سلسلة البحوث الأصوليّة
المُقَدَّمة لِنَيْل درجة الأستاذيّة
(3)
الإمام
في
دلالة المفهوم على الأحكام
دكتور
إسماعيل مُحَمَّد عَلِيّ عبد الرحمن
أستاذ أصول الفقه المساعد
كلِّيّة الدراسات الإسلامية والعربية
لِلبنات بالمنصورة - جامعة الأزهر
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي أَتَمّ عَلَيْنَا نعمة الإسلام ، وذَكَّرَنَا بها في القرآن ؛ فقال تعالى { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَنَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئكَ هُمُ الرَّشِدُونَ * فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم } (1) ، فاللَّهُمّ لك الحمد كَمَا ينبغي لِجلال وَجْهِك وعظيم سلطانك ، وأَدِمْهَا عَلَيْنَا حتّى نَلْقَاك بها يا ربّ العالَمين ..
وأَشْهَد أنْ لا إله إلا الله وَحْده لا شريك له ، يؤتِي الحكمةَ مَنْ يشاء { ومَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرا } (2) ، فارزقنا اللَّهُمّ إيّاها ، وآتنا مِنْ لَدُنْك رحمةً وعِلْماً ..
وأَشْهَد أنّ سَيِّدَنَا مُحَمَّداً عَبْد الله ورسوله ، خَيْر مُعَلِّم لِلبَشَريّة بمقتضى النصوص القرآنيّة { هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمِّيِّنَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِين } (3) ، فَحَقِّقِ اللَّهُمّ فينا هذه الغايات ، وارزقنا فَهْم كِتَابك والعمل به ، وفَهْم سُنَّة نَبِيّك والتَّمَسُّك بها ، ولا تَحْرِمْنَا بَرَكَتَهُمَا دنيا وأخرى يا ربّ العالَمين ..
أمَّا بَعْدُ ..
فلَمَّا كان عِلْم أصول الفقه هو ( العِلْم بالقواعد التي يُتَوَصَّل بها إلى(1/1)
(1) سورة الحجرات الآيتان 7 ، 8
(2) سورة البقرة مِنَ الآية 269
(3) سورة الجمعة الآية 2
استنباط الأحكام الشَّرْعِيَّة الفرعيَّة مِنْ أدلَّتها التَّفْصِيليَّة ) (1) فإنَّه يُبْنَى على أقطاب أربعة كَمَا ذَكَر الغزالي (2) رحمه الله تعالى :
الأول : الأحكام ، وهي الثمرة .
الثاني : الأدلّة ، وهي المُثَمَّر .
والثالث : طريق الاستثمار ، وهي وجوه دلالة الأدلّة على الأحكام .
والرابع : المجتهِد ، وهو المستثمِر (3) .
ولَمَّا كانت الأدلَّة هي الأصل والمَرْجِع في استخراج الأحكام فإنَّا نأخذ الحُكْم أحياناً مِنْ منطوقها مباشَرةً ، نَحْو : قوله تعالى { وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضا } (4) ؛ فَقْد دَلّ بمنطوقه على حرمة الغِيبة .
وقَدْ نأخذ الحُكْم أحياناً مِنْ مفهومها ، نَحْو : قوله تعالى { فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفّ } (5) ؛ فَقَدْ دَلّ بمفهومه على حرمة ضَرْب الوالدَيْن .
وإمَّا أن نأخذ الحُكْم منهما معاً ، نَحْو : قوله تعالى { وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَت } (6) ؛ فإنَّه يَدُلّ على أمْر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتبشير وعلى أمْر المخاطَبين بالإيمان والعمل الصالح ؛ لِتَعَلُّق البشارة بهما (7) .
(1) مختصر المنتهى 1/18
(2) الغزالي : هو زيْن الدين أبو حامد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الغزالي الشافعي رحمه الله تعالى ، حُجّة الإسلام ، فقيه أصوليّ صوفيّ حكيم متكلِّم ، وُلِد بالطابران بخراسان سَنَة 450 هـ .
مِن مصنَّفاته : إحياء علوم الدين ، المستصفى ، الوجيز .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 505 هـ .
الأعلام 7/247 وطبقات الشّافعيّة 1/249 - 264
(3) يُرَاجَع المستصفى /7
(4) سورة الحجرات مِنَ الآية 12
(5) سورة الإسراء مِنَ الآية 23
(6) سورة البقرة مِنَ الآية 25
(7) يُرَاجَع الإمام في أدلَّة الأحكام /280(1/2)
وقَدْ أَوْلَى الأصوليّون المفهومَ اهتماماً ورعايةً كأحد طريقَيْ دلالة الألفاظ على الأحكام ، وعلى ضوئه تمّ استخراج كثير مِن الأحكام مِنْ منطوقَيِ الكِتَاب والسُّنَّة .
ولِهذه المنزلة الأصوليّة لِلمفهوم والمستمَدَّة مِنْ سِرَاجَيِ الأُمَّة : الكِتَاب والسُّنَّة ، ولِكثرة اختلافات الأصوليّين في حُجِّيَّة بَعْض أنواع المفاهيم ، ولِندرة إفراد مصنَّف به ، ولِحاجتي الشَّخْصِيَّة ولِتزويد مَلَكَتِي الأصوليّة بهذا الباب العظيم مِنْ أبواب أصول الفقه ..
ولِكُلّ ما تَقَدَّم شَرَح الله تعالى صدري لاختيار هذا الموضوع لأخوض غماره وأغوص في أعماقه ؛ لأقف على كنوزه ولآلئه ؛ كي أحاول استخراجها لأُرَصِّع بها هذا البحث الذي أَرَدْتُ أنْ أَجْمَع بَيْن دَفَّتَيْه مُعْظَم مسائل المفهوم إنْ لَمْ يَكُنْ جُلّهَا ، ولَيْس ذلك فحَسْب ؛ وإنَّمَا ذَيَّلْتُه بِبَعْض الفروع الفقهيّة التي يَتَّضِح مِنْ خلالها أثر المفهوم في الأحكام ، ولِنُؤكِّد عُمْق العلاقة بَيْن الفقه وأصوله .
وقَدْ سَمَّيْتُ بَحْثِي هذا بـ( الإمام في دلالة المفهوم على الأحكام ) ..
كَمَا قسمتُه إلى هذه المقدِّمة وستّة فصول وخاتمة ، على النَّحْو التّالي :
الفصل الأول : الدّلالة ودلالة الألفاظ على الأحكام :
وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : تعريف الدّلالة وأقسامها .
المطلب الثاني : دلالة الألفاظ على الأحكام عند الحنفيّة .
المطلب الثالث : دلالة الألفاظ على الأحكام عند غَيْر الحنفيّة .
المطلب الرابع : مقارنة دلالة الألفاظ على الأحكام عند الحنفيّة وغَيْرهم .
الفصل الثاني : المنطوق والمفهوم وأقسامهما :
وفيه خمسة مطالب :
المطلب الأول : تعريف المنطوق وأقسامه .
المطلب الثاني : تعريف المفهوم والمستفاد منه وأقسامه .
المطلب الثالث : دلالة الاقتضاء .
المطلب الرابع : دلالة الإشارة .
المطلب الخامس : دلالة الإيماء ( التنبيه ) .(1/3)
الفصل الثالث : مفهوم الموافَقة :
وفيه خمسة مطالب :
المطلب الأول : مُسَمَّى مفهوم الموافَقة .
المطلب الثاني : تعريف مفهوم الموافَقة .
المطلب الثالث : أقسام مفهوم الموافَقة .
المطلب الرابع : حُجِّيَّة مفهوم الموافَقة .
المطلب الخامس : دلالة مفهوم الموافَقة .
الفصل الرابع : مفهوم المخالَفة :
وفيه خمسة مطالب :
المطلب الأول : مُسَمَّى مفهوم المخالَفة .
المطلب الثاني : تعريف مفهوم المخالَفة .
المطلب الثالث : حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة .
المطلب الرابع : شروط العمل بمفهوم المخالَفة .
المطلب الخامس : أنواع مفهوم المخالَفة ( جملةً ) .
الفصل الخامس : أنواع مفهوم المخالَفة ( تفصيلاً ) :
وفيه ستّة مطالب :
المطلب الأول : مفهوم اللقب .
المطلب الثاني : مفهوم الصفة .
المطلب الثالث : مفهوم الشَّرْط .
المطلب الرابع : مفهوم الغاية .
المطلب الخامس : مفهوم العَدَد .
المطلب السادس : مفهوم الحصر .
الفصل السادس : أَثَر دلالة المفهوم في الأحكام :
وفيه مَبْحَث تمهيديّ في : بيان أَثَر دلالة المفهوم في الأحكام .
وعشرة فروع :
الفرع الأول : النِّيَّة في الأعمال .
الفرع الثاني : الإسراع إلى الصلاة .
الفرع الثالث : خروج النساء ليلاً إلى المساجد .
الفرع الرابع : مَنْ أَصْبَح صائماً على جنابة .
الفرع الخامس : زكاة الأنعام غَيْر السائمة .
الفرع السادس : نكاح الربيبة .
الفرع السابع : الزواج مِن الأَمَة .
الفرع الثامن : تحريم نكاح الأُمّهات .
الفرع التاسع : نفقة البائن الحامل .
الفرع العاشر : قَطْع يد السّارق .
واللهَ تعالى أسأل السداد والتوفيق .
وصلى الله على سيدنا مُحَمَّد وعلى آله وصَحْبه وسَلَّم .
الفصل الأول
الدّلالة ودلالة الألفاظ على الأحكام
وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : تعريف الدّلالة وأقسامها .
المطلب الثاني : دلالة الألفاظ على الأحكام عند الحنفيّة .(1/4)
المطلب الثالث : دلالة الألفاظ على الأحكام عند غَيْر الحنفيّة .
المطلب الرابع : مقارنة دلالة الألفاظ على الأحكام عند الحنفيّة وغَيْرهم .
المطلب الأول
تعريف الدّلالة وأقسامها
والحديث في هذا المطلب يمكن تقسيمه على النحو التالي :
1- تعريف الدّلالة لغةً .
2- تعريف الدّلالة اصطلاحاً .
3- أقسام الدّلالة .
4- أقسام الدّلالة الوضعيّة عند الحنفيّة .
5- تعريف الدّلالة اللَّفظيّة الوضعيّة وأقسامها .
6- مذاهب الأصوليّين في لفظيّة دلالة التَّضَمُّن والالتزام .
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها فيما يلي ..
أوّلاً - تعريف الدّلالة لغةً :
والدّلالة : مَصْدَر " دَلّ يَدُلّ دلالةً " ؛ يقال " دَلّه على الطريق يَدُلّه دِلالةً ودَلالةً ودلولةً " والفتح أعلى : أيْ أَرْشَدَه .
وقِيل : " الدِّلالة " بالكسر : اسم لِعَمَل الدَّلاّل ، أو ما يُجْعَل لِلدّليل أو الدَّلاّل مِن الأجرة .
والمراد هُنَا : الدَّلالة بالفتح ، ومعناها : الإرشاد .
وقِيل : ما يقتضيه اللفظ عند إطلاقه .
ويُسَمَّى الدليل " دلالةً " على طريق المَجاز ؛ لأنَّهم يُسَمّون الفاعل باسم المَصْدَر (1) .
(1) يُرَاجَع : لسان العرب 13/264 والمصباح المنير 1/199 والكُلِّيّات /439 والعدّة 1/132 ، 133 والمعجم الوسيط 1/294
ثانياً - تعريف الدّلالة اصطلاحاً :
عَرَّف الأصوليّون الدّلالةَ بأنَّها : كَوْن الشيء يَلْزَم مِن فَهْمِه فَهْم شيء آخَر ، أو كَوْن الشيء بحيث يَلْزَم مِن العِلْم به العِلْم بِغَيْره (1) .
وهذا التعريف لا يخرج عن تعريف المناطقة ، وهو : فَهْم أمْر مِن أمْر أو كَوْن أمْر بحيث يُفْهَم منه أمْر آخَر ، فُهِم بالفعل أو لَمْ يُفْهَمْ .
ولا بُدّ لِلدّلالة عندهم مِن تَحَقُّق عنْصريْن : أحدهما : الدّالّ ، والثّاني : المدلول ..(1/5)
نَحْو : الطَّرْق على الباب ؛ فإنَّه دالّ على وجود شَخْص ( مدلول ) ، وهذه الصِّفَة التي حَصَلَتْ لِلطَّرْق تُسَمَّى " دلالة " (2) .
ثالثاً - أقسام الدّلالة :
قَسَّم العلماء ـ مناطقةً وأصوليّين ـ الدّلالةَ إلى قِسْمَيْن :
القِسْم الأول : دلالة لفظيّة .
القِسْم الثاني : دلالة غَيْر لفظيّة .
وقَسَّموا كُلَّ قِسْم منهما إلى أقسام ثلاثة :
القِسْم الأول : دلالة عقليّة .
القِسْم الثاني : دلالة طبيعيّة .
القِسْم الثالث : دلالة وضعيّة .
ومِمَّا تَقَدَّم تصبح أقسام الدّلالة سِتّةً :
القِسْم الأول : دلالة لفظيّة عقليّة .
مثاله : دلالة صَوْت المتكلِّم على حياته .
(1) يُرَاجَع : الإبهاج 1/204 وشَرْح المنهاج 1/178 وحقائق الوصول 1/409 والتحرير مع التيسير 1/79 والتقرير والتحبير 1/99
(2) يُرَاجَع : مدخل إلى عِلْم المنطق /41 ، 42 والمنطق الواضح /11
القِسْم الثاني : دلالة لفظيّة طبيعيّة .
مثاله : دلالة " أح " ـ بالضَّم والفتح ـ على وجع الصدر وهو السعال
القِسْم الثالث : دلالة لفظيّة وضعيّة .
مثاله : دلالة الإنسان على الحيوان الناطق .
وهذه الدّلالة هي محلّ اهتمام الأصوليّين وعنايتهم لاستخراج الأحكام على ضوئها .
القِسْم الرابع : دلالة غَيْر لفظيّة عقليّة .
مثاله : دلالة تَغَيُّر العالَم على حدوثه .
القِسْم الخامس : دلالة غَيْر لفظيّة طبيعيّة .
مثاله : دلالة الدخان على النار ، ودلالة الحُمْرَة على الخجل .
القِسْم السادس : دلالة غَيْر لفظيّة وضعيّة .
مثاله : دلالة دلوك الشمس على وجوب الصلاة ، ودلالة الإشارة بالرأس إلى أسفل على مَعْنَى " نَعَمْ " (1) .
رابعاً - أقسام الدلالة الوضعيّة عند الحنفيّة :
قَسَّم الحنفيّة الدّلالةَ الوضعيّةَ قِسْمَيْن : لفظيّة وغَيْر لفظيّة ، ويُسَمّونها " بيان الضرورة " .
وقَسَّموا غَيْر اللَّفظيّة إلى أربعة أقسام كُلّها دلالة سكوت مُلْحَق باللَّفظيّة :(1/6)
القِسْم الأول : ما يَلْزَم منطوقاً .
نَحْو : قوله تعالى { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُث } (2) ؛ فإنَّه دالّ بسكوته
(1) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 1/36 ومناهج العقول 1/239 ، 240 وحاشية الجرجاني على المختصر 1/121 وتيسير التحرير 1/79 ، 80 وإيضاح المُبْهَم /6 ومدخل إلى عِلْم المنطق /43 45 والمنطق الواضح /17
(2) سورة النساء مِنَ الآية 11
عن ذِكْر نصيب الأب أنّ له الباقي .
القِسْم الثاني : دلالة حال الساكت الذي وظيفته البيان .
كسكوته - صلى الله عليه وسلم - عند أمْر يشاهده مِن قول أو فِعْل ؛ فإنَّه يَدُلّ على الجواز .
القِسْم الثالث : اعتباره لِدَفْع التقرير .
نَحْو : دلالة سكوت المَوْلَى عند رؤية عَبْدِه يبيع عن النهي على الإذن .
القِسْم الرابع : الثابت ضرورةَ الطُّول فيما تُعُورِف .
كـ" مائة ودرهم أو ودينار أو وقفيز " ؛ فالسكوت عن مُمَيِّز هذه عرفاً يَدُلّ على أنَّه مِن جِنْس ما عُطِف عليها ، بخلاف " مائة وعَبْد " أو " مائة وثَوْب " .
أمَّا الدّلالة اللَّفظيّة : فقَدْ قَسَّموها أربعة أقسام : عِبَارَة ، وإشارة ، ودلالة ، واقتضاء (1) .
وسيأتي تفصيل القول ـ بإذن الله تعالى ـ في أقسام الدّلالة اللّفظيّة .
أمَّا الدّلالة الوضعيّة غَيْر اللَّفظيّة : فإنّ الأقسام فيها تُنَاظِر اختلاف غَيْر الحنفيّة في لفظيّة دلالة التَّضْمِين والالتزام ، غَيْرَ أنَّها عندهم مستنِدة إلى اللفظ ..
أمَّا عند الحنفيّة : فقَدْ تَستند إلى اللفظ كَمَا في الأول والرابع ، وقَدْ لا تَستند إليه كَمَا في الثاني والثالث .
خامساً - تعريف الدّلالة اللَّفظيّة الوضعيّة وأقسامها :
عَرَّف الأصوليّون الدّلالةَ اللّفظيّةَ بأنَّها : كَوْن اللفظ بحيث إذا أُرْسِل فُهِم المَعْنَى لِلعِلْم بوضعه له (2) .
(1) يُرَاجَع تيسير التحرير 1/83 - 86(1/7)
(2) يُرَاجَع : شَرْح المنهاج 1/179 والإبهاج 1/204 ، 205 ونهاية السول 1/240 والتحرير مع التيسير 1/80 والتعريفات /116
وقِيل : هي فَهْم المَعْنَى مِن اللفظ إذا أُطْلِق بالنسبة إلى العالِم بالوضع (1) .
وقريب مِن هذه التعريفات تعريف المناطقة (2) .
أقسام الدّلالة اللَّفظيّة الوضعيّة :
قَسَّم الأصوليّون والمناطقة الدّلالةَ اللَّفظيّةَ الوضعيّةَ إلى أقسام ثلاثة :
القِسْم الأول : دلالة مطابقيّة .
وهي : دلالة اللفظ على تمام مُسَمّاه .
نَحْو : دلالة البيت على جميع مجموع الحائط والأساس والسقف .
القِسْم الثاني : دلالة تَضَمُّنِيّة .
وهي : دلالة اللفظ على جزء مَعْنَاه .
نَحْو : دلالة البيت على السقف وَحْدَه أو الحائط .
القِسْم الثالث : دلالة التزاميّة .
وهي : دلالة اللفظ على جزء معناه .
نَحْو : دلالة السقف على الحائط ، ودلالة الأسد على الشجاعة .
وسُمِّيَتِ " التزاميّةً " لأنّ المفهوم خارج عن اللفظ لازم له (3) .
ووَجْه تقسيم الدّلالة اللَّفظيّة الوضعيّة إلى هذه الأقسام الثلاثة : ما ذَكَره الفخر الرازي (4) ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" اللفظ إمَّا أنْ تُعْتَبَر
(1) شَرْح طلعة الشمس 1/254
(2) يُرَاجَع إيضاح المُبْهَم /6
(3) يُرَاجَع : المستصفى /25 والمحصول 1/76 والإحكام لِلآمدي 1/3 ، 37 وروضة الناظر 2/94 ، 95 وشَرْح تنقيح الفصول /23 ، 24 وشَرْح المنهاج 1/179 والإبهاج 1/204 وتيسير التحرير 1/80 ، 81 وشَرْح طلعة الشمس 1/254 وحقائق الوصول 1/411 ونهاية السول 1/179 وإيضاح المُبْهَم /6 ، 7 ومدخل إلى عِلْم المنطق /43 - 45
(4) فَخْر الدِّين الرّازي : هو أبو عبد الله مُحَمَّد بن عُمَر بن الحسين بن الحَسَن بن علِيّ التيمي البكري الطبرستاني الرازي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بالرّيّ سَنَة 544 هـ .. =(1/8)
دلالته بالنسبة إلى تمام مُسَمّاه أو بالنسبة إلى ما يَكون داخلاً في المُسَمَّى مِن حيث هو كذلك ، أو بالنسبة إلى ما يَكون خارجاً عن المُسَمَّى مِن حيث هو كذلك : فالأول هو المطابقة ، والثاني التَّضَمُّن ، والثالث الالتزام " (1) ا.هـ .
سادساً - مذاهب الأصوليّين في لفظيّة دلالة التَّضَمُّن والالتزام :
لقَدِ اختلَف الأصوليّون غَيْر الحنفيّة في دلالة التَّضَمُّن والالتزام : هل هي لفظيّة أم عقليّة ؟
وقَدْ حَصَرْتُ لهم في ذلك ثلاثة مذاهب :
المذهب الأول : أنّ دلالتهما لفظيّة كدلالة المطابقة .
وهو اختيار ابن قدامة (2) والبيضاوي (3) والأصفهاني (4) والسالمي (5)
= مِن مصنَّفاته : المحصول ، مفاتيح الغيب ( التفسير الكبير ) ، معالم أصول الدِّين .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بهراة سَنَة 606 هـ .
البداية والنهاية 13/55 والفتح المبين 2/50
(1) المحصول 1/76
(2) ابن قدامة : هو أبو مُحَمَّد عبد الله بن أَحْمَد بن مُحَمَّد بن قدامة بن مقدام بن نصْر بن عبد الله المقدسي الدمشقي الحنبلي رحمه الله تعالى ، وُلِد بجماعيل سَنَة 541 هـ ..
مِن مصنَّفاته : المغني في الفقه ، الروضة في أصول الفقه .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 620 هـ .
البداية والنهاية 13/134 والفتح المبين 2/54
(3) القاضي البيضاوي : هو أبو الخير عبد الله بن عُمَر بن مُحَمَّد بن علِيّ البيضاوي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بالمدينة البيضاء بفارس قُرْب شيراز ، وإليها نُسِب ..
مِن مؤلَّفاته : منهاج الوصول إلى عِلْم الأصول ، الإيضاح في أصول الدين .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بتبريز سَنَة 685 هـ .
البداية والنهاية 13/309 والفتح المبين 2/91
(4) شمْس الدين الأصفهاني : هو أبو الثناء محمود بن أبي القاسم عبد الرحمن بن أَحْمَد بن مُحَمَّد ابن أبي بَكْر بن علِيّ الأصفهاني الشافعي الأصولي رحمه الله تعالى ، وُلِد بأصفهان سَنَة 674 هـ ..(1/9)
مِن مصنَّفاته : بيان المختصَر ، تشييد القواعد ، مَطالع الأنظار شرْح طوالع الأنظار .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالقاهرة سَنَة 749 هـ .
الدرر الكامنة 4/327 والفتح المبين 2/165
(5) السالمي : هو أبو مُحَمَّد عبد الله بن حميد بن سالوم السالمي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ .. =
رحمهم الله تعالى (1) .
المذهب الثاني : أنّ دلالتهما عقليّة .
وهو اختيار الفخر الرازي ، وتَبِعه ابن السبكي (2) رحمهما الله (3) .
المذهب الثالث : أنّ دلالة الالتزام عقليّة .
وهو اختيار ابن الحاجب (4) والآمدي (5) ، وظاهِر كلام الغزالي رحمهم الله تعالى (6) .
= مِن مصنَّفاته : طلعة الشمس ، وشرْحها ، وأنوار العقول .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بعُمَان سَنَة 1332 هـ .
الفتح المبين 3/166
(1) يُرَاجَع : روضة الناظر 1/94 ، 95 والمنهاج مع شَرْحه 1/178 - 180 وشَرْح طلعة الشمس 1/254 والتقرير والتحبير 1/139
(2) تاج الدِّين السُّبكي : هو أبو نصْر عبد الوهاب بن علِيّ بن عبد الكافي بن علِيّ بن تمّام بن يوسف ابن موسى السبكي الشافعي رحمه الله ، الملقَّب بـ" قاضي القضاة " ، وُلِد بالقاهرة سَنَة 727 هـ ..
مِن مصنَّفاته : شرْح مختصر ابن الحاجب ، الإبهاج ، جَمْع الجوامع في أصول الفقه .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 771 هـ .
الفتح المبين 2/192
(3) يُرَاجَع : المحصول 1/76 والإبهاج 1/204
(4) ابن الحاجب : هو جمال الدين أبو عمرو عثمان بن عُمَر بن أبي بَكْر بن يونس المالكي رحمه الله تعالى ، وُلِد في إسنا سَنَة 570 هـ ..
مِن تصانيفه : المقصد الجليل في عِلْم الخليل ، الإيضاح ، مختصر منتهى السول والأمل .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالإسكندرية سَنَة 646 هـ .
سِيَر أعلام النبلاء 13/287 والفتح المبين 2/67 ، 68(1/10)
(5) سَيْف الدِّين الآمدي : هو أبو الحَسَن علِيّ بن أبي علِيّ مُحَمَّد بن سالم التغلبي الأصولي رحمه الله تعالى ، وُلِد بآمد سَنَة 551 هـ ، نشأ حنبليّاً ، وتَمَذهَب بمذهب الشّافعيّة ..
مِن مصنَّفاته : الإحكام في أصول الأحكام ، منتهى السول في الأصول ، لباب الألباب .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 631 هـ .
البداية والنهاية 13/140 وطبقات الشّافعيّة الكبرى 5/129 والفتح المبين 2/58
(6) يُرَاجَع : المستصفى /25 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد وحاشية السعد والجرجاني 1/120 121 والإحكام لِلآمدي 1/36 ، 37
والراجح عندي : ما عليه أصحاب المذهب الثالث القائل بأنّ دلالة الالتزام عقليّة .
وأَعْجَبَنِي تعليل التفتازاني (1) ـ رحمه الله تعالى ـ لِجَعْل دلالة الالتزام عقليّةً في قوله :" وتُسَمَّى المطابقة والتَّضَمُّن " لفظيّةً " لأنّهما ليستا بتوسط الانتقال مِن مَعْنىً ، بلْ مِن نَفْس اللفظ ، بخِلاَف الالتزام ، فلِهذا حُكِم بأنّهما واحد بالذات ؛ إذ ليس ها هُنَا إلا فَهْم وانتقال واحد يُسَمَّى باعتبار الإضافة إلى مجموع الجزأيْن " مطابقةً " ، وإلى أحدهما " تَضَمُّناً " ، وليس في التَّضَمُّن انتقال مِن مَعْنَى الكُلّ تمّ منه إلى الجزء ، كَمَا في الالتزام يَنتقل مِن اللفظ إلى الملزوم ومنه إلى لازِمِه فيَتَحَقَّق فهمان " (2) ا.هـ .
(1) التفتازاني : هو سعْد الدين مسعود بن عُمَر بن عبد الله التفتازاني رحمه الله تعالى ، العلاّمة الشافعي ، وُلِد بتفتازان سَنَة 712 هـ ..
مِن تصانيفه : التلويح في كشْف حقائق التنقيح ، شرْح الأربعين النووية في الحديث .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بسمرقند سَنَة 791 هـ .
الدرر الكامنة 1/545 والفتح المبين 2/216
(2) حاشية السعد على شَرْح العضد 1/120
المطلب الثاني
دلالة الألفاظ على الأحكام عند الحنفيّة(1/11)
قَسَّم الحنفيّةُ اللفظَ باعتبار دلالته على الحُكْم إلى أربعة أقسام : عِبَارة النَّصّ ، وإشارته ، ودلالته ، واقتضائه .
ووَجْه الحصر فيها : أنّ الحُكْم المستفاد مِن اللفظ إمَّا أنْ يَكون ثابتاً بنَفْس اللفظ أو لا ..
والأول إنْ كان اللفظ مَسُوقاً له فهو العبارة ، وإلا فهو الإشارة .
والثاني إنْ كان الحُكْم مفهوماً منه لغةً فهي الدّلالة ، أو شرعاً فهو الاقتضاء (1) .
وفيما يلي نُفَصِّل القول في كُلّ قِسْم منها ..
القِسْم الأول : عبارة النَّصّ .
عَرَّفَها الشاشي (2) ـ رحمه الله تعالى ـ بأنّها : ما سِيق الكلام لأجْله وأُرِيد به قَصْداً (3) .
وعَرَّفَها السرخسي (1) ـ رحمه الله تعالى ـ بأنَّهَا : ما كان السياق
(1) يُرَاجَع التلويح 1/242
(2) الشاشي : هو أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الخراساني الشاشي الحنفي رحمه الله تعالى ، أصوليّ فقيه ، وُلِد بشاش سَنَة 244 هـ .
مِنْ مصنَّفاته : أصول الشاشي .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 325 هـ .
الفتح المبين 1/188
(3) أصول الشاشي /99
(4) السرخسي : هو شمْس الأئمّة أبو بَكْر مُحَمَّد بن أَحْمَد بن أبي سهْل الحنفي رحمه الله تعالى .. =
لأجْلِه ويُعْلَم قَبْل التأمل أنّ ظاهِر النَّصّ متناوِل له (1) .
وعَرَّفَها البزدوي (2) ـ رحمه الله تعالى ـ بأنَّهَا : العمل بظاهر ما سيق الكلام له (3) .
وعَرَّفَها النسفي (4) ـ رحمه الله تعالى ـ بأنَّهَا : العمل بظاهر ما سيق الكلام له وأريد به قصداً ويُعْلَم قَبْل التأمل أنّ ظاهر النَّصّ متناوِل له (5) .
والأَوْلَى عندي : تعريف الشاشي رحمه الله تعالى .
مثاله : قوله تعالى { فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَثَ وَرُبَع } (6) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد بعبارته ولَفْظه إباحة النكاح والقَصْر
= مِن مصنَّفاته : المبسوط في الفقه ، أصول السرخسي .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 483 هـ .(1/12)
الفوائد البهيّة /158 والجواهر المضيئة 2/28
(1) أصول السرخسي 1/236
(2) فَخْر الإسلام البزدوي : هو علِيّ بن مُحَمَّد بن الحسين بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى ابن مجاهد الحنفي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 400 هـ ..
مِن مصنَّفاته : كنْز الوصول إلى معرفة الأصول ، غناء الفقهاء ، شرْح الجامع الصغير والكبير .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 482 هـ .
معجم البلدان لِياقوت 2/54 ومفتاح السعادة /12
(3) أصول البزدوي مع كشف الأسرار 1/171
(4) النسفي : هو أبو البركات عبد الله بن أَحْمَد بن محمود النسفي رحمه الله تعالى ، الملقَّب بـ" حافظ الدين " ، الفقيه الحنفي الأصولي ..
مِن مصنَّفاته : تفسير النسفي ، منار الأنوار .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 710 هـ ببلدته أيذج ، وبها دُفِن .
الفتح المبين 2/112
(5) كشف الأسرار 1/374
(6) سورة النساء مِن الآية 3
على زوجاتٍ أربع ، فَهُمَا مقصودان مِن اللفظ ، إلا أنّ المَعْنَى الثاني هو المقصود أصالةً ؛ لأنّ الآية إنَّمَا سيقتْ عندما تَحَرَّج الأوصياء مِن قبول الوصاية خشيةَ الوقوع في الظُّلْم والجَوْر في أموال اليتامى ، وقَدْ يَحُول هذا الخوف دُون الإكثار مِن الزوجات ..
فإباحة الزوجات مقصود تَبَعاً ، والمقصود أصالةً قَصْر عَدَد الزوجات على أربع أو واحدة ، ولِذا كانت عبارة النَّصّ دالّةً على قَصْر عَدَد الزوجات على أربع (1) .
ومثاله أيضاً : قوله تعالى { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَوا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوا } (2) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد بعبارته ولَفْظه حِلّ البيع وحرمة الربا وعدم المماثَلة بَيْنهما ، فَهُمَا مقصودان مِن اللفظ ، إلا أنّ الآية إنَّمَا سيقَتْ لأجْل نَفْي المماثَلة بَيْن البيع والربا ، ورَدّاً على المُشْرِكين الذين ادَّعَوْا مماثَلَتَهُمَا ..(1/13)
وهذا المَعْنَى هو المقصود أصالةً مِن سياق النَّصّ ، والمَعْنَى الثاني ـ وهو حِلّ البيع وحرمة الربا ـ مقصود تَبَعاً ؛ لأنّه كان يُمْكِن الاكتفاء بنَفْي المماثَلة دون تَعَرُّض لِحِلّ الربا ، ولِذا كان هذا المَعْنَى مقصوداً مِن سياق النَّصّ تَبَعاً لِيَدُلّ على حرمة الربا ، ولِيُتَوَصَّل به إلى إفادة المَعْنَى المقصود أصالةً مِن النَّصّ وهو نَفْي المماثَلة ، وهذا هو الذي دَلَّتْ عليه عبارة النَّصّ (3) .
(1) يُرَاجَع : كشف الأسرار للبخاري 1/172 والتحرير مع التيسير 1/87 وحاشية نسمات الأسحار /144 وعِلْم أصول الفقه لِخلاّف /145 وأصول الفقه لِبري /250 والوجيز /355
(2) سورة البقرة مِنَ الآية 275
(3) يُرَاجَع : التلويح مع التوضيح 1/244 والتحرير مع التيسير 1/87 وعِلْم أصول الفقه لِخلاّف /144 وأصول الفقه لِبرّي /249 ، 250 والوجيز /255
القِسْم الثاني : دلالة الإشارة .
عَرَّفَها البزدوي ـ رحمه الله تعالى ـ بأنَّهَا : العمل بما ثبت بنظمه لغةً لكنّه غَيْر مقصود ولا سيق له النَّصّ وليس بظاهر مِن كُلّ وجْه (1) .
وعَرَّفَها الشاشي ـ رحمه الله تعالى ـ بأنَّهَا : ما ثبت بنَظْم النَّصّ مِن غَيْر زيادة ، وهو غَيْر ظاهِر مِن كُلّ وَجْه ولا سيق الكلام لأجْله (2) .
وعَرَّفَها السمرقندي (3) ـ رحمه الله تعالى ـ بأنَّهَا : ما عُرِف بنَفْس الكلام بنَوْع تأمُّل مِن غَيْر أنْ يزاد عليه شيء أو ينقص عنه ، لكنْ لم يَكُنِ الكلام سيق له ولا هو المراد بالإنزال حتّى يُسَمَّى " نَصّاً " (4) .
وعَرَفَّهَا أمير بادشاه (5) ـ رحمه الله تعالى ـ بأنَّهَا : دلالة اللفظ على ما لم يُقْصَدْ به أصلاً ، لا أصالةً ولا تَبَعاً (6) .
والأَوْلى عندي : تعريف البزدوي رحمه الله تعالى .
مثاله : قوله تعالى { وَحَمْلُهُ وَفِصَلُهُ ثَلَثُونَ شَهْرا } (7) ..
(1) أصول البزدوي مع كشف الأسرار 1/174 ، 175
(2) أصول الشاشي /99 - 101(1/14)
(3) السمرقندي : هو علاء الدين أبو منصور مُحَمَّد بن أَحْمَد بن أبي أَحْمَد السمرقندي الحنفي رحمه الله تعالى ..
مِن مصنَّفاته : اللباب ، تحفة الفقهاء ، الميزان .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببخارى سَنَة 539 هـ .
معجم المؤلِّفين 8/228
(4) ميزان العقول /397
(5) أمير بادشاه : هو السَّيِّد الشَّريف مُحَمَّد أمين بن محمود الحسيني ، مُفَسِّر أصوليّ فقيه ، وُلِد بخراسان رحمه الله تعالى ، واستوطَن مكّة ..
مِن مصنَّفاته : تيسير التحرير ، تعريب فَصْل الخطاب في التصوف .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمكّة سَنَة 987 هـ .
أصول الفقه .. تاريخه ورجاله /474
(6) تيسير التحرير 1/87
(7) سورة الأحقاف مِنَ الآية 15
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد بعبارته ظهور المِنّة لِلوالدة على الولد لأنّ سياقه يَدُلّ على ذلك ، كَمَا أفاد ـ أيضاً ـ حَصْر مُدّة الحَمْل والرضاع في ثلاثين شَهْراً ..
لكنّه دَلّ بالإشارة على أنّ أَدْنَى مُدّة الحَمْل سِتّة أَشْهُر ؛ لأنَّه قَدْ ثبت تحديد مُدّة الرضاع في آية أخرى بحَوْلَيْن كامليْن في قوله عَزّ وجَلّ { وَالْوَلِدَتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَة } (1) وقوله تعالى { وَفِصَلُهُ فِى عَامَيْن } (2) ..
وإذا كانت مُدّة الرضاعة بِلا حَمْل عاميْن ( أربعةً وعشرين شهراً ) وحَمْله ورضاعه مجموعان ثلاثون شهراً فإنّ هذا الأخير فيه إشارة إلى أنّ أَقَلّ مُدّة الحَمْل ستّة أشهُر .
وقَدْ فَهِم ابن عباس (3) ـ رضي الله عنهما ـ ذلك ، وحَكَم بإشارة هذا النَّصّ أنّ أَقَلّ مُدَّة الحَمْل سِتّة أشهُر ، فَقَبِل الصحابة - رضي الله عنهم - منه ذلك واسْتَحْسَنوه (4) .
ومثاله أيضاً : قوله تعالى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف } (5) ..
(1) سورة البقرة مِنَ الآية 233
(2) سورة لقمان مِنَ الآية 14(1/15)
(3) ابن عباس : هو حَبْر الأُمَّة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، ابن عمّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، دعا له النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال { اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيل } ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالطّائف سَنَة 68 هـ .
الإصابة 2/330 وشذرات الذهب 1/75
(4) يُرَاجَع : أصول السرخسي 1/237 وأصول البزدوي مع كشف الأسرار 1/179 - 183 والوجيز /358
(5) سورة البقرة مِنَ الآية 233
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد بعبارته وجوب نفقة الزوجات المرضعات إذا كُنّ مطلَّقات على الوالد ( الزوج المطلّق ) ..
وأفاد بالإشارة :
1- أنّ الولد يُنْسَب إلى أبيه ؛ لأنّه أضافه إليه بِحَرْف اللام في قوله تعالى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَه ... } .
2- أنّ لِلأب ولاية تَمَلُّك مال ولده ؛ لأنَّه نُسِب إليه بلام المِلْك .
3- أنّ الأب لا يشاركه في النفقة على ولده غَيْرُه .
4- أنّ استئجار الأمّ على الإرضاع حالَ قيام النكاح بَيْن الزوجيْن لا يجوز (1) .
القِسْم الثالث : دلالة اللفظ .
عَرَّفَها الشاشي ـ رحمه الله تعالى ـ بأنَّهَا : ما عُلِم عِلَّةً لِلحُكْم المنصوص عليه لغةً ، لا اجتهاداً ولا استنباطاً (2) .
وعَرَّفَها صَدْر الشريعة (3) ـ رحمه الله تعالى ـ بأنَّهَا : دلالة اللفظ على الحُكْم في شيء يوجَد فيه مَعْنىً يَفْهَم كُلُّ مَن يَعرف اللُّغَةَ أنّ الحُكْم في المنطوق لأجْل ذلك المَعْنَى (4) .
وعَرَّفَها النسفي ـ رحمه الله تعالى ـ بأنَّهَا : ما ثبت بِمَعْنَى النَّصّ لغةً
(1) يُرَاجَع : أصول السرخسي 1/237 وأصول البزدوي مع كشف الأسرار 1/178 - 180 والتنقيح مع التوضيح 1/243 ، 244 وإفاضة الأنوار مع حاشية نسمات الأسحار /145 ، 146
(2) أصول الشاشي /104(1/16)
(3) صدْر الشريعة الأصغر : هو عبد الله بن مسعود بن تاج الشريعة رحمه الله تعالى ، الإمام الحنفيّ الفقيه الأصولي الجدلي ..
مِن تصانيفه : كتاب الوقاية ، التوضيح والتنقيح .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى في شرع آباد ببخارى سَنَة 747 هـ .
الفتح المبين 2/161 والفوائد البهيّة /109
(4) التوضيح 1/245
لا اجتهاداً (1) .
وعَرَّفَها ابن الهمام (2) ـ رحمه الله تعالى ـ بأنَّهَا : دلالة اللفظ على ثبوت حُكْم منطوق لِمسكوت لِفَهْم مناطه بمُجَرَّد اللغة (3) .
وهذا التعريف هو الأَوْلى عندي بالقبول .
ودلالة اللفظ تُسَمَّى عند الحنفيّة " فَحْوَى الخِطَاب " و" لَحْن الخِطَاب " و" مفهوم الموافَقة " ؛ لأنّ مدلول اللفظ في حُكْم المسكوت عنه مُوافِق لِمدلوله في حُكْم المنطوق إثباتاً ونَفْياً (4) .
مثاله : قوله تعالى { فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفّ } (5) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفادت عبارته تحريم التأفيف في حقّ الوالديْن ، والتأفيف له صورة معلومة ومَعْنىً لأجْله ثبتَت الحرمة وهي الأذى ..
وهذا المَعْنَى المعلوم لغةً يَجعل الحرمةَ ثابتةً في كُلّ ما يحقِّق الأذى قولاً كان أم فعلاً : كالضرب ونَحْوه ، بلْ هو في الضرب أَوْلَى ، ولِذا فإنّ هذا النَّصّ دَلّ على حرمة ضَرْب الوالديْن ، كَمَا أفاد بعبارته حرمة التأفيف في حَقِّهِمَا (6) .
(1) كَشْف الأسرار لِلنسفي 1/383
(2) ابن الهمام : هو مُحَمَّد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود الحنفي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ متكلِّم نحويّ ، وُلِد سَنَة 790 هـ ..
مِن مصنَّفاته : التحرير ، فتْح القدير ، زاد الفقير في الفقه .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 861 هـ ودُفِن بجوار ابن عطاء الله السكندري .
الفتح المبين 3/39
(3) التحرير مع التيسير 1/90
(4) يُرَاجَع : التنقيح 1/246 وحاشية نسمات الأسحار /146 والتلويح 1/250
(5) سورة الإسراء مِنَ الآية 23(1/17)
(6) يُرَاجَع : أصول السرخسي 1/241 ، 242 وأصول البزدوي مع كَشْف الأسرار 1/185 والتنقيح 1/246 وتيسير التحرير 1/90 وعمدة الحواشي /106
ومثاله أيضاً : ما رُوِي أنّ أعرابيّاً جاء إلى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال :" هَلَكْتُ وَأَهْلَكْت " فقال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - { مَاذَا فَعَلْت } فقال :" وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَان " فقال - صلى الله عليه وسلم - { أَعْتِقْ رَقَبَة } (1) .
وَجْه الدّلالة : أنّ عِبَارة النَّصّ أفادت وجوب الكفّارة على الزوج ..
وأفاد النَّصّ دلالةً على وجوبها على الزوجة ؛ لأنّ المَعْنَى الذي يُفْهَم مُوجِباً لِلكَفّارة هو الجناية على الصوم ، وهي مشتركة بَيْنهما .
كَمَا أفاد ـ أيضاً ـ وجوب الكفّارة في الأكل والشُّرْب بدلالة النَّصّ ؛ لأنّ المَعْنَى الذي يُفْهَم في الوقاع مُوجِباً لِلكفّارة هو كَوْنُه جنايةً على الصَّوْم ؛ فإنَّه الإمساك عن المُفْطِرَات الثّلاث ، بَلْ هو أَوْلَى ؛ لأنّ الصَّبْر عَنْهُمَا أَشَدّ والداعية إليهما أَكْثَر ، فبالحَرِيّ أنْ يَثْبُت الزَّجْر فيهما (2) .
القِسْم الرابع : مُقْتَضَى النَّصّ .
عَرَّفه الشاشي ـ رحمه الله تعالى ـ بأنَّه : زيادة على النَّصّ لا يَتَحَقَّق مَعْنَى النَّصّ إلا به (3) .
وعَرَّفه ابن عَبْد الشَّكُور (4) ـ رحمه الله تعالى ـ بأنَّه : دلالة المنطوق
(1) أَخْرَجه أَحْمَد في باقي مُسْنَد المُكثِرين برقم ( 7453 ) والدارمي في كتاب الصوم : باب في الذي يقع على امرأته في شَهْر رمضان نهارا برقم ( 1654 ) ، كلاهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(2) يُرَاجَع : التوضيح 1/249 ، 250 وأصول الشاشي /105 وأصول السرخسي 1/42 وإفاضة الأنوار /147 وعمدة الحواشي /107
(3) أصول الشاشي /109
(4) ابن عبد الشكور : هو محِبّ الله بن عبد الشكور البهاري الهندي الحنفي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ..(1/18)
مِن مصنَّفاته : مُسَلَّم الثبوت ، سُلَّم العلوم في المنطق .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 1119 هـ .
الفتح المبين 3/122
على ما يتوقَّف صِحَّتُه عليه عقلاً أو شرعاً (1) .
وعَرَّفه السرخسي ـ رحمه الله تعالى ـ بأنَّه : زيادة على المنصوص عليه يُشْتَرَط تقديمه لِيَصِير المنظوم مفيداً أو مُوجِباً لِلحُكْم (2) .
وعَرَّفه البخاري (3) ـ رحمه الله تعالى ـ بأنَّه : ما ثبت زيادةً على النَّصّ لِتصحيحه شرعاً (4) .
والأَوْلى عندي : تعريف ابن عَبْد الشَّكُور رحمه الله تعالى .
أقسام مُقْتَضَى النَّصّ :
قَسَّم الأصوليّون ـ ومعهم عامّة الحنفيّة ـ المُقْتَضَى إلى أقسام ثلاثة (5) :
الأول : ما أُضْمِر ضرورةَ صِدْق المُتَكَلِّم .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوَا عَلَيْه } (6) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ عبارة النَّصّ أفادت أو دَلَّتْ على رَفْع الخطأ والنسيان وما اسْتُكْرِهُوا عليه عن أُمَّة مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - ، وكَيْف تُرْفَع هذه الأمور بَعْد وقوعها ؟ وهو أمْر مُسْتَبْعَد ولا يُصَدَّق ؛ لأنّ الخطأ والنسيان يقعان بكثرة ..
(1) فواتح الرحموت 1/411
(2) أصول السرخسي 1/248
(3) علاء الدِّين البخاري : هو عبد العزيز بن أَحْمَد بن مُحَمَّد البخاري رحمه الله تعالى ، الفقيه الحنفي الأصولي ..
مِن مصنَّفاته : كشف الأسرار ، غاية التحقيق .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 730 هـ .
الفوائد البهيّة /94 والجواهر المضيئة 1/317
(4) كَشْف الأسرار لِلبخاري 1/189
(5) يُرَاجَع : كَشْف الأسرار لِلبخاري 1/191 ، 192 وشَرْح إفاضة الأنوار /149
(6) أَخرَجه ابن ماجة عن أبي ذرّ - رضي الله عنه - في كتاب الطلاق : باب طلاق المُكْرَه والناسي برقم ( 2033 ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما برقم ( 2035 ) .(1/19)
ولِذَا كان لا بُدّ لِصِدْق الكلام مِن تقدير مَعْنىً يقتضيه صِدْقُه ، وهو : رَفْع حُكْم الخطأ أو إثمه (1) .
الثاني : ما أُضْمِر لِصِحَّة الكلام عقلاً .
مثاله : قوله تعالى { وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا } (2) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ عبارة النَّصّ أفادت سؤال القرية ، والقرية جماد لا يُسأل ، ولا يقوله عاقِل ..
ولِذَا كان لا بُدّ مِن إضمار مَعْنىً يُصْبِح النَّصّ به مقبولاً ، وهو : ( واسأل أهْلَ القرية ) ، وهذا نَوْع مِن بلاغة القرآن الكريم (3) .
الثالث : ما أُضْمِر لِصِحَّة الكلام شرعاً .
مثاله : قوله :" أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بألْف " ..
هذا اللفظ يَدُلّ بعبارته على طلب مِن الغَيْر بإعتاق عَبْدِه ، فإذا أَعْتَقَه وَقَع العتق على الآخَر ( الطالب ) وعليه الألْف ؛ لأنّ الأمر بالإعتاق عنه يَقْتَضِي تمليك العَيْن منه بالبيع لِيَتَحَقَّق الإعتاق عنه ، وهذا المُقْتَضَى يثبت مُتَقَدِّماً ويَكون بمنزلة الشَّرْط (4) .
(1) يُرَاجَع : كَشْف الأسرار لِلبخاري 1/192 وتيسير التحرير 1/91 وأصول الفقه لأبي زهرة /133 وأصول الفقه لِبري /253
(2) سورة يوسف مِنَ الآية 82
(3) يُرَاجَع : أصول السرخسي 1/251 والتوضيح 1/258
(4) يُرَاجَع : أصول السرخسي 1/251 والتوضيح 1/257 وكَشْف الأسرار لِلبخاري 1/192 وشَرْح إفاضة الأنوار /149 ، 150 وتيسير التحرير 1/91
المطلب الثالث
دلالة الألفاظ على الأحكام عند غَيْر الحنفيّة
يُمْكِن الوقوف على دلالة اللفظ على الحُكْم عند غَيْر الحنفيّة مِن خلال استعراض أقوال بَعْض الأصوليّين في هذا المقام ..
وأَذْكُر منهم ما يلي :
الأول : إمام الحرميْن (1) رحمه الله تعالى ..
في قوله :" ما يستفاد مِن اللفظ نَوْعان :
أحدهما : مُتَلَقَّى مِن المنطوق به المُصَرَّح بذِكْره .
والثاني : ما يستفاد مِن اللفظ وهو مسكوت عنه لا ذِكْر له على قضيّة التصريح " (2) ا.هـ .(1/20)
الثاني : الغزالي رحمه الله تعالى ..
في قوله :" واللفظ إمَّا أنْ يَدُلّ على الحُكْم بصيغته ومنظومه ، أو بفحواه ومفهومه ، أو بمعناه ومعقوله ، وهو الاقتباس الذي يُسَمَّى " قياساً " فهذه ثلاثة فنون : المنظوم ، والمفهوم ، والمعقول " (3) ا.هـ .
الثالث : الفخر الرازي رحمه الله تعالى ..
(1) إمام الحَرَمَيْن : هو ضياء الدين أبو المعالي عبد المَلِك بن عبد الله بن يوسف بن مُحَمَّد الجويني الشافعي رحمه الله تعالى ..
مِن مصنَّفاته : البرهان في أصول الفقه ، الأساليب في الخلافيّات ، التحفة ، التلخيص .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 478 هـ .
طبقات الفقهاء الشّافعيّة 2/799 والبداية والنهاية 12/128 والفتح المبين 1/273 - 275
(2) البرهان 1/447
(3) المستصفى /180
في قوله :" الخِطَاب إمَّا أنْ يَدُلّ على الحُكْم بلفظه أو بمعناه ، أو لا يَكون كذلك ولكنّه بحيث لو ضُمّ إليه شيء آخَر لَصار المجموع دليلاً على الحُكْم " (1) ا.هـ .
الرابع : الباجي (2) رحمه الله تعالى ..
في قوله :" الأدلّة على ثلاثة أَضْرُب : أصْل ، ومعقول أصْل ، واستصحاب حال ..
فأمَّا الأصل : فهو الكتاب والسُّنَّة والإجماع .
وأمَّا معقول الأصل : فعَلَى أربعة أقسام : لَحْن الخِطَاب ، وفَحْوَى الخِطَاب ، والحَصْر ، ومَعْنَى الخِطَاب .
وأمَّا استصحاب الحال : فهو استصحاب حال العقل إذا ثَبَت ذلك " (3) ا.هـ .
الخامس : الآمدي رحمه الله تعالى ..
في قوله :" فيما يَشترك فيه الكِتَاب والسُّنَّة والإجماع ، وكُلّ واحد مِن هذه الأصول الثلاثة إمَّا أنْ يَدُلّ على المطلوب بمنظومه أو لا منظومه " (4) ا.هـ .
السادس : ابن عقيل (1) رحمه الله تعالى ..
(1) المحصول 1/178
(2) الباجي : هو أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي الأندلسي المالكي الباجي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 403 هـ ..(1/21)
مِن مصنَّفاته : إحكام الفصول في أحكام الأصول ، كتاب الحدود ، تبيين المنهاج ، الإشارة ، المنتقى .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 474 هـ .
النجوم الزاهرة 5/144 وشجرة النور الزكية /120
(3) إحكام الفصول /507
(4) الإحكام 2/146
(5) ابن عقيل : هو أبو الوفا علِيّ بن عقيل بن مُحَمَّد بن عقيل بن أَحْمَد البغدادي الظفري الحنبلي رحمه الله تعالى .. =
في قوله :" الكِتَاب ودلالته سِتَّة أقسام : ثلاثة مِن طريق النطق ، وثلاثة مِن جهة المعقول مِن اللفظ ..
فالتي مِن جهة النطق : نَصّ ، وظاهِر ، وعموم .
والمعقول : فَحْوَى الخِطَاب ، ودليله ، ومَعْنَى الخِطَاب " (1) . ا.هـ .
السابع : ابن الحاجب رحمه الله تعالى ..
في قوله :" الدّلالة منطوق ، وهو : ما دَلّ عليه اللفظ في محلّ النطق ، والمفهوم بخلافه ؛ أيْ لا في محلّ النطق " (2) ا.هـ .
الثامن : الطوفي (3) رحمه الله تعالى ..
في قوله :" اعلم أنّ الدليل الشرعي إمَّا منقول وإمَّا معقول أو ثابت بالمنقول والمعقول ..
فالمنقول : الكتاب والسُّنَّة ، ودلالتهما إمَّا مِن منطوق اللفظ أو مِن غَيْر منطوق اللفظ ..
فالأول يُسَمَّى " منطوقاً " : كفَهْم وجوب الزكاة في السائمة في قوله - صلى الله عليه وسلم - { فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاة } (4) .
