسْنِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ النَّهْيِ فإنه يَقْتَضِي قُبْحَ الْمَنْهِيِّ عنه وَالِانْتِهَاءُ عن الْقَبِيحِ وَاجِبٌ فَأَمَّا
____________________
(2/156)
إتْيَانُ الْحَسَنِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلِهَذَا فَرَّقُوا يَجِيءُ النَّفْيُ في مَعْنَى النَّهْيِ وقد يَجِيءُ النَّفْيُ في مَعْنَى النَّهْيِ وَيَخْتَلِفُ حَالُهُ بِحَسَبِ الْمَعَانِي منها أَنْ يَكُونَ نَهْيًا وَزَجْرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى ما كان لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ من الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ تَعْجِيزًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى ما كان لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ تَنْزِيهًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى ما كان لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ من وَلَدٍ ذَكَرَهُ ابن عَطِيَّةَ في سُورَةِ مَرْيَمَ مَسْأَلَةٌ مُفَارَقَةُ الْأَمْرِ لِلنَّهْيِ في الدَّوَامِ وَالتَّكْرَارِ النَّهْيُ يُفَارِقُ الْأَمْرَ في الدَّوَامِ وَالتَّكْرَارِ فإن في اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ التَّكْرَارَ خِلَافًا مَشْهُورًا وَهَا هُنَا قَطَعَ جَمَاعَةٌ منهم الصَّيْرَفِيُّ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ بِأَنَّ النَّهْيَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَالدَّوَامَ وَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ فيه الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وابن بَرْهَانٍ وَكَذَا قَالَهُ أبو زَيْدٍ في التَّقْوِيمِ وَأَمَّا الْخِلَافُ في أَنَّ الْأَمْرَ هل يَقْتَضِي التَّكْرَارَ أَمْ لَا فَلَا يُتَصَوَّرُ مَجِيئُهُ في النَّهْيِ لِأَنَّ الِانْتِهَاءَ عن النَّهْيِ مِمَّا يَسْتَغْرِقُ الْعُمُرَ إنْ كان مُطْلَقًا لِأَنَّهُ لَا انْتِهَاءَ إلَّا بِعَدَمِ الْمَنْهِيِّ عنه من قِبَلِهِ وَلَا يَتِمُّ الِانْعِدَامُ من قِبَلِهِ إلَّا بِالثُّبُوتِ عليه قبل الْفِعْلِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَكْرَارُهُ بِخِلَافِ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُسْتَمِرَّ له حَدٌّ يُعْرَفُ وُجُودُهُ بِحَدِّهِ ثُمَّ يُتَصَوَّرُ التَّكْرَارُ بَعْدَهُ وقال الْمَازِرِيُّ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الِاتِّفَاقَ على أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ لِلْأَزْمِنَةِ بِخِلَافِ الْأَمْرِ لَكِنَّ الْقَاضِيَ عَبْدَ الْوَهَّابِ حَكَى قَوْلًا أَنَّهُ كَالْأَمْرِ في اقْتِضَائِهِ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ ولم يُسَمِّ من ذَهَبَ إلَيْهِ وَالْقَاضِي وَغَيْرُهُ أَجْرَوْهُ مَجْرَى الْأَمْرِ في أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ وقال أبو الْحُسَيْنِ السُّهَيْلِيُّ في كِتَابِ أَدَبِ الْجَدَلِ النَّهْيُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ في قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَسَمِعْت فيه وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ يَقْتَضِي الِاجْتِنَابَ عن الْفِعْلِ في الزَّمَنِ الْأَوَّلِ وَحْدَهُ وَهَذَا مِمَّا لَا يَجُوزُ حِكَايَتُهُ لِضَعْفِهِ وَسُقُوطِهِ انْتَهَى وقال ابن عَقِيلٍ في الْوَاضِحِ النَّهْيُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ لَا يَقْتَضِيهِ وَهَذَا النَّقْلُ عن الْقَاضِي يُخَالِفُهُ نَقْلُ الْمَازِرِيُّ وهو الصَّوَابُ
____________________
(2/157)
وَمِمَّنْ نَقَلَ الْخِلَافَ في الْمَسْأَلَةِ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وَاخْتَارَ الْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ كما لَا يَقْتَضِيهِ في الْأَمْرِ وقال سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ النَّهْيُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَعَنْ بَعْضِ الْأَشْعَرِيَّةِ أَنَّهُ يَقْتَضِي الْكَفَّ عَقِبَ لَفْظِ النَّهْيِ فَتَحَصَّلْنَا فيه على مَذَاهِبَ يَقْتَضِيهِ مُطْلَقًا يَقْتَضِيهِ مَرَّةً وَاحِدَةً لَا يَقْتَضِيهِ بَلْ يُوقَفُ إلَى الدَّلِيلِ من خَارِجٍ وهو الْمَنْقُولُ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَاخْتَارَهُ في الْمَحْصُولِ وَيَجِيءُ مِمَّا سَبَقَ في الْأَمْرِ مَذْهَبٌ آخَرُ بِالتَّفْصِيلِ من أَنْ يَرْجِعَ إلَى قَطْعِ الْوَاقِعِ فَلِلْمَرَّةِ كَقَوْلِك لِلْمُتَحَرِّكِ لَا تَتَحَرَّكْ وَإِنْ رَجَعَ إلَى اتِّصَالِ الْوَاقِعِ وَاسْتِدَامَتِهِ فَلِلدَّوَامِ كَقَوْلِك لِلْمُتَحَرِّكِ لَا تَسْكُنْ أَمَّا النَّهْيُ الْمُقَيَّدُ بِشَرْطٍ أو صِفَةٍ فَالْخِلَافُ السَّابِقُ في الْأَمْرِ في اقْتِضَائِهِ التَّكْرَارَ يَأْتِي هُنَا فَمَنْ قال النَّهْيُ لَا يَقْتَضِي بِمُجَرَّدِهِ التَّكْرَارَ وَالدَّوَامَ قال بِهِ هَاهُنَا قال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَتَكَرَّرُ وهو آكَدُ من مُطْلَقِهِ بِخِلَافِ الْأَمْرِ لِأَنَّ مُطْلَقَ النَّهْيِ التَّكْرَارُ فَالْمُعَلَّقُ على الشَّرْطِ أَوْلَى وقال إلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ النَّهْيُ الْمُقَيَّدُ بِشَرْطٍ أو صِفَةٍ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِخِلَافِ النَّهْيِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُ إذَا قَيَّدَهُ بِوَصْفٍ صَارَ مَغْلُوبًا على الِاعْتِمَادِ مُخْتَصًّا بِهِ فَلَوْ اقْتَضَى التَّكْرَارَ مع فَهْمِ تَعَدُّدِهِ كان كَالْأَمْرِ وَحَكَى صَاحِبُ الْوَاضِحِ عن أبي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ فَرَّقَ بين النَّهْيِ الْمُعَلَّقِ بِشَرْطٍ وَبَيْنَ النَّهْيِ الْمُطْلَقِ فَحَمَلَ الْمُطْلَقَ على التَّأْبِيدِ وَفَصَّلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمْرِ وَحَمَلَ النَّهْيَ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ على أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمْرِ وَمَثَّلَهُ بِالسَّيِّدِ إذَا قال لِعَبْدِهِ لَا تَسْقِنِي الْمَاءَ إذَا دخل زَيْدٌ الدَّارَ فَدَخَلَ زَيْدٌ دَفْعَةً وَاحِدَةً كَفَى وَلَا يَجِبُ أَنْ يُمْنَعَ من سَقْيِهِ كُلَّ دَفْعَةٍ يَدْخُلُ زَيْدٌ الدَّارَ مَسْأَلَةٌ إذَا قُلْنَا النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ فَتَقَدُّمُ صِيغَةِ الْأَمْرِ هل يُغَيِّرُهُ فيه طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا الْقَطْعُ بِأَنَّهَا لَا تُغَيِّرُهُ وَإِنْ جَرَى الْخِلَافُ في الْأَمْرِ وَبِهِ قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَالْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وَحَكَيَا الْإِجْمَاعَ على ذلك وَالثَّانِي طَرْدُ خِلَافِ الْأَمْرِ وقد حَكَى الطَّرِيقِينَ ابن فُورَكٍ وقال الْأَشْبَهُ التَّسْوِيَةُ وَمَنَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْإِجْمَاعَ وَطَرَدَ الْوَقْفَ هُنَا بِنَاءً على اعْتِقَادِهِ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ بِأَنَّ الْإِبَاحَةَ أَحَدُ مَحَامِلِ افْعَلْ بِخِلَافِ لَا تَفْعَلْ
____________________
(2/158)
مَسْأَلَةٌ النَّهْيُ يَقْتَضِي الْكَفَّ على الْفَوْرِ على الْمَشْهُورِ قالوا وَلَا يُتَصَوَّرُ مَجِيءُ خِلَافِ الْأَمْرِ هُنَا قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ إنَّهُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ بِلَا خِلَافٍ على الْمَذْهَبِ وَحَكَى ابن عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ أَنَّهُ يَقْتَضِيهِ وقال ابن فُورَكٍ يَجِيءُ الْخِلَافُ إنْ قُلْنَا الْأَمْرُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِظَاهِرِهِ وَإِنْ قُلْنَا لَا يَتَكَرَّرُ بِظَاهِرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ فَالْقَوْلُ فيه كَالْقَوْلِ في الْأَمْرِ وقال الْإِمَامُ الرَّازِيَّ إنْ قُلْنَا النَّهْيُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَهُوَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ وَإِلَّا فَلَا وَنَازَعَهُ النَّقْشَوَانِيُّ وَالْأَصْفَهَانِيُّ وَقَالَا بِنَاءُ الْفَوْرِ على وُجُوبِ التَّكْرَارِ ظَاهِرٌ وَأَمَّا بِنَاءُ عَدَمِ وُجُوبِ الْفَوْرِ على عَدَمِ اقْتِضَاءِ التَّكْرَارِ فَمُشْكِلٌ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَقْتَضِيَ التَّكْرَارَ وَيَقْتَضِيَ الْفَوْرَ مَسْأَلَةٌ النَّهْيُ عن وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ سَبَقَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن ضِدِّهِ على الْأَصَحِّ وَأَنَّ النَّهْيَ عن الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ إنْ كان له ضِدٌّ وَاحِدٌ كَالصَّوْمِ في الْعِيدَيْنِ وَالْفِطْرِ وَإِنْ كان له أَضْدَادٌ فَهُوَ أَمْرٌ بِوَاحِدٍ منها وَسَبَقَ في الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ أَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُهَا لَا بِعَيْنِهِ وَأَمَّا في النَّهْيِ عن وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ نَحْوُ لَا تُكَلِّمْ زَيْدًا أو عَمْرًا فإن النَّهْيَ مُتَعَلِّقٌ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا بِعَيْنِهِ فَيَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَيَجُوزُ له فِعْلُ كُلٍّ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ يَقْتَضِي النَّهْيَ عنهما وَلَا يَجُوزُ بِهِ فِعْلُ أَحَدِهِمَا بِنَاءً على أَنَّ أو في النَّهْيِ تَقْتَضِي الْجَمْعَ دُونَ التَّخْيِيرِ فإذا قال لَا تُكَلِّمْ زَيْدًا أو عَمْرًا فَعَلَى مَذْهَبِنَا يَجُوزُ أَنْ يُكَلِّمَ أَيَّهُمَا شَاءَ على الِانْفِرَادِ وَعَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَجُوزُ مَسْأَلَةٌ الِاخْتِلَافُ في مَعْنَى لَا تَقُمْ اخْتَلَفُوا في مَعْنَى قَوْلِك لَا تَقُمْ فَذَهَبَ كَثِيرٌ من الْمُعْتَزِلَةِ إلَى أَنَّ الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ مِنْك قِيَامٌ فَ لَا حَرْفُ نَهْيٍ وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْمَصْدَرِ بِوَاسِطَةِ إشْعَارِ الْفِعْلِ بِهِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي
____________________
(2/159)
وقال قَائِلُونَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ النَّفْيُ مَطْلُوبًا لَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِشَيْءٍ وَلَا بِفِعْلِ عَدَمٍ مَحْضٍ ليس بِشَيْءٍ وَلَا يَصِحُّ الْإِعْدَامُ بِالْقُدْرَةِ ذَكَرَ هذه الْمَسْأَلَةَ كَذَا ابن الْأَنْبَارِيِّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ قال وَالنَّظَرُ فيها يَتَعَلَّقُ بِالْبَحْثِ عن مُتَعَلَّقِ التَّكْلِيفِ مَسْأَلَةٌ الْمُكَلَّفُ بِهِ في النَّهْيِ لَا خِلَافَ في أَنَّ الْمُكَلَّفَ بِهِ في الْأَمْرِ الْفِعْلُ وَاخْتُلِفَ في الْمُكَلَّفِ بِهِ في النَّهْيِ هل الْمُكَلَّفُ بِهِ ضِدُّ الْمَنْهِيِّ عنه أو عَدَمُ الْفِعْلِ وَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَمَعْنَى لَا تَزْنِ عِنْدَهُمْ تَلَبُّسُ ضِدٍّ من أَضْدَادِ الزِّنَى أَيْ افْعَلْ فِعْلًا غَيْرَهُ مُبَاحًا أَيَّ فِعْلٍ كان وقال أبو هَاشِمٍ مَعْنَاهُ لَا تَفْعَلْ الزِّنَى من غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلضِّدِّ حتى لو خَلَا عن الْمَأْمُورِ وَعَنْ كل تَرْكٍ له اسْتَحَقَّ الذَّمَّ على أَنَّهُ لم يَفْعَلْ قال الْقَاضِي وَلَمَّا بَاحَ بهذا خَالَفَهُ أَصْحَابُنَا من الْمُعْتَزِلَةِ وَقَالُوا ما زِلْت مُنْكِرًا على الْجَبْرِيَّةِ إثْبَاتَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ على ما ليس بِخَلْقٍ لهم وَلَيْسَ بِفِعْلٍ لهم على التَّحْقِيقِ ثُمَّ صِرْت إلَى ثُبُوتِ الذَّمِّ من غَيْرِ إقْدَامٍ على فِعْلٍ وَسُمِّيَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أبو هَاشِمٍ الذِّمِّيُّ حَيْثُ إنَّهُ عَلَّقَ بِالذَّمِّ الْمَعْدُومَ وَهَذَا يَهْدِمُ جُمْلَةَ قَوَاعِدِهِ في التَّعْدِيلِ وَالتَّجْوِيزِ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النَّظَرَ هل هو إلَى صُورَةِ اللَّفْظِ فَلَيْسَ فيه إلَّا الْعَدَمُ فإذا قال لَا تَتَحَرَّكْ فَعَدَمُ الْحَرَكَةِ هو مُتَعَلَّقُ النَّهْيِ أو يُلَاحَظُ أَنَّ الطَّلَبَ إنَّمَا وُضِعَ لِمَا هو مَقْدُورٌ مِمَّا ليس بِمَقْدُورٍ وَلَا يُطْلَبُ عَدَمُهُ وَالْعَدَمُ نَفْيٌ صِرْفٌ فَلَا يَكُونُ مَقْدُورًا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ طَلَبٌ فَتَعَيَّنَ تَعَلُّقُ الطَّلَبِ بِالضِّدِّ فَالْجُمْهُورُ لَحَظُوا الْمَعْنَى وأبو هَاشِمٍ لَحَظَ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى أَتَمُّ في الِاعْتِبَارِ من صُورَةِ اللَّفْظِ وَنَقَلَ التَّبْرِيزِيُّ عن الْغَزَالِيِّ مُوَافَقَةَ أبي هَاشِمٍ وهو مَعْذُورٌ في ذلك فإنه قال في الْمَنْخُولِ قُبَيْلَ بَابِ الْعُمُومِ وَأَمَّا التُّرُوكُ فَعِبَارَةٌ عن أَضْدَادِ الْوَاجِبَاتِ كَالْقُعُودِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْقِيَامِ ثُمَّ بَعْضُ تَرْكِ الْقِيَامِ لَا بِالْقُعُودِ وَوَافَقَنَا عليه أبو هَاشِمٍ الذِّمِّيُّ من حَيْثُ إنَّهُ عَلَّقَ الذَّمَّ بِالْمَعْدُومِ انْتَهَى وَهَذَا النَّقْلُ عن أبي هَاشِمٍ مَرْدُودٌ فإن من أُمِرَ بِالْقِيَامِ فلم يَمْتَثِلْ عَصَى عِنْدَهُ لِكَوْنِهِ لم يَفْعَلْ الْقِيَامَ لَا لِكَوْنِهِ فَعَلَ التَّرْكَ وَكَوْنُهُ لم يَفْعَلْ نَفْيٌ لَا حَقِيقَةَ له وَعَلَيْهِ
____________________
(2/160)
يُذَمُّ وَلِهَذَا سُمِّيَ الذِّمِّيُّ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ في الْمُسْتَصْفَى في هذه الْمَسْأَلَةِ التَّفْصِيلُ بين التَّرْكِ الْمُجَرَّدِ الْمَقْصُودِ لِنَفْسِهِ من غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ معه ضِدَّهُ بِالْمُكَلَّفِ فيه بِالْفِعْلِ كَالصَّوْمِ فَالْكَفُّ منه مَقْصُودٌ وَلِهَذَا وَجَبَ فيه النِّيَّةُ وَبَيْنَ التَّرْكِ الْمَقْصُودِ من جِهَةِ إيقَاعِ ضِدِّهِ كَالزِّنَا وَالشُّرْبِ فَالْمُكَلَّفُ فيه بِالضِّدِّ وَتَبِعَهُ الْعَبْدَرِيُّ في شَرْحِهِ قال وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ هل التَّرْكُ مَقْدُورٌ لِلْعَبْدِ فَيَصِحُّ التَّكْلِيفُ كَالْفِعْلِ أَمْ لَا قال وَهِيَ حِينَئِذٍ كَلَامِيَّةٌ فَكَانَ يَنْبَغِي تَقْدِيمُ الْبَحْثِ في أَنَّهُ مَقْدُورٌ أَمْ لَا على هذه لَكِنَّهُمْ لم يَنْظُرُوا إلَّا لِكَيْفِيَّةِ وُقُوعِهِ في الشَّرْعِ وقال بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ التَّحْرِيرُ في هذه الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ الْمَطْلُوبُ في النَّهْيِ الِانْتِهَاءُ وَيَلْزَمُ من الِانْتِهَاءِ فِعْلُ ضِدِّ الْمَنْهِيِّ عنه وَلَا يُعْكَسُ فقال الْمَطْلُوبُ ضِدُّ الْمَنْهِيِّ عنه وَيَلْزَمُ منه الِانْتِهَاءُ لِأَنَّ الِانْتِهَاءَ مُتَقَدِّمٌ في الرُّتْبَةِ في الْفِعْلِ على فِعْلِ الضِّدِّ فَكَانَ معه كَالسَّبَبِ مع الْمُسَبَّبِ فَالِانْتِهَاءُ وَفِعْلُ الضِّدِّ في زَمَانٍ وَاحِدٍ لَكِنَّ الِانْتِهَاءَ مُتَقَدِّمٌ بِالرُّتْبَةِ تَقَدُّمَ الْعِلَّةِ على الْمَعْلُولِ حتى لو فُرِضَ أَنَّ الِانْتِهَاءَ يَحْصُلُ بِدُونِ فِعْلِ الضِّدِّ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ بِهِ ولم يَكُنْ حَاجَةٌ إلَى فِعْلِ الضِّدِّ لَكِنَّ ذلك فَرْضٌ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَالْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ إنَّمَا هو الِانْتِهَاءُ وَأَمَّا فِعْلُ الضِّدِّ فَلَا يُقْصَدُ إلَّا بِالِالْتِزَامِ بَلْ قد لَا يُقْصَدُ أَصْلًا وَلَا يَسْتَحْضِرُ الْمُتَكَلِّمُ وَمَتَى قَصَدَ فِعْلَ الضِّدِّ وَطَلَبَهُ من حَيْثُ هو كان أَمْرًا لَا نَهْيًا عن ضِدِّهِ وَعَلَى هذا يَنْبَغِي حَمْلُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَأَمَّا قَوْلُ أبي هَاشِمٍ إنَّ الْمَطْلُوبَ نَفْسُ لَا تَفْعَلْ فَهُوَ وَإِنْ تَبَادَرَ إلَى الذِّهْنِ من جِهَةِ أَنَّ حَرْفَ النَّهْيِ وَرَدَ على الْفِعْلِ فَقَدْ طَلَبَ منه عَدَمَهُ لَكِنَّ نَفْسَ أَنْ لَا تَفْعَلَ عَدَمٌ مَحْضٌ فَلَا يُكَلَّفُ بِهِ وَلَا يُطْلَبُ وَإِنَّمَا يُطْلَبُ من الْمُكَلَّفِ ما له قُدْرَةٌ على تَحْصِيلِهِ فَلَعَلَّ مُرَادَ أبي هَاشِمٍ الذي هو من الِانْتِهَاءِ وَالِانْتِهَاءُ فِعْلٌ فَإِنْ أَرَادَ ذلك تَقَارَبَ الْمَذْهَبَانِ وَيَكُونُ الْجُمْهُورُ نَظَرُوا إلَى حَقِيقَةِ ما هو مُكَلَّفٌ بِهِ وأبو هَاشِمٍ نَظَّرَ إلَى الْمَقْصُودِ بِهِ وهو إعْدَامُ دُخُولِ الْمَنْهِيِّ عنه في الْوُجُودِ وَإِنْ لم يَرُدَّ أبو هَاشِمٍ ذلك وَأَرَادَ أَنَّ الْعَدَمَ الصِّرْفَ الذي لَا صُنْعَ لِلْمُكَلَّفِ في تَحْصِيلِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ
____________________
(2/161)
تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ الْفَرْقُ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ سَأَلُوا الْفَرْقَ بين هذه الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ النَّهْيَ عن الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَنَا الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن ضِدِّهِ هو مَعْنَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِعْلُ الضِّدِّ وَمَعْنَى أَنَّهُ ليس أَمْرًا بِضِدِّهِ هو أَنَّ الْمَطْلُوبَ انْتِفَاءُ الْمَنْهِيِّ عنه فَالْمَسْأَلَتَانِ وَاحِدَةٌ وَأَجَابَ الْأَصْفَهَانِيُّ بِأَنَّ الْكَلَامَ في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بَحْثٌ لَفْظِيٌّ وفي هذه مَعْنَوِيٌّ وَرُدَّ بِأَنَّ الْأَمْرَ لَفْظًا أَنَّ الْمَطْلُوبَ الْمَعْنَوِيَّ مَأْمُورٌ بِهِ على ما قَالَهُ فَيَحْصُلُ الِاشْتِبَاهُ وقال الْقَرَافِيُّ فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ قَوْلَنَا النَّهْيُ عن الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ بَحْثٌ في الْمُتَعَلِّقَاتِ بِكَسْرِ اللَّامِ فإن النَّهْيَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَنْهِيِّ عنه وَالْأَمْرُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَأْمُورِ وَقَوْلُنَا الْمَطْلُوبُ في النَّهْيِ فِعْلُ الضِّدِّ بَحْثٌ في الْمُتَعَلَّقَاتِ بِفَتْحِ اللَّامِ وَرُدَّ بِأَنَّهُمَا وَإِنْ تَغَايَرَا لَكِنَّهُ تَغَايُرٌ صُورِيٌّ وَلَا يَلْزَمُ منه عَدَمُ تَدَاخُلِ إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ في الْأُخْرَى الثَّانِي أَنَّ الْبَحْثَ في تِلْكَ من جِهَةِ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ أَيْ أَنَّهُ من نهى عن الشَّيْءِ مُطَابَقَةً دَلَّ على طَلَبِ ضِدِّهِ الْتِزَامًا وَالْبَحْثُ في هذه من جِهَةِ دَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ فما مَدْلُولُهُمَا الْمُطَابِقُ هل هو الْعَدَمُ أو ضِدُّهُ قِيلَ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْكَلَامَ في الْمَسْأَلَتَيْنِ في الِالْتِزَامِ لَا الْمُطَابَقَةِ على ما سَبَقَ تَقْرِيرُهُ وَوَجْهُ الْجَمْعِ أَنَّ قَوْلَهُمْ الْمَطْلُوبُ بِالنَّهْيِ فِعْلُ الضِّدِّ مُرَادُهُمْ بِهِ الضِّدُّ الْعَامُّ وهو الِانْتِهَاءُ الْحَاصِلُ بِوَاحِدٍ من الْأَضْدَادِ الْمَنْهِيِّ عنه وَقَوْلُهُ النَّهْيُ عن الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ قد بَيَّنُوا أَنَّهُ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ مُرَادٌ بِهِ الضِّدُّ الْخَاصُّ وهو أَحَدُ الْأَضْدَادِ الذي يَحْصُلُ بِهِ الِانْتِهَاءُ أو بِغَيْرِهِ فَإِنْ أَرَادُوا الضِّدَّ الْعَامَّ لَزِمَ من كُلٍّ من الْمَسْأَلَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى لَكِنْ لَا يَكُونُ تَكْرَارًا بَلْ هُمَا مَسْأَلَتَانِ وَإِنْ لَزِمَ من مَعْرِفَةِ إحْدَاهُمَا حُكْمُ الْأُخْرَى فَلَا يَضُرُّ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ السُّؤَالُ لو كَانُوا وَضَعُوا مَسْأَلَةَ النَّهْيُ عن الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ أو لَا وَلَيْسَ ذلك في الْمَحْصُولِ بَلْ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن ضِدِّهِ وَتَكَلَّمَ غَيْرُهُ في أَنَّ النَّهْيَ عن
____________________
(2/162)
الشَّيْءِ هل هو أَمْرٌ بِضِدِّهِ التَّنْبِيهُ الثَّانِي عُلِمَ من كَلَامِهِمْ فَرْضُ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا كان لِلْمَنْهِيِّ عنه ضِدٌّ وُجُودِيٌّ يُفْهَمُ فَإِنْ لم يَكُنْ كَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُنْهَى عن شَيْءٍ لَا يُفْهَمُ غَيْرُ تَرْكِ ذلك الشَّيْءِ نَحْوُ لَا تَفْعَلْ فَلَا يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِهِ إلَّا على الْقَوْلِ بِالتَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ مَسْأَلَةٌ النَّهْيُ عن مُتَعَدِّدٍ النَّهْيُ عن مُتَعَدِّدٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ نَهْيًا عن الْجَمْعِ أَعْنِي الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ دُونَ الْمُفْرَدَاتِ كَالنَّهْيِ عن نِكَاحِ الْأُخْتَيْنِ وَكَالْحَرَامِ الْمُخَيَّرِ عِنْدَنَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَهْيًا على الْجَمِيعِ أَيْ عن كُلٍّ سَوَاءٌ كان مع صَاحِبِهِ أو مُنْفَرِدًا كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ فَالنَّهْيُ على الْجَمِيعِ مَعْنَاهُ على الْجَمْعِ في النَّهْيِ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْهِيٌّ عنه لَا تَفْعَلْ هذا وَلَا ذَاكَ وَالنَّهْيُ عن الْجَمْعِ لَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَعَلَى الْبَدَلِ لَا تَفْعَلْ هذا إنْ فَعَلْت ذلك فَيَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَعَنْ الْبَدَلِ النَّهْيُ عن أَنْ يُجْعَلَ الشَّيْءُ بَدَلًا وَيُفْهَمَ منه النَّهْيُ عن أَنْ يَفْعَلَ أَحَدَهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ وَفَرَّقَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ بين النَّهْيِ عن الْجَمْعِ وَالنَّهْيِ على الْجَمْعِ بِأَنَّ النَّهْيَ على الْجَمْعِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَمَّا النَّهْيُ عن الْجَمْعِ من فِعْلِهِمَا مَعًا بِقَيْدٍ الْجَمْعِيَّةِ وَلَا يَلْزَمُ منه الْمَنْعُ من أَحَدِهِمَا إلَّا مع الْجَمْعِيَّةِ فَيُمْكِنُ فِعْلُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَالنَّهْيُ عن الْجَمْعِ مَشْرُوطٌ بِإِمْكَانِ الِانْفِكَاكِ عن الشَّيْئَيْنِ وَالنَّهْيُ على الْجَمْعِ مَشْرُوطٌ بِإِمْكَانِ الْخُلُوِّ عن الشَّيْئَيْنِ فَالنَّهْيُ على الْجَمْعِ مَنْشَؤُهُ أَنْ يَكُونَ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَفْسَدَةٌ تَسْتَقِلُّ بِالْمَنْعِ وَالنَّهْيُ عن الْجَمْعِ حين تَكُونُ الْمَفْسَدَةُ نَاشِئَةً عن اجْتِمَاعِهِمَا مسألة اقتضاء النهي للفساد إذا ثبت أن النهي للتحريم فهل يقتضي الفساد اعلم أن النهي عن الشيء على قسمين أحدهما أن يكون لغيره وهو ضربان أحدهما ما نهي عنه لمعنى جاوزه
____________________
(2/163)
جمعا كالبيع وقت النداء للاشتغال عن السعي إلى الجمعة بعدما لزم وهو معنى تجاوز المبيع وكالصلاة في الدار المغصوبة والثاني ما نهي عنه لمعنى اتصل به وصفا ويعبر عنه بالنهي عن الشيء لوصفه اللازم له كالزنى فإنه قبح لعدم شرط المماثلة الذي علق الجواز به شرعا وكصوم يوم النحر وأيام التشريق فإنه لمعنى اتصل بالوقت الذي هو محل الأداء وصفا وهو أنه يوم عيد فأما الضرب الأول فلا يقتضي الفساد عند الشافعي والجمهور سواء كان في العبادات كالصلاة في الدار المغصوبة والثوب الحرير أو في العقود كالنهي عن البيع على بيع أخيه وبيع الحاضر للبادي وغيره وقال الآمدي لا خلاف أنه لا يقتضي الفساد إلا ما نقل عن مالك وأحمد قلت هو المشهور عند الحنابلة وداود وعزي إلى أبي هاشم وغيره وسوى أبو زيد الدبوسي في كتابه التقويم بين هذا القسم والذي بعده فقال فيهما دليلان على كون المنهي عنه غير مشروع لأن القبح ثابت في غير المنهي عنه فلم يوجب رفع المنهي عنه بسبب القبح في غيره هذا مذهب علمائنا انتهى وأما الثاني ففيه مذاهب أحدهما وهو المختار أنه يفيد الفساد شرعا كالمنهي عنه لعينه الثاني لا يفيده وعزاه ابن الحاجب للأكثرين وثالثها وهو قول الحنفية أنه يدل على فساد ذلك الوصف لا فساد المنهي عنه وهو الأصل لكونه مشروعا بدون الوصف وبنوا على هذا ما لو باع درهما بدرهمين ثم طرحا الزيادة أنه يصح العقد قال الشافعي والنهي عن الشيء لوصفه يضاد وجوب أصله قال ابن الحاجب أراد أنه يضاده ظاهره لا قطعا وإلا لورد عليه نهي الكراهة كالنهي عن الصلاة في أعطان الإبل والأماكن المكروهة فإنه يلزمه حينئذ إذا كان يضاد الوجوب الأصل أن لا تصح الصلاة وليس كذلك فإذا قيل إنه يضاد ظاهرا فقد ترك في هذه المواضع الظاهر لدليل راجح وفي كلام ابن الحاجب ما يقتضي اختيار ذلك أعني أنه يدل على الفساد ظاهرا لا قطعا وقيده البيضاوي في توضيحه بالتحريم فقال قال الشافعي حرمة الشيء لوصفه تضاد وجوب أصله وهذا تقييد حسن لا يحتاج معه أن يقول ظاهره إذا جعل ذلك مختصا
____________________
(2/164)
بالنهي المحرم كما نص عليه الشافعي فلا ترد الكراهة واعلم أن حقيقة هذا الخلاف بيننا وبين الحنفية ترجع إلى مسألة أخرى وهي أن الشارع إذا أمر بشيء مطلقا ثم نهى عنه في بعض أحواله هل يقتضي ذلك النهي إلحاق شرط المأمور به حتى يقال إنه لا يصح بدون ذلك الشرط ويصير الفعل الواقع بدونه كالعدم كما في الفعل الذي اختل منه شرطه الثابت بشرطيته بدليل آخر أم لا يكون كذلك مثاله الأمر بالصوم والنهي عن إيقاعه يوم النحر والأمر بالطواف والنهي عن إيقاعه في حال الحيض وغيره فالشافعي والجمهور قالوا النهي على هذا الوجه يقتضي الفساد وإلحاق شرط بالمأمور به لا يثبت صحته بدونه وذهب الحنفية إلى تخصيص الفساد بالوصف المنهي عنه دون الأصل المتصف به حتى لو أتى به المكلف على الوجه المنهي عنه يكون صحيحا بحسب الأصل فاسدا بحسب الوصف إن كان ذلك النهي نهي فساد وإلا فمجرد النهي عنده لا يدل على الفساد بل على الصحة كما إذا نذر صوم يوم النحر ينعقد نذره عندهم ويجب عليه إيقاعه في غير يوم النحر فإن أوقعه فيه كان ذلك محرما ويقع عن نذره وكذلك يحرم على الحائض الطواف ويجزئها عن طواف الفرض حتى يقع به التحلل وإذا باع درهما بدرهمين بطل العقد في الدرهم الزائد وصح في القدر المساوي وهذا معنى قولهم صحيح بأصله فاسد بوصفه وبالغوا في التخريج على هذه القاعدة حتى قالوا إن الزنى يترتب عليه حرمة المصاهرة من أم المزني بها وبنتها وإن الكفار إذا استولوا على أموال المسلمين ملكوها والحق أن هذا ليس من هذه المسألة لأن الزنى والاستيلاء من الأفعال الحسية ولا خلاف عندهم أن النهي عن الأفعال الحسية لانتفاء المشروعية ولهذا لم يقل أحد بمشروعية الزنى والغصب ولهم في ذلك مأخذان أحدهما أن المنهي عنه في يوم النحر هو إيقاع الصوم لا الصوم الواقع وهما مفهومان متغايران فلا يلزم من تحريم الإيقاع تحريم الواقع كما لا يلزم من تحريم الكون في الدار المغصوبة تحريم نفس الصلاة لتغاير المفهومين الثاني أن النهي يستلزم تصور حقيقة الشرعية ويقتضي ذلك الصحة والنهي عنه قبح لذاته وذلك قائم بالوصف لا بالفعل فيجب العمل بمقتضى الأصلين وقال الشافعي المعصية والصحة متنافيان لأن معنى الصحة ترتب الآثار
____________________
(2/165)
المشروعة على الشيء فلا يجتمع المشروعية والمعصية في ذات واحدة بالنسبة إلى شيء واحد ولهذا قال الشافعي النكاح أمر حمدت عليه والزنى أمر ذممت عليه ولم يجز أن يحمل أحدهما على الآخر ولا يرد وطء البهيمة والجارية المشتركة لأنهما لا يوصفان بالتحريم من كل وجه وقد أورد على قولنا أن النهي عن التصرفات الشرعية يقتضي رفع المشروعية بالكلية كالظهار فإنه تصرف منهي عنه محرم وقد انعقد سببا للكفارة التي هي عبادة أجيب بأن كلامنا في الحكم المطلوب شرعا المتعلق بسبب مشروع كالبيع للملك والنكاح للحل أنه هل يبقى سببا لذلك الحكم بعد ورود النهي عنه أم لا أما الظهار فليس بتصرف موضوع لحكم مطلوب شرعا بل هو حرام والكفارة وصالحا لإيجاب الجزاء بل يخصه كمادة القتل القسم الثاني أن يكون لعينه كبيع الملاقيح والمضامين فإن البيع مقابلة مال بمال والماء في الصلب والرحم لا مالية فيه هذا معنى كون الشيء منهيا عنه لعينه وليس معناه أنه نهى عنه غير مقيد بقيد نحو لا تصم ولا تبع كما فهم القطب الشيرازي وفيه مذاهب أحدها أن يدل على الفساد مطلقا سواء كان المنهي عبادة أو معاملة ولا يحمل على الصحة مع التحريم إلا بدليل وهو رأي الجمهور من أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأهل الظاهر وطائفة من المتكلمين كما نقله القاضي في مختصر التقريب وابن فورك والأستاذ أبو منصور وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني مذهبنا الذي نص عليه الشافعي وأكد القول فيه في باب البحيرة والسائبة أن النهي إذا ورد متجردا اقتضى فساد الفعل المنهي عنه وبه قال مالك وأبو حنيفة وداود وأهل الظاهر وكافة أهل العلم انتهى وكلامه في مواضع من الرسالة يدل عليه ومن تأمل استدلاله بالآيات والحديث علم ذلك كاحتجاجه في النهي عن الصلاة في الأوقات الخمسة وقال في موضوع منها وكل نكاح خلا عن الولي والشهود والرضى من المنكوحة الثيب كان فاسدا وذكر مثل ذلك في النهي عن بيع الغرر وقال ابن السمعاني إنه الظاهر من مذهب الشافعي وأن عليه أكثر الأصحاب وقال ابن فورك والقاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق إنه قول أكثر
____________________
(2/166)
أصحابنا وأكثر الحنفية وقال القاضي عبد الوهاب إنه مذهب مالك قيل ولهذا إنما يفيد العقود عند الشافعي ومالك إذا وقعت على وفق الشرع أي إذا استجمعت الشروط الشرعية وقال أبو زيد الدبوسي في التقويم إنه قول علمائهم لأن القبيح لعينه لا يشرع لعينه وقال سواء قبح لعينه وضعا أو شرعا كالنهي عن بيع الملاقيح والصلاة بغير طهارة فالبيع في نفسه مما يتعلق به المصالح ولكن الشرع لما قصر محله على مال متقوم حال العقد والماء قبل أن يخلق منه الحيوان ليس بمال صار بيعه عبثا بحلوله في غير محله والثاني لا يدل عليه أصلا ويحتاج الفساد إلى دليل غير النهي وهو قول الأشعري والقاضيين أبي بكر وعبد الجبار وحكاه في المعتمد عن أبي الحسن الكرخي وأبي عبد الله البصري وعبد الجبار قال وذكر أنه ظاهر مذهب شيوخنا المتكلمين انتهى زاد ابن برهان أبا علي وأبا هاشم الجبائيين واختاره من أصحابنا القفال الشاشي وأبو جعفر السمناني والغزالي وحكاه القاضي عن جمهور المتكلمين وإلكيا الطبري عن أكثر الأصوليين وصاحب المحصول عن أكثر الفقهاء والآمدي عن المحققين قال الشيخ أبو إسحاق وللشافعي كلام يدل عليه ولهذا قال المازري أصحاب الشافعي يحكون عنه القولين ونص الغزالي على أن الاعتماد على فساده إنما هو اعتماد الشرع على فوات شرط ويعرف الشرط بدليل يدل عليه وعلى ارتباط الصحة به وقد أطلق جماعة آخرهم الصفي الهندي هذا المذهب عن الحنفية والصواب أن خلافهم إنما هو في المنهي عنه لغيره أما المنهي عنه لعينه فلا يختلفون في فساده وبذلك صرح أبو زيد الدبوسي في تقويم الأدلة وشمس الأئمة السرخسي في أصوله وقرره ابن السمعاني وهو الأثبت لأنه كان أولا حنفيا والثالث أنه يدل على الفساد في العبادات دون العقود وهو مذهب أبي الحسين البصري وحكاه ابن الصباغ في العدة عن متأخري أصحابنا وحكاه الصفي الهندي عن اختيار الغزالي والإمام الرازي وهو كذلك في المستصفى لكن كلامه في ذيل
____________________
(2/167)
المسألة يقتضي تفصيلا آخر سنذكره وقد خالف ذلك أيضا في كتبه الفقهية فقال في الوسيط عندنا أن مطلق النهي عن العقد يدل على فساده فإن العقد الصحيح هو المشروع والمنهي عنه في عينه غير مشروع فلم يكن صحيحا إلا إذا ظهر تعلق النهي بأمر عن العقد اتفق مجاوزته العقد كالنهي عن البيع وقت النداء وقسم المناهي إلى ما لا يدل على الفساد كالنجش والبيع على بيع أخيه وبيع الحاضر للبادي وإلى ما لا يدل على الفساد إما لتطرق خلل إلى الأركان والشرائط أو لأنه لم يبق للنهي تعلق سوى العقد فحمل على الفساد كبيع حبل الحبلة وبيع الحصاة وبيوع الغرر وأشباهها ويجوز أن يؤول كلام المستصفى على القسم الأول فلا يكون تناقضا وقد اتفق الأصحاب على اقتضائه الفساد في القسم الثاني فلا يستقيم من شافعي إطلاق القول بأن النهي في العقود لا يقتضي الفساد من غير تفصيل وكذلك إطلاقه الفساد في العبادات ومراده إذا كان النهي عنها لعينها فإنه صرح بصحة الصلاة في الدار المغصوبة واعلم أن هذا التقسيم الذي ذكرناه هو أقرب الطرق في المسألة ومنهم من جمع بين القسمين أعني المنهي عنه لعينه ولغيره وحكوا مذاهب ثالثها إن كان النهي مختصا بالمنهي عنه كالصلاة في الثوب النجس دل على فساده وإلا فلا يدل كالصلاة في الدار المغصوبة والثوب الحرير والبيع وقت النداء حكاه الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع عن بعض أصحابنا رابعها أنه يدل على فساده في العبادات سواء نهى عنها لعينها أم لأمر قارنها لأن الشيء الواحد يمتنع أن يكون مأمورا به منهيا عنه وأما المعاملات فالنهي إما أن يرجع إلى نفس الفعل كبيع الحصاة أو إلى أمر داخل فيه كبيع الملاقيح أو خارج عنه لازم له كالربا فهذه الأقسام الثلاثة تبطل وإن رجع إلى أمر مقارن للعقد غير لازم كالبيع وقت النداء فلا يدل على الفساد وهذا القول نقله ابن برهان في الوجيز عن الشافعي واختاره الإمام فخر الدين في المعالم في أثناء الاستدلال وجرى عليه البيضاوي ونقله الآمدي بالمعنى المذكور عن أكثر أصحاب الشافعي واختاره فتأمله قيل ونص عليه الشافعي في الرسالة والبويطي إلا أن الصحة في المقارن ذكرها في موضع آخر ويتحصل في المسألة مذاهب أحدها أن النهي يقتضي الفساد مطلقا سواء كان النهي لعينه أو لوصفه أو
____________________
(2/168)
لغيره من العبادات والمعاملات وبه قال أحمد في المشهور والثاني لا يقتضيه مطلقا سواء كان لعينه أو لوصفه أو لغيره أو لاختلال ركن من أركانه من عبادة وعقد صرح به ابن برهان والثالث يقتضي شبه الفساد حكاه القرافي عن المالكية وظاهره تخصيصه بالعقد والرابع يقتضي الصحة إذا كان النهي لوصفه ولم يكن من الأفعال الحسية وأما النهي عن الشيء لعينه فيقتضي الفساد وهو مذهب الحنفية والخامس يقتضي الفساد في العبادات دون العقود وهو اختيار الغزالي والآمدي والسادس إن كان لعينه أو لوصفه اللازم له فهو الفساد بخلاف ما لو كان لغيره سواء كان عبادة وعقدا وهذا الذي ينبغي أن يكون مذهب الشافعي وتصرفه في الأدلة يقتضيه والسابع الفرق بين ما يختص بالمنهي عنه كالصلاة في البقعة النجسة فيقتضي الفساد دون ما لا يختص به كالصلاة في الدار المغصوبة حكاه الشيخ أبو إسحاق وابن السمعاني وغيرهما والثامن الفرق بين ما يخل بركن أو شرط فإنه يقتضي الفساد دون ما لا يخل بواحد منهما ذكره ابن برهان وابن السمعاني وكلام المستصفى في آخر المسألة مصرح به وقال الصفي الهندي لا ينبغي أن يكون في هذا القسم خلاف والتاسع ذكره المازري في شرح البرهان عن شيخه وأظنه أبا الحسن اللخمي التفصيل بين ما النهي عنه لحق الخلق فلا يدل على الفساد وإلا دل ما اتصل بهذا إلى صحة الصلاة في الدار المغصوبة لأن النهي عنه لحق الخلق وتزول المعصية بإسقاط المالك حقه بخلاف ما هو حق لله فلا يسقط بإذن أحد ولا إسقاطه واحتج بأن التصرية تدليس حرام بالإجماع والنهي عنه عائد للمخلوق ولم يبطل الشارع البيع المقترن به بل أثبت الخيار للمشتري ولم يقتض النهي فساد العقد لما فيه من حق الخلق وهذا القول غريب جدا ومقتضاه أن النهي في العبادات يقتضي الفساد مطلقا لأن جميع مناهيها لحق الله تعالى والتفصيل إنما هو في غيرها ويرد عليه صور كثيرة مما قيل فيها بالفساد والنهي فيها لحق الخلق كالبيع المقترن بالشرط الفاسد والأجل المجهول خصوصا عند المالكية في البيع على بيع أخيه ولا يجيء ما
____________________
(2/169)
ذكره إلا في صور قليلة والبيع وقت النداء فإنه فاسد على المشهور عندهم والنهي فيه لحق الله إذا علمت هذا فهاهنا أمور إطلاق النهي هل يقتضي الفساد أحدها إذا اختصرت ما سبق قلت المنهي عنه إما تمام الماهية أو جزؤها أو لازم لها أو خارج مقارن فهذه أربعة أقسام فالأولان يفيدان الفساد عندنا وعند أبي حنيفة لتمكن المفسدة من جوهر الماهية ثم الشافعي ومالك يقولان إطلاق النهي يقتضي الفساد بظاهره فيما أضيف إليه ولا ينصرف عنه إلا بدليل منفصل يصرف النهي إلى خارج مقارن وأبو حنيفة يقول يحمل على المفارق ولا ينصرف إلى ما أضيف إليه إلا بدليل والحاصل أن الأصل عندنا انسحاب الفساد على المنهيات ما لم يصرف صارف وعنده بالعكس قال صاحب التقويم قال علماؤنا مطلق النهي عن الأفعال التي تتحقق حسا ينصرف إلى ما قبح لعينه وعن التصرفات والأفعال التي تتحقق شرعا كالعقود والعبادات لا ينصرف إلى ما قبح لغيره إلا بدليل وقال الشافعي في الموضعين يدل على قبحه في عينه وقال بعض محققيهم النهي بلا قرينة يقتضي القبح لعينه عند الشافعي وفائدته بطلان التصرف وعندنا يقتضي القبح لغيره والصحة لأصله قال وينبني على الخلاف أنه إذا وجدت القرينة على أن النهي سبب القبح لغيره وكان ذلك وصفا فإنه باطل عند الشافعي وعندنا يكون صحيحا بأصله لا بوصفه وقد اعتاصت هذه المسألة على قوم من المحققين منهم الغزالي فذهبوا إلى آراء معضلة تداني مذهب أبي حنيفة والثالث اللازم كالنهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة وعن بيع وشرط وعن التفرقة بين الأم وولدها فعندنا يدل على الفساد خلافا لأبي حنيفة حتى إنه قال من نذر صوما فصام يوم العيد يجزئه وينعقد مع وصف الفساد والرابع الخارج المقارن فلا يمنع الصحة عند الأكثرين وللفرق بين هذه المقامات تأثير وقد ضرب له المازري مثلا حسنا وهو أن الرجل إذا غص بلقمة أو
____________________
(2/170)
عطش فأمر غلامه أن يأتيه بماء حلو في كوز وأن يرفق في مجيئه ولا يكون منه عجلة ولا لعب فله أحوال أحدها أن يقعد فلا يأتيه بشيء فالمخالفة فيه ظاهرة والثاني أن يأتيه بالكوز ليس فيه ماء فهذا ارتكاب المنهي عنه لعينه لأن وجود هذا الكوز كالعدم والثالث أن يأتيه بالكوز وفيه ماء مالح زعاق فهو كالذي قبله في المخالفة وارتكابه المنهي عنه اللازم له الرابع أن يأتيه بكوز ماء عذب بارد ولكنه جرى في مجيئه وخالف ما نهي عنه من ذلك فلا ريب في أن امتثال المقصود قد حصل وإن كان قد خالف في أمر خارج عن ذلك فهذا هو المنهي عنه لغيره وحاصله أنه لم يتوارد فيه النفي والإثبات بالنسبة إلى معنى واحد وأقوى ما يرد من قال بأن النهي عن الشيء لغيره يقتضي الفساد أن من تعين عليه قضاء دين وهو متمكن من أدائه فاشتغل عنه بالتحرم بصلاة مفروضة أو إنشاء عقد بيع أو نكاح فإن صلاته لا تصح وكذلك بيعه ونكاحه ولا قائل به النَّهْيُ في الْمُعَامَلَاتِ يَدُلُّ على الْفَسَادِ الْأَمْرُ الثَّانِي أَنَّ أَصْحَابَنَا ذَكَرُوا أَنَّ النَّهْيَ في الْمُعَامَلَاتِ يَدُلُّ على الْفَسَادِ إنْ رَجَعَ إلَى أَمْرٍ دَاخِلٍ فيها أو لَازِمٍ لها فَإِنْ رَجَعَ إلَى أَمْرٍ خَارِجٍ لم يَقْتَضِهِ فَصَرَّحُوا بِالرَّاجِعِ إلَى أَمْرٍ دَاخِلٍ أو خَارِجٍ أو لَازِمٍ وَسَكَتُوا عَمَّا شَكَكْنَا فيه هل هو رَاجِعٌ إلَى الدَّاخِلِ أو الْخَارِجِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ نَبَّهَ عليها الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ في قَوَاعِدِهِ قال كُلُّ تَصَرُّفٍ مَنْهِيٍّ عنه لِأَمْرٍ يُجَاوِزُهُ أو يُقَارِنُهُ مع تَوَفُّرِ شَرَائِطِهِ وَأَرْكَانِهِ فَهُوَ صَحِيحٌ وَكُلُّ تَصَرُّفٍ مَنْهِيٍّ عنه ولم يُعْلَمْ لِمَا نُهِيَ عنه فَهُوَ بَاطِلٌ حَمْلًا لِلَفْظِ النَّهْيِ على الْحَقِيقَةِ انْتَهَى ذَكَرَهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عنه لِعَيْنِهِ وَاَلَّذِي لم يُعْلَمْ لِمَاذَا نهى عنه لِأَمْرٍ دَاخِلٍ أو خَارِجٍ هو الْمُحْتَمِلُ لَأَنْ يَرْجِعَ إلَى دَاخِلٍ الْأَمْرُ الثَّالِثُ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ يَدُلُّ على الْفَسَادِ اخْتَلَفُوا هل يَدُلُّ عليه من جِهَةِ اللَّفْظِ أو الْمَعْنَى أو خَارِجٍ عن اللَّفْظِ وَالثَّانِي قَوْلُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَالثَّالِثُ قَوْلُ الْغَزَالِيِّ فإنه قال في الْمُسْتَصْفَى فَإِنْ قِيلَ فَلَوْ قال قَائِلٌ النَّهْيُ يَدُلُّ على الْفَسَادِ إنْ رَجَعَ إلَى عَيْنِ الشَّيْءِ دُونَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى غَيْرِهِ
____________________
(2/171)
قُلْنَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بين الطَّلَاقِ في حَالِ الْحَيْضِ وَالصَّلَاةِ في الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ فإنه إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ ليس مَنْهِيًّا عن الطَّلَاقِ لِعَيْنِهِ وَلَا عن الصَّلَاةِ لِعَيْنِهَا بَلْ لِوُقُوعِهِ في حَالِ الْحَيْضِ وَلِوُقُوعِهَا في الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ أَمْكَنَ تَقْدِيرُ مِثْلِهِ في الصَّلَاةِ في حَالِ الْحَيْضِ فَلَا اعْتِمَادَ إلَّا على فَوَاتِ الشَّرْطِ وَيُعْرَفُ الشَّرْطُ بِدَلِيلٍ دَلَّ عليه وَعَلَى ارْتِبَاطِ الصِّحَّةِ بِهِ وَلَا يُعْرَفُ بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ فإنه لَا يَدُلُّ عليه لَا وَضْعًا وَلَا شَرْعًا قال وَكُلُّ نَهْيٍ تَضَمَّنَ ارْتِكَابُهُ الْإِخْلَالَ بِالشَّرْطِ دَلَّ على الْفَسَادِ من حَيْثُ الْإِخْلَالُ بِالشَّرْطِ لَا من حَيْثُ النَّهْيُ انْتَهَى وإذا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ فَهَلْ دَلَّ عليه شَرْعًا لَا لُغَةً أو إنَّمَا دَلَّ عليه بِاللُّغَةِ فَقَطْ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى فِيمَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عنه وَصَحَّحَهُ وَكَذَلِكَ صَحَّحَهُ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وَجَرَى عليه الْبَيْضَاوِيُّ وَهَذَا نَظِيرُ الْخِلَافِ السَّابِقِ في الْأَمْرِ هل اقْتَضَى الْوُجُوبَ بِصِيغَتِهِ أو بِالشَّرْعِ وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ ثَمَّ تَأْتِي هُنَا مثله وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ على الْفَسَادِ فَاخْتَلَفُوا هل يَقْتَضِي الصِّحَّةَ وَالْإِجْزَاءَ فَالْجُمْهُورُ على أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عليها وَإِلَّا يَلْزَمُ ثُبُوتُ الصِّحَّةِ الشَّرْعِيَّةِ في جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ وَنَقَلَ ابن الْقُشَيْرِيّ فيه الْإِجْمَاعَ وَقِيلَ يَدُلُّ عليها لِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِهِ يَقْتَضِي انْصِرَافَهُ إلَى الصَّحِيحِ إذْ يَسْتَحِيلُ النَّهْيُ عن الْمُسْتَحِيلِ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ في مَوَاضِعَ من الْمُسْتَصْفَى مع تَصْرِيحِهِ هُنَا بِبُطْلَانِهِ وَأَطْلَقَ وَتَابَعَهُ الْآمِدِيُّ عن الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ على الصِّحَّةِ وَلَيْسَ ذلك في كل مَنْهِيٍّ فَقَدْ قالوا في النَّهْيِ عن صَوْمِ الْعِيدِ إنَّهُ يَدُلُّ على صِحَّتِهِ لِأَنَّ النَّهْيَ عنه لِوَصْفٍ لَا لِعَيْنِهِ فإذا نَذَرَهُ انْعَقَدَ فَإِنْ صَامَهُ صَحَّ وَإِنْ كان مُحَرَّمًا اتَّفَقُوا على أَنَّ صَلَاةَ الْحَائِضِ بَاطِلَةٌ مع أَنَّ النَّهْيَ عنها لِوَصْفِهَا بَلْ قالوا ذلك في مُخَالَفَةِ الْأَوَامِرِ بِنَاءً على أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن ضِدِّهِ فَأَبْطَلُوا صَلَاةَ من يُحَاذِي الْمَرْأَةَ في إتْمَامِهَا جميعا فَأَقَامَ وَاحِدٌ لِمَا ذَكَرُوا من قَوْلِهِ أَخِّرُوهُنَّ من حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ
____________________
(2/172)
وَاتَّفَقُوا على بُطْلَانِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَصِحَّةِ نِكَاحِ الشِّغَارِ مع أَنَّ النَّهْيَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا لِوَصْفِهِمَا وَنَقَلَ الدَّبُوسِيُّ عن أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ أَنَّهُ يَدُلُّ على الصِّحَّةِ وَأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِالنَّهْيِ عن صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ على انْعِقَادِهِ مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ النَّهْيَ عن غَيْرِ الْمَقْدُورِ عليه عَبَثٌ إذْ يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ لِلْأَعْمَى لَا تُبْصِرْ وَلِلْأَبْكَمِ لَا تَتَكَلَّمْ وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ ذلك في الْمُمْتَنِعِ حِسًّا لَا شَرْعًا وَإِلَّا لَانْتَقَضَ بِجَمِيعِ الْمَنَاهِي الْفَاسِدَةِ هَكَذَا أَطْلَقَ الْخِلَافَ ابن السَّمْعَانِيِّ وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرُهُمَا وَالصَّوَابُ أَنَّهُمَا إنَّمَا قَالَا ذلك في الْمَنْهِيِّ عنه لِوَصْفِهِ كما سَبَقَ وقد صَرَّحَ أبو زَيْدٍ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرُهُمَا من الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عنه لِعَيْنِهِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ أَصْلًا قال الْأَصْفَهَانِيُّ وَالْقَائِلُ بهذا الْمَذْهَبِ لَا يُمْكِنُهُ دَعْوَى أَنَّهُ يَدُلُّ على الصِّحَّةِ دَلَالَةَ مُطَابَقَةٍ فلم يَبْقَ إلَّا دَلَالَةُ الِالْتِزَامِ وَشَرْطُهَا اللُّزُومُ وهو مَفْقُودٌ هَاهُنَا وَقِيلَ إنْ أَرَادُوا بِالصِّحَّةِ الْعَقْلِيَّةَ وَهِيَ الْإِمْكَانُ أَيْ كَوْنُ الْمَنْهِيِّ عنه مُمْكِنُ الْوُجُودِ لَا مُمْتَنِعٌ فَصَحِيحٌ وَإِنْ أَرَادُوا الصِّحَّةَ الشَّرْعِيَّةَ بِالْمُسْتَفَادَةِ من الشَّرْعِ وَهِيَ تَرَتُّبُ آثَارِ الشَّيْءِ شَرْعًا عليه فَذَلِكَ تَنَاقُضٌ إذْ يَصِيرُ مَعْنَاهُ النَّهْيَ شَرْعًا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْمَنْهِيِّ عنه شَرْعًا وهو مُحَالٌ إذْ يَلْزَمُ منه صِحَّةُ كل ما نهى الشَّرْعُ عنه وقد أَبْطَلُوا هُمْ منه أَشْيَاءَ كَبَيْعِ الْحَمْلِ في الْبَطْنِ وَنَحْوِهِ وَلِأَنَّ النَّهْيَ لُغَةً وَشَرْعًا يَقْتَضِي إعْدَامَ الْمَنْهِيِّ عنه فَكَيْفَ تُرَتَّبُ آثَارُهُ مع إعْدَامِهِ وَكَذَلِكَ إنَّ الصِّحَّةَ إمَّا عَقْلِيَّةٌ وَهِيَ إمْكَانُ الشَّيْءِ وَقَبُولُهُ لِلْعَدَمِ وَالْوُجُودِ في نَظَرِ الْعَقْلِ كَإِمْكَانِ الْعَالَمِ وَالْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ أو عَادِيَّةٌ كَالْمَشْيِ في الْجِهَاتِ أَمَامًا وَيَمِينًا وَشِمَالًا أو شَرْعِيَّةٌ وَهِيَ الْإِذْنُ في الشَّيْءِ فَيَتَنَاوَلُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ إلَّا التَّحْرِيمَ إذْ لَا إذْنَ فيه وَحِينَئِذٍ دَلِيلُ الْحَنَفِيَّةِ إنَّمَا يَدُلُّ على اقْتِضَاءِ النَّهْيِ الصِّحَّةَ الْعَقْلِيَّةَ أو الْعَادِيَّةَ وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عليه أَمَّا الشَّرْعِيَّةُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ ليس فيها مَنْهِيٌّ عنه وَحِينَئِذٍ دَلِيلُهُمْ لَا يَمَسُّ مَحَلَّ النِّزَاعِ وَيَرْجِعُ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا النَّهْيُ الذي لِلتَّنْزِيهِ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ الْأَمْرُ الرَّابِعُ أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ في أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ أو لَا إنَّمَا هو النَّهْيُ الذي لِلتَّحْرِيمِ لِمَا بين الصِّحَّةِ وَالتَّحْرِيمِ من التَّضَادِّ أَمَّا النَّهْيُ الذي لِلتَّنْزِيهِ فقال الْهِنْدِيُّ في النِّهَايَةِ لَا خِلَافَ على ما يُشْعِرُ بِهِ كَلَامُهُمْ وقد صَرَّحَ بِذَلِكَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ انْتَهَى
