الاجتهاد والمجتهدون بالأندلس والمغرب
تأليف الأستاذ الإمام
أبي المزايا محمد إبراهيم بن أحمد بن جعفر الكتاني الحسني
(1325 – 1411)
باعتناء وتقديم
الشريف محمد حمزة بن علي الكتاني
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
تقديم بقلم المعتني
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه؛ وبعد:
روينا بالأسانيد المتصلة إلى سيدنا علي بن أبي طالب عليه السلام مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يحمل هذا العلم من كل خلف عُدُوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"(1). يعد هذا الحديث الشريف من علامات النبوة، ومن الأحاديث الكريمة التي أثبتت اتصال العلم الشريف وحفظه وبقاءه، علاوة على قول الله تعالى عن الوحي الكريم: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.[الحجر: 9]. والقرآن – كما لا يخفى – إشارة للدين ككل، وهو من باب إضافة الخاص على العام.
فقد تكفل الله تعالى بحفظ دينه إجمالا، وعصمته من طوارق الحدثان عليه، وشقشقات وهذيان أهل الدسائس والمكر والزيغ، فلا يأتي زمن تبرد فيه جذوة الشريعة الإلهية، وتتفصم فيه عرى الدين المحمدي إلا ويبعث الله تعالى من يجدد أمر الدين، ويحيي دارسه، ويبعث الروح في أطرافه، وهو مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو داود والحاكم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: "إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"(2).
__________
(1) صحح هذا المتن الإمام أحمد – رحمه الله – كما نقل ذلك عنه الخطيب البغدادي كما في "الجامع الكبير" للسيوطي (8/ 62 – 63).
(2) رواه أبو داود في "السنن" (4/ 109)، والحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (567، 568).(1/1)
ومقتضى هذا التجديد والحفظ: صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، وقيوميته بحل جميع المشاكل الصغرى والكبرى في جميع المجالات، إذ هو دين الله تعالى خالق الملوين، ومدبر أمور العالم، ورب العالمين ومربيهم، إذ لا تجديد مع ركود، ولا حفظ مع عدم صلاحية.
فالإسلام إنما جاء بنظريات عامة، وشرائع مرنة، تتكيف مع كل زمان ومكان، وشعب وجنس، بحيث جعل الله تعالى شرائعه متعلقة بمفاصل النفس البشرية، ومجامع النوع الإنساني، تلك التي يمكننا تسميتها بـ: نقاط الالتقاء بين الطبائع البشرية، ولا شك أنه علميا كل نقطة التقاء تتضمن مجموع الصفات التي تعود نفسها لكل طرف من الملتقيات، ففلسفة العالم إنما تكمل وتكتسب الشمول عندما تغطي أكبر قدر من نقط الالتقاء، وكلما زادت معرفة المنظر باختلاف العالم واتفاقه؛ كلما تمكن من حشذ القواعد المتعلقة بنقط الالتقاء، وبذلك تعميم نظريته على أكبر شريحة من المجتمعات.
وحيث إن الله تعالى خالق الكون ومبدعه، علام الغيوب، العليم الحكيم؛ فإنه – سبحانه – خص شريعة نبيه الذي جعله خاتم أنبيائه، ورحمة للعالمين إلى يوم القيامة؛ بالشمولية والصلاحية لكل زمان ومكان، عن طريق معرفته تعالى بجميع نقط التقاء واختلاف الأكوان، بله الإنسان. ومن هنا احتوت الشريعة الإسلامية على معنى الديمومة والمرونة والشمولية.
ونظرا لتطور الزمان بتطور المجتمعات، وتطور حاجيات المجتمعات ومشاكلها نظرا لتطور الزمان، ونظرا لصلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان؛ اقتضى ذلك وجوب تطورها بتطور البشرية، وخلقها لحلول مختلف المشاكل التي تنتاب الإنسانية؛ وهو ما يسمى: الاجتهاد.(1/2)
فالاجتهاد هو: الرجوع إلى المسلمات لابتكار حلول للحوادث. فيقتضي وجود مسلمات؛ وهي: أصول التشريع، ووجود حوادث؛ وهي: تطور الزمان، ووجود حلول؛ وهي: الأحكام الشرعية المتعلقة بالمتغيرات، ووجود مبتكر الحل عن طريق إضافة المسلمة إلى الحادثة؛ وهو: المجتهد. ومن هنا استحال انقطاع الاجتهاد - عقلا ونقلا- في أي زمان وأي مكان!.
ولذلك فإني أرى أن الاجتهاد لم ينقطع قط في تاريخ الفقه الإسلامي، وأنه في كل زمان زمان وجد مجتهدون، فقهاء متبحرون يعملون القواعد الشرعية في الحوادث الوقتية لتبيين حكم الله تعالى فيها، وأن الحملة التي أقيمت في بداية القرن العشرين – الميلادي – إنما كانت حملة استشراقية استعمارية أريد بها خلق جيل يتنكر لجميع المباديء والأسس التي بني عليها الفقه الإسلامي، والحط من نظرة التعظيم والتقديس التي كان المجتمع يراها في علمائه ورجالات الدين. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى فقد اتسم تطور المجتمعات الإسلامية، بل والمجتمعات العالمية ككل، من القرن الثامن الهجري إلى القرن الثالث عشر بالبطء، الأمر الذي تسبب في بطء التفكير، وعدم تجديد الوسائل العلمية القديمة، لعدم الاحتياج إلى ذلك، بحيث – ونظرا لركود المجتمعات – تباطأ الفكر الاجتهادي في الفقه الإسلامي. ونظرا لدخول الاستعمار الغربي على المجتمعات الإسلامية، وارتفاع الحواجز الحضارية بذلك بين الشرق والغرب في وقت كان الغرب في أوج منحنى الازدهار والشرق بالعكس، فقد فاض فيضان الحضارة الغربية بكل متغيراتها وتطورها وفلسفتها وقانونها إثر الثورات الصناعية والتحررية بأوروبا بعد القرن العاشر الهجري – السادس عشر الميلادي – على المجتمعات الإسلامية، الأمر الذي شكل ما يصح أن يسمى: "الصدمة الحضارية"، والتي احتاجت إلى قفزة نوعية في الفقه الإسلامي وسائل ومقدرة على الاستنباط.(1/3)
فكان هذا التغير الطاريء على المجتمع الإسلامي بمقابلة البطء الفكري الذي حتمه بطء التطور سابقا، وطبقا للنظرية النسبية في التسارع؛ سببا في إبراز الفقه والفكر الإسلامي في أول وهلة بالجمود والتحجر، وإبراز الفقهاء والعلماء بصورة غير المواكب للعصر. الأمر الذي كان السبب الثاني لبزوغ دعوات الاجتهاد، وادعاء انقطاعه منذ زمن كذا وكذا، وهو في الحقيقة لم ينقطع!.
وقد صاحب هذه "الصدمة الحضارية" دخول المطابع للعالم الإسلامي، وطباعة مجموعة من الأصول التي كانت تعتبر مفقودة منذ قرون، وإحياء تراث مجموعة من المجتهدين المعتمدين على الجذور الخمسة من أصول التشريع، الأمر الذي فتح سوقا توافقت مع مقتضيات العصر لدعاة الاجتهاد على الطراز الأول، والاستنباط المباشر من الكتاب والسنة دون الاعتماد على نتائج فكر المتأخرين، ومراعاة التدرج التاريخي والفكري والحضاري، بالأخذ بالنظر خصوصية كل مجتمع مجتمع، وشعب شعب.
فتمايز دعاة الاجتهاد إلى:
رجال الشورى: وهم الفقهاء المشاورون الذين يتعرضون للأحكام الشرعية المتعلقة بالدولة خارجيا وداخليا.
مجتهدي قضاء: وهم القضاة المحترفون في استنباط الأحكام الفقهية المتعلقة بالصراعات البينية.
مجتهدي فتيا: وهم العلماء المتصدرون لإبراز الحكم الشرعي في مختلف النوازل الحادثة، والتي لم يتم التطرق إلى الحكم فيها فيما سبق.
وهذه الطبقات الثلاث من المجتهدين لم تنقطع عبر الزمان، وقد قسمها الفقهاء فيما قسموه من مراتب الاجتهاد، تدرجا بين مجتهد الفتيا إلى مجتهد المذهب؛ وهو: الذي يعتمد أصول مذهب معين في استقراء الأحكام الشرعية عبر النصوص الأصلية.
كما تمايز الفقهاء الأثريون: وهم فقهاء من مختلف المذاهب، يتبعون المذهب المعين، مع اطلاع لهم على أصول التشريع من قرآن وحديث وفتاوى السلف، وأصول وفروع؛ فيتبعون ما وردت بذكره النصوص الظاهرة بغض النظر عن موافقة مشهور المذهب أو مخالفته.(1/4)
دعاة الاجتهاد المطلق: وهم الداعون إلى الأخذ المباشر من معين الكتاب والسنة وأصول الاجتهاد، وهم قلة في كل قرن، واشتدت دعوتهم وعلت في مطالع القرن الرابع عشر الهجري، وهم المقصودون – في العموم – إذا ذكر دعاة الاجتهاد.
وهؤلاء المجتهدون في العصر الحاضر ينقسمون إلى قسمين:
مجتهدين انطلقوا من أصول التشريع الإسلامي، وانبثقوا عن شروط الاجتهاد التي وضعها علماء الإسلام في الماضي والحاضر.
ورجال فقه وعلم تأثروا بالأفكار والفلسفة الغربية، والقوانين الوضعية الحديثة، وانبهروا بها، فحاولوا التوفيق بين الفقه الإسلامي وبين تلك القوانين عن طريق لي أعناق النصوص التشريعية لتتوافق مع تلك القوانين، مختلفين في تدرجهم بالتوفيق بين الأقرب لأصول التشريع الإسلامي، والأقرب لأصول التشريع القانوني والغربي. وفي الغالب هم الذين يطلق عليهم بالتيار السلفي الحديث، من أتباع محمد عبده وجمال الدين الأفغاني.
وكيفما كان الاختلاف في الاجتهاد المطلق وإمكانيته وعدمها، فإن الاجتهاد باعتباره أعلى درجات الإبداع والابتكار العقلي؛ يعد في الدرجة العليا من السلم المعرفي العقلي.
وحيث إن المعرفة تتدرج من السلم الحسي؛ المتدرج من الإحساس إلى التصور، إلى الإدراك، ثم منه للسلم العقلي ابتداء من المفهوم إلى الحكم إلى القياس (الاجتهاد)، وحيث إن الاجتهاد – كما عرفناه سابقا – هو: الرجوع إلى المسلمات لابتكار حلول للحوادث.(1/5)
فيحتاج الفاعل فيه (المجتهد) إلى المطابقة بين المسَلَّم والحادث الذين يمثلان الموضوع، لينفعل بهما نحو النتيجة. فمن حيث المسلَّم وهو أصول التشريع التي اتفقت عليها الأمة؛ وهي: الكتاب والسنة، والإجماع والقياس، والاستحسان والمصالح المرسلة، وسد الذرائع. على المجتهد أن يعرفها ويتصورها حتى يدركها. وبما أن علوم الكتاب والسنة مبنية على القالب اللغوي؛ فلا مناص من التبحر في علم اللغة. ويقتضي علم الأصول المذكورة: علم ما بنيت عليه من القواعد، ومعرفة تبحر الفقهاء وثروتهم الفكرية عبر التاريخ بخصوصها، ولا مناص من الاطلاع على المذاهب الأربعة، وفتاوى قدماء المجتهدين، وفتاوى الصحابة والتابعين فمن بعدهم، والإحاطة بعلم الأصول الذي هو أداة الاجتهاد.
أما من حيث الحوادث؛ وهي النوازل والمتغيرات الوقتية؛ فلا مناص من معرفة الواقع المعيش، وفهم ماجريات الأمور وعلى أي قواعد تسير.
أما من حيث المجتهد نفسه؛ فلا شك أنه يحتاج إلى مقدرة عقلية وفطرية تؤهله لإدراك المسلم والحادث والربط بينهما، ثم اكتساب المفهوم للخروج بالحكم المبتغى من وراء ذلك.
والاجتهاد بشتى درجاته معتمد على هذه الشروط المذكورة قوة وضعفا، وإلا فلا يعدو أن يكون عبثا، واسما بلا مسمى.
ومن هنا يتضح لنا السبب في أنه لم يكد داعية للاجتهاد المطلق في العصر الحديث يدون فقهه قط، ويتحدث عن النوازل الكبرى التي تمر بها الأمة الإسلامية في هذه العصور؛ نظرا لعدم التوفر الحقيقي على الثروة المعرفية المؤهلة للاجتهاد المطلق إلا لماما.
وعند إدراك دعاة الاجتهاد لهذه النقيصة؛ قاموا بالدعوة إلى ما يسمى بالاجتهاد الجماعي، ولا شك أن الاجتهاد الجماعي على أرض الواقع لا يعدو أن يكون أمنية غير متوصل إليها، لاختلاف المشارب والمدارك، والاجتهاد يقتضي واسطة بين المسلم والحادث لا وسائط.(1/6)
وبالرغم من ذلك؛ فقد تسببت هذه الصدمة الحضارية في تحفيز عقول عدة من العلماء إلى الإبداع والابتكار، وإنتاج تراث قانوني فقهي شرعي مهم للغاية في مواكبة ماجريات العصر وتطوراته، والمناغاة بين التراث الفكري الفلسفي الإسلامي والفكر الأوروبي بما لا يتنافى مع قواعد الشريعة في كثير من الأحيان.
الاجتهاد في المغرب:
تميز المغرب الأقصا عبر التاريخ بوحدته سياسيا ومذهبيا وعقائديا منذ بزوغ شمس دولة الأدارسة، وظهور المولى إدريس الأول بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وتأسيسه للدولة المغربية عام (172 هـ)، كما تميزت مختلف الدول المتعاقبة على المغرب باعتنائها بالعلماء، وتأسيسها لمجلس الشورى، الأمر الذي ميز المغرب بإنتاج جملة من الفقهاء المشاورين الذين مارسوا السياسة الداخلية والخارجية للدولة، فمارسوا الإسلام دينا ودنيا، مجتمعا وسياسة، سلما وحربا.
وباستثناء بدايات فترة الموحدين (542 - 669) التي دعا فيها القرار السياسي إلى إحياء الاجتهاد المطلق؛ فقد ترسخ المذهب المالكي تشريعا وتدينا، طول فترة تاريخ الدولة المغربية، ومع الاستقرار الفكري، وتنوع مهام الدولة لوجودها بين ملتقى حضارات؛ ازدهر فقه النوازل في الغرب الإسلامي، وأنتج ثراء معرفيا اجتهاديا داخل أصول الفقه المالكي.
كما استفاد الفقهاء والنوازليون من مختلف المذاهب الإسلامية؛ خاصة الشافعي والحنفي، كما أشار ابن المواق إلى ذلك في "سنن المهتدين".
وبالرغم من هذا الاستقرار والتناغم؛ فقد ظهرت مدارس تأثرت بمدارس الاجتهاد في الأندلس والمشرق، تدعو إلى عدم التقليد، وإلى الأخذ المباشر من الكتاب والسنة، واعتماد فتاوى المجتهدين.(1/7)
ويتمايز أرباب هذه الدعاوى بين فقهاء موسوعيين، خدموا ضمن المذهب المالكي مذاهب الصحابة والتابعين وأئمة الأمصار؛ كما هو الحال عند أبي علي عمر بن علي ابن الزهراء العثماني الورياغلي (ق8) صاحب كتاب "الممهد الكبير، الجامع لمعاني السنة والأخبار، وما تضمنه موطأ مالك من الفقه والآثار، وذكر الرواة البررة الأخيار، وكل ذلك على سبيل الإيجاز والاختصار" في واحد وخمسين مجلدا، وبين دعاة اجتهاد مطلق كأبي علي الحسن ابن القطان الفاسي وأضرابه. وقد ازدهر أرباب هذا الاتجاه في زمن الدولة الموحدية حتى ذكر المؤرخون أن السلطان عبد المؤمن بن علي الموحدي أمر بإحراق كتب الفروع حتى كان العسكري يأتي بالأحمال من الكتب فتوقد فيها النار!.
غير أنه وبالرغم من الحرص الشديد من الدولة حكما ومجتمعا على حفظ المذهب المالكي؛ فإننا نجد في تراجم عدة من كبار علماء المغرب وصفهم ببلوغ رتبة الاجتهاد، أو كادوا، أو: استكملوا أدوات الاجتهاد على الخصوص والعموم. فمثلا في ترجمة ابن رشيد الفهري (ت721). وفي ترجمة ابن غازي (ت: 919): "بقية العلماء المجتهدين"(1). وفي ترجمة العربي بن يوسف الفاسي، وفي ترجمة الحسن بن مسعود اليوسي (ت: 1102): "لو دون مذهبا لاتبع". وفي ترجمة أحمد بن مبارك اللمطي (ت: 1155): "استكمل أدوات الاجتهاد على الخصوص والعموم"(2). وفي ترجمة حمدون ابن الحاج السلمي (ت: 1232): "استكمل أدوات الاجتهاد على الخصوص والعموم"(3).
__________
(1) "سلوة الأنفاس فيمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس". للإمام محمد بن جعفر الكتاني. الطبعة الحجرية (2/ 73).
(2) "سلوة الأنفاس" (2/ 203).
(3) "الشرب المحتضر في تراجم أهل القرن الثالث عشر" تأليف الإمام جعفر بن إدريس الكتاني، طبعة حجرية ص10.(1/8)
كما اشتهر في أقوال شيوخ التصوف – خاصة الموصوفين ببلوغ النهايات في المقامات – ما يشير بأن الصوفي الحق هو الذي يأخذ مباشرة من البرزخ المحمدي بدون واسطة المذاهب، كما في أقوال الشيخ عبد العزيز الدباغ وغيره. وبالرغم من ذلك؛ فقد كان هذا الكلام مقبولا لدى العامة والخاصة نظرا لمدى القداسة التي كان يحتلها أولئك في القلوب.
ومن هنا يظهر لنا السبب في أن جل دعاة ومدارس الاجتهاد في المغرب إنما انبثقت من زوايا صوفية؛ كالزاوية الدلائية، والناصرية، والعياشية...ثم الكتانية. إضافة إلى الاعتناء الخاص للطريقة الشاذلية – وهي طريقة تنبع من الدولة الإدريسية، وهي أم الزوايا والطرق بالمغرب – بالحديث النبوي، والاستغراق في سيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، الأمر الذي حتم على أتباعها وأتباع فروعها المذكورة الاستغراق في علوم السنة والأثر.
وفي أوائل القرن الرابع عشر الهجري، وإثر الصدمة الحضارية التي شعر بها المشرق قبل المغرب، نظرا لدخول الاستعمار إليه قبله؛ ظهرت دعاوى الاجتهاد، والرجوع إلى الأصل الصافي للتشريع الإسلامي، وانبثقت في المغرب مدارس تتمايز بين الليونة والصلابة تركت بصمتها المهمة في تاريخ الفكر الإسلامي المعاصر بالمغرب، وقد ارتبطت ارتباطا واضحا بعلاقتها بالتصوف سلبا وإيجابا.
ونظرا لتعلق الكتاب الذي نقدم له تعلقا مباشرا بالمدارس الاجتهادية الحديثة بالمغرب؛ فأجدني مضطرا لذكر تلك المدارس وأهم رموزها ومبادئها. وهي على ضوء ما سبق:(1/9)
مدرسة عبد الله بن محمد السنوسي (ت 1350/ 1930): أتى بها من المشرق بعد طول مكث به، وكانت تدعو إلى نبذ المذهب المالكي، ونبذ العقيدة الأشعرية، ونبذ التصوف، وهي أقرب في مشربها إلى المدرسة الوهابية بنجد حينه، ومدرسة أهل الحديث بالهند. ونظرا لتصلب أرباب هذه المدرسة وإبعادهم النجعة عن المألوف؛ اصطدمت بتيار معارض قوي حينها، ولم يكتب لها الانتشار إلا في نهايات القرن الرابع عشر. ومن أبرز أعلام تلك المدرسة: تقي الدين الهلالي (وإن كان تلميذا لابن العربي العلوي آتي الذكر)، ومنه انتشرت ضمن ما يعرف الآن بالتيار السلفي بالمغرب بمختلف توجهاته.
الطريقة الأحمدية الكتانية: وتأسست عام (1308/ 1890) على يد الإمام أبي الفيض محمد بن عبد الكبير الكتاني. وهي طريقة صوفية، مستغرقة في الجناب النبوي صلى الله عليه وسلم، داعية إلى مواكبة العصر حضارة، وإلى الاجتهاد وإحياء الفقه الإسلامي. وادعى مؤسسها الاجتهاد المطلق، مع عدم إقصائها للمذهب المالكي، بل اعتنت بتدريسه في مختلف زواياها، إضافة إلى علوم الاجتهاد، ونشر كتب المجتهدين؛ كنيل الأوطار للشوكاني، و"روح المعاني" للألوسي، وإحياء علوم الحديث والأثر وبثها. ولقيت انتشارا في القرن الرابع عشر. ومن أهم أعلامها المجتهدين والأثريين: عبد الكبير بن محمد الكتاني، وعبد الحي بن عبد الكبير الكتاني، ومحمد الباقر بن محمد الكتاني، وعبد الرحمن بن محمد الباقر الكتاني. ومن أهم كتبها في مجال الاجتهاد: "البحر المتلاطم الأمواج، المزيل لما شاب سنة القبص من التخاصم واللجاج". في مجلدين للحافظ عبد الحي الكتاني، وموضوعه العام: الاجتهاد والدفاع عنه. وكذا كتابه: "إفادة النبيه بتيسر الاجتهاد ومن ادعاه أو ادعي فيه". وتعد هذه المدرسة من الناحية الفعلية رائدة الفكر الاجتهادي بالمغرب القرن الرابع عشر.(1/10)
الطريقة الصديقية الشاذلية: شيخها محمد بن الصديق الغماري (ت: 1354). وهي بنت الزاوية الكتانية من الناحية الفكرية، ومن أهم زعمائها: أحمد بن محمد بن الصديق الغماري، وعبد الله بن محمد الغماري، وعبد العزيز بن محمد الغماري. ويمكن عدها – كذلك – مزيجا من التأثر بالمدرسة الأولى والثانية. دعا أربابها إلى الاجتهاد المطلق، وإحياء السنن والآثار، ونبذ المذهب المالكي، واتسموا بالعنف والقسوة في إبداء آرائهم. كما تأثروا تأثرا بينا بالفكر الشيعي في المشرق. ومن أهم أدبياتها في الموضوع: "الإقليد في تنزيل كتاب الله على أهل التقليد". للحافظ أحمد بن محمد بن الصديق الغماري.
المدرسة السلفية الوطنية: وهي المدرسة التي تبنت الحركة الوطنية الحزبية، تربت فكريا على يدي محمد بن العربي العلوي (ت: 1384)، والذي تخرج على أبي شعيب بن عبد الرحمن الدكالي (ت: 1356) المتأثر ببلاد المشرق وما انفعل بها من المذاهب. تأثرت هذه المدرسة بفكر أبي شعيب الدكالي وتلميذه ابن العربي فيما يتعلق بنبذ التصوف والصوفية، ومحاربة كل ما يعتبرونه خرافة. كما لقحت أفكارها بفكر المدرسة السلفية المصرية ممثلة في جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وهي مدرسة تكاد تنفي جل الغيبيات، وتجذب الفكر الإسلامي نحو الفكر المادي، مع الاعتناء بالاجتهاد "العقلي" كركيزة من ركائز البعث الإسلامي المعاصر.
وعلى هذه المدرسة الأخيرة تربى أبناء الحركة الوطنية، ويفعوا في النفور من التصوف ومن الفقه الإسلامي المالكي، وتدرج أرباب هذه المدرسة بين الاتجاه المعتدل الأقرب إلى المدرسة السنوسية السابقة، وبين الاتجاه المتطرف ممثلا في الفكر العلماني البحت.
وإلى هذه المدرسة الأخيرة ينتمي مؤلف الكتاب العلامة محمد إبراهيم بن أحمد الكتاني، الذي يعد أحد أهم منظريها، ورائد الفكر المعتدل بها.(1/11)
كما تبلورت مدرسة فكرية اجتهادية أثرية هادئة، تناغمت مع متغيرات العصر دون اصطدام بالواقع، تدعو إلى الاجتهاد غير بعيد عن المذهب المالكي، وتعنى بمحاورة الفكر الغربي الطاريء على البلاد، ومقارعته بمختلف الوسائل، ومن أهم أرباب هذه المدرسة: محمد بن الحسن الحجوي، ومحمد بن عبد السلام السائح، وهي مدرسة أقرب للسقي من علم الأصول منها لعلم الحديث.
وامتدادا للمدرسة الفقهية المالكية؛ تميز بعض أئمة العلم ببلوغ رتبة الاجتهاد، بل اجتهدوا واستنبطوا على طريقة الاجتهاد المطلق دون الدعوة صراحة إلى الاجتهاد، فكان بلوغهم عن استحقاق وجمع لأدوات الاجتهاد؛ ونجد منهم على سبيل المثال: محمد بن جعفر الكتاني (ت: 1345)، فقد قال فيه شيخ الجماعة في الشمال المغربي أحمد بن محمد الرهوني: "عادته في القراءة: تحرير المسائل على طريقة الاجتهاد"(1). ويعد هذا الإمام شيخ جميع أئمة المدارس السالفة الذكر، باستثناء المدرسة الأولى.
ومن أهم مجتهدي هذه المدرسة، بل مجتهدي المغرب: الإمام محمد المنتصر بالله بن محمد الزمزمي بن محمد بن جعفر الكتاني (ت: 1419) الذي خدم علوم الاجتهاد عمليا، عن طريق ابتكار علم معاجم الفقه؛ كمعجم فقه الظاهرية في مجلدين، و"معجم فقه السلف صحابة وعترة وتابعين" في تسعة أجزاء، وكتابته في النظام السياسي والمالي للدولة الإسلامية على طريقة الاجتهاد. بحيث يعد مثالا حيا للمجتهد العامل باجتهاده إحياء للأمة وتفعيلا للقانون الإسلامي.
__________
(1) "عمدة الراوين في تاريخ تطاوين" تحت الطبع، تأليف أحمد بن محمد الرهوني (9/ 5).(1/12)
كما نلاحظ أن جل أو جميع وزراء الشؤون الإسلامية والثقافة في فترة الاستعمار كانوا من أتباع المدرستين الرابعة والخامسة، مما يدل على أن إرادة سياسية كانت خلف انتشارهما وترسيخهما لدى الطبقة المثقفة، الأمر الذي يشير بوضوح إلى سياسة المستعمر نحو نفوذ الفقهاء والقرويين داخل المجتمع المغربي ومحاولاته الجدية من أجل تقليل ذلك وإضعاف اللحمة بين العالم والفرد، ومن ذلك إحداث بلبلة في الهوية والعقيدة لدى المواطن تعمل على ضعف المرجعية، وتمايز الأهداف.
بين يدي الكتاب:
في هذا الجو، وفي تلك البيئة كتبت هذه المقالات، وفي إطار النهضة الفكرية والفقهية التي كان يراد لها أن تزدهر وتتنامى، لولا انقطاع العمل بالشريعة الإسلامية وإحلال القانون الوضعي محلها. ونظرا لأهميتها من الناحية البحثية والفكرية فقد ارتأيت جمعها وترتيبها وإعادة نشرها، إذ تعد لبنة مهمة في الثقافة المغربية بالخصوص والثقافة الإسلامية في العموم. كما آثرت وضعها تحت عنوان: "الاجتهاد والمجتهدون بالمغرب والأندلس".
فقد كان مؤلف هذه المقالات الإمام أبو المزايا محمد إبراهيم بن أحمد الكتاني أحد رواد الفكر الإسلامي في المغرب، وأحد دهاقنة إحياء التراث الذين كانت لهم يد بيضاء على الموروث الثقافي الإسلامي عموما، والمغربي خصوصا، وكان على رأس رواد المدرسة السلفية الوطنية، تميز عن أصحابها بالاستقامة الدينية، والزخم المعرفي، والاستماتة في الدفاع عن الإسلام، والغيرة على الشريعة الإسلامية، والتوفيق بين الفكر الإصلاحي المشرقي والنصوص الشرعية، بحيث يعد – إلى حد كبير – كمحمد رشيد رضا في المشرق، متميزا عنه بالجهاد بالنفس ضد المستعمر، والسمو الديني والأخلاقي، الأمر الذي حتمته عليه بيئته الدينية الكتانية العريقة.(1/13)
فقد خدم الأستاذ الكتاني – رحمه الله – فكر الاجتهاد والإبداع في الفكر الإسلامي بمختلف مؤلفاته ومحاضراته ودروسه، حتى كتب موسوعته الكبرى: "طبقات المجتهدين وأعداء التقليد في الإسلام" في خمسة مجلدات، سهر عليها أكثر من أربعين عاما جمعا وتعليقا، ولو طبعت لكانت من أعظم كتب التراجم في الإسلام نظرا لأهمية موضوعها، ودقة وموسوعية مؤلفها.
يحتوي كتابنا هذا على سبع دراسات للإمام الكتاني نشرت في مختلف المنابر العلمية والثقافية في المغرب والمشرق، وقد ارتأيت ترتيبها حسب مواضيعها على النسق التالي:
* - إحياء الاجتهاد باعتباره قاعدة من قواعد التفكير في الإسلام. وهو دراسة مفصلة حول أصل الاجتهاد ومنشئه، وميادينه وأنواعه، ولمحة من تاريخه – خصوصا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلافة الراشدة، وفلسفته، وشروطه، وأسباب انقطاعه، والدعوة لإحيائه، وأسباب هذه الدعوة. ويليه ثلاثة ملاحق بها نصوص في الموضوع.
وأصل هذه الدراسة محاضرة ألقاها الأستاذ إبراهيم الكتاني في الأكاديمية الملكية المغربية، نشرت في "مجلة الأكاديمية" العدد الأول، جمادى الأولى عام 1404 (موافق فبراير 1984).
* - مؤلفات ابن حزم ورسائله بين أنصاره وخصومه. باعتباره مثالا حيا لمجتهدي الأندلس الذين كان لهم تأثير كبير على الاجتهاد بالغرب الإسلامي، بل والشرق كذلك. وهي دراسة قدمها الكتاني للتعريف بمؤلفات ابن حزم، يدخل ضمن تقديم ببليوغرافيا ابن حزم، وهي كذلك دراسة نقدية حاول فيها أن يضع هذا المجتهد في المكانة التي يستحقها في الفكر الإسلامي، دون عصبية ولا تحيز، بعد أن تطرق إلى مواقف الناس منه بين أنصار وخصوم. وقد نشرت هذه الدراسة في مجلة "الثقافة المغربية" عدد يناير/ فبراير عام 1970.(1/14)
* - هل أثر ابن حزم في الفكر المسيحي؟. ويسميه في "إحياء الاجتهاد": "هل أثر ابن حزم في الفكر الأوروبي في القرون الوسطى؟". وهو دراسة حول دراسة ابن حزم المقارنة للأديان، خاصة الدين النصراني في كتابه "الفصل في الملل والنحل"، صدرت في مجلة "البينة" التي كانت تصدرها وزارة الدولة المكلفة بالشؤون الإسلامية بالرباط، السنة الأولى، العدد الثاني، ذي الحجة 1381/ يونيو 1962م. ونشرت ترجمتها للغة الفرنسية بقلم المستعرب جرمان عياش، في مجلة "إيسيبريس تامودا" المجلد 4، الفصلة 3، وصدرت الترجمة في فصلة مستقلة.
* - صفحة مجهولة من تاريخ الفكر الإسلامي: حول كتابي: "المورد الأحلى في اختصار المحلى لابن حزم"، و"القدح المعلى في إكمال المحلى" لابن خليل. دراسة قدمها باسم معهد الدراسات المغربية العليا بالرباط (كلية الآداب الآن)، لمؤتمر المستشرقين الدولي المنعقد في جامعة ميونخ بألمانيا الغربية، في صيف 1937م، حيث كان الكتاني مندوبا بمعهد الدراسات المغربية العليا المذكور، وهذه الدراسة تتناول إخبار الحاضرين باكتشاف مخطوط مجهول وإخبار المعنيين بالدراسات حول ابن حزم على الخصوص. وهذا المخطوط هو قسم كتبه ابن حزم بنفسه دون قسمه الأخير الذي كتبه ابنه أبو رافع الفضل عندما توفي أبوه قبل إكماله.
وقد نشر ملخص هذه المحاضرة في أعمال المؤتمر المطبوع في فيسبادن. ونشرت كاملة في مجلة "دعوة الحق" بالرباط بعنوان: "صفحة مجهولة من تاريخ الفكر الإسلامي" السنة الأولى، العددان السادس جمادى الأولى 1377/ دسمبر 1957، والسابع: جمادى الأخيرة 1377/ يناير 1958م. كما نشرت في مجلة المخطوطات" التابع لجامعة الدول العربية، في المجلد الرابع، الجزء الثاني، نوفمبر 1958م، وقد أصدرها في فصلة مستقلة.
ونشرت مع ترجمة فرنسية بقلم المستعرب الفرنسي أ.فور في مجلة "إيسبيريس" عام 1958م، الكراسة الثالثة والرابعة، وصدرت في فصلة مستقلة.(1/15)
* - حول كتاب القدح المعلى في إكمال المحلى. وهو إضافة قدمها الكتاني – رحمه الله – حول الكتاب المذكور، وقف أثناء رحلته لإيطاليا عام 1378/ 1959 على إضافات بخصوصه. وقد نشر البحث في مجلة "دعوة الحق" السنة 3، العدد 6، رمضان 1379/ مارس 1960، ونشر مع ترجمة فرنسية بقلم أ. فور في مجلة "إيسيبريس تامودا" سنة 1961مأ الجزء 2، ونشرت في صفحة مستقلة.
* - بين يدي شذرات من كتاب السياسة المفقود لابن حزم. وهي 17 نصا وردت في ثلاث مخطوطات. نشرها المؤلف في مجلة تطوان، العدد الخامس، سنة 1960، ونشرت في فصلة مستقلة.
* - أبو عبد الله ابن المناصف المجتهد المغربي: ترجمته، آثاره، منحاه في الاجتهاد. يعد ابن المناصف مثالا فذا للمجتهد المغاربي؛ فقد ولد بتونس، ونشأ بالأندلس، وتوفي بمراكش بالمغرب. وهذه دراسة حافلة عن هذا العلم المغمور حاضر بها المؤلف في كل من تونس والقيروان وسوسة وبنزرت بدعوة من اللجنة الثقافية القومية التابعة لوزارة الثقافة والإعلام بالحكومة التونسية، بتاريخ 19مارس – 12 أبريل 1971، وهي تنقسم إلى دراسة تاريخية حول ابن المناصف، وأخرى تحليلية؛ حلل فيها عن طريق مؤلفاته منهجه الفكري وطريقته في الاجتهاد. نشرت هذه الدراسة في العدد الثاني من مجلة "الباحث" التي تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والثقافة بالرباط، ديسمبر 1972، وصدرت في فصلة مستقة(1).
__________
(1) للمزيد من الاطلاع على مؤلفات الأستاذ محمد إبراهيم الكتاني ووصفها ينظر كتاب: "العلامة المجاهد محمد إبراهيم بن أحمد الكتاني: حياة علم وجهاد"، جمع وتحقيق والدنا الشهيد الدكتور علي بن المنتصر الكتاني رحمه الله تعالى.(1/16)
تعد هذه الأعمال صورة حية من صور إبداع الأستاذ إبراهيم الكتاني في الفكر الإسلامي، عاكسة للدقة العلمية والروح الدينية التي كان ينعم بها، كما تصور تاريخ الاجتهاد في الفكر الإسلامي، وصورتين مشرقتين لمثالين من الأندلس وتونس والمغرب، أعيد نشرها تعميما للفائدة، وخدمة للتراث الإسلامي، ووفاء لمؤلفها الذي طالما استفدت منه وتبركت بمجالسه وأنا صغير السن، يوم كان والدي الدكتور الشهيد علي بن المنتصر الكتاني رحمه الله يصحبني معه لزيارته والاستفادة من مجالسه، فكنت أرى فيه مثالا من أمثلة السلف الصالح علما وجهادا وهديا...
أما عملي في هذه الأبحاث فلم يعدُ الترتيب والتهييء للطباعة، مع كتابة مقدمة حول تاريخ الاجتهاد في الإسلام تضع القاريء في الصورة، وترجمة للمؤلف نقلتها عن كتابي: "النجم الثاقب بتراجم من مضى من أعلام الكتانيين وصلحائهم وذوي المناقب" يسر الله إتمامه.
وكتبه:
الدكتور الشريف محمد حمزة بن علي الكتاني
الرباط ليلة الجمعة 29 ذو الحجة الحرام عام 1424
ترجمة المؤلف الأستاذ الإمام محمد إبراهيم بن أحمد بن جعفر الكتاني(1)
أبو المزايا، أستاذ الأجيال، إمام علامة بحاثة مشارك، أحد مؤسسي الحركة الوطنية بالمغرب، والمجاهدين ضد الاستعمار الفرنسي، ورواد إحياء التراث المغربي.
__________
(1) المراجع: "العلامة المجاهد محمد إبراهيم بن أحمد الكتاني: حياة علم وجهاد"، ""أعلام المغرب العربي""ج1 تأليف عبد الوهاب ابن منصور، "إسعاف الإخوان الراغبين بتراجم ثلة من علماء المغرب المعاصرين" تأليف محمد بن الفاطمي ابن الحاج السلمي ص135،(1/17)
ولد بفاس يوم الجمعة 10 رمضان عام 1325، وأخذ بها عن والده الشيخ أبي العباس أحمد بن جعفر الكتاني، وعمه محمد بن جعفر الكتاني، وابني عمه محمد الطاهر بن الحسن الكتاني، وعبد الحي بن عبد الكبير الكتاني، وأحمد بن الجيلاني الأمغاري، وأحمد بن المأمون البلغيثي، وأبي شعيب بن عبد الرحمن الدكالي، ومحمد بن العربي العلوي، والطائع ابن الحاج السلمي...وغيرهم.
كما تحصل في الرواية على إجازات من عدة أعلام؛ كوالده وعمه المذكورين، وأحمد بن محمد ابن الخياط الزكاري، وعمر بن حمدان المحرسي، وأحمد بن حسن العطاس الباعلوي...وغيرهم.
وبعد انتهائه من الدراسة بجامعة القرويين رفضت السلطات الفرنسية منحه درجة العالمية نظرا لمواقفه الجهادية ضد الاستعمار – بالرغم من حداثة سنه – ولم يتحصل على تلك الشهادة إلا بعد الاستقلال، وذلك عام 1376/ 1957، وكتب على ظهرها وزير التربية الوطنية حينه: "نجح حامل هذه الشهادة في امتحان العالمية، ومنع منها لأفكاره الوطنية إلى أن حق الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا!".
كان المترجم نهما على المطالعة ومجالسة العلماء منذ الصغر، بحيث تعرف إلى طبقة شيوخ شيوخه فمن دونهم، وأخذ عن الواردين من العلماء على المغرب.
وكان – بالرغم من نشاطه الجهادي الوطني آتي الذكر – بحاثة منقبا عن المخطوطات والتراث المغربي، بحيث يعود له الفضل - هو وزمرة من العلماء كمحمد بن عبد الهادي المنوني ومحمد بن أبي بكر التطواني وشيخهم الشيخ عبد الحي الكتاني – في إحياء الكتاب المغربي والتعريف به، والتنقيب عن المكتبات المغربية النائية، والتعريف بمحتوياتها، بل وتحقيق جملة من كتب التراث.
إضافة إلى رحلاته المتكررة إلى الجزائر وتونس ومختلف دول أوروبا – خاصة إسبانيا – منقبا عن ذخائر الكتب المغربية والأندلسية والإسلامية، ناسخا لها، وواصفا لمضمونها، بحيث يكاد يكون أول والج لهذا الميدان بتلك السعة في المغرب.(1/18)
كما شارك الشيخ أبو المزايا في مختلف المؤتمرات العلمية والثقافية في العالم، وألقى محاضرات تعريفية بالإسلام، وكيفية الحفاظ على النص القرآني، وتاريخ الفقه والفكر الإسلامي، وفلسفة التشريع، والتراث والكتاب العربي والمغربي والإسلامي.
وكان للمترجم نشاط كبير في التدريس ونشر العلم، ابتداء بالمدارس الحرة التي أسسها أو شارك في إدارتها والتدريس فيها؛ كمدرسة المنية، والمدرسة الناصرية وغيرهما، والتي كان المقصود منها صد الهجمة الثقافية الأوروبية على المغرب. وانتهاء بتدريسه بمختلف كليات وجامعات مغرب ما بعد الاستقلال، وإشرافه على العشرات من الدراسات الجامعية التي أقيمت في ذلك الحين.
وكان الشيخ أبو المزايا أحد كبار المجاهدين ضد الاستعمار الفرنسي، ابتداء بتأسيس الحركة الوطنية في منزل ومكتب والده سنة 1343/ 1925، عند اجتماعه هو وعلال الفاسي، ومحمد الغازي، وإقسامهم على المصحف الشريف على العمل على استقلال البلاد وطرد العدو المستعمر، والحفاظ على الهوية الإسلامية والعربية للمغرب.
ثم بربط العلاقات مع مختلف الشباب الثائر؛ كمحمد القرّي، وعبد العزيز ابن إدريس، والمختار السوسي، والصديق العلوي..وأضرابهم، وكان نشاطهم مبنيا على ثلاثة جوانب: جانب فكري ممثل في الحركة السلفية، وجانب سياسي ممثل في المظاهرات والعرائض وربط العلاقات مع مختلف الحركات التحررية بالعالم الإسلامي، وجانب ميداني ممثل في تكوين الخلايا التنظيمية والفدائية.
وبعدما نجح أولئك الشبان في ضم أحد القواد الذين جندتهم فرنسا لمحاربة المجاهد ابن عبد الكريم الخطابي إليه، اتسع مجال التحرك والعمل ليشمل كل القطاعات، وتم ربط الاتصال بخلايا الرباط وتطوان وغيرهما.(1/19)
وساهم هؤلاء الشباب في حركة مجلة "الشهاب" التي أسسها عبد الحميد بن باديس، وكانوا من وراء الحركة التي تزعمها الشيخ عبد الحي الكتاني وجماعة من الأعيان لإدخال إصلاحات على عادات المجتمع وأعرافه التي كانت تعوقه عن التطور، خاصة بدع الإسراف والخرافات والسحر.
ولما استصدرت المندوبية السامية الظهير البربري عام 1350/ 1930، الذي يفصل البربر عن حكم الشريعة الإسلامية تمهيدا لتنصيرهم وفرنستهم؛ كانت الحركة الوطنية قد استوت على ساقيها وأصبحت قادرة على مواجهة المشاريع الاستعمارية جهارا لا في الخفاء. فنظمت في فاس وسلا والرباط وغيرها حركة احتجاجية، وشنت حملة دعائية معادية لفرنسا في الشرق والغرب، أضرت بسمعتها وأوقفتها في قفص الاتهام.
ومن أهم الأعمال الوطنية التي أسهم فيها: السعي في إنشاء صحافة عربية حرة، حرم المغاربة من إنشائها منذ دخول الاستعمار، لتواجه سموم الصحافة الرسمية؛ خاصة جريدة "السعادة"، فأسس رفقة الأستاذ سعيد حجي، والأستاذ محمد اليزيدي لجنة المطالبة بحرية الصحافة، التي أنشأتها كتلة العمل الوطني في شهر سبتمبر 1936/ 1356.
كما ربط الاتصال بين الحركتين الوطنيتين بالمغرب والجزائر، التين كانت تمثلهما كتلة العمل الوطني المغربي، وجمعية علماء المسلمين الجزائريين، وفي هذا الإطار قام المترجم برحلة أولى إلى تلمسان لحضور المؤتمر الخامس لطلبة شمال إفريقيا المسلمين، المنعقد بها عام 1935/ 1355، ثم دعته الجمعية إلى حضور مؤتمرها السنوي بمدينة الجزائر. كما قام برحلة ثانية إليها سنة 1950/ 1370، وحضر أثناء تلك الزيارة كثيرا من المهرجانات، كما اجتمع بالعديد من قادة الرأي والسياسة بالجزائر، وعرفهم بمواقف المغاربة من أجل تحرير البلاد، وبإشارته رحل الشيخ البشير الإبراهيمي إلى فرنسا واجتمع بالملك محمد الخامس بها.(1/20)
وفي كل الأحداث التي شهدها المغرب، ما بين حركة الاحتجاج على صدور الظهير البربري، إلى حركة المقاومة وظهور جيش التحرير وطرد المستعمر؛ كان الشيخ إبراهيم الكتاني إما واحدا من صناعها، وإما واحدا من المنكوبين بنارها؛ فسجن سنة 1936/ 1356، وسنة 1937/ 1357 التي قضى فيها سنتين، شطر منها بسجن كلميمة دونه في كتابه: "من ذكريات سجين مكافح"، أو: "أيام كلميمة".ط، وفي 23 ماي 1943/ 1363 اعتقل من جديد بدعوى التستر على أعوان يعملون لحساب الألمان والطليان، ورغم توسط الملك محمد الخامس وتشفعه فيه؛ حوكم المترجم ورفيقه قاضي الدار البيضاء رشيد الدرقاوي سريا في محكمة عسكرية فرنسية، فصدر الحكم بسجنهما ثلاثة أعوام، ونفيهما سنتين، ومصادرة أملاكهما. وبسبب هذا الاعتقال؛ لم يتمكن من إمضاء عريضة المطالبة بالاستقلال المقدمة إلى الملك وممثلي دول الحلفاء يوم 11 يناير 1944/ 1364.
ولما تجددت المظاهرات والاصطدامات بالمغرب في أواخر سنة 1952/ 1373، إثر اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد، اعتقل إبراهيم الكتاني مرة أخرى، وعرف السجون الاستعمارية بكرامة وتاسينت وأغمالون كردوس، ولم يسرح إلا في أوائل سنة 1955 عندما لاحت تباشير انفراج الأزمة المغربية.
وبين كل سجنة وسجنة كان المترجم مثال الحركة الدائبة، ينظم الخلايا السياسية، ويحرك المشاعر الوطنية بما يكتب ويؤلف ويخطب ويلقي من دروس، ويربي من ناشئة تربية قوامها الإسلام والعروبة.
كان المترجم – رحمه الله تعالى – أحد أئمة العلم المبرزين، ورواد الثقافة الأعلام، فقد كان متضلعا من مختلف العلوم الشرعية، خاصة الأصول والفقه، سيال الذهن، قوي الحفظ والاستحضار، نابغة مقداما، ميالا للاجتهاد وأهله.(1/21)
فقد كان داعية للاجتهاد ونبذ التقليد الأعمى، مع التقدير الكبير للمذاهب الأربعة وأتباعها الأولين، وتعمق في فكر ابن حزم والظاهرية وفقههم، وكتب عنه ونشر، بحيث يكاد يكون أول من عرف بالإمام المذكور في العالم الإسلامي في وقته، وجمع طبقات المجتهدين وأعداء التقليد فضمن منهم خمسة آلاف ترجمة في خمسة مجلدات، تعد أكبر موسوعة في تاريخ الاجتهاد والمجتهدين.
كما يعد الشيخ إبراهيم الكتاني أحد رواد السلفية المعاصرة بالمغرب، غير أنه – في العموم – حصين مما وقعت فيه من أفكار تثاخن العلمانية، حارب من أجل أفكارها، ونشر مبادئها، وشن حربا ضروسا على كل ما كان يعتبره بدعة وخرافة، وألف في سبيل ذلك ونشر، وألقى محاضرات في مختلف المناسبات. بحيث يعد على رأس الطبقة التي تلت أبا شعيب الدكالي وابن العربي العلوي، مع تميزه بالاستقامة، وسعة المعرفة، والتأليف والتصنيف.
وقد كان – رحمه الله – داعية إلى تعريب التعليم والدوائر الرسمية، ألف في سبيل ذلك ونشر، ووقع على العرائض المطالبة بذلك، كما كان من كبار الداعين إلى أسلمة القوانين المغربية، وتطبيق الشريعة الإسلامية، ويعتبر أن المغرب لن يستقل استقلالا حقيقيا إلا بأسلمة قوانينه، والرجوع إلى دينه الحنيف، ونشر في سبيل ذلك، وألف "النظرية العامة للشريعة الإسلامية"، وضمن تلك الأفكار مختلف الكتب والمقالات التي نشرها في مختلف المجلات والجرائد، أو حاضر بها في مختلف المناسبات والمؤتمرات.
كما كان عابدا زاهدا في الدنيا ومناصبها، بعيدا عن الدعوى والشهرة، والمناصب الزائفة، بحيث لم يتقلد طول عمره سوى المناصب العلمية والدعوية، أو الجهادية، بل توفي وهو لا يملك حتى منزله الذي يقطنه. الأمر الذي جعله أحد العلماء الزهاد الذين لا يرجون من علمهم وعملهم سوى رضا الله تعالى.(1/22)
تقلد الشيخ أبو المزايا عدة مناصب – إضافة إلى إدارته لعدة مدارس وطنية أثناء الاستعمار – منها: إماما وواعظا بمسجد بوعقدة بفاس، وواعظا بجامع القرويين قبل صلاة الظهر بكتاب "الترغيب والترهيب". ثم محافظا بقسم المخطوطات بالخزانة العامة بالرباط بعد الاستقلال، مع متابعته لنشاطه السياسي بحزب الاستقلال الذي كان عضوا في لجنته المركزية ومجلسه الوطني، ومنذ ذلك الحين أسدى لوطنه المحرر خدمات جلى في ميادين السياسة والعلم، بمثل التفاني الذي قدم به إليه تضحيات وهو محتل.
وقد عين في العديد من اللجان الحكومية التي أسست للنظر في إصلاح التعليم والتشريع، كما مثل المغرب في العديد من المؤتمرات والمناظرات والتجمعات الثقافية التي عقدت في الداخل والخارج. كما كان أستاذا محاضرا بكليتي الحقوق والآداب بالرباط وفاس، والمدرسة الإدارية، ثم عين عضوا في الأكاديمية الملكية المغربية.
"وبحكم خبرته الطويلة وتمرسه بالقضايا؛ صار كعبة تهوي إليها أفئدة الباحثين والدارسين في الشؤون المغربية والأندلسية، والمعتنين بجوانب متميزة من أمور الثقافة الإسلامية؛ كالحركة السلفية، والمذهب الظاهر الذي يعد أكبر متخصص فيه في العالم الإسلامي"...على حد قول الأستاذ عبد الوهاب ابن منصور.
وللمترجم – رحمه الله – مقالات وبحوث عديدة منشورة في كثير من الصحف والمجلات المغربية والمشرقية، ولا تمر مناسبة أو تحل ذكرى دون أن يدعى للكتابة عنها أو الخطاب فيها، كما أن له عشرات المؤلفات أكثرها مخطوط. "وتمتاز آثاره بدقة البحث، ووفرة المعلومات، ونصاعة الأسلوب" كما قال ابن منصور.(1/23)
ومن أهم مؤلفاته: "طبقات المجتهدين وأعداء التقليد في الإسلام"، في خمسة أجزاء، ألفه في خمسين عاما، و"الدعوة إلى استقلال الفكر في الإسلام" في مجلدين، و"فضل جامعة القرويين في الدفاع عن السيادة الوطنية خلال العصور" في مجلدين، و"النظرية العامة للشريعة الإسلامية" في جزأين، و"كيف استطاع المسلمون المحافظة على النص القرآني" في مجلد، و"مؤلفات ابن حزم بين أنصاره وخصومه".ط، و"الكتاب المغربي وقيمته".ط، و"سلفية الإمام مالك".ط، و"والدي كما عرفته" في مجلد، و"أبو شعيب الدكالي وطلائع الحركة السلفية بالمغرب" مجلد، و"اختصار البدور الضاوية في أعلام الزاوية الدلائية" للحوات، و"اختصار المزايا فيما أحدث من البدع بأم الزوايا" للناصري، و"اختصار الدواهي المدهية للفرق المحمية" لجده الشيخ جعفر الكتاني، وحاشية على شرح الشيخ محمد بن عبد القادر بناني على استمارة الشيخ الطيب ابن كيران...وغير ذلك.
ومن أبرز الآخذين عنه: حفيد عمه جدنا شيخ الإسلام محمد المنتصر بالله بن محمد الزمزمي الكتاني، وابن عمه المفكر الإسلامي الكبير الدكتور إدريس بن محمد الكتاني، ومؤرخ المملكة عبد الوهاب ابن منصور، والمستشار عبد الهادي بوطالب، وفيلسوف المغرب الدكتور محمد الحبابي، والدكتور محمد ابن شقرون...وغيرهم.
وبالرغم من مثافنة المترجم للمعتقلات المدة الطويلة، وجهاده وما لاقى بسببه من الضيق والأذى؛ فقد خلف - رحمه الله - جيلا من الأبناء تحصلوا على أرفع الشهادات في مختلف المجالات العلمية؛ وهم: إسماعيل، وعبد الحق، وخالد، ومحمد اليوسفي، ومحمد البشير، ومحمد عبده، ومحمد عزام.(1/24)
توفي الشيخ إبراهيم الكتاني فجأة بمنزله بالرباط، يوم الأحد 29 جمادى الأولى عام 1411/ 1990، وشيع في جنازة مهيبة إلى مثواه الأخير بروضة الشهداء بمقبرة العلو بالرباط. وقد أفرده ابن حفيد عمه والدنا د. علي بن المنتصر الكتاني – رحمه الله – بكتاب جمع فيه أهم ما قيل فيه وكتب عنه، وبعض أبحاثه ورسائله في مجلد سماه: "العلامة المجاهد محمد إبراهيم بن أحمد الكتاني: حياة علم وجهاد". طبع بمطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء.
الاجتهاد والمجتهدون بالأندلس والمغرب
تأليف الأستاذ الإمام
أبي المزايا محمد إبراهيم بن أحمد بن جعفر الكتاني الحسني
(1325 – 1411)
باعتناء وتقديم
الشريف محمد حمزة بن علي الكتاني
إحياء الاجتهاد باعتباره قاعدة من قواعد التفكير في الإسلام
1 - إن هذا النشاط الثقافي الجديد، الذي قررت أكاديمية المملكة المغربية القيام به - إلى جانب نشاطاتها المختلفة - وهو تنظيم حوار دوري بين أعضائها، حول موضوع من المواضيع التي تتطلب الحوار الهادىء الرزين، ليعتبر خطوة بناءة تهنأ عليها أكاديميتنا.
2 - فهو - إلى جانب ما يرجى من ورائه من إثراء لثقافتنا في مختلف الميادين - لأمر من شأنه أن يساعد على زيادة تمتين روابط الزمالة الفكرية، وتعميق التفاهم بين (إخوان الصفا) هؤلاء الذين اصطفاهم مؤسسها وراعيها الملهم جلالة الملك الحسن الثاني، زاده الله توفيقاً وتسديداً لقيادة الحركة الفكرية بهذه البلاد، وتوجيهها الوجهة الصحيحة للتفتح السليم على التيارات العالمية، في نطاق أصالتنا الإسلامية العربية المتطلعة إلى المستقبل الزاهر، في ظل الانبعاث الإسلامي المنتظر، الذي يرد المسلمين الضالين إلى حظيرة دينهم الإلهي الحنيف، وينقد البشرية مما تتردى فيه من كفر وإلحاد وظلم وطغيان وحيوانية مدمرة.
وإنها لمسؤولية عظمى تنوء بحملها شوامخ الجبال إلا إذا أمد الله بعونه وتوفيقه.(1/25)
3 - وإن من الصدف الطيبة أن يكون موضوع الحديث الأول في هذه السلسلة هو التوصية التي أقرتها ندوة أكاديميتنا في دورتها الثانية لسنة 1981، والمتعلقة «بالأزمات الروحية والفكرية في عالمنا المعاصر» تلك التوصية التي تدعو إلى «إحياء الاجتهاد باعتبار كونه قاعدة من قواعد التفكير في الإسلام».
4 - فأي وقت أنسب للحديث عن الاجتهاد من هذا الوقت الذي يتوقف فيه المغاربة عن التضحية في عيد الأضحى إلى أن تتحسن الحالة الاقتصادية في البلاد، وتعكف فيه لجنة خاصة على مراجعة بعض القوانين الوضعية التي ورثناها عن العهد الاستعماري لإلغاء ما يخالف الإسلام منها، تحقيقاً لمطلب حيوي من مطالب الشعب المغربي المسلم، الذي يرى في استمرار العمل بالقوانين الاستعمارية إهانة لكرامته وتنكراً لأصالته.
وممن طالب بذلك اللجنة الوطنية للاحتفال بحلول القرن الخامس عشر الهجري، التي تأسست إذ ذاك بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وقد كان من بين أعضائها بعض الأكاديميين.
ومن المؤكد أن لجنة المراجعة ستجد نفسها لا محال مضطرة للاستنجاد بالاجتهاد لمواجهة بعض الحالات الخاصة.
5 - وتعكف في نفس الوقت لجان في الجامعة العربية على وضع قوانين موحدة للبلاد العربية في كثير من الميادين، وبذلك تحقق هدفاً عظيماً من الأهداف الإسلامية العربية، ولن يتحقق هذا الخدف إلا بواسطة الاجتهاد.
6 - وقد أعلن في المدة الأخيرة أن اللجان المختصة بمراجعة القوانين المصرية لجعلها مطابقة للشريعة الإسلامية، قد أشرفت على إنهاء عملها الذي استمر سنوات عديدة.
7 - وأصدرت الأردن قانونها المدني الإسلامي منذ مدة .
8 - وتقوم حكومة الباكستان بجهود كبيرة لإحلال الشريعة الإسلامية محل القوانين الوضعية.
9 - وفي المملكة العربية السعودية، تصدر «رابطة العالم الإسلامي» بمكة فتاوى شرعية - وخصوصاً في موسم الحج - غير متقيّدة بمذهب معين من مذاهب أهل السنة.(1/26)
10 - وكثير من الجامعات الإسلامية في مختلف البلاد تدرس الفقه الإسلامي دراسة مقارنة بين مختلف المذاهب، وأحياناً حتى مع الدراسات القانونية.
11 - ونظراً لتخلف الفكر المغربي على العموم في هذا الميدان لأسباب عديدة فإن الأمل معقود بهذه الأكاديمية بمساهمة أعضائها المقيمين في سد هذا الفراغ، بالعمل على نشر التوعية بالثقافة الاجتهادية، وخصوصاً في الكليات والمعاهد، وعقد الندوات، ونشر الدراسات وغير ذلك.
12 - ويقتضي الحديث عن «إحياء الاجتهاد» تناول الموضوعات التالية:
1 - المجتمع الإسلامي (الفقرة 13).
2 - ضمان استمرار هذا المجتمع (الفقرة 14)
3 - حق التشريع (الفقرة 16)
4 - فقه القرآن والسنة (الفقرة 22)
5 - الاجتهاد البياني (الفقرة 30)
6 - الاجتهاد الفردي في عهد الرسول (ص) (الفقرة 31).
7 - الاجتهاد الجماعي فيما لا نص فيه في عهد الرسول (ص) (الفقرة 37).
8 - اهتمام الإسلامي بضمان آفاق المستقبل (الفقرة 47).