= مِن مصنَّفاته : الفنون ، كفاية المفتي ، الواضح في أصول الفقه ، عمدة الأدلّة .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 513 هـ .
الفتح المبين 2/12 والبداية والنهاية 12/184
(1) الواضح 1/33
(2) مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/171
(3) الطوفي : هو نَجْم الدين أبو الربيع سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد الطوفي الصرصري البغدادي الحنبلي الأصولي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 673 هـ ..
مِن مصنَّفاته : مختصر روضة الموفّق ، بغية السائل في أمّهات المسائل .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببلدة الخليل سَنَة 716 هـ .(1/22)
الدرر الكامنة 2/154 والفتح المبين 2/124
(4) هذا جزء مِن حديث أَخْرَجه البخاري في كتاب الزكاة : باب زكاة الغَنَم برقم ( 1362 ) والنسائي =
والثاني يُسَمَّى " فَحْوَى " و" مفهوماً " : كفَهْم عدم وجوب الزكاة في المعلوفة مِن الحديث .
والمعقول : القياس ؛ لأنَّه يُسْتَفَاد بواسطة النظر العقلي .
والثابت بالمنقول والمعقول وليس واحداً منهما : هو الإجماع " (1) ا.هـ .
التاسع : الزركشي (2) رحمه الله تعالى ..
في قوله :" اعلم أنّ الألفاظ ظروف حاملة لِلمَعاني ، والمَعاني المستفادة منها تارةً تستفاد مِن جهة النطق والتصريح ، وتارةً مِن جهة التعريض والتلويح ..
والأول يَنقسم إلى : نَصّ إنْ لم يَحْتَمِلْ ، وظاهِر إنِ احْتَمَل .
والثاني هو المفهوم " (3) ا.هـ .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على أقوال كثير مِن الأصوليّين ( غَيْر الحنفيّة ) في دلالة اللفظ على الحُكْم ـ والتي ذَكَرْتُ بَعْضاً منها فيما تَقَدَّم ـ يَتَّضِح لنا ما يلي :
1- أنّ الكثرة منهم قَسَّموا دلالة اللفظ على الحُكْم إلى قِسْمَيْن :
القِسْم الأول : ما يَدُلّ على الحُكْم بلفظه وصيغته ومنظومه ، وهو المُسَمَّى بـ" المنطوق " .
= في كتاب الزكاة : باب زكاة الإبل برقم ( 2404 ) وأَحْمَد في مُسْنَد العشرة المُبَشَّرين بالجَنَّة ، كُلّهم عن أبي بَكْر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - .
(1) شَرْح مختصر الروضة 2/704 بتصرف .
(2) الزركشي : هو بدْر الدين أبو عبد الله مُحَمَّد بن بهادر بن عبد الله التركي المصري الزركشي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بمصر سَنَة 745 هـ ..
مِن مصنَّفاته : البحر المحيط ، تشنيف المسامع .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 794 هـ .
الفتح المبين 2/218
(3) البحر المحيط 4/5
القِسْم الثاني : ما يَدُلّ على الحُكْم لا بلفظه وإنَّمَا بفحواه ومفهومه ، وهو المُسَمَّى بـ" المفهوم " .(1/23)
وهو اختيار إمام الحرميْن وابن عقيل وابن الحاجب والبيضاوي والزركشي والطوفي وابن السبكي والفتوحي (1) والشوكاني (2) رحمهم الله تعالى (3) .
2- أنّ مِن الأصوليّين مَن جَعَل محلّ هذه المسألة هو دلالة اللفظ أو الخِطَاب ـ على الحُكْم ـ مُطْلَقاً : كإمام الحرميْن والغزالي والفخر الرازي والزركشي رحمهم الله تعالى (4) ..
ومنهم مَن حَصَر دلالة اللفظ في الأصول الثلاثة ( الكِتَاب والسُّنَّة والإجماع ) : كالباجي والآمدي رحمهما الله تعالى (5) .
(1) الفتوحي : هو تقيّ الدين أبو البقاء مُحَمَّد بن شهاب الدين بن أَحْمَد بن عبد العزيز بن علِيّ الفتوحي المصري الحنبلي ، الشهير بـ" ابن النجار " رحمه الله تعالى ، وُلِد بمصر سَنَة 898 هـ ..
مِن مصنَّفاته : منتهى الإرادات ، الكوكب المنير المسمَّى بـ" مختصر التحرير " .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 979 هـ .
شذرات الذهب 8/39 والأعلام 6/233 ومقدمة شرْح الكوكب المنير 1/5 ، 6
(2) الشوكاني : هو مُحَمَّد بن عَلِيّ بن مُحَمَّد بن عبد الله الشوكاني الصنعاني اليماني رحمه الله تعالى مجتهِد فقيه مُحَدِّث أصوليّ قارئ مقرئ ، وُلِد بصنعاء سَنَة 1172 هـ ، تَفَقَّه على مذهب الإمام زيْد - رضي الله عنه - ثُمّ اسْتَقَلّ ولم يُقَلِّد وحارَب التقليد ..
مِن مصنَّفاته : إرشاد الفحول ، نَيْل الأوطار ، تحفة الذاكرين .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بصنعاء سَنَة 1250 هـ .
الأعلام 3/953 والفتح المبين 3/144 ، 145
(3) يُرَاجَع : البرهان 1/447 والواضح 1/33 ومختصر المنتهى 2/171 ومنهاج الوصول مع شَرْح المنهاج 1/282 والبحر المحيط 4/5 وشَرْح مختصر الروضة 2/704 والإبهاج 1/365 وشَرْح الكوكب المنير 3/473 وإرشاد الفحول /178
(4) يُرَاجَع : البرهان 1/447 والمستصفى /180 والمحصول 1/178 ومنهاج الوصول مع شَرْح المنهاج 1/282
(5) يُرَاجَع : إحكام الفصول /507 والإحكام 2/146(1/24)
ومنهم مَن حَصَرَها في الكِتَاب والسُّنَّة : كالطوفي رحمه الله تعالى (1) .
ومنهم مَن أَفْرَد دلالة الكِتَاب عن دلالة السُّنَّة على الأحكام : كابن عقيل رحمه الله تعالى (2) .
وهو اختلاف في المَبْنَى لا المَعْنَى ؛ لأنّ الكثرة التي عَبَّرَتْ بدلالة الألفاظ أو الخِطَاب إنَّمَا قَصَدوا الخِطَابَ الشرعي المنقول إلينا في الكِتَاب أو السُّنَّة ؛ لأنَّهُمَا الأصلان اللذان جاء الشرع بهما لفظاً ونَصّاً ، وعليهما ومنهما تُسْتَقَى وترجع جميع الأحكام .
3- أنّ القياس اعتبَرَه البَعْض مَعْنَى الخِطَاب ، ولِذَا أَدْخَلَه في أقسام الدّلالة اللَّفظيّة ، ومنهم : الغزالي والباجي وابن عقيل رحمهم الله تعالى (3) ..
ومنهم مَن لَمْ يَعُدّه ضِمْن أقسام دلالة اللفظ : كالآمدي والفخر الرازي والبيضاوي رحمهم الله تعالى (4) .
4- أنّ حُجَّة الإسلام الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ قَسَّم دلالة اللفظ على الحُكْم إلى أقسام ثلاثة :
القِسْم الأول : أنْ يَدُلّ على الحُكْم بلفظه وصِيغته ومنظومه .
القِسْم الثاني : أنْ يَدُلّ عليه بفحواه ومفهومه .
القِسْم الثالث : أنْ يَدُلّ عليه بمَعْنَاه ومعقوله ( القياس ) .
وأَرَى : أنّ القِسْمَيْن الأخيريْن يَتَّفِقَان في أنّ دلالتهما على الحُكْم ليست مَبْنِيَّةً على اللفظ ، لكنّهما يَختلفان في أنّ المفهوم لَيْس مُرْتَبِطاً بواقعة أو حادثة خارِج المنطوق ، وإنَّمَا هو عادةً مُرْتَبِط بالمنطوق ، وأحياناً لا يَنْفَكّ
(1) شَرْح مختصر الروضة 2/704
(2) الواضح 1/33 ، 38
(3) يُرَاجَع : المستصفى /180 وإحكام الفصول /507 والواضح /36 ، 37
(4) يُرَاجَع : الإحكام 2/146 والمحصول 1/178 والمنهاج مع الإبهاج 1/364
عنه ..
أمَّا معقول اللفظ ( القياس ) : فإنَّه لَيْس كذلك ؛ وإنَّمَا هو راجِع إلى تَحَقُّق عِلَّة الأصل في الفرع الذي قَدْ يَسْتَجِدّ في أزمان متفاوتة .(1/25)
ولِذَا فقَدْ أَحْسَن الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ صنعاً حِينَمَا جَعَلَه قِسْماً مُسْتَقِلاًّ ؛ لأنّ مَعْنَاه لا يُفْهَم إلا بالعقل المُدَعَّم بالنَّصّ ، فالفرع في القياس فلَيْس فيه حُكْم ، ولا علاقة له بمنطوق الأصل ، لكنَّا نُثْبِت له حُكْمَ الأصل عند تَحَقُّق عِلَّته .
أمَّا المفهوم : فإنّ حُكْمَه مُرْتَبِط بالمنطوق ، ولِذَا كان اللفظ دالاًّ عليه ، ولَيْس كذلك منطوق أصْل القياس ؛ فإنَّمَا هو دالّ على حُكْم الأصل ، ولا نَنقله إلى الفرع إلا إنْ تَيَقَّنَّا تَحَقُّق عِلَّة الأصل في الفرع .
5- أنّ تقسيم حُجَّة الإسلام الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ وإنْ كان له وجاهته إلا أنّي أُرَجِّح ما عليه الكثرة مِن تقسيم دلالة اللفظ أو الخِطَاب على الحُكْم إلى قِسْمَيْن :
القِسْم الأول : ما يَدُلّ عليه بِلَفْظِه ومنظومه ، وهو المنطوق .
والقِسْم الثاني : ما يَدُلّ عليه بفحواه ومفهومه ، وهو المفهوم .
وإنْ كُنْتُ أَخْتَلِف مع البَعْض فيما يُعَدّ مفهوماً كَمَا سيأتي تفصيله ـ بإذْن الله تعالى ـ في أقسام المفهوم .
المطلب الرابع
مقارَنة دلالة الألفاظ على
الأحكام عند الحنفيّة وغَيْرهم
بَعْد الوقوف على أقسام دلالة اللفظ على الحُكْم عند الحنفيّة وعند غَيْر الحنفيّة فإنَّا نَرَى أنَّهُمَا يلتقيان في دلالة واحدة ، وهي: عبارة النَّصّ ..
فالحُكْم مستفاد منها عند الحنفيّة مباشَرةً ؛ لأنّ النَّصّ سيق لأجْله وأريد به قصداً ، ولِذَا فإنَّهَا تَدُلّ على الحُكْم بِنَفْس العبارة .
وهذا مُتَحَقِّق عند غَيْر الحنفيّة في المنطوق ؛ فإنَّه يَدُلّ على الحُكْم بصيغته ومنظومه .
ومِمَّا تَقَدَّم يَكون المنطوق عند غَيْر الحنفيّة مرادفاً لِعبارة النَّصّ عند الحنفيّة ؛ فالقِسْمان مُتَّفِقان في المَعْنَى ، مختلِفان في المَبْنَى .(1/26)
أمَّا الأقسام الثلاثة الباقية عند الحنفيّة ( وهي دلالة الإشارة والدّلالة والاقتضاء ) : فإنّ الأحكام لَمْ تؤخَذْ مِن عبارتها أو لَفْظها ، وهو الجامع بَيْنهما ، ولِذَا فإنَّهَا تُعْتَبَر دلالات المفهوم ، لكنّ الحنفيّة قَصَروا واحدةً منها ـ وهي دلالة اللفظ ـ على مفهوم الموافَقة ؛ فَسَمَّوْا دلالة اللفظ " فَحْوَى الخِطَاب " و" لَحْن الخطاب " و" مفهوم الموافَقة " .
أمَّا غَيْر الحنفيّة : فإنَّهم اختلَفوا في حَصْر أقسام المفهوم ..
فمنهم مَن أَدْرَج الدّلالات الثّلاث ( الإشارة والاقتضاء والإيماء ) في المفهوم ، وهو الراجح عندنا ( كَمَا سيأتي بإذن الله تعالى ) ..
ومنهم مَن قَصَر المفهوم على قِسْمَيْن : مفهوم الموافَقة ، ومفهوم
المخالَفة ، وهم الكثرة .
ومِمَّا تَقَدَّم نَرَى : أنّ بَعْض غَيْر الحنفيّة يَلتقي مع الحنفيّة في جَعْل الدّلالات الثّلاث أقساماً لِلمفهوم .
أمَّا الكثرة مِن غَيْر الحنفيّة : فإنَّهم مختلِفون مع الحنفيّة في عدم اعتبار هذه الدّلالات مِن المفهوم .
كَمَا أنّ هناك فارقاً جوهريّاً بَيْن الحنفيّة وغَيْرهم : فإنّ الحنفيّة لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِمفهوم المخالَفة ولم يَعتبروه مِن دلالات اللفظ على الحُكْم .
الفصل الثاني
المنطوق والمفهوم وأقسامهما
وفيه خمسة مطالب :
المطلب الأول : تعريف المنطوق وأقسامه .
المطلب الثاني : تعريف المفهوم والمستفاد منه وأقسامه .
المطلب الثالث : دلالة الاقتضاء .
المطلب الرابع : دلالة الإشارة .
المطلب الخامس : دلالة الإيماء ( التنبيه ) .
المطلب الخامس
تعريف المنطوق وأقسامه
الحديث في هذا المطلب يُمْكِن تقسيمه على النحو التالي :
1- تعريف المنطوق لغةً .
2- تعريف المنطوق اصطلاحاً .
3- أقسام المنطوق .
4- تعقيب وترجيح .
5- القِسْم الأول : النَّصّ .
6- القِسْم الثاني : الظاهر .
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها فيما يلي ..(1/27)
أوّلاً - تعريف المنطوق لغةً :
المنطوق لغةً : اسم مفعول مِن " نطق " ؛ يقال " نَطَق الناطق يَنطق نطقاً ومنطوقاً " أيْ تَكَلَّم .
والمَنْطِق : الكلام ، ومنه " نَطَق يَنطق نطقاً ومَنْطِقاً ونطوقاً " تَكَلَّم بصوْت وحروف تُعْرَف بها المَعاني (1) .
ثانياً - تعريف المنطوق اصطلاحاً :
عَرَّف الأصوليّون المنطوق بتعريفات عِدَّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
التعريف الأول : ما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق .
(1) يُرَاجَع : لسان العرب 10/354 والصحاح 4/1559 والقاموس المحيط 3/295
وهو تعريف ابن الحاجب رحمه الله تعالى ، واختاره ابن مفلح (1) والشوكاني رحمهما الله تعالى (2) .
التعريف الثاني : ما فُهِم مِن دلالة اللفظ قَطْعاً في محلّ النطق .
وهو تعريف الآمدي رحمه الله تعالى (3) .
التعريف الثالث : المَعْنَى المستفاد مِن اللفظ مِن حيث النطق به .
وهو تعريف الفتوحي رحمه الله تعالى (4) .
والأَوْلى عندي : تعريف الآمدي رحمه الله تعالى ؛ لأنَّه مانِع مِن دخول الدّلالات ( دلالة الاقتضاء والإشارة والتنبيه ) في المنطوق ، وليس كذلك تعريفَا ابن الحاجب والفتوحي رحمهما الله تعالى .
ثالثاً - أقسام المنطوق :
لقَدْ وَقَفْتُ على تقسيمات عِدَّة لِلمنطوق عند غَيْر الحنفيّة ، أَذكر بَعْضها فيما يلي :
التقسيم الأول : لإمام الحرميْن رحمه الله تعالى ..
قَسَّم إمام الحرميْن ـ رحمه الله تعالى ـ المنطوق إلى قِسْمَيْن :
الأول : النَّصّ .
(1) ابن مفلح : هو شَمْس الدِّين أبو عَبْد الله مُحَمَّد بن مفلح بن مُحَمَّد بن مفرج المَقْدِسي الحَنْبَلِي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ، وُلِد بِبَيْت المَقْدِس سَنَة 708 هـ .
مِن مصنَّفاته : الفروع ، أصول الفقه ، الآداب الشَّرعيّة .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 763 هـ .
يُرَاجَع : الدُّرَر الكامنة 4/26 وشذرات الذَّهَب 6/199 والفتح المُبِين 2/189(1/28)
(2) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/171 وأصول الفقه لابن مفلح 3/1056 وإرشاد الفحول /178 والمدخل /276
(3) الإحكام 3/62
(4) شَرْح الكوكب المنير 3/473
والثاني : الظّاهر (1) .
التقسيم الثاني : لِلغزالي رحمه الله تعالى ..
قَسَّم الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ المنظوم إلى أربعة أقسام :
الأول : المُجْمَل والمُبَيَّن .
الثاني : الظاهر والمؤوَّل .
الثالث : الأمر والنهي .
الرابع : العامّ والخاصّ .
كَمَا قَسَّم اللفظ المفيد إلى : نصّ أو ظاهِر أو مُجْمَل (2) .
التقسيم الثالث : لابن عقيل رحمه الله تعالى ..
قَسَّم ابن عقيل ـ رحمه الله تعالى ـ المنطوق إلى ثلاثة أقسام :
الأول : النَّصّ .
الثاني : الظاهر .
الثالث : العموم (3) .
التقسيم الرابع : لابن الحاجب رحمه الله تعالى ..
قَسَّم ابن الحاجب ـ رحمه الله تعالى ـ المنطوق إلى قِسْمَيْن :
الأول : صريح .
الثاني : غَيْر صريح .
وقَسَّم غَيْرَ الصريح إلى ثلاث دلالات : اقتضاء ، وإيماء ، وإشارة .
وتَبِعه الفتوحي ـ رحمه الله تعالى ـ في ذلك (4) .
(1) يُرَاجَع البرهان 1/448
(2) يُرَاجَع المستصفى /180 ، 184 ، 185
(3) يُرَاجَع الواضح 1/33
(4) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/171 ، 172 وشَرْح الكوكب المنير 3/473 ، 474 وتيسير التحرير 1/92 ، 93
التقسيم الخامس : لِلآمدي رحمه الله تعالى ..
قَسَّم الآمدي ـ رحمه الله تعالى ـ المنظوم إلى تسعة أصناف :
الأول : الأمر .
الثاني : النهي .
الثالث : العامّ والخاصّ .
الرابع : تخصيص العموم .
الخامس : أدلّة تخصيص العموم .
السادس : المُطْلَق والمُقَيَّد .
السابع : المُجْمَل .
الثامن : البيان والمُبَيّن .
التاسع : الظاهر وتأويله (1) .
التقسيم السادس : لابن مفلح رحمه الله تعالى ..
قَسَّم ابن مفلح ـ رحمه الله تعالى ـ المنطوق إلى قِسْمَيْن :
الأول : النَّصّ .
الثاني : الظاهر .(1/29)
وقَسَّم النَّصَّ إلى : صريح ، وغَيْر صريح .
وقَسَّم غَيْرَ الصريح إلى الدّلالات الثلاث السابق ذِكْرها عند ابن الحاجب رحمه الله تعالى (2) .
رابعاً - تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على بَعْض تقسيمات المنطوق عند غَيْر الحنفيّة اتَّضَح لنا
(1) يُرَاجَع الإحكام 2/146 وما بَعْدَهَا .
(2) يُرَاجَع أصول الفقه لابن مفلح 3/1056 - 1058
ما يلي :
1- أنّ بَعْضهم قَسَّم المنطوق إلى قِسْمَيْن : نصّ ، وظاهِر .
وهو اختيار إمام الحرميْن وابن عقيل ـ رحمهما الله تعالى ـ وزاد عليهما قِسْماً ثالثاً وهو : العموم (1) .
2- أنّ بَعْضهم قَسَّمه ـ أيضاً ـ إلى قِسْمَيْن : صريح ، وغَيْر صريح .. وقَسَّم الأخير إلى ثلاثة أقسام أو دلالات : اقتضاء ، وإيماء ، وإشارة . وهو اختيار ابن الحاجب والفتوحي رحمهما الله تعالى (2) .
3- أنّ بَعْضهم قَسَّم المنطوق إلى قِسْمَيْن : نصّ ، وظاهِر .. وقَسَّم النَّصَّ إلى : صريح ، وغَيْر صريح .
وقَسَّم الأخيرَ إلى ثلاثة أقسام : دلالة اقتضاء ، ودلالة إيماء ، ودلالة إشارة . وهو تقسيم جامِع لِلتَّقْسيميْن السّابقيْن ، وهو اختيار ابن مفلح وابن السبكي والشوكاني رحمهم الله تعالى (3) .
4- أنّ الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ قَسَّمَه إلى أربعة أقسام : المُجْمَل والمُبَيَّن ، والظاهر والمؤوَّل ، والأمر والنهي ، والعامّ والخاصّ .
وتَبِعه في ذلك الآمدي رحمه الله تعالى ، إلا أنَّه أَفْرَد هذه الأقسام المزدوجة وزاد عليها ( المُطْلَق والمُقَيَّد ) ، لِتُصْبِح عنده تسعة أقسام .
وأَرَى : أنّ هذه الأقسام التي ذَكَرَها الغزالي والآمدي ـ رحمهما الله تعالى ـ لا تَخرج عنْ كَوْنِهَا نَصّاً أو ظاهراً ..
ولِذَا فالأَوْلى عندي هو : تقسيم المنطوق إلى : نَصّ ، وظاهِر .
(1) يُرَاجَع البرهان 1/448 والواضح 1/33
(2) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/171 وشَرْح الكوكب المنير 3/473(1/30)
(3) يُرَاجَع : أصول الفقه لابن مفلح 3/1056 - 1058 وجَمْع الجوامع مع البناني 1/235 وإرشاد الفحول /178
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منهما فيما يلي ..
خامساً - القِسْم الأول : النَّصّ :
وهو لغةً : الكشف والظهور ..
ومنه : منصّة العروس ، و" نَصَّت الظبية رأْسها " أيْ رَفَعَتْه وأَظْهَرَتْه (1) .
واصطلاحاً : الاستقلال بإفادة المَعاني على قَطْعٍ ، مع انحسام جهات التأويلات وانقطاع مَسالك الاحتمالات .
وهو اختيار إمام الحرميْن رحمه الله تعالى .
ونَحْوُه تعريف الغزالي رحمه الله تعالى ، وهو : ما يَسْتَقِلّ بالإفادة مِن كُلّ وَجْه .
وقَدْ أَوْرَد إمام الحرميْن ـ رحمه الله تعالى ـ تعرفيْن لِلنَّصّ لَمْ يَرْتَضِهِمَا :
الأول : لَفْظ مفيد لا يَتطرَّق إليه تأويل .
الثاني : لَفْظ مفيد اسْتَوَى ظاهِرُه وباطِنُه (2) .
وذَكَر القرافي (3) ثلاثة تعريفات لِلنَّصّ :
الأول : ما دَلّ على مَعْنىً قَطْعاً ولا يَحتمل غَيْرَه قَطْعاً : كأسماء الأعداد .
(1) يُرَاجَع : الصحاح 3/1058 ، 10259 والبرهان 1/416 وشَرْح تنقيح الفصول /36 ، 37 وشَرْح الكوكب المنير 3/478 ، 479
(2) البرهان 1/413 ، 415 والمستصفى /184
(3) القرافي : هو أبو العباس أَحْمَد بن إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله بن يَلِّين الصنهاجي البهنسي المصري المالكي رحمه الله تعالى ، وُلِد بالبهنسا ..
مِن مؤلَّفاته : التنقيح في أصول الفقه ، شرْح التهذيب .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدير الطين سَنَة 684 هـ .
الفتح المبين 2/90
الثاني : ما دَلّ على مَعْنىً قَطْعاً وإن احتَمَل غَيْرَه : كَصِيَغ الجُمُوع في العموم .
الثالث : ما دَلّ على مَعْنىً كَيْف ما كان ، وهو غالِب استعمال الفقهاء (1) .
وعَرَّفه الباجي ـ رحمه الله تعالى ـ بأنَّه : ما لا يَحتمل التأويل مِن وَجْهٍ ما (2) .
وعَرَّفه ابن عقيل ـ رحمه الله ـ بأنَّه : ما بَلَغ مِن البيان غايتَه (3) .(1/31)
وعَرَّفه أبو يعلى (4) ـ رحمه الله تعالى ـ بأنَّه : ما كان صريحاً في حُكْم مِن الأحكام وإنْ كان اللفظ محتملاً في غَيْره (5) .
والأَوْلى عندي : تعريف ابن السبكي رحمهما الله تعالى ، وهو : ما يَدُلّ عليه اللفظ دلالةً قَطْعِيّةً (6) .
وهو قريب مِن تعريف العضد (7) رحمه الله تعالى ، وهو : ما دَلّ
(1) شَرْح تنقيح الفصول /36
(2) إحكام الفصول /189
(3) الواضح 1/33
(4) القاضي أبو يعلى : هو مُحَمَّد بن الحسين بن مُحَمَّد بن خلف بن أَحْمَد بن الفراء الحنبلي رحمه الله تعالى ..
مِن مصنَّفاته : أحكام القرآن ، إيضاح البيان ، المعتمد ، مسائل الإيمان .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 458 هـ .
طبقات الحنابلة /377 - 388 والنجوم الزاهرة 5/78
(5) العُدّة 1/137
(6) جَمْع الجوامع مع حاشية البناني 1/236
(7) عضد الدين الإيجي : هو عبد الرحمن بن أَحْمَد بن عبد الغفار بن أَحْمَد الإيجي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بإيج مِن أعمال شيراز بفارس ..
مِن تصانيفه : شرْح مختصر ابن الحاجب في الأصول ، المواقف في أصول الدين .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 756 هـ .
الفتح المبين 2/173 والدرر الكامنة 2/322
دلالةً قَطْعِيَّةً (1) .
أقسام النَّصّ :
يَنْقَسِم النَّصّ إلى قِسْمَيْن :
القِسْم الأول : النَّصّ الصريح .
وهو : ما دَلّ عليه اللفظ بالمطابَقة أو التَّضَمُّن (2) .
وقَصَره ابن السبكي ـ رحمهما الله ـ على المطابَقة دُون التَّضَمُّن (3) .
القِسْم الثاني : النَّصّ غَيْر الصريح .
وهو : ما لم يوضع اللفظ له ؛ بلْ يَلْزَم مِمَّا وُضِع له فيَدُلّ عليه بالالتزام (4) .
ومثال النَّصّ الصريح : قوله تعالى { وَلا تَقْرَبُوا الزّنَى } (5) وقوله تعالى { وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُم } (6) ؛ فإنّ الأول صريح في النهي عن الاقتراب مِن الزنا ، والثاني صريح في النهي عن قَتْل النَّفْس .(1/32)
ومثال النَّصّ غَيْر الصريح : قوله تعالى { فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفّ } (7) وقوله تعالى { وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدّهِ إِلَيْك } (8) ؛ فالأول فُهِم منه النهي عنْ ما فَوْق التأفيف مِن الضرب والشتم ، والثاني فُهِم منه أنَّهُمْ لا يؤدّون أَكْثَر مِن الدينار (9) .
(1) شَرْح العضد على مختصر المنتهى 2/168
(2) يُرَاجَع مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/171 ، 172
(3) يُرَاجَع جَمْع الجوامع مع حاشية البناني 1/236
(4) شَرْح العضد على مختصر المنتهى 2/172
(5) سورة الإسراء مِنَ الآية 32
(6) سورة النساء مِنَ الآية 29
(7) سورة الإسراء مِنَ الآية 23
(8) سورة آل عمران مِنَ الآية 75
(9) يُرَاجَع المستصفى /184
وحُكْم النَّصّ : أنَّه يصار إليه ، ولا يُعْدَل عنه إلا بنَسْخ (1) .
ويَنقسِم النَّصّ غَيْر الصريح إلى ثلاث دلالات :
الأولى : دلالة الاقتضاء .
وهي : ما تَوَقَّف صِدْق الكلام أو صِحَّته عقلاً أو شرعاً على تقديره .
الثانية : دلالة الإيماء ( التنبيه ) .
وهي : اقتران اللفظ بِحُكْم لو لم يَكُنْ لِلتعليل لَكان بعيداً ، فيُفْهَم منه التعليل ويَدُلّ عليه وإنْ لم يُصَرّحْ به .
الثالثة : دلالة الإشارة .
وهي : أنْ لا يَكون المَعْنَى المستفاد مِن اللفظ مقصوداً لِلمتكلِّم (2) .
ونظراً لأنّ هذه الدّلالات ليست مأخوذةً مِن صريح المنطوق ـ وإنَّمَا أُخِذَتْ مِن غَيْر صريحه ـ فقَدْ رَجَّحْتُ عَدَّهَا مِن أقسام المفهوم ، وهناك ـ بإذْن الله تعالى ـ فَصَّلْتُ القول فيها وبَيَّنْتُ عِلَّةَ ترجيحي .
وبناءً على ما تَقَدَّم مِن اعتبار بَعْض أقسام المنطوق أقساماً لِلمفهوم ـ أعني الدّلالات الثّلاث ـ آثَرْتُ التَّعَرُّضَ بشيء مِن الإيجاز لِلمنطوق وأقسامه ؛ حَتّى لا أُعَدّ في نظر البَعْض خارجاً عن منهجيّة البحث والموضوع .
سادساً - القِسْم الثاني : الظاهر :(1/33)
وهو لغةً : خِلاَف الباطن ، وهو الواضح المنكشِف ، ومنه " ظَهَر الأمر " إذا اتَّضَح وانْكَشَف ، ويُطْلَق على الشيء الشاخص المرتفع (3) .
(1) يُرَاجَع روضة الناظر 5/560
(2) يُرَاجَع : أصول الفقه لابن مفلح 3/1056 - 1058 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/171 172 وجَمْع الجوامع مع حاشية البناني وشَرْح المحلّي 1/236 وشَرْح الكوكب المنير 3/474 - 477 وإرشاد الفحول /178
(3) يُرَاجَع لسان العرب 4/2767
واصطلاحاً : ما احتمَل مَعْنَيَيْن أحدُهُمَا أَظْهَر مِن الآخَر .
وهو تعريف أبي يعلى رحمه الله تعالى ، واختاره ابن قدامة رحمه الله تعالى (1) .
وعَرَّفه ابن عقيل ـ رحمه الله تعالى ـ بأنَّه : ما تَرَدَّد بَيْن أَمْرَيْن (2) .
وعَرَّفه القاضي أبو بَكْر (3) ـ رحمه الله تعالى ـ بأنَّه : لفظة معقولة المَعْنَى لها حقيقة ومَجَاز : فإنْ أُجْرِيَتْ على حقيقتها كانت ظاهراً ، وإذا عُدلَتْ إلى جهة المَجاز كانت مؤوَّلة (4) .
وعَرَّفه القرافي ـ رحمه الله تعالى ـ بأنَّه : المُتَرَدِّد بَيْن احْتماليْن فأَكْثَر هو في أحدهما أَرْجَح (5) .
وهو قريب مِن تعريف القاضي أبي يعلى ، وكلاهما عندي أَوْلى بالقبول مِن غَيْرهما .
مثاله : الأمر يَحتمل الندب والإيجاب ، لكنّه في الإيجاب أَظْهَر ، والنهي يَحتمل التنزيه والحظر ، وهو في الحظر أَظْهَر ، والصلاة لها استعمال شَرْعِيّ وآخَر لغويّ ، لكنّها في الشرعي أَظْهَر (6) .
(1) العُدَّة 1/140 وروضة الناظر 2/563
(2) الواضح 1/33
(3) القاضي أبو بَكْر الباقلاني : هو مُحَمَّد بن الطيب بن مُحَمَّد بن جعفر بن القاسم الباقلاّني المالكي رحمه الله تعالى ..
مِن تصانيفه : التمهيد ، المقنع في أصول الفقه ، إعجاز القرآن ، المقدمات في أصول الديانات .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 403 هـ .
وفيات الأعيان 4/269 ، 270 وشذرات الذهب 3/168 والفتح المبين 1/233 - 235
(4) البرهان 1/416 ، 417(1/34)
(5) شَرْح تنقيح الفصول /37
(6) يُرَاجَع : الواضح 1/33 ، 34 والبرهان 1/418
وحُكْمه : أنَّه يصار إلى مَعْنَاه الظاهر ، ولا يجوز تَرْكه إلا بتأويل (1) .
وذَكَر الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ أنّ النَّصّ يُطْلَق على الظاهر ، ونَسَبَه إلى الإمام الشافعي - رضي الله عنه - (2) في قوله :" ما أَطْلَقه الشافعي رحمه الله فإنَّه سَمَّى الظاهرَ " نَصّاً " ، وهو منطبِق على اللغة لا مانِع منه في الشرع والنَّصّ في اللغة : بِمَعْنَى الظهور ...
فعَلَى هذا حَدُّه الظاهر هو اللفظ الذي يَغلب على الظَّنّ فَهْم مَعْنىً منه مِن غَيْر قَطْع ، فهو بالإضافة إلى ذلك المَعْنَى الغالب ظاهِر ونَصّ " (3) ا.هـ .
(1) روضة الناظر 2/563
(2) الإمام الشافعي : هو أبو عبد الله مُحَمَّد بن إدريس بن العباس بن شافع المطَّلبي - رضي الله عنه - ، أحد أئمة المذاهب الأربعة ، وُلِد بغزّة ، وقيل : بعسقلان ـ سَنَة 150 هـ ..
مِن مصنَّفاته : الأُمّ ، الرسالة ، أحكام القرآن .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بمصر سَنَة 204 هـ .
طبقات الشافعية الكبرى 1/100 ووفيات الأعيان 9/249 ، 250 والفتح المبين 1/133 - 142
(3) المستصفى /196 ويُرَاجَع روضة الناظر 2/560 ، 561
المطلب الثاني
تعريف المفهوم وأقسامه
الحديث في هذا المطلب يُمْكِن تقسيمه على النحو التالي :
1- تعريف المفهوم لغةً .
2- تعريف المفهوم اصطلاحاً .
3- المستفاد مِن المفهوم .
4- أقسام المفهوم .
5- تعقيب وترجيح .
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها فيما يلي ..
أوّلاً - تعريف المفهوم لغةً :
المفهوم لغةً : اسم مفعول مِن " فَهِم " ؛ يقال " فَهِمه فهماً [ ويُحَرّك ، وهي أَفْصَح ] وفهامةً [ ويُكْسَر ] وفهاميّةً " عَلِمه وعَرَفه بالقلب ، وهو فَهِم : سريع الفهم (1) .
والمفهوم : هو الصورة الذّهنيّة ، سواء وُضِع بإزائها الألفاظ أو لا (2) .
ثانياً - تعريف المفهوم اصطلاحاً :(1/35)
لقد اخْتَلَف الأصوليّون في تعريف المفهوم ..
وفيما يلي أَذْكُر بَعْض هذه التعريفات :
التعريف الأول : ما دَلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق (3) .
(1) يُرَاجَع : القاموس المحيط 4/162 والصحاح 5/2005
(2) الكليات /860
(3) مختصر المنتهى 2/171
وهو تعريف ابن الحاجب ، واختاره الشوكاني رحمهما الله تعالى (1) .
التعريف الثاني : ما فُهِم مِن اللفظ في غَيْر محلّ النطق (2) .
وهو تعريف الآمدي رحمه الله تعالى .
مُنَاقَشَة هذا التعريف :
ويُمْكِن مُنَاقَشَة هذا التعريف : بأنَّه عَرَّف المفهوم بـ( ما فُهِم مِن اللفظ ) فعَرَّف الشيءَ بنَفْسه ، وهذا هو الدور ، ولِذَا كان التعريف مردوداً .
التعريف الثالث : الاستدلال بتخصيص الشيء بالذِّكْر على نَفْي الحُكْم عَمَّا عَدَاه (3) .
وهو تعريف الغزالي رحمه الله تعالى .
مُنَاقَشَة هذا التعريف :
ويُمْكِن مُنَاقَشَة هذا التعريف مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنَّه عَبَّر بـ( بتخصيص الشيء بالذِّكْر ) ، مِمَّا يوهِم أنّ المفهوم عامّ دَخَله التخصيص ، وليس كذلك ؛ لأنّ الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ يَرَى أنّ المفهوم لا عموم له (4) .
الوجه الثاني : أنّ التعريف غَيْر جامِع ؛ لأنَّه لا يَشْمَل إلا مفهوم المخالَفة في عبارته ( على نَفْي الحُكْم عَمَّا عَدَاه ) ، ولِذَا يتخرج بهذا القيد ما عَدَا مفهوم المخالَفة مِن التعريف .
التعريف الرابع : التنبيه بالمنطوق به على حُكْم المسكوت عنه (5) .
وهو تعريف القاضي أبي يعلى رحمه الله تعالى .
(1) إرشاد الفحول /178
(2) الإحكام لِلآمدي 2/74
(3) المستصفى /265
(4) يُرَاجَع المستصفى /239
(5) العُدَّة 1/152 ويُرَاجَع المسوّدة /350
مُنَاقَشَة هذا التعريف :
ويُمْكِن مُنَاقَشَة هذا التعريف : بأنَّه غَيْر جامِع أيضاً ؛ لأنّ جِنْسَه ( التنبيه ) ، مِمَّا يوهِم أنّ المفهوم هو دلالة التنبيه لِيخرج ما عَدَاهَا عن التعريف .(1/36)
التعريف الخامس : المَعْنَى المستفاد مِن حيث السكوت اللازم لِللفظ (1) .
وهو تعريف الفتوحي رحمه الله تعالى .
مُنَاقَشَة هذا التعريف :
ويُمْكِن مُنَاقَشَة هذا التعريف : بأنَّه غَيْر جامِع ؛ لأنَّه قَيَّد ( السكوت ) بـ( اللازم ) ، مِمَّا يوهِم أنّ المفهوم هو دلالة الاقتضاء وما عَدَاهَا ليس مفهوماً ، وهو غَيْر صحيح .
التعريف السادس : بيان حُكْم المسكوت عنه بدلالة لَفْظ المنطوق (2) .
وهو تعريف الزركشي رحمه الله تعالى .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على بَعْض تعريفات الأصوليّين لِلمفهوم يُمْكِن التوصل إلى ما يلي :
1- أنّ التعريفات مِن الثاني حتى الخامس لم تَسْلَمْ جميعها مِن المُنَاقَشَة ، ولِذَا فإنَّهَا بعيدة عن الترجيح والاختيار .
2- أنّ التعريفيْن الأول والسادس قَدْ سَلِمَا مِن المُنَاقَشَة والاعتراض ، ولِذَا فإنَّهما أهْل لِلاختيار والترجيح .
3- أنِّي أُرَجِّح تعريف ابن الحاجب رحمه الله تعالى ؛ لأنّ المفهوم نَوْع مِن أنواع دلالة اللفظ لا بصريح صيغته ووضْعه ..
(1) شَرْح الكوكب المنير 3/473
(2) البحر المحيط 4/5
ولِذَا يَكون التعريف الراجح عندي لِلمفهوم هو : ما دَلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق .
ثالثاً - المستفاد منه المفهوم :
اخْتَلَف الأصوليّون في المفهوم : هلْ حُجِّيَّته مستفادة مِن دلالة العقل أو مِن اللفظ أم مِن غَيْرهما ؟
على أربعة مذاهب :
المذهب الأول : أنَّها مستفادة مِن اللفظ ..
أيْ : أنَّها مستفادة مِن حيث دلالة اللغة ووضْع اللسان .
وهو ما عليه أَكْثَر الشّافعيّة والحنابلة (1) .
واختاره إمام الحرميْن رحمه الله تعالى ، وفي ذلك يقول :" ما يستفاد مِن اللفظ نوْعان :
أحدهما : يُتَلَقَّى مِن المنطوق به المصرَّح بذِكْره .
والثاني : ما يستفاد مِن اللفظ ، وهو مسكوت عنه لا ذِكْر له على قضيّة التصريح ... "(1/37)
ثُمّ قال : وأمَّا ما ليس منطوقاً به ولكنّ المنطوق به مُشْعِر به : فهو الذي سَمّاه الأصوليّون : المفهوم " (2) ا.هـ .
المذهب الثاني : أنَّها مستفادة مِن العقل ..
أيْ : أنَّها مستفادة مِن حيث دلالة العقل .
وعليه جَمْع مِن الأصوليّين ، واختاره الفخر الرازي ـ رحمه الله
(1) يُرَاجَع : البحر المحيط 4/5 وشَرْح الكوكب المنير 3/500 وإرشاد الفحول /179 وشَرْح طلعة الشمس 1/260
(2) البرهان 1/448
تعالى ـ في " المحصول " (1) والكرخي (2) رحمه الله تعالى ، وقَدْ نَقَل الزركشي ـ رحمه الله تعالى ـ عن الأخير قولَه : إنّ اللفظ لا يُشْعِر بذاته ، وإنَّمَا دلالته بالوضع ، ولا شكّ أنّ العرب لَمْ تَضَع اللفظ دالاًّ على شيء مسكوت عنه ؛ فإنّ اللفظ إمَّا أنْ يُشْعِر بِطَرِيق الحقيقة أو المَجَاز ، ولَيْس المفهوم واحداً منهما ..
وبَنَى على هذا أنَّه لا يَصِحّ الاستدلال بِكَوْن أهْل العربيّة صاروا إلى المفهوم ؛ فإنَّهُمْ إنَّمَا أَخَذوه بِطَرِيق الاستدلال بالعقل ، وقَدْ يخطِئون ، فيَكون إذَنْ نِسْبَتُهُمْ كنِسْبَة غَيْرِهِمْ مِن المخالِفين " (3) ا.هـ .
المذهب الثالث : أنَّها مستفادة مِن الشرع .
وهو ما عليه بَعْض الشّافعيّة (4) .
المذهب الرابع : أنَّها مستفادة مِن العرف العامّ .
وهو اختيار الفخر الرازي ـ رحمه الله تعالى ـ في " المَعالم " (5) .
والأَوْلى عندي : أنَّها مستفادة مِن اللغة ؛ لأنّ المفهوم راجِع إلى المنطوق ، وتلك حقيقة لا شكّ فيها ، كَمَا أنَّها مستفادة بدلالة العقل مِن جهة تخصيصه بالذِّكْر ، وهو ما عليه المذهبان الأول والثاني ؛ جَمْعاً بَيْنهما .
(1) يُرَاجَع : المحصول 1/355 والبحر المحيط 4/5 وشَرْح الكوكب المنير 3/500 وإرشاد الفحول /79
(2) الكرخي : هو أبو الحَسَن عبد الله بن الحَسَن بن دلال بن دلهم الكرخي الحنفي رحمه الله ..
مِن مصنَّفاته : المختصر ، شرْح الجامعين .(1/38)
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 340 هـ .
البداية والنهاية 11/24 والفتح المبين 1/197 ، 198
(3) البحر المحيط 4/5 ، 6
(4) يُرَاجَع : شَرْح الكوكب المنير 3/500 وشَرْح طلعة الشمس 1/260
(5) يُرَاجَع : المعالم /63 وشَرْح الكوكب المنير 3/500 وإرشاد الفحول /179
رابعاً - أقسام المفهوم :
إنّ الباحث عنْ أقسام المفهوم عند الأصوليّين غَيْر الحنفيّة يَرَى أنَّهم اختلَفوا في حَصْرها تَبَعاً لاختلافهم في المراد مِن المفهوم ..
وهُمْ في ذلك فريقان :
الفريق الأول : مَن أرادوا بالمفهوم مَعْنَاه الأَعَمّ :
وهؤلاء الأصوليّون أرادوا بالمفهوم فَحْوَى الخِطَاب وإشارته ودليله ومَعْنَاه ، وهو مَعْنى عامّ يَشْمَل كُلَّ حُكْم لا يؤخَذ مِن منطوق اللفظ ..
ولِذَا فإنَّهُمْ سَلَّموا بدخول المفهوم بِمَعْنَاه الأخَصّ ( مفهوم الموافَقة ومفهوم المخالَفة ) تَحْت المفهوم الأَعَمّ ، ثُمّ تَفاوَتوا بَعْد ذلك في حَصْر باقي الأقسام ..
فمنهم مَن أضاف الدّلالات الثّلاث ( دلالة الاقتضاء ودلالة الإشارة ودلالة التنبيه ) كَمَا فَعَل الغزالي رحمه الله تعالى (1) .
ومنهم مَن اكْتَفَى بدلالة واحدة كَمَا فَعَل الشيرازي (2) رحمه الله (3) .
ومنهم مَن عَدّ القياسَ منها كَمَا فَعَل الباجي رحمه الله تعالى (4) .
ولقَدْ عَبَّر هذا الفريق عن هذا المفهوم المُقَسَّم بتعبيرات مختلِفة :
فمنهم مَن صَرَّح بعبارة ( المفهوم ) ..
(1) يُرَاجَع المستصفى /180
(2) أبو إسحاق الشيرازي : هو إبراهيم بن علِيّ بن يوسف بن عبد الله الشيرازي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 393 هـ ..
مِن مصنَّفاته : التنبيه ، اللُّمَع ، التبصرة في الأصول .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 476 هـ .
طبقات الشّافعيّة الكبرى 3/88 ووفيات الأعيان 1/5
(3) يُرَاجَع اللُّمَع /44
(4) يُرَاجَع إحكام الفصول /507
وأَذكر منهم ما يلي :
الأول : الشيرازي رحمه الله تعالى ..(1/39)
في قوله :" باب القول في مفهوم الخِطَاب " (1) ا.هـ .
ثُمّ قَسَّمه إلى ثلاثة أقسام :
القِسْم الأول : فَحْوَى الخِطَاب .
وهو : ما دَلّ عليه اللفظ مِن جهة التنبيه .
نَحْو : قوله تعالى { فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفّ } (2) ونَحْوه مِمَّا يَدُلّ على التنبيه بالأدنى على الأعلى أو العكس ( وهذا هو مفهوم الموافَقة ) .
القِسْم الثاني : لَحْن الخِطَاب .
وهو : ما دَلّ عليه اللفظ مِن الضمير الذي لا يَتِمّ الكلام إلا به .
نَحْو : قوله تعالى { فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَت ... } (3) ومَعْنَاه : فضَرَب فانْفَجَرَتْ ( وهذه دلالة اقتضاء ) .
القِسْم الثالث : دليل الخِطَاب .
وهو : أنْ يُعَلَّق الحُكْم على إحدى صِفَتَيِ الشيء فيَدُلّ على أنّ ما عَدَاهَا بخِلاَفه .
نَحْو : قوله تعالى { إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } (4) فيَدُلّ على أنَّه إنْ جاء عَدْل لم نَتَبَيَّنْ ( وهذا هو مفهوم المخالَفة ) (5) .
الثاني : الغزالي رحمه الله تعالى ..
(1) اللُّمَع /44
(2) سورة الإسراء مِنَ الآية 23
(3) سورة البقرة مِنَ الآية 60
(4) سورة الحجرات مِنَ الآية 6
(5) يُرَاجَع اللُّمَع /44 ، 45
في قوله :" واللفظ إمَّا أنْ يَدُلّ على الحُكْم بصيغته ومنظومه ، أو بفحواه ومفهومه ، أو بمعناه ومعقوله ، وهو الاقتباس الذي يُسَمَّى " قياساً " فهذه ثلاثة فنون : المنظوم ، والمفهوم ، والمعقول " (1) ا.هـ .
ثُمّ عَبَّر عنْ أقسام الفحوى والمفهوم بقوله :" الفنّ الثاني : فيما يُقْتَبَس مِن الألفاظ مِن حيث صِيغتها بلْ مِن حيث فحواها وإشارتها ، وهي خمسة أَضْرُب :
الضرب الأول : ما يُسَمَّى " اقتضاءً " .
الضرب الثاني : ما يؤخَذ مِن إشارة اللفظ لا مِن اللفظ .
الضرب الثالث : فَهْم التعليل مِن إضافة الحُكْم إلى الوصف المناسب ، ويُسَمَّى " إيماءً " و" إشارةً " كَمَا يُسَمَّى " فَحْوَى الكلام " ولَحْنه " .(1/40)
الضرب الرابع : فَهْم غَيْر المنطوق به مِن المنطوق بدلالة سِيَاق الكلام ومقصوده ، ويُسَمَّى " مفهوم الموافَقة " و" فَحْوَى الخِطَاب " .
الضرب الخامس : هو المفهوم ، ويُسَمَّى " مفهوم المخالَفة " " (2) .
الثالث : أبو يعلى رحمه الله تعالى ..
في قوله :" وأمَّا مفهوم الأصل : فذلك على ثلاثة أَضْرُب :
الضرب الأول : مفهوم الخِطَاب ، ويُسَمَّى " فَحْوَى الخِطَاب " و" لَحْن القول " ( مفهوم الموافَقة ) .
الضرب الثاني : دليل الخِطَاب ( مفهوم المخالَفة ) .
الضرب الثالث : مَعْنَى الخِطَاب " (3) .
ومنهم مَن عَبَّر بـ( المعقول ) : كابن عقيل ـ رحمه الله ـ في قوله :
(1) المستصفى /180 ، 263
(2) يُرَاجَع المستصفى /263 - 265
(3) يُرَاجَع العُدَّة 1/72 ، 152 ، 154
" والمعقول : فَحْوَى الخِطَاب ، ودليل الخِطَاب ، ومَعْنَى الخِطَاب " ا.هـ ..
ولِذا فأقسام المفهوم ( المعقول ) عنده ثلاثة أقسام :
القِسْم الأول : فَحْوَى الخِطَاب ( مفهوم الموافَقة ) .
القِسْم الثاني : دليل الخِطَاب ( مفهوم المخالَفة ) .
القِسْم الثالث : مَعْنَى الخِطَاب ، وهو القياس " (1) .
ومنهم مَن عَبَّر بـ( معقول الأصل ) : كالباجي ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" ومعقول الأصل على أربعة أقسام : لَحْن الخِطَاب ، وفَحْوَى الخِطَاب ، والاستدلال بالحصر ، ومَعْنَى الخِطَاب " ا.هـ ، وذَكَر بَعْد ذلك دليل الخِطَاب ..
ولِذَا أَرَى أنّ أقسام المفهوم عند الباجي ـ رحمه الله ـ خمسة أقسام :
القِسْم الأول : لَحْن الخِطَاب ( دلالة الاقتضاء ) .
القِسْم الثاني : فَحْوَى الخِطَاب ( مفهوم الموافَقة ) .
القِسْم الثالث : الاستدلال بالحصر .
القِسْم الرابع : دليل الخِطَاب ( مفهوم المخالَفة ) .
القِسْم الخامس : مَعْنَى الخِطَاب ( القياس ) (2) .(1/41)
ومنهم مَن عَبَّر بـ( الفَحْوَى ) و( الإشارة ) : كابن قدامة ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" باب فيما يُقْتَبَس مِن الألفاظ مِن فحواها وإشارتها لا مِن صيغته " ، وقَسَّمه أربعة أَضْرُب :
الضرب الأول : يُسَمَّى " اقتضاءً " .
الضرب الثاني : فَهْم التعليل مِن إضافة الحُكْم إلى الوصف المناسب .
(1) الواضح 1/33
(2) يُرَاجَع إحكام الفصول /507 - 528
الضرب الثالث : التنبيه ، ويُسَمَّى " مفهوم الموافَقة " و" فَحْوَى اللفظ " .
الضرب الرابع : دليل الخِطَاب ، ويُسَمَّى " مفهوم المخالَفة (1) .
وتَبِعه في ذلك الطوفي رحمه الله تعالى (2) .
ومنهم مَن عَبَّر بـ( دلالة غَيْر المنظوم ) : كالآمدي رحمه الله تعالى ، وقَدْ قَسَّمه إلى أربعة أنواع :
النوع الأول : دلالة الاقتضاء .
النوع الثاني : دلالة التنبيه والإيماء .
النوع الثالث : دلالة الإشارة .
النوع الرابع : المفهوم (3) .
ومنهم مَن عَبَّر بـ( مَعْنَى الخِطَاب ) : كالفخر الرازي ـ رحمه الله ـ في قوله :" الخِطَاب إمَّا أنْ يَدُلّ على الحُكْم بلفظه أو بِمَعْنَاه أو لا يَكون كذلك " ، وحَصَر دلالة اللفظ على الحُكْم بِمَعْنَاه في الدّلالة الالتزاميّة والتي قَسَّمَها إلى قِسْمَيْن :
القِسْم الأول : ما يستفاد مِن مَعاني الألفاظ المُفْرَدَة وتَوَقَّف عليه عقلاً أو شرعاً ، وهو المُسَمَّى بـ" دلالة الاقتضاء " .
القِسْم الثاني : ما يستفاد مِن مَعاني الألفاظ المُرَكَّبَة ..
وهو إمَّا أنْ يَكون مِن مُكَمِّلات ذلك المَعْنَى أيْ موافِقاً له ( مفهوم الموافَقة ) ، وإمَّا أنْ لا يَكون مِن مُكَمِّلاته ..
وهو إمَّا أنْ يَكون مدلولاً عليه بالالتزام ثبوتيّاً ، وإمَّا أنْ يَكون مدلولاً عليه بالالتزام عدميّاً ( مفهوم المخالَفة ) (4) .
(1) يُرَاجَع روضة الناظر 2/770 - 775
(2) يُرَاجَع شَرْح مختصر الروضة 2/704 - 723
(3) يُرَاجَع الإحكام 2/17 - 73(1/42)
(4) يُرَاجَع المحصول 1/82 ، 83 ، 178 ، 179
وتَبِعَه في ذلك البيضاوي رحمه الله تعالى ، لكنّه عَبَّر بـ( المفهوم ) فقال :" الخِطَاب إمَّا أنْ يَدُلّ على الحُكْم بمنطوقه فيُحْمَل على الشرعي ثُمّ العرفي ثُمّ اللغوي ثُمّ المَجازي ، أو بمفهومه " ..