____________________
(2/173)
أَيْ لَا خِلَافَ في عَدَمِ اقْتِضَائِهِ الْفَسَادَ إذْ لَا تَضَادَّ بين الِاعْتِدَادِ بِالشَّيْءِ مع كَوْنِهِ مَكْرُوهًا وَعَلَى ذلك بَنَى أَصْحَابُنَا صِحَّةَ الصَّلَاةِ في الْحَمَّامِ وَأَعْطَانِ الْإِبِلِ وَالْمَقْبَرَةِ وَنَحْوِهِ مع الْقَوْلِ بِكَرَاهَتِهَا لَكِنْ صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى بِجَرَيَانِهِ في نَهْيِ الْكَرَاهَةِ قال كما يَتَضَادُّ الْحَرَامُ وَالْوَاجِبُ يَتَضَادُّ الْمَكْرُوهُ وَالْوَاجِبُ حتى لَا يَكُونَ الشَّيْءُ وَاجِبًا مَكْرُوهًا وَهَذَا هو الظَّاهِرُ لِأَنَّ الْمَكْرُوهَ مَطْلُوبُ التَّرْكِ وَالصِّحَّةُ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ صَحِيحًا لِأَنَّ طَلَبَ تَرْكِهِ يُوجِبُ عَدَمَ الْإِتْيَانِ بِهِ إذَا وَقَعَ وَذَلِكَ هو الْفَسَادُ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ في الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وقد قال ابن الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ إنَّ الْكَرَاهَةَ مَانِعَةٌ من الصِّحَّةِ سَوَاءٌ كانت تَحْرِيمًا أو تَنْزِيهًا لِأَنَّهَا تُضَادُّ الْأَمْرَ كَيْفَ كانت لِأَنَّهَا لِلتَّرْكِ وَالْأَمْرُ طَلَبُ الْفِعْلِ وقد اُسْتُشْكِلَ ذلك عَلَيْهِمَا وَلَا إشْكَالَ لِمَا قَرَّرْنَاهُ قَالَا وَمَأْخَذُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ النَّهْيَ هل يَعُودُ إلَى نَفْسِ الصَّلَاةِ أَمْ إلَى خَارِجٍ عنها وَمِنْ هُنَا حَكَى بَعْضُهُمْ قَوْلَيْنِ في أَنَّ نَهْيَ التَّنْزِيهِ إذَا كان لِعَيْنِ الشَّيْءِ هل يَقْتَضِي الْفَسَادَ أَمْ لَا وقد يُتَوَقَّفُ في نَهْيِ التَّنْزِيهِ لِأَنَّ التَّنَاقُضَ إنَّمَا يَجِيءُ إذَا كان النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ وَعَلَى تَقْدِيرِ ما قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وابن الصَّلَاحِ فَذَلِكَ التَّضَادُّ إنَّمَا يَجِيءُ فِيمَا هو وَاجِبٌ خَاصَّةً لِمَا بين الْوُجُوبِ وَالْكَرَاهَةِ من التَّبَايُنِ فَأَمَّا الصِّحَّةُ مع الْإِبَاحَةِ كما في الْعُقُودِ الْمَنْهِيِّ عنها تَنْزِيهًا فَلَا تَضَادَّ حِينَئِذٍ وَالْفَسَادُ مُخْتَصٌّ بِمَا كان النَّهْيُ فيه لِلتَّحْرِيمِ الْأَمْرُ الْخَامِسُ أَنَّ الْخِلَافَ في أَنَّهُ هل يَقْتَضِي الْفَسَادَ أَمْ لَا إنَّمَا هو في الْفَسَادِ بِمَعْنَى الْبُطْلَانِ على رَأْيِنَا أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ لَا بِالْمَعْنَى الذي ذَهَبَ إلَيْهِ أبو حَنِيفَةَ نَبَّهَ عليه الْهِنْدِيُّ وَأَشَارَ إلَيْهِ ابن فُورَكٍ السَّادِسُ قد تَقَدَّمَ أَنَّ الْفَسَادَ إذَا أُطْلِقَ في الْعِبَادَاتِ أُرِيدَ بِهِ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ وإذا أُطْلِقَ في الْمُعَامَلَاتِ أُرِيدَ بِهِ عَدَمُ تَرَتُّبِ آثَارِ الْمَعْقُودِ عليها من اللُّزُومِ وَانْتِقَالِ الْمِلْكِ وَصِحَّةِ التَّصَرُّفِ وَغَيْرِ ذلك من الْأَحْكَامِ وَعَلَى هذا فإذا قِيلَ النَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَيَدُلُّ عليه مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عنه إذَا قُدِّرَ وُقُوعُهُ لَا يُجْزِئُ في نَفْسِهِ إنْ كان عِبَادَةً وَلَا يَتَرَتَّبُ عليه حُكْمُهُ إنْ كان مُعَامَلَةً وإذا قِيلَ لَا يَدُلُّ على الْفَسَادِ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي صِحَّةَ الْمَنْهِيِّ عنه وَتَرَتَّبَ عليه أَحْكَامُهُ كَالْمَنْقُولِ عن الْحَنَفِيَّةِ فَفَاسِدٌ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ صِيغَةَ النَّهْيِ لَا تَنْصَرِفُ لِشَيْءٍ من ذَيْنِك الْأَمْرَيْنِ وهو الظَّاهِرُ كان أَقْرَبَ فإن الْفَسَادَ حِينَئِذٍ إنَّمَا يَأْخُذُونَهُ من الْقَرَائِنِ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الصِّيغَةَ لو دَلَّتْ عليه
____________________
(2/174)
فَأَمَّا من جِهَةِ اللُّغَةِ فَبَاطِلٌ لِأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ لَا يُتَلَقَّى من اللُّغَةِ وَأَمَّا من جِهَةِ الشَّرْعِ فَلَا بُدَّ من دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَدُلُّ عليه السَّابِعُ قد سَبَقَ الْخِلَافُ في تَفْسِيرِ الْفَسَادِ في الْعِبَادَاتِ قال الْهِنْدِيُّ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ كُلَّ من ذَهَبَ من الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ في الْعِبَادَاتِ أو لَا يَقْتَضِيهِ فَإِنَّمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عليه عِنْدَهُ لَا بِالْمَعْنَى الْآخَرِ وَإِنْ كان الْأَمْرُ في الْأَمْرِ على خِلَافِ هذا الثَّامِنُ أَطْلَقَ الْمُفَصِّلُونَ بِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ في الْعِبَادَاتِ دُونَ الْعُقُودِ ولم يَتَعَرَّضُوا لِغَيْرِهِمَا وزاد ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ الْإِيقَاعَاتِ وَأَلْحَقَهَا بِالْعُقُودِ وَمُرَادُهُ بها الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ كَطَلَاقِ الْحَائِضِ وَكَإِرْسَالِ الثَّلَاثِ جميعا على قَاعِدَةِ الْحَنَفِيَّةِ في أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ الْمَنْهِيُّ عنه إذَا قُلْنَا بِنُفُوذِهِ وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ كَالْوَطْءِ في الْحَيْضِ فإنه يَحْصُلُ بِهِ الدُّخُولُ وَيَكْمُلُ بِهِ الْمَهْرُ وَلِهَذَا أَشَارَ ابن الْحَاجِبِ بِقَوْلِهِ في الْإِجْزَاءِ دُونَ السَّبَبِيَّةِ فَأَتَى بِالسَّبَبِيَّةِ لِيَشْمَلَ الْعُقُودَ وَالْإِيقَاعَاتِ وَهِيَ زِيَادَةٌ حَسَنَةٌ لَكِنْ يَرِدُ عليها أَنَّهُ جَعَلَ هذا قَوْلًا ثَالِثًا مُفَصَّلًا بين طَرَفَيْنِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ الذي اخْتَارَهُ شَمِلَ هذه الصُّوَرَ وَيَكُونُ النَّهْيُ عنهما يَدُلُّ على فَسَادِهَا وَأَنَّهُ اخْتَارَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْإِجْمَاعُ على وُقُوعِ الطَّلَاقِ في الْحَيْضِ وَإِرْسَالُ الثَّلَاثِ وَخِلَافُ الظَّاهِرِيَّةِ وَالشِّيعَةِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ التَّاسِعُ أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ في مُطْلَقِ النَّهْيِ لِيَخْرُجَ الْمُقْتَرِنُ بِقَرِينَةٍ تَدُلُّ على الْفَسَادِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ دَالًّا على الْمَنْعِ لِخَلَلٍ في أَرْكَانِهِ أو شَرَائِطِهِ أو يَقْتَرِنَ بِقَرِينَةٍ تَدُلُّ على أَنَّهُ ليس لِلْفَسَادِ نحو النَّهْيِ عن الشَّيْءِ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عنه كما في الْمَنْهِيَّيْنِ وَلَا خِلَافَ فيه وَإِنْ أَشْعَرَ كَلَامُ بَعْضِهِمْ بِجَرَيَانِ خِلَافٍ فيه فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ إذْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ له دَلَالَةٌ على الْفَسَادِ مع دَلَالَتِهِ على اخْتِلَالِ أَرْكَانِهِ وَشَرَائِطِهِ قُلْت كَلَامُ ابْنِ بَرْهَانٍ يَقْتَضِي جَرَيَانَ الْخِلَافِ فيه وَمِثَالُ ما فيه قَرِينَةُ الْفَسَادِ قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَلَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فإن الزَّانِيَةَ هِيَ التي تُنْكِحُ نَفْسَهَا رَوَاهُ ابن مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ من عِدَّةِ طُرُقٍ فإن الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ منه تَقْتَضِي أَنَّ ذلك إذَا وَقَعَ يَكُونُ فَاسِدًا فَلَا يَتَوَجَّهُ فيه خِلَافٌ أَلْبَتَّةَ وَكَذَلِكَ نَهْيُهُ عن بَيْعِ
____________________
(2/175)
الْكَلْبِ وقال فيه إنْ جاء وَطَلَبَ ثَمَنَهُ فَامْلَأْ كَفَّهُ تُرَابًا رَوَاهُ أبو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَكَذَلِكَ نَهْيُهُ عن الِاسْتِنْجَاءِ بِالْعَظْمِ أو الرَّوْثِ وقال إنَّهُمَا لَا يُطَهِّرَانِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عن نِكَاحِ الشِّغَارِ فإنه لِلْفَسَادِ وقد نُقِلَ النَّهْيُ عن الشَّافِعِيِّ تَوْجِيهُهُ أَنَّ النِّسَاءَ مُحَرَّمَاتٌ إلَّا بِمَا أَحَلَّ اللَّهُ من نِكَاحٍ أو مِلْكِ يَمِينٍ فَلَا يَحِلُّ الْمُحَرَّمُ من النِّسَاءِ بِالْمُحَرَّمِ من النِّكَاحِ وَمِثَالُ ما فيه قَرِينَةُ الصِّحَّةِ حَدِيثُ لَا تُصِرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَمَنْ ابْتَاعَهَا فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا فإن إثْبَاتَ الْخِيَارِ فيه قَرِينَةٌ تَقْتَضِي أَنَّ الْبَيْعَ قد انْعَقَدَ ولم يَقْتَضِ فَسَادًا وَكَذَلِكَ نَهْيُهُ عن بَيْعِ الرُّكْبَانِ وَإِثْبَاتُ الْخِيَارِ لِصَاحِبِهِ إذَا وَرَدَ السُّوقَ وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عن الطَّلَاقِ في الْحَيْضِ لِمَا فيه أَمْرٌ بِالْمُرَاجَعَةِ دَلِيلٌ على أَنَّهُ وَاقِعٌ الْعَاشِرُ لم يَتَعَرَّضُوا لِضَبْطِ الْفَرْقِ بين الْمَنْهِيِّ عنه لِنَفْسِهِ أو غَيْرِهِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الِاصْطِلَامِ في مَسْأَلَةِ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ النَّهْيَ عن الشَّيْءِ إذَا كان لِطَلَبِ ضِدِّهِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عن نَفْسِ الشَّيْءِ وإذا لم يَكُنْ لِطَلَبٍ فَلَا يَكُونُ في نَفْسِهِ مَنْهِيًّا عنه قال وَعَلَى هذا تُخَرَّجُ الْمَسَائِلُ بِالنَّهْيِ عن الصَّلَاةِ في الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ ليس لِطَلَبِ ضِدِّهَا وهو تَرْكُ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ في وَقْتِ النِّدَاءِ حتى لو اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ غَيْرِ الْبَيْعِ كان مَنْهِيًّا عنه وَلَوْ بَاعَ وهو يَسْعَى لم يَكُنْ مَنْهِيًّا عنه وَكَذَا النَّهْيُ عن الطَّلَاقِ في الْحَيْضِ لم يَكُنْ لِطَلَبِ ضِدِّهِ وهو بَقَاءُ النِّكَاحِ حَالَةَ الْحَيْضِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو طَلَّقَ وَهِيَ طَاهِرٌ ثُمَّ حَاضَتْ فَلَا نِكَاحَ وَالْحَيْضُ مَوْجُودٌ وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عن الْإِحْرَامِ مُجَامِعًا وَغَيْرُ ذلك بِخِلَافِ النَّهْيِ عن صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ وَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَغَيْرِهِ قُلْت وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في بَابِ النَّذْرِ من تَعْلِيقِهِ فقال
____________________
(2/176)
كُلُّ نَهْيٍ يُطْلَبُ لِضِدِّ الْمَنْهِيِّ عنه فَهُوَ لِعَيْنِهِ كَصَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ وَكُلُّ نَهْيٍ لم يَكُنْ لِطَلَبِ ضِدِّ الْمَنْهِيِّ عنه لم يَكُنْ لِعَيْنِهِ كَالصَّلَاةِ في الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْأَصْلَ في النَّهْيِ رُجُوعُهُ لِمَعْنًى في نَفْسِهِ وَلَا يُحْكَمُ فيه بِتَعَدُّدِ الْجِهَةِ إلَّا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ فيه لِأَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِ الشَّارِعِ حُرْمَةُ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ يَحْرُمُ إمْسَاكُهُ مع النِّيَّةِ لَا يُفْهَمُ منه عِنْدَ إطْلَاقِهِ سِوَاهُ فَمَنْ أَرَادَ صَرْفَ التَّحْرِيمِ عن الْحَقِيقَةِ إلَى أَمْرٍ خَارِجٍ احْتَاجَ إلَى الدَّلِيلِ وَلِهَذَا قَطَعَ الشَّافِعِيُّ بِبُطْلَانِهِ إذْ لم يَظْهَرْ صَرْفُ التَّحْرِيمِ إلَى أَمْرٍ خَاصٍّ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ وَقَطَعَ بِصِحَّةِ الطَّلَاقِ في زَمَنِ الْحَيْضِ لِانْصِرَافِ التَّحْرِيمِ عن الْحَقِيقَةِ إلَى أَمْرٍ خَارِجٍ وهو تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ أو لُحُوقِ النَّدَمِ عن الشَّكِّ في وُجُودِ الْوَلَدِ لِدَلِيلٍ دَلَّ عليه وَكَذَا قَطَعَ بِبُطْلَانِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ ولم يَلْحَظْ الْمَعْنَى الْخَارِجَ من كَوْنِهِ مُقَدِّمَةَ الْإِفْسَادِ الْحَادِيَ عَشَرَ ضَايَقَ ابن السَّمْعَانِيِّ في بَعْضِ خِلَافِيَّاتِهِ في قَوْلِهِمْ نهى عنه لِعَيْنِهِ وقال النَّهْيُ أَبَدًا إنَّمَا يُرَادُ لِغَيْرِهِ لَا لِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ قد عُرِفَ من أَصْلِنَا أَنَّ الْأَحْكَامَ لَيْسَتْ بِأَوْصَافٍ ذَاتِيَّةٍ لِلْأَفْعَالِ بَلْ عِبَارَةٌ عن تَعْلِيقِ خِطَابِ الشَّرْعِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالْمَنْعِ تَارَةً وَبِالْبَحْثِ أُخْرَى قال وَهَكَذَا نَقُولُ في بَيْعِ الْحُرِّ لَا يَكُونُ مَنْهِيًّا عنه لِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا يُنْهَى عنه لِغَيْرِهِ وَالصَّلَاةِ في الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَنَحْوِهِ وَالنَّهْيُ فيه لم يَكُنْ مُتَنَاوِلًا لِلصَّلَاةِ وَالْبَيْعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ بِدُونِ الْبَيْعِ فَدَلَّ على أَنَّ الْبَيْعَ مَنْهِيٌّ عنه وَالنَّهْيُ يُوجِبُ فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عنه إذَا صَادَفَ عَيْنَ الشَّيْءِ بِالِاتِّفَاقِ الثَّانِيَ عَشَرَ إذَا جَعَلْنَا الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هو في نَهْيِ التَّحْرِيمِ فَقَطْ فَإِنَّمَا هو في صِيغَةِ لَا تَفْعَلْ فإنه الْحَقِيقِيُّ في التَّحْرِيمِ كَعَكْسِهِ في الْأَمْرِ أَمَّا لَفْظُ نهى فَهُوَ مُشْتَرَكٌ بين الْكَرَاهَةِ وَالتَّحْرِيمِ كما سَبَقَ فَلَا يَنْتَهِضُ الِاسْتِدْلَال بِهِ على التَّحْرِيمِ كَاسْتِدْلَالِ أَصْحَابِنَا على بُطْلَانِ بَيْعِ الْغَائِبِ وَنَحْوِهِ بِحَدِيثِ أبي هُرَيْرَةَ نهى عن بَيْعِ الْغَرَرِ فَيُقَالُ هذه الصِّيغَةُ مُشْتَرَكَةٌ بين التَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ وَالنَّهْيُ الْمُقْتَضِي لِلْفَسَادِ إنَّمَا هو في نَهْيِ التَّحْرِيمِ وهو قَوْلُهُ لَا تَفْعَلْ
____________________
(2/177)
الثَّالِثَ عَشَرَ إذَا قام الدَّلِيلُ على أَنَّ النَّهْيَ ليس لِلْفَسَادِ فقال ابن عَقِيلٍ في الْوَاضِحِ لَا يَكُونُ مَجَازًا لِأَنَّهُ لم يَنْتَقِلْ عن مُوجِبِهِ وَإِنَّمَا انْتَقَلَ عن بَعْضِهِ فَصَارَ كَالْعُمُومِ الذي خَرَجَ بَعْضُهُ يَبْقَى حَقِيقَةً فِيمَا بَقِيَ وَهَذَا منه بِنَاءً على أَنَّ دَلَالَتَهُ على الْفَسَادِ من جِهَةِ اللَّفْظِ فَإِنْ قُلْنَا بِالصَّحِيحِ أَنَّهُ من جِهَةِ الشَّرْعِ لم يَكُنْ انْتِفَاؤُهُ مَجَازًا قال وَكَذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ على نَقْلِهِ عن التَّحْرِيمِ فإنه يَبْقَى نَهْيًا حَقِيقَةً على التَّنْزِيهِ كما إذَا قَامَتْ دَلَالَةٌ على أَنَّ الْأَمْرَ ليس لِلْوُجُوبِ وَهَذَا منه بِنَاءً على قَوْلِ الِاشْتِرَاكِ وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ خَاتِمَةٌ ما يَمْتَازُ بِهِ الْأَمْرُ عن النَّهْيِ فِيمَا يَمْتَازُ بِهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ هو أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي فِعْلَ مَرَّةٍ على الْأَصَحِّ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ على الدَّوَامِ وَالنَّهْيُ لَا يَتَّصِفُ بِالْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي مع الْإِطْلَاقِ وَالْأَمْرُ يَتَّصِفُ بِذَلِكَ على الْأَصَحِّ وَالنَّهْيُ لَا يُقْضَى إذَا فَاتَ وَقْتُهُ الْمُعَيَّنُ بِخِلَافِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِمَنْزِلَةِ النَّهْيِ ابْتِدَاءً قَطْعًا على الطَّرِيقَةِ الْمَشْهُورَةِ وفي الْأَمْرِ خِلَافٌ وفي تَكْرَارِ النَّهْيِ يَقْتَضِي التَّأْكِيدَ لِلْأَمْرِ على أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ بِالْإِجْمَاعِ وَالنَّهْيُ يَدُلُّ على فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عنه على أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَالنَّهْيُ الْمُعَلَّقُ على شَرْطٍ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِخِلَافِ الْأَمْرِ الْمُعَلَّقِ على شَرْطٍ على شَرْطٍ على الْأَصَحِّ قال ابن فُورَكٍ وَيَفْتَرِقَانِ في أَنَّ النَّهْيَ عن الشَّيْءِ ليس أَمْرًا بِضِدِّهِ وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن ضِدِّهِ إذَا كان على طَرِيقِ الْإِيجَابِ وفي أَنَّهُ إذَا نهى عن أَشْيَاءَ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ لم يَجُزْ له فِعْلُ وَاحِدٍ منها كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تُطِعْ منهم آثِمًا أو كَفُورًا سُورَةُ الْإِنْسَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
____________________
(2/178)
مباحث العام تَعْرِيفُ الْعَامِّ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا قال الْإِمَامُ أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ رضي اللَّهُ عنه لم نَكُنْ نَعْرِفُ الْخُصُوصَ وَالْعُمُومَ حتى وَرَدَ عَلَيْنَا الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه وهو في اللُّغَةِ شُمُولُ أَمْرٍ لِمُتَعَدِّدٍ سَوَاءٌ كان الْأَمْرُ لَفْظًا أو غَيْرَهُ وَمِنْهُ عَمَّهُمْ الْخَبَرُ إذَا شَمِلَهُمْ وَأَحَاطَ بِهِمْ وَلِذَلِكَ يقول الْمَنْطِقِيُّونَ الْعَامُّ ما لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرَ الشَّرِكَةِ فيه كَالْإِنْسَانِ وَيَجْعَلُونَ الْمُطْلَقَ عَامًّا وَاصْطِلَاحًا اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ لِجَمِيعِ ما يَصْلُحُ له من غَيْرِ حَصْرٍ أَيْ يَصْلُحُ له اللَّفْظُ الْعَامُّ كَ من في الْعُقَلَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ وكل بِحَسَبِ ما يَدْخُلُ عليه لَا أَنَّ عُمُومَهُ في جَمِيعِ الْأَفْرَادِ مُطْلَقًا وَخَرَجَ بِقَيْدِ الِاسْتِغْرَاقِ النَّكِرَةُ وَبِقَوْلِهِ من غَيْرِ حَصْرٍ أَسْمَاءُ الْعَدَدِ فَإِنَّهَا مُتَنَاوِلَةٌ لِكُلِّ ما يَصْلُحُ له لَكِنْ مع حَصْرٍ وَمِنْهُمْ من زَادَ عليه بِوَضْعِ وَاحِدٍ لِيَحْتَرِزَ بِهِ عَمَّا يَتَنَاوَلُهُ بِوَضْعَيْنِ فَصَاعِدًا كَالْمُشْتَرَكِ وَذَكَرَ ابن الْحَاجِبِ أَنَّ الْعَامَّ يُطْلَقُ أَيْضًا على اللَّفْظِ بِمُجَرَّدِ مُسَمَّيَاتِهِ مِثْلَ الْعَشَرَةِ وَالْمُسْلِمِينَ لِمَعْهُودٍ وَضَمَائِرِ الْجَمْعِ كما يُطْلَقُ التَّخْصِيصُ على قَصْرِ اللَّفْظِ على بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ عَامًّا وقال أبو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ مُسَاوَاةُ بَعْضِ ما تَنَاوَلَهُ لِبَعْضٍ وَنُوقِضَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ فإن أَحَدَهُمَا مُسَاوٍ لِلْآخَرِ وَلَيْسَ بِعَامٍّ وقال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ أَقَلُّ الْعُمُومِ شَيْئَانِ كما أَنَّ أَقَلَّ الْخُصُوصِ وَاحِدٌ وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وهو الشُّمُولُ وَالشُّمُولُ حَاصِلٌ في التَّثْنِيَةِ وَإِلَّا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ التَّثْنِيَةَ لَا تُسَمَّى عُمُومًا لَا سِيَّمَا إذَا قُلْنَا أَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثٌ فإذا سَلَبَ عنها اسْمَ الْجَمْعِ فَالْمَعْلُومُ أَوْلَى ثُمَّ إنَّ الْقَفَّالَ يُجَوِّزُ تَخْصِيصَ لَفْظِ الْعُمُومِ إلَى الثَّلَاثَةِ وَلَا يُجَوِّزُ تَخْصِيصَ اللَّفْظِ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ وفي الْجَمْعِ بين الْكَلَامَيْنِ تَنَافٍ وقال الْمَازِرِيُّ الْعُمُومُ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْأُصُولِ هو الْقَوْلُ الْمُشْتَمِلُ على شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا وَالتَّثْنِيَةُ عِنْدَهُمْ عُمُومٌ لِمَا يُتَصَوَّرُ فيها من مَعْنَى الْجَمْعِ وَالشُّمُولُ الذي لَا يُتَصَوَّرُ لِلْوَاحِدِ وَحَصَلَ من هذا خِلَافٌ في التَّثْنِيَةِ هل لها عُمُومٌ وهو غَرِيبٌ وقال الْغَزَالِيُّ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ الدَّالُّ من جِهَةٍ وَاحِدَةٍ على شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا
____________________
(2/179)
وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ فَصَاعِدًا عن لَفْظِ التَّثْنِيَةِ وَأَرَادَ بِالْوَاحِدِ مُقَابِلَ الْمُرَكَّبِ حتى يَشْمَلَ الِاثْنَيْنِ وَاقْتَضَى كَلَامُهُ في الْمُسْتَصْفَى أَنَّ قَوْلَهُ وَاحِدٌ وَمِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَصْلٌ وَاحِدٌ وَاحْتِرَازٌ بِهِ عن قَوْلِهِمْ ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا فإنه دَلَّ على شَيْئَيْنِ وَلَكِنْ بِلَفْظَيْنِ لَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَمِنْ جِهَتَيْنِ لَا من جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَرَادَ بِالْجِهَتَيْنِ الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ وقال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ اُعْتُرِضَ عليه بِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ دَلَالَةَ ضَرَبَ عَلَيْهِمَا فَبَاطِلٌ لِأَنَّهَا الْتِزَامِيَّةٌ وَدَلَالَةُ الْعَامِّ على مَعْنَاهُ بِالْمُطَابَقَةِ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ دَلَالَتَهَا على ذَاتِهِمَا فَكَذَلِكَ لِخُرُوجِهِ عنه بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ وقال ابن الْحَاجِبِ يَدْخُلُ فيه كُلُّ مَعْهُودٍ وَنَكِرَةٍ وقد نَلْتَزِمُهُ فَنَقُولُ إنَّهُمَا عَامَّانِ لِدَلَالَتِهِمَا على شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا وَلَيْسَ كما قال أَمَّا أَوَّلًا فَلَا نُسَلِّمُ دُخُولَهُ لِأَنَّهُ ليس بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ اخْتَارَ في الْمُسْتَصْفَى أَنَّ الْجَمْعَ الْمُنَكَّرَ ليس بِعَامٍّ وقال ابن فُورَكٍ وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ اشْتَهَرَ من كَلَامِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْعُمُومَ هو اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِغْرَاقَ عُمُومٌ وما دُونَهُ عُمُومٌ وَأَقَلُّ الْعُمُومِ اثْنَانِ وَلَمَّا لم يَصِحَّ أَنْ يَعُمَّ الشَّيْءُ نَفْسَهُ كان ما زَادَ عليه يَسْتَحِقُّ بِهِ اسْمَ الْعُمُومِ قَلَّ أَمْ كَثُرَ وَكَذَلِكَ قال الْمُتَكَلِّمُونَ من الْوَاقِفِيَّةِ إنَّا نَقُولُ بِالْعُمُومِ لَا نَقُولُ بِالِاسْتِيعَابِ وهو الْخُصُوصُ في عِبَارَةِ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِمَنْ يَحْمِلُ الْخِطَابَ على ثَلَاثَةٍ إنَّهُمْ أَهْلُ الْخُصُوصِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ عُمُومًا أو خُصُوصًا من جِهَتَيْنِ وقد أَخَذَ جَمَاعَةٌ من الْأُصُولِيِّينَ في حَدِّ الْعَامِّ الِاسْتِغْرَاقَ ولم يَأْخُذْهُ آخَرُونَ وقد تَظْهَرُ فَائِدَةُ ذلك في الْعَامِّ الذي خَصَّ بِهِ الْبَعْضَ فَمَنْ اشْتَرَطَ في الْعُمُومِ الِاسْتِغْرَاقَ لَا يُجَوِّزُ التَّمَسُّكَ بِهِ أو يُضَعِّفَهُ لِأَنَّهُ لم يَبْقَ عَامًّا وَمَنْ لم يَشْتَرِطْهُ وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ الدَّلَالَةَ على جَمْعٍ جَوَّزَهُ الْفَرْقُ بين الْعُمُومِ وَالْعَامِّ وَهُنَا أُمُورٌ أَحَدُهُمَا في الْفَرْقِ بين الْعُمُومِ وَالْعَامِّ فَالْعَامُّ هو اللَّفْظُ الْمُتَنَاوِلُ وَالْعُمُومُ تَنَاوُلُ اللَّفْظِ لِمَا صَلُحَ له فَالْعُمُومُ مَصْدَرٌ وَالْعَامُّ اسْمُ الْفَاعِلِ مُشْتَقٌّ من هذا
____________________
(2/180)
الْمَصْدَرِ وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْفِعْلُ وَالْفِعْلُ غَيْرُ الْفَاعِلِ وَمِنْ هذا يَظْهَرُ الْإِنْكَارُ على عبد الْجَبَّارِ وَابْنِ بَرْهَانٍ وَغَيْرِهِمَا في قَوْلِهِمْ الْعُمُومُ اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ فَإِنْ قِيلَ أَرَادُوا بِالْمَصْدَرِ اسْمَ الْفَاعِلِ قُلْنَا اسْتِعْمَالُهُ فيه مَجَازٌ وَلَا ضَرُورَةَ لِارْتِكَابِهِ مع إمْكَانِ الْحَقِيقَةِ وَفَرَّقَ الْقَرَافِيُّ بين الْأَعَمِّ وَالْعَامِّ بِأَنَّ الْأَعَمَّ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ في الْمَعْنَى وَالْعَامُّ في اللَّفْظِ فإذا قِيلَ هذا أَعَمُّ تَبَادَرَ الذِّهْنُ لِلْمَعْنَى وإذا قِيلَ هذا عَامٌّ تَبَادَرَ الذِّهْنُ لِلَّفْظِ الْفَرْقُ بين عُمُومِ الشُّمُولِ وَعُمُومِ الصَّلَاحِيَةِ الثَّانِي الْعُمُومُ يَقَعُ على مُسَمَّى عُمُومِ الشُّمُولِ وهو الْمَقْصُودُ هُنَا وَعُمُومِ الصَّلَاحِيَةِ وهو الْمُطْلَقُ وَتَسْمِيَتُهُ عَامًّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَوَارِدَهُ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ لَا أَنَّهُ في نَفْسِهِ عَامٌّ وَيُقَالُ له عُمُومُ الْبَدَلِ أَيْضًا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ عُمُومَ الشُّمُولِ كُلِّيٌّ وَيُحْكَمُ فيه على كل فَرْدٍ وَعُمُومُ الصَّلَاحِيَةِ كُلِّيٌّ أَيْ لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ من وُقُوعِ الشَّرِكَةِ تَفَاوُتُ صِيَغِ الْأَعَمِّ الثَّالِثُ صِيَغُ الْأَعَمِّ تَتَفَاوَتُ قال سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ أَعَمُّ الْأَسْمَاءِ قَوْلُنَا مَعْلُومٌ وَمَذْكُورٌ لِتَنَاوُلِهِ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ ثُمَّ شَيْءٌ وَمَوْجُودٌ لِتَنَاوُلِهِ الْقَدِيمَ وَالْمُحْدَثَ ثُمَّ مُحْدَثٌ لِتَنَاوُلِ الْجِسْمِ وَالْعَرَضِ ثُمَّ جِسْمٌ ثُمَّ حَيَوَانٌ ثُمَّ إنْسَانٌ ثُمَّ رَجُلٌ ثُمَّ أنا وَأَنْتَ ما يَدْخُلُهُ الْعُمُومُ وما لَا يَدْخُلُهُ وَالْكَلَامُ في الْعُمُومِ في مَوَاضِعَ أَحَدِهِمَا هل يُتَصَوَّرُ في الْقَوْلِ النَّفْسِيِّ الْمَشْهُورُ من مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيَّةِ تَصَوُّرُهُ كما قالوا في الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ قال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ اعْلَمْ أَنَّ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ يَرْجِعَانِ إلَى الْكَلَامِ ثُمَّ الْكَلَامُ الْحَقِيقِيُّ هو الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ وهو الذي يَعُمُّ وَيَخُصُّ وَالصِّيَغُ وَالْعِبَارَاتُ دَالَّةٌ عليه وَلَا تُسَمَّى بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ إلَّا تَجَوُّزًا كما أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ يَرْجِعَانِ إلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ دُونَ الصِّيَغِ وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ وَصْفَانِ رَاجِعَانِ إلَى الْعِبَارَاتِ وَالصِّيَغِ كَقَوْلِهِمْ في الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ انْتَهَى
____________________
(2/181)
وَأَنْكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ظُهُورَهُ في ذلك وَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِجَمَاعَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ فِيمَا قَالُوهُ وَصَرَفَ عُمُومَ النَّفْسِيِّ إلَى عُمُومٍ فيها تَكُونُ الْمَعْلُومَاتُ على جِهَاتٍ دُونَ جِهَاتٍ قال الْمَازِرِيُّ وَيُقَالُ له إنْ أَنْكَرْت وُجُودَ قَوْلٍ في النَّفْسِ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الِاسْتِيعَابِ بِنَفْسِهِ وَحَقِيقَةً فَمُسَلَّمٌ وَأَمَّا إثْبَاتُ قَوْلٍ في النَّفْسِ هو خَبَرٌ عن مَعْنَى الْعُمُومِ فَلَيْسَ هو الْمُرَادُ وَالنِّزَاعُ فيه الثَّانِي هل الْعُمُومُ في الْعُمُومِ قال الْمَازِرِيُّ اخْتَلَفُوا في نَحْوِ قَوْلِهِمْ هذا عَطَاءٌ عَامٌّ هل ذِكْرُ الْعُمُومِ هُنَا حَقِيقَةٌ أو مَجَازٌ قال الْأَكْثَرُونَ من أَئِمَّةِ الْكَلَامِ إنَّهُ مَجَازٌ لِكَوْنِ ما تَنَاوَلَهُ كُلُّ إنْسَانٍ من الْعَطَاءِ مُخْتَصًّا بِهِ وهو غَيْرُ ما يَتَنَاوَلُهُ صَاحِبُهُ بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى الْمُشْرِكِينَ فإن هذه اللَّفْظَةَ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مُشْرِكٍ تَنَاوُلًا وَاحِدًا وَقِيلَ حَقِيقَةً وَالْخِلَافُ في هذا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ الثَّالِثِ هل يُتَصَوَّرُ في الْأَحْكَامِ حتى يُقَالَ حُكْمُ قَطْعِ السَّارِقِ عَامٌّ أَنْكَرَهُ الْقَاضِي فإذا قِيلَ حُكْمُ اللَّهِ عَامٌّ في قَطْع السَّارِقِ فَكُلُّ سَارِقٍ يَخْتَصُّ بِمَا وَرَدَ فيه من الْحُكْمِ وَأَثْبَتَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وَهَذَا الذي ذَكَرَهُ الْقَاضِي إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْقَطْعَ الذي يَخْتَصُّ بِهِ هذا السَّارِقُ لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ فَلَعَلَّهُ تَخَرَّجَ على الْقَوْلِ بِرُجُوعِ الْأَحْكَامِ إلَى صِفَاتِ النَّفْسِ فَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْأَحْكَامُ تَرْجِعُ إلَى قَوْلِ الشَّارِعِ وقال الْمَازِرِيُّ الْحَقُّ ابْتِنَاءُ هذه الْمَسْأَلَةِ على أَنَّ الْحُكْمَ يَرْجِعُ إلَى قَوْلٍ أو إلَى وَصْفٍ يَرْجِعُ إلَى الذَّاتِ فَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي لم يُتَصَوَّرْ الْعُمُومُ لِمَا تَقَدَّمَ في الْأَفْعَالِ وَإِنْ قُلْنَا يَرْجِعُ إلَى قَوْلِ اللَّهِ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَالسَّارِقُ يَشْمَلُ كُلَّ السَّارِقِ فَنَفْسُ الْقَطْعِ فِعْلٌ وَالْأَفْعَالُ لَا عُمُومَ لها حَقِيقَةً الرَّابِعِ هل يُتَصَوَّرُ في الْأَفْعَالِ قال الْقَاضِي أبو عبد اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ الْحَنَفِيُّ في كِتَابِهِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ في أُصُولِ الْفِقْهِ دَعْوَى الْعُمُومِ في الْأَفْعَالِ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وقال بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْعُمُومَ ما اشْتَمَلَ على أَشْيَاءَ مُتَغَايِرَةٍ وَالْفِعْلُ لَا يَقَعُ إلَّا على دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ وَاحْتَجَّ الْخَصْمُ بِقَوْلِهِ حُكْمِي على الْوَاحِدِ حُكْمِي على الْجَمَاعَةِ دَلَّ على أَنَّ فِعْلَهُ في عَيْنٍ وَاحِدَةٍ يَقْتَضِي تَعَدِّيهِ في كل عَيْنٍ وَالْجَوَابُ أَنَّ هذا لم يَعْرِفْ مَوْضِعَ النِّزَاعِ منه انْتَهَى وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ لَا يَصِحُّ الْعُمُومُ إلَّا في الْأَلْفَاظِ وَأَمَّا في الْأَفْعَالِ فَلَا
____________________
(2/182)
يَصِحُّ لِأَنَّهَا تَقَعُ على صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ عُرِفَتْ اخْتَصَّ الْحُكْمُ بِهِ وَإِلَّا صَارَ مُجْمَلًا فَهَذَا عُرِفَتْ صِفَتُهُ قَوْلُ الرَّاوِي جَمَعَ بين الصَّلَاتَيْنِ في السَّفَرِ فَهَذَا مَقْصُورٌ على السَّفَرِ وَمِنْ الثَّانِي قَوْلُهُ في السَّفَرِ فَلَا يَدْرِي إنْ كان طَوِيلًا أو قَصِيرًا فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فيه وَلَا نَدَّعِي فيه الْعُمُومَ وقال ابن الْقُشَيْرِيّ أَطْلَقَ الْأُصُولِيُّونَ أَنَّ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا في الْأَقْوَالِ وَلَا يَدْخُلُ في الْأَفْعَالِ أَعْنِي في ذَوَاتِهَا فَأَمَّا في أَسْمَائِهَا فَقَدْ يَتَحَقَّقُ وَلِهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ ادِّعَاءُ الْعُمُومِ في أَفْعَالِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عِنْدَ من اسْتَدَلَّ على أَنَّ وَقْتَ الْعِشَاءِ يَدْخُلُ بِمَغِيبِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الْعِشَاءَ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ فَالْعُمُومُ في الْأَقْوَالِ دُونَ الْمَعَانِي وَالْأَفْعَالِ وقال أَصْحَابُ مَالِكٍ يَكُونُ الْعُمُومُ في الْأَفْعَالِ كَالْأَقْوَالِ وَلِذَلِكَ اسْتَدَلُّوا على أَنَّ كُلَّ فِطْرٍ بِمَعْصِيَةٍ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَفْطَرَ فَأَمَرَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِالْكَفَّارَةِ وقال أَصْحَابُنَا إطْلَاقُ مَعْنَى الْعُمُومِ يَصِحُّ في الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي وَدَلَائِلِ الْأَلْفَاظِ من مَفْهُومٍ أو دَلِيلِ خِطَابٍ وَكَذَلِكَ أَحْوَالُ الْفِعْلِ الْمَقْضِيِّ فيه بِحُكْمٍ من الْأَحْكَامِ إذَا تَرَكَ فيه التَّفْصِيلَ كَتَخْيِيرِ من أَسْلَمَ على أُخْتَيْنِ بَيْنَهُمَا وَمَنْ أَسْلَمَ على عَشْرٍ بِاخْتِيَارِ أَرْبَعٍ ولم نَسْأَلْهُ عن حَقِيقَةِ عُقُودِهِنَّ وَقَعْنَ مَعًا أو مُرَتَّبًا وَأَمَّا نَفْسُ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ فَلَا يَصِحُّ دَعْوَى الْعُمُومِ فيه كما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم سَهَا فَسَجَدَ
____________________
(2/183)
لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال على أَنَّ كُلَّ سَهْوٍ يُوجِبُ السُّجُودَ الْخَامِسِ لَا خِلَافَ أَنَّ الْعُمُومَ من عَوَارِضِ صِيَغِ الْأَلْفَاظِ حَقِيقَةً بِدَلِيلِ أَنَّ الْأُصُولِيَّ إذَا أَطْلَقَ لَفْظَ الْعَامِّ لم يُفْهَمْ منه إلَّا اللَّفْظُ قال في الْبَدِيعِ بِمَعْنَى وُقُوعِ الشَّرِكَةِ في الْمَفْهُومِ لَا بِمَعْنَى الشَّرِكَةِ في اللَّفْظِ يُرِيدُ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِ اللَّفْظِ عَامًّا حَقِيقَةً أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِكَ في مَفْهُومِهِ كَثِيرُونَ في مَعْنَاهُ وَلَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ اللَّفْظِ عَامًّا كَوْنَهُ مُشْتَرَكًا بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ كَالْقُرْءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً في الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ بَلْ الِاشْتِرَاكُ الْمَعْنَوِيُّ وقال الْإِبْيَارِيُّ قَوْلُ الْغَزَالِيِّ إنَّ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ من عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ لَا يُظَنُّ بِهِ إنْكَارُ كَلَامِ النَّفْسِ وَإِنَّمَا الظَّنُّ بِهِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الصِّيَغَ لِلِاحْتِيَاجِ إلَى مَعْرِفَةِ وَضْعِ اللُّغَةِ فيها انْتَهَى وَأَمَّا في الْمَعَانِي فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ لَا يُسَمَّى عَامًّا حَقِيقَةً وإذا أُضِيفَ الْعُمُومُ إلَى مَعْنًى كَقَوْلِنَا هذا حُكْمٌ عَامٌّ أو قَضِيَّةٌ أو حَدِيثٌ عَامٌّ فَهُوَ من قَبِيلِ الْإِطْلَاقِ الْمَجَازِيِّ أَيْ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَعْنَى بِحَقِّ الْأَصْلِ أَنْ يُوصَفَ بِالْعُمُومِ وَإِنَّمَا هو بِحَسَبِ الِاسْتِعَارَةِ إمَّا من اللَّفْظِ أو نَظَرٍ إلَى شُمُولِ مَجْمُوعِ أَفْرَادِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ لِمَجْمُوعِ مَحَالِّهِ وَكَذَا إطْلَاقُ الْعُمُومِ في الْعِلَّةِ وَالْمَفْهُومِ وَنَحْوِهِمَا فَمَنْ أَطْلَقَ عليها الْعُمُومَ لَا يُنَاقِضُ اخْتِيَارَهُ هُنَا أَنَّ الْمَعْنَى لَا يُسَمَّى عَامًّا لِأَنَّ ذلك إطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ وقال ابن بَرْهَانٍ الصَّحِيحُ أَنَّهُ من صِفَاتِ الْأَلْفَاظِ لِأَنَّا إذَا قُلْنَا مُسْلِمُونَ أو الْمُسْلِمُونَ عَادَ الِاسْتِغْرَاقُ إلَى الصِّيغَةِ فإن الصِّيغَةَ الْمُتَّحِدَةَ هِيَ الْمُتَنَاوِلَةُ لِلْكُلِّ وقال قَوْمٌ يُمْكِنُ دَعْوَى الْعُمُومِ في الْمَعَانِي تَقُولُ الْعَرَبُ عَمَّهُمْ الْخَصْبُ وَالرَّجَاءُ وَغَيْرُ ذلك وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ فإن الْمَعَانِيَ في هذه الصُّورَةِ مُتَعَدِّدَةٌ فإن ما خَصَّ هذه الْبُقْعَةَ غَيْرُ ما خَصَّ الْأُخْرَى وقال إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ في تَعْلِيقِهِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ حَقِيقَةً إلَّا على الْأَلْفَاظِ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ لَا يَشْمَلُ الْكُلَّ فإن اللَّذَّةَ التي حَصَلَتْ لِزَيْدٍ غَيْرُ التي حَصَلَتْ لِعَمْرٍو وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْإِفَادَةِ الْجُمْهُورُ على أَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالْعُمُومِ إلَّا الْقَوْلُ فَقَطْ وَذَهَبَ قَوْمٌ من أَهْلِ الْعِرَاقِ إلَى أَنَّهُ يَصِحُّ ادِّعَاؤُهُ في الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ وَمُرَادُهُمْ بِذَلِكَ حَمْلُ الْكَلَامِ على عُمُومِ الْخِطَابِ وَإِنْ لم تَكُنْ هُنَاكَ صِيغَةٌ تَعُمُّهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ أَيْ نَفْسُ الْمَيْتَةِ وَعَيْنُهَا لَمَّا لم يَصِحَّ تَنَاوُلُ التَّحْرِيمِ لها عَمَّ التَّحْرِيمُ جَمِيعَ التَّصَرُّفِ من الْأَكْلِ وَالْبَيْعِ وَاللَّمْسِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الِانْتِفَاعِ وَإِنْ لم يَكُنْ لِلْأَحْكَامِ ذِكْرٌ في التَّحْرِيمِ بِعُمُومٍ وَلَا خُصُوصٍ وَكَذَا قَوْلُهُ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ عَامٌّ في الْإِجْزَاءِ وَالْكَمَالِ وَاَلَّذِي يَقُولُهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ اخْتِصَاصُهُ بِالْقَوْلِ وَإِنَّ وَصْفَهُمْ الْجَوْرَ وَالْعَدْلَ بِأَنَّهُ عَامٌّ مَجَازٌ وقال أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ في التَّقْوِيمِ الْعُمُومُ لَا يَدْخُل في الْمَعَانِي على
____________________
(2/184)
الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ انْتِظَامُهَا تَحْتَ لَفْظٍ وَاحِدٍ إلَّا إذَا اخْتَلَفَتْ في أَنْفُسِهَا وإذا اخْتَلَفَتْ تَدَافَعَتْ وَهَذَا كَالْمُشْتَرَكِ فَلَا عُمُومَ له بَلْ هو بِمَنْزِلَةِ الْمَحَلِّ وقال وَذَكَرَ أبو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ أَنَّ الْعُمُومَ ما يَنْتَظِمُ جَمْعًا من الْأَسَامِي وَالْمَعَانِي وَكَأَنَّهُ غَلَطٌ منه في الْعِبَارَةِ دُونَ الْمَذْهَبِ فإنه ذَكَرَ من بَعْدُ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ لَا عُمُومَ له وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْمَعَانِي مَعْنًى وَاحِدًا عَامًّا كَقَوْلِنَا خِصْبٌ عَامٌّ وَمَطَرٌ عَامٌّ وقال شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ ذَكَرَ أبو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ أَنَّ الْعُمُومَ حَقِيقَةٌ في الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ كما هو في الْأَسْمَاءِ وَالْأَلْفَاظِ وهو غَلَطٌ فإن الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَعَانِيَ حَقِيقَةً وَإِنْ كانت تُوصَفُ بِهِ مَجَازًا وَهَذَا خِلَافُ طَرِيقَةِ أبي بَكْرٍ الرَّازِيَّ فإنه حُكِيَ عن مَذْهَبِهِمْ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ في الْمَعَانِي أَيْضًا وَاخْتَارَهُ ابن الْحَاجِبِ وَعَمَّمَ الْحَقِيقَةَ في الْمَعْنَى الذِّهْنِيِّ وَالْخَارِجِيِّ وَلِذَلِكَ مَثَّلَ بِعُمُومِ الْمَطَرِ وَالْخِصْبِ ثُمَّ قال وَكَذَلِكَ الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ وقال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ الْحَقُّ هو التَّفْصِيلُ بين الْمَعَانِي الْمَوْجُودَةِ في الْخَارِجِ وَبَيْنَ الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ الْمَوْجُودَةِ في الْأَذْهَانِ فَإِنْ عَنَوْا بِقَوْلِهِمْ الْمَعَانِيَ غير مَوْصُوفَةٍ بِالْعُمُومِ الْمَعَانِيَ الْمَوْجُودَةَ خَارِجَ فَهُوَ حَقٌّ لِأَنَّ كُلَّ ما له مَوْجُودٌ في الْخَارِجِ فإنه لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَخَصِّصًا بِمَحَلٍّ دُونَ مَحَلٍّ وَحَالٍ مَخْصُوصٍ وَمُتَخَصِّصًا بِعَوَارِضَ لَا تُوجَدُ في غَيْرِهِ وَعِنْدَ ذلك يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِأُمُورٍ عَدِيدَةٍ وَإِنْ عَنَوْا بِهِ مُطْلَقَ الْمَعَانِي سَوَاءٌ كانت ذِهْنِيَّةً أو خَارِجِيَّةً فَهُوَ بَاطِلٌ فإن الْمَعَانِيَ الْكُلِّيَّةَ الذِّهْنِيَّةَ عَامَّةٌ بِمَعْنَى أنها مَعْنًى وَاحِدٌ مُتَنَاوِلٌ لِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ قال وَلَا يَجْرِي هذا التَّفْصِيلُ في اللَّفْظِ إذْ لَا وُجُودَ له في الْخَارِجِ وَأَمَّا تَخْصِيصُ وُجُودِهِ بِاللِّسَانِيِّ فَلَا يَمْنَعُ من حَمْلِهِ وَدَلَالَتِهِ على مُسَمَّيَاتِهِ انْتَهَى وقال الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ إنْ كان الْخِلَافُ في الْإِطْلَاقِ اللُّغَوِيِّ فَأَمْرُهُ سَهْلٌ
____________________
(2/185)
أَيْ وَيَصِيرُ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا وَإِنْ كان في وَاحِدٍ مُتَعَلِّقٍ بِمُتَعَدِّدٍ فَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ في الْأَعْيَانِ الْخَارِجِيَّةِ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ في الْمَعَانِي الذِّهْنِيَّةِ وَالْأُصُولِيُّونَ يُنْكِرُونَ وُجُودَهَا قُلْت وَصَرَّحَ الْهِنْدِيُّ في الرِّسَالَةِ السَّيْفِيَّةِ بِأَنَّ الْخِلَافَ في اللُّغَةِ فقال الْعُمُومُ من عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ خَاصَّةً بِحَسَبِ الِاصْطِلَاحِ إجْمَاعًا وَكَذَا اللُّغَةُ على الْمُخْتَارِ وَقِيلَ من عَوَارِضِ الْمَعَانِي أَيْضًا انْتَهَى وَفَصَّلَ ابن بَرْهَانٍ بين الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ مِثْلَ حِكْمَةِ الرَّدْعِ في نَصْبِ الْقَتْلِ سَبَبًا فَهِيَ مِثْلُ الْحُكْمِ يَجْرِي فيها الْعُمُومُ وَبَيْنَ الْجُزْئِيَّةِ فَلَا يَجْرِي فيها الْعُمُومُ وقال الْآمِدِيُّ في غَايَةِ الْأَمَلِ لَعَلَّ من مَنَعَ عُرُوضَ الْعُمُومِ لِلْمَعَانِي لم يَكُنْ إلَّا لِنَظَرِهِ إلَى ما لَا يَنْحَصِرُ منها وَغَفْلَتِهِ عن تَحْقِيقِ مَعْنَى كُلِّيَّتِهَا فَتَحَصَّلْنَا على ثَمَانِيَةِ مَذَاهِبَ أَحَدِهَا أَنَّهُ لَا يَعْرِضُهُمَا مُطْلَقًا وَالثَّانِي وهو قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ يَعْرِضُهُمَا مَجَازًا لَا حَقِيقَةً وَالثَّالِثِ أَنَّهُ يَعْرِضُهُمَا حَقِيقَةً بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ الرَّابِعِ أَنَّهُ يَعْرِضُهُمَا حَقِيقَةً بِالتَّوَاطُؤِ فَتَكُونُ مَوْضُوعَةً لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بين اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَهَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ يُخَرَّجَانِ من كَلَامِ الْقَرَافِيِّ في كِتَابِهِ الْعِقْدِ الْمَنْظُومِ وَالْخَامِسِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ في الْمَعَانِي مَجَازٌ في الْأَلْفَاظِ قال الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ نَقَلَهُ ابن الْحَاجِبِ وهو غَرِيبٌ السَّادِسِ التَّفْصِيلُ بين الْمَعْنَى الذِّهْنِيِّ وَالْخَارِجِيِّ السَّابِعِ التَّفْصِيلُ بين الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ وَالْجُزْئِيِّ وَالثَّامِنِ الْوَقْفُ وهو قَضِيَّةُ كَلَامِ الْآمِدِيَّ فإنه أَبْطَلَ أَدِلَّةَ الْقَائِلِينَ بِالْحَقِيقَةِ وَالْقَائِلِينَ بِالْمَجَازِ ولم يَخْتَرْ منها شيئا فَدَلَّ على أَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ وَيُخَرَّجُ على هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ منها أَنَّ الْمَفْهُومَ لَا عُمُومَ له على رَأْيِ الْغَزَالِيِّ لِأَنَّهُ ليس بِلَفْظٍ وَمِنْهَا دَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ هل هِيَ عَامَّةٌ أَمْ لَا وَمِنْ ثَمَّ يَنْبَغِي تَأَمُّلُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ في أَنَّ الْعُمُومَ من عَوَارِضِ الْمَعَانِي حَقِيقَةً وَأَنَّ الْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ له وَمِنْهَا أَنَّ الْعَقْلَ هل يَخْتَصُّ وَمِنْهَا سُكُوتُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم هل يَكُونُ دَلِيلًا عَامًّا
