تقديم
عمر عبيد حسنه
الحمد لله الذي جعل التفكير، وتحصيل المعرفة، فريضة شرعية، ودليل الاهتداء والإيمان، كما جعل الاجتهاد سبيل التجديد والتجدد، للرسالة الخاتمة، ووسيلة النمو والامتداد وتحقيق الخلود واستنباط الأحكام، وتنزيلها على الوقائع المستجدة والمتغيرات الحياتية، وناط الثواب بالقيام بعملية التفكير، فأثاب المجتهد المصيب بأجرين، وجعل للمجتهد المخطئ أجراً واحداً، ولم يجز على الخطأ في أي أمر من الأمور، إلا على ممارسة التفكير والاجتهاد.
وغاية ما في الأمر، بالنسبة للخطأ، أنه تجاوز عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» (أخرجه ابن ماجه)، وجعل للمجتهد المخطئ أجراً على ممارسة الاجتهاد – لا على الخطأ- للحض على الاجتهاد، والدعوة إليه، وعدم الخوف من الإقدام عليه والارتياب من نتائجه أو أخطائه.
فإذا أدركنا ما للاجتهاد من أبعاد فكرية، وثقافية، وذهنية، وتنموية، وعلمية وتربوية، ونهضوية، علمنا أهمية الدعوة إليه والحض عليه، خاصة وأن الاجتهاد في التصور الإسلامي يشمل قضايا الحياة جميعها، سواء في ذلك فترات السلم والأمن، أو فترات الخوف والحرب، قال تعالى: ((وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الاْمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الاْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ... )) (النساء:83).(1/1)
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المجتهدين، الذي كان يجتهد في تنزيل الوحي، وفيما لا وحي فيه، ويدرب أصحابه على الاجتهاد، ويطلب إليهم الرأي في الكثير من القضايا بقوله: « أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي ... » (أخرجه البخاري)، حتى لقد جعلت الشورى وتداول الرأي وإعمال الفكر من تكاليف النبوة، قال تعالى: ((وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ)) (آل عمران:159)، مع أن النبوة مستغنية عن الشورى بالوحي؛ كما جعلت - الشورى- من خصائص المسلم، وسمات مجتمع المسلمين، قال تعالى: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)) (الشورى:38).
والشورى تعتبر من أعلى أنواع الاجتهاد وأعمها، وأرقاها، ذلك أن المجتمع المسلم، في عصر النبوة والخلافة الراشدة، كان جميعه محل الشورى والاجتهاد، ولم تكن الشورى خاصة بأناس بأعينهم.ولعل من الأمور الملفتة حقاً أن الشورى التي مارسها النبي صلى الله عليه وسلم قبيل معركة أحد والالتزام بها كانت -بحسب الظاهر- سبباً في الهزيمة، ومع ذلك كان نزول قوله تعالى: ((وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ)) (آل عمران:159) بعد الهزيمة،وذلك خشية عدم التزامها أو العدول عنها واعتبارها المسؤولة عن الهزيمة.
وقد يكون من المعالم التي لا بد من التوقف عندها، أن الاجتهاد يعتبر من لوازم خاتمية النبوة، وتوقف الوحي، والتصويب من السماء، خاصة وأن النصوص تتناهى، والحياة والحوادث متجددة لا تتناهى، وأن الاجتهاد وتنزيل النصوص على الوقائع وتعديتها إلى ما يستجد من القضايا وبيان الحكم الشرعي لها، من لوازم الخلود أيضاً.. فالخاتمية والخلود إعلانٌ لحق الاجتهاد والنظر، وإطلاقٌ لحرية العقل والاجتهاد، بحيث لا يكون ذلك حق فقط، وإنما هو حق وواجب أيضاً.(1/2)
وإن أي توقف عن الاجتهاد والنظر يعني محاصرة الخلود، وتجميد الشريعة، والحكم بعدم صلاحيتها لكل زمان ومكان، وإزاحة لها عن واقع الناس، ووضعها في خانة التاريخ، وإعطاء العقل المسلم إجازة عطالة، الأمر الذي مكن ويمكِّن من امتداد (الآخر) بقوانينه، وقيمه، أو على أحسن تقدير تحويل فاعلية العقل المسلم إلى المساهمة بإنتاج (الآخر).
ومن هنا ندرك المخاطر الكبيرة، العقلية والثقافية والقانونية والاجتماعية، التي ترتبت على إغلاق باب الاجتهاد، بحجة عدم توفر الأهلية أو درءاً للمفاسد، فكانت النتيجة هي الوقوع في المفاسد، وكأن الله الذي قضى بخلود الشريعة وخاتميتها وجعل الاجتهاد والتجديد من لوازمها وسبيل نموها غير عالم بالزمن وفساده، وتقلب أحواله، علماً بأن باب الاجتهاد لم يقفل عملياً إلا على أهل الورع والتقوى، الذين هم محل العلم والفتوى والاجتهاد، وأما أهل الفساد والإفساد والزيغ وفقهاء السلطان، فلم يردعهم شيء، وكان الأولى إطلاق أمر الاجتهاد حتى تسقط اجتهاداتهم وفتاواهم بوجود الفتوى والاجتهاد الأصلح، لأن البقاء والوراثة الثقافية والحضارية للأصلح والأصوب.
وبعد:(1/3)
فهذا كتاب الأمة الثالث والتسعين: «في الاجتهاد التنزيلي» للدكتور بشير بن مولود جحيش، في سلسلة الكتب، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات، في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، بدولة قطر، مساهمة في إعادة التشكيل الثقافي، وتحرير صور التدين مما لحق بها من الكهانات وما تسرب إليه من علل الأمم السابقة، وبناء النخبة التي تمثل (عقل الأمة)، أو الطائفة القائمة على الحق، التي تشكل خمائر النهوض وتمتلك القدرة على إبصار الواقع، وتجتهد في تقويمه بقيم الإسلام، كما تمتلك القدرة على اكتشاف دوائر الخير في المجتمعات، وتسعى للتوسع فيها، من خلال الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة، وفي ضوء السنن الفاعلة في الحياة والأحياء، سقوطاً ونهوضاً، بعيداً عن المجازفات والمواجهات وتقديم الضحايا والتضحيات تحت رايات عُمِّيَّة جعلت من المسلمين رصيداً جاهزاً للاستعمال وتصفية الحسابات بدمائهم.
ولعل من الأمور الاجتهادية المهمة ما يتمثل في إبصار النوازل قبل وقوعها، والاجتهاد في كيفية تجنب الأزمة، والوقاية منها، والقدرة على إدارة الأزمة حال نزولها، وتقديم المسلم المعاصر برؤيته المستمدة من معرفة الوحي كأنموذج حضاري جديد يغري بالاتباع بالإقناع، بعيداً عن الإكراه استجابة لقوله تعالى: ((لا إِكْرَاهَ)) (البقرة:256) وقوله: ((وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ)) (ق:45).
إن التوجه العام صوب الفكر الاجتهادي، والتفكير الاجتهادي، وإعادة بناء ثقافة الاجتهاد، أو إيقاظ وتنشيط ذهنية الاجتهاد، بعد هذه الحقب المتوالية من التقليد والجمود والانقطاع والتخاذل، يعتبر مؤشر صحة وعافية للعقل المسلم، ومحاولة لاستعادة فاعليته ومكانته، والقضاء على حواجز الخوف من التأثيم والتخطيئ، وعودة إلى الوضع الطبيعي، والاضطلاع بالوظيفة الشرعية والعضوية للعقل المسلم، وكيفية تعامله مع الوحي، وتكامله مع معرفته.(1/4)
لقد آن الأوان للتحول من قول إن: «الشريعة خالدة وصالحة لكل زمان ومكان» كشعار مرفوع، إلى محاولة التفكير والاجتهاد في كيفية تنزيل هذا الشعار وتجسيده في واقع الناس، والممارسة العملية لأحكام الشريعة واستعادة حيويتها وامتدادها بحسب الاستطاعات، وتحويل أصول الفقه من قواعد وآليات نظرية مجردة إلى الواقع التطبيقي العملي.
وقد يكون من مظاهر هذه الحيوية وهذا الإحياء: قيام دراسات مستفيضة حول الاجتهاد الجماعي والاجتهاد المقاصدي والاجتهاد التنزيلي، وإعادة النظر بشروط الاجتهاد وكيفية تكوين الملكة الفقهية؛ والقيام بمقارنات بين الشريعة، بقيمها وقوانينها في المجالات المتعددة، وبين القوانين الوضعية، على مستوى الفرد والدولة والأمة والإنسانية؛ والتقدم للنظر في القضايا والمشكلات الإنسانية، من وجهة نظر إسلامية، من خلال اجتهاد فكري يمثل الإذاعة والإحساس بالمشكلة، لتأتي بعدها مرحلة علم الاستنباط مما يطلق عليه مصطلح «الاجتهاد الفقهي التنزيلي».
وإذا صح القول بضرورة إغلاق باب الاجتهاد في الأمور العبادية وأحكامها، والتوقف عند الصورة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إلا في بعض الأمور الشكلية جداً المترافقة والميسرة لأدائها -نظراً لأنها توقيفية بطبيعتها وأدائها، وغير متطورة في نوعيتها وطبيعتها وجوهرها- فإن ذلك لا ينطبق بحال على الأمور الحياتية، بعلاقاتها ومشكلاتها وإمكاناتها ومتغيراتها ومعاملاتها، شديدة التعقيد والتداخل والمستجدات، وهذا ما نلمحه من تطور الفقه والاجتهاد وما استجد منه بين عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد عمر رضي الله عنه، على الرغم من أن الزمن لا يكاد يعدو عقداً واحداً، فكيف بنا اليوم أمام هذا التسارع العجيب، واختزال الزمان والمكان؟!(1/5)
ومن الأمور الملفتة، أن الشريعة الإسلامية بقيمها وقوانينها وأحكامها، ما تزال مستمرة وممتدة، وتشكل محاور علمية وثقافية وقانونية لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها، فهي تفرض وجودها بقوتها الذاتية على الباحثين والدارسين والقانونيين والحقوقيين ومنظمات العمل وحقوق الإنسان، وفي المعاهد والجامعات ومراكز البحوث، على الرغم من إقصائها عن واقع الناس وتهميشها في ركن مركون من مسائل الأحوال الشخصية، وعلى الرغم من غياب الدولة، أو السلطة التي تعتبر الشرط الأساس لاستمرارها ونموها وامتدادها وبسطها على حياة الناس.
وبالإمكان القول : إن الشريعة باقية وممتدة في الأمة، على الرغم من غيابها وإقصائها في ممارسات الدول.
والحقيقة التي ما تزال غائبة عن كثير من الناس، أن تطبيق الشريعة وتنزيلها على الواقع منوط بالاستطاعة والإمكان ، وأن تنزيلها يبدأ مع الإنسان من حيث هو، ومن خلال استطاعته، حيث يطبق من الأحكام ما يتوافق مع الاستطاعة، ويترقى شيئاً فشيئاً، وبذلك يكون قد نزَّل وطبق الإسلام الذي هو مكلف به في هذه المرحلة، حتى رأى بعض العلماء أن ما وراء ذلك من الأحكام لا يرد فيه التكليف أصلاً بالنسبة لحالته، إذا فقدت الاستطاعة.. وبذلك نقول: إن كل مسلم يمكن أن يطبق الإسلام من اللحظة التي يبدأ فيها وينزل أحكامه على حياته، ويتدرج، وهذا هو الوضع الطبيعي، أما أن نقضي بعدم تنزيل الأحكام على واقع الناس بحجة أنهم غير مؤهلين لذلك بإطلاق، ومن ثم نحاول تأهيلهم بأحكام ومناهج بعيدة عن الشريعة، فهي خديعة ثقافية وقانونية، إذ كيف يمكن أن يُهيأ إنسان بقيم وأحكام لا تمت إلى الشريعة؟ ومتى يصبح مؤهلاً لتطبيق وتنزيل أحكام الشريعة؟!
إننا نؤهله بالمستطاع من الشريعة، لتنزيل أحكام الشريعة واستكمالها.(1/6)
ومن هنا نقول: إن دراسة محل التنزيل، واختبار مدى توافر الشروط في المحل، من الأهمية بمكان.. فهي - فيما نرى - لا تقل عن فقه الحكم، ذلك أن فقه الحكم دون فقه المحل المراد تنزيله عليه ومدى استطاعته، قد يكون نوعاً من العبث والإساءة للحكم نفسه.
ولا يقل أهمية عن الاجتهاد في دراسة الواقع (محل التنزيل) واختبار مدى توفر الشروط المطلوبة، وما يتطلب ذلك من أدوات معرفية لتنزيل الحكم الشرعي، الاجتهاد والنظر والتبصر في العواقب والتداعيات، التي يمكن أن تترتب على تنزيل الحكم على محله، أي النظر في الأبعاد الزمانية والمكانية، إلى جانب توفر الاستطاعة مناط التنزيل، ذلك أن النظر في العواقب والمآلات، التي يفضي إليها التطبيق يعتبر قسيم الفقه في الدين.
ومن هنا ندرك بعض أبعاد دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما بقوله : « اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» (أخرجه الإمام أحمد).. فبدون معرفة المآلات والعواقب، التي تترتب على تنزيل الحكم على الواقع، يغيب الفقه الحقيقي في الدين، ويُساء التطبيق، ويُتَعَسَّفُ فيه، ويُعْبَثُ بالأحكام الشرعية، الأمر الذي يؤدي إلى العنت، وغياب الأهداف والمقاصد، التي من أجل تحقيقها جاءت الشريعة.
لذلك نقول: إن فقه المقاصد، والاجتهاد في اختيار الأحكام الملائمة للواقع، المحققة للمقاصد، المبصرة للعواقب والمآلات، يعتبر من أرقى أنواع استشراف المستقبل والتخطيط له – أو علم المستقبليات، بالمصطلحات الحديثة- أو من فقه المستقبل.
من هنا نرى أن الخطورة كل الخطورة تكمن في غياب الفقه المستقبلي، فقه التداعيات والعواقب المترتبة على التنزيل، والظن بأن الفقه في الدين عبارة عن حفظ الأحكام الشرعية، أو الاقتصار على الفقه في الدين، وغياب علم التأويل (معرفة تداعيات تنزيل الحكم المستقبلية).(1/7)
ولا شك أن الذي امتد في حياتنا واستبحر كثيراً هو فقه الحكم الشرعي، وهذا شيء طيب وجيد، لكنه يبقى محنطاً ومحاصراً ومثالياً وغير واقعي إذا لم يترافق مع فقه المحل وشروط التنزيل في الوقت نفسه.
ولعل النمو في فقه الحكم والضمور في فقه المحل واختبار مدى توافر شروط التنزيل هو الإشكالية الكبيرة، وهو أساس الخلل في مسيرتنا الفقهيه، ذلك أن فقه المحل يتطلب تخصصات معرفية في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية لابد من توافرها إلى جانب العلم الشرعي في فقه الحكم.
والاجتهاد التنزيلي في نهاية المطاف ما هو إلا الإدراك الكامل لفقه الحكم ولفقه المحل، ومن ثم القيام بتنزيل الحكم على الواقع البشري الملائم للحكم الشرعي في هذه المرحلة من الاستطاعة، وهنا محل الاجتهاد حقيقة.
وهنا ملحوظة نرى أنه من المفيد الإشارة إليها، وهي أن عدم توفرشروط تنزيل حكم شرعي على محل الحكم لا يعني تجاوز أحكام الشريعة، أو تعطيلها، أو العدول عنها، بقدر ما يعني أهمية الاجتهاد في اختيار أو استنباط الحكم الشرعي المناسب للاستطاعة في هذه اللحظة.(1/8)
وقد يكون من المفيد، أن نشير هنا، إلى أن الاجتهاد التنزيلي، على أهميته في بيان حكم الله في قضايا الناس ومشكلاتهم، التي يعانون منها، على مستوى الفرد والمجتمع، أو ما يمكن أن نطلق على بعض جوانبه «فقه النوازل»، في تاريخنا الفقهي، فإن معظم ما توجه إلى معالجته، هو الواقع القائم أي: «ما هو كائن»، وبذلك فإن الاجتهاد التنزيلي أو «فقه النوازل» ما يزال يسير خلف المجتمع، ليحكم على أفعاله، ويبين حكم الله فيها، بمراتب الحكم المختلفة، بينما نرى أن الوضع الأمثل هو في عدم الاقتصار على ذلك، وإنما التحول للسير أيضاً أمام المجتمع، بحيث يبين له خط سيره، أي الانتقال مما هو واقع، إلى ما هو متوقع بحيث يصبح الاجتهاد التنزيلي هو أيضاً اجتهاد واستشراف مستقبلي، وبذلك يكون الاجتهاد دليل المجتمع لعمل ما هو مشروع، والامتناع عما هو غير مشروع.
فالنفرة الفقهية لابد أن تتحول من الساقة (المؤخرة) إلى الطليعة (المقدمة) - بالعرف الاستراتيجي- ذلك أن عدم تحولها إلى الاستشراف المستقبلي – فيما نرى- إنما كان ذلك بسببٍ من غياب الرؤية التنموية ومسالكها وتداعياتها ومتطلباتها، وعدم المشاركه فيها، وغياب الدولة كمؤسسة تنفيذية لتنزيل الأحكام، فيما يخص المجتمع والدولة، إضافة إلى ما يخص الفرد.
هذه قضية، وقضية أخرى هي أن الاجتهاد بعمومه ما يزال يقتصر على بيان الحكم التشريعي، ولما يمتد بعد بالقدر الكافي إلى بقية مجالات الحياة وآفاقها الاجتماعية والتربوية والتنموية والاقتصادية والسياسية، مع أن الاجتهاد واستنباط الحكم مطلوب بنص القرآن الكريم لحالات الأمن والخوف، على سواء، انطلاقاً من قوله تعالى: ((وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الاْمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الاْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ... )) (النساء:83)(1/9)
إن امتداد الاجتهاد إلى مجالات الحياة جميعها، بما فيها الأمن والخوف، يتطلب بناء الثقافة الفقهية الجماهيرية التي يجب أن تشيع في الأمة، والتي تشكل الشاشة اللاقطة للصور، بحيث تلتقط هذه الثقافة الإشكاليات والمعاناة الناجمة عنها وتتحرك للتفتيش عن حلول لها ((أَذَاعُواْ بِهِ)) لتجدها عند أهل العلم والاختصاص والاستنباط: ((لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ )).
وهنا لا بد من التمييز بين معرفة الحكم الفقهي وبين استنباطه، فمعرفة الأحكام وحفظها قد لا تتطلب نفس المؤهلات التي يتطلبها الاجتهاد، الذي يعني استنباط الحكم الملائم للواقعة أو النازلة من النص، وهذا يتطلب فقه النص وفقه المحل معاً، بينما الفقه من بعض الوجوه هو معرفة الأحكام الشرعية بعد استنباطها.. وقد يكون هذا هو الفرق بين الفقه وبين أصول الفقه.
لذلك نقول: إن المطلوب للفقه التنزيلي مجتهدون تتوافر لهم الأهلية، وليس حفظة للفقه أو مدرسين له، ذلك أن بعض حفظة الفقه قد يكونوا عاجزين عن الاجتهاد بشكل عام والاجتهاد التنزيلي بشكل أخص.
وهذا الكتاب الذي نقدمه، وهو في أصله رسالة علمية تخصصية، يمكن أن يعتبر إحدى الخطوات التأصيلية الجادة والمهمة في عملية الإحياء والتجديد والتحريض الثقافي، التي أفردت لها السلسلة، على تاريخها الطويل، مساحات كبيرة، سواء في مجال الاجتهاد الفردي وتكوين الملكة الفقهية، أو في مجال الاجتهاد الجماعي والتشجيع على التشاور وتداول الرأي، والاجتهاد المقاصدي الذي يضبط العملية الاجتهادية بمقاصدها حتى لا يتحول الاجتهاد إلى آليات وقواعد مجردة بعيدة عن رؤية الأهداف؛ إضافة إلى الرحلة الثقافية للسلسلة، التي يمكن أن تصنف جميعها في مجال إحياء الاجتهاد الفكري.(1/10)
ونعاود القول: إن مثل هذه التوجهات والاجتهادات صوب استرداد دور الاجتهاد، والتدليل على أهميته في حياة الأمة الثقافية والاجتماعية، وحتى السياسية والاقتصادية، يعتبر دليل عافية وعلامة صحة وحيوية بعد هذا الجمود والانقطاع وسيادة التقليد على المستوى الجماعي والفردي.
إن التحول من حالة معرفة الأحكام الفقهية إلى مرحلة كيفية استنباط الأحكام وتنزيلها على الواقع، والتحول من الاجتهاد في إطار الحكم والنص إلى الاجتهاد في إطار المحل وتوافر شروط التنزيل، والتحول من مرحلة إثبات النص، الذي أخذت جهداً ووقتاً، على أهميته وضرورته، إلى إعمال النص في واقع الحياة ومسيرتها المستقبلية، هو المعادلة الصعبة التي تتطلب جهوداً متنوعة متكاملة وتخصصات معرفية متعددة، للعودة بالحياة إلى القيم الإسلامية، وإعادة القيم الإسلامية لحكم الحياة، وتحقيق سعادة الناس وإلحاق الرحمة بهم، تحقيقاً لمقاصد قوله تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ)) (الأنبياء:107).
وهذا الكتاب.. وهو في أصله رسالة علمية تخصصية، يمكن أن يعتبر إحدى الخطوات التأصيلية الجادة والمهمة في عملية الإحياء والتجديد والتحريض الثقافي، التي أفردت لها سلسلة «كتاب الأمة»، على تاريخها الطويل، مساحات كبيرة، سواء في مجال الاجتهاد الفردي وتكوين الملكة الفقهية، أو في مجال الاجتهاد الجماعي والتشجيع على التشاور وتداول الرأي، والاجتهاد المقاصدي الذي يضبط العملية الاجتهادية بمقاصدها حتى لا يتحول الاجتهاد إلى آليات وقواعد مجردة بعيدة عن رؤية عن الأهداف.
وتعتبر مثل هذه التوجهات والاجتهادات صوب استرداد دور الاجتهاد، والتدليل على أهميته في حياة الأمة الثقافية والاجتماعية، وحتى السياسية والاقتصادية، دليل عافية وعلامة صحة وحيوية بعد هذا الجمود والانقطاع وسيادة التقليد على المستوى الجماعي والفردي.(1/11)
إن التحول من حالة معرفة الأحكام الفقهية إلى مرحلة كيفية استنباط الأحكام وتنزيلها على الواقع، والتحول من الاجتهاد في إطار الحكم والنص إلى الاجتهاد في إطار المحل وتوافر شروط التنزيل، والتحول من مرحلة إثبات النص، الذي أخذت جهداً ووقتاً، على أهميته وضرورته، إلى إعمال النص في واقع الحياة ومسيرتها المستقبلية، هو المعادلة الصعبة التي تتطلب جهوداً متنوعة متكاملة وتخصصات معرفية متعددة، للعودة بالحياة إلى القيم الإسلامية، وإعادة القيم الإسلامية لحكم الحياة، وتحقيق سعادة الناس وإلحاق الرحمة بهم.
مقدمة
جاءت الشريعة الإسلامية هادية لحياة الإنسان في الفكر والعمل، تسدد الفكر إلى الحق، وترشد العمل إلى الخير والصلاح، وذلك عبر قسمي الاجتهاد: الاجتهاد في الفهم والاجتهاد في التطبيق (التنزيل).
أما الاجتهاد في الفهم: فهو استجلاء الخطاب الشرعي لتمثل خطاب الشارع فيه، أمراً ونهياً، وسبيله أمران:
أولهما: استظهار واستكشاف تلك المفاهيم الكلية وتعقلها، وتحديد حقائقها من النصوص، وبيان دلالاتها التفصيلية على المعاني، من خلال أدوات الفهم المعتبرة، وهذا ما يسمى بالاجتهاد في نطاق النص.
وثانيهما: الاجتهاد «فيما لا نص فيه» استهداءً إليه من منطلق القواعد العامة والمقاصد الكلية للتشريع، وذلك عبر أنواعه المختلفة ، وغاية الفهم عبر المسلكين كليهما حصول تصور يقيني أو ظني لمراد الله تعالى في التكليف.
وأما الاجتهاد في التطبيق (التنزيل): فهو الإجراء العملي لما حصل على مستوى الفهم التجريدي للأحكام الشرعية على واقع الأفعال، وتكييف السلوك بها.. وهذا في الحقيقة لا يقل خطراً وأهمية عن الأول؛ إذ هو مناط ثمرات التشريع، ولا جدوى من التكلم بحق لا نفاذ له.(1/12)
وتبرز أهمية هذا النمط الاجتهادي التطبيقي كلما توسعت خطة الإسلام وكثرت الوقائع والأحداث المفتقرة إلى اجتهاد يوفق طوارئها إلى هدي الشريعة بما يحقق مقاصدها، واجتهاد يكون مبنياً على أصول منضبطة تقي القائمين عليه مزلات التطبيق، وتعصمهم من دواعي الإفراط والتفريط، ولا جرم أن ذلك لا يتم عبر التطبيق الآلي للنصوص، بل هو تطبيق قائم على، تحقيق مناطات الأحكام في أنواع وأفراد الوقائع، مما يتيح تنزيلاً صائباً للحكم.
وهذا مشروط بمدى تجسيم تلك العلاقة الجدلية بين الحكم في تجريديته وبين الواقع بملابساته وظروفه، بهدف: تحقيق المقاصد الشرعية في التطبيق، تلك المقاصد التي من أجلها شرعت الأحكام وإليها تفضي، وذلك «بحفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو الإنسان».
وقد يتخلف تحقيق هذه المقاصد لعدم التحقق من مآلات الأفعال؛ إذ الحكمة لا تقتضي التطبيق الآلي للأحكام دون النظر لما قد يؤول إليه ذلك التطبيق وما يسببه من تداعيات قد تعود على المقاصد الشرعية بالنقض، بل هو محكوم بأصل النظر في المآلات الواقعة أو المتوقعة؛ لا سيما ونحن في هذه المرحلة والأمة تتطلع إلى استيعاب الكسب الحضاري الإنساني، ثم إثرائه بما يستجيب لتوجيه الأمة نحو الشهود الحضاري الذي ارتضاه الله تعالى لها، وتجنيب المسيرة الإسلامية مواقع الزلل وعثرات الطريق.
وعلى الرغم من أن علماء الأصول قد أسهموا في بيان وتفصيل أصول استنباط الأحكام الشرعية لفهمها، إلا أن أصول التطبيق لم تنل سوى القليل المجمل، ومن ثم فقد انعدمت أيضاً الكتابات المعاصرة حوله، إفراداً له وتفصيلاً، اللهم إلا مباحث في كتب تناولت فقه التنزيل في بعض جوانبه، سواء من حيث التركيز على أبرز منظريه من السابقين، أو البيان لجانب خاص وجزئي فيه.(1/13)
ولعلّ أبرز من ركزّ على البُعْد التطبيقي في التنظير الأصولي من العلماء السابقين، الإمام أبو إسحاق الشاطبي، رحمه الله، في «الموافقات»([1]) و«الاعتصام»([2])، فقد جعل الاجتهاد في تنزيل الحكم الشرعي على الواقع قسيم الاجتهاد في فهم النص، وعبَّر عن هذا الضرب من الاجتهاد بالاجتهاد في تنزيل الأحكام الشرعية أوإيقاعها على الوقائع، أوتنزيل الوقائع على الأدلة الشرعية فقال: «المقصود من وضع الأدلة تنزيل أفعال المكلفين على حسبها»([3])، وعرّفه فقال: «أن يثبث الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محلّه» .. وقال: بأن هذا الاجتهاد «لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف وذلك عند قيام الساعة».([4])
والمتأمل في كتاب «المقاصد» الجزء الثاني من «الموافقات» على وجه الخصوص، وغيره من الأجزاء وكذا «الاعتصام» يجد أن الشاطبي، رحمه الله، قد أرسى أصولاً لهذا الضرب الاجتهادي، وعلىالباحث المتأمل في كتابه -الذي ينبغي أن يكون كما قال الشاطبي: «ريَّان من علوم الشريعة، أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب»([5])- أن يسعى للكشف عن هذه الأصول وتركيبها من خلال ما نثره في كتابيه.(1/14)
ومن أبرز المعاصرين سعياً لتأكيد هذا النمط الاجتهادي الدكتور محمد فتحي الدريني في كتبه، فيقول: «أما قسيم الاجتهاد بالرأي في الاستنباط والتأصيل والتفريع فهو الاجتهاد بالرأي في التطبيق، وهذا في الواقع لا يقل أهمية وخطراً عن الأول، لتعلق اجتناء ثمرات التشريع واقعاً وعملاً به.. هذا وتبدو خطورة الاجتهاد بالرأي في التطبيق وعظيم أثره، فضلاً عن ضرورته، أنّ القرآن الكريم إذ اتخذ في بيانه للأحكام المنهج الكلي لا التفصيلي لزم أن يكون الاجتهاد بالرأي هو السبيل الوحيد الذي لا مناص منه للاضطلاع بمهمة التطبيق الواقعي لتلك الكليات على الوقائع الجزئية التي تنتاب المجتمع في كل عصر وبيئة بما يحتفُّ بها من ظروف وملابسات متجددة ومتغايرة لا تنحصر».([6])
وقد أكد الإمام الشاطبي البعد الكلي للنصوص، فقال: «تعريف القرآن الكريم بالأحكام الشرعية أكثره كلي لا جزئي، وحيث جاء جزئياً فمأخذه على الكلية إما بالاعتبار أو بمعنى الأصل».([7])
ويؤكد الدريني في كتابه «المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي»([8]) ضرورة دراسة الواقعة أو الحالة المعروضة درساً وافياً بتحليل دقيق لعناصرها وظروفها وملابساتها، إذ التفهم للنص الشرعي يبقى في حيز النظر، ولا تتم سلامة تطبيقه إلا إذا كان ثمة تفهمٌ واعٍ للوقائع بمكوناتها وظروفها، وتَبَصُّر بما عسى أن يسفر عنه التطبيق من نتائج، لأنها الثمرة العملية المتوخاة من الاجتهاد التشريعي كله».([9])(1/15)
وبالنظر والدراسة والمراجعة الدقيقة لما كتب حول الاجتهاد التطبيقي، من الشاطبي إلى الدريني، وما بينهما وما بعدهما، يمكن القول: إن الأصول الكلية في الاجتهاد التطبيقي تبقى أبرز مكونات منهج التطبيق؛ ويبقى الشاطبي أولَ من ضمّن أصول الاجتهاد التطبيقي في كتاباته، كما يبقى الدكتور محمد فتحي الدريني، في كتاباته، أبرز من حاول الكشف عنها وتأكيدها عند الشاطبي وإعمالها في النهضة بالفقه الإسلامي في عصرنا الحاضر، مركزاً على أصلين هامين، وهما: التحقيق في مآلات الأفعال، والتحقيق في مناطات الأحكام، موضحاً أن: «النظر إلى نتائج التطبيق ومآلاته أصل من أصول التشريع»([10])
ويؤكد الدريني بذلك قول الإمام الشاطبي، رحمه الله: «النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً»([11])، بل جعله أصلاً عتيداً تفرعت عليه قواعد تشريعية قامت عليها اجتهادات بالرأي واسعة المدى في مذاهب الأئمة.