وقَسَّم المفهوم ثلاثة أقسام :
القِسْم الأول : ما يَلْزَم عن مُفْرَد تَوَقَّف عليه شرعاً أو عقلاً ، ويُسَمَّى " اقتضاءً " .
القِسْم الثاني : ما يَلْزَم عن مُرَكَّب موافِق ، وهو فَحْوَى الخِطَاب ( مفهوم الموافَقة ) .
القِسْم الثالث : ما يَلْزَم عن مُرَكَّب مخالِف ، ويُسَمَّى " دليل الخِطَاب " ( مفهوم المخالَفة ) (1) .
وتَبِعه في ذلك الأصفهاني وابن السبكي والإسنوي (2) والزركشي رحمهم الله تعالى (3) .
الفريق الثاني : مَن أراد بالمفهوم مَعْنَاه الأَخَصّ :
وهؤلاء أرادوا بالمفهوم : ما كان قاصراً على مَفْهُومَيِ الموافَقة والمخالَفة ..
ولِذا فإنَّهم قَسَّموا المفهوم بهذا المَعْنَى إلى قِسْمَيْن :
القِسْم الأول : مفهوم الموافَقة .
(1) يُرَاجَع المنهاج مع شَرْح المنهاج 1/282
(2) الإسنوي : هو أبو مُحَمَّد عبد الرحيم بن الحَسَن بن علِيّ بن عُمَر بن علِيّ بن إبراهيم القرشي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بإسنا سَنَة 704 هـ .
مِن تصانيفه : المبهمات على الروضة ، الأشباه والنظائر ، التمهيد ، نهاية السول .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 772 هـ .
الدرر الكامنة 2/354 والفتح المبين 2/193 ، 194
(3) يُرَاجَع : شَرْح المنهاج 1/282 ، 283 والإبهاج 1/366 ، 367 ونهاية السول 1/232 والبحر المحيط 4/6
القِسْم الثاني : مفهوم المخالَفة .
ولَقَدْ ذَكَر إمام الحرميْن ـ رحمه الله تعالى ـ أنّ الإمام الشافعي - رضي الله عنه - قال بذلك في قوله :" وأمَّا ما ليس منطوقاً به ولكنّ المنطوق به مُشْعِر به : فهو الذي سَمَّاه الأصوليّون المفهومَ ، والشافعي قائل به ... " ..(1/43)
ثُمّ قال :" فمِمَّا ذَكَره : أنْ قال : المفهوم قِسْمان : مفهوم موافَقة ، ومفهوم مخالَفة " (1) ا.هـ .
كَمَا نَهَج كثير مِن الأصوليّين هذا النهج في تقسيم المفهوم ، أَذكر منهم :
ابن الحاجب ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" الدّلالة منطوق ، وهو ما دَلّ عليه اللفظ في محلّ النطق ، والمفهوم بخِلاَفه ، أيْ لا في محلّ النطق ...
ثُمّ المفهوم مفهوم موافَقة ومفهوم مخالَفة " (2) ا.هـ .
وهو تقسيم الآمدي رحمه الله تعالى وابن السبكي ـ رحمهما الله تعالى ـ في " جَمْع الجوامع " (3) .
والفتوحي ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" فالمفهوم نوعان :
أحدهما : مفهوم موافَقة .
والثاني : مفهوم مخالَفة " (4) ا.هـ .
والشوكاني ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" والمفهوم يَنقسم إلى : مفهوم موافَقة ، ومفهوم مخالَفة " (5) ا.هـ .
(1) البرهان 1/449
(2) مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/171 ، 172
(3) يُرَاجَع : الإحكام 3/74 وجَمْع الجوامع 1/245
(4) شَرْح الكوكب المنير 3/481
(5) إرشاد الفحول /178
ونَسَب ابن الهمام ـ رحمه الله تعالى ـ هذا التقسيم إلى الشّافعيّة (1) ، وفيها نظر .
كَمَا نَسَب السالمي ـ رحمه الله تعالى ـ هذا التقسيم إلى بَعْض الأصوليّين في قوله :" يَنقسم الدّالّ بدلالته ـ وهو الذي عَبَّر عنه الأصوليّون منَّا ومِن الشّافعيّة وغَيْرهم بـ( مفهوم الخِطَاب ) ـ إلى قِسْمَيْن : مفهوم موافَقة ، ومفهوم مخالَفة " (2) ا.هـ .
وهذا التقسيم لِلمفهوم هو الذي صار عليه بَعْض الأصوليّين المتأخِّرين (3) .
خامساً - تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على أقسام المفهوم عند الأصوليّين يُمْكِن التَّوَصُّل إلى ما يلي :
1- أنّ الأصوليّين غَيْر الحنفيّة اتَّفَقوا على أنّ المفهوم يَنقسم إلى قِسْمَيْن : مفهوم موافَقة ، ومفهوم مخالَفة ..(1/44)
ثُمّ اختلَفوا في أقسام أخرى غَيْرهما : فمنهم مَن أضاف دلالة الاقتضاء ومنهم مَن أضاف الدّلالات الثّلاث ، ومنهم مَن أضاف الحصر ، ومنهم مَن أضاف مَعْنَى الخِطَاب ( القياس ) .
2- أنّنا لو حَصَرْنَا أقسام المفهوم عند الجميع لَصارت سَبْعَةً :
الأول : مفهوم الموافَقة .
الثاني : مفهوم المخالَفة .
الثالث : دلالة الاقتضاء .
(1) يُرَاجَع تيسير التحرير 1/94 - 98
(2) شَرْح طلعة الشمس 1/258
(3) يُرَاجَع : عِلْم أصول الفقه لِخَلاّف /160 - 164 ومَباحث في أصول الفقه /53
الرابع : دلالة الإشارة .
الخامس : دلالة الإيماء ( التنبيه ) .
السادس : الحصر .
السابع : مَعْنَى الخِطَاب ( القياس ) .
3- أنّ هذه الأقسام السبعة الجامع بَيْنها : أنَّها لا تؤخَذ مِن منطوق اللفظ مباشَرةً ، أو على حَدّ تعبير ابن الحاجب ـ رحمه الله تعالى ـ في تعريف المفهوم : ما دَلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق ..
وهو تعريف واسِع يَستوعب كُلَّ دلالة لِللفظ غَيْر منطوقة ، وليس المفهوميْن كَمَا ذَهَب ابن الحاجب ـ رحمه الله تعالى ـ ومَن تَبِعه .
وفي هذا يقول الزركشي رحمه الله تعالى :" وأمَّا الآمدي وابن الحاجب : فجَعَلاَه ( الاقتضاء ) مِن فَنّ المنطوق ، وكذا الإيماء والإشارة ، مع تفسيرهما المنطوق بـ( دلالة اللفظ في محلّ النطق ) ، والمفهوم بـ( دلالة اللفظ لا في محلّ النطق ) ، وهذا بعيد مِن التوجيه ، مخالِف لِمَا ذَكَره أئمة الأصول ؛ فإنَّهم قالوا : سُمِّي المفهوم " مفهوماً " لأنَّه فُهِم مِن غَيْر التصريح بالتعبير عنه ، وهذا المَعْنَى شامِل لِلاقتضاء والإيماء والإشارة أيضاً ، فتَكون هذه الأقسام مِن قَبِيل المفهوم لا المنطوق " (1) ا.هـ .
4- أنّ الحصر أحد أقسام مفهوم المخالَفة ، ولِذَا فالأَوْلى استبعاده مِن الأقسام السبعة المتقدِّمة .(1/45)
5- أنّ القياس أحد مفهومات الأصل ( المنطوق ) ، لكنّي رَجَّحْتُ ـ فيما تَقَدَّم ــ إفراده على المفهوم ؛ تابعاً في ذلك لِحُجَّة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى .
(1) البحر المحيط 4/6
6- أنِّي رَجَّحْتُ في مطلب ( دلالة اللفظ على الحُكْم عند غَيْر الحنفيّة ) ما عليه الكثرة مِن الأصوليّين مِن تقسيم دلالة اللفظ أو الخِطَاب على الحُكْم إلى قِسْمَيْن :
الأول : ما يَدُلّ عليه بلَفْظه ومنظومه ، وهو المنطوق .
الثاني : ما يَدُلّ عليه بفحواه ومفهومه ، وهو المفهوم .
ولِذَا كان المفهوم عندي : كُلّ حُكْم ليس مأخوذاً مِن منطوق اللفظ ، فيدخل فيه المفهوم بِنَوْعَيْه والدّلالات الثلاث ، ويخرج عنه القياس ؛ لِمَا بَيَّنّاه آنفاً .
7- ومِمَّا تَقَدَّم أَرَى تقسيم المفهوم إلى خمسة أقسام :
الأول : دلالة الاقتضاء .
الثاني : دلالة الإشارة .
الثالث : دلالة الإيماء ( التنبيه ) .
الرابع : مفهوم الموافَقة .
الخامس : مفهوم المخالَفة .
8- أنّ موضوع بحثي هذا هو دلالة المفهوم على الأحكام ، ولِذَا كان لزاماً عَلَيّ أنْ أُدْرِج فيه كُلَّ مفهوم لللفظ فيه دلالة على حُكْم حتّى وإنْ كان مختلَفاً في اعتباره كأحد أقسام فَحْوَى اللفظ ومفهومه .
المطلب الثالث
دلالة الاقتضاء (1)
الحديث في هذا المطلب يُمْكِن تقسيمه على النحو التالي :
1- تعريف الاقتضاء .
2- شروط الاقتضاء .
3- أركان الاقتضاء .
4- أقسام دلالة الاقتضاء .
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها فيما يلي ..
أوّلاً - تعريف الاقتضاء :
والاقتضاء لغةً : الطلب ، ومنه " اقتضى دَيْنَه وتقاضاه " أيْ طَلَبَه ، و" استقضَى فلاناً " طَلَب إليه أنْ يقضيه (2) .
(1) عَبَّر الحنفيّة عن هذا المطلب بـ( اقتضاء النَّصّ ) أو ( المقتضى ) ، وكذلك الحال في الدّلالتيْن التّاليتيْن ..
وعَبَّر غَيْر الحنفيّة عنه بتعبيريْن :
الأول : ( الاقتضاء ) .(1/46)
وهو ما عليه الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ ومَن تَبِعه .
والثاني : ( دلالة الاقتضاء ) .
وهو اختيار الفخر الرازي والآمدي والقرافي رحمهم الله تعالى .
يُرَاجَع : المستصفى /263 وروضة الناظر 2/770 والمحصول 1/83 والإحكام 3/72 وأصول الشاشي /108 وأصول السرخسي 1/248 وشَرْح تنقيح الفصول /53 وكَشْف الأسرار لِلبخاري 1/188 والمنار مع حاشية نسمات الأسحار /148 والتوضيح مع التنقيح 1/256
(2) يُرَاجَع : الصحاح 6/2464 ولسان العرب 15/187 والقاموس المحيط 4/381 وكَشْف الأسرار لِلبخاري 1/188 وحاشية نسمات الأسحار /149 وعمدة الحواشي /111
واصطلاحاً : عَرَّفه الأصوليّون بتعريفات عِدّة ، أَذكر منها ما يلي :
التعريف الأول : الذي لا يَدُلّ عليه اللفظ ولا يَكون منطوقاً به ولكنْ يَكون مِن ضرورة اللفظ .
وهو تعريف حُجَّة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى (1) .
التعريف الثاني : ما يَكون مِن ضرورة اللفظ وليس بمنطوقه .
وهو تعريف ابن قدامة رحمه الله تعالى (2) .
التعريف الثالث : ما كان المدلول فيه مُضْمَراً : إمَّا لِضرورة صِدْق المتكلِّم وإمَّا لِصِحَّة وقوع الملفوظ به .
وهو تعريف الآمدي رحمه الله تعالى (3) .
التعريف الرابع : ما دَلّ عليه ( القول ) وحُذِف استغناءً عنه بدليل الكلام عليه .
وهو تعريف القاضي أبي يعلى رحمه الله تعالى (4) .
التعريف الخامس : دلالة اللفظ التزاماً على ما لا يَسْتَقِلّ الحُكْم إلا به ، وإنْ كان اللفظ لا يقتضيه وضعاً .
وهو تعريف القرافي رحمه الله تعالى (5) .
التعريف السادس : ما كان مقصوداً لِلمتكلِّم ويتوقَّف صِدْق الكلام عليه أو صِحَّته العقليّة أو الشّرعيّة .
وهو تعريف عضد الدِّين الإيجي رحمه الله تعالى ، واختاره الفتوحي
(1) المستصفى /263
(2) روضة الناظر 2/770
(3) الإحكام 3/71
(4) العُدّة 1/154
(5) شَرْح تنقيح الفصول /53
والسالمي رحمهم الله تعالى (1) .(1/47)
التعريف السابع : زيادة على النَّصّ لا يَتَحَقَّق مَعْنَى النَّصّ إلا به .
وهو تعريف الشاشي رحمه الله تعالى (2) .
التعريف الثامن : زيادة على المنصوص عليه يُشترَط تقديمه لِيَصير المنظوم مفيداً أو مُوجِباً لِلحُكْم .
وهو تعريف السرخسي رحمه الله تعالى (3) .
التعريف التاسع : ما ثَبَت زيادةً على النَّصّ لِتصحيحه شرعاً .
وهو تعريف البخاري رحمه الله تعالى (4) .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على تعريفات بَعْض الأصوليّين لِلاقتضاء يُمْكِن التوصل إلى ما يلي :
1- أنّ التعريفات الأول والثاني والخامس نَصَّتْ صراحةً على أنّ الاقتضاء ليس مأخوذاً مِن منطوق اللفظ ، مِمَّا يؤكِّد ترجيحي أنّ دلالة الاقتضاء أحد أقسام المفهوم ، وليس أحد أقسام المنطوق غَيْر الصريح .
2- أنّ تعريفات الحنفيّة اعتبرَتْ الاقتضاء زيادةً على المنصوص عليه أي المنطوق ، وهي في ذلك تَلتقي مع تعريفات غَيْر الحنفيّة في أنَّه ليس منطوقاً وإنَّمَا دَلّ عليه المنطوق .
3- أنّ التعريفات جميعها مُتَّفِقَة على أنّ الاقتضاء يتوقَّف عليه صِدْق الكلام أو صِحَّته الشّرعيّة أو العقليّة ، ولِذا كان مِن ضرورة اللفظ تقدير
(1) يُرَاجَع : شَرْح العضد مع المختصر 2/172 وشَرْح الكوكب المنير 3/474 ، 475 وشَرْح طلعة الشمس 1/257
(2) أصول الشاشي /109
(3) أصول السرخسي 1/248
(4) كَشْف الأسرار 1/189
هذا المُضْمَر الذي لا يَتِمّ ولا يَتحقَّق مَعْنَى النَّصّ إلا به .
4- أنّ الراجح عندي : تعريف دلالة الاقتضاء بأنَّها : المُضْمَر المقصود الذي يتوقَّف عليه صِدْق الكلام أو صِحّته شرعاً أو عقلاً ..
وهو مُقْتَبَس مِن تعريفات العضد والطوفي والفتوحي والسالمي رحمهم الله تعالى (1) .
ثانياً - شروط الاقتضاء :
لقَدْ حَصَرْتُ شروط الاقتضاء ـ على ضوء تعريفات الأصوليّين له ـ فيما يلي :
الشَّرْط الأول : أنْ يَكون مُضْمَراً ..(1/48)
أيْ غَيْر منطوق به ؛ لأنَّه لو أُظْهِر المُضْمَر لأَصْبَح منطوقاً صريحاً ، ولا يُسَمَّى " اقتضاءً " حينئذٍ .
الشَّرْط الثاني : أنْ يَتَوَقَّف صِحَّة الكلام أو صِدْقُه عليه ..
وإذا كان الاقتضاء مَبْنِيّاً على الإضمار فإنَّه ضروريّ وتقديره في العبارة واجِب ؛ حتّى يُصْبِح الكلام صحيحاً أو صادقاً .
الشَّرْط الثالث : أنْ لا يَدُلّ عليه اللفظ ..
لأنّ اللفظ لو دَلّ عليه لَخَرَج عن كَوْنه اقتضاءً ، ولَصار حينئذٍ إيماءً أو إشارةً أو مفهوماً .
الشَّرْط الرابع : أنْ يَكون مقصوداً لِلمتكلِّم ..
هذا الشَّرْط نَصّ عليه بَعْض الأصوليّين : كالآمدي والفتوحي والسالمي رحمهم الله تعالى (2) ، وأرادوا به قَصْد الإضمار مِن المتكلِّم ؛ لِيخرج عن
(1) يُرَاجَع : شَرْح العضد 2/172 وشَرْح الكوكب المنير 3/474 ، 475 وشَرْح طلعة الشمس 1/257 وشَرْح مختصر الروضة 2/704
(2) يُرَاجَع : الإحكام 3/71 وشَرْح الكوكب المنير 3/474 وشَرْح طلعة الشمس 1/257
الاقتضاء ما حُذِف أو أُضْمِر مِن الكلام بِلا قَصْد ، وكَذَا دلالة الإشارة ؛ لأنَّهَا غَيْر مقصودة ولا سيق النَّصّ لها .
ثالثاً - أركان الاقتضاء :
حَصَر بَعْض الأصوليّين أركان الاقتضاء في أربعة :
الركن الأول : المقتضِي [ بالكسر ] ، وهو النَّصّ .
الركن الثاني : المقتضَى [ بالفتح ] ، وهو المُضْمَر المحذوف .
الركن الثالث : الاقتضاء ، وهو طلب النَّصّ له .
الركن الرابع : حُكْم المُقْتَضَى ، وهو ما ثَبَت بالنَّصّ (1) .
وأَوْرَد البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ وَجْه حَصْر هذه الأركان في قوله :" واعلم أنّ الشرع مَتَى دَلّ على زيادة شيء في الكلام لِصيانته عن اللغو ونَحْوه فالحامل على الزيادة ـ وهو صيانة الكلام ـ هو المقتضِي ، والمزيد هو المقتضَى ، ودلالة الشرع على أنّ هذا الكلام لا يَصِحّ إلا بالزيادة هو الاقتضاء .. كذا ذَكَر بَعْض المحقِّقين ..(1/49)
وقيل : الكلام الذي لا يَصِحّ شرعاً إلا بالزيادة هو المقتضِي ، وطلبُه الزيادة هو الاقتضاء ، والمزيد هو المقتضَى ، وما ثَبَت به هو حُكْم المقتضى .
ومثاله المشهور : قولك لِغَيْرك " أَعْتِقْ عَبْدَك عني بألْف " ؛ فنَفْس هذا الكلام هو المقتضِي لِعدم صِحَّته في نَفْسه شرعاً ، وطلبه ما يَصِحّ به اقتضاء ، وما زيد عليه ـ وهو البيع ـ مقتضى ، وما ثَبَت بالبيع ـ وهو المِلك ـ حُكْم المقتضى " (2) ا.هـ .
(1) يُرَاجَع : حاشية نسمات الأسحار مع شَرْح إفاضة الأنوار /118 ، 119 وشَرْح مختصر الروضة 2/709
(2) كَشْف الأسرار 1/189
رابعاً - أقسام دلالة الاقتضاء :
قَسَّم الأصوليّون المقتضَى ـ وهو المضمر الذي تتوقَّف عليه دلالة اللفظ وتمام مَعْنَاه ـ إلى أقسام ثلاثة :
القِسْم الأول : ما توقَّف صِدْق الكلام عليه .
مثاله : حديث { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْه } (1) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بَيَّن في هذا النَّصّ بَعْض فضائل أُمَّته - صلى الله عليه وسلم - بأنّ الله تعالى رَفَع عنها الخطأ والنسيان والفعل المُكْرَه عليه ، وهذه الثلاثة بحدوثها قَدْ وَقَعَتْ ، فكَيْف تُرْفَع ؟
ولِذَا كان صِدْق هذا الكلام متوقِّفاً على مُضْمَر محذوف تقديره : رُفِع عن أُمَّتي الإثم والمؤاخَذة فيما أخطأوا فيه أو نسوه أو اسْتُكْرِهوا عليه (2) .
وَجْه التفريع على دلالة المفهوم :
أنّ هذا النَّصّ الكريم أفاد مفهومه المَبْنِي على اقتضاء المُضْمَر الذي توقَّف صِدْق النَّصّ عليه أنّ الخطأ والنسيان والمُكْرَه لا إثم عليه ، ولا حرج على واحد مِن الأُمَّة في إتيان واحد منها .
القِسْم الثاني : ما توقَّف صِحَّة الكلام عليه شرعاً .
مثاله : قوله تعالى { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَر } (1) ..(1/50)
وَجْه الدّلالة : أنّ الله تعالى بَيَّن لنا حُكْم المريض والمسافر في وجوب
(1) سبق تخريجه .
(2) يُرَاجَع : المستصفى /263 وأصول السرخسي 1/252 والإحكام لِلآمدي 3/72 وشَرْح العضد مع المختصر 2/171 ، 172 وأصول السرخسي 1/251 والمغني لِلخبازي /158 وشَرْح طلعة الشمس 1/257
(3) سورة البقرة مِنَ الآية 184
قضاء الصوم عليهما ، والقضاء لا يجب إلا لِمَنْ أَفْطَر في نهار رمضان لِمَرَضه أو سفره ، أمَّا إذا صام في سفره فلا قضاء عليه ، ولِذَا كان لا بُدّ مِن مُضْمَر محذوف تقديره ( فأَفْطِرْ ) ؛ حتّى يُصْبِح الحُكْم صحيحاً شرعاً ومقبولاً (1) .
وَجْه التفريع على دلالة المفهوم :
أنّ هذا النَّصّ الكريم أفاد مفهومُه المَبْنِي على اقتضاء المُضْمَر الذي توقَّف صِحَّة الكلام عليه شرعاً أنّ المريض والمسافر إذا أَفْطَرَا في رمضان وَجَب عليهما القضاء .
القِسْم الثالث : ما توقَّف صِحَّة الكلام عليه عقلاً .
مثاله : قوله تعالى { وَسْئَلِ الْقَرْيَة } (2) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ الله تعالى أَخْبَر عن إخوة يوسف عليهم السلام أنْ يسأل القرية ، والعقل يأبى ذلك ؛ لأنَّها جدران وأبنية ..
ولِذَا كان صِحَّة هذا الكلام عقلاً متوقِّفةً على مُضْمَر محذوف تقديره ( أهْل ) ؛ لأنَّهم هم الذين يَصِحّ منهم إجابة السؤال (3) .
وَجْه التفريع على دلالة المفهوم :
أنّ هذا النَّصّ الكريم أفاد بمفهومه المَبْنِي على اقتضاء المُضْمَر الذي توقَّف صِحَّة الكلام عليه أنّ إخوة يوسف ـ عليهم السلام ـ طَلَبوا مِن أبيهم - عليه السلام - سؤال أهْل القرية عن صِدْق دعواهم .
(1) يُرَاجَع : روضة الناظر 2/770 وشَرْح مختصر الروضة 710
(2) سورة يوسف مِنَ الآية 82(1/51)
(3) يُرَاجَع : المستصفى /263 والإحكام لِلآمدي 3/72 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/171 172 وأصول السرخسي 1/251 وشَرْح الكوكب المنير 3/474 ، 475 وشَرْح طلعة الشمس 1/257 وشَرْح مختصر الروضة 2/711 والمُغْنِي لِلخبازي /158 وميزان العقول /403
المطلب الرابع
دلالة الإشارة
هذا المطلب يُمْكِن تقسيم الحديث فيه على النحو التالي :
1- تعريف الإشارة لغةً .
2- تعريف دلالة الإشارة اصطلاحاً .
3- شروط دلالة الإشارة .
4- أمثلة دلالة الإشارة .
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها فيما يلي ..
أوّلاً - تعريف الإشارة لغةً :
الإشارة في اللغة : مَصْدَر " أشار " ؛ يقال " أشار الرَّجُل يشير إشارةً " إذا أومأ بيديْه ، ويقال " شَوَّرْتُ إليه بِيَدي وأَشَرْتُ إليه " أيْ لَوَّحْتُ إليه وأَلَحْتُ أيضاً ، و" أشار إليه باليد " أومأ وأشار عليه بالرأي (1) .
ثانياً - تعريف دلالة الإشارة اصطلاحاً :
عَرَّف الأصوليّون دلالة الإشارة أو إشارة النَّصّ بتعريفات عِدَّة ، أَذكر منها ما يلي :
التعريف الأول : العمل بما ثَبَت بنَظْمه لغةً لكنّه غَيْر مقصود ولا سيق له النَّصّ وليس بظاهر مِن كُلّ وَجْه (2) .
وهو تعريف البزدوي رحمه الله تعالى ، واختاره النسفي رحمه الله
(1) يُرَاجَع لسان العرب 4/437
(2) أصول البزدوي مع كَشْف الأسرار 1/174 ، 175
تعالى (1) .
التعريف الثاني : ما ثَبَت بنَظْم مِن غَيْر زيادة وهو غَيْر ظاهِر مِن كُلّ وَجْه ولا سيق الكلام لأجْله .
وهو تعريف الشاشي رحمه الله تعالى (2) .
التعريف الثالث : ما يتسع اللفظ مِن غَيْر تجريد قصْد إليه .
وهو تعريف الغزالي رحمه الله تعالى (3) .
التعريف الرابع : ما كان مدلوله غَيْرَ مقصود لِلمتكلِّم .
وهو تعريف الآمدي رحمه الله تعالى (4) .
التعريف الخامس : ما كان المَعْنَى المستفاد مِن اللفظ غَيْرَ مقصود لِلمتكلِّم .
وهو تعريف الفتوحي رحمه الله تعالى (5) .(1/52)
التعريف السادس : دلالة اللفظ على ما لم يُقْصَدْ به أصلاً .
وهو تعريف ابن الهمام رحمه الله تعالى (6) .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على تعريفات بَعْض الأصوليّين لِدلالة الإشارة يُمْكِن التوصل إلى ما يلي :
1- أنّ جميع التعريفات مُتَّفِقَة على أنّ دلالة الإشارة غَيْر مقصودة لِلمتكلِّم .
2- أنّ التّعْريفيْن الأول والثاني هُمَا أَكْثَر التعريفات قيوداً ، ولِذَا فهُمَا أَوْلى بالقبول والاختيار .
(1) كَشْف الأسرار لِلنسفي 1/375 والمنار مع حاشية نسمات الأسحار /145
(2) أصول الشاشي /99 - 101
(3) المستصفى /263
(4) الإحكام 3/71
(5) شَرْح الكوكب المنير 3/476
(6) التحرير مع التيسير 1/87
3- أنّ الراجح عندي : تعريف دلالة الإشارة بأنَّهَا : المَعْنَى المستفاد مِن اللفظ غَيْر مقصود لِلمتكلِّم ولا سيق الكلام لأجْله وليس بظاهِر مِن كُلّ وَجْه ..
وهو مُقْتَبَس مِن تعريفات الشاشي والبزدوي والفتوحي رحمهم الله (1) .
ثالثاً - شروط دلالة الإشارة :
لقَدْ حَصَرْتُ شروط دلالة الإشارة على ضوء التعريف الراجح لها فيما يلي :
1- أنْ يَكون المَعْنَى المستفاد مِن اللفظ غَيْرَ مقصود لِلمتكلِّم .
2- أنْ لا يَكون الكلام قَدْ سيق لأجْل هذا المَعْنَى ، فإنْ كان المَعْنَى مقصوداً وسيق الكلام لأجْله كان دلالةَ اقتضاء لا إشارة .
3- أنْ يَكون هذا المَعْنَى المستفاد ليس ظاهراً مِن كُلّ وَجْه مِن وجوه اللفظ لأنَّه لو كان كذلك لأَصْبَح منطوقاً صريحاً .
رابعاً - أمثلة دلالة الإشارة :
المثال الأول : قوله تعالى { وَحَمْلُهُ وَفِصَلُهُ ثَلَثُونَ شَهْرا } (2) مع قوله تعالى { وَفِصَلُهُ فِى عَامَيْن } (3) ..(1/53)
وَجْه الدّلالة : أنّ الآية الأولى جَمَعَتْ مُدّة الحَمْل والرّضاع في ثلاثين شهراً ، والآية الثانية حَدَّدَتْ مُدّة الرّضاع بعاميْن ، وكلاهما وَرَد لإظهار مِنَّة الوالدة على الولد ، ومِن مجموعهما أَخَذْنَا حُكْماً ليس مقصوداً مِن الكلام ولا سيق لأجْله ، ألاَ وهو : أنّ أَقَلّ مُدّة الحَمْل سِتّة أَشْهُر ، وهو
(1) يُرَاجَع : أصول الشاشي /99 - 101 وأصول البزدوي مع كَشْف الأسرار 1/174 ، 175 وشَرْح الكوكب المنير 3/476
(2) سورة الأحقاف مِنَ الآية 15
(3) سورة لقمان مِنَ الآية 14
حُكْم مأخوذ مِن إشارة النَّصّ (1) .
وَجْه التفريع :
أنّا أَخَذْنَا حُكْماً مِن مفهوم هذيْن النَّصَّيْن بدلالة الإشارة ، وهو : أنّ أَقَلّ مُدّة الحَمْل سِتّة أَشْهُر .
المثال الثاني : قوله تَبَارَك وتعالى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف } (2) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ نصّ الآية ومنطوقها أفاد وجوب نفقة المولود والكسوة على الوالد ، كَمَا أفاد بالإشارة نسبة الولد إلى الأب ؛ لأنَّه أضاف الولدَ إليه بحَرْف اللام التي تفيد التمليك ، كَمَا أشار ـ أيضاً ـ أنّ الأب لا يشاركه في النفقة على الولد غَيْرُه (3) .
وَجْه التفريع :
أنَّا أَخَذْنَا أحكاماً مِن مفهوم هذا النَّصّ بدلالة الإشارة ، منها : أنّ النسب إلى الآباء ، وأنّ لِلأب حقّاً في مال ولده ، وأنّ الأب مُخْتَصّ بنفقة ولده وكسْوته .
المثال الثالث : قوله - صلى الله عليه وسلم - في النساء { نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِين } قِيل :" مَا نُقْصَانُ دِينِهِنّ ؟ " فقال - صلى الله عليه وسلم - { تَقْعُدُ إِحْدَاهُنَّ فِي قَعْرِ بَيْتِهَا شَطْرَ دَهْرِهَا(1/54)
(1) يُرَاجَع : أصول البزدوي مع كَشْف الأسرار 1/179 والمستصفى /264 والمحصول 1/179 والمغني لِلخبازي /151 وأصول السرخسي 1/237 وعمدة الحواشي مع أصول الشاشي /101 وشَرْح العضد 2/172 وأصول الفقه لابن مفلح /1058
(2) سورة البقرة مِنَ الآية 233
(3) يُرَاجَع : أصول البزدوي مع كَشْف الأسرار 1/175 والمغني لِلخبازي /149 ، 150 والمنار مع شَرْح إفاضة الأنوار /145 وأصول السرخسي 1/237 والتوضيح مع التنقيح 1/243 وتيسير التحرير 1/87 ، 88
لاَ تُصَلِّي وَلاَ تَصُوم } (1) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بَيَّن سبب نقصان دِين المرأة أنَّهَا لا تصوم ولا تُصَلِّي نِصْفَ عُمُرِهَا ، وفي هذا إشارة إلى أَكْثَر الحيض وأَقَلّ الطهر ، وهو خمسة عَشَر يوماً مِن الشهر (2) .
وَجْه التفريع :
أنّ أَقَلّ مُدّة الطهر خمسة عَشَر يوماً ، وأَكْثَر الحيض كذلك ، وهو حُكْم مَبْنِيّ على مفهوم النَّصّ الشّريف بدلالة الإشارة .
(1) أَخْرَجه البخاري في كِتَاب الحَيْض : باب تَرْك الحائضِ الصَّوْمَ برقم ( 293 ) عَنْ أَبِي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، ومُسْلِم في كِتَاب الإيمان : باب بيان نقصان الإيمان بنقصان الطاعات برقم ( 114 ) وأبو داود في كِتَاب السُّنَّة : باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه برقم ( 4059 ) كلاهما عَنْ عَبْد الله بن عُمَر رضي الله عَنْهُمَا .
(2) يُرَاجَع : المستصفى /263 والمختصر مع شَرْح العضد 2/171 ، 172 وشَرْح مختصر الروضة 2/711 ، 712 وشَرْح الكوكب المنير 3/476
المطلب الخامس
دلالة الإيماء ( التنبيه )
الحديث في هذا المطلب يُمْكِن تقسيمه على النحو التالي :
1- تعريف الإيماء والتنبيه لغةً .
2- تعريف دلالة الإيماء اصطلاحاً .
3- شروط دلالة الإيماء .
4- أنواع دلالة الإيماء .
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها فيما يلي ..
أوّلاً - تعريف الإيماء والتنبيه لغةً :(1/55)
الإيماء لغةً : مَصْدَر " أومئ " ؛ يقال " أوْمأْتُ إليه أُومِئ إيماءً " الإشارة بالأعضاء كالرأس واليد والعَيْن والحاجب ، وإنَّمَا يريد به ها هُنَا الرأس (1) .
والتنبيه لغةً : مَصْدَر " نَبَّه " ، وهو إعلام ما في ضمير المتكلِّم لِلمخاطَب ، مِن " نَبَّهْتُه " بمَعْنَى رَفَعْتُه مِن الخمول ، أو مِن " نَبَّهْتُه مِن نَوْمه " بمَعْنَى أَيْقَظْتُه مِن نَوْم الغفلة ، أو مِن " نَبَّهْتُه على الشيء " بمَعْنَى وَقَفْتُه عليه (2) .
ثانياً - تعريف دلالة الإيماء اصطلاحاً :
عَرَّف الأصوليّون دلالة الإيماء بتعريفات عديدة ..
(1) يُرَاجَع : لسان العرب 15/415 والقاموس المحيط 2/67
(2) يُرَاجَع : الكليات /288 والصحاح 6/2252
أَذكر منها ما يلي :
التعريف الأول : فَهْم التعليل مِن إضافة الحُكْم إلى الوصف المناسب .
وهو تعريف حُجّة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى ، واختاره ابن قدامة رحمه الله تعالى (1) .
التعريف الثاني : اقتران اللفظ بحُكْم لو لم يَكُنْ لِلتعليل لَكان بعيداً .
وهو تعريف ابن الحاجب رحمه الله تعالى ، واختاره الفتوحي رحمه الله تعالى (2) .
التعريف الثالث : تعليل الحُكْم بما اقترَن به مِن الوصف المناسب .
وهو تعريف الطوفي رحمه الله تعالى (3) .
التعريف الرابع : دلالة اللفظ على لازِم مقصود بسبب قرانه بما لو لم يَكُنْ هو عِلَّةً له لَكان بعيداً .
وهو تعريف أمير بادشاه رحمه الله تعالى (4) .
والأَوْلى عندي : تعريف دلالة الإيماء ( التنبيه ) بأنَّهَا : اقتران اللفظ بحُكْم مضاف إلى وَصْف مناسِب يُفْهَم منه عِلِّيَّتُه لِلحُكْم ..
وهو مُقْتَبَس مِن التعريفات السابقة كُلّها .
ثالثاً - شروط دلالة الإيماء :
ويُمْكِن حَصْر شروط دلالة الإيماء فيما يلي :
1- وجود حُكْم شَرْعيّ .
2- اقتران هذا الحُكْم بوصف مناسِب .
(1) يُرَاجَع : المستصفى /264 وروضة الناظر 2/771(1/56)
(2) يُرَاجَع : المختصر مع شَرْح العضد 2/171 ، 172 وشَرْح الكوكب المنير 3/477
(3) يُرَاجَع مختصر الروضة 2/712
(4) يُرَاجَع تيسير التحرير 1/92
3- أنْ يَكون هذا الوصف عِلَّةً لِلحُكْم المذكور .
رابعاً - أنواع دلالة الإيماء :
ذَكَر الأصوليّون أنواعاً لِلإيماء باعتباره أحد مَسالك العِلَّة ، منها ما يلي :
النوع الأول : تعليق الحُكْم على العِلَّة بالفاء التي هي لِلتعقيب والتسبيب ..
وهو على وَجْهيْن :
الوجه الأول : دخول الفاء على العِلَّة ويَكون الحُكْم متقدِّماً .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - في المُحْرِم الذي وَقَصَتْه ناقتُه { لاَ تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ ؛ فَإِنَّهُ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيا } (1) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا الحديث أفاد منطوقه حرمة مَسّ الطِّيب لِلمُحْرِم المَيِّت ، وفيه تنبيه وإيماء إلى أنّ الإحرام هو العِلَّة في المَنْع والتحريم .
الوجه الثاني : دخول الفاء على الحُكْم مع تَقَدُّم العِلَّة .
مثاله : قوله تعالى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } (2) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ منطوق الآية الكريمة أفاد وجوب قَطْع يد السارق والسارقة ، وفيه تنبيه وإيماء إلى أنّ السرقة هي العِلَّة في هذا الحُكْم .
النوع الثاني : أنْ يُذْكَر الحُكْم مترتِّباً على وصْف هو عِلَّتُه ..
وله وجهان :
الوجه الأول : أنْ يَكون مع سؤال في محلّه .
(1) أَخرَجه البخاري في كتاب الحجّ : باب المُحْرِم يموت بعرفة برقم ( 1718 ) ومسلِم في كتاب الحجّ : باب ما يُفعَل بالمُحْرِم إذا مات برقم ( 2092 ) والنسائي في كتاب مناسك الحجّ : باب تخمير المُحْرِم وجْهه ورأْسه برقم ( 2665 ) ، كُلّهم عن ابن عباس رضي الله عنهما .
(2) سورة المائدة مِنَ الآية 38(1/57)
مثاله : حديث الأعرابي :" وَاقَعْتُ أَهْلِي فِي شَهْرِ رَمَضَان " فقال له النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - { أَعْتِقْ رَقَبَة } (1) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه وجوب الكفارة على مَن جامَع في نهار رمضان ، وفيه إيماء على أنّ الوقاع عِلّة العتق أو الكفارة .
الوجه الثاني : أنْ يَكون مع سؤال في نظيره .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - وقَدْ سأَلَتْه الخثعميّة :" إِنَّ أَبِي أَدْرَكَتْهُ الْوَفَاةُ وَعَلَيْهِ فَرِيضَةُ الْحَجِّ ؛ أَفَيَنْفَعُهُ إِنْ حَجَجْتُ عَنْه ؟ " فقال - صلى الله عليه وسلم - { أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ : أَكَانَ يَنْفَعُهُ ذَلِك } قالت :" نَعَم " ، فقال - صلى الله عليه وسلم - { فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى } (3) .
وَجْه الدّلالة : أنّ منطوق الحديث أفاد جواز حجّ الابن أو البنت عن أبيه ، وفيه تنبيه إلى عِلّة الحُكْم أنّ الحجّ دَيْن كدَيْن الآدمي يسقط بالقضاء .
النوع الثالث : أنْ يُفَرّق بَيْن حُكْمَيْن بوصْفَيْن إمَّا بصيغة صفة أو غاية أو استثناء أو غَيْرها ..
فأمَّا مع ذِكْر الوصْفيْن : فنَحْو قوله - صلى الله عليه وسلم - { لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ ، وَلِلْفَارِسِ سَهْمَان } (3) .
وأمَّا مع ذِكْر أحدهما : فنَحْو قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ يَرِثِ الْقَاتِل } (4) ..
(1) سبق تخريجه .
(2) أَخْرَجه ابن ماجة في كِتَاب المناسك : باب الحج عَنِ الحي إذا لَمْ يَسْتَطِعْ برقم ( 2900 ) عَنْ عَبْد الله بن عبّاس رضي الله عنهما .
(3) أَخْرَجه ابن أَبِي شَيْبَة 6/489 والدارقطني 4/105 عَنْ مجمع بن جارية - رضي الله عنه - .(1/58)
(4) أَخْرَجه الترمذي في كتاب الفرائض عن رسول الله : باب ما جاء في إبطال ميراث القاتل برقم ( 2035 ) وابن ماجة في كتاب الديات : باب القاتل لا يرث برقم ( 2635 ) كلاهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، والدارمي في كتاب الفرائض : باب ميراث القاتل عن عَلِيّ كَرَّم الله وجْهه برقم ( 2954 ) .
وَجْه الدّلالة : أنّ منطوق الحديث أفاد مَنْع القاتل مِن الميراث ، وفيه إيماء وتنبيه إلى أنّ القتل هو المانع مِن الميراث .
النوع الرابع : اقتران الحُكْم بوصف مناسِب .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَان } (1) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ النَّصّ أفاد منطوقه حرمة قضاء القاضي حالَ غضبِه وفيه إيماء إلى أنّ الغضب عِلّة في مَنْع القضاء .
النوع الخامس : ورود النَّهْي عن فِعْل يَمنَع ما تَقَدَّم وجوازه .
مثاله : قوله تَبَارَك وتعالى { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون } (2) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ النَّصّ أفاد منظومه وجوب السعي إلى صلاة الجمعة عند سماع النداء وحرمة البيع الذي كان جائزاً قَبْل ذلك ، كَمَا أفاد بمفهومه إيماءً أنّ العِلَّة في حرمة البيع هي الانشغال عن صلاة الجمعة (3) .
(1) أَخْرَجه البخاري في كِتَاب المَغَازِي : باب غزوة تبوك برقم ( 4063 ) وابن ماجة في كِتَاب الأحكام : باب لا يَحْكُم الحاكم وهو غضبان برقم ( 2307 ) والإمام أَحْمَد في أوَّل مُسْنَد البصريّين برقم ( 19495 ) ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي بَكْرَة - رضي الله عنه - .
(2) سورة الجمعة الآية 9(1/59)
(3) تُرَاجَع هذه الأنواع الخمسة في : المستصفى /308 - 310 والمختصر مع شَرْح العضد 2/234 - 236 وشَرْح تنقيح الفصول /389 ، 390 وشَرْح مختصر الروضة 2/712 وإرشاد الفحول /212 ، 213
الفصل الثالث
مفهوم الموافَقة
وفيه خمسة مطالب :
المطلب الأول : مُسَمَّى مفهوم الموافَقة .
المطلب الثاني : تعريف مفهوم الموافَقة .
المطلب الثالث : أقسام مفهوم الموافَقة .
المطلب الرابع : حُجِّيَّة مفهوم الموافَقة .
المطلب الخامس : دلالة مفهوم الموافَقة .
المطلب الأول
مُسَمَّى مفهوم الموافَقة
لَقَدِ اختلَف الأصوليّون في مُسَمَّى مفهوم الموافَقة وتَعَدَّدَتْ مسمَّياتهم ، والكثرة منهم تَختار مسمّىً واحداً في أول الأمر ثُمّ تشير إلى مسمّيات أُخَر وكأنَّهَا مترادفات ..
ولِذَا .. فإنّا نَستعرض هذه المسمَّيات ؛ لِنَقف على مَعْنَاهَا وحقيقتها ، ومِنْ ثَمّ نُثْبِت الترادف أو ننفيه ، ثُمّ نُعَقِّب بالمُسَمَّى الذي نراه أَوْلَى بالقبول والاختيار ..
المُسَمَّى الأول : فَحْوَى الخِطَاب .
والفَحْوَى لغةً : مَعْنَى القول ولَحْنه .
وقِيل : فَحْوَى الكلام : ما فُهِم منه خارجاً عَنْ أصْل مَعْنَاه (1) .
وعَرَّف الأصوليّون فَحْوَى الخِطَاب بتعريفات ، أَذْكُر منها ما يلي :
1- ما يُفْهَم مِنْ نَفْس الخِطَاب مِنْ قَصْد المتكلِّمين بِعُرْف اللغة .
وهو تعريف الباجي رحمه الله تعالى (2) .
2- ما عُرِف به غَيْرُه على وَجْه التنبيه وطريق الأَوْلَى .
وهو تعريف ابن السمعاني (3) رحمه الله تعالى (4) .
3- ما دَلّ عليه اللفظ مِنْ جهة التنبيه .
(1) يُرَاجَع : الصحاح 6/2453 والكليات /842 والقاموس المحيط 4/268
(2) إحكام الفصول /508
(3) ابن السمعاني : هو أبو المظفر منصور بن مُحَمَّد بن عبد الجبار بن أَحْمَد بن مُحَمَّد رحمه الله ..
مِن مصنَّفاته : البرهان ، الاصطلام ، القواطع في أصول الفقه .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمَرْو سَنَة 489 هـ .(1/60)
النجوم الزاهرة 5/160 والبداية والنهاية 12/153
(4) قواطع الأدلَّة 2/4
وهو تعريف الشيرازي رحمه الله تعالى .
وجميع هذه التعريفات ـ كَمَا نَرَى ـ تَتَّفِق مع المَعْنَى اللغوي في أنّ فَحْوَى الخِطَاب مفهومه ومَعْنَاه ، وهو تعريف لِفَحْوَى الخِطَاب قريب مِنْ مَعْنَاه اللغوي ، أمَّا باقي التعريفات فَقَدْ أوردناها ضِمْن تعريف مفهوم الموافَقة في المطلب التالي .
ومُسَمَّى " فَحْوَى الخِطَاب " اختاره كثرة مِنَ الأصوليّين ، منهم : الشيرازي وابن السمعاني والباجي وابن عقيل والبيضاوي وابن تيمية (1) رحمهم الله تعالى (2) .
وذَكَر البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ أنَّهَا ( فَحْوَى الخِطَاب ) تسمية عامّة الأصوليّين (3) .
وأشار إلى هذا المُسَمَّى كثير مِنَ الأصوليّين ، منهم : الغزالي وأبو يعلى وابن قدامة وابن الحاجب والقرافي والآمدي وابن السبكي والبخاري وصَدْر الشريعة وابن عابدين (4) رحمهم الله تعالى (5) .
(1) تقيّ الدِّين بن تيمية : أَحْمَد بن عبد الحليم بن عبد السلام رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 661 هـ .. مِن مصنَّفاته : الصارم المسلول على شاتم الرسول ، فصْل المقال فيما بيْن الحكمة والشريعة مِن الاتصال ، الجواب الصحيح لِمَن بَدَّل دين المسيح .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 728 هـ .
شذرات الذهب 2/257 والفتح المبين 2/134 - 137
(2) يُرَاجَع : اللُّمَع /44 وقواطع الأدلَّة 2/4 وإحكام الفصول /508 والواضح 1/33 والمنهاج مع شَرْحه 1/282
(3) كَشْف الأسرار 1/184
(4) ابن عابدين : هو مُحَمَّد أمين بن عُمَر بن عَبْد العزيز عابدين الدمشقي الحنفي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ، إمام الحنفيّة في عَصْره ، وُلِد بدمشق سَنَة 1198 هـ ..
مِنْ مصنَّفاته : حاشية ابن عابدين ، نسمات الأسحار . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 1252 هـ . الفتح المُبِين 3/147 ، 148 والأعلام 6/267(1/61)
(5) يُرَاجَع : المستصفى /264 والعدة 1/153 وروضة الناظر 2/772 ومختصر المنتهى 2/172 =
المُسَمَّى الثاني : مفهوم الموافَقة .
والتعريف الراجح لِمفهوم الموافَقة كَمَا سيأتي بيانه بإذْن الله تعالى : ما كان المسكوت عنه موافِقاً لِلمنطوق في الحُكْم .
واختار هذا المُسَمَّى كوكبة مِنَ الأصوليّين ، منهم : إمام الحرميْن وابن الحاجب والآمدي وابن السبكي والزركشي والفتوحي والشوكاني رحمهم الله تعالى (1) .
وأشار إليه بَعْض الأصوليّين : كالغزالي وابن السمعاني وابن قدامة والتفتازاني والبخاري وابن عابدين رحمهم الله تعالى (2) .
المُسَمَّى الثالث : التنبيه ( تنبيه الخِطَاب ) .
والتنبيه لغةً : إعلام ما في ضمير المتكلِّم لِلمخاطَب ، مِنْ " نَبَّهْتُه " بِمَعْنَى رَفَعْتُه ..
ويراد به ـ أيضاً ـ الإيقاظ أو الوقوف على شيء (3) .
أمَّا تعريفه عند الأصوليّين : فإنَّهُمْ أرادوا به مفهوم الموافَقة ، وسيأتي إيراد هذه التعريفات بإذن الله تعالى .
وهذا المُسَمَّى اختاره ابن قدامة والقرافي وابن تيمية رحمهم الله تعالى (4) ، وأشار إليه أبو يَعْلَى والشيرازي رحمهما الله تعالى (5) .
= وشَرْح تنقيح الفصول /53 والإحكام لِلآمدي 3/74 والإبهاج 1/367 وكَشْف الأسرار 1/184 وحاشية نسمات الأسحار /146 والتنقيح 1/246
(1) يُرَاجَع : البرهان 1/449 ومختصر المنتهى 2/172 والإحكام 3/74 وجَمْع الجوامع 1/240 والبحر المحيط 4/7 وشَرْح الكوكب المنير 3/481 وإرشاد الفحول /178
(2) يُرَاجَع : المستصفى لِلغزالي /264 وقواطع الأدلَّة 2/8 وروضة الناظر 2/772 وكَشْف الأسرار 1/184 وحاشية نسمات الأسحار /146 وحاشية ابن عابدين 1/110 والتلويح 1/250
(3) يُرَاجَع : الكليات /288 والصحاح 6/2252
(4) يُرَاجَع : روضة الناظر 2/771 وشَرْح تنقيح الفصول /53 والمسوَّدة /346
(5) يُرَاجَع : العدة 1/152 واللُّمَع /44(1/62)
المُسَمَّى الرّابع : لَحْن الخِطَاب ( لَحْن القول ) .
واللحن لغةً : الخطأ في الإعراب ؛ يقال " فلان لَحّان ولَحّانة " أيْ كثير الخطأ (1) .
ولَحْن الخِطَاب : فَحْوَاه ، ومَعْنَاه أسلوبه وإمالته إلى جهة تعريض وتورية (2) .
وقيل : اللَّحْن : إفهام الشيء مِنْ غَيْر تصريح .
ومنه : قوله تعالى { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْل } (3) أيْ في فلتات الكلام مِنْ غَيْر تصريح بالنفاق (4) .
وقيل : ما فُهِم مِنَ القول بضرب مِنَ الفطنة (5) .
وعَرَّفه القرافي بأنَّه : دلالة الاقتضاء (6) .
وهذا المُسَمَّى أشار إليه ابن السمعاني وأبو يعلى وابن الحاجب والآمدي وابن تيمية وابن السبكي والزركشي والفتوحي رحمهم الله (7) .
المُسَمَّى الخامس : الأَوْلَى .
والأَوْلَى ( بالفتح ) : واحد " الأَوْلَيان " ، والجَمْع " الأولون " ، والأنثى " الوليا " ، والجَمْع " الوليات " .
و" الأَوْلَى " يُسْتَعْمَل في مقابَلة الجواز ، كَمَا أنّ الصواب في مقابلة
(1) الصحاح 6/2193
(2) الكليات /797
(3) سورة مُحَمَّد مِنَ الآية 30
(4) يُرَاجَع : شَرْح تنقيح الفصول /54
(5) يُرَاجَع : العدة 1/153 والمسوَّدة /350
(6) شَرْح تنقيح الفصول /53
(7) يُرَاجَع : قواطع الأدلَّة 2/8 والعدة 1/153 ومختصر المنتهى 2/172 والإحكام 3/74 والمسوَّدة /350 والإبهاج 1/367 والبحر المحيط 4/7 وشَرْح الكوكب المنير 3/481
الخطأ (1) .
ويقال " فلان أَوْلَى بهذا الأمر مِنْ فلان " أيْ أَحَقّ به .
و" هُمَا الأَوْلَيان " الأحقّان ؛ قال الله تعالى { مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَن } (2) (3) .
وهذا المُسَمَّى أشار إليه ابن تيمية رحمه الله تعالى (4) .
المُسَمَّى السادس : مفهوم الخِطَاب .
وعَرَّفه ابن السمعاني ـ رحمه الله تعالى ـ بأنَّه : ما عُرِف مِنَ اللفظ بِنَوْع نظر .(1/63)
وهو اختيار ابن فورك (5) وأَبِي يعلى رحمهما الله تعالى (6) ، وأشار إليه السالمي رحمه الله تعالى (7) .
وقيل : ما دَلّ عليه اللفظ بالنظر في مَعْنَاه (8) .
المُسَمَّى السابع : دلالة النَّصّ .
وعَرَّفه السرخسي بأنَّه : ما ثَبَت بِمَعْنَى النَّظْم لغةً لا استنباطاً بالرأي .
(1) الكليات /208
(2) سورة المائدة مِنَ الآية 107
(3) لسان العرب 15/407
(4) المسوَّدة /346
(5) ابن فورك : هو أبو بَكْر مُحَمَّد بن الحَسَن بن فورك الأنصاري الأصفهاني الشافعي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ مُفَسِّر مُتَكَلِّم واعِظ مُحَدِّث ..
مِنْ مصنَّفاته : مُشْكِل الحديث وغريبه ، الحدود في الأصول ، أسماء الرجال .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى مسموماً سَنَة 406 هـ ودُفِن بالحيرة .
طبقات الشافعية الكبرى 3/52 - 56 والأعلام 6/313
(6) يُرَاجَع : العدة 1/152 والبرهان 1/449 ، 450 والمنخول /209
(7) يُرَاجَع شَرْح طلعة الشمس 1/258
(8) قواطع الأدلَّة 2/8
وهو اختيار عامّة الحنفيّة (1) .
المُسَمَّى الثامن : قياس جليّ .