____________________
(2/186)
تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعَانِي هُنَا الْمَعَانِي الْمُسْتَقِلَّةُ وَلِهَذَا مَثَّلُوهُ بِالْمَفْهُومِ وَالْمُقْتَضَى لَا الْمَعَانِي التَّابِعَةِ لِلْأَلْفَاظِ فَتِلْكَ لَا خِلَافَ في عُمُومِهَا لِأَنَّ لَفْظَهَا عَامٌّ وقال الْقَرَافِيُّ اعْلَمْ أَنَّا كما نَقُولُ لَفْظٌ عَامٌّ أَيْ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَفْرَادِهِ كَذَلِكَ نَقُولُ لِلْمَعْنَى إنَّهُ عَامٌّ أَيْضًا فَنَقُولُ الْحَيَوَانُ عَامٌّ في النَّاطِقِ وَالْبَهِيمَةِ وَالْعَدَدُ عَامٌّ في الزَّوْجِ وَالْفَرْدِ وَاللَّوْنُ عَامٌّ في السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَالْمَطَرُ عَامٌّ وَهَذِهِ كُلُّهَا عُمُومَاتٌ مَعْنَوِيَّةٌ لَا لَفْظِيَّةٌ فَإِنَّا نَحْكُمُ بِالْعُمُومِ في هذه الصُّوَرِ على هذه الْمَعَانِي عِنْدَ تَصَوُّرِنَا لها وَإِنْ جَهِلْنَا اللَّفْظَ الْمَوْضُوعَ بِإِزَائِهَا هل هو عَرَبِيٌّ أو عَجَمِيٌّ شَامِلٌ أو غَيْرُ شَامِلٍ وَأَمَّا عُمُومُ اللَّفْظِ فَلَا نَقُولُ هذا اللَّفْظُ عَامٌّ حتى نَتَصَوَّرَ اللَّفْظَ نَفْسَهُ وَنَعْلَمَ من أَيِّ لُغَةٍ هو وَهَلْ وَضَعَهُ أَهْلُ تِلْكَ اللُّغَةِ عَامًّا شَامِلًا أو غير شَامِلٍ فَلَوْ وَجَدْنَاهُ شَامِلًا سَمَّيْنَاهُ عَامًّا وَإِنْ لم نَجِدْهُ شَامِلًا لم نُسَمِّهِ عَامًّا عُمُومَ الشُّمُولِ وقد نُسَمِّيهِ عَامًّا عُمُومَ الصَّلَاحِيَةِ فَقَدْ ظَهَرَ حِينَئِذٍ أَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ يَصْلُحُ لِلْمَعْنَى وَاللَّفْظِ وَهَلْ ذلك بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ أو بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ فيه ما سَبَقَ الثَّانِي أَنَّ هذا الْخِلَافَ فَرَضُوهُ في الْعَامِّ ولم يُجْرُوهُ في الْخُصُوصِ هل هو حَقِيقَةٌ في الْمَعَانِي أَمْ لَا وَلَا شَكَّ في طَرْدِهِ قال الْمُقْتَرِحُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْعَامَّ وَالْخَاصَّ من عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ اخْتَلَفُوا على مَذْهَبَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّ الْعَامَّ رَاجِعٌ إلَى وَصْفِ مُتَعَلِّقِ الْعِلْمِ كَالْخَبَرِ فإنه مُتَعَلِّقٌ بِمُخْبِرِينَ وَالْعِلْمِ بِمَعْلُومِينَ وَالثَّانِي أَنَّهُمَا صِفَتَانِ زَائِدَتَانِ على الْمَعَانِي وَهُمَا من أَقْسَامِ الْكَلَامِ الثَّالِثُ قال الْقَرَافِيُّ اصْطَلَحُوا على أَنَّ الْمَعْنَى يُقَالُ له أَعَمُّ وَأَخَصُّ وَاللَّفْظُ يُقَالُ له عَامٌّ وَخَاصٌّ وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ أَعَمَّ صِيغَةُ أَفْعَلَ لِلتَّفْضِيلِ وَالْمَعَانِي أَفْضَلُ من الْأَلْفَاظِ فَخُصَّتْ بِصِيغَةِ أَفْعَلَ لِلتَّفْضِيلِ وَإِطْلَاقُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَغَيْرِهِ يُخَالِفُ هذا الِاصْطِلَاحَ الرَّابِعُ الْمَعْرُوفُ من إطْلَاقَاتِهِمْ أَنَّ الْأَخَصَّ يَنْدَرِجُ تَحْتَ الْأَعَمِّ وَوَقَعَ في عِبَارَةِ صَاحِبِ الْمُقْتَرَحِ الْأَعَمُّ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْأَخَصِّ قال بَعْضُ شَارِحِيهِ وَجْهُ الْجَمْعِ
____________________
(2/187)
أَنَّ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ إنْ كَانَا في الْأَلْفَاظِ فَالْأَخَصُّ مِنْهُمَا مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْأَعَمِّ لِأَنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكِينَ مَثَلًا يَتَنَاوَلُ زَيْدًا الْمُشْرِكَ بِخُصُوصِهِ وَإِنْ كَانَا في الْمَعَانِي فَالْأَعَمُّ منها مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْأَخَصِّ لِأَنَّ زَيْدًا إذَا وُجِدَ بِخُصُوصِهِ انْدَرَجَ فيه عُمُومُ الْجَوْهَرِيَّةِ وَالْجِسْمِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّة وَالنَّاطِقِيَّةِ مَسْأَلَةٌ في عُمُومِ الْمَجَازِ وَهَلْ يَتَعَلَّقُ الْعُمُومُ بِالْمَجَازِ فيه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا ابن السَّمْعَانِيِّ أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ فَلَا يَدْخُلُ الْعُمُومُ إلَّا في الْحَقَائِقِ وَالثَّانِي يَدْخُلُ فيه الْمَجَازُ كَالْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُخَاطِبُ بِهِ كما تُخَاطِبُ بِالْحَقِيقَةِ قُلْت وَالْأَوَّلُ صَارَ إلَيْهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ قال فإنه على خِلَافِ الْأَصْلِ فَيُقْصَرُ على الضَّرُورَةِ كما قال أَصْحَابُنَا إنَّ ما ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ عُمُومِ الْمُقْتَضِي وَهَذَا ضَعِيفٌ وَلَيْسَ الْمَجَازُ مُخْتَصًّا بِمَحَالِّ الضَّرُورَاتِ بَلْ هو عِنْدَ قَوْمٍ غَالِبٌ على اللُّغَاتِ وَعَزَى صَاحِبُ اللُّبَابِ من الْحَنَفِيَّةِ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا عُمُومَ لِلْمَجَازِ لِلشَّافِعِيِّ وقال بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ الْمَجَازُ الْمُقْتَرِنُ بِشَيْءٍ من أَدِلَّةِ الْعُمُومِ كَالْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ وَنَحْوِهِ لَا خِلَافَ في أَنَّهُ لَا يَعُمُّ جَمِيعَ ما يَصْلُحُ له اللَّفْظُ من أَنْوَاعِ الْمَجَازِ كَالْحُلُولِ وَالسَّبَبِيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ وَنَحْوِهِ أَمَّا إذَا اُسْتُعْمِلَ بِاعْتِبَارِ أَحَدِ الْأَنْوَاعِ كَلَفْظِ الصَّاعِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيمَا يَحِلُّهُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَعُمُّ جَمِيعَ أَفْرَادِ ذلك الْمَعْنَى لِأَنَّ هذه الصِّيَغَ لِلْعُمُومِ من غَيْرِ فَرْقٍ بين كَوْنِهَا مُسْتَعْمَلَةً في الْمَعَانِي الْحَقِيقِيَّةِ أو الْمَجَازِيَّةِ وَنُقِلَ عن بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَعُمُّ حتى إذَا أُرِيدَ الْمَطْعُومُ اتِّفَاقًا لَا يَثْبُتُ غَيْرُهُ من الْمَكِيلَاتِ لِأَنَّ الْمَجَازَ ضَرُورِيٌّ وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِإِيرَادِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ فَلَا يَثْبُتُ الْكُلُّ كَالْمُقْتَضَى وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالضَّرُورَةِ من جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ في الِاسْتِعْمَالِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لم يَجِدْ طَرِيقًا لِتَأْدِيَةِ الْمَعْنَى سِوَاهُ فَمَمْنُوعٌ لِجَوَازِ أَنْ يَعْدِلَ إلَى الْمَجَازِ لِأَغْرَاضٍ مع الْقُدْرَةِ على الْحَقِيقَةِ وَإِنْ أُرِيدَ من جِهَةِ الْكَلَامِ وَالسَّامِعِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ وَجَبَ الْحَمْلُ على الْمَجَازِ ضَرُورَةً لِئَلَّا يَلْزَمَ إلْغَاءُ الْكَلَامِ فَلَا نُسَلِّمُ
____________________
(2/188)
قال وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ عُمُومِ الْمَجَازِ مِمَّا لم نَجِدْهُ مَنْقُولًا في كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الْخِلَافُ في قَوْلِنَا جَاءَنِي الْأُسُودُ الرُّمَاةُ إلَّا زَيْدًا وَتَخْصِيصُهُمْ الصَّاعَ بِالْمَطْعُومِ مَبْنِيٌّ على قَوْلِهِمْ إنَّ الْعِلَّةَ الطَّعْمُ لَا على عَدَمِ عُمُومِ الْمَجَازِ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ لَا يَصِحُّ دُخُولُ الْمَجَازِ في الِاسْمِ الْعَامِّ كَقَوْلِنَا مَعْلُومٌ وَمَذْكُورٌ وَمُخْبَرٌ عنه مسألة القائلون ليس للعموم صيغة تخصه اختلفوا في أصل صيغته على مذاهب أحدها وهم الملقبون بأرباب الخصوص أنه ليس للعموم صيغة تخصه وأن ما ذكروه من الصيغ موضوع للخصوص وهو أقل الجمع إما اثنان أو ثلاثة ولا يقتضي العموم إلا بقرينة وبه قال ابن المنتاب من المالكية ومحمد بن شجاع البلخي من الحنفية وغيرهما وقال القاضي في التقريب والإمام في البرهان يزعمون أن الصيغ الموضوعة للجمع نصوص في الجمع محتملات فيما عداه إذا لم تثبت قرينة تقتضي تعديها عن أقل المراتب وقال أبو الحسين في المعتمد يشبه أن يكونوا جعلوا لفظة من حقيقة في الواحد مجازا في الكل وجعلوا بقية ألفاظ العموم حقيقة في جمع غير مستغرق لأنه يبعد أن يجعلوا ألفاظ الجمع المعرف باللام كالمسلمين حقيقة في الواحد مجازا في الجمع ولفظ كل وجميع أبعد الذين قالوا للعموم صيغة حقيقية تخصه والثاني أن له صيغة مخصوصة بالوضع حقيقة وتستعمل مجازا في الخصوص لأن الحاجة ماسة إلى الألفاظ العامة لتعذر جميع الآحاد على المتكلم فوجب أن يكون لها ألفاظ موضوعة كألفاظ الآحاد والخصوص لأن الغرض من وضع اللغة الإعلام والإفهام كما عكسوا في الترادف فوضعوا للشيء الواحد أسماء مختلفة للتوسع وهو مذهب الأئمة الأربعة وجمهور أصحابهم قال القاضي عبد الوهاب مذهب مالك وكافة أصحابه أن للعموم صيغة
____________________
(2/189)
ومن يتتبع كلامه في الموطإ يجد من استدلاله بالعموم كثيرا قال وهو قول الفقهاء بأسرهم وقال ابن حزم وهو قول جميع أهل الظاهر وبه نأخذ تحقيق مذهب الشافعي وقال الصيرفي في كتاب الدلائل والأعلام زعمت طائفة من أصحابنا أن مذهب الشافعي أن الآية إذا وردت ظاهرة في العموم لا يقضى عليها بعموم ولا خصوص إلا بدليل من خارج قال وهذا الذي قال ضده وقول الشافعي سواء لأنه الذي قد اشتهر به في كتبه وعند خصومه أن الكلام على عمومه وظاهره حتى تأتي دلالة تقوم على أنه خاص دون عام وعلى أنه باطن دون ظاهر وقد قال رضي الله عنه في الرسالة الكلام على عمومه وظاهره حتى تأتي دلالة تدل على خصوصه وقال أيضا ما نصه فكل خطاب في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في كلام الناس فهو على عمومه وظهوره إلا أن يأتي دلالة تدل على أنه خاص دون عام وباطن دون ظاهر ثم قال وإذا وجدت خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجملا فهو على عمومه وظاهره إلا أن يأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يدل على أنه خاص دون عام وباطن دون ظاهر فيستدل بذلك ثم قسم القرآن والأخبار على ذلك قال فثبت من هذا أن مذهب الشافعي أن الكلام من كل مخاطب على ما اشتمل عليه الاسم ما لم يمنع من إجراء الاسم عليه دليل ومعنى قوله إلا أن يأتي دلالة يجوز على نفسه استتار الدليل من خبر أو غيره فإذا علم صار إليه وعلم أن الكلام كان عاما ثم ذكر الصيرفي نصوصا للشافعي كثيرة صريحة في ذلك بل قطعية فيه قال والدليل القطعي قائم عليه وإنما يثبت هنا أن ذلك مذهب الشافعي وأني لم أقلده فيه لقيام البرهان عليه ثم بين وجه شبهة الناقلين عن الشافعي الوقف ثم ردها ثم قال ولا يقال إن له في المسألة قولين لأن هذا غير معروف بل المعروف بينه وبين أصحابه ما وصفت لك منهم المزني وأبو ثور والبويطي والحسين الكرابيسي والأشعري وداود وسائر الشافعيين هذا كلام الصيرفي وعجيب نقله القول بالصيغة عن الأشعري
____________________
(2/190)
وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني قال الشافعي في الرسالة كل كلام كان عاما ظاهرا فهو على عمومه وظهوره حتى يعلم حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على أنه إنما أراد بالجملة العامة في الظاهر بعض الجملة دون بعض وقال في كتاب أحكام القرآن قال لي قائل تقول الحديث على عمومه وظهوره وإن احتمل معنى غير العام والظاهر حتى يأتي دلالة على أنه خاص دون عام وباطن دون ظاهر قلت فكذلك أقول وقال في كتاب اختلاف الحديث القرآن عربي كما وصفت والأحكام فيه على ظاهرها وعمومها وليس لأحد أن يحيل منها ظاهرا إلى باطن ولا عاما إلى خاص إلا بدلالة وقال الشيخ أبو حامد وهذا صحيح العموم عندنا له صيغة إذا أوردت مجردة عن القرائن دلت على استغراق الجنس هذا مذهبنا وبه قال مالك وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه وداود وأهل الظاهر وبه قال من المتكلمين الجبائي وطائفة وذهبت طائفة إلى أن هذه الألفاظ إذا وردت فإنها تحمل على أقل الخصوص حتى يدل دليل على أن المراد بها زيادة على ذلك ثم اختلفوا في قدر ما يحمل عليه فمنهم من قال يحمل على اثنين ومنهم من قال على ثلاثة ذهب إلى هذا جماعة من المعتزلة منهم أبو هاشم وغيره وذهبت الأشعرية إلى الوقف الذين لا يثبتون للعموم صيغة لفظية والثالث أن شيئا من الصيغ لا يقتضي العموم ولا مع القرائن بل إنما يكون العموم عند إرادة المتكلم وهو قول جمهور المرجئة ونسب إلى الأشعري قال في البرهان نقل مصنفون المقالات عن أبي الحسن الأشعري والواقفية أنهم لا يثبتون لمعنى العموم صيغة لفظية وهذا النقل على الإطلاق زلل فإن أحدا لا ينكر إمكان التعبير عن معنى الجمع بترديد ألفاظ مشعرة به كقول القائل رأيت القوم واحدا واحدا لم يفتني منهم أحد وإنما كرر هذه الألفاظ قطعا لتوهم يحسبه خصوصا إلى غير ذلك وإنما أنكر الواقفية لفظة واحدة مشعرة بمعنى الجمع انتهى وما ادعى فيه الوفاق فهو محل الخلاف صرح به في كتاب التلخيص من التقريب للقاضي وسيأتي وليس مراده بالجمع القدر المخصوص من ثلاثة أو اثنين إنما مراده الشمول بدليل المثال المذكور
____________________
(2/191)
القائلون بالوقف والرابع الوقف ونقله القاضي في مختصر التقريب عن الشيخ أبي الحسن ومعظم المحققين وذهب إليه وحقيقة ذلك أنا سبرنا اللغة ووضعها فلم نجد في وضع اللغة صيغة دالة على العموم وسواء وردت مطلقة أو مقيدة بضروب من التأكيد وقال الإمام في البرهان ومما زل فيه الناقلون عن أبي الحسن ومتابعيه أن الصيغة وإن تقيدت بالقرائن فإنها لا تشعر بالجمع بل تبقى على التردد وهذا إن صح النقل فيه مخصوص عندي بالتوابع المؤكدة لمعنى الجمع كقول القائلين رأيت القوم أجمعين أكتعين أبصعين فأما ألفاظ صحيحة صريحة تفرض مقيدة فلا يظن بذي عقل أن يتوقف فيها انتهى وقد أنكر عليه المازري في إمكان النقل عن الواقفية وإن تقيدت بالقرائن قال وهذا منصوص عليه في كتب أئمتهم ولو سلم له ذلك فإنما يقتضي إنكار وجود لفظة تقتضي الاستيعاب على حسب ما ذكروه وأشار إلى أن تلك الصور إنما استفيد العموم منها بإضافة قرائن استشعرت من المتكلم بهذه الألفاظ التابعة للصيغة وقال أبو الحسين بن القطان شذت طائفة من أصحابنا فنسبت هذا القول للشافعي لأشياء يتعلق به كلامه لأنه قال في مواضع من الآي يحتمل الخصوص ويحتمل العموم ولم يرد الشافعي ما ذهبوا إليه وإنما احتمل عنده أن ترد دلالة تنقله عن ظاهره من العموم إلى الخصوص لا أن حقه الاحتمال وكذلك أبو بكر الصيرفي حكى قول الوقف عن الشافعي قال ولا يقال له في المسألة قولان واختاره أبو الحسين البصري في بعض كتبه ونقل الماوردي والروياني في كتاب الأقضية عن الظاهرية الذي نقله الصيرفي عن داود القول بالصيغة
____________________
(2/192)
مذاهب الواقفية في محل الوقف واختلفت الواقفية في محل الوقف على ستة أقوال وفي صفته على قولين فأما محله فالمشهور من مذهب أئمتهم القول به على الإطلاق من غير تفصيل والثاني أن التوقف في أخبار الوعد والوعيد دون الأمر والنهي وحكاه أبو بكر الرازي عن الكرخي قال وربما ظن أن ذلك مذهب أبي حنيفة لأنه كان لا يقطع بوعيد أهل الكبائر من المسلمين ويجوز أن يغفر الله لهم في الآخرة وليس ذلك مدركه بل لأن الأدلة الموجبة للوعيد بالتخليد في النار إنما انتهضت في حق الكفار بدلائل من خارج والثالث عكسه وهم جمهور المرجئة فقالوا بصيغ العموم في الوعد والوعيد وتوقفوا فيما عدا ذلك والرابع الوقف في الوعيد بالنسبة إلى عصاة هذه الأمة دون غيرها والخامس الوقف في الوعيد دون الوعد قال القاضي وفرقوا بينهما بما يليق بالشطح والترهات دون الحقائق والسادس التفصيل بين أن لا يسمع قبل اتصالها به شيء من أدلة السمع وكانت وعدا أو وعيدا فيعلم أن المراد بها العموم وإن كان قد سمع قبل اتصالها به أدلة الشرع وعلم انقسامها إلى العموم والخصوص فلا يعلم حينئذ العموم في الأخبار التي اتصلت به حكاه القاضي في مختصر التقريب السابع الوقف في حق من لم يسمع خطاب الشارع منه صلى الله عليه وسلم فأما من سمع منه وعرف تصرفاته فيه ما بين عموم وخصوص فإنه لا يقف كذا حكاه المازري وهو عكس ما قبله الثامن التفصيل بين أن يتقيد بضرب من التأكيد فيكون للعموم دون ما إذا لم يتقيد فلفظ الناس مثلا إذا قلنا إنه لا يعم حالة الإطلاق سلم أنه عام في مثل قولك الناس أجمعون عن آخرهم صغيرهم وكبيرهم لا يشذ منهم أحد إلى غير ذلك حكاه القاضي قال والمحققون من الواقفية يقولون وإن قيدت بهذه القيود فليس موضوعة للاستغراق في اللغة ولكن قد يعرف عمومها بقرائن الأحوال المتقربة بالمقام
____________________
(2/193)
وهي مما ينحصر بالعبارة كما يعرف بالقرائن وجل الوجل وإن كانت القرائن لا توجب معرفتها ولكن أجرى الله العادة بخلق العلم الضروري عندنا والتاسع أن لفظة المؤمن والكافر حيثما وقعت في الشرع أفادت العموم دون غيرهما حكاه المازري عن بعض المتأخرين قال ويمكن أن يكون هذا من أحكام الشرع في الأحكام اللغوية كأحكامه في الصلاة والحج والصوم مذهب الواقفية في صفة الوقف وأما صفة الوقف فقد اختلف النقل فيه عن الشيخ وأصحابه فنقل عنهم مذهبان أحدهما أن اللفظ مشترك بين الواحد اقتصارا عليه وبين أقل الجمع فما فوقه اشتراكا لفظيا كالقرء والعين ونحوهما أي أنه موضوع لهما وضعا متساويا حكاه المازري والأصفهاني وهذا فيما يحمل من الصيغ على الواحد كمن وما وأي ونحوها وأما ألفاظ الجموع فهي مشتركة بين أقل الجمع وبين ما فوقه اشتراكا لفظيا والثاني نفي العلم بكيفية الوضع من أصله ويقولون هي مستعملة للعموم والخصوص ولكن لا ندري هل ذلك على وجه الحقيقة أو المجاز وحكى ابن الحاجب هذين القولين على وجه آخر أحدهما أنا لا ندري هل وضعت هذه الصيغة للعموم أم لا والثاني أنا ندري أنها استعملت للعموم ولكن لا ندري أذلك على وجه الحقيقة أم لا ونقل قول الاشتراك في أصل المسألة مباينا لقول الوقف واعلم أن الواقفية وإن قالوا بأن اللفظ لم يوضع لخصوص ولا عموم فقالوا إنا نعلم أن أقل الجمع لا بد منه ليجوز إطلاقه وجعل إمام الحرمين الخلاف في غير الصيغ المؤكدة وأما هي فلا خلاف في اقتضائها العموم وحكى القاضي في التقريب وتبعه هو في التلخيص الخلاف مع التأكيد أيضا نعم قال بعضهم ما يدل على العموم من الصيغ بحكم القرائن المنفصلة إما عرفا أو عقلا أو غير ذلك لا خلاف فيه فإن المخالف في العموم لم ينكر أن في الكلام ما يدل على العموم فإن العموم وقصد إفادته ضروري وأما المنكرون فأنكروا أن يكون للعموم صيغة خاصة موضوعة للدلالة عليه
____________________
(2/194)
وجعل غيره منشأ الخلاف أمرين أحدهما أن التأكيد بالجمع في لفظ الجمع هل إنما حسن لمكان احتمال إرادة الخصوص أو لكون اللفظ صالحا للاستيعاب والثاني هو أن الاستثناء هل هو استخراج ما تتناوله الصيغة أو ما يجب دخوله تحت الصيغة أم هو استخراج ما اللفظ صالح لتناوله ومأخذ قول الوقف من أصله أن الأشعري لما تكلم مع المعتزلة في عمومات الوعيد الواردة في الكتاب والسنة كقوله وإن الفجار لفي جحيم وقوله ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها ونحوه ومع المرجئة في عموم الوعد نفى أن يكون هذه الصيغ موضوعة للعموم وتوقف فيها وتبعه جمهور أصحابه وقال أبو نصر بن القشيري في كتابه في باب المفهوم لم يصح عندنا عن الشيخ إنكار الصيغ بل الذي صح عنه أنه لا ينكرها ولكن قال في معارضاته في أصحاب الوعيد بإنكار الصيغ قال سر مذهبه إلى إنكار التعلق بالظواهر فيما يطلب فيه القطع وهذا هو الحق المبين ولم يمنع من العمل بالظواهر في مظان الظنون وقد سبق أن الصيرفي حكى عن الشيخ القول بالصيغ كالشافعي تنبيه زعم الشريف المرتضى في الذريعة أن الخلاف في هذه المسألة بالنسبة إلى وضع اللغة أنه هل يقتضي الاستغراق ولا خلاف في أن الشرع يقتضيه مَسْأَلَةٌ مَدْلُولُ الصِّيغَةِ الْعَامَّةِ ليس أَمْرًا كُلِّيًّا وَإِلَّا لَمَا دَلَّ على جُزْئِيَّاتِهِ لِأَنَّ الدَّالَّ على الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لَا يَدُلُّ على شَيْءٍ من جُزْئِيَّاتِهِ أَلْبَتَّةَ وَلَيْسَ كُلًّا مَجْمُوعًا وَإِلَّا لَحَصَلَ الِامْتِثَالُ بِتَرْكِ قَتْلِ مُسْلِمٍ وَاحِدٍ إذَا قِيلَ لَا تَقْتُلُوا الْمُسْلِمِينَ بَلْ مَدْلُولُهَا كُلِّيَّةً أَيْ مَحْكُومٌ فيه على كل فَرْدٍ فَرْدٌ مُطَابَقَةً سَلْبًا أو إيجَابًا عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ منهم الشَّيْخُ الْأَصْفَهَانِيُّ خِلَافًا لِلسُّهْرَوَرْدِيِ وَالْقَرَافِيِّ حَيْثُ أَخْرَجَاهُ من أَقْسَامِ الدَّلَالَةِ وَمِنْهُمْ من قال إنَّمَا هِيَ كُلِّيَّةٌ في غَيْرِ جَانِبِ النَّهْيِ وَالنَّفْيِ عِنْدَ تَأَخُّرِ كُلٍّ وَنَحْوِهَا عن أَدَوَاتِ النَّهْيِ أو النَّفْيِ نَحْوُ ما جاء كُلُّ الرِّجَالِ وَلَا يُعْرَفُ كُلُّ الرِّجَالِ
____________________
(2/195)
فَإِنَّهَا لِنَفْيِ الْمَجْمُوعِ لَا الْأَفْرَادِ قال الْقَرَافِيُّ دَلَالَةُ الْعُمُومِ على الْفَرْدِ الْوَاحِدِ كَالْمُشْرِكِينَ على زَيْدٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِالْمُطَابَقَةِ لِأَنَّهُ ليس تَمَامُ مُسَمَّى الْمُشْرِكِينَ وَلَا بِالِالْتِزَامِ لِأَنَّهُ ليس خَارِجًا وَلَا بِالتَّضْمِينِ لِأَنَّهُ ليس جُزْءَ الْمُسَمَّى إذْ الْجُزْءُ مُقَابِلُ الْكُلِّ وَالْعُمُومُ كُلِّيٌّ لَا كُلٌّ كما عَرَفْت فَإِذَنْ لَا يَدُلُّ لَفْظُ الْمُشْرِكِينَ على زَيْدٍ لِانْتِفَاءِ الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ وإذا لم يَدُلَّ بِذَلِكَ بَطَلَ أَنْ يَدُلَّ لَفْظُ الْعُمُومِ مُطْلَقًا لِانْحِصَارِ الدَّلَالَةِ في الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ وَأَجَابَ عنه الْأَصْفَهَانِيُّ بِرُجُوعِهِ إلَى الْمُطَابَقَةِ وقال نَحْنُ حَيْثُ قُلْنَا اللَّفْظُ إمَّا أَنْ يَدُلَّ مُطَابَقَةً أو تَضَمُّنًا أو الْتِزَامًا فَذَلِكَ في لَفْظٍ مُتَرَدِّدٍ دَالٍّ على مَعْنًى ليس ذلك الْمَعْنَى نِسْبَةً بين مُفْرَدَيْنِ وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى هُنَا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَبَ وإذا عُرِفَ هذا فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْله تَعَالَى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ في قُوَّةِ جُمَلٍ من الْقَضَايَا وَذَلِكَ لِأَنَّ مَدْلُولَهُ اُقْتُلْ هذا الْمُشْرِكَ وَهَذَا وَهَذَا إلَى آخِرِ الْأَفْرَادِ وَهَذِهِ الصِّيَغُ إذَا اُعْتُبِرَتْ بِجُمْلَتِهَا فَهِيَ لَا تَدُلُّ على زَيْدٍ الْمُشْرِكِ وَلَكِنَّهَا تَتَضَمَّنُ ما يَدُلُّ على مِثْلِهِ لَا بِخُصُوصِ كَوْنِهِ زَيْدًا بَلْ بِعُمُومِ كَوْنِهِ فَرْدًا ضَرُورَةُ تَضَمُّنِهِ اُقْتُلْ زَيْدًا الْمُشْرِكَ فإنه من جُمْلَةِ هذه الْقَضَايَا وَهِيَ جُزْءٌ من مَجْمُوعِ تِلْكَ الْقَضَايَا فَتَكُونُ دَلَالَةُ هذه الصِّيغَةِ على وَجْهَيْنِ قَتْلِ زَيْدٍ الْمُشْرِكِ لِتَضَمُّنِهَا ما يَدُلُّ على ذلك الْوُجُوبِ وَاَلَّذِي هو في ضِمْنِ ذلك الْمَجْمُوعِ هو دَالٌّ على ذلك مُطَابَقَةً قال فَافْهَمْ ذلك فإنه دَقِيقُ الْكَلَامِ ثُمَّ اسْتَشْكَلَ نَحْوُ قَوْلِهِ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ فإن فيه عُمُومَاتٍ أَحَدُهَا في الْمُشْرِكِينَ وَالثَّانِي في الْمَأْمُورِ بِقَتْلِهِمْ وَدَلَالَةُ الْعُمُومِ كُلِّيَّةٌ فَيَكُونُ أَمْرُ كل فَرْدٍ بِقَتْلِ كل فَرْدٍ فَرْدٌ من الْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ تَكْلِيفًا بِالْمُسْتَحِيلِ وهو غَيْرُ وَاقِعٍ وَأَجَابَ عنه بِأَنَّهُ وَإِنْ كان ظَاهِرُ اللَّفْظِ إلَّا أَنَّ الْعَقْلَ دَلَّ على خِلَافِهِ فَيُحْمَلُ على الْمُمْكِنِ دُونَ الْمُسْتَحِيلِ قال بَعْضُهُمْ هذا السُّؤَالُ لَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا لِأَنَّ الْفَرْدَ الْوَاحِدَ من الْمُسْلِمِينَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَقْتُلَ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ
____________________
(2/196)
مَسْأَلَةٌ دَلَالَةُ الْعُمُومِ على الْأَفْرَادِ هل هِيَ قَطْعِيَّةٌ إذَا ثَبَتَ دَلَالَةُ الْعُمُومِ على الْأَفْرَادِ فَاخْتَلَفُوا هل هِيَ قَطْعِيَّةٌ أو ظَنِّيَّةٌ وَالثَّانِي هو الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالْأَوَّلُ قَوْلُ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ قال صَاحِبُ اللُّبَابِ منهم وأبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ في التَّقْوِيمِ دَلَالَةُ الْعَامِّ على أَفْرَادِهِ قَطْعِيَّةٌ تُوجِبُ الْحُكْمَ بِعُمُومِهِ قَطْعًا وَإِحَاطَتَهُ كَالْخَاصِّ إنْ كان النَّصُّ مَقْطُوعًا بِهِ وقال الشَّافِعِيُّ لَا تُوجِبُ الْعِلْمَ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْخَاصَّ يَنْسَخُ الْعَامَّ وَالْعَامَّ الْخَاصَّ لِاسْتِوَائِهِمَا رُتْبَةً وَعِنْدَهُ يَجُوزُ نَسْخُ الْعَامِّ بِالْخَاصِّ وَيَمْتَنِعُ نَسْخُ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ وَلِهَذَا قال أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِخَاتَمٍ ثُمَّ لِعَمْرٍو بِفَصِّهِ في كَلَامٍ مَفْصُولٍ بِالْحَلَقَةِ لِلْأَوَّلِ على الْخُصُوصِ وَالْفَصُّ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْتَحَقَّ الْفَصَّ بِوَصِيَّةٍ عَامَّةٍ لِلْفَصِّ وَالْخَاتَمِ وَالثَّانِي اسْتَحَقَّ الْفَصَّ بِوَصِيَّةٍ خَاصَّةٍ فَزَاحَمَهُ بِالْمُشَارَكَةِ معه انْتَهَى وَأَطْلَقَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ النَّقْلَ عن الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ دَلَالَتَهُ على أَفْرَادِهِ قَطْعِيَّةٌ وَكَذَا نَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ في الْمَنْحُولِ عن الشَّافِعِيِّ أَيْضًا قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ الذي صَحَّ عِنْدَنَا من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الصِّيغَةَ إنْ تَجَرَّدَتْ عن الْقَرَائِنِ فَهِيَ نَصٌّ في الِاسْتِغْرَاقِ وَإِنْ لم يَقْطَعْ بِانْتِفَاءِ الْقَرَائِنِ فَالتَّرَدُّدُ بَاقٍ وَجَرَى عليه الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ وزاد حِكَايَتَهُ عن الْمُعْتَزِلَةِ قال وَالْمَأْخَذُ مُخْتَلِفٌ فَالْمُعْتَزِلَةُ تَلَقَّوْهُ من اسْتِحَالَةِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عن الْخِطَابِ فَلَوْ كان الْمُرَادُ بِهِ غير ما هو ظَاهِرٌ لَكَانَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ وهو مُحَالٌ وَالشَّافِعِيُّ كَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ التَّخْصِيصَ إنَّمَا يَكُونُ وَارِدًا على كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ لِاقْتِرَانِ اللَّفْظَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ قال وَهَذَا بَحْثٌ لُغَوِيٌّ يَفْتَقِرُ إلَى النَّقْلِ وقد رَأَيْت من يُنْكِرُ على الْإِبْيَارِيِّ هذا النَّقْلَ عن الشَّافِعِيِّ ظَنًّا منه تَفَرُّدَهُ بهذا نعم قد أَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أبو الْحَسَنِ الطَّبَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِإِلْكِيَا فقال في كِتَابِهِ التَّلْوِيحِ نُقِلَ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَلْفَاظَ إذَا تَعَرَّتْ عن الْقَرَائِنِ الْمُخَصِّصَةِ كانت نَصًّا في الِاسْتِغْرَاقِ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا احْتِمَالٌ وَهَذَا لم يَصِحَّ عنه وَإِنْ صَحَّ عنه فَالْحَقُّ غَيْرُهُ فإن الْمُسَمَّيَاتِ النَّادِرَةَ يَجُوزُ أَنْ لَا تُرَادَ بِلَفْظِ الْعَامِّ
____________________
(2/197)
وَيَجِبُ منه أَنَّ التَّخْصِيصَ إذَا وَرَدَ في مَوْضِعٍ آخَرَ كان نَسْخًا وَذَلِكَ خِلَافُ رَأْيِ الشَّافِعِيِّ انْتَهَى وَلَعَلَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ في نَقْلِهِ عن الشَّافِعِيِّ كَوْنَهَا قَطْعِيَّةً أَخَذَهُ من قَوْلِهِ إنَّهَا نَصٌّ وَفِيهِ نَظَرٌ فإن الشَّافِعِيَّ يُسَمِّي الظَّوَاهِرَ نُصُوصًا كما نَقَلَهُ الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ عنه في مَوْضِعٍ آخَرَ وَهَذَا هو الْحَقُّ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ فإنه قال وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْعُمُومَ نَصٌّ فِيمَا تَنَاوَلَهُ من الْمُسَمَّيَاتِ وقد سَمَّى الشَّافِعِيُّ الظَّوَاهِرَ نُصُوصًا في مَجَارِي كَلَامِهِ وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُسَمِّيَ الْعُمُومَ نَصًّا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ وَلِأَنَّ الْعُمُومَ فِيمَا يَدْخُلُ فيه من الْمُسَمَّيَاتِ ليس بِأَرْفَعِ وُجُوهِ الْبَيَانِ وَلَكِنَّ الْعُمُومَ ظَاهِرٌ في الِاسْتِيعَابِ لِأَنَّهُ يَبْتَدِرُ إلَى الْفَهْمِ ذلك مع أَنَّهُ يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ وهو الْخُصُوصُ انْتَهَى وقال ابن بَرْهَانٍ في الْكَلَامِ على أَنَّ السَّبَبَ لَا يُخَصَّصُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ نَصًّا في بَعْضِ الْمُسَمَّيَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَلِهَذَا الْمَعْنَى قال أَصْحَابُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ نَصًّا في بَعْضِ الْمُسَمَّيَاتِ وَهِيَ الظَّاهِرَةُ التي يَقْطَعُ بِكَوْنِهَا مَقْصُودَةَ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا وَاسْتَخْرَجَهَا عن مُقْتَضَى الْعَامِّ وَيَكُونُ ظَاهِرًا في الْبَعْضِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودَ الشَّرْعِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَقْصِدَهُ فَحِينَئِذٍ تَقُولُ شَمِلَهُ الْعَامُّ وَيَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ وَفَرَّقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بين أَدَوَاتِ الشَّرْطِ وَغَيْرِهَا فَرَأَى أَنَّ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ تَدُلُّ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً وَإِنَّمَا نَقَلَ التَّخْصِيصَ بِنَاءً على الْقَرَائِنِ وَرَأَى أَنَّ جَمْعَ الْكَثْرَةِ يَدُلُّ ظَاهِرًا لَا قَطْعِيًّا وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ أَنَّهُ نَصٌّ في أَقَلِّ الْجَمْعِ ظَاهِرٌ فِيمَا وَرَاءَهُ وَخَصَّ الْمَازِرِيُّ الْخِلَافَ بِمَا زَادَ على أَقَلِّ الْجَمْعِ أَمَّا ما دُونَهُ فَدَلَالَتُهُ عليه قَطْعِيَّةٌ وَالْمُخْتَارُ الذي عليه أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا أَنَّ دَلَالَتَهُ عليه بِطَرِيقِ الظُّهُورِ وَإِلَّا لَمَا جَازَ تَأْكِيدُ الصِّيَغِ الْعَامَّةِ إذْ لَا فَائِدَةَ فيه وقد قال تَعَالَى فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كلهم أَجْمَعُونَ وَيُبْنَى على هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ منها وُجُوبُ اعْتِقَادِ عُمُومِهِ قبل الْبَحْثِ عن الْمُخَصِّصِ وَمِنْهَا تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ الظَّنِّيَّيْنِ ابْتِدَاءً وَالْعَامِّ بِالْخَاصِّ وَأَنَّ الْخَاصَّ لَا يَصِيرُ مَنْسُوخًا
____________________
(2/198)
بِالْعَامِّ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمِنْ ثَمَّ رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ خَبَرَ الْعَرَايَا على خَبَرِ التَّمْرِ كَيْلًا بِكَيْلٍ تَنْبِيهٌ قَوْلُهُمْ الْعَامُّ ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ وَالْخَاصُّ مَقْطُوعُ الدَّلَالَةِ لَا يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ فيه قَطْعِيَّةٌ بَلْ إنَّ الْعَامَّ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ وَالْخَاصَّ لَا يَحْتَمِلُهُ فَرْعٌ لو قال في الْإِقْرَارِ له عِنْدِي خَاتَمٌ ثُمَّ قال ما أَرَدْت الْفَصَّ فَفِي قَوْلِهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا لِأَنَّ الْفَصَّ مُتَنَاوَلٌ لِاسْمِ الْخَاتَمِ فَهُوَ رُجُوعٌ عن بَعْضِ ما أَقَرَّ بِهِ فَلَا يُقْبَلُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ على أَفْرَادِهِ قَطْعِيَّةٌ عِنْدَنَا وقد قال اللُّغَوِيُّونَ الْخَاتَمُ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْحَلَقَةِ مع الْفَصِّ وَإِلَّا فَهُوَ حَلَقَةٌ وَقِيلَ فَتْخٌ مَسْأَلَةٌ في أَنَّ الْعَامَّ في الْأَشْخَاصِ هل هو عَامٌّ في الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ وَيَظُنُّ كَثِيرٌ من الناس أَنَّ الْبَحْثَ في هذه الْمَسْأَلَةِ مِمَّا أَثَارَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ وَقَعَ في كَلَامِ من قَبْلَهُمْ وَالْمَشْهُورُ نعم وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ أبو الْمُظَفَّرِ في الْقَوَاطِعِ في الْكَلَامِ على اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فقال لِأَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ دَالٌّ على اسْتِغْرَاقِ جَمِيعِ ما يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ في أَصْلِ الْوَضْعِ في الْأَعْيَانِ وفي الْأَزْمَانِ وفي أَيِّ عَيْنٍ وُجِدَ ثَبَتَ الْحُكْمُ فيها بِعُمُومِ اللَّفْظِ هذا كَلَامُهُ وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ في الْمَحْصُولِ في كِتَابِ الْقِيَاسِ حَيْثُ قال جَوَابًا عن سُؤَالٍ قُلْنَا لَمَّا كان أَمْرًا بِجَمِيعِ الْأَقْيِسَةِ كان مُتَنَاوِلًا لَا مَحَالَةَ لِجَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَإِلَّا قَدَحَ ذلك في كَوْنِهِ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ الْأَقْيِسَةِ انْتَهَى وهو ظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ في فَتَاوِيهِ فإنه قال فِيمَا إذَا قال لِأَمَتِهِ الْحَامِلِ كُلُّ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ فَهُوَ حُرٌّ أَنَّهُ كما يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى يَشْمَلُ اخْتِلَافَ الْوَقْتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعُمَّ وَيَتَكَرَّرَ هذا لَفْظُهُ وقد نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِيمَا إذَا قال أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قال أَرَدْت إنْ دَخَلْت الدَّارَ إنَّهُ لَا يَدِينُ وإذا نَوَى إلَى شَهْرَيْنِ يَدِينُ فَفَرَّقَ بين الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَظَاهِرُ كَلَامِ مُجَلِّي في الذَّخَائِرِ وَالرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ فَإِنَّهُمَا حَكَيَا وَجْهَيْنِ في التَّدْيِينِ في إنْ دَخَلْت الدَّارَ وقال الْإِمَامُ وَلِلْفَقِيهِ نَظَرٌ في هذا فإن قَوْلَ الْقَائِلِ إنْ كَلَّمْت زَيْدًا يَتَعَلَّقُ بِالْأَزْمَانِ ظَاهِرًا على الْعُمُومِ بِخِلَافِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ
____________________
(2/199)
فإن اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ على التَّقْيِيدِ وَتَبِعَهُ الْغَزَالِيُّ حَيْثُ قال اللَّفْظُ عَامٌّ في الْأَزْمَانِ فإذا قال أَرَدْت شَهْرًا فَكَأَنَّهُ خَصَّصَ الْعَامَّ قال الرَّافِعِيُّ وقد تُقَابَلُ هذه الْمَسْأَلَةُ فَيُقَالُ اللَّفْظُ عَامٌّ في الْأَحْوَالِ إلَّا أَنَّهُ خَصَّصَهُ بِحَالِ دُخُولِ الدَّارِ انْتَهَى لَكِنَّ الْإِمَامَ قَائِلٌ بِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يُنْبِئُ عن الْأَحْوَالِ وَإِنَّمَا يَدُلُّ على الْأَزْمَانِ على أَنَّ هذا اللَّفْظَ لَا عُمُومَ له أَلْبَتَّةَ وَإِنَّمَا هو مُطْلَقٌ وَزَعَمَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ الْعَامَّ في الْأَشْخَاصِ مُطْلَقٌ في الْأَزْمَانِ وَالْبِقَاعِ وَالْأَحْوَالِ وَالتَّعَلُّقَاتِ فَلَا تَعُمُّ الصِّيغَةُ في شَيْءٍ من هذه الْأَرْبَعِ من جِهَةِ ثُبُوتِ الْعُمُومِ في غَيْرِهَا حتى يُوجَدَ لَفْظٌ يَقْتَضِي فيها الْعُمُومَ لِأَنَّ الْعَامَّ في الْأَشْخَاصِ لَا دَلَالَةَ له على خُصُوصِ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ وَلَا مَكَان مُعَيَّنٍ وَلَا حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ فإذا قال اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ عَمَّ كُلَّ مُشْرِكٍ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فَرْدٌ وَلَا يَعُمُّ الْأَحْوَالَ حتى لَا يُقْتَلَ في حَالِ الْهُدْنَةِ وَالذِّمَّةِ وَلَا خُصُوصِ الْمَكَانِ حتى يَدُلَّ على الْمُشْرِكِينَ في أَرْضِ الْهِنْدِ مَثَلًا وَلَا الْأَزْمَانِ حتى يَدُلَّ على يَوْمِ السَّبْتِ مَثَلًا وَيُسْتَعْمَلُ كَذَلِكَ في دَفْعِ كَثِيرٍ من الِاسْتِدْلَالَاتِ بِأَلْفَاظٍ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَيُؤَدِّي إلَى بَعْضِ الْأَحْوَالِ التي اتَّفَقَ عليها الْخَصْمَانِ فَيُقَالُ إنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ في الْأَحْوَالِ وقد عَمِلْت بِهِ في الصُّورَةِ الْفُلَانِيَّةِ وَالْمُطْلَقُ يَكْفِي في الْعَمَلِ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَا يَلْزَمُ الْعَمَلَ بِهِ في صُورَةِ النِّزَاعِ وقد ارْتَضَاهُ الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ وفي كَلَامِ الْآمِدِيَّ في مَسْأَلَةِ الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ ما يُشِيرُ إلَى الْقَوْلِ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ وقد رَدَّهَا جَمَاعَةٌ منهم الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ في شَرْحِ الْعُمْدَةِ فقال وَهَذَا عِنْدِي بَاطِلٌ بَلْ الْوَاجِبُ أَنَّ ما دَلَّ عليه الْعُمُومُ في الذَّوَاتِ مَثَلًا يَكُونُ دَالًّا على ثُبُوتِ الْحُكْمِ في كل ذَاتٍ تَنَاوَلَهَا اللَّفْظُ وَلَا يَخْرُجُ عنها ذَاتٌ إلَّا بِدَلِيلٍ يَخُصُّهُ فَمَنْ أَخْرَجَ شيئا من ذلك فَقَدْ خَالَفَ مُقْتَضَى الْعُمُومِ نعم يَكْفِي في الْعَمَلِ بِالْمُطْلَقِ مَرَّةً كما قالوا وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِالْعُمُومِ في هذه الْمَوَاضِعِ من حَيْثُ الْإِطْلَاقُ وَإِنَّمَا قُلْنَا بِهِ من حَيْثُ الْمُحَافَظَةُ على ما تَقْتَضِيهِ صِيغَةُ الْعُمُومِ في كل ذَاتٍ فَإِنْ كان الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي الْعَمَلَ بِهِ مَرَّةً مُخَالَفَةً لِمُقْتَضَى صِيغَةِ الْعُمُومِ قُلْنَا بِالْعُمُومِ مُحَافَظَةً على مُقْتَضَى صِيغَتِهِ لَا من حَيْثُ إنَّ الْمُطْلَقَ يَعُمُّ مِثَالُ ذلك إذَا قال من دخل دَارِي فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا فَمُقْتَضَى الصِّيغَةِ الْعُمُومُ في كل ذَاتٍ صَدَقَ عليها أنها دَاخِلَةٌ فإذا قال قَائِلٌ هو مُطْلَقٌ في الْأَزْمَانِ وقد عَمِلْت بِهِ مَرَّةً فَلَا يَلْزَمُ أَنْ أَعْمَلَ بِهِ أُخْرَى لِعَدَمِ عُمُومِ الْمُطْلَقِ قُلْنَا له لَمَّا دَلَّتْ الصِّيغَةُ على الْعُمُومِ في كل ذَاتٍ دَخَلَتْ الدَّارَ وَمِنْ جُمْلَتِهَا الذَّوَاتُ الدَّاخِلَةُ في آخِرِ
____________________
(2/200)
النَّهَارِ فإذا أَخْرَجْت تِلْكَ الذَّوَاتِ فَقَدْ أَخْرَجْت ما دَلَّتْ الصِّيغَةُ على دُخُولِهِ وَهِيَ كُلُّ ذَاتٍ ثُمَّ اسْتَدَلَّ الشَّيْخُ على ذلك بِحَدِيثِ أبي أَيُّوبَ فإنه لَمَّا رَوَى قَوْلَهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِبَوْلٍ وَلَا غَائِطٍ الحديث أَتْبَعهُ بِأَنْ قال فَقَدِمْنَا الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قد بُنِيَتْ نحو الْكَعْبَةِ فَنُحَرِّفُ عنها وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عز وجل قال فإن أَبَا أَيُّوبَ من أَهْلِ اللِّسَانِ وَالشَّرْعِ وقد اسْتَعْمَلَ قَوْلَهُ وَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا عَامًّا في الْأَمَاكِنِ وهو مُطْلَقٌ فيها وَعَلَى ما قَالَهُ هَؤُلَاءِ لَا يَلْزَمُ منه الْعُمُومُ وَعَلَى ما قُلْنَاهُ يَعُمُّ بِمَعْنَى فَيَكُونُ الْعَامُّ في الْأَشْخَاصِ عَامًّا في الْأَمْكِنَةِ وقد رَدَّ بَعْضُهُمْ هذا الِاسْتِدْلَالَ من جِهَةِ أَنَّ في اللَّفْظِ هُنَا ما يَدُلُّ على الْعُمُومِ وهو وُقُوعُ الِاسْتِقْبَالِ نَكِرَةً في سِيَاقِ النَّهْيِ فَيَعُمُّ جَمِيعَ الْأَمَاكِنِ في الشَّامِ وَغَيْرِهِ وَالنِّزَاعُ إنَّمَا هو فِيمَا إذَا لم يَكُنْ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ على الْعُمُومِ فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِلْقَرَافِيِّ فإنه لو كان عُمُومُ الْفِعْلِ في سِيَاقِ النَّهْيِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ في الْمَكَانِ لَمَا كان لِتَعْرِيفِ الْمَكَانِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَائِدَةٌ وَتَمَسَّك آخَرُونَ في رَدِّ هذه الْقَاعِدَةِ بِحَدِيثِ أبي سَعِيدِ بن الْمُعَلَّى حَيْثُ دَعَاهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وهو في الصَّلَاةِ فلم يُجِبْهُ فقال عليه السَّلَامُ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ الحديث فَقَدْ جَعَلَهُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عَامًّا في الْأَحْوَالِ لِأَنَّهُ احْتَجَّ عليه بِالْآيَةِ وهو في الصَّلَاةِ وَرَدَّ بِأَنَّ ذلك جاء من صِيغَةِ إذَا الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّكْرَارِ في جَمِيعِ الْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ وقد خَالَفَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ في شَرْحِ الْعُمْدَةِ في مَوْضِعٍ آخَرَ هذه الْقَاعِدَةَ فقال في حديث بَيْعِ الْخِيَارِ إنَّ الْخِيَارَ عَامٌّ وَمُتَعَلِّقُهُ وهو ما يَكُونُ فيه الْخِيَارُ مُطْلَقٌ فَيُحْمَلُ على خِيَارِ الْفَسْخِ وَهَذَا اعْتِرَافٌ بِمَقَالَةِ الْقَرَافِيِّ وَرُبَّمَا أَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ قال فَلَوْ كان الْعَامُّ في الْمُشْرِكِينَ لَكَانَ وَجَدْتُمُوهُمْ تَكْرَارًا وحيث من صِيَغِ الْعُمُومِ في الْمَكَانِ قَالَهُ
____________________
(2/201)
الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وقد تَوَسَّطَ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ الْبَاجِيُّ بين هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فقال ما مَعْنَاهُ إنَّ مَعْنَى كَوْنِ الْعَامِّ في الْأَشْخَاصِ مُطْلَقًا في الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ وَالْبِقَاعِ أَنَّهُ إذَا عَمِلَ بِهِ في الْأَشْخَاصِ في زَمَانٍ ما وَمَكَانٍ ما وَحَالَةٍ ما لَا يَعْمَلُ بِهِ في تِلْكَ الْأَشْخَاصِ مَرَّةً أُخْرَى في زَمَانٍ آخَرَ وَنَحْوِهِ أَمَّا في أَشْخَاصٍ أُخْرَى مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ ذلك اللَّفْظُ الْعَامُّ فَيَعْمَلُ بِهِ لِأَنَّهُ لو لم يَعْمَلْ بِهِ لَزِمَ التَّخْصِيصُ في الْأَشْخَاصِ كما قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فَالتَّوْفِيَةُ بِعُمُومِ الْأَشْخَاصِ أَنْ لَا يَبْقَى شَخْصٌ ما في أَيِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَحَالٍ إلَّا حُكِمَ عليه وَالتَّوْفِيَةُ بِالْإِطْلَاقِ أَنْ لَا يَتَكَرَّرَ ذلك الْحُكْمُ فَكُلُّ زَانٍ مَثَلًا يُجْلَدُ بِعُمُومِ الْآيَةِ وإذا جُلِدَ مَرَّةً ولم يَتَكَرَّرْ زِنَاهُ بَعْدَ ذلك لَا يُجْلَدُ ثَانِيَةً في زَمَانٍ آخَرَ وَمَكَانٍ آخَرَ فإن الْمَحْكُومَ عليه وهو الزَّانِي وَالْمُشْرِكُ وما أَشْبَهَ ذلك فيه أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا الشَّخْصُ وَالثَّانِي الصِّفَةُ كَالزِّنَى وَالشِّرْكِ لَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِمَا أَدَاةُ الْعُمُومِ أَفَادَتْ عُمُومَ الشَّخْصِ لَا عُمُومَ الصِّفَةِ وَالصِّفَةُ بَاقِيَةٌ على إطْلَاقِهَا فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ الْعَامُّ في الْأَشْخَاصِ مُطْلَقٌ في الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْبِقَاعِ فَبِمُطْلَقِ زَنَى حُدَّ وَكُلُّ شَخْصٍ حَصَلَ منه مُطْلَقُ شِرْكٍ قُتِلَ بِشَرْطِهِ فَرَجَعَ الْعُمُومُ وَالْإِطْلَاقُ إلَى لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ بِاعْتِبَارِ مَدْلُولِهَا وَاعْتُرِضَ على هذا بِأَنَّ عَدَمَ التَّكْرَارِ جاء من أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَخْذِ ذلك من الْإِطْلَاقِ وَرُدَّ بِأَنَّ إطْلَاقَ الْأَمْرِ أَحَدُ الْمُقْتَضَيَاتِ لِلْإِطْلَاقِ في الْأَزْمَانِ وَغَيْرِهَا فَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا قُلْت وَهَذَا مُسْتَمَدٌّ مِمَّا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ حَيْثُ قال إنَّا نَقُولُ أَمَّا كَوْنُ اللَّفْظِ الْعَامِّ في الْأَشْخَاصِ مُطْلَقًا في الْأَحْوَالِ وَغَيْرِهَا مِمَّا ذُكِرَ فَصَحِيحٌ وَأَمَّا الطَّرِيقَةُ الْمَذْكُورَةُ في الِاسْتِدْلَالِ فَيَلْزَمُ منها عَوْدُ التَّخْصِيصِ إلَى صِيغَةِ الْعُمُومِ وَيَبْقَى الْعُمُومُ في تِلْكَ الْأَحْوَالِ لَا من حَيْثُ إنَّ الْمُطْلَقَ عَامٌّ بِاعْتِبَارِ الِاسْتِغْرَاقِ بَلْ من حَيْثُ إنَّ الْمُحَافَظَةَ على صِيغَةِ الْعُمُومِ في الْأَشْخَاصِ وَاجِبٌ فَالْعُمُومُ من حَيْثُ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِمُقْتَضَى الصِّيغَةِ الْعَامَّةِ لَا من حَيْثُ إنَّ الْمُطْلَقَ عُمُومُ اسْتِغْرَاقٍ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ الْمُطْلَقَ يَكْفِي في الْعَمَلِ بِهِ مَرَّةً فَنَقُولُ هل يَكْتَفِي فيه بِالْمَرَّةِ فِعْلًا أو حَمْلًا فَإِنْ كان الْأَوَّلُ فَمُسَلَّمٌ وَإِنْ كان الثَّانِي فَمَمْنُوعٌ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُطْلَقَ إذَا فُعِلَ مُقْتَضَاهُ مَرَّةً وَوُجِدَتْ الصُّورَةُ الْجُزْئِيَّةُ الدَّاخِلَةُ تَحْتَ الْكُلِّ كَفَى ذلك في الْعَمَلِ بِهِ كما إذَا قال اعْتِقْ رَقَبَةً فَفَعَلَ ذلك مَرَّةً لَا يَلْزَمُ إعْتَاقُهُ رَقَبَةً أُخْرَى لِحُصُولِ الْوَفَاءِ بِمُقْتَضَى الْأَمْرِ من غَيْرِ اقْتِضَاءِ اللَّفْظِ الْعُمُومَ وَكَذَلِكَ إذَا قال إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ مَرَّةً
____________________
(2/202)
