بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ قال الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ أَفْضَلُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَبُرْهَانُ الْمُحَقِّقِينَ كَهْفُ الْأَئِمَّةِ وَالْفُضَلَاءِ زُبْدَةُ نَحَارِيرِ الْعُلَمَاءِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَعُمْدَةُ فُضَلَاءِ الزَّمَانِ بَدْرُ الدِّينِ أبو عبد اللَّهِ محمد بن الْفَقِيرِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عبد اللَّهِ الزَّرْكَشِيُّ الشَّافِعِيُّ سَقَى اللَّهُ ثَرَاهُ وفي دَارِ الْخُلْدِ مَأْوَاهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي أَسَّسَ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ بِأُصُولِ أَسَاسِهِ وَمَلَّكَ من شَاءَ قِيَادَ قِيَاسِهِ وَوَهَبَ من اخْتَصَّهُ بِالسَّبْقِ إلَيْهِ على أَفْرَادِ أَفْرَاسِهِ وَأَوْلَى عِنَانَ الْعِنَايَةِ من وَفَّقَهُ لِاقْتِبَاسِهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له شَهَادَةً يَتَقَوَّمُ منها الْحَدُّ بِفُصُولِهِ وَأَجْنَاسِهِ وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الذي رَقَى إلَى السَّبْعِ الطِّبَاقِ بِبَدِيعِ جِنَاسِهِ وَآنَسَ من الْعُلَا نُورًا هَدَى الْأُمَّةَ بِإِينَاسِهِ صلى اللَّهُ عليه وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وسلم تَسْلِيمًا كَثِيرًا ما قَامَتْ النُّصُوصُ بِنَفَائِسِ أَنْفَاسِهِ وَاسْتُخْرِجَتْ الْمَعَانِي من مِشْكَاةِ نِبْرَاسِهِ أَمَّا بَعْدُ فإن أَوْلَى ما صُرِفَتْ الْهِمَمُ إلَى تَمْهِيدِهِ وَأَحْرَى ما عُنِيَتْ بِتَسْدِيدِ قَوَاعِدِهِ وَتَشْيِيدِهِ الْعِلْمُ الذي هو قِوَامُ الدِّينِ وَالْمَرْقَى إلَى دَرَجَاتِ الْمُتَّقِينَ وكان عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ جَوَادَهُ الذي لَا يُلْحَقُ وَحَبْلَهُ الْمَتِينَ الذي هو أَقْوَى وَأَوْثَقُ فإنه قَاعِدَةُ الشَّرْعِ وَأَصْلٌ يُرَدُّ إلَيْهِ كُلُّ فَرْعٍ وقد أَشَارَ الْمُصْطَفَى صلى اللَّهُ عليه وسلم في جَوَامِعِ كَلِمِهِ إلَيْهِ وَنَبَّهَ أَرْبَابُ اللِّسَانِ عليه فَصَدَرَ في الصَّدْرِ الْأَوَّلِ منه جُمْلَةٌ سَنِيَّةٌ وَرُمُوزٌ خَفِيَّةٌ حتى جاء الْإِمَامُ الْمُجْتَهِدُ محمد بن إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه فَاهْتَدَى بِمَنَارِهِ وَمَشَى إلَى ضَوْءِ نَارِهِ فَشَمَّرَ عن سَاعِدِ الِاجْتِهَادِ وَجَاهَدَ في تَحْصِيلِ هذا الْغَرَضِ السَّنِيِّ حَقَّ الْجِهَادِ وَأَظْهَرَ دَفَائِنَهُ وَكُنُوزَهُ وَأَوْضَحَ إشَارَاتِهِ وَرُمُوزَهُ وَأَبْرَزَ مُخَبَّآتِهِ وَكَانَتْ مَسْتُورَةً وَأَبْرَزَهَا في أَكْمَلِ مَعْنًى وَأَجْمَلِ صُورَةً حتى نَوَّرَ بِعِلْمِ الْأُصُولِ دُجَى الْآفَاقِ وَأَعَادَ سُوقَهُ بَعْدَ الْكَسَادِ إلَى نَفَاقٍ وَجَاءَ من بَعْدَهُ فَبَيَّنُوا وَأَوْضَحُوا وَبَسَطُوا وَشَرَحُوا حتى جاء الْقَاضِيَانِ قَاضِي السُّنَّةِ أبو بَكْرِ بن الطَّيِّبِ وَقَاضِي الْمُعْتَزِلَةِ عبد الْجَبَّارِ فَوَسَّعَا الْعِبَارَاتِ وَفَكَّا الْإِشَارَاتِ وَبَيَّنَا الْإِجْمَالَ وَرَفَعَا الْإِشْكَالَ وَاقْتَفَى الناس بِآثَارِهِمْ
____________________
(1/3)
وَسَارُوا على لَاحِبِ نَارِهِمْ فَحَرَّرُوا وَقَرَّرُوا وَصَوَّرُوا فَجَزَاهُمْ اللَّهُ خَيْرَ الْجَزَاءِ وَمَنَحَهُمْ بِكُلِّ مَسَرَّةٍ وَهَنَاءٍ ثُمَّ جَاءَتْ أُخْرَى من الْمُتَأَخِّرِينَ فَحَجَرُوا ما كان وَاسِعًا وَأَبْعَدُوا ما كان شَاسِعًا وَاقْتَصَرُوا على بَعْضِ رُءُوسِ الْمَسَائِلِ وَكَثَّرُوا من الشُّبَهِ وَالدَّلَائِلِ وَاقْتَصَرُوا على نَقْلِ مَذَاهِبِ الْمُخَالِفِينَ من الْفِرَقِ وَتَرَكُوا أَقْوَالَ من لِهَذَا الْفَنِّ أَصَّلَ وَإِلَى حَقِيقَتِهِ وَصَّلَ فَكَادَ يَعُودُ أَمْرُهُ إلَى الْأَوَّلِ وَتَذْهَبُ عنه بَهْجَةُ الْمُعَوَّلِ فَيَقُولُونَ خِلَافًا لِأَبِي هَاشِمٍ أو وِفَاقًا للجباني ( ( ( للجبائي ) ) ) وَتَكُونُ لِلشَّافِعِيِّ مَنْصُوصَةً وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ بِالِاعْتِنَاءِ مَخْصُوصَةً وَفَاتَهُمْ من كَلَامِ السَّابِقِينَ عِبَارَاتٌ رَائِقَةٌ وَتَقْرِيرَاتٌ فَائِقَةٌ وَنُقُولٌ غَرِيبَةٌ وَمَبَاحِثُ عَجِيبَةٌ مَنْهَجُ الْمُؤَلِّفِ وَمَصَادِرُهُ وقد اجْتَمَعَ عِنْدِي بِحَمْدِ اللَّهِ من مُصَنَّفَاتِ الْأَقْدَمِينَ في هذا الْفَنِّ ما يَرْبُو على الْمِئِينَ وما بَرِحَتْ لي هِمَّةٌ تَهُمُّ في جَمْعِ أَشْتَاتِ كَلِمَاتِهِمْ وَتَجُولُ وَمِنْ دُونِهَا عَوَائِقُ الْحَالِ تَحُولُ إلَى ان مَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِنَيْلِ الْمُرَادِ وَأَمَدَّ بِلُطْفِهِ بِكَثِيرٍ من الْمَوَادِّ فَمَخَضْتُ زُبْدَ كُتُبِ الْقُدَمَاءِ وَوَرَدْتُ شَرَائِعَ الْمُتَأَخِّرِينَ من الْعُلَمَاءِ وَجَمَعْت ما انْتَهَى إلَيَّ من أَقْوَالِهِمْ وَنَسَجْت على مِنْوَالِهِمْ وَفَتَحْت منه ما كان مُقْفَلًا وَفَصَّلْت ما كان مُجْمَلًا بِعِبَارَةٍ تُسْتَعْذَبُ وَإِشَارَةٌ لَا تُسْتَصْعَبُ وَزِدْت في هذا الْفَنِّ من الْمَسَائِلِ ما يُنِيفُ على الْأُلُوفِ وَوَلَّدْت من الْغَرَائِبِ غير الْمَأْلُوفِ وَرَدَدْت كُلَّ فَرْعٍ إلَى أَصْلِهِ وَشَكْلٍ قد حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَكْلِهِ وَأَتَيْت فيه بِمَا لم اسبق إلَيْهِ وَجَمَعْت شَوَارِدَهُ الْمُتَفَرِّقَاتِ عليه بِمَا يُقْضَى منه الْعَجَبُ وَإِنَّ اللَّهَ يَهَبُ لِعِبَادِهِ ما يَشَاءُ أَنْ يَهَبَ وَأَنْظِمُ فيه بِحَمْدِ اللَّهِ ما لم يَنْتَظِمْ قَبْلَهُ في سِلْكٍ وَلَا حَصَلَ لِمَالِكٍ في مِلْكٍ وكان من الْمُهِمِّ تَحْرِيرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَخِلَافِ أَصْحَابِهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُخَالِفِينَ من أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ الْمَتْبُوعَةِ وَلَقَدْ رَأَيْت في كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ الْخَلَلَ في ذلك وَالزَّلَلَ في كَثِيرٍ من التَّقْرِيرَاتِ وَالْمَسَالِكِ فَأَتَيْت الْبُيُوتَ من أَبْوَابِهَا وَشَافَهْت كُلَّ مَسْأَلَةٍ من كُتَّابِهَا وَرُبَّمَا أَسُوقُهَا بِعِبَارَاتِهِمْ لِاشْتِمَالِهَا على فَوَائِدَ وَتَنْبِيهًا على خَلَلٍ نَاقِلٍ وما تَضَمَّنَتْهُ من الْمَآخِذِ وَالْمَقَاصِدِ فَمِنْ كُتُبِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه الرِّسَالَةُ واخْتِلَافُ الحديث وَأَحْكَامُ الْقُرْآنِ وَمَوَاضِعُ مُتَفَرِّقَةٌ من الْأُمِّ وَشَرْحِ الرِّسَالَةِ لِلصَّيْرَفِيِّ وَلِلْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ وَلِلْجُوَيْنِيِّ وَلِأَبِي الْوَلِيدِ النَّيْسَابُورِيِّ وَكِتَابُ الْقِيَاسِ لِلْمُزَنِيِّ وَكِتَابُ الرَّدِّ على دَاوُد في إنْكَارِهِ الْقِيَاسَ لِابْنِ سُرَيْجٍ وَكِتَابُ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ له أَيْضًا وَكِتَابُ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ لِلصَّيْرَفِيِّ
____________________
(1/4)
وَكِتَابُ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وَأَبِي عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بن الْقَاضِي في رِيَاضِ الْمُتَعَلِّمِينَ وَأَبِي عبد اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ مُحَمَّدِ بن يحيى بن سُرَاقَةَ الْعَامِرِيِّ وَأَبِي الْقَاسِمِ بن كَجٍّ وَأَبِي بَكْرِ بن فُورَكٍ وَالْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَالشَّيْخِ أبي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَسُلَيْمٍ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ في الْأُصُولِ وَالتَّحْصِيلِ لِلْأُسْتَاذِ أبي مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيِّ وَشَرْحُ الْكِفَايَةِ وَالْجَدَلِ لِلْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ وَاللُّمَعُ وَشَرْحُهَا لِلشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ وَالتَّبْصِرَةُ وَالْمُلَخَّصُ وَالْمَعُونَةُ وَالْحُدُودُ وَغَيْرُهَا من كُتُبِهِ وَكِتَابُ الشَّيْخِ أبي نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ وَكِتَابُ أبي الْحُسَيْنِ السُّهَيْلِيِّ من أَصْحَابِنَا وَالْأَوْسَطُ لِابْنِ بَرْهَانٍ وَالْوَجِيزُ له وَالْقَوَاطِعُ لِأَبِي الْمُظَفَّرِ بن السَّمْعَانِيِّ وهو أَجَلُّ كِتَابٍ لِلشَّافِعِيَّةِ في أُصُولِ الْفِقْهِ نَقَلَاتٍ وَحِجَاجًا وَكِتَابُ التَّقْرِيبِ وَالْإِرْشَادِ لِلْقَاضِي أبي بَكْرٍ وهو أَجَلُّ كِتَابٍ صُنِّفَ في هذا الْعِلْمِ مُطْلَقًا وَالتَّلْخِيصُ من هذا الْكِتَابِ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَمْلَاهُ بِمَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ والبرهان لِلْإِمَامِ وَشُرُوحُهُ وقد اعْتَنَى بِهِ الْمَالِكِيُّونَ الْمَازِرِيُّ وَالْإِبْيَارِيُّ وابن الْعَلَّافِ وابن الْمُنِيرِ وَنَكَتَ عليه الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْمُقْتَرِحُ جَدُّ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بن دَقِيقِ الْعِيدِ لِأُمِّهِ وَمُخْتَصَرُ النُّكَتِ لِابْنِ عَطَاءِ اللَّهِ الإسكندراني وَمُخْتَصَرُهُ لِابْنِ الْمُنِيرِ وَالْمُسْتَصْفَى لِلْغَزَالِيِّ وقد اعْتَنَى بِهِ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا فَشَرَحَهُ أبو عبد اللَّهِ الْعَبْدَرِيُّ في كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْمُسْتَوْفَى وَنَكَتَ عليه ابن الْحَاجِّ الْإِشْبِيلِيُّ وَغَيْرُهُ وَاخْتَصَرَهُ ابن رُشْدٍ وابن شَاسٍ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ وابن رَشِيقٍ وَالْمَحْصُولُ وَمُخْتَصَرَاتُهُ وَشُرُوحِهِ لِلْأَصْفَهَانِيِّ وَالْقَرَافِيِّ وَالْأَحْكَامُ لِلْآمِدِيِّ وَمُخْتَصَرُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالنِّهَايَةُ لِلصَّفِيِّ الْهِنْدِيِّ وَالْفَائِقُ وَالرِّسَالَةُ السَّيْفِيَّةُ له وابن دَقِيقِ الْعِيدِ في الْعُنْوَانِ وَشَرْحُ الْعُمْدَةِ وَشَرْحُ الْإِلْمَامِ وَبِهِ خَتَمَ التَّحْقِيقَ في هذا الْفَنِّ وفي مَوْضِعٍ من شَرْحِ الْإِلْمَامِ يقول أُصُولُ الْفِقْهِ هو الذي يَقْضِي وَلَا يُقْضَى عليه وَمِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ كِتَابُ أبي بَكْرٍ الرَّازِيَّ وَاللُّبَابُ لِأَبِي الْحَسَنِ الْبُسْتِيِّ الْجُرْجَانِيِّ وَكِتَابُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَتَقْوِيمُ الْأَدِلَّةِ لِأَبِي زَيْدٍ وَالْمِيزَانُ لِلسَّمَرْقَنْدِيِّ وَالْكِبْرِيتُ الْأَحْمَرُ لِأَبِي الْفَضْلِ الْخُوَارِزْمِيَّ وَكِتَابُ الْعَالَمِيِّ وَالْبَدِيعُ لِابْنِ السَّاعَاتِي وكان اعلم أَهْلِ زَمَانِهِ بِأُصُولِ الْفِقْهِ وَمِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ الْجَامِعُ لِأَبِي عبد اللَّهِ مُحَمَّدِ بن أَحْمَدَ بن مُجَاهِدِ بن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ الْمَالِكِيِّ الْبَصْرِيِّ وَنَقَلْت عنه بِالْوَاسِطَةِ وَالْمُلَخَّصُ لِلْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَالْإِفَادَةُ وَالْأَجْوِبَةُ الْفَاخِرَةُ له وَالْفُصُولُ لِأَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ وَالْمَحْصُولُ لِابْنِ الْعَرَبِيِّ وَكِتَابُ أبي الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيِّ شَارِحِ مُسْلِمٍ وَالْقَوَاعِدُ لِلْقَرَافِيِّ وَغَيْرُهُ
____________________
(1/5)
وَمِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ التَّمْهِيدُ لِأَبِي الْخَطَّابِ وَالْوَاضِحُ لِابْنِ عَقِيلٍ وَالرَّوْضَةُ لِلْمَقْدِسِيِّ وَمُخْتَصَرُهَا لِلطُّوفِيِّ وَغَيْرُهُمْ وَمِنْ كُتُبِ الظَّاهِرِيَّةِ كِتَابُ أُصُولِ الْفَتْوَى لِأَبِي عبد اللَّهِ مُحَمَّدِ بن سَعِيدٍ الدَّاوُدِيِّ وهو عُمْدَةُ الظَّاهِرِيَّةِ فِيمَا صَحَّ عن دَاوُد وَكِتَابُ الْإِحْكَامِ لِابْنِ حَزْمٍ وَمِنْ كُتُبِ الْمُعْتَزِلَةِ الْعُمْدَةُ لِأَبِي الْحُسَيْنِ وَالْمُعْتَمَدُ له وَالْوَاضِحُ لِأَبِي يُوسُفَ عبد السَّلَامِ وَالنُّكَتُ لِابْنِ الْعَارِضِ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَمِنْ كُتُبِ الشِّيعَةِ الذَّرِيعَةُ لِلشَّرِيفِ الرَّضِيِّ وَالْمَصَادِرُ لِمَحْمُودِ بن عَلِيٍّ الْحِمْصِيِّ وهو على مَذْهَبِ الْإِمَامِيَّةِ وَغَيْرُ ذلك مِمَّا هو مُبَيَّنٌ في مَوَاضِعِهِ وَسَمَّيْته الْبَحْرَ الْمُحِيطِ وَاَللَّهَ أَسْأَلَ أَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ مُقَرَّبًا لِلْفَوْزِ بِجَنَّاتِ النَّعِيمِ بِمَنِّهِ وَكَرْمِهِ
____________________
(1/6)
فَصْلٌ أَوَّلُ من صَنَّفَ في الْأُصُولِ الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه أَوَّلُ من صَنَّفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ صَنَّفَ فيه كِتَابَ الرِّسَالَةِ وَكِتَابَ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَاخْتِلَافِ الحديث وَإِبْطَالِ الِاسْتِحْسَانِ وَكِتَابَ جِمَاعِ الْعِلْمِ وَكِتَابَ الْقِيَاسِ الذي ذَكَرَ فيه تَضْلِيلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَرُجُوعَهُ عن قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ ثُمَّ تَبِعَهُ الْمُصَنِّفُونَ في الْأُصُولِ قال الْإِمَامُ أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ لم نَكُنْ نَعْرِفُ الْخُصُوصَ وَالْعُمُومَ حتى وَرَدَ الشَّافِعِيُّ وقال الْجُوَيْنِيُّ في شَرْحِ الرِّسَالَةِ لم يَسْبِقْ الشَّافِعِيَّ أَحَدٌ في تَصَانِيفِ الْأُصُولِ وَمَعْرِفَتِهَا وقد حكى عن ابْنِ عَبَّاسٍ تَخْصِيصُ عُمُومٍ وَعَنْ بَعْضِهِمْ الْقَوْلُ بِالْمَفْهُومِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ لم يُقَلْ في الْأُصُولِ شيئا ولم يَكُنْ لهم فيه قَدَمٌ فَإِنَّا رَأَيْنَا كُتُبَ السَّلَفِ من التَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ فما رَأَيْنَاهُمْ صَنَّفُوا فيه أَلَا تَرَى أَنَّ أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ كان أَكْبَرَ سِنًّا منه وكان مُتَقَدِّمًا في الْعِلْمِ وكان يَأْخُذُ بِرِكَابِهِ فَيَتْبَعُهُ وَيَتَعَلَّمُ منه 1 هـ وَلَيْسَ كما قال بَلْ هو أَصْغَرُ من الشَّافِعِيِّ بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْخَ ابا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ كان يَتْبَعُ الشَّافِعِيَّ في الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ وَرُبَّمَا يُخَالِفُهُ في الْأُصُولِ كَقَوْلِهِ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ في الْفُرُوعِ وَلَيْسَ ذلك مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَكَقَوْلِهِ لَا صيغه لِلْعُمُومِ قال الشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَنُقِلَ مُخَالَفَتُهُ أُصُولَ الشَّافِعِيِّ وَنُصُوصَهُ وَرُبَّمَا يَنْسُبُ الْمُبْتَدَعُونَ إلَيْهِ ما هو بَرِيءٌ منه كما نَسَبُوا إلَيْهِ أَنَّهُ يقول ليس في الْمُصْحَفِ قُرْآنٌ وَلَا في الْقُبُورِ نَبِيٌّ وَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ في الْإِيمَانِ وَنَفْيُ قُدْرَةِ الْخَالِقِ في الْأَزَلِ وَتَكْفِيرُ الْعَوَامّ وَإِيجَابُ عِلْمِ الدَّلِيلِ عليهم وقد تَصَفَّحْت ما تَصَحَّفْت من كُتُبِهِ وَتَأَمَّلْت نُصُوصَهُ في هذه الْمَسَائِلِ فَوَجَدْتهَا كُلَّهَا خِلَافَ ما نُسِبَ إلَيْهِ وقال ابن فُورَكٍ في كِتَابِ شَرْحِ كِتَابِ الْمَقَالَاتِ لِلْأَشْعَرِيِّ في مَسْأَلَةِ تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ اعْلَمْ أَنَّ شَيْخَنَا أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ يَذْهَبُ في الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْفُرُوعِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ أَيْضًا مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَنَصُّ قَوْلِهِ في كِتَابِ التَّفْسِيرِ في بَابِ إيجَابِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ على الْمَأْمُومِ خِلَافُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَالْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ خِلَافُ قَوْلِ مَالِكٍ وفي إثْبَاتِ آيَةِ الْبَسْمَلَةِ في كل سُورَةٍ آيَةً منها قُرْآنًا مُنَزَّلًا فيها وَلِذَلِكَ قال في كِتَابِهِ في أُصُولِ الْفِقْهِ بموافقه أُصُولَهُ
____________________
(1/7)
فَصْلٌ في بَيَانِ شَرَفِ عِلْمِ الْأُصُولِ اعْلَمْ أَنَّ الْعُلُومَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ الْأَوَّلُ عَقْلِيٌّ مَحْضٌ كَالْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ وَالثَّانِي لُغَوِيٌّ كَعِلْمِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَالصَّرْفِ وَالْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَالْعَرُوضِ وَالثَّالِثُ الشَّرْعِيُّ وهو عِلْمُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَشْرَفُ الْأَصْنَافِ ثُمَّ أَشْرَفُ الْعُلُومِ بَعْدَ الِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ وَمَعْرِفَةُ ذلك بِالتَّقْلِيدِ وَنَقْلُ الْفُرُوعِ الْمُجَرَّدَةِ يَسْتَفْرِغُ جَمَامَ الذِّهْنِ وَلَا يَنْشَرِحُ بها الصَّدْرُ لِعَدَمِ أَخْذِهِ بِالدَّلِيلِ وَشَتَّانَ بين من يَأْتِي بِالْعِبَادَةِ تَقْلِيدًا لِإِمَامِهِ بِمَعْقُولِهِ وَبَيْنَ من يَأْتِي بها وقد ثَلَجَ صَدْرُهُ عن اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهَذَا لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالِاجْتِهَادِ وَالنَّاسُ في حَضِيضٍ عن ذلك إلَّا من تَغَلْغَلَ بِأُصُولِ الْفِقْهِ وَكَرَعَ من مَنَاهِلِهِ الصَّافِيَةِ وَأَدْرَعَ مَلَابِسَهُ الضَّافِيَةَ وَسَبَحَ في بَحْرِهِ وَرَبِحَ من مَكْنُونِ دُرِّهِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في كِتَابِ الْمَدَارِكِ وهو من أَنْفَسِ كُتُبِهِ وَالْوَجْهُ لِكُلِّ مُتَصَدٍّ لِلْإِقْلَالِ بِأَعْبَاءِ الشَّرِيعَةِ أَنْ يَجْعَلَ الْإِحَاطَةَ بِالْأُصُولِ شَوْقَهُ الْآكَدَ وَيَنُصَّ مَسَائِلَ الْفِقْهِ عليها نَصَّ من يُحَاوِلُ بِإِيرَادِهَا تَهْذِيبَ الْأُصُولِ وَلَا يَنْزِفُ جَمَامَ الذِّهْنِ في وَضْعِ الْوَقَائِعِ مع الْعِلْمِ بِأَنَّهَا لَا تَنْحَصِرُ مع الذُّهُولِ عن الْأُصُولِ وقال الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى خَيْرُ الْعِلْمِ ما ازْدَوَجَ فيه الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ وَاصْطَحَبَ فيه الرَّأْيُ وَالشَّرْعُ عِلْمُ الْفِقْهِ وَأُصُولُ الْفِقْهِ من هذا الْقَبِيلِ فإنه يَأْخُذُ من صَفْوِ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ سَوَاءَ السَّبِيلِ فَلَا هو تَصَرَّفَ بِمَحْضِ الْعُقُولِ بِحَيْثُ لَا يَتَلَقَّاهُ الشَّرْعُ بِالْقَبُولِ وَلَا هو مَبْنِيٌّ على التَّقْلِيدِ الذي لَا يَشْهَدُ له الْعَقْلُ بِالتَّأْيِيدِ وَالتَّسْدِيدِ وَلِأَجْلِ شَرَفِ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَرِفْعَتِهِ وَفَّرَ اللَّهُ دَوَاعِيَ الْخَلْقِ على طُلْبَتِهِ وكان الْعُلَمَاءُ بِهِ أَرْفَعَ مَكَانًا وَأَجَلَّهُمْ شَأْنًا وَأَكْثَرَهُمْ أَتْبَاعًا وَأَعْوَانًا وقال أبو بَكْرٍ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في كِتَابِهِ الْأُصُولُ اعْلَمْ ان النَّصَّ على حُكْمِ كل حَادِثَةٍ عَيْنًا مَعْدُومٌ وَأَنَّ لِلْأَحْكَامِ أُصُولًا وَفُرُوعًا وَأَنَّ الْفُرُوعَ لَا تُدْرَكُ إلَّا بِأُصُولِهَا وَأَنَّ النَّتَائِجَ لَا تُعْرَفُ حَقَائِقُهَا إلَّا بَعْدَ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِمُقَدِّمَاتِهَا فَحُقَّ أَنْ يُبْدَأَ بِالْإِبَانَةِ عن الْأُصُولِ لِتَكُونَ سَبَبًا إلَى مَعْرِفَةِ الْفُرُوعِ ثُمَّ اُخْتُلِفَ في نِسْبَةِ الْأُصُولِ إلَى الْفِقْهِ فَقِيلَ عِلْمُ الْأُصُولِ بِمُجَرَّدِهِ كَالْمَيْلَقِ
____________________
(1/8)
الذي يُخْتَبَرُ بِهِ جَيِّدُ الذَّهَبِ من رَدِيئِهِ وَالْفِقْهُ كَالذَّهَبِ فَالْفَقِيهُ الذي لَا أُصُولَ عِنْدَهُ كَكَاسِبِ مَالٍ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ وَلَا ما يَدَّخِرُ منه مِمَّا لَا يَدَّخِرُ وَالْأُصُولِيُّ الذي لَا فِقْهَ عِنْدَهُ كَصَاحِبِ الْمَيْلَقِ الذي لَا ذَهَبَ عِنْدَهُ فإنه لَا يَجِدُ ما يَخْتَبِرُهُ على مَيْلَقِهِ وَقِيلَ الْأُصُولِيُّ كَالطَّبِيبِ الذي لَا عَقَارَ عِنْدَهُ وَالْفَقِيهُ كَالْعَطَّارِ الذي عِنْدَهُ كُلُّ عَقَارٍ وَلَكِنْ لَا يَعْرِفُ ما يَضُرُّ وَلَا ما يَنْفَعُ وَقِيلَ الْأُصُولِيُّ كَصَانِعِ السِّلَاحِ وهو جَبَانٌ لَا يُحْسِنُ الْقِتَالَ بِهِ وَالْفَقِيهُ كَصَاحِبِ سِلَاحٍ وَلَكِنْ لَا يُحْسِنُ إصْلَاحَهَا إذَا فَسَدَتْ وَلَا جِمَاعَهَا إذَا صَدَعَتْ فَإِنْ قِيلَ هل أُصُولُ الْفِقْهِ إلَّا نُبَذٌ جُمِعَتْ من عُلُومٍ مُتَفَرِّقَةٍ نُبْذَةٌ من النَّحْوِ كَالْكَلَامِ على مَعَانِي الْحُرُوفِ التي يَحْتَاجُ الْفَقِيهُ إلَيْهَا وَالْكَلَامِ في الِاسْتِثْنَاءِ وَعَوْدِ الضَّمِيرِ لِلْبَعْضِ وَعَطْفِ الْخَاصِّ على الْعَامِّ وَنَحْوِهِ ونبذه من عِلْمِ الْكَلَامِ كالكلا م في الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَكَوْنِ الْحُكْمِ قَدِيمًا وَالْكَلَامِ على إثْبَاتِ النَّسْخِ وَعَلَى الْأَفْعَالِ وَنَحْوِهِ وَنُبْذَةٌ من اللُّغَةِ كَالْكَلَامِ في مَوْضُوعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَصِيَغِ الْعُمُومِ وَالْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ وَالْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ وَنُبْذَةٌ من عِلْمِ الحديث كَالْكَلَامِ في الْأَخْبَارِ فَالْعَارِفُ بِهَذِهِ الْعُلُومِ لَا يَحْتَاجُ إلَى أُصُولِ الْفِقْهِ في شَيْءٍ من ذلك وَغَيْرُ الْعَارِفِ بها لَا يُغْنِيهِ أُصُولُ الْفِقْهِ في الْإِحَاطَةِ بها فلم يَبْقَ من أُصُولِ الْفِقْهِ إلَّا الْكَلَامُ في الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَالتَّعَارُضِ وَالِاجْتِهَادِ وَبَعْضِ الْكَلَامِ في الْإِجْمَاعِ من أُصُولِ الدِّينِ أَيْضًا وَبَعْضِ الْكَلَامِ في الْقِيَاسِ وَالتَّعَارُضِ مِمَّا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْفَقِيهُ فَفَائِدَةُ أُصُولِ الْفِقْهِ بِالذَّاتِ حِينَئِذٍ قَلِيلَةٌ فَالْجَوَابُ مَنْعُ ذلك فإن الْأُصُولِيِّينَ دَقَّقُوا النَّظَرَ في فَهْمِ أَشْيَاءَ من كَلَامِ الْعَرَبِ لم تَصِلْ إلَيْهَا النُّحَاةُ وَلَا اللُّغَوِيُّونَ فإن كَلَامَ الْعَرَبِ مُتَّسِعٌ وَالنَّظَرُ فيه مُتَشَعِّبٌ فَكُتُبُ اللُّغَةِ تَضْبِطُ الْأَلْفَاظَ وَمَعَانِيَهَا الظَّاهِرَةَ دُونَ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ التي تَحْتَاجُ إلَى نَظَرِ الْأُصُولِيِّ بِاسْتِقْرَاءٍ زَائِدٍ على اسْتِقْرَاءِ اللُّغَوِيِّ مِثَالُهُ دَلَالَةُ صِيغَةِ افْعَلْ على الْوُجُوبِ ولا تَفْعَلْ على التَّحْرِيمِ وَكَوْنُ كُلٍّ وَأَخَوَاتِهَا لِلْعُمُومِ وَنَحْوُهُ مِمَّا نَصَّ هذا السُّؤَالُ على كَوْنِهِ من اللُّغَةِ لو فَتَّشْت لم تَجِدْ فيها شيئا من ذلك غَالِبًا وَكَذَلِكَ في كُتُبِ النُّحَاةِ في الِاسْتِثْنَاءِ من أَنَّ الْإِخْرَاجَ قبل الْحُكْمِ أو بَعْدَهُ وَغَيْرُ ذلك من الدَّقَائِقِ التي تَعَرَّضَ لها الْأُصُولِيُّونَ وَأَخَذُوهَا من كَلَامِ الْعَرَبِ بِاسْتِقْرَاءٍ خَاصٍّ وَأَدِلَّةٍ خَاصَّةٍ لَا تَقْتَضِيهَا صِنَاعَةُ النَّحْوِ وَسَيَمُرُّ بِك منه في هذا الْكِتَابِ الْعَجَبُ الْعُجَابُ
____________________
(1/9)
المقدمات تعريف أصول الفقه أصول الفقه مركب تتوقف معرفته على معرفة مفرداته من حيث التركيب لا من حيث كل وجه تعريف الأصل فالأصول جمع أصل وأصل الشيء ما منه الشيء أي مادته كالوالد للولد والشجرة للغصن ورده القرافي باشتراك من بين الابتداء والتبعيض وبأنه لا يصح هنا معنى من معانيها وأجاب الأصفهاني عن الأول بأن الاشتراك لازم لكن يصار إليه في الحدود حيث لا يمكن التعبير بغيره وعن الثاني بأن من لابتداء الغاية وقال الآمدي ما استند الشيء في تحقيقه إليه وقال أبو الحسين ما يبني عليه غيره وتبعه ابن الحاجب في باب القياس ورد بأنه لا يقال إن الولد يبنى على الوالد بل يقال فرعه وقال الإمام هو المحتاج إليه ورد بأنه إن أريد احتياج الأثر إلى المؤثر لزم إطلاقه على الله تعالى وإن أريد ما يتوقف عليه الشيء لزم إطلاقه على الجزاء والشرط وقد التزمه في المباحث المشرقية فقال لا تبعد تسمية الشروط واندفاع الموانع أصولا باعتبار توقف وجود الشيء عليها وقال أبو بكر الصيرفي في كتاب الدلائل والأعلام كل ما أثمر معرفة شيء ونبه عليه فهو أصل له فعلوم الحس أصل لأنها تثمر معرفة حقائق الأشياء وما عداه فرع له وقال القفال الشاشي الأصل ما تفرع عنه غيره والفرع ما تفرع عن غيره وهذا أسد الحدود فعلى هذا لا يقال في الكتاب إنه فرع أصله الحس لأن الله تعالى تولاه وجعله أصلا دل العقل عليه قال والكتاب والسنة أصل لأن غيرهما يتفرع عنهما وأما القياس فيجوز أن يكون أصلا على معنى أن له فروقا تنشأ عنه ويتوصل إلى معرفتها من جهته كالكتاب أصل لما ينبني عليه وكالسنة أصل لما يعرف من جهتها وهو فرع على معنى أنه إنما عرف بغيره وهو الكتاب أو غيره وكذلك السنة والإجماع قال وقيل إن القياس لا يقال له أصل ولا فرع لأنه فعل القائس ولا توصف الأفعال بالأصل
____________________
(1/10)
والفرع وقال الأستاذ أبو منصور البغدادي الأصل ما عرف به حكم غيره والفرع ما عرف بحكم غيره قياسا عليه وقال الماوردي في الحاوي قيل الأصل ما دل عليه غيره والفرع ما دل على غيره فعلى هذا يجوز أن يقال في الكتاب إنه فرع لعلم الحس لأنه الدال على صحته هذا الاعتراض يصلح أن يدخل به كثير من العبارات السالفة على اختلافها فليتأمل وقال ابن السمعاني في القواطع قيل الأصل ما انبنى عليه غيره وقيل ما يقع التوصل به إلى معرفة ما وراءه وهما مدخولان لأن من أصول الشرع ما هو عقيم لا يقبل الفرع ولا يقع به التوصل إلى ما وراءه بحال كدية الجنين والقسامة وتحمل العاقلة فهذه أصول ليست لها فروع فالأولى أن يقال الأصل كل ما ثبت دليلا في إيجاب حكم من الأحكام ليتناول ما جلب فرعا أو لم يجلب ويطلق في الاصطلاح على أمور أحدها الصورة المقيس عليها على الخلاف الآتي إن شاء الله تعالى في القياس في تفسير الأصل الثاني الرحجان كقولهم الأصل في الكلام الحقيقة أي الراجح عند السامع هو الحقيقة لا المجاز الثالث الدليل كقولهم أصل هذه المسألة من الكتاب والسنة أي دليلها ومنه أصول الفقه أي أدلته الرابع القاعدة المستمرة كقولهم إباحة الميتة للمضطر على خلاف الأصل وهذه الأربعة ذكرها القرافي وفيه نظر لأن الصورة المقيس عليها ليست معنى زائدا لأن أصل القياس اختلف فيه هل هو محل الحكم أو دليله أو حكمه وأيا ما كان فليس معنى زائدا لأنه إن كان أصل القياس دليله فهو المعنى السابق وإن كان محله أو حكمه فهما يسميان أيضا دليلا مجازا فلم يخرج الأصل عن معنى الدليل وبقي عليه أمور أحدها التعبد كقولهم إيجاب الطهارة بخروج الخارج على خلاف الأصل يريدون أنه لا يهتدي إليه القياس
____________________
(1/11)
الثاني الغالب في الشرع ولا يمكن ذلك إلا باستقراء موارد الشرع الثالث استمرار الحكم السابق كقولهم الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يوجد المزيل له الرابع المخرج كقول الفرضيين أصل المسألة من كذا عدد الأصول التي يبنى الفقه عليها ثم اختلفوا في عدد الأصول فالجمهور على أنها أربعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس قال الرافعي في باب القضاء وقد يقتصر على الكتاب والسنة ويقال الإجماع يصدر عن أحدهما والقياس الرد إلى أحدهما فهما أصلان قال في المطلب وفيه منازعة لمن جوز انعقاد الإجماع لا عن أمارة ولا عن دلالة وجوز القياس على المحل المجمع عليه واختصر بعضهم فقال أصل ومعقول أصل فالأصل للكتاب والسنة والإجماع ومعقول الأصل هو القياس قال ابن السمعاني وأشار الشافعي إلى أن جماع الأصول نص ومعنى فالكتاب والسنة والإجماع داخل تحت النص والمعنى هو القياس وزاد بعضهم العقل فجعلها خمسة وقال أبو العباس بن القاص الأصول سبعة الحس والعقل والكتاب والسنة والإجماع والقياس واللغة والصحيح أنها أربعة وأما العقل فليس بدليل يوجب شيئا أو يمنعه وإنما تدرك به الأمور فحسب إذ هو آلة العارف وكذلك الحس لا يكون دليلا بحال لأنه يقع به درك الأشياء الحاضرة وأما اللغة فهي مدركة اللسان ومطية لمعاني الكلام وأكثر ما فيه معرفة سمات الأشياء ولا حظ له في إيجاب شيء وقال الجيلي في الإعجاز أربعة الكتاب والسنة والقياس ودليل البقاء على النفي الأصلي وردها القفال الشاشي إلى واحد فقال أصل السمع هو كتاب الله تعالى وأما السنة والإجماع والقياس فمضاف إلى بيان الكتاب لقوله تعالى ^ تبيانا لكل شيء ^ النحل 89 وقوله ^ وما فرطنا في الكتاب من شيء ^ الأنعام 38 وروي عن ابن مسعود أنه لعن الواصلة والمستوصلة وقال ما لي لا ألعن من لعنه الله فقالت امرأة قرأت كتاب الله فلم أجد فيه ما تقول فقال إن كنت
____________________
(1/12)
قرأتيه فقد وجدتيه ! ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) ! الحشر 7 وأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة والمستوصلة فأضاف عبد الله بن مسعود بلطيف حكمته قول الرسول إلى كتاب الله وعلى هذا إضافة ما أجمع عليه مما لا يوجد في الكتاب والسنة نصا قلت ووقع مثل ذلك للشافعي في مسألة قتل المحرم للزنبور قال الأستاذ أبو منصور وفي هذا دليل على أن الحكم المأخوذ من السنة أو الإجماع أو القياس مأخوذ من كتابه سبحانه لدلالة كتابه على وجوب اتباع ذلك كله تعريف الفقه والفقه لغة اختلف فيه فقال ابن فارس في المجمل هو العلم وجرى عليه إمام الحرمين في التلخيص وإلكيا الهراسي وأبو نصر بن القشيري والماوردي إلا أن حملة الشرع خصصوه بضرب من العلوم ونقل ابن السمعاني عن ابن فارس أنه إدراك علم الشيء وقال الجوهري وغيره هو الفهم وقال الراغب هو التوسل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم وفي المحكم لابن سيده الفقه العلم بالشيء والفهم له والظاهر أن مراده بهما واحد وهو الفهم لأنه فسر الفهم بمعرفة الشيء بالقلب ومعرفة الشيء بالقلب هو العلم به ومثله قول الأزهري فهمت الشيء عقلته وعرفته وأصرح منه قول الجوهري فهمت الشيء فهما علمته وظهر بهذا أن الفهم المفسر به الفقه ليس فهم المعنى من اللفظ ولا فهم غرض المتكلم ونقل الفقه إلى علم الفروع بغلبه الاستعمال كما أشار إليه ابن سيده حيث قال غلب على علم الدين لسيادته وشرفه كالنجم على الثريا والعود على المندل قال ابن سراقة وقيل حده في اللغة العبارة عن كل معلوم تيقنه العالم به عن فكر وقال أبو الحسين في المعتمد وتبعه في المحصول فهم غرض المتكلم ورد بأنه يوصف بالفهم حيث لا كلام وبأنه لو كان كذلك لم يكن في نفي الفقه عنهم منقصة ولا تعيير لأنه غير متصور وقد قال تعالى ! ( ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) ! الإسراء 44
____________________
(1/13)
وقال ابن دقيق العيد وهذا تقييد للمطلق بما لا يتقيد به وقال الشيخ أبو إسحاق وصاحب اللباب من الحنفية فهم الأشياء الدقيقة فلا يقال فقهت أن السماء فوقنا قال القرافي وهذا أولى ولهذا خصصوا اسم الفقه بالعلوم النظرية فيشترط كونه في مظنة الخفاء فلا يحسن أن يقال فهمت أن الاثنين أكثر من الواحد ومن ثم لم يسم العالم بما هو من ضروريات الأحكام الشرعية فقيها فإن احتج له بقوله تعالى ^ قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول ^ هود 91 وقوله ^ فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا النساء 78 قلنا هذا يدل على أن الفهم من الخطاب يسمى فقها لا على أنه لا يسمى فقها إلا ما ما كان كذلك وقد قال تعالى ^ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ^ الأعراف 179 وهذا لا يختص بالفهم من الخطاب بل عدم الفهم مطلقا من الأدلة العقلية والسمعية وطرق الاعتبار ثم المراد من الفهم الإدراك لا جودة الذهن من جهة تهيئته لاقتناص ما يرد عليه من المطالب خلافا للآمدي الذهن والذهن عبارة عن قوة النفس المستعدة لاكتسابها الحدود الوسطى والآراء وقال ابن سراقة الفهم عبارة عن إتقان الشيء والثقة به على الوجه الذي هو به عن نظر ولذلك يقال نظرت ففهمت ولا يقال في صفات الله سبحانه فهم يقال فقه بالكسر فهو فاقه إذا فهم وفقه بالفتح فهو فاقه أيضا إذا سبق غيره إلى الفهم وفقه بالضم فهو فقيه إذا صار الفقه له سجيه واستعمل لاسم فاعله فقيه لأن فعيلا قياس في اسم فاعل فعل ووقع في عبارة بعضهم أنه اختير له فعيل لأن فعيلا للمبالغة فاستعمالها فيمن صار الفقه له سجية أولى وهذا ليس بصحيح أعني دعوى أن فعيلا هاهنا للمبالغة لأن الألفاظ المستعملة للمبالغة هي التي كانت على صيغة فحولت عنها إلى تلك الألفاظ للمبالغة ولذلك يقع في كلامهم ما حول للمبالغة من فاعل إلى مفعال أو فعيل أو فعول أو فعل وأما فقيه فهو قياس لأن فعيلا مقيس في فعل فهو مستعمل فيما هو قياسه من غير تحويل نحو عليم وشفيع فإن المتكلم يحولهما عن شافع وعالم لقصد المبالغة ولا مخلص عن هذا إلا ان يدعى أنه خولف تقديرا
____________________
(1/14)
بمعنى أن الواضع حوله عن فاعل لقصد المبالغة فإن قلت ليس من شرط الفقيه أن يكون له سجية ولهذا قال الرافعي في الوقف على الفقهاء إنه يدخل فيه من حصل منه شيئا وإن قل وقضيه هذا حصوله بمسمى مسألة واحدة قلت ليس كذلك لما سأذكره من كلام الشيخ أبي إسحاق والغزالي وابن السمعاني وغيرهم من الأئمة ولعل مراده من حصل حتى صار له سجية وإن قلت الفقه في الاصطلاح وأما في اصطلاح الأصوليين فالعلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية فالعلم جنس والمراد به الصناعة كما تقول علم النحو أي صناعته وحينئذ فيندرج فيه الظن واليقين وعلى هذا فلا يرد سؤال الفقه من باب الظنون ومن أورده فهو اختيار منه لاختصاص العلم بالقطعي وخرج بالأحكام العلم بالذوات والصفات والأفعال وبالشرعية العقلية والمراد بها ما يتوقف معرفتها على الشرع وبالعملية عن العلمية ككون الإجماع وخبر الواحد حجة قاله الإمام وقال الأصفهاني خرج به أصول الفقه فإنه ليس بعملي أي ليس علما بكيفية عمل قال ابن دقيق العيد وفيه نظر لأن الغاية المطلوبة منها العمل فكيف يخرج بالعملية وقال الباجي هو احتراز عن أصول الدين واعلم أن أصول الدين منه ما ثبت بالعقل وحده كوجود الباري ومنه ما ثبت بكل من العقل والسمع كالوحدانية وهذان خارجان بقوله الشرعية ومنه ما لا يثبت إلا بالسمع كمسألة أن الجنة مخلوقة وأن الصراط حق وهذا من الفقه لوجوب اعتقاده وعدل الآمدي وابن الحاجب عن لفظ العملية إلى الفرعية لأن النية من مسائل الفقه وليست عملا وليس بجيد لأنها عمل والظاهر أن لفظ العملية أشمل لدخول وجوب اعتقاد مسائل الديانات التي لا تثبت إلا بالسمع فإنها من الفقه كما سبق بخلاف الفرعية وبالمكتسب علم الله تعالى وما يلقيه في قلب الأنبياء والملائكة من الأحكام بلا اكتساب وبالأخير عن اعتقاد المقلد فإنه مكتسب من دليل إجمالي قاله الإمام وقيل علم المقلد لم يدخل في الحد بل هو احتراز عن علم الخلاف وأما عند
____________________
(1/15)
الفقهاء فقال القاضي الحسين الفقه افتتاح علم الحوادث على الإنسان أو افتتاح شعب أحكام الحوادث على الإنسان حكاه البغوي عنه في تعليقه وقال ابن سراقة حده في الشرع عبارة عن اعتقاد علم الفروع في الشرع ولذلك لا يقال في صفاته سبحانه وتعالى فقيه قال وحقيقة الفقه عندي الاستنباط قال الله تعالى ! ( لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ! النساء 83 واختيار ابن السمعاني في القواطع أنه استنباط حكم المشكل من الواضح قال وقوله صلى الله عليه وسلم رب حامل فقه غير فقيه أي غير مستنبط ومعناه أنه يحمل الرواية من غير أن يكون له استدلال واستنباط فيها وقال في ديباجة كتابه وما أشبه الفقيه إلا بغواص في بحر در كلما غاص في بحر فطنته استخرج درا وغيره مستخرج آجرا ومن المحاسن قول الإمام أبي حنيفة الفقه معرفة النفس ما لها وما عليها قيل وأخذه من قوله تعالى ^ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت 286 وقال الغزالي في الإحياء في بيان تبديل أسامي العلوم إن الناس تصرفوا في اسم الفقه فخصوه بعلم الفتاوى والوقوف على وقائعها وإنما هو في العصر الأول اسم لمعرفة دقائق آفات النفوس والاطلاع على الآخرة وحقارة الدنيا قال تعالى ^ ليتفقهوا في الدين ولينذروا ^ التوبة 123 والإنذار بهذا النوع من العلم دون تفاريع السلم والإجارة وعن أبي الدرداء لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ثم يقبل على نفسه فيكون لها أشد مقتا وسأل فرقد السنجي الحسن عن شيء فقال إن الفقهاء يخالفونك فقال الحسن ثكلتك أمك وهل رأيت فقيها بعينك إنما الفقيه هو الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بذنبه المداوم على عبادة ربه الورع الكاف ولذلك قال الحليمي في المنهاج إن تخصيص اسم الفقه بهذا الاصطلاح حادث قال والحق أن اسم الفقه يعم جميع الشريعة التي من جملتها ما يتوصل به إلى معرفة الله ووحدانيته وتقديسه وسائر صفاته وإلى معرفة أنبيائه ورسله عليهم
____________________
(1/16)
السلام ومنها علم الأحوال والأخلاق والآداب والقيام بحق العبودية وغير ذلك قلت ولهذا صنف أبو حنيفة كتابا في أصول الدين وسماه الفقه الأكبر تنبيه علم من تعريفهم الفقه باستنباط الأحكام أن المسائل المدونة في كتب الفقه ليست بفقه اصطلاحا وأن حافظها ليس بفقيه وبه صرح العبدري في باب الإجماع من شرح المستصفى قال وإنما هي نتائج الفقه والعارف بها فروعي وإنما الفقيه هو المجتهد الذي ينتج تلك الفروع عن أدلة صحيحة فيتلقاها منه الفروعي تقليدا ويدونها ويحفظها ونحوه قول ابن عبد السلام هم نقله فقه لا فقهاء وقال الشيخ أبو إسحاق في كتاب الحدود الفقيه من له الفقه فكل من له الفقه فقيه ومن لا فقه له فليس بفقيه قال والفقيه هو العالم بأحكام أفعال العباد التي يسوغ فيها الاجتهاد وقال الغزالي إذا لم يتكلم الفقيه في مسألة لم يسمعها ككلامه في مسألة سمعها فليس بفقيه حكاه عنه ابن الهمداني في طبقات الحنفية وقال ابن سراقة الفقيه من حصل له الفقه وذكر الشافعي في الرسالة صفة المفتي وهو الفقيه فذكر سبع عشرة خصلة تأتي في باب الاجتهاد إن شاء الله تعالى أصول الفقه لغة ما استند إليه الفقه ولم يتم إلا به وفي الاصطلاح مجموع طرق الفقه من حيث إنها على سبيل الإجمال وكيفية الاستدلال وحالة المستدل بها فقولنا مجموع ليعمها فإذن بعضها بعض أصول الفقه لا كلها وقولنا طرق ليعم الدليل والأمارة على اصطلاح الأصوليين وخرج بالإجمال أدلة الفقه من حيث التفصيل فلا يقال لها في عرف الأصوليين أصول فقه وإن كان التحقيق يقتضي ذلك إذ هو أقرب إلى الفقه وأقل تخصيصا ولأنه يوافق قولنا هذا الحديث أصل لهذا الحكم ولهذا الباب وحينئذ فاتخاذ الأدلة في آحاد مسائل الفروع من أصول الفقه ويكون الإجمال شرطا في علم أصول الفقه لا أنه شرط فيها أو جزء منها قال ابن دقيق العيد ويمكن الاقتصار على الدلائل وكيفية الاستفادة منها والباقي كالتابع والتتمة لكن لما جرت العادة بإدخاله في أصول الفقه وضعا أدخل فيه حدا
____________________
(1/17)
قلت وعليه جرى الشيخ في اللمع والغزالي في المستصفى وابن برهان في الأوسط وقال أصول الفقه أدلة الفقه على طريق الإجمال وكيفية الاستدلال به وما يتبع ذلك 1 هـ بل قد يقال الدليل هو الأصل بالذات والباقي بالتبع لضرورة الاستدلال بالدليل قال صاحب المعتمد والمراد بكيفية الاستدلال هاهنا الشروط والمقدمات وترتيبها معه ليستدل بالطرق على الفقه هذا ما أطبق عليه الأصوليون والفقهاء يطلقون ذلك على القواعد الكلية التي تندرج فيها الجزئيات كقولهم الأصل في كل حادث تقديره بأقرب زمن وقولهم يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء وغير ذلك من القواعد العامة التي يندرج فيها الفروع المنتشرة وعليه سمى الشيخ عز الدين كتابه القواعد ويقال إنه أول من أخترع هذه الطريقة ويوجد في كلام الإمام والغزالي متفرقات منها هل الأصول هذه الحقائق أنفسها أو العلم بها طريقان وكلام القاضي أبي بكر يقتضي أنه العلم بالأدلة وعليه البيضاوي وابن الحاجب وغيرهما وقطع الشيخ أبو إسحاق وإمام الحرمين في البرهان والرازي والآمدي بأنه نفس الأدلة ووجه الخلاف أنه كما يتوقف الفقه على هذه الحقائق يتوقف أيضا على العلم بها فيجوز حينئذ إطلاق أصول الفقه على القواعد أنفسها وعلى العلم بها والثاني أولى لوجوه أحدها أن أصول الفقه ثابت في نفس الأمر من تلك الأدلة وإن لم يعرفه الشخص وثانيها أن أهل العرف يجعلون أصول الفقه للمعلوم فيقولون هذا كتاب أصول الفقه وثالثها أن الأصول في اللغة الأدلة فجعله اصطلاحا نفس الأدلة أقرب إلى المدلول اللغوي وهذا بخلاف الفقه فإنه اسم للعلم كما سبق والتحقيق أنه لا خلاف في ذلك ولم يتواردوا على محل واحد فإن من أراد اللقبي وهو كونه علما على هذا الفن حده بالعلم ومن أراد الإضافي حده بنفس الأدلة ولهذا لما جمع ابن الحاجب بينهما عرف اللقبي بالعلم والإضافي بالأدلة نعم الإمام في المحصول عرف اللقبي بالأدلة يجب تأويله على إرادة العلم بها ثم المراد بالأدلة الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستدلال
____________________
(1/18)
وقال إمام الحرمين والغزالي هي ثلاثة الكتاب والسنة والإجماع ومنعا أن تكون القوانين الكلية الظنية من أصول الفقه وقال في التلخيص الذي ارتضاه المحققون أن ما لا ينبغي فيه العلم كأخبار الآحاد والمقاييس لا يعد من أصول الفقه فإن قيل فأخبار الآحاد والمقاييس لا تفضي إلى العلوم وهي من أدلة أحكام الشرع قيل له إنما يتعلق بالأصول تثبيتها أدلة على وجوب الأعمال وذلك مما يدرك بالأدلة القاطعة وأما العمل المتلقى منها فيتعلق بالفقه دون أصوله وقال في البرهان فإن قيل معظم المسائل الشرعية ظنون قلنا ليست الظنون فقها وإنما الفقه العلم بوجوب العمل عند قيام الظنون ولذلك قال المحققون أخبار الآحاد والأقيسة لا توجب العمل لذاواتها وإنما يجب العمل بما يجب به العلم بالعمل وهو الأدلة القطعية على وجوب العمل عند رواية الآحاد وقيام الأقيسة قال وهما وإن لم يوجدا إلا في أصول الفقه لكن حظ الأصولي إبانه القاطع في العمل بها ولكن لا بد من ذكرها ليبني المدلول عليه ويرتبط الدليل به وتبعه ابن القشيري وقال أطلق الفقهاء لفظ الدليل على أخبار الآحاد والقياس وهو خلاف هين وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْغَرَضُ من أُصُولِ الْفِقْهِ مَعْرِفَةُ أَدِلَّةِ أَحْكَامِ الْفِقْهِ وَمَعْرِفَةُ طُرُقِ الْأَدِلَّةِ لِأَنَّ من اسْتَقْرَأَ أَبْوَابَهُ وَجَدَهَا إمَّا دَلِيلًا على حُكْمٍ أو طَرِيقًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ وَذَلِكَ كَمَعْرِفَةِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَالْعِلَلِ والرحجان ( ( ( والرجحان ) ) ) وَهَذِهِ كُلُّهَا مَعْرِفَةٌ مُحِيطَةٌ بِالْأَدِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ على الْأَحْكَامِ وَمَعْرِفَةُ الْأَخْبَارِ وَطُرُقِهَا مَعْرِفَةٌ بِالطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى الدَّلَائِلِ الْمَنْصُوصَةِ على الْأَحْكَامِ وَهَاهُنَا أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَةَ في هذه الْعُلُومِ كَأُصُولِ الْفِقْهِ وَالْفِقْهِ وَالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالطِّبِّ هل هِيَ مَنْقُولَةٌ أو لَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فيه احْتِمَالَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مِمَّا صَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ كَالْعَقَبَةِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ من الْمَنْقُولَاتِ الْعُرْفِيَّةِ قال وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَرْجَحُ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْغَلَبَةِ يَتَقَيَّدُ بِمَا فيه الْأَلِفُ وَاللَّامُ أو الْإِضَافَةُ وَأَسْمَاءُ هذه الْعُلُومِ تُطْلَقُ عُرْفًا مع التَّنْكِيرِ وَالْقَطْعِ عن الْإِضَافَةِ كما تَقُولُ فُلَانٌ يَعْرِفُ فِقْهًا وَنَحْوًا
____________________
(1/19)
قُلْت وَبِالْأَوَّلِ صَرَّحَ ابن سِيدَهْ وَغَيْرُهُ كما سَبَقَ وَبِالثَّانِي صَرَّحَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ في الْكَلَامِ على الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ وَالطُّرْطُوشِيُّ في أَوَائِلِ كِتَابِهِ وقال فَيَكُونُ من الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ وهو مُقْتَضَى كَلَامِ الْحَلِيمِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وما رَجَّحَ بِهِ الثَّانِي فيه نَظَرٌ لِأَنَّهُ مع التَّنْكِيرِ لم يَخْرُجْ عن الْعِلْمِيَّةِ فإن الْعِلْمَ يُنْكِرُ تَحْقِيقًا أو تَقْدِيرًا الثَّانِي إذَا ثَبَتَ أنها مَنْقُولَةٌ فَهِيَ أَسْمَاءُ أَجْنَاسٍ أو أَعْلَامُ أَجْنَاسٍ وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِقَبُولِهِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ وَالْعِلْمُ لَا يَقْبَلُهُ وَلِاشْتِهَارِهَا في الْعُرْفِ كَاشْتِهَارِ لَفْظِ الدَّابَّةِ لِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وقد ثَبَتَ أنها لَيْسَتْ بِعَلَمٍ هذا إذَا كانت غير مَعْرِفَةٍ أَمَّا أُصُولُ الْفِقْهِ فَهُوَ مَعْرِفَةٌ بِالْإِضَافَةِ وَنُقِلَ إلَى هذا الْعَلَمِ الْخَاصُّ أو غَلَبَ عليه فَهُوَ عَلَمُ جِنْسٍ لِأَنَّهُ الْمُمَيِّزُ لِهَذَا الْجِنْسِ بِخُصُوصِهِ من غَيْرِهِ من الْأَجْنَاسِ الثَّالِثُ أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ يُطْلَقُ مُضَافًا وَمُضَافًا إلَيْهِ وَيُطْلَقُ عَلَمًا على هذا الْعِلْمِ الْخَاصِّ وَاخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فَمِنْهُمْ من عَرَّفَ الْإِضَافِيَّ وَمِنْهُمْ من عَرَّفَ اللَّقَبِيَّ وَمِنْهُمْ من جَمَعَ بين النَّوْعَيْنِ وَالصَّوَابُ تَعْرِيفُ اللَّقَبِيِّ وَلَيْسَ ثَمَّ غَيْرُهُ وَأَمَّا جَزَاؤُهُ حَالَةَ التَّرْكِيبِ فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا مَدْلُولٌ على حِدَتِهِ إنَّمَا هو كَغُلَامِ زَيْدٍ إذَا سَمَّيْت بِهِ لم يَتَطَلَّبْ مَعْنَى الْغُلَامِ وَلَا مَعْنَى زَيْدٍ وَلَيْسَ لنا حَدَّانِ إضَافِيٌّ وَلَقَبِيٌّ وَإِنَّمَا هو اللَّقَبِيُّ فَقَطْ
____________________
(1/20)
فَصْلٌ الْغَرَضُ من عِلْمِ الْأُصُولِ وَحَقِيقَتُهُ وَمَادَّتُهُ وموضوعة وَمَسَائِلُهُ يَجِبُ على كل طَالِبِ عِلْمٍ أَنْ يَعْلَمَ ما الْغَرَضُ منه وما هو وَمِنْ أَيْنَ وَفِيمَ وَكَيْفَ يُحَصَّلُ حتى يَتَمَكَّنَ له الطَّلَبُ وَيَسْهُلَ وَالْأَوَّلُ فَائِدَتُهُ وَالثَّانِي حَقِيقَتُهُ وَمَبَادِئُهُ وَالثَّالِثُ مَادَّتُهُ التي منها يَسْتَمِدُّ وَالرَّابِعُ موضوعة وَالْخَامِسُ مَسَائِلُهُ أَمَّا الْفَائِدَةُ فَهِيَ الْغَايَةُ الْمُوَصِّلَةُ لِلْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ وَلِلسَّبَبِ الْغَائِيِّ اعْتِبَارَانِ أَوَّلُ الْفِكْرِ وَيُسَمَّى الْبَاعِثَ وَمُنْتَهَاهُ وهو آخِرُ الْعَمَلِ وَيُسَمَّى الْفَائِدَةَ وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ وهو اقْتِنَاصُهُ بِحَدٍّ أو رَسْمٍ أو تَقْسِيمٍ وَالْقَصْدُ بِهِ الْإِرْشَادُ إلَى الْمَطْلُوبِ وَإِيضَاحُهُ قال الْمَازِرِيُّ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ في التَّعْلِيمِ لِلْغَيْرِ وَأَمَّا الطَّالِبُ لِنَفْسِهِ إذَا لَاحَ له حَقِيقَةُ ما يَطْلُبُ صَحَّ طَلَبُهُ وَإِنْ لم يُحْسِنْ عِبَارَةً عنه صَالِحَةً لِلْحَدِّ فَلَا يَكُونُ هذا شَرْطًا إلَّا في حَقِّ من أَرَادَ التَّعْلِيمَ لَا التَّعَلُّمَ وَأَمَّا الْمَادَّةُ فذكر إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَتَابِعُوهُ أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ مُسْتَمَدٌّ من ثَلَاثَةِ عُلُومٍ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَالْعَرَبِيَّةِ أَمَّا الْكَلَامُ فَلِتَوَقُّفِ الْأَدِلَّةِ على مَعْرِفَةِ الْبَارِي تَعَالَى بِقَدْرِ الْمُمْكِنِ من ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَعْرِفَةِ صِدْقِ رَسُولِهِ وَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ على أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَدُلُّ على دَعْوَى الرِّسَالَةِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مُبَيَّنٌ في عِلْمِ الْكَلَامِ فَيُسَلَّمُ هُنَا وَتَخُصُّ النَّظَرَ في دَلِيلِ الْحُكْمِ هُنَا بِعِلْمِ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِمُخَاطَبٍ وَقُدْرَةِ الْعَبْدِ كَسْبًا لَيُكَلَّفَ وَتَعَلُّقِ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ لِيُوجَدَ الْحُكْمُ وَرَفْعِ التَّعَلُّقِ فَيُنْسَخَ وَصِدْقِ الْمُبَلِّغِ لِيُبَيِّنَّ وَأَمَّا الْعَرَبِيَّةُ فلان الْأَدِلَّةَ جَاءَتْ بِلِسَانٍ الْعَرَبِ وَهِيَ تَشْتَمِلُ على ثَلَاثَةِ فُنُونٍ عِلْمِ النَّحْوِ وهو عِلْمُ مَجَارِي أَوَاخِرِ الْكَلِمِ رَفْعًا وَنَصْبًا وَجَرًّا وَجَزْمًا وَعِلْمُ اللُّغَةِ وَهِيَ تَحْقِيقُ مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ في ذَوَاتِهَا وَعِلْمُ الْأَدَبِ وهو عِلْمُ نَظْمِ الْكَلَامِ وَمَعْرِفَةُ مراتبة على مُقْتَضَى الْحَالِ وَإِنَّمَا يَكُونُ هذا مَادَّةً لِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْأُصُولِ وهو الْخِطَابُ دُونَ مَسَائِلِ
____________________
(1/21)
الْأَخْبَارِ وَالْإِجْمَاعُ وَالنَّسْخُ وَالْقِيَاسُ وَهِيَ مُعْظَمُ الْأُصُولِ ثُمَّ إنَّ الْمَادَّةَ فيه لَيْسَتْ على نَظِيرِ الْمَادَّةِ من الْكَلَامِ فإن الْعِلْمَ بها مَادَّةٌ لِفَهْمِ الْأَدِلَّةِ وَأَمَّا الْفِقْهُ فلانه مَدْلُولُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَأُصُولُ الْفِقْهِ أَدِلَّتُهُ وَلَا يُعْلَمُ الدَّلِيلُ مُجَرَّدًا من مَدْلُولِهِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ في وَجْهِ اسْتِمْدَادِهِ من عِلْمِ الْكَلَامِ إنَّ عِلْمَ أُصُولِ الْفِقْهِ فيه أَلْفَاظٌ لَا تُعْلَمُ مُسَمَّيَاتُهَا من غَيْرِ أُصُولِ الدِّينِ لَكِنَّهَا تُؤْخَذُ مُسَلَّمَةً فيه على أَنْ يُبَرْهِنَ في غَيْرِهِ من الْعُلُومِ أو تَكُونَ مُسَلَّمَةً في نَفْسِهَا وَهِيَ الْعِلْمُ وَالظَّنُّ وَالدَّلِيلُ وَالْأَمَارَةُ وَالنَّظَرُ لِأَنَّ لَفْظَ الطُّرُقِ يَشْمَلُ ذلك كُلَّهُ وَالْحُكْمُ أَيْضًا إذْ لَا بُدَّ فيه من خِطَابٍ شَرْعِيٍّ وَلَا يَثْبُتُ ذلك بِالدَّلِيلِ في غَيْرِ أُصُولِ الدِّينِ وما ذُكِرَ منه غَيْرُ ما عَدَّدْنَاهُ فَهُوَ تَبَعٌ وَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ هذه الْأُمُورِ في مَعْرِفَةِ هذا الْعِلْمِ لِيَتَوَقَّفَ منه إذَنْ على بَعْضِهِ لَا على كُلِّهِ وَإِلَى هذا أَشَارَ ابن بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ اسْتِمْدَادَ أُصُولِ الْفِقْهِ من شَيْءٍ وَاحِدٍ وهو قَوْلُ الرَّسُولِ الذي دَلَّ التَّكَلُّمُ على صدقة فَيُنْظَرُ في وَجْهِ دَلَالَتِهِ على الْأَحْكَامِ إمَّا بِمَلْفُوظِهِ أو بِمَفْهُومِهِ أو بِمَعْقُولِ مَعْنَاهُ ومستنبطة وَلَا يُجَاوِزُ نَظَرُ الْأُصُولِيِّ ذلك قَوْلَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَفِعْلَهُ قال وَقَوْلُ الرَّسُولِ إنَّمَا يَثْبُتُ صِدْقُهُ وَكَوْنُهُ حُجَّةً من عِلْمِ الْكَلَامِ وَهَذَا ليس بِمَرَضِيٍّ فإن من جُمْلَةِ ما يُوجَدُ فيه من عِلْمِ الْكَلَامِ مَعْرِفَةَ الْعِلْمِ وَالظَّنَّ وَالدَّلِيلَ وَالنَّظَرَ وَغَيْرَهُ مِمَّا سَبَقَ وَقَوْلُهُ بِأَنَّ نَظَرَ الْأُصُولِيِّ لَا يُجَاوِزُ قَوْلَهُ وَفِعْلَهُ مَمْنُوعٌ فإنه يَنْظُرُ في الِاسْتِصْحَابِ وَالْأَفْعَالِ قبل الشَّرْعِ وَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّا ليس بِقَوْلِ الرَّسُولِ وَلَا فِعْلَهُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَادَّةَ على قِسْمَيْنِ إسْنَادِيَّةٍ مُقَوَّمَةٍ فَالْمُقَوَّمَةُ دَاخِلَةٌ في أَجْزَاءِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ وَهِيَ الْفِقْهُ وَالْإِسْنَادِيَّة ما اسْتَنَدَتْ إلَى الدَّلِيلِ كَعِلْمِ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أُصُولَ الْفِقْهَ وَإِنْ لم يَعْلَمْ عِلْمَ الْكَلَامِ وَإِنَّمَا عِلْمُ الْكَلَامِ دَلِيلُ الْمُعْجِزَةِ وهو دَلِيلُ الْأُصُولِ فَاسْتَنَدَ إلَى الدَّلِيلِ وَكَذَلِكَ مَادَّةُ الْعَرَبِيَّةِ فَإِنْ قُلْت كَيْفَ يُجْعَلُ الْفِقْهُ مَادَّةً لِلْأُصُولِ وهو فَرْعُ الْأُصُولِ وَمَادَّةُ كل شَيْءٍ أَصْلُهُ فَهَذَا يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ أَصْلًا وَالْأَصْلُ فَرْعًا أَجَابَ الْمُقْتَرِحُ في تَعْلِيقِهِ على الْبُرْهَانِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُذْكَرَ الْفِقْهُ في الْأُصُولِ من حَيْثُ الْجُمْلَةِ فَيُذْكَرُ الْوَاجِبُ بِمَا هو وَاجِبٌ وَالْمَنْدُوبُ بِمَا هو مَنْدُوبٌ لِأَنَّ هذا
____________________
(1/22)
الْقَدْرَ مُبَيِّنٌ حَقِيقَةَ الْأُصُولِ وَإِنَّمَا الْمَحْذُورُ أَنْ يُذْكَرَ جُزْئِيَّاتُ الْمَسَائِلِ فإن ذِكْرَهَا يُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ تَوَقُّفُ مَعْرِفَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ على الْفِقْهِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْرِفَةَ أُصُولِ الْفِقْهِ تَتَوَقَّفُ على مَعْرِفَةِ الْفِقْهِ إذْ يَسْتَحِيلُ الْعِلْمُ بِكَوْنِهَا أُصُولَ فِقْهٍ ما لم يُتَصَوَّرْ الْفِقْهُ لِأَنَّ الْمُضَافَ إلَى مَعْرِفَةٍ إضَافَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَعَرَّفَ بها وَلَا يُمْكِنُ التَّعْرِيفُ إلَّا على تَقْدِيرِ سَبْقِ مَعْرِفَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَلِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمُرَكَّبِ يَتَوَقَّفُ على الْعِلْمِ بِمُفْرَدَاتِهِ ضَرُورَةً وَأَمَّا الْمَوْضُوعُ فَشَيْءٌ يَبْحَثُ عن أَوْصَافِهِ وَأَحْوَالِهِ الْمُعْتَبَرَةِ في ذلك الْعِلْمِ وهو مَعْنَى قَوْلِ الْمَنْطِقِيِّينَ مَوْضُوعُ كل عِلْمٍ ما يُبْحَثُ فيه عن أَعْرَاضِهِ الذَّاتِيَّةِ أَيْ ما يَلْحَقُ الشَّيْءَ لِذَاتِهِ كَالتَّعَجُّبِ اللَّاحِقِ لِلْإِنْسَانِ لِذَاتِهِ لَا بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ آخَرَ أو لِجُزْئِهِ كَالْمَشْيِ اللَّاحِقِ له بِوَاسِطَةِ كَوْنِهِ حَيَوَانًا أو لِأَمْرٍ يُسَاوِيهِ كَالضَّحِكِ اللَّاحِقِ له بِوَاسِطَةِ التَّعَجُّبِ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ أَعْرَاضُهُ الذاتيه وقد يَكُونُ لِأَعَمَّ دَاخِلٍ فيه كَالْحَرَكَةِ لِلْإِنْسَانِ لَكِنَّهُ مَهْجُورٌ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِرُجُوعِ مَوْضُوعَاتِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ إلَيْهِ فَمَوْضُوعُ الْفِقْهِ أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ وَمَوْضُوعُ أُصُولِ الْفِقْهِ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةِ وَمَوْضُوعُ الْهَنْدَسَةِ الْمِقْدَارُ وَمَوْضُوعُ الطِّبِّ بَدَنُ الْإِنْسَانِ فإن هذه الْأَشْيَاءَ هِيَ مَجَالُ الْبَحْثِ في هذه الْعُلُومِ يُبْحَثُ فيها عن أَعْرَاضِ هذه الْأَشْيَاءِ اللَّاحِقَةِ بها كما أَنَّهُمْ شَبَّهُوا ما يُبْحَثُ في كل عِلْمٍ عن أَعْرَاضِهِ وَأَحْوَالِهِ بِمَادَّةٍ حِسِّيَّةٍ يَضَعُهَا إنْسَانٌ بين يَدَيْهِ لِيُوقِعَ فيها أَثَرًا ما كَالْخَشَبِ الذي يُؤَثِّرُ فيه النَّجَّارُ حتى يَصِيرَ سَرِيرًا أو بَابًا وَكَالْفِضَّةِ التي يُؤَثِّرُ فيها الصَّائِغُ حتى يَصِيرَ خَاتَمًا أو سِوَارًا وَنَحْوَهُ وَأَمَّا مَبَادِئُ كل عِلْمٍ فَهِيَ حُدُودُ مَوْضُوعِهِ وَأَجْزَائِهِ وَأَعْرَاضِهِ مع الْمُقَدِّمَاتِ التي تُؤَلَّفُ عنها قِيَاسَاتُهُ وَذَلِكَ كَحَدِّ الْبَدَنِ وَأَعْضَائِهِ وما يَعْرِضُ لها من صِحَّةٍ وَسَقَمٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى عِلْمِ الطِّبِّ وَحَدُّ الْفِعْلِ وَأَصْنَافُهُ وَأَشْخَاصُهُ وما يَعْرِضُ له من حِلٍّ وَحُرْمَةٍ وَنَحْوِ ذلك بِالنِّسْبَةِ إلَى عِلْمِ الْفِقْهِ وَحَدُّ اللَّفْظِ وما يَعْرِضُ من صَوَابٍ وَخَطَأٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّحْوِ وهو جَمْعُ مَبْدَأٍ ومبدا الشَّيْءِ هو مَحَلُّ بِدَايَتِهِ وَسُمِّيَتْ حُدُودُ مَوْضُوعِ الْعِلْمِ وَأَجْزَاؤُهُ وَمُقَدِّمَاتُهُ التي هِيَ مَادَّةُ قِيَاسَاتِهِ مَبَادِئَ لِأَنَّهُ عنها وَمِنْهَا يَنْشَأُ وَيَبْدُو وَأَمَّا مَسَائِلُ كل عِلْمٍ فَهِيَ مَطَالِبُهُ الْجُزْئِيَّةُ التي يُطْلَبُ إثْبَاتُهَا فيه كَمَسَائِلِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوِهَا لِلْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ
____________________
(1/23)
وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَغَيْرِهَا لِأُصُولِ الْفِقْهِ وَالْمَوْضُوعُ قد يَكُونُ وَاحِدًا كَالْعَدَدِ لِلْحِسَابِ وقد يَكُونُ كَثِيرًا وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا تَنَاسُبٌ أَيْ مُشَارَكَةٌ إمَّا في ذَاتِيٍّ كما إذَا جُعِلَ الِاسْمُ وَالْفِعْلُ وَالْحَرْفُ مَوْضُوعَاتِ النَّحْوِ لِاشْتِرَاكِهَا في الْجِنْسِ وهو الْكَلِمَةُ وَإِمَّا في عَرَضِيٍّ كما إذَا جُعِلَ بَدَنُ الْإِنْسَانِ وَأَجْزَاؤُهُ وَالْأَدْوِيَةُ وَالْأَغْذِيَةُ مَوْضُوعَاتِ الطِّبِّ لِاشْتِرَاكِهَا في غَايَةٍ وَهِيَ الصِّحَّةُ وَمَوْضُوعُ أُصُولِ الْفِقْهِ قد اجْتَمَعَ فيه الْأَمْرَانِ فإنه إمَّا وَاحِدٌ وهو الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ من جِهَةِ إنَّهُ مُوَصِّلٌ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَإِمَّا كَثِيرٌ وهو أَقْسَامُ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ من هذه الْجِهَةِ لِاشْتِرَاكِهَا إمَّا في جِنْسِهَا وهو الدَّلِيلُ أو في غَايَتِهَا وهو الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَاخْتَلَفُوا هل يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعِلْمِ أَكْثَرُ من مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ أَمْ لَا فَقِيلَ يَجُوزُ مُطْلَقًا غير أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْرَكَهُ في أَمْرٍ ذَاتِيٍّ أو عَرَضِيٍّ كَالطِّبِّ يُبْحَثُ فيه عن أَحْوَالِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَعَنْ الْأَدْوِيَةِ وَنَحْوِهَا وَقِيلَ يَمْتَنِعُ مُطْلَقًا لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الِانْتِشَارِ وَاخْتَارَ صَاحِبُ التَّوْضِيحِ من الْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلًا وهو إنْ كان الْمَبْحُوثُ عنه في ذلك الْعِلْمِ إضَافِيًّا جَازَ كما أَنَّهُ يُبْحَثُ في الْأُصُولِ عن إثْبَاتِ الْأَدِلَّةِ لِلْحُكْمِ وَالْمَنْطِقُ يُبْحَثُ فيه عن إيصَالِ تَصَوُّرٍ أو تَصْدِيقٍ إلَى تَصَوُّرٍ أو تَصْدِيقٍ وقد يَكُونُ بَعْضُ الْعَوَارِضِ التي لها مَدْخَلٌ في الْمَبْحُوثِ عنه نَاشِئَةً عن أَحَدِ الْمُتَضَايِفَيْنِ وَبَعْضُهَا عن الْآخَرِ فَمَوْضُوعُ هذا الْعِلْمِ كِلَا الْمُتَضَايِفَيْنِ وَإِنْ كان غير إضَافِيٍّ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَوْضُوعِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعِلْمِ ثُمَّ إنْ كان إضَافِيًّا فَقَدْ يَكُونُ الْمُضَافُ وَالْمُضَافُ إلَيْهِ مَوْضُوعَ ذلك الْعِلْمِ كَأُصُولِ الْفِقْهِ وقد يَكُونُ أَحَدُهُمَا كَعِلْمِ الْمَنْطِقِ فإن مَوْضُوعَهُ الْقَوْلُ الشَّارِحُ وَالدَّلِيلُ من حَيْثُ إنَّهُ يُوَصِّلُ إلَى التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ
____________________
(1/24)
الدَّلِيلُ يُطْلَقُ في اللُّغَةِ على أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا الرُّشْدُ لِلْمَطْلُوبِ على مَعْنَى أَنَّهُ فَاعِلُ الدَّلَالَةِ وَمُظْهِرُهَا فَيَكُونُ مَعْنَى الدَّلِيلِ الدَّالَّ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ كَعَلِيمٍ وَقَدِيرٍ مَأْخُوذٌ من دَلِيلِ الْقَوْمِ لِأَنَّهُ يُرْشِدُهُمْ إلَى مَقْصُودِهِمْ قال الْقَاضِي وَالدَّالُّ نَاصِبُ الدَّلَالَةِ وَمُخْتَرِعُهَا وهو اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَمَنْ عَدَاهُ ذَاكِرُ الدَّلَالَةِ وَعِنْدَ الْبَاقِينَ الدَّالُّ ذَاكِرُ الدَّلَالَةِ وَاسْتُبْعِدَ إذْ الْحَاكِي وَالْمُدَرِّسُ لَا يُسَمَّى دَالًّا وهو ذَاكِرُ الدَّلَالَةِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الدَّالُّ ذَاكِرُ الدَّلَالَةِ على وَجْهِ التَّمَسُّكِ بها وَيُسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى دَلِيلًا بِالْإِضَافَةِ وَأَنْكَرَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ في كِتَابِ الْحُدُودِ قال وَلَا حُجَّةَ في قَوْلِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى يا دَلِيلَ الْمُتَحَيِّرِينَ لِأَنَّ ذلك ليس من قَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا أَحَدٍ من الصَّحَابَةِ وَإِنَّمَا هو من قَوْلِ أَصْحَابِ الْعَكَّاكِينَ وَحَكَى غَيْرُهُ في جَوَازِ إطْلَاقِ الدَّلِيلِ على اللَّهِ وَجْهَيْنِ مُفَرَّعَيْنِ على أَنَّ الْخِلَافَ في أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ هل تَثْبُتُ قِيَاسًا أَمْ لَا لَكِنْ صَحَّ عن الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ عَلَّمَ رَجُلًا أَنْ يَدْعُوَ فَيَقُولَ يا دَلِيلَ الْحَيَارَى دُلَّنِي على طَرِيقِ الصَّادِقِينَ الثَّانِي ما بِهِ الْإِرْشَادُ أَيْ الْعَلَامَةُ الْمَنْصُوبَةُ لِمَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ الْعَالَمُ دَلِيلُ الصَّانِعِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ حَقِيقَةُ الدَّلِيلِ الدَّالُّ وَقِيلَ بَلْ الْعَلَامَةُ الدَّالَّةُ على الْمَدْلُولِ بِنَاءً على اسْتِعْمَالِ الْمَعْنَيَيْنِ في اللُّغَةِ وقال صَاحِبُ الْمِيزَانِ من الْحَنَفِيَّةِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِلدَّالِ حَقِيقَةً وَصَارَ في الْعُرْفِ اسْمًا لِلِاسْتِعْمَالِ فَيَكُونُ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً وفي الِاصْطِلَاحِ الْمُوَصِّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فيه إلَى الْمَطْلُوبِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَيُسَمَّى دَلَالَةً وَمُسْتَدَلًّا بِهِ وَحُجَّةً وَسُلْطَانًا وَبُرْهَانًا وَبَيَانًا وَكَذَلِكَ قال الْقَاضِي أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ في تَقْوِيمِ الْأَدِلَّةِ قال وَسَوَاءٌ أَوْجَبَ عِلْمَ الْيَقِينِ أو دُونَهُ انْتَهَى وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ يُسَمَّى الدَّلِيلُ حُجَّةً وَبُرْهَانًا وَقِيلَ بَلْ هُمَا اسْمٌ لِمَا دَلَّ عليه صِحَّةُ الدَّعْوَى وقال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ في الْفَرْقِ بين الدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الدَّلِيلَ ما دَلَّ على مَطْلُوبِك وَالْحُجَّةُ ما مَنَعَ من ذلك وَالثَّانِي الدَّلِيلُ ما دَلَّ على صَوَابِك وَالْحُجَّةُ ما دَفَعَ عَنْك قَوْلَ مُخَالِفِك
____________________
(1/25)
1 هـ وَخَصَّ الْمُتَكَلِّمُونَ اسْمَ الدَّلِيلِ ما دَلَّ بِالْمَقْطُوعِ بِهِ من السَّمْعِيِّ وَالْعَقْلِيِّ وَأَمَّا الذي لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ فَيُسَمُّونَهُ أَمَارَةً وَحَكَاهُ في التَّلْخِيصِ عن مُعْظَمِ الْمُحَقِّقِينَ وَزَعَمَ الْآمِدِيُّ أَنَّهُ اصْطِلَاحُ الْأُصُولِيِّينَ أَيْضًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمُصَنِّفُونَ في أُصُولِ الْفِقْهِ يُطْلِقُونَ الدَّلِيلَ على الْأَعَمِّ من ذلك وَصَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ من أَصْحَابِنَا كَالشَّيْخِ أبي حَامِدٍ وَالْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ وَالشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ وَابْنِ الصَّبَّاغِ وَحَكَاهُ عن أَصْحَابِنَا وَسُلَيْمٍ الرَّازِيّ وَأَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ من الْمَالِكِيَّةِ وَالْقَاضِي أبي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ وَالزَّاغُونِيِّ من الْحَنَابِلَةِ وَحَكَاهُ في التَّلْخِيصِ عن جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَحَكَاهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ عن أَهْلِ اللُّغَةِ وَحُكِيَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ عن بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ قِيلَ وَلَعَلَّ منشأة قَوْلُ بَعْضِهِمْ إنَّ الْأَدِلَّةَ الظَّنِّيَّةَ لَا تُحَصِّلُ صِفَاتٍ تَقْتَضِي الظَّنَّ كما تَقْتَضِي الْأَدِلَّةُ الْيَقِينِيَّةُ الْعِلْمَ وَإِنَّمَا يُحَصِّلُ الظَّنَّ اتِّفَاقًا عِنْدَهَا وَلِهَذَا يَقُولُونَ إنَّ الظَّنِّيَّاتِ ليس فيها تَرْتِيبٌ وَتَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَلَيْسَ فيها خَطَأٌ في نَفْسِ الْأَمْرِ كما يقول ذلك الْمُصَوِّبَةُ وقال ابن الصَّبَّاغِ اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ في إطْلَاقِ اسْمِ الدَّلِيلِ على الظَّنِّيِّ وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ الْفَصْلُ بين الْمَعْلُومِ وَالْمَظْنُونِ فَأَمَّا في أَصْلِ الْوَضْعِ فلم يَخْتَلِفُوا في أَنَّ الْجَمِيعَ يُسَمَّى دَلِيلًا وَضْعًا وَكَذَلِكَ قال ابن بَرْهَانٍ وابن السَّمْعَانِيِّ الْفُقَهَاءُ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْمُتَكَلِّمُونَ وهو رَاجِعٌ إلَى اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ في كِتَابِ عِيَارِ النَّظَرِ قال أبو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ مَعْنَى الدَّلِيلِ مُظْهِرُ الدَّلَالَةِ وَمِنْهُ دَلِيلُ الْقَوْمِ وقال إنَّ تَسْمِيَةَ الدَّلَالَةِ دَلِيلًا مَجَازٌ وَإِنْ كان إذَا قِيلَ له لو كان الدَّلِيلُ مُظْهِرَ الدَّلَالَةِ لَوَجَبَ على الْمَسْئُولِ عن الدَّلَالَةِ إذَا قِيلَ له ما الدَّلِيلُ أَنْ يَقُولَ أنا لِأَنَّهُ هو الْمُظْهِرُ لِلدَّلَالَةِ أَجَابَ بانه لو قِيلَ من الدَّلِيلُ قال أنا وإذا وَقَعَ السُّؤَالُ بِحَرْفِ ما عُرِفَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ السُّؤَالُ عن الدَّلَالَةِ لِأَنَّ ما إنَّمَا يُسْأَلُ بِهِ عَمَّا لَا يُوصَفُ بِالتَّمْيِيزِ وقال عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّ الدَّلِيلَ هو الدَّلَالَةُ وهو ما يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ ما لَا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ وَالضَّرُورَةِ وَعَلَى هذا فَتَسْمِيَةُ الدَّالِّ على الطَّرِيقِ دَلِيلًا مجازا 1 هـ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الدَّلَالَةُ مَصْدَرُ قَوْلِك دَلَّ يَدُلُّ دَلَالَةً وَيُسَمَّى دَلِيلًا مَجَازًا من بَابِ تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِمْ رَجُلٌ صَوْمٌ وَأَمَّا الدَّالُّ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه فَقِيلَ هو الدَّلِيلُ وَقِيلَ هو النَّاصِبُ
____________________
(1/26)
لِلدَّلِيلِ وهو اللَّهُ تَعَالَى الذي نَصَبَ أَدِلَّةَ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ قال الْإِمَامُ وَلَيْسَ لِلدَّلِيلِ تَحْصِيلٌ سِوَى تَجْرِيدِ الْفِكْرِ من ذِي فِكْرَةٍ صَحِيحَةٍ إلَى جِهَةٍ يَتَطَرَّقُ إلَى مِثْلِهَا تَصْدِيقٌ أو تَكْذِيبٌ أَقْسَامُ الدَّلِيلِ وَيَنْقَسِمُ الدَّلِيلُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ سَمْعِيٍّ وَعَقْلِيٍّ وَوَضْعِيٍّ فَالسَّمْعِيُّ هو اللَّفْظِيُّ الْمَسْمُوعُ وفي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ هو الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ أَعْنِي الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ وَالِاسْتِدْلَالَ وَأَمَّا عُرْفُ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّهُمْ إذَا أَطْلَقُوا الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ فَلَا يُرِيدُونَ بِهِ غير الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعَ قَالَهُ الْآمِدِيُّ في الْأَبْكَارِ الثَّانِي الْعَقْلِيُّ وهو ما دَلَّ على الْمَطْلُوبِ بِنَفْسِهِ من غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى وَضْعٍ كَدَلَالَةِ الْحُدُوثِ على الْمُحْدِثِ وَالْإِحْكَامِ على الْعَالِمِ الثَّالِثُ الْوَضْعِيُّ وهو ما دَلَّ بِقَضِيَّةِ اسْتِنَادِهِ وَمِنْهُ الْعِبَارَاتُ الدَّالَّةُ على الْمَعَانِي في اللُّغَاتِ قال وَأَلْحَقَ بِهِ الْمُحَقِّقُونَ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةَ على صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ وَتَبِعَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وقال ما دَلَّ عَقْلًا لَا يَتَبَدَّلُ وما دَلَّ وَضْعًا يَجُوزُ أَنْ يَتَبَدَّلَ لَكِنَّ الْإِمَامَ في الْإِرْشَادِ اخْتَارَ أَنَّ دَلَالَتَهَا عَقْلِيَّةٌ وهو قَوْلُ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وسياتي عن ابْنِ الْقَطَّانِ أَيْضًا وقال الْآمِدِيُّ في الْأَبْكَارِ الذي ذَهَبَ إلَيْهِ شَيْخُنَا وَالْقَاضِي وَالْمُحَقِّقُونَ أَنَّ دَلَالَةَ الْمُعْجِزَةِ على صِدْقِ الرَّسُولِ لَيْسَتْ دَلَالَةً عَقْلِيَّةً وَلَا سَمْعِيَّةً أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ ما يَدُلُّ عَقْلًا يَدُلُّ بِنَفْسِهِ وَيَرْتَبِطُ بِمَدْلُولِهِ لِذَاتِهِ وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ غَيْرِهِ وقد تَقَعُ الْخَوَارِقُ عِنْدَ تَصَرُّمِ الدُّنْيَا مع عَدَمِ دَلَالَتِهَا على تَصْدِيقِ مُدَّعِي النُّبُوَّةِ فإنه لَا إرْسَالَ وَلَا رَسُولَ إذْ ذَاكَ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ السَّمْعِيَّةَ مُتَوَقِّفَةٌ على صدقة فَلَوْ تَوَقَّفَ صِدْقُ الرَّسُولِ عليها لَكَانَ دَوْرًا بَلْ دَلَالَتُهَا على صدقة غَيْرُ خَارِجٍ عن الدَّلَالَاتِ الْوَضْعِيَّةِ النَّازِلَةِ مَنْزِلَةَ التَّصْدِيقِ فَكَانَتْ نَازِلَةً من اللَّهِ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ صَدَقَ ثُمَّ الْعَقْلِيُّ يَنْقَسِمُ إلَى ما يَقْتَضِي الْقَطْعَ كَالْأَدِلَّةِ في أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَإِلَى ما لَا يَقْتَضِيهِ وَكَذَلِكَ يَنْقَسِمُ إلَى ما يَقْتَضِي الْقَطْعَ وهو يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ وَإِلَى ما لَا يَقْتَضِيهِ كَأَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْمُقَايِسِ السَّمْعِيَّةِ فَكَمَا لَا يُوصَفُ بِاقْتِضَاءِ الْعِلْمِ لَا يُوصَفُ بِاقْتِضَاءِ غَلَبَةِ الظَّنِّ قال وَهَذَا مِمَّا يَزِلُّ فيه مُعْظَمُ الْفُقَهَاءِ وَلَكِنْ جَرَتْ الْعَادَةُ
____________________
(1/27)
بِحُصُولِ الظَّنِّ في أَثَرِهَا من غَيْرِ تَضَمُّنِهَا وَيَتَنَوَّعُ الْعَقْلِيُّ إلَى اسْتِقْرَائِيٍّ وَتَمْثِيلِيٍّ وَاقْتِرَانِيٍّ وَاسْتِثْنَائِيٍّ مُتَّصِلٍ أو مُنْفَصِلٍ وَيَتَأَلَّفُ الْمُتَّصِلُ من الْمُتَلَازِمَاتِ وَالْمُنْفَصِلُ من الْمُتَضَادَّاتِ وَنَوَّعَهَا الْأَصْحَابُ أَرْبَعَةً بِنَاءُ الْغَائِبِ على الشَّاهِدِ وَإِنْتَاجُ الْمُقَدِّمَاتِ النَّتَائِجَ وَالسَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْمُتَّفَقِ عليه على الْمُخْتَلَفِ فيه وَنَازَعَ ابن الْقُشَيْرِيّ في الْأَوَّلِ وقال عِنْدَنَا لَا أَصْلَ لِبِنَاءِ الْغَائِبِ على الشَّاهِدِ وَأَنَّ الْحُكْمَ بِهِ بَاطِلٌ وَإِنْ قام دَلِيلٌ على الْمَطْلُوبِ في الْغَائِبِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ وَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ الشَّاهِدِ وَإِلَّا فَذِكْرُ الشَّاهِدِ لَا مَعْنَى له وَلَيْسَ في الْمَعْقُولَاتِ قِيَاسٌ قال وَكَذَا قِيَاسُ الْمُخْتَلَفِ فيه على الْمُتَّفَقِ عليه بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَا قِيَاسَ في الْمَعْقُولَاتِ وَسَتَأْتِي هذه الْمَسْأَلَةُ في كِتَابِ الْقِيَاسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يُشْتَرَطُ في الدَّلِيلِ الْوُجُودُ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدَمِيًّا وَلِهَذَا يُسْتَدَلُّ بِعَدَمِ الْآيَاتِ على كَذِبِ الْمُتَنَبِّئِ وَبِعَدَمِ الْأَدِلَّةِ وَالْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ على انْحِصَارِ أَوْصَافِ الْأَجْنَاسِ فِيمَا أَدْرَكْنَاهُ وَالدَّلِيلُ لَا يَقْتَضِي مَدْلُولَهُ وَلَا يُوجِبُهُ إيجَابَ الْعِلَّةِ مَعْلُولَهَا بَلْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَدْلُولِ على ما هو بِهِ كَالْعِلْمِ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْلُومِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْحُدُوثَ لَمَّا دَلَّ على الْمُحْدِثِ اسْتَحَالَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُوجِبُهُ بَلْ يَتَعَلَّقُ بِهِ على ما هو بِهِ وَالْقَصْدُ بهذا التَّحَرُّزُ من قَوْلِ بَعْضِهِمْ الدَّلِيلُ يُوجِبُهُ كَذَا وَالدَّلَالَةُ تَقْتَضِي مَدْلُولَهَا كَذَا وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ مُحْتَاجًا لِدَلِيلٍ فيه خِلَافٌ حَكَاهُ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ في أُصُولِ الْفِقْهِ قال فَمَنَعَهُ قَوْمٌ وَجَوَّزَهُ آخَرُونَ وَقَالُوا الْأَدِلَّةُ تَنْقَسِمُ إلَى ما هو بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ وَإِلَى ما هو في ثَوَانِي الْعَقْلِ مُحْتَاجٌ إلَى دَلِيلٍ وَاخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ في مَسْأَلَةٍ وَهِيَ أَنَّا إذَا أَقَمْنَا دَلِيلًا على حُدُوثِ الْعَالَمِ مَثَلًا فَهَلْ الْمَدْلُولُ حُدُوثُ الْعَالَمِ أو الْعِلْمُ بِحُدُوثِهِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ بِدَلِيلِ أَنَّ حُدُوثَ الْأَكْوَانِ دَالٌّ على حُدُوثِ الْجَوَاهِرِ سَوَاءٌ نَظَرَ النَّاظِرُ أو لَا وَاخْتَلَفُوا في الدَّلَائِلِ اللَّفْظِيَّةِ هل تُفِيدُ الْقَطْعَ على ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا نعم وَحَكَاهُ الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ عن الْمُعْتَزِلَةِ وَعَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا
____________________
(1/28)
وَالثَّانِي أنها لَا تُفِيدُ وَالثَّالِثُ وهو اخْتِيَارُ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيَّ أنها تُفِيدُ الْقَطْعَ إنْ اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرَائِنُ مُشَاهَدَةٌ أو معقوله كَالتَّوَاتُرِ وَلَا تفيد ( ( ( يفيد ) ) ) الْيَقِينَ إلَّا بَعْدَ تَيَقُّنِ أُمُورٍ عَشَرَةٍ عِصْمَةِ رُوَاةِ نَاقِلِيهَا وصحه إعْرَابِهَا وَتَصْرِيفِهَا وَعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ وَالتَّخْصِيصِ بِالْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ وَعَدَمِ الْإِضْمَارِ وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَعَدَمِ الْمُعَارِضِ اللَّفْظِيِّ قِيلَ ولم يذكر النَّسْخَ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ عِنْدَهُ في التَّخْصِيصِ بِالْأَزْمَانِ قال الْقُرْطُبِيُّ في أُصُولِهِ وما ذَكَرَهُ صَحِيحٌ غير أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ في حُصُولِ الْيَقِينِ حُصُولُ هذه الْأُمُورِ مُفَصَّلَةً في الذِّهْنِ فَإِنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قد حَكَمَ على الْمُطَلَّقَةِ الْمَدْخُولِ بها بِتَرَبُّصِ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ لَا أَقَلَّ منها وَلَا أَكْثَرَ وَأَنَّ حُكْمَ الْمُحْصَرِ الذي لم يَجِدْ الْهَدْيَ صِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَإِنْ لم يَخْطِرْ لنا تَفْصِيلُ هذه الْأُمُورِ بِالْبَالِ وَهَذَا كما يقول في الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ إذَا اجْتَمَعَتْ شُرُوطُهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ وَإِنْ لم يَشْعُرْ الذِّهْنُ بِتَفْصِيلِ شُرُوطِهِ حَالَةَ حُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ وَكَذَا الْقَوْلُ في الدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ فإنه قد يَحْصُلُ لنا الْيَقِينُ بِهِ قبل إحْضَارِ تِلْكَ الْأُمُورِ بِالْبَالِ قال وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا على ذلك لِئَلَّا يَسْمَعَ الْقَاصِرُ كَلَامَ الْإِمَامِ هذا فَيَظُنَّ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ حتى يَخْطِرَ له تِلْكَ الْأُمُورُ بِبَالِهِ وَيَعْتَبِرَهَا وَاحِدًا وَاحِدًا فَتَشُكَّ نَفْسُهُ مِمَّا حَصَلَ له من الْيَقِينِ من الْأَدِلَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ ظَنَّ تِلْكَ الْأُمُورِ أو بَعْضِهَا بِالدَّلِيلِ ظَنٌّ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ قَرَائِنُ عَقْلِيَّةٌ أو حَالِيَّةٌ فَيَحْصُلُ الْيَقِينُ منها انْتَهَى وردة غَيْرُهُ بِأَنَّ بَعْضَ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ قد بَلَغَ حَدَّ التَّوَاتُرِ كَرَفْعِ الْفَاعِلِ وَنَصْبِ الْمَفْعُولِ وَنَحْنُ لَا نَدَّعِي قَطْعِيَّةَ جَمِيعِ النَّقْلِيَّاتِ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ من التَّرَاكِيبِ يُفِيدُ الْقَطْعَ بِمَدْلُولِهِ فَقَدْ أَنْكَرَ جَمِيعَ التَّوَاتُرَاتِ وقال غَيْرُهُ الْمَقْصُودُ من هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الدَّلِيلَ النَّقْلِيَّ إذَا أَدَّى إلَى إثْبَاتِ أَمْرٍ وَقَامَ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ على نَفْيِ ذلك الْأَمْرِ فإن الدَّلِيلَ النَّقْلِيَّ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ في هذا الْمَحَلِّ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مُعَارِضٌ لِلدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ كما يُتَصَوَّرُ الْمُعَارَضَةُ بين الْعَقْلِيِّ وَالنَّقْلِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ
____________________
(1/29)
مَسْأَلَةٌ أَدِلَّةُ الْعُقُولِ قال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ أَنْكَرَ دَاوُد وَأَصْحَابُهُ أَدِلَّةَ الْعُقُولِ وَذَهَبَ أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ إلَى أنها صَحِيحَةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لم يُحْوِجْنَا إلَيْهَا لِأَنَّ أَوَّلَ مَحْجُوجٍ بِالسَّمْعِ آدَم عليه السَّلَامُ حَيْثُ قِيلَ له لَا تَأْكُلْ فَدَلَّ على أَنَّ أَدِلَّةَ الْعَقْلِ قد كُفِينَا الْأَمْرَ فيها وَاسْتَقْلَلْنَا بِالسَّمْعِ قال وَعِنْدَنَا أَنَّ دَلَائِلَ الْعُقُولِ صَحِيحَةٌ بها نَدْرِي الْأَشْيَاءَ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمُعْجِزَةِ إنَّمَا دَلَّ عليها الْعَقْلُ وقال تَعَالَى ^ فما أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ من شَيْءٍ ^ الأحقاف 26 ولم يُرِدْ سُبْحَانَهُ بِالْأَفْئِدَةِ قِطْعَةَ اللَّحْمِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ التَّمْيِيزَ وَبِهَذِهِ الْآيَةِ اُحْتُجَّ على أَنَّ مَحَلَّ الْعَقْلِ الْفُؤَادُ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الذي عليه الْإِسْلَامِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ الْعُقُولَ طُرُقُ الْمَعْلُومَاتِ قال وَأَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ من الْمُحَدِّثِينَ ذلك وَقَالُوا لَا يُعْرَفُ شَيْءٌ إلَّا من قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم فَرْعٌ قَضَايَا الْعُقُولِ وَقَضَايَا الْعُقُولِ ضَرْبَانِ ما عُلِمَ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وهو مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ على خِلَافِ ما هو بِهِ كَالتَّوْحِيدِ فَيُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ وَإِنْ كان عن اسْتِدْلَالٍ لِلْوُصُولِ إلَيْهِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وما عُلِمَ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وهو ما يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ على خِلَافِ ما هو بِهِ كَآحَادِ الْأَنْبِيَاءِ إذَا ادَّعَى النُّبُوَّةَ فَيُوجِبُ عِلْمَ الِاسْتِدْلَالِ وَلَا يُوجِبُ عِلْمَ الِاضْطِرَارِ لِحُدُوثِهِ عن دَلِيلِ الْعَقْلِ لَا عن ضَرُورَتِهِ وَاخْتُلِفَ في أُصُولِ النُّبُوَّاتِ على الْعُمُومِ هل تُعْلَمُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أو بِدَلِيلِهِ على اخْتِلَافِهِمْ في التَّعَبُّدِ بِالشَّرَائِعِ هل اقْتَرَنَ بِالْعَقْلِ أو يَعْقُبُهُ فَذَهَبَ من جَعَلَهُ مُقْتَرِنًا بِالْعَقْلِ إلَى إثْبَاتِ عُمُومِ النُّبُوَّاتِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَذَهَبَ من جَعَلَهُ مُتَأَخِّرًا عن الْعَقْلِ إلَى إثْبَاتِهَا بِدَلِيلِ الْعَقْلِ ضَابِطٌ الْبَاحِثُ عن الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْبَاحِثُ عن الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إمَّا في إثْبَاتِهِ أو في نَفْيِهِ فَفِي الْأَوَّلِ لَا بُدَّ له من دَلِيلٍ مُثْبِتٍ وهو الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ وما يَتْبَعُ ذلك كما سَيَأْتِي وفي الثَّانِي إمَّا أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ دَلِيلٍ
____________________
(1/30)
فَهُوَ الْمُعَبَّرُ عنه بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَمَعْنَى ذلك أَنَّ ما لم يَتَعَرَّضْ له الشَّرْعُ بَاقٍ على النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ على ما تَقَرَّرَ وَلِهَذَا الْمَعْنَى سَمَّاهُ الْغَزَالِيُّ دَلِيلًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِوُجُودِ دَلِيلٍ بَاقٍ وَذَلِكَ الدَّلِيلُ إمَّا أَنْ لَا يَسْتَلْزِمَ النَّفْيَ لِمَعْقُولِيَّتِهِ أو يَسْتَلْزِمَ وَالْأَوَّلُ نُصُوصُ الْأَدِلَّةِ وَالثَّانِي هو الْمَانِعُ وَفُقْدَانُ الشَّرْطِ فَائِدَةٌ أَدِلَّةُ النَّفْيِ أَوْسَعُ من أَدِلَّةِ الْإِثْبَاتِ أَدِلَّةُ النَّفْيِ أَوْسَعُ من أَدِلَّةِ الثُّبُوتِ لِأَنَّ كُلَّ ما يَدُلُّ على الثُّبُوتِ يَدُلُّ على النَّفْيِ وقد يَدُلُّ الشَّيْءُ على النَّفْيِ وَلَا يَدُلُّ على الثُّبُوتِ أَصْلًا كَالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ وَالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ لَا دَلِيلَ على النَّافِي
____________________
(1/31)
النَّظَرُ لُغَةً الِانْتِظَارُ وَتَقْلِيبُ الْحَدَقَةِ نحو الْمَرْئِيِّ وَالرَّحْمَةُ وَالتَّأَمُّلُ وَيَتَمَيَّزُ بِالْمُعَدِّي من حُرُوفِ الْجَرِّ وفي الِاصْطِلَاحِ الْفِكْرُ الْمُؤَدِّي إلَى عِلْمٍ أو ظَنٍّ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الشَّامِلِ الْفِكْرُ هو انْتِقَالُ النَّفْسِ من الْمَعَانِي انْتِقَالًا بِالْقَصْدِ وَذَلِكَ قد يَكُونُ بِطَلَبِ عِلْمٍ أو ظَنٍّ فَيُسَمَّى نَظَرًا وقد لَا يَكُونُ كَأَكْثَرِ حديث النَّفْسِ فَلَا يُسَمَّى نَظَرًا بَلْ تَخَيُّلًا وَفِكْرًا وَالْفِكْرُ أَعَمُّ من النَّظَرِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ قَصْدَ النَّاظِرِ الِانْتِقَالُ من أَجْزَاءِ الْحَدِّ وقال في الْبُرْهَانِ حَقِيقَةُ النَّظَرِ تُرَدَّدُ في أَنْحَاءِ الضَّرُورِيَّاتِ وَمَرَاتِبِهَا وقال فِيمَا بَعْدُ عِنْدَنَا مُبَاحَثَةٌ في أَنْحَاءِ الضَّرُورِيَّاتِ وَمَرَاتِبِهَا وَأَسَالِيبِهَا وقد اعْتَرَفَ فِيمَا بَعْدُ أَنَّ الضَّرُورِيَّاتِ تَنْقَسِمُ إلَى هَاجِمٍ عليه وَيُسَمَّى ضَرُورِيًّا وَإِلَى ما يَحْتَاجُ إلَى فِكْرٍ فَيُسَمَّى نَظَرِيًّا قِيلَ وَهَذَا نَقْضٌ لِقَوْلِهِ إنَّ كُلَّهَا ضَرُورِيَّةٌ وَأَمَّا حَصْرُ النَّظَرِ في الضَّرُورِيَّاتِ فَلَا يَسْتَقِيمُ فإنه قد يَكُونُ في غَيْرِ الضَّرُورِيَّاتِ ضَرُورَةً ثُمَّ هو مَنْقُوضٌ بِالشَّكِّ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ النَّظَرُ هو الْفِكْرُ الذي يَطْلُبُ بِهِ من قام بِهِ عِلْمًا أو ظَنًّا وهو مُطَّرِدٌ في الْقَاطِعِ وَالظَّنِّيِّ وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ بِهِ من بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ فإنه لَا يُطْلَبُ بها بَلْ عِنْدَهَا فَيَكُونُ شَرْطًا لِلطَّلَبِ كَذَا حَكَاهُ عنه الْآمِدِيُّ وَاسْتَحْسَنَهُ وَأَجَابَ عَمَّا اعْتَرَضَ بِهِ عليه ثُمَّ اخْتَارَ خِلَافَهُ وَلَيْسَ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ حَدَّانِ مُخْتَلِفَانِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ هو الْفِكْرُ في الشَّيْءِ الْمَنْظُورِ فيه طَلَبًا لِمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ ذَاتِهِ أو صِفَةٍ من صِفَاتِهِ وقد يُفْضِي إلَى الصَّوَابِ إذَا رُتِّبَ على وَجْهِهِ وقد يَكُونُ خَطَأً أذا خُولِفَ تَرْتِيبُهُ وقال الْغَزَالِيُّ في الِاقْتِصَادِ إذَا أَرَدْت إدْرَاكَ الْعِلْمِ الْمَطْلُوبِ فَعَلَيْك وَظِيفَتَانِ إحْدَاهُمَا إحْضَارُ الْأَصْلَيْنِ أَيْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ في ذِهْنِك وَهَذَا يُسَمَّى فِكْرًا وَالْآخَرُ يَسُوقُك إلَى التَّفَطُّنِ لِوُجْهَةِ لُزُومِ الْمَطْلُوبِ من ازْدِوَاجِ الْأَصْلَيْنِ وَهَذَا يُسَمَّى طَلَبًا قال فَلِذَلِكَ من جَرَّدَ الْتِفَاتَهُ إلَى الْوَظِيفَةِ الْأُولَى جَدَّ النَّظَرَ بِأَنَّهُ الْفِكْرُ وَمَنْ جَرَّدَ
____________________
(1/32)
الْتِفَاتَهُ إلَى الثَّانِيَةِ قال إنَّهُ طَلَبُ عِلْمٍ أو غَلَبَةُ ظَنٍّ قال وَمَنْ الْتَفَتَ إلَى الْأَمْرَيْنِ جميعا قال إنَّهُ الْفِكْرُ الذي يَطْلُبُ بِهِ من قام بِهِ عِلْمًا أو غَلَبَةَ ظَنٍّ قالوا وَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ له صُورَةٌ في الْقَلْبِ وَلِذَلِكَ وَرَدَ تَفَكَّرُوا في آلَاءِ اللَّهِ وَلَا تَفَكَّرُوا في اللَّهِ وقال بَعْضُ الْأَذْكِيَاءِ الْفِكْرُ مَقْلُوبُ الْفَرْكِ غير أَنَّ الْفِكْرَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا في الْمَعَانِي وقال الْقَاضِي أبو يَعْلَى في كِتَابِهِ الْمُعْتَمَدِ الْكَبِيرِ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ مَعْنًى غَيْرُ الْفِكْرِ وَالرَّوِيَّةِ بَلْ يُوجَدُ عَقِبَهُ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ في قَوْلِهِمْ إنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَلَنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُفَكِّرُ أَوَّلًا في الْجِسْمِ هل هو قَدِيمٌ أو حَادِثٌ وما دَامَ مُفَكِّرًا فَهُوَ شَاكٌّ ثُمَّ يَنْظُرُ بَعْدَ ذلك في الدَّلِيلِ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ وَالْفِكْرُ مُتَغَايِرَيْنِ قال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ وَالْفَرْقُ بين الْجِدَالِ وَالنَّظَرِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّظَرَ طَلَبُ الصَّوَابِ وَالْجِدَالَ نُصْرَةُ الْقَوْلِ وَالثَّانِي النَّظَرُ الْفِكْرُ بِالْقَلْبِ وَالْعَقْلِ وَالْجِدَالُ الِاحْتِجَاجُ بِاللِّسَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَسْأَلَةٌ أَقْسَامُ النَّظَرِ وَأَقْسَامُهُ أَرْبَعَةٌ لِأَنَّهُ إمَّا جَازِمٌ أو لَا وَكُلُّ وَاحِدٍ إمَّا مُطَابِقٌ أو لَا وَإِنْ شِئْت قُلْت إمَّا صَحِيحٌ أو فَاسِدٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ إمَّا جَازِمٌ أو غَيْرُ جَازِمٍ فَالنَّظَرُ الصَّحِيحُ هو النَّظَرُ الْمُطَابِقُ وَالْفَاسِدُ هو الذي لم يُفِدْ الْمَطْلُوبَ إمَّا لِلْخَطَأِ في التَّرْتِيبِ أو أَنَّهُ قُصِدَ بِهِ شَيْءٌ فَأَفَادَ غَيْرَهُ أو لم يُفِدْ شيئا أو بِغَيْرِ ذلك وَقَسَّمَهُ الْآمِدِيُّ إلَى صَحِيحٍ وهو ما قد وَقَفَ النَّاظِرُ فيه على وَجْهِ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ وَنَاقَضَ ذلك بِقَوْلِهِ إنَّ الصَّحِيحَ منه يُفِيدُ الْعِلْمَ مع أَنَّهُ لَا يَرَى الظَّنَّ عِلْمًا بَلْ ضِدًّا لِلْعِلْمِ وهو أَحَدُ طُرُقِ الْعِلْمِ خِلَافًا لِلسُّوفِسْطَائِيَّةِ النَّافِينَ لِلْحَقَائِقِ وَالسُّمَنِيَّةِ الْقَائِلِينَ
____________________
(1/33)
بِتَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ وَشَرْطُهُ الْعَقْلُ وَانْتِفَاءُ ما فيه كَالْغَفْلَةِ وَهَلْ السَّهْوُ عن النَّظَرِ الصَّحِيحِ وَالنِّسْيَانُ له ضِدٌّ له أَمْ لَا فيه احْتِمَالَانِ لِلْقَاضِي أبي يَعْلَى وَعِنْدَهُ لَا يَكُونُ غَيْرُ الْعِلْمِ ضِدًّا له لِأَنَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ الْعِلْمُ الظَّنَّ ليس عِلْمًا وَأَنْ لَا يَكُونَ جَاهِلًا بِالْمَطْلُوبِ وَلَا عَالِمًا بِهِ من كل الْوُجُوهِ وَلَا من وَجْهٍ تَطْلُبُهُ لاستحاله تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وقال الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ إنَّهُ يُنَافِي الْعِلْمَ بِمَا يَنْظُرُ فيه لِأَنَّ النَّظَرَ طَلَبٌ وَطَلَبُ الْحَاصِلِ مُحَالٌ وَيُنَافِي الْجَهْلَ بِهِ لِأَنَّ الْجَاهِلَ يَعْتَقِدُ كَوْنَهُ عَالِمًا وهو يَصْرِفُهُ عن الطَّلَبِ قِيلَ لَكِنْ هذا في الْمُرَكَّبِ وهو يُنَافِي الْبَسِيطَ أَيْضًا ولم يَذْكُرْهُ وَأَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ في الدَّلِيلِ لَا في شُبْهَةٍ بِمَعْنَى أَنْ يَقَعَ نَظَرُهُ على الدَّلِيلِ الذي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ لِأَنَّهُ إذَا أَخْطَأَ الدَّلِيلَ لم يَصِحَّ نَظَرُهُ وَلِهَذَا أَخْطَأَ من أَخْطَأَ لِأَنَّهُ لم يُوَفَّقْ في نَظَرِهِ لِإِصَابَةِ الدَّلِيلِ وَإِنَّمَا وَقَعَ على شُبْهَةٍ أَدْرَكَ الدَّلِيلَ غَيْرُهُ وَأَنْ يَسْتَوْفِيَ شُرُوطَ الدَّلِيلِ وَتَرْتِيبُهُ على حَقِيقَةٍ بِتَقْدِيمِ ما يَجِبُ تَقْدِيمُهُ وَتَأْخِيرِ ما يَجِبُ تَأْخِيرُهُ وَأَنْ يَعْلَمَ الْوُجُوهَ التي تَدُلُّ منها الْأَدِلَّةُ وَلَا يَكْفِيهِ الْعِلْمُ بِذَاتِ الدَّلَالَةِ مع الذُّهُولِ عن الْوَجْهِ الذي منه تَدُلُّ الدَّلَالَةُ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ عِلْمَ الِاكْتِسَابِ لَا عِلْمَ الضَّرُورَةِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو الْمَنْصُورِ يَجِبُ أَوَّلًا أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ غَائِبًا عن الْحِسِّ وَالضَّرُورَةِ فِيمَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ أو الْبَدَاهَةِ لَا مَدْخَلَ لِلنَّظَرِ فيه ثُمَّ يَعْلَمُ الضَّرُورِيَّاتِ الْحِسِّيَّةَ وَالْبَدِيهِيَّةَ وَإِلَّا لم يَتَمَكَّنْ من رَدِّ الْغَائِبِ إلَى مَحْسُوسٍ أو مَعْلُومٍ بِالْبَدَاهَةِ ثُمَّ يَعْلَمُ وُجُودَ الدَّلِيلِ على ما يَسْتَدِلُّ بِهِ عليه ثُمَّ يَعْلَمُ وَجْهَ تَعَلُّقِ الدَّلِيلِ بِالْمَدْلُولِ وَمِنْ ثَمَّ لم يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال على صِدْقِ الرَّسُولِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ من لَا يَعْرِفُ وُجُودَ الْقُرْآنِ في الْعَالَمِ وَلَا من عَرَفَ وُجُودَهُ ولم يَعْلَمْ أَنَّهُ ظَهَرَ على يَدَيْهِ وَلَا من عَرَفَ ظُهُورَهُ عليه ولم يَعْلَمْ أَنَّهُ تَحَدَّى بِهِ الْعَرَبَ فَعَجَزُوا عن مُعَارَضَتِهِ بمثله قال وَمِنْ شَرْطِهِ إذَا كان دَلِيلُهُ يَدُلُّ على شَيْئَيْنِ فاكثر أَنْ يُجْرِيَهُ فِيهِمَا فَأَمَّا أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ في أَحَدِ مَدْلُولَيْهِ وَيَمْنَعَ من الِاسْتِدْلَالِ بِهِ في الْآخَرِ فإنه مُفْسِدٌ لِلدَّلِيلِ على غَيْرِ نَفْسِهِ وَلِهَذَا لم يَصِحَّ اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ على أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِأَفْعَالِهِ الْمُحْكَمَةِ لِأَنَّ الْمُحْكَمَاتِ كما دَلَّتْ على كَوْنِ فَاعِلِهَا عَالِمًا دَلَّتْ على أَنَّ له عِلْمًا فإذا لم يُجْرُوا هذه الدَّلَالَةَ في عِلْمِ الْبَارِي لم يَصِحَّ اسْتِدْلَالُهُ بها على كَوْنِهِ عَالِمًا قُلْت وَمِنْهُ اسْتِدْلَالُ الْحَنَفِيَّةِ على صِحَّةِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ بِحَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ
____________________
(1/34)
وَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ ليس له الْإِقْبَاضُ وَالْحَدِيثُ كما دَلَّ على جَوَازِ الْعَقْدِ دَلَّ على جَوَازِ الْإِقْبَاضِ فإذا لم يَسْتَدِلُّوا بِهِ على عَدَمِ امْتِنَاعِ الْإِقْبَاضِ لم يَصِحَّ اسْتِدْلَالُهُمْ على جَوَازِ الْعَقْدِ وإذا اجْتَمَعَتْ هذه الشُّرُوطُ كان النَّظَرُ مُثْمِرًا لِلْعِلْمِ وَمُنْتِجًا له وَإِنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ منها كان فَاسِدًا ولم يَقَعْ بَعْدَهُ عِلْمٌ قال أبو يَعْلَى في الْمُعْتَمَدِ وَكُلُّ جُزْءٍ من النَّظَرِ الصَّحِيحِ يَتَضَمَّنُ جُزْءًا من الْعِلْمِ خِلَافًا لِابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ في قَوْلِهِمْ إنَّ كُلَّ جُزْءٍ من النَّظَرِ لَا يَتَضَمَّنُ جُزْءًا من الْعِلْمِ بَلْ لَا يُثْمِرُ إلَّا بَعْدَ اسْتِكْمَالِهِ فإذا اسْتَوْفَى النَّظَرَ حَصَلَ بَعْدَهُ الْعِلْمُ وَهَذَا كَالنَّظَرِ في حُدُوثِ الْعَالَمِ فَإِنَّنَا نَنْظُرُ أَوَّلًا في إثْبَاتِ الْأَعْرَاضِ فإذا نَظَرْنَا فيه حَصَلَ الْعِلْمُ بِوُجُودِ الْعَرَضِ فَقَطْ ثُمَّ نَنْظُرُ ثَانِيًا في حُدُوثِهِ فَنَعْلَمُ حُدُوثَهُ وَرُبَّمَا تَكُونُ الْأَدِلَّةُ على وُجُودِ الْأَعْرَاضِ أو حُدُوثِهَا مَبْنِيَّةً على أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ يَجِبُ النَّظَرُ فيها فَيَحْصُلُ لنا الْعِلْمُ بِكُلٍّ من النَّظَرِ في تِلْكَ الْأَشْيَاءِ عِلْمًا وَكَذَلِكَ النَّظَرُ في سَائِرِ الْأَدِلَّةِ قُلْت وَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ فإنه إنْ أُرِيدَ عِلْمٌ ما فَالْحَقُّ ما قَالَهُ أبو يَعْلَى وَإِنْ أُرِيدَ الْمَقْصُودُ بِالنَّظَرِ فَالْحَقُّ ما قَالَهُ الْآخَرُونَ وَنَظِيرُهُ الْخِلَافُ الْفِقْهِيُّ أَنَّ الْحَدَثَ هل يَرْتَفِعُ عن كل عُضْوٍ بِمُجَرَّدِ غَسْلِهِ أو يَتَوَقَّفُ على تَمَامِ الْأَعْضَاءِ مسألة النَّظَرُ مُكْتَسَبٌ النَّظَرُ مُكْتَسَبٌ بِالِاتِّفَاقِ وإذا وُجِدَ بِشُرُوطِهِ أَفَادَ الْعِلْمَ وَقَالَتْ الْحُكَمَاءُ النَّظَرُ في الْإِلَهِيَّاتِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ وَإِنَّمَا يُفِيدُ في الْهَنْدَسِيَّاتِ وَالْحِسَابَاتِ وَيَقَعُ الْعِلْمُ عَقِبَهُ على الْمَشْهُورِ وَقِيلَ مع آخِرِ جُزْءٍ من أَجْزَائِهِ حَكَاهُ عبد الْجَلِيلِ في شَرْحِ اللَّامِعِ وَعَلَى الْأَوَّلِ فَاخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّةِ حُصُولِهِ على أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا وَبِهِ قال الْأَشْعَرِيُّ إنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ عَادَةً بِإِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَحُصُولِ الشِّبَعِ عَقِبَ الْأَكْلِ وَالرَّيِّ عَقِبَ الشُّرْبِ وَرُدَّ بِأَنَّهُ لو كان كَذَلِكَ لَكَانَ خَرْقُهُ جَائِزًا وَعَدَمُهُ مُمْكِنًا وَهَاهُنَا حُصُولُ الْعِلْمِ وَاجِبٌ لَا مَحَالَةَ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَحْصُلَ عَقِبَ كَمَالِ النَّظَرِ وَالثَّانِي وهو مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِالتَّوَلُّدِ وهو الْحَاصِلُ عن
____________________
(1/35)
الْمَقْدُورِ بِالْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ لَا بِالْمُبَاشَرَةِ كَحَرَكَةِ السَّهْمِ عن الرمى وَيَجِبُ وُقُوعُهُ بَعْدَ النَّظَرِ كَوُقُوعِ الْمَعْلُولِ بَعْدَ الْعِلَّةِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ عَقْلًا بِإِيجَابٍ ذَاتِيٍّ أَيْ ذَاتُهُ مُوجِبَةٌ لِذَلِكَ وَصَحَّحَهُ الْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ وَالرَّابِعُ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِتَضَمُّنِ الْمُقَدِّمَاتِ الْمُنْتِجَةِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ الذي لَا بُدَّ منه لَا يَكُونُ النَّظَرُ عِلَّةً وَلَا مُوَلَّدًا وهو قَوْلُ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وقال الْآمِدِيُّ إنَّهُ الْحَقُّ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ من فُرُوعِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا على أَنَّ النَّظَرَ غَيْرُ مُوَلِّدٍ لِلْعِلْمِ بِقِيَامِ الْأَدِلَّةِ على أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَفْعَلُ إلَّا ما هو قَادِرٌ عليه وَأَنَّ قُدْرَةَ الْإِنْسَانِ لَا تُوجَدُ قبل مَقْدُورِهَا وإذا ثَبَتَ لنا هذا الْأَصْلُ بِدَلِيلٍ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ الْوَاقِعُ عَقِبَ النَّظَرِ من فِعْلِ الْإِنْسَانِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لو كان من فِعْلِهِ لَوَجَبَ كَوْنُهُ قَادِرًا عليه بِقُدْرَةٍ تقارنة أو تُقَارِنُ الْقُدْرَةَ على سَبَبِهِ الذي هو النَّظَرُ وهو مُحَالٌ لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَقَدُّمَ الْقُدْرَةِ على مَقْدُورِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مسألة الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَقِبَ النَّظَرِ اُخْتُلِفَ في الْعِلْمِ الْحَاصِلِ عَقِبَ النَّظَرِ فَمَنْ قال في الْأُولَى بِالتَّضَمُّنِ أو الْإِيجَابِ الذَّاتِيِّ قال إنَّهُ ضَرُورِيٌّ وهو الْمُخْتَارُ عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَإِلْكِيَا وَالْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وَمَنْ قال إنَّهُ بِالْعَادَةِ فَلَيْسَ بِضَرُورِيٍّ لِجَوَازِ خَرْقِهَا فَيَخْرُجُ حِينَئِذٍ عن كَوْنِهِ ضَرُورِيًّا إذْ الضَّرُورِيُّ هو الذي يَلْزَمُ النَّفْسَ لُزُومًا لَا يَتَأَتَّى منه الِانْفِكَاكُ عَقْلًا قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وَتَبِعَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وَحَيْثُ قُلْنَا إنَّ النَّظَرَ الصَّحِيحَ يَتَضَمَّنُ تَرْتِيبَ الْعِلْمِ بَعْدَهُ فَالنَّظَرُ الْفَاسِدُ وفي الشُّبْهَةِ لَا يقتضى الْجَهْلَ وَلَا الشَّكَّ وَلَا شيئا من أَضْدَادِ الْعِلْمِ لِأَنَّ الدَّلِيلَ يَتَعَلَّقُ بِمَدْلُولِهِ وَالشُّبْهَةُ لَا تَعَلُّقَ لها بِأَضْدَادِ الْعُلُومِ
____________________
(1/36)
مسألة النظر واجب شرعا النَّظَرُ وَاجِبٌ شَرْعًا قال ابن الْقُشَيْرِيّ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قام على وُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَلَا تَحْصُلُ إلَّا بِالنَّظَرِ وما لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وقال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بن عبد السَّلَامِ الْأَصَحُّ أَنَّ النَّظَرَ لَا يَجِبُ على الْمُكَلَّفِينَ إلَّا ان يَكُونُوا شَاكِّينَ فِيمَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ فَيَلْزَمُهُمْ الْبَحْثُ عنه وَالنَّظَرُ فيه إلَى أَنْ يَعْتَقِدُوهُ أو يَعْرِفُوهُ قال وَمَعْرِفَةُ ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وما يَمْتَنِعُ عليه يَتَعَلَّقُ بِالْخَاصَّةِ وَهُمْ قَائِمُونَ بِهِ عن الْعَامَّةِ لَا في تَعْرِيفِ ذلك لهم وَمِنْ الْمَشَقَّةِ الظَّاهِرَةِ وَإِنَّمَا هُمْ مُكَلَّفُونَ بِاعْتِقَادِهِ وقال بَعْضُ نُبَلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ هذا الذي قَالُوهُ من وُجُوبِ النَّظَرِ مَبْنِيٌّ على ان كُلَّ إنْسَانٍ ابْتِدَاءً غَيْرُ عَارِفٍ بِاَللَّهِ حتى يَنْظُرَ وَيَسْتَدِلَّ فَيَكُونُ النَّظَرُ أَوَّلَ الطَّاعَاتِ وَهَذَا خِلَافُ ما عليه السَّلَفُ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ بَلْ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فإنه لَا يُوجَدُ قَطُّ إنْسَانٌ إلَّا وهو يَعْرِفُ رَبَّهُ عز وجل وَلَا يُعْرَفُ له حَالٌ لم يَكُنْ فيها مُقِرًّا حتى يَنْظُرَ وَيَسْتَدِلَّ اللَّهُمَّ إلَّا من عَرَضَ له ما أَفْسَدَ فِطْرَتَهُ ابْتِدَاءً فَيَحْتَاجُ معه إلَى النَّظَرِ نعم النَّظَرُ الصَّحِيحُ يُقَوِّي الْمَعْرِفَةَ وَيُثَبِّتُهَا فإن الْمَعَارِفَ تَزِيدُ وَتَنْقُصُ على الْأَصَحِّ قلت وَهَذَا جُمُوحٌ إلَى أَنَّ الْمَعْرِفَةَ ضَرُورِيَّةٌ لَا نَظَرِيَّةٌ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ إذْ لو كانت ضَرُورِيَّةً لَكَانَ التَّكْلِيفُ بها مُحَالًا وَنَحْنُ مُكَلَّفُونَ بِمَعْرِفَتِهِ قال تَعَالَى ! ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ) ! محمد 19 وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا في الْوَاجِبِ الْأَوَّلِ تَفْرِيقًا على الْقَوْلِ بِوُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى على بِضْعَةَ عَشَرَ قَوْلًا أَحَدُهَا أَنَّ أَوَّلَ الْوَاجِبَاتِ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ وهو الْمَنْقُولُ عن الشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ وَالثَّانِي أَنَّهُ النَّظَرُ الْمُؤَدِّي إلَى الْعِلْمِ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَمَعْرِفَةِ الصَّانِعِ وهو الْمَنْسُوبُ إلَى الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وَالثَّالِثُ الْقَصْدُ إلَى النَّظَرِ الصَّحِيحِ وهو اخْتِيَارُ الْإِمَامِ في الْإِرْشَادِ وَالرَّابِعُ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ الْمُؤَدَّيَانِ إلَى ذلك وهو اخْتِيَارُ أَصْحَابِ الحديث وَالْخَامِسُ قَوْلُ أبي هَاشِمٍ الشَّكُّ وَنُقِلَ عن ابْنِ فُورَكٍ لِامْتِنَاعِ النَّظَرِ من
____________________
(1/37)
الْعَالِمِ فإن الْحَاصِلَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ طَلَبٌ وَلَا يَمْتَنِعُ من الشَّاكِّ وَزَيَّفَهُ الْقَاضِي بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ في الْعَقْلِ الْهُجُومُ على النَّظَرِ من غَيْرِ سَبْقِ تَرَدُّدٍ وَالسَّادِسُ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالسَّابِعُ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالثَّامِنُ قَبُولُ الْإِسْلَامِ وَالْعَزْمُ على الْعَمَلِ ثُمَّ النَّظَرُ بَعْدَ الْقَبُولِ وَالتَّاسِعُ اعْتِقَادُ وُجُوبِ التَّقْلِيدِ وَالْعَاشِرُ التَّقْلِيدُ وَالْحَادِيَ عَشَرَ النَّظَرُ وَلَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ الشَّكِّ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ فَيَلْزَمُ الْبَحْثُ عنه حتى يَعْتَقِدَهُ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ رُبَّمَا تَتَدَاخَلُ وَتَخْتَلِفُ في الْعِبَارَةِ وقال الرَّازِيَّ في التَّحْصِيلِ الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْوَاجِبِ الْوَاجِبُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ فَلَا شَكَّ في أَنَّهُ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَ من يَجْعَلُهَا مَقْدُورَةً وَالنَّظَرُ عِنْدَ من لَا يَجْعَلُهَا مَقْدُورَةً وَإِنْ أُرِيدَ من الْوَاجِبِ كَيْفَ كان فَلَا شَكَّ أَنَّهُ الْقَصْدُ قُلْت بَلْ مَعْنَوِيٌّ تَظْهَرُ فَائِدَتُهُ في التَّعْصِيَةِ بِتَرْكِ النَّظَرِ على من أَوْجَبَهُ دُونَ من لَا يُوجِبُهُ وقال صَاحِبُ الْمَوَاقِفِ إنْ قُلْنَا الْوَاجِبُ النَّظَرُ فَمَنْ أَمْكَنَهُ زَمَانٌ يَسَعُ النَّظَرَ التَّامَّ ولم يَنْظُرْ فَهُوَ عَاصٍ وَمَنْ لم يُمْكِنْهُ أَصْلًا فَهُوَ كَالصَّبِيِّ وَمَنْ أَمْكَنَهُ ما يَسَعُ لِبَعْضِ النَّظَرِ دُونَ تَمَامِهِ فَفِيهِ احْتِمَالٌ وَالْأَظْهَرُ عِصْيَانُهُ كَالْمَرْأَةِ تُصْبِحُ طَاهِرَةً فَتُفْطِرُ ثُمَّ تَحِيضُ فَإِنَّهَا عَاصِيَةٌ وَإِنْ ظَهَرَ أنها لم يُمْكِنْهَا إتْمَامُ الصَّوْمِ وقال ابن فُورَكٍ بِسَبَبِ هذا الْخِلَافِ اخْتِلَافُهُمْ في الْمَعْرِفَةِ أَهِيَ ضَرُورِيَّةٌ أو كَسْبِيَّةٌ فَمَنْ قال ضَرُورِيَّةٌ قال أَوَّلُ فَرْضٍ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ وَمَنْ قال كَسْبِيَّةٌ قال أَوَّلُ فَرْضٍ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ الْمُؤَدَّيَانِ إلَى الْمَعْرِفَةِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ في أَوَّلِ الْكَلَامِ على الْقِيَاسِ أَنْكَرَ أَهْلُ الحديث وَكَثِيرٌ من الْفُقَهَاءِ قَوْلَ أَهْلِ الْكَلَامِ إنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ النَّظَرُ وَقَالُوا إنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ مَعْرِفَةُ اللَّهِ على ما وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ وَلَوْ قال الْكَافِرُ أَمْهِلُونِي لِأَنْظُرَ فَأَبْحَثَ فإنه لَا يُمْهَلُ وَلَا يُنْظَرُ وَلَكِنْ يُقَالُ له أَسْلِمْ في الْحَالِ وَإِلَّا فَأَنْتَ مَعْرُوضٌ على السَّيْفِ قال وَلَا أَعْرِفُ في ذلك خِلَافًا بين الْفُقَهَاءِ وقد نَصَّ عليه ابن سُرَيْجٍ انْتَهَى وهو عَجِيبٌ فَقَدْ حَكَوْا في كِتَابِ الرِّدَّةِ وَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا تَعَيَّنَ قَتْلُ الْمُرْتَدِّ
____________________
(1/38)
فقال عَرَضَتْ لي شُبْهَةٌ فَأَزِيلُوهَا لِأَعُودَ إلَى ما كُنْت عليه هل يُنَاظَرُ لِإِزَالَتِهَا فيه وَجْهَانِ وقال الْقَاضِي أبو يَعْلَى في الْمُعْتَمَدِ إذَا تَرَكَ الْمُكَلَّفُ أَوَّلَ النَّظَرِ فإنه يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عليه وَعَلَى تَرْكِ ما بَعْدَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبَ على تَرْكِ النَّظَرِ الْأَوَّلِ عِقَابًا أَعْظَمَ من عِقَابِ تَرْكِ النَّظَرِ الثَّانِي وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مثله خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ في قَوْلِهِمْ إنَّمَا يُعَاقَبُ على تَرْكِ فِعْلِ الْأَوَّلِ غير أَنَّ عِقَابَهُ عَظِيمٌ يَجْرِي مَجْرَى الْعِقَابِ على تَرْكِ كل النَّظَرِ مَسْأَلَةٌ النَّظَرُ الْفَاسِدُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْجَهْلَ قد سَبَقَ أَنَّ النَّظَرَ الْفَاسِدَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْجَهْلَ وهو الْمَشْهُورُ وَقِيلَ يَسْتَلْزِمُهُ وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَالْحَقُّ أَنَّ الْفَسَادَ إنْ كان مَقْصُورًا على الْمَادَّةِ اسْتَلْزَمَ الْجَهْلَ لِأَنَّ من اعْتَقَدَ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ وَاعْتَقَدَ أَنَّ كُلَّ قَدِيمٍ غَنِيٌّ عن الْغَيْرِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْعَالَمَ غَنِيٌّ عن الْمُؤَثِّرِ وهو جَهْلٌ مُحَالٌ وَإِنْ كان الْفَسَادُ مَقْصُورًا على الصُّورَةِ أو يَشْمَلُ الصُّورَةَ وَالْمَادَّةَ لَا يَسْتَلْزِمُ كَقَوْلِنَا لَا شَيْءَ من الْإِنْسَانِ بِحَجَرٍ وَكُلُّ حَجَرٍ جَمَادٌ يَلْزَمُ لَا شَيْءَ من الْإِنْسَانِ بِجَمَادٍ عِلْمًا وَإِنْ كانت صُورَةُ الْقِيَاسِ غير صَحِيحَةٍ لِعَدَمِ إيجَابِ الصُّغْرَى ضَابِطٌ الْإِدْرَاكُ الْإِدْرَاكُ بِلَا حُكْمٍ تَصَوُّرٌ وَمَعَ الْحُكْمِ تَصْدِيقٌ لَكِنْ مَجْمُوعُهُمَا أو الْحُكْمُ وَحْدَهُ فيه خِلَافٌ فَذَهَبَ الْقُدَمَاءُ إلَى أَنَّهُ الْحُكْمُ وَاخْتَارَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ وَمَالَ إلَيْهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ وهو جَهْلٌ إنْ كان جَازِمًا غير مُطَابِقٍ وَتَقْلِيدٌ إنْ طَابَقَ وَإِنْ لم يَكُنْ لِمُوجِبٍ وَعِلْمٌ إنْ كان لِمُوجِبٍ عَقْلِيٍّ أو حِسِّيٍّ أو مُرَكَّبٍ مِنْهُمَا وهو الْمُتَوَاتِرَات وَإِنْ لم يَكُنْ جَازِمًا فَإِنْ تَسَاوَى طَرَفَاهُ فَهُوَ الشَّكُّ وَإِلَّا فالراحج ( ( ( فالراجح ) ) ) ظَنٌّ صَادِقٌ إنْ طَابَقَ أو كَاذِبٌ إنْ لم يُطَابِقْ وَالْمَرْجُوحُ وَهْمٌ وَلَا يَرِدُ قَوْلُ الْقَائِلِ اعْتِقَادُ الْمُقَلِّدِ حَادِثٌ وَكُلُّ حَادِثٍ لَا بُدَّ له من سَبَبٍ فَكَيْفَ يَقُولُونَ في الِاعْتِقَادِ له بِالْمُوجِبِ لِأَنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ بِالْمُوجِبِ ما ذَكَرْنَا وَاعْتِقَادُ الْمُقَلِّدِ ليس عن بُرْهَانٍ حِسِّيٍّ أو عَقْلِيٍّ أو مُرَكَّبٍ مِنْهُمَا وَأُورِدَ بِأَنَّ الشَّكَّ تَرَدُّدٌ لَا
____________________
(1/39)
حُكْمَ فيه فَكَيْفَ يُورَدُ في قِسْمِ الْحُكْمِ وَأَيْضًا فَالْوَهْمُ يُنَافِي الْحُكْمَ بِالشَّيْءِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّاكَّ له حُكْمَانِ مُتَسَاوِيَانِ بِمَعْنَى أَنَّهُ حَاكِمٌ بِجَوَازِ وُقُوعِ هذا النَّقِيضِ بَدَلًا عن النَّقِيضِ الْآخَرِ وَبِالْعَكْسِ وَالظَّانُّ حَاكِمٌ وَيَلْزَمُ منه وُجُودُ الْوَهْمِ وَحُكْمُهُ بِالطَّرَفِ الْآخَرِ يَكُونُ مَرْجُوحًا فَظَهَرَ أَنَّ الشَّاكَّ حَاكِمٌ وَكَذَلِكَ الْوَاهِمُ نعم جَعْلُهُمْ التَّقْلِيدَ الْجَازِمَ الْمُطَابِقَ لَا لِمُوجِبٍ لَا يَعُمُّ أَنْوَاعَ التَّقْلِيدِ بَلْ يَخُصُّ الصَّحِيحَ منه وَجَعْلُهُمْ الْجَهْلَ هو الْحُكْمَ الْجَازِمَ من غَيْرِ مُطَابَقَةٍ لَا يَعُمُّ أَنْوَاعَ الْجَهْلِ بَلْ يَخُصُّ الْمُرَكَّبَ وَيَخْرُجُ عنه الْجَهْلُ الْبَسِيطُ الذي هو عَدَمُ الْعِلْمِ عَمَّا من شَأْنِهِ أَنْ يُعْلَمَ وَسَمَّى الدَّارِمِيُّ من أَصْحَابِنَا الْوَهْمَ تَجْوِيزًا قال النَّوَوِيُّ وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ الشَّكُّ وَالظَّنُّ مُتَرَادِفَانِ قُلْت وَهَذَا إنَّمَا قَالُوهُ في الْأَحْدَاثِ لَا مُطْلَقًا أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ الطَّلَاقُ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ يُرِيدُونَ التَّسَاوِيَ او الْمَرْجُوحَ وَإِلَّا فَهُوَ يَقَعُ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ كما قَالَهُ الرَّافِعِيُّ في بَابِ الِاعْتِكَافِ قال الدَّارِمِيُّ وَمَنْ قال بهذا يسمى الرَّاجِحَ غَالِبَ الظَّنِّ ثُمَّ رُجِّحَ أَنَّ مُسْتَوِيَ الطَّرَفَيْنِ هو الشَّكُّ وَالرَّاجِحُ ظَنٌّ وَالزَّائِدُ في الرُّجْحَانِ غَالِبُ الظَّنِّ مسألة في العلم قال أبو بكر النقاش سمي علما لأنه علامة يهتدي بها العالم إلى ما قد جهله الناس وهو كالعلم المنصوب بالطريق واختلفوا في العلم المنقسم إلى تصور خاص أو تصديق خاص وهما اللذان يوجبان لمن قام به تمييزا لا يحتمل النقيض هل يحد أم لا يحد والقائلون بأنه لا يحد ومنهم أبو الحسين البصري اختلفوا فيتوجهه فقيل لأن المنطقيين اشترطوا في الحد الجنس الأقرب وإن لم يوجد ذلك في العلم واشترطوا ذكر جميع الذاتيات كما يقال عرضي لون سواد والأول جنس أقرب وفي العلم لا يقال عرضي علم فلهذا لا يحد وقال الأصوليون لأنه لم يوجد له عبارة دالة على حقيقته وماهيته فلا يحد وقال أبو الحسين بن اللبان لأنه أظهر الأشياء فلا معنى لحده بما هو أخفى منه حكاه بعض شراح اللمع وحكي عن ابن مجاهد الطائي أنه منع إطلاق الحد في العلم وإنما يقال حقيقة العلم كذا لأن الحقائق لا يختلف القديم والحادث بخلاف العلم قال
____________________
(1/40)
والذي ذكره أصحابنا إنما هو مجاز فأجروا الحد مجرى الاسم توسعا وقال الرازي ضروري إذ به تعرف الأشياء فلو عرف العلم لوجب أن يعرف بغيره لاستحاله تعريف الشيء بنفسه والغرض أن غيره متوقف عليه فيلزم الدور ثم قال في موضع آخر هو حكم الذهن الجازم المطابق لموجب كما سبق في الضابط فكأنه قال بأنه ضروري ويحد وهذا تناقض فإن قيل الذهني تعريفه تصديقي والمدعى معرفته تصوري فلا تناقض قلنا إن كان كذلك لكن التعريف للنسبة في التصديق تعريف لتصور لأن النسبة ليست تصديقا بل مقررة وقال غيره ضروري ولا يحد وهو قضية نقل ابن الحاجب عنه والموجود في المحصول ما ذكرته أولا وقال إمام الحرمين والقشيري والغزالي يعسر تعريفه بالحد الحقيقي وإنما يعرف بالتقسيم والمثال ثم يعرض في روم التوصل إليه إلى انتفاء الفرق بينه وبين أضداده واعترض عليهم الآمدي بأن القسمة المذكورة إن لم تكن مميزة له عما سواه فليست معرفة وإن كانت مميزة فذلك رسم وهذا إنما يرد لو أحالا الرسم وهو غير ظاهر من كلامهم والمختار أنه يعرف بالحد الحقيقي كغيره فقال القدماء هو معرفة المعلوم على ما هو به وأورد بأنه تعريف الشيء بنفسه وبما لا يعرف إلا بعد معرفته وهو باطل لأن المعلوم مشتق من العلم ورتبة المشتق في المعرفة متأخرة عن رتبة المشتق منه وقد أخذ في تعريف العلم فيلزم ما ذكرنا وأجيب بأنهم تجوزوا في المعلوم وقيل إنه منقوض بعلم الله فإنه لا يسمى معرفة إجماعا كما قاله الآمدي وبمعرفة المقلد إذ ليست علما وبأن فيه زيادة وهو قوله على ما هو به إذ المعرفة عندهم هي العلم والعلم إنما يكون مطابقا واحدا ولهذا قال الإمام لو اقتصر على قوله معرفة لكفى وقيل ذكرت للإشعار بأنها من الصفات المتعلقة وللإشارة إلى نفي قول من يقول بوجود علم ولا معلوم وهم بعض المعتزلة واستحسن ابن عقيل قول بعضهم إنه وجدان النفس الناطقة الأمور بحقائقها وهذا تعريف المجهول بمثله أو دونه فإن العلم أظهر من وجدان النفس أو مثله ثم هو غير جامع لخروج علم الله وغير مانع لوجدان المقلد وليس بعلم وقال القفال الشاشي إثبات الشيء على ما هو به وقال ابن السمعاني الأحسن أنه إدراك
____________________
(1/41)
العلوم على ما هو به والأولى كما قاله في التلخيص إنه معرفة العلوم فيشمل الموجود والمعدوم ولا نظر إلى الاشتقاق حتى يلزم الدور قال ولو قلت ما يعلم به العلوم لكان أسد وقد أومأ شيخنا أبو الحسن إلى أنه ما أوجب لمحله الاتصاف بكونه عالما وقيل تبين المعلوم على ما هو به وقيل هو المعرفة ورد بأنه لا يقال لعلم الله معرفة ولا يقال له عارف وحكى الأستاذ أبو إسحاق في كتاب شرح ترتيب المذهب إجماع المتكلمين على أن الله تعالى لا يسمى عارفا ودفع الاستدلال بحديث تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة بأنه لا يقطع به ونقل المقترح في شرح الإرشاد عن القاضي أنه سمى علم الله معرفة لهذا الحديث ثم ضعفه بأن الخطاب لم يسق لبيان العلم ولا أطلق لفظ المعرفة هاهنا عليه وإنما أراد ثمرة العلم وهو الإقبال في الإلطاف عليه ولهذا لا يسمى الباري عارفا انتهى وقيل المراد المجازاة وخرج عليه قول ابن الفارض قلبي يحدثني بأنك متلفي روحي فداك عرفت أم لم تعرف مسألة تفاوت العلوم هل تَتَفَاوَتُ الْعُلُومُ فيه قَوْلَانِ قال في الْبُرْهَانِ وَأَئِمَّتُنَا على التَّفَاوُتِ وَقَرَّرَهُ الْمَازِرِيُّ وقال الْأُرْمَوِيُّ في التَّحْصِيلِ إنَّهُ الْحَقُّ وقال ابن التِّلِمْسَانِيُّ الْمُحَقِّقُونَ على عَدَمِ تَفَاوُتِهَا وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ بِحَسَبِ الْمُتَعَلِّقَاتِ وَاخْتَارَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ في كِتَابِ التَّرْجِيحِ وَالْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ وَالْأَنْبَارِيُّ في شَرْحِهِ وَنَقَلَ في الْبُرْهَانِ في التَّرْجِيحِ عن الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْمَعْقُولَاتِ لَا تَرْجِيحَ فيها قُلْت بِنَاءً على انه لَا يُمْكِنُ تَعَارُضُهَا بِخِلَافِ تَفَاوُتِهَا في رُتْبَتِهَا فإنه مُمْكِنٌ عِنْدَ
____________________
(1/42)
الْمُحَقِّقِينَ وَاخْتَارَ الْإِمَامُ في تَفْسِيرِهِ عَدَمَ التَّفَاوُتِ في نَفْسِ الْعِلْمِ بَلْ في طريقة بِالنِّسْبَةِ إلَى كَثْرَةِ الْمُقَدِّمَاتِ وَقِلَّتِهَا وَوُضُوحِهَا وَخَفَائِهَا وقال الْقَرَافِيُّ وَقَعَتْ هذه الْمَسْأَلَةُ بين الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ وَالْأَفْضَلِ الْخُونَجِيِّ وَاخْتَارَ الشَّيْخُ عَدَمَ التَّفَاوُتِ وَعَكَسَ الْخُونَجِيُّ قال الْقَرَافِيُّ وَلِأَجْلِ التَّفَاوُتِ قال أَهْلُ الْحَقِّ رُؤْيَةُ اللَّهِ يَعْنِي في الْآخِرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ عِبَارَةٌ عن خَلْقِ عِلْمٍ بِهِ هو أَجْلَى من مُطْلَقِ الْعِلْمِ نِسْبَتُهُ إلَيْهِ كَنِسْبَةِ إدْرَاكِ الْحِسِّ إلَى الْمُحَسِّ بِهِ قال وَكَذَلِكَ سَمَاعُ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ قال وَهَذِهِ عَقَائِدُ لَا تَتَأَتَّى إلَّا على الْقَوْلِ بِعَدَمِ التَّفَاوُتِ ا 1 هـ وَظَاهِرُ كَلَامِ الصَّيْرَفِيِّ أَنَّهُ لَا تَتَفَاوَتُ قال وَإِنَّمَا جاء ذلك من جِهَةِ أَنَّ بَعْضَ الدَّلَائِلِ أَوْضَحُ من بَعْضٍ كَالْبَصَرِ الْمُدْرِكِ لِمَا قَرُبَ إلَيْهِ إدْرَاكًا بِخِلَافِ ما بَعُدَ منه عن الْمَسَافَةِ وَإِنْ كان الْإِدْرَاكُ من جَوْهَرٍ وَاحِدٍ فَمِنْهُ ما يَقَعُ جَلِيًّا وَمِنْهُ ما يَقَعُ مع التَّحْدِيقِ وَالتَّأَمُّلِ وَكَذَلِكَ مَنْزِلَةُ الْفِكْرِ وَالتَّدَبُّرِ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ تَفَاوُتُهَا فإنه قال امْتَحَنَ اللَّهُ عبادة وَفَرَّقَ بين وُجُوهِ الْعِلْمِ فَجَعَلَ منه الْخَفِيَّ وَمِنْهُ الْجَلِيَّ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ لو كانت كُلُّهَا جَلِيَّةً لَارْتَفَعَ التَّنَازُعُ وَزَالَ الِاخْتِلَافُ وما اُحْتِيجَ إلَى تَدَبُّرٍ وَفِكْرٍ وَلَبَطَلَ الِابْتِلَاءُ ولم يَقَعْ الِامْتِحَانُ وَلَا وُجِدَ شَكٌّ وَلَا ظَنٌّ وَلَا جَهْلٌ لِأَنَّ الْعِلْمَ حِينَئِذٍ يَكُونُ طَبَقًا وَلَوْ كانت كُلُّهَا خَفِيَّةً لم يُتَوَصَّلْ إلَى مَعْرِفَةِ شَيْءٍ منها إذْ الْخَفِيُّ لَا يُعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَإِلَّا لَكَانَ جَلِيًّا قال اللَّهُ تَعَالَى ! ( هو الذي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَابَ منه آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) ! آل عمران 7 قال وإذا ثَبَتَ أَنَّهُ ليس بِخَفِيٍّ وَلَا جَلِيٍّ ثَبَتَ أَنَّ منه ما هو جَلِيٌّ وَمِنْهُ ما هو خَفِيٌّ 1 هـ فَحَصَلَ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَصَحُّهُمَا التَّفَاوُتُ وَعَلَى هذا وَقَعَ الْفَرْقُ بين عِلْمِ الْيَقِينِ وَعَيْنِ الْيَقِينِ وَحَقِّ الْيَقِينِ وقد أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وابن حِبَّانَ في صَحِيحِهِ عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال ليس الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ إنَّ مُوسَى لم يُلْقِ الْأَلْوَاحَ لَمَّا سمع عن قَوْمِهِ وَأَلْقَاهَا حين رَآهُمْ
____________________
(1/43)
وقال أَئِمَّةُ الْحَقِيقَةِ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ إنْ كان بِالْأَدِلَّةِ فَهُوَ عِلْمُ الْيَقِينِ فإذا قَوِيَ فَهُوَ عَيْنُ الْيَقِينِ فإذا فَنِيَ فيه فَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ وَيُقَالُ عِلْمُ الْيَقِينِ كَالنَّاظِرِ إلَى الْبَحْرِ وَعَيْنُ الْيَقِينِ كَرَاكِبِ الْبَحْرِ وَحَقُّ الْيَقِينِ كَمَنْ غَرِقَ في الْبَحْرِ 1 هـ وقد أُورِدَ على الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ التَّفَاوُتِ أَنَّهُ يَكُونُ عِلْمُ الْأُمَمِ مُمَاثِلًا لِعُلُومِ الْأَنْبِيَاءِ صلى اللَّهُ عليهم وسلم وَلَا شَكَّ أَنَّ عِلْمَهُمْ مُفَاوِتٌ لِعِلْمِنَا وَكَذَلِكَ رُجْحَانُ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ على بَعْضِهِمْ في الْمَعَارِفِ وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم اطَّلَعَ على صِفَةٍ لِلْبَارِي تَعَالَى لم يَطَّلِعْ عليها غَيْرُهُ فَيَكُونُ ذلك رَاجِعًا إلَى زِيَادَةِ عِلْمٍ بِمَعْلُومٍ آخَرَ وَلَيْسَ ذلك تَفَاوُتًا في الْعِلْمِ الثَّانِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صلى اللَّهُ عليه وسلم عَلِمَ رَبُّهُ بِوُجُوهِ أَدِلَّةٍ لم نَطَّلِعْ نَحْنُ على جَمِيعِهَا فَيَرْجِعُ التَّفَاوُتُ إلَى أَعْدَادِ الْمَعْلُومِ لَا إلَى نَفْسِ الْعِلْمِ وَأَمَّا رُجْحَانُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ فَمَحْمُولٌ على زِيَادَةِ الْمَعَارِفِ وَتَوَالِيهَا إذَا حَصَلَتْ بِلَا فَتْرَةٍ وَلَا غَفْلَةٍ ثُمَّ إذَا ظَهَرَ التَّفَاوُتُ بهذا الِاعْتِبَارِ تَفَاوَتَ الْعَارِفُونَ بِاعْتِبَارِ قِلَّةِ الْغَفْلَةِ وَكَثْرَتِهَا وَقِلَّةِ الْمَعَارِفِ وَكَثْرَتِهَا وَلِهَذَا قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لو تَعْلَمُونَ ما أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا فَهَذَا إشَارَةٌ إلَى كَثْرَةِ الْمَعْلُومَاتِ لَا إلَى التَّفَاوُتِ في الْعِلْمِ الْوَاحِدِ بِالْمَعْلُومِ الْوَاحِدِ وَلَوْ كانت الْإِشَارَةُ إلَى هذا لَقَالَ لو تَعْلَمُونَ كما أَعْلَمُ فَهَذِهِ عِبَارَةُ التَّفَاوُتِ في نَفْسِ الْعِلْمِ وقال أَيْضًا في التَّفَاوُتِ بِاعْتِبَارِ اعْتِرَاضِ الْغَفَلَاتِ قِلَّةً وَكَثْرَةً لو تَكُونُونَ كما تَكُونُونَ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ مُشِيرًا إلَى أَنَّ الْغَفْلَةَ تَخْتَلِسُهُمْ في غَيْبَتِهِمْ عنه وَتَتَحَامَاهُمْ بِحَضْرَتِهِ تِلْكَ الْحَضْرَةُ الْمُقَدَّسَةُ صَلَوَاتُ اللَّه على صَاحِبِهَا وَسَلَامُهُ فَإِنْ قِيلَ إذَا تَعَذَّرَ التَّفَاوُتُ في ذَوَاتِ الْعُلُومِ فَلِمَ لَا أُضِيفَ التَّفَاوُتُ إلَى طُرُقِهَا فَمِنْهَا الْبَدِيهِيُّ وَمِنْهَا النَّظَرِيُّ قُلْنَا إذَا حُقِّقَتْ الْحَقَائِقُ فَكُلُّ عِلْمٍ نَظَرِيٍّ يَتَوَقَّفُ على عِلْمٍ بِمُقَدِّمَتَيْنِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ
____________________
(1/44)
فَإِنْ قُلْت فَنَرَى بَعْضَ الْمَعَارِفِ يَصْعُبُ وَبَعْضُهَا يَسْهُلُ قُلْت ذلك التَّفَاوُتُ يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ نَشَأَ عن كَثْرَةِ الْمُقَدِّمَاتِ لِلْعِلْمِ الْوَاحِدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا هِيَ مَعْلُومَاتٌ تَرَتَّبَ بَعْضُهَا على بَعْضٍ وَلِكُلِّ مَعْلُومٍ مُقَدِّمَتَانِ فما جاء التَّفَاوُتُ إلَّا من جِهَةِ كَثْرَةِ الْمُحَصَّلِ من الْمَعَارِفِ وَقِلَّتِهِ لَا من بُعْدِ الطَّرِيقِ وَقُرْبِهَا وَالْمَعْلُومُ وَاحِدٌ مَسْأَلَةٌ الْعِلْمُ إمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا حَادِثٌ الْعِلْمُ إمَّا قَدِيمٌ فَلَا يُوصَفُ بِنَظَرٍ وَلَا ضَرُورَةٍ لِتَعَالِي اللَّهِ عن الضَّرُورَةِ وَالِاحْتِيَاجِ إلَى النَّظَرِ وهو وَاحِدٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْلُومَاتِ على حَقَائِقِهَا تَعَلُّقًا سَابِقًا له حُكْمُ الْإِحَاطَةِ بِمَعْلُومَاتِهِ لَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهَا إذْ ليس يَتَوَقَّفُ على ارْتِسَامِ صُوَرِهَا وَلَا يَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِهَا وَلَا يُوصَفُ بِالْكَسْبِ وَلَا بِالضَّرُورَةِ بَلْ عِلْمٌ حُضُورِيٌّ وَوَاجِبِيٌّ ذَاتِيٌّ قال صَاحِبُ التَّلْوِيحَاتِ كُنْت مُتَفَكِّرًا في الْعِلْمِ الْقَدِيمِ وَكَيْفَ صُورَةُ تَعَلُّقِهِ بِالْمَعْلُومَاتِ فَأَخَذَتْنِي سِنَةٌ من نَوْمٍ فَخَطَرَ لي شَيْخٌ له أُبَّهَةٌ جَمِيلَةٌ فَعَرَضْت عليه ما أنا فيه مُفَكِّرًا فقال لي أَتَعْقِلُ ذَاتَك فَقُلْت له نعم فقال تَعَقُّلُك بِاكْتِسَابِ صُورَةٍ خَارِجَةٍ عن ذَاتِك فَقُلْت له لَا فقال هذا حَلُّ ما أنت فيه مُفَكِّرٌ ثُمَّ قال لي هذا التَّعَقُّلُ الْوَاجِبِيُّ الْحُضُورِيُّ الذَّاتِيُّ ثُمَّ تَرَكَنِي وَانْصَرَفَ فَيَا لَهْفَ نَفْسِي على تِلْكَ السِّنَةِ الْعِلْمُ الْحَادِثُ وَإِمَّا حَادِثٌ وَيَنْقَسِمُ إلَى ضَرُورِيٍّ وَإِلَى نَظَرِيٍّ لِأَنَّهُ إنْ كَفَى مُجَرَّدُ تَصَوُّرِ طَرَفَيْ الْقَضِيَّةِ في الْجَزْمِ بِهِ فَضَرُورِيٌّ وَإِلَّا فَنَظَرِيٌّ وَلَا خِلَافَ كما قَالَهُ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ في انْقِسَامِ التَّصْدِيقِ إلَيْهِمَا وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في التَّصَوُّرِ فَقِيلَ ليس منه كَسْبِيٌّ بَلْ جَمِيعُ التَّصَوُّرَاتِ لَا تُكْتَسَبُ بِالنَّظَرِ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ في الْمُحَصَّلِ فقال إنَّ التَّصَوُّرَاتِ كُلَّهَا بَدِيهِيَّةٌ وَالْجُمْهُورُ على أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ يَنْقَسِمُ إلَى الْكَسْبِيِّ وَالْبَدِيهِيِّ قِيلَ وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ بُطْلَانُهُ لِأَنَّهُ يَكَادُ يَكُونُ من قِسْمَيْ الضَّرُورِيِّ لِأَنَّهَا لو كانت بَدِيهِيَّةً لَمَا وَجَدْنَا أَنْفُسَنَا طَالِبَةً لِتَصَوُّرِ الْمَلَكِ وَالْجِنِّ وَلَمَا طَلَبَتْ أَيْضًا حُدُوثَ الْعَالَمِ أو إمْكَانَهُ وَلَمَا اخْتَلَفَتْ الْعُقَلَاءُ في ذلك وهو بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ لَا جَرَمَ في
____________________
(1/45)
غَيْرِ هذا الْكِتَابِ وَافَقَ الْجُمْهُورَ فَالتَّصَوُّرُ الْبَدِيهِيُّ كَمَعْرِفَةِ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ وَالنَّظَرِيُّ كَمَعْرِفَةِ الْمَلَكِ وَالرُّوحِ وَالتَّصْدِيقُ الْبَدِيهِيُّ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لَا يَجْتَمِعَانِ وَالنَّظَرِيُّ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْعَالَمَ حَادِثٌ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في شَرْحِ الْكِفَايَةِ قِيلَ الضَّرُورِيُّ هو الذي لَا يَرِدُ عليه شَكٌّ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ الذي لَا يَقَعُ عن نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَقْلِيِّ منه أَمَّا الْحِسِّيُّ فَهُوَ الْعِلْمُ بِالْمَحْسُوسَاتِ وَأَمَّا الْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا فَإِنْ كان الْحِسِّيُّ سَمْعًا فَهُوَ الْمُتَوَاتِرَاتُ وَإِلَّا فَالتَّجْرِيبَاتُ وَالْحَدْسِيَّاتُ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ قد يَحْصُلُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالتَّجْرِبَةُ مَرَّاتٍ وَصَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في بَعْضِ كُتُبِهِ وابن الْقُشَيْرِيّ إلَى أَنَّ الْعُلُومَ كُلَّهَا ضَرُورِيَّةٌ جَلِيَّةٌ وَأَنَّ النَّظَرَ هو التَّرَدُّدُ في انحاء الضَّرُورِيَّاتِ غير أَنَّ الضَّرُورِيَّاتِ لَمَّا انْقَسَمَتْ إلَى مَهْجُومٍ عليه في الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى وَإِلَى ما يَحْتَاجُ فيه إلَى فِكْرٍ سَمَّى أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ ضَرُورِيًّا وَالْآخَرَ نَظَرِيًّا قال ابن الْقُشَيْرِيّ ثُمَّ الضَّرُورِيُّ يَقَعُ مَقْدُورًا لِلَّهِ تَعَالَى خَلْقًا ابْتِدَاءً من غَيْرِ نَظَرٍ مُتَقَدِّمٍ عليه وَأَمَّا النَّظَرِيُّ فَعِنْدَ مُعْظَمِ الْأَصْحَابِ مَقْدُورٌ بِالْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ وَاخْتَارَ الْإِمَامُ أنها مَقْدُورَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا يَتَعَلَّقُ بها اكْتِسَابٌ قال وَهَذَا الذي كنا سَمِعْنَاهُ قَدِيمًا من مَذْهَبِ الْكَرَّامِيَّةِ لِأَنَّ من تَمَّمَ نَظَرَهُ حَصَلَ له الْعِلْمُ شَاءَ أو أبي فَلَوْ كان الْعِلْمُ مُكْتَسَبًا له لَتَوَقَّفَ على اخْتِيَارِهِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في كِتَابِهِ الْجَامِعِ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الْعُلُومَ كُلَّهَا ضَرُورِيَّةٌ وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْعُلُومَ الْحَادِثَةَ بِأَسْرِهَا ضَرُورِيَّةٌ وَإِنَّمَا الْمَقْدُورُ طَلَبُهَا بِالنَّظَرِ الْمُفْضِي إلَيْهَا فإذا تَمَّ النَّظَرُ وَانْدَفَعَ عن مَرَاسِمِهِ أَضْدَادُ الْعِلْمِ بِالْمَنْظُورِ فيه حَصَلَ الْعِلْمُ لَا مَحَالَةَ من غَيْرِ إيثَارٍ وَدَرْكُ اقْتِدَارِهِ وهو بِالْقُدْرَةِ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْعُلُومَ التي تَعْقُبُ النَّظَرَ تَقَعُ وُقُوعَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وما عَدَاهَا من الْأَفْعَالِ الْمَقْدُورَةِ فَقَدْ ظَنَّ أَمْرًا بَعِيدًا ثُمَّ إنَّ الْأُسْتَاذَ انْفَرَدَ بِقَوْلٍ لم يُتَابَعْ عليه فقال يَجُوزُ فَرْضُ الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ على رَأْيِ الْجُمْهُورِ من غَيْرِ تَقَدُّمِ نَظَرٍ عليه فَيَكُونُ الْعِلْمُ في حَقِّ من اقْتَدَرَ عليه ولم يَنْظُرْ كَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ الْوَاقِعَةِ على مُوجِبِ إيثَارِ الْمُتَّصِفِ بها وَهَذَا قَوْلٌ غَيْرُ سَدِيدٍ
____________________
(1/46)
وَتَحَصَّلَ لنا مَذَاهِبُ أَحَدُهَا أَنَّ الْعُلُومَ كُلَّهَا ضَرُورِيَّةٌ تَصَوُّرُهَا وَتَصْدِيقُهَا وَلَيْسَ هذا قَوْلًا بِإِنْكَارِ النَّظَرِ بِالْكُلِّيَّةِ بَلْ بِمَعْنَى أَنَّ النَّظَرَ إذَا تَمَّ وَقَعَ الْعِلْمُ عَقِبَهُ ضَرُورَةً لَا مَقْدُورًا الثَّانِي كُلُّهَا كَسْبِيَّةٌ الثَّالِثُ وهو الصَّحِيحُ بَعْضُهَا ضَرُورِيٌّ وَبَعْضُهَا كَسْبِيٌّ الرَّابِعُ الْمُتَعَلِّقُ بِذَاتِ اللَّهِ وَبِالِاعْتِقَادَاتِ الصَّحِيحَةِ ضَرُورِيٌّ وَغَيْرُهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَسْبِيًّا وَيَرِدُ عليه أَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ مُثَابٌ عليها وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَفِعْلِهِ الْخَامِسُ التَّصَوُّرَاتُ ضَرُورِيَّةٌ وَالتَّصْدِيقَاتُ مُنْقَسِمَةٌ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْإِمَامُ في الْمُحَصَّلِ وَيَرِدُ عليه ما أُورِدَ على الذي قَبْلَهُ وَلَعَلَّهُ يقول إنَّ الْمَعْرِفَةَ ضَرُورِيَّةٌ وَالْمَأْمُورُ بِهِ الْعِلْمُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَاتَّفَقَتْ الْأَشَاعِرَةُ على أَنَّ ما كان نَظَرِيًّا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ ضَرُورِيًّا لِأَنَّهُ ليس فيه إلَّا خَلْقُ الْمَقْدُورِ بِدُونِ الْقُدْرَةِ وَلَا امْتِنَاعَ منه لِأَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ عِنْدَنَا قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَهَذَا الْإِجْمَاعُ من طَرِيقِ الْإِمْكَانِ وَأَمَّا طَرِيقُ الْوُجُودِ فَقَدْ أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا الْيَوْمَ على أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ في الدُّنْيَا مُكْتَسَبَةٌ لَا تَقَعُ إلَّا عن نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ وَإِنَّمَا تَقَعُ في الْآخِرَةِ ضَرُورِيَّةً وَاخْتَلَفُوا هل يَقَعُ مَقْدُورًا مُكْتَسَبًا من غَيْرِ نَظَرٍ فَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الضَّرُورِيُّ نَظَرِيًّا فيه ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْجَوَازُ وَالْمَنْعُ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ ما كان من الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ لَا يَتِمُّ الْعَقْلُ إلَّا بِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ نَظَرِيًّا وما ليس كَذَلِكَ يَجُوزُ وَطُرُقُ الْعِلْمِ على الْمَشْهُورِ مُنْحَصِرَةٌ في ثَلَاثَةٍ عَقْلٍ وَسَمْعٍ وَحِسٍّ وَعَنَوْا بِالْحِسِّ عُلُومَ الْإِدْرَاكَاتِ وَالْعَادَاتِ وَاضْطَرَبُوا في عُلُومِ الْإِلْهَامِ وَالتَّوَسُّمِ والمحادثه قال الْغَزَالِيُّ لَعَلَّهُمْ عَنَوْا بِالْإِلْهَامِ أَنَّ الْعُلُومَ كُلَّهَا ضَرُورِيَّةٌ مُخْتَرَعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً وقال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ يَنْحَصِرُ في الْحِسِّ وَالِاسْتِدْلَالِ قال وَالسَّمْعُ دَاخِلٌ في جُمْلَةِ عُلُومِ الْحِسِّ لِأَنَّ الْمَسْمُوعَ مَحْسُوسٌ ثُمَّ مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ صَوَابِهِ وَخَطَئِهِ تُدْرَكُ بِالِاسْتِدْلَالِ وَنُقِلَ عن بَعْضِ الْأَوَائِلِ حَصْرُهَا في الْحِسِّ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وهو غَلَطٌ في النَّقْلِ عَنْهُمْ بَلْ مَذْهَبُهُمْ أَنَّ الْمَعْلُومَ ما يَتَشَكَّلُ في الْحَوَاسِّ وما لَا يَتَشَكَّلُ وَيُفْضِي إلَيْهِ نَظَرُ الْعَقْلِ فَهُوَ مَعْقُولٌ فَاصْطَلَحُوا على
____________________
(1/47)
الْفَرْقِ بين الْمَعْلُومِ وَالْمَعْقُولِ فَتَوَهَّمَ من سَمِعَهُمْ يَقُولُونَ لَا مَعْلُومَ إلَّا الْمَحْسُوسُ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ شَيْءٌ إلَّا بِالْحِسِّ وَتُوُهِّمَ من قَوْلِهِمْ إنَّ النَّظَرِيَّاتِ مَعْقُولَاتٌ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ شَيْءٌ إلَّا بِالنَّظَرِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ في إدْرَاكِ الْحَوَاسِّ هل هو من قَبِيلِ الْعُلُومِ وَآخِرُ قَوْلَيْهِ أَنَّهُ ليس منها وهو اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَأَطْلَقُوا الْخِلَافَ وَلَا شَكَّ أَنَّ هُنَاكَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ أَحَدُهَا إدْرَاكُ الْحِسِّ الْمَحْسُوسِ وَالثَّانِي الْعِلْمُ بِالْمَحْسُوسِ وَالثَّالِثُ الْعِلْمُ بِعُلُومٍ أُخْرَى تَنْشَأُ عن الْمَحْسُوسِ وَالرَّابِعُ لَا إشْكَالَ في أَنَّهُ عِلْمٌ وهو مُخَالِفٌ لِلْأَوَّلِ قَطْعًا وَهَلْ الثَّانِي يُخَالِفُ الْأَوَّلَ أو هُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ هذا مَحَلُّ الْخِلَافِ ثُمَّ اُخْتُلِفَ في هذا الْخِلَافِ فقال أبو الْقَاسِمُ الْإِسْكَافُ إنَّهُ لَفْظِيٌّ وَإِنَّ الْفَرِيقَيْنِ على أَنَّ الْمُدْرَكَ وَالْمَعْلُومَ وَاحِدٌ وَالْإِدْرَاكُ وَالْعِلْمُ بِالْمُدْرَكِ مُخْتَلِفَانِ وقال تِلْمِيذُهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّهُ مَعْنَوِيٌّ على الْقَوْلِ بِالْأَحْوَالِ كما أَنَّ الْعِلْمَ الْقَدِيمَ وَالْحَادِثَ يَجْمَعُهُمَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ مع الْقَطْعِ بِاخْتِلَافِهِمَا وَحَكَى الْقَرَافِيُّ قَوْلَيْنِ في أَنَّ الْإِدْرَاكَ لِلْحَوَاسِّ أو لِلنَّفْسِ بِوَاسِطَةِ الْحَوَاسِّ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ الذي قَالَهُ الشَّيْخُ أبو الْحَسَنِ وَنَرْتَضِيهِ أَنَّ جُمْلَةَ الطُّرُقِ التي يُدْرَكُ بها الْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ وَالِاسْتِدْلَالِيَّة تَنْحَصِرُ في أَدِلَّةٍ خَمْسَةٍ الْعُقُولِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ قال وَلَا عِبْرَةَ بِمَا يَطْلُبُهُ الْمُنَجِّمُونَ من مَعْرِفَةِ الْأَشْيَاءِ بِذَهَابِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنَجْمِ كَذَا الرُّؤْيَا وَأَمَّا الرُّؤْيَا فَقَدْ جاء في الحديث إنَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ جُزْءٌ من سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا من النُّبُوَّةِ وَهَذِهِ السِّتَّةُ وَالْأَرْبَعُونَ كُلُّهَا طُرُقُ عُلُومِ الْأَنْبِيَاءِ فإن لهم طُرُقًا في الْعُلُومِ لَا نَصِلُ إلَى شَيْءٍ منها إلَّا بِالْخَبَرِ قال وهو مِثْلُ ما يَعْرِفُونَ من كَلَامِ الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ وَالْوَحْيِ وَغَيْرِ ذلك وَالرُّؤْيَا من تِلْكَ الْجُمْلَةِ قال وقد اجْتَهَدْت في تَحْصِيلِ السِّتَّةِ وَالْأَرْبَعِينَ ما هِيَ فَبَلَغْت منها إلَى اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وقد ذَكَرْتهَا في كِتَابِ الْوَصْفِ وَالصِّفَةِ وأنا في طَلَبِ الْبَاقِي
____________________
(1/48)
قال وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِالرُّؤْيَا شَيْءٌ حتى لو رَأَى وَاحِدٌ في مَنَامِهِ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَمَرَهُ بِحُكْمٍ من الْأَحْكَامِ لم يَلْزَمْهُ ذلك انْتَهَى قُلْت وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في كِتَابِ أَدَبِ الْجَدَلِ في ذلك وَجْهًا وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَثْبُتُ بِالْمَنَامِ إلَّا في حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ أو بِتَقْرِيرِهِمْ وَعَنْ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّهُ إنْ كان أَمَرَهُ بِأَمْرٍ ثَبَتَ عنه في الْيَقِظَةِ خِلَافُهُ كَالْأَمْرِ بِتَرْكِ وَاجِبٍ أو مَنْدُوبٍ لم يَجُزْ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ أَمَرَهُ بِشَيْءٍ لم يَثْبُتْ عنه في الْيَقِظَةِ خِلَافُهُ اُسْتُحِبَّ الْعَمَلُ بِهِ قُلْت وَمِنْ ثَمَّ لم يَجِبْ الْحَدُّ على من قَذَفَ امْرَأَةً بِأَنَّهَا وُطِئَتْ في النَّوْمِ وَلَا عليه إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى في النَّوْمِ وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ أَنَّ رَجُلًا قال لِرَجُلٍ إنَّهُ وَطِئَ أُمَّهُ في النَّوْمِ فَحَمَلَهُ إلَى عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه فقال أَقِمْهُ في الشَّمْسِ وَاضْرِبْ ظِلَّهُ قال الشَّافِعِيُّ وَلَسْنَا نَقُولُ بِهِ فصل في مراتب العلوم قال أَئِمَّتُنَا مَرَاتِبُ الْعُلُومِ عَشَرَةٌ الْأُولَى عِلْمُ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ وَلِذَاتِهِ الثَّانِيَةُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِاسْتِحَالَةِ الْمُسْتَحِيلَاتِ وَانْحَطَّتْ هذه عن الْأُولَى لِلْحَاجَةِ فيها إلَى الْفِكْرِ في ذَوَاتِ الْمُتَضَادَّاتِ وَتَضَادِّهَا الثَّالِثَةُ الْعِلْمُ بِالْمُحَسَّاتِ وَانْحَطَّتْ عن الثَّانِيَةِ لِتَطَرُّقِ الْآفَاتِ إلَى الْحَوَاسِّ الرَّابِعَةُ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَقِبَ خَبَرِ التَّوَاتُرِ وَانْحَطَّتْ عَمَّا قَبْلَهَا لِإِمْكَانِ التَّوَاطُؤِ على الْمُخْبِرِينَ وَأَيْضًا لَا بُدَّ من فِكْرٍ وَلِهَذَا قال الْكَعْبِيُّ إنَّ الْعِلْمَ عَقِبَهُ نَظَرِيٌّ الْخَامِسَةُ الْعِلْمُ بِالْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ وَانْحَطَّتْ لِمَا فيها من الْمُعَانَاةِ وَالْمَقَاسَاتِ وَتَوَقُّعِ الْغَلَطَاتِ السَّادِسَةُ الْعِلْمُ الْمُسْتَنِدُ إلَى قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ كَخَجَلِ الْخَجِلِ وَكَوَجَلِ الْوَجِلِ وَغَضَبِ الْغَضْبَانِ وَانْحَطَّتْ لِتَعَارُضِ الِاحْتِمَالَاتِ في مَحَالِّ الْأَحْوَالِ
____________________
(1/49)
السَّابِعَةُ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَانْحَطَّتْ لِأَنَّ النَّظَرِيَّ مُنْحَطٌّ عن الضَّرُورِيِّ الثَّامِنَةُ الْعِلْمُ بِجَوَازِ النُّبُوَّاتِ وَجَوَازِ وُرُودِ الشَّرَائِعِ التَّاسِعَةُ الْعِلْمُ بِالْمُعْجِزَاتِ إذَا وَقَعَتْ الْعَاشِرَةُ الْعِلْمُ بِوُقُوعِ السَّمْعِيَّاتِ وَمُسْتَنَدُهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُنَا أُمُورٌ أَحَدُهَا الْعِلْمُ النَّظَرِيُّ يَنْضَبِطُ بِالضَّابِطِ سَبَبُهُ الذِّهْنُ قَبْلَهُ وَالْعِلْمُ الْعَادِيُّ يُخَلِّي الْعَكْسَ لَا يَنْضَبِطُ سَبَبُهُ حتى يَحْصُلَ هو فإذا حَصَلَ عَلِمْنَا أَنَّ سَبَبَهُ قد كَمُلَ وَلَوْ رُوجِعْنَا في أَوَّلِ زَمَنِ كَمَالِهِ لم يَكُنْ لنا شُعُورٌ بِهِ حَالَةَ الْعِلْمِ بِالْمُتَوَاتِرَاتِ فإن السَّامِعَ لَا يَزَالُ يَتَرَقَّى في الظُّنُونِ تَرَقِّيًا خَفِيًّا حتى يَنْتَهِيَ إلَى عَدَدٍ حَصَلَ عِنْدَهُ الْعِلْمُ في نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَوْ قِيلَ له أَيُّ عَدَدٍ حَصَلَ لَك عِنْدَهُ الْعِلْمُ لم يَفْطِنْ لِذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْعُلُومُ الْعَادِيَّةُ بِجُمْلَتِهَا وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ من الْعُلُومِ ما يَقُومُ بِالنَّفْسِ وَلَا تَشْعُرُ النَّفْسُ بِهِ أَوَّلَ قِيَامِهِ وهو من الْعَجَبِ الثَّانِي أَنَّ هذه الْعُلُومَ تَتَفَاوَتُ كما بَيَّنَّا وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبَدِيهِيَّاتِ وَالْحِسِّيَّاتِ رَاجِحَةٌ على النَّظَرِيَّاتِ وَأَمَّا أَنَّ الْبَدِيهِيَّاتِ تَتَرَجَّحُ على الْحِسِّيَّاتِ أو الْعَكْسُ فَمَحَلُّ نَظَرٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَرَجَّحَ بَعْضُ الْبَدِيهِيَّاتِ على بَعْضٍ وَكَذَا الضَّرُورِيَّاتُ وَالنَّظَرِيَّاتُ فإن كُلَّ ما كان مُقَدِّمَاتُهُ أَجْلَى وَأَقَلَّ كان رَاجِحًا على ما ليس كَذَلِكَ وَلِهَذَا يَجِدُ الْإِنْسَانُ تَفْرِقَةً بين عِلْمِهِ بِأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَأَنَّ الْكُلَّ أَعْظَمُ من الْجُزْءِ وَبَيْنَ عِلْمِهِ بِثُبُوتِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ وَالْخَلَاءِ وَغَيْرِهِمَا من الْمَسَائِلِ النَّظَرِيَّةِ الْيَقِينِيَّةِ مع أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقِينِيًّا على اعْتِقَادِهِ لَا يُقَالُ إنَّهُ وَإِنْ اعْتَقَدَ ذلك في نَفْسِهِ لَكِنَّهُ ليس كَذَلِكَ في نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّا نَقُولُ يَلْزَمُ مِثْلُهُ في كل نَظَرِيٍّ فلم يَحْصُلْ الْجَزْمُ بِشَيْءٍ منها الثَّالِثُ قال الْإِمَامُ في بَابِ الْأَخْبَارِ من الْبُرْهَانِ الْعُلُومُ الْحَاصِلَةُ عن حُكْمِ الْعَادَاتِ مَبْنِيَّةٌ على قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ وَلَا تَنْضَبِطُ انْضِبَاطَ الْمَحْدُودَاتِ وَهَذَا كَالْعِلْمِ بِخَجَلِ الْخَجِلِ وَوَجِلِ الْوَجِلِ وَغَضَبِ الْغَضْبَانِ فإذا وُجِدَتْ هذه الْقَرَائِنُ تَرَتَّبَ عليها عُلُومٌ بَدِيهِيَّةٌ لَا يَأْبَاهَا إلَّا جَاحِدٌ وَلَوْ رَامَ وَاجِدُهَا ضَبْطَهَا لم يَقْدِرْ وَلِهَذَا قال الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه من شَاهَدَ رَضِيعًا قد الْتَقَمَ ثَدْيَ امْرَأَةٍ
____________________
(1/50)
ورآى منه آثَارَ الِامْتِصَاصِ وَحَرَكَةَ الْغَلْصَمَةِ لم يَسْتَرِبْ في وُصُولِ اللَّبَنِ إلَى الْجَوْفِ وَحَلَّ له أَنْ يَشْهَدَ شَهَادَةً تَامَّةً بِالرَّضَاعِ وَلَوْ أَنَّهُ لم يَشْهَدْ بِالرَّضَاعِ وَلَكِنْ شَهِدَ بِالْقَرَائِنِ الْحَامِلَةِ له على الشَّهَادَةِ لم يَثْبُتْ الرَّضَاعُ وَذَلِكَ لِأَنَّ ما يَسْمَعُهُ الْقَاضِي وَصْفًا لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ الْعِيَانِ وَاَلَّذِي يُفْضِي بِالْعَايِنِ إلَى دَرْكِ الْيَقِينِ يَدِقُّ مُدْرَكُهُ عن عِبَارَةِ الْوَصَّافِينَ وَلَوْ قِيلَ لِأَذْكَى خَلْقِ اللَّهِ قَرِيحَةً وَأَحَدِّهِمْ ذِهْنًا افْصِلْ بين حُمْرَةِ وَجْنَةِ الْغَضْبَانِ وَبَيْنَ حُمْرَةِ الْمَوْعُوكِ لم تُسَاعِدْهُ عِبَارَةٌ فإن الْقَرَائِنَ لَا يَبْلُغُهَا غَايَاتُ الْعِبَارَاتِ وَمِنْ ثَمَّ لم يَتَوَقَّفْ حُصُولُ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ على عَدَدٍ مَحْصُورٍ وَلَكِنْ إذَا ثَبَتَ قَرَائِنُ الصِّدْقِ ثَبَتَ الْعِلْمُ بِهِ مَسْأَلَةٌ الِاخْتِلَافُ في الْمُحِسَّاتِ اخْتَلَفُوا في الْمُحِسَّاتِ فَقِيلَ كُلُّهَا في دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ وَقِيلَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ مُقَدَّمَانِ ثُمَّ هَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ من قَدَّمَ الْبَصَرَ على السَّمْعِ لِتَعَلُّقِهِ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ وَمِنْهُمْ من سَوَّى بَيْنَهُمَا وَمِنْهُمْ من قَدَّمَ السَّمْعَ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْأَشِعَّةِ الْمُتَعَرِّضَةِ لِلتَّعْرِيجَاتِ وَالْحَرَكَاتِ وَلِأَنَّ السَّمْعَ لَا يَخْتَصُّ دَرْكُهُ بِجِهَةٍ بِخِلَافِ الْبَصَرِ وَاخْتَارَ ابن قُتَيْبَةَ هذا وقال قَدَّمَ اللَّهُ السَّمْعَ على الْبَصَرِ فقال ^ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ يونس 42 ثُمَّ قال ^ وَمِنْهُمْ من يَنْظُرُ إلَيْك ^ يونس 43 وقال إنَّ اللَّهَ لم يَبْعَثْ أَصَمَّ وَمِنْ الْأَنْبِيَاءِ عُمْيَانًا وقال أَئِمَّتُنَا وَهَذَا فُضُولٌ منه وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فَقَدَّمَ أبو الْحَسَنِ ما يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ على ما يُدْرَكُ بِنَظَرِ الْعَقْلِ وَقَدَّمَ الْقَلَانِسِيُّ ما يُعْلَمُ بِالنَّظَرِ على ما يُعْلَمُ بِالْمُحِسَّاتِ لِأَنَّ تَعَرُّضَ الْحَوَاسِّ لِلْآفَاتِ أَكْثَرُ من تَعَرُّضِ الْعَقْلِ لها قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَكُلُّ هذا تَكْثِيرُ الْجَوْزِ بِالْعَفِنِ وقد أخترنا أَنَّ الْعُلُومَ ضَرُورِيَّةٌ لَا تَقْدِيمَ وَلَا تَأْخِيرَ نعم قد يَطُولُ الطَّرِيقُ وَيَقْصُرُ فَيَتَرَتَّبُ الْأَمْرُ لِذَلِكَ وَأَمَّا الْعُلُومُ في أَنْفُسِهَا فَلَا تَرَتُّبَ فيها مسألة تعليق العلم بأكثر من معلوم واحد مَنَعَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ تَعَلُّقَ الْعِلْمِ بِأَكْثَرَ من مَعْلُومٍ وَاحِدٍ لَكِنْ قَيَّدَهُ بِمَا لَا يَتَلَازَمُ
____________________
(1/51)
وَأَجَازَ تَعَلُّقَ الْعِلْمِ الْحَادِثِ بِمَعْلُومَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُعْلَمَ أَحَدُهُمَا وَيُجْهَلَ الْآخَرُ وَهِيَ مَعْلُومَاتُ النَّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ كَالْعِلْمِ بِفَوْقٍ فإنه يَسْتَحِيلُ أَنْ يَعْلَمَ فَوْقَ من يَجْهَلُ تَحْتَ بِخِلَافِ ما لَا يَتَلَازَمُ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو فَلِأَنَّهُ من اتِّحَادِ الْعُلُومِ فَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُ أَنْ يُعْلَمَ ضِدَّانِ بِعِلْمٍ وَاحِدٍ وَإِلَّا لَأَدَّى إلَى جَمْعِ النَّقِيضَيْنِ وَأَمَّا أبو الْحَسَنِ الْبَاهِلِيُّ أُسْتَاذُ الْقَاضِي فإنه اخْتَارَ تَعَلُّقَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِمَعْلُومَاتٍ وَمَنَعَهُ في النَّظَرِيَّاتِ مسألة هل يقارن العلم بالجملة الجهل بالتفصيل يَجُوزُ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ في الْجُمْلَةِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا هل يُقَارِنُ الْعِلْمُ بِالْجُمْلَةِ الْجَهْلَ بِالتَّفْصِيلِ فَرَآهُ الْقَاضِي مُقَارِنًا له ولم يَرَهُ الشَّيْخُ أبو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وهو الْأَصَحُّ لِأَنَّا نَعْلَمُ كَوْنَ هذا الْعَرْضِ عَرْضًا وَنَجْهَلُ كَوْنَهُ سَوَادًا وَتَارَةً يُعْلَمُ كَوْنُهُ عَرَضًا وَنَعْلَمُ كَوْنَهُ سَوَادًا فَلَيْسَ من ضَرُورَةِ الْعِلْمِ بِالْوَصْفِ الْمُتَقَدِّمِ الْجَهْلُ بِالْوَصْفِ الْحَاضِرِ قال الْمَازِرِيُّ وَمِنْ هذا يَتَبَيَّنُ فَسَادُ ما أَطْلَقَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَسْتَرْسِلُ عِلْمُهُ على ما لَا يَتَنَاهَى من غَيْرِ تَعَلُّقٍ بِتَفَاصِيلِ آحَادِهِ قال وَدِدْت لو مَحَوْته بِدَمِي وفي نُسْخَةٍ بِمَاءِ عَيْنِي وَكَذَا قال غَيْرُهُ وَظَنُّوا أَنَّ الْإِمَامَ يُوَافِقُ الْفَلَاسِفَةَ في نَفْيِ الْعِلْمِ بِالْجُزْئِيَّاتِ وَهَذَا سُوءُ فَهْمٍ عن الرَّجُلِ وَلَيْسَ ذلك مُرَادَهُ وَيَتَحَاشَى عنه بَلْ مُرَادُهُ أَنَّ الْعِلْمَ هل يَتَعَلَّقُ بِمَا لَا يَتَنَاهَى تَعَلُّقًا إجْمَالِيًّا أو تَفْصِيلِيًّا فَهُوَ يقول كما أَنَّ ما لَا يَتَنَاهَى لَا يَدْخُلُ في الْوُجُودِ كَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعِلْمُ التَّفْصِيلِيُّ وَهُمَا سَوَاءٌ في الِاسْتِحَالَةِ لِأَنَّهُ لو دخل في الْعِلْمِ لَكَانَ إمَّا أَنْ يَبْقَى من الْمَعْلُومَاتِ شَيْءٌ أَمْ لَا فَإِنْ لم يَبْقَ شَيْءٌ فَقَدْ تَنَاهَى وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ وَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ فما حَصَلَتْ الْإِحَاطَةُ وَهَذَا الذي أَرَادَهُ رضي اللَّهُ عنه وهو شَنَّعَ عليه فيه أَيْضًا لَكِنَّهُ دُونَ الْأَوَّلِ فإن مُنْكِرَ الْعِلْمِ بِالْجُزْئِيَّاتِ يقول لَا يَعْلَمُ شيئا منها أَصْلًا لَا ما دخل في الْوُجُودِ وَلَا ما لم يَدْخُلْ وَأَمَّا هذا الذي أَرَادَهُ الْإِمَامُ فَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا لم يَدْخُلْ في الْوُجُودِ لِعَدَمِ تَنَاهِيهِ أَمَّا ما دخل الْوُجُودَ فإنه يُعْلَمُ وهو قَرِيبٌ من مَذْهَبِ جَهْمٍ وَهِشَامٍ غير أَنَّهُمَا يَقُولَانِ بِعُلُومٍ حَادِثَةٍ وَالْإِمَامُ يقول بِعِلْمٍ وَاحِدٍ قَدِيمٍ وقد صَرَّحَ في الْبُرْهَانِ أَيْضًا بِمُوَافَقَةِ أَهْلِ الْحَقِّ فقال في النَّسْخِ في الْكَلَامِ مع
____________________
(1/52)
الْيَهُودِ وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ النَّسْخَ يَمْتَنِعُ من جِهَةِ إفْضَائِهِ إلَى الْبَدَاءِ وَالْقَدِيمُ مُتَعَالٍ عنه فَلَا حَقِيقَةَ لِهَذَا فإن الْبَدَاءَ إذَا أُرِيدَ بِهِ تَبْيِينُ ما لم يَكُنْ مُبَيَّنًا في عِلْمِهِ فَلَيْسَ هذا من شَرْطِ النَّسْخِ فإن الرَّبَّ تَعَالَى كان عَالِمًا في أَزَلِهِ بِتَفَاصِيلِ ما لم يَقَعْ فِيمَا لَا يَزَالُ انْتَهَى وفي هذا الْكَلَامِ أَخْذٌ بيده وهو مُتَأَخِّرٌ عن الذي قَالَهُ في صَدْرِ الْكِتَابِ وَحَكَى الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ عن وَالِدِهِ الْإِمَامِ ضِيَاءِ الدِّينِ عن أبي الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيِّ عن إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ كان يقول لِلَّهِ تَعَالَى مَعْلُومَاتٌ لَا نِهَايَةَ لها وَلَهُ في كل وَاحِدٍ من تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ مَعْلُومَاتٌ أُخْرَى لَا نِهَايَةَ لها على الْبَدَلِ وهو تَعَالَى عَالِمٌ بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ على التَّفْصِيلِ وَإِنَّمَا أَوْضَحْت ذلك لِبَيَانِ أَنَّ الْإِمَامَ لم يَخْرُجْ عن عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَنَّ تِلْكَ الْعِبَارَةَ لَيْسَتْ على ظَاهِرِهَا وَلَا مُتَعَلَّقَ فيها عليه وهو من جَلِيلِ ما يُسْتَفَادُ مَسْأَلَةٌ هل يُوجَدُ عِلْمٌ لَا مَعْلُومَ له لم يَقُلْ ذلك إلَّا أبو هَاشِمٍ فإنه قال الْعِلْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمُسْتَحِيلَاتِ عِلْمٌ بِلَا مَعْلُومٍ وهو ظَاهِرُ الْفَسَادِ مَسْأَلَةٌ طُرُقُ مَعْرِفَةِ الْأَشْيَاءِ قال الْمُتَكَلِّمُونَ يُعْرَفُ الشَّيْءُ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا بآثارة كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْمَصْنُوعِ على الصَّانِعِ وَبِالْمَبْنِيِّ على الْبَانِي الثَّانِي بِحَسَبِ ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ الثَّالِثُ بِالْمُشَاهَدَةِ وَيُعْرَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِآثَارِهِ بِلَا خِلَافٍ قال اللَّهُ تَعَالَى ! ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا في الْآفَاقِ وفي أَنْفُسِهِمْ ) ! فصلت 53 وَاخْتَلَفُوا هل يُعْرَفُ بِحَسَبِ ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ فَذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَاضِي أبو بَكْرٍ إلَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ في أَكْثَرِ كُتُبِهِ وفي بَعْضِهَا أَنَّهُ يُعْرَفُ وَنُسِبَ إلَى الْأَشْعَرِيِّ وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ من أَصْحَابِهِ وَيُعْرَفُ بِالْمُشَاهَدَةِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ من الْأَصْحَابِ وَالثَّالِثُ أَقْوَى من الثَّانِي وَالثَّانِي من الْأَوَّلِ وقال بَعْضُهُمْ لَا
____________________
(1/53)
نُسَلِّمُ قُوَّةَ مَعْرِفَةِ الْمُشَاهَدَةِ على مَعْرِفَةِ الذَّاتِ مُطْلَقًا بَلْ فيه تَفْصِيلٌ وهو أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ في حَقِّ عَارِفٍ لِلذَّاتِ أَقْوَى منها في مَعْرِفَتِهَا بِخِلَافِ من لم يَعْرِفْ الذَّاتَ قِيلَ وَهَذَا لَا مَحِيصَ عنه فإن من وُضِعَ بين يَدَيْهِ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ من بلخش وَبِنَفْشِ وَزُجَاجٍ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَهَا لَا تُفِيدُهُ الْمُشَاهَدَةُ في مَعْرِفَةِ الذَّاتِ شيئا وَأَبْلَغُ من ذلك أَنَّا نُمَيِّزُ الْإِنْسَانَ عن غَيْرِهِ من الْحَيَوَانَاتِ بِالْمُشَاهَدَةِ وقد حَارَتْ الْأَلْبَابُ في مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَيَتَرَتَّبُ على هذا أَنَّ اكْتِفَاءَ الْأَصْحَابِ بِالرُّؤْيَةِ كَالصِّفَةِ لَا يَصِحُّ إلَّا في حَقِّ الْعَالِمِ بِالْمَوْصُوفِ لِتُزِيلَ الرُّؤْيَةُ الضَّرَرَ عنه أَمَّا في حَقِّ من لَا تُفِيدُهُ الرُّؤْيَةُ فَلَا يُتَّجَهُ الِاكْتِفَاءُ بها وَيُؤَيِّدُهُ ما نُشَاهِدُهُ في الْعُقَلَاءِ من مُعَانَدَتِهِمْ على ما لَا يَعْرِفُونَ لَا يَكْتَفُونَ بِرُؤْيَتِهِمْ بَلْ يَسْتَصْحِبُونَ الْخَبِيرِينَ بِذَلِكَ وقد حَكَى الرَّافِعِيُّ في بَابِ التَّصْرِيَةِ وَجْهًا أَنَّ الْعِيَانَ لَا يَكْفِي في حَقِّ من لَا يُفِيدُهُ الْعِيَانُ مَعْرِفَةً وَأَنَّهُ يُخَرَّجُ على الْخِلَافِ في بَيْعِ الْغَائِبِ وَلَا أَثَرَ لِعِيَانِهِ قال وَهَذَا الْوَجْهُ فِيمَا لو اشْتَرَى زُجَاجَةً ظَنَّهَا جَوْهَرَةً وَاسْتَشْهَدَ بِمَسْأَلَتَيْنِ ذَكَرَهُمَا النَّوَوِيُّ في فَتَاوِيهِ إحْدَاهُمَا لو رَأَى الْعَيْبَ ولم يَعْلَمْ أَنَّهُ عَيْبُ فإنه يَثْبُتُ له الْخِيَارُ إذَا كان يَخْفَى على مِثْلِهِ الثَّانِيَةُ لو رَأَى الْعَيْبَ وَعَلِمَ أَنَّهُ عَيْبٌ وَلَكِنَّهُ ظَنَّ غير الْعَيْبِ الذي في نَفْسِ الْأَمْرِ وَرَضِيَ بِمَا ظَنَّهُ لَا بِمَا هو عَيْبٌ في نَفْسِ الْأَمْرِ ثَبَتَ له الْخِيَارُ إذَا كان الذي في نَفْسِ الْأَمْرِ أَشَدَّ ضَرَرًا وَفِيمَا قَالَهُ هذا الْفَاضِلُ نَظَرٌ فَقَدْ أَطْبَقَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ على أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ بِالْمُشَاهَدَةِ هو أَتَمُّ النَّظَرِ في حَقِّ كل أَحَدٍ يُنْعِمُ اللَّهُ عليه سُبْحَانَهُ بِرُؤْيَتِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ قبل ذلك لِأَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ فيه عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِأَنَّ هذا الْمَرْئِيَّ هو الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَلَا بُدَّ من ذلك لِأَنَّ الْإِحَاطَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلتَّكْيِيفِ مُسْتَحِيلَةٌ في حَقِّهِ سُبْحَانَهُ فَلَا بُدَّ من هذا الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ لِتَصِحَّ الرُّؤْيَةُ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيمِ مَعْرِفَةِ الذَّاتِ وتمثيلة بِالْجَوَاهِرِ الثَّلَاثَةِ ضَعِيفٌ إذْ مع الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ لَا يَبْقَى مِثَالٌ بَلْ قد قال الْأَئِمَّةُ مَعَارِفُ الْآخِرَةِ كُلُّهَا ضَرُورِيَّةٌ في حَقِّ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ اللَّهُمَّ إلَّا ان نَقُولَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ الذي يَخْلُقُهُ اللَّهُ لهم كَافٍ في مَعْرِفَةِ الذَّاتِ ثُمَّ تَنْضَمُّ إلَيْهِ الْمُشَاهَدَةُ فَيَكُونُ أَتَمَّ وَهَذَا مُحْتَمَلٌ ثُمَّ ما رَأَيْته من أَنَّهُ لَا يُفِيدُهُ الرُّؤْيَةُ لَا يُتَّجَهُ الِاكْتِفَاءُ بها في حَقِّهِ وَأَنَّ الضَّرَرَ لَا يَزُولُ عنه بِذَلِكَ فَيَرْجِعُ إلَى قَاعِدَةِ الْمَالِكِيَّةِ في أَنَّ الْغَبْنَ يُثْبِتُ الْخِيَارَ إذَا كان بِمِقْدَارِ
____________________
(1/54)
الثُّلُثِ فَصَاعِدًا وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُثْبِتُ وَعَنْ أَحْمَدَ كَمَالِكٍ وَعَنْهُ يُثْبِتُ إذَا كان بِمِقْدَارِ السُّدُسِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ قَضِيَّةُ حِبَّانَ بن مُنْقِذٍ وَأَنَّهُ كان يُخْدَعُ في الْبَيْعِ فقال له صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ وَشَرَعَ له اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَوْ كانت الْخَدِيعَةُ تُثْبِتُ الْخِيَارَ لَمَا احْتَاجَ إلَى قَوْلِهِ لَا خِلَابَةَ وَلَا إلَى اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ بَلْ كان خِيَارُ الْغَبْنِ كَافِيًا فَدَلَّ على أَنَّهُ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ وَاسْتِدْلَالُهُ بِالْمَسْأَلَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ على ان الرُّؤْيَةَ بِالصِّفَةِ لَا تُفِيدُ إلَّا في حَقِّ الْعَالِمِ بِالْمَوْصُوفِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ السَّلَامَةُ عن الْعُيُوبِ فَلَا يُغْتَفَرُ فيها ما يُغْتَفَرُ في غَيْرِهَا مَسْأَلَةٌ الْجَهْلُ الْجَهْلُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ عَدَمُ الْعِلْمِ عَمَّا من شَأْنِهِ أَنْ يُعْلَمَ وَيُسَمَّى بَسِيطًا وَقِيلَ لَا يُطْلَقُ عليه جَهْلٌ وَاخْتَارَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ على ما سَيَأْتِي وَقِيلَ إنَّ هذا التَّعْرِيفَ غَيْرُ مَانِعٍ لِدُخُولِ الظَّنِّ عِنْدَ من لَا يَرَاهُ عِلْمًا وَالشَّكُّ وَالْغَفْلَةُ وَإِصْلَاحُهُ عَدَمُ كل عِلْمٍ أو ظَنٍّ أو شَكٍّ أو وَقْفٍ عَمَّا من شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا أو مَظْنُونًا أو مَشْكُوكًا او مَوْقُوفًا فيه مِمَّنْ شَأْنُهُ أَنْ يُوصَفَ بِذَلِكَ وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الِاعْتِقَادُ الْبَاطِلُ وَيُسَمَّى مُرَكَّبًا وقال الْآمِدِيُّ اعْتِقَادُ الْمُعْتَقِدِ على خِلَافِ ما هو عليه في نَفْسِ الْأَمْرِ وَنُقِضَ بِالنَّظَرِ الْمُطَابِقِ عَكْسًا فإن النَّاظِرَ ما لم يَكُنْ عَالِمًا أو ظَانًّا فَهُوَ جَاهِلٌ لِكَوْنِهِ ضِدًّا لَهُمَا عِنْدَهُ فَيَكُونُ النَّاظِرُ إذَنْ جَاهِلًا مع أَنَّ اعْتِقَادَهُ مُطَابِقٌ وهو بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ عَدَمِيٌّ يُقَابِلُ الْعِلْمَ تَقَابُلَ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ وَبِالثَّانِي وُجُودِيٌّ يُقَابِلُ الْعِلْمَ تَقَابُلَ الضِّدَّيْنِ وَالثَّانِي يُقَالُ فيه أَخْطَأَ وَغَلِطَ وَمُخَاطَبَتُهُ مُخَاطَبَةُ عِنَادٍ وَمُخَاطَبَةُ الْأَوَّلِ مُخَاطَبَةُ تَعْلِيمٍ قال الرَّازِيَّ وَاَلَّذِي يُمْكِنُهُ طَلَبُ الْعِلْمِ هو صَاحِبُ الْجَهْلِ الْبَسِيطِ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ وَأَمَّا الْمُرَكَّبُ فإنه لَا يَطْلُبُ الْعِلْمَ البتة لِأَنَّهُ وَإِنْ كان لَا يَعْلَمُ إلَّا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ
____________________
(1/55)
يَعْلَمُ فَصَارَ صَارِفًا له عن طَلَبِهِ وَهَلْ الْمُنَافَاةُ بَيْنَهُمَا ذَاتِيَّةٌ أو لِلصَّارِفِ فيه احْتِمَالَانِ وقال السَّمْعَانِيُّ في الْكِفَايَةِ اُخْتُلِفَ في الْجَهْلِ فَقِيلَ هو عَدَمُ الْعِلْمِ وهو بَعِيدٌ وَقِيلَ تَصَوُّرُ الْمَعْلُومِ بِخِلَافِ ما هو بِهِ وَقِيلَ اعْتِقَادُ الْمَعْلُومِ على خِلَافِ ما هو عليه انْتَهَى وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ الْجَهْلُ اعْتِقَادُ الْمَعْلُومِ على خِلَافِ ما هو بِهِ وَلَا بَأْسَ بِالِاعْتِقَادِ في حَدِّ الْجَهْلِ 1 هـ وَهَذَا تَعْرِيفٌ لِلْمُرَكَّبِ فَقَطْ إذْ الْبَسِيطُ لَا اعْتِقَادَ فيه أَلْبَتَّةَ فكانه ليس بِجَهْلٍ عِنْدَهُ وَكَذَلِكَ فِعْلُ جَمَاعَةٍ من أَئِمَّتِنَا وَحَكَوْا خِلَافًا عن الْمُعْتَزِلَةِ في أَنَّ الْجَهْلَ هل هو مِثْلُ الْعِلْمِ فَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ على أَنَّهُ مِثْلٌ له وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ من اعْتَقَدَ كَوْنَ زَيْدٍ في الدَّارِ مَثَلًا وَلَيْسَ هو فيها فإن اعْتِقَادَهُ الْأَوَّلَ الذي هو جَهْلٌ من جِنْسِ الثَّانِي الذي عَلِمَهُ وما بِهِ الِافْتِرَاقُ من كَوْنِ زَيْدٍ في الدَّارِ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ وَعَدَمُهُ في الْأُخْرَى أَنَّهُ خَارِجٌ عن مُوجِبِ الِاخْتِلَافِ بين الِاعْتِقَادَيْنِ وقد أَجْمَعُوا على أَنَّ اعْتِقَادَ الْمُقَلِّدِ لِلشَّيْءِ على وَفْقِ ما هو عليه مِثْلُ الْعِلْمِ وَهَذَا الْكَلَامُ من الْمُعْتَزِلَةِ لَسْنَا نُوَافِقُهُمْ عليه غير أَنَّا نَقُولُ اتَّفَقُوا على أَنَّ هذا مَخْصُوصٌ بِالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ أَمَّا الْبَسِيطُ إنْ قِيلَ إنَّهُ جَهْلٌ فَلَا خِلَافَ في كَوْنِهِ ليس مِثْلًا لِلْعِلْمِ فإن عَدَمَ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ مِثْلًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ تَنْبِيهٌ من تَصَوَّرَ في الذَّاتِ أَوْصَافًا لم تَكُنْ فَهَلْ هو جَاهِلٌ بِالذَّاتِ من حَيْثُ إنَّهَا ذَاتٌ أو بها من حَيْثُ إنَّهَا مَوْصُوفَةٌ بِخِلَافِ ما اعْتَقَدَ وقد يُقَالُ الْجَهْلُ بِالصِّفَةِ هل هو جَهْلٌ بِالْمَوْصُوفِ مُطْلَقًا أو من بَعْضِ الْوُجُوهِ الظَّاهِرُ الثَّانِي وَمِنْ ثَمَّ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ من أَهْلِ الْقِبْلَةِ وقد اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا نَكَحَ امْرَأَتَيْنِ وَشَرَطَ فِيهِمَا الْإِسْلَامَ أو في إحْدَاهُمَا النَّسَبَ أو الْحُرِّيَّةَ فَاخْتُلِفَ هل يَصِحُّ النِّكَاحُ وَالْقَوْلُ بِالصِّحَّةِ هو الْجَدِيدُ الصَّحِيحُ مَأْخَذُهُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عليه مُعَيَّنٌ لَا يَتَبَدَّلُ بِالْخَلَفِ في الصِّفَةِ وَالْقَوْلُ بِالْفَسَادِ مَأْخَذُهُ أَنَّ اخْتِلَافَ الصِّفَةِ كَاخْتِلَافِ الْعَيْنِ وَأَخَذَ ابن الرِّفْعَةِ من هذا الْخِلَافِ تَكْفِيرَ مُنْكِرِي صِفَاتِ اللَّهِ وَالْأَصَحُّ عَدَمُ التَّكْفِيرِ كما أَنَّ الْأَصَحَّ هُنَا صِحَّةُ النِّكَاحِ لَكِنَّ الْمَذْكُورَ في الْبَيْعِ إذَا قال بِعْتُك هذا الْفَرَسَ فَكَانَ بَغْلًا أَنَّ الْأَصَحَّ عَدَمُ الصِّحَّةِ
____________________
(1/56)
مسألة الظن الظَّنُّ هو الِاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ من اعْتِقَادَيْ الطَّرَفَيْنِ وَكَذَا رُجْحَانُ الِاعْتِقَادِ لَا اعْتِقَادُ الرَّاجِحِ أو الرُّجْحَانِ فَاعْتِقَادُ الرُّجْحَانِ لِمَا في نَفْسِ الْأَمْرِ إمَّا مُحَقَّقٌ عن بُرْهَانٍ وهو الْعِلْمُ أو لَا وهو التَّقْلِيدُ وَالْجَهْلُ فَهُوَ مُتَعَلَّقُ نَفْسِ الرحجان ( ( ( الرجحان ) ) ) وهو في نَفْسِهِ ثَابِتٌ لَا رحجان ( ( ( رجحان ) ) ) فيه وَأَمَّا رُجْحَانُ الِاعْتِقَادِ بِأَنْ يَكُونَ في النَّفْسِ احْتِمَالَانِ مُتَعَارِضَانِ إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَرْجَحُ في نَظَرِهِ فَالْأَوَّلُ قد يَكُونُ مَوْجُودًا في الْخَارِجِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا يُتَصَوَّرُ إلَّا في الذِّهْنِ وَقِيلَ تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَقْوَى من الْآخَرِ وَنُقِضَ بِالْجَزْمِ تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ وَلَيْسَ بِظَنٍّ وَقِيلَ تَغْلِيبُ أَحَدِ الْمُجَوَّزَيْنِ وَفِيهِ إجْمَالٌ لِأَنَّ التَّغْلِيبَ إمَّا في نَفْسِ الْمُجَوَّزِ وَإِمَّا في نَفْسِ الْأَمْرِ وقد يَكُونُ جَزْمًا وقد لَا يَكُونُ وَالثَّانِي قَرِيبٌ وقال الْآمِدِيُّ أَخِيرًا إنَّهُ تَرَجُّحُ أَحَدِ مُمْكِنَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ في النَّفْسِ على الأخر من غَيْرِ قَطْعٍ وَتَارَةً إنَّهُ تَرَجُّحُ وُقُوعِ أَحَدِ مُمْكِنَيْنِ على الْآخَرِ من غَيْرِ قَطْعٍ وَقَوْلُهُ من غَيْرِ قَطْعٍ يَعْنِي عِنْدَ ذِكْرِ الِاحْتِمَالِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ من غَيْرِ قَطْعٍ بِالتَّرْجِيحِ وَحِينَئِذٍ فَهُوَ تَرَدُّدٌ بين إرَادَةِ رُجْحَانِ الِاعْتِقَادِ وهو الْحَقُّ وَبَيْنَ رُجْحَانِ الْمُعْتَقَدِ أو اعْتِقَادِ الرُّجْحَانِ وَلَيْسَ ذلك ظَنًّا مَسْأَلَةٌ الظَّنُّ طَرِيقُ الْحُكْمِ وهو طَرِيقٌ لِلْحُكْمِ إذَا كان عن أَمَارَةٍ وَلِهَذَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ وَخَبَرِ الْمُقَوِّمِينَ وَالْقِيَاسِ وَإِنْ كانت عِلَّةُ الْأَصْلِ مَظْنُونَةً وَشَرَطَ ابن الصَّبَّاغِ في الْعِدَّةِ لِلْعَمَلِ بِالظَّنِّ وُجُودَ أَمَارَةٍ صَحِيحَةٍ وَعَدَمَ الْقُدْرَةِ على الْعِلْمِ كما يُعْمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ مع عَدَمِ النَّصِّ وَالْأَوَّلُ يُوَافِقُ تَصْحِيحَ الْفُقَهَاءِ في الِاجْتِهَادِ في الْأَوَانِي أَنَّهُ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ الظَّنِّ من غَيْرِ أَمَارَةٍ وَالثَّانِي يُخَالِفُ تَجْوِيزَهُمْ الِاجْتِهَادَ في الْأَوَانِي مع الْقُدْرَةِ على الْيَقِينِ قال وَالظَّنُّ يَقَعُ عِنْدَ الْأَمَارَةِ كما يَقَعُ الْعِلْمُ عِنْدَ الدَّلِيلِ
____________________
(1/57)
وقال صَاحِبُ الْعُمْدَةِ لَا يَقَعُ عن الْأَمَارَةِ وَإِنَّمَا يَقَعُ بِاخْتِيَارِ النَّاظِرِ في الْأَمَارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ يَنْظُرُونَ في الْأَمَارَةِ وَيَخْتَلِفُونَ في الظَّنِّ وَلَوْ كان كما ذُكِرَ لَعُمِلَ بِالظَّنِّ من غَيْرِ أَمَارَةٍ مَسْأَلَةٌ تَفَاوُتُ الظُّنُونِ وفي تَفَاوُتِ الظُّنُونِ قَوْلَانِ نَظِيرُ الْخِلَافِ السَّابِقِ في تَفَاوُتِ الْعُلُومِ فَقِيلَ لَا تَتَفَاوَتُ كما لَا تَتَفَاوَتُ الْعُلُومُ وَإِنَّمَا تَتَفَاوَتُ الْأَدِلَّةُ وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ بَلْ الظَّنُّ يَقْبَلُ الْأَشَدِّيَّةَ وَالْأَضْعَفِيَّةَ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ فَرُبَّ شَكٍّ في أَصْلِ الشَّيْءِ وَشَكٍّ في وَصْفِهِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْأَصْلِ فَالشَّكُّ في الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ يُقَابِلُهُ احْتِمَالَانِ وَالشَّكُّ في الْوَصْفِ خَاصَّةً يُقَابِلُهُ احْتِمَالٌ وَاحِدٌ وَلِهَذَا قال مَالِكٌ رضي اللَّهُ عنه من شَكَّ هل طَلَّقَ أَمْ لَا فَشَكُّهُ وسوسه فَيَسْتَصْحِبُ الْحِلَّ وَلَوْ حَلَفَ يَقِينًا ثُمَّ شَكَّ هل حَنِثَ أَمْ لَا فَشَكُّهُ هَاهُنَا مُعْتَبَرٌ يُوجِبُ الِانْكِفَافَ وَالْحَظْرَ وَهَلْ هو وُجُوبُ قَضَاءٍ أو وُجُوبُ إرْشَادٍ لَا إلْزَامٌ من الْقَاضِي فيه خِلَافٌ لِلْمَالِكِيَّةِ قال ابن الْمُنِيرِ فَإِنْ قُلْت هل يَقِفُ أَحَدٌ إذَا ظَنَّ شيئا ما على قَدْرِ ذلك الظَّنِّ كما يَقِفُ على أَصْلِ الظَّنِّ قُلْت لَا يَقِفُ أَحَدٌ على ذلك إلَّا تَقْرِيبًا إنَّمَا الذي يُتَوَقَّفُ علية يَقِينًا هو الْعِلْمُ وَمِثَالُهُ في الْمَحْسُوسَاتِ أَنَّ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ مَوْجُودٌ في نَفْسِ الْأَمْرِ وَيُثْبِتُهُ الْعَقْلُ وَلَكِنْ لَا يُثْبِتُهُ الْحِسُّ وَإِنْ أَثْبَتَ تَفَاوُتًا بين الْأَجْرَامِ صِغَرًا وَكِبَرًا لَكِنَّهُ إثْبَاتٌ بِالتَّقْرِيبِ لَا بِتَحْقِيقِ أَعْدَادِ الْجَوَاهِرِ بِأَعْدَادِ الْجَوَاهِرِ كَإِنْكَارِ الظُّنُونِ وَلِهَذَا يقول الْفُقَهَاءُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ في الْأَجْوَدِ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عليه تَحْقِيقًا إذْ ما من أَجْوَدَ مَفْرُوضٍ إلَّا وَيُمْكِنُ أَجْوَدُ منه وَمِنْهُمْ من أَجَازَهُ تَنْزِيلًا لِلَّفْظِ على الْقَرِيبِ وَعَلَى ذلك يُحْمَلُ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ هذا الظَّنُّ أَعْلَى الظُّنُونِ يَعْنُونَ من أَعْلَى الظُّنُونِ الْوَاضِحَةِ فيه
____________________
(1/58)
مسالة أَقْسَامُ الظَّنِّ وَأَقْسَامُهُ خَمْسَةٌ أَوَّلُهَا الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عن أُمُورٍ مُسَلَّمَةٍ وهو الْعِلْمُ الظَّنِّيُّ الذي مُسْتَنَدُهُ قَضِيَّةٌ أو قَضَايَا مُسَلَّمَةٌ بِأَنْفُسِهَا ثَانِيهَا الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عن أُمُورٍ مَشْهُورَةٍ وهو ظَنٌّ مُطَابِقٌ مُسْتَنِدٌ إلَى أُمُورٍ مَشْهُورَةٍ بِالتَّصْدِيقِ عِنْدَ الْجَمِّ الْغَفِيرِ وَثَالِثُهَا الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عن أُمُورٍ مَقْبُولَةٍ في الْعَقْلِ بِسَبَبِ حُسْنِ الظَّنِّ بِمَنْ أُخِذَتْ عنه رَابِعُهَا الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عن قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ وهو ظَنٌّ مُطَابِقٌ مستندة قَرَائِنُ أَحْوَالٍ ظَاهِرَةٍ خَامِسُهَا ما كان عن وَهْمٍ في غَيْرِ مَحْسُوسٍ وهو ما أَوْجَبَ التَّصْدِيقَ بِهِ قُوَّةُ الْوَهْمِ وَجَعَلَهُ من الْعِلْمِ الظَّنِّيِّ وَلَيْسَ بِهِ تَجَوُّزٌ مَسْأَلَةٌ الشَّكُّ الشَّكُّ قال الْعَسْكَرِيُّ أَصْلُهُ من قَوْلِهِمْ شَكَكْت الشَّيْءَ إذَا جَمَعْته بِشَيْءٍ يَدْخُلُ فيه وَالشَّكُّ هو اجْتِمَاعُ شَيْئَيْنِ في الضَّمِيرِ وقال أبو هَاشِمٍ في أَحَدِ قَوْلَيْهِ اعْتِقَادَانِ يَتَعَاقَبَانِ لَا يُتَصَوَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَأَفْسَدُوهُ بِمَا إذَا زَالَ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ بِاعْتِقَادٍ آخَرَ وقال في قَوْلِهِ الْآخَرِ عَدَمُ الْعِلْمِ وهو فَاسِدٌ لِحُصُولِهِ من الْجَمَادِ وَالنَّائِمِ وَلَا يُوصَفُ بِالشَّكِّ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ اسْتِوَاءُ مُعْتَقَدَيْنِ في نَفْسِ الْمُسْتَرِيبِ مع قطعة أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ وَفِيهِ زِيَادَةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ اسْتِوَاءُ وَقَوْلُهُ الْمُسْتَرِيبِ فإن أَحَدَهُمَا يُغْنِي عن الْآخَرِ إذْ لَا يُمْكِنُ اسْتِرَابَةٌ مع ظُهُورِ أَحَدِهِمَا وَلَا اسْتِوَاءٌ مع عَدَمِ اسْتِرَابَةٍ وَأَيْضًا فَغَيْرُ جَامِعٍ لِمَا إذَا ظُنَّ عَدَمُ الِاجْتِمَاعِ فإنه خَرَجَ بِقَوْلِهِ مع قَطْعِهِ أَنَّهُمَا لَا
____________________
(1/59)
يَجْتَمِعَانِ وقال الْآمِدِيُّ وَصْفُ كُلٍّ من الْأَمْرَيْنِ بِكَوْنِهِ مُعْتَقَدًا وَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَعَلُّقُ الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ بِهِ وَذَلِكَ مع الِاسْتِوَاءِ مُحَالٌ وقد يَمْنَعُ الِاسْتِحَالَةَ إذْ الِاعْتِقَادُ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ في الْجَازِمِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هو الِاسْتِرَابَةُ في مُعْتَقَدَيْنِ وَأَفْسَدَهُ الْآمِدِيُّ بِأَنَّهُ جَمْعٌ بين الِاسْتِرَابَةِ وَالِاعْتِقَادِ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهَذَا الْإِفْسَادُ فَاسِدٌ لِعَدَمِ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الِاسْتِرَابَةَ في تَعْيِينِ الْمُرَادِ في نَفْسِ الْأَمْرِ وَالِاعْتِقَادَ لصلاحيه إرَادَةِ كل وَاحِدٍ وقد يَكُونُ من غَيْرِ جَزْمٍ فَيَكُونُ ذلك تَرَادُفًا نعم هو غَيْرُ جَامِعٍ لِمَا إذَا كانت الِاسْتِرَابَةُ في غَيْرِ نَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ من وَقْفٍ وَشَكٍّ وَغَيْرِهِ وَغَيْرُ مَانِعٍ لِدُخُولِ الِاسْتِرَابَةِ في مُعْتَقَدَيْنِ في وَقْتَيْنِ فإنه ليس بِشَكٍّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ في وَقْتٍ وَاحِدٍ وَلَا يَجْتَمِعَانِ وُقُوعًا وقال الْآمِدِيُّ الْأَقْرَبُ أَنَّ الشَّكَّ التَّرَدُّدُ في أَمْرَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ لَا تَرْجِيحَ لِوُقُوعِ أَحَدِهِمَا على الْآخَرِ في النَّفْسِ انْتَهَى وَيَرِدُ على الْجَمِيعِ التَّقَيُّدُ بِالْأَمْرَيْنِ فإن الشَّكَّ قد يَكُونُ بين أُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ كما لو شَكَّ هل زَيْدٌ قَائِمٌ أو قَاعِدٌ أو نَائِمٌ وَذَكَرَ الْهِنْدِيُّ أَنَّ الشَّكَّ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا التَّرَدُّدُ في ثُبُوتِ الشَّيْءِ وَنَفْيِهِ تَرَدُّدًا على السَّوَاءِ وَالثَّانِي أَنْ لَا يَتَرَدَّدَ بَلْ يَحْكُمُ بِأَحَدِهِمَا مع تَجْوِيزِ نَقِيضِهِ تَجْوِيزَ اسْتِوَاءٍ قال وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَرْقُ ما بين الْخَاصِّ وَالْعَامِّ فإن الْأَوَّلَ مِنْهُمَا قد يَكُونُ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ على الِاحْتِمَالَيْنِ وقد يَكُونُ لِدَلِيلَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ عَلَيْهِمَا وَأَمَّا الثَّانِي فإنه لَا يَكُونُ إلَّا بِدَلِيلَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ وَإِلَّا لم يَكُنْ ذلك الْحُكْمُ يُعْتَبَرُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِالتَّشَهِّي قال وَاَلَّذِي يَدُلُّ على أَنَّ الْأَوَّلَ شَكٌّ وَإِنْ لم يَذْكُرْهُ كَثِيرٌ من الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ من تَوَقَّفَ عن الْحُكْمِ بِثُبُوتِ الشَّيْءِ وَنَفْيِهِ يُقَالُ إنَّهُ شَاكٌّ في وُجُودِهِ وَنَفْيِهِ انْتَهَى وَنَبَّهَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ على فَائِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ الشَّكَّ لَا بُدَّ وان يَكُونَ مع قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ من الْأَمْرَيْنِ وقال هو اعْتِقَادُ أَنْ يَتَقَاوَمَ سَبَبُهُمَا ذَكَرَهُ في النِّهَايَةِ في أَبْوَابِ الصَّلَاةِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ على أَنَّ مُجَرَّدَ التَّرَدُّدِ في الْأَمْرَيْنِ من غَيْرِ قِيَامِ ما يَقْتَضِي ذلك لَا يُسَمَّى شَكًّا وَكَذَلِكَ من غَفَلَ عن شَيْءٍ بِالْكُلِّيَّةِ فَيَسْأَلُ عنه لَا يُسَمَّى شَاكًّا
____________________
(1/60)