وهو اختيار الإمام الشافعي - رضي الله عنه - (2) وبَعْض الشافعية (3) وبَعْض الحنابلة (4) وبَعْض الحنفيّة (5) .
المُسَمَّى التاسع : دليل الخِطَاب .
وهو اختيار الجصّاص (6) (7) رحمه الله تعالى .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على مُسَمَّيَات مفهوم الموافَقة عند الأصوليّين يَتَّضِح لنا ما يلي :
1- أنّ فَحْوَى الخِطَاب : مَعْنَاه ، أو ما فُهِم منه خارجاً عَنْ أصْل مَعْنَاه ..
وهو بذلك المَعْنَى غَيْر مانِع مِنْ دخول غَيْر مفهوم الموافَقة .
كَمَا أنّ بَعْض الأصوليّين عَدَّه أحدَ أقسام مفهوم الموافَقة ، وهو ما إذا كان المسكوت عنه أَوْلَى بالحُكْم مِنَ المنطوق (8) .(1/64)
(1) يُرَاجَع : أصول السرخسي 1/241 وأصول البزدوي مع كَشْف الأسرار 1/184 ، 185 وأصول الشاشي /104 والمغني لِلخبازي /154 والتوضيح مع التنقيح 1/131 وتيسير التحرير 1/90 وفواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/408 وفَتْح الغفّار 2/25
(2) يُرَاجَع : الرسالة /513 وقواطع الأدلَّة 2/5 والإبهاج 1/367 وإحكام الفصول /509
(3) يُرَاجَع : البرهان 2/878 والبحر المحيط 4/9 ونَشْر البنود 1/97 وإرشاد الفحول /178
(4) يُرَاجَع : روضة الناظر 2/773 والمسوَّدة /348 وشَرْح الكوكب المنير 3/485
(5) يُرَاجَع كَشْف الأسرار لِلبخاري 1/185
(6) الجصّاص : هو أَحْمَد بن عَلِيّ الرازي الحنفي رحمه الله ، المعروف بـ" الجصّاص " ..
مِن مصنَّفاته : أحكام القرآن ، شرْح مختصَر الطحاوي ، شرْح الجامع لِمُحَمَّد بن الحَسَن .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 370 هـ .
سِيَر أعلام النبلاء 16/340 وطبقات الحنفية /27 ، 28 والفتح المبين 1/214 - 218
(7) يُرَاجَع الفصول 1/289
(8) يُرَاجَع جَمْع الجوامع مع شَرْح المحلّي 1/240 ، 241
إضافةً إلى أنّ البَعْض أراد به دلالة الإشارة (1) .
2- أنّ لَحْن الخِطَاب مَعْنَاه : فَحْوَاه ..
وفَرَّق بَعْض الأصوليّين بَيْن الفَحْوَى والخِطَاب مِنْ وجْهَيْن :
الأول : أنّ الفَحْوَى : ما نَبَّه عليه اللفظ ، واللَّحْن : ما لاح في أثناء اللفظ .
الثاني : الفَحْوَى : ما دَلّ عليه ما هو أَقْوَى منه ، ولَحْن القول : ما دَلّ على مِثْله .
وقِيل : فَحْوَى الخِطَاب : ما دَلّ المُظْهَر على المُسْقَط .
ولَحْن القول : ما يَكون محالاً على غَيْر المراد في الأصل والوضع مِنَ الملفوظ .
والمفهوم : ما يَكون المراد به المُظْهَر والمُسْقَط (2) .
وبَعْضُهُمْ يُسَمِّي الأَوْلَوِيّ بـ" فَحْوَى الخِطَاب " ، والمُساوي بـ" لَحْن الخِطَاب " (3) .(1/65)
وهذا المُسَمَّى مُسْتَبْعَد أيضاً ؛ لأنَّه غَيْر جامِع ؛ لِخروج ما كان المسكوت عنه أَوْلَى بالحُكْم مِنَ المنطوق ، كَمَا أنَّه غَيْر مانِع مِنْ دخول دلالة الاقتضاء .
3- أنّ التنبيه أو تنبيه الخِطَاب مَعْنَاه : الإيقاظ أو الوقوف على شيء ، وهو مَعْنىً واسِع وشامِل لِلمُعَرَّف وغَيْره ، فَلِذَا كان غَيْرَ مانِع ..
كَمَا أنَّنَا لو حَمَلْنَاه على التنبيه بالأدنى على الأعلى أو العكس كان غَيْرَ جامِع ؛ لِخروج المفهوم .
4- أنّ الأَوْلَى يُسْتَعْمَل في مقابَلة الجواز ، وهو مُسَمّى غَيْر مانِع مِنْ
(1) يُرَاجَع : اللُّمَع /44 وإحكام الفصول /507 ، 508
(2) يُرَاجَع البحر المحيط 4/7 ، 8
(3) يُرَاجَع : جَمْع الجوامع مع شَرْح المحلّي 1/240 ، 241 وشَرْح الكوكب المنير 3/482
دخول غَيْر مفهوم الموافَقة ، كَمَا أنَّه يخرج عنه المفهوم المُساوِي ، فيَكون غَيْرَ جامِع .
5- أنّ مفهوم الخِطَاب مُسَمّى غَيْر مانِع مِنْ دخول مفهوم المخالَفة ؛ لأنَّه نَوْع مِنْ أنواع مفهوم الخِطَاب ولَيْس منطوقَه .
6- أنّ دلالة النَّصّ مُسَمّى غَيْر مانِع مِنْ دخول دلالة الاقتضاء ومفهوم المخالَفة فيه ؛ لأنّ النَّصّ دالّ عليهما عند البَعْض .
7- أنّ القياس الجلي مُسَمّى غَيْر جامِع لأنواع مفهوم الموافَقة ؛ لِخروج المفهوم المُساوِي ..
كَمَا أنّ فيه لبساً بَيْن مَعْنَى الخِطَاب ( القياس ) وهو مساواة فَرْع لأصْل في عِلّة حُكْمه (1) ومفهوم الموافَقة ، ولَيْس ذلك مُتَحَقِّقاً في كُلّ أنواع المفهوم الموافِق .
8- أنّ دليل الخِطَاب مُسَمّى استعمَلَه البَعْض في مفهوم المخالَفة ، ولِذَا كان مُسَمّىً غَيْرَ مانِع .(1/66)
9- أنِّي أَسْتَبْعِد مسمَّيات ( الأَوْلَى والتنبيه ومفهوم الخِطَاب ودلالة النَّصّ والقياس الجلي ودليل الخِطَاب ) ؛ لأنّ مَعانيها بعيدة عَنْ مرادنا مِنَ المفهوم الموافِق ، كَمَا أنّ لها دلالات لِمصطلَحات أخرى ، مِمَّا يَفْتَح باب اللَّبْس بَيْنَها وبَيْن مفهوم الموافَقة .
10- أنّ مُسَمَّى فَحْوَى الخِطَاب ولَحْنه مَعْنَاهُمَا متقارب مع مفهوم الموافَقة ولِذَا كان الخِلاَف بَيْنَها خِلاَفاً لفظيّاً ، أَكَّد ذلك كثرة مِنَ الأصوليّين ، منهم : إمام الحرميْن والغزالي والقرافي (2) رحمهم الله تعالى .
(1) مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/204
(2) يُرَاجَع : البرهان 1/449 ، 450 والمستصفى /264 ، 265 والمنخول /209 وشَرْح تنقيح الفصول /53
11- أنّ الأَوْلَى عندي : مُسَمَّى ( مفهوم الموافَقة ) ؛ لِمَا يلي :
أ- أنَّه مُسَمّى جامِع لأقسام مفهوم الموافَقة الأَوْلَوِيّ والمُساوِي .
ب- أنَّه مُسَمّى مانِع لِدخول مفهوم المخالَفة وغَيْره .
جـ- أنّ لَفْظَيْ مُرَكَّبَيْه صريحان في موضوعه : الأول ( مفهوم ) لِيخرج به المنطوق ، والثاني ( الموافَقة ) لِيخرج به المخالَفة .
المطلب الثاني
تعريف مفهوم الموافَقة
عَرَّف الأصوليّون مفهوم الموافَقة بتعريفات عِدَّة ، أَذكر منها ما يلي :
التعريف الأول : ما دَلّ عليه اللفظ مِن جهة التنبيه .
وهو تعريف الشيرازي رحمه الله تعالى .
ونَحْوه تعريف ابن السمعاني رحمه الله تعالى ، وهو : ما عُرِف به غَيْرُه على وَجْه التنبيه (1) .
التعريف الثاني : ما يَدُلّ على أنّ الحُكْم في المسكوت عنه مُوافِق لِلحُكْم في المنطوق به مِن جهة الأَوْلى .
وهو تعريف إمام الحرميْن رحمه الله تعالى (2) .
ونَحْوه تعريفا القرافي والطوفي رحمهما الله تعالى ..
حيث عَرَّفه الأول بأنَّه : إثبات حُكْم المنطوق به لِلمسكوت عنه بِطَرِيق الأَوْلى (3) .(1/67)
وعَرَّفه الثاني بأنَّه : فَهْم الحُكْم في غَيْر محلّ النطق بِطَرِيق الأَوْلى (4) .
التعريف الثالث : فَهْم غَيْر المنطوق به مِن المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده .
وهو تعريف الغزالي رحمه الله تعالى ، واختاره البخاري رحمه الله
(1) يُرَاجَع : اللُّمَع /44 وقواطع الأدلّة 2/4
(2) البرهان 1/449
(3) شَرْح تنقيح الفصول /53
(4) شَرْح مختصر الروضة 2/715
تعالى (1) .
التعريف الرابع : أنْ يَكون المسكوت موافِقاً في الحُكْم .
وهو تعريف ابن الحاجب رحمه الله ، واختاره ابن مفلح رحمه الله (2) .
التعريف الخامس : ما يَكون مدلول اللفظ في محلّ السكوت موافِقاً لِمدلوله في محلّ النطق .
وهو تعريف الآمدي رحمه الله تعالى (3) .
التعريف السادس : فَهْم الحُكْم في المسكوت مِن المنطوق .
وهو تعريف ابن قدامة رحمه الله تعالى (4) .
التعريف السابع : ما ثَبَت بمَعْنَى النَّظْم لغةً لا استنباطاً بالرأي .
وهو تعريف السرخسي رحمه الله تعالى ، واختاره الشاشي والبزدوي والخبّازي (5) والنسفي ـ رحمهم الله تعالى ـ وأَكْثَر الحنفيّة (6) .
التعريف الثامن : ما كان مدلول اللفظ في حُكْم المسكوت موافِقاً لِمدلوله في حُكْم المنطوق إثباتاً ونفياً .
(1) يُرَاجَع : المستصفى /264 وكَشْف الأسرار 1/184
(2) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/172 وأصول الفقه لابن مفلح 3/1059
(3) الإحكام 3/74
(4) روضة الناظر 2/770
(5) الخبّازي : هو جلال الدِّين أبو مُحَمَّد عُمَر بن مُحَمَّد بن عُمَر الخبّازي الخجندي الحنفي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 629 هـ ..
مِن مصنَّفاته : شَرْح الهداية في الفقه ، المُغْنِي في أصول الفقه .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 691 هـ ، وقيل : سَنَة 671 هـ .
شذرات الذهب 5/419 والجواهر المضيَّة 1/398 والفتح المبين 2/82(1/68)
(6) يُرَاجَع : أصول السرخسي 1/241 وأصول الشاشي /104 والمغني /154 وكَشْف الأسرار مع المنار 1/383 وأصول البزدوي مع كَشْف الأسرار 1/184 ، 185 وشَرْح إفاضة الأنوار /146
وهو تعريف التفتازاني رحمه الله تعالى (1) .
التعريف التاسع : إنْ دَلّ ( اللفظ ) على حُكْم منطوق لِمسكوت لَفُهِم مناطُه بمُجَرَّد فَهْم اللغة .
وهو تعريف ابن الهمام رحمه الله تعالى (2) .
التعريف العاشر : ما وافَق منه المسكوت عنه حُكْمَ المنطوق به .
وهو تعريف السالمي رحمه الله تعالى (3) .
التعريف الحادي عَشَر : أنْ يَكون المسكوت عنه موافِقاً في الحُكْم لِلمذكور
وهو تعريف عضد المِلّة والدِّين الإيجي رحمه الله تعالى (4) .
ونَحْوه تعريف الأصفهاني رحمه الله تعالى ، وهو : أنْ يَكون المسكوت موافِقاً لِلمنطوق في الحُكْم (5) .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على بَعْض تعريفات الأصوليّين لِمفهوم الموافَقة أَرَى أنَّه يُمْكِن التوصل إلى ما يلي :
1- أنّ التعريف الأول غَيْر مانِع مِن دخول دلالة الإيماء ؛ لأنّ اللفظ فيها اقْتَرَن بوصف يُعَدّ تنبيهاً على أنَّه عِلَّة لِلحُكْم .
2- أنّ التعريف الثاني غَيْر جامِع ؛ لِخروج ما كان المسكوت عنه مُساوِياً في الحُكْم لِلمنطوق وليس أَوْلى منه .
(1) التلويح مع التوضيح 1/250
(2) التحرير مع التيسير 1/90
(3) شَرْح طلعة الشمس 1/259
(4) شَرْح العضد 2/172
(5) بيان المختصر 2/440
3- أنّ التعريف الثالث غَيْر مانِع مِن دخول دلالة الاقتضاء ؛ ففيها يُفْهَم حُكْم تقدير المُضْمَر مِن المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده .
4- أنّ التعريف الرابع غَيْر مانِع مِن دخول الغَيْر في التعريف ؛ لأنَّه لَمْ يُحَدِّدْ محلّ الاتفاق أو الجهة التي وافَقَها حُكْم المسكوت أعني المنطوق .(1/69)
5- أنّ التعريف الخامس والتعريف الثامن كلاهما فيه زيادة مُكَرَّرة مرَّتيْن وهي ( مدلول اللفظ ) ، ولو خَلاَ عنها التعريف لَكان أَوْجَز وأَبْلَغ ..
إضافةً إلى أنّ التعريف الخامس لم يُحَدِّدْ محلّ الاتفاق بَيْن السكوت والنطق : هلْ هو الحُكْم أم غَيْره ؟
كَمَا أنّ زيادة ( إثباتاً ونفياً ) في التعريف الثامن تحصيل حاصِل ؛ لأنَّنا إذا أَطْلَقْنَا الموافَقة في حُكْم المنطوق فإنَّهَا تَشمل حالتَيِ الإثبات والنفي .
6- أنّ التعريف السابع والتعريف التاسع كلاهما فيه نظر ؛ لأنَّه يَحتاج إلى ماهِر في اللغة ، إضافةً إلى أنَّهما غَيْر مانعيْن مِن دخول دلالة الإيماء ودلالة الاقتضاء ؛ فالفاء التي تَسبق الحُكْم المسبوق بوصف تشير إلى أنَّه عِلَّتُه ، وكذلك قَصْد الإضمار ثابت ؛ لاستقامة المَعْنَى وبلاغته .
7- أنّ التعريف السادس غَيْر مانِع مِن دخول مفهوم المخالَفة ؛ لأنّ الحُكْم فيه مأخوذ مِن المنطوق في المسكوت المخالِف وليس الموافِق ، ولِذا لو عَبَّر بـ( الموافِق ) لَسَلم التعريف .
8- أنّ التعريف العاشر فيه زيادة ، وهي : ( منه ) ، ولو حُذِفَتْ لَكان التعريف أَوْجَه هكذا :( ما وافَق المسكوت عنه حُكْم المنطوق به ) .
9- أنّ التعريف الحادي عَشَر أَوْلى بالقبول والاختيار ؛ لِسلامته مِن المُنَاقَشَة والاعتراض ؛ لأنَّه جامِع مانِع ..
غَيْرَ أنِّي أَرَى تعديله ؛ لِيَكون التعريف المختار عندي لِمفهوم الموافَقة
( ما كان المسكوت عنه موافِقاً لِلمنطوق في الحُكْم ) .
وقَدِ اسْتَبْدَلْنَا ( المذكور ) في تعريف العضد ـ رحمه الله تعالى ـ بـ( المنطوق ) ؛ لأنَّه مقابِل ( المفهوم ) ، ولَيْس ( المذكور ) .
شَرْح التعريف المختار :
( ما ) : جِنْس في التعريف ، يَشمل المنطوق والمفهوم موافِقاً ومخالِفاً والمراد بها اللفظ .(1/70)
( كان المسكوت عنه ) : قَيْد أوَّل ، قُصِد به ما يُفْهَم مِن اللفظ ، وخَرَج به المنطوق إذا وافَق منطوقاً آخَر في الحُكْم .
( موافِقاً ) : قَيْد ثانٍ ، خَرَج به مفهوم المخالَفة ؛ لأنّ المسكوت عنه فيه مخالِف لِلمنطوق في الحُكْم .
( لِلمنطوق ) : قَيْد ثالث ، خَرَج به ما كان موافِقاً لِمسكوت عنه آخَر ؛ فلا يُسَمَّى " مفهوم موافَقة " .
( في الحُكْم ) : قَيْد رابِع ، خَرَج به ما كان موافِقاً لِلمنطوق في غَيْر الحُكْم : كتذكير أو تأنيث ونَحْوه ؛ فلا يُسَمَّى " مفهوم موافَقة " .
شروط مفهوم الموافَقة :
ويُمْكِن حَصْر شروط مفهوم الموافَقة على ضوء تعريفها السابق فيما يلي :
1- نصّ شَرْعيّ ( منطوق ) .
2- حُكْم شَرْعيّ لِهذا النَّصّ .
3- وقائع سَكَت عنها النَّصّ وليست داخلةً فيه .
4- رابِط أو علاقة بَيْن المنطوق والمسكوت عنه ..
وهو ما عَبَّر عنه الطوفي بـ" فَهْم المَعْنَى في محلّ النطق : كالتعظيم
في آية التأفيف " (1) .
وشَرَط الشّافعيّة في ذلك : أنْ لا يَكون المَعْنَى في المسكوت عنه أَقَلّ مناسَبةً لِلحُكْم في المَعْنَى في المنطوق به ، فيدخل فيه الأَوْلى والمُساوِي ، وليس كَمَا شَرَط بَعْضُهم أنْ يَكون أَوْلى بالحُكْم مِن المذكور .
وهو ما نَقَله إمام الحرميْن ـ رحمه الله تعالى ـ عن الإمام الشافعي - رضي الله عنه - وهو اختيار الشيرازي رحمه الله تعالى ، ونَقَله الهندي (2) ـ رحمه الله تعالى ـ عن الأكثرين (3) .
5- اتفاق المسكوت عنه والمنطوق في الحُكْم .
(1) شَرْح مختصر الروضة 2/716 ويُرَاجَع كَشْف الأسرار لِلبخاري 1/185
(2) صفي الدِّين الهندي : هو مُحَمَّد بن عبد الرحيم بن مُحَمَّد الشافعي الأصولي رحمه الله تعالى ، وُلِد بدلهي بالهند سَنَة 644 هـ ..
مِن مصنَّفاته : الزبدة في عِلْم الكلام ، نهاية الوصول إلى عِلْم الأصول .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 715 هـ .(1/71)
الدرر الكامنة 4/14 والفتح المبين 2/120
(3) يُرَاجَع : البرهان 1/449 والمستصفى 1/264 ، 265 واللُّمَع /44 والبحر المحيط 4/9 وإرشاد الفحول /178
المطلب الثالث
أقسام مفهوم الموافَقة
قَسَّم الأصوليّون مفهوم الموافَقة إلى تقْسيميْن :
التقسيم الأول : الأَوْلوي والمُساوِي .
التقسيم الثاني : القَطْعي والظَّنِّي .
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منهما فيما يلي ..
التقسيم الأول : الأَوْلوي والمُساوِي :
قَسَّم بَعْض الأصوليّين مفهوم الموافَقة باعتبار الأَوْلوي والمُساوِي إلى قِسْمَيْن :
القِسْم الأول : أنْ يَكون المسكوت عنه أَوْلى بالحُكْم مِن المنطوق .
ويُسَمَّى عند البَعْض بـ" فَحْوَى الخِطَاب أو الكلام " : أيْ ما يُفْهَم منه قَطْعاً ، كَمَا يُسَمَّى ـ أيضاً ـ عند البَعْض بـ" القياس الجلي " .
وهذا القِسْم له صورتان :
الصورة الأولى : أنْ يَكون المنطوق مِن قَبِيل التنبيه بالأدنى على الأعلى .
مثاله : قوله تعالى { فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلا تَنْهَرْهُمَا } (1) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد بمنطوقه حرمة التأفيف في حقّ الوالديْن ، وأفاد بمفهومه تحريم الضرب في حَقِّهِمَا ؛ لأنَّه مسكوت عنه ، وكلاهما مُتَّفِق في الحُكْم وهو الحرمة ، لكنّ الضرب ( المسكوت عنه ) أَوْلى بالحُكْم مِن المنطوق وهو التأفيف ، والتأفيف أَدْنَى مِن الضرب ،
(1) سورة الإسراء مِنَ الآية 23
فكان أَوْلى بالحُكْم منه .
ومثاله أيضاً : قوله تعالى { وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائما } (1) ..(1/72)
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه أنّ بَعْض أهْل الكتاب لا يؤدِّي الأمانة ولا يَرُدّها لِصاحِبها وإنْ كان ديناراً ، وأفاد مفهومه امتناعهم عن رَدّ ما فَوْق الدينار ، وكلاهما مُتَّفِق في الحُكْم ، وهو : مَنْع رَدّ الأمانة ، لكنّ المسكوت عنه ( ما فَوْق الدينار ) أَوْلى بالحُكْم مِن المنطوق وهو عدم رَدّ الدينار ، والدينار أَدْنَى مِمَّا فَوْقه ، ولِذَا كان الدينار أَوْلى بالحُكْم مِن المنطوق .
الصورة الثانية : أنْ يَكون المنطوق مِن قَبِيل التنبيه بالأعلى على الأدنى .
مثاله : قوله تَبَارَك وتعالى { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْك } (2) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه أداء بَعْض أهْل الكتاب الأمانةَ وإنْ كانت قنطاراً مِن المال ، وأفاد مفهومه أداء ما دون القنطار ؛ لأنَّه مسكوت عنه ، وكلاهما مُتَّفِق في الحُكْم ، وهو : الأداء ، لكنّ المنطوق أَوْلى بالحُكْم مِن المسكوت عنه ؛ لأنّ القنطار أَعْلَى مِمَّا دُونه .
القِسْم الثاني : أنْ يَكون المسكوت عنه مُساوِياً لِلمنطوق في الحُكْم .
ويُسَمَّى عند البَعْض " لَحْن الخِطَاب " أيْ مَعْنَاه .
مثاله : قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَلَ الْيَتَمَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا } (3) ..
(1) سورة آل عمران مِنَ الآية 75
(2) سورة آل عمران مِنَ الآية 75
(3) سورة النساء الآية 10
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه حرمة أكْل أموال اليتامى ظُلْماً أيْ ضَمّه وأَخْذه ، وأفاد مفهومه حرمة إتلافه وإحراقه ؛ لأنَّه مسكوت عنه مع اتفاقه مع المنطوق في الحُكْم ، وأخْذ مال اليتيم وإتلافه كلاهما متساوٍ ، والجامع بَيْنهما الإتلاف وخروجه عن مِلْك اليتيم ، ولِذَا كان الحُكْم فيهما متساوياً (1) .(1/73)
التقسيم الثاني : القَطْعي والظَّنِّي :
قَسَّم الأصوليّون مفهوم الموافَقة باعتبار القَطْع والظَّنّ إلى قِسْمَيْن :
القِسْم الأول : مفهوم موافقة قَطْعِيّ .
وهو : ما كان المَعْنَى المتصوَّر معلوماً قَطْعاً ..
أو : الذي لا يَتَطرَّق إليه إنكار ولا يَقْبَل الاحتمال .
وسَمَّاه التفتازاني رحمه الله تعالى " ضروريّاً " .
مثاله : الأمثلة المتقدِّمة في التقسيم الأول .
القِسْم الثاني : مفهوم موافقة ظَنِّيّ .
وهو : ما احتمَل أنْ يَكون غَيْرُه هو المقصود ..
أو : ما كان فيه أحد المذْكورَيْن ظنِّيّاً .
أو : ما فيه احتمال مع الظهور .
وسَمَّاه إمام الحرميْن رحمه الله تعالى " ظاهراً " .
مثاله : قوله تعالى { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَة } (2) ..
(1) يُرَاجَع : المستصفى /264 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/172 ، 173 وبيان المختصر 2/440 ، 441 والإحكام لِلآمدي 3/75 وإحكام الفصول /509 والمسوَّدة /346 وشَرْح تنقيح الفصول /54 والإبهاج 1/367 وشَرْح الكوكب المنير 3/481 - 483 وتيسير التحرير 1/94 ، 95 وحاشية البناني 1/241 وغاية الوصول /37 والمنهاج مع شَرْحه 1/282 والتمهيد لِلإسنوي /240 ، 241 وشَرْح طلعة الشمس 1/259 وإرشاد الفحول /178 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 2/99
(2) سورة النساء مِنَ الآية 92
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه وجوب الكفّارة في القتل الخطأ ، وأفاد مفهومه ـ عند البَعْض ، منهم الإمام الشافعي - رضي الله عنه - ـ وجوبها في القتل العمد مِن باب أَوْلى ..
والمفهوم هُنَا ظَنِّيّ ؛ لِجواز أنْ يَكون وجوب الكفّارة على الخاطئ إنَّمَا هو لأجْل أنْ يُكَفَّر ذَنْبُه ، وحينئذٍ لا يَلْزَم وجوب الكفّارة في العَمْد ؛ لأنّ العَمْد فَوْق الخطأ ، ولا يَلْزَم مِن كَوْن الكفّارة رافعةً لإثم أَدْنَى كَوْنُهَا رافعةً لِلإثم الأعلى (1) .(1/74)
(1) يُرَاجَع : البرهان 1/452 ، 453 وشَرْح العضد 2/173 وبيان المختصر 2/443 وكَشْف الأسرار لِلبخاري 1/185 والمسوَّدة /347 والتلويح 1/250 وشَرْح مختصر الروضة 2/720 وشَرْح الكوكب المنير 3/486 - 488 وتيسير التحرير 1/95
المطلب الرابع
حُجِّيَّة مفهوم الموافَقة
اختلَف الأصوليّون في حُجِّيَّة مفهوم الموافَقة على مذْهبيْن :
المذهب الأول : أنَّه حُجَّة .
وهو ما عليه جمهور الأصوليّين حنفيّةً وغَيْر حنفيّة ؛ لأنّ دلالة النَّصّ عند الحنفيّة تُقابِل مفهوم الموافَقة عند غَيْرهم ، وذَكَره بَعْضهم إجماعاً ؛ لِتَبادُر فَهْم العقلاء إليه (1) .
ولم أَقِفْ لأدلّة الجمهور على حُجِّيَّة الموافَقة إلا دليلاً لِلآمدي رحمه الله وهو : أنَّه إذا قال السَّيِّد لِعَبْده :" لا تُعْطِ زَيْداً حَبَّةً ، ولا تَقُلْ له " أُفّ " ، ولا تَظْلِمْه بذرةً ، ولا تَعْبَسْ في وَجْهِه " فإنَّه يَتبادر إلى الفهم مِن ذلك امتناع إعطاء ما فَوْق الحَبَّة ، وامتناع الشتم والضرب ، وامتناع الظُّلْم بالدينار وما زاد ، وامتناع أذيَّته بما فَوْق العُبُوس مِن هَجْر الكلام وغَيْره ..
فدَلّ ذلك على حُجِّيَّة مفهوم الموافَقة ؛ وإلا لَمَا امتنعَتْ كُلّ هذه المفاهيم على العبد (2) .
وأضيف دليلاً آخَر ، وهو : قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَلَ الْيَتَمَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا } (3) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ منطوق الآية أفاد حرمة أكْل مال اليتامى ظُلْماً ، وأفاد مفهومها الموافِق حرمة إتلافه وإحراقه ؛ لأنّ الجامع بَيْنها هو ضَيَاع
(1) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 3/76 والمسوَّدة /346 وشَرْح الكوكب المنير 3/483
(2) الإحكام لِلآمدي 3/76
(3) سورة النساء الآية 10
مال اليتيم ..(1/75)
فلو لم يَكُنْ مفهوم الموافَقة حُجَّةً لَمَا حرم إتلاف مال اليتيم وإحراقه ، وحيث إنَّه حرم موافَقةً لِحُكْم المنطوق فدَلّ ذلك على أنّ مفهوم الموافَقة حُجَّة ويجب التزام الأحكام المأخوذة عن طريقه .
المذهب الثاني : أنَّه ليس حُجَّةً .
وهو ما عليه بَعْض الظّاهريّة ..
ففي " المسوَّدة " :" فَحْوَى الخِطَاب حُجَّة ... وهذا قَوْل جماعة أهْل العِلْم ، إلا ما شَذّ مِن بَعْض أهْل الظاهر " (1) ا.هـ .
ونَسَب الآمدي هذا المذهب لِداود الظاهري (2) ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" وهذا مِمَّا اتَّفَق أهْل العِلْم على صِحَّة الاحتجاج به ( مفهوم الموافَقة ) إلا ما نُقِل عن داود الظاهري أنَّه قال : إنه ليس بحُجَّة " (3) ا.هـ .
لكنّ النقل عن داود فيه خِلاَف ؛ لأنّ هناك ما يُحْكَى عنه أنَّه يقول قَوْل الجمهور .
وإذا كان المانع لِحُجِّيَّة مفهوم الموافَقة فيه خِلاَف في إثبات صاحِبه فإنّ هذا يُعَدّ دليلاً كافياً على ضَعْف وجهة المانعين لِحُجِّيَّة مفهوم الموافَقة الذين لَمْ نَقِفْ لهم على دليل يؤيِّد مذْهبَهمْ .
ومِمَّا تَقَدَّم كان ما عليه الجمهور هو الأَوْلى بالقبول والترجيح : أنّ
(1) المسوَّدة /346
(2) داود الظاهري : هو أبو سليمان داود بن علِيّ بن داود بن خلف الأصفهاني الظاهري رحمه الله تعالى ، وُلِد بالكوفة ، كان شافعيّاً متعصِّباً في أول أمْره ..
مِن مصنَّفاته : الكافي . تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 270 هـ .
الفتح المبين 1/167 – 169
(3) الإحكام 3/76 ويُرَاجَع كَشْف الأسرار لِلبخاري 1/186(1/76)
مفهوم الموافَقة حُجَّة ، وأنَّه كَمَا قال السالمي رحمه الله تعالى :" يفيد القَطْع في مدلوله ، أيْ إذا سَمِعْنَا مِن الشارع نَحْو قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَلَ الْيَتَمَى ظُلْما ... } (1) قَطَعْنَا بأنّ ما عَدَا الأكل مِن أنواع الإتلاف داخِل تَحْت هذا الحُكْم إلا لِعارض يقتضي عدم القَطْع به " (2) ا.هـ .
(1) سورة النساء مِنَ الآية 10
(2) شَرْح طلعة الشمس 1/259
المطلب الخامس
دلالة مفهوم الموافَقة
اختلَف الأصوليّون في دلالة مفهوم الموافَقة : هلْ هي دلالة لفظيّة أم دلالة قياسيّة ؟
على مذْهبيْن :
المذهب الأول : دلالة مفهوم الموافَقة دلالة لفظيّة .
والمراد بالدّلالة اللّفظيّة هُنَا : أنّ الحُكْم الثابت ( مفهوم الموافَقة ) راجِع إلى المَعْنَى المعلوم بالنَّصّ لغةً لا قياساً (1) .
وهذا المذهب عليه أَكْثَر المتكلِّمين والحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّة ، واختاره البزدوي والغزالي وابن السمعاني وابن الحاجب والآمدي رحمهم الله تعالى (2) .
واحْتَجّوا لِذلك بأدلّة ، أَذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ الأصل في القياس الشرعي أنْ لا يَكون جزءاً مِن الفرع إجماعاً ، وها هُنَا قَدْ يَكون مندرِجاً ..
نَحْو : قوله لِعَبْدِه :" لا تُعْطِه ذَرَّةً " ؛ فإنَّه يَدُلّ على عدم إعطاء ما فَوْق الذَّرَّة ، مع أنّ الذَّرَّة جزء منه ، فانتفى بذلك أنْ تَكون دلالة مفهوم الموافَقة قياسيّةً ، بلْ لفظيّة .
(1) يُرَاجَع : أصول السرخسي 1/241 وكَشْف الأسرار 1/185
(2) يُرَاجَع : أصول البزدوي مع كَشْف الأسرار 1/185 والمستصفى /264 وقواطع الأدلّة 2/7 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/173 والإحكام لِلآمدي 3/76 ، 77(1/77)
الدليل الثاني : أنّ دلالة النَّصّ ثابتة قَبْل شرعيّة القياس ، ولِذَا كان يُفْهَم مِن النهي عن التأفيفِ النهيُ عن الضرب ، سواء عُلِم شرعيّة القياس أو لا وسواء شُرِع القياس أو لا .
الدليل الثالث : أنّ أصحاب اللسان يَفهمون مِن النهي عن التأفيفِ النهيَ عن الضرب والشتم وكُلّ ما يَتضمَّن الأذيّةَ ببديهة العقل ، ويَشترك فيه العام والخاصّ ، ولو كان ذلك مفهوماً مِن جهة المَعْنَى لَمَا عَرَفه إلا مَن يَعرف القياسَ ، فدَلّ ذلك على أنّ دلالة المفهوم ليست ثابتةً بالقياس (1) .
الدليل الرابع : أنّ المَعْنَى المعلوم بالنَّصّ لغةً بمَنْزِلَة العِلَّة المنصوص عليها ..
نَحْو : قوله - صلى الله عليه وسلم - في الهِرَّة { إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ ؛ إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَات } (2) ؛ فإنّ هذا الحُكْم يثبت في الفأرة والحيّة بهذه العِلّة ، فلا يَكون ثابتاً بالقياس ، بلْ إنَّمَا بدلالة النَّصّ (3) .
المذهب الثاني : دلالة مفهوم الموافَقة قياسيّة .
والمراد بالدّلالة القياسيّة هُنَا : أنّ مفهوم الموافَقة الحُكْمُ فيه مَبْنِيّ على تَحَقُّق أركان القياس ، ولِذَا سَمَّاه البَعْض " قياساً جليّاً " .
وهذا المذهب عليه أَكْثَر الشّافعيّة وبَعْض الحنفيّة وبَعْض الحنابلة ، ونَصّ عليه الإمام الشافعي - رضي الله عنه - ، واختاره الشيرازي وإمام الحرميْن
(1) يُرَاجَع : شَرْح اللُّمَع 2/119 وشَرْح العضد 2/173 وإحكام الفصول /509 ، 510 والإحكام لِلآمدي 3/76 ، 77 وبيان المختصر 2/442 والتلويح 1/256 وشَرْح مختصر الروضة 2/719 722 وفواتح الرحموت ومُسَلَّم الثبوت 1/410(1/78)
(2) أَخْرَجه الترمذي في كِتَاب الطهارة عَنْ رسول الله : باب ما جاء في سؤر الهِرَّة برقم ( 85 ) والنسائي في كِتَاب الطهارة : باب سؤر الهِرَّة برقم ( 67 ) وأبو داود في كِتَاب الطهارة : باب سؤر الهِرَّة برقم ( 68 ) ، كُلّهم عَنْ أَبِي قتادة - رضي الله عنه - .
(3) يُرَاجَع : أصول السرخسي 1/242 وكَشْف الأسرار لِلبخاري 1/186 ، 187
والطوفي رحمهم الله تعالى (1) .
واسْتَدَلّوا لِذلك بأدلّة ، أَذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ التأفيف في اللغة غَيْر موضوع لِلضرب والشتم ، ولِذَا فالمنع مِن التأفيف لا يدخل فيه المنع مِن الضرب والشتم ، لكنّهما دَخَلاَ في المنع ، وحيث إنَّه يَمتنع دخولهما فيه لغةً فلا مَفَرّ مِن دخولهما فيه بِطَرِيق القياس ، فَدَلّ ذلك على أنّ دلالة مفهوم الموافَقة دلالة قياسيّة لا دلالة لفظيّة
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ نُوقِش هذا الدليل : بأنَّا لم نَقُلْ أنّ التأفيف موضوع لِلضرب والشتم ، وإنَّمَا يُفْهَم مِمَّنْ نَطَق به على هذا الوجهِ المنعُ مِمَّا زاد على التأفيف مِن الأذى ضرباً أو شتماً ، وهذا الاستدلال مأخوذ مِن دلالة النَّصّ وليس مِن باب القياس (2) .
الدليل الثاني : أنّ إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به في الحُكْم لاشتراكهما في المقتضى ( العِلَّة ) هو حقيقة القياس ، وهذا متحقِّق في تحريم ضَرْب الوالديْن أو شتْمهما المُحَرَّم بمقتضى تحريم التأفيف في قوله تعالى { فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفّ } (3) ؛ فالمنصوص عليه حرمة التأفيف ، فأُلحِق به الضرب والشتم بجماع الأذى في كُلٍّ ، ولِذَا كان الحُكْم فيهما ـ الضرب والشتم ـ ليس مأخوذاً مِن لَفْظ التأفيف ، وإنَّمَا مِن جهة المَعْنَى بِطَرِيق القياس .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وأَرَى مُنَاقَشَة هذا الدليل : بأنَّا نُسَلِّم أنّ تَحَقُّق أركان القياس يَجعل(1/79)
(1) يُرَاجَع : شَرْح اللُّمَع 2/118 وجَمْع الجوامع مع تشنيف المَسامع 1/166 والبرهان 2/786 وشَرْح مختصر الروضة 2/717 وكَشْف الأسرار لِلبخاري 1/186 ، 187 وتيسير التحرير 1/90
(2) يُرَاجَع إحكام الفصول /510
(3) سورة الإسراء مِنَ الآية 23
الحُكْمَ مَبْنِيّاً على القياس ، فلِذَا يحرم ضرْب الوالديْن أو شَتْمهما قياساً على حرمة التأفيف ، لكنْ لا نُسَلِّم أنّ هذا التحقق يَمنع التوصل إلى هذا الحُكْم بمُجَرَّد اللغة دُون عِلْم بقواعد القياس وأركانه ، بلْ إنّ هذا الفهم والتوصل إليه أراه أَسْرَع وأَيْسَر مِن كَوْنه قياساً .
سَلَّمْنَا ـ جَدَلاً ـ أنّ دلالة المفهوم في هذا المثال قياسيّة ، لكنْ لا نُسَلِّم عموم هذا الحُكْم في غَيْره ؛ حتّى لا تُصْبِح دلالة مفهوم الموافَقة قياسيّةً لا لفظيّةً كَمَا ادَّعَيْتُمْ .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم في دلالة مفهوم الموافَقة هلْ هي لفظيّة أم قياسيّة ؟ يُمْكِن التوصل إلى ما يلي :
1- أنّ أدلّة المذهب الأول القائل بأنّ دلالة المفهوم دلالة لفظيّة قَدْ سَلمَتْ مِن المُنَاقَشَة والاعتراض ، وفي المقابِل لم تَسْلَمْ أدلّة المذهب الثاني القائل بأنّ دلالة المفهوم دلالة قياسيّة مِن المُنَاقَشَة والاعتراض ، مِمَّا يؤهِّل المذهب الأول لِلاختيار والتقديم .
2- أنّ أدلّة المذهب الثاني مع عدم سلامتها مِن المُنَاقَشَة إلا أنّ لها وجهةً مقبولةً في تَحَقُّق أركان القياس في المثال المذكور ، مِمَّا يَجعل الدّلالة حينئذٍ قياسيّة .
3- أنّ هذه المسألة أو هذا المطلب بَنَاه الأصوليّون على مثال واحد ( ضَرْب الوالديْن أو شتْمهما ) لا نستطيع أنْ نُبعِده عن القياس ، مِمَّا يَجعل وجهة كُلّ مذهب مقبولةً ، إلا أنّ القياس يَحتاج إلى بَحْث وتأمُّل ، أمَّا المفهوم فإنّه لا يَحتاج إلى ذلك .(1/80)
4- أنّ الراجح عندي : أنّ دلالة مفهوم الموافَقة دلالة لفظيّة وليست قياسيّةً
إلا في هذا المثال ( ضَرْب الوالديْن وشَتْمهما ) وما شاكَله ؛ فإنَّهَا تَكون حينئذٍ لفظيّةً وقياسيّة .
5- أنّ الخِلاَف في هذه المسألة أراه لفظيّاً ؛ لأنّ الجميع سَلَّم بحُجِّيَّة المفهوم ، سواء قُلْنَا إنّ دلالته لفظيّة أم قياسيّة ، وبلفظيّة الخِلاَف قال كثير مِن الأصوليّين : كإمام الحرميْن والغزالي والبخاري والتفتازاني رحمهم الله تعالى (1) ..
وفي ذلك يقول إمام الحرميْن رحمه الله تعالى :" فقد اختلَف أرباب الأصول في تسمية ذلك " قياساً " ..
فقال قائلون : إنَّه ليس مِن أبواب القياس ، وهو مُتَلَقّى مِن فَحْوَى الخِطَاب .
وقال آخَرون : هو مِن باب القياس .
وهذه مسألة لفظيّة ليس وراءها فائدة معنويّة ، ولكنّ الأمر إذا رُدّ إلى حُكْم اللفظ فَعَدُّ ذلك مِن القياس أَمْثَل " (2) ا.هـ .
ويقول الغزالي رحمه الله تعالى :" وقدِ اختلَفوا في تسمية هذا ( ما كان المسكوت عنه أَوْلى بالحُكْم مِن المنطوق ) " قياساً " ، وتَبعد تسميته " قياساً " لأنَّه لا يُحتاج فيه إلى فِكْر واستنباط عِلَّة ، ولأنّ المسكوت عنه ها هُنَا كأنَّه أَوْلى بالحُكْم مِن المنطوق به ، ومَن سَمَّاه " قياساً " اعترَف بأنَّه مقطوع به ولا مشاحة في الأسامي " (3) ا.هـ .
6- أنّ الخِلاَف وإنْ كان لفظيّاً كَمَا ذَهَبَتْ هذه الكوكبة مِن الأصوليّين
(1) يُرَاجَع : البرهان لإمام الحرميْن 2/786 والمستصفى /305 وكَشْف الأسرار 1/186 ، 187 والتلويح 1/256
(2) البرهان 2/786
(3) المستصفى /305
إلا أنَّهم بَنَوْا عليه آثاراً وفوائد ، منها :
أ- هلْ يجوز النسخ بمفهوم الموافَقة ؟
إنْ قُلْنَا " الخلاف لفظيّ " جاز ، وإلا فلا .
ب- أنّ الخبر يُقَدَّم على مفهوم الموافَقة إنْ كان قياساً ، وإنْ لم يَكُنْ قياساً لَمْ يُقَدَّمْ (1) .(1/81)
(1) يُرَاجَع : البحر المحيط 4/11 وشَرْح الكوكب المنير 3/486
الفصل الرابع
مفهوم المخالَفة
وفيه خمسة مطالب :
المطلب الأول : مُسَمَّى مفهوم المخالَفة .
المطلب الثاني : تعريف مفهوم المخالَفة .
المطلب الثالث : حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة .
المطلب الرابع : شروط العمل بمفهوم المخالَفة .
المطلب الخامس : أنواع مفهوم المخالَفة ( جملةً ) .
المطلب الأول
مُسَمَّى مفهوم المخالَفة
لقد اختلَف الأصوليّون في مُسَمَّى مفهوم المخالَفة ـ كَمَا هو الحال في مُسَمَّى مفهوم الموافَقة ـ فَوَجَدْنَا كُلّ واحد منهم يَختار مُسَمّىً ويشير ـ أحياناً ـ إلى غَيْره ، الأمر الذي يستدعي بيان هذه المسمَّيات ووَجْه الترادف أو التباين بَيْنها ..
وقَدْ حَصَرْتُ هذه المسمَّيات في سِتّة مسمَّيات ، نُفَصِّلها فيما يلي :
المُسَمَّى الأول : مفهوم المخالَفة .
وهو ما عليه أَكْثَر الأصوليّين (1) ، واختاره ابن فورك وإمام الحرميْن والبيضاوي وابن الحاجب والقرافي والآمدي والزركشي رحمهم الله تعالى ونَقَله إمام الحرميْن عن الإمام الشافعي - رضي الله عنه - (2) .
وهذا المُسَمَّى أشار إليه ابن قدامة رحمه الله تعالى (3) .
المُسَمَّى الثاني : دليل الخِطَاب .
وهو مُسَمَّى كثير مِن الأصوليّين ـ الأقدمين منهم خاصّةً ـ واختاره الشيرازي والباجي وابن السمعاني وأبو يعلى وابن عقيل والكلوذاني (4)
(1) يُرَاجَع : شَرْح مختصر الروضة 2/723 وشَرْح الكوكب المنير 3/489 وتيسير التحرير 1/98 وشَرْح طلعة الشمس 1/260 وإرشاد الفحول /179 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 2/100
(2) يُرَاجَع : البرهان 1/449 ، 450 والمنهاج مع شَرْحه 1/282 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/173 وشَرْح تنقيح الفصول /54 والإحكام لِلآمدي 3/74 والبحر المحيط 4/13
(3) روضة الناظر 2/775(1/82)
(4) أبو الخَطّاب الكلوذاني : هو محفوظ بن أَحْمَد بن الحَسَن بن أَحْمَد الكلوذاني البغدادي الحنبلي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 432 هـ ، بَرَع في مذهب الحنابلة وعِلْم الخلاف والفرائض .. =
رحمهم الله تعالى (1) .
وأشار إلى هذا المُسَمَّى كثير مِن الأصوليّين ، منهم : ابن فورك وأبو الحسين البصري (2) والغزالي والبيضاوي وابن الحاجب والآمدي وابن الهمام والزركشي والفتوحي والشوكاني والسالمي رحمهم الله تعالى (3) .
وسُمِّي " دليلَ الخِطَاب " لأنّ دلالته مِن جِنْس دلالات الخِطَاب ، أو لأنّ الخِطَاب دالّ عليه ، أو لِمخالَفته منظوم الخِطَاب (4) .
المُسَمَّى الثالث : المفهوم .
وهو مُسَمّى انْفَرَد به حُجَّة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى (5) ، ولَمْ أَقِفْ على أحد مِن الأصوليّين قال به أو أشار إليه .
المُسَمَّى الرابع : تنبيه الخِطَاب .
وهو مُسَمّى أشار إليه القرافي ـ رحمه الله تعالى ـ باعتباره مرادِفاً
= مِن مصنَّفاته : الهداية في الفقه ، التهذيب في الفرائض .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 510 هـ .
الفتح المبين 2/11
(1) يُرَاجَع : شَرْح اللُّمَع 2/122 وإحكام الفصول /514 وقواطع الأدلّة 2/9 والعُدّة 1/154 والواضح 1/37 والتمهيد لِلكلوذاني 2/189 وروضة الناظر 2/775 والمسوّدة /351
(2) أبو الحسين البصري : هو مُحَمَّد بن عَلِيّ بن الطَّيِّب البصري رحمه الله تعالى ، أحد أئمة المعتزلة ، وُلِد بالبصرة ورَحَل لِبغداد ..
مِن تصانيفه : المعتمد ، تَصَفُّح الأدلّة ، غرر الأدلّة .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 436 هـ .
شذرات الذهب 3/259 والنجوم الزاهرة 5/38
(3) يُرَاجَع : البرهان 1/450 والمعتمد 1/157 والمستصفى /265 والمنهاج مع شَرْحه 1/282 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/173 والإحكام لِلآمدي 3/78 والتحرير 1/98 والبحر المحيط 4/13 وشَرْح الكوكب المنير 3/489 وإرشاد الفحول /179 وشَرْح طلعة الشمس 1/260(1/83)
(4) يُرَاجَع : شَرْح الكوكب المنير 3/489 والبحر المحيط 4/13 وإرشاد الفحول /179
(5) المستصفى /265
لِمفهوم المخالَفة (1) ، ولم أَقِفْ على غَيْره قال به .
المُسَمَّى الخامس : لَحْن الخِطَاب .
وهو مُسَمّى أشار إليه السالمي ـ رحمه الله ـ لِبَعْض الأصوليّين (2) ، ولَمْ أَقِفْ ـ أيضاً ـ على غَيْره مِمَّنْ ذَكَر هذه التسمية .
المُسَمَّى السادس : المخصوص بالذِّكْر .
وهو مُسَمّى انْفَرَد به الجصّاص رحمه الله تعالى ، ولَمْ أَرَ مِن الأصوليّين مَن اختاره أو أشار إليه (3) .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على مسمَّيات مفهوم المخالَفة ـ التي وَقَفْتُ عليها ـ عند الأصوليّين يُمْكِن التوصل إلى ما يلي :
1- أنّ المسمَّيَيْن الرابع والخامس لَمْ يُسَمِّ بهما أحد مِن الأصوليّين ـ فيما وَقَفْتُ عليه ـ ولم يُشِرْ إليهما سِوَى القرافي ـ رحمه الله تعالى ـ الذي أشار إلى الرابع ، والسالمي ـ رحمه الله تعالى ـ الذي أشار إلى الخامس ولِذَا فإنَّهما لِهذا السبب لا يَصلحان لِلترجيح والاختيار ، إضافةً إلى أنّ هذيْن المسمَّييْن سبق ورودهما في مسمَّيات مفهوم الموافَقة ، ومِن هُنَا كانَا غَيْر مانعيْن مِن دخول مفهوم الموافَقة فيهما .
2- أنّ المُسَمَّى السادس انْفَرَد به الجصّاص رحمه الله تعالى ، ولكنّه مُسَمّىً عامّ يَشمل المُعَرَّف وغَيْرَه ، فهو غَيْر مانِع مِن دخول مفهوم الموافَقة والدّلالات ونَحْوها ؛ فجميعها مخصوص بالذِّكْر .
3- أنّ المُسَمَّى الثالث ( المفهوم ) ـ وهو ما انْفَرَد به حُجَّة الإسلام الغزالي
(1) يُرَاجَع شَرْح تنقيح الفصول /54
(2) يُرَاجَع شَرْح طلعة الشمس 1/260
(3) الفصول 1/289
رحمه الله تعالى ـ لا يَصلح لِلترجيح والاختيار ؛ لِمَا يلي :
أ- أنَّه لم يَقُلْ به أحد مِن الأصوليّين ـ فيما وَقَفْتُ عليه ـ أو أشار إليه .(1/84)
ب- أنَّه مسمّىً عامّ غَيْر مانِع مِن دخول مفهوم الموافَقة فيه ، ومحلّ استشهادنا هو مفهوم المخالَفة لا مُطْلَق المفهوم .
4- أنّ المُسَمَّى الثاني ( دليل الخِطَاب ) وإنْ كان كثير مِن الأصوليّين اختاره أو أشار إليه إلا أنَّه لا يَصلح ـ أيضاً ـ لِلترجيح والاختيار ؛ لِمَا يلي :
أ- أنَّه غَيْر مانِع مِن دخول غَيْر مفهوم المخالَفة فيه ، ولِذَا لا يُمْكِن حَمْل مَعْنَاه على مفهوم المخالَفة إلا بتعريفها حتّى يقيّد هذا الإطلاق .
ب- أنّ دليل الخِطَاب بمَعْنَاه العامّ ـ أنّ دلالته مِن جِنْس دلالات الخِطَاب أو لأنّ الخِطَاب دالّ عليه ـ يُمْكِن أنْ يدخل فيه كُلّ ما انْبَنَى على الخِطَاب وتَرَتَّب عليه حُكْم شَرْعيّ ، وهو مَعْنىً واسِع يَشمل المفهوم بِنَوْعَيْه والدّلالات الثّلاث حتّى القياس وإنْ سَمَّاه البَعْض " مَعْنَى الخِطَاب " .
5- أنّ المُسَمَّى الأول ( مفهوم المخالَفة ) هو المُسَمَّى الذي أَرَاه أَوْلى بالقبول والترجيح ؛ لِمَا يلي :
أ- أنَّه مُسَمّىً جامِع مانِع سالِم مِن كُلّ ما وُجِّه إلى غَيْره مِن المسمّيات مِن مُنَاقَشَة أو اعتراض .
ب- أنَّه المُسَمَّى الذي صَرَّح بما يَتَّفِق وموضوع هذا البحث ( دلالة المفهوم ) ، والمتناسق مع مُسَمَّى مفهوم الموافَقة .
جـ- أنَّه المُسَمَّى الذي عليه أَكْثَر الأصوليّين .
المطلب الثاني
تعريف مفهوم المخالَفة
لقَدْ عَرَّف الأصوليّون مفهومَ المخالَفة بتعريفات كثيرة ، أَذكر منها ما يلي :
التعريف الأول : أنْ يُعَلَّق الحُكْم على أحد وَصْفَيِ الشيء فَيَدُلّ على أنّ ما عَدَا ذلك بخِلاَفه .
وهو تعريف الشيرازي رحمه الله تعالى (1) .
ونَحْوه تعريفات كثيرة ، منها : تعريف أبي يعلى رحمه الله تعالى ، وهو : إذا عُلِّق ( الخِطَاب ) بصفة فَيَدُلّ على أنّ الحُكْم فيما عَدَا الصفة بخِلاَفه (2) .(1/85)
وتعريف الباجي رحمه الله تعالى ، وهو : أنّ تعليق الحُكْم على الصفة يَدُلّ على أنّ انتفاء ذلك الحُكْم عَمَّنْ لَمْ توجَدْ فيه (3) .
وتعريف ابن السمعاني رحمه الله تعالى ، وهو : أنْ يَكون المنصوص عليه صفتيْن ، فيُقَيَّد الحُكْم بإحدى الصِّفتَيْن ، فيَكون نَصُّه مُثْبِتاً لِلحُكْم مع وجود الصفة ودليله ، نافياً لِلحُكْم مع عدم الصفة (4) .