وَحَنِثَ لَا يَحْنَثُ بِدُخُولِهَا ثَانِيَةً لِوُجُودِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ فِعْلًا من غَيْرِ اقْتِضَاءِ الْعُمُومِ أَمَّا إذَا عَمِلَ بِهِ مَرَّةً حَمْلًا أَيْ في أَيِّ صُورَةٍ من صُوَرِ الْمُطْلَقِ لَا يَلْزَمُ التَّقَيُّدُ بها وَلَا يَكُونُ وَفَاءً بِالْإِطْلَاقِ لِأَنَّ مُقْتَضَى تَقْيِيدِ الْإِطْلَاقِ بِالصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ حَمْلًا أَنْ لَا يَحْصُلَ الِاكْتِفَاءُ بِغَيْرِهَا وَذَلِكَ يُنَاقِضُ الْإِطْلَاقَ وَمِثَالُهُ إذَا قال اعْتِقْ رَقَبَةً فإن مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ أَنْ يَحْصُلَ الْإِجْزَاءُ بِكُلِّ ما يُسَمَّى رَقَبَةً لِوُجُودِ الْمُطْلَقِ في كل من يُعْتَقُ من الرِّقَابِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْإِجْزَاءَ بِهِ فإذا خَصَّصْنَا الْحُكْمَ بِالرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ مَنَعْنَا إجْزَاءَ الْكَافِرَةِ وَمُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ إجْزَاؤُهَا إنْ وَقَعَ الْعِتْقُ بها فَاَلَّذِي فَعَلْنَاهُ خِلَافُ مُقْتَضَاهُ قال فَتَنَبَّهْ لِهَذِهِ الْمَوَاضِعِ التي تَرِدُ عَلَيْك من أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إذَا كان الْإِطْلَاقُ في الْأَحْوَالِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَقْتَضِي الْحَمْلُ على الْبَعْضِ فيه عَوْدَ التَّخْصِيصِ إلَى مَحَلِّ الْعُمُومِ هِيَ الْأَشْخَاصُ أو مُخَالَفَةُ مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ عِنْدَ الْحَمْلِ فَالْحُكْمُ بِعَدَمِ التَّقْيِيدِ لِوُجُودِ الْوَفَاءِ بِمُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ أو الْعُمُومِ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ أَمَّا إذَا كان الْإِطْلَاقُ في صُورَةٍ لَا تَقْتَضِي مُخَالَفَةَ صِيغَةِ الْعُمُومِ وَلَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ فَالْكَلَامُ صَحِيحٌ وَيَتَعَدَّى النَّظَرُ بَعْدَ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ بِالنِّسْبَةِ إلَى ما ذَكَرْنَا إلَى أَمْرٍ آخَرَ وهو أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِالْعُمُومِ فَإِنْ اقْتَضَى إخْرَاجَ بَعْضِ الصُّوَرِ وَعَدَمَ الْجَرْيِ على ظَاهِرِ الْعُمُومِ وَجَبَ أَنْ يَنْظُرَ في قَاعِدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ اللَّفْظَ إذَا قُصِدَ بِهِ مُعَيَّنٌ فَهَلْ يُحْتَجُّ بِهِ فِيمَا لم يُقْصَدْ بِهِ أو لَا فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ فَلَا حَاجَة بِنَا إلَى هذا وَإِلَّا احْتَجْنَا إلَى النَّظَرِ فيها بَعْدَ الِانْتِهَاءِ بِمُقْتَضَى صِيغَةِ الْعُمُومِ وَأَنَّ الْوَفَاءَ بِمُقْتَضَاهَا وَاجِبٌ فَهَذَا ما عِنْدِي في هذا الْمَوْضِعِ وَاَلَّذِي يُزِيدُهُ وُضُوحًا أَنَّ اللَّفْظَ إذَا كان مُطْلَقًا في هذه الْأَحْوَالِ يَلْزَمُ منه أَنْ يَصِحَّ التَّمَسُّكُ بِشَيْءٍ من الْعُمُومَاتِ أو أَكْثَرِهَا إذْ ما من عَامٍّ إلَّا وَلَهُ أَحْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الذَّوَاتِ التي يَتَعَلَّقُ بها الْعُمُومُ فإذا اكْتَفَيْنَا في الْعَمَلِ بِحَالَةٍ من الْحَالَاتِ تَعَذَّرَ الِاسْتِدْلَال بِغَيْرِهِ وَهَذَا خِلَافُ ما دَرَجَ عليه الناس
____________________
(2/203)
مَسْأَلَةٌ هل يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ الْمُكَلَّفُ اللَّفْظَ الْعَامَّ وَلَا يَبْلُغُهُ الْمُخَصِّصُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلْعُمُومِ صِيغَةً بِالْمَعْنَى السَّابِق قال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ سِيَّمَا الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ الْمُكَلَّفُ اللَّفْظَ الْعَامَّ وَلَا يَسْمَعَ الْمُخَصَّصَ إذَا كان له مُخَصِّصٌ في أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَعَلَيْهِ الْبَحْثُ في ذلك بِقَدْرِ ما يَعْلَمُ أَنَّهُ لو كان هُنَاكَ مُخَصِّصٌ لَبَلَغَهُ فَإِنْ وَجَدَهُ وَإِلَّا اعْتَقَدَ عُمُومَهُ وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْمِعَ اللَّهُ وَاحِدًا من الْمُكَلَّفِينَ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ وَلَا يُسْمِعَهُ خُصُوصَهُ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُسْمِعَهُ إيَّاهُمَا أو يَصْرِفَهُ عن سَمَاعِ الْعُمُومِ إذَا لم يَسْمَعْ الْخُصُوصَ قُلْت وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ وَالْمَحْصُولِ عن الْجُبَّائِيُّ وَأَبِي الْهُذَيْلِ قال صَاحِبُ الْوَاضِحِ وهو قَوْلُ أبي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ قال وَكَذَا كان يقول في النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ قال الْقَاضِي وَاتَّفَقَ الْكُلُّ على أَنَّهُ إذَا كان الْعُمُومُ مَخْصُوصًا بِدَلِيلِ الْعَقْلِ جَازَ أَنْ يَسْمَعَهُ من لم يَتَقَدَّمْ نَظَرُهُ في الدَّلِيلِ على تَخْصِيصِهِ وَأَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ الْمُخَصِّصَ له مُقَدَّمٌ عليه لِتَقَدُّمِ الْعَقْلِ على السَّمْعِ وهو من أَوْضَحِ ما يُسْتَدَلُّ بِهِ فإنه إذَا جَازَ ذلك في الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ جَازَ في السَّمْعِيَّةِ قال الْقَاضِي وَيَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَهُ الْمَنْسُوخُ وَلَا يَبْلُغَهُ النَّاسِخُ وَحَكَى صَاحِبُ الْوَاضِحِ الْمُعْتَزِلِيُّ في الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ ثَالِثَهَا التَّفْصِيلَ بين الْمُخَصِّصِ الْعَقْلِيِّ فَيَجُوزُ وَالسَّمْعِيِّ فَلَا يَجُوزُ وَحَكَاهُ في الْمُعْتَمَدِ عن الْجُبَّائِيُّ وَأَبِي الْهُذَيْلِ وَمِمَّنْ تَبِعَ الْقَاضِي في ذِكْرِ هذه الْمَسْأَلَةِ الْإِمَامُ في التَّلْخِيصِ وَالْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى قال وَنَحْنُ نَقُولُ يَجِبُ على الشَّارِعِ أَنْ يَذْكُرَ دَلِيلَ الْخُصُوصِ إمَّا مُقْتَرِنًا أو مُتَرَاخِيًا على ما ذَكَرْنَا من تَأْخِيرِ الْبَيَانِ وَلَيْسَ من ضَرُورَةِ كل مُحْتَمِلٍ يَبْلُغُهُ الْعُمُومُ أَنْ يَبْلُغَهُ الْخُصُوصُ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَغْفُلَ عنه وَيَكُونُ حُكْمُ اللَّهِ في حَقِّهِ الْعَمَلَ بِالْعُمُومِ وهو الذي بَلَغَهُ دُونَ ما لم يَبْلُغْهُ وقال في الْبُرْهَانِ لَا يَمْتَنِعُ وُرُودُ اللَّفْظِ الْعَامِّ مع اسْتِئْخَارِ الْمُخَصِّصِ عنه إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ وَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى مَنْعِ ذلك وَهِيَ من فُرُوعِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ
____________________
(2/204)
مَسْأَلَةٌ هل يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْعَامِّ قبل الْبَحْثِ عن مُخَصِّصٍ إذَا جَوَّزْنَا وُرُودَ الْعَامِّ مُجَرَّدًا عن مُخَصِّصِهِ فَهَلْ يَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ عِنْدَ سَمَاعِهِ وَالْمُبَادَرَةُ إلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ أو يَتَوَقَّفُ إلَى أَنْ يَنْظُرَ دَلِيلَ الْمُخَصِّصِ قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ في كِتَابِهِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه فقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ يَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ في الْحَالِ عِنْدَ سَمَاعِهِ وَالْعَمَلِ بِمُوجَبِهِ وقال عَامَّةُ أَصْحَابِنَا أبو الْعَبَّاسِ بن سُرَيْجٍ وأبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وأبو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وأبو عَلِيِّ بن خَيْرَانَ وأبو بَكْرٍ الْقَفَّالُ يَجِبُ التَّوَقُّفُ فيه حتى يَنْظُرَ في الْأُصُولِ التي يَتَعَرَّفُ فيها الْأَدِلَّةَ فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ على تَخْصِيصِهِ خَصَّ بِهِ وَإِنْ لم يَجِدْ دَلِيلًا يَدُلُّ على التَّخْصِيصِ اعْتَقَدَ عُمُومَهُ وَعَمِلَ بِمُوجَبِهِ قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَحَكَى الْقَفَّالُ أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ سُئِلَ عن قَوْله تَعَالَى فَامْشُوا في مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا من رِزْقِهِ هل تَقُولُ إنَّ من سمع هذا يَأْكُلُ جَمِيعَ ما يَجِدُهُ من رِزْقِهِ فقال أَقُولُ إنَّهُ يَبْلَعُ الدُّنْيَا بَلْعًا قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَزَعَمَ الصَّيْرَفِيُّ أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ في الرِّسَالَةِ وَالْكَلَامُ إذَا كان عَامًّا ظَاهِرًا كان على ظَاهِرِهِ وَعُمُومِهِ حتى تَأْتِيَ دَلَالَةٌ تَدُلُّ على خِلَافِ ذلك وَزَعَمَ آخَرُونَ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ خِلَافُهُ لِأَنَّهُ قال وَعَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنْ يَتَطَلَّبُوا دَلِيلًا يُفَرِّقُونَ بِهِ بين الْحَتْمِ وَغَيْرِهِ في الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَجِبُ طَلَبُ دَلِيلٍ يُسْتَدَلُّ بِهِ على مُوجِبِ اللَّفْظِ قُلْت وَمِنْ هذه الطَّرِيقَةِ يُؤْخَذُ حِكَايَةُ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ في هذه الْمَسْأَلَةِ وهو غَرِيبٌ وما حَكَاهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ من الْخِلَافِ في وُجُوبِ اعْتِقَادِ الْعُمُومِ جَرَى عليه الْعِرَاقِيُّونَ من أَصْحَابِنَا منهم الْقَاضِي ابن كَجٍّ في كِتَابِهِ في الْأُصُولِ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في شَرْحِ الْكِفَايَةِ وَصَاحِبُهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ اللُّمَعِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ وابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ وَنَصَرُوا قَوْلَ ابْنِ سُرَيْجٍ وَمِمَّنْ حَكَاهُ من الْمَرَاوِزَةِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وأبو النَّصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ في كِتَابِهِ وَالْقَاضِي الْحُسَيْنُ في تَعْلِيقِهِ قُبَيْلَ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَالْإِمَامُ أبو عُمَرَ بن عبد الْبَرِّ وَنَقَلَ التَّمَسُّكَ بِالْعُمُومِ إلَى أَنْ يَظْهَرَ الْمُخَصِّصَ عن أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْمَنْعَ منه عن
____________________
(2/205)
أَهْلِ الْكُوفَةِ وَكَذَلِكَ صَوَّرَ الْمَسْأَلَةَ وَالنَّقْلَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في التَّقْرِيبِ وَالْإِمَامُ في التَّلْخِيصِ قال وَذَهَبَ ابن سُرَيْجٍ وَمُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا يُسَوَّغُ اعْتِقَادُ الْعُمُومِ إلَّا بَعْدَ النَّظَرِ في الْأَدِلَّةِ ثُمَّ إذَا نَظَرَ فيها جَرَى على قَضِيَّتِهَا قال وَارْتَضَاهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وهو الصَّحِيحُ وَكَذَلِكَ صَوَّرَهَا إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ في الْمَدَارِكِ وَنَقَلَ مُوَافَقَةَ ابْنِ سُرَيْجٍ عن الْقَفَّالِ وَابْنِ خَيْرَانَ وَالْإِصْطَخْرِيُّ وَكَذَلِكَ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ إلَّا أَنَّهُ اخْتَارَ قَوْلَ الصَّيْرَفِيِّ وقال إنَّهُ الصَّحِيحُ وَكَذَا اخْتَارَهُ ابن عَقِيلٍ وَالْمَقْدِسِيُّ وَالْقَاضِي أبو يَعْلَى بن الْفَرَّاءِ وأبو بَكْرٍ الْخَلَّالُ من الْحَنَابِلَةِ وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَاخْتَارَهُ أَيْضًا الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ وأبو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ من الْمَالِكِيَّةِ لَكِنَّ الرَّاجِحَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قبل الْبَحْثِ عن الْمُخَصِّصِ وَنَقَلَ فيه الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ اتِّفَاقَ أَصْحَابِنَا وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ وَزَيَّفَ قَوْلَ الصَّيْرَفِيِّ وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عن ظَاهِرِ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وقال في كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ وَتَبِعَهُ الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ قُلْت هو ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ في أَحْكَامِ الْقُرْآنِ فإنه قال وَعَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ طَلَبُ الدَّلَائِلِ لِيُفَرِّقُوا بين الْحَتْمِ وَغَيْرِهِ في الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هذا لَفْظُهُ فَنَصَّ على طَلَبِ الدَّلَائِلِ الْمُمَيِّزَةِ بين مَوَاقِعِ الْكَلَامِ ولم يَكِلْهُمْ إلَى نَفْسِ الْكَلَامِ وَظَاهِرِهِ قبل الْبَحْثِ عن الْقَرَائِنِ لَكِنَّهُ نَصَّ في مَوْضِعٍ آخَرَ على ما يُخَالِفُهُ فَيَصِيرُ له في الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ فذكر في الْأُمِّ حَدِيثَ أبي أَيُّوبَ بِعُمُومِ النَّهْيِ عن الِاسْتِقْبَالِ بِالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وقال يَعْنِي أَبَا أَيُّوبَ بِالْحَدِيثِ جُمْلَةً كما سَمِعَهُ جُمْلَةً قال الشَّافِعِيُّ وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِمَنْ سمع الحديث أَنْ يَقُولَ بِهِ على عُمُومِهِ وَجُمْلَتِهِ حتى يُجَدِّدَ دَلَالَةً يُفَرِّقُ منها فيه ثُمَّ مَثَّلَ الدَّلَالَةَ الْمُفَرِّقَةَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ النَّهْيِ عن الْأَوْقَافِ الْمَكْرُوهَةِ ثُمَّ قال الشَّافِعِيُّ وَهَكَذَا غَيْرُ هذا من حديث رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم هو على الظَّاهِرِ من الْعُمُومِ حتى تَأْتِيَ الدَّلَالَةُ عنه من سُنَّةِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أو إجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْمِعُوا على خِلَافِ سُنَّةٍ أَنَّهُ بَاطِنٌ دُونَ ظَاهِرٍ وَخَاصٌّ دُونَ عَامٍّ انْتَهَى هذا لَفْظُهُ وَذَكَرَ في الرِّسَالَةِ مثله وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أبي أَيُّوبَ في قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَأَنَّهُ سَمِعَهُ جُمْلَةً
____________________
(2/206)
فقال بِهِ جُمْلَةً وقد سَبَقَ في مَسْأَلَةِ صِيَغِ الْعُمُومِ نَقَلَ الصَّيْرَفِيُّ مِثْلَ ذلك عن نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ الْكَثِيرَةِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ في كِتَابِهِ اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا على أَنَّ الْعُمُومَ إذَا وَرَدَ وَسَمِعَهُ الْمُكَلَّفُ وَفَهِمَ ما يَجِبُ وَجَبَ عليه عَرْضُهُ إذَا أَرَادَ تَنْفِيذَهُ على ما يَقْدِرُ من أَدِلَّةِ الْعُقُولِ وَأُصُولِ الشَّرْعِ فَإِنْ كان فيه ما أَوْجَبَ تَخْصِيصَهُ خَصَّهُ بِهِ وَإِلَّا أَجْرَاهُ على ظَاهِرِهِ فِيمَا اقْتَضَاهُ لَفْظُهُ وَهَذَا وَقْفٌ منه على مِقْدَارِ الِاجْتِهَادِ وَلَيْسَ هو من جِنْسِ ما تَقُولُهُ الْوَاقِفِيَّةُ انْتَهَى وقال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في أُصُولِهِ إذَا وَرَدَ الْخِطَابُ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ نَظَرَ إنْ وُجِدَ دَلِيلٌ يَخُصُّ اللَّفْظَ كان مَقْصُودًا عليه وَإِلَّا أُجْرِيَ على عُمُومِهِ لِأَنَّ الْعَامَّ مُحْتَمِلٌ لِلتَّخْصِيصِ فَلَا يَجُوزُ الْهُجُومُ على الْحُكْمِ دُونَ النَّظَرِ في الْمُرَادِ بِهِ فَإِنْ قِيلَ فما الذي يَعْتَقِدُهُ السَّامِعُ قبل النَّظَرِ قُلْنَا قد يَقْتَرِنُ بِالْخِطَابِ من دَلَالَةِ الْحَالِ ما يَقِفُ بِهِ السَّامِعُ على مُرَادِ الْخِطَابِ وقد يَتَقَدَّمُ الْخِطَابُ ما يَتَعَقَّلُ لِتَخْصِيصِ اللَّفْظِ وَقَرِينَتِهِ عليه كما وَرَدَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى ولم يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ شَقَّ ذلك على الصَّحَابَةِ فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ إذَا وَرَدَ الْخِطَابُ مُجَرَّدًا من دَلَالَةٍ تَقْتَرِنُ بِهِ فَالْوَاجِبُ على الْمُخَاطَبِ قبل النَّظَرِ أَنْ يَعْتَقِدَ ما حَصَلَ عِنْدَهُ من ظَاهِرِ اللَّفْظِ فإنه حَقٌّ وَلَا يَعْتَقِدُ انْصِرَافَهُ إلَى عُمُومٍ وَلَا إلَى خُصُوصٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ على ما هو بِهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ قبل النَّظَرِ في هذا أَكْثَرُ من اللَّفْظِ الْعَامِّ فَالْعَامُّ يَرِدُ عليه الْحَادِثَةُ وَجْهَيْنِ فَلَا يَعْتَقِدُ في حُكْمِهَا شيئا بِعَيْنِهِ إلَى أَنْ يَنْظُرَ فَيَتَبَيَّنَ له الْحُكْمُ انْتَهَى وقد احْتَجَّ بَعْضُهُمْ على الْعَمَلِ قبل الْبَحْثِ عن الْمُخَصِّصِ بِمَا في الصَّحِيحَيْنِ عن حديث أبي عُبَيْدَةَ في الْعَنْبَرِ الذي أَلْقَاهُ الْبَحْرُ فإن أَبَا عُبَيْدَةَ حَكَمَ بِتَنْجِيسِ مَيْتَةِ الْبَحْرِ تَمَسُّكًا بِعُمُومِ الْقُرْآنِ ثُمَّ إنَّهُ اسْتَبَاحَهَا بِحُكْمِ الِاضْطِرَارِ مع أَنَّ عُمُومَ الْقُرْآنِ في الْمَيْتَةِ مُخَصَّصٌ بِقَوْلِهِ هو الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ولم يَكُنْ عِنْدَهُ وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ من أَصْحَابِهِ خَبَرٌ من هذا الْمُخَصِّصِ وَحَصَلَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ في هذه الْمَسْأَلَةِ عِنْدَنَا طَرِيقَتَيْنِ إحْدَاهُمَا حِكَايَةٌ لِقَوْلَيْنِ أو وَجْهَيْنِ وَالثَّانِيَةُ الْقَطْعَ بِوُجُوبِ الْبَحْثِ من غَيْرِ خِلَافٍ على طَرِيقَةِ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وَالْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ مَشْهُورَانِ من غَيْرِ مَذْهَبِنَا وَلَهُمْ فيها أَيْضًا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ
____________________
(2/207)
غَرِيبَةٍ أَحَدُهَا إنْ سَمِعَهُ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم على طَرِيقِ تَعْلِيمِ الْحُكْمِ وَجَبَ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ في الْحَالِ وَإِنْ سَمِعَهُ من غَيْرِهِ لَزِمَهُ التَّثَبُّتُ وَنُسِبَ لِأَبِي عبد اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ من الْحَنَفِيَّةِ وَالثَّانِي وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ عن أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنَّهُ إنْ وَرَدَ بَيَانًا بِأَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِسُؤَالٍ أو أَمْرًا أو نَهْيًا وَجَبَ حَمْلُهُ على عُمُومِهِ وَإِنْ وَرَدَ ابْتِدَاءً وَجَبَ التَّوَقُّفُ فيه وَحَكَاهُ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ في أُصُولِهِ وَاخْتَارَهُ على غَيْرِ هذا الْوَجْهِ وهو التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَرِدَ جَوَابًا عن سُؤَالٍ أو أَمْرًا أو نَهْيًا فَيَجِبُ حَمْلُهُ على عُمُومِهِ لِأَنَّهُ لو كان خَاصًّا لَمَا تَرَكَهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِلَا بَيَانٍ في الْحَالِ التي أُلْزِمَ بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ مع جَهْلِ السَّائِلِ وَإِنْ وَرَدَ ابْتِدَاءً من غَيْرِ تَعَلُّقٍ بِسُؤَالٍ أو سمع آيَةً من الْقُرْآنِ مُبْتَدَأَةً وَالسَّائِلُ من أَهْلِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ قال الرَّازِيَّ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يَحْكُمُ بِظَاهِرِهِ حتى يَبْحَثَ عن الْمُخَصِّصِ فَإِنْ لم يَجِدْهُ أَمْضَاهُ على عُمُومِهِ وَالثَّانِي إنْ كان مُخَاطَبًا بِحُكْمِ اللَّفْظِ فَلَيْسَ يُخَلِّيهِ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ سَمَاعِ اللَّفْظِ من آيَةِ دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ عليه حتى يَكُونَ كَالِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَعَقِّبِ لِلْجُمْلَةِ وَأَمَّا من لم يَكُنْ مُخَاطَبًا بِالْحُكْمِ فَلَيْسَ عليه أَنْ يَعْتَقِدَ فيه عُمُومًا وَلَا خُصُوصًا قال وَأَمَّا الْعَامِّيُّ فَلَيْسَ له أَنْ يَعْتَقِدَ شيئا من ذلك وَلَكِنَّهُ إذَا سَأَلَ عن حُكْمِ حَادِثَةٍ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ قَبُولُ قَوْلِهِ فَأَجَابَهُ بِجَوَابٍ مُطْلَقٍ أَمْضَاهُ على ما سَمِعَهُ وَمِنْهُ من اقْتَصَرَ على الْعُمُومِ من غَيْرِ تَفْصِيلٍ وهو خَطَأٌ لِأَنَّ فيه إيجَابَ اعْتِقَادِ عُمُومِ ما لَا يَعْلَمُ صِحَّةَ عُمُومِهِ لَا سِيَّمَا إذَا كان مُخَصَّصًا في نَفْسِ الْأَمْرِ ا هـ الثَّالِثُ وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَدْخُلَهُ تَخْصِيصٌ أو لَا فَقِيلَ التَّخْصِيصُ يُسْتَعْمَلُ على عُمُومِهِ من غَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا نَظَرٍ وَبَعْدَ التَّخْصِيصِ يُحْتَمَلُ قال وهو قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَكَلَامُ ابْنِ كَجٍّ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْخِلَافِ بِمَا إذَا لم يَكُنْ هُنَاكَ ما يُخَصِّصُهُ فَإِنْ وَجَدْنَا ما يُخَصِّصُهُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْعَامِّ بِلَا خِلَافٍ من غَيْرِ تَوَقُّفٍ وَإِنْ كان يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مُخَصِّصٌ آخَرُ فإنه جَعَلَ هذا أَصْلًا قَاسَ عليه مَوْضِعَ الْخِلَافِ وَحَكَى ابن فُورَكٍ مَذْهَبَ الصَّيْرَفِيِّ وَمُقَابِلَهُ قَوْلًا بِالتَّفْصِيلِ بين الْأَوَامِرِ وَالْأَخْبَارِ قال وَمِنْهُمْ من جَمَعَ في الْوَقْفِ بَيْنَهُمَا وهو الْأَفْقَهُ وَمِنْهُمْ من حَمَلَهُ على
____________________
(2/208)
ثَلَاثَةٍ وَتَوَقَّفَ في الزَّائِدِ عليه وَالْمَشْهُورُ حِكَايَةُ هذا في تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ عن الْأُصُولِ لِلْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا وَرَدَ الْخِطَابُ الْعَامُّ بَعْدَ وَفَاتِهِ عليه السَّلَامُ فَإِنْ وَرَدَ في عَهْدِهِ وَجَبَ الْمُبَادَرَةُ إلَى الْفِعْلِ عُمُومِهِ لِأَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ لم تَكُنْ مُقَرَّرَةً مَذْهَبُ الصَّيْرَفِيِّ في الْعَمَلِ بِالْعَامِّ قبل الْبَحْثِ عن مُخَصِّصٍ وفي ذلك نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ من كَلَامِ الصَّيْرَفِيِّ في كِتَابِ الدَّلَائِلِ الْخِلَافُ في ذلك فقال ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إلَى أَنَّ ما سُمِعَ من النبي عليه السَّلَامُ من الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ من الْعَامِّ مُخَاطَبًا بِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَهُ حتى يُبَيِّنَهُ لِلْمُخَاطَبِينَ لِيَصِلُوا إلَى عِلْمِ ما أُمِرُوا بِهِ وَأَمَّا السَّاعَةَ فَقَدْ تَكَامَلَ الدِّينُ وَثُبُوتُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فَلَيْسَ على من سمع آيَةً من الْعَامِّ الْعَمَلُ بها حتى يَسْأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ فَيَعْرِفَ حُكْمَهَا لِمَا في ذلك من النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ وَإِنْ كان مِمَّنْ يَبْحَثُ وَلَهُ أَنْ يَبْحَثَ فَقَدْ أتى بِمَا يُمْكِنُهُ فَلَيْسَ عليه إلَّا اعْتِقَادُ ما سَمِعَهُ إذْ قد بَلَغَ ما يُمْكِنُهُ في الْجُمْلَةِ وَلَيْسَ لِلْعِلْمِ غَايَةٌ يَنْتَهِي إلَيْهَا حتى لَا يَفُوتَهُ منها شَيْءٌ وَاخْتَارَ قَوْمٌ جَوَازَ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ منه عليه السَّلَامُ إلَى وَقْتِ التَّقْيِيدِ وقال قَوْمٌ على من سمع شيئا وَحَصَلَ في يَدَيْهِ أَمْرٌ من اللَّهِ أو نَهْيُ اعْتِقَادِ ما سمع حتى يَعْلَمَ خِلَافَهُ قال أبو بَكْرٍ وَاَلَّذِي أَقُولُهُ إنَّ كُلَّ آيَةٍ أو سُنَّةٍ خَاطَبَ اللَّهُ بها أو رَسُولُهُ مُوَاجِهًا بها من يُخَاطِبُ آمِرًا أو نَاهِيًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَاطِبَهُ بِهِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَحُكْمُهُ في تِلْكَ مَرْفُوعٌ لِأَنَّهُ يَصِيرُ آمِرًا بِشَيْءٍ حُكْمُهُ أَنْ يُنْهَى عنه في تِلْكَ الْحَالِ وهو مُحَالٌ في صِفَتِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُوَاجِهَ رَجُلًا آمِرًا له بِشَيْءٍ أو نَاهِيًا عنه بِاسْمٍ عَامٍّ وَوَقْتُ بَيَانِهِ مُمْكِنٌ وَلَا يَتَقَدَّمُ ما يُوجِبُ له الْبَيَانَ فَيَصِيرُ ما يُرِيدُ منه أَنْ يَعْلَمَ من خِطَابِهِ أو فِعْلِهِ بِخِلَافِ ما أَظْهَرَ لِأَنَّهُ في الظَّوَاهِرِ آمِرٌ له بِخِلَافِ ما يُرِيدُ منه وَلَا سَبِيلَ له إلَى عِلْمٍ من لَفْظِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ أَنْ يُبَيِّنَ ما أُنْزِلَ إلَيْهِ وَهَذَا خِطَابُ من كَتَمَ لَا من بَيَّنَ وَالرَّسُولُ عليه السَّلَامُ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ من أَنْ يَفْعَلَ ذلك فإذا سمع الْمُخَاطَبُونَ ذلك منه عليه السَّلَامُ ثُمَّ فَارَقُوهُ وَاحْتَمَلَ وُرُودَ النَّسْخِ عليه فَعَلَيْهِمْ الْإِقَامَةُ عليه حتى يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَزَالَهُ أو رَسُولَهُ لِأَنَّهُ قد حَصَلَ في أَيْدِيهِمْ الْيَقِينُ فَلَا يَزُولُونَ عنه لِإِمْكَانِ ما يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا وَلَا يَتَوَقَّفُونَ عنه لِأَنَّ في ذلك إسْقَاطَ ما عَلِمَ صِحَّتَهُ لِمَا لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ
____________________
(2/209)
وقد عَلِمَ أَنَّ الناس لَا يُمْكِنُهُمْ مُرَاعَاةُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في كل الْأَحْوَالِ لَا يُفَارِقُونَهُ بَلْ عليهم اسْتِعْمَالُ ما عَلِمُوهُ حتى يَعْلَمُوا خِلَافَهُ مع احْتِمَالِ زَوَالِ ما عَلِمُوا أو وَجَبَ عليهم تَبْلِيغُهُ قال تَعَالَى لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ وَعَلَى ذلك جَرَى أَمْرُ السَّلَفِ كَابْنِ مَسْعُودٍ في الْكَلَامِ في الصَّلَاةِ لم يَنْزِلْ عليه حتى قَدِمَ عليه السَّلَامُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وكان مُعَاذٌ وَمَنْ بَلَّغَهُ مُعَاذٌ سَوَاءً في الِاعْتِقَادِ وفي الْفِعْلِ حتى يَعْلَمَ خِلَافَهُ وَإِلَّا فَلَا مَعْنَى لِتَوْجِيهِهِ لِيُعَلِّمَ الناس لِإِمْكَانِ نَسْخِ ما بُعِثَ بِهِ ثُمَّ قال بَابُ الْإِبَانَةِ عَمَّا سمع من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم غَيْرُ مُوَاجِهٍ في الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا قال قَائِلُونَ ليس على من سمع ذلك اعْتِقَادُ ما سمع وَلَا فِعْلُهُ حتى يَسْأَلَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَيُبَيِّنَ له لِأَنَّهُ لم يُوَاجِهْهُ بِالْخِطَابِ وَإِنَّمَا سمع دَرْسًا وقد يُدَرَّسُ الْمَنْسُوخُ وَقِيلَ لَا يُكَلَّفُ إلَّا ما سمع حتى يَعْلَمَ خِلَافَهُ وقال أبو بَكْرٍ وَاَلَّذِي أَقُولُهُ إنَّ كُلَّ آيَةٍ سُمِعَتْ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِأَمْرٍ أو نَهْيٍ وكان الْكَلَامُ قد تَمَّ ولم يَتَعَقَّبْهُ وَيُقَارِنْهُ بِمَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ فَعَلَى السَّامِعِ اعْتِقَادُ ما سمع حتى يَعْلَمَ خِلَافَهُ ثُمَّ احْتَجَّ على ذلك بِأُمُورٍ منها قَوْله تَعَالَى وَإِذْ صَرَفْنَا إلَيْك نَفَرًا من الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فلما حَضَرُوهُ قالوا أَنْصِتُوا فلما قُضِيَ وَلَّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قال فلما سَمِعُوا عِنْدَ انْقِضَائِهِ أَثْنَى عليهم عِنْدَ التَّقَضِّي بِالِانْصِرَافِ ولم يَتَوَقَّفُوا لِلسُّؤَالِ وَلَا غَيْرِهِ فلما آمَنُوا بِهِ لَزِمَهُمْ حُكْمُ ما سَمِعُوا حتى يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَزَالَ حُكْمَهُ وَأَبْقَى تِلَاوَتَهُ وَظَاهِرُ كَلَامِ الصَّيْرَفِيِّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يقول ذلك فإن من جُمْلَةِ ما احْتَجَّ بِهِ على هذا أَنَّ الشَّافِعِيَّ احْتَجَّ على خُصُوصِهِ بِقَوْلِهِ رُبَّمَا حَضَرَ الرَّجُلُ من الصَّحَابَةِ قد سمع الْجَوَابَ ولم يَسْمَعْ السُّؤَالَ وَالْكَلَامُ يَخْرُجُ على السَّبَبِ فَيَحْكِي ما سمع وَعَلَى كل إنْسَانٍ أَنْ يَحْكِيَ ما سمع حتى يَعْلَمَ خِلَافَهُ فإذا كان هذا من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِحَيْثُ يَكُونُ الْجَوَازُ مُمْكِنًا من النبي عليه السَّلَامُ وَالصَّحَابَةُ يَسْمَعُونَ ذلك وَيُمْكِنُهُمْ سُؤَالُهُ فَيُجِيبُهُمْ فَهُوَ في غَيْرِهِمْ أَوْلَى ثُمَّ قال بَابُ الْإِبَانَةِ عن الْعَامِّ يَسْمَعُ من غَيْرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في عَصْرِ النبي عليه السَّلَامُ وَهَلُمَّ جَرَّا إلَى وَقْتِنَا هذا فَنَقُولُ كُلُّ آيَةٍ أو سُنَّةٍ وَرَدَتْ عَلَيْنَا فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا اعْتِقَادُ ما سَمِعْنَا حتى نَعْلَمَ خِلَافَهُ من خُصُوصٍ أو نَسْخٍ وَعِلَّتُنَا فيه ما اعْتَلَلْنَا من أَمْرِ مُعَاذٍ وَغَيْرِهِ من عُمَّالِ النبي عليه السَّلَامُ وَمَنْ لم يَلْقَ النبي عليه السَّلَامُ بَلْ اعْتَقَدُوا ما سَمِعُوا منه وَعَمِلُوا بِهِ لِأَنَّهُ لو جَازَ التَّوَقُّفُ لِاحْتِمَالِ الْخُصُوصِ لَجَازَ التَّوَقُّفُ عَمَّا عَلِمْنَاهُ
____________________
(2/210)
ثَانِيًا وَاحْتَمَلَ في مَنْعِهِ وَهَذَا يُؤَوَّلُ إلَى تَرْكِ الْفَرَائِضِ فَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ عَلَيْنَا طَلَبَ ذلك بِقَدْرِ الطَّاقَةِ كَطَلَبِ الْمَاءِ بِحَسَبِ ما يُمْكِنُ فَإِنْ وَجَدَهُ وَإِلَّا صَارَ إلَى التُّرَابِ وَإِذًا قد يُدْرِكُ الْجَلِيُّ منه ما لَا يُدْرِكُ الْخَفِيُّ فَلَيْسَ عليه إلَّا ما يَقْدِرُ عليه فَإِنْ وَجَدَهُ فيها وَإِلَّا عَادَ إلَى الْقَضَاءِ بِالْعُمُومِ قُلْنَا له تَطْلُبُ دَلِيلَ الْخُصُوصِ في بَعْضِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أو في كل ذلك فَإِنْ قال أَطْلُبُهُ في الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَقَدْ عَمَدَ إلَى أَهْلِ الْخُصُوصِ وَإِنْ قال أَطْلُبُهُ في كل ذلك قُلْنَا وقد عَلِمْت أَنَّك لَا تَبْلُغُ عِلْمَ ذلك كُلِّهِ فَتَوَقُّفُك خَطَأٌ من وَجْهَيْنِ فَأَمَّا تَشْبِيهُهُمْ بِالْمَاءِ وَالتُّرَابِ فَخَطَأٌ لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَلْتَمِسُوا الْمَاءَ إلَى الطَّهُورِ كما يَلْتَمِسُوا أَهْلَ الزُّقَاقِ ولم يُكَلَّفُوا غير ذلك انْتَهَى كَلَامُهُ وَهَذَا الْبَابُ الْأَخِيرُ يُعْلَمُ منه ثُبُوتُ الْخِلَافِ في الصُّورَةِ التي نَقَلَ عن الْأُسْتَاذِ الْوِفَاقَ فيها وقد اسْتَفَدْنَا من جُمْلَةِ كَلَامِهِ أَنَّ لِلْمَسْأَلَةِ أَحْوَالًا أَحَدُهَا أَنْ يُخَاطِبَ النبي عليه السَّلَامُ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ فَعَلَى الْمُخَاطَبِ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ حتى يَعْلَمَ خِلَافَهُ ثَانِيهَا أَنْ يَقُولَ ذلك لَا على جِهَةِ الْخِطَابِ له فَعَلَى السَّامِعِ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ ثَالِثُهَا أَنْ يَسْمَعَ الْعَامُّ من غَيْرِ النبي عليه السَّلَامُ في عَصْرِهِ أو بَعْدَهُ فَالْحُكْمُ فيه كَذَلِكَ وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ في الْجَمِيعِ لَكِنَّ الْحَالَةَ الْأُولَى فَرَّعَهَا على مَذْهَبِهِ في مَنْعِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ ثُمَّ إنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ ذلك تَقْيِيدَ ما سَبَقَ بِمَا إذَا لم يَعْلَمْ أَنَّ فيه تَخْصِيصًا أو نَاسِخًا أَمَّا إذَا عَلِمَ فإنه يَتَوَقَّفُ فإنه قال بَعْدَ أَوْرَاقٍ بَابُ الْقَوْلِ في الْأَسْمَاءِ التي قد عُلِمَ أَنَّهُ قد خَصَّ أو نَسَخَ بَعْضَ حُكْمِهِ وَلَا نَعْلَمُ نَاسِخَهُ أو الْبَعْضَ الْمَنْسُوخَ منه قال أبو بَكْرٍ كُلُّ خِطَابٍ خُوطِبْت بِهِ وَعَلِمْت أَنَّ فيه خُصُوصًا أو نَسْخًا ولم تَعْلَمْهُ فَلَا تُقْدِمْ فيه على شَيْءٍ منه لِأَنَّك لَا تَتَوَجَّهُ إلَى وَجْهٍ من وُجُوهِ الِاسْتِعْمَالِ إلَّا تَعَادَلَ في نَفْسِك بِضِدِّهِ فَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى من الْآخَرِ فَلَا تُقْدِمْ عليه حتى تَعْلَمَ الْمَرْفُوعَ من الثَّابِتِ ثُمَّ قال وَلَيْسَ هذا مِثْلَ الْقُرْآنِ كُلِّهِ إذَا عَلِمَ أَنَّ فيه مَنْسُوخًا لِأَنِّي لَا أَدْرِي هل ذلك في الْقُرْآنِ من النَّسْخِ وَاقِعٌ لِهَذَا أو لِغَيْرِهِ فَلَا أَتْرُكُ ما ثَبَتَ أَمْرُهُ حتى أَعْلَمَ خِلَافَهُ انْتَهَى
____________________
(2/211)
اخْتِلَافُ الْأُصُولِيِّينَ في تَحْدِيدِ مَذْهَبِ الصَّيْرَفِيِّ وَإِنَّمَا حَكَيْت كَلَامَ الصَّيْرَفِيِّ بِنَصِّهِ لِعِزَّةِ وُجُودِ هذا الْكِتَابِ وَلِأَنَّهُ قد وَقَعَ أَغْلَاطٌ لِجَمَاعَةٍ من الْأَكَابِرِ في النَّقْلِ عنه فَأَرَدْت الِاسْتِظْهَارَ في ذلك وَبَيَانُهُ بِأُمُورٍ أَحَدِهَا قالوا إنَّ قَوْلَ الصَّيْرَفِيِّ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِالْعَامِّ ابْتِدَاءً من غَيْرِ طَلَبِ الْمُخَصِّصِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدَهُمَا أَنَّهُ يَجِبُ على الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَظُنَّ عُمُومَهُ إذْ ذَاكَ إذْ ليس من شَرْطِهِ حُكْمًا وَالتَّمَسُّكُ بِالدَّلِيلِ أَنْ يَكُونَ قَاطِعًا بِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ الذي تَمَسَّكَ بِهِ وَالثَّانِيَ أَنَّهُ يَجِبُ عليه أَنْ يَقْطَعَ بِعُمُومِهِ إذْ ذَاكَ لَكِنْ صَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ بِالِاحْتِمَالِ الثَّانِي نَقْلًا عنه فَأَغْلَظَ الْقَوْلَ عليه قُلْت وَكَذَلِكَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ نَصَبَ خِلَافَ الصَّيْرَفِيِّ في وُجُوبِ اعْتِقَادِ الْعُمُومِ وَكَذَلِكَ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ ولم يَذْكُرُوا وُجُوبَ الْعَمَلِ وما سَكَتُوا عنه فَقَدْ صَرَّحَ بِهِ غَيْرُهُمْ وقال الْمَازِرِيُّ لم يُرِدْ الرَّجُلُ هذا وَإِنَّمَا أَرَادَ اعْتِقَادَ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ قال الْمُقْتَرِحُ في تَعْلِيقِهِ على الْبُرْهَانِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ إنَّمَا أَرَادَ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ ا هـ وقد عَلِمْت أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ فَرَضَ لِلْمَسْأَلَةِ أَحْوَالًا ثَلَاثَةً وَجَعَلَ بَعْضَهَا من الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ وَبَعْضَهَا من الْأَخِيرِ فَفِي الْحَالَةِ الْأُولَى وَهِيَ أَنْ يُخَاطِبَهُ عليه السَّلَامُ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ يَجِبُ عليه الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْعُمُومِ ولم يَخْتَرْ اعْتِقَادَ الْعُمُومِ بِخِلَافِهِ في الْحَالَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فَتَأَمَّلْ كَلَامَهُ وقال الْأَصْفَهَانِيُّ اسْتَفَدْنَا منه أَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مَقْطُوعٌ أَمَّا مُطْلَقُ اللَّفْظِ الْعَامِّ إنْ أَرَادَ بِهِ الْعُمُومَ فَلَا قَطْعَ فيه وَهَذَا الذي اشْتَبَهَ على من قال إنَّ الْأَحْكَامَ الثَّابِتَةَ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُفِيدُ الظَّنَّ أَحْكَامٌ مَعْلُومَةٌ ولم يَعْرِفْ أَنَّ الْمَقْطُوعَ بِهِ وُجُوبُ الْعَمَلِ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمَظْنُونَ مَعْلُومٌ الْأَمْرُ الثَّانِي أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ صَوَّرَ مَحَلَّ الْخِلَافِ في صُورَةٍ خَاصَّةٍ فقال إذَا وَرَدَتْ الصِّيغَةُ الظَّاهِرَةُ في اقْتِضَاءِ الْعُمُومِ ولم يَدْخُلْ وَقْتُ الْعَمَلِ بِمُوجِبِهَا فَقَدْ قال أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ يَجِبُ على الْمُتَعَبِّدِينَ اعْتِقَادُ عُمُومِهَا على جَزْمٍ ثُمَّ إنْ كان الْأَمْرُ على ما اعْتَقَدُوهُ فَذَاكَ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخُصُوصَ تَغَيُّرُ الْعَقْدِ انْتَهَى وَالصَّوَابُ في النَّقْلِ عنه إطْلَاقُ الْعُمُومِ سَوَاءٌ قبل حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ أو
____________________
(2/212)
بَعْدَهُ بَلْ هو مُصَرَّحٌ بِالْعَمَلِ بِهِ قبل الْبَحْثِ عن الْمُخَصِّصِ وَنَقَلَ ذلك أَيْضًا في كِتَابِهِ الْبَيَانِ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَكَذَلِكَ نَقَلَهُ عنه الْجُمْهُورُ كما سَبَقَ التَّصْرِيحُ بِهِ في كَلَامِهِمْ ولم يُقَيِّدْ أَحَدٌ منهم النَّقْلَ عنه بِهَذِهِ الْحَالَةِ تَفْرِيعٌ الْأَمْرُ الثَّالِثُ أَنَّ مِمَّا يَتَفَرَّعُ على هذا الْخِلَافِ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عن وَقْتِ الْخِطَابِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ فَمَنْ ذَهَبَ إلَى إجْرَائِهِ على الْعُمُومِ قبل الْبَحْثِ عن الْمُتَخَصِّصِ كَالصَّيْرَفِيِّ قال لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عنه بَيَانُ الْخُصُوصِ إنْ كان ثَمَّ مُرَادٌ كما يَمْتَنِعُ تَأْخِيرُ الِاسْتِثْنَاءِ وَمَنْ مَنَعَ اقْتِضَاءَ عُمُومِهِ أَجَازَ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عن وَقْتِ الْوُرُودِ وَكَذَا ذَكَرَهُ ابن فُورَكٍ في كِتَابِهِ فقال من ذَهَبَ إلَى الِاقْتِضَاءِ بِنَفْسِ السَّمَاعِ قال لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عنه بَيَانُ الْخُصُوصِ إنْ كان ثَمَّ مُرَادٌ وَمَنْ أَبَى الْمُبَادَرَةَ إلَى الْإِمْضَاءِ جَوَّزَهُ وَكَذَا قال إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِأَصْلِ الصَّيْرَفِيِّ فإنه مِمَّنْ يَمْنَعُ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ كما سَبَقَ التَّصْرِيحُ بِهِ في صَدْرِ كَلَامِهِ وَهَكَذَا نَقَلَهُ عنه الْجُمْهُورُ وَلَكِنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ نَقَلَ عنه هُنَا أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ وَاسْتَدَلَّ عليه بِأَنَّهُ من الرَّادِّينَ عليهم في كُتُبِهِ فَأَلْزَمَهُ التَّنَاقُضَ فقال الْقَوْلُ بِالْإِجْرَاءِ على الْعُمُومِ إنَّمَا يَلِيقُ بِمَذْهَبِ من يَمْنَعُ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ أَمَّا من يُجَوِّزُهُ فَلَا فَالْقَوْلُ بِجَوَازِ وُرُودِ الْمُخَصِّصِ مع الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْعُمُومِ تَنَاقُضٌ وقد عَلِمْتَ أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ صَرَّحَ في صَدْرِ كَلَامِهِ في هذه الْمَسْأَلَةِ بِمَنْعِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ فَاَلَّذِي ذَكَرَهُ مُسْتَقِيمٌ وَكَذَا نَقَلَهُ عنه ابن الصَّبَّاغِ في الْعِدَّةِ وَغَيْرُهُ وَقَوْلُ الْإِمَامِ إنَّهُ من الرَّادِّينَ على مَانِعِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ في تَصَانِيفِهِ صَحِيحٌ وَلَكِنْ في غَيْرِ مَسْأَلَةِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ نعم سَيَأْتِي عن الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ رُجُوعُ الصَّيْرَفِيِّ عن هذا الْمَذْهَبِ ولم يَقِفْ جَمَاعَةٌ على تَحْرِيرِ النَّقْلِ عن الصَّيْرَفِيِّ في مَسْأَلَةِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ وَظَنُّوا صِحَّةَ ما نَقَلَهُ عنه الْإِمَامُ فَأَخَذُوا في تَأْوِيلِ كَلَامِهِ قال الْمَازِرِيُّ قد أَغْلَظَ الْإِمَامُ الْقَوْلَ على الصَّيْرَفِيِّ وَنَسَبَهُ إلَى الْغَبَاوَةِ وهو غَيْرُ لَائِقٍ فإنه إمَامٌ جَلِيلٌ مع إمْكَانِ تَأْوِيلِ كَلَامِهِ قال الْمُقْتَرِحُ لَا تَنَاقُضَ لِعَدَمِ تَوَارُدِهِمَا على مَحَلٍّ وَاحِدٍ فإن مَحَلَّ الِاعْتِقَادِ إنَّمَا هو وُجُوبُ الْعَمَلِ بِالْعُمُومِ وَالتَّجْوِيزُ رَاجِعٌ إلَى تَبَيُّنِ مُرَادِ اللَّفْظِ انْتَهَى وَهَذَا بِنَاءٌ منه على أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ كَلَامُهُ في وُجُوبِ الْعَمَلِ لَا الِاعْتِقَادِ وَالْإِمَامُ
____________________
(2/213)
بَنَى اعْتِرَاضَهُ على أَنَّ كَلَامَ الصَّيْرَفِيِّ في الِاعْتِقَادِ وقد سَبَقَ تَحْرِيرُهُ وقال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجَزْمَ بِاعْتِقَادِ الْعُمُومِ إنَّمَا يَلِيقُ بِمَذْهَبِ الْمَانِعِ من تَأْخِيرِ الْبَيَانِ بَلْ التَّنَاقُضُ الْمَذْكُورُ لَازِمٌ لهم أَيْضًا إلَّا من لم يُجَوِّزْ سَمَاعَ الْمُكَلَّفِ الْعَامِّ دُونَ الْخَاصِّ فإن التَّنَاقُضَ الْمَذْكُورَ إنَّمَا يَنْدَفِعُ عَنْهُمْ لَا غَيْرُ وَهَذَا لِأَنَّهُمْ وَإِنْ أَوْجَبُوا اتِّصَالَ الْمُخَصَّصِ بِالْعَامِّ في الْوُرُودِ لَكِنَّهُمْ لم يُوجِبُوا وُصُولَهُ إلَى من يَصِلُ إلَيْهِ الْعَامُّ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَظْهَرَ الْمُخَصَّصُ لِلْمُكَلَّفِ بَعْدَ سَمَاعِ الْعَامِّ وَإِنْ كَانَا عِنْدَ الْوُرُودِ مُقْتَرِنَيْنِ وَمَعَ هذا الِاحْتِمَالِ وَالتَّجْوِيزِ كَيْفَ يَجِبُ عليه الْقَطْعُ بِالْعُمُومِ الْغَزَالِيُّ يَنْقُلُ الْإِجْمَاعَ على وُجُوبِ الْبَحْثِ قبل الْحُكْمِ بِالْعَامِّ الْأَمْرُ الرَّابِعُ قِيلَ إنَّ الْغَزَالِيَّ خَالَفَ طَرِيقَةَ الناس في هذه الْمَسْأَلَةِ فقال في الْمُسْتَصْفَى لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمُبَادَرَةُ إلَى الْحُكْمِ بِالْعُمُومِ قبل الْبَحْثِ عن الْأَدِلَّةِ الْمُخَصِّصَةِ لِأَنَّ الْعُمُومَ دَلِيلٌ بِشَرْطِ انْتِفَاءِ الْمُخَصِّصِ وَالشَّرْطُ بَعْدُ لم يَظْهَرْ وَكَذَلِكَ كُلُّ دَلِيلٍ يُمْكِنُ فيه الْمُعَارَضَةُ وَذَلِكَ كَإِلْحَاقِ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ في الْقِيَاسِ فَالْعِلَّةُ دَلِيلٌ بِشَرْطِ الْعِلْمِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ وقد تَبِعَهُ على ذلك الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ فَنَقَلَا الْإِجْمَاعَ على امْتِنَاعِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ قبل الْبَحْثِ عن كل ما يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُخَصَّصًا وَغَلَّطَهُمَا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ في شَرْحِ الْعِنْوَانِ مُتَمَسِّكًا بِكَلَامِ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ السَّابِقِ وَمَنْ نَقَلَ الْخِلَافَ مُقَدَّمٌ على من نَقَلَ الْإِجْمَاعَ لِمَزِيدِ الِاطِّلَاعِ انْتَهَى قُلْت وَهَذَا لَا يُنَافِي نَقْلَ الْخِلَافِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذلك طَرِيقَةٌ في الْمَذْهَبِ قَاطِعَةٌ بِذَلِكَ وَطَرِيقَةٌ حَاكِيَةٌ لِلْخِلَافِ على أَنَّ من الناس من عَكَسَ هذه الطَّرِيقَةَ فقال الْمَعْرُوفُ ما ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ وَخِلَافُ الصَّيْرَفِيِّ إنَّمَا هو في اعْتِقَادِ عُمُومِهِ قبل دُخُولِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ وإذا ظَهَرَ مُخَصِّصٌ يَتَغَيَّرُ الِاعْتِقَادُ هَكَذَا نَقَلَهُ عنه إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرُهُمَا وَعَلَى هذا فَنَصْبُ الْخِلَافِ على التَّمَسُّكِ بِالْعَامِّ قبل الْبَحْثِ عن الْمُخَصِّصِ كما نَقَلَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَأَتْبَاعُهُ غَلَطٌ بَلْ هُمَا مَسْأَلَتَانِ اعْتِقَادُ الْعُمُومِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافِ الصَّيْرَفِيِّ وَامْتِنَاعُ التَّمَسُّكِ بِهِ قبل الْبَحْثِ عن الْمُخَصِّصِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ إجْمَاعٍ وَاسْتَشْكَلَ آخَرُونَ الِاتِّفَاقَ على امْتِنَاعِ الْعَمَلِ مع إيجَابِ الْبَعْضِ اعْتِقَادَ
____________________
(2/214)