وَكَلَامُ الرَّاغِبِ يُوَافِقُهُ فإنه قال هو اعْتِدَالُ النَّقِيضَيْنِ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَتَسَاوِيهِمَا وَذَلِكَ قد يَكُونُ لِوُجُودِ أَمَارَتَيْنِ مُتَسَاوِيَتَيْنِ عِنْدَهُ في النَّقِيضِ أو لِعَدَمِ الْأَمَارَةِ فِيهِمَا وَالشَّكُّ رُبَّمَا كان في الشَّيْءِ هل هو مَوْجُودٌ أو لَا وَرُبَّمَا كان في جِنْسِهِ أَيْ أَيُّ جِنْسٍ هو وَرُبَّمَا كان في بَعْضِ صِفَاتِهِ وَرُبَّمَا كان في الْغَرَضِ الذي لِأَجْلِهِ وُجِدَ وَالشَّكُّ ضَرْبٌ من الْجَهْلِ وهو أَخَصُّ منه لِأَنَّ الْجَهْلَ قد يَكُونُ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالنَّقِيضِ أَصْلًا فَكُلُّ شَكٍّ جَهْلٌ وَلَيْسَ كُلُّ جَهْلٍ شَكًّا قال تَعَالَى وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ منه مُرِيبٍ وَأَصْلُهُ إمَّا من شَكَكْت الشَّيْءَ أَيْ خَرَقْته فَكَانَ الشَّكُّ الْخَرْقَ في الشَّيْءِ وَكَوْنَهُ بِحَيْثُ لَا يَجِدُ الرَّائِي مُسْتَقَرًّا يَثْبُتُ فيه وَيَعْتَمِدُ عليه وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعَارًا من الشَّكِّ وهو لُصُوقُ الْعَضُدِ بِالْجَنْبِ وَذَلِكَ أَنْ يَتَلَاصَقَ النَّقِيضَانِ فَلَا يَدْخُلُ الْفَهْمُ وَالرَّأْيُ لِتَخَلُّلِهِ بَيْنَهُمَا وَلِهَذَا يَقُولَانِ الْتَبَسَ الْأَمْرُ وَاخْتَلَطَ وَأَشْكَلَ وَنَحْوَهُ من الِاسْتِعَارَاتِ وقال الْغَزَالِيُّ في الْإِحْيَاءِ في الْبَابِ الثَّانِي في مَرَاتِبِ الشُّبُهَاتِ الشَّكُّ عِبَارَةٌ عن اعْتِقَادَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ نَشَآ عن سَبَبَيْنِ وقال في الْبَابِ الثَّالِثِ في الْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ إنَّهُ عِبَارَةٌ عن اعْتِقَادَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ لَهُمَا سَبَبَانِ مُتَقَابِلَانِ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ لَا يَدْرُونَ الْفَرْقَ بين ما لَا يُدْرَى وَبَيْنَ ما لَا يُشَكُّ فيه وقال قبل ذلك إذَا دَخَلْت بَلَدًا غَرِيبًا وَدَخَلْت سُوقًا وَوَجَدْت قَصَّابًا أو خَبَّازًا أو غَيْرَهُ وَلَا عَلَامَةَ تَدُلُّ على كَوْنِهِ مُرِيبًا أو خَائِنًا وَلَا ما لَا يَدُلُّ على نَفْيِهِ فَهَذَا مَجْهُولٌ لَا يُدْرَى حَالُهُ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ مَشْكُوكٌ فيه وقال في الْبَابِ الثَّانِي لو سُئِلَ الْإِنْسَانُ عن صَلَاةِ الظُّهْرِ التي أَدَّاهَا قبل هذا بِعِدَّةِ سِنِينَ كانت أَرْبَعًا أو ثَلَاثًا لم يَتَحَقَّقْ قَطْعًا أنها أَرْبَعُ وإذا لم يَقْطَعْ جُوِّزَ أَنْ تَكُونَ ثَلَاثًا وَهَذَا التَّجْوِيزُ لَا يَكُونُ شَكًّا إذَا لم يَحْضُرْهُ سَبَبٌ أَوْجَبَ اعْتِقَادَ كَوْنِهِ ثَلَاثًا فَلْيُفْهَمْ حَقِيقَةُ الشَّكِّ حتى لَا يَشْتَبِهُ بِالْوَهْمِ وَالتَّجْوِيزِ بِغَيْرِ سَبَبٍ
____________________
(1/61)
مَسْأَلَةٌ الشَّكُّ لَا يُبْنَى عليه حُكْمٌ وَالشَّكُّ لَا يَنْبَنِي عليه حُكْمٌ شَرْعِيٌّ إذَا كان هُنَاكَ أَصْلٌ اُسْتُصْحِبَ على خِلَافِهِ وَاسْتَثْنَى ابن الْقَاصِّ في التَّلْخِيصِ من ذلك إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً وقد خُولِفَ فيها مَسْأَلَةٌ الْوَهْمُ الْوَهْمُ هو الطَّرَفُ الْمَرْجُوحُ قال ابن الْخَبَّازِ وهو كَنُفُورِ النَّفْسِ من الْمَيِّتِ مع الْعِلْمِ بِعَدَمِ بَطْشِهِ وَنُفُورِهَا من شُرْبِ الْجَلَّابِ في قَارُورَةِ الْحَجَّامِ وَلَوْ غُسِلَتْ أَلْفَ مَرَّةٍ وَلَا يَنْبَنِي عليه شَيْءٌ من الْأَحْكَامِ إلَّا في قَلِيلٍ كَوَهْمِ وُجُودِ الْمَاءِ بَعْدَ تَحَقُّقِ عَدَمِهِ فإنه يُبْطِلُ التَّيَمُّمَ عِنْدَنَا وَنِيَّةُ الْجُمُعَةِ لِمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ بَعْدَ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَرَكَ رُكْنًا فَيَأْتِي بِهِ وَنَحْوُهُ مَسْأَلَةٌ السَّهْوُ وَالْخَطَأُ السَّهْوُ ما تَنَبَّهَ صَاحِبُهُ بِأَدْنَى تَنْبِيهٍ وَالْخَطَأُ ما لَا يَتَنَبَّهُ صَاحِبُهُ أو يَتَنَبَّهُ بَعْدَ إتْعَابٍ قَالَهُ السَّكَّاكِيُّ في الْمِفْتَاحِ وَقِيلَ السَّهْوُ الذُّهُولُ عن الْمَعْلُومِ وَظَاهِرُ كَلَامِ اللُّغَوِيِّينَ تَرَادُفُهُ مع النِّسْيَانِ وقال ابن الْأَثِيرِ في النِّهَايَةِ السَّهْوُ في الشَّيْءِ تَرْكُهُ من غَيْرِ عِلْمٍ وَالسَّهْوُ عنه تَرْكُهُ مع الْعِلْمِ خَاتِمَةٌ لَا شَكَّ في أَنَّ الْعِلْمَ وَجَمِيعَ أَضْدَادِهِ ما خَلَا الشَّكَّ فيها حُكْمٌ وَأَمَّا الشَّكُّ فَاخْتَلَفُوا فيه وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الشَّاكَّ حَاكِمٌ بِكُلٍّ من الْأَمْرَيْنِ بَدَلَ الْآخَرِ وَالْمَشْهُورُ
____________________
(1/62)
خِلَافُهُ إذَا عَلِمْت ذلك فَالْمَحْكُومُ بِهِ في الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَالظَّنِّ هو الْمَعْلُومُ وَالْمُعْتَقَدُ وَالْمَظْنُونُ وَالْمَحْكُومُ بِهِ في الشَّكِّ إنْ قُلْنَا إنَّهُ حُكْمٌ الْأَمْرُ أَنَّ الْمَشْكُوكَ فِيهِمَا أو نَفْيَ غَيْرِهِمَا وَأَمَّا الْوَهْمُ فَهَلْ الْمَحْكُومُ بِهِ الْمَوْهُومُ أو الْمَظْنُونُ فيه بَحْثٌ وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا إشْكَالٌ لِأَنَّهُ إنْ قِيلَ الْمَوْهُومُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الظَّانُّ ليس حَاكِمًا لِمَا يُقَابِلُ ظَنَّهُ فَيَكُونُ حَاكِمًا بِالضِّدَّيْنِ مَعًا يَحْكُمُ بِالْقِيَامِ مَثَلًا رَاجِحًا وَبِعَدَمِ الْقِيَامِ مَرْجُوحًا وَكَيْفَ يَحْكُمُ الذِّهْنُ بِمَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ خِلَافُهُ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ الطَّرَفُ الرَّاجِحُ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ الْوَهْمُ مَعْدُودًا في الْقِسْمَةِ الْحُكْمِيَّةِ وهو مُخَالِفٌ لِكَلَامِهِمْ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالطَّرَفِ الرَّاجِحِ وإذا قُلْنَا بِأَنَّ الشَّكَّ لَا حُكْمَ فيه لِمَا يَلْزَمُ من الْحُكْمِ مع الْمُسَاوَاةِ فَلَأَنْ يَقُولُوا بِامْتِنَاعِ الْحُكْمِ بِالْمَرْجُوحِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى خَاتِمَةٌ أُخْرَى الْجَهْلُ وَالظَّنُّ وَالشَّكُّ أَضْدَادُ الْعِلْمِ عِنْدَنَا وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى أَنَّ الْجَهْلَ مُمَاثِلٌ لِلْعِلْمِ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ اعْتِقَادَ الْمُقَلِّدِ لِلشَّيْءِ على ما هو عليه مِثْلُ الْعِلْمِ خَاتِمَةٌ أُخْرَى يُطْلَقُ الْعِلْمُ على الظَّنِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ إذْ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ في ذلك لَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَقَوْلِهِ وما شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا سَمَّوْا غير الْمُطَابِقِ عِلْمًا فَكَيْفَ الظَّنُّ الْمُطَابِقُ وَأُقِرُّوا عليه وَالْأَصْلُ في الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ وَقَوْلِهِ وَلَا تَقْفُ ما ليس لَك بِهِ عِلْمٌ وقد يَجُوزُ أَنْ يَقْفُوَ ما يَظُنُّهُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ يَقْضِي الْقَاضِي بِعِلْمِهِ وَيُطْلَقُ الظَّنُّ على الْعِلْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ أَيْ يَعْلَمُونَ إذْ الظَّنُّ في ذلك غَيْرُ كَافٍ وَيُطْلَقُ الظَّنُّ على غَيْرِ الْمُطَابِقِ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَيُطْلَقُ الشَّكُّ على الظَّنِّ وَعَلَيْهِ غَالِبُ إطْلَاقِ الْفُقَهَاءِ
____________________
(1/63)
وَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا شَكَّ أحدكم في صَلَاتِهِ فلم يَدْرِ كَمْ صلى لِأَنَّ الشَّكَّ وَالظَّنَّ فيه سَوَاءٌ في الْحُكْمِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الظَّنُّ وَأَنْ يُرَادَ الشَّكُّ وَالظَّنُّ مَقِيسٌ عليه وَأَنْ يُرَادَ الْأَعَمُّ مَسْأَلَةٌ اسْتِعْمَالُ الظَّنِّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ مَجَازٌ الْمَشْهُورُ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الظَّنِّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ مَجَازٌ وَيَتَلَخَّصُ من كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ فيه ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ حَقِيقَةٌ في الشَّكِّ مَجَازٌ في الْيَقِينِ وَالثَّانِي أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَنْشَأُ خِلَافٌ فِيمَا إذَا قُلْت ظَنَنْت ظَنًّا هل يَتَعَيَّنُ لِلْيَقِينِ بِالتَّأْكِيدِ أو الِاحْتِمَالُ بَاقٍ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا لَا حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا في الشَّكِّ وَهَذَا قَوْلُ أبي بَكْرٍ الْعَبْدَرِيِّ وقال وَلَا يُعَوَّلُ على حِكَايَةِ من حَكَى ظَنَّ بِمَعْنَى تَيَقَّنَ بَلْ الظَّنُّ وَالْيَقِينُ مُتَنَافِيَانِ
____________________
(1/64)
فَصْلٌ الْعَقْلُ الْعَقْلُ لُغَةً الْمَنْعُ وَلِهَذَا يَمْنَعُ النَّفْسَ من فِعْلِ ما تَهْوَاهُ مَأْخُوذٌ من عِقَالِ النَّاقَةِ الْمَانِعِ لها من السَّيْرِ حَيْثُ شَاءَتْ وهو أَصْلٌ لِكُلِّ عِلْمٍ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وكان بَعْضُ الْأَئِمَّةِ يُسَمِّيهِ أُمَّ الْعِلْمِ وَكَثُرَ الِاخْتِلَافُ فيه حتى قِيلَ إنَّ فيه أَلْفَ قَوْلٍ وقال بَعْضُهُمْ سَلْ الناس إنْ كَانُوا لَدَيْك أَفَاضِلًا عن الْعَقْلِ وَانْظُرْ هل جَوَابٌ يُحَصَّلُ وقد تَكَلَّمَ فيه أَصْنَافُ الْخَلْقِ من الْفَلَاسِفَةِ وَالْأَطِبَّاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ كُلُّ وَاحِدٍ ما يَلِيقُ بِصِنَاعَتِهِ فَأَمَّا الْفَلَاسِفَةُ فَشَأْنُهُمْ الْكَلَامُ في الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا وَمَعْرِفَةُ حَقِيقَتِهَا وَالْعَقْلُ مَوْجُودٌ وَالْأَطِبَّاءُ شَأْنُهُمْ الْخَوْضُ فِيمَا يُصْلِحُ الْأَبْدَانَ وَالْعَقْلُ سُلْطَانُ الْبَدَنِ وَالْمُتَكَلِّمُونَ هُمْ أَهْلُ النَّظَرِ وَالنَّظَرُ أَبَدًا يَتَقَدَّمُ الْعَقْلَ وَالْفُقَهَاءُ تَكَلَّمُوا فيه من حَيْثُ إنَّهُ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ فقال الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه آلَةٌ خَلَقَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ يُمَيَّزُ بها بين الْأَشْيَاءِ وَأَضْدَادِهَا وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ وَالْعُقُولُ التي رَكَّبَهَا اللَّهُ فِيهِمْ لِيَسْتَدِلُّوا بها على الْعَلَامَاتِ التي نَصَبَهَا لهم على الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا مَنًّا منه وَنِعْمَةً قَالَهُ ابن سُرَاقَةَ وَهَذَا النَّصُّ مَوْجُودٌ في الرِّسَالَةِ قال الصَّيْرَفِيُّ في شَرْحِهَا بَيَّنَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْعَقْلَ مَعْنًى رَكَّبَهُ اللَّهُ في الْإِنْسَانِ أَيْ خَلَقَهُ فيه لَا أَنَّهُ فِعْلُ الْإِنْسَانِ كما زَعَمَ بَعْضُ الناس وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ رُوِيَ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ آلَةُ التَّمْيِيزِ قُلْت وَهَذَا مَوْجُودٌ في الرِّسَالَةِ حَيْثُ قال دَلَّهُمْ على جَوَازِ الِاجْتِهَادِ بِالْعُقُولِ التي رُكِّبَتْ فِيهِمْ الْمُمَيِّزَةِ بين الْأَشْيَاءِ وَأَضْدَادِهَا إلَخْ وَقِيلَ قُوَّةٌ طَبِيعِيَّةٌ يُفْصَلُ بها بين حَقَائِقِ الْمَعْلُومَاتِ وَقِيلَ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ يُفْصَلُ بِهِ بين حَقَائِقِ الْمَعْلُومَاتِ وقال الشَّيْخُ أبو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ الْعَقْلُ هو الْعِلْمُ وَكَذَا قال ابن سُرَاقَةَ هو في الْحَقِيقَةِ ليس بِشَيْءٍ غير الْعِلْمِ لَكِنَّهُ عِلْمٌ على صِفَةٍ فَجَمِيعُ الْمَعْلُومَاتِ بِحِسٍّ وَغَيْرِهِ إلَيْهِ مَرْجِعُهَا وهو يُمَيِّزُهَا وَيَقْضِي عليها وَحُجَّتُهُ مَأْخُوذَةٌ من قِبَلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِخَلْقِهِ ذلك في الْإِنْسَانِ انْتَهَى
____________________
(1/65)
وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ الْعَقْلُ هو الْعِلْمُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا من حَيْثُ كَوْنُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلْمًا وَهَذَا لَا خِلَافَ فيه بين أَصْحَابِنَا وهو قَوْلُ الْمُتَكَلِّمِينَ من الْإِسْلَامِيِّينَ وَبِهِ قالت الْمُعْتَزِلَةُ وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ بين الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ فَقَالُوا الْعَقْلُ جَوْهَرٌ مَخْلُوقٌ في الْإِنْسَانِ وهو مَرْكَزُ الْعُلُومِ وَلَا يُسْتَفَادُ الْعَقْلُ إنَّمَا تُسْتَفَادُ الْعُلُومُ ا هـ وَكَذَلِكَ نَقَلَ في كِتَابِهِ في الْأُصُولِ عن أَهْلِ الْحَقِّ تَرَادُفَ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ قال فَقَالُوا وَاخْتِلَافُ الناس في الْعُقُولِ لِكَثْرَةِ الْعُلُومِ وَقِلَّتِهَا وقال عَلِيُّ بن حَمْزَةَ الطَّبَرِيُّ نُورٌ وَبَصِيرَةٌ في الْقَلْبِ مَنْزِلَتُهُ الْبَصَرُ من الْعَيْنِ قال ابن فُورَكٍ هو الْعِلْمُ الذي يُمْتَنَعُ بِهِ من فِعْلِ الْقَبِيحِ وَذَهَبَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ إلَى أَنَّهُ غَرِيزَةٌ يُتَوَصَّلُ بها إلَى الْمَعْرِفَةِ وَمَثَّلَهُ بِالْبَصَرِ وَمَثَّلَ الْعِلْمَ بِالسِّرَاجِ فَمَنْ لَا بَصَرَ له لَا يَنْتَفِعُ بِالسِّرَاجِ وَمَنْ له بَصَرٌ بِلَا سِرَاجٍ لَا يَرَى ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَصَرَّحَ بِمُخَالَفَةِ الْعَقْلِ الْعِلْمَ وَكَذَا قال أَحْمَدُ الْعَقْلُ غَرِيزَةٌ قال الْقَاضِي أَيْ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى ابْتِدَاءً وَلَيْسَ اكْتِسَابًا قال الْأُقْلِيشِيُّ وَهَذِهِ الْغَرِيزَةُ لَيْسَتْ حَاصِلَةً لِلْبَهِيمَةِ على ما ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ من الْمُحَقِّقِينَ وَاسْتَحْسَنَهُ الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ وَاعْتَقَدَهُ رَأْيًا إذْ أَكْثَرُ الْأَشْعَرِيَّةِ لم يُفَرِّقُوا بين الْإِنْسَانِ وَالْبَهِيمَةِ في السَّجِيَّةِ وَإِنَّمَا فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا في الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَهِيَ الْعُلُومُ الْكَسْبِيَّةُ التي مَنْشَؤُهَا من الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ لَكِنَّهُ في الشَّامِلِ حَكَاهُ ثُمَّ قال إنَّهُ لَا يَرْضَاهُ وَإِنَّهُ يَتَّهِمُ النَّقَلَةَ عنه فيه وَأَطَالَ في رَدِّهِ وَصَارَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وأبو الطَّيِّبِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ وابن الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمْ إلَى أَنَّهُ بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ فَخَرَجَتْ الْعُلُومُ الْكَسْبِيَّةُ لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ عَاقِلًا مع عَدَمِ جَمِيعِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ وَإِنَّمَا قُلْنَا بَعْضُهَا لِأَنَّهُ لو كان جَمِيعُهَا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَاقِدُ لِلْعِلْمِ بِالْمُدْرِكَاتِ لِعَدَمِ الْإِدْرَاكِ الْمُتَعَلِّقِ بها غير عَاقِلٍ فَثَبَتَ أَنَّهُ بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَذَلِكَ نَحْوُ الْعِلْمِ بِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ وَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَعْلُومَ لَا يَخْرُجُ عن أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا أو مَعْدُومًا وَأَنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَخْلُو عن الِاتِّصَافِ بِالْقِدَمِ أو بِالْحُدُوثِ وَالْعِلْمِ بِمَجَارِي الْعَادَاتِ الْمُدْرَكَاتِ بِالضَّرُورَةِ كَمُوجِبِ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ الصَّادِرَةِ عن الْمُشَاهَدَاتِ إلَى غَيْرِ ذلك من الْعُلُومِ التي يُخَصُّ بها الْعُقَلَاءُ وَحَاصِلُهُ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ وَاسْتِحَالَةِ الْمُسْتَحِيلَاتِ وَجَوَازِ الْجَائِزَاتِ وَقِيلَ إنَّهُ عُلُومٌ بَدِيهِيَّةٌ كُلُّهُ قال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ فَقُلْت له
____________________
(1/66)
أَفَتَخُصُّ هذا النَّوْعَ من الضَّرُورَةِ بِوَصْفٍ قال يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ ما صَحَّ مع الِاسْتِنْبَاطِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْعَقْلَ الْغَرِيزِيَّ ليس بِالْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ إذْ الْإِنْسَانُ يُوصَفُ بِالْعَقْلِ مع ذُهُولِهِ عن الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ قال الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ بَعْدَ إبْطَالِهِ قَوْلَ الْقَاضِي في الْعَقْلِ وَعِنْدَ هذا ظَهَرَ أَنَّ الْعَقْلَ غَرِيزَةٌ تَلْزَمُهَا هذه الْعُلُومُ الْبَدِيهِيَّةُ مع سَلَامَةِ الْآلَاتِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْعِبَارَةُ الْوَجِيزَةُ فيه عُلُومٌ ضَرُورِيَّةٌ بِاسْتِحَالَةِ مُسْتَحِيلَاتٍ وَجَوَازِ جَائِزَاتٍ أو نُورٌ يُقْبِلُ من النُّورِ الْأَعْلَى بِمِقْدَارِ ما يَحْتَمِلُهُ وهو مَوْجُودٌ بِالْمَجْنُونِ وَغَيْرِهِ عِنْدَ هذا الْقَائِلِ لَكِنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَبُولِ حَائِلٌ كما في نُورِ الشَّمْسِ مع السَّحَابِ وقال الْغَزَالِيُّ هو غَرِيزِيٌّ وَضَرُورِيٌّ وَهُمَا نَظَرِيٌّ وَتَجْرِيبِيٌّ وَالْعِلْمُ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَهُمَا مُكْتَسَبَانِ وقال ابن فُورَكٍ هو الْعِلْمُ الذي يُمْتَنَعُ بِهِ عن فِعْلِ الْقَبِيحِ وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ أَنَّهُ الْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ التي لَا خُلُوَّ لِنَفْسِ الْإِنْسَانِ عنها بَعْدَ كَمَالِ آلَةِ الْإِدْرَاكِ وَعَدَمِ أَضْدَادِهَا وَلَا يُشَارِكُهُ فيها شَيْءٌ من الْحَيَوَانَاتِ وَحَكَاهُ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ له قَوْلَانِ ثُمَّ هو غَيْرُ جَامِعٍ لِلْعَقْلِ الثَّابِتِ لِلصِّبْيَانِ فَإِنَّهُمْ عُقَلَاءُ بِالْإِجْمَاعِ كما قَالَهُ الْقَاضِي من الْحَنَابِلَةِ في كِتَابِ الْعُدَّةِ مع انْتِفَاءِ ما ذَكَرَهُ لِامْتِنَاعِ صِحَّةِ نَفْيِ الْعَقْلِ عَنْهُمْ مُطْلَقًا وَإِلَّا لَزِمَ جَوَازُ وَصْفِهِمْ بِضِدِّهِ وهو الْجُنُونُ وَذَلِكَ مُحَالٌ وَغَيْرُ مَانِعٍ لِعُلُومِ الْمَجَانِينِ التي لَا خُلُوَّ لِأَنْفُسِهِمْ عنها كَعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ من الْوَاحِدِ وَنَحْوَهُ مع أَنَّهُمْ غَيْرُ عُقَلَاءَ وقال الْجِيلِيُّ من أَصْحَابِنَا في كِتَابِ الْإِعْجَازِ فَرْقٌ بين الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَيَظْهَرُ شَرَفُ الْعَقْلِ من حَيْثُ إنَّهُ مَنْبَعُ الْعِلْمِ وَأَسَاسُهُ وَالْعِلْمُ يَجْرِي منه مَجْرَى الثَّمَرَةِ من الشَّجَرَةِ قال وفي الحديث أَوَّلُ ما خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلُ وقال وَعِزَّتِي وَجَلَالِي ما خَلَقْت خَلْقًا أَكْرَمَ مِنْك بِك آخُذُ وَبِك أُعْطِي وَبِك أُعَاقِبُ فَإِنْ قُلْت إنْ كان الْعَقْلُ عَرَضًا فَكَيْفَ يُخْلَقُ قبل الْأَجْسَامِ وَإِنْ كان جَوْهَرًا فَكَيْفَ يَكُونُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَا بِمُتَحَيِّزٍ
____________________
(1/67)
قُلْنَا هذا يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ الْمُكَاشَفَةِ قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَدَّ الْمَلَائِكَةُ وَاجْتَهَدُوا في طَاعَةِ اللَّهِ بِالْعَقْلِ وَجَدَّ الْمُؤْمِنُونَ من بَنِي آدَمَ على قَدْرِ عُقُولِهِمْ على أَنَّ بَعْضَ الْأُصُولِيِّينَ قال إنَّ الْجَوْهَرَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَلَا تَنَاقُضَ بين قَوْلِنَا إنَّهُ نَوْعٌ من الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَبَيْنَ قَوْلِنَا إنَّهُ خُلِقَ قبل الْأَشْيَاءِ انْتَهَى الْعَقْلُ ضَرْبَانِ ثُمَّ هو ضَرْبَانِ غَرِيزِيٌّ وهو أَصْلٌ وَمُكْتَسَبٌ وهو فَرْعٌ فَأَمَّا الْغَرِيزِيُّ فَهُوَ الذي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ وَأَمَّا الْمُكْتَسَبُ فَهُوَ الذي يُؤَدِّي إلَى صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ وَقُوَّةِ النَّظَرِ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَتَجَرَّدَ الْمُكْتَسَبُ عن الْغَرِيزِيِّ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَجَرَّدَ الْغَرِيزِيُّ عن الْمُكْتَسَبِ لِأَنَّ الْغَرِيزِيَّ أَصْلٌ يَصِحُّ قِيَامُهُ بِذَاتِهِ وَالْمُكْتَسَبَ فَرْعٌ لَا يَصِحُّ قِيَامُهُ إلَّا بِأَصْلِهِ وَمِنْ الناس من امْتَنَعَ من تَسْمِيَةِ الْمُكْتَسَبِ عَقْلًا لِأَنَّهُ من نَتَائِجِهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِالنِّزَاعِ في التَّسْمِيَةِ إذَا كان الْمَعْنَى مُسَلَّمًا وَاخْتُلِفَ فيه في أُمُورٍ تَفَاوُتُ الْعُقُولِ أَحَدُهَا هل يَتَفَاوَتُ وَالْأَصَحُّ كما قَالَهُ الْإِمَامُ في التَّلْخِيصِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ وابن الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ فَلَا يَتَحَقَّقُ شَخْصٌ أَعْقَلُ من شَخْصٍ وَإِنْ أُطْلِقَ ذلك كان تَجَوُّزًا أو صَرْفًا إلَى كَثْرَةِ التَّجَارِبِ قال فَإِنَّا بَعْدَ أَنْ قُلْنَا إنَّهُ بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّفَاوُتُ فيها وَعَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَثِيرٍ من الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَتَفَاوَتُ لِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ
____________________
(1/68)
وَقِيَاسُ من فَسَّرَ الْعَقْلَ بِالْعِلْمِ أَنَّهُ يَجْرِي فيه الْخِلَافُ السَّابِقُ في تَفَاوُتِ الْعُلُومِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ الْغَرِيزِيُّ فَلَا يَتَفَاوَتُ أو التَّجْرِيبِيُّ فَلَا شَكَّ في تَفَاوُتِهِ وَإِلَيْهِ يَمِيلُ كَلَامُ ابن سُرَاقَةَ حَيْثُ قال هو على ضَرْبَيْنِ منه مَخْلُوقٌ في الْإِنْسَانِ وَمِنْهُ يَزْدَادُ بِالتَّجْرِبَةِ وَالِاعْتِبَارِ وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ كَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالشَّهْوَةِ وَنَحْوِهَا من أَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَلِهَذَا يُقَالُ فُلَانٌ وَافِرُ الْعَقْلِ وَفُلَانٌ نَاقِصُ الْعَقْلِ الثَّانِي اخْتَلَفُوا في مَحَلِّهِ فَقِيلَ لَا يُعْرَفُ مَحَلُّهُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَعَلَى الْمَشْهُورِ فيه ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا كما نَقَلَهُ ابن الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ الْقَلْبُ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِسَائِرِ الْعُلُومِ وَقَالَتْ الْفَلَاسِفَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ الدِّمَاغُ وَالْأَوَّلُ مَنْقُولٌ عن أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَالثَّانِي مَنْقُولٌ عن أبي حَنِيفَةَ حَكَاهُ الْبَاجِيُّ عنه وَرَوَاهُ ابن شَاهِينِ عن أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ أَيْضًا وَالثَّالِثُ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بين الرَّأْسِ وَالْقَلْبِ وقال الْأَشْعَرِيُّ لَك حَاسَّةٌ منه نَصِيبٌ وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا رَابِعًا وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ في بَابِ أَسْنَانِ إبِلِ الْخَطَأِ أَنَّهُ لم يَتَعَيَّنْ لِلشَّافِعِيِّ مَحَلُّهُ وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا خَامِسًا وَقِيلَ الصَّدْرُ وَلَعَلَّ قَائِلَهُ أَرَادَ الْقَلْبَ وَقِيلَ هو مَعْنًى يُضِيءُ في الْقَلْبِ وَسُلْطَانُهُ في الدِّمَاغِ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْحَوَاسِّ في الرَّأْسِ وَلِهَذَا قد يَذْهَبُ بِالضَّرْبِ على الدِّمَاغِ حَكَاهُ ابن سُرَاقَةَ قال وقال آخَرُونَ من أَصْحَابِنَا هو قُوَّةٌ وَبَصِيرَةٌ في الْقَلْبِ مَنْزِلَتُهُ منه مَنْزِلَةُ الْبَصَرِ من الْعَيْنِ وَنَبَّهَ الْمَاوَرْدِيُّ في أَدَبِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا على فَائِدَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الْخِلَافَ في الْغَرِيزِيِّ أَمَّا التَّجْرِيبِيُّ فَمَحَلُّهُ الْقَلْبُ قَطْعًا الثَّانِيَةُ أَنَّ هذا الْخِلَافَ مُفَرَّعٌ على الْقَوْلِ بِأَنَّهُ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ يُفْصَلُ بِهِ بين حَقَائِقِ الْمَعْلُومَاتِ وَأَنَّ من نَفَى كَوْنَهُ جَوْهَرًا أَثْبَتَ أَنَّ مَحَلَّهُ الْقَلْبُ وقال الْعَبْدَرِيُّ في شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى الْخِلَافُ في أَنَّ الْعَقْلَ مَحَلُّهُ مَاذَا مِمَّا يَلْتَبِسُ على كَثِيرٍ فَإِنَّهُمْ إنْ عَنَوْا بِهِ الْقُوَّةَ النَّاطِقَةَ على ما يَظْهَرُ من كَلَامِهِمْ فَخَطَأٌ لِأَنَّهُ لَيْسَتْ لها آلَةٌ وَلَا هِيَ مَنْسُوبَةٌ إلَى عُضْوٍ من الْأَعْضَاءِ وَإِنَّمَا الذي يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الْخِلَافُ فيه هل هِيَ الْقُوَّةُ الْمُفَكِّرَةُ التي تُنْسَبُ إلَى الدِّمَاغِ
____________________
(1/69)
وَهِيَ مُلْتَبِسَةٌ بِالْقُوَّةِ النَّاطِقَةِ من وَجْهَيْنِ كَوْنُهَا مُخْتَصَّةً بِالْإِنْسَانِ وَكَوْنُهَا مُمَيِّزَةً وَلِهَذَا الِالْتِبَاسِ ظَنُّوا أنها الْقُوَّةُ النَّاطِقَةُ وَحَكَوْا فيها الْخِلَافَ وَاَلَّذِي غَلَّطَهُمْ في ذلك عَكْسُ الْقَضِيَّةِ الْمُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ مِثْلَ نَفْسِهَا وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كانت الْقُوَّةُ النَّاطِقَةُ مُمَيِّزَةً مُخْتَصَّةً بِالْإِنْسَانِ عَكَسُوا الْقَضِيَّةَ فَقَالُوا كُلُّ قُوَّةٍ مُمَيِّزَةٍ خَاصَّةٍ بِالْإِنْسَانِ فَهِيَ قُوَّةٌ نَاطِقَةٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ في الْإِنْسَانِ قُوَّةٌ أُخْرَى مُمَيِّزَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ وَلَيْسَتْ النَّاطِقَةَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ هذه مَوْجُودَةٌ في الْإِنْسَانِ لها آلَةٌ جُسْمَانِيَّةٌ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ قُوَى النَّفْسِ فَهَذِهِ إذَنْ يَجِبُ النَّظَرُ في آلَتِهَا الدِّمَاغِ أو الْقَلْبِ فَأَمَّا الْقُوَّةُ النَّاطِقَةُ التي سَمَّوْهَا عَقْلًا فَلَيْسَتْ قُوَّةً في جِسْمٍ أَصْلًا وَلَا هِيَ جِسْمٌ وَلَا لها آلَةٌ جُسْمَانِيَّةٌ وَالْفَرْقُ بين تَمْيِيزَيْهِمَا أَنَّ تَمْيِيزَ الْمُفَكِّرَةِ شَخْصِيٌّ لِأَنَّهَا تُمَيِّزُ مَعْنَى الشَّيْءِ الْمُخَيَّلِ الْمُشَخَّصِ تَمْيِيزًا شَخْصِيًّا فَهِيَ تَالِيَةٌ لِلْقُوَّةِ الْمُتَخَيِّلَةِ كما أَنَّ الْمُتَخَيِّلَةَ تَالِيَةٌ لِلْقُوَّةِ الْحِسِّيَّةِ فَهِيَ إذَنْ أَكْثَرُ رُوحَانِيَّةً من التَّخَيُّلِيَّةِ وَلِهَذَا اخْتَصَّتْ بِالْإِنْسَانِ وَتَمْيِيزُ النَّاطِقَةِ كُلِّيٌّ وَهِيَ عَرِيَّةٌ من مُخَالَطَةِ الْجِسْمِ وَلَيْسَتْ من جِنْسِ الْقُوَى الْحَادِثَةِ الشَّخْصِيَّةِ فَافْتَرَقَا وَلَيْسَتْ رُوحَانِيَّتُهَا كَذَلِكَ فَلِذَلِكَ شَارَكَ فيها الْإِنْسَانُ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ وما يَتَفَرَّعُ على الْخِلَافِ في أَنَّ مَحَلَّهُ مَاذَا ما لو أُوضِحَ رَجُلٌ فَذَهَبَ عَقْلُهُ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ يَلْزَمُهُ دِيَةُ الْعَقْلِ وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَتْلَفَ عليه مَنْفَعَةً لَيْسَتْ في عُضْوِ الشَّجَّةِ تَبَعًا لها وقال أبو حَنِيفَةَ إنَّمَا عليه الْعَقْلُ فَقَطْ لِأَنَّهُ إنَّمَا شَجَّ رَأْسَهُ وَأَتْلَفَ عليه الْعَقْلَ الذي هو مَنْفَعَةٌ في الْعُضْوِ الْمَشْجُوجِ وَدَخَلَ أَرْشُ الشَّجَّةِ في الدِّيَةِ
____________________
(1/70)
النَّظَرُ في حَقِيقَتِهِ وَأَقْسَامِهِ وَشُرُوطِ صِحَّتِهِ حَقِيقَةُ الْحَدِّ أَمَّا حَقِيقَتُهُ فَالْقَوْلُ الدَّالُّ على مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ وَقِيلَ خَاصِّيَّةُ الشَّيْءِ على الْخِلَافِ في تَفْسِيرِ ما هو الْغَرَضُ بِالْحَدِّ هل حَصْرُ الذَّاتِيَّاتِ أو مُجَرَّدُ التَّمْيِيزِ كَيْفَ اتَّفَقَ أو الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ لِوَصْفٍ خَاصٍّ وهو يَرْجِعُ إلَى وَصْفِ الْمَحْدُودِ دُونَ قَوْلِ الْوَاصِفِ الْحَادِّ عِنْدَ مُعْظَمِ الْمُحَقِّقِينَ كما قال الْإِمَامُ في التَّلْخِيصِ وَتَبِعَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وقال إنَّهُ قَوْلُ مُعْظَمِ أَئِمَّتِنَا وقال الْقَاضِي يُرْجَعُ إلَى قَوْلِ الْوَاصِفِ وهو عِنْدَهُ الْقَوْلُ الْمُفَسِّرُ لِاسْمِ الْمَحْدُودِ وَصِفَتِهِ على وَجْهٍ يَخُصُّهُ وَيَحْصُرُهُ فَلَا يَدْخُلُ فيه ما ليس منه وَلَا يَخْرُجُ منه ما هو منه قال الْإِمَامُ وهو مُنْفَرِدٌ بِذَلِكَ من بَيْنِ أَصْحَابِهِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْحَدُّ وَالْحَقِيقَةُ عِنْدَنَا بِمَعْنًى لِأَنَّ حَقِيقَةَ الشَّيْءِ مَانِعَةٌ له من الِالْتِبَاسِ بِغَيْرِهِ نَاطِقَةٌ بِمَا ليس منه من الدُّخُولِ في حُكْمِهِ وَقَالَتْ الْفَلَاسِفَةُ هو الْجَوَابُ الصَّحِيحُ في سُؤَالٍ ما هو إذَا أَحَاطَ بِالْمَسْئُولِ عنه وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْحَدَّ قد يُذْكَرُ ابْتِدَاءً من غَيْرِ تَقَدُّمِ سُؤَالٍ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّ حَدَّ الشَّيْءِ مَعْنَاهُ الذي لِأَجْلِهِ اسْتَحَقَّ الْوَصْفَ الْمَقْصُودَ بِالذِّكْرِ وَتَسْمِيَةُ الْعِبَارَةِ عن الْحَدِّ مَجَازٌ وَمَعْنَى الْحَقِيقَةِ وَالْحَدِّ وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ لَفْظَ الْحَقِيقَةِ يُسْتَعْمَلُ في الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ وَالْجِسْمِ وَالْعَرَضِ وَلَفْظَ الْحَدِّ يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُهُ في الْحُجَّةِ قال وَاخْتَلَفُوا في الْعِلْمِ بِالْمَحْدُودِ هل يَجُوزُ حُصُولُهُ لِمَنْ لم يَكُنْ عَارِفًا بِحَدِّهِ وَحَقِيقَتِهِ أَجَازَهُ قَوْمٌ وقال أَصْحَابُنَا لَا يَجُوزُ وَلِذَلِكَ قالوا إنَّ من لم يَعْلَمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عِلْمًا وَقَدْرًا وَحَيَاةً لم يَعْلَمْهُ عَالِمًا قَادِرًا حَيًّا وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَالِمٌ قَادِرٌ حَيٌّ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الْعَالِمِ عَالِمًا عِلْمٌ بِعِلْمِهِ وَالنَّافِي لِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحَيَاتِهِ غَيْرُ عَالِمٍ بِكَوْنِهِ عَالِمًا قَادِرًا حَيًّا وَهَذَا قَوْلٌ يَطَّرِدُ على أَصْلِنَا في جَمِيعِ الْحُدُودِ وَفَرَّقَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا الْقُدَمَاءِ بين الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ قال الْحَدُّ ما اُسْتُعْمِلَ في الشَّيْءِ نَفْسِهِ وَالْحَقِيقَةُ ما جَازَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ في الشَّيْءِ وَضِدِّهِ قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ الشَّيْءُ له في الْوُجُودِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ الْأُولَى حَقِيقَتُهُ في نَفْسِهِ
____________________
(1/71)
وَالثَّانِيَةُ ثُبُوتُ مِثَالِ حَقِيقَتِهِ التي تَدُلُّ عليه من الذِّهْنِ الذي يُعَبَّرُ عنه بِالْعِلْمِ وَالثَّالِثَةُ تَأْلِيفُ صَوْتٍ بِحُرُوفٍ تَدُلُّ عليه وهو الْعِبَارَةُ الدَّالَّةُ على الْمِثَالِ الذي في النَّفْسِ وَالرَّابِعَةُ تَأْلِيفُ رُقُومٍ تُدْرَكُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ تَدُلُّ على اللَّفْظِ وهو الْكِتَابَةُ قال وَالْعَادَةُ لم تَجْرِ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْحَدِّ على الْعِلْمِ وَلَا على الْكِتَابَةِ بَلْ هو مُشْتَرَكٌ بين الْحَقِيقَةِ وَاللَّفْظِ وقال الْعَبْدَرِيُّ وما أَخَذُوهُ من حَدِّ الْحَدِّ هل الْمُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الذي في النَّفْسِ خَاصَّةً أَمْ اللَّفْظُ الدَّالُّ على ما في النَّفْسِ فَالْجَوَابُ فيه قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا الْمَعْنَى الذي في النَّفْسِ خَاصَّةً وَالثَّانِي الْمُرَادُ الْمَعْنَيَانِ جميعا لَا على أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا بَلْ على أَنَّهُ يُقَالُ على الْمَعْنَى الذي في النَّفْسِ فإنه أَوْلَى وَيُقَالُ على اللَّفْظِ بِحُكْمِ التَّبَعِ لِدَلَالَتِهِ على ما في النَّفْسِ مَذَاهِبُ اقْتِنَاصِ الْحَدِّ وفي اقْتِنَاصِ الْحَدِّ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ حَكَاهَا الْعَبْدَرِيُّ في الْمُسْتَوْفَى في شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى أَحَدُهَا وهو مَذْهَبُ أَفْلَاطُونَ أَنَّهُ يُقْتَنَصُ بِالتَّقْسِيمِ بِأَنْ تَأْخُذَ جِنْسًا من أَجْنَاسِ الْمَحْدُودِ وَتَقْسِمَهُ بِفُصُولِهِ الذَّاتِيَّةِ له ثُمَّ تَنْظُرَ الْمَحْدُودَ تَحْتَ أَيِّ فَصْلٍ هو من تِلْكَ الْفُصُولِ فإذا وَجَدْته ضَمَمْتَ ذلك الْفَصْلَ إلَى الْجِنْسِ الذي كُنْت أَخَذْته ثُمَّ تَنْظُرَ فَإِنْ كان مُسَاوِيًا لِلْمَحْدُودِ فَقَدْ وُجِدَ جِنْسُ الْحَدِّ وَفَصْلُهُ وَكَمَلَ الْحَدُّ وَإِنْ لم يَكُنْ مُسَاوِيًا له عَلِمْت أَنَّ ذلك الْجِنْسَ وَالْفَصْلَ إنَّمَا هو حَدٌّ لِجِنْسِ الْمَحْدُودِ لَا لِلْمَحْدُودِ فَتَأْخُذَ اسْمَ ذلك الْجِنْسِ بَدَلَ الْحَدِّ الْمَذْكُورِ وَتَقْسِمَهُ أَيْضًا إلَى فُصُولِهِ الذَّاتِيَّةِ ثُمَّ تَنْظُرَ الْمَحْدُودَ تَحْتَ أَيِّ فَصْلٍ فَتَأْخُذَهُ وَتَقْسِمَهُ إلَى ما تَقَدَّمَ من الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ ثُمَّ تَنْظُرَ هل هو مُسَاوٍ لَفْظًا وَحْدَهُ أَمْ لَا فَإِنْ سَاوَاهُ فَقَدْ تَمَّ الْحَدُّ وَإِلَّا فَعَلْت كما تَقَدَّمَ هَكَذَا وَالثَّانِي في مَذْهَبِ الْحَكِيمِ أَنَّهُ يُقْتَنَصُ بِطَرِيقِ التَّرْكِيبِ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ أَقْرَبُ من طَرِيقِ الْقِسْمَةِ وهو أَنْ تُجْمَعَ الْأَوْصَافُ التي تَصْلُحُ أَنْ تُحْمَلَ على الشَّيْءِ الْمَحْدُودِ كُلُّهَا ثُمَّ تَنْظُرَ ما فيها ذَاتِيٌّ وما فيها عَرَضِيٌّ فَتَطْرَحَ الْعَرَضِيَّ ثُمَّ تَرْجِعَ إلَى الذَّاتِيِّ فَتَأْخُذَ منها الْمَقُولَ في جَوَابِ ما هو فَتَجْمَعَهَا كُلَّهَا ثُمَّ تَطْرَحَ الْأَعَمَّ فَالْأَعَمَّ حتى تَنْتَهِيَ إلَى الْجِنْسِ الْأَقْرَبِ ثُمَّ تَرْجِعَ إلَى الْفُصُولِ فَتَجْمَعَهَا أَيْضًا كُلَّهَا ثُمَّ تَطْرَحَ الْأَبْعَدَ فَالْأَبْعَدَ حتى تَنْتَهِيَ إلَى الْفَصْلِ الْقَرِيبِ جِدًّا وَحِينَئِذٍ فَيَكْمُلُ
____________________
(1/72)
وَالثَّالِثُ مَذْهَبُ بُقْرَاطِيسَ أَنَّهُ يُقْتَنَصُ بِالْبُرْهَانِ وقد أَبْطَلُوهُ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إذَا سُلِكَ في اقْتِنَاصِهِ الْقِسْمَةُ أو التَّرْكِيبُ وكان لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهَا إلَّا بَعْدَ تَصَفُّحِ جَمِيعِ ذَاتِيَّاتِ الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ وَحْدَهُ كان الْحَدُّ الْمُقْتَنَصُ بهذا الطَّرِيقِ مَعْلُومًا فَأَوَّلُ الْعَقْلِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ فَإِذَنْ اقْتِنَاصُ الْحَدِّ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا بُدَّ في طَلَبِ الْبُرْهَانِ من وَسَطٍ يُحْمَلُ على الْمَحْكُومِ عليه على أَنَّهُ حَدٌّ له لَا على أَنَّهُ جِنْسٌ له وَلَا فَصْلٌ وَيُحْمَلُ عليه الْحُكْمُ على أَنَّهُ حَدٌّ له أَيْضًا مِثَالُهُ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ حَدَّ الْعِلْمِ الْمَعْرِفَةُ فَيُقَالَ لنا وما الدَّلِيلُ عليه فَلَا بُدَّ أَيْضًا من طَلَبِ وَسَطٍ يُحْمَلُ على الْعِلْمِ على أَنَّهُ حَدٌّ له وَتُحْمَلُ الْمَعْرِفَةُ عليه على أنها حَدٌّ له أَيْضًا وَلْيَكُنْ ذلك الْحَدُّ الِاعْتِقَادَ فَنَقُولُ لِكُلِّ عِلْمٍ بِالِاعْتِقَادِ يُؤْخَذُ له على أَنَّهُ حَدٌّ وَكُلُّ اعْتِقَادٍ يُؤْخَذُ الْعِلْمُ له على أَنَّهُ حَدٌّ فَالْمَعْرِفَةُ تُؤْخَذُ له على أنها حَدٌّ فَإِذَنْ كُلُّ عِلْمٍ فَالْمَعْرِفَةُ تُؤْخَذُ له على أنها حَدٌّ فَيُنَازَعُ في كل وَاحِدٍ من مُقَدِّمَتَيْ هذا الدَّلِيلِ لِأَنَّهَا حَدٌّ وَيُطْلَبُ الْبُرْهَانُ كما طُلِبَ على الْحَدِّ الْأَوَّلِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُبَيِّنَهَا بِدَلِيلَيْنِ فَيُنَازَعُ أَيْضًا في كل مُقَدِّمَةٍ من مُقَدِّمَتَيْ كل وَاحِدٍ من ذَيْنِك الدَّلِيلَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَتَسَلَّلَ الْأَمْرُ إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ وهو مُحَالٌ وَإِمَّا أَنْ يَقِفَ عِنْدَ أَمْرٍ بَيِّنٍ بِنَفْسِهِ مَسْأَلَةٌ صُعُوبَةُ الْحَدِّ ادَّعَى ابن سِينَا أَنَّ الْحُدُودَ في غَايَةِ الصُّعُوبَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى مَعْرِفَةِ الْمَاهِيَّاتِ الْمُخْتَلِفَةِ تَفْصِيلًا حتى يُعْلَمَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بين الْأَشْيَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ في شَيْءٍ وَاحِدٍ من الْمَاهِيَّةِ وَالْقَدْرُ الذي بِهِ يَنْفَصِلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ منها عن الْأُخْرَى وَلَا شَكَّ في صُعُوبَةِ مَعْرِفَتِهَا على هذا الْوَجْهِ وَبِهِ يَضْعُفُ تَرْكِيبُ الْحُدُودِ الْحَقِيقِيَّةِ لِلْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ في الْخَارِجِ الْمُطَابِقَةِ لها وَنَاقَضَهُ أبو الْبَرَكَاتِ الْبَغْدَادِيُّ في كِتَابِهِ الْمُعْتَبَرِ فقال الْحُدُودُ في غَايَةِ السُّهُولَةِ لِأَنَّ الْحُدُودَ هِيَ حُدُودُ الْأَسْمَاءِ وَالْأَسْمَاءُ أَسْمَاءُ الْأُمُورِ الْمَعْقُولَةِ وَكُلُّ أَمْرٍ مَعْقُولٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُعْقَلَ أَنَّ كَمَالَ الْمُشْتَرَكِ أَيْشٍ هو وَكَمَالُ جُزْءِ الْمَاهِيَّةِ أَيْشٍ هو فَكَانَ الْحَدُّ سَهْلًا من هذا الْوَجْهِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَلِجُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ في الْمَضَايِقِ وَيَمْنَعُ كَوْنَ الْحَدِّ هو الدَّالُّ على حَقِيقَةِ الشَّيْءِ بَلْ هو تَفْصِيلُ ما دَلَّ اللَّفْظُ عليه
____________________
(1/73)
إجْمَالًا وقال في الْمُلَخَّصِ الْإِنْصَافُ أَنَّهُ إنْ كان الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ منه تَفْصِيلَ مَدْلُولِ الِاسْمِ كان سَهْلًا وَإِنْ كان الْغَرَضُ مَعْرِفَةَ الْمَاهِيَّاتِ الْمَوْجُودَةِ كان ذلك في غَايَةِ الصُّعُوبَةِ فَحَصَلَ من هذا أَنَّ الْحُدُودَ الْكَاشِفَةَ لِلْمَاهِيَّاتِ الْمَوْجُودَةِ لَيْسَتْ عِبَارَةً عن تَفْصِيلِ ما دَلَّ اللَّفْظُ عليه إجْمَالًا بَلْ الْحَدُّ هو الْقَوْلُ الدَّالُّ على مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ وَصَنَّفَ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ رِسَالَةً بَيَّنَ فيها صُعُوبَةَ الْحَدِّ وقال الْعَبْدَرِيُّ في شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى الْعِلَّةُ في عُسْرِ حَدِّ بَعْضِ الْمُدْرَكَاتِ هو أَنَّ أَصْلَ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ كُلِّهَا الْحَوَاسُّ فإذا قَوِيَ الْحِسُّ على إدْرَاكِ أَمْرٍ مِمَّا اتَّضَحَتْ فُصُولُهُ الذَّاتِيَّةُ عِنْدَ الْعَقْلِ فَأَدْرَكَ حَقِيقَةَ مَاهِيَّتِهِ سَاغَ له حَدُّهُ وإذا ضَعُفَ الْحِسُّ عن إدْرَاكِ شَيْءٍ مِمَّا خَفِيَتْ فُصُولُهُ الذَّاتِيَّةُ عن الْعَقْلِ فلم يُدْرِكْ حَقِيقَتَهُ وَمَاهِيَّتَهُ لم يُقْدَرْ على حَدِّهِ وَمِنْ ذلك الرَّوَائِحُ وَالطُّعُومُ لَمَّا ضَعُفَ الْحِسُّ عن إدْرَاكِهَا عَسِرَ حَدُّهَا وقال ابن تَيْمِيَّةَ عُسْرُ الْحَدِّ مَبْنِيٌّ على اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِّ تَصَوُّرُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَأَصْلُ غَلَطِهِمْ أَنَّهُ اشْتَبَهَ عليهم ما في الْأَذْهَانِ بِمَا في الْأَعْيَانِ فإن هذه الْأُمُورَ قَائِمَةٌ بِصُورَةِ الْإِنْسَانِ سَوَاءٌ طَابَقَ أَمْ لَا وَلَيْسَ هو تَابِعًا لِلْحَقَائِقِ في نَفْسِهَا تَنْبِيهَاتٌ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ الْقَصْدُ من الْحَدِّ بَانَ مِمَّا سَبَقَ عن كَلَامِ أَئِمَّتِنَا أَنَّ الْقَصْدَ من الْحَدِّ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَلِهَذَا قال الْأَنْصَارِيُّ في شَرْحِ الْإِرْشَادِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْقَصْدُ من التَّحْدِيدِ في اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْفَرْقُ بِخَاصَّةِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ التي يَقَعُ بها الْفَصْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ا هـ وَلِهَذَا كان الِاضْطِرَادُ وَالِانْعِكَاسُ لَا يَتِمُّ الْحَدُّ إلَّا بِهِمَا وَأَمَّا الْمَنَاطِقَةُ فَقَالُوا إنَّ فَائِدَةَ الْحَدِّ التَّصْوِيرُ وَبَنَوْا على ذلك أُمُورًا سَتَأْتِي قال أبو الْعَبَّاسِ بن تَيْمِيَّةَ في كِتَابِ الرَّدِّ عليهم وَاَلَّذِي عليه جَمِيعُ الطَّوَائِفِ أَنَّ فَائِدَتَهُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وهو قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ صَنَّفَ في هذا الْبَابِ من أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُجَوِّزُ الْحَدَّ إلَّا بِمَا يُمَيِّزُ الْمَحْدُودَ لَكِنَّهُ لم يَهْتَدِ إلَى ما صَارَ إلَيْهِ أَئِمَّةُ الْكَلَامِ في هذا الْمَقَامِ وهو مَوْضِعٌ شَرِيفٌ يَنْبَغِي الْإِحَاطَةُ بِهِ فإن بِسَبَبِ إهْمَالِهِ دخل الْفَسَادُ في الْمَعْقُولِ وَالْأَدْيَانِ على كَثِيرٍ إذْ خَلَطُوا ما ذَكَرَهُ الْمَنْطِقِيُّونَ
____________________
(1/74)
في الْحُدُودِ بِالْعُلُومِ النَّبَوِيَّةِ وَصَارُوا يُعَظِّمُونَ أَمْرَ الْحُدُودِ وَنَحْنُ نُبَيِّنُ أَنَّ الْحُدُودَ لَا تُفِيدُ تَصْوِيرَ الْحَقَائِقِ وَطُولُ الْكَلَامِ في ذلك مِمَّا يُوقَفُ عليه من كَلَامِهِ قُلْت وَبَنَى الْمَنْطِقِيُّونَ على هذا الْأَصْلِ قَوَاعِدَ إحْدَاهَا قالوا الْحَدُّ لَا يُكْتَسَبُ بِالْبُرْهَانِ أَيْ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِبُرْهَانٍ وَعَقَدُوا الِاسْتِدْلَالَ عليه بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْبُرْهَانَ إنَّمَا يَكُونُ في الْقَضَايَا التي فيها حُكْمٌ وَالْحَدُّ لَا حُكْمَ فيه لِأَنَّهُ تَصَوُّرٌ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ مَمْنُوعٌ بَلْ الْحَقُّ أَنَّا إذَا قُلْنَا الْإِنْسَانُ مَثَلًا حَيَوَانٌ نَاطِقٌ فَلَهُ أَرْبَعُ اعْتِبَارَاتٍ أَحَدُهَا تَعْرِيفُ الْمَاهِيَّةِ وهو تَصَوُّرٌ لَا حُكْمَ فيه فَلَا يُسْتَدَلُّ عليه وَلَا يُمْنَعُ ثَانِيهَا دَعْوَى الْحَدِّيَّةِ وَهَذَا يُمْنَعُ وَيُسْتَدَلُّ بِبَيَانِ صَلَاحِيَةِ هذا الْحَدِّ لِلتَّعْرِيفِ من اطِّرَادِهِ وَانْعِكَاسِهِ وَصَرَاحَةِ أَلْفَاظِهِ ثَالِثَهَا دَعْوَى الْمَدْلُولِيَّةِ وهو أَنَّ هذا اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِهَذَا الْمَعْنَى لُغَةً أو شَرْعًا فَهَذَا يُمْنَعُ وَيُسْتَدَلُّ عليه وَهَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ في كِتَابِهِ نِهَايَةِ الْعُقُولِ وَكَذَلِكَ قَيَّدَ بِهِ ابن الْحَاجِبِ إطْلَاقَهُمْ مَنْعَ اكْتِسَابِهِ بِالْبُرْهَانِ قال أَمَّا لو أُرِيدَ بِالْإِنْسَانِ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ مَدْلُولُهُ لُغَةً أو شَرْعًا فَلَا بُدَّ له من النَّقْلِ رَابِعَهَا أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّ ذَاتَ الْإِنْسَانِ مَحْكُومٌ عليها بِالْحَيَوَانِيَّةِ وَالنَّاطِقِيَّةِ فَيَتَوَجَّهُ عليه الْمَنْعُ وَالْمُطَالَبَةُ وَلَا يَكُونُ ذلك حَدًّا بَلْ دَعْوًى ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ أَيْضًا وقال في الْمُلَخَّصِ هذا بِحَسَبِ الِاسْمِ أَمَّا إذَا كان بِحَسَبِ الْحَقِيقَةِ وهو أَنْ يُشِيرَ إلَى مَوْجُودٍ مُعَيَّنٍ وَيَزْعُمَ أَنَّ حَقِيقَتَهُ مُرَكَّبَةٌ من كَذَا وَكَذَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا بُدَّ فيه من الْحُجَّةِ وَاَلَّذِي أَطْلَقَهُ هُنَا ابن سِينَا في كُتُبِهِ امْتِنَاعُ الِاكْتِسَابِ لِلْحَدِّ بِطَرِيقِ الْبُرْهَانِ مُطْلَقًا وَذُكِرَ عن أَفْلَاطُونَ أَنَّهُ يُكْتَسَبُ بِالْقِسْمَةِ وَزَيَّفَهُ فَإِنْ قِيلَ ما ذَكَرْتُمُوهُ يَتَوَجَّهُ عليه النَّقْضُ وَالْمُعَارَضَةُ على الْحَدِّ وقد اتَّفَقَ النُّظَّارُ على تَوَجُّهِهِمَا ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ الْحَقَّ عِنْدَنَا أَنَّ الْحَدَّ ما لم يَنْضَمَّ إلَيْهِ شَيْءٌ من الدَّعَاوَى فإنه لَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ النَّقْضُ وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ النَّقْضُ على تَسْلِيمِ بُعْدِ الْحَدِّ
____________________
(1/75)
مِثَالُهُ إذَا قِيلَ الْعِلْمُ هو الذي يَصِحُّ من الْمَوْصُوفِ بِهِ أَحْكَامُ الْفِعْلِ فإذا قِيلَ هذا مَنْقُوضٌ بِالْعِلْمِ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَالَاتِ فإنه عِلْمٌ وَلَا يُفِيدُ أَحْكَامًا فَهَذَا النَّقْضُ إنَّمَا يَسْلَمُ بَعْدَ تَسْلِيمِ وُجُودِ الْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُحَالَاتِ فَلَوْ لم تَسْلَمْ هذه الدَّعْوَى لم يُمْكِنْ تَوَجُّهُ النَّقْضِ إلَيْهِ قال وَكَذَا الْمُعَارَضَةُ لَا يُمْكِنُ الْقَدَحُ بها في الْحَدِّ إلَّا عِنْدَ تَسْلِيمِ الدَّعْوَى وَإِلَّا فَالْحَقَائِقُ غَيْرُ مُتَعَانِدَةٍ في مَاهِيَّاتِهَا فإن من عَارَضَ هذا الْحَدَّ بِأَنَّهُ الِاعْتِقَادُ الْمُقْتَضِي سُلُوكَ النَّفْسِ فَلَيْسَ بين هَاتَيْنِ الْحَقِيقَتَيْنِ تَعَانُدٌ وإذا لم يَكُنْ بين الْحَقِيقَتَيْنِ مُنَافَاةٌ لم تَتَحَقَّقْ الْمُعَارَضَةُ في الْحُدُودِ الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ في الْحَقِيقَةِ مَبْنِيَّةٌ على ما قَبْلَهَا أَنَّ الْحَدَّ لَا يُمْنَعُ فإن الْمَنْعَ يُشْعِرُ بِطَلَبِ الدَّلِيلِ وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَا يُبَرْهَنُ عليه فَلَا مَعْنَى لِلْمَنْعِ وَبَيَانُ عَدَمِ الْإِمْكَانِ أَنَّهُ في إقَامَةِ الدَّلِيلِ عليه يَفْتَقِرُ إلَى إثْبَاتِ مُقَدِّمَتَيْنِ ثُمَّ في إثْبَاتِ كل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَفْتَقِرُ إلَى إثْبَاتِ مُقَدِّمَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ وَهَكَذَا إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ فَيَلْزَمُ إمَّا الدَّوْرُ أو التَّسَلْسُلُ وَهُمَا بَاطِلَانِ وقال أبو الْعَبَّاسِ بن تَيْمِيَّةَ يَجُوزُ مَنْعُ الْحَدِّ لِأَنَّهُ دَعْوَى فَجَازَ أَنْ يُصَادَمَ بِالْمَنْعِ كَغَيْرِهِ من الدَّعَاوَى وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ فإن مَرْجِعَ الْمَنْعِ طَلَبُ الْبُرْهَانِ وهو لَا يُمْكِنُ على ما قَرَّرُوهُ وَلَيْسَ كُلُّ دَعْوَى تُصَادَمُ بِالْمَنْعِ بِدَلِيلِ الْأَوَّلِيَّاتِ فإن الْكَلَامَ إذَا انْتَهَى إلَيْهَا وَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَهَا ولم يُسْمَعْ مَنْعُهَا وقال الْجَاجَرْمِيُّ في رِسَالَتِهِ إنَّ هذا يَنْشَأُ عن حَدِّ الْحَدِّ ما هو حتى يُنْظَرَ فيه أَنَّهُ هل يُمْنَعُ أَمْ لَا وَالْحَدُّ قد يَكُونُ حَقِيقِيًّا وقد يَكُونُ رَسْمِيًّا الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ وَالْحَدُّ الرَّسْمِيُّ فَنَقُولُ الْحَادُّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ هذا اللَّفْظَ وهو قَوْلُنَا إنْسَانٌ مَوْضُوعٌ لِلْحَيَوَانِ النَّاطِقِ أو يَدَّعِيَ أَنَّ ذَاتَ الْإِنْسَانِ مَحْكُومٌ عليها بِالْحَيَوَانِيَّةِ وَالنَّاطِقِيَّةِ أو يُرِيدَ بِقَوْلِهِ من الْإِنْسَانِ إنَّهُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ الْإِشَارَةَ إلَى هذه الْمَاهِيَّةِ الْمُتَصَوَّرَةِ من غَيْرِ حُكْمٍ عليها بِنَفْيٍ أو إثْبَاتٍ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ فَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ دَعْوَى فَلِمَاذَا لَا يُمْنَعُ وما الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الدَّعَاوَى لِأَنَّهُ في إقَامَةِ الدَّلِيلِ على كل مُقَدِّمَةٍ يَفْتَقِرُ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ وَذَلِكَ لَا يَدُورُ وَلَا يَتَسَلْسَلُ بَلْ يَنْتَهِي إلَى مُقَدِّمَةٍ أَوَّلِيَّةٍ أو قَطْعِيَّةٍ
____________________
(1/76)
وَكَذَا هُنَا قال وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ ما ذَكَرْنَا إجْمَاعُ النُّظَّارِ على النَّقْضِ وَالْمُعَارَضَةِ على الْحَدِّ وما يَتَوَجَّهُ عليه النَّقْضُ وَالْمُعَارَضَةُ يَتَوَجَّهُ عليه الْمَنْعُ لِأَنَّهُمَا مُتَأَخِّرَانِ في الرُّتْبَةِ عن الْمَنْعِ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ لَا نِزَاعَ في أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ لِأَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ نحو الْخَبَرِ وَلَا خَبَرَ هُنَاكَ ا هـ وَهَذَا يَنْظُرُ لِمَا سَبَقَ في طَلَبِ الْبُرْهَانِ عليه وَنَقْلُهُ الْإِجْمَاعَ على تَوْجِيهِ الْمُعَارَضَةِ أَخَذَهُ من كَلَامِ الْإِمَامِ السَّابِقِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ مَنَعَ بَعْضُهُمْ الْمُعَارَضَةَ فيه قال لِأَنَّهَا تُشْعِرُ بِصِحَّةِ الْمُعَارِضِ قَبْلَهُ فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ حَدَّيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ لِمَحْدُودٍ وَاحِدٍ وهو مُحَالٌ وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ إنْ كانت في حَدٍّ رَسْمِيٍّ فَلَا نُبْطِلُهُ فإنه يَجُوزُ فيه التَّعَدُّدُ على ما سَيَأْتِي لِتَعَدُّدِ اللَّوَازِمِ وَإِنْ كانت في الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ وَقُلْنَا ليس لِشَيْءٍ حَدَّانِ ذَاتِيَّانِ فَالْمُعَارَضَةُ إبْطَالٌ وَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِهِ فَلَا إبْطَالَ فيها وَأَمَّا الْحَدُّ اللَّفْظِيُّ فَلَا مَدْخَلَ لِلْمَنْعِ فيه وَلَا لِلْمُعَارَضَةِ قَطْعًا وقال الرَّشِيدُ الْحَوَارِيُّ إنَّمَا تَدْخُلُهُ الْمُعَارَضَةُ بِحَدٍّ أَرْجَحَ منه أو النَّقْضُ كما لو قِيلَ حَدُّ الْغَصْبِ إثْبَاتُ الْيَدِ الْعَادِيَةِ على مَالٍ لِلْغَيْرِ وقال الْخَصْمُ بَلْ إثْبَاتُ الْيَدِ الْعَادِيَةِ مع إزَالَةِ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ فيقول هذا يَبْطُلُ بِالْغَاصِبِ من الْغَاصِبِ فإنه لم يُوجَدْ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ وَالْغَصْبُ مُحَقَّقٌ قال وقد يَتَكَايَسُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَيَقُولُ الْحَدُّ لَا يُمْنَعُ بَعْدَمَا ثَبَتَ كَوْنُهُ حَدًّا وَلَكِنْ لِمَ قُلْت إنَّمَا ذَكَرْته حَدٌّ وَهَذَا لَا وَجْهَ له لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ الْحَدُّ لَا يُمْنَعُ أَيْ ما يُدَّعَى كَوْنُهُ حَدًّا لَا يُمْنَعُ وَإِلَّا كُلُّ ما صَحَّ كَوْنُهُ حَدًّا فَلَا يُمْكِنُ مَنْعُهُ ثُمَّ كُلُّ دَعْوَى ادَّعَاهَا الْإِنْسَانُ وَصَحَّ أَنَّ الْأَمْرَ كما يَقُولُهُ فَلَا يُمْكِنُ مَنْعُهُ فَلَا يَخْتَصُّ هذا بِالْحَدِّ
____________________
(1/77)
التَّنْبِيهُ الثَّانِي حَدُّ الشَّيْءِ بِحَدَّيْنِ فَأَكْثَرَ مَنَعُوا أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ حَدَّانِ فَأَكْثَرُ وَحَكَى الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في كِتَابِهِ الْإِفَادَةِ فيه خِلَافًا وَاخْتَارَ الْجَوَازَ قال وَلَا يَمْتَنِعُ في اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ عِدَّةُ أَوْصَافٍ كُلُّ وَاحِدٍ منها يَحْصُرُهُ وَكَمَا قالوا في الْحَرَكَةِ نَقْلَةٌ وَزَوَالٌ وَذَهَابٌ في جِهَةٍ وَقَوْلُهُمْ إنَّ التَّعَدُّدَ يُؤَدِّي إلَى الْمُنَاقَضَةِ وَيَبْطُلُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ حَقًّا مَمْنُوعٌ ا هـ وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ تُفِيدُ أَنَّ نِزَاعَهُمْ في الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ وَعَلَى هذا احْتِجَاجُهُ بِمَا ذُكِرَ لَا يَقْوَى لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ في جَوَازِ التَّعَدُّدِ في اللَّفْظِيِّ وَالرَّسْمِيِّ وقد نَبَّهَ ابن الْحَاجِبِ على أَنَّ امْتِنَاعَ تَعَدُّدِ الْحَدَّيْنِ الذَّاتِيَّيْنِ مَبْنِيٌّ على تَفْسِيرِ الذَّاتِيِّ بِمَا لَا يُتَصَوَّرُ فَهْمُ الذَّاتِيِّ قبل فَهْمِهِ فإن الْقَصْدَ بِهِ فَهْمُ ذَاتِيَّاتِهِ على سَبِيلِ التَّفْصِيلِ وَلَا يَحْصُلُ ذلك حين فُهِمَ جَمِيعُ ذَاتِيَّاتِهَا لِأَجْلِ التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ وَوُجُودُ اشْتِمَالِهِ على ذلك مَانِعٌ من التَّعَدُّدِ وَسَكَتَ عَمَّا يَقْتَضِيهِ التَّعْرِيفَانِ الْأَخِيرَانِ لِلذَّاتِيِّ بَلْ قَضِيَّتُهُ أَنَّهُمَا لَا يَقْتَضِيَانِ امْتِنَاعَ التَّعَدُّدِ وَمِنْهُ يُؤْخَذُ خِلَافٌ في التَّعَدُّدِ في الْحَقِيقِيِّ وقد صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ بِجَوَازِ التَّعَدُّدِ في الرَّسْمِيِّ وَاللَّفْظِيِّ أَمَّا اللَّفْظِيُّ فَلِأَنَّهُ يَكْثُرُ بِكَثْرَةِ الْأَسَامِي الْمَوْضُوعَةِ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَأَمَّا الرَّسْمِيُّ فَلِأَنَّ عَوَارِضَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَلَوَازِمَهُ قد تَكْثُرُ بِخِلَافِ الْحَقِيقِيِّ فإن الذَّاتِيَّاتِ مَحْصُورَةٌ فَإِنْ لم يَذْكُرْهَا لم يَكُنْ حَدًّا حَقِيقِيًّا وَإِنْ ذَكَرَ مَعَهَا زِيَادَةً فَهِيَ حَشْوٌ فَإِذَنْ الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ لَا يَتَعَدَّدُ التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ الْفَصْلُ هل هو عِلَّةٌ لِوُجُودِ الْجِنْسِ ؟ اخْتَلَفُوا أَنَّ الْفَصْلَ هل هو عِلَّةٌ لِوُجُودِ الْجِنْسِ فقال ابن سِينَا وَغَيْرُهُ نعم لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ جِنْسٍ مُجَرَّدٍ عن الْفُصُولِ كَالْحَيَوَانِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَخَالَفَهُمْ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ لِأَنَّ الْمَاهِيَّةَ الْمُرَكَّبَةَ من ذَاتٍ وَصِفَةٍ أَخَصُّ منها كَالْحَيَوَانِ الْكَاتِبِ يَكُونُ الذَّاتُ جِنْسَهَا وَالصِّفَةُ فَصْلَهَا مع امْتِنَاعِ كَوْنِ الصِّفَةِ عِلَّةً
____________________
(1/78)
لِلذَّاتِ لِتَأَخُّرِهَا عنها وَهَذَا يُعَكِّرُ عليه أَنَّ تِلْكَ الْمَاهِيَّةَ اعْتِبَارِيَّةٌ وَالْكَلَامُ في الْمَاهِيَّاتِ الْحَقِيقِيَّةِ وَيَتَفَرَّعُ على الْعِلَّةِ أَحْكَامٌ منها أَنَّ الْفَصْلَ الْوَاحِدَ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّوْعِ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ جِنْسًا له بِاعْتِبَارٍ آخَرَ كما ظَنَّ جَمَاعَةٌ أَنَّ النَّاطِقَ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ فَصْلٌ لِلْإِنْسَانِ وَإِلَى الْمَلَكِ جِنْسٌ له وَالْحَيَوَانُ بِالْعَكْسِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفَصْلَ لو كان جِنْسًا لَكَانَ مَعْلُولًا لِلْجِنْسِ الْمَعْلُولِ له فَيَكُونُ الْمَعْلُولُ عِلَّةً لِعِلَّتِهِ وهو مُمْتَنِعٌ وَمِنْهَا أَنَّ الْفَصْلَ لَا يُقَارِنُ إلَّا جِنْسًا وَاحِدًا فإنه لو قَارَنَ جِنْسَيْنِ في مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ حتى يَلْتَئِمَ من الْفَصْلِ وَأَحَدِ الْجِنْسَيْنِ مَاهِيَّةٌ وَمِنْهُ وَمِنْ الْآخَرِ أُخْرَى لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ لِمَاهِيَّةٍ وَاحِدَةٍ جِنْسَانِ في مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ يَلْزَمُ تَخَلُّفُ الْمَعْلُولِ عن الْعِلَّةِ ضَرُورَةَ وُجُودِ الْفَصْلِ في كل وَاحِدٍ من الْمَاهِيَّتَيْنِ وَعَدَمِ جِنْسِ ما لَزِمَهَا في الْأُخْرَى وَمِنْهَا أَنَّ الْفَصْلَ لَا يُقَوِّمُ إلَّا نَوْعًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ قد ثَبَتَ امْتِنَاعُ أَنْ يُقَارِنَهُ إلَّا جِنْسٌ وَاحِدٌ وَمِنْهَا أَنَّ الْفَصْلَ الْقَرِيبَ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدًا فإنه لو تَعَدَّدَ لَزِمَ تَوَارُدُ عِلَّتَيْنِ على مَعْلُولٍ وَاحِدٍ بِالذَّاتِ وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ تَكْثِيرَ الْفُصُولِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْفَصْلَ لَا تَجُوزُ زِيَادَتُهُ على وَاحِدٍ لِأَنَّهُ يَقُومُ لِوُجُودِ حِصَّةِ النَّوْعِ من الْجِنْسِ فَإِنْ كَفَى الْوَاحِدُ في التَّقْوِيمِ اُسْتُغْنِيَ عن الْآخَرِ وَإِلَّا لم يَكُنْ فَصْلًا وَحَيْثُ وُجِدَ في كَلَامِ الْعُلَمَاءِ تَعَدُّدُ الْفُصُولِ بِقَوْلِهِمْ فَصْلٌ ثَانٍ وَثَالِثٌ فَلَا تَحْقِيقَ في هذه الْعِبَارَةِ فإن الْمَجْمُوعَ فَصْلٌ وَاحِدٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِمَّا جَعَلُوهُ فَصْلًا هو جُزْءُ الْفَصْلِ وَلَمَّا ذَهَبَ الْإِمَامُ إلَى بُطْلَانِ قَاعِدَةِ الْعِلِّيَّةِ جَوَّزَ الْفُرُوعَ الثَّلَاثَةَ الْأَوَّلُ لِجَوَازِ تَرْكِيبِ الشَّيْءِ من أَمْرَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا أَعَمُّ من الْآخَرِ من وَجْهٍ كَالْحَيَوَانِ وَالْأَبْيَضِ فَالْمَاهِيَّةُ إذَنْ تَرَكَّبَتْ مِنْهُمَا لِكَوْنِ الْحَيَوَانِ جِنْسًا وَالْأَبْيَضِ فَصْلًا لها بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَيَوَانِ الْأَسْوَدِ وَبِالْعَكْسِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَمَادِ الْأَبْيَضِ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا جِنْسًا وَفَصْلًا وهو الْحُكْمُ الْأَوَّلُ وَفَصْلًا يُقَارِنُ جِنْسَيْنِ له من الْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ وَالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ وهو الْحُكْمُ الثَّانِي الْمُسْتَلْزِمُ لِلثَّالِثِ وقال ابن وَاصِلٍ ذَهَبَ الْإِمَامُ إلَى أَنَّ الْفَصْلَ الْوَاحِدَ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ قد يَكُونُ جِنْسًا له وَيَجُوزُ اقْتِرَانُهُ بِجِنْسَيْنِ فَيَكُونُ مُقَوِّمًا لِنَوْعَيْنِ وَذَلِكَ في الْمَاهِيَّةِ الْمُرَكَّبَةِ من قَيْدَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعَمُّ من الْآخَرِ من وَجْهٍ كَالْحَيَوَانِ الْأَبْيَضِ فإن
____________________
(1/79)
الْحَيَوَانَ يَصْدُقُ على الْأَبْيَضِ وَغَيْرِهِ وَالْأَبْيَضَ يَصْدُقُ على الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ فَإِنْ جَعَلْت الْحَيَوَانَ جِنْسًا لِهَذِهِ الْمَاهِيَّةِ كان الْأَبْيَضُ فَصْلًا لها وَإِنْ جَعَلْت الْأَبْيَضَ جِنْسًا لها كان الْحَيَوَانُ فَصْلًا قال ابن وَاصِلٍ وَاَلَّذِي نَقُولُهُ إنَّا نَمْنَعُ أَنَّ مَاهِيَّتَهُ في نَفْسِ الْأَمْرِ تَتَأَلَّفُ عن هَذَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ وَإِنَّمَا يَتَأَلَّفُ عنهما مَاهِيَّةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ وَكَلَامُنَا إنَّمَا هو في الْمَاهِيَّاتِ الْمَوْجُودَةِ في الْخَارِجِ الْحَقِيقِيَّةِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ شيئا منها يَتَرَكَّبُ مِمَّا هذا شَأْنُهُ أَقْسَامُ الْحَدِّ وَأَمَّا أَقْسَامُهُ فَحَقِيقِيٌّ وَرَسْمِيٌّ وَمِنْهُمْ من يقول ثَلَاثَةٌ وَيَزِيدُ اللَّفْظِيَّ وَعَلَيْهِ جَرَى ابن الْحَاجِبِ وما ذَكَرْنَا أَحْسَنُ لِأَنَّ الْحَدَّ نُطْقٌ يُفِيدُ تَصَوُّرَ الْمَنْطُوقِ بَعْدَ أَنْ لم يَكُنْ وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ حَاصِلٍ من اللَّفْظِيِّ لِمَا سَنَذْكُرُهُ فَالْحَقِيقِيُّ هو ما اشْتَمَلَ على مُقَوِّمَاتِ الشَّيْءِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالْخَاصَّةِ وَالرَّسْمِيُّ ما اشْتَمَلَ على عَوَارِضِهِ وَخَوَاصِّهِ اللَّازِمَةِ وَرُبَّمَا قِيلَ إنَّهُ اللَّفْظُ الشَّارِحُ لِلشَّيْءِ بِحَيْثُ يُمَيِّزُهُ عن غَيْرِهِ وهو الْمَوْجُودُ في أَكْثَرِ التَّعْرِيفَاتِ فإن الْحَدَّ الْحَقِيقِيَّ يَعِزُّ وُجُودُهُ كما قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ فَلِذَلِكَ كان الْأَكْثَرُ هو الرَّسْمِيُّ فإن الْحَقِيقِيَّ يَتَوَقَّفُ على مَعْرِفَةِ جَمِيعِ الذَّاتِيَّاتِ وَغَيْرِهَا وَتَرْتِيبِهَا على الْوَجْهِ الصَّحِيحِ وقد يَتَعَذَّرُ بَعْضُ ذلك وَمِنْهُمْ من يقول ليس الْحَدُّ إلَّا وَاحِدًا وهو الْحَقِيقِيُّ وَأَمَّا التَّعْرِيفُ بِالرَّسْمِ وَاللَّفْظِ فَلَا يُسَمَّى حَدًّا فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ وَعَلَى الْأَوَّلَيْنِ فذكر الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْحَدَّ يُطْلَقُ على مُسَمَّيَاتِهِ بِالِاشْتِرَاكِ كَدَلَالَةِ الْعَيْنِ على الْبَاصِرَةِ وَالذَّهَبِ وَغَيْرِهِمَا وَالْحَقُّ أَنَّ دَلَالَتَهُ عليها دَلَالَةُ التَّوَاطُؤِ كَدَلَالَةِ لَفْظِ الْحَيَوَانِ على ما تَحْتَهُ من الْأَنْوَاعِ ثُمَّ الذي اصْطَلَحَ عليه الْجُمْهُورُ أَنَّ التَّعْرِيفَ إنْ كان بِالْجِنْسِ الْقَرِيبِ وَالْفَصْلِ فَهُوَ الْحَدُّ التَّامُّ وهو تَعْرِيفٌ بِجَمِيعِ الْأَجْزَاءِ وَإِنْ كان بِبَعْضِ الْأَجْزَاءِ وَذَلِكَ الْبَعْضُ مُسَاوٍ لِلْمَاهِيَّةِ فَهُوَ الْحَدُّ النَّاقِصُ كَالتَّعْرِيفِ بِالْفَصْلِ فَقَطْ كَالنَّاطِقِ أو بِالْجِنْسِ بِالْبَعِيدِ معه كَالْجِسْمِ النَّاطِقِ وَإِنْ كان التَّعْرِيفُ بِجُزْءِ الْمَاهِيَّةِ مع الْخَارِجِ عنها فَهُوَ الرَّسْمُ التَّامُّ كَالْحَيَوَانِ الضَّاحِكِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذلك الْجُزْءُ أَعَمَّ
____________________
(1/80)
أَمَّا لو قُلْت النَّاطِقُ الضَّاحِكُ فَالْحَدُّ هو النَّاطِقُ وَالضَّاحِكُ حِينَئِذٍ ليس من أَقْسَامِ التَّعْرِيفَاتِ وَإِنْ كان التَّعْرِيفُ بِالْخَارِجِ وَحْدَهُ فَهُوَ الرَّسْمُ النَّاقِصُ كَالضَّاحِكِ وَإِنْ كان بِتَبْدِيلِ لَفْظٍ بِلَفْظٍ أَجْلَى منه عِنْدَ السَّامِعِ فَهُوَ اللَّفْظِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى اللُّغَةِ وَلَيْسَ من الْحُدُودِ في شَيْءٍ وَمَنْ اشْتَرَطَ الْأَجْلَى يَعْلَمُ أَنَّ الْوَاقِعَ في كُتُبِ اللُّغَةِ من تَعْرِيفِ أَحَدِ الْمُتَرَادِفَيْنِ بِالْآخَرِ مع اسْتِوَائِهِمَا في الشُّهْرَةِ لَا يُسَمَّى حَدًّا لَفْظِيًّا اصْطِلَاحًا كَيْفِيَّةُ تَرْكِيبِ الْحَدِّ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ تَرْكِيبِهِ فَمِنْ شَيْئَيْنِ وَهُمَا مَادَّتُهُ وَصُورَتُهُ وَالْمُرَادُ بِهِمَا جِنْسُهُ وَفَصْلُهُ وَأَمَّا جِنْسُهُ فَيَقُومُ مَقَامَ مَادَّتِهِ ذلك الْمُعَيَّنُ وَأَمَّا فَصْلُهُ فَيَقُومُ مَقَامَ صُورَتِهِ ذلك الْمُعَيَّنُ كَذَا اقْتَصَرَ الْغَزَالِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ كَالْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ على ذِكْرِ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ ولم يَتَعَرَّضَا لِلْفَاعِلِيَّةِ وَالْغَائِيَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا وُضِعَ لِيُبَيِّنَ صُورَةَ الشَّيْءِ إذْ الصُّورَةُ إنَّمَا هِيَ كَمَالُ وُجُودِ الشَّيْءِ وَهِيَ أَشْرَفُ ما بِهِ قِوَامُهُ فَلِهَذَا وَجَبَ أَنْ تُوجَدَ أَجْزَاءُ الْحَدِّ من جِهَةِ الصُّورَةِ لَا من جِهَةٍ غَيْرِهَا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إذَا أُوجِدَ الْحَدُّ بِجِنْسِهِ وَفَصْلِهِ صُوِّرَ الشَّيْءُ بِصُورَتِهِ التي هِيَ أَكْمَلُ من مَادَّتِهِ وَأَرَدْنَا كَمَالَ الْحَدِّ بِذِكْرِ بَاقِي أَسْبَابِ وُجُودِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ تُذْكَرَ في الْحَدِّ على جِهَةِ التَّبَعِ فَيَكُونُ الْحَدُّ حِينَئِذٍ كَامِلًا قد كَمُلَتْ فيه جَمِيعُ أَسْبَابِ الشَّيْءِ الدَّاخِلَةِ في ذَاتِهِ وَهُمَا مَادَّتُهُ وَصُورَتُهُ وَالْخَارِجَةُ عن ذَاتِهِ وَهُمَا فَاعِلُهُ وَغَايَتُهُ وَكَذَا قال الْعَبْدَرِيُّ في شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى قال وَتَرْتِيبُهُ فيها على تَرْتِيبِهَا في السَّبَبِيَّةِ فَتُؤْخَذُ الصُّورَةُ أَوَّلًا التي هِيَ أَقْوَى سَبَبَيْ الشَّيْءِ الدَّاخِلَيْنِ في ذَاتِهِ ثُمَّ تُتْبَعُ بِالْمَادَّةِ ثُمَّ بِالْخَارِجَيْنِ عن ذَاتِهِ فَيَكُونُ هذا الْحَدُّ أَكْمَلَ الْحُدُودِ وَلَوْ اقْتَصَرْنَا على صُورَتِهِ لَكَفَى لَكِنَّ هذا أَكْمَلُ انْتَهَى شُرُوطُ صِحَّةِ الْحَدِّ وَأَمَّا شُرُوطُ صِحَّتِهِ فَمِنْهَا ما يَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ وَمِنْهَا ما يَرْجِعُ إلَى الْمَعْنَى فَمِنْ الْمَعْنَوِيَّةِ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا لِسَائِرِ أَفْرَادِ الْمَحْدُودِ وَهَذَا هو الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ الِاطِّرَادُ وَمَانِعًا عن دُخُولِ غَيْرِ الْمَحْدُودِ في الْحَدِّ وهو الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ الِانْعِكَاسُ قَالَهُ الْقَرَافِيُّ
____________________
(1/81)
وقال الْغَزَالِيُّ وابن الْحَاجِبِ الْمُطَّرِدُ هو الْمَانِعُ وَالْمُنْعَكِسُ هو الْجَامِعُ وَهَذَا هو الصَّوَابُ أَوْفَقُ لِلِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ فإن الْمَفْهُومَ من قَوْلِنَا اطَّرَدَ كَذَا أَنَّهُ وُجِدَ وَاسْتَمَرَّ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الطَّرْدِ الْوُجُودَ في جَمِيعِ الصُّوَرِ وَإِنَّمَا صَوَّبْنَا الثَّانِيَ لِأَنَّ مَعْنَى وَصْفِهِ بِالِاطِّرَادِ أَنَّ تَعْرِيفَهُ لِلْمَحْدُودِ مُطَّرِدٌ وَهَذَا الذي تَحَقَّقَ وَصْفُهُ بِالْحَدِّ فَالْمُرَادُ اطِّرَادُ التَّعْرِيفِ تَنْبِيهٌ هل الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ شَرْطُ الصِّحَّةِ أو دَلِيلُهَا خِلَافٌ حَكَاهُ الْأَنْبَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ فَإِنْ كان شَرْطًا لم يَلْزَمْ من وُجُودِهِ صِحَّةُ الْحَدِّ وَيَلْزَمُ من الِانْتِفَاءِ الْفَسَادُ وَإِنْ كان دَلِيلُ الصِّحَّةِ لَزِمَ من الْوُجُودِ الصِّحَّةُ ولم يَلْزَمْ من الِانْتِفَاءِ الْفَسَادُ قال وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ شَرْطٌ لَا دَلِيلٌ لِأَنَّا نَجِدُ حُدُودًا مُطَّرِدَةً وَمُنْعَكِسَةً وَلَا يَحْصُلُ منها مَقْصُودُ الْبَيَانِ وهو الْمُرَادُ بِالصِّحَّةِ كَقَوْلِنَا الْعِلْمُ ما عَلِمَهُ اللَّهُ عِلْمًا فَهَذَا وَإِنْ كان يَطَّرِدُ وَيَنْعَكِسُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَأَمَّا قَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ عُرِفَتْ صِحَّتُهُ بِاطِّرَادِهِ وَانْعِكَاسِهِ فَتَجَوُّزٌ ا هـ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ أَجْمَعُوا على أَنَّ شَرْطَ الْحَدِّ الِاطِّرَادُ وَالِانْعِكَاسُ وما اطَّرَدَ ولم يَنْعَكِسْ جَرَى مَجْرَى الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أو الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ أَخْفَى من الْمَحْدُودِ وَلَا مُسَاوِيًا له في الْخَفَاءِ وَعِبَارَةُ الْأُسْتَاذِ أبي مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيِّ بِأَنْ تَكُونَ الْعِبَارَةُ أَوْضَحَ منه وَأَسْبَقَ إلَى فَهْمِ السَّامِعِ وَأَنْ يَكُونَ شَائِعًا في جَمِيعِ أَحْوَالِ الْمَحْدُودِ وَلَا يَجُوزُ تَحْدِيدُ الشَّيْءِ بِمَا يَكُونُ عِلَّتَهُ في بَعْضِ الْأَحْوَالِ تَنْبِيهٌ الْخَفَاءُ هل يُعْتَبَرُ الْخَفَاءُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَادِّ أو إلَى كل أَحَدٍ مِثَالُهُ النَّفْسُ أَخْفَى من النَّارِ فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ شَخْصًا عَرَّفَ نَفْسَهُ أَجْلَى من النَّارِ فَهَلْ تُحَدُّ له النَّارُ بِأَنَّهَا جِسْمٌ كَالنَّفْسِ مُقْتَضَى كَلَامِهِمْ الْمَنْعُ وَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُرَكَّبًا على اخْتِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فَعِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ لَا بُدَّ في
____________________
(1/82)
الْحَدِّ من التَّرْكِيبِ وَمَنَعَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ منهم إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَنَقَلَهُ عن كَثِيرٍ من الْمُتَكَلِّمِينَ قال وَإِلَيْهِ يَمِيلُ شَيْخُنَا أبو الْحَسَنِ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْإِفَادَةِ الصَّحِيحُ جَوَازُهُ وَمَنْ مَنَعَهُ اعْتَبَرَهُ بِالْعِلَّةِ وهو فَاسِدٌ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في تَرْكِيبِ الْحَدِّ من وَصْفَيْنِ فَأَكْثَرَ فَمَنَعَ الشَّيْخُ أبو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ الْجَمْعَ بين مَعْنَيَيْنِ في حَدٍّ وَاحِدٍ إذَا أَمْكَنَ إفْرَادُ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ عن الْآخَرِ وَلِهَذَا اخْتَارَ في حَدِّ الْجِسْمِ أَنَّهُ الطَّوِيلُ الْعَرِيضُ الْعَمِيقُ وَاخْتَارَ الْبَاقُونَ من أَصْحَابِنَا تَرْكِيبَ الْحَدِّ من وَصْفَيْنِ وَأَكْثَرَ وهو الصَّحِيحُ عِنْدَنَا وَزَعَمَتْ الْفَلَاسِفَةُ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَكُونُ إلَّا مُرَكَّبًا من جِنْسٍ وَفَصْلٍ وَزَعَمُوا أَنَّ ما اطَّرَدَ بِوَصْفٍ وَاحِدٍ وَانْعَكَسَ فَهُوَ رَسْمٌ لَا حَدٌّ وَلِهَذَا قالوا إنَّ قَوْلَنَا الْإِنْسَانُ هو الضَّاحِكُ رَسْمٌ وَقَوْلُهُمْ الْإِنْسَانُ حَيٌّ نَاطِقٌ مَائِتٌ حَدٌّ لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ من جِنْسٍ وَفَصْلٍ انْتَهَى وَاعْلَمْ أَنَّهُ ليس الْمُرَادُ بِمَنْعِ التَّرْكِيبِ تَكْلِيفَ الْمَسْئُولِ أَنْ يَأْتِيَ في حَدِّ ما يُسْأَلُ عنه بِعِبَارَةٍ وَاحِدَةٍ إذْ الْمَقْصُودُ اتِّحَادُ الْمَعْنَى بِدُونِ اللَّفْظِ وَالْعِبَارَاتُ لَا تُقْصَدُ لِأَنْفُسِهَا وَلَيْسَتْ هِيَ حُدُودًا بَلْ مُنْبِئَةٌ عن الْحُدُودِ تَنْبِيهٌ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأُسْتَاذِ أَنَّ خِلَافَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمَنْطِقِيِّينَ في مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ وقال الْمُقْتَرِحُ لم يَتَوَارَدْ كَلَامُهُمَا على مَحَلٍّ وَاحِدٍ بَلْ الْمُرَادَانِ مُتَغَايِرَانِ فَمُرَادُ الْمَنْطِقِيِّينَ بِالتَّرْكِيبِ هو الْمُرَكَّبُ من جِنْسٍ وَفَصْلٍ وهو صَحِيحٌ في الْحَدِّ وَالتَّرْكِيبُ الذي أَرَادَهُ الْأُصُولِيُّونَ هو تَدَاخُلُ الْحَقَائِقِ وهو مُبْطِلٌ لِلْمَحْدُودِ مِثَالُهُ إذَا حُدَّ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ الذي يَصِحُّ من الْمُتَّصِفِ بِهِ إحْكَامُ الْفِعْلِ وَإِتْقَانُهُ فَيُقَالُ هذا فيه تَرْكِيبٌ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فيه الْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ فَتَكُونُ الْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ عِلْمًا وَلِأَنَّهُ إنْ كانت الْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ دَاخِلَتَيْنِ في الْعِلْمِ لَزِمَ التَّرْكِيبُ الْمُفْسِدُ لِلْحَدِّ وَإِنْ كَانَتَا خَارِجَتَيْنِ عن الْعِلْمِ فَالْعِلْمُ بِانْفِرَادِهِ لَا يَصِحُّ بِهِ الْإِحْكَامُ لِأَنَّ الْعَالِمَ الْعَاجِزَ لَا يُتَصَوَّرُ منه الْإِحْكَامُ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ
____________________
(1/83)
فَرْعٌ التَّحْدِيدُ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى التَّقْسِيمِ قال الْأُسْتَاذُ اخْتَلَفُوا في التَّحْدِيدِ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى التَّقْسِيمِ فَالْمَانِعُونَ من تَرْكِيبِ الْحَدِّ مَنَعُوهُ وَأَجَازَهُ أَكْثَرُ من أَجَازَ التَّرْكِيبَ نحو الْخَبَرُ ما كان صِدْقًا أو كَذِبًا وَحَقِيقَةُ الْوُجُودِ ما كان قَدِيمًا أو مُحْدَثًا وَحَكَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ في أَنَّ التَّقْسِيمَ في الْحَدِّ هل يُفْسِدُهُ أَحَدُهَا نعم لِأَنَّ الْمَسْئُولَ عنه بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَالتَّقْسِيمُ يَقْتَضِي التَّعَدُّدَ لِأَنَّ حَرْفَ أو لِلتَّرَدُّدِ وهو مُنَافٍ لِلتَّعْرِيفِ وَالثَّانِي لَا لِأَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا وَلَا تَرَدُّدَ فيه وَالثَّالِثُ وَصَحَّحَهُ إنْ كان التَّقْسِيمُ من نَفْسِ الْحَدِّ أَفْسَدَهُ وَإِنْ كان خَارِجًا عنه لِمَقْصُودِ الْبَيَانِ لم يُفْسِدْهُ قال وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّقْسِيمُ من نَفْسِ الْحَدِّ إذَا كان بِحَيْثُ إذَا أُسْقِطَ من الْحَدِّ وَرَدَ عليه ما يُبْطِلُهُ وَمِنْهَا قالوا لَا يَجُوزُ أَنْ تُصَدَّرَ الْحُدُودُ بِلَفْظَةِ كُلٍّ هَكَذَا أَطْلَقُوهُ وكان مَقْصُودُهُمْ بِاعْتِبَارِ الْكُلِّيَّةِ أَيْ كل وَاحِدٍ لِأَنَّ الْحَدَّ حِينَئِذٍ يَكُونُ لِكُلِّ فَرْدٍ فَيَكُونُ حَدًّا وَاحِدًا لِأَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةٍ صَادِقًا على كُلٍّ منها مِثَالُهُ الْإِنْسَانُ كُلُّ حَيَوَانٍ نَاطِقٌ بِاعْتِبَارِ كل وَاحِدٍ فَيَكُونُ الْحَدُّ مَنْطِقِيًّا على كل فَرْدٍ فَيَكُونُ حَدًّا وَاحِدًا صَادِقًا على ذَوَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ وهو بَاطِلٌ لِأَنَّك تَكُونُ حَكَمْت على زَيْدٍ مَثَلًا بِأَنَّهُ كُلُّ حَيَوَانٍ نَاطِقٌ وَغَيْرُهُ يُشَارِكُهُ في ذلك فَيَكُونُ غير مَانِعٍ وَيَجِبُ تَنْزِيلُ إطْلَاقِهِمْ الْمَنْعَ على هذا أَمَّا بِاعْتِبَارِ الْكُلِّيِّ الْمَجْمُوعِيِّ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُؤْتَى بِلَفْظِ كُلٍّ في الْحُدُودِ لِأَنَّ الْمَحْدُودَ حِينَئِذٍ الْمَاهِيَّةُ الْمُرَكَّبَةُ من أَجْزَاءٍ مُتَعَدِّدَةٍ مُرَادَةٍ بِلَفْظِ كُلٍّ وَالْحَدُّ لِمَجْمُوعِهَا إذْ لَا مَانِعَ أَنْ تُحِدَّ شيئا وَاحِدًا مُرَكَّبًا من أَجْزَاءٍ خَارِجِيَّةٍ يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا عن بَعْضٍ وَذَلِكَ كَثِيرٌ وَمِنْ هَاهُنَا يَظْهَرُ أَنَّ الْكُلِّيَّ لَا يَجُوزُ تَصْدِيرُ حَدِّهِ بِلَفْظَةِ كُلٍّ لِأَنَّ الْحَدَّ فيه ليس بِاعْتِبَارِ الْكُلِّيَّةِ وكل مَوْضُوعُهَا كُلِّيَّةٌ وَمِنْ اللَّفْظِيَّةِ تَوَقِّي الْأَلْفَاظِ الْغَرِيبَةِ الْوَحْشِيَّةِ وَالِاشْتِرَاكِ والإجمال وَالتَّكْرَارِ وَالْمَجَازِ غَيْرِ الشَّائِعِ من غَيْرِ قَرِينَةٍ لِبُعْدِ الْبَيَانِ فَإِنْ اقْتَرَنَتْ قَرِينَةُ مَعْرِفَةٍ فَفِيهِ خِلَافٌ
____________________
(1/84)
قال الْأَنْبَارِيُّ وَالصَّحِيحُ الْقَبُولُ وَالْأَحْسَنُ التَّرْكُ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ إنْ كان اللَّفْظُ نَصًّا فَهُوَ أَحْسَنُ ما يُسْتَعْمَلُ في الْحُدُودِ وَكَذَا إنْ كان ظَاهِرًا وَاحْتِمَالُهُ بَعِيدٌ فَإِنْ كان مُشْتَرَكًا أو مُلْتَبِسًا فَلَا يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ مُجَرَّدًا عن الْقَرِينَةِ بِحَالٍ وَاخْتَلَفُوا في صِحَّتِهِ مع الْقَرِينَةِ الْمَقَالِيَّةِ كَقَوْلِنَا الْعِلْمُ الثِّقَةُ بِالْمَعْلُومِ فإن الثِّقَةَ مُشْتَرَكَةٌ بين الْأَمَانَةِ وَالْعِلْمِ لَكِنَّ ذِكْرَ الْمَعْلُومِ يَقْطَعُ ذلك الِاشْتِرَاكَ وَيُبَيِّنُ مَقْصُودَ الْمُتَكَلِّمِ منه وَهَلْ يَكُونُ اقْتِرَانُ الْقَرِينَةِ الْحَالِيَّةِ بين الْمُتَخَاطِبِينَ يَقُومُ مَقَامَ الْقَرِينَةِ اللَّفْظِيَّةِ هذا أَيْضًا مُخْتَلَفٌ فيه ا هـ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْإِفَادَةِ اخْتَلَفُوا في التَّحْدِيدِ بِالْمَجَازِ فَأَجَازَهُ قَوْمٌ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ لِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَكُونُ بِالْوَصْفِ اللَّازِمِ وَالْمَجَازُ غَيْرُ لَازِمٍ وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ لِأَنَّ الْغَرَضَ التَّبْيِينُ وقال الْمُقْتَرِحُ اخْتَلَفُوا في أَلْفَاظِ الِاسْتِعَارَةِ وَالْمَجَازِ هل تُسْتَعْمَلُ في الْحُدُودِ فَقِيلَ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا لِمَا فيه من اللَّبْسِ عِنْدَ السَّامِعِ وَقِيلَ نعم لِأَنَّهَا تَدْخُلُ على الْجُمْلَةِ وَفَصَّلَ آخَرُونَ بين الْمُسْتَعْمَلِ الْمَشْهُورِ وَبَيْنَ ما ليس كَذَلِكَ فَإِنْ كان مَشْهُورًا اُسْتُعْمِلَ وهو رَأْيُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في الشَّامِلِ وَالْغَزَالِيِّ في الْمُسْتَصْفَى فقال يَجِبُ طَلَبُ النَّهْيِ ما أَمْكَنَ فَإِنْ أَعْوَزَك النَّصُّ وَافْتَقَرْت إلَى الِاسْتِعَارَةِ فَاطْلُبْ من الِاسْتِعَارَاتِ ما هو أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِلْغَرَضِ انْتَهَى وَيَجِبُ أَنْ يُبْتَدَأَ بِالْأَعَمِّ ثُمَّ بِالْأَخَصِّ في الْحُدُودِ التَّامَّةِ لِأَنَّ الْأَعَمَّ منها هو الْجِنْسُ فَلَا يُقَالُ مُسْكِرٌ مُعْتَصَرٌ من الْعِنَبِ بَلْ بِالْعَكْسِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْأَخَصِّ مع الْغَفْلَةِ عن الْأَعَمِّ فإذا ذُكِرَ الْأَخَصُّ أَوَّلًا تَعَذَّرَ الْفَهْمُ حتى يُذْكَرَ الْأَعَمُّ ثُمَّ يُفْهَمُ الْأَخَصُّ فَيَتَرَاخَى الْفَهْمُ عن الذَّاكِرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا ذُكِرَ الْأَعَمُّ أَوَّلًا وَلِأَنَّ بِتَقْدِيمِ الْأَخَصِّ يَخْتَلُّ الْجُزْءُ الصُّورِيُّ من الْحَدِّ فَلَا يَكُونُ تَامًّا مُشْتَمِلًا على جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ وَأَمَّا غَيْرُ التَّامِّ فَتَقْدِيمُ الْأَعْرَفِ أَوْلَى وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ
____________________
(1/85)
مَسْأَلَةٌ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ في الْحَدِّ وَلَا خِلَافَ كما قَالَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ أَنَّ النُّقْصَانَ في الْحَدِّ زِيَادَةٌ في الْمَحْدُودِ وَاخْتَلَفُوا في الزِّيَادَةِ فيه فقالت الْأَوَائِلُ وَكَثِيرٌ من الْأُصُولِيِّينَ إنَّهُ نُقْصَانٌ في الْمَحْدُودِ أَيْضًا وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ إنْ كان جُزْءًا منه فَكَذَلِكَ كَحَدِّهِمْ الْجَوْهَرَ بِالْمُتَلَوِّنِ بِالسَّوَادِ لِأَنَّ السَّوَادَ جُزْءٌ من اللَّوْنِ وَلَوْ طَرَحَ هذه الزِّيَادَةَ وقال الْجَوْهَرُ هو الْمُتَلَوِّنُ لَكَانَ حَدُّهُ أَعَمَّ وَأَوْضَحَ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ عِنْدِي أَنَّ الزِّيَادَةَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا نَقْصٌ من الْمَحْدُودِ كَقَوْلِنَا في الْحَرَكَةِ إنَّهَا نَقْلَةٌ إلَى جِهَةِ الْيَمِينِ أو الشِّمَالِ وَهَذَا يُخْرِجُ كُلَّ نَقْلَةٍ لَا إلَى غَيْرِ تِلْكَ الْجِهَةِ عن أَنْ تَكُونَ حَرَكَةً وَالثَّانِي لَا يَنْقُصُ بَلْ يَكُونُ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا سَوَاءً كَقَوْلِنَا في الْحَرَكَةِ إنَّهَا فِعْلُ نَقْلَةٍ أو عَرْضُ نَقْلَةٍ فَائِدَةٌ إعْرَابُ الصِّفَاتِ في الْحُدُودِ كان بَعْضُ الْفُضَلَاءِ يقول إنَّ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ في الْحُدُودِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُعْرَبَ أَخْبَارًا ثَوَانِيَ بَلْ يَتَعَيَّنُ إعْرَابُهَا صِفَةً لِمَا يَلْزَمُ على الْأَوَّلِ من اسْتِقْلَالِ كل خَبَرٍ بِالْحَدِّ وَمِنْ هُنَا مَنَعَ جَمَاعَةٌ أَنْ يَكُونَ حُلْوٌ حَامِضٌ خَبَرَيْنِ وَأَوْجَبَ الْأَخْفَشُ أَنْ يُعْرَبَ حَامِضٌ صِفَةً وَالْجُمْهُورُ الْقَائِلُونَ إنَّ كُلًّا مِنْهُمَا خَبَرٌ لَا يَلْزَمُهُمْ الْقَوْلُ بمثله في نَحْوِ الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ لِأَنَّ حُلْوٌ حَامِضٌ ضِدَّانِ فَالْعَقْلُ يَصْرِفُ عن تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَا مَقْصُودَيْنِ بِالذَّاتِ وَأَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا قُصِدَ مَعْنَاهُ فَلَا تُوقِعُ في الْغَلَطِ بِخِلَافِ الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ ليس في اللَّفْظِ وَلَا في الْعَقْلِ إذَا كَانَا خَبَرَيْنِ ما يَصْرِفُ كُلًّا مِنْهُمَا عن الِاسْتِقْلَالِ وَلِأَمْرٍ آخَرَ وهو أَنَّ الْخَبَرَ الْأَوَّلَ من حُلْوٍ حَامِضٍ كَالْخَبَرِ الثَّانِي ليس له حُكْمٌ بِالْكُلِّيَّةِ حتى نُقِلَ عن الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ لَا يَتَحَمَّلُ ضَمِيرًا وما شَأْنُهُ ذلك لَا يَدْخُلُ في الْحُدُودِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من حَيَوَانٍ وَنَاطِقٍ مَثَلًا مَقْصُودٌ وَحْدَهُ أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ
____________________
(1/86)
دخل بِالْجِنْسِ كَذَا ثُمَّ خَرَجَ بِالْفَصْلِ الْأَوَّلِ كَذَا ثُمَّ بِالْفَصْلِ الثَّانِي كَذَا فَقَدْ جَعَلْت لِكُلٍّ مَعْنًى مُسْتَقِلًّا وَلَيْسَ كَذَلِكَ شَأْنُ حُلْوٍ حَامِضٍ فلم يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَا خَبَرَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ فَيَفْسُدُ الْحَدُّ أو يَكُونُ الثَّانِي صِفَةً وهو الْمُدَّعَى فَلْيُتَأَمَّلْ ذلك الْقِسْمَةُ وَعِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِالتَّقْسِيمِ إلَى دَرْكِ الْحَقِيقَةِ كَالْحَدِّ وَسَبَقَ عن الْأُسْتَاذِ حِكَايَةُ الْخِلَافِ فيه بِنَاءً على الْخِلَافِ في جَوَازِ التَّرْكِيبِ في الْحَدِّ وَالنَّظَرِ في حَدِّهَا وَأَنْوَاعِهَا وَشُرُوطِ صِحَّتِهَا أَمَّا حَدُّهَا فَتَكْثِيرُ الْوَاحِدِ تَقْدِيرًا وَهِيَ نَوْعَانِ قِسْمَةُ تَمْيِيزٍ وَقِسْمَةُ ثَوَابِتَ وَالثَّوَابِتُ ما عَادَ الْمُسْتَدْعَى منها إلَى الِاشْتِرَاكِ في مُجَرَّدِ اللَّفْظِ وَالتَّمْيِيزُ بِعَكْسِهِ وقد بَلَّغَهَا الْقُدَمَاءُ إلَى أَنْوَاعٍ ثَمَانِيَةٍ الْأَوَّلُ قِسْمَةُ الْجِنْسِ إلَى الْأَنْوَاعِ كَقِسْمَةِ الْحَادِثِ إلَى جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ وَقِسْمَةِ الْعَرَضِ في الِاصْطِلَاحَاتِ إلَى أَنْوَاعِهِ وَكَتَقْسِيمِ الْكَلِمَةِ إلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ وَتَقْسِيمِ الْفُرْقَةِ عن النِّكَاحِ إلَى طَلَاقٍ وَفَسْخٍ وَقِسْمَةِ الْمِيرَاثِ إلَى فَرْضٍ وَتَعْصِيبٍ الثَّانِي قِسْمَةُ النَّوْعِ إلَى الْأَشْخَاصِ كَقِسْمَةِ السَّوَادِ إلَى سَوَادِ الْقَارِ وَسَوَادِ الزِّنْجِيِّ الثَّالِثُ قِسْمَةُ الْكُلِّ إلَى الْأَجْزَاءِ كَقِسْمَةِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ إلَى الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسَةِ وَإِلَى الرَّأْسِ وَالْيَدِ الرَّابِعُ قِسْمَةُ الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ إلَى مَعَانِيهِ الْمُخْتَلِفَةِ الْخَامِسُ قِسْمَةُ الْجَوْهَرِ إلَى الْأَعْرَاضِ كَقَوْلِهِمْ الْجِسْمُ منه أَحْمَرُ وَأَسْوَدُ السَّادِسُ قِسْمَةُ الْعَرَضِ إلَى الْجَوَاهِرِ كَقَوْلِهِمْ الْأَبْيَضُ إمَّا ثَلْجٌ أو قُطْنٌ السَّابِعُ قِسْمَةُ الْعَرَضِ إلَى أَعْرَاضٍ كَقَوْلِهِمْ الْخَلْقُ يَنْقَسِمُ إلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ قالوا وَإِلَى هذه الْجِهَاتِ يَنْقَسِمُ كُلُّ مُنْقَسِمٍ وَفِيمَا ذَكَرُوهُ ضَرْبٌ من التَّدَاخُلِ الثَّامِنُ قِسْمَةُ الْكُلِّيِّ إلَى جُزْئِيَّاتِهِ
____________________
(1/87)
شُرُوطُ صِحَّةِ الْقِسْمَةِ وَأَمَّا شُرُوطُ صِحَّتِهَا فَعَدَمُ التَّدَاخُلِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالتَّنَافُرِ فَالتَّدَاخُلُ كَقَوْلِك الْجَوْهَرُ لَا يَخْلُو من أَنْ يَقُومَ بِهِ لَوْنٌ أو سَوَادٌ وَالتَّنَافُرُ قد يَكُونُ في الْمَعْنَى فَهُوَ كَالزِّيَادَةِ كَقَوْلِك الْكَوْنُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حَرَكَةً أو سُكُونًا أو سَوَادًا فَإِنَّك أَدْخَلْت في جِنْسِ الْكَوْنِ نَوْعًا من أَنْوَاعِ اللَّوْنِ فَتَنَافُرُ جِنْسِهِ من حَيْثُ لم يَكُنْ نَوْعًا له وَيَرْجِعُ إلَى الزِّيَادَةِ وقد يَكُونُ في نَظْمِ الْكَلَامِ وَصِفَتِهِ كَقَوْلِك لَا يَخْلُو اللَّوْنُ الْقَائِمُ بِالْجَوْهَرِ من أَنْ يَكُونَ سُكُونًا أو يَكُونَ الْجَوْهَرُ مُتَحَرِّكًا مَسْأَلَةٌ تَوَقُّفُ الْمَطْلُوبِ التَّصْدِيقِيِّ على مُقَدِّمَتَيْنِ يَتَوَقَّفُ الْمَطْلُوبُ التَّصْدِيقِيِّ على مُقَدِّمَتَيْنِ لَا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِمَا وَلَا النُّقْصَانُ عنهما وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ قالوا وَهُمَا كَالشَّاهِدَيْنِ عِنْدَ الْحَاكِمِ قالوا وَالْمُقَدِّمَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تُنْتِجُ كما لَا يُنْتِجُ ذَكَرٌ دُونَ أُنْثَى وَلَا عَكْسُهُ وَإِنَّمَا تَكُونُ النَّتِيجَةُ بِازْدِوَاجِ مُقَدِّمَتَيْنِ وَعَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ يَصِحُّ إنْتَاجُ الْمُقَدِّمَةِ الْوَاحِدَةِ وقد اُسْتُنْكِرَ عليه إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ ذِكْرُ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ إذَا كانت مَشْهُورَةً وَيَكُونُ حَذْفُهَا إذْ ذَاكَ من الدَّلِيلِ اخْتِصَارًا لَا اقْتِصَارًا وَهَذَا لَا خِلَافَ فيه وَهَذَا كما لو اسْتَدْلَلْنَا على وُجُوبِ الزَّكَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَآتُوا الزَّكَاةَ فإنه مُتَوَقِّفٌ على مُقَدِّمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَكُلُّ مَأْمُورٍ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ فَحُذِفَتْ هذه اخْتِصَارًا وَلِهَذَا يُسَمَّى بِالْمُضْمَرِ قالوا وَإِنَّمَا تُحْذَفُ لِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ إمَّا الِاخْتِصَارُ وَإِمَّا أَنَّهُ لو صُرِّحَ بها لَمَنَعَهَا الْخَصْمُ كَقَوْلِنَا النَّبِيذُ مُسْكِرٌ فَهُوَ حَرَامٌ فَلَوْ صُرِّحَ بِالْكُبْرَى وَهِيَ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ لَمَنَعَهَا الْخَصْمُ وَإِمَّا لِأَنَّهَا كَاذِبَةٌ فَتُضْمَرُ لِئَلَّا يَظْهَرَ كَذِبُهَا فَيَكُونَ إخْفَاؤُهَا أَرْوَجَ لِلْمُغَالَطَةِ هذا إذَا كان الْمَحْذُوفُ الْكُبْرَى فَإِنْ حُذِفَتْ الصُّغْرَى سُمِّيَ قِيَاسَ الرَّمْيِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى لو كان فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَحُذِفَتْ الْمُقَدِّمَةُ الِاسْتِثْنَائِيَّةُ النَّاطِقَةُ بِرَفْعِ الثَّانِي وَهِيَ
____________________
(1/88)
لَكِنَّهُمَا لم تَفْسُدَا إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا فَحُذِفَ منه وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لم يَبْتَغُوا مَسْأَلَةٌ الْمَوْضُوعُ وَالْمَحْمُولُ وَكُلٌّ من الْمُقَدِّمَتَيْنِ يَنْقَسِمُ إلَى مَوْضُوعٍ وَمَحْمُولٍ أَيْ مَحْكُومٍ عليه وَمَحْكُومٍ بِهِ قالوا وَالنُّحَاةُ يُسَمُّونَهُمَا الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ قال الْمَنْطِقِيُّونَ وَلَا بُدَّ من نِسْبَةِ تَوَسُّطٍ بين الْمَحْمُولِ وَالْمَوْضُوعِ وَإِلَّا لم تَكُنْ قَضِيَّةٌ وَاللَّفْظُ الدَّالُّ على هذه النِّسْبَةِ يُسَمَّى رَابِطَةً فَإِنْ صُرِّحَ بها كَقَوْلِنَا زَيْدٌ هو كَاتِبٌ سُمِّيَتْ ثُلَاثِيَّةً وَإِنْ أُسْقِطَتْ اعْتِمَادًا على فَهْمِ الْمَعْنَى نحو زَيْدٌ كَاتِبٌ سُمِّيَتْ ثُنَائِيَّةً وَهِيَ الرَّابِطَةُ من جُمْلَةِ الْأَدَوَاتِ في غَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ أَمَّا لُغَةُ الْعَرَبِ فَمِنْهُمْ من يَجْعَلُهَا أَدَاةً وَمِنْهُمْ من يَجْعَلُهَا اسْمًا على ما عُرِفَ من الْخِلَافِ بين النَّحْوِيِّينَ في ضَمِيرِ الْفَصْلِ وقد رَدَّ السُّهَيْلِيُّ في نَتَائِجِ الْفِكْرِ قَوْلَ الْمَنَاطِقَةِ في هذا بِإِجْمَاعِ النَّحْوِيِّينَ على أَنَّ الْخَبَرَ إذَا كان اسْمًا مُفْرَدًا جَامِدًا لم يَحْتَجْ إلَى رَابِطَةٍ تَرْبِطُهُ بِالْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ يَعْرِفُ أَنَّهُ مُسْنَدٌ إلَيْهِ من حَيْثُ كان لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ كما زَعَمَ الْمَنْطِقِيُّونَ أَنَّ الرَّابِطَ بَيْنَهُمَا لَا بُدَّ منه مُظْهَرًا أو مُضْمَرًا قال وَكَيْفَ يَكُونُ مُضْمَرًا وَيَدُلُّ على ارْتِبَاطٍ أو غَيْرِهِ وَالْمُخَاطَبُ لَا يَسْتَدِلُّ إلَّا بِلَفْظٍ يَسْمَعُهُ لَا بِشَيْءٍ يُضْمِرُهُ في نَفْسِهِ وَلَوْ احْتَجْنَا إلَى هو مُضْمَرَةً أو مُظْهَرَةً لَاحْتَجْنَا إلَى هو أُخْرَى يُرْبَطُ الْخَبَرُ بها وَذَلِكَ يَتَسَلْسَلُ مَسْأَلَةٌ النَّتِيجَةُ تَتْبَعُ الْمُقَدِّمَاتِ وَالْمُقَدِّمَاتُ إنْ كانت قَطْعِيَّةً أو ظَنِّيَّةً فَالنَّتِيجَةُ كَذَلِكَ وَإِنْ كان بَعْضُهَا قَطْعِيًّا وَبَعْضُهَا ظَنِّيًّا فَهِيَ ظَنِّيَّةٌ وَالنَّتِيجَةُ أَبَدًا تَتْبَعُ أَخَسَّ الْمُقَدِّمَتَيْنِ في الْكَمِّ وَالْكَيْفِ جميعا وقد قِيلَ إنَّ الزَّمَانَ لَتَابِعٌ لِلْأَنْذَلِ تَبَعَ النَّتِيجَةِ لِلْأَخَسِّ الْأَرْذَلِ
____________________
(1/89)
الْأَحْكَامُ
____________________
(1/90)
فَصْلٌ في الْأَحْكَامِ قال اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ أَحْسَنُ من اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وقد بَيَّنَّا أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ فَلَا بُدَّ من تَعْرِيفِ الْحُكْمِ فَنَقُولُ هو لُغَةً الْمَنْعُ وَالصَّرْفُ وَمِنْهُ الْحَكَمَةُ لِلْحَدِيدَةِ التي في اللِّجَامِ وَبِمَعْنَى الْإِحْكَامِ وَمِنْهُ الْحَكِيمُ في صِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ وفي الِاصْطِلَاحِ خِطَابُ الشَّرْعِ الْمُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ بِالِاقْتِضَاءِ أو التَّخْيِيرِ فَيَخْرُجُ الْمُتَعَلَّقُ بِذَاتِ الْمُكَلَّفِ نَحْوُ وَاَللَّهُ خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ وَالْمُرَادُ بِالْفِعْلِ جَمِيعُ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ وَإِنْ كان قد تُقَابَلُ الْأَفْعَالُ بِالْأَقْوَالِ في الْإِطْلَاقِ الْعُرْفِيِّ وَقَوْلُنَا بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ فيه تَجَوُّزٌ فإنه لَا يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ إلَّا بِمَعْدُومٍ يُمْكِنُ حُدُوثُهُ وَالْمَعْدُومُ ليس بِفِعْلٍ حَقِيقَةً وَلَوْ اُحْتُرِزَ عنه لَقِيلَ الْمُتَعَلَّقُ بِمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا وَأُشِيرَ بِالتَّعَلُّقِ إلَى أَنَّ حَاصِلَ الْحُكْمِ مُجَرَّدُ التَّعَلُّقِ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ له تَأْثِيرٌ في ذَاتِ الْحَاكِمِ أو الْمَحْكُومِ عليه أو فيه وَنَعْنِي بِالِاقْتِضَاءِ ما يُفْهَمُ من خِطَابِ التَّكْلِيفِ من اسْتِدْعَاءِ الْفِعْلِ أو التَّرْكِ وَبِالتَّخْيِيرِ التَّسْوِيَةَ بين الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَالْمُرَادُ بِأَوْ أَنَّ ما يَتَعَلَّقُ على أَحَدِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ كان حُكْمًا وَإِلَّا فَلَا يَرِدُ سُؤَالُ التَّرْدِيدِ في الْحَدِّ هذا إنْ قُلْنَا إنَّ الْإِبَاحَةَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَمَنْ لم يَرَ ذلك اسْتَغْنَى عن ذِكْرِ التَّخْيِيرِ أَمَّا تَعَلُّقُ الضَّمَانِ بِفِعْلِ الصَّبِيِّ وَنَحْوِهِ فَالْمُرَادُ بِهِ تَكْلِيفُ الْوَلِيِّ بِأَدَائِهِ من مَالِ الصَّبِيِّ وَمِنْهُمْ من قال خِطَابُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ لِيَدْخُلَ الصَّبِيُّ وَهَذَا نَشَأَ من الْخِلَافِ في أَنَّ الصَّبِيَّ مَأْمُورٌ بِأَمْرِ الْوَلِيِّ أو بِأَمْرِ الشَّارِعِ وزاد بَعْضُهُمْ في الْحَدِّ التَّامِّ الْعَقْلَ لِيَخْتَصَّ بِالْمُمَيِّزِ وَالْخِطَابُ يُمْكِنُ معه لِفَهْمِهِ وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ في حَقِّهِ التَّكْلِيفُ وَعَبَّرَ ابن بَرْهَانٍ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَانْفَصَلَ عن سُؤَالِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِخِطَابِ الْوَضْعِ في حَقِّ غَيْرِ الْإِنْسَانِ من الْبَهَائِمِ قال لِأَنَّ ذلك يُنْسَبُ إلَى تَفْرِيطِ الْمَالِكِ في حِفْظِهَا حتى لو قَصَدَ التَّفْرِيطَ لم يَكُنْ لِفِعْلِهَا حُكْمٌ وَهَذَا لَا يُفِيدُهُ بَلْ السُّؤَالُ بَاقٍ لِأَنَّ فِعْلَهَا مُعْتَبَرٌ في التَّضْمِينِ إمَّا بِكَوْنِهِ شَرْطًا وَإِمَّا سَبَبًا وَالشَّرْطِيَّةُ وَالسَّبَبِيَّةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَوْلَا فِعْلُهَا إمَّا مُضَافًا وَإِمَّا مُسْتَقِلًّا لم يَجِبْ الضَّمَانُ
____________________
(1/91)
أو نَقُولُ هو عِلَّةٌ بِدَلِيلِ دَوَرَانِ الْحُكْمِ معه وُجُودًا وَعَدَمًا لَا يُقَالُ الْخِطَابُ قَدِيمٌ فَكَيْفَ يُعْرَفُ الْحُكْمُ الْحَادِثُ لِأَنَّا نَمْنَعُ كَوْنَ الْحُكْمِ حَادِثًا وَقَوْلُ الرَّازِيَّ هُنَا إنَّ الْحَادِثَ هو التَّعَلُّقُ فيه نَظَرٌ لِأَنَّ التَّعَلُّقَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ يَتَوَقَّفُ على وُجُودِ الْمُنْتَسِبِينَ فَيَلْزَمُ حُدُوثُ الْحُكْمِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذلك في الذِّهْنِ لَا في الْخَارِجِ فَلَا يَلْزَمُ حُدُوثُهُ وَلِأَنَّ النِّسْبَةَ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ لَا يُوصَفُ بِحُدُوثٍ وَلَا عَدَمٍ وَصَرَّحَ الْغَزَالِيُّ في الْوَسِيطِ في كِتَابِ الطَّلَاقِ بِأَنَّ التَّعَلُّقَ قَدِيمٌ وَبِهِ جَزَمَ الرَّازِيَّ في كِتَابِ الْقِيَاسِ في الْمَحْصُولِ فَحَصَلَ في الْمُتَعَلَّقِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ قَدِيمٌ حَادِثٌ لَا يُوصَفُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ لِلتَّعْلِيقِ اعْتِبَارَيْنِ أَحَدُهُمَا قِيَامُ الطَّلَبِ النَّفْسِيِّ بِالذَّاتِ وهو قَدِيمٌ وَالثَّانِي تَعَلُّقٌ تَنْجِيزِيٌّ وهو الْحَادِثُ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَبْقَى خِلَافٌ وَالْقَوْلُ بِحُدُوثِ التَّعَلُّقِ يُلَائِمُ قَوْلَ من يقول إنَّ اللَّهَ ليس آمِرًا في الْأَزَلِ وهو الْقَلَانِسِيُّ وأبو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ يَأْبَاهُ تَنْبِيهٌ تَعَلُّقُ الْأَحْكَامِ عُلِمَ من تَعْرِيفِ الْحُكْمِ بِالتَّعَلُّقِ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَعْيَانِ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في بَابِ الْمُجْمَلِ أَنَّ نحو حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ أَنَّهُ من بَابِ الْحَذْفِ بِقَرِينَةِ دَلَالَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الْأَحْكَامَ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ دُونَ الْأَعْيَانِ وَلَكِنَّ هذا ليس مُتَّفَقًا عليه فَقَدْ ذَهَبَ جَمْعٌ من الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ كما يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ وَمَعْنَى حُرْمَةِ الْعَيْنِ خُرُوجُهَا من أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلْفِعْلِ شَرْعًا كما أَنَّ حُرْمَةَ الْفِعْلِ خُرُوجٌ من الْأَعْيَانِ شَرْعًا وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ من الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ إذَا أُضِيفَا إلَى الْأَعْيَانِ فَهِيَ أَوْصَافٌ لها كما تَكُونُ أَوْصَافًا لِلْأَفْعَالِ في قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ قال وَإِنَّمَا أَنْكَرَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إضَافَةَ التَّحْرِيمِ إلَى الْأَعْيَانِ لِئَلَّا يَلْزَمَهُمْ نِسْبَةُ خَلْقِ
____________________
(1/92)
الْقَبِيحِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِنَاءً على أَنَّ كُلَّ مُحَرَّمٍ قَبِيحٌ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْأَسْرَارِ منهم أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ مَعًا إذَا كان لِمَعْنًى في الْعَيْنِ أُضِيفَ إلَيْهَا لِأَنَّهَا نِسْبَةٌ كما يُقَالُ جَرَى الْمِيزَابُ وقال حُرِّمَتْ الْمَيْتَةُ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا لِمَعْنًى فيها وَلَا يُقَالُ حَرُمَتْ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا احْتِرَامُ الْمَالِكِ فَحَصَلَ في تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالْأَعْيَانِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ وَذِكْرُ هذه الْمَسْأَلَةِ هُنَا من الْغَرَائِبِ وَذَكَرَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ أَنَّ الشَّيْءَ قد يُوصَفُ بِمَا يَعُودُ إلَى نَفْسِ الذَّاتِ أو صِفَةٍ نَفْسِيَّةٍ أو مَعْنَوِيَّةٍ قَائِمَةٍ بِالذَّاتِ أو صِفَةٍ تُعَلَّقُ لَا يَرْجِعُ منها شَيْءٌ إلَى الذَّاتِ وقد اُخْتُلِفَ في الْأَحْكَامِ هل يَكْتَسِبُ بها الذَّوَاتُ صِفَةً أَمْ لَا الْجُمْهُورُ على أنها من صِفَاتِ التَّعَلُّقِ فإذا قِيلَ هذا نَجِسٌ فَلَيْسَ النَّجَاسَةُ وَلَا كَوْنُهُ نَجِسًا رَاجِعًا إلَى نَفْسِهِ وَلَا إلَى صِفَةٍ نَفْسِيَّةٍ أو مَعْنَوِيَّةٍ لِلذَّاتِ بَلْ هِيَ حَالَ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ على حَدٍّ سَوَاءٍ لم يُفِدْ هذا الْحُكْمُ صِفَةً زَائِدَةً قَائِمَةً بها لِأَجْلِ الْحُكْمِ وَمَعْنَى النَّجَاسَةِ تَعَلُّقُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إنَّهَا مُجْتَنَبَةٌ في الصَّلَاةِ وَنَحْوِهِ وَكَذَا قَوْلُنَا شُرْبُ الْخَمْرِ حَرَامٌ ليس الْمُرَادُ تَجَرُّعَهَا وَحَرَكَاتُ الشَّارِبِ وَإِنَّمَا التَّحْرِيمُ رَاجِعٌ إلَى تَعَلُّقِ قَوْلِ اللَّهِ في النَّهْيِ عن شُرْبِهَا وقد تَحَقَّقَ في عِلْمِ الْكَلَامِ أَنَّ صِفَاتِ التَّعَلُّقِ لَا تَقْتَضِي إفَادَةَ وَصْفٍ عَائِدٍ إلَى الذَّاتِ وَهَذَا كَمَنْ عَلِمَ أَنَّ زَيْدًا قَاعِدٌ بين يَدَيْهِ فإن عِلْمَهُ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِزَيْدٍ لم يُغَيِّرْ من صِفَاتِ زَيْدٍ شيئا وَلَا حَدَثَتْ لِزَيْدٍ صِفَةٌ لِأَجْلِ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِهِ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى اسْتِفَادَةِ الذَّوَاتِ من الْأَحْكَامِ فَائِدَةً وَرَأَوْا أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالْوُجُوبَ يَرْجِعُ إلَى ذَاتِ الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَالْوَاجِبِ وَقَدَّرُوهُ وَصْفًا ذَاتِيًّا قال الْقَاضِي وَاعْتَلُّوا لِذَلِكَ بِضَرْبٍ من الْجَهْلِ وهو أَنَّهُ لو تُوُهِّمَ عَدَمُ الْفِعْلِ لَعُدِمَتْ أَحْكَامُهُ بِأَسْرِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحْكَامُهُ هِيَ هو قال وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ وَأَحْكَامِهَا وَأَقْوَالِهَا وَأَفْعَالِهَا هِيَ هِيَ لِأَنَّهُ لو تُصُوِّرَ عَدَمُ الْجِسْمِ لَعُدِمَتْ أَحْوَالُهُ وَأَلْوَانُهُ وَجَمِيعُ تَصَرُّفَاتِهِ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ عِبَارَةً عن أَفْعَالِهِ وَلَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَنَسَبَ غَيْرُهُ هذا إلَى الْمُعْتَزِلَةِ فقال الْأَحْكَامُ تَرْجِعُ إلَى تَعَلُّقِ الْخِطَابِ وَهِيَ صِفَةٌ إضَافِيَّةٌ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَهِيَ نَفْسِيَّةٌ وقال الْغَزَالِيُّ وَقَوْلُنَا الْخَمْرُ مُحَرَّمَةٌ تَجَوُّزٌ فإنه جَمَادٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابٌ وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ تَنَاوُلُهَا
____________________
(1/93)
وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ الْحُكْمُ لَا يَرْجِعُ إلَى ذَاتِ الْمَحْكُومِ وَلَا إلَى صِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ له إنْ قُلْنَا إنَّهَا زَائِدَةٌ على الذَّاتِ أو صِفَةٌ عَرَضِيَّةٌ له وَإِنَّمَا هو تَعَلُّقُ أَمْرِ اللَّهِ بِالْمُخَاطَبِ وَهَذَا التَّعَلُّقُ مَعْقُولٌ من غَيْرِ وَصْفٍ مُحْدَثٍ لِلْمُتَعَلَّقِ بِهِ كَالْعِلْمِ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْلُومِ وإذا سَمِعْت الْفَقِيهَ يقول حَقِّي يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ ثَبَتَ لِمَعْنًى في الْعَيْنِ كَالْخَمْرِ حُرِّمَتْ لِمَعْنًى فيها فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ تَابِعًا لِلْمَعْنَى فَكَانَتْ على حَالِ ما يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ وَإِنْ لم تَتَعَلَّقْ بها حَقِيقَةً قال وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ في الشَّرْعِ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ في مَوَاضِعَ وَمِنْ فُرُوعِهِ أَنَّ الْعَقْلَ لَا مَدْخَلَ له في أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ قُلْت وَمِنْ فُرُوعِهِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَنَحْوَهُ هل هو مُجْمَلٌ فَمَنْ قال بِإِضَافَةِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ إلَى الْأَعْيَانِ نَفَى الْإِجْمَالَ وَمَنْ لم يَقُلْ بِهِ أَثْبَتَهُ وَعُلِمَ من تَعْرِيفِ الْحُكْمِ بِالْخِطَابِ أَنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ ليس بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ بَلْ الْأَمْرُ فيه بَاقٍ على ما كان قبل الشَّرْعِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحُكْمِ الْخِطَابُ وهو مَفْقُودٌ فيه وقد جَمَعَ الْجَدَلِيُّونَ في هذه الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ مَسْأَلَةٌ نَفْيُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ اُخْتُلِفَ في نَفْيِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ على ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مُتَلَقًّى من خِطَابِ الشَّارِعِ وَالثَّانِي ليس بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ بَلْ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إلَى بَقَاءِ الْحُكْمِ فيه على ما كان قبل الشَّرْعِ وَالثَّالِثُ وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ إلَى تَقْسِيمِهِ إلَى نَفْيِ حُكْمٍ مَسْبُوقٍ بِالْإِثْبَاتِ من الشَّرْعِ وَإِلَى تَقْرِيرٍ على النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ قبل الشَّرْعِ فَالْأَوَّلُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ كَالْإِثْبَاتِ وَالثَّانِي مَحْضُ تَقْرِيرٍ على انْتِفَاءِ الْحُكْمِ فَهُوَ يُخْبِرُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لم يُخَاطِبْنَا فيه وَكَثِيرًا ما يُخْبِرُ الشَّرْعُ عن الْحَقَائِقِ وَلَا يَكُونُ ذلك حُكْمًا شَرْعِيًّا وهو تَعَلُّقُ الْخِطَابِ وقد يُسَمَّى حُكْمًا لَا على أَنَّهُ عَلَامَةٌ على الْحُكْمِ كَقَوْلِ الشَّارِعِ لَا زَكَاةَ في الْمَعْلُوفَةِ وَنَظَائِرِهِ حَكَى هذه الْمَذَاهِبَ الْبَرَوِيُّ في الْمُقْتَرِحِ قال وَاَلَّذِي كان يَنْصُرُهُ محمد بن يحيى
____________________
(1/94)
تِلْمِيذُ الْغَزَالِيِّ أَنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ كَنَفْيِ الصَّلَاةِ السَّادِسَةِ وَنَفْيِ الزَّكَاةِ عن عَبِيدِ الْخِدْمَةِ سَوَاءٌ تَلَقَّيْنَاهُ من مَوَارِدِ النُّصُوصِ أو من مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ وَاحْتُجَّ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ على أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ في الْبَحْثِ عن مَظَانِّ الْأَدِلَّةِ فلم يَظْفَرْ بِمَا يَدُلُّ على الْحُكْمِ فَهُوَ مُتَقَيِّدٌ بِالْقَطْعِ بِالنَّفْيِ وَالْعَمَلِ بِهِ وما ذَاكَ إلَّا لِلْإِجْمَاعِ الدَّالِّ على نَصٍّ بَلَغَهُمْ عن الرَّسُولِ عليه السَّلَامُ إنَّكُمْ إذَا لم تَجِدُوا دَلِيلَ الثُّبُوتِ فَاجْزِمُوا بِالنَّفْيِ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِنَا خِطَابُ الْجَزْمِ بِالنَّفْيِ فَتَوًى وَعَمَلًا وَلَا مَعْنَى لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ غَيْرُ هذا وَأَيْنَ هذا من عَدَمِ الْحُكْمِ قبل الشَّرْعِ قال وَهَذَا النَّفْيُ مُمْكِنٌ تَلَقِّيهِ من النَّصِّ أو الْإِجْمَاعِ فَأَمَّا من الْقِيَاسِ فَيُنْظَرُ فَإِنْ كان النَّفْيُ لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي لم يَجُزْ فيه قِيَاسُ الْعِلَّةِ وَإِنْ كان الْمَانِعُ طَرَأَ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ جَرَى فيه جَمِيعُ الْأَقْيِسَةِ وقال شَارِحُ الْمُقْتَرَحِ أبو الْعِزِّ الْمُخْتَارُ عِنْدِي من هذه الْمَذَاهِبِ أَنَّهُ ليس حُكْمًا شَرْعِيًّا لِأَنَّ الْحُكْمَ خِطَابُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَالنَّفْيُ ليس فِعْلًا لِيَكُونَ الْخِطَابُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ حُكْمًا فَهُوَ في الْحَقِيقَةِ خَبَرٌ عن انْتِفَاءِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ وَقَوْلُنَا انْتِفَاءُ الْحُكْمِ إشَارَةٌ إلَى انْتِفَاءِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ فَلَا يَكُونُ حُكْمًا وما احْتَجَّ بِهِ محمد بن يحيى مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ جَزَمَ بِوُجُوبِ الْفَتْوَى بِالنَّفْيِ وهو حُكْمُ الْوُجُوبِ وَلَيْسَ من نَفْيِ الْحُكْمِ سَبِيلٌ فَإِنْ تَعَلَّقَ التَّكْلِيفُ لنا بِالنَّفْيِ مع أَنَّ النَّفْيَ ليس من فِعْلِ الْمُكَلَّفِ ليس بِسَدِيدٍ فَهَذِهِ مُغَالَطَةٌ منه لَا تَخْفَى مَسْأَلَةٌ الْحُكْمُ هل هو قَطْعِيٌّ أَمْ ظَنِّيٌّ أَطْلَقَ ابن بَرْهَانٍ في كِتَابِهِ الْكَبِيرِ هُنَا أَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَنَا قَطْعِيٌّ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فإنه عِنْدَهُ ظَنِّيٌّ وَبَيَّنَ مُرَادَهُ بِهِ في بَابِ الْقِيَاسِ فقال الْحُكْمُ قَطْعِيٌّ في الْأَحْوَالِ كُلِّهَا سَوَاءٌ أُضِيفَ إلَى الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ أو الظَّنِّيِّ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَطْعِيٌّ ثَابِتٌ عِنْدَ الظَّنِّ لَا بِالظَّنِّ وَالْقَطْعُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ انْتَهَى يُرِيدُ أَنَّ الظَّنَّ في الشَّرْعِيَّاتِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ في الْقَطْعِيَّاتِ وَالْحُكْمُ قَطْعِيٌّ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ غَلَبَاتِ الظُّنُونِ قَطْعِيٌّ فَلَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ الظَّنُّ وَمِثَالُهُ حُكْمُ الْقَاضِي بِقَوْلِ الشُّهُودِ ظَنِّيٌّ وَلَكِنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ ظَنِّ الصِّدْقِ وَاجِبٌ قَطْعِيٌّ وهو حَاصِلُ كَلَامِ الْمَحْصُولِ في جَوَابِهِ عن قَوْلِهِمْ الْفِقْهُ من بَابِ الظُّنُونِ بِنَاءً
____________________
(1/95)
على أَنَّ الْحُكْمَ مَبْنِيٌّ على مُقَدِّمَتَيْنِ قَطْعِيَّتَيْنِ وما انْبَنَى على الْقَطْعِيِّ قَطْعِيٌّ لِأَنَّهُ يُبْنَى على حُصُولِ الظَّنِّ وَحُصُولُهُ وِجْدَانِيٌّ وَعَلَى أَنَّ ما غَلَبَ على الظَّنِّ فَحُكْمُ اللَّهِ فيه الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ وَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ إجْمَاعِيَّةٌ وما أُجْمِعَ عليه فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ على مُقَدِّمَتَيْنِ قَطْعِيَّتَيْنِ وَاللَّازِمُ منه أَنَّهُ قَطْعِيٌّ لَكِنَّ الْحَقَّ انْقِسَامُ الْحُكْمِ إلَى قَطْعِيٍّ وَظَنِّيٍّ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ من الْأَقْدَمِينَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ في كِتَابِ الْحُدُودِ وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ قال وَإِنَّمَا قالوا الْفِقْهُ الْعِلْمُ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مع أَنَّ فيه ظَنِّيَّاتٍ كَثِيرَةً لِأَنَّ ما كان فيه من الظَّنِّيَّاتِ فَهِيَ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْعِلْمِيَّاتِ وقال ابن التِّلِمْسَانِيُّ إنَّهُ الْحَقُّ وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ على ما نُبَيِّنُ في بَابِ الِاجْتِهَادِ وَوُجُوبُ اعْتِقَادِ أَنَّ هذا حُكْمُ اللَّهِ أو الْفَتْوَى بِهِ أو الْقَضَاءُ غَيْرُ نَفْسِ الْحُكْمِ بِأَنَّ هذا حَلَالٌ أو حَرَامٌ أو صَحِيحٌ أو فَاسِدٌ لِاخْتِلَافِ الْمُتَعَلِّقَاتِ فيها وقال الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ من الْأَحْكَامِ ما يَثْبُتُ بِأَدِلَّةٍ حَصَلَ الْعِلْمُ بِمُقْتَضَاهَا وَذَلِكَ في الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِنُصُوصٍ احْتَفَتْ بِقَرَائِنَ تَدْفَعُ الِاحْتِمَالَاتِ الْمُتَعَارِضَةَ عنها بِانْحِصَارِ تَعْيِينِ الْمَدْلُولِ في وَاحِدٍ وَمِنْهُ ما ثَبَتَ بِأَخْبَارِ آحَادٍ أو نُصُوصٍ لم تَعْتَضِدْ بِمَا يَدْفَعُ الِاحْتِمَالَاتِ فَتِلْكَ الْأَحْكَامُ مَظْنُونَةٌ لَا مَعْلُومَةٌ قال وَهَذَا هو الْحَقُّ الذي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ من بَيْنِ يَدَيْهِ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْأَحْكَامَ لو كانت بِأَسْرِهَا مَعْلُومَةً لَمَا انْقَسَمَتْ الطُّرُقُ إلَى الْأَدِلَّةِ وَالْأَمَارَةِ وَلَمَا انْتَظَمَ قَوْلُهُمْ في الْمُقَدِّمَاتِ إنْ كانت عِلْمِيَّةً فَالنَّتِيجَةُ عِلْمِيَّةٌ وَإِنْ كانت ظَنِّيَّةً فَالنَّتِيجَةُ ظَنِّيَّةٌ وَإِنْ كان بَعْضُهَا عِلْمًا وَبَعْضُهَا ظَنِّيًّا فَالنَّتِيجَةُ ظَنِّيَّةٌ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ إنَّ الْأَحْكَامَ تَنْقَسِمُ إلَى مُتَوَاتِرَاتٍ وَهِيَ مَقْطُوعٌ بها وَإِلَى ما ليس كَذَلِكَ وَهِيَ مَظْنُونَةٌ وَبُرْهَانُهُ أَنَّ الظَّنَّ من الصِّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ أَيْ لَا بُدَّ له من مَظْنُونٍ وَمُتَعَلَّقُهُ الْحُكْمُ الْمُتَعَيِّنُ أو الْأَحْكَامُ التي هِيَ غَيْرُ بَالِغَةٍ حَدَّ التَّوَاتُرِ عن صَاحِبِ الشَّرْعِ فَنُرَكِّبُ قِيَاسًا فَنَقُولُ هذه الْأَحْكَامُ أو هذا الْحُكْمُ الْمُعَيَّنُ مُتَعَلِّقُ الظَّنِّ وما هو مُتَعَلِّقُ الظَّنِّ فَهُوَ مَظْنُونٌ أو هذا الْحُكْمُ مَظْنُونٌ
____________________
(1/96)
ثُمَّ نَقُولُ هذه الْأَحْكَامُ مَظْنُونَةٌ وَلَا شَيْءَ من الْمَظْنُونِ بِمَعْلُومٍ فَلَا شَيْءَ من هذه الْأَحْكَامِ بِمَعْلُومٍ وَأَمَّا الدَّلِيلُ الذي ذَكَرَهُ الرَّازِيَّ فَإِنَّمَا يُنْتِجُ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ مَعْلُومٌ وهو بَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ قَطْعِيًّا مُسَلَّمٌ وَلَكِنَّهُ حُكْمٌ من الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَيْسَ هو الْأَحْكَامَ الْفِقْهِيَّةَ التي في أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ التي تُقَامُ عليها الْأَدِلَّةُ الْعِلْمِيَّةُ وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ هذا أَنَّا نَبْنِي هذه الْمَسْأَلَةَ على ما نَخْتَارُهُ وهو أَنَّ لِلَّهِ حُكْمًا مُعَيَّنًا في الْوَاقِعَةِ وهو مَطْلُوبُ الْمُجْتَهِدِينَ وَمَنْصُوبٌ عليه الدَّلَائِلُ فَمَنْ أَصَابَ ذلك الْحُكْمَ فَهُوَ مُصِيبٌ مُطْلَقًا وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَلِلَّهِ عليه حُكْمٌ آخَرُ شَرْطُهُ عَدَمُ إدْرَاكِ ذلك الْحُكْمِ الْأَوَّلِ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ وهو وُجُوبُ الْمَصِيرِ إلَى ما غَلَبَ على ظَنِّهِ وَهَذَا الْحُكْمُ مَعْلُومٌ وَلَيْسَ يَلْزَمُ من كَوْنِ هذا مَعْلُومًا كَوْنُ الْأَوَّلِ مَعْلُومًا وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ الْمُخْتَارُ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى في الْوَاقِعَةِ حُكْمًا مُعَيَّنًا طَلَبَ الْعِبَادَ أَنْ يَقِفُوا عليه بِدَلَائِلِهِ الْمَنْصُوبَةِ وَلَيْسَ هذا بِالْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ فإذا لم يَقَعْ الْعُثُورُ عليه أو ظُنَّ أَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُهُ نَشَأَ هَاهُنَا حُكْمٌ آخَرُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ وهو وُجُوبُ الْعَمَلِ بِمَا غَلَبَ على ظَنِّهِ وَلْيُسَمَّ هذا بِالْحُكْمِ الْفَرْعِيِّ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ الرَّدُّ على أَنَّ الْأَحْكَامَ مَعْلُومَةٌ من حَيْثُ إنَّهَا مَبْنِيَّةٌ على مُقَدِّمَتَيْنِ قَطْعِيَّتَيْنِ وما كان مَبْنِيًّا على مُقَدِّمَتَيْنِ قَطْعِيَّتَيْنِ فَهُوَ مَعْلُومٌ فَالْفِقْهُ مَعْلُومٌ وَقُرِّرَ كَوْنُهَا مَبْنِيَّةً على مُقَدِّمَتَيْنِ قَطْعِيَّتَيْنِ بِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ على قِيَامِ الظَّنِّ بِالْأَحْكَامِ وَعَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ قَائِمٌ على أَنَّ الْوَاجِبَ على الْمُجْتَهِدِ اتِّبَاعُ ظَنِّهِ فَيُرَتَّبُ هذا الْحُكْمُ على مُقَدِّمَةٍ وِجْدَانِيَّةٍ وَمُقَدِّمَةٍ إجْمَاعِيَّةٍ وَكِلْتَاهُمَا قَطْعِيَّتَانِ فَنَقُولُ الذي ثَبَتَ من هذا أَنَّ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ قَطْعِيٌّ لِأَنَّا نَقُولُ هَكَذَا الظَّنُّ بهذا الْحُكْمِ حَاصِلٌ قَطْعًا وإذا حَصَلَ الظَّنُّ بِحُكْمٍ وَجَبَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ فيه قَطْعًا فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ في هذا الْحُكْمِ قَطْعًا لَكِنَّ هذه النَّتِيجَةَ مَسْأَلَةٌ من مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُ أَنَّ بَعْضَ الْأَحْكَامِ مَعْلُومَةٌ قَطْعًا
____________________
(1/97)
الْخِطَابُ عَرَّفَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ بِأَنَّهُ الْكَلَامُ الْمَقْصُودُ منه إفْهَامُ من هو مُتَهَيِّئٌ لِلْفَهْمِ وَعَرَّفَهُ قَوْمٌ بِأَنَّهُ ما يُقْصَدُ بِهِ الْإِفْهَامُ أَعَمُّ من أَنْ يَكُونَ من قَصَدَ إفْهَامَهُ مُتَهَيِّئًا أَمْ لَا قِيلَ وَالْأَوْلَى أَنْ يُفَسَّرَ بِمَدْلُولِ ما يُقْصَدُ بِهِ الْإِفْهَامُ لِأَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ هو النَّفْسِيُّ وَالنَّفْسِيُّ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْإِفْهَامُ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَصْدَ الْخِطَابِ مع النَّفْسِ أو الْعَيْنِ سَوَاءٌ وفي وَصْفِ كَلَامِ اللَّهِ في الْأَزَلِ بِالْخِطَابِ خِلَافٌ الصَّحِيحُ وَبِهِ قال الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ يُسَمَّى خِطَابًا عِنْدَ وُجُودِ الْمُخَاطَبِ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وهو الصَّحِيحُ وَجَزَمَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ بِالْمَنْعِ لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ إلَّا من مُخَاطِبٍ وَمُخَاطَبٍ وَكَلَامُهُ قَدِيمٌ فَلَا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِالْحَادِثِ وَتَابَعَهُ الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى ثُمَّ قال وَهَلْ يُسَمَّى أَمْرًا فيه خِلَافٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُسَمَّى بِهِ إذْ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ فِيمَنْ أَوْصَى أَوْلَادَهُ بِالتَّصَدُّقِ بِمَالِهِ فُلَانٌ أَمَرَ أَوْلَادَهُ بِكَذَا وَإِنْ كان بَعْضُهُمْ مُجْتَنًّا في الْبَطْنِ أو مَعْدُومًا وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ خَاطَبَهُمْ إلَّا إذَا حَضَرُوهُ وَسَمِعُوهُ انْتَهَى وَهَذَا بَنَاهُ على أَنَّ الْمَعْدُومَ يَصِحُّ تَعَلُّقُ الْأَمْرِ بِهِ وقال في الِاقْتِصَادِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ يُطْلَقُ على اللَّهِ تَعَالَى في الْأَزَلِ آمِرٌ وَنَاهٍ وَإِنْ كان لَا مَأْمُورَ هُنَاكَ كما جُوِّزَ تَسْمِيَتُهُ قَادِرًا قبل وُجُودِ الْمَقْدُورِ قال وَالْبَحْثُ في هذه الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ يَرْجِعُ إلَى اللُّغَةِ من حَيْثُ جَوَازُ الْإِطْلَاقِ وَأَمَّا من جِهَةِ الْمَعْنَى فَالِاقْتِضَاءُ الْقَدِيمُ مَعْقُولٌ وَإِنْ كان سَابِقًا على وُجُودِ الْمَأْمُورِ كما في حَقِّ الْوَلَدِ خِطَابُ التَّكْلِيفِ وَخِطَابُ الْوَضْعِ خِطَابُ الشَّرْعِ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا خِطَابُ التَّكْلِيفِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِبَاحَةِ وَمُتَعَلَّقُهُ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ وَالنَّدْبُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ لِأَنَّ لَفْظَ التَّكْلِيفِ يَدُلُّ عليه وَإِطْلَاقُ التَّكْلِيفِ على الْكُلِّ مَجَازٌ من بَابِ إطْلَاقِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْجُزْءِ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ في الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هو لِلْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمُ
____________________
(1/98)
وَالنِّسْيَانُ يُؤَثِّرُ في هذا الْقِسْمِ وَلِهَذَا لَا يَأْثَمُ النَّاسِي بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ وَلَا بِفِعْلِ الْمَنْهِيِّ الثَّانِي خِطَابُ الْوَضْعِ الذي أخبرنا أَنَّ اللَّهَ وَضَعَهُ وَيُسَمَّى خِطَابَ الْإِخْبَارِ وهو خَمْسَةٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْوَصْفَ الظَّاهِرَ الْمُنْضَبِطَ الْمُتَضَمِّنَ حِكْمَةَ الذي رُبِطَ بِهِ الْحُكْمُ إنْ نَاسَبَ الْحُكْمَ فَهُوَ السَّبَبُ وَالْعِلَّةُ وَالْمُقْتَضِي وَإِنْ نَافَاهُ فَالْمَانِعُ وَتَالِيهِ الشَّرْطُ ثُمَّ الصِّحَّةُ ثُمَّ الْعَزِيمَةُ وَتُقَابِلُهَا الرُّخْصَةُ فَالْأَوَّلُ أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ وَنِصَابُ الزَّكَاةِ وَالثَّانِي كَالدَّيْنِ في الزَّكَاةِ وَالْقَتْلِ في الْمِيرَاثِ وَالنَّجَاسَةِ في الصَّلَاةِ وَالثَّالِثُ كَالْحَوْلِ في الزَّكَاةِ وَالطَّهَارَةِ في الصَّلَاةِ وَالرَّابِعُ الْحُكْمُ على الشَّيْءِ بِالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ وَالْخَامِسُ كَحِلِّ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ وَسَنَتَكَلَّمُ على جُمْلَةِ الْأَقْسَامِ في فَصْلِ خِطَابِ الْوَضْعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وزاد الْجِيلِيُّ من أَصْحَابِنَا في كِتَابِ الْإِعْجَازِ وَالْقَرَافِيُّ التَّقْدِيرَاتِ وَهِيَ إعْطَاءُ الْمَوْجُودِ حُكْمَ الْمَعْدُومِ وَبِالْعَكْسِ فَالْأَوَّلُ كَالنَّجَاسَاتِ الْمَعْفُوِّ عنها تُقَدَّرُ في حُكْمِ الْمَعْدُومَةِ وَالثَّانِي كَالْمِلْكِ الْمَقْدُورِ في قَوْلِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِكَذَا فَيُقَدِّرُ له الْمِلْكَ حتى يَثْبُتَ وَلَاءُ الْعِتْقِ له وَيُقَدَّرُ الْمِلْكُ في دِيَةِ الْمَقْتُولِ خَطَأً قبل مَوْتِهِ حتى يَصِحَّ فيها الْإِرْثُ وَتَقْدِيرُ الْمِلْكِ قُبَيْلَ الشَّهَادَةِ قال الْجِيلِيُّ ثُمَّ التَّقْدِيرُ يَنْقَسِمُ إلَى تَقْدِيرِ صِفَةٍ شَرْعِيَّةٍ في الْمَحَلِّ يَظْهَرُ أَثَرُهَا في الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ كَتَقْدِيرِ مِلْكِ الْيَمِينِ وَمِلْكِ النِّكَاحِ وَإِلَى تَقْدِيرِ أَعْيَانٍ مَحْسُوسَةٍ هِيَ في نَفْسِهَا مَعْدُومَةٌ مُسْتَحَقَّةٌ في الذِّمَّةِ كَتَقْدِيرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ في الْحَيَوَانَاتِ وَالْحُكْمُ يُطْلَقُ على هذه الْجِهَاتِ كُلِّهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ بَيْنَهُمَا اتِّفَاقًا وَافْتِرَاقًا وما وَقَعَ بِهِ الِاتِّفَاقُ إنَّمَا هو الْخِطَابُ فَقَطْ وُجُوهُ الِافْتِرَاقِ بين الْخِطَابَيْنِ وَيَفْتَرِقَانِ من وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ التَّكْلِيفِيَّ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ وَالْوَضْعِيَّ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ فَلَوْ أَتْلَفَتْ الدَّابَّةُ أو الصَّبِيُّ شيئا ضَمِنَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ وَالْوَلِيُّ في مَالِ الصَّبِيِّ الثَّانِي أَنَّ التَّكْلِيفِيَّ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْكَسْبِ بِخِلَافِ الْوَضْعِيِّ وَلِهَذَا لو قَتَلَ خَطَأً وَجَبَتْ الدِّيَةُ على الْعَاقِلَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ الْقَتْلُ مُكْتَسَبًا لهم فَوُجُوبُ الدِّيَةِ عليهم ليس
____________________
(1/99)
من بَابِ التَّكْلِيفِ لِاسْتِحَالَةِ التَّكْلِيفِ بِفِعْلِ الْغَيْرِ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ فِعْلَ الْغَيْرِ سَبَبٌ لِثُبُوتِ هذا الْحَقِّ في ذِمَّتِهِمْ الثَّالِثُ أَنَّ الْوَضْعِيَّ خَاصٌّ بِمَا رُتِّبَ الْحُكْمُ فيه على وَصْفٍ أو حِكْمَةٍ إنْ جَوَّزْنَا التَّعْلِيلَ بها فَلَا يَجْرِي في الْأَحْكَامِ الْمُرْسَلَةِ الْغَيْرِ الْمُضَافَةِ إلَى الْأَوْصَافِ وَلَا في الْأَحْكَامِ التَّعَبُّدِيَّةِ التي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا وَلِهَذَا لو أَحْرَمَ ثُمَّ جُنَّ ثُمَّ قَتَلَ صَيْدًا لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ في مَالِهِ على الْأَصَحِّ وَوَجَّهَهُ ابن الصَّبَّاغِ وَالرَّافِعِيُّ بِأَنَّ الصَّيْدَ على الْإِبَاحَةِ وَإِنَّمَا يُمْنَعُ من قَتْلِهِ تَعَبُّدًا فَلَا يَجِبُ إلَّا على مُكَلَّفٍ قُلْت وَبِهِ يَظْهَرُ فَسَادُ قَوْلِ من ظَنَّ أَنَّهُ من بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ وقال الْأَرْجَحُ فيه الضَّمَانُ وقال النَّوَوِيُّ في شَرْحِ الْمُهَذَّبِ إنَّهُ الْأَقْيَسُ وَلَيْسَ كما قال الرَّابِعُ أَنَّ خِطَابَ التَّكْلِيفِ هو الْأَصْلُ وَخِطَابَ الْوَضْعِ على خِلَافِهِ فَالْأَصْلُ أَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ أَوْجَبْت عَلَيْكُمْ أو حَرَّمْت وَأَمَّا جَعْلُهُ الزِّنَى وَالسَّرِقَةَ عَلَمًا على الرَّجْمِ وَالْقَطْعِ فَبِخِلَافِ الْأَصْلِ نعم خِطَابُ الْوَضْعِ يَسْتَلْزِمُ خِطَابَ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْلَمُ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ الْآيَةَ وَنَحْوِهِ من الْخِطَابَاتِ اللَّفْظِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِلْأَحْكَامِ الْوَضْعِيَّةِ بِخِلَافِ خِطَابِ اللَّفْظِ فإنه لَا يَسْتَلْزِمُ خِطَابَ الْوَضْعِ كما لو قال لَا يُتَوَضَّأُ إلَّا من حَدَثٍ فإن هذا خِطَابٌ لَفْظِيٌّ يُعْقَلُ تَجَرُّدُهُ عن سَبَبِ وَضْعٍ أو غَيْرِهِ وَيُعْلَمُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ على الْوَضْعِيِّ عِنْدَ التَّعَارُضِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَمِنْهُمْ من يُقَدِّمُ الْوَضْعِيَّ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ على فَهْمٍ وَتَمَكُّنٍ حَكَاهُ الْآمِدِيُّ في بَابِ التَّرَاجِيحِ الْخَامِسُ أَنَّ الْوَضْعِيَّ لَا يُشْتَرَطُ فيه قُدْرَةُ الْمُكَلَّفِ عليه وَلَا عِلْمُهُ فَيُورَثُ بِالسَّبَبِ وَيُطْلَقُ بِالضَّرَرِ وَإِنْ كان الْوَارِثُ وَالْمُطْلِقُ عليه غير عَالِمَيْنِ وَلَوْ أَتْلَفَ النَّائِمُ شيئا أو رَمَى إلَى صَيْدٍ في مِلْكِهِ فَأَصَابَ إنْسَانًا ضَمِنَهُ وَإِنْ لم يَعْلَمَا وَتَحِلُّ الْمَرْأَةُ بِعَقْدِ وَلِيِّهَا عليها وَتَحْرُمُ بِطَلَاقِ زَوْجِهَا وَإِنْ كانت لَا تَعْلَمُ وَيُسْتَثْنَى من عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَسْبَابُ الْعُقُوبَاتِ كَالْقِصَاصِ لَا يَجِبُ على الْمُخْطِئِ في الْقَتْلِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ وَحَدِّ الزِّنَى لَا يَجِبُ في الشُّبْهَةِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ وَلَا من أُكْرِهَ على الزِّنَى لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ على الِامْتِنَاعِ
____________________
(1/100)
الثَّانِي الْأَسْبَابُ النَّاقِلَةُ لِلْمِلْكِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِهَا يُشْتَرَطُ فيها الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ فَلَوْ تَلَفَّظَ بِلَفْظٍ نَاقِلٍ لِلْمِلْكِ وهو لَا يَعْلَمُ بِمُقْتَضَاهُ لِكَوْنِهِ أَعْجَمِيًّا لم يَلْزَمْهُ مُقْتَضَاهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عن تَرَاضٍ
____________________
(1/101)
على الوصف الذي يظن أنه أمارة ثم يؤمر بتعديته وهو حكم السببية ولا معنى للحكم الثابت بالأسباب إلا هذا . أ هـ . والتحقيق : أنه لا يحتاج إلى غير إثبات الحكم ؛ لأنه المقصود . فلا حاجة إلى أن يقول : لله في كل واقعة حكمان : أحداهما : نصب الشيء سببا . والثاني : إثبات الحكم ؛ إذ المقصود حاصل بإثبات الحكم فلا حاجة إلى الوضع الثاني وهو نصب الشيء سببا . وهذا كما يقول في باب القياس : عرفنا أن النص حجة ثم النص إنما كان معرفا وهذا حكم من جهة الشارع وراء ثبوت الحكم فكذلك ههنا فإنه المقصود الأعلى . تنبيهان التنبيه الأول : خطاب الشارع إما لفظي أو وضعي : ما ذكرناه من تقسيم الخطاب إلى تكليفي ووضعي تابعناهم فيه وفيه نظر لأن مقصود خطاب الوضع الطلب كما بينا . فالأحسن أن يقال : خطاب الشارع ما لفظي أو وضعي . أي : ثابت بالألفاظ نحو وأقيموا الصلاة ( سورة البقرة : 43 ) أو عند الأسباب كقوله : إذا زالت الشمس وجبت الظهر . فاللفظ أثبت وجوب الصلاة والوضع عين وقت وجوبها . التَّنْبِيهُ الثَّانِي اُسْتُشْكِلَ جَعْلُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ جِنْسًا لِلْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ وما أُلْحِقَ بِهِ من خِطَابِ الْوَضْعِ لِأَنَّ الْجِنْسَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ صَادِقًا على نَوْعَيْنِ خَارِجِيَّيْنِ فَيَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الذي هو الْجِنْسُ صَادِقًا على خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ أو سِتَّةٍ وَالْأَنْوَاعُ مُخْتَلِفَةُ الْحَقَائِقِ جَزْمًا فَيَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ خِطَابُ التَّحْرِيمِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْكَرَاهَةِ مُخْتَلِفَاتِ الْحَقَائِقِ لِنَوْعِيَّتِهَا وَهِيَ أَنْوَاعٌ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الذي هو الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ وَيَلْزَمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ الذي هو كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً وَاحِدَةً بَلْ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ وَذَلِكَ بَاطِلٌ على أَصْلِ الْأَشَاعِرَةِ وَإِنْ قِيلَ لَا أَجْعَلُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ جِنْسًا لِلْخَمْسَةِ أو السِّتَّةِ بَلْ أَجْعَلُهُ عَرَضًا عَامًّا فَفَاسِدٌ لِأَنَّ الْعَرَضَ الْعَامَّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ صَادِقًا على نَوْعَيْنِ وَإِلَّا لَكَانَ خَاصَّةً فَيَعُودُ الْإِشْكَالُ
____________________
(1/102)
فيعود الإشكال . فصل فِيمَا يُعْلَمُ بِهِ خِطَابُ اللَّهِ وَخِطَابُ رَسُولِهِ ذَكَرَهُ أبو نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ في أُصُولِهِ فِيمَا يُعْلَمُ بِهِ خِطَابُ اللَّهِ وَخِطَابُ رَسُولِهِ قال الْقَاضِي خِطَابُ اللَّهِ إذَا اتَّصَلَ بِالْخَلْقِ على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا بِلَا وَاسِطَةٍ مُوسَى عليه السَّلَامُ وَالْمَلَائِكَةِ وَمَنْ يُحَمِّلُهُمْ اللَّهُ وَحْيَهُ وَلَا طَرِيقَ إلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ إلَّا الِاضْطِرَارَ فإذا خَاطَبَ اللَّهُ عَبْدًا خَلَقَ له عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِأَنَّ مُخَاطِبَهُ هو اللَّهُ تَعَالَى وَأَنَّ اللَّهَ الذي يُسْمِعُ كَلَامَ اللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ يُخَالِفُ الْأَجْنَاسَ فَلَا يُتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِمَعْرِفَةِ اللُّغَاتِ وَالْعِبَارَاتِ وَلَا تَدُلُّ عليه دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ وقال الْقَلَانِسِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بن سَعِيدٍ وَغَيْرُهُمَا من سَلَفِنَا إنَّ نَفْسَ سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ يَعْقُبُ الْعِلْمَ بِهِ لَا مَحَالَةَ قال الْقَاضِي وَهَذَا مِمَّا لَا أَرْتَضِيهِ وَأُجَوِّزُ سَمَاعَ اللَّهِ مع الذُّهُولِ عن كَوْنِهِ كَلَامًا لِلَّهِ وَالثَّانِي مِمَّا يَتَّصِلُ بِالْمُخَاطَبِ بِوَاسِطَةٍ فَهَذَا مُرَتَّبٌ على الْعِلْمِ بِصِدْقِ الرَّسُولِ عليه السَّلَامُ أَوَّلًا وَوُجُوبِ عِصْمَتِهِ عن الْخَلْفِ وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ ذلك بِالْمُعْجِزَةِ وَأَمَّا مَعْرِفَةُ خِطَابِ الرَّسُولِ عليه السَّلَامُ فَيَنْقَسِمُ أَيْضًا إلَى شِفَاهٍ وَوِجَاهٍ وَإِلَى ما يُبَلَّغُ عنه فَأَمَّا ما خَاطَبَ من عَاصَرَهُ وِجَاهًا فَمِنْهُ نَصٌّ وَمِنْهُ ظَاهِرٌ وَمُجْمَلٌ وَكَذَا ما يُبَلَّغُ عنه وَالْمُجْمَلُ إنَّمَا يَتَّفِقُ في الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وما يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْآخِرَةِ لَا في التَّكَالِيفِ أَعْنِي إذَا لم يَتَّفِقْ الِاسْتِفْسَارُ في عَهْدِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مَسْأَلَةٌ لَا حَاكِمَ إلَّا الشَّرْعُ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ خِطَابُ الشَّرْعِ فَلَا حَاكِمَ على الْمُكَلَّفِينَ إلَّا الشَّرْعُ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ حَكَّمُوا الْعَقْلَ وقد اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَاتُ عن حِكَايَةِ مَذْهَبِهِمْ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ فقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ قالت الْمُعْتَزِلَةُ الْعَقْلُ يُوجِبُ وَلَا يَعْنُونَ هَاهُنَا إيجَابَ الْعِلَّةِ مَعْلُولَهَا أو أَنَّ الْعَقْلَ يَأْمُرُ فإن الِاقْتِضَاءَ منه غَيْرُ مَعْقُولٍ وهو عَرَضٌ وَالْأَمْرُ
____________________
(1/103)
يَسْتَدْعِي الرُّتْبَةَ فَإِذَنْ الْمَعْنِيُّ بِهِ أَنَّ الْعَقْلَ يُعْلِمُ وُجُوبَ بَعْضِ الْأَفْعَالِ عليه وَالْمَعْنِيُّ بِوُجُوبِهِ عِلْمُهُ بِاقْتِرَانِ ضَرَرٍ بِتَرْكِهِ وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ مَعْنَى الْوُجُوبِ وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَهَذَا منهم ادِّعَاءُ الْعِلْمِ ضَرُورَةً على وَجْهٍ يَشْتَرِكُ الْعُقَلَاءُ فيه ثُمَّ قال وقد مَالَ إلَى ما ذَكَرُوهُ طَوَائِفُ من الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ من حَيْثُ إنَّ الذي يَتَعَلَّقُ بِهِ نِظَامُ الْمَعِيشَةِ وَعِمَارَةُ الدُّنْيَا هو أَقْرَبُ إلَى الِاعْتِدَالِ وَحُسْنِ النِّظَامِ من الذي يَتَضَمَّنُ خَرَابَ الدُّنْيَا وَهَذَا الْمَذْهَبُ لَا شَكَّ في بُطْلَانِهِ قَطْعًا وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ الْعَقْلُ يَسْتَقِلُّ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ من حَيْثُ إنَّ الِاتِّبَاعَ تَمَحَّضَ نَفْعًا لَا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ وَالِامْتِنَاعُ من الِاتِّبَاعِ مَحْضُ ضَرَرٍ وَلَا يَتَأَتَّى ذلك إلَّا بَعْدَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَظْهَرَ الْمُعْجِزَةَ على يَدِهِ لِيُصَدِّقَهُ وَهَذَا الْعِلْمُ يَحْصُلُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ من جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَفْعَلُ الْقَبِيحَ وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ من جِهَةِ أَنَّهُ لو لم يُقَدِّرْ ذلك لم تَكُنْ مَعْرِفَةُ الصِّدْقِ من جَائِزَاتِ الْعَقْلِ وَذَلِكَ مُحَالٌ وَاَلَّذِي يُعْلَمُ بِالشَّرْعِ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ وَنَفْعٌ مَحْضٌ على ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ حُكْمٌ وما يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ من عِلَّةٍ وَتَسَبُّبٍ وَالْأَدِلَّةُ على عِلَّةِ الْحُكْمِ وقال ابن بَرْهَانٍ اعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَإِنْ أَطْلَقُوا أَقْوَالَهُمْ بِأَنَّ الْعَقْلَ يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ لم يُرِيدُوا بِهِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ فإن الْعَقْلَ عِبَارَةٌ عن بَعْضِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْعِلْمُ لَا يُوجِبُ الْمَعْلُومَ إيجَابَ الْعِلَّةِ الْمَعْلُولَ وَإِنَّمَا عَنَوْا بِهِ أَنَّ الْعَقْلَ يَكْشِفُ عن حُسْنِ الْحَسَنِ وَقُبْحِ الْقَبِيحِ فَعِنْدَ ذلك انْقَسَمُوا فَمِنْهُمْ من ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْحَسَنَ حَسَنٌ لِذَاتِهِ وَكَذَا الْقَبِيحُ وَمِنْهُمْ من صَارَ إلَى أَنْ قَبَّحَ الصِّفَةَ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُنَا قالوا إنَّ الْحَسَنَ ما حَسَّنَهُ الشَّرْعُ وَالْقَبِيحَ ما قَبَّحَهُ وما عَنَوْا بِهِ الْإِيجَابَ وَإِنَّمَا عَنَوْا بِهِ أَنَّ الْحَسَنَ هو الْمَقُولُ فيه لَا تَفْعَلْ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ عِنْدَنَا لَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ لَكِنْ نَحْنُ نَقُولُ إنَّ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ حَقَائِقُ ثَابِتَةٌ في أَنْفُسِهَا دَالَّةٌ على مَدْلُولَاتِهَا وَمُقْتَضِيَةٌ أَحْكَامَهَا إلَّا أَنَّا لَا نَعْتَقِدُ ذلك وَالْمُعْتَزِلَةُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لِلْعَقْلِ أَحْكَامًا وَهَذَا الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ الناس وقال النَّظَرُ في الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِحَالٍ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ ذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْبَرَاهِمَةُ إلَى أَنَّ الْعُقُولَ طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ وَالْوَاجِبِ وَالْمَحْظُورِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا في وَجْهِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ على الْعَقْلِ فقالت الْمُعْتَزِلَةُ هو خَاطِرٌ من قِبَلِ اللَّهِ يَدْعُوهُ إلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَشَرَعَ الرُّسُلُ ما قَبُحَ في الْعَقْلِ كَذَبْحِ الْبَهَائِمِ وَتَسْخِيرِ الْحَيَوَانِ وَإِتْلَافِهِ
____________________
(1/104)
قالوا وَإِنَّمَا حَسُنَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِهِ لِلْغَرَضِ الْمَقْصُودِ منه وَخَالَفَهُمْ أبو هَاشِمٍ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَوْلَا وُرُودُ الشَّرْعِ بِذَلِكَ لم يَكُنْ مَعْلُومًا جَوَازُ حُسْنِهِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا في صِفَةِ الْخَاطِرِ فقال النَّظَّامُ هو جِسْمٌ مَحْسُوسٌ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُ خَاطِرًا لِطَاعَةٍ وَخَاطِرًا لِمَعْصِيَةٍ في قَلْبِ الْعَاقِلِ فَيَدْعُوهُ بِأَحَدِ الْخَاطِرَيْنِ إلَى طَاعَتِهِ لِيَفْعَلَهَا وَيَدْعُوهُ بِالْآخَرِ لِيَتْرُكَهَا وقال الْجُبَّائِيُّ يَدْخُلُ الشَّيْطَانُ في خَرْقِ أُذُنِ الْإِنْسَانِ إلَى مَوْضِعِ سِنِّهِ أو قَلْبِهِ فَيَهْمِسُ وَيَتَكَلَّمُ بِمَا يَدْعُو إلَيْهِ قال فَالْخَاطِرُ الذي من قِبَلِ اللَّهِ كَالْعِلْمِ وَنَحْوِهِ وقال ابْنُهُ أبو هَاشِمٍ هو قَوْلٌ خَفِيٌّ يُلْقِيهِ اللَّهُ في قَلْبِهِ كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَكَذَلِكَ الْخَاطِرُ الذي يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ في قَلْبِ الْعَاقِلِ وَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهَذِهِ التُّرَّهَاتِ قال وَذَهَبَ أَهْلُ الْحَقِّ إلَى أَنَّ طَرِيقَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِ النَّظَرِ في الْعَقْلِيَّاتِ وَالسَّمْعِيَّاتِ السَّمْعُ دُونَ الْعَقْلِ وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ صِحَّةُ ما يَصِحُّ كَوْنُهُ وَوُجُوبُ وُجُودِ ما يَجِبُ وُجُودُهُ وَاسْتِحَالَةُ كَوْنِ ما يَسْتَحِيلُ كَوْنُهُ وَصِحَّةُ ما يَصِحُّ وُرُودُ الشَّرْعِ بِهِ جَوَازًا بِكُلِّ ما وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ من وَاجِبٍ وَمَحْظُورٍ وَمُبَاحٍ وَمَكْرُوهٍ وَمَسْنُونٍ فَقَدْ كان في الْعَقْلِ جَوَازُ وُرُودِ الشَّرْعِ على الْوَجْهِ الذي وَرَدَ بِهِ وكان فيه أَيْضًا جَوَازُ وُرُودِ الشَّرْعِ بِتَحْرِيمِ ما أَوْجَبَهُ وَإِيجَابِ ما حَرَّمَهُ ولم يَكُنْ فيه دَلَالَةٌ على وُجُوبِ فِعْلٍ وَلَا على تَحْرِيمِهِ قبل وُرُودِ الشَّرْعِ وَقَالُوا أَيْضًا لو تَوَهَّمْنَا خَلْقَ الْعَاقِلِ قبل وُرُودِ السَّمْعِ عليه وَاسْتَدَلَّ ذلك الْعَاقِلُ على مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَوَصَلَ إلَيْهَا لم يَسْتَحِقَّ بِذَلِكَ ثَوَابًا وَلَوْ جَحَدَهُ بِهِ وَكَوْنُهُ لم يَسْتَحِقَّ عِقَابًا وَلَوْ عَذَّبَهُ اللَّهُ أَبَدًا في النَّارِ لَكَانَ عَدْلًا وَإِنَّمَا كان كَإِيلَامِ الطِّفْلِ في الدُّنْيَا وَالْعِقَابُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا من تَعَلَّقَ بِهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ خِطَابًا أو بِوَاسِطَةِ الرِّسَالَةِ ثُمَّ عَصَاهُ هذا قَوْلُ شَيْخِنَا أبي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَبِهِ قال أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَكُلُّ من لم يَتَمَعْزَلْ من أَصْحَابِ الرَّأْيِ وقال في كِتَابِ التَّحْصِيلِ إنَّهُ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ من أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِ الحديث وقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ في تَعْلِيقِهِ مَذْهَبُ أَصْحَابِ الحديث عَامَّةً إنَّهُ لَا تَجِبُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ قبل السَّمْعِ وَذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ عليه ذلك قبل وُرُودِ السَّمْعِ وَقَبْلَ وُرُودِ الدَّعْوَةِ وَإِلَّا فَهُوَ مُرْتَدٌّ كَافِرٌ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ من قَتَلَ مِمَّنْ تَبْلُغُهُ
____________________
(1/105)
الدَّعْوَةُ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا دِيَةَ عليه لِأَنَّهُ مُشْرِكٌ مُرْتَدٌّ مُعَانِدٌ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في تَلْخِيصِ كِتَابِ الْقَاضِي بَحْثُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ يَرْجِعُ إلَى ما يَحْسُنُ وَيَقْبُحُ في التَّكْلِيفِ وَهُمَا رَاجِعَانِ إلَى حُكْمِ الرَّبِّ شَرْعًا لَا إلَى وَصْفِ الْعَقْلِ وَصَارَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَنَّ قُبْحَ الْقَبِيحِ يَرْجِعُ إلَى ذَاتِهِ وَالْأَكْثَرُونَ منهم صَارُوا إلَى مِثْلِ ذلك في الْحُسْنِ وَأَمَّا أَهْلُ الْحَقِّ فَقَالُوا لَا يُدْرَكُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ حُسْنٌ وَلَا قُبْحٌ لِأَنَّ الْحَسَنَ ما وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَعْظِيمِهِ وَالْقَبِيحَ ما وَرَدَ بِذَمِّهِ فَالْحُسْنُ وَالْقُبْحُ على التَّحْقِيقِ هو عَيْنُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الشَّرْعِيَّيْنِ وقد أَطْبَقَتْ الْمُعْتَزِلَةُ على أَنَّ حُسْنَ الْمَعْرِفَةِ وَالشُّكْرِ وَقُبْحَ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ مِمَّا يُدْرَكُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وقال عبد الْجَلِيلِ في شَرْحِ اللُّمَعِ أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ على أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ أَحَدُهَا ما يُعْلَمُ حُسْنُهُ بِالْعَقْلِ وَلَا مَجَالَ لِلسَّمْعِ فيه كَشُكْرِ الْمُنْعِمِ وَالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَالْعِلْمِ وَالثَّانِي ما يُعْلَمُ قُبْحُهُ بِالْعَقْلِ وهو ضِدُّ ما ذَكَرْنَا من الْجَوْرِ وَكُفْرِ الْمُنْعِمِ وَالْجَهْلِ وَهَذَانِ الضَّرْبَانِ يُعْلَمَانِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ وَالثَّالِثُ ما في مَعْلُومِ اللَّهِ أَنَّ فِعْلَهُ يُؤَدِّي إلَى فِعْلِ ما هو حَسَنٌ في الْعَقْلِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ حَسَنٌ إلَّا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ حُسْنَهُ إلَّا بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالرَّابِعُ ما هو في مَعْلُومِ اللَّهِ أَنَّهُ قَبِيحٌ وَلَا يُعْلَمُ حتى يَرِدَ السَّمْعُ فَيَكُونَ تَرْكُهُ دَاعِيًا إلَى الْقُبْحِ في الْعَقْلِ كَالزِّنَى وَاللِّوَاطِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَقَتْلِ النَّفْسِ فَهَذَا لَا يُعْلَمُ قُبْحُهُ إلَّا بَعْدَ وُرُودِ السَّمْعِ هذا مَذْهَبُهُمْ في تَقْسِيمِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وقال الْإِمَامُ أبو نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ في الْمُرْشِدِ الشَّيْءُ عِنْدَنَا لَا يَحْسُنُ وَلَا يَقْبُحُ لِنَفْسِهِ بَلْ إنَّمَا تَرْجِعُ الْأَحْكَامُ إلَى قَوْلِ الشَّارِعِ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ لَا يَتَوَقَّفُ إدْرَاكُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ على السَّمْعِ بَلْ يُدْرَكَانِ بِالْعَقْلِ ثُمَّ منها ما يُدْرَكُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ كَالْكُفْرِ وَالضَّرَرِ الْمَحْضِ وَمِنْهَا ما يُدْرَكُ بِنَظَرِهِ كَوُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ قال وَمَنْ قال من أَئِمَّتِنَا لَا يُدْرَكُ الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ إلَّا بِالشَّرْعِ فَهُوَ مُتَجَوِّزٌ لِأَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّ الْحُسْنَ زَائِدٌ على الشَّرْعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فإن الْحَسَنَ عِبَارَةٌ عن نَفْسِ وُرُودِ
____________________
(1/106)
الشَّرْعِ بِالثَّنَاءِ على فَاعِلِهِ وَكَذَا الْقَبِيحُ وقال في كِتَابِهِ في أُصُولِ الْفِقْهِ مَعْنَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ إنَّهُ يُقَبَّحُ كَذَا أو يُحَسَّنُ كَذَا عَقْلًا أَنَّهُ يُدْرَكُ ذلك مِنْهُمَا من غَيْرِ إخْبَارِ مُخْبِرٍ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ الذي ذَهَبَ إلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ التَّكْلِيفَ مُخْتَصٌّ بِالسَّمْعِ دُونَ الْعَقْلِ وَأَنَّ الْعَقْلَ بِذَاتِهِ ليس بِدَلِيلٍ على تَحْسِينِ شَيْءٍ وَلَا تَقْبِيحِهِ وَلَا حَظْرٍ وَلَا إبَاحَةٍ وَلَا يُعْرَفُ شَيْءٌ من ذلك حتى يَرِدَ السَّمْعُ فيه وَإِنَّمَا الْعَقْلُ آلَةٌ تُدْرَكُ بها الْأَشْيَاءُ فَيُدْرَكُ بِهِ حُسْنٌ وَقُبْحٌ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ ذلك بِالسَّمْعِ وقد ذَهَبَ إلَى هذا الْمَذْهَبِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ وَهُمْ الَّذِينَ امْتَازُوا عن مُتَكَلِّمِي الْمُعْتَزِلَةِ وَذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاعَةٌ من الْحَنَفِيَّةِ وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ من أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ لِلْعَقْلِ مَدْخَلًا في التَّكْلِيفِ لِأَنَّ الْحَسَنَ وَالْقَبِيحَ ضَرْبَانِ ضَرْبٌ عُلِمَ بِالْعَقْلِ وَضَرْبٌ عُلِمَ بِالسَّمْعِ فَأَمَّا الْمَعْلُومُ حُسْنُهُ بِالْعَقْلِ فَهُوَ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ وَالصِّدْقُ وَشُكْرُ الْمُنْعِمِ وَغَيْرُ ذلك وَأَمَّا الْمَعْلُومُ حُسْنُهُ بِالشَّرْعِ فَنَحْوُ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهِ وَأَمَّا الْمَعْلُومُ قُبْحُهُ بِالشَّرْعِ فَكَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ قالوا وَسَبِيلُ السَّمْعِ إذَا وَرَدَ بِمُوجِبِ الْعَقْلِ يَكُونُ وُرُودُهُ مُؤَكِّدًا لِمَا في الْعَقْلِ إيجَابِهِ وَقَضِيَّتِهِ وَزَعَمُوا أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ على مَعْرِفَةِ الصَّانِعِ وَاجِبٌ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ قبل وُرُودِ السَّمْعِ بِهِ وَدُعَاءِ الشَّرْعِ إلَيْهِ وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَسْرِهِمْ وَذَهَبَ إلَيْهِ من أَصْحَابِنَا أبو بَكْرٍ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وأبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وأبو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ وَالْقَاضِي أبو حَامِدٍ وَغَيْرُهُمْ وَالْحَلِيمِيُّ من الْمُتَأَخِّرِينَ وَذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ من أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ خُصُوصًا الْعِرَاقِيِّينَ منهم وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَبَّخَ الْكُفَّارَ على تَرْكِهِمْ الِاسْتِدْلَالَ بِعُقُولِهِمْ على وَحْدَانِيِّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ بِمَا يُشَاهِدُونَهُ في أَنْفُسِهِمْ وَغَيْرِهِمْ فقال لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وقال لِأُولِي النُّهَى وقال أَفَلَا تَعْقِلُونَ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَقَالُوا لو كنا نَسْمَعُ أو نَعْقِلُ قال وَالصَّحِيحُ هو الْأَوَّلُ وَإِيَّاهُ نَخْتَارُ وَنَزْعُمُ أَنَّهُ شِعَارُ السُّنَّةِ وَدَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى وما كنا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا ولم يَقُلْ حتى نُرَكِّبَ عُقُولًا وقال حِكَايَةً عن الْمَلَائِكَةِ في خِطَابَاتِهِمْ مع أَهْلِ النَّارِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ وقال تَعَالَى أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ فَدَلَّ على أَنَّ الْحُجَّةَ إنَّمَا لَزِمَتْهُمْ بِالسَّمْعِ دُونَ الْعَقْلِ وقال تَعَالَى رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ على اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ فَدَلَّ على أَنَّهُ لَا حُجَّةَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ بِحَالٍ
____________________
(1/107)
وَأَمَّا الْآيَاتُ التي ذَكَرُوهَا فَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ الْعَقْلَ آلَةُ تَمْيِيزٍ وَبِهِ تُدْرَكُ آلَةُ الْأَشْيَاءِ وَيُتَوَصَّلُ إلَى الْحُجَجِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ في أَنَّهُ بِذَاتِهِ هل يَسْتَقِلُّ بِإِيجَابٍ شَيْءٍ آخَرَ أو تَحْرِيمِهِ قال وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ كَلَامِيَّةٌ وَإِنَّمَا اقْتَصَرْنَا فيها على هذا الْقَدْرِ وَذَكَرْنَاهَا في أُصُولِ الْفِقْهِ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ في مَسَائِلَ من الْفِقْهِ انْتَهَى وما نَقَلَهُ عن الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ وَالصَّيْرَفِيُّ رَأَيْته في كِتَابَيْهِمَا في الْأُصُولِ أَمَّا الْقَفَّالُ فقال أَحْكَامُ الشَّرْعِ ضَرْبَانِ عَقْلِيٌّ وَاجِبٌ وَسَمْعِيٌّ مُمْكِنٌ فَالْأَوَّلُ ما لَا يَجُوزُ تَغَيُّرُهُ وَلَا يُتَوَهَّمُ جَوَازُ اسْتِبَاحَةِ ما يَحْظُرُ وَلَا حَظْرُ ما أُوجِبَ فِعْلُهُ كَتَحْرِيمِ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْعَدْلِ وَنَحْوِهِ وقد يَرِدُ السَّمْعُ بهذا النَّوْعِ فَيَكُونُ مُؤَكِّدًا لِمَا وَجَبَ بِالْعَقْلِ وَالثَّانِي كَأَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ وهو مَوْقُوفٌ على تَجْوِيزِ الْعَقْلِ وَقَبُولِهِ إيَّاهُ فِيمَا جَوَّزَهُ الْعَقْلُ فَهُوَ مَقْبُولٌ وما رَدَّهُ فَمَرْدُودٌ وَمَتَى وَرَدَ السَّمْعُ بِإِيجَابِهِ صَارَ وَاجِبًا إلَى أَنْ يَلْحَقَهُ النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ هذا كَلَامُهُ وَأَمَّا الصَّيْرَفِيُّ فقال في كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ الْكِتَابُ أو السُّنَّةُ أو الْإِجْمَاعُ بِمَا يَدْفَعُهُ الْعَقْلُ وإذا اسْتَحَالَ ذلك فَكُلُّ عِبَادَةٍ جاء بها الْقُرْآنُ أو السُّنَّةُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا مُؤَكِّدٌ لِمَا في الْعَقْلِ إيجَابُهُ أو حَظْرُهُ أو إبَاحَتُهُ كَتَحْرِيمِ الشِّرْكِ وَإِيجَابِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَالثَّانِي ما في الْعَقْلِ جَوَازُ مَجِيئُهُ وَمَجِيءِ خِلَافِهِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَالسَّمْعُ يُرَقِّيهَا من حَيِّزِ الْجَوَازِ إلَى الْوُجُوبِ قال وَلَا يَأْتِي الْخَبَرُ بِخِلَافِ ذلك قال وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْعَقْلَ حَاكِمٌ على ما يَرِدُ بِهِ السَّمْعُ أَنَّهُ الْمُمَيِّزُ بين الْأَشْيَاءِ الْوَارِدَةِ عليه قال وَجِمَاعُ نُكْتَةِ الْبَابِ أَنَّ الذي يَرِدُ السَّمْعُ مِمَّا يُثْبِتُهُ الْعَقْلُ إنَّمَا يَأْتِي تَنْبِيهًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وما خَلَقَ اللَّهُ من شَيْءٍ وَإِنَّمَا أتى بِالشَّيْءِ الذي الْعَقْلُ عَامِلٌ فيه وقد يُفَكِّرُ الْإِنْسَانُ في خَلْقِ نَفْسِهِ وَخَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَتَدَبُّرِ آثَارِ الصَّنْعَةِ فَيَسْتَدِلُّ على أَنَّ لها صَانِعًا حَكِيمًا فَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ تَنْبِيهَ السَّمْعِ بَيِّنٌ في الْعَقْلِ انْتَهَى وَاعْلَمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ عَدَّوْا هذا إلَى غَيْرِهِ فَقَالُوا يَجِبُ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَقْلًا
____________________
(1/108)
وَبِالْقِيَاسِ عَقْلًا وَنُقِلَ ذلك عن ابْنِ سُرَيْجٍ وَالْقَفَّالِ وَغَيْرِهِمَا وَذَكَرُوا في الِاعْتِذَارِ عن مُوَافَقَتِهِمْ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ ذلك كان في أَوَّلِ أَمْرِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا عنه قال ابن عَسَاكِرَ في تَأْرِيخِهِ كان الْقَفَّالُ في أَوَّلِ أَمْرِهِ مَائِلًا عن الِاعْتِدَالِ قَائِلًا بِالِاعْتِزَالِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ الثَّانِي قال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في كِتَابِهِ التَّقْرِيبِ وَالْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في تَعْلِيقِهِ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَلَهُ في شَرْحِ كِتَابِ التَّرْتِيبِ نَحْوًا من هذا أَيْضًا وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمَّا حَكَيْنَا هذه الْمَذَاهِبَ عُلِمَ أَنَّ هذه الطَّائِفَةَ من أَصْحَابِنَا كَابْنِ سُرَيْجٍ كَانُوا قد بَرَعُوا ولم يَكُنْ لهم قَدَمٌ رَاسِخٌ في الْكَلَامِ وَطَالَعُوا على الْكِبَرِ كُتُبَ الْمُعْتَزِلَةِ فَاسْتَحْسَنُوا عِبَارَاتِهِمْ غير عَالِمِينَ بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ مَقَالَاتُهُمْ من قُبْحِ الْقَوْلِ وَلَا يَخْفَى ما في هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَالْأَحْسَنُ تَنْزِيلُهُ على ما سَنَذْكُرُهُ في الْمَنْقُولِ عن أبي حَنِيفَةَ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ ذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَنَّ الْعُقُولَ بِمُجَرَّدِهَا تُحَسِّنُ وَتُقَبِّحُ وَأَنَّ كَثِيرًا من الْحَسَنِ يُعْلَمُ حُسْنُهُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ وَضَرُورَتِهِ دُونَ أَدِلَّتِهِ وَكَذَلِكَ الْقَبِيحُ مِثْلُ وُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَقُبْحِ الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ وقال صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ من الْحَنَفِيَّةِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَجَمِيعِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ أُصُولَ الْوَاجِبَاتِ وَالْحَسَنَ وَالْقَبِيحَ في الْأَفْعَالِ كُلِّهَا مُدْرَكَةٌ بِالْعَقْلِ سَوَاءٌ وَرَدَ عليها حُكْمُ اللَّهِ بِالتَّقْرِيرِ أو لم يَرِدْ وَمَذْهَبُ الْأَشْعَرِيَّةِ أنها لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ في حُكْمِ دَلَالَاتِ الْعُقُولِ وقال أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في حُكْمِ دَلَالَاتِ الْعُقُولِ على الْمَشْرُوعَاتِ الدِّينِيَّةِ لَوْلَا الشَّرِيعَةُ على أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهِ لَغْوٌ لِأَنَّ اللَّهَ لم يَدْعُنَا وَالْعُقُولُ بِمُجَرَّدِهَا وَالثَّانِي أنها حَسَنَةٌ بِالْعَقْلِ لَوْلَا الشَّرِيعَةُ وَالثَّالِثُ التَّفْصِيلُ بين الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ فَالْعِبَادَاتُ كانت تَجِبُ لَوْلَا الشَّرْعُ لَا زَاجِرَ عنها إلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْإِمْكَانِ كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَإِنَّمَا سَقَطَ لَا لِضَرُورَةٍ بِالشَّرْعِ تَيْسِيرًا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الْمُعَجَّلَةُ فما وَجَبَتْ إلَّا شَرْعًا
____________________
(1/109)
الرَّابِعُ قال وهو الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ على الْعَبْدِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَاعْتِقَادَ وُجُوبِ الطَّاعَةِ على نَفْسِهِ من أَمْرٍ وَنَهْيٍ لَكِنَّهُ تَقِفُ نَفْسُهُ لِلْبِدَارِ إلَى ما يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَاهُ من غَيْرِ أَنْ يَقْدُمَ على شَيْءٍ بِالِاسْتِبَاحَةِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ لَا لِقُبْحِ هذه الْمَشْرُوعَاتِ قبل الْأَمْرِ بَلْ يُمْنَعُ الْعَقْلُ مَعْرِفَةَ حُسْنِهَا قال وهو مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا وَلِهَذَا كان بَعْثُ الرُّسُلِ على اللَّهِ حَقًّا وَاجِبًا لِيُمَكِّنَهُمْ الْإِقْدَامَ على الْعِبَادَةِ وَالتَّوَقُّفُ لِلطَّاعَةِ ضَرْبُ عِنَادٍ فَإِنَّهَا تَمْثِيلُ الْعَقْلِ فَكَانَ يَلْزَمُ ذلك بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ مع اعْتِقَادِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلْعِبَادَةِ الْمُطْلَقَةِ وَأَنَّهَا مُجْمَلَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ يُبَيِّنُ ذلك وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ يَجِبُ اعْتِقَادُ كَوْنِهِ مَأْمُورًا وَأَمَّا الْإِقْدَامُ على الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فَلَا يَأْتِي بِهِ إلَّا بَعْدَ الشَّرْعِ وَيَظُنُّ كَثِيرٌ من الناس أَنَّ مَذْهَبَ أبي حَنِيفَةَ كَمَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَيَنْصَبُّ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ لِقَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ في الْجَهْلِ بِخَالِقِهِ وَقَوْلِهِ لو لم يَبْعَثْ اللَّهُ رَسُولًا لَوَجَبَ على الْخَلْقِ مَعْرِفَتُهُ بِعُقُولِهِمْ لَكِنَّ هذا الْكَلَامَ قد فَسَّرَهُ أبو عبد اللَّهِ أَحْمَدُ بن مُحَمَّدٍ الصَّابُونِيُّ وهو الْعُمْدَةُ عِنْدَهُمْ قال ليس تَفْسِيرُ وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِالْعَقْلِ أَنْ يُسْتَحَقَّ الْعِقَابُ بِالْعَقْلِ وَالثَّوَابُ بِالْعَقْلِ إذْ هُمَا لَا يُعْرَفَانِ إلَّا بِالسَّمْعِ لَكِنَّ تَفْسِيرَهُ عِنْدَنَا نَوْعُ تَرْجِيحٍ ا هـ وَالْأَحْسَنُ في مَعْنَاهُ الطَّرِيقَةُ الْأُولَى وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَنْزِيلٌ ثَالِثٌ في إيضَاحٍ آخَرَ وقال بَعْضُ مُحَقِّقِي الْحَنَفِيَّةِ عِنْدَنَا الْحَاكِمُ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ هو اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يُقَالُ إنَّ هذا مَذْهَبُ الْأَشَاعِرَةِ لِأَنَّا نَقُولُ الْفَرْقُ هو أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ لَا يُعْرَفَانِ إلَّا بَعْدَ الشَّرْعِ وَعِنْدَنَا قد يَعْرِفُهُمَا الْعَقْلُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِهِمَا إمَّا بِلَا كَسْبٍ كَحُسْنِ تَصْدِيقِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَقُبْحِ الْكَذِبِ الضَّارِّ وَإِمَّا مع كَسْبٍ كَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْمُسْتَفَادِ من الْأَدِلَّةِ وَتَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ وقد لَا يُعْرَفَانِ إلَّا بِالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّ كَأَكْثَرِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ حُسْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ عِنْدَنَا من مَدْلُولَاتِ الْأَمْرِ وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ من مُوجِبَاتِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ ابْنِ بَرْهَانٍ في مَوْضِعٍ آخَرَ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ قالوا إنَّ الْعَقْلَ مُوجِبٌ وَحَاكِمٌ وَتَبِعَهُ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ وَيَصِيرُ مَطْلَعُ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الشَّرْعَ مُثْبِتٌ أو مُقَرِّرٌ وَأَمَّا الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَأَتْبَاعُهُ فَسَلَكُوا طَرِيقًا لَخَصُّوا فيها مَحَلَّ النِّزَاعِ فَقَالُوا
____________________
(1/110)
الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ يُطْلَقَانِ بِمَعَانٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا ما يُلَائِمُ الطَّبْعَ وَيُنَافِرُهُ كَالْحَلَاوَةِ وَالْمَرَارَةِ وَالْفَرَحِ وَالْحُزْنِ وَلَيْسَ هذا مَحَلَّ النِّزَاعِ لِاخْتِلَافِهِ بِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ الثَّانِي كَوْنُ الشَّيْءِ صِفَةَ كَمَالٍ أو نَقْصٍ كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَهُمَا بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ عَقْلِيَّانِ أَيْ يُعْرَفَانِ بِالْعَقْلِ بِلَا خِلَافٍ الثَّالِثُ كَوْنُ الْفِعْلِ مُوجِبًا لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَهَذَا مَوْضِعُ النِّزَاعِ فَعِنْدَنَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالشَّرْعِ وَعِنْدَهُمْ بِخِلَافِهِ فَالنِّزَاعُ في كَوْنِ الْفِعْلِ مُتَعَلَّقَ الذَّمِّ عَاجِلًا وَالْعِقَابِ آجِلًا وَقَضِيَّةُ هذا أَنَّ الْفِعْلَ لَا يُوجِبُهُ لِتَصْرِيحِهِ بِالتَّعَلُّقِ وَنَازَعَهُ الْقَرَافِيُّ فقال النِّزَاعُ في كَوْنِ الْفِعْلِ مُتَعَلِّقًا لِلذَّمِّ أو الْعِقَابِ يُشْعِرُ بِأَنَّ تَرَتُّبَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ على الْفِعْلِ يُنَازَعُ فيه وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا وَلَا عِنْدَهُمْ إذْ يَجُوزُ أَنْ يُحَرِّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَيُوجِبَ وَلَا يُعَجِّلُ ذَمًّا بَلْ يَحْصُلُ الْوَعِيدُ من غَيْرِ ذَمٍّ وَيَجُوزُ أَنْ يُكَلِّفَ وَلَا يُوجِدَ عِقَابًا بَلْ يُعَجِّلُهُ عَقِبَ الذَّنْبِ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ في كَوْنِ الْفِعْلِ مُتَعَلَّقًا بِالْمُؤَاخَذَةِ الشَّرْعِيَّةِ كَيْفَ كانت ذَمًّا أو غَيْرَهُ عَاجِلَةً أو آجِلَةٍ هل يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِذَلِكَ أَمْ لَا قُلْت وَجَعَلَ الْمُقْتَرِحُ في شَرْحِ الْإِرْشَادِ من صُوَرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ ما يُتَعَارَفُ قبل الشَّرْعِ من الْمَيْلِ إلَى الْفِعْلِ وَالنَّفْرَةِ عنه قال فَالْمُعْتَزِلَةُ يَدَّعُونَ أَنَّ ذلك اسْتِحْثَاثُ الْعَقْلِ على الْفِعْلِ وَنَحْنُ نَرَى أَنَّهُ مِمَّا جُبِلَ عليه الْحَيَوَانُ من شَهْوَةِ ما يَنْفَعُهُ وَكَرَاهَةِ ما يَضُرُّهُ ا هـ وَهَذَا صَرِيحٌ في نَقْلِ الْخِلَافِ في الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ التي جَعَلَهَا الْإِمَامُ مَحَلَّ وِفَاقٍ ثُمَّ قال فَرَّعَتْ الْمُعْتَزِلَةُ أَنَّ الْعَقْلَ مِمَّا يَسْتَحِثُّ على الْفِعْلِ لِأَنَّهُ على صِفَةٍ في نَفْسِهِ لِأَجْلِهَا يَحُثُّ على فِعْلِهِ ثُمَّ اضْطَرَبُوا في هذه الصِّفَةِ فقال قُدَمَاؤُهُمْ صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ وقال مُتَأَخِّرُوهُمْ تَابِعَةٌ لِلْحُدُوثِ ثُمَّ قالوا إنَّمَا نهى الشَّرْعُ عن الْفِعْلِ لِأَنَّهُ على صِفَةٍ في نَفْسِهِ لِأَجْلِهَا يَقْبُحُ أو لِأَنَّهُ يُؤَدَّى فَيَقْبُحُ في نَفْسِهِ قال وَأَصْلُ هذه الْمَسْأَلَةِ أَخَذَتْهَا الْمُعْتَزِلَةُ من الْفَلَاسِفَةِ فَإِنَّهُمْ قالوا الْعِلْمُ مَحْمُودٌ لِذَاتِهِ وَالْجَهْلُ مَذْمُومٌ لِذَاتِهِ وَسَائِرُ الْأَفْعَالِ لَيْسَتْ عِنْدَهُمْ مَحْمُودَةً لِذَاتِهَا وَلَا مَذْمُومَةً لِذَاتِهَا بَلْ لِعُرُوضِ عَرَضٍ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا فَأَخَذَ الْمُعْتَزِلَةُ بهذا الْمَذْهَبِ في الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَعَدُّوهُ إلَى سَائِرِ الْأَفْعَالِ
____________________
(1/111)
وَعَبَّرَ بَعْضُ الناس عن مَذْهَبِ الْقَوْمِ بِأَنْ قال عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُدْرَكُ الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ عَقْلًا من غَيْرِ أَنْ يُتَوَقَّفَ على إخْبَارٍ على مُخْبِرٍ وَلَيْسَ في هذا إفْصَاحٌ عن أَنَّهُمْ يَرُدُّونَهُ إلَى صِفَةٍ نَفْسِيَّةٍ أو صِفَةٍ تَابِعَةٍ لِلْحُدُوثِ أو غَيْرِ ذلك وَيُقَالُ لِمَنْ قال إنَّهَا صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ صِفَةُ النَّفْسِ ما يَتْبَعُ النَّفْسَ في الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَيَلْزَمُ منه إثْبَاتُ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ في الْقَدِيمِ ثُمَّ يَلْزَمُ منه اسْتِحْقَاقُ الذَّمِّ على الْمَعْدُومِ وَذَلِكَ مُحَالٌ ثُمَّ قَسَّمُوا الْأَفْعَالَ إلَى قِسْمَيْنِ وَقَالُوا منها ما يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَمِنْهَا ما لَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ فيه حُسْنًا وَلَا قُبْحًا وَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِالشَّرْعِ وَذَلِكَ لِخَفَاءِ وَصْفِهِ عن الْعُقُولِ وَلَيْسَ هو ثَابِتًا بِالْخِطَابِ وَإِنَّمَا الشَّرْعُ كَاشِفٌ عن حَقِيقَتِهِ لَمَّا قَصُرَ الْعَقْلُ عنه قال في تَعْلِيقِهِ على الْبُرْهَانِ وَلِكُلِّ مَذْهَبٍ سَيِّئَةٌ وَحَسَنَةٌ فَمَذْهَبُ الْأَشْعَرِيَّةِ أَنَّهُمْ نَفَوْا الْحَسَنَ في حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وفي حَقِّنَا فَحَسَنَتُهُمْ كَوْنُهُمْ نَفَوْهُ في حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَسَيِّئَتُهُمْ كَوْنُهُمْ نَفَوْهُ في حَقِّنَا وَمَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ إثْبَاتُ الْحَسَنِ في حَقِّ اللَّهِ وفي حُقُوقِنَا وَسَيِّئَتُهُمْ كَوْنُهُمْ أَثْبَتُوهُ في حَقِّ الْبَارِي وَحَسَنَتُهُمْ كَوْنُهُمْ أَثْبَتُوهُ في حَقِّنَا فَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مَذْهَبًا بين مَذْهَبَيْنِ وهو الْجَامِعُ لِمَحَاسِنِ الْمَذَاهِبِ فَأَثْبَتَهُ في حَقِّنَا وَنَفَاهُ في حَقِّ الْبَارِي انْتَهَى تَنْبِيهٌ الْعَقْلُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ يُوجِبُ وَيُحَرِّمُ ظَاهِرُ النَّقْلِ السَّابِقِ عَنْهُمْ أَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ وَيُحَرِّمُ على جِهَةِ الِاسْتِقْلَالِ وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ وما كنا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا يَقْتَضِيهِ يَقْتَضِيهِ وَالتَّحْقِيقُ في ذلك عن الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْفِعْلَ إنْ اشْتَمَلَ على مَصْلَحَةٍ خَالِصَةٍ أو رَاجِحَةٍ اقْتَضَى الْعَقْلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَلَبَهُ وَإِنْ اشْتَمَلَ على مَفْسَدَةٍ خَالِصَةٍ أو رَاجِحَةٍ اقْتَضَى الْعَقْلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَلَبَ تَرْكَهُ وَإِنْ تَكَافَأَتْ مَصْلَحَةُ الْفِعْلِ وَمَفْسَدَتُهُ أو تَجَرَّدَ عنهما أَصْلًا كان مُبَاحًا وَلَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا عِنْدَهُمْ لِثُبُوتِهِ قبل وُرُودِ الشَّرْعِ وَأَنَّ الْعَقْلَ أَدْرَكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجِبُ له بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ أَنْ لَا يَدَعَ مَصْلَحَةً في وَقْتٍ ما إلَّا أَوْجَبَهَا وَأَثَابَ عليها وَلَا يَدَعَ مَفْسَدَةً في وَقْتٍ ما إلَّا حَرَّمَهَا وَعَاقَبَ عليها تَحْقِيقًا لِكَوْنِهِ حَكِيمًا وَإِلَّا لَفَاتَتْ الْحِكْمَةُ في جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ فَعِنْدَهُمْ إدْرَاكُ الْعَقْلِ لِمَا ذَكَرْنَا من قِبَلِ الْوَاجِبَاتِ لِلْعَقْلِ لَا من قِبَلِ الْجَائِزَاتِ كما نَقُولُ وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ أَنَّ الْأَوْصَافَ مُسْتَقِلَّةٌ بِالْأَحْكَامِ وَلَا أَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ وَيُحَرِّمُ
____________________
(1/112)
وَهَذَا هو الْحَقُّ في تَقْرِيرِ مَذْهَبِهِمْ وَتَلْخِيصِ النِّزَاعِ وهو الْمَفْهُومُ من كَلَامِ الصَّيْرَفِيِّ السَّابِقِ وَحَاصِلُ كَلَامِ الْقَرَافِيِّ أَيْضًا وَالْأُصُولِيُّونَ النَّاقِلُونَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قد أَحَالُوا الْمَعْنَى وَنَقَلُوا عن الْمُعْتَزِلَةِ ما لَا يَنْبَغِي لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَهُ إيضَاحٌ آخَرُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ لَا يُعْلَمَانِ إلَّا من جِهَةِ الشَّرْعِ قد تَقَرَّرَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ إنَّمَا هو في الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ بِمَعْنَى تَرَتُّبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَنَقُولُ بين الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَبَيْنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ تَلَازُمٌ ما وَاتَّفَقَ الْمُعْتَزِلِيُّ مع السُّنِّيِّ على أَنَّ الْعَقْلَ يُدْرِكُ حُسْنَ الْأَشْيَاءِ وَقُبْحَهَا قبل وُرُودِ الشَّرْعِ وَافْتَرَقَا في أَنَّ الْمُعْتَزِلِيَّ يَرَى أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مُلَازِمٌ لها فَحَكَمَ بِثُبُوتِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ قبل الشَّرْعِ لِثُبُوتِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ قَبْلَهُ فإذا جاء الشَّرْعُ بَعْدَ ذلك كان مُؤَكِّدًا لِحُكْمِ الْعَقْلِ وَأَمَّا السُّنِّيُّ فإنه يَرَى أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ لَا يُعْلَمَانِ إلَّا من جِهَةِ الشَّرْعِ فَنَفَى الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ قبل الشَّرْعِ وَهَذَا وَنَحْوُهُ من قَاعِدَةِ أَنَّ ما بِهِ الِاتِّفَاقُ قد يَكُونُ مَوْضِعَ الْخِلَافِ وَنَظِيرُهُ الْخِلَافُ في النَّسْخِ وَالْبَدَاءِ وَبِهَذَا التَّحْرِيرِ يَخْرُجُ لنا في الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّ حُسْنَ الْأَشْيَاءِ وَقُبْحَهَا وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ عليها شَرْعِيَّانِ وهو قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالثَّانِي عَقْلِيَّانِ وهو قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالثَّالِثُ أَنَّ حُسْنَهَا وَقُبْحَهَا ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ يَتَوَقَّفُ على الشَّرْعِ فَنُسَمِّيهِ قبل الشَّرْعِ حَسَنًا وَقَبِيحًا وَلَا يَتَرَتَّبُ عليه الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ إلَّا بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ وهو الذي ذَكَرَهُ أَسْعَدُ بن عَلِيٍّ الزَّنْجَانِيّ من أَصْحَابِنَا وأبو الْخَطَّابِ من الْحَنَابِلَةِ وَذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَحَكَوْهُ عن أبي حَنِيفَةَ نَصًّا وهو الْمَنْصُورُ لِقُوَّتِهِ من حَيْثُ النَّظَرُ وَآيَاتُ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَسَلَامَتُهُ من التَّنَاقُضِ وَإِلَيْهِ إشَارَاتُ مُحَقِّقِي مُتَأَخِّرِي الْأُصُولِيِّينَ وَالْكَلَامِيِّينَ فَلْيُتَفَطَّنْ له فَهَاهُنَا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا إدْرَاكُ الْعَقْلِ حُسْنَ الْأَشْيَاءِ وَقُبْحَهَا وَالثَّانِي أَنَّ ذلك كَافٍ في الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَإِنْ لم يَرِدْ شَرْعٌ وَلَا تَلَازُمٌ بين الْأَمْرَيْنِ
____________________
(1/113)
بِدَلِيلِ ذلك أَنْ لم يَكُنْ رَبُّك مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ أَيْ بِقَبِيحِ فِعْلِهِمْ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ أَيْ لم يَأْتِهِمْ الرُّسُلُ وَالشَّرَائِعُ وَمِثْلُهَا وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أَيْ من الْقَبَائِحِ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْت إلَيْنَا رَسُولًا الْآيَةَ وَأَمَّا الْآيَاتُ التي احْتَجَّ بها الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ شَرْعِيٌّ إنَّمَا تَدُلُّ على نَفْيِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بِقَوْلِهِ وما كنا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا فَأَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ قبل الْبَعْثَةِ وقال تَعَالَى رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ على اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ فَلَوْ كان له الْحُجَّةُ عليهم قبل الْبَعْثَةِ لَمَا قال إنَّمَا أَبْعَثُ الرُّسُلَ لِأَقْطَعَ بها حُجَّةَ الْمُحْتَجِّ إذَا تَلَخَّصَ مَحَلُّ النِّزَاعِ فَلَهُ مَآخِذُ أَحَدُهَا أَنَّ الْحُسْنَ عِنْدَهُمْ صِفَةٌ قَامَتْ بِهِ أَوْجَبَتْ كَوْنَهُ حَسَنًا وَالْقُبْحَ صِفَةٌ قَامَتْ بِهِ أَوْجَبَتْ كَوْنَهُ قَبِيحًا حَمْلًا لِلْأَفْعَالِ على الْأَجْسَامِ فإن الْحُسْنَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بها وَكَذَلِكَ الْقُبْحُ وَعِنْدَنَا الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ إنَّمَا هو صِفَةٌ نِسْبِيَّةٌ إضَافِيَّةٌ حَاصِلَةٌ بين الْفِعْلِ وَاقْتِضَاءِ الشَّرْعِ إيجَادَهُ أو الْكَفَّ عنه فإذا قال الشَّارِعُ صَلِّ قُلْنَا الصَّلَاةُ حَسَنَةٌ وإذا قال لَا تَزْنِ قُلْنَا الزِّنَى قَبِيحٌ وما ذَكَرُوهُ من أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ صِفَتَانِ لِلْفِعْلِ بَاطِلٌ لِأَنَّ الصِّفَاتِ أَعْرَاضٌ وَالْفِعْلَ عَرَضٌ وَالْعَرَضَ لَا يَقُومُ بِالْعَرَضِ لِأَنَّهُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَقُومُ بِالْجَوَاهِرِ فَكَيْفَ يَقُومُ بِهِ غَيْرُهُ الثَّانِي أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ عِنْدَهُمْ مُقَرِّرًا لِحُكْمِ الْعَقْلِ وَمُؤَكِّدًا له وَعِنْدَنَا وَرَدَ الشَّرْعُ كَاسْمِهِ شَارِعًا لِلْأَحْكَامِ ابْتِدَاءً وَتَحْقِيقُ ذلك أَنَّ الْعَقْلَ اُحْتِيجَ إلَيْهِ قبل الشَّرْعِ لِتَقْرِيرِ مُقَدِّمَاتِهِ فَالتَّوْحِيدُ وَجَوَازُ الْبَعْثَةِ وَالنَّظَرُ في الْمُعْجِزَاتِ كَالثَّابِتِ لِلشَّرْعِ في ذلك فإذا قَرَّرَهَا انْعَزَلَ وَصَارَ مَأْمُورًا بِامْتِثَالِ ما يَصْدُرُ عنها وَلِهَذَا أَجْمَعَ أَهْلُ الْمِلَّةِ أَنَّ النبي الصَّادِقَ إذَا أَخْبَرَ خَبَرًا لَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وَتَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ وَتِلْكَ خَصِيصَةُ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ التي مَدَحَ اللَّهُ بها الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُعْتَزِلَةُ لَمَّا قَلَّدُوا عُقُولَهُمْ أَنْكَرُوا عَذَابَ الْقَبْرِ وَسُؤَالَ مُنْكِرٍ وَنَكِيرٍ وَوَزْنَ الْأَعْمَالِ وَوَقَعُوا في عِقَالِ الضَّلَالِ حَيْثُ عَدَلُوا عن قَوْلِ الْمَعْصُومِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ التَّأْكِيدُ وَالتَّأْسِيسُ كان التَّأْسِيسُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَكْثَرُ
____________________
(1/114)