وتعتبر هذه القواعد مسالك شرعية ضابطة لمآلات التطبيق وأبرزها قاعدة الذرائع وقاعدة الحيل. وهناك من اعتبر النظر في مآلات التطبيق مسلكاً من مسالك الاجتهاد المقاصدي في نظرية الشاطبي المقاصدية.([12])
وفي هذه الدراسة، حاولت الإسهام في الجهد العلمي المبذول في هذا المجال بمعالجة لأبرز أصول الاجتهاد التطبيقي (التنزيلي)، تحليلاً ومناقشة، من خلال التركيز على ضرورة فهم الواقع وكيفية إحكامه بالشرع.. فبيَّنت أنَّ تنزيلَ الأحكام الشرعية وتكييف الواقع الإنساني وفقاً لها هو ثمرة الخطاب الشرعي. وبقدر ما يكون هذا التطبيق قائماً على أصول منهجية فإنّه يحقق مقاصد الشريعة، ويجنب المجتهد مواقع الزلل في الفهم والتطبيق.
وتناولت هذا الموضوع من خلال بيان مفهوم الاجتهاد التطبيقي (التنزيلي)، وشرعيته، وضرورته، وتحديد مقوماته الأساسية، ليتناول بعد ذلك تفصيل الأصول التطبيقية مُرْدَفَة بنماذج تطبيقية لتَجلِية كيفيَّة إعمالها.
فكان الأصل الأول:(1/16)
تحقيق مناطات الأحكام، وذلك لكون الشريعة لم تنصّ على حكم كل جزئية على حدة، بل أتت غالباً بقواعد كلية وعبارات مطلقة متناولة داخلها أعداداً غير منحصرة من الوقائع والجزئيات المتمايزة والمتشابهة، مما يستوجب بذل جهد في تنزيل هذه العمومات والمطلقات الحكمية على الأفعال والأحداث التي لا تقع مطلقات بل معيَّنة، زماناً ومكاناً وأشخاصاً.
ثم بينّت أنَّ الغرضَ من تنزيل الحكم عبر تحقيق مناطه هو إصابة مقصد الشارع، وذلك من خلال أصل: التحقيق في حصول المقاصد الشرعية، الذي يقتضي فهم الواقع عبر آليات الفهم المختلفة والمتجددة، وفهم حكم الله فيه.
ثم حاولت التأكيد أنَّ ما سبق بيانه لا يعني تنزيلاً آلياً للأحكام دون اعتبار لما يؤول إليه ذلك التنزيل وما يسببه من تداعيات قد تعود على المقاصد الشرعية بالنقض، بل ذلك محكوم بأصل:التحقيق في مآلات التطبيق الذي بمقتضاه تصرف الأفعال من أحكامها الأصلية إلى أحكام أخرى تلافياً لما قد ينتج عن الأولى من مآلات فاسدة في ظروف بعينها، وتوجيهها إلى مآلات الصلاح عبر مسالك شرعية ضابطة لذلك.
الفصل الأول :تحقيق مناطات الأحكام
المبحث الأول : تحقيق مناط الحكم بين خصوص القياس وعموم التنزيل
1- تعريف المناط في اللغة والاصطلاح:
المناط في اللغة:المَنَاط في اللسان العربي هو ما نِيط به الشيء، فيقال: نُطت الحبل بالوتد، أَنُوطه نَوْطًا إذا علقته، وانتاط تعلق، والأنواط المعاليق. وهذا مَنُوط به معلق.([40]) ومنه ذات أنواط شجرة كانوا في الجاهلية يعلقون فيها سلاحهم. قال الشاعر:
بلاد بها نيطت علي تمائمي // وأول أرض مس جلدي ترابها(1/17)
المناط في الاصطلاح: لقد تداول جمهور الأصوليين هذا المصطلح وعَنُوا به العلة التي رُتِّب عليها الحكم في الأصل([41])، قال الشنقيطي: «والمناط العلة التي نيط الحكم بها أي عُلِّق»([42]). وقد قرر هذا الإمام الغزالي فقال: «اعلم أننا نعني بالعلة في الشرعيات مناط الحكم، أي ما أضاف الشرع الحكم إليه وناطه به ونصبه علامة عليه».([43]) ثم توُسِّعَ في بيان مضامينه ليشمل مضمون القاعدة التشريعية أو الفقهية أو معنى الأصل الكلي الذي ربط به حكم كل منها، ليكون عند الشاطبي مطلق الحكم التكليفي الثابت بمدركه الشرعي. وتبعاً لهذا التوسع في مدلول المناط سار تحقيق المناط أيضاً، وقبل بيان ذلك يجدر معرفة معنى التحقيق في اللسان العربي.
التحقيق في اللغة: قال صاحب الكليات: «التحقيق: تفعيل من حق \"ثبت\"»([44]) وقال ابن منظور: «وحق الأمر يحق حقاً وحقوقاً صار حقاً وثبت». وقال الأزهري: «معناه وجب يجب وجوباً»([45]).. وانطلاقاً من المعنى اللغوي فإن التحقيق عند الأصوليين يفيد الإثبات.
تحقيق المناط كمركب لفظي: لقد تناول جمهور الأصوليين تحقيق المناط في التحقق من وجود علة الحكم في الجزئيات المشخصة بعد معرفتها في أصل الحكم، عملاً بتعديتها من الأصل إلى الفرع، فهي ركن من أركان القياس الأصولي، وقد عبر عن هذا المعنى الآمدي في معرض بيان تحقيق المناط فقال: «هو النظر في معرفة العلة في آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها، وسواء كانت معروفة بنص أو إجماع أو استنباط»([46]). وهو ما ذهب إليه الفتوحي من أنه: «إثبات العلة في آحاد صورها بالنظر والاجتهاد في معرفة وجودها في آحاد الصور بعد معرفتها في ذاتها».([47])
2- تحقيق المناط ضرورة كل شريعة:(1/18)
غير أن أبا حامد الغزالي قد عمل على توسيع مدلول تحقيق المناط، ليكون ضرباً اجتهادياً متجاوزاً القياس الأصولي، بعد أن قرر اتفاق الأمة على جوازه فقال: «أما الاجتهاد في تحقيق المناط فلا نعرف خلافاً بين الأمة في جوازه، ثم قال: «وقول العدل صدق معلوم بالظن وأمارته العدالة، والعدالة لا تعلم إلا بالظن، فلنعبر عن هذا بتحقيق مناط الحكم لأن المناط معلوم بنص أو إجماع لا حاجة إلى استنباطه، لكن تعززت معرفته باليقين، فاستدل عليه بأمارات ظنية وهذا لا خلاف فيه بين الأمة»([48]).
ويعتبر الغزالي هذا الضرب من الاجتهاد «ضرورة كل شريعة» لأن التنصيص على عدالة الأشخاص وقدر كفاية كل شخص محال، وأن هذا الاجتهاد متجاوز للاجتهاد القياسي؛ إذ إن الأخير مختلف فيه بين النظار، بينما الأول وقع الاتفاق عليه فضلاً عن كونه ضرورة شرعية.
ثم جاء ابن قدامة المقدسي ليقسم تحقيق المناط بحسب الاتفاق عليه والاختلاف فيه إلى قسمين:
القسم الأول: وهو المتفق عليه، وحدّه بقوله: «أن تكون القاعدة الكلية متفقاً عليها أو منصوصاً عليها ويجتهد في تحقيقها في الفرع»([49]). ثم ضرب لذلك أمثلة كوجوب المثلية في الفدي في الحج، ووجوب استقبال القبلة، فالمثلية والاستقبال كلاهما واجب معلوم بالنص، أما كون هذا مثل لذاك، وأن هذه جهة القبلة فسبيل معرفتها الاجتهاد وذلك بتحقيق المناط وهو \"المثلية\" أو \"استقبال القبلة\" في الواقع اعتماداً على الأمارات الدالة على ذلك.(1/19)
القسم الثاني: ما عرفت علة الحكم فيه بنص أو إجماع، فيبين المجتهد وجودها في الفرع باجتهاده.([50]) وقد عدّ الطوفي هذا النوع الثاني قياساً دون الذي قبله؛ إذ هو بيان وجود العلة المنصوص عليها في الفرع بينما النوع الأول بيان القاعدة الكلية المتفق عليها أو المنصوص عليها في الفرع؛ لأن هذا النوع متفق عليه بين الأمة، وهو من ضرورات الشريعة لعدم وجود النص على جزئيات القواعد الكلية فيها، كعدالة الأشخاص وتقدير كفاية كل شخص ونحو ذلك، «والقياس مختلف فيه، والمتفق عليه غير المختلف فيه، فالنوع الأول والثاني متغايران، والثاني قياس والأول ليس بقياس وإن كان كل منهما يسمى تحقيق مناط؛ لأن معنى تحقيق المناط هو إثبات علة حكم الأصل في الفرع، أو إثبات معنى معلوم في محل خفي فيه ثبوت ذلك المعنى، وهو موجود في النوعين وإن اختلفا في أن أحدهما قياس دون الآخر، فتحقيق المناط أعمّ من القياس».([51])
غير أن بعض العلماء المتأخرين اعتبر إطلاق تحقيق المناط على النوع الأول مسامحة فقال: «وهذا القسم في تحقيق المناط ليس بمعناه الاصطلاحي لأنه ليس المراد به العلة، وإنما المراد به النص العام، وتطبيق النص في أفراده هو هذا النوع من تحقيق المناط، ولا يخفى أن في عدّه من تحقيق المناط مسامحة، ولا مشاحة في الاصطلاح»([52]).
ويتبين مما سبق أنه على الرغم من حصر كثير من الأصوليين مفهوم تحقيق المناط في علة القياس، غير أن بعضهم وسع من مدلوله معتبراً إياه منهجاً اجتهادياً في تطبيق القواعد الكلية على الوقائع الجزئية، ومن ثم فإطلاق القول- «بضيق مدلول تحقيق المناط، عند الأصوليين قبل الشاطبي وبعده، كطريقة جزئية في معرفة العلة في الصور المفردة لتلحق في حكمها قياساً بما فيه حكم مبني على تلك العلة، فهو فرع من مبحث العلة في باب القياس»([53])- إطلاق يفتقر إلى الضبط والتقييد.
3- تحقيق المناط أصل ضابط في التطبيق:(1/20)
ومع كل ما سبق فإن الشاطبي يعدّ أبرز من أعطى مضامين وأبعاداً أوسع لتحقيق المناط، فقد أولاه اهتماماً كبيراً بجعله أصلاً كلياً في تطبيق الأحكام الشرعية، لضبط صواب تنزيل الحكم على الوقائع وتسديده، ومما يؤكد مدى اهتمام الشاطبي بهذا الأصل الكلي في التطبيق أنه بحثه في باب الاجتهاد باعتباره القسم الأكبر المستمر، فقال: «الاجتهاد على ضربين: أحدهما لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة، والثاني يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا. فأما الأول فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط».([54])
فهذا الاجتهاد الدائم «جعله الشاطبي منهجاً في تطبيق الأحكام الشرعية على الإطلاق بأي سبيل حصلت أو بأي دليل تأتّت، فالحكم الشرعي يحصل في الذهن كلياً، والمطلوب أن يطبق على أفراد الأفعال والصور وهي جزئية مشخّصة، وهي أيضاً متشابهة ومتداخلة».([55])
وهذا يتطلب تحقيقها في الوقائع المشخّصة ليتبين أَهِي داخلة في أفراد الحكم الكلي فتجري على سننه، أم لا فتُسْتَبعد، ومن ثم فقد عرف الشاطبي تحقيق المناط بقوله: «معناه أن يثبت الحكم بمُدْركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله»([56]).
والواضح من التعريف أن تحقيق المناط عند الشاطبي عام في كل تنزيل لأي حكم شرعي سواء كان دليله قرآناً أو سنة أو اجتهاداً، وأن يثبت من مدركه الشرعي، ثم يأتي تنزيله علىالوقائع والصور الممارسة من قبل المكلف.
ويعتبرالشاطبي تحقيق المناط المقدمة النظرية لكل دليل شرعي، مقابل المقدمة النقلية الراجعة إلى نفس الحكم الشرعي، وَعَنَى بالنظرية ما سوى النقلية، سواء أَثَبتت بالضرورة أم بالفكر والتدبر. فالشارع حكم على أفعال المكلفين مطلقة ومقيدة، وذلك مقتضى إحدى المقدمتين وهي النقلية، ولا ينزل الحكم بها إلا على ما تحقق أنه مناط ذلك الحكم على الإطلاق أو على التقييد وهو مقتضى المقدمة الأولى (النظرية).(1/21)
ويوضح هذا المثال الذي ساقه فقال: «فإذا قلت إن كل مسكر حرام، فلا يتم القضاء عليه حتى يكون بحيث يشار إلى المقصود منه ليستعمل أو لا يستعمل، لأن الشرائع إنما جاءت لتحكم على الفاعلين من جهة ما هم فاعلوه، فإن شرع المكلف في شرب الخمر مثلاً قيل له أَهَذا خمر أم لا؟ فلا بد من النظر في كونه خمراً أو غير خمر، وهو معنى تحقيق المناط. فإذا وجد فيه أمارة الخمر أو حقيقتها بنظر معتبر قال: نعم هذا خمر، فيقال له كل خمر حرام الاستعمال، فيجتنبه».([57])
والإمام الشاطبي يرى أن تحقيق المناط يستلزمه القيام بالتكاليف، وعليه فهو متعلق بالمكلفين كافة، مجتهدين كانوا أم عَواماً، «فإن العامي إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهواً من غير جنس أفعال الصلاة، أو من جنسها إن كانت يسيرة فمغتفرة، وإن كانت كثيرةً فلا، فوقعت له زيادة، فلا بد من النظر فيها حتى يردَّها إلى أحد القسمين، ولا يكون ذلك إلا باجتهاد ونظر، فإذا تعين قسمها تحقق له مناط الحكم فأجراه عليه، وكذلك سائر تكاليفه».([58]) غير أن هذا البحث متعَّلِق تحقيقُ مناطه بعمل الفقيه المجتهد وليس العامي،ومن ثم فإن مفهوم تحقيق المناط المراد بيانه هنا هو المتعلق بعمل المجتهد الفقيه.
وبناء على ما سبق يكون إطلاق المناط وارداً على مضمون القاعدة التشريعية أو الفقهية، أو على معنى الأصل الكلي الذي ربط به حكم كل منهما، كما يطلق على علة حكم النص التشريعي الجزئي أوالمتعلق بمسألة خاصة معينة، سواء أكانت ثابتة بالنص أو الإجماع أو الاستنباط، والتي هي أساس القياس الأصولي الخاص، والجامعة بين الأصل والفرع.([59])
ومن هنا يمكن تعريف تحقيق المناط بأنه: إثبات مضمون الحكم الشرعي التكليفي، المستفاد من نص أو إجماع أو اجتهاد، في الوقائع الجزئية أثناء التطبيق، والتحقق من مدى اشتراك الأصل والفرع في العلة عند القياس.(1/22)
وهذا التحقيق له مرتبتان: أولاهما تحقيق المناط العام في نطاق الأنواع، والثانية تحقيق المناط الخاص في نطاق الأفراد، ولبيانهما يعقد المبحث القادم.
ــــــــــــــــــ
([1]) الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي، الموافقات، شرح الشيخ عبد الله دراز، تخريج عبد السلام عبد الشافي (بيروت: دار الكتب العلمية، د.ت).
([2]) الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي، كتاب الاعتصام، مراجعة وتدقيق خالد عبد الفتاح شبل (بيروت: دار الفكر، ط1-1996).
([3]) الموافقات، 3/32.
([4]) المصدر السابق، 4/65.
([5]) المصدر السابق، 1/61.
([6]) الدريني، محمد فتحي، بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1-1994)،1/34-35.
([7]) الموافقات،3/366.
([8]) الدريني، محمد فتحي، المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي (دمشق: الشركة المتحدة للتوزيع، ط2-1985).
([9]) المصدر السابق، ص5.
([10]) المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي، ص5.
([11]) الموافقات ،4/140.
([12]) الريسوني، أحمد، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي(هرندن: منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط2- 1992)، ص353.
([13]) انظر: الفيومي، المصباح المنير(بيروت: دار الكتب العلمية، د.ت)، 1/53. الزواوي، الطاهر أحمد، ترتيب القاموس (بيروت: دار الفكر، ط3، د.ت)،1/546
([14]) ابن منظور ،جمال الدين محمد بن مكرم الإفريقي، لسان العرب(بيروت: دار صادر للطباعة والنشر، ط-1955)،3/135مادة جهد.
([15]) ابن حزم، علي بن محمد الأندلسي، الإحكام في أصول الأحكام (القاهرة: دار الحديث، ط2- 1992) 5/587.
([16]) انظر: الأيوبي، محمد هشام، الاجتهاد ومقتضيات العصر(عمان:، دار الفكر، د.ت)، ص21.
([17]) الفاروقي، إسماعيل راجي، الاجتهاد والإجماع كطرفي الديناميكية في الإسلام، مجلة المسلم المعاصر، عدد9، ص15.
([(1/23)
18]) الطوفي، نجم الدين سليمان بن عبد القوي، شرح مختصر الروضة، تحقيق عبد الله التركي (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2-1991)، 3/576.
([19]) الغزالي، أبو حامد، المستصفى من علم الأصول (بيروت: دار الكتب العلمية، ط-1983)، 2/550.
([20]) الشوكاني، محمد بن علي، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، تحقيق أبي مصعب محمد سعيد البدري (بيروت: مؤسسة الكتب الثقافية، ط4- 1993)، ص417.
([21]) انظر المصدر السابق، ص417.
([22]) انظر الشاطبي، أبو إسحاق، الموافقات، تعليق عبد الله دراز (القاهرة: دار الفكر العربي، د.ت)، ص4/89 وما بعدها.
([23]) المصدر السابق، 4 /112.
([24]) المصدر السابق، ص113.
([25]) حاشية عبد الله دراز على الموافقات، 4/89.
([26]) انظر أبو زهرة، محمد، أصول الفقه (القاهرة: دار الفكر العربي، د.ت)، ص356.
([27]) المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي، ص16-17.
([28]) الشافعي، الإمام محمد بن إدريس، الرسالة، تحقيق أحمد شاكر (القاهرة: مطبعة مصطفى البابي الحلبي، د.ت)، ص501 - 502.
([29]) المصدر السابق، ص50.
([30]) انظر الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي، الفقيه والمتفقه، تحقيق عادل يوسف العزازي (السعودية: دار ابن الجوزي، د.ت)، ص1/490ومابعدها.
([31]) أبو داود السجستاني، السنن، كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة ، تحقيق محي الدين عبد الحميد (بيروت: المكتبة العصرية، د.ت)، 4-109.
([32]) الموافقات، 4/502.
([33]) انظر المصدر السابق، 3/366-368.
([34]) المصدر السابق، 3/310.
([35]) ابن تيمية، شيخ الإسلام عبد الحليم، مجموع الفتاوى، جمع عبد الرحمن بن قاسم (دون ذكر المطبعة ومكان الطبع، ط1- 1398 هـ)، 19/280-284.
([36]) المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي، ص24.
([37]) انظر بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله، 1/22.
([38]) المصدر السابق، 1/133.
([39]) انظر المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي، ص33
([(1/24)
40]) انظر الفيروز آبادي، القاموس المحيط ( بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2- 1997)، ص892. الزمخشري، أبو القاسم جار الله، أساس البلاغة، تحقيق عبد الرحيم محمود (بيروت: دار المعرفة، ط-1982)، ص476.
([41]) شرح مختصر الروضة ،3/233.
([42]) الشنقيطي، عبد الله بن إبراهيم، نشر البنود على مراقي السعود (المغرب: صندوق إحياء التراث الإسلامي، د.ت)، 2/171.
([43]) المستصفى،2/230.
([44]) الكفوي، أبو البقاء، الكليات، معجم المصطلحات والفروق اللغوية، تحقيق: عدنان درويش ومحمد المصري، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2- 1993)، ص296.
([45]) لسان العرب،15/49.
([46]) الآمدي، علي بن محمد، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق سيد الجميلي (بيروت: دار الكتاب العربي، ط2-1986م)، 3/335.
([47]) الفتوحي، ابن النجار، شرح الكوكب المنير، تحقيق: محمد الزحيلي ونزيه حماد (الرياض: مكتبة العبيكان، ط-1993)، 4/200-203.
([48]) المستصفى،2/231.
([49]) ابن قدامة المقدسي، روضة الناظر وجنة المناظر مع نزهة الخاطر (د.ت.م)، 2/230.
([50]) المصدر السابق،2/ 231.
([51]) شرح مختصر الروضة، 3/235-236.
([52]) الشنقيطي،محمد أمين، مذكرة في أصول الفقه(بيروت: دار القلم، د.ت)،ص243- 244.
([53]) فصول في الفكر الإسلامي بالمغرب، ص194.
([54]) الموافقات، 4/89-90.
([55]) فصول في الفكر الإسلامي بالمغرب ص195.
([56]) الموافقات، 4/90.
([57]) المصدر السابق،3/44.
([58]) المصدر السابق، 4/93.
([59]) انظر بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي، 1/122
المبحث الثاني: مراتب تحقيق المناط(1/25)
إن ثبوت الحكم الشرعي من مأخذه مؤذِنٌ بالسير به نحو تنزيله على مناطاته بالتحقيق؛ لأن الشريعة لم تنص على حكمِ كل جزئية على حِدَتِها، بل أتت في الغالب بقواعد كلية وعبارات مطلقة متناولة داخلها أعدادًا غير منحصرة من الجزئيات والوقائع المتمايزة والمتشابهة في نفس الوقت، وما على المجتهد إلا أن يبذل وسعه في تنزيل هذه المطلقات والعمومات الحكمية على الأفعال والأحداث التي لا تقع مطلقات بل معينة زماناً ومكاناً وشخصاً.
ولا يكون الحكم منزلاً عليها إلا إذا عرف أن هذا الحكم التكليفي سمته التجريد والعموم قبل مرحلة تطبيقه وتحقيق مناطه في الجزئيات، وعلى المجتهد تنزيله على متعلقه على مستوى الأنواع والعينات المشخصة لتحقيق المساواة المطلوبة بين الحكم التكليفي في تجريده وعموميته وبين الحكم التطبيقي في الواقع المتعلق به. ويتم ذلك على مرتبتين هما:
1- تحقيق المناط العام في الأنواع.
2- تحقيق المناط الخاص في إطار الأفراد.
أولاً: تحقيق المناط العام في الأنواع:
إن الحكم التكليفي، كما سبق الإشارة، متسم بالتجريد والعموم، وعمومه يكون مسوقاً إلى الوقائع في أجناسها، فهو غير محدد بزمان أو مكان أو شخص معين، بل يشمل عموم المحكوم فيه والمحكوم عليه على سبيل الاستغراق، وأما تجريده فلوقوعه في الذهن متعقّلاً من مآخذه الشرعية دون تعلق بالوقائع الجزئية.
فإذا شرع في العمل على تطبيقه على الواقع، حقق في مناطاته المتجهة ابتداءً إلى الأنواع المشمولة بالحكم، فيناط بها مع التحرز مما يشتبه منها فيقصى من نطاق الحكم.(1/26)
ومما يندرج في هذا النوع من تحقيق المناط كون الحكم الذي ينطوي عليه النص يتجه إلى أجناس الأفعال كاتجاه منع الشارع إلى السرقة والقتل والزنا، واتجاه وجوب الفعل إلى العمل والعدل والبر، وبالرجوع إلى الحياة الواقعية للبشر يتبين أن تصرفات الإنسان مشتملة على أنواع متعددة تشبه أن تكون مشمولة بتلك الأحكام في عمومها والمتجهة إلى الأجناس، فاختلاس نقود من جيب أحد المارة، والسطو على بنك والاستيلاء على ما فيه من المال، واغتصاب حافظة نقود من أحد رجال الأعمال صور تتقارب لتشبه أن تكون مشمولة بحكم السرقة التي حكمها القطع، وكذلك بذل الجهد في تعمير الأرض بزراعة ما يقتاته البشر، واستفراغ الوسع في زراعة المخدرات تتقارب في صورها لتشبه أن تكون مشمولة بحكم وجوب العمل.([60])
وهنا يبرز دور من يتولى تطبيق الحكم، وذلك في التمييز بين تلك الأنواع وإلحاق كل منها بجنسه ليناله حكمه وليس حكم غيره، وتظهر أيضاً فعالية العقل بشكل أوسع «لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما هو عليه، وإنما يُفْتَقرُ فيه إلى ما لا يُعرَفُ ذلك الموضوع إلا به من حيث قُصدت المعرفة به، فلا بد أن يكون المجتهد عارفاً ومجتهداً من تلك الجهة التي ينظر فيها، ليُنَّزَل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى».([61])(1/27)
وهذا النوع من تحقيق المناط يبينه الشاطبي بكونه: «في تعيين المناط من حيث هو لمكلف ما»([62])، ويضرب لذلك مثلاً بالعدالة، فإذا وُجِد شخص مُتَّصف بها حسبما يظهر للمجتهد فإنه يوقع عليه ما يقتضيه النص من التكاليف المنوطة بالعدول من الشهادات والانتصاب للولايات العامة أو الخاصة. وهكذا إذا نظر في الأوامر والنواهي الندبية، والأمور الإباحية، وَوَجَد المكلفين والمخاطبين على الجملة، أوقع عليهم أحكام تلك النصوص، كما يوقع عليهم نصوص الواجبات والمحرمات من غير التفات إلى شيء غير القبول المشروط بالتهيئة الظاهرة، فالمكلفون كلهم في أحكام تلك النصوص على سواء في هذا النظر.
فمعنى (العدالة) ثابت عندنا، ولكن يبقى تعيين من حصلت فيه هذه الصفة، والناس فيها ليسوا على حدٍ سواء، بل ذلك يختلف اختلافاً متبايناً، فإذا تأملنا العدول وجدنا لاتصافهم بها طرفين وواسطة: طرف أعلى في العدالة لا إشكال فيه كأبي بكر الصديق، وطرف آخر وهو أول درجة في الخروج عن مقتضى الوصف، كالمجاوز لمرتبة الكفر إلى الحكم بمجرد الإسلام فضلاً عن مرتكبي الكبائر المحدودين فيها. وبينهما مراتب لا تنحصر. وهذا الوسط غامض، لا بد فيه من بلوغ حد الوسع، وهو الاجتهاد([63]). وكذلك في حال من أوصى بماله للفقراء، فالنظر ينصب على تعيين من ينطبق عليه وصف الفقر لينزل عليه حكم الاستحقاق في الوصية.
وهنا «لا يمكن الاستغناء بالتقليد، لأن التقليد إنما يتصور بعد تحقيق مناط الحكم المقلد فيه، والمناط هنا لم يتحقق بعد لأن كل صورة من صوره النازلة نازلة مستأنفة في نفسها لم يتقدم لها نظير، وإن تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا، فلا بد من النظر فيها بالاجتهاد».([64])(1/28)
وهذا الجهد العقلي المبذول للتمييز بين الأنواع لإلحاق المراد بجنسه لا يكفي فيه منطق افتراض الوقائع وبيان أحكامها سلفاً قبل وقوعها لتصورها في الذهن منبتة عن ملابساتها وظروفها التي تتحكم في تكييف حكمها غالباً، ومن ثم فالحكم المقدر لا يقع على وجهٍ صائبٍ محققٍ لمقصد الشارع، ومن ثم اشتهر عن الإمام مالك، رحمه الله، كرهه الاجتهاد الافتراضي، تبصراً منه بما قد يؤول إليه من خطأ في إلحاق أنواع المحكوم عليه بأجناسها وما قد يؤدي إليه من مخالفة المقصود شرعاً؛ وذلك أن الوقائع المستأنفة لا يجري عليها العدّ لتطور الحياة وتشعب قضايا الإنسان وتشابكها، ومن ثم فتجويز الإمام الشاطبي وقوع التقليد في هذا الضرب من تحقيق المناط قد لا يبرر إلا في حدود ضيقة.