وتعريف أبي الحسين البصري رحمه الله تعالى ، وهو : أنْ يُعَلَّق الحُكْم على صفة الشيء فيَدُلّ على نَفْيِه عَمَّا عَدَاهَا (5) .
(1) شَرْح اللُّمَع 2/122 ، 123
(2) العُدّة 1/154
(3) إحكام الفصول /515
(4) قواطع الأدلّة 2/9
(5) المعتمد 1/282
وتعريف ابن عقيل رحمه الله تعالى ، وهو : تعليق الحُكْم على أحد وَصْفَيِ الشيء وعلى شَرْط أو غاية ، فيَدُلّ على أنّ ما عَدَاه بخِلاَفه (1) .
التعريف الثاني : ما يَدُلّ مِن جهة كَوْنه مخصَّصاً بالذِّكْر على أنّ المسكوت عنه مخالِف لِلمخصَّص بالذِّكْر .
وهو تعريف إمام الحرميْن رحمه الله تعالى (2) .
التعريف الثالث : الاستدلال بتخصيص الشيء بالذِّكْر على نَفْي الحُكْم عَمَّا عَدَاه .
وهو تعريف حُجَّة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى (3) ، واختاره ابن قدامة رحمه الله تعالى (4) .
ونَحْوه تعريف الطوفي رحمه الله تعالى ، وهو : دلالة تخصيص شيء بحُكْم يَدُلّ على نَفْيه عَمَّا عَدَاه (5) .
التعريف الرابع : ما يَكون مدلول اللفظ في محلّ السكوت مخالِفاً لِمدلوله في محلّ النطق .
وهو تعريف الآمدي رحمه الله تعالى (6) .
التعريف الخامس : أنْ يَكون المسكوت عنه مخالِفاً .
وهو تعريف ابن الحاجب رحمه الله تعالى (7) .
التعريف السادس : إثبات نقيض حُكْم المنطوق به لِلمسكوت عنه .
(1) الواضح 1/37
(2) البرهان 1/449
(3) المستصفى /265
(4) روضة الناظر 2/775
(5) شَرْح مختصر الروضة 2/724
(6) الإحكام 3/78
(7) مختصر المنتهى 2/173(1/86)
وهو تعريف القرافي رحمه الله تعالى (1) .
ونَحْوه تعريف صَدْر الشريعة رحمه الله تعالى ، وهو : أنْ يثبت الحُكْم في المسكوت عنه على خِلاَف ما ثبت في المنطوق (2) .
وتعريف الزركشي رحمه الله تعالى ، وهو : إثبات نقيض حُكْم المنطوق لِلمسكوت (3) .
وتعريف ابن الهمام رحمه الله تعالى ، وهو : دلالته على نقيض حُكْم المنطوق لِلمسكوت (4) .
التعريف السابع : أنْ يَكون المسكوت عنه مخالِفاً لِلمذكور في الحُكْم إثباتاً ونفياً .
وهو تعريف العضد الإيجي رحمه الله تعالى (5) ، واختاره ـ بلفظه ـ الشوكاني رحمه الله تعالى (6) .
ونَحْوه تعريف الأصفهاني رحمه الله تعالى ، وهو : أنْ يَكون المسكوت موافِقاً لِلمنطوق في الحُكْم (7) .
وتعريف التفتازاني رحمه الله تعالى ، وهو : أنْ يَكون المسكوت عنه مخالِفاً لِلمنطوق في الحُكْم إثباتاً ونفياً (8) .
التعريف الثامن : أنْ يخالِف المسكوت عنه حُكْمَ المنطوق .
(1) شَرْح تنقيح الفصول /55
(2) التنقيح مع التوضيح 1/266
(3) البحر المحيط 4/13
(4) التحرير مع التيسير 1/98
(5) شَرْح العضد مع المختصر 2/173
(6) إرشاد الفحول /179
(7) التلويح 1/266
(8) بيان المختصر 2/444
وهو تعريف الفتوحي رحمه الله تعالى (1) .
ونَحْوه تعريف السالمي رحمه الله تعالى ، وهو : أنْ يخالِف المسكوت عنه حُكْمَ المنطوق به (2) .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على بَعْض تعريفات الأصوليّين لِمفهوم المخالَفة يُمْكِن التوصل إلى ما يلي :
1- أنّ التعريف الأول وما شاكَله قَصَر تعليق الحُكْم على الصفة ، مِمَّا يَعْنِي قَصْر مفهوم المخالَفة على نَوْع واحد وهو مفهوم الصفة ، ولِذَا كان التعريف غَيْر جامِع .
2- أنّ التعريف الثاني لَمْ يُحَدِّدْ محلّ مخالَفة المسكوت عنه لِلمذكور وهو الحُكْم ، ولِذا فإنَّه تعريف غَيْر مانِع .(1/87)
3- أنّ التعريف الثالث لَمْ يَنُصّ صراحةً على حُكْم المنطوق الذي خالفه المسكوت ، وإنْ كان قَدْ أشار إليه ضِمْناً بقوله :( على نَفْي الحُكْم عَمَّا عَدَاه ) .
4- أنّ التعريف الرابع لَمْ يُحَدِّدْ محلّ المخالَفة وهو الحُكْم ؛ لأنّ جَوْهَر مفهوم المخالَفة هو مخالَفة الحُكْم ومدلول اللفظ ، مع أنَّا نُسَلِّم أنّ الحُكْم مأخوذ مِن مدلول اللفظ .
5- أنّ التعريف الخامس لَمْ يُحَدِّدْ ـ أيضاً ـ محلّ المخالَفة ولا جهتها ، ولِذَا فإنَّه غَيْر مانِع مِن دخول غَيْر مفهوم المخالَفة فيه ؛ لأنَّه يُمْكِن أنْ يَكون المسكوت عنه مخالِفاً لِمسكوت آخَر في الحُكْم .
6- أنّ التعريفات السادس والسابع والثامن أَرَى أنَّهَا تعريفات سالمة
(1) شَرْح الكوكب المنير 3/488 ، 489
(2) شَرْح طلعة الشمس 1/260
مِمَّا وُجِّه إلى ما تَقَدَّمَهَا مِن مُنَاقَشَة ، مِمَّا يؤهِّلها لِلترجيح والاختيار ..
غَيْرَ أنِّي أَرَى تعريف مفهوم المخالَفة بـ:( ما كان المسكوت عنه مخالِفاً في الحُكْم لِلمنطوق ) ، وهو تعريف مأخوذ مِن تعريف العضد الإيجي والأصفهاني والتفتازاني والفتوحي رحمهم الله تعالى (1) .
شَرْح التعريف :
( ما ) : جِنْس في التعريف ، يَشمل المنطوق والمفهوم والمسكوت عنه والمنطوق به ، والمراد به هُنَا اللفظ .
( كان المسكوت عنه ) : قَيْد أول ، خَرَج به المنطوق به .
( مخالِفاً في الحُكْم ) : قَيْد ثانٍ ، خَرَج به ما كان المسكوت عنه موافِقاً لِلحُكْم ؛ فإنَّه يَكون مفهوم موافَقة .
( لِلمنطوق ) : قَيْد ثالث ، خَرَج به ما كان المسكوت عنه مخالِفاً لِلحُكْم لِمسكوت آخَر ؛ فلا يُسَمَّى " مفهوم مخالَفة " .
(1) يُرَاجَع : شَرْح العضد على المختصر 2/173 وبيان المختصر 2/444 والتلويح 1/266 وشَرْح الكوكب المنير 3/488 489
المطلب الثالث
حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة
الحديث في هذا المطلب يُمْكِن تقسيمه على النحو التالي :(1/88)
1- تمهيد في حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة .
2- مذاهب الأصوليّين في حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة .
3- أدلّة المذاهب في حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة .
4- تعقيب وترجيح .
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها فيما يلي ..
أوّلاً - تمهيد في حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة :
المراد بمفهوم المخالَفة هُنَا : هو مفهومها بصفة عامّة ، وليس أنواعَها أو بَعْضَهَا بصفة تفصيليّة ، والتي سيأتي ذِكْرها بإذْن الله تعالى ، وسَنَرَى فيها اختلافاً بَيْن أصحاب المذهب الواحد ، أعني القائل بحُجِّيَّة مفهوم المخالَفة بصفة عامّة ، ولكنّ فريقاً منهم يقول بحُجِّيَّة بَعْض أنواع مفهوم المخالَفة دون بَعْض .
والإطلاق الأول ـ الحُجِّيَّة بصفة عامّة ـ هو المشهور عند الأصوليّين ، وهو المراد هُنَا .
ثانياً - مذاهب الأصوليّين في حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة :
اختلَف الأصوليّون في حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة : هلْ يُعَدّ دليلاً ويجب التزام الأحكام المَبْنِيَّة عليه ؟
لهم في ذلك مذهبان :
المذهب الأول : أنَّه حُجَّة .
وهو ما عليه الأئمّة مالك (1) والشافعي وأَحْمَد (2) - رضي الله عنهم - وجمهور الشّافعيّة وأَكْثَر المتكلِّمين (3) ، وهو قَوْل داود وأبي ثَوْر (4) (5) والكرخي (6) رحمهم الله تعالى ، واختاره الشيرازي وابن قدامة والكلوذاني وابن السمعاني وابن الحاجب والزركشي والطوفي رحمهم الله تعالى (7) .
(1) الإمام مالك : هو أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك الأصبحي المدني - رضي الله عنه - ، إمام دار الهجرة ، أحد الأئمّة الأربعة ، وُلِد بالمدينة سَنَة 93 هـ ..
مِن مصنَّفاته : الموطَّأ .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 179 هـ .
الأعلام 3/824 والفتح المبين 1/117 - 123(1/89)
(2) الإمام أَحْمَد : هو أبو عبد الله أَحْمَد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس الشيباني - رضي الله عنه - ، الإمام الفقيه المحدِّث ، أحد الأئمّة الأربعة ، وُلِد ببغداد سَنَة 164 هـ .
مِن مصنَّفاته : المسنَد ، التفسير ، السُّنَّة .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - ببغداد سَنَة 241 هـ .
البداية والنهاية 10/320 والفتح المبين 1/156 - 163
(3) يُرَاجَع : روضة الناظر 2/776 وشَرْح الكوكب المنير 3/500 ومختصر المنتهى 2/174
(4) أبو ثور : هو إبراهيم بن خالد بن اليمان البغدادي رحمه الله تعالى ، حَدَّث عن الإمام الشافعي وسفيان بن عيينة وغيْرهما ..
مِن مصنَّفاته : مبسوط في الفقه على ترتيب كُتُب الإمام الشافعي .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 240 هـ .
تذكرة الحُفّاظ 2/512 ، 513 وسِيَر أعلام النبلاء 12/72 ، 73
(5) قواطع الأدلّة 2/9 ، 10 والبحر المحيط 4/30
(6) يُرَاجَع التمهيد لِلكلوذاني 2/190
(7) يُرَاجَع : التبصرة /219 وروضة الناظر 2/776 والتمهيد لِلكلوذاني 2/190 وقواطع الأدلّة 2/9 ، 10 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/174 والبحر المحيط 4/30 وشَرْح مختصر الروضة 2/723
واشترَط بَعْض أصحاب هذا المذهب شروطاً في مفهوم المخالَفة حتّى يَكون حُجَّةً ..
ومِن هؤلاء :
1- الماوردي (1) ـ رحمه الله تعالى ـ الذي فَصَّل بَيْن أنْ يقع ذلك جوابَ سؤال فلا يَكون حُجَّةً ، وبَيْن أنْ يقع ذلك ابتداءً فيَكون حُجَّةً .. حَكَاه عنه الزركشي ـ رحمه الله تعالى ـ في " البحر " (2) .
2- أبو عَبْد الله البصري (3) ـ رحمه الله تعالى ـ الذي يَرَى أنَّه حُجَّة في صوَر ثلاث :
الأولى : أنْ يَرِد مَوْرِدَ البيان ..
كقوله - صلى الله عليه وسلم - { فِي سَائِمَةِ الْغَنَم ... } (4) .
الثانية : أنْ يَرِد مَوْرِدَ التعليم ..
نَحْو : خبر التحالف والسلعة قائمة (5) .(1/90)
(1) الماوردي : هو القاضي أبو الحَسَن عَلِيّ بن مُحَمَّد الماوردي البصري الشافعي رحمه الله ..
مِن مصنَّفاته : الحاوي الكبير ، أدب الدنيا والدِّين ، الإقناع في الفقه ، الأحكام السلطانية .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 450 هـ .
طبقات الشافعية الكبرى 5/267 - 269 وشذرات الذهب 3/285
(2) يُرَاجَع البحر المحيط 4/31
(3) أبو عبد الله البصري : هو أبو عبد الله الحسين بن عَلِيّ البصري الحنفي رحمه الله تعالى ، فقيه متكلِّم ..
مِن مصنَّفاته : الإيمان ، الإقرار ، نقْض كلام ابن الراوندي .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 369 هـ .
شذرات الذهب 3/68
(4) سبق تخريجه .
(5) الخبر هو : { إنِ اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الْقَدْرِ أَوْ فِي الصِّفَةِ فَلْيَتَحَالَفَا وَلْيَتَرَادَّا } ..
ويُرَاجَع شَرْح العضد 2/175
الثالثة : أنْ يَكون ما عَدَا الصفة داخلاً تَحْت الصفة ..
نَحْو : الحُكْم بالشاهديْن يَدُلّ على نَفْيه عن الشاهد الواحد ؛ لأنَّه داخِل تَحْت الشاهديْن ، ولا يَدُلّ على نَفْي الحُكْم فيما سِوَى ذلك (1) .
3- إمام الحرميْن ـ رحمه الله تعالى ـ الذي فَرَّق بَيْن الوصف المناسِب وغَيْر المناسِب : فقال بمفهوم الأول وأنَّه حُجَّة ، أمَّا غَيْر المناسِب فلا يَكون حُجَّة (2) .
وسَنَرَى ـ بإذن الله تعالى ـ في أنواع مفهوم المخالَفة اختلاف أصحاب هذا المذهب في حُجِّيَّتِه .
وقدِ اشترَط أصحاب هذا المذهب في حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة شروطاً ـ سيأتي ذِكْرُهَا بإذن الله ـ لا تَدَع مجالاً لِلانفراد ببَعْض الشروط دون بَعْض .
المذهب الثاني : أنَّه ليس حُجَّةً .
وهو قوْل الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - (3) وأصحابه وجمهور المتكلّمين مِن المعتزلة والأشعريّة وجماعة مِن المالكيّة والشّافعيّة ، منهم : ابن سريج (4)(1/91)
(1) يُرَاجَع : المعتمد 1/150 والإحكام لِلآمدي 3/80 ، 81 والبحر المحيط 4/31 ، 32 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/174 ، 175
(2) يُرَاجَع : البرهان 1/466 ، 467 والبحر المحيط 4/32
(3) الإمام أبو حنيفة : هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن كاوس بن هرمز - رضي الله عنه - ، أول الأئمّة الأربعة وُلِد بالكوفة سَنَة 80 هـ ..
مِن مصنَّفاته : المخارج في الفقه واللغة .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 150 هـ .
الأعلام 9/4 والفتح المبين 1/106 - 110
(4) ابن سريج : هو أبو العباس أَحْمَد بن عُمَر بن سريج البغدادي رحمه الله تعالى ، وُلِد ببغداد سَنَة 249 هـ ، فقيه الشّافعيّة في عصْره ..
مِن تصانيفه : الانتصار ، الأقسام ، الخصال في فروع الفقه الشافعي .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 306 هـ .
مُعجَم المؤلِّفين 2/31 وطبقات الفقهاء الشّافعيّة 2/712 وطبقات الشّافعيّة الكبرى 2/87
والمروزي (1) والقفّال الشاشي (2) رحمهم الله تعالى (3) ، واختاره ابن حَزْم (4) والجصّاص وأبو الحسين البصري والباجي والغزالي وصَدْر الشريعة والسرخسي والآمدي رحمهم الله تعالى (5) .
وقَدْ نُقِل عن بَعْض الحنفيّة حَصْر محلّ النزاع في حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة في كلام الشارع ، أمَّا في كلام الناس ومعامَلاتهم فإنَّه يَكون حُجَّةً إذا تَعارَفوا على ذلك ..
وفي ذلك يقول ابن الهمام رحمه الله تعالى :" والحنفيّة ينفونه بأقسامه في كلام الشارع فقط " (6) ا.هـ .
(1) أبو إسحاق المروزي : هو إبراهيم بن أَحْمَد المروزي رحمه الله تعالى ، تلميذ ابن سريج ، انتهت إليه رئاسة الشّافعيّة ببغداد ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالقاهرة سَنَة 340 هـ .
شذرات الذهب 2/355 والفتح المبين 1/199(1/92)
(2) القَفّال الشاشي : هو أبو بَكْر مُحَمَّد بن علِيّ بن إسماعيل القفّال الكبير الشاشي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بشاش سَنَة 291 هـ ، كان يَمِيل إلى الاعتزال في أوَّل حياته العِلْمِيَّة ..
مِن مصنَّفاته : كتاب في الأصول ، شرْح الرسالة ، دلائل النُّبُوّة .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بشاش سَنَة 365 هـ .
طبقات الشّافعيّة الكبرى 2/176 وشذرات الذهب 3/51 والفتح المبين 1/212 ، 213
(3) يُرَاجَع : قواطع الأدلّة 2/10 ، 11 والإحكام لابن حَزْم 7/323 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/174 والبحر المحيط 4/31 وشَرْح الكوكب المنير 3/500
(4) ابن حَزْم الظاهري : هو علِيّ بن أَحْمَد بن سعيد بن حزْم الفارسي الأصل ثُمّ الأندلسي القرطبي رحمه الله تعالى ، الفقيه الحافظ المُتَكَلِّم الأديب ، أستاذ الفقه الظاهري ..
مِن مصنَّفاته : المُحَلَّى ، الإحكام في أصول الأحكام ، الإملاء في شَرْح الموطأ .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 456 هـ .
وفيات الأعيان 3/325 - 330 وطبقات الحُفّاظ /436 ، 437
(5) يُرَاجَع : الإحكام لابن حَزْم 7/323 والنُّبَذ الكافية /69 والفصول 1/291 ، 292 والمعتمد 1/288 وإحكام الفصول /515 والمستصفى /265 والتنقيح مع التوضيح 1/266 وأصول السرخسي 1/256 والإحكام لِلآمدي 3/95 ، 96
(6) التحرير 1/101
ويقول أمير بادشاه رحمه الله تعالى :" والحنفيّة ينفونه ( أيْ مفهوم المخالَفة ) بأقسامه في كلام الشارع فقط ..
قال الكردري (1) : تخصيص الشيء بالذِّكْر لا يَدُلّ على نَفْي الحُكْم عَمَّا عَدَاه في خطابات الشرع ، فأمَّا في متفاهَم الناس وعُرْفِهم وفي المعامَلات والعقليّات فَيَدُلّ " (2) ا.هـ .
وذَكَر الزركشي رحمه الله تعالى أنّ الإمام أبا حنيفة - رضي الله عنه - لا يُنْكِر مفهومَ الصفة مُطْلَقاً ، وإنَّمَا هناك أمران :(1/93)
أحدهما : أنْ يَرِد دليل العموم ثُمّ يَرِد إخراج فَرْد منه بالوصف ، فهو محلّ الخِلاَف : كقيام الدليل على وجوب زكاة الغَنَم مُطْلَقاً ثُمّ وَرَد الدليل بتقييدها بالسائمة ، فيقول أبو حنيفة - رضي الله عنه - : لا تقتضي نَفْيَ الحُكْم عَمَّا عَدَاهَا ؛ لِقيام دليل العموم ، فيَستصحبه ولا يَجعل لِلتقييد بالوصف أثراً معه .
والثاني : أنْ يَرِد الوصف مبتدأً : كَمَا يقول " أَكْرِم بني تميم الطّوال " ؛ فأبو حنيفة - رضي الله عنه - يوافِق على أنّ غَيْر الطّوال لا يجب إكرامهم ، فلْيُتَفَطَّنْ لِذلك " (3) ا.هـ .
ثالثاً - أدلّة المذاهب في حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة :
أدلّة المذهب الأول :
استدَلّ أصحاب المذهب الأول ـ القائلون بحُجِّيَّة مفهوم المخالَفة ـ بأدلّة
(1) الكردري : هو تاج الدِّين أبو المفاخر عَبْد الغفّار بن لقمان بن مُحَمَّد الكردري رحمه الله تعالى ، نسبة إلى " كردر " قرية بخوارزم ، فقيه أصوليّ ، تَوَلَّى قضاء حلب ..
مِنْ مصنَّفاته : شَرْح الجامع الصَّغِير ، كِتَاب في أصول الفقه .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 562 هـ .
الجواهر المضيَّة 1/322 ، 323 ومعجم المؤلِّفين 5/269 ، 270
(2) تيسير التحرير 1/101 ويُرَاجَع : مَبَاحِث في أصول الفقه لِشَيْخِنَا الأستاذ الدكتور رمضان عَبْد الودود /69 وتفسير النصوص لِشَيْخِنَا الأستاذ الدكتور حسنين محمود حسنين /59
(3) البحر المحيط 4/35 بتصرف .
أَكتفي منها بما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى { إِنِ امْرُؤٌا هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَك } (1) ..(1/94)
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه وجوب إعطاء نِصْف الميراث لِلأخت إذا لم يَكُنْ لِلمورِّث ولد ، وفَهِم ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ مِن مفهومه المخالِف أنَّهَا لا ترث عند وجود الولد وحَجَبَها بالبنت لكنّ الصحابة - رضي الله عنهم - ورَّثوا الأخوات مع البنات بحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - (2) أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَّث الأخوات مع البنات (3) (4) ..
فلو لَمْ يَكُنْ مفهوم المخالَفة حُجَّةً لَمَا مَنَعَها ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ مِن الميراث عند وجود الولد (5) .
الدليل الثاني : قوله تعالى { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } (6) ..
(1) سورة النساء مِنَ الآية 176
(2) ابن مسعود : هو الصّحابيّ الجليل أبو عبد الرَّحْمن عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي المدني - رضي الله عنه - ، أوّل مَن جَهَر بالقرآن في مكة ، شَهِد المَشاهد كُلّها مع النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، كان صاحِبَ سِرّ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ووسادِه وسواكِه ونَعْلَيْه وطهوره في السَّفَر ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 32 هـ ودُفِن بالبقيع .
المُنْتَظِم 5/29 والبداية والنهاية 5/336
(3) أَخْرَجه البخاري في كِتَاب الفرائض : باب ميراث الأخوات مع البنات عَصَبَةً برقم ( 6245 ) وأبو داود في كِتَاب الفرائض : باب ما جاء في ميراث الصُّلْب برقم ( 2504 ) وأَحْمَد في مُسْنَد المُكْثِرِين مِنَ الصّحابة برقم ( 3979 ) .
(4) يُرَاجَع : تفسير القرطبي 6/29 وتفسير الطبري 6/45 وأحكام القرآن لِلجصّاص 3/26
(5) يُرَاجَع : التبصرة /219 وقواطع الأدلّة 2/20 والإحكام لِلآمدي 3/83 والبرهان 1/458 ، 459 والمستصفى /268 والمبدع 6/141
(6) سورة النساء مِنَ الآية 101(1/95)
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه جواز قَصْر الصلاة حالَ الخوف ، وأفاد مفهومه المخالِف عدم جواز قَصْرِهَا عند الأمن ..
ولِذَا سأل يعلى بن أميّة (1) عُمَرَ رضي الله عنهما :" مَا بَالُنَا نَقْصِرُ وَقَدْ أَمِنَّا ؟ " فوافَقه عُمَر - رضي الله عنه - حيث قال :" عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ فَقَال { صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَه } (2) (3) .
فدَلّ ذلك على أنّ مفهوم المخالَفة حُجَّة ؛ وإلا لَمَا كان لِلتعجب محلّ ولأَنْكَره النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - (4) .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ نُوقِش هذا الدليل : بأنّ الإتمام واجب بحُكْم الأصل ، فلَمَّا اسْتَثْنَى حالةَ الخوف بَقِيَتْ حالة الأمن على مقتضاه ، فلِذلك عَجِبَا أو تَعَجَّبَا ـ رضي الله عنهما ـ حيث خولف الأصل ، كَمَا أنّ الآية لم يَثْبُتْ بها انتفاء الحُكْم عند انتفاء الشَّرْط ، فَدَلّ ذلك على انتفاء الدليل .
الجواب عن هذه المُنَاقَشَة :
وقَدْ رُدَّتْ هذه المُنَاقَشَة : بأنَّا لا نُسَلِّم أنّ الإتمام هو الأصل ؛ لِعدم
(1) يَعْلَى بن أميّة : هو الصّحابيّ الجليل أبو خَلَف يَعْلَى بن أميّة بن هَمّام التميمي المكّي - رضي الله عنه - ، أَسْلَم يَوْم الفتح ، شَهِد الطائف وتبوك ، كان عاملاً لِعُمَر - رضي الله عنه - على نجران ، وعلى اليَمَن لِعُثْمَان - رضي الله عنه - .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 47 هـ .
سِيَر أعلام النُّبَلاَء 3/100 - 101 وتهذيب الكمال 22/378 - 380
(2) أَخْرَجه مُسْلِم في كِتَاب صلاة المسافرين وقَصْرِهَا برقم ( 1108 ) والترمذي في كِتَاب تفسير القرآن عَنْ رسول الله : باب مِنْ سورة النساء برقم ( 2960 ) وأبو داود في كِتَاب الصلاة : باب صلاة المُسَافِر برقم ( 1014 ) .(1/96)
(3) يُرَاجَع : تفسير القرطبي 5/360 ، 363 وتفسير الطبري 5/243 والأُمّ 1/179 والمهذّب 1/101 وإحكام الفصول /518 والتمهيد لابن عَبْد البَرّ 11/174 والمُحَلَّى 4/267
(4) يُرَاجَع التبصرة /219
وجود ما يَدُلّ عليه ، وإنَّمَا القَصْر هو الأصل ؛ بدليل ما رُوِي عن عُمَر والسيدة عائشة (1) وابن عبّاس - رضي الله عنهم - أنّ الصلاة إنَّمَا فُرِضَتْ ركْعتيْن ، فأُقِرَّتْ صلاة السفر ، وزِيد في صلاة الحضر (2) ..
فَدَلّ ذلك على أنّ فَهْمهما بوجوب الإتمام وتَعَجُّبهما إنَّمَا كان لِمخالَفة دليل الخِطَاب (3) .
الدليل الثالث : قوله تعالى { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُم } (4) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه عدم مغفرة الله تعالى لِلمنافقين حتّى وإنِ استغفَر لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - سبعين مَرّةً ، وأفاد مفهومه المخالِف انتفاء الحُكْم إنْ زاد العَدَد عن السبعين ، ولِذا قال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - { لأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِين } (5) ..
فَدَلّ ذلك على أنّ مفهوم المخالَفة حُجَّة ؛ وإلا لَمَا قال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك (6) .
(1) السَّيِّدَة عائشة : هي أمّ عبد الله الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق السيدة عائشة بنت أبي بَكْر عبد الله ابن عثمان ، أُمّ المؤمِنين ، وُلِدَت قَبْل الهجرة بتِسْع سنوات ، تَزَوَّجَها النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْد الهجرة ..
تُوُفِّيَت رضي الله عنها بالمدينة سَنَة 58 هـ .
الإصابة 9/359
(2) أَخْرَجه البخاري في كِتَاب الصّلاة : باب كَيْف فُرِضَتِ الصّلاة في الإسراء ؟ برقم ( 237 ) ومُسْلِم في كِتَاب صلاة المسافِرين وقَصْرِهَا برقم ( 1105 ) والنسائي في كِتَاب الصّلاة : باب كَيْف فُرِضَتِ الصّلاة ؟ برقم ( 449 ) .(1/97)
(3) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 3/84 وروضة الناظر 2/780 ، 781
(4) سورة التوبة مِنَ الآية 80
(5) أَخْرَجه البخاري في كِتَاب تفسير القرآن : باب قوله { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُم } برقم ( 4302 ) ومُسْلِم في كِتَاب فضائل الصّحابة : باب مِنْ فضائل عُمَر برقم ( 4413 ) ، كلاهما عَنِ ابن عُمَر رضي الله عَنْهُمَا .
(6) يُرَاجَع : البرهان 1/458 ، 459 والمستصفى /267 وإحكام الفصول /520 ، 521 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/177 ، 178
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ نُوقِش هذا الدليل مِن وجوه ، وأَكتفي بما ذَكَره حُجَّة الإسلام الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ مِن وجوه ثلاثة :
الوجه الأول : أنّ هذا خبرُ واحدٍ لا تَقوم به الحُجَّة في إثبات اللغة ، والأظهر أنَّه غَيْر صحيح ؛ لأنَّه - صلى الله عليه وسلم - أَعْرَف الخَلْق بمَعاني الكلام ، وذِكْر السبعين جَرَى مبالَغةً في اليأس وقَطْع الطمع عن الغفران ، كقول القائل : اشفع أو لا تَشفع ، وإنْ شَفَعْتَ لهم سبعين مَرّةً لَمْ أَقْبَلْ منك شفاعتك (1) .
الجواب عن هذا الوجه مِن المُنَاقَشَة :
وأَرَى أنّ هذا الوجه مردود بوجْهيْن :
الأول : أنّا لا نُسَلِّم أنّ خبر الآحاد لا تَقُوم به الحُجَّة في إثبات اللغة .
الثاني : أنّا لا نُسَلِّم عدم صِحَّة الحديث ، حتّى وإنْ سَلَّمْنَا ـ جَدَلاً ـ فظاهِر النَّصّ ليس فيه ما يَقْطَع طمع الغفران أو طلبه ورجائه خاصّةً مِمَّنْ بَعَثه الله تعالى رحمةً لِلعالَمين - صلى الله عليه وسلم - .(1/98)
والقَطْع كَمَا في قوله تعالى { وَلا تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَسِقُون } (2) ، ولِذَا امتنَع النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة على المنافقين لِدلالة منطوق النَّصّ على ذلك ، وهذا غَيْر متحقِّق في دليلنا ؛ لأنَّه جَلّ وعَلاَ لم يَقُلْ : فلنْ يَغفر الله لهم أبداً .
الوجه الثاني : أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال { لأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِين } ولم يَقُلْ ( لِيغفر لهم ) ، فما كان ذلك لانتظار الغفران ، بلْ لَعَلّه لاستمالة قلوب الأحياء منهم ؛ لِمَا رأَى مِن المصلحة فيهم ، ولِترغيبهم في الدِّين ، لا لانتظار
(1) المستصفى /267
(2) سورة التوبة الآية 84
غفران الله تعالى لِلمَوْتَى مع المبالَغة في اليأس وقَطْع الطمع (1) .
الجواب عن هذا الوجه مِن المُنَاقَشَة :
وهذا مردود عندي بوجْهيْن :
الأول : أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَفْصَح الخَلْق وأَبْلَغُهم على الإطلاق ، وقَدْ أُوتِي جوامع الكَلِم ، ولِذا اكتفَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله { لأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِين } ولم يَقُلْ ( لِيغفر لهم ) لأنّ الآية تَتحدَّث عن مغفرة الله تعالى لهم ، وهو المَعْنَى الأقرب إلى النَّصّ ، وليس استمالةًَ لِقلوب الأحياء كَمَا ذَهبتم .
الثاني : حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما { لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرْ لَهُمْ لَزِدْتُ عَلَيْهَا } (2) (3) يؤكِّد أنّ العِلَّة في الزيادة على السبعين هي رجاءَ المغفرة وليس استمالةَ قلوب الأحياء .
الوجه الثالث : أنّ تخصيص نَفْي المغفرة بالسبعين أَدَلّ على جواز المغفرة بَعْد السبعين أو على وقوعه ..
فإنْ قُلْتُمْ " على وقوعه " : فهو خِلاَف الإجماع .(1/99)
وإنْ قُلْتُمْ " على جوازه " : فقَدْ كان الجواز ثابتاً بالعقل قَبْل الآية ، فانْتَفَى الجواز المُقَدَّر بالسبعين ، والزيادة ثَبَت جوازها بدليل العقل لا بالمفهوم (4) .
(1) المستصفى /267
(2) أَخْرَجه البخاري في كِتَاب الجنائز : باب ما يُكْرَه مِنَ الصّلاة على المنافقين برقم ( 1277 ) والترمذي في كِتَاب تفسير القرآن عنْ رسول الله : باب مِنْ سورة التوبة برقم ( 3022 ) والنسائي في كِتَاب الجنائز : باب الصلاة على المنافقين برقم ( 1940 ) ، كُلّهم عَنْ عُمَر - رضي الله عنه - .
(3) يُرَاجَع : تفسير القرطبي 8/218 ، 219 وأحكام القرآن لِلجصّاص 4/351 وفَتْح القدير 2/387 وتفسير القرآن العظيم 2/377 وتفسير الطبري 10/198 ، 199
(4) المستصفى /267
الجواب عن هذا الوجه مِن المُنَاقَشَة :
وأَرَى رَدّ هذا الوجه مِن وجْهيْن :
الأول : أنّ محلّ نزاعنا ليس وقوع الاستغفار مِن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لِلمنافقين ، وإنَّمَا هو قوله - صلى الله عليه وسلم - { لأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِين } المَبْنِي على مفهوم النَّصّ المخالِف .
الثاني : أنَّكم سَلَّمْتُمْ جواز الزيادة على السبعين لِثبوتها بدليل العقل ، ونَحْن معكم ؛ لكنّ العقل أَخَذَهَا مِن مفهوم النقل .
الدليل الرابع : قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْم } (1) وقوله - صلى الله عليه وسلم - { لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَه } (2) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ النَّصّ الأول أفاد منطوقه حرمة مماطَلة الغَنِيّ في دَفْع الدَّيْن ، وأفاد مفهومه المخالِف عدم حرمة مماطَلة الغَنِيّ ..
وأنّ النَّصّ الثاني أفاد منطوقه جواز حَبْس الغَنِيّ المماطِل وعقوبته ، وأفاد مفهومه المخالِف عدم حَبْس الغَنِيّ غَيْر الواجد .
وقَدْ فَهِم أهْل اللغة ذلك مِن النَّصَّيْن ، منهم : أبو عُبَيْد (3) رحمه الله(1/100)
(1) أَخْرَجه البخاري في كِتَاب الحوالات : باب الحوالة وهلْ يرجع في الحوالة ؟ برقم ( 2125 ) ومُسْلِم في كِتَاب المساقاة : باب تحريم مَطْل الغني برقم ( 2924 ) والترمذي في كِتَاب البيوع عَنْ رسول الله : باب ما جاء في مَطْل الغني أنّه ظُلْم برقم ( 229 ) ، كُلّهم عَنْ أَبِي هريرة - رضي الله عنه - .
(2) أَخْرَجه النسائي في كِتَاب البيوع : باب مَطْل الغني برقم ( 4610 ) وأبو داود في كِتَاب الأقضية باب في الحبس في الدَّيْن وغَيْرِه برقم ( 3144 ) وابن ماجة في كِتَاب الأحكام : باب الحبس في الدَّيْن والملازمة برقم ( 2148 ) ، كُلّهم عَنِ الشريد بن مُحَمَّد الجهني رحمه الله تعالى .
(3) أبو عُبَيْد : هو القاسم بن سلام الهروي الخراساني رحمه الله تعالى ، الفقيه المحدِّث اللغوي ، ولي قضاء طرسوس نحواً مِن ثماني عشرة سَنَةً ..
مِن مصنَّفاته : فضائل القرآن ، غريب الحديث ، الأموال .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمكّة سَنَة 224 هـ .
طبقات الشّافعيّة الكبرى 2/153 - 160 ووفيّات الأعيان 4/60 - 64
تعالى ، وهو مِن أَوْثَق مَن نَقَل كلام العرب (1) .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ نُوقِش هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنَّه يحتمل أنْ يَكون قَوْل أبي عُبَيْد ـ رحمه الله تعالى ـ عن نظر واستدلال مِن قِبَل نَفْسه مِثْلَمَا تقولون ، لا أنَّه قال ذلك عن أهْل اللغة ، وإذا كان كذلك فلا يَصلح حُجَّةً كَمَا ادَّعَيْتُمْ .
الجواب عَنْ هذا الوجه :
ويُمْكِن رَدّ هذا الوجه مِن المُنَاقَشَة : بأنَّه احتمال مردود ؛ لأنّ تفسير حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يَكون إلا بما عُرِف مِن لسان العرب ، وهو ما فَعَله أبو عُبَيْد رحمه الله ، ولَيْس تفسيراً مِن قِبَل نَفْسه أو مِن خاطِره .(1/101)
الوجه الثاني : أنّ هذا الدليل مُعارَض بما نُقِل عن الأخفش (2) رحمه الله تعالى أنَّه نَفَى حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة ، وهو أحد أئمّة اللغة وفصحائها ، فدَلّ ذلك على أنَّه ليس مِن مفهوم اللغة .
الجواب عن هذا الوجه مِن المُنَاقَشَة :
وقَدْ رُدّ هذا الوجه مِن المُنَاقَشَة مِن وجْهيْن :
الأول : أنّ هذا نَقْل لَمْ يَثْبُتْ عن الأخفش رحمه الله تعالى .
الثاني : سَلَّمْنَا ـ جَدَلاً ـ بثبوته ، لكنّه مُعارَض بما ثَبَت عن إماميْن مِن أعلام اللغة : الإمام الشافعي - رضي الله عنه - وأبي عُبَيْد رحمه الله تعالى ، وحينئذٍ
(1) يُرَاجَع : قواطع الأدلّة 2/21 ، 22 والمختصر مع شَرْح العضد 2/174 ، 175 وشَرْح الكوكب المنير 3/503 وغريب الحديث 2/175
(2) الأخفش : هو أبو الحَسَن سعيد بن مَسْعَدة المُجَاشِعي البلخي البصري النحوي رحمه الله تعالى ، أَخَذ عن سيبويه .
مِن مؤلَّفاته : تفسير معاني القرآن ، الأوسط في النَّحْو ، المقاييس في النَّحْو ، العَرُوض .
تُوُفِّي رحمه الله سَنَة 221 هـ .
وفيات الأعيان 2/380
يرجح ما نُقِل عن الاثنين على ما نُقِل عن واحد (1) .
الدليل الخامس : أنّ مفهوم المخالَفة لو لم يَكُنْ حُجَّةً لَمَا كان لِتخصيص المذكور بالذِّكْر فائدةً ؛ إذ الفرض عدم فائدة غَيْره ، واللازم باطِل ؛ لأنَّه لا يستقيم أنْ يَثبت تخصيص آحاد البلغاء بغَيْر فائدة ، فكلام الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أَوْلَى وأَجْدَر .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ نُوقِش هذا الدليل مِن وجوه :
الوجه الأول : أنّ استدلالكم يَجعل طلب الفائدة طريقاً إلى معرفة الوضع الذي ينبغي أنْ يُعْرَف أوّلاً ، ولا يُعْرَف ذلك إلا بالنقل .
الجواب عَنْ هذا الوجه :
وقَدْ رُدّ هذا الوجه مِن المُنَاقَشَة : بأنّ الوضع ثابت بالاستقراء لا بالفائدة ، وأنَّه يفيد الظهور فيه فيُكْتَفَى به ؛ لأنّ الاستدلال على الشيء بآثاره وثمراته جائز .(1/102)
الوجه الثاني : أنّ مفهوم اللقب يجيء فيه مِثْل ذلك ، وهو أنَّه لو لَمْ يَثْبُتْ به نَفْي الحُكْم عَمَّا عَدَاه لَمْ يَكُنْ مفيداً ، فيَلْزَم أنْ يُعْتَبَر ، وليس بمُعْتَبَر اتفاقاً .
الجواب عَنْ هذا الوجه :
وقَدْ رُدّ هذا الوجه مِن المُنَاقَشَة : بأنّ اللقب إنَّمَا ذُكِر لعدم الاختلال ، وهو أَعْظَم فائدةً ، فلَمْ يَصْدُقْ أنَّه لو لَمْ يَثْبُت المفهوم لَمْ يَكُنْ ذِكْرُه مفيداً ، وهو المقتضي لإثبات المفهوم ، فتَنتفي دلالته على المفهوم .
الوجه الثالث : أنّا لا نُسَلِّم حَصْر الفائدة في المفهوم المخالِف ، وإنَّمَا فائدته تقوية دلالته على المذكور ؛ لِئلاّ يُتَوَهَّم خروجه على سبيل التخصيص ؛
(1) يُرَاجَع : قواطع الأدلّة 2/22 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/174 ، 175
فإنَّه لو قال ( في الغَنَم زكاة ) جاز أنْ يَكون المرادُ المعلوفةَ تخصيصاً ، فلَمّا ذَكَر السائمة زال الوهم .
الجواب عَنْ هذا الوجه :
وقَدْ رُدّ هذا الوجه مِن المُنَاقَشَة : بأنّ قَصْر الحُكْم عليه ( مفهوم المخالَفة ) فائدة مُتَيَقَّنَة ، وما سِوَاها أمْر موهوم يَحتمل العدمَ والوجودَ ، ولِذَا فلا يُتْرَك المُتَيَقَّن لأمْر موهوم .
الوجه الرابع : أنّ مِن فوائد التخصيص ـ أيضاً ـ ثواب الاجتهاد بالقياس ، وهو إلحاق المسكوت عنه بالمذكور بمَعْنىً جامِع .
الجواب عَنْ هذا الوجه :
وقَدْ رُدّ هذا الوجه مِن المُنَاقَشَة : بأنَّه خارِج محلّ النزاع ؛ لأنّ مِن شروط مفهوم المخالَفة عدم المساواة والرجحان ، وأمَّا إذا لم يُسَاو فتَنحصر أو تتيقَّن الفائدة في التخصيص (1) .
أدلّة المذهب الثاني :
استدَلّ أصحاب المذهب الثاني ـ القائلون بأنّ مفهوم المخالَفة ليس حُجَّةً ـ بأدلّة ، أَذكر منها ما يلي :(1/103)
الدليل الأول : أنّ مفهوم المخالَفة لا يثبت إلا بدليل ، وهذا الدليل إمَّا عقليّ ولا مدخل له في مِثْله ، وإمَّا نقليّ ، وهو إمَّا متواتر أو آحاد ، والأول لا سبيل له ، والثاني لا يفيد غَيْرَ الظَّنّ فلا يَصلح هُنَا ؛ لأنَّهَا مسألة أصوليّة ، ولِذَا فلا دليل على حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ نُوقِش هذا الدليل : بأنَّا لا نُسَلِّم أنّ خبر الواحد لا يفيد إلا الظَّنّ
(1) يُرَاجَع المختصر مع شَرْح العضد 2/175 ، 176 وروضة الناظر 2/782 - 785
ولا يثبت به مفهوم المخالَفة ؛ لأنَّهَا مسألة ظنِّيَّة وليست قَطْعِيَّةً ، وإذا كان كذلك جاز ثبوت مفهوم المخالَفة بخبر الآحاد ..
كَمَا أنّ المفهوم أمْر لغويّ يثبت بالآحاد كَمَا نُقِل عن أبي عُبَيْد ـ رحمه الله تعالى ـ وغَيْره (1) .
الدليل الثاني : أنَّه لو كان مفهوم المخالَفة حُجَّةً لَمَا حَسُن الاستفهام عن الحُكْم في حال نَفْيِهَا لا عن نَفْيه ولا عن إثباته ؛ لِكَوْنه استفهاماً عَمَّا دَلّ عليه اللفظ ..
فإنّ مَن قال " إنْ ضَرَبَك زَيْد عامداً فاضْرِبْه " حَسُن أنْ يقول " فإنْ ضَرَبَنِي خاطئاً أفأَضْرِبُه ؟ " .
وإذا قال " أَخْرِج الزكاة مِن ماشيتك السائمة " حَسُن أنْ يقول " هل أُخرِجها مِن المعلوفة ؟ " .
وحُسْن الاستفهام يَدُلّ على أنّ ذلك غَيْر مفهوم ، فَدَلّ ذلك على عدم حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ نُوقِش هذا الدليل : بأنّا لا نُسَلِّم أنّ حُسْن الاستفهام دلالة على مَا دَلّ عليه اللفظ ، وإنَّمَا كان لِطلب الأَجْلَى والأَوْضَح ؛ لِكَوْن دلالة الخِطَاب ظاهرة ظنِّيَّة غَيْر قَطْعِيَّة ..
ولِذَا فإنَّهم لم يَستقبِحوا الاستفهام مِمَّنْ قال " رأيتُ أَسَداً " بأنْ يقال " هلْ رأيْتَ الحيوان المخصوص أو إنساناً شجاعاً ؟ " مع أنّ لَفْظه ظاهِر في أحد المَعْنيَيْن دُون الآخَر (2) .(1/104)
(1) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/179 والإحكام لِلآمدي 3/89 والمستصفى /265 وقواطع الأدلّة 2/13 والتبصرة /221 ، 222
(2) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 3/90 والمستصفى /265 وقواطع الأدلّة 2/17 وروضة الناظر 2/777 وشَرْح مختصر الروضة 2/732
الدليل الثالث : أنّ مفهوم المخالَفة لو كان حُجَّةً لَكان في الخبر كذلك ؛ ضرورةَ اشتراك الأمر والخبر في التخصيص بالصفة ، واللازم باطِل ..
فلو قال " رأيْتُ الغَنَم السائمة تَرْعَى " فإنَّه لا يَدُلّ على عدم رؤية المعلوفة منها .
وإذا كان الحُكْم لا يَنتفي في الخبر لانتفاء الصفة فكذلك في الأمر ، فدَلّ ذلك على عدم حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ نُوقِش هذا الدليل : بأنّ الخبر وإنْ دَلّ أنّ المسكوت عنه غَيْر مُخْبَر به فلا يَلْزَم أنْ لا يَكون حاصلاً في الخارج ، بخِلاَف الحُكْم ؛ فإنَّه لا خارجيّ له حتّى يجري فيه ذلك ؛ فإنّ وجوب الزكاة هو نفي قوله " أَوْجَبْتُ " ، فإذا انْتَفَى هذا القول فقد انْتَفَى وجوب الزكاة فيه ..
إضافةً إلى أنّ قياس الخبر على الأمر لا يَصِحّ في اللغة (1) .
الدليل الرابع : أنّ مفهوم المخالَفة لو كان حُجَّةً لَجاز إبطال حُكْم المنطوق وهو مُمْتَنِع ..
وبيانه : أنَّه لو قال ( في الغَنَم السائمة زكاة ) دَلّ منطوقه على وجوب زكاة السائمة ، ولو قُلْنَا بدلالة المفهوم المخالِف لَكان الحُكْم عدمَ وجوب الزكاة في غَيْر السائمة ، والحُكْمان متعارِضان ، وحينئذٍ يُمْكِن أو يجوز أنْ يبطل حُكْم المنطوق ويَبْقَى حُكْم دلالة المفهوم ، كَمَا يجوز أنْ يبطل حُكْم دليل الخِطَاب ويَبْقَى حُكْم صريح الخِطَاب ، وهو مُمْتَنِع (2) .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
ويُمْكِن مُنَاقَشَة هذا الدليل : بأنَّه يَكون مقبولاً إذا امتنَع العمل بحُكْمَيِ
(1) شَرْح العضد 2/179 بتصرف .(1/105)
(2) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 3/93 والتبصرة /224 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/179 ، 180
المنطوق والمفهوم ، أمَّا إذا أَمْكَن العمل بهما ـ كَمَا هو الحال في المثال المذكور ـ فلا ؛ نظراً لاختلاف الجهة : فالمنطوق أفاد وجوب زكاة في السائمة ، والمفهوم المخالِف أفاد عدم وجوبها في غَيْر السائمة .
الدليل الخامس : أنّ التخصيص لِلمذكور بالذِّكْر لَيْس وارداً لِنَفْي الحُكْم عند انتفاء الصفة ، وإنَّمَا قَدْ يَكون له فوائد عديدة ، منها : توسعة مَجاري الاجتهاد ، أو الاحتياط على المذكور بالذِّكْر ، أو تأكيد الحُكْم في المسكوت ..
وإذا كان كذلك فلا يجوز حَصْر فائدة التخصيص في مفهوم المخالَفة (1) .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وأَرَى مُنَاقَشَة هذا الدليل : بأنَّا لم نَدَّعِ حَصْر فائدة تعليق الحُكْم بالصفة أو نَحْوها في الاستدلال بمفهوم المخالَفة ، وإنَّمَا هو أحد ثمار هذا التخصيص ، ولا مانِع مِن اجتماع عِدَّة فوائد لِللفظ الواحد .
رابعاً - تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على بَعْض أدلّة مذاهب الأصوليّين في حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة يُمْكِن التوصل إلى ما يلي :
1- أنّ أدلّة المذهب الأول قَدْ سَلِمَتْ جميعها مِمَّا وُجِّه إليها مِن مُنَاقَشَة واعتراض .
2- أنّ أدلّة المذهب الثاني لَمْ تَسْلَمْ مِن المُنَاقَشَة والاعتراض .
3- أنّنا لو سَلَّمْنَا ـ جَدَلاً ـ سلامة أدلّة المذهب الثاني مِن المُنَاقَشَة والاعتراض فإنَّهَا لا تَرْقَى إلى معادَلة أدلّة المذهب الأول .
4- أنّ الأَوْلى عندي : ترجيح ما عليه أصحاب المذهب الأول القائلون
(1) يُرَاجَع : قواطع الأدلّة 2/13 ، 14 وروضة الناظر 2/778
بحُجِّيَّة مفهوم المخالَفة ؛ لِمَا تَقَدَّم ، ولانفراد أدلّته بالرجوع إلى الكِتَاب والسُّنَّة وعمل الصحابة وأهْل اللغة .(1/106)
5- أنّ قَوْل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - { لأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِين } (1) فيه دلالة بالمفهوم المخالِف لِقوله تعالى { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُم } (2) .
6- أنّ الصحابة - رضي الله عنهم - فَهِموا أنّ تعليق الحُكْم على صفة يُوجِب رَفْعه عند رَفْعِهَا ، وهو ما فَعَله ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ في فتواه في ميراث الأخت مع البنت ، وكَذَا تَعَجُّب أبي يْعَلَى وعُمَر ـ رضي الله عنهما ـ مِن قَصْر الصلاة في الأمن ، وهو تَعَجُّب مَبْنِيّ على مفهوم المخالَفة .
7- أنّ أهْل اللغة وأئمّتهم فَهِموا أنّ مماطَلة غَيْر الغَنِيّ ليست حراماً ، وأنّ مماطَلة غَيْر الواجد لا تَستوجب عقوبتَه ولا حِلّ عِرْضه كَمَا فَهِم الإمام الشافعي - رضي الله عنه - وأبو عُبَيْد رحمه الله تعالى .
(1) سبق تخريجه .
(2) سورة التوبة مِنَ الآية 80
المطلب الرابع
شروط العمل بمفهوم المخالَفة
لقدِ اشترَط الأصوليّون القائلون بحُجِّيَّة مفهوم المخالَفة شروطاً لِلعمل به قصداً منهم حَصْر الإطار الذي يعمل بمفهوم المخالَفة في ضوئه ، ولإخراج ما ليس مستوفِياً لِهذه الشروط عن العمل بمفهومه المخالِف .
وقَدْ تَفاوَت هؤلاء الأصوليّون في حَصْر هذه الشروط أو التسليم ببَعْضها :
فمنهم مَن حَصَرَهَا في أربعة : كابن الحاجب وصَدْر الشريعة وابن اللّحّام (1) رحمهم الله تعالى (2) .
ومنهم مَن حَصَرَهَا في خمسة : كابن الهمام والسالمي رحمهما الله تعالى (3) .
ومنهم مَن حَصَرَهَا في ثمانية : كالشوكاني رحمه الله تعالى (4) .
ومنهم مَن حَصَرَهَا في عشرة : كالفتوحي رحمه الله تعالى (5) .(1/107)
(1) ابن اللَّحّام : هو علاء الدين أبو الحَسَن عَلِيّ بن مُحَمَّد بن عَلِيّ الدِّمشقيّ الحنبليّ رحمه الله تعالى المعروف بـ" ابن اللَّحّام " لِصنعة والده ، فقيه أصوليّ ، وُلِد ببعلبك ، ودَرَس بدمشق والقاهرة ..
مِن مصنَّفاته : القواعد والفوائد الأصوليّة ، المختصَر .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 803 هـ .
شذرات الذهب 7/31 والضوء اللامع 5/320
(2) يُرَاجَع : مختصر المنتهى 2/173 وبيان المختصر 2/445 - 447 والتنقيح 1/266 ، 267 والقواعد والفوائد الأصوليّة /290 - 292
(3) يُرَاجَع : التحرير 1/99 وشَرْح طلعة الشمس 1/262 ، 263
(4) يُرَاجَع إرشاد الفحول /180
(5) يُرَاجَع شَرْح الكوكب المنير 1/489 - 495
ومنهم مَن حَصَرَهَا في أَحَد عَشَر : كالزركشي رحمه الله تعالى (1) .
ومِن مجموع هذه الشروط يُمْكِن حَصْرُهَا في أربعة عَشَر شَرْطاً مفصَّلةً على النحو التالي :
الشَّرْط الأول : أنْ لا يَكون المسكوت عنه أَوْلى بذلك الحُكْم مِن المنطوق أو مُساوِياً له ، فلو ظَهَرَتْ فيه أولويّة أو مساواة كان ـ حينئذٍ ـ مفهومَ موافَقة .