فَائِدَةً وَنَظِيرُهُ إذَا تَعَارَضَ حَدِيثَانِ وَأَحَدُهُمَا مُخَالِفٌ لِلْأَصْلِ نَاقِلٌ عن حُكْمِهِ وَالْآخَرُ مُوَافِقٌ له مُقَرِّرٌ لِحُكْمِهِ هل يُقَدَّمُ الْمُقَرِّرُ لِأَنَّهُمَا دَلِيلَانِ يَعْضُدُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ أو النَّاقِلُ لِأَنَّهُ أَفَادَ فَائِدَةً زَائِدَةً قَوْلَانِ الثَّالِثُ اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ مُلَازِمٌ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ وَعِنْدَنَا لَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا الرَّابِعُ أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ ليس بِاخْتِيَارِهِ عِنْدَنَا فَالْحُسْنُ وَالْقُبْحُ يَرْجِعَانِ إلَى كَوْنِ الْفِعْلِ مَأْمُورًا بِهِ وَمَنْهِيًّا عنه تَنْبِيهٌ الْعَقْلُ مُدْرِكٌ لِلْحُكْمِ لَا حَاكِمٌ إدْرَاكُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ في الْقِيَاسِ أو دُخُولُ الْفَرْعِ الْخَاصِّ تَحْتَ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ وَإِنْ كان بِالْعَقْلِ فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الْعَقْلَ مُدْرِكٌ لِلْحُكْمِ لَا أَنَّهُ حَاكِمٌ وَكَذَلِكَ تَرَتُّبُ النَّتِيجَةِ بَعْدَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ أَدْرَكَهُ الْعَقْلُ وَلَا يُقَالُ أَوْجَبَهُ وقد أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ في الْمُخْتَصَرِ الْقَوْلَ بِتَعْصِيَةِ النَّاجِشِ وهو الذي يَزِيدُ في السِّلْعَةِ لَا لِغَرَضٍ بَلْ لِيَخْدَعَ غَيْرَهُ وَشَرَطَ في تَعْصِيَةِ من بَاعَ على بَيْعِ أَخِيهِ الْعِلْمَ بِوُرُودِ النَّهْيِ عنه فقال الشَّارِحُونَ السَّبَبُ في ذلك أَنَّ النَّجْشَ خَدِيعَةٌ وَتَحْرِيمُ الْخَدِيعَةِ وَاضِحٌ لِكُلِّ أَحَدٍ وَإِنْ لم يُعْلَمْ فيه خَبَرٌ بِخُصُوصِهِ وَالْبَيْعُ على بَيْعِ الْأَخِ إنَّمَا عُرِفَ من الْخَبَرِ الْوَارِدِ فيه فَلَا يَعْرِفُهُ من لَا يَعْرِفُ الْخَبَرَ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ تَحْرِيمَ الْخِدَاعِ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ وَإِنْ لم يَرِدْ شَرْعٌ قال الرَّافِعِيُّ في شَرْحِ الْوَجِيزِ وَهَذَا ليس من مُعْتَقَدِنَا انْتَهَى وإذا فَهِمْته على أَنَّ الْعَقْلَ يُدْرِكُ تَحْرِيمَ الْخِدَاعِ من غَيْرِ اسْتِقْلَالٍ في ذلك لم يَبْقَ اعْتِرَاضٌ وَمِنْ فُرُوعِ هذا الْأَصْلِ عَدَمُ صِحَّةِ إسْلَامِ الصَّبِيِّ عِنْدَنَا لِأَنَّ صِحَّتَهُ فَرْعُ تَقَدُّمِ الْإِلْزَامِ بِهِ وَلَا إلْزَامَ مع الصَّبِيِّ شَرْعًا وقال أبو حَنِيفَةَ يَصِحُّ بِنَاءً على أَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ على الصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ ثُمَّ الْمُعْتَمَدُ في إبْطَالِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ عَدَمُ وُجُوبِ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ بِأَنْ يُقَالَ خَلْقُ الْعَالَمِ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَصْلَحَةٍ أو لَا فَإِنْ كان فَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى فِعْلَ الْمَصَالِحِ دُهُورًا لَا نِهَايَةَ لها وَإِنْ لم يَكُنْ كان خَلْقُهُ عَرِيًّا عن الْمَصَالِحِ فإن اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهُ مَلْزُومًا لِلْمَصَالِحِ أو لَا تَكُونُ رِعَايَتُهَا وَاجِبَةً
____________________
(1/115)
وإذا تَقَرَّرَ عَدَمُ وُجُوبِهَا فَلَا يَجِبُ في الْعَقْلِ أَنَّ اللَّهَ يَرْبِطُ أَحْكَامَهُ فيها بَلْ يُجَوِّزُ ذلك وَيَقْتَضِيهِ فَبَطَلَ قَاعِدَةُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ لِأَنَّ وُجُوبَ رَبْطِ الْأَحْكَامِ بِالْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ عَقْلًا هو عَيْنُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ وقد فَرَّعَ الْأَصْحَابُ على هذا الْأَصْلِ مَسْأَلَتَيْنِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى شُكْرُ الْمُنْعِمِ شُكْرُ الْمُنْعِمِ وهو الثَّنَاءُ عليه بِذِكْرِ آلَائِهِ وَإِحْسَانِهِ حَسَنٌ قَطْعًا بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَأَمَّا وُجُوبُهُ فَإِنَّمَا يَكُونُ بِالشَّرْعِ وَلَا يَجِبُ عَقْلًا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَقْلًا لَكِنَّهُ وُجُوبُ اسْتِدْلَالٍ لَا ضَرُورِيٍّ وَوَافَقَهُمْ على ذلك جَمَاعَةٌ من أَصْحَابِنَا الْأَقْدَمِينَ منهم أبو الْعَبَّاسِ بن الْقَاصِّ وأبو بَكْرٍ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وأبو عبد اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ وأبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وأبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فقال الزُّبَيْرِيُّ الْعِبَادَاتُ من قِبَلِ السَّمْعِ لَا تَرِدُ إلَّا على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ضَرْبٌ يَرِدُ بِإِيجَابِ ما تَقَدَّمَ في الْعَقْلِ وُجُوبُهُ كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ وَالثَّانِي يَرِدُ بِحَظْرِ ما تَقَدَّمَ في الْعَقْلِ وُجُوبُهُ كَالْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَالثَّالِثُ يَرِدُ لِمَا في الْعَقْلِ جَوَازُ مَجِيئِهِ كَالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وقال ابن الْقَاصِّ في كِتَابِ أَدَبِ الْجَدَلِ الْأَشْيَاءُ في الْعَقْلِ على ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ فَضَرْبٌ أَوْجَبَهُ الْعَقْلُ وَضَرْبٌ نَفَاهُ وَضَرْبٌ أَجَازَهُ وَأَجَازَ خِلَافَهُ فما أَوْجَبَهُ الْعَقْلُ فَهُوَ وَاجِبٌ كَشُكْرِ الْمُنْعِمِ وَمَعْرِفَةِ الصَّانِعِ قال فَأَمَّا الضَّرْبَانِ الْأَوَّلَانِ فَحُجَّةُ اللَّهِ فِيهِمَا قَائِمَةٌ على كل ذِي لُبٍّ قبل مَجِيءِ الشَّرْعِ وَبَعْدَهُ وَلَا يَجِيءُ سَمْعٌ إلَّا مُطَابِقًا ا هـ وقال أبو الْحَسَنِ بن الْقَطَّانِ لَا خِلَافَ أَنَّ ما كان لِلْعَقْلِ فيه حُكْمٌ أَنَّهُ ما كان عليه مِثْلُ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَنَحْوِهِ ا هـ وقال الْقَفَّالُ في مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ في كِتَابِ الصَّلَاةِ وَالْعُقُولُ تَدُلُّ على وُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ كِتَابِ التَّرْتِيبِ عن الْقَفَّالِ وابن أبي هُرَيْرَةَ مِنَّا قال وكان ذلك مَذْهَبَ الصَّيْرَفِيِّ وَرَجَعَ عنه قال ولم يُخَالِفُوا أُصُولَنَا في غَيْرِ هذا الْمَوْضِعِ وَوَافَقُونَا في بَاقِي الْمَسَائِلِ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ الْقَوْلُ
____________________
(1/116)
بِوُجُوبِهِ بَاطِلٌ في قَوْلِ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا من الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَجَمَاعَةٌ من أَصْحَابِنَا الْفُقَهَاءِ لَمَّا نَظَرُوا إلَى أَسْئِلَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِيجَابِ الشُّكْرِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ اعْتَقَدُوا أَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَمَعْرِفَةَ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَأَنَّ له مُحْدِثًا وَأَنَّ له مُنْعِمًا أَنْعَمَ عليه كُلَّهَا وَاجِبٌ بِالْعَقْلِ قبل الشَّرْعِ وَهُمْ أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وأبو عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ وأبو بَكْرٍ الْقَفَّالُ قال وأبو عَلِيٍّ السَّقَطِيُّ يَعْنِي الطَّبَرِيَّ وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْقَطَّانِ كان صَاحِبَ ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ وكان يَدُقُّ عليه في هذا الْفَصْلِ قال وَحَكَى أبو سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ أَنَّ أَبَا عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ وَقَعَ إلَى أبي الْحَسَنِ يَعْنِي الْأَشْعَرِيَّ وأبو الْحَسَنِ كَلَّمَهُ في هذا الْفَصْلِ ولم يَنْجَعْ منه فقال أبو الْحَسَنِ لِأَبِي عَلِيٍّ أنت تَشْنَؤُنِي أَيْ تَبْغُضُنِي قال فَوَقَعَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ قال أبو سَهْلٍ وَكُنَّا نَتَعَصَّبُ لِلشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ فَمَضَيْنَا وَقَعَدْنَا على رَأْسِ الْقَنْطَرَةِ التي كانت على طَرِيقِ ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ وَهِيَ قَنْطَرَةٌ بِبَغْدَادَ يُقَالُ لها الصَّرَاةُ وَكُنَّا نَنْتَظِرُهُ لِنَنْتَفِعَ بِهِ وَأَمَّا أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فَقَدْ وَقَعَ إلَى الشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ وَلَحَّ معه في هذه الْمَسْأَلَةِ فقال له أبو الْحَسَنِ أَبِجَدٍّ تَقُولُ إنَّ الْكَائِنَاتِ كُلَّهَا بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى خَيْرَهَا وَشَرَّهَا قال نعم فقال أبو الْحَسَنِ إذَا كانت الْعِلَّةُ في إيجَابِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ الْمُنْعِمُ الذي خَلَقَهُ قد أَرَادَ منه الشُّكْرَ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ منه أَنْ لَا يَشْكُرَهُ لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عن شُكْرِهِ فَإِمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ ما ليس بِحَسَنٍ كما قالت الْمُعْتَزِلَةُ وَإِمَّا أَنْ لَا تَأْمَنَ أَنَّهُ قد أَرَادَ مِنْك تَرْكَ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وإذا شَكَرْته عَاقَبَك فَلَا يَجِبُ عَلَيْك شُكْرُ الْمُنْعِمِ لِهَذَا الْجَوَازِ فَتَرَكَ أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ هذا الْمَذْهَبَ وَرَجَعَ عنه وَأَمَّا أبو عَلِيٍّ وأبو بَكْرٍ الْقَفَّالُ فلم يَثْبُتْ عَنْهُمْ الرُّجُوعُ عن هذه الْمَقَالَةِ قُلْت قال الطُّرْطُوشِيُّ في الْعُمَدِ هذا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ قَاطِبَةً إلَّا ثَلَاثَةَ رِجَالٍ تَلَعْثَمُوا في هذا الْأَصْلِ في أَوَّلِ أَمْرِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا عنه إلَى الْحَقِّ وَهُمْ أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وأبو الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيُّ وأبو بَكْرٍ الْقَفَّالُ ثُمَّ قال الْأُسْتَاذُ كانت الْمُعْتَزِلَةُ وَالْأَوَائِلُ منهم على أَنَّ وُجُوبَ شُكْرِ الْمُنْعِمِ مَعْلُومٌ بِالنَّظَرِ كما قال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ من أَصْحَابِنَا فَصَارُوا كلهم في آخِرِهِمْ إلَى أَنَّهُ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً وَإِلْزَامَاتٌ وَرَدَتْ عليهم انْتَهَى كَلَامُهُ وقد تَضَمَّنَ فَوَائِدَ جَلِيلَةً وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ قَصَدَ الْأَوَائِلُ من أَصْحَابِنَا بِقَوْلِهِمْ إنَّا لَا نَعْرِفُ الْقُبْحَ
____________________
(1/117)
وَالْعَدْلَ وَالظُّلْمَ إلَّا بِالشَّرْعِ فَقَطْ مُخَالَفَةَ الْمُعْتَزِلَةِ في قَوْلِهِمْ ما قَبَّحَهُ الْعُقُولُ لَا يَرِدُ الشَّرْعُ بِتَحْسِينِهِ لَا أَنَّا لَا نَعْرِفُ مَعَانِيَ هذه الْأَلْفَاظِ قبل الشَّرْعِ من اللُّغَةِ بَلْ نَعْرِفُهَا قبل الشَّرْعِ وَنَعْلَمُ تَوَاطُؤَهُمْ على التَّقْبِيحِ وَالتَّحْسِينِ في أَشْيَاءَ نَعْرِفُهَا وَاخْتِلَافَهُمْ في أَشْيَاءَ أُخْرَى وَأَنَّ عُقَلَاءَهُمْ حَكَمُوا كَذَلِكَ قال وَمَنْ قال إنَّا لَا نَعْرِفُ مَقَاصِدَهُمْ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ قبل الشَّرِيعَةِ لم يَتَمَكَّنْ من الْكَلَامِ فيها وَالْمُنَاظَرَةِ مع الْخُصُومِ فإنه مَتَى جَرَى في كَلَامِهِ أَنَّ الشَّرْعَ يُقَبِّحُهُ أو يُحَسِّنُهُ مَنَعَهُ منه فقال أَيُّ شَيْءٍ تَعْنِي بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ وَأَنْتَ لَا تَعْرِفُهُ حتى يَرِدَ الشَّرْعُ فَيَتَعَذَّرَ الْكَلَامُ عليه قال وَأَوَّلُ ما وَرَدَ أبو عَمْرٍو الْبِسْطَامِيُّ بِنَيْسَابُورَ حَضَرَ بَعْضَ مَجَالِسِ الْكَلَامِ لِبَعْضِ الْعَلَوِيَّةِ فَسُئِلَ عن هذه الْمَسْأَلَةِ فقال لَا أَعْرِفُ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ قبل الشَّرِيعَةِ فَأَوْرَدَ عليه هذا السُّؤَالَ فَالْتَبَكَ فيه وَتَخَبَّطَ ولم يُمْكِنْهُ الْخُرُوجُ منه ثُمَّ قال يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَنَا في قَوْلِنَا إنَّمَا نَعْرِفُ مَعَانِيَ هذه الْأَلْفَاظِ وَبَيْنَ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ إنَّا نَقُولُ ما قَضَى الْعَقْلُ بِقُبْحِهِ جَازَ أَنْ تَرِدَ الشَّرِيعَةُ بِاسْتِحْسَانِهِ ا هـ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ في كِتَابِ التَّحْصِيلِ وكان أبو الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيُّ وأبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ من أَصْحَابِنَا يَقُولَانِ بِوُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَوُجُوبِ الِاسْتِدْلَالِ على مَعْرِفَتِهِ وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِهِ من جِهَةِ الْعَقْلِ قبل وُرُودِ الشَّرْعِ ثُمَّ إنَّ الصَّيْرَفِيَّ نَاظَرَ الْأَشْعَرِيَّ في ذلك وَاسْتَدَلَّ على وُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ بِالْعَقْلِ بِوُجُوبِ الِاحْتِرَازِ مِمَّا يُخَافُ منه الضَّرَرُ قال فإذا خَطَرَ بِبَالِ الْعَاقِلِ أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ له صَانِعٌ قد أَنْعَمَ عليه وَأَرَادَ منه الشُّكْرَ على نِعَمِهِ وَالِاسْتِدْلَالَ على مَعْرِفَتِهِ لَزِمَهُ الشُّكْرُ وَالْمَعْرِفَةُ فقال له الْأَشْعَرِيُّ هذا الِاسْتِدْلَال يُنَافِي أَصْلَك لِأَنَّك اسْتَدْلَلْت على وُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ بِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ الْمُنْعِمُ قد أَرَادَ ذلك وَإِرَادَةُ اللَّهِ لَا تَدُلُّ على وُجُوبِهِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قد أَرَادَ حُدُوثَ كل ما عَلِمَ حُدُوثَهُ من خَيْرٍ وَشَرٍّ وَطَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِوُجُوبِ الْمَعَاصِي وَإِنْ أَرَادَ اللَّهُ عز وجل حُدُوثَهَا فَعَلِمَ الصَّيْرَفِيُّ مُنَافَاةَ اسْتِدْلَالِهِ على مَذْهَبِهِ وَرَجَعَ إلَى الْقَوْلِ بِالْوَقْفِ قبل الشَّرْعِ ا هـ زَادَ الطُّرْطُوشِيُّ أَنَّهُ صَنَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ الِاسْتِدْرَاكَ رَجَعَ فيه عن قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَقِيلَ إنَّهُ أَلْحَقَ بِحَاشِيَةِ الْكِتَابِ نَحْنُ وَإِنْ كنا نَقُولُ بِشُكْرِ الْمُنْعِمِ فَإِنَّمَا نَقُولُهُ عِنْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ
____________________
(1/118)
قال وَكَذَا الْقَلَانِسِيُّ كان يقول بِهِ ثُمَّ لَمَّا تَحَقَّقَ له ما فيه من التَّهَافُتِ رَجَعَ عنه الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ حُكْمُ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ قبل وُرُودِ الشَّرْعِ إنَّ أَفْعَالَ الْعُقَلَاءِ لَا حُكْمَ لها قبل وُرُودِ الشَّرْعِ عِنْدَنَا بِنَاءً على أَنَّ الْأَحْكَامَ هِيَ الشَّرَائِعُ وَعِنْدَهُمْ الْأَحْكَامُ هِيَ صِفَاتُ الْأَفْعَالِ فَقَالُوا الْأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ إمَّا حَسَنٌ بِالْعَقْلِ كَإِسْدَاءِ الْخَيْرَاتِ أو قَبِيحٌ بِالْعَقْلِ كَالْجَوْرِ وَالظُّلْمِ وَهَذَانِ لَا خِلَافَ فِيهِمَا عِنْدَهُمْ كما قَالَهُ ابن بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا لَا يَقْضِي الْعَقْلُ فيه بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ كَفُضُولِ الْحَاجَاتِ وَالتَّنَعُّمَاتِ وَالْأَوَّلُ وَاجِبٌ أو مَنْدُوبٌ أو مُبَاحٌ وَالثَّانِي حَرَامٌ أو مَكْرُوهٌ وَالثَّالِثُ فيه خِلَافٌ هل هو وَاجِبٌ أو مُبَاحٌ أو على الْوَقْفِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَمَّا الْأَفْعَالُ الِاضْطِرَارِيَّةُ كَالتَّنَفُّسِ وَنَحْوِهِ فَحَسَنَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا وَهَكَذَا حَرَّرَ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ مَحَلَّ الْوِفَاقِ من الْخِلَافِ وَأَمَّا الْإِمَامُ الرَّازِيَّ فإنه عَمَّمَ الْخِلَافَ في جَمِيعِ الْأَفْعَالِ وهو مُنَافٍ لِقَوَاعِدِ الِاعْتِزَالِ من جِهَةِ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْحَظْرِ مُطْلَقًا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ إنْقَاذِ الْغَرْقَى وَإِطْعَامِ الْجَوْعَانِ وَكِسْوَةِ الْعُرْيَانِ وَالْقَوْلُ بِالْإِبَاحَةِ مُطْلَقًا يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْعَقْلِ وَالْفَسَادِ في الْأَرْضِ وَالْخِلَافُ ظَاهِرٌ فِيمَا لم يَطَّلِعْ الْعَقْلُ على مَفْسَدَتِهِ وَلَا مَصْلَحَتِهِ وَحِينَئِذٍ فَلَا تُنَافِي الْأُصُولُ قَوَاعِدَ الْقَوْمِ قال الْقَرَافِيُّ لَكِنَّ طَرِيقَةَ الْإِمَامِ يُسَاعِدُهَا النَّقْلُ فإن أَبَا الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيَّ في كِتَابِ الْمُعْتَمَدِ حَكَى عن شِيعَتِهِ الْمُعْتَزِلَةِ الْخِلَافَ مُطْلَقًا من غَيْرِ تَقْيِيدٍ كما حَكَى الْإِمَامُ وَوَافَقَهُ الْقَرَافِيُّ أَخِيرًا لِهَذَا قُلْت لَكِنَّ ابْنَ بَرْهَانٍ وَابْنَ الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرَهُمَا من الْأَئِمَّةِ إنَّمَا حَكَوْا الْخِلَافَ عَنْهُمْ فِيمَا لَا يَقْضِي الْعَقْلُ فيه بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ في كِتَابِهِ في أُصُولِ الْفِقْهِ قال جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ الشُّكْرُ وما في مَعْنَاهُ وَاجِبٌ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَهُ هل هو حَرَامٌ أو مُبَاحٌ وقال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ مِمَّنْ يُوَافِقُ الْمُعْتَزِلَةَ لَا خِلَافَ أَنَّ ما كان لِلْعَقْلِ فيه حُكْمٌ أَنَّهُ على ما كان عليه قبل وُرُودِ الشَّرْعِ مِثْلُ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَكُفْرِهِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهُ ثُمَّ حَكَى الْخِلَافَ
____________________
(1/119)
وقال سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ إنَّ التَّنَفُّسَ في الْهَوَاءِ وَالِانْتِقَالَ من مَكَان إلَى مَكَان آخَرَ ليس من مَحَلِّ الْخِلَافِ لَكِنَّ صَاحِبَ الْمَصَادِرِ من الشِّيعَةِ حَكَى الْخِلَافَ عن الْمُعْتَزِلَةِ هل هو في الْحَالَتَيْنِ أو في الِاخْتِيَارِيَّةِ قَوْلَانِ وقال سُلَيْمٌ أَيْضًا في ذَيْلِ الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ الْخِلَافُ إنَّمَا هو فِيمَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ وَحَظْرِهِ كَالْمَآكِلِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَنَاكِحِ أَمَّا ما لَا يَجُوزُ عنه الْحَظْرُ كَمَعْرِفَةِ اللَّهِ وما لَا يَجُوزُ عليه الْإِبَاحَةُ كَالْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَنِسْبَةِ الظُّلْمِ إلَيْهِ فَلَا خِلَافَ فيه وَكَذَلِكَ جَعَلَ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ الْخِلَافَ في مُجَوَّزَاتِ الْعُقُولِ قال وَهِيَ كُلُّ ما جَازَ أَنْ يَرِدَ السَّمْعُ بِتَحْلِيلِهِ أو تَحْرِيمِهِ وقال صَاحِبُ الْمَصَادِرِ من الشِّيعَةِ لَا خِلَافَ بين الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمُضِرَّةَ على الْحَظْرِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في الْأَفْعَالِ التي يَصِحُّ الِانْتِفَاعُ بها وَلَا ضَرَرَ فَبِهَا مِمَّا لَا يُعْلَمُ وُجُوبُهُ وَلَا نَدْبُهُ على ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فَذَكَرَهَا وقال بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ من الْمُتَأَخِّرِينَ فُرُوعُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ حُكْمُ الْأَشْيَاءِ قبل وُرُودِ الشَّرْعِ هُمْ يُثْبِتُونَهُ مُطْلَقًا في كل مَسْأَلَةٍ من الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ غير أَنَّ فيها ما يُدْرَكُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَمِنْهَا ما يُدْرَكُ بِنَظَرِهِ وَمِنْهَا ما لَا يُدْرَكُ بِهِمَا فَتَجِيءُ الرُّسُلُ مُنَبِّهَةً عليه في الْأُولَيَيْنِ مُقَرِّرَةً وفي الثَّالِثِ كَاشِفَةً وَعِنْدَنَا لَا يُعْرَفُ وُجُوبٌ وَلَا تَحْرِيمٌ في شَيْءٍ من ذلك بِالْعَقْلِ وَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْعِ بَعْدَ الْبَعْثَةِ إنْشَاءً جَدِيدًا وَقِيلَ بِطَرِيقِ التَّبْيِينِ وَكُنَّا قَبْلَهُ مُتَوَقِّفِينَ في الْجَمِيعِ قال وَهَذَا الذي قُلْنَاهُ هو مُعْتَقَدُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَصْحَابِهِمْ وقال صَاحِبُ رَوْضَةِ النَّاظِرِ وَجَنَّةِ الْمَنَاظِرِ من الْحَنَابِلَةِ الْأَفْعَالُ قبل وُرُودِ الشَّرْعِ هل هِيَ على الْإِبَاحَةِ أو الْحَظْرِ قال الْقَاضِي فيه قَوْلَانِ يُومِئُ إلَيْهِمَا في كَلَامِ أَحْمَدَ وقال ابن عَقِيلٍ هُمَا رِوَايَتَانِ قال وَهَذَا النَّقْلُ يُشْكِلُ مع اسْتِقْرَارِ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنْ لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ في التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ حكم الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع إذَا ثَبَتَ هذا فَنَقُولُ في الْأَعْيَانِ الْمُنْتَفَعِ بها قبل وُرُودِ الشَّرْعِ مَذَاهِبُ أَحَدُهَا أنها على الْإِبَاحَةِ وَبِهِ قال مُعْتَزِلَةُ الْبَصْرَةِ وَأَهْلُ الرَّأْيِ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ كما قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ
____________________
(1/120)
وقال أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ في تَقْوِيمِ الْأَدِلَّةِ إنَّهُ قَوْلُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وقال ابن بَرْهَانٍ إنَّهُ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَحَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ عن الْقَاضِي أبي حَامِدٍ الْمَرُّوذِيّ وَعَنْ أبي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ من أَصْحَابِنَا قال وَحُكِيَ عن ابْنِ سُرَيْجٍ أَيْضًا وهو قَوْلُ أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ وَحَكَاهُ أبو عبد اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ من قُدَمَاءِ أَصْحَابِنَا في كِتَابِهِ عن كَثِيرٍ من أَصْحَابِنَا منهم أبو الطَّيِّبِ بن الْخَلَّالِ وَغَيْرُهُ وَحَكَاهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ عن الْقَاضِي أبي حَامِدٍ وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ عن أبي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنِ سُرَيْجٍ وَأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَحَكَاهُ عبد الْوَهَّابِ وَالْبَاجِيُّ عن أبي الْفَرَجِ الْمَالِكِيِّ وقال صَاحِبُ الْمَصَادِرِ اخْتَارَهُ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى وهو الصَّحِيحُ وقال صَاحِبُ الْوَاضِحِ من الْمُعْتَزِلَةِ إنَّهُ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُسْلِمِينَ وَبِهِ قال أبو عَلِيٍّ وَابْنُهُ أبو هَاشِمٍ الْجُبَّائِيَّانِ وأبو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وَنَصَرَهُ عبد الْجَبَّارِ وَالثَّانِي أنها على الْحَظْرِ وَبِهِ قال مُعْتَزِلَةُ بَغْدَادَ وقال أبو عبد اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ من أَصْحَابِنَا إنَّهُ الْحَقُّ وَبِهِ قال أبو عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ وَعَلِيُّ بن أَبَانَ الطَّبَرِيُّ وأبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وَمِمَّنْ حَكَاهُ عن ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ وَحَكَاهُ أَيْضًا عن بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ قال إلَّا أَنَّهُمْ خَصُّوا التَّنَفُّسَ بِالْهَوَاءِ وَالِانْتِقَالِ من مَكَان إلَى مَكَان فَقَالُوا هو على الْإِبَاحَةِ وَحُكِيَ عن الْمَالِكِيَّةِ وَفُهِمَ من مَذْهَبِ عبد الْمَلِكِ في الْمَوَّازِيَّةِ وقد سُئِلَ عن الطِّفْلِ هل هو حَلَالٌ فقال لَا إنَّ اللَّهَ لم يُحِلَّهُ وقال صَاحِبُ الْمَصَادِرِ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْحَظْرِ فَمِنْهُمْ من قال كُلُّ ما لَا يَقُومُ الْبَدَنُ إلَّا بِهِ وَلَا يَتِمُّ الْعَيْشُ إلَّا معه على الْإِبَاحَةِ وما عَدَاهُ على الْحَظْرِ وَمِنْهُمْ من سَوَّى بين الْكُلِّ في الْحَظْرِ انْتَهَى وهو كما قال من وُجُودِ الْخِلَافِ فَقَدْ قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ كان أَوَائِلُ الْقَدَرِيَّةِ يُطْلَقُ أَنَّ الْبَغْدَادِيِّينَ أنها على الْحَظْرِ وَالْبَصْرِيِّينَ على الْإِبَاحَةِ وَفَصَّلَهُ أبو هَاشِمٍ وكان مُوَفَّقًا في تَحْقِيقِ الْمَذَاهِبِ فقال الْأَشْيَاءُ قبل الشَّرْعِ عِنْدَ الْبَغْدَادِيِّينَ كَالْكَعْبِيِّ وَأَتْبَاعِهِ على الْحَظْرِ في ما عَدَا ما لِلْإِنْسَانِ منه فِكَاكٌ وَلَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ فَأَمَّا ما يَكُونُ مُضْطَرًّا كَالتَّنَفُّسِ وَالْكَوْنِ فَلَا قال الْأُسْتَاذُ وكان الدَّقَّاقُ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ يَذْهَبُ مَذْهَبَ الْكَعْبِيِّ وَيَقُولُ إنَّهَا على الْحَظْرِ وكان أبو حَامِدٍ من أَجِلَّاءِ أَصْحَابِ الحديث يَذْهَبُ
____________________
(1/121)
مَذْهَبَ الْبَصْرِيِّينَ وَيَقُولُ إنَّهَا على الْإِبَاحَةِ وَإِنَّمَا بَيَّنَّا مَذْهَبَهُمَا على أُصُولِ الِاعْتِزَالِ فَنَظَرَ إلَى أَقَاوِيلِهِمَا من لَا مَعْرِفَةَ له بِالْأُصُولِ فَظَنَّهُمَا من أَصْحَابِنَا لِانْتِسَابِهِمَا في الْفُرُوعِ إلَى الشَّافِعِيِّ وهو أبو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ أَفْعَالُ الْعُقَلَاءِ قبل الشَّرْعِ قال وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ قبل الشَّرْعِ فَمِنْهُمْ من قال إنَّهَا على الْحَظْرِ وَمِنْهُمْ من قال على الْإِبَاحَةِ ا هـ وَحَكَى الْبَاجِيُّ الْقَوْلَ بِالْحَظْرِ عن الْأَبْهَرِيِّ وَحَكَى عبد الْوَهَّابِ عنه الْوَقْفَ الثَّالِثُ أنها على الْوَقْفِ لَا نَقُولُ إنَّهَا مُبَاحَةٌ وَلَا مَحْظُورَةٌ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وهو قَوْلُ كَثِيرٍ من أَصْحَابِنَا منهم أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالْفَارِسِيُّ وأبو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ وَبِهِ قال الشَّيْخُ أبو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَأَتْبَاعُهُ وَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَبِهِ قال بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ وَحَكَاهُ ابن حَزْمٍ عن أَهْلِ الظَّاهِرِ وقال إنَّهُ الْحَقُّ الذي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ إلَّا أَنَّ طَرِيقَ الْوَقْفِ مُخْتَلِفٌ فَعِنْدَنَا لِعَدَمِ دَلِيلِ الثُّبُوتِ وهو الْخَبَرُ عن اللَّهِ لِأَنَّ الْحُكْمَ عِبَارَةٌ عن الْخِطَابِ فَحَيْثُ لَا خِطَابَ لَا حُكْمَ وَقِيلَ لِأَنَّهُ ليس لِلَّهِ هُنَاكَ حُكْمٌ أَصْلًا وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ من حُكْمٍ عِنْدَ اللَّهِ وقد تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عليه لِخَفَائِهِ فَيُوقَفُ في الْجَوَابِ إلَى الشَّرْعِ سَبَبُ الْوَقْفِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ وَالْقَائِلُونَ بِالْوَقْفِ اخْتَلَفُوا في سَبَبِهِ فقالت الْأَشَاعِرَةُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ وَغَيْرَهُ من الْأَحْكَامِ أُمُورٌ شَرْعِيَّةٌ وَلَا شَرْعَ فَتَنْتَفِي هذه الْأَحْكَامُ وقال بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ لِعَدَمِ الدَّلَالَةِ على أَحَدِهَا مع تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ دَلِيلًا بِالْوَقْفِ لِأَجَلِ عَدَمِ الدَّلِيلِ حَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ وَقَوَّاهُ وَنَقَلَهُ عن الْمُفِيدِ من الشِّيعَةِ وقال الْبَاجِيُّ إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِمْ وَنَقَلَهُ عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ عن ابْنِ عَتَّابٍ قال وكان يَحْكِيهِ عن الْقَاضِي إسْمَاعِيلَ وَبِهِ قال أبو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ وَالصَّيْرَفِيُّ وهو مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا الْمُتَكَلِّمِينَ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ مَعْنَى الْوَقْفِ عِنْدَنَا أَنَّا إذَا سَبَرْنَا أَدِلَّةَ الْعُقُولِ دَلَّتْنَا على أَنَّهُ لَا وَاجِبَ على أَحَدٍ قبل الشَّرْعِ في التَّرْكِ وَالْفِعْلِ
____________________
(1/122)
ثُمَّ الْفَرْقُ بين قَوْلِهِمْ وَقَوْلِ أَصْحَابِ أَهْلِ الْإِبَاحَةِ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْوَقْفِ عِنْدَهُمْ كُلُّ من اعْتَقَدَ فيه نَوْعًا من الِاعْتِقَادِ لم يَتَوَجَّهْ عليه الذَّمُّ وَالْقَائِلُونَ بِالْإِبَاحَةِ لَا يُجَوِّزُونَ اعْتِقَادَ الْحَظْرِ في الْإِبَاحَةِ وَمَنْ قَالَهُ وَاعْتَقَدَهُ فَقَدْ أَخْطَأَ وَتَوَجَّهَ عليه الذَّمُّ انْتَهَى فَظَنَّ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ اتِّحَادَ الْمَذْهَبَيْنِ فقال إنَّ الْقَائِلِينَ بِالْوَقْفِ قالوا إنَّ من تَأَوَّلَ شيئا أو فَعَلَ فِعْلًا لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ أَثِمَ حتى يَدُلَّ دَلِيلُ الشَّرْعِ عليه فَكَأَنَّهُمْ وَافَقُوا في الْحُكْمِ وَخَالَفُوا في الِاسْمِ وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ عن الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وقال الْأُسْتَاذُ في مَوْضِعٍ آخَرَ ذَهَبَ أَهْلُ الْحَقِّ إلَى أَنَّ في الْعَقْلِ بِمُجَرَّدِهِ دَلِيلًا على أَنْ لَا وَاجِبَ على الْإِنْسَانِ قبل بَعْثَةِ الرُّسُلِ وَأَنَّ لِلَّهِ أَنْ يُوجِبَ عَلَيْنَا ما شَاءَ مِمَّا أَمْكَنَ بِرَسُولٍ بَعَثَهُ قالوا وَلَوْ اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ من غَيْرِ وُجُوبٍ عليه أَمْكَنَهُ الْوُصُولُ إلَى جَمِيعِ ما ذَكَرْنَاهُ بِمَا نَصَبَهُ عليه من الْأَدِلَّةِ وَيَسْتَحِيلُ قَلْبُهَا عَمَّا هِيَ عليها قال وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ على الْوَقْفِ قبل الشَّرْعِ وَتَفْسِيرُهُ أَنَّ كُلَّ من فَعَلَ شيئا قبل وُرُودِ الرُّسُلِ عليهم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَا يُقْطَعُ له بِثَوَابٍ وَلَا عِقَابٍ قُلْت وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَقْفِ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لَا التَّرَدُّدُ في أَنَّ الْأَمْرَ ما هو أبو نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ وأبو الْفَتْحِ بن بَرْهَانٍ فقال الْقَائِلُونَ بِالْوَقْفِ لم يُرِيدُوا بِهِ أَنَّ الْوَقْفَ حُكْمٌ ثَابِتٌ وَلَكِنْ عَنَوْا بِهِ عَدَمَ الْحُكْمِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ ليس مَعْنَى الْوَقْفِ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِهِ لِأَنَّ الْوَقْفَ حُكْمُ نَقْلِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْمَانِعُ من الْقَوْلِ بِالْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ مَانِعٌ من الْقَوْلِ بِالْوَقْفِ وَإِنَّمَا مَعْنَى الْوَقْفِ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ لِلشَّيْءِ بِحَظْرٍ وَلَا إبَاحَةٍ لَكِنْ يُتَوَقَّفُ في الْحُكْمِ لِشَيْءٍ ما إلَى أَنْ يَرِدَ بِهِ الشَّرْعُ قال وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ على أَنَّ الْعَقْلَ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَدُلُّ على حُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ وَإِنَّمَا ذلك مَوْكُولٌ إلَى الشَّرْعِ فَنَقُولُ الْمُبَاحُ ما أَبَاحَهُ الشَّرْعُ وَالْمَحْظُورُ ما حَظَرَهُ فإذا لم يَرِدْ الشَّرْعُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لم يَبْقَ إلَّا الْوَقْفُ إلَى أَنْ يَرِدَ السَّمْعُ بِحُكْمٍ فيه ا هـ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ تَأْوِيلُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا الْوَقْفُ لَا يَرْجِعُ إلَى إثْبَاتِ صِفَةٍ هِيَ عليها في الْعَقْلِ وَلَكِنْ إلَى أَنَّ التَّصَرُّفَ فيها غَيْرُ مَحْكُومٍ بِأَنَّهُ مُبَاحٌ أو مَحْظُورٌ خِلَافًا لِمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مَحْكُومٌ له بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَعَبَّرْنَا عن نَفْيِ الْحُكْمِ بِأَنَّهُمَا على
____________________
(1/123)
الْوَقْفِ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ من قال إذَا كان هذا من حُكْمِهَا ثَابِتًا عِنْدَكُمْ في الْعَقْلِ فَقَدْ جَعَلْتُمْ لها حُكْمًا ثَالِثًا في الْعَقْلِ وَأَنَّ ذلك نَقْضٌ لِقَوْلِكُمْ لَا حُكْمَ لها في الْعَقْلِ لِأَنَّ غَرَضَنَا من ذلك ما ذَكَرْنَا من أَنَّهُ لَا حُكْمَ لها بِحَظْرٍ وَلَا إبَاحَةٍ وَهَذَا خِلَافٌ في عِبَارَةٍ انْتَهَى وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ حَكَى في الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةَ مَذَاهِبَ الْإِبَاحَةَ وَالْحَظْرَ وَالثَّالِثَ الْوَقْفَ على الْأَدِلَّةِ فما قام عليه الدَّلِيلُ وَنَفَى النَّافِي على ما كان عليها قال وهو قَوْلُ من قال إنَّهَا لَيْسَتْ مَحْظُورَةً وَلَا مُبَاحَةً وَالرَّابِعُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ تَحْتَاجُ إلَى مُبِيحٍ وَالْحَظْرَ يَحْتَاجُ إلَى حَاظِرٍ فَيُشِيرُ بِمَا يُوجِبُ حُكْمَهُ فِيهِمَا انْتَهَى وَهَذَا الْخِلَافُ إنَّمَا هو في تَفْسِيرِ الْوَقْفِ كما سَبَقَ ثُمَّ قال وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال إنَّ تَحْرِيكَ الْيَدِ وَنَحْوَهُ قد حَصَلَ الْإِذْنُ فيه بِالْعَقْلِ لِأَنَّ الْجَوَارِحَ لَا تَنْفَكُّ من حَرَكَةٍ ثُمَّ نَقَلَ عن أبي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ أَنَّهُ كان يَذْهَبُ إلَى بُطْلَانِ الْعَقْلِ وَأَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ إنَّمَا يَتَعَقَّلُ بِالشَّرْعِ قال وَهَذَا لَا يُنَازِعُهُ فيه أَحَدٌ وَإِنَّمَا نَقُولُ له هل لِلْعَقْلِ في هذا لو انْفَرَدَ وَهَلْ يَجِبُ أَنْ يُصَارَ إلَيْهِ فَإِنْ قال لَا قُلْنَا ليس كَلَامُنَا فيه وَإِنْ أَرَادَ الْجَوَازَ أَقَمْنَا الْأَدِلَّةَ على أَنَّ لِلْعَقْلِ دَخْلًا في الْجَوَازِ انْتَهَى وقال الْمَازِرِيُّ الرَّاجِحُ عِنْدَنَا الْوَقْفُ وَنَعْنِي بِهِ الْقَطْعَ على أَنْ لَا حُكْمَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ في حَقِّنَا قال وَأَشَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ بين الْقَائِلِ بِالْإِبَاحَةِ وَالْقَائِلِ بِالْوَقْفِ لَفْظِيٌّ وَظَنَّ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِالْإِبَاحَةِ هَاهُنَا اسْتِوَاءَ الْفِعْلِ وَتَرْكَهُ في بَابِ الذَّمِّ وَغَيْرِهِ لَكِنَّ غَيْرَهُ من أَئِمَّتِنَا النَّاقِلِينَ لِهَذَا الْمَذْهَبِ عن الْمُعْتَزِلَةِ لم يَحْمِلْهُ على ذلك وَاعْلَمْ أَنَّ من قال من أَصْحَابِنَا بِالْحَظْرِ أو الْإِبَاحَةِ ليس مُوَافِقًا لِلْمُعْتَزِلَةِ على أُصُولِهِمْ بَلْ لِمُدْرِكٍ شَرْعِيٍّ أَمَّا التَّحْرِيمُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى يَسْأَلُونَك مَاذَا أُحِلَّ لهم وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ قبل الْحِلِّ التَّحْرِيمُ فَدَلَّ على أَنَّ حُكْمَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا على الْحَظْرِ وَأَمَّا الْإِبَاحَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى خَلَقَ لَكُمْ ما في الْأَرْضِ جميعا فَهَذِهِ مَدَارِكُ شَرْعِيَّةٌ دَالَّةٌ على الْحَالِ قبل وُرُودِ الشَّرْعِ فَلَوْ لم تَرِدْ هذه النُّصُوصُ لَقَالَ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءُ لَا عِلْمَ لنا بِتَحْرِيمٍ وَلَا إبَاحَةٍ بِخِلَافِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ الْمُدْرِكُ عِنْدَنَا الْعَقْلُ وَلَا يَضُرُّنَا عَدَمُ وُرُودِ الشَّرْعِ
____________________
(1/124)
تَنْبِيهَاتٌ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ تَفْرِيعُ مَسْأَلَةِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ على التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ إنَّ الْأَصْحَابَ جَعَلُوا مَسْأَلَةَ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَالْأَفْعَالَ مُفَرَّعَةً على التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الشُّكْرَ هو اجْتِنَابُ الْقَبِيحِ وَارْتِكَابُ الْحَسَنِ وهو عَيْنُ مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهَا فَرْعُهَا وَإِلَى ذلك أَشَارَ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ فقال هذه الْمَسْأَلَةُ عَيْنُ مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ وَلَا نَقُولُ هِيَ فَرْعُهَا إذْ لَا بُدَّ وَأَنْ يُتَخَيَّلَ بين الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ نَوْعُ مُنَاسَبَةٍ وَهِيَ هِيَ بَيَانُهُ أَنَّا نَقُولُ مُعَاشِرَ الْمُعْتَزِلَةِ إنْ عَنَيْتُمْ بِالشُّكْرِ قَوْلَ الْقَائِلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالشُّكْرُ لِلَّهِ فَقَدْ ارْتَكَبْتُمْ مُحَالًا إذْ الْعَقْلُ لَا يَهْتَدِي لِإِيجَابِ كَلِمَةٍ وَإِنْ عَنَيْتُمْ بِالشُّكْرِ مَعْرِفَةَ اللَّهِ فَبَاطِلٌ أَيْضًا لِأَنَّ الشُّكْرَ يَسْتَدْعِي تَقْدِيمَ مَعْرِفَةٍ وَلِهَذَا قِيلَ أَعْرَفُ اللَّهِ أَشْكَرُ فَإِنْ قالوا عَنَيْنَا بِوُجُوبِهِ عَقْلًا ما عَنَيْتُمْ أَنْتُمْ بِوُجُوبِهِ سَمْعًا قُلْنَا نَحْنُ نَعْنِي بِوُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ سَمْعًا امْتِثَالَ أَوَامِرِهِ وَالِانْتِهَاءَ عن نَوَاهِيهِ قالوا فَنَحْنُ أَيْضًا نُرِيدُ بِذَلِكَ الْإِتْيَانَ بِمُسْتَحْسَنَاتِ الْعُقُولِ وَالِامْتِنَاعَ عن مُسْتَقْبَحَاتِهَا فَقَدْ تَبَيَّنَ بهذا التَّفْسِيرِ أَنَّ هذه هِيَ عَيْنُ مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ فَبُطْلَانُ مَذْهَبِهِمْ هُنَا مَعْلُومٌ من تِلْكَ إلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَفْرَدُوا هذه من تِلْكَ الْجُمْلَةِ لِعِبَارَاتٍ رَشِيقَةٍ تَخْتَصُّ بها وَمَعَانٍ مُوَفَّقَةٍ نَذْكُرُهَا يَظْهَرُ منها سُقُوطُ كَلَامِهِمْ فيها وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ ما لَا يَقْضِي الْعَقْلُ فيها بِشَيْءٍ لَا يُتَّجَهُ تَفْرِيعُهُ على الْأَصْلِ السَّابِقِ فإن الْأَصْلَ إنَّمَا هو حَيْثُ يَقْضِي الْعَقْلُ هل يَتْبَعُ حُكْمَهُ وَإِنَّمَا الْأَصْحَابُ قالوا هَبْ أَنَّ ذلك الْأَصْلَ صَحِيحٌ فَلِمَ قَضَيْتُمْ حَيْثُ لَا قَضَاءَ لِلْعَقْلِ وَلَيْسَ هذا تَفْرِيعًا على هذا الْأَصْلِ التَّنْبِيهُ الثَّانِي فَائِدَةُ هذه الْمَسْأَلَةِ قال بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ لَا مَعْنَى لِلْكَلَامِ في هذه الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ من حَيْثُ إنَّهُ ما خَلَا زَمَانٌ من سَمْعٍ لَكِنْ لَا يُمْنَعُ الْكَلَامُ فِيمَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ لو لم يَكُنْ سمع حَكَاهُ سُلَيْمٌ
____________________
(1/125)
الرَّازِيّ وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ ثُمَّ قال وهو بَعِيدٌ فإنه يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَنْ خُلِقَ في جَزِيرَةٍ ولم يُبَلَّغْ أَهْلُهَا دَعْوَةَ الْمِلْكِ فَهَلْ يَعْلَمُ أَهْلُهَا إبَاحَةَ هذه الْأَجْنَاسِ أَمْ لَا وَإِنْ حَاوَلَ مُحَاوِلٌ تَرْتِيبَ فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ على هذه الْمَسْأَلَةِ لم يَعْدَمْهَا فإن ما لم يُوجَدْ فيه حُكْمٌ شَرْعِيٌّ كان على حُكْمِ الْعُقُولِ من الْإِبَاحَةِ في رَأْيٍ أو على الْحَظْرِ في رَأْيٍ وَإِنْ كان من الْعُلَمَاءِ من لَا يُجَوِّزُ خُلُوَّ وَاقِعَةٍ عن حُكْمٍ لِلَّهِ مُتَلَقًّى من الشَّرْعِ كَالصَّيْرَفِيِّ وهو اخْتِيَارُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وهو الْحَقُّ عِنْدَنَا فَعَلَى هذا الشَّافِعِيُّ يَبْنِي على الْإِبَاحَةِ تَلَقِّيًا من الْأَئِمَّةِ وأبو حَنِيفَةَ يَبْنِي على الْحَظْرِ تَلَقِّيًا من الشَّرْعِ فَلَا مَخْرَجَ عن الشَّرْعِ ا هـ وَحَكَى ابن فُورَكٍ عن ابْنِ الصَّائِغِ أَنَّهُ قال لم يَخْلُ الْعَقْلُ قَطُّ من السَّمْعِ وَلَا نَازِلَةٌ إلَّا وَفِيهَا سَمْعٌ أو لها تَعَلُّقٌ بِهِ أو لها حَالٌ يُسْتَصْحَبُ قال فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْتَمِدَ على هذا وَيُغْنِي عن النَّظَر في حَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ وَوَقْفٍ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ فَائِدَةُ هذه الْمَسْأَلَةِ مع قَوْلِنَا إنَّهُ لم يَخْلُ زَمَانُ الْعُقَلَاءِ عن شَرْعٍ وَتَكْلِيفٍ من اللَّهِ يَظْهَرُ في حَادِثَةٍ تَقَعُ ليس فيها نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ فَيَكُونُ الْحُكْمُ فيها عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا الْوَقْفَ مع نَفْيِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ عَمَّنْ اعْتَقَدَ فيها حَظْرًا أو إبَاحَةً أو وَقْفًا وَيَكُونُ حُكْمُهَا الْحَظْرَ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ قَبْلَهُ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ فَائِدَةُ هذه الْمَسْأَلَةِ في الْفِقْهِ أَنَّ من حَرَّمَ شيئا أو أَبَاحَهُ فقال طَلَبْت دَلِيلَ الشَّرْعِ فلم أَجِدْهُ فَبَقِيتُ على حُكْمِ الْعَقْلِ من تَحْرِيمٍ أو إبَاحَةٍ هل يَصِحُّ ذلك أَمْ لَا وَهَلْ هذا دَلِيلٌ يَلْزَمُ خَصْمُهُ أَمْ لَا وَهَذَا أَمْرٌ يَحْتَاجُ الْفَقِيهُ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَالْوُقُوفِ على حَقِيقَتِهِ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ سَمِعْت ابْنَ دَاوُد يَحْتَجُّ على إبَاحَةِ اسْتِعْمَالِ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ في غَيْرِ الشُّرْبِ فقال الْأَصْلُ في الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ وقد وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِ الشُّرْبِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى ما عَدَاهُ على التَّحْلِيلِ فقال بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِهَذَا الْمُحْتَجِّ مَذْهَبُ دَاوُد أَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ مَوْقُوفَةٌ على ما يَرِدُ بِهِ الشَّرْعُ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ إبَاحَتِهَا بهذا الطَّرِيقِ وَلَا تَكُونُ إبَاحَتُهَا بِعَدَمِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ أَوْلَى من حَظْرِهَا وَبَطَلَ بهذا حُجَّةُ الْمُحْتَجِّ ا هـ وَمِمَّا يَتَخَرَّجُ على هذا ما لو لم يَجِدْ الْعَامِّيُّ في هذه الْمَسْأَلَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَاقِعَةً له وَلَا نَاقِلَ حُكْمِهَا
____________________
(1/126)
قال ابن الصَّلَاحِ فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ فَتْرَةِ الشَّرِيعَةِ وَحَمْلُهَا كما قبل وُرُودِ الشَّرْعِ وَالصَّحِيحُ منه لَا تَكْلِيفَ حَكَاهُ عنه في الرَّوْضَةِ وَأَقَرَّهُ وَخَرَّجَ في شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عليه النَّبَاتَ الْمَجْهُولَ سَمِيَّتَهُ وَاللَّبَنَ الْمَجْهُولَ كَوْنُهُ لَبَنَ مَأْكُولٍ أو غَيْرِهِ وَرَجَّحَ الْإِبَاحَةَ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ اللَّبَنَ قد عُلِمَ حُكْمُ الشَّرْعِ فيه وما يُبَاحُ منه وما يَحْرُمُ فَالْمَوْجُودُ فيه حُكْمٌ وَلَكِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بين تَحْرِيمٍ وَإِبَاحَةٍ فَلَا يَحْسُنُ تَخْرِيجُهُ على هذا الْأَصْلِ وَأَمَّا النَّبَاتُ فَلَا يَبْعُدُ تَخْرِيجُهُ فيه كَحَيَوَانٍ لم يَرِدْ فيه نَصٌّ بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ وقد ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ في الْأَطْعِمَةِ أَنَّ الْمَاوَرْدِيَّ خَرَّجَهُ على هذا الْأَصْلِ وَكَذَلِكَ خَرَّجَ عليه الْمَاوَرْدِيُّ الشَّعْرَ الْمَشْكُوكَ في طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ وَالنَّهْرَ الْمَشْكُوكَ في كَوْنِهِ مَمْلُوكًا أو مُبَاحًا وهو تَخْرِيجٌ ضَعِيفٌ لِمَا بَيَّنَّا في اللَّبَنِ الْمَجْهُولِ وَلَوْ وَقَعَ رَجُلٌ على طِفْلٍ من الْأَطْفَالِ إنْ أَقَامَ على أَحَدِهِمْ قَتَلَهُ وَإِنْ انْتَقَلَ إلَى آخَرَ من جِيرَانِهِ قَتَلَهُ قال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ في قَوَاعِدِهِ قد قِيلَ ليس في الْمَسْأَلَةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَهِيَ بَاقِيَةٌ على الْأَصْلِ في انْتِفَاءِ الشَّرَائِعِ قبل نُزُولِهَا ولم نَرَ لِلشَّرِيعَةِ التَّخْيِيرَ بين هَاتَيْنِ الْمَفْسَدَتَيْنِ فَلَوْ كان بَعْضُهُمْ مُسْلِمًا وَبَعْضُهُمْ كَافِرًا فَهَلْ يَلْزَمُهُ الِانْتِقَالُ إلَى الْكَافِرِ لِأَنَّ قَتْلَهُ أَخَفُّ مَفْسَدَةً من قَتْلِ الطِّفْلِ الْمَحْكُومِ بِإِسْلَامِهِ الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ يَلْزَمُ ذلك لِأَنَّا نُجَوِّزُ قَتْلَ أَوْلَادِ الْكُفَّارِ عِنْدَ التَّتَرُّسِ بِهِمْ حَيْثُ لَا يَجُوزُ ذلك في أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ وَبَنَى في مَوْضِعٍ آخَرَ على هذا الْأَصْلِ ما إذَا لم يَكُنْ في الْفِعْلِ مَصْلَحَةٌ ما وَلَا مَفْسَدَةٌ ما كَتَحْرِيكِ الْأُصْبُعِ في الْهَوَاءِ لِغَيْرِ دَفْعٍ وَلَا نَفْعٍ قال فَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ مُقَرَّرٌ على ما كان قبل وُرُودِ الشَّرْعِ إذْ ليس في الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ما يَدُلُّ على أَنَّهُ مَطْلُوبُ الْفِعْلِ وَلَا مَطْلُوبُ التَّرْكِ وَلَا مَأْذُونٌ فيه بَلْ يَكُونُ كَفِعْلِ الْمَجَانِينِ وَالصِّبْيَانِ وَمَنْ لم تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ وَبَنَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في كِتَابِ الْقَضَاءِ على هذا الْخِلَافِ أَيْضًا تَقْرِيرَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم غَيْرَهُ على فِعْلٍ من الْأَفْعَالِ هل يَدُلُّ على الْجَوَازِ من جِهَةِ الشَّرْعِ أو من جِهَةِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَكَوْنُ الْأَصْلِ هو الْإِبَاحَةَ فَإِنْ قُلْنَا أَصْلُ الْأَشْيَاءِ على التَّحْرِيمِ دَلَّ التَّقْرِيرُ على الْجَوَازِ شَرْعًا وَإِنْ قُلْنَا أَصْلُهَا الْإِبَاحَةُ فَلَا وَسَيَأْتِي في كِتَابِ السُّنَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ تَخْرِيجَ هذه الْفُرُوعِ كُلِّهَا لَا يَسْتَقِيمُ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ الْمُخَرَّجَ عليه مَمْنُوعٌ في الشَّرْعِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ على تَقْدِيرِ
____________________
(1/127)
التَّنْزِيلِ لِبَيَانِ إبْطَالِ أَصْلِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ فإن الشَّرْعَ عِنْدَهُمْ كَاشِفٌ لَا يُمْكِنُ وُرُودُهُ بِخِلَافِ الْعَقْلِ وَمَنْ أَطْلَقَ من الْأَصْحَابِ الْخِلَافَ يَنْبَغِي حَمْلُهُ على أَنَّهُ هل يَجُوزُ الْهُجُومُ عليه ابْتِدَاءً أَمْ يَجِبُ التَّوَقُّفُ إلَى الْبَحْثِ عن الْأَدِلَّةِ الْخَاصَّةِ فَإِنْ لم نَجِدْ ما يَدُلُّ على تَحْرِيمِهِ فَهُوَ حَلَالٌ بَعْدَ الشَّرْعِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَأْخَذُ الْخِلَافِ أَنَّ الْحَلَالَ هل هو ما لم يَدُلَّ دَلِيلٌ على تَحْرِيمِهِ أو ما دَلَّ دَلِيلٌ على إبَاحَتِهِ الثَّانِي أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا قبل الشَّرْعِ وَهَذِهِ حَوَادِثُ بَعْدَ الشَّرْعِ وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ ما أَشْكَلَ أَمْرُهُ يُشْبِهُ الْحَادِثَةَ قبل الشَّرْعِ لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا قِيَامُ الدَّلِيلِ بَعْدَ الشَّرْعِ فِيمَا أَشْكَلَ أَمْرُهُ أَنَّهُ على الْعَفْوِ التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ تَصْحِيحُ الْوَقْفِ هل يَسْتَقِيمُ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ تَصْحِيحُ الْوَقْفِ في هذه الْمَسْأَلَةِ مع ما سَيَأْتِي في الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ فيها أَنَّ الْأَصْلَ في الْمَنَافِعِ هو الْإِبَاحَةُ على الصَّحِيحِ قُلْت الْخِلَافُ هُنَا فِيمَا قبل الشَّرْعِ وَهُنَاكَ فِيمَا بَعْدَ الشَّرْعِ بِأَدِلَّةٍ سَمْعِيَّةٍ وَلِهَذَا عَبَّرُوا ثُمَّ بِالْإِبَاحَةِ التي هِيَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ أَجْمَعُوا كما قال الْغَزَالِيُّ في آخِرِ الْمَنْخُولِ على جَوَازِ فُتُورِ الشَّرِيعَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى من قَبْلَنَا خِلَافًا لِلْكَعْبِيِّ لِأَجْلِ قَوْلِهِ بِالْمَصَالِحِ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى شَرِيعَتِنَا فَمِنْهُمْ من مَنَعَهُ وَفَرَّقَ بِأَنَّ هذه الشَّرِيعَةَ خَاتِمَةُ الشَّرَائِعِ وَلَوْ فَتَرَتْ بَقِيَتْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قال وَالْمُخْتَارُ أنها كَشَرْعِ من قَبْلَنَا في ذلك إذْ ليس في الْعَقْلِ ما يُحِيلُهُ وفي الحديث يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَخْتَلِفُ رَجُلَانِ في فَرِيضَةٍ فَلَا يَجِدَانِ من يَقْسِمُ بَيْنَهُمَا وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا له لَحَافِظُونَ فَيُمْكِنُ تَخْصِيصُهُ
____________________
(1/128)
بِالْقُرْآنِ دُونَ سَائِرِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ هذا كُلُّهُ في الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ أَمَّا الْوُقُوعُ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يَغْلِبُ على الظَّنِّ وهو أَنَّ الْقِيَامَةَ إنْ قَامَتْ على قُرْبٍ فَلَا تَفْتُرُ الشَّرِيعَةُ وَلَوْ امْتَدَّتْ إلَى خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ مَثَلًا لِأَنَّ الدَّوَاعِيَ مُتَوَفِّرَةٌ على نَقْلِهَا في الْحَالِ فَلَا تَضْعُفُ إلَّا على التَّدْرِيجِ وَإِنْ تَطَاوَلَ الزَّمَنُ فَالْغَالِبُ فُتُورُهُ إذْ الْهِمَمُ مَصِيرُهَا إلَى التَّرَاجُعِ ثُمَّ إذَا فَتَرَتْ ارْتَفَعَ التَّكْلِيفُ وَهِيَ الْأَحْكَامُ قبل وُرُودِ الشَّرْعِ وَزَعَمَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ أَنَّهُمْ يُكَلَّفُونَ الرُّجُوعَ إلَى مَحَاسِنِ الْعُقُولِ قال وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِمَذْهَبِنَا فَإِنَّا لَا نَقُولُ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ ا هـ وَهَذِهِ تَرْجِعُ إلَى الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ في الِاجْتِهَادِ في خُلُوِّ الْعَصْرِ عن الْمُجْتَهِدِ مسألة ( ( ( في ) ) ) تَقْدِيرِ خلو واقعة عن حكم لله في تقدير خُلُوِّ وَاقِعَةٍ عن حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى مع بَقَاءِ الشَّرِيعَةِ على نِظَامِهَا قال الْغَزَالِيُّ قد جَوَّزَهُ الْقَاضِي حتى كَادَ يُوجِبُهُ وقال الْمَآخِذُ مَحْصُورَةٌ وَالْوَقَائِعُ لَا ضَبْطَ لها فَلَا تَسْتَوْفِيهَا مَسَالِكُ مَحْصُورَةٌ قال وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا إحَالَةُ ذلك وُقُوعًا في الشَّرْعِ لَا جَوَازًا في الْعَقْلِ لِعِلْمِنَا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ على طُولِ الْأَعْصَارِ ما انْحَجَزُوا عن وَاقِعَةٍ وما اعْتَقَدُوا خُلُوَّهَا عن حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ كَانُوا يَهْجُمُونَ عليها هُجُومَ من لَا يَرَى لها حَصْرًا وَرَأَيْت في كِتَابِ إثْبَاتِ الْقِيَاسِ لِابْنِ سُرَيْجٍ ليس شَيْءٌ إلَّا وَلِلَّهِ عز وجل فيه حُكْمٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى يقول إنَّ اللَّهَ كان على كل شَيْءٍ حَسِيبًا وكان اللَّهُ على كل شَيْءٍ مُقِيتًا وَلَيْسَ في الدُّنْيَا شَيْءٌ يَخْلُو من إطْلَاقٍ أو حَظْرٍ أو إيجَابٍ لِأَنَّ جَمِيعَ ما على الْأَرْضِ من مَطْعَمٍ أو مَشْرَبٍ أو مَلْبَسٍ أو مَنْكَحٍ أو حُكْمٍ بين مُتَشَاجِرَيْنِ أو غَيْرِهِ لَا يَخْلُو من حُكْمٍ وَيَسْتَحِيلُ في الْعُقُولِ غَيْرُ ذلك وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فيه أَعْلَمُهُ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ كَيْفَ دَلَائِلُ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ
____________________
(1/129)
مَسْأَلَةٌ أَحْكَامُ الشَّرْعِ ثَابِتَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلُّ حُكْمٍ ثَبَتَ لنا بِقَوْلِ اللَّهِ أو بِقَوْلِ رَسُولِهِ أو بِإِجْمَاعٍ أو قِيَاسٍ فَهُوَ دَائِمٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَمَّا قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يَنْزِلُ عِيسَى ابن مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ فَقِيلَ يَضَعُهَا عليهم بَعْدَ أَنْ يَرْفَعَهَا فَلَا يَقْبَلُ منهم إلَّا الْإِسْلَامَ وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُ نَزَلَ مُقَرِّرًا لِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا وَمِنْ شَرِيعَتِهِ إقْرَارُهُمْ بِالْجِزْيَةِ وَقِيلَ بَلْ من شَرِيعَتِهِ في ذلك الْوَقْتِ عَدَمُ التَّقْرِيرِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ شَرِيعَتَهُ ما أتى بها وهو قبل شَرْعِ الْجِزْيَةِ وَقَضِيَّتُهُ بَقَاؤُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِمَا سَلَفَ وفي الْبَابِ حَدِيثٌ رَوَاهُ أبو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ في مُعْجَمِهِ حدثنا يحيى بن عُثْمَانَ بن صَالِحٍ الْبَصْرِيُّ حدثنا نُعَيْمُ بن حَمَّادٍ الْمَرْوَزِيِّ حدثنا سُفْيَانُ بن عُيَيْنَةَ عن أبي الزِّنَادِ عن الْأَعْرَجِ عن أبي هُرَيْرَةَ قال قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْتُمْ في زَمَانٍ من تَرَكَ عُشْرَ ما أُمِرَ بِهِ هَلَكَ وَسَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ من عَمِلَ بِعُشْرِ ما أُمِرَ بِهِ نَجَا وَهَذَا الْحَدِيثُ تَفَرَّدَ بِهِ عن سُفْيَانَ نُعَيْمُ بن حَمَّادٍ الْمَرْوَزِيِّ وكان يقول هذا الْحَدِيثُ يُنْكِرُونَهُ عَلَيَّ وَإِنَّمَا كُنْت مع سُفْيَانَ فَمَرَّ يَمْشِي فَأَنْكَرَهُ ثُمَّ حدثني بِهِ وَحَكَى الْعَبَّاسُ بن مُصْعَبٍ أَنَّ نُعَيْمًا هذا نَاقَضَ مُحَمَّدَ بن الْحَسَنِ وَوَضَعَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ كِتَابًا في الرَّدِّ على الْجَهْمِيَّةِ وَخَرَجَ إلَى مِصْرَ وَأَقَامَ بها نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ حُمِلَ إلَى الْعِرَاقِ مع الْبُوَيْطِيِّ في امْتِحَانِ الْقُرْآنِ مُقَيَّدَيْنِ فَمَاتَ نُعَيْمٌ في الْحَبْسِ بِسُرَّ من رَأَى سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِئَتَيْنِ وَنُقِلَ عن الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بن عبد السَّلَامِ أَنَّهُ قال يَحْدُثُ لِلنَّاسِ في كل زَمَانٍ من الْأَحْكَامِ ما يُنَاسِبُهُمْ وقد يَتَأَيَّدُ هذا بِمَا في الْبُخَارِيِّ عن عَائِشَةَ أنها قالت لو عَلِمَ
____________________
(1/130)
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ما أَحْدَثَتْهُ النِّسَاءُ بَعْدَهُ لَمَنَعَهُنَّ من الْمَسَاجِدِ وَقَوْلُ عُمَرَ بن عبد الْعَزِيزِ يَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ على قَدْرِ ما أَحْدَثُوا من الْفُجُورِ أَيْ يُجَدِّدُونَ أَسْبَابًا يَقْضِي الشَّرْعُ فيها أُمُورًا لم تَكُنْ قبل ذلك لِأَجْلِ عَدَمِهِ منها قبل ذلك لَا لِأَنَّهَا شَرْعٌ مُجَدَّدٌ فَلَا نَقُولُ إنَّ الْأَحْكَامَ تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ بَلْ بِاخْتِلَافِ الصُّورَةِ الْحَادِثَةِ وقال الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ الْبَالِسِيُّ وَكُنْت أَنْفِرُ من هذا الْقَوْلِ وَأُعَلِّلُ فَسَادَهُ بِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ شَرَعَ شَرْعًا مُسْتَمِرًّا إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ مع عِلْمِهِ بِفَسَادِ الْأَمْرِ فِيهِمْ ثُمَّ رَأَيْت في النِّهَايَةِ قد قَرَّرَ ما في نَفْسِي فقال قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ لو كانت قَضَايَا الشَّرْعِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الناس وَتَنَاسُخِ الْعُصُورِ لَانْحَلَّ رِبَاطُ الشَّرْعِ قال وَلَمَّا ذَكَرَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ مَقَالَاتِ الْأَصْحَابِ في التَّعْزِيرِ رُوِيَ الْحَدِيثُ في نَفْيِ الزِّيَادَةِ على عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ ثُمَّ قال وَلَوْ بَلَغَ الشَّافِعِيُّ لَقَالَ بِهِ انْتَهَى وقد أَكْثَرَ الرُّويَانِيُّ في الْحِلْيَةِ من اخْتِيَارَاتِ خِلَافِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَيَقُولُ في هذا الزَّمَانِ وقال الْعَبَّادِيُّ في فَتَاوِيهِ الصَّدَقَةُ أَفْضَلُ من حَجِّ التَّطَوُّعِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَهِيَ تُحْتَمَلُ في هذا الزَّمَانِ وَأَفْتَى الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بِالْقِيَامِ لِلنَّاسِ وقال لو قِيلَ بِوُجُوبِهِ في هذه الْأَزْمِنَةِ لَمَا كان بَعِيدًا وَكُلُّ ذلك فَإِنَّمَا هو اسْتِنْبَاطٌ من قَوَاعِدِ الشَّرْعِ لَا أَنَّهُ خَارِجٌ عن الْأَحْكَامِ الْمَشْرُوعَةِ فَاعْلَمْ ذلك فإنه عَجِيبٌ
____________________
(1/131)
سقط مسألة مُجَرَّدُ السُّكُوتِ لَا يَدُلُّ على ما عَدَا الْمَذْكُورِ ذَكَرَهَا ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ ذَيَّلَ هذه فقال مُجَرَّدُ السُّكُوتِ لَا يَدُلُّ عِنْدَنَا على سُقُوطِ ما عَدَا الْمَذْكُورِ كما يَدُلُّ عِنْدَ من يَذْهَبُ إلَى أَنَّ أَصْلَ الْأَشْيَاءِ على الْإِبَاحَةِ وَإِنَّمَا هو بِحَسَبِ الْحَالِ وَقِيَامِ الدَّلِيلِ وَذَلِكَ على ضُرُوبٍ أَمَّا سُكُوتُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عن الشَّيْءِ يُفْعَلُ بِحَضْرَتِهِ وَلَا يُنْكِرُهُ فَدَلِيلُ الْجَوَازِ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في كِتَابِ السُّنَّةِ وَأَمَّا الشَّيْءُ إذَا كان له أَصْلٌ في الْوُجُوبِ أو السُّقُوطِ فإن السُّكُوتَ عنه في بَعْضِ الْأَحْوَالِ اسْتِغْنَاءٌ بِمَا تَقَدَّمَ من الْبَيَانِ فيه وَلَيْسَ تَكْرِيرُ الْبَيَانِ وَاجِبًا في كل حَالٍ وَمَرَاتِبُ الِاسْتِدْلَالِ بِالسُّكُوتِ تَخْتَلِفُ فَأَقْوَى ما يَكُونُ منه إذَا كان صَاحِبُ الْوَاقِعَةِ جَاهِلًا بِأَصْلِ الْحُكْمِ في الشَّيْءِ ولم يَكُنْ من أَهْلِ الِاسْتِدْلَالِ كَالْأَعْرَابِيِّ الذي سَأَلَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وقد أَحْرَمَ وَعَلَيْهِ الْجُبَّةُ فقال انْزِعْ عَنْك الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ عَنْك الصُّفْرَةَ وَسَكَتَ عن الْكَفَّارَةِ فَدَلَّ على سُقُوطِهَا عن الْجَاهِلِ وَالسَّاهِي وَلَوْ كانت وَاجِبَةً لَذَكَرَهَا إذْ لم يَكُنْ يَجُوزُ إهْمَالُ ذِكْرِهَا تَعْوِيلًا على مَعْرِفَةِ اللَّهِ بِالْحُكْمِ وَدُونَ هذا في الْمَرْتَبَةِ خَبَرُ الْأَعْرَابِيِّ الْمُجَامِعِ في شَهْرِ رَمَضَانَ فَكَانَ قَوْلُهُ افْعَلْ كَذَا دَلِيلًا على أَنَّهُ يُجْزِئُ عنه وَعَنْ زَوْجَتِهِ وَإِنَّمَا كان هذا أَضْعَفُ من دَلَالَةِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ السَّائِلَ في هذا الْخَبَرِ قد أَنْبَأَ عن عِلَّتِهِ فإنه ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً لِقَوْلِهِ هَلَكْت وَأَهْلَكْت وإذا كان الْمُبْتَلَى
____________________
(1/132)
بِالْحَادِثَةِ من أَهْلِ الِاسْتِدْلَالِ كان دَلِيلُ السُّكُوتِ فيه أَوْهَى وَأَضْعَفَ وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا خَرَجَ عن السَّبِيلَيْنِ ذَكَرَ اللَّهُ الْأَحْدَاثَ في كِتَابِهِ ولم يذكر هذا وما كان رَبُّك نَسِيًّا فإن قَوْمًا من أَصْحَابِنَا تَعَلَّقُوا بِهِ أَنَّهُ إنَّمَا رَدَّهُ إلَى سُقُوطِ التَّكْلِيفِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ وَإِنَّمَا وَجَّهَهُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُتَطَهِّرَ على طَهَارَتِهِ وَلَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ إلَّا بِحَدَثٍ وما لم تَقُمْ دَلَالَةٌ على الْحَدَثِ فَأَصْلُ الطُّهْرِ كَافٍ فيه وقد قال عليه السَّلَامُ لَا يَنْصَرِفُ حتى يَسْمَعَ صَوْتًا وَمَنْ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ وما سَكَتَ عنه فَهُوَ عَفْوٌ فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إجْرَاؤُهُ على عُمُومِهِ فَائِدَةٌ ادَّعَى الشَّافِعِيُّ الْإِجْمَاعَ على أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَجُوزُ له الْإِقْدَامُ على فِعْلِ شَيْءٍ حتى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فيه وَكَذَلِكَ حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى وَاسْتَشْكَلَهُ بَعْضُهُمْ بِتَصْرِيحِهِمْ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ في الْإِقْدَامِ إذْ ذَاكَ إذْ لَا حُكْمَ وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْإِجْمَاعُ مَحْمُولٌ على ما إذَا أَقْدَمَ بِلَا سَبَبٍ وَمَحَلُّ عَدَمِ الْحَرَجِ ما إذَا أَقْدَمَ مُسْتَنِدًا إلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَقِيلَ بَلْ الْمَنْفِيُّ في كَلَامِهِمْ هو الْجَوَازُ الشَّرْعِيُّ وهو حَقٌّ إذْ الْغَرَضُ أَنْ لَا حُكْمَ فَلَا جَوَازَ لَكِنَّهُ إذَا أَقْدَمَ فَلَا يُعَاقَبُ إذْ لَا حُكْمَ
____________________
(1/133)
مسألة تعريف الحسن والقبح كان من حقها أن تذكر صدر الأصل السابق وهو تعريف الحسن والقبح قد أطلق الأصوليون القول بمقابلة الحسن بالقبيح وإنما يقابل الحسن بالسيئ والقبيح بالجميل كما قال الله تعالى إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها وقال ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ومن حكم التقابل مقابلة الأعم بالأعم والأخص بالأخص والقبيح أخص من السيئ كما أن الجميل أخص من الحسن وأبلغ من المدح معه ولذلك يقال حسن جميل ولا يقال جميل حسن لأنه لا ينزل من الأعلى إلى الأدنى بخلاف العكس وأما حقيقتهما في الاصطلاح فيؤول إلى تعلق الخطاب بالشيء على صفة وليسا راجعين إلى الذوات كما سبق خلافا للمعتزلة والكرامية والروافض حيث قالوا إلى نفس الذوات الحسنة والقبيحة ويرون ذلك من صفات نفوسها هذا قول القدماء منهم وذهب بعضهم إلى اختصاص هذا المعنى بالقبيح فرأوه راجعا إلى الذات بخلاف الحسن وعكس بعضهم فرأى الحسن يرجع إلى الذات بخلاف القبيح وأنكر إمام الحرمين هذه المذاهب الثلاثة وزعم أنهم إنما يريدون بما أطلقوه من صرف الحسن والقبح إلى أعين الذات أن ذلك يستدرك فيها بالعقول من غير حاجة إلى بعث الرسول انتهى وقال قوم من المعتزلة العقل يقتضي لذاته صفة وتلك الصفة توجب الحسن أو القبح كالصوم المشتمل على كسر الشهوة المقتضي عدم المفسدة وكالزنى المشتمل على اختلاط الأنساب المقتضي ترك تعهد الأولاد قال الجبائي وأتباعه بوجوه واعتبارات بمعنى أن لكل صفة لكن هي غير حقيقية وفي كلام الأحكام ما يظهر منه أن مذهب الجبائي الذي قبل هذا وقد اضطرب أصحابنا في الفصل بينهما فقيل الحسن ما طلبه الشرع وأثنى عليه فيتناول الواجب والمندوب والقبيح ما طلب تركه وذم فاعله فيتناول الحرام والمكروه قاله ابن القشيري وابن السمعاني في القواطع ونقله ابن برهان عن
____________________
(1/134)
أصحابنا وأورد المباح وأجيب بإثبات الواسطة وأنه لا حسن ولا قبيح كقول بعض المعتزلة وجزم به إمام الحرمين في التلخيص في الباب المفرق بين الإباحة والأمر وجرى عليه ابن القشيري وقال ابن برهان بل أذن الشارع في إطلاق الثناء على فاعله فهو داخل في الحسن ا هـ وهذا إنما يتحقق على رأي الكعبي في قوله إن في كل مباح ترك حرام ولهذا الإشكال قال الأستاذ أبو إسحاق الحسن هو المأذون فيه شرعا فدخل المباح ونوقش بأن المباح يقتضي وصفا زائدا على الماهية ومجرد الإذن لا يدل على ذلك وقال الإمام في التلخيص الحسن كل فعل لنا الثناء شرعا على فاعله به والقبيح كل فعل لنا الذم شرعا لفاعله به قال والقاضي يقول ما أمر بمدح فاعله وفيها شيء لأن المباح حسن ولا يمدح فاعله والذي ارتضيناه أسد وقد سبق عنه التصريح في موضع آخر من التلخيص أنه لا حسن ولا قبيح وقال الإمام في المحصول القبيح ما نهي عنه شرعا والحسن ما لا يكون منهيا عنه شرعا ويندرج فيه أفعال الله تعالى وأفعال المكلفين من الواجب والمندوب والمباح وأفعال الساهي والنائم والهائم قال وهو أولى من قول من قال الحسن ما كان مأذونا فيه شرعا لأنه يلزم عليه أن لا تكون أفعال الله حسنة وخص ابن السمعاني التقسيم بأفعال المكلفين وقال أما ما لا صفة زائدة على وجوده كبعض أفعال الساهي والنائم فلا يوصف بحسن ولا قبيح إذا لم يكن فيه مضرة ولا منفعة فإن كان فقد قيل يوصف بهما وقيل لا يوصف بشيء منهما وهو الأولى لأن الحسن والقبيح يتبع التكليف فمن ليس بمكلف لا يوصف فعله بشيء منهما قال وهكذا كل فعل يصدر ممن لا تكليف عليه قلت هذا أحسن من جعل الإمام والبيضاوي له من قسم الحسن ولم يجعل الآمدي هذا خلافا بين الأصحاب بل إطلاقات الأصحاب باعتبارات فقال في الأبكار مذهب أهل الحق من الأشاعرة وغيرهم أن الحسن والقبيح ليس وصفا ذاتيا بل لإطلاق لفظ الحسن والقبيح عندهم باعتبارات غير حقيقية
____________________
(1/135)
بل إضافية يمكن تغيرها وتبدلها وهي ثلاثة الأول أن الأفعال تنقسم إلى ما وافق الغرض فيسمى حسنا وإلى ما خالف الغرض فيسمى قبيحا وإلى ما لا يوافق ولا يخالف عبثا الثاني إطلاق الحسن على ما أمر الشرع بالثناء على فاعله ويدخل فيه الواجب والمندوب وفعل الله ويخرج منه المباح ولو قيل ما يجوز الثناء على فاعله لدخل المباح وإطلاق القبيح على ما أمر الشارع بذم فاعله ويدخل الحرام ويخرج المكروه والمباح لكن المكروه إن لم يكن قبيحا بهذا الاعتبار فليس حسنا باعتبار أن لفاعله أن يفعله أو أنه موافق للغرض الثالث إطلاق الحسن على ما لفاعله أن يفعله ويدخل فيه مع فعل الله الواجب والمندوب والمباح قال واتفقوا على أن فعل الله حسن بكل حال وأنه موصوف بذلك أبدا سرمدا وافق الغرض أو خالف وأن ذلك مما لا يتغير ولا يتبدل بنفسه ولا إضافة لكن إن كان بعد ورود الشرع ففعله موصوف بكونه حسنا بالاعتبارين الأخيرين وإن كان قبل الشرع فموصوف بكونه حسنا بالاعتبار الأخير فيهما ا هـ وأما المعتزلة فاختلفوا أيضا فقال بعضهم القبيح ما ليس للمتمكن منه أن يفعله والحسن ما يقابله فعلى هذا المباح حسن ونازع المازري في دخول الواجب فيه لأنه عليه أن يفعله ولا يقال إن له أن يفعله وهو قريب وقال جماعة منهم أبو الحسين في المعتمد الواقع على صفة توجب المدح حسن وعلى صفة توجب الذم قبيح وما لا يشتمل على أحدهما كالمكروه والمباح فليس بحسن ولا قبيح وأصل هذا التفسير منهم مبني على أن العقل له التحسين والتقبيح والمراد من الذم كما قاله الآمدي الإخبار المنبئ عن نقص حال المخبر عنه مع القصد لذلك ولولا القصد لما كان ذما قال وقد زيد في القبيح ما يستحق فاعله الذم ما لم يمنع منه مانع وقيدوه بذلك لأن من أصلهم أن الصغائر قبيحة غير أنها لا تستحق على فعلها الذم إذا صدرت ممن يجتنب الكبائر وأصل هذا الاختلاف منهم يرجع إلى تفسير الحسن والقبح هل يختص بصفة موجبة لتحسينه وتقبيحه وهو مذهب الجبائي أو لا فمن قال يختص فسره
____________________
(1/136)
بالأول ومن قال لا يختص فسره بالثاني ا هـ والمختار أن حسن الشيء شرعا لا يرجع إلى وصف تضمنه من الحسن ولكن معناه إذن الشرع فيه ودفع العقاب عنه أَقْسَامُ الْحَسَنِ وَقَسَّمَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ إلَى أَقْسَامٍ أَحَدُهَا ما حَسَّنَهُ الشَّرْعُ لِمَعْنًى في عَيْنِهِ كَالْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَضِدُّهُ من الْقَبِيحِ الزِّنَى وَالْقَتْلُ فَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا يَتَغَيَّرُ عن وَصْفِهِ بِتَقْدِيرٍ الثَّانِي ما حَسُنَ لِمَعْنًى في غَيْرِهِ كَالزَّكَاةِ فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ لِمَالِ الْغَيْرِ وَحُسْنُهَا من حَاجَةِ الْفَقِيرِ وَكَذَا الصَّوْمُ فإنه تَرْكُ الْأَكْلِ وَلَكِنْ حَسُنَ بِوَاسِطَةِ قَهْرِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ وَضِدُّهُ من الْقَبِيحِ كَلِمَةُ الرِّدَّةِ فَإِنَّهَا قَبُحَتْ لِدَلَالَتِهَا على سُوءِ الِاعْتِقَادِ وَهَذَا النَّوْعُ قد يُزَايِلُهُ وَصْفُ الْقُبْحِ بِالْإِكْرَاهِ وَكَتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ فإنه حَرَامٌ نَظَرًا إلَى التَّنَاوُلِ وقد يَحِلُّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ الثَّالِثُ ما حَسُنَ لِمَعْنًى في غَيْرِهِ وَذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يَتِمُّ إلَّا بِفِعْلٍ مَقْصُودٍ من الْعَبْدِ كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَالْوُضُوءِ على رَأْيٍ فَلَا جُرْمَ انْحَطَّ عن الْقِسْمَيْنِ لِلتَّوَسُّطِ حتى اُخْتُلِفَ في كَوْنِهِ عِبَادَةً أَمْ لَا وَيَأْتِي ضِدُّهُ في الْقَبِيحِ فَائِدَةٌ الْأَفْعَالُ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ تَلَخَّصَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الْأَفْعَالَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ الْأَوَّلُ حَسَنٌ بِلَا خِلَافٍ وهو الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ وَكَذَلِكَ أَفْعَالُ اللَّهِ تَعَالَى وَسَبَقَ نَقْلُ الْآمِدِيِّ فيه الْإِجْمَاعَ الثَّانِي حَسَنٌ على الْأَصَحِّ وهو الْمُبَاحُ الثَّالِثُ قَبِيحٌ بِلَا خِلَافٍ وهو الْحَرَامُ الرَّابِعُ قَبِيحٌ على الْأَصَحِّ وهو الْمَكْرُوهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ إنْ فَسَّرْنَا الْقَبِيحَ بِمَا نُهِيَ عنه شَرْعًا وَإِنْ فَسَّرْنَاهُ بِمَا يُذَمُّ فَلَا يُوصَفُ بِهِ وَكَذَا لَا يُوصَفُ بِالْحَسَنِ إذْ لَا يُثْنَى على فَاعِلِهِ وهو ما جَزَمَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَأَثْبَتَ بِهِ الْوَاسِطَةَ بين الْحَسَنِ وَالْقُبْحِ الْخَامِسُ ما لَا يُوصَفُ بِوَاحِدٍ منها على الْأَصَحِّ وهو فِعْلُ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ وِفَاقًا
____________________
(1/137)
لِابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَالْخِلَافُ فيه عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَيْضًا حَكَاهُ الْآمِدِيُّ في الْأَبْكَارِ مسألة الْأَمْرُ لَا يقتضي حسن المأمور به الأمر لا يَقْتَضِي حُسْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ لِأَنَّ الْحُسْنَ لَا يَرْجِعُ إلَى وَصْفِ الْفِعْلِ بَلْ إلَى الْأَمْرِ بِالثَّنَاءِ على فَاعِلِهِ وَعَنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ يَقْتَضِيهِ قال الْقَاضِي وَحِكَايَتُهُ هَكَذَا غَلَطٌ عليهم وَإِنَّمَا مَذْهَبُهُمْ أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي كَوْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ مُرَادًا لِلْآمِرِ ثُمَّ قالوا لَمَّا تَعَلَّقَتْ إرَادَتُنَا بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ لم يَدُلَّ تَعَلُّقُ أَمْرِنَا بِالْمَأْمُورِ على حُسْنِهِ وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يُرِيدُ إلَّا الْحَسَنَ وَتَعَلُّقُ أَمْرِهِ بِالْمَأْمُورِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُرَادًا له ثُمَّ حَيْثُ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الْقَبِيحَ فَيُتَوَصَّلُ إلَى كَوْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ قَبِيحًا وَأَمَّا نَحْنُ فَلَا نَقُولُ إنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ يَقْتَضِي حُسْنَهُ وَلَكِنْ إنْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالثَّنَاءِ على فَاعِلِهِ فَنَحْكُمُ بِحُسْنِهِ لِلْأَمْرِ الثَّانِي
____________________
(1/138)
فصل خطاب التكليف إذَا ثَبَتَ بُطْلَانُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ وَتَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا حَاكِمَ إلَّا الشَّرْعُ فَلْنَشْرَعْ في تَبْيِينِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ ثُمَّ خِطَابِ الْوَضْعِ فَنَقُولُ الْخِطَابُ إنْ اقْتَضَى الْفِعْلَ اقْتِضَاءً جَازِمًا فَإِيجَابٌ أو غير جَازِمٍ فَنَدْبٌ وَإِنْ اقْتَضَى التَّرْكَ جَازِمًا فَتَحْرِيمٌ أو غير جَازِمٍ فَكَرَاهَةٌ وَإِنْ اقْتَضَى التَّخْيِيرَ فَإِبَاحَةٌ فَالْأَحْكَامُ إذَنْ خَمْسَةٌ هذا هو الْمَشْهُورُ وَرَأَيْت في تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أبي حَامِدٍ في أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ أنها ثَلَاثَةٌ وَاجِبٌ وَمَحْظُورٌ وَمُبَاحٌ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْوَاجِبِ الطَّلَبَ بِالْمَحْظُورِ الْمَمْنُوعِ وَقِيلَ اثْنَانِ حَرَامٌ وَمُبَاحٌ وَفُسِّرَتْ الْإِبَاحَةُ بِنَفْيِ الْحَرَجِ عن الْإِقْدَامِ على الْفِعْلِ فَيَنْدَرِجُ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ وَالْمُبَاحُ وَبَقِيَ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا خِلَافُ الْأَوْلَى وهو قِسْمٌ من أَقْسَامِ الْمَكْرُوهِ لَكِنْ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمَكْرُوهَ ما وَرَدَ فيه نَهْيٌ مَقْصُودٌ وَخِلَافُ الْأَوْلَى بِخِلَافِهِ فَتَرْكُ صَلَاةِ الضُّحَى خِلَافُ الْأَوْلَى وَلَا يُقَالُ مَكْرُوهٌ وَالتَّقْبِيلُ لِلصَّائِمِ مَكْرُوهٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّ صَوْمَ عَرَفَةَ لِلْحَاجِّ خِلَافُ الْأَوْلَى لَا مَكْرُوهٌ وَكَذَا الْحِجَامَةُ إنْ لم نَقُلْ تُفْطِرُ وَكَذَا تَفْصِيلُ أَعْضَاءِ الْعَقِيقَةِ قال في شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِأَنَّهُ لم يَثْبُتْ فيه نَهْيٌ مَقْصُودٌ الثَّانِي أَنَّ من الْأَحْكَامِ ما لَا يُوصَفُ بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ على أَصَحِّ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ مع أَنَّ لِلَّهِ فيها حُكْمًا
____________________
(1/139)
فصل في الواجب الْوُجُوبُ لُغَةً اللُّزُومُ وَمِنْهُ وَجَبَ الْبَيْعُ إذَا لَزِمَ وَالسُّقُوطُ وَمِنْهُ فإذا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا وَالثُّبُوتُ وَمِنْهُ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُك مُوجِبَاتِ رَحْمَتِك وفي الِاصْطِلَاحِ لنا إيجَابٌ وَوُجُوبُ وَاجِبٍ فَالْإِيجَابُ الطَّلَبُ الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ وَلَيْسَ لِلْعَقْلِ منه صِفَةٌ فإن الْقَوْلَ ليس لِمُتَعَلَّقِهِ منه صِفَةٌ لِتَعَلُّقِهِ بِالْمَعْدُومِ وَالْوُجُوبُ تَعَلُّقُهُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ فَالْوَاجِبُ نَفْسُ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ وهو الْمَقْصُودُ هَاهُنَا بِالتَّحْدِيدِ وقد ذَكَرُوا فيه حُدُودًا فقالت الْقُدَمَاءُ ما يُعَاقَبُ تَارِكُهُ وَاعْتُرِضَ بِجَوَازِ الْعَفْوِ وَأُجِيبُ إنَّمَا يَرِدُ لو أُرِيدَ إيجَابُ الْعِقَابِ وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ أَنَّهُ أَمَارَةٌ أو سَبَبٌ لِلْعِقَابِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَخَلَّفَ لِمَانِعٍ وهو الْعَفْوُ وَمِنْهُمْ من اعْتَذَرَ بِأَنَّ الْخُلْفَ في الْوَعِيدِ كَرَمٌ وهو فَاسِدٌ لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَحِيلُ الْخُلْفُ فيه لِذَاتِهِ وَأَجَابَ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ بِحَمْلِ الْعِقَابِ على تَرْكِ جِنْسِ ذلك الْفِعْلِ وَحِينَئِذٍ لَا يَبْطُلُ بِاحْتِمَالِ الْعَفْوِ إلَّا إذَا وَقَعَ الْعَفْوُ عن كل فَرْدٍ من أَفْرَادِ التَّارِكِ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى كل الْأَفْرَادِ من الْوَاجِبَاتِ لَا يَصِحُّ لِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ على عِقَابِ بَعْضِ الْعُصَاةِ وَأَجَابَ الْعَبْدَرِيُّ في شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى بِأَنَّهُ ليس في الشَّرِيعَةِ تَوَعُّدٌ بِالْعِقَابِ مُطْلَقٌ بَلْ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتُوبَ الْمُكَلَّفُ وَلَا يُعْفَى عنه وقد قال الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ لو أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا شيئا لَوَجَبَ وَإِنْ لم يَتَوَعَّدْ بِالْعِقَابِ على تَرْكِهِ فَالْوُجُوبُ إنَّمَا هو بِإِيجَابِهِ لَا بِالتَّوَعُّدِ لَكِنَّ هذا مَرْدُودٌ إذْ لَا يُعْقَلُ وُجُوبٌ بِدُونِ تَوَعُّدٍ وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ عن الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ عَرَّفُوهُ بِمَا يَسْتَحِقُّ اللَّوْمَ على تَرْكِهِ وَحَكَى الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في كِتَابِ الْإِيمَانِ من تَعْلِيقِهِ عن أَصْحَابِنَا أَنَّهُمْ حَدُّوا الْوَاجِبَ بِمَا يُخْشَى الْعِقَابُ على تَرْكِهِ قال وَلَا يَلْزَمُ عليه الْقَصْرُ في السَّفَرِ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ إلَى بَدَلٍ انْتَهَى وَزَيَّفَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِمَا يُظَنُّ وُجُوبُهُ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فإنه يَخَافُ الْعِقَابَ على تَرْكِهِ مع انْتِفَاءِ الْوُجُوبِ
____________________
(1/140)
وَقِيلَ هو الْمَطْلُوبُ جَزْمًا ثُمَّ الْعِقَابُ أو اللَّوْمُ أو الذَّمُّ يَكُونُ من إشَارَةِ تَعْرِيفٍ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَلَا يَجُوزُ تَحْدِيدُ الشَّيْءِ بِآثَارِهِ وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَالْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ ما قَالَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ أَنَّهُ الذي يُذَمُّ تَارِكُهُ شَرْعًا بِوَجْهٍ ما فَالْمُرَادُ بِالذَّمِّ ما يُنَبِّئُ عن اتِّضَاحِ حَالِ الْغَيْرِ وَتَارِكُ الْوَاجِبِ وَإِنْ عُفِيَ عنه فَالذَّمُّ من الشَّارِعِ لَا يَنْفَكُّ عنه وَأَقَلُّهُ أَنَّهُ يُسَمِّيهِ عَاصِيًا وهو ذَمٌّ قَطْعًا وَلَا يُكْرِمُهُ مِثْلَ إكْرَامِ الْآتِي بِهِ وَإِنْ عُفِيَ عنه إذْ يَسْلُبُهُ مَنْصِبَ الْعَدَالَةِ وَقِيلَ شَرْعًا لِيُوَافِقَ مَذْهَبَنَا وَبِوَجْهٍ ما لِيَدْخُلَ الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ وَالْمُخَيَّرُ وَالْفَرْضُ على الْكِفَايَةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كان لَا يُذَمُّ تَارِكُ الصَّلَاةِ في أَوَّلِ الْوَقْتِ مع اتِّصَافِهَا بِالْوُجُوبِ فيه لو وَقَعَتْ لَكِنْ لو تَرَكَهَا في جَمِيعِ الْوَقْتِ أو في أَوَّلِهِ ولم يَعْزِمْ على فِعْلِهِ فِيمَا بَعْدَهُ لَاسْتَحَقَّ الذَّمَّ وَإِنْ كان لَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ على رَأْيِ الْجَاعِلِ لِلْعَزْمِ بَدَلًا عنه وَكَذَا الْقَوْلُ في الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ وَأَنَّهُ لو تَرَكَ كُلَّ الْخِصَالِ اسْتَحَقَّ الذَّمَّ وَإِنْ كان لَا يَسْتَحِقُّ ذلك على تَرْكِ بَعْضِهَا وَفِعْلِ الْبَعْضِ الْآخَرِ وَكَذَا الْقَوْلُ في فَرْضِ الْكِفَايَةِ فإنه لو تَرَكَهُ الْبَعْضُ وَقَامَ بِهِ الْبَعْضُ لَا يُذَمُّ تَارِكُهُ أَمَّا لو تَرَكَهُ الْجَمِيعُ حَرَجُوا جميعا وَلَا يَرِدُ عليه النَّائِمُ وَالنَّاسِي وَصَوْمُ الْمُسَافِرِ كما قَالَهُ ابن الْحَاجِبِ إذْ لَا وُجُوبَ في حَقِّهِمْ على قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْقَاضِي منهم أَمَّا على رَأْيِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ فَقَدْ أُجِيبُ بِأَنَّهُمْ لَا يُذَمُّونَ على بَعْضِ الْوُجُوهِ فإنه لو انْتَبَهَ أو تَذَكَّرَ ذُمَّ فَإِنْ قُلْت الذَّامُّ إمَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الشَّرْعِ أو أَهْلُ الشَّرْعِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَبَاطِلٌ لِأَنَّ الشَّارِعَ ما نَصَّ على ذَمِّ كل تَارِكٍ بِعَيْنِهِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّرْعِ فَإِنَّمَا يَذُمُّونَ من عَلِمُوا أَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا فَذَمُّهُمْ مَوْقُوفٌ على مَعْرِفَتِهِمْ بِالْوَاجِبِ فَلَوْ عَرَفَ بِهِ لَدَارَ وَالْجَوَابُ ما قَالَهُ السُّهْرَوَرْدِيّ نَخْتَارُ أَنَّ الذَّامَّ هو الشَّارِعُ بِصِيَغِ الْعُمُومِ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ وَلِأَنَّ التَّارِكَ عَاصٍ وَكُلُّ عَاصٍ مَذْمُومُ الْعَامَّةِ سَلَّمْنَا وَلَا دَوْرَ لِأَنَّ تَصَوُّرَ الْوَاجِبِ مَوْقُوفٌ على تَصَوُّرِ الذَّمِّ وَتَصَوُّرُ الذَّمِّ من أَهْلِ الشَّرْعِ ليس مَوْقُوفًا على تَصَوُّرِ الْوَاجِبِ فَلَا دَوْرَ وَأَوْرَدَ في الْمَحْصُولِ السُّنَّةَ فإن الْفُقَهَاءَ قالوا إنَّ أَهْلَ مَحَلَّةٍ لو اتَّفَقُوا على تَرْكِ سُنَّةِ الْفَجْرِ بِالْإِصْرَارِ فَإِنَّهُمْ يُحَارَبُونَ بِالسِّلَاحِ وَهَذَا لم يَقُولُوهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى سُنَّةِ الْفَجْرِ بَلْ
____________________
(1/141)
بِالْآذَانِ وَالْجَمَاعَةِ وَنَحْوِهَا من الشَّعَائِرِ الظَّاهِرَةِ وَمَعَ ذلك فَالصَّحِيحُ أَنَّا إذَا قُلْنَا بِسُنِّيَّتِهَا لَا يُقَاتَلُونَ على تَرْكِهَا خِلَافًا لِأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَإِنْ جَرَيْنَا على هذا الْقَوْلِ فَالْمُقَاتَلَةُ على ما يَدُلُّ عليه التَّرْكُ من الِاسْتِهَانَةِ بِالدِّينِ لَا على خُصُوصِيَّةِ تَرْكِ السُّنَّةِ من حَيْثُ هِيَ تَنْبِيهَانِ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ قد يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الْفَرْضَ على ما لَا بُدَّ منه دُونَ ما يَلْحَقُ الْإِثْمُ بِتَرْكِهِ كَقَوْلِهِمْ وُضُوءُ الصَّبِيِّ فَرْضٌ وَلِهَذَا حَكَمُوا على مَاءٍ يَتَوَضَّأُ بِهِ بِالِاسْتِعْمَالِ كَوُضُوءِ الْبَالِغِ لِلنَّفْلِ وقد يُطْلِقُونَهُ على ما قُصِدَ بِهِ مُشَاكَلَةُ الْفَرْضِ لِتَحْصِيلِ فَضِيلَةٍ أو مَصْلَحَةٍ لم تَتَحَقَّقْ بِالْأَوَّلِ وَإِنْ لم يَأْثَمْ بِتَرْكِهِ كَالصَّلَاةِ الْمُعَادَةِ وَلِهَذَا يَنْوِي بها الْفَرْضَ في الْأَصَحِّ وَصَلَاةُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ على الْمَيِّتِ تَقَعُ فَرْضًا وَإِنْ سَقَطَ الطَّلَبُ بِالْأُولَى وَغَيْرِ ذلك التَّنْبِيهُ الثَّانِي أَقْسَامُ الْوَاجِبِ الْوُجُوبُ يُطْلَقُ تَارَةً بِمَعْنَى الثُّبُوتِ في الذِّمَّةِ وهو شَائِعٌ في إطْلَاقِ الْفُقَهَاءِ وَتَارَةً بِمَعْنَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ وهو اصْطِلَاحُ الْمُتَكَلِّمِينَ فَالْوَاجِبُ أَقْسَامٌ أَحَدُهَا ما يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ وَيُطَالَبُ بِأَدَائِهِ كَالدَّيْنِ على الْمُوسِرِ وَنَحْوِهِ وَثَانِيهَا ما يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ وَلَا يُطَالَبُ بِأَدَائِهِ كَالزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ الثَّالِثُ ما لَا يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ وَلَكِنْ يَجِبُ أَدَاؤُهُ كَقَوْلِ أَصْحَابِنَا إنَّ الدَّعْوَى بِالدِّيَةِ الْمَأْخُوذَةِ من الْعَاقِلَةِ لَا تَتَوَجَّهُ عليهم بَلْ على الْجَانِي نَفْسِهِ ثُمَّ هُمْ يَدْفَعُونَهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا كَذَا قَالَهُ ابن الْقَاصِّ في كِتَابِ أَدَبِ الْقَضَاءِ في بَابِ صِفَةِ الْيَمِينِ على الْبَتِّ وفي كَلَامِ الرَّافِعِيِّ ما يُؤَيِّدُهُ وَكَقَوْلِ أبي إِسْحَاقَ في اللُّقَطَةِ إذَا تَلِفَتْ لَا يَضْمَنُ حتى يُطَالِبَ بها الْمَالِكُ
____________________
(1/142)
وقد يَجِيءُ خِلَافُهُ في الْقِسْمِ الثَّانِي أَعْنِي هل يَثْبُتُ الْوُجُوبُ مع عُسْرِ الْأَدَاءِ أو يُشْتَرَطُ له إمْكَانُ الْأَدَاءِ من الْخِلَافِ في زَكَاةِ الثَّمَرِ أنها تَجِبُ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ مع أَنَّ الْأَدَاءَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْجَفَافِ وَحَكَى صَاحِبُ التَّقْرِيبِ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ أنها لَا تَجِبُ إلَّا بِالْجَفَافِ وَزَعَمَ أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ في وَقْتِ وُجُوبِ تَأْدِيَتِهَا وَلَا يَتَقَدَّمُ على الْأَمْرِ بِالْأَدَاءِ وهو يُشْبِهُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْإِمْكَانَ من شَرَائِطِ الرُّجُوبِ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ فإنه لَا يُنْكَرُ بِثُبُوتِ الْوُجُوبِ مع عُسْرِ الْأَدَاءِ كما في الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ وَجَزَمَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ إمْكَانَ الْأَدَاءِ شَرْطٌ في وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَأَمَّا في الزَّكَاةِ فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا كَذَلِكَ وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهُ ليس من شَرَائِطِ الْوُجُوبِ بَلْ الضَّمَانَ قال في الْبَسِيطِ وَوُجُوبُ الْحَقِّ في الذِّمَّةِ يَتَمَيَّزُ عن أَدَائِهِ وَإِخْرَاجِهِ فَوُجُوبُ الْأَدَاءِ مُتَوَقِّفٌ على الْإِمْكَانِ أَمَّا ثُبُوتُ الْوُجُوبِ في الذِّمَّةِ فَيَنْبَنِي على السَّبَبِ وقد جَرَى مسألة الفرق بين الوجوب ووجوب الاداء لَا فَرْقَ عِنْدَنَا بين الْوُجُوبِ وَوُجُوبِ الْأَدَاءِ وَلَا مَعْنَى لِلْوُجُوبِ بِدُونِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فإن مَعْنَاهُ الْإِتْيَانُ بِالْفِعْلِ الْمُتَنَاوِلِ لِلْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ وَالْإِعَادَةِ وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا في الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إلَى التَّفْرِقَةِ وَقَالُوا الْوُجُوبُ شَغْلُ الذِّمَّةِ بِالْمَلْزُومِ وَأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ على الْأَهْلِيَّةِ وَوُجُودِ السَّبَبِ وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ لُزُومُ تَفْرِيغِ الذِّمَّةِ عن الْوَاجِبِ بِوَاسِطَةِ الْأَدَاءِ وَأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ على الْأَهْلِيَّةِ وَالسَّبَبِ وَالْخِطَابِ وَاسْتِطَاعَةِ سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ مع تَوَهُّمِ الِاسْتِطَاعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَأَنَّهَا مُقَارِنَةٌ لِلْفِعْلِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ تَنْبِيهٌ قال الْقَرَافِيُّ ليس كُلُّ وَاجِبٍ يُثَابُ على فِعْلِهِ وَلَا كُلُّ مُحَرَّمٍ يُثَابُ على تَرْكِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالْوَدَائِعِ فَكُلُّهَا وَاجِبَةٌ وإذا فَعَلَهَا الْإِنْسَانُ غَافِلًا عن امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فيها وَقَعَتْ وَاجِبَةً مُجْزِئَةً وَلَا
____________________
(1/143)
يُثَابُ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ تُخْرِجُ الْإِنْسَانَ عن عُهْدَتِهَا بِمُجَرَّدِ تَرْكِهَا وَإِنْ لم يَشْعُرْ فَضْلًا عن الْقَصْدِ إلَيْهَا حتى يَنْوِيَ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فيها فَلَا ثَوَابَ حِينَئِذٍ نعم مَتَى اقْتَرَنَ قَصْدُ الِامْتِثَالِ في الْجَمِيعِ حَصَلَ الثَّوَابُ انْتَهَى وَظَاهِرُهُ تَقْسِيمُ الْوَاجِبِ إلَى ما يُثَابُ عليه وَإِلَى ما يَنْتَفِي عنه الثَّوَابُ وَكَذَا الْحَرَامُ وَفِيهِ نَظَرٌ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْوَاجِبَ هو الْمَأْمُورُ بِهِ جَزْمًا وَشَرْطُ تَرَتُّبِ الثَّوَابِ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ فيه فَتَرَتُّبُ الثَّوَابِ وَعَدَمُهُ في فِعْلِ الْوَاجِبِ وَتَرْكِ الْحَرَامِ وَعَدَمِهِ رَاجِعٌ إلَى وُجُودِ الثَّوَابِ وَعَدَمُهُ ذُهُولُ النِّيَّةِ لَا أَنَّ الْوَاجِبَ وَالْحَرَامَ مُنْقَسِمَانِ في أَنْفُسِهِمَا مسألة أسماء الواجب من أَسْمَاءِ الْوَاجِبِ الْمَحْتُومُ وَالْمَكْتُوبُ وَالْفَرْضُ وَلَا فَرْقَ عِنْدَنَا بين الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ شَرْعًا وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ في اللُّغَةِ إذْ الْفَرْضُ في اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ وَمِنْهُ فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ وَالْوُجُوبُ لُغَةً قد سَبَقَ وَمِنْ الدَّلِيلِ على تَرَادُفِهِمَا حَدِيثُ قال هل عَلَيَّ غَيْرُهَا قال لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ فلم يَجْعَلْ بين الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ وَاسِطَةً بَلْ الْخَارِجُ عن الْفَرْضِ دَاخِلٌ في التَّطَوُّعِ وَوَرَاءَ ذلك مَذْهَبَانِ أَحَدُهُمَا عن الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْفَرْضَ ما ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ تَشَوُّفًا منهم إلَى رِعَايَةِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِأَنَّ ذلك هو الذي يُعْلَمُ من حَالِهِ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَهُ عَلَيْنَا
____________________
(1/144)
وَالْوَاجِبُ ما ثَبَتَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ لِأَنَّهُ سَاقِطٌ عَلَيْنَا وَلَا نُسَمِّيهِ بِالْفَرْضِ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَهُ عَلَيْنَا كَالْوِتْرِ وَزَكَاةِ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَخَصَّهُ أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ بِالثَّابِتِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ قال وهو كَالْفَرْضِ في لُزُومِ الْعَمَلِ وَالنَّافِلَةِ في حَقِّ الِاعْتِقَادِ حتى لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ قال وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ على النَّصِّ نَسْخٌ وَالْمَكْتُوبَاتُ مَعْلُومَةٌ بِكِتَابِ اللَّهِ فَالزِّيَادَةُ عليها تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ نَسْخِهَا عُلِمَ تَحْرِيمَاتُهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلِذَلِكَ لم تُجْعَلْ رُتْبَتُهَا في الْوُجُوبِ رُتْبَةَ الْفَرِيضَةِ حتى لَا تَصِيرَ زِيَادَةً عليها قُلْنَا الْفَرْضُ الْمُقَدَّرُ أَعَمُّ من كَوْنِهِ عِلْمًا أو ظَنًّا وَالْوَاجِبُ هو السَّاقِطُ أَعَمُّ من كَوْنِهِ عِلْمًا أو ظَنًّا فَتَخْصِيصُ كُلٍّ من اللَّفْظَيْنِ بِأَحَدِ الْقِسْمَيْنِ تَحَكُّمٌ قال أَصْحَابُنَا منهم الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَلَوْ عَكَسُوا الْقَوْلَ لَكَانَ أَوْلَى لِأَنَّ لَفْظَ الْوُجُوبِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ بِخِلَافِ الْفَرْضِ فإنه يَحْتَمِلُ مَعْنَى التَّقْدِيرِ وَالتَّقْدِيرُ قد يَكُونُ في الْمَنْدُوبِ فَإِنْ أَرَادُوا إلْزَامَ غَيْرِهِمْ بهذا الِاصْطِلَاحِ لِمُوَافَقَةِ الْأَوْضَاعِ اللُّغَوِيَّةِ فَمَمْنُوعٌ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ قَصَدُوا اصْطِلَاحَهُمْ عليه فَلَا مُشَاحَّةَ في الِاصْطِلَاحِ وَلَا يُنْكَرُ انْقِسَامُ الْوَاجِبِ إلَى مَقْطُوعٍ بِهِ وَمَظْنُونٍ فيه وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ إنْ كان ما قَالَهُ رَاجِعًا إلَى مُجَرَّدِ الِاصْطِلَاحِ فَالْأَمْرُ فيه قَرِيبٌ إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ في مِثْلِهِ التَّحَرُّزُ عن اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْنَى عن اخْتِلَاطِ الِاصْطِلَاحَيْنِ فإنه يُوقِعُ غَلَطًا مَعْنَوِيًّا وَأَيْضًا فَالْمُصْطَلَحُ على شَيْءٍ يَحْتَاجُ إلَى أَمْرَيْنِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ اصْطِلَاحُهُ حَسَنًا أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يُخَالِفَ الْوَضْعَ الْعَامَّ لُغَةً أو عُرْفًا الثَّانِي أَنَّهُ إذَا فَرَّقَ بين مُتَقَارِنَيْنِ يُبْدِي مُنَاسَبَةً لِلَفْظِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَعْنَاهُ وَإِلَّا كان تَخْصِيصُهُ لِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ بِعَيْنِهِ بِذَلِكَ اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ ليس أَوْلَى من الْعَكْسِ وَهَذَا الْمَوْضِعُ الذي فَعَلَتْهُ الْحَنَفِيَّةُ من هذا الْقَبِيلِ لِأَنَّهُمْ خَصُّوا الْفَرْضَ بِالْمَعْلُومِ قَطْعًا من حَيْثُ إنَّ الْوَاجِبَ هو السَّاقِطُ وَهَذَا ليس فيه مُنَاسَبَةٌ ظَاهِرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى كل لَفْظَةٍ مع مَعْنَاهَا الذي ذَكَرُوهُ وَلَوْ عَكَسُوا الْأَمْرَ لَمَا امْتَنَعَ فَالِاصْطِلَاحُ عليه ليس بِذَلِكَ الْحَسَنِ ا هـ وقد نُقِضَ عليهم فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْقَعْدَةَ في الصَّلَاةِ فَرْضًا وَمَسْحَ رُبْعِ الرَّأْسِ فَرْضًا ولم يَثْبُتْ بِقَاطِعٍ قال الْقَاضِي وَجَعَلُوا الْوُضُوءَ من الْفَصْدِ فَرْضًا مع أَنَّهُ لم يَثْبُتْ بِقَطْعِيٍّ
____________________
(1/145)
وَكَذَلِكَ الصَّلَاةَ على من بَلَغَ في الْوَقْتِ بَعْدَمَا أَدَّى الصَّلَاةَ وَالْعُشْرَ في الْأَقْوَاتِ وَفِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ قال إِلْكِيَا وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ عِنْدَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا أَمَّا عِنْدَ اللَّهِ فَهُوَ سَوَاءٌ ثُمَّ قِيلَ الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ رَاجِعٌ إلَى التَّسْمِيَةِ وَقِيلَ بَلْ تَظْهَرُ فَائِدَتُهُ في التَّكْفِيرِ على تَقْدِيرِ الْجُحُودِ فإن من جَحَدَ قَطْعِيًّا كَفَرَ أو ظَنِّيًّا فَلَا وَلَيْسَ هذا من ضَرُورِيَّاتِ الْفَرْقِ قال ابن بَرْهَانٍ بَلْ هو مَعْنَوِيٌّ يَنْبَنِي على أَنَّ الْأَحْكَامَ عِنْدَنَا بِأَسْرِهَا قَطْعِيَّةٌ وَعِنْدَهُمْ تَنْقَسِمُ إلَى ما ثَبَتَ بِقَطْعِيٍّ وَإِلَى ما ثَبَتَ بِظَنِّيٍّ وقد سَبَقَ ما فيه وَحَكَى الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ عن الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْفَرْضَ ما أُجْمِعَ على وُجُوبِهِ وَالْوَاجِبَ ما كان مُخْتَلِفًا في وُجُوبِهِ الْمَذْهَبُ الثَّانِي أَنَّ الْفَرْضَ ما ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالْوَاجِبَ ما ثَبَتَ من غَيْرِ وَحْيٍ مُصَرِّحٍ بِهِ حَكَاهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وابن الْقُشَيْرِيّ وَأَلْزَمَهُمْ الْقَاضِي أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِمَّا ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِالسُّنَّةِ كَنِيَّةِ الصَّلَاةِ وَدِيَةِ الْأَصَابِعِ وَالْعَاقِلَةِ فَرْضًا وَأَنْ يَكُونَ الْإِشْهَادُ عِنْدَ التَّبَايُعِ وَنَحْوِهِ من الْمَنْدُوبَاتِ الثَّابِتَةِ بِالْقُرْآنِ فَرْضًا وَفَرَّقَ الْعَسْكَرِيُّ بَيْنَهُمَا من جِهَةِ اللُّغَةِ بِأَنَّ الْفَرْضَ لَا يَكُونُ إلَّا من اللَّهِ وَالْإِيجَابَ يَكُونُ من اللَّهِ وَمِنْ غَيْرِهِ يُقَالُ فَرَضَ اللَّهُ كَذَا وَأَوْجَبَ وَلَا يُقَالُ فَرَضَ السَّيِّدُ على عَبْدِهِ وَإِنَّمَا يُقَال أَوْجَبَ أو فَرَضَ الْقَاضِي له كَذَا وقد فَرَّقَ أَصْحَابُنَا بين الْوَاجِبِ وَالْفَرْضِ في بَابِ الصَّلَاةِ فَسَمَّوْا الْفَرْضَ رُكْنًا وَالْوَاجِبَ شَرْطًا مع اشْتِرَاكِهِمَا في أَنَّهُ لَا بُدَّ منه وفي بَابِ الْحَجِّ حَيْثُ قالوا الْوَاجِبُ ما يُجْبَرُ تَرْكُهُ بِدَمٍ وَالرُّكْنُ ما لَا يُجْبَرُ وَهَذَا ليس في الْحَقِيقَةِ فَرْقًا يَرْجِعُ إلَى مَعْنًى تَخْتَلِفُ الذَّوَاتُ بِحَسَبِهِ وَإِنَّمَا هِيَ أَوْضَاعٌ نُصِبَتْ لِلْبَيَانِ وَعِبَارَةُ التَّنْبِيهِ تَقْتَضِي أَنَّ الْفَرْضَ أَعَمُّ من الْوَاجِبِ فإنه قال في بَابِ فُرُوضِ الْحَجِّ وَذِكْرُ أَرْكَانِ الْحَجِّ من وَاجِبَاتِهِ وَهِيَ مُؤَوَّلَةٌ وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عن الْعَبَّادِيِّ فِيمَنْ قال الطَّلَاقُ وَاجِبٌ عَلَيَّ تَطْلُقُ أو فَرْضٌ لَا تَطْلُقُ وَلَيْسَ هذا بِمُنَافٍ لِلتَّرَادُفِ بَلْ لِأَنَّ الْعُرْفَ اقْتَضَى ذلك وهو أَمْرٌ خَارِجٌ عن مَفْهُومِ اللُّغَةِ الْمَهْجُورِ وقد رَأَيْت الْمَسْأَلَةَ في الزِّيَادَاتِ وَخَصَّهَا بِأَهْلِ الْعِرَاقِ لِلْعُرْفِ فِيهِمْ بِذَلِكَ قال وَهَكَذَا جَوَابُ أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ
____________________
(1/146)
مسألة بعض الواجبات أوجب من بعض قال الْقَاضِي يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بَعْضُ الْوَاجِبَاتِ أَوْجَبُ من بَعْضٍ كَالسُّنَنِ بَعْضُهَا آكَدُ من بَعْضٍ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَنْصَرِفُ عِنْدَهُمْ إلَى صِفَةِ الذَّاتِ وقال ابن الْقُشَيْرِيّ يَجُوزُ ذلك عِنْدَنَا فما كان اللَّوْمُ على تَرْكِهِ أَكْثَرَ كان أَوْجَبَ فَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ أَوْجَبُ من الْوُضُوءِ مَسْأَلَةٌ تَرَتُّبُ الذَّمِّ أو الْعِقَابِ على التَّرْكِ يَتَحَقَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ لَا يَتَحَقَّقُ وُجُوبٌ بِدُونِ تَرْجِيحٍ في فِعْلِهِ بِتَرَتُّبِ ذَمٍّ أو عِقَابٍ على تَرْكِهِ وقال الْقَاضِي إذَا أَوْجَبَ اللَّهُ شيئا وَجَبَ وَإِنْ لم يَتَوَعَّدْ بِالْعِقَابِ على تَرْكِهِ إذْ الْوُجُوبُ بِإِيجَابِهِ لَا بِالْعِقَابِ بَلْ يَكْفِي في الْوُجُوبِ الطَّلَبُ الْجَازِمُ قال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْوُجُوبَ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْعِقَابِ وَالتَّوَعُّدِ بِنَاءً على أَنَّ الرُّجْحَانَ ليس مُنْحَصِرًا فيها بَلْ قد يَكُونُ بِأَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ سَبَبًا لِلذَّمِّ وَفِعْلُهُ سَبَبًا لِلثَّوَابِ فَهَذَا حَقٌّ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْوُجُوبَ قد يَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ وَأَنْ يَتَرَجَّحَ الْفِعْلُ على التَّرْكِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا وَيَكُونُ مَقْصُودًا من نَفْيِ التَّوَعُّدِ نَفْيُ الْمُرَجِّحِ لَا نَفْيُ خُصُوصِهِ إذْ قَوْلُهُ إذْ الْوُجُوبُ بِإِيجَابِهِ مُشْعِرٌ بِهِ فَمَمْنُوعٌ لِمَا مَرَّ في تَعْرِيفِهِ الْوَاجِبَ وقال الْعَبْدَرِيُّ في الْمُسْتَوْفَى إنَّ الذي ذَهَبَ إلَيْهِ الْقَاضِي إذَا حُقِّقَ هو مَقَامُ الصِّدِّيقِينَ الْمُقَرَّبِينَ من الْمُؤْمِنِينَ وَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ غَيْرُهُ مَقَامُ الصَّالِحِينَ فَلَا تَنَافِيَ بين الْقَوْلَيْنِ وقال الرَّازِيَّ في الْمُنْتَخَبِ تَحَقُّقُ الْعِقَابِ على التَّرْكِ ليس شَرْطًا في الْوُجُوبِ خِلَافًا لِلْغَزَالِيِّ وهو قَوْلُ الْقَاضِي قال الْقَرَافِيُّ وَهَذَا وَهْمٌ على الْغَزَالِيِّ ولم يَقُلْ إنَّ الْعِقَابَ لَا بُدَّ منه في تَرْكِ كل الْوَاجِبِ بَلْ مَعْنَى هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ هل يَكْفِي في تَصَوُّرِ مَاهِيَّةِ الْوُجُوبِ الطَّلَبُ الْجَازِمُ الذي لم يَخْطُرْ بِبَالِ الطَّالِبِ الْإِذْنَ بِالتَّرْكِ كما في دُعَائِنَا لِلَّهِ تَعَالَى أو يُقَال الْوُجُوبُ مُرَكَّبٌ من رُجْحَانِ الْفِعْلِ مع قَيْدِ الْمُؤَاخَذَةِ على التَّرْكِ إمَّا الذَّمَّ أو غَيْرُهُ هذا هو مَحَلُّ النِّزَاعِ وقال الْهِنْدِيُّ هذا النَّقْلُ عن الْغَزَالِيِّ سَهْوٌ من الْإِمَامِ لِأَنَّ الْغَزَالِيَّ نَفَى الْوُجُوبَ عِنْدَ نَفْيِ التَّرْجِيحِ مُطْلَقًا لَا عِنْدَ نَفْيِ الْعِقَابِ
____________________
(1/147)
فصل انقسام الواجب الواجب ينقسم بحسب فاعله إلى واجب على العين وواجب على الكفاية وبحسب ذاته إلى واجب معين وواجب مخير وبحسب وقته إلى واجب مضيق وواجب موسع ويجب فعله في وقته وبعد ذلك إلى أداء وقضاء فنقول مسألة الواجب المخير إيجاب شيء مبهم من أشياء محصورة كخصال الكفارة وجزاء الصيد وفدية الأذى جائز عقلا خلافا لبعض المعتزلة حيث ذهب إلى امتناعه عقلا زاعما لزوم اجتماع النقيضين لتناقض الوجوب والتخيير جهلا منهم بالفرق بين ما هو واجب وما هو مخير على ما سيأتي تحقيقه وإذا قلنا بجوازه فهو يقتضي وجوب واحد منها لا بعينه وأي واحد منها فعل سقط الفرض لاشتماله على الواجب لا أنه واجب ولا يوصف الجميع بالوجوب هذا هو الصحيح عندنا كما قاله القاضي أبو الحسين بن القطان وغيره ونقله الشيخ أبو حامد الإسفراييني عن مذهب الفقهاء كافة والقاضي أبو بكر عن إجماع سلف الأمة قال ابن القشيري ونعني بهذا أن ما من واحد إلا ويتعلق به براءة الذمة ولسنا نعني أن الواجب واحد معين في حكم الله ملتبس علينا وإلا لزم تكليف ما لا يطاق وحكي عن عبد الجبار أيضا والثاني وبه قال المعتزلة الكل واجب ثم منهم من يقتصر عليه ومنهم من زاد وقال الكل واجب على التخيير والبدل وإذا فعل بعضها سقط به وجوب باقيها وحكاه القاضي عن الجبائي وابنه وبعض أصحابه وبعض الفقهاء قال صاحب المصادر واختاره الشريف المرتضى قال الباجي واختاره ابن خويز منداد من مالكية العراق قال وإليه ذهب بعض أصحاب أبي حنيفة
____________________
(1/148)
والثالث أن الواجب واحد معين عند الله غير معين عند المكلف لكن علم الله أنه لا يختار إلا فعل ما هو واجب عليه واختياره معرف لنا أنه الواجب في حقه وعلى هذا فيختلف بالنسبة إلى المكلفين حكاه ابن القطان مع جلالته وقال في المحصول إن أصحابنا ينسبونه إلى المعتزلة والمعتزلة إلى أصحابنا واتفق الفريقان على فساده ولذلك قال صاحب المصادر لو ذهب ذاهب إلى أن الواجب فيها واحد معين عند الله غير معين عندنا كان خلافا من جهة المعنى وجرى مجرى تكليف ما لا يطاق هذا مما لا يذهب إليه أحد انتهى وقد علمت فساده والرابع أن الواجب واحد معين عند الله تعالى لا يختلف فإن فعله المكلف فذاك وإلا وقع نفلا وسقط الواجب به وعلى الأول وهو قول الأصحاب فهل يتعين بفعل المكلف أو باختياره وجهان والأول حكاه أبو الخطاب الحنبلي في تمهيده وابن السمعاني في القواطع وأغرب فنسبه إلى الأصحاب وقال الباجي إنه قول معظم أصحاب مالك والثاني حكاه أبو يوسف في الواضح فقال ذهب الفقهاء إلى أن المأمور به واحد ويتعين باختيار المكلف فكأنهم قالوا إن الواجب ما في علم الله أن المكلف يختاره قيل ويلزم عليه أن المكلف إذا مات قبل الفعل ولم يفعله عنه غيره أن لا وجوب وهو خلاف الإجماع ويجيء قول آخر وهو الوقف فإن فعل واحدا منها فهو الواجب كما قال أبو إسحاق المروزي إن مالك النصاب يتخير بين إخراج الزكاة من عين المال ومن غيره فإذا أخرجها من عين المال تبين أن الوجوب تعلق بالعين وإن أخرجها من غيرها تبينا أنها لم تجب في العين ويجيء قول آخر إنه إذا كان أحد الخصال أدون كان هو الواجب فإن فعل الأكمل سقط به وهذا كما في زكاة البقر فإن خبر معاذ دل على أن الواجب في ثلاثين تبيع أو تبيعة ونص الشافعي في المختصر والأصحاب أن الواجب التبيع وأنه إذا أخرج التبيعة كان أولى وأسقط الواجب ويكون متطوعا بالزيادة إلا أن يقال سبب ذلك قيام الإجماع على أن الواجب في الثلاثين تبيع
____________________
(1/149)
إذا علمت هذا فالكلام بعده في مواضع أحدها تحقيق موضع الخلاف الثاني هل هو معنوي أو لفظي الثالث في كيفية الثواب والعقاب بالنسبة إلى الجميع أو البعض الرابع في شروط التخيير تحقيق موضع الخلاف أما الأول وهو تحقيق موضع الخلاف وتحرير معنى الإبهام فأما عندنا فالواجب أحد الخصال ولا تخيير فيه وتخيير المكلف إنما هو في تعيين الواجب للوجود لا للوجوب فإن الجهة الشخصية لا يتعلق بها وجوب ولهذا قال الشافعي في المئتين من الإبل يتخير بين الأربع حقاق وخمس بنات لبون لأنه صلى الله عليه وسلم نطق بالتخيير فقال فإذا بلغت مئتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون فأوجب أحدهما وخير في تعيين الواجب وقال ابن الحاجب متعلق الوجوب هو القدر المشترك بين الخصال ولا تخيير فيه ومتعلق التخيير خصوصيات الخصال ولا وجوب فيها وقال الأصفهاني شارح المحصول لا نقول في الواجب المخير هو القدر المشترك بل الواجب هو حصة منه يصدق عليها القدر المشترك ولا سبيل إلى القول بإيجاب المشترك ويكون من صور التخيير بين الخصال الثلاث بأنه واحد ولا يتصور التخيير في الواحد وأما على قول المعتزلة يجب الجميع على التخيير فظاهره متناقض في نفسه إذ معنى وجوب الجميع أنه لا يبرأ إلا بفعلها ومقتضى التخيير أن يبرأ بفعل أيها شاء ولا يجتمعان وإنما مرادهم بوجوب الجميع أنه لا يجوز ترك الجميع وهو صحيح لكن لا يلزم منه وجوب فعل الجميع أو وجوب الجميع على البدل لا على الجمع بمعنى إن لم
____________________
(1/150)
يفعل هذا فعل هذا وهو مذهب الجمهور وكان الغلط في هذه المسألة إما من المعتزلة حيث ظنوا أن الوجوب مع التخيير لا يجتمعان أو من الناقلين عنهم بأن وافقوهم على عبارة موهمة والذي نقله القاضي عبد الوهاب في كتاب الإفادة عنهم أن الجميع واجب على البدل وقد حرر بعض المتأخرين ذلك فقال القدر المشترك يقال على المتواطئ كالرجل ولا إبهام فيه وأن حقيقته معلومة متميزة عن غيرها من الحقائق ويقال على المبهم بين شيئين أو أشياء كأحد الرجلين والفرق بينهما أن الأول لم يقصد فيه إلا الحقيقة التي هي مسمى الرجولية والثاني فيه أحد الشخصين بعينه وإن لم يعين ولذلك يسمى مبهما لأنه انبهم علينا أمره والأول لم يقل أحد إن الوجوب يتعلق بخصوصياته كالأمر بالإعتاق فإن مسمى الإعتاق ومسمى الرقبة متواطئ كالرجل فلا تعلق للأمر بالخصوصيات لا على التعيين ولا على التخيير فلا يقال فيه واجب مخير ولا يتأتى فيه الخلاف الذي في المخير وأكثر أوامر الشريعة من ذلك والثاني متعلق الخصوصيات فلذلك وقع الخلاف فيه وسمي الواجب المخير قال وبهذا تبين أن تزويج أحد الخاطبين وإعتاق واحد من الجنس اللذين ذكرهما ابن الحاجب وكذا نصب أحد المستعدين للإمامة إذا شغر الوقت عن إمام الذي ذكره البيضاوي ليس مما نحن فيه لأنه مما يتعلق الوجوب فيه بالقدر المشترك من غير نظر إلى الخصوصيات وإنما مثاله أهل الشورى الذين جعل عمر الأمر فيهم لتعلق الأمر بأعيانهم وقال العبدري في المستوفى الخلاف في هذه المسألة إنما وقع من جهة الإجمال الذي في اللفظ فإنه يحتمل أن يكون المراد المخير فيه وأن يكون المراد المخير في أنواعه إن كان ذا أنواع وفي أشخاصه إن كان ذا أشخاص فيقال لا شك إن أردت المخير فيه فالعين واحد لا يصح التخيير فيها وإن أردت التخيير في أنواعه وأشخاصه فأنواع الشيء الواحد بالجنس وأشخاصه يصح التخيير فيها وبه ينقطع النزاع ويرتفع الخلاف قلت والصواب أن الخلاف بين الفريقين محقق فإن الذي يقتضيه كلام الفقهاء أن الواجب كل خصلة على تقدير عدم الأخرى وبه يفترق الحال بينه وبين إعتاق رقبة من الجنس والذي تقتضيه قواعد المعتزلة أن الواجب القدر المشترك بين
____________________
(1/151)
الخصال وهذان معنيان متغايران يمكن أن يذهب لكل منهما قائل وظهر بذلك أن قول المعتزلة أولى أن يسمى إبهاما والفقهاء أولى أن يسمى كل واحد والمعتزلة إنما قصدوا الفرار من قولنا أحدها واجب لعدم جواز التخيير بين الواجب وغيره وأصحابنا لا يراعون الحسن والقبح ويجوزون التخيير بين ما فيه مصلحة وما لا مصلحة فيه ومع ذلك جعلوا الواجب مبهما فإذا نظرنا إلى مجرد ذلك لم يكن فرق في المعنى تنبيه لا يخفى تخصيص الخلاف بما إذا كان كل منهما مطلوبا أما إذا كان المطلوب في الحقيقة أحدها ولم يقصد بالتخيير ظاهره بل التهديد فالواجب من ذلك واحد قطعا ومثاله قوله تعالى فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ونحو هذا فاصبروا أو لا تصبروا وغير ذلك ولم أر من تعرض له هل الخلاف لفظي أو معنوي وأما الثاني وهو أنه هل الخلاف لفظي أو معنوي اختلف في ذلك فقال القاضي والشيخ أبو إسحاق وإمام الحرمين إنه لفظي واختاره ابن القشيري وابن برهان في الأوسط وابن السمعاني في القواطع وسليم الرازي في التقريب وأبو الحسين البصري في المعتمد والإمام الرازي في المحصول قالوا لا خلاف بين الفريقين لاتفاق الكل على أنه لا يجب الإتيان بكل واحد منها ولا يجوز تركه كذلك وأنه إذا أتي بواحد منها كفى ذلك في سقوط التكليف ولكن مراد المعتزلة أن ما من واحد يفعل إلا يقع واجبا وإليه أشار عبد الجبار في العمدة ولهذا لم يصحح الإمام النقل عن أبي هاشم وليس كما زعم فقد حكاه صاحب المعتمد وهو القدوة عندهم وأصوله تقتضي ما نقل عنه وأن الوجوب عنده يتبع الحسن الخاص فيجب عند التخيير استواء الجميع في الحسن الخاص وإلا وقع التخيير بين الحسن وغيره وقال صاحب الواضح قد أعيت هذه المسألة العلماء من قبل ومن بعد فما أحد تصور الخلاف فيها
____________________
(1/152)
وفي الجملة فلا خلاف أن المكلف لا يجب عليه أن يأتي بها كلها ولا أنه لا يجوز الإخلال في الجميع ولا أنه إذا أتى بشيء منها أجزأه ولا أنه لا يقع التخيير بين واجب وغيره من مباح أو ندب وحينئذ فلا أعرف موضع الخلاف وكذا قال صاحب المصادر قد دارت رءوس المختلفين في هذه المسألة وأعيتهم ولا فائدة لها معنوية للاتفاق على ما ذكر ا هـ وقال القاضي أبو الطيب الطبري بل الخلاف في المعنى لأنا نخطئهم في إطلاق اسم الوجوب على الجميع لإجماع المسلمين على أن الواجب في الكفارة أحد الأمور وقال الأصفهاني الذي يظهر من كلام الغزالي وابن فورك أن الخلاف معنوي وهو اختيار الآمدي وابن التلمساني وعبارة بعضهم تدل عليه فإنه قال الأمر بواحد من الأشياء يقتضي واحدا من حيث هو أحدها وقال بعض المعتزلة أيضا الواجب منها واحد معين عند الله وإن وقع غيره وقع نفلا وسقط به الواجب ومنهم من قال الواجب أحدها ولكن على البدل وإذا تقرر ما ذكر من الفرق بين أن تراد مع القدر المشترك الخصوصيات أو لا أمكن أن يقال في خصال الكفارة احتمالان أحدهما أن يكون الواجب القدر المشترك بين الخصال والثاني أن كل خصلة واجبة على تقدير أن لا يفعل غيرها والأوفق لقواعد المعتزلة الأول وهو تعلق الوجوب بالقدر المشترك لا غير حتى يكون هو الموصوف بالحسن والأوفق لقواعدنا أن يصح ذلك وغيره ويظهر أثرها فيما لو فعل خصلة فعلى هذا هو الواجب وعلى الأول ينبغي أن يقال الواجب تأدى بها لا أنها هي الواجب وقال الهندي الصواب أن الخلاف معنوي ويظهر له فوائد في الخارج إحداها أنه إذا فعل خصلة يقال على ما اخترناه إنها الواجب وعلى المعنى الآخر يتأدى بها الواجب الثانية إذا فعل الجميع معا يثاب على الجميع ثواب الواجب لأن كل واحدة لم يسبقها غيرها وعلى رأيهم يثاب على واحدة فقط كذا نقل الإمام في البرهان والآمدي عنهم وكأنهم يعنون ثواب الواجب الثالثة إذا ترك الجميع وقلنا للإمام المطالبة بالكفارات أجبر على فعل
____________________
(1/153)
واحد منها من غير تعيين على رأينا كما نقول القاضي يكره المولي على أحد الأمرين من الفيئة أو الطلاق وأما على رأيهم فينبغي أن يجبره على واحد بعينه هذا ما ظهر لي ولم أره منقولا الرابعة مات وعليه الكفارة المخيرة ولم يوص بإخراجها وعدل الوارث عن أعلى الأمور أي العتق فوجهان أصحهما الجواز قال الماوردي ويشبه أن يكونا مخرجين من الخلاف المذكور إن قلنا إن الجميع واجب فله إسقاط الوجوب بإخراج واحد وإن قلنا أحدها لا بعينه لم يجزئ لأنه لم يتعين في الوجوب وهذا فيه نظر فقد يقال بمثله عند فعل أدناها إذا لم يتعين أيضا وإن كان وجه عدم الإجزاء عدم التعيين لم يختص بالعتق وإن كان العدول إلى الأعلى مع إمكان براءة الذمة بالأدنى فهذا مأخذ غير ما نحن فيه وأيضا التصرف عن الميت لا ضرورة به إلى فعل ما لا إثم في تركه وإن وصفناه بالوجوب الخامسة لو أوصى في الكفارة المخيرة بخصلة معينة وكانت قيمتها تزيد على قيمة الخصلتين الباقيتين فهل يعتبر من رأس المال فيه وجهان أحدهما نعم لأنه تأدية واجب وهذا هو قياس كون الواجب أحدها وأصحهما اعتباره من الثلث لأنه غير متحتم وتحصل البراءة بدونه وهما مبنيان على هذا الخلاف فإن قلنا الكل واجب فالجميع من رأس المال وإن قلنا الواجب مبهم فالزائد من الثلث ويطرقه النظر السابق السادسة حلف لا مال له وقد جنى جناية موجبة للقصاص فإن قلنا الواجب القصاص عينا لم يحنث وإن قلنا الواجب أحدهما لا بعينه حنث كما قاله الرافعي وتوقف فيه السابعة لو جنى على المفلس أو على عبده وقلنا الواجب أحد الأمرين وأن في المخير يجب الجميع فليس له القصاص وإن قلنا بالآخر كان له الثامنة إذا طلق إحدى امرأتيه أو أعتق أحد عبديه إن قلنا الواجب مبهم فالطلاق وقع مبهما فلا يقع إلا عند التعيين وإن قلنا وقع على كل واحدة فمن حين اللفظ وهو الصحيح التاسعة تيمم قبل الاستنجاء لا يجزئه على الأصح لأنه مأمور بأحد الأمرين الحجر أو الماء ويجب عليه لأجل وجوب الماء الطلب فيبطل تيممه إذ
____________________
(1/154)
لا تيمم مع وجوب الطلب كيفية الثواب والعقاب وأما الثالث فقال القاضي من حجج أصحابنا قولهم إنه لو أقدم على الخصال الثلاث في الكفارة معا ويتصور ذلك بأن ينصب في تأديتها وكلاء فتتفق أفعالهم في وقت واحد فقد قالوا أجمع أنها إذا وقعت فالواجب منها واحد وانفصل أبو هاشم عن هذا بناء على أصله بأن ما اتصف بالوجود لا يتصف بالوجوب فإن الوجوب من أحكام التكليف ولا يتعلق التكليف بالشيء مع حدوثه وإنما يتعلق به قبل حدوثه لأن القدرة قبيل الاستطاعة عنده ورده القاضي بأنه لو لم يصفها بالوجوب عند الوجود فنقول في كل ما وجب قبل حدوثه إذا حدث أنه كان واجبا وإذا وجدت الخصال الثلاث في الكفارة فلا يمكن أن يقول كلها واجبة حتى يثاب على كل واحد منها ثواب الواجب وما نقله القاضي عن أصحابنا من أن الواجب واحد إذا أتي بالجميع منتقد فقد قال ابن برهان في الأوسط عندنا أنه إذا فعل الجميع أثيب ثواب أعلاها فإن امتنع من الكل أثم بترك أدناها وقال القاضي أبو الطيب محققا لذلك يأثم بمقدار عقاب أدناها لا أنه نفس عقاب أدناها وقال ابن السمعاني في القواطع نحوه فقال قال أصحابنا إذا فعل الجميع فالواجب أعلاها لأنه يثاب على جميعها وثواب الواجب أكثر من ثواب الندب فانصرف الواجب إلى أعلاها ليكثر ثوابه وإن ترك الجميع عوقب على أدناها ليقل وباله ووزره لأن الوجوب سقط بفعل الأدنى انتهى وظن بعضهم تفرد ابن السمعاني بذلك وقال إنما هذا قول القاضي أبي بكر قلت وقد سبق موافقة ابن برهان له والقاضي أبي الطيب وقاله ابن التلمساني في شرح المعالم فقال إذا أتى بالخصال معا فإنه يثاب على كل واحد منها لكن ثواب الواجب أكثر من ثواب التطوع ولا يحصل إلا على واحد فقط وهو أعلاها إن تفاوتت لأنه لو اقتصر عليه لحصل له ذلك فإضافة غيره إليه لا تنقصه وإن تساوت فإلى أحدها وإن ترك الجميع عوقب على أقلها لأنه لو اقتصر عليه لأجزأه
____________________
(1/155)
قلت وهذا نظير القول المحكي في الصلاة المعادة أن الفرض أكملها والقول بأنه إحداهما لا بعينها والله يحتسب ما شاء منهما نظير القول الذي حكاه القاضي أولا عن أصحابنا وحكوا هناك وجها أن كليهما فرض ولم يقولوا به هنا لئلا يؤدي إلى قول المعتزلة وحكى القاضي قولا ثالثا أن الذي يقع واجبا هو العتق فإنه أعظم ثوابا لأنه أنفع وأشق على النفوس ورد عليه بأنه قد لا يكون كذلك وقد يجيء فيما سبق قول رابع أنه لا يثاب ويعاقب إلا على أحدها لأنه الواجب لا بعينه ويجيء خامس أنه يثاب ثواب الواجب على أدناها لأنه لو اقتصر عليه أجزأه وعلى الثاني ثواب التطوع وهذا هو ظاهر نص الشافعي فيما نقله المتولي في كتاب النذر فيما إذا التزم في اللجاج فقال وإن كان الملتزم من جنس ما يجزئ في الكفارة فإن اقتصر على القدر المأمور به في الكفارة أجزأه وإن وفى بما قال كانت الزيادة عليه تطوعا نص عليه ا هـ وقال أبو الحسين في المعتمد قال شيوخنا يستحق الذم والعقاب على أدونها عقابا لأنه لو فعله لم يعاقب قال لكنه يستحق ذلك على الإخلال بأجمعها لا بواحد منها قالوا وإذا فعلها استحق ثواب الواجب على أعظمها لأنه لو فعله وحده لكان واجبا ولا يستحق عليه ذلك الثواب وقال صاحب المصادر إذا ترك الكل استحق مقدارا واحدا من العقاب على ترك الكل بمعنى أنه ترك ثلاث واجبات عليه على التخيير ولا يصح أن يقال يعاقب على أدناها لأنه إذا ترك الكل يضاعف عذابه فلا يكون هناك مقادير من العقاب بعضها أعلى وبعضها أدنى بخلاف ما إذا جمع بين الكل لأن هناك يتضاعف الثواب فيستحق على كل واحد ثوابا فيصح أن يقال يثاب على أعلاها وقال المازري إذا فعل الجميع فاختلف في الذي يتعلق به الوجوب منها فقيل أعلاها وهو رأي القاضي أبي بكر وأشار عبد الجليل إلى مناقشة في هذا فقال القاضي يقول إن جمع بينهما في الترك ينطلق الإثم بأدناها فيجب عليه أن يقول إذا جمع بينهما في الفعل تعلق الوجوب أيضا بأدناها ومنهم من قال الوجوب
____________________
(1/156)
يتعلق بواحد لا بعينه انتهى وما ناقض فيه عبد الجليل مردود فقد سبق في كلام ابن السمعاني توجيه الفرق تنبيهان التنبيه الأول قال في المحصول إنه يستحب الجمع بين خصال الكفارة ويشهد له استحباب إعادة الصلاة لمن صلاها بل أولى لأن التنبيه الثاني هذا كله إذا فعل الكل في وقت واحد فلو أتى بالكفارة المخيرة على الترتيب فقال الباجي وغيره الأول هو الواجب وقد يقال لا تقع الثانية عن الكفارة وقد يقال بالوقوع كمن صلى على الجنازة ثانيا وقد يقال باحتمال ثالث إنها إن اقترنت بمعنى يقتضي الطلب وقعت عن الكفارة ثم هل تكون واجبة يمكن تخريجه على الصلاة المعادة وفيها أربعة أوجه شُرُوطُ التَّخْيِيرِ وَأَمَّا الرَّابِعُ وهو شُرُوطُ التَّخْيِيرِ وقد ذَكَرُوا له شُرُوطًا أَحَدُهَا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا يَصِحُّ اكْتِسَابُهُ الثَّانِي أَنْ تَتَسَاوَى الْأَشْيَاءُ في الرُّتْبَةِ من جِهَةِ التَّخْيِيرِ في الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ وَسَوَاءٌ كانت مُتَضَادَّةً أو مُخْتَلِفَةً فَلَا يَجُوزُ التَّخْيِيرُ بين قَبِيحٍ وَمُبَاحٍ وَلَا بين وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ وَإِلَّا لَانْقَلَبَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَلَا بين حَرَامٍ وَوَاجِبٍ فإن التَّخْيِيرَ بين التَّحْرِيمِ وَنَقِيضِهِ يَرْفَعُ التَّحْرِيمَ وَالتَّخْيِيرُ بين الْوَاجِبِ وَتَرْكِهِ يَرْفَعُ الْوُجُوبَ وَلِهَذَا إذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ تَسَاقَطَا وَامْتَنَعَ التَّخْيِيرُ وَلِهَذَا أَيْضًا رَدُّوا على دَاوُد اسْتِدْلَالَهُ على وُجُوبِ النِّكَاحِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ من النِّسَاءِ لِأَنَّ قَوْلَهُ أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ تَخْيِيرٌ بين النِّكَاحِ وَبَيْنَ مِلْكِ الْيَمِينِ وَالثَّانِي لَا يَجِبُ إجْمَاعًا فَلِذَلِكَ ما خُيِّرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ
____________________
(1/157)
وقد اُسْتُشْكِلَ على ذلك قَضِيَّةُ تَخْيِيرِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بين الْخَمْرِ وَاللَّبَنِ فَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ في تَحْرِيمِ ما يَحْرُمُ وَتَحْلِيلُ ما يَحِلُّ إلَى اجْتِهَادِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَسَدَادِ نَظَرِهِ الْمَعْصُومِ فلما نَظَرَ فِيهِمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَتَحْلِيلِ اللَّبَنِ فَوَافَقَ الصَّوَابَ قلت وَأَصْلُ السُّؤَالِ غَيْرُ وَارِدٍ إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّخْيِيرَ وَقَعَ بين مُبَاحٍ وَحَرَامٍ إذْ تِلْكَ الْخَمْرَةُ من الْجَنَّةِ لَا يُقَالُ لو كان كَذَلِكَ لم يَجْتَنِبهَا لِأَنَّا نَقُولُ لَمَّا شَابَهَتْ الْخَمْرَةَ الْمُحَرَّمَةَ تَجَنَّبَهَا وَذَلِكَ أَبْلَغُ في الْوَرَعِ وَأَدَقُّ سَلَّمْنَا إلَّا أَنَّ الْخَمْرَ كانت حِينَئِذٍ مُبَاحَةٌ لِأَنَّهَا إنَّمَا حُرِّمَتْ بِالْمَدِينَةِ بِلَا خِلَافٍ وَالْإِسْرَاءُ كان بِمَكَّةَ فَإِنْ قُلْتَ قَوْلُ جِبْرِيلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ له حين اخْتَارَ اللَّبَنَ أَصَبْتَ يَدُلُّ على أَنَّ اخْتِيَارَ الْخَمْرِ خَطَأٌ عُصِمَ منه صلى اللَّهُ عليه وسلم قلت يُؤْنَسُ فيها بِالتَّحْرِيمِ الْمُسْتَقْبَلِ وَهُنَا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْغَزَالِيَّ في الْمُسْتَصْفَى عِنْدَ الْكَلَامِ في تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ أَشَارَ إلَى احْتِمَالٍ بِالتَّخْيِيرِ وَإِنْ لم يَتَسَاوَيَا في الرُّتْبَةِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ إنَّمَا يُنَاقِضُ جَوَازَ التَّرْكِ مُطْلَقًا أَمَّا جَوَازُهُ بِشَرْطٍ فَلَا بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ على التَّرَاخِي وإذا أَخَّرَ ثُمَّ مَاتَ قبل الْأَدَاءِ لم يَعْصِ إذَا أَخَّرَ مع الْعَزْمِ على الِامْتِثَالِ فَظَهَرَ أَنَّ تَرْكَهُ بِشَرْطِ الْعَزْمِ لَا يُنَاقِضُ الْوُجُوبَ بَلْ الْمُسَافِرُ يُخَيَّرُ بين أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا فَرْضًا وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ رَكْعَتَيْنِ وَاجِبَتَيْنِ وَيَجُوزُ تَرْكُهُمَا وَلَكِنْ بِشَرْطِ قَصْدِ التَّرَخُّصِ ثَانِيهِمَا لَا يَرِدُ على هذا الشَّرْطِ التَّخْيِيرُ بين خِصَالِ الْكَفَّارَةِ بِأَنَّهَا مُخَيَّرٌ فيها وَلَيْسَ الْجَمِيعُ بِوَاجِبٍ لِأَنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ أَنَّهُ ما من وَاحِدَةٍ يُمْكِنُ الْإِقْدَامُ عليها إلَّا وَتَقَعُ وَاجِبًا قال الْقَاضِي وَهَذَا مُرَادُنَا بِالتَّسَاوِي الثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ مُتَمَيِّزَةً لِلْمُكَلَّفِ فَلَا يَجُوزُ التَّخْيِيرُ بين مُتَسَاوِيَيْنِ من جَمِيعِ
____________________
(1/158)
الْوُجُوهِ لَا يَتَخَصَّصُ أَحَدُهُمَا عن الْآخَرِ بِوَصْفٍ كما لو خُيِّرَ بين أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَبَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مع تَسَاوِيهِمَا في كل النُّعُوتِ هذا مِمَّا لَا يُدْرَكُ في حُكْمِ التَّكْلِيفِ وَإِنْ كان الْمُتَمَاثِلَانِ مُتَغَايِرَيْنِ كما أَنَّ الْمُخْتَلِفَيْنِ مُتَغَايِرَانِ الرَّابِعُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً لِلْمُخَاطَبِ الْخَامِسُ أَنْ يَكُونَ وَقْتُهَا وَاحِدًا بِأَنْ يَتَأَتَّى الْإِتْيَانُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في وَقْتٍ وَاحِدٍ بَدَلًا عن أَغْيَارِهَا فَلَوْ ذُكِرَ لِلْمُخَاطَبِ فِعْلَانِ مُؤَقَّتَانِ بِوَقْتَيْنِ فَلَا يَكُونُ ذلك تَخَيُّرًا فإنه في وَقْتِ الْإِمْكَانِ لَا يَتَمَكَّنُ من الْفِعْلِ الثَّانِي لِيَتَنَجَّزَ وفي الثَّانِي لَا يَتَمَكَّنُ من الْأَوَّلِ فَلَا يَتَحَقَّقُ وَصْفُ التَّخْيِيرِ أَصْلًا وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذلك في وَصْفَيْنِ يَجُوزُ ثُبُوتُ أَحَدِهِمَا بَدَلًا عن الثَّانِي مع تَقْدِيرِ اتِّحَادِ الْوَقْتِ هَكَذَا شَرَطَهُ الْقَاضِي وَبَنَاهُ على أَصْلِهِ في وُجُوبِ الْعَزْمِ بَدَلًا عن الْفِعْلِ وَنَازَعَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُ في هذا الشَّرْطِ فإنه لو قال خِطْ هذا الْقَمِيصَ يوم السَّبْتِ أو هذا الْقَبَاءَ يوم الْأَحَدِ كان تَخْيِيرًا صَحِيحًا وقد وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ في الصَّوْمِ في السَّفَرِ وقد يَقَعُ التَّخْيِيرُ بين الضِّدَّيْنِ كَقُمْ أو اُقْعُدْ أو خِلَافَيْنِ كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ أو مِثْلَيْنِ كَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ غَدًا أو بَعْدَ غَدٍ وَزَعَمَ الْمَازِرِيُّ أَنَّهُ لَا يَرِدُ التَّكْلِيفُ إلَّا على الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ وَفِيهِ نَظَرٌ السَّادِسُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ وَبِهَذَا يُرَدُّ على الرَّافِعِيِّ وَصَاحِبِ الْحَاوِي الصَّغِيرِ حَيْثُ جَعَلَا غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ أو الْمَسْحَ على الْخُفِّ من الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ فإنه لَا يَمْتَنِعُ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْعِتْقِ وَالْإِطْعَامِ مَثَلًا بَلْ مَسْحُ الْخُفِّ لَا يَجُوزُ إلَّا بِشُرُوطٍ وإذا لَبِسَهُ بِشَرْطِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ مع دَوَامِ اللُّبْسِ التَّخْيِيرُ بَلْ وَاجِبُهُ الْمَسْحُ فَإِنْ نُزِعَ فَالْغَسْلُ وَلِأَنَّ غَسْلَ الرِّجْلِ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ فَوَاتِ جَوَازِ الْمَسْحِ على الْخُفِّ إلَّا أَنْ يُقَال إنَّ الرِّجْلَ تُغْسَلُ وَهِيَ في الْخُفِّ تَنْبِيهٌ مَنْعُ التَّخْيِيرِ بين الشَّيْءِ وَبَعْضِهِ مَنَعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ التَّخْيِيرَ بين الشَّيْءِ وَبَعْضِهِ قال ابن الرِّفْعَةِ وهو مَمْنُوعٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسَافِرَ مُخَيَّرٌ بين إتْمَامِ الصَّلَاةِ وَقَصْرِهَا وَمَنْ لَا جُمُعَةَ عليه مُخَيَّرٌ بين صَلَاةِ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ صَلَاةِ الظُّهْرِ أَرْبَعًا وهو مُخَيَّرٌ بين الشَّيْءِ وَبَعْضِهِ
____________________
(1/159)
فُرُوعٌ إذَا خُيِّرَ الْعَبْدُ بين الْأَشْيَاءِ فما عَلِمَ اللَّهُ وُقُوعَهُ منه فَهُوَ مُرَادُهُ منه فَالْإِرَادَةُ مع الْعِلْمِ في قَرْنٍ قَالَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ بِنَاءً على أَنَّ أَصْلَنَا في أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ إلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَعِنْدَهُمْ هُمْ إذَا خُيِّرَ بين الْأَشْيَاءِ وَكُلُّ وَاحِدٍ منها مُرَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَوْ أتى بِالْجَمِيعِ أُثِيبَ على الْجَمِيعِ وما كان حَسَنًا كان مُرَادًا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنْ خُيِّرَ بين شَيْئَيْنِ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَالتَّزْوِيجِ بين الْأَكْفَاءِ وَنَصْبِ الْأَئِمَّةِ فَوَاحِدٌ مُرَادٌ وَالْجَمْعُ مَكْرُوهٌ مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا تَعْيِينُ خَصْلَةٍ من خِصَالِ الْكَفَّارَةِ إذَا عَيَّنَ الْمُكَلَّفُ خَصْلَةً من الْخِصَالِ هل تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ يَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فيه خِلَافٌ من الْخِلَافِ السَّابِقِ فِيمَا إذَا أَوْصَى بِالْعِتْقِ في الْكَفَّارَةِ الْمُخَيَّرَةِ هل يُعْتَبَرُ من رَأْسِ الْمَالِ أو من الثُّلُثِ ثُمَّ رَأَيْت في تَعْلِيقِ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ في بَابِ النَّذْرِ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ خَصْلَةٌ بِالنَّذْرِ لِمَا فيه من تَغْيِيرِ إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الشُّرُوعُ بِخَصْلَةٍ هل يُعَيِّنُهَا لو شَرَعَ في خَصْلَةٍ هل تَتَعَيَّنُ بِالشُّرُوعِ حتى لو تَرَكَهَا ثُمَّ أَرَادَ فِعْلَ غَيْرِهَا لَا يُجْزِئُهُ اعْتِبَارُ الْعَارِضِ أو لَا تَتَعَيَّنُ اسْتِصْحَابًا لِلثَّابِتِ لم أَرَ فيها أَيْضًا تَصْرِيحًا تَذْنِيبٌ إذَا أَوْجَبَ الشَّارِعُ وَاحِدًا من أُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ مُتَسَاوِيَةٍ وَأَمْكَنَ التَّلْفِيقُ فَهَلْ الْوَاجِبُ وَاحِدٌ منها مُبْهَمٌ أو الْوَاجِبُ من كل وَاحِدٍ جُزْءٌ لم أَرَ لِلْأُصُولِيِّينَ فيها كَلَامًا وَيُخَرَّجَ من كَلَامِ أَصْحَابِنَا في الْفُرُوعِ فيها وَجْهَانِ فإن الْوَاجِبَ شَاةٌ في أَرْبَعِينَ شَاةً وَاخْتَلَفُوا هل الْوَاجِبُ مَثَلًا جُزْءٌ من كل حَيَوَانٍ أو حَيَوَانٌ مُبْهَمٌ فيه وَجْهَانِ وَفَرَّعُوا عليه ما إذَا بَاعَ الْجَمِيعَ فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ خَرَجَ على تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ أو
____________________
(1/160)
بِالثَّانِي فقال الصَّيْدَلَانِيُّ يَبْطُلُ في الْجَمِيعِ قَطْعًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ قال ابن الرِّفْعَةِ وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ إنْ كان النِّصَابُ مُخْتَلِفًا كما إذَا اشْتَمَلَ على كِبَارٍ وَصِغَارٍ فَالْحُكْمُ كما قال وَإِنْ كان غير مُخْتَلِفٍ لِلتَّسَاوِي في الْأَسْنَانِ وَتَقَارُبِ الصِّفَاتِ فَيَكُونُ في صِحَّةِ الْبَيْعِ فِيمَا عَدَا قَدْرَ الزَّكَاةِ وَجْهَانِ فإن الْمَاوَرْدِيَّ قد ذَكَرَ هذا التَّفْصِيلَ بِعَيْنِهِ في نَظِيرِهِ وهو ما إذَا قال بِعْتُك هذه الشَّاةَ وَمِنْ نَظَائِرِ الْمَسْأَلَةِ ما لو بَاعَهُ صَاعًا من صُبْرَةٍ مَعْلُومَةِ الصِّيعَانِ فإنه يَصِحُّ وَهَلْ يَنْزِلُ على الْإِبْهَامِ فَيَكُونُ الْبَيْعُ وَاحِدًا لَا بِعَيْنِهِ حتى يَبْقَى الْبَيْعُ ما بَقِيَ صَاعٌ أو على الْإِشَاعَةِ وهو الْجُزْءُ الذي ذلك الصَّاعُ نِسْبَتُهُ إلَى جُمْلَةِ الصُّبْرَةِ فَيَكُونُ الْمَبِيعُ على هذا عُشْرَ الصُّبْرَةِ حتى لو تَلِفَ بَعْضُهَا تَلِفَ منه بِقَدْرِهِ وَالْأَصَحُّ الثَّانِي وَبِهِ يَظْهَرُ التَّرْجِيحُ في مَسْأَلَةِ الزَّكَاةِ فَائِدَةٌ مُعْظَمُ الْعِبَادَاتِ على التَّخْيِيرِ قال الْقَاضِي وَالْإِمَامُ في التَّخْلِيصِ مُعْظَمُ الْعِبَادَاتِ في الشَّرْعِ على التَّخْيِيرِ إلَّا ما شَذَّ وَنَدَرَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِأَيِّ مَاءٍ شَاءَ وَيُصَلِّي في أَيِّ مَكَان مع أَيٍّ لَبُوسٍ شَاءَ وَمَنْ لَزِمَهُ عِتْقٌ فَهُوَ مُخَيَّرٌ من أَيِّ الرِّقَابِ الْمُجْزِئَةِ وَمَنْ لَزِمَتْهُ الصَّدَقَةُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بين أَعْيَانِ الدَّرَاهِمِ تَنْبِيهٌ جَوَازُ الْجَمْعِ بين ما وَقَعَ فيه التَّخْيِيرُ ما وَقَعَ فيه التَّخْيِيرُ قد يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَقْلًا وَشَرْعًا كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ وقد يُمْنَعُ عَقْلًا وَشَرْعًا كَالتَّأْجِيلِ وَالتَّعْجِيلِ بِمِنًى وقد يُمْكِنُ عَقْلًا لَا شَرْعًا كَالتَّزْوِيجِ من الْخَاطِبِينَ وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ عَقِيمٌ وَقَسَّمَ الصَّيْرَفِيُّ الْوَاجِبَ الْمُخَيَّرَ إلَى ما يَرْجِعُ لِشَهْوَةِ الْمُكَلَّفِ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ وَلَا يَجِبُ عليه مُرَاعَاةُ الْأَصْلَحِ وَلَا لِلْمَسَاكِينِ وَإِلَى ما يَجِبُ فيه اخْتِيَارُ الْأَصْلَحِ وَالنَّظَرِ لِلْمُسْمَلِينَ كَتَخْيِيرِ الْإِمَامِ في الْكَافِرِ الْأَسِيرِ بين الْقَتْلِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَالرِّقِّ وَكَأَخْذِ الصَّدَقَةِ إذَا اجْتَمَعَ بَنَاتُ لَبُونٍ وَأَرْبَعُ حِقَاقٍ في فَرْضِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَصْلَحَ لِلْمَسَاكِينِ إذَا كان ذلك الْوَسَطُ مَالَهُ
____________________
(1/161)
تَتِمَّةٌ وُجُوبُ الْأَشْيَاءِ قد يَكُونُ على التَّخْيِيرِ وُجُوبُ الْأَشْيَاءِ على الْمُكَلَّفِ قد يَكُونُ على التَّخْيِيرِ وقد يَكُونُ على التَّرْتِيبِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ يَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا حَرَامًا كَالتَّزْوِيجِ من الْكُفْأَيْنِ وقد يَكُونُ مُبَاحًا كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ بِثَوْبٍ بَعْدَ ثَوْبٍ وقد يَكُونُ نَدْبًا كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ كَذَا قَالَهُ في الْمَحْصُولِ وفي الْأَوَّلِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ من بَابِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لَا من الْمُخَيَّرِ نعم نَظِيرُهُ لو قال أَعْتِقْ أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ وَكَذَا تَمْثِيلُهُ الثَّانِي بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ لِأَنَّهُ أَيْضًا من الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَيَّدَ بِثَوْبٍ زَائِدٍ على الثِّيَابِ الْمُسَوَّمَةِ وَأَيْضًا فَالْمُبَاحُ لُبْسُ الثَّانِي ثُمَّ الزَّائِدُ ليس بِسَاتِرٍ لِلْعَوْرَةِ وَحُكْمُهُ بِالنَّدْبِ على الثَّالِثِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ ولم نَرَ من صَرَّحَ بِهِ وقد يُسْتَدَلُّ بِالِاحْتِيَاطِ له وَبِالْقِيَاسِ على تَعْدَادِ الرِّقَابِ فِيمَنْ عليه عِتْقُ رَقَبَةٍ وَيُسْتَدَلُّ لِهَذَا بِأَنَّ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها حين كَلَّمَتْ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَكَانَتْ نَذَرَتْ تَرْكَ كَلَامِهِ أَعْتَقَتْ رِقَابًا كَثِيرَةً وَلَعَلَّ مُرَادَ الْإِمَامِ أَنَّ الْجَمْعَ قبل فِعْلِهِ غَيْرُ مَطْلُوبٍ بَلْ إذَا فَعَلَهُ بَعْدَ فِعْلِ غَيْرِهِ يَقَعُ مُسْتَحَبًّا بِنَاءً على ثَوَابِ النَّدْبِ كَالنَّافِلَةِ الْمُطْلَقَةِ وَيَشْهَدُ له تَمْثِيلُهُمْ لِلْمُخَيَّرِ الْمُبَاحِ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ بِثَوْبٍ بَعْدَ آخَرَ وَأَحْسَنُ من هذا أَنْ يُمَثَّلَ له بِالْجَمْعِ بين الْمَاءِ وَالْحَجَرِ في الِاسْتِنْجَاءِ وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ يَكُونُ الْجَمْعُ حَرَامًا كَالْمُضْطَرِّ الْوَاجِدِ مُذَكَّاةً وَمَيْتَةً كَذَا مَثَّلَهُ في الْمَحْصُولِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْحَرَامَ إنَّمَا هو أَكْلُ الْمَيْتَةِ إذْ لَا تَدْخُلُ الْمُذَكَّاةُ في الْحُرْمَةِ وَتَحْرِيمُ الْجَمْعِ إنَّمَا يَكُونُ لِعِلَّةٍ دَائِرَةٍ بين الْمُفْرَدَيْنِ وقد يَكُونُ مُبَاحًا وَمَثَّلَهُ في الْمَحْصُولِ بِالْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ وَغَلِطَ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَخْتَصُّ بِحَالِ الْعَجْزِ وَصَوَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا إذَا خَافَ من اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِمَرَضٍ ولم يَنْتَهِ خَوْفُهُ إلَى الْقَطْعِ أو الظَّنِّ بِالضَّرَرِ الْمَانِعِ من جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فإنه مُبَاحٌ له التَّيَمُّمُ لِأَجْلِ الْخَوْفِ وَلَا يَمْتَنِعُ الْوُضُوءُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الضَّرَرِ فإذا تَوَضَّأَ بَعْدَ التَّيَمُّمِ جَازَ ثُمَّ خَدَشَ فيه بِأَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ بَطَلَ التَّيَمُّمُ لِأَنَّهُ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا قلت وَفِيهِ نَظَرٌ فإنه لَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ ذلك إذْ الْمُبِيحُ قَائِمٌ وَيُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ بِصُوَرٍ
____________________
(1/162)
أَحَدُهَا إذَا وَجَدَ الْمَاءَ يُبَاعُ بِأَكْثَرَ من ثَمَنِ الْمِثْلِ فإنه يُبَاحُ له التَّيَمُّمُ فَلَوْ تَيَمَّمَ ثُمَّ قبل الدُّخُولِ في الصَّلَاةِ أَرَادَ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِشِرَاءِ الْمَاءِ وَالْوُضُوءِ بِهِ جَازَ الثَّانِيَةُ لو كان معه مَاءٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِعَطَشٍ وَلَوْ تَوَضَّأَ بِهِ لَاحْتَاجَ إلَى شِرَائِهِ بِأَكْثَرَ من ثَمَنِ مِثْلِهِ فإنه يَتَخَيَّرُ بين أَنْ يَسْتَعْمِلَ ما معه في الْوُضُوءِ وَيَشْتَرِي الْمَاءَ لِلشُّرْبِ وَبَيْنَ أَنْ يَتَيَمَّمَ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا بِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ في هذه الْحَالَةِ ولم نُوجِبْ عليه اسْتِعْمَالَ ما معه وَشِرَاءَ الْمَاءِ لِلشُّرْبِ لِأَنَّ الْمَاءَ إذَا ارْتَفَعَ سِعْرُهُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ وَحَاجَتُهُ إلَى الشُّرْبِ مُقَدَّمَةٌ على الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الذي معه فَإِنْ قِيلَ إذَا تَوَضَّأَ بَطَلَ التَّيَمُّمُ إذْ لَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ مع وُجُودِ الْمَاءِ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ بُطْلَانُهُ بَلْ التَّيَمُّمُ الْمُتَقَدِّمُ لَا يُبْطِلُهُ الْوُضُوءُ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ إدْخَالُ عِبَادَةٍ على أُخْرَى وَهُمَا لَا يَتَنَافَيَانِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ التَّيَمُّمُ لَا يَصِحُّ مع وُجُودِ الْمَاءِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَاءُ الذي يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ أَمَّا ما يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ معه كَهَذِهِ الصُّوَرِ التي صَوَّرْنَاهَا فَلَا وَيُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمَا أَيْضًا مع تَأَخُّرِ التَّيَمُّمِ في صُوَرٍ إحْدَاهَا إذَا وَجَدَ مَاءً لِلْوُضُوءِ ثُمَّ لم يُوجَدْ مَاءٌ يَغْتَسِلُ بِهِ لِلْجُمُعَةِ فإنه يَتَيَمَّمُ عن الْغُسْلِ وَمِثْلُهُ مُرِيدُ الْإِحْرَامِ وَالْمُرَادُ بِالْإِبَاحَةِ جَوَازُ الْفِعْلِ الثَّانِيَةُ لو تَوَضَّأَ وَصَلَّى وَأَرَادَ التَّجْدِيدَ فلم يَجِدْ مَاءً فإنه يَتَيَمَّمُ عِوَضًا عن تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ كما يَتَيَمَّمُ لِلْغُسْلِ عن الْجُمُعَةِ هذا هو الذي يَقْتَضِيهِ الْفِقْهُ الثَّالِثَةُ ما ذَكَرَهُ ابن سُرَيْجٍ في كِتَابِ الْوَدَائِعِ في الْمَاءِ الْمُخْتَلَفِ في طَهُورِيَّتِهِ كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَالنَّبِيذِ الذي يُجَوِّزُ أبو حَنِيفَةَ الطَّهَارَةَ بِهِ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ خُرُوجًا من الْخِلَافِ الرَّابِعَةُ الرَّائِدُ لِلْجُمُعَةِ إذَا وَجَدَ ما لَا يَكْفِيهِ لِلْغُسْلِ وَيَكْفِيهِ لِلْوُضُوءِ تَوَضَّأَ بِهِ وَتَيَمَّمَ وَكَذَلِكَ مَرِيدُ الْإِحْرَامِ كُلُّ التَّيَمُّمِ هَاهُنَا عن الْغُسْلِ وَهَذِهِ صُورَةُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا في الدَّوَامِ ولم يذكر صُورَةَ ما يَجِبُ فيه الْجَمْعُ بين التَّيَمُّمِ وَالْوُضُوءِ وَذَلِكَ إذَا كان بِعُضْوِهِ جِرَاحَةٌ فإنه يَتَوَضَّأُ وَيَتَيَمَّمُ عن الْجَرِيحِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ سَكَتَ في هذا الْقِسْمِ عن الْمَكْرُوهِ الْجَمْعِ وَالْوَاجِبِ الْجَمْعِ فَأَمَّا وُجُوبُ الْجَمْعِ مع التَّرْتِيبِ فَلَا يُمْكِنُ وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا في الْمُرَتَّبِ فَكَلَحْمِ الْجَلَّالَةِ وَالْمُذَكَّى لِلْمُضْطَرِّ
____________________
(1/163)
فَائِدَةٌ الْفَرْقُ بين قَوْلِ الْفُقَهَاءِ الْوَاجِبُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَبَيْنَ قَوْلِهِمْ الْوَاجِبُ هذا وَالْآخَرُ بَدَلٌ عن هذا كما في الْقَتْلِ الْعَمْدِ هل الْوَاجِبُ الْقَوَدُ وَالدِّيَةُ بَدَلٌ عنه أو أَحَدُهُمَا أَنَّ الثَّانِيَ فيه تَرْتِيبٌ كَالْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَالْأَوَّلُ لَا تَرْتِيبَ فيه فَائِدَةُ ثَانِيَةٌ حُكِيَ عن أبي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ قال إذَا أَمَرَ اللَّه بِأَشْيَاءَ وَعَطَفَ بَعْضَهَا على بَعْضٍ نَظَرْت فَإِنْ بَدَأَ بِالْأَغْلَظِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ الْأَخَفَّ كان دَلِيلًا على التَّرْتِيبِ بِدَلِيلِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَإِنْ بَدَأَ بِالْأَخَفِّ كان دَلِيلًا على التَّخْيِيرِ بِدَلِيلِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ حَكَاهُ بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ وقد يُورَدُ عليه كَفَّارَةُ قَتْلِ الصَّيْدِ فَإِنَّهَا مَبْدُوءَةٌ بِالْأَغْلَظِ وهو إيجَابُ مِثْلِ الصَّيْدِ مع أنها لِلتَّخْيِيرِ نعم حَكَى أبو ثَوْرٍ عن الشَّافِعِيِّ أنها على التَّرْتِيبِ لِأَنَّ كَفَّارَاتِ النُّفُوسِ لَا تَخْيِيرَ فيها كَكَفَّارَةِ قَتْلِ الْآدَمِيِّ وقال أبو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ في تَفْسِيرِهِ كَلِمَةُ أو مَتَى ذُكِرَتْ بين الْأَجْزِيَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَسْبَابِ فَهِيَ لِلتَّرْتِيبِ كَآيَةِ الْمُحَارَبَةِ وَإِلَّا فَلِلتَّخْيِيرِ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ عن عَمْرِو بن دِينَارٍ كُلُّ شَيْءٍ في الْقُرْآنِ فيه أو فَهُوَ على التَّخْيِيرِ قال ابن جُرَيْجٍ إلَّا قَوْله تَعَالَى إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَيْسَ بِمُخَيِّرٍ فيها قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبِمَا قال ابن جُرَيْجٍ أَقُولُ أَيْ إنَّهَا لَيْسَتْ لِلتَّخْيِيرِ بَلْ لِبَيَانِ أَنْوَاعِ الْعُقُوبَةِ الْمُخْتَلِفَةِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْحُرْمَةِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم في صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعًا من تَمْرٍ أو صَاعًا من شَعِيرٍ فإن أَصَحَّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَتَخَيَّرُ في ذلك بِنَاءً على أَنَّ أو فيه لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلتَّخْيِيرِ أَيْ صَاعًا من تَمْرٍ إنْ كان غَالِبَ قُوتِ بَلَدِهِ أو من شَعِيرٍ إنْ كان غَالِبَ قُوتِ بَلَدِهِ
____________________
(1/164)
تَنْبِيهٌ تَمْثِيلُ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ بِآيَةِ الْكَفَّارَةِ اسْتَشْكَلَ الْعَبْدَرِيُّ في شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى تَمْثِيلَ الْأَئِمَّةِ لِلْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ بِآيَةِ الْكَفَّارَةِ من جِهَةِ أَنَّ النَّحْوِيِّينَ نَصُّوا على أَنَّ أو تَكُونُ في الْخَبَرِ لِلشَّكِّ وفي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِلتَّخْيِيرِ أو لِلْإِبَاحَةِ وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا فَقَالُوا إذَا فَعَلَ الْمَأْمُورَ الْفِعْلَيْنِ في التَّخْيِيرِ كان عَاصِيًا وإذا فَعَلَهُمَا أو أَحَدَهُمَا في الْإِبَاحَةِ كان مُطِيعًا قال فَالشَّائِعُ في اللُّغَةِ أَنْ تُسَمَّى الْكَفَّارَةُ وَاجِبًا مُبَاحَةٌ أَنْوَاعُهُ لَا وَاجِبَ مُخَيَّرٍ في أَنْوَاعِهِ وَهَذَا السُّؤَالُ أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْبَسِيطِ عن النَّحْوِيِّينَ وَأَجَابَ عنه بِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا في الْمَحْظُورِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ الْأَمْرُ وَالْآخَرُ يَبْقَى مَحْظُورًا لَا يَجُوزُ له فِعْلُهُ وَلَا يَمْتَنِعُ في خِصَالِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِمَا عَدَا الْوَاجِبِ تَبَرُّعًا وَلَا يُمْنَعُ من التَّبَرُّعِ وَالْأَحْسَنُ في الْجَوَابِ أَنَّ الْمَمْنُوعَ منه في الْجَمْعِ الْإِتْيَانُ بِكُلِّ وَاحِدٍ على أَنَّهُ الْوَاجِبُ أَمَّا لو أتى بِالْجَمِيعِ لَا على هذا الْمَعْنَى فَهُوَ جَائِزٌ قَطْعًا وَأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ إنَّمَا يَكُونُ في وَاحِدٍ منها وَجَوَازُ غَيْرِهَا إنَّمَا هو بِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ حتى لو لم يَكُنْ مُبَاحًا لم يَجُزْ كما إذَا قال بِعْ هذا الْعَبْدَ أو ذَاكَ فَائِدَةٌ الْأَبْدَالُ تَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلَاتِ قال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ في الْقَوَاعِدِ الْأَبْدَالُ إنَّمَا تَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلَاتِ في وُجُوبِ الْإِتْيَانِ بها إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ مُبْدَلَاتِهَا في بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ بِالْإِتْيَانِ بها وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا لَيْسَا في الْأَجْرِ سَوَاءٌ وَأَنَّ الْأَجْرَ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ وَلَيْسَ الصَّوْمُ في الْكَفَّارَةِ كَالْإِعْتَاقِ وَلَا الْإِطْعَامُ كَالصِّيَامِ كما أَنَّهُ ليس التَّيَمُّمُ كَالْوُضُوءِ إذْ لو تَسَاوَتْ الْأَبْدَالُ وَالْمُبْدَلَاتُ لَمَا شُرِطَ في الِانْتِقَالِ إلَى الْأَبْدَالِ فَقْدُ الْمُبْدَلَاتِ ا هـ وهو حَسَنٌ وَيَرِدُ عليه أُمُورٌ منها الْجُمُعَةُ بَدَلٌ من الظُّهْرِ على رَأْيٍ مع أَنَّ حُكْمَهَا على عَكْسِ ما ذُكِرَ من اشْتِرَاطِ تَعَذُّرِ الْمُبْدَلِ فإنه هُنَا أَعْنِي الْجُمُعَةَ لَا تُعْدَلُ إلَى الْبَدَلِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمُبْدَلِ فَمَنْ لَازَمَهُ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ هَاهُنَا أَفْضَلَ من الْمُبْدَلِ فإنه إنَّمَا يَعْدِلُ من
____________________
(1/165)
شَيْءٍ إلَى آخَرَ لِلْأَفْضَلِيَّةِ غَالِبًا وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الشَّيْخِ على ما إذَا كان سَبَبُ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مُتَّحِدًا كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ الْمُرَتَّبَةِ أو على الْغَالِبِ أو على ما إذَا كان الْبَدَلُ أَخَصَّ من الْمُبْدَلِ كَالتَّيَمُّمِ مع الْوُضُوءِ ثُمَّ الْمَسْحُ على الْخُفِّ قِيلَ إنَّهُ بَدَلٌ من غَسْلِ الرِّجْلِ وقال الرَّافِعِيُّ الْوَاجِبُ على الْمُكَلَّفِ في الْوُضُوءِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إمَّا الْغَسْلُ أو الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا وَالْحَقُّ خِلَافُهُ كما سَبَقَ في شُرُوطِ التَّخْيِيرِ مَسْأَلَةٌ الْفِعْلُ إمَّا أَنْ يَزِيدَ عن وَقْتِهِ وَإِمَّا أَنْ يُسَاوِيَ الْفِعْلُ إمَّا أَنْ يَزِيدَ على وَقْتِهِ فَإِنْ كان الْغَرَضُ منه إيقَاعَ الْفِعْلِ جَمِيعِهِ في الزَّمَنِ الذي لَا يَسَعُهُ فَهُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ يُجَوِّزُهُ من يُجَوِّزُهُ وَيَمْنَعُهُ من يَمْنَعُهُ وَإِنْ كان الْغَرَضُ أَنْ يَبْتَدِئَ في ذلك الْوَقْتِ وَيُتِمَّ بَعْدَهُ أو أَنْ يَتَرَتَّبَ في ذِمَّتِهِ وَيَفْعَلَهُ كُلَّهُ بَعْدَهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ كَإِيجَابِ الظُّهْرِ على من زَالَ عُذْرُهُ آخِرَ الْوَقْتِ فَأَدْرَكَ قَدْرَ رَكْعَةٍ من آخِرِهِ وَكَذَا تَكْبِيرَةٌ على الْأَظْهَرِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ قَدْرَ إمْكَانِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَإِمَّا أَنْ يُسَاوِيَ وَيُسَمَّى بِالْمِعْيَارِ كَالصَّوْمِ الْمُعَلَّقِ بِمَا بين طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَكَوَقْتِ الْمَغْرِبِ على الْقَوْلِ الْجَدِيدِ وَكَمَا لو اسْتَأْجَرَهُ يَوْمًا لِلْعَمَلِ فيه وَهَذَا لَا نِزَاعَ فيه الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ وَقَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ التَّسَاوِيَ إلَى ما يَكُونُ الْوَقْتُ سَبَبًا لِوُجُوبِهِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ وَإِلَى ما لَا يَكُونُ كَذَلِكَ كَقَضَائِهِ وَأَثْبَتُوا من الْأَقْسَامِ ما لَا يُعْلَمُ زِيَادَتُهُ وَلَا مُسَاوَاتُهُ وهو الْوَاجِبُ الْمُشْكِلُ كَالْحَجِّ وَإِمَّا نَاقِصٌ عنه كَالصَّلَاةِ وَيُسَمَّى الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ وقد اُخْتُلِفَ فيه فَمِنْهُمْ من أَنْكَرَهُ وَمِنْهُمْ من اعْتَرَفَ بِهِ وَهُمْ الْجُمْهُورُ وَالْإِشْكَالُ فيه وفي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ سَوَاءٌ إذْ لِأَجْلِهِ أَنْكَرَهُ من أَنْكَرَهُ هُنَا وهو أَنَّ الْوُجُوبَ يَلْزَمُهُ الْمَنْعُ من التَّرْكِ وَكُلُّ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الْوَقْتِ بِعَيْنِهِ يَجُوزُ إخْلَاؤُهُ عن الْفِعْلِ وَكَذَلِكَ كُلُّ فَرْدٍ من أَفْرَادِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ يَجُوزُ تَرْكُهُ وَذَلِكَ يُنَافِي الْوُجُوبَ وَحَلُّ الْإِشْكَالِ فِيهِمَا أَنْ يُقَالَ كُلُّ فَرْدٍ من هذه الْأَفْرَادِ أَعْنِي من أَفْرَادِ
____________________
(1/166)
الْوَقْتِ وَأَفْرَادِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ له جِهَةُ عُمُومٍ وهو كَوْنُهُ أَحَدَ هذه الْأَشْيَاءِ وَجِهَةُ خُصُوصٍ وهو ما بِهِ يَتَمَيَّزُ عن غَيْرِهِ وَمُتَعَلَّقُ الْوُجُوبِ جِهَةُ الْعُمُومِ وَتِلْكَ لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا بِوَجْهٍ فإنه إنَّمَا يُتْرَكُ في الْمُوَسَّعِ بِإِخْلَاءِ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ عن الْعِبَادَةِ وفي الْمُخَيَّرِ تَرْكُ كل فَرْدٍ من الْأَفْرَادِ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فلم يُوجَدْ الْمُنَافِي لِلْوُجُوبِ فَهُوَ جَائِزُ التَّرْكِ فِيمَا جَعَلْنَاهُ مُتَعَلَّقَ الْوُجُوبِ أَمَّا جِهَةُ الْخُصُوصِ فَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ لِجَوَازِ تَرْكِهَا إلَى غَيْرِهَا وَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ في الْمَسْأَلَتَيْنِ جميعا قال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَلِأَجْلِ هذا الْإِشْكَالِ اضْطَرَبَ الْمُحَصِّلُونَ في الْجَوَابِ عنه فَقِيلَ إنَّمَا يَعْصِي بِتَفْوِيتِهِ وَلَا تَفْوِيتَ إلَّا بِالْمَوْتِ وَالزَّمَانُ ظَرْفٌ لِلْوُجُوبِ وَالْوَاجِبُ لَا يُنْسَبُ إلَى زَمَانٍ كما إذَا لم يَكُنْ مُقَيَّدًا وَقِيلَ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إلَى بَدَلٍ وهو الْعَزْمُ على فِعْلِهِ في الثَّانِي فَقِيلَ لهم الْعَزْمُ نَتِيجَةُ الِاعْتِقَادِ ضَرُورَةً لَا بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ وَقِيلَ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ وَلَا يُتَخَيَّلُ ذلك مع التَّمَكُّنِ ا هـ إذَا عَرَفْت هذا فقال الْجُمْهُورُ إنَّ الْمُوَسَّعَ مَوْجُودٌ وَالْوَقْتُ جَمِيعُهُ ظَرْفٌ لِلْوُجُوبِ على مَعْنًى في أَيِّ جُزْءٍ منه أَوْقَعَهُ تَأَدَّى الْوَاجِبُ وَجَوَّزُوا التَّأْخِيرَ عن أَوَّلِ الْوَقْتِ إلَى أَنْ يَضِيقَ أو يَغْلِبَ على ظَنٍّ فَوَاتُهُ بَعْدَهُ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ هذا قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَذَهَبَ إلَيْهِ من أَهْلِ الرَّأْيِ محمد بن شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ ا هـ وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ عن أبي زَيْدٍ منهم أَيْضًا وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ عن أبي شُجَاعٍ وَأَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ الْجِبَائِيَّيْنِ وَأَصْحَابِنَا وَوَجْهُ هذا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ بِتَعْيِينِ الْعَبْدِ لِأَنَّ ذلك من وَضْعِ الشَّارِعِ وَإِنَّمَا لِلْعَبْدِ الِارْتِفَاقُ فيه كما في خِصَالِ الْكَفَّارَةِ الْوَاجِبِ أَحَدُهَا وَلَا يَتَعَيَّنُ منها شَيْءٌ بِتَعْيِينِ الْمُكَلَّفِ نَصًّا وَلَا قَصْدًا بِأَنْ يَنْوِيَهُ بَلْ يَخْتَارُ أَيَّهَا شَاءَ فَيَفْعَلُهُ فَيَصِيرُ هو الْوَاجِبَ جواز ترك الواجب الموسع أول الوقت وهؤلاء المعترفون بالواجب الموسع اختلفوا في جواز تركه أول الوقت بلا بدل مع اتفاقهم على أنه يقتضي إيقاع الفعل في أي جزء كان فقال جمهور الفقهاء لا يشترط البدل ولا يعصي حتى يخلو الوقت كله عنه
____________________
(1/167)
العزم على الفعل وجمهور المتكلمين على أنه لا يجوز تركه إلى بدل وهو العزم على الفعل في ثاني الحال وإذا تضيق الوقت تعين الفعل حتى يتميز بذلك الواجب عن فعل النفل فلو مات في أثناء الوقت مع العزم لم يعص وهذا ما صار إليه الأستاذ أبو بكر بن فورك والقاضي أبو بكر ونقله عن المحققين ونقله صاحب الواضح عن أبي علي وأبي هاشم وعبد الجبار المعتزليين وحكاه صاحب المصادر عن الشريف المرتضى وأنكره الباقون كأبي الحسين البصري واختاره الآمدي والبصري فقالوا لا حاجة إلى العزم بل يجوز التأخير بدونه وهما وجهان لأصحابنا حكاهما القاضيان الطبري والماوردي وغيرهما والصحيح منهما كما قاله النووي وجوب العزم ولهذا أوجبوه على المسافر في جمع التأخير ونظير هذا المديون لا يجب عليه الأداء ما لم يطالب ويجب عليه العزم على أدائه عند المطالبة وممن أنكر العزم على القاضي إمام الحرمين لتخيله أمرين نسبهما إليه أحدهما أنه ظن أنه أخذ العزم من الصيغة ولا ظهور له منها فإذا كان يتوقف فيما لم يظهر قاطع فيه على أحد المحتملين فكيف لا يتوقف فيما لم يظهر له فيه احتمال وثانيهما أنه ظن أنه جعل العزم بدلا من نفس الفعل حتى إذا وجب العزم سقط وجوب نفس الفعل وليس كذلك فإنما أخذ القاضي العزم من دليل العقل الذي هو أقوى من دليل الصيغة من جهة أن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب والعزم عنده بدل من تقديم الفعل الواجب فإذا عزم فقد سقط وجوب التقديم لا بدل من نفس الفعل وكذا أنكره الإمام أبو نصر بن القشيري قال ولعله يقول حكم العزم الأول ينسحب على جميع الأوقات فلا يجب تذكره في كل حال كالنية في الصلاة قال وعنده أن دليل العزم لا يتلقى من اللفظ بل من دليل آخر وهو خروج عظيم وأدنى ما فيه التزام أمر لم يشعر به اللفظ قال ومن عجيب الأمر توقف القاضي في صيغة افعل إذا وردت على التردد ثم التزام إثبات العزم الذي ليس في اللفظ إشعار به ثم إنه وجب في كل وقت الفعل أو العزم فقد أخرج الفعل عن كونه واجبا على
____________________
(1/168)
التعيين قال وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجب على المخاطب الاعتناء بالعزم في كل وقت إلا تيقن الامتثال فيه وأطنب إلكيا الهراسي في تزييف القول بالعزم وقال يجب طرحه وقال القاضي أبو الطيب لم يذكره أصحابنا المتقدمون ولا يحفظ عن الشافعي واختار الغزالي طريقة وسطى وهي الفرق بين الغافل عن الفعل والترك فلا يجب عليه العزم وبين من خطر بباله الفعل والترك فهذا وإن لم يعزم على الفعل عزم على الترك ضرورة فيجب عليه العزم على الفعل واستحسنه القرافي في قواعده وهو في الحقيقة راجع لمذهب القاضي إذ ليس لنا قائل بوجوب العزم مع الغفلة لأنه محال وقال المازري لما كان القاضي وابن فورك يريان أن من مات في أثناء الوقت قبل الفعل لا يأثم ألزموا الجمع بين إباحة الشيء والتأثيم منه لأنا نجوز له التأخير فكيف نؤثمه اعتذر عن هذا الإلزام بأن أثبتوا العزم على إيقاع الفعل بدلا من تقديم إيقاعه ورأوا أن التأخير لم يسقط وجوبه إلا بإثبات عوض منه وهو العزم فأشبه تخيير الحانث بين الإطعام والكسوة فإن الإطعام وإن لم نؤثمه في تركه إذا لم يفعله وعوض عنه الكسوة لم يخرج عن حقيقة الوجوب ألبتة وإنما يسقط إلى بدل وأنكر إمام الحرمين إثبات العزم هنا ولم يره انفصالا عن الإلزام قال المازري وكان دار بيني وبين الشيخ أبي الحسن اللخمي في هذا مقال فإنه أنكر إيجاب العزم واستبعده كما استبعده الإمام فلم يكن إلا قليلا حتى قرأ القارئ في البخاري حديث إذا التقى المسلمان بسيفيهما الحديث وفيه تعليل النبي صلى الله عليه وسلم بكون المقتول في النار لكونه حريصا على قتل صاحبه فقلت هذا يدل للقاضي فلم يجب بغير الاستبعاد وذكر الإمام عن القاضي أنه يقول بالعزم وتردد المكلف بين العزم والفعل كل
____________________
(1/169)
وقت إلى آخر زمن الإمكان ثم قال ولا يظن بهذا الرجل العظيم يعني القاضي أنه يوجب العزم تكريرا وإنما يراه يجب مرة واحدة ويستحب حالة هذه الأزمنة كالنية المنسحب حكمها من أول العبادة على أثنائها وهذا خلاف ما حكي عنه أولا ا هـ والقائلون بالعزم اختلفوا فقيل هو بدل من نفس الفعل الذي هو الصلاة وغيرها وهو قول الجبائي واقتصر عليه الشيخ في اللمع لأن الواجب لا يجوز تركه وقيل إنما وجب ليتميز الواجب عن غيره واختاره القاضي أبو الطيب لأن العزم لو كان بدلا لسقط به الوجوب وقيل هو بدل من فعلها أول الوقت لا من فعلها لأنه لو كان بدلا منها لسقطت قالوا ومعنى قولنا إنه بدل من فعلها في أول الوقت الأول أنه بدل من فعل لو وقع لبرئت ذمته وهو غير الفعل الذي يقع من بعد حكاه القاضي عبد الوهاب في الملخص في الكلام على أن الأمر المطلق هل يقتضي الفور أو التراخي وقال أبو الحسين في المعتمد المثبتون للبدل اختلفوا هل هو من فعل الله سبحانه أو من فعلنا فقال أبو علي وأبو هاشم إن بدل الصلاة أول الوقت ووسطه هو العزم على أدائها في المستقبل وقال بعض أصحابنا إن لها في أول الوقت ووسطه بدلا يفعله الله سبحانه يقوم مقام الصلاة وهو ضعيف لأنه يلزم عنه أن لا يحسن لتكليف الصلاة من يعلم الله أنه يخترم في الوقت لأنه يقوم فعل الله سبحانه مقام فعله في المصلحة الحاصلة قبل خروج الوقت فلو كلفه الصلاة لكان إنما كلفه بمجرد الثواب فقط واعلم أن أصحابنا اتفقوا في الأمر المطلق على وجوب العزم عند ورود الأمر وكأن الفرق أن المقيد بوقت موسع لما كان آخر وقته معلوما بأن ذلك مع اعتقاد وجوبه ينافي العزم على الفعل بخلاف الأمر المطلق فإن العزم فيه ينوب مناب تعجيل الفعل وتعيين الوقت ذكره بعض شراح اللمع الْمُنْكِرُونَ لِلْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لِلْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ فَاخْتَلَفُوا على خَمْسَةِ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّ الْوُجُوبَ يَخْتَصُّ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ فَإِنْ أُخِّرَ عنه فَقَضَاءٌ غير أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ وَحَكَاهُ أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ عن بَعْضِ الناس وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عن بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَكَذَا الْإِمَامُ في الْمَعَالِمِ وَالْبَيْضَاوِيُّ في الْمِنْهَاجِ فلم يَنْفَرِدْ إذَنْ
____________________
(1/170)
بِنَقْلِهِ كما زَعَمَ بَعْضُهُمْ حتى قال السُّبْكِيُّ سَأَلْت ابْنَ الرِّفْعَةِ وهو أَوْحَدُ الشَّافِعِيَّةِ في زَمَانِهِ فقال تَتَبَّعْت هذا في كُتُبِ الْمَذْهَبِ فلم أَجِدْهُ وقال ابن التِّلِمْسَانِيِّ هذا لَا يُعْرَفُ في مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَلَعَلَّ من عَزَاهُ إلَيْهِمْ الْتَبَسَ عليه بِوَجْهِ الْإِصْطَخْرِيُّ وهو أَنَّ الذي يَفْضُلُ فِيمَا زَادَ على صَلَاةِ جِبْرِيلَ في الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ يَكُونُ قَضَاءً انْتَهَى وهو فَاسِدٌ لِأَنَّ الْوَقْتَ عِنْدَهُ مُوَسَّعٌ وَمِنْهُمْ من أَخَذَهُ من تَضْيِيقِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ على الْقَوْلِ الْجَدِيدِ وهو فَاسِدٌ لِأَنَّ هذا تَضْيِيقٌ وَمِنْهُمْ من أَخَذَهُ من قَوْلِهِمْ تَجِبُ الصَّلَاةُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ فَظَنَّ أَنَّ الْوَقْتَ مُتَعَلِّقٌ بِالصَّلَاةِ وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِتَجِبُ فَوَقَعَ الِالْتِبَاسُ في الْجَارِ وَالْمَجْرُورِ وَقِيلَ بَلْ أَخَذَهُ من قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رِضْوَانُ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيْنَا من عَفْوِهِ وَقِيلَ بَلْ من قَوْلِ الشَّافِعِيِّ في الْأُمِّ في الْخَامِسِ في كِتَابِ الْحَجِّ نُقِلَ عن بَعْضِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَبَعْضِ من يُفْتِي أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عن أَوَّلِ وَقْتِهَا يُصَيِّرُهَا قَضَاءً وَتَأْخِيرَ الْحَجِّ وما أَشْبَهَهُ وَهَذَا الْأَخْذُ فَاسِدٌ لِأَنَّ قَائِلَهُ لَا يقول إنَّ الْوَقْتَ يَخْرُجُ وَيَصِيرُ قَضَاءً بَعْدَ أَوَّلِهِ كما نَقَلَ الْإِمَامُ بَلْ إنَّهُ يَعْصِي بِالتَّأْخِيرِ وَلَا يَلْزَمُ من الْعِصْيَانِ خُرُوجُ الْوَقْتِ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ هذا الْقَائِلَ يقول بِالتَّأْثِيمِ إذَا أَخَّرَهُ عن أَوَّلِ الْوَقْتِ وَالْقَاضِي أبو بَكْرٍ نَقَلَ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ على أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَأْثَمُ بِتَأْخِيرِهِ عن أَوَّلِ الْوَقْتِ وَلِذَلِكَ عَبَّرَ بَعْضُهُمْ عن هذا الْقَوْلِ أَنَّهُ في آخِرِ الْوَقْتِ قَضَاءٌ يَسُدُّ مَسَدَ الْأَدَاءِ وما نَقَلَهُ الشَّافِعِيُّ أَثْبَتُ لَكِنْ قال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وابن الْقُشَيْرِيّ في أُصُولِهِ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ وَإِنْ أُخِّرَتْ كانت قَضَاءً قال وَهَذَا الْقَائِلُ يُجَوِّزُ التَّأْخِيرَ قال وقد نُقِلَ عن مَالِكِ بن أَنَسٍ قَرِيبٌ من ذلك في الْحَجِّ وَجُمْلَةِ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعُمُرِ وَرَأَى مِثْلَ ذلك في الصَّلَاةِ ا هـ قال ابن الْقُشَيْرِيّ هَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي عنه وَالثَّانِي أَنَّ الْوُجُوبَ يَخْتَصُّ بِآخِرِ الْوَقْتِ وَأَوَّلُهُ سَبَبٌ لِلْجَوَازِ وهو ما مَالَ إلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أَهْلِ الرَّأْيِ وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ عن بَعْضِهِمْ وَهَكَذَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ وَنَقَلَهُ في الْمُعْتَمَدِ عن أَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَقَلَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن الْكَرْخِيِّ وَالرَّازِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِمْ من الْعِرَاقِيِّينَ
____________________
(1/171)
وَظَاهِرُ كَلَامِ أبي بَكْرٍ الرَّازِيَّ أَنَّ عليه أَكْثَرَ الْحَنَفِيَّةِ فإنه حَكَى الْقَوْلَ بِالتَّوْسِعَةِ عن مُحَمَّدِ بن شُجَاعٍ ثُمَّ قال وقال غَيْرُهُ من أَصْحَابِنَا إنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِآخِرِهِ وَإِنَّ أَوَّلَ الْوَقْتِ لم يَجِبْ عليه غَيْرُهُ ثُمَّ قال وَاَلَّذِي حَصَّلْنَاهُ عن شَيْخِنَا أبي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْوَقْتَ جَمِيعَهُ وَقْتُ الْأَدَاءِ وَالْوُجُوبُ يَتَعَيَّنُ فيه بِأَحَدِ وَقْتَيْنِ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُؤَخِّرَهُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ فَالْوُجُوبُ يَتَعَيَّنُ بِالْوَقْتِ الْمَفْعُولِ فيه لِلصَّلَاةِ وقال شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ في أُصُولِهِ نُقِلَ عن ابْنِ شُجَاعٍ أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ بِأَوَّلِ جُزْءٍ من الْوَقْتِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا وهو الصَّحِيحُ وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا الْعِرَاقِيِّينَ يُنْكِرُونَ هذا وَيَقُولُونَ الْوُجُوبُ لَا يَثْبُتُ في أَوَّلِ الْوَقْتِ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِآخِرِهِ بِدَلِيلِ ما لو حَاضَتْ في آخِرِ الْوَقْتِ لَا يَلْزَمُهَا قَضَاءُ الصَّلَاةِ إذَا طَهُرَتْ ا هـ وَنَصَّ الدَّبُوسِيُّ في تَقْوِيمِ الْأَدِلَّةِ على الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ الْمُوَسَّعِ وَأَبْطَلَ الْقَوْلَ بِتَعَلُّقِهِ بِآخِرِهِ وقال شَارِحُ الْهِدَايَةِ الْقَوْلُ بِأَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ بِآخِرِ الْوَقْتِ وفي أَوَّلِهِ نَافِلَةٌ قَوْلٌ ضَعِيفٌ نُقِلَ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَلَيْسَ مَنْقُولًا عن أبي حَنِيفَةَ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا ا هـ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَذْهَبِنَا وَأَنَّ هذا الْقَوْلَ يُرْوَى عن بَعْضِ أَصْحَابِهِمْ ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهِ فِيمَا لو فَعَلَهُ أَوَّلَ الْوَقْتِ على ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ فَقِيلَ تَقَعُ وَاجِبَةً بِكُلِّ حَالٍ فَعَلَى هذا تَجِبُ الصَّلَاةُ إمَّا بِفِعْلِهَا أو بِمَجِيءِ آخِرِ الْوَقْتِ وَقِيلَ تَقَعُ نَافِلَةً بِكُلِّ حَالٍ إلَّا أنها تَمْنَعُ من وُجُوبِ الصَّلَاةِ عليه في آخِرِ الْوَقْتِ كَالزَّكَاةِ الْمُعَجَّلَةِ عِنْدَنَا وَقِيلَ يُرَاعَى فَإِنْ لَحِقَ آخِرَهُ وهو بِصِفَةِ التَّكْلِيفِ كان فَرْضًا وَإِلَّا فَلَا حَكَى الثَّلَاثَةَ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَالْأَخِيرَيْنِ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ منهم وقال الْقَاضِي عن الثَّالِثِ إنَّهُ الذي عَوَّلَ عليه الدَّهْمَاءُ من أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ وَالثَّالِثُ أَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ إذَا بَقِيَ منه قَدْرُ تَكْبِيرَةٍ وَالرَّابِعُ كَذَلِكَ وَآخِرِهِ إذَا بَقِيَ قَدْرُ صَلَاةٍ فَإِنْ عَجَّلَ فَنَفْلٌ يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ وَذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْخَامِسُ أَنَّهُ إنْ كان مُكَلَّفًا آخِرَ الْوَقْتِ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ وَقَعَ وَاجِبًا وَإِلَّا فَنَفْلٌ نُقِلَ عن الْكَرْخِيِّ وَعِنْدَهُ الصَّلَاةُ في أَوَّلِ الْوَقْتِ لَا تُوصَفُ بِالنَّفْلِ وَلَا الْفَرْضِ وهو نَظِيرُ وَجْهٍ عِنْدَنَا في الْمُعَادَةِ أَنَّهُ يَنْوِي بها فَرْضًا وَلَا نَفْلًا
____________________
(1/172)
وَالسَّادِسُ أَنَّهُ إنْ كان مُكَلَّفًا آخِرَ الْوَقْتِ كان ما فَعَلَهُ مُسْقِطًا لِلْفَرْضِ تَعْجِيلًا نَقَلَهُ أبو الْحُسَيْنِ عن أبي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وَالسَّابِعُ أَنَّهُ إذَا اخْتَارَ وَقْتًا تَعَيَّنَ إلَى أَنْ يَتَضَيَّقَ فَيَتَعَيَّنَ بِالتَّضْيِيقِ وهو مَذْهَبُ أبي بَكْرٍ الرَّازِيَّ وَمِنْهُمْ من عَبَّرَ عنه أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ مُخْتَصًّا بِالْجُزْءِ الذي يَتَّصِلُ الْأَدَاءُ بِهِ وَإِلَّا فَآخِرُ الْوَقْتِ الذي يَسَعُ الْفِعْلَ وَلَا يَفْضُلُ عنه وَحَكَاهُ أبو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ عن الْكَرْخِيِّ وَادَّعَى الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وهو لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ عِنْدَهُمْ كُلُّ جُزْءٍ من الْوَقْتِ على الْبَدَلِ إنْ اتَّصَلَ بِهِ الْأَدَاءُ وَإِلَّا فَآخِرُهُ إذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْوَقْتِ سَبَبًا وَإِلَّا لَزِمَ الْوُجُوبُ بَعْدَهُ وقال وَإِنَّمَا عَدَدْت هذه الْفِرْقَةَ من الْمُنْكِرِينَ لِلْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ مع قَوْلِهِمْ إنَّ الصَّلَاةَ مَهْمَا أُدِّيَتْ في الْوَقْتِ كانت وَاجِبَةً وَأَدَاءً لِأَنَّهُمْ لم يُجَوِّزُوا أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ فَاضِلًا عن الْفِعْلِ بِخِلَافِ الْقَائِلِينَ بِهِ فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ ذلك وَالثَّامِنُ أَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِجُزْءٍ من الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ كما تَعَلَّقَ في الْكَفَّارَاتِ بِوَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَتَأَدَّى الْوُجُوبُ فِيهِمَا بِالْغَيْرِ حَكَاهُ الْمَجْدُ بن تَيْمِيَّةَ عن بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ قال وهو أَصَحُّ عِنْدِي وَأَشْبَهُ بِأُصُولِنَا في الْكَفَّارَاتِ فَيَجِبُ أَنْ يُجْعَلَ مُرَادُ أَصْحَابِنَا عليه وَالتَّاسِعُ حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ من الْوَقْتِ له حَظٌّ في الْوُجُوبِ وَلَا نَقُولُ وَجَبَ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ حتى لو أَدْرَكَ جَمِيعَ الْوَقْتِ نَقُولُ وَجَبَ بِجَمِيعِ الْوَقْتِ وَهَذَا كَالْقِيَامِ يَجِبُ بِقَدْرِ الْفَاتِحَةِ فَلَوْ أَطَالَ الْقِيَامَ بِقِرَاءَةِ السُّورَةِ فَالْكُلُّ وَاجِبٌ قال وَهَذَا خِلَافُ الْمَذْهَبِ تَتِمَّاتُ الْأُولَى هل يَسْتَقِرُّ الْوُجُوبُ بِمُجَرَّدِ دُخُولِ الْوَقْتِ حَيْثُ قُلْنَا بِالْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ فَهَلْ يَسْتَقِرُّ الْوُجُوبُ فيه بِمُجَرَّدِ دُخُولِ الْوَقْتِ أو لَا يَسْتَقِرُّ إلَّا بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ فيه مَذْهَبَانِ الْأَوَّلُ هو أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالثَّانِي قَوْلُ أَصْحَابِنَا كما قَالَهُ الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ وَحُكِيَ نَحْوُهُ عن أبي حَنِيفَةَ وقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ مَذْهَبُنَا أنها تَجِبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ وَيَسْتَقِرُّ وُجُوبُهَا بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ وَيَجُوزُ تَأْخِيرُهَا إلَى آخِرِ الْوَقْتِ وَكَذَا قال الدَّارِمِيُّ في الِاسْتِذْكَارِ تَجِبُ عِنْدَنَا بِأَوَّلِ الْوَقْتِ وَيَسْتَقِرُّ وُجُوبُهَا بِقَدْرِ فِعْلِهَا وَكَذَا قال غَيْرُهُمَا من الْأَصْحَابِ
____________________
(1/173)
وَحَكَوْا معه وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَسْتَقِرُّ الْوُجُوبُ قبل إمْكَانِ الْأَدَاءِ إلْحَاقًا لِأَوَّلِ الْوَقْتِ بِآخِرِهِ وهو قَوْلُ أبي يحيى الْبَلْخِيّ من أَصْحَابِنَا وَخَطَّئُوهُ بِإِمْكَانِ الْقَضَاءِ في آخِرِ الْوَقْتِ دُونَ أَوَّلِهِ وَالثَّانِي لَا يَسْتَقِرُّ حتى يُدْرِكَ مع الْوَقْتِ أَدَاءَ جُزْءٍ وهو قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ قالوا لِأَنَّهُ لو اسْتَقَرَّ فَرْضُهَا في أَوَّلِ الْوَقْتِ بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ لم يَجُزْ أَنْ يَقْصُرَهَا إذَا سَافَرَ في آخِرِ وَقْتِهَا لِاسْتِقْرَارِ فَرْضِهَا فلما جَازَ له الْقَصْرُ دَلَّ على أَنَّهُ إنَّمَا اسْتَقَرَّ بِآخِرِ الْوَقْتِ قال الْأَصْحَابُ وَلَيْسَ جَوَازُ الْقَصْرِ آخِرَ الْوَقْتِ دَلِيلًا على أَنَّ الْفَرْضَ لم يَسْتَقِرَّ لِأَنَّ الْقَصْرَ من صِفَاتِ الْأَدَاءِ قالوا وَهَذَا من ابْنِ سُرَيْجٍ رُجُوعٌ إلَى مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ في وُجُوبِهَا بِآخِرِ الْوَقْتِ الثَّانِيَةُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ حَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِآخِرِ الْوَقْتِ يُجَوِّزُونَ فِعْلَهُ أَوَّلَهُ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في تَسْمِيَتِهِ وَاجِبًا وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ تَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ في حُكْمَيْنِ مَقْصُودَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عن أَوَّلِ الْوَقْتِ إلَى آخِرِهِ إلَّا بِشَرْطِ الْعَزْمِ على الصَّحِيحِ وَالثَّانِي أَنَّ الْفِعْلَ إذَا كان مِمَّا يَجِبُ قَضَاؤُهُ فإذا مَضَى من أَوَّلِ حَالِ الْإِمْكَانِ مِقْدَارُ زَمَنِ الْإِمْكَانِ ثُمَّ زَالَ التَّكْلِيفُ بِجُنُونٍ أو حَيْضٍ أو غَيْرِهِ حتى فَاتَ وَقْتُهُ وَجَبَ قَضَاؤُهُ على قَوْلِنَا وَلَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ على قَوْلِهِمْ الثَّالِثَةُ الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ قد يَكُونُ مَحْدُودًا وقد يَكُونُ وَقْتُهُ الْعُمُرَ إذَا أَثْبَتْنَا الْوَاجِبَ الْمُوَسَّعَ فَقَدْ يَكُونُ مَحْدُودًا بِغَايَةٍ مَعْلُومَةٍ كَالصَّلَاةِ وقد يَكُونُ وَقْتُهُ الْعُمُرَ كَالْحَجِّ وَقَضَاءِ الْفَائِتِ من الصَّلَاةِ بِعُذْرٍ فإنه على التَّرَاخِي على الصَّحِيحِ وَسَمَّوْهُ الْحَنَفِيَّةُ الْمُشَكِّكَ لِأَنَّهُ أَخَذَ شَبَهًا من الصَّلَاةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَسْتَغْرِقُ الْوَقْتَ وَمِنْ الصَّوْمِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ السَّنَةَ الْوَاحِدَةَ لَا يَقَعُ فيها إلَّا حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ وَالْحَقُّ أَنَّ الْحَجَّ لَا يُسَمَّى مُوَسَّعًا بِالْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ ليس له وَقْتٌ مَنْصُوصٌ عليه وَالتَّوْسِيعُ وَالتَّضْيِيقُ إنَّمَا يَكُونَانِ في الْوَقْتِ وَلَكِنْ جَرَيْنَا في هذا التَّقْسِيمِ على عِبَارَةِ الْجُمْهُورِ
____________________
(1/174)
أَمَّا الْأَوَّلُ فَيَتَضَيَّقُ بِطَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا بِالِانْتِهَاءِ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ بِحَيْثُ لَا يَفْضُلُ زَمَانُهُ عنه وَثَانِيهِمَا بِغَلَبَةِ الظَّنِّ لِعَدَمِ الْبَقَاءِ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ فإنه مَهْمَا غَلَبَ ذلك على ظَنِّهِ يَجِبُ عليه الْفِعْلُ قَبْلَهُ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَعْصِي فيه بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا بِخُرُوجِ وَقْتِهِ وَالثَّانِي بِتَأْخِيرِهِ عن وَقْتٍ يُظَنُّ فَوْتُهُ بَعْدَهُ كَالْمُوَسَّعِ بِالْعُمُرِ وَنَقَلَ ابن الْحَاجِبِ في مُخْتَصَرِهِ الِاتِّفَاقُ على عِصْيَانِهِ في هذه الْحَالَةِ سَوَاءٌ بَقِيَ بَعْدُ أَمْ لَا وَلَوْ مَاتَ في أَثْنَاءِ الْوَقْتِ لم يَعْصِ على الْأَصَحِّ وَقِيلَ يَعْصِي قال في الْمُسْتَصْفَى وهو خِلَافُ إجْمَاعِ السَّلَفِ قال بَلْ مُحَالٌ أَنْ يَعْصِيَ وقد جَازَ له التَّأْخِيرُ فَإِنْ قال جَازَ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ قُلْنَا مُحَالٌ لِأَنَّ الْعَاقِبَةَ مَسْتُورَةٌ عنه وَأَمَّا الثَّانِي وهو في الْمُوَسَّعِ في الْعُمُرِ فَيَعْصِي فيه بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا بِالتَّأْخِيرِ عن وَقْتٍ يُظَنُّ فَوْتُهُ بَعْدَهُ وَالثَّانِي بِالْمَوْتِ على الصَّحِيحِ سَوَاءٌ غَلَبَ على ظَنِّهِ قبل ذلك الْبَقَاءُ أَمْ لَا لِأَنَّ التَّأْخِيرَ له مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ وهو مُشْكِلٌ لِأَنَّ الْعَاقِبَةَ عنه مَسْتُورَةٌ وَالثَّانِي لَا يَمُوتُ عَاصِيًا وهو أَشْكَلُ مِمَّا قَبْلَهُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ مَعْنَى الْوُجُوبِ وَالثَّالِثُ الْفَرْقُ فيه بين الشَّيْخِ فَيَعْصِي وَالشَّابُّ فَلَا وهو اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَرَفْعُ الْإِشْكَالِ عنه سَنَذْكُرُهُ وَهَذَا الْقِسْمُ يُخَالِفُ ما قَبْلَهُ فإن الْمَوْتَ في أَثْنَاءِ الْوَقْتِ لَا يَعْصِي بِهِ على الْأَصَحِّ وَالْفَرْقُ بِأَنَّ بِالْمَوْتِ خَرَجَ وَقْتُ الْحَجِّ وَبِالْمَوْتِ في أَثْنَاءِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لم يَخْرُجْ وَقْتُهَا وَنَظِيرُ الْحَجِّ أَنْ يَمُوتَ آخِرَ وَقْتِ الصَّلَاةِ فإنه يَعْصِي بِخُرُوجِ الْوَقْتِ وإذا قُلْنَا يَعْصِي فَلَهُ شَرْطَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَعْزِمَ على الْفِعْلِ فَإِنْ عَزَمَ عليه وَمَاتَ في أَثْنَائِهِ فَلَا يَعْصِي بِالْإِجْمَاعِ نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُسْتَصْفَى وَالْآمِدِيَّ
____________________
(1/175)