ولعل سياق الشاطبي مفيد لتقليل ذلك حين قال: «وقد يكون من هذا القسم - تحقيق المناط - ما يصح فيه التقليد، وذلك فيما اجتهد فيه الأولون من تحقيق المناط إذا كان متوجهاً على الأنواع لا على الأشخاص المعينة، كالمثل في جزاء الصيد، فإن الذي جاء في الشريعة قوله تعالى: (( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ)) (المائدة:95)، وهذا ظاهر في اعتبار المثل، إلا أن المثل لا بد من تعيين نوعه، وكونه ِمثلاً لهذا النوع المقتول ككون الكبش ِمثلاً للضبع، والعنز ِمثلاً للغزال، والبلوغ في الغلام والجارية، وما أشبه ذلك».([65])
وتُعدُّ مرتبة تحقيق المناط النوعي مدخلاً وإطاراً محدداً للاجتهاد في الأشخاص المعينة الذي لا غنى عن تحقيقه؛ إذ لا يمكن أن يحكم على واقعة محددة بحكم واحد مهما اختلفت ظروفها وملابساتها؛ ذلك لأن للأبعاد الزمانية والمكانية أثراً في تكييف حكم الواقعة، بغض النظر عن حكم أصل الفعل ابتداءً.(1/29)
ثانياً: تحقيق المناط الخاص في إطار الأفراد:
وهذا التحقيق متجه إلى أفراد النوع الذي حقق كونه مناطاً للحكم، فقد يرد على ذهن المجتهد المحقق اشتباه بعض أفراد النوع الواحد وجزئياته من وقائع وتصرفات مكلفين ببعضها الآخر، فَيَخَالُها موحدة المناط، بيد أنها عند التحقيق تفرقُ، وقد يسري عليها الاستثناء لظروف وملابسات طارئة، فيخرجها من المساق الكلي للحكم؛ إذ ليس من المعقول ولا المشروع استصحاب حكم واقعة حصلت على وقائع أخرى مفارقة لها في ملابساتها وإن تشابهت أو تماثلت في صورتها وشكلها، لكون تلك الظروف ذات أثر بالغ في تكييف الحكم الشرعي المراد إحكام الواقع به.
وهذا التحقيق ضروري، سواء في الحكم على الأفعال والنوازل وتكييفها بالوحي؛ إذ هذه الوقائع «لا تثبت في الخارج إلا على كيفيات أحوال وهيئات، وتلك الهيئات مُحكَّمة في حقيقة الماهية حتى يحكم عليها بالكمال أو النقصان والصحة والبطلان، وهي مشخصات، وإلا لم يصح الحكم على صاحبها بشيء من ذلك إذ هي في الذهن كالمعدوم، وإن كان كذلك فالاعتبار فيها بما وقع في الخارج، وليس إلا أفعالاً موصوفة بأمور خاصة لازمة، وأمور على خلاف ذلك».([66]) أما أثناء تنزيل التكليف بالأمر على المكلف فلا بد من مراعاة قدرات هذا المكلف واستعداداته، ومدى تحقيق تكليفه بهذا الأمر بهذا الشكل أو ذاك لمقصد الشرع من الحكم؛ لكون خطاب الشارع متوجهاً بحسب الأحوال والأشخاص والأوقات».([67])
«(1/30)
وسواء كانت تلك التكاليف متحتمة أم غير متحتمة، مما يتطلب فيها التعرف على مداخل الشيطان ومداخل الهوى والحظوظ العاجلة، حتى يلقيها هذا المجتهد على ذلك المكلف بقيود التحرز من تلك المداخل».([68]) أما ما لم يكن متحتماً فإنه يختص بوجه آخر، كما يقرر الشاطبي، «وهو النظر فيما يصلح لكل مكلف في نفسه، بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص، إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد، كما أنها في العلوم والصنائع كذلك».([69])
«وصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رُزِق نوراً يعرف به النفوس ومراميها، وتفاوت إدراكها، وقوة تحملها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها، فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف».([70])(1/31)
ومن ثم فقد جرى التشريع الإسلامي - مثلاً- على أن لا يفرض لكل جريمة من جرائم التعازير عقوبة معينة، كما تفعل القوانين الوضعية، لأن تقييد القاضي بعقوبة معينة يمنع العقوبة من أداء وظيفتها وتحقيق المقصد الذي من أجله شرع التعزير، بل يجعل العقوبة غير عادلة في غالب الأحيان؛ لأن أحوال وملابسات الجرائم ومرتكبيها تختلف اختلافاً واضحاً عائداً إلى اختلاف الشخص والزمان والمكان، وما يفلح في تقويم مجرم قد لا يفلح في آخر، وما يردع مجرماً قد لا يردع غيره. ومن أجل هذا وضعت لجرائم التعزير عقوبات متعددة مختلفة هي مجموعة كاملة من العقوبات تتسلسل من أقلِّ العقوبات إلى أشدِّها، وتُرِك للقاضي أن يختار من بينها العقوبة التي يراها كفيلة بتأديب الجاني وإصلاحه وحماية الجماعة من الإجرام. وللقاضي أن يعاقب بعقوبة واحدة أو أكثر، وله أن يخفف العقوبة أو يشددها إن كانت العقوبة ذات حدَّيْن بما يراه مناسباً لإصلاح المجرم، وله أن يوقف تنفيذ العقوبة إن رأى في ذلك ما يكفي لتأديب المجرم واستصلاحه وزجر غيره وحماية الجماعة من شرور المجرمين.([71])
وهذا الأمر عائد إلى التحقيق في المناط الخاص بكل مجرم وجريمة.. وفي معنى قوله تعالى: (( إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاْرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الاْرْضِ ذالِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ )) (المائدة:33)، قال الإمام مالك رحمه الله: إنّ هذه العقوبات موكولة لنظر ولي الأمر، ليضع كلّ عقوبة على قدر جرم الجاني وكثرة مقامه في الفساد، فيقتله إن قتل، ويقطع يده إن سرق([72]).(1/32)
وإذا كان للتشريع الإسلامي سياسة ذات قواعد محكمة، ينهض بها المجتهد إبان التطبيق، تحقيقاً للعدل والمصحلة في الواقع المعيش بظروفه الملابسة وعوارضه المتغيرة، فإن للإفتاء أيضاً هذه السياسة عينها؛ لأنها من معين الاجتهاد، ولأن العدل لا يتجزأ، وحقائق المصالح الشرعية المعتبرة ومقاصد التشريع لا تتبدل.. هذا ما يؤكد الإمام الشاطبي بقوله: «يجيب (المفتي) السائل على ما يليق به في حالته على الخصوص إن كان له في المسألة حكم خاص».([73]) فيكون مبلغاً للشريعة من جهة فهم المعاني من الألفاظ الشرعية، ومن جهة تحقيق مناطها وتنزيلها على الأحكام، فهو على التحقيق «موقع للشريعة على أفعال المكلفين».([74])
ــــــــــــــــــــ
55]) فصول في الفكر الإسلامي بالمغرب ص195.
([56]) الموافقات، 4/90.
([57]) المصدر السابق،3/44.
([58]) المصدر السابق، 4/93.
([59]) انظر بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي، 1/122.
([60]) انظر النجار، عبد المجيد، خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، بحث في جدلية النص والعقل والواقع (USA: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة المنهجية الإسلامية رقم5، ط2-1993م)، ص123.
([61]) الموافقات، 4/165.
([62]) المصدر السابق،4/165.
([63]) انظر المصدر السابق،4/90-92.
([64]) المصدر السابق، 4/92.
([65]) المصدر السابق، 4/93-94.
([66]) المصدر السابق، 3/38.
([67]) المصدر السابق، 2/41.
([68]) المصدر السابق، 4/98.
([69]) المصدر السابق، 4/98.
([70]) المصدر السابق، 4/98.
([71]) أنظر عودة، عبد القادر، التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي (بيروت: دار الكتاب العربي، د.ت)، 1/285-286.
([72]) ابن عاشور، محمد الطاهر، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام (الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب، ط2-د.ت)، ص223.
([73]) الموافقات، 4/232.
([74]) المصدر السابق، 4/245.
المبحث الثالث: أدلة اعتبار تحقيق المناط(1/33)
إن الناظر في السنة النبوية المطهرة وفتاوى وتطبيقات فقهاء الصحابة رضوان الله عليهم ليجدهما مفعمين بالأدلة والشواهد على صحة اعتبار هذا الأصل التطبيقي الهام، بل يجد أن السمة التي تَسِم فتاواهم وتوجيهاتهم الشخصية هي تحقيق مناط الأحكام العامة والقواعد الكلية تبعاً لظروف المستفتي أو الشخص محل التوجيه ، وملابسات الواقعة الْمُفتَى فيها بما يراه المرشد أو المُفتي الأنسب والأصلح للشخص أو لمعالجة النازلة، أو بما يمثل واجب الوقت في حق المحكوم عليه، وفيما يلي نماذج من ذلك:
أولاً: من السنة النبوية:
1-إجابة النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة عن سؤال واحد بإجابات مختلفة ومن ذلك:
أ- سؤاله عن أفضل الأعمال: حيث ورد في السنة أنَّه سُئِل مرات كثيرة عن أفضل الأعمال، فكانت إجابته تختلف من شخص إلى آخر رغم اتحاد السؤال. وواضح أن السؤال كان من أشخاص تختلف أحوالهم، وفي ظروف مختلفة، فكانت إجابته صلى الله عليه وسلم إما بذكر أفضل الأعمال على الإطلاق، كما هو الحال في الحديث الذي جعل فيه أفضل الأعمال الإيمان بالله تعالى، أو بحسب الشخص والحال وواجب الوقت.
- فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قال: « إِيمَانٌ بِاللَّهِ». قال: ثُمَّ مَاذَا؟ قال: « الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». قال: ثُمَّ مَاذَا؟ قال: «حَجٌّ مَبْرُورٌ».([75])
- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أفضل؟ قال: «الصلاة في أول وقتها. قلت ثم أيُّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قلت: ثم أيُّ ؟ قال: برّ الوالدين؟»([76])
- وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: مُرْنِي بِأَمْرٍ آخُذُهُ عَنْكَ. قال: «عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لا مِثْلَ لَهُ».([77])(1/34)
- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «...وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ شيئاً هُوَ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ»، فهذا الحديث جاء في سياق توجيه قوم أعوزتهم القناعة وأكثروا من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الصدقات فاقتضى المقام تذكيرهم بالصبر وتوجيههم إلى أنه خير ما يسع الإنسان في مختلف ظروفه. ففي الحديث أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِصلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثم قال: « مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، ومن يستغن يغنه الله، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، ومن يتصبر يصبره الله، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ شيئاً هُوَ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ».([78])
- ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «... وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ».([79])
- ومنها ما رواه عبد الله بن عمرو، أنه صلى الله عليه وسلم سئل أي الإسلام خير؟ قال: تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتَقْرَأُ السَّلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ».([80])
فتوجيه الأفضل فيما سبق ذكره لنوع من العمل بعينه ليس بإطلاق، بل الأمر راجع في التحقيق إلى حال المُخَاطَب: ماهو في حاجة إليه، أو يصلح له في حال دون حال، وفي شخص دون شخص، وفي زمن دون زمن.
ب- سؤاله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الناس: فكان جوابه يختلف كما هو الحال في جوابه عن أفضل الأعمال ولنفس الأسباب:
- فمن ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الْعِبَادِ أَفْضَلُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ» ([81])(1/35)
- ومن ذلك ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، إِنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّه ِصلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ؟ قَالَ : « مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ».([82])
2- دعاؤه صلى الله عليه وسلم للصحابة بأدعية مختلفة: فقد دعا لأنس بن مالك رضي الله عنه بكثرة المال لما رأى فيه متانة الدين وقوة النفس وأنه سيجعل المال في يده لا في قلبه، يتخذه وسيلة لخدمة الإسلام والمسلمين لا درك فتنة يسقط فيه فبورك له فيه، بينما أعرض عن الدعاء لثعلبة بن حاطب حين سأله الدعاء بكثرة المال لما خشي عليه من فتنة الدنيا ، وقال له: «قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه».([83])
3- نهيه صلى الله عليه وسلم لأبي ذر عن تولي الإمارة وتولي أموال الأيتام مع أن أبا ذر كان أصدق من أقلت الغبراء فقال صلى الله عليه وسلم: « يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي لا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ وَلا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ»([84])، «ومعلوم أن العملين كليهما من أفضل الأعمال لمن قام فيه بحق الله وقد قال صلى الله عليه وسلم في الإمارة والحكم: « إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينُ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا»([85])
وقال: « أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ»([86]).. ثم نهاه عنهما لما علم له خصوصاً في ذلك من الصلاح».([87])(1/36)
4- عطاؤه صلى الله عليه وسلم للناس بحسب إيمانهم وخصائصهم النفسية بما يكفل لهم من صلاح أو يدفع شرهم، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: « إِنِّي أُعْطِي الرَّجُلَ وَأَدَعُ الرَّجُلَ وَالَّذِي أَدَعُه أَحَبُّ إِلَيَّ مِنِ الَّذِي أُعْطِيه، أُعْطِي أَقْوَامًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغِنَى وَالْخَيْرِ».([88])
وسياق الحديث وارد في غزوة حنين حين أغدق رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنائم الكثير على رجال من قريش وَوَكّل الأنصار إلى إيمانهم وقناعتهم، فاعترض رجل من الأنصار بما يبدو ظاهره الصواب حيث رأى أن الأنصار الذين آووا ونصروا وجاهدوا قريشاً أولى بالغنائم ممن كان بالأمس عدواً للإسلام والمسلمين، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بثاقب بصيرته وبما ألهمه الله تعالى رأى أن الصواب عكس ذلك، فخَصَّ بالغنائم رجالاً من قريش حديثي عهد بالإسلام يتألفهم ويدفع عن قلوبهم ما بقي فيها من آثار الجاهلية من هلع وجزع، ووكَّل الأنصار، الذين ملأ الإسلام قلوبهم بالإيمان والغنى والخير، إلى ما في قلوبهم.
5- تفريقه صلى الله عليه وسلم في قبول الصدقات بين الصحابة رضوان الله عليهم كل بحسب حاله وبما فيه صلاحه: فقبل صلى الله عليه وسلم من أبي بكر كل ماله، واعترض على كعب بن مالك لما عرض عليه، بعد أن تاب الله عليه، أن ينخلع عن كل ماله صدقة إلى الله ورسوله، وأمره أن يمسك عليه بعض ماله فقال: « أَمْسِكْ عليك بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ».([89])
وجاء آخر بمثل البيضة من الذهب فردها في وجهه ثم قال: «يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ فَيَقُولُ هَذِهِ صَدَقَةٌ، ثُمَّ يَقْعُدُ يَسْتَكِفُّ النَّاسَ، خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى».([90])
ثانياً: من آثار الصحابة وفتاويهم:(1/37)
فيما روي عن الصحابة رضي الله عنهم ما لا يكاد يحصى من صور وأمثلة تحقيق المناط في اجتهاداتهم وفتاويهم.. ومن ذلك:
1- ما أُثِر عن علي رضي الله عنه أنه قال: «حدِّثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يُكَّذب الُله ورسولُه، وفي رواية: حدثوا الناس بما يعرفون ولا تحدثوهم بما ينكرون فيكذبوا الله ورسوله»([91])، فجعل إلقاء العلم مقَيَّداً، فرب مسألة تصلح لقوم دون قوم.
2- مارواه يزيد بن هارون عن أبي مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة قال: «جاء رجل إلى ابن عباس فقال: ألمن قتل مؤمناً متعمداً توبة؟ قال: لا، إلا النار. قال فلما ذهب قال له جلساؤه: أهكذا كنت تفتينا؟ كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة؟ قال: إني لأحسبه رجلاً مغضباً يريد أن يقتل رجلاً مؤمناً. قال: فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك. »([92])، فأدرك ابن عباس بثاقب بصيرته خصوصية عارض الغضب على ذلك الشخص، وأن حاله يقتضي استدعاء حكم آخر لنشوء مناط يختلف عن المناط العام للتوبة أصالة؛ لكون ظاهرة الغضب تنمُّ عن نية الإقدام على جريمة القتل المحرم، والسؤال لم يكن غير التماس للمبرر الشرعي من المفتي، مما حمل ابن عباس على مراعاة الاقتضاء التبعي لدليل التوبة بدلاً من الاقتضاء الأصلي لحكم التوبة النصوح.
وعلى العكس من ذلك حال المستفتي الذي تعتريه حالة اليأس والقنوط من رحمة الله لاستعظامه توبة الله عليه، وهو تائب فعلاً، فهذا ينبغي مراعاة حاله، وفتح باب الأمل أمامه بأن الله تعالى يغفر الذنوب جميعاً إلا الشرك، وأن حكم التوبة بالنسبة لهذا يجري عليه اقتضاء حكمها أصالة لانتفاء العوارض المنافية لها.([93])
ثالثاً: جريان التطبيق الفقهي لأحكام كثيرة بناء على هذا الأصل:(1/38)
1- الحرابة: في قوله تعالى: ((إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاْرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الاْرْضِ ذالِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) ( المائدة:33)،حيث ذهب مالك، وأبو ثور، ورواية عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، والضحاك، والنخعي، إلى أن الإمام مخير في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل والصلب، أو القطع، أو النفي بظاهر الآية([94])؛ وذلك بحسب اجتهاد الإمام ومشورة الفقهاء بما يراه أتم للمصلحة وأدفع للفساد وليس على هواه.
2- التخيير في الأسارى بين القتل، والاسترقاق، والمنّ، والفداء، وضرب الجزية عليهم، على خلاف بين الفقهاء، بحسب ما يراه الإمام الأصلح والأوفق لمصلحة الإسلام والمسلمين.([95])
3- ما نص عليه الفقهاء من سريان الأحكام الشرعية الخمسة على الزواج، وذلك تبعاً لحال الشخص وظروفه: فيكون واجباً في حق القادر على نفقات الزواج والقيام بحقوقه الشرعية إذا تيقن الوقوع في الزنا ولم يستطع دفعه إلا بالزواج؛ ويكون حراماً في حق من تيقن العجز عن تكاليفه وعن القيام بحقوقه؛ ويكون مكروهاً لمن خاف عدم القدرة على القيام بحقوق الزوجية وكان بإمكانه منع نفسه عن الحرام؛ ويستحب الزواج في حالة الاعتدال؛ وقال الشافعي يكون مباحاً.([96])
ـــــــــــــــــــــــــــــ
([75]) مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الإيمان (بيروت: دار الفكر، د.ت)، 2/50.
([76]) الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، كتاب الصلاة ، باب في مواقيت الصلاة (بيروت: دار المعرفة، د.ت)، 1/188
([77]) النسائي، أبو شعيب، السنن، كتاب الصيام (بيروت: دار الكتب العلمية، د.ت)، 4/ 165.
([(1/39)
78]) النسائي، السنن (صيدا: المكتبة العصرية، د.ت)، 2/122.
([79]) الترمذي، أبو عيسى، الجامع الصحيح، أبواب الدعوات، باب في انتظار الفرج وغير ذلك (بيروت: دار الفكر ، ط-1400هـ)، 5/225.
([80]) مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام (بيروت: دار القلم، د.ت)، 2/369.
([81]) الترمذي، أبو عيسى، الجامع الصحيح، كتاب الدعاء، باب ماجاء في فضل الذكر (استانبول: ط-1981)، 5/458.
([82]) الزبيدي، مختصر صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون منه، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني (بيروت: المكتب الإسلامي، د.ت)، ص23
([83]) الزبيدي، إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين(بيروت: د.ت)، 8/225.
([84]) صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الإمارة ، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة (طبعة دار القلم)، 12/452.
([85]) صحيح مسلم بشرح النووي، باب فضيلة الإمام العادل(طبعة دار القلم)، 12/ 452.
([86]) أبو داود، السنن، كتاب الأدب (طبعة سابقة)، 4/338.
([87]) الموافقات، 4/101.
([88]) البيهقي، السنن الكبرى، كتاب الصدقات (بيروت: دار الفكر، د.ت)، 7/18.
([89]) صحيح مسلم بشرح النووي،كتاب التوبة،باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه،17/103.
([90]) المستدك على الصحيحين، في كتاب الزكاة، 1/413.
([91]) الديلمي، الفردوس بمأثور الخطاب (بيروت: دار الكتب العلمية، ط/1-1986م)، 2/129.
([92]) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن(بيروت:دار إحياء التراث العربي، ط- 1965م)،5/333.
([(1/40)
93]) انظر بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي،1/141-142 . ومثال هذا ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض؟ فدل على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض؟ فدل على رجل عالم. فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله عز وجل، فاعبد الله تعالى معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء... » المنذري، مختصر صحيح مسلم، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، كتاب التوبة، (بيروت: المكتب الإسلامي ، ط/4- 1982)، ص510.
([94]) انظر القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 6/152.
([95])الزحيلي،وهبة، الفقه الإسلامي وأدلته(بيروت:دار الفكر، ط3-1986)،6/471-475.
([96]) المصدر السابق، 6/471-475
الفصل الثاني :التحقيق في حصول المقاصد الشرعية
المبحث الأول: المقاصد.. تعريفها ومراتبها
أولاً: دلالة مفهوم المقاصد لغة واصطلاحاً:
تعريف المقاصد لغة: تعود كلمة «مقصد» إلى أصل (ق ص د)، ومواقعها في كلام العرب الاعتزام والتوجه والنهوض نحو الشيء، على اعتدال كان أو جور. هذا أصله في الحقيقة وإن كان يُخص في بعض المواضع بقصد الاستقامة دون الميل([1]).
فقَصَدْت الشيء له وإليه قَصْدًا من باب (ضرب) طلبته بعينه وإليه قَصْدي ومَقْصِدي بفتح الصاد، واسم المكان بكسرها نحو مقصد معين، وبعض العلماء جمع القَصْد على قُصُود وهو جمع واقع على السماع. وأما (المَقْصَد) فيجمع على مَقَاصِد، وقَصَدَ في الأمر قَصْدًا توسط وطلب الأسدّ ولم يجاوز الحد. وهو على قَصْدٍ أي رشد، وطريق قَصْدٌ أي أسهل، وقَصَدْت قَصْدَه أي نحوه.([2])(1/41)
وقد ذهب د. طه عبد الرحمن إلى أن الفعل «قصد» مشترك بين ثلاثة معان، ينتج بناء عليها ثلاثة اشتقاقات ذات دلالات مختلفة يؤسس كل واحد منها لنظرية من النظريات الأصولية حسب التفصيل الآتي:
1- «قصد» بمعنى هو ضد الفعل (لغا يلغو). لما كان اللغو هو الخلو عن الفائدة أو الدلالة، فالمقصد حصول الفائدة أو عقد الدلالة. واختص المقصد بهذا المعنى باسم «المقصود» فيقال: المقصود بالكلام، ويراد به مدلول الكلام، وجمعه المقصودات وهي المضامين الدلالية.
2- «قصد» بمعنى هو ضد الفعل (سها يسهو). لما كان السهو هو فقد التوجه أو الوقوع في النسيان، فإن القصد يكون على خلاف ذلك هو حصول التوجه والخروج من النسيان، واختص المقصد بهذا المعنى باسم «القصد» وهو المضمون الشعوري أو الإرادي.
3- «قصد» بمعنى هو ضد الفعل (لها يلهو). لما كان اللهو هو الخلو عن الغرض الصحيح وفقد الباعث المشروع، فإن القصد يكون على العكس من ذلك هو حصول الغرض الصحيح وقيام الباعث المشروع، واختص المقصد بهذا المعنى باسم «الحكمة»، ومعناه هنا المضمون القيمي، وأطلق عليه «المقاصد».
وتحصل من هذا ثلاثة معان تمثل ثلاث نظريات مكونة لعلم المقاصد وهي:
- نظرية «المقصودات» الباحثة في المضامين الدلالية للخطاب الشرعي.
- نظرية «القصود» الباحثة في المضامين الشعورية والإرادية.
- نظرية «المقاصد» والتي تبحث في المضامين القيمية للخطاب الشرعي.([3])
تعريف المقاصد اصطلاحاً:(1/42)
لقد حُرِم هذا المصطلح عند قدماء الأصوليين من إعطاء حد له حتى من الشاطبي نفسه، وفي تقديري إن عدم تعريف متقدمي الأصوليين لمصطلح المقاصد يعود إلى عدم تبلور علم المقاصد كمبحث مستقل في أصول الفقه في زمنهم؛ حيث كان مبثوثاً في ثنايا مباحث المناسبة والمصلحة والاستحسان وسد الذرائع، أما الشاطبي، فرغم كونه صاحب النقلة النوعية لعلم المقاصد بما قعدّ له وفصّل فيه وجعله مبحثاً مستقلاً من مباحث أصول الفقه لا يقل عن المباحث الأخرى إن لم يفقها، إلا أنّ الرجل لم يكن معنياً بالحدود والرسوم، بل كان يرنو إلى مشروع تجديدي لأصول الفقه موجّه للعلماء حيث يقول عن كتابه: «ألاّ ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد حتى يكون ريّان في علوم الشريعة، أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب»([4])، أما المعاصرون فقد اهتموا بإعطاء تعريف للمقاصد بعد أن أخذت حيزها المطلوب من علم أصول الفقه، واتضحت معالم النظرية وأبعادها.
دلالة المقاصد عند الشاطبي:
كما سبقت الإشارة فإن الشاطبي لم يعمد إلى وضع حد أو رسم للمقاصد بل بدأ مباشرة ببيان المقاصد من خلال بيان أقسامها، فقسمها إلى قسمين: قصد الشارع؛ وقصد المكلف.
القسم الأول.. قصد الشارع: وقسمه إلى أربعة أنواع هي:
- قصد الشارع إلى وضع الشريعة ابتداءً «أي بالقصد الذي يعتبر في المرتبة الأولى، ويكون ما عداه كالتفصيل له، وهذا القصد الأول»([5]) وهو الذي قال فيه الشاطبي: «تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لاتعدو أن تكون ثلاثة أقسام: ضرورية، وحاجية، وتحسينية»([6])، وهذه المقاصد تجمعها قاعدة «درء المفاسد وجلب المصالح».
- قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام.
- قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها.
- قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة.(1/43)
القسم الثاني: قصد المكلف: وخصصه لمقاصد المكلف في التكليف، مؤكداً أن العمل إذا تعلق به القصد تعلقت به الأحكام التكليفية، وإذا عري عن القصد لم يتعلق به شيء منها.
وهذه التقسيمات تجمع مدلول المقاصد عند الشاطبي، الذي يمتد ليشمل المقاصد المصلحية والدلالية للخطاب الشرعي والمرتبطة في تحققها واقعاً بامتثال المكلف.
تعريف المقاصد عند محمد الطاهر بن عاشور:
أما محمد الطاهر بن عاشور فقد عمد بداية إلى تقسيم المقاصد بحسب العموم والخصوص، ثم أعطى لكل قسم تعريفه:
1- مقاصد التشريع العامة: «وهي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغاياتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع من ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضاً معان من الحِكَم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها»([7]).. وذكر من بين هذه المقاصد العامة: حفظ النظام، وجلب المصالح ودرء المفاسد، وإقامة المساواة بين الناس، وجعل الأمة قوية مرهوبة الجانب.
2- مقاصد الشريعة الخاصة: «وهي الكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة، أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة، ويدخل في ذلك كل حكمة روعيت في تشريع أحكام تصرفات الناس، مثل قصد التوثق في عقد الرهن، وإقامة نظام المنزل والعائلة في عقدة النكاح».([8])
ويجمع هذين القسمين المقصد العام للتشريع وهو: «حفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان».([9])
تعريف علاّل الفاسي:
أما علال الفاسي فقد عرفها بقوله: «المراد بمقاصد الشريعة الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها»([10]) قاصداً بالغاية منها مقاصدها العامة، وبالأسرار المقاصد الخاصة لكل حكم من أحكامها الجزئية.
تعريف الريسوني:(1/44)
وعرفها الريسوني - جمعاً بين تعريفي ابن عاشور وعلال الفاسي- بأنها: «الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد».([11])
تعريف إسماعيل الحسني:
أما إسماعيل الحسني فقد اقترح تعريفاً آخر فقال: «إنها الغايات المصلحية المقصودة من الأحكام والمعاني المقصودة من الخطاب».([12])
بَيْدَ أنّ الملاحظ على الشطر الثاني من التعريف «المعاني المقصودة من الخطاب» أنه إن كان المراد به الحِكم المقصودة للشارع فهي داخلة بدلالة التضمن في الشطر الأول، أما إن كان مراده بها دلالات الخطاب فهذا لا يعد مقصداً بالمعنى الاصطلاحي، بل هو مسلك للكشف عن مقاصد الخطاب.
التعريف المقترح:
ويمكن تعريف المقاصد بأنها: «القيم المصلحية المغياة من الأحكام الشرعية، والمرتبطة في تحققها واقعاً بالقصد الإرادي من المكلف». ويمكن تفصيل هذا التعريف كما يلي:
1- المقصد القيمي من التشريع: وهو جلب المصالح ودرء المفاسد، وهذا فصّله أئمة الأصول عند تطرقهم للمعاني والحكم التي من أجلها نزّل الشرع، ويستفاد هذا من غالب التعريفات السابقة، كما أشار إليه الشاطبي في النوع الأول من القسم الأول وهو «وضع الشريعة ابتداء» وذلك لتحقيق المصالح ودرء المفاسد، وكثيراً ما يعبر عنها بالمعاني كما في قوله: «الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها، وإنما قصد بها أمور أخرى هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت لأجلها».([13])
وهذا ما أكده العِزُّ بن عبد السلام قبله بقوله: «والشريعة كلها مصالح: إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح»([14]).. وهذا ابن تيمية يزيد الأمر بياناً فيقول: «إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها».([15])
«والمصالح ضربان: أحدهما حقيقي وهو الأفراح واللذات، والثاني مجازي وهو أسبابها. وربما كانت أسباب المصالح مفاسد فيؤمر بها أو تباح لا لكونها مفاسد بل لكونها مؤدية إلى مصالح، وذلك كقطع الأيدي المتآكلة حفظاً للأرواح».([16])(1/45)
غير أن إطلاق المصالح على معناها الحقيقي أولى دفعاً لما قد يقع عند التطبيق من اشتباه بين المقاصد والوسائل وإن كانت الوسائل على اختلاف مراتبها تعد مقاصد باعتبار مآلاتها.