9 - عهد الخلافة الراشدة (الفقرة 48).
10 - ما أجمع عليه الصحابة وما اختلفوا فيه (الفقرة 59 - 60).
11 - فقهاء التابعين وتابعيهم (الفقرة 61).
12 -اختفاء الاجتهاد الجماعي (الفقرة 64).
13 - نشأة الثقافة العربية لخدمة القرآن وتمكين دارسيه من فهمه واستنباط الأحكام منه (الفقرة 67).
14 - موطأ الإمام مالك، ورسالة الإمام الشافعي (الفقرة 68 - 78).
15 - مقاصد الشريعة (الفقرة 93).
16 - وانقطع الاجتهاد (الفقرة 100).
17 - الدعوة إلى الاجتهاد ومحاربة التقليد (الفقرة 110).
18- وجاء الاستعمار (الفقرة 116).
19 - كيف نحيي الاجتهاد (الفقرة 135 - 153).
20 - مشاكل تنتظر الاجتهاد (الفقرة 154 - 175).
21 - الاقتصاد الإسلامي (الفقرة 162 - 175).
13 - المجتمع الإسلامي(1/27)
جاء الإسلام لكي يقيم مجتمعاً إسلامياً متكاملاً له نظمه الاقتصادية والسياسية والقانونية والاجتماعية. ولكي ينشىء حضارة متكاملة لها كما هو الحال في كل الحضارات، جانبها المادي بالإضافة إلى الجانب الروحي، الذي يتمثل في نسق المعتقدات والقيم والأخلاق كما يقول كاتب معاصر.
14 - ضمان استمرار هذا المجتمع
وفي الوقت الذي كان القرآن يضع فيه الأسس الثابتة لقيام هذا المجتمع الإسلامي وضمان استمراره، والتي تتسم بالاتجاه الجماعي، كان الرسول (ص) يبذل جهوداً خارقة لإقامة هذا المجتمع وتطبيق تعاليم القرآن وتوجيهاته في ميدان الواقع عن طريق الممارسة، ويكون الأطر اللازمة لاستمرارية مسيرة المجتمع، بعد انتقال الرسول (ص) إلى الرفيق الأعلى.
15 - وكان النجاح الذي حققه الله لرسوله - ولا أقول حققه الرسول - أمراً لا يمكن التعبير عنه إلا بكلمة واحدة لا ثاني لها هي المعجزة. فأساس هذا المجتمع هو القرآن، وها هو القرآن - على نطاق المجتمع الإسلامي - محفوظ في الصدور مكتوب في الصحف، لا يختلف اثنان ولو في آية واحدة منه، تحقيقاً لوعد الله الصادق: { { (ص) } ~ ! " £ 9 } ]الحجر: 9[ .
16 - حق التشريع
من يقينيات الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة، أن حق التشريع إنما هو لله وحده، وذلك ما كرر القرآن القول فيه، وأعاده بمختلف الأساليب في كثير من الآيات مكية ومدنية.
17 - ومن ذلك - مثلاً - ما جاء في سورة النحل:
{ ' ( ) * + ، - . / 0 1 2 3 4 5 6 7 8 9 : ؛ چ 116 }]النحل: 116[ .
18 - وفي سورة يونس:
{ ر ز س ش ص ض ط ظ ع غ [ گ ] ء _ . ف ق ك ل 59 } ]يونس: 59[ .(1/28)
19 - وصف في سورة التوبة اليهود والنصارى بالكفر بالله، إذ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وأخرج أحمد والترمذي وابن جرير الطبري وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردوية، والبيهقي في سننه وغيرهم من عدة طرق أن عدي بن حاتم دخل على رسول الله (ص) وهو يقرأ هذه الآية، قال: فقلت إنهم لم يعبدوهم فقال بلى إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم.
20 - راجع الآيات التالية: الشورى 10، 15. الأنعام: 57، 87، 88، 118، 119، 138، 150. يوسف: 40. المائدة: 1. البقرة: 216. التحريم: 1. النحل: 56. التوبة: 29، 37، 115، الشورى: 215.
21 - والقرآن إذ ينكر تقليد الأباء، واتباع الرؤساء، والقول بغير علم، واتباع الظن والهوى ويطالب باستعمال الحجة والاعتماد على البرهان، يلزم الناس باتباع ما أنزل إليهم من ربهم والوقوف عند حدوده وعدم تعديها، والتحاكم إليه عند التنازع والاختلاف، مع الرضى بما به قضى، والتسليم لما به حكم. وآيات القرآن في هذه الموضوعات لا تكد تعد.
22 - فقه القرآن والسنة
لقد تضمن الوحي الخاتم للرسالات الإلهية الدليل على أحكام كل ما يحتاجه الناس في دينهم ودنياهم. قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله في كتابه «الرسالة»:
«فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها» (ص20). ط/الحلبي 1358هـ، مصر.
23 - وتتناول آيات القرآن التي تتعلق بما يصدر عن المكلف:
1 - العبادات، وما ألحق بها من الأيمان والذكاة.
2 - والمعاملات وهي:
أحكام الأحوال الشخصية.
والأحكام المدنية.
والأحكام الجنائية.
وأحكام المرافعات.
والأحكام الدستورية.
والأحكام الدولية.
والأحكام الاقتصادية والمالية.
وذكر حجة الإسلام الغزالي في المستصفى أن عدد آيات الأحكام نحو خمسمائة آية (ص101) ط. المكتبة التجارية 1356، مصر.(1/29)
24 - وينقسم التشريع القرآني من حيث الإجمال والتفصيل إلى أربعة أقسام:
أ) تشريع مجمل، لم يبين من أحواله وصفاته إلا القليل.
ب) تشريع مبين بعض البيان، فصلت بعض أحواله، وترك الباقي للسنة واجتهاد علماء الأمة.
ج) تشريع تفصيلي، فصلا تفصيلاً ولم يترك منه إلا القليل. لبيان السنة واجتهاد المجتهدين، وذلك في موضوعات ليس من شأنها التطور ولا الاختلاف باختلاف الأزمان والأُمم.
د) تشريع القواعد والأصول العامة.
25 - وراجع أمثلة هذه الأقسام في كتاب «فقه الإسلام» ص 15 - 66 تأليف حسن أحمد الخطيب 1371 هـ = 1952م، مطبعة سيدي علي حافظ، القاهرة.
26 - وأسند الله إلى رسوله - إلى جانب تبليغ ما أوحاه الله إليه - تبيينه للناس: بأقواله وأفعاله، وعدم إنكاره، وتلك هي السنة. وهي تنقسم أقساماً كثيرة، خصوصاً من جهة ثبوت نقلها عن الرسول.
27 - أ) بيان الرسول العملي والمستمر المنقول نقلاً متواتراً، مثل هيئة الصلاة والحج فهذا بمنزلة نقل القرآن سواء بسواء.
28 - ب) وما نقل نقلاً صحيحاً عن طريق الآحاد، فهذا على العموم حجة مقبولة. وفيه أحياناً مجال للاجتهاد واختلاف الرأي حسب تفاصيل عند علماء الحديث والأصول.
29 - ولا تكون السنة حجة تشريعية إلا إذا صدرت عن رسول الله (ص) بوصف أنه رسول الله وكان مقصوداً بها التشريع العام والاقتداء.
أما ما صدر عنه بمقتضى طبيعته الإنسانية، ولم يدل دليل على أن المقصود به الاقتداء فليس تشريعاً، وكذلك ما صدر عنه بمقتضى الخبرة الإنسانية والحذق والتجارب في الشؤون الدنيوية، فليس تشريعاً.
وكذلك ما دل الدليل الشرعي على أنه خاص به (ص) أو من خصه (ص) به. فلا يكون تشريعاً لغيره.
30 - الاجتهاد البياني
وألفاظ اللغة العربية تنقسم إلى:
أ) ألفاظ قطعية الدلالة على معناها بحيث لا مجال لفهم معنى غيره ولا تحتمل تأويلاً.(1/30)
ب) وألفاظ ظنية الدلالة على المعنى المراد منها، وهي اللفظ الذي يحتمل أكثر من معنى ويحتمل أن يؤول ويصرف إلى معنى آخر، وفي هذا القسم مجال للاجتهاد في فهم النصوص.
ج) وتنقسم الألفاظ إلى واضحة وغير واضحة، والواقع يشمل الظاهر، والنص، والمفسر، والمحكم. وغير الواضح يشمل الخفي، والمشكل، والمجمل، والمتشابه.
د) ودلالة اللفظ تارة تكون بصريح العبارة، وهي المنطوق، وتارة بطريق الإشارة وهي المفهوم، وكل ذلك تناوله بالدراسة علم أُصول الفقه.
31 - الاجتهاد الفردي في عهد الرسول (ص)
ويتجلى مما سبق، أن الاجتهاد يمتزج بالنص امتزاجاً عضوياً، بحيث لا يكاد ينفك عنه.
32 - وقد سجل القرآن وكتب السنة والسيرة حوادث كثيرة من اجتهادات الرسول نفسه واجتهادات صحابته على عهده (ص). أصاب المجتهدون في بعضها وأخطؤوا في بعضها الآخر، كما هي طبيعة الاجتهاد التي لا تتغير.
33 - راجع الآيات: الأنفال: 67، 68، التحريم: 1. آل عمران: 127. التوبة: 3. الأحزاب: 37. عبس: 1.
وراجع موقف عمر يوم صلح الحديبية، وحديث الصحيحين: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة». وحديث أبي داود وغيره عن الرجلين اللذين سافرا وتيمما ثم وجدا الماء فأعاد أحدهما ولم يُعد الآخر.
34 - وكان الناس على عهد رسول الله يستفتون أهل العلم في نوازلهم فيقتونهم.
ووردت تسمية أربعة عشر من هؤلاء (راجع التراتيب الإدارية ج1 ص 56 - 58).(1/31)
35 - وذكر الإمام أبو محمد بن حزم في «الإحكام في أصول الأحكام» (ج 5 ص 92 - 94). أنه لم ترو عن الصحابة الفتوى - في العبادات والأحكام - إلا عن مائة ونيف وثلاثين منهم فقط، من رجل وامرأة، بعد التقصي الشديد وهم بين مكثر منها، ومقل، ومتوسط. فالمكثرون سبعة، ويمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم سفر ضخم والمتوسطون منهم فيما روي عنهم من الفتيا - رضي الله عنهم - ثلاثة عشر، ويضاف إليهم سبعة آخرون. والباقي منهم مُقلون في الفتيا، لا يُروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان، ونقله الإمام ابن قيم الجوزية في «أعلام الموقعين عن رب العالمين» (ج1 ص 9 - 11).
36 - وعن اجتهاد القاضي يقول النبي (ص) في الحديث الصحيح الذي رواه كثير من الصحابة، وأخرجه البخاري ومسلم، وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده عشر مرات: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم ثم أخطأ فله أجر».
37 - الاجتهاد الجماعي فيما لا نص فيه على عهد رسول الله (ص)
وإذا كان هدف الإسلام هو تكوين مجتمع إسلامي - كما سبق القول - والعمل على ضمان استمراره عبر الأجيال والأمم والأقطار، فمن الواضح البين أن يكون للجماعة دور أساسي في هذا الميدان.
38 - وهكذا أنزل الله على سوله - وهو ما يزال في مكة - سورة الشورى، ومدح المؤمنين فيها، بأنَّ { « { (ص) } ]الشورى: 38[.
39 - وجعل نظام الأسرة قائماً على الائتمار والتشاور، فقال في تحديد أجرة إرضاع الوالدة ولدها: { ُ لله ـ پ ؟ » « } ]الطلاق: 6[ .
وقال في مدة الرضاعة:{ و ى ي ً ٌ ٍ َ ُ ِ ّ } ]البقرة: 233[ .
40 - وأمر رسوله في سورة آل عمران بمشاورة أصحابه فقال: { أ ؤ إ }]آل عمران: 159[ .
41 - وذكر في سورة النساء أن مع الرسول «أولي أمر» وأمر برد الأمر إلى الرسول وإليهم فقال: { گ ] ء _ . ف ق ك ل م ن ه و ى ي ً ٌ ٍ َ ُ ِ } ]النساء: 83[ .(1/32)
42 - وأمر في نفس الصورة بطاعة الله، وطاعة الرسول وأولي الأمر منا فقال: { ض ط ظ ع غ [ گ ] ء _ } ]النساء: 59[ .
وأخرى ابن عدي والبيهقي في «شعب الإيمان» بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت { أ ؤ إ }]آل عمران: 159[ قال رسول الله (ص): «أما إن الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يعدم غياً».
43 - وقد روت كتب الصحاح والسنن والسيرة كثيراً من أخبار استشارته (ص) لأصحابه، حتى روي عن أبي هريرة قوله: «ما رأيت أحداً قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من النبي (ص).
44 - وذكر المحب الطبري في «الرياض النضرة» أن الإسماعيلي أخرج في «معجمه» عن معاذ بن جبل أن النبي (ص) لما بعثه إلى اليمن استشارَ أناساً من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعلي، وطلحة والزبير وأسيد بن حضير، فقال أبو بكر: «لولا إنك استشرتنا ما تكلمنا». فقال (ص): «إني فيما لم يوح إلي كأحدكم، فتكلَّم القوم، فتكلم كل إنسان برأيه قال: ما ترى يا معاذ... الحديث.
45 - ولأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص الحنفي (ت 370هـ) في «أحكام القرآن» كلام جيد في آية { أ ؤ إ }]آل عمران: 159[ فقد ذكر قول بعض أهل العلم: «إنما أمره بالمشاورة فيما لم ينص له فيه على شيء بعينه. وإن القائلين بذلك اختلفوا، فمنهم من يقول إنما هو في أمور الدنيا خاصة. وقال آخرون: كان مأموراً بمشاورتهم في أمور الدين التي لا توقيف فيها عن الله تعالى وفي أمور الدنيا مما طريقه الرأي وغالب الظن».
46 - ثم أفاض القول في الاحتجاج للقول الثاني، «وأن مشاروة النبي (ص) كانت فيما لا نص فيه، ولما لم يخص الله تعالى أمر الدين من أمور الدنيا في أمره بالمشاورة، وجب أن يكون فيهما جميعاً، وأن محاربة العدو ومكايدة الحروب هي من أمر الدين، ولا فرق بين اجتهاد الرأي فيه وبين أحكام سائر الحوادث التي لا نصوص فيها» (ج2 ص 48 - 50).(1/33)
47 - اهتمام الإسلام بضمان آفاق المستقبل
أخرج الخطيب البغدادي في «رُواة مالك» والطبراني في «الأوسط» وأبو سعيد في «القضاء» وأبو عمر بن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (ج2 ص 59)، عن علي بن أبي طالب قال: «يا رسول الله، الأمر ينزل بنا بعدك، ولم ينزل به القرآن، ولم نسمع منك فيه شيئاً؟ قال: اجمعوا له العابدين - وفي رواية العالمين - من المؤمنين، واجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد» ومع أن ابن عبد البر عقب عليه بأنه لا يعرف له إلا سند واحد فيه راويان ليسا بالقَوِيَيْن وَلا مِمَّن يُحتجّ ولا يُعوَّل عليه، فإن السنة النبوية - كما تقدم - وسنة الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، قامت على هذا الأساس.
48 - عهد الخلافة الراشدة
فقد أخرج الدارمي والبيهقي والبغوي وأبو عبيد في «كتاب القضاء» عن ميمون ابن مهران قال: «كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم - وفي رواية الخصوم - نظر في كتاب الله تعالى: «فإن وجد فيه ما يقْضِي به قضى به. وإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله (ص) قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوم فيقولون: «قضى فيه بكذا وكذا. فإن لم يجد سنة سنها النبي (ص) جَمَعَ رؤساء الناس واستشارهم. فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به وكذلك كان يفعل عمر».
49 - ونقل القاضي عياض في «المدارك» أن الإمام مالكاً - أثناء كلام - وأن عمر بن الخطاب وعلياً، وعلقمة - خيار الصحابة - كانت ترد عليهم المسائل - وهم خير القرون الذين بعث فيهم النبي (ص) - وكانوا يجمعون أصحاب النبي (ص) ويسألون ثم حينئذ يفتون فيها (ج1 ص 179 - 180).
50 - وقال السرخسي في «المبسوط»:
كان عمر يستشير الصحابة - مع فقهه - حتى كان إذا رفعت إليه حادثة قال: «ادعوا لي علياً، وادعوا زيداً... فكان يستشيرهم، ثم يقضي بما اتفقوا عليه».(1/34)
51 - واستشارات عمر للصحابة عديدة، ومن أروعها ما ارتآه من عدم قسمة أراضي الشام والعراق على الفاتحين، وقوله لمن استشارهم من المهاجرين والأنصار: أنه يريد أن يشتركوا معه فيما حمل من أمورهم، «فإنني واحد كأحدكم ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هو هواي. معكم من الله كتاب ينطق بالحق، أرأيتم هذه الثغور؟ لا بد لها من رجال يلزمونها، أرأيتم هذه المدن العظام؟ لا بد لها من أن تشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم...».
52 - وقد كان عمر يظن - وهو يخوض هذه المعركة الفكرية الحامية - أنه ليس في القرآن ما يدل لما ارتآه، ولكن الله ألهمه آية في القرآن، وهي قوله: { 9 : ؛ چ } ]الحشر: 10[ «فكيف نقسمه لهؤلاء وندع من تخلف بعدهم؟».
53 - ومنها استشارته الصحابة في الدخول للشام عندما بلغه أن بها الوباء، ورواية عبد الرحمن بن عوف له الحديث عن رسول الله بعدم دخولها.
54 - وقد كان عمر بن الخطاب قمة في الاجتهاد تتضاءل دونها قمة «الهملايا» ولست أريد هنا أن أتحدث عن اجتهادات عمر. ولكني أريد فقط أن ألفت النظر إلى منهج عمر بن الخطاب في التشريع:
«دراسة متنوعة لفقه عمر وتنظيماته» بقلم الدكتور محمد بلتاجي، مدرس الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم، جامعة القاهرة ص 532، دار الفكر العربي 1390هـ = 1970م.
وقد رجى في تصديرها أن تقدم لقارئها - من خلال فهم عمر بن الخطاب لنصوص الشريعة الإسلامية ومقرراتها العامة - تصوراً موضوعياً وحقيقياً لبعض ما يحتويه التشريع الإسلامي من خصوبة وثراء وإعجاز تجعله مُهيئاً - بصورة لا مثيل لها - لتحقيق مصالح الناس في كل عصر.(1/35)
وختمها بأنه ليس من المستحيل أن يوجد الرجل العمري الذي تتحقق فيه بعض صفات عمر، وتواتيه ظروفه، فيصلح الله به شأن الأمة، وتستعيد على يديه أمجادها، كما صلحت شؤونها على يد عمر، وما كان إلا رجلاً عربياً من خلق الله! بيد أننا نؤمن بما قاله عمر بن الخطاب: «من أن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها».
55 - وقد أثبت - عن طريق الدراسة والبحث - أن عمل عمر على تحقيق مصالح الناس، إنما كان في ضوء التزامه ابتداء - والمسلمين معه - بالنصوص الدينية في القرآن والسنة (ص65).
56 - وقد ذكر من بين مصادره:
«عمر بن الخطاب الفقيه المجتهد، للأستاذ الشيخ محمد أحمد السنهوري، محاضرات ألقيت على طلبة الدراسات العليا بكلية الحقوق. جامعة القاهرة، دبلوم الشريعة في العام الجامعي 1962 - 1963.
57 - وهكذا كان عصر الخلافة الراشدة امتداداً طبيعياً للعصر النبوي حيث واصل الصحابة رضوان الله عليهم المسيرة التي يبدأها الرسول (ص) ودربهم ورباهم على السير بها في الطريق الذي حدده الله لها.
58 - واذا كان العهد النبوي تحيطه هالة قداسة الوحي الإلهي وجلال النبوة، فإن الصحابة في عهد الخلافة الراشدة تحملوا بأنفسهم مسؤولية «الإمامة» الدينية و«الخلافة» عن الله في تطبيق المنهج الإلهي، محققين في ميدان الواقع صبغ الحياة الجديدة بالصبغة الإسلامية، مثبتين بذلك صلاحية هذا النظام للتطبيق عملياً في كل زمان ومكان عن طريق الاجتهاد الذي يحتمل الخطأ والصواب، غير محتاجين إلى «إمام معصوم»!
59 - ولم تكن اجتهاداتهم «البشرية» تحمل صفة القداسة التي يجب على بقية المسلمين اتباعها إلا اذا وقع إجماع الصحابة عليها، فإذ ذاك فقط تصبح بمنزلة ما ورد في القرآن والسنة النبوية، وهو ما عرف عند علماء الأصول بالإجماع وهو المصدر الثالث للتشريع.(1/36)
60 - أما اجتهاداتهم التي لم يتفقوا عليها، فهي من جهة حجة على أن موضوعاتها ما تزال ميادين فسيحة للاجتهاد في المستقبل، وهي من جهة أخرى، إضافات قيمة للنصوص الشرعية يستطيع المجتهدون أن يستنيروا بها في تفهم روح الشريعة، ومحاولة تحقيق مصالح الناس المتجددة في نطاقها الشرعي.
61 - فقهاء التابعين وتابعيهم
ولم يكن فضل فقهاء الصحابة قاصراً على المساهمة في تنظيم المجتمع الإسلامي والاجتهاد في التوفيق بين مصالحه المستجدة وبين النصوص الشرعية، بل كان من فضلهم أيضاً تكوين جيل من فقهاء التابعين يواصلون بدورهم حمل الأمانة إلى من بعدهم، فكان فقهاء في كل من: المدينة المنورة ومكة المكرمة، واليمن، واليمامة، والكوفة، والبصرة، والشام، وخراسان، ومصر، والقيروان، والأندلس.
62 - وأغنى فقهاء هذه الأمصار الثروة الفكرية الإسلامية بعملهم واجتهاداتهم التي جمع بعضها في عدة مجلدات.
63 - ويعكف كثير من طلبة الدراسات العليا في مختلف الجامعات الإسلامية على دراسة كثير من جوانب اجتهادات هذه المرحلة - قبل نشأة المذاهب - بل إن بعض هذه الدراسات، قد تم طبعها مثل موسوعة فقه إبراهيم النخعي (ص 158 و867) ضمن سلسلة فقه السلف، فقه اثنين وسبعين فقيهاً، ما بين صحابي، وتابعي، وتابع تابعي عدا الأئمة الأربعة وتابعيهم (جامعة مكة).
64 - اختفاء الاجتهاد الجماعي
وما أن انتهت أيام الخلافة الراشدة حتى اختفى الاجتهاد الجماعي، لأن بني أمية ألغوا الشورى، فعكف الفقهاء في المساجد على الاجتهاد الفردي النظري، بعيدين عن الحياة اليومية التي كان لتفاعل الاجتهاد معها في عصري النبوة والخلافة الراشدة دور فعال في إغنائه وحيويته.(1/37)
65 - قال المرحوم الشيخ عبد الوهاب خلاف في كتابه «مصادر التشريع الإسلامي» فيما لا نص فيه: «وكان من الحكمة والمصلحة أن يستمر هذا النظام، وأن يكون إلى جانب كل خليفة أو وال من خلفاء المسلمين وولاة أمورهم «جماعة تشريعية» مكونة من رؤوس المسلمين وخيارهم يرجع إليهم في حكم ما يجد من الحوادث مما ليس فيه قرآن ولا سنة، ويعمل بما اتفقوا عليه.
66 - وأن يتطور هذا النظام بوضع نظام لاختيار أعضاء هذه الجماعة ممن يوثق بعلمهم بالدين وبصرهم بشؤون الحياة، ونظام لكيفية اجتماعهم وتشاورهم وقانونية الحكم الذي اتفقوا عليه. ولو وقع ذلك لما جمد التشريع الإسلامي، ووقف عن مُمَاشاة الزمن وعن التطور بتطور المسلمين (165- 168).
67 - نشأة الثقافة العربية لخدمة القرآن وتمكين دارسيه من فهمه واستنباط الأحكام منه.
فجُمع الأدب العربي واللغة العربية، ووضع النحو والبلاغة، وجمع الحديث النبوي وآثار الصحابة.
68 - وألف إمام أهل المدينة مالك بن أنس كتاب «الموطأ» وهو أقدم كتاب وصل إلينا في فقه أهل السنة، جمع فيه ما صح عنده من الحديث النبوي وفقه أهل المدينة وما عليه عملهم.
69 - و«في ترتيب المدارك» (2/73) أن أبا جعفر المنصور هو الذي أشار على مالك بتأليف الموطأ ونصحه بأن يتجنب فيه شدائد عبدالله بن عمر ورخص ابن عباس وشواذ ابن مسعود. ويقصد أواسط الأمور، وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة، وفي خبر آخر (2/72) أن أبا جعفر المنصور أراد أن يجمع الأمة عليه فقال له مالك: «إن أصحاب رسول الله تفرقوا في البلاد فأفتى كل في مصره بما رأى».
70 - وممن أخذ الموطأ عن مالك إمام الأحناف ومؤلف الكتاب العديدة في مذهبهم محمد بن الحسن الشيباني. وروايته للموطأ من أهم المصادر المعتمدة عند الأحناف، وشرحها الكثير منهم، وهي مطبوعة.
71 - وممن أخذها عنه أيضاً تلميذه العظيم الإمام محمد بن إدريس الشافعي وكثيرمن أحاديث مسنده مروي عنه، وهو مطبوع في القاهرة.(1/38)
72 - كما أن كثيراً من أحاديث الموطأ مروية في صحيحي البخاري ومسلم - وهما أصح كتب الحديث النبوي - ومسند أحمد، وبقية كتب السنن.
73 - أصول الفقه
وكانت الفقرة الصاروخية الجبارة التي حققتها الثقافة العربية الإسلامية في ميدان الدراسات الاجتهادية، هي تأليف الإمام الشافعي رحمه الله لكتابه «الرسالة» التي وضع فيها منهجاً علمياً محدداً مضبوطاً لتنظيم عملية الاجتهاد تنظيماً محكماً.
74 - وقد لاحظ الشيخ مصطفى عبد الرازق في كتاب الرائد «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» إن موضوع الاجتهاد بالرأي الذي ينظم أصول الفقه ويقرر قواعده، هو أول ما نبت من النظر العقلي عند المسلمين، وأن هذه الناحية هي أقل نواحي التفكير الإسلامي تأثراً بالعناصر الأجنبية (ص 123) وبين ما في «الرسالة» من مظاهر التفكير الفلسفي (ص 244 - 245).
75 - كما أفاض الدكتور علي سامي النشار في «مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، في الحديث عن صلة «الرسالة» بالبحث الفلسفي، واعتبار الشافعي في العالم الإسلامي وفي الدراسات الإسلامية مقابلاً لأرسطو في العالم الهليني وفي الدراسات اليونانية (ص64).
76 - كما اعتبر هذه الناحية هي الناحية المعبِّرة عن الحضارة الاسلامية كلها، والتي يمكن أن يُستمَد منها الطابع الأساسي المميز للحضارة الإسلامية (ص 237).
77 - وإذا كان قول النشار عن الشافعي أنه أعظم شخصية أنجبها الإسلام، قابلاً للمناقشة فإن الأمر الذي لا شك فيه أن الشافعي كان عبقرية غير عادية، وأن الإسلام يستطيع أن يباهي به كبار عباقرة الدنيا في كل العصور.
78 - وقال النشار في «نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام» (ج1، ص54) عن علماء الأصول إنهم أنتجوا تفكيراً منطقياً جديداً، وكشفوا عن المنهج التجريبي، الذي عرفته أوروبا بعد ذلك وسارت في ضوئه إلى حضارتها.
79 - شروط الاجتهاد(1/39)
ونظراً لهذه القيمة العظمى للإمام الشافعي بصفته «فيلسوف الاجتهاد في الإسلام» فإني أنقل هنا عن «الرسالة» ما قاله عن الشروط التي يجب توفرها فيمن يمكنه ممارسة الاجتهاد، سواء من الناحية العلمية أو التكوين العقلي.
80 - ولم يجعل الله لأحد بعد رسول الله أن يقول إلا من جهة علم مضى قبله، وجهة العلم بعد الكتاب والسنة والآثار، وما وصفت من القياس عليها».
81 - «ولا يقيس إلا من جمع الآلة التي له القياس بها، وهي العلم بأحكام كتاب الله فرضه وأدبه وناسخه ومنسوخه، وعامه وخاصه، وشاذه.
82 - ويستدل على ما احتمل التأويل منه بسنن رسول الله، فإذا لم يجد سنة فإجماع المسلمين، فإن لم يكن إجماع فالقياس.
83 - ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالماً بما مضى قبلَه من السنن وأقاويل السلف وإجماع الناس واختلافهم، ولسان العرب.
84 - ولا يكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل، وحتى يفرق بين المشتبه ولا يعجل بالقول به دون التثبيت».
85 - ولا يمتنع من الاستماع ممن خالفه لأنه قد ينتبه بالاستماع لترك الغفلة، ويزداد به تثبيتاً فيما اعتقد من الصواب.
86 - وعليه في ذلك بلوغ غاية جهده والإنصاف من نفسه، حتى يعرف من أين قال ما يقول وترك ما يترك».
87 - «ولا يكون بما قال أعني منه بما يخالفه حتى يعرف فضل ما يصير إليه على ما يترك إن شاء الله».
88 - «فأمّا من تم عقله، ولم يكن عالماً بما وصفنا فلا يحل له أن يقول بقياس، وذلك أنه لا يعرف ما يقيس عليه».
«كما لا يحل لفقيه عاقل أن يقول في ثمن درهم ولا خبرةً له بسوقه».
89 - «ومن كان عالماً بما وصفنا بالحفظ لا بحقيقة المعرفة، فليس له أن يقول أيضاً بقياس لأنه قد يذهب عليه عقل المعاني، وكذلك لو كان حافظاً مقصر العقل أو مقصراً عن علم لسان العرب، لم يكن له أن يقيس من قبل نقص عقله عن الآلة التي يجوز بها القياس».
90 - «ولا نقول يسع هذا - والله أعلم أن يقول أبداً إلا اتباعاً، لا قياساً».(1/40)
91 - وقد علق محقق «الرسالة» العلامة الكبير أحمد محمد شاكر، رحمه الله على هذا النص بقوله: «وهذه الدرر الغالية، والحكم البالغة، والفقر الرائعة، هي أحسن ما قرأت في شروط الاجتهاد» (ص 509 ط. الحلبي 1358 هـ. الفقرات 1468 - 1479).
92 - وفي الملحق (1)، نص حديث في نفس الموضوع للمرحوم الشيخ عبد الوهاب خلاف.
93 - مقاصد الشريعة
واستمر الأصوليون والمتكلمون حوالي ستة قرون بعد الإمام الشافعي عاكفين على ترديد ما قاله الشافعي وشرحه والتعليق عليه، إلى أن بدأ بعض المجتهدين حوالي القرن الثامن الهجري يحومون حول إتمام ما ظهر من نقص في منهاج الشافعي. وجاء إكماله من أقصى الغرب الإسلامي على يد الإمام الكبير أبي إسحاق الشاطبي الأندلسي الغرناطي في كتابه العظيم «الموافقات».
94 - وهنا أترك الكلمة لصديقنا العلامة الشيخ محمد أبو زهرة - الذي أغنى المكتبة الاجتهادية بثمانية كتب عن الأئمة المتبوعين. فقد قال في كتابه: «الشافعي، حياته وعصره، آراؤه وفقهه» (ص346، ف230): «... إن علماء الأصول - من لدن الشافعي - لم يكونوا يتجهون إلى بيان «مقاصد الشريعة» وما تتجه إليه في جملتها وفي تفصيلها من أغراض ومعان، وإن ذكروا حكماً وأوصافاً مناسبة في بيان القياس أقلوا في القول ولم يستفيضوا فيه، لأنهم يعتبرون الأحكام منوطة بعللها لا بأوصافها المناسبة وحكمها. وبذلك كان بيان «المقاصد العامة للشريعة» التي جاءت من أجلها الأحكام، وارتبطت بها مصالح الناس بالمحل الثاني عندهم، فكان هذا نقصاً واضحاً في «علم أصول الفقه» لأن هذه المقاصد هي أغراض الفقه وهدفه.
95 - ولقد وجد في عصور إسلامية مختلفة علماء يسدون ذلك النقص، ويجلون هذه الناحية في بحوث كتبوها ورسائل دونوها.
96 - فكان لابن تيمية في هذا جولات صادقة.
97 - ولابن القيم - تلميذه - كتابات مستفيضة في هذا في شتى كتبه، وخصوصاً «أعلام الموقعين عن رب العالمين».(1/41)
98 - والمعز بن عبد السلام في «قواعده» اتجاه صادق، فجلى جزءاً كبيراً من أغراض الشارع ومقاصده وسار في ذلك خطوات شاسعة.
99 - ولقد حمل العبء كاملاً، وأوفى على الغاية أو قارب، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي الفقيه المالكي، المتوفى سنة 790هـ= 1388 م في كتابه «الموافقات» فقد بين مقاصد الشرع الإسلامي بياناً كاملاً، وربط بينها وبين قواعد الأصول وتكلم في مصادر ذلك الشرع على ضوء مقاصده وغاياته، وبذلك فتح طريقاً جديداً في علم الأصول، وهو الطريق الذي يجب أن يكون.
100 - وانقطع الاجتهاد
إذا كان إلغاء نظام الشورى الإسلامي لم يحل بين الفقهاء المجتهدين من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وبين مواصلة اجتهادهم الفردي، فإنه قد أثر أثراً بالغاً على عملهم نفسه.
101 - ذلك أن النظام الإسلامي مرتبط ارتباطاً عضوياً بالممارسة اليومية، كما سبق أن لاحظنا عند الحديث عن المرحلتين النبوية والراشدية، وإقصاء المجتهدين عن ميدان التوجيه والمواءمة بين النصوص الشرعية وبين تحقيق مصالح المجتمع الإسلامي الذي هو الهدف المقصود من شريعة الإسلام، جعلهم يتجهون بصفة خاصة إلى الميدان النظري، والبعد شيئاً فشيئاً عن ميدان الممارسة.
102 - وكثرت المناهج الفقهية وتنوعت، وأهمها فقه الحجازيين وفقه العراقيين وشَعَر أهل كل جهة أنهم في حاجة إلى معرفة ما عند الآخرين، ومن أصول منهج مالك في الاجتهاد مراعاة الخلاف.
103 - وقد جاء حماد وَلَدُ أبي حنيفة للأخذ عن مالك، وكان مالك يسأله أحياناً: «هل سمعت من أبيك في هذه المسألة شيئاً؟» وقضى محمد بن الحسن بالمدينة حوالي ثلاث سنوات يأخذ عن أهلها ويناقشهم ويحاورهم، واجتمع أبو يوسف مع مالك بالمدينة وذاكره ورجع عن بعض آراء شيخه أبي حنيفة إلى رأي مالك.
104 - وألف محمد بن الحسن «كتاب الحجة على أهل المدينة» وقد طبع في الهند القطعة الموجودة منه في أربعة أجزاء - مع شرح - ويقول ناشره إنها نحو نصفه.(1/42)
كما ألف الشافعي «الرد على محمد بن الحسن» دافع فيه عن رأي مالك في مسائل انتقدها عليه ابن الحسن.
105 - وكان الأئمة المجتهدون حريصين على أن يُكوّنوا في أنفس طلبتهم ملكة الاستقلال الفكري. فكانوا، وهم يدربونهم على الاجتهاد، يَنهونَهم عن تقليدهم ويلحون عليهم في وجوب الاعتماد على الدليل والبرهان، والأقوال المروية في هذا، عن مالك وأبي حنيفة، ومحمد بن الحسن والشافعي، وأحمد بن حنبل وغيرهم متواترة.
106 - ونشأت جماعة من المجتهدين المختارين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، كما أمر الله، فيتبعون ما قام لهم الدليل على صحته من غير التقيد برأي إمام واحد، على أساس أن الاجتهاد الإسلامي متكامل، مصدره واحد، وهدفه واحد، وهو محاولة تحقيق مصالح الجماعة الإسلامية في نطاق التوجيه الإلهي في القرآن والسنة، وذلك هو منهج جميع فقهاء أهل السنة والجماعة رحمهم الله.
107 - ولكن بعض الطلبة بهرتهم شخصية أستاذهم، فتجاوزوا في تعظيمه الحد المشروع، وصاروا يعتبرون كل ما قاله حجة، وكونوا تكتلاً فيما بينهم، فكانت المذهبية وكان التقليد والتعصب.
108 - وكان للمذهبية إيجابياتها وسلبياتها، فمن إيجابياتها في المغرب العربي، أنها كانت حركة شعبية ساعدت الشعب على مواجهة التيارات الهدامة الهادفة إلى تفريق كلمة الجماعة، والانحراف بها عن الاتجاه السُّني الصحيح، مثل الشيعية الغالية والخارجية وغيرها.
109 - وكان من سلبياتها الخطيرة أن التعليم في نطاق المذهب أبطل واجباً شرعياً، وهو اشتراط الاجتهاد في القاضي - مثلاً - فاعتبره الفقهاء شرطاً ملغى لانعدام المجتهدين.
110 - الدعوة إلى الاجتهاد ومحاربة التقليد
واستمرت الدعوة - طوال العصور - للاجتهاد ومدارسة الشريعة في مصادرها الأساسية، وتجلت بصفة خاصة في دراسة الحديث النبوي، والعمل بالأحاديث التي خالفها المذهب.(1/43)
111 - وكان للحملة الشرسة التي أثارها في الأندلس الإمام الحافظ أبو محمد ابن حزم الظاهري ضد التقليد أثرها العميق في الفكر الإسلامي مغرباً ومشرقاً، فانتعشت الدراسات الحديثية والأصولية، وقد ساعدته عبقريته الجبارة وثقافته الموسوعية، على أن يفرض نفسه على تاريخ الفكر البشري، فهو واضع علم تاريخ الأديان الذي أثر تأثيراً عميقاً على زعزعة سلطان الكنيسة في أوروبا في القرون الوسطى، (راجع محمد إبراهيم الكتاني: هل أثر ابن حزم في الفكر الأوروبي في القرون الوسطى؟ مجلة «البيئة» العدد 2، ذو الحجة 1381هـ يونيه 1962. ص 68 - 87).
112 - وكان شيخ الإسلام ابن تيمية أعظم مجتهد أنجبه الإسلام بعد أئمة المذاهب، وكان عميق المعرفة بتفسير القرآن، محدثاً حافظاً أصولياً ناقداً، فقيهاً عارفاً بآراء الفقهاء من مختلف المذاهب إلى جانب معرفته بآراء مختلف الفرق، وهو ناقد المنطق الصوري، من وجهة نظر عقلية، بعدما بقي العلماء سنين طويلة يقتصرون على إصدار الفتاوى بتحريمه.
وقد اضطُهد رحمه الله من أجل دعوته لإحياء الاجتهاد حتى إنه توفي في السجن لرفضه التخلي عن آرائه الاجتهادية.
113 - وكان له فضل عظيم على الدعوة للاجتهاد في مختلف أنحاء العالم الإسلامي وخصوصاً في العصر الحديث.
114 - وبذل السلطان محمد بن عبدالله العلوي رحمه الله، بالمغرب، جهوداً كبيرة في العمل على نشر دراسة الحديث في مدينة مراكش وغيرها، وألف بنفسه التآليف، وندب الفقهاء لشرح كتب الحديث، وأرشد للرجوع إلى كتب الأقدمين ونبذ كتب المتأخرين من المختصرات المعقدة الركيكة.
115 - وفي عصره، أنجبت جامعة القرويين بفاس، الإمام محمد بن علي السنوسي دفين جغبوب، داعية العمل بالحديث النبوي وصاحب التآليف المهمة في هذا الموضوع.
116 - وجاء الاستعمار(1/44)
وكان الهدف الأساس للاستعمار الصليبي في جميع أنحاء العالم الإسلامي هو تحويل المسلمين عن دينهم إلى النصرانية أو الإلحاد واللائكية وأشباهها، بدعوى أن الإسلام لا يتناسب مع العصر الحديث.
وساعده على ذلك ما كان عليه الفكر الإسلامي في جميع أنحاء العالم الإسلامي من تخلف وانحطاط. كما كان لجمود الفقه الإسلامي وتحجره وعجزه التام عن مواجهة المرحلة الخطيرة التي يوجد فيها الإسلام هدفاً للإبادة المنظمة بعد أن أصبح أعداؤه يقتلعون جذوره من نفوس الأطفال والشباب.
117 - وارتفعت صيحة الانبعاث الإسلامي هذه المرة - بعد موت حقيقي استمر عدة أجيال - من أفغانستان، حيث دعا موقظ الشرق جمال الدين الأفغاني جماهير المسلمين إلى أن يواجهوا الاستعمار الصليبي مجتمعين، فيثوروا ثورة واحدة من أقصى العالم الإسلامي إلى أقصاه، مستمدين القوة والتوجيه من القرآن الذي خلق أمتهم من العدم.
118 - وألف رسالة «الرد على الدهريين» بين فيها خطر الإلحاد واللائكية على المجتمعات البشرية. وقد ساعدته معرفته باللغات الأوروبية وجولاته فيها، وفي الولايات المتحدة، وروسيا على معرفة حقيقة مبلغ التخلف الفكري الذي يتردى فيه المسلمون، فاهتم بالدعوة إلى محاربة التخلف، واكتساب أسباب القوة الفكرية والاجتماعية، فدعى إلى إحياء الاجتهاد وإحياء نظام الشورى الإسلامي، واعتبر أن النظام البرلماني الأُوروبي أقرب الأنظمة إلى الشورى الإسلامية. وعلى العكس من ذلك لاحظ خطر الدعوة الاشتراكية الحديثة، ودعى إلى إحياء تقاليد الاشتراكية العربية والعدالة الاجتماعية الإسلامية.(1/45)
119 ــــ وأسس مع تلميذه ومريده محمد عبده جمعية سرية للعمل على تحقيق هدف التحرير الذي يعمل له، هي «جمعية العروة الوثقى» تضم أعضاء منبثين في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وأصدر مع محمد عبده بباريس مجلة باسمها كان لها تأثير عظيم في أفكار قرائها في مختلف البلاد العربية، مع أنها لم تصدر منها إلا أعداد قليلة، لعجزها عن الإنفاق عليها.
120 ــــ ولم يلبث أن اختلف مع محمد عبده، الذي رأى أن المسلمين عاجزون عن الاستجابة لهذه الدعوة، بعد أن انقطعت صلتهم بالعمل بالقرآن والخضوع لتوجيهاته، وأنه يجب العمل أولاً على ردهم إلى القرآن، وتعريفهم بالإسلام الصحيح الذي يجهلونه، ونفذ بنفسه الخطة التي اقترحها فجدد في الدراسات القرآنية، ودعا إلى تحكيم القرآن وعدم التحكم عليه. ودرس جيداً «الموافقات» واستفاد منها على نطاق واسع، وألف وحاضر وكتب المقالات والفتاوى. ودعا إلى نبذ كتب المتأخرين، والاستعاضة عنها بما كتبه علماء عصور النهضة الإسلامية، ودافع عن الإسلام، ولخص منهجه كله في كلمة واحدة هي التربية الإسلامية العملية، فاتجه إلى إصلاح الأزهر. وفكر في تأسيس «دار الدعوة والإرشاد» لتكوين الدعاة والمرشدين. ــــ وقد أسسها بعده تلميذه رشيد رضا، وتعلم فيها بعض المغاربة.
121 ــــ ودعا إلى نشر كتب المجتهدين، وكتب للسلطان المولى عبد العزيز رحمه الله، ولقاضي فاس يطلب مخطوطات «المدونة» لنشرها.
122 ــــ وساهم السلطان عبد الحفيظ في المغرب وبعض الناشرين المغاربة بنشر بعض الكتب داخل المغرب وخارجه.
123 ــــ كما نشر بطل التحرير محمد الخامس رحمه الله، على عهد الحماية، ووزارة الأوقاف بعد استقلال المغرب ــــ وما تزال ــــ بعضاً آخر.(1/46)
124 ــــ كما أسس تلميذ محمد عبده السيد الإمام محمد رشيد رضا رحمه الله مجلة «المنار» لتواصل عمل «العروة الوثقى». وقد استمرت في نشاطها اثنتين وثلاثين سنة، وقد اهتمت بموضوع إحياء الاجتهاد اهتماماً كبيراً، ونشرت من كتب التراث الاجتهادي عدداً كبيراً.
125 ــــ وحمل هذه الدعوة إلى المغرب شيخنا الشيخ أبو شعيب الدكالي رحمه الله. فأحيا دراسة تفسير القرآن بعد انقطاعها مدة طويلة، ودرس صحيح البخاري في فاس ومراكش والرباط. وساعده علمه الواسع بتفسير القرآن وعلومه، وبعلوم الحديث والفقه والأدب العربي على أن جمع حوله نخبة من الطلبة، كما ساعده ترؤسه للدروس السلطانية على عهد السلاطين، المولى عبد الحفيظ، والمولى يوسف ومحمد الخامس رحمهم الله، على تبليغ الدعوة للعلماء الذين كانوا بعيدين عنها.
126 ــــ وعلى يديه تكون شيخنا محمد بن العربي العلوي رحمه الله، وتثقف ثقافة اجتهادية متينة. وكان رحمه الله علامة موسوعياً، فقيهاً متين الثقافة، محدثاً ناقداً مفسراً لغوياً أديباً مصلحاً داعيةً، مجتهداً مجاهداً بطلاً.
127 ــــ ويقتضيني واجب الوفاء بالجميل، أن أعترف ــــ بهذه المناسبة بفضله الكبير علينا بتحريرنا من ربقة الخرافة والجمود والتقليد والتعصب للمذهبيين، وما بذله معنا من جهود مضنية لتدريبنا على الاجتهاد الشرعي السليم، وإرشادنا إلى قراءة مؤلفات سلفنا الصالح من رجال العصور الإسلامية الزاهرة، ورجال الانبعاث الإسلامي الحديث وتنبيهنا لعيوب مؤلفات عصور التدهور والخرافة والتقليد والتعصب. فجزاه الله عنا وعن دينه وبلاده وأمته خير الجزاء.
128 ــــ ورحم الله أصدقاءنا وزملاءنا الذين استفادوا معنا من تربيته في هذا المجال: محمد غازي وعلال الفاسي وعبد العزيز بن إدريس العمروي ومحمد المختار السوسي والصديق العلوي.
129 ــــ راجع العلال الفاسي:
1 ــــ النقد الذاتي.
2 ــــ دفاع عن الشريعة.
3 ــــ مقاصد الشريعة.(1/47)
4 ــــ معركة اليوم والغد.
وراجع عن فكر علال:
1) أحمد حماني، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر: «محمد علال الفاسي المجدد المجتهد». («الأصالة»، مجلة تصدرها وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية الجزائر)، السنة الثانية العدد 20، ربيع 2/1394هـ. ماي 1974م، ص 153 ــــ 190.
2) فهمي جدعان دكتور الدولة في الآداب (السوربون)، وأُستاذ الفلسفة والفكر العربي بالجامعة الأُردنية:
«أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث» ص 333 ــــ 338 ص 372 ــــ 379.
130 ــــ وأسمح لنفسي بهذه المناسبة ــــ أن أتحدث عن مجتهد مغربي متأخر، لم ينشر عنه شيء إلى الآن، مع أن دواعي الحديث عنه كثيرة كما سنرى.
ذلك هو الشيخ محمد حسنّا ــــ بتشديد النون ــــ دفين مدرسة فاس، ابن الشيخ محمد ماء العينين الشنقيطي الشهير ــــ دفين تزنيت. فقد كان الشيخ حسنّا ينكر تقليد أي مذهب من المذاهب الأربعة ويرى العمل بالحديث وحده. في ذلك يقول:
لست لمالك، ولا للشافعي ولا لحنبل ولا للرابع بل اتباعي للنبي الشافع وأسأل العفو لكل تابع 131 ــــ وكان لوالده الشيخ ماء العينين ميول اجتهادية تنبىء عنها بعض مؤلفاته المطبوعة بفاس.
132 ــــ وكان الشيخ ماء العينين ممثلاً لسلطان المغرب في الصحراء، وعندما هجم الجيش الفرنسي على إقليم شنچيط جنّد الشيخ متطوعين من الصحراء بقيادة ولده محمد حسنّا هذا ليقاوموا المعتدين، مع الجيش المغربي الذي وجهه السلطان المولى عبد العزيز رحمه الله. ثم جاء إلى فاس في طريقه إلى الحج ولما احتلها الجيش الفرنسي سجنه، وأدركه أجله بعيد إطلاق سراحه ــــ فيما أظن ــــ بقليل 1334هـ أو 1335. وهو مدفون بزاوية والده بدرب السراج بالطالعة، رحمه الله.(1/48)
133 ــــ وأذكر بهذه المناسبة أنه زارني مرة أحد الحُزميين، وأثناء المذاكرة وجه إليَّ سؤالاً إنكارياً بأنه يلاحظ علي أني لا ألتزم بجميع آراء ابن حزم. فأجبته بأن هذه ليست مسألة مطروحة بل المسألة المطروحة على المسلمين اليوم هي إحلال قوانين إسلامية مكان القوانين الوضعية الأجنبية التي فرضها الاستعمار على الأُمم الإسلامية، بحيث تكون هذه القوانين محققة لمصالح المسلمين المستجدة، وهم يستطيعون أن يحققوا هذا الهدف الإسلامي الملح والمستعجل، عن طريق الاستفادة من اجتهادات الفهاء المسلمين الأقدمين، من جهة، بما فيهم ابن حزم نفسه أو من اجتهادات جديدة لمواجهة الحالات التي جدت اليوم في الدنيا ولم تكن معروفة من قبل، في نطاق النصوص والقواعد الشرعية الخالدة.
134 ــــ أي أننا اليوم في حاجة إلى تطبيق منهج الاجتهاد الشرعي الذي قننه الشافعي والشاطبي ومارسه ابن تيمية وابن قيم الجوزية وأمثالهما ودعا إلى إحيائه عشرات المفكرين المسلمين المحدثين. وهو اجتهاد مضبوط بالقواعد المحددة، وفي نفس الوقت متفتح على مختلف التجارب الاجتهادية السابقة، وقابل في نطاق المستقبلية الاجتهادية، لإضافة تجارب جديدة لا نهاية لها. وتلك هي، بدون استثناء، أعظم معجزة خالدة للقرآن العظيم، الذي تضمنت خمسمائة آية منه أحكام كل ما يجد في الدنيا إلى آخر الدهر من حوادث ومستجدات، والتي أوجب الله على المجتهدين المسلمين أن يستنبطوا من القرآن أحكام كل ما يستجد منها في كل زمان.
وتلك هي الضرورة الشرعية الحتمية المستعجلة لإحياء الاجتهاد الذي تطالب به توصية «ندوة الأكاديمية».
135 ــــ كيف نحيي الاجتهاد؟
والآن: كيف نحيي اجتهاداً انقطع منذ قرون؟ ولعلنا بعد هذه الجولة الطويلة القصيرة في نفس الوقت، في علم الاجتهاد وآفاقه وميادينه وشروطه ومناهجه، نستطيع أن نرسم بوضوح معالم محددة للعمل على السير بخطى ثابتة لإحيائه من جديد بعدما حنَّطناه قروناً طويلة.(1/49)
136 ــــ فآيات الأحكام معروفة بأعيانها، محفوظة ضمن القرآن الذي حفظه الله لنا غضًّا طرياً كأنما أُنزل الآن. والسنة النبوية المبينة له معروفة مضبوطة بفضل التوفيق الإلهي الذي هيأه لأئمة الحديث ــــ رحمهم الله وجزاهم أحسن الجزاء ــــ فهي الآن بين أيدينا «ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك» كما قال ((ص)).
واللغة العربية التي كتب لها الخلود بفضل القرآن، قد تضافرت جهود الأجيال المتعاقبة، من العرب والعجم قديماً وحديثاً، على خدمتها واستحداث الوسائل لتسهيل تعليمها لغير العرب. ومناهج الاجتهاد الإسلامي العلمية العقلية المضبوطة ما تزال بين أيدينا في مصادرها الأُولى ــــ بما فيها مقاصد الشريعة ــــ قبل أن تمسخها وتشوهها عصور الانحطاط والتقليد والجمود والتخلف في المختصرات والأنظام المعقدة التي لا حياة لها، وفي المؤلفات الحديثة العديدة التي ألفها أنصار إحياء الاجتهاد في العصر الحديث، وتجارب المجتهدين من فقهاء الإسلام ــــ قبل نشأة المذاهب وبعدها ــــ عبر الأجيال والعصور، محفوظة يستطيع الدارس أن يتعرف عليها ويستفيد منها في مسايرة الخط الإسلامي السليم في الاجتهاد. والموهبة العقلية الخاصة التي اشترطها الإمام الشافعي فيمن يجوز له ممارسة الاجتهاد شرعاً ما تزال موجودة بين المتعلمين من المسلمين على نطاق واسع، ولله الحمد.(1/50)
137 ــــ ومن الواضح أن هذه الحصيلة الثقافية المحددة في كلام الشافعي وعبد الوهاب خلاف مثلاً ــــ تتطلب إعداداً خاصاً وتكويناً فنياً، وتلك مسؤولية الدولة التي تكوِّن الأطر التي تحتاجها في كثير من الميادين. فيجب عليها ــــ شرعاً ــــ أن تولي هذه المسألة التي وضحنا مبلغ أهميتها القصوى من الناحية الدينية والحضارية والفكرية «والمستقبلية» بالنسبة لحياة الجماعة الإسلامية وحيويتها وفعاليتها وضمان مستقبلها، ما هي جديرة به من عناية واهتمام، وذلك بتكوين فئة من الطلبة تكويناً تقنياً على أساس البرنامج المحدد، وهو تكوين يتطلب عدة سنوات ــــ كما هو واضح. ولعل ذلك يتطلب ــــ فيما يبدو ــــ تأسيس مركز دراسي خاص: معهدٍ أو مدرسةٍ أو غير ذلك من الأسماء بحيث يكون هدفها هو هذا التكوين.
أما المؤسسات التعليمية بالمغرب فهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً ببرامج التعليم الأجنبية، وذلك ما يجعلها بعيدة عن أن تقوم بدور مساعد في هذا الموضوع. ولعل من الممكن ــــ على المستوى البعيد ــــ أن تحور الوزارة برامج تعليمها بحيث يتعلم التلميذ ثم الطالب أجزاء من البرنامج المحدد، يستطيع بعدها في مرحلة لاحقة أن يتم تخصصه في هذا الميدان.
ومن شأن تحديد الآيات والأحاديث التي على طالب الحصول على مَلَكَةِ الاجتهاد أن يدرسها دراسة مستوعبة ومتعمقة، بصفتها مصدراً للتشريع، أن يقْصِيَ عن التحكُّك بهذا الميدان، كثيراً من الدارسين لنواح أخرى من الدراسات القرآنية والحديثية ونواح أخرى غير هذه الناحية المحددة. دعك ممن تخصصوا في نواح أخرى لا صلة لها بهذا الميدان.(1/51)
138 ــــ وأعود مرة أخرى إلى الشيخ عبد الوهاب خلاف رحمه الله، فأنقل قوله: «الذين لهم حق الاجتهاد بالرأي هم «الجماعة التشريعية» التي توافرت في كل واحد منهم المؤهلات التي قررها علماء الشرع الإسلامي، فلا يسوغ الاجتهاد بالرأي لفرد مهما أوتي من المواهب واستكمل من المؤهلات، لأن التاريخ أثبت أن الفوضى التشريعية في الفقه الإسلامي كان من أكبر أسبابها الاجتهاد الفردي. ولا يسوغ الاجتهاد لجماعة توافرت في كل فرد من أفرادها شرائط الاجتهاد ومؤهلاته، إلا بالطرق والوسائل التي مهَّدها الشرع الإسلامي للاجتهاد بالرأي والاستنباط فيما لا نص فيه».
«فباجتهاد الجماعة التشريعية المتوافرة في أفرادها شرائط الاجتهاد، تُنْفَى الفوضى التشريعية وتشعب الاختلافات. وباستخدام الطرق والوسائل التي مهَّدها الشرع الإسلامي للاجتهاد بالرأي يؤمن الشطط، ويسار على سنن الشارع في تشريعه وتقنينه.
139 ــــ ومن الواضح أن قول الشيخ عبد الوهاب خلاف إنه لا يسوغ الاجتهاد بالرأي لفرد، معناه أنه لا يسوغ العمل باجتهاد فرد. أما الاجتهاد النظري فإنه لا يمكن لأحد المنع منه. فمن جهة لا يمكن لطالب العلم أن يصير مجتهداً إلا بعد أن يمارس الاجتهاد مرات عديدة، يخطىء في بعضها ويصيب في بعض آخر، كما هو أمر بديهي. ومن جهة أخرى فإن من درَس مسألة وأدَّاه اجتهاده إلى حكم مُعيَّن لا يمكن لكائن منْ كان أن يحوَّل فكره عما اقتنع به. نعم، إذا تدارست المسألة هيئة محترمة، جميع أفرادها ممن توفرت فيهم شروط الاجتهاد، واتفقت على رأي مغاير، فإذ ذاك ينبغي له أن يتخلى عن رأيه احتراماً لرأي الجماعة.(1/52)
140 ــــ وممن أيد وجوب الاجتهاد الجماعي خاتمةً أئمة فقهاء المالكية غير منازع الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور التونسي رحمه الله. فقد قال في كتابه «مقاصد الشريعة»: «وإن أقل ما يجب على العلماء في هذا العصر أن يبتدئوا به من هذا الغرض العلمي أن يسعوا إلى عقد مجمع علمي يحضره أكبر العلماء بالعلوم الشرعية في كل قطر إسلامي على اختلاف مذاهب المسلمين في الأقطار. ويبسطوا بينهم حاجات الأُمة ويصدروا فيها عن وفاق فيما يتعين على الأُمة عمله، ويُعلموا أقطار الإسلام بمقرراتهم، فلا أحسب أحداً ينصرف عن اتِّباعهم. ويعينوا يومئذ أسماء العلماء الذين يجدونهم قد بلغوا رتبة الاجتهاد أو قاربوا، وعلى العلماء أن يقيموا من بينهم أوسعهم علماً، وأصدقهم نظراً في فهم الشريعة فيشهدوا لهم بالتأهيل للاجتهاد في الشريعة».
«ويتعين أن يكونوا قد جمعوا إلى العلم العدالة واتباع الشريعة، لتكون أمانة العلم فيهم مستوفاةً، ولا تتطرق إليهم الريبة في النصح للأُمة» (ص 139 ــــ 141).