قال الْغَزَالِيُّ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُؤْثِمُونَ من مَاتَ فَجْأَةً بَعْدَ انْقِضَاءِ مِقْدَارِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ من وَقْتِ الزَّوَالِ وَكَانُوا لَا يَنْسُبُونَهُ إلَى تَقْصِيرٍ لَا سِيَّمَا إذَا اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ وَنَهَضَ إلَى الْمَسْجِدِ فَمَاتَ في الطَّرِيقِ بَلْ مُحَالٌ أَنْ يَعْصِيَ وقد جُوِّزَ له التَّأْخِيرُ في فِعْلِ ما يَجُوزُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَعْصِيَتِهِ انْتَهَى وَالثَّانِي أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ أَدَاءِ إمْكَانِ الصَّلَاةِ فَإِنْ مَاتَ قبل الْإِمْكَانِ لم يَعْصِ بِلَا خِلَافٍ نعم حَكَوْا عن أبي يحيى الْبَلْخِيّ من أَصْحَابِنَا أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ وُجُوبًا مُسْتَقِرًّا وَلَيْسَ إمْكَانُ الْأَدَاءِ مُعْتَبَرًا وَلَعَلَّهُ يَقْرَبُ من التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ وقد اسْتَصْعَبَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَصْفَ الصَّلَاةِ بِالْوُجُوبِ في أَوَّلِ الْوَقْتِ مع الْقَوْلِ بِأَنَّ من مَاتَ في أَثْنَاءِ الْوَقْتِ لَا يَعْصِي فإنه يُؤَدِّي إلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ وقال لَا مَعْنَى له إلَّا على تَأْوِيلٍ وهو أنها لو أُقِيمَتْ لَوَقَعَتْ على مَرْتَبَةِ الْوَاجِبَاتِ وَرَدَّهُ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وقال التَّأْخِيرُ على هذا الْوَجْهِ ليس فيه تَفْوِيتُ الْمَأْمُورِ بِهِ فإذا مَاتَ بَغْتَةً فَهُوَ غَيْرُ مُفَوِّتٍ له لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخَّرَ من وَقْتٍ إلَى مِثْلِهِ وَهَذَا لَا يُعَدُّ تَفْوِيتًا لِأَنَّهُ فَعَلَ ما كان مُطِيقًا له إلَّا أَنَّهُ صَارَ فَائِتًا بِمَعْنًى من قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى لَا من قِبَلِ الْعَبْدِ فلم يَجُزْ وَصْفُهُ بِالْعِصْيَانِ وَهَذَا كَالْأَمْرِ الْمُضَيَّقِ إذَا لم تُسَاعِدْهُ الْحَيَاةُ في ذِمَّتِهِ وَزَعَمَ الْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ أَنَّ الْمُوَسَّعَ بِالْعُمُرِ إنَّمَا يَتَضَيَّقُ بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ وهو التَّأْخِيرُ عن وَقْتٍ يُظَنُّ فَوْتُهُ فيه قال وَلَوْ لم نَقُلْ بِهِ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ أَبَدًا وهو بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ حَقِيقَةَ الْوُجُوبِ وَإِمَّا إلَى زَمَنٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وهو بَاطِلٌ لِأَنَّهُ تَكْلِيفُ ما لَا يُطَاقُ فلم يَبْقَ إلَّا أَنْ نَقُولَ يَجُوزُ له التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ أَنْ يَغْلِبَ على ظَنِّهِ أَنَّهُ يَبْقَى سَوَاءٌ بَقِيَ أَمْ لَا وإذا غَلَبَ على ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَبْقَى عَصَى بِالتَّأْخِيرِ سَوَاءٌ مَاتَ أَمْ لَا وَهَذَا الذي قَالَهُ قَوْلٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَعْصِي بِالْمَوْتِ سَوَاءٌ غَلَبَ على ظَنِّهِ الْبَقَاءُ أَمْ لَا وَلَا يَلْزَمُهُ تَكْلِيفُ ما لَا يُطَاقُ لِأَنَّهُ كان يُمْكِنُهُ الْمُبَادَرَةُ فَالتَّمْكِينُ مَوْجُودٌ وَجَوَازُ التَّأْخِيرِ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ وَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ فَتَبَيَّنَ عَدَمُ الْجَوَازِ وَالْوُجُوبُ مُحَقَّقٌ مع التَّمَكُّنِ فَيَعْصِي وَيَكُونُ التَّأْخِيرُ له ظَاهِرًا وَبَاطِنًا على رَأْيِ الْإِمَامِ وَظَاهِرًا فَقَطْ على رَأْيِ الْفُقَهَاءِ وَالْبَاطِنُ مَجْهُولُ الْحَالِ وإذا قُلْنَا بِالْعِصْيَانِ فَهَلْ يَتَبَيَّنُ ذلك من أَوَّلِ سِنِي الْإِمْكَانِ أو من آخِرِهَا أو لَا يُضَافُ إلَى سَنَةٍ بِعَيْنِهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا الثَّانِي وَغَلِطَ الْمُقْتَرِحُ في تَعْلِيقِهِ على الْبُرْهَانِ حَيْثُ قال وَتَوَهَّمَ الْإِمَامُ أَنَّ من مَاتَ ولم يَحُجَّ انْبَسَطَتْ الْمَعْصِيَةُ على جَمِيعِ سِنِي الْإِمْكَانِ وَأَنَّهُ عَاصٍ في كل زَمَنٍ ولم
____________________
(1/176)
يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ وَإِنَّمَا يَعْصِي بِتَرْكِ الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ انْتَهَى بَقِيَ الْإِشْكَالُ في قَوْلِهِمْ جَوَازُ التَّأْخِيرِ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ وَأَنَّ ذلك رَبْطٌ لِلتَّكْلِيفِ بِمَجْهُولٍ قال ابن الْقُشَيْرِيّ هذا هَوَسٌ لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ جَهَالَةٌ تَمْنَعُ فَهْمَ الْخِطَابِ أو إمْكَانَ الِامْتِثَالِ فَأَمَّا تَكْلِيفُهُ الْمَرْءَ شيئا مع تَقْدِيرِ عُمُرِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً وَتَنْبِيهُهُ أَنَّهُ إذَا امْتَثَلَهُ خَرَجَ عن الْعُهْدَةِ وَإِنْ أُخْلِيَ الْعُمُرُ منه تَعَرَّضَ لِلْمَعْصِيَةِ فَلَا اسْتِحَالَةَ فيه وَرَدَّهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ سَلَامَةَ الْعَاقِبَةِ مُتَعَلَّقُ الْجَوَازِ وَالْجَوَازُ ليس بِتَكْلِيفٍ بَلْ مُبَاحٌ وَلَا يَلْزَمُ من تَرْكِ الْمُبَاحِ تَكْلِيفُ ما لَا يُطَاقُ بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الشَّكُّ في الْإِبَاحَةِ وقال ابن حَزْمٍ في كِتَابِ الْإِحْكَامِ سَأَلَ أبو بَكْرٍ محمد بن دَاوُد من أَجَازَ تَأْخِيرَ الْحَجِّ فقال مَتَى صَارَ الْمُؤَخِّرُ لِلْحَجِّ إلَى أَنْ مَاتَ عَاصِيًا أَفِي حَيَاتِهِ هذا غَيْرُ قَوْلِكُمْ أو بَعْدَ مَوْتِهِ فَالْمَوْتُ لَا يُثْبِتُ على أَحَدٍ مَعْصِيَةً لم تَكُنْ لَازِمَةً في حَيَاتِهِ فَأَجَابَهُ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ الشَّافِعِيُّ فقال إنَّمَا كان له التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ أَنْ يَفْعَلَ قبل أَنْ يَمُوتَ فلما مَاتَ قبل أَنْ يَفْعَلَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لم يَكُنْ مُبَاحًا له التَّأْخِيرُ قال ابن حَزْمٍ وَنَحْنُ نَقُولُ لم يُحَقِّقْ أبو الْحُسَيْنِ الْجَوَابَ على أُصُولِ الشَّافِعِيِّ فَمَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ إنَّهَا لَا تَطْلُقُ إلَّا في آخِرِ أَوْقَاتِ صِحَّتِهِ التي كان فيها قَادِرًا على الطَّلَاقِ قال وَنَحْنُ نُجِيبُ عن جَوَابِهِ فَنَقُولُ قال اللَّهُ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا فَإِنَّمَا يَأْثَمُ الْمُكَلَّفُ بِالتَّرْكِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ ليس له تَرْكُهُ ولم يُطْلِعْ اللَّهُ أَحَدًا على وَقْتِ مَوْتِهِ وَلَا عَرَّفَهُ بِآخِرِ أَوْقَاتِ مَوْتِهِ وَلَا قَامَتْ عليه حُجَّةٌ وَلَا يُوصَفُ بِالْعِصْيَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذلك الْوَقْتِ فَبَقِيَ سُؤَالُ أبي بَكْرٍ بِحَسَبِهِ انْتَهَى وَلَيْسَ كما قال وَيُقَالُ لِأَبِي بَكْرٍ قَوْلُك إنَّ تَعْصِيَتَهُ في حَيَاتِهِ خِلَافُ قَوْلِكُمْ مَمْنُوعٌ بَلْ هو قَوْلُنَا وَتُنْسَبُ الْمَعْصِيَةُ إلَى آخِرِ سِنِي الْإِمْكَانِ قُبَيْلَ الْمَوْتِ على الصَّحِيحِ وَجَوَابُ ابْنِ الْقَطَّانِ كَأَنَّهُ فَرَّعَهُ على الْوَجْهِ الْمَرْجُوحِ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ من أَوَّلِ سِنِي الْإِمْكَانِ وَلِهَذَا تَوَجَّهَ عليه سُؤَالُ ابن حَزْمٍ بِصُورَةِ الطَّلَاقِ وَنَحْنُ إذَا فَرَّعْنَا على الْأَصَحِّ فَهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَرَتَّبَ عليه الْحُكْمُ قُبَيْلَ الْمَوْتِ في الْوَقْتِ الذي يَسَعُهُ فَقُبَيْلَ الْمَوْتِ في مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ هو آخِرُ تَمَكُّنِهِ فَوَقَعَ حِينَئِذٍ كَذَلِكَ آخِرَ سِنِي الِاسْتِطَاعَةِ وَقْتَ تَمَكُّنِهِ فَيَعْصِي إذْ ذَاكَ وَخَرَجَ الْجَوَابُ بِذَلِكَ على أُصُولِ الشَّافِعِيِّ
____________________
(1/177)
وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الِاصْطِلَامِ وَأَمَّا تَسْمِيَةُ تَارِكِ الْحَجِّ عَاصِيًا فَقَدْ تَخَبَّطَ فيه الْأَصْحَابُ وَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنَّهُ يَجُوزُ له التَّأْخِيرُ وَلَا يُوصَفُ بِالْعِصْيَانِ إلَّا أَنْ يَغْلِبَ على ظَنِّهِ الْمَوْتُ فإذا غَلَبَ وَأَخَّرَ وَمَاتَ لَقِيَ اللَّهَ عَاصِيًا وَإِنْ مَاتَ بَغْتَةً قبل أَنْ يَغْلِبَ على ظَنِّهِ لَا يَكُونُ عَاصِيًا فَإِنْ قالوا قد تَرَكَ وَاجِبًا عليه إلَى أَنْ مَاتَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ عَاصِيًا قُلْنَا نعم تَرَكَ وَاجِبًا مُوَسَّعًا عليه وقد كان يَنْتَظِرُ تَضْيِيقَهُ عليه بِغَلَبَةِ الظَّنِّ وَذَلِكَ أَمْرٌ مَعْهُودٌ في غَالِبِ أَحْوَالِ الناس فَإِنْ اخْتَرَمَتْهُ الْمَنِيَّةُ من قَبْلِ أَنْ يَبْلُغَ الْمَعْهُودَ من أَجْنَاسِهِ لم يَكُنْ عليه عَتْبٌ ولم يَعْصِ لِأَنَّهُ كان على عَزْمٍ إذَا تَضَيَّقَ لَا يُؤَخَّرُ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ لِلْقَضَاءِ دَرَجَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ لِلْقَضَاءِ دَرَجَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بين الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَهِيَ قَضَاءُ رَمَضَانَ هو بِالنِّسْبَةِ لِلْمَعْصِيَةِ كَالصَّلَاةِ وَبِالنِّسْبَةِ لِعَدَمِ الْفَوَاتِ كَالْحَجِّ وقد قال الْأَصْحَابُ لو مَاتَ بين الرَّمَضَانَيْنِ لم يَعْصِ لَكِنْ يُطْعَمُ عنه وقال ابن أبي هُرَيْرَةَ لَا يَجِبُ عليه شَيْءٌ لَا الْإِطْعَامُ وَلَا الصِّيَامُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مَحْدُودٌ بِمَا بين الرَّمَضَانَيْنِ فإذا مَاتَ في أَثْنَائِهِ لم يَلْزَمْهُ لِعَدَمِ تَرَبُّطِهِ كما لو مَاتَ في أَثْنَاءِ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْحَجِّ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهُ مَعْلُومٌ وَلَا حَدَّ لِانْتِهَائِهِ حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في تَعْلِيقِهِ التَّنْبِيهُ الثَّانِي التَّوْسِيعُ في السُّنَّةِ كَالْوَاجِبِ التَّوْسِيعُ كما يَكُونُ في الْوَاجِبِ يَكُونُ في السُّنَّةِ كَالْأُضْحِيَّةِ التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ صَيْرُورَةُ الْوَاجِبِ على التَّرَاخِي وَاجِبًا على الْفَوْرِ كُلُّ وَاجِبٍ على التَّرَاخِي فإنه يَصِيرُ وَاجِبًا على الْفَوْرِ إذَا ضَاقَ وَقْتُهُ وَمِنْ ثَمَّ لو تَرَكَ الصَّلَاةَ عَمْدًا وَجَبَ قَضَاؤُهَا على الْفَوْرِ لِأَنَّ وَقْتَهَا لَمَّا ضَاقَ صَارَ على الْفَوْرِ
____________________
(1/178)
مَسْأَلَةٌ ما لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ ما لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ هو إمَّا أَجْزَاءُ الْوَاجِبِ أو شُرُوطُهُ أو الشَّرْعِيَّةُ أو ضَرُورَاتُهُ الْعَقْلِيَّةَ أو الْحِسِّيَّةَ لَا تَنْفَكُّ عن هذه الثَّلَاثَةِ فَالْأَوَّلُ وَاجِبٌ بِخِطَابِ الِاقْتِضَاءِ وَالثَّانِي بِخِطَابِ الْوَضْعِ وَالثَّالِثُ لَا خِطَابَ فيه فَلَا وُجُوبَ فيه لِأَنَّ الْوُجُوبَ من أَحْكَامِ الشَّرْعِ إذَا عَرَفْت هذا فَنَقُولُ ما يَتَوَقَّفُ عليه الْوَاجِبُ إمَّا أَنْ يَكُونَ تَوَقُّفُهُ عليه في وُجُوبِهِ أو في إيقَاعِهِ بَعْدَ تَحَقُّقِ وُجُوبِهِ فَأَمَّا ما يَتَوَقَّفُ عليه إيجَابُ الْوَاجِبِ فَلَا يَجِبُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْأَمْرَ حِينَئِذٍ مُقَيَّدٌ لَا مُطْلَقٌ وَسَوَاءٌ كان سَبَبًا أو شَرْطًا أو انْتِفَاءَ مَانِعٍ فَالسَّبَبُ كَالنِّصَابِ يَتَوَقَّفُ عليه وُجُوبُ الزَّكَاةِ فَلَا يَجِبُ تَحْصِيلُهُ على الْمُكَلَّفِ لِتَجِبَ عليه الزَّكَاةُ وَالشَّرْطُ كَالْإِقَامَةِ هِيَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ أَدَاءِ الصَّوْمِ فَلَا يَجِبُ تَحْصِيلُهَا إذَا عَرَضَ مُقْتَضَى السَّفَرِ يَجِبُ عليه فِعْلُ السَّفَرِ وَالْمَانِعُ كَالدَّيْنِ فَلَا يَجِبُ نَفْيُهُ لِتَجِبَ الزَّكَاةُ وَأَمَّا ما يَتَوَقَّفُ عليه إيقَاعُ الْوَاجِبِ وَدُخُولُهُ في الْوُجُودِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْوُجُوبِ فَإِنْ كان جُزْءًا فَلَا خِلَافَ في وُجُوبِهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَاهِيَّةِ الْمُرَكَّبَةِ أَمْرٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ من أَجْزَائِهَا ضِمْنًا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إذَا كان خَارِجًا كَالشَّرْطِ وَالسَّبَبِ كما إذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ ثُمَّ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ فَهَلْ يَدُلُّ الْأَمْرُ بها على اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ هذا مَوْضِعُ النِّزَاعِ وَلِهَذَا عَبَّرَ بَعْضُهُمْ عنه بِالْمُقَدِّمَةِ لِأَنَّ الْمُقَدِّمَةَ خَارِجَةٌ عن الشَّيْءِ مُتَقَدِّمَةٌ عليه بِخِلَافِ الْجُزْءِ فإنه دَاخِلٌ فيه الْمَذَاهِبُ في الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ وفي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ أَحَدُهَا أَنَّهُ وَاجِبٌ مُطْلَقًا لَكِنْ شَرَطُوا أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ كَالطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا من الشُّرُوطِ فَالْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ أَمْرٌ بها أَمَّا ما لَا يُمْكِنُ من الْآلَاتِ وَالذَّوَاتِ فَتُخَرَّجُ على جَوَازِ تَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ وَحِينَئِذٍ فَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ هذا الشَّرْطَ من مَنْعَ تَكْلِيفَ
____________________
(1/179)
ما لَا يُطَاقُ هذا هو الْأَصَحُّ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَبِهِ جَزَمَ سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ قالوا وَسَوَاءٌ كان شَرْطًا أو سَبَبًا وكان الشَّرْطُ شَرْعِيًّا كَالْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ أو عَقْلِيًّا كَتَرْكِ أَضْدَادِ الْوَاجِبِ أو عَادِيًا كَغَسْلِ جُزْءٍ من الرَّأْسِ لِغَسْلِ الْوَجْهِ وإذا قُلْنَا بهذا فَاخْتَلَفُوا في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوُجُوبَ هل يُتَلَقَّى من نَفْسِ الصِّيغَةِ أو من دَلَالَتِهَا أَشَارَ ابن السَّمْعَانِيِّ إلَى حِكَايَةِ الْأَوَّلِ وهو ضَعِيفٌ وَالْجُمْهُورُ على الثَّانِي وَنَصَرَهُ ابن بَرْهَانٍ قال لم يَدُلَّ عليه من حَيْثُ اللَّفْظُ وَإِنَّمَا دَلَّ عليه من حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ الدَّلَالَةَ اللَّفْظِيَّةَ ما كان مَسْمُوعًا في اللَّفْظِ وَلَا شَكَّ أَنَّ لِلشَّرْطِ لَفْظًا يَخُصُّهُ ولم يُسْمَعْ ذلك فَوَجَبَ أَنَّ دَلَالَتَهُ من حَيْثُ الْمَعْنَى وَيُخَرَّجُ من اخْتِلَافِ عِبَارَاتِهِمْ مَذْهَبَانِ آخَرَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَدُلُّ بِالِالْتِزَامِ وَالثَّانِي بِالتَّضَمُّنِ وهو ما صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ والتلخيص وقد يُسْتَشْكَلُ بِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ جُزْءَ الصَّلَاةِ فَكَيْفَ يَدُلُّ بِالتَّضَمُّنِ وَإِيضَاحُهُ أَنَّ إيجَابَ الطَّهَارَةِ دَلَّ عليه قَوْله تَعَالَى إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ فَالصَّلَاةُ وَجَبَتْ مُقَيَّدَةٌ بِالْغَسْلِ الذي هو الْوُضُوءُ فإذا اسْتَقَرَّ ذلك ثُمَّ وَرَدَ قَوْلُهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَجَبَ حَمْلُهُ على الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ وَهِيَ الْمُقَيَّدَةُ بِالطَّهَارَةِ وَالدَّالُّ على الصَّلَاةِ وَجَبَ حَمْلُهُ على الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ وَهِيَ الْمُقَيَّدَةُ بِالطَّهَارَةِ وَالدَّالُّ على الصَّلَاةِ الْمُقَيَّدَةِ دَالٌّ على قَيْدِهَا بِالتَّضَمُّنِ كَقَوْلِهِ أَعْتِقْ الرَّقَبَةَ الْمُؤْمِنَةَ ثُمَّ يقول أَعْتِقْ الرَّقَبَةَ فَمُطْلَقُ الرَّقَبَةِ دَالٌّ على الْإِيمَانِ بِالتَّضَمُّنِ الثَّانِي إذَا قُلْنَا إنَّهُ وَجَبَ من دَلَالَتِهِ فَهَلْ وَجَبَ لِنَفْسِهِ أو لِغَيْرِهِ على وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا الدَّارِمِيُّ في الِاسْتِذْكَارِ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ وَرَجَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ فِيمَا يَتَوَقَّفُ عليه عَادَةً كَغَسْلِ شَيْءٍ من الرَّأْسِ لِغَسْلِ الْوَجْهِ وَاسْتِصْحَابِ الْإِمْسَاكِ عن الْمُفْطِرِ في جُزْءٍ من أَوَّلِ اللَّيْلِ أَنَّهُ وَجَبَ لِنَفْسِهِ وَحَكَى قَوْلًا أَنَّهُ نَدْبٌ لَا وَاجِبٌ وَزَيَّفَهُ بِأَنَّهُ إذَا لم يَقْدِرْ على الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ فَلَوْ تَرَكَهُ لَتَعَطَّلَ الْوَاجِبُ فما مَعْنَى وَصْفِهِ بِالتَّطَوُّعِ وَزَعَمَ الْإِبْيَارِيُّ أَنَّهُ لَا خِلَافَ في وُجُوبِ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ
____________________
(1/180)
حَكَى الْإِمَامُ في التَّلْخِيصِ الْخِلَافَ فيه عن بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَزَعَمَ تِلْمِيذُهُ ابن الْحَاجِبِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ في وُجُوبِ السَّبَبِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لَكِنْ بهذا صَرَّحَ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ فقال الذي لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ إنْ كان سَبَبًا كَالرَّمْيِ في الْإِصَابَةِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمُسَبَّبِ أَمْرٌ بِالسَّبَبِ في الْمَعْنَى وَعَلَى هذا فَإِيجَابُ الْمُسَبَّبِ إيجَابٌ لِسَبَبِهِ وَإِبَاحَتُهُ إبَاحَةٌ لِسَبَبِهِ وَحَظْرُهُ حَظْرٌ لِسَبَبِهِ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ بِدُونِهِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ لِوُجُودِهِ بِدُونِهِ وَإِنْ كان شَرْطًا شَرْعِيًّا كَالْوُضُوءِ أو غير شَرْعِيٍّ كَالْمَشْيِ إلَى عَرَفَاتٍ لِلْوُقُوفِ فَإِنْ وَرَدَ الْأَمْرُ مُطْلَقًا فَهُوَ في الْمَعْنَى أَمْرٌ بِالشَّرْطِ هذا بَعْدَ أَنْ تَقَرَّرَ في الشَّرْعِ ذلك وَإِنْ وَرَدَ مَشْرُوطًا بِاتِّفَاقِ حُصُولِ الْمُقَدِّمَةِ فَلَيْسَ أَمْرًا بِالْمُقَدِّمَةِ كَالْأَمْرِ بِالْحَجِّ بِشَرْطِ الِاسْتِطَاعَةِ ا هـ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَا مُنَافَاةَ بين ما نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ وابن الْحَاجِبِ وما نَقَلَهُ الْجُمْهُورُ لِأَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ في أَنَّ إيجَابَ الْمُسَبَّبِ هل هو دَالٌّ على إيجَابِ السَّبَبِ وَمَحَلُّ الْإِجْمَاعِ على أَنَّهُ إذَا وَجَبَ الْمُسَبَّبُ فَقَدْ وَجَبَ السَّبَبُ لَا من جِهَةِ اللَّفْظِ وَلِهَذَا قال في الْمُنْتَهَى فَإِنَّا لَا نُنْكِرُ وُجُوبَ الْأَسْبَابِ بِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ كما أَنَّ أَسْبَابَ الْحَرَامِ حَرَامٌ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي أَنَّهُ ليس بِوَاجِبٍ مُطْلَقًا وَنُسِبَ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَحَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ عن أَصْحَابِنَا لِأَنَّ هذه الشَّرَائِطَ لها صِيَغٌ بِخُصُوصِهَا وَاخْتِلَافُ الصِّيَغِ يَدُلُّ على اخْتِلَافِ الْمَصُوغِ له وَاعْلَمْ أَنَّا لَا نُنْكِرُ كَوْنَ الصَّلَاةِ مُقْتَضِيَةً لِلطَّهَارَةِ بِالدَّلَالَةِ وَإِنَّمَا نُنْكِرُ كَوْنَهُ من حَيْثُ الصِّيغَةُ مُقْتَضِيَةً له وقد قال أَصْحَابُنَا إنَّ الصَّلَاةَ بِصِيغَتِهَا تَدُلُّ على الدُّعَاءِ فَقَطْ وما زَادَ على الدُّعَاءِ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ لَا من جِهَةِ الصِّيغَةِ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ إنَّ ذلك الشَّرْطَ هل نَصِفَهُ الْآنَ بِالنَّدْبِ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إلَى تَحْصِيلِ أَمْرٍ وَاجِبٍ أو بِالْإِبَاحَةِ لم أَرَ من تَعَرَّضَ له وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ على الْخِلَافِ في اسْتِحْبَابِ النَّذْرِ أو إبَاحَتِهِ وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ تَكُونَ الْوَسِيلَةُ سَبَبَ الْمَأْمُورِ بِهِ فَيَجِبُ أو شَرْطَهُ فَلَا يَجِبُ وهو اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْمَصَادِرِ كما سَبَقَ وَالْفَرْقُ أَنَّ وُجُودَ السَّبَبِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُسَبَّبِ بِخِلَافِ الشَّرْطِ وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ إنْ كان سَبَبًا أو شَرْطًا فَهُوَ وَاجِبٌ وَإِنْ كان غَيْرَهُمَا فَلَيْسَ
____________________
(1/181)
بِوَاجِبٍ وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ يَجِبُ الشَّرْطُ الشَّرْعِيُّ إذَا كان الْفِعْلُ يَتَأَتَّى بِدُونِهِ عَقْلًا أو عَادَةً لَكِنْ الشَّرْعُ جَعَلَهُ شَرْطًا لِلْفِعْلِ كَالْوُضُوءِ وَأَمَّا ما لم يَتَأَتَّ اسْمُ الْفِعْلِ إلَّا بِهِ عَقْلًا أو عَادَةً كَالْأَمْرِ بِغَسْلِ الْوَجْهِ فَهُوَ وَاجِبٌ في نَفْسِهِ وَلَا نُسَمِّيهِ شَرْطًا إذْ لَا يَتِمُّ عَادَةً غَسْلُ الْوَجْهِ إلَّا بِغَسْلِ شَيْءٍ من الرَّأْسِ وَبِهَذَا أَجَابَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وابن بَرْهَانٍ وَتَبِعَهُمْ ابن الْحَاجِبِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الشَّرْطَ الشَّرْعِيَّ يُمْكِنُ دُخُولُهُ في الْأَمْرِ بِالْمَشْرُوطِ هَاهُنَا كما سَبَقَ تَقْرِيرُهُ بِخِلَافِ غَيْرِ الشَّرْعِيِّ نحو غَسْلِ جُزْءٍ من الرَّأْسِ فإنه لم يَقَعْ من الشَّرْعِ نَصٌّ على إيجَابِهِ بَلْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِغَسْلِ الْوَجْهِ مُطْلَقًا وَالْعَادَةُ تَقْضِي بِأَنَّ غَسْلَ الْوَجْهِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِغَسْلِ جُزْءٍ من الرَّقَبَةِ فَبِهَذَا افْتَرَقَ الشَّرْطُ الشَّرْعِيُّ وَغَيْرُهُ هذا تَحْرِيرُ النَّقْلِ عن إمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْمَذْهَبُ السَّادِسُ الْوَقْفُ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ إلْزَامًا لِلْوَاقِفِينَ في صِيَغِ الْعُمُومِ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِشَرْطِ تَحْصِيلِ الْمُقَدِّمَةِ وَلَا بِأَمْرٍ خِلَافَهُ فَيَجِبُ الْوَقْفُ وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إنْ كان ما لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ مُلَازِمًا في الذِّهْنِ بِحَيْثُ إنَّ الْمُكَلَّفَ حَالَ اسْتِمَاعِ الْأَمْرِ يَنْتَقِلُ ذِهْنُهُ إلَى ذلك الشَّيْءِ وَيَعْلَمُ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ مُمْتَنِعٌ بِدُونِ الْإِتْيَانِ بِتِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَإِنْ لم يَكُنْ مُلَازِمًا بَلْ يَتَوَقَّفُ عليه عَقْلًا أو شَرْعًا فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ وَاجِبًا من تِلْكَ الصِّيغَةِ بَلْ من الْمُرَكَّبِ من الْأَمْرِ وَالْعَقْلِ أو من الْأَمْرِ وَالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وقال أبو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيّ مُجَلِّيًا لِعِبَارَةِ الْإِمَامِ ليس الْخِلَافُ في الْعَادِي كَالْأَمْرِ بِغَسْلِ شَيْءٍ من الرَّأْسِ لِأَجْلِ اسْتِيعَابِ الْوَجْهِ لِأَنَّ ذلك الْقَدْرَ لَا يَلْزَمُ قَطْعًا أَيْ من جِهَةِ الصِّيغَةِ وَلَيْسَ من قَبِيلِ الشَّرَائِطِ بَلْ من قَبِيلِ ما يُؤَوَّلُ إلَى الْمُعْتَادِ قال فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا مُتَلَقًّى من صِيغَةِ الْأَمْرِ وهو الْمَقْصُودُ وَالثَّانِي ما ثَبَتَ شَرْطًا في الْعِبَادَةِ وفي الْمَأْمُورِ بِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ جُزْءًا منه كَالْوُضُوءِ فَالْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ الصَّحِيحَةِ يَتَضَمَّنُ أَمْرًا بِالطَّهَارَةِ وَكَذَا وَضْعُ الشَّرَائِطِ وَالثَّالِثُ ما يَتَعَلَّقُ بِالْإِمْكَانِ وَلَيْسَ بِمَقْصُودِ الشَّرْعِ لَا مَشْرُوطًا وَلَا شَرْطًا
____________________
(1/182)
وَلَكِنَّهُ في عِلْمِ الْجِبِلَّةِ يُضَاهِي الشُّرُوطَ وَإِنْ لم يَكُنْ شَرْطًا شَرْعِيًّا وَهَذَا يَلْتَفِتُ على الِانْتِهَاءِ عن أَضْدَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ في مُحَاوِلَةِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ ا هـ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْعَادِيَ لَا يُسَمَّى شَرْطًا وَلَا يَجِبُ وَإِنَّمَا يَجِبُ الشَّرْطُ الشَّرْعِيُّ وَهَذَا هو تَقْرِيرُ قَوْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَزَادَهُ ابن بَرْهَانٍ إيضَاحًا فقال تَحَصَّلْنَا على ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ لَا يَتَأَتَّى فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ إلَّا بها أَحَدُهَا ما كان من أَبْعَاضِهِ وَأَجْزَائِهِ كَأَجْزَاءِ الصَّلَاةِ من الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَالْأَمْرُ يَتَنَاوَلُهَا وَدَلَّ عليها لَفْظًا الثَّانِي ما كان من شَرَائِطِهِ وَأَسْبَابِهِ كَالطَّهَارَةِ وَالْقِبْلَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ فَالْأَمْرُ تَنَاوَلَهَا وَدَلَّ عليها مَعْنًى لَا لَفْظًا وَالثَّالِثُ ما كان من ضَرُورَاتِهِ كَأَخْذِ جُزْءٍ من اللَّيْلِ في صَوْمِ الْيَوْمِ وَأَخْذِ جُزْءٍ من الرَّأْسِ في غَسْلِ الْوَجْهِ فَالْأَمْرُ ما تَنَاوَلَهُ وَلَا دَلَّ عليه من جِهَةِ اللَّفْظِ وَلَا من جِهَةِ الْمَعْنَى وَإِنَّمَا ثَبَتَ لِأَنَّهُ من ضَرُورَاتِ الْمَأْمُورِ جِبِلَّةً وَخِلْقَةً وَالْفَرْقُ بين هذا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ ما كان من ضَرُورَاتِ الْمَأْمُورِ يُتَصَوَّرُ الْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِدُونِهِ وما كان من شَرَائِطِهِ وَأَسْبَابِهِ لَا يُتَصَوَّرُ إتْيَانُ الْمَأْمُورِ بِهِ إلَّا إذَا أُتِيَ بِهِ مِثَالُهُ أَنَّا لو قَدَّرْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ في الْوَاحِدِ مِنَّا إدْرَاكَ أَوَّلِ جُزْءٍ من النَّهَارِ حتى تُطْبَقَ النِّيَّةُ عليه صَحَّ صَوْمُهُ ولم يَجِبْ عليه إمْسَاكُ جُزْءٍ من اللَّيْلِ وَلِذَلِكَ لو قَدَرَ على غَسْلِ ما هو الْفَرْضُ لم يَجِبْ عليه غَسْلُ جُزْءٍ من الرَّأْسِ وَهَكَذَا في سَتْرِ الْعَوْرَةِ بِخِلَافِ الشَّرْطِ فإنه لَا يُتَصَوَّرُ صِحَّةُ الْأَمْرِ إلَّا بِهِ فَكَانَ الْأَمْرُ دَالًّا عليه مَعْنًى ولم يَكُنْ دَالًّا على الْأَوَّلِ لَا من جِهَةِ اللَّفْظِ وَلَا من جِهَةِ الْمَعْنَى تَنْبِيهَاتٌ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ قد تُطْلَبُ فَائِدَةُ هذا الْخِلَافِ فإن الصُّورَةَ مَفْرُوضَةٌ حَيْثُ دَلَّ الدَّلِيلُ من خَارِجٍ على أَنَّهُ شَرْطٌ وَحِينَئِذٍ فما فَائِدَةُ الْخِلَافِ في أَنَّهُ يَشْمَلُهُ الْأَمْرُ بِالْمَشْرُوطِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فَائِدَتُهُ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ الشَّرْطُ تَرَتَّبَ الْفِعْلُ الْوَاجِبُ عليه
____________________
(1/183)
هل نَقُولُ إنَّهُ يُثَابُ على الْوَاجِبِ وَعَلَى تَحْصِيلِ السَّبَبِ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً لِلْقُرْبَةِ وَهَلْ يُثَابُ عليه ثَوَابَ الْوَاجِبِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَوَقَّفَ عليه الْوُجُوبُ فَقَدْ تَوَقَّفَ عليه فِعْلُ الْوَاجِبِ فيه نَظَرٌ وَاحْتِمَالٌ وقال الْقَرَافِيُّ لَا نِزَاعَ في أَنَّ الْمَقَاصِدَ تَتَوَقَّفُ على الْوَسَائِلِ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ إذَا تُرِكَتْ الْوَسِيلَةُ مع الْمَقَاصِدِ هل يُعَاقَبُ عِقَابَيْنِ على الْوَسِيلَةِ وَالْمَقْصِدِ وإذا فَعَلَهُمَا هل يُثَابُ ثَوَابَيْنِ عَلَيْهِمَا وَتَعَدُّدُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَا دَلِيلَ عليه وَإِنَّمَا دَلَّ الدَّلِيلُ على التَّوَقُّفِ وهو مُسَلَّمٌ إجْمَاعًا فَمِنْ أَيْنَ لنا أَنَّ اللَّهَ يُعَاقِبُ تَارِكَ الْجُمُعَةِ وَتَارِكَ الْحَجِّ على تَرْكِ الْعِبَادَةِ وَعَلَى تَرْكِ السَّعْيِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ آمِرًا بِهِمَا مع السُّكُوتِ عن السَّعْيِ وَلَك أَنْ تَقُولَ تَخْرِيجُ الْعِقَابِ على ذلك وَاضِحٌ وَأَمَّا تَخْرِيجُ الثَّوَابِ فَفِيهِ نَظَرٌ لِجَوَازِ أَنْ يُثَابَ عليه وَإِنْ لم يَكُنْ وَاجِبًا كما تَقَدَّمَ ثُمَّ حَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لها إلَّا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ في الْآخِرَةِ وَيَبْقَى نَظِيرُ فَائِدَةِ الْخِلَافِ في خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ وَأَقُولُ له فَوَائِدُ في الدُّنْيَا منها أُجْرَةُ الْكَيَّالِ على بَائِعِ الْمَكِيلِ وَأُجْرَةُ الْوَزَّانِ على الْمُشْتَرِي لِلثَّمَنِ وإذا الْتَزَمَ نَقْلَ مَتَاعِهِ إلَى مَكَان فَعَلَيْهِ الظُّرُوفُ وإذا نَسِيَ صَلَاةً من الْخَمْسِ صَلَّاهَا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ وإذا خَفِيَ عليه مَوْضِعُ النَّجَاسَةِ من الثَّوْبِ غَسَلَهُ كُلَّهُ وَغَيْرَ ذلك من الْفُرُوعِ الْمُنْتَشِرَةِ التي تَرَتَّبَ فيها الْوَاجِبُ على غَيْرِهِ والتنبيه الثَّانِي وُجُوبُ الشَّرْطِ سَمْعِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ إنَّ هذا الْوُجُوبَ سَمْعِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ فإن إيجَابَ الصَّلَاةِ ثَابِتٌ بِخِطَابٍ سَمْعِيٍّ وَذَلِكَ الْإِيجَابُ مع الْخِطَابِ الدَّالِّ على كَوْنِ الْوُضُوءِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ يَسْتَلْزِمُ إيجَابَ الْوُضُوءِ وَلَا نَعْنِي بِالسَّمْعِ إلَّا هذا وَنَازَعَ صَاحِبُ التَّنْقِيحَاتِ في ذلك من جِهَةِ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ منه الْمُعَاقَبَةُ على التَّرْكِ الذي هو خَاصِّيَّةُ الْوُجُوبِ وهو ضَعِيفٌ لِمَا فيها من الِاسْتِلْزَامِ وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْوَسِيلَةَ في الْوَاجِبِ وُجُوبُهَا عَقْلِيٌّ لَا شَرْعِيٌّ وَكَذَلِكَ وَسِيلَةُ تَرْكِ الْحَرَامِ
____________________
(1/184)
التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ أَنَّ هذا الْخِلَافَ هل هو في الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ أَمْ في اللِّسَانِيِّ يُحْتَمَلُ الْأَوَّلُ على مَعْنَى أَنَّهُ يَقُومُ بِالذَّاتِ مَعْنَى إيجَابِ الصَّلَاةِ وَمَعْنَى اشْتِرَاطِ الْوُضُوءِ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ يَسْتَلْزِمَانِ مَعْنًى ثَالِثًا وهو إيجَابُ الْوُضُوءِ وَيُحْتَمَلُ الثَّانِي على أَنَّ مَجْمُوعَ الْخِطَابَيْنِ يَدُلُّ على إيجَابِ الصَّلَاةِ الْتِزَامًا وَلَا يُتَصَوَّرُ دَلَالَتُهُمَا عليه مُطَابِقَةً لِعَدَمِ الْوَضْعِ التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ ما الْفَرْقُ بين هذه الْمَسْأَلَةِ وَمَسْأَلَةِ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن ضِدِّهِ فإن اخْتِيَارَ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ وَاجِبَةٌ وَأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ ليس نَهْيًا عن ضِدِّهِ التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ هذا كُلُّهُ فِيمَا هو مُقَدَّمَةٌ وَوَسِيلَةٌ بِأَنْ يَتَوَقَّفَ عليه وُجُودُ الْوَاجِبِ إمَّا شَرْعًا كَالْوُضُوءِ مع الصَّلَاةِ أو عَقْلًا كَالسَّيْرِ إلَى الْحَجِّ وَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ لَازِمًا لِفِعْلِ الْوَاجِبِ بِأَنْ يَتَوَقَّفَ عليه الْعِلْمُ بِوُجُودِ الْوَاجِبِ لَا نَفْسُ وُجُودِ الْوَاجِبِ وَذَلِكَ إمَّا لِالْتِبَاسِ الْوَاجِبِ بِغَيْرِهِ كَالْإِتْيَانِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ إذَا تَرَكَ وَاحِدَةً وَنَسِيَ عَيْنَهَا فإن الْعِلْمَ بِأَنَّهُ أتى بِالصَّلَاةِ الْمَنْسِيَّةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْإِتْيَانِ بِالْخَمْسِ وَإِمَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِالْوَاجِبِ إلَّا إذَا أتى بِغَيْرِهِ لِتَقَارُبِ ما بَيْنَهُمَا بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ حَدٌّ بِفَرْقٍ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ كَسَتْرِ شَيْءٍ من الرُّكْبَةِ لِسَتْرِ الْفَخِذِ وَغَيْرِهِ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ حَدٌّ بِفَرْقٍ فَالْعِلْمُ بِسَتْرِ جَمِيعِ الْفَخِذِ الذي هو وَاجِبٌ إنَّمَا يَحْصُلُ بِشَيْءٍ من الرُّكْبَةِ لِلتَّقَارُبِ الْمَذْكُورِ التَّنْبِيهُ السَّادِسُ إنَّمَا تَجِبُ الْمُقَدِّمَةُ حَيْثُ لم يُعَارِضْهَا أَقْوَى منها مِثَالُهُ يَجِبُ على الْمَرْأَةِ كَشْفُ الْوَجْهِ في الْإِحْرَامِ وَجَوَّزُوا لها أَنْ تَسْتُرَ الْقَدْرَ الْيَسِيرَ منه الذي يَلِي الرَّأْسَ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُ الرَّأْسِ بِالسِّتْرِ إلَّا بِسَتْرِهِ وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ السِّتْرَ أَحْوَطُ من الْكَشْفِ
____________________
(1/185)
التَّنْبِيهُ السَّابِعُ ما ذَكَرْنَاهُ في الْمَأْمُورِ من أَنَّهُ إذَا كان لَا يَتَأَتَّى أَدَاءُ الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ يَجْرِي مِثْلُهُ في النَّهْيِ وهو ما إذَا لم يُمْكِنْ الْكَفُّ عن الْمَحْظُورِ إلَّا بِالْكَفِّ عَمَّا ليس بِمَحْظُورٍ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في مَبَاحِثِ الْمَحْظُورِ مَسْأَلَةٌ الْأَمْرُ بِالصِّفَةِ لَا يَدُلُّ على كَوْنِ الْمَوْصُوفِ وَاجِبًا وَلَا نَدْبًا الْأَمْرُ بِالصِّفَةِ إذَا كان على جِهَةِ النَّدْبِ لَا يَدُلُّ على كَوْنِ الْمَوْصُوفِ وَاجِبًا وَلَا نَدْبًا بَلْ يَتَوَقَّفُ على الدَّلِيلِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ مَنْدُوبَةً وَالْمَوْصُوفُ وَاجِبًا كَالْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ في الصَّلَاةِ وَتَكُونُ الصِّفَةُ كَالْمَوْصُوفِ مَنْدُوبًا كَرَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ وَإِنْ كان على جِهَةِ الْوُجُوبِ كَالْأَمْرِ بِالطُّمَأْنِينَةِ في الرُّكُوعِ يَدُلُّ على وُجُوبِ الْمَوْصُوفِ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِتْيَانُ إلَّا بِهِ قَالَهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ مَسْأَلَةٌ حَقَائِقُ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ مُتَبَايِنَةٌ حَقَائِقُ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ من حَيْثُ تَمَامُهَا مُتَبَايِنَةٌ فَلَا يَجْتَمِعُ شَيْءٌ منها مع الْآخَرِ وهو وَاضِحٌ من حُدُودِهَا وقال من لم يَتَحَقَّقْ تَبَايُنَ الْحَقَائِقِ إنَّ إيجَابَ الشَّيْءِ يَقْتَضِي جَوَازَهُ وَنَقَلَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ عن الْفُقَهَاءِ وَمُعْظَمِ الْأُصُولِيِّينَ قال وَأَنْكَرَ الْقَاضِي إطْلَاقَ هذا وقال لَا مَعْنَى لِلْجَوَازِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْوُجُوبِ إذْ لَا يَحْسُنُ تَسْمِيَةُ الْوُجُوبِ جَوَازًا وَتَسْمِيَةُ الْوَاجِبِ جَائِزًا وَالْأَحْكَامِ مَضْبُوطَةً ثُمَّ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَلَا يَتَحَقَّقُ خِلَافٌ في هذه الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يقول حَقِيقَةُ الْجَائِزِ أو الْمُبَاحِ حَقِيقَةُ الْوَاجِبِ وَغَرَضُ الْخَصْمِ أَنَّ ما يُلَامُ على تَرْكِهِ وَيَقْتَضِي اللُّزُومَ أَنْ يَكُونَ فيه تَحْرِيضٌ على فِعْلِهِ وَمِنْ ضَرُورَةِ ما يُحَرِّضُ على فِعْلِهِ أَنْ يَجُوزَ لَك الْإِقْدَامُ عليه وَهَذَا مِمَّا لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ غير أَنَّ غَرَضَ الْمُوجِبِ الْإِلْزَامُ وَالْبَاقِي يَقَعُ ضِمْنًا وَلَكِنْ على هذا يَنْبَغِي لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ يَدُلُّ على النَّدْبِ وَالْجَوَازِ وَالْمَحْكِيُّ قَصْرُ الْخِلَافِ على الْجَوَازِ
____________________
(1/186)
إذَا عَرَفْت هذا فَلَوْ ثَبَتَ الْوُجُوبُ في شَيْءٍ ثُمَّ نُسِخَ الْوُجُوبُ فَهَلْ يَبْقَى الْجَوَازُ أَمْ لَا فيه مَذَاهِبُ أَحَدُهَا أَنَّهُ يَبْقَى الْجَوَازُ وَاخْتَارَهُ الْبَاجِيُّ من الْمَالِكِيَّةِ وَصَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَتَابَعَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ لِلْأَكْثَرِينَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَالثَّانِي أَنَّهُ يَرْجِعُ الْأَمْرُ إلَى الْحَظْرِ حَكَاهُ الْعَبْدَرِيُّ وهو غَرِيبٌ الثَّالِثُ يَبْقَى النَّدْبُ حَكَاهُ الطُّرْطُوشِيُّ في الْمُعْتَمَدِ قال وَعَلَيْهِ يَدُلُّ مَذْهَبُ مَالِكٍ فإن صِيَامَ عَاشُورَاءَ لَمَّا نُسِخَ بَقِيَ صِيَامُهُ مُسْتَحَبًّا وَلَمَّا نُسِخَ فَرْضُ قِيَامِ اللَّيْلِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بَقِيَ مُسْتَحَبًّا وَكَذَلِكَ الضِّيَافَةُ كانت وَاجِبَةً في أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ كُلُّ حَقٍّ كان في الْمَالِ بِالزَّكَاةِ وَبَقِيَ ذلك كُلُّهُ مُسْتَحَبًّا فَيَجُوزُ على هذا الْأَصْلِ أَنْ يُحْتَجَّ بِالْآثَارِ الْمَنْسُوخَةِ على الِاسْتِحْبَابِ وَعَلَى الْجَوَازِ قال هَكَذَا حَكَى محمد بن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ عن الْمَذْهَبِ قال الطُّرْطُوشِيُّ وَصَارَ إلَيْهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ الْغَزَالِيِّ في الْمُسْتَصْفَى وَابْنِ الْقُشَيْرِيّ في أُصُولِهِ أَنَّهُ لم يَصِرْ إلَى النَّدْبِ أَحَدٌ الرَّابِعُ أَنَّهُ إذَا نُسِخَ لم يَبْقَ منه شَيْءٌ ولم يَثْبُتْ نَدْبٌ وَلَا إبَاحَةٌ إلَّا بِدَلِيلٍ حَكَاهُ الطُّرْطُوشِيُّ قال وَمَنَعُوا أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ على الْجَوَازِ فَضْلًا عن النَّدْبِ وَالْخَامِسُ لَا تَبْقَى الْإِبَاحَةُ التي تَثْبُتُ في ضِمْنِ الْوُجُوبِ بَلْ يَرْجِعُ الْأَمْرُ إلَى ما كان قَبْلَهُ من تَحْرِيمٍ أو إبَاحَةٍ وَصَارَ الْوُجُوبُ بِالنَّسْخِ كَأَنْ لم يَكُنْ وهو قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالْغَزَالِيُّ وابن السَّمْعَانِيِّ وابن بَرْهَانٍ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ قال إلَّا أَنْ يَأْتِيَ ما يَدُلُّ على الْإِبَاحَةِ وَاخْتَارَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ أَيْضًا قال وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ إذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ يَبْقَى الْجَوَازُ لَسَاغَ أَنْ يُقَالَ يَبْقَى النَّدْبُ لَا سِيَّمَا وَالِاقْتِضَاءُ كَائِنٌ في النَّدْبِ كما أَنَّهُ كَائِنٌ في الْوُجُوبِ وَاحْتَجَّ له الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّ الْأَمْرَ مَوْضُوعٌ لِلْوُجُوبِ وَالْجَوَازُ إنَّمَا دخل فيه بِطَرِيقِ التَّبَعِ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وَيَمْتَنِعُ فِعْلُهُ وإذا انْتَفَى اللَّفْظُ فَلَا يَبْقَى ما كان في ضِمْنِهِ وقال شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ إنَّهُ قَوْلُ الْعِرَاقِيِّينَ من مَشَايِخِهِمْ قال وَبَنَوْا
____________________
(1/187)
على هذا الْخِلَافِ قَوْلَهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم من حَلَفَ على يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا منها فَلْيُكَفِّرْ عن يَمِينِهِ ثُمَّ لْيَأْتِ الذي هو خَيْرٌ فإن صِيغَةَ الْأَمْرِ تُوجِبُ التَّكْفِيرَ سَابِقٌ على الْحِنْثِ وقد قام الْإِجْمَاعُ على عَدَمِ وُجُوبِهِ فَبَقِيَ الْجَوَازُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ولم يَبْقَ عِنْدَنَا ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِبَقَاءِ الْجَوَازِ اخْتَلَفُوا في الْمُرَادِ بِهِ هل هو عَدَمُ الْحَرَجِ عن الْفِعْلِ فَقَطْ أو رَفْعُهُ عن الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا عِنْدَ التَّحْقِيقِ يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ لِأَنَّ الْجَوَازَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْحَرَجِ وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ ما تَسَاوَى فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ فَهُوَ جُزْءُ مَاهِيَّةِ الْوُجُوبِ فإذا ارْتَفَعَ قَيْدُ الْمَنْعِ من التَّرْكِ بَقِيَ الْجَوَازُ قَطْعًا وَالثَّانِي ليس جُزْءَ مَاهِيَّةِ الْوُجُوبِ فَلَا يَلْزَمُ من ارْتِفَاعِ قَيْدِ الْمَنْعِ من التَّرْكِ بَقَاءُ التَّسَاوِي قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُفْرَضَ الْخِلَافُ في الصُّورَةِ الْأُولَى وهو أَنَّهُ إذَا قِيلَ أَوْجَبْت عَلَيْك الشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ ثُمَّ قال نَسَخْت الْوُجُوبَ هل يُبَاحُ له الْإِقْدَامُ على الْفِعْلِ أَمْ لَا وَكَلَامُ الْغَزَالِيِّ في الْمُسْتَصْفَى صَرِيحٌ في أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَوَازِ مَعْنَى التَّخْيِيرِ بين الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ شَرْعًا فإنه قال في الرَّدِّ عليهم حَقِيقَةُ الْجَوَازِ التَّخْيِيرُ بين الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَالتَّسَاوِي بَيْنَهُمَا بِتَسْوِيَةِ الشَّارِعِ وقال ابن التِّلِمْسَانِيِّ أَكْثَرُهُمْ يَجْعَلُ الْخِلَافَ لَفْظِيًّا لِأَنَّهُمَا لم يَتَوَارَدَا على مَحَلٍّ وَاحِدٍ فإن الْغَزَالِيَّ عَنَى بِالْجَوَازِ الذي لَا يَبْقَى بَعْدَ رَفْعِ الْوُجُوبِ التَّخْيِيرَ وَلَا شَكَّ في أَنَّهُ ليس جُزْءًا لِلْوَاجِبِ بَلْ هو قَسِيمُهُ وَمُقَابِلُهُ وَمَنْ قال يَبْقَى لم يَعْنِ بِالْجَوَازِ الْجُزْءَ بَلْ عَنَى بِهِ رَفْعَ الْحَرَجِ وَلَا شَكَّ في أَنَّهُ جُزْءٌ من الْوَاجِبِ قال الْأَصْفَهَانِيُّ فيه نَظَرٌ لِأَنَّ الرَّازِيَّ يقول يَبْقَى الْجَوَازُ بِمَعْنَى التَّخْيِيرِ بين الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ قال وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخِلَافَ مَعْنَوِيٌّ وَأَنَّ ما قَالَهُ ابن التِّلِمْسَانِيُّ ليس بِحَقٍّ وقال الْقَرَافِيِّ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْخِلَافَ في الْجَوَازِ بِمَعْنَى مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ وهو بَعِيدٌ قال وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَرِدَ الْأَمْرُ ثُمَّ يقول الْآمِرُ رَفَعْت الْوُجُوبَ فَقَطْ أَمَّا إنْ نُسِخَ الْأَمْرُ بِالتَّحْرِيمِ ثَبَتَ التَّحْرِيمُ قَطْعًا أو قال رَفَعْت جُمْلَةَ ما دَلَّ الْأَمْرُ السَّابِقُ من جَوَازٍ وَغَيْرِهِ فَلَا يُسْتَدَلُّ بِهِ على الْجَوَازِ قَطْعًا قُلْت الْغَزَالِيُّ مُنَازِعٌ في أَصْلِ بَقَاءِ الْجَوَازِ لِقَوْلِهِ إنَّ الْحَالَ يَعُودُ إلَى ما قَبْلُ
____________________
(1/188)
من تَحْرِيمٍ أو إبَاحَةٍ وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا كان الْحَالُ قبل الْوُجُوبِ تَحْرِيمًا فَعِنْدَ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ يَكُونُ الْفِعْلُ الْآنَ مُحَرَّمًا كما كان أو لَا وَعِنْدَ الْأَوَّلَيْنِ أَنَّ مُطْلَقَ الْجَوَازِ الذي كان دَاخِلًا في ضِمْنِ الْوُجُوبِ بَاقٍ يُصَادِمُ ما دَلَّ على التَّحْرِيمِ فَالْخِلَافُ مَمْنُوعٌ قَطْعًا وَلِلْمَسْأَلَةِ الْتِفَاتٌ إلَى بَحْثٍ عَقْلِيٍّ وهو أَنَّ الْفَصْلَ عِلَّةٌ لِوُجُودِ حِصَّةِ النَّوْعِ من الْجِنْسِ وَيَلْزَمُ من عَدَمِ الْفَصْلِ عَدَمُ حِصَّةِ النَّوْعِ من الْجِنْسِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُ من عَدَمِ الْعِلَّةِ عَدَمُ الْمَعْلُولِ وابن سِينَا هو الْقَائِلُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَالرَّازِيَّ يُخَالِفُهُ فيها وَيَقُولُ ذلك غَيْرُ لَازِمٍ وَإِلَى بَحْثٍ أُصُولِيٍّ وهو أَنَّ الْمُبَاحَ هل هو جِنْسٌ لِلْوَاجِبِ وَالْجَائِزُ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ أَمْ لَا وَالْمُرَادُ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ ما لِفَاعِلِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ مع جَوَازِ تَرْكِهِ وَبِالْأَهَمِّ ما لِفَاعِلِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ فَيَدْخُلُ فيه الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ وَلِهَذَا قَدَّمْت ذِكْرَ هذه الْمَسْأَلَةِ عليها وَعَبَّرَ عنها شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ في كِتَابِهِ بِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ هل يَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ الْأَدَاءِ أَمْ لَا وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ حتى يَقُومَ دَلِيلٌ عليه فإن من أَفْسَدَ حَجَّهُ مَأْمُورٌ بِالْأَدَاءِ شَرْعًا وَلَا يَكُونُ الْمُؤَدَّى جَائِزًا وَعَبَّرَ عنه الْإِمَامُ محمد بن يحيى تِلْمِيذُ الْغَزَالِيِّ في كِتَابِهِ الْمُحِيطِ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى فقال هل الْفَرْضُ دَاخِلٌ في جِنْسِ النَّفْلِ على مَعْنَى أَنَّهُ نَفْلٌ وَزِيَادَةٌ أو هُمَا نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ خِلَافٌ وَفَرَّعَ عليه ما إذَا قام عن السُّجُودِ نَاسِيًا وَقَصَدَ الِاسْتِرَاحَةَ فَإِنْ قُلْنَا النَّفَلُ دَاخِلٌ في حَقِيقَةِ الْفَرْضِ فلم تَكُنْ الِاسْتِرَاحَةُ فيه مُنَاقِضَةً لِنِيَّةِ الْفَرْضِ الْبَاقِيَةِ كُلِّهَا بَلْ تَعَرَّضَتْ لِبَعْضِهَا فَصَحَّتْ الْجِلْسَةُ عن الْفَرْضِ بِالنِّسْبَةِ الْحُكْمِيَّةِ وَإِنْ جَعَلْنَا النَّفَلَ غير الْفَرْضِ فلم يُجْزِ عن الْفَرْضِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ انْتَهَى وَيَتَخَرَّجُ عليه الْمَسَائِلُ الْمَعْدُودَةُ في إقَامَةِ النَّفْلِ مَقَامَ الْفَرْضِ كَاللُّمْعَةِ وَغَيْرِهَا تَنْبِيهٌ إذَا سَقَطَ الْأَمْرُ بِالنَّسْخِ وَقُلْنَا إنَّهُ سَقَطَ الْجَوَازُ فَإِلَى مَاذَا يَرْجِعُ حُكْمُهُ قِيلَ إلَى ما قبل الْوُجُوبِ من تَحْرِيمٍ أو إبَاحَةٍ فَإِنْ لم يَكُنْ له أَصْلٌ فِيهِمَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ يَرْجِعُ إلَى حُكْمِ الْأَشْيَاءِ قبل وُرُودِ الشَّرْعِ هل هِيَ على الْوَقْفِ أو الْحَظْرِ أو الْإِبَاحَةِ قال
____________________
(1/189)
أَصْحَابُنَا وَذِكْرُ هذه الْمَسْأَلَةِ هُنَا أَوْلَى من ذِكْرِهَا في النَّسْخِ لِأَنَّهُ نَظَرٌ في حَقِيقَةِ الْجَوَازِ لَا في حَقِيقَةِ النَّسْخِ قَاعِدَةٌ تَجْمَعُ مَسَائِلَ جَائِزُ التَّرْكِ مُطْلَقًا ليس بِوَاجِبٍ وَتَجَوَّزْنَا بِمُطْلَقًا عن فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَالْمُوَسَّعِ وَالْمُخَيَّرِ وَيَتَفَرَّعُ عليه مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الزِّيَادَةُ على أَقَلِّ ما يَنْطَلِقُ عليه الِاسْمُ لَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ أَنَّ الزِّيَادَةَ على أَقَلِّ ما يَنْطَلِقُ عليه الِاسْمُ فِيمَا لَا يَتَقَدَّرُ بِمُعَيَّنٍ كَمَسْحِ الرَّأْسِ وَتَطْوِيلِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَأُلْحِقَ بها إمْسَاكُ بَعْضِ اللَّيْلِ احْتِيَاطًا لِلصَّوْمِ إذَا لم نُوجِبْهُ كما حَكَاهُ الْعَبَّادِيُّ عن أبي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُهُ وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ عن مُعْظَمِ الْعُلَمَاءِ وَنَصَرَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في التَّبْصِرَةِ وَالْغَزَالِيُّ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَالْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ وَغَيْرُهُمْ وقال ابن الرِّفْعَةِ في الْمَطْلَبِ في مَسْحِ الرَّأْسِ إنَّهُ الْأَصَحُّ وَقِيلَ الْكُلُّ وَاجِبٌ إذْ ليس بَعْضٌ أَوْلَى فَكَانَ الْكُلُّ وَاجِبًا وهو ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ في الْأُمِّ كما نَقَلَهُ في الْبَحْرِ عنه في بَابِ الْكِتَابَةِ فِيمَا إذَا أَوْصَى بِوَضْعِ بَعْضِ النُّجُومِ وَيُحْكَى عن الْكَرْخِيِّ وَنَسَبَهُ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ إلَى الْجُمْهُورِ منهم وقال حتى قالوا إنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُطْلَبُ من الصَّبِيِّ حَتْمًا وَلَوْ أتى بِهِ وَقَعَ وَاجِبًا وَعَلَى هذا فَوَصْفُهُ بِالِاسْتِحْبَابِ قبل الْإِيقَاعِ أَمَّا بَعْدَ وُقُوعِهِ فَيَقَعُ فَرْضًا وَقِيلَ عليه إنَّ حُكْمَ مَسْحِ الْبَعْضِ الْمُجْزِئِ حُكْمُ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ فَأَيُّ خَصْلَةٍ فَعَلَهَا حُكِمَ بِأَنَّهَا الْوَاجِبُ قال ابن الرِّفْعَةِ في الْمَطْلَبِ وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ أَحَدًا قال فِيمَا إذَا صلى مُنْفَرِدًا ثُمَّ صلى تِلْكَ الصَّلَاةَ فَرْضًا في جَمَاعَةٍ وَقُلْنَا الثَّانِيَةُ هِيَ الْفَرْضُ إنَّهُ وَجَبَ عليه أَحَدُ الظُّهْرَيْنِ على التَّخْيِيرِ كما في خِصَالِ الْكَفَّارَةِ وفي الْمَسْأَلَةِ وَجْهٌ ثَالِثٌ وهو التَّفْصِيلُ فَإِنْ كان لو اقْتَصَرَ على الْبَعْضِ أَجْزَأَهُ فَالزَّائِدُ ليس بِوَاجِبٍ كَمَسْحِ الرَّأْسِ وَسُبُعُ الْبَدَنَةِ لِلْمُتَمَتِّعِ وَإِلَّا فَالْكُلُّ فَرْضٌ كما لو أَخْرَجَ بَعِيرًا عن الشَّاةِ في الْخُمُسِ لِأَنَّهُ لو اقْتَصَرَ على خُمُسِ بَعِيرٍ فَقَطْ لم يُجْزِئْهُ قَطْعًا وَادَّعَى النَّوَوِيُّ في مَوْضِعٍ من شَرْحِ
____________________
(1/190)
الْمُهَذَّبِ اتِّفَاقَ أَصْحَابِنَا على تَصْحِيحِهِ قال ابن بَرْهَانٍ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَنَا ما تَتَنَاوَلُهُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ وَعِنْدُهُمْ تَتَنَاوَلُهَا قُلْت وَعَقَدَ سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ مَسْأَلَةَ الْأَمْرِ بِفِعْلِ الشَّيْءِ يَقْتَضِي وُجُوبَ أَدْنَى ما يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ ذلك الْفِعْلِ قال وَمِنْ الناس من قال يَقْتَضِي وُجُوبَ الْأَكْثَرِ وَزَيَّفَهُ ثُمَّ قال مَسْأَلَةٌ وَمَنْ أَمَرَ بِشَيْءٍ فَلَزِمَهُ أَدْنَى ما يَقَعُ عليه اسْمُ ذلك الْفِعْلِ فَزَادَ عليه فَالزِّيَادَةُ تَطَوُّعٌ وَعَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْجَمِيعَ وَاجِبٌ ا هـ فَجَعَلَ الْخِلَافَ في هذه مُفَرَّعًا على الْقَوْلِ بِوُجُوبِ أَدْنَى الِاسْمِ تَنْبِيهَاتٌ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ قال الْغَزَالِيُّ الْخِلَافُ يُتَّجَهُ فِيمَا وَقَعَ مُتَعَاقِبًا كَالطُّمَأْنِينَةِ وَالْقِيَامِ وَأَمَّا ما وَقَعَ بِجُمْلَتِهِ مَعًا وَلَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهُ عن بَعْضٍ بِالْإِشَارَةِ وَالتَّعْبِيرِ فَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ قَدْرُ الْأَصْلِ منه وَاجِبٌ وَالْبَاقِي نَدْبٌ قُلْت وقد حَكَوْا طَرِيقَيْنِ في مَسْحِ الرَّأْسِ هل مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا وَقَعَ الْجَمِيعُ دَفْعَةً وَاحِدَةً حتى إذَا وَقَعَ مُرَتَّبًا يَكُونُ نَفْلًا جَزْمًا أَمْ الْخِلَافُ في الصُّورَتَيْنِ وَالصَّحِيحُ الثَّانِي كَذَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ الْمُهَذَّبِ لَكِنْ الْأَقْوَى الْأَوَّلُ وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ التَّنْبِيهُ الثَّانِي زَعَمَ السُّهْرَوَرْدِيّ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ يَرْجِعُ إلَى تَفْسِيرِ الْوُجُوبِ بِمَاذَا وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَعْنَوِيٌّ وَلِلْخِلَافِ فَوَائِدُ منها زِيَادَةُ الثَّوَابِ فإن ثَوَابَ الْوَاجِبِ أَعْظَمُ من ثَوَابِ النَّفْلِ وَمِنْهَا إذَا مَسَحَ على شَعْرٍ ثُمَّ حَلَقَ بَعْضَهُ فإن من يَرَى أَنَّهُ إذَا حُلِقَ كُلُّهُ تَجِبُ الْإِعَادَةُ قد يقول إذَا قُلْنَا الْكُلُّ وَاجِبٌ لَزِمَهُ إعَادَةُ الْمَسْحِ في الْمَوْضِعِ الذي حَلَقَهُ وَلَا سِيَّمَا على قَوْلِ من زَعَمَ أَنَّ ذلك كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ فإنه بِفِعْلِهَا يَكُونُ مُعَيِّنًا لِوُجُوبِهَا كما قَالَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ إذَا فُعِلَ في أَوَّلِ وَقْتِهِ ثُمَّ فَسَدَ أو أُفْسِدَ ثُمَّ أتى بِهِ في بَقِيَّةِ الْوَقْتِ يَكُونُ قَضَاءً لِأَنَّهُ بِالشُّرُوعِ فيه تَعَيَّنَ قَالَهُ في الْمَطْلَبِ
____________________
(1/191)
التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ قال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْإِفَادَةِ الْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ في زَائِدٍ يُمْكِنُ انْفِكَاكُ الْوَاجِبِ منه أَمَّا ما لَا يُمْكِنُ فإنه وَاجِبٌ تَبَعًا غير مَقْصُودٍ يَعْنِي بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَتَنَاوَلُ ما هذه صِفَتُهُ مع كَوْنِهِ ضِدَّ الْمُوجِبِ الْآخَرِ كَإِمْسَاكِ جُزْءٍ من اللَّيْلِ قبل الْفَجْرِ وَبَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَلَأَنْ يَكُونَ وَاجِبًا مع جِنْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَوْلَى وَحَاصِلُهُ تَخْصِيصُ الْخِلَافِ بِمَا إذَا أَمْكَنَ الِاقْتِصَارُ على الْأَصْلِ فَإِنْ لم يُمْكِنْ إلَّا بِفِعْلِ الْكُلِّ فَالْكُلُّ وَاجِبٌ قَطْعًا لِأَنَّ ما لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَهَذَا كما في جَزَاءِ الصَّيْدِ يَصُومُ عن كل مُدٍّ يَوْمًا وإذا انْكَسَرَ مُدٌّ صَامَ يَوْمًا كَامِلًا لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَبَعَّضُ وَيَقَعُ فَرْضًا قَطْعًا وَكَذَلِكَ قال الْإِمَامُ في النِّهَايَةِ فِيمَا لو نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ فَاعْتَكَفَ أَقْصَرَ الْأَيَّامِ أَجْزَأَهُ أو أَطْوَلَ الْأَيَّامِ وَقَعَ الْجَمِيعُ فَرْضًا أَيْ من غَيْرِ تَخْرِيجٍ على الْخِلَافِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الصَّوْمُ وَاجِبٌ على أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ قال كَثِيرٌ من الْفُقَهَاءِ الصَّوْمُ وَاجِبٌ على الْمَرِيضِ وَالْحَائِضِ وَالْمُسَافِرِ مع أَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُهُ لهم لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا وَنَقَلَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ فقال ذَكَرَ أَصْحَابُنَا في أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ الَّذِينَ لَا يَتَحَتَّمُ عليهم الصَّوْمُ في الْحَالِ كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ أو من لَا يَجُوزُ له الصَّوْمُ في الْحَالِ كَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ أَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ عليهم وَيَأْتُونَ بِهِ عِنْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ وهو قَضَاءٌ وقال أَصْحَابُ أبي حَنِيفَةَ لَا يَجِبُ على الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمَرِيضِ بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ قال وَالْقَوْلُ بِإِيجَابِهِ على الْحَائِضِ مُشْكِلٌ جِدًّا ثُمَّ وَجَّهَهُ وقال في الْمُسْتَصْفَى في الْمُسَافِرِ مَذْهَبَانِ ضَعِيفَانِ أَحَدُهُمَا مَذْهَبُ الظَّاهِرِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ في سَفَرٍ وَالثَّانِي مَذْهَبُ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْوَاجِبَ أَيَّامٌ أُخَرٌ وَلَكِنْ لو صَامَ رَمَضَانَ صَحَّ وكان مُعَجِّلًا لِلْوَاجِبِ كَتَقْدِيمِ الزَّكَاةِ على الْحَوْلِ وهو فَاسِدٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْآيَةَ لَا تُفْهِمُ إلَّا الرُّخْصَةَ في التَّأْخِيرِ
____________________
(1/192)
وَنَقَلَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ عن بَعْضِ الْأَشْعَرِيَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ على الْمُسَافِرِ صَوْمُ أَحَدِ الشَّهْرَيْنِ إمَّا شَهْرُ الْأَمْرِ أو شَهْرُ الْقَضَاءِ وَأَيٌّ ما صَامَ كان أَصْلًا كَالْأَنْوَاعِ في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَنَقَلَهُ سُلَيْمٌ عن الْأَشْعَرِيَّةِ قال وَقَالُوا في الْمَرِيضِ وَالْحَائِضِ كَقَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ مع الْعُذْرِ وقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ اخْتَلَفُوا في الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَالْحَائِضِ الَّذِينَ لَا يَلْزَمُهُمْ فِعْلُ الصَّوْمِ في الْحَالِ لِأَجْلِ عُذْرِهِمْ هل يَجِبُ عليهم الصَّوْمُ في الْحَالِ أو بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ وَاجِبٌ عليهم في الْحَالِ إلَّا أَنَّهُمْ يَجُوزُ لهم تَأْخِيرُهُ إلَى أَنْ يَزُولَ الْعُذْرُ وقال أَهْلُ الْعِرَاقِ الصَّوْمُ وَاجِبٌ على الْمُسَافِرِ في الْحَالِ دُونَ الْمَرِيضِ قالوا وَأَمَّا الْحَائِضُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الصَّوْمُ وَاجِبٌ عليها وَالْقَوْلُ بِذَلِكَ بِدْعَةٌ وقال ابن جَمَاعَةَ الْمَقْدِسِيُّ في الْفُرُوقِ وَإِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ إنَّ الْمُسَافِرَ يُخَيَّرُ بين الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ فَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ الْوَاجِبَ غَيْرُ كَوْنِهِ وَاجِبًا فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّخْيِيرُ بين وَاجِبٍ وَمُبَاحٍ بَلْ الْعِبَارَةُ الصَّحِيحَةُ أَنْ يَتَخَيَّرَ بين فِعْلِ الصَّوْمِ وَبَيْنَ فِعْلِ الْعَزْمِ على قَضَائِهِ فَيَكُونُ الْعَزْمُ بَدَلًا عن الصَّوْمِ من الْوَقْتِ وَحَاصِلُهُ الْوُجُوبُ في حَقِّ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ وَأَمَّا الْحَائِضُ فَفِي وُجُوبِهِ عليها وَجْهَانِ صَحَّحَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ الْوُجُوبَ وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ عن كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ مِنَّا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَنَقَلَ عن الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَّا وَمِنْ الْمُعْتَزِلَةِ أنها لَا تُخَاطَبُ بِهِ وهو الذي نَصَرَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وقال النَّوَوِيُّ في الرَّوْضَةِ إنَّهُ الْأَصَحُّ إذْ الْقَضَاءُ لَا يَجِبُ إلَّا بِأَمْرٍ جَدِيدٍ قُلْت وهو الذي نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ فقال وقد ذُكِرَ أَنَّ التَّكْلِيفَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَالِغِينَ قال الشَّافِعِيُّ وَهَكَذَا التَّنْزِيلُ في الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ على الْبَالِغِينَ الْعَالِمِينَ دُونَ من لم يَبْلُغْ وَمَنْ بَلَغَ مِمَّنْ غُلِبَ على عَقْلِهِ من ذَوِي الْحَيْضِ في أَيَّامِ حَيْضِهِنَّ هذا لَفْظُهُ وقال الْآمِدِيُّ وَالْحَقُّ في ذلك إنْ أُرِيدَ بِكَوْنِهَا مُكَلَّفَةً بِتَقْدِيرِ زَوَالِ الْمَانِعِ فَحَقٌّ وَإِنْ أُرِيدَ أنها تُؤْمَرُ بِالْإِتْيَانِ بِالصَّوْمِ حَالَةَ الْحَيْضِ فَبَاطِلٌ وهو يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ أَيْضًا وَقِيلَ بَلْ يَظْهَرُ في النِّيَّةِ إذَا قُلْنَا يَجِبُ التَّعَرُّضُ لِلْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ وَحَكَى إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وُجُوبَهُ عليها بِمَعْنَى تَرَتُّبِهِ في ذِمَّتِهَا لَا وُجُوبِ أَدَائِهِ وَلِهَذَا يُسَمَّى ما تُؤَدِّيهِ بَعْدَ الْحَيْضِ قَضَاءً وَرَأَيْت من يَحْكِي ذلك عن نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَحِينَئِذٍ
____________________
(1/193)
فَيَصِيرُ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا لِأَنَّ الْقَائِلَ بِالْوُجُوبِ لَا يَعْنِي غير ذلك فَبَقِيَ الْخِلَافُ في أَنَّهُ هل يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ قبل الطُّهْرِ أَمْ لَا وَنَظِيرُ هذا أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ هل يُوصَفُ قبل الْحُلُولِ بِالْوُجُوبِ فيه وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ عن الْقَفَّالِ في بَابِ الدَّعَاوَى وَفَرَّعَ عَلَيْهِمَا ما لو ادَّعَى عليه دَيْنًا مُؤَجَّلًا قبل الْمَحِلِّ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ في الْجَوَابِ لَا يَلْزَمُنِي دَفْعُ شَيْءٍ إلَيْك الْآنَ وَيَحْلِفُ عليه وَهَلْ يقول لَا شَيْءَ عَلَيَّ مُطْلَقًا قال الْقَفَّالُ فيه وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ على هذا قُلْت وَالْمَسْأَلَةُ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ على الْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ في صِحَّةِ سَمَاعِ الدَّعْوَى بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَالْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ كما حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ في كِتَابِ التَّدْبِيرِ أنها لَا تُسْمَعُ إذْ لَا يَتَعَلَّقُ بها إلْزَامٌ وَمُطَالَبَةٌ فَلَا فَائِدَةَ فيها الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْمُبَاحُ مَأْمُورٌ بِهِ قال الْكَعْبِيُّ الْمُبَاحُ مَأْمُورٌ بِهِ لِأَنَّ فِعْلَهُ تَرْكُ الْحَرَامِ وهو وَاجِبٌ فَالْمُبَاحُ وَاجِبٌ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في بَحْثِ الْمُبَاحِ فَصْلٌ في فَرْضِ الْكِفَايَةِ قال الْغَزَالِيُّ في تَعْرِيفِهِ كُلُّ مُهِمٍّ دِينِيٍّ يُرَادُ حُصُولُهُ وَلَا يُقْصَدُ بِهِ عَيْنُ من يَتَوَلَّاهُ فَخَرَجَ بِالْقَيْدِ الْأَخِيرِ فَرْضُ الْعَيْنِ وَمَعْنَى هذا أَنَّ الْمَقْصُودَ من فَرْضِ الْكِفَايَةِ وُقُوعُ الْفِعْلِ من غَيْرِ نَظَرٍ إلَى فَاعِلِهِ بِخِلَافِ فَرْضِ الْعَيْنِ فإن الْمَقْصُودَ منه الْفَاعِلُ وَجَعَلَهُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ لَكِنْ الْحَقُّ أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ لَا يَنْقَطِعُ النَّظَرُ عن فَاعِلِهِ بِدَلِيلِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ نعم ليس الْفَاعِلُ فيه مَقْصُودًا بِالذَّاتِ بَلْ بِالْعَرَضِ إذْ لَا بُدَّ لِكُلِّ فِعْلٍ من فَاعِلٍ وَالْقَصْدُ بِالذَّاتِ وُقُوعُ الْفِعْلِ وَقَوْلُهُ دِينِيٍّ بَنَاهُ على رَأْيِهِ أَنَّ الْحِرَفَ وَالصِّنَاعَاتِ وما بِهِ قِوَامُ الْمَعَاشِ ليس من فَرْضِ الْكِفَايَةِ كما صَرَّحَ بِهِ في الْوَسِيطِ تَبِعَا لِإِمَامِهِ لَكِنْ الصَّحِيحُ خِلَافُهُ وَلِهَذَا لو تَرَكُوهُ أَثِمُوا وما حَرُمَ تَرْكُهُ وَجَبَ فِعْلُهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ
____________________
(1/194)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَرْضُ الْكِفَايَةِ لَا يُبَايِنُ فَرْضَ الْعَيْنِ فَرْضُ الْكِفَايَةِ لَا يُبَايِنُ فَرْضَ الْعَيْنِ بِالْجِنْسِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ بَلْ يُبَايِنُهُ بِالنَّوْعِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا بُدَّ من وُقُوعِهِ غير أَنَّ الْأَوَّلَ شَمِلَ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ وَالثَّانِيَ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ تَأْثِيمِ الْجَمِيعِ عِنْدَ التَّرْكِ لَكِنَّهُ يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منه تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ من حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَالْوُجُوبُ صَادِقٌ عَلَيْهِمَا بِالتَّوَاطُؤِ لَا بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ على الْأَصَحِّ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هل يَتَعَلَّقُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِالْكُلِّ أو الْبَعْضِ اخْتَلَفُوا هل يَتَعَلَّقُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِالْكُلِّ أو الْبَعْضِ على قَوْلَيْنِ مع الِاتِّفَاقِ على أَنَّهُ يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ وَالْجُمْهُورُ على أَنَّهُ يَجِبُ على الْجَمِيعِ لِتَعَذُّرِ خِطَابِ الْمَجْهُولِ بِخِلَافِ خِطَابِ الْمُعَيَّنِ بِالشَّيْءِ الْمَجْهُولِ فإنه مُمْكِنٌ كَالْكَفَّارَةِ وَنَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ في مَوَاضِعَ من الْأُمِّ منها قَوْلُهُ حَقٌّ على الناس غُسْلُ الْمَيِّتِ وَالصَّلَاةُ عليه وَدَفْنُهُ لَا يَسَعُ عَامَّتَهُمْ تَرْكُهُ وإذا قام منهم من فيه كِفَايَةٌ أَجْزَأَهُ عَنْهُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ وهو كَالْجِهَادِ عليهم حَقٌّ أَنْ لَا يَدَعُوهُ وإذا انْتَدَبَ منهم من يَكْفِي النَّاحِيَةَ التي يَكُونُ بها الْجِهَادُ أَجْزَأَ عَنْهُمْ وَالْفَضْلُ لِأَهْلِ الْوِلَايَةِ بِذَلِكَ على أَهْلِ التَّخَلُّفِ عَنْهُمْ وقال في بَابِ السَّلَفِ فِيمَنْ حَضَرَ كِتَابَ حَقٍّ بين رَجُلَيْنِ وَلَوْ تَرَكَ كُلُّ من حَضَرَ الْكِتَابَ خِفْت أَنْ يَأْثَمُوا بَلْ لَا أَرَاهُمْ يَخْرُجُونَ من الْإِثْمِ وَأَيُّهُمْ قام بِهِ أَجْزَأَ عَنْهُمْ وَذَكَرَ مثله في الشُّهُودِ إذَا دُعُوا لِلْأَدَاءِ وَجَرَى عليه الْأَصْحَابُ في طُرُقِهِمْ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ من الْأُصُولِيِّينَ أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ قالوا وَالْجُمْلَةُ مُخَاطَبَةٌ فإذا وَقَعَتْ الْكِفَايَةُ سَقَطَ الْحَرَجُ وَمَتَى لم تَقَعْ الْكِفَايَةُ فَالْكُلُّ آثِمُونَ وَاخْتَارَهُ ابن الْحَاجِبِ وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ عن أَصْحَابِنَا وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَاجِبِ من جِهَةِ الْوُجُوبِ إلَّا أَنَّهُمَا افْتَرَقَا في السُّقُوطِ بِفِعْلِ الْبَعْضِ ثُمَّ عِبَارَةُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ وَجَبَ على الْجَمِيعِ وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ عن الْقَاضِي أَنَّهُ وَجَبَ على عَيْنِ كل وَاحِدٍ وَلَا بُدَّ من تَأْوِيلِهِ
____________________
(1/195)
وَيَخْرُجُ من ذلك إذَا قُلْنَا إنَّهُ وَاجِبٌ على الْجَمِيعِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَاجِبٌ على جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ من حَيْثُ إنَّهُ جَمِيعٌ وَالثَّانِي أَنَّهُ وَاجِبٌ على كل وَاحِدٍ فَإِنْ قام بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ التَّكْلِيفُ عن الْجَمِيعِ وَإِنْ لم يَقُمْ بِهِ أَحَدٌ أَثِمَ الْجَمِيعُ وَيَظْهَرُ تَغَايُرُ الْقَوْلَيْنِ في كَيْفِيَّةِ التَّأْثِيمِ عِنْدَ التَّرْكِ فَعَلَى الْأَوَّلِ تَأْثِيمُ كل وَاحِدٍ يَكُونُ وَاقِعًا بِالذَّاتِ وَعَلَى الثَّانِي بِالْعَرَضِ وقد ضَعَّفَ صَاحِبُ التَّنْقِيحَاتِ الْقَوْلَ الثَّانِيَ بِأَنَّ الْوُجُوبَ إذَا تَعَيَّنَ على كل وَاحِدٍ بِالْفِعْلِ وَلَيْسَ الشَّيْءُ مِمَّا يَفُوتُ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَإِسْقَاطُهُ عن الْبَاقِينَ رَفْعٌ لِلطَّلَبِ بَعْدَ التَّحَقُّقِ فَيَكُونُ نَسْخًا وَلَا يَصِحُّ دُونَ خِطَابٍ جَدِيدٍ وَلَا خِطَابَ فَلَا نَسْخَ فَلَا سُقُوطَ بِخِلَافِ ما إذَا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ وهو وُجُوبُهُ على الْجَمِيعِ من حَيْثُ هو جَمِيعٌ فإنه لَا يَلْزَمُ هذا الْإِشْكَالُ إذْ لَا يَلْزَمُ من إيجَابِ الْحُكْمِ على جُمْلَةٍ إيجَابُهُ على كل وَاحِدٍ وَالظَّاهِرُ تَرْجِيحُ الثَّانِي فإن تَكْلِيفَ الْمَجْمُوعِ من حَيْثُ هو مَجْمُوعٌ لَا يُعْقَلُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَإِنْ اُعْتُبِرَ فيه الْأَفْرَادُ رَجَعَ لِقَوْلِنَا وَقَوْلُهُ يَلْزَمُ منه رَفْعُ الطَّلَبِ قبل الْأَدَاءِ وهو إنَّمَا يَكُونُ بِالنَّسْخِ مَمْنُوعٌ فإن رَفْعَ الطَّلَبِ كما يَكُونُ بِالنَّسْخِ يَكُونُ بِانْتِفَاءِ عِلَّةِ الْوُجُوبِ وهو كَذَلِكَ فإن اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ احْتِرَامًا لِلْمَيِّتِ كما أَوْجَبَ دَفْنَهُ سَتْرًا له فإذا قام بِذَلِكَ طَائِفَةٌ زَالَتْ الْعِلَّةُ فَيَسْقُطُ الْوُجُوبُ لِزَوَالِ عِلَّتِهِ كما أَنَّهُ يَسْقُطُ وُجُوبُ الدَّفْنِ إذَا احْتَرَقَ الْمَيِّتُ أو أَكَلَهُ السَّبُعُ لِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ وَيَظْهَرُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ قَوْلَهُمْ وَيَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ فيه تَجَوُّزٌ فإن عِلَّةَ السُّقُوطِ بِالْحَقِيقَةِ هِيَ انْتِفَاءُ عِلَّةِ الْوُجُوبِ لَا فِعْلُ الْبَعْضِ لَكِنْ لَمَّا كان فِعْلُ الْبَعْضِ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ عِلَّةِ الْوُجُوبِ نُسِبَ السُّقُوطُ إلَيْهِ تَجَوُّزًا هذا إنْ عَلَّلْنَا أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَقَاصِدِ وَمَنْ لم يُعَلِّلْهَا بِالْمَقَاصِدِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَدَاءُ بَعْضِهِمْ أَمَارَةً على سُقُوطِ الْفَرْضِ عن الْبَاقِينَ وقد أَوْرَدَ على هذا الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لو كان وَاجِبًا على الْكُلِّ لَمَا سَقَطَ بِفِعْلِ الْبَعْضِ لِأَنَّ الْبَعْضَ الْآخَرَ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ وَتَارِكُ الْوَاجِبِ مُسْتَحِقُّ الْعِقَابِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْإِيجَابَ مُتَعَلَّقٌ بِالْجَمِيعِ وَلَا يَلْزَمُ من تَعَلُّقِهِ بِالْجَمِيعِ تَعَلُّقُهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ وَأَيْضًا فإن سُقُوطَهُ عن الْبَاقِينَ لَتَعَذُّرِ التَّكْلِيفِ بِهِ وَالتَّكْلِيفُ تَارَةً يَسْقُطُ بِالِامْتِثَالِ وَتَارَةً يَسْقُطُ بِتَعَذُّرِ الِامْتِثَالِ وقال الْمُتَوَلِّي هل نَقُولُ إذَا فَعَلَهُ يَسْقُطُ الْفَرْضُ عنه وَعَنْهُمْ لِأَنَّ الْفَرْضَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَهُمْ أو نَقُولُ بِأَنَّ آخِرَ الْأَمْرِ أَنَّ الْوُجُوبَ لم يَتَنَاوَلْ سِوَى من فَعَلَهُ فيه
____________________
(1/196)
خِلَافٌ قُلْت وهو يُشْبِهُ الْقَوْلَ الْمَحْكِيَّ في الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا بِالْفِعْلِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ وَاجِبٌ على الْبَعْضِ وَعَلَى هذا فَهَلْ هو مُبْهَمٌ أو مُعَيَّنٌ قَوْلَانِ وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ هل هو من قام بِهِ أو مُعَيَّنٌ عِنْدَ اللَّهِ دُونَ الناس قَوْلَانِ وَيَخْرُجُ من كَلَامِ الْمُتَوَلِّي وَجْهُ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِطَائِفَةٍ مُبْهَمَةٍ وَيَتَعَيَّنُ بِالْفِعْلِ وَحَكَى ابن السَّمْعَانِيِّ تَفْصِيلًا بين أَنْ يَغْلِبَ على ظَنِّهِ أَنَّهُ يَقُومُ بِهِ غَيْرُهُ فَلَا يَجِبُ وَإِلَّا وَجَبَ وَاسْتَحْسَنَهُ قال وَالْخِلَافُ عِنْدِي لَفْظِيٌّ لَا فَائِدَةَ فيه قُلْت وقد يُقَالُ بِأَنَّهُ مَعْنَوِيٌّ وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُ في صُورَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ هل يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فَمَنْ قال يَجِبُ على الْجَمِيعِ أَوْجَبَهُ بِالشُّرُوعِ لِمُشَابِهَتِهِ فَرْضَ الْعَيْنِ وَالثَّانِيَةُ إذَا فَعَلَتْهُ طَائِفَةٌ ثُمَّ فَعَلَتْهُ أُخْرَى هل يَقَعُ فِعْلُ الثَّانِيَةِ فَرْضًا وَفِيهِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ وَكَلَامُ الْإِمَامِ في الْمَحْصُولِ مُضْطَرِبٌ في الْمَسْأَلَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يقول على الْبَعْضِ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مُتَنَاوِلًا لِجَمَاعَةٍ لَا على سَبِيلِ الْجَمْعِ وَمُرَادُهُ بِالْجَمْعِ أَعَمُّ من التَّعْمِيمِ وَالِاجْتِمَاعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَسَمَهُ إلَيْهِمَا فقال في التَّنَاوُلِ على سَبِيلِ الْجَمْعِ إنَّهُ مُمْكِنٌ فَقَدْ يَكُونُ فِعْلُ بَعْضِهِمْ شَرْطًا في فِعْلِ الْبَعْضِ وقد لَا يَكُونُ ما ليس على سَبِيلِ الْجَمْعِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ على الْجَمِيعِ لَا جميعا وَلَا إنْسَانًا وَإِنَّمَا على الْبَعْضِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فَمَتَى حَصَلَ ذلك بِالْبَعْضِ لم يَلْزَمْ الْبَاقِينَ وَلَوْ كان على الْجَمِيعِ لَمَا قال لم يَلْزَمْ الْبَاقِينَ بَلْ كان يقول سَقَطَ عن الْبَاقِينَ غير أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ السُّقُوطِ بَعْدَ ذلك فَيَنْبَغِي تَأْوِيلُهُ لِيُجْمَعَ كَلَامَاهُ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إذَا تَرَكَ الْجَمِيعُ فَرْضَ الْكِفَايَةِ أَثِمُوا إذَا تَرَكَهُ الْجَمِيعُ أَثِمُوا وَإِنْ قُلْنَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَعْضِ وَوَجَّهَهُ الْإِمَامُ في بَابِ الْأَذَانِ من النِّهَايَةِ بِأَنَّ تَعْطِيلَ فَرْضِ الْكِفَايَةِ من الْجَمِيعِ بِمَثَابَةِ تَعْطِيلِ الْوَاحِدِ فَرْضَ الْعَيْنِ فَلِهَذَا يَنَالُ الْكَافَّةَ الْحَرَجُ في فَرْضِ الْكِفَايَةِ كما يَنَالُهُ الْوَاحِدَ في فَرْضِ الْعَيْنِ وَمِنْ ثَمَّ لو اتَّفَقُوا على تَرْكِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ قُوتِلُوا وَشَبَّهَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ ذلك بِمَنْ ضَمِنَ أَلْفًا عن الْمَدْيُونِ ثُمَّ تَمَنَّعَ مع الْمَضْمُونِ عنه عن الْأَدَاءِ فَيَعْصِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَرْكِ أَدَاءِ الْأَلْفِ الْمُلْتَزَمَةِ وَإِنْ كان يَقْصِدُ الْمُطَالِبُ مِنْهُمَا أَلْفًا فلما عَمَّهُمَا الْوُجُوبُ
____________________
(1/197)
عَمَّتْهُمَا الْمَعْصِيَةُ بِالتَّرْكِ وَحَكَى أَصْحَابُنَا وَجْهَيْنِ في تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ إذَا تَرَكَهُ الْجَمِيعُ هل يَعُمُّهُمْ الْإِثْمُ أو يَخْتَصُّ بِاَلَّذِينَ نُدِبُوا إلَيْهِ من أَهْلِ الْمَيِّتِ قال النَّوَوِيُّ وَأَصَحُّهُمَا يَأْثَمُ كُلُّ من لَا عُذْرَ له الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ التَّكْلِيفُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ مَنُوطٌ بِالظَّنِّ لَا بِالتَّحْقِيقِ التَّكْلِيفُ بِهِ مَنُوطٌ بِالظَّنِّ لَا بِالتَّحْقِيقِ فَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ قام بِهِ غَيْرُهُ سَقَطَ عنه الْفَرْضُ وَإِنْ أَدَّى ذلك إلَى أَنْ لَا يَفْعَلَهُ أَحَدٌ وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ لم يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ وَجَبَ عليه فِعْلُهُ وَإِنْ أَدَّى ذلك إلَى فِعْلِ الْجَمِيعِ كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْغَيْرَ هل يَفْعَلُ أو لَا غَيْرُ مُمْكِنٍ إنَّمَا الْمُمْكِنُ تَحْصِيلُ الظَّنِّ وَلَك أَنْ تَقُولَ الْوُجُوبُ على الْكُلِّ مَعْلُومٌ فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْعِلْمِ وَلَيْسَ منه تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُمْكِنُ لِأَنَّ الْفِعْلَ يُمْكِنُ إلَى حُصُولِ الْعِلْمِ ثُمَّ نَقُولُ إنَّمَا لَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِعَدَمِ فِعْلِ الْغَيْرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ في الْمِثَالِ الذي ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ قال لو غَلَبَ على ظَنِّهَا أَنَّ غَيْرَهَا يَقُومُ بِذَلِكَ وَيَكُونُ قَوْلُهُ سَقَطَ أَيْ في الظَّاهِرِ أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَاضِي فَيُمْكِنُ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ سُقُوطُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ بِفِعْلِ الْجَمِيعِ دَفْعَةً وَاحِدَةً إذَا أتى بِهِ دَفْعَةً جَمِيعُ من خُوطِبَ بِهِ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُمْ وَحَصَلَ ثَوَابُهُ لهم وَيَقَعُ فِعْلُ كُلٍّ فَرْضًا إذْ ليس بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِوَصْفِهِ بِالْقِيَامِ بِالْفَرْضِ من الْبَعْضِ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِالْفَرْضِيَّةِ لِلْجَمِيعِ حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في بَابِ الْجَنَائِزِ عن الْأَئِمَّةِ ثُمَّ قال وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هو كَإِيصَالِ الْمُتَوَضِّئِ الْمَاءَ إلَى جَمِيعِ رَأْسِهِ دَفْعَةً وقد اخْتَلَفُوا في أَنَّ الْجَمِيعَ فَرْضٌ أو الْفَرْضَ ما يَقَعُ عليه الِاسْمُ فَقَطْ وَلَكِنْ قد يُخَيَّلُ لِلْفَطِنِ فَرْقٌ وَيَقُولُ مَرْتَبَةُ الْفَرْضِيَّةِ فَوْقَ رُتْبَةِ السُّنَّةِ وَكُلُّ مُصَلٍّ في الْجَمْعِ الْكَبِيرِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْرَمَ رُتْبَةَ الْفَرْضِيَّةِ وقد قام بِمَا أُمِرَ بِهِ وَهَذَا لَطِيفٌ لَا يَصِحُّ مِثْلُهُ في الْمَسْحِ وَمِنْ هُنَا قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ اخْتَلَفُوا في أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ إذَا بَاشَرَهُ أَكْثَرُ من يَحْصُلُ بِهِ تَأَدِّي الْفَرْضِ هل يُوصَفُ فِعْلُ الْجَمِيعِ بِالْفَرْضِيَّةِ قال
____________________
(1/198)
وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا إنَّهُ يُسْتَحَبُّ في حَقِّ من حَصَلَتْ له الْكِفَايَةُ بِغَيْرِهِ أَرَدْنَا بِهِ يُسْتَحَبُّ الشُّرُوعُ وَالِابْتِدَاءُ ولم نُرِدْ بِهِ أَنَّهُ يَقَعُ مُسْتَحَبًّا في حَقِّهِ إذَا شَرَعَ فيه مع غَيْرِهِ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ يَسْقُطُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِمَنْ فَعَلَهُ أَوَّلًا إذَا أَتَوْا بِهِ على التَّعَاقُبِ فَإِنْ فَعَلَهُ من يَسْتَقِلُّ بِهِ ثُمَّ لَحِقَ بِهِمْ آخَرُونَ سَقَطَ بِالْأَوَّلِينَ وَوَقَعَ فِعْلُ الْآخَرِينَ فَرْضًا كَذَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ في بَابِ الْأَذَانِ من التَّحْرِيرِ وَحَكَى الرُّويَانِيُّ فيه وَجْهَيْنِ وَفَصَّلَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فقال إنْ لَحِقُوا بِهِمْ قبل تَحْصِيلِ مَصْلَحَتِهِ كان ما فَعَلُوهُ فَرْضًا وَإِنْ حَصَلَتْ الْكِفَايَةُ بِغَيْرِهِمْ لِأَنَّ مَصْلَحَتَهُ لم تَحْصُلْ بَعْدُ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ وَذَكَرَ له أَمْثِلَةً منها أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْعَدُوِّ من يَسْتَقِلُّ بِدَفْعِهِمْ ثُمَّ لَحِقَ بِهِمْ آخَرُونَ قبل انْقِضَاءِ الْقِتَالِ فَيُكْتَبُ لهم أَجْرُ الْفَرْضِ وَإِنْ تَفَاوَتَتْ رُتَبُهُمْ في الثَّوَابِ لِقِلَّةِ الْعَمَلِ وَكَثْرَتِهِ وَمِنْهَا أَنْ يَشْتَغِلَ بِالْعِلْمِ من تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ الْوَاجِبَةُ ثُمَّ من يَلْحَقُ بِهِ من يَشْتَغِلُ بِهِ فَيَكُونُ فَرْضًا لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ لم تَكْمُلْ بَعْدُ وَمِنْهَا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ لو أَحْرَمَتْ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ قبل تَسْلِيمِ الْأُولَى كَانُوا كَمَنْ صلى دَفْعَةً وَاحِدَةً فَإِنْ أَحْرَمُوا بَعْدَهُ قال الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ إنَّ الثَّانِيَةَ تَكُونُ فَرْضًا أَيْضًا إذْ لَا تَقَعُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ نَافِلَةً قال النَّوَوِيُّ وَلَا خِلَافَ فيه وَلَيْسَ كما قال لِمَا سَيَأْتِي عن الرُّويَانِيِّ وَمِنْهَا لو رَدَّ الْجَمِيعُ السَّلَامَ كَانُوا مُؤَدِّينَ لِلْفَرْضِ سَوَاءٌ كَانُوا مَعًا أو مُتَعَقِّبِينَ صَرَّحُوا بِهِ في السِّيَرِ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ إذَا قُلْنَا إنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْجَمِيعِ وَفِعْلُ الْبَعْضِ مُسْقِطٌ لِلْحَرَجِ فَهَلْ ذلك بِالشُّرُوعِ أَمْ لَا لِاحْتِمَالِ الْقَطْعِ فيه تَرَدُّدٌ وَالصَّوَابُ الثَّانِي وَيُحْتَمَلُ بِنَاؤُهُ على أَنَّهُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ هل يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ
____________________
(1/199)
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ مَعْنَى قَوْلِهِمْ سَقَطَ بِفِعْلِ الْبَعْضِ مَعْنَى قَوْلِهِمْ سَقَطَ بِفِعْلِ الْبَعْضِ أَيْ بَعْضِ مُكَلَّفٍ لِيَخْرُجَ ما قام بِهِ غَيْرُ الْمُكَلَّفِ فإنه لَا يُسْقِطُ شيئا وَلِهَذَا لو سَلَّمَ على جَمَاعَةٍ فِيهِمْ صَبِيٌّ فَأَجَابَ الصَّبِيُّ وَحْدَهُ لَا يَسْقُطُ فَرْضُهُمْ بِجَوَابِهِ على الْأَصَحِّ وَقَالُوا إذَا حَجَّ عن الْمَيِّتِ لَا يَسْتَأْجِرُ صَبِيًّا لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ فَرْضِ الْإِسْلَامِ نعم تَسْقُطُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ بِصَلَاةِ الصِّبْيَانِ الْمُمَيِّزِينَ عِنْدَ وُجُودِ الرِّجَالِ على الْأَصَحِّ وقال في شَرْحِ الْمُهَذَّبِ إنَّ الصَّبِيَّ إذَا أَذَّنَ وَقُلْنَا الْأَذَانُ فَرْضُ كِفَايَةٍ حَصَلَ الْفَرْضُ بِأَذَانِهِ الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ سُقُوطُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ بِفِعْلِ الْمَلَائِكَةِ هل يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْمَلَائِكَةِ لم أَرَ من تَعَرَّضَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ في تَذْكِرَةِ الْخِلَافِ في مَسْأَلَةِ تَغْسِيلِ الشَّهِيدِ الْجُنُبِ فقال غُسْلُ الْمَلَائِكَةِ لَا يُسْقِطُ ما تُعُبِّدَ بِهِ الْآدَمِيُّ في حَقِّ الْمَيِّتِ وَقِيَاسُ سَائِرِ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَذَلِكَ وَمِثْلُهُ هل يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْجِنِّ لم أَرَ فيه تَصْرِيحًا وَيَنْبَغِي تَخْرِيجُهُ على الْخِلَافِ في تَكْلِيفِهِمْ بِالْفُرُوعِ وَسَنَذْكُرُهُ الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فَرْضُ الْكِفَايَةِ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ على الْمَشْهُورِ قَالَهُ ابن الرِّفْعَةِ في الْمَطْلَبِ في كِتَابِ الْوَدِيعَةِ وَأَشَارَ في بَابِ اللَّقِيطِ إلَى أَنَّ عَدَمَ اللُّزُومِ إنَّمَا هو بَحْثٌ لِلْإِمَامِ وَلِهَذَا قالوا يَتَعَيَّنُ الْجِهَادُ بِحُضُورِ الصَّفِّ وَيَلْزَمُهُ إتْمَامُ الْجِنَازَةِ على الْأَصَحِّ بِالشُّرُوعِ وَأَمَّا تَجْوِيزُهُمْ الْخُرُوجَ من صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مع الْقَوْلِ بِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ فَبَعِيدٌ ولم يُرَجِّحْ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ في هذه الْقَاعِدَةِ شيئا بِخُصُوصِهِ وَإِنَّمَا صَحَّحُوا في أَفْرَادِ مَسَائِلِهَا ما يُخَالِفُ الْآخَرَ وَحُكِيَ عن الْقَاضِي الْحُسَيْنِ أَنَّ الْمُتَعَلِّمَ إذَا أَنِسَ من نَفْسِهِ النَّجَابَةَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عليه الْقَطْعُ وَصَحَّحَا خِلَافَهُ لِأَنَّ الشُّرُوعَ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الْمَشْرُوعِ فيه بِخِلَافِ الْجِهَادِ
____________________
(1/200)
وقال الْقَاضِي الْبَارِزِيُّ في تَمْيِيزِهِ وَلَا يَلْزَمُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِالشُّرُوعِ على الْأَصَحِّ إلَّا في الْجِهَادِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ ا هـ وَأَطْلَقَ الْغَزَالِيُّ في الْوَجِيزِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ وقال في الْوَسِيطِ وَذَكَرَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالشُّرُوعِ وقال الْقَفَّالُ لَا يَلِيقُ بِأَصْلِ الشَّافِعِيِّ تَعْيِينُ الْحُكْمِ بِالشُّرُوعِ فإن الشُّرُوعَ لَا يُغَيِّرُ حَقِيقَةَ الْمَشْرُوعِ فيه وَلِذَلِكَ لَا يَلْزَمُ التَّطَوُّعُ بِالشُّرُوعِ فيه وقال الْإِمَامُ في بَابِ الْتِقَاطِ الْمَنْبُوذِ وَمَنْ لَابَسَ فَرْضًا من فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وكان مُتَمَكِّنًا من إتْمَامِهِ فَإِنْ أَرَادَ الْإِضْرَابَ عنه فَقَدْ نَقُولُ ليس له ذلك وَيَصِيرُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِالْمُلَابَسَةِ مُتَعَيِّنًا وَهَذَا فيه نَظَرٌ وَتَفْصِيلٌ سَأَذْكُرُهُ في بَابِ السِّيَرِ قُلْت وَهَذَا كُلُّهُ في الْمَفْعُولِ أَوَّلًا أَمَّا لو شَرَعَ فيه بَعْدَ أَنْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ هل يَلْزَمُ قال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ لو شَرَعَ في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ بَعْدَمَا صلى عليها فَرْضَ الْكِفَايَةِ هل له الْخُرُوجُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ يَنْبَنِيَانِ على أَصْلٍ وهو أَنَّ هذه الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ تَقَعُ فَرْضًا أَمْ لَا وَفِيهِ جَوَابَانِ وَالْقِيَاسُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَقَعُ فَرْضًا لِأَنَّ الْفَرْضَ ما لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ على الْإِطْلَاقِ ا هـ وَيَنْبَغِي جَرَيَانُهُ في سَائِرِ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَجَزَمَ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ في هذه الصُّورَةِ بِوُقُوعِ الثَّانِيَةِ فَرْضًا الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ هل يَتَعَيَّنُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِتَعْيِينِ الْإِمَامِ إنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ هل يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِ الْإِمَامِ فيه خِلَافٌ صَنَّفَ فيه ابن التِّلِمْسَانِيِّ وقد ذَكَرَ الصَّيْدَلَانِيُّ أَنَّ الْإِمَامَ لو أَمَرَ شَخْصًا بِتَجْهِيزِ مَيِّتٍ تَعَيَّنَ عليه وَلَيْسَ له اسْتِنَابَةُ غَيْرِهِ وَلَا أُجْرَةَ له الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ الْقِيَامُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَوْلَى من الْقِيَامِ بِفَرْضِ الْعَيْنِ قِيلَ الْقِيَامُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَوْلَى من الْقِيَامِ بِفَرْضِ الْعَيْنِ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ فيها الْفَرْضَ عن نَفْسِهِ وَعَنْ غَيْرِهِ وفي فَرْضِ الْعَيْنِ يُسْقِطُ الْفَرْضَ عن نَفْسِهِ فَقَطْ حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ في شَرْحِ كِتَابِ التَّرْتِيبِ وَجَزَمَ بِهِ الشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ
____________________
(1/201)
في كِتَابِهِ الْمُحِيطِ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَكَذَلِكَ وَلَدُهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في كِتَابِهِ الْغِيَاثِيِّ وهو ظَاهِرٌ على الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْكِفَايَةِ على الْبَعْضِ وَوَهَمَ بَعْضُهُمْ فَحَكَى عن من ذَكَرَ أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ أَفْضَلُ من فَرْضِ الْعَيْنِ وهو غَلَطٌ فإن كَلَامَهُمْ إنَّمَا هو في الْقِيَامِ بهذا الْجِنْسِ أَفْضَلُ من ذلك ثُمَّ عِبَارَةُ الْجُوَيْنِيِّ وَلِلْقَائِمِ بِهِ مَزِيَّةٌ وَلَا يَلْزَمُ من الْمَزِيَّةِ الْأَفْضَلِيَّةُ على أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ ما يُنَازِعُ في ذلك فَفِي الْأُمِّ إنَّ قَطْعَ الطَّوَافِ الْمَفْرُوضِ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ أو الرَّوَاتِبِ مَكْرُوهٌ إذْ لَا يَحْسُنُ تَرْكُ فَرْضِ الْعَيْنِ لِفَرْضِ الْكِفَايَةِ وَجَرَى عليه الْأَصْحَابُ وَمِنْهُمْ الرَّافِعِيُّ في بَابِهِ وقال الْغَزَالِيُّ في الْإِحْيَاءِ في شُرُوطِ الِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ الْخِلَافِ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِهِ وهو من فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ من لم يَتَفَرَّغْ عن فُرُوضِ الْأَعْيَانِ قال وَمَنْ عليه فَرْضُ عَيْنٍ فَاشْتَغَلَ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ وَزَعَمَ أَنَّ مَقْصُودَهُ الْحَقُّ فَهُوَ كَذَّابٌ وَمِثَالُهُ من تَرَكَ الصَّلَاةَ في نَفْسِهِ وَتَبَحَّرَ في تَحْصِيلِ الثِّيَابِ وَنَسْجِهَا قَصْدًا لِسَتْرِ الْعَوْرَاتِ ا هـ وَبِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ فَكَانَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا يُخَصِّصُهُ بِمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ أَوَّلًا أَمَّا من فَعَلَهُ ثَانِيًا فَلَا يَكُونُ في حَقِّهِ أَفْضَلَ من فَرْضِ الْعَيْنِ لِأَنَّ السُّقُوطَ حَصَلَ بِالْأَوَّلِ وَإِنْ كنا نُسَمِّي فِعْلَ الْآخَرِينَ فَرْضًا على رَأْيٍ وقال الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ الزَّمْلَكَانِيِّ ما ذَكَرَ من تَفْضِيلِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ على فَرْضِ الْعَيْنِ مَحْمُولٌ على ما إذَا تَعَارَضَا في حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَلَا يَكُونُ ذلك إلَّا عِنْدَ تَعَيُّنِهَا وَحِينَئِذٍ هُمَا فَرَضَا عَيْنٍ وما يَسْقُطُ الْحَرَجُ عنه وَعَنْ غَيْرِهِ أَوْلَى وَأَمَّا إذَا لم يَتَعَارَضَا وكان فَرْضُ الْعَيْنِ مُتَعَلِّقًا بِشَخْصٍ وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ له من يَقُومُ بِهِ فَفَرْضُ الْعَيْنِ أَوْلَى الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ يُتَصَوَّرُ الْمُخَيَّرُ في الْوَاجِبِ الْكِفَائِيِّ كما يُتَصَوَّرُ الْمُخَيَّرُ في الْوَاجِبِ الْعَيْنِيِّ كما سَبَقَ في خِصَالِ الْكَفَّارَةِ كَذَلِكَ في الْوَاجِبِ على الْكِفَايَةِ ولم أَرَ من ذَكَرَهُ وقد ظَفِرْت له بِمِثَالٍ وهو قَوْله تَعَالَى وإذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ منها أو رُدُّوهَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَطْرُقَهُ الْخِلَافُ أَنَّهُ هل الْوَاجِبُ الْجَمِيعُ أو وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ
____________________
(1/202)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ اُسْتُشْكِلَ الْجَمْعُ بين قَوْلِ الْأُصُولِيِّينَ إنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ وَقَوْلِ الْفُقَهَاءِ لو صلى على الْجِنَازَةِ طَائِفَةٌ ثَانِيَةٌ وَقَعَتْ صَلَاتُهُمْ فَرْضًا أَيْضًا وإذا سَقَطَ الْفَرْضُ بِالْأُولَى كَيْفَ تَقَعُ الصَّلَاةُ الثَّانِيَةُ فَرْضًا وَأَجَابَ النَّوَوِيُّ في بَابِ الْجَنَائِزِ من شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فقال عِبَارَةُ الْمُحَقِّقِينَ يَسْقُطُ الْحَرَجُ عن الْبَاقِينَ أَيْ لَا حَرَجَ عليهم في تَرْكِ هذا الْفِعْلِ فَلَوْ فَعَلُوهُ وَقَعَ فَرْضًا كما لو فَعَلُوهُ مع الْأَوَّلِينَ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَأَمَّا عِبَارَةُ من يقول سَقَطَ الْفَرْضُ عن الْبَاقِينَ فَمَعْنَاهُ سَقَطَ حَرَجُ الْفَرْضِ وَإِثْمُهُ ا هـ قُلْت وَهِيَ عِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ وَيَشْهَدُ له ما قَالَهُ الْمُتَوَلِّي إنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ تَنْوِي بِصَلَاتِهِمْ الْفَرْضَ لِأَنَّ فِعْلَ غَيْرِهِمْ أَسْقَطَ عَنْهُمْ الْحَرَجَ لَا الْفَرْضَ وَهَذَا قد يُنْكِرُهُ الشَّادِي في الْعِلْمِ وَيَقُولُ لَا مَعْنَى لِلْفَرْضِ إلَّا الذي يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ فإذا كان بَعْدَ فِعْلِ الْأُولَى لَا يَلْحَقُ الثَّانِيَةَ حَرَجٌ على التَّرْكِ فَلَا مَعْنَى لِبَقَاءِ الْفَرْضِ في حَقِّهِمْ وقد أُجِيبُ عنه بِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ على قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا ما يَحْصُلُ تَمَامُ الْمَقْصُودِ منه وَلَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ فَهَذَا هو الذي يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ وَالثَّانِي يَتَجَدَّدُ مَصْلَحَتُهُ بِتَكْرَارِ الْفَاعِلِينَ له كَالِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ وَحِفْظِ الْقُرْآنِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِأَنَّ مَقْصُودَهَا الشَّفَاعَةُ فَهَذِهِ الْأَمْثِلَةُ وَنَحْوُهَا كُلُّ أَحَدٍ مُخَاطَبٌ بِهِ وإذا وَقَعَ يَقَعُ فَرْضًا تَقَدَّمَهُ غَيْرُهُ أو لم يَتَقَدَّمْهُ وَلَا يَجُوزُ له تَرْكُهُ إلَّا بِشَرْطِ قِيَامِ غَيْرِهِ بِهِ فإذا قام غَيْرُهُ بِهِ جَازَ التَّرْكُ وَارْتَفَعَ الْحَرَجُ
____________________
(1/203)
فَصْلٌ في الْحَرَامِ وهو لُغَةً الْمَنْعُ قال اللَّهُ تَعَالَى وَحَرَّمْنَا عليه الْمَرَاضِعَ من قَبْلُ أَيْ حَرَمْنَاهُ رَضَاعَهُنَّ وَمَنَعْنَاهُ مِنْهُنَّ إذْ لم يَكُنْ حِينَئِذٍ مُكَلَّفًا وقَوْله تَعَالَى إنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا على الْكَافِرِينَ وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى الْوُجُوبِ كَقَوْلِهِ فإن حَرَامًا لَا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيًا على شَجْوِهِ إلَّا بَكَيْت على عَمْرٍو وَعَلَيْهِ خَرَجَ قَوْله تَعَالَى وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَيْ وَوَاجِبٌ على قَرْيَةٍ أَرَدْنَا إهْلَاكَهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عن الْكُفْرِ إلَى الْإِيمَانِ وَحُكِيَ ذلك عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه وفي الِاصْطِلَاحِ ما يُذَمُّ فَاعِلُهُ شَرْعًا من حَيْثُ هو فِعْلٌ وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْقَبِيحُ وَالْمَنْهِيُّ عنه وَالْمَحْظُورُ وقال أبو عبد اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ الْحَرَامُ يَكُونُ مُؤَبَّدًا وَالْمَحْظُورُ قد يَكُونُ إلَى غَايَةٍ حَكَاهُ عنه الْعَسْكَرِيُّ في فُرُوقِهِ وفي النُّكَتِ لِابْنِ الْفَارِضِ الْمُعْتَزِلِيِّ حَكَى الشَّيْخُ أبو عبد اللَّهِ يَعْنِي الْبَصْرِيَّ عن فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ مُحَرَّمٌ في الْقَبِيحِ إذَا كان طَرِيقُ قُبْحِهِ مَقْطُوعًا بِهِ وَيَقُولُونَ مَكْرُوهٌ فِيمَا كان طَرِيقُهُ مُجْتَهَدًا فيه كَسُؤْرِ كَثِيرٍ من السِّبَاعِ قال ابن سُرَاقَةَ وَسَمَّاهُ الشَّافِعِيُّ في كَثِيرٍ من كُتُبِهِ مَكْرُوهًا أَيْضًا تَوَسُّعًا وَالْأَظْهَرُ أَنَّ لَفْظَ الْمَكْرُوهِ لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ تَنْبِيهٌ الْحُرْمَةُ لَيْسَتْ مُلَازِمَةً لِلذَّمِّ الْحُرْمَةُ لَيْسَتْ مُلَازِمَةً لِلذَّمِّ وَالْإِثْمِ لَا طَرْدًا وَلَا عَكْسًا فَقَدْ يَأْثَمُ الْإِنْسَانُ على ما ليس بِحَرَامٍ كما إذَا قَدِمَ على زَوْجِهِ يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً وقد يَحْرُمُ ما ليس فيه إثْمٌ كما إذَا قَدِمَ على أَجْنَبِيَّةٍ يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ وَتَحْقِيقُ ذلك أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ تَابِعَانِ لِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَحَلَّ الْأَبْضَاعَ وَالْأَمْوَالَ وَالْأَزْوَاجَ في أَحْوَالٍ بِشُرُوطٍ وَحَرَّمَهَا بِدُونِ ذلك غير أَنَّهُ لَا
____________________
(1/204)
يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا جَعَلَ الْإِثْمَ يَتَوَقَّفُ على الْعِلْمِ فإذا قَدِمَ الْعَبْدُ على فِعْلٍ يَعْتَقِدُهُ حَلَالًا وهو حَرَامٌ لَا إثْمَ عليه تَخْفِيفًا على الْعَبْدِ وإذا أَقْدَمَ على فِعْلٍ يَظُنُّهُ حَرَامًا وهو حَلَالٌ عَاقَبَهُ على الْجُرْأَةِ فَمَعْنَى قَوْلِنَا هذا الْفِعْلُ حَرَامٌ أَنَّ الشَّارِعَ له تَشَوُّفٌ إلَى تَرْكِهِ وَمَعْنَى قَوْلِنَا حَلَالٌ خِلَافُ ذلك وَالْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ يُطْلَقَانِ تَارَةً على ما فيه إثْمٌ وما ليس فيه وهو مُرَادُ الْأُصُولِيِّينَ بِقَوْلِهِمْ الْحَرَامُ ما يُذَمُّ عليه وَتَارَةً على ما لِلشَّارِعِ فيه تَشَوُّفٌ إلَى تَرْكِهِ وَمِنْهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَطْءُ الشُّبْهَةِ أَعْنِي شُبْهَةَ الْمَحَلِّ حَرَامٌ مع الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا إثْمَ فيه وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّيْخِ أبي حَامِدٍ أَجْمَعُوا على أَنَّ قَتْلَ الْخَطَأِ حَرَامٌ وَكَذَلِكَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ في حَالِ الِاضْطِرَارِ على رَأْيٍ وَهَذَا يُمْكِنُ رَدُّ كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ إلَيْهِ في حَدِّ الْحَرَامِ بِأَنَّهُ ما يُذَمُّ فَاعِلُهُ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يُذَمُّ بِالْقُوَّةِ أو يَكُونَ الْمُرَادُ يُذَمُّ بِشَرْطِ الْعِلْمِ بِحَالِهِ وَإِنْ اسْتَنْكَرْت إطْلَاقَ الْحُرْمَةِ على كُلٍّ من الْمَعْنَيَيْنِ فَانْظُرْ إلَى قَوْلِ الْأُصُولِيِّينَ لو اشْتَبَهَتْ الْمَنْكُوحَةُ بِأَجْنَبِيَّةٍ حُرِّمَتَا على مَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ الْكَفُّ عنهما وَقَوْلُهُ إذَا قال إحْدَاكُمَا طَالِقٌ حُرِّمَتَا تَغْلِيبًا لِلْحُرْمَةِ فَإِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ في الْفَرْعَيْنِ حَرَامٌ بِاعْتِبَارِ الْإِثْمِ على الْجُرْأَةِ وَهِيَ التي في عِلْمِ اللَّهِ أنها الزَّوْجَةُ في الْأُولَى وَاَلَّتِي سَيُعَيِّنُهَا في الثَّانِيَةِ وَالْأُخْرَى حَرَامٌ بِاعْتِبَارِ أنها أَجْنَبِيَّةٌ فَقَوْلُهُمْ حُرِّمَتَا على مَعْنَى أَنَّهُ يَأْثَمُ بِالْإِقْدَامِ على كُلٍّ مِنْهُمَا وَقَوْلُهُمْ تَغْلِيبًا لِلْحُرْمَةِ على الْمَعْنَى الْآخَرِ فَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَثْبَتُوا التَّحَرُّمَ لِلزَّوْجَةِ بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ وَصَرَفُوهُ عنها بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي وما ذَكَرْنَاهُ ليس ذَهَابًا إلَى مُوَافَقَةِ من يقول الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ يُوصَفُ بِهِمَا الذَّوَاتُ بَلْ هو تَوَسُّطٌ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ يُوصَفُ بِهِمَا ذَوَاتُ الْأَفْعَالِ طَابَقَتْ الِاعْتِقَادَ أَمْ لَا وَهَذَا إذَا تَبَيَّنَ لَك في الْحَرَامِ نَقَلْته إلَى بَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ وَانْظُرْ قَوْلَ الْبَيْضَاوِيِّ قال الْفُقَهَاءُ يَجِبُ الصَّوْمُ على الْحَائِضِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فَرُبَّ وَاجِبٍ يَأْثَمُ الْإِنْسَانُ بِتَرْكِهِ بِاعْتِبَارِ ظَنِّهِ وَيَكُونُ في نَفْسِ الْأَمْرِ حَرَامًا وَبِالْعَكْسِ قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ فِيمَنْ صلى وهو يَظُنُّ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَعَلَيْهِ تِلْكَ الصَّلَاةُ غير أَنَّهُ لَا يُعَاقِبُهُ فَهَذَا تَرَكَ الْوَاجِبَ وَلَا عِقَابَ عليه لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ بِاعْتِبَارِ الْوُجُوبِ بِمَعْنَى تَشَوُّفِ الشَّارِعِ ولم يَتْرُكْهُ بِمَعْنَى التَّكْلِيفِ
____________________
(1/205)
مَسْأَلَةٌ الْحُرْمَةُ لَا تُلَازِمُ الْفَسَادَ الْحُرْمَةُ لَا تُلَازِمُ الْفَسَادَ فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مُحَرَّمًا مع الصِّحَّةِ كَالصَّلَاةِ في الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَثَوْبِ الْحَرِيرِ وَفَائِدَةُ التَّحْرِيمِ سُقُوطُ الثَّوَابِ مَسْأَلَةٌ ما لَا يَتِمُّ تَرْكُ الْحَرَامِ إلَّا بِهِ ما لَا يَتِمُّ تَرْكُ الْحَرَامِ إلَّا بِهِ يَنْقَسِمُ أَيْضًا إلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ السَّابِقَةِ في مُقَدِّمَةِ الْوَاجِبِ كما قَالَهُ ابن بَرْهَانٍ فَالْأَوَّلُ ما كان من أَجْزَائِهِ كَالزِّنَى فإن النَّهْيَ عنه نَهْيٌ عن أَجْزَائِهِ وَهِيَ الْإِيلَاجَاتُ وَالْإِخْرَاجَاتُ وَلَا فَرْقَ بين أَنْ يَقُولَ لَا تَزْنِ وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ لَا تُولِجْ وَلَا تُخْرِجْ وَالثَّانِي ما كان من شُرُوطِهِ وَأَسْبَابِهِ كَمُقَدِّمَاتِ الْوَطْءِ من الْمُفَاخَذَةِ وَالْقُبْلَةِ وَسَائِرِ الدَّوَاعِي بَعْدَ ذلك وَمِنْهُ الْعَقْدُ على الْأُمِّ فإنه لَمَّا كان سَبَبَ الْوَطْءِ وهو مَنْهِيٌّ عنه كان الْعَقْدُ الذي هو سَبَبٌ إلَيْهِ مَنْهِيًّا عنه الثَّالِثُ ما كان من ضَرُورَاتِهِ كما إذَا اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ بِأَجْنَبِيَّاتٍ في بَلْدَةٍ صَغِيرَةٍ حَرُمَ عليه نِكَاحُهُنَّ وَإِنْ كنا نَعْلَمُ أَنَّ نِكَاحَ الْأَجْنَبِيَّاتِ ليس بِحَرَامٍ لَكِنْ لَمَّا اخْتَلَطَتْ بِهِنَّ الْأُخْتُ وَعَسُرَ التَّمْيِيزُ كان تَحْرِيمُ الْأَجْنَبِيَّاتِ من ضَرُورَاتِ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُخْتِ وَلِهَذَا لو تَعَيَّنَتْ حَرُمَ نِكَاحُهَا على الْخُصُوصِ وَيَقْرُبُ من هذا الْقِسْمِ ما لو وَقَعَتْ النَّجَاسَةُ في الْمَاءِ فإن من أَصْحَابِنَا من أَجْرَاهُ على هذا الْأَصْلِ وقال الْمَاءُ طَاهِرٌ في عَيْنِهِ ولم يَصِرْ نَجَسًا بِحَالٍ وَإِنَّمَا النَّجَاسَةُ مُجَاوِرَةٌ فلم يُنْهَ عن اسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِاسْتِعْمَالِ النَّجَسِ فَكَانَ تَحْرِيمُ اسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ من ضَرُورَاتِهِ اسْتِعْمَالُ النَّجَسِ إلَّا أَنَّ هذا لَا يَلِيقُ بِأُصُولِ الشَّافِعِيِّ بَلْ هو أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ قَاعِدَتَهُ أَنَّ الْمَاءَ جَوْهَرٌ طَاهِرٌ وَالطَّاهِرُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَصِيرَ نَجَسًا في عَيْنِهِ بِالنَّجَاسَةِ لِأَنَّ قَلْبَ الْأَعْيَانِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وُسْعِ الْخَلْقِ بَلْ هو بَاقٍ على أَصْلِ الطَّهَارَةِ وَإِنَّمَا هو نَهْيٌ عن اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ وَيُسْتَدَلُّ على هذا بِفَضْلِ الْمُكَاثَرَةِ فإنه لو كُوثِرَ عَادَ طَهُورًا بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ صَارَ
____________________
(1/206)
الْمَاءُ عَيْنُهُ نَجَسًا بِالْمُخَالَطَةِ لَمَا تَصَوَّرَ انْقِلَابُهُ طَاهِرًا بِالْمُكَاثَرَةِ قال وهو بَاطِلٌ فإن الْمَائِعَ اللَّطِيفَ إذَا وَقَعَتْ فيه نَجَاسَةٌ خَالَطَتْ أَجْزَاؤُهُ أَجْزَاءَهَا وَامْتَزَجَتْ بِهِ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِنَجَاسَةِ الْكُلِّ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا مَعْنَى لها إلَّا الِاجْتِنَابَ وَلَا شَكَّ أَنَّ وُجُوبَ الِاجْتِنَابِ ثَابِتٌ في الْكُلِّ وقد وَافَقَ على حِكَايَةِ هذا الْخِلَافِ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ فقال فَمِنْهُمْ من قال يَصِيرُ كُلُّهُ نَجَسًا وهو اللَّائِقُ بِمَذْهَبِنَا وَقِيلَ إنَّمَا حَرُمَ الْكُلُّ لِتَعَذُّرِ الْإِقْدَامِ على الْمُبَاحِ قال وهو يَلِيقُ بِمَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ قُلْت وهو الذي أَوْرَدَهُ الْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ وما أَوْرَدَهُ ابن بَرْهَانٍ في الِاعْتِرَاضِ عليهم رَدَّهُ الْأَصْفَهَانِيُّ بِأَنَّ وُجُوبَ الِاجْتِنَابِ عِنْدَ اخْتِلَاطِ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ مُتَّفَقٌ عليه وَإِنَّمَا الْكَلَامُ في عِلَّةِ الِاجْتِنَابِ ما هِيَ وقال أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ اخْتَلَفُوا في اخْتِلَاطِ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ فَقِيلَ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ على كل حَالٍ وَمِنْهُمْ من جَعَلَ النَّجَاسَةَ مُسْتَهْلَكَةً وَاخْتَلَفُوا في الْأَمَارَةِ الدَّالَّةِ على اسْتِهْلَاكِهَا فَمِنْهُمْ من قال هِيَ عَدَمُ تَغَيُّرِ الْمَاءِ وَمِنْهُمْ من قال هِيَ كَثْرَةُ الْمَاءِ وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَمِنْهُمْ من قَدَّرَ الْكَثْرَةَ بِالْقُلَّتَيْنِ وَمِنْهُمْ من قَدَّرَهَا بِغَيْرِ ذلك إذَا عَلِمْت هذا فَنَقُولُ إذَا لم يُمْكِنْ الْكَفُّ عن الْمَحْظُورِ إلَّا بِالْكَفِّ عَمَّا ليس بِمَحْظُورٍ كما إذَا اخْتَلَطَ بِالطَّاهِرِ النَّجَسُ كَالدَّمِ وَالْبَوْلِ يَقَعُ في الْمَاءِ الْقَلِيلِ أو الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ فَإِمَّا أَنْ يَخْتَلِطَ وَيَمْتَزِجَ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ فَيَجِبُ الْكَفُّ عن اسْتِعْمَالِهِ وَيُحْكَمُ بِتَحْرِيمِ الْكُلِّ قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وَغَيْرِهِ وَكَذَا لَا يَخْتَصُّ التَّحْرِيمُ بِالْمَمْنُوعِ أَصَالَةً ذَكَرَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فيه الْخِلَافُ السَّابِقُ في أَنَّ ما لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَإِنْ حَكَى الْخِلَافَ في كَيْفِيَّةِ التَّحْرِيمِ على ما سَبَقَ أَمَّا إذَا لم يَخْتَلِطْ بِدُخُولِ أَجْزَاءِ الْبَعْضِ في الْبَعْضِ فَهُوَ على ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا ما يَجِبُ الْكَفُّ عن الْكُلِّ كَالْمَرْأَةِ التي هِيَ حَلَالٌ تَخْتَلِطُ بِالْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُطَلَّقَةُ بِغَيْرِ الْمُطَلَّقَةِ وَالْمُذَكَّاةُ بِالْمَيْتَةِ فَيَحْرُمُ إحْدَاهَا بِالْأَصَالَةِ وَهِيَ الْمُحَرَّمَةُ وَالْأَجْنَبِيَّةُ وَالْمَيِّتَةُ وَالْأُخْرَى بِعَارِضِ الِاشْتِبَاهِ وَهِيَ الزَّوْجَةُ وَالْمُذَكَّاةُ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ بِالْأَصَالَةِ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ وَلَا يَتِمُّ اجْتِنَابُهُ إلَّا بِاجْتِنَابِ ما اشْتَبَهَ بِهِ وما لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَقِيلَ تُبَاحُ الْمُذَكَّاةُ وَالْأَجْنَبِيَّةُ وَلَكِنْ يَجِبُ الْكَفُّ عنهما قال الْغَزَالِيُّ وَأَمَّا تَوَهُّمُ هذا من ظَنَّ أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَهُمَا أَيْ
____________________
(1/207)
قَائِمٌ بِذَاتِهِمَا كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ بِالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ مُتَعَلِّقَانِ بِالْفِعْلِ وَهُمَا الْإِذْنُ في الْفِعْلِ وَوُجُوبُ الْكَفِّ وَحِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ التَّنَاقُضُ وقد يُقَالُ إنَّ مُرَادَ هذا الْقَائِلِ أَنَّ تَحْرِيمَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالْمُذَكَّاةِ بِعَارِضِ الِاشْتِبَاهِ وَهُمَا في نَفْسِ الْأَمْرِ مُبَاحَتَانِ فَالْخِلَافُ إذَنْ لَفْظِيٌّ الثَّانِي ما يُسْقِطُ حُكْمَ التَّحْرِيمِ كما إذَا اخْتَلَطَتْ مَحْرَمٌ بِنِسَاءِ بَلْدَةٍ عَظِيمَةٍ فَيُجْعَلُ كَالْعَدَمِ وَيُبَاحُ له نِكَاحُ أَيِّ امْرَأَةٍ أَرَادَ الثَّالِثُ ما يُتَحَرَّى فيه كَالثِّيَابِ وَالْأَوَانِي قال الْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ وكان الْقِيَاسُ عَدَمَ التَّحَرِّي لِأَنَّ تَرْكَ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ لَا يَتَأَتَّى بِيَقِينٍ إلَّا بِتَرْكِ الْجَمِيعِ قال وَهَاهُنَا فيه خِلَافٌ يَعْنِي هل يَتَوَقَّفُ على الِاجْتِهَادِ أَمْ يَجُوزُ الْهُجُومُ بِمُجَرِّدِ الظَّنِّ وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ وَمِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لو قال لِزَوْجَتَيْهِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ولم يَنْوِ مُعَيَّنَةً حُرِّمَتَا جميعا إلَى حِينِ التَّعْيِينِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمُطَلَّقَةَ وَغَيْرَهَا وإذا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ غَلَبَ الْحَرَامُ وَحَكَاهُ الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى عن أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وقال قَبْلَهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ يَحِلُّ قَبْلَهُمَا وَالطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ لِأَنَّهُ لم يُبَيِّنْ له مَحَلًّا فَصَارَ كما إذَا بَاعَ أَحَدٌ عَبْدَيْهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ حُرِّمَتَا جميعا وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ مَحَلِّ الطَّلَاقِ ثُمَّ عليه التَّعْيِينُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمَنْعُ في ذلك مُوجَبُ ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أَمَّا الْمُضِيُّ إلَى أَنَّ إحْدَاهُمَا مُحَرَّمَةٌ وَالْأُخْرَى مَنْكُوحَةٌ كما تَوَهَّمُوهُ في اخْتِلَاطِ الْمَنْكُوحَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ فَلَا يَنْقَدِحُ هَاهُنَا لِأَنَّ ذلك جَهْلٌ من الْآدَمِيِّ عَرَضَ بَعْدَ التَّعْيِينِ أَمَّا هذا فَلَيْسَ مُتَعَيِّنًا في نَفْسِهِ بَلْ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى مُطْلَقًا لِإِحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا ا هـ وما قَالَهُ أَوَّلًا من احْتِمَالِ حِلِّ الْوَطْءِ هو الْمَنْقُولُ عن ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ من أَصْحَابِنَا وَحَكَاهُ عنه ابن هُبَيْرَةَ في كِتَابِ الْخِلَافِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَوْ قِيلَ بِحِلِّ وَطْءِ إحْدَاهُمَا بِنَاءً على أَنَّ الْوَطْءَ لِإِحْدَاهُمَا تَعْيِينٌ لِلطَّلَاقِ في الْأُخْرَى كما هو أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لم يَبْعُدْ ثُمَّ إذَا عَيَّنَ إحْدَاهُمَا في نِيَّتِهِ قال الْإِمَامُ في بَابِ الشَّكِّ في الطَّلَاقِ من النِّهَايَةِ أَطْلَقَ الْأَصْحَابُ التَّحْرِيمَ ما لم يُقَدِّمُ بَيَانًا قال وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إذَا عَرَفَ الْمُطَلَّقَةَ حَلَّ له وَطْءُ الْأُخْرَى في الْبَاطِنِ وهو مَمْنُوعٌ من غِشْيَانِهِمَا جميعا أَمَّا إذَا غَشِيَ إحْدَاهُمَا فما سَبَبُ الْمَنْعِ حِينَئِذٍ ثُمَّ حَمَلَ كَلَامَ الْأَصْحَابِ على ما إذَا ظَهَرَتْ الْوَاقِعَةُ لِلْحَاكِمِ ولم يَثْبُتْ
____________________
(1/208)
عِنْدَهُ تَعْيِينٌ بِالنِّيَّةِ أَمَّا لو قال لها وَلِأَجْنَبِيَّةٍ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَرَدْت الْأَجْنَبِيَّةَ وَجْهَانِ وَحَكَى الرَّافِعِيُّ في بَابِ الْعِتْقِ عن ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ لو قال لِعَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ لم يَكُنْ له حُكْمٌ ثُمَّ قال وَهَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ فإن الْوَجْهَيْنِ في نَظِيرِهِ من الطَّلَاقِ مُتَّفِقَانِ على أَنَّ له حُكْمًا وَأَثَرًا مَسْأَلَةٌ لو تَعَدَّى عَمَّا أُبِيحَ له سَبَقَ في الْوَاجِبِ أَنَّهُ إذَا أتى بِالْقَدْرِ الزَّائِدِ هل يَقَعُ الْجَمْعُ فَرْضًا أَمْ لَا وَنَظِيرُهُ هُنَا لو تَعَدَّى عَمَّا أُبِيحَ له كما لو كَشَفَ الْعَوْرَةَ في الْخَلْوَةِ زَائِدًا على الْحَاجَةِ هل يَأْثَمُ على الْكُلِّ أو على الزَّائِدِ فَقَطْ فيه خِلَافٌ حَكَاهُ الشَّيْخُ صَدْرُ الدِّينِ بن الْوَكِيلِ عن بَعْضِ الْأَئِمَّةِ وَأَنْكَرُوهُ عليه وَيُمْكِنُ أَخْذُهُ من قَاعِدَةٍ في الْفِقْهِ وَهِيَ أَنَّ تَعَدِّيَ الْمُسْتَحِقِّ هل يَبْطُلُ بِهِ الْمُسْتَحَقُّ أو يَبْقَى معه الْمُسْتَحَقُّ وَيَبْطُلُ الزَّائِدُ فيه خِلَافٌ في بَابِ الْقَسْمِ وَبَابِ الْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ مَسْأَلَةٌ إذَا نُسِخَ التَّحْرِيمُ هل تَبْقَى الْكَرَاهَةُ سَبَقَ في الْوَاجِبِ أَنَّهُ إذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ هل يَبْقَى الْجَوَازُ وَنَظِيرُهُ هُنَا أَنْ يُقَالَ إذَا نُسِخَ التَّحْرِيمُ هل تَبْقَى الْكَرَاهَةُ ولم يَتَعَرَّضْ الْأُصُولِيُّونَ لِذَلِكَ فَيُحْتَمَلُ جَرَيَانُ الْخِلَافِ هُنَا أَيْضًا لِأَنَّ بين الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ اشْتِرَاكًا في الْجِنْسِ وهو مُطْلَقُ الْمَنْعِ وَامْتَازَ الْحَرَامُ بِالْجُرْمِ فإذا ارْتَفَعَ الْجُرْمُ يَبْقَى مُطْلَقُ الْمَنْعِ وَيُحْتَمَلُ خِلَافُهُ فإن مَأْخَذَ الْخِلَافِ هُنَاكَ أَنَّ الْمُبَاحَ جِنْسٌ لِلْوَاجِبِ ولم يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ جِنْسٌ لِلْحَرَامِ مَسْأَلَةٌ الْحَرَامُ وَالْوَاجِبُ مُتَنَاقِضَانِ قد تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَرَامَ وَالْوَاجِبَ مُتَنَاقِضَانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ فَالْحَرَامُ بِالشَّخْصِ لَا يَكُونُ حَرَامًا وَوَاجِبًا من جِهَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا إذَا جَوَّزْنَا تَكْلِيفَ الْمُحَالِ لِذَاتِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاحِدَ يُقَالُ بِالتَّشْكِيكِ على الْوَاحِدِ بِالْجِنْسِ وَعَلَى الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ وَعَلَى الْوَاحِدِ بِالشَّخْصِ فَأَمَّا الْوَاحِدُ بِالنَّوْعِ كَمُطْلَقِ السُّجُودِ فَاخْتَلَفُوا هل يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ
____________________
(1/209)
وَمَنْهِيًّا عنه بِمَعْنَى أَنَّ بَعْضَ أَفْرَادِهِ وَاجِبٌ وَبَعْضَهَا حَرَامٌ فَجَوَّزَهُ الْجُمْهُورُ وَاحْتَجُّوا بِوُقُوعِهِ فإن السُّجُودَ لِلَّهِ وَاجِبٌ وَلِلصَّنَمِ حَرَامٌ بَلْ كُفْرٌ قال اللَّهُ تَعَالَى لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ فَالسُّجُودُ نَوْعٌ وَاحِدٌ قد أُمِرَ بِبَعْضِهِ وَنُهِيَ عن بَعْضِهِ وَلَا يُقَالُ إنَّ الْمَنْهِيَّ عنه تَعْظِيمُ الصَّنَمِ لَا نَفْسُ السُّجُودِ لِأَنَّ ذلك مُحَالٌ لِنَصِّ الْآيَةِ وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْتَمِعَةٌ على أَنَّ السَّاجِدَ لِلصَّنَمِ عَاصٍ بِنَفْسِ السُّجُودِ وَالْقَصْدِ جميعا على ما حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَحُكِيَ عن أبي هَاشِمٍ أَنَّهُ قال لَا يَحْرُمُ السُّجُودُ بَلْ الْمُحَرَّمُ الْقَصْدُ إلَى ذلك بِنَاءً على أَصْلِهِ أَنَّ أَفْرَادَ النَّوْعِ لَا تَخْتَلِفُ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَأَمَّا الْوَاحِدُ بِالشَّخْصِ أَيْ الْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ليس له إلَّا جِهَةٌ وَاحِدَةٌ أو له جِهَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ فَإِنْ لم يَكُنْ له إلَّا جِهَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا خِلَافَ في امْتِنَاعِ كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ مَنْهِيًّا عنه إلَّا على رَأْيِ من يُجَوِّزُ التَّكْلِيفَ بِالْمُحَالِ وَإِنْ كان له جِهَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ بِهِ من جِهَةٍ وَيُنْهَى عنه من جِهَةٍ كَالصَّلَاةِ في الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ فَجَوَّزَهُ الْجُمْهُورُ وَقَالُوا يَصِحُّ لِأَنَّ تَعَدُّدَ الْجِهَاتِ يُوجِبُ التَّغَايُرَ لِتَعَدُّدِ الصِّفَاتِ وَالْإِضَافَاتِ وَذَلِكَ يَدْفَعُ التَّنَاقُضَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ من حَيْثُ هِيَ صَلَاةٌ مَأْمُورٌ بها وَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا في الْبُقْعَةِ الْمَغْصُوبَةِ مَنْهِيٌّ عنها فَهُمَا مُتَعَلِّقَانِ مُتَغَايِرَانِ وَجَعَلُوا اخْتِلَافَ الْجِهَتَيْنِ كَاخْتِلَافِ الْمَحَلَّيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ من الْجِهَتَيْنِ مُنْفَكَّةٌ عن الْأُخْرَى وَاجْتِمَاعُهُمَا إنَّمَا وَقَعَ بِاخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ فَلَيْسَا مُتَلَازِمَيْنِ فَلَا تَنَاقُضَ وَذَهَبَ أبو عَلِيٍّ وأبو هَاشِمٍ الْجُبَّائِيَّانِ وأبو شِمْرٍ الْحَنَفِيُّ وَالزَّيْدِيَّةُ وَالظَّاهِرِيَّةُ إلَى أنها غَيْرُ مُجْزِئَةٍ وَحَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عن أَصْبَغَ من أَصْحَابِ مَالِكٍ وَبِهِ قال أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ وَاخْتَارَهُ ابن الْعَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ في النُّكَتِ وقال لَا وَجْهَ لِدَعْوَى الْإِجْمَاعِ في إجْزَائِهَا مع خِلَافِ الزَّيْدِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ وأبو شِمْرٍ وَالْجُبَّائِيِّ وَابْنِهِ لِذَلِكَ وَحَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ في تَعْلِيقِهِ وَجْهًا عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَكَذَا ابن الصَّبَّاغِ في فَتَاوِيهِ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا بِخُرَاسَانَ قال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وهو مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ لَا تَقَعُ مَأْمُورًا بها وَلَكِنْ يَسْقُطُ الْقَضَاءُ عِنْدَهَا لَا بها كما يَسْقُطُ التَّكْلِيفُ بِالْأَعْذَارِ الطَّارِئَةِ من الْجُنُونِ وَغَيْرِهِ فَكَأَنَّهُ جَعَلَهَا سَبَبًا لِسُقُوطِ الْفَرْضِ أو أَمَارَةً عليه على نَحْوٍ من خِطَابِ الْوَضْعِ لَا عِلَّةً لِسُقُوطِهِ لِأَنَّ ذلك يَسْتَدْعِي صِحَّتَهَا هَكَذَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ عنه في الْبُرْهَانِ وابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ وَاخْتَارَهُ في الْمَحْصُولِ وَالسُّهْرَوَرْدِي وَنَقَلَ الْهِنْدِيُّ عنه لَا يَصِحُّ
____________________
(1/210)
وقال في النِّهَايَةِ اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ على أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ بها لَكِنْ اخْتَلَفُوا في أَنَّهُ هل يَسْقُطُ الْفَرْضُ عِنْدَهَا أَمْ لَا فقال الْقَاضِي وَمَنْ تَابَعَهُ يَسْقُطُ عِنْدَهَا لَا بها وقال الْبَاقُونَ لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ لَا بها وَلَا عِنْدَهَا بَلْ يَجِبُ عليهم الْقَضَاءُ هَكَذَا نَقَلَ بَعْضُهُمْ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يقول بِذَلِكَ لو ثَبَتَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ على سُقُوطِ الْقَضَاءِ فَأَمَّا إذَا لم يَثْبُتْ ذلك فَلَا يقول بِسُقُوطٍ بها وَلَا عِنْدَهَا ا هـ وهو ظَاهِرُ نَقْلِ الْمُسْتَصْفَى وَلِهَذَا قال الْإِمَامُ في الْمَعَالِمِ هِيَ صَحِيحَةٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلْفُقَهَاءِ ثُمَّ إنْ صَحَّ الْإِجْمَاعُ على عَدَمِ الْقَضَاءِ قُلْنَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ عِنْدَهَا لَا بها وَإِنْ لم يَصِحَّ هذا الْإِجْمَاعُ وهو الْأَصَحُّ أَوْجَبْنَا الْقَضَاءَ انْتَهَى وَالْإِجْمَاعُ لم يَنْقُلْهُ الْقَاضِي صَرِيحًا وَإِنَّمَا تَلَقَّاهُ بِمَسْلَكٍ اسْتِنْبَاطِيٍّ على زَعْمِهِ فقال لم يَأْمُرْ أَئِمَّةُ السَّلَفِ الْعُصَاةَ بِإِعَادَةِ الصَّلَوَاتِ التي أَقَامُوهَا في الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَرَدَّ عليه الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ كان في السَّلَفِ مُتَعَمِّقُونَ في التَّقْوَى يَأْمُرُونَ بِدُونِ ما فَرَضَهُ الْقَاضِي وَضَعَّفَهُ الْإِبْيَارِيُّ قال وَكَأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى نَقْلِ الْإِجْمَاعِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْمُرُونَ بِالْقَضَاءِ بِدُونِهِ وَكَيْفَ لَا يَأْمُرُونَ بِالْقَضَاءِ في هذا وقال الْغَزَالِيُّ خِلَافُ أَحْمَدَ لَا يَقْدَحُ في الْإِجْمَاعِ بَلْ الْإِجْمَاعُ السَّالِفُ حُجَّةٌ عليه لِأَنَّ الظَّلَمَةَ لم يُؤْمَرُوا بِقَضَاءِ الصَّلَوَاتِ مع كَثْرَةِ وُقُوعِهَا وَلَوْ أُمِرُوا بِهِ لَانْتَشَرَ وَلَمَّا صَحَّتْ أَدِلَّةُ الْمُتَكَلِّمِينَ عِنْدَ الْقَاضِي من لُزُومِ تَوَارُدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ في الْفِعْلِ الْوَاحِدِ الِاخْتِيَارِيِّ قال بها فَحَكَمَ بِفَسَادِ الصَّلَاةِ وَلَمَّا صَحَّ عِنْدَهُ إجْمَاعُ السَّلَفِ على أَنَّهُمْ لم يَأْمُرُوا بِالْقَضَاءِ في الْبُقَعِ الْمَغْصُوبَةِ قال إنَّ الْإِجْزَاءَ يَحْصُلُ عِنْدَهَا لَا بها قِيلَ فَإِنْ صَحَّ هذا الْإِجْمَاعُ فَلَا مَحِيصَ عَمَّا قال فإنه إعْمَالٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ من الدَّلِيلَيْنِ في مَحَلِّهِ وَأَنَّى يَصِحُّ هذا الْإِجْمَاعُ وَخِلَافُ أَحْمَدَ قد مَلَأَ الْأَسْمَاعَ فَلَوْ سَبَقَهُ إجْمَاعٌ لَكَانَ أَجْدَرَ من الْقَاضِي بِمَعْرِفَتِهِ وَمِمَّنْ مَنَعَ الْإِجْمَاعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا من الْأَئِمَّةِ وقال إلْكِيَا مُسْتَنَدُهُ في سُقُوطِ الْقَضَاءِ إجْمَاعُ الْأَوَّلِينَ وَالْإِجْمَاعُ إنْ لم يَسْلَمْ في هذه الصُّورَةِ مُمْكِنٌ تَحْقِيقُهُ مِمَّنْ عليه دَيْنٌ وهو مُمَاطِلٌ يُصَلِّي مع الْمَطْلِ فَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ وَإِمْكَانُ الْإِجْمَاعِ هَاهُنَا بَعِيدٌ وقال الْمُقْتَرِحُ نَقْلُ الْإِجْمَاعِ عَسِرٌ جِدًّا لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ لَا يَصِحُّ إلَّا مع تَقْدِيرِ تَكَرُّرِ الْوَاقِعَةِ وَالْغَصْبُ في زَمَنِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ كان قَلِيلَ الْوُقُوعِ ا ه
____________________
(1/211)
وَعَلَى تَقْدِيرِ اطِّلَاعِهِمْ عليه فَالْإِجْمَاعُ ليس بِحُجَّةٍ عِنْدَ الْقَاضِي وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ في بَابِ الْآنِيَةِ من شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّ أَصْحَابَنَا يَدَّعُونَ الْإِجْمَاعَ على الصِّحَّةِ قبل مُخَالَفَةِ أَحْمَدَ وَهَذَا لو تَمَّ دَفَعَ مَذْهَبَ الْقَاضِي لِأَنَّهُ يُوَافِقُ على عَدَمِ الصِّحَّةِ وقال ابن بَرْهَانٍ مَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ النَّهْيَ هل عَادَ لِعَيْنِ الصَّلَاةِ أو لِأَمْرٍ خَارِجٍ عنها فَمَنْ قال بِالْأَوَّلِ أَبْطَلَهَا وَقِيلَ بَلْ أَصْلُ الْخِلَافِ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ هل يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ فَعِنْدَنَا لَا يَتَنَاوَلُهُ وَإِنْ لم يَكُنْ مُحَرَّمًا وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ يَتَنَاوَلُهُ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بين طَلَبِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ في فِعْلٍ وَاحِدٍ من جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِفِعْلٍ إذَا فَعَلَهُ على وَجْهٍ كَرِهَ الشَّرْعُ إيقَاعَهُ عليه لَا يَكُونُ مُمْتَثِلًا وَقِيلَ يَتَوَجَّهُ على الْقَائِلِينَ بِالصِّحَّةِ صِحَّةُ يَوْمِ النَّحْرِ نَقْضًا إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَقَوْلُهُمْ الْغَصْبُ مُنْفَكٌّ عن الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْوُقُوعِ يوم النَّحْرِ تَخْصِيصٌ لِلدَّعْوَى بِمَا يُجَوِّزُ انْفِكَاكَ الْجِهَتَيْنِ فيه وَيَتَوَجَّهُ على الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ صَوْمُ يَوْمٍ خِيفَ على نَفْسِهِ الْهَلَاكُ فيه بِسَبَبِ الصَّوْمِ فإنه حَرَامٌ مع الصِّحَّةِ وَكَذَا إذَا صلى في الْبَلَدِ الذي حَرُمَ عليه الْمُقَامُ فيه لِأَجْلِ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ فإن الصَّلَاةَ تَصِحُّ إجْمَاعًا وَعَنْ ابْنِ تَيْمِيَّةَ أَنَّهُ نَقَلَ أَرْبَعَةَ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا يَجُوزُ عَقْلًا وَشَرْعًا وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وَالثَّالِثُ يَجُوزُ عَقْلًا لَا شَرْعًا وَالرَّابِعُ يَجُوزُ شَرْعًا لَا عَقْلًا قال وهو بِمَعْنَى قَوْلِهِمْ يَصِحُّ عِنْدَهَا لَا بها وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عن أَحْمَدَ في الصِّحَّةِ ثَالِثُهَا إنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ لم يَصِحَّ وَإِلَّا صَحَّتْ ثُمَّ اخْتَلَفُوا في هذه الْمَسْأَلَةِ هل هِيَ من مَسَائِلِ الْقَطْعِ أو الِاجْتِهَادِ فقال الْقَاضِي الصَّحِيحُ أنها من مَسَائِلِ الْقَطْعِ وَبِهِ جَزَمَ في الْمُسْتَصْفَى وقال الْمُصِيبُ فيها وَاحِدٌ لِأَنَّ الْمُصَحِّحَ أَخَذَهُ من الْإِجْمَاعِ وهو قَطْعِيٌّ وَمَنْ أَبْطَلَ أَخَذَهُ من التَّضَادِّ الذي بين الْقُرْبَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَيَدَّعِي اسْتِحَالَتَهُ عَقْلًا فَالْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةٌ فَكَأَنَّهُ قال انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ على أنها قَطْعِيَّةٌ وَإِنَّمَا يَبْقَى النَّظَرُ في التَّعْيِينِ
____________________
(1/212)
فائدتان الْأُولَى إذَا قُلْنَا يَصِحُّ فَحَكَى النَّوَوِيُّ عن الْفَتَاوَى التي نَقَلَهَا الْقَاضِي أبو مَنْصُورٍ عن عَمِّهِ أبي نَصْرِ بن الصَّبَّاغِ أَنَّ الْمَحْفُوظَ من كَلَامِ أَصْحَابِنَا بِالْعِرَاقِ أنها صَحِيحَةٌ يَسْقُطُ بها الْفَرْضُ وَلَا ثَوَابَ فيها وَإِنَّ ابْنَ الصَّبَّاغِ ذَكَرَ في كِتَابِهِ الْكَامِلِ أَنَّا إذَا قُلْنَا بِالصِّحَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْصُلَ الثَّوَابُ وَيَكُونُ مُثَابًا على فِعْلِهِ عَاصِيًا بِمُقَامِهِ قال الْقَاضِي أبو الْمَنْصُورِ وَهَذَا هو الْقِيَاسُ إذَا صَحَّحْنَا انْتَهَى قال ابن الرِّفْعَةِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يُثَابُ يَعْتَضِدُ بِنَصِّ الشَّافِعِيِّ في أَنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُ أَجْرَ الْعَمَلِ الْوَاقِعِ قَبْلَهَا في الْإِسْلَامِ وَلَا تَجِبُ عليه الْإِعَادَةُ الثَّانِيَةُ أَطْلَقُوا الْكَلَامَ في الصِّحَّةِ وَعَدَمِهَا وقال ابن الرِّفْعَةِ في الْمَطْلَبِ عِنْدِي أَنَّ هذا إنَّمَا هو في صَلَاةِ الْفَرْضِ لِأَنَّ فيها مَقْصُودَيْنِ أَدَاءَ ما وَجَبَ وَحُصُولَ الثَّوَابِ فإذا انْتَفَى الثَّوَابُ صَحَّتْ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ الْآخَرِ وَنَحْنُ لَا نَشْتَرِطُ في سُقُوطِ خِطَابِ الشَّرْعِ حُصُولَ الثَّوَابِ وَلِهَذَا قال الشَّافِعِيُّ إنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُ أَجْرَ الْأَعْمَالِ الْوَاقِعَةِ في الْإِسْلَامِ وَلَا يَجِبُ عليه إعَادَتُهَا لو أَسْلَمَ وَكَذَا نَقُولُ فِيمَنْ أُخِذَتْ منه الزَّكَاةُ قَهْرًا لَا يُثَابُ عليها لِفَقْدِ النِّيَّةِ منه وَسَقَطَ بها خِطَابُ الشَّرْعِ عنه لِحُصُولِ مَقْصُودِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَهْلِ السَّهْمَانِ وَلِهَذَا قال ابن الْخَطِيبِ وَإِنْ قام الْإِجْمَاعُ على عَدَمِ وُجُوبِ إعَادَتِهَا فَنَقُولُ سَقَطَ الْفَرْضُ عِنْدَهَا لَا بها وَلِهَذَا قال في التَّنْبِيهِ فَإِنْ صلى لم يُعِدْ ولم يَقُلْ صَحَّتْ بِخِلَافِ قَوْلِهِ في الْمُهَذَّبِ وإذا كان كَذَلِكَ فَصَلَاةُ النَّفْلِ لَا مَقْصُودَ فيها غير الثَّوَابِ فإذا لم يَحْصُلْ لَا تَنْعَقِدُ وَإِطْلَاقُ من أَطْلَقَ مَحْمُولٌ على التَّقْيِيدِ بِالْفَرْضِ ا ه
____________________
(1/213)
فَرْعٌ كَوْنُ الْوَاحِدِ وَاجِبًا وَحَرَامًا بِاعْتِبَارَيْنِ قال الْجُمْهُورُ الْمُجَوِّزُونَ كَوْنُ الْوَاحِدِ وَاجِبًا وَحَرَامًا بِاعْتِبَارَيْنِ هذا إذَا أَمْكَنَ الْإِتْيَانُ بِأَحَدِهِمَا مُنْفَكًّا عن الْآخَرِ أَمَّا إذَا لم يُمْكِنْ ذلك بِحَيْثُ لَا يَخْلُو الْمُخَاطَبُ عنهما بِأَنْ يَقُولَ لَا تَنْطِقْ وَلَا تَسْكُتْ وَلَا تَتَحَرَّكْ وَلَا تَسْكُنْ فَإِنْ مَنَعْنَا تَكْلِيفَ الْمُحَالِ مَنَعْنَاهُ وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ جَوَّزْنَاهُ عَقْلًا لَكِنَّهُ لم يَقَعْ فَعَلَى هذا من تَوَسَّطَ أَرْضًا مَغْصُوبَةً أو تَخَطَّى زَرْعَ غَيْرِهِ ثُمَّ تَابَ وَتَوَجَّهَ لِلْخُرُوجِ وَاخْتَارَ أَقْرَبَ الطُّرُقِ أو أَدْخَلَ فَرْجَهُ في مُحَرَّمٍ ثُمَّ خَرَجَ فَخُرُوجُهُ وَاجِبٌ لَا تَحْرِيمَ فيه وَإِنْ وُجِدَ فيه اعْتِبَارَانِ الشَّغْلُ وَالتَّفْرِيغُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِتْيَانُ بِالتَّفْرِيغِ إلَّا بِالشَّغْلِ قال الْقَاضِي هذا هو الْمُخْتَارُ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ في كَفِّ الزَّانِي عن الزِّنَى قال ابن بَرْهَانٍ وَهَذَا مِمَّا أَجْمَعَ عليه كَافَّةُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وقال أبو هَاشِمٍ خُرُوجُهُ كَلُبْثِهِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ في مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَذَلِكَ قَبِيحٌ لِعَيْنِهِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عنه بهذا الِاعْتِبَارِ وَمَأْمُورٌ بِهِ لِأَنَّهُ انْفِصَالٌ عن الْمُكْثِ نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عنه وَحَكَاهُ الْقَاضِي عن أبي الشَّمِر من الْأُصُولِيِّينَ وهو في الْحَقِيقَةِ تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ لِجَمْعِهِ بين النَّقِيضَيْنِ فإنه مَنْهِيٌّ عن الشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ في فِعْلٍ وَاحِدٍ وقد بَنَاهُ أبو هَاشِمٍ على أَصْلِهِ الْفَاسِدِ في الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فَأَصْلُهُ الْفَاسِدُ من مَنْعِ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ وَحَاصِلُ الْخِلَافِ أَنَّ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ هل يَبْقَى مُسْتَمِرًّا أو يَنْقَطِعُ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنْ كان مُتَعَمِّدًا لِتَوَسُّطِهَا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْخُرُوجِ وَإِنَّمَا يَعْصِي بِمَا تَوَرَّطَ بِهِ من الْعُدْوَانِ السَّابِقِ وقال وهو مُرْتَبِكٌ في الْمَعْصِيَةِ بِحُكْمِ الِاسْتِصْحَابِ مع انْقِطَاعِ تَكْلِيفِ النَّهْيِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ عَاصٍ في خُرُوجِهِ وَلَا نَهْيَ عليه فَسُقُوطُ النَّهْيِ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ وَتَعْصِيَتُهُ لِتَسَبُّبِهِ الْأَوَّلِ وهو بَعِيدٌ إذْ ليس في الشَّرْعِ مَعْصِيَةٌ من غَيْرِ نَهْيٍ وَلَا عِقَابٌ من غَيْرِ نَهْيٍ وهو قَرِيبٌ من مَذْهَبِهِ في مَسْأَلَةِ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ قال وَكَذَلِكَ من غَصَبَ مَالًا وَغَابَ بِهِ ثُمَّ تَابَ وَتَوَجَّهَ رَاجِعًا وَكَذَا اسْتَبْعَدَهُ ابن الْحَاجِبِ وَضَعَّفَهُ الْغَزَالِيُّ لِاعْتِرَافِهِ بِانْتِفَاءِ النَّهْيِ فَالْمَعْصِيَةُ إلَى مَاذَا تَسْتَنِدُ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا مَعْصِيَةَ إلَّا بِفِعْلٍ مَنْهِيٍّ عنه أو تَرْكِ مَأْمُورٍ بِهِ وقد سَلِمَ
____________________
(1/214)
انْتِفَاءُ تَعَلُّقِ النَّهْيِ بِهِ فَانْتَهَضَ الدَّلِيلُ عليه فَإِنْ قِيلَ فيه جِهَتَانِ يَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ بِافْتِرَاغِ مِلْكِ الْغَيْرِ وَالنَّهْيُ عن اللُّبْثِ كَالصَّلَاةِ في الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ سَوَاءٌ كما قَالَهُ في الْبُرْهَانِ قُلْنَا مَمْنُوعٌ لِأَنَّ الْخُرُوجَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَلَا جِهَتَيْنِ لِتَعَذُّرِ الِامْتِثَالِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ في الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ فإن الِامْتِثَالَ مُمْكِنٌ وَإِنَّمَا جاء الِاتِّحَادُ من جِهَةِ اخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ وَالتَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ لَا خَيْرَ لِلْعَبْدِ فيه فَلَا يُكَلَّفُ قلت وقد تَعَرَّضَ الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فقال في كِتَابِ الْحَجِّ في الْمُحْرِمِ إذَا تَطَيَّبَ وَلَا رُخْصَةَ له في تَرْكِهِ إذَا قَدَرَ على غَسْلِهِ وَهَذَا مُرَخَّصٌ له في التَّيَمُّمِ إذَا لم يَجِدْ مَاءً وَلَوْ غَسَلَ الطِّيبَ غَيْرُهُ كان أَحَبَّ إلَيَّ وَإِنْ غَسَلَهُ هو بيده يَفْتَدِي من غَسْلِهِ قِيلَ إنَّ عليه غَسْلَهُ وَإِنْ مَاسَّهُ فَلَا إنَّمَا مَاسَّهُ لِيُذْهِبَهُ عنه ثُمَّ يُمَاسُّهُ لِيَتَطَيَّبَ بِهِ وَلَا يُثْبِتُهُ وَهَذَا ما وَجَبَ عليه الْخُرُوجُ منه خَرَجَ منه كما يَسْتَطِيعُ وَلَوْ دخل دَارَ رَجُلٍ بِغَيْرِ إذْنٍ لم يَكُنْ جَائِزًا له وكان عليه الْخُرُوجُ منها ولم أَزْعُمْ أَنَّهُ يَخْرُجُ بِالْخُرُوجِ وَإِنْ كان يَمْشِي ما لم يُؤْذَنْ له وَلِأَنَّ مَشْيَهُ لِلْخُرُوجِ من الذَّنْبِ لَا لِلزِّيَادَةِ منه فَهَكَذَا هذا الْبَابُ كُلُّهُ ا هـ لَفْظُهُ وهو صَرِيحٌ في أَنَّ من تَوَرَّطَ في الْوُقُوعِ في حَرَامٍ فَيَتَخَلَّصُ منه لَا يُوصَفُ حَالَةَ التَّخَلُّصِ بِالْإِثْمِ لِأَنَّهُ تَارِكٌ له فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمٌ كما لو خَرَجَ من الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ الدُّخُولِ وقال الشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ في كِتَابِ الصَّوْمِ من الْفُرُوقِ قد نَصَّ الشَّافِعِيُّ على تَأْثِيمِ من دخل أَرْضًا غَاصِبًا ثُمَّ قال فإذا قَصَدَ الْخُرُوجَ منها لم يَكُنْ عَاصِيًا بِخُرُوجِهِ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِلْغَصْبِ ا هـ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ نَفْسَ إشْغَالِ الْحَيِّزِ بَاقٍ على تَحْرِيمِهِ وَنَفْسَ الِانْتِقَالِ هو جَائِزٌ بَلْ هو وَاجِبٌ إذْ هو وَسِيلَةٌ إلَى تَرْكِ الْحَرَامِ وَمِثْلُهُ لو قال إنْ وَطِئْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ هل يَمْتَنِعُ عليه الْوَطْءُ قال ابن خَيْرَانَ نعم لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عِنْدَ تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ وَالنَّزْعَ يَقَعُ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وقال عَامَّةُ الْأَصْحَابِ بَلْ يَجُوزُ وَنَصَّ عليه في الْأُمِّ لِأَنَّ الْوَطْءَ يَقَعُ في النِّكَاحِ وَاَلَّذِي يَقَعُ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ هو النَّزْعُ وَالنَّزْعُ تَرْكُ الْمَأْثَمِ وَالْخُرُوجُ عن الْمَعْصِيَةِ ليس بِحَرَامٍ قال الرَّافِعِيُّ وَيُشْبِهُ ذلك ما لو قال لِرَجُلٍ اُدْخُلْ دَارِي وَلَا تُقِمْ فيها ثُمَّ
____________________
(1/215)
ذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ غَرَضَهُ يَظْهَرُ بِمَسْأَلَةٍ أَلْقَاهَا أبو هَاشِمٍ فَحَارَتْ فيها عُقُولُ الْفُقَهَاءِ وَهِيَ من تَوَسَّطَ جَمْعًا من الْجَرْحَى وَجَثَمَ على صَدْرِ وَاحِدٍ منهم وَعَلِمَ أَنَّهُ لو بَقِيَ على ما هو عليه لَهَلَكَ من تَحْتَهُ وَلَوْ انْتَقَلَ لَهَلَكَ آخَرُ يَعْنِي مع تَسَاوِي الرَّجُلَيْنِ في جَمِيعِ الْخِصَالِ قال وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لم أَتَحَصَّلْ فيها من قَوْلِ الْفُقَهَاءِ على ثَبْتٍ وَالْوَجْهُ الْقَطْعُ بِسُقُوطِ التَّكْلِيفِ عن صَاحِبِ الْوَاقِعَةِ مع اسْتِمْرَارِ حُكْمِ سَخَطِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ وَوَجْهُ السُّقُوطِ اسْتِحَالَةُ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ وَاسْتِمْرَارُ الْعِصْيَانِ لِتَسَبُّبِهِ إلَى ما لَا يَخْلُصُ منه وَلَوْ فُرِضَ إلْقَاءُ رَجُلٍ على صَدْرِ آخَرَ بِحَيْثُ لَا يُنْسَبُ إلَى الْوَاقِعِ اخْتِيَارٌ فَلَا تَكْلِيفَ وَلَا عِصْيَانَ وقال الْغَزَالِيُّ يَحْتَمِلُ ذلك وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ يَمْكُثُ فإن الِانْتِقَالَ فِعْلٌ مُسْتَأْنَفٌ وَيُحْتَمَلُ التَّخْيِيرُ وقال في الْمَنْخُولِ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلَّهِ فيه فَلَا يُؤْمَرُ بِمُكْثٍ وَلَا انْتِقَالٍ وَلَكِنْ إنْ تَعَدَّى في الِابْتِدَاءِ اسْتَصْحَبَ حُكْمَ الْعُدْوَانِ وَإِنْ لم يَتَعَدَّ فَلَا تَكْلِيفَ عليه وَنَفَى الْحُكْمُ حُكْمَ اللَّهِ في هذه الصُّورَةِ وقال في آخِرِ الْكِتَابِ حُكْمُ اللَّهِ فيه أَنْ لَا حُكْمَ وهو نَفْيُ الْحُكْمِ هذا ما قَالَهُ الْإِمَامُ فيه ولم أَفْهَمْهُ بَعْدُ وقد كَرَّرْتُهُ عليه مِرَارًا وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ نَفْيُ الْحُكْمِ حُكْمٌ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ ذلك قبل وُرُودِ الشَّرَائِعِ وَعَلَى الْجُمْلَةِ جَعْلُ نَفْيِ الْحُكْمِ حُكْمًا تَنَاقُضٌ فإنه جَمَعَ بين النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ إنْ كان لَا يَعْنِي بِهِ تَخْيِيرَ الْمُكَلَّفِ بين الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَإِنْ عَنَاهُ فَهُوَ إبَاحَةٌ مُحَقَّقَةٌ لَا دَلِيلَ عليها قال الْإِبْيَارِيُّ وَهَذَا أَدَبٌ حَسَنٌ مع الْإِمَامِ وَقَوْلُهُ هذا لَا أَفْهَمُهُ يَعْنِي لَا لِعَجْزِ السَّامِعِ عن فَهْمِهِ بَلْ لِكَوْنِهِ غير مَفْهُومٍ في نَفْسِهِ ا هـ وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقُولَ أَرَدْت انْتِفَاءَ الْحُكْمِ يَعْنِي الْحُكْمَ الْخَاصَّ وَهِيَ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ وَتَكُونُ الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ حُكْمًا لِلَّهِ بهذا الِاعْتِبَارِ وقد قال في كِتَابِ الصَّدَاقِ من النِّهَايَةِ ليس يَبْعُدُ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ بِنَفْيِ الْحَرَجِ عنه فِيمَا فَعَلَهُ وَهَذَا حُكْمٌ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ انْتِقَالُك ابْتِدَاءُ فِعْلٍ مِنْك وَاسْتِقْرَارُك في حُكْمِ اسْتِدَامَةِ ما وَقَعَ ضَرُورِيًّا وَيُؤَيِّدُ أَنَّ الِانْتِقَالَ إنَّمَا يَجِبُ في مِثْلِ ذلك إذَا كان مُمْكِنًا وإذا امْتَنَعَ بِإِيجَابِهِ بِحَالٍ وَالْمُمْتَنِعُ شَرْعًا كَالْمُمْتَنِعِ حِسًّا وَطَبْعًا قال وَهَذَا في الدِّمَاءِ لِعِظَمِ مَوْقِعِهَا بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ فَالتَّحْقِيقُ فيها ليس
____________________
(1/216)
بِالْبِدْعِ فَلَوْ وَقَعَ بين أَوَانٍ وَلَا بُدَّ من انْكِسَارِ بَعْضِهَا أَقَامَ أو انْتَقَلَ فَيَتَعَيَّنُ في هذه الصُّورَةِ التَّخْيِيرُ ا هـ وقد سَأَلَ الْغَزَالِيُّ الْإِمَامَ في كِبَرِهِ عن هذا فقال له كَيْفَ تَقُولُ لَا حُكْمَ وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ لَا تَخْلُو وَاقِعَةٌ عن حُكْمٍ فقال حُكْمُ اللَّهِ أَنْ لَا حُكْمَ فقلت له لَا أَفْهَمُ هذا وقال ابن بَرْهَانٍ إنْ تَسَبَّبَ إلَى الْوُقُوعِ أَثِمَ بِالنَّسَبِ وَإِلَّا فَلَا إثْمَ وَلَا ضَمَانَ وقال ابن عَقِيلٍ من الْحَنَابِلَةِ إنْ وَقَعَ على الْجَرْحَى بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لَزِمَهُ الْمُكْثُ وَلَا يَضْمَنُ ما تَلِفَ بِسُقُوطِهِ وَإِنْ تَلِفَ شَيْءٌ بِاسْتِمْرَارٍ وَكُرْهٍ أو بِانْتِقَالِهِ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ وَلَا يَجُوزُ له أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى آخَرَ قَطْعًا وقال ابن الْمُنِيرِ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ يُحْتَمَلُ وُجُوبُ الْبَقَاءِ عليه لِأَنَّ الِانْتِقَالَ اسْتِئْنَافُ فِعْلٍ بِالِاخْتِيَارِ مُهْلِكٍ وَلَا كَذَلِكَ الِاسْتِصْحَابُ فإنه أَشْبَهُ بِالْعَدَمِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ يَنْتَقِلُ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ يُحَقِّقُ الْمَصْلَحَةَ في سَلَامَةِ الْمُنْتَقِلِ عنه وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَهْلِكَ الْمُنْتَقَلُ إلَيْهِ أو يَمُوتَ بِأَجَلِهِ قبل الْجُثُومِ إلَيْهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَخَيَّرَ لِتَعَادُلِ الْمَفْسَدَتَيْنِ قال وَلَعَمْرِي لقد دَلَّسَ بِفَرْضِهَا لِأَنَّهُ لَا يَضِيقُ كما زَعَمَ إلَّا بِأَنْ نَفْرِضَ جَوْهَرَيْنِ مُفْرَدَيْنِ مُتَلَاصِقَيْنِ قد جَثَمَ جَوْهَرٌ فَرْدٌ على أَحَدِهِمَا فَإِنْ بَقِيَ أَهْلَك وَإِنْ انْتَقَلَ فَرَّ من انْتِقَالِهِ عن الْجَوْهَرِ الْأَوَّلِ وهو زَمَنُ جُثُومِهِ على الْجَوْهَرِ الثَّانِي لَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَهُمَا زَمَنٌ وَهَذَا فَرْضٌ مُسْتَحِيلٌ فإن الْأَجْسَامَ أَوْسَعُ من ذلك وَأَزْمِنَةُ انْتِقَالِهَا مَعْدُودَةٌ فَهُوَ إذَا انْتَقَلَ مَضَتْ أَزْمِنَةٌ بين الِانْتِقَالِ وَالْجُثُومِ هو فيها سَالِمٌ من الْقَضِيَّتَيْنِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَمُوتَ الثَّانِي قبل الْجُثُومِ عليه فَيَسْلَمُ من الْمَعْصِيَةِ مُطْلَقًا فَالِانْتِقَالُ مُتَرَجِّحٌ فَيَتَعَيَّنُ وَكَذَلِكَ مُتَوَسِّطُ الْبُقْعَةِ الْمَغْصُوبَةِ حُكْمُ اللَّهِ عليه وُجُوبُ الْخُرُوجِ وَيَكُونُ بِهِ مُطِيعًا لَا عَاصِيًا قال وَالْعَجَبُ من قَوْلِ الْإِمَامِ في مَسْأَلَةِ أبي هَاشِمٍ لَا تَكْلِيفَ على الْمُتَوَسِّطِ وَبِخُلُوِّ الْوَاقِعَةِ مع الْتِزَامِهِ في بَابِ الْقِيَاسِ عَدَمَ الْخُلُوِّ وَاحْتِجَاجِهِ بِأَنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ حُكْمٌ تَكْمِيلٌ تَضَادُّ الْمَكْرُوهِ وَالْوَاجِبِ كما يَتَضَادُّ الْحَرَامُ وَالْوَاجِبُ كَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ وَالْوَاجِبُ لِأَنَّ الْمَكْرُوهَ مَطْلُوبُ
____________________
(1/217)
التَّرْكِ بِخِلَافِ الْوَاجِبِ فَإِنْ انْصَرَفَتْ الْكَرَاهَةُ عن ذَاتِ الْوَاجِبِ إلَى غَيْرِهِ صَحَّ الْجَمْعُ كَكَرَاهَةِ الصَّلَاةِ في الْحَمَّامِ وَنَحْوِهَا وقال الرَّافِعِيُّ الْقَضَاءُ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِالْإِجْمَاعِ ثُمَّ حَكَى وَجْهًا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ مَسْأَلَةٌ تَحْرِيمُ وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ يَجُوزُ أَنْ يَحْرُمَ وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ من أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةٍ وَمِنْهُمْ من مَنَعَ ذلك وقال لم تَرِدْ بِهِ اللُّغَةُ وَأَوَّلُوا قَوْله تَعَالَى وَلَا تُطِعْ منهم آثِمًا أو كَفُورًا على جَعْلِ أو بِمَعْنَى الْوَاوِ وَمِنْهُمْ من مَنَعَ ذلك من جِهَةِ الْعَقْلِ لِأَنَّهُ إذَا قَبُحَ أَحَدُهُمَا قَبُحَ الْآخَرُ فَيَلْزَمُ اجْتِنَابُهُ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وابن الْقُشَيْرِيِّ في أُصُولٍ عن بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَحَكَى الْمَازِرِيُّ الْأَوَّلَ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ مُحْتَجًّا أَنَّ النَّهْيَ في الْآيَةِ عن طَاعَتِهِمَا جميعا قال وَهَذَا ليس بِشَيْءٍ وَلَوْلَا الْإِجْمَاعُ على أَنَّ الْمُرَادَ في الشَّرْعِ النَّهْيُ عن طَاعَتِهِمَا جميعا لم تُحْمَلْ الْآيَةُ على ذلك وَالْمَشْهُورُ جَوَازُهُ وَوُقُوعُهُ وَعَلَى هذا فَاخْتَلَفُوا فَعِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْكُلِّ بَلْ الْمُحَرَّمُ وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ وَيَجُوزُ له فِعْلُ أَحَدِهِمَا وَإِنَّمَا يَقْتَضِي النَّهْيَ عن الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا كما في جَانِبِ الْإِيجَابِ كَذَا قَالَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وابن بَرْهَانٍ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ عن الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وقال الْمُعْتَزِلَةُ الْكُلُّ حَرَامٌ كَقَوْلِهِمْ في جَانِبِ الْإِيجَابِ الْكُلُّ وَاجِبٌ لَكِنَّهُمْ لم يُوجِبُوا الْجَمْعَ هُنَاكَ وَهُنَا أَوْجَبُوا اجْتِنَابَ الْكُلِّ فَيَبْقَى النِّزَاعُ هُنَا مَعْنَوِيًّا بِخِلَافِ ما قَالُوهُ وَتَوَقَّفَ فيه الْهِنْدِيُّ إذْ لَا يَظْهَرُ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ قال وَالْقِيَاسُ التَّسْوِيَةُ بين الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ كما يَتْبَعُ الْحُسْنَ الْخَاصَّ عِنْدَهُمْ فَكَذَا التَّحْرِيمُ يَتْبَعُ الْقُبْحَ الْخَاصَّ فَإِنْ وَجَبَ الْكَفُّ عن الْجَمِيعِ بِنَاءً على اسْتِوَائِهِمَا في الْمَعْنَى الذي يُوجِبُ التَّحْرِيمَ فَلْيَجِبْ فِعْلُ الْجَمِيعِ في صُورَةِ الْوُجُوبِ بِنَاءً على اسْتِوَائِهِمَا في الْمَعْنَى الذي يَقْتَضِي الْإِيجَابَ قُلْت مَأْخَذُ الْخِلَافِ هُنَا أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ جَعَلُوا مُتَعَلَّقَ التَّحْرِيمِ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ وَنَحْنُ نُخَالِفُهُمْ وَنَقُولُ مُتَعَلِّقُ أَحَدِ الْخُصُوصِيَّيْنِ وَإِنْ شِئْت قُلْت إحْدَى الْحِصَّتَيْنِ
____________________
(1/218)
الْمُعَيَّنَتَيْنِ لَا بِعَيْنِهَا وَأَمَّا الْقَرَافِيُّ من الْمُتَأَخِّرِينَ فإنه فَرَّقَ بين الْأَمْرِ الْمُخَيَّرِ بين وَاحِدٍ من الْأَشْيَاءِ وَالنَّهْيِ الْمُخَيَّرِ فإن الْأَمْرَ مُتَعَلِّقٌ بِمَفْهُومِ أَحَدِهَا وَالْخُصُوصِيَّاتُ مُتَعَلَّقُ التَّخْيِيرِ وَلَا يَلْزَمُ من إيجَابِ الْمُشْتَرَكِ إيجَابُ الْخُصُوصِيَّاتِ كما مَضَى وَأَمَّا النَّهْيُ فإنه إذَا تَعَلَّقَ بِالْمُشْتَرَكِ لَزِمَ منه تَحْرِيمُ الْخُصُوصِيَّاتِ لِأَنَّهُ لو دخل منه فَرْدٌ إلَى الْوُجُودِ لَدَخَلَ في ضِمْنِهِ الْمُشْتَرَكُ الْمُحَرَّمُ وَوَقَعَ الْمَحْذُورُ كما إذَا حَرَّمَ الْخِنْزِيرَ يَلْزَمُ تَحْرِيمُ السَّمِينِ منه وَالْهَزِيلِ وَالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ وَتَحْرِيمُ الْجَمْعِ بين الْأُخْتَيْنِ وَنَحْوِهِ إنَّمَا لَاقَى في الْمَجْمُوعِ عَيْنًا لَا الْمُشْتَرَكَ بين الْأَفْرَادِ فَالْمَطْلُوبُ منه أَنْ لَا يَدْخُلَ مَاهِيَّةُ الْمَجْمُوعِ في الْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةُ تَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِ جُزْءٍ منها وَأَيُّ أُخْتٍ تَرَكَهَا خَرَجَ عن عُهْدَةِ الْمَجْمُوعِ فَلَيْسَ كَالْأَمْرِ وقال الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ الْبَاجِيُّ من الْمُتَأَخِّرِينَ الْحَقُّ نَفْيُ التَّحْرِيمِ الْمُخَيَّرِ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ في الْأُخْتَيْنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كما نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ لَا إحْدَاهُمَا وَلَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخِلَافِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ فإن الْوَاجِبَ إمَّا أَحَدُهَا أو كُلٌّ مِنْهُمَا على التَّخْيِيرِ وفي كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ إشَارَةٌ إلَيْهِ وما ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ مَأْخَذُهُ من قَوْلِهِ إنَّ النَّهْيَ عن نَوْعٍ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عن كل أَفْرَادِهِ إذْ في كل فَرْدٍ النَّهْيُ مِثْلُ لَا تَزْنِ فَلَا شَيْءَ من الزِّنَى بِحَلَالٍ وَإِلَّا لَصَدَقَ أَنَّهُ زِنًى وَالْأَمْرُ على هذا الْوَجْهِ غير أَنَّ قَوْمًا يَتَلَقَّوْنَ ذلك من كَوْنِ النَّكِرَةِ في سِيَاقِ النَّفْيِ لِلْعُمُومِ وَآخَرُونَ يَتَلَقَّوْنَهُ من أَنَّ النَّهْيَ عن الْكُلِّ يَسْتَلْزِمُ بَعْضَ أَفْرَادِهِ وقال صَاحِبُ الْوَاضِحِ من الْمُعْتَزِلَةِ النَّهْيُ عن أَشْيَاءَ على التَّخْيِيرِ إنْ كان على سَبِيلِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ لَا تَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْخُلُوُّ منها كُلِّهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تُطِعْ منهم آثِمًا أو كَفُورًا فَهُوَ مَنْهِيٌّ عن الْجَمِيعِ وَإِلَّا لم يَحْسُنْ النَّهْيُ عن كُلِّهَا كَقَوْلِهِ لَا تَفْعَلْ في يَدِك حَرَكَةً وَلَا سُكُونًا وقال إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ الذي يَقْتَضِيهِ رَأْيُ أَصْحَابِنَا في النَّهْيِ عن أَشْيَاءَ على التَّخْيِيرِ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي قُبْحَ الْمَنْهِيِّ عنه وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْأَضْدَادُ بِجُمْلَتِهَا قَبِيحَةً وَلَا يَنْفَكُّ الْإِنْسَانُ عن وَاحِدٍ منها فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُنْهَى عنها بِأَجْمَعَ فإذا نهى عن ضِدَّيْنِ قد يَنْفَكُّ عنهما إلَى ثَالِثٍ صَحَّ وَيَصِحُّ منه فِعْلُهَا جميعا لِأَنَّ أَيَّ وَاحِدٍ منها فَعَلَهُ كان قَبِيحًا وَالنَّهْيُ عنهما مع تَضَادِّهِمَا عن الْجَمْعِ لَا يَحْسُنُ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا ليس في الْمَقْدُورِ وما لَا يَقْدِرُ عليه لَا يُكَلَّفُ بِهِ وَمَتَى ما أَمَرَ بِشَيْئَيْنِ ضِدَّيْنِ كان له فِعْلُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
____________________
(1/219)
وَهَذَا يُبَيِّنُ صِحَّةَ ما قَدَّمْنَاهُ من أَنَّهُ إذَا لَزِمَ الْمُكَلَّفَ أَنْ يَفْعَلَ أَحَدَ الضِّدَّيْنِ كَانَا وَاجِبَيْنِ على التَّخْيِيرِ فإذا نُهِيَ عن أَحَدِهِمَا لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ النَّهْيِ فَأَمَّا النَّهْيُ عن شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا على التَّخْيِيرِ فَلَا يَصِحُّ وَيُفَارِقُ الْأَمْرَ في ذلك وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ مِمَّا يُفَارِقُ الْأَمْرَ النَّهْيُ أَنَّهُ إذَا نُهِيَ عن أَشْيَاءَ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ لم يَجُزْ له فِعْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَفْظُ التَّخْيِيرِ فيه كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تُطِعْ منهم الْآيَةَ مَسْأَلَةٌ هل يُقَالُ هذا أَحْرَمُ من هذا سَبَقَ في بَحْثِ الْوَاجِبِ خِلَافٌ في أَنَّهُ هل يُقَالُ هذا أَوْجَبُ من هذا أَجْرَاهُ ابن بَزِيزَةَ في شَرْحِ الْأَحْكَامِ في أَنَّهُ هل يُقَالُ هذا أَحْرَمُ من هذا أَمْ لَا قال وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَقُولٌ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الثَّوَابِ أو كَثْرَةِ الزَّوَاجِرِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِ الطَّلَبِ وقد اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ على أَنَّ الزِّنَى بِالْأُمِّ أَشَدُّ من الزِّنَى بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَكَذَلِكَ الزِّنَى في الْمَسْجِدِ آثَمُ من الزِّنَى في الْكَنِيسَةِ وقد رَدَّ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ شِدَّةَ التَّحْرِيمِ فيه إلَى أَنَّهُ فَعَلَ حَرَامَيْنِ وَالْكَلَامُ لم يَقَعْ إلَّا في مَحَلٍّ وَاحِدٍ ا هـ خَاتِمَةٌ تَرْكُ الْوَاجِبِ أَعْظَمُ من فِعْلِ الْحَرَامِ قِيلَ تَرْكُ الْوَاجِبِ في الشَّرِيعَةِ بَلْ وفي الْعَقْلِ أَعْظَمُ من فِعْلِ الْحَرَامِ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلِ أَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ وَتَرْكَ الْمُحَرَّمِ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ وَلِهَذَا قال تَعَالَى إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عن الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ فَبَيَّنَ أَنَّ ما في الصَّلَاةِ من ذِكْرِ اللَّهِ أَكْبَرُ مِمَّا فيها من النَّهْيِ عن الْفَحْشَاءِ الثَّانِي أَنَّ أَعْظَمَ الْحَسَنَاتِ هو الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وهو أَدَاءُ وَاجِبٍ وَتَرْكُ الْوَاجِبِ كُفْرٌ
____________________
(1/220)
فَصْلٌ في الْمُبَاحِ وهو ما أُذِنَ في فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ من حَيْثُ هو تَرْكٌ له من غَيْرِ تَخْصِيصِ أَحَدِهِمَا بِاقْتِضَاءِ مَدْحٍ أو ذَمٍّ فَخَرَجَ بِالْإِذْنِ بَقَاءُ الْأَشْيَاءِ على حُكْمِهَا قبل وُرُودِ الشَّرْعِ فإنه لَا يُسَمَّى مُبَاحًا وَخَرَجَ فِعْلُ اللَّهِ فَلَا يُوصَفُ بِالْإِبَاحَةِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَقِّ كما قَالَهُ الْإِمَامُ في التَّلْخِيصِ وَالْأُسْتَاذُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ مَأْذُونٌ له فيه وَقَوْلُنَا من حَيْثُ هو تُرِكَ لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّهُ قد يَتْرُكُ الْمُبَاحَ بِالْحَرَامِ وَالْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ فَلَا يَكُونُ تَرْكُهُ وَفِعْلُهُ سَوَاءً بَلْ يَكُونُ تَرْكُهُ وَاجِبًا وَإِنَّمَا يَسْتَوِي الْأَمْرَانِ إذَا تَرَكَ الْمُبَاحَ بمثله كَتَرْكِ الْبَيْعِ بِالِاشْتِغَالِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وقد يُتْرَكُ بِالْوَاجِبِ كَتَرْكِ الْبَيْعِ بِالِاشْتِغَالِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ الْمُتَعَيَّنِ عليه وقد يُتْرَكُ بِمَنْدُوبٍ كَتَرْكِ الْبَيْعِ بِالِاشْتِغَالِ بِالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ وقد يُتْرَكُ بِالْحَرَامِ كَتَرْكِ الْبَيْعِ بِالِاشْتِغَالِ بِالْكَذِبِ وَالْقَذْفِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُكْمَ الْمُبَاحِ يَتَغَيَّرُ بِمُرَاعَاةِ غَيْرِهِ فَيَصِيرُ وَاجِبًا إذَا كان في تَرْكِهِ الْهَلَاكُ وَيَصِيرُ مُحَرَّمًا إذَا كان في فِعْلِهِ فَوَاتُ فَرِيضَةٍ أو حُصُولُ مَفْسَدَةٍ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَيَصِيرُ مَكْرُوهًا إذَا اقْتَرَنَتْ بِهِ نِيَّةُ مَكْرُوهٍ وَيَصِيرُ مَنْدُوبًا إذَا قَصَدَ بِهِ الْعَوْنَ على الطَّاعَةِ وقال الْغَزَالِيُّ في الْإِحْيَاءُ بَعْضُ الْمُبَاحِ يَصِيرُ بِالْمُوَاظَبَةِ عليه صَغِيرَةً كَالتَّرَنُّمِ بِالْغِنَاءِ وَلَعِبِ الشَّطْرَنْجِ وَكَلَامُ ابْنِ الصَّبَّاغِ وَغَيْرِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَصِيرُ وَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً من أَصْحَابِنَا حَدُّوا الْمُبَاحَ بِأَنَّهُ الذي لَا حَرَجَ في فِعْلِهِ وَلَا في تَرْكِهِ مع قَوْلِهِمْ إنَّ الْإِبَاحَةَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَالْجَمْعُ بين الْكَلَامَيْنِ عَسِرٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُبَاحَ بهذا التَّفْسِيرِ يَدْخُلُ فيه فِعْلُ اللَّهِ وَفِعْلُ السَّاهِي وَالْغَافِلِ وَالنَّائِمِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْبَهِيمَةِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا حَرَجَ في ذلك لِاسْتِحَالَةِ تَعَلُّقِ الْمَنْعِ الشَّرْعِيِّ بها فإذا شَمِلَتْ الْإِبَاحَةُ لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ التي تَمْنَعُ كَوْنَهَا مُتَعَلَّقَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ امْتَنَعَ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الْإِبَاحَةِ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَإِلَّا لَمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْأَفْعَالُ وقد تَقَرَّرَ أنها مُتَعَلِّقَةٌ بها وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْحَلَالُ وَالْمُطْلَقُ وَالْجَائِزُ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ كِتَابِ التَّرْتِيبِ كُلُّ مُبَاحٍ جَائِزٌ وَلَيْسَ كُلُّ جَائِزٍ مُبَاحًا فَإِنَّا نَقُولُ في أَفْعَالِ اللَّهِ إنَّهَا جَائِزٌ حُدُوثَهَا وَلَا نَقُولُ إنَّهَا مُبَاحَةٌ قال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وهو سُبْحَانَهُ يُرِيدُ الْمُبَاحَ إذَا وَقَعَ لِتَعَلُّقِ إرَادَةِ اللَّهِ ثَمَّتَ
____________________
(1/221)
بِكُلِّ الْمُرَادَاتِ وَخَالَفَتْ الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَيْرُ مُرِيدٍ لِلْمُبَاحِ وَلَا كَارِهٍ له وَنَشَأَ من هذه الْمَسْأَلَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قالوا لو أَرَادَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ فِعْلَ شَيْءٍ وَرَدَتْ فيه صِيغَةُ الْأَمْرِ لم يَكُنْ ذلك إلَّا تَكْلِيفًا مَسْأَلَةٌ ما يُطْلَقُ عليه الْمُبَاحُ يُطْلَقُ الْمُبَاحُ على ثَلَاثَةِ أُمُورٍ الْأَوَّلُ وهو الْمُرَادُ هُنَا ما صَرَّحَ فيه الشَّرْعُ بِالتَّسْوِيَةِ بين الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ لِلْمُسَافِرِ إنْ شِئْت فَصُمْ وَإِنْ شِئْت فَأَفْطِرْ الثَّانِي ما سَكَتَ عنه الشَّرْعُ فَيُقَالُ اسْتَمَرَّ على ما كان وَيُوصَفُ بِالْإِبَاحَةِ على أَحَدِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثِ وهو ما جَازَ فِعْلُهُ اسْتَوَى طَرَفَاهُ أو لَا وقد يُطْلَقُ الْمُبَاحُ على الْمَطْلُوبِ وَمِنْهُ قَوْلُنَا الْحَلْقُ في الْحَجِّ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَالْمُرَادُ بِالْإِبَاحَةِ فيه أَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ في التَّحْلِيلِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْدُوبٍ إلَيْهِ وقد يَجْرِي في كَلَامِ الْفُقَهَاءِ جَازَ له أو لِلْوَلِيِّ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا وَيُرِيدُونَ بِهِ الْوُجُوبَ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا كان الْفِعْلُ دَائِرًا بين الْحُرْمَةِ وَالْوُجُوبِ فَيَسْتَفِيدُ بِقَوْلِهِمْ يَجُوزُ نَفْيُ الْحُرْمَةِ فَيَبْقَى الْوُجُوبُ وَلِهَذَا لَا يَحْسُنُ قَوْلُهُمْ فِيمَنْ عَلِمَ دُخُولَ رَمَضَانَ بِالْحِسَابِ إنَّهُ يَجُوزُ له الصَّوْمُ لِأَنَّ مِثْلَ هذا الْفِعْلِ لَا يُتَنَفَّلُ بِهِ وَكَذَا لَا يَحْسُنُ قَوْلُهُمْ في الصَّبِيِّ لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ لِأَنَّهُ لو صَحَّ وَجَبَ مَسْأَلَةٌ من صِيَغِ الْمُبَاحِ وَمِنْ صِيَغِهِ أَعْنِي الْمُبَاحَ رَفْعُ الْحَرَجِ كَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِلسَّائِلِ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ
____________________
(1/222)
وَمِنْ صِيَغِهِ في الْقُرْآنِ نَفْيُ الْجُنَاحِ وَمِنْ ثَمَّ صَارَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ الْقَصْرَ مُبَاحٌ لَا وَاجِبٌ من قَوْله تَعَالَى فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا من الصَّلَاةِ وَالْجُنَاحُ الْإِثْمُ وَهَذَا من صِفَةِ الْمُبَاحِ لَا الْوَاجِبِ وَأُجِيبُ عن قَوْله تَعَالَى إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ من شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أو اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عليه أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَالسَّعْيُ وَاجِبٌ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا نُزُولُهَا على سَبَبٍ وهو ظَنُّهُمْ أَنَّ السَّعْيَ غَيْرُ جَائِزٍ وَثَانِيهِمَا أنها نَزَلَتْ في أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قبل وُجُوبِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ مَسْأَلَةٌ الْإِبَاحَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ الْإِبَاحَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ يَلْتَفِتُ إلَى تَفْسِيرِ الْمُبَاحِ إنْ عَرَّفَهُ بِنَفْيِ الْحَرَجِ وهو اصْطِلَاحُ الْأَقْدَمِينَ فَنَفْيُ الْحَرَجِ ثَابِتٌ قبل الشَّرْعِ فَلَا يَكُونُ من الشَّرْعِ وَمَنْ فَسَّرَهُ بِالْإِعْلَامِ بِنَفْيِ الْحَرَجِ فَالْإِعْلَامُ بِهِ إنَّمَا يُعْلَمُ من الشَّرْعِ فَيَكُونُ شَرْعِيًّا مَسْأَلَةٌ الْإِبَاحَةُ لَيْسَتْ بِتَكْلِيفٍ الْإِبَاحَةُ وَإِنْ كانت شَرْعِيَّةً لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِتَكْلِيفٍ خِلَافًا لِلْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ فإنه قال إنَّهُ تَكْلِيفٌ على مَعْنَى أَنَّا كُلِّفْنَا اعْتِقَادَ إبَاحَتِهِ وَرُدَّ بِأَنَّ الِاعْتِقَادَ لِلْإِبَاحَةِ ليس بِمُبَاحٍ بَلْ وَاجِبٍ وَكَلَامُنَا في الْمُبَاحِ وَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ إلَّا أَنْ يُقَالَ هو تَكْلِيفٌ بِمَعْرِفَةِ حُكْمِهِ لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ على أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَحِلُّ له الْإِقْدَامُ على فِعْلٍ حتى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فيه وقد يَنْفَصِلُ عن هذا بِأَنَّ الْعِلْمَ بِحُكْمِ الْمُبَاحِ خَارِجٌ عن نَفْسِ الْمُبَاحِ قال الْمَازِرِيُّ وقد غَلَّطَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ثُمَّ وَقَعَ فيه حَيْثُ قال في حَدِّ الْفِقْهِ إنَّهُ الْعِلْمُ بِأَحْكَامِ الْمُكَلَّفِينَ وفي الْفِقْهِ مُبَاحَاتٌ كَثِيرَةٌ قال بَعْضُهُمْ وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِدُخُولِ الْمُبَاحِ في التَّكْلِيفِ هل دخل فيه بِإِذْنٍ
____________________
(1/223)
أو أَمْرٍ على وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا بِإِذْنٍ لِيَخْرُجَ عن حُكْمِ النَّدْبِ وَالثَّانِي بِأَمْرٍ دُونَ أَمْرِ النَّدْبِ كما أَنَّ أَمْرَ النَّدْبِ دُونَ أَمْرِ الْوَاجِبِ وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى خُرُوجِهِ من التَّكْلِيفِ بِإِذْنٍ أو أَمْرٍ لِاخْتِصَاصِ التَّكْلِيفِ بِمَا تَضَمَّنَهُ ثَوَابٌ أو عِقَابٌ مَسْأَلَةٌ الْمُبَاحُ لَا يُسَمَّى قَبِيحًا أَجْمَعُوا على أَنَّ الْمُبَاحَ لَا يُسَمَّى قَبِيحًا وَاخْتَلَفُوا هل يُسَمَّى حَسَنًا أَمْ لَا وهو مُفَرَّعٌ على تَعْرِيفِ الْحَسَنِ وقد سَبَقَ مَسْأَلَةٌ الْمُبَاحُ هل هو جِنْسٌ لِلْوَاجِبِ فيه خِلَافٌ سَبَقَ في إذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ هل يَبْقَى الْجَوَازُ مَسْأَلَةٌ الْمُبَاحُ هل هو مَأْمُورٌ بِهِ الْمُبَاحُ هل هو مَأْمُورٌ بِهِ خِلَافٌ يَنْبَنِي على أَنَّ الْأَمْرَ حَقِيقَةٌ في مَاذَا هل هو نَفْيُ الْحَرَجِ عن الْفِعْلِ أو حَقِيقَةٌ في الْوُجُوبِ أو في النَّدْبِ أو في الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا فَعَلَى الْأَوَّلِ هو مَأْمُورٌ بِهِ بِخِلَافِ الثَّانِي وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ ليس مَأْمُورًا بِهِ من حَيْثُ هو خِلَافًا لِلْكَعْبِيِّ حَيْثُ قال كُلُّ فِعْلٍ يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُبَاحٌ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَرَكَ بِهِ الْحَرَامَ وَحَكَاهُ ابن الصَّبَّاغِ عن أبي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِفِعْلِهِ مُطِيعًا بِنَاءً على قَوْلِهِ إنَّ الْمُبَاحَ حَسَنٌ وَصَرَّحَ الْقَاضِي عن الْكَعْبِيِّ في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ بِأَنَّ الْمُبَاحَ مَأْمُورٌ بِهِ دُونَ الْأَمْرِ بِالنَّدْبِ وَالنَّدْبَ دُونَ الْأَمْرِ بِالْإِيجَابِ قال الْقَاضِي وهو وَإِنْ أَطْلَقَ الْأَمْرَ على الْمُبَاحِ فَلَا يُسَمَّى الْمُبَاحُ وَاجِبًا وَلَا الْإِبَاحَةُ إيجَابًا وَتَبِعَهُ في هذا الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى وابن الْقُشَيْرِيّ في أُصُولِهِ وَعَلَى هذا فَلَا يَكُونُ الْكَعْبِيُّ مُفَاجِئًا بِإِنْكَارِ الْمُبَاحِ وهو قَضِيَّةُ اسْتِدْلَالِهِ وَنَقَلَ الْإِمَامُ عنه في الْبُرْهَانِ وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ أَنَّهُ بَاحَ بِإِنْكَارِ الْمُبَاحِ في
____________________
(1/224)
الشَّرِيعَةِ وقال هو وَاجِبٌ وَكَذَا نَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ والأوسط وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرُهُمْ وَالْأَلْيَقُ بِهِ ما ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَكَذَلِكَ نَقَلَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَنَسَبَهُ إلَى مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ فلم يَنْفَرِدْ بِهِ إذَنْ كما قال بَعْضُهُمْ فَقَدْ قال بِهِ أبو الْفَرَجِ من الْمَالِكِيَّةِ حَكَاهُ عنه الْبَاجِيُّ ثُمَّ قال إنْ كان مُرَادُهُمْ بِكَوْنِ الْمُبَاحِ مَأْمُورًا بِهِ أَنَّهُ مَأْذُونٌ في فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ فَالْخِلَافُ في الْعِبَارَةِ وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ الْإِبَاحَةَ لِلْفِعْلِ اقْتِضَاءٌ له على جِهَةِ الْإِيجَابِ أو النَّدْبِ وَأَنَّ فِعْلَ الْمُبَاحِ خَيْرٌ من تَرْكِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وقال الْإِبْيَارِيُّ ذَهَبَ الْكَعْبِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا مُبَاحَ في الشَّرِيعَةِ وَلَهُ مَأْخَذَانِ أَحَدُهُمَا وهو الصَّحِيحُ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُبَاحَ مَأْمُورٌ بِهِ وَلَكِنَّهُ دُونَ النَّدْبِ كما أَنَّ الْمَنْدُوبَ مَأْمُورٌ بِهِ وَلَكِنْ دُونَ الْوَاجِبِ وَهَذَا بَنَاهُ على أَنَّ الْمُبَاحَ حَسَنٌ وَيَحْسُنُ أَنْ يَطْلُبَهُ الطَّالِبُ لِحُسْنِهِ وَهَذَا هو الذي اعْتَمَدَهُ في الْفَتْوَى وهو غَيْرُ مَعْقُولٍ فإن هذا الْمَطْلُوبَ إمَّا أَنْ يَتَرَجَّحَ فِعْلُهُ على تَرْكِهِ أو لَا فَإِنْ لم يَتَرَجَّحْ فَهُوَ الْمُبَاحُ بِعَيْنِهِ وَإِنْ تَرَجَّحَ فَإِنْ لَحِقَ الذَّمُّ على تَرْكِهِ فَهُوَ الْوَاجِبُ وَإِلَّا فَهُوَ الْمَنْدُوبُ وَمَنْ تَخَيَّلَ وَاسِطَةً فَلَا عَقْلَ له انْتَهَى وَأَلْزَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَصْحَابَنَا الْمَصِيرَ إلَى مَقَالَةِ الْكَعْبِيِّ من قَوْلِهِمْ النَّهْيُ عن الشَّيْءِ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ من حَيْثُ إنَّ الزِّنَى لَمَّا كان مَنْهِيًّا عنه فإن الْقَوَاطِعَ عنه بِالِاشْتِغَالِ لَا تَكَادُ تَنْحَصِرُ وَلَكِنْ مع هذا كَوْنِ حُكْمِهَا عِنْدَ الْكَعْبِيِّ أو أَحَدِهَا وَاجِبًا على الْمُكَلَّفِ الْتَبَسَ بِهِ لِيَكُونَ قَاطِعًا له عن الزِّنَى وَيُخَيَّرُ في الْأَشْغَالِ الْقَاطِعَةِ فما اخْتَارَ أَنْ يَتَلَبَّسَ بِهِ منها تَعَيَّنَ وُجُوبُهُ كما يقول أَصْحَابُنَا إنَّ النَّهْيَ عن الشَّيْءِ الذي له أَضْدَادٌ كَثِيرَةٌ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ التي يَكُونُ التَّلَبُّسُ بها يَقْطَعُهُ عن ذلك الْمَنْهِيِّ عنه وَيَكُونُ مُخَيَّرًا في التَّلَبُّسِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَيَجْرِي مَجْرَى التَّخْيِيرِ في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالْحَقُّ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ بِخِطَابِ الْإِبَاحَةِ إنَّمَا هو ذَاتُهُ من غَيْرِ اعْتِبَارٍ آخَرَ فَأَمَّا من جِهَةِ أَنَّهُ شَاغِلٌ عن الْمَعَاصِي فَلَيْسَ هذا بِمَقْصُودِ الشَّرْعِ وَلَا هو الْمَطْلُوبُ من الْمُكَلَّفِ وما صَوَّرَهُ الْكَعْبِيُّ من كَوْنِ ذلك ذَرِيعَةً وَوَسِيلَةً فَلَا نُنْكِرُهُ وَلَكِنْ الْمُنْكَرُ قَصْدُ الشَّارِعِ إلَيْهِ وَلِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ على أَنَّ الْإِبَاحَةَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَأَنَّهُ نَقِيضُ الْوَاجِبِ وَكَوْنُهَا وُصْلَةً لَا يَغْلِبُ حُكْمُهَا الْمَقْصُودَ الْمَنْصُوصَ عليه شَرْعًا وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ مَذْهَبُ الْكَعْبِيِّ يَتَّجِهُ على الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن ضِدِّهِ وَلَا طَرِيقَ إلَى الْجَمْعِ بين ذلك الْمَذْهَبِ وَخِلَافِ الْكَعْبِيِّ وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ الْوَاجِبَ ما تَعَلَّقَ بِهِ خِطَابٌ مَقْصُودٌ وَالْإِبَاحَةُ مَقْصُودَةٌ في
____________________
(1/225)
الْإِبَاحَاتِ ولم يُشْرَعْ لِلنَّهْيِ عن الْمَحْظُورَاتِ وَقَوْلُ الْقَائِلِ لَا تَزْنِ وَلَا تَسْرِقْ لم يُطْلَقْ له الرَّوَاحُ وَالْمَجِيءُ من غَيْرِ خُطُورِ النَّهْيِ عن السَّرِقَةِ وَلَيْسَ الْوُجُوبُ وَصْفًا رَاجِعًا إلَى الْعَيْنِ حتى يُقَالَ لَا أَثَرَ لِقَصْدِ الْمُخَاطَبِ فيه وَلَعَلَّ الْكَعْبِيَّ يَعْتَقِدُ الْوُجُوبَ وَصْفًا رَاجِعًا إلَى الْعَيْنِ كما قالوا في الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ أو يُخَالِفُ في الْعِبَارَةِ قال وَبِالْجُمْلَةِ فَالْخِلَافُ في هذه الْمَسْأَلَةِ يَرْجِعُ إلَى عِبَارَةِ إذْ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ فَائِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَلَا عَقْلِيَّةٌ نعم قد يَتَعَلَّقُ بِهِ فَوَائِدُ شَرْعِيَّةٌ فإن النَّاوِيَ لِلصَّوْمِ لَا يَقْصِدُ الْإِمْسَاكَ لَيْلًا وَلَا يَنْوِي بِصَوْمِهِ تَقَرُّبًا وقد يُقَالُ ذلك لِأَنَّ الْوَاجِبَ منه مَجْهُولٌ لَا يُدْرَى مِقْدَارُهُ فَيُقَالُ الْمَجْهُولُ كَيْفَ يَكُونُ وَاجِبًا وَلَا إمْكَانَ فيه وَالْمُخَالِفُ فيه يقول لَا جَرَمَ هذا النَّوْعُ وَآخِرُ جُزْءٍ من الرَّأْسِ لَا يَتَّصِفَانِ بِالْوُجُوبِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مِنْهُمَا لَا يَتَبَيَّنُ فَلَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ فَتَبْقَى تَسْمِيَةُ الْوَاجِبِ من هذه الْجِهَةِ وَإِلَّا فما عَلِمَ الْحَكِيمُ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى أَدَاءُ الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ يَجْعَلُهُ وَاجِبًا انْتَهَى وقال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ بَنَى الْكَعْبِيُّ مَذْهَبَهُ على أَصْلٍ إذَا سَلِمَ له فَالْحَقُّ ما قَالَهُ وهو أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن ضِدِّهِ وَالنَّهْيَ عن الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ وَلَا مُخَلِّصَ من مَذْهَبِهِ إلَّا بِإِنْكَارِ هذا الْأَصْلِ انْتَهَى وَكَذَا قال الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ احْتَجَّ الْكَعْبِيُّ بِأَنَّ فِعْلَ الْمُبَاحِ تَرْكُ الْحَرَامِ لِأَنَّهُ ما من مُبَاحٍ إلَّا وهو تَرْكٌ لِمَحْظُورٍ وَتَرْكُ الْحَرَامِ وَاجِبٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْمُبَاحِ وَاجِبًا من جِهَةِ وُقُوعِهِ تَرْكًا لِمَحْظُورٍ وَأُجِيبُ عنه بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ من فِعْلِهِ تَرْكُ الْحَرَامِ لِجَوَازِ تَرْكِهِ بِوَاجِبٍ أو مَنْدُوبٍ فَلَا يَكُونُ تَرْكًا لِلْحَرَامِ بَلْ يَحْصُلُ بِهِ تَرْكُهُ وَلَا يَتَعَيَّنُ الْمُبَاحُ الذي بِهِ يُتْرَكُ الْحَرَامُ قال ابن الْحَاجِبِ وَفِيهِ إقْرَارٌ بِأَنَّ بَعْضَ الْمُبَاحِ وَاجِبٌ قال الْآمِدِيُّ هذا الْجَوَابُ صَادِرٌ مِمَّنْ لم يَعْلَمْ كَلَامَهُ فإنه إذَا ثَبَتَ أَنَّ تَرْكَ الْحَرَامِ وَاجِبٌ وَأَنَّهُ لَا يَتِمُّ بِدُونِ التَّلَبُّسِ بِضِدِّهِ من أَضْدَادِهِ وقد تَقَرَّرَ أَنَّ ما لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ فَالتَّلَبُّسُ بِضِدٍّ من أَضْدَادِهِ وَاجِبٌ وَالثَّانِي أَنَّهُ يَلْزَمُ إذَا تَرَكَ وَاجِبًا مُضَيَّقًا كَإِنْقَاذِ أَعْمَى من بِئْرٍ وَاشْتَغَلَ بِالصَّلَاةِ أَنَّهُ حَرَامٌ
____________________
(1/226)
قال ابن الْحَاجِبِ وهو يَلْتَزِمُهُ قال وَلَا مُخَلِّصَ عنه إلَّا بِأَنَّ ما لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ من عَقْلِيٍّ أو عَادِيٍّ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَعَلَّ هذا هو الذي دَعَاهُ إلَى ذلك في مَسْأَلَةِ مُقَدِّمَةِ الْوَاجِبِ وَاعْلَمْ أَنَّ هذا السُّؤَالَ اسْتَصْعَبَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَزَعَمُوا أَنَّ كَلَامَ الْكَعْبِيِّ صَحِيحٌ حتى قال الْآمِدِيُّ عَسَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَ غَيْرِي حَلُّهُ وَنَحْنُ نَقُولُ قَوْلُهُ إنَّ الْحَرَامَ إذَا تُرِكَ بِهِ حَرَامٌ آخَرُ يَكُونُ وَاجِبًا من جِهَةٍ أُخْرَى يُقَالُ عليه إنَّ التَّفْصِيلَ بِالْجِهَتَيْنِ إنَّمَا هو في الْعَقْلِ دُونَ الْخَارِجِ فَلَيْسَ لنا في الْخَارِجِ فِعْلٌ وَاحِدٌ يَكُونُ وَاجِبًا حَرَامًا لِاسْتِحَالَةِ تَقَوُّمِ الْمَاهِيَّةِ بِفَصْلَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ وَهُمَا فَصْلُ الْوُجُوبِ وَفَصْلُ الْحُرْمَةِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا يُقَالُ على قَوْلِهِ إنَّ الْمُبَاحَ وَاجِبٌ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْوُجُوبِ وَالْإِبَاحَةِ في الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وقد عُلِمَ بِالْبَدِيهَةِ امْتِنَاعُ تَقْوِيمِ الْمَاهِيَّةِ بِفَصْلَيْنِ أو فُصُولٍ مُتَعَانِدَةٍ وَمِنْ ثَمَّ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ مُمَيِّزَانِ ذَاتِيَّانِ بِخِلَافِ الْمُمَيِّزَيْنِ الْعَرَضِيَّيْنِ الْخَاصَّيْنِ وَاللَّازِمَيْنِ وَأَيْضًا نَقُولُ قَوْلُهُ فِعْلُ الْمُبَاحِ تَرْكُ الْحَرَامِ قُلْنَا تَرْكُهُ له بِخُصُوصِهِ أو تَرْكٌ له مع غَيْرِهِ وَالْأَوَّلُ يَلْزَمُ منه كَوْنُ الْفِعْلِ وَاجِبًا وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا نُسَلِّمُ وَسَنَدُ الْمَنْعِ أَنَّ التَّلَبُّسَ بِالْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ تَرْكٌ لِجَمِيعِ الْأَفْعَالِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ وَالْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ وَالْمُبَاحَةِ غير الْفِعْلِ الْمُتَلَبَّسِ بِهِ وَتَرْكُ الْجَمْعِ الْمَذْكُورِ لَا يَتَعَيَّنُ بِهِ ضِدٌّ مُعَيَّنٌ عَمَلًا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ على الْكَافِرِ فإنه لم يَتَعَيَّنْ من مَفْهُومِهِ وُجُوبُ الصَّلَاةِ على الْمُسْلِمِ ثُمَّ نَقُولُ ما ذَكَرْتُمْ وَإِنْ دَلَّ على وُجُوبِهِ قُلْنَا ما يَدُلُّ على إبَاحَتِهِ من وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ فِعْلَ الْمُبَاحِ مُسْتَلْزِمٌ لِتَرْكِ الْوَاجِبِ الذي ليس بِمُضَيَّقٍ وَلِتَرْكِ الْحَرَامِ وإذا تَعَارَضَتْ اللَّوَازِمُ تَسَاقَطَتْ فَيَبْقَى الْمُبَاحُ على إبَاحَتِهِ الثَّانِي أَنَّ فِعْلَ الْمُبَاحِ مُسْتَلْزِمٌ لِتَعَارُضِ اللُّزُومِ الذي اسْتَلْزَمَهُ لَوَازِمُ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ وَمَتَى تَعَارَضَتْ اللَّوَازِمُ تَسَاقَطَتْ الثَّالِثِ أَنَّا لو فَرَضْنَا جَمِيعَ الْأَفْعَالِ دَائِرَةً أَخَذَتْ الْأَفْعَالُ الْمُبَاحَةُ خُمْسَهَا فإذا حَصَلَ الْفِعْلُ الْمُتَلَبَّسُ بِهِ فَهُوَ مَرْكَزُ الدَّائِرَةِ وإذا كان مَثَلًا مُبَاحًا بِالذَّاتِ الذي أَقَرَّ الْكَعْبِيُّ بِهِ حَصَلَ لِلْفِعْلِ الْمَذْكُورِ نِسْبَةٌ إلَى كل خُمْسٍ من أَجْزَاءِ الدَّائِرَةِ وَالْفَرْضُ أَنَّهُ مُبَاحٌ فَتَسَاقَطَتْ النِّسَبُ الْخَمْسُ وَتَبْقَى الْإِبَاحَةُ الذَّاتِيَّةُ الثَّانِي من أَدِلَّةِ الدَّائِرَةِ إذَا تَلَبَّسَ الْمُتَلَبِّسُ حَصَلَتْ له الْإِبَاحَةُ بِالذَّاتِ وَبِالنِّسْبَةِ حَصَلَ منه الْوُجُوبُ نَاشِئًا عن النِّسْبَةِ وَكُلُّ ما كان فيه أَمْرَانِ يَقْتَضِيَانِ حُكْمَيْنِ