وهذه القيم المصلحية للتشريع شاملة لأقسام ثلاثة:
أ- المقاصد العامة: وهي التي تراعيها الشريعة وتعمل على تحقيقها في كل أبوابها التشريعية كما في الأمثلة المتقدمة عند ابن عاشور.
ب- المقاصد الخاصة: وهي المقاصد التي تهدف الشريعة إلى تحقيقها في باب معين أو في أبواب قليلة متجانسة. وقد اعتنى بهذا النوع ابن عاشور فتناول منها مقاصد الشارع في أحكام العائلة، والتصرفات المالية وغيرها.
ج- المقاصد الجزئية: وهي ما يقصده الشارع من كل حكم شرعي تكليفي أو وضعي، وهي التي يشير إليها الأستاذ علال الفاسي بقوله: «... الأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها، وهي التي تنطبق عليها أمثلة ابن عاشور من كون عقدة الرهن مقصودها التوثق، وعقدة النكاح مقصودها إقامة وتثبيت المؤسسة العائلية.» ([17])
2- المقصد الإرادي من المكلف: وله بعدان:
أ- إرادة الشارع من المكلف الدخول في التكليف، ائتماراً وانتهاءً، ليكون قصده في العمل موافقاً لقصد الشارع في التكليف.
ب- إرادة امتثال من المكلف لأمر الشارع فعلاً وتركاً، لتحقيق موافقة العمل للقصد من التكليف؛ باعتبار أن كل عمل المتبع فيه الهوى بإطلاق، من غير التفات إلى الأمر والنهي أو التخيير، فهو باطل بإطلاق؛ لأنه لا بد للعمل من حامل يحمل عليه وداع يدعو إليه، فإذا لم يكن لتلبية مطلب الشارع في ذلك مدخل فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة، وما كان كذلك فهو باطل بإطلاق.([18])
ثانياً: مراتب المقاصد:(1/46)
نظراً لما للمقاصد الشرعية من أهمية قصوى في تفهم الحكم الشرعي وتنزيله، فقد حظيت بعناية العلماء من حيث تقسيمها وبيان مراتبها بما يعين على النظر الأولوي والموازنة بين المصالح والمفاسد من جهة، وبين مراتب المصالح أو المفاسد في ذاتها من جهة أخرى، ومن ثم فقد حصل تقسيم المقاصد باعتبارات مختلفة كما يلي:
1- من حيث مدى الحاجة إليها، إلى: ضرورية، وحاجية، وتحسينية.
2- من حيث العموم والخصوص، إلى: كلية وهي العائدة إلى مجموع الأمة أو غالبيتها، وجزئية وهي العائدة إلى الأفراد.
3- من حيث قوتها في ذاتها، إلى: قطعية، وظنية، ووهمية.
4- من حيث شهادة الشرع لها بالاعتبار أو الإلغاء، إلى: معتبرة، وملغاة، ومرسلة.
بيد أن التقسيم الأول أهم وأجمع وألصق بجانب الاجتهاد التطبيقي، وعليه فسأقتصر على بيان هذا التقسيم مع الإشارة إلى التقسيمات الأخرى عند الحاجة.
وهذه المراتب تصنف قوة من الضروري ثم الحاجي ثم التحسيني، ولكل قسم منها تكملة مشروطة بعدم العودة على أصلها بالإبطال وإلا ألغيت.
1- المقاصد الضرورية: وهي ما لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين.([19])
وقد مثل جماهير علماء الأصول لهذا القسم بالكليات الخمس، محاولين في ذلك حصرها فيها وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وحكى القرافي إضافة البعض قسماً سادساً وهو حفظ العرض([20])، وتبناه ابن السبكي.([21])(1/47)
ودافع عن هذا الشوكاني فقال: «وقد زاد بعض المتأخرين سادساً وهو حفظ الأعراض؛ فإن عادة العقلاء بذل نفوسهم وأموالهم دون أعراضهم، وما فدي بالضروري فهو بالضرورة أولى، وقد شرع في الجناية عليه بالقذف الحد، وهو أحق بالحفظ من غيره، فإن الإنسان قد يتجاوز عمن جنى على نفسه أو ماله، ولا يكاد أحد أن يتجاوز عمن جنى على عرضه ولهذا يقول القائل:
يهون علينا أن تصاب جسومنا وتسلم أعراض لنا وعقول»([22])
وقد ردَّ ابنُ عاشور على هذه الدعوى معتبراً حفظ الأعراض ليس من الضروري بل هو حاجي وأن ما حمل بعض العلماء على عدّه ضرورياً ما رأوه من ورود حدِّ القذف في الشريعة، رافضاً بذلك الملازمة بين الضروري وبين ما في تفويته حدٌّ.([23])
ومن المعاصرين من طالب بصياغة جديدة لهذه المقاصد لتشمل من بين ما تشمل «حرية الفرد وحقوقه الأساسية»([24])؛نظراً لتغير الظروف الاجتماعية وما ينتج عن الاحتكاك القائم بين الفرد والدولة، حيث يسود العالم الإسلامي استبداد مطلق وكَبْت للحريات وانتهاك للحقوق الأساسية للفرد التي كفلتها الشريعة. والدافع إلى إضافة هذا المقصد ما عساه أن ينتج عن إبراز هذا المقصد أكاديمياً وإعلامياً من حسٍّ حضاري وأخلاقي يؤدي إلى تحسين وضع الحريات والحقوق الأساسية للمواطن المسلم في العالم الإسلامي.(1/48)
وفي رأيي المتواضع أن الادعاءين كليهما: ادعاء انحصار المقاصد الضرورية في الخمس المعروفة، وادعاء عدم إيفاء هذه الخمس بالمقاصد الضرورية صحيح من وجه وقابل للنقاش من وجه آخر. فإذا أردنا الاختصار والإجمال فالحصر في الخمس موف بالمطلوب، وكل ما رام بعض المتأخرين إضافته إلى الضروريات الخمس لا يخرج عند التحقيق عنها، فهو لا يعدو أن يكون تفريعاً وتفصيلاً للكليات الخمس.. أما إذا قصدنا التفصيل أو تسليط الضوء على بعض الضروريات لمعالجة ظاهرة من الظواهر التي تفشت في مجتمعاتنا، أو للفت الأنظار وترسيخ مبدأ من المبادئ أو قيمة من القيم فيمكن إضافة سادس وسابع وأكثر من ذلك، ولا مشاحة في الاصطلاح والتقسيم، ولكن دون الادعاء أن ما أضيف اكتشاف جديد وأن ما ذكره المتقدمون قاصر.
وإذا ما حقق في طبيعة هذه الضروريات الخمس فسيتضح شمولها؛ إذ هي عائدة إلى مصالح الناس:
- بحفظ دينهم ومثلهم العليا، التي يمتازون بها إنسانياً وحضارياً، ويستهدفها سعيهم في حياتهم الدنيا.
- وحفظ أرواحهم وحقهم في الحياة، وجوداً مادياً ومعنوياً، عزة وكرامة. والوجود المعنوي هو الذي جهد الإسلام في تحقيقه للإنسان في المجتمع البشري؛ إذ هو المقصود من الوجود المادي، أما الوجود المادي المجرد فيشترك فيه سائر الكائنات الإنسانية، والوجود المعنوي قوامه المثل العليا والمبادئ والقيم الخالدة.
- حفظ أموالهم وتيسير سبل تنميتها، ووجوب استثمارها، والمال يمثل الجهد المجسد للإنسان، وثمرة سعيه المشروع، وهو قوام الحياة.
- حفظ عقولهم، التي هي أساس إنسانيتهم وقوام فطرتهم، ومناط التكليف والمسؤولية، وسبب التقدم الإنساني والحضاري، من كل ما يشل طاقتها الفكرية، ويقضي بالتالي على الكرامة الإنسانية.
- حفظ نسلهم، الذي يمثل صورة وجودهم وحافز نشاطهم، وبقاء نوعهم في أجياله المتعاقبة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.([25])
وحفظ هذه الضروريات يتم من جانبين :(1/49)
- جانب الوجود بما يقيم أركانها ويثبت قواعدها.
- ومن جانب العدم بما يدفع عنها الاختلال الواقع أو المتوقع.([26])
2- المقاصد الحاجية:
وهو ما تحتاج إليه الأمة لاقتناء مصالحها وانتظام أمورها على وجه حسن، بحيث لولا مراعاته لما فسد النظام ولكنه يكون على حالة غير منتظمة فلذلك كان لا يبلغ مبلغ الضروري.([27]) ومن أمثلتها في العبادات: الرخص المخففة بالنسبة للحوق المشقة بالمرض والسفر كإباحة الفطر للمريض والمسافر، وقصر الصلاة للمسافر، والتيمم لفاقد الماء. وفي العادات كإباحة الصيد، والتمتع بالطيبات مما هو حلال مأكلاً ومشرباً وملبساً ومسكناً ومركباً.. وفي المعاملات كالقراض، والمساقاة، والسلم، وسائر المعاملات التي لا يتوقف عليها حفظ الضرورات الخمس.
3- المقاصد التحسينية:
وهي من قبيل رعاية أحسن المناهج في محاسن العادات([28]) وهو كل ما يتصل بالأخلاق الرفيعة، والكمالات النفسية، والآداب العامة، وما يزين الحياة ويجملها في إطار قواعد الشرع وحدوده: (( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ)) (الأعراف:32) لتكون الأمة بهية المنظر، مرغوباً في الاندماج فيها والتقرب منها من الأمم الأخرى. وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات: كالطهارات، وآداب الأكل والشرب، والمنع من بيع النجاسات.
وهذه الأمور وأمثالها كما يقول الشاطبي: «راجعة إلى محاسن زائدة على أصل المصالح الضرورية والحاجية؛ إذ ليس فقدانها بمخل بأمر ضروري ولا حاجي، وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين».([29])
أهمية هذا الترتيب:
تبرز أهمية هذا الترتيب للمقاصد فيما يلي:
أ- إن معرفة مقصد الشارع من الحكم الشرعي يعين على فهم النص على وجهه الصحيح، ومن ثم تساعد على حسن تنزيله على الوقائع سواء من جهة الاهتداء بفهم المقصد العام في تنزيل الحكم الكلي على الجزئيات، أو الترجيح بين ما ظاهره التعارض.(1/50)
ب- إن هذا التقسيم يحدد مراتب الأحكام الشرعية بحسب المقصود منها، فالضروريات مقدمة على الحاجيات، والحاجيات مقدمة على التحسينيات ، والنازل مكمل للعالي، فلا يراعى الحكم النازل كالتحسيني مثلاً إذا عاد على الحاجي أو الضروري بالإخلال، أما الضروري فلا يجوز الإخلال به إلا إذ أَخَلَّ بكلي أهم منه كالتضحية بالنفس في الجهاد للحفاظ على الدين.
ـــــــــــــــــــــــــ
([1]) لسان العرب، 7/355.
([2]) المصباح المنير،2/504.
([3]) انظر طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط/2- د.ت)، ص98.
([4]) الموافقات،1/87.
([5]) حاشية عبد الله دراز على الموافقات، 2/5.
([6])الموافقات،2/5 وما بعدها،وانظر نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي،ص124-142.
([7]) مقاصد الشريعة الإسلامية، ص51.
([8]) المصدر السابق، ص146.
([9]) المصدر السابق، ص63.
([10]) نقلاً عن نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ص6.
([11]) المصدر السابق، ص7.
([12]) الحسني، إسماعيل،نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور (هرندن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط/1-1416هـ)، ص119.
([13]) الموافقات، 2/385
([14]) السلمي، الإمام أبو محمد عز الدين بن عبد العزيز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام (بيروت: مؤسسة الريان، ط-1990)، 1/11.
([15]) مجموع الفتاوى، 20/48.
([16]) قواعد الأحكام، 1/14.
([17]) انظر نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، 7-8.
([18]) انظر الموافقات، 2/173.
([19]) انظر الموافقات، 2/8.
([20]) القرافي، شهاب الدين، شرح تنقيح الفصول، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد (مصر: مكتبة الكليات الأزهرية، د.ت)، ص391.
([21]) ابن السبكي، شرح جمع الجوامع مع حاشية البناني (بيروت: دار إحياء الكتب العربية، د.ت)، 2/280.
([22]) إرشاد الفحول، ص366 .
([23]) مقاصد الشريعة الإسلامية، ص81-82.
([(1/51)
24]) الخمليشي، أحمد، وجهة نظر (الرباط: دار المعرفة ، ط1-1988م)، ص300.
([25]) المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي، ص617.
([26]) انظر الموافقات، 2/8.
([27]) مقاصد الشريعة الإسلامية، ص82.
([28]) أمير باد شاه، محمد أمين، تيسير التحرير، على كتاب التحرير لابن الهمام (بيروت: دار الكتب العلمية، د.ت)، 3/306.
([29]) الموافقات، 2/12.
المبحث الثاني: أدلة اعتبار المقاصد
في النصوص الشرعية، كما في المظاهر الكونية، شواهد كثيرة تشهد أن الله تعالى ما كوَّنَ الكون وخلق الخلق وأنزل الشرائع وأرسل الرسل إلا لمقاصد لا تستقيم الحياة الدنيا ولا الأخرى إلا بتحقيقها، ويمكن حصر هذه الشواهد في مجالين: حكمة الله تعالى من الخلق، واستقراء أدلة الأحكام الشرعية.
أولاً: حكمة الله تعالى من الخلق وإرسال الرسل:
مما لا ريب فيه أنه ما من شريعة شرعت للناس إلا لتحقيق مقاصد مغياة منها، وقد ثبت لدينا قطعاً أن الله تعالى حكيم لا تجري أفعاله إلا على الحكمة في الخلق والتشريع، وهذا صريح دلالة اسمه «الحكيم» وما ورد من آيات بينات منها قوله تعالى: (( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ)) (الأنبياء:16)، وقوله: ((رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) (آل عمران:191)، وقوله: ((أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ)) (المؤمنون:115). فالله تعالى ما خلق الكون اعتباطاً بل لمقصد، وخلق الإنسان لتعميره.
«ومن أعظم ما اشتمل عليه خلق الإنسان قبوله التمدن الذي أعظمه وضع الشرائع له، وما أرسل الله الرسل وأنزل الشرائع إلا لإقامة نظام البشر»([30]) لتحقيق مصالحهم ودفع المفاسد عنهم، ويشهد لهذه الحقيقة كثير من الآيات، منها:(1/52)
قوله تعالى: (( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)) (الحديد:25)، وقوله: ((لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً)) (المائدة:48).
وهذا التشريع كان هدى ونورا لأقوام الأنبياء. قال تعالى: ((إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ )) (المائدة:44)، ثم قال: ((وَقَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَوْرَاةِ وَءاتَيْنَاهُ الإنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ)) (المائدة:46)، ثم جاء تنزيل القرآن الكريم ليكون مصدقاً لكل ما بين يديه من الكتب وقيّماً وشاهداً عليها، ومتجاوزاً للآصار والأغلال التي ضربت على أتباعها، قال تعالى: ((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)) (المائدة:48).
فالشرائع كلها أنزلت لتحقيق الصلاح ودرء الفساد عن الخلق، ويدل على ذلك قوله تعالى: (( هَاذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) (الجاثية:20)، وقوله: ((ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَشِفَاء لِمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ)) (يونس:57). فهذه الآيات جلية الدلالة على كون بعثة الرسل ما كانت إلا لتحقيق مصالح الخلق، وأن مخالفهم حقيق بضنك الحياة وسوء المنقلب: ((وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى)) (طه:124).
ثانياً: استقراء أدلة الأحكام:(1/53)
إن استقراء أدلة الأحكام الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة يفيد كون أحكام الشريعة الإسلامية منوطة بمقاصد للشارع آيلة لتحقيق الصلاح العام الجماعي والفردي.
1- أدلة الكتاب:
أ- قوله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) (النحل:90)، وحقيقة العدل بين شيئين أو شخصين المعادلة والموازنة بينهما في أمر ما والمقصود بها طلب التزام التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط. والعدل قيمة عليا من قيم التشريع، وهو «أصل الدين الذي بعث الله الرسل بإقامته»([31])
فالعدل مقصد بيّن للشارع يبرز في تصريح الآية بالمفهوم المخالف له وهو النهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وهذه الثلاث جماع المفاسد التي تخرم جماع مصالح الناس وسعادتهم. و«هو الأصل الجامع للحقوق الراجعة إلى الضروري والحاجي من الحقوق الذاتية وحقوق المعاملات، ولذا قال ابن مسعود رضي الله عنه أنّ هذه الآية: هي أجمع آية في القرآن».([32])
ب- قوله تعالى: (( يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )) (الأنفال:24)، فقد جعل الله تعالى الاستجابة لأمر الله ورسوله سبباً للحياة، والحياة المرادة من الخطاب هنا هي الحياة الكاملة التي تتحقق فيها السعادة في بعديها الدنيوي والأخروي.
ويؤكد هذا المقصد قوله تعالى: ((مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)) (النحل:97).(1/54)
ج- قوله تعالى: (( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ)) (البقرة:204)، فقد نعى الله تعالى على أقوام كذبهم فيما يدعون من التمسك بهدى الإسلام وتعاليمه وبيَّن كذبهم فيما يقدمون عليه من إفساد في الأرض وإهلاك للحرث والنسل، وليس فعل ذلك إلا تدميراً لمقومات حياة الناس وخرماً لمصالحهم.
د- الآيات الخاصة بالعبادات مقررة لتقصيدها، بالرغم مما اشتهر لدى كثير من العلماء أنها تعبدية محضة، غير أن القرآن عللها وناط بها مقاصد: فالصلاة (( تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ )) (العنكبوت:45)، والزكاة: ((تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا)) (التوبة:103)، والصيام : (( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (البقرة:183)، والحج: ((لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الاْنْعَامِ)) (الحج:28).
هـ- هناك آيات كثيرة واردة في معرض التعليل لأحكام جزئية وهادية إلى مقاصد الشارع منها ومن أمثالها، ومن ذلك :
- قوله تعالى في مقصد القصاص: (( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياةٌ يأُولِي الالْبَابِ)) (سورة البقرة: 179).
وقوله تعالى في مقصد النهي عن الخمر والميسر: ((يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا)) (البقرة:219)، وعنهما أيضاً: ((إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ )) (المائدة:91).
2- أدلة السنة: ومن السنة:(1/55)
- قوله صلى الله عليه وسلم : « الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أو بضع وستون شُعْبَةً، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ »([33])، فقد جمع النص بين طرفين اثنين يمثلان بما بينهما حقيقة الدين التي مبتداها التوحيد وآخرها إماطة الأذى عن الطريق، وهو أبسط نموذج للحفاظ على مقاصد الشارع التي هي مجموع المصالح جليلها ودقيقها.
- ويعضد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: « كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاس عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُه عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ تمشيها إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ ».([34])
- قوله صلى الله عليه وسلم: « لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ »([35]) والضرر محاولة الإنسان إلحاق المفسدة بنفسه أو غيره، والضرار أن يتراشق اثنان بما فيه مفسدة لهما، هذه قاعدة كبرى أغلق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منافذ الضرر والفساد أمام المسلمين.. وتؤيد هذه القاعدة قواعد أخر مثل «الضرر يزال».
3- استقراء اجتهادات الصحابة القائمة على تشوّف مراد الشارع:
الصحابة رضي الله عنهم أفضل قدوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم في فهم أحكام الكتاب والسنة وتحرِّي مقاصدهما عند التطبيق، وكما يقول ابن القيم رحمه الله: «وقد كانت الصحابة أفهم الأمة لمراد نبيها، وأتبع له، وإنما كانوا يدندنون حول معرفة مراده ومقصوده، ولم يكن أحد منهم يظهر له مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يعدل عنه إلى غيره البتة، والعلم بمراد المتكلم يعرف تارة من عموم لفظه وتارة من عموم علته، والحوالة على الأول أوضح لأرباب المعاني والفهم والتدبر».([36])(1/56)
ويقول الدهلوي: «أما معرفة المقاصد التي بنيت عليها الأحكام فعلم دقيق لا يخوض فيه إلا من لطف ذهنه، واستقام فهمه، وكان فقهاء الصحابة قد تلقوا أصول الطاعات والآثام من المشهورات التي أجمعت عليها الأمم الموجودة يومئذ كمشركي العرب، وكاليهود والنصارى، فلم تكن لهم حاجة إلى معرفة لِميِّاتها عما يتعلق بذلك. أما قوانين التشريع والتيسير، وأحكام الدين، فتلقوها من مشاهدة مواقع الأمر والنهي، كما أن جلساء الطبيب يعرفون مقاصد الأدوية التي كانوا في الدرجة العليا من معرفتها».([37])
وهناك نماذج كثيرة شاهدة على مدى فقه الصحابة لمقاصد الشريعة ومراعاتهم لها في فتاواهم وأقضيتهم وتعليمهم، منها على سبيل المثال:
أ- توقف عمر رضي الله عنه في قسمة سواد العراق حفظاً لمصلحة الجماعة وأجيال الأمة المستقبلة قائلاً: «لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم » ([38])، ووجه الاستدلال هنا أن عمر رضي الله عنه نظر إلى مصلحة الأجيال القادمة التي قد لا تحظى بما يقيم أودها إذا قسمت الأراضي بين الفاتحين فقط؛ مما يحصر المال في أيدي فئة معينة تتوارثه دون الآخرين، وهذا مناف لمقصد العدل الذي ما أنزلت الشرائع وأرسلت الرسل إلا لإقامته وتحقيقه.
ب- فتوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بتضمين الصناع إذا لم يقدموا بيّنة على أن ما هلك إنما هلك بغير سبب منهم ولا تفريط، قائلاً: «لا يُصْلِحُ الناس إلا ذلك».([39])
وهو باجتهاده هذا نظر إلى الحفاظ على مصالح الناس بعد أن قلت الأمانة في الصنَّاع؛ لأن الحفاظ على المال من ضروريات التشريع.(1/57)
ج- اجتهاد معاذ بن جبل رضي الله عنه في أخذ الحُلل اليمنية بدل العين من زكاة الحبوب والثمار قائلاً: «إيتوني بخميس أو لبيس (منسوجات محلية) آخذُه منكم مكان الصدقة؛ فإنه أهون عليكم، وأنفع للفقراء بالمدينة»، وفي رواية «ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير»([40])، فلما كان من مقاصد الزكاة المواساة بالمال وإغناء فقراء المسلمين وسدّ حاجتهم، وكان تحققه بغير العين أفضل في هذه الحال، نظر معاذ رضي الله عنه في المقصد وأمضى حُكمه على وفقه.
هذه النماذج المختارة تبين فضل الصحابة «الذين عرفوا مقاصد الشريعة فحصلوها، وجالت أفكارهم في آياتها وأعملوا الجد في تحقيق مباديها وغاياتها، وعُنوا بعد ذلك باطراح الآمال بإصلاح الأعمال، وسابقوا إلى الخيرات فسبقوا، وسارعوا إلى الصالحات فما لُحِقُوا... »([41])
ـــــــــــــــــــــــــــــ
([30]) مقاصد الشريعة الإسلامية، ص13.
([31]) مجموع الفتاوى، 19/94.
([32]) انظر تفسير التحرير والتنوير، 14/259.
([33]) مختصر صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الحياء من الإيمان، ص15.
([34]) السنن الكبرى، كتاب الزكاة، باب وجوه الصدقة: 4/188.
([35]) المصدر السابق، كتاب الصلح، باب لا ضرر ولا ضرار: 6/69-70.
([36]) إعلام الموقعين، 1/196.
([37]) الدهلوي، شاه ولي الله، حجة الله البالغة، تحقيق سيد سابق (القاهرة: دار الكتب الحديثة، د.ت)، 1/289.
([38]) البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الخمس، باب الغنيمة لمن شهد الوقعة (بيروت: دار القلم،ط-1407هـ)، 4/513-514.
([39]) السنن الكبرى، 6/122.
([40]) السنن الكبرى ، كتاب الزكاة ، باب من أجاز أخذ القيمة في الزكوات، 4/113.
([41]) الموافقات، 1/21.
المبحث الثالث: مسالك تحصيل المقاصد الشرعية(1/58)
إن الكشف عن مقاصد الأحكام على المستوى التجريدي خطوة ضرورية للفهم مردُّها إلى الاجتهاد فيه، وقد بيَّن الأصوليون مسالك الكشف عن العلة من نقلية وعقلية في مجال القياس، غير أن محاولتي الشاطبي ثم ابن عاشور فيما بذلاه من جهد لتقعيد مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة تُعدُّ خطوة متقدمة في هذا السبيل لإنارة درب المجتهد في تبين مقاصد الأحكام المجردة.
غير أنّ «خلو الأدب الأصولي من بيان واف لقواعد تعرِّف بالمصير الواقعي لعلاقة الحكم بمقصده يعتبر أكبر الثغرات في هذا الأدب، وربما عادت كثير من المزالق في الاجتهادات الفقهية، قديماً وحديثاً، إلى هذه الثغرة في أسباب وقوعها».([42])
وعليه فإن النظر المتحتم الآن على أهل الاجتهاد أن يبحثوا عن المسالك والطرق الواقعية للكشف عن مدى تحقق المقاصد الشرعية عند تنزيل الحكم، بحثاً تنظيرياً يعصم من الزلل الذي يقع فيه كثير ممن أخطأوا المقصد في تنزيلهم الأحكام فجلبوا المضار والمفاسد على الأمة.
إن منهجية تَبَيُّن تحقق مقاصد الأحكام عند التنزيل تعتمد أساساً على دراسة الواقع وتحليله وفِقْه ملابساته وحيثياته، وهذا يتطلب استنفار كل الطاقات في التخصصات المختلفة، أي أن هناك عناصر عدة بعضها نفسي وبعضها تربوي وبعضها اجتماعي ينبغي مراعاتها نأياً عن تنزيل الحكم تنزيلاً آلياً دونما استيعاب لحيثيات وملابسات الواقعة محل تنزيل الحكم، ثم مناظرة مقصد الحكم بعد تحصيل فهمه بعناصر ذلك الواقع المدرك في جزئياته، فإذا ترجح حصول مقصد الشارع أمضي تنزيل الحكم.(1/59)
وهذا ما يؤكده إمام الحرمين الجويني في اشتراطه للمتصدي للاجتهاد فيقول: «لست أعرف خلافاً بين المسلمين أن الشرط أن يكون المستناب لفصل الخصومات والحكومات فطناً، متميزاً عن رعاع الناس، ومعدوداً من الأكياس، ولا بد أن يفهم الواقعة المرفوعة إليه على حقيقتها، ويتفطن لمواطن الإعضال، وموضع السؤال، ومحل الإشكال منها ثم يتخير مفتياً، ويعتقد أن قوله في حقه بمثابة قول الرسول في حق الذين عاصروه فيتخذه قدوة وأسوة».([43])
وهذا ما أكده ابن القيم أيضاً عند شرحه لقول الفاروق رضي الله عنه في رسالته لأبي موسى الأشعري: «فافهم إذا أدلي إليك» فقال: «صحة الفهم وحسن المقصد من أعظم نعم الله تعالى التي أنعم بها على عبده...ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط بها علماً.
والنوع الثاني فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر...فالعالم من توصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله...ومن تأمل الشريعة وأقضية الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم».([44])
وهذه المعرفة بالوقائع ضرورية للكشف عن مدى تحقق المقصد في أفراد هذه الوقائع أوعدم حصوله، وإن كان هذا يُعد إشكالاً؛ إذ كيف يمكن معرفة ذلك قبل وقوع أسبابه «لأن تلك الحكمة لا توجد إلا ثانياً عن وقوع السبب، أي بعد تنزيل الحكم على الواقعة، فنحن قبل وقوع السبب جاهلون بوقوعها أو عدم وقوعها»([45])، بيد أن الأمر يتطلب تسديداً وتقريباً، ومن ثم فإن هناك من المسالك الشرعية ما يعين على تبين ذلك، والتي سيأتي تفصيلها في العناصر الآتية:
أولاً: التفريق بين المقاصد والوسائل:(1/60)
إن التمييز بين ما هو مقصد للحكم الشرعي مما هو وسيلة إليه أو وسيلة إلى وسيلته له أهمية كبيرة عند تطبيق الحكم، حتى لا يقع عند الموازنة والترجيح بين المصالح خلل يفضي إلى الإخلال بالمقصد الشرعي. ونظراً لهذه الأهمية يعتبر التمييز بين الوسائل والمقاصد عنصراً أساسياً في الاجتهاد التطبيقي لا يمكن أن يستغني عنه الفقيه عند تنزيل الأحكام على الوقائع، وسأتناوله في ثلاثة فروع: الأول في تعريف الوسائل، والثاني في أقسامها، والثالث في خصائصها المميزة لها عن المقاصد.
تعريف الوسائل لغة واصطلاحاً:
تعريف الوسائل لغة: الوسائل والوُسُل: جمع وسيلة، والوسيلة ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به، والوسيلة أخص من الوصيلة لتضمن الوسيلة لمعنى الرغبة. وتأتي الوسيلة في اللغة لمعان عدة منها: المنزلة عند الملك، والدرجة، والقرابة، والرغبة.([46])
تعريف الوسائل في الاصطلاح الأصولي:لعلماء الأصول اصطلاحات عدة في تعريف الوسائل أهمها:
1- الاصطلاح العام وهو: اعتبار الوسائل بمعنى: «الطرق المفضية إلى المصالح والمفاسد».([47]) وهذا التعريف يتفق مع المعنى اللغوي للوسائل، ومن ثم فالوسائل في اصطلاحها العام تمتد لتشمل:
أ- الطرق المؤدية إلى المصالح كالأسباب والشروط الشرعية.