عُمُومِهِ إذْ لَا يَظْهَرُ لِوُجُوبِ اعْتِقَادِ عُمُومِهِ فَائِدَةٌ إلَّا الْعَمَلَ بِهِ فِعْلًا أو كَفًّا فَلَوْ قِيلَ قَاتِلُوا الْكُفَّارَ أو اُقْتُلُوهُمْ وَاعْتَقَدْنَا عُمُومَهُ وَجَبَ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِمُوجِبِهِ في قِتَالِهِمْ حتى يَأْتِيَ الْمُخَصِّصُ وَإِنْ لم يَكُنْ الْأَمْرُ هَكَذَا لم يَكُنْ لِوُجُوبِ اعْتِقَادِ عُمُومِهِ فَائِدَةٌ وَالصَّوَابُ أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ في الْحَالَيْنِ وَمِمَّنْ نَصَبَ فِيهِمَا الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ اللُّمَعِ فقال هل يَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِهَا وَالْعَمَلُ بِمُوجِبِهَا قال الصَّيْرَفِيُّ يَجِبُ الْأَخِيرُ وقد سَبَقَ تَوَهُّمُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ تَخْصِيصَ النَّقْلِ عنه بِذَلِكَ وقال بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ يَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِهَا في الْأَزْمَانِ وَالْأَعْيَانِ بِلَا خِلَافٍ وَهَلْ يَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِهَا وَالْعَمَلُ بِمُوجِبِهَا قبل الْبَحْثِ عن الْمُخَصِّصِ فيه الْوَجْهَانِ وَأَيْضًا فَالْكُلُّ مُتَّفِقُونَ في النَّقْلِ عن الصَّيْرَفِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ وَمَعَ الْجَزْمِ بِالْعُمُومِ يَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَجُوزَ التَّمَسُّكُ بِهِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ نَقْلُ الْإِجْمَاعِ في مَنْعِ التَّمَسُّكِ بِهِ وَكَيْفَ تُجْعَلُ مَسْأَلَةُ اعْتِقَادِ الْعُمُومِ غير مَسْأَلَةِ جَوَازِ التَّمَسُّكِ بِهِ هو لَازِمُهُ وَهَذَا مِمَّا لَا يُعْقَلُ وَأَيْضًا الْقَوْلُ بِجَوَازِ التَّمَسُّكِ بِهِ أَوْلَى وَأَظْهَرُ من وُجُوبِ اعْتِقَادِ عُمُومِهِ ثُمَّ حين ظُهُورِ الْمُخَصِّصِ يَتَغَيَّرُ الِاعْتِقَادُ فإنه مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ أَغْلَظَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْقَوْلَ فيه بِسَبَبِهِ بِخِلَافِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ ابْتِدَاءً فإن له وَجْهًا وَجِيهًا قال الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ هُمَا مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا قبل مَجِيءِ وَقْتِ الْعَمَلِ وَالْحَقُّ فيها ما اخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْعُمُومَ ظَاهِرٌ وَالْعَمَلَ مَقْطُوعٌ بِهِ وَثَانِيَتُهُمَا عِنْدَ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْغَزَالِيِّ وَالْحَقُّ فيها ما اخْتَارَهُ وَاَلَّذِي يَتَحَصَّلُ من كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْهُجُومُ على الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْعُمُومِ دُونَ الْبَحْثِ عن الْمُخَصِّصِ وَأَمَّا الْخِلَافُ الْمَحْكِيُّ عن الصَّيْرَفِيِّ وَابْنِ سُرَيْجٍ فَهُوَ حُكْمُ مُقْتَضَى الْعُمُومِ ابْتِدَاءً وَيَعْتَمِدُ على ظُهُورِ التَّخْصِيصِ ابْتِدَاءً وَالْخِلَافُ في الْعَامِّ في إجْرَائِهِ على عُمُومِهِ وفي الْخَاصِّ في إجْرَائِهِ على حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فَمَنْ أَوْجَبَ الِاسْتِقْصَاءَ عن الْمُخَصِّصِ أَوْجَبَ الْبَحْثَ عن الْمُقْتَضَى بِحَمْلِ اللَّفْظِ على الْمَجَازِ وَهَكَذَا جَعَلَ الْهِنْدِيُّ خِلَافَ الصَّيْرَفِيِّ قبل حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ قال فَإِنْ حَضَرَ وَقْتُهُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ إجْمَاعًا لَكِنْ مع الْجَزْمِ بِعَدَمِ الْمُخَصِّصِ عِنْدَ جَمْعٍ كَالْقَاضِي وَمَعَ ظَنِّهِ عِنْدَ آخَرِينَ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَابْنِ سُرَيْجٍ وَالْغَزَالِيِّ وهو الْأَوْلَى انْتَهَى وقد سَبَقَ أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ وَالْجُمْهُورَ أَطْلَقُوا النَّقْلَ عنه من غَيْرِ فَرْقٍ بين حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ أَمْ لَا وَنَقْلُهُ الْإِجْمَاعَ في الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَسْتَقِيمُ لِمَا سَيَأْتِي من كَلَامِ ابْنِ الصَّبَّاغِ
____________________
(2/215)
قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إذَا حَضَرَ وَقْتُ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ فَقَدْ يَقْطَعُ الْمُكَلَّفُ بِمُقْتَضَى الْعُمُومِ لِقَرَائِنَ تَتَوَفَّرُ عِنْدَهُ فَيَصِيرُ الْعَامُّ كَالنَّصِّ وقد لَا يَقْطَعُ بِذَلِكَ لِعَدَمِ الْقَرَائِنِ الْمُفِيدَةِ لِلْقَطْعِ بَلْ يَغْلِبُ على ظَنِّهِ الْعُمُومُ فَيَعْمَلُ بِنَاءً على غَلَبَةِ الظَّنِّ كما في خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ الْمَذَاهِبُ في الْمُدَّةِ التي يَجِبُ فيها الْبَحْثُ عن مُخَصِّصٍ الْأَمْرُ الْخَامِسُ إذَا أَوْجَبْنَا الْبَحْثَ عن الْمُخَصِّصِ فَاخْتُلِفَ في الْمُدَّةِ التي يَجِبُ فيها الْبَحْثُ على أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ حَكَاهَا في الْمُسْتَصْفَى أَحَدِهَا يَكْفِيهِ أَدْنَى نَظَرٍ وَبَحْثٍ كَاَلَّذِي يَبْحَثُ عن مَتَاعٍ في بَيْتٍ وَلَا يَجِدُهُ فَيَغْلِبُ على ظَنِّهِ عَدَمُهُ وَالثَّانِي يَكْفِيهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِالِانْتِفَاءِ عِنْدَ الِاسْتِقْصَاءِ في الْبَحْثِ وَالثَّالِثِ لَا بُدَّ من اعْتِقَادٍ جَازِمٍ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ وَلَا يَكْفِي الظَّنُّ وَرَابِعِهَا لَا بُدَّ من الْقَطْعِ بِانْتِفَاءِ الْأَدِلَّةِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَاضِي وَالْقَطْعُ بِهِ مُمْكِنٌ وَمَنَعَ غَيْرُهُ ذلك الْإِمْكَانَ لِأَنَّ غَايَةَ الْمُجْتَهِدِ بَعْدَ الِاسْتِقْصَاءِ الِاسْتِدْلَال بِعَدَمِ الْوِجْدَانِ على عَدَمِ الْوُجُودِ وَلَا يَلْزَمُ منه إلَّا الظَّنُّ بِعَدَمِ الْوُجُودِ لَا الْقَطْعُ بِعَدَمِهِ لِعَدَمِ انْضِبَاطِ الْأَدِلَّةِ وَاحْتِمَالِ الشُّذُوذِ وقال الْقَاضِي وَلَا يَكْفِي عَدَمُ وُجْدَانِ الْمُخَصِّصِ لِمُجْتَهِدٍ سَابِقٍ وَلَا قَوْلُهُ وَلَوْ كان الْحُكْمُ خَاصًّا لَنَصَبَ اللَّهُ عليه دَلِيلًا لِلْمُكَلَّفِينَ وَلْيَكْفِهِمْ ذلك وَاعْلَمْ أَنَّ هذا الْقَوْلَ قَرِيبٌ من الذي قَبْلَهُ فإن الْمُعْتَقِدَ أَيْضًا لَا يُجَوِّزُ النَّقِيضَ وَإِلَّا لَكَانَ ظَانًّا لَكِنْ يَفْتَرِقَانِ في أَنَّ الْمُعْتَقِدَ على الثَّالِثِ يَكُونُ مُصِيبًا في الْحُكْمِ وَإِنْ تَبَيَّنَ له الْغَلَطُ بَعْدَ ذلك وَالْقَاضِي يَرَى أَنَّ الِاعْتِقَادَ من غَيْرِ عِلْمٍ لَا يَكُونُ مَطْلُوبًا في الشَّرِيعَةِ قَالَهُ الْإِبْيَارِيُّ وَالْمُخْتَارُ وِفَاقًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَابْنِ سُرَيْجٍ وَالْغَزَالِيِّ وَالْمُحَقِّقِينَ الْأَوَّلُ فقال عليه تَحْصِيلُ عِلْمٍ أو ظَنٍّ بِاسْتِقْصَاءِ الْبَحْثِ أَمَّا الظَّنُّ فَبِانْتِفَاءِ الدَّلِيلِ في نَفْسِهِ وَأَمَّا الْقَطْعُ فَبِانْتِفَائِهِ في حَقِّهِ يَتَخَيَّرُ عن نَفْسِهِ عن الْوُصُولِ إلَيْهِ بَعْدَ بَذْلِ وُسْعِهِ وَهَذَا الظَّنُّ بِالصَّحَابَةِ في مَسْأَلَةِ الْمُخَابَرَةِ وَنَحْوِهَا وَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ في الْقِيَاسِ وَالِاسْتِصْحَابِ وَكُلُّ ما هو مَشْرُوطٌ بِنَفْيِ دَلِيلٍ آخَرَ
____________________
(2/216)
وَيَجْتَمِعُ من كَلَامِ الْأَصْحَابِ في الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ فَقَدْ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ كِلَاهُمَا في الْأَقْضِيَةِ ليس لِزَمَانِ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ وَقْتٌ مُقَدَّرٌ وَإِنَّمَا هو مُعْتَبَرٌ بِمَا يُؤَدِّي الِاجْتِهَادُ إلَيْهِ من الرَّجَاءِ وَالْإِيَاسِ وقال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في كِتَابِهِ ليس لِمُدَّةِ الْبَحْثِ زَمَنٌ مُحَدَّدٌ وَلَكِنَّهَا مَعْقُولَةٌ وَهَذَا كما أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا لم يَجِدْ نَصًّا في الْحَادِثَةِ يَجْتَهِدْ حتى يَجِدَ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ وَلَيْسَ له في ذلك زَمَنٌ مُحَدَّدٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ من سمع النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يَتْلُو آيَةً بِلَفْظٍ عَامٍّ كان عليه أَنْ يَسْتَوْعِبَهَا سَمَاعًا فَلَعَلَّهُ اسْتَثْنَى عَقِبَ الْكَلَامِ فإذا اسْتَوْعَبَهَا ولم يَجِدْ فيها اسْتِثْنَاءً وَلَا خُصُوصًا اعْتَقَدَ عُمُومَهَا وَعَمِلَ بِمَا يُوجِبُهُ لَفْظُهَا وَلَيْسَ لِمُدَّةِ الِاسْتِمَاعِ وَقْتٌ مُحَدَّدٌ وَلَكِنْ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ فَكَذَلِكَ من سمع آيَةً عَامَّةً نَظَرَ وَلَا مُدَّةَ لِنَظَرِهِ أَكْثَرَ من زَمَانٍ يَخْطُرُ بِبَالِهِ ما قد عَلِمَهُ من الْأُصُولِ فيه فَإِنْ لم يَجِدْ في ذلك ما يَدُلُّ على خُصُوصِهَا وَاحْتَاجَ إلَى التَّقْيِيدِ أَجْرَاهَا على الْعُمُومِ وَإِنْ لم يَحْتَجْ سَأَلَ من يَعْلَمُ أَنَّ عِنْدَهُ عِلْمًا أو ازْدَادَ في التَّأَمُّلِ بِمَا عِنْدَهُ من الْأُصُولِ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَتَنَبَّهَ بِهِ على خُصُوصٍ إنْ كان فيها كما سَأَلَ الصَّحَابَةُ عن قَوْله تَعَالَى ولم يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ وَقَالُوا أَيُّنَا لم يَظْلِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَسَأَلُوا النبي عليه السَّلَامُ عن قَوْلِهِ من أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَهُ كَرِهَ لِقَاءَهُ فَقَالُوا أَيُّنَا لَا يَكْرَهُ الْمَوْتَ فَكَشَفَ لهم عن الْمَعْنَى وَلَيْسَ كُلُّ ما قَدَرَ حَصْرُهُ بِمِقْدَارٍ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ كما تَقُولُ في التَّوَاتُرِ أَنْ يَكُونَ عَدَدًا يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُهُمْ على الْكَذِبِ قال وفي ذلك إبْطَالُ قَوْلِ من نَظَرَ إلَى إبْطَالِ النَّظَرِ في مَعْنَى الْعُمُومِ لِجَهْلِ الْمُدَّةِ التي يَقَعُ فيها النَّظَرُ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في شَرْحِ الْكِفَايَةِ وَلَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ أَبَدًا بَلْ هو كَالْحَاكِمِ يَتَوَقَّفُ حتى يَسْأَلَ عن عَدَالَةِ الشُّهُودِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ الْأَوَّلُ هو الْوَاجِبُ دُونَ التَّكْرَارِ كَالْمُجْتَهِدِ تَنْزِلُ بِهِ الْحَادِثَةُ قال الشَّيْخُ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ الْمُوجِبُونَ لِلْبَحْثِ عن الْمُخَصِّصِ إنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُجْتَهِدِ من نَظَرِهِ فِيمَا تَأَخَّرَ من النُّصُوصِ أو ما يَتَيَسَّرُ له مُرَاجَعَتُهُ مِمَّا سَتَعْرِفُهُ بِاحْتِمَالِ التَّخْصِيصِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ التَّوَقُّفَ حتى يَقَعَ على ما لَعَلَّهُ لم يَبْلُغْهُ من النُّصُوصِ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ مع قُرْبِ الْمُرَاجَعَةِ فَلَا يَصِحُّ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ عُلَمَاءَ الْأَمْصَارِ ما بَرِحُوا يُفْتُونَ بِمَا بَلَغَهُمْ من غَيْرِ تَوَقُّفٍ على الْبَحْثِ في الْأَمْصَارِ وَالْبِلَادِ عَمَّا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصًا وَبِهَذَا يُجَابُ عن قَوْلِ الْقَائِلِ بِالْوُجُوبِ إنَّهُ لو كان كَذَلِكَ لَكَانَتْ رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ
____________________
(2/217)
مُمْكِنَةً لِكُلِّ أَحَدٍ حَصَلَتْ له أَدْنَى أَهْلِيَّةٍ لِأَنَّا أَوَّلًا شَرَطْنَا أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي اطِّلَاعَهُ على جُمْلَةٍ من النُّصُوصِ زَائِدَةٍ لَا يَصِلُ إلَيْهَا من له أَدْنَى أَهْلِيَّةٍ انْتَهَى مَنْشَأُ الْخِلَافِ في الْمَسْأَلَةِ الْأَمْرُ السَّادِسُ أَنَّ مَثَارَ الْخِلَافِ في وُجُوبِ الْبَحْثِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا التَّعَارُضُ بين الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ وَالثَّانِي عَدَمُ الْمُخَصِّصِ هل هو شَرْطٌ في الْعُمُومِ أو التَّخْصِيصُ من بَابِ الْمُعَارِضِ فيه قَوْلَانِ يُؤْخَذَانِ مِمَّا سَبَقَ وَكَمَا في تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَالصَّيْرَفِيُّ يقول إنَّ التَّخْصِيصَ مَانِعٌ فَ يَتَمَسَّكُ بِالْعُمُومِ ما لم يَنْتَهِضْ الْمَانِعُ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ وابن سُرَيْجٍ يقول عَدَمُهُ شَرْطٌ فَلَا بُدَّ من تَحَقُّقِهِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ ابْنَ سُرَيْجٍ يقول صِيَغُ الْعُمُومِ لَا تَدُلُّ على الِاسْتِيعَابِ إلَّا عِنْدَ انْتِفَاءِ الْقَرَائِنِ وَانْتِفَاءُ الْقَرَائِنِ شَرْطٌ فَلَا بُدَّ من الْبَحْثِ هَكَذَا نَقَلَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ إنَّمَا يَدُلُّ على الْعُمُومِ صِيغَةٌ مُجَرَّدَةٌ وَالتَّجَرُّدُ لم يَثْبُتْ قال وَهَذَا كما تَقُولُ إذْ شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ شَاهِدَانِ لَا يَعْرِفُ حَالَهُمَا فإنه يَجِبُ السُّؤَالُ عن عَدَالَتِهِمَا وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بها قبل السُّؤَالِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الشَّاهِدَانِ مع الْعَدَالَةِ لَا الشَّاهِدُ فَقَطْ انْتَهَى هل يُؤَوَّلُ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْبَحْثِ في الْمُخَصِّصِ إلَى الْقَوْلِ بِالْوُقُوفِ في صِيَغِ الْعُمُومِ الْأَمْرُ السَّابِعُ يَلْزَمُ على الْمُصَحِّحِ من قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَالْجُمْهُورِ الْقَوْلُ بِالْوَقْفِ في صِيَغِ الْعُمُومِ فَإِنَّا لم نَعْتَقِدْ أَنَّ اللَّفْظَ ظَاهِرٌ في الْعُمُومِ وَلَا يَجْرِي عليه حتى يَبْحَثَ عن الْمُخَصِّصِ فَقَدْ تَرَكَ الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ وَصَارَ إلَى مَذْهَبِ الْوَاقِفِيَّةِ وَعَلَى هذا جَرَى ابن فُورَكٍ في كِتَابِهِ وهو من الْوَاقِفِيَّةِ فقال غَلِطَ عَلَيْنَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَزَعَمَ أَنَّ الْمَذْهَبَيْنِ يَفْتَرِقَانِ فإن أَبَا الْعَبَّاسِ يُمْضِي الْعُمُومَ إذَا عَدِمَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِدَلَالَةِ غَيْرِ نَفْسِ الْكَلَامِ قال وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عِنْدَنَا بَلْ نَقُولُ اللَّفْظُ مُشْتَرَكٌ وَلَا نَهْجُمُ على أَحَدِهِمَا إلَّا بِتَبَيُّنٍ وَبَحْثٍ فَإِنْ وَجَدْنَا ما يَخُصُّهُ عَمِلْنَا بِعُمُومِهِ وَرَجَعْنَا إلَى نَفْسِ الْكَلَامِ بِالْقَرِينَةِ وَلِهَذَا قال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ بِنَاءُ الْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ على حَرْفٍ وهو أَنَّ اعْتِقَادَ الْعُمُومِ عِنْدَنَا
____________________
(2/218)
يُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِالِاسْتِغْرَاقِ وَالْقَوْلِ بِالْوَقْفِ وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ لَا يُفْضِي إلَى ذلك وَلِهَذَا اخْتَارَ هو قَوْلَ الصَّيْرَفِيِّ وَالْجَوَابُ أَنَّ مَذْهَبَ ابْنِ سُرَيْجٍ وَالْوَاقِفِيَّةِ قد اتَّفَقَ على تَرْكِ الْهُجُومِ على إمْضَاءِ الْكَلَامِ على الْعُمُومِ قبل الْبَحْثِ إلَّا أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ يُمْضِيهِ على عُمُومِهِ إذَا عَدِمَ الدَّلَائِلَ الْخَاصَّةَ من نَفْسِهِ من غَيْرِ قَرِينَةٍ وَالْوَاقِفِيَّةِ يَقُولُونَ لَا بُدَّ من قَرِينَةٍ على خُصُوصِ حُكْمِ الِاسْتِيعَابِ قال إلْكِيَا في الْمَدَارِكِ ظَنَّ الْوَاقِفِيَّةُ أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ يُوَافِقُهُمْ على مَذْهَبِهِمْ فإنه قال الْأَلْفَاظُ تُطْلَقُ وَالْقَصْدُ منها الْمَعَانِي التي تَحْتَهَا فَيَكُونُ الْكَلَامُ عَامًّا في اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جميعا وقد يَكُونُ عَامَّ اللَّفْظِ وَالْمُرَادُ منه مَعْنًى دُونَ مَعْنًى فإذا وَرَدَ في الْكَلَامِ نَظَرْنَا فإذا كان هُنَاكَ دَلَائِلُ تَدُلُّ على أَنَّهُ لِمَعْنًى دُونَ مَعْنًى صُيِّرَ إلَى ذلك وَإِلَّا أُجْرِيَ على عُمُومِهِ قال وَذَكَر الشَّافِعِيُّ في كِتَابِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ ما يُومِئُ إلَيْهِ فإنه قال وَعَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ طَلَبُ الدَّلَائِلِ لِيُفَرِّقُوا بين الْحَتْمِ وَغَيْرِهِ في الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ على وُجُوبِ طَلَبِ الدَّلَائِلِ الْمُمَيِّزَةِ بين مَوَاقِعِ الْكَلَامِ ولم يَكِلْهُمْ إلَى نَفْسِ الْكَلَامِ قال وَهَذَا الظَّنُّ غَلَطٌ لِأَنَّ أَبَا الْحَسَن يَرَى أَنَّ اللَّفْظَ ظَاهِرٌ في الْعُمُومِ وَالظَّاهِرُ يُفِيدُ الظَّنَّ وَالظَّنُّ إنَّمَا يَنْتَفِي بِالْبَحْثِ عن الْمُخَصِّصَاتِ وَالْوَاقِفِيَّةُ لَا يَرَوْنَ عَامًّا لَا ظَاهِرًا وَلَا نَصًّا انْتَهَى وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ الْقَوْلُ بِالتَّوَقُّفِ على التَّخْصِيصِ ليس هو بِقَوْلِ الْوَقْفِ لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ طَلَبُوا ما يُمْنَعُ إجْرَاؤُهُ على ظَاهِرِهِ فَإِنْ لم يَجِدُوا ما يُوجِبُهُ عَمِلُوا بِظَاهِرِ لَفْظِهِ وَأَصْحَابُ الْوَقْفِ طَلَبُوا دَلِيلَهُ الذي يُبَيِّنُ مُرَادَهُ فَإِنْ لم يَجِدُوا لم يَعْمَلُوا بِشَيْءٍ منه وقال أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ ليس هذا بِآيِلٍ إلَى قَوْلِ الْوَقْفِ في الصِّيَغِ كما ظَنَّ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ ابْنَ سُرَيْجٍ يقول إذَا لم يَجِدْ في الْأُصُولِ ما يَخُصُّهُ حَمَلَهُ على الْعُمُومِ وَالْأَشْعَرِيُّ لَا يقول ذلك وَيَتَوَقَّفُ فيه على الدَّلِيلِ فَافْتَرَقَا وقال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ نَحْنُ نُفَارِقُ الْوَاقِفِيَّةَ في الصِّيَغِ من وِجْهَتَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّا إذَا لم نَجِدْ في الْأُصُولِ قَرِينَةَ التَّخْصِيصِ أُجْرِيَ اللَّفْظُ على عُمُومِهِ وَالْأَشْعَرِيُّ لَا يقول ذلك لَكِنْ يَتَوَقَّفُ حتى يَدُلَّ الدَّلِيلُ على أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ
____________________
(2/219)
وَالثَّانِي أَنَّا نَطْلُبُ الدَّلِيلَ لِإِخْرَاجِ ما ليس بِمُرَادٍ بِاللَّفْظِ وَالْأَشْعَرِيُّ يَطْلُبُ الدَّلِيلَ لِمَعْرِفَةِ ما هو مُرَادٌ بِاللَّفْظِ فَهُوَ لِبَيَانِ الْمُحَالِ دُونَ بَيَانِ الْعُمُومِ تَقْسِيمُ الصَّيْرَفِيِّ الْعَامَّ إلَى قِسْمَيْنِ الْأَمْرُ الثَّانِي أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ في الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ في مَوْضِعٍ منه قَسَّمَ الْعَامَّ إلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا ما يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ في جَمِيعِ أَفْرَادِهِ فَحُكْمُهُ الْعُمُومُ حتى يَعْلَمَ ما يَخُصُّهُ الدَّلِيلُ وَلَا يُتْرَكُ شَيْءٌ يَقَعُ عليه الِاسْمُ إلَّا لَزِمَ حُكْمُهُ الثَّانِي ما لَا يَقْدِرُ الْمُخَاطَبُ أَنْ يَأْتِيَ بِعُمُومِ ما اشْتَمَلَ عليه فَلَا يَلْزَمُ من ذلك إلَّا ما وَقَفَ عليه لِأَنَّهُ ليس بَعْضُهُ أَوْلَى من بَعْضٍ إذْ الْكُلُّ مَعْجُوزٌ عنه كَقَوْلِنَا لَا تَنَامُوا وَلَا تَأْكُلُوا وَلَا تَشْرَبُوا فَهَذَا مِمَّا لَا يَقْدِرُ على الِامْتِنَاعِ فيه دَائِمًا فَلَا بُدَّ من التَّوَقُّفِ لِلْعَجْزِ عن دَوَامِ ذلك وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ وهو أَنْظَرُهَا أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ من الذي نهى عنه أَبَدًا حتى يَغْلِبَ عليه هذا كَلَامُهُ الْبَحْثُ عن مُخَصِّصٍ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ الْأَمْرُ التَّاسِعُ أَطْلَقُوا الْخِلَافَ لِيَشْمَلَ ما إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ وقال أبو نَصْرِ بن الصَّبَّاغِ في كِتَابِ عُدَّةِ الْعَالِمِ له في أُصُولِ الْفِقْهِ إنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ إنْ اقْتَضَى عَمَلًا مُؤَقَّتًا وَضَاقَ الْوَقْتُ عن طَلَبِ الْخُصُوصِ فَهَلْ يَعْمَلُ بِهِ أو يَتَوَقَّفُ قال فيه خِلَافٌ لِأَصْحَابِنَا وَهَذَا فيه رَدٌّ على من حَكَى الْإِجْمَاعَ في مِثْلِ هذه الْحَالَةِ كما سَبَقَ وَنَظِيرُهُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ هل يُقَلِّدُ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ جَوَّزَهُ ابن سُرَيْجٍ وقال لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْتَى بِهِ وقال الرَّافِعِيُّ وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ له الْقَضَاءُ وَأَوْلَى وَمِنْهُمْ من طَرَدَ قَوْلَ ابْنِ سُرَيْجٍ في الْقَضَاءِ قال الرَّافِعِيُّ وَمَنْ قال بِهِ فَقِيَاسُهُ طَرْدُهُ في الْفَتْوَى الْأَمْرُ الْعَاشِرُ أَنَّ هذا الْخِلَافَ لَا يَخْتَصُّ بِالْعُمُومِ بَلْ يَجْرِي في لَفْظِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إذَا وَرَدَا مُطْلَقَيْنِ كما ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ وابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ وَكَذَلِكَ الْحَقِيقَةُ إذَا وَرَدَتْ هل يُطْلَبُ لها مَجَازٌ أَمْ لَا وَعَمَّمَهُ الْغَزَالِيُّ وابن الْحَاجِبِ في كل دَلِيلٍ مع مُعَارِضِهِ قال الْغَزَالِيُّ وَكَذَلِكَ كُلُّ دَلِيلٍ يُمْكِنُ أَنْ يُعَارِضَهُ دَلِيلٌ فَهُوَ دَلِيلٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ عن الْمُعَارِضِ وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بين الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لِعِلَّةٍ تُحِيلُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَنْقَدِحَ فَرْقٌ فَعَلَيْهِ الْبَحْثُ عن
____________________
(2/220)
الْفَوَارِقِ جَهْدَهُ وَنَفْيِهَا ثُمَّ يَحْكُمُ بِالْقِيَاسِ وَكَذَلِكَ الِاسْتِصْحَابُ وَكُلُّ ما هو مَشْرُوطٌ بِنَفْيِ دَلِيلٍ آخَرَ انْتَهَى لَكِنْ نَقَلَ بَعْضُهُمْ هُنَا الْإِجْمَاعَ على أَنَّهُ لَا يَجِبُ عِنْدَ سَمَاعِ الْحَقِيقَةِ طَلَبُ الْمَجَازِ وَإِنْ وَجَبَ عِنْدَ سَمَاعِ الْعَامِّ الْبَحْثُ عن الْخَاصِّ لِأَنَّ تَطَرُّقَ التَّخْصِيصِ إلَى الْعُمُومَاتِ أَكْثَرُ وهو ظَاهِرُ اسْتِدْلَالِ الْبَيْضَاوِيِّ في الْمَنَاهِجِ وَسَبَقَ في بَحْثِ الْحَقِيقَةِ الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّ كَلَامَ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ يَقْتَضِي أَنَّ الْخِلَافَ في هذا الْأَصْلِ إنَّمَا هو في التَّوَقُّفِ لِأَجْلِ طَلَبِ التَّخْصِيصِ خَاصَّةً وَأَمَّا الْإِمْضَاءُ فَلَا خِلَافَ فيه فإنه قال في تَعْلِيقِهِ قُبَيْلَ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي إنَّ الْقَاضِيَ يَتَوَقَّفُ في أَحْوَالِ الشُّهُودِ وَلَا يَتَوَقَّفُ لِطَلَبِ الْجُرْحِ أو طَلَبِ الْعَدَالَةِ وَجْهَانِ وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في الْعُمُومِ إذَا وَرَدَ قال بَعْضُهُمْ ظَاهِرُ الِاسْتِغْرَاقِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ وَمِنْهُمْ من قال يَتَوَقَّفُ فيه طَلَبًا لِلتَّخْصِيصِ لَا طَلَبًا لِلْإِمْضَاءِ انْتَهَى وَبِهَذَا التَّصْوِيرِ يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ في الْمَسْأَلَةِ وإذا انْضَمَّ إلَى ما سَبَقَ خَرَجَ في الْمَسْأَلَةِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ مَسْأَلَةٌ الصُّورَةُ النَّادِرَةُ هل تَدْخُلُ تَحْتَ الْعُمُومِ اخْتَلَفُوا في الصُّوَرِ النَّادِرَةِ هل تَدْخُلُ تَحْتَ الْعُمُومِ لِصِدْقِ اللَّفْظِ عليها أو لَا لِأَنَّهَا لَا تَخْطِرُ بِالْبَالِ غَالِبًا وَبَنَى عليه أَصْحَابُنَا في الْمُسَابَقَةِ على الْفِيلِ فَمَنْ مَنَعَ ذلك ادَّعَى أَنَّهُ لم يَدْخُلْ تَحْتَ قَوْلِهِ لَا سَبْقَ إلَّا في خُفٍّ أو حَافِرٍ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الدُّخُولِ فإنه قال في الْبَسِيطِ في بَابِ الْوَصِيَّةِ لو أَوْصَى بِعَبْدٍ أو رَأْسٍ من رَقِيقِهِ جَازَ دَفْعُ الْخُنْثَى وفي وَجْهٍ لَا يُجْزِئُ لِأَنَّهُ نَادِرٌ لَا يَخْطِرُ بِالْبَالِ وهو بَعِيدٌ لِأَنَّ الْعُمُومَ يَتَنَاوَلُهُ هذا لَفْظُهُ وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ عَدَمُ دُخُولِهَا فإنه قال الشَّاذُّ يَجِيءُ بِالنَّصِّ عليه وَلَا يُرَادُ على الْخُصُوصِ بِالصِّيغَةِ الْعَامَّةِ انْتَهَى
____________________
(2/221)
وَقَطَعَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في كِتَابِ الْعُمُومِ فقال إنَّ الْعُمُومَ إذَا وَرَدَ وَقُلْنَا بِاسْتِعْمَالِهِ فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْغَالِبَ دُونَ الشَّاذِّ النَّادِرِ الذي لَا يَخْطِرُ بِبَالِ الْقَائِلِ كَذَا حَكَاهُ عنه ابن الْعَرَبِيِّ في كِتَابِ الزِّنَى من كِتَابِهِ الْقَبَسِ لَكِنْ حَكَى الرَّافِعِيُّ في بَابِ الْوَصِيَّةِ خِلَافًا فِيمَا إذَا أَوْصَى لِعَبْدٍ مُبَعَّضٍ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ مُهَايَأَةٌ يَنْبَنِي على أَنَّ الْأَكْسَابَ النَّادِرَةَ هل تَدْخُلُ في الْمُهَايَأَةِ ثُمَّ قال وَتَرَدَّدَ الْإِمَامُ فِيمَا إذَا صَرَّحَا بِإِدْرَاجِ الْأَكْسَابِ النَّادِرَةِ في الْمُهَايَأَةِ أنها تَدْخُلُ لَا مَحَالَةَ أو تَكُونُ على الْخِلَافِ وَفِيمَا إذَا عَمَّتْ الْهِبَاتُ وَالْوَصَايَا في قُطْرٍ أنها تَدْخُلُ لَا مَحَالَةَ كَالْأَكْسَابِ الْعَامَّةِ أو هِيَ على الْخِلَافِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فيها النُّدُورُ انْتَهَى وَيَجِيءُ مِثْلُ هذا فِيمَا لو عَمَّ بَعْضُ النَّادِرِ في قُطْرٍ هل يَدْخُلُ في الْعُمُومِ وَقَلَّ من تَعَرَّضَ لِذِكْرِ الْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ وَقِيلَ إنَّ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ حَكَاهُ ولم أَرَهُ في كُتُبِهِ وَإِنَّمَا حَكَوْا في بَابِ التَّأْوِيلِ الْخِلَافَ في تَنْزِيلِ الْعَامِّ على الصُّورَةِ النَّادِرَةِ بِخُصُوصِهَا فَنَقَلَ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ في الْكَلَامِ على أَنَّ السَّبَبَ لَا يُخَصَّصُ أَنَّ الصُّورَةَ النَّادِرَةَ بَعِيدَةٌ عن الْبَالِ عِنْدَ إطْلَاقِ الْمَقَالِ وَلَا تَتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ فإن اللَّفْظَ الْعَامَّ لَا يَجُوزُ تَنْزِيلُهُ عليها لِأَنَّا نَقْطَعُ بِكَوْنِهَا غير مَقْصُودَةٍ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ لِعَدَمِ خُطُورِهَا بِالْبَالِ قال وَبَنَى على هذا أَصْحَابُنَا كَثِيرًا من الْمَسَائِلِ منها أَنَّهُمْ أَبْطَلُوا حَمْلَ أبي حَنِيفَةَ حَدِيثَ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ على الْمُكَاتَبَةِ وَقَالُوا الْمُكَاتَبَةُ نَادِرَةٌ من نَادِرٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ في النِّسَاءِ الْحَرَائِرُ وَالْإِمَاءُ نَادِرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِنَّ وَالْمُكَاتَبَاتُ نَادِرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِمَاءِ فَلَا يَجُوزُ تَنْزِيلُ الْعَامِّ عليها وَذَكَرَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ في هذه الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلًا فقال تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِالصُّورَةِ النَّادِرَةِ إنْ تَقَدَّمَ عَهْدٌ يَدُلُّ عليه لم يَبْعُدْ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَيُّمَا رَجُلٍ دخل الدَّارَ أَكْرِمْهُ ثُمَّ يقول عَنَيْت بِهِ من تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ من خَوَاصِّي وَإِنْ لم يَظْهَرْ سَبْقُ عَهْدٍ فَاخْتَلَفُوا فيه فَقِيلَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ اللَّفْظِ بِهِ اتِّكَالًا على احْتِمَالِ اللَّفْظِ الْقَرَائِنَ وَقِيلَ لَا يَجُوزُ إزَالَةُ الظَّاهِرِ بِنَاءً على تَقْدِيرِ حِكَايَاتٍ وَقَرَائِنَ فإن ذلك لَا يَسْلَمُ عنه
____________________
(2/222)
حَدِيثٌ وَبِالْجُمْلَةِ فَيُمْكِنُ أَخْذُ الْخِلَافِ من هذه الصُّورَةِ في مَسْأَلَتِنَا لِأَنَّ جَوَازَ التَّخْصِيصِ فَرْعُ شُمُولِ اللَّفْظِ وقد اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إطْلَاقَ الْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ وقال لَا يَتَبَيَّنُ لي في كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فإنه لَا يَخْفَى عليه خَافِيَةٌ فَكَيْفَ يُقَالُ لَا يَخْطِرُ بِالْبَالِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ عَدَمُ الْخُطُورِ بِبَالِ الْعَرَبِ في مُخَاطَبَاتِهَا فإذا كانت عَوَائِدُهُمْ إطْلَاقَ الْعَامِّ الذي يَشْمَلُ وَضْعًا صُورَةً لَا تَخْطِرُ عِنْدَ إطْلَاقِهِمْ غَالِبًا بِبَالِهِمْ فَوَرَدَ ذلك الْعَامُّ في كَلَامِ الْبَارِي تَعَالَى قُلْنَا إنَّهُ تَعَالَى لم يُرِدْ تِلْكَ الصُّورَةَ لِأَنَّهُ أَنْزَلَ كِتَابَهُ على أُسْلُوبِ الْعَرَبِ في مُحَاوَرَاتِهَا وَعَادَاتِهَا في الْخِطَابِ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ قال ابن الرِّفْعَةِ في الْمَطْلَبِ في بَابِ الْمُسَابَقَةِ كَلَامُ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ يَدُلُّ على أَنَّهُ إنَّمَا يَدْخُلُ في الْعَامِّ ما خَطَرَ لَا لِلَّافِظِ بِهِ حين النُّطْقِ بِهِ وَهَذَا إنَّمَا يُعْتَبَرُ في قَوْلِهِ عليه السَّلَامُ إذَا قُلْنَا إنَّ جَمِيعَ ما يَقُولُهُ عن وَحْيٍ وَاجْتِهَادٍ أَمَّا إذَا قُلْنَا إنَّ جَمِيعَ ما يَقُولُهُ عن وَحْيٍ فَلَا يَظْهَرُ اعْتِبَارُهُ لِأَنَّ مُوحِيَهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ وَجَوَابُهُ ما تَقَدَّمَ الثَّانِي أَطْلَقُوا هذا الْخِلَافَ وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَدُومَ فَإِنْ دَامَ دخل قَطْعًا لِأَنَّ النَّادِرَ الدَّائِمَ يَلْحَقُ بِالْغَالِبِ ثَانِيهِمَا أَنْ يَكُونَ فِيمَا ظَهَرَ انْدِرَاجُهُ في اللَّفْظِ ولم يُسَاعِدْهُ الْمَعْنَى أَمَّا إذَا سَاعَدَهُ فَيَحْتَمِلُ الْقَطْعَ فيه بِالدُّخُولِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجْرِيَ فيه خِلَافٌ من الْخِلَافِ في بَيْعِ الْأَبِ مَالَ وَلَدِهِ من نَفْسِهِ وَبِالْعَكْسِ هل يَثْبُتُ فيه خِيَارُ الْمَجْلِسِ على وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا لَا فإن الْمُعَوَّلَ عليه الْخَبَرُ وهو إنَّمَا وَرَدَ في الْمُتَبَايِعَيْنِ وَالْوَلِيُّ قد تَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ وَأَصَحُّهُمَا الثُّبُوتُ فإنه بَيْعٌ مُحَقَّقٌ وَغَرَضُ الشَّارِعِ إثْبَاتُ الْخِيَارِ في الْبَيْعِ وَإِنَّمَا خَصَّصَ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالذِّكْرِ إجْرَاءً لِلْكَلَامِ على الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ كَذَا وَجَّهَهُ الْإِمَامُ في النِّهَايَةِ مَسْأَلَةٌ وَهَلْ يَدْخُلُ في الْعُمُومِ ما يَمْنَعُ دَلِيلُ الْعَقْلِ من دُخُولِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى اللَّهُ خَالِقُ كل شَيْءٍ وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ اضْرِبْ كُلَّ من في الدَّارِ فيه
____________________
(2/223)
خِلَافٌ حَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ من وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّ مَرْجِعَ اللَّفْظِ يَتَنَاوَلُهُ إلَّا أَنَّ الدَّلِيلَ يُوجِبُ إخْرَاجَهُ منه وَالثَّانِي أَنَّهُ خَارِجٌ منه لِسُقُوطِهِ في نَفْسِهِ وَاللَّفْظُ لم يَتَنَاوَلْهُ أَصْلًا وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ في التَّخْصِيصِ بِالْعَقْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَسْأَلَةٌ وَهَلْ يَدْخُلُ في الْعُمُومِ الصُّوَرُ غَيْرُ الْمَقْصُودَةِ فيه قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ وقال ذَهَبَ مُتَقَدِّمُو أَصْحَابِنَا إلَى وُجُوبِ وَقْفِ الْعُمُومِ على ما قَصَدَ بِهِ وَأَنْ لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَإِنْ كانت الصِّيغَةُ تَقْتَضِيهِ وَبِهِ قال أبو بَكْرٍ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ من الشَّافِعِيَّةِ وَذَهَبَ أَكْثَرُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا إلَى مَنْعِ الْوَقْفِ فيه وَوُجُوبِ إجْرَائِهِ على مُوجِبِهِ لُغَةً قال وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ إلَى قَوْلِهِ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ على إبَاحَةِ كل نَوْعٍ مُخْتَلَفٍ في جَوَازِ أَكْلِهِ أو شُرْبِ بَعْضِ ما يَخْتَلِفُ في شُرْبِهِ وقد عَلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ من الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ في لَيْلَةِ الصِّيَامِ لَا يَحْرُمُ بَعْدَ النَّوْمِ نَسْخًا لِمَا تَقَدَّمَ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا في سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ على وُجُوبِ الزَّكَاةِ في نَذْرٍ مُخْتَلَفٍ فيه أو نَوْعٍ مُخْتَلَفٍ في تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِهِ وَكَذَلِكَ التَّعَلُّقُ بِالْخِطَابِ الْخَارِجِ على الْمَدْحِ وَالذَّمِّ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا على أَزْوَاجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ على جَوَازِ الْجَمْعِ بين الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَنَحْوِهِ قُلْت وَسَتَأْتِي تَرْجَمَةُ الْمَسْأَلَةِ بِ الْعَامِّ بِمَعْنَى الْمَدْحِ وَالذَّمُّ هل هو عَامٌّ أو لَا فَهِيَ فَرْدٌ من أَفْرَادِ هذه فَيُعَابُ على من ذَكَرَهُمَا في كِتَابِهِ من غَيْرِ تَنْبِيهٍ إلَى ما أَشَرْنَا إلَيْهِ وَظَهَرَ من هذا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَرَى وَقْفَهُ على ما قَصَدَ بِهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ عَامٍّ وَلِهَذَا مَنَعَ الزَّكَاةَ في الْحُلِيِّ مَنَعَ التَّمَسُّكَ في الْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ لِأَنَّ الْعُمُومَ لم يَقَعْ مَقْصُودًا وَإِنَّمَا وَقَعَ هُنَا قَرِينَةَ الذَّمِّ وَقَرِينَةُ الذَّمِّ أَخْرَجَتْهُ عن الْعُمُومِ وَالْحَنَفِيَّةُ يَمِيلُونَ إلَيْهِ وَيَبْنُونَ عليه أُصُولًا في بَابِ الْوَقْفِ وَاسْتَنْبَطَ ابن الرِّفْعَةِ من كَلَامِ الْغَزَالِيِّ في الْفَتَاوَى أَنَّ الْمَقَاصِدَ تُعْتَبَرُ أَعْنِي مَقَاصِدَ الْوَاقِفِينَ فَيَتَخَصَّصُ بها الْعُمُومُ وَيَعُمُّ بها الْخُصُوصُ
____________________
(2/224)
تَنْبِيهٌ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ هذه الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّهَا لَا تُتَصَوَّرُ في كَلَامِ اللَّهِ الْمُنَزَّهِ عن الْغَفْلَةِ وَالْقَائِلُ بِعَدَمِ الدُّخُولِ قال بِعَدَمِ خُطُورِهَا بِالْبَالِ وهو لَا يُتَصَوَّرُ في حَقِّ اللَّهِ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا وَجَوَابُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَيُتَصَوَّرُ أَنْ يَأْتِيَ الْعَرَبِيُّ بِلَفْظٍ عَامٍّ على قَصْدِ التَّعْمِيمِ مع ذُهُولِهِ عن بَعْضِ الْمُسَمَّيَاتِ فلما كان هذا مُعْتَادًا في لُغَةِ الْعَرَبِ كَذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَكُونَانِ على هذا الطَّرِيقِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ سِيبَوَيْهِ في كِتَابِهِ حَيْثُ وَقَعَ في الْقُرْآنِ الرَّجَا بِلَعَلَّ وَعَسَى وَنَحْوِ ذلك مِمَّا يَسْتَحِيلُ في حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إذْ ذلك نَزَلَ مُرَاعَاةً لِلُغَتِهِمْ قَاعِدَةٌ ذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في بَابِ التَّأْوِيلِ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ تَقْسِيمًا نَافِعًا وَزَادَهُ وُضُوحًا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بن دَقِيقِ الْعِيدِ وهو أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ بِوَضْعِ اللُّغَةِ على ثَلَاثِ مَرَاتِبَ إحْدَاهَا ما ظَهَرَ منه قَصْدُ التَّعْمِيمِ بِقَرِينَةٍ زَائِدَةٍ على اللَّفْظِ مَقَالِيَّةٍ أو حَالِيَّةٍ بِأَنْ أَوْرَدَ مُبْتَدَأً لَا على سَبَبٍ لِقَصْدِ تَأْسِيسِ الْقَوَاعِدِ فَلَا إشْكَالَ في الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى عُمُومِهِ قال إلْكِيَا وَالْقَرَائِنُ إمَّا أَنْ تَنْشَأَ عن غَيْرِ اللَّفْظِ كَالنَّكِرَةِ في سِيَاقِ النَّفْيِ وَالتَّعْلِيلِ فإنه أَمَارَةُ الْحُكْمِ على الْإِطْلَاقِ وَإِمَّا أَنْ يَنْشَأَ من اتِّسَاقِ الْكَلَامِ وَنَظْمِهِ على وَجْهٍ يَظْهَرُ منه قَصْدُ الْعُمُومِ كَقَوْلِهِ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ بَعْدَ أَنْ قَسَّمَ الْبَابَيْنِ قِسْمَيْنِ الثَّانِيَةُ ما يَعْلَمُ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّرْعِ فيه التَّعَرُّضُ لِحُكْمٍ آخَرَ وَأَنَّهُ بِمَعْزِلٍ عن قَصْدِ الْعُمُومِ فَهَلْ يَتَمَسَّكُ بِعُمُومِهِ إذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إرَادَةِ اللَّفْظِ بِغَيْرِهِ أو يُقَالُ لَا لِأَنَّ الْكَلَامَ فيه مُجْمَلٌ فَيَتَبَيَّنُ من الْجِهَةِ الْأُخْرَى فيه قَوْلَانِ قال إلْكِيَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِعُمُومِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ لِأَنَّ الْعَرَبَ ما وَضَعَتْ لِلْوَعِيدِ لَفْظًا أَحْسَنَ منه
____________________
(2/225)
وَمَثَّلَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ فإن اللَّفْظَ عَامٌّ في الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ لَكِنْ ظَهَرَ أَنَّ الْمَقْصُودَ منه بَيَانُ قَدْرِ الْمُخْرَجِ لَا قَدْرِ الْمُخْرَجِ منه وَيُؤْخَذُ ذلك من قَوْلِهِ ليس فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوْسُقٍ فَهَذَا لَا عُمُومَ له في قَصْدِهِ وَالْحَنَفِيُّ يَحْتَجُّ بِهِ في وُجُوبِ الزَّكَاةِ في الْحَرْثِ سَوَاءٌ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ وَالسِّيَاقُ لَا يَقْتَضِيهِ قال الشَّيْخُ وَالتَّحْقِيقُ عِنْدِي أَنَّ دَلَالَتَهُ على ما لم يُقْصَدْ بِهِ أَضْعَفُ من دَلَالَتِهِ على ما قُصِدَ بِهِ وَمَرَاتِبُ الضَّعْفِ مُتَفَاوِتَةٌ وَالدَّلَالَةُ على تَخْصِيصِ اللَّفْظِ وَتَعَيُّنِ الْمَقْصُودِ مَأْخُوذَةٌ من قَرَائِنَ وَتَضْعُفُ تِلْكَ الْقَرِينَةُ عن دَلَالَةِ اللَّفْظِ على الْعُمُومِ وَمِنْ فَوَائِدِ هذا أَنَّ ما كان غير مَقْصُودٍ يَخْرُجُ عنه بِذَلِكَ قَرِينَةُ الْحَالِ لَا يَكُونُ في قَرِينَةِ الذي يَخْرُجُ بِهِ الْعُمُومُ عن الْمَقْصُودِ وَهَذِهِ هِيَ مَسْأَلَةُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ التي حَكَى فيها الْخِلَافَ في وَقْفِ الْعُمُومِ على الْمَقْصُودِ وَعَدَمِهِ الثَّالِثَةُ ما يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ ولم يَظْهَرْ فيه قَرِينَةٌ زَائِدَةٌ تَدُلُّ على التَّعْمِيمِ وَلَا على عَدَمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ على الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا فَيَحْتَجُّ بِهِ على إبْطَالِ شِرَاءِ الْكَافِرِ لِلْعَبْدِ الْمُسْلِمِ فإن الْمِلْكَ نَفْيُ السَّبِيلِ قَطْعًا وَيَجُوزُ
____________________
(2/226)
أَنْ لَا يُرَادَ ذلك بِاللَّفْظِ قال الطَّبَرِيُّ وهو مُحْتَمَلٌ وَالْمَنْعُ منه ظَاهِرٌ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْوَاجِبُ في هذا الْقِسْمِ أَنَّهُ إذَا أُوِّلَ وَعُضِّدَ بِقِيَاسِ اتِّبَاعِ الْأَرْجَحِ في الظَّنِّ فَإِنْ اسْتَوَيَا وَقَفَ الْقَاضِي وقال الْغَزَالِيُّ هِيَ لِلْإِجْمَالِ أَقْرَبُ من الْعُمُومِ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَافْعَلُوا الْخَيْرَ في التَّمَسُّكِ بِهِ على إيجَابِ الْوِتْرِ وَبِالْآيَةِ السَّابِقَةِ على قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ وَكَذَلِكَ بِقَوْلِهِ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ فإن إيجَابَ الْقِصَاصِ تَسْوِيَةٌ قال فَلَفْظُ الْخَيْرِ وَالسَّبِيلِ وَالِاسْتِوَاءِ إلَى الْإِجْمَالِ أَقْرَبُ قال وَلَيْسَ منه فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ خِلَافًا لِقَوْمٍ مَنَعُوا التَّمَسُّكَ بِعُمُومِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ الْفَصْلِ بين الْعُشْرِ وَنِصْفِهِ وهو فَاسِدٌ لِأَنَّ صِيغَتَهُ عَامَّةٌ لِأَنَّهَا من أَدَوَاتِ الشَّرْطِ بِخِلَافِ السَّبِيلِ وَالْخَيْرِ وَالِاسْتِوَاءِ نعم تَرَدَّدَ الشَّافِعِيُّ في قَوْله تَعَالَى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ أَنَّهُ عَامٌّ أو مُجْمَلٌ وَسَنَذْكُرُهُ ذَيْلَ الْكَلَامِ في تَعْمِيمِ اسْمِ الْجِنْسِ الْمُفْرَدِ
____________________
(2/227)
فَصْلٌ في تَقْسِيمِ صِيَغِ الْعُمُومِ الذي يُفِيدُ الْعُمُومَ إمَّا أَنْ يُفِيدَهُ من جِهَةِ اللُّغَةِ أو الْعُرْفِ أو الْعَقْلِ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ صِيَغُ الْعُمُومِ التي تُفِيدُ الْعُمُومَ لُغَةً وَالْأُولَى على ضَرْبَيْنِ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُفِيدَهُ بِنَفْسِهِ لِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا له أو بِوَاسِطَةِ اقْتِرَانِ قَرِينَةٍ بِهِ وَالْأَوَّلُ أَعْنِي الذي يَدُلُّ بِنَفْسِهِ نَوْعَانِ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِجَمْعِ الْمَفْهُومَاتِ كَلَفْظِ كل وَجَمِيعِ وَأَيِّ في حَالِ الِاسْتِفْهَامِ وَالشَّرْطِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ شَامِلًا لِلْكُلِّ فَإِمَّا أَنْ يُخَصَّصَ بِأُولِي الْعِلْمِ كَلَفْظِ من شَرْطًا أو اسْتِفْهَامًا فَإِنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْعُقَلَاءِ وقد تُسْتَعْمَلُ في غَيْرِهِمْ لِلتَّغَلُّبِ أو غَيْرِهِ وَإِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِغَيْرِ الْعَالَمِينَ فَإِمَّا أَنْ يَعُمَّهُمْ أو يَخْتَصَّ بِبَعْضِهِمْ وَالْأَوَّلُ ما الِاسْمِيَّةُ فَإِنَّهَا تُفِيدُ الْعُمُومَ إذَا كانت مَعْرِفَةً نَحْوُ هَاتِ ما رَأَيْت فَتُفِيدُ الْعُمُومَ فِيمَا عَدَا الْعَالَمِينَ من الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْجَمَادِ وَالْإِنْسَانِ وَقِيلَ إنَّهَا تَتَنَاوَلُ الْعَالَمِينَ أَيْضًا كما في قَوْله تَعَالَى وَالسَّمَاءِ وما بَنَاهَا وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَنَحْوِهِ وَالثَّانِي أَنْ يَخْتَصَّ عُمُومُ بَعْضِهِمْ فَإِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِالْأَمْكِنَةِ نَحْوُ أَيْنَ تَجْلِسْ أَجْلِسْ وَمِنْهُ حَيْثُ أو بِالْأَزْمِنَةِ نَحْو مَتَى تَقُمْ أَقُمْ الثَّانِي ما يُفِيدُ الْعُمُومَ لُغَةً لَا بِالْوَضْعِ بَلْ بِوَاسِطَةِ قَرِينَةٍ فَهُوَ إمَّا في جَانِبِ الثُّبُوتِ كَ لَامِ التَّعْرِيفِ التي لَيْسَتْ لِلْعَهْدِ وَلَامُ التَّعْرِيفِ إنَّمَا تُفِيدُ الْجِنْسَ إذَا دَخَلَتْ على الْجُمُوعِ أو على اسْمِ الْجِنْسِ الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ الْمُضَافِ لِهَذَيْنِ نَحْوُ عَبِيدِي أَحْرَارٌ وَعَبْدِي حُرٌّ وَإِمَّا في جَانِبِ الْعَدَمِ وَهِيَ النَّكِرَةُ في سِيَاقِ النَّفْيِ الْقِسْمُ الثَّانِي الذي يُفِيدُ الْعُمُومَ عُرْفًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ فإنه يُفِيدُ في الْعُرْفِ تَحْرِيمَ وُجُوهِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ التي تُفْعَلُ بِالزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ وَلَيْسَ ذلك مَأْخُوذًا من مُجَرَّدِ اللُّغَةِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ الذي يُفِيدُهُ بِطَرِيقِ الْعَقْلِ وهو على ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ أَحَدِهَا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُفِيدًا لِلْحُكْمِ وَلِعِلَّتِهِ إمَّا بِصَرَاحَتِهِ وَإِمَّا بِوَجْهٍ من وُجُوهِ الْإِيمَاءَاتِ فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ أَيْنَمَا ثَبَتَ الْعِلَّةُ وَثَانِيهِمَا ما يُذْكَرُ جَوَابًا عن سُؤَالِ السَّائِلِ كما إذَا سُئِلَ عَمَّنْ أَفْطَرَ فَقِيلَ
____________________
(2/228)
من أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فَيَعْلَمُ منه أَنَّ كُلَّ مُفْطِرٍ عليه مِثْلُهَا ثَالِثِهَا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ كَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ فإنه يَدُلُّ بِمَفْهُومٍ على أَنَّ مَطْلَ غَيْرِ الْغَنِيِّ ليس بِظُلْمٍ وَهَذَا التَّقْسِيمُ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ وَلَا يَخْلُو بَعْضُهُ عن نِزَاعٍ وَلَيْسَ شَامِلًا لِجَمِيعِ الصِّيَغِ كما سَيَأْتِي سَرْدُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاعْتَرَضَ عليه الْقَرَافِيُّ بِأَنَّ من وما لَا يُفِيدَانِ أَيْضًا الْعُمُومَ إلَّا بِاسْتِضَافَةِ شَيْءٍ آخَرَ إلَيْهِمَا إمَّا الصِّلَةِ إنْ كَانَتَا مَوْصُولَيْنِ أو الْمُسْتَفْهَمِ عنهما إنْ كانت اسْتِفْهَامِيَّتَيْنِ أو الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ إنْ كَانَا لِلشَّرْطِ وَلَوْ نَطَقَ وَاحِدٌ بِمَنْ وما وَحْدَهَا لم يُفِدْ كَلَامُهُ شيئا وَكَذَلِكَ كُلُّ وَجَمِيعُ فَلَا بُدَّ من إضَافَةِ لَفْظٍ إلَيْهِمَا حتى يَحْصُلَ الْعُمُومُ وهو اعْتِرَاضٌ عَجِيبٌ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ إفَادَةُ الْعُمُومِ عَلَيْهِمَا إنَّمَا يَتَوَقَّفُ مُطْلَقُ الْإِفَادَةِ في الْجُمْلَةِ وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِصِيَغِ الْعُمُومِ بَلْ بِجَمِيعِ التَّرَاكِيبِ وَذَكَرَ النَّقْشَوَانِيُّ في مُلَخَّصِهِ أَنَّ الْمُفِيدَ لِلْعُمُومِ لَا يَخْرُجُ عن ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِصِيغَةٍ كَجَمِيعِ وَكُلِّ وَمَتَى وما وَإِمَّا بِزِيَادَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِهِ كَالْمُعَرَّفِ بِ لَامِ الْجِنْسِ من الْجُمُوعِ وَأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ أو بِزِيَادَةٍ مُنْفَصِلَةٍ يَعْنِي عن الْكَلِمَةِ أو بِ لَا النَّافِيَةِ وَغَيْرِهَا من أَدَوَاتِ النَّفْيِ وقال بَعْضُهُمْ هو قِسْمَانِ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُفِيدَ الْعُمُومَ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَجْمُوعًا وَالْمَعْنَى مُسْتَوْعَبًا سَوَاءٌ كان له مُفْرَدٌ من لَفْظِهِ أو لَا كَالنِّسَاءِ وَإِمَّا عَامٌّ بِمَعْنَاهُ فَقَطْ بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُفْرَدًا مُسْتَوْعَبًا لِكُلِّ ما يَتَنَاوَلُهُ وَلَا يُتَصَوَّرُ عَامٌّ بِصِيغَةٍ فَقَطْ إذْ لَا بُدَّ من تَعَدُّدِ الْمَعْنَى وَهَذَا الْعَامُّ مَعْنَاهُ إمَّا أَنْ يَتَنَاوَلَ مَجْمُوعَ الْأَفْرَادِ كَالْقَوْلِ وَالرَّهْطِ وَإِمَّا أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلَّ وَاحِدٍ نَحْوُ من وما الصِّيغَةُ الْأُولَى كُلُّ وَمَدْلُولُهَا الْإِحَاطَةُ بِكُلِّ فَرْدٍ من الْجُزْئِيَّاتِ إنْ أُضِيفَتْ إلَى النَّكِرَةِ أو الْأَجْزَاءِ إنْ أُضِيفَتْ إلَى مَعْرِفَةٍ وَمِنْهُ الْإِكْلِيلُ لِإِحَاطَتِهِ بِالرَّأْسِ وَالْكَلَالَةُ لِإِحَاطَتِهَا بِالْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَمَعْنَاهَا التَّأْكِيدُ لِمَعْنَى الْعُمُومِ وَلِهَذَا قال الْقَاضِي