141 ــــ وممن نادى بوجوب الاجتهاد الجماعي الدكتور محمد سلام مذكور في موسوعته الضخمة الحافلة ــــ التي قال إنه لم يسبق إليها «مناهج الاجتهاد في الإسلام»، فقد قال: «غير أننا نرى ــــ مقاومة للهوى والادعاء غير الصادق الذي ينبني عليه التلبيس في أحكام الشريعة والتضليل في عرض الكلام ــــ أن يكون ذلك الاجتهاد في ظل الاشتراك بين أولي الأمر من العلماء مما يسمى اجتهاداً جماعياً» (ص 425).(1/53)
142 ــــ ومنهم الشيخ مصطفى الزرقاء في كتابه «الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد» ــــ المدخل الفقهي العام ــــ وسماه «اجتهاد الجماعة» على طريقة الشورى العلمية في مؤتمرات فقهية تضم فحول العلماء من مختلف المذاهب والأقطار، ثم ذكر أن الاجتهاد المالكي قد أخذ بمبدأ هذه الشورى العلمية بين علماء كل زمن في تعديل الأحكام الفقهية عندما يتبدل فيها عرف الناس ومقاصدهم العلمية، ثم أحال في التعليق على محاضرة للمؤرخ الكبير رفيق بك العظم رحمه الله عن قضاء الجماعة وقضاء الفرد. (ج 1 ص 192 ــــ 194).
143 ــــ وكان تفسير المنار بدأ القول في ذلك وأعاده في تفسير آية { ] ء _ } ]النساء: 59[ (ج 5 ص 180 ــــ 194 ــــ 227) وقال: «فأهل الحل والعقد من المؤمنين إذا أجمعوا على أمر من مصالح الأُمة ليس فيه نص عن الشارع، مختارين في ذلك غير مُكْرَهِين عليه بقوة أحد ولا نفوذه، فطاعتهم واجبة».
144 ــــ وتأييداً لما ذكره الأُستاذ الزرقاء عن الاجتهاد المالكي أشير إلى:
أ) هيئة الفقهاء المشاورين بالأندلس. وكان من بينهم أحياناً من ليسوا بملتزمين مذهب مالك.
ب) أن ملوك المغرب لم يكونوا يتصرفون إلا استناداً إلى فتاوي كبار الفقهاء من علماء القرويين.
145 ــــ ولعل ذلك لم يتخلف إلا في بعض ظروف استثنائية.
146 ــــ ولعل آخر استفتاء صدر عن القصر الملكي هو ما وجهه وزير العدل شيخنا سيدي عبد الرحمن ابن القرشي رحمه الله ــــ عن أمر المولى يوسف رحمه الله إلى علماء القرويين يستفتيهم عما ورد في كتاب طبع في مصر منسوب لأحد المغاربة، وفيه عن إحدى صيغ الصلاة على النبي ((ص))، أنها من كلام الله القديم! وكنا إذ ذاك طلبة صغاراً بالقرويين فجلسنا بباب مقصورة القرويين ننتظر ما يجيب به العلماء، وعندي صورة شمسية للجواب وبأسفله تواقيع العلماء رحمهم الله.
147 ــــ أمة واحدة(1/54)
ورد في كلام المرحوم الطاهر ابن عاشور السابق، عن المجتمع العلمي ــــ ولعل الأولى تسميته بالمجمع الفقهي الذي اقترحه، أنه يحضره أكبر العلماء بالعلوم الشرعية في كل قطر إسلامي على اختلاف مذاهب المسلمين، وكذلك قال الشيخ الزرقاء. ــــ وهو كلام وجيه جداً، لأسباب عديدة منها:
أ) أن شريعة الله واحدة، وما أوجب الله مشاورة أولي الأمر ــــ حسبما قدمناه ــــ إلا لتوحيد الرأي.
148 ــــ ب) إن الثقافة الإسلامية كانت طوال التاريخ الإسلامي ثقافة متكاملة بين مختلف أنحاء العالم الإسلامي مشرقه ومغربه، كما هو معروف، ولم تكن بأي حال من الأحوال ثقافة إقليمية أو محلية. ويكفي استعراض مصادر ومراجع الفقه المالكي الأساسية في المغرب، حيث ترجع إلى المدينة ومصر وبغداد والقيروان وتونس وصقلية وبجاية وتلمسان وقرطبة وغرناطة وفاس وغيرها، إلى جانب كتب التفسير والحديث والنحو واللغة والأدب وغيرها.
149 ــــ ج) إن تثبيت الاختلاف المذهبي كان من بين أسبابه ظروف محلية ووقتية خاصة. ومن بينها قلة وجود مراجع بعض المذاهب في بعض المراكز العلمية.
150 ــــ د) إن مراعاة الخلاف من بين أصول مذهب مالك ــــ كما تقدمت الإشارة إليه. وما زال كبار الفقهاء يشيرون في كتبهم إلى آراء أصحاب المذاهب الأُخرى بمنتهى الاحترام والتقدير.
151 ــــ ومن أمثلة ذلك أن الإمام شهاب الدين القرافي المالكي، صدر كتابه «الذخيرة» ــــ وهو من أمهات كتب الفقه المالكي المعتمدة ــــ بمقدمة طويلة في بيان مزايا المذهب المالكي، وعند ذكر منهجه في كتابه قال: «وقد آثرت التنبيه على مذاهب المخالفين لنا من الأئمة الثلاثة ومآخذهم في كثير من المسائل، تكميلاً للفائدة، ومزيداً في الاطلاع. فإن الحق ليس محصوراً في جهة. فيعلم الفقيه أي المذهبين أقرب للتقوى، وأعلق بالسير الأقوى (مخطوط خ، ع، ج، 852 ص 5).
ومع أن هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، فإن الضرورة دعت للتذكير به.(1/55)
152 ــــ هـ) وقال الدكتور محمد سلام مذكور في «مناهج الاجتهاد في الإسلام»: «وليس هناك ما يدعو إلى القول بأن معنى الاجتهاد المذهبي يتحقق الآن، مع أنه ليس هناك ما يوجبه ولا يقتضيه. فإن الدراسات الفقهية في هذا العصر دراسات تقارنية، ولا تقتصر على مذهب معين، مهما كان الدارس في أصل دراسته متخصصاً في مذهب واحد، إذ مجال المقارنة الآن فسيح ميسور، وفي كل هذه الفسحة وذلك اليسر تخصب الملَكَات، وتتحدد النظريات، ويمكن استخراج الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية أو الفرعية» (ص 422).
153 ــــ و) وأن الوزن الثقيل جداً للمملكة المغربية في العالم الإسلامي نتيجة تاريخها الطويل والحفيل، إسلاماً وثقافياً وفكرياً وفقهياً وحضارياً، ونتيجة تاريخها المعاصر المليء بالأمجاد، يجعلها ملزمة إلزاماً أكيداً جداً بأن تتحمل مسؤوليتها الكاملة في المساهمة ــــ بجانب فقهاء العالم الإسلامي ــــ بدورها في واجب إحياء الاجتهاد، لمواجهة المشاكل والتحديات المعاصرة، التي تعترض المسلمين في كل مكان، بما في ذلك المغرب، وتتلافى ما فاتها من ذلك وقتاً طويلاً. وليس بمعقول بأية حال من الأحوال أن يستمر المغرب في التغيب عن المساهمة في هذا الواجب المصيري للأُمة الإسلامية، أو أن يحاول مواجهة نفس المشاكل التي يواجهها بقية العالم الإسلامي مواجهة محلية أو إقليمية، كأنه ليس عضواً رئيسياً في الجماعة الإسلامية، له وزنه الثقيل ودوره الفعال الذي ينتظره بصفته عضواً في جسم حي يتفاعل مع بقية الأعضاء.
154 ــــ مشاكل تنتظر الاجتهاد
لقد كان من الآثار السلبية لعدم وجود جماعة من الفقهاء الذين تتوفر في كل واحد منهم شروط الاجتهاد معترف بها من جماعة المسلمين، تتولى إصدار الحكم فيها إن تعذر إصدار الحكم الشرعي في كثير من الأُمور.
155 ــــ ويستعرض الشيخ الطاهر ابن عاشور رحمه الله بعض المشاكل فيقول:(1/56)
أ) «لم يبق للشك مجال يخالج به نفس الناظر في أن أهم مقصد للشريعة من التشريع انتظام أمر الأُمة وجلب الصالح لها ودفع الضرر والفساد عنها.
156 ــــ ب) وقد استشعر الفقهاء في الدين كلهم هذا المعنى في خصوص صلاح الأفراد ولم يتطرقوا إلى بيانه وإثباته في صلاح المجموع العام، ولكنهم لا ينكر أحد منهم أنه إذا كان صلاح الأفراد وانتظام أمورهم مقصد الشريعة فإن صلاح أحوال المجموع وانتظام أمر الجماعة أسمى وأعظم، وهل يقصد إصلاح البعض إلا لأجل إصلاح الكل؟ بل وهل يتركب من الأجزاء الصالحة إلا مركب صالح... فعلينا أن نتخيل الأُمة الإسلامية في صورة الفرد الواحد من المسلمين، فنعرض أحوالها على الأحكام التشريعية كما تعرض أحكام الفرد، فهناك يتضح لنا سبيل واضحة من الإجراء التشريعي في أحوال الأُمة.
157 ــــ ج) وأن مما لا ينبغي أن ينسى عند النظر في الأحوال العامة الإسلامية نحو التشريع هو باب الرخصة.
فإن الفقهاء فرضوا الرخص ومثلوا لها في خصوص أحوال الأفراد، ولم يعرجوا على أن مجموع الأُمة قد تعتريه مشاق اجتماعية تجعله بحاجة إلى الرخصة، وليس القول في سد الذرائع ورعي المصالح المرسلة بأقل أهمية من القول في الرخصة بحيث لا يفرضان في أحوال الأفراد، بخلاف الرخصة».
وبعد كلام طويل عن «واجب الاجتهاد» ومسؤولية المقصرين في القيام به قال:
158 ــــ د) «والتقصير في الاجتهاد يظهر أثره في:
ــــ الأحوال التي ظهرت متغيرة عن الأحوال التي طرأت، ولم يكن نظيرها معروفاً في تلك العصور. فهم بحاجة ــــ في الأقل ــــ إلى علماء يرجحون لهم العمل بقول بعض المذاهب المقتدى بها الآن بين المسلمين ليصدروا عن عمل واحد.
159 ــــ هـ) وفي كل الأحوال، قد اشتدت الحاجة إلى إعمال النظر الشرعي، والاستنباط والبحث عما هو مقصد أصلي للشارع، وما هو تبع، وما يقبل التغير من أقوال المجتهدين وما لا يقبله».
160 ــــ و) نستعرض هنا أمثلة إجمالية، منها:(1/57)
أ) مسائل بيع الطعام.
ب) ومسائل المقاصة.
ج) ومسائل بيع الآجال.
د) ومسائل كراء الأرض بما يخرج منها.
هـ) ومسألة الشفعة في خصوص ما يقبل القسمة، ففي كثير منها تضييق مقاصد الشريعة الإسلامية.
161 ــــ ويستعرض الدكتور محمد سلام مذكور في «مناهج الاجتهاد في الإسلام» أمثلة أُخرى فيقول: «فهذه العقود المتنوعة التي جدت:
أ) كعقود التأمين بأنواعها.
ب) وعقود البورصة.
ج) واليانصيب.
د) وعقود المضاربات.
هـ) وأعمال الكمبيالات.
و) وهذه الشركات المساهمة، وما تطرحه من سندات.
ز) وصناديق التوفير.
ح) والعقود الحكومية، وشبه الحكومية.
ط) ونقل قطعة من جسم إنسان إلى آخر.
ي) والاستفادة بأجزاء من جسم الميت لمعالجة الحي وإصلاح شأنه، وغير ذلك.
ك) مما يتعلق بغزو الفضاء.
ل) والوصول إلى القمر، وكل ما يصل إليه العلم الحديث.
والواقع أن كل هذا يحتاج إلى بحث بما يتلاءم مع الشرع ومبادئه التي تساير مصالح الناس ولا تجعل الأُمة الإسلامية متخلفة علمياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً». («ص 52 ــــ 53»).
الاقتصاد الإسلامي
162 ــــ والواقع أن المشكلة أعمق وأوسع من ذلك بكثير، إنها مشكلة «الاقتصاد الإسلامي» نفسه. لقد سبق أن ذكرنا أن من أهداف الإسلام إقامة حضارة متميزة، لها مقوماتها الخاصة ومنها «الاقتصاد الإسلامي» الذي وضع أسسه القرآن والسنة بما تضمناه من تشريعات جيدة وتوجيهات سامية تضمن من العدالة ما لم تعرفه لا الشريعة اليهودية ولا القانون الروماني. ووسع الاجتهاد والممارسة آفاقه لدرجة حققت مصالح أقاليم العالم الإسلامي الشاسع الأطراف، ومكّن أُمَماً أُخرى غير إسلامية من اقتباس كثير من النظم الاقتصادية الإسلامية.
163 ــــ وفي نطاق مداولة الأيام بين الناس، تقدمت أُمم وشعوب أُخرى وتولت القيادة بدلاً من المسلمين الذين تخلفوا وأصبحوا كغثاء السيْل، كما أخبرهم النبي ((ص)).(1/58)
164 ــــ وأصبحت اليوم تتنازع السيطرة على العالم قوتان جاهليتان طاغيتان، تتسابقان في جنون نحو القضاء على الحياة البشرية على الأرض، ولكل واحدة منهما نظامها الاقتصادي الذي لا صلة له بالله. وهما الاشتراكية والرأسمالية، موهمان الأُمم والشعوب أنه لا مناص لها من اختيار واحد من النظامين اللذين لا بديل لهما. وحَسْبُكَ مِن شَرَّيْن أَحْلاَهُمَا مُرّ.
165 ــــ وتقدم الإسلام بنظامه الاقتصادي المتكامل الذي يستطيع البشر به عن طريق الاجتهاد في نطاق النصوص المقدسة، أن ينقذوا البشرية من الإبادة الحتمية التي تهوي نحوها.
166 ــــ في سنة 1960م أصدر كاتب فرنسي اسمه جاك أوستروي كتاب «الإسلام في مواجهة النمو الاقتصادي» بتقديم أندره بياتر أستاذ الحقوق والعلوم الاقتصادية بجامعة باريس، وصدر في دمشق بتعريب الدكتور نبيل صخر الطويل باسم «الإسلام والتنمية الاقتصادية» بتقديم صديقنا العلامة الكبير المرحوم محمد المبارك عميد كلية الشريعة بجامعة دمشق حينذاك، في صفحات 118، ويقول المؤلف في مقدمة كتابه: «وفيما يخص الإسلام، يظهر أن المشكلة الحاسمة للتنمية تواجه بأسلوبين ــــ طبعاً بعد استبعاد النظرية المستحيلة في زوال الإسلام كنظام اجتماعي متميز، وَذَوَبَانِه في مجتمع أكثر ديناميكية.
167 ــــ ومستقبل الإسلام الاقتصادي ينفتح على نقطة فاصلة. هل يساير العالم الإسلامي العصر الحاضر بمجافاة القرآن، أم بالسير تحت لوائه؟».
168 ــــ ويقول أندره بياتر في تقديمه:
«كل اقتصادي مهتم بالمسائل التي يتعلق بها قدرنا وسلوكنا، سيكون شاكراً المؤلف على دراسته، وسيحمده بصورة خاصة لتأكيده وتركيزه على النقطتين التاليتين:
أ) كردّ فعل للتخطيط المبسط «كما يراه مردال»، يظهر السيد أُوستروي باقتناع أن هناك أكثر من مخططين إجباريين للنمو الاقتصادي في البلاد التي هي في طريقها لذلك: الرأسمالية والماركسية، فالإسلام لا يتوافق مع كليهما».(1/59)
ب) والقسم الثاني ــــ بالنسبة لنا ــــ هو أكثر تأثيراً وهو الموضوع الذي يثبت فيه أن النمو الاقتصادي في الإسلام لن يتحقق إلا إذا صبت في الإطار التقدمي المتطور القوى الحية الهائلة التي يمده بها القرآن، ونقصد الروح القرآنية الحقة، بعد إزالة الأغلفة اللاّهوتية الزائلة التي علقت بها وغطت جوهرها، وخَنَقَت لأَجيالٍ طويلة رسالة القرآن الأَصيلة.
169 ــــ ويقول الشيخ محمد المبارك، رحمه الله:
«وينتهي المؤلف إلى الفكرة الثالثة وهي التنبؤ باحتمال قيام نظام اقتصادي إسلامي في العالم، يقوم على أُسس مستمدة من الإسلام، وتتلخص بتنمية الحياة الاقتصادية وبالإبقاء على المِلْكِية الفَردِية ضِمْن وظيفتها الاجتماعية التي قررها الإسلام، أي محدودةٍ بحدود مصلحة الجماعة، وبإيجاد نظام يحل محلّ الرّبا في النظام الرأسمالي، وفتح باب الاجتهاد في الفقه الإسلامي، ورعاية الأهداف الأخلاقية في النظام الاقتصادي، للحد من المآسي التي أوجدتها حضارة الآلة وماديتها الطاغية».
170 ــــ والواقع أنه منذ بداية الغزو الأُوروبي ــــ شرقيه وغربيه ــــ للعالم الإسلامي، والمؤمنون الصادقون يتناولُون بالدّرس والبحث، مختلف جوانب الاقتصاد الإسلامي، ومحاولة بعثه من جديد وهم الذين سماهم علال الفاسي رحمه الله، رواد الاقتصاد الإسلامي. وقد ملؤوا المكتبة الإسلامية الحديثة بعشرات المؤلفات القيمة التي لا يخلو بعضها من ابتكار، أي اجتهاد، كما أن كثيراً من الجامعات والمؤسسات العلمية ساهمت بدورها في هذا الموضوع.
171 ــــ وكان المرحوم علال الفاسي الرائد المغربي الأول في هذا الميدان، بكتابه الخالد: «النقد الذاتي»، أولاً، وبكثير مما كتبه بعد ذلك.(1/60)
172 ــــ وكان المنظر الماركسي روجي چارودي عضواً في اللجنة العليا للحزب الشيوعي الفرنسي، ثم خرج منها، وكتب «البديل» يبحث عن «بديل» للماركسية، فكتب له علال الفاسي رحمه الله «بديل البديل» يلفت فيه نظره إلى الإسلام كبديل للماركسية، ولم يلبث أن كتب چارودي كتابه «بشائر الإسلام»، ثم أعلن إسلامه في المدة الأخيرة. ــــ وقد كان ضيف ندوة أكاديميتنا التي تقرر فيها موضوع إحياء الاجتهاد ثم أصبح عضواً في الأكاديمية.
173 ــــ كما أعلن ضيف الندوة الأُستاذ إسماعيلوفك، من يوغوسلا؟يا، أثناء تدخله أن الماركسية قد أفلست على نطاق عالمي، ولم يبق شيء منها منفذاً في أي بقعة من البقاع، ولام الدول الإسلامية على عدم تطبيقها للشريعة الإسلامية لتقدم المثل الواقعي للباحثين عن الحقيقة. وكنا نحن قد طالبنا بالعودة لتطبيق الشريعة في بلادنا، كما كنا عليه قبل الحماية.
174 ــــ وفي سنة 1396هـ = 1976م، عقد المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي في جامعة الملك عبد العزيز التي يديرها زميلنا في أكاديمية المملكة المغربية الدكتور عبد الله عمر نصيف، وقد درس المؤتمر الموضوعات التالية:
ــــ مفهوم ومنهج الاقتصاد الإسلامي.
ــــ حصر المراجع المعاصرة في الاقتصاد الإسلامي.
ــــ الزكاة والسياسة المالية.
ــــ بنوك بلا فوائد.
ــــ التأمين في إطار الشريعة الإسلامية.
175 ــــ وفي الملحقين 2، 3 ملخص لبحثين للمؤتمر.
176 ــــ وتنفيذاً لقرار من المؤتمر تأسس «المركز العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي» ومن بين نشاطاته طبع ونشر أبحاث المؤتمر العالمي الأول في مجلدين أحدهما بالعربية 606 ص. والآخر بالإنچليزية.
177 ــــ وكانت مجلة «المسلمون» اللندنية المرحومة قد نشرت أن إحدى الجامعات الأمريكية، لعلها هار؟ارد ــــ قد عقدت هي أيضاً مؤتمراً عن الاقتصاد الإسلامي ونشرت أبحاثه في مجلد.
178 ــــ والحمد لله رب العالمين.(1/61)
ولعل في هذا العرض الطويل كفاية للذين لم تتح لهم ظروفهم من قبل التعرف على موضوع له هذه القيمة العظمى في حياة النظام الإسلامي واستمراره، حتى يتمكنوا من التعرف على كثير من جوانبه المختلفة، قديماً وحديثاً.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.(1/62)
الملاحق
الملحق : 1) من لهم الاجتهاد بالرأي، لعبد الوهاب خلاف.
2) حول وجوب الزكاة في رواتب الموظفين، وأُجور العمال وصافي إيرادات المباني، وصافي إيرادات المِلْكِية الزراعية، للدكتور محمد سعيد عبد السلام.
3) النتائج التي ختمت بها دراسة حكم شريعة الإسلام في عقود التأمين، للدكتور حسين حامد حسان.
«فقرة 92» الملحق 1
من لهم حق الاجتهاد بالرأي؟
لخص المرحوم الشيخ عبد الوهاب خلاف في «مصادر الشريعة فيما لا نص فيه» ما سبق له أن ذكره في كتابه «الاجتهاد والتقليد، والتعارض والترجيح» في بيان من هم الذين يجوز لهم شرعاً الاجتهاد بالرأي.
وهو في نفس الوقت منهج مدرسي لمن يريد أن يحقق لنفسه القدرة على الاجتهاد. قال الشيخ خلاف:
1) ــــ بما أن أول مصدر يرجع إليه في الاجتهاد هو القرآن، فيجب على من يتأهل للاجتهاد أن يكون على علم تام بأحكام القرآن. والمراد بهذا أن يكون على علم تام بأحكام القرآن والأُصول التشريعية العامة التي قررها.
فالعلم التام بتشريع القرآن الجزئي والكلي هو أول المؤهلات للاجتهاد. ولا يلزم للمستأهل للاجتهاد في الأحكام العملية أن يكون على علم تام بجميع بما في القرآن من قصص وأخلاق وغيرهما، بل الواجب أن يكون على علم تام بالتشريع العملي في القرآن كلياته وجزئياته، أي أنه يكون على علم تام بآيات الأحكام في القرآن. وآياتُ الأحكام في القرآن نحو خمسمائة آية، على ما ذكره الغزالي وأكثرها في العبادات وما يلحق بها من الأحوال الشخصية والنذور والأيمان.(2/1)
وليست آيات كل نوع متصلاً بعضها ببعض، ولا مجموعة في سورة واحدة، بل الآيات الخاصة بالفرع القانوني الواحد مفرقة في عدة سور لأنها ما أُوحي بها إلى الرسول جملة واحدة ــــ وإنما أُوحي بها إليه مفرقة حسب الوقائع. ودونت كل آية حسب مناسبتها. فليست آيات المجموعة المدنية في سورة واحدة، وليست آيات العقوبات في موضع واحد. وقد عني بعض المفسرين بآيات الأحكام، فمنهم من أفردها بتفسير خاص، ومنهم من جمع آيات كل نوع وضم بعضها إلى بعض. وآيات الأحكام في القرآن هي التي تكون «فقه القرآن» وأول واجب على من يستأهل للاجتهاد أن يحصي آيات الأحكام في القرآن، ويجمع آيات كل نوع منها، بحيث يكون بين يديه كل آيات القرآن في الطلاق، وكل آياته في الإرث، وكل آياته في البيع، وكل آياته في العقوبات وهكذا، ثم يدرس هذه الآيات دراسة عميقة، ويقف على أسباب نزولها، وعلى ما ورد في تفسيرها من السنة ومن آثار الصحابة والتابعين، وعلى ما فسرها به المفسرون. ويقف على ما تدل عليه نصوصها وما تدل عليه ظواهرها. وعلى المحكم منها والمنسوخ وما نسخه.
فإذا درس هذه الآيات التشريعية حق درسها، استطاع إذا عرضت له واقعة أن يبين عن علم ما حكم القرآن في الواقعة بنص من نصوصه، أو بظاهر من ظواهره، واستطاع أن يحكم عن علم بأن القرآن لم يدل على حكم هذه الواقعة لا بنص من نصوصه، ولا بظاهر من ظواهره.
2) ــــ وبما أن ثاني مصدر يرجع إليه في الاجتهاد هو السنة، فيجب على من يستأهل للاجتهاد أن يكون على علم تام بالسنة، والمراد بهذا أن يكون على علم تام بالسنن التشريعية العملية القولية والفعلية والتقريرية. أي بما صدر عن الرسول من التشريع جزئياته وكلياته.(2/2)
وقد عني علماء الحديث بالسنة عناية تامة يسرت السبل لمن يريد العلم بها. فأولاً ميزوا بين المتواتر منها وبين الآحاد. وميزوا بين الصحيح والضعيف. وصار العالم غير محتاج إلى بذل جهد في سند الحديث للوقوف على مرتبته، فكل حديث من الميسور معرفة أنه متواتر أو غير متواتر، وصحيح أو حسن أو ضعيف. وثانياً رتبوا الأحاديث على أبواب الفقه، وجمعوا أحاديث كل نوع في باب على حدة، فأحاديث البيع في باب البيع ــــ وكذا أحاديث الرهن والربا والسرقة والزنى، والقذف، وكل فرع من فروع العبادات والمعاملات والعقوبات أو غيرها وثالثاً، عمد العلماء إلى كتب السنن الصحاح الستة، وهي صحاح: البخاري ومسلم، وأبي داود والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وجمعوا ما فيها بحيث يستطيع الباحث أن يقف على ما في هذه الصحاح كلها في البيع وما فيها كلها في الإجارة. وهكذا فمن رجع إلى كتاب جامع لهذه الكتب الستة مثل كتاب «التاج الجامع للأُصول الستة» ورجع معها إلى كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس وكتاب «منتقى الأخبار» لابن تيمية ــــ يعني جد شيخ الإسلام ــــ وشرحه «نيل الأوطار» للشوكاني ترجح عنده أنه لم تغب عنه سنة تشريعية في الواقعة التي يبحث فيها. وأمكنه أن يحكم على علم بأن الواقعة التي عرضت، دلّ على حكمها نص في السنة أو ظاهر من ظواهرها، أو لم يدل على حكمها من السنة نص ولا ظاهر. وإذا وقف على نص في السنة، بحث عن سبب ورود هذا النص، وهل هو محكم أو منسوخ وما ناسخه. وهل يعارض نص آخر أو لا يعارضه نص. وإذا وقف على ظاهر فيها بحث أيضاً عن سبب وروده وهل هو محكم أو منسوخ، وهل هو معارض أو غير معارض، وهل هو على ظاهره أو مؤول، وما دليل تأويله، وعلى ضوء هذه البحوث يستدل على حكم الواقعة من السنة إذا وجد.(2/3)
3) ــــ وبما أن ثالث مصدر يرجع إليه في الاجتهاد هو ما أجمع عليه مجتهدو المسلمين في عصر من العصور، فيجب على من يستأهل للاجتهاد أن يكون على علم بمذاهب المجتهدين السابقين، حتى يعرف ما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه، ووجهات نظرهم فيما اختلفوا فيه، فإن وجد في الواقعة حكماً أجمع عليه المجتهدون في عصر من العصور التي سبقته أمضاه، فكما أنه لا مساغ للاجتهاد فيما فيه نص صريح، لا مساغ للاجتهاد فيما انعقد عليه إجماع المجتهدين.
والظاهر أنه يكفي أن ينتج البحث الدقيق الذي بذل فيه أقصى الجهد أن هذا الحكم في الواقعة لا يعرف فيه خلاف بين المجتهدين السابقين فيحكم به ولا يفتي بخلافه».
ولم يذكر الشيخ خلاف مرجعاً في «مسائل الإجماع». وللحافظ ابن حزم «مراتب الإجماع». ولشيخ الإسلام ابن تيمية تعقيبات عليها وهما مطبوعان معاً. وفي فتاوى علّيش أن الأَشياخ يقولون: «أصح الإجماعات إجماعات ابن حزم».
4) ــــ وبما أن رابع مصدر يرجع إليه في الاجتهاد هو القياس فيجب على من يستأهل للاجتهاد أن يعرف حقيقة القياس، وأركانه، والشروط الواجب توافرها في كل ركن وخاصة شروط العلة ومسالكها وقوادحها، وهذا يوجب عليه أن يدرس علم أُصول الفقه دراسة دقيقة شاملة. وأن يعرف المبادىء التشريعية العامة التي بنيت عليها الأحكام، والمقاصد العامة التي قصدت بها، وأن يعرف علل الأحكام التي دلت عليها النصوص، وعلل الأحكام التي تؤخذ من القواعد الكلية. وبهذا تتكون عنده مَلَكَة تشريعية يقدر بها على استنباط الأحكام وفهم روح التشريع الإسلامي، وقياس ما لا نص فيه على ما فيه نص أو الاستدلال على حكمه بأية إمارة من الأمارات التي اعتبرها الشارع للدلالة على أحكامه.(2/4)
والوسيلة لفهم ما تدل عليه النصوص التشريعية في القرآن والسنة فهماً صحيحاً هي العلم باللسان العربي، فعلى من يستأهل للاجتهاد أن يكثر قراءة آداب العرب من منثور ومنظوم، وأن يدرس المبادىء اللغوية العربية التي توصل إليها العلماء من استقراء أساليب العرب، وطرق دلالة ألفاظهم وعباراتهم على المعاني، وأن يكون له من هذا مَلَكَة عربية سليمة يقتدر بها على فهم النصوص العربية وإزالة غموض ما فيه خفاء.
والوسيلة لاستنباط الأحكام فيما لا نص فيه بواسطة القياس أو بواسطة غيره من الأمارات الشرعية، هي العلم بالمصالح العامة التي قصدها الشارع بالتشريع، والعلم بأحوال البيئة وما تقتضيه من مصالح، حتى لا يَنْبو التشريع عن مصالح الناس.
5) ــــ وبما أن سِيَاج هذه المؤهلات هو خلق المجتهد ودينه وضميره، وجب أن يكون عَدْلاً، أي كاملاً في دينه وخلقه، ولا يرتكب كبيرة ولا يصر على صغيرة، ولا يخشى في الحق لومة لائم، ولا بأس ذي سلطان ولا يبغي إلا المصالح الحقيقية العامة. فإذا اختيرت جماعة متوفرة فيهم هذه المؤهلات، وضمت إليهم جماعة من العدول ذوي علم بشؤون الدنيا من قانونية واقتصادية، وتجارية واجتماعية وصحية وغيرها، تكونت من هاتين الجماعتين «جمعية تشريعية» «فيها الأهلية للاجتهاد» (ص 13 ــــ 17).
(ف 175) الملحق 2
حول وجوب الزكاة في رواتب الموظفين وأُجور العمال وصافي إيرادات المباني وصافي إيرادات المِلْكِية الزراعية
من الدراسات التي قدمت للمؤتمر العالمي للاقتصاد الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز، دراسة للدكتور محمد سعيد عبد السلام، الأُستاذ بكلية الاقتصاد والإدارة بجامعة الملك عبد العزيز بجدة (ص 327 ــــ 352).
دور الفكر المالي والمحاسبي في تطبيق الزكاة
ومن جملة الموضوعات التي تناولتها الدراسة:(2/5)
الاجتهاد في استنباط الأحكام بالنسبة للصور المستحدثة في الأموال. فذكر أن من بين القضايا المستحدثة المعروضة ننتقي قضية زكاة كسب العمل، وقضية الزكاة على النماء من العقارات المبنية، ومن ملكية العقارات المزروعة، وذلك باعتبار أن هاتين القضيتين متعلقتان بالزكاة على النماء وحده، دون تخالط الأصل معه، حيث إن زكاة العقار لا تكون إلا على نمائه، كما أن العمل، وهو مصدر كسب ليست له قيمة رأسمالية متصورة أو محدودة، يمكن أن يؤخذ قدرها في الحسبان مع النماء عند الخضوع (كذا!). ولقد يبدو بسبب ذلك مدى التشابه بينهما وبين زكاة الزروع والثمار.
أ) ــــ فحين يبحث الفكر المالي في كسب العمل يجده شاملاً لأرباح المهن الحرة، وكذلك المرتبات، وأُجور العاملين، التي تنشأ أساساً كثمرة لعقد العمل بين العامل وصاحب العمل.
وبعدما أوضح تغاير هذه الأُجور والمرتبات مع ما كان يتقرر من أعطيات أيام الإسلام الأُولى من حيث طبيعة ومصدر كل منهما، ومن حيث اختلاف الحكمة المتوخاة في تقريرهما، قرر نتيجة لذلك أنه لا محل لإعمال القياس على الأعطيات وبالتالي لم يصح إعفاء الأُجور والمرتبات اليوم من شرف المساهمة في تمويل الصدقات، لأن الأَصل أن كل نماء لا بد له أن يخضع للزكاة تحقيقاً للعمومية في مفهوم العدالة المالية.(2/6)
واقترح قياسها على زكاة الثمار: وهل المرتبات والأُجور إلا ثمار تتكرر داخل الحَوْل، على جهد بشري يعد مصدراً مشروعاً للنماء في ميادين أُخرى خاضعة أوعيتها للزكاة بلا خلاف مما يتطلب الأمر معه إخضاع مرتبات اليوم على أساس صافيها بعد استنزال تكاليف تحقيقها منها، على أن تؤدي زكاتها يوم حصادها. وهو لحظة وضع الأُجور تحت تصرف العامل المستحق لها. ويراعى ــــ بالقياس على زكاة الزروع والثمار ــــ أن يخصم من وعاء زكاة المرتبات قدر حكمي يعادل ما هو مشغول بالحاجة الأصلية يقدرها ولي الأمر، كأن يضع جداول حكمية للتكاليف الأساسية لمعيشة المكلف، ومن يعولهم، ما دام التحديد الفعلي لتلك الحاجات قد يثير مشكلات مستمرة مع الوالي، حتى إذا تبقى بعد ذلك ما يعادل النصاب الشرعي أو يزيد، خضع هذا الباقي للزكاة.
أما ما يدخل من تلك الأُجور والمرتبات ليستقبل حَوْلاً جديداً يحسب من يوم وضعها تحت تصرف العامل، فإنه يدخل عنها نهاية الحول في وعاء زكاة النقدين، دون أن يكون في ذلك تثنية مذمومة، لأن الفكر المحاسبي يرى أن الذي خضع أول مرة هو النماء، بينما الذي خضع في المرة الثانية بعد مرور الحول هو رأس المال. فلا تثنية هنا في الزكاة، لاختلاف الأصل عن الناتج، من حيث طبيعة كل منهما ومركزه بين الأموال.
وبعدما أفاض في الاحتجاج لرأيه، تعرض لفرض الزكاة على صافي إيرادات المباني، وصافي إيرادات الملكية الزراعية، على أساس قياسها على زكاة الزروع والثمار، ذاكراً أنه كان الشائع فيما مضى ــــ شغل العقارات لا تأجيرها للغير، فلم تخضع للزكاة لعدم توافر العلة وهي النماء، ولا ينبني على ذلك أن تعفى صافي إيرادات التأجير بلا نص أو قياس، بعد أن تحقق النماء بالفعل لدى المالك.(2/7)
وبعدما أفاض القول في ذلك ختم بالإشادة بالأسرار الكامنة في المصادر الشرعية لفقه الزكاة، تلك التي ينعم بتذوقها الفقيه الملهم والعالم التقي، فتنير له طريق الاجتهاد، وهو المصدر المتاح اليوم لاستكمال حقائق الزكاة (ص 347 ــــ 352).
الملحق 3
النتائج التي ختمت بها دراسة (حكم شريعة الإسلام في عقود التأمين)
من الدراسات التي قدمت للجنة «التأمين» في المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي دراسة قيمة بعنوان:
حكم الشريعة الإسلامية في عقود التأمين (ص 415 ــــ 519) بقلم الدكتور حسين حامد حسّان المشرف على قسم الدراسات العليا الشرعية، بكلية الشريعة بمكة المكرمة، جامعة الملك عبد العزيز.
وخلص في بحثه الطويل إلى النتائج التالية:
1) إن التأمين باعتباره نظرية ونظاماً غير منظور فيه إلى الوسائل العلمية لتحقيق النظرية. وتطبيق النظام أمر يتفق مع مقاصد الشريعة العامة، وتدعو إليه أدلتها الجزئية.
2) إن مشروعية الغاية والقصد، لا يلزم منها حتماً جواز كل وسيلة تؤدي إلى هذه الغاية أو تحقق ذلك المقصد.
3) إن الصيغة العملية التي شرعها الإسلام للتعاون والتضامن وبذل التضحية هي عقد التبرع، حيث لا يقصد المتعاون والمضحي فيها ربحاً من تعاونه وتضامنه، ولا يطلب عوضاً مالياً لما بذل، ومن ثَمَّ جازت هذه العقود مع الجهالة والغرر، ولم يدخلها القمار والمراهنة والربا.(2/8)
4) إن كلاً من التأمين التعاوني، والتأمين الاجتماعي ــــ وهو الذي تقوم به الدولة، أو تعهد بإدارته وتنظيمه لبعض هيآتها العامة ــــ يحقق الصيغة العملية التي شرعها الإسلام للتعاون والتضامن وبذل التضحيات، فهذان النوعان من التأمين يقومان على قصد التعاون والتضامن والتبرع، دون الرغبة في استثمار الأموال وطلب الربح، فَيُعَدان تطبيقاً لنظرية التأمين ــــ في رأي الباحث ــــ لأنهما ليسا إلا تعاوناً منظماً تنظيماً دقيقاً بين عدد كبير من الناس معرضين جميعاً لخطر واحد، متى تحقق الخطر، بالنسبة إلى بعضهم تعاون الجميع على مواجهته، بتضحية قليلة يبذلها كل منهم، يتلافون بها أضراراً جسيمة تحيق بمن نزل به الخطر منهم لولا هذا التعاون.
5) إن التأمين بقسط ثابت، وهو الذي تقوم به شركات التأمين، لا يحقق الصيغة العملية التي شرعها الإسلام للتعاون والتضامن وبذل التضحيات، لأن العقود التي تبرمها هذه الشركات معاوضات مالية، دخلها الغرر والقمار والربا، وعقود المعاوضات إذا دخلتها هذه الأُمور بطلت.
6) إن التطبيق الكامل للشريعة الإسلامية يحقق التعاون والتضامن والتكافل على أساس محكم لم يسبق له نظير. وإن توسع الدولة الإسلامية في التأمينات الاجتماعية حتى تشمل جميع طبقات الشعب التي تعجز مواردها عن مواجهة الأخطار أمر لازم، فإن الدولة الإسلامية في نظر الإسلام، تلتزم بتأمين فرصة عمل لكل قادر على العمل، وبتأمين العاجز بإعطائه ما يكفيه مأْكلاً ومشرباً وملبساً ومسكناً ومركباً ــــ كما يقول بعض الفقهاء ــــ ولها في موارد الزكاة ما يقوم بذلك. وإلا كان لها أن تفرض من الضرائب على الأغنياء ما يسد حاجة الفقراء.(2/9)
7) إن الصيغة المشروعة المتاحة للأفراد حتى الآن، لتحقيق أهداف التأمين ومقاصده من التعاون والتضامن على توفير آثار المخاطر هي التأمين التبادلي الذي تقوم به الجمعيات التعاونية، إذا قامت دراسات جادة للتوسع في هذا النوع من التأمين، واستخدام الوسائل العلمية التنظيمية على الوجه الذي يحقق به هذه الغايات والمقاصد. وهناك تجارب مفيدة في هذا الباب قامت بها بعض الدول الإسلامية يمكن الاستفادة منها (ص 517 ــــ 519).
علي بن حزم المجتهد الأندلسي
ترجمة ابن حزم:
عرف الإمام الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري ــــ الرجل الأمة ــــ المتوفى سنة 456هـ 1064م ــــ فيما عرف به من جوانب عبقريته المتعددة ــــ بكثرة ما ألفه من مؤلفات وما كتبه من رسائل، في مختلف الموضوعات. فقد قال عن نفسه في (رسالة الميزان في التسوية بين علماء الأندلس وأهل بغداد والقيروان) وهي المعروفة (برسالة في فضائل علماء الأندلس):
«ولنا فيما تحققنا به تآليف جمة، منها ما قد تم، ومنها ما شارف التمام، ومنها ما قد مضى منه صدر ويعين الله على باقيه. لم نقصد به قصد مباهاة فنذكرها ولا أردنا السمعة فنسميها! والمراد بها ربنا جل وجهه، وهو ولي العون فيها والمليء بالمجازاة عليها، وما كان لله تعالى فسيبدو، وحسبنا الله ونعم الوكيل» (نفح الطيب) 2 ــــ 169 ط 68هـ. ج 2 ص 120 ط أوروبا.
وقال في (التقريب لحد المنطق): «وما ألفنا كتابنا هذا وكثيراً مما ألفناه» ألا ونحن مغربون مبعدون عن الموطن والأهل والولد! مخافون مع ذلك في أنفسنا ظلماً وعدوانا! (ص 200).
وذكر تلميذه الحافظ أبو عبد الله بن أبي نصر الحميدي الأندلسي الميورقي نزيل بغداد ودفينها المتوفى سنة 488هـ ــــ 1095م في (جذوة المقتبس في تاريخ الأندلس) ــــ أثناء ترجمته لشيخه ــــ: إن له تآليف كثيرة في جل ما تحقق به من العلوم» ص 290.(2/10)
ونقل عن الحميدي هذه المقالة أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال الأندلسي القرطبي المتوفى سنة 578هـ ــــ 1183م في كتابه (الصلة لتاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي) (ص 409 طبع مجريط).
كما نقلها أيضاً أبو جعفر أحمد بن يحيى بن عميرة الضبي المتوفى سنة 599هـ ــــ 1203م كتابه (بغية الملتمس، في تاريخ رجال الأندلس). ص 403.
ونقل أبو الحسن على ابن بسام الأندلسي الشنتريني المتوفى سنة 542هـ ــــ 1147م في كتاب (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) ترجمة ابن حزم عن معاصره أمام مؤرخي الأندلس أبي مروان حيان بن خلف بن حيان المتوفى سنة 469هـ ــــ 1076م في كتابه (المتين)، وقد جاء فيها: كان أبو محمد حامل فنون: من حديث، وفقه، وجدل، ونسب، وما يتعلق بأذيال الأدب، مع المشاركة في كثير من أنواع التعاليم القديمة: من المنطق، والفلسفة. وله في بعض تلك الفنون كتب كثيرة.
وذكر أخذه بقول أصحاب الظاهر، وأنه نقحه ونهجه وجادل عنه. ووضع الكتب في بسطه ــــ وبعدما سمى بعض كتبه قال ــــ: إلى تآليف غيرها. ورسائل في معان شتى كثير عددها!.
وذكر في موضع آخر من نفس الترجمة: أنه واظب على التآليف ، وأكثر من التصنيف حتى كمل من مصنفاته في فنون العلم وقر بعيراً (ج 1 ص 140، 141، 142، 143).
ونقل الفقرة الأولى من كلام ابن حيان الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي الدمشقي المتوفى سنة 748هـ ــــ 1348م في (تذكرة الحفاظ) ج 3 ص 326.
وياقوت المستعصمي الرومي البغدادي المتوفى سنة 689هـ ــــ 1299 في (معجم الأدباء) (ج 5 ص 92 طبع مرجليوت بالقاهرة، ج 12 ص 238 طبع دار المأمون).
وابن سعيد في القسم الثالث من المغرب المسمى (وشى الطرس في حلى جزيرة الأندلس) (ج 1 ص 354).
وأبو العباس أحمد بن محمد المقري التلمساني نزيل القاهرة ودفينها المتوفى سنة 1041هـ ــــ 1631م في (نفح الطيب). ج 6 ص 202.(2/11)
والقاضي أبو العباس أحمد بن محمد بن خلكان الأربلي ثم الدمشقي المتوفى سنة 681هـ ــــ 1282م في (وفيات الأعيان) ج 1 ص 340. من غير أن ينسبها لقائلها!
وقال القاضي أبو القاسم صاعد بن أحمد التغلبي الأندلسي المتوفى سنة 462هـ ــــ 1070م في كتابه (طبقات الأمم) ــــ أثناء ترجمته لشيخه أبي محمد بن حزم ــــ: (وصنف مصنفات كثيرة العدد شريفة المقصد، معظمها في أصول الفقه وفروعه، على مذهب داود بن علي بن خلف، ومن قال بقوله من أهل الظاهر ونفاة القياس والتعليل).
«ولقد أخبرني ابنه أبو الفضل المكنى بأبي رافع: أن تآليف أبيه: في الفقه والحديث والأصول والنحو، والملل، وغير ذلك من التواريخ. والنسب وكتب الأدب، والرد على المعارضين نحو أربعمائة مجلد. تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة!
«وهذا شيء ما علمناه في أحد ممن كان في دولة الإسلام قبله! إلا لأبي جعفر ابن جرير الطبري، فإنه أكثر أهل الإسلام تأليفاً». (ص 76 طبع بيروت 1912. وقد وردت كلمة صاعد هذه مختصرة مشوبة لقائلها عند أبي القاسم بن بشكوال) في كتاب (الصلة لتاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي) (409 ط مجريط).
كما نقلها بتعليقها منسوبة لقائلها، ياقوت المستعصمي في (معجم الأدباء) ج 5 ص 87 ــــ 88 ج 12 ص 238 ــــ 239.
والحافظ الذهبي في (تذكرة الحفاظ) ج 3 ص 323 وعنه نقلها بدون تعليق المقري في (النفح) (ج 2 ص 513 ط أوروبا).
كما نقلها الحافظ أبو العباس أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ ــــ 1449م في (لسان الميزان) (ج 4 ص 198).(2/12)
ووردت بإسقاط التعليق، غير منسوبة لقائلها في مختصر الزوزني، المسمى (المنتخبات الملتقطات من كبار أخبار العلماء، بأخبار الحكماء) لجمال الدين أبي الحسن علي بن يوسف القفطي المتوفى سنة 656هـ ــــ 1248م. ص 233 طبع ليبسك 1320هـ كما أوردها بتعليقها ــــ غير منسوبة أيضاً! مع تغيير بعض عباراتها، المؤرخ عبد الواحد المراكشي المتوفى بعد سنة 621هـ ــــ 1219م في كتابه (المعجب، في تلخيص أخبار المغرب)، ص 27 ط سلا 1357هـ ــــ 1938م، ووجدت في آخر الجزء الثاني من (كتاب الأحكام) لأبي حزم المخطوط بمكتبة ابن يوسف بمراكش رقم 524:
قال أبو خالد يزيد بن العاصي بن سعيد بن سعود: وجدت بخط الفقيه الحاج أبي أسامة رحمه الله تعالى: أخبرني الفقيه الإمام الحاج أبو بكر الطرطوشي رحمه الله قال: جلست أنا والفقيه أبو سليمان ــــ أخوك ــــ رحمه الله على تواليف الشيخ أبيك رضي الله عنه كلها، مع المختصين من أصحابه، وأحصينا المدة التي يمكن نسخ جميعها لناسخ تكون صناعته لا يفتر عن النسخ إلا في وقت وضوء وصلاة وأخذ غذاء وما أشبه ذلك! فوجدنا مدة ذلك ثمانين سنة! بعد التقصي لذلك والاجتهاد أيضاً للناسخ على ما تقدم في اجتهاده وكده، بعد أن يكون من أهل الصناعة مشهوراً!
قال يزيد بن سعود: ... فسبحان من أيده بمعونته على النسخ والتأليف في مدة أغلب ظني أنها أقل من خمسين سنة!... فما كان ذلك إلا عن تأييد من الله تبارك وتعالى، رضي الله عنه...
وهكذا اتفق مترجموه الثلاثة الأساسيون الذين عاصروه، واثنان منهم من تلامذته ــــ على الإشارة إلى كثرة مؤلفاته. ونقل ذلك عنهم من جاء بعدهم من مترجميه. كما لم يغفل الإشارة إليها مترجمون آخرون لم يلتزموا نص مترجميه الأولين. أو نقلوا بعضه ولم ينسبوه لقائله الأول.(2/13)
ومن ذلك ــــ مثلاً ــــ قول الدكتور فيليب حتى في كتيبه (العرب) تاريخ موجز: «وهو أحد الاثنين أو الثلاثة الذين يعتبرون أخصب مؤلفي الإسلام وأغرزهم مادة (ص 171 ــــ 172)».
وذكر ياقوت في (معجم الأدباء) (ج 12 ص 242 ــــ 343 ط القاهرة) مما قرأه بخط أبي بكر محمد بن طرخان بن يلتكين بن بجكم، وقال عنه في آخر النقل اليجمكي!:
«وقال لي الوزير الإمام أبو محمد بن العربي: صحبت الشيخ الإمام أبا محمد علي بن حزم سبعة أعوام. وسمعت منه جميع مصنفاته، حاشا المجلد الأخير من كتاب (الفصل)... وقرأنا من كتاب (الإيصال) أربع مجلدات من كتاب الإمام أبي محمد بن حزم في سنة ست وخمسين وأربعمائة.
«ولم يفتني من تآليفه شيء سوى ما ذكرته من الناقص، وما لم أقرأه من كتاب (الإيصال)... قال: وقال لي الوزير أبو محمد بن العربي: وربما كان للإمام أبي محمد بن حزم شيء من تآليفه ألفه في غير بلده في المدة التي تجول فيها بشرق الأندلس، فلم أسمعه.
«ولى بجميع مصنفاته ومسموعاته إجازة منه مرات عدة كثيرة.»
وهكذا نرى ابن حزم يؤلف الكتب، ويسمعها لتلامذته ويجيزهم بها.
وهذا الوزير أبو محمد بن العربي قال الذهبي في (سير النبلاء) (ص 28): إنه هو والد القاضي أبي بكر بن العربي المعافري، يعني دفين فاس. وصاحب الردود العنيفة المقذعة على ابن حزم!.
محاربة مؤلفات ابن حزم وإحراقها
ويذكر ابن حيان عن مؤلفات ابن حزم أن: أكثرها لم يعد عتبة بابه. وأن بعضها أحرق بإشبيلية ومزق علانية!
وفي (المغرب) لابن سعيد: (ج 1 ص 405): أن أبا الوليد سليمان بن خلف الباجي (المتوفى سنة 474هـ ــــ 1081م) كان السبب في إحراق كتبه!.
ويعلل ابن حيان ذلك بالأسباب التالية:
1 ــــ شذوذه الفكري، ومخالفته ما عليه الناس.
2 ــــ جرأته على تغليط من سبقه.
3 ــــ وقوعه في أغلاط نتيجة لذلك.
4 ــــ صراحته في التعبير عن آرائه.(2/14)
5 ــــ استهدافه إلى فقهاء وقته، مما جعلهم يتمالؤون على بغضه ورد قوله. ويجمعون على تضليله، والتشنيع عليه. وتحذير سلاطينهم من فتنته! ونهى عوامهم عن الدنو منه والأخذ عنه)».
ثم أضاف ابن حيان: «إن مما كان يزيد في شنآنه تشيعه لأمراء بني أمية: ماضيهم وباقيهم بالمشرق والأندلس، واعتقاده لصحة إمامتهم وانحرافه عمن سواهم من قريش حتى نسب إلى النصب لغيرهم».
هذا وقد بين ناشرا كتاب (جوامع السيرة) في مقدمتهما بطلان ما قاله ابن حيان عن أموية ابن حزم! (ص 12 ــــ 13).
صمود ابن حزم
ويحدثنا ابن حيان عن صلابة ابن حزم وثباته في مواجهة هذه الحرب العوان التي أعلنها ضده الفقهاء والسلاطين مجتمعين فيقول: «وهو في كل ذلك غير متردع ولا راجع إلى ما أرادوا به يبث علمه فيمن ينتابه من عامة المقتبسين منه عن أماغر الطلبة الذين لا يخشون فيه الملامة!».
وإن مقاومة أعدائه لمؤلفاته كانت «لا تزيده إلا بصيرة في نشرها، وجدالاً للمعاند فيها» !
وقد كان ابن حزم يشعر باعتزاز كبير بهذه المعركة الدائرة حوله، فهو يقول في جوابه لابن عمه الوزير الكاتب ابن المغيرة عبد الوهاب ابن حزم، كما في (الذخيرة) لابن بسام: (ج 1 ص 138):
كفاني ذكر الناس لي ومآثري وما لك فيهم يا ابن عمي ذاكر! عدوي وأشياعي كثير كذاك من غدا وهو نفاع المساعي وضائر! وما لك فيهم من عدو فيتقى! وما لك فيهم من صديق يكاثر! وقولي مسموع له ومصدق وقولك منبت من الريح طائر! ويقول ناعياً نفسه:
كأنك بالزوار لي قد تبادروا وقيل لهم: أودى علي بن أحمد! فيارب محزون هناك وضاحك وذي أدمع تذري وخد مخدد! وأبياته التي قالها عند إحراق كتبه مشهورة:(2/15)
فإن تحرقوا القرطاس لم تحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري! يسير معي حيث استقلت ركائبي وينزل إن أنزل ويدفن في قبري! دعوني من إحراق رق وكاغد وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري! وإلا فعودا في المكاتب بدأة فكم دون ما تبغون لله من ستر كذاك النصارى يحرقون ــــ إذا اعتلت أكفهم ــــ القرآن في مدن الثغر!
استمرار المعركة
وقد استمرت هذه المعركة حول مؤلفات ابن حزم متواصلة منذ عهد ابن حزم إلى العصر الحاضر:
فيحدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الملك المراكشي المتوفى سنة 703هـ ــــ 1303م في (الذيل والتكملة، لكاتبي الموصول والصلة) (بقية السفر الرابع ص 2 نشر الدكتور إحسان عباس بيروت): إن الكاتب سالم بن أحمد بن فتح القرطبي المحدث الظاهري المتوفى سنة 461هـ ــــ 1068م صديق ابن حزم، كتب كثيراً من مصنفاته.
ويحدثنا المقري في (نفح الطيب).
«إن الحافظ أبا عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح الحميدي الميورقي ثم البغدادي، لازم ابن حزم وقرأ عليه مصنفاته».
وإن ابن عربي الحاتمي دفين دمشق المتوفى سنة 638هـ ــــ 1240م (الباطني عقيدة الظاهري مذهبا!) روى كتب ابن حزم عن عبد الحق الإشبيلي ثم البجائي المعروف بابن الخراط (ت 581هـ ــــ 1185م).
ويحدثنا ياقوت في (معجم البلدان) (مادة بطروش 663ط أوروبا): «إن أبا جعفر أحمد بن عبد الرحمن البطروشي حافظ المذهب المالكي روى كتب ابن حزم عن ابنه أبي رافع أسامة.
ويحدثنا الحافظ أبو طاهر أحمد السلفي دفين الإسكندرية (ت 576هـ ــــ 1180م) في (معجم السفر):
«إن الصالح أبا محمد عبد الله بن محمد بن مرزوق اليحصبي الظاهري الأندلسي نزيل مصر ودفين دمشق.
كانت له عناية عظيمة بتحصيل كتب أبي محمد بن حزم الظاهري ورسائله.
قال السلفي: وقد كتبت من نسخه جملة صالحة.
(راجع إحسان عباس: أخبار وتراجم أندلسية... رقم 28 ص 52 ط. بيروت 1963).(2/16)
ويذكر ابن عبد الملك المراكشي في (الذيل والتكملة) ج 1 (مخطوط): «إن إمام أهل المغرب قاطبة في معرفة النبات الحافظ أحمد بن أبي الخليل مفرج العشاب، الإشبيلي السني الظاهري الشهير بابن الرومية، المتوفى سنة 637هـ ــــ 1239م عنه انتشرت تصانيف أبي محمد بن حزم، إذ كان قد عنى بها كثيراً، واستنسخها، وأنفق عليها أموالاً جسيمة حتى استوعبها، وما علم يشذ عنه منها إلا ما لا خطر له ــــ إن كان قد شذ! مقتدراً على ذلك، معاناً عليه بجاهه ويساره.
«وإنه كان كثير الكتب في كل فن من العلوم على تفاريقها سمحاً لطلبة العلوم بها، ربما وهب منها لملتمسه الأصل النفيس الذي يعز وجوده، ويعظم جذواه، وترتفع قيمته! احتساباً به، وإعانة على التعليم، له في ذلك أخبار منبثة عن فضله وكرم طبعه».
ويحدثنا صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي الدمشقي المتوفى سنة 761هـ ــــ 1363م في (الوافي بالوفيات) (رقم 755 ج 2 ص 210 ــــ 213): «إن الأمير ناصر الدين محمد بن جنكلي بن البابا، أحد أمراء الدولة الناصرية بالقاهرة، المتوفى سنة 741هـ ــــ 1340/1 م كان كثير المطالعة لكلام ابن حزم».
ونجد في أول كتاب (جوامع السيرة) لابن حزم رواية كاتبها تصانيف ابن حزم، عن أبي حيان: محمد بن يوسف الأندلسي الجياني نزيل القاهرة ودفينها 745هـ ــــ 1344/5 م قال: أخبرني بتصانيف الإمام أبي محمد وجميع رواياته الكاتب أبو محمد عبد الله بن محمد بن هارون الطائي بتونس (المتوفى بها في 702هـ ــــ 1302/3 م) وغيره قالوا...
كما نجد المنتوري: محمد بن عبد المالك القيسي (ت 834هـ ــــ 1430/41 م) يروي في (برنامجه) خ مؤلفات ابن حزم (وهي نحو من ستين) ومنظوماته عن الأستاذ أبي عبد الله بن عمر ــــ لعله الكناني القيجاطي (ت 811هـ ــــ 1908/9 م) وهي (حصر الشارد من أسانيد محمد عابد) السندي المدني (ت 1257هـ) روايته لمؤلفات ابن حزم من طريق ابن حيان (د 3506) ص 138 وص 333.(2/17)
كما نجد مثل ذلك في فهارس أخرى.
ويحدثنا الحافظ ابن حجر العسقلاني في (الدرر الكامنة) ج 3 ص 5. «إن أبا الحسن بن معاذ الظاهري: علي بن إبراهيم الأنصاري الأوسي، المتوفى سنة 774هـ ــــ 1372/3 م نسخ بخطه غالب تصانيف ابن حزم».
وذكر الحافظ المؤرخ شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمان السخاوي المتوفى بالمدينة المنورة سنة 902هـ ــــ 1497م في (الضوء اللامع، لأهل القرن التاسع) ج 5 ص 266: إن العلاء أبا الحسن ابن الركن: علي بن عمر الخوارزمي المصري الظاهري المتوفى سنة 806هـ ــــ 1403/4 م طالع كتب ابن حزم واشتهر بمحبته والقول بمقالته.
وذكر السخاوي أيضاً (ج 2 ص 96 ــــ 98): «إن أبا هاشم أحمد بن محمد بن البرهان القاهري ثم الدمشقي، الظاهري المتوفى سنة 808هـ ــــ 1405/6 م صحب بعض الظاهرية ــــ وهو شخص يقال له سعيد السحولي ــــ فجذبه إلى النظر في كلام ابن حزم فأحبه».
وذكر أيضاً (ج 5 ص 277 ــــ 279): «إن البدر البشتكي: أبا البقاء محمد بن إبراهيم الأنصاري الدمشقي الأصل المصري الشاعر الشهير الظاهري، المتوفى سنة 830هـ ــــ 1426/7 م أمعن في كلام ابن حزم فغلب عليه حبه».