الشَّرْط الثاني : أنْ لا يخرج المنطوق مخرج الغالب المعتاد أو الغالب مِن أحوال الضرورة .
مثال الغالب المعتاد : قوله تعالى { وَرَبَئبُكُمُ الَّتِى فِى حُجُورِكُم مِّن نِّسَائكُمُ الَّتِى دَخَلْتُم بِهِنّ } (2) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه تحريم الزواج مِن الربيبة ، لكنّ هذا الحُكْم مُقَيَّد بكَوْنِهَا في حِجْر الزوج ، وحينئذٍ يَدُلّ مفهومه المخالِف حِلَّ الربيبة التي ليست في حِجْره ، وهذا مُمْتَنِع ولَمْ يَقُلْه أحد ، والتقييد بهذا الوصف لِكَوْنه الغالب في الربيبة .
مثال الغالب مِن أحوال الضرورة : قوله تعالى { فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم } (3) ..(1/108)
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه إباحة أكْل المَيْتَة لِلمضطَرّ ، لكنّ الحُكْم مُقَيَّد بكَوْنه في مخمصة ، وحينئذٍ يَدُلّ مفهومه المخالِف حرمة أكْل المَيْتَة لِلمضطَرّ إذا لَمْ يَكُنْ في مخمصة ، وليس كذلك ، والتقييد بهذا الوصف لِكَوْنه الغالب في أحوال الضرورة (4) .
(1) يُرَاجَع : البحر المحيط 4/17 - 23 وتشنيف المَسامع مع جَمْع الجوامع 1/167 - 169
(2) سورة النساء مِنَ الآية 23
(3) سورة المائدة مِنَ الآية 3
(4) يُرَاجَع : مختصر المنتهى 2/173 والتنقيح 1/266 والبحر المحيط 4/19 وشَرْح الكوكب =
الشَّرْط الثالث : أنْ لا يَكون المنطوق جواباً لِسؤال أو لِبيان حُكْم حادثة .
مثال جواب السؤال : سؤال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في مَرابض الغَنَم ، فأجاب - صلى الله عليه وسلم - { صَلُّوا فِيهَا ؛ فَإِنَّهَا بَرَكَة } (1) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه جواز الصلاة في مَرابض الغَنَم ، ودَلّ مفهومه المخالِف على عدم جواز الصلاة في غَيْر مَرابض الغَنَم ، لكنّ الحُكْم هنا جواب لِسؤال ، فيَمتنع العمل بمفهومه المخالِف .
مثال بيان حُكْم الحادثة : عندما مَرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على شاة السَّيِّدَة ميمونة (2) رضي الله عنها وقال { ... دِبَاغُهَا طَهُورُهَا } (3) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه طهارة جِلْد شاة السَّيِّدَة ميمونة ـ رضي الله عنها ـ بالدِّبَاغ ، ودَلّ مفهومه المخالِف عدم طهارة جلود غَيْر هذه الشاة ، لكنّ الحُكْم هُنَا بيان لِحادثة ، فيَمتنع العمل بمفهومه المخالِف (4) .
= المنير 3/490 والقواعد والفوائد الأصوليّة /290 وإرشاد الفحول /180 والتيسير 1/99 وتفسير القرطبي 6/64 وتفسير الطبري 6/84 وفَتْح القدير 1/445(1/109)
(1) أَخْرَجه أبو داود في كِتَاب الطهارة : باب الوضوء مِنْ لحوم الإبل برقم ( 156 ) والإمام أَحْمَد في أوّل مُسْنَد الكوفيّين برقم ( 17805 ) ، كِلاَهُمَا عَنِ البراء بن عازب - رضي الله عنه - .
(2) السَّيِّدَة ميمونة : هي أمّ المؤمِنين السيدة ميمونة بنت الحارث الهلاليّة رضي الله عنها ، وقيل : كان اسمها " برّة " فغَيَّره النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، تَزَوَّجها النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - سَنَة 7 هـ ، روت ستّةً وأربعين حديثاً ..
تُوُفِّيَتْ رضي الله عنها بسرخس سَنَة 51 هـ .
أسد الغابة 7/271 والإصابة 4/411
(3) قال الحافظ ابن حَجَر العسقلانيّ رحمه الله تعالى : وجَزَم الرافعي وبَعْض أهْل الأصول أنّ هذا اللفظ وَرَد في شاة ميمونة ، ولكنْ لَمْ أَقِفْ على ذلك صريحاً ، مع قوّة الاحتمال فيه ؛ لِكَوْن الجَمِيع ( أيْ جَمِيع الرّوايات بما فيها الروايات التي وَرَدَتْ عامّةً في الصحيح ) مِنْ رواية ابن عبّاس ..
فَتْح الباري 9/658 ، 659
(4) يُرَاجَع : البحر المحيط 4/22 وشَرْح الكوكب المنير 3/492 ، 493 والتيسير 1/99 وشَرْح العضد مع المختصر 2/173 ، 174 وبيان المختصر 2/445 - 447
الشَّرْط الرابع : أنْ لا يَكون المنطوق ذُكِر لِتقدير جَهْل المخاطَب به دون جَهْل بالمسكوت عنه .
مثاله : أنْ يعلم المخاطَب أنّ المعلوفة فيها زكاة ولَمْ يَعْلَمْهَا في السائمة فقال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - { فِي السَّائِمَةِ زَكَاة } (1) ، فلا مفهوم مخالِف له ؛ لِعِلْم المخاطَب بالمسكوت عنه .
الشَّرْط الخامس : أنْ لا يقصد بالمنطوق الامتنان .
مثاله : قوله تعالى { لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا } (2) ..(1/110)
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه حِلّ أكْل ما يصاد مِن البحر ، لكنّه قَيّد هذا الحُكْم بوصف { طَرِيّا } ، مِمَّا يَدُلّ بمفهومه المخالِف حرمة أكْل القديد مِن لَحْم البحر ، وليس كذلك ؛ لأنّ النَّصّ إنَّمَا وَرَد في مَعْرِض الامتنان والتذكير بنِعَم الله تعالى على العبد .
الشَّرْط السادس : أنْ لا يَقصد بالمنطوقِ التنفيرَ أو التفخيمَ وتأكيدَ الحال .
مثال ما قُصِد به التنفير : قوله تَبَارَك وتعالى { لا تَأْكُلُوا الرّبَوا أَضْعَفًا مُّضَعَفَة } (3) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه حرمة أكْل الربا ، لكنّ هذا الحُكْم مُقَيَّد بكَوْنه أضعافاً مضاعَفةً ، وحينئذٍ يَدُلّ مفهومه المخالِف حِلّ أكْل الربا إذا لَمْ يَكُنْ أضعافاً مضاعَفةً ، والربا كُلّه حرام قليلُه وكثيرُه ..
وهذا القيد إنَّمَا قُصِد به هُنَا التنفير مِن أكْل الربا ، ولا يُعْمَل به في المفهوم المخالِف .
(1) سَبَق تخريجه .
(2) سورة النحل مِنَ الآية 14
(3) سورة آل عمران مِنَ الآية 131
مثال ما قُصِد به التفخيم وتأكيد الحال : قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرا } (1) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه حرمة إحداد المرأة على مَيِّت غَيْر زَوْجِهَا فَوْق ثلاث ، لكنّ هذا الحُكْم مُقَيَّد بوصْف ( الإيمان بالله واليوم الآخِر ) ، مِمَّا يَدُلّ بمفهومه المخالِف جواز الإحداد على غَيْر الزوج فَوْق الثلاث ، وهو مُمْتَنِع ؛ لأنّ الوصف المذكور إنَّمَا قُصِد به تفخيم الأمر وأنّ هذا لا يليق بِمَنْ كان مؤمِناً .
الشَّرْط السابع : أنْ لا يَعُود العمل بالمفهوم على الأصل ( المنطوق ) بالإبطال .(1/111)
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك } (2) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه حرمة بَيْع ما ليس عند الإنسان ، لكنّ هذا الحُكْم مُقَيَّد بالعنديّة ، مِمَّا يَدُلّ بمفهومه المخالِف صِحَّة بَيْع الغائب إذا كان عنده ؛ إذ لو صَحّ فيه لَصَحّ في المذكور وهو الغائب الذي ليس عنده ؛ لأنّ المَعْنَى في الأمْريْن واحد .
الشَّرْط الثامن : أنْ لا يَظْهَر مِن السياق قَصْد التعميم .
(1) أَخْرَجه البخاري في كتاب الجنائز : باب إحداد المرأة على غَيْر زَوْجها برقم ( 1201 ) ومُسْلِم في كتاب الطلاق : باب وجوب الإحداد في عِدّة الوفاة وتحريمه في غَيْر ذلك برقم ( 2730 ) والترمذي في كتاب الطلاق واللعان عن رسول الله : باب ما جاء في عِدّة المُتَوَفَّى عنها زَوْجها برقم ( 1116 ) ، كُلّهم عن السيدة أُمّ حبيبة رضي الله عنها .
(2) أَحْرَجه الترمذي في كِتَاب البيوع عَنْ رسول الله : باب ما جاء في كراهية بَيْع ما لَيْس عندك برقم ( 1153 ) والنسائي في كِتَاب البيوع : باب بَيْع ما لَيْس عند البائع برقم ( 4534 ) وأبو داود في كِتَاب البيوع : باب في الرَّجُل يبيع ما لَيْس عنده برقم ( 3040 ) ، كُلّهم عَنْ حَكِيم بن حِزَام - رضي الله عنه - .
مثاله : قوله تعالى { وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِير } (1) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد عموم قدرة الله تعالى على كُلّ شي ، لكنه مُقَيَّد بـ{ شَىْء } ، مِمَّا يَدُلّ بمفهومه المخالِف عدم قدرة الله تعالى على ما ليس بشيء ، وهو مُمْتَنِع ؛ لأنّ الله تعالى قادِر على المعدوم المُمْكِن وليس بشيء ؛ فإنّ المقصود بقوله تعالى { كُلّ شَىْء } التعميم في الأشياء المُمْكِنَة لا قَصْر الحُكْم .
الشَّرْط التاسع : أنْ يُذْكَر المنطوق مُسْتَقِلاًّ ، فلو ذُكِر على جهة التَّبَعِيَّة لِشيء آخَر فلا مفهوم له .(1/112)
مثاله : قوله تعالى { وَلا تُبَشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَكِفُونَ فِى الْمَسَجِد } (2) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه حرمة إتيان المعتكِف زَوْجَه حالَ اعتكافه ، لكنّ هذا الحُكْم مُقَيَّد بكَوْنه في المَساجد ، مِمَّا يَدُلّ بمفهومه المخالِف حِلّ المباشَرة إذا كان الاعتكاف خارِج المَساجد ، وهو غَيْر صحيح ؛ لأنّ المعتكِف يحرم عليه المباشَرة مُطْلَقاً ، ومِن هُنَا كان القيد { فِى الْمَسَجِد } مُسْتَقِلاًّ لا مفهوم له بالنسبة لِمَنْع المعتكِف مِن المباشَرة .
الشَّرْط العاشر : أنْ لا يعارِض المسكوت عنه بما يقتضي خِلاَفَه ، فيَجوز تَرْكه بِنَصّ يضادّه وبفَحْوَى مقطوع به يعارِضه .
مثاله : قوله تعالى { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم } (3) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه وجوب الفدية على المُحْرِم الذي قَتَل صَيْدَ البَرّ بمِثْله مِن النَّعَم ، لكنّ هذا الحُكْم قُيِّد بوصف ( العَمْد )
(1) سورة البقرة مِنَ الآية 284
(2) سورة البقرة مِنَ الآية 187
(3) سورة المائدة مِنَ الآية 95
فأفاد مفهومه المخالِف عدم وجوب الفدية على مَن قَتَلَه خطأً ، لكنّه مُعارَض بوجوبها على المخطِئ بمقتضى قوله تعالى { وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُما } (1) ، فدَخَل في هذا العمد والخطأ ، ولِذَا كان هذا العموم مقدَّماً على المفهوم المخالِف لِلعَمْدِيّة (2) .
الشَّرْط الحادي عَشَر : حاجة المخاطَب .
مثاله : قوله تعالى { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَق } (3) ..(1/113)
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه حرمة قَتْل الأولاد ، لكنّ هذا الحُكْم قُيِّد بوصف ( خشية الفقر ) ، فأفاد مفهومه المخالِف جواز قَتْلهم حالةَ الغِنَى ، وهو ممنوع وباطِل ، ولِذَا كان ذِكْر هذا القيد لِحاجة المخاطَبين إليه ؛ إذ هو الحامل لهم على قَتْلهم ، لا لاختصاص الحُكْم به (4) .
الشَّرْط الثاني عَشَر : أنْ يَكون المسكوت عنه إنَّمَا سُكِت عنه لِخَوْف مِن المتكلِّم .
مثاله : أنْ يقول جديد العهد بالإسلام لِعَبْده " أَنْفِقْ هذا في المسلِمين " وهو يريد المسلِمين وغَيْرَهُمْ ، لكنْ سَكَت عن غَيْرهم مخافةَ أنْ يُتَّهَم بالنفاق (5) .
وهذان الحالان ( الشَّرْطَان ) لا يَتحقّقان في نصّ الشارع ؛ لِتَنَزُّهه عن ذلك .
الشَّرْط الثالث عَشَر : أنْ لا يَكون المنطوق عُلِّق حُكْمُه على صفة غَيْر
(1) سورة المائدة مِنَ الآية 96
(2) يُرَاجَع : البحر المحيط 4/18 والأُمّ 2/182
(3) سورة الإسراء مِنَ الآية 31
(4) يُرَاجَع البحر المحيط 4/19
(5) يُرَاجَع شَرْح طلعة الشمس 1/262 ، 263
مقصودة .
مثاله : قوله تعالى { لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَة } (1) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه جواز طلاق المرأة قَبْل الدخول ، لكنّ هذا الحُكْم قُيِّد برفع الجُنَاح ، وهي صفة لَمْ تُقْصَدْ لِتَعَلُّق الحُكْم بها ، وإنَّمَا قُصِد بها رَفْع الجُنَاح عَمَّنْ طَلَّق قَبْل المسيس وإيجاب المتعة على وَجْه التَّبَع ، فصار كأنَّه مذكور ابتداءً مِن غَيْر تعليق على صفة (2) .
الشَّرْط الرابع عَشَر : أنْ لا يَكون هناك عَهْد ، وإلا فلا مفهوم له ، ويصير بمنزلة اللقب مِن إيقاع التعريف عليه إيقاعَ العَلَم على مسمَّاه .(1/114)
وذَكَر الزركشي ـ رحمه الله تعالى ـ أنّ هذا الشَّرْط يؤخَذ مِن تعليلهم إثبات مفهوم الصفة أنَّه لو لَمْ يُقْصَدْ نَفْي الحُكْم عَمَّا عَدَاه لَمَا كان لِتخصيصه بالذِّكْر فائدة (3) ا.هـ (4) .
(1) سورة البقرة مِنَ الآية 236
(2) يُرَاجَع : المسوَّدة /3633 ، 364 والقواعد والفوائد الأصوليّة /292 وأحكام القرآن لِلجصّاص 2/136 وأحكام القرآن لِلشافعي 1/91 وشَرْح الكوكب المنير 3/495
(3) البحر المحيط 1/22
(4) تُرَاجَع شروط العمل بمفهوم المخالَفة في : مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/173 ، 174 والقواعد والفوائد الأصوليّة /290 - 292 وبيان المختصر 2/445 - 447 وشَرْح الكوكب المنير 3/489 - 495 والتنقيح مع التوضيح 1/266 - 270 وتشنيف المَسامع مع جَمْع الجوامع 1/167 - 169 وشَرْح المحلّي مع حاشية البناني 1/240 - 246 والبحر المحيط 4/17 23 ونَشْر البنود 1/98 ، 99 والمسوّدة /360 - 364 ومناهج العقول 1/315 وفواتح الرحموت 1/414 وتيسير التحرير 1/99 والتمهيد لِلإسنوي /67 وشَرْح طلعة الشمس 1/262 ، 263 وإرشاد الفحول /180
المطلب الخامس
أنواع مفهوم المخالَفة ( جملةً )
اختلَف الأصوليّون القائلون بِحُجِّيَّة مفهوم المخالَفة في حَصْر أنواعه أو درجاته أو أصنافه ، وتفاوتوا في ذلك بَيْن مُقِلّ ومُكْثِر وما بَيْنَهُمَا ..
فمنهم مَنْ حَصَرَهَا في أربعة : كالبيضاوي رحمه الله تعالى (1) .
ومنهم مَنْ حَصَرَهَا في ستَّة : كابن قدامة وابن الحاجب والطوفي والفتوحي رحمهم الله تعالى (2) .
ومنهم مَنْ حَصَرَها في سبعة : كابن السمعاني والكلوذاني رحمهما الله تعالى (3) .
ومنهم مَنْ حَصَرَهَا في ثمانية : كالغزالي رحمه الله تعالى (4) .
ومنهم مَنْ حَصَرَهَا في عشرة : كالآمدي والقرافي والشوكاني رحمهم الله تعالى (5) .
ومنهم مَنْ حَصَرَهَا في أحد عَشَر نوعاً : وهو الزركشي رحمه الله تعالى (6) .
(1) يُرَاجَع المنهاج مع شَرْحه 2/286(1/115)
(2) يُرَاجَع : روضة الناظر 2/790 والمختصر 2/174 ، 175 وشَرْح مختصر الروضة 2/757 وشَرْح الكوكب المنير 3/497
(3) يُرَاجَع : قواطع الأدلَّة 2/37 – 54 والتمهيد 2/189 – 224
(4) يُرَاجَع المستصفى /270 – 272
(5) يُرَاجَع : الإحكام 3/78 ، 79 وشَرْح تنقيح الفصول /53 وإرشاد الفحول /180
(6) يُرَاجَع البحر المحيط 4/24 – 30
وقَدْ تَمّ حَصْر أنواع مفهوم المخالَفة التي وَقَفْتُ عليها عند الأصوليّين في ثمانية عَشَر نوعاً ، أَذْكُرهَا فيما يلي :
الأول : مفهوم الصفة .
الثاني : مفهوم العِلَّة .
الثالث : مفهوم الحال .
الرابع : مفهوم الزمان .
الخامس : مفهوم المكان .
السادس : مفهوم الصفة في جِنْس .
السابع : مفهوم الصفة التي تَطْرَأ وتَزُول .
الثامن : مفهوم التقسيم .
التاسع : مفهوم اللقب .
العاشر : مفهوم الاسم .
الحادي عَشَر : مفهوم الاسم المشتَقّ .
الثاني عَشَر : مفهوم العين .
الثالث عَشَر : مفهوم الشَّرْط .
الرابع عَشَر : مفهوم الغاية .
الخامس عَشَر : مفهوم العَدَد .
السادس عَشَر : مفهوم الحصر .
السابع عَشَر : مفهوم " إنَّمَا " .
الثامن عَشَر : الاستثناء .
وبَعْد الاطلاع والبحث في هذه الأنواع اتَّضَح لنا أنّ هناك أنواعاً تندرج أو يُمْكِن اندراجها تَحْت أنواع أخرى ..
وقَدْ حَصَرْتُ في ذلك ثلاثة أنواع :
النوع الأول : مفهوم الصفة ..
وقَدْ أُدْرِج فيه : مفهوم العِلَّة والحال والزمان والمكان وصفة في جِنْس والصفة التي تَطْرَأ وتَزُول والتقسيم الذي كان مرادفاً لِلصفة التي تَطْرَأ وتَزُول .
وبِذَا يصبح مجموع الأنواع المندرجة في مفهوم الصفة سبعة أنواع .
النوع الثاني : مفهوم اللقب ..
وقَدْ أُدْرِج فيه : مفهوم الاسم والاسم المشتَقّ والأعيان .
وبِذَا يصبح مجموع الأنواع المندرجة في مفهوم اللقب ثلاثة أنواع .
النوع الثالث : الحصر ..
وقَدْ أُدْرِج فيه : مفهوم " إنَّمَا " والاستثناء .(1/116)
وعلى ضوء ما تَقَدَّم يَكون الراجح عندي : حَصْر أنواع مفهوم المخالَفة في سِتَّة أنواع على النحو التالي :
النوع الأول : مفهوم اللقب .
النوع الثاني : مفهوم الصفة .
النوع الثالث : مفهوم الشَّرْط .
النوع الرابع : مفهوم الغاية .
النوع الخامس : مفهوم العَدَد .
النوع السادس : مفهوم الحصر .
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها في مطلب خاصّ في الفصل التالي .
الفصل الخامس
أنواع مفهوم المخالَفة ( تفصيلاً )
وفيه ستّة مطالب :
المطلب الأول : مفهوم اللقب .
المطلب الثاني : مفهوم الصفة .
المطلب الثالث : مفهوم الشَّرْط .
المطلب الرابع : مفهوم الغاية .
المطلب الخامس : مفهوم العَدَد .
المطلب السادس : مفهوم الحصر .
المطلب الأول
مفهوم اللقب
يُمْكِن تقسيم الحديث في هذا المطلب على النحو التالي :
1- تعريف اللقب .
2- تعريف مفهوم اللقب .
3- حُجِّيَّة مفهوم اللقب .
4- الأنواع التي تندرج تَحْت مفهوم اللقب .
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها فيما يلي ..
أوّلاً – تعريف اللقب :
واللقب : واحِد " الألقاب " ، وهي الأنباز ؛ تقول " لَقَّبْتُه بكذا فتَلَقَّب به " (1) ..
تقول " نَبَزَه يَنبزه نبزاً " أيْ لَقَّبَه ، و" فلان يَنبز بالصبيان " أيْ يُلَقِّبهم (2) .
ومَعْنَى اللقب : اسم ما يُدْعَى الاسم به يُشْعِر بِضِعَة المُسَمَّى أو رِفْعَته والمقصود به الشهرة (3) .
ومراد الأصوليّين باللقب هو الاسم ـ ولِذَا عَبَّر بَعْضهم بـ" مفهوم الاسم " (4) ـ سواء أكان اسماً جامداً : كزَيْد ، أم اسماً مشتَقّاً : كالطَّعَام ،
(1) يُرَاجَع : الصحاح 1/220 والقاموس المحيط 1/133 ، 134
(2) يُرَاجَع : تفسير القرطبي 16/328 وفَتْح القدير 5/64
(3) يُرَاجَع مُغْنِي المحتاج 4/295
(4) يُرَاجَع : قواطع الأدلَّة 2/41 وروضة الناظر 2/796 والمنهاج مع شَرْحه 2/286(1/117)
وسواء أكان عَلَماً على ذات : كعَمْرو ، أو عَلَم جِنْس : كالغَنَم ، ولِذَا كان اللقب عند الأصوليّين أَعَمّ مِن اللقب النحوي (1) .
ثانياً – تعريف مفهوم اللقب :
عَرَّف الأصوليّون مفهوم اللقب بتعريفات عدة ، أَذْكُر منها ما يلي :
التعريف الأول : نَفْي الحُكْم عَمَّا لَمْ يتناولْه الاسم .
وهو تعريف عضد الدِّين الإيجي رحمه الله تعالى (2) .
التعريف الثاني : تعليق الحُكْم على مُجَرَّد أسماء الذوات .
وهو تعريف القرافي رحمه الله تعالى (3) .
التعريف الثالث : تعليق الحُكْم بالاسم العلَمَ ، نَحْو : قام زَيْد ، أو اسم نَوْع نَحْو : في الغَنَم زكاة .
وهو تعريف الزركشي رحمه الله تعالى (4) .
التعريف الرابع : تعليق الحُكْم بالاسم طلباً كان أو خبراً .
وهو تعريف الإسنوي رحمه الله تعالى (5) .
التعريف الخامس : تخصيص اسم بِحُكْم .
وهو تعريف الطوفي ، واختاره الفتوحي رحمهما الله تعالى (6) .
التعريف السادس : دلالة تعليق حُكْم باسم جامِد على نَفْي الحُكْم عَنْ غَيْرِه .
(1) يُرَاجَع : منهاج العقول 1/314 وحاشية البناني مع جَمْع الجوامع 1/254 ومباحث في أصول الفقه /73
(2) شَرْح العضد 2/182
(3) شَرْح تنقيح الفصول /53
(4) البحر المحيط 4/24
(5) التمهيد لِلإسنوي /261
(6) يُرَاجَع : شَرْح مختصر الروضة 2/771 وشَرْح الكوكب المنير 3/506
وهو تعريف ابن أمير الحاج (1) (2) .
والتعريفان الأول والسادس فيهما نظر ؛ لأنّ فيهما إشعاراً بِحُجِّيَّة مفهوم اللقب .
أمَّا التعريفات الأربعة الباقية : فإنَّهَا عَرَّفَتْ مفهوم اللقب دون بيان لِحُجِّيَّتِه مِنْ عَدَمِهَا ، وإنَّمَا اقتصرَت على تعليق أو تخصيص الحُكْم بالاسم غَيْرَ أنّ تعريف الإسنوي ـ رحمه الله تعالى ـ فَصَّل دون غَيْره أنواع الحُكْم المُعَلَّق عليه الاسم ، ولِذَا كان عندي أَوْلَى بالقبول والاختيار .
ثالثاً – حُجِّيَّة مفهوم اللقب :(1/118)
إذا عُلِّق الحُكْم ـ طَلَباً كان أم خبراً ـ على اسم ذات ـ نَحْو : زَيْد عالِم ، أو : أَكْرِمْ زَيْداً ـ أو عُلِّق على اسم جِنْس ـ نَحْو : في الغَنَم زكاة ـ فَهَلْ يَدُلّ مفهومه على نَفْي الحُكْم عَمَّا عَدَا الاسم المذكور فلا يَكون هناك عالِم إلا زَيْد ولا يُكْرِم أحداً غَيْرَ زَيْد وأنَّه لا زكاة في غَيْر الغَنَم ؟
اخْتَلَف الأصوليّون في هذا المفهوم : هَلْ يُعْمَل به فيَكون حُجَّةً أو لا ؟
لَهُمْ في ذلك مذاهب حَصَرْتُهَا في أربعة :
المذهب الأول : أنَّه لَيْس حُجَّةً .
وهو ما عليه الجمهور ومذهب الشافعي - رضي الله عنه - .
المذهب الثاني : أنَّه حُجَّة .
(1) ابن أمير الحاج : هو أبو عَبْد الله شَمْس الدِّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد المعروف بـ" ابن أمير الحاج " الحنفي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ، وُلِد سَنَة 825 هـ .
مِنْ مصنَّفاته : التقرير والتحبير ، حِلْيَة المجلي .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بحلب سَنَة 879 هـ .
شذرات الذهب 7/328 والضوء اللامع 9/210 والأعلام 7/278
(2) التقرير والتحبير 1/154
وهو قَوْل الدَّقّاق (1) ـ رحمه الله تعالى ـ وبَعْض الحنابلة .
المذهب الثالث : أنَّه حُجَّة في أسماء الأنواع ، ولَيْس حُجَّةً في أسماء الأشخاص .
وهذا المذهب مَحْكِيّ عَنْ بَعْض الشافعية .
المذهب الرابع : أنَّه حُجَّة عند وجود القرينة أو الدليل .
وهذا المذهب حَكَاه بَعْض الحنابلة (2) .
واختاره الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ في " المنخول " في قوله :" فإنْ قال قائل : فهل اللقب مفهوم قطّ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ ، فإذا تَلَقَّيْنَا مِنْ تخصيص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأشياء الأربعة بالذِّكْر في الرِّبَا " (3) ا.هـ .(1/119)
كَمَا اختار ابن حَجَر العسقلاني (4) ـ رحمه الله ـ هذا المذهب في قوله : " وفيها العمل بمفهوم اللقب إذا حَفَّتْه قرينة ؛ لِقوله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا حَدَّثه كَعْب (5)
(1) ابن الدّقّاق : هو أبو بَكْر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن جعفر البغدادي الشافعي رحمه الله تعالى ، ويُلَقَّب بـ" الخيّاط " ، وُلِد سَنَة 306 هـ ..
مِن مصنَّفاته : شَرْح المختصر ، فوائد الفوائد .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 392 هـ .
النجوم الزاهرة 4/206 ومعجم المؤلِّفين 11/203
(2) يُرَاجَع البحر المحيط 4/25 ، 26
(3) المنخول /217
(4) ابن حَجَر العسقلاني : هو شهاب الدين أبو الفضل أَحْمَد بن علِيّ بن مُحَمَّد الكناني العسقلاني المصري الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بمِصْر سَنَة 773 هـ ..
مِن مصنَّفاته : الإصابة في تمييز الصحابة ، الدرر الكامنة ، بلوغ المرام .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 852 هـ .
الأعلام 1/178 وشذرات الذهب 7/273
(5) كَعْب : هو الصّحابيّ الجليل كَعْب بن مالِك بن أَبِي كَعْب الخزرجي الأنصاري السّلمي - رضي الله عنه - ، يُكَنَّى بـ" أَبِي عَبْد الله " ، وقيل " أبو عَبْد الرَّحْمَن " ، شَهِد العَقَبَة الثّانية ، تآخَى مع طلحة بن عَبْد الله - رضي الله عنه - ، شَهِد المَشَاهِدَ كُلَّهَا إلا تَبُوك ، وهو أحد الثلاثة الذين نَزَل فيهم قوله تعالى { وَعَلَى الثَّلَثَةِ الَّذِينَ =
{ أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَق } (1) ؛ فإنَّه يُشْعِر بأنّ مَنْ سِوَاه كذب ، لَكِنْ لَيْس على عمومه في حَقّ كُلِّ أحد سِوَاه ؛ لأنّ مرارة (2) وهلالاً (3) ـ أيضاً ـ قَدْ صَدَقَا فيَخْتَصّ الكذب بِمَنْ حَلَف واعتذَر لا بِمَنِ اعترَف ، ولِهَذَا عاقَب مَنْ صَدَق بالتأديب الذي ظَهَرَتْ فائدتُه عَنْ قُرْب ، وأَخَّر مَنْ كَذَب لِلعِقَاب الطويل " (4) ا.هـ .(1/120)
والمشهور : المذهبان الأول والثاني ، ولِذَا فإنِّي سأكتفي بتفصيل القول فيهما ..
المذهب الأول : أنَّه لَيْس حُجَّةً .
وهو ما عليه الجمهور ، وقول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - ، واختاره إمام الحرميْن وابن السمعاني والغزالي والفخر الرازي وابن قدامة والبيضاوي والآمدي وابن الحاجب وابن الهمام رحمهم الله تعالى (5) .
= حُلِّفُوا ... } الآية ( سورة التوبة مِنَ الآية 119 ) وتاب الله تعالى عَلَيْهِمْ .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - في زَمَن معاوية سَنَة 50 هـ ، وقيل : سَنَة 53 هـ .
الاستيعاب 3/381 - 383 وشذرات الذهب 1/56
(1) أَخْرَجه البخاري في كِتَاب المَغَازِي : باب حديث كَعْب بن مالِك برقم ( 4066 ) والنسائي في كِتَاب المَسَاجد : باب الرخصة في الجلوس فيه والخروج منه بِغَيْر صلاة برقم ( 723 ) والإمام أَحْمَد في مُسْنَد المكّيّين برقم ( 15229 ) ، كُلّهم عَنْ كَعْب بن مالِك - رضي الله عنه - .
(2) مرارة : هو الصّحابيّ الجليل مرارة بن ربيعة ، ويقال ابن ربيع العمريّ الأنصاريّ - رضي الله عنه - ، مِنْ بَنِي عمرو بن عَوْف ، شَهِد بدراً ، وكان أحد الثّلاثة الذين تَخَلَّفوا عَنْ غزوة تبوك .
الاستيعاب 3/439
(3) هلال : هو الصّحابيّ الجليل هلال بن أُمَيَّة الأنصاري الواقفي - رضي الله عنه - ، مِنْ بَنِي واقف ، شَهِد بدراً ، وهو أحد الثلاثة الذين تَخَلَّفوا عَنْ غزوة تبوك ، عاش إلى خلافة معاوية .
الاستيعاب 4/103 والإصابة 6/546
(4) فَتْح الباري 8/124
(1) يُرَاجَع : البرهان 1/453 وقواطع الأدلَّة 2/41 والمستصفى /270 والمحصول 1/259 ، 260 وروضة الناظر 2/796 والتقرير والتحبير 1/154 وتيسير التحرير 1/101 والمنهاج =
واسْتَدَلّوا لِذلك بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :(1/121)
الدليل الأول : أنَّه لو كان مفهوم اللقب حُجَّةً لَبَطل القياس ، وإبطال القياس لا يجوز ، فما أدَّى إليه كان كذلك ، فَدَلّ ذلك على أنّ مفهوم اللقب باطِل ولا يجوز .
وبيان اللزوم : أنّ النَّصّ الدّالّ على حُكْم الأصل إنْ تَنَاوَل الفرعَ ثَبَت الحُكْم فيه بالنَّصّ ، وإلا دَلّ على انتفاء الحُكْم فيه ، فكان إثباته بالقياس قياساً في مقابَلة النَّصّ ، والقياس في مقابَلة النَّصّ لا يجوز وباطِل (1) .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ نوقش هذا الدليل : بأنّ النَّصّ الوارد في الأصل وإنْ دَلّ على نَفْي الحُكْم في الفرع فلَيْس بصريحه بلْ بمفهومه ، وذلك مِمَّا لا يَمْنَع عند القائلين به مِنْ إثبات الحُكْم بمعقول النَّصّ وهو القياس ، ولِذَا فلا إبطال ، وإنَّمَا غايته التعارض .
الدليل الثاني : أنَّه لو كان مفهوم اللقب حُجَّةً ودليلاً لَكان يَلْزَم مِنْ قولنا " مُحَمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " نَفْي رسالة غَيْره مِن الأنبياء ، وهو باطِل ؛ لأنَّه يؤدِّي إلى إنكار نُبُوَّة الأنبياء السابقين ، وهو كُفْر ، فَدَلّ ذلك على أنّ مفهوم اللقب لَيْس حُجَّة .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ نوقش هذا الدليل : بأنَّا لا نُسَلِّم كُفْرَه بالمفهوم المخالِف إلا إذا تَنَبَّه لِمفهوم لَفْظِه وأراده ، أمَّا إذا لَمْ يَتَحَقَّقْ ذلك فلا يَكون كافراً (2) .
= مع شَرْحه 1/286 والإحكام 3/104 والمختصر 2/182 وإرشاد الفحول /182 وشَرْح طلعة الشمس 1/265
(1) شَرْح العضد 2/182 بتصرف .
(2) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/182 والإحكام لِلآمدي 3/104 – 106 وشَرْح =
جوابي عنْ هذه المناقَشة :(1/122)
ويُمْكِن رَدّ هذه المناقَشة : بأنَّا لا نُسَلِّم بكفره إذا أراد مفهومَه ؛ لأنَّه قَدْ يريد نَفْي الرسالة عَنْ غَيْره - صلى الله عليه وسلم - بَعْد بَعْثَته ، بِمَعْنَى أنَّه لا يُصَدِّق مُدَّعِي الرسالة بَعْد بَعْثَتِه - صلى الله عليه وسلم - .
الدليل الثالث : أنَّه لو كان مفهوم اللقب حُجَّةً لَكان قولنا " زَيْد أَكَل " دالاًّ على أنّ غَيْره لَمْ يأكلْ ، وهذه الدلالة إمَّا أنْ تَكون بلفظ الخبر أو بِمَعْنَاه ..
والأول باطِل ؛ لأنَّه لَيْس في اللفظ مذكور غَيْر زَيْد ، فكَيْف يَدُلّ على حُكْم غَيْر زَيْد ؟!
والثاني باطِل أيضاً ؛ لأنّ الإنسان قَدْ يَعْلَم أنّ زَيْداً وعَمْراً يَشتركان في فِعْل ولا يُخْبِر إلا عَنْ واحِد منهما لِغَرَض في نَفْسه .
فدَلّ ذلك على أنّ اللقب لا يَدُلّ على مفهومه لا بلفظه ولا بمَعْنَاه ، وإذا كان كذلك كان غَيْرَ حُجَّة ، وهو المُدَّعَى (1) .
المذهب الثاني : أنَّه حُجَّة .
وهو قَوْل الدَّقّاق رحمه الله تعالى ، ورُوِي عَنِ الإمام أَحْمَد - رضي الله عنه - والإمام مالك - رضي الله عنه - وداود رحمه الله ، واختاره ابن فورك والصيرفي (2)
= المنهاج 1/287 ، 288 ونهاية السول 1/318 وشَرْح مختصر الروضة 2/773 ، 774 وشَرْح طلعة الشمس 1/265 ومباحث في أصول الفقه /74 - 76
(1) المحصول 1/260 بتصرف .
(2) الصيرفي : هو أبو بَكْر مُحَمَّد بن عبد الله الصيرفي البغدادي الشافعي الأصولي الفقيه رحمه الله تعالى ، مِن فقهاء بغداد ..
مِن مصنَّفاته : البيان ، شَرْح الرسالة ، كتاب في الإجماع .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 330 هـ .
طبقات الشّافعيّة الكبرى 2/69 وشذرات الذهب 2/325 والفتح المبين 1/191
وابن خويز منداد (1) وابن القصّار (2) وبَعْض الحنابلة منهم : ابن عقيل والكلوذاني (3) رحمهم الله تعالى .
واحْتَجُّوا لِذلك بأدلَّة ، أَذْكُر منها ما يلي :(1/123)
الدليل الأول : أنّ مفهوم اللقب لو لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لَبَطلَتْ فائدة تخصيصه بالذِّكْر ، وحيث امتنع ذلك كان تخصيصُه بالذِّكْر فائدته نَفْي الحُكْم المُعَلَّق به عند عدمه .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ نوقش هذا الدليل : بأنَّا لا نُسَلِّم أنَّه لا فائدة في تخصيص اللقب بالذِّكْر سِوَى نَفْي الحُكْم المُعَلَّق به عند عَدَمِهَا ؛ فَقَدْ يَكون اختصاصه بالحُكْم مِنْ جملة فائدته تكثيراً لها كَمَا سبق في مفهوم الصفة (4) .
الدليل الثاني : أنَّه لو قال إنسان لِمَنْ يخاصمه " لَيْسَتْ أُمِّي بزانية
(1) ابن خويز منداد : هو أبو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمَد بن عبد الله ، وقيل : مُحَمَّد بن أَحْمَد بن عَلِيّ ابن إسحاق المالكيّ رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ مجتهِد ، صنَّف في أصول الفقه وأحكام القرآن ..
مِن مصنَّفاته : كتاب في الخلاف ، كتاب في أصول الفقه .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 390 هـ .
مُعْجَم المؤلِّفين 8/280
(2) ابن القصّار : هو أبو الحَسَن عَلِيّ بن أَحْمَد البغدادي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ، تَوَلَّى قضاء بغداد ..
مِنْ مصنَّفَاته : عيون الأدلّة وإيضاح المِلَّة .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 398 هـ .
مُعْجَم المؤلِّفين 7/12
(3) يُرَاجَع : مختصر المنتهى 2/182 والتمهيد لِلكلوذاني 2/203 والمبدع 4/130 والإحكام لِلآمدي 3/104 والمسوَّدة /360 وشَرْح الكوكب المنير 3/509 والبحر المحيط 4/24 ، 25 وإرشاد الفحول /182
(4) يُرَاجَع : شَرْح مختصر الروضة 2/774 والإحكام لِلآمدي 3/85 – 87 ، 106 والمحصول لِلرازي 1/260 والتحصيل 1/296
ولا أختي " تَبَادَر منه إلى الفهم نسبة الزنا منه إلى أُمِّه وأخته ، ولِذا وَجَب عليه الحدّ عند الإماميْن مالِك وأَحْمَد رضي الله عَنْهُمَا ، ولو لَمْ يَكُنْ مفهوم اللقب حُجَّةً لَمَا تَبَادَر إلى ذلك .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :(1/124)
وقَدْ نوقش هذا الدليل : بأنَّا لا نُسَلِّم بأنّ هذا الفهم المتبادر مأخوذ مِنْ دلالة المقال ، وإنَّمَا مَرْجِعُه القرائن الحالية ، وهي : الخصام وإرادة الإيذاء والتقبيح ، ولِذَا لَمْ يَكُنْ حدّ القذف واجباً عند غَيْر الإماميْن رضي الله عَنْهُمَا (1) .
الدليل الثالث : أنّ الله تعالى إذا عَلَّق الحُكْمَ على الاسم الخاصّ ولَمْ يُعَلِّقْه على الاسم العامّ عَلِمْنَا أنَّه غَيْر مُتَعَلِّق به ؛ إذ لو كان متعلِّقاً به لَمَا عدل عَنْه إلى الخاصّ ..
نَحْو : أنْ يقال " في الغَنَم زكاة " فيُعْلَم أنَّهَا لو كانت الزكاة تجب في غَيْر الغَنَم مِنَ الحيوان لَقَال " في النّعم زكاة " .
فدَلّ ذلك على أنّ مفهوم اللقب حُجَّة (2) .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ نوقش هذا الدليل : بأنَّا قَدْ عَلِمْنَا بأنَّه لا زكاة في غَيْر الغَنَم لِعدم وجود الدليل ، ولَيْس أخذاً بمفهوم المخالَفة في وجوبها في الغَنَم (3) .
والراجح عندي : أنّ مفهوم اللقب لَيْس حُجَّةً ، وهو ما عَلَيْه الجمهور أصحاب المذهب الأول ؛ لِمَا يلي :
1- سلامة أدلّته مِنَ المناقَشة والاعتراض ، وقوَّة حُجَّتِهَا .
(1) يُرَاجَع : شَرْح العضد 2/182 والإحكام لِلآمدي 3/106 وشَرْح المنهاج 1/289 ، 290
(2) يُرَاجَع : التمهيد لِلكلوذاني 2/203 ، 204 وشَرْح الكوكب المنير 3/511
(3) يُرَاجَع شَرْح طلعة الشمس 1/265
2- عدم سلامة أدلَّة المذهب الثاني مِنَ المناقَشة والاعتراض .
3- أنّ القول بالحُجِّيَّة مردود لأسباب ، منها :
الأول : أنّ فيه إبطالاً لِلقياس .
الثاني : أنَّه يؤدِّي إلى الوقوع في المحظور ؛ فلو قُلْنَا " عيسى رسول الله " لَدَلّ مفهومه على نَفْي نُبُوَّة غَيْره ومنهم سَيِّدُنَا مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - ، ونَفْي نُبُوَّته - صلى الله عليه وسلم - كُفْر .(1/125)
الثالث : أنَّه يؤدِّي إلى المُحال : كقولنا " زَيْد قائم " ؛ فإنَّه يَدُلّ بمفهومه على نَفْي القيام عَنْ غَيْر زَيْد ، وهو مُحَال .
رابعاً – الأنواع التي تَندرج تَحْت مفهوم اللقب :
أَلْحَق بَعْض الأصوليّين بمفهوم اللقب أنواعاً مِنْ مفهوم المخالَفة ، كَمَا أنّ بَعْضهم عَبَّر عَنْ مفهوم اللقب بتعبير آخَر ..
وقَدْ حَصَرْتُ جميع ما تَقَدَّم فيما يلي :
النوع الأول : مفهوم الاسم .
و" مفهوم الاسم " عَبَّر به بَعْض الأصوليّين بدلاً مِنْ " مفهوم اللقب " .
ومِنْ هؤلاء : ابن السمعاني ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" وأمَّا تعليق الحُكْم بالاسم : فهو ضربان :
أحدهما : اسم مشتَقّ مِنْ مَعْنَى : كالمُسْلِم والكافر والقاتل ، فيَكون ما عُلِّق به مِنَ الحُكْم جارياً مَجْرَى تعليقه بالصفة في استعمال دليله .
والضرب الثاني : اسم لقب غَيْر مشتَقّ مِنْ مَعْنَى : كالرَّجُل والمرأة وأشباه ذلك " (1) ا.هـ .
ومنهم : الكلوذاني ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" فَصْل : فإنْ عُلِّق الحُكْم باسم دَلّ على أنّ ما عَدَاه بِخِلاَفه " (2) ا.هـ .
(1) قواطع الأدلَّة 2/41 بتصرف .
(2) التمهيد 2/202
وابن قدامة ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" الدرجة السادسة : أنّ يَخُصّ اسماً بِحُكْم ، فَيَدُلّ على أنّ ما عَدَاه بِخِلاَفه " (1) ا.هـ .
والبيضاوي ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" الرابعة : تعليق الحُكْم بالاسم لا يَدُلّ على نَفْيه عَنْ غَيْرِه ، وإلا لَمَا جاز القياس " (2) ا.هـ .
النوع الثاني : مفهوم الاسم المُشْتَقّ الدّالّ على جِنْس .
وهذا النوع أَلْحَقَه بَعْض الأصوليّين باللقب ..(1/126)
منهم الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" الثانية : الاسم المشتَقّ الدّالّ على جِنْس : كقَوْله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَام } ، وهذا يُظْهِر إلحاقَه باللقب ؛ لأنّ الطعام لقب لِجِنْسه وإنْ كان مُشْتَقّاً مِمَّا يُطْعَم " (3) ا.هـ .
والآمدي ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" الصنف السابع : مفهوم الاسم المشتَقّ الدّالّ على الجنس : كقوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَام } ، وهو قريب مِنْ مفهوم اللقب ؛ لِكَوْن الطعام لقباً لِجِنْس " (4) ا.هـ .
النوع الثالث : مفهوم الأعيان .
وهذا المفهوم أَلْحَقه بَعْض الأصوليّين بمفهوم اللقب ..
منهم : ابن السمعاني ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" وأمَّا تعليق الحُكْم بالأعيان ـ كقوله " في هذا المال الزكاة " و" على هذا الرَّجُل الحجّ " ـ فدليل خِطَابه غَيْر مستعمل ، ولا يَدُلّ وجوب الزكاة في ذلك المال على سقوطها عَنْ غَيْره ، وهذا عندنا مِثْل تعليق الحُكْم بالاسم " (5) ا.هـ .
(1) روضة الناظر 2/796
(2) المنهاج مع شَرْحه 1/286
(3) المستصفى /270
(4) الإحكام 3/79
(5) القواطع 2/42
المطلب الثاني
مفهوم الصفة
هذا المطلب يُمْكِن تقسيم الحديث فيه على النحو التالي :
1- تعريف الصفة .
2- تعريف مفهوم الصفة .
3- حُجِّيَّة مفهوم الصفة .
4- اقتران حُكْم مُطْلَق بِحُكْم مُعَلَّق بصفة .
5- الأنواع التي تَنْدَرِج تَحْت مفهوم الصفة .
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها فيما يلي ..
أوّلاً – تعريف الصفة :
والصفة لغةً : مِنْ " وَصَف الشيءَ له وعليه وصفاً وصفةً " حَلاّه ، والهاء عِوَض مِنَ الواو .
وقيل : " الوصف " المصدر ، و" الصفة " الحلية .
و" الصفة " كالعِلْم والسواد .
وأمّا النّحويّون : فلا يريدون بالصفة هذا ؛ لأنّ الصفة عندهم هي النعت (1) .(1/127)
واصطلاحاً : تقييد لَفْظ مشترك المَعْنَى بلفظ آخَر مُخْتَصّ لَيْس بشَرْط ولا غاية .
والصفة عند الأصوليّين لا يريدون بها النعت فقط كالنُّحَاة ، ويَشْهَد
(1) يُرَاجَع : لسان العرب 9/356 ، 357 والصحاح 4/1439 والكليات /85
لِذلك تمثيلهم بـ{ مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْم } (1) ، مع أنّ التقييد به إنَّمَا هو بالإضافة فقط ، وقَدْ جَعَلوه صفة (2) .
ثانياً – تعريف مفهوم الصفة :
عَرَّف الأصوليّون مفهوم الصفة بتعريفات وقَفْتُ على ثلاثة منها ، وهي :
الأول : تعليق الحُكْم بإحدى صِفَتَيِ الذّات .
وهو تعريف البيضاوي رحمه الله تعالى (3) .
الثاني : ذِكْر العامّ مقترِناً بصفة خاصّة .
وهو تعريف الآمدي رحمه الله تعالى ، ونَحْوه تعريف ابن قدامة والطوفي والفتوحي رحمهم الله تعالى (4) .
الثالث : تعليق الحُكْم على الذات بأحد الأوصاف .
وهو تعريف الزركشي ، واختاره الشوكاني رحمهما الله تعالى (5) .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على بَعْض تعريفات الأصوليّين لِمفهوم الصفة يَتَّضِح لنا ما يلي :
1- أنَّهم اتَّفَقوا جميعاً في وجود حُكْم منطوق به ولا بُدّ مِن اقترانه بصفة .
2- أنَّهم اختلَفوا في تكييف هذه الصفة : فالأول جَعَلَهَا واحدةً مِن اثْنَتَيْن ،
(1) سَبَق تخريجه .
(2) يُرَاجَع : البحر المحيط 4/30 وشَرْح الكوكب المنير 3/499 وإرشاد الفحول /180
(3) يُرَاجَع المنهاج مع شَرْحه 2/286
(4) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 3/78 وروضة الناظر 2/793 وشَرْح مختصر الروضة 2/764 وشَرْح الكوكب المنير 3/498
(5) يُرَاجَع : البحر المحيط 4/30 وإرشاد الفحول /180
والثاني قَيَّدَهَا بـ( خاصّة ) ، والثالث جَعَلَهَا أحد الأوصاف ..(1/128)
وثلاثتها مُتَّفِقَة في المَعْنَى ، وهو : أنْ لا تَكون صفةً عامّةً لا خِيَار فيها لأنّ المَقْصِد لَيْس تعريف مفهوم الصفة بذاته ، وإنَّمَا باعتباره أحد أنواع مفهوم المخالَفة ، ولِذا كان لا بُدّ لِهذه الصفة أنْ تَنْتَفِي بانتفاء الحُكْم ..
فإن اقْتَرَن الحُكْم بصفة عامّة ـ كقولنا " في الإبل الماشية زكاة " ـ فلا يعْمَل المفهوم المخالِف حينئذٍ ؛ لِعدم إمكانيّة انتفاء الصفة وهي المشي ، ولِذَا وَصَف الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ وغَيْرُه الصفة بأنْ تَطْرَأ وتَزُول (1) .
3- أنّ الأَوْلَى عندي : تعريف مفهوم الصفة بأنّه : اقتران الحُكْم بصفة خاصّة يَنْتَفِي الحُكْم بانتفائها .
ثالثاً - حُجِّيَّة مفهوم الصفة :
اختلَف الأصوليّون في حُجِّيَّة مفهوم الصفة على مَذْهَبَيْن :
المذهب الأول : أنَّه حُجَّة .
وهو ما عليه الأئمَّة مالِك والشافعي وأَحْمَد - رضي الله عنهم - وجمهور الشافعية ، واختاره الشيرازي والكلوذاني وابن السمعاني والبيضاوي وابن الحاجب رحمهم الله تعالى (2) .
المذهب الثاني : أنَّه لَيْس حُجَّةً .
وهو قول الإمام أَبِي حنيفة - رضي الله عنه - وأصحابه وجمهور المتكلِّمين والمعتزلة واختاره ابن حَزْم وأبو الحسين البصري والسرخسي وجماعة مِن المالكية والشافعية ، منهم ابن سريج والقفّال الشاشي والغزالي والفخر الرازي
(1) يُرَاجَع : المستصفى /270 وروضة الناظر 2/793
(2) يُرَاجَع : روضة الناظر 2/776 وشَرْح الكوكب المنير 3/500 ومختصر المنتهى 2/174 والتبصرة /219 والتمهيد لِلكلوذاني 2/190 وقواطع الأدلَّة 2/9 ، 10 ومختصر المنتهى 2/174
رحمهم الله تعالى (1) .(1/129)
وتفصيل أدلَّة هذيْن المذْهبيْن والترجيح بَيْنَهُمَا يُرْجَع إليه في حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة ؛ لأنّ هناك كثرةً مِنَ الأصوليّين أَوْرَدوا هذه المذاهب وأدلَّتَهَا في حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة بصفة عامَّة ، منهم : ابن عقيل وابن السمعاني والآمدي وابن قدامة والطوفي رحمهم الله تعالى (2) .
وهناك كثير مِن الأصوليّين ـ أيضاً ـ اكْتَفَوْا بإيراد هذه المذاهب وأدلّتها في حُجِّيَّة مفهوم الصفة ، منهم : الكلوذاني والبيضاوي وابن الحاجب والزركشي والفتوحي رحمهم الله تعالى (3) .
وتَصَرُّف هذا الفريق يؤكِّد اهتمام الأصوليّين بمفهوم الصفة وأنَّه الأكثر استعمالاً في مفهوم المخالَفة ، ولِذَا يصبح الحديث عَنْ حُجِّيَّة مفهوم الصفة هو نَفْسه ما سَبَق إيراده في حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة .
وفي هذا المَعْنَى يقول إمام الحرميْن رحمه الله تعالى :" وبدأ المصنِّفون بمفهوم الصفة لأنَّه رأْس المفاهيم ، ولو عَبَّر مُعَبِّر عَنْ جَمِيع المفاهيم بالصفة لَكان ذلك متجهاً " (4) ا.هـ .
ويقول ابن السبكي رحمهما الله تعالى :" هذا مفهوم الصفة ، وهو مُقَدّم المفاهيم ورأْسها " (5) ا.هـ .