____________________
(1/227)
عَارَضَهُمَا أَمْرٌ مُسَاوٍ لِأَحَدِهِمَا يَقْتَضِي نَفْيَ ذلك الْحُكْمِ فإنه مُرَجِّحٌ وُقُوعَ نَقِيضِ الْأَمْرَيْنِ فَيَرْجَحُ الْقَوْلُ بِإِبَاحَةِ الْفِعْلِ الْمَذْكُورِ الثَّالِثِ أَنْ تَقُولَ هذا الْفِعْلُ فيه إبَاحَةٌ ذَاتِيَّةٌ وَإِبَاحَةٌ نِسْبِيَّةٌ وَفِيهِ وُجُوبٌ نِسْبِيٌّ مُعَارِضٌ لِلْإِبَاحَةِ فَيَتَسَاقَطَانِ وَتَبْقَى الْإِبَاحَةُ الذَّاتِيَّةُ الرَّابِعِ أَنْ تَقُولَ الْإِبَاحَةُ النِّسْبِيَّةُ تُرَجَّحُ بِانْفِرَادِهَا على الْوُجُوبِ النِّسْبِيِّ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ النِّسْبِيَّةَ مُتَوَقِّفَةٌ على النِّسْبَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْوُجُوبُ يَتَوَقَّفُ على تَرْكِ الْحَرَامِ وَالْحَرَامُ مُتَوَقِّفٌ على النِّسْبَةِ الْمَذْكُورَةِ فَتَرْجَحُ الْإِبَاحَةُ وقد رُدَّ مَذْهَبُ الْكَعْبِيِّ أَيْضًا بِاسْتِلْزَامِ كَوْنِ الْمَنْدُوبِ وَاجِبًا إذْ يُتْرَكُ بِهِ الْحَرَامُ وَكَذَا سَائِرُ الْأَقْسَامِ مع نَقَائِضِهَا وَلَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ انْتِقَالٍ عن تَحْرِيمٍ من قِيَامٍ أو قُعُودٍ أو نَوْمٍ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وهو خَرْقُ الْإِجْمَاعِ وَيَلْزَمُ فِيمَا إذَا اشْتَغَلَ عن الْقَتْلِ بِالزِّنَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فَيَجْمَعُ بين النَّقِيضَيْنِ وهو مُحَالٌ وَلِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَمَنْ سُبِقَ بِالْإِجْمَاعِ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وقال بَعْضُهُمْ الْمُبَاحُ أَحَدُ أَضْدَادِ الْمُحَرَّمِ وَالتَّلَبُّسُ بِأَحَدِهَا وَاجِبٌ وَيَتَعَيَّنُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ فَيَصِحُّ وَصْفُهُ بِالْوُجُوبِ كَالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ وهو قَوِيُّ الْإِشْكَالِ على مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ الْوَاصِفِينَ كُلَّ وَاحِدٍ من التَّخْيِيرِ بِالْوُجُوبِ لَا على مَذْهَبِ من يقول الْوَاجِبُ الْمُسَمَّى فإنه لَا يَلْزَمُهُ وَصْفُ أَحَدِ الْمُبَاحَاتِ على التَّعْبِيرِ بِالْوُجُوبِ
____________________
(1/228)
فَصْلٌ في الْمَنْدُوبِ وهو ما يُمْدَحُ فَاعِلُهُ وَلَا يُذَمُّ تَارِكُهُ من حَيْثُ هو تَارِكٌ له فَخَرَجَ بِالْقَيْدِ ما لو أَقْدَمَ على ضِدٍّ من أَضْدَادِ الْمَنْدُوبِ وهو مَعْصِيَةٌ في نَفْسِهِ فَيَلْحَقُهُ الْإِثْمُ إذَا تَرَكَ الْمَنْدُوبَ من حَيْثُ عِصْيَانُهُ لَا من حَيْثُ تَرْكُهُ الْمَنْدُوبَ قَالَهُ في التَّلْخِيصِ قال وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ ما يُمْدَحُ فَاعِلُهُ وَلَا يُذَمُّ تَارِكُهُ بَاطِلٌ لِصِدْقِهِ على فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُسَمَّى نَدْبًا كما لَا يُسَمَّى مُبَاحًا وَالنَّدْبُ وَالْمُسْتَحَبُّ وَالتَّطَوُّعُ وَالسُّنَّةُ أَسْمَاءٌ مُتَرَادِفَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وفي الْمَحْصُولِ لَفْظُ السُّنَّةِ يَخْتَصُّ في الْعُرْفِ بِالْمَنْدُوبِ بِدَلِيلِ قَوْلِنَا هذا الْفِعْلُ وَاجِبٌ أو سُنَّةٌ وَمِنْهُمْ من قال السُّنَّةُ لَا تَخْتَصُّ بِالْمَنْدُوبِ بَلْ تَتَنَاوَلُ ما عُلِمَ وُجُوبُهُ أو نَدْبِيَّتُهُ ا هـ وقال الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ ما عَدَا الْفَرَائِضَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ سُنَّةٌ وَهِيَ ما وَاظَبَ عليها النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَمُسْتَحَبٌّ وهو ما فَعَلَهُ مَرَّةً أو مَرَّتَيْنِ وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمْ بِهِ ما أَمَرَ بِهِ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ فَعَلَهُ وَتَطَوُّعَاتٌ وهو ما لم يَرِدْ فيه بِخُصُوصِهِ نَقْلٌ بَلْ يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ ابْتِدَاءً كَالنَّوَافِلِ الْمُطْلَقَةِ وَرَدَّهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في الْمِنْهَاجِ بِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حَجَّ في عُمُرِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَأَفْعَالُهُ فيها سُنَّةٌ وَإِنْ لم تَتَكَرَّرْ وَالِاسْتِسْقَاءُ من الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةُ لم يُنْقَلْ إلَّا مَرَّةً وَذَلِكَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ ا هـ وفي وَجْهٍ ثَالِثٍ أَنَّ النَّفَلَ وَالتَّطَوُّعَ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ وَهُمَا ما سِوَى الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَالْمُسْتَحَبِّ وَنَحْوُ ذلك أَنْوَاعٌ لها وفي وَجْهٍ رَابِعٍ قَالَهُ الْحَلِيمِيُّ السُّنَّةُ ما اُسْتُحِبَّ فِعْلُهُ وَكُرِهَ تَرْكُهُ وَالتَّطَوُّعُ ما اُسْتُحِبَّ فِعْلُهُ ولم يُكْرَهْ تَرْكُهُ وفي وَجْهٍ خَامِسٍ حَكَاهُ في بَابِ الْوُضُوءِ من الْمَطْلَبِ السُّنَّةُ ما فَعَلَهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالْمُسْتَحَبُّ ما أَمَرَ بِهِ سَوَاءٌ فَعَلَهُ أو لَا أو فَعَلَهُ ولم يُدَاوِمْ عليه فَالسُّنَّةُ إذًا مَأْخُوذَةٌ من الْإِدَامَةِ وَقِيلَ السُّنَّةُ ما تُرَتَّبُ كَالرَّوَاتِبِ مع الْفَرَائِضِ وَالنَّفَلُ وَالنَّدْبُ ما زَادَ على ذلك حَكَاهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في اللُّمَعِ
____________________
(1/229)
وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ النَّفَلُ قَرِيبٌ من النَّدْبِ إلَّا أَنَّهُ دُونَهُ في الرُّتْبَةِ وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ما ارْتَفَعَتْ رُتْبَتُهُ في الْأَمْرِ وَبَالَغَ الشَّرْعُ في التَّخْصِيصِ منه يُسَمَّى سُنَّةً وما كان في أَوَّلِ هذه الْمَرَاتِبِ تَطَوُّعًا وَنَافِلَةً وما تَوَسَّطَ بين هَذَيْنِ فَضِيلَةً وَمُرَغَّبًا فيه وَفَرَّقَ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ بين السُّنَّةِ وَالْهَيْئَةِ بِأَنَّ الْهَيْئَةَ ما يَتَهَيَّأُ بها فِعْلُ الْعِبَادَةِ وَالسُّنَّةَ ما كانت في أَفْعَالِهَا الرَّاتِبَةِ فيها وَجَعَلَ التَّسْمِيَةَ وَغَسْلَ الْكَفَّيْنِ في الْوُضُوءِ من الْهَيْئَاتِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا سُنَّةٌ وَالْخِلَافُ يَرْجِعُ إلَى الْعِبَارَةِ وقال ابن الْعَرَبِيِّ أخبرنا الشَّيْخُ أبو تَمَّامٍ بِمَكَّةَ قال سَأَلْت الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ بِبَغْدَادَ عن قَوْلِ الْفُقَهَاءِ إنَّهُ سُنَّةٌ وَفَضِيلَةٌ وَنَفْلٌ وَهَيْئَةٌ فقال هذه عَامِّيَّةٌ في الْفِقْهِ وما يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إلَّا فَرْضٌ لَا غَيْرُ قال وقد اتَّبَعَهُمْ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فذكر أَنَّ في الصَّلَاةِ سُنَّةً وَهَيْئَةً وَأَرَادَ بِالْهَيْئَةِ رَفْعَ الْيَدَيْنِ وَنَحْوَهُ قال وَهَذَا كُلُّهُ يَرْجِعُ إلَى السُّنَّةِ قال وَأَمَّا أنا فَقَدْ سَأَلْت عن هذا أُسْتَاذِي الْقَاضِي أَبَا الْعَبَّاسِ الْجُرْجَانِيَّ بِالْبَصْرَةِ فقال هذه أَلْقَابٌ لَا أَصْلَ لها وَلَا نَعْرِفُهَا في الشَّرْعِ قُلْت له قد ذَكَرَهَا أَصْحَابُنَا الْبَغْدَادِيُّونَ عبد الْوَهَّابِ وَغَيْرُهُ فقال الْجَوَابُ عَلَيْكُمْ قال ابن الْعَرَبِيِّ وَفَرَّقَ أَصْحَابُنَا النُّظَّارُ فَقَالُوا السُّنَّةُ ما صَلَّاهَا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في جَمَاعَةٍ وَدَاوَمَ عليها وَلِهَذَا لم يَجْعَلْ مَالِكٌ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ سُنَّةً وَالْفَضِيلَةُ ما دخل في الصَّلَاةِ وَلَيْسَ من أَصْلِ نَفْسِهَا كَالْقُنُوتِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ قال وَهَذَا خِلَافٌ لَفْظِيٌّ لَا يَظْهَرُ إلَّا في الثَّوَابِ فَالسُّنَّةُ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ وَالنَّدْبُ وَمُتَعَلِّقُهُ من الثَّوَابِ أَكْثَرُ من غَيْرِهِ وقد رَكِبَ الشَّافِعِيُّ مَسْلَكًا ضَيِّقًا فَأَطْلَقَ على الْجَمِيعِ سُنَّةً ثُمَّ قال إنَّ تَرْكَ السُّورَةِ لَا يَقْتَضِي سُجُودَ السَّهْوِ وَتَرْكَ الْقُنُوتِ يَقْتَضِي حتى قال أَصْحَابُنَا لَا يُوجَدُ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مَسْأَلَةٌ الْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِهِ الْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِهِ حَقِيقَةً في قَوْلِ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيِّ وَابْنِ الصَّبَّاغِ وَنَقَلَهُ عن أبي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ وَكَثِيرٍ من الْأَصْحَابِ وقال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَصَوَّرَ الْمَسْأَلَةَ بِمَا إذَا وَرَدَ لَفْظُ الْأَمْرِ وَدَلَّ الدَّلِيلُ على أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّدْبُ فإن ذلك لَا يَجْعَلُهُ مَجَازًا لِأَنَّهُ حَمْلٌ
____________________
(1/230)
على بَعْضِ ما يَتَنَاوَلُهُ وَإِخْرَاجُ الْبَعْضِ فَكَانَ حَقِيقَةً كَلَفْظِ الْعُمُومِ إذَا خُصَّ في بَعْضِ ما يَتَنَاوَلُهُ وَبِهِ قال أبو هَاشِمٍ وَغَيْرُهُ وَنَقَلَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُ عن الْمُعْتَزِلَةِ وَلِهَذَا قَسَّمُوا الْأَمْرَ إلَى وَاجِبٍ وَنَدْبٍ وَمَوْرِدُ التَّقْسِيمِ مُشْتَرَكٌ وقال الْكَرْخِيّ وأبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ ليس مَأْمُورًا بِهِ حَقِيقَةً بَلْ مَجَازًا وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وأبو إِسْحَاقَ وأبو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ وَاسْتَحْسَنَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ عن مُعْظَمِ الْأَصْحَابِ وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ عن الشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وقال ابن الْعَرَبِيِّ إنَّهُ الصَّحِيحُ وقال الرَّازِيَّ في الْمَحْصُولِ إنَّهُ الْمُخْتَارُ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ فَقَدْ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في شَرْحِ الْكِفَايَةِ الصَّحِيحُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمَنْدُوبَ مَأْمُورٌ بِهِ وقد نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ في كُتُبِهِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال ليس مَأْمُورًا بِهِ وهو خِلَافُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فَإِنْ ثَبَتَ هذا كان في الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ قال ابن الصَّبَّاغِ وَقَوْلُنَا إنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ يَدُلُّ على أَنَّهُ ليس مَأْمُورًا بِهِ وقال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَالصَّوَابُ أَنَّ الْأَمْرَ إنْ كان حَقِيقَةً في الْوُجُوبِ فَقَطْ فَالْمَنْدُوبُ ليس مَأْمُورًا بِهِ وَإِلَّا فَمَأْمُورٌ بِهِ قال وَالْعَجَبُ من قَوْلِ الْغَزَالِيِّ فإنه من جُمْلَةِ الْوَاقِفِيَّةِ في مُقْتَضَى الْأَمْرِ فَكَيْفَ اخْتَارَ أَنَّ الْمَنْدُوبَ مَأْمُورٌ بِهِ وكان من حَقِّهِ التَّوَقُّفُ فيه فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ مع الْقَوْلِ بِأَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ حَقِيقَةٌ في الْوُجُوبِ وَهَذَا السُّؤَالُ يَخُصُّ الْآمِدِيَّ وَابْنَ الْحَاجِبِ فَإِنَّهُمَا زَعَمَاهُ كَذَلِكَ قُلْنَا الْكَلَامُ هُنَا في الْأَمْرِ هو صِيغَةُ أ م ر لَا في صِيغَةِ افْعَلْ وَالْأَمْرُ مَقُولٌ على الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ بِالْحَقِيقَةِ وافعل يَخْتَصُّ بِالْوُجُوبِ وَمِنْهُمْ من قال الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَكُونُ إلَّا إيجَابًا وَأَمَّا الْمَنْدُوبُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مُقَيَّدًا لَا مُطْلَقًا فَيَدْخُلُ في مُطْلَقِ الْأَمْرِ لَا في الْمُطْلَقِ وَأَمَّا كَوْنُهُ حَقِيقَةً أو مَجَازًا فَهُوَ بَحْثٌ آخَرُ وقد أَجَابَ عنه أبو مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ من الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ مُشَكَّكٌ كَالْوُجُودِ وَالْبَيَاضِ وَأَجَابَ الْقَاضِي منهم بِأَنَّ النَّدْبَ بَعْضُ الْوُجُوبِ فَهُوَ كَدَلَالَةِ الْعَلَمِ على بَعْضِهِ وهو ليس بِمَجَازٍ وَإِنَّمَا الْمَجَازُ دَلَالَتُهُ على غَيْرِهِ قِيلَ وَالْمَنْدُوبُ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ إلَّا أَنَّ إطْلَاقَهُ على الْوَاجِبِ أَوْلَى أو هو الظَّاهِرُ من الْإِطْلَاقِ وَذَلِكَ بِحَسَبِ الِاسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيِّ ثُمَّ قِيلَ الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ إذْ الْمَنْدُوبُ مَطْلُوبٌ بِالِاتِّفَاقِ كما قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ فَعَلَى هذا مَطْلُوبُ هذه الْمَسْأَلَةِ هل اقْتِضَاءُ الشَّرْعِ لِلْمَنْدُوبِ أَمْرٌ حَقِيقَةً
____________________
(1/231)
أَمْ لَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَعْنَوِيٌّ وَلَهُ فَوَائِدُ أَحَدُهَا قال الْمَازِرِيُّ وَالْإِبْيَارِيُّ إنَّمَا جَعَلَ الْإِمَامُ الْخِلَافَ لَفْظِيًّا لِتَعَلُّقِهِ بِبَحْثِ اللُّغَةِ وَإِلَّا فَفَائِدَتُهَا في الْأُصُولِ أَنَّهُ إذَا قال الرَّاوِي أُمِرْنَا أو أَمَرَنَا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِكَذَا فَإِنْ قُلْنَا لَفْظُ الْأَمْرِ يَخْتَصُّ بِالْوُجُوبِ كان اللَّفْظُ ظَاهِرًا في ذلك حتى يَقُومَ دَلِيلٌ على خِلَافِهِ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ خُولِفَ فيها من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْبَحْثُ الْعَقْلِيُّ هل وَجَدَ في النَّدْبِ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَالثَّانِي هل يُسَمَّى النَّدْبُ أَمْرًا وَهَذَا بَحْثٌ لُغَوِيٌّ وقد نُوزِعَ في الْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَكَذَا جَعَلَ ابن بَرْهَانٍ من فَوَائِدِ الْخِلَافِ ما لو قال الصَّحَابِيُّ أُمِرْنَا أو أَمَرَنَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أو نَهَانَا فَعِنْدَنَا يَجِبُ قَبُولُهُ وقال الظَّاهِرِيَّةُ لَا يُقْبَلُ حتى يُعْقَلَ لَفْظُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ عِنْدَهُمْ ليس بِمَأْمُورٍ بِهِ وَعِنْدَنَا مَأْمُورٌ بِهِ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ إذَا وَرَدَ لَفْظُ الْأَمْرِ وَدَلَّ دَلِيلٌ على أَنَّهُ لم يُرِدْ بِهِ الْوُجُوبَ فَمَنْ قال بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ حَمَلَهُ على النَّدْبِ ولم يَحْتَجْ في ذلك إلَى دَلِيلٍ لِأَنَّ اللَّفْظَ عِنْدَهُ حَقِيقَتَيْنِ إحْدَاهُمَا بِالْإِطْلَاقِ وَالْأُخْرَى بِالتَّقْيِيدِ وَكَمَا حُمِلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ على إحْدَاهُمَا حُمِلَ عِنْدَ التَّقْيِيدِ على الْأُخْرَى وَمَنْ قال إنَّهُ مَجَازٌ لم يَحْمِلْهُ عليه إلَّا بِدَلِيلٍ لِأَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ على الْمَجَازِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلَالَةٍ ذَكَرَهُ سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ الثَّالِثَةُ لِحَمْلِ لَفْظِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ على الْوُجُوبِ أو النَّدْبِ وَجْهَانِ وقال في الْمَحْصُولِ مَنْشَأُ الْخِلَافِ هَاهُنَا أَنَّ الْأَمْرَ حَقِيقَةٌ في مَاذَا فَإِنْ كان حَقِيقَةً في التَّرْجِيحِ الْمُطْلَقِ من غَيْرِ إشْعَارٍ بِجَوَازِ الْمَنْعِ من التَّرْكِ وَلَا بِالْمَنْعِ منه فَالْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِهِ وَإِنْ كان حَقِيقَةً في التَّرْجِيحِ الْمَانِعِ من النَّقِيضِ فَلَا يَكُونُ مَأْمُورًا
____________________
(1/232)
بِهِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْأَمْرَ إنْ كان حَقِيقَةً في الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بين الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ كان مَأْمُورًا بِهِ وَإِنْ كان حَقِيقَةً في الْوُجُوبِ فَلَا وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ على أَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ بِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ على أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ لَأَمَرْتُهُمْ أَمْرَ إيجَابٍ لَا أَمْرَ نَدْبٍ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ الْبَزَّارِ في مُسْنَدِهِ لَفَرَضْتُ عليهم فُرُوعٌ الْمَنْدُوبُ حَسَنٌ بِلَا خِلَافٍ وهو من التَّكْلِيفِ عِنْدَ الْقَاضِي خِلَافًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وهو مَبْنِيٌّ على تَفْسِيرِ التَّكْلِيفِ وَسَيَأْتِي وَلَا يَجِبُ بِالشُّرُوعِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَإِلَّا لَنَاقَضَ أَصْلَ نَدْبِيَّتِهِ وَأَمَّا وُجُوبُ إتْمَامِ الْحَجِّ فَلِاخْتِصَاصِهِ بِأَنَّ فَرْضَهُ كَنَفْلِهِ نِيَّةً وَكَفَّارَةً وَغَيْرِهِمَا وَمِنْهُمْ من جَعَلَهَا مُفَرَّعَةً على مَسْأَلَةِ الْكَعْبِيِّ وهو أَنَّ ما جَازَ تَرْكُهُ لَا يَكُونُ فِعْلُهُ وَاجِبًا وَالْحَقُّ خِلَافُهُ لِأَنَّ مَسْأَلَةَ الْكَعْبِيِّ ما يَجُوزُ تَرْكُهُ وَالْقَائِلُ بِالْوُجُوبِ هُنَا لَا يُجَوِّزُ التَّرْكَ فَلَا يَصِحُّ تَفْرِيعُهَا عليها قال ابن الْمُنِيرِ وَوَقَعَ لي مَأْخَذٌ لَطِيفٌ لِمَالِكٍ في أَنَّ الشَّرْعَ يُلْزِمُ أَنَّ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ وَنَحْوَهُمَا عِبَادَاتٌ لَا تَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ فَلَوْ رَكَعَ إنْسَانٌ فَتَرَكَ السُّجُودَ لم يَكُنْ مُتَعَبِّدًا أَلْبَتَّةَ فإذا شَرَعَ فِيمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَجَبَ عليه الْإِتْمَامُ وَيَكُونُ التَّقْوِيمُ على مُعْتِقِ الْبَعْضِ أَصْلًا في هذا فإن حَاصِلَهُ إيجَابُ الْإِتْمَامِ على من شَرَعَ وَيَكُونُ نَظِيرَ عِتْقِ مُشْكِلٍ في الْعِبَادَاتِ من حَيْثُ قَبْلُ التَّجْزِئَةِ ابْتِدَاءً وَاسْتَقَرَّتْ فيه التَّنَفُّلُ على الرَّاحِلَةِ لِضَرُورَةِ السَّفَرِ فإنه يَقْتَصِرُ على بَعْضِ الْأَرْكَانِ وَيَنْتَقِلُ من الْإِتْمَامِ إلَى الْإِيمَاءِ قلت وهو يَرْجِعُ لِمُنَاسَبَةٍ مُتَدَافِعَةٍ كما تَرَى وقال ابن عبد الْبَرِّ من احْتَجَّ على الْمَنْعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ فإنه جَاهِلٌ بِأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فيها على قَوْلَيْنِ فَأَكْثَرُهُمْ قالوا لَا تُبْطِلُوهَا بِالرِّيَاءِ وَأَخْلِصُوهَا وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَقِيلَ لَا تُبْطِلُوهَا بِالْكَبَائِرِ وهو قَوْلُ
____________________
(1/233)
الْمُعْتَزِلَةِ وقد يُقَالُ اللَّفْظُ عَامٌّ فَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِذَلِكَ وَلَا يَجِبُ إلَّا بِالنَّذْرِ وفي الِاسْتِذْكَارِ لِلدَّارِمِيِّ في بَابِ الِاعْتِكَافِ إذَا دخل في عَمَلِ تَطَوُّعٍ ثُمَّ نَوَاهُ وَاجِبًا فَحَكَى أبو حَامِدٍ أَنَّ الْمَرْوَزِيِّ قال يَجِبُ وقال غَيْرُهُ لَا يَجِبُ وَهَلْ يَجِبُ بِأَمْرِ الْإِمَامِ يُنْظَرُ فَإِنْ كان من الشَّعَائِرِ الظَّاهِرَةِ وَجَبَ كما لو أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِسْقَاءِ في الْجَدْبِ تَجِبُ طَاعَتُهُ وَإِنْ لم يَكُنْ من الشَّعَائِرِ الظَّاهِرَةِ لَا يَجِبُ كما لو أَمَرَهُمْ بِالْعِتْقِ وَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَأَفْتَى النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ إذَا أَمَرَهُمْ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ من الِاسْتِسْقَاءِ وَجَبَ امْتِثَالُ أَمْرِهِ وَتَوَقَّفَ فيه بَعْضُهُمْ لِأَنَّهُ ليس من الشَّعَائِرِ الظَّاهِرَةِ فَهُوَ يُشْبِهُ أَمْرَهُ بِالصَّدَقَةِ وَذَكَرُوا في السِّيَرِ أَنَّ الْإِمَامَ يَأْمُرُهُمْ بِصَلَاةِ الْعِيدِ وَهَلْ هو وَاجِبٌ أو مُسْتَحَبٌّ فيه وَجْهَانِ قال في الرَّوْضَةِ قُلْت الصَّحِيحُ وُجُوبُ الْأَمْرِ وَإِنْ قُلْنَا صَلَاةُ الْعِيدِ سُنَّةٌ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالطَّاعَةِ لَا سِيَّمَا ما كان شِعَارًا ظَاهِرًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمَنْدُوبِ آكَدَ من بَعْضٍ وَلِهَذَا يَقُولُونَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَلَا يَجِيءُ فيه الْخِلَافُ السَّابِقُ في الْوَاجِبِ كما اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ وَالْمُرَادُ تَفَاصِيلُ الْأُجُورِ وَالثَّوَابِ وَإِنْ تَسَاوَتْ في التَّرْكِ وَقَسَّمَ الْفُقَهَاءُ السُّنَنَ إلَى أَبْعَاضٍ وَهَيْئَاتٍ فَخَصُّوا ما تَأَكَّدَ أَمْرُهُ بِاسْمِ الْبَعْضِ كَأَنَّهُ لِتَأَكُّدِهِ صَارَ كَالْجُزْءِ وهو اصْطِلَاحٌ خَاصٌّ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ لَا خَفَاءَ أَنَّ مَرَاتِبَ السُّنَنِ مُتَفَاوِتَةٌ في التَّأْكِيدِ وَانْقِسَامِ ذلك إلَى دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ وَمُتَوَسِّطَةٍ وَنَازِلَةٍ وَذَلِكَ بِحَسَبِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ على الطَّلَبِ فَمِنْ الناس من قال لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَهِيَ طَرِيقَةُ الشَّافِعِيَّةِ إلَّا أَنَّهُمْ رُبَّمَا فَرَّقُوا بِلَفْظِ الْهَيْئَاتِ قال وَأَمَّا التَّفْرِقَةُ بين السُّنَنِ وَالْفَضَائِلِ كما يَفْعَلُهُ الْمَالِكِيَّةُ فلم أَرَهُ إلَّا في كَلَامِ صَاحِبِ الذَّخَائِرِ فإنه حَكَى وَجْهَيْنِ في أَنَّ غَسْلَ الْكَفِّ من سُنَنِ الْوُضُوءِ أو من فَضَائِلِهِ مَسْأَلَةٌ لَا يُتْرَكُ الْمَنْدُوبُ إذَا صَارَ شِعَارًا لِلْمُبْتَدِعَةِ وَلَا يُتْرَكُ لِكَوْنِهِ صَارَ شِعَارًا لِلْمُبْتَدِعَةِ خِلَافًا لِابْنِ أبي هُرَيْرَةَ وَلِهَذَا تُرِكَ التَّرْجِيعُ في الْأَذَانِ وَالْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْقُنُوتُ في الصُّبْحِ وَالتَّخَتُّمُ في الْيَمِينِ وَتَسْطِيحُ
____________________
(1/234)
الْقُبُورِ مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم تَرَكَ الْقِيَامَ لِلْجِنَازَةِ لَمَّا أُخْبِرَ أَنَّ الْيَهُودَ تَفْعَلُهُ وَأُجِيبُ بِأَنَّ له ذلك لِأَنَّهُ مُشَرِّعٌ بِخِلَافِ غَيْرِهِ لَا يَتْرُكُ سُنَّةً صَحَّتْ عنه وَفَصَّلَ الْغَزَالِيُّ بين السُّنَنِ الْمُسْتَقِلَّةِ وَبَيْنَ الْهَيْئَاتِ التَّابِعَةِ فقال لَا يُتْرَكُ الْقُنُوتُ إذَا صَارَ شِعَارًا لِلْمُبْتَدِعَةِ بِخِلَافِ التَّسْطِيحِ وَالتَّخَتُّمِ في الْيَمِينِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهَا هَيْئَاتٌ تَابِعَةٌ فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا مَسْأَلَةٌ لَا يُتْرَكُ الْمَنْدُوبُ لِخَوْفِ اعْتِقَادِ الْعَامَّةِ وُجُوبَهُ وَلَا يُتْرَكُ لِخَوْفِ اعْتِقَادِ الْعَامَّةِ وُجُوبَهُ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَوَافَقَهُ من أَصْحَابِنَا أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِيمَا حَكَاهُ الدَّارِمِيُّ في الِاسْتِذْكَارِ أَنَّهُ قال لَا أُحِبُّ أَنْ يُدَاوِمَ الْإِمَامُ على مِثْلِ أَنْ يَقْرَأَ كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ بِالْجُمُعَةِ وَنَحْوِهِ لِئَلَّا يَعْتَقِدَ الْعَامَّةُ وُجُوبَهُ مَسْأَلَةٌ سُنَّةُ الْعَيْنِ وَسُنَّةُ الْكِفَايَةِ وَكَمَا يَنْقَسِمُ الْفَرْضُ إلَى عَيْنٍ وَكِفَايَةٍ فَكَذَلِكَ السُّنَّةُ وَسُنَّةُ الْكِفَايَةِ أَنْ يَقَعَ الِامْتِثَالُ لِأَمْرِ الِاسْتِحْبَابِ بِفِعْلِ الْبَعْضِ وَيَنْقَطِعَ دَلَالَةُ النَّصِّ على الِاسْتِحْبَابِ فِيمَا زَادَ على ذلك وَلَا يَبْقَى مُتَسَحَّبًا بَلْ دَاخِلًا في حَيِّزِ الْمُبَاحِ أو غَيْرِهِ بِخِلَافِ سُنَّةِ الْعَيْنِ فَإِنَّهَا بِفِعْلِ الْبَعْضِ الِاسْتِحْبَابُ مَوْجُودٌ في حَقِّ الْبَاقِينَ كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ وَمِثَالُ سُنَّةِ الْعَيْنِ الْوِتْرُ وَصِيَامُ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ وَصَلَاةُ الْعِيدَيْنِ وَمِثَالُ سُنَّةِ الْكِفَايَةِ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ وَالتَّسْلِيمُ وَالتَّشْمِيتُ وَكَذَا الْأُضْحِيَّةَ كما ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ عن الْأَصْحَابِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ إذَا ضَحَّى الرَّجُلُ في بَيْتِهِ فَقَدْ وَقَعَ اسْمُ الْأُضْحِيَّةِ وَكَذَلِكَ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْأَكْلِ حَكَاهُ في الرَّوْضَةِ عن نَصِّ الشَّافِعِيِّ وفي حديث الْأَعْرَابِيِّ ما يَقْتَضِيهِ وَكَذَا ما يُفْعَلُ بِالْمَيِّتِ مِمَّا
____________________
(1/235)
يُنْدَبُ إلَيْهِ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَيُفَارِقُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ سُنَّةَ الْكِفَايَةِ في أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ لَا يُنَافِيهِ الِاسْتِحْبَابُ في حَقِّ من زَادَ على الْقَدْرِ الذي سَقَطَ بِهِ الْفَرْضُ وَالسُّنَّةُ على الْكِفَايَةِ يُنَافِيهَا الِاسْتِحْبَابُ فِيمَا زَادَ من ذلك الْوَجْهِ الذي اقْتَضَى الِاسْتِحْبَابَ وَهُنَا فَائِدَتَانِ إحْدَاهُمَا الْمَشْهُورُ وُقُوعُ سُنَّةِ الْكِفَايَةِ الْمَشْهُورُ وُقُوعُ سُنَّةِ الْكِفَايَةِ وَخَالَفَ في ذلك الشَّاشِيُّ وقال في كِتَابِهِ الْمُعْتَمَدِ في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ما نَصُّهُ لم نَرَ في أُصُولِ الشَّرْعِ سُنَّةً على الْكِفَايَةِ بِحَالٍ وَالسُّنَنُ مَعْلُومَةٌ وَيُخَالِفُ الْفَرْضُ حَيْثُ انْقَسَمَ إلَى عَيْنٍ وَكِفَايَةٍ فإن في الْكِفَايَةِ فَائِدَةً وَهِيَ السُّقُوطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ على الْبَاقِينَ وَالسُّنَّةُ لَا يَظْهَرُ لها أَثَرٌ في كَوْنِهَا على الْكِفَايَةِ لِأَنَّهَا لَا إثْمَ في تَرْكِهَا فَتَسْقُطُ كَمَنْ تَرَكَ بِفِعْلِ من فَعَلَ وَإِنَّمَا هِيَ ثَوَابٌ يَحْصُلُ له بِالسَّلَامِ مَثَلًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ له ثَوَابٌ بِفِعْلِ غَيْرِهِ من غَيْرِ فِعْلٍ يُوجَدُ من جِهَةٍ تُسَاوِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا دخل الْمَسْجِدَ جَمَاعَةٌ سُنَّ لهم تَحِيَّةٌ بِالْمَسْجِدِ وَلَا تَسْقُطُ سُنَّةُ التَّحِيَّةِ في حَقِّ بَعْضِهِمْ بِفِعْلِ الْبَعْضِ وَهَذَا لِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ مُوَجَّهٌ على الْجَمَاعَةِ احْتِيَاطًا لِيَحْصُلَ ذلك الْفَرْضُ فإذا فَعَلَ بَعْضُهُمْ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَسَقَطَ عن الْبَاقِينَ وَالسُّنَّةُ إنَّمَا أُمِرَ بها اسْتِحْبَابًا لِحَظِّ الْمَأْمُورِ في تَحْصِيلِ الثَّوَابِ له فَلَا يَحْصُلُ له ثَوَابٌ بِمَا لَا كَسْبَ له فيه ا هـ الثَّانِيَةُ سُنَّةُ الْكِفَايَةِ أَهَمُّ من سُنَّةِ الْعَيْنِ قد سَبَقَ أَنَّ الْقِيَامَ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَهَمُّ من فَرْضِ الْعَيْنِ من جِهَةِ إسْقَاطِ الْحَرَجِ عن الْكُلِّ فَيَنْبَغِي على هذا أَنْ يُقَالَ بمثله هُنَا في سُنَّةِ الْعَيْنِ وَالْكِفَايَةِ لَكِنْ لَا حَرَجَ هُنَا فَلْيَكُنْ أَفْضَلِيَّةُ سُنَّةِ الْكِفَايَةِ من جِهَةِ تَحْصِيلِهِ الثَّوَابَ لِلْجَمِيعِ وَفِيهِ بُعْدٌ كما تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ لم يَفْعَلْهُ وقد نَقَلَ النَّوَوِيُّ في كِتَابِ الْأُضْحِيَّةِ أَنَّهُ لو اشْتَرَكَ غَيْرُهُ في ثَوَابِ أُضْحِيَّتِهِ وَذَبَحَ عن نَفْسِهِ جَازَ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ تَضْحِيَةُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ وَقَوْلُهُ اللَّهُمَّ
____________________
(1/236)
صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ فَائِدَةٌ الْعِبَادَةُ هِيَ الطَّاعَةُ لِلَّهِ تَعَالَى الْعِبَادَةُ هِيَ الطَّاعَةُ لِلَّهِ تَعَالَى وقال بَعْضُ أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ بِمَا افْتَقَرَ من الطَّاعَاتِ إلَى النِّيَّةِ قَالَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في الْمُلَخَّصِ قال وَالطَّاعَةُ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ وقال ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ الطَّاعَةُ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ وَالْمَعْصِيَةُ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ الطَّاعَةُ مُوَافَقَةُ الْمُطَاعِ وَالْمَعْصِيَةُ مُخَالَفَةُ الْمُرَادِ وَقِيلَ مُخَالَفَةُ الْمَعَاصِي وَهَذَا بِنَاءً منهم على أَنَّ الْأَمْرَ شَرْطُهُ الْإِرَادَةُ قال وَالْعِبَادَةُ ما كان طَاعَةً لِلَّهِ مَنْوِيًّا بِهِ سَوَاءٌ كان فِعْلًا كَالصَّلَاةِ أو تَرْكًا كَالزِّنَا وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ الْوُضُوءُ ليس بِعِبَادَةٍ لِعَدَمِ افْتِقَارِهِ إلَى النِّيَّةِ وَلَنَا أَنَّ الْعِبَادَةَ مُشْتَقَّةٌ من التَّعَبُّدِ وَعَدَمُ النِّيَّةِ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ عِبَادَةً وَهَكَذَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا وَعِنْدِي أَنَّ الْعِبَادَةَ وَالطَّاعَةَ وَالْقُرْبَةَ إنَّمَا يَكُونُ فِعْلًا وَتَرْكًا إذَا فَعَلَ الْمُكَلَّفُ ذلك تَعَبُّدًا أو تَرَكَهُ تَعَبُّدًا فَأَمَّا إذَا فَعَلَهُ لَا بِقَصْدِ التَّعَبُّدِ بَلْ لِغَرَضٍ آخَرَ أو تَرَكَ شيئا من الْمُحَرَّمَاتِ لِغَرَضٍ آخَرَ غَيْرِ التَّعَبُّدِ فَلَا يَكُونُ ذلك عِبَادَةً منه لِقَوْلِهِ تَعَالَى ذلك خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأَمَّا إزَالَةُ النَّجَاسَةِ فَإِنَّمَا صَحَّتْ من غَيْرِ نِيَّةٍ لِأَنَّ طَرِيقَهَا التَّرْكُ فَصَحَّ وَإِنْ لم يَقْصِدْ بِهِ التَّعَبُّدَ لِأَنَّهُ عَدَمُ الْفِعْلِ وَلَكِنْ لَا يُثَابُ عليه إلَّا إذَا قَصَدَ بِهِ الْإِزَالَةَ لِلصَّلَاةِ أو لِأَجْلِ النَّهْيِ عنه فَحِينَئِذٍ يَكُونُ عِبَادَةً وَأَمَّا الْقُرْبَةُ فقال الْقَفَّالُ الْمَرْوَزِيِّ ما كان مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ منه رَجَاءَ الثَّوَابِ من
____________________
(1/237)
اللَّهِ تَعَالَى حَكَاهُ عنه الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في الْأَسْرَارِ قال وَلَا يَرِدُ عليه قَضَاءُ الدُّيُونِ وَرَدُّ الْمَغْصُوبِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منها وَمِنْ سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ النَّفْعُ لِلْآدَمِيِّ خَاتِمَةٌ السُّنَّةُ لَا تَعْدِلُ الْوَاجِبَ قال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ في الْأَمَالِي قال الْبَيْهَقِيُّ لَا يَعْدِلُ شَيْءٌ من السُّنَنِ وَاجِبًا أَبَدًا وهو مُشْكِلٌ لِأَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مُرَتَّبَانِ على حَسَبِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَقُولَ ثَمَنُ دِرْهَمٍ من الزَّكَاةِ تَرْبُو مَصْلَحَتُهُ على مَصْلَحَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ تَطَوُّعًا وَأَنَّ قِيَامَ الدَّهْرِ لَا يَعْدِلُ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ هذا خِلَافُ الْقَوَاعِدِ ا هـ وَفِيهِ أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنَّ إشْكَالَهُ هذا يَرْجِعُ بِالْإِشْكَالِ على مَنْعِهِ السَّابِقِ كَمَزِيَّةِ الْقَائِمِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ على فَرْضِ الْعَيْنِ لِتَوَفُّرِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ مُتَقَابِلَةً لِمَصْلَحَةٍ خَاصَّةٍ وَلَيْسَتْ مَفْسَدَةُ تَرْكِ النُّهُوضِ بِمُهِمَّاتِ شَعَائِرِ الدِّينِ أَقَلَّ من مَفْسَدَةِ التَّارِكِ لِفَرْضِ عَيْنٍ بَلْ أَكْثَرُ لِمَا فيه من خَرْمِ نِظَامِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ الثَّانِي أَنَّ ما مَثَّلَ بِهِ قد يَلْتَزِمُ إذْ تَرْكُ التَّطَوُّعِ صَدَقَةً كان أو صَلَاةً لَا إثْمَ فيه وَإِنْ كَثُرَ بِخِلَافِ الْفَرْضِ وَإِنْ قَلَّ فَنَاسَبَ تَأَكُّدُهُ وَالِاعْتِنَاءُ بِهِ بِزِيَادَةِ الثَّوَابِ فَلَا يَمْتَنِعُ إطْلَاقُ التَّفْضِيلِ الثَّالِثُ في كَلَامِ أَصْحَابِنَا في الْفُرُوعِ صُوَرٌ تَقْتَضِي تَرْجِيحَ النَّفْلِ على الْفَرْضِ منها أَنَّ إبْرَاءَ الْمُعْسِرِ أَفْضَلُ من إنْظَارِهِ لِحُصُولِ الْغَرَضِ وَزِيَادَةٍ وَمِنْهَا ما قَالَهُ في الْأَذْكَارِ أَنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ أَفْضَلُ لِحَدِيثٍ صَحِيحٍ فيه وَمِنْهَا أَنَّ الْأَذَانَ سُنَّةٌ وَالْإِمَامَةَ فَرْضُ كِفَايَةٍ على ما صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِيهِمَا مع تَرْجِيحِهِ الْأَذَانَ وَمِنْهَا ما صَحَّحَهُ أَيْضًا من تَفْضِيلِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ على الْغُسْلِ من غُسْلِ الْمَيِّتِ مع وُجُوبِهِ في الْقَدِيمِ
____________________
(1/238)
فَصْلٌ في الْمَكْرُوهِ وهو لُغَةً ضِدُّ الْمُرَادِ وَيُطْلَقُ في حَقِّ اللَّهِ على مَعْنَى الْإِرَادَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ أَيْ أَرَادَ التَّثْبِيطَ فَمَنَعَ الِانْبِعَاثَ فَسُمِّيَتْ إرَادَةَ كَرَاهَةٍ بِاعْتِبَارِ ضِدِّهِ لِأَنَّ الْبَارِيَ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْمُتَضَادَّانِ وَلَا يُعْتَبَرُ هذا الْمَعْنَى في الشَّرْعِيَّاتِ لِأَنَّا لَا نَشْتَرِطُ في الْأَمْرِ الْإِرَادَةَ وَلَا في النَّهْيِ الْكَرَاهَةَ وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ من التَّنْفِيرِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى وَكَرَّهَ إلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَيُطْلَقُ على أَرْبَعَةِ أُمُورٍ أَحَدُهَا الْحَرَامُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى كُلُّ ذلك كان سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّك مَكْرُوهًا أَيْ مُحَرَّمًا وَوَقَعَ ذلك في عِبَارَةِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في بَابِ الْآنِيَةِ وَأَكْرَهُ آنِيَةَ الْعَاجِ وفي بَابِ السَّلَمِ وَأَكْرَهُ اشْتِرَاطَ الْأَعْجَفِ وَالْمَشْوِيِّ وَالْمَطْبُوخِ لِأَنَّ الْأَعْجَفَ مَعِيبٌ وَشَرْطُ الْمَعِيبِ مُفْسِدٌ قال الصَّيْدَلَانِيُّ وهو غَالِبٌ في عِبَارَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَرَاهَةَ أَنْ يَتَنَاوَلَهُمْ قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هذا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ فَكَرِهُوا إطْلَاقَ لَفْظِ التَّحْرِيمِ الثَّانِي ما نُهِيَ عنه نَهْيَ تَنْزِيهٍ وهو الْمَقْصُودُ هُنَا الثَّالِثُ تَرْكُ الْأَوْلَى كَصَلَاةِ الضُّحَى لِكَثْرَةِ الْفَضْلِ في فِعْلِهَا وَحَكَى الْإِمَامُ في النِّهَايَةِ أَنَّ تَرْكَ غُسْلِ الْجُمُعَةِ مَكْرُوهٌ مع أَنَّهُ لَا نَهْيَ فيه قال وَهَذَا عِنْدِي جَارٍ في كل مَسْنُونٍ صَحَّ الْأَمْرُ بِهِ مَقْصُودًا قلت وَيُؤَيِّدُهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ في الْأُمِّ على أَنَّ تَرْكَ غُسْلِ الْإِحْرَامِ مَكْرُوهٌ وَفَرَّقَ مُعْظَمُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذي قَبْلَهُ أَنَّ ما وَرَدَ فيه نَهْيٌ مَقْصُودٌ يُقَالُ فيه مَكْرُوهٌ وما لَا يُقَالُ فيه خِلَافُ الْأَوْلَى وَلَا يُقَالُ مَكْرُوهٌ وَفَرَّقَ محمد بن الْحَسَنِ صَاحِبُ أبي حَنِيفَةَ بين الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ كَرَاهَةِ تَحْرِيمٍ فقال الْمَكْرُوهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ ما ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ بِغَيْرِ قَطْعِيٍّ وَالْحَرَامُ ما ثَبَتَ بِقَطْعِيٍّ كَالْوَاجِبِ مع الْفَرْضِ
____________________
(1/239)
الرَّابِعُ ما وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ في تَحْرِيمِهِ كَلَحْمِ السَّبُعِ وَيَسِيرِ النَّبِيذِ هَكَذَا عَدَّهُ الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى من أَقْسَامِ الْكَرَاهَةِ وَبِهِ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا في الْفُرُوعِ في أَكْثَرِ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الْمُخْتَلَفِ في جَوَازِهَا لَكِنَّ الْغَزَالِيَّ اسْتَشْكَلَهُ بِأَنَّ من أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى تَحْرِيمِهِ فَهُوَ عليه حَرَامٌ وَمَنْ أَدَّاهُ إلَى حِلِّهِ فَلَا مَعْنَى لِلْكَرَاهَةِ في حَقِّهِ إلَّا إذَا كان في شُبْهَةِ الْخَصْمِ حَزَازَةٌ في نَفْسِهِ وَوَقَعَ في قَلْبِهِ فَلَا يَصِحُّ إطْلَاقُ لَفْظِ الْكَرَاهَةِ لِمَا فيه من خَوْفِ التَّحْرِيمِ وَإِنْ كان غَالِبُ الظَّنِّ الْحِلَّ وَيُتَّجَهُ هذا على مَذْهَبِ من يقول الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَأَمَّا على قَوْلِ من يقول كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَالْحِلُّ عِنْدَهُ مَقْطُوعٌ بِهِ إذَا غَلَبَ على ظَنِّهِ قال الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ وَلَيْسَ في مَسَائِلِ الْفِقْهِ مَسْأَلَةٌ أَصْعَبُ من الْقَضَاءِ بِالْكَرَاهَةِ في هذا الْقِسْمِ فإنه مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلَيْنِ جميعا وَإِنْ كان الْقَوْلَانِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِمَا كان الْمَصِيرُ إلَى الْكَرَاهَةِ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ ثُمَّ الذي يَتَأَتَّى في هذا التَّوَقُّفُ عن الْفِعْلِ وَإِنْ كان يَغْلِبُ على ظَنِّهِ الْحِلُّ لِاحْتِمَالِ التَّحْرِيمِ أَمَّا حَمْلُ غَيْرِهِ عليه أو الْفَتْوَى بِالْكَرَاهَةِ فَلَا وَجْهَ له عِنْدِي تَنْبِيهٌ إطْلَاقُ الْكَرَاهَةِ على هذه الْأُمُورِ هل هو من الْمُشْتَرَكِ أو حَقِيقَةٌ في التَّنْزِيهِ مَجَازٌ في غَيْرِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا ابن سُرَاقَةَ في كِتَابِهِ بِالنِّسْبَةِ لِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ وَالتَّحْرِيمِ مَسْأَلَةٌ قد تَكُونُ الْكَرَاهَةُ شَرْعًا وقد تَكُونُ الْكَرَاهَةُ شَرْعِيَّةً لِتَعْلِيقِ الثَّوَابِ عليها وقد تَكُونُ إرْشَادِيَّةً أَيْ لِمَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ وَمِنْهُ كَرَاهَةُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَكْلَ التَّمْرِ لِصُهَيْبٍ وهو أَرْمَدُ وَمِنْهُ كَرَاهَةُ
____________________
(1/240)
الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ على رَأْيٍ وَالنَّظَرِ في الْفَرْجِ مَسْأَلَةٌ الْمَكْرُوهُ هل هو مَنْهِيٌّ عنه الْمَكْرُوهُ الذي هو ضِدُّ الْمَنْدُوبِ هل هو مَنْهِيٌّ عنه أَمْ لَا فَهُوَ نَظِيرُ الْخِلَافِ السَّابِقِ في الْمَنْدُوبِ هل هو مَأْمُورٌ بِهِ من قال النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ فَلَيْسَ عِنْدَهُ بِمَنْهِيٍّ عنه وَمَنْ قال لِلتَّنْزِيهِ أو لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّحْرِيمِ أو هو مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مَنْهِيٌّ عنه وَيَدُلُّ على أَنَّهُ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عنه قَوْله تَعَالَى وما نَهَاكُمْ عنه فَانْتَهُوا وَحَكَى الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في تَعْلِيقِهِ في كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَجْهَيْنِ في أَنَّ فِعْلَ الْمَكْرُوهِ هل هو مَعْصِيَةٌ أَمْ لَا وقال إنَّ الشَّافِعِيَّ مَرَّضَ الْقَوْلَ فيه وَمَالَ إلَى أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ فقال وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً يَعْنِي في الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ ثُمَّ قال الْقَاضِي الْمَعْصِيَةُ ضَرْبَانِ مُحَرَّمٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِثْمُ وَمَعْصِيَةٌ من طَرِيقِ الْمُخَالَفَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بها إثْمٌ فَتَوَقُّفُ الشَّافِعِيِّ عن كَوْنِهِ مَعْصِيَةً فيها إثْمٌ وَحَكَى الرَّافِعِيُّ في بَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ عن الشَّيْخِ أبي حَامِدٍ أَنَّ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ على الذَّبِيحَةِ يَقْتَضِي الْإِثْمَ مع تَصْرِيحِهِ بِكَرَاهَةِ التَّرْكِ مَسْأَلَةٌ هل الْمَكْرُوهُ من التَّكْلِيفِ في أَنَّ الْمَكْرُوهَ هل هو من التَّكْلِيفِ أَمْ لَا وَالْخِلَافُ كَالْخِلَافِ في الْمَنْدُوبِ مَسْأَلَةٌ الْمَكْرُوهُ هل هو قَبِيحٌ الْمَكْرُوهُ هل هو قَبِيحٌ أَمْ لَا يَلْتَفِتُ على تَفْسِيرِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ أَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِقُبْحٍ وَلَا حُسْنٍ
____________________
(1/241)
مَسْأَلَةٌ الْمَكْرُوهُ هل يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْأَمْرَ طَلَبٌ وَاقْتِضَاءٌ وَالْمَكْرُوهُ لَا يَكُونُ مَطْلُوبًا وَلَا مُقْتَضًى فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ لِلتَّنَاقُضِ قال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْكَرَاهَةُ لِمَعْنًى في غَيْرِ ما تَعَلَّقَ بِهِ لَفْظُهَا كما قِيلَ في تَنْكِيسِ الْوُضُوءِ إنَّهُ مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ عَادَةَ السَّلَفِ في هَيْئَتِهِ لَا في أَصْلِ الْوُضُوءِ وهو إمْرَارُ الْمَاءِ وَلَا في شَرَائِطِهِ فلم يَمْنَعْ الْإِجْزَاءَ وَالْخِلَافُ في هذه الْمَسْأَلَةِ مع الْحَنَفِيَّةِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَثَّلَهَا الْأَئِمَّةُ بِالتَّرْتِيبِ في الْوُضُوءِ فَمَنْ يَرَاهُ يقول التَّنْكِيسُ مَكْرُوهٌ وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ تَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ في قَوْله تَعَالَى وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ فَعِنْدَنَا هذا لَا يَتَنَاوَلُ الطَّوَافَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ وَلَا الْمُنَكَّسَ وَغَيْرُهُمْ يَتَنَاوَلُهُ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ اعْتَقَدُوا كَرَاهِيَتَهُ ذَهَبُوا إلَى أَنَّهُ دخل في الْأَمْرِ وَأَجْزَأَ قال وَهَذَا الْمَقَالُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ على أَصْلِهِمْ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَيْسَ هو بِطَوَافٍ أَصْلًا وَمِنْ فَوَائِدِ الْخِلَافِ أَيْضًا الصَّلَاةُ في الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ إذَا قُلْنَا إنَّهَا مَكْرُوهَةٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ وفي صِحَّتِهَا تَفْرِيعًا على هذا وَجْهَانِ وَالْقَوْلُ بِالْبُطْلَانِ وهو الْأَصَحُّ يُخَرَّجُ على أَنَّ الْمَكْرُوهَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ الْأَمْرِ وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ الصَّلَاةِ في الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ التي سَبَقَ ذِكْرُهَا وَاقْتَصَرَ الْمُتَأَخِّرُونَ على ذِكْرِهَا وَأَهْمَلُوا أَصْلَهَا وَالْعَكْسُ أَوْلَى وَمِنْهَا إعَادَةُ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لَا يَصِحُّ في احْتِمَالِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَقَوَّاهُ النَّوَوِيُّ وَوَجَّهَهُ أنها لَا تُسْتَحَبُّ وَقِيلَ تُكْرَهُ وَمَعَ الْكَرَاهَةِ لَا تَصِحُّ تَخْرِيجًا على هذا الْأَصْلِ وَمِنْهَا لو نَذَرَ الْإِحْرَامَ من دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ قال صَاحِبُ التَّهْذِيبِ يَلْزَمُهُ وَوَافَقَهُ النَّوَوِيُّ وَخَالَفَهُمَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وقال يَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْعَقِدَ لِكَوْنِهِ مَكْرُوهًا وَنَظِيرُهُ الصَّوْمُ يوم الشَّكِّ تَطَوُّعًا حَرَامٌ وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَهُ فَفِي انْعِقَادِهِ وَجْهَانِ وَمِنْهَا حَيْثُ قُلْنَا لِلْقَاضِي قَبُولُ الْهَدِيَّةِ ولم نُحَرِّمْهَا وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ يَمْلِكُهَا وَفِيهِ وَجْهٌ قَوِيٌّ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا ثُمَّ صَحَّحُوا أنها تُرَدُّ إلَى صَاحِبِهَا وَالظَّاهِرُ أنها
____________________
(1/242)
تُوضَعُ في بَيْتِ الْمَالِ وَلَا تُرَدُّ إلَيْهِ وَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً من أَصْحَابِنَا ذَكَرُوا الْمَسْأَلَةَ هَكَذَا وَنَصَبُوا الْخِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ منهم الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وابن بَرْهَانٍ وابن السَّمْعَانِيِّ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ وأبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَفِيهِ نَظَرٌ فإن شَمْسَ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيَّ من الْحَنَفِيَّةِ إنَّمَا حَكَى ذلك عن أبي بَكْرٍ الرَّازِيَّ ثُمَّ قال وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ كما يُثْبِتُ صِفَةَ الْجَوَازِ وَالْحَسَنِ شَرْعًا يُثْبِتُ انْتِفَاءَ صِفَةِ الْكَرَاهَةِ وقال الْمَازِرِيُ اخْتَارَ ابن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ كَوْنَهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ وَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وقال وهو كَمَسْأَلَةِ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ في تَضَمُّنِ الْوُجُوبِ لِلْجَوَازِ حتى إذَا نُسِخَ هل يَبْقَى الْجَوَازُ قلت فَيُقَالُ هُنَا إذَا نُسِخَ الْأَمْرُ هل يَبْقَى الْمَكْرُوهُ أَمْ لَا يَأْتِي فيه الْخِلَافُ السَّابِقُ
____________________
(1/243)
فَصْلٌ في خِلَافِ الْأَوْلَى هذا النَّوْعُ أَهْمَلَهُ الْأُصُولِيُّونَ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ وهو وَاسِطَةٌ بين الْكَرَاهَةِ وَالْإِبَاحَةِ وَاخْتَلَفُوا في أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ هل هو مَكْرُوهٌ أو خِلَافُ الْأَوْلَى كَالنَّفْضِ وَالتَّنْشِيفِ في الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِمَا قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في كِتَابِ الشَّهَادَاتِ من النِّهَايَةِ التَّعَرُّضُ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا مِمَّا أَحْدَثَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ ما وَرَدَ فيه نَهْيٌ مَقْصُودٌ يُقَالُ فيه مَكْرُوهٌ وما لَا فَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى وَلَا يُقَالُ مَكْرُوهٌ وقال الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ الْمَقْصُودِ أَنْ يَكُونَ مُصَرَّحًا بِهِ كَقَوْلِهِ لَا تَفْعَلُوا كَذَا أو نَهَيْتُكُمْ عن كَذَا بِخِلَافِ ما إذَا أَمَرَ بِمُسْتَحَبٍّ فإن تَرْكَهُ لَا يَكُونُ مَكْرُوهًا وَإِنْ كان الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيًا عن ضِدِّهِ لِأَنَّا اسْتَفَدْنَاهُ بِاللَّازِمِ وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عنه في كِتَابِ الزَّكَاةِ في كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ على غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ ما يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ الْمَقْصُودِ تَعْمِيمُ النَّهْيِ لَا خُصُوصُهُ إذْ قال وَوَجَّهَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِأَنْ قال الْمَكْرُوهُ يَتَمَيَّزُ عن خِلَافِ الْأَوْلَى بِأَنْ يُفْرَضَ فيه نَهْيٌ مَقْصُودٌ وقد ثَبَتَ نَهْيٌ مَقْصُودٌ عن التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْبِدَعِ وَإِظْهَارُ شِعَارِهِمْ وَالصَّلَاةُ على غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِمَّا اُشْتُهِرَ بِالْفِئَةِ الْمُلَقَّبَةِ بِالرَّفْضِ ا هـ وَكَلَامُ الْإِمَامِ في كِتَابِ الْجُمُعَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فإنه قال كُلُّ فِعْلٍ مَسْنُونٍ صَحَّ الْأَمْرُ بِهِ مَقْصُودًا فَتَرْكُهُ مَكْرُوهٌ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ إنَّمَا يُقَالُ تَرْكُ الْأَوْلَى إذَا كان مُنْضَبِطًا كَالضُّحَى وَقِيَامِ اللَّيْلِ وما لَا تَحْدِيدَ له وَلَا ضَابِطَ من الْمَنْدُوبَاتِ لَا يُسَمَّى تَرْكُهُ مَكْرُوهًا وَإِلَّا لَكَانَ الْإِنْسَانُ في كل وَقْتٍ مُلَابِسًا لِلْمَكْرُوهَاتِ الْكَثِيرَةِ من حَيْثُ إنَّهُ لم يَقُمْ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ أو يَعُودُ مَرِيضًا وَنَحْوَهُ ا هـ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ خِلَافَ الْأَوْلَى قِسْمٌ من الْمَكْرُوهِ وَدَرَجَاتُ الْمَكْرُوهِ تَتَفَاوَتُ كما في السُّنَّةِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ قِسْمًا آخَرَ وَإِلَّا لَكَانَتْ الْأَحْكَامُ سِتَّةً وهو خِلَافُ الْمَعْرُوفِ أو كان خِلَافُ الْأَوْلَى خَارِجًا عن الشَّرِيعَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ
____________________
(1/244)
خطاب الوضع قد عَرَفْت أَنَّ الْخِطَابَ كما يَرِدُ بِالِاقْتِضَاءِ وَالتَّخْيِيرِ فَكَذَا يَرِدُ بِالْحُكْمِ الْوَضْعِيِّ لِكَوْنِ الشَّيْءِ سَبَبًا وَشَرْطًا وَمَانِعًا كما سَبَقَ فَعَلَى هذا لِلَّهِ في كل وَاقِعَةٍ رُتِّبَ الْحُكْمُ فيها على وَصْفٍ أو حِكْمَةٍ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا نَفْسُ الْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ على الْوَصْفِ وَثَانِيهِمَا سَبَبِيَّةُ ذلك الْوَصْفِ وَالْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرَةٌ إذْ صِحَّةُ الْقِيَاسِ في الْأَوَّلِ مُتَّفَقٌ عليها بين الْقَائِسِينَ وفي الثَّانِي مُخْتَلَفٌ فيها مِلْكُ النِّصَابِ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مِثَالُهُ مِلْكُ النِّصَابِ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَالْمِلْكُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وهو ذَاتُ السَّبَبِ وَكَوْنُهُ سَبَبًا عِبَارَةٌ عن خِطَابِ الشَّارِعِ إنْ جَعَلْت الْمِلْكَ أَمَارَةَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ عِنْدَ وُجُودِ الْمِلْكِ وَالْحَوْلِ حُكْمٌ آخَرُ وهو الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ الْمَقْصُودُ في نَفْسِهِ وقد سَبَقَ في الْكَلَامِ على الْخِطَابِ الْخِلَافُ في ثُبُوتِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَأَنَّهُ في الْحَقِيقَةِ لَا يَخْرُجُ عن خِطَابِ التَّكْلِيفِ وَضَعَّفَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ أَيْضًا لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِإِثْبَانِهِ إنْ أَرَادُوا بِالسَّبَبِيَّةِ أنها مَعْرِفَةٌ لِلْحُكْمِ فَحَقٌّ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَإِنْ أَرَادُوا تَأْثِيرَ الزِّنَا في وُجُوبِ الْحَدِّ فَبَاطِلٌ لِأَنَّ الزِّنَا حَالَ حُصُولِهِ سَبَبٌ إنْ لم يَصْدُرْ عن الشَّارِعِ شَيْءٌ فَلَيْسَ لِهَذِهِ السَّبَبِيَّةِ مَعْنًى فَإِنْ صَدَرَ فَالصَّادِرُ إمَّا الْحُكْمُ أو شَيْءٌ مُؤَثِّرٌ في الْحُكْمِ أو غَيْرُهُمَا فَإِنْ كان الْأَوَّلُ فَالْمُؤَثِّرُ هو الشَّارِعُ وَالثَّانِي هو الْقَوْلُ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وهو بَاطِلٌ وَالثَّالِثُ اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُ ليس بِحُكْمٍ وهو الْمَطْلُوبُ لَا يُقَالُ فَقَدْ أَجْرَوْا الْقِيَاسَ في الْأَسْبَابِ فَقَالُوا نَصْبُ الزِّنَا عِلَّةُ الرَّجْمِ وَاللِّوَاطُ في مَعْنَاهُ لِأَنَّا نَقُولُ نَمْنَعُهُ كَالْحَنَفِيَّةِ وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ فَلَا يَكُونُ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَقَدْ أَجْرَوْا الْقِيَاسَ في اللُّغَاتِ وَلَيْسَ ذلك حُكْمًا شَرْعِيًّا السبب الْأَوَّلُ تَعْرِيفُ السَّبَبِ وَأَقْسَامُهُ وهو لُغَةً عِبَارَةٌ عَمَّا يَحْصُلُ الْحُكْمُ عِنْدَهُ لَا بِهِ أَيْ لِأَنَّهُ ليس بِمُؤَثِّرٍ في الْوُجُودِ بَلْ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ فَالْحَبْلُ مَثَلًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إخْرَاجِ الْمَاءِ من الْبِئْرِ وَلَيْسَ الْمُؤَثِّرَ في الْإِخْرَاجِ وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ حَرَكَةُ الْمُسْتَقِي لِلْمَاءِ
____________________
(1/245)
وفي الشَّرْعِ قال الْأَكْثَرُونَ هو الْوَصْفُ الظَّاهِرُ الْمُنْضَبِطُ الذي دَلَّ السَّمْعُ على كَوْنِهِ مُعَرِّفًا لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ كَجَعْلِ دُلُوكِ الشَّمْسِ مُعَرِّفًا لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَقِيلَ هو الْمُوجِبُ لَا لِذَاتِهِ وَلَكِنْ بِجَعْلِ الشَّارِعِ إيَّاهُ مُوجِبًا وهو اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ وَحَاوَلَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ تَزْيِيفَهُ وَقِيلَ هو الْمُوجِبُ لِذَاتِهِ وهو قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِنَّمَا نُصِبَ السَّبَبُ لِلْحُكْمِ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ على الْحُكْمِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُقُوفِ على خِطَابِ اللَّهِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ كَالْعَلَامَةِ ثُمَّ السَّبَبُ يَنْقَسِمُ إلَى ما يَتَكَرَّرُ الْحُكْمُ بِتَكَرُّرِهِ كَالدُّلُوكِ لِلصَّلَاةِ وَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ في رَمَضَانَ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ وَكَالنِّصَابِ لِلزَّكَاةِ وَإِلَى ما لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ كَوُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ عِنْدَ تَكَرُّرِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ على وُجُودِهِ وَوُجُوبِ الْحَجِّ عِنْدَ تَكَرُّرِ الِاسْتِطَاعَةِ عِنْدَ من يَجْعَلُهَا سَبَبًا وَقَسَّمَ ابن الْحَاجِبِ السَّبَبَ إلَى وَقْتِيٍّ كَالزَّوَالِ فإنه مُعَرِّفٌ لِوَقْتِ الظُّهْرِ وَإِلَى مَعْنَوِيٍّ كَالْإِسْكَارِ فإنه مُعَرِّفٌ لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمِلْكُ فإنه جُعِلَ سَبَبًا لِإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ إطْلَاقَاتُ السَّبَبِ وَيُطْلَقُ السَّبَبُ في لِسَانِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ على أُمُورٍ أَحَدُهَا ما يُقَابِلُ الْمُبَاشَرَةَ وَمِنْهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ إذَا اجْتَمَعَ السَّبَبُ وَالْمُبَاشَرَةُ غَلَبَ الْمُبَاشَرَةُ كَحَفْرِ الْبِئْرِ مع التَّرْدِيَةِ الثَّانِي عِلَّةُ الْعِلَّةِ كَالرَّمْيِ يُسَمَّى سَبَبًا لِلْقَتْلِ وهو أَعْنِي الرَّمْيَ عِلَّةٌ لِلْإِصَابَةِ وَالْإِصَابَةُ عِلَّةٌ لِزَهُوقِ الرُّوحِ الذي هو الْقَتْلُ فَالرَّمْيُ هو عِلَّةُ الْعِلَّةِ وقد سَمَّوْهُ سَبَبًا الثَّالِثُ الْعِلَّةُ بِدُونِ شَرْطِهَا كَالنِّصَابِ بِدُونِ الْحَوْلِ يُسَمَّى سَبَبًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ الرَّابِعُ الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَهِيَ الْمَجْمُوعُ الْمُرَكَّبُ من الْمُقْتَضَى وَالشَّرْطِ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَوُجُودُ الْأَهْلِ وَالْمَحَلِّ يُسَمَّى سَبَبًا وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِلَلَ الْعَقْلِيَّةَ مُوجِبَةٌ لِوُجُودِ مَعْلُولِهَا كما عُرِفَ من الْكَسْرِ لِلِانْكِسَارِ وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ مع الِانْفِعَالَاتِ بِخِلَافِ الْأَسْبَابِ فإنه لَا يَلْزَمُ من وُجُودِهَا وُجُودُ مُسَبَّبَاتِهَا قال الْهِنْدِيُّ وإذا حَكَمْنَا على الْوَصْفِ أو الْحِكْمَةِ بِكَوْنِهِ سَبَبًا فَلَيْسَ الْمُرَادُ منه أَنَّهُ كَذَلِكَ في مَوْرِدِ النَّصِّ بَلْ الْمُرَادُ منه أَنَّهُ سَبَبٌ في غَيْرِهِ وَمِنْ هذا يُعْرَفُ أَنَّ سَبَبِيَّةَ السَّبَبِ وَإِنْ كانت حُكْمًا شَرْعِيًّا فَلَيْسَتْ مُسْتَفَادَةً من سَبَبٍ آخَرَ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ إمَّا الدَّوْرُ أو التَّسَلْسُلُ بَلْ هِيَ مُسْتَفَادَةٌ من النَّصِّ أو من الْمُنَاسَبَةِ مع الِاقْتِرَانِ
____________________
(1/246)
مسألة لِلْأَسْبَابِ أَحْكَامٌ تُضَافُ إلَيْهَا صَارَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّ لِلْأَحْكَامِ أَسْبَابًا تُضَافُ إلَيْهَا وَالْمُوجِبُ في الْحَقِيقَةِ وَالشَّارِعُ لها هو اللَّهُ تَعَالَى دُونَ الْأَسْبَابِ إذْ الْإِيجَابُ إلَى الشَّارِعِ دُونَ غَيْرِهِ وَنَقَلُوا عن جُمْهُورِ الْأَشْعَرِيَّةِ التَّفْصِيلَ بين الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا فَالْعِبَادَاتُ لَا يُضَافُ وُجُوبُهَا إلَّا إلَى اللَّهِ وَخِطَابِهِ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ لِلَّهِ على الْخُلُوصِ فَيُضَافُ إلَى إيجَابِهِ وَالْعُقُوبَاتُ وَحُقُوقُ الْعِبَادِ أَسْبَابٌ يُضَافُ وُجُوبُهَا إلَيْهَا لِأَنَّهَا حَاصِلَةٌ بِكَسْبِ الْعَبْدِ وَعَلَى هذا جَوَّزُوا إضَافَةَ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ إلَى الْأَسْبَابِ أَيْضًا وفي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وهو إنْكَارُ الْأَسْبَابِ أَصْلًا وَقَالُوا الْحُكْمُ في الْمَنْصُوصِ عليه ثَابِتٌ بِظَاهِرِ النَّصِّ وفي غَيْرِهِ بِالْوَصْفِ الْمَجْعُولِ عِلَّةً وَيَكُونُ ذلك أَمَارَةً لِثُبُوتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِإِيجَابِهِ تَعَالَى قالوا لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْأَحْكَامِ وَالشَّارِعَ لها هو اللَّهُ تَعَالَى وفي إضَافَةِ الْإِيجَابِ إلَى غَيْرِهِ وهو الْأَسْبَابُ قَطْعُهُ عنه وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَكِنَّهُ يُقَالُ حَصَلَ بِبَعْضِ الْأَوْصَافِ أَمَارَةٌ على حُكْمِ الْفَرْعِ فَيُقَالُ لها أَسْبَابٌ أو عِلَلٌ مُوجِبَةٌ مَجَازًا لِظُهُورِ الْأَحْكَامِ عِنْدَهَا قِيلَ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ لِلْإِجْمَاعِ على أَنَّ الْمُوجِبَ في الْحَقِيقَةِ هو اللَّهُ تَعَالَى لَا غَيْرُ وَعَلَى أَنَّ هذه الْأَسْبَابَ مُعَرِّفَاتٌ لِحُكْمِ اللَّهِ لَا مُوجِبَةٌ بِذَاتِهَا فلم يَبْقَ الْخِلَافُ إلَّا في اللَّفْظِ قُلْت اتَّفَقَ الْأَشْعَرِيَّةُ على أَنَّهُ ليس السَّبَبُ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ لِذَاتِهِ أو لِصِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ بَلْ الْمُرَادُ منه إمَّا الْمُعَرِّفُ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَإِمَّا الْمُوجِبُ لَا لِذَاتِهِ وَلَا لِصِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ وَلَكِنْ بِجَعْلِ الشَّرْعِ إيَّاهُ مُوجِبًا وهو اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ وَصَارَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى الْقَوْلِ بِالتَّأْثِيرِ وَيَنْبَنِي الْخِلَافُ على أَنَّهُ يُعْقَلُ تَأْثِيرٌ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ مُؤَثِّرًا بِذَاتِهِ أو بِصِفَةٍ قَائِمَةٍ بِهِ أو لَا يُعْقَلُ ذلك وَعَلَيْهِ يُبْنَى كَوْنُ الْعَبْدِ مُوجِدًا لِفِعْلِ نَفْسِهِ بِإِقْدَارِ اللَّهِ تَعَالَى أو خَلْقِهِ له ما يَقْتَضِي تَأْثِيرَهُ في الْفِعْلِ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُؤَثِّرًا بِذَاتِهِ أو بِصِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ فَأَصْحَابُنَا يُنْكِرُونَ ذلك وَيَقُولُونَ الصَّادِرُ عنه فِعْلُ اللَّهِ وَالْمُعْتَزِلَةُ لَا يُنْكِرُونَهُ
____________________
(1/247)
فَائِدَةٌ قد يَتَقَدَّمُ الْحُكْمُ على سَبَبِهِ الْأَصْلُ في أَسْبَابِ الْأَحْكَامِ أَنْ تَتَقَدَّمَ على الْأَحْكَامِ وقد يَتَقَدَّمُ الْحُكْمُ على سَبَبِهِ وَذَلِكَ إذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ قبل قَبْضِهِ فَهُوَ من ضَمَانِ الْبَائِعِ وَلِهَذَا كانت مَغَارِمُهَا عليه لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ بِالتَّلَفِ لِتَعَذُّرِ اقْتِرَانِهِ بِهِ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ التَّلَفِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْفَسْخِ انْقِلَابُ الْمِلْكِ بَعْدَ تَلَفِ الْمَبِيعِ وَلَا يَصِحُّ انْقِلَابُ الْمِلْكَيْنِ بَعْدَ التَّلَفِ لِأَنَّهُ خَرَجَ عن أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا بَعْدَ ذَهَابِهِ بِنَفْسِ انْقِلَابِهِ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ قبل تَلَفِهِ الشَّرْطُ الثَّانِي الْحُكْمُ على الْوَصْفِ بِأَنَّهُ شَرْطٌ وَالشَّرْطُ لُغَةً الْعَلَامَةُ وَمِنْهُ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ وهو الذي يَلْزَمُ من انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ الْمَشْرُوطِ كَالْإِحْصَانِ الذي هو سَبَبُ وُجُوبِ رَجْمِ الزَّانِي يَنْتَفِي الرَّجْمُ لِانْتِفَائِهِ فَلَا يُرْجَمُ إلَّا مُحْصَنٌ وَكَالْحَوْلِ الذي هو شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ يَنْتَفِي وُجُوبُهَا بِانْتِفَائِهِ أَقْسَامُ الشَّرْطِ ثُمَّ يَنْقَسِمُ إلَى ما هو شَرْطُ السَّبَبِ وهو كُلُّ مَعْنًى يَكُونُ عَدَمُهُ مُخِلًّا بِمَعْنَى السَّبَبِيَّةِ كَشَرَائِطِ الْمَبِيعِ من كَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ وَغَيْرُهُ وَإِلَى ما هو شَرْطُ الْحُكْمِ وهو كُلُّ مَعْنًى يَكُونُ عَدَمُهُ مُخِلًّا بِمَقْصُودِ الْحُكْمِ مع بَقَاءٍ لِمَعْنَى السَّبَبِيَّةِ كَالْقَبْضِ لِلْمَبِيعِ لِلْمِلْكِ التَّامِّ وهو على أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ عَقْلِيٌّ كَالْحَيَاةِ لِلْعِلْمِ فَإِنَّهَا شَرْطٌ له إذْ لَا يُعْقَلُ عَالِمٌ إلَّا وهو حَيٌّ وَيُسَمَّى عَقْلِيًّا لِأَنَّ الْعَقْلَ أَدْرَكَ لُزُومَهُ لِمَشْرُوطِهِ ثَانِيهَا لُغَوِيٌّ كَدُخُولِ الدَّارِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ أو الْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ عليه ثَالِثُهَا شَرْعِيٌّ كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ فإنه يَلْزَمُ من انْتِقَاءِ الطَّهَارَةِ انْتِقَاءُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَلَا يَلْزَمُ من وُجُودِهَا وُجُودُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ لِجَوَازِ انْتِفَائِهَا لِانْتِفَاءِ شَرْطٍ آخَرَ رَابِعُهَا الْعَادِي كَالْغِذَاءِ لِلْحَيَوَانِ وَالْغَالِبُ منه أَنَّهُ يَلْزَمُ من انْتِفَاءِ الْغِذَاءِ
____________________
(1/248)
انْتِفَاءُ الْحَيَاةِ وَمِنْ وُجُودِهِ وُجُودُهَا وَالشَّرْطُ الْعَادِي وَاللُّغَوِيُّ من قَبِيلِ الْأَسْبَابِ لَا من قَبِيلِ الشُّرُوطِ صَرَّحَ بِذَلِكَ ابن الْقُشَيْرِيّ وقال الْقَرَافِيُّ وابن الْحَاجِبِ الشُّرُوطُ اللُّغَوِيَّةُ أَسْبَابٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ من وُجُودِهَا الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهَا الْعَدَمُ بِخِلَافِ الشُّرُوطِ الْعَقْلِيَّةِ وقد اُخْتُلِفَ في الْحَيَّاتِ في الشِّتَاءِ تَحْتَ الْأَرْضِ فَقِيلَ تَغْتَذِي بِالتُّرَابِ وَقِيلَ لَا تَغْتَذِي مُدَّةَ مُكْثِهَا تَحْتَ الْأَرْضِ فَعَلَى هذا لم يَلْزَمْ من انْتِقَاءِ الْغِذَاءِ في حَقِّهَا انْتِفَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْعَكِسُ الْحَالُ وَتَصِيرُ الْحَيَاةُ هِيَ شَرْطُ الْغِذَاءِ الثَّالِثُ الْحُكْمُ على الْوَصْفِ بِكَوْنِهِ مَانِعًا وَالْمَانِعُ عَكْسُ الشَّرْطِ وهو ما يَلْزَمُ من وُجُودِهِ عَدَمُ وُجُودِ الْحُكْمِ كَالدَّيْنِ مع وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَالْأُبُوَّةِ مع الْقِصَاصِ وَوَجْهُ الْعَكْسِ فيه أَنَّ الشَّرْطَ يَنْتَفِي الْحُكْمُ بِانْتِفَائِهِ وَالْمَانِعُ يَنْتَفِي الْحُكْمُ لِوُجُودِهِ فَوُجُودُ الْمَانِعِ وَانْتِفَاءُ الشَّرْطِ سَوَاءٌ في اسْتِلْزَامِهَا انْتِفَاءَ الْحُكْمِ وَانْتِفَاءُ الْمَانِعِ وَوُجُودُ الشَّرْطِ سَوَاءٌ في أَنَّهُمَا لَا يَلْزَمُ مِنْهُمَا وُجُودُ الْحُكْمِ وَلَا عَدَمُهُ أقسام المانع ثُمَّ يَنْقَسِمُ إلَى مَانِعِ الْحُكْمِ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في الْقِيَاسِ وَإِلَى مَانِعِ السَّبَبِ وهو كُلُّ وَصْفٍ وُجُودِيٍّ يُخِلُّ وُجُودُهُ بِحِكْمَةِ السَّبَبِ التي لِأَجْلِهَا يَقْتَضِي السَّبَبُ الْمُسَبِّبَ كَحَيْلُولَةِ النِّصَابِ الْغَصْبَ وَالْإِبَاقَ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ من انْعِقَادِ النِّصَابِ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ ثُمَّ الْمَوَانِعُ الشَّرْعِيَّةُ على ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا ما يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ وَاسْتِمْرَارَهُ كَالرَّضَاعِ يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ ابْتِدَاءً وَيَقْطَعُهُ دَوَامًا ثَانِيهَا ما يَمْنَعُهُ ابْتِدَاءً لَا دَوْمًا كَالْعِدَّةِ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ لِغَيْرِ من هِيَ منه وَلَوْ طَرَأَتْ على نِكَاحٍ صَحِيحٍ بِوَطْءِ شُبْهَةٍ لم يَقْطَعْهُ وَكَذَلِكَ الرِّدَّةُ ثَالِثُهَا ما يَمْنَعُهُ دَوَامًا لَا ابْتِدَاءً كَالْكُفْرِ بِالنِّسْبَةِ لَمَالِكِ الرَّقِيقِ الْمُسْلِمِ لَا يَمْنَعُ في الِابْتِدَاءِ لِتَصْوِيرِهِ بِالْإِرْثِ وَغَيْرُهُ من الصُّوَرِ التي تَنْتَهِي إلَى نَحْوِ الْأَرْبَعِينَ وَيُمْتَنَعُ دَوَامُهُ بَلْ يَنْقَطِعُ بِنَفْسِهِ كَشِرَاءِ من يُعْتَقُ عليه أو بِالْإِجْبَارِ على إزَالَتِهِ
____________________
(1/249)
تَنْبِيهٌ هذه الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ مُتَّفَقٌ على أنها من خِطَابِ الْوَضْعِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ وزاد الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ وَهِيَ الصِّحَّةُ وَالْبُطْلَانُ وَالْعَزِيمَةُ وَالرُّخْصَةُ وَسَنَذْكُرُهَا وزاد الْقَرَافِيُّ نَوْعَيْنِ آخَرَيْنِ وَهُمَا التَّقْدِيرَاتُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْحِجَاجُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ إعْطَاءُ الْمَوْجُودِ حُكْمَ الْمَعْدُومِ كَالْمَاءِ في حَقِّ الْمَرِيضِ الْخَائِفِ وَعَكْسُهُ كَالْمَقْتُولِ يُورَثُ عنه الدِّيَةُ وَإِنَّمَا تَجِبُ بِمَوْتِهِ وَلَا يُورَثُ عنه إلَّا إذَا دَخَلَتْ في مِلْكِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَمْلِكُ فَيُقَدِّرُ دُخُولَهَا في مِلْكِهِ قبل مَوْتِهِ حتى يَنْتَقِلَ لِوَارِثِهِ فَقَدَّرْنَا الْمَعْدُومَ مَوْجُودًا لِلضَّرُورَةِ وقال ابن التِّلِمْسَانِيِّ الْحُكْمُ التَّقْدِيرِيُّ يَنْقَسِمُ إلَى تَقْدِيرِ صِفَةٍ شَرْعِيَّةٍ في الْمَحَلِّ يَظْهَرُ أَثَرُهَا كَتَقْدِيرِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَالْيَمِينِ وَإِلَى تَقْدِيرِ أَعْيَانٍ مَحْسُوسَةٍ كَتَقْدِيرِ الدَّرَاهِمِ في الذِّمَّةِ قال وَمِنْ الْعُلَمَاءِ من لَا يُثْبِتُ هذه التَّقَادِيرَ وَيَقُولُ حُكْمُ الْفَرْعِ في الْمَحَلِّ هو نَفْسُ ما ادَّعَى كَوْنَهُ أَمْرًا أَمَّا تَقْدِيرُ صِفَاتِ مُوجِبِهِ لها فَإِثْبَاتُ ما لَا دَلِيلَ عليه وَمِنْ هذا النَّمَطِ قَوْلُهُمْ الْحَدَثُ أَمْرٌ مُقَدَّرٌ في أَعْضَاءِ الْمُحْدِثِ أَثَرُهُ الْمَنْعُ من الصَّلَاةِ وَأَمَّا الْحِجَاجُ فَهِيَ التي يَسْتَنِدُ إلَيْهَا الْقُضَاةُ في الْأَحْكَامِ كَالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ وَالْيَمِينِ مع النُّكُولِ أو مع الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ فإذا نَهَضَتْ تِلْكَ الْحُجَّةُ عِنْدَ الْقَاضِي وَجَبَ عليه الْحُكْمُ وَهَذَا في الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إلَى السَّبَبِ مسألة الصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ من أَنْوَاعِ خِطَابِ الْوَضْعِ لِأَنَّهُمَا حُكْمٌ من الشَّارِعِ على الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُودِ وَيُبْنَى عليها أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ وَنَازَعَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ في كَوْنِ ذلك حُكْمًا شَرْعِيًّا وقال إذَا كانت الصِّحَّةُ هِيَ الْمُطَابَقَةُ وَالْمُوَافَقَةُ لِمُقْتَضَى ما دَلَّ عليه الْأَمْرُ فَالْمُطَابَقَةُ وَالْمُوَافَقَةُ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ اعْتِبَارِيٌّ ليس من الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ في شَيْءٍ بَلْ نَوْعُ نَسَبٍ وَإِضَافَةٍ إلَى مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ هذا سُؤَالٌ حَسَنٌ لِجَدِّي الْعَلَّامَةِ أبي الْحَسَن مُظَفَّرِ بن عبد اللَّهِ الشَّافِعِيِّ الْمَعْرُوفِ بِالْمُقْتَرِحِ رَحِمَهُ اللَّهُ
____________________
(1/250)
قُلْت وَبِهِ جَزَمَ ابن الْحَاجِبِ في مُخْتَصَرِهِ وَحِينَئِذٍ فلم يَنْفَرِدْ بِهِ إذَنْ كما زَعَمَ بَعْضُهُمْ وَأَشَارَ إلَيْهِ ابن التِّلِمْسَانِيِّ في تَعْلِيقِهِ على الْمُنْتَخَبِ فقال مُوَافَقَةُ الشَّرِيعَةِ ليس حُكْمًا شَرْعِيًّا حَقِيقِيًّا فَإِنَّهَا نِسْبَةٌ بين الْفِعْلِ الْوَاقِعِ وَالْأَمْرِ مَثَلًا فَهِيَ تَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ لَا أنها نَفْسُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَتَسْمِيَةُ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ حُكْمًا مَجَازٌ وإذا ثَبَتَ هذا فَنَقُولُ الْمُرَادُ بِالصِّحَّةِ في الْعُقُودِ ثُبُوتُهَا على مُوجِبِ الشَّرْعِ لِيَتَرَتَّبَ آثَارُهُ كَالْمِلْكِ الْمُرَتَّبِ على الْعُقُودِ أَيْ يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ الْمَقْصُودُ من التَّصَرُّفِ كَالْحِلِّ في النِّكَاحِ وَالْمِلْكِ في الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ نِكَاحُ الْكُفَّارِ صَحِيحٌ أَيْ مَحْكُومٌ عليه بِالصِّحَّةِ وَأَثَرُ كل شَيْءٍ على حَسَبِهِ فَأَثَرُ الْبَيْعِ الْمُكْنَةُ من التَّصَرُّفِ كَالْأَكْلِ وَالْبَيْعِ وَالْوَقْفِ وَنَحْوِهِ وَأَثَرُ الْإِجَارَةِ التَّمَكُّنُ من الِانْتِفَاعِ وفي الْقِرَاضِ عَدَمُ الضَّمَانِ وَاسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ وفي النِّكَاحِ التَّمَكُّنُ من الْوَطْءِ فَكُلُّ عَقْدٍ تَرَتَّبَ آثَارُهُ عليه فَهُوَ الصَّحِيحُ وَإِلَّا فَهُوَ الْفَاسِدُ وَقِيلَ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ وَلَا يَرِدُ الْمَبِيعُ في زَمَنِ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ قد يَتَوَقَّفُ حُصُولُهَا على شَرْطٍ آخَرَ وَلَيْسَ التَّصَرُّفُ وَالِانْتِقَاعُ أَثَرَ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا أَثَرُهُ حُصُولُ الْمِلْكِ الذي يَنْشَأُ عنه إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِشَرْطِهِ وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَكُونَ له خِيَارٌ وَكَذَا لو أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ امْرَأَةٍ في يَدِ الْغَيْرِ ثُمَّ قَبِلَ نِكَاحَهَا مِمَّنْ هِيَ في يَدِهِ وهو يَدَّعِي رِقَّهَا قال الرَّافِعِيُّ لم يَحِلَّ له وَطْؤُهَا وَلِصَاحِبِهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْمَهْرِ فَهَذَا عَقْدٌ صَحِيحٌ لم يَتَرَتَّبْ عليه أَثَرُهُ لَكِنْ لِمَانِعٍ وَأَمَّا الصِّحَّةُ في الْعِبَادَاتِ فَاخْتُلِفَ فيها فقال الْفُقَهَاءُ هِيَ وُقُوعُ الْفِعْلِ كَافِيًا في سُقُوطِ الْقَضَاءِ كَالصَّلَاةِ إذَا وَقَعَتْ بِجَمِيعِ وَاجِبَاتِهَا مع انْتِفَاءِ مَوَانِعِهَا فَكَوْنُهَا لَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا هو صِحَّتُهَا وقال الْمُتَكَلِّمُونَ هِيَ مُوَافَقَةُ أَمْرِ الشَّارِعِ في ظَنِّ الْمُكَلَّفِ لَا في نَفْسِ الْأَمْرِ وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي وَالْإِمَامُ في التَّلْخِيصِ فَكُلُّ من أُمِرَ بِعِبَادَةٍ تُوَافِقُ الْأَمْرَ بِفِعْلِهَا كان قد أتى بها صَحِيحَةً وَإِنْ اخْتَلَّ شَرْطٌ من شُرُوطِهَا أو وُجِدَ مَانِعٌ وَهَذَا أَعَمُّ من قَوْلِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ كُلَّ صِحَّةٍ هِيَ مُوَافِقَةٌ لِلْأَمْرِ وَلَيْسَ كُلُّ مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ صِحَّةً عِنْدَهُمْ وَاصْطِلَاحُ الْفُقَهَاءِ أَنْسَبُ فإن الْآنِيَةَ مَتَى كانت صَحِيحَةً من جَمِيعِ الْجَوَانِبِ إلَّا من جَانِبٍ وَاحِدٍ فَهِيَ مَكْسُورَةٌ لُغَةً وَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً حَيْثُ يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا الْخَلَلُ من جِهَةٍ من الْجِهَاتِ وَهَذِهِ الصَّلَاةُ يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا الْخَلَلُ من جِهَةِ ذِكْرِ الْحَدَثِ فَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً
____________________
(1/251)
بَلْ الْمُسْتَجْمِعُ لِشُرُوطِهِ في نَفْسِ الْأَمْرِ هو الصَّحِيحُ وَبَنَوْا على الْخِلَافِ صَلَاةَ من ظَنَّ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ حَدَثُهُ فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ دُونَ الْفُقَهَاءِ قال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وفي هذا الْبِنَاءِ نَظَرٌ لِأَنَّ هذه الصَّلَاةَ إنَّمَا وَافَقَتْ الْأَمْرَ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ الذي تَبَيَّنَ فَسَادُهُ وَلَيْسَتْ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ الْأَصْلِيِّ الذي تَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ بِهِ ابْتِدَاءً فَعَلَى هذا نَسْتَفْسِرُ وَنَقُولُ إنْ أَرَدْتُمْ بِالصَّحِيحِ ما وَافَقَ أَمْرًا ما فَهَذَا الْفِعْلُ صَحِيحٌ بهذا الِاعْتِبَارِ لَكِنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا مُطْلَقًا لِعَدَمِ مُوَافَقَتِهِ الْأَمْرَ الْأَصْلِيَّ وَإِنْ أَرَدْتُمْ ما وَافَقَ الْأَمْرَ الْأَصْلِيَّ فَهَذِهِ غَيْرُ مُوَافَقَةٍ فَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً تَنْبِيهَاتٌ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ ما حَكَيْنَاهُ عن الْفُقَهَاءِ من أَنَّ الصِّحَّةَ إسْقَاطُ الْقَضَاءِ تَبِعْنَا فيه الْأُصُولِيِّينَ لَكِنْ كَلَامُ الْأَصْحَابِ مُصَرِّحٌ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُمْ قالوا في بَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ في الْكَلَامِ على شُرُوطِ الْإِمَامَةِ وَإِنْ كان صَلَاتُهُ صَحِيحَةً فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُغْنِيَةً عن الْقَضَاءِ أو لَا إلَخْ فَجَعَلُوا الصَّحِيحَ يَنْقَسِمُ إلَى ما يُغْنِي وَإِلَى ما لَا يُغْنِي ولم يَجْعَلُوهُ ما لَا يُغْنِي عن الْقَضَاءِ وَحَكَوْا وَجْهَيْنِ في صَلَاةِ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ هل تُوصَفُ بِالصِّحَّةِ وَالصَّحِيحُ نعم وَاسْتَبْعَدَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مُقَابِلَهُ وَتَابَعَهُ النَّوَوِيُّ مع أَنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ على الْجَدِيدِ قالوا وَيَجْرِي الْخِلَافُ في كل صَلَاةٍ يَجِبُ قَضَاؤُهَا وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ في الْأَيْمَانِ وفي جَوَازِ الْخُرُوجِ منها وَلِهَذَا يَقُولُونَ من صَحَّتْ صَلَاتُهُ في نَفْسِهِ صِحَّةً مُغْنِيَةً عن الْقَضَاءِ جَازَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَهَذَا كُلُّهُ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الصِّحَّةَ تُجَامِعُ الْقَضَاءَ التَّنْبِيهُ الثَّانِي زَعَمَ الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى وَتَابَعَهُ الْقَرَافِيُّ أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ وهو أَنَّهُ هل تُسَمَّى هذه صَحِيحَةٌ أَمْ لَا قال الْقَرَافِيُّ لِاتِّفَاقِهِمْ على سَائِرِ أَحْكَامِهَا فَقَالُوا الْمُصَلِّي مُوَافِقٌ لِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُثَابٌ على صَلَاتِهِ وَأَنَّهُ يَجِبُ عليه الْقَضَاءُ إذَا عَلِمَ الْحَدَثَ فلم يَبْقَ النِّزَاعُ إلَّا في التَّسْمِيَةِ قُلْت وَنَفْيُ الْخِلَافِ في الْقَضَاءِ مَرْدُودٌ فَالْخِلَافُ ثَابِتٌ وَمِمَّنْ حَكَاهُ ابن الْحَاجِبِ في مُخْتَصَرِهِ في مَسْأَلَةِ الْإِجْزَاءُ الِامْتِثَالُ وَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ يَقُولُونَ
____________________
(1/252)
إنَّهَا صَحِيحَةٌ لِأَنَّهُ وَافَقَ الْأَمْرَ الْمُتَوَجِّهَ عليه في الْحَالِ وَهِيَ مُسْقِطَةٌ لِلْقَضَاءِ لو لم يَرِدْ نَصٌّ بِالْقَضَاءِ وَإِنَّمَا وَجَبَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ كما حَكَاهُ في الْمُسْتَصْفَى عَنْهُمْ وَوَصْفُهُمْ إيَّاهَا بِالصِّحَّةِ صَرِيحٌ في ذلك فإن الصِّحَّةَ هِيَ الْغَايَةُ من الْعِبَادَةِ وَعِنْدَنَا قَوْلٌ مِثْلُهُ فِيمَا إذَا صلى بِنَجَسٍ لم يَعْلَمْهُ أو مَكْشُوفِ الْعَوْرَةِ سَاهِيًا إنَّهَا صَحِيحَةٌ وَلَا قَضَاءَ نَظَرًا لِمُوَافَقَةِ الْأَمْرِ حَالَ التَّلَبُّسِ وَعَكْسُ هذه الْمَسْأَلَةِ من صلى خَلْفَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ رَجُلٌ وَفَرَّعْنَا على الْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ فَإِنَّهَا على اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ صَحِيحَةٌ لِإِسْقَاطِ الْقَضَاءِ وَعِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُوَافَقَةً لِأَمْرِ الشَّارِعِ وَذَكَرَ الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ أَنَّ ما يَتَخَرَّجُ على هذا الْخِلَافِ صَلَاةُ من لم يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا إذَا صلى على حَسَبِ حَالِهِ وَقُلْنَا بِالرَّاجِحِ إنَّهُ يَجِبُ عليه الْإِعَادَةُ قال فَتِلْكَ الصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ فَاسِدَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ قُلْت فيه وَجْهَانِ نَقَلَهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْمُتَوَلِّي وَبَنَى عَلَيْهِمَا ما لو حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَصَلَّى كَذَلِكَ وقد سَبَقَ وفي كَلَامِ الْأَصْفَهَانِيِّ نَظَرٌ إذْ كَيْفَ يُؤْمَرُ بِعِبَادَةٍ هِيَ فَاسِدَةٌ وَبَنَى ابن الرِّفْعَةِ في الْمَطْلَبِ على الْخِلَافِ في تَفْسِيرِ الصِّحَّةِ مَسْأَلَةً لو تَحَيَّرَ الْمُجْتَهِدُ في الْأَوَانِي فلم يَغْلِبْ على ظَنِّهِ شَيْءٌ فَتَيَمَّمَ ثُمَّ إنْ كان قبل الصَّبِّ وَجَبَ الْقَضَاءُ أو بَعْدَهُ فَلَا وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ خِلَافًا في وُجُوبِ الصَّبِّ وَنَسَبَ الْجُمْهُورُ عَدَمَ الْوُجُوبِ قال ابن الرِّفْعَةِ وَالْخِلَافُ يُلْتَفَتُ على أَنَّ الصِّحَّةَ ما هِيَ فَإِنْ قُلْنَا مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ لم يَلْزَمْ الْإِرَاقَةُ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا وَهَذَا غَيْرُ وَاجِدٍ له إذْ الْوُجُودُ ما يَقْدِرُ على اسْتِعْمَالِهِ وَإِنْ قُلْنَا هِيَ ما أَسْقَطَ الْقَضَاءَ وَجَبَ عليه الصَّبُّ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِتْيَانِ بِالصَّلَاةِ صَحِيحَةً إذَا قَدَرَ عليها وهو قَادِرٌ هَاهُنَا ا هـ وَهَذَا يُعْطِي أَنَّ الْخِلَافَ في تَفْسِيرِ الصِّحَّةِ ثَابِتٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا وقال الْآمِدِيُّ وَلَا بَأْسَ بِتَفْسِيرِ الصِّحَّةِ في الْعِبَادَاتِ بِمَا ذَكَرُوهُ في الْمُعَامَلَاتِ من تَرَتُّبِ أَحْكَامِهَا الْمَقْصُودَةِ منها يَعْنِي لِأَمْرٍ مَقْصُودِ الْعِبَادَةِ إقَامَةُ رَسْمِ التَّعَبُّدِ وَبَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْعَبْدِ منها فإذا أَفَادَتْ ذلك كان هو مَعْنَى قَوْلِنَا إنَّهَا كَافِيَةٌ في سُقُوطِ التَّعَبُّدِ فَتَكُونُ صَحِيحَةً
____________________
(1/253)
التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ قال أبو الْعَبَّاسِ بن تَيْمِيَّةَ لم يَرِدْ في لَفْظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ بَلْ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ وَإِنَّمَا الصِّحَّةُ اصْطِلَاحُ الْفُقَهَاءِ قُلْت وَوَرَدَ لَفْظُ الْإِجْزَاءِ كَثِيرًا وهو قَرِيبٌ من الصِّحَّةِ ثُمَّ إنَّ الْجُمْهُورَ لم يَسْمَحُوا بِإِطْلَاقِ الْفَاسِدِ وَإِنَّمَا قالوا هِيَ صَلَاةٌ صَحِيحَةٌ أو شَبِيهَةٌ بها كَإِمْسَاكِ رَمَضَانَ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ إنَّمَا صَارَ الْفُقَهَاءُ إلَى هذا في أَصْلٍ وهو أَنَّ الصَّلَاةَ في الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ صَحِيحَةٌ عِنْدَهُمْ وَهِيَ وَاقِعَةٌ على خِلَافِ مُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ فَدَلَّ على أَنَّ الصَّحِيحَ ما لَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ وَإِنْ لم يُوَافِقْ مُقْتَضَى الشَّرْعِ وَذَكَرَ غَيْرُهُ الْتِفَاتَ الْخِلَافِ على أَصْلٍ وهو أَنَّ الْقَضَاءَ هل يَجِبُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ أو لَا بُدَّ من أَمْرٍ جَدِيدٍ وَالثَّانِي قَوْلُ الْفُقَهَاءِ حَكَاهُ عَنْهُمْ في الْمَنْخُولِ مسألة الْحَقَائِقُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَاهِيَّاتِ من عِبَادَةٍ وَعَقْدٍ هل يَقَعُ على الْفَاسِدِ منها أو يَخْتَصُّ بِالصَّحِيحِ فيه ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ حَكَاهَا الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ في بَيَانِ الْمُجْمَلِ أَحَدُهَا لَا يُسَمَّى الْفَاسِدُ منها بَيْعًا وَلَا نِكَاحًا وَالثَّانِي يُسَمَّى وَإِنْ فَسَدَ شَرْعًا وَالثَّالِثُ ما كان من أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ وَالْأَعْيَانِ لَا يَسْلُبُهُمَا الِاسْمَ عِنْدَ انْتِفَاءِ شُرُوطٍ شُرِعَتْ فيه وَذَلِكَ كَالْغُسْلِ وَالْوَطْءِ وَأَمَّا ما كان من أَسْمَاءِ الْأَحْكَامِ كَتَسْمِيَةِ الْغُسْلِ طَهَارَةً فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْغُسْلَ مع عَدَمِ النِّيَّةِ ليس بِطَهَارَةٍ ا هـ وَالْقَوْلَانِ وَجْهَانِ لِلْأَصْحَابِ في الْعُقُودِ وَأَصَحُّهُمَا اخْتِصَاصُهُ بِالصَّحِيحِ وَلِهَذَا لو حَلَفَ لَا يَبِيعُ لَا يَحْنَثُ بِالْفَاسِدِ على الْأَصَحِّ وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ فقال الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ الْأَيْمَانِ سَيَأْتِي خِلَافٌ في أنها هل تُحْمَلُ على الصَّحِيحِ كما إذَا حَلَّفَهُ لَا يَصُومُ وَلَا يُصَلِّي وقد اسْتَنْكَرَ ذلك منه فإنه لَا خِلَافَ عِنْدَنَا في اخْتِصَاصِهَا بِالصَّحِيحِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في الْعُقُودِ نعم قالوا لو حَلَفَ لَا يَحُجُّ حَنِثَ بِالْفَاسِدِ وَيُحْتَمَلُ في كل ما فَرَّقَ فيه بين الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ وقد يُمْنَعُ وَالْفَرْقُ مُخَالَفَةُ الْحَجِّ غَيْرَهُ من الْعِبَادَاتِ فَلَا يُقَاسُ عليه غَيْرُهُ
____________________
(1/254)
مسألة الصِّحَّةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الثَّوَابَ بَلْ يَكُونُ الْفِعْلُ صَحِيحًا وَلَا ثَوَابَ فيه وَلِهَذَا قال الشَّافِعِيُّ الرِّدَّةُ بَعْدَ الْحَجِّ تُحْبِطُ الثَّوَابَ وَلَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ وَمِنْهُ الصَّلَاةُ في الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَكَذَا صَوْمُ الْمُغْتَابِ عِنْدَ الْقَفَّالِ وَالْمَاوَرْدِيِّ وَحَكَاهُ الْإِمَامُ في بَابِ الِاعْتِكَافِ عن الصَّيْدَلَانِيِّ ثُمَّ قال وَلَيْسَ الْكَلَامُ في الْأَجْرِ وَالْفَضِيلَةِ من شَأْنِ الْفُقَهَاءِ وَالثَّوَابُ غَيْبٌ لَا نَطَّلِعُ عليه وَإِنْ وَرَدَ خَبَرٌ في أَنَّ الْغِيبَةَ تُحْبِطُ الْأَجْرَ فَهُوَ تَهْدِيدٌ مُؤَوَّلٌ وقد يَرِدُ مِثْلُهُ في التَّرْغِيبِ قُلْت وَكَذَا قال الصَّيْمَرِيُّ في شَرْحِ الْكِفَايَةِ في الصَّلَاةِ في الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ تَصِحُّ وَأَمَّا الثَّوَابُ فَإِلَى اللَّهِ مسألة ثواب الصلاة الفاسدة إذَا صلى صَلَاةً فَاسِدَةً هل يُثَابُ عليها قال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ يُثَابُ على الْأَفْعَالِ التي لَا تَفْتَقِرُ إلَى وُجُودِ الشَّرْطِ من الطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا كَالْقِرَاءَةِ وَالْأَذْكَارِ وقال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ لو نَوَى نِيَّةً صَحِيحَةً وَغَسَلَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ ثُمَّ أَبْطَلَ الْوُضُوءَ في أَثْنَائِهِ بِحَدَثٍ أو غَيْرِهِ هل له ثَوَابُ الْمَفْعُولِ منه قال يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ له ثَوَابُهُ كَالصَّلَاةِ إذَا بَطَلَتْ في أَثْنَائِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إذَا بَطَلَتْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَهُ ثَوَابُهُ وَإِلَّا فَلَا وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال لَا ثَوَابَ له بِحَالٍ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ مسألة الْإِجْزَاءُ هو الِاكْتِفَاءُ بالفعل في سقوط الأمر الإجزاء هو الاكتفاء بِالْفِعْلِ في سُقُوطِ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْخِطَابَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِهِ على وَجْهٍ مَخْصُوصٍ فإذا أتى الْمُكَلَّفُ بِهِ على ذلك الْوَجْهِ انْقَطَعَ عنه تَعَلُّقُ الْخِطَابِ وَهَذَا هو على مَذْهَبِ الْمُتَكَلِّمِينَ في تَفْسِيرِ الصِّحَّةِ بِمُوَافَقَةِ الْأَمْرِ وَقِيلَ إسْقَاطُ الْقَضَاءِ وهو مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ في الصِّحَّةِ وَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِالْأَدَاءِ لِأَنَّا نُعَلِّلُ الْإِجْزَاءَ بِأَدَاءِ الْفِعْلِ على الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَنَقُولُ أَدَّى ما أُمِرَ بِهِ كما أُمِرَ
____________________
(1/255)
وَعَسُرَ على بَعْضِهِمْ الْفَرْقُ بين الْإِجْزَاءِ وَالصِّحَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فإن الْإِجْزَاءَ أَعَمُّ وَيَخْتَصُّ الْإِجْزَاءُ بِالْعِبَادَاتِ فَلَا مَعْنَى له في الْمُعَامَلَاتِ وَيَخْتَصُّ بِالْعِبَادَةِ التي وُقُوعُهَا بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عليه أَثَرُهَا أو لَا يَتَرَتَّبُ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَأَمَّا ما يَقَعُ على وَجْهٍ وَاحِدٍ فَلَا يُوصَفُ بِهِ كَمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ وَيَخْتَصُّ أَيْضًا بِالْمَطْلُوبِ أَعَمُّ من الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَقِيلَ يَخْتَصُّ بِالْوَاجِبِ لَا يُقَالُ في الْمَنْدُوبِ إنَّهُ مُجْزِئٌ أو غَيْرُ مُجْزِئٍ وَنَصَرَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَرْبَعٌ لَا تُجْزِئُ في الضَّحَايَا مع أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ سُنَّةٌ وَكَذَا قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم في عَنَاقِ أبي بُرْدَةَ يُجْزِئُك وَلَنْ يُجْزِئَ عن أَحَدٍ بَعْدَك وَإِنْ كانت الْأُضْحِيَّةُ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ مسألة الجائز وافق الشريعة الْجَائِزُ ما وَافَقَ الشَّرِيعَةَ فإذا قُلْنَا صَوْمٌ جَائِزٌ وَبَيْعٌ جَائِزٌ فَإِنَّمَا نُرِيدُ أَنَّهُ مُوَافِقٌ الشريعة ( ( ( للشريعة ) ) ) وقد يقول الْفُقَهَاءُ الْوَكَالَةُ عَقْدٌ جَائِزٌ وَيُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهُ ليس بِلَازِمٍ
____________________
(1/256)
وَضَابِطُ ذلك أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ لِلْعَاقِدِ فَسْخُهُ بِكُلِّ حَالٍ أو لَا وَيَئُولُ إلَى اللُّزُومِ وَلَا يَدْخُلُ على ذلك الْمَبِيعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فإنه يَئُولُ إلَى اللُّزُومِ وَكَذَا إذَا كان في الْمَبِيعِ عَيْبٌ قَالَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في شَرْحِ جَدَلِهِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ الْجَائِزُ ما أُذِنَ في فِعْلِهِ فَيَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَيَخْرُجُ الْحَرَامُ وَقِيلَ ما لَا يَأْثَمُ بِفِعْلِهِ وَلَا تَرْكِهِ قال وَالْحَدُّ الْأَوَّلُ هو الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ من وَصْفٍ وَاحِدٍ قال وَكُلُّ صَحِيحٍ جَائِزٌ من حَيْثُ كَوْنُهُ مَأْذُونًا في فِعْلِهِ وَلَيْسَ كُلُّ جَائِزٍ صَحِيحًا كَكَثِيرٍ من الْمُبَاحَاتِ قال وَحَدُّ الْجَائِزِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ قَرِيبٌ مِمَّا قَالَهُ أَهْلُ الْمَعْقُولِ مسالة يقابل الصحة البطلان وَيُقَابِلُ الصِّحَّةَ الْبُطْلَانُ فَيَأْتِي في تَفْسِيرِهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فَمَنْ قال الصِّحَّةُ وُقُوعُ الْفِعْلِ كَافِيًا في إسْقَاطِ الْقَضَاءِ قال الْبُطْلَانُ هو وُقُوعُهُ غَيْرُ كَافٍ لِإِسْقَاطِ الْقَضَاءِ وَمَنْ قال الصِّحَّةُ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ قال الْبُطْلَانُ مُخَالَفَتُهُ فَعَلَى هذا لو صلى الْمُتَطَهِّرُ يَظُنُّ أَنَّهُ مُحْدِثٌ وَجَبَ الْقَضَاءُ على الْقَوْلَيْنِ لَكِنْ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ لِكَوْنِهَا بَاطِلَةً بِالْمُخَالَفَةِ وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وهو الْعِلْمُ بِوُجُودِ الطَّهَارَةِ وَالْفَاسِدُ وَالْبَاطِلُ عِنْدَنَا مُتَرَادِفَانِ فَكُلُّ فَاسِدٍ بَاطِلٌ وَعَكْسُهُ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَفْتَرِقَانِ فَرْقَ الْأَعَمِّ وَالْأَخَصِّ كَالْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ إذْ كُلُّ بَاطِلٍ فَاسِدٌ وَلَيْسَ كُلُّ فَاسِدٍ بَاطِلًا فَقَالُوا الْبَاطِلُ ما لَا يَنْعَقِدُ بِأَصْلِهِ كَبَيْعِ الْحُرِّ وَالْفَاسِدُ ما لَا يَنْعَقِدُ دُونَ أَصْلِهِ كَعَقْدِ الرِّبَا فإنه مَشْرُوعٌ من حَيْثُ إنَّهُ بَيْعٌ وَمَمْنُوعٌ من حَيْثُ إنَّهُ عَقْدُ رِبًا وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ عِنْدَهُمْ يُشَارِكُ الصَّحِيحَ في إفَادَةِ الْمِلْكِ إذَا اتَّصَلَ بِالْقَبْضِ فَجَعَلُوا الْفَاسِدَ رُتْبَةً مُتَوَسِّطَةً بين الصَّحِيحِ وَالْبَاطِلِ وهو نَظِيرُ مَذْهَبِ الْجَاحِظِ وَعِنْدَنَا لَا فَرْقَ بين الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ بَلْ هو سَوَاءٌ في الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ وَبِهِ قال أَحْمَدُ وَأَصْحَابُهُ وما ذَهَبَ إلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ فَسَادُهُ ظَاهِرٌ من جِهَةِ النَّقْلِ فإن مُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ الْفَاسِدُ هو الْمَوْجُودُ على نَوْعٍ من الْخَلَلِ وَالْبَاطِلُ هو الذي لَا تَثْبُتُ حَقِيقَتُهُ بِوَجْهٍ وقد قال تَعَالَى لو كان فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسَمَّى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فَاسِدَةً عِنْدَ تَقْدِيرِ الشَّرِيكِ وَوُجُودِهِ وَدَلِيلُ التَّمَانُعِ يَقْتَضِي أَنَّ الْعَالَمَ على تَقْدِيرِ الشَّرِيكِ وَوُجُودِهِ يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ لِحُصُولِ التَّمَانُعِ لَا أَنَّهُ يَكُونُ مَوْجُودًا على نَوْعٍ من
____________________
(1/257)
الْخَلَلِ فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الذي لَا تَثْبُتُ حَقِيقَتُهُ بِوَجْهٍ فَاسِدًا وهو خِلَافُ ما قالوا في التَّفْرِقَةِ فَإِنْ كان مَأْخَذُهُمْ في التَّفْرِيقِ بِمُجَرَّدِ الِاصْطِلَاحِ فَهُمْ مُطَالَبُونَ بِمُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ يَقْتَضِي اخْتِلَافَ الْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِمَا قُلْت قد تَقَدَّمَ أُمُورٌ في تَفْرِقَتِهِمْ بين الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَرَّضَ بِمِثْلِهَا هُنَا وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَتَوَسَّطُوا بين الْقَوْلَيْنِ ولم يُفَرِّقُوا بين الْبَاطِلِ وَالْفَاسِدِ في التَّسْمِيَةِ وَلَكِنَّهُمْ قالوا الْبَيْعُ الْفَاسِدُ يُفِيدُ شُبْهَةَ الْمِلْكِ فِيمَا يَقْبَلُ الْمِلْكَ فإذا لَحِقَهُ أَحَدُ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ يُقَدَّرُ الْمِلْكُ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ حَوَالَةُ الْأَسْوَاقِ وَتَلَفُ الْعَيْنِ وَنُقْصَانُهَا وَتَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بها على تَفْصِيلٍ لهم في ذلك وقال الْإِمَامُ في التَّلْخِيصِ نُقِلَ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال في تَحْدِيدِ الْفَاسِدِ هو كُلُّ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ يُقْصَدُ بِهِ التَّوَصُّلُ إلَى اسْتِبَاحَةِ ما جَعَلَ الشَّرْعُ أَصْلَهُ على التَّحْرِيمِ ثُمَّ أَوْرَدَ عليه الْإِمَامُ الْعَقْدَ في وَقْتٍ تَضِيقُ الصَّلَاةُ فإن الْمُتَلَفِّظَ بِالْعَقْدِ تَارِكٌ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَتَرْكُ التَّكْبِيرَةِ مُحَرَّمٌ فَهَذَا مُحَرَّمٌ تَوَصَّلَ بِهِ إلَى اسْتِبَاحَةِ الْأَمْلَاكِ وَالْأَبْضَاعِ وَأُصُولُهَا على الْحَظْرِ مع أَنَّهُ ليس بِفَاسِدٍ التَّفْرِقَةُ بين الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا فَرَّقُوا بين الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ في مَوَاضِعَ أَوَّلُهَا وَثَانِيهَا الْخُلْعُ وَالْكِتَابَةُ فَالْبَاطِلُ مِنْهُمَا ما كان على غَيْرِ عِوَضٍ مَقْصُودٍ كَالْمَيْتَةِ أو رَجَعَ إلَى خَلَلٍ في الْعَاقِدِ كَالصِّغَرِ وَالسَّفَهِ وَالْفَاسِدُ خِلَافُهُ وَحُكْمُ الْبَاطِلِ أَنْ لَا يَتَرَتَّبَ عليه مَالٌ وَالْفَاسِدُ يَتَرَتَّبُ عليه الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِالْمَهْرِ وَالسَّيِّدُ بِالْقِيمَةِ وَثَالِثُهَا الْحَجُّ يَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ وَيَفْسُدُ بِالْجِمَاعِ وَحُكْمُ الْبَاطِلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ وَلَا يَمْضِي بِخِلَافِ الْفَاسِدِ هذا حُكْمُ ما يَطْرَأُ وَأَمَّا الْفَاسِدُ ابْتِدَاءً فَيُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ جَامَعَ ثُمَّ أَدْخَلَ عليها الْحَجَّ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا وَقِيلَ صَحِيحًا وَقِيلَ لَا يَنْعَقِدُ قَالَهُ في الرَّوْضَةِ في بَابِ الْإِحْرَامِ وَأَمَّا إذَا أَحْرَمَ مُجَامِعًا فَيَنْعَقِدُ فَاسِدًا أَيْضًا على الْأَصَحِّ قَالَهُ الرَّافِعِيُّ في بَابِ الْمَوَاقِيتِ وَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ في بَابِ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ عَدَمَ الِانْعِقَادِ وَرَابِعُهَا الْعَارِيَّةُ وقد صَوَّرَهَا الْغَزَالِيُّ في الْوَسِيطِ فإنه حَكَى في صِحَّةِ إعَارَةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ خِلَافًا ثُمَّ قال فَإِنْ أَبْطَلْنَاهَا فَفِي طَرِيقِ أَهْلِ الْعِرَاقِ أنها مَضْمُونَةٌ لِأَنَّهَا
____________________
(1/258)
إعَارَةٌ فَاسِدَةٌ وفي طَرِيقِ الْمَرَاوِزَةِ أنها غَيْرُ مَضْمُونَةٍ لِأَنَّهَا غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْإِعَارَةِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ كَذَا حَصَرَهَا جَمَاعَةٌ في هذه الْأَرْبَعَةِ وهو مَمْنُوعٌ بَلْ يَجْرِي ذلك في سَائِرِ الْعُقُودِ وَمِنْ صُورَةِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ وَتَجِبُ فيها أُجْرَةُ الْمِثْلِ أَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَ مَثَلًا صَبِيٌّ رَجُلًا بَالِغًا فَعَمِلَ عَمَلًا لم يَسْتَحِقَّ شيئا لِأَنَّهُ الذي فَوَّتَ على نَفْسِهِ عَمَلَهُ وَتَكُونُ بَاطِلَةً وَمِنْهَا لو قال لِلْمَدْيُونِ اعْزِلْ قَدْرَ حَقِّي فَعَزَلَهُ ثُمَّ قال قَارَضْتُك عليه لم يَصِحَّ لِأَنَّهُ لم يَمْلِكْهُ بِالْعَزْلِ فإذا تَصَرَّفَ الْمَأْمُورُ فَإِنْ اشْتَرَى بِالْعَيْنِ فَهُوَ مِلْكٌ له وَإِنْ اشْتَرَى في الذِّمَّةِ لِلْقِرَاضِ وَنَقَدَهُ فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا الشِّرَاءُ لِلْقِرَاضِ وَيَكُونُ قِرَاضًا فَاسِدًا وَلَهُ الْأُجْرَةُ وَالرِّبْحُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَالثَّانِي لَا يَكُونُ قِرَاضًا لَا فَاسِدًا وَلَا صَحِيحًا بَلْ هو بَاطِلٌ وَمِنْهَا لو قال بِعْتُك ولم يذكر ثَمَنًا وسلم وَتَلِفَتْ الْعَيْنُ في يَدِ الْمُشْتَرِي هل عليه قِيمَتُهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا نعم لِأَنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ وَالثَّانِي لَا لِأَنَّهُ ليس مَبِيعًا فَيَكُونُ أَمَانَةً وَمِنْهَا لو نَكَحَ بِلَا وَلِيٍّ فَهُوَ فَاسِدٌ يُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا الْحَدَّ وَلَوْ نَكَحَ السَّفِيهُ بِلَا إذْنٍ فَبَاطِلٌ لَا يَتَرَتَّبُ عليه شَيْءٌ وقال الْإِمَامُ أبو الْحَسَنِ السُّبْكِيُّ عِنْدِي أَنَّ أَصْحَابَنَا لم يُوَافِقُوا الْحَنَفِيَّةَ في هذا التَّفْرِيقِ أَصْلًا لِأَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُثْبِتُونَ بَيْعًا فَاسِدًا يَتَرَتَّبُ عليه مع الْقَبْضِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ وَنَحْنُ لَا نَقُولُ ذلك وَإِنَّمَا الْعُقُودُ لها صُوَرٌ لُغَةً وَعُرْفًا من عَاقِدٍ وَمَعْقُودٍ عليه وَصِيغَةٍ وَلَهَا شُرُوطٌ شَرْعِيَّةٌ فَإِنْ وُجِدَتْ كُلُّهَا فَهُوَ الصَّحِيحُ وَإِنْ فُقِدَ الْعَاقِدُ أو الْمَعْقُودُ عليه أو الصِّيغَةُ أو ما يَقُومُ مَقَامَهَا فَلَا عَقْدَ أَصْلًا وَلَا يَحْنَثُ بِهِ إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ وَنُسَمِّيهِ بَيْعًا بَاطِلًا مَجَازًا وَإِنْ وُجِدَتْ وَقَارَنَهَا مُفْسِدٌ من عَدَمِ شَرْطٍ وَنَحْوِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ وَعِنْدَنَا هو بَاطِلٌ خِلَافًا لهم وَوَافَقُونَا على الْبُطْلَانِ إذَا كان الْفَسَادُ لِصِفَةِ الْمَعْقُودِ عليه كَبَيْعِ الْمَلَاقِيحِ وَنَحْنُ لَا نُرَتِّبُ على الْفَاسِدِ شيئا من الْأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لَكِنْ لنا قَاعِدَةٌ وَهِيَ إذَا كان لِلْفِعْلِ عُمُومٌ وَبَطَلَ الْخُصُوصُ قد لَا يَعْمَلُ الْعُمُومُ فَالْمَسَائِلُ التي رَتَّبَ الْأَصْحَابُ عليها حُكْمًا من الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ هِيَ من هذا الْقَبِيلِ ا ه
____________________
(1/259)
فَائِدَةٌ أَقْسَامُ الْبَاطِلِ قَسَّمَ ابن الْقَاصِّ في كِتَابِ أَدَبِ الْجَدَلِ الْبَاطِلَ إلَى خَمْسَةٍ الْإِحَالَةُ وَالْمُنَاقَضَةُ وَالْفُحْشُ وَالْغَلَطُ قال وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ خَارِجَةٌ عن الْأُصُولِ فَمَنْ صَارَ إلَيْهَا فَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَالْخَامِسُ يُسَمَّى الْخَطَأُ فَعَلَيْهِ تَدُورُ الْمُنَاظَرَاتُ وَإِلَيْهِ يُقْصَدُ بِالْمُطَالَبَاتِ قال فَالْإِحَالَةُ ما دَفَعَهُ الْحِسُّ وَالْمُنَاقَضَةُ ما شَهِدَ على نَفْسِهِ بِالِاخْتِلَافِ وَالْفُحْشُ ما يَسْتَقْبِحُهُ الْعَقْلُ وَالْغَلَطُ ما طَرَحَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْخَطَأُ كُلُّ مُتَلَبِّسٍ قام فَسَادُهُ دَلِيلٌ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ حَدُّ الْمُحَالِ كُلُّ جُمْلَةٍ لَا يَتَعَلَّقُ بها غَرَضٌ وَلَا فَائِدَةٌ قال وَإِنَّمَا يُطْلِقُهُ أَهْلُ الشَّرِيعَةِ على فِعْلٍ لَا بُدَّ له من شَرْطٍ أو وَصْفٍ يَنْضَمُّ إلَيْهِ حتى يَعْتَدَّ بِهِ فإذا فَعَلَهُ من غَيْرِ ذلك الشَّرْطِ يُقَالُ هذا فِعْلٌ مُحَالٌ فَيُقَالُ الصَّلَاةُ بِلَا طَهَارَةٍ مُحَالٌ وَالْبَيْعُ بِلَا ثَمَنٍ مُحَالٌ وَالصَّوْمُ بِاللَّيْلِ مُحَالٌ انْتَهَى مسألة الرخصة والعزيمة الْحُكْمُ يُوصَفُ بِالْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ وَفِيهِمَا مَبَاحِثُ الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ في مَدْلُولِهِمَا الْعَزِيمَةُ أَمَّا الْعَزِيمَةُ فَهِيَ لُغَةً الْقَصْدُ الْمُؤَكَّدُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى ولم نَجِدْ له عَزْمًا وَشَرْعًا عِبَارَةٌ عن الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ السَّالِمِ مُوجِبُهُ عن الْمُعَارِضِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ من الْعِبَادَاتِ وَمَشْرُوعِيَّةِ الْبَيْعِ وَغَيْرِهَا من التَّكَالِيفِ قِيلَ وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ حَيْثُ لَا يَقُومُ دَلِيلُ الْمَنْعِ عَزِيمَةٌ وهو لَا يُطَابِقُ الْوَضْعَ اللُّغَوِيَّ وَلَا الِاصْطِلَاحَ الْفِقْهِيَّ فإنه في اللُّغَةِ يَدُلُّ على التَّأْكِيدِ وَالْجَزْمِ كما يُقَالُ عَزَمْت عَلَيْك بِكَذَا وَكَذَا وَلِهَذَا يُقَابِلُونَهُ بِمَا فيه تَرْخِيصٌ وَالْإِبَاحَةُ بِمُجَرَّدِهَا ليس فيها هذا الْمَعْنَى وفي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وَالْآمِدِيَّ ما يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهَا بِالْوَاجِبَاتِ فَإِنَّهُمَا قَالَا ما لَزِمَ
____________________
(1/260)
الْعِبَادَ بِإِلْزَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ بِإِيجَابِهِ وَلَيْسَ كما قَالَا فَإِنَّهَا تُذْكَرُ في مُقَابَلَةِ الرُّخْصَةِ وَالرُّخْصَةُ تَكُونُ في الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ فَكَذَلِكَ ما يُقَابِلُهَا وَمِثَالُ دُخُولِ الْإِبَاحَةِ فيها قَوْلُهُمْ ص من عَزَائِمِ السُّجُودِ وَدُخُولُ الْحَرَامِ تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَخْمَصَةِ هو عَزِيمَةٌ لِأَنَّ حُكْمَهَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ خَلَا عن الْمُعَارِضِ فإذا وُجِدَتْ الْمَخْمَصَةُ حَصَلَ الْمُعَارِضُ لِدَلِيلِ التَّحْرِيمِ وهو رَاجِحٌ عليه حِفْظًا لِلنَّفْسِ فَجَازَ الْأَكْلُ قال أَصْحَابُنَا تَرْكُ الصَّلَاةِ في حَقِّ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ عَزِيمَةٌ قال النَّوَوِيُّ وَإِنَّمَا كان عَزِيمَةً لِكَوْنِهَا مُكَلِّفَةً بِتَرْكِهَا وَمُقْتَضَى الدَّلِيلِ أَنَّ من كُلِّفَ بِتَرْكِ شَيْءٍ لم يُكَلَّفْ بِفِعْلِهِ في حَالِ تَكْلِيفِهِ بِتَرْكِهِ وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَإِنَّمَا يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ ولم يَرِدْ الرُّخْصَةُ وَأَمَّا الرُّخْصَةُ فَهِيَ لُغَةً الْيُسْرُ وَالسُّهُولَةُ وَمِنْهُ رَخُصَ السِّعْرُ إذَا تَرَاجَعَ وَسَهُلَ الشِّرَاءُ وَفِيهَا لُغَاتٌ ثَلَاثٌ رُخُصَةٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْخَاءِ وَرُخْصَةٌ بِإِسْكَانِ الْخَاءِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً من الْأُولَى وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَصْلًا بِنَفْسِهَا وَالثَّالِثَةُ خُرْصَةٌ بِتَقْدِيمِ الْخَاءِ حَكَاهَا الْفَارَابِيُّ وَالظَّاهِرُ أنها مَقْلُوبَةٌ من الْأُولَى وقد اُشْتُهِرَ على أَلْسُنِ الناس فَتْحُ الْخَاءِ وَلَا يَشْهَدُ له سَمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ لِأَنَّ فُعَّلَةٌ تَكُونُ لِلْفَاعِلِ كَهُمَزَةٍ وَلُمَزَةٍ وَضُحَكَةٌ وَلِلْمَفْعُولِ كَلُقَطَةٍ فَقِيَاسُهُ إنْ ثَبَتَ هُنَا أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْكَثِيرِ الرَّخِيصِ على غَيْرِهِ إذَا فَشَا الرُّخْصُ فيه وقال الْآمِدِيُّ في الْإِحْكَامِ الرُّخْصَةُ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْأَخْذُ بِالرُّخْصَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْأَخْذِ الْمَصْدَرَ وَيُحْتَمَلُ أَرَادَ اسْمَ الْفَاعِلِ وَالْقِيَاسُ الْأَوَّلُ وهو الْمَنْقُولُ وَأَمَّا في الِاصْطِلَاحِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه فقال الْإِمَامُ الرَّازِيَّ ما جَازَ فِعْلُهُ مع قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِلْمَنْعِ وَأَوْرَدَ عليه أَنَّ الرُّخْصَةَ هِيَ الْحُكْمُ وَأَنَّهَا قد تَكُونُ بِجَوَازِ التَّرْكِ وَأَنَّ التَّكَالِيفَ كُلَّهَا كَذَلِكَ لِأَنَّهَا على خِلَافِ التَّخْفِيفِ الذي هو الْأَصْلُ كَذَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّكَالِيفَ كُلَّهَا بَعْضُ ما هو يَسْتَحِقُّ على الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مَاشٍ على الْأَصْلِ وقال الْقَرَافِيُّ طَلَبُ الْفِعْلِ السَّالِمِ عن الْمَانِعِ الْمُشْتَهِرِ وَاحْتُرِزَ بِالْمُشْتَهِرِ عن نَحْوِ ما تَقَدَّمَ ثُمَّ أَوْرَدَ على نَفْسِهِ الْعُقُودَ الْمُخَالِفَةَ لِلْقِيَاسِ كَالسَّلَمِ وَالْمُسَابَقَةِ
____________________
(1/261)
وقال الْهِنْدِيُّ ما جَازَ فِعْلُهُ أو تَرْكُهُ مع قِيَامِ الْمَانِعِ منه وَيَرِدُ عليه كَثِيرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ وَقِيلَ ما لَزِمَ الْعِبَادَ بِإِيجَابِهِ تَعَالَى وَفِيهِ نَظَرٌ وَقِيلَ ما خَرَجَ عن الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ لِعَارِضٍ وقال ابن الْحَاجِبِ الْمَشْرُوعُ لِعُذْرٍ مع قِيَامِ الْمُحَرَّمِ لَوْلَا الْعُذْرُ وَيَرِدُ عليه التَّعَبُّدُ بِالتَّحْرِيمِ وَقِيلَ اسْتِبَاحَةُ الْمَحْظُورِ مع قِيَامِ الْمُحَرَّمِ فَإِنْ أُرِيدَ إبَاحَةُ الْمَحْظُورِ مع قِيَامِ الْمُحَرَّمِ بِلَا حُرْمَةٍ فَهُوَ قَوْلٌ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَإِنْ أُرِيدَ إبَاحَةُ الْمَحْظُورِ مع قِيَامِ الْحُرْمَةِ فَهُوَ قَوْلٌ بِالْجَمْعِ بين الْمُتَضَادَّيْنِ وَكِلَاهُمَا فَاسِدٌ وَقِيلَ الْحُكْمُ مع الْمُعَارِضِ أَيْ مع قِيَامِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ على الْمَنْعِ وَقِيلَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ على خِلَافِ الدَّلِيلِ لِعُذْرٍ مع كَوْنِهِ حَرَامًا في حَقِّ غَيْرِ الْمَعْذُورِ وهو الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْفُقَهَاءِ ما ثَبَتَ على خِلَافِ الْقِيَاسِ أَيْ الشَّرْعِيِّ لَا الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ الْمَصْلَحِيِّ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَدَلَ بِهِ عن نَظَائِرِهِ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ هذا في جَانِبِ الْفِعْلِ وفي جَانِبِ التَّرْكِ أَنْ يُوسِعَ لِلْمُكَلَّفِ تَرْكُهُ مع قِيَامِ الْوُجُوبِ في حَقِّ غَيْرِ الْمَعْذُورِ تَخْفِيفًا وَتَرَفُّهًا سَوَاءٌ كان التَّغْيِيرُ في وَضْعِهِ أو حُكْمِهِ وهو نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَتَغَيَّرَ الْحُكْمُ مع بَقَاءِ الْوَصْفِ الذي كان عليه بِأَنْ يَكُونَ في نَفْسِهِ مُحَرَّمًا مع سُقُوطِ حُكْمِهِ كَإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ على لِسَانِهِ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ مع قِيَامِ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَالثَّانِي أَنْ يَسْقُطَ الْحَظْرُ وَالْمُؤَاخَذَةُ جميعا كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ حتى لو امْتَنَعَ وَمَاتَ فإنه يُؤَاخَذُ المبحث الثاني : الرخصة من أي الخطابين في أَنَّ الرُّخْصَةَ من أَيِّ الْخِطَابَيْنِ فَأَمَّا الْآمِدِيُّ فَجَعَلَهَا من أَنْوَاعِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْحَقُّ أنها من خِطَابِ الِاقْتِضَاءِ وَلِهَذَا قَسَّمُوهَا إلَى وَاجِبَةٍ وَمَنْدُوبَةٍ وَمُبَاحَةٍ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ أنها من أَقْسَامِ الْحُكْمِ وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّازِيَّ أنها نَفْسُ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ وَالْقَوْلَانِ غَيْرُ خَارِجَيْنِ عن الْمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ فإن الْأَوَّلَ يَشْهَدُ له قَوْلُ الْعَرَبِ الرُّخْصَةُ التَّيْسِيرُ وَيَشْهَدُ لِلثَّانِي قَوْلُهُمْ هذا رُخْصِي من الْمَاءِ أَيْ هذا شُرْبِي
____________________
(1/262)
المبحث الثالث في أَقْسَامِ الرُّخْصَةِ وقد قَسَّمَهَا الْأُصُولِيُّونَ إلَى ثَلَاثَةٍ وَاجِبَةٌ وَمَنْدُوبَةٌ وَمُبَاحَةٌ فَالْوَاجِبَةُ كَإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ بِالْخَمْرِ لِمَنْ غَصَّ بِاللُّقْمَةِ وَكَتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ بِنَاءً على النُّفُوسِ حَقُّ اللَّهِ وَهِيَ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْمُكَلَّفِينَ فَيَجِبُ حِفْظُهَا لِيَسْتَوْفِيَ اللَّهَ حَقَّهُ منها بِالتَّكْلِيفِ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ عَزِيمَةً لِوُجُودِ الْمَلْزُومِ وَالتَّأْكِيدِ قال وَلَا مَانِعَ أَنْ يُطْلَقَ عليه رُخْصَةً من وَجْهٍ وَعَزِيمَةً من وَجْهٍ فَمِنْ حَيْثُ قام الدَّلِيلُ الْمَانِعُ نُسَمِّيهِ رُخْصَةً وَمِنْ حَيْثُ الْوُجُوبُ نُسَمِّيهِ عَزِيمَةً وَهَذَا التَّرَدُّدُ الذي أَشَارَ إلَيْهِ سَبَقَهُ إلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ وَتَرَدَّدَ في أَنَّ الْوَاجِبَاتِ هل يُوصَفُ شَيْءٌ منها بِالرُّخْصَةِ وقال في بَابِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ من النِّهَايَةِ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ ليس بِرُخْصَةٍ فإنه وَاجِبٌ وَلِأَجْلِهِ قال صَاحِبُهُ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ في أَحْكَامِ الْقُرْآنِ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ عَزِيمَةٌ لَا رُخْصَةٌ كَالْفِطْرِ لِلْمَرِيضِ في رَمَضَانَ وَيَتَحَصَّلُ بِذَلِكَ في مُجَامَعَةِ الرُّخْصَةِ لِلْوُجُوبِ ثَلَاثُهُ أَقْوَالٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوُجُوبَ وَالِاسْتِحْبَابَ يُجَامِعُهَا وَلَا يَكُونُ دَاخِلًا في مُسَمَّاهَا وَالْمَنْدُوبَةُ كَالْقَصْرِ في السَّفَرِ إذَا بَلَغَ ثَلَاثَ مَرَاحِلَ وَالْمُبَاحَةُ كَالْفِطْرِ في السَّفَرِ وَلَيْسَ بِتَمْثِيلٍ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ عِنْدَ مَشَقَّةِ الصَّوْمِ وَيُكْرَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَشَقَّةِ فَلَيْسَ له إبَاحَةٌ قال بَعْضُهُمْ ولم أَجِدْ له مِثَالًا بَعْدَ الْبَحْثِ الْكَثِيرِ إلَّا التَّيَمُّمَ عِنْدَ وُجْدَانِ الْمَاءِ بِأَكْثَرَ من ثَمَنِ الْمِثْلِ فإنه يُبَاحُ له التَّيَمُّمُ وَالْوُضُوءُ مُسْتَوِيًا على ما اقْتَضَاهُ كَلَامُ أَصْحَابِنَا قُلْت هذا إنْ جَعَلْنَا التَّيَمُّمَ رُخْصَةً وَفِيهِ خِلَافٌ وَالْأَوْلَى التَّمْثِيلُ بِتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ وفي الحديث التَّصْرِيحُ بِالرُّخْصَةِ فيه لِلْعَبَّاسِ رَوَاهُ أبو دَاوُد وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِبَادَاتِ أَمَّا الْمُعَامَلَاتِ فَرُخَصُهَا كَثِيرَةٌ كَالسَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَالْحَوَالَةِ وَالْعَرَايَا على أَنَّ الْغَزَالِيَّ في الْمُسْتَصْفَى أَبْدَى احْتِمَالَيْنِ في السَّلَمِ وَكَذَلِكَ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ في الْأُمِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَرَايَا وَسَنَذْكُرُ في الْقِيَاسِ على الرُّخَصِ بَلْ يَأْتِي في غَيْرِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَلِهَذَا قال الْإِمَامُ في النِّهَايَةِ لَبَنُ الْمَأْكُولِ طَاهِرٌ وَذَلِكَ عِنْدِي في حُكْمِ الرُّخَصِ فإن الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَيْهَا وقد امْتَنَّ اللَّهُ بِإِحْلَالِهَا وَذَكَرَ في
____________________
(1/263)
الْبَسِيطِ مثله في شَعْرِ الْمَأْكُولِ الْبَائِنِ في حَيَاتِهِ أَنَّهُ رُخْصَةٌ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ في الْمَلَابِسِ وَأَهْمَلَ الْأُصُولِيُّونَ رَابِعًا وهو خِلَافُ الْأَوْلَى كَالْإِفْطَارِ في السَّفَرِ عِنْدَ عَدَمِ التَّضَرُّرِ بِالصَّوْمِ وَكَتَرْكِ الِاقْتِصَارِ على الْحَجَرِ في الِاسْتِنْجَاءِ وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تُجَامِعُ التَّحْرِيمَ وهو ظَاهِرُ قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كما يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ وَلِهَذَا قال الْفُقَهَاءُ الرُّخَصُ لَا تُنَاطُ بِالْمَعَاصِي لَكِنْ لو أَلْقَى نَفْسَهُ من شَاهِقِ جَبَلٍ فَانْكَسَرَ وَصَلَّى قَاعِدًا فَلَا قَضَاءَ عليه على الْمَذْهَبِ كما قَالَهُ ابن الرِّفْعَةِ مع أَنَّ إسْقَاطَ الْقَضَاءِ عن الْقَاعِدِ رُخْصَةٌ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمَعْصِيَةَ انْتَهَتْ وقال الْعَبَّادِيُّ لو حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْحَرَامَ فَأَكَلَ الْمَيْتَةَ لِلضَّرُورَةِ حَنِثَ في يَمِينِهِ لِأَنَّهُ حَرَامٌ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ له فيه حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في فَتَاوِيهِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تُوصَفُ بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ فَيَبْقَى التَّنَاوُلُ وهو وَاجِبٌ فَكَيْفَ يَكُونُ حَرَامًا وَلَيْسَ ذَا وَجْهَيْنِ تَنْبِيهٌ في تَقْسِيمِ الرُّخْصَةِ اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ الْأُصُولِيِّينَ يُقَسِّمُونَ الرُّخْصَةَ إلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ وكان بَعْضُ الْفُضَلَاءِ يُثِيرُ في ذلك بَحْثًا وهو أَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُمْ ذِكْرَ ما وَقَعَ بِهِ التَّرْخِيصُ أو ذِكْرَ الْحَالَةِ التي صَارَتْ إلَيْهِ الْعِبَادَةُ بَعْدَ التَّرْخِيصِ فَإِنْ كان الْأَوَّلُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الرُّخْصَةَ إنَّمَا هِيَ مُجَرَّدُ الْإِحْلَالِ لِأَنَّ الْإِحْلَالَ هو الذي جُعِلَ له التَّيْسِيرُ وَالسُّهُولَةُ وَكَوْنُ ذلك الذي حَلَّ يَعْرِضُ له أَمْرٌ آخَرُ يُصَيِّرُهُ وَاجِبًا ليس من الرُّخْصَةِ في شَيْءٍ فَالتَّرْخِيصُ لِلْمُضْطَرِّ من الْمَيْتَةِ وَإِنَّمَا هو إحْلَالُهَا بَعْدَ أَنْ كانت حَرَامًا وَكَوْنُهَا يَجِبُ عليه أَمْرٌ آخَرُ نَشَأَ عن وُجُوبِ حِفْظِ النَّفْسِ فَلَا يَكُونُ الرُّخْصَةُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إلَّا بِمُجَرَّدِ الْإِحْلَالِ وَإِنْ كان مُرَادُهُمْ ذِكْرَ الْأَحْوَالِ التي صَارَتْ إلَيْهَا الْعِبَادَةُ بَعْدَ التَّرْخِيصِ فَتَقْسِيمُهَا
____________________
(1/264)
إلَى ثَلَاثَةٍ فيه نَظَرٌ فَإِنَّهَا تَنْقَسِمُ بِالِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ إلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ نَوْعًا لِأَنَّ الْأَحْكَامَ خَمْسَةٌ وَكُلٌّ منها إذَا صَارَ إلَى حُكْمٍ آخَرَ يَخْرُجُ منه خَمْسُ أَقْسَامٍ في الْخَمْسَةِ السَّابِقَةِ فَهِيَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ قِسْمًا يَسْقُطُ منها انْتِقَالُ كل حُكْمٍ إلَى نَفْسِهِ فَهُوَ مُحَالٌ صَارَتْ عِشْرِينَ يَسْقُطُ منها التَّرْخِيصُ في الْمُبَاحِ إلَى الْأَرْبَعَةِ وهو مُحَالٌ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَحَقُّ من الْإِبَاحَةِ فَلَا رُخْصَةَ فيها صَارَتْ سِتَّةَ عَشَرَ وَيَسْقُطُ منها تَخْفِيفُ الْمُسْتَحَبِّ إلَى الْوَاجِبِ فإنه لَا تَسْهِيلَ فيه وَكَذَلِكَ تَخْفِيفُ الْمَكْرُوهِ إلَى الْحَرَامِ مُحَالٌ أَيْضًا فَيَبْقَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِسْمًا الْأَوَّلُ رُخْصَةٌ وَاجِبَةٌ أَصْلُهَا التَّحْرِيمُ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ الثَّانِي رُخْصَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ أَصْلُهَا التَّحْرِيمُ كَالْقَصْرِ في السَّفَرِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ الثَّالِثُ رُخْصَةٌ مَكْرُوهَةٌ أَصْلُهَا التَّحْرِيمُ كَالْقَصْرِ دُونَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَالتَّرْخِيصُ في النَّفْلِ عن التَّحْرِيمِ إلَى الْكَرَاهَةِ الرَّابِعُ رُخْصَةٌ مُبَاحَةٌ أَصْلُهَا التَّحْرِيمُ كَالتَّيَمُّمِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ بِأَكْثَرَ من ثَمَنِ الْمِثْلِ وَكَذَلِكَ عِنْدَ بَذْلِ ثَمَنِ الْمَاءِ له أو بَذْلِ آلَةِ الِاسْتِقَاءِ أو إقْرَاضِ الثَّمَنِ وَكَذَلِكَ إذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَذَبَحَهُ وَمَيْتَةً فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا الْخَامِسُ رُخْصَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ أَصْلُهَا الْوُجُوبُ كَإِتْمَامِ الصَّلَاةِ قبل ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَكَالصَّوْمِ في السَّفَرِ لِلْقَوِيِّ وَالتَّرْخِيصُ في النَّفْلِ في الْقُعُودِ تَنْبِيهٌ قد يَكُونُ سَبَبُ الرُّخْصَةِ اخْتِيَارِيًّا قد يَكُونُ سَبَبُ الرُّخْصَةِ اخْتِيَارِيًّا كَالسَّفَرِ وَاضْطِرَارِيًّا كَالِاغْتِصَاصِ بِاللُّقْمَةِ الْمُبِيحِ لِشُرْبِ الْخَمْرِ وَهَذَا أَوْلَى من قَوْلِ الْقَرَافِيِّ قد يُبَاحُ سَبَبُهَا كَالسَّفَرِ وقد لَا يُبَاحُ كَالْغُصَّةِ لِأَنَّ الْغُصَّةَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لَا يُوصَفُ بِإِبَاحَةٍ وَلَا حَظْرٍ قِيلَ وَالْعَجَبُ من الْفُقَهَاءِ كَيْفَ رَجَّحُوا الْأَخْذَ بِالرُّخْصَةِ في الْفِطْرِ وَقَصْرِ الصَّلَاةِ في السَّفَرِ مع سُهُولَةِ الْخَطْبِ فيها وَرَجَّحُوا الْعَزِيمَةَ فِيمَا يَأْتِي على النَّفْسِ كَالْإِكْرَاهِ على الْكُفْرِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَإِمَّا أَنْ يُرَجِّحُوا الرُّخْصَةَ مُطْلَقًا أو الْعَزِيمَةَ مُطْلَقًا أَمَّا الْفَرْقُ فَلَا يَظْهَرُ له كَبِيرُ فَائِدَةٍ فَإِنْ قِيلَ له فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْمَقْصُودَ من الْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ أو الْعَزِيمَةِ هِيَ الْعِبَادَةُ فَفِي أَيِّهِمَا كانت الْعِبَادَةُ أَعْظَمَ رَجَّحْنَا الْأَخْذَ بِهِ وَالْعِبَادَةُ في الصَّبْرِ على الْقَتْلِ دُونَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَعْظَمُ لِأَنَّهُ جِهَادٌ في سَبِيلِ اللَّهِ
____________________
(1/265)
وَالْجُودُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ قِيلَ هذا يَبْطُلُ بِالصَّوْمِ في السَّفَرِ فإنه أَعْظَمُ عِبَادَةً وقد رَجَّحْتُمْ الْفِطْرَ عليه وَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ في اسْتِيفَاءِ حَقِّ اللَّهِ في النَّفْسِ أَعْظَمُ لِأَنَّهَا إذَا بَقِيَتْ وُجِدَ منها الشَّهَوَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْأَنْوَاعُ أَضْعَافُ ما يَحْصُلُ من تَرْكِ التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ من الْعِبَادَةِ فَائِدَةٌ الرُّخْصَةُ إمَّا كَامِلَةٌ أو نَاقِصَةٌ تَنْقَسِمُ الرُّخْصَةُ إلَى كَامِلَةٍ وَهِيَ التي لَا شَيْءَ مَعَهَا كَالْمَسْحِ على الْخُفِّ وَإِلَى نَاقِصَةٍ وَهِيَ بِخِلَافِهِ كَالْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ وَهَذَا تَلْمِحَتُهُ من كَلَامِ الشَّافِعِيِّ في الْأُمِّ فإنه قال وَالْمَسْحُ رُخْصَةُ كَمَالٍ وَعَلَى هذا فَالتَّيَمُّمُ لِعَدَمِ الْمَاءِ فِيمَا لَا يَجِبُ معه الْقَضَاءُ رُخْصَةٌ كَامِلَةٌ وَمَعَ ما يَجِبُ فيه الْقَضَاءُ رُخْصَةٌ نَاقِصَةٌ تَنْبِيهٌ تَشْكِيكُ الْآمِدِيَّ في تَحْقِيقِ الرُّخْصَةِ شَكَّكَ الْآمِدِيُّ في تَحْقِيقِ الرُّخْصَةِ بِأَنَّ الْعُذْرَ الْمُرَخِّصَ إنْ كان رَاجِحًا على السَّبَبِ الْمُحَرَّمِ كان مُوجِبُهُ عَزِيمَةً وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ حُكْمٍ ثَابِتٍ رَاجِحٍ مع وُجُودِ الْمُعَارِضِ الْمَرْجُوحِ رُخْصَةً وَإِنْ كان مُسَاوِيًا أو مَرْجُوحًا فَأَيُّ شَيْءٍ يُرَجِّحُ دَلِيلَ الرُّخْصَةِ ثُمَّ قال الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَرْجُوحٌ قال هو أَشْبَهُ بِالرُّخْصَةِ لِمَا فيه من التَّيْسِيرِ بِالْعَمَلِ بِالْمَرْجُوحِ أَجَابَ الْهِنْدِيُّ بِالْتِزَامِ أَنَّ الْعُذْرَ الْمُرَخِّصَ رَاجِحٌ قَوْلُهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ رَاجِحٍ رُخْصَةً قُلْنَا الرَّاجِحُ قِسْمَانِ رَاجِحٌ شُرِعَ لِعُذْرٍ وَاسْتُفِيدَ رُجْحَانُهُ من دَلِيلٍ خَاصٍّ فَهُوَ رُخْصَةٌ أَبَدًا وَكُلُّ خَاصٍّ عَارَضَ الْعَامَّ وكان خُرُوجُهُ لِعُذْرٍ فَهُوَ رُخْصَةٌ وَرَاجِحٌ شُرِعَ لَا لِعُذْرٍ وَتَسْهِيلٍ فَلَا يَلْزَمُ منه هذا مسألة الأداء والضاء والاعادة من لَوَاحِقِ خِطَابِ الْوَضْعِ تَقْسِيمُ الْحُكْمِ إلَى أَدَاءً وَقَضَاءٍ وَإِعَادَةٍ وَالضَّابِطُ أَنَّ الْعِبَادَةَ إنْ فُعِلَتْ في وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ شَرْعًا سُمِّيَتْ أَدَاءً كَفِعْلِ
____________________
(1/266)
الْمَغْرِبِ ما بين غُرُوبِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِ الشَّفَقِ فَخَرَجَ ما لم يُقْصَدْ فيه الْوَقْتُ فَلَا يُوصَفُ بِأَدَاءٍ وَلَا قَضَاءٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منه الْفِعْلُ في أَيِّ زَمَانٍ كان كَالْإِيمَانِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عن الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ عِنْدَ حُضُورِ الْعَدُوِّ بِخِلَافِ الْأَدَاءِ فإنه قُصِدَ منه الْفِعْلُ وَالزَّمَانُ وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ غَيْرُ الْمُؤَقَّتِ يُسَمَّى أَدَاءً شَرْعًا قال اللَّهُ تَعَالَى إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا نَزَلَتْ في تَسْلِيمِ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ وهو غَيْرُ مُؤَقَّتٍ وَلِأَصْحَابِنَا أَنَّ هذا مَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالْكَلَامُ في الِاصْطِلَاحِيِّ وَلَا يُشْتَرَطُ وُقُوعُ الْجَمِيعِ في الْوَقْتِ بَلْ لو وَقَعَ بَعْضُهُ كَرَكْعَةٍ فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَمِيعَ أَدَاءٌ تَبَعًا لِلرَّكْعَةِ فَإِنَّهَا لِمُعْظَمِ الصَّلَاةِ وَقِيلَ بَلْ يُحْكَمُ بِبَقَاءِ الْوَقْتِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَتَكُونُ الْعِبَادَةُ كُلُّهَا مَفْعُولَةً في الْوَقْتِ وَهَذَا أَمْرٌ تَقْدِيرِيٌّ يُنَافِيهِ قَوْلُهُمْ بَعْضُهَا خَارِجَ الْوَقْتِ وَسَوَاءٌ كان مُضَيَّقًا كَصَوْمِ رَمَضَانَ أو مُوَسَّعًا كَالصَّلَاةِ وَسَوَاءٌ فُعِلَ قبل ذلك مَرَّةً أُخْرَى أَمْ لَا هذا هو قَضِيَّةُ إطْلَاقِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ منهم الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في التَّقْرِيبِ وَالْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى وَالْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ ثُمَّ قال الْإِمَامُ فَإِنْ فَعَلَ ثَانِيًا بَعْدَ ذلك سُمِّيَ إعَادَةً فَظَنَّ أَتْبَاعُهُ أَنَّهُ مُخَصِّصٌ لِلْإِطْلَاقِ السَّابِقِ فَقَيَّدُوهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَالصَّوَابُ أَنَّ الْأَدَاءَ اسْمٌ لِمَا وَقَعَ في الْوَقْتِ مُطْلَقًا مَسْبُوقًا كان أو سَابِقًا وَإِنْ سَبَقَهُ أَدَاءً مُخْتَلٌّ سُمِّيَ إعَادَةً فَالْإِعَادَةُ قِسْمٌ من أَقْسَامِ الْأَدَاءِ فَكُلُّ إعَادَةٍ أَدَاءٌ من غَيْرِ عَكْسٍ وَلَا تَغْتَرَّ بِمَا تَقْتَضِيهِ عِبَارَةُ التَّحْصِيلِ وَالْمِنْهَاجِ من كَوْنِهِ قَسِيمًا له وَهَلْ الْمُرَادُ بِالْخَلَلِ في الْإِجْزَاءِ كَمَنْ صلى بِدُونِ شَرْطٍ أو رُكْنٍ أو في الْكَمَالِ كَمَنْ صلى مُنْفَرِدًا ثُمَّ أَعَادَهَا في جَمَاعَةٍ في الْوَقْتِ خِلَافٌ وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْقَاضِي فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِعَادَةَ فِعْلٌ مِثْلُ ما مَضَى فَاسِدًا كان الْمَاضِي أو صَحِيحًا على الْقَوْلَيْنِ وَقِيلَ لَا يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ في الْإِعَادَةِ فَعَلَى هذا بين الْأَدَاءِ وَالْإِعَادَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ من وَجْهٍ فَيَنْفَرِدُ الْأَدَاءُ في الْفِعْلِ الْأَوَّلِ وَتَنْفَرِدُ الْإِعَادَةُ بِمَا إذَا قَضَى صَلَاةً وَأَفْسَدَهَا ثُمَّ أَعَادَهَا وَيَجْتَمِعَانِ في الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ في الْوَقْتِ على ما سَبَقَ وقال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ الْإِعَادَةُ اسْمٌ لِلْعِبَادَةِ يُبْتَدَأُ بها ثُمَّ لَا يُتِمُّ فِعْلَهَا إمَّا بِأَنْ لَا يَعْقِدَهَا صَحِيحَةً وَإِمَّا بِأَنْ يَطْرَأَ الْفَسَادُ عليها وقد يُعِيدُهَا في الْوَقْتِ فَتَكُونُ أَدَاءً وَبَعْدَ الْوَقْتِ فَتَكُونُ قَضَاءً وَرُبَّمَا عَبَّرَ بِالْإِعَادَةِ عن الْعِبَادَةِ التي تُؤَخَّرُ أَمَّا إنْ
____________________
(1/267)
أَدَّى خَارِجَ وَقْتِهِ الْمُضَيَّقِ أو الْمُوَسَّعِ الْمُتَعَيِّنِ له سُمِّيَ قَضَاءً سَوَاءٌ كان التَّأْثِيرُ بِعُذْرٍ أو بِغَيْرِهِ وَسَوَاءٌ سَبَقَ بِنَوْعٍ من الْخَلَلِ أَمْ لَا وَخَرَجَ بِالْمُقَدَّرِ الْمُعَيَّنُ عن الْمُقَدَّرِ بِغَيْرِهِ بَلْ بِضَرْبٍ من الِاجْتِهَادِ كَالْمُوَسَّعِ في الْحَجِّ إذَا تَضَيَّقَ وَقْتُهُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ ثُمَّ بَقِيَ بَعْدَ ذلك وَأَدَّاهُ فإنه لَا يَكُونُ قَضَاءً على الْمُخْتَارِ وَسَيَأْتِي وَسَوَاءٌ وَجَبَ أَدَاؤُهُ أو لم يَجِبْ وَلَكِنْ وُجِدَ سَبَبُ الْأَمْرِ وَلَا يَصِحُّ عَقْلًا كَالنَّائِمِ أو شَرْعًا كَالْحَائِضِ أو يَصِحُّ لَكِنَّهُ سَقَطَ لِمَانِعٍ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ كَالسَّفَرِ أو لَا بِاخْتِيَارِهِ كَالْمَرَضِ وما لَا يُوجَدُ فيه سَبَبُ الْأَمْرِ بِهِ لم يَكُنْ فِعْلُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْوَقْتِ قَضَاءً إجْمَاعًا لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا كما لو صلى الصَّبِيُّ الصَّلَاةَ الْفَائِتَةَ في حَالَةِ الصِّبَا وَإِنْ انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ وَوَجَبَ كان فِعْلُهُ خَارِجَ الْوَقْتِ قَضَاءً حَقِيقَةً بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ ولم يَجِبْ لِعَارِضٍ سُمِّيَ قَضَاءً أَيْضًا وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ كنا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ لَكِنْ اُخْتُلِفَ فيه هل هو قَضَاءٌ حَقِيقَةً أو مَجَازًا وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّ الْمُعْتَبَرَ في تَسْمِيَةِ الْعِبَادَةِ قَضَاءً تَقَدَّمَ سَبَبُ وُجُوبِ أَدَائِهَا لَا وُجُوبُ أَدَائِهَا وَإِلَّا لم تَصِحَّ تَسْمِيَةُ عِبَادَةِ الْمَجْنُونِ وَالْحَائِضِ قَضَاءً إذْ لم يُخَاطَبْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَهَذَا ما ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَالْمَازِرِيُّ وَغَيْرُهُمَا وهو الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَجِبُ عليها حَالَةَ الْحَيْضِ وَخَالَفَ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ فقال الْحَيْضُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّوْمِ دُونَ وُجُوبِهِ وَنَسَبَهُ إلَى الْحَنَفِيَّةِ وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ في أَنَّ الْقَضَاءَ في مَحَلِّ الْوِفَاقِ هل كان لِاسْتِدْرَاكِ مَصْلَحَةِ ما انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ فَيَكُونُ هَاهُنَا حَقِيقَةً لِانْعِقَادِ سَبَبِ الْوُجُوبِ أو لِاسْتِدْرَاكِ مَصْلَحَةِ ما وَجَبَ فَيَكُونُ هَاهُنَا مَجَازًا لِعَدَمِ الْوُجُوبِ وَذَكَرَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ أَنَّ مَأْخَذَ الْخِلَافِ أَنَّ الْقَضَاءَ هل يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ أَمْ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَمَنْ أَوْجَبَهُ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ أَطْلَقَ اسْمَ الْقَضَاءِ عليه حَقِيقَةً وَعَلَى مُقَابِلِهِ يَكُونُ مَجَازًا ثُمَّ إذَا قُلْنَا بِاشْتِرَاطِ سَبْقِ الْوُجُوبِ في الْقَضَاءِ فَهَلْ يُعْتَبَرُ وُجُوبُهُ على الْمُسْتَدْرِكِ أو وُجُوبُهُ في الْجُمْلَةِ قَوْلَانِ وَيَتَحَصَّلُ من ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ الْأَوَّلُ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ فِعْلَهُمْ في الزَّمَانِ الثَّانِي قَضَاءٌ بِنَاءً على أَنَّ الْمُعْتَبَرَ في الْقَضَاءِ سَبْقُ الْوُجُوبِ في الْجُمْلَةِ لَا سَبْقُ الْوُجُوبِ على ذلك الشَّخْصِ
____________________
(1/268)
وَالثَّانِي أَنَّهُ ليس بِقَضَاءٍ لِعَدَمِ الْوُجُوبِ عليهم بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ على جَوَازِ التَّرْكِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ وَاجِبٌ عليهم في الزَّمَانِ الْأَوَّلِ بِسَبَبِهِ وَفِعْلُهُمْ في الزَّمَنِ الثَّانِي قَضَاءٌ قُلْنَا لو كانت الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَاجِبَانِ عليهم بِأَسْبَابِهِمَا لَمَا جَازَ لهم تَرْكُهُمَا لَكِنْ يَجُوزُ لهم تَرْكُهُمَا إجْمَاعًا قالوا شُهُودُ الشَّهْرِ مُوجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَهُمْ قد شَهِدُوا الشَّهْرَ قُلْنَا شُهُودُ الشَّهْرِ وَإِنْ كان مُوجِبًا لِلصَّوْمِ عليهم لَكِنَّ الْعُذْرَ مَانِعٌ من الْوُجُوبِ وَالشَّيْءُ قد لَا يَتَرَتَّبُ على مُوجِبِهِ لِمَانِعٍ فَلَا يَلْزَمُ من شُهُودِ الشَّهْرِ وُجُوبُ الصَّوْمِ عليهم قال في الْمَحْصُولِ فَفِي جَمِيعِ هذه الْمَوَاضِعِ اسْمُ الْقَضَاءِ إنَّمَا جاء لِأَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَ الْوُجُوبِ مُنْفَكًّا عن الْوُجُوبِ لَا لِأَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَ الْوُجُوبِ كما يقول بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ الْمَنْعَ من التَّرْكِ جُزْءُ مَاهِيَةِ الْوُجُوبِ فَيَسْتَحِيلُ تَحَقُّقُ الْوُجُوبِ مع جَوَازِ التَّرْكِ ثُمَّ تَقَدُّمُ السَّبَبِ قد يَكُونُ مع التَّأْثِيمِ بِالتَّرْكِ كَالْقَاتِلِ الْمُتَعَمِّدِ الْمُتَمَكِّنِ من الْفِعْلِ وقد لَا يَكُونُ كَالْحَائِضِ ثُمَّ قد يَصِحُّ مع الْإِجْزَاءِ وقد لَا يَصِحُّ إمَّا شَرْعًا كَالْحَيْضِ أو عَقْلًا كَالنَّوْمِ ثُمَّ قِيلَ الْقَضَاءُ لَا يُوصَفُ إلَّا بِالْوَاجِبِ وَقِيلَ لَا يُوصَفُ بِشَيْءٍ من الثَّلَاثَةِ غَيْرَهُ وَهُمَا فَاسِدَانِ وَالصَّوَابُ أَنَّ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُوصَفُ بِالثَّلَاثَةِ وَلِهَذَا يَقُولُونَ يَقْضِي الرَّوَاتِبَ على الْأَظْهَرِ تَنْبِيهٌ لَا فَرْقَ بين تَسْمِيَةِ الْقَضَاءِ أَدَاءً وَبِالْعَكْسِ ما ذُكِرَ من الْفَرْقِ بين الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ رَاجِعٌ إلَى التَّلْقِيبِ وَالِاصْطِلَاحِ وَإِلَّا فَعِنْدَنَا لَا فَرْقَ بين أَنْ يُسَمَّى الْقَضَاءُ أَدَاءً وَالْأَدَاءُ قَضَاءً وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُعْقَدَ الْقَضَاءُ بِنِيَّةِ الْأَدَاءِ فَإِذَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا في الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا هِيَ أَلْفَاظٌ وَأَلْقَابٌ تُطْلَقُ وَالْحَقِيقَةُ وَاحِدَةٌ كَذَا قَالَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ ذَيَّلَ الْكَلَامَ في أَنَّ الْقَضَاءَ هل يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ وهو مُنَازَعٌ فيه
____________________
(1/269)
فرع تأخير المأمور به هل يكون قضاء إذَا قُلْنَا بِالْفَوْرِ في الْأَوَامِرِ فإذا أَخَّرَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَهَلْ يَكُونُ قَضَاءً لِأَنَّهُ أَوْقَعَهَا في غَيْرِ وَقْتِهَا قال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ في أَمَالِيهِ الْوَقْتُ على قِسْمَيْنِ وَقْتٌ يُسْتَفَادُ من الصِّيغَةِ الدَّالَّةِ على الْمَأْمُورِ مع قَطْعِ النَّظَرِ عن كَوْنِ الشَّرْعِ حَدَّ لِلْعِبَادَةِ ذلك الْوَقْتَ أو لم يَحُدَّ وَوَقْتٌ يَحُدُّهُ الشَّرْعُ لِلْعِبَادَةِ مع قَطْعِ النَّظَرِ عن كَوْنِ اللَّفْظِ اقْتَضَاهُ أو لَا وَالْمُرَادُ بِالْوَقْتِ في حَدِّ الْقَضَاءِ هو الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ وَحِينَئِذٍ فَتَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أنها تَكُونُ قَضَاءً بَلْ إنَّمَا تَكُونُ إنْ خَرَجَتْ عن وَقْتِهَا الْمَضْرُوبِ لها لَا أنها خَرَجَتْ عن الْوَقْتِ الذي دَلَّ عليه اللَّفْظُ فائدة العبادة التي تقع قبل الوقت وتكون اداء ليس لنا عِبَادَةٌ تَقَعُ قبل الْوَقْتِ وَتَكُونُ أَدَاءً غير صَدَقَةِ الْفِطْرِ إذَا عَجَّلَهَا قبل لَيْلَةِ الْفِطْرِ وَلَيْسَ لنا عِبَادَةٌ يَتَوَقَّفُ قَضَاؤُهَا إلَّا في مَسْأَلَتَيْنِ على قَوْلٍ إحْدَاهُمَا إذَا تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ تَدَارَكَهُ في بَاقِي الْأَيَّامِ وَيَكُونُ أَدَاءً على الْأَظْهَرِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَضَاءً وَاتَّفَقُوا على أَنَّهُ لَا يُقْضَى فِيمَا عَدَا أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّانِيَةُ النَّوَافِلُ الْمُؤَقَّتَةُ فيها قَوْلٌ أنها لَا تُقْضَى إذَا دخل عليها وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى مسألة من غلب عاى ظنه عدم البقاء وإذا كان الِاعْتِبَارُ بِالتَّعْيِينِ من جِهَةِ الشَّارِعِ في الْوَقْتِ فَمَنْ غَلَبَ على ظَنِّهِ عَدَمُ الْبَقَاءِ تَعَيَّنَ عليه فِعْلُ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ فَإِنْ أَخَّرَهُ عَصَى فَلَوْ لم يَفْعَلْهُ وَبَقِيَ بَعْدَهُ قال الْغَزَالِيُّ هو أَدَاءٌ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ خَطَأَ ظَنِّهِ وَرَجَّحَهُ الْهِنْدِيُّ وَنَقَلَهُ ابن الْحَاجِبِ عن الْجُمْهُورِ وقال الْقَاضِيَانِ أبو بَكْرِ بن الطَّيِّبِ وَالْحُسَيْنُ بن مُحَمَّدٍ قَضَاءٌ لِأَنَّهُ تَضَيَّقَ بِتَأْخِيرِهِ فَهُوَ كما لو تَأَخَّرَ عن زَمَنِهِ الْمَحْدُودِ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ النَّظَرُ إلَى الْحَالِ أو الْمَآلِ فَإِنْ نَظَرْنَا إلَى الْحَالِ فَقَدْ ضَاقَ
____________________
(1/270)
الْوَقْتُ أو إلَى الْمَآلِ فَقَدْ زَالَتْ غَلَبَةُ الظَّنِّ وَانْكَشَفَ خِلَافُ ذلك فَبَقِيَ الْأَمْرُ على التَّوَسُّعِ وَرَجَّحَ ما قَالَهُ الْغَزَالِيُّ إنَّ اعْتِبَارَ الْمَوْجُودِ مُحَقَّقٌ بِخِلَافِ اعْتِبَارِ الْقَاضِي فإنه لَمَّا تَبَيَّنَ خِلَافُهُ اُعْتُبِرَ غير مُحَقَّقٍ وقد ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِيمَا إذَا صلى بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ بَعْدَ الْوَقْتِ وَجْهَيْنِ في أَنَّهُ يَكُونُ قَضَاءً أو أَدَاءً أَصَحُّهُمَا قَضَاءٌ وهو يَقْتَضِي تَرْجِيحَ اعْتِبَارِ ما في نَفْسِ الْأَمْرِ ثُمَّ قال ابن الْحَاجِبِ فَإِنْ أَرَادَ الْقَاضِي وُجُوبَ نِيَّةِ الْقَضَاءِ فَبَعِيدٌ لِوُقُوعِهَا في الْوَقْتِ وَيَلْزَمُهُ لو اعْتَقَدَ انْقِضَاءَ الْوَقْتِ قبل الْوَقْتِ أَنَّهُ يُعْصَى بِالتَّأْخِيرِ وقد يَلْتَزِمُهُمَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ وَقْتَ الْأَدَاءِ بَاقٍ حتى يَكُونَ إيجَابُ نِيَّةِ الْقَضَاءِ عليه بَعِيدًا بَلْ وَقْتُ الْأَدَاءِ خَرَجَ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ فإذا كَذَّبَ ظَنَّهُ وَاسْتَمَرَّتْ حَيَاتُهُ صَارَ كما لو مَاتَ ثُمَّ عَاشَ في الْوَقْتِ فإنه يَفْعَلُ الصَّلَاةَ بِتَكْلِيفٍ ثَانٍ مُنْقَطِعٍ عن الْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ هُنَا وقد قال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في تَعْلِيقِهِ مُقْتَضَى كَلَامِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَنْوِي الْقَضَاءَ لِأَنَّهُ يَقْضِي ما الْتَزَمَهُ في الذِّمَّةِ بِشُرُوعِهِ قال وَعَلَى قَوْلِ الْقَفَّالِ يَتَخَيَّرُ بين نِيَّةِ الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ وَأَمَّا الثَّانِي أَنَّهُ يَعْصِي بِالتَّأْخِيرِ الذي ظَنَّهُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ لِعُدُولِهِ عَمَّا ظَنَّهُ الْحَقَّ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ يَتْبَعُ الظُّنُونَ لَا ما في نَفْسِ الْأَمْرِ وَصَرَّحَ الْقُرْطُبِيُّ عن الْقَاضِي بِأَنَّ مَعْنَاهُ وُجُوبُ نِيَّةِ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ قد تَقَدَّمَ وَقْتُهُ شَرْعًا فَأَشْبَهَ ما لو كان مُقَدَّرًا بِأَصْلِ الطَّلَبِ قال وَكَلَامُ الْقَاضِي ظَاهِرٌ لَوْلَا أَنَّهُ يُقَالُ على من لَزِمَهُ قَضَاءُ صَلَاةٍ فَأَخَّرَهُ قَاضِي الْقَضَاءِ وَرَدَّ الْآمِدِيُّ طَرِيقَةَ الْقَاضِي بِأَنَّ جَمِيعَ الْوَقْتِ كان وَقْتًا لِلْأَدَاءِ قبل ظَنِّ الْمُكَلَّفِ تَضَيُّقَهُ بِالْمَوْتِ وَالْأَصْلُ بَقَاءُ ما كان على ما كان ثُمَّ ظَنُّ الْمُكَلَّفِ الْمَذْكُورُ إنَّمَا أَثَّرَ في تَأْثِيمِهِ بِالتَّأْخِيرِ وَلَا يَلْزَمُ من تَأْثِيمِهِ بِالتَّأْخِيرِ مُخَالَفَةُ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ وهو بَقَاءُ الْوَقْتِ الْأَصْلِيِّ وَقْتًا لِلْأَدَاءِ في حَقِّهِ كما لو أَخَّرَ الْوَاجِبَ الْمُوَسَّعَ من غَيْرِ عَزْمٍ فإن وَقْتَ الْأَدَاءِ الْأَصْلِيِّ بَاقٍ في ذِمَّتِهِ وقد وَافَقَ الْقَاضِي على ذلك قِيلَ وَخَرَجَ عن هذا مَنْزَعٌ صَعْبٌ على الْقَاضِي وهو أَنَّ الْأَدَاءَ وَالْقَضَاءَ من خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْإِثْمَ على التَّأْخِيرِ من بَابِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ وَظَنُّ الْمُكَلَّفِ إنَّمَا يُنَاسِبُ تَأْثِيرَهُ في الْأُمُورِ التَّكْلِيفِيَّةِ فَتُقْلَبُ حَقَائِقُهَا لِأَنَّهَا أُمُورٌ تَقْدِيرِيَّةٌ أو تَقْرِيبِيَّةٌ كَالْإِثْمِ وَالثَّوَابِ جَازَ أَنْ يَتْبَعَ الظُّنُونَ وَالِاعْتِقَادَاتِ أَمَّا الْأُمُورُ الْوَضْعِيَّةُ كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَلَا
____________________
(1/271)
يَقْوَى الْمُكَلَّفُ على قَلْبِ حَقَائِقِهَا تَنْبِيهٌ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا مَضَى من وَقْتِ الظُّهْرِ إلَى حِينِ الْفِعْلِ زَمَنٌ يَسَعُ الْفَرْضَ حتى يَتَّجِهَ الْقَوْلُ بِالْقَضَاءِ فَلَوْ لم يَكُنْ كَذَلِكَ فَفَعَلَهُ فَلْيَكُنْ على الْخِلَافِ فِيمَا إذَا وَقَعَ بَعْضُ الصَّلَاةِ في الْوَقْتِ وَبَعْضُهَا خَارِجَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَ الْقَاضِي بِمُقْتَضَى ظَنِّ هذا الْمُكَلَّفِ صَارَ وَقْتُ الْأَدَاءِ الْأَصْلِيُّ وَقْتَ قَضَاءٍ في حَقِّهِ هو قَلْبًا لِحَقِيقَةِ أَمْرٍ وَضْعِيٍّ وَلَا دَلِيلَ على ثُبُوتِهِ وَأَمَّا الصُّوَرُ التي قَاسَ عليها الْآمِدِيُّ وَهِيَ تَأْخِيرُ الْمُوَسَّعِ بِدُونِ الْعَزْمِ فَلِلْقَاضِي أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ بِحُصُولِ الظَّنِّ الْمُنَاسِبِ لِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عليه في مَسْأَلَةِ الْقَاضِي وَالظَّنُّ وُجُودِيٌّ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْآمِدِيَّ فإنه قد عَصَى مَعْصِيَةً عَدَمِيَّةً وهو مع ذلك يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهَا فَلَا يَقْوَى على مُنَاسَبَةِ تَغْيِيرِ أَمْرٍ وَضْعِيٍّ فَرْعٌ لو شَرَعَ في الصَّلَاةِ في الْوَقْتِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا وَأَتَى بها في الْوَقْتِ قال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ يَكُونُ قَضَاءً لِأَنَّ بِالشُّرُوعِ يَضِيقُ الْوَقْتُ بِدَلِيلِ امْتِنَاعِ الْخُرُوجِ منها فلم يَكُنْ فِعْلُهَا بَعْدَهُ إلَّا قَضَاءً وهو قَرِيبٌ من قَوْلِ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ فِيمَا سَبَقَ وَذَكَرَ ابن الرِّفْعَةِ أَنَّ في نَصِّ الْأُمِّ إشَارَةً إلَيْهِ حَيْثُ مَنَعَ الْخُرُوجَ بَعْدَ التَّلَبُّسِ فقال فَإِنْ خَرَجَ منها بِلَا عُذْرٍ كان مُفْسِدًا آثِمًا وَظَاهِرُ كَلَامِ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يَنْسَلِبُ عنها اسْمُ الْأَدَاءِ لِبَقَاءِ الْوَقْتِ الْمَحْدُودِ شَرْعًا وَبِهِ صَرَّحَ صَاحِبُ التَّنْبِيهِ في اللُّمَعِ فقال فَأَمَّا إذَا دخل فيها فَأَفْسَدَهَا نَسِيَ شَرْطًا من شُرُوطِهَا فَأَعَادَهَا وَالْوَقْتُ بَاقٍ سُمِّيَ إعَادَةً وَأَدَاءً انْتَهَى وَأَشَارَ في شَرْحِهَا إلَى أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ وهو حَقٌّ وَبِهِ يَتَّضِحُ أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ لِلْقَاضِي الْحُسَيْنِ وَأَتْبَاعِهِ دَعْوَاهُمْ تَفْرِيعًا على قَوْلِهِمْ بِالْقَضَاءِ في مُقِيمٍ شَرَعَ في الصَّلَاةِ في الْبَلَدِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا ثُمَّ سَافَرَ لَا يَقْصُرُ أو مُسَافِرٌ أَتَمَّ وَاقْتَدَى بِمُقِيمٍ ثُمَّ أَفْسَدَ الصَّلَاةَ لَا يَقْضِي إلَّا تَمَامًا بِنَاءً على مَنْعِ قَصْرِ الْفَوَائِتِ بَلْ الْجَارِي على وَفْقِ الْفِقْهِ الْقَصْرُ وَاسْتِئْنَافُ الْجُمُعَةِ إذَا وَقَعَ ذلك فيها ما بَقِيَ الْوَقْتُ
____________________
(1/272)
نعم نَقَلَ في الشَّامِلِ عن نَصِّ الشَّافِعِيِّ إنْ أَحْرَمَ مُسَافِرٌ بِالصَّلَاةِ وهو يَجْهَلُ أَنَّ له قَصْرَهَا ثُمَّ سَلَّمَ من رَكْعَتَيْنِ وَجَبَ عليه قَضَاؤُهَا لِأَنَّهُ عَقَدَهَا أَرْبَعًا فإذا سَلَّمَ من رَكْعَتَيْنِ فيها فَقَدْ قَصَدَ إفْسَادَهَا وَظَاهِرُ هذا النَّصِّ أنها تَصِيرُ قَضَاءً بِإِفْسَادِهَا في الْوَقْتِ ثُمَّ قال فَرْعٌ إذَا أَحْرَمَ وَنَوَى الْإِتْمَامَ أو أَحْرَمَ مُطْلَقًا ثُمَّ أَفْسَدَهَا وَجَبَ عليه قَضَاؤُهَا تَامَّةً لِأَنَّهُ قد لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ بِالدُّخُولِ فيها وَكُلُّ عِبَادَةٍ تَلْزَمُ بِالدُّخُولِ فيها إذَا أَفْسَدَهَا وَجَبَ عليه قَضَاؤُهَا على الْوَجْهِ الذي لَزِمَهُ مع الْإِمْكَانِ كَالْحَجِّ وَلَا يَلْزَمُ من أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ مع الْإِمَامِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُهَا بَعْدَ ذلك ا هـ تَنْبِيهٌ لَا يَجِيءُ هذا الْبَحْثُ كُلُّهُ فِيمَا إذَا كان وَقْتُ الْقَضَاءِ مُوَسَّعًا كَالْمَتْرُوكِ بِعُذْرٍ فإذا شَرَعَ في قَضَائِهِ تَضَيَّقَ عليه لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يُقْضَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
____________________
(1/273)
التَّكْلِيفُ لُغَةً من الْكُلْفَةِ بِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ وفي الِاصْطِلَاحِ قال ابن سُرَاقَةَ من أَصْحَابِنَا في أَوَّلِ كِتَابِهِ أُصُولِ الْفِقْهِ حَدَّهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ إرَادَةُ الْمُكَلِّفِ من الْمُكَلَّفِ فِعْلَ ما يَشُقُّ عليه ا هـ وقال الْمَاوَرْدِيُّ في أَدَبِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ الْأَمْرُ بِطَاعَةٍ وَالنَّهْيُ عن مَعْصِيَةٍ وَلِذَلِكَ كان التَّكْلِيفُ مَقْرُونًا بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وكان ما تَخَلَّلَ كِتَابَهُ من الْقِصَصِ عِظَةً وَاعْتِبَارًا تَقْوَى مَعَهَا الرَّغْبَةُ وَيَزْدَادُ بها الرَّهْبَةُ وقال الْقَاضِي هو الْأَمْرُ بِمَا فيه كُلْفَةٌ أو النَّهْيُ عَمَّا في الِامْتِنَاعِ عنه كُلْفَةٌ وَعَدَّ النَّدْبَ وَالْكَرَاهَةَ من التَّكْلِيفِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هو إلْزَامٌ فيه كُلْفَةٌ وَعَلَى هذا فَالنَّدْبُ وَالْكَرَاهَةُ لَا كُلْفَةَ فِيهِمَا لِأَنَّهَا تُنَافِي التَّخْيِيرَ قال في الْمَنْخُولِ وهو الْمُخْتَارُ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ عِبَارَةٌ عَمَّا خُيِّرَ بين فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ وَالنَّدْبُ مَطْلُوبُ الْفِعْلِ مُثَابٌ عليه فلم يَحْصُلْ التَّسَاوِي وما نَقَلْنَا عن الْقَاضِي تَبِعَنَا فيه إمَامُ الْحَرَمَيْنِ لَكِنَّ الذي في التَّقْرِيبِ لِلْقَاضِي أَنَّهُ إلْزَامُ ما فيه كُلْفَةٌ كَمَقَالَةِ الْإِمَامِ فَلْيُنْظَرْ فَلَعَلَّ له قَوْلَيْنِ وَزَعَمَ الْإِمَامُ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْحَظْرَ وَالْوُجُوبَ قَطْعًا وَلَا يَتَنَاوَلُ الْإِبَاحَةَ قَطْعًا إلَّا عِنْدَ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وفي تَنَاوُلِهِ النَّدْبَ وَالْكَرَاهَةَ خِلَافٌ وَسَلَكَتْ الْحَنَفِيَّةُ مَسْلَكًا آخَرَ فَقَالُوا التَّكْلِيفُ يَنْقَسِمُ إلَى وُجُوبِ أَدَاءً وهو الْمُطَالَبَةُ بِالْفِعْلِ إيجَادًا أو إعْدَامًا وَإِلَى وُجُوبٍ في الذِّمَّةِ سَابِقٍ عليه وَعَنَوْا بِهِ اشْتِغَالَ الذِّمَّةِ بِالْوَاجِبِ وإذا لم يَصْلُحْ صَاحِبُ الذِّمَّةِ لِلْإِلْزَامِ كَالصَّبِيِّ إذَا أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ فإن ذِمَّتَهُ تَشْتَغِلُ بِالْعِوَضِ ثُمَّ إنَّمَا يَجِبُ الْأَدَاءُ على الْوَلِيِّ وَزَعَمُوا اسْتِدْعَاءَ التَّكْلِيفِ الْأَوَّلِ عَقْلًا وَفَهْمًا لِلْخِطَابِ بِخِلَافِ الثَّانِي قالوا الْأَوَّلُ مُتَلَقًّى من الْخِطَابِ وَالثَّانِي من الْأَسْبَابِ فَمُسْتَغْرِقُ الْوَقْتِ بِالنَّوْمِ يَقْضِي الصَّلَاةَ مع ارْتِفَاعِ قَلَمِ التَّكْلِيفِ عن النَّائِمِ وَلَكِنْ لَمَّا كان الْوُجُوبُ مُضَافًا إلَى أَسْبَابٍ شَرْعِيَّةٍ
____________________
(1/274)
دُونَ الْخِطَابِ وَجَبَ الْقَضَاءُ لِذَلِكَ وَزَعَمُوا أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ الْوَقْتُ وَالصَّوْمِ الشَّهْرُ وَتَسَلَّقُوا بِهِ إلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ على الْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ في أَثْنَاءِ الشَّهْرِ إذْ الْوُجُوبُ بِالسَّبَبِ وهو الشَّهْرُ وقد وُجِدَ وَعِنْدَنَا لَا وُجُوبَ إلَّا بِالْخِطَابِ لَا بِالْأَسْبَابِ مسألة التكليف حسن في العقول التَّكْلِيفُ حَسَنٌ في الْعُقُولِ إذَا تَوَجَّهَ إلَى من عُلِمَتْ طَاعَتُهُ وَاخْتُلِفَ في حُسْنِهِ إذَا تَوَجَّهَ إلَى من عُرِفَتْ مَعْصِيَتُهُ فَاسْتَحْسَنَهُ الْمُعْتَزِلَةُ لِأَنَّ فيه تَعْرِيضًا لِلثَّوَابِ ولم يَسْتَحْسِنْهُ الْأَشْعَرِيَّةُ لِأَنَّهُ بِالْمَعْصِيَةِ مُعَرَّضٌ لِلْعِقَابِ كَذَا حَكَاهُ صَاحِبُ دَلَائِلِ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ قال وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ قال ولم أَعْرِفْ لهم فيه قَوْلًا مسألة التكليف هل يكون معتبرا بالأصلح اُخْتُلِفَ في التَّكْلِيفِ هل يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِالْأَصْلَحِ فَاَلَّذِي عليه أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِالْأَصْلَحِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منه مَنْفَعَةُ الْعِبَادِ وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ وَجَمْعٌ من الْمُتَكَلِّمِينَ وهو الْمَنْسُوبُ إلَى الْأَشْعَرِيَّةِ إلَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ على مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى من مَصْلَحَةٍ وَغَيْرِهَا لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِجَمِيعِهَا فَمَنْ اعْتَبَرَ بِالْأَصْلَحِ مَنَعَ من تَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ وَبِهِ يَصِحُّ تَكْلِيفُ ما لَحِقَتْ فيه الْمَشَقَّةُ الْمُحْتَمَلَةُ وَاخْتُلِفَ في صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا مَشَقَّةَ فيه فَجَوَّزَهَا الْفُقَهَاءُ وَمَنَعَ منها بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ وقد وَرَدَ التَّعَبُّدُ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ من بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى الْكَعْبَةِ وَلَيْسَ فيه مَشَقَّةٌ قال الْقَاضِي وَمُتَعَلَّقُ التَّكْلِيفِ اكْتِسَابُ الْعَبْدِ الْأَفْعَالَ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِذَوَاتِهَا وَلَا بِحُدُوثِهَا فإن ذلك بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ في قَوْلِهِمْ التَّكْلِيفُ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِيجَادِ وَالْإِحْدَاثِ وَأَصْلُ الْخِلَافِ خَلْقُ الْأَفْعَالِ عِنْدَهُمْ وَلَا يُعْقَلُ التَّكْلِيفُ إلَّا بِاجْتِمَاعِ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ التَّكْلِيفُ وهو الْمَصْدَرُ وَالْمُكَلَّفُ وهو من يَقُومُ بِهِ التَّكْلِيفُ وَأَصْلُهُ طَالِبٌ مُلْزِمٌ لَكِنْ قد حَقَّقْنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا طَاعَةَ اللَّهِ وَطَاعَةَ من أَوْجَبَ طَاعَتَهُ الْمُكَلَّفُ وهو الذي اسْتَدْعَى منه الْفِعْلَ وَالْمُكَلَّفُ بِهِ هو الْمَطْلُوبُ وَإِنَّمَا يُشْتَقُّ
____________________
(1/275)
اسْمُ الْفَاعِلِ أو الْمَفْعُولِ من الْمَصَادِرِ فَلِهَذَا قَدَّمْنَا الْكَلَامَ على التَّكْلِيفِ وَمِنْ جُمْلَتِهِ مَعْرِفَةُ الطَّائِعِ لِيُثَابَ وَالْعَاصِي لِيُعَاقَبَ فَلِهَذَا اُشْتُرِطَ لِهَذَا شُرُوطٌ بَعْضُهَا في الْمُكَلَّفِ وَبَعْضُهَا في الْمُكَلَّفِ بِهِ وَحُكْمُ الْمُكَلَّفِ وَالتَّكْلِيفِ قد عُرِفَا فَلْنَتَكَلَّمْ على الْأَخِيرَيْنِ الرُّكْنُ الثَّالِثُ الْمُكَلَّفُ وهو الْمَحْكُومُ عليه وَلَهُ شُرُوطٌ أَحَدُهَا الْحَيَاةُ فَالْمَيِّتُ لَا يُكَلَّفُ وَإِنْ جَوَّزْنَا تَكْلِيفَ الْمُحَالِ كما قَالَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ عليه وَلِهَذَا لو وَصَلَ عَظْمَهُ بِنَجَسٍ لم يُنْزَعْ على الصَّحِيحِ وَلَوْ مَاتَتْ الْمُعْتَدَّةُ الْمُحْرِمَةُ جَازَ تَطْيِيبُهَا نَظَرًا إلَى أَنَّ الْخِطَابَ سَقَطَ بِالْمَوْتِ نعم قد يَنْسَحِبُ عليه حُكْمُ التَّكْلِيفِ وَلِهَذَا يُمْتَنَعُ تَكْفِينُ الرَّجُلِ بِالْحَرِيرِ وَكَذَا بِالزَّعْفَرَانِ وَالْمُعَصْفَرِ إنْ مَنَعْنَاهُ في الْحَيَاةِ كما هو الْمَنْصُوصُ وَكَذَلِكَ الْمُحْرِمُ إذَا مَاتَ يَحْرُمُ تَطْيِيبُهُ وَإِزَالَةُ شَعْرِهِ وَظُفْرِهِ وَعَلَّلَهُ الْقَفَّالُ بِأَنَّ الْحَجَّ أَلْزَمُ الْعُقُودِ فَبَقِيَ حُكْمُهُ كما يَبْقَى حُكْمُ الْإِسْلَامِ وَلَوْ مَاتَ الْمُحْرِمُ وقد بَقِيَ عليه من أَرْكَانِ الْحَجِّ الْحَلْقُ فإذا حَلَقَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَفِي وُقُوعِهِ الْمَوْقِعَ نَظَرٌ لِبَعْضِ مَشَايِخِنَا فرع تَكْلِيفُ من أَحُيِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ من أُحْيِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ كَاَلَّذِي مَرَّ على قَرْيَةٍ وَكَالْخَارِجِينَ من دِيَارِهِمْ أُلُوفٌ قال الْمَاوَرْدِيُّ في تَفْسِيرِهِ اُخْتُلِفَ في بَقَاءِ تَكْلِيفِ من أُعِيدَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَقِيلَ يَبْقَى لِئَلَّا يَخْلُوَ عَاقِلٌ من تَعَبُّدٍ وَقِيلَ يَسْقُطُ فَالتَّكْلِيفُ مُعْتَبَرٌ بِالِاسْتِدْلَالِ دُونَ الِاضْطِرَارِ ا هـ وهو غَرِيبٌ وقال الْإِمَامُ في تَفْسِيرِهِ إذَا جَازَ تَكْلِيفُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ تَكْلِيفُ أَهْلِ الْآخِرَةِ وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمَانِعَ من الْآخِرَةِ الِاضْطِرَابُ إلَى الْمَعْرِفَةِ وَبَعْدَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ لَا تَكْلِيفَ وَأَهْلُ الصَّاعِقَةِ يَجُوزُ كَوْنُهُ تَعَالَى لم يَضْطَرَّهُمْ فَصَحَّ تَكْلِيفُهُمْ بَعْدَ ذلك ا هـ وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْحَقُّ أَنَّ الْآيَاتِ الْمُضْطَرَّةَ لَا تَمْنَعُ التَّكْلِيفَ واليهود قد أَبَوْا أَخْذَ الْكِتَابِ فَرَفَعَ الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ فَآمَنُوا وَقَبِلُوهُ وَلَا شَكَّ في أَنَّ هذا آيَةٌ
____________________
(1/276)
مُضْطَرَّةٌ وَقَوْلُ الرَّازِيَّ بِعَدَمِ التَّكْلِيفِ في الْآخِرَةِ ليس على إطْلَاقِهِ فإن التَّكْلِيفَ بِالْمَعْرِفَةِ بَاقٍ فيها وقد جاء أَنَّهُ تُؤَجَّجُ نَارٌ وَيُؤْمَرُونَ بِالدُّخُولِ فيها فَمَنْ أَقْبَلَ على ذلك صُرِفَ عنها وَهَذَا تَكْلِيفٌ وقال بَعْضُهُمْ قَوْلُهُمْ الْآخِرَةُ دَارُ جَزَاءٍ وَالدُّنْيَا دَارُ تَكْلِيفٍ مَحْمُولٌ على الْأَغْلَبِ في كل دَارٍ في الْآخِرَةِ الْجَزَاءُ كما في الدُّنْيَا التَّكْلِيفُ الشَّرْطُ الثَّانِي كَوْنُهُ من الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ فَيَخْرُجُ الْبَهَائِمُ وَالْجَمَادَاتُ وَحَكَى الْقَاضِي وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عليه وَحَكَى صَاحِبُ الْمُعْتَمَد عن أَهْلِ التَّنَاسُخِ أَنَّ فَرَائِضَ اللَّهِ تَجِبُ على جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ وَأَنَّ جَمِيعَهَا عُقَلَاءُ مُكَلَّفُونَ لِفَرَائِض اللَّهِ وَعَنْ الْآخَرِينَ تَكْلِيفُ الْجِبَالِ وَالْأَشْجَارِ وَالْحِيطَانِ وَالْحَجَرِ وَالْمَدَرِ وَرُدَّ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ على خِلَافِ ذلك وَأَمَّا ما وَقَعَ في بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ قِرَدَةً رَجَمُوا من زَنَى بَيْنَهُمْ فَإِنْ صَحَّ فَلَعَلَّهُ من بَقَايَا من كُلِّفَ الشَّرْطُ الثَّالِثُ الْبُلُوغُ فَالصَّبِيُّ ليس مُكَلَّفًا أَصْلًا لِقُصُورِ فَهْمِهِ عن إدْرَاكِ مَعَانِي الْخِطَابِ قال الْإِمَامُ في الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ وَمُدْرِكُ شَرْطِهِ الشَّرْعُ وَلَوْ رَدَدْنَا إلَى الْعَقْلِ لم يَسْتَحِلْ تَكْلِيفُ الْعَاقِلِ الْمُمَيِّزِ من الصِّبْيَانِ وقال في بَابِ الْحَجْرِ من النِّهَايَةِ كَأَنَّ الشَّرْعَ لم يُلْزِمْ الصَّبِيَّ قَضَايَا التَّكْلِيفِ لِأَمْرَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ من مَظِنَّةِ الْغَبَاوَةِ وَضَعْفِ الْعَقْلِ فَلَا يَسْتَقِلُّ بِأَعْبَاءِ التَّكْلِيفِ
____________________
(1/277)
وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ عَرَى عن الْبَلِيَّةِ الْعُظْمَى وَهِيَ الشَّهْوَةُ فَرَبَطَ الشَّرْعُ الْتِزَامَ التَّكْلِيفِ بِأَمَدٍ وَتَرْكِيبِ الشَّهْوَةِ أَمَّا الْأَمَدُ فَيُشِيرُ إلَى التَّهْذِيبِ بِالتَّجَارِبِ وَأَمَّا تَرْكِيبُ الشَّهْوَةِ فإنه يُعَرِّضُ لِلْبَلَايَا الْعِظَامِ فَرَأَى الشَّرْعُ تَثْبِيتَ التَّكْلِيفِ معه زَاجِرًا وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ تَجِبُ الزَّكَاةُ في مَالِ الصَّبِيِّ مُرَادُهُمْ وُجُوبُ الْأَخْذِ من مَالِهِ لَا خِطَابُ الْأَدَاءِ وَنَقَلَ ابن بَرْهَانٍ أَنَّ الصَّبِيَّ مُخَاطَبٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنَّا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَلَعَلَّ مُرَادَهُ خِطَابُ الْوَضْعِ وقال صَاحِبُ الْبَيَانِ في الْفِقْهِ من أَصْحَابِنَا في بَابِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يَدْخُلَانِ في خِطَابِ الْمُوَاجَهَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَيَدْخُلَانِ في خِطَابِ الْإِلْزَامِ كَقَوْلِهِ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ وَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم في كل أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ وَذَكَرَ ابن كَجٍّ نَحْوَهُ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَالطُّرْطُوشِيُّ الصَّبِيُّ لَا يَدْخُلُ في الْخِطَابِ الْمَقْصُودِ منه التَّكْلِيفُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا بِالْإِخْبَارِ لَا وُجُوبَ لَا يُنَافِيهِ الصِّغَرُ لِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ من الزَّكَاةِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ فَيَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ بِمَالِهِ وَيُخَاطَبُ بِذَلِكَ وَلِيُّهُ وَكَذَلِكَ الْعِدَّةُ تَدْخُلُ في حَقِّ الْأَطْفَالِ من النِّسَاءِ في قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا الْآيَةُ وَعَنْ أبي الْعَبَّاسِ بن سُرَيْجٍ أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ على ابْنِ الْعَشْرِ وُجُوبَ مِثْلِهِ وَإِنْ لم يَأْثَمْ بِتَرْكِهَا إذْ لو لم تَجِبْ عليه لَمَا ضُرِبَ عليها وقال الْقَاضِي الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ قُبَيْلَ بَابِ اخْتِلَافِ نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَأَوْمَأَ الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ إلَى أنها تَجِبُ قبل بُلُوغِهِ وَلَكِنْ لَا يُعَاقَبُ على تَرْكِهَا عُقُوبَةَ الْبَالِغِ وَرَأَيْت كَثِيرًا من الْمَشَايِخِ مُرْتَكِبِينَ هذا الْقَوْلَ في الْمُنَاظَرَةِ وَلَيْسَ بِمَذْهَبٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ أَصْلًا وَإِنَّمَا هذا قَوْلُ أَحْمَدَ في رِوَايَةٍ أنها تَجِبُ عليه إذَا بَلَغَ عَشْرًا ا هـ وقد صَرَّحَ في الرِّسَالَةِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ لَا يَجِبَانِ على الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ
____________________
(1/278)
وَاسْتَصْوَبَ الْإِمَامُ في الْأَسَالِيبِ قَوْلَ ابْنِ سُرَيْجٍ قال وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عليها وَمَلُومٌ على تَرْكِهَا وما حَكَاهُ عن النَّصِّ يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ على أَنَّهُ يَجِبُ عليه من جِهَةِ وَلِيِّهِ لِأَنَّهُ يَأْمُرُهُ بها وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَاَلَّذِي يَسْتَدْعِي التَّكْلِيفَ إنَّمَا هو أَمْرُ اللَّهِ وَأَمَّا أَفْهَمِيَّةُ الْعِقَابِ فَهُوَ الضَّرْبُ على تَرْكِهَا وَهَذَا كُلُّهُ في الْوُجُوبِ أَمَّا الْإِيجَابُ وَدُخُولُهُ في خِطَابِ ما أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الصَّبِيَّ لَا يَدْخُلُ فيه وَذَكَرَ الْإِمَامُ أبو الْحُسَيْنِ السُّبْكِيُّ أَنَّ الصَّبِيَّ دَاخِلٌ في عُمُومِ نَحْوِ قَوْلِهِ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ فإن الْخِطَابَ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالنَّاسِ وهو منهم وقد قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِصَبِيٍّ يا بُنَيَّ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيك قال وَعَدُّ الْأُصُولِيِّينَ ذلك في أَمْرِ التَّأْدِيبِ لَا يَضُرُّنَا قال وَالصَّبِيُّ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ أَمْرَ إيجَابٍ وَالْمُرَادُ بِالْإِيجَابِ الْأَمْرُ الْجَازِمُ وهو مَوْجُودٌ في الصَّبِيِّ لَكِنَّ الْوُجُوبَ تَخَلَّفَ عنه لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ إنْ لم يَكُنْ مُمَيِّزًا بِالْأَدِلَّةِ على أَنَّ الْفَهْمَ شَرْطُ التَّكْلِيفِ وَلِرَفْعِ الْقَلَمِ إنْ كان مُمَيِّزًا وإذا فَسَّرْنَا الْإِيجَابَ بِالْأَمْرِ الْجَازِمِ لم يُمْتَنَعْ تَخَلُّفُ الْوُجُوبِ لِمَعْنَى التَّكْلِيفِ عن الْإِيجَابِ بِمَعْنَى الْجَزْمِ وَلَا نَعْنِي بِالْجَازِمِ الْمَنْعَ من هذه إنَّمَا الْجَزْمُ صِفَةٌ لِلطَّلَبِ من حَيْثُ هو بِالنِّسْبَةِ إلَى رُتْبَةِ ذلك الْفِعْلِ فَرُتْبَةُ الْفَرْضِ هِيَ الْعُلْيَا لِأَنَّهُ لَا رُخْصَةَ فيها وَالْمَنْدُوبُ فيه رُخْصَةٌ مُنْحَطَّةٌ عن رُتْبَةِ الْوَاجِبِ وَكِلَاهُمَا سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَالِغِ وَالصَّبِيِّ وَالشَّخْصُ الذي يَتَعَلَّقُ بِهِ ذلك الْأَمْرُ يُعْتَبَرُ فيه أُمُورٌ إنْ وُجِدَتْ تَرَتَّبَ مُقْتَضَاهُ كَالْوُجُوبِ الْمُتَرَتِّبِ على الْإِيجَابِ وَإِلَّا فَلَا وَمَنْ تَأَمَّلَ هذا الْمَعْنَى لم يَسْتَبْعِدْهُ في حَقِّ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ الذي اقْتَضَتْ رُخْصَةُ اللَّهِ رَفْعَ الْقَلَمِ عنه انْتَهَى وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ في الْمَعْرِفَةِ في بَابِ حَجِّ الصَّبِيِّ قال الشَّافِعِيُّ في الْقَدِيمِ وقد أَوْجَبَ اللَّهُ بَعْضَ الْفَرْضِ على من لم يَبْلُغْ وَذَكَرَ الْعِدَّةَ وَذَكَرَ ما يَلْزَمُهُ فِيمَا اُسْتُهْلِكَ من أَمْتِعَةِ الناس قال وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه رُفِعَ الْقَلَمُ عن الصَّبِيِّ حتى يَحْتَلِمَ أو يَبْلُغَ الْمَأْثَمَ فَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا أَلَا تَرَى أَنَّ عَلِيًّا هو أَعْلَمُ بِمَعْنَى ما رَوَى كان يُؤَدِّي الزَّكَاةَ عن أَمْوَالِ الْيَتَامَى الصِّغَارِ
____________________
(1/279)
قال الْبَيْهَقِيُّ وَإِنَّمَا نَسَبَ هذا الْكَلَامَ إلَى عَلِيٍّ لِأَنَّهُ عنه يَصِحُّ وقد رَفَعَهُ بَعْضُ أَهْلِ الرِّوَايَةِ من حديث عَلِيٍّ وَوَقَفَهُ عليه أَكْثَرُهُمْ ا هـ وَسَلَكَ الْقَفَّالُ طَرِيقًا آخَرَ في الْإِيجَابِ فقال إنَّ الصَّبِيَّ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ أَمْرَ إيجَابٍ لِأَنَّهُ آكَدُ بِالْعُقُوبَةِ على تَرْكِهَا قال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في الْأَسْرَارِ فَقُلْت له لم يَأْمُرْ اللَّهُ الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ قال أَمَرَ الْأَوْلِيَاءَ لِيَأْمُرُوهُ فَهُوَ كَأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فِيمَا يَلْزَمُ أُمَّتَهُ وَفِيمَا قَالَهُ الْقَفَّالُ نَظَرٌ فإن الْمُخَاطَبَ الْوَلِيُّ وفي أَمْرِ الْأَوْلِيَاءِ بِالضَّرْبِ عِنْدَ تَرْكِ الصَّلَاةِ ما يُصَرِّحُ بِنَفْيِ التَّكْلِيفِ عَنْهُمْ إذْ لو كَانُوا مُكَلَّفِينَ لم يَخْتَصَّ ذلك بِالْوَلِيِّ كما بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِنَّمَا هو ضَرْبُ اسْتِصْلَاحٍ كَالْبَهِيمَةِ وَزَعَمَ الْحَلِيمِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ كان في صَدْرِ الْإِسْلَامِ الصَّبِيُّ مُكَلَّفًا وهو من يُمْكِنُ أَنْ يُولَدَ له ثُمَّ اُعْتُبِرَ الْبُلُوغُ بِالسِّنِّ وَحَمَلَا عليه حَدِيثَ رُفِعَ الْقَلَمُ عن الصَّبِيِّ فإن الرَّفْعَ يَقْتَضِي الْوَضْعَ وَاخْتُلِفَ في الْبُلُوغِ هل هو شَرْطٌ عَقْلِيٌّ لِلتَّكْلِيفِ لِأَنَّ الصَّبِيَّ مَظِنَّةُ الْعِبَادَةِ أو شَرْعِيٌّ على قَوْلَيْنِ تَنْبِيهَانِ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ لَا يُخَاطَبُ الصَّبِيُّ بِالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ على الْمَشْهُورِ في الصَّبِيِّ فَلَا يُخَاطَبُ من الْأَحْكَامِ بِالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ وَهَلْ انْتِفَاءُ ذلك في حَقِّهِ لِعَدَمِ الْحُكْمِ كما قبل الشَّرْعِ أو حُكْمٌ من اللَّهِ تَخْفِيفًا عنه لم يَتَعَرَّضُوا لِذَلِكَ وَعَلَيْهِ يُنْبِي ما سَبَقَ في مَعْنَى رَفْعِ الْقَلَمِ وَهَلْ يُخَاطَبُ بِالنَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ الْجُمْهُورُ على الْمَنْعِ خِلَافًا لِلْغَزَالِيِّ وهو مُقْتَضَى كَلَامِ أَصْحَابِنَا في الْفُرُوعِ حَيْثُ قالوا إنَّهُ مَأْمُورٌ من جِهَةِ الشَّرْعِ بِالنَّدْبِ وَلِهَذَا جَعَلُوا له إنْكَارَ الْمُنْكَرِ وَيُثَابُ عليه
____________________
(1/280)
التَّنْبِيهُ الثَّانِي إذَا عَلَّقْنَا التَّكْلِيفَ بِالْبُلُوغِ فَهَلْ يَصِيرُ مُكَلَّفًا بِمُجَرَّدِهِ أَمْ لَا بُدَّ من أَنْ يَمْضِيَ بَعْدَ الْبُلُوغِ من الزَّمَانِ ما يُمْكِنُهُ فيه التَّعْرِيفُ وَالْقَبُولُ فيه وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ في كِتَابِ فَهْمِ السُّنَنِ قال وَقَوْلُنَا إنَّهُ يَصِيرُ مُكَلَّفًا في الْوَقْتِ إذَا لم يَكُنْ فيه مَانِعٌ فإذا انْقَضَى وَقْتُ أَدَائِهِ ولم يَعْلَمْهُ كان عَاصِيًا بِتَرْكِهِ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ بِهِ الشَّرْطُ الرَّابِعُ الْعَقْلُ فَالْمَجْنُونُ ليس بِمُكَلَّفٍ إجْمَاعًا وَيَسْتَحِيلُ تَكْلِيفُهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَلَا يَبْعُدُ من الْقَائِلِينَ تَكْلِيفُ ما لَا يُطَاقُ جَوَازُ تَكْلِيفِهِ كَالْغَافِلِ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ بِوُجُوبِ قَضَاءِ الصَّوْمِ على الْمَجْنُونِ نَصَّ عليها في رِوَايَةِ حَنْبَلٍ وَضَعَّفَهَا مُحَقِّقُو أَصْحَابِهِ وَمِنْهُمْ من حَمَلَهَا على غَيْرِ الْمَجْنُونِ الْمُطْبِقِ كَمَنْ يُفِيقُ أَحْيَانًا قال ابن الْقُشَيْرِيّ في الْمُرْشِدِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمَجْنُونُ مَأْمُورٌ بِشَرْطِ الْإِفَاقَةِ كما يُوَجَّهُ على الْمَعْدُومِ بِشَرْطِ الْوُجُودِ وَيَجِيءُ مِثْلُهُ في الصَّبِيِّ وَسَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا الْجُنُونُ الطَّارِئُ بَعْدَ الْبُلُوغِ أو الْمُقَارِنِ له نعم طُرُوءُ الْجُنُونِ على الْكَافِرِ لَا يَمْنَعُ التَّكْلِيفَ وَلِهَذَا لو جُنَّ الْمُرْتَدُّ لم يَسْقُطْ عنه قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ وَإِنْ سَقَطَتْ عن الْمَجْنُونِ الْمُسْلِمِ قال الْقَاضِي أبو يَعْلَى وَمِقْدَارُ الْعَقْلِ الْمُقْتَضِي لِلتَّكْلِيفِ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا بين الْمَضَارِّ وَالْمَنَافِعِ وَيَصِحُّ منه أَنْ يَسْتَدِلَّ وَيَسْتَشْهِدَ على ما لم يُعْلَمْ بِاضْطِرَارٍ فَمَنْ كان هذا وَصْفُهُ كان عَاقِلًا وَإِلَّا فَلَا قال الصَّيْرَفِيُّ وَلَمَّا كان الناس مُتَفَاوِتِينَ في تَكَامُلِ الْعُقُولِ كُلِّفَ كُلُّ وَاحِدٍ على قَدْرِ ما يَصِلُ إلَيْهِ عَقْلُهُ وقد جاء في الحديث إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُجَازِي كُلَّ إنْسَانٍ على قَدْرِ عَقْلِهِ وَانْظُرْ إلَى قَوْلِ عُمَرَ لِرَجُلٍ عَيِيٍّ أَشْهَدُ أَنَّ خَالِقَك وَخَالِقَ عَمْرِو بن
____________________
(1/281)
الْعَاصِ وَاحِدٌ وقال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في بَابِ الْجُمُعَةِ من تَعْلِيقِهِ جاء عن عَلِيٍّ عَلِّمُوا الناس على قَدْرِ عُقُولِهِمْ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَيْ لَا تَنْبُوَا الْأَفْهَامُ عنه فَيُكَذَّبُونَ لِذَلِكَ وَقِيلَ إنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ على الْعَقْلِ الشَّرْطُ الْخَامِسُ الْفَهْمُ وَالْمَعْنَى فيه كما قال صَاحِبُ الْقَوَاعِدِ إنَّ الْإِتْيَانَ بِالْفِعْلِ على سَبِيلِ الْقَصْدِ وَالِامْتِثَالُ يَتَوَقَّفُ على الْعِلْمِ بِهِ وهو ضَرُورِيٌّ فَيُمْتَنَعُ تَكْلِيفُ الْغَافِلِ كَالنَّائِمِ وَالنَّاسِي لِمُضَادَّةِ هذه الْأُمُورِ الْفَهْمَ فَيَنْتَفِي شَرْطُ صِحَّةِ التَّكْلِيفِ وَهَذَا بِنَاءٌ على امْتِنَاعِ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ وَلِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَأَمَّا إيجَابُ الْعِبَادَةِ على النَّائِمِ وَالْغَافِلِ فَلَا يَدُلُّ على الْإِيجَابِ حَالَةَ النَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ لِأَنَّ الْإِيجَابَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ فَإِنْ قِيلَ فَالنَّائِمُ يَضْمَنُ ما يُتْلِفُهُ في نَوْمِهِ قُلْنَا الْخِطَابُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عِنْدَ اسْتِيقَاظِهِ وهو مُنْتَفٍ عنه حَالَةَ النَّوْمِ وَلِهَذَا قالوا لو أَتْلَفَ الصَّبِيُّ شيئا ضَمِنَهُ مع أَنَّهُ ليس بِمُكَلَّفٍ وقال الْقَفَّالُ في الْأَسْرَارِ النَّهْيُ لَا يُلَاقِي السَّاهِيَ إذْ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ منه وَإِنَّمَا لَزِمَهُ بِسُجُودِ السَّهْوِ وَكَفَّارَةِ الْخَطَأِ لِكَوْنِ الْفِعْلِ مُحَرَّمًا في نَفْسِهِ من حَيْثُ إنَّهُ مَحْظُورٌ عَقْدُهُ إلَّا أَنَّهُ في نَفْسِهِ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عنه في هذه الْحَالَةِ وقال ابن الصَّلَاحِ ما قَالَهُ الْأُصُولِيُّونَ من أَنَّ السَّاهِيَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ لَا يُنَافِيهِ تَحْنِيثُ الْفُقَهَاءِ له في الْيَمِينِ على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فإن تَحْنِيثَهُ ليس من قَبِيلِ التَّكْلِيفِ بَلْ من خِطَابِ الْوَضْعِ وَهَذَا يَثْبُتُ في حَقِّ الْمُكَلَّفِ وَغَيْرِهِ كَالصَّبِيِّ وقال صَاحِبُ الذَّخَائِرِ من زَالَ عَقْلُهُ بِالنَّوْمِ وَطَبَقَ الْوَقْتَ فَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِتِلْكَ الصَّلَاةِ وَصَارَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى تَكْلِيفِ النَّائِمِ في بَعْضِ الْأَحْكَامِ فَإِنْ عَنَوْا بِهِ ضَمَانَ الْمُتْلِفَاتِ وَنَحْوُهُ فَالْمَجْنُونُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ إجْمَاعًا وَيَجِبُ عليه ذلك ثُمَّ قال فَإِنْ قِيلَ لِمَ
____________________
(1/282)
أَوْجَبْتُمْ الْقَضَاءَ عليه قُلْنَا لِلْأَمْرِ الْجَدِيدِ قال وَالْحُكْمُ في السَّاهِي وَالْجَاهِلِ كَالنَّائِمِ قال ابن الرِّفْعَةِ وَكَلَامُ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ يُنَازَعُ فيه وقال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ النَّائِمُ وَالْمُغْمَى عليه وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ وَالْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ هل يُخَاطَبُونَ أَمْ لَا ذَهَبَ كَافَّةُ الْفُقَهَاءِ من أَصْحَابِنَا وَالْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ وَنَقَلَ عن الْمُتَكَلِّمِينَ من أَصْحَابِنَا أَنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ قال وَالْمُرَادُ بِالْخِطَابِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ ثُبُوتُ الْفِعْلِ في الذِّمَّةِ وَلَمَّا لم يَتَصَوَّرْ الْمُتَكَلِّمُونَ هذا مَنَعُوهُ ا هـ قال بَعْضُهُمْ وَنِسْيَانُ الْأَحْكَامِ بِسَبَبِ قُوَّةِ الشَّهَوَاتِ لَا يُسْقِطُ التَّكْلِيفَ كَمَنْ رَأَى امْرَأَةً جَمِيلَةً وهو يَعْلَمُ تَحْرِيمَ النَّظَرِ إلَيْهَا فَنَظَرَ إلَيْهَا غَافِلًا عن تَحْرِيمِ النَّظَرِ وَكَذَا الْقَوْلُ في الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْكِبْرِ وَالْفَخْرِ وَغَيْرِهِ من أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وقال الصَّيْرَفِيُّ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ لَا يَقَعُ الْأَمْرُ فيه وَلَا النَّهْيُ عنه لِامْتِنَاعِ الْأَمْرِ بِمَا لَا يُهَيَّأُ قَصْدٌ لِأَنَّهُ لو قَصَدَ تَرْكَهُ لم يَكُنْ نَاسِيًا له وَالْمُرْتَفِعُ إنَّمَا هو الْإِثْمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَكُلُّ ما أَخْطَأْت بَيْنَك وَبَيْنَ رَبِّك فَغَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ وَأَمَّا الْخَطَأُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْعِبَادِ فَيَضْمَنُهُ وَلِهَذَا يَسْتَوِي فيه الْبَالِغُ الْعَاقِلُ وَغَيْرُهُ فرع الِانْشِغَالُ عن الصَّلَاةِ بِلَعِبِ الشِّطْرَنْجِ لو شَغَلَهُ اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ حتى خَرَجَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وهو غَافِلٌ فَإِنْ لم يَتَكَرَّرْ ذلك منه لم تُرَدَّ شَهَادَتُهُ وَإِنْ كَثُرَ وَتَكَرَّرَ فَسَقَ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ قال الرَّافِعِيُّ هَكَذَا ذَكَرُوهُ وَفِيهِ إشْكَالٌ لِمَا فيه من تَعْصِيَةِ الْغَافِلِ وَالسَّاهِي ثُمَّ قِيَاسُهُ الطَّرْدُ في شُغْلِ النَّفْسِ بِسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ قُلْت وقد سَبَقَ أَنَّ نِسْيَانَ الْعِبَادَةِ لِسَبَبِ الشَّهْوَةِ لَا يُسْقِطُ التَّكْلِيفَ فَلَا يَرِدُ إشْكَالُ الرَّافِعِيِّ