وذكر محمد بن زبارة اليمني في (ذيله) على كتاب (البدر الطالع) (ج 2 ص 170): «إن الشيخ العلامة علي بن محمد طامش الصنعاني المتوفى سنة 1189هـ ــــ 1775/6 م ــــ لازم السيد الإمام محمد بن إسماعيل الأمير الكحلاني ثم الصنعاني المجتهد المطلق، صاحب التصانيف المتوفى سنة 1182هـ ــــ 1768م. وسمعه يثني على مؤلفات ابن حزم ويصفه بالإنصاف. فتطلب من كتبه بصنعاء فلم يظفر منها بشيء فسار إلى مكة وأخرج منها (المحلي) شرح (المجلى) لابن حزم، واشتغل به دهراً طويلاً، وجنح من بعد إلى مذهب الظاهرية وأصبح داعية، وكان لا يعمل إلا بالحديث الصحيح».(2/18)
ويجب ألا ننسى في هذا المقام قول أمير المؤمنين يعقوب المنصور الموحدي المجتهد المطلق. المتوفى سنة 595هـ ــــ 1190م، وقد وقف على ضريح ابن حزم ــــ: كل العلماء عالة على ابن حزم! أوردها المقري في (نفح الطيب) ج 4 ص 222 ط 68هـ.
كما لا حاجة إلى التنبيه على أنا أهملنا ذكر أسماء الظاهرية الذين تأثروا ــــ بدون شك ــــ بمؤلفات ابن حزم ــــ إذ كانت أهم ما ألف في النزعة الظاهرية ــــ اكتفاء بمن وقع التنصيص على اهتمامهم بهذه المؤلفات على العموم.
وقد عرف العصر الحديث عناية بالغة بمؤلفات ابن حزم: نشراً ودراسة وتحليلاً وترجمة وتقديراً من قوم، وانتقاداً من آخرين.
فقد قال صديقنا الأستاذ سعيد الأفغاني الدمشقي في آخر دراسته (الرسالة المفاضلة بين الصحابة) لابن حزم:
«فقد قدس في حياته الحق تقديساً، ورفع من شأن العقل الحر وترك لنا بين الأمم تراثاً لم يتح لغيره أن يضارعنا بمثله !
وقال الدكتور شوقي ضيف المصري في مقدمته لرسالة (نقط العروس) عن ابن حزم. «أنه ألف في مختلف فروع الثقافة وأظهر عبقرية فذة في كل ما ألف ».
ونوه السيد الإمام محمد رشيد رضا رحمه الله (ت 1354هـ ــــ 1935م) بوجه خاص بمؤلفاته الفقهية والأصولية، فقال في (تفسير المنار): في العلاوة التي عقدها بعد تفسير الآيتين 104 و105 من السورة 7 (المائدة): { } ~ ! " £ $ % × ' ( ) } ]المائدة: 101[ :
«وجملة القول إن أنصار السنة ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين. منهم القوي والضعيف ولين القول وخشنه، والمبالغ والمقتصد.
«وقد فضلت الأندلس الشرق ــــ بعد خير القرون ــــ بإمام جليل منهم، قوي العارضة شديد المعارضة، بليغ العبارة، بالغ الحجة ألا وهو الإمام المحدث الفقيه الأصولي، مجدد القرن الخامس أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم.
«ألف كتباً في أصول الفقه وفروعه، هدم بها القياس، وبين إحاطة النصوص بالأحكام أبلغ بيان، وأنحى بها على أهل الرأي أشد الإنحاء.(2/19)
«ولكنه جاء في القرن الخامس الذي تمكنت فيه المذاهب القياسية في جميع الأقطار بتقليد الجماهير، وتأييد الحكومات لها. وما حبس على أهلها من الأوقاف. حتى صار المنتسبون إلى كل مذهب منها يقدمون قول كل مؤلف منتسب إليها على نصوص الشارع التي اتفق نقلة الدين على صحتها! فما استفاد من كتب ابن حزم إلا الأقلون.
«وعندي أن الصارف الأكبر للناس عن كتبه هو شدة عبارته في تجهيل فقهاء القياس حتى الأئمة المتبوعين منهم.
«وقد كان أكابر العلماء في كل عصر يستفيدون من كتبه وينسخونها بأقلامهم وينافسون فيها، ولكن قلما كانوا ينقلون عنها إلا ما يجدونه من هفوة يردون عليها!.
ولذلك يعد من مناقب الشيخ عز الدين بن عبد السلام (ت 660هـ ــــ 1262م) الذي اعترفوا له بالاجتهاد المطلق ولقب بسلطان العلماء، قوله لمن سأله عن خبر كتب الفقه في الإسلام؟: (المحلي) لابن حزم، و(المغني) للشيخ الموفق.
«وفي (دار الكتب الكبرى) بمصر، نسخة من (كتاب الأحكام. في أصول الأحكام) لابن حزم، من خط علامة الشافعية في عصره ابن أبي شامة. (ــــ عبد الرحمان بن إسماعيل الدمشقي المتوفى سنة 665هـ ــــ 1267م) ــــ.
«فهذا الأثر ــــ وذلك القول، يدلان على عناية كبار العلماء بكتب ابن حزم، وحرصهم على الاستفادة منها.
«لم يجىء بعد الإمام ابن حزم من يساميه أو يساويه في سعة علمه. وقوة حجته، وطول باعه وحفظه للسنة، وقدرته على الاستنباط، إلا شيخ الإسلام، مجدد القرن السابع، أحمد تقي الدين ابن تيمية، (ت 728هـ ــــ 1328م).
«وهو قد استفاد من كتبه، واستدرك عليها، وحرر ما كان من ضعف فيها، وكان على شدته في الحق مثله، أنزه منه قلماً! وأكثر أدباً مع أئمة الفقهاء من أهل الرأي والقياس، على أنه لم ينف القياس البتة، ولكنه فرق بين القياس الصحيح الموافق للنصوص والقياس الباطل المخالف لها، بما لم يسبقه إليه أحد من علماء الأمة فيما نعلم...) (ج 7 ص 144 ــــ 145).(2/20)
وقال محمد كرد علي (ت 1372هـ ــــ 1953م) في (كنوز الأجداد) ص 245 ــــ 250: ابن حزم إمام في كل شأن: في الدين، والحكمة والأخلاق والأدب والتاريخ وفي كل ما أتقن من علم وتمثله وألف فيه، فهو جد عظيم، يملك عليك نفسك وأنت تنظر فيما شرح أو بسط وحاور وجادل، يتعاظمك بسلطان علمه فتكبره، وتكبر أدبه، ويعجبك بشدة غيرته على بث دعوته، ويسوءك أن يسىء إليه معاصروه وهو الذي كان كله إحساناً!.
وإلى جانب هؤلاء المعجبين بمؤلفات ابن حزم إعجاباً لا حد له، عرف الفكر الإسلامي طائفة من خصوم ابن حزم المناوئين لمؤلفاته جملة وتفصيلاً.
وقد ألف كثيرون في عصور مختلفة مؤلفات خاصة في الرد عليه، جمعنا منها قائمة طويلةً.
ومنها كتاب (التنبيه على شذوذ ابن حزم) لمعاصره أبي الأصبغ عيسى بن سهل الأسدي الجياني، القرطبي المشاور بها، نزيل سبتة، وقاضي طنجة ومكناسة وغرناطة المتوفى بها سنة 486هـ ــــ 1093/4 م.
والمؤلف يندد «بخوض ابن حزم فيما خالف الحق، ونافر الصدق، من غمطه على أئمة الدين واستخفافه بأقدار العلماء الراسخين، وقطعه عمره في تزييف دقائق علومهم، وبديع أقوالهم في الأصول والفروع، وترك ما وجب عليه وعلى غيره ممن يدين بالإسلام، من أتباعهم بإحسان، والدعاء لهم بالرحمة والغفران. ويذكر أن شرذمة، لا دين عندها، ولا عقل معها ولا خلاق لها! مالت إلى القول بمذهبه، ومطالعة تآليفه التي لا تفيد إلا سب من سلف، والطعن عليهم والمعاداة لهم!.
فرأى (التنبيه) على قبح مذهبه، وسوء معتقده للأئمة، وفاضلي هذه الأمة وإظهاره لثلبهم في كل باب من تآليفه ، ولهجه بالاستخفاف بهم، في كل ورقة من تصنيفه .
فعل من لا يتقي الله تعالى ولا يستحي من عباده ولا يراعي حق سلفه!
ويذكر طرفا من جهله فيما أورد، واضطرابه فيما ذكر، وتصحيفه لما نقل وسطر، وقوله بما لم يقله من تقدم أو تأخر!(2/21)
والمؤلف ينقل فصلاً من كلام ابن حزم، قد يبلغ الورقة والورقتين ثم يعقب بالرد عليه بسيل جارف من: السب الفاحش، والقذف اللاذع، والإقذاع البذيء، واللعن والتكفير! وهو يملك ثروة ضخمة جداً من هذه الألفاظ النابية ينفق منها على ابن حزم في إسراف وتبذير، في لهجة من توترت أعصابه وفقد السيطرة عليها!
فهو: مخذول، ضال، شقي، مارق، معطل، جاهل، مفتون، وقح، معاند، فاسق، كافر ملحد، مخلط، مستحف، سخيف العقل، قليل الدين، عديم الحياء، مفارق لجماعة المسلمين، متلاعب بدينه، كذاب أشر، أعمى البصيرة، تائه في مهمة الحيرة، سابح في بحر العمى والظلمة، ما حاول في كتبه إلا هدم الإسلام ونقض عراه، اتباعاً لهواه !.
ويقول: إن جميع ما يأتي به ويصنفه، من اللغو الذي يجب الإعراض عنه والهجر الذي يجب أن لا يسمع منه !.
وهو يذكر من مؤلفات ابن حزم: (الفصل)، و(الأحكام) و(التوقيف على شارع النجاة)، و(النكت الموجزة)، و(كتاب الإعراب عن كشف الالتباس) و(مراتب الإجماع)، و(مراتب العلوم)، و(كتاب القواعد) على مذهبه و(المرطار!) (كذا).
ومما شنع فيه على ابن حزم تشنيعاً شديداً ما ذكره في (المفصل) من: إظهار تبديل اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل، وبيان تناقض ما بأيديهم منها مما يحتمل التأويل، وهي الناحية التي أشاد الدارسون قديماً وحديثاً بعبقرية ابن حزم فيها، وسبقه إليها.
وشنع كذلك تشنيعاً فظيعاً بالبرنامج الرائع الذي قدمه ابن حزم لتعليم الأطفال في كل من (مراتب العلوم) و(التوقيف على شارع النجاة) والداعي إلى الجميع في الدراسة بين العلوم الشرعية والعلوم العقلية والرياضية والأدبية.
ومما شنع فيه على ابن حزم تشنيعاً كبيراً قوله بكروية الأرض وغير ذلك مما لا يتسع المجال الآن لإيراد شيء منه هنا.(2/22)
وتوجد من هذا الكتاب بقايا أوراق لا أول لها ولا آخر، ولا صلة بينها، في مكتبة القرويين بفاس، أوقفني عليها محافظها الزميل الأستاذ العابد الفاسي، واستطعت التعرف على حقيقتها بعد دراسة طويلة.
وقليل من خصوم ابن حزم هؤلاء من يعترف لمؤلفاته ببعض القيمة.
ومن ذلك ما ذكره الشهاب الخفاجي: أحمد بن محمد المصري المتوفى سنة 1069هـ ــــ 1658م في أواخر كتيبه (طراز المجالس) ص 274 «أنه طالع كتب أبي محمد ابن حزم فوجده يمشي على غير الجادة: فيأتي بأمور تأباها الطباع السليمة! مع كثرة اطلاعه، وطول باعه وفيها فوائد جليلة وعوائد جميلة.
ثم نقل فوائد من كتبه، وناقشه في بعضها (ص 274 ــــ 277).
* * * وهناك آخرون يعترفون له بالحفظ والاطلاع. ولكنهم ينكرون قدرته على التفقه والاستنباط ومن هؤلاء أحمد بن يوسف الفهري اللبلي الأشعري المتوفى بتونس سنة 601هـ ــــ 1553م. فقد حمل في (فهرسته) حملة عنيفة على ابن حزم وخصوصاً (النصائح) التي يسميها (القبائح) و(الفصل) و(المجلى) وقال: «ولا شك في أن الرجل حافظ، إلا أنه إذا شرع في تفقهه ما يحفظه لم يوفق فيما يفهمه! (نسخة خاصة، مصورة عن مكتبة برينستون).»
ونقل السلطان المولى سليمان العلوي (ت 1238هـ ــــ 1822م) في كتابه (عناية أولى المجد في ذكر آل الفاسي بني الجد) (ص 5) عن الشيخ أحمد زروق الفاسي، دفين مصراته بليبيا (ت 899هـ ــــ 1493م) قوله عن ابن حزم: «أنه حافظ يعتمد عليه في النقليات ولا يلتفت لمذهبه في العقائد!.
وقال عمر بن محمد بن خليل السكوني الإشبيلي الأشعري المتوفى سنة 717هـ ــــ 1713/4 م في (كتاب لحن العامة والخاصة في المعتقدات) (نسخة خاصة): وليتحرر من كلام ابن حزم إذا تكلم فيما يتعلق بأصول الدين وقواعد العقائد ومما يتعلق بالمعاني والحقائق، لأن هذا الرجل لم يكن من أهل هذا العلم فلما تكلم فيما ليس بفن له! لم يحسن!.(2/23)
ونقله عبد الوهاب الشعراني (973هـ ــــ 1565م) في كتاب (لطائف المنن والأخلاق) مع عدم التزام لفظ ابن خليل!
وذكر المؤرخ المفسر الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي (ت 774هـ ــــ 1373م) في تاريخه (البداية والنهاية) ج 14 ص 291: أنه رأى في المنام أبا زكرياء محيي الدين النووي الدمشقي (ت 676هـ ــــ 1277م) فسأله: لم لم يدخل في (شرحه للمذهب) شيئاً من مصنفات ابن حزم؟ فأجابه بما معناه: أنه لا يحبه! فقال له ابن كثير: أنت معذور فيه! فإنه جمع بين طرفي النقيضين في أصوله وفروعه: أما هو في الفروع فظاهري جامد يابس! وفي الأصول تولى (كذا) مائع: قرمطة القرامطة! وهرس الهرانسة!
ثم أشار ابن كثير للنووي إلى أرض خضراء تشبه التحيل بل هي أردأ شكلاً منه، لا ينتفع بها في استغلال ولا رعي! فقال له: هذه أرض ابن حزم التي زرعها! قال: انظر هل ترى فيها شجراً مثمراً أو شيئاً ينتفع به؟ فقال ابن كثير: إنما تصلح للجلوس عليها في ضوء القمر!!!
ومن أطرف الآراء في مؤلفات ابن حزم رأي قاضي غرناطة وسجلماسة، أبي طالب عقيل بن عطية القضاعي الطرطوشي المتوفى سنة 608هـ ــــ 1211 م 2 في كتابه (فصل المقال في موازنة الأعمال. وحكم غير المكلفين في العقبى والمآل) الذي ألفه في الرد على الحافظ الحميدي وشيخه ابن حزم، والذي نسبه له كثير من المؤلفين، وطال بحثي عنه إلى أن عثرت في المكتبة الناصرية بتامكروت على نسخة مقابلة مع المؤلف على نسخته، ومسموعة عليه ثلاث مرات وهي من بين ما نقلته إلى قسم مخطوطات الأوقاف بالخزانة العامة بالرباط. وهي تحت عدد ق 109.(2/24)
قال عقيل بن عطية: «هذا الرجل ــــ يعني ابن حزم ــــ غلت فيه طائفتان: إحداهما تعظمه تعظيماً مفرطاً بحيث تقلده في جميع أقواله، ولا ترى مخالفته في شيء من مذهبه! وإذا أظهر لها في كلامه الخطأ البين، والوهم الصراح، لم تقبله وأحالت بالوهم والخطأ على من يتعاطى الرد عليه! أو على نفسها بالعجز عن الانتصار لذلك القول المردود!
والطائفة الثانية تزري عليه، وتحط من قدره، حتى تعتقد ألا حسنة عنده فإذا أظهر لها ما في قوله من الجودة، وبين لها صحة ما ذهب إليه في أمر ما مما يتكلم عليه أو يتمذهب به. لم تقبله أيضاً، واعتقدت فيمن يبين ذلك ويتكلم عليه أنه على مذهبه الذي ينتحله! وقد يكون في هذه الطائفة من لا يفهم قوله! ولا يدري معناه، لكن يكرهه تقليداً. ويستصوب قولة من يرد عليه في الجملة!.
وكلتا الطائفتين مخطئة فيما توهمته عليه من الإحسان المجرد أو الإساءة المجردة! بل هو واحد من العلماء وممن يقصد الحق عند نفسه فيما يراه. ويوثر العدل فيما يظنه ويتحراه فتارة يخطىء وتارة يصيب، فإذا أصاب فقوله سابق جداً. وإذا أخطأ فقوله نازل جداً . لأن أكثر أقواله إنما يأخذ بالطرفين وغيره من العلماء قد يكون صوابه قريباً من خطئه، أعني أنه إذا أصاب يكون صوابه قريب المرام، ليس فيه ذلك العموض، وإذا أخطأ لم يكن في ذلك الخطأ شذوذ ولا كبير تعسف!
وهذا الذي قلناه هو الإنصاف في جانب أبي محمد بن حزم رحمه الله. والاعتدال الذي ينبغي أن يعتقد فيه، فإنما ذكرنا الواجب في حقه، كان له أو عليه. (ص 49).
ولشيخ الإسلام ابن تيمية تفصيل في آراء ابن حزم الكلامية ورد في المجلد (الرابع من مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية) جمع وترتيب عبد الرحمن ابن محمد العصامي النجدي، مطابع الرياض ص 138 جاء فيه:(2/25)
وكذلك أبو محمد بن حزم فيما صنفه من (الملل والنحل) إنما يستجمد بموافقة السنة والحديث. مثل ما ذكره في مسائل (القدر) و(الإرجاء) ونحو ذلك بخلاف ما انفرد به. من قوله في (التفضيل بين الصحابة) وكذلك ما ذكره في (باب الصفات) «فإنه يستحمد فيه بموافقة أهل السنة والحديث، لكونه يثبت الأحاديث الصحيحة، ويعظم شأن السلف وأئمة الحديث. ويقول: إنه موافق للإمام أحمد في (مسألة القرآن) وغيرها، ولا ريب أنه موافق له ولهم في بعض ذلك!
«لكن الأشعري ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد ومن قبله من الأئمة في القرآن والصفات، وإن كان أبو محمد بن حزم في (مسائل الإيمان) (والقدر) أقوم من غيره. وأعلم بالحديث وأكثر تعظيماً له ولأهله من غيره، لكن، خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك. فوافق هؤلاء في اللفظ وهؤلاء في المعنى!.
«وبمثل هذا صار يذمه من يذمه من الفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث، باتباعه لظاهر لا باطن له كما نفى المعاني في الأمر والنهي والاشتقاق، وكما نفى خرق العادات! ونحوه من عبادات القلوب! مضموماً إلى ما في كلامه من الوقعية في الأكابر، والإسراف في نفي المعاني، ودعوى متابعة الظواهر.
«ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال، والمعرفة بالأحوال، والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة، ما لا يجتمع مثله لغيره! فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح.
«وله من التمييز بين الصحيح والضعيف، والمعرفة بأقوال السلف، ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء».
وجاء في ص 395 ــــ 396 من نفس الجزء: «وأبو محمد ــــ مع كثرة علمه، وتبحره، وما يأتي به من الفوائد العظيمة، له من الأقوال المنكرة الشاذة ما يعجب منه كما يعجب مما يأتي به من الأقوال الحسنة الفائقة!».(2/26)
وقد كان ابن تيمية في (شرح العقيدة الأصفهانية) أكثر حدة في الحديث عن ابن حزم حيث وصف بعض أقواله بأنها سفسطة في العقليات، وقرمطة في السمعيات! وأن هؤلاء الظاهرية الباطنية! أقرب إلى المعتزلة ــــ بل إلى الفلاسفة! ــــ من الأشعرية (ص 76 و77) بتقديم حسنين محمد مخلوف 86هـ ــــ 66.
* * * هذه صورة عن المواقف المختلفة لكثير من مختلف رجال الفكر الإسلامي في كثير من العصور والأقطار من مؤلفات ابن حزم على العموم ــــ أوردناها بنصوص أصحابها ولم نورد فيها ما قيل، مدحاً أو قدحاً، في مؤلفات معينة، مثل «المجلي»، و«المحلى» و«الفصل» و«حجة الوداع»، و«طوق الحمامة» و«الإيصال» و«مراتب الإجماع» و«كتاب الأعراب عن الحيرة والالتباس» و«كتاب الأحكام» و«التقريب لحد المنطق» و«المفاضلة بين الصحابة» و«السيرة النبوية» و«جمهرة أنساب العرب». وما أكثر ما قيل! على نية أن نورد ذلك ــــ إن شاء الله ــــ عند الكلام على كل كتاب بخصوصه.
عدد مؤلفات ابن حزم، وما هو الموجود منها:
لم تصلنا قائمة كاملة بأسماء مؤلفات ابن حزم، وكل ما وصلنا بضعة أسماء ذكرها ــــ أثناء ترجمته ــــ مترجمان معاصران له، وهما الحميدي وابن حيان، ونقلها عنهما من جاء بعدهما، وأضاف إليها الذهبي في (تذكرة الحفاظ) بعض الأسماء.
ولكنه في الترجمة الحفيلة التي كتبها عن ابن حزم في معلمته الكبيرة (سير النبلاء) ــــ وهي أطول ترجمة وصلتنا لابن حزم، والتي نشرها صديقنا الأستاذ سعيد الأفغاني في جزء خاص ــــ.
حاول إحصاء مؤلفات ابن حزم، فذكر من المؤلفات الكبيرة 31 ومن الرسائل 38، فهي 69، وقد أخل فيها بذكر بعض ما ذكره في (تذكرة الحفاظ)! وتقدم لنا قريباً قول المنتوري: (وهي نحو من ستين؟).(2/27)
وقد وضعنا قائمة لمؤلفات ابن حزم أوصلناها فيها إلى 140، المشكوك في صحة نسبته لابن حزم منها 5 الباقي 135 وإذا نحن ألغينا منها بعض ما يمكن أن يكون تكرر عدة لاختلاف في تسميته فإن الباقي لا يكاد يقل عن 120 مؤلفاً ورسالة.
الموجود منها 52، يشك في صحة نسبة أربعة منها إليه، والمفقود 88، يشك في صحة نسبة واحد منها إليه.
مؤلفات ابن حزم ورسائله المفقودة
1) ــــ كتاب القراءات.
2) ــــ رسالة في أن القرآن ليس من نوع بلاغة الناس.
3) ــــ رسالة في آية { ذ ر ز س ش ص ض } ]يونس: 94[ .
4) ــــ كتاب في تفسير { { (ص) } ~ ! " £ $ } ]يوسف: 110[
5) ــــ كتاب الجامع في حد صحيح الأحاديث باختصار الأسانيد.
6) ــــ كتاب مختصر في علل الحديث.
7) ــــ الوحدان في مسند بقي بن مخلد.
8) ــــ ترتيب مسند بقي بن مخلد.
9) ــــ جزء في أوهام الصحيحين.
10) ــــ أجوبة عن صحيح البخاري.
11) ــــ بيان غلط عثمان بن سعيد الأعور في المسند والمرسل.
12) ــــ ترتيب سؤالات عثمان الدارمي لابن معين.
13) ــــ كتاب مهم السنن.
14) ــــ كتاب مراتب الديانة.
15) ــــ كتاب الآثار التي ظاهرها التعارض، ونفي التعارض عنها.
16) ــــ تسمية شيوخ مالك.
17) ــــ شرح حديث الموطأ والكلام على مسائله.
18) ــــ كتاب الخصال، الجامعة لجمل شرائع الإسلام من الواجب والحلال والحرام. على ما أوجبه القرآن والسنة والإجماع.
19) ــــ كتاب الإيصال، إلى فهم كتاب الخصال (40 مجلداً).
20) ــــ مراقبة أحوال الإمام.
21) ــــ كتاب فيمن ترك الصلاة عمداً حتى خرج وقتها.
22) ــــ قصر الصلاة.
23) ــــ كتاب الفرائض.
24) ــــ مختصر (الموضح) لأبي الحسن المغلس الظاهري.
25) ــــ كتاب التلخيص والتخليص، في المسائل النظرية وفروعها التي لا نص فيها في الكتاب والسنة.
26) ــــ كتاب التصفح في الفقه.
27) ــــ كتاب الإملاء في قواعد الفقه.
28) ــــ رسالة في معنى الفقه والزهد.(2/28)
29) ــــ رد على القاضي إسماعيل بن إسحاق في مسألة الخمس.
30) ــــ كتاب اختلاف الفقهاء الخمسة: مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وداود.
31) ــــ ما خالف فيه أبو حنيفة ومالك والشافعي جمهور العلماء، وما انفرد به كل واحد ولم يسبق إلى ما قاله.
32) ــــ ما وقع بين الظاهرية وأصحاب القياس.
33) ــــ النكت الموجزة في نفي الأمور المحدثة في الدين: من الرأي والقياس والاستحسان والتعليل والتقليد.
34) ــــ الإظهار لما شنع به على الظاهرية.
35) ــــ كتاب الصادع، في الرد على من قال بالتقليد.
36) ــــ قصيدة في الاجتهاد.
37) ــــ تأليف في الرد على أناجيل النصارى.
38) ــــ مختصر الملل والنحل.
39) ــــ كتاب الرد على من اعترض على الفصل.
40) ــــ كتاب التحقيق، في نقض كتاب العلم الإلهي لمحمد بن زكرياء الرازي الطبيب.
41) ــــ كتاب الترشيد، في الرد على كتاب الفريد، لابن الراوندي في اعتراضه على النبوات.
42) ــــ مسألة الإيمان.
43) ــــ كتاب اليقين، في الرد على الملحدين، المحتجين على إبليس اللعين، وسائر المشركين.
44) ــــ نكث الإسلام.
45) ــــ كتاب الصادع والرادع، في الرد على من كفر المتوالين من فرق المسلمين، والرد على من قال بالقليد.
46) ــــ كتاب التبيين، في هل علم المصطفى أعيان المنافقين؟
47) ــــ الرسالة الصمادحية في الوعد والوعيد.
48) ــــ كتاب في أسماء الله تعالى.
49) ــــ الحد والرسم.
50) ــــ مسألة في الروح.
51) ــــ جزء في فضل العلم وأهله.
52) ــــ مسألة هل السواد لون أو لا؟
53) ــــ كتاب السياسة.
54) ــــ كتاب الإمامة والسياسة في قسم سير الخلفاء.
55) ــــ الرسالة اللازمة لأولي الأمر.
56) ــــ كتاب أخلاق النفس.
57) ــــ كتاب نسب البربر.
58) ــــ كتاب الفضائح.
59) ــــ ذكر أوقات الأمراء وأيامهم بالأندلس.
60) ــــ غزوات المنصور بن أبي عامر.
61) ــــ مراتب العلماء وتواليفهم.(2/29)
62) ــــ تسمية الشعراء الوافدين عن ابن أبي عامر.
63) ــــ فهرسة شيوخه.
64) ــــ برنامجه.
65) ــــ إجازته لشريح بن شريح المقري.
66) ــــ مؤلف في الظاء والضاد.
67) ــــ شيء من العروض.
68) ــــ بيان الفصاحة والبلاغة.
69) ــــ الرد على ابن الإقليلبي في شرحه لشعر المتنبي.
70) ــــ ديوان شعره (جمع تلميذه الحميدي).
71) ــــ رسالة في الطب النبوي.
72) ــــ كتاب حد الطب.
73) ــــ شرح فصول بقراط.
74) ــــ كتاب بلغة الحكيم.
75) ــــ كتاب اختصار كلام جاليلينوس في الأمراض الحادة.
76) ــــ كتاب في الأدوية المفردة.
77) ــــ مقالة في شقاء الضد بالضد.
78) ــــ مقالة في المحاكمة بين التمر والزبيب.
79) ــــ مقالة النحل.
80) ــــ مقالة السعادة.
81) ــــ كتاب الاستجلاب.
82) ــــ زجر الغاوي.
83) ــــ كتاب الرسالة البلقاء، في الرد على محمد عبد الحق بن محمد الصقلي.
84) ــــ العتاب على أبي مروان الخولاني.
85) ــــ رسالة التأكيد.
86) ــــ رسالة المعارضة.
87) ــــ كتاب المرطار. في اللهو والدعاية. ويشك في صحة نسبته وفي تسميته.
88) ــــ تواريخ أعمامه وأبيه وأخيه وبني عمه وإخواته وبنيه وبناته: مواليدهم وتاريخ موت من مات منهم في حياته.
مؤلفات ابن حزم ورسائله الموجودة
كلاً أو بعضها
1) ــــ رسالة القراآت المشهورة في الأمصار، الآتية مجيء التواتر ط.
2) ــــ الصحابة الذين أخرج لهم بقي بن مخلد ط.
3) ــــ كتاب المجلي ط.
4) ــــ كتاب المحلى شرح (المجلي) ط.
5) ــــ مسائل الأصول ط.
6) ــــ رسالة في الإمامة (في الصلاة).
7) ــــ كتاب حجة الوداع ط.
8) ــــ (كتاب مناسك الحج) أو كتاب المناسك خ.
9) ــــ مراتب الإجماع.
10) ــــ رسالة في طهارة الكلب والرد على من قال بنجاسته ط.
11) ــــ رسالة في الغناء، الملهى أمباح هو أم محظور؟ ط.(2/30)
12) ــــ كتاب الأعراب عن الحيرة والالتباس، الموجودين في مذاهب أهل الرأي والقياس. (موجود بعضه) خ.
13) ــــ كتاب الأحكام ــــ في أصول الأحكام، ط.
14) ــــ أبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل خ كأنه مفقود.
15) ــــ ملخص أبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل ط.
16) ــــ النبذ الكافية، في أصول أحكام الدين. ط.
17) ــــ رسالة في الرد على الهاتف من بعد. ط.
18) ــــ رسالتان له، أجاب فيهما عن رسالتين سئل فيهما سؤال التعنيف. ط.
19) ــــ كتاب التقريب لحد المنطق، والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية. ط.
20) ــــ كتاب الفصل، في الملل والأهواء والنحل. ط.
21) ــــ كتاب إظهار تبديل اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل، وبيان تناقض ما بأيديهم منها مما لا يتحمل التأويل، (لعله هو الذي في الفصل).
22) ــــ النصائح المنجية، والفضائح المخزية، لجميع الشيعة والخوارج والمعتزلة والمرجئة. خ.
23) ــــ المفاضلة بين الصحابة. ط.
24) ــــ كتاب الأصول والفروع خ.
25) ــــ الرد على ابن النغريلة اليهودي. ط.
26) ــــ قصيدة في الرد على نقفور مالك الروم ط.
27) ــــ رسالة البيان، عن حقيقة الإيمان ط.
28) ــــ كتاب الدرة في تحقيق الكلام فيما يلزم الإنسان اعتقاده في الملة والنحلة، باختصار وبيان. خ.
29) ــــ رسالة في النفس خ.
30) ــــ فصل في معرفة النفس بغيرها وجهلها بنفسها.
31) ــــ كتاب ابن حزم في الجدل؟
32) ــــ رسالة في ألم الموت وأبطاله.
33) ــــ رسالة في حكم من قال: إن أهل الشقاء معذبون إلى يوم الدين، (هكذا سميت في المخطوطة، وهي في الواقع جواب عن خمسة وثلاثين سؤالاً وجهت إليه هذا أولها).
34) ــــ مراتب العلوم، وكيفية طلبها وتعلق بعضها ببعض ط.
35) ــــ رسالة التوقيف على شارع النجاة، باختصار الطريق.
36) ــــ رسالة في مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل ط.(2/31)
37) ــــ رسالة التلخيص لوجوه التخليص ط.
38) ــــ السيرة النبوية ط.
39) ــــ رسالة في تسمية من نقل عنه الفتيا من الصحابة ومن بعدهم على مراتبهم في كثرة الفتيا ط.
40) ــــ جمل من فتوح الإسلام.
41) ــــ أسماء الخلفا، والولاة، وذكر مددهم ط.
42) ــــ رسالة في أمهات الخلفاء ط.
43) ــــ جمهرة أنساب العرب ط.
44) ــــ رسالة الميزان في التسوية بين علماء الأندلس وأهل بغداد والقيروان، وهي المعروفة برسائل في فضائل علماء الأندلس ط.
45) ــــ نقط العروس في تواريخ الخلفاء.
46) ــــ طوق الحمامة ط.
47) ــــ ديوان ابن حزم (الجامع غير معروف).
48) ــــ كتاب في الرد على الكندي الفيلسوف، ويشك في صحة نسبته لابن حزم. ط.
49) ــــ ظل الغمامة وطوق الحمامة، في فضل القرابة والصحابة، ويشك في صحة نسبته لابن حزم خ.
50) ــــ الرسالة الباهرة في الرد على أهل الأهواء الفاسدة. خ.
51) ــــ المسائل اليقينية، المستخرجة من الآيات القرآنية خ.
52) ــــ منظومة في قواعد أصول فقه الظاهرية خ.
ملاحظات حول مؤلفات ابن حزم:
ويتجلى من هذا العرض الذي قدمناه عن مؤلفات ابن حزم الملاحظات التالية:
1) ــــ كثرة مؤلفاته.
2) ــــ ضياع أكثرها.
3) ــــ تنوع الموضوعات التي تناولتها.
4) ــــ تناوله للموضوع الواحد في عدة مؤلفات.
5) ــــ تأليفه للمؤلفات المطولة ثم اختصارها.
6) ــــ جمعه عدة رسائل في مؤلف واحد.
7) ــــ تأليفه مؤلفات تعليمية يسهل على الطلبة تحصيلها.
8) ــــ بعض رسائله ومؤلفاته كتبها إجابة لطلب وجه إليه أو جواباً عن أسئلة.
9) ــــ يتجلى لقارىء كتبه إيمانه القوي المتين الصادق بالله وبرسالة سيدنا محمد(ص). وموافقتها لمقتضيات العقول السليمة، وبطلان جميع ما عداها من الملل والأهواء والنحل، إيماناً قائماً على الدرس العميق المقارن والاطلاع الواسع.(2/32)
10) ــــ تمتاز مؤلفاته باستقلال فكري كبير، في نطاق النص القرآني والحديث النبوي الثابت وإجماع الصحابة، وعدم مبالاته ــــ بعد ذلك ــــ بموافقة من وافق ــــ أو مخالفة من خالف ــــ كائناً من كان!.
11) ــــ ونظراً لغلوه الشديد في الاعتزاز باستقلاله الفكري، فقد اشتملت مؤلفاته على آراء طريفة أحياناً، وعلى آراء شاذة أحياناً أخرى.
12) ــــ ونظراً إلى أنه داعية لما قام له عليه الدليل، فإنه يورد. آراء المخالفين، وحججهم ويرد عليهم، وهو في رده عنيف شديد في تجريح مخالفيه، مما أدى إلى نفور كثير من الناس من كتبه وعدم استفادتهم منها!
13) ــــ والطابع العام لمؤلفات ابن حزم ورسائله هو عداوته الشديدة العنيفة للتقليد، ودعوته الواسعة للاجتهاد والاستقلال في التفكير، في نطاق النصوص الشرعية ودلائل العقول.
14) ــــ أثارت مؤلفاته اهتمام الدارسين قديماً وحديثاً: تقريضاً ومدحاً، وتجريحاً وقدحاً، تطرفاً واعتدالاً.
رأينا في مؤلفات ابن حزم
إذا كانت اجتهادات المجتهدين محاولات من أصحابنا لفهم وجهة نظر الإسلام في مسألة من المسائل، تحتمل بطبيعتها الإصابة والخطأ، وكان لا بد للباحث من التعرف على وجهات النظر المختلفة وحجة كل واحد منها والمقارنة بينها، فإن مؤلفات ابن حزم تمثل وجهة نظر طريفة وجديرة بالاطلاع عليها ودراستها إلى جانب غيرها من وجهات النظر الأخرى، وهي في هذا النطاق تفتح للباحث، آفاقاً فسيحة للبحث والدرس.
ومن جهة أخرى، فإن من أعظم عيوب مؤلفات مقلدة المذاهب المختلفة إسباغهم صبغة القداسة على آراء أئمتهم مما كان له أسوأ الأثر على الفكر الإسلامي، وهذا عيب سلمت منه مؤلفات ابن حزم، إلى جانب ما فيها من مقاومة عنيفة لتقديس الأشخاص كيفما كانت قيمتهم وأهميتهم، وذلك مما يعمل على تحرير فكر القارىء من ربقة التقليد الأعمى ويشجعه على محاولة تكوين رأي شخصي له في الموضوع.(2/33)
وتلك في نظرنا ميزة كبرى لا يجهل قيمتها إلا أسراء التقليد.
إن المسائل الاجتهادية ــــ التي ليست مما علم من دين الإسلام بالضرورة ــــ هي بطبيعتها محتملة لأكثر من رأي، ولذلك تختلف فيها آراء المجتهد الواحد بين حين وآخر.
محمد ابراهيم الكتاني
هل أثر ابن حزم في الفكر المسيحيّ؟ الإمام أبو محمد بن حزم الأندلسي مجموعة من العبقريات المختلفة. لا تزال الدراسات الحديثة توالي الكشف عنها باستمرار ومن عبقرياته الطريفة دراسته المقارنة للأديان، وخصوصاً اليهودية والنصرانية.
قرر القرآن: أن الله أنزل التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى كما أنزل القرآن على محمد، عليهم الصلاة والسلام، وأن اليهود والنصارى نسوا حظاً مما ذكروا به وأنهم { ا ب ة ت ث ج ح خ د } ولهذا جاء القرآن مهيمناً على الكتب السابقة أي حاكماً عليها وكان من نتيجة ذلك أن انصرف المسلمون عن دراسة تلك الكتب التي ضاع بعضها وأضيف إليها ما ليس منها، استغناء عنها بالقرآن.
فلما كان القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي، نبغ في الأندلس عبقري فذ هو أبو محمد بن حزم سمت همته إلى دراسة سائر المعارف البشرية ــــ باستثناء الحساب ــــ دراسة استقلالية نقدية فاحصة، وتكوين رأي خاص له في كل ما يدرسه، مبني على الحجة والبرهان المنطقي، وكان من جملة ما درسه الكتب التي يعتبرها اليهود والنصارى كتبهم المقدسة فوجد فيها البراهين القطعية على بطلان ما ينسبه لها أصحابها من قداسة، وألف في ذلك (كتاب إظهار تبديل اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل، وبيان تناقض ما بأيديهم من ذلك مما لا يحتمل التأويل) الذي أدمجه بعد ذلك في كتابه (الفصل) والذي كان من حسن الحظ أن وصلنا ولم يقض عليه التعصب المذهبي كما قضى على كثير من مؤلفات ابن حزم .
الفضل للسابق(2/34)
وإذا كنا نتوفر اليوم على دراسات نقدية بالغة الأهمية وأكثريتها مما كتبه يهود ومسيحيون تكشف عما في العهدين القديم والجديد من وثنية وتناقض وتحريف وتخريف فمن الواجب أن لا ننسى فضل الرائد الأول السابق لاقتحام هذا الميدان الخطير.
قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن فتوح الحميدي، أثناء ترحمته لشيخه ابن حزم، ــــ بعد ذكر (كتاب إظهار تبديل اليهود والنصارى..) المذكور ــــ: «وهذا مما سبق إليه» .
وكرر العبارة أبو جعفر أحمد بن يحيى الضبي وهو يعتمد الحميدي ــــ كما هو معلوم ــــ.
كما أوردها لسان الدين ابن الخطيب السلماني نقلاً عن الحميدي.
هل أثر ابن حزم في الفكر المسيحي؟
ونقل أحمد بن خلكان كثيراً من كلام الحميدي من غير أن ينسبه إليه وقال في العبارة التي نقلناها: «وهذا معنى لم يسبق إليه».
صدى دراسة ابن حزم للعهدين عند معاصريه
وقد كان ابن حزم كثير المناظرة لليهود والنصارى، حسبما تكررت إشارته إلى ذلك في (الفصل) مراراً متعددة، كما كان يعرف اللغة اللاتينية .
وقال معاصره، شيخ مؤرخي الأندلس ابن حيان، أثناء ترجمته له: «ولهذا الشيخ أبي محمد مع يهود ــــ لعنهم الله ــــ ومع غيرهم من أولى المذاهب المرفوضة من أهل الإسلام مجالس محفوظة، وأخبار مكتوبة وله مصنفات في ذلك معروفة» .
كما يحدثنا ابن بسام في موضع آخر إن ابن النغريلي اليهودي (ألف كتاباً في الرد على الفقيه أبي محمد بن حزم) .
وقد بقي لنا رد ابن حزم على ما كتبه ابن النغريلة هذا في الطعن في القرآن، وقد نشرته دار العروبة بالقاهرة 1380هـ ــــ 1960 بتحقيق الدكتور إحسان عبد المعتني بالدراسات الحزمية اعتناء زائداً.
فقد يكون ابن النغريلة كتب طعناً في القرآن كما كتب ابن حزم طعنه في التوراة وقد يكون كتب أيضاً إلى جانب ذلك جواباً على مطاعن ابن حزم في التوراة؟(2/35)
وكان خصوم ابن حزم ينتقدون عليه ــــ فيما ينتقدون ــــ اشتغاله بدراسة التوراة والإنجيل ومناظرة أصحابهما، وقد حفظ لنا ابن بسام رسالة لابن عم ابن حزم الكاتب الوزير أبي المغيرة عبد الوهاب ابن حزم ووجهها لابن عمه الإمام الحافظ أبي محمد يقول فيها: «ونسيت أبا محمد حاشيتك وشيعتك التي صرت رئيس مدارسهم، وكبير إحراسهم، تحدثهم عما كان فيهم من العبر، وتخبرهم بما تعاقب عليهم من الصغار والكدر، فتارة عن السامري والعجل وتارة عن القمل والنمل، وطوراً تبكيهم بحديث التيه، وطوراً تضحكهم بقوم جالوت وذويه، حتى كان التوراة مصحفك وبيت الحزان معتكفك» .
عناية المستشرقين المحدثين بالفصل
وقد اعتنى المستشرقون المحدثون بكتاب (الفصل) عناية بالغة ويقول المستشرق الهولاندي آراندوناك: أن جولد زيهر Goldziher اليهودي المجري الشهير ــــ كان أول من كشف عنه وكتب عنه كثيراً، كما كتب عنه إسرائيل فردليندر Frieledlaender .
ثم قام العلامة المنصف الإسباني الشهير الفس ميجيل أسين بلاسيوس Miguel Asin Palacios بترجمته للإسبانية، وصدر الترجمة بمجلد ضخم عن ابن حزم، ومقدمة في 71 صفحة عن تاريخ الأديان المقارن في الإسلام والمسيحية وقد نشرته في خمسة مجلدات ضخام الأكاديمية التاريخية بمدريد سنتي 1927، 1928 بعنوان (ابن حزم القرطبي وتاريخه النقدي للأديان). Aben Hasam de Cordoba y su critica de las ideas religiosas .
تلخيص مقدمة أسين المهمة
ونظراً لأهمية المقدمة التي صدر بها أسين ترجمته للفصل، فمن المفيد أن نورد هنا ملخصها، حسبما كان أملاه علي شفوياً وأنا أكتب، وكان ذلك منذ أزيد من 15 سنة، صديقنا الأستاذ المهدي بنونة، مدير وكالة المغرب العربي للأنباء اليوم.(2/36)
تكلم أسين عن النشأة المتأخرة لتاريخ الديانات في أوروبا المسيحية، وعن الأسباب التي ترتبت عنها أسبقية البلاد الإسلامية في هذا الموضوع، وانعدام هذه الأسباب في أوروبا المسيحية في القرون الوسطى.
ويتخذ من ذلك كله مقدمة ليبحث في الفصل 4 عن أعمال ابن حزم القرطبي كأول مؤرخ للأفكار الدينية ، فيعطى تحليلاً موجزاً لكتاب (الفصل) ويستنتج منه أسبقية ابن حزم في هذا الكتاب ، ويبين امتياز ابن حزم عن غيره من السابقين بطريقته العلمية في التبويب والاستنباط وهي الطريقة العلمية التي امتاز بها بحاث القرن العشرين.
ويجعل أسين تقسيم ابن حزم لمواقف البشرية من قضية الديانة أكبر دليل على انتظام تفكيره، وسعة اطلاعه ، رغم كون ابن حزم لم يشتغل بدراسة الديانات والعقائد قبل الثلاثين من عمره.
فقد قسم ابن حزم الناس ــــ من حيث موقفهم من أمر العقيدة ــــ إلى ستة أقسام بحسب بعدهم أو قربهم من الإسلام وهي:
أولاً ــــ شك السوفسطائيين الذين يبطلون الحقائق.
ثانياً ــــ إلحاد الفلاسفة الذين ينكرون وجود إله خالق، ويقولون: إن العالم قديم وليس له مدبر.
ثالثاً ــــ كفر الفلاسفة الذين يقولون: إن العالم لم يزل وله مع ذلك فاعل..
رابعاً ــــ ثنائية الإله التي يقول بها الزردشتيون والمانويون وتعدد الآلهة الذي يقول به النصارى المؤمنون بالثالوث.
خامساً ــــ توحيد البراهمة والعقليين الذين يؤمنون بوجود إله واحد، ولكنهم ينكرون النبوة والملائكة.
سادساً ــــ توحيد اليهود ومن أنكر التثليث من النصارى، ومذهب الصابئة، ومن أقر بنبوة زرادشت من المجوس وأنكر ما سواه.
ثم يأتي الإسلام بعد ذلك، ويرى ابن حزم أنه العقيدة الإيجابية الوحيدة الحق. وبرسالته المحمدية نسخ الله ما أوحى به من قبل إلى أنبياء بني إسرائيل، بما فيهم عيسى الذي يرى ابن حزم أنه نبي حق فحسب، وهو رأي المسلمين فيه.(2/37)
وفي هذا الفصل يعرض أسين مناقشة ابن حزم لكل الطوائف المذكورة حسب مبادىء ابن حزم ونظرياته الدينية الخاصة.
سعة معرفة ابن حزم بالمسيحية
ويؤكد أسين أن المسيحية هي الديانة التي درسها ابن حزم بتوسع ودقة أكثر من غيرها إذ إنه خصها بالدرس: أولاً كديانة تعتبر تعدد الآلهة، ثم درسها كديانة سماوية، وكرر أسين الدلائل على سعة اطلاع ابن حزم ولكنه في جملة عابرة أشار إلى أن فهم ابن حزم للمسيحية لم يكن فهماً سليماً!
ويستعرض أسين بدقة مناقشة ابن حزم لليهودية وكتبها خصوصاً التوراة، والبراهين العقلية التاريخية التي أوردها إنكار لصحة هذه الكتب وإثباتاً للتحريف الذي أدخل عليها مما جعلها مخالفة لما كانت عليه في عهد نزولها.
ثم يتوسع أسين في عرض مناقشات ابن حزم للإنجيل، والبراهين التي أوردها لإثبات التحريف والتحوير الذي أدخله رجال المسيحية على كتابهم المنزل، مثبتاً:
أولاً ــــ التناقض الصريح بين النصوص العبرية للعهد القديم عند اليهود والمنصوص المسيحية له.
جميع حجج بحاث القرن الثامن عشر
وثانياً: يناقش ابن حزم العقائد المسيحية الإنجيلية بجميع الحجج والمناقضات التي أوردها فيما بعد بحاث القرن الثامن عشر أمثال فولتير، وبولنج بروك، وغيرهما.
ويستدرك أسين أن ابن حزم لم يطلع على حجج بعض كبار كتاب المسيحية وإنما ناقش الأناجيل الأربعة في حد ذاتها، حيث كان يورد نصوصها العربية الدقيقة، غير عابىء بتفاسير وتأويلات رجال الدين لها.
ظاهري في دراسته المسيحية أيضاً
ويلاحظ أسين أن ابن حزم كان ظاهرياً في تفسير الأناجيل مثلما كان ظاهرياً في تفسيره للإسلام، وبذلك كان ينسب جميع التحوير والفساد الذي دخل على العقيدة المسيحية الحقيقية إلى رجال الدين المسيحي، الذين أولوا دينهم تأويلاً خاطئاً مغرضاً وحرفوا أصوله.
وفي هذا نرى بوضوح، أن ابن حزم كان يناقش المسيحية بالطريقة العقلية التي اتبعها الفولتيريون في عصرنا الحالي.(2/38)
ويعزو أسين إلى طبيعة ابن حزم النقادة، وإلى الدقة السيكولوجية في المسيحية، عدم قدرة ابن حزم ــــ خصوصاً وأنه ذو ثقافة إسلامية وعقلية خاصة ــــ على الشعور بالتقارب بين الألوهية والبشرية، أو فهمه حسبما ورد في الأناجيل، مما جعله يستسخف ويستنكر المبدأ الأساسي للإيمان المسيحي وهو وجود إله أب لجميع الناس.
ويستنتج أسين من مناقشات ابن حزم المنطقية لأصول المسيحية أنه لا يقبل ولا يستسيغ ما يسمى بالتعليلات القلبية، ويكتفي بالتعليلات التاريخية والعقلية. ويعزو ذلك إلى عدم فهمه للمسيحية.
ويقول أسين: ولكنا نكرر مرة أخرى، أن عقيدة ابن حزم المضادة للمسيحية ليست هي ما يهم المؤرخ للديانات، إنما الذي يهمه هو ما يثيره ابن حزم حول النصوص التي يستخدمها ويحتج بها.
وفي هذا الباب نجد أن نقد ابن حزم للمعتقدات الإنجيلية يقوم على سبعين حجة .
ملؤه لفراغ يبلغ القرون
إلى جانب ملئه لفراغ كبير في تاريخ الدراسات الإنجيلية يبلغ القرون !! القرون التي مرت ما بين سيلس Celse وفولتير Voltaire فيقدم لنا مواد ذات قيمة فنية عظيمة لكل باحث ومؤرخ للمسيحية عند المستعربين.
وتركز الاعتراضات الأساسية لابن حزم على الأناجيل الأربعة بما فيها إنجيل يوحنا، وأن الخلاف في الأسلوب بين هذا الأخير والأولين لم يغب عن حذاقة ابن حزم الذي خص بالدراسة القسم الأول من الإنجيل الرابع في نقد خاص يزيل الغموض، ولكنه بالنسبة إليه لم يكن شيئاً مقبولاً، وذلك فيما يخص عقبة الوجود السابق لكلمة الله وتجسدها.
وكان حجر العثرة الذي يصدم به ابن حزم في كل خطوة هو التناقض بين الطبيعتين الإلهية والإنسانية في وحدة الشخص، فهذه هي الفكرة التي كانت تثيره، والتي أورد على بطانها بتكرار عدة مرات حججاً إنجيلية، دون أن يهمل دراسة البنوة الإلهية لعيسى فيما بعد.(2/39)
أما بقية الكتب الدينية التي يتكون منها العهد الجديد فلم تسترع من ابن حزم مثل هذا الاهتمام الدقيق واكتفى بمناقشة آراء رؤيا يوحنا المناقضة لعقلية ابن حزم النصية.
بولس محرف المسيحية
كما ناقش العقيدة التي أبرزها بولس، وإليها يعزو ابن حزم التحريف في آراء عيسى الحقيقية.
وفي هذا الموضوع الأخير لن نكون مبالغين إن قلنا: إن ابن حزم كان أول محرك للمدرسة الحديثة الحرة التي ينتمي إليها هارناك ــــ وهاش، وهولتسمان إذ يتميز كهؤلاء النقاد البروتستانتيين بالتفريق بين الديانة المسيحية الأصلية وإنجيل بولس الذي يتهمه ــــ كما يتهمونه هم أيضاً ــــ بأنه أول مشوه لإنجيل عيسى .
هذه خلاصة الدراسة القيمة التي صدر بها العلامة أسين ترجمته لكتاب (الفصل).
وقد تضمنت الحقائق التالية:
1) كان ابن حزم أول من درس العهدين القديم والحديث دراسة نقدية، وأثبت وقوع التبديل والتحريف والتناقض فيهما.
2) كما كان أول من درس تاريخ الأديان ــــ على العموم ــــ دراسة نقدية ورتبها ترتيباً منطقياً يدل على انتظام تفكيره، وسعة اطلاعه.
3) وأنه درس الديانة المسيحية بتوسع ودقة، وأبان عن سعة اطلاع في ذلك، مثبتاً التناقض الصريح بين النصوص العبرية للعهد القديم عند اليهود والنصوص المسيحية له.
4) وأنه ناقش العقيدة المسيحية الإنجيلية بجميع الحجج والمناقضات التي أوردها فيما بعد نقاد القرن الثامن عشر.
5) وأنه كان يناقش أصول المسيحية مناقشة منطقية تعتمد على الحجج العقلية والتاريخية.
6) وأنه قد ملأ بعمله فراغاً كبيراً في تاريخ الدراسات الإنجيلية يبلغ القرون.
7) وأنه بعزوه لبولس التحريف الذي وقع في آراء عيسى الحقيقية كان أول محرك للمدرسة البروتستانتية النقدية الحديثة الحرة.
تقدير وإعجاب
هذا، وإن المرء ليمتلىء تقديراً وإعجاباً بهذه الروح العلمية الهادئة الرزينة التي تناول بها القسيس العظيم هذا الموضوع الشائك المثير.(2/40)
وقد سبق للمجاهد الإسلامي العظيم العلامة الأمير شكيب أرسلان رحمه الله إن فوجىء بهذه الروح الطيبة من هذا القسيس عندما اجتمع به في الأسكوريال سنة 1930 وسأله عن رأيه في علماء غرب الأندلس؟ قال: فرأينا له في حقهم رأياً عظيماً، وذكر منهم عدداً من جملتهم أبو محمد بن حزم! قال الأمير: برغم كون ابن حزم طعن كثيراً في النصرانية وأن أسين بلاسيوس ليس نصرانياً فحسب. بل هو قسيس متمسك بدينه!
وقبل التعليق على كلام العلامة أسين، أنقل قول عالمين مسيحيين آخرين في الموضوع.
قول بروكلمان
أولهما كارل بروكلمان في (تاريخ الشعوب الإسلامية) الذي قال عن (الفصل) إنه مؤلف ديني تاريخي عظيم، وهو كتاب لم يسبق إلى مثله في الأدب العالمي ...
قول فيليب حتى
وثانيهما الدكتور فيليب حتى في كتيبه (العرب تاريخ موجز) فقد قال:
أما أنفس كتبه الباقية إلى الآن وأفيدها فهو (الفصل، في الملل والأهواء والنحل) الذي يؤهل مؤلفه لاحتلال مراكز الأولوية بين العلماء الذين عنوا بدرس الأديان على سبيل النقد والمعارضة، وفي هذا الكتاب يلفت ابن حزم الأنظار إلى بعض مشاكل في قصص التوراة لم ينتبه لها فكر أحد من العلماء، حتى ظهور مدرسة نقد التوراة العلمي في القرن السادس عشر.
نقطة استفهام؟
وما زلت أتساءل ــــ منذ وقوفي على قول أسين، وهو القسيس المتخصص في الدراسات المسيحية: أن ابن حزم ناقش المسيحية بجميع الحجج والمناقضات التي أوردها فيما بعد بحاث القرن الثامن عشر، وأنه كان أول محرك للمدرسة الحديثة الحرة للنقاد البروتستانتيين :
هل هذه الموافقة بين ابن حزم وبين نقاد الكتب المقدسة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وقعت عن طريق الصدفة ومن وقع الحافر على الحافر ــــ كما يقال ــــ أو كانت نتيجة تأثر بابن حزم ؟.
مؤكدات التأثير(2/41)
لا يخفى أن الأندلس الإسلامية كان بها عدد عديد من اليهود والنصارى وأنهم كانوا يعرفون العربية، وكانت الثقافة الإسلامية منتشرة بينهم، وكان ابن حزم نفسه على صلة وثيقة بكثير منهم وكان كثير الجدل لهم والمناظرة معهم، كما ذكر ذلك مراراً في (الفصل) وأشرنا إليه من قبل.
كما أشرنا إلى معرفته للغة اللاتينية التي كانت منتشرة بين الأندلسين فمن الطبيعي أن تثير حملاته العنيفة ضد التوراة والإنجيل ضجة فكرية في الأوساط اليهودية والمسيحية لا تقل عن الضجة التي أثارها في الأوساط الإسلامية ضد المالكية والأشاعرة والتقليد المذهبي بوجه عام.
ومما له دلالته الخاصة في هذا المقام، أن الأوروبيين في القرون الوسطى حرفوا أسماء العلماء العرب الذين اتصلوا بآثارهم، وأصبحوا يعرفون عندهم بالأسماء المحرفة التي أطلقوها عليهم، مثل ابن سينا أفيسين Avicene وابن رشد أفيرويس Averoés ، وابن باجه أفومباس Avempace والغزالي القازيل Algazel وهم يسمون ابن حزم ابنهاثام Abenhàsam ، فلو لم يكن اسمه متداولاً بينهم لما حرفوه كما حرفوا الأسماء الأخرى.
وكانت الصلات الفكرية وثيقة جداً بين أوروبا المسيحية والأندلس الإسلامية عن طريق المهاجرين والتجار والطلبة والرحالين والأسارى والسفراء والمدجنين والموريسكيين والمرتدين. ووقوع بعض المدن الإسلامية تحت الحكم المسيحي تارة وعودتها للحكم الإسلامي تارة أخرى. كما كانت أوروبا المسيحية مقبلة على الثقافة الإسلامية إقبالاً كبيراً ــــ كما هو معروف ــــ.
ابن رشد(2/42)
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن الفيلسوف الفقيه ابن رشد الحفيد الذي كان تأثيره في تاريخ الفكر الأوروبي حاسماً لا جدال فيه، حيث إنه لم ينتصف القرن 13 م حتى كانت جميع كتبه قد ترحمت إلى اللغة اللاتينية فنفذت بذلك إلى أوروبا، ولقيت مقاومة من رجال الإكليروس، وكان من أكبر خصومها توما الأكويني الذي يعتبر مع ذلك أول تلاميذ ابن رشد وأكثرهم تأثراً به! ثم لم يلبث ابن رشد أن صار صاحب السلطان المطلق في كلية بادو بإيطاليا والمعلم الأكبر الذي لا يقاوم ــــ ابن رشد هذا ــــ قد تأثر هو أيضاً في بعض نواحي تفكيره بابن حزم، كما يظهر ذلك لدارس كتابه في الفقه الإسلامي المقارن (بداية المجتهد)، وقد أشار لذلك ابن عبد الملك المراكشي أثناء ترجمته له في (الذيل والتكملة) ناقلاً عن محمد بن أبي الحسين بن زرقون.