ب- الطرق المؤدية إلى المفاسد كالحيل الباطلة والذرائع المؤدية إلى الحرام.
2- الاصطلاح الخاص للوسائل: «وهي المسالك المفضية إلى تحقيق المصالح الشرعية»، ويعبر عنها ابن عاشور بقوله: «هي الأحكام التي شرعت لأن بها تحصيل أحكام أخرى، فهي غير مقصودة لذاتها بل لتحصيل غيرها على الوجه المطلوب الأكمل؛ إذ بدونها قد لا يحصل المقصد أو يحصل معرضاً للاختلال والانحلال».([48])
والملاحظ في هذا الاصطلاح الخاص للوسائل ما يلي:
أ- إن فيه تقييداً للمعنى اللغوي للوسيلة ليقصرها على الوسيلة المؤدية للمصلحة فقط.(1/61)
ب- الوسيلة في اصطلاحها الخاص تقابل الذريعة بمعناها الخاص، والذي قال عنه ابن تيمية: «والذريعة ما كانت وسيلة وطريقاً إلى الشيء لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم - ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة - ولهذا قيل: الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرم».([49])
والوسائل بمعناها الخاص تمتد لتشمل «كلَ ما يتوقف عليه تحقيق المصالح الشرعية، من لوازم وشروط وأسباب وانتفاء موانع، ويدخل فيها أيضاً ما يفيد معنى كصيغ العقود وألفاظ الواقفين في كونها وسائل إلى تعرف مقاصدهم فيما عقدوه أو شرطوه».([50])
أقسام الوسائل باعتبار قربها من المقاصد:
تنقسم الوسائل من حيث قربها من المقصد الشرعي إلى قسمين: وسائل المقاصد.. ووسائل إلى وسائل المقاصد.
وقد فصّل العزّ بن عبد السلام هذين القسمين فقال: «أحدهما: وسيلة إلى ما هو مقصود في نفسه، كتعريف التوحيد، وصفات الإله، فإن معرفة ذلك من أفضل المقاصد والتوسل إليه من أفضل الوسائل.
والقسم الثاني: ما هو وسيلة إلى وسيلة كتعليم أحكام الشرع؛ فإنه وسيلة إلى العلم بالأحكام التي هي وسيلة إلى إقامة الطاعات، التي هي وسائل إلى المثوبة والرضوان، وكلاهما من أفضل المقاصد»([51]). قال تعالى: (( ذالِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)) (التوبة:120).«فأثابهم على الظمأ والنصب، وإن لم يكونا من فعلهم، لأنهما حصلا بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هو وسيلة لإعزاز الدين وصون المسلمين، فالاستعداد وسيلة إلى وسيلة»([52]).
خصائص الوسائل المميزة لها عن المقاصد:(1/62)
لتجنب الخلط بين الوسائل والمقاصد عند تطبيق الأحكام الشرعية والتشوف إلى تحصيل غاياتها؛ ينبغي معرفة ما للوسائل من خصائص مُعِينَة للمجتهد في التطبيق على التمييز بين ما هو من قبيل الوسائل وما هو مقاصد في ذاته، ومن ثم فإن أهم ما تتميز به الوسائل ما يلي:
1- نسبية الوسائل من حيث كونها وسيلة باعتبار ومقصد باعتبار آخر، قال الشاطبي: «والأعمال قد يكون بعضها وسيلة إلى البعض، وإن صح أن تكون مقصودة في أنفسها»([53]) وذلك كالحفاظ على المال فهو وسيلة إلى الحفاظ على الكليات الأخرى، وهو مقصد يتوسل إليه بالعمل والاستثمار بشتى الطرق المشروعة.
ومؤدى هذا كون الوسائل غير مقصودة لذاتها، بل لإفضائها إلى مقاصد مطلوب تحقيقها «وقد تقرر أن الوسائل -من حيث هي وسائل- غير مقصودة لأنفسها وإنما هي تبع للمقاصد؛ بحيث لو توصل إلى المقاصد دونها لم يتوسل بها، وبحيث لو فرضنا عدم المقاصد جملة لم يكن للوسائل اعتبار، بل كانت تكون كالعبث».([54])
2- إن اعتبار الوسيلة مشروط بعدم عودها على المقصد بالإبطال، وبطلان الوسيلة لا يلزم منه بطلان المقصد. ومثال الأول «أن المصلي إذا لم يجد ساتراً صلى على حالته، وسقط عنه ستر العورة؛ وذلك أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها فلا يصح اعتبارها».([55])
ومثال الثاني لو ارتفع اعتبار المماثلة في القصاص لم يبطل أصل القصاص. وأقرب الحقائق إليه الصفة مع الموصوف، فكما أن الصفة لا يلزم من بطلانها بطلان الموصوف، كذلك ما نحن فيه، اللهم إلا أن تكون الصفة ذاتية بحيث صارت جزءاً من ماهية الموصوف، فهي إذ ذاك ركن من أركان الماهية، وقاعدة من قواعد ذلك الأصل. وينخرم الأصل بانخرام شيء من قواعده».([56])(1/63)
وبناء على هذا فإن الوسائل تسقط بسقوط مقاصدها لكون «سقوط اعتبار المقصود يوجب سقوط اعتبار الوسيلة»([57])؛ إذ هي بالنسبة للأصل كالصفة مع الموصوف، ولا بقاء للصفة مع ارتفاع الموصوف، «فلا يمكن والحال هذه أن تبقى الوسيلة مع انتفاء المقصد، إلا أن يدل دليل على الحكم ببقائها فتكون إذ ذاك مقصودة لنفسها، وعلى ذلك يحمل إمرار الموسى على شعر من لا شعر له (عند التحلل من الإحرام)».([58])
3- إن الوسائل دون المقاصد رتبةً: ويشهد لهذا قول العلماء : «مراعاة المقاصد مقدمة على رعاية الوسائل أبدا»([59])، وقولهم: «التابع لا يتقدم المتبوع كالإمام مع المأموم».([60])
ونظرا لنزول مرتبة الوسائل عن مرتبة المقاصد حصل التساهل في حكم الوسائل فمضى القول بأنه: «يغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد، ومن ثم جزم بمنع توقيت الضمان وجرى في الكفالة خلافه؛ لأن الضمان التزام للمقصود، وهو المال، والكفالة التزام للوسيلة، ويغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد»([61])، و«يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها».([62])
ثانياً: الموازنة بين المصالح والمفاسد:(1/64)
لقد سبق بيان أن درء المفاسد وجلب المصالح هو مقصود الشارع الأعظم، وهذا المقصد محل اعتبار الشارع في تنزيل الأحكام على الوقائع، بيد أن حدوث الوقائع تكون المصالح فيه مشوبة بالمفاسد، بحيث لا يكون فعل في الوجود أبداً خالص المصلحة أو المفسدة؛ إذ «المصالح الخالصة عزيزة الوجود»([63])، فالأمر عائد إلى الترجيح بين طرفي المصلحة والمفسدة، الحاكم على الأفعال بحسب الغلبة «فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب: فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفاً، وإذا غلبت الجهة الأخرى فهي المفسدة المفهومة عرفاً، ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوباً إلى الجهة الراجحة، فإذا رجحت المصلحة فمطلوب ويقال فيه: إنه مصلحة، وإذا غلبت جهة المفسدة فمهروب عنه ويقال: إنه مفسدة على ما جرت به العادات في مثله».([64])
ونسبة المصلحة والمفسدة ليست مطردة في الفعل بل مختلفة ومتغيرة بحسب الأفعال، ولاعتبار اختلاف الزمان والمكان والشخص دور بارز في الموازنة بين النفع والضرر. فقد تتحقق مصلحة الشارع في فعل من الأفعال في إطار زماني ومكاني ما، في حين يرتفع هذا التحقق إذا اختلف هذا الوضع ويؤول الأمر إلى مفسدة، ومن ثم نجد حرص العلماء على مراعاة اختلاف العوائد والأعراف في الفتوى والحكم والقضاء، والاجتهاد لكل واقع بما يحقق مقصد الشارع فيه. وقد قرر الإمام القرافي هذا في قوله: «إن استمرار الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع، وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد، يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة».([65])(1/65)
ونجد الإمام الشاطبي يضرب لذلك مثلا بـ «ما يكون متبدلاً في العادة من حسن إلى قبح، وبالعكس، مثل كشف الرأس فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع، فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية، وغير قبيح في البلاد المغربية، فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحاً في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح».([66])
وكما تتبدل الأعراف والعادات باختلاف الأمكنة فهي كذلك باختلاف الأزمنة، وهذا يتطلب التحقق من حصول المقصد الشرعي عند إجراء الحكم على الأفعال تبعاً لتغير الزمان والمكان؛ ولذلك نجد الإمام القرافي يؤكد على هذا الجانب المهم فيقول: «فمهما تجدد من العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك، لا تجبره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده، وأجره عليه وافته به دون عرف بلدك والمقرر في كتابك فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين».([67])
أما اعتبار اختلاف الأشخاص فتبرز أهميته في كون تنزيل الحكم على شخص ما محققاً لمقصد الشارع، في حين يعود في تنزيله على شخص آخر بالنقض على مقصد الشارع لاختلاف خصوصيات الشخص وأحواله وظروفه، فإذا كان مقصد الشارع إلزام المكلف بالوسط في سلوكه، لإفراطه أو تفريطه، فإن سنَنَ التشريع اعتماد «طرف التشديد حيث يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين، وطرف التخفيف يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد».([68])
وقد حاول الإمام ابن عاشور وضع ضوابط لوصف فعل ما بكونه مصلحة أو مفسدة فبينها في خمسة، خلاصتها:
1- أن يكون النفع أو الضر محققاً مطرداً، فالنفع المحقق مثل الانتفاع باستنشاق الهواء، وبنور الشمس، والتبرد بماء البحر أو النهر في شدة الحر مما لا يدخل في الانتفاع به ضر غيره. والضر المحقق مثل حرق زرع لقصد مجرد إتلافه.(1/66)
2- أن يكون النفع أو الضر غالباً واضحاً تنساق إليه عقول العقلاء والحكماء، بحيث لا يقاومه ضده عند التأمل. وهذا أكثر أنواع المصالح والمفاسد المنظور إليها في التشريع، مثل إنقاذ الغريق مع ما فيه من مشقة للمنقذ، بيد أنها لا تقارن مع مصلحة إنقاذ الغريق.
3- أن لا يمكن الاجتزاء عنه بغيره في تحصيل الصلاح وعدم حصول الفساد، مثل شرب الخمر فقد اشتمل على ضرّ بيّن وهو إفساد العقل وإحداث الخصومات وإتلاف المال، واشتمل على نفع.. إلا أننا وجدنا مضاره لا يخلفها ما يصلحها، ووجدنا منافعه يخلفها ما يقوم مقامها.
4- أن يكون أحد الأمرين من النفع أو الضر مع كونه مساوياً لضده معضوداً بمرجح من جنسه، مثل تغريم الذي يتلف مالاً عمداً قيمة ما أتلفه، فإن في ذلك التغريم نفعاً للمتلَف عليه وفيه ضرر للمتلِف وهما متساويان ولكن النفع قد رجح بما عضده من العدل والإنصاف الذي يشهد أهل العقول والحكماء بأحقيته.
5- أن يكون أحدهما منضبطاً محقَقًا والآخر مضطرباً، مثل الضر الذي يحصل من خطبة المسلم على خطبة أخيه ومن سومه على سومه الواقع النهي عنهما في حديث الموطأ؛ فإن ما يحصل من ذلك عند مجرد الخطبة والتساوم قبل المراكنة والتقارب ضرر مضطرب لا ينضبط ولا تجده سائر النفوس، ولو أعمل ظاهر الحديث لعاد بالضرر على النساء وأهل السلع ومن ثم فاعتماد المراكنة شرطاً للمنع هو المعتمد.([69])
ثالثاً: الموازنة بين مقصد التكليف وقصد المكلف:(1/67)
إن الغاية من تنزيل الحكم الشرعي على الوقائع هو تحقيق مقصد الشارع منها؛ إذ على المكلف أن يجري على هذا المنهج في أفعاله وتصرفاته، وأن لا يقصد مخالفة قصد الشارع، لكونه خُلِق لعبادة الله تعالى وخلافته، فلا يقصد مخالفة قصد معبوده، ومهمة الاستخلاف إجراء أحكام الشارع ومقاصده مجاريها، فإذا ما تبين قصدُ المكلف تعطيلَ تحقيق هذه المقاصد فإنه يعامل بنقيض القصد الفاسد، ويكون عرياً عن إجرائها عليه؛ إذ «كل تصرف لا يترتب عليه مقصوده لا يشرع من أصله» ([70]) وتبعاً لذلك «فكل من ابتغى في تكاليف الشريعة ما لم تشرع له فعمله باطل».([71])
أما بطلان المناقض للشريعة فلكون المشروعات إنما وضعت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد، فمخالفتها مجرد للأفعال المُخالَف بها من جلب المصالح ودرء المفاسد.
أما كونه ابتغى في الشريعة ما لم توضع له، مناقضاً لها، فيبينه الشاطبي من وجوه، أبرزها:
- أن حاصل هذا القصد يرجع إلى أن ما رآه الشرع حسناً فهو عند هذا القاصد ليس بحسن، وما لم يره الشارع حسناً فهو عند المكلف حسن، وهذه مضادة.
- أن الأخذ في خلاف مآخذ الشارع من حيث القصد إلى تحصيل المصلحة أو درء المفسدة مشاقة ظاهرة، وقد قال تعالى: ((وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً)) (النساء:115).
- أن هذا القاصد مستهزئ بآيات الله؛ لأن من آياته أحكامه التي شرعها، وقد قال بعد ذكر أحكام شرعها: ((وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا)) (البقرة:231). والمراد أن لا يقصد بها غير ما شرعها لأجله.([72])
ومن أبرز ما يندرج في هذا الباب ما يعرف بالحيل الشرعية، التي يقدمها أصحابها بقصد إبطال مقصد الشارع والتنصل من التكاليف.(1/68)
ولما كانت قصود المكلفين قد تأتي هادمة لمقصد الشارع فإن على المجتهد في تنزيل الحكم الشرعي على أفعال المكلفين تبين قصودهم ومدى موافقتها لمقصد الشارع لإمضاء الحكم عليها، أو مخالفتها له للإحجام عن ذلك.
غير أن تبين مقاصد المكلفين، لما كان أمراً خفياً موكولاً إلى الله تعالى، العالم بخفايا النفوس،لم تتفق آراء الفقهاء على طريق أو وسيلة إثبات الباعث غير المشروع.
فذهب الإمام أبو حنيفة والشافعي وغيرهم إلى أن مجرد النية، ولو دعمت بالقرائن، لا تؤثر في الفعل أو التصرف، صحة وفساداً، بل لا بد أن يكون الباعث مصرحاً به في صلب العقد، ومعبراً عنه بنص قاطع، غير أن أبا حنيفة أجاز أن يستخلص الباعث من طبيعة محل العقد، إذا أمكن، وعلى ضوء ذلك يحكم على العقد بالصحة أو البطلان، حسب الأحوال.
بينما ذهب المالكية والحنابلة إلى أن القرائن تكفي في إثبات الباعث «قضاء».([73]) ومذهب المالكية إقامة المظنة مقام المئنة احتياطاً وتحرزاً في العمل بأحكام الشريعة لصون مقاصدها من الانخرام، وهذا ما يقرره الشاطبي حيث يقول في بيع العينة على سبيل المثال: «ولكن هذا -أي منع بيع العينة- بشرط أن يظهر لذلك قصد، ويكثر في الناس بمقتضى العادة».([74])(1/69)
وهكذا فكثرة الوقوع معتبرة عند المالكية للاستدلال على الباعث غير المشروع إذا فشا التحايل على أحكام الشريعة في تصرف معين في المجتمع «بناء على كثرة القصد وقوعاً، وذلك أن القصد لا ينضبط في نفسه؛ لأنه من الأمور الباطنة، لكن له مجال هنا وهو كثرة الوقوع في الوجود أو هو مظنة ذلك. فكما اعتبرت المظنة وإن صح التخلف، كذلك تعتبر الكثرة لأنها مجال القصد».([75]) وذلك «لأن الشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم، والتحرز مما عسى أن يكون طريقاً إلى مفسدة، فإذا كان هذا معلوماً على الجملة والتفصيل، فليس العمل عليه ببدع في الشريعة، بل هو أصل أصولها، راجع إلى ما هو مكمل إما لضروري أو لحاجي أو لتحسيني».([76])
وخلاصة القول: إن الموازنة بين مقصد الشارع وقصد المكلف عائدة في الثاني إلى النظر فيما يتبدى من علامات وأمارات وقرائن تكشف عن مقصد المكلف فيجري الحكم تطبيقاً بحسب هذا الميزان، فما كان موافقاً لمقصد الشارع أمضي، وما عاد عليه بالنقض وعلى المصلحة الشرعية بالإبطال أبطل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
([42]) في فقه التدين فهماً وتنزيلاً، 2/98
([43]) الجويني، عبد الملك، غياث الأمم في التياث الظلم، تحقيق عبد العظيم الديب (القاهرة: مطبعة نهضة مصر، ط- 1401هـ)، ص300-301
([44]) إعلام الموقعين، 1/86.
([45]) الموافقات، 1/252.
([46]) انظر أساس البلاغة، 499، ولسان العرب، 11/724-725.
([47]) القرافي، شهاب الدين، الفروق(بيروت: عالم الكتب، د.ت)، 2/32.
([48]) مقاصد الشريعة الإسلامية، 148.
([49]) الفتاوى الكبرى، 6/172.
([50]) مقاصد الشريعة الإسلامية، 148.
([51]) قواعد الأحكام، 1/92.
([52]) القرافي، شهاب الدين أحمد بن إدريس، الذخيرة، تحقيق محمد حجي (بيروت:دار الغرب الإسلامي، ط1-1994)، 1/153.
([53]) الموافقات، 1/66.
([54]) المصدر السابق، 2/212.
([55]) انظر المصدر السابق، 2/16.
([56]) المصدر السابق، 2/20.
([(1/70)
57]) انظر البورنو، محمد صديقي، موسوعة القواعد الفقهية (الرياض: مكتبة التوبة، ط2- 1997)، 1/317.
([58]) الموافقات، 2/19-20.
([59]) القواعد، 1/330.
([60]) انظر الأشباه والنظائر، 119.
([61]) المصدر السابق، 158.
([62]) المصدر السابق، 120.
([63]) انظر قواعد الأحكام، ص14
([64]) الموافقات، 2/26
([65]) القرافي، شهاب الدين، الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة (بيروت: دار البشائر الإسلامية، د.ت)، ص23.
([66]) الموافقات، 2/280.
([67]) الفروق، 1/176-177.
([68]) الموافقات، 2/167.
([69]) انظر مقاصد الشريعة الإسلامية، ص67-70.
([70]) الزركشي،بدر الدين، المنثور في القواعد الفقهية، تحقيق تيسير أحمد فائق أحمد محمود، مراجعة عبد الستار أبو غدة (الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط3-1985م)،3/395.
([71]) الموافقات، 2/333 وما بعدها.
([72]) انظر المصدر السابق، 2/333 وما بعدها.
([73]) انظر بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله، 1/438.
([74]) الموافقات، 4/199-200.
([75]) المصدر السابق، 2/361.
([76]) المصدر السابق، 2/364.
الفصل الثالث : التحقيق في مآلات التطبيق
تمهيد:
إن تطبيق الحكم الشرعي غير كاف فيه تحقق مناطات الأحكام في أنواع ومشخصات الوقائع بصورة نظرية، بل لا بد من التحقق أن هذا التطبيق للحكم مؤد للمقصد الشرعي، وليس له أي تداعيات أخرى ضارة، أي لا بد من النظر في أيلولة هذا التطبيق، الذي ينبغي أن يكون أثره المصلحي أرجح من ضرره، فلا ينبغي أن تكون مهمة مجتهد التطبيق مجرد تنزيلٍ للحكم الشرعي تنزيلاً آلياً مجرداً عن أي اعتبار لمآلاته.(1/71)
ذلك أن «النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة؛ وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل»([1]). ومن ثم فسيكون النظر في هذا الأصل التطبيقي المهم عبر المباحث التالية:
ــــــــــــــــــــ
([1]) المصدر السابق، 4/194.
المبحث الأول: التحقيق في مآلات التطبيق
مفهوم «التحقيق في مآلات التطبيق»:
يشتمل هذا المفهوم على ثلاث كلمات: التحقيق، والمآلات، والتطبيق. وليكن بيانها أولاً فأول، لأخلص إلى بيان تصور شامل له.
أ- أما التحقيق فقد سبق بيانه([2]) بأنه مأخوذ من حقّ، أي ثبت، فهو يفيد الإثبات عند الأصوليين.
ب- وأما المآل فأصله (أولٌ) وهو الرجوع، يقال: آل الشيء يؤول أَوْلاً ومآلاً: رجع، وأوَّل إليه الشيء أرجعه. وأُلتُ عن الشيء ارتددت، ويقال: طبخت العصير حتى آل إلى الثلث أو الربع أي رجع. ويقال: (أوَّل الحكم إلى أهله) أي أرجعه ورده إليهم. قال الأعشى: أؤول الحكم إلى أهله
والإيَّالة السياسة من هذا الباب؛ لأن مرجع الرعية إلى راعيها. قال الأصمعي: آل الرجل رعيته يؤولها إذا أحسن سياستها.
وتقول العرب في أمثالها: أُلنا وإِيل علينا أي سُسنا وساسنا غيرنا. وآل الرجل أهل بيته من هذا أيضاً؛ لأنه إليه مآلهم وإليهم مآله.([3])
ويخلص مما سبق إلى أن المآل أو الإيال يطلق و يراد به: الرد والرجوع، والسياسة وحسنها، وأهل الرجل لأن إليه مآلهم وإليهم مآله، أي رجوعهم ورجوعه.
ج- التطبيق: قال صاحب الكليات: تطبيق الشيء على الشيء، جعله مطابقاً له، بحيث يصدق هو عليه([4])، والمراد هنا إجراء الأحكام الشرعية على الأفعال الفردية والجماعية لتصبح مقاصد هذه الأحكام أوضاعاً ماثلة في المجتمع.(1/72)
وبناء على ما سبق، فإن التحقيق في مآلات التطبيق يراد به: التحقق والتثبت مما يسفر عنه تنزيل الحكم الشرعي على الأفعال من نتائج مصلحية أو ضررية تسهم في تكييف الحكم المراد سياسة الواقع به.
وذلك أن فعلاً ما قد يكون «مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب، أو مفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية؛ وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية»([5]).
والتحقيق في مآلات تطبيق الحكم على الفعل يرتبط بما يؤول إليه الفعل من نتائج وثمرات، بغض النظر عن مقصد الفاعل، وبحسب النتيجة يحمد الفعل أو يذم، ومن ثم يُجْرَى عليه حكمُ المشروعية من عدمها.
أدلة اعتبار المآلات:
لقد شهد لصحة اعتبار النظر في مآلات التطبيق -كأصل تطبيقي هام في الاجتهاد الشرعي- استقراء أدلة الأحكام الشرعية، الأصلية منها والتبعية، وما مضى عليه الاجتهاد من لدن النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام رضوان الله عليهم ثم التابعين وأئمة الإسلام الكبار، مما شكل رصيداً معرفياً وتشريعياً شاهداً لهذا الأصل الأصيل بالاعتبار، والذي تنبني عليه قواعد أصولية كثيرة كقاعدة الذرائع، سداً وفتحاً، وإبطال الحيل، والاستحسان. و من هذه الأدلة ما يلي :
1- قوله تعالى: ((وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)) (الأنعام:108).(1/73)
فإنهم قالوا، لتكفنَّ عن سب آلهتنا أو لنسبنَّ آلهتك فنزلت، فسب الأوثان سبب في تخذيل المشركين وتوهين أمر الشرك وإذلال أهله، ولكن لما وجد له مآل آخر مراعاته أرجح -وهو سبهم الله تعالى- نهى عن هذا العمل المؤدي إليه مع كونه سبباً في مصلحة ومأذوناً لولا هذا المآل.([6])
2- وشبيه بما سبق قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ، قِيلَ: وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ، قَالَ يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ».([7])
3- قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها في شأن إعادة بناء الكعبة: «يَا عَائِشَةُ لَوْلا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْبَيْتَ حَتَّى أَزِيدَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ فَإِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرُوا فِي الْبِنَاءِ»([8])؛ وذلك لخوفه صلى الله عليه وسلم مما قد يؤول إليه الأمر من مفسدة أعظم، وهي تنكر قلوب العرب لذلك الصنيع، ومن ثم مجافاتهم لهذا النبي لاعتقادهم أنه هادم للمقدسات ومغير لمعالمها.
4- قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما أرادوا أن ينهروا الأعرابي الذي كان يبول في المسجد: «لا تُزْرِمُوهُ»([9])، أي لا توقفوه. فإذا كانت مفسدة بول الأعرابي الواقعة محدودة في تنجيس جزء من حرم المسجد، فإن إيقافه سيؤدي إلى مفسدة أكبر كتوسع الأماكن التي سينجسها فضلاً عن جسمه وثيابه، وربما ترتب على ذلك ضرر صحي بالغ.
5- إن أصل اعتبار المآلات مهيع متسع ومسلك غير ممتنع، سار عليه الأئمة الكبار في اجتهاداتهم وفتاواهم:
- فهذا الإمام مالك رحمه الله: «أفتى الأمير حين أراد أن يرد البيت على قواعد إبراهيم فقال له: لا تفعل لئلا يتلاعب الناس ببيت الله».([10])(1/74)
- و هذا عبد الله بن مغفل أتته امرأة فسألته عن امرأة فجَرَت فحبلت فلما ولدت قتلت ولدها؟ فقال ابن مغفل: ما لها !؟ لها النار. فانصرفت وهي تبكي، فدعاها ثم قال: ما أرى أمرك إلا أحد أمرين:((وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً )) (النساء:110)، قال فمسحت عينيها ثم انصرفت.([11]) فهو بعد أن أجابها - رضي الله عنه - جواباً زاجراً شديداً لكي ترتدع وتتوب، رأى من حالها أن ذلك قد يدفعها إلى اليأس من رحمة الله، وهذا قد يؤول بها إلى الانتحار أو التمادي في الفجور أو ما أشبه هذا من المآلات السيئة، فعدل عن جوابه الأول إلى جواب آخر أليق بحالها.([12])
وعلى الجملة يشهد لاعتبار المآلات:
* جميع ما مر في أدلة اعتبار تحقيق المناط مما فيه اعتبار المآل، حيث يكون العمل في الأصل مشروعاً لكن ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة، أو ممنوعاً لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة.
* الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها -والتي أورد منها ابن القيم في إعلام الموقعين تسعاً وتسعين وجهاً- فإن غالبها تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز، فالأصل على المشروعية لكن مآله غير مشروع.
* الأدلة الدالة على التوسعة ورفع الحرج كلها، فإن غالبها سماح في عمل غير مشروع في الأصل لما يؤول إليه من الرفق المشروع.([13])
ــــــــــــــــــــــــــ
([2]) انظر معنى «التحقيق» في الفصل الأول من هذا البحث عند الحديث عن «تحقيق المناط».
(3 انظر ابن منظور، لسان العرب (القاهرة: دار المعارف، د.ت)، 12/171 وما بعدها.
([4]) الكليات، ص313.
([5]) الموافقات، 4/194-195
([6]) انظر حاشية دراز على الموافقات، 4/197.
([7]) البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الأدب، باب لايسب الرجل والديه،8/92.
([8]) الزبيدي، مختصر صحيح مسلم، ص202-203.
([9]) مختصر صحيح مسلم، الزبيدي ص 57 ، حديث رقم186.
([(1/75)
10]) الموافقات، 4/198.
([11]) الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن (بيروت: دار الفكر، ط 1984)، 5/273.
([12]) انظر نظرية المقاصد، 355.
([13]) انظر الموافقات، 4/198.
المبحث الثاني: أقسام الأفعال بحسب قوة مآلاتها
إن تطبيق أي حكم من الأحكام الشرعية إذا تبين للمجتهد يقيناً أو ظناً غالباً أنه مفض في ظرف معين إلى مآل يناقض مقاصد الشارع المغياة من التشريع، فإنه لا يجوز المصير إلى ذلك لمنافاته للنسق التشريعي العام في أهدافه ومقاصده.. وهذه المآلات المناقضة للمقاصد تنقسم إلى أربعة أقسام من حيث قوة النتيجة المفضية إلى المفاسد.
القسم الأول: ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعياً، كحفر البئر خلف باب الدار في طريق مظلم بحيث يقع فيه الداخل بلا شك.. وهذا القسم ينظر فيه: إن كان الفعل غير مأذون به، كمن حفر بئراً في الطريق العام، فإن ذلك يكون ممنوعاً بإجماع فقهاء المسلمين، وأما إن كان أصل الفعل مأذوناً فيه كمن يحفر بالوعة في بيته يترتب عليها هدم جدار جاره، فهذا له نظران:
أحدهما: أصل الإذن وقد لوحظ فيه نفع شخص المأذون له.
الثاني: الضرر المذكور الذي يلحق الناس معه.