____________________
(1/283)
تَنْبِيهٌ السَّكْرَانُ السَّكْرَانُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ ليس بِمُكَلَّفٍ منهم الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وَالْغَزَالِيُّ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ وابن الْقُشَيْرِيّ وقال الْإِمَامُ في الْأَسَالِيبِ السَّكْرَانُ عِنْدَنَا غَيْرُ مُخَاطَبٍ فإنه يَسْتَحِيلُ تَوَجُّهُ الْخِطَابِ على من لَا يَتَصَوَّرُ وَلَكِنْ غُلِّظَ الْأَمْرُ في سُكْرِهِ رَدْعًا وَمَنْعًا فَأُلْحِقَ بِالصَّاحِي مِمَّنْ قال إنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ مُجَلِّي في الذَّخَائِرِ وقال إنَّهُ الصَّحِيحُ من أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ قال وَإِنَّمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ تَغْلِيظًا عليه وَنَقَلَهُ النَّوَوِيُّ في الرَّوْضَةِ عن أَصْحَابِنَا الْأُصُولِيِّينَ قال وَمُرَادُهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ حَالَةَ السُّكْرِ وَمُرَادُنَا أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِقَضَاءِ الْعِبَادَاتِ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ قُلْت وَالصَّحِيحُ أَنَّ السَّكْرَانَ الْمُعْتَدِيَ بِسُكْرِهِ مُكَلَّفٌ مَأْثُومٌ هذا هو مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ نَصَّ عليه في الْأُمِّ فقال وَمَنْ شَرِبَ خَمْرًا أو نَبِيذًا فَأَسْكَرَهُ فَطَلَّقَ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ وَالْحُدُودُ كُلُّهَا وَالْفَرَائِضُ وَلَا تُسْقِطُ الْمَعْصِيَةُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْمَعْصِيَةُ بِالسُّكْرِ من النَّبِيذِ عنه فَرْضًا وَلَا طَلَاقًا فَإِنْ قال قَائِلٌ فَهَذَا مَغْلُوبٌ على عَقْلِهِ وَالْمَرِيضُ وَالْمَجْنُونُ مَغْلُوبٌ على عَقْلِهِ قِيلَ الْمَرِيضُ مَأْجُورٌ وَمُكَفَّرٌ عنه بِالْمَرَضِ مَرْفُوعٌ عنه الْقَلَمُ إذَا ذَهَبَ عَقْلُهُ وَهَذَا آثِمٌ مَضْرُوبٌ على السُّكْرِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ عنه الْقَلَمُ فَكَيْفَ يُقَاسُ من عليه الْعِقَابُ بِمَنْ له الثَّوَابُ وَالصَّلَاةُ مَرْفُوعَةٌ عن من غُلِبَ على عَقْلِهِ وَلَا تُرْفَعُ عن السَّكْرَانِ وَكَذَلِكَ الْفَرَائِضُ من حَجٍّ أو صَوْمٍ أو غَيْرِ ذلك ا هـ وَلِهَذَا قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ في كِتَابِهِ في الْأُصُولِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ وَنُسِبَ مُقَابِلُهُ إلَى أبي حَنِيفَةَ وَلِهَذَا صَحَّحَ الشَّافِعِيُّ تَصَرُّفَاتِهِ وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ فِيمَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِقَوْلِهِ رُفِعَ الْقَلَمُ عن ثَلَاثَةٍ قال وَالسَّكْرَانُ ليس في مَعْنَى وَاحِدٍ من هَؤُلَاءِ وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عليه قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ قال الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ الْمَرِيضُ مَأْجُورٌ مُكَفَّرٌ عنه مَرْفُوعٌ عنه الْقَلَمُ إذَا ذَهَبَ عَقْلُهُ وَهَذَا آثِمٌ مَضْرُوبٌ على السُّكْرِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ عنه الْقَلَمُ ا هـ قِيلَ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ مَضْرُوبٌ على السُّكْرِ فيه تَجَوُّزٌ إنَّمَا هو على الشُّرْبِ سَكِرَ أَمْ لم يَسْكَرْ لَكِنَّهُ يُرِيدُ على سَبَبِ السُّكْرِ وقد اسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ
____________________
(1/284)
نَصَّ الشَّافِعِيُّ على تَكْلِيفِهِ مع إخْرَاجِ الْأُصُولِيِّينَ له عن ذلك وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ من لَا يَفْهَمُ قال الْغَزَالِيُّ بَلْ السَّكْرَانُ أَسْوَأُ حَالًا من النَّائِمِ الذي يُمْكِنُهُ تَنْبِيهُهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ما قَالَهُ الشَّافِعِيُّ قَوْلًا ثَالِثًا مُفَصِّلًا بين السَّكْرَانِ وَغَيْرِهِ لِلتَّغْلِيظِ عليه وهو الْأَقْرَبُ أو يُحْمَلُ قَوْلُهُ على السَّكْرَانِ الذي يَنْتَقِلُ عن رُتْبَةِ التَّمْيِيزِ دُونَ الطَّافِحِ الْمُغْشَى عليه وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ من ذلك أَنَّ الشَّافِعِيَّ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ الْغَافِلِ مُطْلَقًا فَقَدْرُهُ رضي اللَّهُ عنه يَجُلُّ عن ذلك قُلْت وَبِالثَّانِي صَرَّحَ أبو خَلَفٍ الطَّبَرِيُّ كما سَنَذْكُرُهُ وَالْأَقْرَبُ احْتِمَالٌ ثَالِثٌ وهو أَنَّ التَّكْلِيفَ في حَقِّهِ مُسْتَصْحَبٌ لَا وَاقِعٌ وُقُوعًا مُبْتَدَأً كما قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْخَارِجِ من الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ إنَّهُ مُرْتَبِكٌ في الْمَعْصِيَةِ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ اخْتَلَفُوا في الْجَوَابِ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ من الْتِزَامِهِ بِقَضَاءِ الْعِبَادَاتِ وَصِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ فَقِيلَ لَا دَلَالَةَ دَالَّةٌ على ثُبُوتِهَا في حَقِّهِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ وقال ابن سُرَيْجٍ لَمَّا كان سُكْرُهُ لَا يُعْلَمُ إلَّا من جِهَتِهِ وهو مُتَّهَمٌ في دَعْوَى السُّكْرِ لِفِسْقِهِ أَلْزَمْنَاهُ حُكْمَ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَطَرَدْنَا ما لَزِمَهُ في حَالِ الْيَقِظَةِ وقال الْغَزَالِيُّ إلْزَامُنَا له ذلك من قَبِيلِ رَبْطِ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ وَلَا يَسْتَحِيلُ ذلك في حَقِّ من لَا تَكْلِيفَ عليه يَعْنِي أَنَّهُ من خِطَابِ الْوَضْعِ وَأَنْكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ذلك وقال هذا الْجَوَابُ ليس بِصَحِيحٍ فإن خِطَابَ الْوَضْعِ لَا يَقْتَضِي قَتْلًا وَلَا إيقَاعَ طَلَاقٍ وَلَا إلْزَامَ حَدٍّ وَكَوْنُ الزِّنَا جُعِلَ سَبَبًا لِإِيجَابِ الْحَدِّ على الزَّانِي لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ إنَّهُ من بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ قُلْت الطَّلَاقُ مِمَّا اجْتَمَعَ فيه الْخِطَابَانِ لِأَنَّهُ إمَّا مُبَاحٌ أو مَكْرُوهٌ وهو مَنْصُوبٌ سَبَبًا لِلتَّحْرِيمِ فَيَكُونُ من خِطَابِ الْوَضْعِ وَكَذَلِكَ الْقَتْلُ هو مُحَرَّمٌ وهو مَنْصُوبٌ سَبَبًا لِمَا تَرَتَّبَ عليه من الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ وَثُبُوتُ الْقِصَاصِ أو الدِّيَةِ خِطَابُ وَضْعٍ فَقَطْ لَا تَكْلِيفٌ حَقُّهُ كما في الْإِرْثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وقال الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ اُخْتُلِفَ في السَّكْرَانِ فَقِيلَ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ لِزَوَالِ عَقْلِهِ وَقِيلَ يَجُوزُ طَلَاقُهُ لِأَنَّهُ في الشَّرِيعَةِ مُخَاطَبٌ مُكَلَّفٌ تَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ في حَالِ سُكْرِهِ إذَا كان زَوَالُ عَقْلِهِ بِأَمْرٍ عَصَى اللَّهَ فيه فَعُوقِبَ بِأَنْ أُلْحِقَ بِالْمُكَلَّفِينَ رَدْعًا له وَلِغَيْرِهِ عن شُرْبِ الْخَمْرِ قال وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ جَائِزٌ مُحْتَمَلٌ لِوُرُودِ الشَّرِيعَةِ بِهِمَا ا هـ قُلْت وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِلَافَ في غَيْرِ الْمُنْتَهِي إلَى ما لَا يَعْقِلُ أَلْبَتَّةَ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ أبو خَلَفٍ الطَّبَرِيُّ في كِتَابِ الطَّلَاقِ من شَرْحِ الْمِفْتَاحِ فقال قُلْت وَاَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقَالَ في تَصَرُّفِ السَّكْرَانِ إنَّ السَّكْرَانَ على نَوْعَيْنِ
____________________
(1/285)
أَحَدُهُمَا يَعْقِلُ ما يقول فَهَذَا مُخَاطَبٌ وَتَصِحُّ جَمِيعُ تَصَرُّفَاتِهِ وَالثَّانِي لَا يَعْقِلُ ما يقول وقد زَالَ عَقْلُهُ وَذَهَبَ حِسُّهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَهَذَا غَيْرُ مُخَاطَبٍ فَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ من تَصَرُّفَاتِهِ وَلَا حُكْمَ لِكَلَامِهِ وَهَذَا أَدْوَنُ حَالَةً من الْمَجْنُونِ هذا هو اخْتِيَارِي انْتَهَى كَلَامُهُ وَهَذَا هو قَضِيَّةُ كَلَامِ الْإِمَامِ في النِّهَايَةِ وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ إذَا انْتَهَى إلَى حَالَةِ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عليه فَالْوَجْهُ الْقَطْعُ بِإِلْحَاقِهِ بِهِمَا قال وَأَبْعَدَ من أَجْرَاهُ على الْخِلَافِ وقال ابن الْعَرَبِيِّ في الْمَحْصُولِ الْخِلَافُ في الْمُلْتَجِّ أَمَّا الْمُنْتَشِي فَمُكَلَّفٌ إجْمَاعًا قُلْت وَيَدُلُّ عليه جَوَابُهُمْ عن الْآيَةِ وَمِمَّنْ أَطْلَقَ تَكْلِيفَ السَّكْرَانِ شَيْخَا الْمَذْهَبِ أبو حَامِدٍ وَالْقَفَّالُ وَنَقَلَاهُ عن الْمَذْهَبِ وَجَزَمَ بِهِ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في فَتَاوِيهِ وَالْبَغَوِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَالشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وأبو الْفَضْلِ بن عَبْدَانَ في كِتَابِ الْأَذَانِ من شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ وَجَزَمَ بِهِ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ عن الْفُقَهَاءِ من أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ ثُمَّ نَقَلَ الْمَنْعَ عن الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَّا وَمِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وقال عبد اللَّهِ بن أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ قال أبي قال الشَّافِعِيُّ وَجَدْت السَّكْرَانَ ليس بِمَرْفُوعٍ عنه الْقَلَمُ وكان أبي يُعْجِبُهُ هذا وَيَذْهَبُ إلَيْهِ ا هـ وَأَطَالَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في التَّقْرِيبِ عَدَمَ تَكْلِيفِهِ ثُمَّ قال ما حَاصِلُهُ إنَّهُ مُكَلَّفٌ لَكِنْ بَعْدَ السُّكْرِ بِمَا كان في السُّكْرِ وَهَذَا الْكَلَامُ مَجْمَعُ مَذَاهِبِ الْفَرِيقَيْنِ وَصَرَّحَ الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ مع تَقْرِيرِهِ في كُتُبِ الْفِقْهِ مُؤَاخَذَتَهُ الْمُصَرِّحَةُ بِالتَّكْلِيفِ وهو مُؤَوَّلٌ بِمَا سَبَقَ وقال ابن الْقُشَيْرِيّ هو غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُمْنَعُ تَوَجُّهَ الْخِطَابِ إلَيْهِ أَمَّا ثُبُوتُ الْأَحْكَامِ في حَقِّهِ وَتَنْفِيذُ بَعْضِ أَقْوَالِهِ فَلَا يُمْنَعُ قال وَهَذَا مُطَّرِدٌ في تَكَالِيفِ النَّاسِي في اسْتِمْرَارِ نِسْيَانِهِ إذْ لو كان مِمَّنْ فَهِمَ الْخِطَابَ لَكَانَ مُتَذَكِّرًا لَا نَاسِيًا قال وَلَعَلَّ من قال بِتَكْلِيفِهِ بَنَاهُ على جَوَازِ تَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ وقال الْإِبْيَارِيُّ الظَّاهِرُ عِنْدَنَا تَكْلِيفُ السَّكْرَانِ وقال بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ التَّكْلِيفُ بِمَعْنَى إيجَابِ الْقَضَاءِ عَامٌّ في النَّاسِي وَالنَّائِمِ وَالسَّكْرَانِ وَبِمَعْنَى عَدَمِ الْخِطَابِ حَاصِلٌ في النَّائِمِ وَالنَّاسِي وَأَمَّا السَّكْرَانُ فَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ يُلْحَقُ بِهِمَا وَعِنْدَنَا بِخِلَافِهِ وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أبي حَامِدٍ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ حَالَةَ السُّكْرِ وَكَذَلِكَ الْمَاوَرْدِيُّ وابن عَبْدَانَ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَكْلِيفِ السَّكْرَانِ بِاعْتِبَارِ تَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ لَا إشْكَالَ فيه وهو نَوْعٌ من خِطَابِ الْوَضْعِ وقد يُدْخِلُونَهُ في خِطَابِ التَّكْلِيفِ كما أَدْخَلَتْهُ طَائِفَةٌ في حَدٍّ وَاحِدٍ
____________________
(1/286)
وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ الْإِثْمِ على ما يَصْدُرُ منه حَالَ السُّكْرِ فَإِنْ كان فيه نَشَاطٌ فَوَاضِحٌ وَإِنْ كان طَافِحًا أو مُخْتَلِطًا فَمَحَلُّ نَظَرٍ وَلَعَلَّ الْفُقَهَاءَ لَا يَرَوْنَ الْإِثْمَ أو لَعَلَّهُمْ يُرِيدُونَ الطَّافِحَ وَالْأُصُولِيُّونَ يُرِيدُونَ الْمُخْتَلِطَ فإن التَّكْلِيفَ فِيهِمَا تَكْلِيفٌ مع الْغَفْلَةِ الشَّرْطُ السَّادِسُ الِاخْتِيَارُ فَيُمْتَنَعُ تَكْلِيفُ الْمُلْجَأِ وهو من لَا يَجِدُ مَنْدُوحَةً عن الْفِعْلِ مع حُضُورِ عَقْلِهِ كَمَنْ يُلْقَى من شَاهِقٍ فَهُوَ لَا بُدَّ له من الْوُقُوعِ وَلَا اخْتِيَارَ له فيه وَلَا هو بِفَاعِلٍ له وَإِنَّمَا هو آلَةٌ مَحْضَةٌ كَالسِّكِّينِ في يَدِ الْقَاطِعِ وَحَرَكَةٌ كَحَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ وَمِثْلُهُ الْمُضْطَرُّ وَاتَّفَقَ أَئِمَّتُنَا على أَنَّ الْمُضْطَرَّ إلَى فِعْلٍ يُنْسَبُ إلَيْهِ الْفِعْلُ الذي اُضْطُرَّ إلَيْهِ وهو عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَوْقَ الْمُلْجَأِ وَعِنْدَنَا مِثْلُهُ كَمَنْ شُدَّ وَثَاقُهُ وَأُلْقِيَ على شَخْصٍ فَقَتَلَهُ بِثِقَلِهِ لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ صَرَّحُوا بِتَكْلِيفِهِ فَقَالُوا الْمُضْطَرُّ لِأَكْلِ الْمَيْتَةِ يَجِبُ عليه أَكْلُهَا على الصَّحِيحِ وفي وَجْهٍ لَا يَجِبُ قد يُوَجَّهُ بِأُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ فَيُقَالُ لَا فِعْلَ لِلْمُضْطَرِّ وَلَا اخْتِيَارَ حتى يَتَعَلَّقَ بِهِ الْإِيجَابُ وَيَكْتَفِي بِصُورَةِ الدَّاعِيَةِ لَكِنْ جِهَةُ التَّكْلِيفِ فيه سَيَأْتِي بَيَانُهَا في الْمُكْرَهِ وَكَذَلِكَ يُمْتَنَعُ تَكْلِيفُ الْمُكْرَهِ وَمَنْ لَا يَجِدُ مَنْدُوحَةً عن الْفِعْلِ إلَّا بِالصَّبْرِ على إيقَاعِ ما أُكْرِهَ بِهِ كَمَنْ قال له قَادِرٌ على ما يَتَوَعَّدُ اُقْتُلْ زَيْدًا وَإِلَّا قَتَلْتُك لَا يَجِدُ مَنْدُوحَةً عن قَتْلِهِ إلَّا بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ لِلْهَلَاكِ فَإِقْدَامُهُ على قَتْلِ زَيْدٍ ليس كَوُقُوعِ الذي أُلْقَى من شَاهِقٍ وَإِنْ اشْتَرَكَا في عَدَمِ التَّكْلِيفِ لَكِنْ تَكْلِيفُهُ هذا أَقْرَبُ من تَكْلِيفِ الْمُلْجَأِ وَلِهَذَا أُبِيحَ له الْإِقْدَامُ على شُرْبِ الْخَمْرِ وَكَلِمَةُ الْكُفْرِ وَأَمَّا تَأْثِيمُ الْمُكْرَهِ على الْقَتْلِ فَلَيْسَ من حَيْثُ إنَّهُ مُكْرَهٌ وَأَنَّهُ قَتْلٌ بَلْ من حَيْثُ إنَّهُ آثَرَ نَفْسَهُ على غَيْرِهِ فَهُوَ ذُو وَجْهَيْنِ الْإِكْرَاهُ وَلَا إثْمَ من نَاحِيَةٍ وَجِهَةُ الْإِيثَارِ وَلَا إكْرَاهَ فيها وَهَذَا لِأَنَّك قُلْت اُقْتُلْ زَيْدًا وَإِلَّا قَتَلْتُك فَمَعْنَاهُ التَّخْيِيرُ بين نَفْسِهِ وَبَيْنَ زَيْدٍ فإذا آثَرَ نَفْسَهُ فَقَدْ أَثِمَ لِأَنَّهُ اخْتِيَارٌ وَهَذَا كما قِيلَ في خِصَالِ الْكَفَّارَةِ مَحَلُّ التَّخْيِيرِ لَا وُجُوبَ فيه وَمَحَلُّ الْوُجُوبِ لَا تَخْيِيرَ فيه وَهَذَا تَحْقِيقٌ حَسَنٌ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ لِاسْتِثْنَاءِ صُورَةِ الْقَتْلِ من قَوْلِنَا الْمُكْرَهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ الْإِكْرَاهُ يُسْقِطُ أَثَرَ التَّصَرُّفِ إلَّا في صُوَرٍ إنَّمَا ذَكَرُوهُ لِضَبْطِ تِلْكَ الصُّوَرِ لَا أَنَّهُ مُسْتَثْنًى حَقِيقَةً هذا هو الصَّحِيحُ وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ نَصِّ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ
____________________
(1/287)
على أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فإنه احْتَجَّ على إسْقَاطِ قَوْلِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إلَّا من أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطَمْئِنٌ بِالْإِيمَانِ قال الشَّافِعِيُّ وَلِلْكُفْرِ أَحْكَامٌ فلما وَضَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى عنه سَقَطَتْ أَحْكَامُ الْإِكْرَاهِ عن الْقَوْلِ كُلِّهِ لِأَنَّ الْأَعْظَمَ إذَا سَقَطَ سَقَطَ ما هو أَصْغَرُ منه نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عنه في السُّنَنِ وَعَضَّدَهُ بِحَدِيثِ رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وما اُسْتُكْرِهُوا عليه وقد أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ من أَئِمَّتِنَا في كُتُبِهِمْ الْأُصُولِيَّةِ أَنَّ الْمُكْرَهَ مُكَلَّفٌ بِالْفِعْلِ الذي أُكْرِهَ عليه وَنَقَلُوا الْخِلَافَ فيه عن الْمُعْتَزِلَةِ منهم الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ اللُّمَعِ وابن الْقُشَيْرِيّ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَبَنَاهُ الْمُعْتَزِلَةُ على أَصْلِهِمْ في وُجُوبِ الثَّوَابِ على الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ عِنْدَ الِامْتِثَالِ وَكَيْفَ يُثَابُ على ما هو مُكْرَهٌ عليه إذْ لَا يُجِبْ دَاعِي الشَّرْعِ وَإِنَّمَا يُجِيبُ دَاعِيَ الْإِكْرَاهِ وَأَلْحَقُوا هذا بِالْأَفْعَالِ التي لَا بُدَّ من وُقُوعِهَا عَادَةً كَحُصُولِ الشِّبَعِ عن الْأَكْلِ وَالرِّيِّ عن الشُّرْبِ فَكَمَا يَسْتَحِيلُ التَّكْلِيفُ بِالْوَاجِبِ عَقْلًا وَعَادَةً فَكَذَا يَسْتَحِيلُ بِفِعْلِ الْمُكْرَهِ الْمُكْرَهُ يَصِحُّ تَكْلِيفُهُ لِفَهْمِ الْخِطَابِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُكْرَهَ يَصِحُّ تَكْلِيفُهُ لِفَهْمِ الْخِطَابِ وَأَنَّ له اخْتِيَارًا ما في الْإِقْدَامِ أو الِانْكِفَافِ وَلَا اسْتِحَالَةَ في تَكْلِيفِهِ وَأَمَّا كَوْنُهُ مُتَقَرِّبًا فَيَرْجِعُ إلَى نِيَّتِهِ وهو غَيْرُ الْكَلَامِ في تَكْلِيفِهِ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَنَعْنِي بِالْمُكْرَهِ من هو قَادِرٌ على الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ فَيُحْمَلُ مَثَلًا على الصَّلَاةِ بِالْإِرْجَافِ وَالْخَوْفِ وَقَتْلِ السَّيْفِ وَاَلَّذِي بِهِ رَعْشَةٌ ضَرُورِيَّةٌ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُكْرَهًا في رِعْدَتِهِ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ الْمُكْرَهِ مع وِفَاقِهِمْ على اقْتِدَارِهِ وَزَادُوا عَلَيْنَا فَقَالُوا الْقُدْرَةُ تَتَعَلَّقُ بِالضِّدَّيْنِ وَعَلَى هذا فَلَا مَعْنَى لِتَفْصِيلِ الْإِمَامِ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعِهِ بين الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ وَغَيْرِهِ وَلَا لِمَنْ جَعَلَهُ قَوْلًا ثَالِثًا في الْمَسْأَلَةِ وَكَذَا قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ قال الْمُحَقِّقُونَ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ إلَّا مع تَصَوُّرِ اقْتِدَارِ الْمُكْرَهِ فَمَنْ بِهِ رَعْشَةٌ ضَرُورِيَّةٌ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُكْرَهًا وَإِنَّمَا الْمُكْرَهُ الْمُخْتَارُ لِتَحْرِيكِهَا وَلَا اسْتِحَالَةَ في تَكْلِيفِ ما يَدْخُلُ تَحْتَ اقْتِدَارِهِ وَاخْتِبَارِهِ خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ وَبَالَغُوا حتى قالوا إنَّ الْقُدْرَةَ تَتَعَلَّقُ بِالضِّدَّيْنِ وَالْمُكْرَهُ الْقَادِرُ على الْفِعْلِ قَادِرٌ على ضِدِّهِ وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَقَالُوا إذَا قَدَرَ على ما أُكْرِهَ عليه لم تَتَعَلَّقْ قُدْرَتُهُ بِتَرْكِهِ وقد أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ قَاطِبَةً على تَوَجُّهِ النَّهْيِ على الْمُكْرَهِ على الْقَتْلِ عن الْقَتْلِ وَهَذَا عَيْنُ التَّكْلِيفِ
____________________
(1/288)
انْتَهَى وَهَذَا يُعْلَمُ جَوَابُهُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ تَأْثِيمَ الْمُكْرَهِ على الْقَتْلِ ليس من حَيْثُ كَوْنُهُ مُكْرَهًا وما نَقَلُوهُ عن الْمُعْتَزِلَةِ قد نَازَعَ فيه جَمَاعَةٌ منهم إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فقال نُقِلَ عن بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُنَافِي التَّكْلِيفَ قال وَلَيْسَ هذا مَذْهَبًا لِأَحَدٍ وَإِنَّمَا مَذْهَبُهُمْ أَنَّ الْإِلْجَاءَ الذي يُنَافِي اخْتِيَارَ الْعَبْدِ يُنَافِي التَّكْلِيفَ كَالْإِيمَانِ حَالَةَ الْيَأْسِ وقال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ الْمُكْرَهُ عِنْدَنَا مُخَاطَبٌ بِالْفِعْلِ الذي أُكْرِهَ عليه وَنُقِلَ عن أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ قال وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ على كَوْنِهِ مُخَاطَبًا بِمَا عَدَا ما أُكْرِهَ عليه من الْأَفْعَالِ وَنُقِلَ عن الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْمُكْرَهَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ وَهَذَا خَطَأٌ في النَّقْلِ عَنْهُمْ بَلْ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بَلْ هو أَوْلَى بِالْخِطَابِ من الْمُخْتَارِ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ تَحْمِيلُ ما فيه كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ وَحَالَةُ الْمُكْرَهِ أَدْخَلُ في أَبْوَابِ التَّكْلِيفِ وَالْمَشَاقِّ من حَالَةِ الْمُخْتَارِ بِسَبَبِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَرْكِ الْفِعْلِ الذي أُكْرِهَ عليه وَوَاجِبُ الِانْقِيَادِ عليه وَالِاسْتِسْلَامُ وَمَوْعُودٌ عليه الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ إلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ رَأَوْا في كُتُبِهِمْ أَنَّ الْمُلْجَأَ ليس بِمُخَاطَبٍ فَظَنُّوا أَنَّ الْمُلْجَأَ وَالْمُكْرَهَ وَاحِدٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمُلْجَأُ هو الذي لَا يُخَاطَبُ عِنْدَهُمْ وهو الذي لَا قُدْرَةَ له على التَّرْكِ بَلْ يَكُونُ مَدْفُوعًا وَمَحْمُولًا بِأَبْلَغِ جِهَاتِ الْحَمْلِ كَمَنْ شُدَّتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ رِبَاطًا وَأُلْقَى على عُنُقِ إنْسَانٍ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْدِفَاعُ فَهَذَا ليس له الِاخْتِيَارُ وَأَمَّا الْمُكْرَهُ فَلَهُ قَصْدٌ وَقُدْرَةٌ فَكَانَ مُكَلَّفًا وَلِهَذَا قالت الْمُعْتَزِلَةُ الْقُدْرَةُ تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ لِأَنَّهَا لو صَلَحَتْ لِفِعْلٍ دُونَ فِعْلٍ صَارَ الشَّخْصُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ وَمُلْجَأً وَلَأَمْكَنَهُ الِامْتِنَاعُ خِلَافًا لِأَصْحَابِنَا فإن الْقُدْرَةَ عِنْدَهُمْ لَا تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى قالوا الْإِيمَانُ حَالَةَ الْيَأْسِ لَا يَنْفَعُ وهو إيمَانُ الْكَافِرِ يوم الْقِيَامَةِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ النَّافِعَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ أَمَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَتَصِيرُ الْمَعَارِفُ ضَرُورِيَّةً فَلَا يَنْفَعُ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ أُلْجِئُوا ا هـ وما قَالَهُ في الْمُلْجَأِ إنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَهُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ من الْأَصْحَابِ وَإِنْ كان الْأَوَّلُونَ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ ولم يُفَصِّلُوا بَلْ الْأَظْهَرُ التَّفْصِيلُ وقال في الْمَحْصُولِ إنَّهُ الْمَشْهُورُ وَجَرَى عليه أَتْبَاعُهُ وقال الْآمِدِيُّ إنَّهُ الْحَقُّ وَقَرَّرَهُ الْقَرَافِيُّ وَيَنْبَنِي كَلَامُ الْمُطْلِقِينَ على أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ فيه وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ بَرْهَانٍ إنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَا يُخَالِفُونَ في تَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا
____________________
(1/289)
سَبَقَ من نَقْلِ الْفُحُولِ عَنْهُمْ وَكَذَلِكَ نَقْلُهُ عن الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ لَا يُوجَدُ في مَشَاهِيرِ كُتُبِهِمْ بَلْ قال الْبَزْدَوِيُّ في كِتَابِهِ الْمُكْرَهُ عِنْدَنَا مُكَلَّفٌ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ مُبْتَلًى بين فَرْضٍ وَحَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ وَرُخْصَةٍ إلَخْ وقد قالوا بِنُفُوذِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ وَعِتْقِهِ وَغَيْرِ ذلك وَسَبَقَ في فَصْلِ الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِلتَّكْلِيفِ كَلَامُ صَاحِبِ الْمَبْسُوطِ منهم فيه وَنَقَلَ الْإِبْيَارِيُّ عن الْحَنَفِيَّةِ التَّفْصِيلَ بين الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فَالْإِكْرَاهُ لَا يُؤَثِّرُ عِنْدَهُمْ في الْإِقْرَارِ وَيُؤَثِّرُ في الْإِنْشَاءِ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ بَنَوْا امْتِنَاعَ تَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ بِفِعْلِ ما أُكْرِهَ عليه على قَاعِدَتَيْنِ إحْدَاهُمَا الْقَوْلُ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ وَالْأُخْرَى وُجُوبُ الثَّوَابِ على اللَّهِ لِأَنَّ شَرْطَ التَّكْلِيفِ عِنْدَهُمْ الْإِثَابَةُ وقد نَقَضَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ بِالِاتِّفَاقِ على أَنَّهُ يَحْرُمُ الْقَتْلُ على من أُكْرِهَ عليه وَكَذَا الزِّنَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَقَدْ كُلِّفَ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ ولم يَرْتَضِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هذا وقال إنَّ الْقَوْمَ لَا يَمْنَعُونَ من الشَّيْءِ مع الْحَمْلِ عليه فإن ذلك أَشَدُّ في الْمِحْنَةِ وَاقْتِضَاءِ الثَّوَابِ وَإِنَّمَا الذي مَنَعُوهُ الِاضْطِرَارَ إلَى الْفِعْلِ مع الْأَمْرِ بِهِ التَّكْلِيفُ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ على قِسْمَيْنِ وقال ابن الْقُشَيْرِيّ هذا النَّقْضُ غَيْرُ وَارِدٍ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ على قِسْمَيْنِ الْأَوَّلُ أَنْ يُكَلَّفَ بِالنَّهْيِ عَمَّا أُكْرِهَ على فِعْلِهِ كَمَنْ أَكْرَهَ رَجُلًا على قَتْلِ مُسْلِمٍ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ فَهَذَا مُتَّفَقٌ على جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِهِ الثَّانِي أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِفِعْلِ ما أُكْرِهَ على إيقَاعِهِ كَمَنْ تَضَيَّقَ عليه وَقْتُ الصَّلَاةِ بِحَيْثُ لم تَبْقَ فيه سَعَةٌ لِغَيْرِهَا فَأَكْرَهَهُ إنْسَانٌ على فِعْلِهَا لِهَذَا هو الذي مَنَعَتْ الْمُعْتَزِلَةُ صِحَّةَ التَّكْلِيفِ وقال الْقُرْطُبِيُّ مَوْضِعُ الْخِلَافِ ما إذَا وَافَقَ دَاعِيَةَ الْإِكْرَاهِ دَاعِيَةُ الشَّرْعِ كما لو أُكْرِهَ على قَتْلِ حَيَّةٍ أو كَافِرٍ فَالْجُمْهُورُ على جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ أَمَّا ما خَالَفَ دَاعِيَةَ الْإِكْرَاهِ دَاعِيَةُ الشَّرْعِ كَالْإِكْرَاهِ على قَتْلِ الْمُسْلِمِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَلَا خِلَافَ في جَوَازِ التَّكْلِيفِ وَهَذَا أَخَذَهُ من كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وقال السُّهَيْلِيُّ في الرَّوْضِ اخْتَلَفُوا في الْمُكْرَهِ على الْفِعْلِ الذي هو مُخَاطَبٌ بِهِ فقالت الْمُعْتَزِلَةُ لَا يَصِحُّ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ مع الْإِكْرَاهِ عليه وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ بِجَوَازِهِ
____________________
(1/290)
لِأَنَّ الْعَزْمَ إنَّمَا هو فِعْلُ الْقَلْبِ وقد يُتَصَوَّرُ منه في ذلك الْجِنْسِ الْعَزْمُ وَالنِّيَّةُ وَهِيَ الْقَصْدُ إلَى الِامْتِثَالِ وَإِنْ كان في الظَّاهِرِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ خَوْفًا من الناس وَذَلِكَ كما إذَا أُكْرِهَ على الصَّلَاةِ فَقِيلَ له صَلِّ وَإِلَّا قُتِلْت أَمَّا إذَا قِيلَ له إنْ صَلَّيْت قُتِلْت فَظَنَّ الْقَاضِي أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ في ذلك فَغَلَّطَهُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ وَقَالُوا لَا خِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ وَأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالصَّلَاةِ مَأْمُورٌ بها وَإِنْ رُخِّصَ له في تَرْكِهَا فَلَيْسَ التَّرْخِيصُ مِمَّا يُخْرِجُهُ عن حُكْمِ الْخِطَابِ وَإِنَّمَا يَرْفَعُ عنه الْإِكْرَاهُ الْمَأْثَمَ وَهَذَا الْغَلَطُ الْمَنْسُوبُ إلَى الْقَاضِي ليس بِقَوْلٍ له وَإِنَّمَا حَكَاهُ في كِتَابِ التَّقْرِيبِ عن طَائِفَةٍ من الْفُقَهَاءِ قالوا لَا يُتَصَوَّرُ الْقَصْدُ وَالْإِرَادَةُ إلَى الْفِعْلِ مع الْإِكْرَاهِ عليه قال الْقَاضِي وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ انْكِفَافُهُ عنه مع الْإِكْرَاهِ فَكَذَا يُتَصَوَّرُ منه الْقَصْدُ إلَى الِامْتِثَالِ وَبِهِ يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ وَإِنَّمَا غَلِطَ إذَنْ من نَسَبَ إلَيْهِ من الْأُصُولِيِّينَ هذا الْقَوْلَ الذي أَبْطَلَهُ وَإِنَّمَا ذَكَرْت ما قَالُوهُ قبل أَنْ أَرَى كَلَامَهُ وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا خِلَافَ بين أَئِمَّتِنَا أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ الْفِعْلُ الذي اُضْطُرَّ إلَيْهِ تَعْرِيفُ الْمُضْطَرِّ ثُمَّ اخْتَلَفُوا في تَعْرِيفِهِ فقال الشَّيْخُ أبو الْحَسَنِ الْمُضْطَرُّ الْمُلْجَأُ إلَى مَقْدُورِهِ لِدَفْعِ ضَرَرٍ مُتَوَقَّعٍ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ الْمُقَدَّرِ الْمُلْجَأِ إلَيْهِ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ الْمُضْطَرُّ الْمَحْمُولُ على ما عليه فيه ضَرَرٌ من مَقْدُورَاتِهِ لِدَفْعِ ما هو أَضَرُّ منه وَزَعَمَتْ الْمُعْتَزِلَةُ قَاطِبَةً أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ فِعْلٌ وَأَنَّهُ هو الذي يَفْعَلُ فيه الْغَيْرُ فِعْلًا هو من قَبِيلِ مَقْدُورَاتِهِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فقال أبو عَلِيٍّ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ فيه غير قَادِرٍ على مُدَافَعَةِ الْفِعْلِ وَخَالَفَهُ ابْنُهُ أبو هَاشِمٍ فإذا عُرِفَ هذا فَقَدْ اتَّفَقُوا على أَنَّ الْمُلْجَأَ قَادِرٌ على ما أُلْجِئَ إلَيْهِ وَأَنَّهُ لم يَفْعَلْ فيه غَيْرُهُ فِعْلًا لَا خِلَافَ بين الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةُ في ذلك وَإِنْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ في تَعْرِيفِهِ فَالْمُلْجَأُ دُونَ الْمُضْطَرِّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَمِثْلُهُ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ وَدُونَهُمَا الْمُكْرَهُ الْمَذْكُورُ في كُتُبِ الْفُقَهَاءِ وَعَلَى هذه الْأُصُولِ من عَدَمِ اخْتِيَارِهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَصَارَ كَالْآلَةِ الْمَحْضَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إثْمٌ هو الْمُضْطَرُّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ كَمَنْ شُدَّ وَثَاقُهُ وَأُلْقَى على شَخْصٍ فَقَتَلَهُ بِثِقَلِهِ أو كان على دَابَّةٍ فَمَاتَ وَسَقَطَ على شَيْءٍ فإنه لَا يَضْمَنُ وَلَيْسَ كَالْمُكْرَهِ وَلَا كَالْمُضْطَرِّ فَإِنْ
____________________
(1/291)
انْضَمَّ إلَى عَدَمِ اخْتِيَارِهِ عَدَمُ إحْسَاسِهِ وَشُعُورِهِ فَأَبْعَدُ عن الضَّمَانِ وقد خَرَجَ لنا من هذا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُنَافِي التَّكْلِيفَ وهو الْحَقُّ ثُمَّ اخْتَارَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ جَائِزٌ غَيْرُ وَاقِعٍ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وما اُسْتُكْرِهُوا عليه فَإِنْ قِيلَ إذَا كان الْمُكْرَهُ وَالْمُخْتَارُ سَوَاءً في الِاخْتِيَارِ فما الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قِيلَ قال الْقَاضِي في كِتَابِ التَّقْرِيبِ الْفَرْقُ بَيْنَهَا أَنَّ الْمُخْتَارَ مُطْلَقُ الدَّوَاعِي وَالْإِرَادَاتِ وَالْمُكْرَهُ مَقْصُورُ الدَّوَاعِي وَالْإِرَادَةِ على فِعْلِ ما أُكْرِهَ عليه لَا يَخْتَارُ غَيْرَهُ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ صَارَتْ هذه حَالُهُ قِيلَ لِمَا يَخَافُهُ من عِظَمِ الضَّرَرِ فَهُوَ يَدْفَعُ أَعْظَمَ الضَّرَرَيْنِ بِأَدْوَنِهِمَا وَدَوَاعِيهِ مَقْصُورَةٌ عليه لِأَجْلِ ذلك انْتَهَى وَهَاهُنَا أُمُورٌ أَحَدُهَا هذا الْإِكْرَاهُ الذي أَسْقَطَ الشَّارِعُ حُكْمَهُ لَا بُدَّ من بَقَاءِ حَقِيقَتِهِ لِيَتَحَقَّقَ في نَفْسِهِ وقد يَنْضَمُّ إلَيْهِ ما لَا يُزِيلُ حَقِيقَتَهُ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ أو ما يُزِيلُهَا فَلَا يَسْقُطُ الْحُكْمُ إذْ ليس بِإِكْرَاهٍ وَهَذَا كَمَنْ قِيلَ له طَلِّقْ زَوْجَتَك فقال طَلَّقْت زَوْجَاتِي كُلَّهُنَّ فَيَقَعُ عَلَيْهِنَّ جميعا لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ لَا مُكْرَهٌ وقد يَنْضَمُّ إلَيْهِ ما يَتَرَدَّدُ الذِّهْنُ في أَنَّهُ مُزِيلٌ لِكَوْنِهِ إكْرَاهًا أو غير مُزِيلٍ فَيَقَعُ الْخِلَافُ في أَنَّهُ هل يَسْقُطُ أَثَرُ التَّصَرُّفِ بِهِ أَمْ لَا يَسْقُطُ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ ما لو أُكْرِهَ على شَيْءٍ وَاحِدٍ من شَيْئَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ كما لو قِيلَ له طَلِّقْ إحْدَى زَوْجَتَيْك وَحُمِلَ على تَعَيُّنِ إحْدَاهُمَا لَا على إبْهَامِ الطَّلَاقِ فإن الْمَحْمُولَ على الْإِبْهَامِ مَحْمُولٌ على شَيْءٍ وَاحِدٍ في نَفْسِهِ لَا على أَحَدِ شَيْئَيْنِ فإذا قِيلَ له طَلِّقْ إمَّا هذه وَإِمَّا هذه فقال طَلَّقْت هذه فَهَلْ هو اخْتِيَارٌ أَمْ لَا وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ اخْتِيَارٌ الثَّانِي أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَصِحُّ إلَّا في أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ دُونَ الْقَلْبِيَّةِ فَلَا يَصِحُّ الْإِكْرَاهُ على عِلْمٍ بِشَيْءٍ أو جَهْلٍ بِهِ أو حُبٍّ أو بُغْضٍ أو عَزْمٍ على شَيْءٍ الثَّالِثُ يُشْتَرَطُ لِكَوْنِ الْإِكْرَاهِ مَرْفُوعَ الْحُكْمِ شُرُوطٌ أَوَّلُهَا أَنْ يَكُونَ الْمُتَوَعَّدُ بِهِ في نَظَرِ الْعُقَلَاءِ أَشَقَّ من الْمُكْرَهِ عليه وهو ما يَشْهَدُ له الشَّرْعُ بِالِاعْتِبَارِ فَعُلِمَ من هذا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْقِصَاصِ وَلَا يَرْفَعُ الْإِثْمَ عن الْمُكْرَهِ بَيَانُهُ أَنَّ نَفْسَهُ وَنَفْسَ من أُكْرِهَ على من يَقْتُلُهُ مُسْتَوِيَانِ في نَظَرِ الشَّارِعِ
____________________
(1/292)
فَإِيثَارُهُ نَفْسَهُ نَاشِئٌ عن شَهَوَاتِ الْأَنْفُسِ وَحُظُوظِهَا وَمَحَبَّتِهَا الْبَقَاءَ في هذه الدَّارِ أَزْيَدَ من مَحَبَّتِهَا لِبَقَاءِ غَيْرِهَا وَهَذَا الْقَوْلُ ليس من نَظَرِ الْعُقَلَاءِ الشَّرْعَ الذي يَتَعَبَّدُونَ بِهِ وَبِهَذَا خَرَجَ كَثِيرٌ من الْمَسَائِلِ التي اُسْتُثْنِيَتْ من قَوْلِنَا الْإِكْرَاهُ يُسْقِطُ أَثَرَ التَّصَرُّفِ كما سَبَقَ بَيَانُهُ ثَانِيهَا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُتَرَتِّبًا على فِعْلِ الْمُكَلَّفِ فإن الشَّارِعَ حِينَئِذٍ جَعَلَ فِعْلَهُ كَلَا فِعْلٍ فَإِنْ كان الْحُكْمُ مُتَرَتِّبًا على أَمْرٍ حِسِّيٍّ لَا يُنْسَبُ إلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ وَإِنْ كان نَاشِئًا عنها فَلَا يَرْتَفِعُ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ حِينَئِذٍ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْإِكْرَاهِ الْفِعْلُ ولم يَتَرَتَّبْ عليه شَيْءٌ وَمَوْضِعَ الْحُكْمِ الِانْفِعَالُ ولم يَقَعْ عليه الْإِكْرَاهُ لِأَنَّهُ ضَرُورِيُّ الْوُقُوعِ بَعْدَ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ أَثَرُ الْفِعْلِ وَالشَّارِعُ قد يُرَتِّبُ الْحُكْمَ على الْفِعْلِ وقد رَتَّبَهُ على الِانْفِعَالِ وهو في الْأَوَّلِ من خِطَابِ التَّكْلِيفِ الذي رَفْعُهُ مَشَقَّةٌ عَلَيْنَا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ وفي الثَّانِي من خِطَابِ الْوَضْعِ فَكَيْفَ يَرْتَفِعُ وَبِهَذَا خَرَجَ الْإِكْرَاهُ على الرَّضَاعِ وَعَلَى الْحَدَثِ فإذا أَكْرَهَ امْرَأَةً حتى أَرْضَعَتْ خَمْسَ رَضَعَاتٍ حَرُمَ رَضَاعُهَا ذلك لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِوُصُولِ اللَّبَنِ إلَى الْجَوْفِ حتى لو حُلِبَ قبل مَوْتِهَا وَشَرِبَهُ الصَّبِيُّ بَعْدَ مَوْتِهَا حَرُمَ وإذا أُكْرِهَ فَأَحْدَثَ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ لِأَنَّ الِانْتِقَاضَ مَنُوطٌ بِالْحَدَثِ وقد وُجِدَ ثَالِثُهَا أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهَذَا مَوْضِعُ الرُّخْصَةِ وَالتَّخْفِيفِ من الشَّارِعِ أَمَّا إذَا كان بِحَقٍّ فَقَدْ كان من حَقِّ هذا الْمُكْرَهِ أَنْ يَفْعَلَ فإذا لم يَفْعَلْ أُكْرِهَ ولم يَسْقُطْ أَثَرُ فِعْلِهِ وكان آثِمًا على كَوْنِهِ أَحْوَجَ إلَى أَنْ يُكْرَهَ وَهَذَا كَالْمُرْتَدِّ وَالْحَرْبِيِّ يُكْرَهَانِ على الْإِسْلَامِ فَإِسْلَامُهُمَا صَحِيحٌ وَهُمَا آثِمَانِ لِكَوْنِهِمَا أَحْوَجَا إلَى الْإِكْرَاهِ عليه ثُمَّ الْإِسْلَامُ إنْ وَقَعَ مِنْهُمَا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ بَاطِنًا كما وَقَعَ ظَاهِرًا فَهُوَ يَجُبُّ ما قَبْلَهُ وَإِلَّا فَحُكْمُهُمَا في الظَّاهِرِ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ وفي الْبَاطِنِ كَافِرَانِ لِمَا أَضْمَرَاهُ من حَيْثُ الطَّوِيَّةُ وَمِنْ الْإِكْرَاهِ بِالْحَقِّ أَمْرُ السَّيِّدِ عَبْدَهُ بِالْبَيْعِ فَيَمْتَنِعُ فَلَهُ جَبْرُهُ عليه وَيَصِحُّ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ من الِاسْتِخْدَامِ الْوَاجِبِ الرَّابِعُ في فَتَاوَى ابْنِ الصَّلَاحِ ذَكَرُوا في الْأُصُولِ أَنَّ الْمُكْرَهَ يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ وَالتَّكْلِيفِ وَذَكَرُوا في الْفِقْهِ أَنَّ طَلَاقَهُ وَإِقْرَارَهُ وَرِدَّتَهُ لَا تَصِحُّ فَكَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَأَجَابَ بِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ وَمَعَ ذلك يُخَفَّفُ عنه بِأَنْ لَا يُلْزَمَ بِحُكْمِ ما أُكْرِهَ عليه ولم يَخْتَرْهُ من طَلَاقٍ وَبَيْعٍ وَغَيْرِهِمَا لِكَوْنِهِ مَعْذُورًا الْخَامِسُ قِيلَ لِلْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ مَأْخَذَانِ
____________________
(1/293)
أَحَدُهُمَا الْخِلَافُ في خَلْقِ الْأَفْعَالِ فَمَنْ قال إنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا اتَّجَهَ الْقَوْلُ بِتَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَفْعَالِ الْمَخْلُوقَةِ لِلَّهِ تَعَالَى على وَفْقِ إرَادَتِهِ فَيَصِيرُ التَّكْلِيفُ بها مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ وَمَنْ قال إنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى لم يَرَ تَكْلِيفَ الْمُكْرَهِ لِأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ أَهْلَ الْعَدْلِ لِأَنَّهُمْ قالوا أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقٌ لهم لَا له سُبْحَانَهُ تَحْقِيقًا لِعَدْلِهِ إذْ لو خَلَقَهَا ثُمَّ عَابَ عليها كان ذلك جَوْرًا الثَّانِي أَنَّهُ هل في التَّخْوِيفِ وَالْإِكْرَاهِ ما يَتَضَمَّنُ ضَرُورِيَّةَ الْفِعْلِ أَيْ ما يَقْتَضِي اضْطِرَارَ الْمُكْرَهِ إلَى الْفِعْلِ لِدَاعِي الطَّبْعِ أَمْ لَا الشَّرْطُ السَّابِعُ عِلْمُ الْمُخَاطَبِ بِكَوْنِهِ مَأْمُورًا أَنْ يَعْلَمَ الْمُخَاطَبُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا قبل زَمَنِ الِامْتِثَالِ حتى يُتَصَوَّرَ منه قَصْدُ الِامْتِثَالِ وَإِنْ لم يَعْلَمْ وُجُودَ شَرْطِهِ وَتَمَكُّنِهِ في الْوَقْتِ قال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا على اشْتِرَاطِهِ وقال أبو هَاشِمٍ لَا نَعْلَمُهُ مُتَمَسِّكًا بِأَنَّ الْإِمْكَانَ شَرْطٌ لِتَحَقُّقِ الْأَمْرِ وَالْجَهْلُ بِالشَّرْطِ مُحَقَّقٌ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْجَهْلَ بِالشُّرُوطِ نعم أَجْمَعَ من قَبْلَنَا على إطْلَاقِ وُرُودِ الْأَمْرِ بِنَاءً على تَقْدِيرِ بَقَاءِ أَكْثَرِهِمْ وَظُهُورِ ذلك عِنْدَهُمْ قال وما ذَكَرَهُ أبو هَاشِمٍ لَا دَافِعَ له إلَّا أَصْلٌ لِأَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ في النَّسْخِ وَمَذْهَبُهُ فيه أَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ قَطْعًا ثُمَّ رُفِعَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِالنَّسْخِ فقال ثَانِيًا عليه إذَا تَوَجَّهَ أَمْرٌ على الْمُخَاطَبِ فَقَطْ تَنَجَّزَ الْأَمْرُ ثُمَّ إذَا زَالَ إمْكَانُهُ فَلَا رَيْبَ في الْأَمْرِ وَإِنَّمَا الْأَمْرُ في الشَّرْطِ الْقَضَاءُ لَا في شَرْطِ أَصْلِ الْأَمْرِ وَهَذَا في غَايَةِ الْبُعْدِ فإن الْأَمْرَ ليس هو اللَّفْظَ وَلَكِنَّ الْأَمْرَ الطَّلَبُ وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي شَرْطَهُ الْإِمْكَانَ إلَّا أَنْ يُنْكِرَ كَوْنَ الْإِمْكَانِ شَرْطًا وَلَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ إلَّا بِهِ وأبو هَاشِمٍ لَا يُنْكِرُ وُجُوبَ الْإِقْدَامِ عليه وَنِيَّةُ الْوُجُودِ وَالتَّرَدُّدِ لَا يَدْفَعُ ذلك وما ذَكَرْنَاهُ لَا يُنْكَرُ فَالْخِلَافُ يَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ ا هـ وَأَمَّا الْقَاضِي فَفَرْضُ الْخِلَافِ في الصِّحَّةِ فقال أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ على أَنَّ الْأَمْرَ إذَا اتَّصَلَ بِالْمُكَلَّفِ وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُهُ من الِامْتِثَالِ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْأَمْرِ الْوَارِدِ عليه وَلَكِنْ يَعْتَقِدُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا في الثَّانِي وَالثَّالِثِ من الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ بِشَرْطِ أَنْ يَبْقَى على صِفَةِ التَّكْلِيفِ فَنَسْتَيْقِنُ الْحَالَ تَوَجُّهَ الْأَمْرِ عليه وَأَمَّا في الِاسْتِقْبَالِ فَإِنْ بَقِيَ دَامَ على
____________________
(1/294)
الْوُجُوبِ وَإِنْ مَاتَ انْقَطَعَ عنه وَقَالَتْ الْقَدَرِيَّةُ لَا يَصِحُّ عِلْمُهُ بِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ عليه إلَّا بَعْدَ الْإِقْدَامِ على الِامْتِثَالِ أو بَعْدَ مُضِيِّ زَمَنٍ يَسَعُهُ مع تَرْكِهِ فَقَالُوا لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْلَمَ كَوْنُهُ مَأْمُورًا قَطْعًا وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّا نَقُولُ يَقْطَعُ بِذَلِكَ وَيُؤَوَّلُ تَوَقُّعُهُ في اسْتِدَامَةِ الْوُجُوبِ إلَى تَوَقُّعِ الِاحْتِرَامِ وَالْبَقَاءِ وقال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ الْوَاحِدُ مِنَّا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا على الْحَقِيقَةِ هذا مَذْهَبُ كَافَّةِ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ وَنُقِلَ عن أبي هَاشِمٍ أَنَّهُ قد لَا يَعْلَمُ ذلك وهو يَنْبَنِي على تَكْلِيفِ الْعَاجِزِ هل يَجُوزُ أَمْ لَا فَعِنْدَنَا أَنَّهُ جَائِزٌ وَعِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ وأبو هَاشِمٍ بَنَاهُ على هذا الْأَصْلِ فَإِنْ سَلِمَ له فَالْحَقُّ ما قَالَهُ وَإِنْ أُبْطِلَ بَطَلَ مَذْهَبُهُ وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي بِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا يَجِبُ عليه الشُّرُوعُ في الْعِبَادَةِ الْمَأْمُورِ بها وَالتَّقَرُّبِ بها بِالْإِجْمَاعِ وهو يَدُلُّ على عِلْمِهِ بِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بها وَإِلَّا لَمَا وَجَبَ عليه وَشُبْهَةُ أبي هَاشِمٍ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مع الْأَمْرِ وَهِيَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لنا فَلَا يَكُونُ الْمَأْمُورُ عَالِمًا ا هـ وَأَمَّا أبو نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ فقال الْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ في الْمُكْتَسَبِ عِلْمُ الْمُكْتَسِبِ بِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْأَصْحَابِ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ كَوْنُ الْمَقْدُورِ مِمَّا يَصِحُّ الْعِلْمُ بِهِ قال وَاخْتَلَفُوا مَتَى يَصِحُّ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْفِعْلِ فقال أَصْحَابُنَا إذَا اتَّصَلَ الْخِطَابُ بِهِ وَلَا مَانِعَ من الِامْتِثَالِ عَلِمَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْأَمْرِ الْوَارِدِ عليه فَيُقْطَعُ بِهِ لَكِنْ يَفْتَقِرُ كَوْنُهُ مَأْمُورًا إلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ من الْأَوْقَاتِ بِشَرْطِ وَفَاءِ شَرَائِطِ التَّكْلِيفِ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ لَا يُعْلَمُ ذلك في أَوَّلِ وَقْتٍ تَوَجَّهَ الْخَطَأُ عليه ما لم يَمْضِ زَمَنُ الْإِمْكَانِ حتى لو اشْتَغَلَ بِالِامْتِثَالِ في الْحَالِ لم يَعْرِفْ الْوُجُوبَ أَيْضًا ما لم يَمْضِ زَمَنٌ يَتَصَوَّرُ فيه الِامْتِثَالَ وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِبَقَاءِ الْإِمْكَانِ له إلَى انْقِرَاضِ زَمَانٍ يَمْتَنِعُ الْفِعْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ وَالْإِمْكَانُ شَرْطُ التَّكْلِيفِ وَالْجَاهِلُ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ جَاهِلٌ بِوُقُوعِ الْمَشْرُوطِ لَا مَحَالَةَ وَتَمَسَّكَ الْقَاضِي بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ على تَوَجُّهِ الْأَمْرِ إلَى الْمُكَلَّفِ وَالنَّهْيِ عن الْمُحَرَّمَاتِ وَقَوْلُهُمْ يُفْضِي إلَى أَنَّهُ ليس يَعْلَمُ أَحَدٌ على بَسِيطِ الْأَرْضِ أَنَّهُ يُنْهَى عن الْقَتْلِ وَالزِّنَا وَكَمَا لَا يَعْلَمُ من نَفْسِهِ لَا يَعْلَمُ غَيْرُهُ منه وَمَالَ الْإِمَامُ إلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وقال تَشْغِيبُ الْقَاضِي بِالْإِجْمَاعِ تَهْوِيلٌ بِلَا تَحْصِيلٍ فإن إطْلَاقَاتِ الشَّرْعِ لَا تُعْرَضُ على مَأْخَذِ الْحَقَائِقِ بَلْ تُحْمَلُ على حُكْمِ الْعُرْفِ وَالتَّفَاهُمِ الظَّاهِرِ كَالْإِجْمَاعِ على أَنَّ الْخَمْرَ مُحَرَّمٌ وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ تَعَاطِيهَا
____________________
(1/295)
تَنْبِيهَاتٌ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الْمُخْتَلَفِ فيه الْقَطْعِيُّ أَيْ أَنَّهُ هل يَقْطَعُ بِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا قبل زَمَنِ الِامْتِثَالِ كما صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وابن بَرْهَانٍ وَنَبَّهَ على أَنَّ أَبَا هَاشِمٍ لَا يُخَالِفُ في الظَّنِّ فإن الشُّرُوعَ في الْفِعْلِ لَا يُشْتَرَطُ فيه الْقَطْعُ بَلْ تَكْفِي غَلَبَةُ الظَّنِّ مَهْمَا بَادَرَ وَاسْتَمَرَّ في حَيَاتِهِ إلَى الْفَرَاغِ التَّنْبِيهُ الثَّانِي أَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا كان الْآمِرُ عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا يَبْقَى إلَى وَقْتِ التَّمَكُّنِ من الِامْتِثَالِ فَإِنْ كان يَعْلَمُ بَقَاءَهُ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمَأْمُورَ يَعْلَمُ ذلك أَيْضًا التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ أَنَّ الْخِلَافَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآحَادِ لَا في حَقِّ الْجِنْسِ فَقَدْ وَافَقَ أبو هَاشِمٍ على أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ لِأَنَّ الشَّرْطَ وهو الِاسْتِطَاعَةُ مَعْلُومٌ هُنَا قَطْعًا لِعِلْمِنَا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعُمُّ الْكُلَّ بِالْهَلَاكِ كَذَا نَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ وَفَرَضَ الْإِمَامُ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا خَصَّ بِالْخِطَابِ وَاحِدًا وكان مُنْدَرِجًا مع آخَرَ تَحْتَ عُمُومِ الْخِطَابِ وهو في حَالَةِ اتِّصَالِ الْخِطَابِ بِهِ مُسْتَجْمِعٌ شَرَائِطَ التَّكْلِيفِ ولم يَقِفْ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ على ما ذَكَرْنَا فقال بَعْدَ ذِكْرِ الْخِلَافِ هذا إذَا كان الْأَمْرُ خَاصًّا فَإِنْ كان عَامًّا ولم يُعْلَمْ انْقِرَاضُ الْجَمِيعِ بَلْ بَعْضُهُمْ فَأَظُنُّ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فيه إذْ أَكْثَرُ أَوَامِرِ اللَّهِ كَذَلِكَ فإن بَعْضَ الْمُكَلَّفِينَ يَمُوتُ قبل التَّمَكُّنِ وَكَلَامُ بَعْضِهِمْ يُشْعِرُ بِخِلَافٍ فيه أَيْضًا انْتَهَى مَسْأَلَةٌ هل يُشْتَرَطُ في التَّكْلِيفِ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ قِيلَ لَا يُشْتَرَطُ في التَّكْلِيفِ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ بَلْ يُشْتَرَطُ تَمَكُّنُهُ من الْعِلْمِ وَحَكَى بَعْضُهُمْ في حُكْمِ الْخِطَابِ هل يَثْبُتُ في حَقِّ الْمُكَلَّفِ قبل أَنْ يَبْلُغَهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ثَالِثُهَا يَثْبُتُ الْمُبْتَدَأُ دُونَ النَّاسِخِ قال وَالْمَرْجِعُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الْبَلَاغِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ولم يَأْمُرْ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الصَّحَابَةَ بِاسْتِدْرَاكِ ما فَعَلُوهُ
____________________
(1/296)
على خِلَافِ الْأَمْرِ حَيْثُ جَهِلُوهُ كما لم يَأْمُرْ الْمُشَمِّتَ الْعَاطِسَ في الصَّلَاةِ وَالْمُصَلِّيَ إلَى قِبْلَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَغَيْرِهِ الرَّابِعُ من التَّنْبِيهَاتِ سَبَقَ عن إلْكِيَا أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ فإن أَبَا هَاشِمٍ لَا يَمْنَعُ الْإِقْدَامَ لَكِنَّ أَبَا هَاشِمٍ بَنَاهُ على مَأْخَذٍ له كَلَامِيٍّ وهو أَنَّ الْأَمْرَ تُلَازِمُهُ الْإِرَادَةُ فَإِنْ كان يَعْلَمُ انْتِقَاءَ الشَّرْطِ لم يَتَصَوَّرْ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِلْفِعْلِ الْمُعَلَّقِ طَلَبُهُ على شَرْطٍ وَنَحْنُ نُخَالِفُهُمْ في الْأَصْلِ فَلِهَذَا خَالَفْنَاهُ في الْفَرْعِ وَحَاصِلُ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ التَّمَكُّنَ من الِامْتِثَالِ هل هو شَرْطٌ في تَوَجُّهِ الْخِطَابِ أو شَرْطٌ في إيقَاعِ الْفِعْلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَحُصُولِهِ فَهُمْ يَقُولُونَ إنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا دخل عليه رَمَضَانُ أو وَقْتُ الصَّلَاةِ فإنه يَجِبُ عليه الشُّرُوعُ في الْعِبَادَةِ لَا على أَنَّهُ يَقْطَعُ بِأَنَّهُ يَكُونُ مُتَمَكِّنًا منه فإن الْقَطْعَ بِذَلِكَ يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِبَقَائِهِ بِكَوْنِهِ وهو مُتَعَذِّرٌ لِإِمْكَانِ الْمَوْتِ بَلْ بِنَاءً على الظَّنِّ الْغَالِبِ فإن الْأَصْلَ بَقَاءُ الْحَيَاةِ وَاسْتِمْرَارُ الْقُدْرَةِ فَلَوْ مَاتَ قبل إتْمَامِ الْعِبَادَةِ تَبَيَّنَ أنها لم تَكُنْ وَاجِبَةً عليه وَأَمَّا على رَأْيِنَا فإنه يَدُلُّ على عَدَمِ الْأَمْرِ بَلْ يَدُلُّ على عَدَمِ لُزُومِ الْإِتْمَامِ مَسْأَلَةٌ التَّكْلِيفُ بِالْفِعْلِ الذي يَنْتَفِي شَرْطُ وُقُوعِهِ عِنْدَ وَقْتِهِ الْفِعْلُ الذي يَنْتَفِي شَرْطُ وُقُوعِهِ عِنْدَ وَقْتِهِ إنْ جَهِلَ الْآمِرُ انْتِفَاءَهُ كَالْوَاحِدِ مِنَّا يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْمَأْمُورِ على صِفَاتِ التَّكْلِيفِ فَيَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ كما قَالَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَغَيْرُهُ لِانْطِوَاءِ الْغَيْبِ عَنَّا قال الْهِنْدِيُّ وفي كَلَامِ بَعْضِهِمْ إشْعَارٌ بِالْخِلَافِ فيه وَإِنْ عَلِمَ انْتِفَاءَهُ كما إذَا أَمَرَ اللَّهُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ وهو يَعْلَمُ مَوْتَهُ في رَمَضَانَ فَهَلْ يَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِهِ قال الْجُمْهُورُ منهم الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ يَصِحُّ وَيَقَعُ وَلِذَلِكَ يَعْلَمُ الْمُكَلَّفُ قبل دُخُولِ الْوَقْتِ وَإِنْ لم يَعْلَمْ وُجُودَ شَرْطِهِ وَتَمَكُّنِهِ من الْوَقْتِ وَلَوْلَا أَنَّ تَحَقُّقَ الشَّرْطِ في الْوَقْتِ ليس شَرْطًا في التَّكْلِيفِ لَمَا عُلِمَ قبل وَقْتِهِ إذَا الْجَهْلُ بِالشَّرْطِ يُوجِبُ الْجَهْلَ بِالْمَشْرُوطِ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ يُمْتَنَعُ ذلك لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ وَلَا فَائِدَةَ فيه وَقَالُوا إنَّمَا يَصِحُّ الشَّرْطُ مِنَّا لِتَرَدُّدِنَا حتى لو عَلِمَ الْوَاحِدُ مِنَّا بِوَحْيٍ أو إعْلَامِ نَبِيٍّ ما يَكُونُ من حَالِ
____________________
(1/297)
مُخَاطَبِهِ لَا يَصِحُّ أَيْضًا تَقْيِيدُ الْخِطَابِ بِبَقَاءِ الْمُخَاطَبِ على صِفَةِ التَّكْلِيفِ وَوَافَقَهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْحَقُّ صِحَّتُهُ وَأَنَّهُ ليس بِالْمُحَالِ في شَيْءٍ وَيَجُوزُ من الْقَدِيمِ تَعَالَى أَنْ يَأْمُرَ عَبْدَهُ بِمَا عَلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ وَلَهُ فَوَائِدُ ثَلَاثَةٌ إحْدَاهَا اعْتِقَادُ الْوُجُوبِ وَيَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِالِاعْتِقَادِ كما يَجُوزُ بِالْفِعْلِ الثَّانِيَةُ الْعَزْمُ على أَنْ يَفْعَلَهُ إنْ أَدْرَكَهُ الْوَقْتُ على صِفَةِ التَّكْلِيفِ وَمَاتَ على ذلك فَيُثَابُ أو لَا يَعْزِمُ فَيُعَاقَبُ الثَّالِثَةُ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ فيه لِلْمُكَلَّفِ مَصْلَحَةٌ وَلُطْفٌ وَيَكُونُ فيه فَائِدَةٌ مُصَحِّحَةٌ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَيْضًا وهو شَكُّ الْمُكَلَّفِ في بَقَائِهِ إلَى ذلك الْوَقْتِ فإنه وَقْتَ الْخِطَابِ لَا يَدْرِي هل يَبْقَى إلَى وَقْتِ الْفِعْلِ أو لَا وَيَنْقَطِعُ هذا التَّكْلِيفُ عنه بِمَوْتِهِ كَانْقِطَاعِ سَائِرِ التَّكَالِيفِ الْمُتَكَرِّرَةِ وَحَاصِلُ هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ اللَّهَ إذَا عَلِمَ أَنَّ زَيْدًا سَيَمُوتُ غَدًا فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِالصَّوْمِ غَدًا بِشَرْطِ أَنْ يَعِيشَ غَدًا أَمْ لَا فَرَجَعَ الْخِلَافُ إلَى تَحْقِيقِ الْأَمْرِ بِالشَّرْطِ في حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَأَصْحَابُنَا جَوَّزُوهُ وَالْمُعْتَزِلَةُ مَنَعُوهُ وَقَالُوا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَرِدَ الْأَمْرُ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ بَقَاءِ الْمُكَلَّفِ وَزَعَمُوا أَنَّ الشَّرْطَ في أَمْرِهِ تَعَالَى مُحَالٌ لِأَنَّ الشَّرْطَ إنَّمَا يَقَعُ حَيْثُ الشَّكُّ وَالْبَارِئُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عنه وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ لَا شَرْطَ فإن من عَلِمَ أَنَّ الشَّمْسَ طَالِعَةٌ لَا يقول إنْ كانت الشَّمْسُ طَلَعَتْ دَخَلْت الدَّارَ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ ذلك من الشَّاكِّ كَالْوَاحِدِ مِنَّا وَلِهَذَا قالوا لو حَصَلَ الْعِلْمُ لِلْوَاحِدِ مِنَّا بِإِخْبَارِ نَبِيٍّ امْتَنَعَ الْأَمْرُ بِالشَّرْطِ فيه أَيْضًا ولم يَقْصُرُوا خِلَافَهُمْ على ما إذَا عَلِمَ الْآمِرُ انْتِفَاءَهُ بَلْ عَدَّوْهُ إلَى ما عَلِمَ وُجُودَهُ أَيْضًا فَقَالُوا إنْ كان الشَّرْطُ مِمَّا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لم يَكُنْ الْأَمْرُ الْمُعَلَّقُ بِهِ أَمْرًا بِهِ بَلْ هو جَارٍ مَجْرَى صُمْ غَدًا إنْ صَعِدْت السَّمَاءَ وَلَيْسَ هو من الْأَمْرِ في شَيْءٍ إلَّا على رَأْيِ بَعْضِ من يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ ما لَا يُطَاقُ وَإِنْ كان قد عَلِمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ لم يَكُنْ الْأَمْرُ مَشْرُوطًا بِهِ بَلْ هو كَقَوْلِهِ صَلِّ إنْ كانت الشَّمْسُ مَخْلُوقَةً وَلَيْسَ هو من الْمَشْرُوطِ في شَيْءٍ لِأَنَّ الشَّرْطَ هو الذي يَكُونُ على تَرَدُّدٍ في الْحُصُولِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّرَدُّدَ مُحَالٌ في حَقِّهِ تَعَالَى فَلَا يُتَصَوَّرُ تَعْلِيقٌ على الشَّرْطِ أَلْبَتَّةَ لَا إنْ عَلِمَ وُقُوعَهُ وَلَا إنْ عَلِمَ عَدَمَ وُقُوعِهِ وَأَلْزَمَهُمْ الْقَاضِي أَنْ لَا يَتَقَيَّدَ وَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ أَيْضًا كما لَا يَتَقَيَّدَ أَمْرُهُ مع أَنَّ مُعْظَمَ
____________________
(1/298)
وَعْدِ الْقُرْآنِ وَوَعِيدِهِ مُقَيَّدٌ نحو قَوْله تَعَالَى لو اطَّلَعْت عليهم لَوَلَّيْتَ منهم فِرَارًا قال وَلَا وَجْهَ لِلتَّرَدُّدِ في الشَّرْطِ مع عِلْمِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ وَلَهُ فَائِدَةٌ وهو أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ ابْتِلَاءَ الْمُكَلَّفِ وَامْتِحَانَهُ في تَوْطِينِ النَّفْسِ على الِامْتِثَالِ وَالْعَزْمِ وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِالْإِجْمَاعِ على أَنَّ اللَّهَ كَلَّفَ الْمَعْدُومَ وَالْعَاجِزَ بِشَرْطِ أَنْ يَقْدِرَ في حَالِ الْحَاجَةِ إلَى الْقُدْرَةِ وَأَجَابَ أبو الْحُسَيْنِ بِأَنَّا نَقُولُ إنَّ اللَّهَ كَلَّفَهُ بِشَرْطٍ أَنْ يَقْدِرُ وَمَعْنَى ذلك أَنَّ حُكْمَنَا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قد كَلَّفَهُ الْفِعْلَ مَشْرُوطًا بِأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَقْدِرُ فَالشَّرْطُ دَاخِلٌ على حُكْمِنَا لَا على تَكْلِيفِ اللَّهِ فَإِنْ أَرَادَ الْمُخَالِفُ هذا رَجَعَ النِّزَاعُ إلَى اللَّفْظِ وقال الْإِبْيَارِيُّ إنَّمَا حَمَلَ الْمُعْتَزِلَةَ على ذلك أَصْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الشَّرْطَ هو الذي يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ فَأَمَّا ما تَحَقَّقَ ثُبُوتًا أو نَفْيًا فَلَا يَصْلُحُ لِلشَّرْطِيَّةِ الثَّانِي أَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَهُمْ يُلَازِمُ الْإِرَادَةَ فَإِنْ كان يَعْلَمُ انْتِفَاءَ الشَّرْطِ لم يَكُنْ مُرِيدًا لِلْفِعْلِ الذي عَلَّقَ طَلَبَهُ على الشَّرْطِ وَأَمَّا نَحْنُ فَلَا نَقُولُ بِاقْتِرَانِ الْأَمْرِ بِالْإِرَادَةِ فَيَصِحُّ الْأَمْرُ بِمَا لم يُرِدْهُ هذا تَحْرِيرُ الْمَسْأَلَةِ بين الْفَرِيقَيْنِ وَتَرْجَمَ بَعْضُ مُخْتَصِرِي الْبُرْهَانِ وهو ابن عَطَاءِ اللَّهِ الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّ شَرْطَ التَّكْلِيفِ عِنْدَ الْأَصْحَابِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ من جِنْسِ الْمُمْكِنِ فَيَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ الْمُخَاطَبُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا قبل مُضِيِّ زَمَنٍ يَسَعُ الْفِعْلَ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا وَلَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ ذلك قال وَاعْتَقَدَ الْإِمَامُ أَنَّ الْقَاضِيَ سَلَّمَ له كَوْنَ الْإِمْكَانِ شَرْطًا فقال يَلْزَمُ إذَا بَانَ أَنْ لَا إمْكَانَ أَنَّهُ لم يَكُنْ تَكْلِيفٌ وَلَيْسَ كما اعْتَقَدَهُ لِأَنَّ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ يَقْتَضِي تَرْجَمَتَهَا بِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِشَرْطِهِ يُسَمَّى أَمْرًا أَمْ لَا وَلِهَذَا ذَكَرَهَا في بَحْثِ الْأَوَامِرِ دُونَ التَّكَالِيفِ
____________________
(1/299)
تَنْبِيهَاتٌ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ الْعِلْمُ قبل التَّمَكُّنِ من الْفِعْلِ منهم من جَعَلَ هذه الْمَسْأَلَةَ أَصْلًا لِلَّتِي قَبْلَهَا أَعْنِي مَسْأَلَةَ الْعِلْمِ قبل التَّمَكُّنِ من الْفِعْلِ فَإِنْ قُلْنَا يَصِحُّ من اللَّهِ تَعَالَى الْأَمْرُ بِالشَّرْطِ صَحَّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ من اللَّه بِشَرْطِ الْبَقَاءِ وَإِنْ قُلْنَا لَا يَصِحُّ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لِأَنَّهُ إذَا تَوَجَّهَ الْأَمْرُ نحو الْمُكَلَّفِ بِحُكْمٍ ظَاهِرِ الْبَقَاءِ فَهُوَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ هل يَبْقَى أَمْ لَا وهو ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَمِنْهُمْ من جَعَلَ هذه فَرْعًا لِلَّتِي قَبْلَهَا فَمَنْ قال إنَّ الْمَأْمُورَ يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا قبل التَّمَكُّنِ جَوَّزَ وُرُودَهُ وَمَنْ لم يَقُلْ بِهِ لم يُجَوِّزْهُ صَرَّحَ بِهِ الْهِنْدِيُّ وَكَذَا الذي ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وابن الْقُشَيْرِيّ فَقَالُوا هذه الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي على التي قَبْلَهَا وهو أَنَّا قُلْنَا نَقْطَعُ الْمُكَلَّفَ بِالْتِزَامِ ما كُلِّفَ مع التَّرَدُّدِ في حُكْمِ الْعَاقِبَةِ فَيَتَرَتَّبُ عليها الْمَقْصُودُ وَنَقُولُ لو وَرَدَ الْأَمْرُ مُطْلَقًا هل يَقُولُونَ يَتَعَلَّقُ بِالْمُكَلَّفِ في الْحَالِ قَطْعًا أو يَسْتَرِيبُونَ فيه فَإِنْ اسْتَرَبْتُمْ عُدْنَا إلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَإِنْ قَطَعْتُمْ مع انْطِوَاءِ الْعَاقِبَةِ عن الْمُكَلَّفِ لَزِمَ منه أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا مع ذُهُولِهِ عَمَّا يَكُونُ وَالْأَمْرُ مُتَوَجِّهٌ عليه فإذا تُصَوِّرَ ذلك الِاعْتِقَادُ في الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ فما الْمَانِعُ من تَقْيِيدِهِ بِمَا يَعْتَقِدُ فيه عِنْدَ إطْلَاقِهِ التَّنْبِيهُ الثَّانِي الْأَمْرُ الْمُقَيَّدُ بِالشَّرْطِ له أَحْوَالٌ قال الْعَبْدَرِيُّ في شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى الْأَمْرُ الْمُقَيَّدُ بِالشَّرْطِ له ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مَعْلُومًا انْتِفَاؤُهُ عِنْدَ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ جميعا فَهَذَا مَمْنُوعٌ بِالِاتِّفَاقِ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا عِنْدَهُمَا فَجَائِرٌ بِالِاتِّفَاقِ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْآمِرِ مَجْهُولًا عِنْدَ الْمَأْمُورِ فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ جَوَّزَهُ الْأَشْعَرِيَّةُ وَمَنَعَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَهُمْ الْمُصِيبُونَ في هذا اللَّفْظِ لِأَنَّ الْأَمْرَ الذي فَرَضُوا فيه الْكَلَامَ ليس هو صِيغَةَ اللَّفْظِ إنَّمَا فَرَضُوا الْكَلَامَ في الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُومَ بِنَفْسِ الْآمِرِ طَلَبُ ما يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يَقَعُ أو أَنَّهُ قد وَقَعَ بَلْ طَلَبُ ما يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ وَأَنْ لَا يَقَعَ
____________________
(1/300)
وَالدَّلِيلُ على ذلك أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْمُمْكِنِ فَالْمَأْمُورُ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا عِنْدَ تَوَجُّهِ الْأَمْرِ عليه بَلْ عِنْدَ وُقُوعِهِ وهو الْمَطْلُوبُ وَأَيْضًا فَإِنْ عَلِمَ الْمَأْمُورُ بِكَوْنِهِ مَأْمُورًا يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ ذلك الْأَمْرُ وَاقِعًا لَا مَحَالَةَ فَبَطَلَ كَوْنُهُ مُمْكِنًا وَصَارَ وَاجِبًا وَهَذَا مُحَالٌ فَنَقِيضُهُ مُحَالٌ وهو أَنَّ الْمَأْمُورَ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا عِنْدَ تَوَجُّهِ الْأَمْرِ عليه بَلْ عِنْدَ وُقُوعِهِ وهو الْمَطْلُوبُ انْتَهَى وَفِيمَا ذَكَرَهُ نِزَاعٌ وَفَاتَهُ قِسْمٌ رَابِعٌ وهو أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ عَالِمًا بِالِانْتِفَاءِ دُونَ الْآمِرِ فَلَا يَصِحُّ وِفَاقًا لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ من جِهَةِ الْمَأْمُورِ وهو الِامْتِثَالُ وَعَدَمُ صِحَّةِ طَلَبِهِ من جِهَةِ الْآمِرِ وقال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ اتَّفَقَ الْكُلُّ على أَنَّ الْمَأْمُورَ لو عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ من فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فإنه لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ إلَّا على رَأْيِ من يقول بِتَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ تَفْرِيعُ الْغَزَالِيِّ على هذا الْأَصْلِ فَرَّعَ الْغَزَالِيُّ على هذا الْأَصْلِ فُرُوعًا منها لو عَلِمَتْ الْمَرْأَةُ بِالْعَادَةِ أنها تَحِيضُ في أَثْنَاءِ النَّهَارِ أو بِقَوْلِ نَبِيٍّ حَيْضًا أو مَوْتًا أو جُنُونًا فَهَلْ يَلْزَمُهَا نِيَّةُ الصَّوْمِ حتى تَصُومَ الْبَعْضَ قال أَمَّا على مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَا يَنْبَغِي اللُّزُومُ لِأَنَّ بَعْضَ الْيَوْمِ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ وَهِيَ غَيْرُ مَأْمُورَةٍ بِالْكُلِّ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْأَظْهَرُ وُجُوبُهُ لِأَنَّ الْمُرَخِّصَ في الْإِفْطَارِ لم يُوجَدْ وَالْأَمْرُ قَائِمٌ في الْحَالِ وَالْمَيْسُورُ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ ا هـ وقد نُوزِعَ في قَوْلِهِ وَالْأَمْرُ قَائِمٌ في الْحَالِ بِقَوْلِهِ في كِتَابِ النَّسْخِ إنْ جَهِلَ الْمَأْمُورُ شَرْطَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَمْرُ قَائِمًا في الْحَالِ وَالْمُكَلَّفُ عَالِمٌ بِطَرَيَانِ الْحَيْضِ وَالْآمِرُ وَالْمَأْمُورُ كِلَاهُمَا يَعْلَمَانِهِ وَمِنْهَا لو قال إنْ صَلَّيْت أو شَرَعْت في الصَّلَاةِ أو في الصَّوْمِ فَزَوْجَتِي طَالِقٌ ثُمَّ شَرَعَ ثُمَّ أَفْسَدَهَا أو مَاتَ أو جُنَّ فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ خِلَافٌ يُلْتَفَتُ إلَى هذا الْأَصْلِ فَلَا يَحْنَثُ على قِيَاسِ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَيَحْنَثُ على قِيَاسِ مَذْهَبِنَا وَكَذَا ذَكَرَ الْآمِدِيُّ هذا فَرْعًا على هذا الْأَصْلِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ من بَابِ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ من فُرُوعِ هذا الْأَصْلِ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَقُولَ إنْ صُمْت يَوْمًا كَامِلًا من رَمَضَانَ فَأَنْتِ طَالِقٌ في أَثْنَاءِ الْيَوْمِ لَكِنَّهُ في هذه الصُّورَةِ لَا يَقَعُ لِتَخَلُّفِ الشَّرْطِ فإنه لم يَصُمْ يَوْمًا كَامِلًا وَمِنْهَا لو أَفْسَدَ يَوْمًا من رَمَضَانَ بِمَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ثُمَّ مَاتَ أو جُنَّ أو حَاضَتْ في أَثْنَائِهِ سَقَطَتْ عنه على الْأَصَحِّ لَا يُقَالُ هذا يُخَالِفُ الْأَصْلَ الْمَذْكُورَ فإن
____________________
(1/301)
السُّقُوطَ يَدُلُّ على عَدَمِ الْأَمْرِ بِهِ لِأَنَّا نَقُولُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ من خَصَائِصِ وُجُوبِ صَوْمِ الْيَوْمِ الذي لَا يَتَعَرَّضُ الِانْقِطَاعُ فيه وَمِنْهَا لو نَذَرَ الصِّيَامَ يوم قُدُومِ زَيْدٍ وَتَبَيَّنَ له أَنَّهُ غَدًا فَنَوَى الصَّوْمَ من اللَّيْلِ فإنه يُجْزِئُ عن نَذْرِهِ على الْأَصَحِّ ولم يَقُولُوا إنَّهُ يَجِبُ عليه بَلْ اخْتَلَفُوا في الْإِجْزَاءِ وَقِيَاسُ هذا الْأَصْلِ الْوُجُوبُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْغَزَالِيَّ يقول بِهِ كَالْحَائِضِ التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ اسْتَشْكَلَ الْخِلَافُ في هذه الْمَسْأَلَةِ بِحِكَايَتِهِمْ في مَسْأَلَةِ تَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ الْإِجْمَاعَ على صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِمَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ كما قَالَهُ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ كَإِيمَانِ أبي لَهَبٍ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِمَا سَنَذْكُرُهُ هُنَاكَ أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِمَا وَاحِدٌ ثُمَّ الصُّورَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ لِأَنَّ الْعِلْمَ هُنَاكَ تَعَلَّقَ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ مع بُلُوغِ الْمُكَلَّفِ حَالَةَ التَّمَكُّنِ وَهُنَا فِيمَا إذَا لم يَبْلُغْ حَالَةَ التَّمَكُّنِ بِأَنْ يَمُوتَ قبل زَمَنِ الِامْتِثَالِ وَأَيْضًا فَتِلْكَ في وُرُودِ التَّكْلِيفِ مُنَجَّزًا غير مُقَيَّدٍ بِشَرْطٍ وَلَكِنَّ الِامْتِنَاعَ جاء من أَمْرٍ خَارِجٍ وَمَأْخَذُ الْمَنْعِ فيها تَكْلِيفُ الْمُحَالِ وَهَذِهِ في الْأَمْرِ الْمُقَيَّدِ بِشَرْطٍ هل يَتَحَقَّقُ معه الْأَمْرُ في نَفْسِهِ وَمَأْخَذُ الْمَانِعِ فيها عَدَمُ تَصَوُّرِ الشَّرْطِ في حَقِّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْمُخَالِفِ وَلِهَذَا لم يَقْصُرْ خِلَافَهُ على ما عَلِمَ عَدَمَ وُقُوعِهِ بَلْ عَدَّاهُ إلَى ما عَلِمَ وُقُوعَهُ أَيْضًا كما سَبَقَ بَيَانُهُ التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ تَصْوِيرَ الْمَسْأَلَةِ بِالْأَمْرِ الْمُقَيَّدِ بِشَرْطِ عِلْمِ انْتِفَاءِ وُقُوعِهِ قَاصِرٌ فإن خِلَافَهُمْ لَا يَخُصُّ هذه الْحَالَةَ وَإِنَّمَا خِلَافُهُمْ في أَنَّهُ هل يَصِحُّ الْأَمْرُ بِشَرْطٍ من اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا التَّنْبِيهُ السَّادِسُ كُلُّ من مَنَعَ نَسْخَ الشَّيْءِ قبل حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ كَالْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا على أَنَّ التَّمَكُّنَ من الْفِعْلِ وَقْتَ وُجُوبِهِ شَرْطُ تَحَقُّقِ الْأَمْرِ قال الْهِنْدِيُّ وَهَذَا اللَّائِقُ بِأُصُولِهِمْ قال وَأَمَّا من جَوَّزَهُ كَمَذْهَبِ أَصْحَابِنَا فَاخْتَلَفُوا فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ وَذَهَبَ بَعْضٌ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَبَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ مِنَّا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى اشْتِرَاطِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ من الْقَوْلَيْنِ ليس مُنَاقِضًا لِذَلِكَ الْأَصْلِ وَإِنْ كان الْأَوَّلُ أَشَدَّ مُلَاءَمَةً له
____________________
(1/302)
فَائِدَةٌ تَكْلِيفُ الْمُتَمَكِّنِ وَوُقُوعُ التَّكْلِيفِ بِالْمُمْكِنِ قال الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ يُكَلَّفُ الْمُتَمَكِّنُ وَيَقَعُ التَّكْلِيفُ بِالْمُمْكِنِ قال بَعْضُ عُلَمَائِنَا قَوْلُهُ يُكَلَّفُ الْمُتَمَكِّنُ بَنَاهُ على أَصْلِهِ في تَقَدُّمِ الْقُدْرَةِ على الْمَقْدُورِ فإن مَذْهَبَهُ في الْبُرْهَانِ صِحَّةُ ذلك وهو خِلَافُ ما يَرَاهُ في كُتُبِ الْكَلَامِ فَأَمَّا على ما نَرَاهُ نَحْنُ من اقْتِرَانِ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ فَلَا يُشْتَرَطُ ذلك على مَعْنَى أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ إلَّا قَادِرٌ وَإِنْ أَطْلَقْنَا أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ إلَّا مُتَمَكِّنٌ فَإِنَّمَا نُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ في الْوَاقِعِ إلَّا من لَا يَتَحَقَّقُ عَجْزُهُ عن إيقَاعِ الْمَطْلُوبِ فَأَمَّا اشْتِرَاطُ تَحْقِيقِ الْإِمْكَانِ الذي هو الِاقْتِدَارُ فَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَلْ لَا سَبِيلَ إلَى عِلْمِهِ أَبَدًا في جَرَيَانِ الْعَادَةِ إلَّا بَعْدَ الْعَمَلِ وَمِنْ الْمُتَعَذَّرِ أَنْ يُشْتَرَطَ في تَوَجُّهِ التَّكْلِيفِ عِلْمُ ما لم يَعْلَمْ إلَّا بَعْدَ الِامْتِثَالِ مسألة الْمَعْدُومُ الذي تَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ مَأْمُورٌ الْمَعْدُومُ الذي تعلق العلم بوجوده مأمور المعدوم الذي تَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ مَأْمُورٌ عِنْدَنَا بِالْأَمْرِ الْأَزَلِيِّ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَأَصْلُ الْكَلَامِ في هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ أَصْحَابَنَا لَمَّا أَثْبَتُوا الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لم يَزَلْ آمِرًا نَاهِيًا مُخْبِرًا قِيلَ عليهم من قَبْلِ الْخُصُومِ الْقَائِلِينَ بِحُدُوثِهِ إنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ بِدُونِ الْمُخَاطَبِ عَبَثٌ فَاضْطَرَبَ الْأَصْحَابُ في التَّخَلُّصِ من ذلك على فِرْقَتَيْنِ إحْدَاهُمَا قالت إنَّ الْمَعْدُومَ في الْأَزَلِ مَأْمُورٌ على مَعْنَى تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِهِ في الْأَزَلِ على تَقْدِيرِ الْوُجُودِ وَاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ التَّكْلِيفِ لَا أَنَّهُ مَأْمُورٌ حَالَ عَدَمِهِ فإن ذلك مُسْتَحِيلٌ بَلْ هو مَأْمُورٌ بِتَقْدِيرِ الْوُجُودِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مَوْجُودًا في الْأَزَلِ ثُمَّ إنَّ الشَّخْصَ الذي سَيُوجَدُ بَعْدَ ذلك يَصِيرُ مَأْمُورًا بِذَلِكَ الْأَمْرِ وَهَذَا مُفَرَّعٌ على إثْبَاتِ كَلَامِ النَّفْسِ ولم يَقُلْ بِهِ إلَّا الْأَشَاعِرَةُ هَكَذَا نَقَلُوهُ عن الشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ منهم ابن الْقُشَيْرِيّ قال إِلْكِيَا تَعَلُّقُ الْأَمْرِ على تَقْدِيرِ الْوُجُودِ معه الْأَكْثَرُونَ وَجَوَّزَهُ الْأَشْعَرِيُّ بَلْ أَوْجَبُوهُ لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ قَدِيمٌ وَلَا مُخَاطِبَ أَزَلًا وَأَنْكَرَهُ الْمُعْتَزِلَةُ مُسْتَمْسِكِينَ بِأَنَّ الْأَمْرَ طَلَبٌ وَلَا يُعْقَلُ الطَّلَبُ من الْمَعْدُومِ فَقِيلَ هذا الطَّلَبُ لَا مُتَعَلِّقَ له فإن الْمَعْدُومَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُخَاطِبًا أو مُتَعَلِّقًا فإنه نَفْيٌ وإذا قُلْت النَّفْيُ مُتَعَلِّقٌ فَكَأَنَّك قُلْت
____________________
(1/303)
لَا مُتَعَلِّقَ فَقِيلَ لهم الْمَعْدُومُ كَيْفَ يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا قُلْنَا هذا مَبْنِيٌّ على أَصْلِنَا فَقِيلَ هذا أَمْرٌ وَلَا مَأْمُورَ قُلْنَا هو بِتَقْدِيرِ أَمْرٍ فإن الطَّلَبَ من الصِّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ فَلَا يَثْبُتُ دُونَ مُتَعَلَّقِهِ أَصْلًا كَالْعِلْمِ لَا يَثْبُتُ دُونَ مَعْلُومٍ وَالْكَلَامُ الْأَزَلِيُّ ليس تَقْدِيرًا قال وَأَصْحَابُ الشَّيْخِ يَقُولُونَ مَعْنَى قَوْلِنَا إنَّهُ في الْأَزَلِ آمِرٌ أَنَّهُ صَالِحٌ لَأَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمَوْجُودِ بَعْدَ وُجُودِهِ كَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَغَيْرِهِمَا من الصِّفَاتِ وَإِنْكَارُ بَعْضِهَا بهذا الطَّرِيقِ يَجُرُّ إلَى ما سِوَاهُ ا هـ وقد عَظُمَ النَّكِيرُ في هذه الْمَسْأَلَةِ على الْأَشْعَرِيِّ حتى انْتَهَى الْأَمْرُ إلَى انْكِفَافِ طَائِفَةٍ من الْأَصْحَابِ عن هذا الْمَذْهَبِ منهم أبو الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيُّ وَجَمَاعَةٌ من الْقُدَمَاءِ فَقَالُوا كَلَامُ اللَّهِ في الْأَزَلِ لَا يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ أَمْرًا أو نَهْيًا وَوَعْدًا أو وَعِيدًا وَإِنَّمَا تَثْبُتُ هذه الصِّفَاتُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُخَاطَبِينَ فِيمَا لَا يَزَالُ وَجَعَلَ ذلك من صِفَاتِ الْأَفْعَالِ كَالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ إثْبَاتٌ لِكَلَامٍ خَارِجٍ عن أَقْسَامِ الْكَلَامِ وهو يَسْتَحِيلُ وَلَئِنْ جَازَ ذلك فما الْمَانِعُ من الْمَصِيرِ إلَى أَنَّ الصِّفَةَ الْأَزَلِيَّةَ لَيْسَتْ كَلَامًا أَزَلًا ثُمَّ يَسْتَحِيلُ كَوْنُهَا فِيمَا لَا يَزَالُ وَسَهَّلَ الطُّرْطُوشِيُّ أَمْرَ هذا الْخِلَافِ فقال ليس خِلَافًا في مَعْنًى وَإِنَّمَا خِلَافٌ عَائِدٌ إلَى لُغَةٍ لِاتِّفَاقِهِمَا على وُجُودِ الْمَعْنَى في النَّفْسِ وَامْتِنَاعُ الْقَلَانِسِيِّ من تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى في الْأَزَلِ آمِرًا نَاهِيًا وَتَسْمِيَةِ كَلَامِهِ أَمْرًا وَنَهْيًا لم يَمْتَنِعْ من أَجْلِهِ أَنْ يَقُولَ إنَّ هذا الِاقْتِضَاءَ قَائِمٌ بِذَاتِ الْبَارِئِ تَعَالَى في الْأَزَلِ وَإِنَّمَا قال لَا أُطْلِقُ عليه آمِرًا وَلَا على كَلَامِهِ أَمْرًا حتى يَتَعَلَّقَ بِمُتَعَلَّقِهِ فَحِينَئِذٍ أُسَمِّيهِ آمِرًا من غَيْرِ أَنْ يَتَجَدَّدَ في الْقَدِيمِ شَيْءٌ وَهَذَا قَرِيبٌ وَعِنْدَ هذا نَقُولُ الْأَقْوَى أَنَّهُ يُطْلَقُ عليه آمِرٌ قبل التَّعْلِيقِ كما يُطْلَقُ عليه تَعَالَى قَادِرٌ قبل وُجُودِ الْمَقْدُورِ ا هـ وما ذَكَرْنَاهُ من أَنَّ الشَّيْخَ لم يُرِدْ تَنْجِيزَ التَّكْلِيفِ وَإِنَّمَا أَرَادَ قِيَامَ التَّعَلُّقِ الْعَقْلِيِّ وهو قِيَامُ الطَّلَبِ بِالذَّاتِ من الْمَعْدُومِ إذَا وُجِدَ صَرَّحَ بِهِ ابن الْحَاجِبِ أَيْضًا من الْمُتَأَخِّرِينَ وَنَازَعَهُ بَعْضُهُمْ وقال الْحَقُّ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ إنَّمَا أَرَادَ التَّنْجِيزَ وَالتَّعَلُّقُ عِنْدَهُ قَدِيمٌ وَلَا يَلْزَمُ من التَّنْجِيزِ تَكْلِيفُ الْمَعْدُومِ بِأَنْ يُوجَدَ الْفِعْلُ في حَالِ عَدَمِهِ بَلْ تَعَلَّقَ التَّكْلِيفُ بِهِ على صِفَةٍ وَهِيَ أَنَّهُ لَا يُوقِعُهُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِهِ وَاسْتِجْمَاعِ الشَّرَائِطِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَدَمَ التَّنْجِيزِ بَلْ التَّنْجِيزُ وَاقِعٌ وَهَذَا مَعْنَاهُ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَلْزَمُ كَوْنُهُ مَأْمُورًا في
____________________
(1/304)
الْعَدَمِ أَنْ يُوجَدَ في الْعَدَمِ فَقَدْ زَلَّ فإن إتْيَانَهُ بِهِ في الْعَدَمِ كما يَسْتَدْعِي الْإِمْكَانَ كَذَلِكَ يَسْتَدْعِي أَنْ يُؤْمَرَ بِهِ على هذا الْوَجْهِ وَالْأَمْرُ لم يَقَعْ كَذَلِكَ بَلْ على صِفَةِ أَنَّ الْفِعْلَ يَكُونُ بَعْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِ التي فيها الْوُجُوبُ وَأَقْرَبُ مِثَالٍ لِذَلِكَ الْوَكَالَةُ فإن تَعْلِيقَهَا بَاطِلٌ على الذَّهَبِ وَلَوْ نَجَّزَ الْوَكَالَةَ وَعَلَّقَ التَّصَرُّفَ على شَرْطٍ جَازَ وهو الْآنَ وَكِيلُ وَكَالَةٍ مُنَجَّزَةٍ وَلَكِنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ إلَّا على مُقْتَضَاهَا وهو وِجْدَانُ الشَّرْطِ الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ قالت إنَّهُ كان في الْأَزَلِ آمِرٌ من غَيْرِ مَأْمُورٍ ثُمَّ لَمَّا اسْتَمَرَّ وَبَقِيَ صَارَ الْمُكَلَّفُونَ بَعْدَ دُخُولِهِمْ في الْوُجُودِ مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ وَضَرَبُوا لِذَلِكَ مِثَالًا وهو أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا قَرُبَ مَوْتُهُ قبل وِلَادَةِ وَلَدِهِ فَرُبَّمَا يقول لِبَعْضِ الناس إذَا أَدْرَكْت وَلَدِي فَقُلْ له إنَّ أَبَاك كان يَأْمُرُك بِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ فَهَاهُنَا قد وُجِدَ الْآمِرُ وَالْمَأْمُورُ مَعْدُومٌ حتى لو بَقِيَ ذلك الْأَمْرُ إلَى أَوَانِ بُلُوغِ ذلك الصَّبِيِّ لَصَارَ مَأْمُورًا بِهِ قال صَاحِبُ التَّنْقِيحَاتِ وَفِيهِ بَحْثٌ إذْ الْكَلَامُ فِيمَا ليس هُنَاكَ مَأْمُورٌ وَلَا من يَنْهَى إلَيْهِ وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ على أَصْلِ الْأَشَاعِرَةِ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ إنَّمَا هو الْخَبَرُ وَالْخَبَرُ في الْأَزَلِ وَاحِدٌ لَكِنَّهُ يَخْتَلِفُ إضَافَتُهُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَبِحَسَبِ ذلك تَخْتَلِفُ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عليه كما في الْعِلْمِ فإنه صِفَةٌ وَاحِدَةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَعْلُومَاتِ وَلَعَلَّ الْأَشَاعِرَةَ إنَّمَا ذَهَبُوا إلَى انْحِصَارِ كَلَامِ اللَّهِ في الْخَبَرِ لِهَذَا الْغَرَضِ وَالْقَائِلُونَ بِجَوَازِ أَمْرِ الْمَعْدُومِ اخْتَلَفُوا كما قَالَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ فَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ قبل وُجُودِ الْمَأْمُورِ أَمْرُ إنْذَارٍ وَإِعْلَامٍ وَلَيْسَ بِأَمْرِ إيجَابٍ على الْحَقِيقَةِ وَذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إلَى أَنَّهُ أَمْرُ إيجَابٍ على شَرْطِ الْوُجُودِ فإن ما يَتَحَاشَى من الْإِيجَابِ يَلْزَمُ مِثْلُهُ في الْإِعْدَامِ وَكَمَا يَتَعَذَّرُ إلْزَامُ الْمَعْدُومِ شيئا يَتَعَذَّرُ إعْلَامُهُ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ عن بَعْضِ من لَا تَحْقِيقَ له أَنَّ الْأَمْرَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْدُومِ بِشَرْطِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَوْجُودٍ وَاحِدٍ فَصَاعِدًا ثُمَّ يَتَّبِعُهُ الْمَعْدُومُونَ على شَرْطِ الْوُجُودِ وَسُقُوطُ هذا وَاضِحٌ قُلْت وهو يُضَاهِي قَوْلَ الْفُقَهَاءِ يَصِحُّ الْوَقْفُ على الْمَعْدُومِ تَبَعًا لِمَوْجُودٍ كَوَقَفْتُ على وَلَدِي فُلَانٍ وَعَلَى من سَيُولَدُ لي وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَأَنْكَرُوا خِطَابَ الْمَعْدُومِ وَتَوَصَّلُوا بِزَعْمِهِمْ إلَى إبْطَالِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ وَعَلَى هذا فَهُمْ يَقُولُونَ إنَّ أَوَامِرَ الشَّرْعِ الْوَارِدَةِ في عَصْرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم تَخْتَصُّ بِالْمَوْجُودِينَ وَأَنَّ من بَعْدَهُمْ تَنَاوَلَهُ بِدَلِيلٍ وَحَكَى أبو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ في الْهِدَايَةِ عن الْغَزَالِيِّ وَأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ اخْتِيَارَ مَذْهَبِ
____________________
(1/305)
الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَعْدُومِينَ وَأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمَوْجُودِينَ قال وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ إذَا احْتَجَّ عَلَيْنَا بِأَمْرٍ أو خَبَرٍ يَلْزَمُنَا على الْحَدِّ الذي كان يَلْزَمُنَا لو كنا في عَصْرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مَوْجُودِينَ من غَيْرِ قِيَاسٍ إنْ قُلْنَا الْأَمْرُ يَتَنَاوَلُ الْمَعْدُومَ وَإِنْ قُلْنَا لَا يَتَنَاوَلُهُ فَيَحْتَاجُ إلَى قِيَاسٍ أو دَلِيلٍ آخَرَ لِإِلْحَاقِ الْمَوْجُودِ في هذا الزَّمَانِ بِالْمَوْجُودِ في ذلك الزَّمَانِ وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الشَّامِلِ مَذْهَبَ الشَّيْخِ وَأَشَارَ في الْبُرْهَانِ إلَى الْمَيْلِ إلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وقال الْقَاضِي وَعَلَى قَضِيَّةِ هذا الِاخْتِلَافِ اخْتَلَفَ الصَّائِرُونَ إلَى قِدَمِ كَلَامِ الرَّبِّ تَعَالَى وَأَنَّ كَلَامَهُ هل يَتَّصِفُ في أَزَلِهِ بِكَوْنِهِ أَمْرًا أو نَهْيًا أَمْ يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ هذا الْوَصْفِ على وُجُودِ الْمُكَلَّفِينَ وَتَوَفُّرِ شَرَائِطِ التَّكْلِيفِ فَمَنْ جَوَّزَ أَمْرَ الْمَعْدُومِ صَارَ إلَى أَنَّ كَلَامَ الرَّبِّ تَعَالَى لم يَزَلْ أَمْرًا وَمَنْ أَنْكَرَ ذلك جَعَلَ كَوْنَهُ أَمْرًا من الصِّفَاتِ الْآيِلَةِ إلَى الْفِعْلِ وَهَذَا كما أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يَتَّصِفْ في أَزَلِهِ بِكَوْنِهِ خَالِقًا فلما خَلَقَ وُصِفَ بِكَوْنِهِ خَالِقًا قال وَاَلَّذِي نَرْتَضِيهِ جَوَازُ أَمْرِ الْمَعْدُومِ على التَّحْقِيقِ بِشَرْطِ الْوُجُودِ وَأَنْكَرَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ قَاطِبَةً وقال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ الذي عليه أَصْحَابُنَا أَنَّ الْمَعْدُومَ مَأْمُورٌ وَنُقِلَ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِشَرْطِ الْوُجُودِ وهو قَوْلٌ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ الْخِطَابَ بَعْدَ الْوُجُودِ فَلَيْسَ أَمْرَ مَعْدُومٍ وَإِنْ أَرَادَ خِطَابَهُ حَالَةَ الْعَدَمِ فَذَلِكَ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْمَشْرُوطُ على الشَّرْطِ قال وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعُ أَصْلٍ عَظِيمٍ وهو إثْبَاتُ كَلَامِ النَّفْسِ لِلْبَارِئِ فَعِنْدَنَا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ أَبَدًا وهو يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ أَمْرًا وَنَهْيًا خَبَرًا وَاسْتِخْبَارًا فإذا ثَبَتَ هذا الْأَصْلُ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَمْرٌ لِلْمَعْدُومِ لِأَنَّ كَلَامَهُ في الْأَزَلِ اتَّصَفَ بِكَوْنِهِ أَمْرًا وَنَهْيًا وَنَحْنُ مَعْدُومُونَ إذْ ذَاكَ لَا مَحَالَةَ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَصَارُوا إلَى أَنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ حَادِثٌ بِخَلْقِهِ إذَا أَمَرَ أو نهى وهو عِبَارَةٌ عن الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ فَلَا أَمْرَ وَلَا نَهْيَ قبل الْمَأْمُورِ وَنُقِلَ عن الْقَلَانِسِيِّ من أَصْحَابِنَا أَنَّهُ قال الْبَارِئُ تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ قَدِيمٍ أَزَلِيٍّ قَائِمٍ بِذَاتِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا إلَّا أَنَّ كَلَامَهُ لَا يَتَّصِفُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ إلَّا إذَا أَمَرَ وَنَهَى وَدَخَلَ الْمُكَلَّفُونَ وَحَدَّثَ الْمُخَاطَبُونَ وهو قَوْلٌ بَاطِلٌ وقال الْمَازِرِيُّ من هذه الْمَسْأَلَةِ قالت الْمُعْتَزِلَةُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُمْ أَحَالُوا وُجُودَ أَمْرٍ وَلَا مَأْمُورَ ولم يَكُنْ مع اللَّهِ أَحَدٌ في
____________________
(1/306)
الْأَزَلِ حتى يَأْمُرَهُ وَيَنْهَاهُ فَيَسْتَحِيلُ حُصُولُ الْأَمْرِ لِاسْتِحَالَةِ الْكَلَامِ وَدُهِشَ لِهَذَا بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ من أَئِمَّتِنَا الْقَلَانِسِيُّ وَغَيْرِهِ حتى رَكِبَ مَرْكَبًا صَعْبًا فَأَنْكَرَ كَوْنَ كَلَامِ اللَّهِ في الْأَزَلِ أَمْرًا وَنَهْيًا وَوَعْدًا وَوَعِيدًا فَخَلَصَ بهذا من إلْزَامِهِمْ لِأَنَّهُ إذَا نَفَى الْأَمْرَ في الْأَزَلِ لم تَجِدْ الْمُعْتَزِلَةُ سَبِيلًا إلَى الطَّعْنِ على مَذْهَبِهِ في قِدَمِ الْقُرْآنِ لَكِنَّهُ اسْتَبْعَدَ أَمْرًا وَفَرَّ منه فَوَقَعَ في آخَرَ أَبْعَدَ منه لِأَنَّهُ أَثْبَتَ كَلَامَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ قَدِيمًا في الْأَزَلِ على غَيْرِ حَقَائِقِ الْكَلَامِ من كَوْنِهِ أَمْرًا وَنَهْيًا وَإِثْبَاتُ كَلَامٍ ليس بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ وَلَا خَبَرٍ وَلَا اسْتِخْبَارٍ إلَى غَيْرِ ذلك من أَقْسَامِ الْكَلَامِ غَيْرُ مَعْقُولٍ فَكَأَنَّ مُثْبَتَهُ لم يَثْبُتْ كَلَامًا وَإِنَّمَا أَثْبَتَ صِفَةً أُخْرَى غير كَلَامٍ فَالْحَاصِلُ صُعُوبَةُ هذه الْمَسْأَلَةِ فإنه إمَّا أَنْ يَنْشَأَ عنها نَفْيُ قِدَمِ الْكَلَامِ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَإِمَّا إثْبَاتُ قِدَمِ الْكَلَامِ وَفِيهِ إثْبَاتُ قِدَمِ الْخَلَائِقِ الْمَأْمُورِينَ أو إثْبَاتِ أَمْرٍ وَلَا مَأْمُورَ وَإِمَّا إثْبَاتُ كَلَامٍ قَدِيمٍ عَارَضَ حَقَائِقَ الْكَلَامِ فَأَمَّا شَيْخُ الْمَذْهَبِ الْأَشْعَرِيُّ فلم يَسْتَبْعِدْ إثْبَاتَ أَمْرٍ في الْأَزَلِ وَلَا مَأْمُورَ لِأَنَّا نَجِدُ من أَنْفُسِنَا أَمْرَ الْغَائِبِ وَإِنَّمَا يُتَوَجَّهُ عِنْدَ حُضُورِهِ وَأَجَابَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّ الذي نَجِدُهُ من أَنْفُسِنَا تَقْدِيرُ أَمْرٍ إذَا حَضَرَ لَا نَفْسَ الْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ وَكَلَامُ اللَّهِ وَأَوَامِرِهِ لَا يَصْلُحُ فيها التَّقْدِيرُ وَاسْتَدَلَّ شَيْخُنَا بِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَعْدُومَ يَأْمُرُ بِهِ تَقُولُ بِهِ زُرْنِي غَدًا وَبِأَنَّ الْخَلْقَ إلَى يَوْمِنَا لم يَزَالُوا مَأْمُورِينَ بِأَمْرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ثُمَّ قال الْمَازِرِيُّ وَالْحَقُّ في هذه الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا يَصْفُو بَعْدَ تَصَوُّرِ أَحْكَامِ التَّعَلُّقَاتِ وَمُتَعَلِّقَاتهَا وَصَرْفِ التَّعْيِينِ إلَى الْمُتَعَلِّقَاتِ لَا الْمُتَعَلِّقِ وهو من الْغَوَامِضِ وَأَهْلُ الْحَقِّ أَثْبَتُوا هذه التَّعَلُّقَاتِ أَزَلِيَّةً لِأَنَّ نَفْيَهَا عن الْبَارِي سُبْحَانَهُ في الْأَزَلِ مُحَالٌ وقال الْمُقْتَرَحُ في تَعْلِيقِهِ على الْبُرْهَانِ التَّقْدِيرُ هَاهُنَا ليس عَائِدًا إلَى الْبَارِي سُبْحَانَهُ فإن التَّقْدِيرَ حَادِثٌ وَيَسْتَحِيلُ قِيَامُ الْحَادِثِ بِذَاتِهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا هو عَائِدٌ إلَى الْمُكَلَّفِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُقَدِّرُ في نَفْسِهِ احْتِمَالُ وُجُودِ هذا الْمَعْدُومِ وَاحْتِمَالُ أَنْ لَا يُوجَدَ فَعَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ يَكُونُ مَأْمُورًا قال وَإِنْ صَدَّقْنَا وَحَقَّقْنَا قُلْنَا الْأَمْرُ لم يَتَعَلَّقْ بِالْمَعْدُومِ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ الْمُتَوَقَّعِ كما أَنَّ الْعِلْمَ الْأَزَلِيَّ يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ الذي سَيَكُونُ كَذَلِكَ الْمَطْلُوبُ الْأَزَلِيُّ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّكْلِيفِ الذي سَيَكُونُ فَالْأَمْرُ إذَنْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ أو يَتَعَلَّقُ الطَّلَبُ بِالْمَوْجُودِ بِالْمَعْدُومِ فإن نَفْيَ التَّنْجِيزِ يُشْعِرُ بِذَلِكَ
____________________
(1/307)
تَنْبِيهَانِ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ هذا الْخِلَافُ في أَنَّ الْمَأْمُورَ مَتَى يَصِيرُ مَأْمُورًا هل من الْأَزَلِ وَإِنْ كان مَعْدُومًا أو يَتَوَقَّفُ على وُجُودِهِ وَشُرُوطٍ أُخْرَى وَإِنْ كان أَنْشَأَ الْأَمْرَ مُتَقَدِّمًا يُضَاهِيهِ الْبَحْثُ في الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ الْحَنَفِيَّةُ يَقُولُونَ بِالتَّعْلِيقِ يَنْعَقِدُ سَبَبُهُ وَعِنْدَ الصِّفَةِ تَعَذَّرَ إنْشَاؤُهُ وَيُجْعَلُ كَالنَّازِلِ ذلك الْوَقْتِ وَغَيْرُهُمْ من الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَقُولُونَ إنَّ التَّعْلِيقَ الْمُتَقَدِّمَ هو الْعِلَّةُ فَيُؤَثِّرُ عِنْدَ وُجُودِ الصِّفَةِ هذا هو الصَّحِيحُ وَيَتَخَرَّجُ عليها أَنَّ الطَّبَقَةَ الثَّانِيَةَ من الْمَوْقُوفِ عليهم يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ هو كَذَلِكَ مَوْقُوفٌ عليهم الْآنَ وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ مَصْرِفُهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إنَّمَا يَصِيرُ مَوْقُوفًا عليه إذَا انْقَرَضَ من قَبْلِهِ وَلَعَلَّ خِلَافَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَأْتِي في ذلك وإذا قُلْنَا إنَّهُ مَوْقُوفُ عليهم في حَيَاةِ الطَّبَقَةِ الْأُولَى فَهَلْ نَقُولُ إنَّهُ من أَهْلِ الْوَقْفِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقَالَ بِهِ وهو الْأَظْهَرُ لِأَنَّ أَهْلَ الشَّيْءِ هو الْمُسْتَقِرُّ في اسْتِحْقَاقِهِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَأَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَكَذَلِكَ يقول إنَّ من شَرْطِ اسْمِ الْوَقْفَ الِاسْتِحْقَاقُ التَّنْبِيهُ الثَّانِي ليس بين هذه الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ لَا حُكْمَ لِلْأَشْيَاءِ قبل الشَّرْعِ تَنَاقُضٌ كما قد يَظُنُّ فإنه إنْ فَسَّرَ لَا حُكْمَ بِعَدَمِ الْعِلْمِ فَظَاهِرٌ وَإِنْ فَسَّرَ بِعَدَمِ الْحُكْمِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ دَالُّ الْحُكْمِ في الْأَزَلِ وَتَعَلُّقُهُ بِالْمُكَلَّفِ مَوْقُوفٌ على وُجُودِ بَعْثَةِ الرُّسُلِ عليهم السَّلَامُ فَمَعْنَى لَا حُكْمَ لِلْأَشْيَاءِ قبل الشَّرْعِ أَيْ لَا تَعَلُّقَ لِلْأَمْرِ فَلَا تَنَاقُضَ
____________________
(1/308)
سقط مسألة لا يشترط في المكلف الحرية وَلَا يشترط في المكلف الحرية ولا يُشْتَرَطُ في الْمُكَلَّفِ الْحُرِّيَّةُ بَلْ يُدَخِّلُ الْعَبِيدُ في الْخِطَابِ الْعَامِّ نحو يا أَيُّهَا الناس يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وهو كَالْحُرِّ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ على تَخْصِيصِ الْخِطَابِ بِالْأَحْرَارِ هذا هو الصَّحِيحُ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ في الْعُمُومِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَحُكْمُ من فيه جُزْءٌ من الرِّقِّ حُكْمُ الرَّقِيقِ قَالَهُ الْقَاضِي أبو الْمَعَالِي عَزِيزِي بن عبد الْمَلِكِ في كِتَابِ بَيَانِ الْبُرْهَانِ وَقَلَّ من صَرَّحَ بِهِ من الْأُصُولِيِّينَ قال في الْإِرْشَادِ وما يُشْتَرَطُ فيه الْمَالُ لَا يَدْخُلُ فيه لِعَدَمِ الْمِلْكِ مسألة دُخُولُ الذُّكُورِ في الْإِنَاثِ في الْخِطَابِ لَا يُشْتَرَطُ الذُّكُورِيَّةُ بَلْ الْخِطَابُ يَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ قال الْقَاضِي وَيَتَّبِعُ في ذلك وَضْعَ اللُّغَةِ فَإِنْ وَرَدَتْ لَفْظٌ تَخُصُّ الرِّجَالَ خَصَّصْنَا بِهِمْ فَإِنْ وُضِعَتْ شَرِكَةٌ حَمَلْنَاهَا على الِاشْتِرَاكِ سَيَأْتِي في الْعُمُومِ وَيَتَنَاوَلُ الْخُنْثَى لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ في نَفْسِ الْأَمْرِ عنهما ولم يَتَعَرَّضْ له الْأُصُولِيُّونَ مسألة تَكْلِيفُ الْجِنِّ وَلَا يُشْتَرَطُ في التَّكْلِيفِ الْإِنْسِيَّةُ بَلْ الْجِنُّ مُكَلَّفُونَ في الْجُمْلَةِ وقد وَقَعَ نِزَاعٌ بين الْمُتَأَخِّرِينَ في أَنَّ الْجِنَّ مُكَلَّفُونَ بِفُرُوعِ الدِّينِ فقال بَعْضُ مُحَقِّقِيهِمْ إنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بها في الْجُمْلَةِ لَكِنْ لَا على حَدِّ تَكْلِيفِ الْإِنْسِ بها لِأَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ الْإِنْسَ بِالْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ فَبِالضَّرُورَةِ يُخَالِفُونَهُمْ في بَعْضِ التَّكَالِيفِ مِثَالُهُ أَنَّ الْجِنَّ قد أُعْطِيَ بَعْضُهُمْ قُوَّةَ الطَّيَرَانِ في الْهَوَاءِ فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِقَصْدِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ لِلْحَجِّ طَائِرًا وَالْإِنْسَانُ لِعَدَمِ تِلْكَ الْقُوَّةِ لَا يُخَاطَبُ بِذَلِكَ هذا في طَرَفِ زِيَادَةِ تَكْلِيفِهِمْ على تَكْلِيفِ الْإِنْسِ فَكُلُّ تَكْلِيفِهِ يَتَعَلَّقُ بِخُصُوصِ طَبِيعَةِ الْإِنْسِ يَنْتَفِي في حَقِّ الْجِنِّ لِعَدَمِ تِلْكَ الْخُصُوصِيَّةِ فِيهِمْ وَالدَّلِيلُ على تَكْلِيفِ الْجِنِّ بِالْفُرُوعِ الْإِجْمَاعُ على أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أُرْسِلَ بِالْقُرْآنِ إلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَجَمِيعُ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ يَتَوَجَّهُ إلَى الْجِنْسَيْنِ وقد تَضْمَنَّ ذلك أَنَّ كُفَّارَ
____________________
(1/309)
الْإِنْسِ مُخَاطَبُونَ بها وَكَذَلِكَ كُفَّارُ الْجِنِّ الرُّكْنُ الرَّابِعُ الْمُكَلَّفُ بِهِ وَلَهُ شُرُوطٌ شُرُوطُ الْمُكَلَّفِ بِهِ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا من حَيْثُ هو يُمْكِنُ حُدُوثُهُ إذْ إيجَادُ الْمَوْجُودِ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْعَدَمَ الْأَصْلِيَّ إذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ أَثَرًا لِلْقُدْرَةِ ثَانِيهَا أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا بِكَسْبِ الْمُكَلَّفِ فَلَا يَصِحُّ أَمْرُ زَيْدٍ بِكِتَابَةِ عَمْرٍو وَلَا يَعْتَرِضُ على هذا بِإِلْزَامِ الْعَاقِلَةِ دِيَةَ خَطَأِ وَلِيِّهَا لِأَنَّ ذلك من بَابِ رَبْطِ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ ثَالِثُهَا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَالْمُخَالِفُ فيه أبو الْعَبَّاسِ بن سُرَيْجٍ قال الرَّافِعِيُّ في أَوَّلِ كِتَابِ الْفَرَائِضِ ذَهَبَ ابن سُرَيْجٍ إلَى أَنَّهُ كان يَجِبُ على الْمُحْتَضَرِ أَنْ يُوصِيَ لِكُلِّ أَحَدٍ من الْوَرَثَةِ بِمَا في عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى من الْفَرَائِضِ وكان من يُوَفَّقُ لِذَلِكَ مُصِيبًا وَمَنْ تَعَدَّاهُ مُخْطِئًا قال الْإِمَامُ وَهَذَا زَلَلٌ لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ في الشَّرَائِعِ فإنه تَكْلِيفٌ على عَمَائِهِ رَابِعُهَا أَنْ يَكُونَ بِالْفِعْلِ وَالْمُكَلَّفُ بِهِ في النَّهْيِ الْكَفُّ وَالْكَفُّ فِعْلُ الْإِنْسَانِ دَاخِلٌ تَحْتَ كَسْبِهِ يُؤْجَرُ عليه وَيُعَاقَبُ على تَرْكِهِ وقال بَعْضُهُمْ التَّرْكُ نَفْيٌ مَحْضٌ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ وَلَا الْكَسْبِ وهو ضَعِيفٌ وفي الحديث الصَّحِيحِ تَكُفُّ شَرَّكَ عن الناس فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ على نَفْسِكَ نعم لَا يَحْصُلُ الثَّوَابُ على الْكَفِّ إلَّا مع النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ دُونَ الْغَفْلَةِ وَالذُّهُولِ خَامِسُهَا أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا له على خِلَافٍ في هذا الشَّرْطِ وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ تَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ وَبَعْضُهُمْ تَرْجَمَهَا بِالتَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ وَلَا بُدَّ من تَحْقِيقِهَا فَنَقُولُ اعْلَمْ أَنَّ الْمَعْدُومَ إمَّا مُمْكِنٌ أو وَاجِبٌ أو مُمْتَنِعٌ فَالْمُمْكِنُ ما اسْتَوَتْ نِسْبَتُهُ إلَى الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فَيَحْتَاجُ في وُجُودِهِ إلَى مُرَجِّحٍ وَمُخَصِّصٍ وَالْوَاجِبُ ما تَرَجَّحَ وُجُودُهُ على عَدَمِهِ وَالْمُمْتَنِعُ ما تَرَجَّحَ عَدَمُهُ على وُجُودِهِ ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ من الْوَاجِبِ وَالْمُمْتَنِعِ إمَّا أَنْ
____________________
(1/310)
يَكُونَ وُجُوبُهُ أو امْتِنَاعُهُ لِذَاتِهِ أو لِغَيْرِهِ فَالْوَاجِبُ لَا لِذَاتِهِ ما تَوَقَّفَ وُجُودُهُ على سَبَبٍ خَارِجٍ عن ذَاتِهِ كَسَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ حَالَ وُجُودِهَا وَالْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ كَالْجَمْعِ بين الضِّدَّيْنِ وَالْمُمْتَنِعُ لِغَيْرِهِ كَتَعَلُّقِ الْعِلْمِ الْقَدِيمِ أَنَّ فُلَانًا يَمُوتُ كَافِرًا وهو أَمْثَالُ الْمَشْهُورِ في هذا الْبَابِ فَإِذَنْ الْمُحَالُ ضَرْبَانِ مُحَالٌ لِذَاتِهِ وَمُحَالٌ لِغَيْرِهِ وَالْخِلَافُ مَوْجُودٌ فِيهِمَا وَيُطْلِقُهُ الْأُصُولِيُّونَ وَالْمُتَكَلِّمُونَ على أَرْبَعَةِ مَعَانٍ أَحَدُهَا ما لَا يُعْقَلُ على حَالٍ وهو الْمُسْتَحِيلُ لِذَاتِهِ كَالْجَمْعِ بين الضِّدَّيْنِ وَقَلْبِ الْأَجْنَاسِ وَإِعْدَامِ الْقَدِيمِ وَإِيجَادِ الْمَوْجُودِ الثَّانِي على ما لَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدُورِ الْبَشَرِ وَإِنْ كان مُمْكِنًا في نَفْسِهِ كَخَلْقِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ فإنه لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ وَإِلَّا لَمَا أَدْرَكُوا من أَنْفُسِهِمْ عَجْزًا عنه الثَّالِثُ ما لَا يَقْدِرُ الْعِبَادُ عليه في الْعَادَةِ وَإِنْ كان من جِنْسِ مَقْدُورِهِمْ كَالطَّيَرَانِ في الْهَوَاءِ وَالْمَشْيِ على الْمَاءِ الرَّابِعُ على جِنْسِ الْمَقْدُورِ في الْعَادَةِ وَلَكِنْ لم يَخْلُقْ اللَّهُ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً عليه وَمِنْ هذا جَمِيعُ الطَّاعَاتِ التي لم تَقَعْ وَالْمَعَاصِي الْوَاقِعَةُ فإن اللَّهَ تَعَالَى لم يُقَدِّرْ الْعَاصِيَ على تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ وَلَا الْمُمْتَنِعَ من الطَّاعَةِ على فِعْلِهَا وَمِنْهُمْ من زَادَ قِسْمًا آخَرَ وهو تَكْلِيفُ الْقَاعِدِ الْقِيَامَ وَالْقَائِمِ الْقُعُودَ بِنَاءً على أَنَّ الْقُدْرَةَ مع الْفِعْلِ وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى عَدَمِ الْقُدْرَةِ إذَا عَلِمَتْ هذا فَالنَّظَرُ في شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ وَالثَّانِي الْوُقُوعُ جَوَازُ تَكْلِيفِ الْمُحَالِ أَمَّا الْجَوَازُ فَفِيهِ مَذَاهِبُ أَحَدُهَا وهو مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ جَوَازُهُ مُطْلَقًا قال ابن بَرْهَانٍ وهو قَوْلُ الْمُتَقَدِّمِينَ من أَصْحَابِنَا كَالْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَالشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الشَّامِلِ الذي مَالَ إلَيْهِ أَكْثَرُ أَجْوِبَةِ شَيْخِنَا وَارْتَضَاهُ الْمُحَصِّلُونَ من أَصْحَابِهِ أَنَّ تَكْلِيفَ الْمُحَالِ جَائِزٌ عَقْلًا وَكَذَلِكَ تَكْلِيفُ الشَّيْءِ مع تَقْدِيرِ الْمَنْعِ منه اسْتِمْرَارًا وفي بَعْضِ أَجْوِبَتِهِ لَا يُسَوِّغُ تَكْلِيفَ الْمُحَالِ كَجَمْعِ الضِّدَّيْنِ وَالْإِقْدَامِ على الْمَأْمُورِ بِهِ مع اسْتِمْرَارِ الْمَانِعِ منه وَمَعَ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ ثُمَّ لم يَصِرْ في مَنْعِهِ إلَى التَّقْبِيحِ الذي
____________________
(1/311)
ادَّعَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ فإن هذا الْأَصْلَ بَاطِلٌ عِنْدَنَا وقال الْإِرْشَادُ من صُوَرِ تَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ وَإِيقَاعُ ما يَخْرُجُ عن قَبِيلِ الْمَقْدُورَاتِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ جَائِزٌ عَقْلًا غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ ا هـ وقد نَصَّ الشَّيْخُ أبو الْحَسَنِ في كِتَابِ الْوَجِيزِ على الْجَوَازِ فإنه اسْتَدَلَّ على الْقَائِلِينَ بِاسْتِحَالَتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تُحَمِّلْنَا ما لَا طَاقَةَ لنا بِهِ فقال وَلَوْ كان ذلك مُحَالًا لَمَا اسْتَقَامَ الِابْتِهَالُ إلَى اللَّهِ بِدَفْعِهِ ا هـ يَعْنِي لَوْلَا جَوَازُهُ لَمَا اسْتَعَاذُوا منه إذْ الِاسْتِعَاذَةُ من مُحَالٍ مُحَالٌ وَالْخَصْمُ يَتَأَوَّلُهُ على ما فيه كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ ثُمَّ هِيَ مُعَارَضَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى في صَدْرِ الْآيَةِ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَحَاوَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ نَفْيَ هذا الْمَذْهَبِ عن الشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ وَزَعَمَ أَنَّ الذي جَوَّزَهُ وُرُودُ صِيغَةٍ مُضَاهِيَةٍ لِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَالْغَرَضُ منها تَعْجِيزُ وَتَبْيِينُ حُلُولِ الْعِقَابِ الذي لَا مَحِيصَ عنه وَلَيْسَ الْمُرَادُ طَلَبًا وَاقْتِضَاءً وَمَثَّلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حتى يَلِجَ الْجَمَلُ في سَمِّ الْخِيَاطِ فإن ظَاهِرَهُ تَعْلِيقُ الْخَلَاصِ من الْعِقَابِ بِانْسِلَاكِ الْجَمَلِ في سَمِّ الْخِيَاطِ وَلَيْسَ هو على الْحَقِيقَةِ تَعْلِيقًا وَإِنَّمَا هو إبْدَاءُ الْيَأْسِ من النَّجَاةِ وَيَدُلُّك على ذلك صَدْرُ الْآيَةِ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَهَذَا ما حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الشَّامِلِ عن وَالِدِهِ الشَّيْخِ أبي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ وَارْتَضَاهُ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ حَيْثُ قال في بَعْضِ الْأَجْوِبَةِ في هذه الْمَسْأَلَةِ الْمُرَادُ بِقَوْلِنَا التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ جَائِزٌ أَنَّهُ يَجُوزُ من اللَّهِ تَعَالَى الْأَمْرُ بِالْمُحَالِ لِذَاتِهِ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَصَوَّرُ الطَّاعَةَ مِنَّا في ذلك بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجُوزُ من اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَأْمُرَ بِأَمْرٍ نَعْجَزُ عنه قَطْعًا وَأَنَّهُ مَتَى أَمَرَنَا بِهِ حَصَلَ الْإِعْلَامُ بِنُزُولِ الْعِقَابِ لَكِنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ لَمَّا حَكَاهُ عن وَالِدِهِ قال وَفِيهِ نَظَرٌ وَذَلِكَ لم يَصِحَّ عَقْلًا تَسْمِيَةُ الطَّلَبِ من الْمُحَالِ لَزِمَ مِثْلُهُ وَتَكْلِيفُ من لَا قُدْرَةَ له على الْفِعْلِ وَإِنْ سَاغَ تَسْمِيَةُ ذلك طَلَبًا سَاغَ في تَكْلِيفِ الْمُحَالِ وَيُعْتَضَدُ ذلك بِأَصْلٍ عَظِيمٍ من أُصُولِنَا وهو أَنَّ التَّكْلِيفَ الصَّادِرَ ليس مَنِّ شَرْطِ ثُبُوتِهِ كَوْنُ الْمُكَلَّفِ مُرِيدًا لِوُقُوعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَإِنَّمَا يَسْتَحِيلُ إرَادَةُ وُقُوعِ الْمُحَالِ وَأَمَّا طَلَبُهُ مع انْتِفَاءِ إرَادَةِ امْتِنَاعِهِ فَلَا اسْتِحَالَةَ فيه وَالثَّانِي الْمَنْعُ مُطْلَقًا وهو الْمَنْقُولُ عن الْمُعْتَزِلَةِ قال ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ وَسَاعَدَهُمْ أبو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ قُلْت وَالشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ وَنَقَلَهُ في الْمُرْشِدِ عن كَثِيرٍ من أَئِمَّتِنَا وَمِنْ الْأَقْدَمِينَ أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ في كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْإِعْلَامِ وهو ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه في الْأُمِّ فإنه قال يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ النبي
____________________
(1/312)
صلى اللَّهُ عليه وسلم فَأْتُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ أَنَّ عَلَيْكُمْ إتْيَانَ الْأَمْرِ فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ لِأَنَّ الناس إنَّمَا كُلِّفُوا فِيمَا اسْتَطَاعُوا من الْفِعْلِ اسْتِطَاعَةَ شَيْءٍ لِأَنَّهُ شَيْءٌ مُكَلَّفٌ وَأَمَّا النَّهْيُ فَالتُّرْكُ لِكُلِّ ما أَرَادَ تَرْكَهُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّهُ ليس بِتَكْلِيفِ شَيْءٍ يَحْدُثُ إنَّمَا هو شَيْءٌ مُتَكَلَّفٌ عنه ا هـ لَفْظُهُ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَلَيْسَ مَأْخَذُ الْمَانِعِينَ من الْأَصْحَابِ التَّقْبِيحُ الْعَقْلِيُّ كما صَارَ إلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ بَلْ مَأْخَذُهُمْ أَنَّ الْفِعْلَ وَالتَّرْكَ لَا يَصِحَّانِ من الْعَاجِزِ فَبَطَلَ تَقْدِيرُ الْوُجُوبِ وَعَلَى هذا إنَّمَا كُلِّفَ أبو لَهَبٍ بِأَنْ يُصَدِّقَ بِأَنْ لَا يَصْدُقَ بَلْ كُلِّفَ أَنْ يُصَدِّقَ وَلَوْ صَدَّقَ لَكَانَ مِمَّنْ لَا يَصْدُقُ لِقَوْلِهِ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ أَيْ إنْ لم يُؤْمِنْ وَخِلَافُ الْمَعْلُومِ مَقْدُورٌ فَلَا يُمْكِنُ تَكْلِيفُ الْعَاجِزِ وَالثَّالِثُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ فَلَا يَجُوزُ أو لِغَيْرِهِ فَيَجُوزُ وَنُقِلَ عن مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَنَقَلَهُ عن مَيْلِ الْغَزَالِيِّ وقد رَأَيْت في الْإِحْيَاءِ له التَّصْرِيحُ بِالْجَوَازِ وقال خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَحِينَئِذٍ فَقَدْ وَجَدَ له الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ وَلِذَلِكَ قال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بن دَقِيقِ الْعِيدِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ الْمُخْتَارُ امْتِنَاعُ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ وَاَلَّذِي يَمْنَعُهُ الْمُحَالُ بِنَفْسِهِ وَإِيمَانُ أبي لَهَبٍ مُمْكِنٌ في نَفْسِهِ مُسْتَحِيلٌ لِتَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِعَدَمِهِ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا في ما مَنَعْنَاهُ هذا كَلَامُهُ وَغَلَطَ من نُقِلَ عنه الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ التَّكْلِيفُ بِالْمَحَالِ فَإِنْ وَرَدَ لَا نُسَمِّيهِ تَكْلِيفًا بَلْ عَلَامَةً نَصَبَهَا اللَّهُ على عَذَابِ من كَلَّفَهُ بِذَلِكَ قال ابن بَرْهَانٍ وَالْخِلَافُ على هذا لَفْظِيٌّ وَعَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ مَعْنَوِيٌّ وقال في الْوَجِيزِ إذَا قُلْنَا بِالْجَوَازِ فَاخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ من مَنَعَ تَسْمِيَتَهُ تَكْلِيفًا وَإِلَيْهِ مَالَ الْأُسْتَاذُ وَالْأَكْثَرُونَ من أَصْحَابِنَا على تَسْمِيَتِهِ تَكْلِيفًا وُقُوعُ التَّكَلُّفِ بِالْمُحَالِ وَأَمَّا الْوُقُوعُ السَّمْعِيُّ فَاخْتَلَفُوا فيه وَالْجُمْهُورُ على عَدَمِ وُقُوعِهِ وَقِيلَ إنَّ
____________________
(1/313)
الْأُسْتَاذَ حَكَى فيه الْإِجْمَاعَ قال الْإِمَامُ في الشَّامِلِ وَإِلَيْهِ صَارَ الدَّهْمَاءُ من الْأَئِمَّةِ وَعَلَيْهِ جُلُّ الْفُقَهَاءِ قَاطِبَةً وَصَارَ كَثِيرٌ من الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى وُقُوعِهِ وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ بين الْمُمْتَنِعِ لِذَاتِهِ كَقَلْبِ الْحَقَائِقِ مع بَقَاءِ الْحَقِيقَةِ الْأُولَى فَيُمْتَنَعُ وَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ لِغَيْرِهِ فَيَجُوزُ وهو ظَاهِرُ اخْتِيَارِ الْإِمَامِ في الشَّامِلِ وَقِيلَ وَقَعَ في حَقِّ الْكُفَّارِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ حَكَاهُ ابن الْقُشَيْرِيّ عن الْقَاضِي أبي جَعْفَرِ بن السَّمْنَانِيِّ وَاضْطَرَبَ النَّاقِلُونَ عن الْأَشْعَرِيَّةِ فَمِنْهُمْ من نَقَلَ عنه أَنَّهُ وَاقِعٌ وهو ما نَقَلَهُ في الْإِرْشَادِ وَأَنَّهُ احْتَجَّ لِلْوُقُوعِ الشَّرْعِيِّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ أَبَا جَهْلٍ أَنْ يُصَدِّقَهُ وَيُؤْمِنَ بِهِ في جَمِيعِ ما يُخْبِرُ عنه وَمِمَّا أَخْبَرَ عنه أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ فَقَدْ أَمَرَهُ بِأَنْ يُصَدِّقَهُ بِأَنَّهُ لَا يُصَدِّقُهُ وَذَلِكَ جَمَعَ بين النَّقِيضَيْنِ ا هـ وَكَذَلِكَ نَقَلَهُ الْآمِدِيُّ في الْإِحْكَامِ وَمِنْهُمْ من نَقَلَ الْوَقْفَ وهو ما ذَكَرَهُ في الشَّامِلِ وَمِنْهُمْ من نُقِلَ عنه أَنَّهُ لم يَقَعْ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَأَتْبَاعُهُ كَابْنِ الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيِّ وَابْنِ بَرْهَانٍ وهو غَلَطٌ عليه بَلْ التَّكَالِيفُ بِأَسْرِهَا عِنْدَهُ لِغَيْرِ الْمُمْكِنِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَا يَقَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْعَبْدُ إذَنْ مُخَاطَبٌ بِمَا ليس إلَيْهِ إيقَاعُهُ ثُمَّ قال وَلَا مَعْنًى لِلتَّمْوِيهِ بِالْكَسْبِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّكْلِيفَ بِفِعْلِ الْغَيْرِ تَكْلِيفُ ما لَا يُطَاقُ وَثَانِيهِمَا أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ عِنْدَهُ مع الْفِعْلِ وَالتَّكْلِيفُ بِهِ يَتَوَجَّهُ قبل وُقُوعِهِ وهو إذْ ذَاكَ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّكْلِيفَ بِالْفِعْلِ حَالَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ تَكْلِيفُ ما لَا يُطَاقُ ثُمَّ اعْتَرَضَ على هذا الْوَجْهِ وقال الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن ضِدِّهِ وهو مُتَلَبِّسٌ بِهِ حَالَ الْخِطَابِ وَأَجَابَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن ضِدِّهِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّ الْقُدْرَةَ لم تُقَارِنْ الْفِعْلَ وَإِنْ قَارَنَتْ الضِّدَّ قال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَهُمَا ضَعِيفَانِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا هو على رَأْيِ الشَّيْخِ لَا على رَأْيِهِ وهو يَرَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن ضِدِّهِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ فيه تَسْلِيمًا أَنَّ بَعْضَ التَّكَالِيفِ تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ لَا كُلِّهِ وهو مَقْصُودُ الْمَسَائِلِ وَنَقِيضُ مَقْصُودِهِ بَلْ الْجَوَابُ عنه أَنَّ ما هو مُتَلَبِّسٌ بِهِ عِنْدَ وُرُودِ الْخِطَابِ ليس ضِدًّا له وَهَذَا لِأَنَّ ضِدَّهُ الْوُجُودِيُّ الْمَنْهِيُّ عنه وهو يَسْتَلْزِمُ التَّلَبُّسَ بِهِ تَرْكُهُ في الزَّمَانِ الذي أَمَرَ بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ فيه وهو في زَمَانِ وُرُودِ الْخِطَابِ لم يَتَلَبَّسْ بِهِ
____________________
(1/314)
لِأَنَّ زَمَانَ الْفِعْلِ هو الزَّمَانُ الثَّانِي إنْ كان الْأَمْرُ لِلْفَوْرِ سَلَّمْنَا أَنَّ ذلك ضِدُّهُ الْمَنْهِيُّ عنه لَكِنَّهُ حَاصِلٌ عِنْدَ وُرُودِ الْخِطَابِ وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ الْحَاصِلِ مُحَالٌ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَرْكِ ما هو مُتَلَبِّسٌ بِهِ في الْمُسْتَقْبَلِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِإِقْدَامِهِ على الْمَأْمُورِ بِهِ وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ ثُمَّ قال وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ الثَّانِيَ غَيْرُ لَازِمٍ على الشَّيْخِ لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ وَإِنْ كانت مع الْفِعْلِ لَكِنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ ليس قَبْلَهُ عِنْدَهُ على ما أَشْعَرَ بِهِ نَقَلَ الْإِمَامُ فَإِنْ صَحَّ هذا من مَذْهَبِهِ كان التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ غَيْرُ لَازِمٍ عليه من هذا الْوَجْهِ وقال غَيْرُهُ تَكْلِيفُهُ قبل وُقُوعِ الْفِعْلِ لَا يَدُلُّ على وُقُوعِ تَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ تُمَكِّنُ من إيجَادِ الْفِعْلِ وَالِاسْتِدْلَالُ على فَسَادٍ سَبَقَهَا الْفِعْلُ أنها عَرَضٌ فَلَوْ بَقِيَتْ لَزِمَ بَقَاءُ الْأَعْرَاضِ وهو مَمْنُوعٌ ثُمَّ الشَّرْعُ يَدُلُّ على سَبْقِ اسْتِطَاعَةِ الْفِعْلِ بِأَنَّا لَا نَحْكُمُ بها قبل الشُّرُوعِ في الْفِعْلِ كما في الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِمَا وقال الْمَازِرِيُّ لم يَغْلَطْ الْقَوْمُ في نَقْلِ مَذْهَبِ الرَّجُلِ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ إنَّ الْأَشْعَرِيَّ أَجَازَ تَكْلِيفَ ما لَا يُطَاقُ أَيْ في الْحَالِ لَا في الِاسْتِقْبَالِ وما يَكُونُ إيقَاعُهُ من قَبِيلِ الْمُحَالِ وَلَوْ قُيِّدَ إطْلَاقُهُ بهذا لم يَتَعَقَّبْ عليهم نَقْلُهُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ أَخْذَ مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ من ذلك ليس بِلَازِمٍ لِأَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ ليس بِمَذْهَبٍ على الصَّحِيحِ وَكَلَامُ الْأَشْعَرِيِّ مُصَرِّحٌ بِوُقُوعِ الْمُمْتَنِعِ لِغَيْرِهِ وَالِاضْطِرَابُ في النَّقْلِ عنه إنَّمَا هو في الْمُمْتَنِعِ لِذَاتِهِ وقد صَرَّحَ الشَّيْخُ في كِتَابِ الْإِيجَازِ بِأَنَّ تَكْلِيفَ الْعَاجِزِ الذي لَا يَقْدِرُ على شَيْءٍ أَصْلًا وَتَكْلِيفَ الْمُحَالِ الذي لَا يَقْدِرُ عليه الْمُكَلَّفُ صَحِيحٌ وَجَائِزٌ ثُمَّ قال وقد وُجِدَ تَكْلِيفُ اللَّهِ الْعِبَادَ بِمَا هو مُحَالٌ لَا يَصِحُّ وُجُودُهُ خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِقَضِيَّةِ أبي لَهَبٍ وَبِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ على أَنَّ الْكَافِرَ مُكَلَّفٌ بِالْإِيمَانِ وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ بِالْوُقُوعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بين النِّسَاءِ مع الْإِجْمَاعِ على أَنَّ الْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ وَاجِبٌ وَوَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَفَى الْقُدْرَةَ عن الِاسْتِطَاعَةِ وَمُقْتَضَى هذا الْخَبَرِ الصَّادِقِ أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ على ذلك مع تَكْلِيفِهِ بِمَا لَا قُدْرَةَ له عليه نَقَلَهُ الْإِمَامُ في تَفْسِيرِهِ وَقُصَارَى ما تَمَسَّكَ بِهِ الْمُجَوِّزُونَ ظَوَاهِرُ لَا تُفْضِي إلَى الْقَطْعِ وَلَيْسَ الِامْتِنَاعُ فيها من حَيْثُ الْعَقْلِ بَلْ من حَيْثُ الْعِلْمِ وقد ذَهَبَ قَوْمٌ منهم الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ إلَى أَنَّ الْمُمْتَنِعَ لِتَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ لَا يُسَمَّى مُسْتَحِيلًا لِأَنَّهُ في ذَاتِهِ جَائِزُ الْوُقُوفِ
____________________
(1/315)
فَوَائِدُ الْأُولَى التَّكْلِيفُ بِمَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ نَقَلَ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ الْإِجْمَاعَ على صِحَّةِ التَّكْلِيفِ عَقْلًا بِمَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ وهو مَمْنُوعٌ فإن بُرْهَانٍ قال إنَّ جَمَاعَةً من أَصْحَابِنَا صَارُوا إلَى أَنَّ ذلك لَا يُسَمَّى تَكْلِيفًا فإن اللَّهَ تَعَالَى كَلَّفَ الْكُفَّارَ بِالْإِيمَانِ وَلَا قُدْرَةَ لهم على الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا مع الْفِعْلِ وَأَيْضًا فإن الْخِلَافَ السَّابِقَ في التَّكْلِيفِ بِفِعْلٍ مَشْرُوطٍ عَلِمَ الْآمِرُ انْتِفَاءَ وُقُوعِهِ يَجْرِي هُنَا كما صَرَّحَ بِهِ أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ فقال قال قَاضِي الْقُضَاةِ يَعْنِي عَبْدَ الْجَبَّارِ لم يَخْتَلِفُوا في أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْرِدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُكَلَّفَ الْوَاحِدَ بِالْأَمْرِ بِالْفِعْلِ وهو يَعْلَمُ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ منه قال ولم يَخْتَلِفُوا في أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ من يَعْلَمُ أَنَّهُ يَمُوتُ أو يَعْجَزُ بِشَرْطِ أَنْ يَبْقَى وَيَقْدِرَ انْتَهَى وَأَيْضًا فَقَدْ حَكَى الْإِبْيَارِيُّ وَغَيْرُهُ خِلَافًا في أَنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ هل هو مُسْتَحِيلٌ لِذَاتِهِ أو لِغَيْرِهِ فَعَلَى الثَّانِي يَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِهِ وَعَلَى الْأَوَّلِ يَجِيءُ فيه الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ في التَّكْلِيفِ بِهِ وقال الْمَازِرِيُّ من عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ فَقَدْ صَارَ إيمَانُهُ كَالْمُمْتَنِعِ إيقَاعُهُ لِأَنَّهُ لو وَقَعَ لَخَالَفَ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَمُخَالَفَةُ عِلْمِهِ لَا تَصِحُّ وَلَكِنَّ هذا الِامْتِنَاعَ ليس رَاجِعًا إلَى عَدَمِ الْإِمْكَانِ من نَاحِيَةِ الْفِعْلِ بَلْ هو مُمْكِنٌ في نَفْسِهِ وَعِلْمُ اللَّهِ لَا يَصِيرُ الْمُمْكِنُ غير مُمْكِنٍ فَبَقِيَ على إمْكَانِهِ وَإِنْ تَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ الْإِيمَانُ في حَقِّهِمْ كَالْمَعْجُوزِ عنه الْمُسْتَحِيلِ لِأَجْلِ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ لِمَا تَقَرَّرَ في عِلْمِ الْكَلَامِ أَنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ مَقْدُورٌ على الصَّحِيحِ من الْقَوْلَيْنِ قُلْت وَيَدُلُّ له قَوْله تَعَالَى بَلَى قَادِرِينَ على أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ قَادِرٌ على ما عَلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ وَكَذَا قَوْلُهُ أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ على أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا مع الْفِعْلِ الثَّانِيَةُ كَيْفَ يَطْلُبُ اللَّهُ من عِبَادِهِ ما يُخَالِفُ عِلْمَهُ اسْتَشْكَلَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ تَوْجِيهَ الْجَوَازِ فقال إذَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ بَعْضَ الْخَلْقِ أو أَكْثَرَهُمْ لَا يُطِيعُونَ وَلَا يَمْتَثِلُونَ فَكَيْفَ يَطْلُبُ منهم ما يُخَالِفُ عِلْمَهُ فَعَلَى هذا فَقَدْ كَلَّفَهُمْ
____________________
(1/316)
بِمَا لَا يُطِيقُونَ لِأَنَّ ما عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فَوَاجِبٌ لَازِمٌ أَنْ لَا يَكُونَ وما عَلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ وَأَجَابَ بِأَنْ أَحْسَنَ ما قِيلَ فيه أَنَّ تَوْجِيهَ الْخِطَابِ لِلْأَشْقِيَاءِ الَّذِينَ لَا يَمْتَثِلُونَ ما أُمِرُوا بِهِ وَلَا يَجْتَنِبُونَ ما نُهُوا عنه ليس طَلَبًا على الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا هو عَلَامَةٌ وُضِعَتْ على شَقَاوَتِهِمْ وَأَمَارَةٌ نُصِبَتْ على تَعْذِيبِهِمْ إذْ لَا يَبْعُدُ في كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُعَبَّرَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عن الْخَبَرِ قُلْت وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ حَكَاهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن وَالِدِهِ وَزَيَّفَهَا وابن بَرْهَانٍ عن الْأُسْتَاذِ كما سَبَقَ وَاسْتَأْنَسَ لها ابن عَطِيَّةَ بِتَكْلِيفِ الْمُصَوِّرِ يوم الْقِيَامَةِ أَنْ يَعْقِدَ شَعِيرَةً الحديث الثَّالِثَةُ اسْتِحَالَةُ وُرُودِ الْأَمْرِ بِالْكُفْرِ قال الْإِمَامُ في الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ يَسْتَحِيلُ وُرُودُ الْأَمْرِ بِالْكُفْرِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مع الْعِلْمِ بِاَللَّهِ الْأَمْرُ بِالْجَهْلِ بِهِ فَهُوَ من قَبِيلِ جَمْعِ الضِّدَّيْنِ الرَّابِعَةُ التَّكْلِيفُ بِالْمُمْكِنِ الْمَشْرُوطِ مُسْتَحِيلٌ اخْتَلَفُوا في أَنَّهُ هل يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ بِالْمُمْكِنِ مَشْرُوطٌ بِشَرْطٍ مُسْتَحِيلٍ أَمْ لَا أَمَّا الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ جَوَازِ تَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ فَاتَّفَقُوا على الْمَنْعِ هَاهُنَا وَأَمَّا الْمُجَوِّزُونَ فَاخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ من جَوَّزَهُ كما يَجُوزُ تَعَلُّقُ الْأَمْرِ بِنَفْسِ الْمُسْتَحِيلِ وَمِنْهُمْ من مَنَعَهُ لِتَهَافُتِ الصِّيغَةِ وَأَنَّهُ إذَا قِيلَ إنْ تَحَرَّكَ زَيْدٌ في حَالِ سُكُونِهِ فَقُمْ فإنه يُؤَوَّلُ إلَى
____________________
(1/317)
أَنَّ ذلك لَا يَكُونُ فَلَا يَقُمْ فَسَلَبَ من صِيغَةِ الْأَمْرِ مَعْنَى الِاقْتِضَاءِ الْخَامِسَةُ تَأْقِيتُ الْعِبَادَةِ بِوَقْتٍ لَا يَسَعُهَا لَا يَجُوزُ تَأْقِيتُ الْعِبَادَةِ بِوَقْتٍ لَا يَسَعُهَا إنْ مَنَعْنَا تَكْلِيفَ الْمُسْتَحِيلِ وَأَمَّا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ من أَدْرَكَ من أَصْحَابِ الضَّرُورَاتِ قَدْرَ رَكْعَةٍ من آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ لَزِمَتْهُ فلم يُرِيدُوا بِهِ وُجُوبَ الْأَدَاءِ بَلْ الْقَضَاءِ قَالَهُ الْإِمَامُ في التَّلْخِيصِ السَّادِسَةُ الْفَرْقُ بين تَكْلِيفِ الْمُحَالِ وَالتَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ فَرْقٌ بين تَكْلِيفِ الْمُحَالِ وَالتَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ فَتَكْلِيفُ الْمُحَالِ أَنْ يَرْجِعَ الْخَلَلُ إلَى الْمَأْمُورِ بِهِ وهو مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَأَمَّا التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ فَهُوَ أَنْ يَرْجِعَ الْخَلَلُ إلَى الْمَأْمُورِ نَفْسِهِ كَتَكْلِيفِ الْمَيِّتِ وَالْجَمَادِ وَالْبَهَائِمِ فَلَا يَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِالْإِجْمَاعِ قَالَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ عِنْدَ الْكَلَامِ على ما لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ السَّابِعَةُ تَكَرَّرَ في كَلَامِهِمْ في هذه الْمَسْأَلَةِ التَّمَسُّكُ بِقَضِيَّةِ أبي لَهَبٍ وَأَبِي جَهْلٍ وقال الْمَازِرِيُّ إنَّمَا خَصَّ الْأُصُولِيُّونَ ذِكْرَ أبي لَهَبٍ بِذَلِكَ مع أَنَّ سَائِرَ الْكُفَّارِ مِمَّنْ لم يُؤْمِنْ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فيه أَمْرَانِ عِلْمُ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَخَبَرُهُ بِذَلِكَ فَلِهَذَا أَكْثَرُ اسْتِدْلَالِهِمْ بِذَلِكَ وَأَمَّا غَيْرُهُ من الْكُفَّارِ كَأَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ فَقَدْ صَارَ إيمَانُهُ كَالْمُمْتَنِعِ إيقَاعُهُ لِأَنَّهُ لو وَقَعَ لَخَالَفَ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَنَاقَشَ الْقَرَافِيُّ في التَّمْثِيلِ بِأَبِي لَهَبٍ وقال إنَّمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِعَدَمِ إيمَانِهِ من قَوْله تَعَالَى تَبَّتْ يَدَا أبي لَهَبٍ وَتَبَّ وَلَا دَلِيلَ فيه لِأَنَّ التَّبَّ هو الْخُسْرَانُ وقد يَخْسَرُ الْإِنْسَانُ وَيَدْخُلُ النَّارَ وهو مُؤْمِنٌ لِمَعَاصِيهِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عليهم أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لم تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَمَخْصُوصَةٌ وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ ابن الْمُنِيرِ في تَفْسِيرِهِ صِحَّتَهَا وقال هذا لَا يَثْبُتُ وَلَا يُوجَدُ في الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَلَا في الْخَبَرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ لَا يُؤْمِنُ وَكَلَّفَهُ بِالْإِيمَانِ بِأَنْ لَا يُؤْمِنَ وقال إنَّمَا يَنْبَغِي التَّمْثِيلُ بِقَضِيَّةِ ثَعْلَبَةَ فإنه عَاهَدَ اللَّهَ إنْ وَسَّعَ عليه لِيَتَصَدَّقَ فلما أَعْطَاهُ اللَّهُ وَجَاءَهُ مُصَدِّقُ رَسُولِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَطْلُبُ منه الزَّكَاةَ امْتَنَعَ
____________________
(1/318)
وقال ما هذه إلَّا وَالْجِزْيَةُ سَوَاءٌ فَرَجَعَ الْمُصَدِّقُ إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَخْبَرَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَمِنْهُمْ من عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا من فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ من الصَّالِحِينَ فلما آتَاهُمْ من فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا في قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ قال فَهَذَا الذي نَبْغِي أَنْ يُمَثِّلَ بها التَّكْلِيفُ بِخِلَافِ الْمَعْلُومِ مع انْكِشَافِ الْعَاقِبَةِ لِثُبُوتِهَا في الْكِتَابِ الْعَزِيزِ قال وقد عَلِمْت اخْتِلَافَ الْأُصُولِيِّينَ هل يَسْتَمِرُّ التَّكْلِيفُ مع كَشْفِ الْعَاقِبَةِ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ من جِنْسِ الْمُمْكِنِ أو لَا يَسْتَمِرُّ نَظَرًا إلَى ما يَخْلُصُ من الْجَمْعِ بين الضِّدَّيْنِ أو نَقُولُ كما قال الْإِمَامُ إنَّ اللَّهَ كَلَّفَ هَؤُلَاءِ بِالْإِيمَانِ على الْإِطْلَاقِ ولم يُكَلِّفْهُمْ الْإِيمَانَ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ وهو مُخْلِصٌ ضَعِيفٌ فإنه إذَا كَلَّفَهُمْ على الْعُمُومِ أَنْ يُصَدِّقُوا بِكُلِّ خَبَرٍ وَمِنْ جُمْلَةِ هذا الْعُمُومِ الْخَبَرُ بِأَنَّهُمْ لَا يَصْدُقُونَ عَادَ الْإِشْكَالُ وَالتَّحْقِيقُ الْتِزَامُ رَفْعِ التَّكْلِيفِ عن هَؤُلَاءِ وَيَقْدِرُ أَحَدُهُمْ عِنْدَ إخْبَارِ اللَّهِ عنه بِأَنْ يُؤْمِنَ أَبَدًا في عَدَدِ الْأَمْوَاتِ الَّذِينَ يَئِسَ منهم وَانْقَطَعَ التَّكْلِيفُ في حَقِّهِمْ نِقْمَةً عليهم لَا رَحْمَةً بِهِمْ ا هـ وهو قَوْلٌ عَجِيبٌ وَأَقْرَبُ منه ما سَبَقَ عن الْأُسْتَاذِ وَالْجُوَيْنِيِّ وَابْنِ عبد السَّلَامِ وَقَوْلُهُ إنَّهَا نَزَلَتْ في ثَعْلَبَةَ قد أَنْكَرَهُ ابن عبد الْبَرِّ فقال في كِتَابِهِ الْمَغَازِي وقد عُدَّ ثَعْلَبَةُ بن حَاطِبٍ فِيمَنْ شَهِدَ بَدْرًا قال وَيُعَارِضُهُ قَوْله تَعَالَى فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا في قُلُوبِهِمْ الْآيَةَ ثُمَّ قال وَلَعَلَّ قَوْلَ من قال في ثَعْلَبَةَ إنَّهُ مَانِعُ الزَّكَاةِ الذي نَزَلَتْ فيه الْآيَةُ غَيْرُ صَحِيحٍ مَسْأَلَةٌ ثُبُوتُ الْوُجُوبِ في الذِّمَّةِ لَا يُشْتَرَطْ فيه الْإِمْكَانُ سَبَقَ في الْكَلَامِ الْوُجُوبُ أَنَّ الْوُجُوبَ الْمُتَوَقِّفَ على الْإِمْكَانِ هو وُجُوبُ الْأَدَاءِ أَمَّا ثُبُوتُ الْوُجُوبِ في الذِّمَّةِ فَلَا يُشْتَرَطُ فيه الْإِمْكَانُ بَلْ يُبْنَى على السَّبَبِ فإذا وُجِدَ سَبَبُهُ ثَبَتَ حُكْمُهُ وَتَرْجَمَ بَعْضُهُمْ هُنَا التَّمَكُّنَ من الْفِعْلِ هل هو شَرْطٌ في إلْزَامِ الْأَمْرِ قال ابن الْعَرَبِيِّ في الْمَحْصُولِ ذَهَبَ أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ إلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ ثَبَتَ في ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ قبل التَّمَكُّنِ من الْفِعْلِ وقد فَاوَضْت في ذلك عُلَمَاءَهُ فقال لي شَيْخَا مَذْهَبِهِ في ذلك الْوَقْتِ
____________________
(1/319)
أبو الْوَفَا ابن عَقِيلٍ وأبو سَعِيدٍ الْبَرْجَانِيُّ إنَّ الْمَسْأَلَةَ صَحِيحَةٌ في مَذْهَبِنَا في إلْزَامِ الْمُغْمَى عليه قَضَاءَ ما فَاتَهُ من الصَّلَاةِ في حَالِ إغْمَائِهِ قال وَهَذَا كُلُّهُ في الْأَمْرِ أَمَّا النَّهْيُ فَإِنْ كان عن تَرْكٍ فَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ التَّمَكُّنُ وَإِنْ كان عن فِعْلٍ لم يَكُنْ لِاشْتِرَاطِ التَّمَكُّنِ مَعْنًى لِأَنَّ التَّرْكَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى التَّمَكُّنِ وَإِلَى هذا الْمَعْنَى أَشَارَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِقَوْلِهِ إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ وإذا نَهَيْتُكُمْ عن شَيْءٍ فَاحْذَرُوهُ فَشَرَطَ الِاسْتِطَاعَةَ في الْأَمْرِ وَأَطْلَقَ الْقَوْلَ في النَّهْيِ تَنْبِيهًا على هذا الْمَعْنَى مَسْأَلَةٌ خِطَابُ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ سَبَقَ أَنَّ حُصُولَ الشَّرْطِ الْعَقْلِيِّ من التَّمَكُّنِ وَالْفَهْمِ وَنَحْوِهِمَا شَرْطٌ في صِحَّةِ التَّكْلِيفِ أَمَّا حُصُولُ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ فَلَا يُشْتَرَطُ في صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالْمَشْرُوطِ خِلَافًا لِأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَهِيَ مَفْرُوضَةٌ في تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ وَإِنْ كانت أَعَمَّ منه وَمِنْهُمْ من عَبَّرَ عنها بِأَنَّهُ هل يُشْتَرَطُ التَّكْلِيفُ في الْإِمْكَانِ في الْجُمْلَةِ وهو قَوْلُنَا أو الْإِمْكَانُ نَاجِزًا وهو وَقَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا على ما قَبْلَهُ أو لَا فَإِنْ كان غير مُرَتَّبٍ وَهِيَ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ فَهُمْ مُكَلَّفُونَ بها إجْمَاعًا وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ كما قَالَهُ الْقَاضِي تَصْدِيقُ الرُّسُلِ وَعَدَمُ تَكْذِيبِهِمْ وَالْكَفُّ عن قَتْلِهِمْ وَقِتَالِهِمْ ا هـ مع أَنَّ الْكَفَّ عن قِتَالِهِمْ من الْفُرُوعِ وَحَكَى الْمَازِرِيُّ عن قَوْمٍ من الْمُبْتَدَعَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْمَعَارِفِ قال وَاخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ من رَآهَا ضَرُورِيَّةً فَلِهَذَا لم يُؤْمَرُوا بها وَمِنْهُمْ من رَآهَا كَسْبِيَّةً وَلَكِنَّهُ مَنَعَ الْخِطَابَ لِمَا يُذْكَرُ في غَيْرِ هذا الْفَنِّ ا هـ وَتَرَدَّدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ في كَلِمَتَيْ الشَّهَادَةِ هل هِيَ من الْفُرُوعِ حتى لَا يُكَلَّفُوا بها على قَوْلٍ لِأَنَّ الْإِيمَانَ هو التَّصْدِيقُ وَالشَّهَادَةُ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ وَمُقَدَّمَاتُ الْإِيمَانِ كَالنَّظَرِ هل هِيَ مُلْحَقَةٌ بِالْإِيمَانِ حتى تَكُونَ وَاجِبَةً عليه أو يَأْتِي فيه الْخِلَافُ في مُقَدَّمَةِ الْوَاجِبِ فيه نَظَرٌ وَإِنْ كان مُرَتَّبًا على ما قَبْلَهُ وَهِيَ فُرُوعُ الشَّرِيعَةِ فَالْكَلَامُ في الْجَوَازِ وَالْوُقُوعِ
____________________
(1/320)
جَوَازُ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ عَقْلًا أَمَّا الْجَوَازُ عَقْلًا فَمَحَلُّ وِفَاقٍ كما قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَمُرَادُهُ وِفَاقُ أَصْحَابِنَا وَإِلَّا فَقَدْ نُقِلَ عن ابْنِ بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ عن عبد الْجَبَّارِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَاطِبُوا عَقْلًا بِالْفُرُوعِ وَحَكَاهُ صَاحِبُ كِفَايَةِ الْفُحُولِ في عِلْمِ الْأُصُولِ من الْحَنَفِيَّةِ فقال أَجَازَهُ عَقْلًا قَوْمٌ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ جَوَازُ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ شَرْعًا أَمَّا شَرْعًا فَفِيهِ مَذَاهِبُ أَحَدُهَا أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بها مُطْلَقًا في الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي بِشَرْطِ تَقَدُّمِ الْإِيمَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ما سَلَكَكُمْ في سَقَرٍ الْآيَاتِ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ قَوْمَ شُعَيْبٍ بِالْكُفْرِ وَنَقْصِ الْمِكْيَالِ وَقَوْمَ لُوطٍ بِالْكُفْرِ وَإِتْيَانِ الذُّكُورِ وَذَمَّ عَادًا قَوْمَ هُودٍ بِالْكُفْرِ وَشِدَّةِ الْبَطْشِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وإذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ وَنَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ في مَوَاضِعَ منها تَحْرِيمُ ثَمَنِ الْخَمْرِ عليهم وقال في الْأُمِّ في بَابِ حَجِّ الصَّبِيِّ يَبْلُغُ وَالْمَمْلُوكِ يُعْتَقُ وَالذِّمِّيِّ يُسْلِمُ فِيمَا إذَا أَهَلَّ كَافِرٌ بِحَجٍّ ثُمَّ جَامَعَ ثُمَّ أَسْلَمَ قبل عَرَفَةَ فَجَدَّدَ إحْرَامًا وَأَرَاقَ دَمًا لِتَرْكِ الْمِيقَاتِ أَجْزَأَتْهُ عن حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُفْسِدًا في حَالِ الشِّرْكِ لِأَنَّهُ كان غير مُحْرِمٍ قال فَإِنْ قال قَائِلٌ فإذا زَعَمْت أَنَّهُ كان في إحْرَامِهِ غير مُحْرِمٍ أَفَكَانَ الْفَرْضُ عنه مَوْضُوعًا قِيلَ لَا بَلْ كان عليه وَعَلَى كل وَاحِدٍ أَنْ يُؤْمِنَ بِاَللَّهِ عز وجل وَرَسُولِهِ وَيُؤَدِّي الْفَرَائِضَ التي أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى على نَبِيِّهِ غير أَنَّ السُّنَّةَ تَدُلُّ وما لم أَعْلَمْ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفُوا فيه أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ أَسْلَمَ ائْتَنَفَ الْفَرَائِضَ من يَوْمِ أَسْلَمَ ولم يُؤْمَرْ بِإِعَادَةِ ما فَرَّطَ فيه في الشِّرْكِ منها وَأَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ ما قَبْلَهُ إذَا أَسْلَمَ ثُمَّ اسْتَقَامَ هذا لَفْظُهُ وهو قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا كما حَكَاهُ الْقَاضِيَانِ الطَّبَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالْحَلِيمِيُّ وقال في الْمِنْهَاجِ إنَّهُ مُفَرَّعٌ على قَوْلِنَا إنَّ الطَّاعَاتِ من الْإِيمَانِ قال وقد وَرَدَ في الحديث أَنَّ رَجُلًا قال يا رَسُولَ اللَّهِ أَيُؤَاخِذُ اللَّهُ أَحَدًا بِمَا عَمِلَ في الْجَاهِلِيَّةِ قال من أَحْسَنَ في الْإِسْلَامِ لم يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ في الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ أَسَاءَ في الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ قال وَهَذَا يَدُلُّ على الْمُؤَاخَذَةِ بِالنَّوَاهِي إذَا يُحْسِنُ في الْإِسْلَامِ
____________________
(1/321)
لِانْتِفَاءِ ما يُحْبِطُهَا بِخِلَافِ من أَسْلَمَ وَأَحْسَنَ فإن إسْلَامَهُ يُحْبِطُ كُفْرَهُ وَحَسَنَاتِهِ تُحْبِطُ سَيِّئَاتِهِ وَمُجَرَّدُ الْإِسْلَامِ لَا يُنَافِي الْمَعَاصِيَ لِجَوَازِ صُدُورِهَا من السَّلَمِ فَلَا يَكُونُ مُحْبِطًا لها ا هـ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وأبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَكَذَلِكَ نَقَلُوهُ عن أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ في أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عنه وهو مَحْكِيٌّ عن الْكَرْخِيِّ وَالْجَصَّاصِ من الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا وقال أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ إنَّهُ قَوْلُ أَهْلِ الْكَلَامِ وَمَذْهَبُ عَامَّةِ مَشَايِخِ أَهْلِ الْعِرَاقِ من الْحَنَفِيَّةِ لِأَنَّ الْكُفْرَ رَأْسُ الْمَعَاصِي فَلَا يَسْتَفِيدُ بِهِ سُقُوطُ الْخِطَابِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ بِالْفُرُوعِ وهو قَوْلُ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ وَبِهِ قال عبد الْجَبَّارِ من الْمُعْتَزِلَةِ وَالشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ من أَصْحَابِنَا كما رَأَيْته في كِتَابِهِ عِبَارَتُهُ إنَّهُ هو الصَّحِيحُ عِنْدِي وَوَقَعَ في الْمُنْتَخَبِ نِسْبَتُهُ لِأَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وهو غَلَطٌ فإن أَبَا إِسْحَاقَ يقول بِتَكْلِيفِهِمْ كما نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عنه في أَوَّلِ كِتَابِ الْجِرَاحِ وهو كَذَلِكَ مَوْجُودٌ في كِتَابِهِ في الْأُصُولِ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عليه قال وَالصَّحِيحُ من مَذْهَبِهِ ما بَدَأْنَا بِهِ ا هـ وقال الْإِبْيَارِيُّ إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ قُلْت اخْتَارَهُ ابن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ الْمَالِكِيُّ وقال في كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْجَامِعِ إنَّهُ الذي يَأْتِي عليه مَسَائِلُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ طَلَاقُهُمْ وَلَا أَيْمَانُهُمْ وَلَا يَجْرِي عليهم حُكْمٌ من الْأَحْكَامِ وزاد حتى قال إنَّهُمْ إنَّمَا يَقْطَعُونَ في السَّرِقَةِ وَيَقْتُلُونَ في الْحِرَابَةِ من بَابِ الدَّفْعِ فَهُوَ تَعْزِيرٌ لَا حَدٌّ لِأَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا وَلَيْسَتْ هذه كَفَّارَاتٌ وزاد فقال إنَّ الْمُحَدِّثَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالصَّلَاةِ إلَّا بَعْدَ فِعْلِ الطَّهَارَةِ وَاسْتَدَلَّ على ذلك من كَلَامِ مَالِكٍ رضي اللَّهُ عنه بِقَوْلِهِ في الْحَائِضِ إنَّهَا تَنْتَظِرُ ما بَقِيَ من الْوَقْتِ بَعْدَ غَسْلِهَا وَفَرَاغِهَا من الْأَمْرِ اللَّازِمِ وقال أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ ليس عن أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ في هذه الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ من فُرُوعِهِمْ وقد ذَكَرَ محمد بن الْحَسَنِ أَنَّ من نَذَرَ الصَّوْمَ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ لم يَلْزَمْهُ قَضَاؤُهُ لِأَنَّ الشِّرْكَ أَبْطَلَ كُلَّ عِبَادَةٍ وَإِنَّمَا أَرَادَ وُجُوبُهَا لِأَنَّهُ لم يُؤَدِّهِ بَعْدُ قال ولم أَرَ لِهَذَا الْمَذْهَبِ حُجَّةٌ يُعْتَمَدُ عليها وقد تَفَكَّرْت في ذلك فلم أَجِدْ إلَّا أَنَّ الْكَافِرَ ليس بِأَهْلٍ لِلْعِبَادَةِ لِأَنَّهُ لَا يُثَابُ كما لم يَجْعَلْ الْعَبْدَ أَهْلًا لِمِلْكِ الْمَالِ فلما لم يَكُنْ من أَهْلِ الْمِلْكِ لم يَكُنْ من أَهْلِ الْخِطَابِ وقال الْعَالِمُ من الْحَنَفِيَّةِ لم يُنْقَلْ عن ثِقَةٍ من أَصْحَابِنَا نَصٌّ في الْمَسْأَلَةِ لَكِنَّ
____________________
(1/322)
الْمُتَأَخِّرِينَ منهم خَرَجُوا على تَفْرِيعَاتِهِمْ فإن مُحَمَّدًا قال إنَّ الْكَافِرَ إذَا دخل مَكَّةَ فَأَسْلَمَ وَأَحْرَمَ لم يَكُنْ عليه دَمٌ لِتَرْكِ الْمِيقَاتِ لِأَنَّهُ لم يَكُنْ عليه وَلَوْ كان لِلْكَافِرِ عَبْدٌ مُسْلِمٌ لَا تَجِبُ عليه صَدَقَةُ فِطْرِهِ وَيَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ وَطْءُ زَوْجَتِهِ النَّصْرَانِيَّةِ إذَا خَرَجَتْ من الْحَيْضِ لِعَادَتِهَا دُونَ الْعَشَرَةِ قبل أَنْ تَغْتَسِلَ وَيَمْضِي عليها وَقْتُ صَلَاةٍ لِأَنَّهُ ليس عليهم وقال السَّرَخْسِيُّ لَا خِلَافَ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَمَّا في الْعِبَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخِرَةِ كَذَلِكَ أَمَّا في حَقِّ وُجُوبِ الْأَدَاءِ في الدُّنْيَا فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ فَذَهَبَ الْعِرَاقِيُّونَ من مَشَايِخِنَا إلَى أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ لِأَنَّهُ لو لم تَجِبْ لم يُؤَاخَذُوا على تَرْكِهَا قال وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لم يَنُصَّ عليها أَصْحَابُنَا لَكِنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ اسْتَدَلُّوا من مَسَائِلِهِمْ على هذا وَعَلَى الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ فإن الْمُرْتَدَّ إذَا أَسْلَمَ لَا يَجِبُ عليه قَضَاءُ صَلَوَاتِ الرِّدَّةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَدَلَّ على أَنَّ الْمُرْتَدَّ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالصَّلَاةِ عِنْدَنَا ثُمَّ ضَعُفَ الِاسْتِدْلَال قال وَمِنْهُمْ من جَعَلَ هذه الْمَسْأَلَةَ فَرْعًا لِأَصْلٍ مَعْرُوفٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَنَّ الشَّرَائِعَ عِنْدَهُ من نَفْسِ الْإِيمَانِ وَهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ فَيُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ وَعِنْدَنَا لَيْسَتْ من نَفْسِ الْإِيمَانِ فَلَا يُخَاطَبُونَ بِأَدَائِهَا ما لم يُؤْمِنُوا وَهَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْعُقُوبَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَلَيْسَ ذلك من الْإِيمَانِ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ انْقَسَمُوا فَمِنْهُمْ من صَارَ إلَى اسْتِحَالَةِ تَكْلِيفِهِمْ عَقْلًا وَمِنْهُمْ من لم يَحِلَّهُ وَلَكِنَّهُمْ مع الْجَوَازِ لم يُكَلَّفُوا وقال الْقَاضِي أَقْطَعُ بِالْجَوَازِ وَلَا أَقْطَعُ بِأَنَّ هذا الْجَائِزَ وَقَعَ وَلَكِنْ يَغْلِبُ على الظَّنِّ وُقُوعُهُ وَالثَّالِثُ أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِالنَّوَاهِي دُونَ الْأَوَامِرِ لِأَنَّ الِانْتِهَاءَ مُمْكِنٌ في حَالَةَ الْكُفْرِ وَلَا يُشْتَرَطُ فيه التَّقَرُّبُ فَجَازَ التَّكَلُّفُ بها دُونَ الْأَوَامِرِ فإن شَرْطَهَا الْعَزِيمَةُ وَفِعْلُ التَّقْرِيبِ مع الْجَهْلِ بِالْمُقَرَّبِ إلَيْهِ مُحَالٌ فَامْتُنِعَ التَّكْلِيفُ بها وَحَكَى النَّوَوِيُّ هذه الثَّلَاثَةَ في التَّحْقِيقِ أَوْجُهًا لِلْأَصْحَابِ وَسَبَقَ حِكَايَةُ الْأُسْتَاذِ وَابْنِ كَجٍّ الْأَوَّلَيْنِ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَعَلَّلَهُ الشَّيْخُ أبو الْمَعَالِي عَزِيزِيُّ بن عبد الْمَلِكِ في كِتَابِ بَيَانِ الْبُرْهَانِ بِأَنَّ الْعُقُوبَاتِ تَقَعُ عليهم في فِعْلِ الْمَنْهِيَّاتِ دُونَ تَرْكِ الْمَأْمُورَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ على تَرْكِ الْإِيمَانِ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ وَيُحَدُّ في الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَيُقْطَعُ في السَّرِقَةِ وَلَا يُؤْمَرُ بِقَضَاءِ شَيْءٍ من الْعِبَادَاتِ وَإِنْ فَعَلَهَا في كُفْرِهِ لم تَصِحَّ منه وَنَقَلَهُ صَاحِبُ اللُّبَابِ من الْحَنَفِيَّةِ عن أبي حَنِيفَةَ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ
____________________
(1/323)
تَكْلِيفُ الْكُفَّارِ بِالنَّوَاهِي وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ في تَكْلِيفِهِمْ بِالنَّوَاهِي وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في تَكْلِيفِهِمْ بِالْأَوَامِرِ قَالَهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ في كِتَابِهِ الْأُصُولِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ في أَوَّلِ كِتَابِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ من تَعْلِيقِهِ قال وَأَمَّا الْمَعَاصِي فَمَنْهِيُّونَ عنها بِلَا خِلَافٍ بين الْمُسْلِمِينَ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ جَيِّدَةٌ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ في كِتَابِهِ في الْأُصُولِ لَا خِلَافَ أَنَّ خِطَابَ الزَّوَاجِرِ من الزِّنَا وَالْقَذْفِ يَتَوَجَّهُ على الْكُفَّارِ كما يَتَوَجَّهُ على الْمُسْلِمِينَ ا هـ وَهَذَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ فِيمَا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عن الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ فِيمَا إذَا قَتَلَ الْحَرْبِيُّ مُسْلِمًا أو أَتْلَفَ عليه مَالًا ثَمَّ أَسْلَمَ أَنَّهُ يَجِبُ ضَمَانُهَا إذَا قُلْنَا إنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْفُرُوعِ قال وَذَكَرَ الْعَبَّادِيُّ أَنَّهُ يُعْزَى ذلك أَيْضًا لِلْمُزَنِيِّ في الْمَنْثُورِ وقال الْمَازِرِيُّ لَا وَجْهَ لِهَذَا التَّفْضِيلِ لِأَنَّ النَّهْيَ في الْحَقِيقَةِ أَمْرٌ وَكَأَنَّهُمْ قالوا إنَّ التُّرُوكَ لَا تَفْتَقِرُ إلَى تَصَوُّرٍ بِخِلَافِ الْفِعْلِ وَالرَّابِعُ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْأَوَامِرِ فَقَطْ حَكَاهُ ابن الْمُرَحَّلِ في الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ وَلَعَلَّهُ انْقَلَبَ مِمَّا قَبْلَهُ وَيَرُدُّهُ الْإِجْمَاعُ السَّابِقُ على تَكْلِيفِهِمْ بِالنَّوَاهِي وَالْخَامِسُ أَنَّ الْمُرْتَدَّ مُكَلَّفٌ دُونَ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ حَكَاهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ وَالطُّرْطُوشِيُّ في الْعُمْدَةِ لِالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَلَا مَعْنًى لِهَذَا التَّفْصِيلِ لِأَنَّ مَأْخَذَ النَّقِيِّ فِيهِمَا سَوَاءٌ وهو جَهْلُهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمُقْتَضَى هذا أَنَّ الْخِلَافَ يَطْرُقُ الْأَصْلَ وَالْمُرْتَدَّ لَكِنْ ظَاهِرُ عِبَارَةِ الْإِمَامِ في الْمَحْصُولِ أَنَّ الْخِلَافَ لَا يَطْرُقُ الْمُرْتَدُّ وَالْأَشْبَهُ الْأَوَّلُ وَلِهَذَا نَقَلَ الْأَصْحَابُ عن الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الرِّدَّةَ تُسْقِطُ الْأَعْمَالَ السَّابِقَةَ وَتَمْنَعُ الْوُجُوبَ في الْحَالِ وَلِهَذَا قالوا إنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَقْضِي صَلَاةَ أَيَّامِ رِدَّتِهِ وَعِنْدَنَا تَلْزَمُهُ وقال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في تَعْلِيقِهِ يُمْكِنُ بِنَا الْخِلَافُ في إحْبَاطِ الرِّدَّةِ الْأَعْمَالُ على أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ أَمْ لَا فَإِنْ قِيلَ لو سَاوَى الْمُرْتَدُّ الْأَصْلِيُّ لم يَجِبْ عليه قَضَاءُ أَيَّامِ رِدَّتِهِ قُلْت إنَّمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ على الْمُرْتَدِّ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ بِخُرُوجِهِ منه لَا يَسْقُطُ بِخِلَافِ الْأَصْلِيِّ وقد قال الشَّافِعِيُّ في الزَّكَاةِ على الْمُرْتَدِّ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا يَجِبُ وَالثَّانِي مَوْقُوفٌ قال ابن أبي هُرَيْرَةَ وهو نَظِيرُ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ كما إذَا أَسْلَمَ يُزَكِّي فَكَذَا إذَا أَسْلَمَ يُصَلِّي وَالسَّادِسُ أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِمَا عَدَا الْجِهَادَ أَمَّا الْجِهَادُ فَلَا لِامْتِنَاعِ قِتَالِهِمْ
____________________
(1/324)
أَنْفُسِهِمْ حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ قال وَلَا أَعْرِفُ أَيْنَ وَجَدْته قُلْت صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ فقال وَالذِّمِّيُّ ليس مُخَاطَبًا بِقِتَالِ الْكُفَّارِ وَكَذَا قال الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ السِّيَرِ الذِّمِّيُّ ليس من أَهْلِ فَرْضِ الْجِهَادِ وَلِهَذَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ الْإِمَامُ على الْجِهَادِ لَا يَبْلُغُ بِهِ سَهْمُ رَاجِلٍ على أَحَدَ الْوَجْهَيْنِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ نعم يَجُوزُ لِلْإِمَامِ اسْتِئْجَارُهُ على الْجِهَادِ على الْأَصَحِّ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّهُ غَيْرُ فَرْضٍ عليه وَإِلَّا لَمَا جَازَ كما لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْمُسْلِمِ عليه السَّابِعُ الْوَقْفُ حَكَاهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في تَقْرِيبِهِ عن بَعْضِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ عن الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْمَدَارِكِ عُزِيَ إلَى الشَّافِعِيِّ تَرْدِيدُ الْقَوْلِ في خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ وَنَصُّهُ في الرِّسَالَةِ الْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بها قُلْت وقد يَخْرُجُ من تَصَرُّفِ الْأَصْحَابِ في الْفُرُوعِ مَذْهَبٌ ثَامِنٌ وهو التَّفْصِيلُ بين الْحَرْبِيِّ فَلَيْسَ بِمُكَلَّفٍ دُونَ غَيْرِهِ وَلِهَذَا يَقُولُونَ في الْقِصَاصِ وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِ ذلك لَا يَجِبُ حَدُّهَا على الْحَرْبِيِّ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ الْأَحْكَامَ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ وَحَكَى الطُّرْطُوشِيُّ في الْعُمْدَةِ أَنَّ الْوَاقِفِيَّةَ من عُلَمَائِهِمْ وَافَقُوا على كَوْنِهِمْ مُخَاطَبِينَ إلَّا أَنَّهُمْ قالوا إنَّ دُخُولَهُمْ في الْخِطَابِ لم يَكُنْ بِظَوَاهِرِهَا وَإِنَّمَا دَخَلُوهَا بِدَلِيلٍ ا هـ وَبِهِ يَخْرُجُ مَذْهَبٌ تَاسِعٌ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ الصَّائِرُونَ إلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ لَا يَدْعُونَ ذلك عَقْلًا وُجُوبًا بَلْ يُجَوِّزُونَ في حُكْمِ الْعَقْلِ خُرُوجَهُمْ عن التَّكْلِيفِ في أَحْكَامِ الشَّرْعِ كَيْفَ وقد أُخْرِجَ كَالْحَائِضِ عن الْتِزَامِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ تَكْلِيفَهُمْ سَائِغٌ عَقْلًا وَتَرْكُ تَكْلِيفِهِمْ جَائِزٌ عَقْلًا غير أَنَّ في أَدِلَّةِ السَّمْعِ ما يَقْتَضِي تَكْلِيفَهُمْ وَأَمَّا الَّذِينَ صَارُوا إلَى مَنْعِ تَكْلِيفِهِمْ فَاخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ من صَارَ إلَى اسْتِحَالَتِهِ وَمِنْهُمْ من جَوَّزَهُ عَقْلًا وَمَنَعَ إبْطَالَ أَدِلَّةِ السَّمْعِ بِهِمْ تَنْبِيهَاتٌ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ اسْتِحَالَةُ مُخَاطَبَةِ الْكَافِرِ بِإِنْشَاءِ فَرْعٍ على الصِّحَّةِ في تَحْقِيقِ مَقَالَةِ أَصْحَابِنَا قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ التَّحْقِيقُ أَنَّ الْكَافِرَ مُسْتَحِيلٌ أَنْ يُخَاطَبَ بِإِنْشَاءِ فَرْعٍ على الصِّحَّةِ وَكَذَا الْمُحْدِثُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُخَاطَبَ بِإِنْشَاءِ الصَّلَاةِ الصَّحِيحَةِ مع بَقَاءِ الْحَدَثِ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ مُخَاطَبُونَ بِالتَّوَصُّلِ إلَى ما يَقَعُ آخِرًا وَلَا يَتَنَجَّزُ
____________________
(1/325)
الْأَمْرُ عليهم بِإِيقَاعِ الْمَشْرُوطِ قبل وُقُوعِ الشَّرْطِ وَلَكِنْ إذَا مَضَى من الزَّمَانِ ما يَسَعُ الشَّرْطَ وَالْمَشْرُوطَ وَالْأَوَائِلَ وَالْأَوَاخِرَ فَلَا يَمْنَعُ أَنْ يُعَاقَبَ الْمُمْتَنِعُ على حُكْمِ التَّكْلِيفِ مُعَاقَبَةَ من يُخَالِفُ أَمْرًا نُوجِبُهُ عليه نَاجِزًا فَمَنْ أَبَى ذلك قَضَى عليه قَاطِعُ الْعَقْلِ بِالْفَسَادِ وَمَنْ جَوَّزَ تَنَجُّزَ الْخِطَابِ بِإِيقَاعِ الْمَشْرُوطِ قبل وُقُوعِ الشَّرْطِ فَقَدْ سَوَّغَ تَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ بين الْفُرُوعِ وَأَوَاخِرِ الْعَقَائِدِ وَبَيْنَ صَلَاةِ الْمُحْدِثِ فَهُوَ مُبْطِلٌ مُطْلَقًا وقال في كِتَابِ الْفَرَائِضِ من النِّهَايَةِ من زَعَمَ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ أَرَادَ رَبْطَ الْمَأْثَمِ بِهِمْ في دَرْئِهِمْ بِالشَّرْعِ الْمُشْتَمِلِ على تَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ ولم يَتَعَرَّضُوا لِاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ على كل مُحَرَّمٍ في الشَّرْعِ اقْتَحَمُوهُ وَكُلِّ وَاجِبٍ تَرَكُوهُ فَأَمَّا ما يَتَعَلَّقُ بِهِمْ بِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَشَرَائِطِهَا فَلَا سَبِيلَ إلَى الْتِزَامِهَا انْتَهَى وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِهِمْ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ كَيْفَ يُكَلَّفُونَ بِمَا لو فَعَلُوهُ لَمَا صَحَّ وَلِأَنَّهُ تَكْلِيفُ ما لَا يُطَاقُ وَالصَّوَابُ أَنْ نَقُولَ مُكَلَّفُونَ بِالتَّوَصُّلِ إلَى الْفُرُوعِ بِهِ وَتَقَدُّمِ الْأَصْلِ فإذا مَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُ فيه تَحْصِيلُ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ أَثِمُوا عليها مَعًا كَالْمُحْدِثِ على تَرْكِ الصَّلَاةِ وَهَذَا نَافِعٌ في الْجَمْعِ بين إطْلَاقِ أَصْحَابِنَا في الْأُصُولِ التَّكْلِيفَ وفي الْفُرُوعِ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ لَا تَجِبُ على الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ ولم يَزَلْ هذا الْإِشْكَالُ يَدُورُ في النَّفْسِ وَجَمَعَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّ مُرَادَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ بها في الدُّنْيَا مع كُفْرِهِمْ فإذا أَسْلَمَ أَحَدُهُمْ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْمَاضِي ولم يَتَعَرَّضُوا لِعُقُوبَةِ الْآخِرَةِ وَمُرَادُ الْأُصُولِيِّينَ الْعِقَابُ الْأُخْرَوِيُّ زِيَادَةٌ على عِقَابِ الْكُفْرِ ولم يَتَعَرَّضُوا لِلْمُطَالَبَةِ في الدُّنْيَا وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ فَاسِدَةٌ أَوْقَعَهُمْ فيها قَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ فَائِدَتُهُ مُضَاعَفَةُ الْعِقَابِ في الْآخِرَةِ وهو صَحِيحٌ ولم يُرِيدُوا بِهِ أَنَّهُ لَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ في خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ إلَّا في الْآخِرَةِ بَلْ هو جَوَابٌ عَمَّا الْتَزَمَ الْخَصْمُ في مَسَائِلَ خَاصَّةٍ لَا تَظْهَرُ لِلْخِلَافِ فيها فَائِدَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ كَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا وَذَلِكَ الْأَمْرُ الْخَاصُّ وَلَا يَسْتَلْزِمُ من ذلك عَدَمُ الْفَائِدَةِ مُطْلَقًا فإن الْفُقَهَاءَ فَرَّعُوا على هذا الْخِلَافِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً تَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا وما ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ في الْجَمْعِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ التَّخْرِيجُ أَصْلًا لِلتَّصْرِيحِ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا غَيْرُ مُرَادِ ثَمَّ
____________________
(1/326)
التَّنْبِيهُ الثَّانِي هل يُخَاطَبُ الْكَافِرُ بِالْفُرُوعِ زَعَمَ الشَّيْخَانِ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ في كِتَابِهِ وأبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ اللُّمَعِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ في بَابِ السِّيَرِ من النِّهَايَةِ وَوَالِدُهُ الشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ في الْفُرُوقِ وأبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ وَالْإِمَامُ في الْمَحْصُولِ وَغَيْرُهُمْ هل الْخِلَافُ إنَّمَا يَظْهَرُ في اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ لِأَجْلِ إخْلَالِهِ بِالشَّرْعِيَّاتِ أَمْ لَا لِلِاتِّفَاقِ على أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْفِعْلُ حَالَ الْكُفْرِ على أَنْ يَكُونَ قَضَاءً منه لِكُفْرِهِ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْقَضَاءُ إذَا أَسْلَمَ وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ أَيْضًا عن الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى فقال فَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّ من قال بِالْخِطَابِ قال يَسْتَحِقُّونَ الذَّمَّ مِنَّا وَالْعِقَابَ منه تَعَالَى على الْإِخْلَالِ بها كما يَسْتَحِقُّونَ ذلك بِالْإِخْلَالِ بِالْإِيمَانِ وَمَنْ قال لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ ذلك على الْإِخْلَالِ بِالْعِبَادَاتِ بَلْ على الْكُفْرِ وَتَرْكِ الْإِيمَانِ لَا غَيْرُ وقال الْقَرَافِيُّ له فَوَائِدُ منها تَيْسِيرُ الْإِسْلَامِ فإنه إذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ وهو خَيِّرُ النَّفْسِ بِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ كان ذلك سَبَبًا في تَيْسِيرِ إسْلَامِهِ وَمِنْهَا التَّرْغِيبُ في الْإِسْلَامِ وَغَيْرِ ذلك وقد قال أبو الْفَضْلِ بن عَبْدَانَ من أَصْحَابِنَا في كِتَابِ شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ إنَّ عَدَمَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا من الْعِبَادَاتِ على الْكَافِرِ مُفَرَّعٌ على الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ قال فَإِنْ قُلْنَا بِالصَّحِيحِ إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ فَلَيْسَ الْإِسْلَامُ من شُرُوطِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ بَلْ تَجِبُ الصَّلَاةُ على الْكَافِرِ كُلَّمَا دخل الْوَقْتُ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَجِبُ عليه وَهِيَ لَا تَصِحُّ منه قُلْنَا كَالْمُحْدِثِ لَا تَصِحُّ منه وَمَعَ ذلك تَجِبُ عليه بِشَرِيطَةِ الْوُضُوءِ فَيُقَالُ له أَسْلِمْ وَصَلِّ يُقَالُ لِلْمُحْدِثِ تَوَضَّأْ وَصَلِّ وقال الْقَاضِي أبو الْقَاسِمِ بن كَجٍّ في التَّجْرِيدِ وَالْمَاوَرْدِيُّ في بَابِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في الْمُشْرِكِينَ هل هُمْ مُخَاطَبُونَ بِالزَّكَاةِ وَإِنْ لم تُؤْخَذْ منهم على وَجْهَيْنِ بِنَاءً على اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا هل خُوطِبُوا مع الْإِيمَانِ بِالْعِبَادَاتِ فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إلَى ذلك لِمُخَاطَبَتِهِمْ بِالْإِيمَانِ وَأَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ على تَرْكِهِ
____________________
(1/327)
وقال آخَرُونَ وهو قَوْلُ الْعِرَاقِيِّينَ إنَّهُمْ في حَالِ الْكُفْرِ إنَّمَا خُوطِبُوا بِالْإِيمَانِ وَحْدَهُ ولم يَتَوَجَّهْ إلَيْهِمْ الْخِطَابُ بِالْعِبَادَاتِ إلَّا بَعْدَ الْإِيمَانِ ا هـ وقال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في تَعْلِيقِهِ في كِتَابِ الزَّكَاةِ الْإِسْلَامُ شَرْطٌ في وُجُوبِ الْإِخْرَاجِ لَا في وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ فَأَمَّا الْإِخْرَاجُ فَلَا يَجِبُ عليهم إلَّا الْمُرْتَدُّ في أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ هذا كَلَامُهُ وَبِهِ يَجْتَمِعُ كَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ أَيْضًا وَبَنَى الْقَفَّالُ عليه فِيمَا حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في الْأَسْرَارِ إذَا غَنِمَ الْكُفَّارُ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَمْلِكُونَهَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ قال الْقَاضِي قُلْت لو كَانُوا مُخَاطَبِينَ لَمَا سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُمْ فقال الْقَفَّالُ الضَّمَانُ وَاجِبٌ غير أَنَّهُ سَقَطَ بِالْإِسْلَامِ لِئَلَّا يَرْغَبُوا عنه خِيفَةَ انْتِزَاعِ ما مَلَكُوهُ من أَيْدِيهِمْ وَبَنَى عليه الْقَاضِي الْحُسَيْنُ إحْبَاطَ الْعَمَلِ بِالرِّدَّةِ كما سَبَقَ وَبَنَى عليه الْمُتَوَلِّي حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ في الْخَمْرِ عليهم قال وَعِنْدَنَا أَنَّ التَّصَرُّفَ في الْخَمْرِ حَرَامٌ عليهم خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَبَنَى عليه الْقَاضِي مُجَلِّي في الذَّخَائِرِ أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ هل يُصَلِّي على قَبْرِ من مَاتَ من الْمُسْلِمِينَ في كُفْرِهِ إذَا قُلْنَا لَا يُصَلِّي عليه إلَّا من كان من أَهْلِ الْفَرْضِ وَبَنَى عليه أَيْضًا صِحَّةَ النَّذْرِ من الْكَافِرِ وَقَضِيَّةُ الْبِنَاءِ تَصْحِيحُهُ لَكِنَّ الْأَصَحَّ الْمَنْعُ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ وَتَقَدَّمَ عن الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ أَنَّ إيجَابَ الضَّمَانِ على الْحَرْبِيِّ إذَا أَسْلَمَ مُفَرَّعٌ على خِطَابِهِمْ وَمِنْهَا لو مَرَّ الْكَافِرُ بِالْمِيقَاتِ وهو مُرِيدُ النُّسُكِ فَجَاوَزَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَحْرَمَ ولم يَعُدْ إلَيْهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ مع أَنَّهُ حَالَةَ مُرُورِهِ لم يَكُنْ مُكَلَّفًا عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذلك وقال أبو حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيُّ لَا دَمَ عليه جَرْيًا على هذا الْأَصْلِ وَمِنْهَا لو قَهَرَ حَرْبِيٌّ حَرْبِيًّا مَلَكَهُ وَيُخَالِفُ الْمُسْلِمُ إذَا قَهَرَ حَرْبِيًّا فإنه لَا يَجْرِي على من قَهَرَهُ الرِّقُّ حتى يَرِقَّهُ الْإِمَامُ أو نَائِبُهُ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ اجْتِهَادًا في أُسَارَى الْكُفَّارِ وَالْمُسْلِمُ مَأْمُورٌ بِرِعَايَتِهِ وَالْحَرْبِيُّ لَا يُؤَاخَذُ بِمِثْلِ ذلك إذَا عُرِفَ هذا فَلَوْ قَهَرَ الْحَرْبِيُّ أَبَاهُ الْحَرْبِيَّ أو ابْنَهُ فَهَلْ يُعْتَقُ عليه بِمُجَرَّدِ ذلك كما لو مَلَكَ الْمُسْلِمُ فَرْعَهُ أو أَصْلَهُ أو لَا بَلْ يَجُوزُ له بَيْعُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَجْهَانِ أَشْبَهَهُمَا في الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ الْأَوَّلُ وَمِنْهَا يَحْرُمُ على الْمُسْلِمِ نِكَاحُ الْوَثَنِيَّةِ قَطْعًا وَهَلْ تَحِلُّ لِلذِّمِّيِّ فيه وَجْهَانِ في الْكِفَايَةِ لِابْنِ الرِّفْعَةِ وَلَعَلَّ مَدْرَكَهَا هذا الْأَصْلُ وَمِنْهَا تَحْرِيمُ نَظَرِ الذِّمِّيَّةِ إلَى الْمُسْلِمَةِ على الْأَصَحِّ وَمِنْهَا أَنَّ الْمُضْطَرَّ الْمُسْلِمَ إذَا لم يَجِدْ إلَّا مَيْتَةَ آدَمِيٍّ فيه وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا نعم
____________________
(1/328)
لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَيِّ أَعْظَمُ قال الدَّارِمِيُّ وَالْخِلَافُ في مَيْتَةِ الْمُسْلِمِ أَمَّا الْكَافِرُ فَيَحِلُّ قَطْعًا انْتَهَى وَلَوْ كان الْمُضْطَرُّ كَافِرًا وَوَجَدَ مَيْتَةَ مُسْلِمٍ فَفِي حِلِّهِ وَجْهَانِ أَقْيَسُهُمَا في زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ الْمَنْعُ وَمِنْهَا أَنَّ الْكَافِرَ يُمْنَعُ من مَسِّ الْمُصْحَفِ قَالَهُ النَّوَوِيُّ في بَابِ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ من شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَالتَّحْقِيقِ وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ من قِرَاءَتِهِ جُنُبًا وقال الْمَاوَرْدِيُّ الْكَافِرُ لَا يُمْنَعُ من تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَيُمْنَعُ من مَسِّ الْمُصْحَفِ ذَكَرَهُ في بَابِ نِيَّةِ الْوُضُوءِ وَفِيهِ نَظَرٌ مع جَزْمِهِ بِجَوَازِ تَعْلِيمِهِ مِمَّنْ يُرْجَى إسْلَامُهُ وَظَاهِرُ إطْلَاقِهِمْ ذلك تَمْكِينُهُ من حَمْلِ الْمُصْحَفِ وَاللَّوْحِ اللَّذَيْنِ يَتَعَلَّمُ فِيهِمَا وقد يَكُونُ جُنُبًا وَمِنْهَا إذَا وَجَبَتْ عليه كَفَّارَةٌ فَأَدَّاهَا حَالَ كُفْرِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ لَا تَجِبُ عليه الْإِعَادَةُ وَهَذَا بِخِلَافِ ما لو اغْتَسَلَ عن جَنَابَتِهِ أو تَوَضَّأَ أو تَيَمَّمَ ثُمَّ أَسْلَمَ فَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ خِلَافًا لِأَبِي بَكْرٍ الْفَارِسِيِّ التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الصُّوَرِ إنَّ الْقَائِلِينَ بِتَكْلِيفِهِ وَرُجُوعِ الْفَائِدَةِ لِأَحْكَامِ الدُّنْيَا اسْتَثْنَوْا صُوَرًا لَا يَجْرِي عليه فيها أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ لِأَجْلِ عَقِيدَتِهِمْ بِإِبَاحَتِهِ في صُوَرٍ منها شُرْبُ الْخَمْرِ لَا يُحَدُّونَ بِهِ على الْمَذْهَبِ لِاعْتِقَادِهِمْ إبَاحَتَهُ وَمِنْهَا لو غَصَبَ منه الْخَمْرَ رُدَّتْ عليه وَمِنْهَا لَا يُمْنَعُ من لُبْسِ الْحَرِيرِ في الْأَصَحِّ وَمِنْهَا الْحُكْمُ بِصِحَّةِ أَنْكِحَتِهِمْ على ما يَعْتَقِدُونَ وَمِنْهَا لَا يُمْنَعُ من لُبْسِ الْحَرِيرِ في الْأَصَحِّ مَسَاجِدُنَا وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ على الْكَافِرِ الْجُنُبِ اللُّبْثُ في الْمَسْجِدِ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَدْخُلُونَ مَسْجِدَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَيُطِيلُونَ الْجُلُوسَ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يُجْنِبُونَ وَيُخَالِفُ الْمُسْلِمَ فإنه يَعْتَقِدُ حُرْمَةَ الْمَسْجِدِ فَيُؤَاخَذُ بِمُوجِبِ اعْتِقَادِهِ وَالْكَافِرُ لَا يَعْتَقِدُ حُرْمَتَهُ وَلَا يَلْزَمُ تَفَاصِيلُ التَّكْلِيفِ فَجَازَ أَنْ لَا يُؤَاخَذَ بِهِ كَذَا عَلَّلَهُ الرَّافِعِيُّ ثُمَّ قال وَهَذَا كما أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُحَدُّ على شُرْبِ الْخَمْرِ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ وَالْمُسْلِمُ يُحَدُّ وَمِنْهَا تَفْضِيلُ مُعَامَلَتِهِمْ على مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّا إذَا قُلْنَا لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ كانت مُعَامَلَتُهُمْ فِيمَا أَخَذُوهُ على خِلَافِ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ أَخَفَّ من مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ
____________________
(1/329)
عَاصٍ بِذَلِكَ الْعَقْدِ وقد نَهَاهُ اللَّهُ عنه ولم يَنْهَ الْكَافِرَ وَلِذَلِكَ قال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ ما يَأْخُذُهُ الْإِفْرِنْجُ من أَمْوَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا يَمْلِكُونَهُ بِالْقَهْرِ بِخِلَافِ أَخْذِهِمْ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَمْلِكُونَهَا بِالْقَهْرِ فَيَكُونُ الْحَلَالُ الذي بِأَيْدِيهِمْ أَوْسَعَ من الْحَلَالِ الذي بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ وَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْخِلَافَ نَشَأَ في هذه الْفُرُوعِ من كَوْنِهِ غير مُلْتَزَمٍ لِأَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ لَا من أَنَّهُ مُخَاطَبٌ أو لَا وَلِهَذَا قال الشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ في الْفُرُوقِ وقد جَزَمَ بِجَوَازِ الْمُكْثِ في الْمَسْجِدِ لِلْجُنُبِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ الصَّحِيحُ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْفُرُوعِ كَالْمُسْلِمِينَ قُلْنَا التَّعْظِيمُ يَنْشَأُ وَيُتَصَوَّرُ من أَصْلِ الْعَقِيدَةِ وَالْكَافِرُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ سَوَاءٌ قُلْنَا إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ أو لَا وَفَائِدَةُ الْخِطَابِ زِيَادَةُ عُقُوبَتِهِمْ في الْآخِرَةِ قُلْت وَلِهَذَا إذَا تَرَافَعُوا إلَيْنَا وَفَرَّعْنَا على وُجُوبِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ وهو الْأَصَحُّ فَإِنَّا نُجْرِيهِمْ على أَحْكَامِنَا التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ سَقَطَ عنه حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ الْقَائِلِينَ بِتَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِهِمْ قالوا يُشْتَرَطُ ما وَجَبَ منها عِنْدَ الْإِسْلَامِ قَالَهُ ابن الرِّفْعَةِ في كِتَابِ النَّذْرِ من الْمَطْلَبِ ثُمَّ اُسْتُشْكِلَ ذلك بِتَخْرِيجِ مُجَلِّي مَسْأَلَةَ نَذْرِ الْكَافِرِ على هذا الْأَصْلِ من جِهَةِ أَنَّ الْقَائِلَ بِصِحَّةِ النَّذْرِ إنَّمَا يقول بِوُجُوبِ الْوَفَاءِ إذَا أَسْلَمَ ثُمَّ أَجَابَ أَنَّ ذلك فِيمَا إذَا أَلْزَمَهُمْ الشَّارِعُ أَمَّا إذَا أَلْزَمَهُمْ ذلك بِالْتِزَامِهِمْ فَلَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ وَلِهَذَا لو أَتْلَفَ الْحَرْبِيُّ مَالَ الْمُسْلِمِ ثُمَّ أَسْلَمَ لَا ضَمَانَ عليه وَلَوْ عَامَلَهُ أَسْلَمَ وَجَبَ قَضَاءُ دَيْنِ الْمُعَامَلَةِ ا هـ وَأَقُولُ لَا يَنْبَغِي إطْلَاقُ الْقَوْلِ هَكَذَا بَلْ إذَا أَسْلَمُوا سَقَطَ عَنْهُمْ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْبَدَنِيَّةُ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عليهم قَضَاؤُهَا أَمَّا الْمَالِيَّةُ فَإِنْ كانت زَكَاةً فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُغَلَّبُ فيها حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كانت كَفَّارَةً كَقَتْلِ الْخَطَأِ وَالظِّهَارِ لم تَسْقُطْ وَلَوْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَحْرَمَ دُونَهُ لَزِمَهُ دَمٌ نَصَّ عليه وقال الْمُزَنِيّ لَا دَمَ عليه وَلَوْ قَتَلَ صَيْدًا في الْحَرَمِ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ على الْأَصَحِّ فَلَوْ أَسْلَمَ لم يَسْقُطْ وَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَإِنْ كان قد الْتَزَمَ حُكْمَنَا بِجِزْيَةٍ أو أَمَانٍ لم يُسْقِطْ نَفْسًا وَلَا مَالًا وَلِهَذَا لو قَتَلَ ذِمِّيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ لم يَسْقُطْ الْقِصَاصُ على الْمَعْرُوفِ وَفِيهِ وَجْهٌ في
____________________
(1/330)
الذَّخَائِرِ وَإِنْ لم يَلْتَزِمْ حُكْمَنَا سَقَطَ كَالْحَرْبِيِّ إذَا أَتْلَفَ مَالًا أو نَفْسًا في حَالِ الْحَرْبِ مع الْمُسْلِمِينَ وَعَنْ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ أَنَّهُ يَجِبُ قال الرَّافِعِيُّ وَيُعْزَى لِلْمُزَنِيِّ في الْمَنْثُورِ أَمَّا حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ على أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا زَنَى ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يَسْقُطُ عنه الْحَدُّ وَأَمَّا ما وَقَعَ في الرَّوْضَةِ من سُقُوطِ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ عنه عن نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَأَنَّ ابْنَ الْمُنْذِرِ نَقَلَهُ في الْإِشْرَافِ فَقَدْ رَاجَعْت كَلَامَ ابْنِ الْمُنْذِرِ فَوَجَدْتُهُ نَسَبَهُ لِقَوْلِهِ إذْ هو بِالْعِرَاقِ فَهُوَ قَدِيمٌ قَطْعًا وَنَصُّ الْأُمِّ جَدِيدٌ فَحَصَلَ في الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الدَّارِمِيُّ في الِاسْتِذْكَارِ وَجْهَيْنِ التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ جَرَيَانُ الْخِلَافِ في خِطَابِ التَّكْلِيفِ إنَّ الْخِلَافَ جَارٍ في خِطَابِ التَّكْلِيفِ بِأَسْرِهِ فَكُلُّ وَاجِبٍ أو مُحَرَّمٍ هو من مَحَلِّ الْخِلَافِ وَكَذَا الْمَنْدُوبُ وَالْمُبَاحُ بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ ما أُبِيحَ فَهُوَ مُبَاحٌ في حَقِّهِمْ عِنْدَ من يَرَى شُمُولَ الْخِطَابِ لهم وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ تَعَلُّقَ الْإِبَاحَةِ بِهِمْ إذَا قُلْنَا بِتَكْلِيفِهِمْ وَقُلْنَا الْإِبَاحَةُ تَكْلِيفٌ فإنه حَكَى الْإِجْمَاعَ على أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُكَلَّفِ الْإِقْدَامُ على فِعْلٍ وَإِنْ كان مُبَاحًا في نَفْسِ الْأَمْرِ حتى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فيه وَالْكُفَّارُ لَا يَعْتَقِدُونَ حُكْمَ اللَّهِ فيه حُكْمًا صَحِيحًا لِأَنَّهُمْ يَسْتَنِدُونَ فيه إلَى شَرْعِنَا اللَّازِمِ لنا وَلَهُمْ وَشَرْعُهُمْ مَنْسُوخٌ وَمُقْتَضَى هذا الْبَحْثِ أَنْ يَأْثَمُوا في جَمِيعِ أَفْعَالِهِمْ حتى يُؤْمِنُوا وفي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ عن بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ ما يَشْهَدُ له أَمَّا خِطَابُ الْوَضْعِ فَمِنْهُ ما يَرْجِعُ إلَيْهِ لِكَوْنِ الطَّلَاقِ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ فَكَذَلِكَ وَمِنْهُ ما يَكُونُ من بَابِ الْإِتْلَافَاتِ وَالْجِنَايَاتِ فَلَا يَجْرِي فيها الْخِلَافُ بَلْ هِيَ أَسْبَابٌ لِلضَّمَانِ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا ثُبُوتُ الدَّيْنِ في ذِمَّتِهِمْ من هذا النَّوْعِ وَوُجُوبُ الْحُدُودِ عليهم وَالْحُدُودُ إنَّمَا تَكُونُ كَفَّارَةً لِلْمُسْلِمِينَ كما صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَالْكَافِرُ ليس من أَهْلِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ وَإِنَّمَا هِيَ في حَقِّهِ كَالدَّيْنِ اللَّازِمِ وَلِهَذَا تَجِبُ عليه كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَنَحْوُهَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ وَالْأَيْمَانُ من هذا الْقَبِيلِ كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قُلْت وَلَا تَصِحُّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ في الْإِتْلَافِ وَالْجِنَايَةِ بَلْ الْخِلَافُ جَارٍ في الْجَمِيعِ وقد سَبَقَ عن الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا قَتَلَ مُسْلِمًا أو أَتْلَفَ عليه مَالًا ثُمَّ أَسْلَمَ أَنَّهُ يَجِبُ عليه ضَمَانُهَا إذَا قُلْنَا الْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِالْفُرُوعِ وَنَقَلُوا وَجْهَيْنِ أَيْضًا فِيمَا لو دخل الْكَافِرُ الْحَرَمَ وَقَتَلَ صَيْدًا هل يَضْمَنُهُ أَصَحُّهُمَا نعم قال صَاحِبُ الْوَافِي