____________________
(2/229)
عبد الْوَهَّابِ ليس بَعْدَهَا في كَلَامِ الْعَرَبِ كَلِمَةٌ أَعَمُّ منها وَلَا فَرْقَ بين أَنْ تَقَعَ مُبْتَدَأً بها أو تَابِعَةً تَقُولُ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَجَاءَنِي الْقَوْمُ كلهم فَيُفِيدُ أَنَّ الْمُؤَكَّدَ بِهِ عَامٌّ وَهِيَ تَشْمَلُ الْعَاقِلَ وَغَيْرَهُ وَالْمُذَكَّرَ وَالْمُؤَنَّثَ وَالْمُفْرَدَ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعَ فَلِذَلِكَ كانت أَقْوَى صِيَغِ الْعُمُومِ وَتَكُونُ في الْجَمِيعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ تَقُولُ كُلُّ الناس وَكُلُّ الْقَوْمِ وَكُلُّ رَجُلٍ وَكُلُّ امْرَأَةٍ قال سِيبَوَيْهِ مَعْنَى قَوْلِهِمْ كُلُّ رَجُلٍ كُلُّ رِجَالٍ فَأَقَامُوا رَجُلًا مَقَامَ رِجَالٍ لِأَنَّ رَجُلًا شَائِعٌ في الْجِنْسِ وَالرِّجَالُ الْجِنْسُ وَلَا يُؤَكَّدُ بها الْمُثَنَّى اسْتِغْنَاءً عنه بِكِلَا وَكِلْتَا وَلَا يُؤَكَّدُ بها إلَّا ذُو أَجْزَاءَ فَلَا يُقَالُ جاء زَيْدٌ كُلُّهُ قال ابن السَّرَّاجِ وَالضَّابِطُ أنها إمَّا أَنْ تُضَافَ لَفْظًا أو تُجَرَّدَ عن الْإِضَافَةِ وإذا أُضِيفَتْ فَإِمَّا إلَى مَعْرِفَةٍ أو إلَى نَكِرَةٍ فَهَذِهِ أَقْسَامٌ الْأَوَّلُ أَنْ تُضَافَ إلَى النَّكِرَةِ فَيَتَعَيَّنُ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى فِيمَا أُضِيفَتْ إلَيْهِ فِيمَا لها من ضَمِيرٍ وَخَبَرٍ وَغَيْرِهِ وَإِنْ كان الْمُضَافُ إلَيْهَا مُفْرَدًا فَمُفْرَدًا وَمُثَنَّى فَمُثَنًّى وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ وَالتَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ قال تَعَالَى كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ في الزُّبُرِ كُلَّ إنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ في عُنُقِهِ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ إنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عليها حَافِظٌ وَمَعْنَى الْعُمُومِ في هذا الْقِسْمِ كُلُّ فَرْدٍ لَا الْمَجْمُوعُ فإذا قِيلَ كُلُّ رَجُلٍ فَمَعْنَاهُ كُلُّ فَرْدٍ فَرْدٍ من الرِّجَالِ وقد يَكُونُ الِاسْتِغْرَاقُ لِلْجُزْئِيَّاتِ بِمَعْنَى أَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ لِكُلِّ فَرْدٍ من جُزْئِيَّاتِ النَّكِرَةِ قد يَكُونُ مع ذلك الْحُكْمِ على الْمَجْمُوعِ لَازِمًا كَقَوْلِهِ كُلُّ مُشْرِكٍ مَقْتُولٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وقد لَا يَلْزَمُ كَقَوْلِنَا كُلُّ رَجُلٍ يُشْبِعُهُ رَغِيفٌ وما ذَكَرْنَا من وُجُوبِ مُرَاعَاةِ ما أُضِيفَتْ إلَيْهِ مَشْرُوطٌ بِمَا إذَا كان في جُمْلَتِهَا فَإِنْ كان في جُمْلَةٍ أُخْرَى جَازَ عَوْدُ الضَّمِيرِ على لَفْظِهَا أو على مَعْنَاهَا كَقَوْلِهِ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عليه ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لم يَسْمَعْهَا فَبِشَرِّهِ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وإذا عَلِمَ من آيَاتِنَا شيئا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لهم عَذَابٌ مُهِينٌ فَرَاعَى الْمَعْنَى في الْجَمِيعِ لِكَوْنِهِ في جُمْلَةٍ أُخْرَى وَعَلَى هذا فَلَا يَرِدُ اعْتِرَاضُ الشَّيْخِ أبي حَيَّانَ على الْقَاعِدَةِ بِبَيْتِ عَنْتَرَةَ جَادَتْ عليه كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ فَتَرَكْنَ كُلَّ حَدِيقَةٍ كَالدِّرْهَمِ
____________________
(2/230)
حَيْثُ قال فَتَرَكْنَ وَقِيَاسُ ما قالوا تَرَكَتْ وَجَوَابُهُ ما سَبَقَ وَلِأَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ على الْعُيُونِ التي دَلَّ عليها كُلُّ عَيْنٍ وَلَا يَعُودُ على كل عَيْنٍ لِيُفِيدَ أَنَّ تَرْكَ كل حَدِيقَةٍ كَالدِّرْهَمِ نَاشِئٌ عن مَجْمُوعِ الْعُيُونِ لَا عن كل وَاحِدَةٍ الثَّانِي أَنْ يُضَافَ إلَى الْمَعْرِفَةِ وَالْأَكْثَرُ مَجِيءُ خَبَرِهَا مُفْرَدًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يوم الْقِيَامَةِ فَرْدًا وَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ حِكَايَةً عن رَبِّهِ يا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا من أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا من كَسَوْتُهُ وَقَوْلِهِ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ وَيَجُوزُ الْجَمْعُ حَمْلًا على الْمَعْنَى وَكَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ يَقْتَضِي أَنَّ الْحُكْمَ في هذه الْحَالَةِ كما في التي قَبْلَهَا من دَلَالَتِهَا على كل فَرْدٍ وَأَنَّ دَلَالَتَهَا فيه كُلِّيَّةٌ وَاقْتَضَى كَلَامُ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ وَابْنِ مَالِكٍ أَنَّ مَدْلُولَهَا في هذه الْحَالَةِ الْمَجْمُوعُ فإنه جَوَّزَ فيها اعْتِبَارَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَلِهَذَا جَعَلَ صَاحِبُ الْبَدِيعِ من الْحَنَفِيَّةِ كُلَّ الرِّجَالِ كُلًّا مَجْمُوعِيًّا وقال ابن فُورَكٍ الْقَائِلُ كُلَّ حَبَّةٍ من الْبُرِّ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ كُلِّيٌّ عَدَدِيٌّ بِخِلَافِ ما إذَا قال كُلَّ الْحَبَّاتِ منه غير مُتَقَوِّمٍ فإنه غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ الْمَجْمُوعُ وقد اسْتَضْعَفَ هذا منه فإن كُلَّ إذَا أُضِيفَ إلَى مَعْرِفَةٍ جَمْعٍ كانت ظَاهِرَةً في كل فَرْدٍ كما دَلَّ عليه الْأَمْثِلَةُ السَّابِقَةُ وقد نَقَلَ ابن السَّرَّاجِ عن الْمُبَرِّدِ في قَوْلِ الْقَائِلِ أَخَذْت الْعَشَرَةَ كُلَّهَا أَنَّ إضَافَةَ كُلٍّ إلَى الْعَشَرَةِ كَإِضَافَةِ بَعْضِهَا إلَيْهَا وَأَنَّ الْكُلَّ ليس الْمَعْنَى الْجُزْئِيَّ وَإِنَّمَا الْكُلُّ اسْمٌ لِأَجْزَائِهِ جميعا الْمُضَافَةِ إلَيْهِ وَاسْتَحْسَنَ ابن السَّرَّاجِ هذا الْكَلَامَ من الْمُبَرِّدِ وَكَأَنَّ مُرَادَ ابْنِ السَّاعَاتِيِّ إذَا أُرِيدَ بها الْمَجْمُوعُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ أَوَّلًا قَوْلُنَا كُلُّ شَيْءٍ ليس مَعْنَاهُ كُلَّ الشَّيْءِ فإن الْأَوَّلَ كُلِّيٌّ عَدَدِيٌّ وَالثَّانِيَ كُلِّيٌّ مَجْمُوعِيٌّ فَالْخَلَلُ إنَّمَا جاء من تَمْثِيلِهِ بَعْدَ ذلك بِكُلِّ حَبَّةٍ من الْبُرِّ غَيْرِ مُتَقَوِّمَةٍ وَكُلُّ الْحَبَّاتِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ وَهَذَا جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِخِلَافِ كل شَيْءٍ فإنه مُفْرَدٌ مُعَرَّفٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الظَّاهِرُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ الْمَعْرِفَةُ مُفْرَدًا أو جَمْعًا فَإِنْ كان مُفْرَدًا كانت لِاسْتِغْرَاقِ أَجْزَائِهِ وَيَلْزَمُ منه الْمَجْمُوعُ وَلِذَلِكَ يَصْدُقُ قَوْلُنَا كُلُّ
____________________
(2/231)
رُمَّانٍ مَأْكُولٌ وَلَا يَصْدُقُ كُلُّ الرُّمَّانِ مَأْكُولٌ لِدُخُولِ قِشْرِهِ وَإِنْ كان جَمْعًا احْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ الْمَجْمُوعُ كما في قَوْلِنَا كُلُّكُمْ يَكْفِيكُمْ دِرْهَمٌ وَأَنْ يُرَادَ كُلُّ فَرْدٍ كَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَلِذَلِكَ فَصَّلَهُ بَعْدُ فقال السُّلْطَانُ رَاعٍ وَالرَّجُلُ رَاعٍ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي أَكْثَرُ فَيُحْمَلُ عليه عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَلَا يَعْدِلُ إلَى الْأَوَّلِ إلَّا بِقَرِينَةٍ وإذا دَخَلَتْ كُلُّ على ما فيه الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَأُرِيدَ كُلُّ فَرْدٍ لِأَنَّ ذلك جَمْعٌ أو اسْمُ جَمْعٍ كَالْقَوْمِ وَالرَّهْطِ فَهَلْ نَقُولُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ هُنَا تُفِيدُ الْعُمُومَ على بَابِهَا وكل تَأْكِيدٌ لها أو أنها لِبَيَانِ الْحَقِيقَةِ حتى تَكُونَ كُلُّ تَأْسِيسًا لِلْعُمُومِ فيه نَظَرٌ وَالثَّانِي أَقْرَبُ من جِهَةِ أَنَّ كُلَّ إنَّمَا تَكُونُ تَأْكِيدًا إذَا كانت تَابِعَةً دُونَهَا إذَا كانت مُضَافَةً وقد يُقَالُ بِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ تُفِيدُ الْعُمُومَ في مَرَاتِبَ ما دَخَلَتْ عليه وكل تُفِيدُ الْعُمُومَ في أَجْزَاءِ كُلٍّ من الْمَرَاتِبِ فإذا قُلْت كُلَّ الرِّجَالِ أَفَادَتْ الْأَلِفُ وَاللَّامُ اسْتِغْرَاقَ كل مَرْتَبَةٍ من مَرَاتِبِ جَمْعِ الرَّجُلِ وَأَفَادَتْ كُلُّ اسْتِغْرَاقَ الْآحَادِ فَيَصِيرُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَعْنًى وهو أَوْلَى من التَّأْكِيدِ وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ أنها لَا تَدْخُلُ في الْمُفْرَدِ وَالْمُعَرَّفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ إذَا أُرِيدَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا الْعُمُومُ وقد نَصَّ عليه ابن السَّرَّاجِ في الْأُصُولِ قُلْت وَلِهَذَا مَنَعَ دُخُولَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ على كُلٍّ وَاعْتَرَضَ قَوْلُ النَّحْوِيِّينَ بَدَلَ الْكُلِّ من الْكُلِّ وَلَك أَنْ تَقُولَ لِمَا لَا يَجُوزُ الدُّخُولُ على أَنَّ كُلَّ مُؤَكِّدَةٌ كما هو أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ عِنْدَهُ في الْمَجْمُوعِ الْمُعَرَّفِ قِيلَ وَمِنْ دُخُولِهَا على الْمُفْرَدِ الْمَعْرِفَةِ قَوْله تَعَالَى كُلُّ الطَّعَامِ كان حِلًّا لِبَنِي إسْرَائِيلَ وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ كُلُّ الطَّلَاقِ وَاقِعٌ إلَّا طَلَاقَ
____________________
(2/232)
الْمَعْتُوهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هذا من قِسْمِ الْمُعَرَّفِ الْمَجْمُوعِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْجِنْسُ فَهُوَ جَمْعٌ في الْمَعْنَى وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ عليه السَّلَامُ كُلُّ الناس يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ نعم إنْ أُرِيدَ بِالنَّاسِ وَاحِدٌ صَحَّ تَمْثِيلُهُ الثَّالِثُ أَنْ تُقْطَعَ عن الْإِضَافَةِ لَفْظًا فَيَجُوزُ فيها الْوَجْهَانِ الْإِفْرَادُ وَالْجَمْعُ قال اللَّهُ تَعَالَى كُلٌّ له أَوَّابٌ كُلٌّ آمَنَ بِاَللَّهِ كُلٌّ له قَانِتُونَ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لم يَكُنْ في حَيِّزِ النَّفْيِ فَإِنْ كانت في حَيِّزِهِ كان الْكَلَامُ مَنْفِيًّا وَاخْتَلَفَ حُكْمُهَا بين أَنْ يَتَقَدَّمَ النَّفْيُ عليها وَبَيْنَ أَنْ تَتَقَدَّمَ هِيَ على النَّفْيِ فإذا تَقَدَّمَتْ على حَرْفِ النَّفْيِ نَحْوُ كُلُّ الْقَوْمِ لم يَقُمْ أَفَادَتْ التَّنْصِيصَ على انْتِفَاءِ كل فَرْدٍ فَرْدٍ كما تَقَدَّمَ وَإِنْ تَقَدَّمَ النَّفْيُ عليها مِثْلُ لم يَقُمْ كُلُّ الْقَوْمِ لم يَدُلَّ إلَّا على نَفْيِ الْمَجْمُوعِ وَذَلِكَ يَصْدُقُ بِانْتِفَاءِ الْقِيَامِ عن بَعْضِهِمْ وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ عُمُومَ السَّلْبِ وَالثَّانِي سَلْبَ الْعُمُومِ من جِهَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ يَحْكُمُ فيه بِالسَّلْبِ عن كل فَرْدٍ وَالثَّانِي لم يُفِدْ الْعُمُومَ في حَقِّ كل أَحَدٍ بَلْ إنَّمَا أَفَادَ نَفْيَ الْحُكْمِ عن بَعْضِهِمْ قال الْقَرَافِيُّ وَهَذَا شَيْءٌ اخْتَصَّتْ بِهِ كُلُّ من بَيْنِ سَائِرِ صِيَغِ الْعُمُومِ وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُتَّفَقٌ عليها عِنْدَ أَرْبَابِ الْبَيَانِ وَأَصْلُهَا قَوْلُهُ عليه السَّلَامُ كُلُّ ذلك لم يَكُنْ لَمَّا قال له ذُو الْيَدَيْنِ أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ وَقَوْلُ ذِي الْيَدَيْنِ له قد كان بَعْضُ ذلك وَوَجْهُهُ أَنَّ السُّؤَالَ بِ أَمْ عن أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لِطَلَبِ التَّعْيِينِ عِنْدَ ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ على وَجْهِ الْإِبْهَامِ وإذا كان السُّؤَالُ عن أَحَدِهِمَا
____________________
(2/233)
فَالْجَوَابُ إمَّا بِتَعْيِينِ أَحَدِهِمَا أو بِنَفْيِ كُلٍّ مِنْهُمَا فَكَانَ قَوْلُهُ كُلُّ ذلك لم يَكُنْ لِنَفْيِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إلَى ظَنِّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَلَوْ كان يُفِيدُ نَفْيَ الْمَجْمُوعِ لَا نَفْيَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَكَانَ قَوْلُهُ كُلُّ ذلك لم يَكُنْ غير مُطَابِقٍ لِلسُّؤَالِ ولم يَكُنْ في قَوْلِ ذِي الْيَدَيْنِ قد كان بَعْضُ ذلك جَوَابٌ له فإن السَّلْبَ الْكُلِّيَّ يُنَاقِضُهُ الْإِيجَابُ الْجُزْئِيُّ وقد ذَكَرُوا في سَبَبِ ذلك طُرُقًا منه أَنَّ النَّفْيَ مع تَأَخُّرِ كُلٍّ مُتَوَجِّهٌ إلَى الشُّمُولِ دُونَ أَصْلِ الْفِعْلِ بِخِلَافِ ما إذَا تَقَدَّمَتْ فإن النَّفْيَ حِينَئِذٍ يَتَوَجَّهُ إلَى أَصْلِ الْفِعْلِ قال الْجُرْجَانِيُّ من حُكْمِ النَّفْيِ إذَا دخل على كَلَامٍ وكان في ذلك الْكَلَامِ تَقْيِيدٌ على وَجْهٍ من الْوُجُوهِ أَنْ يَتَوَجَّهَ النَّفْيُ إلَى ذلك التَّقْيِيدِ دُونَ أَصْلِ الْفِعْلِ فإذا قِيلَ لم يَأْتِ الْقَوْمُ مُجْتَمَعِينَ كان النَّفْيُ مُتَوَجِّهًا إلَى الِاجْتِمَاعِ الذي هو قَيْدٌ في الْإِتْيَانِ دُونَ أَصْلِ الْإِتْيَانِ وَلَوْ قال قَائِلٌ لم يَأْتِ الْقَوْمُ مُجْتَمِعِينَ وكان لم يَأْتِهِ أَحَدٌ منهم لَقِيلَ له لم يَأْتُوكَ أَصْلًا فما مَعْنَى قَوْلِكَ مُجْتَمِعِينَ فَهَذَا مِمَّا لَا يَشُكُّ فيه عَاقِلٌ وَالتَّأْكِيدُ ضَرْبٌ من التَّقْيِيدِ وَهَاهُنَا تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ أَوْرَدَ على قَوْلِهِمْ إنْ تَقَدَّمَ النَّفْيُ على كُلٍّ لِسَلْبِ الْعُمُومِ وَلَا يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ قَوْله تَعَالَى إنْ كُلُّ من في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرحمن عَبْدًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيِّدَ ذلك بِمَا إذَا لم يُنْتَقَضْ النَّفْيُ فَإِنْ انْتَقَضَ فَالِاسْتِغْرَاقُ بَاقٍ كَالْآيَةِ وَيَكُونُ لِعُمُومِ السَّلْبِ وَمِنْهُ ما كُلُّ رَجُلٍ إلَّا قَائِمٌ وَسَبَبُهُ أَنَّ النَّفْيَ لِلْمَجْهُولِ وما بَعْدَ إلَّا لَا تَسَلُّطَ لِلنَّفْيِ عليه لِأَنَّهُ مُثْبَتٌ وهو في الْمُفَرَّغِ مُسْتَنِدٌ لِمَا قَبْلَهَا وهو كُلُّ فَرْدٍ كما كان قبل دُخُولِ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي أَنَّ حُكْمَ النَّهْيِ فِيمَا سَبَقَ حُكْمُ النَّفْيِ فإذا قُلْت لَا تَضْرِبْ كُلَّ رَجُلٍ أو كُلَّ الرِّجَالِ كان النَّهْيُ عن الْمَجْمُوعِ لَا عن كل وَاحِدٍ وَلَوْ قُلْت كُلَّ الرِّجَالِ لَا تَضْرِبْ كان عُمُومًا في السَّلْبِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كل فَرْدٍ وَلِذَلِكَ قال الْفُقَهَاءُ لو قال وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْتُ كُلَّ رَجُلٍ إنَّمَا يَحْنَثُ بِكَلَامِهِمْ كُلِّهِمْ فَلَوْ كَلَّمَ وَاحِدًا لم يَحْنَثْ وَهَذَا وَإِنْ لم يَكُنْ نَهْيًا فَهُوَ في حُكْمِهِ وقد رَدَّ بَعْضُهُمْ هذه الْقَاعِدَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ وَنَظَائِرِهِ فإنه لم يَزَلْ الْعُلَمَاءُ يَسْتَدِلُّونَ بِهِ
____________________
(2/234)
على ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِكُلِّ فَرْدٍ وَكَذَلِكَ قال الْفُقَهَاءُ فِيمَا لو قال وَاَللَّهِ لَا أَطَأُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ يَكُونُ مُولِيًا من كل وَاحِدَةٍ وَيَتَعَلَّقُ بِوَطْءِ كل وَاحِدَةٍ الْحِنْثُ وَلُزُومُ الْكَفَّارَةِ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّهُ لَا فَرْقَ بين تَقَدُّمِ النَّفْيِ وَتَأَخُّرِهِ وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ مَبْنِيٌّ على أَنَّ الْحُكْمَ السَّابِقَ لَا يَخْتَصُّ بِ كُلٍّ بَلْ يَتَعَدَّى إلَى سَائِرِ صِيَغِ الْعُمُومِ كَقَوْلِكَ لَا تَضْرِبْ الرِّجَالَ وَبِهِ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ قال إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَقْتَضِي ثُبُوتَ النَّهْيِ لِكُلِّ فَرْدٍ وَجَعَلَ هذا وَارِدًا على قَوْلِ الْأُصُولِيِّينَ إنَّ دَلَالَةَ الْعُمُومِ كُلِّيَّةٌ ولم يَفْصِلُوا في النَّفْيِ وَالنَّهْيِ بين تَقْدِيمِهَا وَتَأْخِيرِهَا وَجَعَلَ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ إنَّمَا ثَبَتَ الْعُمُومُ فيه لِكُلِّ فَرْدٍ بِقَرِينَةٍ أو بِجَعْلِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ وَالْإِضَافَةِ في مِثْلِ ذلك لِمُجَرَّدِ الْجِنْسِ لَا الْعُمُومِ لِلْقَرِينَةِ وَنَحْوِهِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ التِّبْيَانِ في عِلْمِ الْبَيَانِ في صِيغَةِ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ مع كُلٍّ فقال إذَا قُلْت لَا تَضْرِبْ الرَّجُلَيْنِ كِلَيْهِمَا كان النَّهْيُ ليس بِشَامِلٍ وَمِنْ ثَمَّ قالوا وَلَكِنْ اضْرِبْ أَحَدَهُمَا وَكَذَلِكَ لَا تَأْخُذْهُمَا جميعا وَلَكِنْ خُذْ وَاحِدًا مِنْهُمَا لَكِنْ تَقَدَّمَ عن الْقَرَافِيِّ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ هذا الْفَرْقَ بين تَقَدُّمِ النَّفْيِ وَعَدَمِهِ من خَصَائِصِ كُلٍّ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بَلْ ما دَلَّ على مُتَعَدِّدٍ أو مُفْرَدٍ ذِي أَجْزَاءٍ كَذَلِكَ فإذا قُلْت ما رَأَيْت رِجَالًا أو ما رَأَيْت رَجُلَيْنِ أو ما أَكَلْت رَغِيفًا أو ما رَأَيْت رَجُلًا وَعَمْرًا كُلُّ ذلك سَلَبَ الْمَجْمُوعَ لَا لِكُلِّ وَاحِدٍ بِخِلَافِ ما لو تَقَدَّمَ السَّلْبُ الثَّالِثُ قَوْلُهُمْ إنَّ السَّالِبَةَ الْكُلِّيَّةَ تَقْتَضِي نَفْيَ الْحُكْمِ عن كل فَرْدٍ وقد مَنَعَهُ بَعْضُهُمْ مُدَّعِيًا أنها اقْتَضَتْ نَفْيَ الْحَقِيقَةِ من حَيْثُ هِيَ هِيَ وَالْمُسْتَلْزِمُ ذلك نَفْيُ الْحُكْمِ عن كل وَاحِدٍ وَعَنْ الْجُمْلَةِ وقد صَرَّحَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ من الْأُصُولِيِّينَ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ كُلٌّ تَأْكِيدًا بَلْ دَلَّ على مَعْنًى آخَرَ وهو نَفْيُ الْحَقِيقَةِ الْمُسْتَلْزِمِ لِنَفْيِ الْإِفْرَادِ وهو مَرْدُودٌ لِأَنَّ كُلًّا وَكُلَّمَا وَلَا شيئا وَلَا وَاحِدًا وَسَائِرَ كَلِمَاتِ السُّوَرِ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ بِاعْتِبَارِ الْأَفْرَادِ لَا بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يَتَأَتَّى في الطَّبِيعِيَّةِ لَا في الْمُسَوَّرَةِ الرَّابِعُ هذا حُكْمُهَا في النَّفْيِ وَسَكَتُوا عن حُكْمِهَا في الشَّرْطِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَقَدُّمَهَا عليه كَتَقَدُّمِهَا على النَّهْيِ فَيَكُونُ الشَّرْطُ عَامًّا لِكُلِّ فَرْدٍ فإذا قُلْت كُلُّ رَجُلٍ إنْ قام فَاضْرِبْهُ وَكُلُّ عَبْدٍ لي إنْ حَجَّ فَهُوَ حُرٌّ فَمَنْ حَجَّ منهم عَتَقَ فَلَوْ قَدَّمْتَ الشَّرْطَ
____________________
(2/235)
فَقُلْت إنْ حَجَّ كُلُّ عَبْدٍ من عَبِيدِي فَهُمْ أَحْرَارٌ لَا يُعْتَقُ أَحَدٌ منهم حتى يَحُجَّ جَمِيعُهُمْ وَمِنْ هذا قَوْله تَعَالَى وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بها الْخَامِسُ جَمِيعُ ما تَقَدَّمَ في كُلٍّ من إفَادَتِهَا اسْتِيعَابَ جُزْئِيَّاتِ ما دَخَلَتْ عليه إنْ كان نَكِرَةً أو جَمْعًا مُعَرَّفًا وَأَجْزَائِهِ إنْ كان مُفْرَدًا مَعْرِفَةً لَا فَرْقَ فيه بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مُسْتَقِلَّةً أو تَابِعَةً مُؤَكَّدَةً مِثْلُ أَخَذْتُ الْعَشَرَةَ كُلَّهَا وَجَاءَ الْقَوْمُ كلهم وَنَحْوِهِ مِمَّا يَدْخُلُ فيه التَّأْكِيدُ لَكِنَّ الْعُمُومَ فيها مُسْتَفَادٌ من الصِّيغَةِ الْمُؤَكِّدَةِ وكل جَاءَتْ لِلتَّنْصِيصِ على الْأَفْرَادِ وَعَدَمِ احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ وَهَلْ يَفْتَرِقُ الْحَالُ إذَا وَقَعَتْ مُؤَكَّدَةً بين تَقْدِيمِهَا على نَفْيٍ أو تَقْدِيمِ النَّفْيِ عليها نَحْوُ لم أَرَ الْقَوْمَ كُلَّهُمْ وَالْقَوْمُ كلهم لم أَرَهُمْ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ لِسَلْبِ الْعُمُومِ وَالثَّانِي لِعُمُومِ السَّلْبِ كما إذْ تَقَدَّمَ في الْمُضَافَةِ قال الْقَرَافِيُّ لم أَرَ فيه نَقْلًا وَيُحْتَمَلُ طَرْدُ الْحُكْمِ في الْبَابَيْنِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ التَّفْرِقَةَ من حَقَائِقِ الْمُسْتَقِلَّةِ دُونَ التَّابِعَةِ وَرَجَّحَ هذا لِأَنَّ وَضْعَ التَّأْكِيدِ تَقْرِيرُ السَّابِقِ فَلَوْ تَقَدَّمَ النَّفْيُ عليه لَا يَعُمُّ فَيَبْطُلُ حُكْمُ الْعُمُومِ قُلْت لَكِنْ صَرَّحَ ابن الزَّمْلَكَانِيِّ في الْبُرْهَانِ بِالِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ وهو التَّسْوِيَةُ اللَّفْظُ الثَّانِي جَمِيعٌ وما يَتَصَرَّفُ منها كَأَجْمَعَ وَأَجْمَعُونَ وَهِيَ مِثْلُ كل إذَا أُضِيفَتْ وَلَا تُضَافُ إلَّا إلَى مَعْرِفَةٍ وَتَكُونُ لِإِحَاطَةِ الْأَجْزَاءِ لَكِنْ يَفْتَرِقَانِ من جِهَةِ أَنَّ دَلَالَةَ كُلٍّ على كل فَرْدٍ بِطَرِيقِ النُّصُوصِيَّةِ بِخِلَافِ جَمِيعٍ وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ كُلًّا تَعُمُّ الْأَشْيَاءَ على سَبِيلِ الِانْفِرَادِ وجميعا تَعُمُّهَا على سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ وَذَكَرَ ابن الْفَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ في كِتَابِهِ النُّكَتِ أَنَّ الزَّجَّاجَ حَكَاهُ عن الْمُبَرِّدِ قُلْت وَإِنَّمَا نَقَلَ عنه بِالنِّسْبَةِ إلَى أَجْمَعِينَ في نَحْوِ قَوْله تَعَالَى فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كلهم أَجْمَعُونَ وَكَذَا حَكَاهُ ابن الْخَشَّابِ وابن إيَازٍ وَنَقَلَ ابن بَابْشَاذَ عنه خِلَافَهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَجْمَعِينَ لَا يَقْتَضِي الِاتِّحَادَ في الزَّمَانِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا في أَنَّهُ إذَا جَمَعَ في التَّأْكِيدِ بين كُلٍّ وأجمع في أَنَّ التَّأْكِيدَ حَاصِلٌ بِهِمَا مَعًا أو بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على حِدَتِهِ وَحِينَئِذٍ فما الذي أَفَادَهُ الثَّانِي وَرَفْعُ تَوَهُّمِ الْمَجَازِ حَصَلَ بِالْأَوَّلِ وَإِنْ حَصَلَ بِهِمَا جميعا فَكَيْفَ ذلك من الْوَاحِدِ إذَا اقْتَصَرَ عليه وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ زِيَادَةُ التَّأْكِيدِ وَتَقْوِيَتُهُ كما في
____________________
(2/236)
التَّوَابِعِ الْآتِيَةِ بَعْدَ أَجْمَعَ إنَّمَا تُفِيدُ تَمْكِينَهُ في النَّفْسِ وَمَنَعَ ابن مَالِكٍ وَالسُّهَيْلِيُّ جَوَازَ تَثْنِيَةِ أَجْمَعَ زَادَ السُّهَيْلِيُّ وَجَمْعَهُ لِأَنَّهُ في مَعْنَى كُلٍّ وَهِيَ لَا تُثَنَّى وَلَا تُجْمَعُ لَكِنْ صَرَّحَ ابن سِيدَهْ وَالْجَوْهَرِيُّ بِأَنَّ أَجْمَعِينَ جَمْعُ أَجْمَعَ وَمَنَعَ ذلك الزَّوْزَنِيُّ في شَرْحِ الْمُفَصَّلِ وقال أَجْمَعُونَ ليس جَمْعًا لِأَجْمَعَ وَإِلَّا لَتَنَكَّرَ بِالْجَمْعِ كما يَتَنَكَّرُ الزَّيْدُون بَلْ هو مُرْتَجَلٌ كَذَلِكَ عُلِمَ مَعْنَاهُ وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ إفَادَةَ الْعُمُومِ من جَمِيعِ لِأَنَّهَا لَا تُضَافُ إلَّا إلَى مَعْرِفَةٍ تَقُولُ جَمِيعُ الْقَوْمِ قَوْمُكَ وَلَا تَقُولُ جَمِيعُ قَوْمٍ وَمَعَ التَّعْرِيفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أو الْإِضَافَةِ يَكُونُ الْعُمُومُ مُسْتَفَادًا منها لَا من لَفْظَةِ جَمِيعٍ وقد يُقَالُ إنَّ الْعُمُومَ مُسْتَفَادٌ من جَمِيعٍ وَالْأَلِفُ اللَّامُ لِبَيَانِ الْحَقِيقَةِ أو هو مُسْتَفَادٌ من الْأَلِفِ وَاللَّامِ وجميع لِلتَّأْكِيدِ فَائِدَةٌ يُقَالُ جاء الْقَوْمُ بِأَجْمَعِهِمْ بِضَمِّ الْمِيمِ لِأَنَّ أَجْمَعَ جَمْعُ جُمُعٍ كَعُبُدٍ وَأَعْبُدٍ وَلَا يُقَالُ بِفَتْحِ الْمِيمِ لِئَلَّا يُوهِمَ أَنَّهُ أَجْمَعُ الذي يُؤَكِّدُ لِإِضَافَتِهِ إلَى الضَّمِيرِ وَإِدْخَالِ حَرْفِ الْجَرِّ عليه وأجمع الْمَوْضُوعُ لِلتَّأْكِيدِ لَا يُضَافُ وَلَا يَدْخُلُ حَرْفُ الْجَرِّ عليه قَالَهُ الْحَرِيرِيُّ في الدُّرَّةِ لَكِنْ حَكَى ابن السِّكِّيتِ الضَّمَّ وَالْفَتْحَ وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ اللَّفْظُ الثَّالِثُ سَائِرٌ إنْ كانت من سُورِ الْمَدِينَةِ وهو الْمُحِيطُ بها كما جَزَمَ بِهِ الْجَوْهَرِيُّ وقد عَدَّهَا الْقَاضِيَانِ أبو بَكْرٍ في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ في الْإِفَادَةِ كما نَقَلَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ قُلْت وَاَلَّذِي رَأَيْتُهُ فيها حِكَايَةُ ذلك ثُمَّ تَغْلِيطُهُ بِأَنَّهَا من أَسْأَرَ أَيْ أَبْقَى فَإِنْ كانت مَأْخُوذَةً من السُّؤْرِ بِالْهَمْزَةِ وهو الْبَقِيَّةُ فَلَا تَعُمُّ وَذَلِكَ هو الْمَشْهُورُ وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ فيه الِاتِّفَاقَ وَغَلَّطُوا الْجَوْهَرِيَّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَهُ السِّيرَافِيُّ في شَرْحِ سِيبَوَيْهِ وأبو مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيُّ في شَرْحِ أَدَبِ الْكَاتِبِ وابن بَرِّيٍّ وَغَيْرُهُمْ وَأَوْرَدُوا فيه شَوَاهِدَ كَثِيرَةً فَيَكُونُ فيها اللُّغَتَانِ وقد مَنَعَ ابن وَلَّادٍ وَالْفَارِسِيُّ من النُّحَاةِ كَوْنَهُ من السُّؤْرِ لِأَنَّ الْبَقِيَّةَ تُقَالُ لِمَا فَضَلَ من الشَّيْءِ سَوَاءٌ قَلَّ أو كَثُرَ وَالسُّؤْرُ لَا يُقَالُ إلَّا لِلتَّقْلِيلِ الْفَاضِلِ وَسَائِرُ لَا يُقَالُ إلَّا لِلْأَكْثَرِ تَقُولُ أَخَذْتُ من الْكِتَابِ وَرَقَةً وَتَرَكْتُ سَائِرَهُ وَلَا تَقُولُ
____________________
(2/237)
بَقِيَّتَهُ قال وَلَا يُوجَدُ شَاهِدٌ يَدُلُّ على أَنَّ سَائِرَ بِمَعْنَى الْبَاقِي قَلَّ أو كَثُرَ بَلْ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ في الْأَكْثَرِ وَالظَّاهِرُ أنها لِلْعُمُومِ وَإِنْ كانت بِمَعْنَى الْبَاقِي خِلَافًا لِلْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَالْقَرَافِيِّ لِأَنَّ بها شُمُولَ ما دَلَّتْ عليه سَوَاءٌ كان بِمَعْنَى الْجَمِيعِ وَالْبَاقِي تَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ تُرِيدُ تَعْمِيمَهُمْ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ وَالسَّادِسُ وَالسَّابِعُ مَعْشَرٌ وَمَعَاشِرُ وَعَامَّةٌ وَكَافَّةٌ وَقَاطِبَةٌ قال تَعَالَى يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً وفي الحديث نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ وَقَالَتْ عَائِشَةُ لَمَّا مَاتَ عليه السَّلَامُ ارْتَدَّتْ الْعَرَبُ قَاطِبَةً قال ابن الْأَثِيرِ أَيْ جَمِيعُهُمْ وَلَكِنَّ مَعْشَرَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا مُضَافًا وقاطبة لَا يُضَافُ وعامة ( ( ( و ) ) ) وكافة ( ( ( عامة ) ) ) يُسْتَعْمَلَانِ مُضَافَيْنِ وَخَالِيَيْنِ الثَّامِنُ وَالتَّاسِعُ من وما الشَّرْطِيَّتَيْنِ أو الِاسْتِفْهَامِيَّتَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى من عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ يَقْنَطُ من رَحْمَةِ رَبِّهِ إلَّا الضَّالُّونَ وَقَوْلِهِ ما يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ من رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لها وما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسَى وَهُمَا من صِيَغِ الْعُمُومِ بَلْ هُمَا عِنْدَ الْإِمَامِ في أَعْلَى صِيغَةٍ قال صَاحِبُ الْمُحْكَمِ من اسْمٌ يُغْنِي عن الْكَلَامِ الْكَثِيرِ الْمُتَنَاهِي في التَّضَادِّ وَالطُّولِ فإذا قُلْت من يَقُمْ أَقُمْ معه كان كَافِيًا عن ذِكْرِ جَمِيعِ الناس وَلَوْلَا من لَاحْتَجْتَ إلَى ذِكْرِ الْأَفْرَادِ ثُمَّ لَا تَجِدْ إلَى ذلك سَبِيلًا أَمَّا الشَّرْطِيَّتَانِ فَبِالِاتِّفَاقِ وَأَمَّا الِاسْتِفْهَامِيَّتَانِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ منهم الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ وابن السَّمْعَانِيِّ وابن الصَّبَّاغِ
____________________
(2/238)
وَغَيْرُهُمْ من أَصْحَابِنَا وأبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ وَالْبَزْدَوِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ وَالْقُرْطُبِيُّ وَالْإِبْيَارِيُّ من الْمَالِكِيَّةِ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَالْهِنْدِيُّ وَظَاهِرُ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُمَا لَيْسَا من الْعُمُومِ فإنه قَيَّدَ من بِالشَّرْطِيَّةِ ذَكَرَهُ في مَسْأَلَةِ عُمُومِهَا لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْجَمِيعِ أَنَّهُمَا إذَا كَانَتَا مَوْصُولَتَيْنِ فَلَيْسَتَا لِلْعُمُومِ وَبِهِ صَرَّحَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ فقال وَإِنْ كَانَتَا بِمَعْنَى الذي وَاَلَّتِي فَهُمَا حِينَئِذٍ مَعْرِفَةٌ وَلَيْسَتَا لِلْجِنْسِ وَلَكِنْ رُبَّمَا تَنَاوَلَا في الْمَعْرِفَةِ وَاحِدًا وَرُبَّمَا تَنَاوَلَا جَمْعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنْهُمْ من يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ وَكَذَلِكَ قال سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ فَإِنْ وَرَدَا مَعْرِفَتَيْنِ بِمَعْنَى الذي لم يَدُلَّا على الْعُمُومِ هذا لَفْظُهُ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ وَالْقَاضِي أبي بَكْرٍ في التَّقْرِيبِ فَإِنَّهُمَا قَيَّدَا الْعُمُومَ بِالشَّرْطِيَّتَيْنِ وَالِاسْتِفْهَامِيَّتَيْ فَقَطْ لَكِنْ مَثَّلَ الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى لِعُمُومِ من بِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ على الْيَدِ ما أَخَذَتْ حتى تُؤَدِّيَهُ وهو تَصْرِيحٌ بِعُمُومِ الْمَوْصُولَةِ وهو لَازِمٌ لِلْجَمِيعِ في مَسْأَلَةِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ في قَوْلِهِ إنَّكُمْ وما تَعْبُدُونَ من دُونِ اللَّهِ وَسُؤَالُ ابْنِ الزِّبَعْرَى وَعَلَيْهِ جَرَى الْقَرَافِيُّ وابن الْحَاجِبِ وابن السَّاعَاتِيِّ وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَنَقَلَهُ الْقَرَافِيُّ عن صَاحِبِ التَّلْخِيصِ يَعْنِي النَّقْشَوَانِيَّ وَأَنْكَرَ ذلك الْأَصْفَهَانِيُّ وقال وَجَدْتُ كِتَابَ التَّلْخِيصِ مُصَرِّحًا بِخِلَافِ ذلك وَأَنَّهُمَا إذَا كَانَتَا مَوْصُولَتَيْنِ لَيْسَتَا لِلْعُمُومِ وقال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ من تَعُمُّ في الشَّرْطِ وَالِاسْتِفْهَامِ عُمُومَ الْأَفْرَادِ وفي الْخَبَرِ بِمَعْنَى الْمَوْصُولَةِ عُمُومَ الشُّمُولِ فإذا قُلْت من زَارَنِي فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا اسْتَحَقَّ كُلُّ من زَارَهُ الْعَطِيَّةَ وإذا قال أَعْطِ من في هذه الدَّارِ دِرْهَمًا اسْتَحَقَّ الْكُلُّ دِرْهَمًا وَاحِدًا وقد اُسْتُشْكِلَ قَوْلُنَا من لِلْعُمُومِ بِأَمْرَيْنِ أَحَدِهِمَا بِقَوْلِنَا من في الدَّارِ فإنه يَحْسُنُ الْجَوَابُ بِزَيْدٍ وَحِينَئِذٍ فَالْعُمُومُ كَيْفَ يَنْطَبِقُ عليه زَيْدٌ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الصِّيغَةَ لَيْسَتْ الْعُمُومَ وَكَذَلِكَ ما عِنْدَكَ فَتَقُولُ دِرْهَمٌ
____________________
(2/239)
وَأَجَابَ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّ الْعُمُومَ إنَّمَا هو بِاعْتِبَارِ حُكْمِ الِاسْتِفْهَامِ لَا بِاعْتِبَارِ الْكَوْنِ في الدَّارِ وَالِاسْتِفْهَامُ عَمَّ جَمِيعَ الْمَرَاتِبِ وَكَأَنَّ الْمُسْتَفْهِمَ قال سَأَلَتْكَ عن كل أَحَدٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ في الدَّارِ لَا أَخَصُّ سُؤَالِي بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ وَالْوَاقِعُ من ذلك قد يَكُونُ فَرْدًا أو أَكْثَرَ فَالْعُمُومُ ليس بِاعْتِبَارِ الْوُقُوعِ بَلْ بِاعْتِبَارِ الِاسْتِفْهَامِ الْأَمْرُ الثَّانِي قَوْلُ الْفُقَهَاءِ في كِتَابِ الطَّلَاقِ إذَا عُلِّقَ الْحُكْمُ بِلَفْظِ من اقْتَضَى مَشْرُوطَهُ مَرَّةً ولم يَتَكَرَّرْ الْحُكْمُ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ كما لو قال من دخل دَارِي فَلَهُ دِرْهَمٌ وَدَخَلَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً اسْتَحَقَّهُ ولم يَسْتَحِقَّ شيئا آخَرَ بِدُخُولِهِ بَعْدَهُ وَكَذَا لو قال لِنِسَائِهِ من دَخَلَتْ مِنْكُنَّ فَهِيَ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ مَرَّةً طَلُقَتْ وَاحِدَةً ولم تَطْلُقْ بِدُخُولٍ آخَرَ الْجَوَابُ أَنَّ من وَغَيْرَهَا من أَدَوَاتِ الشَّرْطِ إنَّمَا تَقْتَضِي عُمُومَ الْأَشْخَاصِ لَا عُمُومَ الْأَفْعَالِ فَلِهَذَا لم يَتَعَدَّدْ الطَّلَاقُ لِتَعَدُّدِ الدُّخُولِ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي وُجُودَ الْجَزَاءِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ أَمَّا التَّكْرَارُ فَلَا تَقْتَضِيهِ إلَّا أَنَّهُ قد يَتَحَقَّقُ التَّكْرَارُ في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِوَاسِطَةِ قِيَاسٍ أو فَهْمِ أَنَّ الشَّرْطَ عِلَّةٌ فإن الْأَصْلَ تَرْتِيبُ الْحُكْمِ على عِلَّتِهِ فَلَزِمَ التَّكْرَارُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى من عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ أَمَّا الْأَلْفَاظُ الْمَوْضُوعَةُ لِعُمُومِ الْأَفْعَالِ فَهِيَ كُلَّمَا وَمَتَى وما وَمَهْمَا فإذا عَلَّقَ بِشَيْءٍ منها اقْتَضَى التَّكْرَارَ وقد قال الْأَصْحَابُ لو قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا بَعْدَ صَيْدٍ وَجَبَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا جَزَاءٌ وَأَوْرَدَ عليه أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْجَزَاءَ في قَتْلِ الصَّيْدِ وَعَلَّقَهُ بِلَفْظِ من بِقَوْلِهِ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا وَالْمُعَلَّقُ بِلَفْظِ من لَا يَتَكَرَّرُ فيه الْجَزَاءُ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ نَحْوُ من دخل دَارِي فَلَهُ دِرْهَمٌ لَا يَتَكَرَّرُ الِاسْتِحْقَاقُ بِتَكَرُّرِ الدُّخُولِ وَأَجَابَ جَمَاعَةٌ منهم الْمَاوَرْدِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْجُرْجَانِيُّ في بَابِ الْحَجِّ من الْمُعَايَاةِ فَقَالُوا إنَّمَا لم يَتَكَرَّرْ الْحُكْمُ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ إذَا كان الْفِعْلُ الثَّانِي وَاقِعًا في مَحَلِّ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ كَالْمِثَالِ السَّابِقِ فَأَمَّا إذَا كان الْفِعْلُ الثَّانِي في غَيْرِ مَحَلِّ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَيَتَكَرَّرُ كما لو قال من دخل دَارِي فَلَهُ دِرْهَمٌ وَلَهُ عِدَّةُ دُورٍ فَدَخَلَ دَارًا له اسْتَحَقَّ دِرْهَمًا ثُمَّ لو دخل دَارًا أُخْرَى اسْتَحَقَّ دِرْهَمًا آخَرَ لَمَّا كانت الدَّارُ الثَّانِيَةُ غير الْأُولَى كَذَلِكَ هَاهُنَا لَمَّا كان الصَّيْدُ الثَّانِي غير الْأَوَّلِ تَعَلَّقَ بِهِ ما تَعَلَّقَ بِالْأَوَّلِ يُرِيدُ في قَوْله تَعَالَى وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ من النَّعَمِ وَوَقَعَ في كَلَامِ الْمَحَامِلِيِّ وَبَعْضِ نُسَخِ الْحَاوِي تَمْثِيلُ تَعَدُّدِ الْمَحَلِّ بِقَوْلِهِ من دخل دُورِي وهو
____________________
(2/240)
أَقْرَبُ وَفِيمَا قَالُوهُ نَظَرٌ بَلْ يَنْبَغِي في هذا أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا عِنْدَ دُخُولِهِ جَمِيعَ الدُّورِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ تَعَلَّقَ بِالْجَمِيعِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي إذَا اشْتَرَكَ جَمْعٌ في قَتْلِ صَيْدٍ فَعَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ وقال مَالِكٌ وأبو حَنِيفَةَ على كُلٍّ منهم جَزَاءٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ وَلَفْظَةُ من إذَا عَلَّقَ عليها الْجَزَاءَ اسْتَوَى حَالُ الْجَمَاعَةِ وَالْوَاحِدِ في اسْتِحْقَاقِهِ كَقَوْلِهِ من دخل دَارِي فَلَهُ دِرْهَمٌ فَدَخَلَهَا وَاحِدٌ اسْتَحَقَّهُ أو جَمَاعَةٌ اسْتَحَقَّ كُلُّ وَاحِدٍ منهم دِرْهَمًا قال الْمَاوَرْدِيُّ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالشَّرْطُ إذَا عُلِّقَ عليه الْجَزَاءُ بِلَفْظِ من إذَا كان مَوْجُودًا من كل وَاحِدٍ من الْجَمَاعَةِ اسْتَحَقَّ كُلُّ وَاحِدٍ منهم جَزَاءً كَامِلًا نَحْوُ من دخل دَارِي فَلَهُ دِرْهَمٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ منهم دِرْهَمٌ لِأَنَّ الدُّخُولَ مَوْجُودٌ من كل وَاحِدٍ منهم وَإِنْ كان الشَّرْطُ مَوْجُودًا من جَمَاعَتِهِمْ فَالْجَزَاءُ يُسْتَحَقُّ من جَمَاعَتِهِمْ دُونَ كل وَاحِدٍ منهم كَقَوْلِهِ من جاء بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَهُ دِرْهَمٌ وَمَنْ شَالَ الْحَجَرَ فَلَهُ دِرْهَمٌ فإذا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ في الْمَجِيءِ بِالْآبِقِ وَشَيْلِ الْحَجَرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ مُسْتَحَقًّا بين جَمَاعَتِهِمْ دُونَ كل وَاحِدٍ منهم وَاعْلَمْ أَنَّ من تَصْلُحُ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَالْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ لَكِنْ هل الْعُمُومُ في جَمِيعِ هذه الْمَرَاتِبِ أو في الْآحَادِ فيه نَظَرٌ لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ قال وَيَظْهَرُ فِيمَا إذَا قال من دخل دَارِي من هَؤُلَاءِ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ دِرْهَمًا وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ دِرْهَمًا بِدُخُولِهِ وَحْدَهُ وَنِصْفَ دِرْهَمٍ بِدُخُولِهِ مع الْآخَرِ وَإِنْ دخل ثَلَاثَةٌ فَعَلَى الْأَوَّلِ يُعْطِيهِمْ ثَلَاثَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ دِرْهَمًا وَعَلَى الثَّانِي يُعْطِيهِمْ ثَلَاثَةً إلَى الْآحَادِ كُلَّ وَاحِدٍ دِرْهَمًا وَدِرْهَمًا بِدُخُولِ الثَّلَاثَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثَةٌ لِأَنَّ صِفَةَ الِاثْنِينِيَّةِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ فَيَسْتَحِقُّونَ بها ثَلَاثَةً لِكُلٍّ دِرْهَمٌ فَمَجْمُوعُ ما يَسْتَحِقُّونَهُ سَبْعَةٌ وَعَلَى هذا الْقِيَاسُ تَنْبِيهٌ أَطْلَقُوا أَنَّ من لِلْعُمُومِ في الْعُقَلَاءِ وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الذي دَخَلَتْ عليه صَالِحًا لِكُلِّ فَرْدٍ لِيُخْرِجَ ما لو قال الْأَمِيرُ من غَزَا مَعِي فَلَهُ دِينَارٌ قال في الْكِفَايَةِ في بَابِ السِّيَرِ خَرَجَ منه أَهْلُ الْفَيْءِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَيَخْرُجَ النِّسَاءُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ من قَاتَلَ مَعِي فَلَهُ دِينَارٌ
____________________
(2/241)
لِأَنَّ الْغَزْوَ حُكْمٌ لَا فِعْلٌ يَتَوَجَّهُ لِأَهْلِهِ وَيَخْرُجُ الصِّبْيَانُ منها لِأَنَّ الْجَعَالَةَ عَقْدٌ وَهِيَ لَا تَصِحُّ منهم وَكَذَا الْعَبْدُ بِلَا إذْنِ السَّيِّدِ لِوُجُودِ الْحَجْرِ الثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُسْنَدُ إلَيْهَا لِوَاحِدٍ لِيُخْرِجَ ما لو قال الْمُوَكِّلُ لِوَكِيلِهِ طَلِّقْ من نِسَائِي من شِئْتَ قال الْقَاضِي في تَعْلِيقِهِ لَا يُطَلِّقْ الْوَكِيلُ إلَّا وَاحِدَةً في أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ بِخِلَافِ ما إذَا قال طَلِّقْ من نِسَائِي من شَاءَتْ فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَ من شَاءَتْ الطَّلَاقَ وَجَرَى عليه النَّوَوِيُّ في زَوَائِدِهِ في كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَالْفَرْقُ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْمَشِيئَةِ مُضَافٌ إلَى وَاحِدٍ فإذا اخْتَارَ وَاحِدَةً سَقَطَ اخْتِيَارُهُ وفي الثَّانِيَةِ الِاخْتِيَارُ مُضَافٌ إلَى جَمَاعَةٍ فَكُلُّ من اخْتَارَتْ طَلَقَتْ وَقَوْلُهُمْ من لِلْعُمُومِ في الْعُقَلَاءِ وَإِنْ أَرَادُوا أَصْلَ وَضْعِ اللُّغَةِ فَصَحِيحٌ وَإِلَّا فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُ من لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ وَحِينَئِذٍ فَالْعُمُومُ مُرَادٌ فيها كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلِلَّهِ يَسْجُدُ من في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْعَاشِرُ أَيُّ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً أو اسْتِفْهَامِيَّةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَقَوْلِهِ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا وَلِهَذَا أَجَابَهُ الْكُلُّ عن نَفْسِهِ بِأَنَّهُ يَأْتِيهِ وقد ذَكَرَهَا في صِيَغِ الْعُمُومِ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ في بَابِ التَّأْوِيلَاتِ من الْبُرْهَانِ في قَوْلِهِ أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا وابن الصَّبَّاغِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ وَالْقَاضِيَانِ أبو بَكْرٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ وَالْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ قالوا وَيَصْلُحُ لِلْعَاقِلِ وَغَيْرِهِ قال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في التَّلْخِيصِ إلَّا أنها تَتَنَاوَلُ على وَجْهِ الْإِفْرَادِ دُونَ الِاسْتِغْرَاقِ وَلِهَذَا إذَا قُلْت أَيُّ الرَّجُلَيْنِ عِنْدَك لم يُجِبْ إلَّا بِذِكْرِ وَاحِدٍ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَأَمَّا كَلِمَةُ أَيِّ فَقِيلَ كَالنَّكِرَةِ لِأَنَّهَا تَصْحَبُهَا لَفْظًا وَمَعْنًى تَقُولُ أَيُّ رَجُلٍ فَعَلَ هذا وَأَيُّ دَارٍ قال تَعَالَى أَيُّكُمْ
____________________
(2/242)
يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا وَهِيَ في الْمَعْنَى نَكِرَةٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بها وَاحِدٌ منهم انْتَهَى وَحَاصِلُ كَلَامِهِمْ أنها لِلِاسْتِغْرَاقِ الْبَدَلِيِّ لَا الشُّمُولِيِّ لَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ أنها لِلْعُمُومِ الشُّمُولِيِّ فإنه قال فِيمَا إذَا قال لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ أَيَّتُكُنَّ حَاضَتْ فَصَوَاحِبَاتُهَا طَوَالِقُ فَقُلْنَ حِضْنَ وَصَدَّقَهُنَّ أَنَّهُ تُطْلَقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثًا وَذَكَرَ غَيْرُهُ من الْعِرَاقِيِّينَ وَخَرَجَ لنا من هذا أَنَّا إذَا قُلْنَا إنَّهَا لِلْعُمُومِ فَهَلْ هو عُمُومُ شُمُولٍ أَمْ بَدَلٍ وَجْهَانِ وَتَوَسَّعَ الْقَرَافِيُّ فَعَدَّى عُمُومَهَا إلَى الْمَوْصُولَةِ وَالْمَوْصُوفَةِ في النِّدَاءِ وَمِنْهُمْ من لم يَعُدَّهَا في الصِّيَغِ كَالْغَزَالِيِّ وَابْنِ الْقُشَيْرِيّ لِأَجْلِ قَوْلِ النُّحَاةِ إنَّهَا بِمَعْنَى بَعْضٍ إنْ أُضِيفَتْ إلَى مَعْرِفَةٍ وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ أَيُّ وَقْتٍ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يَتَكَرَّرُ الطَّلَاقُ بِتَكَرُّرِ الدُّخُولِ كما في كُلَّمَا وَالْحَقُّ أَنَّ عَدَمَ التَّكْرَارِ لَا يُنَافِي الْعُمُومَ وَكَوْنُ مَدْلُولِهَا أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَقِيَّةِ الصِّيَغِ في الِاسْتِفْهَامِ وقد سَبَقَ أَنَّ من وما الِاسْتِفْهَامِيَّتَيْنِ لِلْعُمُومِ فَلْتَكُنْ أَيُّ كَذَلِكَ وقال صَاحِبُ اللُّبَابِ من الْحَنَفِيَّةِ وأبو زَيْدٍ في التَّقْوِيمِ كَلِمَةَ أَيٍّ نَكِرَةٌ لَا تَقْتَضِي الْعُمُومَ بِنَفْسِهَا إلَّا بِقَرِينَةٍ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا ولم يَقُلْ يَأْتُونِي وَلَوْ قال لِغَيْرِهِ أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبْته فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبَهُمْ لَا يُعْتَقُ إلَّا وَاحِدٌ فَإِنْ وَصَفَهَا بِصِفَةٍ عَامَّةٍ كانت لِلْعُمُومِ كَقَوْلِهِ أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَكَ فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبُوهُ جميعا عَتَقُوا لِعُمُومِ فِعْلِ الضَّرْبِ وَصَرَّحَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ من صِيَغِ الْعُمُومِ فقال وَأَمَّا أَيُّ فَهُوَ اسْمُ فَرْدٍ يَتَنَاوَلُ جُزْءًا من الْجُمْلَةِ الْمُضَافَةِ قال تَعَالَى أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا وَإِنَّمَا جاء بِهِ وَاحِدٌ وقال أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَالْعَرَبُ تَقُولُ أَيُّ الرَّجُلِ أَتَاكَ وَلَا تَقُولُ أَيُّ الرِّجَالِ أَتَاكَ إذْ لَا عُمُومَ في الصِّيغَةِ انْتَهَى وَكَذَلِكَ قال الْغَزَالِيُّ في فَتَاوِيهِ لو قال أَيُّ عَبِيدِي حَجَّ فَهُوَ حُرٌّ فَحَجُّوا كلهم لَا يُعْتَقُ إلَّا وَاحِدٌ وَكَذَلِكَ قال أَيُّ رَجُلٍ دخل الْمَسْجِدَ فَلَهُ دِرْهَمٌ فإنه يَقْصُرُ على الْوَاحِدِ وَهَذَا بَنَاهُ على أنها لَيْسَتْ لِلْعُمُومِ وقال محمد بن الْحَسَنِ إذَا قال أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَكَ فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبُوهُ كلهم عَتَقُوا جميعا وَإِنْ قال أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبَ جَمَاعَةً لَا يُعْتَقُ إلَّا وَاحِدٌ وَصَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في فَتَاوِيهِ وفي فَتَاوَى الشَّاشِيِّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَنَا بين