وهنا يرجح جانب الضرر على جانب النفع؛ لأن دفع المضار مقدم على جلب المنافع، ولو أن الفاعل أقدم على ذلك فوقعت منه أضرار يكون ضامناً لما يترتب عليه من ضرر، وهذا ما قاله بعض الفقهاء، وبعضهم نظر إلى أصل الإذن فلم يُضَمِّنه؛ لأنه لا يجمع بين الإذن والضمان.([14])(1/76)
القسم الثاني: ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادراً كحفر البئر في مكان لا يؤدي غالباً إلى وقوع أحد فيه، وبيع الأغذية التي غالباً لا تضر، فهذا لا اعتبار فيه للمآلات، وهو باق على الأصل في الإذن فيه، وهو حلال لا شك فيه؛ لأن الشرع أناط الأحكام بغلبة المصلحة، ولا توجد في العادة مصلحة خالصة، ولا يعد هنا قصد القاصد إلى جلب المصلحة أو دفع المفسدة - مع معرفتة بنذرة المضرة في ذلك - تقصيراً في النظر، ولا قصداً إلى وقوع الضر، فالعمل إذن باق على أصل المشروعية. والدليل على ذلك أن ضوابط المشروعات هكذا وجدناها، كالقضاء بالشهادة في الدماء والأموال والفروج، مع إمكان الكذب والوهم والغلط...وكذلك إعمال خبر الواحد والأقيسة الجزئية في التكاليف، مع إمكان إخلافه والخطأ فيها من وجوه، لكن ذلك نادر فلم يعتبر، واعتبرت المصلحة الغالبة([15]).
القسم الثالث: ما يكون إفضاؤه إلى المفسدة غالباً، كبيع السلاح إلى أهل الحرب، وبيع العنب إلى الخمار ونحوهما.([16])
ويرجح اعتبار الظن هنا لأمور ثلاثة:
1- أن الظن الغالب في أبواب العمليات جار مجرى العلم، فالظاهر جريانه هنا.
2- أن سد الذرائع منصوص عليه، وهذا القسم داخل في مضمون النص؛ لأن سد الذرائع احتياط من المآلات الفاسدة، والاحتياط يوجب العمل بغلبة الظن.
3- أن إجازة هذا النوع داخل في التعاون على الإثم والعدوان المنهي عنه.
القسم الرابع: ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيراً لا غالباً ولا نادراً، كبيوع الآجال؛ فإنها تؤدي إلى الربا كثيراً لا غالباً، وهذا موضع نظر والتباس.(1/77)
فإما أن ينظر إلى أصل الإذن بالبيع فيجوز وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة حيث نظرا إلى جانب الإذن، فلم يحرما الفعل، ولم يفسدا التصرف؛ وذلك لأن الفساد ليس غالباً، فلا يرجح جانبه؛ ولأن أساس التحريم أو البطلان هو أنه ذريعة إلى باطل حرام، ومع عدم الغالبية القطعية لا يكون العقد أو الفعل ذريعة إلى البطلان، فلا موجب للتحريم، ولأن الأصل هو الإذن، ولا يعدل عنه إلا بقيام دليل على الضرر فيه، ومادام الأمر ليس فيه غلبة ظن فإن أصل الإذن باق.
وإما أن ينظر إلى كثرة المفسدة، وإن لم تكن غالبة، فيحكم بالتحريم احتياطاً وهو ما ذهب إليه مالك وأحمد لأسباب منها:
1- أنه يراعى كثرة وقوع القصد إلى الربا في هذه البيوع، أما القصد نفسه فلا ينضبط، وأما أنها ظنية الوقوع فقد تتخلف المفسدة في حالة من الحالات، وكثرة وقوع المفاسد مع قابليتها للتخلف يجعلها قريبة الوقوع ويجب الاحتياط لها في العمل؛ لكون دفع المضار مقدماً على جلب المصالح.
2- ورود نصوص كثيرة بتحريم أمور مأذون فيها أصلاً؛ لما تؤدي إليه من مآلات فاسدة، وإن لم يكن مقطوعاً بها ولا غالبة منها:
- ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى وفد عبد القيس أَنْ يَنْتَبِذُوا فِي الدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ وَالْحَنْتَمِ»([17])، درءاً لما قد يفضي إليه من مآل سيئ، وهو اتخاذُ مِثلِ هذه الأمور ذرائع لشرب الخمر بالرغم من كونها ليست غالبة في العادة وإن كثر وقوعها.
- وحرّم صلى الله عليه وسلم الخلوة بالمرأة الأجنبية، وأن تسافر مع غير ذي محرم.
- ونهى عن بناء المساجد على القبور، وعن الصلاة إليها.(1/78)
- ومنها نهيه صلى الله عليه وسلم عن البيع والسلف، وعن ميراث القاتل، وعن تقدم شهر رمضان بصوم يوم أو يومين، وحرم صوم يوم عيد الفطر، وندب إلى تعجيل الفطر وتأخير السحور، إلى غير ذلك مما هو ذريعة، وفي قصد الإضرار فيه كثرة، وليس بغالب ولا أكثري. والشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم، والتحرز مما عسى أن يكون طريقاً إلى مفسدة ([18]).
فالحكم بالتحريم والمنع دفعاً للمآلات الضارة المتوقعة إذا كان وقوعها أغلبياً أو أكثرياً سائغٌ في سَنَنِ التشريع القائم على الاحتياط والتحرز، ولكن الإفراط فيه مذموم حتى لا تصير الشريعة مجموع أحوطيات، مما يكبل المكلفين بالآصار والأغلال التي ما جاء الإسلام إلا لوضعها عنهم.
ــــــــــــــــــــــ
([14]) انظر أصول الفقه، ص230.
([15]) انظر الموافقات، 2/359.
([16]) الزحيلي، وهبة، أصول الفقه الإسلامي (بيروت: دار الفكر، ط-1986م)، 2/885.
([17]) البخاري، الجامع الصحيح، كتاب المغازي، باب وفد عبد القيس.
([18]) الموافقات، 2/364.
المبحث الثالث: مسالك اعتبار المآلات(1/79)
انطلاقاً من كون اعتبار المآلات مراداً به صرف الأفعال من أحكامها الأصلية إلى أحكام أخرى، تلافياً لما ينتج عن الأولى من مآلات فاسدة، وتوجيهها إلى مآلات الصلاح، وكون النظر في مآل العمل بالحكم واجباً على المجتهد، بحيث إذا أفضى إلى مفسدة راجحة منع العمل به، وكذلك الحكم بالمنع إذا أدى إلى تلك المفسدة أبيح؛ لأن مآلات الأفعال معتبرة مقصودة شرعاً، بدليل اعتبار الشارع للمسببات عند تشريع الأسباب لها، فإن هذا الصرف لا يمكن أن يكتسب حكم المشروعية إذا كان منطلقه الاعتباط والتحكم؛ لإفضائه حينها إلى تبديل شرع الله وتحريف الكلم عن مواضعه. فلا بد أن يجري هذا الصرف عبر طرق شرعية -اقتضاها أصل اعتبار المآلات- وشهد لها الشرع بالاعتبار، وتعد ضابطة لهذا الصرف للسير على مسلك لا عوج فيه ولا شطط.. وأبرز هذه المسالك: سد الذرائع، والاستحسان، ومنع الحيل.
أولاً: سد الذرائع:
الذرائع في اللغة: تطلق الذريعة في اللغة ويراد بها الوسيلة التي يتوسل بها إلى الشيء، قال صاحب مختار الصحاح: «والذريعة الوسيلة، وقد تذرع فلان بذريعة، أي توسل بوسيلة والجمع (الذرائع)»([19]).
الذرائع في الاصطلاح: عرفها الشاطبي بقوله: «حقيقتها التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة»([20])، وهو بهذا يذهب مذهب التفريق الاصطلاحي بين الوسائل والذرائع، فالوسائل مؤداها المصالح بينما الذرائع مؤداها المفاسد، وهذا ما ذهب إليه ابن القيم في بيانه لمكانة سد الذرائع من الدين حيث قال: «وباب الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان: أحدهما مقصود لنفسه، والثاني وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان: أحدهما ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين».([21])(1/80)
بينما ذهب بعض العلماء إلى إطلاق مصطلح الذرائع، إضافة إلى ما سبق، على الوسائل المفضية إلى المصالح نزوعاً إلى تعميم هذا المفهوم عليهما، ومن هؤلاء القرافي في فروقه إذ يقول: «اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح، فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج».([22])
ولعل تخصيص الذرائع بالوسائل المؤدية إلى المفاسد في مقابلة الوسائل التي صارت تعرف بما يؤدي إلى المصالح تفصيل وبيان أضبط وأولى بالقبول.
حجية الأخذ بسد الذرائع:
اختلفت أقوال العلماء في مشروعية العمل بقاعدة سد الذرائع: ففي حين اعتبرها مالك وأحمد أصلاً من أصول الفقه، و«حكمها مالك في أكثر أبواب الفقه» ([23])، واعتبرها ابن القيم «ربع الدين»([24])، نجد أن أبا حنيفة والشافعي أخذا بها في بعض الحالات وأنكرا العمل بها في حالات أخرى([25]).. أما ابن حزم فقد أنكرها إنكاراً شديداً وشنع على القائلين بها، فقال([26]): «ذهب قوم إلى تحريم أشياء من طريق الاحتياط وخوف أن يتذرع بها إلى الحرام البحت، واحتجوا بحديث النعمان ابن بشير قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ، وَالْمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ، مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ».([27])
ثم يعلق على هذا المذهب فيقول : «ومن حرم المشتبه وأفتى بذلك وحكم به على الناس، فقد زاد في الدين ما لم يأذن به الله، وخالف النبي صلى الله عليه وسلم واستدرك على ربه تعالى بغفله أشياء من الشريعة»([28]).
أدلة المنكرين:(1/81)
ومنطلق ابن حزم في إنكاره سدّ الذرائع أن الحلال والحرام لا يثبتان بالظن بل باليقين لقوله تعالى: (( وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئًا)) (يونس:36).
ومن ثم فإن «كل من حكم بتهمة أو باحتياط لم يستيقن أمره ، أو بشيء خوف ذريعة إلى ما لم يكن بعد، فقد حكم بالظن، وإذا حكم بالظن فقد حكم بالكذب والباطل، وهذا لا يحل، وهو حكم بالهوى، وتجنب للحق، نعوذ بالله من كل مذهب أدى إلى هذا، مع أن هذا المذهب في ذاته متخاذل متفاسد متناقض؛ لأنه ليس أحد أولى بالتهمة من أحد. وإذا حرم شيئاً حلالاً خوف تذرع إلى حرام، فليخص الرجال خوف أن يزنوا، وليقتل الناس خوف أن يكفروا، وليقطع الأعناب خوف أن يعمل منها الخمر. وبالجملة فهذا المذهب أفسد مذهب في الأرض؛ لأنه يؤدي إلى إبطال الحقائق، وبالله التوفيق»([29]).
هكذا ختم ابن حزم مبحثه عن الذرائع في ظاهرية تتناسب مع مذهبه في إنكار التعليل والاجتهاد بالرأي خارج النص.. وتأملاً فيما قاله ابن حزم يلاحظ ما يلي:
1- إن المشتبه فيه مشكوك في حله وحرمته، واستسهاله يجرئ النفس على انتهاكه، والنظام التشريعي قائم على الاحتياط لأحكام الشريعة من الانتهاك.
2- إن الأحكام العملية قائمة في غالبها على غلبة الظن، وعليه فالزعم بأن القول بسدّ الذرائع يفضي إلى القول بإخصاء الرجال خوف أن يزنوا ...إلخ لا ينهض له دليل ولا يقوم على أصل، فلم يقل أحد - من القائلين بسد الذرائع- بهذا التعميم، بحيث يمنع كل ما احتمل أن يؤدي إلى حرام، وإلا فكل ما في الدنيا -حتى العبادات- يمكن التذرع به إلى الحرام، بل الأمر مخصوص بضوابط وشروط استشفت من نصوص الشرع.
3- إن القول بسد الذرائع نظر إلى مقاصد التشريع والنتيجة التي يؤول إليها الفعل، فما دامت نتيجة الفعل لا تستقيم مع مقصد الشارع فإن المُتَذرَّع به يبطل ولو كان مباحاً أصالة.
أدلة المثبتين:(1/82)
لئن ذهب ابن حزم منكراً مبدأ سد الذرائع لظنيته، فإن من أثبته اعتبره أصلاً من أصول التشريع، ودليلاً معتبراً من أدلة الأحكام، لكون الظن الراجح معتبراً في أحكام الشريعة، فلا يشترط لثبوتها اليقين.. وفضلاً عن ذلك، فإن حِكَمَ الشارع تقتضي منع الأسباب والذرائع المؤدية إلى المحظور وإن كانت مباحة مطلوبة أصلاً، فإذا أدت هذه الذرائع المباحة إلى مفاسد، نظراً لظروف خاصة أو أحوال معينة، فإنها تمنع وتصير محظورة. فالبيع مباح ولكنه في وقت صلاة الجمعة محظور، وقطع الأيدي في السرقة فرض لكنه في الغزو ممنوع لئلا يكون ذريعة لفرار المحدود إلى العدو حمية وغضباً. والنظام التشريعي قائم على رعاية المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، وسد الطرق المؤدية إليها، ويشهد لذلك استقراء أدلة الأحكام؛ وقد ساق ابن القيم تسعة وتسعين وجهاً شاهداً لهذه القاعدة بالاعتبار، منها:
1- قوله تعالى: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ راعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا)) (البقرة:104)، نهاهم سبحانه وتعالى أن يقولوا هذه الكلمة -مع قصدهم بها الخير- لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم، فإنهم يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويقصدون بها السبّ، يقصدون فاعلاً من الرعونة، فنُهي المسلمون عن قولها سداً لذريعة المشابهة، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم تشبهاً بالمسلمين يقصدون بها غير قصدهم.
2- إنّ الوالي والقاضي والشافع ممنوع من قبول الهدية؛ لأنها ذريعة إلى الرشوة التي هي أصل فساد العالم وإسناد الأمر إلى غير أهله، وتولية الخونة والضعفاء والعاجزين، وقد دخل بذلك من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، وما ذلك إلا لأن قبول الهدية ممن لم تجرعادته بمهاداته ذريعة إلى قضاء حاجته، والإنسان عبد الإحسان، فتقضى حاجته بغض النظر عن مدى أحقيته واستحقاقه لذلك.(1/83)
3- إن الشارع أمر بالاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى، وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وصلاة الخوف، مع أن صلاة الخوف بإمامين أقرب إلى حصول الأمن، وذلك سداً لذريعة التفريق والاختلاف والتنازع، وطلباً لاجتماع القلوب وتآلف الكلمة، وهذا من أعظم مقاصد الشارع، وقد سد الذريعة إلى ما يناقضه بكل طريق، حتى في تسوية الصفوف في الصلاة لئلا تختلف القلوب، وشواهد ذلك أكثر من أن تذكر.([30])
4- إن الشارع أمضى إنكار المنكر كأصل للإصلاح والتغيير نحو الأصلح المرغوب، فإذا أدى إنكار المنكر إلى ما هو أنكر منه فإنه لا يسوغ إنكاره، ولذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة - وإن ظلموا أو جاروا - ما أقاموا الصلاة، سداً لذريعة الفساد العظيم والشر الكبير بقتالهم، كما وقع في تاريخنا، ولا يزال يقع في مجتمعاتنا المعاصرة.
سد الذرائع وضبط مآلات التطبيق:
وبناء على ما سبق، فإن ثبوت أيلولة الفعل المباح أو المطلوب أصالة إلى مفسدة ظناً غالباً أو يقيناً، تذرعاً به إليها يؤدي إلى صرفه عن هذا المآل الفاسد بقاعدة سد الذرائع، التي قام التشريع الإسلامي على اعتبارها بناء على النظر إلى نتائج الأفعال وثمراتها، وبحسب تلك النتائج والثمرات يحل الفعل المُتذَرَّع به أو يحرم، وهذه واقعية تؤكد أصل المصلحة من جلب منفعة ودرء مفسدة، وهو مقصود الشارع الأعظم.
ثانياً: إبطال الحيل:
لقد ثبت بالاستقراء المفيد للقطع أن أحكام الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد في الدارين، وأن الأحكام ما هي إلا وسائل لتحقيق تلك المقاصد، ومن ثم فإن الاقتران والتلازم بين الحُكْمِ والمقصد أمر لابد من الالتزام به. وبناء على هذا فإن المطلب الشرعي والمنطقي يقتضي تطابق مقصد الشارع وقصد المكلف إبَّان تطبيق الحكم لتحقيق المصالح المغياة، وتجنب مناقضة مقصد الشارع من التشريع.(1/84)
وإذا كان الأمر على ما سبق تقريره فإن التحيل الهادف لإبطال مقصد الشارع، والمؤدي إلى مآلات فاسدة مناقضة لمقاصد الشريعة، قد جرى سنن التشريع على إبطاله.
معنى الحيل: الحيلة، والاحتيال، والتحيل: الحذق وجودة النظر والقدرة على دقة التصرف، وأكثر استعمال الحيلة فيما في تعاطيه خبث. ومن معانيها في اللغة والعرف: المكر، والخديعة، والكيد، وأكثر ظهورها في الفعل المذموم ، وقد يقصد بها الوجه المحمود([31])، ومن هذا الوجه قوله تعالى في وصف من تخلف عن الهجرة لعذر: ((لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً)) (النساء:98). وقد غلب استعمال الحيل في عرف الفقهاء على النوع المذموم.([32])
أما المفهوم الأصولي للحيل فيبينه الإمام الشاطبي بقوله: «فإن حقيقتها المشهورة تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي، وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر. فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع» ([33]).
مقومات التحيل الممنوع شرعاً:
انطلاقاً من تعريف الشاطبي للحيل يمكن استخلاص ثلاثة عناصر مكونة لمفهوم الحيل وهي:
1- إن «التحيل» في اصطلاح أهل الشريعة لا يتحقق إلا إذا اتخذ المتحيل فعلاً ظاهر المشروعية بقصد تحقيق غرض أو مقصد غير مقصد الشارع، وغالباً ما يكون مقصد المتحيل غير مشروع؛ لأنه يستهدف خرم مقاصد الشريعة في الواقع. أما إذا اتخذ المتحيل فعلاً غير مشروع أصلاً لتحقيق غرض غير مشروع فهذا صريح معاندة الشارع، وليس تحيلاً؛ لكون المخالفة واقعة في ذات الفعل ومآله، ومنع هذا الضرب أولى من سابقه للحرمة المزدوجة وإن لم يدخل في التحيل.([34])(1/85)
ومثال التحيل: «الواهب ماله عند رأس الحول فراراً من الزكاة؛ فإن أصل الهبة على الجواز، ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعاً، فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة، فإذا جمع بينهما على هذا القصد صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة، وهو مفسدة، ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية»([35])، و«معلوم أن صورة هذه الهبة ليست هي التي ندب الشرع إليها؛ لأن الهبة إرفاق وإحسان للموهوب له، وتوسيع عليه، غنياً كان أو فقيراً، ولو كانت على المشروع من التمليك الحقيقي لكان ذلك موافقاً لمصلحة الإرفاق والتوسعة، ورفعاً لرذيلة الشح، فلم يكن هروباً عن أداء الزكاة، فتأمل كيف كان القصد المشروع في العمل لا يهدم قصداً شرعياً، والقصد غير الشرعي هادم للقصد الشرعي».([36])
2- إن التحيل بالمعنى الأصولي المشهور، تعارضت فيه مصلحة الأصل مع مفسدة المآل، فلم تعتبر الأولى واعتبرت الثانية، فكان حكم التحيل المنع ترجيحاً لمفسدة المآل على مصلحة الأصل؛ لكون مفسدة المآل هادمة لمقاصد التشريع.
3- إن التحيل المنهي عنه هو ما آل بالتصرف المُتحيَّل به إلى هدم أصل شرعي ذي مقصد كلي، ومناقضة مصلحة شرعية جزئية، وفي هذا يقول الإمام الشاطبي: «إذا ثبت هذا، فالحيل التي تقدم إبطالها وذمها، والنهي عنها، ما هدم أصلاً شرعياً، وناقض مصلحة شرعية، فإن فرضنا أن الحيلة لا تهدم أصلاً شرعياً ولا تناقض مصلحة، شهد الشرع باعتبارها، فغير داخل في النهي، ولا هي باطلة».([37])
وهذا التحيل الذي قوامه تلك العناصر هو الذي جرت أقوال العلماء في ذم أهله، والتحذير منه، وإبطاله، وهو الذي أراده الإمام البخاري رحمه الله في كتابه «الحيل» من الجامع الصحيح، وأخرج فيه من الأحاديث الدالة على إبطاله.([38])(1/86)
واعتبار مقصد المتحيل ركنٌ أساسٌ في هذه القاعدة، وهو أبرز فارق لها عن قاعدة سد الذرائع، وبناء على اشتراطه كان من الحيل ما هو جائز، ومن ثم فالذين أباحوا الحيل الشرعية من الأئمة مثل أبي حنيفة إنما أباحوا ما لم يكن فيه قصد صريح في التنصل من تكاليف الشرع وهدم مقاصده، مثل النطق بكلمة الكفر إكراهاً عليها تحيلاً بها لحفظ النفس من الإزهاق والقلب مطمئن بالإيمان.([39])
فالحيل المحظورة مشروطة بقصد المتحيل إلى هدم مقصد كلي ومصلحة شرعية، ولذا نجد ابن القيم يأتي بصور لا تندرج في المفهوم المشهور للحيلة ومنها: أن يقصد بالحيلة أخذ حق أو دفع باطل، ويقسمه ابن القيم إلى أقسام منها: أن يكون الطريق محرماً في نفسه، وإن كان المقصود به حقاً، مثل أن يكون له على رجل حق فيجحده ولا بينة له، فيقيم صاحبه شاهدي زور يشهدان به ولا يعلمان ثبوت هذا الحق، ومثل أن يكون له على رجل دين، وله عنده وديعة، فيجحد الوديعة، فيجحد هو الدين، أو بالعكس. وحكم مثل هذا أنه يأثم على الوسيلة دون المقصود، ويعبر عن هذا بالظفر بجنس الحق».([40])(1/87)
و قد خالف ابن القيم في هذا شيخَه ابنَ تيمية الذي أبطل كل الحيل التي تؤدي إلى إسقاط حق، أو تسويغ محرم، أو إسقاط شرط حرمه الشارع؛ لأن هذه مطلوبات وإهمالها محرم، وكل ما يؤدي إلى المحرم يكون محرماً، ولو كان في أصل ذاته مباحاً، وكذلك إذا كان غرضه أن يصل إلى أمر محلل، ولكنه لم يستطع الوصول إليه إلا بأمر محرم، فإنه في هذه الحال لا يكون التحايل سائغاً؛ لأن المحرم الذي اتخذ وسيلة إلى الحلال حرام لذاته، كمن يتخذ الخيانة سبيلاً للوصول إلى حقه، أو شهادة الزور سبيلاًً لإثبات حق مجحود، فإنه لا يسوغ؛ لأن الخيانة حرام لذاتها، وشهادة الزور حرام لذاتها، والمفسدة التي تترتب على فساد الشهادات وضياع الأمانات أشد من المفسدة التي تقع بضياع حق مفرد لواحد من الناس، فإنه إن ساغ الاستشهاد بالزور لإثبات حق فيستشهد بالزور لإثبات الباطل، وإذا ساغت الخيانة للوصول إلى الحق فيسوغها لنفسه من يريدها لذاتها، وبذلك يكون أمر الناس فوضى، والحرام لذاته لا يباح مطلقاً، ولا في أي حال إلا للضرورة.([41])
الأدلة الشرعية الناهضة بحظر الحيل:
إن استقراء نصوص الشريعة قد أثبت مبادئ عامة وقواعد كلية ناهضة بحظر الحيل وإبطالها، مما يؤكد إحكام البناء التشريعي العام القائم على مقاصد مغياة من أحكامه، ومن ذلك:
1- اعتبار النيات في الأقوال والأفعال معقد الصحة والفساد، وعلى ضوء توافق قصد المكلف مع مقصد الشارع أو مخالفته يكيف الفعل صحة أو فساداً، قبولاً أو رداً؛ لكون الأعمال تابعة لمقاصدها ونياتها، «وأنه ليس للعبد من ظاهر قوله وعمله إلا ما نواه وأبطنه لا ما أعلنه وأظهره».([42])(1/88)
2- إن مقصد الشارع من التشريع هو إقامة مصالح الدارين على وجه لا يختل لها به نظام، وعليه فكل من سعى في الإخلال به أُبطِل سعيه، ورُدَّ عليه تحيله؛ إذ «كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له، فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له، فعمله باطل»([43])، ومآل تصرف المتحيل إبطال لمقصد الشارع الأصلي، والنظر في المآل معتبر مقصود شرعاً.
3- إن قصد المتحيل من تقديم عمل ظاهر الجواز تحليلُ محرم كبيع العينة مثلاً، ولا يتأتى معه إرادة حقيقة البيع المشروع، وإذا انتفت «الإرادة» التي هي مبنى التصرف المشروع، أو أساس العقد، فقد بطل التصرف، ضرورة فقدان أصل مشروعيته؛ إذ «التراضي» هو أساس الانعقاد، ومضمون هذا الدليل «مبدأ الرضائية» في العقود.
ويتضح ذلك أيضاً في عقد الهبة الصورية إنقاصاً لنصاب الزكاة قرب نهاية الحول، فراراً من أداء هذه الفريضة أو تحيلاً على إسقاطها، وهذا الإسقاط هو مآل تصرفه المقصود، وهو خرم لقواعد الشريعة، وإبطال لأحكامها بلا مراء وهو علة البطلان.([44])
وهكذا فإن قاعدة الحيل تعدّ مسلكاً لاعتبار المآلات وضبطها، حماية لمقاصد الشارع وضماناً لها.
ثالثاً: الاستحسان:
لقد اشتهر اعتبار الاستحسان والأخذ به عند الحنفية، وعدوه دليلاً شرعياً في مقابلة القياس، حتى اشتهرت عنهم عبارة: الحكم في هذه المسألة كذا، واستحساناً كذا. وقد كان الإمام أبو حنيفة بارعاً في الاستحسان مما جعل تلميذه محمد بن الحسن يقول عنه: «إن أصحابه كانوا ينازعونه المقاييس، فإذا قال: استحسن لم يلحق به أحد».([45])(1/89)
وقد كان الاستحسان موضع إقرار من المالكية والحنابلة، حتى عدّه الإمام مالك تسعة أعشار العلم، وقال أصبغ في الاستحسان: قد يكون أغلب من القياس، وجاء عنه أن المُغرِق في القياس يكاد يفارق السنة. وهذا الكلام -كما يقول الإمام الشاطبي- لا يمكن أن يكون بمعنى «ما يستحسنه المجتهد بعقله، أو أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد تَعسُر عبارته عنه، فإن مثل هذا لا يكون تسعة أعشار العلم، ولا أغلب من القياس الذي هو أحد الأدلة».([46])
ومن ثمَّ فإن الإنكار الشديد للاستحسان من قبل الشافعي، ومقولته المشهورة «من استحسن فقد شرع» لا يمكن إدراك مراميها ومضامينها إلا في ضوء معرفة حقيقة الاستحسان عند القائلين به، والذي ما جيء به إلا تحرّياً للمصالح والعدل، و«أنه نظر إلى لوازم الأدلة ومآلاتها».([47])
ويُعدُّ عدم التحديد المنهجي لمعنى الاستحسان على عهد الأئمة المؤسسين للمذاهب واكتفاؤهم بتعميمات يفهم منها كون الاستحسان عنوان أمر يعارض الدليل الظاهر، أو يحد من عموم نص، أو يقيد من إطلاق أصل كلي، والغموض في تحديد مدلول المصطلح وما أسنده من تقليد للأئمة سَببَ تقولاًّ غير مبني على دليل في نقد الخصم، لعدم تبيُّن محل الخلاف، ومن ثم فإن بيان حقيقة الاستحسان عند القائلين به هاد إلى معرفة مدى صحة وصلاحية هذا المسلك الاجتهادي في ضبط المآلات.
حقيقة الاستحسان:
يطلق الاستحسان في اللغة ويراد به عَدُّ الشيء حسناً أو اتباع الحسن في الأمور الحسية والمعنوية، يقال: استحسن الرأي أو القول أو الطعام أو الشراب، بمعنى عدّه حسناً، ويقال: هذا مما استحسنه المسلمون.([48])
وليس الخلاف بين العلماء في جواز استعمال لفظ الاستحسان لوروده في الكتاب الكريم كقوله تعالى: ((الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)) (الزمر:18)، إنما الخلاف في معنى الاستحسان وحقيقته.(1/90)
وبالرجوع إلى التعريفات المعتمدة للاستحسان لدى كبار القائلين به، يتبين مذهبهم فيه، وأن الأمر في محصلته النهائية يعود إلى وفاق لا إلى خلاف، وأنه يهدف إلى تحري المصلحة عند اطراد القياس والقواعد المفضية إلى نقض مقاصد الشارع.([49])
فقد عرفه الإمام الكرخي الحنفي بقوله: «الاستحسان هو أن يعدل الإنسان عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه، لوجه يقتضي العدول عن الأول».([50])
ويقول السرخسي في تعريفه: «الاستحسان ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس، وقيل: الاستحسان طلب السهولة في الأحكام فيما يُبتَلَى فيه الخاص والعام، وقيل: الأخذ بالسعة وابتغاء الدعة، وقيل: الأخذ بالسماحة وابتغاء ما فيه الراحة، وحاصل هذه العبارات أنه ترك العسر لليسر، وهو أصل في الدين، قال تعالى: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) (البقرة:185)([51]).
فالسرخسي يبين أن أصل مشروعية الاستحسان للتيسير ومنع غلو القياس.