ابن عربي الحاتمي
وكذلك ابن عربي الحاتمي الباطني الأندلسي، الذي أثارت عقيدة وحدة الوجود عنده موجة من الصراع الفكري العنيف في الأوساط الإسلامية واعتبرها كثير من علماء الكلام والمحدثين والمفسرين والفقهاء، بل ومن الصوفية السنيين، عقيدة متناقضة مع العقيدة الإسلامية تناقضاً مطلقاً، بحيث لا يمكن التوفيق بينهما بأي وجه من الوجوه، وقد سمى أسين بلاسيوس كتابه عن الحاتمي وتفكير (الإسلام المتنصر) El Islam Cristianizado والذي كان إلى جانب عقيدته الباطنية ظاهري المذهب في العبادات أو على مذهب ابن حزم ــــ حسب تعبير دائرة المعارف الإسلامية وقد ذكر هو في إجازة كتبها للملك المظفر غازي سنده في كتب (الإمام أبي محمد علي ابن أحمد بن حزم) وقد اختصر كتاب (المحلى) لابن حزم وسمى اختصاره (المعلى) وهو مخطوط بتونس، وقالوا عنه: إنه من أحسن المختصرات، ويقال: إن (الفتوحات المكية) مشتملة على الفقه الظاهري. وبلغني أن العلامة جمال الدين القاسمي الدمشقي رحمه الله: أفرد ما في الفتوحات من الفقه الظاهري في مؤلف خاص.(2/43)
وذكر الحاتمي في الباب 323 من (الفتوحات المكية) أنه رأى النبي (ص) في المنام وقد عانق أبا محمد بن حزم ــــ المحدث ــــ فغاب الواحد في الآخر فلم نر إلا واحداً هو رسول الله (ص)، قال: فهذه غاية الوصلة، وهي المعبر عنها بالاتحاد .
وقد كان لمذهب ابن عربي الحاتمي هذا وكتبه صدى في علمين من أعلام الأدب الأوروبي في القرن 14 م وهما دانتي ولوليو.
فقد دل أولهما في الكوميديا الإلهية Divina Comidia وفي الحياة الجديدة Vitanova وغيرها من مؤلفاته على أنه كان ملماً بآراء الباطني المرسي. ثم إن الصور التي رسمها في الكوميديا الإلهية لتمثيل الجنة والنار وما إليهما تتفق وما رسمه ابن عربي في كتاب (الفتوحات الإلهية) .
ولم تكن الحرب الفكرية بين المسلمين والمسيحيين بأقل من الحرب المسلحة المستمرة بينهم وكان الإمام ابن حزم من أبرز أبطال هذه المعركة في المعسكر الإسلامي. وعندما اطلع على قصيدة بعثها الإمبراطور البيزنطي نقفور فوكاس (963 ــــ 969م) إلى الخليفة العباسي المطيع لله (334هـ ــــ 946م ــــ 363هـ ــــ 974م) يندد فيها بالإسلام ويتهدد المسلمين وكان ذلك عام 358هـ ــــ 968م ــــ أي قبل ميلاد ابن حزم بربع قرن! أجاب عنها ابن حزم بقصيدة تقع في تسعة وثلاثين ومائة بيت، وقد رواها ابن خير في (فهرسته) بسنده إلى ابن حزم واحتفظ لنا عبد الوهاب ابن السبكي منها بسبعة وثلاثين ومائة بيت، في (طبقات الشافعية الكبرى) وقال: إنه أجاد فيها رغم تعصبه الشديد ضد ابن حزم! وقد أشار ابن حزم في بيت من القصيدة إلى الطعن في الأناجيل. ولا شك أن القصيدة قد وصلت للمسيحيين، لأنها جواب لهم.
وكل ذلك من شأنه أن يجعل أوروبا المسيحية على علم بآراء ابن حزم في التوراة والإنجيل.
تطلب النص التاريخي(2/44)
ومع معرفتي كل ذلك جيداً، فإني ما زلت ــــ منذ وقوفي على كلام أسين ــــ أتطلب العثور على نص تاريخي يثبت صراحة معرفة أوروبا المسيحية بابن حزم ــــ وما زلت أوجه السؤال عن ذلك إلى كل من ألقاه ممن أتوقع أن أجد عنده علماً في الموضوع؟.
ليفي بروفانصال، وسالفرانك
وكان المستشرق الشهير ليفي بروفانصال أول من وجهت له السؤال فأكد لي يقينه التام في معرفة أوروبا المسيحية آراء ابن حزم ضد التوراة والإنجيل، وأنه لا يتوقف على العثور على نص تاريخي يثبت ذلك ــــ نظراً للمؤكدات التي قدمت الإشارة إليها ــــ.
وذلك ما أكده لي أيضاً الأستاذ الفرنسي سالفرانك وهو متخرج من معهد كاثوليكي، ويعرف ابن حزم جيداً، وقد حاضر عنه أكثر من مرة.
وقد تحدث المستعرب الإسباني المعاصر إميل غارسيا جوميت Emilio Gracia Gomez في المقدمة الحافلة التي صدر بها ترجمته الإسبانية لكتاب ابن حزم العالمي (طوق الحمامة) عن التشابه الموجود بين طوق الحمامة وبين كتاب الحب الطيب (El libro del buen amor) لخوان رويث نائب الأسقف في ناحية هيتا ــــ بوادي الحجارة El Arcipreste de hlta. Juàn Ruiz وهو قشتالي من أهل القرن 14م، وقارن بين أربعة نصوص من الكتابين لا تدع مجالاً للشك في معرفة خوان رويث بطوق الحمامة كما لاحظ أن هناك تشابهاً بين الطوق وبعض فقرات (دون كيخوت) Don Quijote لسيرفانتس Cerventes (القرن 16م) وكذا بين الطوق وبعض مسرحيات الكاتب الشهير لوبي دي فيكا Lopedeviga (القرن 17م).
وإذا ثبتت معرفتهم للطوق ــــ وهو كتاب أدبي من نوع خاص ــــ فمن باب أحرى أن يعرفوا ما في (كتاب تبديل اليهود والنصارى..) كما لا يخفى.
توماس الإكويني وابن حزم(2/45)
وقد ذكر الدكتور لطفي عبد البديع في كتيبه الجامع (الإسلام في إسبانيا) أن أسين بلاسيوس عرض في كتابه (آثار الإسلام) لبعض النظريات التي رددها المفكرون المسلمون وتبعهم فيها المدرسيون. من ذلك النظرية التي تحتج لضرورة الوحي. ونظرية التوفيق بين العقل والإيمان، فكلتاهما مما ردده ابن حزم ، وابن رشد، وموسى بن ميمون. وعن هؤلاء أخذها توماس الأكويني ، والدومينكي القطلاني رامون مارتي .
كما عقد أسين بلاسيوس في الفصل 13 من مجلده الضخم عن ابن حزم مقارنة بين نصوص من كلام ابن حزم وأخرى من كلام توما الأكويني (وهو من أهل القرن 13م) يتجلى فيها تأثر الثاني بالأول .
على أن كاثوليكياً فرنسياً كبيراً أخبرني أن توما الأكويني قد ذكر ابن حزم في بعض كتبه. ووعدني بتوجيه النص إلي، ولا أزال أنتظر.
وقد أشار الدكتور لطفي عبد البديع إلى المام البرت الكبير بآراء الفلاسفة المسلمين. من اشتهر منهم ومن لم يشتهر. كما ألم تلميذه توما الأكويني بالفلسفة العربية إلماماً تاماً. وتصدى لدحض حججها في كثير من الأحيان والأخذ بها في أحيان أخرى .
كما تحدث الشيخ أمين الخولي عن عناية الدومينكانيين بالدراسات الإسلامية وخصوصاً توماس الأكويني وأستاذه البرت الكبير وذلك في بحثه الطريف القيم.
(صلة الإسلام بإصلاح المسيحية)
وهو بحث قدم وألقيت خلاصته في مؤتمر تاريخ الأديان الدولي السادس المنعقد بمدينة بروكسيل من 16 إلى 20 سبتمبر سنة 1935م وكان المؤلف قد حضر المؤتمر ممثلاً للأزهر صحبة المرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق، ثم نشرته مطبعة الأزهر سنة 1939 في 81 صفحة منها مقدمة بقلم المرحوم الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر. يناقش فيها بعض آراء الباحث ويؤيده في بعضها الآخر.
ويقع البحث في (فاتحة) و(خاتمة) وثلاثة فصول: عن الاتصال المادي والمعنوي بين الدينين، وعن بعض نتائج هذا الاتصال.
الإسلام أحد الأسباب(2/46)
ويقول البحاثة الكبير: «على أنا حين نفسر هذا الاتصال ــــ أي بين الإسلام وبين المسيحية ــــ وذلك التأثير لا نزعم أنه هو وحده الذي خلق حركة الإصلاح المسيحي، وأنه سيها الأول والأخير، بل نقدر ما هنالك من أسباب وعوامل اجتماعية ودينية وغيرها، قد عملت عملها، وتركت أثرها ودفعت الحياة إلى ذلك الاتجاه. فلفتتها إلى النواحي العقلية والدينية، التي قربها لها وقدمها بين يديها، ذلك الاتصال السالف بالشرق» .
أمين الخولي يؤكد معرفة الغرب المسيحي لابن حزم
وقد تعرض الشيخ الخولي في بحثه لمعرفة الغرب المسيحي لابن حزم واتصاله بآثاره، فقال في الفقرة 10 من الفصل 2:
ومع ما رأيناه من اطلاع الغرب على الدراسة الدينية الإسلامية، نقف هنا وقفة خاصة لنشير إلى عالم أندلسي كبير الخطر، مؤثرين أن نلفت النظر أولاً: إلى ما يلخصه الباحثون الغربيون، من أن إسبانيا الإسلامية كانت مرآة صافية يتجلى فيها شتيت المذاهب الإسلامية، كما كانت أداة هامة في نقل تأثير العرب إلى الغرب وذلك العالم الذي نبتغي الإشارة إليه هو أبو محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري، المؤيد القوي للفكرة الظاهرية بالأندلس، والذي تعتبر الناحية المبتكرة فيه هي تطبيق أصول هذه الفكرة على العقائد، فلا يأخذ فيها إلا بالمعنى الظاهري للقرآن والأحاديث الموثوق بها، وعلى هذا الأساس من البحث نقد الفرق الإسلامية نقداً شديداً، كما كان يمثل أهل التوحيد الذين انتقضوا على التوسل بالأولياء ومذاهب الصوفية، وأصحاب التنجيم .
هذا العالم ذو الآثار الكثيرة والآراء القوية، والشخصية الواضحة، لا أجد عنتاً في القول بأن الغرب المتصل باللغة العربية، والدراسات الإسلامية ــــ وبخاصة في إسبانيا ــــ قد عرفه واتصل بآثاره .
ولئن كنت لا أجد الشاهد النصي على هذا فإني أسوق لتأييد استنتاجي الاعتبارات الآتية:(2/47)
1) إنه عاش في إسبانيا، حيث كان الاتصال قوياً جداً بين الغرب والآثار الإسلامية على ما قدمنا من بيان.
2) إنه أحرز حظاً عظيماً من الشهرة. وكانت له آثار قيمة، كما كانت حياته مثار مقاومة عنيفة، واضطهاد شديد، فمثله ليس بالمغمور، ولا بالمجهول.
3) بقاء أفكاره وآرائه واستمرار الخلاف حولها إلى ما بعد وفاته بنحو قرن تقريباً فذلك خليق بلفت النظر إليه.
4) مقاومته العنيفة لليهودية والنصرانية، على اختلاف مذاهبها، وكثرة مناقشته ورده على مواضع اختلافهما مع الإسلام وإظهار مواطن الأخذ والرد فيهما.
فمثل بطرس الفيزابلي وهو رئيس دير ــــ إذا ما زار إسبانيا بعد وفاة ابن حزم ببضعة وسبعين عاماً ــــ على ما نقلنا آنفاً من خبر ذلك وعرف هناك النظريات الدينية الإسلامية معرفة نقدية، يكتب صاحبها بحثاً في نقد الإسلام واليهودية. لا يكون من اليسير أن يجهل ابن حزم وآثاره، بعد الذي قدمنا من ملاحظات.
ولسنا نذكر (بطرس) هذا إلا على سبيل المثال. فليس ببعيد أن كثيرين مثل بطرس قد ترددوا على إسبانيا. واتصلوا بالنظم الإسلامية كما هو معروف، فلا علينا إذا ما رجحنا أن ابن حزم قد عرف في الغرب، وعرفت آراؤه الخاصة ، التي أشرنا إليها آنفاً، وسنشير إليها فيما بعد عندما نتناول مبادىء الإصلاح المسيحي تفصيلاً.
نرجح معرفة الغربيين لابن حزم ، فهم الذين عرفوا من في المشرق البعيد سريعاً وجيداً. كالغزالي وغيره على ما بينا من قبل .
ثم تكلم الشيخ الخولي في الفقرة 7 من الفصل 3 على الفكرة (3) من الفكر الإصلاحية، وهي أن كلمة الله هي الضابط الوحيد . فالسلطة إنما هي للكتاب المقدس وحده، وينبذ كل ما هو خارج عنه من آراء المجامع والآباء والتقاليد.
وبعدما لاحظ أن فكرة الرجوع إلى المصادر الأولى فكرة شديدة الملائمة لروح التجديد الديني مما يجعل هذا الاتجاه أمراً يجتمع فيه المصلحون والمجددون على السير فيه.(2/48)
ذكر أن فكرة التعويل على الإنجيل ونبذ ما عداه قال بها القالديون في القرن 12م وهم فرقة ظهرت في جنوبي فرنسا في بيئة لها صلة عملية وعقلية بالإسلام مع مجاورتها القريبة لإسبانيا الإسلامية.
ثم أشار إلى صلة هذه الفكرة بالحركة الظاهرية في الأندلس وتمثيل ابن حزم لها هناك وعمله على أخذ العقائد من الكتاب وصحيح السنة فقط.
ثم توسع في الكلام على الحركة التشريعية التحريرية التي قاومت التقليد واعتمدت على السلطة التنفيذية للحكومة الإسلامية اعتماداً لا تكاد تجد له نظيراً في تاريخ التشريع الإسلامي، وهي الحركة التي قام بها المنصور أبو يوسف يعقوب الموحدي الذي حكم المغرب والأندلس في النصف الثاني من القرن 12م حيث أمر برفض فروع الفقه، وألزم الفقهاء بعدم تقليد أحد من الأئمة المجتهدين المتقدمين واقتصارهم في الفتوى والأحكام على القرآن والسنة النبوية، وما يؤديهم إليه اجتهادهم من استنباطهم القضايا من الكتاب والحديث والإجماع والقياس.
ثم لاحظ التشابه الذي يلفت النظر ويثير الانتباه، بين الغرب الإسلامي والغرب المسيحي، حتى في المظاهر العملية لنصرة هذه الفكرة، فأبو يوسف المنصور يأمر بإحراق كتب المذهب فينفذ ذلك وتحرق منها جملة في سائر البلاد، وقد التهمت هذه النار في الغرب المسيحي كثيراً من الآراء والمفكرين كذلك، سواء على يد الرجال المقاومين للإصلاح، أو على يد الداعين إليه.
فالتأثر بهذه الفكرة الرائجة ليس فيه شيء من البعد، وهي فكرة واضحة الصلة والارتباط بالفكرة الإصلاحية، حيث ترى الأخذ بالإنجيل والوقوف عنده فقط واطراح ما وراء ذلك من آراء .
ويختم الدكتور الخولي بحثه القيم الطريف قائلاً:(2/49)
«وإذا كان الأستاذ الفريد جيوم يقول ــــ بعدما تحدث عن تراث الإسلام في الفلسفة والإلاهيات ــــ ما نصه: «وسوف نرى عندما تخرج إلى النور الكنوز المودعة في دور الكتب الأوروبية، أن تأثير العرب الخالد في حضارة العصور الوسطى، كان أجل شأناً، وأكبر خطراً مما عرفناه حتى الآن».
«فإني لأقول: سوف نرى عندما تتجه الرغبة العلمية إلى درس هذه الصلة بين الدينين في نزاهة وإخلاص أن أثر الإسلام في حياة أوروبا الدينية لا يقبل أبداً عن أثره في حياتها الفلسفية والعلمية والفنية» .
وإنا لنأسف على انصراف الشيخ أمين الخولي عن مواصلة البحث في هذا الموضوع الطريف الخطير، فلو أنه واصل البحث والتنقيب منذ سنة 35 لأمكنه أن يضيف إليه الكثير الممتع المفيد، فهو موضوع يستغرق الإعمار والمتخصصون في الدراسات المسيحية أقدر الناس على الإفادة فيه».
والآن، وبعد هذا العرض الذي قدمناه، لعل القارىء الكريم، لا يجد صعوبة في الاطمئنان إلى ما نؤكده من معرفة الأوساط المسيحية المعنية بالدراسات الإسلامية بأوروبا في العصور الوسطى بآراء ابن حزم حول التوراة والإنجيل، وترجيح تأثر الدراسات النقدية للكتب المقدسة عند اليهود والنصارى بدراسات ابن حزم وآرائه.
ولعل دارساً آخر يتوفر فيه ما توفر من قبل لاسين بلاسيوس من إخلاص للثقافة العربية وإنصاف لها، وسعة اطلاع على الدراسات النقدية للعهدين القديم والجديد، يستطيع أن يتوصل في هذا الموضوع إلى أكثر مما توصلنا إليه.
علم تاريخ الأديان المقارن(2/50)
وبعد، فإن علم تاريخ الأديان المقارن، الذي وضعه مفخرة الفكر الإسلامي في الغرب الإسلامي الإمام أبو محمد بن حزم، واستخدمه في التدليل على صحة الديانة الإسلامية وبطلان ما عداها من الأديان، قد أصبح له المقام الممتاز بين الدراسات الدينية العليا في مختلف جامعات العالم. وكل ذي دين ونحلة ومذهب يحاول أن يستخدمه لمصلحة ما يعتقده، ويعقد المختصون فيه المؤتمرات الدورية الدولية، بمشاركة ومساهمة رجال الفكر من المسلمين ــــ كما رأينا فيما سبق ــــ.
فإلى متى وجامعة القرويين في معزل عن هذا الميدان الخصيب ــــ الذي كنا رواد مجاهيله الأولين ــــ خصوصاً ونحن اليوم هدف لغزو صليبي والحادي منظم هدام، غايته تفكيك مجتمعنا، وتحطيم مقوماتنا، بتشكيك شبابنا في دينه وثقافته، وصرفه عن أداء رسالته الخالدة في تكوين شخصيته، وبناء مجتمعه، وإرشاد الباحثين، وهداية الضالين، والتعاون مع جميع ذوي النيات الحسنة على تكوين مجتمع فاضل يسوده الإيمان بالله، والعلم، والعدل، والطمأنينة والسلام.
وإذا كانت مسؤولية رد هذا العدوان الصليبي والإلحادي المنظم ملقاة على كاهل أبناء القرويين وفروعها أولاً وبالذات، نظراً لتخصصهم دون غيرهم في الدراسات الإسلامية المختلفة، فمن الواجب أن يسلحوا بما تتطلبه المعركة الحاسمة التي هم ملزمون بخوضها وقيادتها من أسلحة ضرورية يعتبر علم تاريخ الأديان المقارن من أفيدها وأهمها.
إن البشرية لم تكن في يوم من الأيام في أمس الاحتياج إلى هداية القرآن مثل ما هي في حاجة إلى ذلك اليوم. وذلك ما يضاعف مسؤولية الذين يؤمنون بالقرآن.(2/51)
صفحة مجهولة
حول كتابي (المورد الأحلى في اختصار المحلى) لابن حزم و(القدح المعلى في إكمال المحلى) لابن خليل انعقد في الصيف الماضي بجامعة مونيخ ــــ بألمانيا الغربية ــــ مؤتمر المستشرقين الدولي الرابع والعشرون ــــ فيما بين 28 غشت و4 سبتمبر 1957 وحضره ما ينيف عن 1500 مندوب عن مختلف المعاهد والمؤسسات العلمية في الشرق والغرب، وكان وفد المغرب مركباً من معالي وزير التهذيب الوطني الأستاذ محمد الفاسي، والأستاذ محمد إبراهيم الكتاني الأستاذ بمعهد الدراسات المغربية العليا ــــ كلية الآداب اليوم ــــ مندوباً عن المعهد المذكور والسيد أحمد بن اليمني ــــ من ديوان الوزير ــــ.
وقد ألقى الأستاذ محمد إبراهيم الكتاني بالمؤتمر تقريراً حول مخطوط مجهول اكتشفه، وهو يتضمن معلومات غير معروفة لأحد من المعنيين بالدراسات الحزمية. وعلى الخصوص الطعن في (تتمة المحلى) لأبي رافع الفضل ولد ابن حزم، طعناً يفقدها كل قيمة، ولفت انتباه الباحثين لأهمية الإجابة عن نقط الاستفهام التي يثيرها هذا الاكتشاف، مؤملاً أن تكون إذاعة هاته المعلومات ــــ لأول مرة ــــ في المؤتمر مؤدية للإجابة عنها.
والأستاذ محمد إبراهيم الكتاني معروف بدراساته الواسعة، وأحاديثه الممتعة، حول تاريخ الدعوة إلى استقلال الفكر في الإسلام، وعلى الخصوص ما يتصل بابن حزم الأندلسي ودعوته.
وفيما يلي النص الكامل للتقرير المهم الذي ألقى ملخصه بالمؤتمر، فاستشار انتباه المستمعين واستحق تقديرهم، مؤملين ــــ مع الأستاذ ــــ أن يكون نشره بين القراء العرب حافزاً على الإجابة عما يثيره من نقط استفهام.(3/1)
تتجلى قيمة المذهب الظاهري ــــ بالنسبة لدارس تاريخ الفكر الإسلامي ــــ في أنه كان رد فعل للغلو في استخدام الرأي والقياس وقلة المبالاة بالنصوص الشرعية عند بعض الفقهاء، وفي استمراره على التمسك بمحاربة التقليد، والدعوة إلى الرجوع إلى مصادر الإسلام الأولى في القرآن والسنة.
وقد شهد تاريخ الفكر الإسلامي ــــ في أحقاب ازدهاره وحيويته ــــ معركة حامية الوطيس بين المذهب الظاهري من جهة، وبين بعض المذاهب الإسلامية من جهة ثانية.
كما أن كثيراً من الحركات الإصلاحية، في كثير من المجتمعات الإسلامية، في مختلف العصور، قد تأثرت ببعض الآراء الظاهرية، بل إن بعض البلاد الإسلامية ــــ كمصر وسوريا مثلاً ــــ قد استمدت بعض قوانينها الحديثة من المذهب الظاهري، كبعض مسائل الوصية وغيرها.
لذلك لم يكن هناك بد لدراس الفكر الإسلامي في مجتمع من المجتمعات عن تلمس مدى تأثره بآراء المذهب الظاهري وتفاعله معها، كما أنه لا بد لدارس فقه الإسلام المقارن من معرفة وجهة نظر المذهب الظاهري في مختلف المسائل، وهو ما جرى عليه بالفعل كثير من الباحثين، قدماء ومحدثين.
وقد عملت الأيام عملها في القضاء على مؤلفات الظاهرية في الشرق وفي الغرب، فلم يبق بين أيدينا منها إلا كتاب (المحلى) لابن حزم: علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي (384/994 ــــ 456/1064) وذلك ما يجعل له قيمة خاصة من هذه الناحية إلى جانب قيمته الذاتية.
غير أني عثرت ــــ أثناء تنقيبي عن بقية آثار ابن حزم ــــ على مخطوط مجهول، يقصر هذه القيمة على القسم الأكبر من كتاب (المحلى) وهو القسم الذي كتبه ابن حزم بنفسه، دون قسمه الأخير الذي كتبه ابنه أبو رافع الفضل عندما توفي أبوه قبل إكماله.(3/2)
فقد عثرت بمدينة مكناس، على المجلد الأول من كتاب (المورد الأحلى) في اختصار (المحلى لابن حزم) وليس فيه تسمية المؤلف ولا تاريخ كتابته، غير أنه يفهم من كلامه في مقدمة الكتاب أنه من طبقة تلامذة الحافظ الذهبي (673/1274 ــــ 748/1347) فيكون من أهل القرن الثامن الهجري، 14 الميلادي.
ومما تجدر الإشارة إليه هنا، أن المؤلف ذكر اسم الكتاب في مقدمته وفي نهاية الجزء كما أوردناه، فتوهم بعض من وقف عليه أنه لابن حزم، واختصر اسمه وكتبه على ظهر المجلد وجانبه: (المورد الأحلى لابن حزم) وكذلك سجله من فهرس مخطوطات مكتبة المسجد الأعظم، مع الغفلة عن أن (المحلى) هو الذي لابن حزم، لا (المورد الأحلى).
ويقع هذا الجزء في 204 ورقة، في كل ورقة 27 سطراً، وطول الورقة 26 سنتيما، وعرضها 17 ونصف، وكتابته شرقية، وقد خرقت الأرضة كثيراً من أوراقه في الوسط والأخير، ويصل في اختصاره إلى المسألة 424 الواقعة في ص 71 من الجزء الرابع من (المحلى) (المطبعة المنيرية).
وقد ألصقت على ظهر أول ورقة منه ورقة كتبت عليها وثيقة وقف المولى الرشيد ــــ ثاني ملوك الدولة العلوية الذي ملك فيما بين (1075/1664 ــــ 1082/1671) ــــ جميع هذا الكتاب ــــ وهو المكتوب على ظهر أول ورقة منه ــــ على خزانته التي أحدثها بالجامع الأعظم بفاس الجديد، فكيف ومتى نقل إلى مكناس يا ترى؟
وأهم ما اشتمل عليه هذا الجزء مقدمة تقع في سبع ورقات وبضعة أسطر.
وأهم ما في هذه المقدمة مقدمة كتاب مجهول هو الآخر، لا نعرف عنه ولا عن مؤلفه شيئاً ــــ إلا ما استفدناه من هذه المقدمة، وهو كتاب (القدح المعلى، في إكمال «المحلى»): (صنعة الأستاذ الجليل السري، تابع السلف، محمد بن عبد الملك، بن عبد الرحمن، بن أبي بكر، بن محمد، بن جعفر، بن محمد، بن خليل العبدري) وقد أورد صاحب (المورد الأحلى) هذه (المقدمة) بتمامها وتقع في أقل من أربعة أوراق.(3/3)
ويذكر ابن خليل العبدري فيها: أن ابن حزم (أدركته ــــ رحمه الله ــــ الوفاة وقد انتهى فيه ــــ أي في (المحلى) ــــ إلى أول كتاب الدماء والديات والقصاص، ولم يشرح منه إلا ست مسائل، وبعض المسألة السابعة، وبقي عليه تتميم المسألة المذكورة وبقية كتاب الدماء والديات والقصاص، والقسامة، وقتال أهل البغي، وحكم المحاربين، وحد السرقة، وحد العادية، وحكم المرتدين، وحكم الزنى، والقذف، وشرب الخمر، وذكر التعزيز، والجامع).
قال ابن خليل: (فحدثت: أن الثقة أخبر عنه: أنه عهد إلى بنيه أن يكملوه على ما نهجه من كتاب الإيصال)... وكان أبو رافع الفضل أكبرهم سناً، وأجلهم قدراً، فانبرى لتكميله وتتميمه، فبيض مبيضة لم يخلصها، ولا رويت عنه بعد نظره فيها ــــ نظر تهذيب وتبصر ــــ أدركته رحمه الله الوفاة، وحالت بينه وبين ما حاول من إتمام غرضه، لأنه استشهد في وقعة الزلاقة (أي سنة 479/1086).
فمن نسخ كتاب (المحلى) فانتهى في نسخه إلى المسألة التي توفى ولم يكملها ولم يزد شيئاً، وقال: هاهنا أدركت الإمام الوفاة، فهذه رواية أبي خالد يزيد بن العاص الأونبي الأندلسي.
ومنها ما ينتهي ناسخها بها إلى آخر زيادة أبي رافع الفضل، وهي رواية أبي عمر كوثر بن خلف بن كوثر وأبي الحسن شريح بن محمد بن شريح (401/1059 ــــ 539/1144) بإجازة أبي محمد لهما.
ولا يخفى أن هذه الأخيرة هي الرواية المطبوعة من (المحلى) وتبتدىء هذه الزيادة من المسألة 2024 ص 441 الجزء العاشر إلى آخر الكتاب، أي ما يشمل 536 صفحة، ويتضمن 284 مسألة.
طعن ابن خليل في زيادة أبي رافع
وأهم ما اشتملت عليه (مقدمة ابن خليل) هذه، ما انفردت به من الطعن في (زيادة أبي رافع) طعناً يفقدها كل قيمة، فقد قال: إنه (تأمل هذه الزيادة فوجد فيها خللاً كثيراً).(3/4)
وذلك أن الإمام أبا محمد رتب كتاب (المحلى) على كتاب (المجلى) فيقول: كتاب كذا، مسألة كذا، وينقل من (المجلى) مذهبه في تلك المسألة كما هو فيه، إلى آخر كلامه فيها، ثم يقول: برهان ذلك، إلى آخر البرهان من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو النظر الراجع إلى غير ذلك عنده، فإن كانت المسألة لا يعرف فيها خلافاً فقد تمت، ويذكر المسألة التي تليها، وإن كان فيها خلاف ذكره، وذكر استدلال المخالف واعترضه، ورجح بحسب ما ظهر له، ويذكر من قال بقوله من الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار، ثم مر في ترتيب (المحلى) كذلك لا يخالف ترتيب (المجلى) ــــ لأنه شرحه ــــ حتى انتهى إلى حيث قدر له.
والذي صنعه أبو رافع الفضل في هذه الزيادة: أنه أخذ أبواباً على ترتيب (الإيصال) فكمل بها (المحلى) ولم يتعرض إلى (المجلى) ولا نقل منه كلمة واحدة.
وليته لما نقل من (الإيصال) ما نقل اعتمد عليه، ولم يحذف منه إلا التكرير والتطويل، بل حذف مسائل كثيرة، فينقل منه باباً ويترك باباً، وربما كان الذي يحذفه أكثر فائدة ــــ فيما هو بسبيله ــــ من الذي يذكره والضرورة لما يحذفه أشد! وربما طال عليه الباب الذي ينقل منه فيطرح من فصوله ما فائدة الباب فيه! وربما أثبت في الباب كلاماً لبعض الناس وحذف الرد عليه! أو أثبت الرد وحذف أصل الكلام! وقد يثبت في بعض المسائل أقوال الناس ويحذف القولة التي اعتمد عليها أبوه!
إلى غير ذلك من الإخلال الكثير، الذي لا ينبغي معه لتلك الزيادة أن تثبت، ولا أن تعد شيئاً مغنياً بالنسبة إلى مراد المصنف!!
ثم يعود ابن خليل ــــ في آخر مقدمته ــــ فيضيف إلى هذه المطاعن الخطيرة: أن في (زيادة أبي رافع) مسائل ليس لها في (المجلى) أصل، ولعلها من تراجم كتاب (الخصال) المشروح بكتاب (الإيصال) المكمل منه (المحلى) فاشتبهت على أبي رافع الفضل ــــ رحمه الله ــــ حين تكميله الكتاب!
عمل ابن خليل ومنهجه:(3/5)
قال ابن خليل: (ولما ألفيت الزيادة هكذا، ووقع إلى من كتاب (الإيصال) جملة كبيرة، فيها موضع الحاجة، رأيت أن أكمله، على ترتيبه ووضعه ــــ إن شاء الله تعالى ــــ حتى إذا رآه العارف الناقد لم ير فرقاً بينه وبين ما ابتدأ به أبو محمد، إلا فيما قدمته ــــ من ذكر الإسناد فقط) (ولنا نحن عودة إلى مسألة الإسناد هذه).
قال: (وذلك إني أذكر المسألة التي وقف فيها أبو محمد فأتمم منها ما غادره، ثم أرجع إلى كتاب (المجلى) فأنقل المسألة التي تليها، وأذكر البرهان عليها ــــ منقولاً من كتاب (الإيصال) أنقله على ما هو عليه، ثم أنقل مسألة مسألة كذلك من كتاب (المجلى) لا أتعدى ترتيبه، وأذكر البرهان على ذلك من (الإيصال) حيث وقع ثم أذكر الخلاف فيها ــــ إن وقع ــــ والاحتجاج، والاعتراض، والترجيح، حتى كأنه هو الذي تممه).
أما المسائل التي في (تتمة أبي رافع) وليس لها ذكر في (المجلى) فقد ألغاها ابن خليل (إذ ليست من أصل الكتاب المشروح، ولا من شرط المصنف، وقد دخلت في وصيته بوجه).
وفي ختام (مقدمة ابن خليل) يعلن: أنه (ليس له في هذا التأليف غير نسخه فقط، كله كلام أبي محمد رحمه الله، امتثل فيه ما أوصاه، فلذلك حسن ــــ بل وجب ــــ أن يكون عزو التتمة إليه، لأنه محض عبارته، لم يدخل فيها شيئاً، حاشا مسألة ألقي فيها بيده متحاملاً، فنبه ابن خليل عليها فقط، لم يدخل من كلامه في كلام ابن حزم شيئاً! وإنما أفردها بذاتها لتعلم).
ثم يقول: فإني ــــ والعالم الله لو لم يوص بتكملته من كلامه في كتابه (الإيصال) لم أقدم على ذلك رحمة الله عليه ورضوانه.
وهنا نقف فنتساءل عن ابن خليل العبدري هذا: من هو:؟ وما هو موطنه؟ وما هو عصره؟ وما هي قيمته العلمية؟ وأين كتابه (القدح المعلى) هذا؟ وما هي قيمة هذه المطاعن الخطيرة التي يوجهها (لتتمة أبي رافع الفضل)؟.(3/6)
وبالرغم من كون (المورد الأحلى) يورد لنا اسم ابن خليل، واسم أبيه، وأسماء ستة من جدوده ونسبه، ويحليه مرة بالأستاذ الجليل السري تابع السلف، وبالإمام محمد بن خليل العبدري، مرة أخرى، ويقول عنه: (وناهيك به!) فإنا لم نعثر له على ترجمة ولا ذكر، في شيء مما رجعنا إليه من المراجع المتنوعة ــــ على كثرتها! ــــ.
غير أننا عثرنا في كتاب (الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة لابن عبد الملك المراكشي 634/1236 ــــ 703/1303) (مخطوط) على ذكر عبد الملك، بن عبد الرحمن، بن أبي بكر، بن خليل العبدري، فلم نستبعد أن يكون هو والد صاحبنا، ويكون ذكر خليل بعد أبي بكر على أنه الجد الأعلى الذي اشتهر عقبه بالنسبة إليه، لا على أنه والد أبي بكر، وهو استعمال شائع.
ويقول المراكشي عن عبد الملك هذا أنه: (بلنسي)، كان من أهل العلم، حياً سنة أربع عشرة وستمائة (أي 1217م) (ج 4 لوحة 8 مصورة المكتبة العامة بالرباط).
فيكون ابن خليل ــــ على هذا الاحتمال ــــ من أهل القرن السابع الهجري، الثالث عشر الميلادي وهذا ما سنلمح في كلام ابن خليل قريباً ما يشير إليه، أندلسياً، أو مغربياً، فقد كان رحيل الأندلسيين إلى المغرب كثيراً في هذه الحقبة.
كما أنا لم نعثر في شتى فهارس الكتب ومعاجمها، كما لم نقف في غيرها، على ذكر لكتاب (القدح المعلى) هذا، وإنما عثرنا على اسم كتاب (القدح المعلى) في الكلام على بعض أحاديث المحلى للقطب الحلبي الحافظ عبد الكريم بن عبد النور (663 أو 664/1265 ــــ 735هـ ــــ 1334).(3/7)
وعلى (القدح المعلى، في التاريخ المجلى) لأبي الحسن بن سعيد المغربي، دفين دمشق، (حوالي 605/1208؟ ــــ 685/1286) وتوجد من هذا نسخة بتونس بخط المؤلف، غير أنه لا صلة له بموضوعنا. غير أن صديقي الأستاذ البحاثة الواعية، الحاج محمد بن أبي بكر التطواني كان أوقفني على قائمة تتضمن أسماء الكتب التي كانت موقوفة بالمسجد الأعظم بمدينة سلا، مؤرخة بثامن ربيع الآخر عام 1228هـ الموافق 1813م ومن بينها كتاب (المعلى، تتمة «المحلى»).
ونحن نعلم أن (المعلى) اسم لمختصر (المحلى) لابن عربي الحاتمي (560/1164 ــــ 638/1240) وللرد على (المحلى) لأبي الحسن بن زرقون الإشبيلي: محمد ابن محمد بن سعيد (539/1144 ــــ 621/1224).
فهل هذا الذي كان بسلا منذ أقل من مائة وخمسين سنة هو (القدح المعلى) لابن خليل؟ أو هو (تتمة أخرى) (للمحلى) لشخص آخر لم يقف على (تتمة ابن خليل)؟ أو وقف عليها فلم تعجبه فوضع تتمة أخرى؟
إن الأمل لا يزال موجوداً في العثور على هذا الذي كان بالمسجد الأعظم بسلا، أما الآن فكل ما بين أيدينا عن ابن خليل و(تتمته) هذه (المقدمة) التي احتفظ لنا بها صاحب (المورد الأحلى) ضمن (مقدمته) وفيها نرى ابن خليل كاتباً مجيداً، أثرياً واعياً، متثبتاً ناقداً، وحزمياً متعصباً غالياً.
فهو يبتدىء بإيراد حديث: (تركت فيكم أمرين. لن تضلوا ما تمسكتم بهما... ويذكر أن تأليف علماء الإسلام في السنة راجعة ــــ على كثرتها ــــ إلى خمسة أنواع... وأن أنفعها القسم الرابع المتضمن لحديث الرسول وفقه الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار، مع التعرض للترجيح في الأقوال والاحتجاج بحسب ما ظهر للمؤلف أنه الحق، من غير تقيد بالانتصار لمذهب معين).(3/8)
وبعد أن ذكر من ألفوا في هذا الموضوع على اختلاف العصور، مشيراً إلى توسيع المتأخرين فيما اختصر فيه المتقدمون، ذكر أن أبا محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي أكثر من ذكر استيفاء لأقوال المخالفين، وبسطاً لأدلتهم، لأنه ــــ رحمه الله ــــ أتى بعد حدوث الفتن، وما ابتلى به بعض الناس من المحن، في نصرة قول من لم يؤمر بنصره، ولا يغنى عنه من الله شيئاً، ونسأل الله العافية، وأن أحسن كتبه كتاب (الإيصال) قال: إلا أنه عدم ــــ اليوم ــــ عدماً لا يتأتى وجوده كاملاً أبداً، وبعده كتاب (المحلى) في شرح كتاب (المجلى) أيضاً، وكلاهما موجود كثير.
وبعدما ذكر ما أوردناه عنه فيما سبق: ــــ من وقوفه على (تتمة أبي رافع الفضل) والمقارنة بينها وبين كتاب (الإيصال) وتصديه لتكميل (المحلى) من كتاب (الإيصال) امتثالاً لوصية مؤلفه أورد خمسة فصول:
حصر في أولها أسانيد ابن حزم الدائرة المتكررة في (المحلى) إلى ذوي المؤلفات التي يروي عنها وذكر في ثانيها : (أن الإمام أبا محمد قد تكلم فيه أقوام من الجهال)، ونسبوه إلى أشياء هم أحق بها... وقد أدى بعض (كذا) المتأخرين في سوء الثناء عليه حتى نسب إلى معتقده سوءاً... وربما كذبوا عليه في أشياء نسبوها إليه إفكاً وزوراً، ثم إنهم لعنوه عليها إفكاً منهم وغروراً، وبهتاناً ومحض تقول، قال: وقد أثنى عليه جلة من أهل الفضل والخير والدين، من أهل المشرق والمغرب... ثم قال:
وبالجملة فإنه إذا تأمل العاقل النبيه، السالم الفطرة من التعصب والهوى، حال الإمام أبي محمد رحمه الله وتأمل أقوال المتكلمين فيه، وجدهم على قسمين:
إما جاهل مفرط (الجهل)، يسبه ولا يدري ما كان عليه من الشدة في الدين والمحافظة على اتباع السنن والحض على ذلك، فهو يسبه ولا يدري ما يلزمه في دينه من ثلب امرىء مسلم من أكابر أهل العلم قد لحق بربه.(3/9)
وإما رجل رقيق الحياء، قليل الدين، ينال منه تعصباً لأهل مذهبه أو غير ذلك، لينال من دنياه ما أحب... قد اعتاض عما عند الله تعالى بأن يقال عنه إنه كان ناصر المذهب كذا، مصمماً عليه، وهو يدري أن ما ناله من أبي محمد ــــ رحمة الله عليه ــــ لا يجوز عقلاً ولا شرعاً ــــ إن كان مصدقاً بالشرع.
ويتصدى ابن خليل في الفصل الثالث للدفاع عن ابن حزم فيما أخذ عليه من سلاطة لسانه وإقذاعه في نسب مخالفيه، فيقول:
(إن أكثر من أثنى على أبي محمد رحمه الله ــــ وأخذه في شيء، وهو أنه أطلق لسانه وقلمه على قوم من المتعصبين بالثلب والسب، والنيل منهم، وكأنهم رأوا هذا خطأ، وأنه أتى ما لا يجوز فعله، وعيب عليه ذلك في تصانيفه، قال: وأنا أقول: إنه ليس خطأ، بل هو قربة إلى الله تعالى، وجهاد فيه، وزين للتأليف.
وبيان ذلك أن الخلاف لما وقع بين السلف الصالح ــــ رضي الله عنهم ــــ لم يقدح بسببه بعضهم في بعض، ولا عادى عليه أحد أحداً، بل قد يوجد بين رجلين منهم الصحبة المؤكدة والخلاف في مسائل كثيرة، لأنهم كانوا لا يراعون في ذلك إلا وجه الله تعالى.
ثم خلف من بعدهم خلف جعلوا طلب العلم سبباً لنيل دنياهم، ومرقاة يبلغون بها من الترؤس مناهم فتعصب قوم لقوم عمل أهل الدولة في ذلك العصر بقولهم، أما وفاقاً لمن تقدم، أو استحساناً منهم لذلك، فبالغ هؤلاء في التعصب لأقوالهم).(3/10)
وبعدما استدل على ذلك بضياع مذاهب لم تحظ من تأييد الدول بمثل ما حظيت به مذاهب أخرى. أشار إلى قبح ذلك التعصب وحرمته شرعاً وعقلاً... وقال: ــــ وربما يكون في بعض المواضع ردة عن الإسلام!!... وذلك أنهم يعترضون على (كتاب الله) تعالى، وعلى الصحيح من سنن رسول الله ــــ (ص) ــــ بما قد رووا عليه من أنواع الاعتراضات: فيحرفون الكلم عن مواضعه ــــ قصداً ــــ، ويمزقون (كتاب الله) تعالى تمزيقاً بارداً، ويتحكمون فيه تحكماً فاسداً، ويعرضونهما على كلام من قلدوه، فما وافقه منها أخذوا به، وما لم يوافقه منها نبذوه بالعراء. وقابلوه بالرد والتحريف، والحمد لله تعالى على السلامة مما ابتلاهم به، ومما وقعوا فيه.
فابن حزم يرى في مذهبه ــــ يقول ابن خليل ــــ إن تلك المقولات منه مجاهدة شرعاً، ويحتج على ذلك بحديث: من رأى منكم منكراً فليغيره...
ثم يضيف ابن خليل إلى ذلك: (أن الحق فيمن علم الحق وعند عن قبوله من هؤلاء أن يجالدوا عليه بالسيوف! وتحرق كتبهم المضلة التي ليس فيها لرسول الله ذكر، إلا آراء مجردة عن الاستدلال بالكتاب والسنة ــــ حتى يرجعوا عن هذه المقاصد الرذلة، والأغراض المبعودة، كما فعل بعض من ولاه الله من أقطار أرضه أمراً، فجزاه الله خير الجزاء، فمن لم يقدر على ذلك فغرضه ــــ على رأي أبي محمد ــــ أن يجاهدهم بلسانه كما فعل هو).
ومن الواضح أن ابن خليل يشير في عبارته هذه إلى ما وقع في الأندلس والمغرب من حرق كتب المالكية أواخر القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي. على عهد يعقوب المنصور الموحدي، الذي ملك فيما بين (580/1184 ــــ 595/1198) وهو حادث عاصره ــــ غالباً ــــ عبد الملك بن خليل البلنسي، الذي لم نستبعد أن يكون هو أباه.
ويتصدى ابن خليل في الفصل الرابع للنضال عن أبي محمد في تخطئة من خطأ من السلف الصالح رضي الله عنهم ــــ فليست التخطئة نيلاً منهم، ولا يعدها نيلاً مهم إلا جاهل أحمق...(3/11)
وإذا قال قائل عمن أخطأ في شيء ــــ وهو ممن يجوز عليه الخطأ ــــ: قد أخطأ، فهو أخبار بحق وصدق ولو قال غير ذلك لكان كاذباً...
وفي الفصل الخامس يورد قول أبي محمد: (ولسنا نرضى عمن يغضب لنا، إنما نرضى بمن يغضب للحق، ولا نسر بمن ينصر أقوالنا إنما نسر بمن ينصر الحق حيث هو).
ولا يجهل علينا جاهل فيظن أنا متبعون مذهب الإمام أبي سليمان داود بن علي إنما أبو سليمان شيخ من شيوخي، ومعلم من معلمينا، إن أصاب الحق فنحن معه ــــ اتباعاً للحق ــــ وإن أخطأ اعتذرنا له، واتبعنا الحق حيث فهمناه!!.
ويعقب ابن خليل على ذلك قائلاً هو أيضاً:
(وكذلك أقول: لا يجهل على جاهل فيظن أني متبع للإمام أبي محمد! أبو محمد شيخ من شيوخي، ومعلم من معلمي، إن أصاب الحق فأنا معه ــــ اتباعاً للحق ــــ وإلا فأنا مع الحق حيث فهمته بحسب ما يوفقني الله تعالى له، وينعم به علي).
وقد تقدم النقل عن ابن خليل: أن ابن حزم ألقى بيده في مسألة متحاملاً، فنبه ابن خليل عليها، كما أنه حذف أسانيد ابن حزم للأحاديث التي يحتج بها. مخالفاً بذلك ما سار عليه ابن حزم فيما حرره من (المحلى).
وأما قيمة مطاعن ابن خليل في (تتمة أبي رافع الفضل) فهي متوقفة ــــ ولا شك ــــ على العثور على (القدح المعلى) وعلى (الإيصال) والمقارنة بينهما، وهذا ما تكاد تنقطع الآمال دون التطلع إليه أو الوقوف من أخبار ابن خليل وأحواله على ما يكفي للوثوق بقوله والاعتماد عليه.
على أن هذا الذي عرفناه عنه لحد الآن ــــ على قلته ــــ كاف لحمل الباحث المتحري على الوقوف من (تتمة أبي رافع الفضل) موقف الحذر والارتياب، وعدم الجرأة على نسبة شيء إلى ابن حزم أو المذهب الظاهري استناداً إليها، أو إلى ما استند إليها وحدها.
المورد الأحلى:(3/12)
ونعود مرة أخرى إلى (المورد الأحلى) أو إلى مقدمته على الصحيح، فصاحبه يذكر: (أنه لم يزل يخطر بباله ــــ إبان اشتغاله بكتاب (المحلى) ــــ أن يختصره، غير متصرف فيه، بأن يختصر أسانيده إلى حيث انتهى مصنفه، ضابطاً لهذه الأسانيد من المصنف إلى ذوي المصنفات الذين روى عنهم، ويسردها مقدمة في أول الكتاب، ويقتصر فيما بقي على ذكر اسم الصحابي والمخرج، مثال ذلك: البخاري عن أنس، مسلم عن أبي هريرة... فيحصل من هذا معرفة طرق روايته لما روى، مع السلامة من تكريرها).
ثم أفاض القول في الدواعي للاستغناء عن إيراد الإسناد والاقتصار على ذكر المخرج، من غير أن ينسب ذلك لابن خليل، وقد سبق أن نقلنا عن ابن خليل إحالته على ما تقدم له من ذكر حذف الإسناد، مع أن صاحب (المورد الأحلى) لم يورد شيئاً من ذلك منسوباً لابن خليل!.
ثم ذكر صاحب (المورد الأحلى) أنه كان يحجم عن هذا الاختصار أدباً مع مؤلفه ــــ رحمه الله ــــ إلى أن رأى الكتاب الموسوم بـ (المستحلى) من كتاب (المحلى)
الذي اختصره شيخ الإسلام... أبو عبد الله محمد... الشهير بابن الذهبي، فسح الله في أجله، وتقبل عمله، وقابله مع أصله، ليرى: كيف صنع؟ ويقفوه فيما جمع، ويتبعه، إذ حق مثله أن يتبع.
الطعن في (المستحلى)
فوجده قد حذف من مسائله جملة، وصيره ــــ بعد أن كان فاضلاً في نوعه ــــ فضلة، وربما أدخل ترجمة مع أخرى، ورأى أن هذا الفعل فيما أحرى، وهيهات، وأنى له ما طلب، ولكن الدهر يظهر العجب، لأن الكتاب إنما سيقت متونه على ما هو مبني عليه من تراجم مسائله، فإذا حذفت المسألة برمتها وأدخلت أخرى فيما بعدها، ولم يذكر ما يوضحها من ترجمتها بنصها، فقد نزع ــــ والله أعلم ــــ عن الكتاب حلاه، وأمر على من يطالعه من بعده ما منه استحلاه، فليته حصر، قبل أن يختصر.
هذا، مع كونه لم يسلك فيه مسلك الاختصار على من يطالعه من بعده ما منه استحلاه، فليته حصر، قبل أن يختصر.(3/13)
هذا، مع كونه لم يسلك فيه مسلك الاختصار على شرط (قرره، وإنما استحل شيئاً فسطره، فبتر الكتاب، والله أعلم بالصواب).
وبما أورد على المصنف ما لم يرد، وأقدم عليه ببادىء الرأي ولم يجتهد، وألزمه ما لم يلزم، وحكم عليه ــــ وهو لم يحكم.
فزاد هذا صاحب (المورد) أحجاماً إلى أحجامه، وجدد له إفحاماً إلى أفحامه، قال: وهو ــــ أي الذهبي ــــ وإن كان أحد مشيختنا ــــ رضوان الله عليه ــــ فالحق أحب إلينا من أفلاطون... كما قال أرسطو، وله نفع الله به ــــ على كل حال ــــ أجر.
(القدح المعلى)
ولما يسر له الوقوف على الكتاب الموسوم بـ (القدح المعلى) في إكمال (المحلى)... ألفاه قد طابق اسمه مسماه، ولفظه فحواه، سبق لبعض ما أمله، لكنه أتى ببعض ما تخيله، فانشرح صدره لما أحجم عنه، واستخار الله فيه، ورأى أن يضم الكتاب المذكور إليه، على الشريطة المقدمة.
وقد اعتذر ابن خليل عن إخلاله (بجامع الإيصال) لأنه لم يجده، وقد وجده صاحب (المورد الأحلى) ومعه (جامع المجلى)، فوعد بأن يضم ــــ إن شاء الله ــــ (جامع الإيصال) عند فراغ الكتاب، ويتلوه (بجامع المجلى) إذ هو الكتاب المشروح، ويسوق بعد ذلك تراجم من روى عنهم أبو محمد، على اختصار نافع، وطرق اتصال رواية مصنفات ابن حزم بالمؤلف، وبه يكمل إن شاء الله المجلد الأخير.
ثم أعلن أنه: (لم يتصرف علي أبي محمد ــــ رحمه الله ــــ في كلمة فما فوقها، محتجاً بأن الإمام ابن خليل، وناهيك به، قد تقدمه في هذا، وأنه إنما أحب شيئاً ورأى من تقدمه إليه، مستحسناً ذلك لديه، فنحى نحوه.
وأنه لم يقصده فيه بنو الزمان، ولا تكرر إليه في تقاضيه الإخوان، ولم يسأله إياه من يعين على إسعافه، ولا ألزمه ذلك من يجب على اتصافه، ولا اعتذر فيه بعذر، ولا شكى توالي خطوب دهر، ولا قدم رجلاً وأخر وأخرى).(3/14)
وهنا نقف مرة أخرى لنتساءل: هل وفق صاحب (المورد الأحلى) لتحقيق برنامجه، فأتم الكتاب على الوجه الذي قرره، أو حال حائل بينه وبين ما عزم عليه؟
ومن هو مؤلف (المورد الأحلى) هذا؟
إننا لم نعثر إلا على الجزء الأول من أربعة أو خمسة، بناء على أن الجزء الأول قد تضمن تلخيص ما يقرب من خمس الكتاب، وعبارة وثيقة الوقف المتقدمة: المكتوبة على أول ورقة منه، بدل على أول ورقة من الجزء الأول، تكاد تشعر بأن هذا الجزء وحده هو الذي أوقفه المولى الرشيد.
كما أنا لم نعثر في شيء مما وقفنا عليه، أو رجعنا إليه، من كتب التراجم ومعاجم الكتب وفهارسها على ذكر لهذا الكتاب، وإنما وقفنا على تسمية مختصرات (المحلى) لابن عربي الحاتمي ــــ وهو موجود بتونس ــــ ولأبي حيان (الأنوار الأحلى)، وللذهبي.
أهمية بالغة
وعلى كل حال، فلا تخفى الأهمية البالغة التي (لمقدمة المورد الأحلى) بالنسبة للدراسات الحزمية التي يلاحظ (الباحث بمزيد الغبطة والابتهاج ازدياد عدد المشتغلين والمعنيين بها، في الغرب وفي الشرق على السواء.
فهي تقدم لنا وثيقتين، إحداهما يحتمل أن تكون أندلسية أو مغربية، من القرن السابع، والأخرى مشرقية من القرن الثامن، مكتوبتين بقلمي حزميين، ونحن لا نكاد نعثر على نظير لهما ــــ فيما وصل إلى أيدينا ــــ إلا عند الحافظ الحميدي (قبل 420 ــــ 488) في (جذوة المقتبس) في حين أن أخبار وآراء بقية الحزميين لا نكاد نعثر عليها إلا عندهم، وأغلب ما يكونون من خصومهم.
فأما ابن خليل فقد أوردنا من عباراته الدالة على غلوه الشديد في حزميته ما فيه غنية عن إعادة التنبيه عليه.
وأما صاحب (المورد الأحلى) فإن عباراته تفيض بالتقدير الكبير لابن حزم، فهو (الإمام الحجة الناقد ناصر الحق) و(لا نزاع في عدالته) وهو (عدل مطلع) (لثبوت عدالته وكثرة اطلاعه) (والاحتجاج بما روي عن أصحاب المسانيد، كالاحتجاج بذوي المسانيد ولا فرق).(3/15)
وقد رأينا أنه (لم يتصرف على أبي محمد في كلمة فما فوقها)، ورأيناه (يحجم عن الإقدام على اختصار (المحلى) أدباً مع مؤلفه، ولا يجرؤ على الإقدام إلا تحت تأثير جلالة: (الإمام محمد بن خليل العبدري)، ثم إنها تتضمن معلومات مفيدة عن عدة كتب:
فابن خليل يحدثنا عن (الإيصال) بأنه: (عدم ــــ اليوم ــــ عدما لا يتأتى وجوده كاملاً أبداً) كما يحدثنا في الوقت نفسه أنه (وقعت إليه جملة كبيرة منه) بينما يحدثنا صاحب (المورد الأحلى) عن وجود (جامع الإيصال) و(جامع المجلى) في الشرق في القرن الثامن، مع أن ابن خليل لم يجد الأول في القرن السابع، رغم أنه أندلسي فيما يظهر.
ومع أن النقد اللاذع الذي وجهه صاحب (المورد) لكتاب (المستحلى) للذهبي يمثل وجهة نظر حزمي مغال في تعظيم ابن حزم، فإنه ستبقى له قيمته ولا شك، ما دمنا لم نعثر على (المستحلى) ونتبين ــــ إذ ذاك ــــ بالمقارنة بينه وبين (المحلى) قيمة ما وجهه إليه صاحب (المورد) من اتهامات.
معلومات لم تكن معروفة من قبل
زملائي المحترمين: هذه معلومات طريفة لم تكن معروفة، ولم يسبق نشرها قبل الآن، فعسى أن تكون إذاعتها ــــ لأول مرة ــــ في هذا المؤتمر الذي يضم جملة وافرة من المعنيين بالبحث والتنقيب في مختلف الأقطار، سبباً في العثور على كتاب (القدح المعلى) وبقية أجزاء (المورد الأحلى) ومعرفة مؤلفيهما، فنضيف بذلك حلقة جديدة إلى معلوماتنا عن ناحية من نواحي تاريخ الفكر الإسلامي جديرة بالعناية والاهتمام.
تعقيب:(3/16)
هذا ــــ وبعد الفراغ من إلقاء ملخص التقرير السابق، وقف رئيس الجلسة الدكتور صلاح الدين المنجد مدير معهد إحياء المخطوطات العربية، التابع للجنة الثقافة بجامعة الدول العربية، وبعد ما أشاد بالحديث وهنا على التوفيق فيه، أعلن أن بعثة اللجنة إلى تونس للوقوف على نوادر المخطوطات بها وتصويرها. قد عثرت هناك على مجموع به عدة رسائل لابن حزم، ومن بينها كتاب (القدح) وأن مصور هذا المجموع يوجد الآن بمعهد المخطوطات بالقاهرة.
ولكني أخشى أن يكون الدكتور المنجد واهماً في قوله، وأن يكون عثور اللجنة بتونس على (القدح المعلى) لابن سعيد خيل للدكتور أنه الذي تحدثنا عنه.
وقد أكد لي الأستاذ الكبير حسن حسني عبد الوهاب ــــ وكان من الحاضرين ــــ أنه هو الذي كان معروفاً وجوده بتونس، أما (قدح) ابن خليل فلم يسبق له أن سمع به هو الآخر.
ثم إن (القدح المعلى) لابن خليل لا بد أن يكون في مجلد أو أكثر، فقد قدمنا أن (تتمة أبي رافع الفضل) تقع في 536 صفحة من المطبوع، أي جميع الجزء الحادث عشر، وما يقرب من الربع من الجزء العاشر، و(قدح ابن خليل) لا بد أن يكون أكبر منها ــــ حسبما يفهم من كلامه السابق، أو في حجمها على الأقل. فلا يمكن أن يكون ــــ والحالة هذه ــــ مجرد رسالة من بين رسائل يضمها مجموع.
وعلى كل حال، فما دام الأمر يتعلق بمصور موجود بمعهد المخطوطات بالقاهرة فإن التأكد من الحقيقة ليس بالأمر الصعب.
وإنا لنتمنى ــــ مخلصين ــــ أن يكون ما قاله الدكتور هو الواقع، فتتحقق بذلك الأمنية التي تمنيناها في آخر التقرير، وتتضح ــــ تبعاً لذلك ــــ حقائق ظلت مجهولة لدى الباحثين لحد الآن.
«حول تتمة المحلى» لابن خليل أيضاً(3/17)
في صيف سنة 1957 ألقيت بمؤتمر المستشرقين الدولي الرابع والعشرين المنعقد بمدينة مونيخ بألمانيا الغربية حديثاً عن الجزء الأول المخطوط من «كتاب المورد الأحلى في اختصار المحلى» المجهول المؤلف، والذي وقفنا فيه لأول مرة على خبر كتاب «القدح المعلى في إكمال المحلى» لابن خليل، الذي لم نقف له على ترجمة ولا ذكر في محل آخر.