____________________
(2/243)
الصُّورَتَيْنِ وَأَنَّهُمْ يُعْتَقُونَ جميعا عَمَلًا بِعُمُومِ أَيٍّ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ فقال أَيُّ أَعَمُّ الْمُبْهَمَاتِ وَزَعَمَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ أَنَّهُ على الْوَاحِدِ غَالِبًا وَلِذَلِكَ قال أبو حَنِيفَةَ وَأَيُّ عَبِيدِي ضَرَبْتُ فَهُوَ حُرٌّ أَنَّ ذلك يُحْمَلُ على الْوَاحِدِ وَأَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَكَ فَهُوَ حُرٌّ أَنَّهُ يُحْمَلُ على الْجَمِيعِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْفِعْلَ الذي عَلَّقَ بِهِ الْحُرِّيَّةَ إلَى الْجَمَاعَةِ قال الْأُسْتَاذُ وَقُلْنَا بِعُمُومِ هذا اللَّفْظِ في الْمَوْضِعَيْنِ انْتَهَى وَوَجَّهَ ابن يَعِيشَ وَغَيْرُهُ من النُّحَاةِ مَسْأَلَتَيْ مُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ بِأَنَّ الْفِعْلَ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى عَامٌّ وفي الثَّانِيَةِ خَاصٌّ فإنه في الْأُولَى مُسْنَدٌ إلَى ضَمِيرِ عَبِيدِي وَهِيَ كَلِمَةُ عُمُومٍ وفي الثَّانِيَةِ مُسْنَدٌ إلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ وهو خَاصٌّ ثُمَّ قَرَّرُوا أَنَّ الْفِعْلَ يَعُمُّ بِعُمُومِ فَاعِلِهِ لَا بِعُمُومِ مَفْعُولِهِ من جِهَةِ أَنَّ الْفَاعِلَ كَالْجُزْءِ من الْفِعْلِ وهو لَا يُسْتَغْنَى عنه وَلَا كَذَلِكَ الْفِعْلُ وَالْمَفْعُولُ لِأَنَّ الْمَفْعُولَ قد يَسْتَغْنِي عنه الْفِعْلُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَسْرِيَ عُمُومُ الْفَاعِلِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَسْرِيَ عُمُومُ الْمَفْعُولِ إلَى الْفِعْلِ وَهَذَا هو الذي وَجَّهَ بِهِ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فإنه قال فَرْعٌ إذَا قال طَلِّقْ من نِسَائِي من شِئْتَ لَا يُطَلِّقُ الْكُلَّ في أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ وإذا قال طَلِّقْ من نِسَائِي من شَاءَتْ فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَ كُلَّ من اخْتَارَتْ الطَّلَاقَ وَالْفَرْقُ أَنَّ التَّخْصِيصَ وَالْمَشِيئَةَ مُضَافٌ بِمَعْنَى في الْأُولَى إلَى وَاحِدٍ فإذا اخْتَارَ وَاحِدَةً سَقَطَ اخْتِيَارُهُ وفي الثَّانِيَةِ الِاخْتِيَارُ مُضَافٌ إلَى جَمَاعَةٍ فَكُلُّ من اخْتَارَتْ طَلُقَتْ نَظِيرُهُ ما إذَا قال أَيُّ عَبْدٍ من عَبِيدِي ضَرَبْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبَ عَبْدًا ثُمَّ عَبْدًا لَا يُعْتَقُ الثَّانِي لِأَنَّ حَرْفَ أَيِّ وَإِنْ كان حَرْفَ تَعْمِيمٍ فَالْمُضَافُ إلَيْهِ الضَّرْبُ وَاحِدٌ وإذا قال أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَكَ فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبَهُ عَبْدٌ ثُمَّ عَبْدٌ عَتَقُوا لِأَنَّ الضَّرْبَ مُضَافٌ إلَى جَمَاعَةٍ انْتَهَى وقد اعْتَرَضَ الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ بن عَمْرُونٍ النَّحْوِيُّ الْحَلَبِيُّ وقال لَا فَرْقَ بين الصُّورَتَيْنِ وَالْفِعْلُ عَامٌّ فِيهِمَا وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ في ذلك على حَدٍّ سَوَاءٍ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ الْعَبَّاسِ بن مِرْدَاسٍ يُخَاطِبُ النبي عليه السَّلَامُ وما كنت دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا وَمَنْ تَخْفِضْ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعْ فإن من الشَّرْطِيَّةُ عَامَّةٌ بِاتِّفَاقٍ وَالْمُرَادُ عُمُومُ الْفِعْلِ مُطْلَقًا مع أَنَّ الِاسْمَ الْعَامَّ هُنَا إنَّمَا هو ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ إذْ التَّقْدِيرُ وَمَنْ تَخْفِضْهُ الْيَوْمَ وهو عَائِدٌ على من وهو الِاسْمُ الْعَامُّ وَأَمَّا ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فَخَاصٌّ وهو ضَمِيرُ النبي عليه السَّلَامُ وَهَذَا وِزَانُ قَوْلِهِ أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبْتُهُ التي ادَّعَى فيها عَدَمَ عُمُومَ الْفِعْلِ
____________________
(2/244)
وَاخْتَارَ ابن الْحَاجِبِ أَيْضًا التَّعْمِيمَ فِيهِمَا وقال نِسْبَةُ فِعْلِ الشَّرْطِ إلَى الْفَاعِلِ وَإِلَى الْمَفْعُولِ في اقْتِضَاءِ التَّعْمِيمِ في الْمَشْرُوطِ عِنْدَ حُصُولِ الشَّرْطِ وَعَدَمِهِ سَوَاءٌ وَأَنَّ التَّعْمِيمَ فِيمَا وَقَعَ النِّزَاعُ فيه ليس من قَبِيلِ إثْبَاتِ الْمَشْرُوطِ بِتَكْرِيرِ الشَّرْطِ وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بين أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ وَأَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَكَ فَهُوَ حُرٌّ في أَنَّهُ يُعْتَقُ الْمَضْرُوبُونَ لِلْمُخَاطَبِ كلهم كما يُعْتَقُ الضَّارِبُونَ لِلْمُخَاطَبِ كلهم وَاسْتَشْهَدَ على ذلك بِمَنْ فإنه قد تَسَاوَى فيها الْأَمْرَانِ قال اللَّهُ تَعَالَى من يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ فإنه مُسَاوٍ في الدَّلَالَةِ على التَّعْمِيمِ لِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى من يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَالْأَوَّلُ مَنْسُوبٌ في شَرْطِهِ إلَى عُمُومِ الْمَفْعُولِ وهو الْمَصْدَرُ مُنَازَعًا فيه الثَّانِي مَنْسُوبٌ إلَى عُمُومِ الْفَاعِلِ وهو الْمُتَّفَقُ عليه إذَا ثَبَتَ في من فَكَذَلِكَ في أَيٍّ بَلْ هِيَ من أَقْوَى من من في الدَّلَالَةِ على التَّفْصِيلِ تَنْبِيهٌ عَدَّى الْحَنَفِيَّةُ هذا إلَى أَيِّ عَبِيدِي ضُرِبَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ هَكَذَا قَالَهُ ابن جِنِّي لِأَنَّ الْفَاعِلَ وَإِنْ لم يُذْكَرْ فَهُوَ في حُكْمِ الْمَذْكُورِ وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ وقد قالوا هُمْ فيه بِالْعُمُومِ أَكْثَرَ مِنَّا لِأَنَّهُمْ أَدْرَجُوا فيه جِلْدَ الْكَلْبِ تَنْبِيهٌ إذَا اتَّصَلَتْ أَيُّ بِمَا كانت تَأْكِيدًا لِأَدَاةِ الشَّرْطِ وَزَعَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ في بَابِ التَّأْوِيلِ أَنَّ ما الْمُتَّصِلَةَ بها لِلْعُمُومِ في نَحْوِ أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا فَاعْتَقَدَ أنها ما الشَّرْطِيَّةُ وهو وَهْمٌ وقد قَارَبَ الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى هُنَاكَ فَجَعَلَهَا مُؤَكِّدَةً لِلْعُمُومِ هو أَقْرَبُ مِمَّا قَالَهُ الْإِمَامُ إلَى الصَّوَابِ لَكِنَّ الصَّوَابَ أنها تَوْكِيدٌ لِأَدَاةِ الشَّرْطِ وهو عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ من التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ كَأَنَّهُ كَرَّرَ اللَّفْظَ الْحَادِيَ عَشَرَ إلَى آخِرِ الْخَامِسِ عَشَرَ مَتَى وَأَيْنَ وَحَيْثُ وَكَيْفَ وإذا الشَّرْطِيَّةُ أَمَّا مَتَى فَهِيَ عَامَّةٌ في الْأَزْمَانِ الْمُبْهَمَةِ كُلِّهَا كما قَيَّدَهُ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ ولم
____________________
(2/245)
يُقَيِّدْهُ بَعْضُهُمْ بِالْمُبْهَمَةِ وَالْأَوَّلُ أَقْوَى لِأَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا لَا يَتَحَقَّقُ وُقُوعُهُ فَلَا يَقُولُونَ مَتَى طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَائْتِنِي بَلْ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَهِيَ عَكْسُ إذَا وَقِيلَ مَتَى تَقْتَضِي عُمُومَ الْأَزْمِنَةِ وَلَا تَقْتَضِي تَكْرَارَ الْفِعْلِ بِدَلِيلِ اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا لَا تَكْرَارَ فيه كما إذَا قِيلَ مَتَى قَتَلْتَ زَيْدًا وَالسَّابِقُ إلَى الْفَهْمِ منها تَكْرَارُ الْفِعْلِ وَلَا تَقْتَضِي تَكْرَارًا على التَّحْقِيقِ فإذا قال مَتَى دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَالطَّلَاقُ لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الدُّخُولِ وَإِنَّمَا يَقَعُ بِالدُّخُولِ الْأَوَّلِ وَهَذَا بِخِلَافِ كُلَّمَا فَإِنَّهَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ لِاقْتِضَائِهَا عُمُومَ الْأَفْعَالِ فإذا قال كُلَّمَا دَخَلْتِ فَمَعْنَاهُ كُلُّ دُخُولٍ يَقَعُ مِنْكِ لِأَنَّ كُلًّا إنَّمَا يُضَافُ لِلْأَسْمَاءِ وَيَنْضَمُّ إلَيْهَا ما لِتَصْلُحَ لِلدُّخُولِ على الْأَفْعَالِ فَهِيَ كَ رُبَّ وَأَمَّا أَيْنَ وَحَيْثُ فَيَعُمَّانِ الْأَمْكِنَةَ وقد ذَكَرَهُمَا ابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ وَأَمَّا كَيْفَ وإذا فَقَدْ ذَكَرَهُمَا الْقَرَافِيُّ من الصِّيَغِ إذَا كانت كَيْفَ اسْتِفْهَامِيَّةً أو اتَّصَلَتْ بها ما إذَا جُوزِيَ بها وَهُمَا دَاخِلَانِ في إطْلَاقِهِمْ عُمُومَ أَسْمَاءِ الشَّرْطِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ حَيْثُمَا وَمَتَى ما من صِيَغِ الْعُمُومِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ مَتَى أَعَمُّ من إذَا السَّادِسَ عَشَرَ وما بَعْدَهُ إلَى آخِرِ الْعِشْرِينَ مَهْمَا وَأَنَّى وَأَيَّانَ وَإِذْ ما على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وأي حِينٍ وَكَمْ أَمَّا مَهْمَا فَهِيَ اسْمٌ بِدَلِيلِ عَوْدِ الضَّمِيرِ إلَيْهَا وَلَا يُعَادُ إلَّا إلَى الْأَسْمَاءِ وَهِيَ من أَدَوَاتِ الْجَزْمِ بِاتِّفَاقٍ وَتَجِيءُ لِلِاسْتِفْهَامِ قَلِيلًا وَأَمَّا أَنَّى فَأَصْلُهَا الِاسْتِفْهَامُ إمَّا بِمَعْنَى من أَيْنَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَنَّى لَكِ هذا وَإِمَّا بِمَعْنَى كَيْفَ كَقَوْلِهِ أَنَّى يُؤْفَكُونَ وَأَمَّا أَيَّانَ فَهِيَ في الْأَزْمَانِ بِمَنْزِلَةِ مَتَى لَكِنْ مَتَى أَشْهَرُ منها وَلِذَلِكَ تُفَسَّرُ أَيَّانَ بِمَتَى وَأَمَّا إذْ ما فَهِيَ من أَدَوَاتِ الشَّرْطِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَكُلُّهَا تَدْخُلُ في إطْلَاقِهِمْ أَنَّ أَسْمَاءَ الشُّرُوطِ من صِيَغِ الْعُمُومِ وَلِمَا فيها من الْإِبْهَامِ وَعَدَمِ الِاخْتِصَاصِ بِوَقْتٍ دُونَ غَيْرِهِ وَأَمَّا أَيُّ حِينٍ على طَرِيقَةِ من يَصِلُهَا من أَيِّ الْمُقَدَّمَةِ وَأَمَّا كَمْ الِاسْتِفْهَامِيَّة لَا الْخَبَرِيَّةُ فَإِنَّمَا عُدَّتْ من صِيَغِ الْعُمُومِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ بها سَائِغٌ في جَمِيعِ مَرَاتِبِ الْأَعْدَادِ لَا يَخْتَصُّ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ كما أَنَّ مَتَى
____________________
(2/246)
سَائِغَةٌ في جَمِيعِ الْأَزْمَانِ وأين في جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ ومن في جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ فإذا قِيلَ كَمْ مَالُكَ حَسُنَ الْجَوَابُ بِأَيِّ عَدَدٍ شِئْتَ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ الْأَسْمَاءُ الْمَوْصُولَةُ سِوَى ما تَقَدَّمَ من ما وَمَنْ وَأَيٍّ وَهِيَ الذي وَاَلَّتِي وَجُمُوعُهُمَا من الَّذِينَ وَاَللَّاتِي وَذُو الطَّائِيَّةِ وَجَمْعُهَا وقد بَلَغَ بِذَلِكَ الْقَرَافِيُّ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ صِيغَةً وقد صَرَّحَ بِأَنَّ الذي من صِيَغِ الْعُمُومِ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْإِفَادَةِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ تَقْتَضِي الْعُمُومَ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ من وما وَأَيُّ وَمَتَى وَنَحْوُهَا من الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ لَا تُسْتَوْعَبُ بِظَاهِرِهَا وَإِنَّمَا تُسْتَوْعَبُ بِمَعْنَاهَا عِنْدَ قَوْمٍ من حَيْثُ إنَّ الْإِبْهَامَ يَقْتَضِي ذلك وقال أَصْحَابُ الْأَشْعَرِيِّ إنَّهُ يَجْرِي في بَابِهِ مُجْرَى اسْمٍ مَنْكُورٍ كَقَوْلِنَا رَجُلٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ زَيْدًا أو عَمْرًا فَلَا يُصَارُ إلَى أَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلِيلٍ وَالْإِبْهَامُ لَا يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ بَلْ يَحْتَاجُ إلَى قَرِينَةٍ انْتَهَى وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلَ بِأَنَّ من وما إذَا كَانَتَا مَوْصُولَتَيْنِ لَا تَعُمَّانِ يقول بِأَنَّ الذي وَاَلَّتِي وَفُرُوعَهُمَا لَيْسَتْ لِلْعُمُومِ أَمَّا الْحُرُوفُ الْمُوصَلَةُ فَلَيْسَتْ لِلْعُمُومِ اتِّفَاقًا وَإِنَّمَا يَكُونُ الذي إذَا كانت جِنْسِيَّةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وما أُنْزِلَ من قَبْلِكَ إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لهم مِنَّا الْحُسْنَى إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعُمُومَ في ذلك كُلِّهِ مُسْتَفَادٌ من الصِّيغَةِ أَمَّا الْعَهْدِيَّةُ فَلَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وقال الذي آمَنَ يا قَوْمِ قد سمع اللَّهُ قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا أو نَحْوِهِ وَعَدَّ الْحَنَفِيَّةُ من الصِّيَغِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الْمَوْصُولَةَ الدَّاخِلَةَ على اسْمِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ فَلَوْ قال لِعَبِيدِهِ الضَّارِبُ مِنْكُمْ زَيْدًا حُرٌّ وَلِنِسَائِهِ الدَّاخِلَةُ مِنْكُنَّ الدَّارَ طَالِقٌ عَتَقَ الْجَمِيعُ وَطُلِّقَ الْكُلُّ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ بِمَعْنَى الذي وهو ظَاهِرٌ على الْقَوْلِ الصَّحِيحِ إنَّهَا اسْمٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلَ لِمَا في الصِّفَةِ من الْجِنْسِيَّةِ وَتَكُونُ مُشْعِرَةً بِذَلِكَ وَمَنَعَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا عُمُومَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمَوْصُولَةِ قال لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ دَاخِلَةٌ في الْمُوصَلَاتِ فَلَهُ حُكْمُ الْعُمُومِ لِجَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَخَرَجَ من هذا أَنَّ اسْتِدْلَالَ الْأُصُولِيِّينَ
____________________
(2/247)
في إثْبَاتِ الْعُمُومِ من الْمُشْتَقَّاتِ الْمُعَرَّفَةِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ مِثْلُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ليس من مَحَلِّ النِّزَاعِ وَهَذَا الذي ذَكَرَهُ فيه نَظَرٌ لِمَا قَدَّمْنَا تَنْبِيهٌ جَعْلُ الْمَوْصُولَاتِ من صِيَغِ الْعُمُومِ مُشْكِلٌ لِأَنَّ النُّحَاةَ صَرَّحُوا بِأَنَّ شَرْطَ الصِّلَةِ أَنْ يَكُونَ مَعْهُودَةً مَعْلُومَةً لِلْمُخَاطَبِ وَلِهَذَا كانت مُعَرِّفَةً لِلْمَوْصُولِ وَالْمَعْهُودُ لَا عُمُومَ فيه كما صَرَّحَ بِهِ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فَإِنْ كانت اسْمًا فَلَا عُمُومَ فيها على ما سَبَقَ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ في الْحَرْفِيَّةِ وَاَلَّذِي تَدْخُلُ عليه أَقْسَامٌ أَحَدُهَا الْجَمْعُ سَوَاءٌ كان سَالِمًا أو مُكَسَّرًا لِلْقِلَّةِ أو الْكَثْرَةِ وَسَوَاءٌ كان له وَاحِدٌ من لَفْظِهِ أَمْ لَا كَالزَّيْدَيْنِ وَالْعَالَمِينَ وَالْأَرْجُلِ وَالرِّجَالِ وَالْأَبَابِيلِ وَمَدْلُولُ كُلٍّ مِنْهُمَا الْآحَادُ الْمُجْتَمِعَةُ دَالًّا عليها دَلَالَةَ تَكْرَارِ الْوَاحِدِ قَالَهُ بَدْرُ الدِّينِ بن مَالِكٍ في أَوَّلِ شَرْحِ الْخُلَاصَةِ وَدَلَالَةُ الْجَمْعِ على كل وَاحِدٍ من أَفْرَادِهِ مُطَابِقَةٌ وَلِهَذَا مَنَعُوا أَنْ يُقَالَ جاء رَجُلٌ وَرَجُلٌ وَرَجُلٌ في الْقِيَاسِ إذْ لَا فَائِدَةَ في التَّكْرَارِ لِإِغْنَاءِ لَفْظِ الْجَمْعِ عنه فَلَوْ كانت دَلَالَتُهُ على رَجُلٍ بِالتَّضَمُّنِ لَكَانَ قَوْلُنَا رَجُلٌ وَرَجُلٌ وَرَجُلٌ مُشْتَمِلًا على فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ الثَّانِي اسْمُ الْجَمْعِ سَوَاءٌ كان له وَاحِدٌ من لَفْظِهِ أَمْ لَا كَرَكْبٍ وَصَحْبٍ وَقَوْمٍ وَرَهْطٍ وما قِيلَ إنَّ قَوْمًا جَمْعُ قَائِمٍ كَصَوْمٍ وَصَائِمٍ وَهَمٌ قال ابن عُصْفُورٍ هذا النَّوْعُ لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ بَلْ هو مَحْفُوظٌ وقال ابن مَالِكٍ هو مَوْضِعٌ لِمَجْمُوعِ الْآحَادِ أَيْ لَا لِكُلِّ وَاحِدٍ على الِانْفِرَادِ وَكَذَا قال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ قال وَحَيْثُ تَثْبُتُ الْآحَادُ فَلِدُخُولِهَا في الْمَجْمُوعِ حتى لو قال الرَّهْطُ أو الْقَوْمُ الذي يَدْخُلُ الْحِصْنَ فَلَهُ كَذَا فَدَخَلَهُ جَمَاعَةٌ كان النَّفَلُ لِمَجْمُوعِهِمْ وَلَوْ دَخَلَهُ وَاحِدٌ لم يَسْتَحِقَّ شيئا فَإِنْ قُلْت إذَا لم يَتَنَاوَلْ كُلَّ وَاحِدٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْوَاحِدِ منه في مِثْلِ جَاءَنِي الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ ما يَجِبُ انْدِرَاجُهُ لَوْلَاهُ قُلْت من حَيْثُ إنَّ مَجِيءَ الْمَجْمُوعِ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ كل وَاحِدٍ حتى لو كان الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِالْمَجْمُوعِ من حَيْثُ هو مَجْمُوعٌ من غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ لِكُلِّ فَرْدٍ لم يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ
____________________
(2/248)
مِثْلُ يُطِيقُ رَفْعَ هذا الْحَجَرِ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا وَهَذَا كما يَصِحُّ عِنْدِي عَشَرَةٌ إلَّا وَاحِدًا وَلَا يَصِحُّ الْعَشَرَةُ زَوْجٌ إلَّا وَاحِدًا إذْ ليس الْحُكْمُ على الْآحَادِ بَلْ على الْمَجْمُوعِ الثَّالِثُ اسْمُ الْجِنْسِ الذي يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ بِالتَّاءِ وَلَيْسَ مَصْدَرًا وَلَا مُشْتَقًّا منه كَتَمْرٍ وَشَجَرَةٍ وَهَذَا هو الْمَشْهُورُ أَعْنِي كَوْنَهُ اسْمَ جِنْسٍ وَالْغَزَالِيُّ يُسَمِّيهِ جَمْعًا وابن مَالِكٍ يُسَمِّيهِ اسْمَ جَمْعٍ فإنه عَدَّهُ في أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ لَكِنْ سَمَّاهُ في شَرْحِ الْكَافِيَةِ اسْمَ جِنْسٍ وَاخْتُلِفَ في مَدْلُولِهِ على أَقْوَالٍ أَصَحِّهَا أَنَّهُ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ وَالْجِنْسُ مَوْجُودٌ مع كُلٍّ من الثَّلَاثَةِ وَحَكَى الْكِسَائَيُّ عن الْعَرَبِ إطْلَاقَهُ على الْوَاحِدِ وقال بِهِ الْكُوفِيُّونَ سَوَاءٌ كان الْوَاحِدُ مُذَكَّرًا أو مُؤَنَّثًا قال الرَّاغِبُ في مُفْرَدَاتِهِ النَّحْلُ يُطْلَقُ على الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ على أَقَلَّ من ثَلَاثَةٍ قَالَهُ ابن جِنِّي وَتَبِعَهُ ابن مَالِكٍ وَالثَّالِثِ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ إلَّا على جَمْعِ الْكَثْرَةِ وَنَقَلَ ذلك عن الشَّلَوْبِينَ وَابْنِ عُصْفُورٍ وهو مُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ مَالِكٍ في بَابِ أَمْثِلَةِ الْجَمْعِ وَلِأَجْلِ ذلك أَوْرَدَهُ شُرَّاحُ سِيبَوَيْهِ على قَوْلِهِ بَابُ عِلْمِ ما الْكَلِمُ من الْعَرَبِيَّةِ وَقَالُوا إنَّمَا هِيَ اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ ثُمَّ أَجَابُوا بِأَنَّ تَحْتَ كل نَوْعٍ منها أَنْوَاعًا وَالرَّابِعِ الْمُثَنَّى نَحْوُ الزَّيْدَانِ وَالرَّجُلَانِ وما أُلْحِقَ بِهِ وَدَلَالَتُهُ على كُلٍّ مِنْهُمَا كَدَلَالَةِ الْجَمْعِ على أَفْرَادِهِ الْخَامِسُ الدَّالُّ على الْحَقِيقَةِ وَأَفْرَادُهُ مُتَمَيِّزَةٌ وَلَيْسَ له مُؤَنَّثٌ بِالتَّاءِ كَرَجُلٍ وَفَرَسٍ وَالْقَصْدُ بِهِ الْجِنْسُ مع الْوَحْدَةِ ما لم تَقْتَرِنْ بِمَا يُزِيلُهَا من تَثْنِيَةٍ أو جَمْعٍ أو عُمُومٍ وَبِهِ جَزَمَ الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى وَالسَّكَّاكِيُّ وَالْقَرَافِيُّ وَيَشْهَدُ له تَثْنِيَتُهُ وَجَمْعُهُ وَصِحَّةُ قَوْلِك ما عِنْدِي رَجُلٌ بَلْ رَجُلَانِ السَّادِسُ الِاسْمُ الدَّالُّ على الْحَقِيقَةِ وَأَفْرَادُهُ مُتَمَيِّزَةٌ وهو مُؤَنَّثٌ لِإِطْبَاقِهِمْ على أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ ما يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ بِالتَّاءِ السَّابِعُ الِاسْمُ الدَّالُّ على الْحَقِيقَةِ من حَيْثُ هِيَ هِيَ وَلَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهَا عن بَعْضٍ وَلَيْسَ لها مُؤَنَّثٌ فَلَا إشْكَالَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فيه على وَحْدَةٍ وَلَا تَعَدُّدٍ كَالْمَاءِ وَالْعَسَلِ في الْأَعْيَانِ وَالضَّرْبِ وَالنَّوْمِ في الْمَصَادِرِ الثَّامِنُ ما كان كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ فيه التَّاءَ لَا من أَصْلِ الْوَضْعِ كَضَرْبَةٍ
____________________
(2/249)
فَمَدْلُولُهُ الْوَاحِدَةُ التَّاسِعُ ما كان عَدَدًا كَالثَّلَاثَةِ فَهُوَ نَصٌّ في مَدْلُولِهِ وهو مَوْضُوعٌ لِمَجْمُوعِهَا وَدَلَالَتُهُ على أَحَدِهَا بِالتَّضَمُّنِ الجمع إذا دخلت عليه الألف واللام إذا علمت هذا فإن دخلت الألف واللام على الجمع أفادت الاستغراق فإن تقدم عهد ودلت قرينة على قصده حمل عليه بلا خلاف وكان ذلك قرينة التخصيص ومنه ما إذا سبقه تنكير وظهر ترتب التعريف عليه لكن القاضي عبد الوهاب في الإفادة قال اختلف في الألف واللام على ثلاثة مذاهب أحدها أنه يحمل على معهود إن كان فإن لم يكن حمل على الجنس وهو قول أكثر الفقهاء والثاني عكسه أنها تحمل على الجنس إلا أن يقوم دليل على العهد الثالث أنه يحمل عند فقد العهد على الجنس من غير تعميم وفيه خلاف آخر وهو أنه لا بد من عهد وإلا لم يصح دخولها انتهى وإن لم يسبقه عهد فهي للعموم عند معظم العلماء قاله ابن برهان وقاله ابن الصباغ إنه إجماع أصحابنا وحكي عن الجبائي أنها لا تقتضي الاستغراق قال ابن السمعاني سواء جمع السلامة والتكسير كاقتلوا المشركين واعمروا مساجد الله وقال سليم الرازي في التقريب سواء المشتق وغيره كالمسلمين والرجال وقال غيره سواء كان للقلة كالمسلمين والمسلمات أو للكثرة كالعباد والرجال وحكاه أبو الحسين البصري في المعتمد عن أبي علي الجبائي وجماعة الفقهاء وحكي عن أبي هاشم أنه يفيد الجنس لا الاستغراق وحكاه صاحب الميزان عن أبي علي الفارسي وأبي هاشم قال وحكي عنه أنه فرق بين المفرد والجمع فقال وفي المفرد يصرف إلى مطلق الجنس من غير استغراق إلا بدليل وحكاه المازري عن الشيخ أبي حامد الإسفراييني من أصحابنا وهو غريب قال وقالوا في قوله تعالى وإن الفجار لفي جحيم إنه يستوعب من حيث دخول الألف واللام ثم أنكر إلكيا هذا وقال الألف واللام معناها في لسان العرب تعريف العهد لا غير
____________________
(2/250)
هكذا قال سيبويه وأن الألف الأصل لما كانت ساكنة ولم يتوصل إلى النطق بها وأن حرف التعريف هو اللام فثبت أنه لا يصير عاما ومستوعبا بدخول الألف واللام وقد كان ولم يكن مستوعبا قبل دخولها ولو كان اللام مفيدا للاستيعاب لما صح دخوله عن الأسماء المفردة لأن معناه لا يتغير بكون الاسم مفردا أو مجموعا كما لا يتغير معنى سائر الحروف قال ولذلك زعم المحققون أن عموم قوله تعالى والسارق والسارقة الزانية والزاني في معناه وهو ترتب الحكم على الوصف بفاء التعليل وهو أقرب من ادعاء العموم من لفظه ولعل إلكيا بنى هذا على قول أرباب الخصوص فإنه قال بعد ذلك الصحيح أن هذه الألفاظ للعموم ونبه أبو الحسين على فائدة ترفع الخلاف وهي أن أبا هاشم وإن لم يجعله مستغرقا من جهة اللفظ فهو عنده عام من جهة المعنى إن صلح له كقوله تعالى وإن الفجار لفي جحيم فإنه يفيد أنهم في الجحيم لأجل فجورهم فوجب أن يكون كل فاجر كذلك لأنه خرج مخرج الزجر انتهى هذا كله إذا قام الدليل على أنه لم يرد العهد فإن أشكل الحال واحتمل كونها للعهد أو الاستغراق أو الجنس فلم يصرحوا فيها بنقل صريح ويخرج من كلامهم فيها ثلاثة مذاهب وظاهر كلام بعضهم أنها تحمل على العهد وبه صرح ابن مالك من النحويين وظاهر كلام أكثر الأصوليين أنها تحمل على الاستغراق لعموم فائدته ولدلالة اللفظ عليه ونقله ابن القشيري عن المعظم وصاحب الميزان عن أبي بكر بن السراج النحوي فقال إذا تعارضت جهتا العهد والجنس يصرف إلى الجنس وهو الذي أورده الماوردي والروياني في أول كتاب البيع قالا لأن الجنس يدخل تحته العهد والعهد لا يدخل تحته الجنس والثالث أنه مجمل لأن عمومه ليس من صيغته بل من قرينة نفي المعهود فيتعين الجنس لأنه لا يخرج عنها وهو قول إمام الحرمين وتبعه ابن القشيري في كتابه وقال صاحبه إلكيا الهراسي إنه الصحيح لأن الألف واللام للتعريف وليست إحدى جهتي التعريف بأولى من الثانية فيكتسب اللفظ جهة الإجمال لاستوائه بالنسبة إليها قلت وما ذكره إمام الحرمين قد حكاه الأستاذ أبو إسحاق في كتابه عن بعض أصحابنا وقال قبله إن المذهب أنه عام ولا يصار إلى غير العموم إلا بدليل
____________________
(2/251)
ويخرج من كلام ابن دقيق العيد مذهب رابع فإنه قال في شرح العنوان وعندنا أن هذا مختلف باختلاف السياق ومقصود الكلام ويعرف ذلك بقرائن ودلائل منه وأصل الخلاف أن الألف واللام للعموم عند عدم العهد وليست للعموم عند قرينة العهد لكن هل الأصل فيها العموم حتى يقوم دليل على خلافه أو الأصل أنها موضوعة للعهد حتى يقوم دليل على عدم إرادته فيه وكلام الأصوليين فيه مضطرب ومن أخذ بظواهر عباراتهم حكى في ذلك قولين وقد صرح بها بعض متأخري الحنفية فقال الأصل هو للعهد الخارجي لأنه حقيقة التعيين وكمال التمييز ثم الاستغراق لأن الحكم على نفس الحقيقة بدون اعتبار الأفراد قليل الاستعمال جدا والعهد الذهني موقوف على وجود قرينة البعضية فالاستغراق هو المفهوم من الإطلاق حيث لا عهد في الخارج خصوصا في الجمعية هذا ما عليه المحققون وقيل العهد الذهني مقدم على الاستغراق بناء على أن البعض متيقن وهذا معارض فإن الاستغراق أعم فائدة وأكثر استعمالا في الشرع وأحوط في أكثر الأحكام أعني الإيجاب والندب والتحريم والكراهة وأن البعض أحوط في الإباحة ومنقوض بثبوت الماهية فإنه لا يوجد بدون الماهية وقد جعلوه متأخرا عن الاستغراق بها على أنه لا يفيد فائدة جديدة زائدة على ما يفيد الاسم بدون اللام ويظهر أثر هذا الخلاف فيما إذا لم تقم قرينة على إرادة عهد في أن العهد مراد أم لا هل يحمل على العموم أم لا وذكر الماوردي في كتاب الأيمان من الحاوي عند الكلام فيما إذا حلف لا يشرب ماء النهر أن الألف واللام يستعملان تارة للجنس وللعهد أخرى وأنه حقيقة فيهما فإن قيل إذا كانت القرينة تصرف إلى العهد وتمنع من الحمل على العموم فهلا جعلتم العام بالألف واللام مصروفا إلى العهد بقرينة السبب الخاص وقلتم إن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ أجيب بأن تقدم السبب الخاص قرينة في أنه لا يراد لا أن غيره ليس بمراد فنحن نعلمه بهذه القرينة ونقول دلالة هذا العام على محل السبب قطعية وعلى غيره ظنية إذ ليس في السبب ما يثبتها ولا ما ينفيها
____________________
(2/252)
ما يُفِيدُهُ جَمْعُ السَّلَامَةِ وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّ جَمْعَ السَّلَامَةِ لِلتَّكْثِيرِ كَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَقَسَّمَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ من النَّحْوِيِّينَ الْجَمْعَ إلَى قِسْمَيْنِ جَمْعِ سَلَامَةٍ وهو لِلتَّقْلِيلِ لِلْعَشَرَةِ فما دُونَهَا وَجَمْعِ تَكْسِيرٍ وهو نَوْعَانِ ما هو لِلْقِلَّةِ وَهِيَ أَرْبَعُ صِيَغٍ أَفْعَالٌ وَأَفْعُلٌ وَأَفْعِلَةٌ وَفِعْلَةٌ وَالْبَاقِي لِلتَّكْثِيرِ إذَا عُرِفَ هذا فَقَدْ اسْتَشْكَلَ كَيْفَ يَجْتَمِعُ الْعُمُومُ مع جَمْعِ الْقِلَّةِ وَالْأَوَّلُ يَسْتَغْرِقُ الْأَفْرَادَ وَالثَّانِي لَا يَسْتَغْرِقُ الْعَشَرَةَ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِوُجُوهٍ أَحَدِهِمَا أَنَّ الْعُمُومَ يَجْمَعُ ما لَا يَتَجَاوَزُ الْوَاحِدَ فَاجْتِمَاعُ الْعُمُومِ مع ما لَا يَتَجَاوَزُ الْعَشَرَةَ أَوْلَى فإذا قُلْت أَكْرِمْ الزَّيْدَيْنِ فَمَعْنَاهُ أَكْرِمْ كُلَّ وَاحِدٍ مُجْتَمِعٍ مع تِسْعَةٍ أو دُونَهَا إلَى اثْنَيْنِ بِخِلَافِ أَكْرِمْ الرِّجَالَ فَمَعْنَاهُ أَكْرِمْ كُلَّ وَاحِدٍ منهم مُنْضَمٍّ إلَى عَشَرَةٍ فَأَكْثَرَ الثَّانِي أَنَّ الْعُمُومَ في نَحْوِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ من الْمَنْقُولَاتِ الشَّرْعِيَّةِ التي تَصَرَّفَ الشَّارِعُ فيها بِالنَّقْلِ كما في الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهَا فَحَيْثُ جاء ذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَنَحْوِهِ في الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كان الْمُرَادُ بِهِ الْعُمُومَ تَصَرُّفًا من الشَّارِعِ فيه وَإِنْ لم يَكُنْ ذلك مُقْتَضَى الْعُمُومِ لُغَةً ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وَحَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عن بَعْضِ من عَاصَرَهُ ثُمَّ ضَعَّفَهُ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ يَدُلُّ على هذا التَّصَرُّفِ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ الثَّالِثِ ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ كما قال سِيبَوَيْهِ من أَنَّ كُلَّ اسْمٍ لَا تَسْتَمِرُّ الْعَرَبُ فيه بِصِيغَةِ الْكَثِيرِ فَصِيغَةُ التَّقْلِيلِ فيه مَحْمُولَةٌ على التَّكْثِيرِ أَيْضًا لِكَثْرَةِ الْفَائِدَةِ كَقَوْلِهِمْ في جَمْعٍ رِجْلٍ أَرْجُلٌ فَهُوَ لِلتَّكْثِيرِ الرَّابِعِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ يُحْمَلُ كَلَامُ سِيبَوَيْهِ على ما إذَا كان مُنَكَّرًا وَكَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ على ما إذَا كان مُعَرَّفًا بِأَلْ وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ اسْمَ الْعِلْمِ إذَا ثُنِّيَ أو جُمِعَ ولم يُعَرَّفْ بِاللَّامِ كان نَكِرَةً بِالِاتِّفَاقِ وَزَالَتْ عنه الْعَلَمِيَّةُ وَإِنَّمَا يُفِيدُ مُفَادَ الْعِلْمِ إذَا عُرِّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ كَالزَّيْدِينَ وَالزُّيُودِ فَمَوْضُوعُ الْجَمْعِ إذَا لم يُعَرَّفْ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الِاسْتِيعَابَ كما في قَوْله تَعَالَى وَقَالُوا مَالَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كنا نَعُدُّهُمْ بِخِلَافِ حَالَةِ التَّعْرِيفِ وَيَشْهَدُ له قَوْلُ الْفَارِسِيِّ وَابْنِ مَالِكٍ بِأَنَّ جَمْعَيْ التَّصْحِيحِ لِلْقِلَّةِ ما لم يَقْتَرِنْ بِأَلْ
____________________
(2/253)
التي لِلِاسْتِغْرَاقِ أو يُضَافُ إلَى ما يَدُلُّ على الْكَثْرَةِ فَإِنْ اقْتَرَنَ صُرِفَ إلَى الْكَثْرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَقَوْلِهِ وَهُمْ في الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ وقد جَمَعَ بين الْأَلِفِ وَاللَّامِ وَالْإِضَافَةِ حَسَّانُ رضي اللَّهُ عنه في قَوْلِهِ لنا الْجَفَنَاتُ الْغُرُّ يَلْمَعْنَ في الضُّحَى وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ من نَجْدَةٍ دَمًا وَاعْتَرَضَ الْمَازِرِيُّ وَالْإِبْيَارِيُّ على إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في اتِّفَاقِ الْأُصُولِيِّينَ على أَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ يُفِيدُ الْعُمُومَ وَنَقَلَا الْخِلَافَ فيه عن الشَّيْخِ أبي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وهو غَرِيبٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لم يَثْبُتْ عنه وَإِنَّمَا نُقِلَ فيه عن أبي هَاشِمٍ وقد سَبَقَ في كَلَامِ أبي الْحُسَيْنِ ما يَقْتَضِي رَفْعَ الْخِلَافِ فَكَلَامُ الْإِمَامِ إذَنْ مُسْتَقِيمٌ وقال بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ قد قِيلَ إنَّ جَمْعَ الْقِلَّةِ لَا يَدُلُّ على الِاسْتِغْرَاقِ وهو ما يَكُونُ على وِزَانِ الْأَفْعَالِ كَالْأَبْوَابِ أو الْفِعْلَةِ كَالصِّبْيَةِ قال وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَدُلَّ هذا على الِاسْتِغْرَاقِ وَلَكِنَّ دَلَالَتَهُ دُونَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ وَاعْتَرَضَ الْأَصْفَهَانِيِّ شَارِحِ الْمَحْصُولِ عليه بِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ الْمُنَكَّرَ لَا خِلَافَ فيه وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْخَامِسِ قال الْإِمَامُ أَيْضًا إنَّ جَمْعَ السَّلَامَةِ مَوْضُوعٌ في الْعَرَبِيَّةِ لِلْقِلَّةِ وقد يُسْتَعْمَلُ في الْكَثْرَةِ وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فَنَظَرُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى غَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَنَظَرُ النَّحْوِيِّينَ إلَى أَصْلِ الْوَضْعِ فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ وَهَذَا الذي قَالَهُ الْإِمَامُ نَقَلَهُ ابن الصَّائِغِ في شَرْحِ الْجُمَلِ عن سِيبَوَيْهِ فقال مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ جَمْعَيْ السَّلَامَةِ لِلتَّقْلِيلِ غير أَنَّ كَثِيرًا من الْأَسْمَاءِ لَا سِيَّمَا الصِّفَاتِ يُقْتَصَرُ منها على جَمْعِ السَّلَامَةِ وَلِذَلِكَ تُسْتَعْمَلُ في الْكَثْرَةِ أَكْثَرَ من غَيْرِهِ كَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَزَعَمَ ابن خَرُوفٍ أَنَّهُمَا مَوْضُوعَانِ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فإنه مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِيهِمَا وَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ وقال صَاحِبُ الْبَسِيطِ من النَّحْوِيِّينَ إنَّهُ الْحَقُّ وَهَذَا أَبْلَغُ في تَقْوِيَةِ مَقَالَةِ الْإِمَامِ وقد حَكَاهُ ابن الْقُشَيْرِيّ في أُصُولِهِ عن الزَّجَّاجِ أَيْضًا فإنه قال في قَوْله تَعَالَى وَاذْكُرُوا اللَّهَ في أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ وَإِنْ كان جَمْعَ السَّلَامَةِ فَلَا يَدُلُّ على الْقِلَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَهُمْ في الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ قال ابن إيَازٍ وَاسْتُضْعِفَ لِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا دَارَ بين الْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ فَالْمَجَازُ أَوْلَى قال بَلْ جَمْعُ السَّلَامَةِ مُذَكَّرُهُ وَمُؤَنَّثُهُ لِلْقِلَّةِ فَإِنْ اُسْتُعْمِلَ في الْكَثْرَةِ فَذَلِكَ اتِّسَاعٌ وَهَاهُنَا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْجَمْعَ يَنْقَسِمُ إلَى سَالِمٍ وهو ما سَلِمَتْ فيه بِنْيَةُ
____________________
(2/254)
الْوَاحِدِ كَالزَّيْدِينَ وَالْهِنْدَاتِ وقد سَبَقَ الْكَلَامُ فيه وَإِلَى ما لَا يَسْلَمُ كَرِجَالٍ وهو ضَرْبَانِ جَمْعُ قِلَّةٍ وهو أَرْبَعَةٌ أَفْعِلَةٌ كَأَرْغِفَةٍ وَأَفْعُلٌ كَأَبْحُرٍ وَفِعْلَةٌ كَفِتْيَةٍ وَأَفْعَالٌ كَأَحْمَالٍ وَمَدْلُولُهُ من الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ وَوَقَعَ في الْبُرْهَانِ لِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ وَتَبِعَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ فقال وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ يُحْمَلُ على ما دُونَ الْعَشَرَةِ وهو تِسْعَةٌ لِتَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّهُ وُضِعَ لِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ ولم يَخُصُّوهُ بِثَلَاثَةٍ أو اثْنَيْنِ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ وقال صَاحِبُ الْبَسِيطِ من النَّحْوِيِّينَ قَوْلُهُمْ جَمْعُ الْقِلَّةِ من الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَة اُخْتُلِفَ في الْعَشَرَةِ فَمِنْهُمْ من جَعَلَهَا من جَمْعِ الْقِلَّةِ وهو قَوْلُهُ من أَدْخَلَ ما بَعْدَ إلَى فِيمَا قَبْلَهَا وَلِذَلِكَ يُقَالُ عَشَرَةُ أَفْلُس وَمِنْهُمْ من جَعَلَهَا أَوَّلَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ وَالتِّسْعَةُ مُنْتَهَى جَمْعِ الْقِلَّةِ وهو قَوْلُ من لم يُدْخِلْ وَأَمَّا تَمْيِيزُهَا بِجَمْعِ الْقِلَّةِ فَلِقُرْبِهَا من جَمْعِ الْقِلَّةِ قال تَعَالَى عليها تِسْعَةَ عَشَرَ فَجَمَعَ في هَذَيْنِ الْعَدَدَيْنِ أَكْثَرَ الْقَلِيلِ وَأَقَلَّ الْكَثِيرِ وما بَعْدَ الْعَشَرَةِ كَثِيرٌ بِالِاتِّفَاقِ انْتَهَى وَهَذِهِ فَائِدَةٌ ما يَدُلُّ عليه جَمْعُ الْجَمْعِ وَنَبَّهَ بَعْدَ ذلك على فَائِدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ جاء الْجَمْعُ في أَلْفَاظٍ مَسْمُوعَةٍ نَحْوُ نَعَمٌ وَأَنْعَامٌ وَأَنَاعِيمُ وَهَذَا جَمْعُ الْجَمْعِ قال وَأَقَلُّهُ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ لِأَنَّ النَّعَمَ اسْمٌ لِلْجَمْعِ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ وَأَنْعَامٌ جَمْعُهُ وَأَقَلُّهُ تِسْعَةٌ وَأَنَاعِيمُ جَمْعُهُ وَأَقَلُّهُ ذلك وَلَوْ قُلْت في هذه الْمَسْأَلَةِ أَقَاوِيلُ لَكَانَ أَقَلُّهَا تِسْعَةً لِأَنَّهَا جَمْعُ أَقْوَالٍ وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ولم يُوضَعْ لِلِاسْتِغْرَاقِ بِاتِّفَاقٍ قال الْإِبْيَارِيُّ إنْ أَرَادَ ظَاهِرًا فَنَعَمْ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهُ قَطْعًا فَبَاطِلٌ وقد قال أَئِمَّةُ الْعَرَبِيَّةِ إنَّ الْجَمْعَ الْقَلِيلَ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْكَثِيرِ وَعَكْسَهُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ مَثَّلَ بَعْدَ ذلك بِقَوْلِهِ إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَظَاهِرُهُ إلْحَاقُ أَبْنِيَةِ الْقِلَّةِ من جَمْعِ التَّكْسِيرِ بِجَمْعِ السَّلَامَةِ في إفَادَةِ الْعُمُومِ وَبِهِ صَرَّحَ ابن قُدَامَةَ في الرَّوْضَةِ فقال إنَّهَا تُفِيدُ الْعُمُومَ إذَا عُرِّفَتْ وَيَكُونُ الْعُمُومُ مُسْتَفَادًا من الْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْجِنْسِ كما كان قَبْلَهُ في أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ الْمُفْرَدَةِ وهو اخْتِيَارُ الْأَصْفَهَانِيِّ وَالْقَرَافِيِّ وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الرَّازِيَّ في الْمَحْصُولِ وَابْنِ الْحَاجِبِ تَخْصِيصُ ذلك بِالْجَمْعِ السَّالِمِ وَأَنَّ جَمْعَ التَّكْسِيرِ لَمَّا كان لِلْقِلَّةِ لَا يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ وَإِنْ عُرِّفَ تَعْرِيفَ جِنْسٍ وَصَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ أبو نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ في كِتَابِهِ في الْأُصُولِ وَجَعَلَ الِاسْتِغْرَاقَ خَاصًّا بِجَمْعِ السَّلَامَةِ إذَا عُرِّفَ قال وَإِنَّمَا حَمَلَ قَوْلَهُ إنَّ الْأَبْرَارَ
____________________
(2/255)
لَفِي نَعِيمٍ على الْعُمُومِ لِقَرِينَةٍ فَائِدَةٌ أَلْ إذَا دَخَلَتْ على الْجَمْعِ الثَّانِي أَنَّ أَدَاةَ الْعُمُومِ إذَا دَخَلَتْ على الْجَمْعِ فَهَلْ تَسْلُبُهُ مَعْنَى الْجَمْعِ وَيَصِيرُ لِلْجِنْسِ وَيُحْمَلُ على أَقَلِّهِ وهو الْوَاحِدُ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ على الْكَلِمَةِ عُمُومَانِ أو مَعْنَى الْجَمْعِ بَاقٍ مَعَهَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ الْأَوَّلُ وَقَضِيَّةُ مَذْهَبِنَا الثَّانِي وَلِهَذَا اشْتَرَطُوا ثَلَاثَةً من كل صِنْفٍ في الزَّكَاةِ إلَّا الْعَامِلِينَ وَقَالُوا لو حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ أو لَا يَشْتَرِي الْعَبِيدَ حَنِثَ عِنْدَهُمْ بِالْوَاحِدِ وَعِنْدَنَا لَا يَحْنَثُ إلَّا بِثَلَاثَةٍ كما نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ الطَّلَاقِ مُحَافَظَةً على الْجَمْعِ ولم يَنْظُرُوا إلَى كَوْنِهِ جَمْعَ كَثْرَةٍ حتى لَا يَحْنَثَ إلَّا بِأَحَدَ عَشَرَ نعم ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ في بَابِ الْأَيْمَانِ من الْحَاوِي أَنَّهُ لو حَلَفَ لَا يَتَصَدَّقُ على الْمَسَاكِينِ حَنِثَ بِالصَّدَقَةِ على الْوَاحِدِ بِخِلَافِ ما لو قال لَأَتَصَدَّقَنَّ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِثَلَاثَةٍ لِأَنَّ نَفْيَ الْجَمْعِ مُمْكِنٌ وَإِثْبَاتَ الْجَمْعِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وقال السُّرُوجِيُّ في الْغَايَةِ ذَكَرَ ابن الصَّبَّاغِ في الشَّامِلِ أَنَّ اللَّامَ إذَا دَخَلَتْ على الْجُمُوعِ تَجْعَلُهَا لِلْجِنْسِ كَقَوْلِنَا لَكِنَّ اشْتِرَاطَهُمْ الثَّلَاثَةَ من كل صِنْفٍ في الزَّكَاةِ يُخَالِفُ ما قَالَهُ ابن الصَّبَّاغِ قُلْت وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لو حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الْأَيَّامَ أو الشُّهُورَ وَقَعَ على الْعَشَرَةِ وَعِنْدَ صَاحِبَيْهِ يُحْمَلُ على الْأُسْبُوعِ وَالسَّنَةِ لِأَنَّهُ أَمْكَنُ الْعَهْدِ وَلَا يُحْمَلُ على الْجِنْسِ وَالرَّاجِحُ ما صَارَ إلَيْهِ أَصْحَابُنَا لِأَنَّ فيه عَمَلًا بِالصِّيغَتَيْنِ وهو بَقَاءُ مَعْنَى اللَّامِ وَمَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ لِأَنَّهُ الْمُسْتَعْمَلُ قال تَعَالَى لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ من بَعْدُ وَقَوْلُهُمْ فُلَانٌ يَرْكَبُ الْخَيْلَ وَيُلْزِمُ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ لَا يَصِحَّ منه الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا تَخْصِيصُهُ وَكَذَلِكَ في اسْمِ الْجِنْسِ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وقد قال تَعَالَى فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كلهم أَجْمَعُونَ إلَّا إبْلِيسَ وقال فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ إلَى قَوْلِهِ حتى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ تَخْصِيصِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا يَتَنَاهَى وقال تَعَالَى إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وقال تَعَالَى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا وَالْبَاقِي بَعْدَ تَخْصِيصِ الرِّبَا تَحْتَ الْبَيْعِ دَائِرٌ بين الْأَقَلِّ وَالْكُلِّ وهو كَثِيرٌ وَأَيْضًا اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ على جَوَازِ جَاءَنِي الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا وَيَلْزَمُ منه أَنْ لَا يُطْلَقَ جِنْسٌ من الْأَجْنَاسِ إلَّا على الْفَرْدِ الْحَقِيقِيِّ أو على كل الْجِنْسِ وهو بَعِيدٌ لِأَنَّ النُّحَاةَ أَطْبَقُوا على أَنَّ الْمَصْدَرَ يَصْلُحُ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ
____________________
(2/256)
بِدُونِ تَقَيُّدِهِمْ بِالْفَرْدِ الْحَقِيقِيِّ أو الْكُلِّ بَلْ أَطْلَقُوا ذلك وَكَذَلِكَ قالوا الْمَصْدَرُ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ لِصَلَاحِيَتِهِ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَثْنِيَتِهِ وَجَمْعِهِ وقال ابن الْمُنِيرِ في تَفْسِيرِهِ اللَّامُ تُفِيدُ الِاسْتِيعَابَ وَالْجَمْعِيَّةُ تُفِيدُ التَّعَدُّدَ وما كُلُّ تَعَدُّدٌ اسْتِيعَابًا فَإِنْ قُلْت أَلَيْسَ يَتَدَاخَلُ التَّعَدُّدُ وَالِاسْتِيعَابُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِالِاسْتِيعَابِ فَلَا يَحْتَاجُ مع لَامِ الْجِنْسِيَّةِ إلَى الْجَمْعِ قُلْت اُحْتِيجَ إلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ لِقَطْعِ احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ إلَى الْوَاحِدِ فَالْجِنْسُ الْعَامُّ الْمُفْرَدُ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّصَ إلَى الْوَاحِدِ وَلَا يَجُوزُ في الْجَمْعِ الْعَامِّ الْجِنْسِ أَنْ يُخَصَّصَ إلَى الْوَاحِدِ بَلْ يَقِفُ جَوَازُ التَّخْصِيصِ عِنْدَ أَقَلِّ ذلك الْجَمْعِ وَلَك أَنْ تَقُولَ الرَّجُلُ أَفْضَلُ من الْمَرْأَةِ تَفْضِيلٌ لِلْجِنْسِ وَاحِدًا وَاحِدًا وَالرِّجَالُ أَفْضَلُ من النِّسَاءِ تَفْضِيلٌ لِلْجِنْسِ جَمَاعَةً جَمَاعَةً وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِغَرَضٍ يَخُصُّهُ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِثْبَاتِ وَأَمَّا في النَّفْيِ فَقَالُوا إنَّ قَوْله تَعَالَى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ إنَّهُ لِلِاسْتِغْرَاقِ دُونَ الْجِنْسِ وَأَنَّ الْمَعْنَى لَا يُدْرِكُهُ كُلُّ بَصَرٍ وهو سَلْبُ الْعُمُومِ أَعْنِي نَفْيَ الشُّمُولِ فَيَكُونُ سَلْبًا جُزْئِيًّا وَلَيْسَ الْمَعْنَى لَا يُدْرِكُهُ شَيْءٌ من الْأَبْصَارِ لِيَكُونَ عُمُومُ السَّلْبِ أَيْ شُمُولُ النَّفْيِ لِكُلِّ وَاحِدٍ فَيَكُونُ سَلْبًا كُلِّيًّا كما أَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ في الْإِثْبَاتِ لِإِيجَابِ الْحُكْمِ لِكُلِّ فَرْدٍ فَكَذَلِكَ هو في النَّفْيِ لِسَلْبِ الْحُكْمِ عن كل فَرْدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وما اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ فإن اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِجِوَارِ أَنْ يَكُونَ ذلك بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لِلْجِنْسِ وَالْجِنْسُ في النَّفْيِ يَعُمُّ وَبِأَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى تَعُمُّ الْأَحْوَالَ وَالْأَوْقَاتِ وَبِأَنَّ الْإِدْرَاكَ بِالْبَصَرِ أَخَصُّ من الرُّؤْيَةِ فَلَا يَلْزَمُ من نَفْيِهِ نَفْيُهَا اسْمُ الْجَمْعِ إذَا دَخَلَتْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَأَمَّا اسْمُ الْجَمْعِ إذَا دَخَلَتْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لِلْجِنْسِ وَلِهَذَا لو حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ الناس حَنِثَ بِالْوَاحِدِ كما لو قال لَا آكُلُ الْخُبْزَ حَنِثَ بِبَعْضِهِ بِخِلَافِ ما لو قال لَا أُكَلِّمُ نَاسًا يُحْمَلُ على ثَلَاثَةٍ نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ في بَابِ الْأَيْمَانِ عن ابْنِ الصَّبَّاغِ وَغَيْرِهِ لَكِنْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إلَّا بِجَمِيعِهِ وهو يَدُلُّ على أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْجَمْعِ في إفَادَةِ الِاسْتِغْرَاقِ وَظَاهِرُ كَلَامِ أبي الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ جَرَيَانُ خِلَافِ أبي هَاشِمٍ فيه فإنه جَعَلَ من صُوَرِ الْخِلَافِ لَفْظَ الناس