ويدنو من هذا المعنى ما حده به ابن العربي بأنه عند مالك: «استعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلي». وما قاله ابن رشد في الاستحسان: «الاستحسان الذي يكثر استعماله، حتى يكون أعم من القياس، هو أن يكون طرحاً لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه، فعدل عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع».([52])
أما الطوفي من الحنابلة فقال: «أجود تعريف للاستحسان أنه العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي خاص. قال: وهذا مذهب أحمد.»([53])
وإمعان النظر في التعريفات السابقة يفضي إلى أن حقيقة الاستحسان تكمن في: ترجيح قياس خفي على قياس جلي بناء على دليل؛ استثناء مسألة جزئية من قاعدة كلية أو أصل عام لاقتضاء دليل خاص لذلك.([54])(1/91)
وهو في غالبه كما قال الشاطبي: «الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي»([55]).. وهو إذن طريق لدرء التعسف في الاجتهاد الذي يفضي إليه طرد الأقيسة والقواعد.([56])
الاستحسان تحرٍّ للمصلحة وضبط للمآل:
إنّ كون النظر في مآلات التطبيق معتبراً شرعاً يؤكده ويدعمه مبدأ الاستحسان الهادف إلى تحري المصلحة إبّان تطبيق الحكم، وذلك عن طريق الاستثناء من مقتضى القواعد والأقيسة، ومثال الاستحسان: استعمال الحق الذي يلزم عنه أضرار بينة بالغير ولو لم تكن مقصودة. قال الزيلعي: «والقياس أنه يجوز للمالك أن يتصرف في ملكه كيف شاء، ولو تضرر من ذلك جاره ضرراً بيناً، ولكن ترك ذلك استحساناً للمصلحة»([57]). فهنا أعمل منع صاحب الحق من استعماله لحقه على هذا النحو توثيقاً لمبدأ المصلحة؛ لأن الحقوق لم تشرع للإضرار بالغير، فالمناقضة لمقصد الشارع في هذا الاستعمال ظاهرة، ولو كان الاستعمال في ظاهره يستند إلى حق.
ولا شك أن المصلحة من أظهر مقاصد الشرع، فاستثني هذا الحكم من القياس وهو أن الناس مسلطون على أموالهم.([58])
وفي هذا يقول ابن عبد السلام: «ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها إجماع ولا نص ولا قياس خاص، فإن فهم نفس الشرع يوجب ذلك».([59])
ثم إن الأمر في التحقيق راجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص، حيث كان الدليل العام يقتضي الإذن المطلق في استعمال الحق، بيد أن الاستمرار مع الدليل العام يؤدي إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة، فكان من الواجب رعي ذلك المآل توثيقاً للمصلحة المقصودة شرعاً.
ـــــــــــــــــــــــ
([19])الرازي، محمد بن أبي بكر،مختار الصحاح(بيروت:دار الفكر، ط-1981م)،ص221، مادة (ذرع).
([20]) الموافقات، 4/199.
([21]) إعلام الموقعين، 3/130
([(1/92)
22]) الفروق، 2/33.
([23]) الموافقات، 4/198.
([24]) إعلام الموقعين، 3/130.
([25]) أصول الفقه الإسلامي، 2/888.
([26]) الإحكام في أصول الأحكام، 6/179.
([27]) البخاري، الجامع الصحيح، كتاب البيوع، باب الحلال بيّن والحرام بيّن، 3/5.
([28]) الإحكام في أصول الأحكام، 6/183.
([29]) المصدر السابق، 6/189-190.
([30]) انظر إعلام الموقعين، 3/113-130.
([31]) مختار الصحاح، ص166، والقاموس المحيط، ص1535.
([32]) إعلام الموقعين، 3/195.
([33]) الموافقات، 4/201.
([34]) انظر بحوث مقارنة، 1/416.
([35]) الموافقات، 4/201.
([36]) المصدر السابق، 2/385-386
([37]) المصدر السابق، 2/387.
([38]) انظر البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الحيل (بيروت: دار الكتب العلمية، ط/1-1994م)، 8/385.
([39]) الموافقات، 4/204، الاعتصام، 2/139، تعليق محمد رشيد رضا.
([40]) إعلام الموقعين، 3/271-272.
([41]) انظر أبو زهرة،محمد، ابن تيمية،( القاهرة: دار الفكر العربي، د.ت)، ص449؛ أصول الفقه الإسلامي، 2/913-914.
([42]) إعلام الموقعين، 3/134.
([43]) الموافقات، 2/331.
([44]) انظر بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي،1/436.
([45]) انظر السرخسي، أصول السرخسي (بيروت: دار المعرفة، د.ت)، 2/199-200.
([46]) الشاطبي، الاعتصام، مراجعة وتدقيق خالد عبد الفتاح سبل (بيروت: دار الفكر، ط/1-1996)، 2/96-97.
([47]) الموافقات، 4/209.
([48]) انظر الفيروزآبادي، القاموس المحيط (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط/2-1978)، ص1535؛ أصول السرخسي، 2/200؛ التفتازاني، سعد الدين، شرح التلويح على التوضيح (بيروت: دار الكتب العلمية، د.ت)، 2/81.
([(1/93)
49]) وهنا تجدر الإشارة إلى أن ما ينسبه الخصوم للحنفية من أن الاستحسان عند بعضهم «استحسان بغير حجة» وأنه تلذذ كما قال الإمام الشافعي وعبارته المشهورة «من استحسن فقد شرع»، فإن مثل هذا القول لا يتجه على المذهب الحنفي ومؤسسه الإمام أبي حنيفة النعمان؛ لأن المراد به القول في الشرع بغير دليل، أي بالهوى والتشهي، وهذا باطل بإجماع المسلمين ولم يقل به أحد. (انظر إحكام الفصول في أحكام الأصول، 566؛ وإرشاد الفحول، 240). يقول أبو الحسين البصري المعتزلي: «اعلم أن المحكي= =عن أصحاب أبي حنيفة النعمان القول بالاستحسان، وقد ظن كثير ممن رد عليهم أنهم عنوا بذلك الحكم بغير دلالة، والذي حصله متأخرو أصحاب أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو أن الاستحسان عدول في الحكم عن طريق إلى طريق هي أقوى منها، وهذا أولى مما ظنه مخالفوهم؛ لأنه الأليق بأهل العلم، ولأن أصحاب المقالة أعرف بمقاصد أسلافهم، ولأنهم قد نصوا في كثير من المسائل فقالوا: «استحسنا هذا الأثر ولوجه كذا، فعلمنا أنهم لم يستحسنوا بغير طريق» البصري، أبو الحسين، المعتمد، تقديم الشيخ خليل الميس (بيروت: دار الكتب العلمية، د.ت)، 2/295.
([50]) كشف الأسرار، 4/1123. مصادر التشريع فيما لا نص فيه، ص69.
([51]) السرخسي، شمس الدين، المبسوط شرح الكافي (القاهرة: مطبعة دار السعادة، د.ت)، 10/145،.
([52]) الاعتصام، 2/97.
([53]) شرح مختصر الروضة، 3/197.
([54]) قُسِّم الاستحسان عند القائلين به باعتبار سنده إلى أقسام يمكن الرجوع إلى تفاصيلها في مواطنها من كتب الأصول الحنفية والمالكية؛ إذ ليس من صميم هذا البحث الخوض في تقسيماته واستقصاء الأقوال في ذلك. وعلى الجملة فهو عند الحنفية: استحسان بالنص، واستحسان بالقياس، واستحسان بالعرف، واستحسان بالضرورة، أما المالكية فمستند الاستحسان عندهم إما العرف، وإما المصلحة، وإما رفع الحرج. انظر مصادر التشريع فيما لا نص فيه، 7-75.
([(1/94)
55]) الموافقات، 4/206.
([56]) الدريني ،محمد فتحي، نظرية التعسف في استعمال الحق (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط/3-1984م)، ص117.
([57]) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، 4/196.
([58]) انظر الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده، 119.
([59]) قواعد الأحكام، 3/160
الفصل الرابع - نماذج تطبيقية - المبحث الأول: حق الملكية بين المشروعية والتقييد »
المبحث الأول: حق الملكية بين المشروعية والتقييد
لقد أقرّت الشريعة حق الملكية، وشرعت له من المؤيدات ما يثبته ويصونه ويحميه، بيد أنه مع ذلك قيدته بما لا يضر بالغير، فرداً كان أو جماعة، فحق الغير محافظ عليه شرعاً.
ومن ثم فإن للحق الفردي صفة مزدوجة: فردية وجماعية في آن واحد، أما الفردية فلأن الحق ليس بذاته وظيفة بل هو ميزة، تخول صاحبها الاستئثار بثمرات حقه، فحق الفرد أصلاً شخصي، وهو وسيلة لتحقيق المقصد المشروع، وفي هذا اعتراف بكيان الفرد وتكريم له؛ إذ الشريعة رسالة تعتني أساساً بالفرد باعتباره اللبنة الأساس في بناء المجتمع، وأما الجماعية فتبدو في تقييد هذا الحق بمنع اتخاذه وسيلة إلى الإضرار بالغير، فرداً أو جماعة، قصداً أو بغير قصد، بالنظر إلى مآلات استعماله بناء على غائية الحق، وأصول التكافل والتضامن الاجتماعي، ومبدأ الاستخلاف القائم على حسن استغلال الموارد التي أنعم الله تعالى بها على الإنسان([1]).
وفي هذا أبلغ دلالة على أن الملكية في الإسلام حق خاص ذو وظيفة اجتماعية؛ فإذا ما حدث تعسف من صاحب الحق في استعمال حقه بما يعود على المقصد الشرعي بالنقض، أو على مصالح الغير بالضرر، أو استدعت ضرورة أو حاجة ماسة للدولة إلى تقييده، فإن الشريعة قد خولت السلطة الحاكمة صلاحية تقييد هذا الحق بعد تحقيق مناطه والنظر في مدى تحقيق ذلك التقييد لمقاصد الشريعة، والتبصر بمآلاته صلاحاً وفساداً، وعلى ضوء هذا التحقيق والتبصر يتحقق الموقف من تقييد الحق إقداماً أو إحجاماً.(1/95)
وقبل المضي في بيان هذه النماذج التطبيقية لابد من تأكيد أن أموال الناس مصونة ولا يجوز للحاكم أن يتعرض لها بغير حق، وأن الناس مسلطون على أموالهم، ليس لأحد أن يأخذها، ولا شيئاً منها بغير طيب أنفسهم، إلا في المواضع التي تلزمهم؛ لكون مصادرة أموال الناس وتقييدها بغير حق ظلم ظاهر، قاتل لروح العمل وفاعلية الإنجاز، ومؤذن بخراب العمران، وهذا ما يقرره ابن خلدون بعد ذكره لنماذج كثيرة من الظلم الواقع على حق الملكية، فيقول: «واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة: من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال»([2]).
أولاً: فرض الضرائب على الأموال الخاصة:
تُعرَّف الضريبة لدى علماء المالية العامة بكونها: «فريضة إلزامية يلتزم الفرد بأدائها إلى الدولة، تبعاً لمقدرته على الدفع، بغض النظر عن المنافع التي تعود عليه من وراء الخدمات التي تؤديها السلطات العامة، وتستخدم حصيلتها في تغطية النفقات العامة. فهي ذلك الجزء الذي تستولي عليه الدولة بمالها من حق السيادة من دخول الأفراد وأموالهم، باعتباره نصيب كل منهم في حمل الأعباء العامة»([3]).
وإذ تحدد مفهوم الضريبة فما هو موقعها في النظام التشريعي الإسلامي، وكيف يمكن تكييفها؟(1/96)
لقد عالج هذه المسألة كثير من الأئمة الأعلام أبرزهم الغزالي، والشاطبي. أما الغزالي فقد تناول هذه المسألة في معرض حديثه عن المصالح المرسلة في «شفاء الغليل» تحت عنوان: «توظيف الخراج على الأراضي ووجوه الارتفاقات» وذهب إلى جوازه مشروطاً بتحقيق المصلحة، ومن ثم فعند دراسته لواقع عصره وظروفه تجاه هذه المسألة رأى عدم جوازها لعدم تحقق مناط هذا التصرف، والذي هو المصلحة، فقال: «فإن آحاد الجند لو استوفيت جراياتهم ووزعت على الكافة لكفاهم برهة من الدهر، وقدراً صالحاً من الوقت، وقد تشمخوا بتنعمهم وترفههم في العيش، وتبذيرهم في إفاضة الأموال على العمارات ووجوه التجمل على سنن الأكاسرة... فكيف نقدر احتياجهم إلى توظيف خراج لإمدادهم وإرفاقهم، وكافة أغنياء الدهر فقراء بالإضافة إليهم».
ولكن إذا اختلف الواقع عما كان عليه عهد الغزالي، وحقق المجتهد في ذلك وتبين له وجه المصلحة وانتفت المآلات الناقضة لها، فالحكم يختلف، وفي ذلك يقول الغزالي: «فأما لو قدرنا إماماً مطاعاً مفتقراً إلى تكثير الجنود لسد الثغور، وحماية الملك بعد اتساع رقعته، وانبساط خطته، وخلا بيت المال عن المال... فللإمام أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافياً لهم في الحال إلى أن يظهر مال في بيت المال».([4])(1/97)
ويقرر الإمام الشاطبي هذه المسألة في «الاعتصام» فيقول: «وهذه المسألة نص عليها الغزالي في مواضع من كتبه، وتلاه في تصحيحها ابن العربي في أحكام القرآن له، وشرط جواز ذلك كله عندهم عدالة الإمام، وإيقاع التصرف في أخذ المال وإعطائه على الوجه المشروع»([5])، ويقول أيضاً: «إذا قررنا إماماً مطاعاً مفتقراً إلى تكثير الجنود لسد الثغور، وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم، فللإمام إذا كان عدلاً أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافياً لهم في الحال، إلى أن يظهر مال في بيت المال، ثم إليه النظر في توظيف ذلك على الغلات والثمرات وغير ذلك؛ كيلا يؤدي تخصيص الناس به إلى إيحاش القلوب، وذلك يقع قليلاً من كثير، بحيث لا يجحف بأحد ويحصل المقصود، وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين لاتساع بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا...فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام بطلت شوكة الإسلام وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار...».([6])
وهنا يؤصل الإمام الغزالي قاعدة ضابطة لتدخل الإمام العادل في مثل هذه القضية لرعاية المصلحة العامة، فيقول: «إذا تعارض شرَّان أو ضرران قصد الشرع إلى دفع أشدِّ الضررين وأعظم الشرين»([7]) وهذه هي قاعدة: يختار أهون الشرين، أو الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف، أو يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
ويتضح مما سبق من تقريرات العلماء لمشروعية فرض ضرائب على أموال الناس، زائدة على ما نص عليه في الشرع من الزكاة وغيرها، أن تطبيق هذا الإجراء الطارئ لتقييد حق الملكية بالضرائب لابد أن يبنى على ما يلي:
1- دراسة واقع الدولة بكل ملابساته وظروفه، والتأكد من مسيس الحاجة لمثل هذا الإجراء لإقامة فروض الكفاية وعجز خزينة الدولة عن سد هذه الحاجات، وهذا حسب ما تبين قد يتحقق في واقع دون واقع؛ مما يقتضي تحقيقاً خاصاً للمناط.(1/98)
2- إن هذا الإجراء هادف إلى تحقيق مقاصد شرعية أساسية لحماية البيضة بتقوية الجيش، أو لدفع ما نزل بالبلاد من خطر داهم أو كوارث طبيعية عامة، من زلازل أو فيضان أو مجاعة، وفي هذا حفظ للدين من أن تخضد شوكته، وللأنفس من التلف.
3- وعند اتخاذ هذا القرار وإلزام الرعية به لا بد من التبصر بمآلات هذا التطبيق. فإن كان يفضي إلى النتائج الحسنة المرجوة كان لابد من إمضائه، وأما إن تبين عدم إفضائه إلى ذلك وأنه لا ينتج عنه سوى إرهاق الرعية وإثقال كاهلها بهذه الضرائب فلا بد من الإحجام عنه.
ثانياً: التسعير:
التسعير هو «أن يصدر موظف عام مختص بالوجه الشرعي أمراً بأن تباع السلع، أو تُبذَلُ الأعمال أو المنافع التي تفيض عن حاجة أربابها، وهي محتبسة أو مغالى في ثمنها أو أجرها على غير الوجه المعتاد، والناس أو الحيوان أو الدولة في حاجة ماسة إليها، بثمن أو أجر معين عادل بمشورة أهل الخبرة».([8])
ولقد قصد الشارع من تشريعه أحكام المعاملات هدفاً سامياً هو تحقيق المصلحة والعدل، والتسعير قائم على هذين الأمرين: أما الأمر الأول وهو تحقيق المصلحة فيبينه الإمام الباجي عند بيانه لمستند التسعير بقوله: «ووجهه -أي التسعير الجبري- هو ما يجب من النظر في مصالح العامة» وقوله أيضاً: «وإنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحدده الإمام على حسب ما يرى من المصلحة فيه»([9])، أما تحقيق العدل فيوضحه ابن تيمية بقوله: «إذا تضمن -التسعير الجبري- العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل، فهو جائز بل واجب»([10]). ومن ثم فالتسعير ما شرع إلا لسد ذريعة الاستغلال حال الشدة واشتداد الأزمات والضيق، بغية تحقيق العدل متمثلاً في المصلحة العامة الواقعة أو المُتَوَقّعَة.(1/99)
وقد ذهب جماهير العلماء إلى تحريم التسعير الجبري في الأصل، واختلفوا فيما دعت إليه الحاجة العامة بين محرم بإطلاق، وقائل بالجواز (الحنفية)([11])، وموجب له عند اقتضاء المصلحة، وإلى هذا الأخير ذهب مالك في رواية أشهب، وبعض أئمة المذهب المالكي([12])، وهو مذهب متأخري الحنابلة.([13])
أدلة التسعير.. منعاً وجوازاً:
اعتمد المانعون للتسعير بإطلاق على كونه حجراً على حرية المُلاك المكفولة من قبل الشارع، وترجيح مصلحة المشتري الفردية على مصلحة البائع -رغم تساويهما في الاعتبار شرعاً-، فضلاً عن كون هذا التسعير منافياً لمبدأ التراضي في العقود([14])، يقول الشوكاني: «ووجهه -رأي تحريم التسعير- أن الناس مسلطون على أموالهم، والتسعير حجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم. وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف لقوله تعالى:(( إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ )) (النساء:29)».
ثم كونه -كما يرى ابن قدامة المقدسي- سبباً رئيساً من أسباب التأزم الاقتصادي إذ يقول مؤيداً قول بعض أصحاب المذهب: «قال بعض أصحابنا التسعير سبب الغلاء؛ لأن الجالبين إذا بلغهم ذلك لم يقدموا بسلعهم بلداً يُكرَهون على بيعها فيه بغير ما يريدون، ومن عنده البضاعة يمتنع عن بيعها ويكتمها ويطلبها أهل الحاجة إليها فلا يجدونها إلا قليلاً، فيرفعون في ثمنها ليصلوا إليها، فتغلو الأسعار، ويحصل الإضرار بالجانبين: جانب الملاك في منعهم من بيع أملاكهم، وجانب المشتري في منعه من الوصول إلى غرضه، فيكون حراما».([15])(1/100)
أما الأدلة النقلية التي اعتمد عليها المانعون فمستفادة من السنة نصاً لا من القرآن، ومن ذلك ما رواه أبو هريرة قال: «جاء رجل فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ فَقَالَ: بَلْ أَدْعُو الله... ثم جاء آخر فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ. فَقَالَ: بَلِ اللَّهُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عِنْدِي مَظْلَمَةٌ»([16])،وقوله صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الْمُسَعِّرُ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ عز وجل وَلا يَطْلُبُنِي أَحَدٌ بِمَظْلَمَةٍ ظَلَمْتُهَا إِيَّاهُ فِي دَمٍ وَلا مَالٍ»([17])، والنبي صلى الله عليه وسلم «لم يسعّر وقد سألوه ذلك ولو جاز لأجابهم إليه».([18])
وخلاصة أدلة المانعين تعود في محصلتها ليس فقط إلى كون التسعير غير كفيل بتحقيق السعر العدل فحسب، بل هو في الحقيقة سبب مباشر في الإضرار بالبائع والمشتري والمنتج والمستورد، وباقتصاد الدولة عامة، وما دام تحقيق مقصد العدل غاب، فضلاً عما تؤول إليه هذه الوسيلة من أضرار جسيمة بالأمة، فإن حكمها التحريم والمنع مطلقاً.
غير أن المجيزين للتسعير قد تشوفوا إلى تحقيق المصلحة والعدل، ورعاية مصالح العامة إذا تعسف التجار والمحتكرون في استعمال حقوقهم، وعملوا على إنهاك الأمة بالأسعار المرتفعة، أما في الظروف العادية فإن التسعير حكمه المنع استناداً إلى أدلة المانعين، النظرية والنقلية؛ ولذلك نجد ابن تيمية يقسم التسعير إلى نوعين: أولهما ظلم محرم، والثاني عدل جائز، بل واجب. فيقول: «التسعير منه ما هو ظلم لا يجوز ، ومنه ما هو جائز»([19]).(1/101)
ويبين تلميذه ابن القيم مناط كل منهما بقوله: «فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباح الله تعالى لهم فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس، مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم، من أخذ الزيادة على عوض المثل، فهو جائز بل واجب ... فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم وقد ارتفع السعر إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق فهذا إلى الله. فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق. وأما الثاني فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها، مع ضرورة الناس إليها، إلا بزيادة على القيمة المعروفة. فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل. ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، والتسعير ههنا إلزام بالعدل الذي ألزمهم الله به».([20])
وهذا التسعير الواجب قائم أساساً على رعاية المصلحة العامة التي نهض الشارع بوجوب اعتبارها، وهي دفع الظلم الواقع أو المتَوقّع عن العامة أو الدولة، أو دفع التعارض بين المصلحة العامة والخاصة والتوفيق بينهما، فهو محرم إذا أوقع ظلماً بالتجار (وهو علة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التسعير على عهده) وهو واجب إذا تعين وسيلة لدفع الظلم عن العامة. وجماع الأمر كما قال ابن القيم: «إن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير سعر عليهم تسعيرَ عدل لا وكسَ ولا شطط، وإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل».([21])(1/102)
والتسعير في خلاصته تدبير اجتهادي مصلحي ضروري يضطلع به من نيط به توجيه السياسة الاقتصادية في الأمة حالة تعارض المصلحتين: الخاصة والعامة، ويفسح مجالاً لتدخل ولي الأمر في توجيه حرية العمل أو التجارة، أو تقييد ممارسة حق الملكية والعمل على وجه لا يضر بجماعة المسلمين وأوطانهم، سواء أكان ذلك وقت الأزمات والظروف الاستثنائية القائمة، أو في الأحوال العادية إذا أسيئ التصرف في حق الملك إلى حد يخلق مثل تلك الأزمات، وهذا التدخل تكليف مفروض على ولي الأمر؛ لأن تصرفه على الرعية منوط بالمصلحة التي هي أساس ولايته العامة.
كما أن التسعير تدبير وقائي يحول دون استغلال حاجة الناس بمنع الاحتكار وفرض التسعير الجبري، وهو في الوقت نفسه تدبير علاجي أيضاً، يعالج الأزمة إبان وقوعها، وذلك بفرض التسعير إذا عجز أولياء الأمر عن المحافظة على حقوق الناس والبلاد إلا به. وبذلك كانت المصلحة المتوقعة كالواقعة، من حيث جلب المنافع، ودرء الأضرار والمفاسد، عملاً بقاعدة: «الضرر يدفع بقدر الإمكان»، وقاعدة: «الضرر يزال»، وقاعدة: «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» وغيرها من القواعد.([22])
ثم إن التسعير كما يقول الدكتور الدريني في مذكراته: «آخر وسيلة يُلجَأ إليها حين العجز عن اتخاذ أي وسيلة أخرى لدفع الضرر العام، من جراء الاحتكار، أو التحكم في السعر، ويجب أن يشرع في الوقت وعلى الوجه الذي يغلب على الظن إفضاؤها إلى المقصود، أي يجب أن تكون مناسبة وملائمة... حتى إذا أفضت إلى ظلم أيٍّ من الفريقين منعت؛ لأن الظلم غير مشروع الوقوع، أو الإيقاع بحال من الأحوال».([23])
وعلى ولي الأمر أن يقدر الظروف، وينظر في المآلات والعواقب بمشورة أهل الخبرة والعلم.
وهكذا تبين أن وجوب إعمال وسيلة التسعير مرتبط بشروط خلاصتها:(1/103)
1- دراسة الواقع واختباره، وتبين مدى حاجة العامة أو الدولة لإجراء التسعير، وذلك بالاستعانة بأهل الخبرة للتأكد من تحقق مناط هذا الحكم وهو العدل والمصلحة.
2- التحقق من تحصيل مقصد رفع الظلم عن الطرفين عبر إجراء عملية الموازنة بين المصلحة الخاصة والعامة.
3- التبصر بالمآلات في ضوء الظروف الملابسة، وأنه ليس لتطبيق وسيلة التسعير عواقب عكسية تعود على مقصدي العدل والمصلحة بالنقض، وهو ما قد يعود إلى إيقاع الظلم بالملاك من جراء تعسف الدولة في إجراء هذه الوسيلة.
ــــــــــــــــــــــــــ
([1]) انظر الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده، ص 216 وما بعدها.
([2]) ابن خلدون، عبد الرحمن، المقدمة، تحقيق درويش الجويدي(بيروت: المكتبة العصرية، ط/2-1996م)، ص263.
([3]) الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، شفاء الغليل، تحقيق حمد الكبيسي (بغداد: طبعة رئاسة ديوان الأوقاف 1390هـ)، ص235 وما بعدها.
([4]) المصدر السابق.
([5]) الاعتصام، 2/86.
([6]) المصدر السابق، 2/85.
([7]) المستصفى، 1/303.
([8]) بحوث مقارنة، 1/542.
([9]) الباجي، أبو الوليد، المنتقى شرح الموطأ (بيروت: دار الكتب العلمية، د.ت)، 5/18.
([10]) مجموع الفتاوى، 28/76.
([11]) ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار(بيروت: دار الفكر، ط1- 1966م)، 5/352.
([12]) المنتقى، 5/17 وما بعدها.
([13]) مجموع الفتاوى، 28/75 وما بعدها.
([14]) الشوكاني، محمد بن علي، نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد ومصطفى محمد الهواري (القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، د.ت)، 6/312.
([15]) المقدسي، ابن قدامة، المغني (الرياض: رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، مطبعة الرياض الحديثة، ط/1-1981م)، 4/240.
([16]) أبو داود، السنن، باب في التسعير (بيروت: المكتبة العصرية، د.ت)، 4/272.
([17]) نيل الأوطار، 5/312.
([18]) المغني، 4/240.
([19]) مجموع الفتاوى، 28/76.
([(1/104)
20]) ابن قيم الجوزية، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، تحقيق محمد حامد الفقي (بيروت: دار الكتب العلمية، د.ت)، ص244-245.
([21]) المصدر السابق، ص264 .
([22]) انظر بحوث فقهية مقارنة، 1/625-626.
([23]) نقلاً عن الملكية في الشريعة الإسلامية، 2/315.
الفصل الرابع - نماذج تطبيقية - المبحث الثاني: الشورى بين المبدأ والتطبيق »
أهمية الشورى في الإسلام:
الشورى مبدأ تكويني في النظام التشريعي والسياسي الإسلامي، وهي خصيصة من الخصائص التي ينبغي أن تتميز بها الأمة المسلمة، يشهد لذلك قوله تعالى: (( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)) (الشورى:38).
ووجه الاستدلال أن القِرَان في النظم يوجب القِرَان في الحكم، فقد قرن الله سبحانه وتعالى الشورى بركنين من أركان الإسلام: الصلاة والزكاة، مما دل على أن الشورى ركن من أركان الحكم في الإسلام.
وعبر القرآن عن صفة الشورى بين المسلمين بالجملة الاسمية لثبات هذه الحقيقة ورسوخها واستقرارها وتأكيدها، وجاءت مجالات الشورى عامة غير مقيدة لتشمل كل شؤون المسلمين.
وحول هذه المعاني يقول سيد قطب رحمه الله: «ومع أن هذه الآيات مكية، نزلت قبل قيام الدولة المسلمة في المدينة، فإننا نجد فيها هذه الصفة، مما يوحي بأن وضع الشورى أعمق في حياة المسلمين من مجرد أن تكون نظاماً سياسياً للدولة، فهو طابع أساسي للجماعة كلها ، يقوم عليه أمرها كجماعة، ثم يتسرب من الجماعة إلى الدولة، بوصفها إفرازاً طبيعياً للجماعة».([24])(1/105)
وقد كانت الشورى منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في السياسة والحكم، وقد عقد الإمام البخاري في كتاب الاعتصام في جامعه الصحيح باباً للشورى، وجعل للباب ترجمة طويلة في فقه أحاديث الشورى، ومن ذلك قوله رحمه الله: « وَشَاوَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْمُقَامِ وَالْخُرُوجِ فَرَأَوْا لَهُ الْخُرُوجَ فَلَمَّا لَبِسَ لأْمَتَهُ وَعَزَمَ قَالُوا أَقِمْ فَلَمْ يَمِلْ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْعَزْمِ وَقَالَ: لا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ يَلْبَسُ لأْمَتَهُ فَيَضَعُهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ.
«وَشَاوَرَ عَلِيًّا وَأُسَامَةَ فِيمَا رَمَى بِهِ أَهْلُ الإِفْكِ عَائِشَةَ فَسَمِعَ مِنْهُمَا حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ فَجَلَدَ الرَّامِينَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى تَنَازُعِهِمْ وَلَكِنْ حَكَمَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَكَانَتِ الأَئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَشِيرُونَ الأُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الأُمُورِ الْمُبَاحَةِ لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا فَإِذَا وَضَحَ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ لَمْ يَتَعَدَّوْهُ إِلَى غَيْرِهِ».([25])
ثم إن الولاية العامة من أعظم فرائض الدين، والشورى سبيلها بالنص، ومن المقرر شرعاً أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهي أساس مشروعية الولاية العامة ولزومها.. وأما في الاجتهاد التشريعي فإن الشورى مبدأ غايته تحقيق «التعاون» بين جهاز الحكم في الدولة وممثلي الأمة من أهل الحل والعقد، والتعاون واجب بالنص رعاية لشؤون الأمة وتحقيقاً لمصالحها وتمكيناً لهيبتها وإقامة لشرع الله فيها.