(وقد كانت مجلة «دعوة الحق» نشرت النص الكامل لهذا الحديث في العدد السادس والسابع من سنتها الأولى 1377هـ ــــ 1957/1958 (ص 21/26 وص 35/36) كما نشرته ببعض اختصار مع مقدمة (المورد الأحلى) مجلة معهد المخطوطات بالجامعة العربية في الجزء الثاني من المجلد الرابع 1958 ص 309/344 ونشرت مجلة ايسبيريس (Hesperis) التي يصدرها معهد الدراسات المغربية العليا بالرباط نصه العربي مع ترجمته إلى الفرنسية بقلم المستعرب الأستاذ أ. فور، في العدد الثاني من الصادر سنة 1958 ص 298/327، كما نشر ملخص له بالفرنسية ترجمة الأب قنواتي في سجل أعمال مؤتمر المستشرقين الدولي المذكور الذي أشرف على نشره المستشرق هيربير فرانك (Herbert Franke) في مدينة وييسبادن (Wiesbaden) ص 311/312 Akten de vic Runds Wansiosten. International Enoriontalisten Kongresses Munchen .(3/18)
وقد عثرت ــــ بعد ذلك ــــ على ذكر (القدح المعلى) عند الشيخ طاهر الجزائري 1368/1338هـ ــــ 1852/1920م في كتاب (التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن) ص 97 طبع المنار 1334، ولكنه نسبة لابن حزم نفسه، وقال إنه تتمتيم (للمجلى) وتابعه على ذلك الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني مدرس علوم القرآن وعلوم الحديث بتخصيص الدعوة والإرشاد بكلية أصول الدين بالجامعة الأزهرية، في كتابه (مناهل العرفان) ج 1 ص 268 الطبعة 3 سنة 1373هـ ــــ 1954 دار إحياء الكتب العربية، ولكنه اقتصر على الجزء الأول من اسم الكتاب، مع أن السيوطي (849 ــــ 911هـ ــــ 1445/1505م) في الإتقان نسب إلى ابن حزم في (المحلى) نفسه ما نسبه الشيخ طاهر الجزائري وتابعه محمد عبد العظيم الزرقاني إلى (القدح المعلى) الإتقان ج 1 ص 99 المطبعة الموسوية بمصر سنة 1287هـ وهو كذلك عند ابن حزم في (المحلى) ج 1 ص 13 مطبعة النهضة 1347هـ.
وقد استفدنا من هذا النقل أن الشيخ طاهراً الجزائري رحمه الله كان له نوع معرفة بكتاب (القدح المعلى في إكمال المحلى) وهو الخبير بالكتب الواعية لإخبارها ــــ وإن أخطأ في نسبته لابن حزم ــــ فلعله قد قرأ عنه شيئاً، أو وقف على النقل عنه فبقي اسمه في ذاكرته.
ثم إني وقفت في رحلتي في الصيف الماضي إلى إيطاليا بمكتبة الأمير كايتاني 1286/1345هـ ــــ 1869/1926 في أكاديمية لينش بروما على مجلد من (الوافي بالوفيات) للصلاح الصفدي 696/764 ــــ 1296 ــــ 1363 به ترجمة لابن حزم ليس فيها شيء جديد إلا قوله:
(وله كتاب «المجلى» وشرحه «المحلى» ولم يكمله، وكمله تلميذه ابن خليل، رأيت هذه التكملة في ثلاث مجلدات، بخط ابن خليل، عند ابن سيد الناس).
وهذا النص من معاصر لصاحب (المورد الأحلى) ذو أهمية لا تخفى، ــــ رغم قصره ــــ فهو إلى جانب ما فيه من تأكيد لما استفدناه ــــ لأول مرة ــــ من مقدمة المورد «الأحلى» قد تضمن معلومات زائدة.(3/19)
1) (فتكملة ابن خليل) كانت عند الحافظ أبي الفتح ابن سيد الناس اليعمري 671/734 ــــ 1273/1334 الذي كانت عنده أمهات من الكتب أحضرها أبوه أبو عمرو 645/705 ــــ 1247/1305 معه إلى الديار المصرية ــــ ومنها كتاب المحلى لابن حزم الصفدي الوافي ج 1 ص 393 وقال ابن حجر إن جلها حضر إليه من تونس: الدرر الكامنة 4 ص 208 ابن شاكر فوات الوفيات 2 ص 345 الشوكاني البدر الطالع 3 ص 249.
ويظهر أن نسخة المحلى التي كانت عند أبي الفتح ابن سيد الناس لم تكن معها تتمة أبي رافع الفضل بن أبي محمد بن حزم.
2) فإن الصفدي لم يشر إلا لتكملة ابن خليل التي رآها عند شيخه ابن سيد الناس.
3) بخط مؤلفها، ونحن لا ندري هل هي نفس النسخة التي وقف عليها صاحب المورد الأحلى ووعد أن يضيفها إلى كتابه عند فراغه من اختصار المحلى فهو في طبقة تلامذته ــــ إن لم يكن تلميذه بالفعل ــــ أم أنه وقف على نسخة أخرى غير هذه، لأنه لم يشر في مقدمته إلى شيء من هذا.
4) وتقع تكملة ابن خليل في 3 مجلدات ــــ وليست رسالة من بين رسائل يضمها مجموع ــــ كما قيل ــــ.
5) وابن خليل أندلسي كما توقعناه.
وهي كلها فوائد زائدة على ما استفدناه من (مقدمة المورد الأحلى).
6) وأما قول الصفدي عن ابن خليل إنه تلميذ ابن حزم، فهو أمر لا يتفق مع ما ورد في الفصل الثالث من مقدمة القدح المعلى لابن خليل حسبما أوردها صاحب المورد الأحلى من الإشارة إلى إحراق كتب الفروع بقوله: كما فعل بعض من ولاه الله من أقطار أرضه أمراً، فجزاه الله خير الجزاء.(3/20)
والمعروف أن إحراق كتب الفروع وقع على عهد الدولة الموحدية، أيام يعقوب المنصور 555/580/595 ــــ 1160/1184/1199 وقد شاهدها عبد الواحد المراكشي 581/بعد 620 ــــ 1185/1223 وهو يومئذ بفاس ــــ يؤتى منها بالأحمال فتوضع ويطلق فيها النار. المعجب ص 171 ط سلا 1357هـ وكان دخول عبد الواحد المراكشي لفاس أول مرة سنة 590 ــــ 1193 عندما كان سنه 9 سنين فلم يزل بها إلى أن قرأ القرآن وجوده، ثم عاد إلى مراكش فلم يزل متردداً بين المدينتين ص 232.
ويزيد عبد الواحد المراكشي أن محو مذهب مالك وإزالته من المغرب مرة واحدة وحمل الناس على الظاهر من القرآن والحديث كان مقصداً به ــــ يعني أبا يعقوب يوسف 533/558/580 ــــ 1138/1163/1184 ــــ وجده ــــ يعني عبد المؤمن بن علي 587/524/558 ــــ 1094/1130/1163 إلا أنهما لم يظهراه وأظهره يعقوب هذا. المعجب ص 171.
وعند ابن أبي زرع المتوفى حوالي 726هـ ــــ 1326 في القرطاس وتابعه الناصري 1250/1315 ــــ 1835/1897 في الاستقصا أن عبد المؤمن أمر سنة خمسين وخمسمائة بتحريق كتب الفروع ورد الناس إلى قراءة الحديث، وكتب بذلك إلى طلبة المغرب والأندلس والعدوة. القرطاس ص 138 ط فاس 1305 الاستقصا ج 2 ص 113 ط دار الكتاب 1954، فإذا تذكرنا أن ابن حزم توفى سنة ست وخمسين وأربعمائة علمنا أن تلميذه لا يمكن أن يدرك حادثة إحراق كتب الفروع على عهد يعقوب المنصور، بل ولا الأمر بإحراقها سنة خمسين وخمسمائة حسبما عند صاحب القرطاس لأننا إذا فرضنا أنه تلمذ ــــ وهو صغير السن ــــ لابن حزم في أواخر عمره، وأنه عمر إلى سنة خمسين وخمسمائة فسيكون سنه إذ ذاك قد تجاوز المائة بكثير، وهو ليس السن الذي يشتغل فيه المرء بالتأليف، ولو عاش هذا العمر الطويل لكان ذلك وحده كافياً لحمل أصحاب الطبقات على الترجمة له وعدم إهماله، أما سنة تسعين وخمسمائة أو بعدها فلا يمكن أن يكون أحد تلاميذ ابن حزم بقي حياً إليها.(3/21)
ومن العجيب أن الصلاح الصفدي الذي وقف على (تكملة المحلى) في ثلاث مجلدات، لم يكلف نفسه مشقة الترجمة لابن خليل هذا في النسخة التي وقفت عليها من الوافي بالوفيات لا في محمد بن عبد المالك، ولا في ابن خليل.
ومهما تكن ضآلة هذه المعلومات التي استفدناها من نص الصفدي هذا، فإنها على كل حال تفيدنا حلقة مفقودة تضم إلى ما كنا عرفناه بواسطة (مقدمة المورد الأحلى) مؤملين أن تساعد زملاءنا الباحثين ــــ في الشرق والغرب ــــ في العثور على معلومات أوسع وأرقى.
بين يدي (شذرات من كتاب السياسة) لابن حزم
(كتاب السياسة) لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي ــــ الذي أشار إليه في كتابه (التقريب لحد المنطق) ص 181 ــــ نشر مكتبة الحياة ببيروت بتحقيق الدكتور إحسان عباس سنة 1959 ــــ أحد آثار ابن حزم التي لا يعرف لها وجود الآن، وما زلت منذ وقفت على النقل عنه في رسائل ابن عباد الصغرى ــــ قبل طبعها ــــ أتتبع أخباره، إلى أن وفقت للعثور على نقول كثيرة منه في مخطوط مغربي هو كتاب (الشهب اللامعة في السياسة النافعة) المعروف بسياسة (ابن رضوان).
ونظراً لكثرة هذه النقول ــــ في الجملة ــــ وانقطاع أخبار الكتاب عنا، فقد رأيت أن أجمع هذه النقول وأنشرها في مجلتنا «تطوان» التي نعتز بمستواها الثقافي الممتاز، في انتظار العثور على نسخة كاملة من الكتاب ــــ إن شاء الله ــــ لأن هذه الشذرات تتناول ناحية أخرى من نواحي تفكير ابن حزم الموسوعي المبدع.
ومع كثرة ما لفت النظر في هذه الشذرات فإني أحب أن أشير هنا ــــ على الخصوص ــــ إلى ما ورد أثناء الكلام على ما يلزم الإمام من أمور الأمة من جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع ــــ نصاً أو اجتهاداً ــــ فاعتبر الاجتهاد من قبيل الشرع، والمعروف عن ابن حزم أنه يرى في النصوص غنية عن الاجتهاد.(3/22)
هذا، ولا يخفى أن ابن حزم قد تكلم على بعض المسائل السياسية المتعلقة بالخلافة في الجزء الرابع من كتاب (الفصل)، وقد حللها وناقشها الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه القيم الأصيل (ابن حزم) ص 240 ــــ 253.
ابن رضوان
أبو القاسم وأبو محمد عبد الله بن يوسف البخاري المالقي ثم الفاسي دفين أنفا ــــ المعروفة اليوم بالدار البيضاء ــــ الشاعر الناثر المؤلف كاتب الإنشاء بديوان السلطان أبي الحسن المريني، ووالي خطة العلامة لولده السلطان أبي عنان، وله ألف يأمر منه كتابه (الشهب اللامعة) في (السياسة الملوكية، والسير السلطانية) وهو يشتمل على خمسة وعشرين باباً تتخللها عدة فصول، وهو يدل على اطلاع واسع.
وتوجد عندنا بالخزانة العامة منه عدة مخطوطات، من بينها الأرقام التالية: ق 92 ــــ د 729 ــــ ج 68 ــــ ج 908 وتقع أولها في 201 ورقة.
(راجع ترجمة ابن رضوان بقلم صديقه لسان الدين ابن الخطيب) (الإحاطة) مصورة الخزانة العامة (2636 ــــ ص 269 ــــ 274) وعند ابن القاضي في (جذوة الاقتباس) ص 246 ــــ 247 طبع حجر بفاس 1309هـ.
1 - الحاجة إلى الخلافة، وحكمتها، ومهمتها، ودليلها
ابن حزم:
لما كانت الخلافة من الله على منهاج رسوله، وإقامة شعائر دينه، احتاج الناس إلى من يقوم فيهم مقام نبيهم ــــ (ص) ــــ لتأتلف برهبته الأهواء المختلفة، وتجتمع بهيبته القلوب المتفرقة، وتنكف بسطوته الأيدي المتغالبة، وتنقمع من خوفه النفوس المعاندة، لأن في طباع البشر من حب المغالبة والقهر ما لا ينفكون عنه إلا بمانع قوي، ورادع كفي.
فلما تحقق ذلك الصحابة والمؤمنون، واجتمع على الأخذ به العقلاء والمسلمون، لم يكن بد من اجتماع على إمام:
1 ــــ يحفظ الدين من تبديل فيه، أو زيادة عليه، ويحث على العمل به من غير إهمال له.
2 ــــ ويذب عن الأمة من عدو في الدين.
3 ــــ وعمارة البلدان باعتماد مصالحها، وتمهيد سبلها ومسالكها.(3/23)
4 ــــ وتنفيذ ما يتولاه المسلمون من الأموال بسنن الدين، من غير تحريف في أخذها وإعطائها.
5 ــــ ومعاناة المظالم والأحكام بالتسوية بين أهلها، واعتماد النصفة في فصلها، وإقامة حدود الله على مستحقيها، من غير تجاوز فيها، ولا تقصير عنها.
أقام الصحابة ــــ رضي الله عنهم ــــ أبا بكر ــــ رضي الله عنه ــــ مقام رسول الله ــــ (ص) ــــ ثم عمر، ثم عثمان، ثم علياً ــــ مع خلاف عليه ــــ رضي الله عنهم أجمعين ــــ ثم لم يزل العمل جارياً على ذلك حتى الآن، بلا خلاف فيه بين المسلمين.
(ابن رضوان: الشهب اللامعة: الباب الأول).
2 - فصل فيما يلزم الإمام من أمور الأمة وهي عشرة أشياء:
1 ــــ حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، وأن نجم مبتدع فيه، أو زاغ ذو شبهة عنه، أوضح له الحجة، وبين له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروساً من خلل، والأمة ممنوعة من زلل.
2 ــــ تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين، حتى تعم النصفة، فلا يتعدى ظالم، ولا يضعف مظلوم.
3 ــــ الحماية والذب عن الحريم، ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال.
4 ــــ إقامة الحدود، لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك وتحفظ الأمة عن إتلاف واستهلاك.
5 ــــ تحصين الثغور بالعدة المانعة، والقوة الدافعة حتى لا يظفر الأعداء بغرة ينتهكون بها محرماً، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دماً.
6 ــــ جهاد من عاند الإسلام ــــ بعد الدعوة ــــ حتى يسلم أو يدخل في الذمة، ليقام بحق الله ــــ تعالى ــــ في إظهاره على الدين كله.
7 ــــ جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصاً أو اجتهاداً .
8 ــــ تقدير العطا وما يستحق من بيت المال، من غير سرف ولا تقصير ودفعه في وقته لا تقديم ولا تأخير.(3/24)
9 ــــ استكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء، فيما يفوضه إليهم من الأعمال ويكل إليهم من الأموال، لتكون الأعمال بالإكفاء مضبوطة، والأموال بالأمناء محوطة.
10 ــــ أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفح الأحوال، لينهض بسياسة الأمة، وحراسة الملة.
انتهى من كلام ابن حزم (ابن رضوان، الشهب اللامعة الفصل 4 من الباب 1).
3 - تنظيم أوقات الإمام
ابن حزم:
يجب على الإمام أن يجعل يوماً في الجمعة يركب فيه فتراه العامة كلها، ولا يمنع منه مشتك كائناً من كان .
ويجعل سائر أيامه للنظر في الأمور، ولا يسرف على نفسه، لكن طرفي النهار: من صلاة الصبح إلى ثلاث ساعات من النهار، ومن صلاة العصر إلى إسفار الشمس، ويجعل وسط نهاره لراحة جسمه، والنظر في ماله وأهله .
ويمنع أهل الفضول من الوصول إليه، وملازمة داره ومجلسه، لئلا يشتغل في مجالسة من لا يجدي عليه مصلحة في دينه ولا دنياه، وليغلق الباب دون ذلك جملة، فلا يطمع أحد في الوصول إليه لغير معنى .
ويجعل الإمام عشى نهاره ــــ إلى الاصفرار ــــ للجلساء، ويختارهم من أهل العلم، والفضل، والعقل، وحسن التدبير: يخوض معهم في الفقه وفي سائر العلوم الشرعية، وفي مذاكرة السياسة وأخبار الناس من الماضين فقد كان رسول الله (ص) يجلس مع أصحابه ويذاكرهم ويشاورهم ويعلمهم، وكذلك كان الخلفاء بعده .
انتهى كلام ابن حزم.
4 - ابن حزم:
ينبغي للملك أن يفرغ نفسه في ليله لعياله ونسائه وولده، ويعدل في القسم بين نسائه .
(ابن رضوان: الشهب اللامعة، الباب الخامس).
5 - وزراء الإمام
ابن حزم:
ويتخذ من وجوه الكتاب، ووجوه الأطباء، والعلماء، والقضاة، والأمراء، قوماً ذوي آراء سديدة، وكتمان للسر، فيجعلهم وزراءه الذين يحضرون مجلسه، ويلازمونه في التدبير لجميع ما قلده الله تعالى من أمور عباده.
(ابن رضوان: الشهب اللامعة، الباب السادس)
6 - الشورى
قال ابن حزم:(3/25)
إذا نزلت بالملك معضلة ــــ ليس عنده فيها يقين! ــــ شاور من أصحابه وولاة جنوده من يرجو عنده فرجاً من ذلك، ويشاور في الحروب أهل الحرب وسياساتها. ويسأل عن كل علم أربابه، ولا يتكل على رأي أحد، ولا يطلعهم على ما يختار من رأيهم، فإذا انقضى ما عندهم أنفذ ما رآه مما سمع منهم أو من رأى من نفسه إن رآه صلاحاً.
(ابن رضوان: الشهب اللامعة، الباب السابع).
7 - تشجيع الإمام العمارة والغراس
ابن حزم:
يأخذ الناس السلطان بالعمارة وكثرة الغراس، ويقطعهم الإقطاعات في الأرض الموات، ويجعل لكل أحد ملك ما عمر، ويعينه على ذلك، فبذلك ترخص الأسعار، ويعيش الناس والحيوان، ويعظم الأجر، ويكثر الأغنياء، ويكثر ما تجب فيه الزكاة .
قال: ولا يمنع الإمام من البنيان الواسع، وأن يبلغ به غاية الإتقان والقوة ولكن يمنع من التزويق والتزخريف (كذا!) وما أشبه ذلك.
(ابن رضوان: الشهب اللامعة، الباب 23 قبل الأخير).
8 - والي الصلاة
قال ابن حزم في (سياسته):
ينبغي للإمام أن يولي الصلاة رجلاً قارئاً للقرآن، حافظاً له، عالماً بأحكام الصلاة والطهارة، فاضلاً في دينه، خطيباً، فصيحاً، معرباً، فقيهاً في جميع ذلك .
ومن ولاه الإمام الصلاة بأهل بلد كانت له الجمعة والعيدان والصلوات الخمس المفروضات والكسوف والاستسقاء في جميع البلدة التي ولي صلاتها.
وحكم منزل صاحب الصلاة أن يكون بقرب الجامع، كما كان مسجد رسول الله (ص).
ويتخذ مؤذنين أو ثلاثة، صيتين فاضلين فصيحين بالأذان، عالمين بالأوقات، ويجب على الإمام التوسعة عليهم إن كانوا فقراء، لئلا يحتاجوا إلى الشغل فيخلوا بلزوم المسجد أوقات الصلوات.
ولا بد من خدمة يكتفون بقم المسجد وكنسه وتنظيفه وبسط حصره وتسوية حصاه إن كان مبسوطاً بالحصى، وفتح أبوابه وإغلاقها، وتسوية صفوف المصلين .(3/26)
ويجب على والي الصلاة أن يتفقد مساجد البلد الذي ولي الصلاة بأهله فيلزم أهل كل محلة أن يتولى إمامتهم أقرؤهم لكتاب الله، فإن استووا فأقدمهم صلاحاً.
ويأخذهم بإقامة مؤذن راتب لكل مسجد، فإن لم يكن فيهم من يقوم بالصلاة والأذان تكفل لهم الإمام بإمام ومؤذن يجري عليهما ما يكفيهما إن كانا فقيرين.
ويتعاهد والي الصلاة قبلة ما أحدث من المساجد فيقيمها على شطر المسجد الحرام.
ويجري على ما ذكر من كل مال موقوف على مصالح المسلمين، فإن لم يكن هناك مال موقوف على ذلك جبر (ك) الإمام الأكبر أهل كل محلة وقرية على القيام به.
(ابن رضوان: الشهب اللامعة ــــ الباب 19)
9 - يلزم الإمام عدم البحث عن الحدود
قال ابن حزم:
ويلزم الإمام أن لا يبحث عن شيء من الحدود كلها أصلاً، إلا أن يجاهر بها صاحبها أو يشتكي إليه بفعل شيء منها، فأي هذين الوجهين كان لزمه السؤال عن ذلك والإرسال إليه، كإرسال النبي ــــ (ص) ــــ أنساً إلى المرأة، وسؤاله عليه السلام عن زنى الذي كان عسيفاً على الآخر إذ شكا (كذا) إليه عليه السلام أمرهما.
(ابن رضوان: الشهب اللامعة. الباب 19 فصل والي الشرطة).
10 - فصل في ذكر صاحب البريد
قال ابن حزم: «أما البريد فيلزم الإمام أن يرتب قوماً من فرسان الجند ويقدم عليهم رجلاً منهم موثوقاً، من أهل السياسة، والدلالة في الطرق والتبصر بالقبائل، يزيد في أرزاقهم، ويكونون مرتبين في كل قاعدة من قواعد بلاده، فإذا ناب خبر أو طرق أمر يجب على الإمام إعلام بعض أهل عمله به، أو يجب على بعض ولاته إعلام الإمام، قلد الإمام أو الأمير بعض أولئك الفرسان انهاءه إلى المكان الذي يجب انهاؤه إليهم وتكون لهم علامة يعرفون بها لا يشركهم فيها غيرهم ، ويكونون مشاهير بما تولوا من ذلك، ليصح ما يأتون به من عند أترابه من الأمراء وسائر الولاة.(3/27)
قال: «ومن نزل به بريد المسلمين لزمته ضيافته، من غير تقصير ولا إسراف، وكذلك علف دوابهم، ويكونون من أهل المعرفة بالطرق، وقوة الأجسام، ويأخذهم الإمام باستجادة الدواب واختيار القوى منها من البراذين والبغال، فإنها إن كانت لهم كانوا أحوط عليها .
ويتفقد الإمام المولى عليهم، ويستخبرهم عن أحوال الطرق وأحوال الناس فيها!
ابن رضوان: «الشهب اللامعة». الباب 19.
11 - فصل في ذكر عمال الزكاة
قال : ويخرج لكل جهة من يكتفي بصدقات أهلها، ويخرج معه من الأعوان والرجال ما يستعين به على عمله عدداً لا يكتفي بأقل منه أصلاً، ولا يكثر ممن لا يحتاج إليه ، ويأمرهم بأن لا يأخذوا من أحد جعلاً، لأن لهم فيما يقبضون ــــ من قليل أو كثير ــــ حقاً يقوم بهم ويفضل عنهم .
وأما في مسيرهم وترددهم فينبغي للإمام أن يدفع لهم نفقة يبلغون بها فإن لم يكن مع الإمام مال فاضل ! فضيافتهم فرض على كل من نزلوا به، لأنهم أبناء سبيل في خدمة المسلمين.
ولا يكون من يتولى ذلك إلا عالماً بأحكام الصدقات، ومقاديرها، ونصابها وصفات ما يؤخذ منها، وممن تؤخذ، وكيف تؤخذ، حليماً، غير عانف، متيقظاً: غير مغفل.
(ابن رضوان: الشهب اللامعة. الباب 19).
12 - مرتب والي الخراج
قال ابن حزم: يلزم الإمام أن يجعل لوالي الخراج ما يقوم به وبخدمته وأعوانه، من غير تقتير ولا تبذير، فإن لم يكن للإمام مال يفضل لذلك .
فمؤنتهم ومؤنة أعوانهم عن المعتمرين لأرض الخراج.
(ابن رضوان: الشهب اللامعة. الباب 19).
13 - الولاة والعمال
ابن حزم:
[يلزم الإمام أن يتخير ولاته وعماله من المسلمين وأهل الدين، إذ لا تمكنه المباشرة لكل أمور المسلمين، ولئلا يشتغل عن تدبير الأمور العظيمة] التي ابتلاه الله بها واختصه لها.
والأعمال ــــ بعد الخلافة ــــ اثنا عشر عملاً:
1) أولها الصلاة.
2) وقبض الزكاة وتفريقها، وقبض الجزية وتفريقها.(3/28)
3) وولاية الجيوش، وتدبير الحروب، وأخذ المغانم وتخميسها وقسمتها وما صار من المشركين إلى المسلمين وحكمه.
4) وإقامة الحدود.
5) والأقضية.
6) والشرطة.
7) والحسبة.
8) والكتابة.
9) والمحاسبة.
10) والبريد.
11) والاختزان.
12) وإقامة الحج.
فيلزم الإمام أن يتخير الولاة والأمراء والعمال لكل ما ذكرنا، [فإن رأى أن يفرق هذه الأعمال في كل بلد وعلى عدها رجال فحسن، كما بعث رسول الله ــــ (ص) ــــ علياً قاضياً لليمن وقابضاً للأخماس، وبعث خالداً إليها متولياً للحرب، وبعث معاذاً وأبا موسى الأشعري إليها معلمين للقرآن وأحكام الدين وقبض الصدقات، وولى أعمالها جماعة غير هؤلاء.
وإن رأى أن يجمعها ــــ أو بعضها ــــ لواحد في بلد واحد فحسن، كما جمع النبي(ص) اليمن كله لبادان، وجمع عمان كله لعمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين] .
[يلزم الإمام الأعظم أن يرزق أمراء النواحي رزقاً واسعاً يقوم بهم وبمؤنتهم على السعة التي لا يشرهون معها إلى مال أحد من أهل عملهم، ويرزق من لهم من الأعوان والفرسان والرجال، ويكونون عدداً يستظهرون به على ما هم بسبيله على قدر ما يلي كل واحد منهم: من كبر الناحية وصغرها، من قمع ظالم أو ظلم، أو معاند إن عاند، أو أشباه ذلك] .
[ويلزم الإمام الأكبر أهل كل جهة من جهات بلده أن يفد عليه من خيارهم وعلمائهم ووجوه قومهم، ليستخبرهم عن حال الأمير والناس ويكسوهم ويصلهم، على نحو ما كان عليه السلام يفعل، فإذا وفدوا عليه انفرد بهم عن كل من ذكر، ثم ينفرد بوجوه قومهم: واحداً بعد واحد، حتى يقف على الحق من الباطل في أمر الناس وأمور ولاته، وجميع أحوال عماله] .(3/29)
ابن حزم: والذي نختاره للإمام ــــ على كل حال ــــ أن لا يطول مدة أمير بلد، لا سيما البعيدة عنه، أو الثغور [التي فيها القلاع المنيعة والجند الكثير، أو] التي فيها المال الكثير، بل يعجل عزل كل أمير يوليه شيئاً من ذلك، وإن كان عدلاً فاضل السيرة فيوليه الإمام بلداً آخر من بلاده، ليعم بعدله وحسن سيرته ما أمكنه من بلاد رعيته، ويحسم أطماعهم في الرجوع إلى البلاد التي عزلوا منها، ولا يخص بوال أهل بلد ما، وأما سائر البلاد فبخلاف ذلك: لا يعزل عنهم أحد إلا عن جور ظاهر، أو خيانة بينة.
ولا يفتح الإمام باب التشكي بالقضاة، لا سيما من طالبي الترؤس من أهل البلدان فإن شكوا كلفوا تبيين ما شكوا به، فإن فعلوا عزل عنهم وبكت، وإن ظهر تحاملهم عليه عوقبوا بالسجن والإخمال وإسكانهم في غير بلادهم حتى يتوبوا عن طلب الفضول ويقبلوا على شأنهم.
ابن حزم: ينبغي للإمام أن يتخذ خازناً ثقة، عفيفاً، ديناً، ضابطاً: يختزن كل ما يرد على الإمام من الأموال، ولا يخرج منها شيئاً إلا عن علم الإمام أو بكتبه، ويكون له نظار وحراس يحرسون الأموال، لئلا تضيع أو تسرق، حتى توضع موضعها. ويجب على الخازن تصنيف الأموال وترتيبها والكتب عليها وعلى أنواعها والوجوه التي قبضت منها، مفصلاً كل ذلك.
قال: ويتخذ الإمام خازناً للسلاح المستعد، فمن أعطاه الإمام شيئاً من ذلك بالبت أثبت ذكره، وتاريخه باليوم والشهر والعام، وإن أعطاه عارية كتب عليه اسم الذي استعاره، وأخذ برد ما لم يثبت أنه ضاع، فإن اتهم بخيانة لم يعطه الإمام شيئاً بعدها.
قال: ويتخذ الإمام ناظراً على الخيل ، يشرف على إعلافها ونفقاتها وخدامها وتكون كلها مذكورة في زمام بأثمانها وشياتها وسماتها.
قال: وينصب للمواريث التي لا مستحق لها رجلاً أميناً في كل بلد، عالماً بالفرائض وقسمتها: يحصل ما يجب من ذلك في زمام، ويرفع المال إلى الإمام ليضعه حيث وضعه الله عز وجل.(3/30)
ويرزق الإمام من ذكر ما يغنيهم عن الخيانة، ويستغنون به عن سائر الكسب الشاغل لهم عما هم بسبيله من خدمة المسلمين.
(ابن رضوان: الشهب اللامعة. الباب 19).
14 - السجون
ابن حزم: يعهد الإمام إلى من قلده ولاية من الولايات أن يكون لهم سجن ثقيف للدعار ومن تخاف غائلته، وسجن آخر غير ذلك للمستورين المحبوسين في الديون والآداب وأشباهها.
ويتفقد أحوال جميعهم في جميع ذلك.
وسجن للنساء مفرد ، بواباته موثوق بهن، ولو جعل للمستورات المحبوسات في الديون والآداب سجن على حدة من سجن المحبوسات في التهم القبيحة لكان حسناً.
قال: ويجعل الإمام لأهل السجن إماماً يصلي بهم الجمعة والفرائض ويرزقه من بيت مال المسلمين.
(ابن رضوان: الشهب اللامعة. الباب 21).
هذه هي النصوص 14 التي نقلها لنا ابن رضوان في «الشهب اللامعة» عن «كتاب السياسة» لابن حزم. وقد أشرنا إلى ما نقله منها أو أشار إليه ابن الأزرق في (بدائع السلك) إتماماً للفائدة.
وقد وقفنا على نص آخر نقله الشيخ محمد بن عباد الرندي الصوفي الشهير، نزيل فاس ودفينها (733هـ ــــ 1333م ــــ 792هـ ــــ 1390م) أثناء الرسالة السادسة من (الرسائل الصغرى).
15 - شدة حمق من يبذل نفسه فيما لا يعلم!
قال ابن عباد:
... بل من جهل النفس وشدة غباوتها أنها تفعل الأفعال الشاقة لغرض تافه، كالذي يعرض نفسه لمعارك الحرب ومباشرة الطعن والضرب ليثني عليه بالشجاعة والجلادة بعد موته! وهذا جهل عظيم! وأي منفعة للنفس في ذلك بعد الموت؟! وقد تفعل ذلك من غير تصور غرض، ولا تحصيل عوض!! كما قال علي بن حزم في (كتاب السياسة):(3/31)
«وأحمق من هؤلاء قوم شاهدناهم لا يدرون فيما يبذلون أنفسهم، فتارة يقاتلون زيداً عن عمرو وتارة يقاتلون عمراً عن زيد! لعل ذلك يكون في يوم واحد! فيتعرضون للمهالك بلا معنى، فيقتلون إلى النار، أو يفرون إلى العار! وقد أنذر بهؤلاء رسول الله (ص) في قوله: «يأتي على الناس زمان لا يدري القاتل فيم قتل، ولا المقتول فيم قتل!».
(الرسائل الصغرى لابن عباد، نشر الراهب ب. ع. نويا «مجلة المشرق» البيروتية السنة 51 ج 52).
ومما تجدر الإشارة إليه أن الناشر لم يفصل نص ابن حزم من كلام ابن عباد لا بنقطتي التبيين ولا بالهلالين اللذين يحصر بينهما عادة قول القائل، مما يوهم القارىء أن الكلام كله لابن عباد وأنه إنما أشار إلى معنى كلام ابن حزم!.
وقد نقل ابن الأزرق في «بدائع السلك» نصين عن ابن حزم، ولكنه لم يعين الكتاب الذي قالهما فيه ابن حزم هل هو (كتاب السياسة) أو غيره فأضفناهما إلى شذرات (كتاب السياسة).
16 - ما في جميع الناس شر من النمام
قال ابن حزم: «ما في جميع الناس شر من النمام، وإن النميمة لطبع يدل على نتن الأصل ورداءة الطبع، وفساد الطبع (كذا) وخبث النشأة».
(ابن الأزرق: بدائع السلك في طبائع الملك ق 154 ب 155 أ).
17 - خطر النميمة والكذب على المجتمع
قال ابن حزم: «ما هلكت الدول، ولا انتقضت الممالك، ولا سفكت الدماء ظلماً، ولا هتكت الأستار، بغير النمائم والكذب، ولا أكدت البغضاء إلا بهما، ثم لا يحظى صاحبهما إلا بالمقت والخزي والذل!».
(ابن الأزرق: بدائع السلك ق 155 أ).
أبو عبد الله ابن المناصف
المجتهد المغربي
ترجمته، آثاره، منحاه في الاجتهاد
المحاضرة القيمة التي ألقاها الأستاذ السيد محمد إبراهيم الكتاني في تونس بدعوة من اللجنة الثقافية القومية التونسية. وكان لها صدى واسع في الأوساط الثقافية التونسية.
دعاني لاختيار موضوع:
أبي عبد الله ابن المناصف المجتهد المغربي للحديث في هذه المناسبة عدة أسباب:(3/32)
أولها ــــ إن الدعوة الكريمة التي تلقيتها من اللجنة الثقافية القومية بوزارة الشؤون الثقافية لزيارة الجمهورية التونسية الشقيقة والمحاضرة بها، تضمنت ــــ أن من دواعي هذه الدعوة: دعم التعاون الثقافي بين قطرينا الشقيقين، وتلبية رغبات إخواني بتونس الذين يقدرون بالغ التقدير ــــ حسب تعبير الاستدعاء ــــ جهودي في خدمة التراث المغربي بحثاً وتحقيقاً.
وهي في نظري جهود متواضعة جعلتها عين الرضا من إخواني الأكرمين هنا تستحق التقدير.
ولذلك كان من الطبيعي أن يكون الموضوع الذي سأتحدث عنه متصلاً بالتراث.
ثانيها ــــ إن أبا عبد الله ابن المناصف قد حقق صفة المواطن المغربي على أكمل الوجوه، حيث إنه ولد بالمهدية ونشأ ودرس بتونس، وعاش مدة بتلمسان، واستقر أخيراً بمراكش حيث مات وأقبر، وبذلك كان الحديث عنه من خير ما يذكر بوحدة المغرب العربي الكبير التي نتوق إليها ونتطلع لليوم السعيد الذي ستتحقق فيه ونعتقد أن الوحدة الثقافية التي استمرت متحققة في أقاليم المغرب العربي الكبير طوال عهدها الإسلامي العربي من أهم ما يجب العمل الجاد على المحافظة عليه وتنميته والسير به نحو الوحدة المنشودة.
ثالثها ــــ إن الجمهورية التونسية انفردت من بين جميع البلاد العربية والإسلامية ــــ فيما نعلم ــــ بفضيلة السبق إلى تدريس موضوع الاجتهاد والتجديد في التشريع الإسلامي في مادة التربية الإسلامية لقسم الباكالوريا، وهو موضوع حيوي وأساسي في سبيل الانبعاث الإسلامي المنشود، ما برح الدعاة يلحون على ضرورته القصوى على تعاقب الأجيال والقرون. في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.(3/33)
وقد اشتد إلحاح الموضوع بصورة مضاعفة بعد الغزو الاستعماري للبلاد الإسلامية بعد الثورة الصناعية بأوروبا وأمريكا وما صاحبها من انقلابات جذرية في الأوضاع الفكرية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والعلاقات الدولية، الأمر الذي لفت أنظار قادة الفكر الإسلامي الأصيل إلى ضرورة بعث الاجتهاد الإسلامي لمواجهة التطورات الجديدة والضرورات الملحة.
وقد عاش أبو عبد الله ابن المناصف على عهد الدولة الموحدية التي حاربت تقديس الآراء الاجتهادية لمختلف الأئمة، ودعت للرجوع للمنبع الأصلي للتشريع الإسلامي، وهو الكتاب والسنة، وفي هذا الاتجاه سار ابن المناصف، فعرض آراء الأئمة المجتهدين في مختلف المسائل التي تناولها على الكتاب والسنة، ورجح منها ما ظهر له أنه يؤيده الدليل الشرعي، متحرراً من ربقة التقليد والتزام مذهب خاص من مذاهب المجتهدين.
وقد وفقت في هذا الموضوع للعثور على الأثرين المهيمن اللذين خلفهما فكانت هذه خير مناسبة للتحدث عنهما ومحاولة التعرف على الاتجاه الذي سار عليه فيهما، إحياء لذكراه، ولفتاً للأنظار لناحية طريفة من تاريخنا الفكري.
فعسى أن أكون قد وفقت في هذا الاختيار.
* * * ترجمته
أبو عبد الله محمد ابن الفقيه أبي الأصبغ عيسى ابن قاضي الجماعة بقرطبة أبي عبد الله محمد ابن كبير المفتين بقرطبة أبي القاسم أصبغ ابن صاحب الصلاة بالمسجد الجامع بقرطبة أبي عبد الله محمد بن محمد، بن أصبغ، بن عيسى، بن أصبغ، الأزدي عرف بابن المناصف، وابن أصبغ.
ولد بالمهدية في رجب سنة 563هـ ــــ 1168م.
وكان أبوه قد انتقل من قرطبة موطن أسلافه، زمن الفتنة التي عمت الأندلس ضد الدولة المرابطية منذ أوائل سنة 539هـ فتجول في بلاد إفريقيا واستوطن القيروان.(3/34)
وكان روجار الثاني ملك الفرنج النورمان قد احتل ثغر المهدية في صفر سنة 543هـ (يونيه 1148) وفي الثامن عشر من شهر رجب سنة 554هـ 5 غشت 1159 وصل أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي الموحدي إلى المهدية وحاصرها زهاء ستة أشهر، ثم دخلها في صبيحة يوم عاشوراء من المحرم سنة 555هـ (21 يناير 1160).
وقد انتقل أبو الأصبغ عيسى الأزدي إلى سكنى المهدية بعد تحريرها، وإن كنا لا نعرف سنة انتقاله إليها، حيث ولد له أبو عبد الله محمد، وأخوه أبو عمران موسى.
ونشأ أبو عبد الله بتونس فأخذ عن أعلامها. ولكنا لا ندري متى انتقل من المهدية إلى تونس.
ثم انتقل إلى تلمسان حيث أقام كثيراً، متلبساً بعقد الشروط، ولكنا لا ندري متى انتقل إليها.
ثم استقضى ببلنسية، ولكنا كذلك لا ندري متى كان ذلك، غير أن ابن الآبار يذكر أنه لقيه بها سنة ثمان وستمائة.
ثم نقل منها إلى قضاء مرسية في سنة لا نعرفها فاستمرت ولايته القضاء بها كثيراً، مشكور السيرة.
ثم ألزم سكنى قرطبة في سنة لا نعرفها أيضاً، إثر غلظة ظهرت منه في تأديب بعض أهلها، لإفراط حدة كانت فيه ــــ حسب تعبير ابن الآبار وابن عبد الملك المراكشي.
وسيأتي أن ابن المناصف فرغ من نظم أرجوزته (الدرة السنية) بقرطبة في مستهل صفر من سنة أربع عشرة وستمائة.
وذكر ابن سعيد في (المغرب) أنه حج وأقام بمصر قليلاً، وكر راجعاً فمات، ولكنه لم يذكر في أي سنة كان ذلك.
ونحن نجده في ختام معلم السيرة من (الدرة السنية) التي قلنا إنه فرغ من نظمها في صفر سنة أربع عشرة وستمائة يتمنى زيارة القبر الكريم قبل مماته، فيقول مخاطباً الرسول (ص):(3/35)
يا ليتني إذ كنت لما أشهد منك الحياة لا تخار المولد وفاتني عيان ذاك المشهد رزقت من قبل الحمام المرصد زيارة القبر الكريم الأمجد والسعي في عراصه والمسجد ألثم آثار النبي الأسعد! ومهما يكن، فقد استقر أخيراً بمدينة مراكش عاصمة الأمبراطورية الموحدية في تاريخ لم يعينه مترجموه مناوباً أئمة صلاة الفريضة حسبما عند ابن الآبار، وخطيباً بجامع بني عبد المؤمن الأقدم، أي جامع الكتبيين، حسبما عند ابن عبد الملك المراكشي، ولا مانع من أنه كان إماماً وخطيباً في نفس الوقت.
إلى أن توفي بها غداة يوم الأحد لثمان عشرة خلت من شهر ربيع الآخر سنة عشرين وستمائة، الموافق حادي وعشري ماي سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف ميلادية، ودفن خارج باب تاغزوت، وشهد جنازته خلف كثير، وأسفوا لموته، وأثنوا عليه صالحاً رحمه الله.
وهكذا عاش أبو محمد ابن المناصف حياته كلها في ظل الخلافة الموحدية فولد على عهد يوسف بن عبد المؤمن وعاصر خلافة يعقوب المنصور وولده أبي عبد الله محمد الملقب بالناصر لدين الله وقد احتفظ لنا ابن سعيد في المغرب بيت من قصيدة لابن المناصف في مدحه:
دانت لك العرب طوع الحق والعجم وأصبح الدهر عن علياك يبتسم وقد كان ابن المناصف قاضياً ببلنسية في السنة التي محص الله فيها المسلمين في غزوة العقاب.
كما عاصر عهد ولده أبي يعقوب يوسف الذي أشرفت الدولة الموحدية فيه على الهرم، وظهر بنو مرين.
وهكذا نرى أن أبا عبد الله ابن المناصف قد حقق في حياته صفة المواطن المغربي على أكمل الوجوه، فقد ولد بالمهدية، ونشأ بتونس وعاش مدة بتلمسان، واستقر أخيراً بمراكش إلى أن توفي وأقبر بها.
وذلك ما جعل ابن عبد الملك المراكشي يثور ثورة عنيفة ــــ هو فيها على حق ــــ بكل من ابن الآبار الذي ترجمه في الأندلسيين، ضنانة بعلمه على بر العدوة كما قال!(3/36)
وبابن الزبير الذي تبع ابن فرتون السلمي ــــ مع علمه بخطئه! متعللاً بأتباع الشيخ وغيره، وبتأصله الأندلسي وعراقته!
فقال عن ابن الآبار: وقبح الله الحسد المذموم! فقد حمل أبا عبد الله بن الآبار على ذكره في الأندلسيين تشيعاً لهم!
وقال عن ابن الزبير: وتبعيته للشيخ ــــ مع علمه بخطئه ــــ أقبح من الخطأ! مع شدة عنايته بإصلاح أخطائه!
ولا عبرة بالتأصل والعراقة بالنظر إلى ما تقرر الاصطلاح عليه في الغرباء، والله يعصمنا من الزيغ والزلل، ويحمينا من مواقعة الخطأ والخطل!
* * * شيوخه
روى أبو عبد الله بتونس عن أبيه عن جده.
وعن أبي الخطاب عمر بن الحسن المعروف بابن جميل وبابن دحية السبتي نزيل مصر.
وكان قد حدث بتونس عند مروره بها سنة 595.
وتفقه بأبي الحاج يوسف المخزومي ولازمه كثيراً.
وحلاه ابن الآبار في التكملة أثناء ترجمة أبي عبد الله ابن المناصف بقاضي تونس، ولم يحله ابن عبد الملك بذلك.
وترجم ابن الآبار في التكملة (رقم 2080) لأبي الحجاج يوسف بن إسماعيل المخزومي القرطبي، يعرف بابن المرادي وهو من أهل القرن السادس، وقال عنه إنه كان حافظاً للعربية واللغة شديد العناية بها، واستقضى ببعض الكور، ولم يقل إنه كان قاضياً بتونس.
وقال ابن الآبار في ترجمة ابن المناصف: إنه سمع بتونس من أبي عبد الله بن درقة.
وقال ابن عبد الملك إنه تفقه أيضاً بقاضي تونس أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد القحطاني بن أبي درقة.
وقد ترجمه ابن الآبار في التكملة (834 مجريط) وقال إنه قرطبي سكن تونس وولي القضاء بها، وتوفي سنة 595.
وزاد ابن عبد الملك المراكشي أن ابن المناصف تفقه أيضاً بأبي إسحاق الكانمي وتأدب به.(3/37)
وكان أبو إسحاق عالماً بالآداب شاعراً مفلقاً، قدم المغرب قبل الستمائة بيسير، وسكن مراكش، ودخل الأندلس فيما بلغ ابن الآبار، وتوفي بمراكش سنة ثمان أو تسع وستمائة ترجمه ابن الآبار في التكملة، (1/177 القاهرة) وفي تحفة القادم (رقم 71 مجلة المشرق).
ولم يذكر أنه مر بتونس في طريقه إلى مراكش واستقر بها مدة يمكن لابن المناصف فيها أن يتأدب به، كما لم يذكر أنه كان فقيهاً لدرجة يمكن لابن المناصف أن يتفقه به أيضاً.
وزاد ابن عبد الملك ممن تأدب بهم ابن المناصف أبا بكر عتيق بن علي الفصيح، ولم يلقب ابن عبد الملك أحداً ممن اسمه علي بن عتيق بالفصيح، ولا ذكر أن ابن المناصف أخذ عن واحد منهم.
وأخذ ابن المناصف بتلمسان عن أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن التجيبي الأندلسي نزيل سبتة ثم بجاية ثم تلمسان المتوفى بها سنة عشر وستمائة، وكان حافظاً للحديث محافظاً على إسماعه كما قال ابن الآبار.
هؤلاء هم شيوخ ابن المناصف الذين ذكرهم ابن عبد الملك المراكشي وذكر بعضهم ابن الآبار.
* * * مصادر ترجمته
بين يدينا من مصادر ترجمة أبي عبد الله بن المناصف:
1 ــــ ترجمة تلميذه أبي عبد الله محمد بن عبد الله القضاعي المعروف بابن الآبار، في كتابه (التكملة، لكتاب الصلة) (رقم 962 ج 1 ص 325 ــــ 326 طبع مجريط، رقم 1606 ج 2 ص 611 ــــ 612 ط القاهرة).
2 ــــ ترجمة تلميذه أبي الحسن علي بن محمد الرعيني في برنامج شيوخه المسمى كتاب (الإيراد، لنبذة المستفاد، من الروايات والإسناد، بلقاء حملة العلم في البلاد...) ص 128 ــــ 129 ط دمشق.
3 ــــ ترجمة ابن سعيد في (المغرب) ناقلاً عن والده الذي اجتمع بأبي عبد الله ابن المناصف كما اجتمع بأخويه أبي إسحاق إبراهيم، وأبي عمران موسى وذاكرهم (ج 1 ص 105).(3/38)
4 ــــ ترجمة أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الملك الأنصاري الأوسي المراكشي في قسم الغرباء من كتابه (الذيل والتكملة، لكتابي الموصول والصلة) الذي توجد من نصفه الثاني نسخة فريدة في قسم المخطوطات بالخزانة العامة بالرباط تحت رقم (د 3784 ص 121 ــــ 125).
هذه هي التراجم الأصلية التي بين أيدينا، وتعتبر ترجمة ابن الآبار وابن عبد الملك أهم هذه الأربعة، وقد استفاد ابن عبد الملك من ترجمة ابن الآبار وأضاف إليها معلومات كثيرة، وتلافى بعض أخطاء ابن الآبار ونبه على بعضها.
5 ــــ 6 ــــ ترجمة أحمد بابا السوداني في (نيل الابتهاج، بتطريز الديباج) (ص 223 ط فاس ص 228 ــــ 229 ط القاهرة) ناقلاً عن صلة الصلة لابن الزبير، وتحرفت في المطبوع إلى (الرحلة)! كما ترجمه أحمد بابا في (كفاية المحتاج) التي هي اختصار لنيل الابتهاج.
7 ــــ ترجمة محمد بن محمد الأندلسي الوزير السراج، في الحلل السندسية في الأخبار التونسية (ج 1 ص 197) ناقلاً عن أحمد بابا.
8 ــــ ترجمة تقي الدين ابن قاضي شهبة أبي بكر بن أحمد الدمشقي، في الجزء الرابع من تاريخه، (مخطوط) خ ع (شريط رقم 97 عن نسخة في ملك الأستاذ خير الدين الزركلي، ولعلها مبيضة المؤلف وهي ترجمة مختصرة عن ابن الآبار).
9 ــــ ترجمة محمد بن محمد مخلوف التونسي في (شجرة النور الزكية) (رقم 574 ص 177 ــــ 178) معتمداً على ابن الآبار.
10 ــــ ترجمة عباس بن إبراهيم قاضي مراكش في (الإعلام، بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام) (ج 3 ص 95 ــــ 97) ناقلاً عن ابن الآبار وابن عبد الملك وأحمد بابا وفهرسة ابن خير رحلة العبدري وصبح الأعشى ونفح الطيب.
11 ــــ ترجمة خير الدين الزركلي في (الإعلام) ج 7 ص 114.
12 ــــ ترجمة عمر رضا كحالة في (معجم المؤلفين) ج 11 ص 107 ــــ 108.(3/39)
13 ــــ ترجمة كتبها الشيخ عبد الحي الكتاني بأول نسخة من (الدرة السنية) وهي بقسم المخطوطات بالخزانة العامة بالرباط كـ 1075.
14 ــــ ترجمة عبد الله عنان في (عصر المرابطين والموحدين في المغرب والأندلس) ج 2 ص 691 عن ابن الآبار.
تراجم مفقودة
نقل ابن الآبار في ترجمته لابن المناصف عن ابن غالب وابن فرتون ونقل الرعيني عن كتاب أبي الحسن بن القطان في (شيوخه) ونقل ابن سعيد عن أبي العباس بن عمر القرطبي، ونقل ابن عبد الملك عن ابن الزبير.
وذكر ابن عبد الملك من تلامذة ابن المناصف أبا الخطاب محمد بن أحمد بن خليل، وذكر في ترجمته أن له كتاب (التذكرة) ضمنه التعريف بشيوخه وبمداركهم في العلوم وتبيين أحوالهم وكيفية أخذه عنهم، (5 ص 631).
فلا شك أنه ترجم لابن المناصف.
وكل هذه التراجم لم تصلنا.
* * * أقوال مترجميه في حقه
وصفه تلميذه ابن الآبار ــــ الذي لقيه ببلنسية عندما كان قاضياً بها ــــ بأنه (كان عالماً متفنناً نظاراً صاحب استنباط وتدقيق واقفاً على الاتفاق والاختلاف، معللاً مرجحاً).
مع الحظ الوافر من علم اللغة والآداب، والتصرف في قرض الشعر. وأنه (في قضائه) كان ذا سيرة عادلة وأبهة وشارة جميلة، حامد اليد، صليباً في الحق، وكانت فيه حدة مفرطة، وغلظة في تأديبه.
وقال: ولم يكن له علم بالحديث، ولا عناية بالرواية!
وحلاه تلميذه أبو الحسن الرعيني في (برنامج شيوخه) (بالشيخ الفقيه القاضي الجليل) وقال: هو من أهل العلم والفطن والاجتهاد.
(وعنايته بالنظر أغلب عليه من الرواية).
ولعل هذه العبارة أكثر دقة من عبارة ابن الآبار.
وزاد الرعيني (وهو يميل إلى الشافعي في أغلب نظره، ويقطع نفسه رتبة الاجتهاد!)(3/40)
ووصفه ابن عبد الملك المراكشي بأنه: (كان فقيهاً نظاراً، جانحاً إلى الاجتهاد. مائلاً إلى القول بمذهب الشافعي، ناصراً له مناظراً عليه!) وأنه (كان حافظاً للغات، ريان من الآداب شاعراً مجيداً، مرجزاً مطبوعاً، من بيت علم ورياسة فيه، وتنقل في خططه السرية، بارع الخط: يكتب ثلاث عشرة طريقة هو فيها كلها مجيد! وكتب الكثير، وكان مقلاً من الرواية، ضابطاً لما يحدث به، ثقة فيه) وأنه (كان مبرزاً في معرفة الشروط، بصيراً بعللها)، (مشكور السيرة) في قضائه، (من قضاة العدل والجزالة، جميل الهيئة، بهي المنظر، تام المروءة).
(وهو كان خاتمة بيتهم النبيه) (د 7/3784 ص 121 ــــ 125).
ونقل ابن سعيد في (المغرب) عن والده أنه اجتمع ببني المناصف الثلاثة ــــ يعني أبا عبد الله هذا، وأخويه عمران موسى ت 627 بمراكش، إسحاق إبراهيم المتوفى بسجلماسة 627 وذاكرهم وقال عنهم: إنه لم ير منهم إلا نجيباً، لأنه تفنن في العلوم، وولي أكبر خطط القضاء، وإن كان موسى أرق شعراً، فإنه ــــ يعني أبا عبد الله أمتن علماً فيما يتعلق بالأصول والفروع. (ج 1 ص 105 ــــ 106).
* * * آثاره
ولأبي عبد الله ابن المناصف عدة آثار، منها:
1 ــــ أرجوزته الشهيرة، (المذهبة في نظم الصفات، من الحلي والشيات).
ذكر فيها أعضاء الإنسان وصفاتها: من السن، والقامة، واللون والأنف والعين، والحاجب، والوجه، واللحية، والفم، وألوان الشفاه، والأسنان والرأس، والشعر، والأذنين، والأطراف، والمنكبين، وما اتصل بهما، واليدين، والبطن وما والاه، والفخذين، والساقين، والرجلين.
يقول في مقدمتها:
وقلت قولاً ليس بالمدفوع: أن إليها حاجة الجميع من طالب وكاتب وعاقد وشاعر وكل ندب ماجد فإنها عنوان نبل الهمه عناية الكل به مهمه إذ يستعيب ذو الحجا من نفسه إن لا يجيد علم وصف نفسه! ويقول في آخرها:(3/41)
ألفاظها معسولة مستعذبة سميتها من أجل ذاك (المذهبه) تجلو حلاها عند كل واصف وتعتزى إلى بني المناصف! وتقع في 432 بيت.
2 ــــ ثم أضاف إليها (المعقبة، لكتاب (المذهبة)، في الأنعام والظبا وحمر الوحش والنعام):
في قطعة مونقة مرجزة بوزنها وحسنها مميزه تكون ردفاً للحلي المرسومة وتغتدي في سمطها منظومه فيستوي معزاهما في المرتبة ويحتوي عليهما اسم (المذهبه) وتقع (المعقبة) في 568 بيت
قال ابن الآبار: حملت عنه، وسعت كثيراً منه.
وقال ابن سعيد: وله الرجز المشهور بالمغرب في الشيات.
وقال ابن عبد الملك المراكشي: وقفت عليهما بخطه المغربي مجموعين في مجلد واحد وقد خدم (المعقبة) منهما وطور حواشيها بخطه المشرقي.
وذكرها أحمد بابا في نيل الابتهاج وقال إنه نظمه بمراكش في جمادى الأولى عام عشرين وستمائة. وقد لاحظ القاضي عباس بن إبراهيم المراكشي على ذلك أنه مات قبل هذا التاريخ.
وذكر في صبح الأعشى (ج 1 ص 152) أن الكاتب يحتاج إلى معرفة غريب اللغة، وإن (كفاية المتحفظ) لابن الأجدابي والمذهبة والمقتضبة (كذا) لابن أصبغ كافلتان بالكثير من ذلك.
وذكر العبدري في رحلته أنه قرأها بتونس على ابن أبي هريرة ورواها عنه بسنده إلى ناظمها (ص 59 ــــ 60).
كما ذكرها إسماعيل باشا البغدادي في هدية العارفين (ج 2 ص 109).
وقال القاضي عباس بن إبراهيم المراكشي أن هذه المنظومة في ملكه في مجموع بخط اليد اشتملت على 33 ورقة من مسطرة 16. وقد آلت هذه النسخة إلى قسم المخطوطات بالخزانة العامة بالرباط تحت رقم د 4/3748.
كما توجد منها بقسم المخطوطات نسخة أخرى تحت رقم د 1/1725 من ورقة 1 ب إلى 17 ــــ ب ولكن الناسخ حذف منها 348 بيت!
وذكرها بروكلمان في تاريخ الأدب العربي ج 1 ص 497 وفي الذيل 1 910 وإنها توجد ببرلين، والأسكوريال وهذه مؤرخة بسنة 614 عن خط الناظم. ومنها نسخة في مكتبة نيل بالولايات المتحدة تحت رقم 238 كتبت سنة 621.(3/42)
وذكر الأستاذ محمد المنوني في كتابه (العلوم والآداب والفنون) على عهد الموحدين (ص 61) أنها نشرت كاملة ضمن التقويم الجزائري لسنة 1330هـ ــــ 1912م فيما بين ص 73 ــــ 122.
3 ــــ (فصل السلم) استدركه على (كتاب التلقين) في الفقه المالكي للقاضي عبد الوهاب البغدادي.
قال ابن عبد الملك المراكشي: وكان ابن المناصف شديد العناية بكتاب التلقين، جيد النظر في فقهه وتبيين غوامضه.
وقد أورد ابن عبد الملك فصل السلم المذكور أثناء ترجمة ابن المناصف وقال: أوردنا هذا الفصل هنا ــــ وإن لم يكن من شرط الكتاب ــــ لغزارته وللإفادة به، ولندل على جلالة محرره، وتمكن معرفته، وبراعة تصرفه.
4 ــــ تنبيه الحكام، في الأحكام.
جمع فيه مؤلفه ــــ كما في (برنامج المكتبة الصادقية) (ج 4 ص 283 رقم 2440/648 طبع تونس 1329هـ) ــــ ما يحتاج إليه في مسائل القضاء على وجه الاختصار، وفيه خمسة أبواب:
في سيرة القضاء، وفي قبول الشهادات، وفي تلقي كتب القضاة وفي تنفيذ الأحكام، وفي الحسبة على تغيير المناكر.
نسخة بخط مغربي تقع في 106 أوراق. وذكره بروكلمان في الذيل 1/910.
ولعله الذي سماه ابن الآبار كتاب الأحكام.