____________________
(1/331)
وَهُمَا شَبِيهَانِ بِالْوَجْهَيْنِ في تَمْكِينِهِ من الْمَسْجِدِ إنْ كان جُنُبًا يَعْنِي نَظَرًا لِعَقِيدَتِهِ بَلْ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْأَسَالِيبِ من كِتَابِ السِّيَرِ إنَّ الْكُفَّارَ إذَا اسْتَوْلَوْا على مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا حُكْمَ لِاسْتِيلَائِهِمْ وَأَعْيَانِ الْأَمْوَالِ لِأَرْبَابِهَا وَكَأَنَّهُمْ في اسْتِيلَائِهِمْ وَإِتْلَافِهِمْ كَالْبَهَائِمِ قال وَمِنْ تَقْوِيمِ هذه الْمَسْأَلَةِ على الْخِلَافِ في تَكْلِيفِهِمْ بِالْفُرُوعِ وقال هُمْ مَنْهِيُّونَ عن اسْتِيلَائِهِمْ ا هـ ثُمَّ قال هذا الْمُتَأَخِّرُ وَمِنْهُ الْإِرْثُ وَالْمِلْكُ بِهِ وَلَوْلَا ذلك لَمَا سَاغَ بَيْعُهُمْ لِوَارِثِهِمْ وما يَشْتَرُونَهُ وَلَا مُعَامَلَتُهُمْ وَكَذَا صِحَّةُ أَنْكِحَتِهِمْ إذَا صَدَرَتْ على الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْخِلَافُ في ذلك لَا وَجْهَ له وَمِنْهُ كَوْنُ الزِّنَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الْحَدِّ وَذَلِكَ ثَابِتٌ في حَقِّهِمْ وَلِهَذَا رَجَمَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْيَهُودِيَّيْنِ وَلَا يَحْسُنُ الْقَوْلُ بِبِنَاءِ ذلك على تَكْلِيفِهِمْ بِالْفُرُوعِ فإنه كَيْفَ يُقَالُ بِإِسْقَاطِ الْإِثْمِ عَنْهُمْ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَهُ لِكُفْرِهِمْ وقد تَقَدَّمَ عن الْأُسْتَاذِ حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ أَنَّ خِطَابَ الزَّوَاجِرِ من الزِّنَا وَالْقَذْفِ يُتَوَجَّهُ عليهم وَأَمَّا تَعَلُّقُ الزَّكَاةِ بِأَمْوَالِهِمْ قُلْنَا خِلَافٌ هل هو تَعَلُّقُ رَهْنٍ أو جِنَايَةٍ أو شَرِكَةٍ وهو الْأَصَحُّ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ في حَقِّهِمْ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالزَّكَاةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَأْثِيمُهُمْ بِتَرْكِهَا لَا أَخْذِهَا منهم حَالَةَ كُفْرِهِمْ وَالتَّعَلُّقُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ تَأَكُّدُ الْوُجُوبِ لِأَجْلِ أَخْذِ النِّصَابِ الْوَاجِبِ عن الضَّيَاعِ فَلَا مَعْنًى لِإِبْقَائِهِ في حَقِّ الْكَافِرِ لِأَنَّهُ إنْ دَامَ على الْكُفْرِ لم يُؤْخَذْ منه وَإِنْ أَسْلَمَ سَقَطَتْ وما كان كَذَلِكَ فَلَا مَعْنًى لِلتَّعَلُّقِ الذي هو يُوثِقُهُ فيه وَالْمَوْجُودُ في حَقِّ الْكَافِرِ إنَّمَا هو الْأَمْرُ بِأَدَائِهَا وَهَذَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَثُبُوتُهَا في الذِّمَّةِ قَدْرٌ زَائِدٌ على ذلك قد يُقَالُ بِهِ في الْكَافِرِ أَيْضًا وَإِثْبَاتُ تَعَلُّقِهَا بِالدَّيْنِ أَمْرٌ ثَالِثٌ يَخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِ وَلِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ في ثُبُوتِ الشَّرِكَةِ قَوْله تَعَالَى خُذْ من أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَلَا يَدْخُلُ الْكَافِرُ في ذلك وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَدِلَّةَ تَنْقَسِمُ إلَى ما يَتَنَاوَلُهُمْ نحو يا أَيُّهَا
____________________
(1/332)
الناس إذَا قُلْنَا بِتَكْلِيفِهِمْ بِالْفُرُوعِ وَإِلَى ما لَا يَتَنَاوَلُهُمْ نَحْوُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَنَحْوُهُ فَلَا يَتَنَاوَلُهُمْ لَفْظًا وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا لهم إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ التَّنْبِيهُ السَّادِسُ حُصُولُ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ هل هو شَرْطٌ في التَّكْلِيفِ إنَّ من الناس من تَرْجَمَ هذه الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّ حُصُولَ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ هل هو شَرْطٌ في التَّكْلِيفِ أَمْ لَا وَفِيهِ نَظَرٌ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الطَّهَارَةَ عن الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ شَرْطٌ شَرْعِيٌّ مع أَنَّ حُصُولَهَا شَرْطُ التَّكْلِيفِ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَلِهَذَا اسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ هذه الْمَسْأَلَةَ من هذه التَّرْجَمَةِ وَالثَّانِي قَالَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ أَنَّ الْمُحْدِثَ مُكَلَّفٌ بِالصَّلَاةِ إجْمَاعًا يَعْنِي وَقَضِيَّةُ هذه التَّرْجَمَةِ وُجُودُ خِلَافٍ فيه قُلْت زَعَمَ أبو هَاشِمٍ أَنَّ الْمُحْدِثَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالصَّلَاةِ إجْمَاعًا وَلَوْ بَقِيَ سَائِرُ دَهْرِهِ مُحْدِثًا وَأَنَّهُ لو مَاتَ عُوقِبَ على تَرْكِ الطَّهَارَةِ فَقَطْ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالصَّلَاةِ لَا يَتَوَجَّهُ إلَّا بَعْدَ تَحْصِيلِ الطَّهَارَةِ قال الْإِمَامُ وَخَرَقَ الْإِجْمَاعَ في ذلك فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ نَاجِزًا مع بَقَاءِ حَدَثِهِ فَصَحِيحٌ قال الْمَازِرِيُّ وَهَذَا الذي قَالَهُ ابن الْجُبَّائِيُّ صَرَّحَ بِهِ ابن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ من أَصْحَابِنَا فقال إنَّ الْمُحْدِثَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالصَّلَاةِ وَلَوْ دخل الْوَقْتُ وَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ لِقَوْلِهِ في الْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ قبل الْغُرُوبِ أَعْنِي في إدْرَاكِهَا الصَّلَاةَ أَنْ يَبْقَى من الْوَقْتِ قَدْرُ ما تَغْتَسِلُ فيه وَتُدْرِكُ رَكْعَتَيْنِ من الْعَصْرِ قُلْت وهو أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ أَعْنِي اعْتِبَارَ إدْرَاكِ زَمَنِ الطَّهَارَةِ لِلْوُجُوبِ وَهَذَا كُلُّهُ وَإِنْ كان خِلَافًا وَاهِيًا لَكِنَّ شُمُولَ التَّرْجَمَةِ له أَوْلَى وَمِنْهُمْ من تَرْجَمَهَا بِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الْإِيمَانِ وقال ابن بَرْهَانٍ وهو خَطَأٌ لِأَنَّ الصَّلَاةَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ من الْكَافِرِ وهو مَنْهِيٌّ عنه فَكَيْفَ يُخَاطَبُ بها وَهَذَا أَخَذَهُ من كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ السَّابِقِ في تَحْقِيقِ الْمَذْهَبِ وقد يُقَالُ بِأَنَّهُ خِلَافٌ قَرِيبٌ لِأَنَّ الْإِمَامَ مُسَلِّمٌ أَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ بِتَرْكِ الْفُرُوعِ لِتَرْكِهِمْ التَّوَصُّلَ إلَيْهَا على ما صَرَّحَ بِهِ في الْمُحْدِثِ لَا لِتَنْجِيزِ الْأَمْرِ عليهم بِإِيقَاعِهَا حَالَةَ الْكُفْرِ وَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِ الْأَصْحَابِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في أَنَّا نَقُولُ هُمْ مُعَاقَبُونَ بِتَرْكِ الْفُرُوعِ
____________________
(1/333)
وَالْإِمَامُ يقول بِتَرْكِ التَّوَصُّلِ إلَيْهَا قال الْخِلَافُ إلَى اللَّفْظِ وقد قالوا لو أتى الْكَافِرُ الْمِيقَاتَ مُرِيدًا لِنُسُكٍ فَأَحْرَمَ منه لم يَنْعَقِدْ إحْرَامُهُ وقال في الشَّامِلِ في انْعِقَادِ إحْرَامِهِ قَوْلَانِ قال في الْبَحْرِ وهو غَلَطٌ عِنْدِي ولم يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ التَّنْبِيهُ السَّابِعُ أَنَّ هذه الْمَسْأَلَةَ فَرْعِيَّةٌ وَذَكَرَهَا في الْأُصُولِ لِبَيَانِ أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فيه وهو أَنَّ الْإِمْكَانَ الْمُشْتَرِطَ في التَّكْلِيفِ هل يُشْتَرَطُ فيه أَنْ يَكُونَ نَاجِزًا مع الْخِطَابِ أو لَا وقال إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ في مَطَالِعِ الْأَحْكَامِ مَأْخَذُ هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ ليس في تَرْتِيبِ الثَّوَانِي على الْأَوَائِلِ ما يُخْرِجُهَا عن أَنْ تَكُونَ مُمْكِنَةً يَعْنِي أَنَّ تَرْتِيبَ التَّكْلِيفِ على اشْتِرَاطِ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ وهو تَرْتِيبُ أَمْرٍ ثَانٍ على وُجُودِ أَمْرٍ أَوَّلٍ وَلَيْسَ ذلك مُمْتَنِعًا وَلَا مُوجِبًا لِلِامْتِنَاعِ كَالْآحَادِ الْمُتَرَتِّبَةِ في مَرَاتِبِ الْعَدَّادِ كُلُّ وَاحِدٍ منها مُرَتَّبُ الْوُجُودِ على ما قَبْلَهُ الثَّانِي على الْأَوَّلِ وَالثَّالِثُ على الثَّانِي وَهَلُمَّ جَرًّا التَّنْبِيهُ الثَّامِنُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ ظَنِّيَّةٌ عِنْدَ الْقَاضِي لِتَعَلُّقِهَا بِالظَّوَاهِرِ من مَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِ وَخَالَفَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَرَأَى أنها قَطْعِيَّةٌ وقال نَحْنُ نَقْطَعُ بِتَكْلِيفِهِمْ بِالشَّرْعِ جُمْلَةً وَنُعَامِلُهُ تَفْصِيلًا وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وَنُقِلَ عن الْقَاضِي التَّرَدُّدُ في الْقَطْعِ التَّنْبِيهُ التَّاسِعُ أَنَّهُ قد كَثُرَ اسْتِدْلَالُ الناس من الْقُرْآنِ على تَكْلِيفِهِمْ وَطَالَ النِّزَاعُ فيه وَلَيْسَ فيه أَصْرَحُ من قَوْله تَعَالَى الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ وَقَوْلُهُ لَا هُنَّ حِلٌّ لهم وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ التَّنْبِيهُ الْعَاشِرُ إنَّ الْقَائِلِينَ بِالتَّكْلِيفِ يَحْتَاجُونَ إلَى الْجَوَابِ عن حديث الْجُبَّةِ التي أَعْطَاهَا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِعُمَرَ وَكَسَاهَا أَخًا له مُشْرِكًا بِمَكَّةَ إلَّا أَنْ يُقَالَ عُمَرُ لم يَأْذَنْ لِأَخِيهِ في لُبْسِهَا
____________________
(1/334)
وَكَسَاهُ مَعْنَاهُ مَلَّكَهُ كما أَنَّ الْكِسْوَةَ في الْكَفَّارَةِ الْمُرَادِ بها التَّمْلِيكُ وَكَذَلِكَ عن قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنَّهَا لهم في الدُّنْيَا إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّهْدِيدِ لَا الْإِبَاحَةِ وَيُبْعِدُهُ قَوْلُهُ وَلَكِنَّهُ في الْآخِرَةِ التَّنْبِيهُ الْحَادِيَ عَشَرَ قُرَبُ الْكُفَّارِ ما يَقَعُ من الْكُفَّارِ من الْقُرَبِ التي لَا تَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ كَالصَّدَقَةِ وَالضِّيَافَةِ وَالْعِتْقِ وَلَا يُثَابُ على شَيْءٍ في الْآخِرَةِ إنْ مَاتَ كَافِرًا وَتُوَسَّعُ دُنْيَاهُ وَإِنْ أَسْلَمَ قال النَّوَوِيُّ الصَّحِيحُ الذي عليه أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُثَابُ عليها أَيْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَسْلَمْتَ على ما أَسْلَفْتَ من خَيْرٍ قال وَأَمَّا ما يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ فَلَا تَصِحُّ منه لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ ا هـ وَيَرِدُ عليه الْمُرْتَدُّ إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عليه فَأَخْرَجَهَا في حَالِ الرِّدَّةِ فَإِنَّهَا تُجْزِئُ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْكُفْرَ لَا يَمْنَعُ من اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فإذا أَخْرَجَهَا الْأَصْلِيُّ فَهَلَّا نَقُولُ إنَّهُ يُوضَعُ إثْمُهَا عنه في الْآخِرَةِ ثُمَّ نَقُولُ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَغَيْرُهَا يُمْكِنُ منه في الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوُهَا فَهَلَّا صَحَّتْ وَلَا سِيَّمَا إذَا صَامَ يَوْمًا من رَمَضَانَ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ لِمُوَافَقَتِهِ لِوَقْتِ الصِّيَامِ وقال ابن عَطِيَّةَ لَا خِلَافَ أَنَّ لِلْكَافِرِ حَفَظَةً يَكْتُبُونَ سَيِّئَاتِهِ وَاخْتُلِفَ في حَسَنَاتِهِ فَقِيلَ مُلْغَاةٌ يُثَابُ عليها بِنِعَمِ الدُّنْيَا فَقَطْ وَقِيلَ مُحْصَاةٌ من أَجْلِ ثَوَابِ
____________________
(1/335)
الدُّنْيَا وَمِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يُسْلِمُ فَيُضَافُ ذلك إلَى حَسَنَاتِهِ في الْإِسْلَامِ وَهَذَا أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ في قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِحَكِيمِ بن حِزَامٍ أَسْلَمْتَ على ما أَسْلَفْت من خَيْرٍ وَقِيلَ الْمَعْنَى على إسْقَاطِ ما سَلَفَ من خَيْرٍ إذْ جُوزِيتَ بِنَعِيمِ دُنْيَاكَ وقال غَيْرُهُ في مَعْنَى هذا الحديث يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ ما سَبَقَ لَك من خَيْرٍ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَلَفْظُ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ حَسَنَةٍ كان زَلَفَهَا وَمَحَا عنه كُلَّ سَيِّئَةٍ كان زَلَفَهَا وكان عليه بَعْدَ الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا أو لِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَالسَّيِّئَةُ مِثْلُهَا إلَّا أَنْ يُجَاوِزَ اللَّهُ عنه رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَمَّا الْمُؤَاخَذَةُ بِمَا سَلَفَ في الْكُفْرِ من أَسْبَابٍ مَعْفُوٌّ عنها بِالْإِسْلَامِ بِالِاتِّفَاقِ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْإِسْلَامُ يَجُبُّ ما قَبْلَهُ وقد وَرَدَ ما يُشْعِرُ بِخِلَافِهِ وهو ما في الصَّحِيحَيْنِ عن ابْنِ مَسْعُودٍ قال رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَرَأَيْت الرَّجُلَ يُحْسِنُ الْإِسْلَامَ أَيُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلَ في الْجَاهِلِيَّةِ فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من أَحْسَنَ في الْإِسْلَامِ لم يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ في الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ أَسَاءَ في الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ قال الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِمَا تَقَدَّمَ وقال أبو الْفَرَجِ هو مَحْمُولٌ على وَجْهَيْنِ إحْدَاهُمَا الْإِسَاءَةُ في الْإِسْلَامِ بِالشِّرْكِ فإنه إذَا أَشْرَكَ في الْإِسْلَامِ عَادَ إلَى ما كان عليه قبل الْإِسْلَامِ وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّا فيه تَحَقَّقْنَا فيه الْجُبَّ وَالْهَدْمَ بِالْإِسْلَامِ فَلَا نَحْكُمُ بِعَوْدِهِ وما مَنَّ اللَّهُ بِهِ فَلَا رُجُوعَ فيه وَالثَّانِي إذَا جَنَى في الْإِسْلَامِ مِثْلَ جِنَايَتِهِ في الْكُفْرِ فإنه يُعَيَّرُ بِذَلِكَ وَيُقَالُ له هذا الذي كُنْت تَفْعَلُهُ في الْكُفْرِ فَهَلَّا مَنَعَك منه الْإِسْلَامُ فَيَكُونُ هذا التَّوْبِيخُ مَعْنَى الْمُؤَاخَذَةِ
____________________
(1/336)
فُرُوعٌ الْأَوَّلُ جُنُونُ الْكَافِرِ قبل الْبُلُوغِ يَرْفَعُ عنه الْقَلَمَ لو جُنَّ الْكَافِرُ قبل الْبُلُوغِ كان الْقَلَمُ مَرْفُوعًا عنه وَإِنْ جُنَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْكُفْرِ لم يَرْتَفِعْ الْقَلَمُ عنه لِأَنَّ رَفْعَ الْقَلَمِ عن الْمَجْنُونِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ رُخْصَةٌ وَالْكَافِرُ ليس من أَهْلِ الرُّخْصَةِ وَيَشْهَدُ لِهَذَا من كَلَامِ الْأَصْحَابِ قَوْلُهُمْ إنَّ الْمُرْتَدَّ يَقْضِي الصَّلَوَاتِ الْفَائِتَةِ في حَالِ الْجُنُونِ وَيَنْشَأُ من هذا أَنَّ من وُلِدَ كَافِرًا وَلَا أَقُولُ كَافِرًا بَلْ بين كَافِرَيْنِ بِحَيْثُ يُحْكَمُ له بِالْكُفْرِ الظَّاهِرِ وَجُنَّ قبل بُلُوغِهِ وَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ حتى صَارَ شَيْخًا وَمَاتَ على حَالِهِ دخل النَّارَ كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ السُّبْكِيُّ في فَتَاوِيهِ وقال إنَّهُ لم يَجِدْهُ مَنْقُولًا وَفِيمَا قَالَهُ أَخِيرًا نَظَرٌ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ له حَالَةُ تَكْلِيفٍ بَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّبِيِّ يَمُوتُ في صِبَاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ على الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ في حُكْمِ أَطْفَالِ الْكُفَّارِ في الْآخِرَةِ الْفَرْعُ الثَّانِي إذَا قُلْنَا إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ فَهَلْ يَجْرِي في حَقِّهِمْ التَّخْفِيفَاتُ عن هذه الْأُمَّةِ من رَفْعِ الْإِثْمِ الْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي منهم أَمْ لَا فيه نَظَرٌ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ اخْتِصَاصُهُ بِالْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنْ تُفَسَّرَ الْأُمَّةُ بِأُمَّةِ الدَّعْوَةِ لَا أُمَّةُ الْإِجَابَةِ لَكِنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ على أَنَّ الْحُدُودَ إنَّمَا تَكُونُ كَفَّارَةً لِأَهْلِهَا إذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ وهو ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْكَافِرَ ليس من أَهْلِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ وَالطُّهْرَةُ إنَّمَا هِيَ في حَقِّهِ كَالدُّيُونِ اللَّازِمَةِ وَلِذَلِكَ تَلْزَمُهُ بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَنَحْوِهَا وَلَا يَزُولُ عنه بها الْإِثْمُ الْفَرْعُ الثَّالِثُ هل يُوصَفُ مَالُ الْكَافِرِ على الْكَافِرِ بِالْحُرْمَةِ هل يُوصَفُ مَالُ الْكَافِرِ بِالْحُرْمَةِ إذَا قُلْنَا إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ تَوَقَّفَ فيه الشَّيْخُ أبو الْفَتْحِ الْقُشَيْرِيّ بِنَاءً على نَقْلِهِمْ أَنَّ فَائِدَةَ الْخِطَابِ إنَّمَا تَظْهَرُ في الْآخِرَةِ لَكِنَّا قد بَيَّنَّا فَسَادَهُ ثُمَّ مَالَ إلَى التَّحْرِيمِ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فِيمَا يَحْكِيهِ عن رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ على نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا وهو عَامٌّ
____________________
(1/337)
الْفَرْعُ الرَّابِعُ قَوْلُهُمْ فَائِدَةُ التَّكْلِيفِ عِقَابُهُمْ في الْآخِرَةِ هذا إنْ لم يَأْتُوا بها وَكَذَا إنْ أَتَوْا بها فِيمَا يُشْتَرَطُ فيه نِيَّةُ الْقُرْبَةِ وَأَمَّا ما لَا يُشْتَرَطُ فيه كَأَدَاءِ الدُّيُونِ وَالْوَدَائِعِ وَالْعَوَارِيِّ وَالْغُصُوبِ وَالْكَفَّارَةِ إذَا غَلَبَ فيها شَائِبَةُ الْقُرْبَةِ فإذا فَعَلُوهَا لم يُعَاقَبُوا في الْآخِرَةِ على تَرْكِهَا وَكَذَلِكَ إذَا اجْتَنَبُوا الْمُحَرَّمَاتِ لم يُعَذَّبُوا على ارْتِكَابِهَا إذَا لم يَرْتَكِبُوهَا وقَوْله تَعَالَى وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ من عَذَابِهَا أَيْ على كُفْرِهِمْ الَّذِينَ عُذِّبُوا لِأَجْلِهِ مَسْأَلَةٌ التَّكْلِيفُ هل يَتَوَجَّهُ حَالَ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ أو قَبْلَهَا التَّكْلِيفُ هل يَتَوَجَّهُ حَالَ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ أو قَبْلَهَا هذه الْمَسْأَلَةُ من غَوَامِضِ أُصُولِ الْفِقْهِ تَصْوِيرًا وَنَقْلًا وَنَقْلُ الْمَحْصُولِ مُخَالِفٌ لِنَقْلِ الْإِحْكَامِ وَفِيهِمَا تَوَقُّفٌ على مَعْرِفَةِ الْفَرْقِ بين أَمْرِ الْإِعْلَامِ وَأَمْرِ الْإِلْزَامِ وقد ذَكَرْنَاهُ في بَحْثِ الْأَمْرِ فَنَقُولُ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ يَنْقَسِمُ بِانْقِسَامِ الزَّمَانِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مَاضٍ وَحَالٍ وَمُسْتَقْبَلٍ أَمَّا بِاعْتِبَارِ الِاسْتِقْبَالِ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْفِعْلَ يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ قبل وُجُودِهِ قَطْعًا سِوَى شُذُوذٍ من أَصْحَابِنَا كَذَا قال الْآمِدِيُّ وَهَذَا أَحَدُ شِقَّيْ ما اخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَنَصْبُ مَحَلِّ النِّزَاعِ مع الْمُعْتَزِلَةِ فقال ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ إنَّمَا يَصِيرُ مَأْمُورًا حَالَةَ زَمَانِ الْفِعْلِ وَأَمَّا قبل ذلك فَلَا يَكُونُ أَمْرًا بَلْ إعْلَامٌ له بِأَنَّهُ في الزَّمَانِ الثَّانِي سَيَصِيرُ مَأْمُورًا وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إنَّمَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِالْفِعْلِ قبل وُقُوعِهِ ثُمَّ اسْتَدَلَّ على أَنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ كَوْنُهُ مَأْمُورًا حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ وَظَنَّ الْعَبْدَرِيُّ في شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى الْخِلَافَ في هذه الْحَالَةِ فقال أَثْبَتَ الْمُعْتَزِلَةُ وَنَفَاهُ الْأَشْعَرِيَّةُ فَالْقَائِمُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ قَادِرٌ على الْقُعُودِ وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ غَيْرُ قَادِرٍ ولم يَتَوَارَدَا على مَحَلٍّ وَاحِدٍ فإن مُرَادَ الْمُعْتَزِلَةِ قَادِرٌ بِالْقُوَّةِ وَمُرَادُ الْأَشْعَرِيَّةِ قَادِرٌ بِالْفِعْلِ وَلَا يَصِحُّ إلَّا كَذَلِكَ فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا ا هـ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ وَأَمَّا تَقَدُّمُ الْأَمْرِ على وَقْتِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَاخْتَلَفُوا فقال كَثِيرٌ من شُيُوخِنَا الْمُثْبِتَةِ إنَّ الْأَمْرَ على الْحَقِيقَةِ الذي هو الْإِيجَابُ
____________________
(1/338)
وَالْإِلْزَامُ لَا يَتَقَدَّمُ على وَقْتِ الْفِعْلِ لِأَنَّ ما تَقَدَّمَ فَإِنَّمَا هو إعْلَامٌ وَإِنْذَارٌ وَأَنَّ الْأَمْرَ على الْحَقِيقَةِ ما قَارَنَ الْفِعْلَ وقال الْبَاقُونَ من أَصْحَابِنَا إنَّهُ يَتَقَدَّمُ على وَقْتِ الْفِعْلِ وَاخْتَلَفَ الْمُعْتَزِلَةُ في مِقْدَارِ ما يَتَقَدَّمُ عليه الْأَوْقَاتُ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ مع أَصْحَابِنَا على وُجُوبِ تَقْدِيمِهِ بِوَقْتٍ يَحْصُلُ بِهِ لِلْمَأْمُورِ فَهْمُهُ وَالْعِلْمُ بِمَا يَقْتَضِي منه فَمِنْهُمْ من قال لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عليه بِأَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِوَقْتٍ وَاحِدٍ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ وَمِنْهُمْ من شَرَطَ في ذلك شُرُوطًا أُخْرَى من كَوْنِ تَقَدُّمِهِ صَلَاحًا لِلْمُكَلَّفِ وَلِغَيْرِهِ وَكَوْنُ الْمُكَلَّفِ في جَمِيعِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ حَيًّا سَلِيمًا قَادِرًا بِجَمِيعِ شَرَائِطِ التَّكْلِيفِ وَاَلَّذِي يَخْتَارُهُ الْقَاضِي أَنَّ الْأَمْرَ الْمُتَقَدِّمَ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ على الْفِعْلِ بِوَقْتَيْنِ أَحَدُهُمَا وَقْتُ إدْرَاكِ وَاسْتِكْمَالِ سَمَاعِهِ وَالثَّانِي لِحُصُولِ فَهْمِهِ وَالْعِلْمِ بِالْمُرَادِ بِهِ قال وَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يَصِحُّ إيقَاعُ الْفِعْلِ في حَالِ الْعِلْمِ بِتَضَمُّنِ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ الْمُكَلَّفُ إلَى تَقَدُّمِ دَلِيلٍ له على وُجُوبِ الْفِعْلِ الْمُقْتَضِي لِمُدَّةٍ شَامِلَةٍ ثُمَّ تَقَدَّمَ على إيقَاعِ ما حَصَلَ له الْعِلْمُ بِوُجُوبِهِ وَإِلَّا لَكَانَ مُقَدَّمًا على ما لم يَسْتَقِرَّ له الْعِلْمُ بِهِ وَالْكَلَامُ في هذا من وُجُوهٍ أَحَدُهُمَا في وُجُوبِ تَقْدِيمِ الْأَمْرِ على وَقْتِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالثَّانِي في أَنَّ تَقَدُّمَهُ لَا يُخْرِجُهُ عن أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وَإِنْ كان إعْلَامًا وَإِنْذَارًا وَالثَّالِثُ في تَصَوُّرِ تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ حَالَ إيجَادِهِ الرَّابِعُ في مُقَدِّمَاتِ ما يَتَقَدَّمُ الْأَمْرُ بِهِ على الْفِعْلِ من الْأَوْقَاتِ قال وَالْكَلَامُ في هذه الْمَسْأَلَةِ إذَا تَعَلَّقَ بِأَوَامِرِ اللَّهِ لم يُتَصَوَّرْ فيه الْخِلَافُ لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُ عِنْدَنَا على الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِمَا لَا غَايَةَ له من الْأَوْقَاتِ وَلِأَنَّا لَا نَعْتَبِرُ الْمَصْلَحَةَ في ذلك وَلَا نُوجِبُهَا تَقَدَّمَ الْأَمْرُ على وَقْتِ الْمَأْمُورِ بِهِ وقال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في التَّقْرِيبِ قال الْمُحَقِّقُونَ من أَصْحَابِنَا الْأَمْرُ قبل حُدُوثِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَمْرُ إيجَابٍ وَإِلْزَامٍ وَلَكِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الِاقْتِضَاءَ وَالتَّرْغِيبَ وَالدَّلَالَةَ على امْتِثَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ قال وَذَهَبَ بَعْضُ من يَنْتَمِي إلَى الْحَقِّ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ حَقِيقَةً إذَا قَارَنَ حُدُوثَ الْفِعْلِ وإذا تَقَدَّمَ عليه فَهُوَ أَمْرُ إنْذَارٍ وَإِعْلَامُ الْوُجُوبِ عِنْدَ الْوُقُوعِ وَهَذَا بَاطِلٌ
____________________
(1/339)
وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ تَحَقُّقُ الْوُجُوبِ قبل الْحُدُوثِ وفي حَالِ الْحُدُوثِ وَإِنَّمَا يَفْتَرِقُ الْحَالَتَانِ في أَمْرٍ وهو أَنَّهُ حَالَةُ الْمُقَارَنَةِ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ لَكِنْ لَا يَقْتَضِي تَرْغِيبًا وَاقْتِضَاءً بَلْ يَقْتَضِي كَوْنُهُ طَاعَةً بِالْأَمْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ وَزَعَمَتْ الْقَدَرِيَّةُ بِأَسْرِهَا أَنَّ الْفِعْلَ في حَالِ حُدُوثِهِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَمْرُ إلَّا قبل وُجُودِهِ ثُمَّ طَرَدُوا مَذْهَبَهُمْ في جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فلم يَصِفُوا كَائِنًا يَحْظُرُ وَلَا وُجُوبَ وَلَا نَدْبَ وَإِنَّمَا أَثْبَتُوا هذه الْأَحْكَامَ قبل تَحَقُّقِ الْحُدُوثِ ثُمَّ حَكَى الْخِلَافَ الذي سَبَقَ عن الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَمِنْهُ أَخَذَ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَاخْتَارَ الرَّازِيَّ أَنَّ الْأَمْرَ إنَّمَا يَكُونُ أَمْرًا حَالَ الْفِعْلِ وَقَبْلَهُ إعْلَامٌ بِالْأَمْرِ وَلَيْسَ بِأَمْرٍ وَكَذَلِكَ اخْتَارَهُ ابن عَقِيلٍ من الْحَنَابِلَةِ وَرَدَّ عليهم بِأَنَّ الْفِعْلَ يَجِبُ بِالْأَمْرِ فَلَوْ لم يَكُنْ ما يُقَدِّمُهُ أَمْرًا لَاحْتَاجَ مع الْفِعْلِ إلَى تَجْدِيدِ أَمْرٍ وَأَمَّا الْحَالُ أَيْ حَالَةُ وُقُوعِ الْفِعْلِ فقال أَصْحَابُنَا يُوصَى بِكَوْنِهِ مَأْمُومًا بِهِ قال ابن بَرْهَانٍ وهو قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَنَفَاهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُمْ وَنُقِلَ عن الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ حَالَ حُدُوثِهِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا على وَقْتِ الْفِعْلِ وَيَنْقَطِعُ التَّعَلُّقُ منه حَالَ الْمُبَاشَرَةِ وَذَكَرَ الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ عن الشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ الْفِعْلَ في حَالَ حُدُوثِهِ مَأْمُورٌ بِهِ ثُمَّ عَلَّلَهُ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ ليس مَأْمُورًا بِهِ وَهَذَا هو الذي يَقْتَضِيهِ أَصْلُهُ في أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مع الْفِعْلِ لَا قَبْلَهُ وَأَمَّا أَصْلُهُ الْآخَرُ وهو جَوَازُ تَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ فَهُوَ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ قبل الِاسْتِطَاعَةِ فَلَعَلَّهُ بَنَاهُ على عَدَمِ الْوَقْعِ وَنَقَلَ ابن الْحَاجِبِ عن الشَّيْخِ عَدَمَ انْقِطَاعِ التَّكْلِيفِ حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ فَلَيْسَ لِلشَّيْخِ في الْمَسْأَلَةِ صَرِيحُ كَلَامٍ وَإِنَّمَا تُلُقِّيَ من قَضَايَا مَذْهَبِهِ وقد نَقَلَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ عنه أَنَّهُ مُكَلَّفٌ حَالَ الْمُبَاشَرَةِ كَذَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ وقال الْأَصْفَهَانِيُّ الْمُتَأَخِّرُ في مُصَنَّفِهِ الْمُفْرَدِ في هذه الْمَسْأَلَةِ اعْلَمْ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ من الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ مُتَّفِقُونَ على أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالْفِعْلِ على وَجْهِ الِامْتِثَالِ إنَّمَا يَكُونُ مَأْمُورًا عِنْدَ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ لَكِنْ لِلْمُعْتَزِلَةِ أَصْلٌ وهو أَنَّ الْحَادِثَ لَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا لِلْقُدْرَةِ حَالَ حُدُوثِهِ كَالْبَاقِي الْمُسْتَمِرِّ الْوُجُودِ فإنه لَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا لِلْقُدْرَةِ
____________________
(1/340)
وَلِلشَّيْخِ أَصْلٌ وهو أَنَّ الْقُدْرَةَ الْحَادِثَ تُقَارِنُ الْمَقْدُورَ الْحَادِثَ وَلَا تَسْبِقُهُ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ الْحَادِثَةَ عَرَضٌ وَالْعَرَضُ اسْتَحَالَ بَقَاؤُهُ فَلَوْ تَقَدَّمَتْ الْقُدْرَةُ الْحَادِثَةُ على وُجُودِ الْحَادِثِ لَعُدِمَتْ عِنْدَ وُجُودِ الْحَادِثِ ضَرُورَةُ اسْتِحَالَةِ بَقَائِهَا فَلَا يَكُونُ الْحَادِثُ مُتَعَلِّقًا لِلْقُدْرَةِ فَلَزِمَ على أَصْلِ الشَّيْخِ أَنَّ الْمَأْمُورَ إنَّمَا يَصِيرُ مَأْمُورًا بِالْفِعْلِ حَالَ حُدُوثِهِ لَا قَبْلَهُ وَلَزِمَ على أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِالْفِعْلِ قبل حُدُوثِهِ لَا حَالَةَ حُدُوثِهِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ لَا حَاصِلَ لِمُتَعَلِّقِ حُكْمِ الْأَمْرِ بِالْقُدْرَةِ على مَذْهَبِ أبي الْحَسَنِ فإن الْقَاعِدَ في حَالِ قُعُودِهِ مَأْمُورٌ بِالْقِيَامِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَلَا قُدْرَةَ له على الْقِيَامِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ تَعَلُّقُ الْأَمْرِ بِالْقُدْرَةِ وَمَنْ لَا قُدْرَةَ له مَأْمُورٌ عِنْدَهُ قال وَهَذَا هو سَبَبُ اخْتِلَافِ نَقْلِ صَاحِبِ الْمَحْصُولِ والإحكام فَكَأَنَّ الْإِمَامَ فَخْرَ الدِّينِ اعْتَبَرَ مَذْهَبَ الْأُصُولِيِّينَ من أَصْحَابِ الشَّيْخِ وَالْآمِدِيَّ اعْتَبَرَ ما قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وهو أَنَّ الْقَاعِدَ في حَالِ الْقُعُودِ مَأْمُورٌ بِالْقِيَامِ بِالِاتِّفَاقِ فَحَصَلَ الْخِلَافُ بين نَقْلَيْهِمَا ا هـ وَأَمَّا ابن الْحَاجِبِ فإنه نَسَبَ خِلَافَ الْمُعْتَزِلَةِ لِلشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ وَجَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مُوَافِقًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَرَدَّ ما نَسَبَهُ إلَى الشَّيْخِ فقال قال الشَّيْخُ الْأَشْعَرِيُّ لَا يَنْقَطِعُ التَّكْلِيفُ بِالْفِعْلِ حَالَ حُدُوثِهِ وَاخْتَارَهُ وَزَيَّفَ قَوْلَ الشَّيْخِ بِأَنْ قال إنْ أَرَادَ الشَّيْخُ بِعَدَمِ انْقِطَاعِ التَّكْلِيفِ حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ أَنَّ تَعَلُّقَ التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ لِنَفْسِ التَّكْلِيفِ وما يَتَعَلَّقُ لِنَفْسِهِ بِالشَّيْءِ امْتَنَعَ انْقِطَاعُهُ عنه فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ التَّكْلِيفُ بَعْدَ حُدُوثِ الْفِعْلِ أَيْضًا وهو بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ أَرَادَ الشَّيْخُ أَنَّ تَنْجِيزَ التَّكْلِيفِ أَيْ كَوْنَ الْمُكَلَّفِ مُكَلَّفًا بِالْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ حَالَ حُدُوثِهِ لِعَدَمِ صِحَّةِ الِابْتِلَاءِ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ إنَّمَا يَصِحُّ قبل الشُّرُوعِ في الْفِعْلِ فَيَنْتَفِي فَائِدَةَ التَّكْلِيفِ لِأَنَّ فَائِدَةَ التَّكْلِيفِ إمَّا الِامْتِثَالُ أو الِابْتِلَاءُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْتَفٍ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ مُرَادُ الشَّيْخِ أَنَّ التَّكْلِيفَ حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ تَكْلِيفٌ بِالْإِتْيَانِ بِالْكُلِّيِّ الْمَجْمُوعِيِّ لَا بِإِيجَادِ وَاحِدٍ من أَجْزَاءِ الْفِعْلِ فَلَا يَكُونُ التَّكْلِيفُ حَالَ الْحُدُوثِ تَكْلِيفًا بِإِيجَادِ الْمَوْجُودِ لِأَنَّ الْكُلِّيَّ الْمَجْمُوعِيَّ لم يُوجَدْ حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ فلم يَمْتَثِلْ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنْ قِيلَ ما وُجِدَ من الْفِعْلِ فَقَدْ انْقَطَعَ عنه التَّكْلِيفُ فَيَكُونُ تَعْلِيقُ التَّكْلِيفِ بِالْبَاقِي بِالْمَجْمُوعِ من حَيْثُ هو مَجْمُوعٌ
____________________
(1/341)
قُلْنَا التَّكْلِيفُ بِالذَّاتِ قد تَعَلَّقَ بِالْمَجْمُوعِ من حَيْثُ هو مَجْمُوعٌ وَبِأَجْزَائِهِ بِالْعَرْضِ فما لم يَحْدُثْ لم يَنْقَطِعْ التَّكْلِيفُ وقال الْمَازِرِيُّ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ الْقُدْرَةَ الْمُحْدَثَةَ لَا تَتَقَدَّمُ الْمَقْدُورَ وَعِنْدَهُ أَنَّ الْأَمْرَ يَتَقَدَّمُ الْفِعْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَيُقَارِنُهُ وَأَلْزَمَهُ الْإِمَامُ كَوْنَ الْمُكَلَّفِ مَأْمُورًا بِالْقِيَامِ غير مَقْدُورٍ له قبل شُرُوعِهِ فيه وَمَعَ هذا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ فَقَدْ صَارَ الْمَأْمُورُ بِهِ غير مُرْتَبِطٍ بِكَوْنِهِ مَقْدُورًا عليه وَهَذَا غَيْرُ لَازِمٍ لِشَيْخٍ لِأَنَّهُ إذَا اسْتَدَلَّ على صِحَّةِ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِهِ لم يَلْزَمْ أَنْ يَقُولَ إنَّ عَدَمَ تَعَلُّقِهَا بِهِ بِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِهِ لِأَنَّ هذا عَكْسُ الِاسْتِدْلَالِ وهو غَيْرُ لَازِمٍ وقال إِلْكِيَا اخْتَلَفُوا في أَنَّ الْحَادِثَ حَالَ حُدُوثِهِ هل يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ فقال أَصْحَابُ الْأَشْعَرِيِّ مَأْمُورٌ بِهِ في تِلْكَ الْحَالَةِ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ مَأْمُورٌ بِهِ قبل الْحُدُوثِ وإذا حَدَثَ خَرَجَ عن أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ اسْتَدْعَى التَّحْصِيلَ وَالْحَاصِلُ لَا يَحْصُلُ وَأَصْحَابُنَا بَنَوْا ذلك على أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مع الْفِعْلِ وَأَنَّ الْمَعْدُومَ مَأْمُورٌ بِهِ وَعَلَى هذا فَلَا أَمَرَ عِنْدَهُمْ قبل الْفِعْلِ وَإِنَّمَا هو إعْلَامٌ على مَعْنَى تَعَلُّقِ الْأَمْرِ الْأَزَلِيِّ بِهِ انْتَهَى وقال ابن بَرْهَانٍ الْحَادِثُ حَالَ حُدُوثِهِ مَأْمُورٌ بِهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ ا هـ ولم يَتَعَرَّضْ لِلْخِلَافِ قبل الْحُدُوثِ وَاعْلَمْ أَنَّا إذَا فَسَّرْنَا حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ بِأَنَّهُ أَوَّلُ زَمَنِ وُجُودِهِ صَحَّ التَّكْلِيفُ بِهِ وكان في الْحَقِيقَةِ تَكْلِيفًا بِإِتْمَامِهِ وَإِيجَادِهِ بِمَا لم يُوجَدْ منه وَإِنْ أُرِيدَ بِحَالِ حُدُوثِهِ زَمَنُ وُجُودِهِ من أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ لم يَصِحَّ مُطْلَقًا بَلْ يَصِحُّ في أَوَّلِ زَمَنِ وُجُودِهِ وَإِنْ كُلِّفَ بِإِتْمَامِهِ كما مَرَّ وَعِنْدَ آخِرِ زَمَنِ وُجُودِهِ يَكُونُ قد وُجِدَ وَانْقَضَى فَيَصِيرُ من بَابِ إيجَادِ الْمَوْجُودِ وهو مُحَالٌ وَهَذَا الْمَبْحَثُ يَنْزِعُ إلَى مَسْأَلَةِ الْحَرَكَةِ وَأَنَّهَا تُقْبَلُ أَمْ لَا وَكَأَنَّ الْخِلَافَ فيها لَفْظِيٌّ لِأَنَّ من أَجَازَ التَّكْلِيفَ عَلَّقَهُ بِأَوَّلِ زَمَنِ الْحُدُوثِ وَمَنْ مَنَعَهُ عَلَّقَهُ بِآخِرِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْقَرَافِيِّ في الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَةً أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ قَوْلَ الْأَشْعَرِيَّةِ الْأَمْرُ يَتَعَلَّقُ حَالَ الْمُلَابَسَةِ ليس الْمُرَادُ أَنَّ حُصُولَ زَمَانِ الْمُلَابَسَةِ شَرْطٌ في تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بَلْ الْأَمْرُ مُتَعَلِّقٌ في الْأَزَلِ فَضْلًا عَمَّا قبل زَمَنِ الْحُدُوثِ وَإِنَّمَا الْبَحْثُ هَاهُنَا عن صِفَةِ ذلك التَّعَلُّقِ الْمُتَقَدِّمِ لِمَا تَعَلَّقَ في الْأَزَلِ كَيْفَ تَعَلَّقَ هل تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ زَمَنَ الْمُلَابَسَةِ أو قَبْلَهُ فَالتَّعَلُّقُ سَابِقٌ وَالطَّلَبُ مُتَحَقِّقٌ وَالْمُكَلَّفُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَعْمُرَ زَمَانًا بِوُجُودِ الْفِعْلِ بَدَلًا عن
____________________
(1/342)
عَدَمِهِ وهو زَمَنُ الْمُلَابَسَةِ فَإِنْ لم يَفْعَلْ ذلك في الزَّمَنِ الْأَوَّلِ أُمِرَ بِهِ في الزَّمَنِ الثَّانِي كَذَلِكَ إلَى آخِرِ الْعُمُرِ إنْ كان الْأَمْرُ مُوَسَّعًا وَإِنْ كان على الْفَوْرِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَجْعَلَ الزَّمَنَ الذي يَلِي زَمَانَ الْأَمْرِ وُجُودَ الْفِعْلِ فَإِنْ لم يَفْعَلْ فَهُوَ عَاصٍ فَزَمَنُ الْمُلَابَسَةِ ذُكِرَ لِبَيَانِ صِفَةِ الْفِعْلِ لَا لِأَنَّهُ شَرْطُ التَّعَلُّقِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ نَفْيُ الْعِصْيَانِ لو كان شَرْطًا في التَّعَلُّقِ قال وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَظْهَرُ عَدَمُ وُرُودِ الِاسْتِشْكَالِ الْمَشْهُورِ على هذا الْقَوْلِ أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى سَلْبِ التَّكَالِيفِ إذْ لو كان حُصُولُ الْمُلَابَسَةِ شَرْطًا في تَعَلُّقِ الْأَمْرِ لم يَكُنْ أَحَدٌ عَاصِيًا لِأَنَّهُ يقول الْمُلَابَسَةُ شَرْطٌ في كَوْنِهِ مَأْمُورًا وأنا لَا أُلَابِسُ الْفِعْلَ فَلَا يَكُونُ عَاصِيًا وَذَلِكَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَظَهَرَ أَنَّ التَّحْقِيقَ ما تَقَدَّمَ ا هـ حَاصِلُ ما تَقَدَّمَ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ من الْأَزَلِ بِالْفِعْلِ زَمَنَ الْمُلَابَسَةِ وَقِيلَ زَمَنُ الْمُلَابَسَةِ وَقِيلَ زَمَانُ وُرُودِ الصِّيغَةِ تَعَلُّقِ مُطَالَبَةٍ في الزَّمَنِ الذي يَلِي وُرُودَ الصِّيغَةِ فَإِنْ لَابَسَ تَعَلَّقَ الْأَمْرُ حَالَ الْمُلَابَسَةِ وَإِنْ أَخَّرَ فَإِنْ كان الْأَمْرُ مَضِيقًا تَعَلَّقَ بِالتَّأْخِيرِ التَّأْثِيمُ وَإِنْ كان مُوسَعًا إلَى أَنْ لَا يَبْقَى من زَمَنِ السَّعَةِ إلَّا قَدْرُ ما يَسَعُ الْفِعْلَ تُضَيَّقَ وَجَاءَ التَّأْثِيمُ ولم يذكر هو إلَّا الْمَضِيقَ وَلَكِنْ يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَأَمَّا الْمَاضِي وهو تَعَلُّقُ التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ بَعْدَ حُدُوثِهِ كَالْحَرَكَةِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا بِانْقِضَاءِ الْمُتَحَرِّكِ فَمُمْتَنِعٌ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ بِإِيجَادِ الْمَوْجُودِ وَلَا يُوصَفُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ إلَّا مَجَازًا بِاعْتِبَارِ ما كان عليه وقال الْمَازِرِيُّ يُوصَفُ قبل وُجُودِهِ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَمَطْلُوبٌ وَأَمَّا قبل وُجُودِهِ فَلَا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِالِاقْتِضَاءِ وَالتَّرْغِيبِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْكِنُ مِمَّا لم يُوجَدْ وَالْحَاصِلُ لَا يُطْلَبُ وَهَذَا كَقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّ النَّظَرَ يُضَادُّ الْعِلْمَ بِالْمَنْظُورِ فيه لِأَنَّ النَّظَرَ بَحْثٌ عن الْعِلْمِ وَابْتِغَاءٌ له وَالْحَاصِلُ لَا يُطْلَبُ وَيَصِحُّ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ طَاعَةٌ وَهَلْ يَصِحُّ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ حَالَ وُقُوعِهِ فيه الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُمْ يَنْفُونَهُ وَأَمَّا تَقَضِّي الْفِعْلِ فَيَصِحُّ وَصْفُهُ بِمَا سَبَقَ على مَعْنَى أَنَّهُ كان عليها وإذا قُلْنَا إنَّهُ حَالَ الْإِيقَاعِ وَقَبْلَهُ مَأْمُورٌ بِهِ فَهَلْ تَعَلُّقُ الْأَمْرِ بِهَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا مُتَسَاوِيًا على مَذْهَبَيْنِ أَحَدُهُمَا نعم فَيَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ بِهِمَا تَعَلُّقَ إيجَابٍ وَإِلْزَامٍ وَحَكَاهُ الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ عن الْمُحَقِّقِينَ من أَصْحَابِنَا
____________________
(1/343)
وَالثَّانِي أَنَّهُ حَالَ الْوُقُوعِ تَعَلُّقُ إلْزَامٍ وَأَمَّا قَبْلَهُ تَعَلُّقُ إعْلَامٍ بِأَنَّهُ سَيَصِيرُ في زَمَانِ الْحَالِ مَأْمُورًا وَنَسَبَهُ الْقَاضِي إلَى بَعْضِ من يَنْتَمِي إلَى الْحَقِّ قال هو بَاطِلٌ وَادَّعَى الْقَرَافِيُّ أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ قال فيه إنَّهُ لَا يَرْتَضِيهِ لِنَفْسِهِ عَاقِلٌ وقال الْقَاضِي وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ تَحَقُّقُ الْوُجُوبِ على الْحُدُوثِ وفي حَالَةِ الْحُدُوثِ وَإِنَّمَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ في التَّرْغِيبِ وَالِاقْتِضَاءِ وَالدَّلَالَةِ فإن ذلك يَتَحَقَّقُ قبل الْفِعْلِ وَلَا يَتَحَقَّقُ منه وما أَبْطَلَهُ الْقَاضِي اخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ في الْمَحْصُولِ وَلِأَجْلِهِ قال الْبَيْضَاوِيُّ في الْمِنْهَاجِ التَّكْلِيفُ يَتَوَجَّهُ حَالَةَ الْمُبَاشَرَةِ وهو قَضِيَّةُ نَقْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ عن الْأَصْحَابِ وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ وَرَأَيَا أَنَّ الْفِعْلَ حَالَ الْإِيقَاعِ لَا يَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ بِهِ وَمُدْرَكُهُمْ فيه خِلَافُ مُدْرَكِ الْمُعْتَزِلَةِ فَالْمُعْتَزِلَةُ بَنُوهُ على أَصْلِهِمْ أَنَّ الْقُدْرَةَ تَتَقَدَّمُ على الْفِعْلِ وَانْقِطَاعُ تَعَلُّقِهَا حَالَ وُجُودِهِ وَأَمَّا الْإِمَامُ فَكَادَ يُوَافِقُهُمْ لِأَنَّهُ يقول ما ليس بِمَقْدُورٍ لَا يُؤْمَرُ بِهِ من يُثْبِتُ قُدْرَةً وَيَقُولُ الْحَالُ غَيْرُ مَقْدُورٍ فَلَزِمَ تَقَدُّمُ الْقُدْرَةِ فَصَرَّحَ من أَجْلِهَا بِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ قبل الْفِعْلِ وَانْقِطَاعِهِ معه وَأَمَّا الْغَزَالِيُّ فإنه سَلَّمَ مُقَارَنَةَ الْقُدْرَةِ لِلْمَقْدُورِ وَوَافَقَ مع هذا على انْتِفَاءِ الْأَمْرِ حَالَ الْوُقُوفِ فَتَوَافَقَا في الْأَصْلِ وَتَخَالَفَا في الْفُرُوعِ ثُمَّ اعْتَمَدَ هو وَإِمَامُهُ على أَنَّ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ الِاقْتِضَاءُ وَالطَّلَبُ وَالْحَاصِلُ لَا يُطْلَبُ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُقْتَضَى حَالِ الْإِيقَاعِ وَلَكِنَّهُ مع هذا مَأْمُورٌ بِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ طَاعَةٌ وَامْتِثَالٌ وَهَذَا لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ لِأَنَّ الطَّاعَةَ مُوَافِقَةُ الْأَمْرِ وَهَذَا مُوَافِقٌ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِمَامَ وَالْغَزَالِيَّ قد رَأَوْا أَنَّ لَا حَقِيقَةَ لِلْأَمْرِ إلَّا الِاقْتِضَاءُ وقد يَطْلُبُ فَبَطَلَ بِنَفْسِهِ وَتَبِعَهُمْ ابن الْحَاجِبِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ له حَقِيقَةٌ وهو كَوْنُهُ مَأْمُورًا بِهِ وقد اعْتَرَضَ على من قال بِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ قبل الْفِعْلِ على سَبِيلِ الْإِعْلَامِ وَالْإِلْزَامِ بِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَعْصِيَ بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِأَنَّهُ إنْ أتى بِهِ فَذَاكَ وَإِلَّا فَهُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَأُجِيبُ عنه بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عن ضِدِّهِ وَالتَّارِكُ مُبَاشِرٌ لِلتَّرْكِ وهو فِعْلٌ مَنْهِيٌّ عنه حَرَامٌ فَإِثْمُهُ من هذه الْجِهَةِ وَعَلَى ما سَبَقَ من طَرِيقَةِ الْقَرَافِيِّ لَا إشْكَالَ وقال الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الْأَصْفَهَانِيُّ الْمُتَأَخِّرُ الْحَقُّ أَنَّ تَعَلُّقَ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ حَالَ حُدُوثِهِ لَا قَبْلَهُ ليس بِصَحِيحٍ أَمَّا أَوَّلًا فَإِنَّهُمْ بَنَوْا على الِاسْتِطَاعَةِ وَالْقُدْرَةِ وَلَا حَاصِلَ لِتَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِالْقُدْرَةِ رَأْيُ الْأَشْعَرِيِّ قَالَهُ الْإِمَامُ فإن الْقَاعِدَ حَالَ قُعُودِهِ مَأْمُورٌ بِالْقِيَامِ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا قُدْرَةَ له
____________________
(1/344)
على الْقِيَامِ عِنْدَ الشَّيْخِ في حَالِ الْقُعُودِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ تَعَلُّقُ الْأَمْرِ بِالْقُدْرَةِ وَمَنْ لَا قُدْرَةَ له مَأْمُورٌ عِنْدَنَا وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنًى لِكَوْنِ فِعْلِ الْعَبْدِ مَقْدُورًا له على أَصْلِ الشَّيْخِ فإن فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقُ اللَّهِ فَلَا يَكُونُ وَاقِعًا بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فَلَا يَكُونُ مَقْدُورًا له وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنًى لِإِثْبَاتِ الْقُدْرَةِ في الْعَبْدِ فإنه إذَا لم يَكُنْ لِلْوَصْفِ الذي هو مُقَارِنُ الْفِعْلِ مَدْخَلٌ في الْفِعْلِ فَجَمِيعُ الْأَوْصَافِ الْمُقَارِنَةِ لِلْفِعْلِ مُتَشَارِكَةٌ في كَوْنِهَا مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ فَتَمَيَّزَ بَعْضُهَا عن بَعْضٍ بِكَوْنِهَا قُدْرَةً دُونَ غَيْرِهِ يَكُونُ تَمَيُّزًا من غَيْرِ مُمَيَّزٍ وهو غَيْرُ مَعْقُولٍ وَأَمَّا رَابِعًا فَلِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ على اسْتِحَالَةِ بَقَاءِ الْأَعْرَاضِ وهو مَمْنُوعٌ وَأَمَّا خَامِسًا فَلِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ على تَقْدِيرِ ثُبُوتِ هذا الْأَصْلِ وَكَوْنُ قُدْرَةِ الْعَبْدِ ثَابِتَةً وَكَوْنُ الْفِعْلِ مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ الْكَسْبِ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْقُدْرَةُ عِنْدَ حُدُوثِ الْفِعْلِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَبْلَهُ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لو تَقَدَّمَتْ الْقُدْرَةُ الْحَادِثَةُ على وُجُودِ الْحَادِثِ لَعُدِمَتْ عِنْدَ وُجُودِ الْحَادِثِ ضَرُورَةُ اسْتِحَالَةِ بَقَائِهَا فَلَا يَكُونُ الْحَادِثُ مُتَعَلِّقًا لِلْقُدْرَةِ فَلَا طَائِلَ له وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ إذَا لم يَكُنْ لها مَدْخَلٌ في الْفِعْلِ فَكَمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ الْفِعْلُ مَقْدُورٌ لِلْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ مُقَارَنَةِ الْقُدْرَةِ لِلْفِعْلِ فَكَذَلِكَ جَازَ أَنْ يُقَالَ الْفِعْلُ مَقْدُورٌ لِلْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ تَقَدُّمِ الْقُدْرَةِ على الْفِعْلِ بَلْ لو فَرَضْنَا أَنَّ لِلْقُدْرَةِ مَدْخَلًا في الْفِعْلِ لَجَازَ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً بِالزَّمَانِ على الْفِعْلِ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ الْعِدَّةِ وَالْحَقُّ أَنَّ طَلَبَ الْفِعْلِ سَابِقٌ على حُدُوثِهِ وَكَذَلِكَ الْقُدْرَةُ على الْفِعْلِ وَنَعْنِي بِالْقُدْرَةِ على الْفِعْلِ صِفَةً خَلَقَهَا اللَّهُ في الْعَبْدِ وَجَعَلَهَا بِحَيْثُ لها مَدْخَلٌ في الْفِعْلِ بَلْ كَوْنُهَا بِحَيْثُ لها مَدْخَلٌ في الْفِعْلِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ جَمِيعَ الْمُحْدِثَاتِ بِخَلْقِهِ تَعَالَى بَعْضُهَا بِلَا أَوْسَاطٍ وَلَا أَسْبَابٍ وَبَعْضُهَا بِوَسَائِطَ وَأَسْبَابَ لَا بِأَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْوَسَائِطُ وَالْأَسْبَابُ لِذَاتِهَا اقْتَضَتْ أو يَكُونُ لها مَدْخَلٌ في وُجُودِ الْمُسَبَّبَاتِ بَلْ خَلَقَهَا اللَّهُ بِحَيْثُ لها مَدْخَلٌ فَتَكُونُ الْأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ لِلْعَبْدِ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ وَمَقْدُورَةً لِلْعَبْدِ بِقُدْرَةٍ خَلَقَهَا اللَّهُ فيه وَالْقُدْرَةُ مُمَيَّزَةٌ عن سَائِرِ الصِّفَاتِ من حَيْثُ لها مَدْخَلٌ في الْفِعْلِ على هذا الْوَجْهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الصِّفَاتِ فَيَكُونُ الْمَأْمُورُ مَأْمُورًا بِالْفِعْلِ قبل حُدُوثِهِ لَكِنْ هل يَنْقَطِعُ التَّكْلِيفُ حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ أَمْ لَا فَنَقُولُ الْفِعْلُ الْمَطْلُوبُ يَكُونُ آتِيًا قبل الْآنَ طَرَفُ الزَّمَانِ أو جُزْأَهُ عُلِمَ ذلك
____________________
(1/345)
بِاسْتِقْرَاءِ الْأَفْعَالِ الْمَطْلُوبَةِ في الشَّرْعِ بَلْ يَكُونُ زَمَانِيًّا إمَّا على سَبِيلِ الِاسْتِمْرَارِ كَالْقِيَامِ في الصَّلَاةِ أو على سَبِيلِ التَّدْرِيجِ كَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ في الصَّلَاةِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ ذلك ذَا أَجْزَاءٍ وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالذَّاتِ مُتَعَلِّقًا بِذَلِكَ الْفِعْلِ تَعَلُّقًا بِأَجْزَائِهِ مُحَالَ الْحُدُوثِ وَإِنْ وَقَعَ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْفِعْلِ لم يَقَعْ الْبَعْضُ بها وَالْأَمْرُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْفِعْلِ بِالذَّاتِ لَا يَنْقَطِعُ ما لم يَحْدُثْ الْفِعْلُ وَلَا يَحْدُثُ الْفِعْلُ إلَّا بَعْدَ حُدُوثِ أَجْزَائِهِ فَلَا يَنْقَطِعُ التَّكْلِيفُ إلَّا بَعْدَ حُدُوثِ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَبَيَانُ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ وَمُقَدَّرَةٌ لِلْعَبْدِ على الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ في أُصُولِ الدِّينِ تَنْبِيهَاتٌ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ لَمَّا حَكَى الْقَوْلَ بِأَنَّ الْفِعْلَ حَالَ حُدُوثِهِ مَأْمُورٌ بِهِ ثُمَّ ذَكَرَ مَذْهَبَ الشَّيْخِ في الْقُدْرَةِ ثُمَّ قال وَمَذْهَبُهُ مُخْتَبَطٌ في هذه الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ قال لو سَلَّمَ مُسْلِمٌ لِأَبِي الْحَسَنِ ما قَالَهُ في الْقُدْرَةِ جَدَلًا فَلَا يَتَحَقَّقُ معه كَوْنُ الْحَادِثِ مَأْمُورًا هذا حَاصِلُهُ وَمَذْهَبُهُ في الْقُدْرَةِ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ أبي الْحَسَنِ ثُمَّ أَلْزَمَ الشَّيْخُ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ ثُمَّ قال فقال في الْحَادِثِ هذا هو الذي أَمَرَ بِهِ الْمُخَاطَبُ فَأَمَّا أَنْ يَتَّجِهَ الْقَوْلُ في تَعَلُّقِ الْأَمْرِ طَلَبًا وَاقْتِضَاءً مع حُصُولِهِ فَلَا يَرْضَى هذا الْمَذْهَبَ الذي لَا يَرْتَضِيهِ لِنَفْسِهِ عَاقِلٌ ا هـ وَمُرَادُهُ بِالْمَذْهَبِ الذي لَا يَرْتَضِيهِ عَاقِلٌ إيجَابُ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ الذي أَلْزَمَ بِهِ الشَّيْخَ ولم يُرِدْ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا يَتَوَجَّهُ إلَّا عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ فإن ذلك هو الْمَأْثُورُ عن الشَّيْخِ وقال الْقَاضِي إنَّهُ الْحَقُّ وَإِنَّ عليه السَّلَفَ من الْأُمَّةِ وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَتَعَيَّنُ وَتَوَهَّمَ الْقَرَافِيّ وَغَيْرُهُ أَنَّ مُرَادَ الْإِمَامِ بِذَلِكَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ وَشَنَّعُوا بِهِ على الْقَائِلِينَ بِهِ وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ ذلك وهو مَذْهَبُ شَيْخِهِ وَإِنَّمَا الشَّأْنُ في أَنَّ مَذْهَبَ الشَّيْخِ في الْوُجُوبِ حَالَةَ الْمُبَاشَرَةِ هل يَلْزَمُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ أَمْ لَا وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ وقد تَقَدَّمَ أَنَّهُ ليس لِلشَّيْخِ نَصٌّ صَرِيحٌ في تَخْصِيصِ التَّكْلِيفِ بِحَالَةِ الْمُبَاشَرَةِ وَأَصْلُ الْوَهْمِ عليه في ذلك
____________________
(1/346)
التَّنْبِيهُ الثَّانِي بِنَاءُ الْمَسْأَلَةِ على الِاسْتِطَاعَةِ مع الْفِعْلِ إنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرَهُ ادَّعَوْا أَنَّ أَصْحَابَنَا بَنَوْا هذه الْمَسْأَلَةَ على الِاسْتِطَاعَةِ مع الْفِعْلِ قال أبو نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ غَيْرُ سَدِيدَةٍ وَكَيْفَ تُشَيَّدُ وَعِنْدَ الْأَصْحَابِ يَمْتَنِعُ تَقَدُّمُ الْقُدْرَةِ على الْفِعْلِ وَصَرَّحُوا بِجَوَازِ تَقَدُّمِ الْأَمْرِ على الْفِعْلِ وَقَالُوا الْفَاعِلُ قد يُؤْمَرُ بِالْقِيَامِ بِتَحَقُّقِ الْأَمْرِ بِالْقِيَامِ في حَالَةِ الْقُعُودِ حتى اخْتَلَفُوا فقال الْأَكْثَرُونَ الْأَمْرُ الذي تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ قبل حُدُوثِهِ أَمْرُ إيجَابٍ وقال الْأَقَلُّونَ أَمْرُ إعْلَامٍ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْوُجُوبُ عِنْدَ الْحُدُوثِ فَإِذَنْ ليس بِنَاءُ هذه الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْأَصْحَابِ مَسْأَلَةَ الِاسْتِطَاعَةِ نعم الْمُعْتَزِلَةُ يَبْنُونَ وَيَقُولُونَ كما الْقُدْرَةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ بِزَعْمِهِمْ فَالْأَمْرُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ ثُمَّ عَوَّلَ الْإِمَامُ بَعْدَ التَّسْفِيهِ في الْبِنَاءِ على أَنَّ الْأَمْرَ طَلَبٌ وَاقْتِضَاءٌ وَالْحَاصِلُ لَا يُطْلَبُ وَلَا يُقْتَضَى وَهَذَا اعْتِسَافٌ لِأَنَّ الْقَاضِيَ قال مَعْنَى قَوْلِنَا إنَّ الْفِعْلَ في حَالِ الْحُدُوثِ مَأْمُورٌ بِهِ أَنَّهُ طَاعَةٌ فَتَعَلُّقُ الْأَمْرِ قبل الْحُدُوثِ يَتَضَمَّنُ اقْتِضَاءً وَتَرْغِيبًا وفي حَالِ الْحُدُوثِ يَتَضَمَّنُ كَوْنَهُ طَاعَةً وَهَذَا مِمَّا لَا يُنْكِرُهُ عَاقِلٌ فَلَا خِلَافَ إذَنْ هذا كَلَامُ ابْنِ الْقُشَيْرِيّ وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ في أَنَّ الْقُدْرَةَ مع الْفِعْلِ أو قَبْلَهُ لَا يَكَادُ يَتَحَقَّقُ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْقُدْرَةِ سَلَامَةُ الْأَعْضَاءِ وَالصِّحَّةِ فَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ على الْفِعْلِ قَطْعًا فإذا انْضَمَّتْ الدَّاعِيَةُ إلَيْهِ صَارَتْ تِلْكَ الْقُدْرَةُ مع هذه عِلَّةً لِلْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ ثُمَّ إنَّ ذلك الْفِعْلَ يَجِبُ وُقُوعُهُ مع حُصُولِ ذلك الْمَجْمُوعِ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ لَا يَتَخَلَّفُ عِنْدَ أَثَرِهِ وَإِنْ أُرِيدَ بها مَجْمُوعَ ما لَا يَتِمُّ الْفِعْلُ إلَّا بِهِ فَلَيْسَتْ سَابِقَةً على الْفِعْلِ لِفِقْدَانِ الدَّاعِيَةِ إذْ ذَاكَ التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ قِيلَ إنَّ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ وَلَا يَتَفَرَّعُ عليه حُكْمٌ قَطْعًا فإنه لَا خِلَافَ بين الْمُسْلِمِينَ في أَنَّ الْمُكَلَّفَ مَأْمُورٌ بِالْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ قبل أَنْ يَشْرَعَ فيه وَلَا يَخْرُجُ عن عُهْدَةِ الْأَمْرِ إلَّا بِالِامْتِثَالِ وَلَا يَحْصُلُ الِامْتِثَالُ إلَّا بِالْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَيَلْزَمُ منه أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ مُتَوَجِّهًا إلَى الْفِعْلِ قبل الْمُبَاشَرَةِ وَلَا يَنْقَطِعُ إلَّا بِالْفَرَاغِ عنه
____________________
(1/347)
لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالذَّاتِ يَتَعَلَّقُ بِمَجْمُوعِ الْمَأْمُورِ بِهِ من حَيْثُ هو مَجْمُوعٌ وَتَعَلُّقُهُ بِالْأَجْزَاءِ إنَّمَا هو بِالْعَرَضِ فما لم يَأْتِ بِمَجْمُوعِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا يَكُونُ مُمْتَثِلًا وما لَا يَكُونُ مُمْتَثِلًا لَا يَنْقَطِعُ عنه التَّكْلِيفُ التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ قَوْلُنَا إنَّ الْأَمْرَ إنَّمَا يَصِيرُ أَمْرًا حَالَ الْحُدُوثِ وَلَا يُنَاقِضُهُ قَوْلُنَا لَا حُكْمَ لِلْأَشْيَاءِ قبل وُرُودِ الشَّرْعِ كما قال الْأَصْفَهَانِيُّ في شَرْحِ الْمَحْصُولِ لِأَنَّنَا إذَا فَسَّرْنَا النَّفْيَ بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ فَوَاضِحٌ وَإِنْ فَسَّرْنَاهُ بِعَدَمِ الْحُكْمِ فَالْخِطَابُ في الْأَزَلِ وَتَعَلُّقُهُ بِالْمُكَلَّفِ مَوْقُوفٌ على بَعْثَةِ الرُّسُلِ فَمَعْنَى قَوْلِنَا لَا حُكْمَ لِلْأَشْيَاءِ قبل الشَّرْعِ أَيْ لَا يَتَعَلَّقُ فَلَا تَنَاقُضَ التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ سَبَقَ أَيْضًا أَنَّ الْمَعْدُومَ مَأْمُورٌ بِشَرْطِ الْوُجُودِ وهو يُنَاقِضُ قَوْلَنَا الْأَمْرُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ قال الْأَصْفَهَانِيُّ دَفَعَهُ أَنَّا إنْ قُلْنَا الْأَمْرُ الْأَزَلِيُّ إعْلَامٌ فَوَاضِحٌ وَإِنْ قُلْنَا إنَّ خُصُوصَ كَوْنِهِ أَمْرًا حَادِثًا كَمَذْهَبِ الْقَلَانِسِيِّ فَكَذَلِكَ وَإِلَّا فَنَقُولُ يَعْرِضُ له نِسَبٌ يَخْتَلِفُ بها فَفِي الْأَزَلِ له نِسْبَةٌ بها صَارَ إلْزَامًا خَاصًّا وهو إنَّهُ إلْزَامُ الْمَأْمُورِ الْفِعْلَ على تَقْدِيرِ وُجُودِهِ وَاسْتِجْمَاعُهُ لِشَرَائِطِ التَّكْلِيفِ عِنْدَ حُدُوثِ الْفِعْلِ ثُمَّ يَعْرِضُ له نِسَبٌ أُخْرَى في وُجُودِ الْمُكَلَّفِ وَبِحُدُوثِ الْفِعْلِ يَصِيرُ أَمْرًا حِينَئِذٍ وَالْأَوَّلُ كان إلْزَامًا على تَقْدِيرٍ وَأَمَّا إذَا بَاشَرَ الْمُكَلَّفُ الْفِعْلَ فَقَدْ وَقَعَ ذلك بِالتَّقْدِيرِ فَالْأَمْرُ الْمُقَدَّرُ صَارَ مُحَقَّقًا وَقَوْلُنَا إنَّمَا يَكُونُ أَمْرًا عِنْدَ وُجُودِ الْفِعْلِ وَقَبْلَهُ ليس بِأَمْرٍ كان نَفْيًا لِهَذَا الْأَمْرِ الْخَاصِّ لَا الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ مَسْأَلَةٌ النِّيَابَةُ في الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه الْأَصْلُ امْتِنَاعُ النِّيَابَةِ في الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ إلَّا ما خَرَجَ بِدَلِيلٍ فقال في الْأُمِّ في بَابِ الْإِطْعَامِ في الْكَفَّارَةِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا صَامَ عن رَجُلٍ بِأَمْرِهِ لم يُجْزِهِ الصَّوْمُ عنه وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ أَحَدٌ عن أَحَدٍ عَمَلَ الْأَبَدَانِ لِأَنَّ
____________________
(1/348)
الْأَبْدَانَ تَعَبَّدَتْ بِعَمَلٍ فَلَا يُجْزِئُ عنها أَنْ يَعْمَلَ عنها غَيْرُهَا ليس الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ بِالْخَبَرِ الذي جاء عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَبِأَنَّ فِيهِمَا نَفَقَةً وَأَنَّ اللَّهَ فَرَضَهُمَا على من وَجَدَ إلَيْهِمَا السَّبِيلَ وَالسَّبِيلُ بِالْمَالِ ا هـ وَأَغْفَلَ الْأَصْحَابُ هذا ولم يَحْفَظُوا لِلشَّافِعِيِّ فيه نَصًّا وَهَذَا في الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ وَأَمَّا الْعَقْلِيُّ فقال ابن بَرْهَانٍ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا جَرَيَانُ النِّيَابَةِ في التَّكَالِيفِ وَالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ عَقْلًا وَمَنَعَهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَسَاعَدَهُمْ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ على حَرْفٍ وهو أَنَّ الثَّوَابَ مَعْلُولُ الطَّاعَةِ وَالْعِقَابَ مَعْلُولُ الْمَعْصِيَةِ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَنَا الثَّوَابُ فَضْلٌ من اللَّهِ وَالْعِقَابُ عَدْلٌ من اللَّهِ وَإِنَّمَا الطَّاعَةُ أَمَارَةٌ عليه وَكَذَلِكَ الْمَعْصِيَةُ وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ نَحْوَهُ وَحَرَّرَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ فقال اتَّفَقُوا على جَوَازِ دُخُولِ النِّيَابَةِ في الْمَأْمُورِ بِهِ إذَا كان مَالِيًّا وَعَلَى وُقُوعِهِ أَيْضًا لِاتِّفَاقِهِمْ على أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْغَيْرِ صَرْفُ زَكَاةِ مَالِهِ بِنَفْسِهِ وَأَنْ يُوَكِّلَ فيه وَكَيْفَ لَا وَصَرْفُ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ إلَى الْإِمَامِ إمَّا وَاجِبٌ أو مَنْدُوبٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لم يَصْرِفْهَا إلَى الْفُقَرَاءِ إلَّا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ وَاخْتَلَفُوا في جَوَازِ دُخُولِهَا فيه إذَا كان بَدَنِيًّا فَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إلَى الْجَوَازِ وَالْوُقُوعِ مَعًا مُحْتَجِّينَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ لِنَفْسِهِ إذْ لَا يَمْتَنِعُ قَوْلُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ أَمَرْتُكَ بِخِيَاطَةِ هذا الثَّوْبِ فَإِنْ خِطْتَهُ بِنَفْسِكَ أو اسْتَنْبَتَ فيه أَثَبْتُكَ وَإِنْ تَرَكْتَ الْأَمْرَيْنِ عَاقَبْتُكَ وَاحْتَجُّوا بِالنِّيَابَةِ في الْحَجِّ وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ على جَوَازِ النِّيَابَةِ في الْمَأْمُورِ بِهِ إذَا كان بَدَنِيًّا مَحْضًا بَلْ إنَّمَا يَدُلُّ على ما هو بَدَنِيٌّ وَمَالِيٌّ مَعًا كَالْحَجِّ وَلَعَلَّ الْخَصْمَ يُجَوِّزُ ذلك فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عليه كَذَا قال الْهِنْدِيُّ لَكِنَّ الْخِلَافَ مَوْجُودٌ فيه عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فقالت طَائِفَةٌ منهم إنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عن الْمُبَاشِرِ وَلِلْآمِرِ ثَوَابُ الْإِنْفَاقِ لِأَنَّ النِّيَابَةَ لَا تُجْزِئُ في الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ إلَّا أَنَّ في الْحَجِّ شَائِبَةً مَالِيَّةً من جِهَةِ الِاحْتِيَاجِ إلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَمِنْ جِهَةِ الْمُبَاشَرَةِ تَقَعُ عن الْمَأْمُورِ وَمِنْ جِهَةِ الْإِنْفَاقِ تَقَعُ عن الْآمِرِ لَكِنَّ الْمُرَجَّحَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَقَعُ عن الْآمِرِ عَمَلًا بِظَوَاهِر الْأَحَادِيثِ وَاحْتَجَّ الْمَانِعُ بِأَنَّ الْقَصْدَ من إيجَابِ الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ امْتِحَانُ الْمُكَلَّفِ وَالنِّيَابَةُ تُخِلُّ بِذَلِكَ وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ يُخِلُّ بِهِ مُطْلَقًا فإن في النِّيَابَةِ امْتِحَانًا أَيْضًا وَزَادَهَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ تَحْقِيقًا فقال الْأَفْعَالُ الْمُسْتَنِدَةُ إلَى الْفَاعِلِينَ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ شَرْعِيَّةً أو لُغَوِيَّةً فَإِنْ كانت شَرْعِيَّةً فَلَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ عِبَادَةً أو غَيْرَهَا
____________________
(1/349)
وَغَيْرُ الْعِبَادَةِ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ يُنْظَرَ فيها إلَى جِهَةِ الْفَاعِلِيَّةِ أو إلَى جِهَةِ الْفِعْلِ فَقَطْ من غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْفَاعِلِ فَمِنْ الْأَوَّلِ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ ما لم يَتَفَرَّقَا فَأَنَاطَ الشَّارِعُ ذلك بِالْفَاعِلِ فَالْعِبْرَةُ فيه بِهِ فَتَكُونُ عُهْدَةُ الْفِعْلِ مُتَعَلِّقَةً بِهِ وَلَوْ وَكِيلًا وَمِنْ الثَّانِي من بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَقَصَدَ الشَّارِعُ تَحْصِيلَ الْفِعْلِ وَاجْتَمَعَا في قَوْله تَعَالَى فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ له من بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَالتَّطْلِيقُ الْمُرَادُ بِهِ تَحْصِيلُ الْفِعْلِ سَوَاءٌ كان بِنَفْسِهِ أو بِنِيَابَةٍ أو بِغَيْرِهِ كما تَقَرَّرَ في الْفِقْهِ وَهَذَا من الثَّانِي وَحَتَّى تَنْكِحَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِسْنَادُ الْحَقِيقِيُّ الْمُتَعَلِّقُ بِالْفَاعِلِ وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ فَلَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ وَسِيلَةً أو تُقْصَدُ فَإِنْ كانت وَسِيلَةً فَلَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ وَسِيلَةً تَبْعُدُ عن الْعِبَادَةِ جِدًّا أو تَقْرُبُ منها جِدًّا فَإِنْ كانت تَبْعُدُ جِدًّا كَتَحْصِيلِ التُّرَابِ وَالْمَاءِ في الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ وَالصَّبِّ عليه فَالْإِجْمَاعُ على جَوَازِ دُخُولِ النِّيَابَةِ فيها وَإِنْ كانت تَقْرُبُ منها جِدًّا فَإِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ فيها الْقَصْدُ أو لَا يُعْتَبَرُ فَإِنْ لم يُعْتَبَرْ كَتَوْضِئَةِ الْغَيْرِ له أو تَغْسِيلِهِ فَالْإِجْمَاعُ على جَوَازِ الدُّخُولِ وَأَمَّا الْقَصْدُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بَدَنِيًّا مَحْضًا أو مُتَرَدِّدًا بَيْنَهُمَا فَإِنْ كان الْأَوَّلَ اُمْتُنِعَتْ النِّيَابَةُ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ إلَّا في صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ رَكْعَتَا الطَّوَافِ تَبَعًا لِلْحَجِّ وَكَذَا الصَّوْمُ عن الْمَيِّتِ على أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ كان مَالِيًّا مَحْضًا كَالزَّكَاةِ دَخَلَتْ النِّيَابَةُ في تَفْرِيقِهِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْوَسِيلَةَ إذْ الْمَالُ هو الْمَقْصُودُ وَإِنْ كان مُتَرَدِّدًا بَيْنَهُمَا كَالْحَجِّ جَازَ عِنْدَ الْيَأْسِ وَالْمَوْتِ على ما تَقَرَّرَ في الْفِقْهِ وَأَمَّا اللُّغَوِيَّاتُ فإن حَقِيقَتَهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَصْرُوفَةٌ إلَى ما اسْتَنَدَ إلَيْهِ الْفِعْلُ حَيْثُ لم يَبْقَ ما يَعُمُّ الْمَجَازَ وَلَا تُعْتَبَرُ الْعَادَةُ على الْمَشْهُورِ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ رَافِعَةً لِلْحَقِيقَةِ لِتَأْدِيَةِ ذلك إلَى النَّسْخِ وَيُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ مُخَصَّصَةً على طَرِيقَةٍ وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كان مَعَنَا حَقِيقَتَانِ دَارَ الْأَمْرُ بين أَنْ يَجْعَلَهُمَا مُشْتَرِكَيْنِ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا أو يَأْخُذُ بَيْنَهُمَا قَدْرًا مُشْتَرَكًا فَهُنَا يُقَالُ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ أَوْلَى وَأَمَّا في حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ فَلَا
____________________
(1/350)
مسألة في الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِلتَّكْلِيفِ السَّفَرُ فَمِنْهَا السَّفَرُ مُسْقِطٌ لِشَطْرِ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ وَمُسَوِّغٌ لِإِخْرَاجِهَا عن وَقْتِهَا إذْ جَوَّزَ له الشَّرْعُ التَّأْخِيرَ بِنِسْبَةِ الْجَمْعِ تَرْخِيصًا ثُمَّ منه ما ثَبَتَ لِمُطْلَقِ السَّفَرِ وَإِنْ قَصُرَ وَعَدَّهَا الْغَزَالِيُّ أَرْبَعَةً النَّفَلُ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ وَتَرْكُ الْجُمُعَةِ وَالتَّيَمُّمُ وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وقد يُنَازَعُ في هَذَيْنِ فَإِنَّهُمَا لَا يَخْتَصَّانِ بِالسَّفَرِ وَمِنْهُ ما يَخْتَصُّ بِالطَّوِيلِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ وَالْجَمْعُ وَالْمَسْحُ على الْخُفِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ الِاضْطِرَارُ وَمِنْهَا الِاضْطِرَارُ لِاسْتِبْقَاءِ الْمُهْجَةِ رَخَّصَ له الشَّرْعُ بِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ بَلْ أَوْجَبَهُ لِأَنَّهَا إنَّمَا حُرِّمَتْ لِأَنَّ تَنَاوُلَهَا يُخِلُّ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَذَلِكَ لَا يُقَاوِمُ اسْتِبْقَاءَ الْمُهْجَةِ الْجَهْلُ وَمِنْهَا الْجَهْلُ وَلِهَذَا لم يَجِبْ الْحَدُّ على من جَهِلَ تَحْرِيمَ الزِّنَا وَالْخَمْرِ إذَا كان مِمَّنْ يَخْفَى عليه وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِجَهْلِهِ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ وَلَا تَبْطُلُ فَوْرِيَّةُ الْخِيَارِ بِجَهْلِهِ ثُبُوتَهُ وَلَا يَكْفُرُ مُنْكِرُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ الْخَفِيِّ كَتَوْرِيثِ بِنْتِ الِابْنِ مع الْبِنْتِ السُّدُسَ وفي تَعْلِيقِ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ في الْكَلَامِ على خَيْطِ الْخَيَّاطِ كُلُّ مَسْأَلَةٍ تَدِقُّ وَتَغْمُضُ مَعْرِفَتُهَا هل يُعْذَرُ فيها الْعَامِّيُّ على وَجْهَيْنِ وَشَرَطَ الشَّافِعِيُّ في تَعْصِيَتِهِ الْبَيْعَ على بَيْعِ أَخِيهِ الْعِلْمَ بِالنَّهْيِ وَعَذَرَهُ بِالْجَهْلِ وَكَذَا في النَّجْشِ كما نَقَلَهُ الشَّافِعِيُّ خِلَافًا لِلرَّافِعِيِّ في قَوْلِهِ إنَّهُ لم يَشْرِطْهُ وَالصَّوَابُ أَنَّ ذلك شَرْطٌ في جَمِيعِ الْمَنَاهِي وقد رَوَى النَّسَائِيّ آكِلُ الرِّبَا وَمُوَكِّلُهُ وَكَاتِبُهُ إذَا عَلِمُوا بِذَلِكَ مَلْعُونُونَ على لِسَانِ مُحَمَّدٍ يوم الْقِيَامَةِ
____________________
(1/351)
الْخَطَأُ وَمِنْهَا الْخَطَأُ بِأَنْ يَصْدُرَ منه الْفِعْلُ بِغَيْرِ قَصْدٍ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فيه الْقِصَاصُ لَكِنْ حَكَى الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإِجْمَاعَ على أَنَّهُ حَرَامٌ وَأَنْ لَا إثْمَ فيه حَكَاهُ عنه صَاحِبُ الْبَيَانِ في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ على الْخِلَافِ في وَطْءِ الشُّبْهَةِ وَنَحْوِهِ حتى لَا يُوصَفَ لَا بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ على الْأَصَحِّ الْحَيْضُ وَمِنْهَا الْحَيْضُ مُسْقِطٌ لِلصَّلَاةِ وَكَذَا الصَّوْمُ على الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ وَإِنَّمَا وَجَبَ قَضَاؤُهُ بِأَمْرِ جَدِيدٍ الْمَرَضُ وَمِنْهَا الْمَرَضُ مُسْقِطٌ لِلْقِيَامِ في الْفَرْضِ وَمُسَوِّغٌ لِإِخْرَاجِ الصَّوْمِ عن وَقْتِهِ وَيَلْتَحِقُ بِهِ دَائِمُ الْحَدَثِ كَالْمُسْتَحَاضَةِ وَالسَّلَسُ مُسْقِطٌ لِحُكْمِ الطَّهَارَتَيْنِ في الصَّلَاةِ الرِّقُّ وَمِنْهَا الرِّقُّ يُسْقِطُ الْجُمُعَةَ وَكَذَلِكَ الْجَمَاعَةُ فَلَا تَجِبُ عليه قَطْعًا الْإِكْرَاهُ وَمِنْهَا الْإِكْرَاهُ الْمُبِيحُ له التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ وَلَا خِلَافَ في وُجُوبِ الِاسْتِسْلَامِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ على الْقَتْلِ وَالزِّنَا وفي الْمَبْسُوطِ لِلْحَنَفِيَّةِ الْإِكْرَاهُ أَثَرُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ في إلْغَاءِ عِبَارَتِهِ كَتَأْثِيرِ الصِّبَا وَالْجُنُونِ وَعِنْدَنَا تَأْثِيرُهُ في سَلْبِ الرِّضَا لَا في إهْدَارِ عِبَارَتِهِ حتى كَأَنَّ مُتَصَرِّفَاتِهِ مُنْعَقِدَةٌ وَلَكِنْ ما يُعْتَمَدُ لُزُومُهُ الرِّضَا كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَنَحْوِهِمَا لَا يَلْزَمُ وما لَا يَعْتَمِدُ الرِّضَا يَلْزَمُ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ قال السَّرَخْسِيُّ قد اسْتَكْثَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآثَارِ في أَوَّلِ كِتَابِ الْإِكْرَاهِ وَهَذَا لَا يُزِيلُ الْخِطَابَ حتى يَتَنَوَّعَ أَفْعَالُهُ إلَى مُبَاحٍ وَوَاجِبٍ وَحَرَامٍ فَالْوَاجِبُ
____________________
(1/352)
شُرْبُ الْخَمْرِ وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وَتَارَةً قَتْلُ النَّفْسِ وَالزِّنَا وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْخِطَابِ قال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَجُمْلَةُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى على الْإِنْسَانِ النَّظَرُ أَوَّلًا ثُمَّ الْمَعْرِفَةُ ثَانِيًا ثُمَّ الْعِبَادَاتُ فَالشَّافِعِيُّ يقول الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ سَاقِطَةٌ عن الصَّبِيِّ دُونَ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ إذَا أُخِذَتْ من مَالِهِ فَلَا نَقُولُ يَسْتَحِقُّ بها ثَوَابَ من يُمْتَحَنُ بِتَنْقِيصِ الْمِلْكِ وَمَرَاغِمِ الشَّيْطَانِ الذي يَعِدُ الْفَقْرَ وَلَكِنْ يُؤْخَذُ من مَالِهِ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ لَا نَظَرًا لِلصَّبِيِّ الْمُؤَدِّي وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا إنَّمَا تُؤْخَذُ منه بِاعْتِبَارِ الْمُوَاسَاةِ لَا بِاعْتِبَارِ الْعِبَادَةِ فَعَلَى هذا ليس على الصَّبِيِّ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ وَلَا بَدَنِيَّةٌ وَإِنَّمَا الْمَأْخُوذُ من مَالِهِ نَفَقَةُ أُخُوَّةِ الدِّينِ ثُمَّ لَا يَلْزَمُ قَضَاءُ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِعِلْمِ الشَّرْعِ بِأَنَّ ذلك يَجُرُّ حَرَجًا عَظِيمًا من حَيْثُ إنَّ الصَّبِيَّ عَامٌّ في أَصْلِ الْفِطْرَةِ وقد صَحَّ قَطْعًا مُدَّةٌ مَدِيدَةٌ وَالْجُنُونُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُسْقِطُ الْقَضَاءَ مع أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِدَوَامِهِ وَلَا أَنَّهُ عَامٌّ فَلَيْسَ مُلْتَحِقًا بِالصَّبِيِّ مع الْفَرْقِ الْقَاطِعِ وَلَكِنْ لِأَنَّ أَصْلَهُ مُسْقِطٌ لِلْقَضَاءِ وَمَقَادِيرُهُ مُلْحِقَةٌ بِأَصْلِهِ وأبو حَنِيفَةَ يُلْحِقُ تَفَاصِيلَهُ بِأَصْلٍ آخَرَ وهو الْإِغْمَاءُ وَنَظَرُ الشَّافِعِيِّ أَوْلَى وَيَتَّصِلُ بِذَلِكَ أَنَّ عَقْلَهُ وَتَمْيِيزَهُ يَقْتَضِي تَصْحِيحَ عِبَارَتِهِ إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يقول فَسَدَتْ عِبَارَتُهُ فِيمَا صَارَ بِوَلِيٍّ عليه فيها وَأَمَّا ما لم يَصِرْ مُوَلَّى عليه فيها فَفَاسِدٌ فِيمَا يَضُرُّهُ صَحِيحٌ فِيمَا يَنْفَعُهُ حتى لو قال أنا جَائِعٌ يُسْمَعُ منه وَيُطْعَمُ وأبو حَنِيفَةَ فَصَّلَ فقال وَالْأَعْذَارُ الْمُسْقِطَةُ لِلْوُجُوبِ بَعْدَ الْبُلُوغِ تِسْعَةٌ جُنُونٌ وَنَوْمٌ وَإِغْمَاءٌ وَنِسْيَانٌ وَخَطَأٌ وَإِكْرَاهٌ وَجَهْلٌ بِأَسْبَابِ الْوُجُوبِ وَحَيْضٌ وَرِقٌّ فَالْجُنُونُ رَآهُ أبو حَنِيفَةَ شَبِيهًا بِالصَّبِيِّ في عَدَمِ الْعَقْلِ بِالْجُنُونِ من أَصْلِهِ وَالصَّبِيُّ في كَمَالِهِ وَأَلْحَقَهُ بِهِ من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَالصِّبَا يَمْنَعُ وُجُوبَ حُقُوقِ اللَّهِ كُلِّهَا مَالِيِّهَا وَبَدَنِيِّهَا وَعِنْدَنَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَالسَّفَهُ لَا يُؤَثِّرُ في الْعِبَادَاتِ إجْمَاعًا وفي الطَّلَاقِ وَالْإِقْرَارِ بِالدَّمِ وَيُؤَثِّرُ في التَّصَرُّفَاتِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالنَّوْمُ وَالْإِغْمَاءُ يَمْنَعَانِ اسْتِكْمَالَ الْعَقْلِ فلم نَعْتَبِرْ النَّوْمَ لِشَيْءٍ من الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِلْعِبَادَةِ وفي الْعِبَادَةِ كَلَامٌ وَالسُّكْرُ وَإِنْ شَابَهَ الْإِغْمَاءَ في الصُّورَةِ وَلَكِنَّهُ لَمَّا كان مَقْصُودًا لِلْعُقَلَاءِ صَارَ السَّكْرَانُ كَالصَّاحِي وما يَقْتَضِي النِّسْيَانَ وَالْإِكْرَاهَ وَالرِّقَّ عُذْرٌ يُسْتَقْصَى في الْفِقْهِ وَالْكُفْرُ ليس مُسْقِطًا لِلْخِطَابِ عِنْدَنَا وَلَكِنَّ الشَّرْعَ رَخَّصَ مع وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ بِإِسْقَاطِ الْقَضَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَرَخَّصَ بِإِسْقَاطِ ضَمَانِ الْمُتْلِفَاتِ وَرَخَّصَ تَصْحِيحُ أَنْكِحَتِهِمْ
____________________
(1/353)
وَمُعَامَلَتِهِمْ كَثِيرًا مِمَّا يُخَالِفُ وَضْعَ الشَّرْعِ تَرْغِيبًا لهم في الْإِسْلَامِ وَكُلُّ ذلك مُسْتَقْصًى في الْفِقْهِ فَهَذَا مَجْمُوعُ الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ مع وُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ رَجَّحَ سَبَبًا على سَبَبٍ من غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ عِنْدَ تَفَاوُتِ مَرَاتِبِ الْأَدِلَّةِ في بَعْضِهَا الصِّبَا وَاعْلَمْ أَنَّ الصِّبَا إنَّمَا يَنْتَصِبُ عُذْرًا في الْعِبَادَاتِ التي تَقَرَّرَ وُجُوبُهَا بِالشَّرْعِ وَمَنْ قال إنَّ وُجُوبَ الْإِسْلَامِ بِالْعَقْلِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَدِّرَ الصِّبَا عُذْرًا أَصْلًا وَيَقُولُ يَجِبُ على اللَّهِ أَنْ يُعَاقِبَهُ وهو قَوْلٌ بَاطِلٌ وَبَنَى عليه الْحَنَفِيَّةُ صِحَّةُ إسْلَامِهِ على مَعْنَى تَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِهِ لِتَرَتُّبِهَا على الْإِسْلَامِ الْمَرْفُوعِ وَأَبْطَلَهُ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّهُ لم يُظْهِرْ انْطِوَاءَ ضَمِيرِهِ أو يقول لَا يُحْتَمَلُ الْإِسْلَامُ إلَّا فَرْضًا وَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ فَرْضًا فَخَرَجَ لِذَلِكَ عن كَوْنِهِ مَشْرُوعًا
____________________
(1/354)
مباحث الكتاب العزيز
____________________
(1/355)
الكتاب الْكِتَابُ الْقُرْآنُ وَقِيلَ بَلْ مُتَغَايِرَانِ وَرَدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى عن الْجِنِّ إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ من بَعْدِ مُوسَى فَدَلَّ على تَرَادُفِهِمَا وهو أُمُّ الدَّلَائِلِ وَفِيهِ الْبَيَانُ لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ قال اللَّهُ تَعَالَى وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ قال الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه في الرِّسَالَةِ وَلَيْسَتْ تَنْزِلُ بِأَحَدٍ نَازِلَةٌ في الدُّنْيَا إلَّا وفي كِتَابِ اللَّهِ الدَّلِيلُ على سَبِيلِ الْهُدَى فيها وَأَوْرَدَ من الْأَحْكَامِ ما ثَبَتَ ابْتِدَاءً بِالسُّنَّةِ وَأَجَابَ ابن السَّمْعَانِيِّ بِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ من كِتَابِ اللَّهِ في الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عليه فيه اتِّبَاعَ الرَّسُولِ وَحَذَّرْنَا من مُخَالَفَتِهِ قال الشَّافِعِيُّ فَمَنْ قَبِلَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَعَنْ اللَّهِ قَبِلَ وَيُطْلَقُ الْقُرْآنُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ الذي هو صِفَةٌ من صِفَاتِهِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ هذا الْمَتْلُوُّ وَذَلِكَ مَحَلُّ نَظَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأُخْرَى وَيُرَادُ بِهِ الْأَلْفَاظُ الْمُقَطَّعَةُ الْمَسْمُوعَةُ وهو الْمَتْلُوُّ وَهَذَا مَحَلُّ نَظَرِ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ وَسَائِرِ خَدَمَةِ الْأَلْفَاظِ كَالنُّحَاةِ وَالْبَيَانِيِّينَ وَالتَّصْرِيفِيَّيْنِ وَاللُّغَوِيِّينَ وهو مُرَادُنَا تَعْرِيفُ الْقُرْآنِ فَنَقُولُ هو الْكَلَامُ الْمُنَزَّلُ لِلْإِعْجَازِ بِآيَةٍ منه الْمُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهِ فَخَرَجَ بِالْمُنَزَّلِ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ وَالْأَلْفَاظُ وَإِنْ كانت لَا تَقْبَلُ حَقِيقَةَ النُّزُولِ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ الْمَجَازُ الصُّورِيُّ وَقَوْلُنَا لِلْإِعْجَازِ خَرَجَ بِهِ الْمُنَزَّلُ على غَيْرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فإنه لم يَقْصِدْ بِهِ الْإِعْجَازَ وَالْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ وقد صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ بِأَنَّ السُّنَّةَ مُنَزَّلَةٌ كَالْكِتَابِ قال اللَّهُ تَعَالَى وما يَنْطِقُ عن الْهَوَى إنْ هو إلَّا وَحْيٌ يُوحَى وَخَرَجَ بِقَوْلِنَا الْمُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهِ ما نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ وَقُلْنَا بِآيَةٍ منه ولم نَقُلْ بِسُورَةٍ كما ذَكَره الْأُصُولِيُّونَ لِأَنَّ أَقَصَرَ السُّوَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَالتَّحَدِّي قد وَقَعَ بِأَقَلَّ منها في قَوْله تَعَالَى فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ
____________________
(1/356)
وَصَرَّحَ أَصْحَابُنَا في كِتَابِ الصَّدَاقِ فِيمَا لو أَصَدَقَهَا تَعْلِيمَ سُورَةٍ فَلَقَّنَهَا بَعْضَ آيَةٍ ثُمَّ نَسِيَتْ لَا يُحْسَبُ له شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى قُرْآنًا لِعَدَمِ الْإِعْجَازِ فيها كَذَا قال ابن الصَّبَّاغِ وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ مِثْلُ ذلك على الْجُنُبِ لَكِنْ صَرَّحَ الْفُورَانِيُّ وَغَيْرُهُ بِالْمَنْعِ وَأَمَّا الْآيَةُ وَالْآيَتَانِ فَحَكَى في الشَّامِلِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ لِأَنَّ الْإِعْجَازَ إنَّمَا يَقَعُ بِثَلَاثِ آيَاتٍ وَذَلِكَ قَدْرُ سُورَةٍ قَصِيرَةٍ وَالثَّانِي يَجُوزُ لِأَنَّ الْآيَةَ تَامَّةٌ من جِنْسٍ له فيه إعْجَازٌ فَأَشْبَهَ الثَّلَاثَ على أَنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا في أَنَّ الْإِعْجَازَ مُمْكِنٌ بِالسُّورَةِ فإن الْبُلَغَاءَ من الْعَرَبِ قد يَقْدِرُونَ على الْقَلِيلِ دُونَ الْكَثِيرِ وقال الْآمِدِيُّ في الْأَبْكَارِ الْتَزَمَ الْقَاضِي في أَحَدِ جَوَابَيْهِ الْإِعْجَازَ في سُورَةِ الْكَوْثَرِ وَأَمْثَالِهَا تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَالْأَصَحُّ ما ارْتَضَاهُ في الْجَوَابِ الْآخَرِ وهو اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٍ من أَصْحَابِنَا أَنَّ التَّحَدِّيَ إنَّمَا وَقَعَ بِسُورَةٍ تَبْلُغُ في الطُّولِ مَبْلَغًا يَتَبَيَّنُ فيه رُتَبُ ذَوِي الْبَلَاغَةِ فإنه قد يَصْدُرُ من غَيْرِ الْبَلِيغِ أو مِمَّنْ هو أَدْنَى في الْبَلَاغَةِ من الْكَلَامِ الْبَلِيغِ ما يُمَاثِلُ بَعْضَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ الصَّادِرِ عَمَّنْ هو أَبْلَغُ منه وَرُبَّمَا زَادَ عليه وَلَا يُمْكِنُ ضَبْطُ الْكَلَامِ الذي يَظْهَرُ فيه تَفَاوُتُ الْبُلَغَاءِ بَلْ إنَّمَا ضَبَطَ بِالْمُتَعَارَفِ الْمَعْلُومِ بين أَهْلِ الْخِبْرَةِ وَالْبَلَاغَةِ قال الْآمِدِيُّ ما ذَكَرْنَاهُ إنْ كان ظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ في قَوْله تَعَالَى فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ غير أَنَّ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ بِالدَّلِيلِ وَاجِبٌ فَإِنْ حُمِلَ التَّحَدِّي على ما لَا يَتَفَاوَتُ فيه بَلَاغَةُ الْبُلَغَاءِ وَلَا يَظْهَرُ بِهِ التَّعْجِيزُ يَكُونُ مُمْتَنِعًا انْتَهَى ت نبيه الْإِعْجَازُ في قِرَاءَةِ كَلَامِ اللَّهِ الْإِعْجَازُ يَقَعُ عِنْدَنَا في قِرَاءَةِ كَلَامِ اللَّهِ لَا في نَفْسِ كَلَامِهِ على الصَّحِيحِ من أَقَاوِيلِ أَصْحَابِنَا كما قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ في الْمُقْنِعِ وَاحْتَجَّ عليه بِأَنَّ الْإِعْجَازَ دَلَالَةُ الصِّدْقِ وَدَلَالَةُ الصِّدْقِ لَا تَتَقَدَّمُ الصِّدْقَ وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى أَزَلِيٌّ فَوَجَبَ أَنْ يَنْصَرِفَ ذلك إلَى الْقِرَاءَةِ الْحَادِثَةِ وَلِأَنَّ الْإِعْجَازَ وَقَعَ في النَّظْمِ وَالنَّظْمُ يَقَعُ في الْقِرَاءَةِ وَكَلَامُ اللَّهِ ليس بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ على أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بمثله فَالْمُرَادُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَحَدَّى بِالسُّورَةِ وَالسُّورَةُ تَرْجِعُ إلَى الْقُرْآنِ لَا إلَى الْمَقْرُوءِ قال وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى إثْبَاتِ نَفْسِ كَلَامِ اللَّهِ مُعْجِزَةً لِلرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
____________________
(1/357)
وَاقْتَدَى بِبَعْضِ سَلَفِنَا في ذلك مِمَّنْ كان يَتَعَاطَى التَّفْسِيرَ وَالتَّحْقِيقُ ما ذَكَرْنَاهُ مَسْأَلَةٌ الْكَلَامُ الْكَلَامُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَشْعَرِيَّةِ مُشْتَرَكٌ بين الْحُرُوفِ الْمَسْمُوعَةِ وَالْمَعْنَى النَّفْسِيِّ لِأَنَّهُ قد اُسْتُعْمِلَ فِيهِمَا وَالْأَصْلُ في الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ أَمَّا اسْتِعْمَالُهُ في الْعِبَارَاتِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى وَيَقُولُونَ في أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أو اجْهَرُوا بِهِ وَقِيلَ حَقِيقَةٌ في النَّفْسِيِّ مَجَازٌ في اللِّسَانِيِّ وَقِيلَ عَكْسُهُ وَالثَّلَاثَةُ مَحْكِيَّةٌ عن الْأَشْعَرِيِّ حَكَاهَا ابن بَرْهَانٍ عنه وَالْكَلَامُ النَّفْسِيُّ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ نِسْبَةٌ بين مُفْرَدَيْنِ قَائِمَةٌ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ وَيَعْنُونَ بِالنِّسْبَةِ بين الْمُفْرَدَيْنِ تَعَلُّقَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَإِضَافَتَهُ إلَيْهِ على جِهَةِ الْإِسْنَادِ الْإِفَادِيِّ أَيْ بِحَيْثُ إذَا عَبَّرَ عن تِلْكَ النِّسْبَةِ بِلَفْظٍ يُطَابِقُهَا وَيُؤَدِّي مَعْنَاهَا كان ذلك اللَّفْظُ إسْنَادًا إفَادِيًّا وَمَعْنَى قِيَامِ هذه النِّسْبَةِ بِالْمُتَكَلِّمِ أَنَّ الشَّخْصَ إذَا قال لِغَيْرِهِ اسْقِنِي مَاءً فَقَبْلَ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ قام بِنَفْسِهِ تَصَوُّرُ حَقِيقَةِ السَّقْيِ وَحَقِيقَةِ الْمَاءِ وَالنِّسْبَةِ الطَّلَبِيَّةِ بَيْنَهُمَا فَهَذَا هو الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ وَالْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ وَصِيغَةُ قَوْلِهِ اسْقِنِي مَاءً عِبَارَةٌ عنه وَدَلِيلٌ عليه وقال الْقَرَافِيُّ مَعْنَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ في نَفْسِهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ عن كَوْنِ الْوَاحِدِ نِصْفَ الِاثْنَيْنِ وَعَنْ حَدَثِ الْعَالَمِ وهو غَيْرُ مُخْتَلِفٍ ثُمَّ يُعَبِّرُ عنه بِعِبَارَاتٍ وَلُغَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَالْمُخْتَلِفُ هو الْكَلَامُ اللِّسَانِيُّ وَغَيْرُ الْمُخْتَلِفِ هو الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ الْقَائِمُ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُسَمَّى ذلك الْعِلْمُ الْخَاصُّ سَمْعًا لِأَنَّ إدْرَاكَ الْحَوَاسِّ إنَّمَا هو عُلُومٌ خَاصَّةٌ أَخَصُّ من مُطْلَقِ عِلْمٍ فَكُلُّ إحْسَاسٍ عِلْمٌ وَلَيْسَ كُلُّ عِلْمٍ إحْسَاسًا فإذا وُجِدَ هذا الْعِلْمُ الْخَاصُّ في نَفْسِ مُوسَى الْمُتَعَلِّقِ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى سُمِّيَ بِاسْمِهِ الْمَوْضُوعِ له في اللُّغَةِ وهو السَّمَاعُ وقال الْغَزَالِيُّ في بَعْضِ عَقَائِدِهِ من أَحَالَ سَمَاعَ مُوسَى كَلَامًا ليس بِصَوْتٍ وَلَا حَرْفٍ فَلْيُحِلْ يوم الْقِيَامَةِ رُؤْيَةَ ذَاتٍ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ
____________________
(1/358)
مَسْأَلَةٌ إنْزَالُ الْقُرْآنِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَأَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِلُغَةِ الْعَرَبِ قال اللَّهُ تَعَالَى وما أَرْسَلْنَا من رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ وَأَوْرَدَ ابن السَّمْعَانِيِّ سُؤَالًا حَسَنًا وهو أَنَّهُ كان من تَقَدَّمَ من الْأَنْبِيَاءِ عليهم السَّلَامُ مَبْعُوثًا إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا بِلِسَانِهِمْ أَمَّا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَمَبْعُوثٌ إلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ فَلِمَ صَارَ مَبْعُوثًا بِلِسَانِ بَعْضِهِمْ أَجَابَ بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عليه السَّلَامُ مَبْعُوثًا بِلِسَانِ جَمِيعِهِمْ وهو خَارِجٌ عن الْعُرْفِ وَالْمَعْهُودِ من الْكَلَامِ وَيَبْعُدُ بَلْ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَرِدَ كُلُّ كَلِمَةٍ من الْقُرْآنِ مُكَرَّرَةً بِكُلِّ الْأَلْسِنَةِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ بِلِسَانِ بَعْضِهِمْ وكان اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ أَحَقَّ من كل لِسَانٍ لِأَنَّهُ أَوْسَعُ وَأَفْصَحُ وَلِأَنَّهُ لِسَانُ أَوْلَى بِالْمُخَاطَبِينَ قال الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بن مَالِكٍ وَنَزَلَ بِلُغَةِ الْحِجَازِيِّينَ إلَّا قَلِيلًا فإنه نَزَلَ بِلُغَةِ التَّمِيمِيِّينَ فَمِنْ الْقَلِيلِ إدْغَامٌ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فإن اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ في سُورَةِ الْحَشْرِ من يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عن دِينِهِ في قِرَاءَةِ غَيْرِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ فإن الْإِدْغَامَ في الْمَجْزُومِ وَالْأَمْرَ الْمُضَاعَفَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَالْفَكُّ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَكَذَلِكَ نَحْوُ من يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عن دِينِهِ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ ويحببكم اللَّهُ ويمددكم ( ( ( و ) ) ) ومن ( ( ( يمددكم ) ) ) يُشَاقِقْ ومن يُحَادِدْ اللَّهَ واستفزز فَلْيَمْدُدْ وَاحْلُلْ واشدد بِهِ أَزْرِي وَمَنْ يَحْلِلْ عليه قال وقد أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ على نَصْبِ إلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ لِأَنَّ لُغَةَ الْحِجَازِيِّينَ الْتِزَامُ النَّصْبِ في الْمُنْقَطِعِ وَإِنْ كان بَنُو تَمِيمٍ يُتْبِعُونَ كما أَجْمَعُوا على نَصْبِ ما هذا بَشَرًا لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ الْحِجَازِيِّينَ وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ قَوْله تَعَالَى قُلْ لَا يَعْلَمُ من في السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إلَّا اللَّهُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ جاء على لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ ثُمَّ نَازَعَهُ في ذلك
____________________
(1/359)
مَسْأَلَةٌ الْإِعْجَازُ في النَّظْمِ وَالْإِعْرَابِ وَلَا خِلَافَ بين الْعُقَلَاءِ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ مُعْجِزٌ لِأَنَّ الْعَرَبَ عَجَزُوا عن مُعَارَضَتِهِ وَاخْتَلَفُوا في سَبَبِهِ هل كان لِكَوْنِهِ مُعْجِزًا أو لِمَنْعِ اللَّهِ إيَّاهُمْ عن ذلك مع قُدْرَتِهِمْ عليه وهو الْمُسَمَّى بِالصَّرْفِ على قَوْلَيْنِ وَالثَّانِي قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَقِيلَ الْإِعْجَازُ لِخُرُوجِهِ عن سَائِرِ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ فَزَادَهُمْ أُسْلُوبًا لم يَكُنْ فِيمَا بَيْنَهُمْ في لُغَتِهِمْ لِأَنَّهَا مَحْصُورَةٌ في الرَّجَزِ وَالشِّعْرِ وَالرِّسَالَةِ وَالْخَطِّ وَمَنْظُومِ الْكَلَامِ وَمَنْثُورِهِ وَالْقُرْآنُ خَارِجٌ عن ذلك فَجَرَى مَجْرَى إحْيَاءِ الْمَوْتَى في زَمَنِ عِيسَى لِأَنَّ في وَقْتِهِ كان الْأَطِبَّاءُ يَدَّعُونَ تَصْحِيحَ الْمَرْضَى ولم يَكُنْ دَعْوَى إحْيَاءِ الْمَوْتَى فَزَادَ عليهم إحْيَاءُ الْمَوْتَى وَكَذَلِكَ عَصَا مُوسَى وَقِيلَ الْإِعْجَازُ في بَلَاغَتِهِ وَجَزَالَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ الْمُجَاوِزَةِ لِحُدُودِ جَزَالَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْأَسَالِيبِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْإِعْجَازَ في جَزَالَتِهِ مع أُسْلُوبِهِ الْخَارِجِ عن أَسَالِيبِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَالْجَزَالَةُ وَالْأُسْلُوبُ مَعًا مُتَعَلِّقَانِ بِالْأَلْفَاظِ وَالْمَعْنَى في حُكْمِ الشَّائِعِ لِلَّفْظِ وَاللَّفْظُ هو الْمَتْبُوعُ وَمِنْ ثَمَّ لَا تَقُومُ تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ مَقَامَهُ في إقَامَةِ فَرْضِ الصَّلَاةِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَاخْتَارَ ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ نَحْوَهُ وَحُكِيَ عن الْجَاحِظِ أَنَّ الْإِعْجَازَ مَنْعُ الْخَلْقِ عن الْإِتْيَانِ بِهِ وَلَيْسَ هذا قَوْلُ الصِّرْفَةِ الْمَعْزُوِّ إلَى الشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ فإن قَوْلَ الصَّارِفَةِ مَعْنَاهُ أَنَّ قُوَاهُمْ كانت مَجْبُولَةً على الْإِتْيَانِ بمثله ثُمَّ سَلَبَهُمْ اللَّهُ تِلْكَ الْقُوَّةَ فَصَارُوا عَاجِزِينَ وَالْإِعْجَازُ حَاصِلٌ بهذا حُصُولَ ابْتِدَاءٍ لِأَنَّ سَلْبَ الْإِنْسَانِ قُدْرَتَهُ أَعْجَزُ له وَأَبْلَغُ من تَحَدِّيهِ بِمَا لم يَقْدِرْ عليه وَقِيلَ الْإِعْجَازُ فيه غَرَابَةُ النَّظْمِ مع الْإِخْبَارِ عن الْغَيْبِ وَإِتْيَانِهِ بِقَصَصِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مَسْأَلَةٌ وَهَلْ الْإِعْجَازُ في النَّظْمِ وَحْدَهُ دُونَ الْإِعْرَابِ أو في النَّظْمِ وَالْإِعْرَابِ مَعًا خِلَافٌ حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي في التَّتِمَّةِ وَالرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ في بَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَفَرَّعَا عليه ما لو لَحَنَ في الصَّلَاةِ ولم يُغَيِّرْ الْمَعْنَى كما لو قال الْحَمْدُ لِلَّهِ وَنَصَبَ الْهَاءَ هل
____________________
(1/360)
تُجْزِئُهُ وَجْهَانِ بِنَاءً على هذا الْأَصْلِ قالت الْحَنَفِيَّةُ الْقُرْآنُ عِبَارَةٌ عن النَّظْمِ الدَّالِّ على الْمَعْنَى مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَغَيْرِهَا بَلْ يَجِبُ قِرَاءَتُهُ على هَيْئَتِهِ التي يَتَعَلَّقُ بها الْإِعْجَازُ لِتَقْصِيرِ التَّرْجَمَةِ عنه وَلِتَقْصِيرِ غَيْرِهِ من الْأَلْسُنِ عن الْبَيَانِ الذي خُصَّ بِهِ دُونَ سَائِرِ الْأَلْسِنَةِ قال اللَّهُ تَعَالَى بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ هذا لو لم يَكُنْ مُتَحَدًّى بِنَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ وإذا لم تَجُزْ قِرَاءَتُهُ بِالتَّفْسِيرِ الْعَرَبِيِّ الْمُتَحَدَّى بِنَظْمِهِ فَأَحْرَى أَنْ لَا تَجُوزَ بِالتَّرْجَمَةِ بِلِسَانِ غَيْرِهِ وَمِنْ هَاهُنَا قال الْقَفَّالُ في فَتَاوِيهِ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِالْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ قِيلَ له فَإِذَنْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُفَسِّرَ الْقُرْآنَ قال ليس كَذَلِكَ لِأَنَّ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِ مُرَادِ اللَّهِ وَيَعْجَزُ عن الْبَعْضِ أَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِ مُرَادِ اللَّهِ وَفَرَّقَ غَيْرُهُ بين التَّرْجَمَةِ وَالتَّفْسِيرِ فقال يَجُوزُ تَفْسِيرُ الْأَلْسُنِ بَعْضِهَا بِبَعْضِهِ لِأَنَّ التَّفْسِيرَ عِبَارَةٌ عَمَّا قام في النَّفْسِ من الْمَعْنَى لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ وَالتَّرْجَمَةُ هِيَ بَدَلُ اللَّفْظَةِ بِلَفْظَةٍ تَقُومُ مَقَامَهَا في مَفْهُومِ الْمَعْنَى لِلسَّامِعِ الْمُعْتَبِرِ لِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ فَكَأَنَّ التَّرْجَمَةَ إحَالَةُ فَهْمِ السَّامِعِ على الِاعْتِبَارِ وَالتَّفْسِيرُ تَعْرِيفُ السَّامِعِ بِمَا فَهِمَ الْمُتَرْجِمُ وَهَذَا فَرْقٌ حَسَنٌ وما أَحَالَهُ الْقَفَّالُ من تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أبو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بن فَارِسٍ عن كِتَابِ فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ أَيْضًا فقال لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ من الْمُتَرْجِمِينَ على أَنْ يَنْقُلَ الْقُرْآنَ إلَى شَيْءٍ من الْأَلْسِنَةِ كما نُقِلَ الْإِنْجِيلُ عن السُّرْيَانِيَّةِ إلَى الْحَبَشِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَتُرْجِمَتْ التَّوْرَاةُ وَالزَّبُورُ وَسَائِرُ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّ الْعَجَمَ لم تَتَّسِعْ في الْمَجَازِ اتِّسَاعَ الْعَرَبِ أَلَا تَرَى أَنَّك لو أَرَدْت أَنْ تَنْقُلَ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَلَا وَإِمَّا تَخَافَنَّ من قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ على سَوَاءٍ لم تَسْتَطِعْ أَنْ تَأْتِيَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ مُؤَدِّيَةً عن الْمَعْنَى الذي أُودِعَتْ فيه حتى تَبْسُطَ مَجْمُوعَهَا وَتَفُكَّ مَنْظُومَهَا وَتُظْهِرَ مَسْتُورَهَا فَتَقُولُ إنْ كان بَيْنَكَ وَبَيْنَ قَوْمٍ هُدْنَةٌ وَعَهْدٌ فَخِفْتَ منهم خِيَانَةً وَنَقْضًا فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّكَ قد نَقَضْتَ ما شَرَطْتَهُ لهم وَآذِنْهُمْ بِالْحَرْبِ لِتَكُونَ أنت وَهُمْ في الْعِلْمِ بِالنَّقْضِ على اسْتِوَاءٍ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ في الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ا هـ وَظَهَرَ من هذا أَنَّ الْخِلَافَ الْمَحْكِيَّ عن أبي حَنِيفَةَ في جَوَازِ قِرَاءَتِهِ بِالْفَارِسِيَّةِ لَا
____________________
(1/361)
يَتَحَقَّقُ لِعَدَمِ إمْكَانِ تَصَوُّرِهِ على أَنَّهُ قد صَحَّ عن أبي حَنِيفَةَ الرُّجُوعُ عن ذلك حَكَاهُ عبد الْعَزِيزِ في شَرْحِ الْبَزْدَوِيِّ وَاَلَّذِينَ لم يَطَّلِعُوا على الرُّجُوعِ من أَصْحَابِهِ قالوا أَرَادَ بِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَالْعَجْزِ عن الْقُرْآنِ فَإِنْ لم يَكُنْ كَذَلِكَ اُمْتُنِعَ وَحُكِمَ بِزَنْدَقَةِ فَاعِلِهِ وَجَعَلَ الْقَفَّالُ فِيمَا حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في الْأَسْرَارِ مَأْخَذَ الْخِلَافِ في ذلك الْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَفِيهِ نَظَرٌ وَرَأَيْتُ في كَلَامِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ من الْمَغَارِبَةِ أَنَّ الْمَنْعَ مَخْصُوصٌ بِالتِّلَاوَةِ فَأَمَّا ما تَرْجَمَتُهُ بِالْفَارِسِيَّةِ فإن ذلك جَائِزٌ لِلضَّرُورَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ من ذلك على بَيَانِ الْحُكْمِ الْمُحْكَمِ منه وَالْقَرِيبِ الْمَعْنَى بِمِقْدَارِ الضَّرُورَةِ إلَيْهَا من التَّوْحِيدِ وَأَرْكَانِ الْعِبَادَاتِ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِمَا سِوَى ذلك وَيُؤْمَرُ من أَرَادَ الزِّيَادَةَ على ذلك بِتَعَلُّمِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ قال وَهَذَا هو الذي يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ وَلِذَلِكَ لم يَكْتُبْ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى قَيْصَرَ إلَّا بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ مَحْكَمَةٍ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وهو تَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّبَرِّي من الْإِشْرَاكِ لِأَنَّ النَّقْلَ من لِسَانٍ إلَى لِسَانٍ قد تَقْصُرُ التَّرْجَمَةُ عنه لَا سِيَّمَا من الْعَرَبِيِّ إلَى الْعَجَمِيِّ فَإِنْ كان مَعْنَى الْمُتَرْجَمِ عنه وَاحِدًا عُدِمَ أو قَلَّ وُقُوعُ التَّقْصِيرِ فيه بِخِلَافِ الْمَعَانِي إذَا كَثُرَتْ لَا سِيَّمَا إذَا اشْتَرَكَتْ الْأَلْفَاظُ وَتَقَارَبَتْ أو تَوَاصَلَتْ الْمَعَانِي أو تَقَارَبَتْ وَإِنَّمَا فَعَلَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ذلك لِضَرُورَةِ التَّبْلِيغِ أو لِأَنَّ مَعْنَى تِلْكَ الْآيَةِ كان عِنْدَهُمْ مُقَرَّرًا في كُتُبِهِمْ وَإِنْ خَالَفُوهُ وَإِفْرَادُ هذه الْمَسْأَلَةِ بِكَلَامِي هذا لَا تَجِدُهُ في كِتَابٍ فَاشْكُرْ اللَّهَ على هذا الْمُسْتَطَابِ مَسْأَلَةٌ الْأَلْفَاظُ غَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ في الْقُرْآنِ لَا خِلَافَ أَنَّهُ ليس في الْقُرْآنِ كَلَامٌ مُرَكَّبٌ على غَيْرِ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ وَأَنَّ فيه أَسْمَاءَ أَعْلَامٍ لِمَنْ لِسَانُهُ غَيْرُ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ كَإِسْرَائِيلَ وَجَبْرَائِيلَ وَنُوحٍ وَلُوطٍ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هل في الْقُرْآنِ أَلْفَاظٌ غَيْرُ أَعْلَامٍ مُفْرَدَةٍ من غَيْرِ كَلَامِ الْعَرَبِ فَذَهَبَ الْقَاضِي إلَى
____________________
(1/362)
أَنَّهُ لَا يُوجَدُ ذلك فيه وَكَذَلِكَ نُقِلَ عن أبي عُبَيْدَةَ وَادَّعَى أَنَّ ما وُجِدَ فيه من الْأَلْفَاظِ الْمُعَرَّبَةِ مِمَّا اتَّفَقَ فيه اللُّغَاتُ وَبَحَثَ الْقَاضِي عن أُصُولِ أَوْزَانِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَرَدَّ هذه الْأَسْمَاءَ إلَيْهَا على الطَّرِيقَةِ النَّحْوِيَّةِ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى وُجُودِهَا فيه وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ في ذَيْلِ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ مَسْأَلَةٌ في الْقُرْآنِ الْمَجَازُ خِلَافًا لِلْأُسْتَاذِ وَأَبِي بَكْرِ بن دَاوُد الظَّاهِرِيِّ وَسَيَأْتِي أَيْضًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَسْأَلَةٌ الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ في الْقُرْآنِ مُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ كما قال تَعَالَى منه آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ وقد يُوصَفُ جَمِيعُ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ مُتَشَابِهٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُتَمَاثِلٌ في الدَّلَالَةِ وَالْإِعْجَازِ قال اللَّهُ تَعَالَى كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ وقد يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُحْكَمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ أُحْكِمَ على وَجْهٍ لَا يَقَعُ فيه تَفَاوُتٌ قال اللَّهُ تَعَالَى كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ وَالْمُحْكَمُ إمَّا بِمَعْنَى الْمُتْقَنِ كَقَوْلِهِ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمٌ بهذا الْمَعْنَى وَإِمَّا في مُقَابَلَةِ الْمُتَشَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى منه آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ وَاخْتَلَفَ فيه بهذا الْمَعْنَى على أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ مُنْتَشِرَةٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ ما خَلَصَ لَفْظُهُ من الِاشْتِرَاكِ ولم يَشْتَبِهْ بِغَيْرِهِ وَعَكْسُهُ الْمُتَشَابِهُ الثَّانِي أَنَّ الْمُحْكَمَ ما اتَّصَلَتْ حُرُوفُهُ وَالْمُتَشَابِهُ ما انْفَصَلَتْ كَالْحُرُوفِ الْمُتَقَطِّعَةِ في أَوَائِلِ السُّوَرِ وهو بَاطِلٌ فإن الْكَلِمَةَ قد تَتَّصِلُ وَلَا تَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهَا وَتَتَرَدَّدُ بين احْتِمَالَاتٍ وَتُعَدُّ مُتَشَابِهَةً الثَّالِثُ أَنَّ الْمُحْكَمَ ما تَوَعَّدَ بِهِ الْفُسَّاقُ وَالْمُتَشَابِهُ ما أَخْفَى عِقَابَهُ وقد حَرَّمَهُ كَالْكِذْبَةِ وَالنَّظْرَةِ حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن وَاصِلَ بن عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ وَمِنْهُمْ من حَكَى عنه أَنَّ الْمُحْكَمَ هو الْوَعِيدُ على الْكَبَائِرِ وَالْمُتَشَابِهَ على الصَّغَائِرِ وَنَسَبَهُ لِعَمْرِو بن عُبَيْدٍ أَيْضًا الرَّابِعُ أَنَّهُ ما احْتَجَّ بِهِ على الْكُفَّارِ حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن الْأَصَمِّ الْخَامِسُ أَنَّهُ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ في الْأَحْكَامِ وَالْمُتَشَابِهُ الْقَصَصُ وَسِيَرُ الْأَوَّلِينَ
____________________
(1/363)
لِأَنَّ الْمُحْكَمَ ما اُسْتُفِيدَ الْحُكْمُ منه وَالْمُتَشَابِهَ ما لَا يُفِيدُ حُكْمًا حَكَاهُ الْإِمَامُ في التَّلْخِيصِ قال وَاللُّغَةُ لَا تَشْهَدُ لِذَلِكَ السَّادِسُ أَنَّهُ نَعْتُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في التَّوْرَاةِ وَالْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالْمُتَشَابِهُ نَعْتُهُ في الْقُرْآنِ وَنُسِبَ لِلْأَصَمِّ السَّابِعُ أَنَّهُ النَّاسِخُ وَالْمُتَشَابِهُ الْمَنْسُوخُ وَنُقِلَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَنْسُوخَ لَا يُسْتَفَادُ منه حُكْمٌ وَلَفْظُ النَّسْخِ فيه إجْمَالٌ فَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا قَوْله تَعَالَى فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُحْكَمٌ الثَّامِنُ الْمُتَشَابِهُ آيَاتُ الْقِيَامَةِ وَالْبَاقِي مُحْكَمٌ قَالَهُ الزَّجَّاجُ إذَا لم يَنْكَشِفْ الْغِطَاءُ عنها بِدَلِيلٍ قَوْله تَعَالَى فَيَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ منه وَكَانُوا لَا يَتَّبِعُونَ إلَّا أَمْرَ السَّاعَةِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى يَسْأَلُونَك عن السَّاعَةِ التَّاسِعُ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ ما عَسُرَ إجْرَاؤُهُ على ظَاهِرِهِ كَآيَةِ الِاسْتِوَاءِ قال في الْمَنْخُولِ وَإِلَيْهِ مَالَ ابن عَبَّاسٍ الْعَاشِرُ أَنَّ الْمُحْكَمَ ما لَا يَحْتَمِلُ من التَّأْوِيلِ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَالْمُتَشَابِهُ ما احْتَمَلَ أَوْجُهًا وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ في تَفْسِيرِهِ عن الشَّافِعِيِّ وَجَرَى عليه أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمُحْكَمُ ما كانت مَعَانِي أَحْكَامِهِ مَعْقُولَةً بِخِلَافِ الْمُتَشَابِهِ كَأَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ وَاخْتِصَاصِ الصِّيَامِ بِرَمَضَانَ دُونَ شَعْبَانَ الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّ الْمُحْكَمَ ما اسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ ولم يَحْتَجْ إلَى بَيَانٍ وَحَكَاهُ الْقَاضِي من الْحَنَابِلَةِ عن الْإِمَامِ أَحْمَدَ قال وَالْمُتَشَابِهُ هو الذي يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ فَتَارَةً يُبَيَّنُ بِكَذَا وَتَارَةً بِكَذَا لِحُصُولِ الِاخْتِلَافِ في تَأْوِيلِهِ قال وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ لِأَنَّ الْقُرْءَ مُشْتَرَكٌ بين الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَقَوْلُهُ وَآتُوا حَقَّهُ يوم حَصَادِهِ قال وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ قُلْت وهو قَرِيبٌ من الْأَوَّلِ وَالثَّانِيَ عَشَرَ أَنَّ الْمُحْكَمَ ما أَمْكَنَ مَعْرِفَةُ الْمُرَادِ بِظَاهِرِهِ أو بِدَلَالَةٍ تَكْشِفُ عنه وَالْمُتَشَابِهُ ما لَا يُعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَهَذَا هو الصَّحِيحُ عِنْدَنَا وقال ابن السَّمْعَانِيِّ إنَّهُ أَحْسَنُ الْأَقَاوِيلِ وهو الْمُخْتَارُ على طَرِيقَةِ السُّنَّةِ قال وَعَلَى هذا فَالْوَقْفُ التَّامُّ على قَوْلِهِ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَأَمَّا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ فقال هو قَوْلٌ بَاطِلٌ لِأَنَّ اللُّغَةَ لَا تُسَاعِدُهُ
____________________
(1/364)
على ذلك وَرُبَّ كَلَامٍ يُفْهَمُ مَعْنَاهُ وهو مُتَنَاقِضٌ قال وَالسَّدِيدُ أَنْ يُقَالَ الْمُحْكَمُ السَّدِيدُ النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ الذي يُفْضِي إلَى إثَارَةِ الْمَعَانِي الْمُسْتَقِيمُ من غَيْرِ مُنَافٍ وَالْمُتَشَابِهُ هو الذي لَا يُحِيطُ الْعِلْمَ بِالْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ منه من حَيْثُ اللُّغَةِ إلَّا أَنْ تَقْتَرِنَ أَمَارَةٌ أو قَرِينَةٌ وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الْمُشْتَرَكُ كَالْقُرْءِ وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْمُحْكَمَ هو الْوَاضِحُ الْمَعْنَى الذي لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ إشْكَالٌ مَأْخُوذٌ من الْإِحْكَامِ وهو الْإِتْقَانُ وَالْمُتَشَابِهُ نَقِيضُهُ فَيَدْخُلُ في الْمُحْكَمِ النَّصُّ وَالظَّاهِرُ وفي الْمُتَشَابِهِ الْأَسْمَاءُ الْمُشْتَرَكَةُ كَالْقُرْءِ وَاللَّمْسِ وما يُوهِمُ التَّشْبِيهَ في حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى قال وَلَا يَدْخُلُ في ذلك الْحُرُوفُ في أَوَائِلِ السُّوَرِ إذْ لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً بِاصْطِلَاحٍ سَابِقٍ فَتُوهِمُ الْإِشْكَالَ ولم يَثْبُتْ فيها تَوْقِيفٌ فَيُتَّبَعُ بَلْ نَقُولُ فيها كما قال الصِّدِّيقُ رضي اللَّهُ عنه إنَّهَا من أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَقْصُودُ هذا الْبَحْثِ أَنَّ مُحْكَمَ الْقُرْآنِ يُعْمَلُ بِهِ وَالْمُتَشَابِهُ يُؤْمَنُ بِهِ وَيُوقَفُ في تَأْوِيلِهِ إنْ لم يُعِبْهُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ اخْتَلَفُوا في إدْرَاكِ عِلْمِ الْمُتَشَابِهِ فقال كَثِيرٌ من أَصْحَابِنَا الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ كَالْحَارِثِ وَالْقَلَانِسِيِّ إنَّهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَوَقَفُوا على قَوْلِهِ إلَّا اللَّهُ وَذَهَبَ أبو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَالْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ في جُمْلَةِ الرَّاسِخِينَ من يَعْلَمُ الْمُتَشَابِهَ وَوَقَفُوا على قَوْلِهِ وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ قال وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ قَوْلُ الصَّحَابَةِ مِثْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بن كَعْبٍ وهو اخْتِيَارُ أبي عُبَيْدٍ وَالْأَصْمَعِيِّ وَأَحْمَدَ بن يحيى النَّحْوِيِّ وَبِهِ نَقُولُ قال وَتَدْخُلُ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ في أَوَائِلِ السُّوَرِ في الْمُتَشَابِهِ الذي لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَأَقْوَالُ الْمُتَأَوِّلِينَ لها مُتَعَارِضَةٌ ليس بَعْضُهَا أَوْلَى من بَعْضٍ ا هـ وَحَكَى الْخِلَافَ أَيْضًا أُسْتَاذُهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ ثُمَّ قال وَلَا يَجْرِي هذا الْخِلَافُ في أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ إذْ ليس شَيْءٌ منها إلَّا وَعُرِفَ بَيَانُهُ وَلَيْسَ في السُّنَّةِ ما يُشَاكِلُهُ وما اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ حَكَاهُ الْبَغَوِيّ في تَفْسِيرِهِ عن الْأَكْثَرِينَ من الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالنَّحْوِيِّينَ وَأَيَّدَهُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ إنْ تَأْوِيلُهُ إلَّا عِنْدَ اللَّهِ وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ وقال عُمَرُ بن عبد الْعَزِيزِ انْتَهَى عِلْمُ الرَّاسِخِينَ في الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ إلَى أَنْ قالوا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ من عِنْدِ رَبِّنَا
____________________
(1/365)
قال الْبَغَوِيّ وَهَذَا الْقَوْلُ أَحْسَنُ في الْعَرَبِيَّةِ وَأَشْبَهَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ ا هـ وَقَطَعَ بِهِ الزُّبَيْرِيُّ من كِبَارِ أَئِمَّتِنَا في أَوَّلِ كِتَابِهِ الْمُسْكِتِ فقال دَلَّتْ الْآيَةُ على أَنَّ من الْقُرْآنِ شيئا غَيَّبَهُ اللَّهُ عن خَلْقِهِ لِيُلْزِمَهُمْ النَّقْصَ في أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَبْلُغُونَ من الْأَمْرِ إلَّا ما قَدَّرَ اللَّهُ لهم وقد بَيَّنَ ذلك في كِتَابِهِ فقال وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ من عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ انْتَهَى وَرَجَّحَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ وقال ليس في الْقُرْآنِ شَيْءٌ اسْتَأْثَرَهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ بَلْ وَقَفَ الْعُلَمَاءُ عليه لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْرَدَ هذا مَدْحًا لِلْعُلَمَاءِ فَلَوْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهُ لَشَارَكُوا الْعَامَّةَ وَبَطَلَ مَدْحُهُمْ وَكَذَلِكَ صَحَّحَهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ قال فَأَخْبَرَ أَنَّ الْكِتَابَ كُلَّهُ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ وَبُيِّنَتْ وَبِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَبَيْنَهُمَا مُتَشَابِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ من الناس فَدَلَّ على أَنَّ الْقَلِيلَ من الناس يَعْلَمُهَا وَهُمْ الرَّاسِخُونَ وقال ابن الْحَاجِبِ وَالظَّاهِرُ الْوَقْفُ على وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِمَا لَا يُفْهَمُ بَعِيدٌ قُلْت وَحَكَاهُ الْقَاضِي أبو الْمَعَالِي شَيَّدَ له في كِتَابِ الْبُرْهَانِ عن أَكْثَرِ الْقُرَّاءِ وَالنُّحَاةِ وَاخْتَارَهُ قال وهو مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بن كَعْبٍ وَهَذَا عَكْسُ حِكَايَةِ الْأُسْتَاذِ وَالْبَغَوِيِّ لَكِنْ حَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ قال وَاخْتَارَهُ الْعَيْنِيُّ قال وقد كان يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ السُّنَّةِ لَكِنَّهُ سَهَا في هذه الْمَسْأَلَةِ قال وَلَا غَرْوَ فَلِكُلِّ جَوَادٍ كَبْوَةٌ وَلِكُلِّ عَالِمٍ هَفْوَةٌ قال وقد نُقِلَ عن مُجَاهِدٍ وَلَا أَعْلَمُ تَحَقُّقَهُ وقال ابن بَرْهَانٍ في كَلَامِهِ على مَعَانِي الْحُرُوفِ الْوَقْفُ التَّامُّ على قَوْلِهِ إلَّا اللَّهُ ثُمَّ ابْتَدَأَ بِالرَّاسِخِينَ وَتَوَسَّطَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فقال في آخِرِ كِتَابِهِ في أُصُولِ الْفِقْهِ الْقَوْلَانِ مُحْتَمِلَانِ وَلَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ في الْمُتَشَابِهِ ما لَا يَعْلَمُ وَيَكُونُ الْغَرَضُ منه الْإِيمَانَ وَأَنَّهُ من عِنْدِ اللَّهِ وقال الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وَقَفَ أبو عُبَيْدَةَ على قَوْلِهِ إلَّا اللَّهُ وَلَيْسَ هذا من غَرَضِ الْأُصُولِيِّ وَغَرَضُنَا أَنَّ التَّشَابُهَ في الْآيَاتِ الْمُتَضَمَّنَةِ لِلتَّكْلِيفِ مُحَالٌ وَيُبَيِّنُ الْمَقْصُودَ منه رَسْمُ الْمَسْأَلَةِ في آيَةِ الِاسْتِوَاءِ قال مَالِكٌ لَمَّا سُئِلَ عنه الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عنه بِدْعَةٌ وقال سُفْيَانُ بن عُيَيْنَةَ يُفْهَمُ منه ما يُفْهَمُ من قَوْلِهِ ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وقد تَحَزَّبَ الناس فيه فَضَلَّ قَوْمٌ أَجْرَوْهُ على الظَّاهِرِ وَفَازَ من قَطَعَ بِنَفْيِ
____________________
(1/366)
الِاسْتِقْرَارِ وَإِنْ تَرَدَّدَ في مُجْمَلِهِ وَرَآهُ فَلَا يُعَابُ عليه قال وَتَكْلِيفُ تَعْلِيمِ الْأَدِلَّةِ على نَفْيِ الِاسْتِقْرَارِ لَا نَرَاهُ وَاجِبًا على الْآحَادِ بَلْ يَجِبُ على شَخْصٍ في كل إقْلِيمٍ أَنْ يَقُومَ لِيَدْفَعَ الْبِدَعَ إذَا ثَارَتْ انْتَهَى وَقِيلَ الرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَ على الْجُمْلَةِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ على التَّفْصِيلِ وَبِهَذَا يَصِحُّ الْقَوْلَانِ جميعا وَلَا يَتَنَافَيَانِ وهو الذي يُعَضِّدُهُ الدَّلِيلُ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ قد خَاضُوا في التَّأْوِيلِ وَالْمُخْتَارُ الْوَقْفُ على إلَّا اللَّهُ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ بَلْ لم يَذْهَبْ إلَى الْوَقْفِ على وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ إلَّا شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ من الناس كما قَالَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ الثَّانِي أَنَّ أَمَّا في لُغَةِ الْعَرَبِ لِتَفْصِيلِ الْمُجْمَلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُذْكَرَ في سِيَاقِهِ قِسْمَانِ إمَّا لَفْظًا وهو الْأَكْثَرُ وَإِمَّا تَقْدِيرًا وَسَبَبُهُ إمَّا الِاسْتِغْنَاءُ بِذِكْرِ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ عن الْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَأَمَّا من تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ من الْمُفْلِحِينَ ولم يذكر الْقِسْمَ الْآخَرَ لِدَلَالَةِ الْمَذْكُورِ عليه فَكَأَنَّهُ قال وَأَمَّا من لم يُؤْمِنْ ولم يَعْمَلْ صَالِحًا فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ من الْمُفْلِحِينَ وَإِمَّا بِكَلَامٍ يُذْكَرُ بَعْدَهَا في مَوْضِعِ ذلك كَهَذِهِ الْآيَةِ فإنه سُبْحَانَهُ قال فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ منه ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ فَهَذَا تَمَامُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الْمَذْكُورِ في سِيَاقِ أَمَّا فَاقْتَضَى وَضْعُ اللُّغَةِ ذِكْرَ قِسْمٍ آخَرَ فَكَانَ تَقْدِيرُهُ وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَكِلُونَ مَعْنَاهُ إلَى رَبِّهِمْ وَدَلَّ على ذلك قَوْلُهُ وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ من عِنْدِ رَبِّنَا أَيْ من الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ من عِنْدِ اللَّهِ وَالْإِيمَانُ بِهِمَا وَاجِبٌ وَكَأَنَّهُ قِيلَ وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ فَيَقُولُونَ وَيَدُلُّ على ذلك قَوْله تَعَالَى في سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ من رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بهذا مَثَلًا الثَّالِثُ أَنَّهُ الْوَاوُ في قَوْلِهِ وَالرَّاسِخُونَ وَإِنْ احْتَمَلَتْ أَنْ تَكُونَ غير عَاطِفَةٍ غير أنها هَاهُنَا اسْتِئْنَافِيَّةٌ من وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ لو أَرَادَ الْعَطْفَ لَقَالَ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ عَطْفًا لَيَقُولُونَ على يَعْلَمُونَ الْمُضْمَرِ إذْ التَّقْدِيرُ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَعْمَلُونَ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ فَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ يَقُولُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مع إضْمَارِ فِعْلِهَا الْعَامِلِ فيها فَلَوْ
____________________
(1/367)
جَازَ هذا لَجَازَ عبد اللَّهِ رَاكِبًا بِمَعْنَى أَقْبَلَ وهو مُمْتَنِعٌ وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَالرَّاسِخُونَ قَائِلُونَ بِتَقْدِيرِ يَعْلَمُونَهُ قَائِلِينَ الثَّانِي ما رَوَى عبد الرَّزَّاقِ في تَفْسِيرِهِ عن ابْنِ طَاوُسٍ عن أبيه قال كان ابن عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ آمَنَّا بِهِ فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُبَيِّنَةُ إجْمَالِ الْوَاوِ في الْآيَةِ وَأَنَّهَا اسْتِئْنَافِيَّةٌ لَا عَاطِفَةٌ ثُمَّ إنْ كان ابن عَبَّاسٍ سَمِعَهَا من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَهِيَ تَفْسِيرٌ منه لِلْآيَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ فَهُوَ مُرَجَّحٌ لِأَنَّهَا قَوْلُ صَحَابِيٍّ وَتَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ في حُكْمِ الْمَرْفُوعِ الثَّالِثُ في تَرْجِيحِ كَوْنِهَا اسْتِئْنَافِيَّةً أَنَّ بِتَقْدِيرِ ذلك تَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا وَالْحَالُ فَضْلَةٌ خَارِجَةٌ عن رُكْنِ الْجُمْلَةِ وَكَوْنُ الْجُمْلَةِ رُكْنًا أَقْوَى من كَوْنِهَا فَضْلَةً وإذا دَارَ أَمْرُ اللَّفْظَةِ بين أَقْوَى الْحَالَيْنِ وَأَضْعَفِهِمَا كان حَمْلُهُ على الْأَقْوَى أَوْلَى الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ على ذَمِّ مُبْتَغِي الْمُتَشَابِهِ إذْ وُصِفُوا بِزَيْغِ الْقُلُوبِ وَابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ وقد صَرَّحَتْ السُّنَّةُ بِذَمِّهِمْ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا إذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ ما تَشَابَهَ منه فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ الْخَامِسُ أَنَّ قَوْلَهُ وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ يَدُلُّ على تَفْوِيضٍ وَتَسْلِيمٍ لِمَا لم يَقِفُوا على حَقِيقَةِ الْمُرَادِ بِهِ وهو من قَبِيلِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ الذي مَدَحَ اللَّهُ أَهْلَهُ وهو ظَاهِرٌ في التَّسْلِيمِ لِمُرَادِ اللَّهِ وَإِنْ كان لَا يُنَافِي فَهْمَهُمْ الْمُرَادَ بِهِ وَاحْتَجَّ من قال إنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ بِأَنَّ تَسْمِيَتَهُمْ الرَّاسِخِينَ في الْعِلْمِ يَقْتَضِي عِلْمَهُمْ بِتَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ وَإِلَّا لم يَكُنْ لهم فَضِيلَةٌ على غَيْرِهِمْ نعم من الْمُتَشَابِهِ ما يَعْلَمُ الرَّاسِخُونَ منه وَمِنْهُ ما اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ كَالرُّوحِ وَوَقْتِ السَّاعَةِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّاسِخِينَ في الْعِلْمِ الرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَمَعْرَفَتِهِ وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْوُقُوفِ على كُنْهِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ بِغَيْرِهِ كما حَكَى عن الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قال الْعَجْزُ عن دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إدْرَاكٌ وقد قِيلَ حَقِيقَةُ الْمَرْءِ ليس الْمَرْءُ يُدْرِكُهَا فَكَيْفَ كَيْفِيَّةُ الْجَبَّارِ في الْقِدَمِ ثُمَّ قِيلَ النِّزَاعُ في الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ لِأَنَّ من قال بِأَنَّ الرَّاسِخَ في الْعِلْمِ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ
____________________
(1/368)
أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ يَعْلَمُ ظَاهِرًا لَا حَقِيقَةً وَمَنْ قال لَا يَعْلَمُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا ذلك إلَى اللَّهِ وَالْحِكْمَةُ في إنْزَالِ الْمُتَشَابِهِ ابْتِلَاءُ الْعُقَلَاءِ وقال السُّهَيْلِيُّ اخْتَلَفَ الناس في الْوَقْفِ عِنْدَ قَوْلِهِ إلَّا اللَّهُ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ مَذْهَبٍ ثَالِثٍ وهو قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ إلَّا اللَّهُ وَقَوْلُهُ وَالرَّاسِخُونَ مُبْتَدَأٌ وَلَكِنْ لَا نَقُولُ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ بَلْ يَعْلَمُونَهُ بِرَدِّ الْمُتَشَابِهِ إلَى الْمُحْكَمِ وَبِالِاسْتِدْلَالِ على الْخَفِيِّ بِالْجَلِيِّ وَعَلَى الْمُخْتَلَفِ فيه بِالْمُتَّفَقِ عليه فَيَتَّفِقُ بِذَلِكَ الْحُجَّةَ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ بِالْعِلْمِ الْقَدِيمِ لَا بِتَذَكُّرٍ وَلَا تَفَكُّرٍ وَلَا دَلِيلٍ وَالرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَهُ بِالتَّذَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ مَسْأَلَةٌ وُرُودُ الْمُهْمَلِ في الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ في الْقُرْآنِ ما ليس له مَعْنًى أَصْلًا لِأَنَّهُ مُهْمَلٌ وَالْبَارِي سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عنه أو له مَعْنًى وَلَكِنْ لَا يُفْهَمُ أو يُفْهَمُ لَكِنْ أُرِيدَ بِهِ غَيْرَهُ خِلَافًا وَلِهَذَا أَوَّلُوا آيَاتِ الصِّفَاتِ على مُقْتَضَى ما فَهِمُوهُ قال الْغَزَالِيُّ وَلَا يُقَالُ إنَّ فَائِدَتَهُ في مُخَاطَبَةِ الْخَلْقِ بِمَا لَا يَفْهَمُونَهُ لِأَنَّا نَقُولُ الْمَقْصُودُ بِهِ تَفْهِيمُ من هو أَهْلٌ له وَهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ وقد فَهِمُوهُ وَلَيْسَ من شَرْطِ من يُخَاطِبُ الْعُقَلَاءَ بِكَلَامٍ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِمَا يَفْهَمُ الصِّبْيَانُ وَالْعَوَامُّ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْعَارِفِينَ بَلْ على من لم يَفْهَمْ أَنْ يَسْأَلَ من له أَهْلِيَّةُ الْفَهْمِ كما قال تَعَالَى فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَأَمَّا الْحُرُوفُ التي في أَوَائِلِ السُّوَرِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فيها على نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ قَوْلًا فَقِيلَ إنَّمَا أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ وَقِيلَ ذَكَرَهَا اللَّهُ لِجَمْعِ دَوَاعِي الْعَرَبِ إلَى الِاسْتِمَاعِ لِأَنَّهَا تُخَالِفُ عَادَتَهُمْ فَتُوقِظُهُمْ عن الْغَفْلَةِ حتى تَصْرِفَ قُلُوبَهُمْ إلَى الْإِصْغَاءِ فلم يَذْكُرْهَا لِإِرَادَةِ مَعْنًى وَقِيلَ إنَّمَا ذَكَرَهَا كِنَايَةً عن سَائِرِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ التي لَا يَخْرُجْ عنها جَمِيعُ كَلَامِ الْعَرَبِ تَنْبِيهًا على أَنَّهُ ليس يُخَاطِبُهُمْ إلَّا بِلُغَاتِهِمْ وَحُرُوفِهِمْ وقال ابن عَبَّاسٍ كُلُّ حَرْفٍ منها مَأْخُوذٌ منها اسْمٌ من أَسْمَاءِ اللَّهِ فَالْكَافُ من كَافٍ وَالْهَاءُ من هَادٍ وَالْعَيْنُ من عَلِيمٍ وَالصَّادُ من صَادِقٍ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قال لِنَبِيِّهِ أنا كَافِيك وَهَادِيك
____________________
(1/369)
وَقِيلَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ هذه الْأَحْرُفَ إبْطَالًا لِحِسَابِ الْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَحْسِبُونَ هذه الْأَحْرُفَ حَالَةَ نُزُولِهَا وَيَرُدُّونَهَا إلَى حِسَابِ الْجُمَّلِ وَيَقُولُونَ إنَّ مُنْتَهَى دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ كَذَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ هذه الْأَحْرُفَ تَخْبِيطًا لِلْحِسَابِ عليهم وَقِيلَ ذَكَرَهَا اللَّهُ جَرْيًا على عَادَةِ الْعَرَبِ في ذِكْرِ النَّسِيبِ في أَوَائِلِ الْخُطَبِ وَالْقَصَائِدِ وَلِهَذَا اُخْتُصَّتْ بِالْأَوَائِلِ وَقِيلَ غَيْرُ ذلك وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّازِيَّ تَرْجَمَ الْمَسْأَلَةَ في الْمَحْصُولِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِشَيْءٍ وَلَا يَعْنِي بِهِ شيئا ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّ الْخِلَافَ في التَّكَلُّمِ بِمَا لَا يُفِيدُ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ فإنه يُمْكِنُ أَنْ يَعْنِيَ بِهِ شيئا وهو يُفِيدُ في نَفْسِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُفِيدَ وَلَا يَعْنِي بِهِ شيئا فَمَحَلُّ النِّزَاعِ غَيْرُ مُنَقَّحٍ لِأَنَّ في كَلَامِ الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ نَصْبَ الْخِلَافَ في أَنَّهُ هل يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِشَيْءٍ وَلَا يَعْنِي بِهِ شيئا وقال الْأَصْفَهَانِيُّ وَالْحَقُّ أَرْجُو أَنَّ الْكَلَامَ بِمَا لَا يَعْنِي بِهِ مُفَرَّعٌ على التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ ثُمَّ قال وَحِينَئِذٍ فَيَسْهُلُ الْمَنْعُ على مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ أَمَّا على رَأْيِ الْأَشَاعِرَةِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ لهم الْمَنْعُ مع أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ التَّحْسِينُ وَالتَّقْبِيحُ الْعَقْلِيَّيْنِ قُلْت لَا جَرَمَ جَزَمَ ابن بَرْهَانٍ بِالْجَوَازِ فقال يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَشْتَمِلَ كَلَامُ اللَّهِ على ما لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ ثُمَّ نُقِلَ عن بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ثُمَّ تَمَسَّكَ بِأَسْمَاءِ السُّوَرِ قال وَمَعْلُومٌ أَنَّا لَا نَفْهَمُ مَعَانِيَهَا وقد تُعُبِّدْنَا بها وَخَرَجَ من كَلَامِهِ أَنَّ الْخِلَافَ في أَنَّهُ هل يَجُوزُ أَنْ يَشْتَمِلَ كَلَامُ اللَّهِ على ما لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ أَمْ لَا وَهَذَا خِلَافُ ما سَبَقَ من أَنَّ الْخِلَافَ في أَنَّهُ لَا يَعْنِي بِهِ شيئا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا مَسْأَلَتَيْنِ وهو الظَّاهِرُ وَيَرْتَفِعُ التَّخْلِيطُ من كَلَامِهِمْ وَفَصَّلَ ابن بَرْهَانٍ فقال ما يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا عِنْدَنَا وَإِلَّا لَأَدَّى إلَى تَكْلِيفِ الْمُحَالِ وَبَيَّنَ ما لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ هل يَجُوزُ أَنْ يَشْمَلَ الْكِتَابُ عليه وَإِنْ كان لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ وَسَلَكَ الْأَصْفَهَانِيُّ في تَصْوِيرِ مَوْضِعِ الْخِلَافِ بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْكَلَامَ اللِّسَانِيَّ أو النَّفْسَانِيَّ فَإِنْ كان النَّفْسَانِيَّ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَكُونَ له مَعْنًى وَإِنْ كان اللِّسَانِيَّ فَجَوَازُهُ لِأَنَّهُ من قَبِيلِ الْأَفْعَالِ وَيَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَفْعَلَ ما يَهْدِي بِهِ وَيُضِلُّ بِهِ وَأَنْ يَفْعَلَ ما لَا يُضِلُّ بِهِ وَلَا يَهْدِي بِهِ
____________________
(1/370)
مَسْأَلَةٌ لَا زَائِدَ في الْقُرْآنِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فيه زَائِدٌ إلَّا بِتَأْوِيلٍ بَلْ يقول إنَّ وَاضِعَ اللُّغَةِ لَا يَجُوزُ عليه الْعَبَثُ فَلَيْسَ فيها لَفْظٌ زَائِدٌ لَا لِفَائِدَةٍ وَقَوْلُ الْعُلَمَاءِ ما زَائِدَةٌ والباء زَائِدَةٌ وَنَحْوَهَا فَمُرَادُهُمْ أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَخْتَلُّ مَعْنَاهُ بِحَذْفِهَا أَيْ لَا تَتَوَقَّفُ دَلَالَتُهُ على مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ على ذِكْرِ ذلك الزَّائِدِ لَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فيه أَصْلًا فإن ذلك لَا يَجُوزُ من وَاضِعِ اللُّغَةِ فَضْلًا عن كَلَامِ الْحَكِيمِ وَجَمِيعُ ما قِيلَ فيه زَائِدٌ فَفَائِدَتُهُ التَّوْكِيدُ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ في الْكَلَامِ تَقْتَضِي أَنَّ ذلك لم يَصْدُرْ عن غَفْلَةٍ وَإِنَّمَا صَدَرَ عن قَصْدٍ وَتَأَمُّلٍ وَذَلِكَ من فَوَائِدِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ وقال ابن الْخَشَّابِ في الْمُعْتَمَدِ اُخْتُلِفَ في هذه الْمُسَاوَاةِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى جَوَازِ إطْلَاقِ الزَّائِدِ في الْقُرْآنِ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ الْقَوْمِ وَبِمُتَعَارَفِهِمْ وهو في كَلَامِهِمْ كَثِيرٌ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ بِإِزَاءِ الْحَذْفِ هذا لِلِاخْتِصَارِ وَالتَّخْفِيفِ وَذَلِكَ لِلتَّوْكِيدِ وَالتَّوْطِئَةِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ في التَّنْزِيلِ مَحْذُوفَاتٍ جَاءَتْ لِلِاخْتِصَارِ لِمَعَانٍ رَائِقَةٍ فَكَذَلِكَ تَقُولُ في الزِّيَادَةِ وَمِنْهُمْ من لَا يَرَى الزِّيَادَةَ في شَيْءٍ من الْكَلَامِ وَيَقُولُ هذه الْأَلْفَاظُ التي يَحْمِلُونَهَا على الزِّيَادَةِ جَاءَتْ لِفَوَائِدَ وَمَعَانٍ تَخُصُّهَا فَلَا أَقْضِي عليها بِالزِّيَادَةِ وَمِمَّنْ كان يَرَى هذا أبو مُحَمَّدٍ عبد اللَّهِ بن دُرُسْتَوَيْهِ وكان عَالِيًا في هذا الْبَابِ مُغَالِيًا في عِلْمِ الِاشْتِقَاقِ وكان يُزَاحِمُ الزَّجَّاجَ فيه بِمَنْكِبِهِ وَيَذْكُرُ أَنَّهُ نَاظَرَهُ فيه قال ابن الْخَشَّابِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ الْقَائِلُ بِالزِّيَادَةِ إثْبَاتَ مَعْنًى لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فَهَذَا بَاطِلٌ وَلَا يَقُولُهُ أَحَدٌ لِأَنَّهُ عَبَثٌ فَتَعَيَّنَ أَنَّ إلَيْنَا بِهِ حَاجَةً لَكِنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْأَشْيَاءِ قد تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْمَقْصِدِ فَلَيْسَتْ الْحَاجَةُ إلَى اللَّفْظِ الذي عَدَّ هَؤُلَاءِ زِيَادَةً كَالْحَاجَةِ إلَى اللَّفْظِ الذي رَأَوْهَا مَزِيدَةً عليه لِأَنَّ هذا بِالِاتِّفَاقِ مِنَّا وَمِنْهُمْ إنْ اخْتَلَّ اخْتَلَفَتْ بِهِ الْفَائِدَةُ فلم يَكُنْ الْكَلَامُ دُونَهُ كَلَامًا وَاَلَّذِي سَمَّوْهُ زَائِدًا إنْ اخْتَلَّ بِهِ كانت الْفَائِدَةُ دُونَهُ وَالْجُمْلَةُ مُقْتَصَرًا بها على ما يُمَيِّزُهُ أَكْثَرِيَّةُ فَائِدَةٍ وَأَقْرَبُ وَعَلَى هذا يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ
____________________
(1/371)
مَسْأَلَةٌ دَلَالَةُ الْكَلَامِ على خِلَافِ ظَاهِرِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْنِيَ بِكَلَامِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ مُطْلَقًا وَلَا يَدُلُّ عليه دَلِيلٌ خِلَافًا لِلْمُرْجِئَةِ لِأَنَّ اللَّفْظَ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ لَا يَدُلُّ عليه فَهُوَ كَالْمُهْمَلِ وَالْخِطَابُ بِالْمُهْمَلِ بَاطِلٌ وَفَرَّعَهَا أبو الْحُسَيْنِ على قَاعِدَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ وَالْخِلَافُ في آيَاتِ الْوَعِيدِ وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ على وَعِيدِ الْفُسَّاقِ لَا غَيْرُ على ما فُهِمَ من أَدِلَّتِهِمْ أَمَّا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فَلَا خِلَافَ فِيهِمَا وَإِنَّمَا قُلْنَا مُطْلَقًا لِأَنَّهُ يَجُوزُ ذلك عِنْدَ إطْلَاقِ الظَّاهِرِ كما سَيَأْتِي عِنْدَ جَوَازِ وُرُودِ الْعُمُومِ وَتَأَخُّرِ الْخُصُوصِ عنه وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ قال الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ وَكَلَامُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم على ظَاهِرِهِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ كُلُّ ما وَرَدَ في خِطَابِ من يَلْزَمُ الْمَصِيرَ إلَيْهِ فَلَهُ وَجْهٌ في اللُّغَةِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فقال بَعْضُهُمْ كُلُّ ما وَرَدَ منه فَهُوَ منه مَجْمُوعُهُ وما اتَّصَلَ بِهِ جُمْلَةٌ قَبْلَهُ أو بَعْدَهُ يَقْتَضِي ظَاهِرًا لَا يَحْتَاجُ معه إلَى تَأْوِيلٍ يُحْمَلُ عليه وَمَنْ ظَنَّ ذلك فيه فَقَدْ أَخْطَأَ الْحَقَّ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَرَدَ على وَجْهٍ مُحْتَاجٍ فيه إلَى تَأْوِيلٍ له بِدَلِيلٍ يَقْتَرِنُ بِهِ فَكَأَنَّهُ قال إنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ لَا يَصِحُّ الْكَلَامُ بمثله وقال آخَرُونَ إنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَرِدَ من كَلَامِهِ ما لَا يُسْتَعْمَلُ ظَاهِرُهُ وَيُحْمَلُ على خِلَافِهِ بِدَلِيلٍ يُبَيِّنُ مَقْصُودَهُ إذَا جَازَ في تِلْكَ اللُّغَةِ مِثْلُهُ وهو اخْتِلَافُهُمْ في قَوْله تَعَالَى وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ منهم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ منهم فقال ما كان أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مَجْمُوعَ الْخِطَابِ في مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَيَحْكُمُونَ بِهِ وَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ منهم هو من عَرَفَ الْأَدِلَّةَ وَالْوُجُوهَ التي يُحْمَلُ عليها الْخِطَابُ عَرَفَ ما أُرِيدَ بِهِ وَإِنْ كان ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي خِلَافَهُ مَسْأَلَةٌ ب قاء الْمُجْمَلِ في الْقُرْآنِ بَعْدَ وَفَاةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم هل بَقِيَ في الْقُرْآنِ مُجْمَلٌ لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ بَعْدَ وَفَاةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مَنَعَهُ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْمَلَ الدِّينَ وقال آخَرُونَ بِإِمْكَانِهِ وَفَصَّلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ فَجَوَّزَاهُ فِيمَا لَا يُكَلَّفُ فيه وَمَنَعَاهُ فِيمَا فيه تَكْلِيفٌ خَوْفًا من تَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ
____________________
(1/372)
مَسْأَلَةٌ النَّصُّ وَالظَّاهِرُ وَيَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إلَى نَصٍّ وَظَاهِرٍ أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ في اللُّغَةِ الظُّهُورُ وَالِارْتِفَاعُ وَمِنْهُ يُقَالُ نَصَصْت بِمَعْنَى أَظْهَرْت وَمِنْهُ نَصَّتْ الصَّبِيَّةُ جِيدَهَا إذَا أَظْهَرَتْهُ وَقَوْلُهُمْ لِلْمَنَارَةِ مِنَصَّةً وَمِنْهَا الْمِنَصَّةُ التي تَجْلِسُ عليها الْعَرُوسُ وفي الحديث كان إذَا وَجَدَ فُرْجَةً نَصَّ أَيْ دَفَعَ السَّيْرَ وَأَسْرَعَ وَيُطْلَقُ بِاصْطِلَاحَاتٍ أَحَدُهَا مُجَرَّدُ لَفْظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَيُقَالُ الدَّلِيلُ إمَّا نَصٌّ أو مَعْقُولٌ وهو اصْطِلَاحُ الْجَدَلِيِّينَ يَقُولُونَ هذه الْمَسْأَلَةُ يُتَمَسَّكُ فيها بِالنَّصِّ وَهَذِهِ بِالْمَعْنَى وَالْقِيَاسِ الثَّانِي ما يُذْكَرُ في بَابِ الْقِيَاسِ وهو مُقَابِلُ الْإِيمَاءِ الثَّالِثُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فَيُقَالُ لِأَلْفَاظِهِ نُصُوصٌ بِاصْطِلَاحِ أَصْحَابِهِ قَاطِبَةً الرَّابِعُ حِكَايَةُ اللَّفْظِ على صُورَتِهِ كما يُقَالُ هذا نَصُّ كَلَامِ فُلَانٍ الْخَامِسُ يُقَابِلُ الظَّاهِرَ وهو مَقْصُودُنَا وقد اُخْتُلِفَ فيه فقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ نَصَّ الشَّافِعِيُّ على أَنَّ النَّصَّ كُلُّ خِطَابٍ عُلِمَ ما أُرِيدَ بِهِ من الْحُكْمِ قال وَهَذَا يُلَائِمُ وَضْعَ الِاشْتِقَاقِ لِأَنَّهُ إذَا كان كَذَلِكَ كان قد أَظْهَرَ الْمُرَادَ بِهِ وَكَشَفَ عنه ثُمَّ على هذا يَنْقَسِمُ النَّصُّ إلَى ما يَحْتَمِلُ وَإِلَى ما لَا يَحْتَمِلُ وقال ابن بَرْهَانٍ لَعَلَّ الشَّافِعِيَّ إنَّمَا سَمَّى الظَّاهِرَ نَصًّا لِأَنَّهُ لَمَحَ فيه الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ قال الْمَازِرِيُّ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ وَالْقَاضِي أبو بَكْرٍ إلَى أَنَّ النَّصَّ يُسَمَّى ظَاهِرًا وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ لِأَنَّ النَّصَّ في أَصْلِ اللُّغَةِ الظُّهُورُ وقال الْإِبْيَارِيُّ يُطْلَقُ النَّصُّ على ما لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ احْتِمَالٌ وَسَوَاءٌ عَضَّدَهُ بِالدَّلِيلِ أَمْ لَا وَهَذَا الذي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ هو اخْتِيَارُ الْقَاضِي وقد يَكُونُ نَصًّا بِوَضْعِ اللُّغَةِ وقد يَكُونُ بِالْقَرِينَةِ وَقِيلَ ما اسْتَوَى ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ وَأَشَارَ بِالْبَاطِنِ إلَى الْمَفْهُومِ وَإِلَّا فَلَيْسَ لِلَّفْظِ ظَاهِرٌ وَلَا بَاطِنٌ في الْحَقِيقَةِ وقال أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ قال الشَّافِعِيُّ في حَدِّ النَّصِّ إنَّهُ خِطَابٌ يُعْلَمُ ما أُرِيدَ بِهِ من الْحُكْمِ سَوَاءٌ كان مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ أو عُلِمَ الْمُرَادُ بِهِ بِغَيْرِهِ وَلَا يُسَمَّى الْمُجْمَلُ نَصًّا وَبِهَذِهِ حَدَّهُ الْكَرْخِيّ وَذَكَرَ عبد الْجَبَّارِ أَنَّ النَّصَّ هو خِطَابٌ يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَفَ الْمُرَادُ بِهِ وَشُرُوطُهُ ثَلَاثَةٌ أَنْ يَتَكَوَّنَ لَفْظًا وَأَنْ لَا يَتَنَاوَلَ إلَّا ما هو نَصٌّ فيه وَإِنْ كان نَصًّا في عَيْنٍ وَاحِدَةٍ
____________________
(1/373)
وَجَبَ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ ما سِوَاهَا وَإِنْ كان نَصًّا في أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ وَجَبَ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ ما سِوَاهَا وَالثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ إفَادَتُهُ لِمَا يُفِيدُهُ ظَاهِرُهُ غير مُحْتَمَلٍ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ النَّصُّ في عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ اللَّفْظُ الذي لَا يُمْكِنُ تَخْصِيصُهُ كَقَوْلِك أَعْطِ زَيْدًا أو خُذْ من عَمْرٍو وَافْعَلْ أنت وَنَحْوَهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَبِي بُرْدَةَ وَلَنْ تَجْزِيَ عن أَحَدٍ بَعْدَك وَأَصْلُهُ الظُّهُورُ قال وَحُكِيَ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا قال لَا لَفْظَ في كَلَامِ الْعَرَبِ إلَّا وَأَصْلُهُ التَّخْصِيصُ وَذَهَبَ هذا الْقَائِلُ إلَى أَنَّ الْأَلْفَاظَ كُلَّهَا نُصُوصٌ عُمُومًا كان أو ظَاهِرًا وَزَعَمَ أَنَّ الِاحْتِمَالَ في قَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لِأَبِي بُرْدَةَ يُجْزِئُكَ جَوَازُ قِيَاسِ الدَّلَالَةِ على أَنَّ غَيْرَهُ في مَعْنَاهُ قال وَهَذَا لَا يَنْفِي الْأَوَّلَ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ في غَيْرِ النَّصِّ ا هـ مسألة بُعْدُ قَوْلِ من أَنْكَرَ وُجُودَ النَّصِّ وَمُقَابِلُ هذا في الْبُعْدِ قَوْلُ من أَنْكَرَ وُجُودَ النَّصِّ وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عن أبي مُحَمَّدِ بن اللَّبَّانِ الْأَصْفَهَانِيِّ وَحَكَى الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ عن أبي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ قال يَعِزُّ وُجُودُ النَّصِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى يا أَيُّهَا النبي وقل هو اللَّهُ أَحَدٌ قال وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ قال في الْمَنْخُولِ قال الْأُصُولِيُّونَ لَا يُوجَدُ النَّصُّ في الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَّا في أَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ هو اللَّهُ أَحَدٌ مُحَمَّدٌ رسول اللَّهِ وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ اُغْدُ يا أُنَيْسٌ إلَى امْرَأَةِ هذا وَقَوْلُهُ وَلَا يَجْزِيَ عن أَحَدٍ بَعْدَك قال وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فإنه يُسَمِّي الظَّاهِرَ نَصًّا ثُمَّ قَسَّمَ النَّصَّ إلَى ما يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ
____________________
(1/374)
وَإِلَى ما لَا يَقْبَلُهُ قال وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ النَّصَّ ما لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ تَأْوِيلٌ وَتَسْمِيَةُ الظَّاهِرِ نَصًّا صَحِيحٌ لُغَةً وَشَرْعًا لِأَنَّهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ قال وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الظَّاهِرُ هو الْمَجَازُ وَالنَّصُّ هو الْحَقِيقَةُ ا هـ وقال الْقَاضِي أبو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ النَّصُّ ما عُرِّيَ لَفْظُهُ عن الشَّرِكَةِ وَخَلَصَ مَعْنَاهُ من الشُّبْهَةِ حَكَاهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وابن الصَّبَّاغِ وَقِيلَ هو الذي لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا وَقِيلَ التَّطَوُّعُ على الْمُرَادِ وَقِيلَ ما اسْتَوَى ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ قال وَإِنَّمَا تَصِحُّ هذه الْأَقْوَالُ على الْقَوْلِ بِأَنَّ الظَّاهِرَ الْمُجْمَلَ وَالْعُمُومَ ليس بِنَصٍّ قال وَالصَّحِيحُ في حَدِّ النَّصِّ عِنْدَنَا أَنَّهُ الدَّالُّ على الْحُكْمِ بِاسْمِ الْمَحْكُومِ فيه سَوَاءٌ كان ذلك النَّصُّ مُحْتَمِلًا لِلتَّأْوِيلِ وَالتَّخْصِيصِ أو غير مُحْتَمِلٍ قال وَإِلَى هذا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَشَارَ إلَيْهِ في كِتَابِ الرِّسَالَةِ وَكَذَلِكَ حَكَاهُ أبو الْحَسَنِ الْكَرْخِيّ عن أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَكُونُ الْعُمُومُ نَصًّا وَكَذَلِكَ الْمُجْمَلُ في الْإِيجَابِ وَإِنْ كان مُجْمَلًا في صِفَةِ الْوَاجِبِ أو مِقْدَارِهِ أو وَقْتِهِ وقال في كِتَابِ التَّحْصِيلِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في تَسْمِيَةِ الْعُمُومِ وَالظَّوَاهِرِ الْمُحْتَمَلَةِ نُصُوصًا فَقِيلَ إنَّهُ مُخْتَصٌّ بِاَلَّذِي لَا يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ كَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَنْ تُجْزِئَ عن أَحَدٍ بَعْدَك وقال الْجُمْهُورُ إنَّ الْعُمُومَ وَالظَّوَاهِرَ كُلَّهَا نُصُوصٌ الْفَرْقُ بين النَّصِّ وَالظَّاهِرِ وقال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ في الْفَرْقِ بين النَّصِّ وَالظَّاهِرِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّصَّ ما كان لَفْظُهُ دَلِيلَهُ وَالظَّاهِرُ ما سَبَقَ مُرَادُهُ إلَى فَهْمِ سَامِعِهِ وَالثَّانِي النَّصُّ ما لم يَتَوَجَّهْ إلَيْهِ احْتِمَالٌ وَالظَّاهِرُ ما تَوَجَّهَ إلَيْهِ احْتِمَالٌ وقال أبو نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ اخْتَلَفَ الناس في النَّصِّ فَقِيلَ ما لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ تَأْوِيلٌ وَقِيلَ ما اسْتَوَى ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ وَنُوقِضَ بِالْفَحْوَى فَإِنَّهَا تَقَعُ نَصًّا وَإِنْ لم يَكُنْ مَعْنَاهُ مُصَرَّحًا بِهِ لَفْظًا وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا اسْتِقْلَالَ له ثُمَّ صَارَ الصَّائِرُونَ إلَى عِزَّةِ النُّصُوصِ في الْكِتَابِ حتى لَا يُوجَدَ إلَّا قَوْلُهُ قُلْ هو اللَّهُ أَحَدٌ ومحمد رسول اللَّهِ
____________________
(1/375)
وفي السُّنَّةِ لَنْ تُجْزِئَ عن أَحَدٍ بَعْدَك واغد يا أُنَيْسٌ إلَى امْرَأَةِ هذا وَهَذَا ليس بِشَيْءٍ بَلْ كُلُّ ما أَفَادَ مَعْنًى على قَطْعٍ مع انْحِسَامِ التَّأْوِيلِ فَهُوَ نَصٌّ وَالشَّافِعِيُّ قد يُسَمِّي الظَّاهِرَ نَصًّا في مَجَارِي كَلَامِهِ وهو صَحِيحٌ في وَضْعِ اللُّغَةِ لِأَنَّ النَّصَّ من الظُّهُورِ وَلَكِنَّ الِاصْطِلَاحَ ما ذَكَرْنَا قال وَيُلْتَحَقُ بِالنَّصِّ ما حُذِفَ من الْكَلَامِ لِدَلَالَةِ الْبَاقِي على الْمَحْذُوفِ وَلَكِنْ لَا يُشَكُّ في مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ فإن مَعْنَاهُ فَأَفْطَرَ وَأَمَّا الظَّاهِرُ فقال الْقَاضِي هو لَفْظَةٌ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى لها حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ فإذا وَرَدَتْ على حَقِيقَتِهَا كانت ظَاهِرًا وَإِنْ عَدَلَتْ إلَى جِهَةِ الْمَجَازِ كانت مُؤَوَّلَةً وَهَذَا صَحِيحٌ في بَعْضِ الظَّوَاهِرِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الظَّاهِرُ لَفْظٌ مَعْقُولٌ يَبْتَدِرُ إلَى فَهْمِ الْبَصِيرِ لِجِهَةٍ يَفْهَمُ الْفَاهِمُ منه مَعْنًى وَلَهُ عِنْدَهُ وَجْهٌ في التَّأْوِيلِ مُسَوَّغٌ لَا يَبْتَدِرُهُ الْفَهْمُ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَهَذَا أَمْثَلُ قال وَمِنْ الظَّوَاهِرِ مُطْلَقُ صِيَغِ الْأَمْرِ فإن ظَاهِرَهُ الْوُجُوبُ وَمِنْهُ صِيَغُ الْعُمُومِ وَفَحْوَى الْخِطَابِ لَا يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ وَالتَّأْوِيلُ لِأَنَّهُ نَصٌّ قال وَالظُّهُورُ قد يَقَعُ في الْأَسْمَاءِ وفي الْأَفْعَالِ وَالْحُرُوفِ مِثْلُ إلَى فإنه ظَاهِرٌ في التَّحْدِيدِ وَالْغَايَةِ مُؤَوَّلٌ في الْحَمْلِ على الْجَمْعِ مَسْأَلَةٌ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ الْقِرَاءَاتُ عن الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ منهم إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ خِلَافًا لِصَاحِبِ الْبَدِيعِ من الْحَنَفِيَّةِ فإنه اخْتَارَ أنها مَشْهُورَةٌ وقال السُّرُوجِيُّ في بَابِ الصَّوْمِ من الْغَايَةِ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهَا آحَادٌ عِنْدَهُمْ وقال في بَابِ الصَّلَاةِ الْمَشْهُورُ عن أَحْمَدَ كَرَاهَةُ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ لِمَا فيها من الْكَسْرِ وَالْإِدْغَامِ وَزِيَادَةِ الْمَدِّ وَنُقِلَ عنه كَرَاهَةُ قِرَاءَةِ الْكِسَائِيّ لِأَنَّهَا كَقِرَاءَةِ حَمْزَةَ في الْإِمَالَةِ وَالْإِدْغَامِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ ما عَدَا الْمُعْتَزِلَةَ على أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ من السَّبْعِ ثَبَتَتْ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِالتَّوَاتُرِ فَكَيْفَ تُكْرَهُ ا ه
____________________
(1/376)
وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ التَّحْقِيقُ أنها مُتَوَاتِرَةٌ عن الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ وَأَمَّا تَوَاتُرُهَا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَفِيهِ نَظَرٌ فإن إسْنَادَ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ لِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ مَوْجُودَةٌ في كُتُبِهِمْ وَهِيَ نَقْلُ الْوَاحِدِ عن الْوَاحِدِ فلم تَسْتَكْمِلْ شُرُوطَ التَّوَاتُرِ وقد يُجَابُ عن هذا على تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ بِأَنَّ الْأُمَّةَ تَلَقَّتْهَا بِالْقَبُولِ وَاخْتَارُوهَا لِمُصْحَفِ الْجَمَاعَةِ وَقَطَعُوا بِأَنَّهَا قُرْآنٌ وَأَنَّ ما عَدَاهَا مَمْنُوعٌ من إطْلَاقِهِ وَالْقِرَاءَةُ بِهِ قَالَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في الِانْتِصَارِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ حَكَمَ ابن الصَّلَاحِ أَنَّ أَحَادِيثَ الصَّحِيحَيْنِ مَقْطُوعٌ بها وَإِنْ رُوِيَتْ بِالْآحَادِ لِتَلَقِّي الْأُمَّةِ لها بِالْقَبُولِ وهو قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ أَيْ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ أَفَادَ الْقَطْعَ وإذا كان كَذَلِكَ فِيمَا يَثْبُتُ بِالْوَاحِدِ فما ظَنُّك فِيمَا وُجِدَ فيه غَالِبُ شُرُوطِ التَّوَاتُرِ أو كُلُّهَا لَكِنَّ كَلَامَ ابْنِ الصَّلَاحِ هذا قد رَدَّهُ كَثِيرٌ من الناس كما سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وقال الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أبو شَامَةَ في كِتَابِ الْمُرْشِدِ الْوَجِيزِ كُلُّ فَرْدٍ فَرْدٍ منها مُتَوَاتِرٌ أَمَّا الْمَجْمُوعُ منها فَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَيِّنَةِ على تَوَاتُرِهِ قال وقد شَاعَ ذلك على أَلْسِنَةِ جَمَاعَةٍ من الْمُقْرِئِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ قالوا وَالْقَطْعُ بِأَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ من عِنْدِ اللَّهِ وَاجِبٌ قال وَنَحْنُ نَقُولُ بهذا وَلَكِنْ فِيمَا اجْتَمَعَتْ على نَقْلِهِ عَنْهُمْ الطُّرُقُ وَاتَّفَقَتْ عليه الْفِرَقُ مع أَنَّهُ شَائِعٌ من غَيْرِ نَكِيرٍ فإن الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ الْمُرَادُ بها ما رُوِيَ عن الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ الْقُرَّاءِ الْمَشْهُورِينَ وَذَلِكَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُمْ يَنْقَسِمُ إلَى ما أُجْمِعَ عليه عَنْهُمْ لم تَخْتَلِفْ فيه الطُّرُقُ وَإِلَى ما اُخْتُلِفَ فيه بِمَعْنَى أَنَّهُ بَقِيَتْ نِسْبَتُهُ إلَيْهِمْ في بَعْضِ الطُّرُقِ فَالْمُصَنِّفُونَ لِكُتُبِ الْقِرَاءَاتِ يَخْتَلِفُونَ في ذلك اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَمَنْ تَصَفَّحَ كُتُبَهُمْ أَحَاطَ بِذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْرَأَ بِكُلِّ قِرَاءَةٍ تُعْزَى إلَى إمَامٍ من هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ حتى يَثْبُتَ ذلك وَيُوَافِقَ لُغَةَ الْعَرَبِ قال وَأَمَّا من يُهَوِّلُ في عِبَارَتِهِ قَائِلًا بِأَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةَ مُتَوَاتِرَةٌ لِأَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَخَطَؤُهُ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْأَحْرُفَ الْمُرَادُ بها غَيْرُ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّا لَسْنَا مِمَّنْ يَلْتَزِمُ التَّوَاتُرَ في جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلَفِ فيها بين الْقُرَّاءِ بَلْ الْقِرَاءَاتُ كُلُّهَا تَنْقَسِمُ إلَى مُتَوَاتِرٍ وَغَيْرِهِ وَغَايَةُ ما يُبْدِيهِ مُدَّعِي تَوَاتُرِ الْمَشْهُورِ منها كَإِدْغَامِ أبي عَمْرٍو وَنَقْلِ الْحَرَكَةِ لِوَرْشٍ وَوَصْلِ مِيمَيْ الْجَمْعِ وَهَاءِ الْكِنَايَةِ لِابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ عن ذلك الْإِمَامِ الذي نُسِبَتْ تِلْكَ الْقِرَاءَاتُ إلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يُجْهِدَ نَفْسَهُ في اسْتِقْرَاءِ الطُّرُقِ
____________________
(1/377)
وَالْوَاسِطَةِ إلَّا أَنَّهُ يَبْقَى عليه التَّوَاتُرُ من ذلك الْإِمَامِ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في كل فَرْدٍ فَرْدٍ من ذلك وَهَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ فَإِنَّهَا من ثَمَّ لم تُنْقَلْ إلَّا آحَادًا إلَّا الْيَسِيرَ منها بَلْ الضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ قِرَاءَةٍ اُشْتُهِرَتْ بَعْدَ صِحَّةِ إسْنَادِهَا وَمُوَافَقَتِهَا خَطَّ الْمُصْحَفِ ولم يُنْكَرْ من جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ فَهِيَ الْقِرَاءَةُ الْمُعْتَمَدَةُ وما عَدَا ذلك شَاذٌّ وَضَعِيفٌ ا هـ وَكَذَا كَلَامُ غَيْرِهِ من الْقُرَّاءِ يُوهِمُ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةَ لَيْسَتْ مُتَوَاتِرَةً كُلُّهَا وَأَنَّ أَعْلَاهَا ما اجْتَمَعَ فيه صِحَّةُ السَّنَدِ وَمُوَافَقَةُ خَطِّ الْمُصْحَفِ وَالْإِمَامِ وَالْفَصِيحُ من لُغَةِ الْعَرَبِ وَأَنَّهُ يَكْفِي فيها الِاسْتِفَاضَةُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كما ذَكَرَ هَؤُلَاءِ وَالشُّبَهُ دَخَلَتْ عليهم من انْحِصَارِ أَسَانِيدِهَا في رِجَالٍ مَعْرُوفِينَ فَظَنُّوهَا كَأَخْبَارِ الْآحَادِ وقد أَوْضَحَ الْإِمَامُ كَمَالُ الدِّينِ بن الزَّمْلَكَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ذلك فقال انْحِصَارُ الْأَسَانِيدِ في طَائِفَةٍ لَا يَمْنَعُ مَجِيءَ الْقِرَاءَاتِ عن غَيْرِهِمْ فَقَدْ كان يَتَلَقَّاهُ أَهْلُ كل بَلَدٍ بِقِرَاءَةِ إمَامِهِمْ الْجَمُّ الْغَفِيرُ عن مِثْلِهِمْ وَكَذَلِكَ دَائِمًا فَالتَّوَاتُرُ حَاصِلٌ لهم وَلَكِنَّ الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ قَصَدُوا ضَبْطَ الْحُرُوفِ وَحَفِظُوا عن شُيُوخِهِمْ منها جاء السَّنَدُ من جِهَتِهِمْ وَهَذَا كَالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ هِيَ آحَادٌ ولم تَزَلْ حَجَّةُ الْوَدَاعِ مَنْقُولَةً عَمَّنْ يَحْصُلُ بِهِمْ التَّوَاتُرُ عن مِثْلِهِمْ في عَصْرٍ فَهَذِهِ كَذَلِكَ وَهَذَا يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ له وَأَنْ لَا يُغْتَرَّ بِقَوْلِ الْقُرَّاءِ فيه وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وقال الْقَاضِي ابن الْعَرَبِيِّ في الْقَوَاصِمِ وقال بَعْضُهُمْ كَيْفِيَّةُ الْقِرَاءَةِ الْيَوْمَ أَنْ يُقْرَأَ بِمَا اجْتَمَعَ فيه ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ ما صَحَّ نَقْلُهُ وَصَحَّ في الْعَرَبِيَّةِ لَفْظُهُ وَوَافَقَ خَطَّ الْمُصْحَفِ وَذَكَرَ خِلَافًا كَثِيرًا في ذلك قال وَإِنَّمَا أَوْجَبَ ذلك كُلَّهُ أَنَّ جَمِيعَ السَّبْعِ لم يَكُنْ بِإِجْمَاعٍ وَإِنَّمَا كان بِإِخْبَارِ وَاحِدٍ وَاحِدٍ وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَقْرَأَ الْمُسْلِمُونَ على خَطِّ الْمُصْحَفِ فَكُلُّ ما صَحَّ في النَّقْلِ لَا يَخْرُجُونَ عنه وَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَى ما سِوَاهُ قال وَالْمُخْتَارُ لِنَفْسِي إذَا قَرَأْت بِمَا نُسِبَتْ لقالون أَنْ لَا أَهْمِزَ وَلَا أَكْسِرَ مُنَوَّنًا وَلَا غير مَنُونٍ فإن الْخُرُوجَ من كَسْرَةٍ إلَى يَاءٍ مَضْمُومَةٍ لم أَقْدِرْ عليه وما كُنْت لِأَمُدَّ مَدَّ حَمْزَةَ وَلَا أَقِفَ على السَّاكِنِ وَلَا أَقْرَأَ بِالْإِدْغَامِ الْكَبِيرِ وَلَوْ رَوَاهُ سَبْعُونَ أَلْفًا وَلَا أَمُدَّ مِيمَ ابْنِ كَثِيرٍ وَلَا أَضُمَّ هَاءَ عليهم وَإِلَيْهِمْ وَهَذِهِ كُلُّهَا أو أَكْثَرُهَا عِنْدِي لُغَاتٌ لَا قِرَاءَاتٌ لِعَدَمِ ثُبُوتِهَا وإذا تَأَمَّلْتهَا رَأَيْتهَا اخْتِيَارَاتٍ مَبْنِيَّةً على مَعَانٍ وَلُغَاتٍ قال وَأَقْوَى الْقِرَاءَاتِ سَنَدًا قِرَاءَةُ عَاصِمٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَقِرَاءَةُ أبي جَعْفَرٍ ثَابِتَةٌ لَا كَلَامَ فيها قال وَطَلَبْت أَسَانِيدَ الْبَاقِينَ فلم أَجِدْ فيها مَشْهُورًا وَرَأَيْت بِنَاءَ أَمْرِهَا على اللُّغَاتِ وَأَطْلَقَ الْجُمْهُورُ تَوَاتُرَ السَّبْعِ وَاسْتَثْنَى ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ ما ليس من قَبِيلِ
____________________
(1/378)
الْأَدَاءِ كَالْمَدِّ وَاللِّينِ وَالْإِمَالَةِ وَتَخْفِيفِ الْهَمْزِ يَعْنِي أنها لَيْسَتْ بِمُتَوَاتِرَةٍ وَهَذَا ضَعِيفٌ وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَدَّ وَالْإِمَالَةَ لَا شَكَّ في تَوَاتُرِ الْمُشْتَرَكِ منها وهو الْمَدُّ من حَيْثُ هو مَدٌّ وَالْإِمَالَةُ من حَيْثُ هِيَ إمَالَةٌ وَلَكِنْ اخْتَلَفَتْ الْقُرَّاءُ في تَقْدِيرِ الْمَدِّ في اخْتِيَارَاتِهِمْ فَمِنْهُمْ من رَآهُ طَوِيلًا وَمِنْهُمْ من رَآهُ قَصِيرًا وَمِنْهُمْ من بَالَغَ في الْقِصَرِ وَمِنْهُمْ من تَزَايَدَ كَحَمْزَةَ وَوَرْشٍ بِمِقْدَارِ سِتِّ أَلِفَاتٍ وَقِيلَ خَمْسٍ وَقِيلَ أَرْبَعٍ وَعَنْ عَاصِمٍ ثَلَاثٍ وَعَنْ الْكِسَائِيُّ أَلِفَيْنِ وَنِصْفٍ وقالون أَلِفَيْنِ وَالسُّوسِيِّ أَلِفٍ وَنِصْفٍ وقال الدَّانِيُّ في التَّيْسِيرِ أَطْوَلُهُمْ مَدًّا في الضَّرْبَيْنِ جميعا يَعْنِي الْمُتَّصِلَ وَالْمُنْفَصِلَ وَرْشٌ وَحَمْزَةُ وَدُونَهُمَا عَاصِمٌ وَدُونَهُ ابن عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَدُونَهُمَا أبو عَمْرٍو من طَرِيقِ أَهْلِ الْعِرَاقِ قال وقالون من طَرِيقِ أبي نَشِيطٍ بِخِلَافٍ عنه وَهَذَا كُلُّهُ على التَّقْرِيبِ من غَيْرِ إفْرَاطٍ وَإِنَّمَا هو على مِقْدَارِ مَذَاهِبِهِمْ من التَّحْقِيقِ وَالْحَذْفِ ا هـ فَعُلِمَ بهذا أَنَّ أَصْلَ الْمَدِّ مُتَوَاتِرٌ وَالِاخْتِلَافُ وَالطُّرُقُ إنَّمَا هو في كَيْفِيَّةِ التَّلَفُّظِ وكان الْإِمَامُ أبو الْقَاسِمِ الشَّاطِبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقْرَأُ بِمَدَّيْنِ طُولِيٍّ لِوَرْشٍ وَحَمْزَةَ وَوَسَطِيٍّ لِمَنْ بَقِيَ وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ أَنَّهُ كَرِهَ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ لِمَا فيها من طُولِ الْمَدِّ وَغَيْرِهِ وقال لَا تُعْجِبُنِي وَلَوْ كانت مُتَوَاتِرَةً لَمَا كَرِهَهَا إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّمَا كَرِهَ كَيْفِيَّتَهَا لَا أَصْلَهَا وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا على أَصْلِ الْإِمَالَةِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في حَقِيقَتِهَا مُبَالَغَةً وَقِصَرًا فَإِنَّهَا عِنْدَهُمْ قِسْمَانِ مَحْضَةٌ وَهِيَ أَنْ يَنْحَى بِالْأَلِفِ إلَى الْيَاءِ وَبِالْفَتْحَةِ إلَى الْكِسْرَةِ وَبَيْنَ بين وَهِيَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْأَلِفَ وَالْفَتْحَةَ أَقْرَبُ وَهِيَ أَصْعَبُ الْإِمَالَيْنِ وَهِيَ الْمُخْتَارَةُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ وَكَذَلِكَ تَخْفِيفُ الْهَمْزَةِ أَصْلُهُ مُتَوَاتِرٌ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في كَيْفِيَّتِهِ وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الْمُخْتَلَفَةُ فيها بين الْقُرَّاءِ فَهِيَ أَلْفَاظُ قِرَاءَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْمُرَادُ تَنَوُّعُ الْقُرَّاءِ في أَدَائِهَا فإن منهم من يَرَى الْمُبَالَغَةَ في تَشْدِيدِ الْحَرْفِ الْمُشَدَّدِ فَكَأَنَّهُ زَادَ حَرْفًا وَمِنْهُمْ من لَا يَرَى ذلك وَمِنْهُمْ من يَرَى الْحَالَةَ الْوُسْطَى فَهَذَا هو الذي ادَّعَى أبو شَامَةَ عَدَمَ تَوَاتُرِهِ وَنُوزِعَ فيه فإن اخْتِلَافَهُمْ ليس إلَّا في الِاخْتِيَارِ وَلَا يَمْنَعُ قَوْمٌ قَوْمًا
____________________
(1/379)
مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ إثْبَاتُ قِرَاءَةٍ حُكْمًا لَا عِلْمًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ قال الْقَاضِي أبو بَكْرٍ في الِانْتِصَارِ قال قَوْمٌ من الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ يَجُوزُ إثْبَاتُ قِرَاءَاتٍ وَقِرَاءَةٍ حُكْمًا لَا عِلْمًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ دُونَ الِاسْتِفَاضَةِ وَكَرِهَ ذلك أَهْلُ الْحَقِّ وَامْتَنَعُوا منه وقال قَوْمٌ من الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّهُ يَسُوغُ إعْمَالُ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ في إثْبَاتِ قِرَاءَةٍ وَأَوْجُهٍ وَأَحْرُفٍ إذَا كان صَوَابًا في اللُّغَةِ وَمِمَّا سَوَّغَ التَّكَلُّمَ بها ولم يُقْحَمْ حُجَّةً بِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قَرَأَ بها بِخِلَافِ مُوجَبِ رَأْيِ الْقَائِسِينَ وَاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَبَى ذلك أَهْلُ الْحَقِّ وَمَنَعُوهُ وَخَطَّئُوا من قال بِذَلِكَ وَصَارَ إلَيْهِ ا هـ مَسْأَلَةٌ لَيْسَتْ الْقِرَاءَاتُ اخْتِيَارِيَّةً وَلَيْسَتْ الْقِرَاءَاتُ اخْتِيَارِيَّةً وَلِهَذَا قال سِيبَوَيْهِ في كِتَابِهِ في قَوْله تَعَالَى ما هذا بَشَرًا وَبَنُو تَمِيمٍ يَرْفَعُونَهَا إلَّا من دَرَى كَيْفَ هِيَ في الْمُصْحَفِ وَإِنَّمَا كان ذلك لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ سُنَّةٌ مَرْوِيَّةٌ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا تَكُونُ الْقِرَاءَةُ بِغَيْرِ ما رُوِيَ عنه ا هـ خِلَافًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ حَيْثُ اعْتَقَدَ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ اخْتِيَارِيَّةٌ تَدُورُ مع اخْتِيَارِ الْفُصَحَاءِ وَاجْتِهَادِ الْبُلَغَاءِ وَرَدَّ على حَمْزَةَ قِرَاءَتَهُ وَالْأَرْحَامِ بِالْخَفْضِ وَمِثْلُهُ ما حُكِيَ عن أبي زَيْدٍ وَالْأَصْمَعِيِّ وَيَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيَّ أَنَّهُمْ خَطَّئُوا حَمْزَةَ في قِرَاءَتِهِ وما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ بِكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَقَالُوا إنَّهُ ليس ذلك في كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَنَّهُ كان يَلْحَنُ في الْقِرَاءَاتِ وما يُرْوَى أَيْضًا أَنَّ يَزِيدَ بن هَارُونَ أَرْسَلَ إلَى أبي الشَّعْثَاءِ بِوَاسِطَ لَا تَقْرَأْ في مَسْجِدِنَا قِرَاءَةَ حَمْزَةَ وما حُكِيَ عن الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ قال لَا تَحِلُّ الْقِرَاءَةُ بها يَعْنِي قِرَاءَةَ وَالْأَرْحَامِ بِالْكَسْرِ وَالصَّوَابُ أَنَّ حَمْزَةَ إمَامٌ مُجْمَعٌ على جَلَالَتِهِ وَمَعْقُودٌ على صِحَّةِ رِوَايَتِهِ وَلَقَدْ هَجَنَ الْمُبَرِّدُ فِيمَا قال إنْ صَحَّ عنه فَقَدْ نَدَّ قُلْت هذه الْقِرَاءَةُ عن جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ منهم ابن مَسْعُودٍ وابن عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالنَّخَعِيُّ
____________________
(1/380)
وَالْأَعْمَشُ وَالْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ مَتْبُوعَةٌ مُتَلَقَّاةٌ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم تَوْقِيفًا فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ إلَّا بِمَا سَمِعَهُ وَلَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ في ذلك وَقِرَاءَةُ حَمْزَةَ مُتَوَاتِرَةٌ وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِكَلَامِ الْعَرَبِ وقد جاء في أَشْعَارِهِمْ وَنَوَادِرِهِمْ مِثْلُهَا كَثِيرًا وَلِهَذَا اعْتَدَّ بها ابن مَالِكٍ في هذه الْمَسْأَلَةِ وَاخْتَارَ جَوَازَ الْعَطْفِ على الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ من غَيْرِ إعْطَاءِ الْجَارِّ وِفَاقًا لِلْكُوفِيِّينَ مَسْأَلَةٌ الْبَسْمَلَةُ في الْقُرْآنِ الْبَسْمَلَةُ من أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا وَفِيمَا عَدَاهَا من السُّوَرِ سِوَى بَرَاءَةٍ لِلشَّافِعِيِّ أَقْوَالٌ أَصَحُّهَا أنها آيَةٌ من كل سُورَةٍ وَمِنْ أَحْسَنِ الْأَدِلَّةِ فيه ثُبُوتُهَا في سَوَادِ الْمُصْحَفِ وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ أَنْ لَا يُكْتَبَ في الْمُصْحَفِ ما ليس بِقُرْآنٍ وَأَنَّ ما بين الدَّفَّتَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ الثَّانِي بَعْضُ آيَةٍ وَالثَّالِثُ لَيْسَتْ من الْقُرْآنِ بِالْكُلِّيَّةِ وَعُزِيَ لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ وَالرَّابِعُ أنها آيَةٌ مُنْفَرِدَةٌ أُنْزِلَتْ لِلْفَصْلِ بين السُّوَرِ وَهَذَا غَرِيبٌ لم يَحْكِهِ أَحَدٌ من الْأَصْحَابِ لَكِنَّهُ يُؤْخَذُ مِمَّا حَكَاهُ ابن خَالَوَيْهِ في الطَّارِقِيَّاتِ عن الرَّبِيعِ سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يقول أَوَّلُ الْحَمْدِ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ وَأَوَّلُ الْبَقَرَةِ أَلَمْ قال الْعُلَمَاءُ وَلَهُ وَجْهٌ حَسَنٌ وهو أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَمَّا ثَبَتَتْ أَوَّلًا في سُورَةِ الْفَاتِحَةِ فَهِيَ في بَاقِي السُّوَرِ إعَادَةٌ لها وَتَكْرَارٌ فَلَا يَكُونُ من تِلْكَ السُّوَرِ ضَرُورَةً وَلَا يُقَالُ هِيَ آيَةٌ من أَوَّلِ كل سُورَةٍ بَلْ هِيَ آيَةٌ في أَوَّلِ كل سُورَةٍ قال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهَذَا الْقَوْلُ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ وَبِهِ تَجْتَمِعُ الْأَدِلَّةُ فإن إثْبَاتَهَا في الْمُصْحَفِ بين السُّوَرِ مُنْتَهِضٌ في كَوْنِهَا من الْقُرْآنِ ولم يَقُمْ دَلِيلٌ على كَوْنِهَا آيَةً من أَوَّلِ كل سُورَةٍ وَحَكَى الْمُتَوَلِّي من أَصْحَابِنَا وَجْهًا أَنَّهُ إنْ كان الْحَرْفُ الْأَخِيرُ من السُّورَةِ قَبْلَهُ يَاءٌ مَمْدُودَةٌ كَالْبَقَرَةِ فَالْبَسْمَلَةُ آيَةٌ كَامِلَةٌ وَإِنْ لم يَكُنْ منها كَ اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ فَبَعْضُ آيَةٍ وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ وَجْهَيْنِ في أنها هل هِيَ قُرْآنٌ على سَبِيل الْقَطْعِ كَسَائِرِ الْقُرْآنِ أَمْ على سَبِيلِ الْحُكْمِ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فيها وَمَعْنَى سَبِيلِ الْحُكْمِ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بها في أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَلَا يَكُونُ قَارِئًا لِسُورَةٍ بِكَمَالِهَا غير الْفَاتِحَةِ إلَّا إذَا ابْتَدَأَهَا بِالْبَسْمَلَةِ سِوَى بَرَاءَةٍ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ على أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ بِآيَةٍ فيها
____________________
(1/381)
وَضَعَّفَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ قَوْلَ من قال إنَّهَا قُرْآنٌ على الْقَطْعِ قال الْإِمَامُ هذه غَبَاوَةٌ عَظِيمَةٌ من قَائِلِهِ لِأَنَّ ادِّعَاءَ الْعِلْمِ حَيْثُ لَا قَاطِعَ مُحَالٌ وقال الْمَاوَرْدِيُّ قال جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا هِيَ آيَةٌ حُكْمًا لَا قَطْعًا فَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ يُقْبَلُ في إثْبَاتِهَا خَبَرُ الْوَاحِدِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ بِخِلَافِهِ كَسَائِرِ الْقُرْآنِ وهو ضَعِيفٌ كما قال الْإِمَامُ إذْ لَا خِلَافَ بين الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ نَافِيهَا وَلَوْ كانت على سَبِيلِ الْقَطْعِ لَكَفَرَ على أَنَّ ابْنَ الرِّفْعَةِ حَكَى وَجْهًا عن صَاحِبِ الْفُرُوعِ أَنَّهُ قال بِتَكْفِيرِ جَاحِدِهَا وَتَفْسِيقِ تَارِكِهَا وَلَنَا مَسْلَكَانِ أَحَدُهُمَا الْقَطْعُ بِأَنَّهَا منه فإن الصَّحَابَةَ أَثْبَتُوهَا في الْمُصْحَفِ على الْوَجْهِ الذي أَثْبَتُوا بِهِ سَائِرَ الْقُرْآنِ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ ما بين الدَّفَّتَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ مع شِدَّةِ اعْتِنَائِهِمْ بِتَجْرِيدِهِ عَمَّا ليس منه فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ من الْقُرْآنِ كَسَائِرِ الْآيِ الْمُكَرَّرَةِ في الشُّعَرَاءِ وَالرَّحْمَنِ وَالْمُرْسَلَاتِ وَأَمَّا الْخِلَافُ فيها فإنه لَا يَهْتِكُ حُرْمَةَ الْقَطْعِ فَكَمْ من حُكْمٍ يَقِينِيٍّ قد اُخْتُلِفَ فيه أَمَّا في الْعَقْلِيَّاتِ وما مَبْنَاهُ الْيَقِينُ كَالْحِسِّيَّاتِ فَكَثِيرٌ وَأَمَّا في الْفُرُوعِ فإن الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمُصِيبَ فيها وَاحِدٌ ذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ وكان الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ يَقْطَعُ بِخَطَأِ مُخَالِفِهِ وَنُقِلَ مِثْلُ ذلك عن أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ وَرُبَّمَا حَلَفَ على الْمَسْأَلَةِ وَالْحَقُّ أنها مُنْقَسِمَةٌ إلَى يَقِينِيَّةٍ وَظَنِّيَّةٍ كما سَبَقَ لَكِنْ لَمَّا غَلَبَ على مَسَائِلِ الْخِلَافِ الظَّنُّ ظُنَّ أَنَّ جَمِيعَهَا كَذَلِكَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَأَمَّا فَصْلُ التَّكْفِيرِ فَلَازِمٌ لهم حَيْثُ لم يُكَفِّرُوا الْمُثْبِتِينَ كما يُكَفَّرُ من زَادَ شيئا من الْمُكَرَّرَاتِ ثُمَّ الْجَوَابُ أَنَّ مَنَاطَ التَّكْفِيرِ غَيْرُ مُنَاطِ الْقَطْعِ فَكَمْ من قَطْعِيٍّ لَا يُكَفَّرُ مُنْكِرُهُ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُجْمَعًا عليه مَعْلُومًا من الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَالثَّانِي أَنَّهُ يُكْتَفَى بِالظَّنِّ كما فَعَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ ثُمَّ نَقُولُ نَفْسُ الْآيَةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِقَاطِعٍ فَأَمَّا تَكْرَارُهَا في الْمُحَالِّ فَلَا يَتَوَقَّفُ على الْقَاطِعِ
____________________
(1/382)