والشورى بما تضم في مجلسها من الكفاءات المتخصصة وأولي الخبرات العلمية التي صقلتها التجارب وسيلة لتحقيق المصلحة والعدل، وكلاهما واجب، فالوسيلة ينبغي أن تكون واجبة بوجوب غايتها، كما قدمنا.([26])
أولاً: الشورى بين الإلزام والإعلام:(1/106)
اختلفت كلمة الفقهاء، قديماً وحديثاً، في مدى إلزامية نتيجة الشورى إلى قولين رئيسين:
الرأي الأول: أن الإمام مخير في الأخذ بنتيجة الشورى أو رفضها؛ وذلك لأن الشورى ما هي إلا للاستنارة بآراء وأفكار «الغير»، وما على الأمة إلا السمع والطاعة للحاكم الشرعي، ما دام يعمل وفق ما أداه إليه اجتهاده، إذا كان مجتهداً، ورأى المصلحة في ذلك، ومبنى وجهة النظر هذه:
- أن الحاكم ينبغي أن يكون مستكملاً شروط الرئاسة: عدالة، وثقة، واجتهاداً، وغيرها، مما يمكنه من حيازة تأييد الأمة وأهل الحل والعقد فيها.
- أنه لم يخالف نصاً شرعياً، ولا مقصداً كلياً.
واستدلوا على ذلك بأدلة من القرآن والسنة، وعمل الخلفاء الراشدين، ومنها:
قوله تعالى: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكّلِينَ)) (آل عمران:159). فقوله تعالى: ((فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ )) يفيد أن الأمر متروك في نهاية المطاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم إن شاء عمل بما أشير عليه، وإن شاء لم يأخذ به لعدم وجاهته لديه.
جاء في تفسير الطبري للآية: «فإذا صح عزمك بتثبيتنا إياك وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك فامض لما أمرناك على ما أمرناك به، وافق ذلك آراء أصحابك وما أشاروا به عليك أو خالفها»، «فإذا عزمت على أمر جاءك مني أو أمر من دينك في جهاد عدوك لا يصلحك ولا يصلحهم إلا ذلك فامض على ما أمرت به على خلاف من خالفك وموافقة من وافقك»([27]).
وفي فتح القدير للشوكاني: «أي إذا عزمت عقب المشاورة على شيء واطمأنت له نفسك فتوكل على الله في فعل ذلك».([28])(1/107)
ويقول الزمخشري: «فإذا قطعت الرأي على شيء بعد الشورى فتوكل على الله في إمضاء أمرك على الأرشد الأصلح، فإن ما هو أصلح لك لا يعلمه إلا الله، لا أنت ولا من تشاور».([29])
وهذا يعني أن الاستشارة من قبل الإمام ما هي إلا بقصد الاستنارة بالرأي الآخر والاستبيان فقط، وأن رأي الأغلبية أو الجماعة المستشارة ليس له أي إلزام قانوني مطلقاً.
كما يستند القائلون بعدم إلزامية الشورى للحاكم إلى أدلة مستقاة من السنة الفعلية ومنها صلح الحديبية، وأسرى بدر، فقد أمضى الرسول صلى الله عليه وسلم الصلح مع قريش رغم معارضة المسلمين الشديدة في أمور كثيرة.
أما الأدلة المستفادة من السوابق التاريخية لسير الراشدين، رضي الله عنهم، فمنها:
1- مخالفة الصديق رضي الله عنه لجمهور المسلمين بعدم إنفاذ جيش أسامة، فضلاً عن رفضه القاطع لطلبهم تأميرَ غيره ممن هو أسنّ منه، قائلاً: «والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أن الطير تخطفنا والسباع من حول المدينة»([30]). فقال بعض الأنصار لعمر: قل له فليؤمر علينا غير أسامة، فلما ذكر له ذلك قال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب أؤمر غير أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم»([31]).
وهذا الحادث كما يقول أصحاب هذا الرأي «شاهد بألفاظه وعباراته وتشبيهاته على عدم إلزامية الشورى ... »([32]).
وقد استشار الفاروق رضي الله عنه المسلمين في سواد العراق، فكان رأي الأغلبية أن يقسمه بين المسلمين، ومنهم عبد الرحمن بن عوف وبلال وكثير من علماء الصحابة، فلم يلتفت عمر إلى رأي الأغلبية، بل أمضى الرأي الذي كان يرى أنه الحق، وجادل من دونه ثم نفذه، وذلك بترك السواد في أيدي أهله، ودفع الخراج على أراضيهم والجزية على رؤوسهم. وهكذا لم يلتزم الفاروق بقول الأغلبية، بل أمضى رأيه.([33])(1/108)
ويجزم بعض المعاصرين بعدم تمتع رأي أهل الشورى بأية قوة إلزامية قانوناً لرئيس الدولة؛ لأن الخليفة له «أن يخالف أعضاء مجلس الشورى كلهم ويقضي برأيه»([34])، فهو صاحب الصلاحية في إضفاء الشرعية على القوانين، ولأنه لا يمكن لأغلبية بالغة ما بلغت أن تجعل لرأي معين صفة الإلزام.([35])
القول الثاني: يرى أصحابه إلزامية الشورى للحاكم، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة منها:
1- قوله تعالى: (( وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)) (آل عمران:159)، وفيها يقول الشيخ رشيد رضا: «فإذا محص الرأي وظهر فانزل على حكم الأغلبية واعزم عليه واعتمد على الله في التنفيذ»([36]).
ثم إن الأمر في الآية يفيد الوجوب، ابتداءً وانتهاءً، ولا قرينة صارفة له عن ذلك.
2- قوله تعالى: (( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)) (الشورى:38)، فقد جعلت هذه الآية الشورى خصيصة للمسلمين، مثل الصلاة والزكاة، وهما واجبتان، وقد اقترنت الشورى بهما في النظم، والقران في النظم يوجب القِران في الحكم، وإلا لم يكن لهذا الاقتران من معنى ولا مناسبة.([37])
ولما كان التشاور بين المسلمين واجباً ولا يحق لأحدهم الانفراد باتخاذ القرارات، فمقتضى الآية يفيد وجوب الالتزام بما ترى الأغلبية، وإلا كانت الشورى أمراً صورياً، وهذا مناف لمقصد الشارع، وهادم لأصل تكويني من مكونات البنية السياسية لمؤسسة الحكم في الإسلام، فضلاً عن كون الصورية ضرب من العبث نزهت الشريعة عنه؛ لكونها غائية معللة.(1/109)
وكانت الشورى منهجاً للنبي صلى الله عليه وسلم في السياسة والحكم فيما لم يرد فيه وحي؛ شحذاً لهمم الصحابة وتربية لهم عليها. ومن ذلك مشاورته الصحابة في الخروج لغزوة أحد، وأخذه برأي أغلبيتهم وهو له كاره. ورغم ما آل إليه هذا الرأي من هزيمة عسكرية للمسلمين إلا أن الآية نزلت عقب ذلك مباشرة تحثه صلى الله عليه وسلم على مشاورة الصحابة، ويعقب الشيخ محمد الغزالي على ذلك قائلاً: «ولما بدا رأي الكثرة خطأ، وأن الهزيمة لحقت بالمسلمين، بعد أن وقع ما وقع، نزل الأمر الإلهي يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: وإن كان الرأي الذي اتفقت عليه الكثرة خطأ، فاحذر أن تترك الشورى»([38]).
وشاور النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر في أسرى بدر ومال إلى قول أبي بكر في أخذ الفداء بدل القتل الذي ارتآه عمر([39])، وشاور الصحابة في حادث الإفك، وفي النزول في غزوة بدر، وغيرها من المواضع الكثيرة.
أما الصحابة، وخصوصاً الخلفاء الراشدون، فلم يكونوا ليجتهدوا في السياسة والتشريع بمعزل عن أهل الرأي والمشورة، بل كان حكمهم واجتهادهم مؤسسين على مبدأ الشورى فيما لا نص فيه. وقد كانت أبرز ظاهرة -كما يقول د. توفيق الشاوي- «ميزة الشورى في عهد الراشدين هي تمتع الصحابة بقدر كبير من حرية المناقشة والحوار والمعارضة، بصورة لم تكن موجودة في عهد النبوة؛ لما كان يتمتع به الرسول صلى الله عليه وسلم من صفة دينية، لم يتمتع بها الخلفاء الراشدون، مما جعل أصوات المعارضة عالية في عهد الراشدين، وكان الحوار بين الصحابة يجري بصورة علنية فيها أكبر قدر من الحرية والجرأة تزيد كثيراً عما كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم»([40]).
ومن أهم القرارات الجماعية الصادرة عن الشورى في عهد الراشدين:(1/110)
1- قرَّرَ اجتماعُ السقيفةِ كون نظام الحكم ودستور الدولة يقرر بالشورى الحرة، تطبيقاً لمبدأ الشورى المنصوص عليه في القرآن الكريم. ولذلك كان هذا المبدأ محل إجماع، وهذا الإجماع كشف وأكد أول أصل شرعي لنظام الحكم في الإسلام، وهو الشورى الملزمة.
2- تقرر يوم السقيفة أيضاً أن اختيار رئيس الدولة وتحديد سلطاته يجب أن يتم بالشورى، أي البيعة الحرة التي تمنحه تفويضاً ليتولى الولاية بالشروط والقيود التي يتضمنها عقد البيعة الاختيارية الحرة.
3- تطبيقاً للمبدأين السابقين، قرر اجتماع السقيفة اختيار أبي بكر ليكون الخليفة الأول للدولة الإسلامية.([41])
خلاصة وترجيح:
بعد هذا الاستعراض الموجز للرأيين الذين يتجاذبان موضوع إلزامية الشورى يمكن القول: إنه بغض النظر عن الاختلاف بين القولين السابقين في قضية إلزام الشورى أو إعلامها فقط، فإنه ينبغي عند تطبيق هذا المبدأ التكويني في نظام الحكم الإسلامي إدراك ومراعاة جملة عناصر أهمها:
1- تحقيق المناط، بمفهومه العام والخاص، والذي يقتضي:
- التفريق بين الشورى التي هي مبدأ واجب ابتداءً وملزم انتهاءً للحاكم مع مجلس شوراه، وبين النصيحة التي هي مبدأ أخلاقي عَرِيّ عن صفة الإلزام، والتي يعبر عنها البعض بالاستشارة، أو استشارة الرأي([42]). وبناء على عدم التفريق بين هذين المبدأين قد يبدو عند دراسة السوابق التاريخية للشورى على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة نوع تضارب بينها، وليس أدل على الظن من استدلال الفريقين على مذهبيهما بالسنة وعمل الصحابة، خاصة الخلفاء الراشدين.(1/111)
- الشورى تُطلب عند غياب النص، وهي اجتهاد بالرأي فيما لا نص فيه، والمعتمد حينها ما أجمع عليه من قول أو ما كان رأياً أغلبياً، فإذا لاح للإمام برهان قوي يستند إليه فحينها له مخالفة مجلس شوراه، وعليه أن يحاورهم ويناقشهم الرأي حتى يقنعهم ويتوصلوا إلى رأي مشترك، وهذا ما يفهم من إصرار أبي بكر رضي الله عنه على قتال المرتدين، وموقف عمر في عدم قسمة أراضي السواد على الفاتحين.
2- إن مبدأ الشورى ما هو إلا وسيلة لتحقيق مقاصد شرعية مرسومة، هي تحقيق العدل والصلاح، والوصول إلى أفضل الآراء وأوفقها بمصلحة الأمة، ثم إن موضوع الشورى هو (المصالح) العامة والفردية التي استهدف الشارع تحقيقها في كل عصر في النظام السياسي الإسلامي، وهي متنوعة ومختلفة الطبيعة، ومتجددة، والشورى إنما هي -في حقيقتها- بحث أهل الشأن والاختصاص في حقيقة هذه المصالح، ومدى جديتها، ووزنها بميزان الشرع ومعاييره؛ ليعرف مدى مشروعيتها، تمهيداً لاستنباط أنسب الوسائل والنظم والتشريعات الاجتهادية، لتحقيقها فعلاً على الوجه الأكمل والأمثل والأعدل، وهذا واجب إجماعاً بلا مراء؛ لأنه غاية التشريع كله، فكانت الشورى واجبة بوجوب موضوعها هذا([43])، إعمالاً لقاعدة «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»، والوسائل لها حكم المقاصد كما هو مقرر أصولياً.
ثم إن إلزامية الشورى ضمان لصون مقاصد العدل والمساواة والحرية في الأمة، والتي هي من مقاصد الشريعة الأساسية؛ إذ إن الشورى إفساح لحرية الرأي والحوار البناء في قضايا الأمة، التي تقتضي إشراك الطاقات المبدعة لتحقيق مصالح الأمة، إرساء للعدل والمساواة بين أفرادها دون تحجيم ولا إلغاء.(1/112)
3- إن مآل الشورى المطلوب هو الوصول إلى الرأي الأصوب والأصلح؛ لتحقيق العدل والمساواة والحرية، اتقاءً للتفرد بالرأي والاستبداد في الحكم، ومتى ما جُرِّد هذا المبدأ من صفة الإلزام القانونية فإنه يعني إلغاءً لرأي الأمة التي ترتفع عن الخطأ والضلالة في اجتماعها، ويفسح المجال واسعاً للحاكم ليستبد، وهذا هو المآل الممنوع الذي يضاد مبادئ سياسة الحكم في الإسلام، وفي هذا يقول محمد أسد: «إن معظم الحكام معرضون لارتكاب أفظع الأخطاء إذا ما تركوا يتصرفون في شؤون الأمة كما يشاؤون؛ ولهذا فإنه ليس من الحكمة مطلقاً أن يتركوا وشأنهم، بل يجب أن يحكموا بالاشتراك مع الممثلين الشرعيين للأمة. إن هذه عظة من أهم عظات التاريخ، وما تجاهلتها أمة إلا تعرضت لأفدح الكوارث، وأبشع النكبات».([44])
وإن واقعنا المعاصر الذي يفصح عن سيطرة عقلية الاستبداد حتى بين العاملين للإسلام ودعاته، ثم تعقد مصالح الحياة وتشابكها، ودقة تخصصاتها مما يحيل على شخص واحد استيعابها والإحاطة بها، يتطلب تضافر كثير من الطاقات والتخصصات المختلفة، في ظل عمل مؤسسي قائم على التخصص والتكامل، تشوفاً لتحقيق الرأي الأصوب، في مناخ حرية الرأي والتعبير والحوار، وبعيدا عن مصادرة الآراء، كل هذا يرجح الرأي القائل بإلزام الشورى حفظاً للأمة من شرور الاستبداد ونزغات الهوى.
ثانياً: كيفية إجراء الشورى:
لقد استقرت الشورى مبدأً عاماً في النظام السياسي الإسلامي، ولم يقيد هذا التشريع الشورى بنظام محدد، ولم يحصر إجراءها في وسائل وطرائق معينة، بل ترك أمر تنفيذها للاجتهاد المبني على دراسة الواقع المراد تطبيقها فيه، لتحقيق المقاصد المغياة منها.(1/113)
وفي بيان وتأكيد هذا المعنى تقاربت أقوال العلماء والباحثين الإسلاميين، يقول الشيخ شلتوت: «لم يضع القرآن، ولا الرسول نظاماً خاصاً، وإنما هو النظام الفطري، وقد ترك هذا الجانب من غير أن يوضع له نظام لأنه من الشؤون التي تتغير فيها وجهة النظر بتغير الأجيال والتقدم البشري، فلو وضع نظام في ذلك العهد لاتخذ أصلاً لا يحيد عنه من يجيئ بعدهم ويكون في ذلك التضييق كل التضييق عليهم في ألا يجاروا غيرهم. فنظام الشورى من الأمور التي تركت نظمها دون تحديد رحمة بالناس غير نسيان، توسعة عليهم وتمكيناً لهم من اختيار ما يتاح للعقول وتدركه البشرية الناضجة، وما دام المقصود هو أصل المشورة والوصول إلى قوانين التنظيم العادل التي تجمع الأمة ولا تفرقها، والتي تعمر وتبني ولا تخرب وتهدم، فالأمر في الوسيلة سهل ميسور»([45]).
«وقد نص القرآن على مبدأ الشورى وطبق الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ، أما أسلوب التنفيذ فهذا متروك لاجتهاد أهل الرأي والفكر، حسبما يتراءى لهم على ضوء العصر الذي يعيشون فيه والمجتمع الذي ينتمون إليه. وآية آل عمران تضمنت المبدأ فقط وتركت أسلوب التطبيق؛ لأنه مما ينبغي أن يترك للظروف والأحوال، وهذا يكون واضحاً أن أسلوب المشاورة ليس صيغة جاهزة تصلح لأن يؤخذ بها في كل زمان ومكان وإنما هو في الحقيقة يختلف من مجتمع إلى مجتمع حسب درجة التطور، ومن عصر إلى عصر حسب الاعتبارات والأوضاع فيه، فأسلوب التشاور ينبغي أن يكون متفقاً مع حقيقة المرحلة الحضارية التي يبلغها المجتمع»([46]).
«لم يعين التشريع السياسي الإسلامي نظاماً محدداً للشورى السياسية في انتخاب رئيس الدولة، وما رسمه فقهاء السياسة المسلمون من أشكال لها وطرائق لتنفيذها إنما بمحض الاجتهاد بالرأي»([47]).(1/114)
فيتضح من التقريرات السابقة أن كيفية إجراء الشورى قضية غير محسوسة، بل تركت طرائق تنفيذها لإرادة الجماعة المسلمة على الشكل الذي تراه محققاً لمقاصدها، ومن ثم فإن كيفية إجرائها تقبل الصور والأشكال المختلفة التي تتناسب والتطور الحضاري للأمة في شتى العصور.
وإن المتأمل في السوابق التاريخية لفترة الخلافة الراشدة، التي تعدّ موطن القدوة باتفاق، ليجد أن كل خليفة قد اختُطَّ له مسلك لتوليته، ومن ذلك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه اجتمع له الصحابة في سقيفة بني ساعدة ليبايعوه، ثم حدثت البيعة العامة (الانتخاب) بعد رضا الأمة في المسجد.
أما عمر رضي الله عنه فقد رشحه أبو بكر للخلافة ثم بايعته الأمة عامة؛ ولما طُعِن عمر رضي الله عنه عَهِد بأمر اختيار الخليفة لستة من كبار الصحابة ليختاروا أحدهم، ثم طرح اختيار عثمان رضي الله عنه على الأمة للبيعة.
أما علي رضي الله عنه فيبين أن طرق التولية اجتهادية فيقول: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا عهداً نأخذ به في إمارة، ولكنه شيء رأينا من قبل أنفسنا، ثم استخلف أبوبكر رحمه الله وأقام واستقام، ثم استخلف عمر رضي الله عنه فأقام واستقام، حتى ضرب الدين بجرَّانِه»([48]).
وهكذا فإن اختيار أهل الحل والعقد لأبي بكر في سقيفة بني ساعدة يعد ترشيحاً له، أُتْبِع بالانتخاب العام، أي البيعة الكبرى من الأمة في المسجد، أما استخلاف أبي بكر لعمر ثم عهد عمر لستة من الصحابة ليختاروا أرضاهم لديهم ولدى الأمة، كل هذا يعد ترشيحاً فقط، والقرار الأخير للأمة قبولاً ورفضاً.
وفي ترسيخ هذا المعنى يقول أبو حامد الغزالي: «ولو لم يبايعه غير عمر وبقي كافة الخلق مخالفين، أو انقسموا انقساماً متكافئاً لا يتميز فيه غالب عن مغلوب، لما انعقدت الإمامة، فإن شرط ابتداء الانعقاد قيام الشوكة، وانصراف القلوب إلى المشايعة»([49]).(1/115)
ونتيجة لما تقدم فإن طرق الانتخاب الحديثة ليست محلاً للرفض من وجهة النظر الإسلامية([50]) ما دامت إعمالاً لمبدأ الشورى وتحقيقاً لمقاصدها.
وتفريعاً على ما سبق، فإن أي إخلال بمبدأ الشورى في تولية الحاكم يفقد طرائقه حكم المشروعية، اللهم إلا نزولاً عند الضرورة والتي تقدر بقدرها، وهذا ما لوحظ لدى العلماء المسلمين في إقرارهم بولاية الغلبة والسيف، وعدم الخروج عليهم درءاً لمفاسد قدرت بأنها أكبر مما يطلب تحقيقه من مصالح، وفي هذا يقول أبو حامد الغزالي: «وكذلك نقول في المستظهر بشوكته المطاع فيما بينهم، وقد شغر الزمان عن مستجمع لشرائط الإمامة ينفذ أمره؛ لأن ذلك يجر فساداً عظيماً لو لم نقل به».([51])
ــــــــــــــــــــــــــ
([24]) سيد قطب، في ظلال القرآن (بيروت: دار الشروق، ط10-1981م)، 5/3160.
([25]) البخاري،محمد بن إسماعيل، الجامع الصحيح، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (لبنان: دار الكتب العلمية، ط1- 1992م)، 8/517.
([26]) انظر الدريني،محمد فتحي، خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1- 1982)، ص481.
([27]) الطبري، محمد ابن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق محمود شاكر (مصر: دار المعارف، د.ت)، 7/346.
([28]) الشوكاني محمد بن علي، فتح القدير الجامع لفني الرواية والدراية في علم التفسي (بيروت: دار الفكر، ط/3-1973م)، 1/394.
([29]) الزمخشري، محمود بن عمر، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجه التأويل (بيروت: دار الفكر العربي، د.ت)، 10/432.
([30]) ابن كثير، البداية والنهاية (بيروت: دار المعارف، ط1- د.ت)، 6/304.
([31]) المصدر السابق، 6/304.
([32]) فضل الله، مهدي، الشورى (بيروت: دار الأندلس، د.ت)، ص133.
([(1/116)
33]) انظر البوطي، محمد سعيد رمضان، الشورى في عهد الخلفاء الراشدين، بحث ضمن كتاب الشورى في الإسلام (عمان: المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية، مؤسسة آل البيت، ط- 1989م)، 1/144.
([34]) المودودي أبو الأعلى، نظرية الإسلام وهديه(بيروت: دار الفكر،ط- 1969م)، ص59.
([35]) الخالدي محمود، الشورى (بيروت: دار الجيل، د.ت)، ص27.
([36]) رضا، محمد رشيد، تفسير المنار (مصر: ط/4- د.ت)، 4/205.
([37]) انظر خصائص التشريع الإسلامي، 479.
([38]) فضل الله، مهدي، الشورى، ص143.
([39]) مختصر صحيح مسلم: 310-311، طبعة سابقة.
([40]) الشاوي، توفيق، الشورى والاستشارة (المنصورة، مصر: دار الوفاء، ط/1-1992)، 138-139.
([41]) المصدر السابق، ص140.
([42]) الشورى والاستشارة، 118.
([43]) المصدر السابق، ص250.
([44]) فضل الله، مهدي، الشورى، ص148.
([45]) شلتوت، محمود، الإسلام عقيدة وشريعة (القاهرة: الإدارة العامة للمطبوعات، الأزهر، د.ت)، ص370.
([46]) البراوي، راشد، القرآن والنظم الاجتماعية (القاهرة: دار النهضة العربية، ط-1985م)، ص115.
([47]) خصائص التشريع الإسلامي، ص427.
([48]) الهيثمي، ابن حجر، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، كتاب الخلافة، باب الخلفاء الأربعة (بيروت: دار الكتاب العربي، ط3-1982)، 5/175.
([49]) الغزالي، أبو حامد، فضائح الباطنية، تحقيق عبد الرحمن بدوي(مصر: الدار القومية، ط1964)، ص176-177.
([50]) قرعوش،كايد يوسف محمود، طرق انتهاء ولاية الحكام في الشريعة الإسلامية والنظم الوضعية(بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1- 1987)، ص202 .
([51]) الغزالي، أبو حامد، المنخول من تعليقات الأصول، تحقيق محمد حسن هيتو(دمشق: دار الفكر، ط2-1982م)، ص370.
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين.(1/117)
لقد عالج هذا البحث أبرز أصول الاجتهاد في تطبيق (تنزيل) الأحكام الشرعية، دراسة وتحليلاً ومناقشة، من خلال التركيز على ضرورة فهم الواقع وكيفية إحكامه بالشرع، وذلك بالاستعانة بما أنتجه علماؤنا عبر مسيرة تاريخ التشريع الإسلامي، فهماً وتنزيلاً. وتبين أن تنزيل الأحكام الشرعية وتكييف الواقع الإنساني بها، هو ثمرة الخطاب الشرعي، وبقدر ما يكون هذا التطبيق قائماً على أصول منهجية بقدر ما يحقق مقاصد الشريعة، ويجنب الفقيه مواقع الزلل في الفهم والتطبيق.
فكان الأصل الأول: تحقيق مناطات الأحكام، والذي شهدت له السنة النبوية وفتاوى وتطبيقات الصحابة بالاعتبار، وهو إثبات مضمون الحكم الشرعي التكليفي المستفاد من نص أو إجماع أو اجتهاد في الوقائع الجزئية أثناء التطبيق، والتحقق من مدى اشتراك الأصل والفرع في العلة عند القياس.
ونظراً لكون الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، بل أتت غالباً بقواعد كلية وعبارات مطلقة، متناولة داخلها أعداداً غير منحصرة من الوقائع والجزئيات المتمايزة والمتشابهة، فما على المجتهد إلا أن يبذل جهده في تنزيل هذه العمومات والمطلقات الحكمية على الأفعال والأحداث التي لا تقع مطلقات بل معينة، زماناً ومكاناً وشخصاً.
ومن ثم، فتحقيق المناط يتم عبر مرتبتين: الأولى تحقيق المناط العام في أنواع الوقائع والأفعال المشمولة بالحكم فيناط بها؛ لكون الحكم المنطوي عليه النص يتجه أساساً إلى أجناس الأفعال، ويكون دور من يتولى التطبيق تحقيق الحكم في الأنواع لإلحاق كلٍ منها بجنسه.
وتعد مرتبة تحقيق المناط النوعي مدخلاً وإطاراً محدداً لتحقيق المناط في أفراد النوع الواحد عبر مراعاة ظروف وملابسات الزمان والمكان والشخص.(1/118)
وتبين أن الغرض من تنزيل الحكم عبر تحقيق مناطه هو طلب إصابة مقصد الشارع، وذلك من خلال أصل التحقيق في حصول «المقاصد الشرعية» المتمثلة في القيم المصلحية المغياة من الأحكام الشرعية، والمرتبطة في تحققها واقعاً بالقصد الإرادي من المكلف.
وقد شهد لاعتبار هذه المقاصد الشرعية شواهد كثيرة منها: حكمة الله تعالىمن الخلق وإرسال الرسل، التي لم تكن عبثاً بل لمقصد الاستخلاف والعبادة، ثم إن استقراء أدلة الأحكام الشرعية، كتاباً وسنة، أفاد كون أحكام الشريعة منوطة بمقاصد آيلة لتحقيق الصلاح الفردي والجماعي في الدارين، والتي عمل الصحابة رضي الله عنهم على تحريها وتحقيقها في تحركهم بهذا الدين، استنباطاً لأحكامه وإيقاعاً لها.
وهدف تحصيل المقاصد الشرعية عند التنزيل منوط بمدى فهم الواقع عبر آليات الفهم المختلفة والمتجددة، وفهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله فيه، وإن مما يعين على تحصيل هذه المقاصد التفريق بين ما هو مقصد من الحكم الشرعي مما هو وسيلة إليه أو وسيلة إلى وسيلته، حتى لا يقع خلل ناقض لمقصد الشارع عند الموازنة بين المصالح والمفاسد، مما يتطلب أيضاً الموازنة بين مقصد التكليف وقصد المكلف، حتى إذا تبين أن قصد المكلف تعطيل تحقيق هذه المقاصد عومل معاملة القصد الفاسد؛ إذ كل من ابتغى في تكاليف الشريعة ما لم تشرع له فعمله باطل.
ولم يكن ما سبق ليعني تنزيلاً آلياً للأحكام دون اعتبار لما قد يؤول إليه ذلك التنزيل وما يسببه من تداعيات خطيرة تعود على المقاصد الشرعية بالنقض، بل ذلك محكوم بأصل التحقيق في مآلات التطبيق الذي هو مهيع متسع ومسلك غير ممتنع، أصّله القرآن وشهدت له السنة وتطبيقات الصحابة والفقهاء ببيان.(1/119)
واعتبار المآلات أريد به صرف الأفعال من أحكامها الأصلية إلى أحكام أخرى تلافياً لما قد ينتج عن الأولى من مآلات فاسدة وتوجيهها إلى مآلات الصلاح، وهذا الصرف ليس منطلقه الاعتباط والتحكم لإفضائه حينها إلى تبديل شرع الله وتحريف الكلم عن مواضعه، بل لابد أن يجري عبر مسالك شرعية اقتضاها أصل اعتبار المآلات، والتي تعد ضابطة لهذا الصرف للسير به على مسلك لاعوج فيه ولا شطط.. وتبين أن أبرز هذه المسالك هي: سد الذرائع، والاستحسان، ومنع الحيل.
وقد تبينت معالم وآليات إعمال أصول الاجتهاد التطبيقي (التنزيلي) من خلال تطبيقات فقهية في جانبين أساسين في نظام التشريع الإسلامي: النظام الاقتصادي، والنظام السياسي.
وبالله التوفيق.(1/120)