ولعله الذي ينقل عنه فقهاء المالكية في كتب وأبواب فقه القضاء، مثل المسائل التي نقلها عن المناصف أبو عبد الله بن غازي الفاسي في تكميل التقييد وتحليل التعقيد، ونقلها عنه الشيخ ميارة الفاسي في شرح تحفة ابن عاصم أوائل فصل في خطاب القضاة، ج 1 ص 42 ــــ 44، وراجع أيضاً ص 65 من نفس الجزء.
وراجع أيضاً حاشية أبي علي بن رحال المغربي بالهامش ص 243.
ونقل عنده إبراهيم بن فرحون في (تبصرة الحكام، في أصول الأقضية ومناهج الأحكام) حوالي 12 مرة. وسماه في إحداها (تنبيه الحكام على مأخذ الأحكام) 1 ــــ 182.(3/43)
ثم إني وقفت منه على ثلاث نسخ بتونس اثنتان بدار الكتب القومية تحت رقم 8241، ورقم 8892 وهذه كتبت سنة خمس وأربعين وثمانمائة، وقد أخذت من هذه شريطاً لقسم المخطوطات بالخزانة العامة بالرباط.
والنسخة الثالثة في مكتبة صديقنا العلامة الشيخ الشادلي النيفر حفظه الله.
والكتاب في فقه القضاء على المذهب المالكي، ليس فيه شيء من النزعة الاجتهادية التي في مؤلفات ابن المناصف الأخرى، وهو في حاجة إلى دراسة خاصة.
ثم علمت أن في مكتبة جامع القرويين المعظم بفاس مخطوطاً اسمه المختصر في فقه القضاء لابن المناصف ويحمل رقم ل 80/588 فلعله هو.
5 ــــ 8 ــــ وأرجوزته (الدرة السنية، في المعالم السنية) وهي في أربعة معالم.
المعلم الأول في العقائد، عرف فيه بكلمات دينية كالإيمان والإسلام والكافر، والمنافق، والزنديق، والملحد، والفاسق، والظالم، والفاجر، وتأويل بعض الكلمات الواردة في الشرق تشكل ظواهرها، وشرح الألقاب الواقعة على أهل البدع، كالمرجئة والقدرية، والمعتزلة، والرافضة، والخوارج.
المعلم الثاني في متعلق النكث الأصولية، ومجاري الأدلة الشرعية.
وكتاب المعلم الثالث في مقتضى الألقاب الفقهية، والمسائل الفروعية.
وكتاب المعلم الرابع في السيرة النبوية والأعلام المصطفوية.
وهي في أزيد من سبعة آلاف بيت، نظمها في قرطبة وختمها مستهل شهر صفر من سنة أربع عشرة وستمائة. نسبها له ابن الآبار وابن عبد الملك وحاجي خليفة في كشف الظنون 740 والبغدادي في هدية العارفين ج 2 ص 109 وقال إنها في الفروع والأدلة والشرعية. وابن سعيد في (المغرب) ناقلاً عن المحدث أبي العباس بن عمر القرطبي، وقد ذكر الرحالة المغربي أبو سالم العياشي في (رحلته) أنه رأى بمكة المشرفة السفر التاسع من كتاب (منتهى السول، في مدح الرسول) لمحمد بن أبي القاسم بن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، مؤرخ بربيع الآخر عام ثلاث وسبعين وستمائة.(3/44)
ومن جملة ما في هذا السفر (المعلم الرابع من كتاب الدرة السنية) هذه.
وتوجد من الدرة السنية في قسم المخطوطات بالخزانة العامة نسخة ضمن مجموع يحمل رقم كـ 1/1075 وتقع في 441 ص مسطرتها 17 ويظهر أن فيها نقصاً قبل (باب في الحدود) وهي بخط مغربي وسط وبها كثير من التحريف والتصحيف.
كما توجد نسخة بمكتبة الجامع الكبير بمكناس تحت رقم 404 في 180 ورقة وقد فتكت بها الأرضة فتكاً ذريعاً ويتخللها هي الأخرى نقص، وربما تممت إحداهما الأخرى ومنها شريط مصور في قسم المخطوطات بالخزانة العامة تحت رقم 1254.
كما توجد عدة شذرات منها بمكتبة القرويين بفاس بخط أندلسي تحت رقم 2648.
وقد وقفت في دار الكتب القومية بتونس على:
النكت الأصولية، ومجاري الأدلة الشرعية تحت رقم 998 في 73 ورقة بخط محمد المنوبي الغراتي غرة شوال 1326 وكتاب السيرة والأعلام المحمدية.
تحت رقم 234 في 58 ورقة. بخط المنوبي الغراتي في رمضان 1326.
ولم يذكر بروكلمان (الدرة السنية).
* * * المعلم الرابع من (الدرة السنية) في السيرة النبوية
وسنتحدث فيما بعد عن المعلمين الثاني والثالث عند ذكر آرائه الأصولية والفقهية. ولعل الصورة تبقى ناقصة إذا لم نقل كلمة عن معلم السيرة النبوية من (الدرة السنية).
فابن المناصف يرى أن معرفة حوادث السيرة النبوية تلي في الأهمية معرفة كتاب الله.
وإن أولى ما تحلى المسلم بعد كتاب الله إذ يقوم علم بأيام رسول الله من لدن النشيء إلى التناهي وحفظ ما يحق إن لا يجهلا من أمره وحاله مفصلا وجعله هذا الموضوع قريناً للعقائد والأصول والفقه أمر له دلالته الخاصة.
وهو عظيم الحب لرسول الله لا يترك فرصة سانحة تمر دون أن يعبر عما تمتلئ به نفسه من هذا الحب والإجلال وبذلك يبتدىء هذا المعلم بعد الخطبة:(3/45)
حُب رسول الله فرض أول به ندين وبه التوسل نجله نكبره نعززه نفديه بالآباء حين نذكره وبالبنين وحياة الأنفس محله أعلى المحل الأنفس به هدانا الله ذو الجلال من العمي وظلم الضلال وعندما يذكر بعثة رسول الله يقول:
نشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسوله اصطفاه نؤمن بالله الكريم المجمل وبالرسول والكتاب المنزل ونرتجي فضل الذي به هدى أن يحفظ الدين علينا أبدا وعندما ذكر غزوة أحد قال:
يا ليت أنا قد شهدنا المجلسا نبذل من دون النبي الأنفسا فإن نغب عن نصرة الرسول إذ لم نكن من أهل ذاك الجيل فنشهد الله على البدار بالعز والتأميل والإقرار ويبلغ به التأثر منتهاه عندما يصل إلى ذكر شكوى رسول الله (ص)، وما اختار الله تعالى له من كرامته، والنقل إلى جناته فينظم سبعة وعشرين بيتاً يرثي فيها رسول الله ويندب حظ المسلمين بفقده ويختمها بقوله:
حب رسول الله أعلا عددي خالط لحمي وارتقى في كبدي يا رب حبا في رضاك فاشهد واختم لي اللهم ربي وزد بحبه وحسن عقبي المقتدى واجعل لي النجاة يوم الموعد ويعبر عن هذا الحب في كل مناسبة، فيقول عند ذكر موت أبي طالب:
مات أبو طالب المناضح عن النبي أبدا والناصح ويقول:
ثم أبو طالب المحمود بحبه النبي لا أزيد! ويعبر عن عواطفه نحو فاطمة الزهراء البتول بنت رسول الله وولديها الحسنين ريحانتي الرسول وأبيهما علي بن أبي طالب الذي يهتم بتعداد فضائله وبطولاته من غير أن يعتبره وصياً أو معصوماً أو أحق بالخلافة من أبي بكر وعمر كما يشيد بنصرة الأنصار لرسول الله.
وهو يهتم بأخبار الرسول وتفاصيل أحواله ويشيد بكمالاته الخلقية ومزايا الدعوة الإسلامية ولا يقتصر فقط على ذكر المعجزات والخوارق والغيبيات.
9 ــــ (مقالة في الإيمان اللازمة).
نسبها له ابن عبد الملك المراكشي أثناء ترجمته له.
10 ــــ قصيدة ختم آخر كل شطر من أشطار أبياتها بكلمة (العجوز) مستعملاً كل مرة في معنى من معانيه غير المعنى السابق.(3/46)
ذكر الشيخ مرتضى الزبيدي في (تاج العروس) عن شيخه العلامة ابن الطيب الشرقي الفاسي، أنه كان رآها، ووصفها بالانسجام وكثرة الفوائد.
ثم أورد في (التاج) البيتين الأولين منها، ثم قال: من أدركها فليلحقها. (ج 4 ص 52 مادة عجز).
11 ــــ كتاب (الإنجاد، في أبواب الجهاد، وتفصيل فرائضه وسننه وذكر جمل من آدابه، ولواحق أحكامه).
ذكر المؤلف في مقدمته أنه ألفه استجابة لاقتراح الأمير المجاهد في سبيل الله، أبي عبد الله بن أبي حفص، ابن أمير المؤمنين، يعني عبد المؤمن بن علي الموحدي.
وذكر ابن عبد الملك المراكشي في (الذيل والتكملة)، إن ذلك كان أيام ولاية أبي عبد الله بن أبي حفص ببلنسية وابن المناصف قاض بها.
ونحن نعلم أن أبا عبد الله ولى بلنسية سنة خمس وستمائة لابن عمه أمير المؤمنين الناصر لدين الله بن المنصور الموحدي، الذي جرت بينه وبين الإسبانيين حروب عديدة منها غزوة العقاب التي انهزم فيها هزيمة شنيعة في خامس عشر صفر تسع وستمائة.
وذكر ابن الآبار في (التكملة) أنه لقي المؤلف في بلنسية عندما كان قاضياً بها واستجازه فأجاز له لثلاث بقين من جمادى الآخرة سنة ثمان وستمائة.
ذكره ابن الآبار، وقال إنه ظهر فيه علمه وبان تقدمه.
وقال أبو الحسن الرعيني في (برنامج شيوخه): وكتابه في الجهاد من أجل الموضوعات، نفعه الله به.
وذكر أن ابن المناصف أهداه إلى تلميذه المحدث الناقد أبي الحسن بن القطان، وحمَّله إياه.
وقال بعد ذكره وذكر (المذهبة) و(المعقبة): وكل ذلك مما برز فيه، وأبان به عن معرفته ورسوخه.
وقال عنده ابن عبد اللمك المراكشي: وهو مما ظهر فيه حسن اختياره. وجودة نظره، وصحة فقهه واستنباطه، وقفت منه على نسختين بخطه المشرقي.
وقال عنه أحمد بابا: وهو كتاب مفيد، استوعب فيه فقه الجهاد، مع حسن اختياره، وإتقان تأليفه، لم يؤلف في بابه مثله.(3/47)
وذكر عبد العزيز الملزوزي في (نظم السلوك) أن كتاب (الإنجاد) كان من بين الكتب التي كان يدرسها أمير المسلمين أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني ــــ الذي ملك فيما بين سنة سبع وخمسين وستمائة وسنة خمس وثمانين وستمائة. ــــ حيث قال (ص 77 ــــ 78):
يقرأ أولاً كتاب السير والقصص الآتي بكل خبر ثم (فتوح الشام) باجتهاد وبعده المعروف (بالإنجاد) وقد ورد البيتان في (الأنيس المطرب بروض القرطاس) فاس ص 215 وفي (الذخيرة السنية) ص 101.
وفي القرن الحادي عشر الهجري (17 م) نجد كتاب (الإنجاد) من بين مصادر كتاب (فلك السعادة، الدائر بفضل الجهاد والشهادة) الذي ألفه للحض على تحرير سبتة ومليلية وغيرهما من المدن التي كانت محتلة من المغرب، العالم الفقيه المتفنن الصالح المصنف أبو محمد عبد الهادي بن عبد الله بن علي بن طاهر الحسني السجلماسي نزيل المدينة المنورة ودفينها، ولكنه لم يسم الكتاب وإنما اكتفى بالنقل عن مؤلفه.
ولم يذكره صاحب كشف الظنون ولا البغدادي في ذيليه (إيضاح المكنون) و(هدية العارفين) كما لم يذكره بروكلمان.
وقد طال بحثي عن كتاب (الإنجاد) سنوات عديدة، إلى أن عثرت على نسخة منه في حالة سيئة بمكتبة ابن يوسف بمراكش، وهي النسخة الفريدة المعروفة منه لحد الآن ــــ فأحضرتها لقسم المخطوطات بالخزانة العامة بالرباط حيث وقع ترميمها وتجليدها وأخذ صورة منها على الشريط، ثم أرجعتها إلى مكتبة ابن يوسف بمراكش حيث هي الآن.
وتقع هذه النسخة في خمس وخمسين ومائة ورقة من الحجم الكبير، بخط مغربي جميل.
وهي نسخة أمر بنسخها الخليفة الإمام الواثق بالله المعتمد عليه، أمير المؤمنين أبو العلاء، ابن الأمير المجاهد في سبيل الله أبي عبد الله ابن المجاهد في سبيل الله أبي حفص، ابن الخليفة الإمام أمير المؤمنين.
وكان كمالها في عاشر جمادى الأولى، وأكلت الأرضة بقية التاريخ.(3/48)
وأبو العلاء هذا هو إدريس المعروف بأبي دبوس، آخر ملوك الموحدين، الذي ملك مراكش من المحرم سنة خمس وستين وستمائة، إلى المحرم سنة ثمان وستين وستمائة.
وهو ولد أبي عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن، الذي أشار على أبي عبدالله بن المناصف بتأليف الكتاب.
وعلى أول النسخة تحبيس يظهر أنه مريني على المدرسة بقصبة مراكش، وتحبيس على ضريح أبي العباس السبتي مؤرخ برابع وعشرين جمادى الآخرة عام ثمانية وخمسين ومائة وألف.
وكان الشيخ عبد الحي الكتاني قد وقف على هذه النسخة بالخزانة العباسية، قبل نقلها لمكتبة ابن يوسف، حسبما ذكره في الترجمة التي كتبها لابن المناصف أول نسخته من (الدرة السنية) قال: ولم أره بغيرها.
موضوعاته
وقد تكلم فيه على حد الجهاد ووجوبه، وتفصيل أحكامه، وحكم الهجرة. وعلى فضائل الجهاد، والرباط والنفقة في سبيل الله، وما جاء في طلب الشهادة.
وعلى شرط صحة الجهاد، وما يحق فيه من طاعة الإمام ومياسرة الرفقاء، وما جاء في آداب الحروب، والدعوة إلى القتال.
وعلى وجوب الثبوت والصبر عند اللقاء وحكم المبارزة، وما يحرم من الانهزام، وهل يباح الفرار إذا كثر عدد الكفار؟
وعلى ما يجب وما يجوز أو يحرم من النكاية في العدو والنيل منهم، ومعرفة أحكام الأسرى والتصرف فيهم.
وعلى الأمان وحكمه، وما يلزم من الوفاء به، والفرق بينه وبين مواقع الخديعة في الحرب، وهل تجوز المهادنة والصلح.
وعلى الغنائم وأحكامها، ووجه القسم، ومن يستحق الإسهام؟ وبم يستحق؟ وسهمان الخيل؟ وما جاء في تحريم الغلول.
وعلى النفل والسلب، وأحكام الفيء والخمس. ووجوه مصارفهما وتفصيل أحكام الأموال المستولى عليها من الكفار.
وعلى حكم ضرب الجزية، وشرط قبولها، وممن يحق أن تقبل من أصناف الكفر؟ ومقاديرها على الرؤوس وما يجب لأهلها وعليهم.
وعلى المرتدين، والمحاربين، وقتال أهل البغي، وتفصيل أحكامهم وذكر ما يتعلق بجناياتهم، ويلزم من عقوباتهم.(3/49)
ويتجلى من هذا العرض أن هذه الموضوعات التي تناولها المؤلف تتصل:
بالعلوم القرآنية: من تفسير، وأسباب نزول، وناسخ ومنسوخ وفقه القرآن.
وبالعلوم الحديثية: من نصوص الأحاديث ومخرجيها، وتأويل مختلف الحديث، وفقه الحديث، وفضائل الأعمال، والوعظ والإرشاد.
وبالدراسات الفقهية: من أصول الفقه، والخلاف العالي المعبر عنه بالفقه المقارن، والقانون الدولي، العام والخاص، والقانون العسكري، والمالي.
ونسب له خير الدين الزركلي في (الأعلام) (7 ــــ 114) كتاباً في أصول الدين.
وآخر في السيرة النبوية.
ويظهر أنهما قسمان من (الدرة السنية) السابقة الذكر.
ونقل القاضي عباس بن إبراهيم المراكشي في (الإعلام) بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام (ج 3 ص 97) عن نفح الطيب قول ابن مسدي:
أملى علينا ابن المناصف النحوي بدائية، على قول سيبويه: (هذا باب ما الكلم العربية) عشرين كراساً، بسط القول فيها في مائة وثلاثين وجهاً.
متوهماً أن المراد أبو عبد الله، مع أن ابن المناصف النحوي هو أخوه أبو إسحاق إبراهيم، وهو الذي كان قاضياً بدانية، وتوفي قاضياً بسجلماسة.
وقد ترجمه ابن الآبار والسيوطي في (بغية الوعاة) (ص 185) ونسب له العشرين كراساً المذكورة.
ومن الغريب أن عباس بن إبراهيم ترجم لأبي إسحاق هذا في الجزء السادس الذي ما يزال مخطوطاً من (الإعلام) (ص 264 نسخة خاصة) ناقلاً عن ابن الآبار، ولم يسمه بابن المناصف، ولم يشر إلى أنه أخو أبي عبد الله، كما لم ينسب له العشرين كراساً!.
هذا وقد روى أبو عبد الله محمد بن عبد الملك القيسي المنتوري المتوفى سنة 834 في (برنامج مروياته) تآليف القاضي أبي عبد الله محمد بن عيسى بن أصبغ بن المناصف الأزدي القرطبي ومنظوماته بسنده إلى مؤلفها.…(3/50)
الحالة الفقهية على عهد ابن المناصف
وقبل بيان منهجه في (الإنجاد) و(الدرة السنية) وإيراد أمثلة في اختيارات المؤلف الأصولية والفقهية نشير إلى الحالة الفقهية في عصره.
فمن المعلوم أن الغرب الإسلامي، في المغارب الأدنى والأوسط والأقصى وما والاها من الصحراء الكبرى وما يقع جنوبها من الأقطار الإسلامية وإلى الأندلس كلها، قد تمسك فقهاؤه وقادة الرأي فينه بالمذهب المالكي ونبذوا ما عداه من مذاهب الفقهاء المسلمين من سنيين ومبتدعين، وخاضوا معارك فكرية عنيفة في هذا السبيل ضد السلطة القائمة أحياناً، ومعها وبتأييدها أحياناً أخرى.
وقد قامت الدولة الموحدية ــــ التي ولد المؤلف ونشأ وعاش في عهدها ــــ على أساس الدعوة إلى العمل بالحديث النبوي ومحاربة فقه الرأي، والتقليد المذهبي، وفي عهد المؤلف أحرق الموحدون كتب الفقه المالكي، وامتحنوا فقهاء المالكية واضطهدوا بعضهم، ويقال إن خلفاء الموحدين كانوا يتجهون، في نطاق العمل بالحديث ومحاربة الرأي اتجاهاً ظاهرياً حزمياً، وقد عرفت هذه المنطقة على عهدهم جماعة من المحدثين الظاهريين.
ذكرت منهم في كتابي (طبقات المجتهدين وأعداء التقليد في الإسلام) ممن عاصروا ابن المناصف ممن هم أكبر منه سناً أو أصغر حوالي ثلاثين شخصاً.
منهم أمير المؤمنين أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن الموحدي (ت 550هـ) صاحب المحادثة الشهيرة مع أبي بكر ابن الجد، التي أوردها عبد الواحد المراكشي في المعجب. والتي قال فيها لابن الجد: والله ليس إلا هذا، وأشار إلى المصحف، أو هذا، وأشار إلى سنن أبي داود، أو السيف!
وولده أمير المؤمنين أبو يوسف يعقوب المنصور بالله (ت 595) الذي أمر برفض فروع الفقه، وإحراق كتب المذاهب، وأن الفقهاء لا يفتون إلا من الكتاب والسنة النبوية، ولا يقلدون أحداً من الأئمة المجتهدين بل تكون أحكامهم بما يؤدي إليه اجتهادهم من استنباطهم القضايا من الكتاب والحديث والإجماع والقياس.(4/1)
وامتحن جماعة من الفقهاء اتهموا بإقراء الفروع منهم أبو بكر الجياني محمد بن علي بن خلف التجيبي الإشبيلي (ت 596هـ) الذي سجن وكاد يقتل صبراً. كما سجن وأخيف أبو الحسين بن زرقون محمد بن محمد بن سعيد الإشبيلي (ت 621هـ) واختفى أبو محمد عبد الكبير ابن أبي بكر محمد بن عيسى بن محمد بن بقي الغافقي.
وليعقوب المنصور فتاوى مجموعة حسبما أداه إليه اجتهاده.
ومنهم أبو الوليد بن عفير: سعد السعود بن أحمد الأموي اللبلي المحدث الحافظ (ت 588هـ له كتاب حفيل في السنن سماه (السبيل).
ومنهم قاضي القضاة أحمد بن عبد الرحمن بن مضاء اللخمي القرطبي (ت 592هـ) صاحب (الرد على النحويين).
وقاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مروان التلمساني (ت 601هـ) الذي مدح المنصور بقطعة. يقول فيها:
قطعتم فروعاً قد أضرت بأصلها!
إلا هكذا من كان بالعدل يشمل
والقاضي أبو محمد ابن حوط الله عبد الله بن سليمان الأنصاري (ت 612هـ: القائل):
عليك كتاب الله والسنن التي رواها رسول الله والعدل فالعدل هما الحق والبرهان والنور والهدى فما لهما عدل ولا عنهما عدل ودع عنك آراء الرجال فما لمشتر يها بدين الله صرف ولا عدل! والقاضي أبو الحسن ابن خطاب علي بن عبد الله المعافري الإشبيلي (ت 629هـ).
وأبو العباس ابن الرومية النباتي أحمد بن محمد الأموي الإشبيلي المحدث الحافظ صاحب المؤلفات العديدة (ت 637هـ).
وأبو علي الزبار: عمر بن أحمد الأنصاري الطرياني (ت 637هـ) اختصر صحيح مسلم وأضاف إليه زيادات البخاري.
وأبو بكر ابن سيد الناس اليعمري محمد بن أحمد الإشبيلي دفين تونس (659هـ).(4/2)
وقد عرف الفكر الإسلامي وخصوصاً في الغرب الإسلامي صراعاً عنيفاً حول الأشخاص، فقد كان مقلدة المالكية يركزون على (مناقب) الإمام مالك مثلاً وأحقية مذهبه بالاتباع، مع التأكيد على أن الأمر قد استقر على التزام (تقليد) مذاهب معينة لا مجال للتفكير في الخروج عنها أو مخالفتها، وإنما المجال الوحيد الباقي هو المفاضلة بينها والنتيجة المحتومة التي لا محيد عنها لهذه المقارنة هي أفضلية (المذهب المالكي وأحقيته وحده) (بالتقليد) والاتباع، مثل ما نجد عند القاضي عياض في مقدمة (ترتيب المدارك)، بينما كان أعداء التقليد المذهبي من أنصار الحديث مثل عبد الله بن حزم وأتباعه ينكرون ادعاء القول بعصمة أحد غير الأنبياء كائناً من كان، ويلحون على تكامل الفكر الإسلامي السني وإمكانية إصابة أي مجتهد أو خطئه ولذلك كان كثير من فقهاء المالكية يغالون في الطعن في ابن حزم والنيل منه في إقذاع وفحش متناهيين في كثير من الأحيان، بينما يغلو بعض أنصار ابن حزم من جهتهم في تقديسه وتعظيمه، وكانت هذه المعركة على أشدها على عهد ابن المناصف.
وقد درس ابن المناصف فقه الرأي المالكي على أعلامه، حتى صار مبرزاً في معرفة الشروط، بصيراً بعللها، وكان شديد العناية بكتابة التلقين جيد النظر في فقهه، وتبيين غوامضه، كما قدمنا.
كما روى الحديث عن أعلامه، ومن بينهم أبو الخطاب ابن (دحية الظاهري).
آراؤه الأصولية والفقهية
وفي ضوء هذا الجو الفكري الذي نشأ فيه ابن المناصف وتعلم وتكون، نحاول التعرف على آرائه الخاصة.
ولما كانت الاختيارات الفقهية نتيجة لاختيارات أصولية سابقة، فمن الضروري التعرف أولاً على بعض اختياراته الأصولية التي نجدها في المعلم الثاني من (الدرة السنية).
1 ــــ فخبر الآحاد ــــ وإن كان لا يفيد علماً ضرورياً ــــ فإن الله تعبد العباد به، خلافاً لمن أحال التعبد به عقلاً، ولمن منع التعبد به شرعاً.(4/3)
2 ــــ والإجماع حجة قطعية، بظواهر الآيات الكثيرة، والأحاديث المتواترة المعنى.
3 ــــ ولا يقدح في الإجماع خلال المبتدع الكافر ببدعته، أما إذا كانت بدعته لا تؤدي به إلى الكفر، فخلافه قادح في الإجماع.
4 ــــ وذهب داود وأهل الظاهر إلى امتناع إجماع غير الصحابة ومذهب الجمهور جوازه في كل عصر:
لكنه يعود كالمظنون أما الصحابة فنص قاطع إجماعهم حقاً ولا منازع 5 ــــ وإذا اختلف المجتهدون في مسألة على قولين فلا يجوز إحداث قول ثالث، خلافاً لبعض شذاد الظاهرية.
6 ــــ وإذا لم يجد المجتهد دليلاً من قرآن أو سنة أو إجماع اعتمد البراءة الأصلية.
7 ــــ وقول الصحابي غير حجة.
8 ــــ وقال قوم باتباع المصلحة التي راعاها الشرع في حفظ الدين والأنفس والعقول والأموال.
وبعدما أورد عدة أمثلة قال: إن بعضها يمكن تسليمه، وبعضها لا يحسن.
ولكنه عاد فقال: إن الصحيح منع كل ما لا يشهد له دليل الشرع بالتعيين، وهو القرآن والسنة والإجماع.
8 ــــ ويعزي للنعمان القول بالاستحسان.
وأنه يقضي به في حال وذاك قول ظاهر المحال ... وليس الاستحسان أصلاً فاعلم ولا له في الشرع من ترسم! 9 ــــ وينكر اعتبار العرف والعادة:
إذ لا اعتبار في خطاب الشرع بعادة في الرفع أو في الوضع! 10 ــــ وصيغة الأمر تدل على الوجوب، إلا إن وقع النص على أنها للندب فتصرف إذا ذاك عن الوجوب، وذلك ما تدل عليه الروايات المستفيضة عن الصحابة، وعليه جمهور الفقهاء.
وقال قوم: إنها تدل على الوجوب بالوضع أيضاً، وقال آخرون: لا تدل على الوجوب لا بالشرع ولا بالوضع!
والمرتضى عندي هنا في الشأن وجوبه بالشرع لا اللسان 11 ــــ وبعدما حكي مذهبين في تعيين اللفظ المشترك في معنييه أو معانيه قال:
والمذهبان في محل النظر والبحث للمجتهد المعتبر 12 ــــ وأقل الجمع ثلاثة، وقد يستعمل في الاثنين مجازاً ووهم من قال: أقل الجمع اثنان.(4/4)
وإنما زل عن الصواب من لم يمارس صنعة الإعراب! 13 ــــ والمفهوم، أو دليل الخطاب، وهو الذي يفهم نفي الحكم عما عدى الموصوف، كقوله تعالى: { _ . ف ق } ]المائدة: 95[ ، فتخصيص العمد هل يدل على نفي الحكم عما عداه!
وبعدما ذكر أن الصحيح أنه ليس بدليل، عاد فذكر أن الناس اختلفوا في ذلك على ثلاث فرق: مثبت وناف، ومفصل، وقال: إن التفصيل هو الأرجح عند النظر، وهو على أربعة مراتب:
الأولى: ما يستبعد مفهومه، كالتعمد في قتل الصيد، وقد قال بالمفهوم في هذه جماعة من كبار الأئمة كمالك والشافعي.
وقال قوم منهم القاضي أبو بكر بن الطيب (الباقلاني) وابن شريح: أن ذكر الوصف لا يقتضي نفي الحكم عن غيره.
وهو الذي يبدو له الترجيح والمسلك المحقق الصحيح الثانية: الشرط، وقد ذهب شريح إلى اعتباره، وذهب القاضي لرفضه: وهو الأصح في طريق العلم!
الثالثة: الحصر بإنما والألف واللام، وقد أثبته قوم ونفاه آخرون وفصل القاضي أبو بكر بن الطيب فأنكره في الألف واللام، وقال في إنما: إنها ظاهرة في الحصر، محتملة للتأكيد.
ومذهب القاضي إلينا أعجب.
14 ــــ 15 ــــ القياس والاجتهاد
وقد كانت المعركة عنيفة بين أهل الحديث وأهل الرأي وخصوصاً على عهد الموحدين، حول إثبات القياس واعتباره دليلاً شرعياً، أو إنكاره، وحول الاجتهاد أو تقليد مذهب معين.
ولذلك كان من المهم التعرف على موقف ابن المناصف من المسألتين: فأما القياس فإنه عقد باباً لدلالة الألفاظ من حيث المعنى والمعقول وهو المعبر عنه بالقياس، ابتدأه بالدعاء للقارىء ليبصر الحق ويتبعه ثم يستعيذ بالله من التقليد بغير برهان، فهو الذي يورط الإنسان في عمليات الخطأ.
نعوذ بالله من التقليد بغير برهان ولا تسديد ... وطالما استمر خبط الناس في المسلك المعروف بالقياس واختلفوا فيه اختلافاً طبق الآفاق، ما بين ناف ومثبت: ففرقة تزعمه واجباً شرعياً قطعياً أو تضيف إلى ذلك وجوبه عقلاً أو تدعي الإجماع عليه نقلاً.(4/5)
وأخرى تنفيه نفياً قطعياً بالعقل أو بالسمع، ويعقب:
وهو كلا القولين في الإفراط جد غلو واجب الإسقاط! فالعقل لا يستقل بالحكم بالإثبات أو النفي، وكل ما يستطيعه أن يجوز إمكانه إن ورد نص عن الشارع.
ولا سبيل إلى ادعاء القطع في المنقول.
كما لا تثبت دعوى الإجماع، فالنقول مشتهرة باختلاف الصحابة في ذلك، وإنكار هذا إنكار للمحسوس، ولا سبيل لتأويل ما ورد عنهم من الخلاف، ولا مجال لرد خلافهم إلى وفاق، وكل ادعاء للإجماع على تأويل ما ورد عنهم فهو ادعاء باطل بالقطع.
فبان الأقطع في الوجهين في الدعويين من كلا الصنفين فهو إذا في مسلك الإنصاف ليس بأصل قاطع الأوصاف حتى يعد رابعاً في الباب لأصلي السنة والكتاب وتلوها المرسوم بالإجماع بل هو في الدعوى إلى امتناع كلا، ولا يكون قطعاً يبطل لكن له حال عليها يحمل ... ثم كلا القولين باتصاف فممكن: من مثبت وناف من غير مالوم ولا تحريم في جهتي ذاك على التصميم فمثل هذا عندنا يحتمل أن يثبت القول به والعمل بل هكذا إن افتقدت تجد نهج الصحابة فقل واجد لأنهم لم يحكموا بالفسق في أحد الوجهين عند الفرق إذ لو بدا فيه الدليل القاطع لكان في الخلاف فسق واقع وعندما تصفح الآثار في ذاك والكشف والاعتبار تعلم كالقاطع في البيان إن على ذاك مدار الشأن ثم تصدى لذكر مسالك العلة، فقسمها إلى أربعة أقسام.
منها جلي واضح لا يعتري فيه على الإنصاف أمر نمتري ... منقسم نوعين في التفصيل كلاهما متضح السبيل فالأول الجاري على استعمال عرف اللسان مثل الحديث الوارد في تحريم غلول المخيط، فلا شك أن معناه تحريم غلول ما ينتفع به بدون نزاع.
فمثل هذا لا يكاد ينكر إلا على العناد فيما يظهر وهو في التحقيق دلالة لغوية(4/6)
ونوعه الثاني هو التصريح في الحكم بالعلة والتصحيح ... وجملة الأمر فهذا المسلك على كلا النوعين حقا مدرك خطته في رتب المعقول لا يبتغي بالترك والتعطيل بل واجب في جنسه يعتبر أما التخلي عنه فهو فيه الخطر والمسلك الثاني أن يرد النص بالحكم من غير تعليل ولا يتناول الملحق عن طريق المفهوم، ولكن الملحق والملحق به لا فرق بينهما إلا بما لا تأثير له في الحكم.
فعند ذاك تطرح الفوارق ويشرك المنطوق فيه اللاحق ... لكنه في مسلك الحقائق قد لا يسلم انتفاء الفارق فهو إذا بكل حال يضعف عن رتبة الأول حين يكشف وهو ــــ على هذا الذي نعتمد مظنة اجتهاد من يجتهد فلا نرى لوماً على من ألحقا بمثله عن اجتهاد صدقا ولا نلوم فيه من تأخرا للسبب الذي به الذكر جرى والمسلك الثالث في التفصيل ظاهره الدعوى على التعليل لأنه في ذاك لا يستند لسبب في اللفظ أو يعتمد على سبيل الأصل في معناه
وهذه دعوى بلا تحقيق: إذ اختلاف الحكم والطريق مُخرجه عنه إلى احتمال لا يُتعاطى ضبطه بحال وبعدما أطال في بيان ضعف هذا المسلك ذكر أنه لا يرى فيه إلا اغتراراً، وإن كل ما صح عن الصحابة من أقيسة لم يكن من هذا الباب.
ولذلك فربما صح القول بعدم تعدي المسلكين الأولين.
وبعد فهو ليس مما يقطع بخطإ الذي إليه ينزع لكنه أبعد في الغايات بحيث نخشى درك الآفاق! أما المسلك الرابع المقطوع بخطئه فهو ما يسمونه بقياس الشبه وهو الذي يعتمد على استنباط علة مظنونة.
إذ لم تكن تدرك عين العلة بواحد من واضح الأدله وبعدما أطال في الكلام عليه ختم بقوله:
وجملة الأمر فهذا الموضع مما على الخطأ فيه نقطع وأكثر القوم أولي الأبصار القائلين بالقياس الجاري كفوا عن الإقدام في ذا المسلك.
ثم ختم القول بالتنبيه على حكمي الاجتهاد والتقليد استهله بقوله:
والاجتهاد من فروض الدين في طلب الأحكام بالتعيين ولكنه عاد فاستدرك أن تحقيق هذه الفريضة متوقف على توفر شرائط لا بد منها:(4/7)
وليس الاجتهاد في الأحكام رتبة كل ناظر وسام لكن على شرائط تقدم فيه وآلات بها يستقدم أما إذا قصر في الحالات عن الشروط فيه والآلات فحقه التقليد والسؤال فيه لأهل الذكر ليس يألو ومن شرائط الاجتهاد عند ابن المناصف التدرب على الاجتهاد بين يدي خبير ماهر:
وليس من أحرز آلة العمل يناهض في كل ما شاء فعل حتى يرى الصانع كيف يضع آلته تلك وكيف يصنع وكلما شافهه واعتبرا كان أجل وأتم نظرا وذاك أمر لا يكاد يخفى أن العيان قد يفوت الوصفا ثم يحدد موطن الاجتهاد
والاجتهاد إنما يكون في كل ما دليله مظنون أما الذي فيه الدليل القاطع فهو كما جاء ولا منازع ثم عقد فصلاً في المقلد والتقليد
بدأه ببيان معنى لفظة التقليد فهو قبول القول من غير دليل وإنما ثقة بقائله.
وليس للعلم على التحقيق في مسلك التقليد من طريق لكن إذا دل دليل الشرع عليه، كان واجباً عن قطع كمثل ما يلزم في التكليف من لم يطق علماً على التخفيف إذ كلف الله لمن لا يعلم سؤال أهل الذكر، فهو يلزم وهكذا أجمعت الصحابة أن له السؤال عما نابه فينزل العالم في التمثيل في حقه منزلة الدليل لكن على المقلد المذكور نوع اجتهاد وهو في التفسير تعرُّف منه لحال المفتي في علمه، وعدله، عن ثبت وقد نقل الونشريسي في أواخر الجزء الثاني من المعيار (2 ص 394) كلاماً لأبي عبد الله المناصف رحمه الله في التنديد بالفوضى الفكرية على عهده، والتي يظهر أنها نشأت عن الدعوة الموحدية إلى الاجتهاد وإنكار التقليد المذهبي: جاء فيه:
ولقد انتهى الحال اليوم إلى أن ينظر أحد العوام في أوراق من الفقه أو الكلام، ويقدم على الخوض فيما يهلكه والمستمع منه، أو يقف على مسائل من الخلاف فيختار منها بحسب ما يوافقه من شتى المذاهب، ويفيده سوء نظره الكاذب، ثم يتصدى للقول، ويطلب الفتوى، فيقول فيما ليس له به علم: هذا حلال وهذا حرام يفتري على الله الكذب!(4/8)
قال: ولقد أخبرني غير واحد، عن رجل من العامة أعرفه الآن، ممن وقف على كلام بعض أهل الظاهر، من غير تفهم لمعانيه ولا ملاقات شيخ فيه أنه أفتى الناس، مجاهراً غير مستتر ولا مستحيى من الله تعالى أو مراقب لمن يقيم عليه حدوده، بأشياء من الفواحش منكرة...
وعن آخرين يفتون في عظيم النوازل على حسب أغراضهم بما قد سمعوه فلم يفهموه، أو قاسوه فحرفوه من رخصه قائل، أو علة ناظر في مذهب من المذاهب الشاذة، والأقوال الفاذة.
وربما مر بنظره الفاسد في أشباه هذه الأقوال إلى استنباط أشياء لا رأس لها ولا ذنب، يخرق في بعضها الإجماع!... إلى آخر ما قال.
منهج ابن المناصف في كتاب (الإنجاد) ونبذة الفقه من (الدرة السنية).
بين ابن المناصف منهجه في تأليف كتابه: (الإنجاد) فذكر أنه توخى فيه أن يكون: مبنياً على أدلة الكتاب والسنة.
منزهاً عن شبه التقليد، وأتباع مذهب بغير دليل. فلذلك التزم في عُمَد أبوابه، وأصول مسائله، ذكر ما بنيت عليه من الكتاب والسنة.
وتحرى ــــ فيما يكون فيه من ذلك خلاف ــــ سوق المشهور من مذاهب العلماء، والإشارة إلى مستند كل فريق من وجوه الأدلة، بأقرب اختصار ممكن.
وأنه ــــ ربما ــــ نبه في مواضع من ذلك على الأرجح عند المؤلف، ووجه الترجيح ، متى أمكن، ما لم يكن وجه الترجيح داعياً للإطالة.
أما إذا لم يظهر عنده للترجيح وجه ! فإنه يترك القول فيه.
وقد يقتصر تارة في فروع المسائل، فلا يتعرض في بعضها إلى ذكر الخلاف إما لأن المذكور أظهر دليلاً، وتتبع الخلاف فيه يؤدي إلى التطويل، وإما لأنه لا يعرف فيه خلافاً، مع أنه يحتمل أن يكون فيه خلاف، لم يطلع عليه!
وذكر: أن من الأدلة والتوجيهات التي يوردها ما وقف عليه نقلاً، ومنها ما استدل به انتزاعاً من أصولهم.
وإن أكثر ما أورده من حديث عن رسول الله (ص) هو حجة ثابتة، لأنه خرجه من الصحيحين البخاري ومسلم، أو مما هو صحيح من غيرهما.(4/9)
وإن كان قد يكون في بعضها اختلاف بين أهل الحديث في إثبات القول بصحته، من أجل اختلافهم في بعض رجال سنده، ــــ مثلاً ــــ إلا أن ما هذه سبيله مما لم يرق إلى الصحة المتفق عليها عندهم فله ــــ مع ذلك ــــ درجة في العلو والحجة عن كثير مما يسامح به بعض أصحاب المذاهب في كتبهم!
ثم رجى أن يكون وقوع هذا النوع ــــ الذي اعتذر عنه ــــ قليلاً جداً في كتابه، وأكثر ما يقع ــــ إن وجد ــــ في أبواب الرغائب والآداب، وما لا يقع موقع الفصل في الأحكام من الحلال والحرام، والواجب والمحظور.
ومع هذا، فقد التزم أن ينسب كل حديث إلى الأصل الذي نقله منه، كالبخاري، ومسلم، والنسائي وأبي داود، والترمذي، وغيرهم.
ويقول عن القسم الفقهي من (الدرة السنية):
لم نبنه على يد التقليد لكن بالاستدلال والتجويد منزهاً في جانب الدليل عن نازل الآثار والتعليل فتارة من محكم التنزيل وتارة من سنة الرسول لا نأتي صوب الحديث المسند من الصحيح الثابت المجود ولم نسامح فيه أو نستهل سوق الضعيف حجة والمرسل هذا هو المنهج الذي وضعه المؤلف، فإلى أي حد وقف في تطبيقه؟
إننا إذا رجعنا إلى كتاب (الإنجاد) ــــ مثلاً ــــ نجد أن المؤلف:
1 ــــ يورد الآيات القرآنية مصحوبة بتفسير غريبها وقد يستشهد على تفسيره بكلام العرب، وتتجلى في تفسيره ثقافته اللغوية المتينة فهو كثيراً ما يورد المعاني المتعددة للكلمة، ويذكر المعنى الذي تدل عليه المادة، واشتقاق الكلمة وصلة المعنى اللغوي بالمعنى الشرعي.
2 ــــ ويذكر ما يلزم من أسباب النزول إن اقتضاه المقام.
3 ــــ والناسخ والمنسوخ، إن كان في الآية ما قيل فيه ذلك.
4 ــــ ولكنه يحرص على تضييق دائرة النسخ ضمن شروط معينة.
5 ــــ ويذكر الاختلاف في تفسير الآية إن كان له تأثير في استنباط الأحكام منها.
6 ــــ ويورد الأحاديث النبوية، مسمياً راويها من الصحابة ومعقباً بمخرجها.
7 ــــ وقد يذكر مرتبتها من صحة أو ضعف.(4/10)
8 ــــ وقد يذكر الراوي المتكلم فيه.
ويعقب كذلك ببيان الغريب والاستدلال عليه من الشعر العربي.
9 ــــ وقد يستدل أحياناً بالنظر، إلى جانب الاحتجاج بالأثر.
10 ــــ وربما أشار إلى مراعاة مقاصد الشريعة.
11 ــــ ومن الأمور المحببة له قوله باختلاف الأحكام لاختلاف الأحوال.
12 ــــ وهو يذكر مذاهب الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب السنية المتبوعة وآراء أصحابهم، وقلما يشير إلى مذاهب الخوارج والشيعة.
13 ــــ معقباً غالباً ببيان حجة كل واحد ووجهة نظره.
14 ــــ وقد يلتمس له هو الدليل أو وجهة النظر الممكنة.
15 ــــ وقلما ينكر أن يكون لرأي قاله أحد الفقهاء مستند يعتمد عليه وأكثر ما يفعل ذلك مع أبي حنيفة وأصحابه.
16 ــــ ويمتاز في عرضه لمختلف الآراء بالنزاهة والتجرد وهدوء الأعصاب، وعفة القلم، وتحديد موطن الخلاف وبيان منشئه.
17 ــــ وقد نجح المؤلف فيما قصد إليه من التنزه عن شبه التقليد واتباع مذهب معين بغير دليل حيث إنه يدور مع النص الشرعي حيث دار، ويقول: «وحيثما وجد دليل من الشرع وجب الانتهاء إليه، ما لم يرد دليل آخر على نسخه أو تخصيصه، وما أشبه ذلك من الوجوه التي يجب المصير إليها» ص 136.
18 ــــ وكثيراً ما يرجح من بين المذاهب والآراء ما يظهر له.
19 ــــ وأحياناً يوافق صاحب القول في جزء من قوله: ويخالفه في جزء آخر.
20 ــــ وهو كما يختار من الأقوال، كذلك يختار في الأدلة والتوجيهات.(4/11)
21 ــــ وهو في آرائه الأصولية أثري يرى القرآن والحديث مصدري التشريع، ولا بد للإجماع من نص شرعي يستند إليه، كما لا بد للقياس من نص يشعر بالعلة، مما يجعله أقرب إلى الظاهرية منه إلى غيرهم، ولكنه في الفروع الفقهية التي يتناولها لا يلتزم مذهباً معيناً لا يتعداه، بل تجده يوافق مذهب مالك أحياناً، ويرجح أحد قولين أو أقوال في مذهبه، كما قد يخالفه تارة أخرى وقد يوافق الشافعي، وقد يخالفه وقد يوافق ابن حزم وقد يخالفه، بل إنه قد يرجح أحياناً رأي أبي حنيفة الذي يخالفه في كثير من الأحيان.
22 ــــ وقد يتوقف عن الترجيح إذا لم يتبين له وجه الترجيح.
23 ــــ وكذلك يجتهد في وجه الاشتقاق اللغوي لبعض الكلمات الشرعية.
* * * مصادره
ومما له أهميته الخاصة معرفة المصادر التي ينقل عنها.
والملاحظ أنه كثيراً ما يكتفي بذكر اسم المؤلف، من غير تسمية الكتاب الذي ينقل عنه.
وهو يورد آيات القرآن، والأحاديث معزوة إلى مخرجيها، وأحياناً يذكر اختلاف عباراتها عندهم مما يدل على أنه كانت بين يديه نسخ منها ينقل عنها، وهي موطأ مالك، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود والترمذي والنسائي والدارقطني وابن هشام في مغازي ابن إسحاق.
وكتب اللغة هي غريب الحديث لأبي عبيد، ومختصر العين للزبيدي.
وكتب فقه القرآن والحديث والإجماع والاختلاف: أحكام القرآن للقاضي إسماعيل، وكتاب الأموال لأبي عبيد، والمحَلَّى، ومراتب الإجماع، لابن حزم، والمعلم للمازري.
وكتب الفقه المالكي هي: المدونة، والمعونة للقاضي عبد الوهاب، وكتاب ابن المواز، وشرح مسائل العتبية لأبي الوليد بن رشد.
وينقل كثيراً عن ابن حزم، وأبي عبيد، والقاضي عبد الوهاب وابن رشد من غير ذكر اسم الكتاب.(4/12)
وكذلك ينقل كثيراً عن ابن عبد البر، وأبي بكر بن المنذر، والنحاس، وهو أبو جعفر المفسر، والباجي، وأبي الحسن اللخمي وعبد الملك بن حبيب، وفضل وهو أبو سلمة البحائي، وكل واحد من هؤلاء له مؤلفات لا نعرف ما نقل عنه منها.
ومما يلفت النظر في هذه القائمة بوجه خاص أمران:
أولهما ــــ أن المؤلف الذي يذكر مذاهب المجتهدين في المسائل التي يدرسها لم يكن ينقل آراءهم من مؤلفاتهم أو مؤلفات أصحابهم مباشرة ــــ باستثناء المذهب المالكي، والشافعي والظاهري ــــ فليس في هذه القائمة التي أوردناها شيء من مؤلفات الأحناف أو الحنابلة مثلاً الذين يورد مذاهبهم كثيراً، وإنما كان يعتمد على ما ينسبه لهم المؤلفون الذين ذكرنا، وتلك ناحية ضعف ولا شك، فمن المعروف أن كثيراً من الأقوال ننسب إلى بعض الأئمة خطأ بسبب عدم التحري في نقلها من المصادر المعتمدة عند أصحاب ذلك المذهب.
وأبو بكر إبراهيم بن المنذر الذي ينقل عنه كثيراً من غير أن يعين اسم الكتاب الذي ينقل عنه من مؤلفاته. يقول عنه الذهبي إنه كان مجتهداً لا يقلد أحداً، ولكن التاج السبكي يصر على القول بأنه وإن بلغ درجة الاجتهاد المطلق فإن ذلك لم يخرجه عن كونه من أصحاب الشافعي المخرجين على أصوله المتمذهبين بمذهبه! (طبقات 2 ص 126).
ومن الطريف أن ابن المناصف قد يساير ابن المنذر في ترجيح مذهب الشافعي في مسألة من المسائل ويقول:(4/13)
وأرجح الأقوال عند النظر قول ابن إدريس قضي ابن المنذر! ثانيهما ــــ اشتمالها على كتب فقه الرأي المالكي، مما يدل على أنها كانت موجودة بين يدي المؤلف ينقل عنها مباشرة. وذلك ما يتنافى مع ما ذكره المؤرخون من أن الموحدين أحرقوا كتب الرأي، ومع أنهم لم يعطونا تفاصيل كافية عن هذه العملية وكيف كانوا يفرقون بين كتب الرأي وغيرها، وإذا كانوا يعتبرون أحكام القرآن للقاضي إسماعيل أو المعلم للمازري مثلاً كتب تفسير وحديث، فإن المدونة والمعونة والبيان والتحصيل والتبصرة وما ذكرنا معها هي كتب رأي بدون إشكال، فكيف بقيت موجودة يرجع إليها المؤلف وينقل عنها ويناقش بعض آرائها في كتاب يؤلف باقتراح من أمير موحدي؟
لا شك أن ذلك أمر يلفت النظر، ويدل على الأقل على أن عملية الإحراق لم تكن شاملة لجميع أنحاء الأمبراطورية الموحدية الشاسعة، وليس من الممكن الفرض أن جميع النصوص التي أوردها المؤلف كان يحفظها عن ظهر قلب!.
* * * اتهامات مترجميه
وعلى ضوء هذه النتائج التي توصلنا إليها من آثاره، نعود إلى الاتهامات التي اتهمه بها مترجموه.
1 ــــ فقد اتهمه ابن الآبار بأنه لم يكن له علم بالحديث، ولا عناية بالرواية، مع أنه قال: إنه سمع من أبي عبد الله بن أبي درقة ومن أبي عبد الله التجيبي، وله رواية عن أبيه عن جده، ولم يعل إسناده، وأنه استجازه فأجاز له.
وعبارة الرعيني: وعناية بالنظر أغلب عليه من الرواية.
وعبارة ابن عبد الملك: وكان مقلاً من الرواية، ضابطاً لما يحدث به ثقة فيه.
وزاد ابن عبد الملك كما تقدم: أنه روى أيضاً عن أبي الخطاب ابن دحية.
وأورد ابن عبد الملك ثلاثة وعشرين ممن رووا عنه: منهم الفقيه المحدث الحافظ أبو بكر ابن سيد الناس اليعمري، ومنهم الفقيه الحافظ المحدث المتقن أبو بكر محمد بن محرز الأندلسي نزيل بجاية، ومنهم أبو الخطاب محمد بن خليل اللبلي، وإن كان ابن عبد الملك لم يذكر ابن المناصف من شيوخه أثناء ترجمته.(4/14)
قال: وحدثنا عنه من شيوخنا أبو الحسن الرعيني، وأبو محمد حسن بن القطان.
وقد رأيناه عارفاً بالحديث مفرقاً بين ما يصلح منه للاحتجاج به ومالا.
وبهذا يتبين تهافت ما قاله ابن الآبار.
2 ــــ واتهمه ابن الآبار وابن عبد الملك بأنه كانت فيه حدة مفرطة، ونحن لا نجد في آثاره أي أثر لهذه الحدة. بل إننا نجد في كل من الإنجاد والدرة السنية هدوء أعصاب، أين منها ما نجده في كلام ابن حزم أو ابن العربي المعافري مثلاً، وفي النماذج والأمثلة التي أوردناها من كلامه فيما سيأتي ما يؤيد ذلك.
3 ــــ واتهمه الرعيني بأنه يقطع نفسه رتبة الاجتهاد، فإن كان يقصد بذلك توقفه أحياناً عن ترجيح أحد الأقوال التي يوردها فهذا فيما نرى مظهر من مظاهر التحري والتثبت وترك المجال للمجتهد واحترام آراء المجتهدين.
وإن كان يقصد ضعف وجهة نظره فيما يختاره فتلك دعوى تحتاج إلى تمحيص.
4 ــــ واتهمه ابن عبد الملك المراكشي بأنه كان مائلاً إلى القول بمذهب الشافعي، ناصراً له، مناظراً عليه!.
ونحن عند الرجوع إلى آثار ابن المناصف نجده ــــ كما قدمنا وكما سيأتي ــــ إذا كان يوافق الشافعي أحياناً، فإنه يخالفه أحياناً، وليس ذلك شأن الناصر له المناظر عليه.
5 ــــ وأما ترجمة أحمد بابا السوداني ومحمد مخلوف له في (المالكية) فلعل مرجعه إلى أنه ــــ وإن كان قد خالف في ترجيحه واختياراته المذهب المالكي في كثير من المسائل ــــ فإنه لم يصدر منه في حق مالك والمالكية ما من شأنه أن يثيرهم أو يجرح عواطفهم.
وإلا فإن ابن المناصف لم يكن مجتهد مذهب يختار داخل نطاق المذهب وفي دائرة أصوله الخاصة، بل كان ــــ كما يتبين من الأمثلة والنماذج التي أوردناها فيما بعد ــــ فقيهاً مختاراً لا يلتزم أصول مذهب مالك كما لا يلتزمه في الفروع.(4/15)
وعلى كل حال، فهو من باب ما قاله ابن السبكي عن ابن المنذر الذي لم يخرجه اجتهاده المطلق ــــ في نظر ابن السبكي ــــ عن أن يبقى مع ذلك شافعياً!
* * * نماذج وأمثلة
1 ــــ الفرق بين ما يجوز من الخديعة وما يكون له حكم الأمان
عقد المؤلف فصلاً في بيان ما يجوز من الخديعة في الحرب والفرق بينه وبين ما يكون له حكم الأمان.
ذكر فيه أن الخديعة المباحة هي كل ما يرجع إلى إجادة النظر في تدبير غوامض الحرب وإدارة الرأي فيه بما يوهم العدو الإعراض عنه والغفلة دونه وما أشبه ذلك من التقدم بكل ما يقع به توهين العدو، أو تلتمس فيه غِرته وإصابة الفرصة منه على وجه لا يوهم الأمان ، ولا يتضمن الإشعار بالأنس إليه على حال.
ثم قال بعد كلام: وليس من ذلك أن يظهر لهم أنه منهم، أو على دينهم، أو جاء لنصيحتهم فإذا وجد غفلة نال منهم، هذا داخل في باب الأمان، لأن العدو يستشعر منه الموادعة والموالفة ويسكن إليه، والإيهام عليه بمثل ذلك لا يجوز، وهو خيانة كما تقدم.
وبعد ما أورد نكتة الفرق (بينهما) قال: ولتمثيل مسألة تكون بظاهرها من باب الأمان تارة ومن المكيدة الجائز فلعلها تارة، ولا فارق إلا اختلاف عوارض اطمئنان العدو، على القانون الذي رسمناه:
وذلك لو أن رجلاً من المسلمين أبصر حربياً في جهة ما من بلاد العدو أو غيرها فتظاهر المسلم بإلقاء السلاح وأقبل على جهة الحربي مظهراً له أنه رآه فقصده مستسلماً أو مستنيماً إليه ونحو هذا، فاطمأن الآخر إلى ذلك، حتى أصاب المسلم غرته، فهذا لا تجوز به الخديعة، وهو أمان .(4/16)
ولو أنه عندما رآه فعل أيضاً من إظهاره الاستنامة ووضع السلاح والإقبال إلى جهة ذلك الحربي مثل ما فعل الأول، إلا أنه فقط يظهر أنه غافل عن الحربي ومعرض عن رؤيته بحيث لا يستشعر الحربي أنه رآه فقصده مسالماً، لكن يوهم أنه ما شعر بمكانه، وأن فعله ذلك فعل المستريح من حالة حمل السلاح إذا أمن في موضع، ونحو ذلك، حتى اطمأن الحربي لما توهم من غفلة عنه. لا لموادعة استشعر منه، لكان هذا جائزاً، وهو تورية ومكيدة. لا تتعلق بها خيانة ولا للأمان حرمة، (ظ 65 ــــ 66).
وهنا تواجه المؤلف قضية قتل كعب بن الأشرف، وظاهرها جواز قتل من اطمأن إليه بعد إظهار المسالمة والمؤالفة.
ولأهل العلم في ذلك أقوال: منها أن قتل كعب بن الأشرف قد كان وجب بما آذى الله ورسوله وجوب الحدود التي لا تندفع بالتأمين بل يجب إقامتها بكل سبيل، ويروى نحو هذا أو بعضه عن الطبري، وقيل إنه نقض عهد النبي (ص) وهجاه وسبه وكان عاهده ألا يعين عليه أحداً، فجاء مع أهل الحرب معيناً عليه فوجب أن يغتال كالحكم فيمن نقض وقاتل، وإليه ذهب المازري وقال: وقد أشكل قتله على هذه الصفة على بعضهم ولم يعرف هذا الوجه.
ثم عقب على ذلك قائلاً: ويحتمل عندي أن يقال أنه ــــ مع ذلك ــــ أمر خاص، وحكم الله تعالى عدل أذن فيه تعالى لرسوله (ص)، فهو خاص لا يتعدى إلى غيره، ومما يدل على هذا المذهب ما وقع في الحديث من قوله: إيذن لي فللأقل، قال: قل، فأتاه فقال: إن هذا الرجل قد أراد صدقة وقد عنانا، إلى آخر قوله، وهذا قول له ظاهر الكفر ولا يحل لمسلم التلفظ به ولا الخديعة في الحرب بمثله إلا أن يأذن الله لأحد بعينه في شيء بعينه كما أذن لهذا على لسان رسول الله (ص)، فيكون خاصاً ليس مما يتعدى بحال...(4/17)
ثم قال بعد ذلك: وقد زعم ابن المنذر أن الذي يجوز له أن يقتل غيره هو من لا أمان بينه وبين صاحبه القاتل ولا عهد وهذا صحيح، ورأى أن قتل كعب بن الأشرف من ذلك. وفي هذا نظر، والله أعلم ( ــــ 60).
وقد اقتصر المؤلف في (الدرة السنية) على ما قاله المازري حيث قال:
فقتلوه غيلة إذ خانا ذلك حكم الله فيمن غدرا وناصب الدين الهدى وكفرا * * * 2 ــــ مراعاة مقاصد الشريعة:
يجب على المكلف الجهاد باللسان، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وزجر أهل الباطل، والإغلاظ عليهم، وما أشبه ذلك مما يجب إبداء القول فيه.
وقد قيل: إن ذلك لا يجب إلا أن يرجو في قيامه كف ذلك المنكر، أما إذا لم يرج كفه فلا يجب عليه إلا تبرعاً.
قال ابن المناصف: والأظهر عندي في هذا الوجه أنه يجب عليه القول وإن كان يائساً من كف ذلك المنكر، لأن الإنكار فرض برأسه، لا يسقطه عدم تأثر المنكر عليه، ألا ترى أن إنكار القلب حيث لا يستطاع الإنكار بالقول واجب، باتفاق، وهو لا أثر له في دفع ذلك المنكر، فكذلك يجب القول وإن لم يؤثر.
وأيضاً في إعلان الإنكار، تقرير معالم الشرع، فلو وقع التمالؤ في مثل هذا على الترك حيث لا يرجى الكف الإقلاع لأوشك دروسها. (ظ 4).