مَسْأَلَةٌ في الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ حَقِيقَةُ الشَّاذِّ لُغَةً الْمُنْفَرِدُ وفي الِاصْطِلَاحِ عَكْسُ الْمُتَوَاتِرِ وقد سَبَقَ أَنَّ الْمُتَوَاتِرَ قِرَاءَةٌ سَاعَدَهَا خَطُّ الْمُصْحَفِ مع صِحَّةِ النَّقْلِ فيها وَمَجِيئُهَا على الْفَصِيحِ من لُغَةِ الْعَرَبِ قال الشَّيْخُ أبو شَامَةَ فَمَتَى اخْتَلَّ أَحَدُ هذه الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ أُطْلِقَ على تِلْكَ الْقِرَاءَةِ أنها شَاذَّةٌ قال وقد أَشَارَ إلَى ذلك جَمَاعَةٌ من الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَنَصَّ عليه أبو مُحَمَّدٍ مَكِّيُّ بن أبي طَالِبٍ الْقَيْرَوَانِيُّ ذَكَرَهُ شَيْخُنَا أبو الْحَسَنِ السَّخَاوِيُّ في كِتَابِ جَمَالِ الْقُرَّاءِ ثُمَّ الْكَلَامُ في مَوَاضِعَ أَحَدُهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُرَادِ بها وَالْمَعْرُوفُ أنها ما وَرَاءَ السَّبْعِ وَالصَّوَابُ ما وَرَاءَ الْعَشْرِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ أُخَرُ يَعْقُوبُ وَخَلَفٌ وأبو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بن الْقَعْقَاعِ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ هذه الثَّلَاثَةَ غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ ضَعِيفٌ جِدًّا وقد ذَكَرَ الْبَغَوِيّ في تَفْسِيرِهِ الْإِجْمَاعَ على جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بها وقال الْقَاضِي أبو بَكْرِ بن الْعَرَبِيِّ في الْعَوَاصِمِ ضَبْطُ الْأَمْرِ على سَبْعِ قِرَاءَاتٍ ليس له أَصْلٌ في الشَّرْعِ وقد جَمَعَ قَوْمٌ ثَمَانِيَ قِرَاءَاتٍ وَقَوْمٌ عَشْرًا أَصْلُ ذلك أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال أُنْزِلَ الْقُرْآنُ على سَبْعِ أَحْرُفٍ فَظَنَّ قَوْمٌ أنها سَبْعُ قِرَاءَاتٍ وَهَذَا بَاطِلٌ وَتَيَمَّنَ آخَرُونَ بهذا اللَّفْظِ فَجَمَعُوا سَبْعَ قِرَاءَاتٍ وَبَعْدَ أَنْ ضَبَطَ اللَّهُ الْحُرُوفَ وَالسُّوَرَ فَلَا مُبَالَاةَ بِهَذِهِ التَّكْلِيفَاتِ وَسَبَقَ عنه أَنَّ قِرَاءَةَ أبي جَعْفَرٍ ثَابِتَةٌ لَا كَلَامَ فيها ا هـ الثَّانِي بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقِرَاءَةِ بها قال الشَّيْخُ أبو الْحَسَنِ السَّخَاوِيُّ وَلَا تَجُوزُ
____________________
(1/383)
الْقِرَاءَةُ بِشَيْءٍ من الشَّوَاذِّ لِخُرُوجِهَا عن إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَعَنْ الْوَجْهِ الذي ثَبَتَ بِهِ الْقُرْآنُ وهو الْمُتَوَاتِرُ وَإِنْ كان مُوَافِقًا لِلْعَرَبِيَّةِ وَخَطِّ الْمُصْحَفِ لِأَنَّهُ جاء من طَرِيقِ الْآحَادِ إنْ كانت نَقَلَتُهُ ثِقَاتٍ قال أبو شَامَةَ وَالشَّأْنُ في الضَّبْطِ ما تَوَاتَرَ من ذلك وما اُجْتُمِعَ عليه وَنَقَلَ الشَّاشِيُّ في الْمُسْتَظْهِرِيِّ عن الْقَاضِي الْحُسَيْنِ أَنَّ الصَّلَاةَ بِالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ لَا تَصِحُّ وقال النَّوَوِيُّ في فَتَاوِيهِ تَحْرُمُ الثَّالِثُ في الِاحْتِجَاجِ بها في الْأَحْكَامِ وَتَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ الْخَبَرِ اعْلَمْ أَنَّ الْآمِدِيَّ نَسَبَ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ إلَى الشَّافِعِيِّ وَكَذَا ادَّعَى الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ من مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَتَبِعَهُ ابن الْحَاجِبِ وَكَذَلِكَ النَّوَوِيُّ فقال في شَرْحِ مُسْلِمٍ مَذْهَبُنَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ لَا يُحْتَجُّ بها وَلَا يَكُونُ لها حُكْمُ الْخَبَرِ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَنَّ نَاقِلَهَا لم يَنْقُلْهَا إلَّا على أنها قُرْآنٌ وَالْقُرْآنُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالتَّوَاتُرِ وإذا لم يَثْبُتْ قُرْآنًا لم يَثْبُتْ خَبَرًا وَالْمُوقِعُ لهم في ذلك دَعْوَى إمَامِ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ أَنَّ ذلك ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَتَبِعَهُ أبو نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ في التَّلْوِيحِ وابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ وَغَيْرُهُمْ فقال إلْكِيَا الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ مَرْدُودَةٌ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا في الْمُصْحَفِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فيه بين الْعُلَمَاءِ قال وَأَمَّا إيجَابُ أبي حَنِيفَةَ التَّتَابُعَ في صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِأَجْلِ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَلَيْسَ على تَقْدِيرِ أَنَّهُ أَثْبَتَ نَظْمَهُ من الْقُرْآنِ وَلَكِنْ أَمْكَنَ أَنَّهُ كان من الْقُرْآنِ في قَدِيمِ الزَّمَانِ ثُمَّ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ فَانْدَرَسَ مَشْهُورٌ رَسْمُهُ فَنُقِلَ آحَادًا وَالْحُكْمُ بَاقٍ وَهَذَا لَا يُسْتَنْكَرُ في الْعُرْفِ قال وَالشَّافِعِيُّ لَا يُرَدُّ على أبي حَنِيفَةَ اشْتِرَاطُ التَّتَابُعِ على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ من هذه الْجِهَةِ وَلَكِنَّهُ يقول لَعَلَّ ما زَادَهُ ابن مَسْعُودٍ تَفْسِيرًا منه وَمَذْهَبًا رَآهُ فَلَا بُعْدَ في تَقْدِيرِهِ ولم يُصَرِّحْ بِإِسْنَادِهِ إلَى الْقُرْآنِ فَإِنْ قالوا لَا يَجُوزُ ضَمُّ الْقُرْآنِ إلَى غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ضَمُّ ما نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ إلَى الْقُرْآنِ تِلَاوَةً وَهَذَا قد يَدُلُّ من وُجْهَةٍ على بُطْلَانِ نَقْلِ هذه الْقِرَاءَةِ عن ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّا على أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ نُبْعِدُ قِرَاءَةَ ما ليس من الْقُرْآنِ مع الْقُرْآنِ وقال وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ على إبْطَالِ نِسْبَةِ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ إلَى الْقُرْآنِ أَنَّ الِاهْتِمَامَ بِالْقُرْآنِ من الصَّحَابَةِ الَّذِينَ بَذَلُوا أَرْوَاحَهُمْ في إحْيَاءِ مَعَالِمِ الدِّينِ يَمْنَعُ تَقْدِيرَ دُرُوسِهِ وَارْتِبَاطَ نَقْلِهِ بِالْآحَادِ
____________________
(1/384)
قُلْت وَذَكَرَ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ في كِتَابِهِ أَنَّهُمْ إنَّمَا عَمِلُوا بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِاسْتِفَاضَتِهَا وَشُهْرَتِهَا عِنْدَهُمْ في ذلك الْعَصْرِ وَإِنْ كان إنَّمَا نُقِلَتْ إلَيْنَا الْآنَ بِطَرِيقِ الْآحَادِ لِأَنَّ الناس تَرَكُوا الْقِرَاءَةَ بها وَاقْتَصَرُوا على غَيْرِهَا وَكَلَامُنَا إنَّمَا هو في أُصُولِ الْقَوْمِ ا هـ وَذَكَرَ أبو زَيْدٍ في الْأَسْرَارِ وَصَاحِبُ الْمَبْسُوطِ من الْحَنَفِيَّةِ اشْتِرَاطَ الشُّهْرَةِ في الْقِرَاءَةِ عِنْدَ السَّلَفِ وَلِهَذَا لم يَعْمَلُوا بِقِرَاءَةِ أُبَيِّ بن كَعْبٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامِ أُخَرَ مُتَتَابِعَةٍ لِأَنَّهَا قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ وَبِمِثْلِهَا لَا يَثْبُتُ الزِّيَادَةُ على النَّصِّ فَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَدْ كانت مَشْهُورَةً في زَمَنِ أبي حَنِيفَةَ حتى كان الْأَعْمَشُ يَقْرَأُ خَتْمًا على حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَخَتْمًا من مُصْحَفِ عُثْمَانَ وَالزِّيَادَةُ عِنْدَنَا تَثْبُتُ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ ا هـ تَنْبِيهَانِ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ إنَّ الْحَامِلَ لهم على نِسْبَةِ أنها لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ لِلشَّافِعِيِّ عَدَمُ إيجَابِهِ التَّتَابُعَ في صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مع عِلْمِهِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وهو مَمْنُوعٌ فَقَدْ سَبَقَ من كَلَامِ إلْكِيَا إبْطَالُ اسْتِنْبَاطِهِ منه وقد نَصَّ رَحِمَهُ اللَّهُ في مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ على أنها حُجَّةٌ في بَابِ الرَّضَاعِ وفي بَابِ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ فقال ذَكَرَ اللَّهُ الرَّضَاعَ بِلَا تَوْقِيتٍ وَرَوَتْ عَائِشَةُ التَّوْقِيتَ بِخَمْسٍ وَأَخْبَرَتْ أَنَّهُ مِمَّا أُنْزِلَ من الْقُرْآنِ وهو وَإِنْ لم يَكُنْ قُرْآنًا فَأَقَلُّ حَالَاتِهِ أَنْ يَكُونَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَأْتِي بِهِ غَيْرُهُ كما قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَحَكَمْنَا بِهِ على هذا وَلَيْسَ هو قُرْآنًا يُقْرَأُ ا هـ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُعْمَلُ بها من جِهَةِ كَوْنِهَا خَبَرًا لَا قُرْآنًا وَجَرَى عليه جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ منهم الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في الصِّيَامِ وَالرَّضَاعِ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في الصِّيَامِ وَوُجُوبِ الْعُمْرَةِ وَالْقَاضِي الْحُسَيْنُ في الصِّيَامِ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالرَّافِعِيُّ في كِتَابِ السَّرِقَةِ وَاحْتَجُّوا في إيجَابِ قَطْعِ الْيَمِينِ من السَّارِقِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا وقال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ في كِتَابِ الصَّلَاةِ أنها تَجْرِي مَجْرَى الْخَبَرِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أو الْأَثَرِ عن الصَّحَابَةِ نعم الشَّرْطُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ في ذلك أَنْ لَا يُخَالِفَ رَسْمَ الْمُصْحَفِ وَلَا يُوجَدُ غَيْرُهَا مِمَّا هو أَقْوَى منها وَلِذَلِكَ لم يَحْتَجَّ بِقِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ مع أَنَّ مَذْهَبَهُ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ كما نَصَّ عليه في الْمُخْتَصَرِ قال شَارِحُوهُ
____________________
(1/385)
إنَّمَا عَدَلَ الشَّافِعِيُّ عن الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِأَنَّهَا تَشِذُّ عن الْجَمَاعَةِ وَتُخَالِفُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ قُلْت أو لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ لَا اسْتِدْلَالَ بها مع وُجُودِ ما هو أَقْوَى منها فإن اللَّهَ تَعَالَى كان قد خَيَّرَ أَوَّلًا بين الصِّيَامِ وَبَيْنَ الْإِفْطَارِ وَالْفِدْيَةِ ثُمَّ خَتَمَ الصِّيَامَ بِقَوْلِهِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَبَقِيَ من لم يُطِقْ على حُكْمِ الْأَصْلِ في جَوَازِ الْفِطْرِ وَوُجُوبِ الْفِدْيَةِ وَيَخْرُجُ من كَلَامِ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ شَرْطٌ آخَرُ فإنه قال في كِتَابِهِ التَّذْكِرَةِ في الْخِلَافِ الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ إنَّمَا تَلْحَقُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا قَرَأَهَا قَارِئُهَا على أَنَّهُ قُرْآنٌ فَإِنْ ذَكَرَهَا على أنها تَفْسِيرٌ فَلَا كَقِرَاءَةِ ابْنِ عُمَرَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أو رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ أو غير مُسْتَقْبِلِيهَا وَقِرَاءَةِ أُبَيِّ بن كَعْبٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ ا هـ وَفِيمَا قَالَهُ في التَّفْسِيرِ نَظَرٌ على رَأْيِ من يَجْعَلُهُ في حُكْمِ الْمَرْفُوعِ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَمِمَّنْ صَرَّحَ بها من الْأُصُولِيِّينَ أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فقال في كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ ما رُوِيَ آحَادًا من آيِ الْقُرْآنِ كَرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ آيَةَ الرَّجْمِ وَخَبَرِ عَائِشَةَ في الرَّضَاعِ وَخَبَرِ زَيْدِ بن أَرْقَمَ لو كان لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ من الذَّهَبِ لَابْتَغَى لَهُمَا ثَالِثًا فَإِنَّهَا ثَابِتَةُ الْأَسَانِيدِ صَحِيحَةٌ من جِهَةِ النَّقْلِ وَنَحْنُ نُثْبِتُ ما قالوا على ما قالوا غير مُتَأَوِّلِينَ عليهم ما لم يَظْهَرْ لنا إلَّا أَنْ لَا نَجِدَ وَجْهًا غير التَّأْوِيلِ وَذَلِكَ لِأَنَّ من الْقُرْآنِ ما نُسِخَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ وَإِنَّمَا تَجِبُ تِلَاوَةُ الْمَرْسُومِ فَأَمَّا ما بَقِيَ حُكْمُهُ فَلَا تَجِبُ تِلَاوَتُهُ
____________________
(1/386)
وَاَلَّذِي أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عليه في الرَّسْمِ هو الْوَاجِبُ تِلَاوَتُهُ وَاَلَّذِي لم يُرْسَمْ يُتْلَى وَيُنْقَلُ حُكْمُهُ إذْ كان الْقُرْآنُ الْمَتْلُوُّ يُوجِبُ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا إثْبَاتُ حُكْمِهِ وَتِلَاوَتُهُ وَالْقَطْعُ عليه بِمَا يُعْمَلُ بِهِ وَالتَّسْمِيَةُ بِمَا سَمَّاهُ النَّاقِلُ وَلَيْسَ يَثْبُتُ الْمَتْلُوُّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وإذا كان خَبَرُ الْوَاحِدِ قد يَخُصُّ ظَاهِرَ الْمَتْلُوِّ وَيُثْبِتُهُ تَثْبِيتَ الْأَحْكَامِ كان أَيْضًا كَذَلِكَ ما أُثْبِتَ حُكْمُهُ من جِهَةِ الْخَبَرِ أَنَّهُ قُرْآنٌ في الْحُكْمِ لَا في الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ انْتَهَى وقال الْمَاوَرْدِيُّ في مَوْضِعٍ آخَرَ إنْ أَضَافَهَا الْقَارِئُ إلَى التَّنْزِيلِ أو إلَى سَمَاعٍ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أُجْرِيَتْ مَجْرَى خَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِلَّا فَهِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّأْوِيلِ ا هـ وَيَخْرُجُ من هذا التَّفْصِيلِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ وَبِهِ صَرَّحَ الْبَاجِيُّ في الْمُنْتَقَى فقال الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ هل تَجْرِي مَجْرَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فيه ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ثَالِثُهَا التَّفْصِيلُ بين أَنْ تُسْنَدَ أَمْ لَا ا هـ وَيَخْرُجُ من كَلَامِ أبي الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ مَذْهَبٌ رَابِعٌ فإنه قال في بَابِ الْأَخْبَارِ الْقُرْآنُ الْمَنْقُولُ بِالْآحَادِ إمَّا أَنْ يَظْهَرَ فيه الْإِعْجَازُ أو لَا فَإِنْ لم يَظْهَرْ جَازَ أَنْ يُعْمَلَ بِمَا تَضَمَّنَهُ من عَمَلٍ إذَا نُقِلَ إلَيْنَا بِالْآحَادِ كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَإِنْ ظَهَرَ فَهُوَ حُجَّةٌ لِلنُّبُوَّةِ وَلَا يَكُونُ حُجَّةً إلَّا وقد عُلِمَ أَنَّهُ لم يُعَارَضْ في عَصْرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مع سَمَاعِ أَهْلِ عَصْرِهِ له وَلَا يُعْلَمُ ذلك إلَّا وقد تَوَاتَرَ نَقْلُ ظُهُورِهِ في ذلك الْعَصْرِ وَأَطْلَقَ الْقَاضِي ابن الْعَرَبِيِّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ على أنها لَا تُوجِبُ عِلْمًا وَلَا عَمَلًا وَلَيْسَ كما قال وَجَعَلَ الْقُرْطُبِيُّ شَارِحُ مُسْلِمٍ مَحَلَّ الْخِلَافِ بين الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِيمَا إذَا لم يُصَرِّحْ الرَّاوِي بِسَمَاعِهَا وَقَطَعَ بِعَدَمِ حُجِّيَّتِهَا قال فَأَمَّا لو صَرَّحَ الرَّاوِي بِسَمَاعِهَا من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَاخْتَلَفَتْ الْمَالِكِيَّةُ في الْعَمَلِ بها على قَوْلَيْنِ وَالْأَوْلَى الِاحْتِجَاجُ بها تَنْزِيلًا لها مَنْزِلَةَ الْخَبَرِ التَّنْبِيهُ الثَّانِي أَنَّ هَاهُنَا سُؤَالًا وهو أَنْ يُقَالَ إنْ كان مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أنها حُجَّةٌ فَهَلَّا أَوْجَبَ التَّتَابُعَ في صَوْمِ الْكَفَّارَةِ اعْتِمَادًا على قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَهَلَّا قال في الصَّلَاةِ الْوُسْطَى إنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ اعْتِمَادًا على قِرَاءَةِ عَائِشَةَ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَإِنْ كان مَذْهَبُهُ أنها لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فَكَيْفَ اعْتَمَدَ في التَّحْرِيمِ في الرَّضَاعِ بِخَمْسٍ على حديث عَائِشَةَ وَكَيْفَ قال إنَّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الْأَطْهَارُ وَاعْتَمَدَ في الْأُمِّ على أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ
____________________
(1/387)
وَالسَّلَامُ قَرَأَ لِقَبْلِ عِدَّتِهِنَّ وَاَلَّذِي يَفْصِلُ عن هذا الْإِشْكَالِ أَنْ لَا يُطْلَقَ الْقَوْلُ في ذلك بَلْ يُقَالُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ وَرَدَتْ لِبَيَانِ حُكْمٍ أو لِابْتِدَائِهِ فَإِنْ وَرَدَتْ لِبَيَانِ حُكْمٍ فَهِيَ عِنْدَهُ حُجَّةٌ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ في الرَّضَاعِ وَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْمَانَهُمَا وَقَوْلُهُ لِقَبْلِ عِدَّتِهِنَّ وَإِنْ وَرَدَتْ ابْتِدَاءَ حُكْمٍ كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ مُتَتَابِعَاتٍ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ إلَّا أَنَّهُ قد قِيلَ إنَّهَا لم تَثْبُتْ عن ابْنِ مَسْعُودٍ وَيَدُلُّ له ما رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عن عَائِشَةَ كان مِمَّا أُنْزِلَ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ فَسَقَطَتْ مُتَتَابِعَاتٍ أو يُقَالُ الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ إمَّا أَنْ تَرِدَ تَفْسِيرًا أو حُكْمًا فَإِنْ وَرَدَتْ تَفْسِيرًا فَهِيَ حُجَّةٌ كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْمَانَهُمَا وَقَوْلِهِ وَلَهُ أَخٌ أو أُخْتٌ من أُمٍّ وَقِرَاءَةِ عَائِشَةَ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ وَإِنْ وَرَدَتْ حُكْمًا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُعَارِضَهَا دَلِيلٌ آخَرُ أَمْ لَا فَإِنْ عَارَضَهَا فَالْعَمَلُ لِلدَّلِيلِ كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ في صِيَامِ الْمُتَمَتِّعِ فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال إنْ شِئْت فَتَابِعْ أو لَا وَإِنْ لم يُعَارِضْهَا دَلِيلٌ آخَرُ فَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَوُجُوبِ التَّتَابُعِ في صَوْمِ الْكَفَّارَةِ وَأَمَّا تَحْرِيرُ مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ فَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ عنه أَنَّهُ يُنْزِلُهَا مَنْزِلَةَ خَبَرِ الْوَاحِدِ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ إنَّ الزِّيَادَةَ في الحديث من بَعْضِ النَّقَلَةِ لَا تُقْبَلُ وقال أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ في كِتَابِ تَقْدِيمِ الْأَدِلَّةِ لَا تَثْبُتُ الْقِرَاءَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلِهَذَا قالت الْأَئِمَّةُ فِيمَنْ قَرَأَ في صَلَاتِهِ بِكَلِمَاتٍ تَفَرَّدَ بها ابن مَسْعُودٍ إنَّ صَلَاتَهُ لَا تَجُوزُ كما لو قَرَأَ خَبَرًا من أَخْبَارِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال وَإِنَّمَا أَخَذْنَا بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ مُتَتَابِعَاتٍ لِإِيجَابِ التَّتَابُعِ في الْكَفَّارَةِ فَأَخَذْنَا بها عَمَلًا كما لو رَوَى خَبَرًا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَنَّهُ إنَّمَا قَرَأَهَا نَاقِلًا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فلما لم يَثْبُتْ قُرْآنًا لِفَوَاتِ شَرْطِهِ بَقِيَ خَبَرًا فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلُوا كَذَلِكَ في الْبَسْمَلَةِ لِيَجِبَ الْجَهْرُ بها في الصَّلَاةِ وَحُرْمَةُ قِرَاءَتِهَا على الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ الذي هو حُكْمُ الْقُرْآنِ قُلْنَا لِأَنَّا لو فَعَلْنَا ذلك لم يَكُنْ حُكْمًا بِظَاهِرِ ما تُوجِبُهُ التَّسْمِيَةُ بَلْ كان عَمَلًا بِمُقْتَضَى أنها من الْفَاتِحَةِ وَلَا عُمُومَ لِلْمُقْتَضَى عِنْدَنَا وَإِنَّمَا لَا يَعْمَلُ فِيمَا لَا بُدَّ منه
____________________
(1/388)
المباحث اللغوية
____________________
(1/389)
مَبَاحِثُ اللُّغَةِ وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا في أُصُولِ الْفِقْهِ لِأَنَّ مُعْظَمَ نَظَرِ الْأُصُولِيِّ في دَلَالَاتِ الصِّيَغِ كَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَأَحْكَامِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَدَلِيلِ الْخِطَابِ وَمَفْهُومِهِ فَاحْتَاجَ إلَى النَّظَرِ في ذلك تَكْمِيلًا لِلنَّظَرِ في الْأُصُولِ وَنَسِمُهُ بِمُقَدِّمَتَيْنِ إحْدَاهُمَا تَعَلُّمُ اللُّغَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ قال أبو الْحُسَيْنِ بن فَارِسٍ تَعَلُّمُ عِلْمِ اللُّغَةِ وَاجِبٌ على أَهْلِ الْعِلْمِ لِئَلَّا يَحِيدُوا في تَأْلِيفِهِمْ أو فُتْيَاهُمْ عن سُنَنِ الِاسْتِقْرَاءِ قال وَكَذَلِكَ الْحَاجَةُ إلَى عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ فإن الْإِعْرَابَ هو الْفَارِقُ بين الْمَعَانِي أَلَا تَرَى إذَا قُلْت ما أَحْسَنَ زَيْدٌ لم تُفَرِّقْ بين التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَالنَّفْيِ إلَّا بِالْإِعْرَابِ وَنَازَعَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ في شَرْحِ الْمُفَصَّلِ في كَوْنِهِمَا فَرْضَ كِفَايَةٍ لِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ إذَا قام بِهِ وَاحِدٌ سَقَطَ عن الْبَاقِينَ قال وَاللُّغَةُ وَالنَّحْوُ ليس كَذَلِكَ بَلْ يَجِبُ في كل عَصْرٍ أَنْ يَقُومَ بِهِ قَوْمٌ يَبْلُغُونَ حَدَّ التَّوَاتُرِ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الشَّرْعِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِوَاسِطَةِ مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَالْعِلْمُ بِهِمَا لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ فإنه لو انْتَهَى النَّقْلُ فيه إلَى حَدِّ الْآحَادِ لَصَارَ الِاسْتِدْلَال على جُمْلَةِ الشَّرْعِ اسْتِدْلَالًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الشَّرْعُ مَظْنُونًا لَا مَقْطُوعًا وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ الثَّانِيَةُ نَبَّهَ الْإِبْيَارِيُّ في كَلَامٍ له على شَيْءٍ يَنْبَغِي مَعْرِفَتُهُ هُنَا وهو أَنَّ الْأُصُولِيَّ إنَّمَا احْتَاجَ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَوْضَاعِ اللُّغَوِيَّةِ لِيَفْهَمَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ بِالْأُصُولِيِّ إلَى مَعْرِفَةِ ما لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ وَالْأَلْفَاظِ وإذا كان كَذَلِكَ افْتَقَرْنَا إلَى تَقْدِيمِ أَمْرٍ آخَرَ وهو أَنَّ الشَّرْعَ هل له تَصَرُّفٌ في اللُّغَةِ أَمْ لَا فَإِنْ ثَبَتَ عَدَمُ التَّصَرُّفِ اكْتَفَى الْأُصُولِيُّ بِمَعْرِفَةِ وَضْعِ اللُّغَةِ فإن ذلك مُقْنِعٌ في مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ وَإِنْ ثَبَتَ تَصَرُّفُ الشَّرْعِ اكْتَفَى الْأُصُولِيُّ بِمَعْرِفَةِ وَضْعِ الشَّرْعِ لِلِاسْمِ وَلَا يَحْتَاجُ معه إلَى مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ في ذلك اللَّفْظِ وَإِنْ عَرَفَ وَضْعَ اللُّغَةِ وَالْتَبَسَ عليه هل لِلشَّرْعِ تَصَرُّفٌ في الِاسْمِ أَمْ لَا لم يَجُزْ له الْحُكْمُ بِوَضْعِ اللُّغَةِ حتى يَسْتَقِرَّ له وَضْعُ الشَّرْعِ وَلِهَذَا إنَّ الْفُقَهَاءَ قَلَّ ما يَتَكَلَّمُونَ على الْأَلْفَاظِ بِاعْتِبَارِ وَضْعِ اللُّغَةِ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ تَصَرُّفَ الشَّرْعِ في الْأَسْمَاءِ فَتَرَاهُمْ يَجْنَحُونَ إلَى الْإِجْمَاعِ وَغَيْرِهِ وَهُمْ في ذلك على بَصِيرَةٍ أَنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ مُكْتَفًى بِهِ وَمُضَافٌ إلَيْهِ وَعُرْفُ اللُّغَةِ على هذا التَّقْدِيرِ عِنْدَ احْتِمَالِ التَّغْيِيرِ لَا يُفِيدُ
____________________
(1/391)
مَادَّةُ اللُّغَةِ وَمَقْصُودُهَا وَمَوْضُوعُهَا وَيَتَعَلَّقُ النَّظَرُ بِمَادَّتِهَا وَمَقْصُودِهَا وَمَوْضُوعِهَا أَمَّا مَادَّتُهَا فَتَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَوَّلِينَ إمَّا التَّوْقِيفُ أو الِاصْطِلَاحُ على الْخِلَافِ الْآتِي وَأَمَّا في حَقِّ من بَعْدَهُمْ فَمَادَّتُهَا النَّقْلُ عن أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَمَّا مَقْصُودُهَا فَالتَّشْبِيهُ بِأَهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ في إعْلَامِ ما في أَنْفُسِهِمْ وَأَمَّا مَوْضُوعُهَا فَالْأَلْفَاظُ وما يَعْرِضُهَا لِذَاتِ الْأَلْفَاظِ وهو ما يَبْحَثُ اللُّغَوِيُّ عنها في ذلك الْمَوْضُوعِ إمَّا في حَالِ الْإِفْرَادِ كَكَوْنِ هذه الْكَلِمَةِ حَقِيقَةً أو مَجَازًا أو مُشْتَرَكَةً أو مُتَرَادِفَةً أو مُتَبَايِنَةً وَكَكَوْنِ فَاءِ هذه الْكَلِمَةِ أو عَيْنِهَا أَصْلِيًّا أو مَقْلُوبًا عن غَيْرِهِ صَحِيحًا أو مُعْتَلًّا مَفْتُوحًا أو مَضْمُومًا أو مَكْسُورًا وَغَيْرِ ذلك مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ التَّصْرِيفِ وَأَمَّا في حَالِ تَرْكِيبِهَا كَكَوْنِ هذه الْكَلِمَةِ مُبْتَدَأً أو خَبَرًا أو فَاعِلًا أو مَفْعُولًا إلَى غَيْرِ ذلك من الْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ لِلْأَلْفَاظِ فَالْأَلْفَاظُ هِيَ مَوْضُوعُ اللُّغَةِ وَهَذِهِ أَعْرَاضٌ ذَاتِيَّةٌ لِلْأَلْفَاظِ أُمُورٌ مُهِمَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَبَاحِثِ اللُّغَةِ ثُمَّ الْكَلَامُ في مُهِمَّاتٍ الْأَوَّلُ في الْوَضْعِ وهو يُطْلَقُ على أَمْرَيْنِ أَحَدِهِمَا جَعْلُ اللَّفْظِ دَلِيلًا على الْمَعْنَى كَتَسْمِيَةِ الْإِنْسَانِ وَلَدَهُ زَيْدًا وَكَإِطْلَاقِهِمْ على الْحَائِطِ مَثَلًا الْجِدَارَ وما في مَعْنَاهُ وَذَلِكَ بِأَنْ يَخْطُرَ الْمَعْنَى بِبَالِ الْوَاضِعِ فَيَسْتَحْضِرَ لَفْظًا يُعَبِّرُ بِهِ عن ذلك الْمَعْنَى ثُمَّ يَعْرِفُهُ غَيْرُهُ بِطَرِيقٍ من الطُّرُقِ فَمَنْ تَكَلَّمَ بِلُغَتِهِ يَجِبُ أَنْ يَحْمِلَهُ على ذلك الْمَعْنَى عِنْدَ عَدَمِ الْقَرَائِنِ وَالثَّانِي غَلَبَةُ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ على الْمَعْنَى حتى يَصِيرَ هو الْمُتَبَادِرُ إلَى الذِّهْنِ حَالَ التَّخَاطُبِ بِهِ وَذَلِكَ في الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ وَالْعُرْفِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ الْعُرْفُ الشَّرْعِيُّ أَمَّا الْعُرْفُ الشَّرْعِيُّ فَكَإِطْلَاقِهِمْ الصَّلَاةَ على الْحَرَكَاتِ الْمَخْصُوصَةِ وَالصَّوْمَ على الْإِمْسَاكِ الْمَخْصُوصِ وَالزَّكَاةَ على إخْرَاجٍ مَخْصُوصٍ فإن الشَّارِعَ لم يَضَعْ اللَّفْظَ لِهَذِهِ الْمَعَانِي وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَهُ فيها من غَيْرِ وَضْعٍ وَتَكَرَّرَ الِاسْتِعْمَالُ فيها حتى صَارَتْ هِيَ الْمُتَبَادِرَةُ إلَى الذِّهْنِ حَالَ التَّخَاطُبِ
____________________
(1/392)
الْعُرْفُ الْعَامُّ وَأَمَّا الْعُرْفُ الْعَامُّ فَكَإِطْلَاقِهِمْ الدَّابَّةَ على ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ أو على دَابَّةٍ مَخْصُوصَةٍ عِنْدَ قَوْمٍ كَالْفَرَسِ وَالْحِمَارِ وَمَفْهُومُ الدَّابَّةِ في اللُّغَةِ لِكُلِّ ذَاتٍ دَبَّتْ سَوَاءٌ ذَوَاتُ الْأَرْبَعِ وَغَيْرُهَا وَأَهْلُ الْعُرْفِ لم يَضَعُوا اللَّفْظَ لِهَذَا الْمَعْنَى الذي هو ذَوَاتُ الْأَرْبَعِ وَإِنَّمَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُمْ لِلَفْظِ الدَّابَّةِ حتى صَارَ هو الْمُتَبَادِرُ إلَى الذِّهْنِ حَالَةَ التَّخَاطُبِ الْعُرْفُ الْخَاصُّ وَأَمَّا الْعُرْفُ الْخَاصُّ فَكَاصْطِلَاحِ كل ذِي عِلْمٍ على أَلْفَاظٍ خَصُّوهَا بِمَعَانٍ مُخَالِفَةٍ لِلْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ كَاصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِ في الْجَوْهَرِ وَالْعَرْضِ وَاصْطِلَاحِ الْفَقِيهِ في الْجَمْعِ وَالْفَرْقِ وَاصْطِلَاحِ الْجَدَلِيِّ في الْكَسْرِ وَالنَّقْضِ وَالْقَلْبِ وَاصْطِلَاحِ النَّحْوِيِّ في الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ فَجَمِيعُ هذه الطَّوَائِفِ لم يَضَعُوا هذه الْأَلْفَاظَ لِتِلْكَ الْمَعَانِي الْمَخْصُوصَةِ وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلُوهَا اسْتِعْمَالًا غَالِبًا حتى صَارَتْ هِيَ الْمُتَبَادِرَةُ إلَى الذِّهْنِ حَالَةَ التَّخَاطُبِ فَهَذَا هو مَعْنَى الْوَضْعِ في الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ وَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ وزاد بَعْضُهُمْ لِلْوَضْعِ مَعْنًى ثَالِثًا وهو اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ في الْمَعْنَى وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً وَهَذَا هو مَعْنَى قَوْلِهِمْ الْمَجَازُ هل من شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا أَمْ لَا وَفِيهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ على أَنَّ الْمَجَازَ هل من شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مَسْمُوعًا أو لَا وَيَتَعَلَّقُ بِالْوَضْعِ مَبَاحِثُ أَحَدُهَا في شُرُوطِهِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا أَنْ لَا يَبْتَدِئَهُ بِمَا يُخَالِفُهُ ثَانِيهَا أَنْ لَا يَخْتِمَهُ بِمَا يُخَالِفُهُ ثَالِثُهَا أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عن قَصْدٍ فَلَا اعْتِبَارَ بِكَلَامِ السَّاهِي وَالنَّائِمِ وَعَلَى السَّامِعِ التَّنَبُّهُ لِهَذِهِ الشُّرُوطِ وقد حَكَى الرُّويَانِيُّ عن صَاحِبِ الْحَاوِي فِيمَا إذَا قال لِزَوْجَتِهِ طَلَّقْتُك ثُمَّ قال سَبَقَ لِسَانِي وَإِنَّمَا أَرَدْت طَلَبْتُك أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ظَنَّتْ صِدْقَهُ بِأَمَارَةٍ فَلَهَا أَنْ تَقْبَلَ قَوْلَهُ وَلَا تُخَاصِمُهُ وَأَنَّهُ من عُرِفَ ذلك منه إذَا عُرِفَ الْحَالُ يَجُوزُ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ وَلَا يُشْهَدُ عليه قال الرُّويَانِيُّ وَهَذَا هو الِاخْتِيَارُ الثَّانِي في سَبَبِهِ وهو أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ النَّوْعَ الْإِنْسَانِيَّ وَصَيَّرَهُ مُحْتَاجًا إلَى أُمُورٍ لَا يَسْتَقِلُّ بها بَلْ يَفْتَقِرُ إلَى الْمُعَاوَنَةِ عليها وَلَا بُدَّ لِلْمُعَاوِنِ من الِاطِّلَاعِ على ما في
____________________
(1/393)
النَّفْسِ وَذَلِكَ إمَّا بِاللَّفْظِ أو الْإِشَارَةِ أو الْمِثَالِ وَاللَّفْظُ أَيْسَرُ لِمَا سَيَأْتِي فَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى الْوَضْعِ لِأَجْلِ الْإِفْهَامِ بِالْمُخَاطَبَةِ وَيَلْزَمُ من ذلك كُلَّمَا اشْتَدَّتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّعْبِيرِ عنه أَنَّهُ يُوضَعُ له وَإِلَّا كان ذلك مُخِلًّا بِمَقْصُودِ الْوَضْعِ الذي ذَكَرْنَاهُ وما لَا تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ جَازَ فيه الْأَمْرَانِ يَعْنِي الْوَضْعَ وَعَدَمَ الْوَضْعِ أَمَّا عَدَمُ الْوَضْعِ فَلِأَنَّهُ ليس مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ وَأَمَّا الْوَضْعُ فَلِلْفَوَائِدِ الْحَاصِلَةِ بِهِ الْمَوْضُوعُ الثَّالِثُ في الْمَوْضُوعِ وهو اللُّغَاتُ على اخْتِلَافِهَا وَفِيهِ نَظَرٌ أَنَّ أَحَدَهُمَا نَظَرٌ كُلِّيٌّ يَشْتَرِكُ فيه كُلُّ اللُّغَاتِ وهو من وُجُوهٍ يُعْرَفُ في عِلْمٍ آخَرَ وَالثَّانِي فِيمَا يَخْتَصُّ بِآحَادِ اللُّغَاتِ وَلَمَّا جَاءَتْ شَرِيعَتُنَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَجَبَ النَّظَرُ فيها وَكَيْفِيَّةُ دَلَالَتِهَا من حَيْثُ صِيَغِهَا وَمِنْ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى حُدُوثُ الْمَوْضُوعَاتِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إفَادَةً من هذه الثَّلَاثَةِ وَأَيْسَرِهَا أَمَّا كَثْرَةُ إفَادَتِهَا فَلِأَنَّهَا تَعُمُّ كُلَّ مَعْلُومٍ مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ وَغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْإِشَارَةِ فَإِنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْمَوْجُودِ الْمَحْسُوسِ وَبِخِلَافِ الْمِثَالِ وهو أَنْ يُجْعَلَ لِمَا في الضَّمِيرِ شَكْلًا لِتَعَذُّرِهِ وَأَمَّا كَوْنُهَا أَيْسَرَ فَلِأَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِلْأَمْرِ الطَّبِيعِيِّ لِأَنَّ الْحُرُوفَ كَيْفِيَّاتٌ تُعْرَضُ لِلنَّفْسِيِّ الضَّرُورِيِّ مَسْأَلَةٌ الْمُفْرَدَاتُ مَوْضُوعَةٌ لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُفْرَدَاتِ مَوْضُوعَةٌ كَوَضْعِ لَفْظِ إنْسَانٍ لِلْحَيَوَانِ النَّاطِقِ وَكَوَضْعِ قام لِحُدُوثِ الْقِيَامِ في زَمَنٍ مَخْصُوصٍ وَكَوَضْعِ لَعَلَّ لِلتَّرَجِّي وَنَحْوِهَا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ في الْمُرَكَّبَاتِ هل هِيَ مَوْضُوعَةٌ أَمْ لَا وَاخْتَلَفُوا في الْمُرَكَّبَاتِ نحو قام زَيْدٌ وَعَمْرٌو مُنْطَلِقٌ فَقِيلَ لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً وَلِهَذَا لم يَتَكَلَّمْ أَهْلُ اللُّغَةِ في الْمُرَكَّبَاتِ وَلَا في تَأْلِيفِهَا وَإِنَّمَا تَكَلَّمُوا في وَضْعِ الْمُفْرَدَاتِ وما ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْأَمْرَ فيها مَوْكُولٌ إلَى الْمُتَكَلِّمِ بها وَاخْتَارَهُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ وَهَذَا هو ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ مَالِكٍ حَيْثُ قال إنَّ دَلَالَةَ الْكَلَامِ عَقْلِيَّةٌ لَا وَضْعِيَّةٌ وَاحْتَجَّ له في كِتَابِ الْفَيْصَلِ على الْمُفَصَّلِ بِوَجْهَيْنِ
____________________
(1/394)
أَحَدُهُمَا أَنَّ من لَا يَعْرِفُ من الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ إلَّا لَفْظَيْنِ مُفْرَدَيْنِ صَالِحَيْنِ لِإِسْنَادِ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ فإنه لَا يُفْتَقَرُ عِنْدَ سَمَاعِهِمَا مع الْإِسْنَادِ إلَى مُعَرِّفٍ لِمَعْنَى الْإِسْنَادِ بَلْ يُدْرِكُهُ ضَرُورَةً وَثَانِيهِمَا أَنَّ الدَّالَّ بِالْوَضْعِ لَا بُدَّ من إحْصَائِهِ وَمَنْعِ الِاسْتِئْنَافِ فيه كما كان ذلك في الْمُفْرَدَاتِ وَالْمُرَكَّبَاتِ الْقَائِمَةِ مَقَامَهَا فَلَوْ كان الْكَلَامُ دَالًّا بِالْوَضْعِ وَجَبَ ذلك فيه ولم يَكُنْ لنا أَنْ نَتَكَلَّمَ إلَّا بِكَلَامٍ سَبَقَ إلَيْهِ كما لَا يُسْتَعْمَلُ في الْمُفْرَدَاتِ إلَّا ما سَبَقَ اسْتِعْمَالُهُ وفي عَدَمِ ذلك بُرْهَانٌ على أَنَّ الْكَلَامَ ليس دَالًّا بِالْوَضْعِ ا هـ وَحَكَاهُ ابن إيَازٍ عن شَيْخِهِ قال وَلَوْ كان حَالُ الْجُمَلِ حَالَ الْمُفْرَدَاتِ في الْوَضْعِ لَكَانَ اسْتِعْمَالُ الْجُمَلِ وَفَهْمُ مَعْنَاهَا مُتَوَقِّفًا على نَقْلِهَا عن الْعَرَبِ كما كان الْمُفْرَدَاتُ كَذَلِكَ وَلَوَجَبَ على أَهْلِ اللُّغَةِ أَنْ يَتَتَبَّعُوا الْجُمَلَ وَيُودِعُوهَا كُتُبَهُمْ كما فَعَلُوا ذلك بِالْمُفْرَدَاتِ وَلِأَنَّ الْمُرَكَّبَاتِ دَلَالَتُهَا على مَعْنَاهَا التَّرْكِيبِيِّ بِالْعَقْلِ لَا بِالْوَضْعِ فإن من عَرَفَ مُسَمَّى زَيْدٌ وَعَرَفَ مُسَمَّى قَائِمٌ وَسَمِعَ زَيْدٌ قَائِمٌ بِإِعْرَابِهِ الْمَخْصُوصِ فَهِمَ بِالضَّرُورَةِ مَعْنَى هذا الْكَلَامِ وهو نِسْبَةُ الْقِيَامِ إلَى زَيْدٍ نعم يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ مَوْضُوعَةٌ بِاعْتِبَارِ أنها مُتَوَقِّفَةٌ على مَعْرِفَةِ مُفْرَدَاتِهَا التي لَا تُسْتَفَادُ إلَّا من جِهَةِ الْوَضْعِ وَلِأَنَّ لِلَّفْظِ الْمُرَكَّبِ أَجْزَاءً مَادِّيَّةً وَجُزْءًا صُورِيًّا وهو التَّأْلِيفُ بَيْنَهُمَا وَكَذَلِكَ لِمَعْنَاهُ أَجْزَاءٌ مَادِّيَّةٌ وَجُزْءٌ صُورِيٌّ وَالْأَجْزَاءُ الْمَادِّيَّةُ من اللَّفْظِ تَدُلُّ على الْأَجْزَاءِ الْمَادِّيَّةِ من الْمَعْنَى وَالْجُزْءُ الصُّورِيُّ منه يَدُلُّ على الْجُزْءِ الصُّورِيِّ من الْمَعْنَى بِالْوَضْعِ وَالثَّانِي أنها مَوْضُوعَةٌ فَوُضِعَتْ زَيْدٌ قَائِمٌ لِلْإِسْنَادِ دُونَ التَّقْوِيَةِ في مُفْرَدَاتِهِ وَلَا تَنَافِي بين وَضْعِهَا مُفْرَدَةً لِلْإِسْنَادِ بِدُونِ التَّقْوِيَةِ وَوَضْعِهَا مُرَكَّبَةً لِلتَّقْوِيَةِ وَلِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ فَالْمُضَافُ مُقَدَّمٌ على الْمُضَافِ إلَيْهِ في بَعْضِ اللُّغَاتِ وَمُؤَخَّرٌ عنها في بَعْضٍ وَلَوْ كانت عَقْلِيَّةً لِفَهْمِ الْمَعْنَى وَاحِدًا سَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْمُضَافُ على الْمُضَافِ إلَيْهِ أو تَأَخَّرَ وَهَذَا الْقَوْلُ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ حَيْثُ قال أَقْسَامُهَا مُفْرَدٌ وَمُرَكَّبٌ قال الْقَرَافِيُّ وهو الصَّحِيحُ وَعَزَاهُ غَيْرُهُ لِلْجُمْهُورِ بِدَلِيلِ أنها حُجِرَتْ في التَّرَاكِيبِ كما حُجِرَتْ في الْمُفْرَدَاتِ فَقُلْت إنَّ من قال إنَّ قَائِمٌ زَيْدًا ليس من كَلَامِنَا وَمَنْ قال إنَّ زَيْدًا قَائِمٌ فَهُوَ من كَلَامِنَا وَمَنْ قال في الدَّارِ رَجُلٌ فَهُوَ من كَلَامِنَا وَمَنْ قال رَجُلٌ في الدَّارِ فَلَيْسَ من كَلَامِنَا إلَخْ إلَى ما لَا نِهَايَةَ له في تَرَاكِيبِ الْكَلَامِ وَذَلِكَ يَدُلُّ على تَعَرُّضِهَا بِالْوَضْعِ لِلْمُرَكَّبَاتِ
____________________
(1/395)
وَالْحَقُّ أَنَّ الْعَرَبَ إنَّمَا وَضَعَتْ أَنْوَاعَ الْمُرَكَّبَاتِ أَمَّا جُزْئِيَّاتُ الْأَنْوَاعِ فَلَا فَوَضَعَتْ بَابَ الْفَاعِلِ لِإِسْنَادِ كل فِعْلٍ إلَى من صَدَرَ منه أَمَّا الْفَاعِلُ الْمَخْصُوصُ فَلَا وَكَذَلِكَ بَابُ إنَّ وَأَخَوَاتِهَا أَمَّا اسْمُهَا الْمَخْصُوصُ فَلَا وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَنْوَاعِ التَّرْكِيبِ وَأَحَالَتْ الْمُعَيَّنَ على اخْتِيَارِ الْمُتَكَلِّمِ فَإِنْ أَرَادَ الْقَائِلُ بِوَضْعِ الْمُرَكَّبَاتِ هذا الْمَعْنَى فَصَحِيحٌ وَإِلَّا فَمَمْنُوعٌ وَيَتَفَرَّعُ على هذه الْقَاعِدَةِ أَنَّ الْمَجَازَ هل يَدْخُلُ في الْمُرَكَّبَاتِ أَمْ لَا وَأَنَّهُ هل يَشْتَرِطُ الْعِلَاقَةَ في الْآحَادِ أَمْ لَا وَحَقِيقَةُ هذا الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ دَلَالَةَ الْكَلَامِ الْمُرَكَّبِ على مَعْنَاهُ هل هِيَ عَقْلِيَّةٌ كَدَلَالَةِ الْمُتَكَلِّمِ من وَرَاءِ الْحَائِطِ على أَنَّهُ إنْسَانٌ أو وَضْعِيَّةٌ تَنْبِيهٌ الْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعُ مَوْضُوعَانِ لم أَرَ لهم كَلَامًا في الْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مَوْضُوعَانِ لِأَنَّهُمَا مُفْرَدَانِ وهو الذي يَقْتَضِيهِ حَدُّهُمْ لِلْمُفْرَدِ وَلِهَذَا عَامَلُوا جُمُوعَ التَّكْسِيرِ مُعَامَلَةَ الْمُفْرَدِ في الْأَحْكَامِ لَكِنْ صَرَّحَ ابن مَالِكٍ في كَلَامِهِ على حَدِّهَا بِأَنَّهُمَا غَيْرُ مَوْضُوعَيْنِ وَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ فَرَّعَهُ على رَأْيِهِ في عَدَمِ وَضْعِ الْمُرَكَّبَاتِ لِأَنَّهُ لَا تَرْكِيبَ فيها لَا سِيَّمَا أَنَّ الْمُرَكَّبَ في الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هو الْإِسْنَادُ وَكَذَا الْقَوْلُ في أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ وَالْأَجْنَاسِ مِمَّا يَدُلُّ على مُتَعَدِّدٍ فَالْقَوْلُ بِعَدَمِ وَضْعِهِ عَجِيبٌ لِأَنَّ أَكْثَرَهُ سَمَاعِيٌّ وقد صَرَّحَ ابن مَالِكٍ بِأَنَّ شَفْعًا وَنَحْوَهُ مِمَّا يَدُلُّ على اثْنَيْنِ مَوْضُوعٌ وقال ابن الْجُوَيْنِيِّ الظَّاهِرُ لي أَنَّ التَّثْنِيَةَ وُضِعَ لَفْظُهَا بَعْدَ الْجَمْعِ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى الْجَمْعِ كَثِيرًا وَلِهَذَا لم يُوجَدْ في سَائِرِ اللُّغَاتِ تَثْنِيَةٌ وَالْجَمْعُ مَوْجُودٌ في كل لُغَةٍ وَمِنْ ثَمَّ قال بَعْضُهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ لِأَنَّ الْوَاضِعَ قال الشَّيْءُ إمَّا وَاحِدٌ وَإِمَّا كَثِيرٌ لَا غَيْرُ فَجَعَلَ الِاثْنَيْنِ في حَدِّ الْكَثْرَةِ الْمَوْضُوعُ له الرَّابِعُ في الْمَوْضُوعِ له وقد اُخْتُلِفَ في أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِلْمَعْنَى الذِّهْنِيِّ أو الْخَارِجِيِّ أو لِأَعَمَّ مِنْهُمَا أو لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ لم تُوضَعْ الْأَلْفَاظُ لِلدَّلَالَةِ على الْمَوْجُودَاتِ الْخَارِجِيَّةِ بَلْ وُضِعَتْ
____________________
(1/396)
لِلدَّلَالَةِ على الْمَعَانِي الذِّهْنِيَّةِ وَبِوَاسِطَةِ ذلك تَدُلُّ على الْمَعْنَى الْخَارِجِيِّ وَهَذَا كَالْخَطِّ فإنه يَدُلُّ على اللَّفْظِ وَبِوَاسِطَةِ ذلك يَدُلُّ على الْمَعْنَى فإذا قُلْت الْعَالَمُ حَادِثٌ فَلَا يَدُلُّ على كَوْنِهِ حَادِثًا بَلْ يَدُلُّ على حُكْمِك بِحُدُوثِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيَّ وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وابن الزَّمْلَكَانِيِّ في الْبُرْهَانِ وَالْقُرْطُبِيُّ في الْوُصُولِ وَاحْتَجُّوا عليه أَمَّا في الْمُفْرَدَاتِ فَلِأَنَّا لو رَأَيْنَا شَبَحًا من بَعِيدٍ ظَنَنَّاهُ رَجُلًا فإذا قَرُبَ رَأَيْنَاهُ شَبَحًا فلما اخْتَلَفَتْ الْأَسَامِي عِنْدَ اخْتِلَافِ الصُّوَرِ الذِّهْنِيَّةِ دَلَّ على أَنَّ اللَّفْظَ لَا دَلَالَةَ له إلَّا عليها وَأَمَّا في الْمُرَكَّبَاتِ فَلِأَنَّ قَوْلَنَا قام زَيْدٌ لَا يُفِيدُ قِيَامَ زَيْدٍ وَإِنَّمَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِهِ وَالْإِخْبَارَ عنه ثُمَّ نَنْظُرُ مُطَابَقَتَهُ لِلْخَارِجِ أَمْ لَا وقد أُجِيبَ عن هذا الدَّلِيلِ بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ إنَّمَا عُرِضَ لِاعْتِقَادِ أنها في الْخَارِجِ كَذَلِكَ لَا لِمُجَرَّدِ اخْتِلَافِهَا في الذِّهْنِ من غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْخَارِجِ وَأَيْضًا إنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مِمَّا يَشْخَصُ في الْخَارِجِ مَجَازًا وقال الْأَصْفَهَانِيُّ من نَفَى الْوَضْعَ لِلْمَعْنَى الْخَارِجِيِّ إنْ أَرَادَ أنها لم تُوضَعْ لِلدَّلَالَةِ على الْمَوْجُودَاتِ الْخَارِجِيَّةِ ابْتِدَاءً من غَيْرِ تَوَسُّطِ الدَّلَالَةِ على الْمَعْنَى الذِّهْنِيِّ فَهَذَا حَقٌّ لِأَنَّ اللَّفْظَ إنَّمَا يَدُلُّ على وُجُودِ الْمَعْنَى الْخَارِجِيِّ بِتَوَسُّطِ دَلَالَتِهِ على الْمَعْنَى الذِّهْنِيِّ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الدَّلَالَةَ الْخَارِجِيَّةَ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً من وَضْعِ اللَّفْظِ فَبَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُخَبِّرَ إذَا أَخْبَرَ غَيْرَهُ بِقَوْلِهِ جاء زَيْدٌ فإن قَصْدَهُ الْإِخْبَارَ بِمَجِيئِهِ في الْخَارِجِ الثَّانِي أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِلْمَعْنَى الْخَارِجِيِّ لَا الذِّهْنِيِّ لِأَنَّهُ مُسْتَقَرُّ الْأَحْكَامِ وَهَذَا ما جَزَمَ بِهِ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ اللُّمَعِ وَيَلْزَمُ الرَّازِيَّ من نَفْيِهِ الْوَضْعَ لِلْخَارِجِيِّ أَنْ يَكُونَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عليها في الْخَارِجِ لَيْسَتْ مُطَابِقَةً وَلَا تَضَمُّنًا وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا نَفْيُ الْحَقَائِقِ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيمَا وُضِعَ له وَعِنْدَهُ إنَّمَا وُضِعَ لِلذِّهْنِيِّ وَلَكِنَّهُ اُسْتُعْمِلَ لِلْخَارِجِيِّ وَيَلْزَمُ على قَوْلِ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ أَنْ لَا يَكُونَ الْآنَ شَيْءٌ مَوْضُوعٌ لِأَنَّ الْوَضْعَ زَالَ وهو صَحِيحٌ الثَّالِثُ أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِلْمَعْنَى من حَيْثُ هو أَعَمُّ من الذِّهْنِيِّ وَالْخَارِجِيِّ وَلَيْسَ لِكُلِّ مَعْنًى لَفْظٌ بَلْ كُلُّ مَعْنًى مُحْتَاجُ إلَى اللَّفْظِ وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَرَدَّ مَذْهَبَ الْإِمَامِ إلَيْهِ الرَّابِعُ أَنَّهُ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَنَسَبَ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ الْخُوبِيُّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ لِلْفَلَاسِفَةِ قال وَأَصْلُهُ الْخِلَافُ في أَنَّ الِاسْمَ عَيْنُ الْمُسَمَّى أو غَيْرِهِ
____________________
(1/397)
مَسْأَلَةٌ وَضْعُ اللَّفْظِ الْمَشْهُورِ في مَعْنًى خَفِيٍّ جِدًّا مَنَعَ الرَّازِيَّ أَنْ يُوضَعَ اللَّفْظُ الْمَشْهُورُ في مَعْنًى لِمَعْنًى خَفِيٍّ جِدًّا فَالْغَرَضُ من هذه الْمَسْأَلَةِ الرَّدُّ على مُثْبِتِي الْحَالِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْحَرَكَةُ اسْمٌ لِمَعْنًى يَجْعَلُ الِاسْمَ مُتَحَرِّكًا وَالْمَشْهُورُ نَفْسُ الِانْتِقَالِ لَا مَعْنًى أَوْجَبَ الِانْتِقَالَ وَجَوَّزَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ فإن أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى مَشْهُورَةٌ وَبِإِزَائِهَا مَعَانٍ دَقِيقَةٌ غَامِضَةٌ لَا يَفْهَمُهَا إلَّا الْخَوَاصُّ الْعَارِفُونَ بِاَللَّهِ وَبِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُدْرِكُ مَعَانِيَ لَطِيفَةً فَيَخْتَرِعُ لها أَلْفَاظًا بِإِزَائِهَا فَائِدَةُ الْوَضْعِ الْخَامِسُ في فَائِدَةِ الْوَضْعِ وَالْمَعَانِي الْمُفْرَدَةُ مَعْلُومَةٌ في الذِّهْنِ قبل وَضْعِ اللَّفْظِ وَفَائِدَةُ وَضْعِ اللَّفْظِ تَصَوُّرُهَا عِنْدَ التَّلَفُّظِ لِتَوَقُّفِ فَهْمِ النِّسْبَةِ التَّرْكِيبِيَّةِ عليه فَإِذَنْ الْفَائِدَةُ الْحَاصِلَةُ من الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ تَصَوُّرُ مَعَانِيهَا وَشُعُورُ الذِّهْنِ بها لَا مَعْرِفَةُ مَعَانِيهَا فَلَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ وَتَصَوُّرُ النِّسْبَةِ مَوْجُودٌ في الذِّهْنِ قبل وُجُودِ اللَّفْظِ وَالْفَائِدَةُ الْحَاصِلَةُ بِاللَّفْظِ مع الْحَرَكَاتِ الْمَخْصُوصَةِ وَالتَّرْكِيبِ الْمَخْصُوصِ مَعْرِفَتُهَا وَاقِعَةً أو وَقَعَتْ أو سَتَقَعُ فَالْمَوْقُوفُ عليها التَّصْدِيقُ لَا التَّصَوُّرُ فَلَا دَوْرَ أَيْضًا الْوَاضِعُ السَّادِسُ في الْوَاضِعِ وقد اُخْتُلِفَ فيه على مَذَاهِبَ أَحَدُهَا قَوْلُ الشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَبَعْضِ أَتْبَاعِهِ كَابْنِ فُورَكٍ أنها تَوْقِيفِيَّةٌ وَأَنَّ الْوَاضِعَ هو اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ وَأَعْلَمَهَا لِلْخَلْقِ بِالْوَحْيِ إلَى الْأَنْبِيَاءِ أو بِخَلْقِ الْأَصْوَاتِ في كل شَيْءٍ أو بِخَلْقِ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ لهم وَحَكَاهُ ابن جِنِّي في الْخَصَائِصِ عن أبي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَجَزَمَ بِهِ ابن فَارِسٍ وَالثَّانِي أنها إلْهَامٌ من اللَّهِ تَعَالَى لِبَنِي آدَمَ كَأَصْوَاتِ الطُّيُورِ وَالْبَهَائِمِ حَيْثُ كانت أَمَارَاتٌ على إرَادَتِهَا فِيمَا بَيْنَهَا بِإِلْهَامِ اللَّهِ تَعَالَى حَكَاهُ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ عن أبي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَيَشْهَدُ له ما أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ في مُسْتَدْرَكِهِ عن جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم تَلَا قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ثُمَّ قال أُلْهِمَ إسْمَاعِيلُ هذا اللِّسَانَ إلْهَامًا ثُمَّ قال صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وقال الذَّهَبِيُّ في مُخْتَصَرِهِ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ على شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَكِنَّ مَدَارَ الحديث على إبْرَاهِيمَ بن إِسْحَاقَ بن إبْرَاهِيمَ الْغَسِيلِيِّ وكان مِمَّنْ
____________________
(1/398)
يَسْرِقُ الحديث انْتَهَى وَالثَّالِثِ مَذْهَبُ أبي هَاشِمٍ وَأَتْبَاعِهِ أنها اصْطِلَاحِيَّةٌ على مَعْنَى أَنَّ وَاحِدًا من الْبَشَرِ أو جَمَاعَةٍ وَضَعَهَا وَحَصَلَ التَّعْرِيفُ لِلْبَاقِينَ بِالْإِشَارَةِ وَالْقَرَائِنِ كَتَعْرِيفِ الْوَالِدَيْنِ لُغَتَهُمَا لِلْأَطْفَالِ وَحَكَاهُ ابن جِنِّي في الْخَصَائِصِ عن أَكْثَرِ أَهْلِ النَّظَرِ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ مَعْنَى الِاصْطِلَاحِ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ اللَّهُ مَقَاصِدَ اللُّغَاتِ ثُمَّ يَهْجِسُ في نَفْسِ وَاحِدٍ منهم أَنْ يُنَصِّبَ أَمَارَةً على مَقْصُودِهِ فإذا نَصَّبَهَا وَكَرَّرَهَا وَاتَّصَلَتْ الْقَرَائِنُ بها أَفَادَتْ الْعِلْمَ كَالصَّبِيِّ يَتَلَقَّى من وَالِدِهِ وَالْقَائِلُونَ بِالتَّوْقِيفِ يَقُولُونَ لَا بُدَّ وَأَنْ يُلْهَمُوا الْأَمَارَاتِ قال وَمَنْ فَهِمَ الْمَسْأَلَةَ وَتَصَوَّرَهَا لَا يُحِيلُ تَصْوِيرَهَا نعم يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُ الْعَالَمِينَ على أَمَارَةٍ وَاحِدَةٍ مع اخْتِلَافِ الدَّوَاعِي فَإِنْ عُنِيَ بِالِاصْطِلَاحِ هذا فَمُسَلَّمٌ وَإِنْ عُنِيَ ما ذَكَرْنَاهُ فَلَا وإذا تَعَارَضَ الْإِمْكَانَاتُ تَوَقَّفَ على السَّمْعِ وَالرَّابِعِ أَنَّ بَعْضَهُ من اللَّهِ وَبَعْضَهُ من الناس ثُمَّ اخْتَلَفُوا هل الْبُدَاءَةُ من اللَّهِ وَالتَّتِمَّةُ من الناس وَنَسَبَهُ الْقُرْطُبِيُّ إلَى الْأُسْتَاذِ وَإِمَّا عَكْسُهُ وقد ذَهَبَ إلَيْهِ قَوْمٌ فَتَصِيرُ الْمَذَاهِبُ خَمْسَةً وقد اخْتَلَفَ في النَّقْلِ عن الْأُسْتَاذِ فَحَكَى الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ عنه أَنَّ الْقَدْرَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهِ في التَّعْرِيفِ تَوْقِيفِيٌّ وَالْبَاقِي مُحْتَمَلٌ لِلتَّوَقُّفِ وَغَيْرِهِ وَحَكَى في الْمَحْصُولِ عنه أَنَّ الْبَاقِيَ مُصْطَلَحٌ وَسَبَقَهُ إلَى حِكَايَتِهِ أَيْضًا أبو نَصْرِ بن الْقُشَيْرِيّ وَالصَّوَابُ عنه الْأَوَّلُ فَقَدْ رَأَيْته في كِتَابِ أُصُولِ الْفِقْهِ لِلْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ وَنَقَلَهُ عن بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ من أَصْحَابِنَا ثُمَّ قال إنَّهُ الصَّحِيحُ الذي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ وَعِبَارَتُهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ من أَنْ يُعَلِّمَهُمْ أو يَخْلُقَ لهم عِلْمًا بِمِقْدَارِ ما يَفْهَمُ بَعْضُهُمْ من بَعْضٍ لِمَعْنَى الِاصْطِلَاحِ وَالْوُقُوفِ على التَّسْمِيَةِ فإذا عَرَفُوهُ جَازَ أَنْ يَكُونَ بَاقِيهِ تَوْقِيفًا منه لهم عليه وَجَازَ أَنْ يَكُونَ اصْطِلَاحًا فِيهِمْ وَلَا طَرِيقَ بَعْدَهُ إلَى مَعْرِفَةِ ما كان منه فيه إلَّا بِخَبَرِ نَبِيٍّ عنه هذا لَفْظُهُ وَكَذَلِكَ نَقَلَهُ عنه ابن بَرْهَانٍ في الْأَوْسَطِ وَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ في كِتَابِهِ الْخَامِسُ قَوْلُ الْقَاضِي وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَابْنِ الْقُشَيْرِيّ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَابْنِ بَرْهَانٍ وَجُمْهُورِ الْمُحَقِّقِينَ كما قَالَهُ في الْمَحْصُولِ التَّوَقُّفُ بِمَعْنَى أَنَّ الْجَمِيعَ مُمْكِنٌ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَأَمَّا تَعْيِينُ الْمَوَاقِعِ من هذه الْأَقْسَامِ فَلَيْسَ فيه نَصٌّ قَاطِعٌ وَمَالَ إلَيْهِ ابن جِنِّي في أَوَاخِرِ الْأَمْرِ
____________________
(1/399)
وقال الْآمِدِيُّ وَالْحَقُّ أَنَّهُ كان الْمَطْلُوبُ في هذه الْمَسْأَلَةِ تَعْيِينَ الْوَاقِعِ فَالْحَقُّ ما قَالَهُ الشَّيْخُ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ الْوَاقِفُ إنْ تَوَقَّفَ عن الْقَطْعِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِنْ أَرَادَ التَّوَقُّفَ عن الظَّنِّ فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَنْفِيهِ وقال التِّلِمْسَانِيُّ في الْكِفَايَةِ قال الْمُتَأَخِّرُونَ من الْفُقَهَاءِ هذا الْخِلَافُ إنْ كان في الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ فَهُوَ ثَابِتٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ إذْ لَا يَلْزَمُ منه مُحَالٌ أَصْلًا وَإِنْ كان في الْوُقُوعِ السَّمْعِيِّ فَبَاطِلٌ لِأَنَّ الْوُقُوعَ إنَّمَا يَكُونُ بِالنَّقْلِ ولم يُوجَدْ فيه خَبَرٌ مُتَوَاتِرٌ وَلَا بُرْهَانٌ عَقْلِيٌّ بِنَفْيِ رَجْمِ الظُّنُونِ بِلَا فَائِدَةٍ وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ قَوْلًا آخَرَ أَنَّ ما وَقَعَ التَّوْقِيفُ في الِابْتِدَاءِ على لُغَةٍ وَاحِدَةٍ وما سِوَاهَا من اللُّغَاتِ وَقَعَ التَّوْقِيفُ عليها بَعْدَ الطُّوفَانِ من اللَّهِ في أَوْلَادِ نُوحٍ حتى تَفَرَّقُوا في أَقْطَارِ الْأَرْضِ قال وقد رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَوَّلَ من تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ الْمَحْضَةِ إسْمَاعِيلُ وَأَرَادَ بها عَرَبِيَّةَ قُرَيْشٍ التي نَزَلَ بها الْقُرْآنُ وَأَمَّا عَرَبِيَّةُ قَحْطَانَ وَحِمْيَرَ فَكَانَتْ قبل إسْمَاعِيلَ عليه السَّلَامُ وقال في شَرْحِ الْأَسْمَاءِ قال الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ من الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ من الْمُفَسِّرِينَ إنَّهَا كُلَّهَا تَوْقِيفٌ من اللَّهِ وقال أَهْلُ التَّحْقِيقِ من أَصْحَابِنَا لَا بُدَّ من التَّوْقِيفِ في أَصْلِ لُغَةٍ وَاحِدَةٍ لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ الِاصْطِلَاحِ على أَوَّلِ اللُّغَاتِ من غَيْرِ مَعْرِفَةٍ من الْمُصْطَلِحِينَ يَعْنِي ما اصْطَلَحُوا عليه وإذا حَصَلَ التَّوْقِيفُ على لُغَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ ما بَعْدَهَا من اللُّغَاتِ اصْطِلَاحًا وَأَنْ يَكُونَ تَوْقِيفًا وَلَا يُقْطَعُ بِأَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلَالَةٍ قال وَاخْتَلَفُوا في لُغَةِ الْعَرَبِ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللُّغَاتِ كُلَّهَا اصْطِلَاحٌ فَكَذَا قَوْلُهُ في لُغَةِ الْعَرَبِ وَمَنْ قال بِالتَّوْقِيفِ على اللُّغَةِ الْأُولَى وَأَجَازَ الِاصْطِلَاحَ فِيمَا سِوَاهَا من اللُّغَاتِ اخْتَلَفُوا في لُغَةِ الْعَرَبِ فَمِنْهُمْ من قال هِيَ أَوَّلُ اللُّغَاتِ وَكُلُّ لُغَةٍ سِوَاهَا حَدَثَتْ بَعْدَهَا إمَّا تَوْقِيفًا أو اصْطِلَاحًا وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وهو عَرَبِيٌّ وهو دَلِيلٌ على أَنَّ لُغَةَ الْعَرَبِ أَسْبَقُ اللُّغَاتِ وُجُودًا وَمِنْهُمْ من قال لُغَةُ الْعَرَبِ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا عَرَبِيَّةُ حِمْيَرَ وَهِيَ التي تَكَلَّمُوا بها في عَهْدِ هُودٍ وَمَنْ قَبْلَهُ وَبَقِيَ بَعْضُهَا إلَى وَقْتِنَا
____________________
(1/400)
وَالثَّانِي الْعَرَبِيَّةُ الْمَحْضَةُ التي نَزَلَ بها الْقُرْآنُ وَأَوَّلُ من أَطْلَقَ لِسَانَهُ بها إسْمَاعِيلُ فَعَلَى هذا الْقَوْلِ يَكُونُ تَوْقِيفُ إسْمَاعِيلَ على الْعَرَبِيَّةِ الْمَحْضَةِ مُحْتَمِلًا أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ اصْطِلَاحًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ جُرْهُمٍ النَّازِلِينَ عليه بِمَكَّةَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَوْقِيفًا من اللَّهِ وهو الصَّوَابُ ا هـ وَحَكَى ابن جِنِّي في الْخَصَائِصِ قَوْلًا آخَرَ أَنَّ أَصْلَ اللُّغَاتِ إنَّمَا هو من الْأَصْوَاتِ وَالْأَسْمَاعِ كَدَوِيِّ الرِّيحِ وَحُنَيْنِ الرَّعْدِ وَخَرِيرِ الْمَاءِ وَنَهِيقِ الْحِمَارِ وَنَعِيقِ الْغُرَابِ وَصَهِيلِ الْفَرَسِ وَنَحْوِهِ ثُمَّ تَوَلَّدَتْ اللُّغَاتُ عن ذلك فِيمَا بَعْدُ قال وَهَذَا عِنْدِي وَجْهٌ صَالِحٌ وَمَذْهَبٌ مُتَقَبَّلٌ قال وأبو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ يَذْهَبُ إلَى أنها تَوْفِيقِيَّةٌ لَكِنَّهُ لم يَمْنَعْ الْقَوْلَ بِالِاصْطِلَاحِ تَنْبِيهَاتٌ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ أَنَّ لِلْمَسْأَلَةِ مَقَامَيْنِ أَحَدُهُمَا الْجَوَازُ على اللُّغَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إلَّا تَوْقِيفًا أو إلَّا اصْطِلَاحًا الثَّانِي أَنَّهُ ما الذي وَقَعَ على تَقْدِيرِ كُلٍّ من الْأَمْرَيْنِ وَالْقَوْلُ بِتَجْوِيزِ كُلٍّ من الْأَمْرَيْنِ هو مَذْهَبُ الْمُحَقِّقِينَ وَنَقَلُوهُ عن الْأَشْعَرِيِّ وَقِيلَ إنَّهُ إنَّمَا تَكَلَّمَ في الْوُقُوعِ مع تَجْوِيزِ صُدُورِ اللُّغَةِ اصْطِلَاحًا وَلَوْ مَنَعَ الْجَوَازَ لَنَقَلَهُ عنه الْقَاضِي وَغَيْرُهُ وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْخِلَافَ في الْجَوَازِ ثُمَّ قال إنَّ الْوُقُوعَ لم يَثْبُتْ وَتَبِعَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ وَغَيْرُهُ التَّنْبِيهُ الثَّانِي مَعْنَى التَّوْقِيفِ في مَعْنَى التَّوْقِيفِ قال ابن فَارِسٍ لَعَلَّ ظَانًّا يَظُنُّ أَنَّ اللُّغَةَ التي دَلَّلْنَا على أنها تَوْقِيفٌ إنَّمَا جَاءَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً وفي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ وَقَّفَ اللَّهُ آدَمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ على ما شَاءَ أَنْ يُعَلِّمَهُ إيَّاهُ ثُمَّ احْتَاجَ إلَى عِلْمِهِ في زَمَانِهِ فَانْتَشَرَ من ذلك ما شَاءَ ثُمَّ عَلَّمَ بَعْدَ ذلك آدَمَ من عَرَفَ من الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليهم نَبِيًّا نَبِيًّا ما شَاءَ أَنْ يُعَلِّمَهُ حتى انْتَهَى الْأَمْرُ إلَى نَبِيِّنَا صلى اللَّهُ عليه وسلم فَآتَاهُ من ذلك ما لم يُؤْتِ أَحَدًا ثُمَّ قَرَّ الْأَمْرُ قَرَارَهُ فَلَا نَعْلَمُ لُغَةً من بَعْدِهِ حَدَثَتْ
____________________
(1/401)
التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ الْأَسْمَاءُ التي عَلَّمَهَا اللَّهُ آدَمَ قال ابن عَطِيَّةَ اخْتَلَفُوا في أَيِّ الْأَسْمَاءِ عَلَّمَ اللَّهُ آدَمَ فَقِيلَ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ حَقِيرِهَا وَجَلِيلِهَا وَقِيلَ أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ وَقِيلَ عُلِّمَ الْأَسْمَاءَ بِكُلِّ لُغَةٍ تَكَلَّمَتْ بها ذُرِّيَّتُهُ وقد غَلَا قَوْمٌ في هذا الْمَعْنَى حتى حَكَى ابن جِنِّي عن أبي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ قال عَلَّمَ اللَّهُ آدَمَ كُلَّ شَيْءٍ حتى أَنَّهُ كان يُحْسِنُ من النَّحْوِ مِثْلَ ما أَحْسَنَ سِيبَوَيْهِ وَنَحْوَ هذا من الْقَوْلِ الذي هو بَيِّنُ الْخَطَأِ وقال أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَّمَهُ مَنَافِعَ كل شَيْءٍ وما يَصْلُحُ التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ إنَّ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ يُوجِبُ الظَّنَّ بِأَنْ لَا فَائِدَةَ لِلْخَوْضِ فيه لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا تَكْمِيلُ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ إذْ مُعْظَمُ النَّظَرِ فيها يَتَعَلَّقُ بِدَلَالَةِ الصِّيَغِ أو جَوَازُ قَلْبِ ما لَا تَعَلُّقَ له بِالشَّرْعِ فيها كَتَسْمِيَةِ الْفَرَسِ ثَوْرًا وَالثَّوْرِ فَرَسًا إلَى غَيْرِ ذلك وَقِيلَ الْخِلَافُ فيها طَوِيلُ الذَّيْلِ قَلِيلُ النَّيْلِ وَلَا يَتَرَتَّبُ عليها مَعْرِفَةُ عَمَلٍ من أَعْمَالِ الشَّرِيعَةِ وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ في عِلْمِ الْأُصُولِ لِأَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الرِّيَاضِيَّاتِ التي يَرْتَاضُ الْعُلَمَاءُ بِالنَّظَرِ فيها كما يُصَوِّرُ الْحَيْسُوبُ مَسَائِلَ الْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ فَهَذِهِ من أُصُولِ الْفِقْهِ من رِيَاضِيَّاتِهِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ أو الْفَوْرِ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ فَإِنَّهَا من ضَرُورَاتِهِ وَمِنْهُمْ من خَرَّجَ عليها مَسَائِلَ من الْفِقْهِ كما لو عَقَدَا صَدَاقًا في السِّرِّ وَآخَرَ في الْعَلَانِيَةِ أو اسْتَعْمَلَا لَفْظَ الْمُفَاوَضَةِ وَأَرَادَا شَرِكَةَ الْعِنَانِ حَيْثُ نَصَّ الشَّافِعِيُّ على الْجَوَازِ أو تَبَايَعَا بِالدَّنَانِيرِ وَسَمَّيَا الدَّرَاهِمَ قال ابن الصَّبَّاغِ لَا يَصِحُّ وَكَمَا لو قال لِزَوْجَتِهِ إذَا قُلْت أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لم أُرِدْ بِهِ الطَّلَاقَ وَإِنَّمَا غَرَضِي أَنْ تَقُومِي وَتَقْعُدِي ثُمَّ قال لها أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَقَعَ وَحَكَى الْإِمَامُ في بَابِ الصَّدَاقِ وَجْهًا أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَا تَوَاضَعَا عليه وَلَوْ سَمَّى أَمَتَهُ حُرَّةً ولم يَكُنْ ذلك اسْمَهَا ثُمَّ قال بَعْدَ ذلك يا حُرَّةُ فَفِي الْبَسِيطِ أَنَّ الظَّاهِرَ أنها لَا تُعْتَقُ إذَا قَصَدَ النِّدَاءَ وَجَعَلَهُ مُلْتَفَتًا على هذه الْقَاعِدَةِ قال في الْمَطْلَبِ وَالْأَشْبَهُ عَدَمُ بِنَائِهِ على ذلك لِأَنَّا نُفَرِّعُ على جَوَازِ وَضْعِ الِاسْمِ بِالِاصْطِلَاحِ وإذا جَازَ صَارَ كَالِاسْمِ الْمُسْتَمِرِّ وَلَوْ كان اسْمُهَا بَعْدَ الرِّقِّ حُرَّةً وَنَادَاهَا بِهِ وَقَصَدَ ذلك لم يَقَعْ فَكَذَا هُنَا وَغَيْرُ ذلك من الصُّوَرِ
____________________
(1/402)
وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَتَخَرَّجُ شَيْءٌ من ذلك على هذه الْقَاعِدَةِ لِأَنَّ مَسْأَلَتَنَا في أَنَّ اللُّغَاتِ هذه الْوَاقِعَةِ بين أَظْهُرِنَا هل هِيَ بِالِاصْطِلَاحِ أو التَّوْقِيفِ لَا في شَخْصٍ خَاصٍّ اصْطَلَحَ مع صَاحِبِهِ على تَغْيِيرِ الشَّيْءِ عن مَوْضُوعِهِ نعم يُضَاهِيهَا قَاعِدَةٌ في الْفِقْهِ وَهِيَ أَنَّ الِاصْطِلَاحَ الْخَاصَّ هل يَرْفَعُ الِاصْطِلَاحَ الْعَامَّ أَمْ لَا فيه خِلَافٌ وَعَلَيْهَا تَتَفَرَّعُ هذه الْفُرُوعُ كما بَيَّنْته في كِتَابِ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ وَمِنْهُمْ من قال فَائِدَتُهَا النَّظَرُ في جَوَازِ قَلْبِ اللُّغَةِ فَالْقَائِلُونَ بِالتَّوْقِيفِ يَمْنَعُونَهُ مُطْلَقًا وَالْقَائِلُونَ بِالِاصْطِلَاحِ يُجَوِّزُونَهُ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ الشَّرْعُ منه وَمَتَى لم يَمْنَعْ كان لِلشَّيْءِ اسْمَانِ أَحَدُهُمَا مُتَوَقَّفٌ عليه وَالْآخَرُ مُتَوَاضَعٌ عليه وَبِذَلِكَ قال الْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُمَا وَأَمَّا الْمُتَوَقِّفُونَ فقال الْمَازِرِيُّ اخْتَلَفَتْ إشَارَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَذَهَبَ الْأَزْدِيُّ إلَى التَّجْوِيزِ كَمَذْهَبِ الِاصْطِلَاحِ وَأَشَارَ أبو الْقَاسِمِ عبد الْجَلِيلِ الصَّابُونِيُّ إلَى الْمَنْعِ وَجَوَّزَ كَوْنَ التَّوْقِيفِ وَارِدًا على أَنَّهُ وَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ النُّطْقُ إلَّا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ وقال ابن الْأَنْبَارِيِّ الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ في هذه الْمَسْأَلَةِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ في تَفْسِيرِهِ فَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّ من جَعَلَ الْكَلَامَ تَوْقِيفِيًّا جَعَلَ التَّكْلِيفَ مُقَارِنًا لِكَمَالِ الْعَقْلِ وَمَنْ جَعَلَهُ اصْطِلَاحِيًّا جَعَلَ التَّكْلِيفَ مُتَأَخِّرًا عن الْعَقْلِ مُدَّةَ الِاصْطِلَاحِ على مَعْرِفَةِ الْكَلَامِ ثُمَّ فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ التَّعْلِيمَ إنَّمَا كان مَقْصُورًا على الِاسْمِ دُونَ الْمَعْنَى الثَّانِي أَنَّهُ عُلِّمَ الْأَسْمَاءَ وَمَعَانِيَهَا إذْ لَا فَائِدَةَ في تَعْلِيمِ عِلْمِ الْأَسْمَاءِ بِلَا مَعَانٍ لِتَكُونَ الْمَعَانِي هِيَ الْمَقْصُودَةَ وَالْأَسْمَاءُ دَلَائِلَ عليها وإذا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ وهو أَنَّ التَّعْلِيمَ إنَّمَا كان مَقْصُودًا على أَلْفَاظِ الْأَسْمَاءِ دُونَ مَعَانِيهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَلَّمَهُ إيَّاهَا بِاللُّغَةِ التي يَتَكَلَّمُ بها وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلَّمَهُ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ وَعَلَّمَهَا آدَم وَلَدَهُ فلما تَفَرَّقُوا تَكَلَّمَ كُلُّ قَوْمٍ منهم بِلِسَانٍ اسْتَسْهَلُوهُ منها وَأَلِفُوهُ ثُمَّ نَسُوا غَيْرَهُ بِتَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ أَصْبَحُوا وَكُلُّ قَوْمٍ منهم يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَةٍ قد نَسُوا غَيْرَهَا في لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَمِثْلُ هذا في الْعُرْفِ مُمْتَنِعٌ ا هـ وَعَزَا بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ التَّوْقِيفَ لِأَصْحَابِهِمْ وَالِاصْطِلَاحُ لِأَصْحَابِنَا ثُمَّ قال وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْلِيقُ بِاللُّغَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِإِثْبَاتِ حُكْمِ الشَّرْعِ من غَيْرِ رُجُوعٍ إلَى الشَّرْعِ وَبَنَوْا أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ الْحَبْسُ لِأَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عنه وَعِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ التَّعْلِيقَ بِاللُّغَةِ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْوَاضِعِينَ في الْأَصْلِ كَانُوا جُهَّالًا
____________________
(1/403)
وَضَعُوا عِبَارَاتٍ لِمُعَبَّرَاتٍ لَا لِمُنَاسَبَاتٍ ثُمَّ اُسْتُعْمِلَتْ وَصَارَتْ لُغَةً انْتَهَى وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا اصْطِلَاحِيَّةٌ أو تَوْقِيفِيَّةٌ فَاخْتَارَ ابن جِنِّي في الْخَصَائِصِ أنها مُتَلَاحِقَةٌ بَعْضُهَا يَتْبَعُ بَعْضًا لَا أنها وُضِعَتْ في وَقْتٍ وَاحِدٍ قال وهو قَوْلُ أبي الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ وهو الصَّوَابُ على مَعْنَى أَنَّ الْوَاضِعَ وَضَعَ في أَوَّلِ الْأَمْرِ شيئا ثُمَّ اُحْتِيجَ لِلزِّيَادَةِ عليه لِحُصُولِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ فَزِيدَ فيه شيئا فَشَيْئًا إلَّا أَنَّهُ على قِيَاسِ ما سَبَقَ منها في حُرُوفِهِ وقد سَبَقَ مِثْلُهُ عن ابْنِ فَارِسٍ فَائِدَةٌ أَسْمَاءُ اللَّهِ تَوْقِيفِيَّةٌ ذَكَرَهَا الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ في كِتَابِ التَّحْصِيلِ فقال أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا على أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَوْقِيفِيَّةٌ وَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ شَيْءٍ منها بِالْقِيَاسِ وَإِنْ كان في مَعْنَى الْمَنْصُوصِ وَجَوَّزَهُ مُعْتَزِلَةُ الْبَصْرَةِ قال وَأَمَّا أَسْمَاءُ غَيْرِهِ فَالصَّحِيحُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ الْقِيَاسِ فيها وقال بَعْضُ أَصْحَابِهِ مع أَكْثَرِ أَهْلِ الرَّأْيِ بِامْتِنَاعِ الْقِيَاسِ وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ لو حَدَثَ في الْعَالَمِ شَيْءٌ بِخِلَافِ الْحَوَادِثِ كُلِّهَا جَازَ أَنْ يُوضَعَ له اسْمٌ وَاخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّتِهِ فَمِنْهُمْ من قال نُسَمِّيهِ بِاسْمِ الشَّيْءِ الْقَرِيبِ منه في صُورَتِهِ وَيَكُونُ ذلك من جُمْلَةِ اللُّغَةِ التي قِيسَ عليها وَمِنْهُمْ من قال ابْتَدَأَ له اسْمًا كَيْفَ كان وَيَكُونُ ذلك لُغَةً مُخْتَصَّةً بِالْمُسَمَّى بها ا هـ وقال الْمُقْتَرِحُ في شَرْحِ الْإِرْشَادِ أَطْلَقَ أَئِمَّتُنَا أَنَّ الْقِيَاسَ يَجْرِي في أَسْمَاءِ اللَّهِ فَانْحَصَرَ مَدَارِكُهَا في الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ الْوَارِدُ في السُّنَّةِ في أَسْمَاءِ اللَّهِ مُتَوَاتِرًا فيه خِلَافٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُ شَرْطٍ كَيْفِيَّةُ مَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ إلَى مَعْرِفَةِ وَضْعِ الْأَلْفَاظِ السَّابِعُ في كَيْفِيَّةِ مَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ إلَى مَعْرِفَةِ وَضْعِ الْأَلْفَاظِ لِمَعَانِيهَا وهو إمَّا بِالنَّقْلِ الصِّرْفِ أو بِالْعَقْلِ الصِّرْفِ أو الْمُرَكَّبِ مِنْهُمَا الْأَوَّلُ النَّقْلُ وهو إمَّا مُتَوَاتِرٌ كَالْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ وهو مُفِيدٌ لِلْقَطْعِ وَإِمَّا آحَادٌ كَالْقُرْءِ وَنَحْوِهِ وهو مُفِيدٌ لِلظَّنِّ بِشُرُوطِهِ الْآتِيَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَحَكَى الْقَاضِي من الْحَنَابِلَةِ عن السَّمْنَانِيِّ في مَسْأَلَةِ الْعُمُومِ أَنَّ اللُّغَةَ لَا تَثْبُتُ بِالْآحَادِ وَكَأَنَّهُ قَوْلُ الْوَاقِفِيَّةِ في صِيَغِ الْعُمُومِ وَالْأَمْرِ
____________________
(1/404)
وَالْحَقُّ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً في بَابِ الْعَمَلِيَّاتِ وَالْأَحْكَامِ أَمَّا ما يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَائِدِ فَلَا لِأَنَّهَا لَا تُفِيدُ الْقَطْعَ قال في الْمَحْصُولِ وَالْعَجَبُ من الْأُصُولِيِّينَ حَيْثُ أَقَامُوا الدَّلِيلَ على أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ في الشَّرْعِ ولم يُقِيمُوا الدَّلِيلَ على ذلك في اللُّغَةِ وكان هذا لِأَنَّ إثْبَاتَ اللُّغَةِ كَالْأَصْلِ لِلتَّمَسُّكِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ قال الْأَصْفَهَانِيُّ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الذي دَلَّ على حُجِّيَّةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ في الشَّرْعِ على التَّمَسُّكِ بِهِ في نَقْلِ اللُّغَةِ آحَادًا إذَا وُجِدَتْ الشَّرَائِطُ فَلَعَلَّهُمْ أَهْمَلُوا ذلك اكْتِفَاءً منهم بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ على أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ في الشَّرْعِ وَأَوْرَدَ في الْمَحْصُولِ تَشْكِيكَاتٍ كَثِيرَةً على نَقْلِ اللُّغَةِ وَنَاقِلِهَا وَمِنْ جَيِّدِ أَجْوِبَتِهَا أنها على قِسْمَيْنِ فَمِنْهُ ما يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ مَدْلُولُهُ فَيَنْدَفِعُ عِنْدَ جَمِيعِ التَّشْكِيكَاتِ إذْ لَا تَشْكِيكَ في الضَّرُورِيَّاتِ وَالْأَكْثَرُ في اللُّغَةِ هو هذا وَمِنْهُ ما ليس كَذَلِكَ فَيُكْتَفَى فيه بِالظَّنِّ وَنَقْلِ الْآحَادِ وقال أبو الْفَضْلِ بن عَبْدَانَ في شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ وَتَبِعَهُ الْجِيلِيُّ في الْإِعْجَازِ وَلَا يَلْزَمُ اللُّغَةَ إلَّا بِخَمْسِ شَرَائِطَ أَحَدُهَا ثُبُوتُ ذلك عن الْعَرَبِ بِنَقْلٍ صَحِيحٍ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ وَالثَّانِي عَدَالَةُ النَّاقِلِينَ كما يُعْتَبَرُ عَدَالَتُهُمْ في الشَّرْعِيَّاتِ وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ النَّقْلُ عَمَّنْ قَوْلُهُ حُجَّةٌ في أَصْلِ اللُّغَةِ كَالْعَرَبِ الْعَارِبَةِ مِثْلِ قَحْطَانَ وَمَعْدٍ وَعَدْنَانَ فَأَمَّا إذَا نَقَلُوا عَمَّنْ بَعْدَهُمْ بَعْدَ فَسَادِ لِسَانِهِمْ وَاخْتِلَافِ الْمُوَلَّدِينَ فَلَا قُلْت وَوَقَعَ في كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِ الِاسْتِشْهَادُ بِشِعْرِ أبي تَمَّامٍ بَلْ في الْإِيضَاحِ لِلْفَارِسِيِّ وَوُجِّهَ بِأَنَّ الِاسْتِشْهَادَ بِتَقْرِيرِ النَّقَلَةِ كَلَامَهُمْ وَأَنَّهُ لم يَخْرُجْ عن قَوَانِينِ الْعَرَبِ وقال ابن جِنِّي يُسْتَشْهَدُ بِشِعْرِ الْمُوَلَّدِينَ في الْمَعَانِي كما يُسْتَشْهَدُ بِشِعْرِ الْعَرَبِ في الْأَلْفَاظِ وَالرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ النَّاقِلُ قد سمع منهم حِسًّا وَأَمَّا بِغَيْرِهِ فَلَا يَثْبُتُ وَالْخَامِسُ أَنْ يَسْمَعَ من النَّاقِلِ حِسًّا ا هـ الثَّانِي الْعَقْلُ قال الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ وهو لَا يُفِيدُ وَحْدَهُ إذْ لَا مَجَالَ له في مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الْمَوْضُوعَاتِ اللُّغَوِيَّةِ الثَّالِثُ الْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا كما إذَا نَقَلَ أَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ يَدْخُلُهُ الِاسْتِثْنَاءُ وَأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إخْرَاجُ ما لَوْلَاهُ لَتَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ فإن الْعَقْلَ يُدْرِكُ ذلك وَأَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ لِلْعُمُومِ وهو يُفِيدُ الْقَطْعَ إنْ كانت مُقَدِّمَاتُهُ كُلُّهَا قَطْعِيَّةً وَالظَّنَّ إنْ كان منها شَيْءٌ
____________________
(1/405)
ظَنِّيٌّ وَاعْتَرَضَ في الْمَحْصُولِ بِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْمُقَدَّمَتَيْنِ النَّقْلِيَّتَيْنِ على النَّتِيجَةِ لَا يَصِحُّ إلَّا إذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّاقِضَةَ مَمْنُوعَةٌ على الْوَاضِعِ وَهَذَا إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا قُلْنَا إنَّ الْوَاضِعَ هو اللَّهُ تَعَالَى وقد بَيَّنَّا أَنَّ ذلك غَيْرُ مَعْلُومٍ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هذا الْقِسْمَ لَا يَخْرُجُ عن الْقِسْمَيْنِ قَبْلَهُ إذْ ليس الْمُرَادُ بِالنَّقْلِ أَنْ يَكُونَ النَّقْلُ مُسْتَقِلًّا بِالدَّلَالَةِ من غَيْرِ مَدْخَلٍ لِلْعَقْلِ فيه أَلَا تَرَى أَنَّ صِدْقَ الْمُخَبِّرِ لَا بُدَّ منه وهو عَقْلِيٌّ وقد قال سُلَيْمٌ في بَابِ الْمَفْهُومِ من التَّقْرِيبِ تَثْبُتُ اللُّغَةُ بِالْعَقْلِ لِأَنَّ له مَدْخَلًا في الِاسْتِدْلَالِ بِمَخَارِجِ كَلَامِهِمْ على مَقَاصِدِهِمْ وَمَوْضُوعَاتِهِمْ تَنْبِيهَانِ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ قد تُعْلَمُ اللُّغَةُ بِالْقَرَائِنِ قال ابن جِنِّي في الْخَصَائِصِ من قال إنَّ اللُّغَةَ لَا تُعْرَفُ إلَّا نَقْلًا فَقَدْ أَخْطَأَ فَإِنَّهَا قد تُعْلَمُ بِالْقَرَائِنِ أَيْضًا فإن الرَّجُلَ إذَا سمع قَوْلَ الشَّاعِرِ قَوْمٌ إذَا الشَّرُّ أَبَدًا نَاجِذَيْهِ لهم طَارُوا إلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانًا يُعْلَمُ أَنَّ الزَّرَافَاتِ بِمَعْنَى الْجَمَاعَاتِ التَّنْبِيهُ الثَّانِي قال عبد اللَّطِيفِ الْبَغْدَادِيُّ في شَرْحِ الْخُطَبِ النَّبَاتِيَّةِ اعْلَمْ أَنَّ اللُّغَوِيَّ شَأْنُهُ أَنْ يَنْقُلَ ما نَطَقَتْ بِهِ الْعَرَبُ وَلَا يَتَعَدَّاهُ وَأَمَّا النَّحْوِيُّ فَشَأْنُهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا يَنْقُلُهُ اللُّغَوِيُّ وَيَقِيسُ عليه وَمِثَالُهُمَا الْمُحَدِّثُ وَالْفَقِيهُ فَشَأْنُ الْمُحَدِّثِ نَقْلُ الحديث بِرُمَّتِهِ ثُمَّ إنَّ الْفَقِيهَ يَتَلَقَّاهُ وَيَتَصَرَّفُ فيه وَيَبْسُطُ عِلَلَهُ وَيَقِيسُ عليه الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ قال أبو عَلِيٍّ فِيمَا حَكَاهُ ابن جِنِّي يَجُوزُ لنا أَنْ نَقِيسَ مَنْثُورَنَا على مَنْثُورِهِمْ وَشِعْرَنَا على شِعْرِهِمْ مَسْأَلَةٌ لِسَانُ الْعَرَبِ أَوْسَعُ الْأَلْسِنَةِ قال الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ لِسَانُ الْعَرَبِ أَوْسَعُ الْأَلْسِنَةِ لَا يُحِيطُ بِجَمِيعِهِ إلَّا نَبِيٌّ وَلَكِنَّهُ لَا يَذْهَبُ منه شَيْءٌ على عَامَّتِهَا وَالْعِلْمُ بِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ كَالْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ عِنْدَ أَهْلِ
____________________
(1/406)
الْفِقْهِ لَا نَعْلَمُ رَجُلًا جَمَعَ السُّنَنَ فلم يَذْهَبْ منها عليه شَيْءٌ وَتُوجَدُ مَجْمُوعَةً عِنْدَ جَمِيعِهِمْ وقال ابن فَارِسٍ في كِتَابِ فِقْهِ الْعَرَبِيِّ قال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ كَلَامُ الْعَرَبِ لَا يُحِيطُ بِهِ إلَّا نَبِيٌّ قال وَهَذَا كَلَامٌ حَقِيقٌ أَنْ لَا يَكُونَ صَحِيحًا وما بَلَغْنَا عن أَحَدٍ من الْمَاضِينَ أَنَّهُ ادَّعَى حِفْظَ اللُّغَةِ كُلِّهَا وَأَمَّا ما وَقَعَ في آخِرِ كِتَابِ الْخَلِيلِ هذا آخِرُ كَلَامِ الْعَرَبِ فَالْخَلِيلُ أَتْقَى لِلَّهِ من أَنْ يَقُولَ ذلك قال وَذَهَبَ عُلَمَاؤُنَا أو أَكْثَرُهُمْ إلَى أَنَّ الذي انْتَهَى إلَيْنَا من كَلَامِ الْعَرَبِ هو الْأَقَلُّ وَلَوْ جَاءَنَا جَمِيعُ ما قَالُوهُ لَجَاءَ شِعْرٌ كَثِيرٌ وَكَلَامٌ كَثِيرٌ وَأَحْرَى بهذا الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا مسألة الِاحْتِجَاجُ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ قال ابن فَارِسٍ لُغَةُ الْعَرَبِ يُحْتَجُّ بها فِيمَا اُخْتُلِفَ فيه إذَا كان التَّنَازُعُ في اسْمٍ أو صِفَةٍ أو شَيْءٍ مِمَّا يَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ من سُنَنِهَا في حَقِيقَةٍ أو مَجَازٍ وَنَحْوِهِ فَأَمَّا ما سَبِيلُهُ الِاسْتِنْبَاطُ وما فيه لِدَلَائِلِ الْعَقْلِ مَجَالٌ فإن الْعَرَبَ وَغَيْرَهُمْ فيه سَوَاءٌ وَأَمَّا خِلَافُ الْفُقَهَاءِ في الْقُرْءِ وَالْعَوْدِ في الظِّهَارِ وَنَحْوِهِ فَمِنْهُ ما يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ فيه بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَمِنْهُ ما يُوَكَّلُ إلَى غَيْرِ ذلك قال وَيَقَعُ في الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ لُغَتَانِ كَالصِّرَامِ وَثَلَاثٌ كَالزُّجَاجِ وَأَرْبَعٌ كَالصَّدَاقِ وَخَمْسٌ كَالشِّمَالِ وَسِتٌّ كَالْقِسْطَاسِ وَلَا يَكُونُ أَكْثَرُ من هذا ا هـ قُلْت وَهَذَا غَرِيبٌ فَقَدْ حَكَوْا في الْأُصْبُعِ عَشْرَ لُغَاتٍ وَكَذَا الْأُنْمُلَةُ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ وَقِيلَ في أُفٍّ خَمْسُونَ لُغَةً مَسْأَلَةٌ ثُبُوتُ اللُّغَةِ بِالْقِيَاسِ لَا خِلَافَ في ثُبُوتِ اللُّغَةِ بِالنَّقْلِ وَالتَّوْقِيفِ وَهَلْ تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ فيه قَوْلَانِ لِلْأُصُولِيِّينَ وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا كما قَالَهُ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وَالْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي وَالرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ فَذَهَبَ أبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَتِلْمِيذُهُ ابن حَاتِمٍ من أَصْحَابِنَا في كِتَابِهِ اللَّامِعِ وأبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وابن الْقُشَيْرِيّ
____________________
(1/407)
وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ إلَى الْمَنْعِ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ مَأْخُوذَةٌ من اللُّغَةِ دُونَ الشَّرْعِ وَنَقَلَهُ عن مُعْظَمِ الْمُحَقِّقِينَ وَنَقَلَهُ في الْمَحْصُولِ عن مُعْظَمِ أَصْحَابِنَا وَعَنْ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ أَصْحَابِنَا وَنَقَلَهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في التَّقْرِيبِ عن الْعِرَاقِيِّينَ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَاخْتَارَهُ ابن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ من الْمَالِكِيَّةِ وَالْآمِدِيَّ وابن الْحَاجِبِ إلَّا أَنَّهُمَا وَهِمَا في النَّقْلِ عن الْقَاضِي فَنَقَلَا عنه الْجَوَازَ وَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ في كِتَابِ التَّقْرِيبِ إنَّمَا هو الْمَنْعُ وَكَذَا نَقَلَهُ عنه الْمَازِرِيُّ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَنَقَلَهُ ابن جِنِّي وابن سِيدَهْ في كِتَابِ الْقَوَافِي عن النَّحْوِيِّينَ قال لِأَنَّ الْعَرَبَ قد فَرَغَتْ من تَسْمِيَةِ الْأَشْيَاءِ فَلَيْسَ لنا أَنْ نَبْتَدِعَ أَسْمَاءً كما أَنَّهُ ليس لنا أَنْ نُطْلِقَ الِاشْتِقَاقَ على جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ لِئَلَّا يَقَعَ اللَّبْسُ في اللُّغَةِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْبَيَانِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ سَمَّوْا الزُّجَاجَةَ قَارُورَةً لِاسْتِقْرَارِ الشَّيْءِ فيها فَلَيْسَ لنا أَنْ نُسَمِّيَ الْجُبَّ وَالْبَحْرَ قَارُورَةً لِاسْتِقْرَارِ الْمَاءِ فِيهِمَا وَالْأَكْثَرُونَ من أَصْحَابِنَا كما قَالَهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وابن بَرْهَانٍ وابن السَّمْعَانِيِّ على الْجَوَازِ قُلْت منهم أبو عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ وابن سُرَيْجٍ وَالْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ في كِتَابِ التَّحْصِيلِ عن نَصِّ الشَّافِعِيِّ فإنه قال في الشُّفْعَةِ إنَّ الشَّرِيكَ جَارٍ وَقَاسَهُ على تَسْمِيَةِ الْعَرَبِ امْرَأَةَ الرَّجُلِ جَارَهُ وقال ابن فُورَكٍ إنَّهُ الظَّاهِرُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إذْ قال الشَّرِيكُ جَارٌ في مَسْأَلَةِ الشُّفْعَةِ يُقَالُ امْرَأَتُك أَقْرَبُ إلَيْك أَمْ جَارُك وَنَقَلَهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ عن الْبَصْرِيِّينَ من النَّحْوِيِّينَ وقال في الْمَحْصُولِ نَقَلَ ابن جِنِّي في الْخَصَائِصِ أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ كَالْمَازِنِيِّ وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ قال وما اصْطَلَحَ عليه الْعَرُوضِيُّونَ من أَسْمَاءِ الْبُحُورِ وَغَيْرِهِ فإنه على التَّشْبِيهِ وَالنَّقْلِ لِمَا وَضَعَتْهُ الْعَرَبُ في أَوَّلِيَّةِ مَوْضُوعِ اللُّغَةِ وقال ابن فَارِسٍ في فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ أَجْمَعَ أَهْلُ اللُّغَةِ إلَّا من شَذَّ منهم أَنَّ في لُغَةِ الْعَرَبِ قِيَاسًا وهو قَوْلُ ابْنِ دُرُسْتَوَيْهِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ في شَرْحِ كِتَابِ التَّرْتِيبِ تَكَلَّمْت يَوْمًا مع أبي الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في هذه الْمَسْأَلَةِ وَنَصَرْت الْقَوْلَ بِجَوَازِ أَخْذِ الْأَسَامِي قِيَاسًا فقال من يقول بهذا يَلْزَمُهُ ما يَلْزَمُ ابْنَ دُرُسْتَوَيْهِ قال وكان ابن دُرُسْتَوَيْهِ رَجُلًا كَبِيرًا في
____________________
(1/408)
النَّحْوِ وَاللُّغَةِ غير أَنَّهُ كان يُتَّهَمُ في دِينِهِ فقال ابن دُرُسْتَوَيْهِ يَجُوزُ أَخْذُ الْأَسَامِي قِيَاسًا إذَا كان مِمَّا يُقَاسُ عليه فَمِمَّا أُخِذَ وَاشْتُقَّ اسْمُهُ من مَعْنًى فيه مِثْلَ الْقَارُورَةِ تُسَمَّى قَارُورَةً لِاسْتِقْرَارِ الْمَاءِ فيها فَلِكُلِّ ما في مَعْنَاهَا يَكُونُ قَارُورَةً قِيلَ وَأَيْشِ يقول في الْجُبِّ يَسْتَقِرُّ الْمَاءُ فيه هل يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى قَارُورَةً قال نعم قِيلَ فما تَقُولُ في الْبَحْرِ وَالْحَوْضِ فَالْتَزَمَ ذلك وَرَكَّبَ الْبَابَ كُلَّهُ فَاسْتَبْشَعُوا ذلك منه وَشَنَّعُوا عليه فَقُلْت لِأَبِي الْحُسَيْنِ أَيْشٍ إذَا أَخْطَأَ وَاحِدٌ في الْقِيَاسِ بَلْ كان من سَبِيلِهِ أَنْ يَحْتَرِزَ فيه بِنَوْعٍ من الِاحْتِرَازِ بِأَنْ يَقُولَ ما يَسْتَقِرُّ الْمَاءُ فيه وَيَخِفُّ على الْيَدِ وَنَحْوُهُ وَحَكَى أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ قَوْلًا ثَالِثًا أَنَّهُ جَائِزٌ إلَّا أَنَّهُ لم يَقَعْ وَكَذَا قال ابن فُورَكٍ الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ اخْتَلَفُوا في الْوُقُوعِ على وَجْهَيْنِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ بِجَوَازِ إثْبَاتِ الْأَسَامِي شَرْعًا وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا لُغَةً وهو الذي اخْتَارَهُ ابن سُرَيْجٍ وَيُخَرَّجُ مِمَّا سَيَأْتِي في عَلَامَاتِ الْحَقِيقَةِ مَذْهَبٌ آخَرُ وهو الْفَرْقُ بين الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَيَجُوزُ الْقِيَاسُ في حَقِيقَةِ اللُّغَةِ وَيَمْتَنِعُ فِيمَا ثَبَتَ كَوْنُهُ مَجَازًا احْتَجَّ الْمَانِعُ بِأَنَّ الْقِيَاسَ إلْحَاقُ مَسْكُوتٍ عنه بِمَنْطُوقٍ بِهِ وَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ في اللُّغَةِ لِأَنَّ الْفَرْعَ لم يَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ فلم يَكُنْ من لُغَتِهَا وَإِنْ أُرِيدَ إلْحَاقُهُ بِمَا نَطَقَتْ بِهِ فَهُوَ وَضْعٌ من جِهَتِهِ لَا من جِهَتِهِمْ فَلَا يَكُونُ من لُغَتِهِمْ وَاحْتَجَّ الْمُجَوِّزُ بِالْإِجْمَاعِ على جَوَازِ الْقِيَاسِ في الِاشْتِقَاقِ وَالنَّحْوِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ النَّحْوِيَّ تَصَرُّفٌ في أَحْوَالِ الْكَلِمِ فَلَيْسَ وَضْعًا مُسْتَأْنَفًا بِخِلَافِ وَضْعِ ذَوَاتِ الْكَلِمِ وَالْأَقْيِسَةُ النَّحْوِيَّةُ ليس فيها شَيْءٌ مَسْكُوتٌ عنه بَلْ إمَّا مَنْطُوقٌ بِعَيْنِهِ أو بِنَظِيرِهِ وَمِنْ مُهِمَّاتِ هذا الْأَصْلِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ إلْحَاقُ النَّبِيذِ بِالْخَمْرِ في الِاسْمِ حتى يُحْكَمَ بِتَحْرِيمِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَنَحْنُ وَإِنْ لم نَقُلْ بِالْقِيَاسِ اللُّغَوِيِّ فَنَحْنُ نَحْكُمُ بِتَحْرِيمِ قَلِيلِ النَّبِيذِ تَمَسُّكًا بِأَصْلِ الِاسْمِ فإن الْعَرَبَ تُسَمِّيهِ خَمْرًا كما قال عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَلَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فَهَمَتْ الْعَرَبُ منها تَحْرِيمَ النَّبِيذِ وَغَيْرِهِ فإن أَقْوَامًا أَرَاقُوا ما كان عِنْدَهُمْ من النَّبِيذِ من غَيْرِ تَوَقُّفٍ وَلَا اسْتِفْسَارٍ فَدَلَّ على أَنَّهُ من لُغَتِهِمْ وَاصْطِلَاحِهِمْ ثُمَّ مَحَلُّ الْخِلَافِ في الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَعَانِي الدَّائِرَةِ مع الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فيها وُجُودًا وَعَدَمًا كَالْخَمْرِ اسْمٌ لِلْمُسْكِرِ الْمُعْتَصِرِ من الْعِنَبِ لِيَصِحَّ الْإِلْحَاقُ عِنْدَ وُجُودِ الْمَعْنَى الذي من أَجْلِهِ وُضِعَ اسْمُ الْمَنْصُوصِ عليه أَمَّا الْأَعْلَامُ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو فَلَا يَجْرِي فيها وِفَاقًا قَالَهُ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ
____________________
(1/409)
وَالْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ وَالْمَازِرِيُّ قال وَالْمَعْنَى فيه كَوْنُهَا غير مُعَلَّلَةٍ فَهِيَ كَالْمَنْصُوصِ لَا تُعَلَّلُ قال وَهَذَا لَا خِلَافَ فيه وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ الصَّادِرَةِ في مَعَانٍ مَعْقُولَةٍ كَالْخَمْرِ وَالزِّنَى وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْخِلَافَ في الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ دُونَ الْجَوَامِدِ وَأَسْمَاءِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَجْنَاسِ وَنَازَعَهُ الْمُقْتَرِحُ بِأَنَّ الْمُشْتَقَّةَ قد نُقِلَ عنها في الْعَرَبِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ قِسْمٌ طَرَدُوا فيه الِاشْتِقَاقَ وَقِسْمٌ مَنَعُوهُ فيه وَقِسْمٌ لم يُعْلَمْ هل طَرَدُوهُ أو مَنَعُوهُ قال وَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ أَمَّا الْأَوَّلَانِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِمَا نِزَاعٌ لِأَنَّا إذَا عَلِمْنَا الِاشْتِقَاقَ كان هذا مَأْخُوذًا من اللَّفْظِ لَا من طَرِيقِ الْقِيَاسِ وَإِنْ عَلِمْنَا الْمَنْعَ من طَرْدِ الِاشْتِقَاقِ امْتَنَعَ الْقِيَاسُ لِئَلَّا يُلْتَحَقَ بِلُغَتِهِمْ ما ليس فيها فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْخِلَافِ في الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّا إذَا شَكَكْنَا في أَنَّهُمْ أَجَازُوا الِاطِّرَادَ أو مَنَعُوهُ فَتَعَيَّنَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ إلَّا السَّمْعُ ولم يُنْقَلْ لنا عن الْعَرَبِ مَنْعٌ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ ليس من مَحَلِّ الْخِلَافِ ما عُلِمَ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ وَضَعُوهُ لِمَعْنًى يَشْمَلُ الْجُزَيْئَاتِ فإنه لَا خِلَافَ في أَنَّ إطْلَاقَهُ على الْجُزْئِيَّاتِ ليس بِقِيَاسٍ وَلَا يَجْرِي أَيْضًا فِيمَا ثَبَتَ بِالِاسْتِقْرَاءِ إرَادَةٌ إلَى الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ وَإِنْ لم يُعْلَمْ نَصُّهُمْ أَنَّ الْمَوْضُوعَ هو الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ مِثَالُ الْأَوَّلِ قَوْلُنَا رَجُلٌ وَالثَّانِي قَوْلُنَا الْفَاعِلُ مَرْفُوعٌ وَالْمَفْعُولُ مَنْصُوبٌ بَلْ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا أَطْلَقُوا اسْمًا مُشْتَمِلًا على وَصْفٍ وَاعْتَقَدْنَا أَنَّ التَّسْمِيَةَ لِذَلِكَ الْوَصْفِ فَأَرَدْنَا تَعَدِّيَةَ الِاسْمِ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ كما إذَا اعْتَقَدْنَا أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْخَمْرِ بِاعْتِبَارِ التَّخْمِيرِ فَعَدَّيْنَاهُ إلَى النَّبِيذِ وَكَذَا قال ابن الْحَاجِبِ إنَّ الْخِلَافَ لَا يَجْرِي فِيمَا ثَبَتَ بِالِاسْتِقْرَاءِ كَرَفْعِ الْفَاعِلِ لَكِنَّ الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبَ قال ما طَرِيقُ اللُّغَةِ من اسْمٍ أو إعْرَابٍ هل يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إلَى ثُبُوتِهِ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ وَبِهِ قال أَصْحَابُ أبي حَنِيفَةَ وَكَثِيرٌ من الْمُتَكَلِّمِينَ ا هـ وَجَعَلَ في الْإِرْشَادِ مَحَلَّ الْخِلَافِ ما إذَا أُرِيدَ إلْحَاقُ الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ بِقِيَاسٍ لُغَوِيٍّ أو الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ بِقِيَاسٍ شَرْعِيٍّ قال فَإِنْ أُرِيدَ إلْحَاقُهُ بِهِ بِقِيَاسٍ شَرْعِيٍّ لم يَجُزْ قَطْعًا لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ اللُّغَوِيَّةَ سَابِقَةٌ على الشَّرْعِ فلم يَصِحَّ إثْبَاتُهَا بِعِلَلٍ شَرْعِيَّةٍ حَكَاهُ بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ
____________________
(1/410)
وقال ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ يَمْتَنِعُ إثْبَاتُ الِاسْمِ اللُّغَوِيِّ بِقِيَاسٍ شَرْعِيٍّ مِثْلُ أَنْ يَثْبُتَ فِيمَنْ وَطِئَ الْغُلَامَ أَنَّهُ يُسَمَّى زِنًى لِأَنَّهُ وَطِئَ في فَرْجٍ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ اللُّغَوِيَّةَ سَابِقَةٌ لِلشَّرْعِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ وَإِنَّمَا الِاسْمُ الشَّرْعِيُّ يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِقِيَاسٍ شَرْعِيٍّ مِثْلُ تَسْمِيَةِ هذه الْأَفْعَالِ الشَّرْعِيَّةِ صَلَاةٌ وقال الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ تَحْرِيرُ النِّزَاعِ أَنَّ صِيَغَ التَّصَارِيفِ على الْقِيَاسِ ثَابِتٌ في كل مَصْدَرٍ نُقِلَ بِالِاتِّفَاقِ إذْ هو في حُكْمِ الْمَنْقُولِ وَتَبْدِيلُ الْعِبَارَاتِ مُمْتَنِعٌ بِالِاتِّفَاقِ كَتَسْمِيَةِ الْفَرَسِ دَارًا وَالدَّارِ فَرَسًا وَمَحَلُّ النِّزَاعِ في الْقِيَاسِ على عِبَارَةٍ تُشِيرُ إلَى الْمَعْنَى وهو حَائِدٌ عن نَهْجِ الْقِيَاسِ كَقَوْلِهِمْ لِلْخَمْرِ خَمْرٌ لِأَنَّهُ يُخَامِرُ الْعَقْلَ فَهَلْ يُقَاسُ عليه سَائِرُ الْمُسْكِرَاتِ جَوَّزَهُ الْأُسْتَاذُ وَالْمُخْتَارُ مَنْعُهُ وهو مَذْهَبُ الْقَاضِي ا هـ وقال الصَّيْرَفِيُّ الْقِيَاسُ لَا يَكُونُ إلَّا على عِلَّةٍ وَالْأَسْمَاءُ لَا قِيَاسَ لها وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ كَالْحَدِّ لِلشَّيْءِ وَالْعِلْمِ عليه وَالْحَاصِلُ أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ في كل مَحَلٍّ يَصْلُحُ الْجَرْيُ فيه على مُقْتَضَى الِاشْتِقَاقِ ولم يَظْهَرْ من أَهْلِ اللُّغَةِ فيه قَصْدُ الْقَصْرِ أو التَّعَدِّيَةِ كَتَسْمِيَةِ عَصِيرِ الْعِنَبِ خَمْرًا من الْمُخَامَرَةِ أو التَّخْمِيرِ وقال صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ أَجْمَعُوا على أَنَّ إثْبَاتَ الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ بِالْقِيَاسِ اللُّغَوِيِّ جَائِزٌ إذَا كان الِاسْمُ اسْمَ مَعْنًى وكان الْقِيَاسُ مَأْذُونًا فيه من أَهْلِ اللُّغَةِ كَالِاشْتِقَاقِ أَمَّا هل يَجُوزُ إثْبَاتُ الْأَسْمَاءِ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ أو لَا وَالْجُمْهُورُ على أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَذَهَبَ ابن سُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ إلَى الْجَوَازِ فَأَثْبَتُوا لِنَبِيذِ التَّمْرِ اسْمَ الْخَمْرِ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ ثُمَّ أَوْجَبُوا الْحَدَّ بِشُرْبِهِ وَأَثْبَتُوا لِفِعْلِ اللِّوَاطِ اسْمَ الزِّنَى بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ ثُمَّ أَوْجَبُوا حَدَّ الزِّنَى فِيهِمَا بِالنَّصِّ وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اخْتِرَاعُ أَلْفَاظٍ مُبْتَكَرَةٍ بِالْقِيَاسِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ بَعْدَ حِكَايَةِ الْخِلَافِ وَاتَّفَقُوا على أَنَّ ما حَدَثَ بَعْدَهُمْ مِمَّا لم يَضَعُوا له اسْمًا ولم يَكُنْ عِنْدَهُمْ فلم يَعْرِفُوهُ في وَقْتِهِمْ فَلَنَا أَنْ نُسَمِّيَهُ قال وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في كَيْفِيَّتِهِ فقال من جَوَّزَ أَخْذَ الْأَسَامِي قِيَاسًا إنَّا نَقِيسُ ما لم نَعْرِفْهُ فَنَعْزِيهِ إلَى ما يُشْبِهُ فَيَكُونُ ذلك على لِسَانِ الْعَرَبِ بِأَصْلِهَا وقال من امْتَنَعَ منه إنَّا نُسَمِّيهِ بِمَا شِئْنَا لِلْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ وَلَا يَكُونُ ذلك من لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنَّهُ كما يُعَرَّبُ من كَلَامِ الْفَرَسِ لِلْحَاجَةِ
____________________
(1/411)
تَنْبِيهَانِ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ الْقِيَاسُ في الْمَجَازِ الْخِلَافُ في الْقِيَاسِ في اللُّغَةِ كما يَجْرِي في الْحَقِيقَةِ في الْمَجَازِ أَيْضًا وَأَشَارَ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ إلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ في الْمَجَازِ بِلَا خِلَافٍ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَنْعَ في الْقِيَاسِ في الْمَجَازِ لَا يُوقِعُ في ضَرُورَةٍ لِبَقَاءِ اسْمِ الْحَقِيقَةِ وَلَوْ مَنَعْنَا الْقِيَاسَ في الْحَقِيقَةِ بَقِيَتْ بِغَيْرِ اسْمٍ وقد يُحْتَاجُ إلَى التَّعْبِيرِ عنها فَيُوقِعُ مَنْعُ الْقِيَاسِ في ضَرَرٍ قال الْمَازِرِيُّ هذا إنَّمَا يَتِمُّ له في ذَاتٍ لَا اسْمٍ لها أَصْلًا في لِسَانِ الْعَرَبِ الْمَجَازُ أَخْفَضُ رُتْبَةً من الْحَقِيقَةِ وَالثَّانِي أَنَّ الْمَجَازَ أَخْفَضُ رُتْبَةً من الْحَقِيقَةِ فَيَجِبُ تَمْيِيزُ الْحَقِيقَةِ عليه وقد مَنَعَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الْقِيَاسَ في الْمَجَازِ قال فَلَا يُقَالُ سَأَلْت الثَّوْبَ قِيَاسًا على قَوْلِهِمْ سَأَلْت الرَّبْعَ وقال أبو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ في مَسْأَلَةِ التَّرْتِيبِ من خِلَافِهِ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ على أَنَّ الْمَجَازَ لَا يُقَاسُ عليه في مَوْضِعِ الْقِيَاسِ التَّنْبِيهُ الثَّانِي قِيلَ هذا الْخِلَافُ في نَفْسِ اللُّغَةِ أَمَّا حُكْمُهَا فَلَا خِلَافَ فيه كَقِيَاسِ النَّحْوِيِّ إنَّ النَّافِيَةِ في الْعَمَلِ على ما النَّافِيَةِ بِجَامِعِ كَوْنِهِمَا وَضْعًا على حَرْفَيْنِ كَنَفْيِ الْحَالِ وَهَذَا عَجِيبٌ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ في اللُّغَةِ وَهِيَ غَيْرُ النَّحْوِ وَكَيْفَ لَا يَثْبُتُ النَّحْوَ بِالْقِيَاسِ وهو الْعِلْمُ بِمَقَايِيسِ كَلَامِ الْعَرَبِ قال ابن خَرُوفٍ لَمَّا كان كَلَامُ الْعَرَبِ لَا يُضْبَطُ بِالْحِفْظِ انْتَدَبَ له الْأَئِمَّةُ وَوَضَعُوا له قَوَانِينَ يُعْلَمُ بها كَلَامُهُمْ فَصَارَ النَّوْعُ الذي يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ هو الذي يُسَمَّى بِالنَّحْوِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالنَّوْعُ الذي لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ هو اللُّغَةُ وَيَسْتَوِي في حَمْلِهِ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ لِأَنَّهُ قَيْدُ اللَّفْظِ وَلِذَلِكَ قال ابن جِنِّي في الْخَصَائِصِ قال لي أبو عَلِيٍّ وَلِأَنَّ مَسْأَلَةً وَاحِدَةً من الْقِيَاسِ أَنْبَهُ وَأَنْبَلُ من كِتَابِ لُغَةٍ عِنْدَ عُيُونِ الناس وقال لي أَيْضًا أَخْطَأُ في خَمْسِينَ مَسْأَلَةً من اللُّغَةِ وَلَا أَخْطَأُ في وَاحِدَةٍ من الْقِيَاسِ قال ابن جِنِّي وَصَدَقَ
____________________
(1/412)
لِأَنَّهُ بِالْقِيَاسِ ضُبِطَ كَلَامُهُمْ وَجَمَعُوا الْكَثِيرَ الذي لَا يَضْبِطُهُ الْحِفْظُ الْقَلِيلُ بِالْقِيَاسِ وَاسْتَغْنَوْا بِهِ عن حِفْظِ ما لَا يَنْحَصِرُ إذْ فَاتَهُمْ الْأَصْلُ عن الْعَرَبِ ا هـ مَسْأَلَةٌ تَغْيِيرُ الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ حَكَى بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ من شَارِحِي الْبُرْهَانِ أَنَّ الناس اخْتَلَفُوا في أَنَّ الْأَلْفَاظَ اللُّغَوِيَّةَ هل يَجُوزُ تَغْيِيرُهَا حتى يُسَمَّى الثَّوْبُ دَارًا مَثَلًا قال فَاَلَّذِي أَجْمَعَ عليه الْعُلَمَاءُ أَنَّ ما تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ من الْأَلْفَاظِ لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ إذْ يُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ الْحُكْمِ وما لم يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ فَإِنْ كان تَوْقِيفِيًّا فَمِنْ الناس من يقول لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ وكان التَّوْقِيفُ حُكْمًا وَمِنْهُمْ من جَوَّزَ التَّغْيِيرَ وقال إمْكَانُ الْحُكْمِ ليس بِحُكْمٍ وَإِنَّمَا الْحُكْمُ بِالْخِطَابِ وَالْعِلْمِ بِهِ عِنْدَ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ وقد سَبَقَتْ هذه الْمَسْأَلَةُ في فَوَائِدِ الْخِلَافِ في أَنَّ اللُّغَاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ أَمْ لَا مَسْأَلَةٌ ثُبُوتُ الِاسْمِ الشَّرْعِيِّ بِالِاجْتِهَادِ هذا في الِاسْمِ اللُّغَوِيِّ فَأَمَّا في الِاسْمِ الشَّرْعِيِّ فَكَمَا يَثْبُتُ بِالتَّوْقِيفِ يَثْبُتُ بِالِاجْتِهَادِ لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ تَبِعَهُ الِاسْمُ كما أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ الرِّبَا في الْأَعْيَانِ السِّتَّةِ ثُمَّ أَلْحَقَ الْعُلَمَاءُ غَيْرَهَا بها بِالِاجْتِهَادِ وَثَبَتَ بِذَلِكَ اسْمُ الرِّبَا قَالَهُ الْمَحَامِلِيُّ من أَصْحَابِنَا في كِتَابِ السَّلَمِ من كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْأَوْسَطِ الْمُنَاسَبَةُ في الْوَضْعِ الثَّامِنُ في عَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ في الْوَضْعِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ على الْمَعْنَى لَيْسَتْ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا بَلْ لِأَنَّهُ جُعِلَ عَلَامَةً عليه وَمُعَرَّفًا بِهِ بِطَرِيقِ الْوَضْعِ وَذَهَبَ عَبَّادُ بن سُلَيْمَانَ الصَّيْمَرِيُّ وَغَيْرُهُ إلَى أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ على الْمَعْنَى لِمُنَاسَبَةٍ طَبِيعِيَّةٍ بَيْنَهُمَا وَعَبَّرَ ابن الْجُوَيْنِيِّ عن هذا الِاخْتِلَافِ بِأَنَّ اللُّغَاتِ الْمَوْضُوعَةَ لِمَعَانِيهَا هل هو لِأَمْرٍ مَعْقُولٍ أو لَا وَالْأَوَّلُ قَوْلُ عَبَّادٍ ثُمَّ نَقَلَ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ عنه أَنَّ اللَّفْظَ يُفِيدُ الْمَعْنَى بِذَاتِهِ من غَيْرِ وَاضِعٍ لِمَا بَيْنَهُمَا من الْمُنَاسَبَةِ الطَّبِيعِيَّةِ قال الْأَصْفَهَانِيُّ وهو الصَّحِيحُ عنه وَنَقَلَ صَاحِبُ الْأَحْكَامِ عنه أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ حَامِلَةٌ لِلْوَاضِعِ على أَنْ يَضَعَ
____________________
(1/413)
وَفَصَّلَ الزَّجَّاجِيُّ بين أَسْمَاءِ الْأَلْقَابِ وَغَيْرِهَا فقال وَاضِعُ اللُّغَةِ أَجْرَى اللَّفْظَ على مُسَمَّيَاتِهَا لَمَعَانٍ تَتَضَمَّنَهَا أَسْمَاءُ الْأَلْقَابِ فإن قَوْلَنَا زَيْدٌ وَإِنْ كان مَأْخُوذًا من الزِّيَادَةِ فَلَيْسَ بِجَارٍ على مُسَمَّاهَا لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَيْسَ فيه إلَّا تَعْرِيفُ شَخْصٍ من شَخْصٍ حَكَاهُ عنه الْوَاحِدِيُّ في الْبَسِيطِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَهَذَا الْمَذْهَبُ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ لو لم تَدُلَّ بِالْوَضْعِ وَإِنَّمَا دَلَّتْ بِذَوَاتِهَا لَكَانَتْ كَالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ فَلَا تَخْتَلِفُ بِالْأَعْصَارِ وَالْأُمَمِ وَالِاخْتِلَافُ مَوْجُودٌ وَأَيْضًا لو كان كما قال لَاشْتَرَكَ فيه الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ لِاشْتِرَاكِهِمَا في الْعَقْلِ وَأَيْضًا فَإِنَّا نَقْطَعُ بِصِحَّةِ وَضْعِ اللَّفْظِ لِلشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ وَضِدِّهِ وَنَقْطَعُ بِوُقُوعِ اللَّفْظِ على الشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ كَالْقُرْءِ الْوَاقِعِ على الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْجَوْرِ الْوَاقِعِ على الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ فَلَوْ كانت الدَّلَالَةُ لِمُنَاسَبَةٍ لَزِمَ أَنْ يُنَاسِبَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ النَّقِيضَيْنِ وَالضِّدَّيْنِ بِالطَّبْعِ وهو مُحَالٌ فَلَا يَصِحُّ وَضْعُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ لَهُمَا على هذا التَّقْدِيرِ وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ لِأَنَّا نَقْطَعُ بِصِحَّةِ وَضْعِهِ لَهُمَا بَلْ بِوُقُوعِهِ قال السَّكَّاكِيُّ هذا الْمَذْهَبُ مُتَأَوَّلٌ على أَنَّ لِلْحُرُوفِ خَوَاصَّ تُنَاسِبُ مَعْنَاهَا من شِدَّةٍ وَضَعْفٍ وَغَيْرِهِ كَالْجَهْرِ وَالْهَمْسِ وَالْمُتَوَسِّطِ بَيْنَهُمَا إلَى غَيْرِ ذلك وَتِلْكَ الْخَوَاصُّ تَسْتَدْعِي على أَنَّ الْعَالِمَ بها إذَا أَخَذَ في تَعْيِينِ شَيْءٍ منها لِمَعْنًى لَا يُهْمِلُ التَّنَاسُبَ بَيْنَهُمَا قَضَاءً لِحَقِّ الْكَلِمِ كما تَرَى في الْفَصْمِ بِالْفَاءِ الذي هو حَرْفٌ رِخْوٌ لِكَسْرِ الشَّيْءِ من غَيْرِ أَنْ يَبِينَ وَالْقَصْمُ بِالْقَافِ الذي هو حَرْفٌ شَدِيدٌ لِكَسْرِ الشَّيْءِ حتى يَبِينَ وفي الزَّفِيرِ لِصَوْتِ الْحِمَارِ وَالزَّئِيرِ بِالْهَمْزِ الذي هو شَدِيدٌ لِصَوْتِ الْأَسَدِ وَأَنَّ الْمُرَكَّبَاتِ كَالْفَعَلَانِ والفعلى بِالتَّحْرِيكِ كَالنَّزَوَانِ وَالْحَيَدَى وفعل بِضَمِّ الْعَيْنِ كَطَرُفَ وَشَرُفَ وَغَيْرِ ذلك خَوَاصٌّ أَيْضًا فَيَلْزَمُ فيها ما يَلْزَمُ في الْحُرُوفِ من اخْتِصَاصِ بَعْضِ الْمُرَكَّبَاتِ بِبَعْضِ الْمَعَانِي دُونَ بَعْضٍ كَاخْتِصَاصِ الْفَعَلَانِ والفعلى بِالْمُتَحَرِّكَاتِ وَاخْتِصَاصِ فَعُلَ بِأَفْعَالِ الطَّبَائِعِ وفي أَنَّ لِلْحُرُوفِ وَالْمُرَكَّبَاتِ خَوَاصَّ نَوْعُ تَأْثِيرٍ لَا نَفْسُ الْكَلِمَةِ في اخْتِصَاصِهَا بِالْمَعَانِي هذا حَاصِلُ تَأْوِيلِهِ وَالْحَقُّ أَنَّ هذا الْقَائِلَ إنْ أَرَادَ أَنَّ هذه الْأَلْفَاظَ عِلَّةٌ مُقْتَضِيَةٌ لِذَاتِهَا هذه الْمَعَانِي فَخَارِقٌ لِلْإِجْمَاعِ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ بين وَضْعِ الْأَلْفَاظِ وَمَعَانِيهَا تَنَاسُبًا من وَجْهٍ ما لِأَجْلِهَا حتى جَعَلَ هذه الْحُرُوفَ دَالَّةً على الْمَعْنَى دُونَ غَيْرِهِ كما يقول الْمُعَلِّلُونَ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إنَّ بين عِلَلِهَا وَأَحْكَامِهَا مُنَاسَبَاتٌ وَإِنْ لم تَكُنْ مُوجِبَةً لها وهو الظَّاهِرُ من كَلَامِهِ فَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ من أَرْبَابِ عِلْمِ الْحُرُوفِ إذْ زَعَمُوا أَنَّ لِلْحُرُوفِ طَبَائِعَ في
____________________
(1/414)
طَبَقَاتٍ من حَرَارَةٍ وَبُرُودَةٍ وَرُطُوبَةٍ وَيُبُوسَةٍ تُنَاسِبُ أَنْ يُوضَعَ لِكُلِّ مُسَمًّى ما يُنَاسِبُهُ من طَبِيعَةِ تِلْكَ الْحُرُوفِ لِيُطَابِقَ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ وَكَذَلِكَ يَزْعُمُ الْمُنَجِّمُونَ أَنَّ حُرُوفَ اسْمِ الشَّخْصِ مع اسْمِ أُمِّهِ وَاسْمِ أبيه تَدُلُّ على أَحْوَالِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ لِمَا بَيْنَهُمَا من الْمُنَاسَبَةِ فَإِنْ عَنَى عَبَّادٌ هذا فَالْبَحْثُ معه وَمَعَ هَؤُلَاءِ وَالرَّدُّ عليه بِمَا يَرُدُّ مَذْهَبَ الطَّبَائِعِيِّينَ في عِلْمِ الْكَلَامِ وَلَا يَنْفَعُ ما رَدُّوا بِهِ من وَضْعِ اللَّفْظِ لِلضِّدَّيْنِ لِأَنَّهَا مَسْأَلَةُ خِلَافٍ كما سَيَأْتِي وقال ابن الْحُوبِيِّ هل لِلْحُرُوفِ في الْكَلِمَاتِ خَوَاصٌّ أو وُضِعَتْ الْكَلِمَاتُ لِمَعَانِيهَا اتِّفَاقًا فَوُضِعَ الْبَابُ لِمَعْنًى وَالنَّابُ لِآخَرَ وكان من الْجَائِزِ وَضْعُ الْبَابِ لِمَعْنَى النَّابِ وَبِالْعَكْسِ فَنَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا تُعَلَّلُ وَلَا يُقَالُ لِمَ قِيلَ لِهَذَا الْمَعْنَى بَابٌ وَلِذَلِكَ جِدَارٌ قال وَلَا شَكَّ أَنَّ من الْحُرُوفِ ما هو مُسْتَحْسَنٌ وَمِنْهُ ما ليس كَذَلِكَ فَالْمُسْتَحْسَنُ إذَا ضُمَّ إلَيْهِ مُسْتَقْبَحٌ لم يَكُنْ مُنَاسِبًا غير أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ من كل لَفْظٍ وَمَعْنَاهُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُمْكِنُ وَتَفْوِيتٌ لِلزَّمَانِ فَإِنْ اُتُّفِقَ في بَعْضِهَا أَنْ وَقَعَ في الذِّهْنِ شَيْءٌ من غَيْرِ تَفَكُّرٍ قِيلَ بِهِ كما يقول في الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ كَيْفَ جُعِلَ في الشِّدَّةِ الْحَرْفُ الشَّدِيدُ وهو الدَّالُ مُضَاعَفًا وَالرَّخَاءُ كَيْفَ جِيءَ فيه بِالْحُرُوفِ الرِّخْوَةِ قال وَهَذَا يَنْبَنِي على مَسْأَلَةٍ حُكْمِيَّةٍ وَهِيَ أَنَّ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ هل يُشْتَرَطُ في اخْتِيَارِهِ أَحَدُ الرَّافِعِينَ بِحَاجَتِهِ وُجُودُ مُرَجِّحٍ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فَالْجَائِعُ يَكُونُ أَكْلُهُ لِعِلَّةِ الشِّبَعِ أَمَّا اخْتِيَارُهُ أَحَدَ الرَّغِيفَيْنِ لِشِبَعِهِ بَدَلًا عن الْآخَرِ لَا يَكُونُ لِعِلَّةٍ فَالْوَضْعُ لِحِكْمَةٍ وَإِنَّمَا وُضِعَ الْبَابُ بِخُصُوصِهِ لِمَعْنَاهُ فَلَا سَبَبَ له قُلْت وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ من فَوَائِدِ الْخِلَافِ ما إذَا تَعَارَضَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ وَالْعُرْفِ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ اعْتِبَارُ الْعُرْفِ وَوَجَّهَهُ الْإِمَامُ بِأَنَّ الْعِبَارَاتِ لَا تُغْنِي لِأَعْيَانِهَا وَهِيَ في الْحَقِيقَةِ أَمَارَاتٌ مَنْصُوبَةٌ على الْمَعَانِي الْمَطْلُوبَةِ
____________________
(1/415)
تقسيم الألفاظ تقسيم الدلالة الْأَوَّلُ في تَقْسِيمِ الدَّلَالَةِ وقد اُخْتُلِفَ فيها فَالصَّحِيحُ أنها كَوْنُ اللَّفْظِ بِحَيْثُ إذَا أُطْلِقَ فَهِمَ منه الْمَعْنَى من كان عَالِمًا بِوَضْعِهِ له وقال ابن سِينَا إنَّهَا نَفْسُ الْفَهْمِ وَرُدَّ بِأَنَّ الدَّلَالَةَ نِسْبَةٌ مَخْصُوصَةٌ بين اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَمَعْنَاهَا مُوجِبِيَّتُهُ تَخَيُّلَ اللَّفْظِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى وَلِهَذَا يَصِحُّ تَعْلِيلُ فَهْمِ الْمَعْنَى من اللَّفْظِ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عليه وَالْعِلَّةُ غَيْرُ الْمَعْلُولِ فإذا كانت الدَّلَالَةُ غير فَهْمِ الْمَعْنَى من اللَّفْظِ لم يَجُزْ تَفْسِيرُهَا بِهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّعْلِيلَ قد يَكُونُ مع الِاتِّحَادِ كما في كل حَدٍّ مع مَحْدُودِهِ نحو هذا إنْسَانٌ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ وَرَجَّحَ آخَرُونَ التَّفْسِيرَ الثَّانِيَ بِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا دَارَ بين مُخَاطَبَيْنِ وَحَصَلَ فَهْمُ السَّامِعِ منه قِيلَ هو لَفْظُ ذلك وَإِنْ لم يَحْصُلْ قِيلَ ليس بِذَلِكَ فَقَدْ دَارَ لَفْظُ الدَّلَالَةِ مع الْفَهْمِ وُجُودًا وَعَدَمًا فَدَلَّ على أَنَّهُ مُسَمَّى الدَّلَالَةِ وَيَتَلَخَّصُ من هذا الْخِلَافِ خِلَافٌ آخَرُ في أَنَّ الدَّلَالَةَ صِفَةٌ لِلسَّامِعِ أو اللَّفْظِ وَالصَّحِيحُ الثَّانِي وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ ابْنِ سِينَا على أَنَّ مُرَادَهُ بِالْفَهْمِ الْإِفْهَامُ وَلَا يَبْقَى خِلَافٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْفَهْمَ صِفَةُ السَّامِعِ وَالْإِفْهَامُ صِفَةُ الْمُتَكَلِّمِ أو صِفَةُ اللَّفْظِ على سَبِيلِ الْمَجَازِ وَهَذِهِ دَلَالَةٌ بِالْقُوَّةِ أَمَّا الدَّلَالَةُ بِالْفِعْلِ فَهِيَ إفَادَتُهُ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعَ له وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ فيه شُرُوطًا ثَلَاثَةً أَنْ لَا يَبْتَدِئَهُ بِمَا يُخَالِفُهُ وَلَا يَخْتِمَهُ بِمَا يُخَالِفُهُ وَأَنْ يَصْدُرَ عن قَصْدٍ فَلَا اعْتِبَارَ بِكَلَامِ السَّاهِي النَّائِمِ وَالْقَصْدُ من هذا أَنْ يُجْعَلَ سُكُوتُ الْمُتَكَلِّمِ على كَلَامِهِ كَالْجُزْءِ من اللَّفْظِ وَيُلْتَحَقُ بِالْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ وَهِيَ على الْقَوْلَيْنِ غَيْرُ الدَّلَالَةِ بِاللَّفْظِ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ بِاللَّفْظِ هِيَ الِاسْتِدْلَال بِهِ هو اسْتِعْمَالُهُ في الْمَعْنَى الْمُرَادِ فَهُوَ صِفَةُ الْمُتَكَلِّمِ وَالدَّلَالَةُ صِفَةُ اللَّفْظِ أو السَّامِعِ وقد أَطْنَبَ الْقَرَافِيُّ في الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِمَا حَاصِلُهُ هذا وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلَى لَفْظِيَّةٍ وَغَيْرِ لَفْظِيَّةٍ وَالثَّانِيَةُ قد تَكُونُ وَضْعِيَّةً كَدَلَالَةِ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ على وُجُودِ الشَّرْطِ وَعَقْلِيَّةً كَدَلَالَةِ الْأَثَرِ على الْمُؤَثِّرِ كَدَلَالَةِ الدُّخَانِ على النَّارِ
____________________
(1/416)
وَبِالْعَكْسِ دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ وَالتَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ وَالْأَوَّلُ أَعْنِي اللَّفْظِيَّةَ تَنْقَسِمُ إلَى عَقْلِيَّةٍ كَدَلَالَةِ الصَّوْتِ على حَيَاةِ صَاحِبِهِ وَطَبِيعِيَّةٍ كَدَلَالَةِ أَحْ على وَجَعٍ في الصَّدْرِ وَوَضْعِيَّةٍ وَتَنْحَصِرُ في ثَلَاثَةٍ الْمُطَابَقَةُ وَالتَّضَمُّنُ وَالِالْتِزَامُ لِأَنَّ اللَّفْظَ إمَّا أَنْ يَدُلَّ على تَمَامِ ما وُضِعَ له أَوَّلًا وَالْأَوَّلُ الْمُطَابَقَةُ كَدَلَالَةِ الْإِنْسَانِ على الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَكُونَ جُزْءَ مُسَمَّاهُ أو لَا وَالْأَوَّلُ دَلَالَةُ التَّضَمُّنِ كَدَلَالَةِ الْإِنْسَانِ على الْحَيَوَانِ وَحْدَهُ أو النَّاطِقِ وَحْدَهُ وَكَدَلَالَةِ النَّوْعِ على الْجِنْسِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عن مُسَمَّاهُ وَهِيَ دَلَالَةُ الِالْتِزَامِ له كَدَلَالَتِهِ على الْكَاتِبِ أو الضَّاحِكِ وَدَلَالَةِ الْفَصْلِ على الْجِنْسِ وَبِهَذَا التَّقْسِيمِ تَعَرَّفَ حَدُّ كل وَاحِدٍ منها وقد اجْتَمَعَتْ الدَّلَالَةُ في لَفْظِ الْعَشَرَةِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ على كَمَالِ الْأَفْرَادِ مُطَابِقَةً على الْخَمْسَةِ تَضَمُّنًا وَعَلَى الزَّوْجِيَّةِ الْتِزَامًا وَالدَّلِيلُ على الْحَصْرِ أَنَّ الْمَعْنَى من دَلَالَةِ اللَّفْظِ على الْمَعْنَى عِنْدَ سَمَاعِهِ إمَّا وَحْدَهُ كما في الْمُطَابَقَةِ وَإِمَّا مع الْقَرِينَةِ كما في التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ فَلَوْ فُهِمَ منه مَعْنًى عِنْدَ سَمَاعِهِ ليس هو مَوْضُوعُهُ وَلَا جُزْءُ مَوْضُوعِهِ وَلَا لَازِمُهُ لَزِمَ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ على الْآخَرِ من غَيْرِ مُرَجِّحٍ لِأَنَّ نِسْبَةَ ذلك اللَّفْظِ إلَى ذلك الْمَعْنَى كَنِسْبَتِهِ إلَى سَائِرِ الْمَعَانِي فَفَهْمُهُ دُونَ سَائِرِ الْمَعَانِي تَرْجِيحٌ من غَيْرِ مُرَجِّحٍ وَهُنَا تَنْبِيهَاتٌ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْإِمَامَ فَخْرَ الدِّينِ قَيَّدَ دَلَالَةَ التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ بِقَوْلِهِ من حَيْثُ هو كَذَلِكَ وَاحْتَرَزَ بِهِ عن دَلَالَةِ اللَّفْظِ على الْجُزْءِ أو اللَّازِمِ بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ إذَا كان اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا بين الْكُلِّ وَالْجُزْءِ أو بين الْكُلِّ وَاللَّازِمِ وَيُمَثِّلُونَهُ بِلَفْظِ الْإِمْكَانِ فإنه مَوْضُوعٌ لِلْإِمْكَانِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَالْعَامُّ جُزْءُ الْخَاصِّ كما تَقَرَّرَ في الْمَنْطِقِ من أَنَّ الْمُمْكِنَ الْعَامَّ في مُقَابَلَةِ الْمُمْتَنِعِ فَلِذَلِكَ يُطْلَقُ على الْوَاجِبِ وَعَلَى ما ليس بِمُمْتَنِعٍ وَلَا وَاجِبٍ الذي هو الْمُمْكِنُ الْخَاصُّ فَهُوَ حِينَئِذٍ مَوْضُوعٌ لِلْكُلِّ وَالْجُزْءِ قال بَعْضُ الْفُضَلَاءِ وفي النَّفْسِ من هذا التَّمْثِيلِ شَيْءٌ فَلَعَلَّهُ ما وُضِعَ لِذَلِكَ
____________________
(1/417)
بَلْ مَجْمُوعُ قَوْلِنَا إمْكَانُ عَامٍّ لَا أَحَدُهُمَا وَمَجْمُوعُ قَوْلِنَا إمْكَانُ خَاصٍّ لَا قَوْلِنَا إمْكَانٌ فَقَطْ فَلَا اشْتِرَاكَ حِينَئِذٍ قال وَأَخَذَ التَّمْثِيلَ بِأَحْسَنَ من ذلك بِلَفْظِ الْحَرْفِ فإنه مَوْضُوعٌ لِكُلِّ حُرُوفِ الْمَعَانِي وَلِجُزْئِهِ فإن لَيْتَ مَثَلًا حَرْفٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ من اللَّامِ وَالْيَاءِ التَّاءِ يُقَالُ له حَرْفٌ فَهَذَا هو اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ بين الْمُسَمَّى وَجُزْئِهِ وَأَمَّا الْمُشْتَرَكُ بين اللَّفْظِ وَلَازِمِهِ فَهُوَ عَسِرٌ مع إمْكَانِهِ انْتَهَى وَيُمْكِنُ أَنْ يُمَثَّلَ له بِلَفْظِ مَفْعَلُ فإن أَهْلَ اللُّغَةِ نَقَلُوا أَنَّهُ اسْمٌ لِلزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْمَصْدَرِ وَهِيَ مُتَلَازِمَةٌ عَادَةً فَيَكُونُ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِلشَّيْءِ وَلَازِمِهِ إذْ لَا فِعْلَ إلَّا في زَمَانٍ أو مَكَان عَادَةً وَمِثْلُهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ بِفَعِيلٍ الْمُشْتَرَكِ بين الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ كَالرَّحِيمِ فإنه يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَرْحُومِ كما يَكُونُ بِمَعْنَى الرَّاحِمِ نَصَّ عليه الْجَوْهَرِيُّ هو إذَا دَلَّ على أَحَدِهِمَا بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ دَلَّ على الْآخَرِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ لِكَوْنِهِ لَازِمًا له وهو أَيْضًا تَمَامُ مُسَمَّاهُ فَلَوْ لم يَقُلْ من حَيْثُ هو كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ دَلَالَةُ الِالْتِزَامِ دَلَالَةَ الْمُطَابَقَةِ فلم يَكُنْ التَّعْرِيفُ مَانِعًا إذَا عُرِفَ هذا فَقَدْ أَوْرَدَ على الْقَيْدِ الذي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَعْتَبِرَهُ أَيْضًا في الْمُطَابَقَةِ احْتِرَازًا عن دَلَالَةِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ بين الْكُلِّ وَالْجُزْءِ وَبَيْنَ الْكُلِّ وَاللَّازِمِ على الْجُزْءِ أو اللَّازِمِ بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ أو الِالْتِزَامِ فإن كُلَّ وَاحِدَةٍ من هَاتَيْنِ الدَّلَالَتَيْنِ حِينَئِذٍ دَلَالَةٌ على تَمَامِ الْمُسَمَّى وَلَيْسَتْ مُطَابَقَةً وقال الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ إنَّمَا لم يَذْكُرْهُ فيها لِأَنَّ دَلَالَةَ التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُمَا إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمُطَابِقَةِ لِكَوْنِهِمَا تَابِعَيْنِ لها فَلَوْ جُعِلَ الْقَيْدُ الْمَذْكُورُ جُزْءًا من مَعْرِفَةِ الْمُطَابَقَةِ لِلِاحْتِرَازِ عنها لَزِمَ أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ قبل الْمُطَابَقَةِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَعْلُومًا قبل كَوْنِهِ مَعْلُومًا وهو مُحَالٌ قال وَلَا يَخْفَى عَلَيْك ما فيه وَبَعْضُهُمْ حَذَفَ الْقَيْدَ الْمَذْكُورَ في الثَّلَاثِ اعْتِبَارًا بِقَرِينَةِ ذِكْرِ التَّمَامِ وَالْجُزْءِ وَاللَّازِمِ وَصَاحِبُ التَّحْصِيلِ ذَكَرَهُ في الثَّلَاثِ قال الْقَرَافِيُّ وهو قَيْدٌ لم يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَ الْإِمَامَ وَإِنَّمَا اكْتَفَى الْمُتَقَدِّمُونَ بِقَرِينَةِ التَّمَامِيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ وَاللَّازِمِيَّةِ فَيُقَالُ لِلْإِمَامِ إنْ كانت هذه الْقَرَائِنُ كَافِيَةً فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقَيْدِ وَإِلَّا فَيَلْزَمُ الِاحْتِيَاجُ إلَيْهِ في الثَّلَاثِ فما وَجْهُ تَخْصِيصِ التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ فَإِنَّا نَقُولُ في الْمُطَابَقَةِ كما يُمْكِنُ وَضْعُ الْعَشَرَةِ لِلْخَمْسَةِ يُمْكِنُ وَضْعُهَا لِلْخَمْسَةِ عَشَرَ فَيَصِيرُ له على جَمِيعِ ذلك دَلَالَتَانِ مُطَابِقَةٌ بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ وَتَضَمُّنٌ
____________________
(1/418)
بِاعْتِبَارِ الثَّانِي انْتَهَى وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَدَّ ما اُعْتُرِضَ بِهِ على الْإِمَامِ فإنه يَرَى أَنْ لَا يُمْكِنَ أَنْ يَدُلَّ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ على الْمَعْنَى الْوَاحِدِ بِالْمُطَابَقَةِ مع التَّضَمُّنِ أو الِالْتِزَامِ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ على الْمَعْنَى بِالْمُطَابَقَةِ بِالذَّاتِ وَبِهِمَا بِالْوَاسِطَةِ وَمِنْ الْمُحَالِ اجْتِمَاعُ دَلَالَتَيْ الذَّاتِ وَالْوَاسِطَةِ وإذا لم يَجْتَمِعَا كان اللَّفْظُ في حَالِ الِاشْتِرَاكِ بين الْكُلِّ وَالْجُزْءِ دَلَالَةً وَاحِدَةً وَهِيَ الْمُطَابَقَةُ لِأَنَّهَا أَقْوَى فَتَدْفَعُ الْأَضْعَفَ وإذا صَحَّتْ لَك هذه الْقَاعِدَةُ صَحَّ ما قَالَهُ ولم يَحْتَجْ أَنْ يَذْكُرَ الْقَيْدُ بِالْحَيْثِيَّةِ في دَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ لِأَنَّهُ في صُورَةِ الِاشْتِرَاكِ بين الْكُلِّ وَالْجُزْءِ وَلَيْسَ لِلَّفْظِ إلَّا دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ فَقَطْ لَا التَّضَمُّنُ وَالِالْتِزَامُ فلم يَحْتَجْ أَنْ يَحْتَرِزَ عنه بِقَوْلِهِ من حَيْثُ هو كَذَلِكَ وَأَمَّا في دَلَالَةِ التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ فَاحْتَاجَ إلَى ذِكْرِ الْحَيْثِيَّةِ وَإِلَّا كان يَلْزَمُهُ أَنَّ دَلَالَةَ الْمُطَابَقَةِ على الْجُزْءِ دَلَالَةُ التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ في صُورَةِ الْمُشْتَرَكِ بين الْكُلِّ وَالْجُزْءِ وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّفْظَ إذْ دَلَّ بِالْمُطَابَقَةِ على الْجُزْءِ في تِلْكَ الصُّورَةِ فَقَدْ دَلَّ على جُزْءِ الْمُسَمَّى دَلَالَةُ التَّضَمُّنِ فَدَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ دَلَالَةُ التَّضَمُّنِ هذا خُلْفٌ وَلَا يَلْزَمُ هذا على إطْلَاقِ دَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ وَلِلْبَحْثِ فيه مَحَالٌّ فَقَدْ نَازَعَ بَعْضُهُمْ الْإِمَامَ في هذا التَّقْيِيدِ وقال اللَّفْظُ إذَا أُطْلِقَ على الْجُمْلَةِ فإن التَّضَمُّنَ لِلْجُزْءِ ثَابِتٌ عِنْدَ مُرَادِ الْمُطْلَقِ الْمَعْنَى الْمُرَكَّبَ من ذلك الْجُزْءِ وَغَيْرَهُ فإن مَدْلُولَ اللَّفْظِ هو جُمْلَةٌ مُشْتَمِلَةٌ على أَجْزَاءٍ كُلُّ وَاحِدٍ منها إنَّمَا فُهِمَ ضِمْنًا وَتَبَعًا لِلْجُمْلَةِ وَإِنْ كان لِلْمُسْتَعْمِلِ أَنْ يُطْلِقَ ذلك اللَّفْظَ أَيْضًا على الْجُزْءِ وَلَكِنْ عِنْدَ دَلَالَتِهِ بهذا الْإِطْلَاقِ على ذلك الْجُزْءِ لَا يَكُونُ جُزْءًا من أَجْزَاءِ ذلك الْمَعْنَى بَلْ مُسْتَقِلًّا وَنَحْنُ لَا نُرِيدُ بِدَلَالَةِ التَّضَمُّنِ إلَّا أَنْ يُفْهَمَ الْجُزْءُ تَضَمُّنًا وَيَكُونُ جُزْءًا من أَجْزَاءِ ذلك الْمَعْنَى وَلَا تَكُونُ الدَّلَالَةُ لَفْظِيَّةً لَكِنْ تَبَعِيَّةً فإذا اسْتَقَلَّتْ خَرَجَتْ عن كَوْنِهَا تَضَمُّنًا ولم يَبْقَ جُزْءٌ من أَجْزَاءِ ذلك الْمَعْنَى وَحِينَئِذٍ فَالْقَيْدُ الْمَذْكُورُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ
____________________
(1/419)
التَّنْبِيهُ الثَّانِي أَقْسَامُ اللَّازِمِ إنَّ اللَّازِمَ على قِسْمَيْنِ لَازِمٌ في الذِّهْنِ بِمَعْنَى أَنَّ الذِّهْنَ يُنْتَقَلُ إلَيْهِ عِنْدَ فَهْمِ الْمَعْنَى وَيَلْزَمُ من تَصَوُّرِ الشَّيْءِ تَصَوُّرُهُ كَالْفَرْدِيَّةِ لِلثَّلَاثَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ لِلْأَرْبَعَةِ سَوَاءٌ كان لَازِمًا في الْخَارِجِ أَيْضًا كَالسَّرِيرِ في الِارْتِفَاعِ من الْأَرْضِ إذْ السَّرِيرُ كُلَّمَا وُجِدَ في الْأَرْضِ فَهُوَ مُرْتَفِعٌ وَمَهْمَا تُصَوِّرَ في الذِّهْنِ فَهُوَ مُرْتَفِعٌ أو لم يَكُنْ كَالسَّوَادِ إذَا أُخِذَ بِقَيْدِ كَوْنِهِ ضِدًّا لِلْبَيَاضِ فإن تَصَوُّرَهُ من هذه الْحَيْثِيَّةِ يَلْزَمُهُ تَصَوُّرُ الْبَيَاضِ فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ في الذِّهْنِ مُتَنَافِيَانِ في الْخَارِجِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذلك في اللَّازِمِ الْخَارِجِيِّ فَقَطْ كَالسَّرِيرِ مع الْإِمْكَانِ فإنه مَهْمَا وُجِدَ السَّرِيرُ في الْخَارِجِ فَهُوَ مُمْكِنٌ ضَرُورَةً وقد يُتَصَوَّرُ السَّرِيرُ وَيُذْهَلُ عن إمْكَانِهِ فَافْهَمْ هذا التَّقْرِيرَ فإنه الصَّوَابُ وفي عِبَارَاتِهِمْ إيهَامٌ وَاللَّازِمُ الثَّانِي في الْوُجُودِ وهو كَوْنُ الْمُسَمَّى بِحَيْثُ يَلْزَمُ من حُصُولِهِ في الْخَارِجِ حُصُولُ الْخَارِجِيِّ فيه إذَا عَرَفْت ذلك فَلَا خِلَافَ في أَنَّ الْمُعْتَبَرَ في دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ اللُّزُومُ الذِّهْنِيُّ سَوَاءٌ كان في ذِهْنِ كل وَاحِدٍ كما في الْمُتَقَابِلَيْنِ أو عِنْدَ الْعَالِمِ بِالْوَضْعِ وزاد الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ ظَاهِرًا لِأَنَّ الْقَطْعِيَّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَإِلَّا لم يَجُزْ إطْلَاقُ اسْمِ الْيَدِ على الْقُدْرَةِ وَنَحْوِهِ فإن الْيَدَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْقُدْرَةَ قَطْعًا لِأَنَّ الْيَدَ تَكُونُ شَلَّاءَ بَلْ ظَاهِرًا وَمِثْلُهُ قَوْلُ السَّكَّاكِيِّ في الْمِفْتَاحِ الْمُرَادُ بِاللُّزُومِ الذِّهْنِيِّ الْبَيِّنُ الْقَرِينَةِ بِحَيْثُ يَنْتَقِلُ الذِّهْنُ من فَهْمِهِ إلَى فَهْمِهِ كَالشَّجَاعَةِ لِلْأَسَدِ فَإِنَّهَا لَازِمَةٌ ظَاهِرَةٌ يَصِحُّ إطْلَاقُ الْأَسَدِ لِإِرَادَتِهَا بِخِلَافِ الْبَخَرِ وَإِنْ كان لَازِمًا لِلْأَسَدِ لَا أَنَّهُ أَخْفَى فَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْأَسَدِ لِإِرَادَتِهِ وَاخْتَلَفُوا في اللَّازِمِ الْخَارِجِيِّ هل يُعْتَبَرُ في دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ من الْأُصُولِيِّينَ إلَى اعْتِبَارِهِ فَيَسْتَدِلُّونَ بِاللَّفْظِ على كل ما يَلْزَمُ الْمُسَمَّى ذِهْنِيًّا أو خَارِجِيًّا وَرَجَّحَهُ ابن الْحَاجِبِ وَذَهَبَ الْمَنْطِقِيُّونَ وَوَافَقَهُمْ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ وَالْبَيْضَاوِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِحُصُولِ الْفَهْمِ بِدُونِهِ كما في الضِّدَّيْنِ وإذا لم يُمْكِنْ فَهْمٌ فَلَا دَلَالَةَ وَيَرِدُ عليهم أَنْوَاعُ الْمَجَازَاتِ وَالْحَقُّ الْتِفَاتُ هذا الْخِلَافِ على أَصْلٍ سَبَقَ في تَفْسِيرِ الدَّلَالَةِ هل يُشْتَرَطُ فيها أَنَّهُ مَهْمَا سُمِعَ اللَّفْظُ مع الْعِلْمِ بِالْوَضْعِ فُهِمَ الْمَعْنَى أَمْ لَا بَلْ يَكْفِي الْفَهْمُ في الْجُمْلَةِ وَبِهِ
____________________
(1/420)
يَظْهَرُ رُجْحَانُ كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ بَلْ قد تَوَسَّعَ الْبَيَانِيُّونَ فَأَجْرَوْهَا فِيمَا لَا لُزُومَ بَيْنَهُمَا أَصْلًا لَكِنَّ الْقَرَائِنَ الْخَارِجِيَّةَ اسْتَلْزَمَتْهُ وَلِهَذَا يَجْرِي فيها الْوُضُوحُ وَالْخَفَاءُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَوْسَعُهَا الثَّالِثُ وهو الْأَظْهَرُ وَاحْتَجَّ الْإِمَامُ بِأَنَّ الْجَوْهَرَ وَالْعَرَضَ مُتَلَازِمَانِ في الْخَارِجِ وَاللَّفْظُ الدَّالُّ على أَحَدِهِمَا لَا يَدُلُّ على الْآخَرِ بِالِالْتِزَامِ وهو ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ على الْمَعْنَى غَيْرُ اسْتِعْمَالِهِ فيه فَلَا يَلْزَمُ من انْتِفَاءِ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْجَوْهَرِ في الْعَرَضِ وَعَكْسِهِ انْتِفَاءُ دَلَالَةِ أَحَدِهِمَا على الْآخَرِ بِالِالْتِزَامِ إذْ ليس الِاسْتِعْمَالُ نَفْسَ الدَّلَالَةِ وَلَا لَازِمَهَا كما في الْوَضْعِ الْأَوَّلِ قبل الِاسْتِعْمَالِ الثَّانِي أَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ أَنْ لو لَزِمَ من وُجُودِ الشَّرْطِ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ فلم يَلْزَمْ من وُجُودِ اللُّزُومِ الْخَارِجِيِّ بِدُونِ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ عَدَمُ كَوْنِهِ شَرْطًا لها لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا أو لَازِمًا أَعَمَّ وَالْعَجَبُ من الْإِمَامِ أَنَّهُ صَرَّحَ عَقِيبَ هذا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللُّزُومَ الذِّهْنِيَّ شَرْطٌ لَا مُوجِبٌ فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ اللُّزُومُ الْخَارِجِيُّ مُعْتَبَرًا كان كَذَلِكَ فَكَيْفَ اسْتَدَلَّ بِوُجُودِهِ مع عَدَمِ الِاسْتِعْمَالِ على عَدَمِ الِاعْتِبَارِ التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ الْمُلَازَمَةُ الذِّهْنِيَّةُ شَرْطٌ في الدَّلَالَةِ الِالْتِزَامِيَّةِ إذَا شَرَطْنَا الْمُلَازَمَةَ الذِّهْنِيَّةَ فَهِيَ شَرْطٌ في الدَّلَالَةِ الِالْتِزَامِيَّةِ وَإِطْلَاقُ اللَّفْظِ سَبَبٌ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ وقال الْإِمَامُ هذا اللَّازِمُ شَرْطٌ لَا سَبَبٌ يَعْنِي أَنَّ مُجَرَّدَ اللُّزُومِ من غَيْرِ إطْلَاقِ اللَّفْظِ ليس بِسَبَبٍ في حُصُولِ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ بَلْ السَّبَبُ إنَّمَا هو إطْلَاقُ اللَّفْظِ فَاللُّزُومُ شَرْطٌ وَقِيلَ يَعْنِي أَنَّ الْمُلَازَمَةَ الذِّهْنِيَّةَ يَلْزَمُ من عَدَمِهَا الْعَدَمُ لِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا أَفَادَ مَعْنًى غير مُسْتَلْزِمٍ لِآخَرَ لَا يَنْتَقِلُ الذِّهْنُ إلَى ذلك الْآخَرِ إلَّا بِسَبَبٍ مُنْفَصِلٍ فَتَكُونُ إفَادَتُهُ مُضَافَةً لِذَلِكَ الْمُنْفَصِلِ لَا لِلَّفْظِ فَلَا يَكُونُ فَهْمُهُ دَلَالَةَ اللَّفْظِ بَلْ أَثَرًا لِلْمُنْفَصِلِ وَلَا يَلْزَمُ من وُجُودِ الْمُلَازَمَةِ وُجُودُ الدَّلَالَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِطْلَاقِ فإن الْمُلَازَمَةَ في نَفْسِ الْأَمْرِ وَالْفَهْمُ مَعْدُومٌ من اللَّفْظِ إذْ اللَّفْظُ مَعْدُومٌ فَهُوَ حِينَئِذٍ شَرْطٌ وَالْإِطْلَاقُ هو الْمُسَبِّبُ
____________________
(1/421)
التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ لَفْظِيَّةٌ وَالْخِلَافُ في دَلَالَةِ التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ لَا خِلَافَ أَنَّ دَلَالَةَ الْمُطَابَقَةِ لَفْظِيَّةٌ وَاخْتَلَفُوا في التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ على ثَلَاثِهِ مَذَاهِبَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا عَقْلِيَّانِ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْمَعْنَى عَلَيْهِمَا بِالْوَاسِطَةِ وَهَذَا ما ذَهَبَ إلَيْهِ الْغَزَالِيُّ وَصَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَاخْتَارَهُ أَثِيرُ الدِّينِ الْأَبْهَرِيُّ في كَشْفِ الْحَقَائِقِ وَالصَّفِيّ الْهِنْدِيُّ قال وَإِنَّمَا وُصِفَتَا بِكَوْنِهِمَا عَقْلِيَّتَيْنِ إمَّا لِأَنَّ الْعَقْلَ يَسْتَقِلُّ بِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِيهِمَا من غَيْرِ افْتِقَارٍ إلَى اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللِّسَانِ اللَّفْظَ فِيهِمَا وَهَذَا يَسْتَقِيمُ على رَأْيِ من لم يَعْتَبِرْ الْوَضْعَ في الْمَجَازِ وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُمَيِّزَ بين مَدْلُولَيْهِمَا وهو الْجُزْءُ وَاللَّازِمُ هو الْعَقْلُ الثَّانِي أَنَّهُمَا لَفْظِيَّانِ وَنَسَبَهُ بَعْضُهُمْ إلَى الْأَكْثَرِينَ وَاخْتَارَهُ ابن وَاصِلٍ في شَرْحِ جُمَلِ الْخُونَجِيِّ وَالثَّالِثُ أَنَّ دَلَالَةَ التَّضَمُّنِ لَفْظِيَّةٌ وَالِالْتِزَامِ عَقْلِيَّةٌ وَبِهِ قال الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ لِأَنَّ الْجُزْءَ دَاخِلٌ فِيمَا وُضِعَ له اللَّفْظُ بِخِلَافِ اللَّازِمِ فإنه خَارِجٌ عنه وقال الْهِنْدِيُّ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ إنْ جُعِلَتْ لَفْظِيَّةٌ لِأَجْلِ أَنَّ فَهْمَ الْجُزْءِ منها إنَّمَا هو بِوَاسِطَةِ اللَّفْظِ فَدَلَالَةُ الِالْتِزَامِ كَذَلِكَ لِأَنَّ فَهْمَ اللَّازِمِ إنَّمَا هو بِوَاسِطَةِ اللَّفْظِ الدَّالِّ على الْمَلْزُومِ وَإِنْ كان لِأَجْلِ أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ له بِالْوَضْعِ الْمُخْتَصِّ بِالْحَقِيقَةِ فَبَاطِلٌ أو بِالْوَضْعِ الْمُشْتَرَكِ بين الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَاللَّازِمُ أَيْضًا كَذَلِكَ إنْ اُعْتُبِرَ الْوَضْعُ في الْمَجَازِ وَالْأَقْيَسُ مِنْهُمَا الْوَضْعُ وَإِنْ كان لِأَجْلِ أَنَّ الْجُزْءَ دَاخِلٌ في الْمُسَمَّى وَاللَّازِمُ خَارِجٌ عنه فَهُوَ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ وَاصْطِلَاحٌ من غَيْرِ مُنَاسَبَةٍ وقال صَاحِبُ الدَّقَائِقِ وَمَنْ جَعَلَ الِالْتِزَامَ لَفْظِيَّةً فَقَدْ أَخْطَأَ لِأَنَّ الذِّهْنَ يَنْتَقِلُ من اللَّفْظِ إلَى مَعْنَاهُ وَمِنْ مَعْنَاهُ إلَى اللُّزُومِ وَالتَّضَمُّنُ غَيْرُ خَارِجٍ عن مُسَمَّى اللَّفْظِ بِخِلَافِ الِالْتِزَامِ وَإِلَّا فَكُلٌّ مِنْهُمَا مَنْسُوبٌ إلَى اللَّفْظِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا عَقْلِيٌّ بِوَجْهٍ وَاعْتِبَارٍ
____________________
(1/422)
التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ وَدَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ قد تَنْفَكُّ عن التَّضَمُّنِ إنَّ دَلَالَةَ الْمُطَابَقَةِ قد تَنْفَكُّ عن التَّضَمُّنِ وَذَلِكَ بِكَوْنِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ بَسِيطًا لَا جُزْءًا له وَهَلْ تَنْفَكُّ عن دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ أَمْ لَا قال الْهِنْدِيُّ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ لِأَنَّ كُلَّ مَاهِيَّةٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لها لَازِمٌ أَقَلُّهُ أنها لَيْسَتْ غَيْرَهَا وَمِنْهُمْ من جَوَّزَ الِانْفِكَاكَ زَاعِمًا أَنَّ شَرْطَ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ أَنْ يَكُونَ اللَّازِمُ بِحَيْثُ يَكُونُ تَصَوُّرُهُ لَازِمًا لِتَصَوُّرِ الْمَلْزُومِ وهو مَمْنُوعٌ فِيمَا ذُكِرَ من اللَّازِمِ هذا لِأَنَّهُ يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْقِلَ الْمَاهِيَّةَ مع الذُّهُولِ عن الِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ وَأَمَّا الْمُطَابَقَةُ فَلَازِمَةٌ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ التَّابِعِ من حَيْثُ إنَّهُ تَابِعٌ بِدُونِ الْمَتْبُوعِ وَقِيلَ أَصْلُ الْخِلَافِ أَنَّ لِكُلِّ مَاهِيَّةٍ لَازِمًا أو بَعْضَ الْمَاهِيَّاتِ لَا لَازِمَ لها فَإِنْ قُلْنَا لِكُلِّ شَيْءٍ لَازِمٌ فَالْمُطَابَقَةُ وَالِالْتِزَامُ مُتَسَاوِيَانِ قال الْإِمَامُ في التَّلْخِيصِ لِكُلِّ شَيْءٍ لَازِمٌ وَأَدْنَاهُ أَنَّهُ ليس غَيْرَهُ وَرُدَّ عليه بِأَنَّ الْكَلَامَ في اللَّازِمِ الْبَيِّنِ الذي يَلْزَمُ من حُضُورِ الْمَلْزُومِ حُضُورُهُ وَإِنْ قُلْنَا إنَّ بَعْضَ الْمَاهِيَّاتِ لَا لَازِمَ لها فَالْمُطَابَقَةُ أَعَمُّ التَّنْبِيهُ السَّادِسُ دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ لَا تَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ إنَّ دَلَالَةَ الْمُطَابَقَةِ هِيَ الصَّرِيحُ من اللَّفْظِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ وَأَمَّا دَلَالَةُ التَّضَمُّنِ فَتَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ عِنْدَنَا وَمِنْ ثَمَّ لو قال أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى الثَّلَاثَ وَقَعَ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ لنا أَنَّ طَلَّقْتُ فِعْلٌ يَدُلُّ على الْحَدَثِ وَالزَّمَانِ وَالْحَدَثُ الذي هو الْمَصْدَرُ جُزْؤُهُ وَدَلَالَتُهُ عليه بِالتَّضَمُّنِ فَيَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ كما لو ذَكَرَ الْمَصْدَرَ صَرِيحًا فقال أَنْتِ الطَّلَاقُ وَأَمَّا دَلَالَةُ الِالْتِزَامِ كَدَلَالَةِ الْبَيْتِ على الْأَرْضِ فقال صَاحِبُ الْمُقْتَرِحِ من أَصْحَابِنَا في الْخِلَافِ لَا تَعْوِيلَ عليها في الْأَحْكَامِ وهو صَحِيحٌ لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَعْمَلُ في الْمَلْفُوظِ وَالْمُلْتَزَمُ غَيْرُ مَلْفُوظٍ وَالطَّلَاقُ بِالنِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ عن اللَّفْظِ لَا يَقَعُ
____________________
(1/423)
التَّنْبِيهُ السَّابِعُ دَلَالَةُ الِاسْتِدْعَاءِ ما ذَكَرْنَاهُ من انْحِصَارِ الدَّلَالَاتِ في الثَّلَاثِ هو الْمَشْهُورُ وزاد الجزولي من النَّحْوِيِّينَ دَلَالَةً رَابِعَةً وَسَمَّاهَا بِالِاسْتِدْعَاءِ وَجَعَلَ دَلَالَةَ الْفِعْلِ على الْمَحَلِّ وهو الْمَفْعُولُ بِهِ وَعَلَى الْبَاعِثِ يَعْنِي الذي بَعَثَ على الْفِعْلِ وهو الْمَفْعُولُ لِأَجْلِهِ وَعَلَى الْمُصَاحَبِ وهو الْمَفْعُولُ معه من قَبِيلِ هذه الدَّلَالَةِ وَأَنْكَرَهُ الْآمِدِيُّ وقال دَلَالَةُ الْفِعْلِ على الْمَحَلِّ وَالْبَاعِثِ وَالْمُصَاحَبِ من قَبِيلِ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ عِنْدَنَا إلَّا أَنَّ الْمَكَانَ يَلْزَمُ جَمِيعَ الْأَفْعَالِ مُتَعَدِّيَهَا وَلَازِمَهَا ما وَقَعَ فيها عَمْدًا وَسَهْوًا وَالْمَحَلُّ إنَّمَا يَلْزَمُ من الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّي خَاصَّةً وَالْبَاعِثَةُ إنَّمَا تَلْزَمُ من الْأَفْعَالِ ما يُوقِعُهُ الْقَاصِدُ لِلْإِيقَاعِ وَلَا يَلْزَمُ فِعْلُ السَّاهِي وَالنَّائِمِ وَالْمُصَاحِبِ إنَّمَا يَلْزَمُ ما يُشْرِكُ فيه الْفَاعِلُ غَيْرَهُ وقد أَوْرَدَ الْقَرَافِيُّ على الْحَصْرِ في الثَّلَاثِ دَلَالَةَ الْعَامِّ على أَفْرَادِهِ وقال إنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْهُنَّ وَجَوَابُهُ يُعْلَمُ من بَابِ الْعَامِّ وَمِنْهُمْ من أَوْرَدَ دَلَالَةَ اللَّفْظِ الْمُرَكَّبِ على مُفْرَدَاتِهِ فإن الْوَاضِعَ لم يَضَعْهُ لِمَفْهُومِهِ وَلَا لِشَيْءٍ ذلك الْمَفْهُومُ دَاخِلٌ فيه وَلَا لِخَارِجٍ عنه لَازِمٌ له وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِوَضْعِ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى وَضْعُ عَيْنِهِ لِعَيْنِهِ أو وَضْعُ أَجْزَائِهِ لِأَجْزَائِهِ بِحَيْثُ يُطَابِقُ مَجْمُوعُ اللَّفْظِ مَجْمُوعَ الْمَعْنَى وَالثَّانِي مَوْجُودٌ في الْمُرَكَّبِ فإن الْوَاضِعَ وَإِنْ لم يَضَعْ مَجْمُوعَ زَيْدٌ قَائِمٌ لِمَدْلُولِهِ فَقَدْ وَضَعَ كُلَّ جُزْءٍ من أَجْزَائِهِ لِجُزْءٍ من مَفْهُومِهِ فإنه وَضَعَ زَيْدًا لِلذَّاتِ وَقَائِمًا لِلصِّفَةِ وَالْحَرَكَةُ الْمَخْصُوصَةُ أَعْنِي دَفْعَهُمَا لِإِثْبَاتِ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ
____________________
(1/424)
الْقِسْمُ الثَّانِي بِاعْتِبَارِ التَّرْكِيبِ وَالْإِفْرَادِ وَيُطْلَقُ الْمُفْرَدُ بِاصْطِلَاحِ النَّحْوِيِّينَ على أَرْبَعَةِ مَعَانٍ أَحَدُهَا مُقَابِلُ الْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ وهو اللَّفْظُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ الثَّانِي مُقَابِلُ الْمُضَافِ في بَابِ النِّدَاءِ وَلِهَذَا يَقُولُونَ الْمُنَادِي مُفْرَدٌ وَمُضَافٌ وَالثَّالِثُ مُقَابِلُ الْجُمْلَةِ في بَابِ الْمُبْتَدَأِ وهو الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ الْخَبَرُ قد يَكُونُ مُفْرَدًا وقد يَكُونُ جُمْلَةً الرَّابِعُ مُقَابِلُ الْمُرَكَّبِ أَمَّا الْمُفْرَدُ بِاصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّينَ فَهُوَ ما دَلَّ على مَعْنًى وَلَا جُزْءَ من أَجْزَائِهِ يَدُلُّ بِالذَّاتِ على جُزْءٍ من أَجْزَاءِ ذلك الْمَعْنَى كَإِنْسَانٍ وَإِنْ شِئْت فَقُلْ هو ما لَا يُرَادُ بِالْجُزْءِ منه دَلَالَةٌ أَصْلًا على مَعْنًى حين هو جُزْؤُهُ كَأَحْمَدَ تَعْرِيفُ الْمُرَكَّبِ وَأَمَّا الْمُرَكَّبُ فما دَلَّ جُزْؤُهُ على جُزْءِ الْمَعْنَى الْمُسْتَفَادِ منه حين هو جُزْؤُهُ سَوَاءٌ كان تَرْكِيبَ إسْنَادٍ كَقَامَ زَيْدٌ وَزَيْدٌ قَائِمٌ أَمْ تَرْكِيبَ مَزْجٍ كَخَمْسَةَ عَشَرَ أو إضَافَةٍ كَغُلَامِ زَيْدٍ وَأَمَّا عبد اللَّهِ فَإِنْ كان دَالًّا على الذَّاتِ فَهُوَ مُفْرَدٌ وَإِنْ كان دَالًّا على الصِّفَاتِ فَهُوَ مُرَكَّبٌ وَالْمُرَادُ بِالْجُزْءِ ما صَارَ بِهِ اللَّفْظُ مُرَكَّبًا كَحُرُوفِ زَيْدٍ فَلَا يُرِدْ الزَّايَ من زَيْدٌ قَائِمٌ فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ على جُزْءِ الْمَعْنَى وَكَذَلِكَ أَوْرَدُوا على أَنْفُسِهِمْ كَوْنَ الْمَاضِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا لِأَنَّ مَادَّتَهُ تَدُلُّ على الْمَصْدَرِ وَزِنَتَهُ على خُصُوصِ الزَّمَنِ فَأَجَابُوا بِأَنَّ الْمَعْنَى بِقَوْلِنَا الْجُزْءُ ليس مُطْلَقَ الْجُزْءِ بَلْ الْأَجْزَاءُ الْمُتَرَتِّبَةُ في السَّمْعِ وَقَالُوا وَنَحْوُ بَعْلَبَكَّ مُرَكَّبٌ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ لِأَنَّهُ كَلِمَتَانِ وَمُفْرَدٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ جُزْؤُهُ على جُزْءِ مَعْنَاهُ وأقوم ( ( ( و ) ) ) ونقوم ( ( ( أقوم ) ) ) ويقوم ( ( ( و ) ) ) مُرَكَّبٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ لِأَنَّ جُزْأَهُ يَدُلُّ على جُزْءِ مَعْنَاهُ لِأَنَّ حَرْفَ الْمُضَارَعَةِ منها يَدُلُّ على الْفَاعِلِ الْمُتَكَلِّمِ وَحْدَهُ وَالْمُتَكَلِّمِ وَمَعَهُ غَيْرُهُ وَالْمُخَاطَبِ منها وَنَفْسُ الْكَلِمَةِ تَدُلُّ على الْحَدَثِ وَالزَّمَانِ وَمُفْرَدٌ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ لِأَنَّهُ لَفْظٌ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ
____________________
(1/425)
أَمَّا يَقُومُ بِالْغَيْبَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ فَقِيلَ هو مُفْرَدٌ وَقِيلَ هو مُرَكَّبٌ وَنُقِلَ عن ابْنِ سِينَا وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ الْمُضَارِعَةِ وَإِنَّمَا قالوا حين هو جُزْؤُهُ لِيَحْتَرِزُوا من مِثْلِ أَبْكَمَ وَإِنْسَانٍ فإن كُلَّ وَاحِدٍ من جُزْئِهِ يَدُلُّ على مَعْنًى لَكِنْ لَا على جُزْءِ مُسَمَّاهُ حين هو جُزْؤُهُ وَإِنَّمَا يَدُلُّ على مَعْنًى في الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ اسْمٌ لِلْوَالِدِ وكم اسْمٌ لِلْعَدَدِ لَكِنْ لَا من حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من اللَّفْظَيْنِ جُزْءٌ من الْآخَرِ حين هو جُزْؤُهُ وَكَذَلِكَ إنْسَانٌ أَلَا تَرَى أَنَّ إنْ حَرْفُ شَرْطٍ يَدُلُّ على الشَّرْطِيَّةِ لَكِنْ لَا من حَيْثُ هِيَ جُزْءُ إنْ وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَتَبِعَهُ ابن يَعِيشَ في أَوَّلِ شَرْحِ الْمُفَصَّلِ وابن إيَادٍ أَنَّ الرَّجُلَ مُرَكَّبٌ فإنه يَدُلُّ على مَعْنَيَيْنِ التَّعْرِيفِ وَالْمُعَرَّفِ وهو من جِهَةِ النُّطْقِ لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَلِمَتَانِ وَكَذَلِكَ ضَرَبَا وضربوا قال الزَّنْجَانِيّ في الْهَادِي وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الرَّجُلَ وَنَظَائِرَهُ لَفْظَتَانِ لَا لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ ثُمَّ يُنْتَقَضُ ما ذَكَرَهُ بِنَحْوِ ضَرَبَ فإنه يَدُلُّ على مَعْنَيَيْنِ الْحَدَثِ وَالزَّمَانِ وَأَنَّهُ كَلِمَةٌ بِاتِّفَاقٍ قُلْت لَعَلَّ الزَّمَخْشَرِيَّ بَنَاهُ أَنَّ الْمُعَرِّفَ اللَّامُ وَحْدَهَا وَحِينَئِذٍ فَهِيَ لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ وَاللَّامُ كَالتَّنْوِينِ في زَيْدٍ فَإِنْ قُلْنَا إنَّ الْمُعَرِّفَ أَلْ فَهُوَ لَفْظَتَانِ لِإِمْكَانِ التَّلَفُّظِ بها وَحْدَهَا وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَمْثِلَةَ الْمُضَارِعِ خَلَا الْغَائِبَ مُرَكَّبَاتٌ قَطْعًا وَأَمْثِلَةُ الْمَاضِي مُفْرَدَاتٌ قَطْعًا وَأَمْثِلَةُ الْأَوَامِرِ مُرَكَّبَاتٌ عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ وَصَرَّحَ ابن مَالِكٍ في أَوَّلِ شَرْح التَّسْهِيلِ بِأَنَّ يَاءَ النَّسَبِ وألف ضَارِبٍ وَمِيمَ مُكْرَمٍ يَدُلُّ على مَعْنًى وَلَكِنْ لَا بِالْوَضْعِ وقال ابن السَّاعَاتِيِّ الْمَجْمُوعُ هو الدَّالُّ على شَخْصٍ مُسَمًّى بِذَلِكَ لَا أَنَّ الْحَرْفَ دَلَّ بِنَفْسِهِ وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ أَنَّ النُّحَاةَ يَتَرَجَّحُ نَظَرُهُمْ في جَانِبِ الْأَلْفَاظِ وَأُولَئِكَ يَتَرَجَّحُ نَظَرُهُمْ في جَانِبِ الْمَعَانِي وَعَلَى هذا عبد اللَّهِ وَنَحْوُهُ إنْ أُرِيدَ بِهِ الْعَلَمِيَّةُ كان مُفْرَدًا بِمَثَابَةِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو لِأَنَّ جُزْأَهَا لَا يَدُلُّ على مَعْنَاهَا وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ نِسْبَةُ الْعُبُودِيَّةِ إلَى مُسْتَحِقِّهَا فَهِيَ مُرَكَّبَةٌ لِدَلَالَةِ جُزْئِهَا على جُزْءِ مَعْنَاهَا وقد اجْتَمَعَ الْأَمْرَانِ في حَدِيثٍ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ في مُسْنَدِهِ فقال حدثنا عبد الرَّزَّاقِ حدثنا مَعْمَرٌ عن زَيْدِ بن أَسْلَمَ قال كان ابن عُمَرَ يحدث أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم رَآهُ وَعَلَيْهِ إزَارٌ يَتَقَعْقَعُ يَعْنِي جَدِيدًا فقال من هذا فَقُلْت عبد
____________________
(1/426)
اللَّهِ فقال إنْ كُنْتَ عَبْدَ اللَّهِ فَارْفَعْ إزَارَك قال فَرَفَعْتُهُ وكان طَوِيلًا فَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ عبد اللَّهِ يَعْنِي أنا عبد اللَّهِ فَهُوَ مُفْرَدٌ لِأَنَّهُ أَرَادَ الْعَلَمِيَّةَ وَقَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إنْ كُنْت عَبْدَ اللَّهِ فَهُوَ مُرَكَّبٌ تَرْكِيبًا إضَافِيًّا لِأَنَّ مُرَادَهُ نِسْبَةُ الْعُبُودِيَّةِ إلَى اللَّهِ فَالْإِفْرَادُ الْعِلْمِيُّ طَارَ على التَّرْكِيبِ الْإِضَافِيِّ وهو يَلُوحُ فيه وَيُقَالُ لِلْمُرَكَّبِ مُؤَلَّفٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ كما قَالَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ وَمِنْهُمْ من فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُرَكَّبَ ما دَلَّتْ أَجْزَاؤُهُ إذَا انْفَرَدَتْ وَلَا تَدُلُّ إذَا كانت أَجْزَاءً كَعَبْدِ اللَّهِ فإنه إذَا كان عَلَمًا كان بِمَنْزِلَةِ زَيْدٍ فَلَا تَدُلُّ أَجْزَاؤُهُ في هذه الْحَالَةِ على شَيْءٍ وَلَوْ انْفَرَدَتْ الْأَجْزَاءُ كانت دَالَّةً لِأَنَّ عَبْدًا دَلَّ على ذَاتٍ اتَّصَفَتْ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالْمُؤَلَّفُ ما دَلَّتْ الْأَجْزَاءُ في حَالِ الْبَسَاطَةِ وَحَالِ التَّرْكِيبِ كَقَوْلِنَا الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ فإن كُلَّ وَاحِدٍ من هذه الْأَجْزَاءِ يَدُلُّ إذَا انْفَرَدَ وإذا كان جُزْءًا انقسام ( ( ( وينقسم ) ) ) الْمُفْرَدُ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهِ إلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ رَابِعًا وَيُسَمِّيهِ خَالِفًا وهو الظَّرْفُ وَالْجَارُ وَالْمَجْرُورُ أو أَسْمَاءُ الْأَفْعَالِ وَالصَّوَابُ أَنَّهُمَا من قَبِيلِ الْأَسْمَاءِ قالوا وَدَلِيلُ الْحَصْرِ أَنَّ الْمَعَانِيَ ثَلَاثَةٌ ذَاتٌ وَحَدَثٌ وَرَابِطَةٌ لِلْحَدَثِ بِالذَّاتِ فَذَاتٌ الِاسْمُ وَالْحَدَثُ الْفِعْلُ وَالرَّابِطَةُ الْحَرْفُ قال ابن الْخَبَّازِ وَلَا يَخْتَصُّ انْحِصَارُ الْكَلِمَةِ في الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الذي دَلَّ على الِانْحِصَارِ في الثَّلَاثَةِ عَقْلِيٌّ وَالْأُمُورُ الْعَقْلِيَّةُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ قُلْت وفي كِتَابِ الْإِيضَاحِ لِأَبِي الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيِّ في قَوْلِ سِيبَوَيْهِ الْكَلَامُ اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ جاء لِمَعْنًى قِيلَ قَصَدَ بِهِ الْكَلِمَ الْعَرَبِيَّ دُونَ غَيْرِهِ وَقِيلَ أَرَادَ الْكَلِمَ الْعَرَبِيَّ وَالْعَجَمِيَّ ا هـ الكلي والجزئي ثُمَّ الِاسْمُ يَنْقَسِمُ إلَى كُلِّيٍّ وَجُزْئِيٍّ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ لَا يَمْنَعَ نَفْسُ تَصَوُّرِهِ من اشْتِرَاكِ كَثِيرِينَ فيه أو يَمْنَعُ وَالْأَوَّلُ الْكُلِّيُّ وَمَعْنَى اشْتِرَاكِ الْأَشْخَاصِ فيه أَنَّ مَعْنَاهُ مُطَابِقٌ لِمَعَانِيهَا بِالِاسْمِ وَالْحَدِّ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ مَوْجُودٌ فيها وهو تَارَةً تَقَعُ فيه الشَّرِكَةُ كَالْحَيَوَانِ وَتَارَةً لَا تَقَعُ أَمَّا مع الْإِمْكَانِ كَالشَّمْسِ عِنْدَ من يُجَوِّزُ وُجُودَ مِثْلِهَا أو الِاسْتِحَالَةِ كَهِيَ
____________________
(1/427)
عِنْدَ من لَا يُجَوِّزُهُ وَحَذَفْت تَمْثِيلَ الْمَنْطِقِيِّينَ عَمْدًا أَدَبًا وَلَيْسَ الْكُلِّيُّ وَهْمِيًّا مُرْسَلًا بَلْ له وُجُودٌ في الْعَقْلِ وهو ما يَجِدُهُ كُلُّ عَاقِلٍ من نَفْسِهِ من الْمَعَانِي التي لو نَسَبَهَا إلَى الشَّخْصِيَّاتِ الْمُنَاسِبَةِ لَكَانَتْ مُطَابِقَةً لها كَالْمُتَمَثِّلِ من مَعْنَى الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ وَلَا مَعْنَى لِكَوْنِهِ في الْعَقْلِ غير تَمَيُّزِهِ في النَّفْسِ لَا بِمَعْنَى أَنَّ صُورَتَهُ قَائِمَةٌ بِنَفْسِ الْعَاقِلِ وَإِلَّا لَكَانَ من يَعْقِلُ الْحَرَارَةَ وَالْبُرُودَةَ حَارًّا وَبَارِدًا الطبيعي والمنطقي والعقلي وَيَنْقَسِمُ إلَى طَبِيعِيٍّ وَمَنْطِقِيٍّ وَعَقْلِيٍّ لِأَنَّا إذَا قُلْنَا الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ مَثَلًا وَأَنَّهُ كُلِّيٌّ وَأَرَدْت الْحِصَّةَ من الْحَيَوَانِيَّةِ التي شَارَكَ بِاعْتِبَارِهَا الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ فَطَبِيعِيٌّ وهو مَوْجُودٌ في الْخَارِجِ لِأَنَّهُ جُزْءٌ من الْإِنْسَانِ الْمَوْجُودِ وَجُزْءُ الْمَوْجُودِ مَوْجُودٌ وَإِنْ أَرَدْت بِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ من الشَّرِكَةِ فَهُوَ الْمَنْطِقِيُّ وَلَا وُجُودَ له في الْخَارِجِ لِاشْتِمَالِهِ على ما لَا يَتَنَاهَى وَقِيلَ بَلْ هو مَوْجُودٌ وَمَدْرُك الْخِلَافِ في أَنَّ الْإِضَافَةَ هل لها وُجُودٌ في الْأَعْيَانِ وَالْكُلِّيُّ الْمَنْطِقِيُّ نَوْعٌ من مَقُولَةِ الْمُضَافِ قال الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَنَازَعَهُ ابن وَاصِلٍ وقال بَلْ الْكُلِّيُّ الْمَنْطِقِيُّ لَا وُجُودَ له في الْأَعْيَانِ سَوَاءٌ قُلْنَا إنَّ الْإِضَافَةَ مَوْجُودَةٌ في الْأَعْيَانِ أَمْ لَا لِأَنَّ الْكُلِّيَّ الطَّبِيعِيَّ مَوْجُودٌ في الْخَارِجِ فَلَوْ كان الْمَنْطِقِيُّ مَوْجُودًا في الْخَارِجِ كان الْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا ضَرُورَةً مَوْجُودًا في الْخَارِجِ وَالْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا هو الْكُلِّيُّ الْعَقْلِيُّ فَيَكُونُ أَيْضًا مَوْجُودًا في الْخَارِجِ لِتَرَكُّبِهِ من جُزْأَيْنِ مَوْجُودَيْنِ وَسَنُبَيِّنُ أَنَّهُ ليس كَذَلِكَ ا هـ وَإِنْ أَرَدْت الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي الْحَيَوَانِيَّةَ التي وَقَعَتْ بها الشَّرِكَةُ مع كَوْنِهَا غير مَانِعَةٍ فَهُوَ الْعَقْلِيُّ فَعِنْدَ الْحُكَمَاءِ أَنَّهُ مَوْجُودٌ في الذِّهْنِ لَا في الْخَارِجِ قَالَهُ ابن وَاصِلٍ وَحَكَى غَيْرُهُ في وُجُودِهِ في الْخَارِجِ خِلَافًا أَيْضًا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا وُجُودَ له لِاشْتِمَالِهِ على ما لَا يَتَنَاهَى وهو غَيْرُ مُتَشَخِّصٍ وَزَعَمَ أَفْلَاطُونُ أَنَّهُ مَوْجُودٌ في الْأَعْيَانِ وَأَنَّ الْإِنْسَانَ الْكُلِّيَّ مَوْجُودٌ في الْخَارِجِ وَالْفَرْقُ بين الْكُلِّيِّ وَالْكُلِّ من أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْكُلَّ مَوْجُودٌ في الْخَارِجِ وَلَا شَيْءَ من الْكُلِّيِّ بِمَوْجُودٍ في الْخَارِجِ كَذَا قِيلَ وهو مُنَازَعٌ بِمَا سَبَقَ وَثَانِيهَا أَجْزَاءُ الْكُلِّ مُتَنَاهِيَةٌ وَأَجْزَاءُ الْكُلِّيِّ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ
____________________
(1/428)
وَثَالِثُهَا الْكُلُّ لَا بُدَّ من حُضُورِ أَجْزَائِهِ مَعًا بِخِلَافِ الكلي أقسام الْكُلِّيِّ ثُمَّ الْكُلِّيُّ يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارَاتٍ أَحَدُهَا إلَى مُتَوَاطِئٍ وَمُشَكِّكٍ لِأَنَّهُ إنْ كان حُصُولُ مَعْنَاهُ في أَفْرَادِهِ الذِّهْنِيَّةِ أو الْخَارِجِيَّةِ على السَّوَاءِ كَالْإِنْسَانِ فَهُوَ الْمُتَوَاطِئُ وَإِنْ لم يَكُنْ على السَّوَاءِ بَلْ في بَعْضِ أَفْرَادِهِ أَقْدَمَ وَأَوْلَى وَأَشَدَّ فَهُوَ الْمُشَكِّكُ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُشَكِّكُ النَّاظِرَ هل هو مُتَوَاطِئٌ لِوَحْدَةِ الْحَقِيقَةِ فيه أو مُشْتَرِكٌ لِمَا بَيْنَهُمَا من الِاخْتِلَافِ وَذَلِكَ كَالْبَيَاضِ الذي هو في الثَّلْجِ أَشَدُّ منه في الْعَاجِ وَجَوَّزَ الْهِنْدِيُّ فيه فَتْحَ الْكَافِ وَكَسْرَهَا إمَّا أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ لِلتَّشْكِيكِ أو اسْمُ مَفْعُولٍ لِكَوْنِ النَّاظِرِ يَتَشَكَّكُ فيه وَمِنْهُمْ من أَنْكَرَ حَقِيقَةَ هذا الْقِسْمِ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ تُسْتَعْمَلَ مع ضَمِيمَةِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ أو لَا فَإِنْ لم يَكُنْ فَهُوَ الْمُتَوَاطِئُ وَإِنْ كان فَهُوَ الْمُشْتَرَكُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ قِسْمٌ ثَالِثٌ قِيلَ وَأَوَّلُ من قال بِهِ ابن سِينَا لِأَنَّ تَرَكُّبَ الشَّبَهَيْنِ يُخْرِجُهُ إلَى حَقِيقَةٍ أُخْرَى كَالْخُنْثَى فَالْمُتَوَاطِئُ أَنْ يَضَعَ الْوَاضِعُ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بِقَيْدِ عَدَمِ الِاخْتِلَافِ في الْمُحَالِ مع اخْتِلَافِ الْمَحَالِّ في أُمُورٍ من غَيْرِ جِنْسِ الْمُسَمَّى كَامْتِيَازِ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ الْمُتَوَاطِئُ ما اسْتَوَى مَحَالُهُ وَيُسَمَّى اسْمُ الْجِنْسِ كَالرَّجُلِ وَيُسَمَّى الْمُطْلَقُ وَقِيلَ هو الْمَوْضُوعُ لِمَعْنًى كُلِّيٍّ مُسْتَوْفًى مَحَالَّهُ فَكُلِّيٌّ احْتِرَازٌ من الْعِلْمِ وَمُسْتَوٍ احْتِرَازٌ من الْمُشَكِّكِ وَيُسَمَّى بِذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ في كل مَحَلٍّ مُوَافِقٌ لِمَعْنَاهُ في الْآخَرِ وَالتَّوَاطُؤُ التَّوَافُقُ قال تَعَالَى لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَالْمُشَكِّكُ أَنْ يَضَعَ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بِقَيْدِ الِاخْتِلَافِ في الْمَحَالِّ بِأُمُورٍ من جِنْسِ الْمُسَمَّى كَالنُّورِ في الشَّمْسِ وَاسْتِحَالَةِ التَّغْيِيرِ في الْوَاجِبِ فَاشْتَرَكَ الْقِسْمَانِ في أَنَّ الْوَضْعَ في كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَافْتَرَقَا بِقَيْدَيْهِمَا
____________________
(1/429)
تَنْبِيهَاتٌ التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ إطْلَاقُ الْمُتَوَاطِئِ على أَفْرَادِهِ هل هو حَقِيقَةٌ أو مَجَازٌ إطْلَاقُ الْمُتَوَاطِئِ على كُلٍّ من أَفْرَادِهِ هل حَقِيقَةٌ أو مَجَازٌ فيه بَحْثٌ لِكَثِيرٍ من الْمُتَأَخِّرِينَ فَقِيلَ إنَّهُ مَجَازٌ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فإذا اُسْتُعْمِلَ في الْخُصُوصِ فَقَدْ اُسْتُعْمِلَ في غَيْرِ ما وُضِعَ له فَيَكُونُ مَجَازًا وَقِيلَ إنْ اُسْتُعْمِلَ فيه بِحَسَبِ ما فيه من الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فيه بِخُصُوصٍ كان مَجَازًا وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ وَلَا تَحْقِيقَ في هذا التَّفْصِيلِ فإن الِاسْتِعْمَالَ في الْخُصُوصِ إنَّمَا هو بِحَسَبِ الْخُصُوصِ أَمَّا إذَا أَرَدْت الْعُمُومَ فلم تَسْتَعْمِلْهُ فَلَا وَجْهَ لِلْخُصُوصِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّفْصِيلِ وَإِنْ كان حَقًّا الثَّانِي أَنَّ الْمُتَوَاطِئَ قد يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُهُ في بَعْضِ أَفْرَادِهِ دُونَ بَعْضٍ التَّنْبِيهُ الثَّانِي يَنْقَسِمُ الْكُلِّيُّ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ إلَى مُشْتَقٍّ وَغَيْرِهِ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ إلَى مُشْتَقٍّ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَدُلَّ على الْمَاهِيَّةِ بِصِفَةٍ فَهُوَ الْمُشْتَقُّ كَالْأَسْوَدِ وَيُسَمَّى في اصْطِلَاحِ النَّحْوِيِّينَ صِفَةً وَإِمَّا أَنْ لَا يَدُلَّ وَحِينَئِذٍ إنْ دَلَّ على نَفْسِ الْمَاهِيَّةِ فَقَطْ فَهُوَ اسْمُ الْجِنْسِ كَالْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ إذَا كان الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ وَإِنْ دَلَّ على الْمَاهِيَّةِ وَعَلَى قَيْدٍ آخَرَ زَائِدٍ عليها بِأَنْ كان ذلك الْقَيْدُ هو الْوَحْدَةُ أو الْكَثْرَةُ الْغَيْرُ الْمُعَيَّنَةِ فَهُوَ النَّكِرَةُ وَإِنْ كان هو الْكَثْرَةُ الْمُعَيَّنَةُ الْغَيْرُ الْمُنْحَصِرَةِ فَهُوَ الْعَامُّ وَإِنْ كانت مُنْحَصِرَةً فَهُوَ اسْمُ الْعَدَدِ قال الْأَصْفَهَانِيُّ وَالدَّالُّ على الْجِنْسِ يَنْقَسِمُ إلَى اسْمِ جِنْسٍ كَأَسَدٍ وَعَلَمِ جِنْسٍ كَأُسَامَةَ وَلَيْسَا مُتَرَادِفَيْنِ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ مَوْضُوعٌ لِلْمَاهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ وَعَلَمُ الْجِنْسِ مَوْضُوعٌ لِتِلْكَ الْمَاهِيَّةِ بِقَيْدِ تَشَخُّصِهَا في الذِّهْنِ فإن تِلْكَ الْمَاهِيَّةَ لَا بُدَّ أَنْ تَمْتَازَ عن غَيْرِهَا وَتَتَشَخَّصَ في الذِّهْنِ وَمَعَ ذلك فَإِنَّهَا تَصْدُقُ على الْأَفْرَادِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْخَارِجِيَّةِ على ما تَلَخَّصَ في عِلْمِ الْمَنْطِقِ من صِدْقِ الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ على الْجُزْئِيَّاتِ
____________________
(1/430)
التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ وَالْكُلِّيُّ إمَّا تَمَامُ الْمَاهِيَّةِ أو جُزْءٌ منها أو خَارِجٌ عنها وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَاهِيَّةَ إمَّا أَنْ تُعْتَبَرَ من حَيْثُ إنَّهَا مَاهِيَّةٌ مع قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا يَعْرِضُ لها من الْعَوَارِضِ كَالْجُزْئِيَّةِ وَالْخَارِجِيَّةِ أو يُعْتَبَرُ مع الْعَارِضِ نَحْوُ كَوْنِهَا جُزْءًا لِغَيْرِهَا أو خَارِجًا عن مَاهِيَّةِ غَيْرِهَا فَالْأَوَّلُ تَمَامُ الْمَاهِيَّةِ وَالثَّانِي جُزْءٌ منها وَالثَّالِثُ خَارِجٌ عنها وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقُولَ في جَوَابِ ما هو إنَّمَا هو الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ سُؤَالٌ عَمَّا بِهِ هُوِيَّةُ الشَّيْءِ وهو تَمَامُ الْمَاهِيَّةِ وَأَمَّا الْكُلِّيُّ الذي هو جُزْءُ الْمَاهِيَّةِ فَهُوَ الْمُسَمَّى بِالذَّاتِيِّ على رَأْيِ الْأَكْثَرِينَ فَتَمَامُ الْمُشْتَرَكِ هو الْجِنْسُ وَتَمَامُ التَّمْيِيزِ هو الْفَصْلُ وَأَمَّا الْخَارِجُ فَإِنْ اخْتَصَّ بِنَوْعٍ وَاحِدٍ لَا يُوجَدُ في غَيْرِهِ فَهُوَ الْخَاصَّةُ وَإِنْ لم يَخْتَصَّ فَهُوَ الْعَرَضُ الْعَامُّ وَمِمَّا يَغْلُظُ فيه كَوْنُ الْعَرَضِ هَاهُنَا هو الْمُقَابِلُ لِلْجَوْهَرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فإن الْعَرَضِيَّ قد يَكُونُ جَوْهَرًا كَالْأَبْيَضِ وقد لَا يَكُونُ كَالْبَيَاضِ وَالْعَرَضُ لَا يَكُونُ جَوْهَرًا كَالْبَيَاضِ ثُمَّ الْعَرَضُ قد يَكُونُ لَازِمًا لِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ كَالضَّحِكِ لِلْإِنْسَانِ أَعْنِي بِالْقُوَّةِ الفرق بين العرضي اللازم والذاتي وَالْفَرْقُ بين الْعَرَضِيِّ اللَّازِمِ وَالذَّاتِيِّ أَنَّ الْعَرَضَ اللَّازِمَ يَكُونُ بَعْدَ تَحْقِيقِ الشَّيْءِ وَالذَّاتِيُّ يَكُونُ مُقَدَّمًا على حَقِيقَةِ الشَّيْءِ فإن الضَّحِكَ وَصْفٌ لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ إنْسَانًا وَالْحَيَوَانُ وَصْفٌ له مُقَدَّمٌ ذِهْنًا على كَوْنِ الْإِنْسَانِ إنْسَانًا وقد يَكُونُ لَازِمًا لِوُجُودِهِ كَسَوَادِ الْحَبَشِيِّ وَكَوْنِ الْإِنْسَانِ مَوْجُودًا وَالْعَرَضُ قد يَكُونُ غير لَازِمٍ في الْوُجُودِ وَلَا في الْوَهْمِ لِجَوَازِ زَوَالِهِ إمَّا سَرِيعًا كَالْقِيَامِ أو بَطِيئًا كَالسَّوَادِ الجزئي وَأَمَّا الْجُزْئِيُّ فَإِمَّا أَنْ يَسْتَقِلَّ في دَلَالَتِهِ على الْمَعْنَى الْجُزْئِيِّ فَهُوَ الْعَلَمُ كَزَيْدٍ وَإِلَّا فَإِنْ احْتَاجَ إلَى قَرِينَةٍ إمَّا تَكَلُّمٌ أو خِطَابٌ أو غِيبَةٌ فَهُوَ وهو الْمَوْصُولُ هذا هو الذي عليه الْأَكْثَرُونَ منهم الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ أَعْنِي أَنَّ الْمُضْمَرَ جُزْئِيٌّ وقد رَأَيْته مُصَرَّحًا بِهِ في كِتَابِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ في أَوَّلِ بَابِ الْعُمُومِ
____________________
(1/431)
وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ الْكُلِّيَّ نَكِرَةٌ وَالْمُضْمَرَاتِ أَعْرَفُ الْمَعَارِفِ وَلِأَنَّهُ لو كان مَوْضُوعًا لِكُلِّيٍّ لَمَا أَفَادَ الشَّخْصَ لِأَنَّ الدَّالَّ على الْأَعَمِّ غَيْرُ دَالٍّ على الْأَخَصِّ وَرَجَّحَ الْقَرَافِيُّ وَالْأَصْفَهَانِيُّ كَوْنَهُ مَوْضُوعًا لِكُلِّيٍّ لِأَنَّهُ لو كان لِجُزْئِيٍّ لَمَا دَلَّ على شَخْصٍ آخَرَ إلَّا بِوَضْعٍ آخَرَ فلما صَدَقَتْ لَفْظَةُ أنا على ما لَا يَتَنَاهَى من الْمُتَكَلِّمِينَ وَكَذَلِكَ أنت على ما لَا يَتَنَاهَى من الْمُخَاطَبِينَ وهو على ما لَا يَتَنَاهَى من الْغَائِبِينَ من غَيْرِ احْتِيَاجٍ لِوَضْعٍ دَلَّ على أَنَّهُ كُلِّيٌّ وَمَالَ إلَيْهِ أبو بَكْرِ بن طَلْحَةَ من النُّحَاةِ فقال إنَّ الْمُضْمَرَ لَا يُنْعَتُ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ فيه عُمُومٌ فَيَفْتَقِرُ إلَى تَخْصِيصٍ وَلَا اشْتِرَاكَ فَيَفْتَقِرُ إلَى إزَالَةِ كَذَا يقول النَّحْوِيُّونَ الْمُتَقَدِّمُونَ وَفِيهِ نَظَرٌ فإنه يُبْدَلُ منه لِلْبَيَانِ وَلَوْ لم يَقَعْ فيه اشْتِرَاكٌ لِمَا أُبْدِلَ منه أَصْلًا وَكَذَا قَوْلُهُمْ الْمُتَكَلِّمُ أَعْرَفُ من الْمُخَاطَبِ وَالْمُخَاطَبُ أَعْرَفُ من الْغَائِبِ اعْتِرَافٌ مُبْهَمٌ بِدُخُولِ الِاشْتِرَاكِ وَإِنَّمَا لم يُنْعَتْ لِأَمْرٍ آخَرَ وقال الشَّيْخُ أبو حَيَّانَ هو كُلِّيٌّ في الْوَضْعِ جُزْئِيٌّ في الِاسْتِعْمَالِ وهو حَسَنٌ وَبِهِ يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ وَالْحَقُّ أَنَّ الضَّمِيرَ بِحَسَبِ ما يَعُودُ إلَيْهِ فَإِنْ عَادَ على عَامٍّ كان عَامًّا في كل فَرْدٍ أو على جَمْعٍ فَهُوَ له وَإِنْ عَادَ على خَاصٍّ كان خَاصًّا وَأَمَّا إطْلَاقُهُمْ أَنَّ الْعَلَمَ جُزْئِيٌّ فَهُوَ في عَلَمِ الشَّخْصِ أَمَّا عَلَمُ الْجِنْسِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ كُلِّيٌّ الفرق بين علم الجنس وعلم الشخص واسم الجنس وَاعْلَمْ أَنَّهُ مِمَّا يَكْثُرُ السُّؤَالُ عنه الْفَرْقُ بين عَلَمِ الْجِنْسِ وَعَلَمِ الشَّخْصِ وَاسْمِ الْجِنْسِ وهو من نَفَائِسِ الْمَبَاحِثِ قال الْقَرَافِيُّ وكان الْخُسْرَوْ شَاهْ يُقَرِّرُهُ ولم أَسْمَعْهُ من أَحَدٍ إلَّا منه وما كان في الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ من يَعْرِفُهُ وهو أَنَّ الْوَضْعَ فَرْعُ التَّصَوُّرِ فإذا اسْتَحْضَرَ الْوَاضِعُ صُورَةَ الْأَسَدِ لِيَضَعَ لها فَتِلْكَ الصُّورَةُ الثَّابِتَةُ في ذِهْنِهِ هِيَ جُزْئِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُطْلَقِ صُورَةِ الْأَسَدِ فإن هذه الصُّورَةَ وَاقِعَةٌ في هذا الزَّمَانِ وَمِثْلُهَا يَقَعُ في زَمَانٍ آخَرَ وفي ذِهْنِ شَخْصٍ آخَرَ وَالْجَمْعُ مُشْتَرِكٌ في مُطْلَقِ صُورَةِ الْأَسَدِ فَهَذِهِ الصُّورَةُ جُزْئِيَّةٌ من مُطْلَقِ صُورَةِ الْأَسَدِ فَإِنْ وَقَعَ لها من حَيْثُ خُصُوصِهَا فَهُوَ عَلَمُ الْجِنْسِ أو من حَيْثُ عُمُومِهَا فَهُوَ اسْمُ الْجِنْسِ وَهِيَ من حَيْثُ عُمُومِهَا وَخُصُوصِهَا تُطْلَقُ على كل أَسَدٍ في الْعَالَمِ لِأَنَّا إنَّمَا أَخَذْنَاهَا في الذِّهْنِ مُجَرَّدَةً عن جَمِيعِ الْخُصُوصِيَّاتِ فَتُطْلَقُ على الْجَمِيعِ فَلَا جَرَمَ يُطْلَقُ لَفْظُ الْأَسَدِ وَأُسَامَةَ على جَمِيعِ الْأُسُودِ لِوُجُودِ الشَّرِكَةِ فيها كُلِّهَا فَيَقَعُ الْفَرْقُ بين اسْمِ الْجِنْسِ
____________________
(1/432)
وَعَلَمِ الْجِنْسِ بِخُصُوصِ الصُّورَةِ الذِّهْنِيَّةِ وَالْفَرْقُ بين عَلَمِ الْجِنْسِ وَعَلَمِ الشَّخْصِ أَنَّ عَلَمَ الشَّخْصِ مَوْضُوعٌ لِلْحَقِيقَةِ بِقَيْدِ التَّشَخُّصِ الْخَارِجِيِّ وَعَلَمَ الْجِنْسِ مَوْضُوعٌ لِلْمَاهِيَّةِ بِقَيْدِ التَّشَخُّصِ الذِّهْنِيِّ ا هـ وقال ابن إيَازٍ رَدًّا على من فَرَّقَ بين اسْمِ الْجِنْسِ وَعَلَمِ الْجِنْسِ أَنَّ عَلَمَ الْجِنْسِ وهو أُسَامَةُ مَوْضُوعٌ لِلْحَقِيقَةِ الذِّهْنِيَّةِ من غَيْرِ نَظَرٍ لِلْأَفْرَادِ وَعَكْسُهُ اسْمُ الْجِنْسِ قال فَيَلْزَمُ أَنَّ أُسَامَةَ إذَا اُسْتُعْمِلَ في الْأَفْرَادِ الْخَارِجِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هو حَقِيقَةٌ وقال الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ في الرَّدِّ على من فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْوَضْعُ مَسْبُوقٌ بِالتَّصَوُّرِ فَإِنْ كان لِلْأَفْرَادِ الْخَارِجِيَّةِ فَيَلْزَمُ وَضْعُهُ من غَيْرِ قَصْدٍ وهو بَاطِلٌ وقال صَاحِبُ الْبَسِيطِ من النَّحْوِيِّينَ إنَّمَا حُكِمَ لِعَلَمِ الْجِنْسِ بِالْعَلَمِيَّةِ لِأَنَّهُمْ عَامَلُوهُ مُعَامَلَةَ الْأَعْلَامِ في أَرْبَعَةِ أُمُورٍ دُخُولِ أَلْ عليها وَإِضَافَتِهَا وفي نَصْبِ الْحَالِ عنها نحو هذا أُسَامَةُ مُقْبِلًا وَامْتِنَاعِ صَرْفِهَا عِنْدَ وُجُودِ عِلَّتَيْنِ فيها وفي تَحَقُّقِ عِلْمِيَّتِهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا لِأَبِي سَعِيدٍ وَبِهِ قال ابن بَابْشَاذَ وابن يَعِيشَ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ على الْجِنْسِ بِأَسْرِهِ بِمَنْزِلَةِ تَعْرِيفِ الْجِنْسِ بِاللَّامِ في نَحْوِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَلِهَذَا يُقَالُ ثُعَالَةُ يَفِرُّ من أُسَامَةَ أَيْ أَشْخَاصُ هذا الْجِنْسِ يَفِرُّ من أَشْخَاصِ هذا الْجِنْسِ وَإِنَّمَا لم يَحْتَاجُوا في هذا النَّوْعِ إلَى تَعْيِينِ الشَّخْصِ كَغَيْرِهَا من الْأَعْلَامِ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى تَعْيِينِ أَفْرَادِهَا قال ابن يَعِيشَ وَتَعْرِيفُهَا لَفْظِيٌّ وَهِيَ في الْمَعْنَى نَكِرَاتٌ لِأَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ أُطْلِقَ على الْجِنْسِ فَقَدْ يُطْلَقُ على أَفْرَادِهِ وَلَا يَخُصُّ شَخْصًا بِعَيْنِهِ وَعَلَى هذا فَيَخْرُجُ عن حَدِّ الْعَلَمِ وَالثَّانِي لِابْنِ الْحَاجِبِ أنها مَوْضُوعَةٌ لِلْحَقَائِقِ الْمُتَّحِدَةِ في الذِّهْنِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْرِيفِ بِاللَّامِ لِلْمَعْهُودِ الذِّهْنِيِّ نحو أَكَلْت الْخُبْزَ وَشَرِبْت الْمَاءَ فإذا أُطْلِقَ على الْوَاحِدِ في الْوُجُودِ فَلَا بُدَّ من الْقَصْدِ إلَى الْحَقِيقَةِ فَالتَّعَدُّدُ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ لَا بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ وَالْفَرْقُ بين أَسَدٍ وَأُسَامَةَ أَنَّ أَسَدًا مَوْضُوعٌ لِكُلِّ فَرْدٍ من أَفْرَادِ النَّوْعِ على طَرِيقِ الْبَدَلِ فَالتَّعَدُّدُ فيه من أَصْلِ الْوَضْعِ وَأَمَّا أُسَامَةُ فإنه لَزِمَ من إطْلَاقِهِ على الْوَاحِدِ في الْوُجُودِ التَّعَدُّدِ فَالتَّعَدُّدُ جاء فيه ضِمْنًا لَا مَقْصُودًا بِالْوَضْعِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَمَّا لم يَتَعَلَّقْ بِوَضْعِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ بَلْ الْوَاحِدُ من حُفَاةِ الْعَرَبِ إذَا وَقَعَ طَرَفُهُ على وَحْشٍ عَجِيبٍ أو طَيْرٍ غَرِيبٍ أَطْلَقَ عليه اسْمًا يَشْتَقُّهُ من خِلْقَتِهِ أو فِعْلِهِ أو
____________________
(1/433)
وَصْفِهِ فإذا رَآهُ مَرَّةً أُخْرَى أَجْرَى عليه ذلك الِاسْمَ بِاعْتِبَارِ شَخْصِهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ على تَصَوُّرِ أَنَّ هذا الْمَوْجُودَ هو الْمُسَمَّى أَوَّلًا أو غَيْرُهُ فَصَارَتْ مُشَخَّصَاتُ كل نَوْعٍ مُنْدَرِجَةً تَحْتَ الْأَوَّلِ وَالرَّابِعُ قُلْته أنا أَنَّ لَفْظَ عَلَمِ الْجِنْسِ مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بين الْحَقِيقَةِ الذِّهْنِيَّةِ وَالْوُجُودِيَّةِ فإن لَفْظَ أُسَامَةَ يَدُلُّ على الْحَيَوَانِ الْمُفْتَرِسِ عَرِيضِ الْأَعَالِي فَالِافْتِرَاسُ وَعَرْضُ الْأَعَالِي مُشْتَرَكٌ بين الذِّهْنِيِّ وَالْوُجُودِيِّ فإذا أُطْلِقَ على الْوَاحِدِ في الْوُجُودِ فَقَدْ أُطْلِقَ على ما وُضِعَ له لِوُجُودِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَيَلْزَمُ من إخْرَاجِهِ إلَى الْوُجُودِ التَّعَدُّدُ فَيَكُونُ التَّعَدُّدُ من اللَّوَازِمِ لَا مَقْصُودًا بِالْوَضْعِ بِخِلَافِ أَسَدٍ فإن تَعَدُّدَهُ مَقْصُودٌ بِالْوَضْعِ فإذا تَقَرَّرَ ذلك فَالْفَرْقُ بين عَلَمِ الْجِنْسِ وَاسْمِ الْجِنْسِ بِأُمُورٍ أَحَدُهَا امْتِنَاعُ دُخُولِ اللَّامِ على أَحَدِهِمَا وَجَوَازُهُ في الْآخَرِ وَلِذَلِكَ كان ابن لَبُونٍ وابن مَخَاضٍ اسْمَ جِنْسٍ بِدَلِيلِ دُخُولِ لَامِ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِمَا الثَّانِي امْتِنَاعُ الصَّرْفِ يَدُلُّ على الْعِلْمِيَّةِ الثَّالِثُ نَصْبُ الْحَالِ عنها الرَّابِعُ نَصَّ أَهْلُ اللُّغَةِ على ذلك وَأَمَّا الْإِضَافَةُ فَلَا دَلِيلَ فيها لِأَنَّ الْأَعْلَامَ جَاءَتْ مُضَافَةً ا هـ وَأَحْسَنُ ما قِيلَ فيه أَنَّ اللَّفْظَ إنْ كان مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ الْحَقِيقَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُتَصَوَّرَ الْحَقِيقَةُ وَيَحْضُرَ فَرْدٌ من أَفْرَادِهَا في الذِّهْنِ مُتَشَخِّصًا فَالْوَاضِعُ تَارَةً يَضَعُ لِلْحَقِيقَةِ لَا بِقَيْدِ التَّشَخُّصِ الْخَاصِّ في ذِهْنِهِ فَيَكُونُ ذلك اسْمَ جِنْسٍ كَمَنْ حَضَرَ في ذِهْنِهِ حَقِيقَةُ الْأَسَدِ وَتَشَخَّصَ في ذِهْنِهِ فَرْدٌ من أَفْرَادِهِ فَوُضِعَ لِلْحَقِيقَةِ لَا لِذَلِكَ الْفَرْدِ وَتَارَةً يَضَعُ لِلتَّشَخُّصِ الْخَاصِّ في ذِهْنِهِ بِقَيْدِ ذلك الشَّخْصِ الذي هو حَاصِلٌ في أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ خَارِجِيَّةٍ فَهَذَا عَلَمُ الْجِنْسِ وَتَارَةً يَضَعُ لِلشَّخْصِ الْخَارِجِيِّ فَهُوَ عَلَمُ الشَّخْصِ وَسُمِّيَ هذا عَلَمًا لِأَنَّ الْوَضْعَ فيه لِلشَّخْصِ لِيَكُونَ التَّشْخِيصُ لِلْوَضْعِ الذِّهْنِيِّ وَالْخَارِجِيِّ وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إلَى أَنَّ عَلَمَ الْجِنْسِ هو الذي لُوحِظَ فيه خَاصَّةً من خَوَاصِّ ذلك الْجِنْسِ وَضُعِّفَ بِأَنَّ الْعَلَمَ هو الْمَوْضُوعُ لِلْحَقِيقَةِ بِقَيْدِ التَّشَخُّصِ الذِّهْنِيِّ وَلَيْسَ هذا من بَابِ الِاصْطِلَاحِ حتى لَا يُمْنَعَ لِأَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ الْعَلَمَ حَقِيقَتُهُ الْوَضْعُ لِلتَّشَخُّصِ الذِّهْنِيِّ وَالْخَارِجِيِّ فَاعْتِبَارُ الْوَصْفِ لَا مَدْخَلَ له فيه فَهَذَا هو الْفَرْقُ الصَّحِيحُ بين الثَّلَاثَةِ وَعِبَارَةُ سِيبَوَيْهِ تُعْطِي ذلك حَيْثُ قال هذا بَابٌ من الْمَعْرِفَةِ يَكُونُ فيه الِاسْمُ
____________________
(1/434)
الْخَاصُّ شَائِعًا في أُمَّتِهِ ليس وَاحِدٌ منها بِهِ من الْآخَرِ نحو قَوْلِك لِلْأَسَدِ أبو الْحَارِثِ وَأُسَامَةُ وَلِلثَّعْلَبِ ثُعَالَةٌ وأبو الْحُصَيْنِ وَذَكَرَ أَمْثِلَةً وَفَرَّقَ بين أُسَامَةَ وَزَيْدٍ بِأَنَّ زَيْدًا قد عَرَفَهُ الْمُخَاطَبُ بِحِلْيَتِهِ أو أَنَّهُ قد بَلَغَهُ وإذا قال أُسَامَةُ فَإِنَّمَا يُرِيدُ هذا الْأَسَدَ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يُشِيرَ إلَى شَيْءٍ قد عَرَفَهُ بِعَيْنِهِ قبل ذلك كَمَعْرِفَتِهِ زَيْدًا وَلَكِنَّهُ أَرَادَ بِ هذا الذي كُلُّ وَاحِدٍ من أُمَّتِهِ له هذا الِاسْمُ فَهَذَا الْكَلَامُ منه يُعْطِي ما قُلْنَا وَانْظُرْ قَوْلَهُ يَكُونُ فيه الِاسْمُ خَاصًّا شَائِعًا فَجَعَلَهُ خَاصًّا بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ الْمُشَخِّصَةِ الْمَوْضُوعِ وَشَائِعًا بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ الْخَارِجِيَّةِ وَإِلَى قَوْلِهِ يُرِيدُ هذا الْأَسَدَ وَلَا يُرِيدُ إلَى شَيْءٍ قد عَرَفْته وَبِهَذَا الْفَرْقِ يَتَّضِحُ أَنَّ عَلَمَ الْجِنْسِ مَعْرِفَةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى وَأَنَّ قَوْلَ ابْنِ مَالِكٍ إنَّهُ مَعْرِفَةٌ لَفْظًا وَنَكِرَةٌ مَعْنًى وَأَنَّهُ في أُسَامَةَ في السِّبَاعِ كَأَسَدٍ مَمْنُوعٌ وَوَافَقَهُ أبو حَيَّانَ على أَنَّ أُسَامَةَ نَكِرَةٌ في الْمَعْنَى وَفِيهِ ما تَقَدَّمَ فإذا ثَبَتَ هذا فَلَا إشْكَالَ في أَنَّ عَلَمَ الْجِنْسِ كُلِّيٌّ لِأَنَّهُ يَشْتَرِكُ في مَفْهُومِهِ كَثِيرُونَ
____________________
(1/435)
فَصْلٌ في نِسْبَةِ الْأَسْمَاءِ إلَى الْمُسَمَّيَاتِ الِاسْمُ وَالْمُسَمَّى إمَّا أَنْ يَتَّحِدَا أو يَتَكَثَّرَا أو يَتَكَثَّرَ الِاسْمُ وَيَتَّحِدَ الْمُسَمَّى أو عَكْسُهُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ الْأَوَّلُ أَنْ يَتَّحِدَا فَإِنْ كان نَفْسُ تَصَوُّرِ ذلك الْعَيْنِ يَمْنَعُ من وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فيه فَهُوَ الْجُزْئِيُّ وَإِنْ لم يَمْنَعْ وكان الِاشْتِرَاكُ وَاقِعًا فيه بِالْفِعْلِ وَعَلَى السَّوِيَّةِ فَمُتَوَاطِئٌ وَإِلَّا فَمُشَكِّكٌ فَالْمُتَوَاطِئَةُ هِيَ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ على الْأَعْيَانِ الْمُتَغَايِرَةِ بِالْعَدَدِ الْمُتَّفِقَةِ في الْمَعْنَى الذي وُضِعَ اللَّفْظُ له كَدَلَالَةِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ على زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ وَدَلَالَةِ لَفْظِ الْحَيَوَانِ على الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ وَالْحِمَارِ وَمِنْهُ دَلَالَةُ اللَّمْسِ على الْقُبْلَةِ وَعَلَى الْجِمَاعِ وَعَلَى غَيْرِهَا من أَنْوَاعِهِ وَدَلَالَةُ اللَّوْنِ على السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَعَلَى غَيْرِهَا من أَنْوَاعِهِ الثَّانِي أَنْ يَتَكَثَّرَا فَهِيَ الْأَلْفَاظُ الْمُتَبَايِنَةُ كَالْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ وَغَيْرِ ذلك من الْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمَوْضُوعِ لِمَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَذَلِكَ إمَّا أَنْ تَتَبَايَنَ بِذَاتِهَا أَيْ يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهَا كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَالْإِنْسَانِ وَالْحَجَرِ أو تَتَبَايَنَ بِصِفَاتِهَا مع إمْكَانِ اجْتِمَاعِهَا بِأَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا اسْمًا لِلذَّاتِ وَبَعْضُهَا اسْمًا لها إذَا اتَّصَفَتْ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ كَالسَّيْفِ وَالصَّارِمِ وَيُسَمَّى الْمُزَايَلَةَ وقد يَكُونُ بَعْضُهَا اسْمًا لِلصِّفَةِ وَبَعْضُهَا اسْمًا لِصِفَةِ الصِّفَةِ كَالنَّاطِقِ بِالْفِعْلِ وَالْفَصِيحِ وَسُمِّيَتْ مُتَبَايِنَةً من الْبَيْنِ الذي هو التَّبَاعُدُ لِأَنَّ مُسَمَّى هذا غَيْرُ مُسَمَّى ذَاكَ أو من الْبَيْنِ الذي هو الْفِرَاقُ لِمُفَارَقَةِ كل وَاحِدٍ من الْآخَرِ لَفْظًا وَمَعْنًى الثَّالِثُ أَنْ يَتَعَدَّدَ اللَّفْظُ وَيَتَّحِدَ الْمَعْنَى فَهِيَ الْمُتَرَادِفَةُ كَالْإِنْسَانِ وَالْبَشَرِ قال ابن خَرُوفٍ النَّحْوِيُّ وَإِنَّمَا يَكُونُ في الْأَجْنَاسِ لَا الْأَعْلَامِ انْتَهَى وَاشْتِقَاقُهُ من رِدْفِ الدَّابَّةِ يُشْبِهُ اجْتِمَاعَ الرَّاكِبِينَ على مَعْنًى وَاحِدٍ بِاجْتِمَاعِ الرَّاكِبِينَ على دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ إنْ اتَّحَدَ مُسَمَّاهَا ظَهَرَ التَّرَادُفُ وَإِنْ اخْتَلَفَ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ فَلَا تَرَادُفَ وقد يَخْفَى وَجْهُ الِاخْتِلَافِ فَيَقَعُ الْغَلَطُ وَمِمَّا اعْتَبَرَهُ بَعْضُهُمْ في هذا النَّظَرِ في الِاشْتِقَاقِ اللَّفْظِيِّ وَيُجْعَلُ التَّبَايُنُ وَاقِعًا فيه وَمِنْ ثَمَّ أَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ كما سَيَأْتِي
____________________
(1/436)