(1) يُرَاجَع : الإحكام لابن حَزْم 7/323 والنبذ الكافية /69 والفصول 1/291 ، 292 والمعتمد 1/288 وأصول السرخسي 1/256 والمستصفى /265 والمحصول 1/261
(2) يُرَاجَع : الواضح 3/266 – 293 وقواطع الأدلّة 2/10 ، 11 والإحكام لِلآمدي 3/80 – 96 وروضة الناظر 2/775 – 785 وشَرْح مختصر الروضة 2/724 - 730
(3) يُرَاجَع : التمهيد لِلكلوذاني 2/207 – 213 والمنهاج مع شَرْحه 2/286 ومختصر المنتهى 2/174 والبحر المحيط 4/30 – 33 وشَرْح الكوكب المنير 3/503
(4) البرهان 1/454 ويُرَاجَع : شَرْح الكوكب المنير 3/500 والإبهاج 1/370
(5) الإبهاج 1/370(1/130)
4- أنّ تعريف مفهوم الصفة عند التحقيق سَنَرَى أنَّه قَرِيب مِنْ تعريف مفهوم المخالَفة عند بَعْض الأصوليّين : كالشيرازي ومَنْ نَحَا نَحْوَه مِنْ أصحاب تعريف مفهوم المخالَفة المتقدِّم ، وهو : أنْ يُعَلَّق الحُكْم على أحد وَصْفَيِ الشيء فَيَدُلّ على أنّ ما عَدَا ذلك بِخِلاَفِه .
5- أنْ تَتَعَدَّد صفات الشيء الموصوف ثنْتَيْن فصاعداً ؛ لأنَّه لو كانت له صفة واحدة لامْتَنَع أو استحال العمل بمفهوم المخالَفة ..
ولِذَا قال ابن السمعاني رحمه الله تعالى :" فالتعليق بالصفة إنَّمَا يَكون فيما تَختلف أوصافه ، وأَقَلّه أنْ يَكون ذا وصْفَيْن ، فإذا عُلِّق الحُكْم بإحدى صفَتَيْه كان نَصُّه مُوجِباً لِثبوت الحُكْم مع وجودها ، ودليله مُوجِباً لانتفاء الحُكْم عند عدمها " (1) ا.هـ .
6- أنّ الحنفيّة يُثْبِتون حُكْم المسكوت عنه في مفهوم الصفة والشَّرْط بالعدم الأصلي ؛ لأنّ الأصل عدم الحُكْم وإبقاء ما كان على ما كان ، وإنَّمَا أخرج المنطوق مِنْ ذلك الحُكْم الأصلي لِمَكَان النطق المصرَّح بِخِلاَفه ، فما سِوَاه أُبْقِي على حاله إلا لِدليل يَدُلّ على خِلاَفِه (2) .
رابعاً – اقتران حُكْم مُطْلَق بِحُكْم مُعَلَّق بصفة :
إذا وَرَد حُكْم مُطْلَق بَعْد حُكْم مُعَلَّق أو مُقَيَّد بصفة ـ نَحْو : قوله تعالى { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا } (3) ـ فَهْل يصير الدليل المُقَيَّد بصفة ـ وهو نَفْي العِدَّة عن المُطَلَّقَة
(1) قواطع الأدلَّة 2/38
(2) تيسير التحرير 1/101 بتصرف ويُرَاجَع : مباحث في أصول الفقه /101 والتقرير والتحبير 1/151
(3) سورة الأحزاب الآية 49
قَبْل الدخول ـ مُسْتَعْمَلاً في الدليل المُطْلَق وهو المتعة ؟(1/131)
أو بِمَعْنى آخَر : هَلْ يَكون إطلاق المتعة معطوفاً على العِدَّة في اشتراط الدخول بها ؟
أَوْرَد ابن السمعاني قوْلَيْن لِلإمام الشافعي - رضي الله عنه - في ذلك (1) :
القول الأول : أنّ المتعة مشروطة بعدم الدخول عطفاً على العِدَّة ، ولِذَا فلا متعة لها قَبْل الدخول .
وهو قوله - رضي الله عنه - في القديم ، وهو قول الإمام مالك - رضي الله عنه - وأصحابه في المُطَلَّقة قَبْل الدخول ، إلا إذا كان قَدْ فَرَض لها فلَهَا ما فَرَض .
القول الثاني : أنّ المتعة لا يُشْتَرَط فيها عدم الدخول ، فلا تتقيَّد بالوصف المتقدِّم في العِدَّة ، ولِذَا فلها المتعة .
وهو قوله - رضي الله عنه - في الجديد ، وهو ما عليه الإمام أَحْمَد وعطاء (2) (3) وإسحاق (4) وأصحاب الرأي ، ورُوِي عن ابن عبّاس وابن
(1) يُرَاجَع : قواطع الأدلَّة 2/39 والبحر المحيط 4/35
(2) عطاء : هو أبو مُحَمَّد عطاء بن أبي رباح القرشي رحمه الله تعالى ، وُلِد في خلافة عثمان - رضي الله عنه - ، حَدَّث عَنْ جماعة مِن الصحابة منهم أبو هريرة والسيدة عائشة والسيدة أمّ سلمة - رضي الله عنهم - ، كان مِن أكابر علماء التابعين ..
تُوُفِّي رَحمه الله تعالى سَنَة 114 هـ .
طبقات ابن سعد 5/467 والبداية والنهاية 9/306
(3) يُرَاجَع : المهذَّب 2/80 ، 81 والمُغْنِي 8/50 والجامع لأحكام القرآن 2/1008 وحاشية ابن عابدين 2/335
(4) إسحاق : هو أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي المروزي رحمه الله تعالى ، المعروف بـ" ابن راهويه " ، جالَس الإمامَ أَحْمَدَ - رضي الله عنه - ، وناظَر الإمامَ الشّافعيَّ - رضي الله عنه - ثُمّ صار مِن أتباعه وجَمَع كُتُبَه ، حَفِظ سبعين ألْف حديث ..
مِن مصنَّفاته : المُسْنَد ، التفسير .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بنيسابور سَنَة 238 هـ .
الطبقات الكبرى 2/83 وطبقات الحنابلة 1/109
عُمَر (1) والحَسَن (2) - رضي الله عنهم - .(1/132)
والأَوْلَى عندي : وجوب المتعة لِلمُطَلَّقَة قَبْل الدخول ؛ أخذاً بظاهر النَّصّ ولَفْظه ، وبناءً على عدم تقييد هذا الحُكْم بالصفة التي عُلِّق عليها الحُكْم السابق ، وهو ما عليه أصحاب القول الثاني وكثرة مِنَ الصحابة - رضي الله عنهم - .
خامساً – الأنواع التي تَنْدَرِج تَحْت مفهوم الصفة :
لَقَدْ أَدْرَج بَعْض الأصوليّين أنواعاً مِنْ مفهوم المخالَفة ضِمْن مفهوم الصفة لأنَّهَا تجري مجراها ..
وقَدْ حَصَرْتُ هذه الأنواع المُدْرَجة في سبعة ، أُفَصِّلها فيما يلي :
النوع الأول : إذا كانت الصفة في جِنْس .
اختلَف الأصوليّون فيما إذا قيّد الحُكْم بصفة في جِنْس ـ نَحْو : قوله - صلى الله عليه وسلم - { فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاة } (3) ـ هَلْ يَدُلّ على نَفْي ما عَدَاهَا في ذلك الجنس خاصّة ( الغَنَم ) أم يَدُلّ على نَفْي ما عَدَاهَا في جميع الأجناس ( جميع الأنعام ) ؟
أو كَمَا عَبَّر ابن السمعاني رحمه الله تعالى : هلْ يَكون مستعمَلاً في نَوْع النَّصّ أو في جميع الجنس (4) ؟
(1) ابن عُمَر : هو الصّحابيّ الجليل أبو عبد الرحمن عبد الله بن عُمَر بن الخطّاب القرشي العدوي رضي الله عنهما ، أحد الأعلام في العِلْم والعمل ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بمكة سَنَة 74 هـ .
التاريخ الكبير 5/125 وتذكرة الحُفّاظ 1/37 والطبقات الكبرى لابن سعد 4/142 - 187
(2) الحَسَن : هو أبو سعيد الحَسَن بن يسار البصريّ رحمه الله تعالى ، مِن أكابر التابعين ، أَدرَك مائةً وعشرين مِن الصحابة ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 110 هـ .
شذرات الذهب 1/136
(3) سَبَق تخريجه .
(4) يُرَاجَع : قواطع الأدلَّة 2/40 والمسوَّدة /358 وشَرْح تنقيح الفصول /272 وإرشاد =
لهم في ذلك ثلاثة مذاهب :
المذهب الأول : أنَّه يَدُلّ على نَفْي الحُكْم في ذلك الجنس دون بقيَّة الأنعام ..(1/133)
فيَكون مُوجِباً سقوطَ الزكاة في معلوفة الغَنَم على الخصوص ، ولا يسقط في معلوفة الإبل والبقر بهذا المفهوم ، وإنَّمَا لا بُدّ مِنْ دليل آخَر .
وهذا قول بَعْض الشافعية والحنابلة ، واختاره الشيرازي والكلوذاني والفخر الرازي رحمهم الله تعالى (1) .
واحْتَجّوا لِذلك : بأنّ دليل الخِطَاب ومفهومه يقابِل لَفْظ الخِطَاب ومنطوقه ، والمنطوق لَمْ يَتَنَاوَلْ إلا سائمة الغَنَم ، فمقابِله يجب أنْ يَتناول غَيْرَ سائمة الغَنَم أو المعلوفة ..
فَدَلّ ذلك على أنّ الحُكْم المُقَيَّد بصفة في جِنْس يَدُلّ على نَفْي ما عَدَا ذلك الجنس (2) .
المذهب الثاني : أنَّه يَدُلّ على نَفْي الحُكْم في جميع الجنس ..
فيَكون مُوجِباً سقوطَ الزكاة عن المعلوفة في جميع الأنعام .
وهو قول بَعْض الشافعية ، وظاهِر كلام الإمام أَحْمَد - رضي الله عنه - ، واختاره ابن عقيل رحمه الله تعالى (3) .
واحْتَجُّوا لِذلك : بأنّ الصفة التي تَقَيَّد الحُكْم بها صارت عِلَّةً فيه ،
= الفحول /179
(1) يُرَاجَع : المَراجع السابقة والبرهان 1/466 ، 467 والبحر المحيط 4/35 والتمهيد لِلكلوذاني 2/323 والتبصرة /226 والمحصول 1/268
(2) يُرَاجَع : التمهيد لِلكلوذاني 2/323 والتبصرة /226 والمحصول 1/268
(3) يُرَاجَع : قواطع الأدلَّة 2/40 والمسوَّدة /358 والواضح 3/290 ، 291 والتبصرة /226 والمحصول 1/268
والعِلَّة تَدُور مع المعلول وجوداً وعدماً ، والحُكْم يَنْعَدِم بانعدامها ، وإذا كان كذلك كان انتفاء الصفة ( السوم ) دليلاً على انتفاء الحُكْم في جميع الأجناس ، وهو المُدَّعَى .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :(1/134)
وقَدْ نوقش هذا الدليل : بأنَّا لا نُسَلِّم أنّ الوصف عِلَّة ، وإنَّمَا هو أحد وَصْفَيِ العِلَّة ، والغَنَم الوصف الآخَر ؛ لأنّ الحُكْم تَعَلَّق بمجموعهما ، فإذا انْفَرَد أحد الوصْفَيْن لَمْ يَجُزْ أنْ يُعَلَّق الحُكْم عليه ؛ لأنَّه بَعْض العِلَّة ، ألاَ تَرَى أنَّه لا يَحْسُن أنْ يقال " لا زكاة في الخيل والبغال " ؛ لأنَّها ليست سائمة (1) .
المذهب الثالث : أنَّه يَدُلّ على نَفْي الحُكْم عَنْ سائر الأشياء غَيْر المذكورة .
هذا المذهب ذَكَره في " المسوَّدة " ، ولَمْ يُعْرَفْ له قائل (2) .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على مذاهب الأصوليّين فيما إذا عُلِّق الحُكْم أو قُيِّد بصفة في جِنْس يَتَّضِح لنا ما يلي :
1- أنّ حُجَّة المذهب الأول مبنيَّة على مقابَلة المفهوم لِلمنطوق ، والمنطوق مقصور على سائمة الغَنَم ، فيجب اقتصار المفهوم على غَيْر سائمة الغَنَم ( المعلوفة ) .
2- أنّ حُجَّة المذهب الثاني مبنيّة على أنّ الصفة تجري مَجْرَى العِلَّة ، فيَرْتَفِع الحُكْم بارتفاعها ، ويَعُمّ ذلك جميع الأجناس ..
وأَرَى رَدّ هذا المذهب : بأنَّا سَلَّمْنَا أنّ الوصف هُنَا ( السوم ) عِلَّة
(1) التمهيد لِلكلوذاني 2/223 ، 224 بتصرف ويُرَاجَع المحصول 1/268
(2) يُرَاجَع المُسَوَّدَة /358
لِلحُكْم ، لكنَّهَا عِلّة مُقَيَّدة وليست مُطْلَقَةً ، نَحْو قَوْلِنَا " في السائمة زكاة " حينئذٍ يَعُمّ مفهومها المخالِف جميع الأجناس غَيْر السائمة ، لكنّ الوصف ذُكِر لِجْنس ( الغَنَم ) وقُيِّد به ، وهو محلّ نزاعنا ، فلِذَا وَجَب أنْ يقيّد به مفهومه المخالِف .
3- أنّ المذهب الثالث لا حُجَّة له ، وهو مذهب مردود ؛ لأنّ القول به يُوقِع في المحظور حينما يدخل في المفهوم المخالِف الحُلِيّ والعقار ؛ فلا زكاة فيها لأنَّهَا غَيْر سائمة ..(1/135)
وفي هذا يقول القرافي رحمه الله تعالى :" فيَكون تقديره : ما لَيْس بسائمة مِنَ الغَنَم لا زكاة فيه ، هذا إذا أَخَذْنَا خصوص المحلّ ، وما لَيْس بسائمة مُطْلَقاً يَتناول البقر والمعلوفة والإبل ، بل العقار ، بل الحُلِيّ المُتَّخَذ لاستعماله مباح يجوز أن يُسْتَدَلّ به على عدم وجوب الزكاة فيه بقوله - صلى الله عليه وسلم - { فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاة } (1) ، ومفهومه يقتضي عدم وجوب الزكاة في الحُلِيّ ؛ لأنّ الحُلِيّ لَيْس بِغَنَم سائمة " (2) ا.هـ .
4- مِمَّا تَقَدَّم أَرَى أنّ الأَوْلَى بالقبول والترجيح : هو المذهب الأول القائل بأنّ الحُكْم إذا قُيِّد بصفة في جِنْس انْتَفَى الحُكْم بانتفائها في ذلك الجنس فقط دون غَيْره ، ولا يَنْتَفِي عَنْ غَيْرِهَا إلا بدليل آخَر .
وفي ذلك يقول الشيرازي رحمه الله تعالى :" إنّ الدليل يقتضي النطق فإذا تَنَاوَل النطق ( في سائمة الغَنَم ) وَجَب أنْ يَكون دليله يَتناول معلوفة الغَنَم فقط " (3) ا.هـ .
النوع الثاني : مفهوم الحال .
(1) سَبَق تخريجه .
(2) شَرْح تنقيح الفصول /273
(3) التبصرة /226
تعريف مفهوم الحال : وهو تقييد الخِطَاب بالحال ويَنْتَفِي بانتفائه .
مثاله : قوله تعالى { وَلا تُبَشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَكِفُونَ فِى الْمَسَجِد } (1) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه حرمة مباشَرة النساء حالةَ الاعتكاف في المساجد ، ودَلّ مفهومه على جواز المباشَرة إذا لَمْ تُوجَدْ هذه الحالة أيْ إذا انْعَدَم الاعتكاف ..
فالحُكْم هُنَا ـ وهو حرمة المباشَرة ـ مُقَيَّد بِكَوْنه على هذا الحال .
واعتبَر ابن السمعاني ـ رحمه الله تعالى ـ أنّ الحال كالصفة في قوله :" والحال كالصفة في ثبوت الحُكْم بوجودها وانتفائه بعدمها ، فيَكون نَصُّه مستعمَلاً في الإثبات ، ودليله ( مفهومه ) مستعمَلاً في النفي مِثْل الصفة " (2) ا.هـ .(1/136)
وعَقَّب الفتوحي ـ رحمه الله تعالى ـ على ذلك بقوله :" وهو ظاهِر ؛ لأنّ الحال صفة في المَعْنَى قيّد بها " (3) ا.هـ .
وأشار الزركشي ـ رحمه الله تعالى ـ إلى أنّ المتأخِّرين لَمْ يَذْكُروا هذا النوع ؛ لِرجوعه إلى الصفة (4) ، وتَبِعه في ذلك الشوكاني رحمه الله (5) .
النوع الثالث : مفهوم الزمان .
تعريف مفهوم الزمان : وهو تقييد الحُكْم بزمن ويَنْتَفِي بانتفائه .
مثاله : قوله تعالى { الْحَجُّ أَشْهٌرٌ مَّعْلُومَت } (6) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه تحديد زمان أداء فريضة
(1) سورة البقرة مِنَ الآية 187
(2) قواطع الأدلَّة 2/40 ، 41 ويُرَاجَع البحر المحيط 4/44
(3) شَرْح الكوكب المنير 3/205
(4) يُرَاجَع البحر المحيط 4/44
(5) إرشاد الفحول /183
(6) سورة البقرة مِنَ الآية 197
الحجّ ، وهي الأشهُر المعلومة : شوّال وذو القعدة وعَشْر ذي الحجّة ، ودَلّ مفهومه المخالِف على عدم جواز أداء الحجّ في غَيْر هذا الزمان .
النوع الرابع : مفهوم المكان .
تعريف مفهوم المكان : وهو تقييد الحُكْم بمكان ويَنْتَفِي بانتفائه .
مثاله : قوله تعالى { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَام } (1) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه وجوب ذِكْر الله تعالى عند المَشْعَر الحرام لَيْلَةَ النَّحْر لِلحاجّ ، وأفاد مفهومه المخالِف عدم جواز الغفلة عَنْ ذِكْر الله عند المَشْعَر الحرام (2) .
ويُمْكِن أنْ يُمَثَّل أيضاً : بقوله تعالى { هَدْيَا بَلِغَ الْكَعْبَة } (3) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه وجوب الهَدْي على المتمتِّع وأدائه داخِل حَرَم مكَّة ، ودَلّ مفهومه المخالِف على عدم جواز ذَبْح هَدْي التمتع خارِج مكَّة كَمَا ينادِي بَعْض الصّحفيّين في هذه الأيام لِتحقق استفادة كُلّ بلد بِهَدْي حُجّاجها ..
وهو اجتهاد مردود ورَأْي باطِل ؛ لِمخالَفته منطوقَ النَّصّ ومفهومه .(1/137)
وهذان النوعان عَدَّهُمَا مِنَ الصفة بَعْض الأصوليّين ، منهم : إمام الحرميْن والفتوحي والشوكاني والسالمي (4) رحمهم الله تعالى ..
وفي ذلك يقول الأول رحمه الله تعالى :" فإذا قال القائل :" زَيْد في الدار " فإنَّمَا يقع خبراً ما يَصْلُح أنْ يَكون مُشْعِراً عَنْ صفة متصلة بظرف
(1) سورة البقرة مِنَ الآية 198
(2) يُرَاجَع : البحر المحيط 4/45 وشَرْح الكوكب المنير 3/502
(3) سورة المائدة مِنَ الآية 95
(4) يُرَاجَع : البرهان 1/454 والبحر المحيط 4/46 وشَرْح الكوكب المنير 3/502 وشَرْح طلعة الشمس 1/263
زمان أو بظرف مكان ، والتقدير : مستقِرّ في الدار أو كائن فيها ، والقتال واقِع يَوْم الجمعة ، فالصفة تَجْمَع جميع الجهات التي ذَكَرَهَا " (1) ا.هـ .
النوع الخامس : مفهوم العِلّة
تعريف مفهوم العِلَّة : وهو تعليق الحُكْم بِعِلَّة ويَنْتَفِي بانتفائها .
مثاله : قولنا " حُرِّمَتِ الخمر لِشِدَّتِهَا " ؛ فَيَدُلّ مفهومه المخالِف أنّ ما لا شِدَّة فيه لا يُحَرَّم .
وهذا النوع اعتبَره الفتوحي ـ رحمه الله تعالى ـ مِنْ مفهوم الصفة (2) .
النوع السادس : مفهوم الاسم المُشْتَقّ مِنْ مَعْنى .
تعريف مفهوم الاسم المُشْتَقّ مِنْ مَعْنى : وهو تعليق الحُكْم على الاسم المُشْتَقّ مِنْ مَعْنى ويَنْتَفِي بانتفائه .
مثاله : قولنا " لا تَقْتُلْ مُسْلِماً " ؛ فالمُسْلِم اسم مُشْتَقّ مِنَ الإسلام ، فيَكون ما عُلِّق به مِن الحُكْم جارياً مَجْرَى تعليقه بالصفة في استعمال دليله ( مفهومه ) في قول جمهور أصحاب الشافعي - رضي الله عنه - (3) .
وهذا النوع اعتبَره ابن السمعاني ـ رحمه الله تعالى ـ جارياً مَجْرَى مفهوم الصفة .
النوع السابع : الصفة التي تَطْرَأ وتَزُول .
تعريف هذه الصفة : وهو تقييد الحُكْم بصفة خاصّة يَنْتَفِي الحُكْم بانتفائها ، وهو تعريف مفهوم الصفة المتقدِّم .(1/138)
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { الْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ ، وَالثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ
(1) البرهان 1/454
(2) يُرَاجَع : شَرْح الكوكب المنير 3/501 ونَشْر البنود 1/100 وحاشية البناني مع شَرْح المحلّي على جَمْع الجوامع 1/251 وإرشاد الفحول /181 والبحر المحيط 4/3
(3) قواطع الأدلَّة 2/41 بتصرف .
وَلِيِّهَا } (1) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه أنّ الوليّ لا يُنْكِح البِكْرَ إلا بإذْنها ولا يُنْكِح الثَّيِّبَ إلا بأمرها ، وأفاد مفهومه المخالِف أنّ الثَّيِّب إذا لَمْ تأذَنْ لِوَلِيّها لَمْ يَجُزْ نكاحُه ..
والبكورة والثيوبة كِلاَهُمَا صفة تطرأ وتَزُول ، وقَدْ تَعَلَّق الحُكْم بها (2) .
ومنه : قوله - صلى الله عليه وسلم - { فِي السَّائِمَةِ زَكَاة } (3) .
وهذا النوع أَوْرَده مُسْتَقِلاًّ الغزالي ، وتَبِعه الآمدي وابن قدامة والطوفي وابن بدران (4) رحمهم الله تعالى (5) .
وسَمّاه الفتوحي ـ رحمه الله تعالى ـ " التقسيم " ، أيْ أنه يَنْقَسِم إلى قِسْمَيْن وتخصيص كُلّ واحد بِحُكْم يَدُلّ على انتفاء ذلك الحُكْم عن القِسْم الآخَر (6) .
وفَرَّق ابن قدامة ـ رحمه الله تعالى ـ بَيْن مفهوم الصفة ومفهوم
(1) أَخْرَجه مُسْلِم في كِتَاب النكاح : باب استئذان الثَّيِّب في النكاح بالنطق والبِكْر بالسكوت برقم ( 2545 ) والترمذي في كِتَاب النكاح عَنْ رسول الله : باب ما جاء في استئمار البِكْر والثَّيِّب برقم ( 1026 ) والنسائي في كِتَاب النكاح : باب استئذان البِكْر في نَفْسِهَا برقم ( 3208 ) ، كُلّهم عَنِ ابن عَبّاس رضي الله عَنْهُمَا .
(2) يُرَاجَع : التمهيد لابن عَبْد البَرّ 19/78 والمحلّي 9/457 ونَيْل الأوطار 6/54
(3) سَبَق تخريجه .
(4) ابن بدران : هو عبد القادر بن أَحْمَد بن مصطفى بن بدران الدمشقي الحنبلي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ أديب مؤرِّخ ..(1/139)
مِن مصنَّفاته : نزهة الخاطر ، المدخل في الأصول .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 1346 هـ .
الأعلام 4/37 ومعجم المؤلفين 5283
(5) يُرَاجَع : المستصفى /270 والإحكام 3/79 وروضة الناظر 2/794 وشَرْح مختصر الروضة 2/766 والمدخل /277
(6) شَرْح الكوكب المنير 3/505
الصفة التي تَطْرَأ وتَزُول : أنَّه يُحْتَمَل أنْ يَغْفُل المتكلِّم عَنْ ضِدّ الوصف الذي عُلِّق عليه الحُكْم : كالبكارة في قوله - صلى الله عليه وسلم - { الْبِكْرُ تُسْتَأْذَن } يحتمل أنَّه غفل عن الثيوبة فَلَمْ تَخْطُرْ بباله حَتَّى يَقْصِد نَفْي الاستئذان عنها ، وكَذَا قوله - صلى الله عليه وسلم - { الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا } و{ فِي السَّائِمَةِ زَكَاة } (1) .
وأَرَى : أنّ هذا الفَرْق لا وجود له في نصوص الشرع ؛ لِعدم تَحَقُّق هذه الصفة واستحالة وجودها ..
كَمَا أنّ تقييد الصفة بهذا القيد ( تَطْرَأ وتَزُول ) قَدْ سَلَّمْنَا مُسْبَقاً على أنَّه شَرْط جوهريّ لِمفهوم المخالَفة ؛ لأنّ الصفة إنْ كانت ثابتةً ولا تَتَغَيَّر فكَيْف يَتحقق أو يوجَد لها مفهوم مُخالِف ؟
(1) يُرَاجَع : روضة الناظر 2/794 ، 795 وشَرْح مختصر الروضة 2/767
المطلب الثالث
مفهوم الشَّرْط
هذا المطلب يُمْكِن تقسيم الحديث فيه على النحو التالي :
1- تعريف الشَّرْط لغةً واصطلاحاً .
2- أنواع الشَّرْط .
3- تحرير محلّ النزاع .
4- مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم .
5- تعقيب وترجيح .
6- تَعَدُّد الحُكْم الذي تَعَلَّق به الشَّرْط .
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها فيما يلي :
أوّلاً – تعريف الشَّرْط لغةً واصطلاحاً :
والشَّرْط لغةً : العَلاَمَة ، ومنه أشراط الساعة أيْ علاماتها (1) ، ومنه الشروط لِلصكوك ، ومنها الشُّرَطِيّ ، ومنه شروط الحجّام (2) .
واصطلاحاً : له تعريفات عِدَّة تبعاً لاصطلاح أهْل كُلّ فنّ ..
وقَدْ حَصَرْتُ له في ذلك ثلاثة تعريفات :(1/140)
التعريف الأول عند الأصوليّين :
وله تعريفان عندهم :
الأول : لِلحنفيَّة ..
(1) يُرَاجَع : المصباح المنير 1/309 والكليات /529
(2) يُرَاجَع أصول البزدوي مع كَشْف الأسرار 1/291
حيث عَرَّفوا الشَّرْط بأنَّه : اسم لِمَا يَتَعَلَّق به الوجود دون الوجوب (1) .
الثاني : لِغَيْر الحنفيّة ..
حيث عَرَّفوه بأنَّه : ما يَلْزَم مِنْ عدمه العدم ولا يَلْزَم مِنْ وجوده وجود ولا عدم لِذاته (2) .
التعريف الثاني عند المتكلِّمين :
عَرَّف المتكلِّمون الشرطَ بأنَّه : ما يَتَوَقَّف عليه المشروط ولا يَكون داخلاً في المشروط ولا مؤثِّراً فيه .
التعريف الثالث عند النحاة :
والشَّرْط عند النحاة : ما دَخَل عليه أحد الحَرْفَيْن ( إنْ وإذا ) أو ما يَقُوم مقامهما مِمَّا يَدُلّ على سببيّة الأول ومسبّبيّة الثاني (3) .
ثانياً – أنواع الشروط :
والشروط باعتبار الشرع وغَيْره تَنْقَسِم إلى أقسام أربعة :
القِسْم الأول : شَرْط شرعيّ .
نَحْو : جَعل الشارع الطهارةَ شَرْطاً في صحّة الصلاة .
القِسْم الثاني : شرَطْ عقليّ .
نَحْو : الحياة لِقِيَام العِلْم ووجوده .
القِسْم الثالث : شَرْط لغويّ .
نَحْو : قوله : إنْ دَخَلْتِ الدّارَ فأنْتِ طالِق .
القِسْم الرابع : شَرْط عاديّ .
(1) أصول البزدوي مع كَشْف الأسرار 1/291
(2) شَرْح تنقيح الفصول /83 ويُرَاجَع غاية الوصول /13
(3) يُرَاجَع : البحر المحيط 4/37 ، 38 وإرشاد الفحول /181
نَحْو : الغذاء شَرْط لِحياة الحيوان (1) .(1/141)
والمراد بالشَّرْط هُنَا الشَّرْط اللغوي ، وهو ما عُلِّق مِنَ الحُكْم على شيء بأداة الشَّرْط مِثْل " إنْ " و" إذا " ونَحْوهما ؛ لأنّ الشَّرْط الشرعي والعقلي كُلّ واحد منهما يَنْتَفِي المشروط بانتفائه ولا يوجَد بوجوده ، أمَّا اللغوي فلا يَبْقَى أَثَرُه إلا في وجود المُعَلَّق بوجود ما عُلِّق عليه لا غَيْر وأمَّا عدمه فإمَّا لِعدم مقتضيه أو لأنّ الأصل بقاء ما كان قَبْل التعليق لا مِنْ جهة المفهوم (2) .
ثالثاً – تحرير محلّ النزاع :
اتَّفَق العلماء على أنّ المشروط مُتَعَلِّق وجوده على تحقق الشَّرْط : كقوله " إنْ دَخَلْتِ الدار فأنتِ طالِق " ؛ فإنّ الطلاق مرتبِط بدخول الدار .
كَمَا اتَّفَقوا على أنّ المشروط ـ وهو الطلاق ـ يَنعدم بانعدام الشَّرْط وهو الدخول .
كَمَا اتَّفَقوا على دلالة لَفْظ التعليق على الشَّرْط على ارتباط الطلاق بالدخول ؛ فإنّ حَرْف الشَّرْط دالّ على ثبوت المشروط .
واختَلَفوا في دلالة " إنْ " ونَحْوها مِنْ أدوات الشَّرْط على ارتباط عدم الطلاق بعدم الدخول .
ولِذا فلا خِلاَف بَيْنَهم في انتفاء الحُكْم عند انتفاء الشَّرْط .
ولكن .. هل الدّالّ على الانتفاء صيغة الشَّرْط أو البقاء على الأصل ؟
فمَنْ جَعَل مفهوم الشَّرْط حُجَّةً قال بالأول ، ومَنْ أَنْكَره قال بالثاني .
(1) يُرَاجَع : المحصول 1/422 والبحر المحيط 1/309 ، 310 وشَرْح الكوكب المنير 1/455 وشَرْح مختصر الروضة 1/421 ، 422 والكليات /531 والمختصر في أصول الفقه /66
(2) يُرَاجَع البحر المحيط 4/39
ومِنْ هُنَا كان لِلأصوليّين في حُجِّيَّة مفهوم الشَّرْط مذهبان (1) :
المذهب الأول : أنّ مفهوم الشَّرْط حُجَّة ، فيَنْتَفِي الحُكْم بانتفائه .(1/142)
وهو ما عليه الجمهور ، واختاره إمام الحرميْن والكلوذاني وابن السمعاني وابن الحاجب والبيضاوي وبَعْض الحنفيَّة رحمهم الله تعالى ، ونَقَلَه إمام الحرميْن ـ رحمه الله تعالى ـ عَنْ أَكْثَر العلماء ، وهو نَصّ الإمام الشافعي - رضي الله عنه - (2) .
وشَرَط الكلوذاني وتَبِعه ابن تيمية ـ رحمهما الله تعالى ـ في حُجِّيَّة مفهوم الشَّرْط : إلا أنْ يَقُوم دليل على تَعَلُّق الحُكْم بشرط آخَر يَقُوم مقامه في تَعَلُّق الحُكْم به (3) .
واسْتَدَلّوا بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى { وَإِن كُنَّ أُولَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ } (4) (5) ..
وَجْه الدّلالة ( لِلباحث ) : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه وجوب النفقة لِلزوجة المُطَلَّقة إنْ كانت حاملاً ، ودَلّ مفهومه المخالِف على عدم وجوبها إذا لَمْ تَكُنْ حاملاً ، فشَرْط الحُكْم هُنَا هو الحَمْل ، وقَدِ انْتَفَى بانتفائه ، وهذا دليل على أنّ مفهوم الشَّرْط حُجَّة ، فيَنْتَفِي الحُكْم بانتفائه ، وهو المُدَّعَى .
(1) يُرَاجَع : شَرْح تنقيح الفصول /270 والبحر المحيط 4/39 ، 40 ونهاية السول 1/323 ومناهج العقول 1/320 ، 321 ومباحث في أصول الفقه /97 ، 98 وشَرْح مختصر الروضة 2/763 ، 764
(2) يُرَاجَع : البرهان 1/452 والتمهيد 2/189 والقواطع 2/37 ومختصر المنتهى 2/180 والمنهاج مع شَرْجه 1/293 والمسوَّدة /357 والبحر المحيط 4/37 ، 38 وإرشاد الفحول /181
(3) يُرَاجَع : التمهيد لِلكلوذاني 2/189 والمسوَّدة /357
(4) سورة الطلاق مِنَ الآية 6
(5) يُرَاجَع : المستصفى /271 والمنهاج مع شَرْحه 1/292 ، 293(1/143)
الدليل الثاني : ما رُوِي أنّ يَعْلَى بن أُمَيَّة - رضي الله عنه - سأل عُمَرَ بن الخطّاب - رضي الله عنه - : " مَا بَالُنَا نَقْصِرُ وَقَدْ أَمِنَّا ؟ " فقال :" عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ فَقَال { صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَا عَلَيْكُمْ ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَه } (1) ..
فلو لَمْ يَعْقِلاَ مِن الشَّرْط نَفْي الحُكْم عَمَّا عَدَاه لَمَا كان لِتَعَجُّبهما مَعْنىً ، فَدَلّ ذلك على أنّ مفهوم الشَّرْط حُجَّة .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ نوقش هذا الدليل : بأنَّا لا نُسَلِّم أنّ تَعَجُّبهما كان مبنيّاً على انتفاء الحُكْم عند انتفاء الشَّرْط ، وإنَّمَا لأنّ الآيات أَمَرَتْ بإتمام الصلاة ، وإنَّمَا أباح القَصْرَ مع الخوف ، وبقي الإتمام واجباً فيما عَدَاه بالآيات الدّالّة على التمام .
الجواب عَنْ هذه المناقَشة :
وقَدْ رُدَّتْ هذه المناقَشة : بأنّ القرآن الكريم لَيْس فيه آية تَدُلّ على إتمام الصلاة بلَفْظِهَا خاصّةً ، كَمَا ثَبَت أنّ الأصل في الصلاةِ القَصْرُ ، ولِذا كان التعجب لِبقاء الحُكْم مع عدم الشَّرْط (2) .
الدليل الثالث : أنّ الأُمَّة مُتَّفِقَة على أنّ الحياة شَرْط لِوجود العِلْم والقدرة والإرادة ونَحْو ذلك ، وأنّ الحَوْل شَرْط لِوجوب الزكاة ..
كَمَا أنّهم حَكَموا بانتهاء العِلْم والقدرة عند عدم الحياة ، وكذلك يَنْتَفِي وجوب الزكاة عند عدم الحَوْل ، ولو لَمْ يَكُن الحُكْم منتفياً بانتفاء الشَّرْط لَمَا كان كذلك ، فدَلّ ذلك على أنّ مفهوم الشَّرْط حُجَّة .
(1) سَبَق تخريجه .
(2) التمهيد لِلكلوذاني 2/191 ، 192 بتصرف ويُرَاجَع الإحكام لِلآمدي 3/97 ، 98
مُنَاقَشَة هذا الدليل :(1/144)
وقَدْ نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نُسَلِّم أنّ عدم العِلْم والقدرة وعدم وجوب الزكاة عند عدم الحياة وعدم الحَوْل فيهما ما يَدُلّ على أنّ عدم الشَّرْط مانِع مِنْ وجود الحُكْم ، وإنَّمَا غايته أنّ الحُكْم قَدْ يَنْتَفِي في بَعْض صُوَر نَفْي الشَّرْط ، وهذه لا نِزَاع فيها ، وإنَّمَا النزاع في لزوم انتفائه مِن انتفاء شَرْطه (1) .
جوابي عَنْ هذه المناقَشة :
وهذه المناقَشة أراها مردودةً : بأنَّنا سَلَّمْنَا أنّ هذه الصورة لا نِزَاع فيها ؛ لأنّ الشَّرْط فيها عقليّ وشرعيّ ، ومحلّ نِزَاعنا هو الشَّرْط اللغوي الذي هو سَبَب لِلحُكْم ، وما دام كذلك كان الحُكْم مرتبِطاً به وجوداً وعدماً ، فيَنْتَفِي بانتفائه .
الدليل الرابع : أنّ النُّحَاة قالوا : إنّ " إذا " و" إنْ " و" لو " و" مَتَى " أدوات شَرْط ، والشَّرْط معلوم أنّ انعدامه يعدم المشروط ؛ لأنَّه لا يوجَد إلا به ، وإذا كان كذلك كانت هذه الأدوات دالّةً على انتفاء المشروط عند انتفاء الشَّرْط ، وهو المُدَّعَى .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ نوقش هذا الدليل مِنْ وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ الحُجَّة عندنا ليست في تسمية النُّحاة ، وإنَّمَا في كلام اللّغويّين ؛ لأنّهم يضعون الألفاظ لِمَعانيها الحقيقيّة ، ولَمْ يَرِدْ عنهم ما يَدُلّ على تسمية هذه الأدوات بـ" أدوات الشَّرْط " حَتّى يَنْتَفِي الحُكْم بانتفائها .
(1) الإحكام لِلآمدي 3/97 – 99 بتصرف .
الجواب عَنْ هذا الوجه :
وقُدْ رُدّ هذا الوجه مِنَ المناقَشة : بأنّ استعمال النّحويّين لِهذه الأدوات في الشَّرْط دليل على أنّ اللّغويّين قَدْ وَضَعوها لِذلك ؛ وإلا لَكان مَعْنَى هذا أنّ النّحويّين قَدْ نَقَلوها مِنْ مَعْنَاهَا إلى مَعْنىً آخَر ، والنقل خِلاَف الأصل ، ولا يصار إليه إلا بدليل .(1/145)
الوجه الثاني : سَلَّمْنَا وَضْع اللّغويّين لِهذه الأدوات لِلشَّرْط ، لكنْ لا نُسَلِّم أنّ نَفْي الشَّرْط يَلْزَم منه انتفاء المشروط دائماً ، وإنَّمَا محلّ ذلك إذا لَمْ يَكُنْ لِلمشروط إلا شَرْط واحد ، أمَّا إذا كان له شرطان على البدل ـ كالصلاة لِلوضوء والتيمم ـ فإنّ نَفْي أحدهما على التعيين لا يَدُلّ على نَفْي المشروط لِجواز بقائه مع البدل ، فَدَلّ ذلك على أنّ نَفْي الشَّرْط لا يَدُلّ على نَفْي المشروط دائماً .
الجواب عَنْ هذا الوجه :
وقَدْ رُدّ هذا الوجه مِنَ المناقَشة : بأنَّه خارِج محلّ نزاعنا ، وهو الشَّرْط المُعَيَّن الذي قام الدليل على شَرْطيّته بخصوصه ..
أمَّا إنْ كان المشروط له شرطان على البدل لَمْ يَكُنِ الشَّرْط واحداً مُعَيَّناً منهما ، بَلْ يَكون الشَّرْط أحدهما لا بِعَيْنه ، ونَفْي الواحد لا بِعَيْنه إنَّمَا يَتَحَقَّق بِنَفْي جميع أفراده ، وحينئذٍ يَنْتَفِي المشروط بانتفاء جميع أفراد الشَّرْط (1) .
المذهب الثاني : أنّ مفهوم الشَّرْط لَيْس حُجَّةً ، فلا يَنْتَفِي الحُكْم بانتفائه ، وإنَّمَا هو باقٍ على ما كان عليه قَبْل التعليق .
وهو ما عليه أَكْثَر المعتزلة والحنفيّة ، ونُقل عن الإماميْن أَبِي حنيفة
(1) أصول الفقه لِلشيخ زهير 2/110 ، 111 بتصرف ويُرَاجَع : المنهاج مع شَرْحه 1/295 ونهاية السول 1/321 ، 322 ومناهج العقول 1/321 ومباحث في أصول الفقه /97 ، 98
ومالك رضي الله عنهما ، وهو قول القاضي عبد الجبار (1) وأَبِي عبد الله البصري والقاضي أَبِي بَكْر الباقلاّني ، واختاره الغزالي والآمدي والباجي رحمهم الله تعالى (2) .
واسْتَدَلّوا لِذلك بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا } (3) ..(1/146)
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه عدم جواز إكراه الإماء على البغاء إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ، وهذا شَرْط لِلحُكْم ، فلو قُلْنَا بمفهوم الشَّرْط لَثَبَت جواز الإكراه على البغاء عند عدم إرادة التحصن ، وهو باطِل بالإجماع ، فدَلّ ذلك على أنّ مفهوم الشَّرْط لَيْس حُجَّةً ، وهو المُدَّعَى .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ نوقش هذا الدليل : بأنّ هذا الشَّرْط لا يَتحقق الإكراه إلا به ، فكأنّه خرج مخرج الغالب ؛ لأنَّهُنّ إذا لَمْ يُرِدْنَ أنْ يَتَحَصَّنّ لَمْ تُتَصَوَّرْ كراهتهنّ لِلبغاء ، وإنَّمَا يقع الإكراه على البغاء إذا أَرَدْنَ التحصن ، فصار إرادة التحصن شرطاً في الإكراه لا في الحُكْم (4) .
(1) القاضي عبد الجبار : هو أبو الحَسَن عبد الجبار بن أَحْمَد الهمداني رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ مُتَكَلِّم معتزليّ ، وُلِد سَنَة 359 هـ ..
مِن تصانيفه : تفسير القرآن ، طبقات المعتزلة .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالرّيّ سَنَة 415 هـ .
سِيَر أعلام النبلاء 11/54 ومعجم المؤلِّفين 5/78
(2) يُرَاجَع : المستصفى /271 والإحكام لِلآمدي 3/96 وإحكام الفصول /522 والبحر المحيط 4/37 وإرشاد الفحول /181 والمسوَّدة /357 وشَرْح العضد مع المختصر 2/180 والتقرير والتحبير 1/154 وتيسير التحرير 1/100 وفواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/422
(3) سورة النور مِنَ الآية 33
(4) يُرَاجَع : التمهيد لِلكلوذاني 2/193 ، 194 والمنهاج مع شَرْحه 1/294 – 296 وشَرْح =
الدليل الثاني : أنّ الحُكْم لو انْتَفَى بانتفاء الشَّرْط لَمَا صحّ قيام الدّلالة على ثبوت شَرْط آخَر يُوجِب ثبوت الحُكْم مع عدم الشَّرْط الأول ..(1/147)
فلو قال " إنْ دَخَل زَيْد الدار فأعطه درهماً ، وإنْ دَخَل المسجد فأعطه درهماً " فلو دَخَل المسجد ولَمْ يَدْخُل الدار اسْتَحَقّ الدرهم ، وإنْ كان الشَّرْط في استحقاق الدرهم دخول الدار أوّلاً ، وقَدِ انْتَفَى ولَمْ يَنْتَفِ الحُكْم بانتفائه كَمَا رَأَيْنَا .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وأَرَى مُنَاقَشَة هذا الدليل : بأنَّه حُجَّة عليكم لا لكم ؛ لأنّ الثابت هُنَا شرطان منفصلان وُجِد أحدهما فَوُجِد به الحُكْم ، وانْتَفَى الآخَر فانْتَفَى به الحُكْم (1) .
خامساً – تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم في حُجِّيَّة مفهوم الشَّرْط يَتَّضِح لنا ما يلي :
1- أنّ أدلَّة المذهب الثاني لَمْ تَسْلَمْ مِنَ المناقَشة والاعتراض .
2- سلامة أدلَّة المذهب الأول مِنَ المناقَشة والاعتراض .
3- قوّة أدلَّة المذهب الأول المستمَدّة مِنْ نصوص القرآن الكريم وفَهْم الصحابة - رضي الله عنهم - لانتفاء المشروط بانتفاء الشَّرْط .
4- أنّ المذهب الأَوْلَى بالقبول والترجيح هو : المذهب الأول القائل بحُجِّيَّة مفهوم الشَّرْط ؛ لِلأسباب المتقدِّمة .
سادساً – تَعَدُّد الحُكْم الذي تَعَلَّق به الشَّرْط :
ما سَبَق مِنْ خِلاَف كان محلّه الشَّرْط الذي تَعَلَّق عليه الحُكْم وكان
= العضد 2/181 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 2/111 ، 112
(1) يُرَاجَع التمهيد لِلكلوذاني 2/194 ، 195
مُفْرَداً ، نَحْو : قوله : إنْ دَخَلْتِ الدار فأنتِ طالِق .
أمَّا إنْ كان الحُكْم الذي تَعَلَّق به الشَّرْط متعدِّداً : فإمَّا أنْ يَكون تعليقه به على الجميع أو على البدل ..(1/148)
فإنْ كان على الجميع ـ نَحْو : " إنْ قُمْتِ وأَكَلْتِ وشَرَبْتِ ودَخَلْتِ الدار وكَلَّمْتِ زيداً فأنتِ طالِق " ـ فحينئذٍ لا يقع الطلاق إلا عند تَحَقُّق جميع هذه الأفعال ، ويَنْتَفِي الحُكْم بانتفاء بَعْضها ؛ لأنّ جميعها شَرْط واحِد مُرَكَّب مِنْ أجزاء ، فلا يؤثِّر إلا بوجود جميعها .
وإنْ كان على البدل ـ نَحْو : " إنْ قُمْتِ أو أَكَلْتِ أو شَرِبْتِ أو دَخَلْتِ الدار أو كَلَّمْتِ زيداً فأنتِ طالِق " ـ فإنَّهَا تُطَلَّق بوجود أيّ واحد منها ، ويَنْتَفِي الطلاق بانتفائها جميعاً (1) .
(1) شَرْح مختصر الروضة 2/763 بتصرف .
المطلب الرابع
مفهوم الغاية
تعريف الغاية :
والغاية لغةً : مَصْدَر" غيا " ، وهي مَدَى الشيء ..
والغاية : أَقْصَى الشيء ، وغاية كُلّ شيء : مَدَاه ومنتهاه (1) .
تعريف مفهوم الغاية :
ومفهوم الغاية هو : مَدّ الحُكْم بأداة الغاية ( إلى وحتّى واللاّم ) (2) .
تحرير محلّ النزاع :
الحُكْم المحدَّد بغاية له ثلاث مراحل :
المرحلة الأولى : ما قَبْل هذه الغاية .
وهذه المرحلة لا شكّ داخلة في الغاية .
المرحلة الثانية : الغاية نَفْسها .
وهذه المرحلة فيها خِلاَف في دخولها في الغاية .
المرحلة الثالثة : ما بَعْد الغاية .
وهذه المرحلة هي محلّ النزاع كَمَا ذَكَر الآمدي والزركشي رحمهما الله تعالى ، بِمَعْنَى : أنّ تقييد الحُكْم بالغاية هلْ يَدُلّ على نَفْي الحُكْم فيما بَعْد الغاية كَمَا في قوله تعالى { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِق } (3) ؛ فهلْ ما دون
(1) يُرَاجَع لسان العرب 15/143
(2) يُرَاجَع : المستصفى /272 وروضة الناظر 2/790 والبحر المحيط 4/46 وشَرْح الكوكب المنير 3/506 وإرشاد الفحول /182
(3) سورة المائدة مِنَ الآية 6
المَرافق هو المنطوق وغَسْل المِرْفق وهو الخِلاَف في أنّ الغاية هلْ تَدْخُل أم لا ، وما فَوْق المرفق خِلاَف المنطوق وهو المفهوم المخالِف (1) .(1/149)
إلا أنّ التفتازاني ـ رحمه الله تعالى ـ جَعَل الخِلاَف في نَفْس الغاية فقال :" إذْ لَمْ يَقُلْ أحد بدخول ما بَعْد المرفق في الغَسْل ، وإنَّمَا النزاع في نَفْس الغاية ؛ فإنّ غيبوبة الشمس ونَفْس المَرافق هلْ يَلْزَم انتفاء الحُكْم فيه ؟ ولا نَعْنِي بمفهوم الغاية سِوَى أنَّهَا لا تَدْخُل في الحُكْم ، بلْ يَنْتَفِي الحُكْم عند تَحَقُّقها " (2) ا.هـ .
ولكنّي أَرَى : أنّ محلّ نِزَاعنا لَيْس الغاية نَفْسها ، وإنَّمَا ما بَعْد الغاية ، وهو المقصود بانتفاء الغاية حتّى يَنْتَفِي الحُكْم بانتفائها ..
أمَّا الغاية نَفْسها : فإنَّهَا ـ في نظري ـ تُعَدّ علاَمةً لِتَحَقُّق الحُكْم المقيَّد بها ، نَحْو : قوله تعالى { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْل } (3) ؛ فإذا دَخَل الليل انْتَفَى الحُكْم لانتفاء الغاية .
إذا تَقَرَّر ذلك .. فإنّ الأصوليّين اختلَفوا في مفهوم الغاية : هلْ هو حُجَّة فيَنْتَفِي الحُكْم بانتفائها أمْ لَيْس حُجَّةً فلا يَنْتَفِي بانتفائها ؟
لهم في ذلك مذاهب :
المذهب الأول : أنّ مفهوم الغاية حُجَّة .
وهو ما عليه الجمهور ، وإليه ذهب مُعْظَم نفاة المفهوم ، كَمَا اعترَف به جَمْع مِنْ مُنْكِري مفهوم الشَّرْط : كالقاضي أَبِي بَكْر والغزالي والقاضي عبد الجبّار وأَبِي الحسين البصري رحمهم الله تعالى ..
(1) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 3/102 ، 103 والبحر المحيط 4/48
(2) حاشية السعد 2/181
(3) سورة البقرة مِنَ الآية 187
ونَصّ عليه الشافعي - رضي الله عنه - (1) ، واختاره الشيرازي وابن السمعاني والكلوذاني والفخر الرازي وابن قدامة وابن الحاجب والفتوحي والزركشي والطوفي والشوكاني رحمهم الله تعالى (2) .
المذهب الثاني : أنّ حُكْمه مُوافِق لِحُكْم ما قَبْله مُطْلَقاً .
المذهب الثالث : إنْ كان مِنْ جِنْسه دَخَل ، وإلا لَمْ يَدْخُلْ .(1/150)
مثاله : قول البائع لِلمشترِي " بِعْتُك هذا الرمان مِنْ هذه الشجرة إلى هذه الشجرة " فينظر في الشجرة الأخيرة : إنْ كانت مِنَ الرمان دَخَلَتْ وإلا فلا .
المذهب الرابع : إنْ كان ما قَبْل الغاية دَخَلَتْ عليه " مِنْ " لَمْ يدْخلْ ما بَعْدَهَا في حُكْم ما قَبْلَهَا .
مثاله : قوله " بِعْتُك هذه القطعة مِنْ هذا الجدار إلى هذا الجدار " لَمْ يَدْخُلِ الجدار الثاني في البيع ..
أمَّا إنْ قال " بِعْتُك هذه القطعة إلى هذا الجدار " دَخَل الجدار في البيع .
وهذه المذاهب الثلاثة أَوْرَدَها الإسنوي ولَمْ يَنْسِبْهَا إلى أحد .
المذهب الخامس : إنْ كان ما بَعْدَهَا مفصولاً عَمَّا قَبْلَهَا بفاصل حِسِّيّ وَجَب خروجه فَلَمْ يدْخلْ في حُكْم ما قَبْلَهَا ، وإلا دَخَل .
وهو اختيار الفخر الرازي رحمه الله تعالى .
مثاله : قوله تعالى { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْل } (3) ؛ فإنّ الليل
(1) يُرَاجَع : البحر المحيط 4/46 ، 47 والمعتمد 1/156 والمستصفى /272 وشَرْح مختصر الروضة 2/758
(2) يُرَاجَع : اللُّمَع /46 وقواطع الأدلَّة 2/38 والتمهيد لِلكلوذاني 2/196 والمحصول 1/167 وروضة الناظر 2/791 ومختصر المنتهى 2/181 وشَرْح الكوكب المنير 3/506 والبحر المحيط 4/46 وشَرْح مختصر الروضة 2/757 ، 758 وإرشاد الفحول /182
(3) سورة البقرة مِنَ الآية 187
لا يدْخل في الصيام ؛ لأنَّه يَفْصِله عن النهار فاصِل حِسِّيّ وهو غروب الشمس .
أمَّا قوله تعالى { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِق } (1) فإنّ المَرافق تَدْخُل في الغَسْل ؛ لِعدم وجود فاصِل حِسِّيّ بَيْن اليد والمِرْفَق (2) .