ومن ذلك ما ذكره في الشروط التي يلزم أهل الجزية الوفاء بها كعدم الطعن في الإسلام، وعدم الدعاء لدينهم. والإعلان بمعالم شركهم في أمصار المسلمين: من ضرب النواقيس، وبناء الكنائس، وإظهار الصليب، وشرب الخمور، وغير ذلك، مما لا يحل للمسلمين ــــ مع الاطلاع عليه ــــ إقراره، فهذه كلها شروط واجبة لا ينبغي إسقاطها، ولا ترك العمل بشيء منها، ولا تحل إجابة الكفار إلى أن يشترطوا إسقاط ذلك عندهم أو شيء منه، ولا يجب الوفاء لهم به إن التزمه لهم من يعقد على المسلمين، ممن لعله يجهل ذلك (125 وجه و ظ).(4/18)
وبعدما أطال في الاستدلال على ذلك قال: قلت: وأما ما يشترط بعد ذلك عليهم: من تغيير الزي والملبس والهيئة في المركب، والمنع من التشبه بالمسلمين في مثل ذلك، فقد يكون هذا من المستحب غير الواجب، لأن ذلك كله ليس فيه قدح في الدين، ولا تنقص على المسلمين. (ظ 127)
3 ــــ اختلاف الأحكام لاختلاف الأحوال
اختلف أهل العلم في مقتضى الآيات الواردة بالتشديد في الأمر بالقتال، فقيل: كان فرض القتال في أول الأمر على جميع المسلمين كافة إلا من عذره الله تعالى، ثم نسخ ذلك بالكفاية.
وقال الجمهور: بل كذلك كان فرض القتال على الكفاية من أول الإسلام، وحملوا ما وقع في ذلك من التشديد والتعميم على أحوال: وذلك إذا احتيج إلى الجميع. إما لقلة المسلمين، كما كان ذلك أول الإسلام، أو لما عسى أن يعرض، أو يكون ذلك خاصاً بأهل النفير الذين يعينهم الإمام في الاستنفار، وإذا لم يكن شيء من ذلك فهو على الكفاية.
وعقب بقوله: ولا نسخ على هذا في شيء من الآيات، بل هو راجع إلى الأحوال وما يجب في مقاومة الكفار، وهذا الأرجح والله أعلم، لأن النسخ لا يصار إليه إلا بتوقيف، أو اضطرار لا يمكن معه الجمع بين الأمرين، ويعلم مع ذلك المتأخر، فيكون هو الناسخ، وإلا فلا (وجه 7).
وذكر أن أهل العلم اختلفوا: إذا لم يقبل أهل الحرب في فدية الأسير إلا الخيل والسلاح، والخمر والخنازير، ونحو ذلك مما هو محظور، فأجازه قوم ومنع قوم، ثم قال:
وكان ينبغي أن يقال: إن إجازة ذلك أو منعه راجع إلى اختلاف الحال: فإن كان ذلك مع قدرة المسلمين على استنقاذهم، بالقتال فلا ينبغي الإجابة إليه، لأنه محرم لم تدع إليه ضرورة، وإنما يفعل للرفاهية عن القتال وإن كان ليس للمسلمين بهم طاقة جاز، لقول الله تعالى:
{ ُ لله ـ پ ؟ » « { (ص) } ]الأنعام: 119[ (ط 59).
4 ــــ الاستدلال بالنظر
قال في (الدرة السنية) بعد ذكر الخلاف في وقت النية للصوم:(4/19)
ومن طريق النظر المسدد نقول: كل عمل مجدد فالحكم في النية فيه إما تقدم أو اقتران ثما لأنها إن حدثت من بعد فجزؤه السابق لا يعتد وهو متى ما انخرمت أحزاؤه عن حدها فباطل إجزاؤه فالواجب التعيين قبل الفجر لكل صوم، كل يوم، فادر قال به ثقات أهل العلم والمزني قال، وابن حزم واختلفوا في توريث ذوي الأرحام، فأنكره زيد بن ثابت والزهري ومالك، والشافعي، والفقهاء السبعة، وأكثر فقهاء الحجاز.
وورثهم جمهور الصحابة والتابعين، وعمر، وعلي، وابن مسعود، والقاضي شريح، ومسروق، وطاوس، والشعبي، والنخعي، والثوري، واتفق عليه أهل العراق، والنعمان وأصحابه، وإسحاق، وأحمد وأبو عبيد، في جملة من الأئمة المتبوعين وبه يقول الشيعة.
لظاهر القرآن فيه: وردا: (بعضهم أولى ببعض) شهدا ومن طريق عبرة المعاني فهو لهم به دليل ثاني لأنه في النظر المستصوب ذو السببين سابق ذا السبب فسببا الدين وقربى الرحم أولى به من بيت مال المسلم * * * 5 ــــ منشأ الخلاف
ذكر الخلاف فيمن خرج للغزو فصده عنه مرض، أو موت، أو ضل في طريقه عن الوصول، وما أشبه ذلك من الأعذار التي لا يكون له فيها اختيار: هل يسهم له مع المقاتلين أو لا؟ ثم قال:
ومنشأ الخلاف عندي في جميع ذلك والذي ترجع إليه المسائل على تبددها هو:
هل يوجد دليل على أن للقصد والنية أثراً إذا أخذ في الشروع ثم قطعه عن تمام العمل في ذلك أمر غالب لا اختيار له فيه فهل هناك دليل أنه يستحق بذلك صاحبه ما يستحقه بالعمل أو لا؟ فمن توجه عنده أن ذلك يقوم مقام العمل شرعاً وإن لم يكمل...
فمن سلك هذا المسلك، وبخاصة في باب الإسهام من الغنيمة، فإن ذلك يستحقه من قاتل من الجيش ومن لم يقاتل، والكبير الغناء ومن لا كبير غناء عنده، والقوي والضعيف على حد سواء، وفهم بذلك من الشرع سقوط المشاحة في هذا الباب، رأى أن هذه الأعذار المانعة من الإتمام، بعد وجوب العزم والشروع، لا يحبط حظهم من السُّهمان.(4/20)
ومن لم ير ذلك بحجة أن العمل لا يعادل مجرد النية على الإطلاق.
وهو وإن جعل الشرع للنية حكماً فقد جعل لوجود العمل مزية وفضلاً، كما ثبت في الفرق بين مقدار ما يكتب لمن هم بحسنة فلم يعملها وما كتب لمن هم بذلك فعمل... فكان للعمل مزية وحظ لا يدركه بمجرد النية.
ثم قسم الخارجين في الجيش إلى أربعة:
أحدها لا خلاف ولا إشكال أنه يقسم له: وهو من نوى الغزو وعمل في مشاهد الحرب، ويدخل في ذلك المريض، وإن لم يقاتل.
وثانيهما لا خلاف ولا إشكال أنه لا حق له.
وثالث لم ينو غزواً فلما حضر القتال قاتل، فالظاهر أن لهذا سهمه، وإن كان في ذلك خلاف، لأنه لما حضر القتال فعمل فيه حصل منه ساعتئذ النية والعمل وذلك حقيقة الجهاد، ودخل بذلك في جملة من تنسب الغنيمة إليهم، فكان الوجه أن يسهم له.
ورابع نوى الغزو فانقطع به قبل مشاهد القتال، فهذا الذي جرى فيه ذكر الخلاف في هذا الفصل، والذي ترجح إن شاء الله أن لا يكون له في الغنيمة حق إن لم يحضر من مشاهد الحرب شيئاً، ويدخل في ذلك المريض الذي لا يستطيع شيئاً من الحضور والتكثير فما فوق ذلك.
فإن شهد هؤلاء شيئاً من ذلك، وإن قل زمانه، فلهم سهمهم أعني فيما غنم، عن ذلك الموطن، أو كان لذلك الموطن في أسباب اغتنامه أثر.
وذلك أن الذي أثبته الشرع للنيات من الحظ وإدراك بعضها رتبة العمل إنما جاء النص به فيما يرجع إلى ثواب الله تعالى وجزيل ما عنده، وأما أحكام الدنيا وما يستحق فيها بالعمل فلم يرد الشرع في شيء من ذلك بأن للناوي فيه مثل ما للعامل، بل لعله مما يستحيل التكليف به لأن الاطلاع على النية لا يعلمه إلا الله عز وجل...(4/21)
وأما من فرق من الفقهاء بين الإدراب وما قبله: فأوجب لمن دخل مع الجيش أرض العدو، وحيث تبتدىء الشدة والمخافة أن يسهم له، وإن صده عن التمام أمر غالب، ولم يوجب ذلك لمن اعترض قبله فسببه أن الإدراب عنده نوع من مشاهد الحرب التي ينتفع الناس فيها بعضهم ببعض في القوة على التقدم، فإن الجمع هناك إنما يحملهم على الدخول الاعتداد بمن معهم، فيكون ذلك سبب الجرأة على الإقدام الذي هو سبب الغنيمة فرأى من ذهب إلى ذلك أن لدخولهم معهم حظاً في الإعانة وتسبيباً للمغنم، فهذا وجه من فرق.
وعلى هذا المسلك والقانون الذي ذكرنا تدور جملة المسائل المبددة في هذا الفصل عنهم، ومرجع أسباب الخلاف في ذلك عندهم (87 ــــ وجه 90).
* * * 6 ــــ التمسك بالدليل
اختلف العلماء فيمن كان من العرب على دين أهل الكتاب: فلهم في نصارى تغلب ثلاثة أقوال:
قول إن حكمهم حكم عبدة الأوثان من العرب...
وقول ثان إنهم كسائر أهل الكتاب في قبول الجزية وسائر الأحكام.
... وقول ثالث إنه يؤخذ منهم بدل الجزية ضعف ما يؤخذ من المسلمين في الصدقات في كل نوع من المال الذي تجب فيه الزكاة.
... وممن ذهب إلى هذا الشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم وجاء مثل ذلك عن عمر بن الخطاب.
ومثل هذا لا يدرك بالاجتهاد والنظر، فإن لم يكن في ذلك توقيف. ــــ وهو ما لا يوجد ــــ فالمصير إليه شاق! (ظ 120 وجه 121).
* * * 7 ــــ ترجيح رأي مالك
حكى في (الدرة السنية) الخلاف في قاتل العمد إذا عفى عنه ولي الدم أو افتدى: هل عليه كذلك عتق رقبة مؤمنة كما في قتل الخطإ ــــ وإليه ذهب الشافعي أو لا عتق في قتل العمد، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة:
لأنه نص من الكتاب يختص بالمخطىء في العقاب ... والشافعي قال: كل يجب في العمد فهو القتل فيه السبب وأنه من باب حكم الأولى ومن نفى أرجح فيه قولا لأن قتلى الخطا والعمد لا يستوي نظمهما في الحد فلم يصح فيهما الإلحاق(4/22)
واختلفوا في حد المسروق الذي يجب فيه حد السرقة: فذهب الحسن البصري والخوارج إلى أنه يجب في سرقة الكثير والقليل على السواء، وإليه ذهب أبو محمد ابن حزم، إلا في الذهب فلا حد ــــ عنده ــــ في أقل من ربع دينار.
وقيل: لا حد فيما قيمته أقل من ربع دينار، وهو مذهب جلة من الصحابة وعصابة من أئمة الهدى، منهم الليث والأوزاعي والشافعي .
وقال مالك: لا حد في الذهب في أقل من ربع دينار، أما الفضة فلا حد في أقل من ثلاثة دراهم:
وهو الأسد عندنا المرجح دليل ذاك الخبر المصحح * * * 8 ــــ الترجيح بين أقوال المالكية
قال ابن القاسم في فرس انفلت من ربه بأرض العدو، فأخذه آخر فقاتل عليه حتى غنموا، أو لما شد القوم على دوابهم للقتال عدا على فرس آخر فقاتل عليه فغنموا: أن سهم الفرس في ذلك كله ربه.
وقال سحنون في المتعدي: سهم الفرس له، وعليه لربه أجر مثله، إلا أن يأخذه بعد إنشاب القتال، فيكون سهم الفرس لربه.
وكلا القولين للشافعية في استحقاق سهم الفرس المغصوب.
ثم عقب ابن المناصف: بأن قول سحنون غير سديد، والأرجح ما ذهب إليه ابن القاسم: لأن المتعدي عمل بالفرس على غير وجه الشرع، فلم يستحق له شيئاً، لقوله (ص): وليس لعرق ظالم حق، خرجه أبو داود والترمذي وقال فيه: حسن غريب، قال أبو الوليد الطيالسي: العرق الظالم الغاصب، ذكره الترمذي.
وإذا لم يجب ذلك له فيتحمل أن يقال: لا يسهم لذلك الفرس، لأن المقاتل عليه لا يستحقه، ومالكه لم يشهد القتال عليه، بناء على أحد القولين: أن لا سهم للفرس حتى يشهد به القتال.
ويحتمل أن يقال: يسهم له، لأن القتال عليه قد وجد فوجب الإسهام، وبطل أن يكون في ذلك حق للمتعدي، فاستحقه مالكه الذي أدخله وأعده لذلك، وملك منافعه المتعدَّى فيها، كما ذهب إليه ابن القاسم (96).
* * * 9 ــــ وهو قد يخالف الشافعي أحياناً
فقد حصل في حكم الفيء ثلاثة أقوال:
منها قول الشافعي إن فيه الخمس كالغنيمة، ثم عقب عليه بقوله:(4/23)
وقد خولف الشافعي في إثبات الخمس في الفيء، ونقل قول ابن المنذر: ولعمري لا يحفظ عن أحد قبل الشافعي أنه أوجب في الفيء خمساً كخمس الغنيمة (110 ــــ 111).
وكذلك رجح في (الدرة السنية) مذهب الجمهور أن الفيء كله في مصالح المسلمين، وذكر أن الشافعي خالف بقوله: إن فيه الخمس والباقي لجميع الناس.
وشذ الثوري فقال جميع الفيء للأصناف التي جعل لها الشافعي خمس الفيء: لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
والأرجح، المستعمل، المشهور هو الذي قال به الجمهور دليله التبث عن الرسول وصحبه الأئمة العدول وذكر الخلاف في قاتل العمد: هل عليه تحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين مثل قاتل الخطأ وإليه ذهب الشافعي قائلاً: إنه من باب أولى، أولا عتق عليه وبه قال مالك وأبو حنيفة ثم قال:
ومن نفى أرجح فيه قولاً
وذكر أن مذهب مالك والشافعي في نكاح الشغار إذا كان فيه مهر مسمى فإنه يصح بمهر المثل.
وقيل: بل للعقد حكم الباطل وحكمه الفسخ فلا تماطل هذا هو الأرجح عند الناظر وهو الذي به يقول الظاهر وذكر الخلاف في التلفظ بالطلاق بدون نية، وإن الجمهور قالوا: إنه لغو لا عبرة به، وقال الشافعي ــــ وهو ظاهر المدونة ــــ أنه لازم.
وكله قول ضعيف تفسده أدلة الشرع ولا تؤيده من ذاك حكم المحكم الآيات في إنما الأعمال بالنيات ومن أعتق شقصاً في عبد مشترك بينه وبين غيره لزمه عتق باقيه.
واختلفوا إذا كان معدماً فقيل، يُلزم العبد بالاستسعاء لتحرير ما بقي منه مملوكاً، ولم ير مالك والشافعي وأحمد وأبو عبيد لزوم الاستسعاء:
وإنما لم يوجبوا استسعاءه لخبر جاء أشعر انتفاءه لكنه في معرض الدليل محتمل أو عرضة التأويل والنص باستسعائه لا يدفع فهو الصحيح عندنا المتبع وذكر الخلاف في قصاص الجراحات بين الحر والعبد: فقال مالك وأبو حنيفة: لا قصاص بينهما! وإنما لهما الأرش.
كلاهما خالف أصل مذهبه!...(4/24)
لأن مالكا يقول: العبد يقتل بالحر، كذا يعتد ولا يرى في قطعه قطع يده للحر فيما افتات من تعمده! وهو إذا اقتص له وأجرى في النفس كان في الجراح أحرى! أما أبو حنيفة فالقود على السواء بينهم يعتمد ثم يرى القصاص في الأعضاء ممتنعاً فيه على القضاء وذاك ما لا يشكل التعارض فيه! ولا يخفى به التناقض وقال الشافعي: لا قصاص بين الحر والعبد في نفس ولا غيرها.
وفيه قول ثالث مجود لا خلل فيه ولا تأود أن القصاص بينهم سواء تدخل فيه النفس والأعضاء فيستوي الأحرار والعبيد لا نقص في صنف ولا يزيد يقتل كل منهما بصاحبه وهكذا الجروح في القضاء به فالمؤمنون كلهم أكفاء دماؤهم حرمتها سواء جاء به السنة والقرآن وقام في الحكم له البرهان وأيضاً الجروح في الكتاب يعمهم في الحكم والخطاب قال بذاك كله داود وابن أبي ليلى ومن يجيد! * * * 10 ــــ موافقة الظاهرية
نكاح الشغار ــــ وهو البضع بالبضع ــــ لا يجوز
فإن يكن في صورة الشغار مهر مسمى مع ذاك جار فمالك والشافعي صححا ذاك لمهر المثل فيما أوضحا وقيل: بل للعقد حكم الباطل وحكمه الفسخ، فلا تماطل هذا هو الأرجح عند الناظر وهو الذي به يقول الظاهر وذكر الخلاف في مقدار ما يفرض في النفَل، وهو الزيادة على السهم لبعض الجيش لمصلحة يراها الإمام في ذلك.
فذهب الشافعي إلى أن ذلك راجع لاجتهاد الإمام.
وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يزاد في النفَل على الثلث.
وذهب أهل الظاهر إلى أنه لا يبلغ بالنفَل سهم راجل إلا أن يكون النفَل لسرية أو أحد ممن ساق غنيمة إلى الجيش فللأمير أن ينفُل من أتى رُبُع ما ساق بعد الخمس في الدخول إلى أرض الحرب وثلث ما ساق بعد الخُمُس في الخروج منها، لا زائد على ذلك.
وروى عن مكحول وعطاء وإبراهيم أن للإمام أن ينفُل السرية جميع ما غنمت من غير تخميس، وعامة الفقهاء على خلافه.
وروى عن الثوري أنه قال في أمير أغار فقال: من أخذ شيئاً فهو له: هو كما قال.
ثم عقب على ذلك قائلاً:(4/25)
وليس لشيء من ذلك دليل يعتد به، وأظهر الأدلة رجوحاً ما ذهب إليه أهل الظلاهر. (106)
* * *
11 ــــ وإذا كان يوافق داود وابن حزم أحياناً فإنه كثيراً ما يخالفهما فقد أجمعوا على وجوب الزكاة في الزبيب:
حاشا خلافا شذ في الزبيب يعرفه ذو البحث والتنقيب أسقط ذاك بعض أهل العلم منهم أبو محمد بن حزم واتفق العلماء على أن الجهاد واجب على الكفاية، وشذ داود فقال بوجوبه على الأعيان مرة في العمر.
وذاك قول غير ذي تحصيل.
وذهب الجمهور إلى أن المحصن الذي يلزم قاذفه الحد هو: المسلم الحر البالغ، العاقل، العفيف عن الزنى.
وأوعب الإطلاق عند الحكم فيه أبو محمد بن حزم ... وذاك قول شذ في التحصيل وما أرى عليه من دليل لكن دخول العبد في الإحصان أولى إذا كان على الإيمان وفي دخول البائع المجنون عندي محل نظر مكين واختلفوا فيما جنى المجنون والصبي، فقيل إنه جبّار.
وكان ممن قاله ابن حزم وهو بعيد عند أهل العلم! وذهب ابن حزم إلى أن من تعدى على عبد فيما دون النفس فعليه القصاص حقاً للعبد وعليه لمالكه قيمة ما انتقصه منه.
وشذ أيضاً عند أهل العلم قول أبي محمد بن حزم واتفق الجمهور على أن الجزية لا تفرض على النساء والصبيان، ولا على العبيد، إلا على الرجال الأحرار البالغين، روي ذلك عن مالك وأبي حنيفة والشافعي وأبي ثور وغيرهم. قال أبو بكر بن المنذر: لا أحفظ عن غيرهم خلاف قولهم.
وقال أبو محمد بن حزم: الرجال والنساء والأحرار والعبيد في كل ذلك سواء. واستدل على ما ذهب إليه من ذلك بعموم قول الله تعالى: { ح خ د ذ ر ز س ش } ــــ إلى قوله: { _ . ف ق ك ل م } ]التوبة: 29[ .(4/26)
وفي الاستدلال بذلك على إدخال النساء في هذا العموم نظر: لأن الصيغة موضوعة للذكر، وإنما يدخل النساء في صيغة الجمع المذكر بحكم التبعية وتغليب التذكير، فهو يفتقر إلى ما يدل عليه، بل لو سلم إلى الصيغة بأصل الوضع عامة في المذكر والمؤنث لكان خروج نساء الكفار من القتل والقتال معلوماً من الشرع، فعموم الآية هنا لا يتناول النساء على كل حال، وأما العبيد فالعموم صالح فيهم. (ظ 122 ــــ ج 123).
وورد الحديث الصحيح بقتل السكران في المرة الرابعة، فأخذ شواذ من أهل العلم بهذا الحديث، منهم ابن حزم.
وذهب جل أهل العلم والتحقيق إلى أنه منسوخ بحديث أنه جيء للنبي (ص) برجل للمرة الرابعة فضربه ولم يقتله، وحديث ابن عمر: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث.
وجملة الأمر أن الدماء حرمتها عظيمة.
فكان حكمها مع الإشكال توقفا عنها بكل حال * * * 12 ــــ وقد يوافق أبا حنيفة أحياناً
ففي عتق من وقع ملكه من ذوي الأرحام خمسة أقوال قال أبو حنيفة: كل ذي رحم وقع عليه الملك من ذوي رحمه فهو عتيق.
والأرجح الذي له برهان هو الذي قال به النعمان وذكر الخلاف في قتل المقر بوجوب الصلاة الممتنع من أدائها وقال:
وقيل: بل لا يستباح قتلا إن كان بالإسلام قد تحلى لكنه يوجع ضربا إن أبى حتى يتوب ويوالي أدبا فالمؤمن الإيمان واقف لدمه إلا بقتل أو زنى أو عدمه (ردته) جاء به حديث عبد الله وعائش زوج نبي الله وذاك مروي عن الزهري وغيره في السلف المرضي وقاله النعمان في أصحابه معتبر الواضح من صوابه وهكذا قال به داود وهو الذي القول به سديد والبسط في الترجيح قد يطول يكفيك إن لم يقضه التنزيل ولا أتى نصاً عن الرسول ولا بدا في واضح الدليل وكل ما احتج به المخالف فهو بتأويل، أباه العارف يرده الأصل ونص الخبر وقد أشرنا آنفا للأثر ورجح قتل الحر بالعبد وفاقاً للنعمان وأهل الرأي وأهل الظاهر وخلافاً لمالك والشافعي وأحمد.
وورد النهي عن بيع الثنيا(4/27)
واتفق العلماء على منعه في الكثير، وأجازه مالك في الثلث فما دونه.
ومنع الجمهور في الجميع في القل والكثر بلا تنويع والمنع في الإطلاق حكم الشارع عند أبي حنيفة والشافعي حسبما دل عليه النهي ما لامرىء من دون ذاك رأي وجملة الأمر فكل ثنيا لم يك في الشرع عليها فتيا تخص من عموم نهي الخبر فهي على المنع به واختبر * * *
13 ــــ وأما أبو حنيفة فهو كثيراً ما يخالفه:
واختلفوا في عمل التثويب أعني الذي في الصبح من تعقيب ــــ أي قول المؤذن للصبح: الصلاة خير من النوم، مرتين:
فذهب الجمهور لاستحبابه وقال قوم: ليس من آدابه وكرهوه منهم النعمان وغيره وما لهم برهان لأنه قد سنه الرسول فقام للقول به الدليل وقال في اشتراط النصاب لوجوب الزكاة:
وشذ قوم ها هنا فذكروا ــــ منهم أبو حنيفة وزفر: إن جميع فائد النبات ليس له النصاب في الزكاة وإنها تجب في القليل وفي الكثير دون ما تفصيل وذكر الخلاف في وجوب الزكاة في الخيل وفي العسل.
فذهب الجمهور إلى عدم وجوب الزكاة في الخيل وأوجبها فيها أبو حنيفة.
وقال جماعة من أهل العلم بوجوب الزكاة في العسل، منهم الزهري والثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، وأصحابه، وإسحاق، وابن حنبل، وابن وهب:
وربما روى الذين وصفوا فيها الزكاة خبراً يضعف فلا يصح ذاك في الدليل عند أولى الإتقان والتحصيل لذاك ما أسقطه الجمهور ممن سواهم وهو المشهور وخالف الجم الغفير زفره فقال: يجزي، وهو قول منكر ! ومن أركان الصيام النية.
وذكر الخلاف في وقت النية، فقال أبو حنيفة تجزىء قبل الزوال: وذاك قول ليس بالمرضى.
وفي اليمين:
وقال أهل الرأي قولاً يضعف: إن على المكره حنثاً يوصف
وذاك قول ماله برهان بل هو مما قد عفي القرآن وذكر بطلان نكاح الشغار وفسخه.(4/28)
للنهي فيه الثابت المشهور وهو اتفاق الأكثر الجمهور وخالف النهي أبو حنيفة وتلك منه عادة معروفه! وأجاز الجمهور المساقات لما فعله النبي (ص) مع أهل خيبر، وخالف النعمان فلم يجزها:
وهو شذوذ قد جرى في فعله على كثير من بناء أصله! وأجاز مالك والشافعي هبة المشاع
ورده النعمان فيما ذهبا... وذاك تقصير في الاعتبار... ثم هو النعمان قد تناقضا في قوله ذلك عندما قضى لأنه أجاز في المشاع شراءه والقبض للمبتاع وذكر أن كل ما أسكر فهو خمر ودليل ذلك من المنقول والمعقول، ومن قال ذلك، وقيل إنه مقصور على عصير العنب.
وهو الذي قال أبو حنيفة والوهم منه سمة معروفه! وانعقد الإجماع غير نكر في الخمر تحريماً وفعل السكر من كل شيء من نبيذ كانا أو غيره فلتعرف الأركانا * * *
وقال بالأعجوبة الطريفة جماعة منهم أبو حنيفه أن يقتل المسلم بالذمي وذاك قول ليس بالمرضي واتفقوا على القصاص في الجروح بين الرجال، واختلفوا هل كذلك بين الرجال والنساء، وإليه ذهب مالك والشافعي.
وهكذا قال به الجمهور وهو الصحيح الثابت المشهور لظاهر العموم مما قد ورد ولاستواء النفس في باب القَوّد وخالف النعمان حكم الظاهر ومسلك القياس في البصائر فأنكر القصاص في الأعضاء وقد قضى في النفس بالإمضاء وذهب الجمهور في جنايات العبيد بعضهم على بعض إلى القصاص بينهم في النفس وسائر الأعضاء، وهو قول مالك والشافعي.(4/29)
وأسقط النعمان فيما اعتمدا أمر الجراح، وأقر القودا وهكذا بدون (كذا) ضبطه مذهبه لو كان عن أصل صحيح مربه يقضي لهم بالقود السواء ويمنع القصاص في الأعضاء! * * * وشذ قوم ها هنا فذكروا منهم أبو حنيفة وزفر إن جميع فائد النبات ليس له النصاب في الزكاة وإنها تجب في القليل وفي الكثير دون ما تفصيل * * * واختلفوا في عاقد الإيمان يخالف العقد على نسيان فالشافعي قال: ليس يحنث ومالك رآه حنثاً يحدث والوجه أن لا حنث في النسيان لظاهر السنة والقرآن واتفقا في أنه أن أكرها عليه أن لا حنث فيه منتهى وقال أهل الرأي قولاً يضعف أن على المكره حنثاً يوصف وذاك قول ماله برهان بل هو مما قد عفى القرآن * * * وورد الأمر بالعقيقة، فاختلف في وجوبها أو سنيتها.
وخالف الجماعة الموصوفة برأيه الشيخ أبو حنيفه فقال: تلك بدعة لم تشرع فجاء بالبدع ونكر أشنع خالف جهراً ثابت الأخبار والعمل المشهور في الأمصار وذاك ما لم يختلف في نقله عن الرسول قوله وفعله فقر شرعاً ثابتاً في الباب وإنما الخلاف في الإيجاب * * * وورد النهي عن نكاح الشغار
وخالف النهي أبو حنيفة وتلك منه عادة معروفه! * * * وصح الحديث البيعان بالخيار ما لم يتفرقا:
فقال أهل العزم والإحقاق: لا ينقضي إلا بالافتراق ... ومالك قال وأهل الرأي: قولاً ينوؤون به عن لأي؟ قالوا: يتم العقد بالتراضي من غير فرقة فذاك ماض وهو خلاف الأثر الصحيح وليس يخفي مسلك الترجيح هذا، وإن كانت لهم أعذار ليس بها يحسن الاعتبار! لأنها الخروج في التأويل عن ظاهر الحكم بلا دليل وقال أهل الرأي بشفعة الجار:
وذاك قول ليس بالسديد لأن في الصحيح ذا مردود جاء إذا وقعت الحدود قال: فلا شفعة فهو نص يعيي به الخلاف أو يغص * * * وأجاز الجمهور عقد المساقات لفعل النبي (ص) مع أهل خيبر، وخالف النعمان فلم يجزها.(4/30)
وهو شذوذ قد جرى في فعله على كثير من بناء أصله! اختلف العلماء في سهم ذي القربى بعد النبي (ص) اختلافاً كثيراً تحصل إلى أربعة أقوال:
قول إنه باق لقرابة النبي (ص) بعده، وهو قول مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأحمد وأبي ثور وأهل الظاهر وغيرهم وهو الصحيح.
وبعدما استدل لهذا القول بالقرآن والحديث، وأورد الخلاف في تعيين القرابة وما احتج به كل واحد قال:
وقول ثان: سهم ذي القربى هو بعد النبي (ص) لقرابة الإمام، روي ذلك عن الحسن البصري وقتادة.
ولا مستند لهذا القول. إلا ما لعله أن يتوهم في قوله تعالى، ولذي القربى، إن ذلك يجري في كل من له الأمر على المسلمين، لا يختص بقرابة النبي (ص)، وذلك بعيد!
ثم أورد قولاً رابعاً أن يرد سهم النبي (ص) وسهم ذي القربى على الأصناف الثلاثة الباقين، وهو مذهب أبي حنيفة قال: وهو بعيد، لا دليل عليه (117).
* * * 14 ــــ وأحياناً يختار التفصيل في المسألة المختلف فيها
فقد ذكر الخلاف في شركة الوجه، وهي أن يشتريا في ذمتهما وإن مالكاً والشافعي منعاها، وأباحها النعمان وسفيان وإسحاق وأحمد ثم قال:
وجملة الأمر الذي نراه تفصيل ما يبني له معناه فإن يكن ذاك على الضمان في حظه وفي النصيب الثاني ولم يكونا حضرا جميعاً لعقده، فذا نرى ممنوعا لأنه مضمن للغرر وليس يخفي في وجوه النظر وإن يكن ليس على الكفالة أو كان، لكان حضرا للشرا له فذاك في الحضور لا إشكال وهو مع الغيبة قد يقال بأنه يكون كالتوكيل فالظاهر الجواز في التحصيل * * * 15 ــــ وهذه أمثلة لاختياره في الاشتقاق اللغوي لبعض المصطلحات الشرعية :
قال في باب الجنائز:(4/31)
وأهل الاشتقاق فيما ذكرا من جنز الشيء إذا ما سترا فالميت المدرج في الأكفان يستر محجوباً عن العيان وجائز عندي أن يكونا الأصل فيه كله يعنونا من جُنز الشيء: إذا ما جمعا فافهم وكن ممن إذا قال وعى لأن نفس من يموت تجمع في موقف فيه النفوس جمع وهو لما جمعت جوارحه عن حركاته فلا تبارحه قيل له جنازة، فممكن في الاشتقاق كل ذاك يحسن وهكذا الأعواد من سريره قد جُمعت لمبتغى تسييره وبعدما ذكر في الربا أنه من الزيادة جوز أن يكون من ربا يربو ربواً أخذه الربو:
لأنه فيه فساد الجسم فشبهوا منه فساد الحكم وذكر الخلاف في معنى كون الطهور شطر الإيمان أي نصفه.
ثم قال: وها أنا أقول قولاً أعتمد
فيه على الله الهدى واجتهد فربما وافق وضع العرب والشرع واستحق أعلا الرتب أقول: شطره بمعنى قصده ووجهه لا نصفه في حده ... وجاء في القرآن شطر المسجد أي قصده ونحوه فلتقتد ولا يصدنك عن تحصيله إن لم يقل من قبل في تفصيله فالعاقل الكيس من تأملا بعقله الأرجح فيما استعملا وذكر الخلاف في اشتقاق الزكاة وقال:
وقيل: بل مخرجها احتساباً لله يزكو عنده اقترابا فهي له التطهير والزكاة جاء به القرآن والآيات وهذه أوضحها دليلا في ذلك المعنى وأعلى قيلا وذكر أن اشتقاق الشركة من الاشتراك أي الاختلاط، ثم جوز هو أن تكون من الشرك لأنها تعقل عن حرية التصرف إلا بإذن الآخر.
ونقل عن القتبي (ابن قتيبة) أن الشفعة في البيع من الشفاعة، ثم جوز هو أن تكون من الشفع ضد الوتر.
ونقل عن ابن قتيبة في شركة المفاوضة أنها من التفاوض ثم قال:
قلت: ويبدو وكأن ميسمه من فوض الأمر له أي أسلمه كلاهما فوض إذ فوض له فكان ذا أحرى لمن تأوله واختار في اشتقاق بيع المزابنة وجهاً غير الوجه الذي ذكره ابن قتيبة وقال:
وهو صحيح مستوفي النظر فلا يصدنك إن لم يذكر! * * * 16 ــــ رثاء رسول الله (ص)(4/32)
هل لي إلى العزاء والتجلد من مسلك؟ أو موقف؟ أو مشهد؟ أم هل جميل الصبر والتأيد في مثلها غير الجميل الأرشد؟ بل جل في فقد النبي أحمد زرؤ بني الإسلام، فاجزع! واجهد! يا روع كل مؤمن موحد! من مات أو حيى، أو لم يولد! هل هو في النفوس أن يجدد إلا المصاب مثله لم يعهد يا عين جودي عَبرة واسعد واكتحلي بالذعر كحل الأرمد وصوبي الدمع دما! لا تجمد أن تجزعي يا نفس أو تبددي أو تهلكي من أسف أو تفندي أو تتشطى قطع المقدد! لا تنصفي! فزد أسى واستفدي حزنا على ما فاتنا من أسعد بفقده لا قر عين الحُسَّد! أما رسول الله مهما يغتدي ففي النعيم الدائم المخلد وفي جوار الله أعظم باليد ما شاء من عز ونعمى أبد وإنما نبكي لحظ أنكد! من بعده يا صاح فاكمد واكمد موت النبي المصطفى محمد رسول رب العالمين المرشد موت الهدى في يومه وفي الغد محيي غبيات القلوب الهمد موت للجلال والعلا والسؤدد والبر والتقوى وفعل الرشد بالنفس والأهل إذاً والولد والوالدين وجميع العدد نفديه لو صح لنا أن نفتدي يا خير من نُهدى به ونهتَدي يا نعم من سن الهدى لنقتدي يا من أزاح ظلم كل معتد يا من به صلاح كل مفسد ويا رسول ربنا لا تبعد وجهي يقيك ترب ذاك الملحد نفسي الفدا في مصدر ومورد * * * وبعد،
فأرجو أن أكون قد وفقت فيما قصدت إليه من لفت النظر إلى هذا الفقيه المجتهد المختار، الذي أضاف إلى تجارب الفقهاء المجتهدين قبله تجربته الخاصة التي لها طابع الاختيار من مختلف مذاهب المجتهدين حسب ما يظهر له أنه يؤيده النص الشرعي، فن غير تقيد بآراء مذهب معين.(4/33)
ومن حسن الحظ أن تحتفظ لنا المكتبة المغربية بثلاثة آثار من آثار المؤلف، اثنان منها في المغرب الأقصى، وواحد في المغرب الأدنى (تونس) في الوقت الذي لم يبق بين أيدينا شيء مما كتبه دعاة الاجتهاد أو العمل بالحديث في هذه الحقبة وما قبلها بيسير، في هذه المنطقة من العالم الإسلامي، وذلك ما من شأنه أن يساعدنا على التعرف على ناحية طريفة من نواحي تاريخنا الفكري والثقافي في هذه المرحلة الدقيقة من حياتنا التي نحرص فيها على التعرف على تراثنا ودراسته وتقييمه والعمل على إحياء ما يستحق الإحياء منه، ومحاولة الاستفادة مما تنفع الاستفادة منه في إغناء ثقافتنا وإحياء أصالتنا، ومساعدتنا على مواجهة مشاكل الحياة الحديثة بروح استقلالية أصيلة.
وإذا كنت لم أهتم بمناقشة ابن المناصف في ترجيحاته واختياراته فذلك أولا: لأن المهم في نظري هو المحاولة التي قام بها وهي شيء له قيمته العظمى في أقاليم فرضت عليها ظروفها التاريخية الخاصة أن تبرز عبقريتها الفقهية في حدود المذهب المالكي في الأغلب الأعم، الأمر الذي حرمها من أن يبرز فيها من كبار المجتهدين مثلما برز في كثير من أقاليم المشرق الإسلامي.
وثانياً ــــ لأن مناقشة المؤلف في ترجيحاته معناه استعراض اختلافات المجتهدين ومناقشة احتجاجاتهم والترجيح بينها في كل مسألة بخصوصها، وذلك يعني وضع مذهب جديد!
وكل ما أرجوه أن يساهم هذا العرض في حمل المهتمين على العمل على نشر آثار ابن المناصف ليتمكن الباحثون والدارسون من مناقشتها وتقييمها والاستفادة مما يمكن الاستفادة منه من بينها، وإحلالها المكان اللائق بها في تاريخ الفكر الإسلامي الفقهي، فإذا وفقت في ذلك فهو حسبي وهو غاية ما قصدت إليه.
محمد إبراهيم الكتاني
فهرس الموضوعات
تقديم بقلم المعتني
3
الاجتهاد في المغرب
8
بين يدي الكتاب
13
ترجمة المؤلف
17
إحياء الاجتهاد باعتباره قاعدة من قواعد التفكير في الإسلام
25
المجتمع الإسلامي
28(4/34)
ضمان استمرار هذا المجتمع
28
حق التشريع
28
فقه القرآن والسنة
29
الاجتهاد البياني
31
الاجتهاد الفردي في عهد الرسول (ص)
31
الاجتهاد الجماعي فيما لا نص فيه على عهد الرسول (ص)
32
اهتمام الإسلام بضمان آفاق المستقبل
34
عهد الخلافة الراشدة
34
فقهاء التابعين وتابعيهم
37
اختفاء الاجتهاد الجماعي
37
أصول الفقه
39
شروط الاجتهاد
39
مقاصد الشريعة
41
وانقطع الاجتهاد
42
الدعوة إلى الاجتهاد ومحاربة التقليد
43
وجاء الاستعمار
44
كيف نحيي الاجتهاد؟
49
مشاكل تنتظر الاجتهاد
54
الاقتصاد الإسلامي
56
الملاحق:
61
1 ــــ من لهم الاجتهاد بالرأي. لعبد الوهاب خلاف
61
2 ــــ وجوب الزكاة في رواتب الموظفين، وأجور العمال، وصافي إيرادات المباني، وصافي إيرادات الملكية الزراعية. للدكتور محمد سعيد عبد السلام
65
3 ــــ النتائج التي ختمت بها دراسة حكم شريعة الإسلام في عقود التأمين. للدكتور حسين حامد حسان
67
علي بن حزم المجتهد الأندلسي
ترجمة ابن حزم
69
محاربة مؤلفات ابن حزم وإحراقها
73
صمود ابن حزم
73
استمرار المعركة
74
عدد مؤلفات ابن حزم وما هو الموجود منها
85
مؤلفات ابن حزم ورسائله المفقودة
85
مؤلفات ابن حزم ورسائله الموجودة كلاً أو بعضاً
90
ملاحظات حول مؤلفات ابن حزم
93
رأينا في مؤلفات ابن حزم
94
هل أثر ابن حزم في الفكر المسيحي؟
95
الفضل للسابق
96
صدى دراسة ابن حزم للعهدين عند معاصريه
97
عناية المستشرقين المحدثين بـ: «الفصل»
98
تلخيص مقدمة «أسين» المهمة
98
سعة معرفة ابن حزم بالمسيحية
100
ظاهري في دراسته المسيحية أيضاً
100
ملؤه لفراغ يبلغ القرون
101
«بولس» محرف المسيحية
102
تقدير وإعجاب
103
نقطة استفهام
104
مؤكدات التأثير
104
ابن عربي الحاتمي
106
تطلب النص التاريخي
107
توماس الأكويني وابن حزم
108
صلة الإسلام بإصلاح المسيحية
109
الإسلام أحد الأسباب
110
أمين الخولي يؤكد معرفة الغرب المسيحي لابن حزم
110(4/35)
علم تاريخ الأديان المقارن
114
صفحة مجهولة حول كتابي «المورد الأحلى في اختصار المحلى» لابن حزم، و«القدح المعلى في إكمال المحلى» لابن خليل
115
طعن ابن خليل في زيادة أبي رافع
118
عمل ابن خليل ومنهجه
119
المورد الأحلى
125
الطعن في «المستحلى»
125
القدح المعلى
126
أهمية بالغة
127
معلومات لم تكن معروفة من قبل
128
تعقيب
128
حول تتمة «المحلى» لابن خليل أيضاً
129
شذرات من كتاب «السياسة» لابن حزم
133
الحاجة إلى الخلافة وحكمتها ومهمتها ودليلها
134
فصل فيما يلزم الإمام من أمور الأمة
135
تنظيم أوقات الإمام
136
وزراء الإمام
137
الشورى
137
تشجيع الإمام العمارة والغراس
137
والي الصلاة
138
يلزم الإمام عدم البحث عن الحدود
139
فصل في ذكر صاحب البريد
139
فصل في ذكر عمال الزكاة
140
مرتب والي الخراج
140
الولاة والعمال
140
السجون
143
شدة حمق من يبذل نفسه فيما لا يعلم
144
ما في جميع الناس شر من النمام
145
خطر النميمة والكذب على المجتمع
145
أبو عبد الله بن المناصف المجتهد المغربي ترجمته
148
شيوخه
151
مصادر ترجمته
153
تراجم مفقودة
154
أقوال مترجميه في حقه
155
آثاره: «المذهبة» و«المعقبة»
156
فصل السلم، تنبيه الحكام
158
المعلم الرابع من «الدرة السنية في السيرة النبوية»
160
مقالة في الأيمان اللازمة
162
موضوعاته
165
الحالة الفقهية على عهد ابن المناصف
166
آراؤه الأصولية والفقهية
169
القياس والاجتهاد
171
منهج ابن المناصف في كتاب «الإنجاد» ونبذة الفقه من «الدرة السنية»
176
مصادره
179
اتهامات مترجميه
181
نماذج وأمثلة
183
1 ــــ الفرق بين ما يجوز من الخديعة وما يكون له حكم الأمان
183
2 ــــ مراعاة مقاصد الشريعة
185
3 ــــ اختلاف الأحكام لاختلاف الأحوال
185
4 ــــ الاستدلال بالنظر
186
5 ــــ منشأ الخلاف
187
6 ــــ التمسك بالدليل
189
7 ــــ ترجيح رأي مالك
189
8 ــــ الترجيح بين أقوال المالكية
190(4/36)
9 ــــ وهو قد يخالف الشافعي أحياناً
191
10 ــــ موافقة الظاهرية
193
11 ــــ وإذا كان يوافق داود وابن حزم أحياناً فإنه كثيراً ما يخالفهما
194
12 ــــ وقد يوافق أبا حنيفة أحياناً
195
13 ــــ وأما أبو حنيفة فهو كثيراً ما يخالفه
196
14 ــــ وأحياناً يختار التفصيل في المسألة المختلف فيها
201
15 ــــ اختياره في الاشتقاق اللغوي
201
16 ــــ رثاء رسول الله (ص)
202
فهرس الموضوعات
205
--------------------------
PKSL/Text Tag: "tx3"
--------------------------
صحح هذا المتن الإمام أحمد - رحمه الله - كما نقل ذلك عنه الخطيب البغدادي كما في «الجامع الكبير» للسيوطي (8/62 - 63).
رواه أبو داود في «السنن» (4/109)، والحاكم في «المستدرك على الصحيحين» (767، 768، 865).
«سلوة الأنفاس فيمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس». للإمام محمد بن جعفر الكتاني. الطبعة الحجرية (2/73).
«سلوة الأنفاس» (2/203).
«الشرب المحتضر في تراجم أهل القرن الثالث عشر» تأليف الإمام جعفر بن إدريس الكتاني، طبعة حجرية ص 10.
«عمدة الراوين في تاريخ تطاوين» تحت الطبع، تأليف أحمد بن محمد الرهوني (9/5).
للمزيد من الاطلاع على مؤلفات الأستاذ محمد إبراهيم الكتاني ووصفها ينظر كتاب: «العلامة المجاهد محمد إبراهيم بن أحمد الكتاني: حياة علم وجهاد»، جمع وتحقيق والدنا الشهيد الدكتور علي بن المنتصر الكتاني رحمه الله تعالى.
المراجع: «العلامة المجاهد محمد إبراهيم بن أحمد الكتاني: حياة علم وجهاد»، «أعلام المغرب العربي» «ج1 تأليف عبد الوهاب بن منصور، «إسعاف الإخوان الراغبين بتراجم ثلة من علماء المغرب المعاصرين» تأليف محمد بن الفاطمي ابن الحاج السلمي ص 135.
وصدرت في المدة الأخيرة قوانين إسلامية محل القوانين البريطانية في جمهورية السودان.
آل عمران: 3، 48، 40، 65. المائدة: 46، 47، 66، 68. الفتح: 29 الحديد 27.
المائدة: 13، 14.
البقرة: 79.
المائدة: 48.(4/37)
من ج 1 ص 116 إلى ج 2 ص 91 طبع الجمالي والخانجي سنة 1320هـ وج 1 ص 82 ــــ ج 2 ص 63 طبع صبيح سنة 1347 وراجع أراندونك Arendonk في دائرة المعارف الإسلامية، الطبعة العربية ج 1 ص 140.
راجع المقري نفح الطيب ج 2 ص 287 طبع مطبعة السعادة 1367هـ ــــ 1939م.
راجع مثلاً الشيخ رحمه الله الهندي في (إظهار الحق) طبع مصر، والدكتور صدقي في كتابيه (دين الله في كتب أنبيائه) و(نظرات في كتب العهد الجديد) طبع المنار، ومحمد طاهر التنير في (كتاب العقائد الوثنية في الديانة النصرانية) والقائمة الطويلة بأوله للمصادر التي اعتمد عليها، طبع بيروت، ومحمد رشيد رضا (شبهات النصارى وحجج الإسلام)، طبع المنار، ومحمد أبو زهرة: (محاضرات في النصرانية) طبع مصر، وغيرها كثير جداً.
جذوة المقتبس طبع مصر ص 291.
بغية الملتمس طبع مدريد ص 405.
مختصر الإحاطة ج 2 مخطوط.
وفيات الأعيان ج 1 ص 340 طبع المطبعة المنيمنية بمصر سنة 1310هـ.
ابن حزم: (التقريب لحد المنطق)، ص 15، 52، 54 نشر مكتبة دار الحياة بيروت بتحقيق الدكتور إحسان عباس سنة 1959م وكانت اللاتينية من الشيوع بين الأندلسيين إلى درجة أن ابن حزم تعجب في (الجمهرة) من وجود قوم كانت دارهم شمال قرطبة لا يحسنون الكلام بها، وإنما يتكلمون بالعربية فقط (ص 315).
ابن بسام: الذخيرة المجلد الأول ص 143.
ابن بسام: الذخيرة ج 2 ص 269.
الذخيرة ج 1 ص 137 دائرة المعارف الإسلامية، الترجمة العربية ج 1 ص 140 و144.
ثلاثة من النقاد الألمانيين من أهل القرن 19 وكانوا من البروتستانتيين الأحرار.
راجع الفصل 1 ــــ 221.
شكيب أرسلان: الحلل السندسية ج 1 ص 360.
ج 2 ص 177.
ص 172.
لطفي عبد البديع: الإسلام في إسبانيا ص 54 ــــ 55.
ج 4 مخطوط باريس، نسخة مصورة بالمكتبة العامة بالرباط.
المقري: نفح الطيب ج 2 ص 363 مطبعة السعادة 1361هـ.
شكيب أرسلان: الحلل السندسية ج 3 ص 527.
نفح الطيب 2 ــــ 363.(4/38)
الحاتمي الفتوحات المكية ج 2 ص 519 طبع دار الكتب العربية.
لطفي عبد البديع: الإسلام في إسبانيا ص 57 ــــ 58.
كان كثير من الأندلسيين المسلمين يتقنون لغة جيرانهم المسيحيين من القشتاليين والأراغوليين، ويحدثنا لسان الدين ابن الخطيب في (الإحاطة) أن معاصرة محمد بن لب الكناني المالقي (ق 8هـ ــــ 14م) كان يطوف إسبانيا مناقشاً قساوستها في أصول الديانتين الإسلامية والمسيحية. (راجع الدكتور أحمد مختار العبادي) «مشاهدات لسان الدين ابن الخطيب في بلاد المغرب والأندلس» ص 99 التعليق رقم 2 طبع جامعة الإسكندرية سنة 1958م.
وقد وقفت في مكتبة القصر الملكي بالرباط على مخطوط من تأليف أحد علماء القرن السابع الهجري 13م يرد فيه على تأليف اسمه «تتثليث الوحدانية» بعثة بعض رهبان طليطلة إلى مدينة قرطبة يتضمن الاحتجاج للمسيحية والطعن في الإسلام، وكل من الكتابين صورة للحرب الكلامية والفكرية التي أشرنا إليها.
ابن خير: فهرسة ما رواه عن شيوخه ص 410 طبع سرقسطة 1894م.
طبقات الشافعية الكبرى ج 2 ص 184 ــــ 189.
El Collar dela pol Ma. Tratado sobre el amor y los amantes de Ibn Hzm de Cordoba. Traducido del arabe por Emilio Gracia Gomez Madrid 1952 ص 51 ــــ 56.
الدكتور لطفي عبد البديع: الإسلامي في إسبانيا ص 159 نشر مكتبة النهضة المصرية 1958 وهو 2 من سلسلة المكتبة التاريخية.
ص 183 ــــ 185.
ص 56 المصدر السابق.
أمين الخولي: صلة الإسلام بإصلاح المسيحية ص 44، 52، 56.
أمين الخولي: صلة الإسلام بإصلاح المسيحية ص 43 ــــ 54.
راجع في هذا: الفريد جيوم: تراث الإسلام الصفحات 88. 101، 102، 271 من ج 1 الترجمة العربية، نشر (لجنة الجامعيين لنشر العلم).
أراندوناك C.Van Arandonac كاتب مادة (ابن حزم) في دائرة المعارف الإسلامية ص 139 ــــ 140 من المجلد الأول من الترجمة العربية.(4/39)
تقرأ في كتاب (تراث الإسلام) ــــ ج 1 ص 54 ــــ من الترجمة العربية ما نصه: (وقد استغرق تأثير الإسلام كل مرافق الحياة في إسبانيا في القرن العاشر، فلما سقطت طليطلة انتشر هذا التأثير حتى شمل بقية أوروبا، ذلك أن هذه الأخيرة كانت قد أصبحت شيئاً فشيئاً، مركز الثقافة الإسلامية في القرن الحادي عشر، بعد أن خرب البربر قرطبة في أوائل هذا القرن وبقي لها هذا المقام بعد الغزو المسيحي سنة 1085... الخ) وابن حزم من أهل القرن الحادي عشر الميلادي ــــ توفي سنة 1064م.
أراندوناك المصدر السابق ص 143 من الترجمة العربية.
انظر الفصل الثاني فقرة 8 من بحث الخولي المذكور.
أمين الخولي: صلة الإسلام بإصلاح المسيحية ص 48 ــــ 50.
الخولي صلة الإسلام ص 66 ــــ 70.
نفس المصدر.
نقل هذه الفقرة ابن الأزرق في «بدائع السلك، في طبائع الملك» خ (ق 99 أ).
نقلها ابن الأزرق بالمعنى (ق 96 أ) وعقب عليها بنقل كلام الجاحظ الذي قال عنه إنه أوسع من كلام ابن حزم.
ابن الأزرق (ق 97 ب).
ابن الأزرق (ق 96 ب).
ابن الأزرق (ق 97 ب).
نقل ابن الأزرق هذه الفقرة في «بدائع السلك» خ.
نقل ابن الأزرق هذه الفقرة وقال: (لترخص) بدل: فبذلك ترخص.
نقل ابن الأزرق هذه الفقرة في «بدائع السلك» عن ابن حزم ولم يسم الكتاب.
لا يبعد أن يكون ابن حزم هو قائل هذا، حسبما يفهم من سياق ابن رضوان.
نقل ابن الأزرق هذين السطرين اللذين جعلناهما بين معقوفين في «بدائع السلك» ص 88 بتلخيص مخل بالمعنى!
نقل ابن الأزرق هذه الأسطر التي بين معقوفين بتلخيص في «بدائع السلك» ص 73 أ.
نقل ابن الأزرق هذه الأسطر التي بين معقوفين بالمعنى ص 89 ب.
نقل ابن الأزرق هذه الفقرة ببعض اختصار (ص 89 ب).
الكلمات 7 التي بين معقوفين ساقطة من بعض نسخ (الشهب اللامعة).
--------------------------
PKSL/End:
--------------------------(4/40)
فهرس الموضوعات
الموضوع الصفحة
تقديم بقلم المعتني
الاجتهاد في المغرب
بين يدي الكتاب
ترجمة المؤلف
إحياء الاجتهاد باعتباره قاعدة من قواعد التفكير في الإسلام
المجتمع الإسلامي
ضمان استمرار هذا المجتمع
حق التشريع
فقه القرآن والسنة
الاجتهاد البياني
الاجتهاد الفردي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
الاجتهاد الجماعي فيما لا نص فيه على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
اهتمام الإسلام بضمان آفاق المستقبل
عهد الخلافة الراشدة
فقهاء التابعين وتابعيهم
اختفاء الاجتهاد الجماعي
شروط الاجتهاد
مقاصد الشريعة
وانقطع الاجتهاد
الدعوة إلى الاجتهاد ومحاربة التقليد
وجاء الاستعمار
كيف نحيي الاجتهاد؟
مشاكل تنتظر الاجتهاد
الاقتصاد الإسلامي
الملاحق:
1 – من لهم الاجتهاد بالرأي. لعبد الوهاب خلاف.
2 – وجوب الزكاة في رواتب الموظفين، وأجور العمال، وصافي إيرادات المباني، وصافي إيرادات الملكية الزراعية. للدكتور محمد سعيد عبد السلام.
3 – النتائج التي ختمت بها دراسة حكم شريعة الإسلام في عقود التأمين. للدكتور حسين حامد حسان.
علي ابن حزم المجتهد الأندلسي
مؤلفات ابن حزم بين أنصاره وخصومه
محاربة مؤلفات ابن حزم وإحراقها
صمود ابن حزم
استمرار المعركة
عدد مؤلفات ابن حزم وما هو الموجود منها
مؤلفات ابن حزم ورسائله المفقودة
مؤلفات ابن حزم ورسائله الموجودة كلا أو بعضا
ملاحظات حول مؤلفات ابن حزم
رأينا في مؤلفات ابن حزم
هل أثر ابن حزم في الفكر المسيحي؟
الفضل للسابق
صدى دراسة ابن حزم للعهدين عند معاصريه
عناية المستشرقين المحدثين بـ: "الفصل"
تلخيص مقدمة "أسين" المهمة
سعة معرفة ابن حزم بالمسيحية
ظاهري في دراسته المسيحية أيضا
ملؤه لفراغ يبلغ القرون
"بولس" محرف المسيحية
تقدير وإعجاب
نقطة استفهام
مؤكدات التأثير
تطلب النص التاريخي
توماس الأكويني وابن حزم
صلة الإسلام بإصلاح المسيحية
الإسلام أحد الأسباب(5/1)
أمين الخولي يؤكد معرفة الغرب المسيحي لابن حزم
علم تاريخ الأديان المقارن
حول كتابي "المورد الأحلى في اختصار المحلى" لابن حزم، و"القدح المعلى في إكمال المحلى" لابن خليل.
طعن ابن خليل في زيادة أبي رافع
عمل ابن خليل ومنهجه
المورد الأحلى
الطعن في "المستحلى"
القدح المعلى
أهمية بالغة
معلومات لم تكن معروفة من قبل
تعقيب
حول تتمة "المحلى" لابن خليل أيضا.
شذرات من كتاب "السياسة" لابن حزم
الحاجة إلى الخلافة وحكمتها ومهمتها ودليلها
فصل فيما يلزم الإمام من أمور الأمة
تنظيم أوقات الإمام
وزراء الإمام
الشورى
تشجيع الإمام العمارة والغراس
والي الصلاة
يلزم الإمام عدم البحث عن الحدود
فصل في ذكر صاحب البريد
فصل في ذكر عمال الزكاة
مرتب والي الخراج
الولاة والعمال
السجون
شدة حمق من يبذل نفسه فيما لا يعلم
ما في جميع الناس شر من النمام
خطر النميمة والكذب على المجتمع
أبو عبد الله ابن المناصف المجتهد المغربي
ترجمته
شيوخه
مصادر ترجمته
تراجم مفقودة
أقوال مترجميه في حقه
آثاره: "المذهبة" و"المعقبة"
فصل السلم، تنبيه الحكام
الدرة السنية
المعلم الرابع من "الدرة السنية في السيرة النبوية"
الإنجاد
موضوعاته
مقالة في الأيمان اللازمة
كتاب نسب خطأ لأبي عبد الله ابن المناصف
الحالة الفقهية على عهد ابن المناصف
آراؤه الأصولية والفقهية
القياس والاجتهاد
المقلد والتقليد
ابن المناصف ينتقد الفوضى الفكرية على عهده
منهج ابن المناصف في كتاب "الإنجاد" ونبذة الفقه من "الدرة السنية"
مصادره
اتهامات مترجميه
نماذج وأمثلة
1- الفرق بين ما يجوز من الخديعة وما يكون له حكم الأمان
2- مراعاة مقاصد الشريعة
3- اختلاف الأحكام لاختلاف الأحوال
4- الاستدلال بالنظر
5- منشأ الخلاف
6- التمسك بالدليل
7- ترجيح رأي مالك
8- الترجيح بين أقوال المالكية
9- وهو قد يخالف الشافعي أحيانا
10- موافقة الظاهرية(5/2)
11- وإذا كان يوافق داود وابن حزم أحيانا فإنه كثيرا ما يخالفهما
12- وقد يوافق أبا حنيفة أحيانا
13- وأما أبو حنيفة فهو كثيرا ما يخالفه
14- وأحيانا يختار التفصيل في المسألة المختلف فيها
15- اختياره في الاشتقاق اللغوي
16- رثاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
فهرس الموضوعات(5/3)