____________________
(2/257)
وَجَعَلَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ الْجَمْعَ مِمَّا يَعُمُّ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ وَهَذَا مِمَّا يَعُمُّ بِمَعْنَاهُ لَا بِصِيغَتِهِ أَقَلُّ ما يَدُلُّ عليه لَفْظُ الطَّائِفَةِ وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ من هذا الْقِسْمِ لَفْظَ الطَّائِفَةِ قال لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ إلَّا على قِطْعَةٍ من شَيْءٍ وَاخْتُلِفَ في أَقَلَّ ما يُطْلَقُ عليه ذلك هل هو ثَلَاثَةٌ أو أَقَلُّ فَمِنْ حَيْثُ كان مَدْلُولُهَا الْقِطْعَةَ من الناس لم تَكُنْ عَامَّةً لِأَنَّ مَدْلُولَ الْعُمُومِ شُمُولٌ لِغَيْرِ مُتَنَاهٍ وَلَا مَحْصُورٍ قُلْت وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ في الْمُخْتَصَرِ على أَنَّ أَقَلَّ الطَّائِفَةِ ثَلَاثَةٌ فقال في بَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَالطَّائِفَةُ ثَلَاثَةٌ فَأَكْثَرُ وَأَكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِأَقَلَّ من طَائِفَةٍ انْتَهَى هذا نَصُّهُ وَاتَّفَقَ عليه الْأَصْحَابُ وَذَكَرُوا عن أبي بَكْرِ بن دَاوُد أَنَّهُ قال قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَقَلُّ الطَّائِفَةِ ثَلَاثَةٌ خَطَأٌ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ في اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ تُطْلَقُ على وَاحِدٍ أَمَّا في اللُّغَةِ فَحَكَى ثَعْلَبٌ عن الْفَرَّاءِ أَنَّهُ قال مَسْمُوعٌ من الْعَرَبِ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْوَاحِدُ وَأَمَّا في الشَّرْعِ فَلِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رضي اللَّهُ عنه احْتَجَّ في قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَلَوْلَا نَفَرَ من كل فِرْقَةٍ منهم طَائِفَةٌ فَحَمَلَ الطَّائِفَةَ على الْوَاحِدِ وقال تَعَالَى وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ من الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ وَأُجِيبُ بِأَجْوِبَةٍ أَشْهُرُهَا تَسْلِيمُ أَنَّ الطَّائِفَةَ يَجُوزُ إطْلَاقُهَا على الْوَاحِدِ فما فَوْقَهُ وَحَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَهُ ابن قُتَيْبَةَ وابن فَارِسٍ في فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ وَإِنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الطَّائِفَةَ في صَلَاةِ الْخَوْفِ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا تَكُونَ أَقَلَّ من ثَلَاثَةٍ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فإذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا من وَرَائِكُمْ وقال في الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لم يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَك وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ فَذَكَرَهُمْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ في كل الْمَوَاضِعِ وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ وَثَانِيهِمَا أنها لَا تُطْلَقُ إلَّا على ثَلَاثَةٍ كما هو ظَاهِرُ النَّصِّ وَبِهِ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ من أَهْلِ اللُّغَةِ منهم الزَّمَخْشَرِيُّ فقال وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ أو أَرْبَعَةٌ وَإِنَّمَا حَمَلَ الشَّافِعِيُّ الطَّائِفَةَ على الْوَاحِدِ في قَوْلِهِ فَلَوْلَا نَفَرَ من كل فِرْقَةٍ منهم طَائِفَةٌ بِالْقَرِينَةِ وَهِيَ حُصُولُ الْإِنْذَارِ بِالْوَاحِدِ كما حَمَلَهُ في الْأُولَى على الثَّلَاثَةِ بِقَرِينَةٍ وَهِيَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ وقال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في كِتَابِهِ في الْأُصُولِ في الْكَلَامِ على أَقَلِّ الْجَمْعِ جاء أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ وقال وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أنها تَقَعُ على الْوَاحِدِ
____________________
(2/258)
كَالْقِطْعَةِ فَيُقَالُ هذه طَائِفَةٌ من هذا أَيْ قِطْعَةٌ منه قال وَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إلَى أَنَّ الطَّائِفَةَ إنَّمَا تُطْلَقُ على الْقِطْعَةِ من الشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَلَا يَكُونُ حِينَئِذٍ فيه دَلِيلٌ على الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ هذه طَائِفَةٌ من الثَّوْبِ وَنَحْوِهِ فَأَمَّا إذَا أُطْلِقَ اسْمُهَا على جِنْسٍ كَالنَّاسِ وَالْحَيَوَانِ وَالْفِيلِ فَالْمَقْصُودُ بها الْجَمَاعَةُ كما يُقَالُ كان طَائِفَةٌ من الناس أَيْ جَمَاعَةٌ وَالْجَمَاعَةُ أَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ هذا كَلَامُهُ وقد اُخْتُلِفَ في دَلَالَةِ بَعْضِ أَفْرَادِ هذا النَّوْعِ كَالْقَوْمِ فإن بَعْضَهُمْ قال يَعُمُّ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ وَالصَّحِيحُ اخْتِصَاصُهُ بِالذُّكُورِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ من قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا منهم وَلَا نِسَاءٌ من نِسَاءٍ وَكَذَلِكَ الرَّهْطُ قال الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ إنَّهُ اسْمٌ لِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ من الرِّجَالِ لَا يَكُونُ فِيهِمْ امْرَأَةٌ قال ابن سِيدَهْ الرَّهْطُ جَمْعٌ من ثَلَاثَةٍ إلَى عَشَرَةٍ وَكَذَلِكَ النَّفَرُ وَعَلَى هذا فَفِي عَدِّ هذه الْأَسْمَاءِ من صِيَغِ الْعُمُومِ نَظَرٌ اسْمُ الْجِنْسِ إذَا أُدْخِلَتْ عليه الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَأَمَّا اسْمُ الْجِنْسِ بِأَقْسَامِهِ السَّابِقَةِ فإذا دَخَلَتْ عليه الْأَلِفُ وَاللَّامُ سَوَاءٌ الِاسْمُ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أو الصِّفَةُ الْمُشْتَقَّةُ كَالضَّارِبِ وَالْمَضْرُوبِ وَالْقَائِمِ وَالسَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ فَإِنْ كان لِلْعَهْدِ فَخَاصٌّ سَوَاءٌ الذِّكْرِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى كما أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ أو الذِّهْنِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ على يَدَيْهِ يقول يا لَيْتَنِي اتَّخَذْت مع الرَّسُولِ سَبِيلًا فإن اللَّامَ في الرَّسُولِ لِلْعَهْدِ وهو النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَإِنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ في اللَّفْظِ وَإِنْ لم يُرَدْ بِهِ مَعْهُودٌ فَاخْتَلَفُوا فيه على أَقْوَالٍ أَحَدِهَا أَنَّهُ يُفِيدُ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ وَنُقِلَ عن نَصِّ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ والبويطي وَنَقَلَهُ أَصْحَابُهُ عنه في قَوْله تَعَالَى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وهو كَذَلِكَ في الْأُمِّ من رِوَايَةِ الرَّبِيعِ وَيَدُلُّ عليه قَوْله تَعَالَى وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ إنْكَارًا على قَوْلِ عبد اللَّهِ بن أُبَيٍّ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ منها الْأَذَلَّ فَدَلَّ على أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ الْمُعَرَّفِ يَعُمُّ وَلَوْلَا ذلك لَمَا تَطَابَقَ وَالْفُقَهَاءُ كَالْمُجْمِعِينَ عليه في اسْتِدْلَالِهِمْ بِنَحْوِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي وهو الْحَقُّ لِأَنَّ الْجِنْسَ مَعْلُومٌ قبل دُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فإذا دَخَلَتَا وَلَا مَعْهُودَ فَلَوْ لم يَجْعَلْهُ لِلِاسْتِغْرَاقِ لم يُفِدْ شيئا جَدِيدًا
____________________
(2/259)
وقال الْأُسْتَاذ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ إنَّهُ الْمَذْهَبُ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن الْقَائِلِينَ بِالصِّيَغِ قال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وهو قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ وَكَافَّةِ الْفُقَهَاءِ وقال بِهِ أبو عبد اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ وَنَسَبَهُ لِأَصْحَابِهِ الْحَنَفِيَّةِ وقال الْقُرْطُبِيُّ إنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ من الْفُقَهَاءِ وقال الْبَاجِيُّ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَبِهِ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وابن بَرْهَانٍ وابن السَّمْعَانِيِّ وَالْجُبَّائِيُّ وَنَصَرَهُ عبد الْجَبَّارِ وَصَحَّحَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وابن الْحَاجِبِ وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ عن الشَّافِعِيِّ وَالْأَكْثَرِينَ وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ عن الْمُبَرِّدِ وَالْفُقَهَاءِ قُلْت وَنَصَّ عليه سِيبَوَيْهِ فإنه قال قَوْلُك شَرِبْت مَاءَ الْبَحْرِ مَحْكُومٌ بِفَسَادِهِ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ وَلَوْلَا اقْتِضَاؤُهُ الْعُمُومَ لَمَا جاء الْفَسَادُ لَكِنْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في أَنَّ الْعُمُومَ فيه من حَيْثُ اللَّفْظُ أو الْمَعْنَى على وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَصَحَّحَ ابن السَّمْعَانِيِّ أَنَّهُ من حَيْثُ الْمَعْنَى وَكَأَنَّهُ لَمَّا قال وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فُهِمَ أَنَّ الْقَطْعَ من أَجْلِ السَّرِقَةِ وَصَحَّحَ سُلَيْمٌ أَنَّهُ من جِهَةِ اللَّفْظِ لِأَنَّ اللَّامَ إمَّا لِلْعَهْدِ وهو مَفْقُودٌ فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ وَذَلِكَ مَأْخُوذٌ من اللَّفْظِ وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ لِإِفَادَتِهِ الْعُمُومَ أَنْ يَصْلُحَ أَنْ يَخْلُفَ اللَّامَ فيه كُلُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ وَلِهَذَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ منه وَالثَّانِي أَنَّهُ يُفِيدُ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ وَلَا يُحْمَلُ على الِاسْتِغْرَاقِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ عن أبي هَاشِمٍ وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمِيزَانِ عن أبي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ النَّحْوِيِّ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَأَتْبَاعُهُ وَحَكَى بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ عن الْجُبَّائِيُّ أَنَّهُ على الْعَهْدِ وَلَا يَقْتَضِي الْجِنْسَ قال وَحَقِيقَةُ هذا الْقَوْلِ أَنَّهُ إذَا لم يَعْرِفْ عَيْنَ الْمَعْهُودِ صَارَ مُجْمَلًا لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْمُرَادَ إلَّا بِتَفْسِيرٍ وَهَذَا صِفَةُ الْمُجْمَلِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالْجِنْسِ وَلِبَعْضِ الْجِنْسِ وَلَا يُصْرَفُ إلَى الْكُلِّ إلَّا بِدَلِيلٍ وَحَكَاهُ الْغَزَالِيُّ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ يُحْكَمُ بِظَاهِرِهِ وَيُطْلَبُ دَلِيلُ الْمُرَادِ بِهِ وَالرَّابِعُ التَّفْصِيلُ بين ما فيه الْهَاءُ وَبَيْنَ ما لَا هَاءَ فيه فما ليس فيه الْهَاءُ لِلْجِنْسِ عِنْدَ فِقْدَانِهَا وفي الْقِسْمِ الْآخَرِ التَّوَقُّفُ وَنَقَلَهُ الْإِبْيَارِيُّ عن إمَامِ الْحَرَمَيْنِ
____________________
(2/260)
وقال إنَّهُ الصَّحِيحُ وَاَلَّذِي في الْبُرْهَانِ وَنَقَلَهُ عنه الْمَازِرِيُّ أَنَّهُ إنْ تَجَرَّدَ عن عَهْدٍ فَلِلْجِنْسِ نَحْوُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي وَإِنْ لَاحَ عَدَمُ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ لِلْجِنْسِ فَلِلِاسْتِغْرَاقِ نَحْوُ الدِّينَارُ أَشْرَفُ من الدِّرْهَمِ وَإِنْ لم يَعْلَمْ هل خَرَجَ على عَهْدٍ أو إشْعَارٍ بِجِنْسٍ فَمُجْمَلٌ وَأَنَّهُ حَيْثُ يَعُمُّ لَا يَعُمُّ بِصِيغَةِ اللَّفْظِ وَإِنَّمَا ثَبَتَ عُمُومُهُ وَتَنَاوَلَهُ الْجِنْسُ بِحَالَةٍ مُقْتَرِنَةٍ معه مُشْعِرَةٍ بِالْجِنْسِ الْخَامِسُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَتَمَيَّزَ لَفْظُ الْوَاحِدِ فيه عن الْجِنْسِ بِالتَّاءِ كَالتَّمْرِ وَالتَّمْرَةِ فإذا عُرِّيَ عن التَّاءِ اقْتَضَى الِاسْتِغْرَاقَ كَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ وَالتَّمْرَ بِالتَّمْرِ قال في الْمَنْخُولِ وَأَنْكَرَهُ الْفَرَّاءُ مُسْتَدِلًّا بِجَوَازِ جَمْعِهِ على تُمُورٍ وَرُدَّ بِأَنَّهُ جُمِعَ على اللَّفْظِ لَا الْمَعْنَى وَإِنْ لم تَدْخُلْ فيه التَّاءُ لِلتَّوْحِيدِ فَإِنْ لم يَتَشَخَّصْ مَدْلُولُهُ ولم يَتَعَدَّدْ كَالذَّهَبِ فَهُوَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ إذْ لَا يُعَبَّرُ عن أَبْعَاضِهِ بِالذَّهَبِ الْوَاحِدِ وَإِنْ تَشَخَّصَ مَدْلُولُهُ وَتَعَدَّدَ كَالدِّينَارِ وَالرَّجُلِ فَيَحْتَمِلُ الْعُمُومَ نَحْوُ لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ وَيَحْتَمِلُ تَعْرِيفَ الْمَاهِيَّةِ وَلَا يُحْمَلُ على الْعُمُومِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَإِنَّمَا الْجِنْسُ قَوْلُك الدِّينَارُ أَفْضَلُ من الدِّرْهَمِ بِقَرِينَةِ التَّسْعِيرِ وَهَذَا التَّفْصِيلُ ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى والمنخول وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بن دَقِيقِ الْعِيدِ وَالْمَرِيسِيُّ وَنَازَعَهُ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ في الدِّينَارِ وَالرَّجُلِ وقال الْحَقُّ ما حَقَّقَهُ وهو في كِتَابِ مِعْيَارِ الْعِلْمِ في الِاسْمِ الْمُفْرَدِ إذْ دخل عليه الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ فإنه أَطْلَقَ فيه اقْتِضَاءَهُ الِاسْتِغْرَاقَ بِمُجَرَّدِهِ وَلَا يَحْتَاجُ فيه إلَى قَرِينَةٍ زَائِدَةٍ وقال في الْمُسْتَصْفَى يُحْتَمَلُ كَوْنُهَا لِلْعَهْدِ أو الْجِنْسِ وَكَأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا وَهَذَا تَنَاقُضٌ قال وَالْعُمُومُ فيه غَيْرُ عُمُومِ الْحُكْمِ لِكُلِّ وَاحِدٍ فإن عُمُومَ الِاسْمِ الْمُفْرَدِ إنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَدُلُّ على مَعْنًى يَدْخُلُ تَحْتَهُ كَثْرَةٌ تَشْمَلُهُ وَيَصِحُّ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ عن كل وَاحِدٍ منها وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِ الْمُفْرَدِ كُلِّيًّا وَأَمَّا الْعُمُومُ الْآخَرُ وهو عُمُومُ الْحُكْمِ لِكُلِّ وَاحِدٍ فَلَا يَكُونُ إلَّا في قَوْلٍ كَخَبَرٍ أو أَمْرٍ أو نَهْيٍ مِثْلُ الْإِنْسَانُ في خُسْرٍ وَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ وَالْحُكْمُ في قَوْلِك خُسْرٍ وَكَذَلِكَ الْقَتْلُ في الْأَمْرِ انْتَهَى وَحَكَى الْإِمَامُ وابن الْقُشَيْرِيّ عن بَعْضِ الْقَائِلِينَ بِصِيَغِ الْعُمُومِ أَنَّ ما كان من أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ يُجْمَعُ كَالتَّمْرِ وَالتُّمُورِ فإن ذلك لَا يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ لِأَنَّ ذلك إنَّمَا يُؤْخَذُ منه حَالَةُ
____________________
(2/261)
الْجَمْعِ قال الْإِمَامُ وَهَذَا لَا حَاصِلَ له فإن الِاسْتِغْرَاقَ ثَابِتٌ في أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ وَيَرِدُ عليهم امْتِنَاعُ قَوْلِ الْقَائِلِ تَمْرٌ وَاحِدٌ وهو أَظْهَرُ من مُتَعَلِّقِهِمْ في الْجَمْعِ وقد قال سِيبَوَيْهِ النَّاقَةُ تُجْمَعُ على نُوقٍ ثُمَّ النُّوقُ تُجْمَعُ على نِيَاقٍ وَهُمَا من أَبْنِيَةِ الْكَثْرَةِ ثُمَّ يُجْمَعُ النِّيَاقُ على أَيْنُقْ هو وهو مَقْلُوبُ آنِقٍ أو أَنِيقً وَالْأَفْعَلُ من جَمْعِ الْقِلَّةِ ثُمَّ قال الْإِمَامُ وَالْحَقُّ أَنَّ التَّمْرَ أَقْعَدُ بِالْعُمُومِ من التُّمُورِ لِاسْتِرْسَالِهِ على الْآحَادِ لَا بِصِيغَةٍ لَفْظِيَّةٍ وَأَمَّا التُّمُورُ فإنه يَرِدُ إلَى تَخَيُّلِ الْوَحَدَاتِ ثُمَّ يَجِيءُ الِاسْتِغْرَاقُ بَعْدَهُ من صِيغَةِ الْجَمْعِ قال شَارِحُوهُ يُرِيدُ أَنَّ مُطْلَقَ لَفْظِ التَّمْرِ بِإِزَاءِ الْمَعْنَى الْمُشْتَمِلِ لِلْآحَادِ وَالتَّمْرُ يُلْتَفَتُ فيه إلَى الْوَاحِدِ فَلَا يَحْكُمُ فيه على الْحَقِيقَةِ بَلْ على أَفْرَادِهَا وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إذَا قال تُمُورٌ فَقَدْ تَخَيَّلَ رَدَّهُ إلَى الْوَاحِدِ عِنْدَ إرَادَةِ الْجَمْعِ وَأَرَادَ دَلَالَتَهُ على الْجِنْسِ وَهِيَ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فيها وَصَيَّرَ دَلَالَةَ الْجِنْسِ إلَى لَفْظِ الْجَمْعِ الذي فيه خِلَافٌ وَقَوْلُهُ الْجَمْعُ يُرَدُّ إلَى تَخَيُّلِ الْوَحَدَاتِ يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ الْمَقْصُودَةُ وَإِلَّا فَاسْمُ الْجِنْسِ يَتَخَيَّلُ فيه الْوَحَدَاتِ لَكِنَّ آحَادَهُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بِخِلَافِ الْجَمْعِ وَتَمْثِيلُهُ بِالتَّمْرِ مُعَرَّفًا يُؤْخَذُ منه أَنَّ التَّمْرَ مُفْرَدٌ وَأَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ يَعُمُّ وقد اُخْتُلِفَ في التَّمْرِ هل هو اسْمُ جِنْسٍ لِأَنَّهُ تَمَيَّزَ بِهِ وَلَا تَمَيُّزَ إلَّا بِأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ أو جَمْعُ تَمْرَةٍ يُفَرَّقُ بين وَاحِدِهِ وَجَمْعِهِ بِالتَّاءِ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ فإن التَّمْرَ لَا يَدُلُّ على أَفْرَادٍ مَقْصُودَةٍ بِالْعَدَدِ وَإِنَّمَا يُجْمَعُ إذَا قَصَدْت أَنْوَاعَهُ لَا أَفْرَادَهُ فَهُوَ في أَصْلِ وَضْعِهِ كَمَاءٍ وقد قَرَأَ ابن عَبَّاسٍ كُلٌّ آمَنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكِتَابِهِ وقال كِتَابُهُ أَكْثَرُ من كُتُبِهِ يُرِيدُ أَنَّ كِتَابَهُ يَنْصَرِفُ إلَى جِنْسِ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ فَدَلَالَتُهُ أَعَمُّ من كُتُبِهِ لِأَنَّ كُتُبَهُ جَمْعٌ قال الزَّمَخْشَرِيُّ لِأَنَّ الْكِتَابَ وَاحِدٌ نُحِيَ بِهِ نَحْوُ الْجِنْسِ فَهُوَ أَبْلَغُ في الْعُمُومِ من الْجَمْعِ فَمَعْنَاهُ مُفْرَدًا أَدَلُّ على الِاسْتِغْرَاقِ منه جَمْعًا وفي قَوْلِهِ نَحَّى بِهِ نحو اسْمِ الْجِنْسِ ما يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ غير اسْمِ الْجِنْسِ لِأَنَّ ما نُحِيَ بِهِ نَحْوُ الشَّيْءِ غَيْرُ ذلك الشَّيْءِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَرَى أَنَّ تَمْرًا اسْمُ جَمْعٍ لَا جَمْعٌ كَرَهْطٍ وَقَوْمٍ وهو قَوْلٌ فَفِي تَمْرٍ إذَنْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وقال في قَوْله تَعَالَى وَالْمَلَكُ على أَرْجَائِهَا إنَّ الْمَلَكَ أَعَمُّ من الْمَلَائِكَةِ وَذُكِرَ هذا الْمَعْنَى في مَوَاضِعَ وَاعْلَمْ أَنَّ هذا الْخِلَافَ نَظِيرُ الْخِلَافِ السَّابِقِ في الْأَلِفِ وَاللَّامِ الدَّاخِلَةِ على الْجَمْعِ وَيَزِيدُ هَاهُنَا مَذَاهِبُ أُخْرَى كما بَيَّنَّا
____________________
(2/262)
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الدَّاخِلَةَ على الْمُفْرَدِ أو الْجَمْعِ تُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ فِيهِمَا جميعا عِنْدَ مُعْظَمِ الْأُصُولِيِّينَ إلَّا إذَا كان مَعْهُودًا وَالثَّانِي أَنَّهُ لِمُطْلَقِ الْجِنْسِ فِيهِمَا لَا الِاسْتِغْرَاقِ وهو أَحَدُ قَوْلَيْ أبي هَاشِمٍ من الْمُعْتَزِلَةِ وَالثَّالِثُ وهو قَوْلُهُ الْآخَرُ إنَّهُ في الْمُفْرَدِ لِمُطْلَقِ الْجِنْسِ وفي الْجَمْعِ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ لَا لِلِاسْتِغْرَاقِ إلَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ وقال الزَّمَخْشَرِيُّ إذَا دَخَلَتْ على الْمُفْرَدِ كان صَالِحًا لَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ إلَى أَنْ يُحَاطَ بِهِ وَأَنْ يُرَادَ بِهِ بَعْضُهُ إلَى الْوَاحِدِ منه وإذا دَخَلَتْ على الْجَمْعِ صَحَّ أَنْ يُرَادَ بِهِ جَمِيعُ الْجِنْسِ وَأَنْ يُرَادَ بِهِ بَعْضُهُ لَا إلَى الْوَاحِدِ وَهَذَا مَنْقُوضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ من بَعْدُ فإن الْحُرْمَةَ غَيْرُ مُتَوَقِّفَةٍ على الْجَمْعِ وقَوْله تَعَالَى فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَالصَّحِيحُ ما ذَهَبَ إلَيْهِ الْعَامَّةُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ وَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ الْجِنْسِ بِدَلِيلِ اسْتِثْنَاءِ الْمُؤْمِنِينَ منه وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لقد خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ إلَى قَوْلِهِ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَقَوْلِهِ إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إلَى قَوْلِهِ إلَّا الْمُصَلِّينَ وَاسْتِثْنَاءُ الْمُصَلِّينَ دَالٌّ على الِاسْتِغْرَاقِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عليه السَّلَامُ الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ وَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ جِنْسِ الْحِنْطَةِ وَلَنَا في الْجَمْعِ قَوْله تَعَالَى يَأَيُّهَا الناس وَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ الْجِنْسِ وَكَذَا قَوْلُهُ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ وَالْمُرَادُ بِهِ الْكُلُّ وَالْمَعْقُولُ في الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مُطْلَقَ الْجِنْسِ كان مُسْتَفَادًا قبل دُخُولِ اللَّامِ وَلَا بُدَّ لِدُخُولِهَا من فَائِدَةٍ وَلَيْسَ ذلك إلَّا الِاسْتِغْرَاقَ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الدَّاخِلَةَ على اسْمِ الْجِنْسِ إمَّا أَنْ يَقْصِدَ بها الْعَهْدَ فَلَا إشْكَالَ في عَدَمِ عُمُومِهِ وَإِمَّا أَنْ يَقْصِدَ بها تَعْرِيفَ اسْمِ الْجِنْسِ فَلَا إشْكَالَ في عُمُومِهِ وَإِمَّا أَنْ يُشْكِلَ الْحَالُ فَهَلْ يُحْمَلُ على الْعُمُومِ أو الْعَهْدِ خِلَافٌ وَالصَّحِيحُ التَّعْمِيمُ وَإِمَّا أَنْ يَقْصِدَ تَعْرِيفَ الْمَاهِيَّةِ أَيْ حَقِيقَةَ الْجِنْسِ مع قَطْعِ النَّظَرِ عن
____________________
(2/263)
الْأَفْرَادِ فَهِيَ لِبَيَانِ الْحَقِيقَةِ وَمِنْهُ قَوْلُك الرَّجُلُ أَفْضَلُ من الْمَرْأَةِ قال ابن الْقُشَيْرِيّ في أُصُولِهِ هذا مِمَّا تَرَدَّدُوا فيه فَقِيلَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ وَقِيلَ لَا وَاخْتَارَ الْإِمَامُ التَّفْصِيلَ بين أَنْ يُعَرِّفَ هُنَا بِنَاءً على تَنْكِيرٍ سَابِقٍ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ اُقْتُلْ رَجُلًا ثُمَّ يَقُولَ اُقْتُلْ الرَّجُلَ فَلَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ فَإِنْ قَالَهُ ابْتِدَاءً فَلِلْجِنْسِ وَإِنْ لم يَدْرِ هل خَرَجَ تَعْرِيفًا لِنَكِرَةٍ سَابِقَةٍ أو إشْعَارًا بِالْجِنْسِ فَمَيْلُ الْمُعْظَمِ إلَى أَنَّهُ لِلْجِنْسِ وَالْحَقُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ مُجْمَلٌ فإنه من حَيْثُ يَعُمُّ لَا يَعُمُّ بِصِيغَةِ اللَّفْظِ بَلْ لِاقْتِرَانِ حَالَةٍ مُشْعِرَةٍ بِالْجِنْسِ فإذا لم تُوجَدْ لم يُتَّجَهْ إلَى التَّوَقُّفِ وَإِمَّا أَنْ يَدْخُلَ لِلَمْحِ الصِّفَةِ كَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ أو لِلْغَلَبَةِ كَالنَّجْمِ لِلثُّرَيَّا فَلَا إشْكَالَ في عَدَمِ عُمُومِهَا كَغَيْرِهَا من الْأَعْلَامِ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ قال الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ احْتِمَالَانِ عَامًّا وَمُجْمَلًا بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ وَتَرَدَّدَا بَيْنَهُمَا وَمِنْ الْعَامِّ الذي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ وَعَامًّا في كل بَيْعٍ إلَّا ما نَهَتْ عنه السُّنَّةُ وَفِيهِ سُؤَالَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قد يُشْكِلُ الْفَرْقُ بين الِاحْتِمَالِ الْأَخِيرِ وَالْأَوَّلِ قال ابن التِّلِمْسَانِيِّ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ في الْفَرْقِ إنَّ الْأَوَّلَ على تَقْدِيرِ أَنَّ لِلشَّارِعِ عُرْفًا في الْأَسْمَاءِ وإذا كان لِلشَّارِعِ عُرْفٌ في الْبَيْعِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَمَتَى وَرَدَ الِاسْمُ منه صُرِفَ إلَى عُرْفِهِ فَقَوْلُهُ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يَتَنَاوَلُ ذلك الْمُسَمَّى الشَّرْعِيَّ وَيَنْدَرِجُ فيه كُلُّ نَوْعٍ من أَنْوَاعِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا تَخْصِيصَ فيه وَلَا اسْتِثْنَاءَ وَأَمَّا الْأَخِيرُ فَعَلَى قَوْلِنَا إنَّ الشَّارِعَ لم يُغَيِّرْ الْأَسْمَاءَ وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَهَا في مَوْضُوعِهَا اللُّغَوِيِّ فَيَكُونُ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ أَيْ كُلُّ ما يُسَمَّى بَيْعًا لُغَةً إلَّا ما نُهِيَ عنه على لِسَانِ نَبِيِّهِ عليه السَّلَامُ أو كان في مَعْنَاهُ فَهُوَ عَامٌّ بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ إلَيْهِ ثُمَّ يَتَرَجَّحُ احْتِمَالُ الِاسْتِغْرَاقِ في الْآيَةِ فإنه لَا يَتَوَقَّفُ على تَوَقُّفِهِ وَأَنَّ الْإِجْمَاعَ على خِلَافِ الْأَصْلِ الثَّانِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ في آيَةِ الْبَيْعِ على أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ وَاخْتَلَفَ في قَوْلِهِ في آيَةِ الزَّكَاةِ وَهِيَ قَوْلُهُ وَآتُوا الزَّكَاةَ إلَى قَوْلَيْنِ
____________________
(2/264)
أَحَدِهِمَا أنها عَامَّةٌ خَصَّصَتْهَا السُّنَّةُ وَالثَّانِي مُجْمَلَةٌ بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ وَهُمَا من جِهَةِ اللَّفْظِ وَالتَّعْرِيفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَاحِدٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُفْرَدٌ مُشْتَقٌّ مُعَرَّفٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَإِنْ عَمَّ من حَيْثُ اللَّفْظُ فَلْيَعُمَّ في الْآيَتَيْنِ وَإِنْ عَمَّ من حَيْثُ الْمَعْنَى فَلْيَعُمَّ فِيهِمَا وَإِنْ لم يَعُمَّ من حَيْثُ اللَّفْظُ وَلَا من حَيْثُ الْمَعْنَى فَلْيَكُنْ ذلك في الْآيَتَيْنِ مع أَنَّ الصَّحِيحَ في آيَةِ الْبَيْعِ الْعُمُومُ وفي آيَةِ الزَّكَاةِ الْإِجْمَالُ وَالسِّرُّ في ذلك أَنَّ حِلَّ الْبَيْعِ على وَفْقِ الْأَصْلِ من حَيْثُ إنَّ الْأَصْلَ في النَّافِعِ الْحِلُّ وفي الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ بِأَدِلَّةٍ شَرْعِيَّةٍ فَمَهْمَا حُرِّمَ الْبَيْعُ فَهُوَ على خِلَافِ الْأَصْلِ وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَهِيَ على خِلَافِ الْأَصْلِ لِتَضَمُّنِهَا أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إرَادَتِهِ فَوُجُوبُهَا على خِلَافِ الْأَصْلِ ثُمَّ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ في الْبَابَيْنِ نَاظِرَةٌ إلَى هذا الْمَعْنَى فَلِذَلِكَ اعْتَنَى عليه السَّلَامُ بِبَيَانِ الْمَبِيعَاتِ الْفَاسِدَةِ كَالنَّهْيِ عن بَيْعِ حَبَلِ الْحُبْلَةِ وَالْمَضَامِينِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ ولم يَعْتَنِ بِبَيَانِ الْمَبِيعَاتِ الصَّحِيحَةِ وَأَمَّا في الزَّكَاةِ فإنه عليه السَّلَامُ اعْتَنَى بِبَيَانِ ما يَجِبُ فيه الزَّكَاةُ ولم يَعْتَنِ بِبَيَانِ ما لَا يَجِبُ فيه الزَّكَاةُ فَمَنْ ادَّعَى الزَّكَاةَ في شَيْءٍ مُخْتَلَفٍ فيه كَالرَّقِيقِ وَالْخَيْلِ فَقَدْ ادَّعَى حُكْمًا على خِلَافِ الدَّلِيلِ وَأَمَّا تَرَدُّدُ الشَّافِعِيِّ في آيَةِ الْبَيْعِ هل الْمُخَصِّصُ أو الْمُبَيِّنُ لها الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ دُونَ الزَّكَاةِ فَلِأَنَّهُ عَقَّبَ حِلَّ الْبَيْعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَحَرَّمَ الرِّبَا وَالرِّبَا من أَنْوَاعِ الْبَيْعِ اللُّغَوِيَّةِ ولم يُعَقِّبْ الزَّكَاةَ بِشَيْءٍ الثَّالِثُ عن هذا الْخِلَافِ نَشَأَ الْخِلَافُ في مَعْنَى الْحَمْدِ فقال عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ جَمِيعُ الْمَحَامِدِ لِلَّهِ لِأَنَّ اللَّامَ لِلِاسْتِغْرَاقِ وقال الْمُعْتَزِلَةُ ما يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ من الْحَمْدُ بِحَسْبِهِ فَهُوَ لِلَّهِ لِأَنَّ اللَّامَ لِمُطْلَقِ الْجِنْسِ وَلِهَذَا قال الزَّمَخْشَرِيُّ وَمَعْنَاهُ الْإِشَارَةُ إلَى ما يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ من الْحَمْدِ ما هو وما قِيلَ من أَنَّ اللَّامَ في الْحَمْدِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لِلْعَهْدِ فَذَلِكَ كَلَامٌ بِلَا أَسَاسٍ لِأَنَّهُ لم يَصِحَّ عَنْهُمْ هذا النَّقْلُ بَلْ قالوا إنَّ اللَّامَ فيه لِمُطْلَقِ الْجِنْسِ وَبِهَذَا ظَهَرَ تَقْرِيرُ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ الِاسْتِغْرَاقَ الذي قَالَهُ كَثِيرٌ من الناس وَهَمٌ منهم الرَّابِعُ حَكَى الْقَرَافِيُّ عن الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ أَنَّهُ اسْتَشْكَلَ على هذه الْقَاعِدَةِ بِقَوْلِ الْقَائِلِ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي فإنه لَا يَلْزَمُهُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ بِنَاءً على أَنَّهُ الْتِزَامُ أَصْلِ الطَّلَاقِ وَعَلَى قِيَاسِ الْقَاعِدَةِ يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ وَأَجَابَ بِأَنَّ هذا نَقْلٌ عن مُسَمَّاهُ اللُّغَوِيِّ
____________________
(2/265)
إلَى الْعُرْفِ فَنَقْلُ الْعُرْفِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ عن الْعُمُومِ إلَى حَقِيقَةِ الْجِنْسِ في الطَّلَاقِ خَاصَّةٌ لِدَلِيلٍ وَبَقِيَ على عُمُومِهِ في غَيْرِ هذا الْبَابِ وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّ الطَّلَاقَ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ لَا أَفْرَادَ له وَلَكِنْ له مَرَاتِبُ مُشْتَرَكَةٌ في قَطْعِ عِصْمَةِ النِّكَاحِ فَحُمِلَ على أَدْنَى الْمَرَاتِبِ الْخَامِسُ قال الزَّمَخْشَرِيُّ في تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ لَامُ الْجِنْسِ تُخَصِّصُ جِنْسًا من سَائِرِ الْأَجْنَاسِ كَ لَامِ الْعَهْدِ تُخَصِّصُ وَاحِدًا من الْآحَادِ وَلَا يَكُونُ تَخْصِيصٌ ما لم يَكُنْ عُمُومٌ أو تَقْدِيرُهُ فَتَقُولُ إنْ زَارَك الصَّدِيقُ أَيْ من صِفَتُهُ الصَّدَاقَةُ خَاصَّةً دُونَ الْعَدُوِّ وَمَنْ ليس بِصَدِيقٍ وَلَا عَدُوٍّ فَإِنْ نُكِّرَتْ زَالَ هذا التَّخْصِيصُ وَانْقَلَبَ إلَى مَعْنَى الشِّيَاعِ في كل صَدِيقٍ قال فَقَوْلُنَا رَجُلٌ فَاسِقٌ هو بَعْضٌ من شِيَاعِهِ وَلَيْسَ فيه إفْرَازُ الْفَاسِقِ من الْعَدْلِ وَلَا قَصَدَ إلَى ذلك وَإِنَّمَا كان يَقْصِدُ إلَيْهِ لو دَخَلَتْ اللَّامُ فإن التي تُمَيِّزُ الْجِنْسَ مِمَّا سِوَاهُ وَالصِّفَةُ إنَّمَا تَقْتَضِي الشِّيَاعَ وَالْكَلَامُ في التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ أَدَقُّ من الدَّقِيقِ وَأَمَّا الْمُثَنَّى فقال الْقَرَافِيُّ هو كَالْجَمْعِ في الْعُمُومِ ثُمَّ قال لَا يُفْهَمُ الْعُمُومُ من إضَافَةِ التَّثْنِيَةِ في شَيْءٍ من الصُّوَرِ سَوَاءٌ كان الْفَرْدُ يَعُمُّ أَمْ لَا فإذا قال عَبْدَايَ حُرَّانِ لم يَتَنَاوَلْ غَيْرَهُمَا وَكَذَلِكَ مَالَايَ فَالْفَهْمُ عن الْعُمُومِ في التَّثْنِيَةِ بِخِلَافِ الْجَمْعِ وَالْفَرْدِ انْتَهَى وَالْإِضَافَةُ وَالتَّعْرِيفُ سَوَاءٌ وَكَلَامُهُ الْأَوَّلُ لَا يَجْتَمِعُ مع الثَّانِي وَسَيَأْتِي فيه مَزِيدٌ في الْإِضَافَةِ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ الْعُمُومُ مِمَّا ذَكَرْنَا مُخْتَلِفٌ فَالدَّاخِلُ على اسْمِ الْجِنْسِ يَعُمُّ الْأَفْرَادَ أَعْنِي كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ وَالدَّاخِلُ على الْجَمْعِ يَعُمُّ الْجُمُوعَ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ تَعُمُّ أَفْرَادَ ما دَخَلَا عليه وقد دَخَلَا على جَمْعٍ فَتَفَطَّنْ له وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الِاسْتِدْلَال بِهِ في النَّفْيِ وَالنَّهْيِ على ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِفَرْدٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَصَلَ النَّفْيُ وَالنَّهْيُ عن كل فَرْدٍ وَلَا قَرِينَةَ تَنْفِي كُلَّ فَرْدٍ وَهَذَا لَا يُعَارِضُ ما تَقَدَّمَ من أَنَّ الْعُمُومَ من بَابِ الْكُلِّيَّةِ لِأَنَّ كُلِّيَّةَ الْجَمْعِ هِيَ أَفْرَادُ الْمَجْمُوعِ لَا كُلُّ فَرْدٍ من أَفْرَادِ كل جَمْعٍ وَيَنْبَغِي على مَسَاقِ هذا التَّقْدِيرِ أَنْ تَخْتَلِفَ الْجُمُوعُ فَتَشْمَلَ جُمُوعَ الْقِلَّةِ ثَلَاثَةً ثَلَاثَةً وَلَا تَشْمَلُ جُمُوعُ الْكَثْرَةِ إلَّا أَحَدَ عَشَرَ أَحَدَ عَشَرَ وَهَذَا التَّقْدِيرُ مُشْكِلٌ على اسْتِدْلَالِ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الصِّيَغِ على كل فَرْدٍ فَرْدٍ
____________________
(2/266)
وقد أَجَابَ عنه الْقَرَافِيُّ بِأَنَّ الْعَرَبَ وَضَعَتْ التَّعْرِيفَ الْجِنْسِيَّ لِاسْتِغْرَاقِ جَمِيعِ أَفْرَادِ ما دخل عليه سَوَاءٌ كان مُفْرَدًا أو جَمْعًا في إثْبَاتٍ أو نَفْيٍ وَهَذَا لَا يُجْدِي لِأَنَّ النِّزَاعَ فيه وَالْخَصْمُ يقول إنَّمَا يَدُلُّ على أَفْرَادِ الْجُمُوعِ لَا على فَرْدٍ فَرْدٍ وقد يُقَالُ إنَّ قَرِينَةَ الْعُمُومِ الِاسْتِغْرَاقِيِّ هُنَا اقْتَضَتْ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٌ من الْآحَادِ لَا من مَرَاتِبِ الْجُمُوعِ لِأَنَّ ذلك أَقْوَى في دَلَالَةِ الْعُمُومِ الْكُلِّيَّةِ وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعَانِي إلَى أَنَّ اسْتِغْرَاقَ اسْمِ الْجِنْسِ الْمُفْرَدِ لِمَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ أَقْوَى من اسْتِغْرَاقِ الْجَمْعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَصْدُقُ قَوْلُ الْقَائِلِ لَا رَجُلَ في الدَّارِ إذْ كان فيها وَاحِدٌ أو اثْنَانِ وَيَصْدُقُ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ لَا رِجَالَ في الدَّارِ وَهَذَا إنَّمَا جاء في جَانِبِ النَّفْيِ أَمَّا في حَالَةِ الْإِثْبَاتِ مع التَّعْرِيفِ الْجِنْسِيِّ فَالشُّمُولُ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَكِنَّ طَرِيقَهُ مُخْتَلِفٌ كما سَبَقَ نَقْلُهُ عن إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَصَرَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ في قَوْله تَعَالَى وَكُتُبِهِ وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْكِتَابُ أَكْثَرُ من الْكُتُبِ وَقَرَّرَهُ ابن الْمُنِيرِ بِأَنَّ الْمُفْرَدَ يَدُلُّ على أَفْرَادِ جِنْسِهِ كُلِّهَا لَا بِصِيغَةٍ لَفْظِيَّةٍ بَلْ بِمَعْنَاهُ وَمَوْضُوعِهِ وَأَمَّا في الْجَمْعِ فإنه يُرَدُّ أَوَّلًا إلَى تَخَيُّلِ الْوَحَدَاتِ ثُمَّ يَحْصُلُ الِاسْتِغْرَاقُ بَعْدَ ذلك من صِيَغِ الْجَمْعِ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَقْوَى الثَّانِي أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ على أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْعُمُومِ وَأَطْبَقَ الْمَنْطِقِيُّونَ على أَنَّ نحو قَوْلِنَا الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ قَضِيَّةٌ مُهْمَلَةٌ في قُوَّةِ الْجُزْئِيَّةِ وقد تَكَلَّمَ الْغَزَالِيُّ في كِتَابِهِ مِعْيَارِ الْعِلْمِ على وَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فقال اعْلَمْ أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ الِاسْتِغْرَاقُ من لُغَةِ الْعَرَبِ وَجَبَ طَلَبُ الْمُهْلَةِ من لُغَةٍ أُخْرَى وَإِنْ لم يَثْبُتْ فَهُوَ مُهْمَلٌ إذْ يَحْتَمِلُ الْكُلَّ وَيَحْتَمِلُ الْجُزْءَ وَيَكُونُ قُوَّةُ الْمُهْمَلِ قُوَّةَ الْجُزْءِ لِأَنَّهُ بِالضَّرُورَةِ يَشْتَمِلُ عليه وَأَمَّا الْعُمُومُ فَمَشْكُوكٌ فيه وَلَيْسَ من ضَرُورَةِ ما يَصْدُقُ جُزْئِيًّا أَنْ لَا يَصْدُقَ كُلِّيًّا انْتَهَى وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إنْ سَلِمَ الِاسْتِغْرَاقُ لَزِمَ أَنَّهُ ليس في لُغَةِ الْعَرَبِ مُهْمَلٌ وَطَلَبَ ذلك من لُغَةٍ أُخْرَى إذْ ليس بَحْثُ الْمَنْطِقِيِّينَ قَاصِرًا على لُغَةٍ دُونَ لُغَةٍ وَإِنْ مُنِعَ الِاسْتِغْرَاقُ بِنَاءً على أنها كما تَأْتِي في لُغَةِ الْعَرَبِ لِلْعُمُومِ تَأْتِي لِلْخُصُوصِ كَالْعَهْدِ فَثَبَتَ أَنَّهُ يُرَادُ بها الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ بِاعْتِبَارَيْنِ فَلَا يَكُونُ بِمَعْنَى كُلٍّ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ لَفْظَ الْإِهْمَالِ إذَا أُطْلِقَ فَلَا يُفْهَمُ منه تَعْمِيمٌ وَلَا تَخْصِيصٌ إلَّا بِقَرِينَةٍ وَلَوْ كان يَدُلُّ على الْعُمُومِ وَيُقَابِلُ التَّنْوِينَ لِلتَّنْكِيرِ في الدَّلَالَةِ على الْخُصُوصِ لَكَانَ قَوْلُنَا الْإِنْسَانُ لَا يَدُلُّ على الْوَاحِدِ أَلْبَتَّةَ وَقَوْلُنَا إنْسَانٌ لَا يَتَنَاوَلُ الشِّيَاعَ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ وَأَخْذُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ بِمَعْنَى أنها سُوَرٌ هو الْمُغَلَّطُ فإن الْقَضِيَّةَ إذَا ذُكِرَتْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ صَدَقَتْ في بَعْضٍ ما وإذا قُرِنَ
____________________
(2/267)
بِهِ لَفْظُ السُّوَرِ كَذَبَتْ وَالسُّوَرُ الْكُلِّيَّةُ إنَّمَا تَدُلُّ على كُلِّيَّةِ الْحُكْمِ الْمَوْضُوعِ لَا على كُلِّيَّةِ الْمَحْمُولِ الثَّالِثُ أَجْمَعَ النُّحَاةُ بِأَنَّ أَلْ تَأْتِي لِتَعْرِيفِ الْحَقِيقَةِ وَالِاسْتِغْرَاقِ وَيَلْزَمُ عليه تَعْرِيفُ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ لِأَنَّهُمْ إمَّا أَنْ يُرِيدُوا تَعْرِيفَ الْحَقِيقَةِ من حَيْثُ هِيَ هِيَ أَيْ لو بِقَيْدِ وُجُودِهَا ذِهْنًا أو خَارِجًا فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ مَعَارِفَ كما قُلْنَا وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ أو تَعْرِيفَهَا من حَيْثُ وُجُودُهَا في الذِّهْنِ أو في الْخَارِجِ فَحِينَئِذٍ هِيَ الِاسْتِغْرَاقُ فَلَا فَرْقَ وَإِذْ قد تَعَذَّرَ هذا فَالْأَوْلَى ما قَالَهُ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ أَلْ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ خَاصَّةً حَيْثُمَا وَرَدَتْ فَحَيْثُ يُقَالُ هذه لِلْحَقِيقَةِ قُلْنَا لِلْعَهْدِ بِوَاسِطَةِ التَّهَكُّمِ أو غَيْرِهِ وَحَيْثُ قِيلَ لِلِاسْتِغْرَاقِ قُلْنَا لِلْعَهْدِ لَكِنَّ الصَّحِيحَ خِلَافُ هذا الْقَوْلِ لِمَا سَبَقَ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ الْإِضَافَةُ هِيَ من مُقْتَضَيَاتِ الْعُمُومِ كَالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَلِهَذَا عَاقَبَتْهَا فَإِنْ دَخَلَتْ على جَمْعٍ أَفَادَتْ الْعُمُومَ سَوَاءٌ كان جَمْعَ تَصْحِيحٍ أو جَمْعَ تَكْسِيرٍ كَذَا قالوا وفي تَعْمِيمِ أَبْنِيَةِ جَمْعِ التَّكْسِيرِ الْأَرْبَعَةِ التي لِلْقِلَّةِ نَظَرٌ كما لو قال أَعْبُدِي أَحْرَارٌ وَلَهُ عَبِيدٌ كَثِيرُونَ أَزْيَدُ من الْعَشَرَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ فيه ما سَبَقَ في الْأَلِفِ وَاللَّامِ من الْخِلَافِ وَأَمَّا اسْمُ الْجَمْعِ فَكَذَلِكَ وَأَمَّا اسْمُ الْجِنْسِ فَكَذَاك وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إنَّا رسول رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَوْلُهُ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ وَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم مَنَعَتْ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَدِينَارَهَا وَمَنَعَتْ الشَّامُ قَفِيزَهَا وَصَاعَهَا وَلِهَذَا لو حَلَفَ لَيَشْرَبَن مَاءَ هذا الْبِئْرِ فإنه يَحْنَثُ في الْحَالِ على الْأَصَحِّ لِأَنَّ لَفْظَهُ يَقْتَضِي جَمِيعَ مَائِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ فَكَانَ كَقَوْلِهِ لَأَصْعَدَن إلَى السَّمَاءِ وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْعُرْفَ حَمَلَهُ على التَّبْعِيضِ وهو مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَفَصَلَ الْقَرَافِيُّ بين أَنْ يَصْدُقَ على الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ نَحْوُ مَالِي صَدَقَةٌ فَيَعُمُّ وَبَيْنَ أَنْ يَصْدُقَ على الْجِنْسِ بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ فَلَا يَعُمُّ نَحْوُ عَبْدِي حُرٌّ وَامْرَأَتِي طَالِقٌ قال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ وقد أَشَارَ إلَيْهِ أبو عَمْرِو بن الْحَاجِبِ إشَارَةً لَطِيفَةً يَعْنِي في مُخْتَصَرِهِ الْكَبِيرِ حَيْثُ ذَكَرَ صِيَغَ الْعُمُومِ وَذَكَرَ أَسْمَاءَ الشَّرْطِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَالْمَوْصُولَاتِ وَالْجُمُوعِ الْمُعَرَّفَةَ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ وما في مَعْنَاهَا وَاسْمَ الْجِنْسِ الْمُعَرَّفَ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ وَالْمُضَافَ لِمَا يَصْلُحُ لِلْبَعْضِ وَالْجَمِيعِ فَقَوْلُهُ لِمَا يَصْلُحُ إلَخْ
____________________
(2/268)
يَقْتَضِي التَّقَيُّدَ بِمَا سَبَقَ وَهَذَا التَّفْصِيلُ لَعَلَّ الْقَرَافِيَّ أَخَذَهُ من تَفْصِيلِ الْغَزَالِيِّ السَّابِقِ في اسْمِ الْجِنْسِ إذْ دَخَلَتْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ فَخْرَ الدِّينِ في أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ على أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ صَرَّحَ بِأَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُضَافَ يَعُمُّ مع اخْتِيَارِهِ بِأَنَّ الْمُعَرَّفَ بِأَلْ لَا يَعُمُّ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْإِضَافَةَ أَدَلُّ على الْعُمُومِ من الْأَلِفِ وَاللَّامِ كما ذَكَرَهُ في تَفْسِيرِهِ ولم يَقِفْ الْهِنْدِيُّ على نَقْلٍ في ذلك فقال في النِّهَايَةِ وَكَوْنُ الْمُفْرَدِ الْمُضَافِ لِلْعُمُومِ وَإِنْ لم يَكُنْ مَنْصُوصًا لهم لَكِنَّ قَضِيَّةَ التَّسْوِيَةِ بين الْإِضَافَةِ وَلَامِ التَّعْرِيفِ تَقْتَضِي الْعُمُومَ وَالْحَقُّ أَنَّ عُمُومَ الْإِضَافَةِ أَقْوَى وَلِهَذَا لو حَلَفَ لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ حَنِثَ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ لِعَدَمِ تَنَاهِي أَفْرَادِهِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَاءَ الْبَحْرِ لَا يَحْنَثُ إلَّا بِكُلِّهِ وَهَاهُنَا دَقِيقَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْعُمُومَ فِيمَا ذَكَرْنَا مُخْتَلِفٌ فَالْمُفْرَدُ الْمُضَافُ يَعُمُّ مَرَاتِبَ الْآحَادِ وَأَمَّا الْجَمْعُ الْمُضَافُ فَهَلْ يَعُمُّ مَرَاتِبَ الْجُمُوعِ أو الْآحَادِ على قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ على أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ أو الْجِنْسُ وَأَمَّا الْمُثَنَّى الْمُضَافَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَأَصْلِحُوا بين أَخَوَيْكُمْ فَإِنْ قَدَّرْت الْإِضَافَةَ دَاخِلَةً على الْمُثَنَّى بَعْدَ التَّثْنِيَةِ كان مَعْنَاهَا التَّعْمِيمَ في كل فَرْدٍ من الْإِخْوَةِ وَإِنْ قَدَّرْت التَّثْنِيَةَ دَاخِلَةً بَعْدَ الْإِضَافَةِ كان مَعْنَاهَا تَثْنِيَةَ الْجِنْسَيْنِ الْمُضَافَيْنِ وَإِنْ كان الْجِنْسُ لَا يُثَنَّى وَالْعَامُّ لَا يُثَنَّى لِاسْتِغْرَاقِهِ لَكِنَّهُ لَمَّا امْتَازَ بِنَوْعٍ من الشِّقَاقِ جَازَ ذلك وقد سَبَقَ كَلَامُ الْقَرَافِيِّ فيه فَرْعٌ كان له أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ فقال زَوْجَتِي طَالِقٌ وَقَعَ على وَاحِدَةٍ وَعَلَيْهِ الْبَيَانُ قَالَهُ الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ تَطْلُقُ الْأَرْبَعُ لِأَنَّ لَفْظَ الْوَاحِدِ في الْأَيْمَانِ قد يُعَبَّرُ بِهِ عن الْجِنْسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ وَأَرَادَ لَيَالِيَ الصِّيَامِ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ مَجَازٌ وَالْكَلَامُ يُحَالُ على الْحَقِيقَةِ ما أَمْكَنَ وهو إنَّمَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ على وَاحِدَةٍ فَلَا يَقَعُ على الْجَمَاعَةِ قُلْت وَهَذَا الْفَرْعُ مُخَالِفٌ لِتَعْمِيمِ الْمُضَافِ وَيُجَابُ عنه بِمَا سَبَقَ في الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي من أَنَّ الْأَصْلَ فيه التَّعْمِيمُ وَإِنَّمَا خَصَّ هذه الصُّورَةَ وَأَمْثَالَهَا بِنَقْلِ الْعُرْفِ لها عن مَوْضُوعِهَا اللُّغَوِيِّ بِدَلِيلِ ما لو قال مَالِي صَدَقَةٌ فإنه يَعُمُّ وَمِنْ ثَمَّ
____________________
(2/269)