المذهب السادس : أنّ ما بَعْدَهَا لا يَدْخُل في حُكْم ما قَبْلَهَا إنِ اقْتَرَن بِـ" مِنْ " وإلا فيَحْتَمِل الأمْرَيْن .(1/151)
وهو مذهب سيبويه (3) كَمَا نَقَلَه عنه إمام الحرميْن ـ رحمهما الله ـ (4) في قوله :" قال سيبويه رحمه الله : إنِ اقْتَرَن بـ" مِنْ " اقْتَضَى تحديداً ولَمْ يَدْخُل الحدّ في المحدود ، فتقول " بِعْتُك مِنْ هذه الشجرة إلى تِلْك الشجرة " فلا يدْخلان في البيع ، وإنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بـ" مِنْ " فيجوز أنْ يَكون تحديداً ويجوز أنْ تَكون بِمَعْنَى " مع " ؛ قال الله تعالى { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَلَهُمْ إِلَى أَمْوَلِكُم } (5) مَعْنَاه : مع أموالكم ، وقال جَلّ وعَزّ { مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّه } (6) أيْ مع الله ، ومنه قوله سبحانه وتعالى { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
(1) سورة المائدة مِنَ الآية 6
(2) يُرَاجَع المحصول 1/167
(3) سيبويه : هو أبو بِشْر عَمْرو بن عثمان بن قنبر سيبويه رحمه الله تعالى ، النحوي المشهور ، أَخَذ عَنِ الخليل بن أَحْمَد والأخفش .
مِنْ مصنَّفاته : الكِتَاب في النحو .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 180 هـ .
وفيات الأعيان 1/487 والنجوم الزاهرة 2/99 ، 100
(4) يُرَاجَع : التمهيد لِلإسنوي /221 ، 222 والمحصول 1/167 والكوكب الدري /320 ونهاية السول 2/113 ، 114 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 2/298 ، 299 ومباحث في أصول الفقه /109 111
(5) سورة النساء مِنَ الآية 2
(6) سورة الصف مِنَ الآية 14
الْمَرَافِق } (1) مَعْنَاه : مع المَرافق " (2) ا.هـ .
المذهب السابع : أنَّه لا يَدُلّ على شيء ، ولِذَا لا يَكون مفهوم الغاية حُجَّةً .
وهو ما عليه جمهور الحنفيّة وجماعة مِنَ الفقهاء والمتكلِّمين ، واختاره الباجي والآمدي رحمهما الله تعالى (3) .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على مذاهب الأصوليّين في حُجِّيَّة مفهوم الغاية يَتَّضِح لنا ما يلي :
1- أنّ الكثرة مِنَ الأصوليّين ـ إنْ لَمْ يَكُنْ جُلُّهُم ـ حَصَروا النزاع في مذْهبيْن : الأول والسابع .(1/152)
2- أنّ الإسنوي ـ رحمه الله تعالى ـ ومَنْ تَبِعَه (4) هو الذي وَقَفْتُ عليه حاصراً لِلنزاع في سبعة مذاهب .
3- أنّ المذاهب الخمسة مِنَ الثاني حتّى السادس ـ كَمَا ذَكَر الشيخ أبو النور زهير (5) رحمه الله تعالى ـ لَمْ أَعْثُرْ لها على أدلَّة ، ولعلّ أصحابها
(1) سورة المائدة مِنَ الآية 6
(2) البرهان 1/192
(3) يُرَاجَع : إحكام الفصول /523 والإحكام لِلآمدي 3/101 ، 102 والبحر المحيط 4/48 وشَرْح الكوكب المنير 3/506 ، 507 وفواتح الرحموت 1/132 ونَشْر البنود 1/101 وشَرْح مختصر الروضة 2/759 وإرشاد الفحول /182
(4) يُرَاجَع : نهاية السول 2/113 ، 114 والتمهيد لِلإسنوي /221 ، 222 والكوكب الدري /320 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 2/298 ، 299 ومباحث في أصول الفقه /109 - 111
(5) أبو النور زهير : هو أبو حسام الدِّين مُحَمَّد أبو النور زهير المالكيّ رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ، أستاذ بجامعة الأزهر ووكيلها الأسبق ، وُلِد سَنَة 1327 هـ = 1906 م ..
تَتَلمَذ على يديْه أئمّة الأصول وفحولهم مِن أبناء الأزهر الشريف .
مِن مصنَّفاته : شرْح " منهاج الوصول " المعروف بـ" أصول الفقه " ، وهو مصنَّف يَمتاز بأنّه =
نَظَروا إلى الاستعمال فأَخَذ كلٌّ بما رَأَى ، ولا شكّ أنّ الاستعمال قَدْ وَرَد بدخول ما بَعْد " إلى " في حُكْم ما قَبْلَها كَمَا وَرَد بعدم دخوله فيه ..
فمِنَ الأول : قوله تعالى { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَلَهُمْ إِلَى أَمْوَلِكُم } (1) .
ومِنَ الثاني : قوله تعالى { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْل } (2) .
ووَرَد الاستعمال بعدم دخول ما بَعْد " حَتَّى " فيما قَبْلَها : كقوله تعالى { سَلَمٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر } (3) .
4- مِمَّا تَقَدَّم يُمْكِن حَصْر النزاع في المذْهبيْن المشْهوريْن :
المذهب الأول : أنّ مفهوم الغاية حُجَّة .
المذهب الثاني : أنّ مفهوم الغاية لَيْس حُجَّة .(1/153)
أدلَّة المذهب الأول :
اسْتَدَلّ القائلون بحُجِّيَّة مفهوم الغاية بأدلَّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْل } (4) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه وجوب الصيام إلى دخول الليل ؛ لأنّ " إلى " لِلغاية والحدّ ، ودَلّ مفهومه المخالِف على عدم وجوب الصيام بَعْد دخول الليل ؛ لأنَّه لو دَخَل الليل في الصوم لَخَرَج الليل عَنْ أنْ يَكون آخِر الصوم ونهايته ، بلْ جاز أنْ يَكون الليل وسطاً لِلصوم .
= الأفضل منهجاً وأسلوباً وعَرْضاً ، مِمَّا جَعَلَه مرجعاً لا يَستغني عنه أيّ أصوليّ ، كَمَا أنّ له شرحاً على " تيسير التحرير " لابن الهمام تدريساً وإملاءً لِطُلاّب العِلْم .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالقاهرة سَنَة 1407 هـ = 1987 م .
مقدِّمة كِتَاب ( أصول الفقه لِلشَّيْخ أَبِي النّور زهير ) لِلدكتور عَلِيّ جمعة .
(1) سورة النساء مِنَ الآية 2
(2) سورة البقرة مِنَ الآية 187
(3) سورة القَدْر الآية 5
(4) سورة البقرة مِنَ الآية 187
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ نوقش هذا الدليل : بأنَّا لا نُسَلِّم أنّ الليل حدّ الصيام وغايته ، بلْ يجوز أنْ يَدُلّ دليل على أنّ الليل لَيْس بنهاية الصوم بلْ يجب صوْم جزء مِنَ الليل .
الجواب عَنْ هذه المناقَشة :
وقَدْ رُدَّتْ هذه المناقَشة : بأنّ هذا الدليل الذي افترَضتموه لَيْس له وجود ، حتّى وإنْ وُجِد فإنَّا ـ حينئذٍ ـ نَصْرِف هذا النَّصّ عَنْ ظاهِره وصارت الغاية مَجازاً ، كأنَّه أراد أنّ الغاية مرتبة مِنْ نهايته وغايته ، وقَدْ تُصْرَف عن الظاهر بلْ عن الحقيقة بدليل ، وهو أَمْر لا خِلاَف فيه (1) .
الدليل الثاني : قوله تعالى { فَإِن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَه } (2) ..(1/154)
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه حرمة الزواج مِنَ الزوجة المُطَلَّقَة طلاقاً بائناً بينونةً كبرى حَتّى تَنْكِح زوجاً غَيْرَه ، ودَلّ مفهومه المخالِف عدم حِلِّهَا لِزَوْجِهَا الأول طالما أنَّهَا لَمْ تَنْكِحْ زوجاً غَيْرَه ..
فالغاية هُنَا أفادت أنّ حُكْم ما بَعْدَهَا مخالِف لِحُكْما ما قَبْلَهَا ؛ بدليل عدم حُسْن الاستفهام واستقباحه ؛ فلا يَحْسُن أنْ يقال " فإنْ نَكَحَتْ زوجاً غَيْرَه فما الحُكْم ؟ " ؛ لأنّ الحُكْم قَدْ فُهِم ، والسؤال عَمَّا فُهِم تحصيل الحاصِل (3) .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ ناقش هذا الدليل الباجي ـ رحمه الله تعالى ـ ورَأَى : أنَّا لا نُقَبِّح الاستفهام ، بلْ يَحْسُن ؛ لِجواز أنْ يَمْنَع مانِع آخَر ، ولِجواز أنْ يحرم عليه (1) يُرَاجَع : التمهيد لِلكلوذاني 2/197 وروضة الناظر 2/791
(2) سورة البقرة مِنَ الآية 230
(3) يُرَاجَع : شَرْح مختصر الروضة 2/758 والمستصفى /272
النكاح قَبْل الغاية ويَكِل ما بَعْد الغاية إلى اجتهاده (1) .
الجواب عَنْ هذه المناقَشة :
وأَرَى أنّ هذه المناقَشة مردودة : بأنّ ما حَسَّنْتُمْ به الاستفهام لا وجود له حتّى نقول إنَّه حَسَن ، بل الثابت عندنا في قوله " لا تُعْطِ زيداً حتّى يقوم " قباحة الاستفهام بَعْد ذلك " فهلْ أعطيه إذا قام ؟ " ، ولولا أنّ تقييد الحُكْم بالغاية يَدُلّ على انتفائه عند انتفائها لَمَا اسْتَقْبَحْنَا ذلك (2) .
الدليل الثالث : قوله تعالى { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِق } (3) ..(1/155)
وَجْه الدّلالة : أنّ الله تعالى أَوْجَب غَسْل اليديْن في الوضوء إلى المَرافق ، فلو كان ما بَعْد الغاية مخالِفاً لِمَا قَبْلَهَا لَكان غَسْلُ المرافق غَيْرَ واجِب ، وهذا باطِل بالإجماع ؛ لاتِّفَاقهم على وجوب غَسْل المَرافق ، وإذا كان كذلك كان مفهوم الغاية لَيْس حُجَّة .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ نوقش هذا الدليل مِنْ وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ دليلكم مَبْنِيّ على أنّ وجوب غَسْل المَرافق دليل على أنّ ما بَعْد الغاية مُوَافِق لِمَا قَبْلَهَا ، وهذا الوجوب ثابِت بفعله - صلى الله عليه وسلم - ، وحينئذٍ يَكون الدليل في غَيْر محلّ نِزَاعِنَا .
الوجه الثاني : أنّ غَسْل المَرافق واجِب أيضاً ؛ لأنّ الواجب ( وهو غَسْل اليديْن ) لا يَتِمّ إلا به ؛ لأنّ اليد غَيْر متميِّزة عن المِرْفَق ، فوَجَب غَسْله
(1) يُرَاجَع إحكام الفصول /526
(2) يُرَاجَع : المستصفى /272 والإحكام لِلآمدي 3/102
(3) سورة المائدة مِنَ الآية 6
مِنْ باب ( ما لا يَتِمّ الواجب إلا به يَكون واجباً ) (1) .
أدلّة المذهب الثاني النافي لِحُجِّيَّة مفهوم الغاية :
اسْتَدَلّ أصحاب المذهب الثاني ـ القائلون بأنّ مفهوم الغاية لَيْس حُجَّةً ـ بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنَّه لو دَلّ الحُكْم بالغاية على نَفْيه فيما بَعْد الغاية فلا يخلو : إمَّا أنْ يَدُلّ عليه بصريح لَفْظه ، أو بأنَّه لو لَمْ يَكُنْ دالاًّ على نَفْي الحُكْم فيما بَعْد الغاية لَمَا كان التقييد بالغاية مفيداً ، أو تحقَّقَتْ مِنْ جهة أخرى ..
الأول مُحَال ؛ لأنّ اللفظ بصريحه لَمْ يَدُلّ على نَفْي الحُكْم بَعْد الغاية .
والثاني إنَّمَا يَلْزَم أنْ لو لَمْ يَكُنْ لِلتقييد فائدة سِوَى ما ذَكَروه ، ولَيْس كذلك .
وإنْ كان الثالث : فالأصل عدمه ، وعلى مُدَّعِيه بيانه .
فدَلّ ذلك على أنّ الحُكْم المُقَيَّد بغاية لا يَنْتَفِي بانتفائها (2) .(1/156)
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وأَرَى مُنَاقَشَة هذا الدليل : بأنَّا سَلَّمْنَا لكم أنّ صريح اللفظ لا يَدُلّ على نَفْي الحُكْم بانتفاء الغاية ، لكنّ مفهومه دالّ على ذلك ؛ وإلا لَمَا كان لِلتقييد بالغاية فائدة ، حتّى وإنْ سَلَّمْنَا جدلاً بفوائد أخرى ـ كَمَا ادَّعَيْتُمْ ـ فإنّ أَظْهَرها انتفاء الحُكْم الثابت قَبْل الغاية عَنْ ما بَعْدَهَا .
الدليل الثاني : أنَّه لا مانِع مِنْ ورود الخِطَاب فيما بَعْد الغاية بمِثْل الحُكْم السابق قَبْل الغاية بالإجماع ، وعند ذلك إمَّا أنْ يَكون تقييد الحُكْم بالغاية نافياً لِلحُكْم فيما بَعْدها أو لا يَكون ..
والأول يَلْزَم منه إثبات الحُكْم مع تَحَقُّق ما ينفيه ، وهو خِلاَف الأصل .
(1) يُرَاجَع : نهاية السول 2/114 ومباحث في أصول الفقه /113 ، 114
(2) الإحكام لِلآمدي 3/102 بتصرف .
وإنْ كان الثاني : فهو المطلوب .
فدَلّ ذلك على أنّ تقييد الحُكْم بالغاية لا يَنْتَفِي بانتفائها ، وهو المُدَّعَى (1) .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وأَرَى مُنَاقَشَة هذا الدليل : بأنَّنَا لو سَلَّمْنَا لكم جدلاً بأنَّه لا مانِع مِنْ ورود الخِطَاب فيما بَعْد الغاية بمِثْل الحُكْم السابق قَبْلَها لَكان قوله تعالى { وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْن } (2) الذي يَدُلّ مفهومه المخالِف على جواز إتيان الزوجة بَعْد طُهْرِهَا منسوخاً بالحُكْم الوارد بَعْد ذلك بِمِثْل الحُكْم السابق على هذا الحُكْم المُقَيَّد بالغاية كَمَا لو وَرَد خِطَاب بجواز إتيان الزوجة مُطْلَقاً ..
وإذا كان كذلك لَمْ يَكُنْ ذلك نفياً لِمفهوم الغاية كَمَا ادَّعَيْتُمْ ، وإنَّمَا هو نَسْخ ورَفْع لِحُكْم سابق ، وحينئذٍ يَكون نزاعكم في منطوق الخِطاب الجديد ولَيْس مفهوم النَّصّ أو الخِطَاب الأول الذي هو محلّ نِزَاعِنَا .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم في مفهوم الغاية يَتَّضِح ما يلي :(1/157)
1- أنّ أصحاب المذهب الثاني مُنْكِري مفهوم الغاية أو المفهوم بصفة عامَّة إنَّمَا احْتَجُّوا بأنّ المسكوت عنه لا دليل عليه ، فالغاية تقييد لِلحُكْم بما قَبْلَهَا وسكوت عَمَّا بَعْدَهَا ، ولِذَا يَبْقَى الحُكْم على ما كان عليه قَبْل النطق (3) ولِذَا فإنَّهم يتَّفِقون مع الجمهور أصحاب المذهب الأول في أنّ الحُكْم قَبْل
(1) الإحكام لِلآمدي 3/102 بتصرف .
(2) سورة البقرة مِنَ الآية 222
(3) يُرَاجَع المستصفى /272
الغاية لا يَسْتَمِرّ بَعْدَهَا ..
ثُمّ افْتَرَقَا بَعْد ذلك :
فالجمهور قالوا : إنَّه يَنْتَفِي بانتفائها .
والمُنْكِرون زادوا عليهم : بأنّ الحُكْم يَعُود إلى ما كان عليه قَبْل الغاية .
2- أنّ وجهة المذهب الثاني فيها نَظَر ؛ لأنَّهَا تُقَلِّل مِنْ فائدة التقييد بالغاية لأنّ الغاية نهاية كَمَا قال ابن قدامة رحمه الله تعالى :" ونهاية الشيء مَقْطَعُه ، فإنْ لَمْ يَكُنْ مَقْطَعاً فَلَيْس بنهاية ولا غاية " (1) ا.هـ .
3- أنّ أدلَّة المذهب الثاني لَمْ تَسْلَمْ مِنَ المناقَشة والاعتراض ، وفي المقابِل سلامة أدلَّة المذهب الأول ، الأمر الذي يؤهِّله لِلترجيح والاختيار .
4- أنّ مفهوم الغاية أَقْوَى مِنْ مفهوم الشَّرْط ، وقَدْ أَثْبَتْنَا حُجِّيَّة الأخير ، فمِنْ باب أَوْلَى كان الأَقْوَى حُجَّةً ..
وفي ذلك يقول الفتوحي رحمه الله تعالى :" وهو أَقْوَى مِنَ القِسْم الثالث ( مفهوم الشَّرْط ) مِنْ جهة الدّلالة ؛ لأنَّهم أَجْمَعوا على تسميتها " حروف الغاية " ، وغاية الشيء نهايته ، فلو ثَبَت الحُكْم بَعْدَهَا لَمْ يُفِدْ تَسْمِيَتَهَا غاية " (2) ا.هـ .
(1) روضة الناظر 2/761
(2) شَرْح الكوكب المنير 3/507
المطلب الخامس
مفهوم العَدَد
هذا المطلب يُمْكِن تقسيم الحديث فيه على النحو التالي :
1- المراد بمفهوم العَدَد .
2- مِثَال مفهوم العَدَد .
3- تحرير محلّ النزاع في مفهوم العَدَد .(1/158)
4- مذاهب الأصوليّين في مفهوم العَدَد وأدلّتهم .
5- تعقيب وترجيح .
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها فيما يلي ..
أوّلاً – المراد بمفهوم العَدَد :
والمراد بمفهوم العَدَد هو : تعليق الحُكْم بعَدَد مخصوص يَدُلّ على انتفاء الحُكْم فيما عَدَا ذلك العَدَد (1) .
ثانياً – مِثَال مفهوم العَدَد :
المثال الأول : قوله تعالى { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَنِينَ جَلْدَة } (2) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه وجوب جَلْد القاذف ثمانين جَلْدَةً ، ودَلّ مفهومه المخالِف على عدم الزيادة أو النقصان عَنْ هذا العَدَد .
المثال الثاني : قول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - { إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ
(1) يُرَاجَع : البحر المحيط 4/41 والمعتمد 1/146 والتقرير والتحبير 1/153 وشَرْح الكوكب المنير 3/508
(2) سورة النور مِنَ الآية 4
سَبْعا } (1) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه وجوب غَسْل الإناء الذي وَلَغ فيه الكلب سَبْع مرّات ، ودَلّ مفهومه المخالِف على عدم الزيادة أو النقصان عَنْ هذا العَدَد .
ثالثاً – تحرير محلّ النزاع في مفهوم العَدَد :
أَوْرَد بَعْض الأصوليّين حالاتٍ في مفهوم العَدَد لا نِزَاع فيها ، وَقَفْتُ على حالتيْن منها :
الأولى : ما قُصِد به التكثير : كالألْف والسبعين وغَيْرِهِمَا (2) .
ومثاله : ما حُكِي أنّ معاوية - رضي الله عنه - (3) اسْتَعْمَل عاملاً أَحْمَق ، فذكر المجوس يوماً فقال قائل :" لَعَن اللهُ المجوسَ ؛ يَنْكِحون أمّهاتهم " فقال : " واللهِ لو أُعْطِيتُ مائة ألْف درهم ما نَكَحْتُ أُمِّي " ، فبَلَغ ذلك معاوية - رضي الله عنه - فقال :" قَاتَلَهُ اللَّهُ ! أَتُرَاهُ لَوْ زِيدَ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ كَانَ يَفْعَل ؟! " (4) .(1/159)
والبَعْض يَعتبر مِنْ هذا القبيل قوله تعالى { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُم } (5) .
(1) أَخْرَجه مُسْلِم في كتاب الطهارة : باب حُكْم ولوغ الكلب برقم ( 420 ) والنسائي في كتاب المياه : باب تعفير الإناء بالتراب مِن ولوغ الكلب فيه برقم ( 336 ) وأبو داود في كتاب الطهارة : باب الوضوء بسؤر الكلب برقم ( 65 ) .
(2) يُرَاجَع البحر المحيط 4/41
(3) معاوية : هو الصّحابيّ الجليل معاوية بن أَبِي سفيان بن صَخْر بن حَرْب بن أُمَيَّة القُرَشِي - رضي الله عنه - ، أَسْلَم زَمَنَ الفتح ، أحد كُتّاب الوحي ، ولاّه عُمَر - رضي الله عنه - الشّام ثُمّ مِنْ بَعْده عثمان - رضي الله عنه - ، تَوَلَّى إمارة المُسْلِمين تِسْع عشرة سَنَةً ونِصْفاً .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بدمشق سَنَة 60 هـ .
تاريخ الطبري 5/323 والاستيعاب 3/470 - 473
(4) يُرَاجَع شَرْح مختصر الروضة 2/770 ، 771
(5) سورة التوبة مِنَ الآية 80
الثانية : إذا قُيِّد الحُكْم بعَدَد مخصوص فَمَا زاد عليه كان بطريق الأَوْلَى .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثا } (1) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه طهارة الماء الذي بَلَغ قُلَّتَيْن ، ودَلّ مفهومه المخالِف على عدم طهارة الماء إنْ كان دون القُلَّتَيْن ..
لكنّ بَعْض الأصوليّين اسْتَدَلّ بهذا الحديث على أنَّه يَدُلّ بطريق الأَوْلَى على أنّ ما زاد على القُلَّتَيْن لا يَحْمِل خبثاً ، ولَمْ يَدُلّ على ذلك فيما دون القُلَّتَيْن ، وهو ما ذهب إليه أبو الحسين البصري والفخر الرازي والآمدي والطوفي رحمهم الله تعالى (2) ..(1/160)
وكأنِّي بهم يَجعلون ما زاد عن القُلَّتَيْن مِنْ باب مفهوم الموافَقة ، فيَكون خارِج محلّ نِزَاعِنَا ، وما نَقَص عنهما كان داخلاً فيه .
وقد صرَّح بذلك البصري ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" فأمَّا تعليق الحُكْم بالعَدَد : هلْ يَدُلّ على حُكْم ما نقص منه ؟ " (3) ا.هـ .
والآمدي ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" وهلْ يَدُلّ ذلك على أنّ الحُكْم فيما دون المائة ( جَلْدَة ) ودون القُلَّتَيْن على خِلاَف الحُكْم في المائة والقُلَّتَيْن ؟ هذا هو مَوْضِع الخِلاَف " (4) ا.هـ .
إلا أنّ بَعْض الأصوليّين أَدْخَل الصورتيْن معاً في محلّ النزاع دون تفرقة بَيْن ما نقص مِن العَدَد أو زاد ..
(1) أَخْرَجه النسائي في كتاب الطهارة : باب التوقيت في الماء برقم ( 52 ) وأبو داود في كتاب الطهارة : باب ما يُنَجِّس الماء برقم ( 58 ) وأَحْمَد في مُسْنَد المُكْثِرين مِن الصحابة برقم ( 4376 ) ، كُلّهم عن عبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما .
(2) يُرَاجَع : المعتمد 1/146 والمحصول 1/257 ، 258 والإحكام 3/103 وشَرْح مختصر الروضة 2/771
(3) المعتمد 1/146
(4) الإحكام 3/103
وفي ذلك يقول الزركشي رحمه الله تعالى :" مفهوم العَدَد ـ وهو تعليق الحُكْم بِعَدَد مخصوص ـ يَدُلّ على انتفاء الحُكْم فيما عَدَا ذلك العَدَد ، زائداً كان أو ناقصاً " (1) ا.هـ .
هذا .. وقَدْ حَصَر بَعْض المتأخِّرين [ كذا ذَكَر الزركشي رحمه الله تعالى ] :" محلّ الخِلاَف إنَّمَا هو عند ذِكْر العَدَد نَفْسه : كاثْنتيْن وثلاثة ، أمَّا المعدود فلا يَكون مفهومه حُجَّةً : كقوله - صلى الله عليه وسلم - { أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَان ... } (2) فلا يَكون تحريم مَيْتَة ثالثة مأخوذاً مِنْ مفهوم العَدَد ..
لكنّ الناس يمثِّلون لِمفهوم العَدَد بقوله - صلى الله عليه وسلم - { إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْن ... } ، ولَيْس كذلك ؛ لأنَّه لَيْس فيه اسْم عَدَد ..(1/161)
والفَرْق : أنّ العَدَد يُشْبِه الصفة ، والمعدود يُشْبِه اللقب " (3) ا.هـ .
وبهذا قال السبكي (4) رحمه الله تعالى ..
وبَيَّن ابنه ـ رحمه الله تعالى ـ وَجْه التفرقة بَيْن العَدَد والمعدود بقوله : " وذلك لأنّ العَدَد شبه الصفة ؛ لأنّ قولك " في خَمْس مِنَ الإبل " في قوَّة قولك " في إبل خَمْس " ؛ تَجعل الخَمْس صفةً لِلإبل ، وهي إحدى صِفَتَيِ الذات ؛ لأنّ الإبل قَدْ تَكون خَمْساً وقَدْ تَكون أَقَلّ أو أَكْثَر ، فلَمَّا قَيَّدْتَ
(1) البحر المحيط 4/41
(2) أَخْرَجه ابن ماجة في كتاب الأطعمة : باب الكبد والطّحال برقم ( 3305 ) وأَحْمَد في مُسْنَد المُكْثِرين مِن الصحابة برقم ( 5465 ) ، كلاهما عن عبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما .
(3) البحر المحيط 4/43
(4) تقيّ الدِّين السبكي : هو أبو الحَسَن علِيّ بن عبد الكافي بن علِيّ بن تمّام بن يوسف بن موسى السبكي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بسُبك سَنَة 683 هـ ..
مِن مصنَّفاته : تفسير القرآن ، شرْح المنهاج في الفقه .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمِصْر سَنَة 756 هـ .
الدرر الكامنة 3/63 والفتح المبين 2/176
وجوب الشاة بالخَمْس فُهِم أنّ غَيْرَهَا بِخِلاَفه ، فإذا قَدَّمْتَ لَفْظ العَدَد كان الحُكْم كذلك ، والمعدود لَمْ يُذْكَرْ معه أمْر زائد يُفْهَم منه انتفاء الحُكْم عَمَّا عَدَاه ، فصار كاللقب " (1) ا.هـ .
ومِمَّا تَقَدَّم يَكون محلّ النزاع هو العَدَد الذي تَعَلَّق الحُكْم به : هلْ يَدُلّ على انتفاء الحُكْم فيما عَدَا ذلك العَدَد أم لا ؟
رابعاً – مذاهب الأصوليّين في مفهوم العَدَد وأدلّتهم :
اختلَف الأصوليّون في حُجِّيَّة مفهوم العَدَد على ثلاثة مذاهب :
المذهب الأول : أنَّه حُجَّة .(1/162)
وهو ما عليه كثير مِنَ الأصوليّين ، واختاره الشيرازي وإمام الحرميْن وابن السمعاني والكلوذاني وابن قدامة وابن السبكي وبَعْض الحنفيّة رحمهم الله تعالى ، ومنقول عَنْ نَصّ الإماميْن الشافعي وأَحْمَد رضي الله عنهما ، وهو قول داود رحمه الله تعالى ، ونَسَبه البَعْض إلى الإمام مالك - رضي الله عنه - (2) .
واحْتَجّوا لِذلك بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُم } (3) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه عدم مغفرة الله تعالى لِلمنافقين حَتّى وإن اسْتَغْفَر لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعين مَرَّةً ، ودَلّ مفهومه المخالِف على رَفْع هذه العقوبة عنهم إنْ زاد الاستغفار عن السبعين ،
(1) الإبهاج 1/383
(2) يُرَاجَع : التبصرة /221 والبرهان 1/458 والقواطع 2/42 والتمهيد 2/197 ، 198 وروضة الناظر 2/795 وجَمْع الجوامع 1/251 والمنخول /209 والإبهاج 1/381 ومُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/432 والبحر المحيط 4/41 وشَرْح مختصر الروضة 2/769 وتيسير التحرير 1/100 وإرشاد الفحول /181
(3) سورة التوبة مِنَ الآية 80
ولِذَا قال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - { وَاللَّهِ لأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِين } (1) ؛ فلو لَمْ يَكُنْ مفهوم العَدَد حُجَّةً لَمَا قال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك .
الدليل الثاني : قوله تعالى { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَنِينَ جَلْدَة } (2) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه وجوب جَلْد القاذف ثمانين جَلْدَةً ودَلّ مفهومه المخالِف على عدم الزيادة أو النقصان عَنْ هذا العَدَد (3) .
المذهب الثاني : أنَّه لَيْس حُجَّةً .(1/163)
وهو ما عليه جمهور الحنفيّة والمعتزلة والأشعريّة والظّاهريّة وبَعْض الشّافعيّة : كالبيضاوي وإمام الحرميْن والآمدي ، واختاره القاضي أبو بَكْر الباقلاّني رحمهم الله تعالى (4) .
واحْتَجّوا لِذلك : بأنّ تعليق الحُكْم على العَدَد لا يَدُلّ على نَفْيِه عَمَّا زاد ولا عَمَّا نقص ؛ لِجواز أنْ يَكون في تعليقه بذلك العَدَد فائدة سِوَى نَفْيِه عَمَّا زاد ونقص ، ولِذَا كان مفهوم العَدَد لَيْس حُجَّةً .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ نوقش هذا الدليل : بأنّ ذِكْر العَدَد لا بُدّ وأنْ يَكون له فائدة وحُكْم لا يَتَعَدّاه المُكَلَّف بزيادة أو نقصان ، كَمَا أنَّه لا مانِع مِنْ تَعَدُّد فوائد تعليق الحُكْم على العَدَد بَعْد ذلك ، لكنَّهَا ـ أعني نَفْيه عَمَّا زاد أو نقص ـ هو الفائدة الأظهر والأوضح والأَوْلَى ، وما عَدَاهَا لَمْ تَذْكُرُوا لنا مثالاً لها (5) .
(1) سَبَق تخريجه .
(2) سورة النور مِنَ الآية 4
(3) يُرَاجَع : التمهيد لِلكلوذاني 2/198 – 201 وشَرْح مختصر الروضة 2/770 ، 771 والمحصول 1/259
(4) يُرَاجَع : التمهيد لِلكلوذاني 2/198 والبحر المحيط 4/41 والإحكام لِلآمدي 3/104 والمنهاج مع شَرْحه 1/296 والتمهيد لِلإسنوي /252 والبرهان 1/458 ونهاية السول 1/324 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 2/113
(5) يُرَاجَع التمهيد لِلكلوذاني 2/202
المذهب الثالث : أنَّه لا يَكون حُجَّةً إلا بدليل .
وهو اختيار أَبِي الحسين البصري والفخر الرازي رحمهما الله تعالى .
واحْتَجّوا لِذلك : بأنّ الحُكْم المُعَلَّق على عَدَد إمَّا أنْ يَكون مفهومه أَزْيَد منه وإمَّا أنْ يَكون أَنْقَص منه ..
فإنْ كان المفهوم أَزْيَد مِنَ العَدَد : ثَبَت الحُكْم فيه مِنْ باب أَوْلَى : كقوله - صلى الله عليه وسلم - { إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثا } (1) ؛ فما زاد عليهما لا يَحْمِل خَبَثاً مِنْ باب أَوْلَى .(1/164)
وإنْ كان المفهوم أَنْقَص مِنَ العَدَد : فإمَّا أنْ يَكون الحُكْم إيجاباً أو إباحةً أو حظراً ..
فإنْ كان الحُكْم إيجاباً : دَلّ على وجوب ما نقص منه : كالأمر بِجَلْد الزاني مائة جَلْدَة ، فيُعْلَم منه وجوب جَلْد الخمسين .
وإنْ كان الحُكْم إباحةً : دَلّ على إباحة ما دونه مِمَّا دَخَل تَحْتَه : كَمَا إذا أباح الشارع استعمال القُلَّتَيْن إنْ وَقَعَتْ فيها نجاسة عَلِمْنَا إباحة استعمال قُلَّة منها .
وإنْ كان الحُكْم محظوراً : فلا يَدُلّ على حُكْم ما دونه إلا مِنْ جهة الأَوْلَى : كَمَا لو حظر عَلَيْنَا استعمال قُلَّتَيْن وَقَعَتْ فيها نجاسة لَحُظِرَتِ القُلَّة الواحدة بِتِلْك الصفة مِنْ باب أَوْلَى .
وإذا كان كذلك كان تعليق الحُكْم على العَدَد لا يَدُلّ على نَفْي ما زاد عليه أو نقص إلا باعتبار زائد أو دليل (2) .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وأَرَى مُنَاقَشَة هذا الدليل : بأنَّه يَجْعَل ذِكْر العَدَد عديم الفائدة حينما
(1) سَبَق تخريجه .
(2) يُرَاجَع : المعتمد 1/146 ، 147 والمحصول 1/257 ، 258 والمنهاج 1/296 ، 297
نَطلب دليلاً على نَفْي ما زاد عليه أو ما نقص حتّى نُثْبِت به مفهوم العَدَد ..
كَمَا أنّ ما أَثْبَتّموه أنتم مِنْ ثبوت الحُكْم في مفهوم العَدَد مِنْ باب أَوْلَى إنَّمَا هو في الحقيقة مَبْنِيّ على مفهوم العَدَد زيادةً أو نقصاً حتّى وإنْ كان مُساوِياً له في الحُكْم أو أَوْلَى به منه .
خامساً – تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم في مفهوم العَدَد يَتَّضِح لنا ما يلي :
1- أنّ الكثرة مِنَ الأصوليّين حَصَروا المذاهب في مذْهبيْن (1) :
الأول : أنَّه حُجَّة .
الثاني : أنَّه لَيْس حُجَّةً .(1/165)
لكنّي رَأَيْتُ إفراد الطالبين لِحُجِّيَّته دليلاً زائداً بمذهب ؛ لأنّ القائلين به انفرَدوا عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ المانعين لِلحُجِّيَّة مُطْلَقاً ، صحيح أنّهما يلتقيان في غاية واحدة وهي القول بعدم حُجِّيَّة مفهوم العَدَد ، ولِذا كان رأْيهم أَوْلَى ببحثه منفصِلاً لِلوقوف على وجْهتهم .
2- أنّ أدلَّة المذهب الثاني وأدلَّة المذهب الثالث لَمْ تَسْلَمْ جميعها مِنَ المناقَشة والاعتراض .
3- أنّ أدلَّة المذهب الأول سَلِمَتْ جميعها مِنَ المناقَشة والاعتراض ، ولِذا كان هو الأَوْلَى عندي بالقبول والاختيار ، خاصّةً وهو قول الأئمّة مالك وأَحْمَد وداود ومنقول عَنِ الشافعي - رضي الله عنهم - ..
(1) يُرَاجَع : التمهيد لِلكلوذاني 2/197 ، 198 والبحر المحيط 4/41 ، 42 وشَرْح الكوكب المنير 3/508 وشَرْح مختصر الروضة 2/769 والمسوَّدة /358 ، 359 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 2/113
وفيه يقول سُلَيْم (1) ـ رحمه الله تعالى ـ مِنَ الشافعية :" وهو دليلنا في نِصَاب الزكاة والتحريم بِخَمْس رضعات " .
ويقول ابن الرفعة (2) رحمه الله تعالى :" القول بمفهوم العَدَد هو العمدة عندنا في تنقيص الحجارة في الاستنجاء مِنَ الثلاثة " (3) .
4- أنّ كثيراً مِنْ أحكام الشرع التي قيّدَت بِعَدَد تَنْتَفِي بانتفائه دون حاجة إلى دليل آخَر كَمَا ذهب أصحاب المذهب الثالث ..
وأَذْكُر منها على سبيل المثال :
أ- الصلوات المفروضة عَدَدُهَا خَمْس ، فلا يجوز بمفهوم هذا العَدَد الزيادةُ عليها أو نقصانها .
ب- عَدَد ركعات الصلوات ؛ فلا يجوز بمفهوم عَدَدِهَا الوارد في السُّنَّة الزيادة عليها أو نقصانها .
جـ- جَلْد الزاني غَيْر المُحْصَن مائة جَلْدَة أفاد مفهومه عدم جواز الزيادة عليها أو النقصان .
د- جَلْد القاذف ثمانين جَلْدَةً أفاد مفهومه عدم جواز الزيادة عليها أو(1/166)
(1) سُلَيْم : هو أبو الفتح سُلَيْم بن أيوب بن سُلَيْم الرازي الشافعي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ مُفَسِّر أديب لغويّ ..
مِن مصنَّفاته : ضياء القلوب ، التقريب ، الكافي .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 447 هـ .
طبقات الشّافعيّة الكبرى 4/388 وشذرات الذهب 3/275
(2) ابن الرفعة : هو نَجْم الدِّين أبو العباس أَحْمَد بن مُحَمَّد بن عَلِيّ بن مرتفع بن الرفعة المصري الشافعي رحمه الله تعالى ، فقيه لغويّ أصوليّ ، وُلِد سَنَة 645 هـ ..
مِن مُصَنَّفاته : الكفاية في شَرْح التنبيه ، المطلب في شَرْح الوسيط ، حُكْم المكيال والميزان .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 710 هـ .
طبقات الشافعية الكبرى 9/24 - 26 والدُّرَر الكامنة 1/336 ، 337 والبدر الطّالع 1/115
(3) يُرَاجَع شَرْح الكوكب المنير 3/508
النقصان .
5- أنّ هناك نفراً مِنَ الأصوليّين مَنْ عَدّوا مفهوم العَدَد مِنْ قِسْم الصفات ، ولِذَا فإنّ حُكْمه يَكون تابعاً لِحُكْم مفهوم الصفة ، ومِنْ هؤلاء ابن السمعاني وابن السبكي رحمهم الله تعالى (1) .
(1) يُرَاجَع : قواطع الأدلَّة 2/42 وجَمْع الجوامع مع حاشية البناني 1/251 وشَرْح الكوكب المنير 3/509 وتيسير التحرير 1/100 والتقرير والتحبير 1/153 والبرهان 1/466
المطلب السادس
مفهوم الحصر
هذا المطلب يُمْكِن تقسيم الحديث فيه على النحو التالي :
1- تعريف الحصر .
2- تعريف مفهوم الحصر .
3- طُرُق الحصر جملةً .
4- النوع الأول : " إنَّمَا " .
5- النوع الثاني : الاستثناء المُثْبَت .
6- النوع الثالث : الاستثناء المنفي .
7- النوع الرابع : حَصْر المبتدأ في الخبر .
8- النوع الخامس : تقديم المعمول على العامل .
9- النوع السادس : العطف .
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها فيما يأتي ..
أوّلاً – تعريف الحصر :(1/167)
والحصر لغةً : مَصْدَر " حَصَر يَحْصُر " ، وهو ضَرْب مِنَ العيّ ، و" حَصَرَه يَحْصُره حصراً فهو محصور " وحصير وأحصره " كِلاهُمَا حَبَسه عن الفَرّ ، و" أَحْصَرَه المَرَض " مَنَعه مِنَ السفر (1) ..
ولِذَا كان الحصر لغةً : الحبس والمنع .
واصطلاحاً : تخصيص أمْر بآخَر بطريق مخصوص .
(1) يُرَاجَع : لسان العرب 4/193 والصحاح 2/63 ، 631 وأساس البلاغة /85
وقيل : إثبات الحُكْم لِلمذكور ونَفْيه عَمَّا عَدَاه (1) .
وقيل : أنْ يَكون الحُكْم المُوَطَّأ بالمحكوم عنه لا يشاركه فيه غَيْرُه (2) .
ويُمْكِن أنْ أُعَرِّفه بأنَّه : حَبْس الحُكْم على المذكور ومَنْع غَيْره مِنْ مشارَكته فيه .
والحصر عند البيانيّين : هو القصر ..
وفي ذلك يقول بهاء الدين السبكي (3) رحمه الله تعالى :" والقَصْر هو الحصر ، وهو تخصيص أمْر بآخَر بإحدى الطُّرُق الأربعة " (4) ا.هـ .
ثانياً – تعريف مفهوم الحصر :
ومفهوم الحصر هو : إثبات نقيض حُكْم المنطوق لِلمسكوت عنه بصيغة " إنَّمَا " ونَحْوها (5) .
ومِنْ هُنَا كان الحصر أحد أنواع مفهوم المخالَفة ؛ لأنّ الحُكْم فيه قاصِر على ما كان داخلاً في دائرة الحصر ، وهذا حملاً على المنطوق ، أمَّا ما كان خارِج الحصر ـ وهو المسكوت عنه ـ فإنّ حُكْمه يَكون مخالِفاً لِحُكْم المنطوق في الحصر .
(1) الإتقان في علوم القرآن 2/796 ويُرَاجَع الكليات /58
(2) يُرَاجَع بداية المجتهد 2/271
(3) بهاء الدين السبكي : هو أبو حامد أَحْمَد بن عَلِيّ بن عَبْد الكافي بن عَلِيّ السبكي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 719 هـ .
مِنْ مُصَنَّفَاتِه : عروس الأفراح في شَرْح تلخيص المفتاح ، شَرْح على مختصر ابن الحاجب .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمكّة المُكَرَّمَة سَنَة 773 هـ .
شذرات الذَّهَب 6/226 والفتح المبين 2/196
(4) عروس الأفراح 2/166
(5) يُرَاجَع إحكام الفصول /513
ثالثاً – طُرُق الحصر جملةً :(1/168)
لَقَدْ تَفَاوَت البيانيّون في حَصْر طُرُق الحصر ، لكنّ المشهور منها عندهم أربعة :
الأول : النفي والاستثناء .
الثاني : " إنَّمَا " .
الثالث : العطف .
الرابع : تقديم المعمول (1) .
وقَدْ حَصَرَهَا السيوطي (2) ـ رحمه الله ـ في أربعة عَشَر طريقاً (3) .
أمَّا الأصوليّون : فإنّهم تَفَاوَتوا ـ أيضاً ـ في حَصْر طُرُق الحصر أو أنواعه ..
فمنهم مَنْ حَصَرَهَا في واحد : كالباجي رحمه الله تعالى .
ومنهم مَنْ حَصَرَهَا في نَوْعَيْن : كابن الحاجب رحمه الله تعالى .
ومنهم مَنْ حَصَرَهَا في أربعة : كالقرافي والطوفي رحمهما الله ..
وهذه الأربعة هي : " إنَّمَا " ، والاستثناء المنفي ، وحَصْر المبتدأ في الخبر ، وتقديم المعمول .
والكثرة منهم فَصَّلوا القول في نَوْعَيْن فقط : " إنَّمَا " ، والاستثناء
(1) يُرَاجَع : مختصر التفتازاني 2/166 ومواهب الفتاح 2/186 ، 187 وعروس الأفراح 2/166 وجواهر البلاغة /146 ، 147 وبغية الإيضاح 2/9 - 13
(2) السيوطي : هو جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بَكْر بن مُحَمَّد بن سابق الدين السيوطي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 849 هـ ..
مِن مصنَّفاته : الإتقان في علوم القرآن ، الدُّرّ المنثور ، الأشباه والنظائر، الحاوي لِلفتاوى .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالقاهرة سَنَة 911 هـ .
الكواكب السائرة 1/226 والضوء اللامع 4/65
(3) يُرَاجَع الإتقان في علوم القرآن 2/797 – 803
المنفي (1) .
ومِمَّا تَقَدَّم يُمْكِن حَصْر أنواع الحصر في ستة :
النوع الأول : " إنَّمَا "
النوع الثاني : الاستثناء المُثْبَت .
النوع الثالث : النفي والاستثناء أو الاستثناء المنفي .
النوع الرابع : حَصْر المبتدأ في الخبر .
النوع الخامس: تقديم المعمولات على عواملها .
النوع السادس : العطف .
ونُفَصِّل القول في كُلّ نَوْع منها فيما يلي ..
رابعاً – النوع الأول : " إنَّمَا " :(1/169)
ومفهوم الحصر بـ" إنَّمَا " هو : إثبات الحُكْم في المذكور ونَفْيه عَمَّا عَدَاه (2) .
وقيل : هو نَفْي غَيْر المذكور في الكلام آخِراً (3) .
والأصل في " إنَّمَا " أنْ تَجِيء لأمْر مِنْ شأنه أنْ لا يَجْهَله المخاطَب ولا يُنْكِره ، وإنَّمَا يراد تنبيهه فقط ، أو لِمَا هو مُنْزَل هذه المنزلة ..
فمِنَ الأول : قوله تعالى { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُون } (4) ، وقوله تعالى { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَاب } (5) .
(1) يُرَاجَع : إحكام الفصول /513 ومختصر المنتهى 2/182 ، 183 وشَرْح تنقيح الفصول /57 وجَمْع الجوامع مع شَرْح المحلّي 1/251 ، 252 وشَرْح مختصر الروضة 2/734 – 754 والبحر المحيط 4/50 – 59
(2) يُرَاجَع شَرْح عمدة الأحكام 1/8
(3) يُرَاجَع شَرْح العضد 2/182
(4) سورة الأنعام مِنَ الآية 36
(5) سورة الرعد مِنَ الآية 40
ومِنَ الثاني : قوله تعالى حكايةً عن اليهود { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُون } (1) فَقَدِ ادَّعَوْا أنّ إصلاحهم أمْر جَلِيّ لا شكّ فيه (2) .
حُجِّيَّة الحصر بـ" إنَّمَا " :
اختلَف الأصوليّون في " إنَّمَا " : هلْ تفيد الحصر أيْ يَقْتَصِر الحُكْم على المذكور ويَنْتفِي عَنْ غَيْره أم لا ؟
لهم في ذلك مذهبان :
المذهب الأول : أنَّهَا لا تفيد الحصر .
وهو ما عليه الحنفيّة وبَعْض مُنْكِري المفهوم : كابن حَزْم والآمدي رحمهما الله تعالى .
واحْتَجّوا لِذلك بأدلَّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُم } (3) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة } (4) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ " إنَّمَا " في الآية الكريمة وَرَدَتْ لِلحصر ، ووَرَدَتْ في الحديث الشريف لِغَيْر الحصر ..(1/170)
وإذا كانت كذلك كانت حقيقةً في القَدْر المشترك بَيْن الصورتيْن ، وهو تأكيد إثبات الخبر لِلمبتدأ نفياً لِلتجوز والاشتراك (5) .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وأَرَى مُنَاقَشَة هذا الدليل : بأنّا لا نُسَلِّم أنَّهَا حقيقة في القَدْر المشترك
(1) سورة البقرة مِنَ الآية 11
(2) جواهر البلاغة /149
(3) سورة الكهف مِنَ الآية 10
(4) أَخْرَجه مُسْلِم في كِتَاب المساقاة : باب بَيْع الطعام مِثْلاً بمِثْل برقم ( 2991 ) والنسائي في كِتَاب البيوع : باب بَيْع الفضة بالذهب وبَيْع الذهب بالفضة برقم ( 4505 ) وابن ماجة في كِتَاب التجارات : باب مَنْ قال : لا رِبَا إلا في النسيئة برقم ( 2248 ) ، كُلّهم عَنْ أسامة بن زَيْد رضي الله عَنْهُمَا .
(5) يُرَاجَع الإحكام لِلآمدي 3/106 ، 107
كَمَا ادَّعيتم ، وإنَّمَا هي حقيقة في الحصر ، ولا يصار إلى غَيْره إلا بدليل وقد أثبتُّمْ ورودها لِغَيْر الحصر بدليل الإجماع ، ولِذَا كان الدليل خارِج محلّ نِزَاعِنَا (1) .
الدليل الثاني : أنّ " إنَّمَا " مُرَكَّبَة مِنْ " إنّ " و" ما " ، وحيث " إنّ " لِلتوكيد و" ما " زائدة كافّة فإنَّهَا لا تَدُلّ على نَفْي ، تماماً كَمَا لو قال " إنَّمَا النَّبِيّ مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - " ، وإذا انْتَفَى النفي عَنْ " ما " كانت " إنَّمَا " حينئذٍ لا تفيد الحصر .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ نوقش هذا الدليل مِنْ وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّا لا نُسَلِّم أنّ " ما " زائدة كافّة ، وإنَّمَا هي لِلنفي ، فتَكون " إنَّمَا " موضوعةً لِلحصر والإثبات ؛ لأنَّهَا مُرَكَّبَة مِنْ حَرْف نَفْي " ما " وإثبات " إنّ " ..
ولِذلك لا تُسْتَعْمَل في مَوْضِع لا يَحْسُن فيه النفي والاستثناء : كقوله تعالى { إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَحِد } (2) وقوله تعالى { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَؤا } (3) .(1/171)
الوجه الثاني : أنّ قولكم " إنَّمَا النَّبِيّ مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - " اختراع على اللغة لَمْ يُسْمَعْ ولَمْ يَقُلْ به أحد قَبْلَكُمْ (4) .
الدليل الثالث : قوله - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَلِمَنْ وَهَب } (5) ..
(1) يُرَاجَع حاشية السعد 2/183
(2) سورة النساء مِنَ الآية 171
(3) سورة فاطر مِنَ الآية 28
(4) يُرَاجَع : التمهيد لِلكلوذاني 2/225 وروضة الناظر 2/788 ، 789
(5) أَخْرَجه البخاري في كِتَاب الزكاة : باب الصدقة على مَوَالِي أزواج النَّبِيّ برقم ( 1398 ) ومُسْلِم في كِتَاب العِتْق : باب إنَّمَا الولاء لِمَنْ أَعْتَق برقم ( 2761 ) والترمذي في كِتَاب الوصايا عَنْ رسول الله : باب ما جاء في الرَّجُل يَتصدق أو يُعتِق عِنْد الموت برقم ( 250 ) ، كُلّهم عَنِ السَّيِّدَة عائشة =
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه أنّ الولاء لِلمُعْتِق ولِلواهب ، ولو كانت " إنَّمَا " تَنْفِي الولاء عَنْ غَيْر المُعْتِق لَمَا جاز أنْ يَتَّصِل بها إثبات الولاء لِغَيْر المُعْتِق ، فدَلّ ذلك على أنّ " إنَّمَا " لا تفيد الحصر .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ نوقش هذا الدليل مِنْ وَجْهَيْن :
الوجه الأول : أنَّه لو قال " لا ولاء إلا لِزَيْد " لَكان ذلك نفياً لِلولاء لِغَيْره بالإجماع ، ثُمّ يجوز مع ذلك أنْ يَقول " لا ولاء إلا لِزَيْد وعمرو " ، ولا يخرج بذلك قولك " لا ولاء إلا لِزَيْد " عَنْ أنْ يَنْفِي به الولاء عَنْ غَيْر زَيْد ، وحينئذٍ يَكون دليلاً مردوداً وباطلاً (1) .(1/172)
الوجه الثاني ( لِلباحث ) : أنّ إثبات الولاء لِغَيْر المُعْتِق ( الواهب ) لَيْس لأنّ " إنَّمَا " لا تفيد الحصر كَمَا ادَّعيتم ، وإنَّمَا هو تأكيد لإفادتها الحصر ؛ لأنّ الواهب قَدْ عُطِف على المعتِق الذي هو محصور بـ" إنَّمَا " ، فكذلك الواهب يأخذ حُكْمَه ، وحينئذٍ يَكون المحصور متعدِّداً ، ولا مانِع مِنْ ذلك ؛ لأنّ الحُكْم يَنْتَفِي عَنْ غَيْر المحصور فرداً كان أم متعدِّداً .
المذهب الثاني : أنَّهَا تفيد الحصر فيَدُلّ على نَفْي الحُكْم عَنْ غَيْر المنصوص عليه .
وهو ما عليه الجمهور ، واختاره الشيرازي والكلوذاني والباجي وابن قدامة والغزالي والفخر الرازي وابن حَجَر والجصّاص ( مِنَ الحنفيّة ) والسبكي والزركشي رحمهم الله تعالى .
واخْتَلَفوا : هلْ تفيد الحصر بالمنطوق أم بالمفهوم أم بالوضع أم بالعرف ؟ أم تفيده بالحقيقة أم بالمَجاز ؟
= رضي الله عَنْهَا ، ولَمْ أَجِدْ زيادة { وَلِمَنْ وَهَب } فيما تَوَافَر لَدَيّ مِنْ كُتُب السُّنَّة .
(1) يُرَاجَع إحكام الفصول /511
فالجمهور على أنَّهَا تفيده بالمنطوق (1) .
واحْتَجّوا لِذلك بأدلَّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّات } (2) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه وجوب النِّيَّة في كُلّ عبادة ، ودَلّ مفهومه المخالِف على أنَّه إذا لَمْ تُوجَد النِّيَّة انتفت العبادة بانتفائها ، وهذا حُكْم مَبْنِيّ على مفهوم الحصر ، فدَلّ ذلك على أنّ مفهوم الحصر حُجَّة ، وهو المُدَّعَى (3) .
الدليل الثاني : أنّ لفظة " إنَّمَا " لا تُسْتَعْمَل إلا لإثبات المنطوق به ونَفْي ما عَدَاه ؛ ألاَ تَرَى أنَّه لا فَرْق بَيْن أنْ يقول " إنَّمَا الله واحِد " وبَيْن أنْ يقول " لا إله إلا واحِد " ، فدَلّ ذلك على أنَّه يَتَضَمَّن النفي والإثبات ، فيَكون مفهومه حُجَّةً (4) .(1/173)
والأَوْلَى بالقبول : المذهب الثاني القائل بأنّ " إنَّمَا " تفيد الحصر ؛ وذلك لِقُوّة أدلّته وسلامتها مِنَ المناقَشة والاعتراض .
(1) يُرَاجَع : اللُّمَع /46 والتمهيد لِلكلوذاني 2/224 وإحكام الفصول /511 وروضة الناظر 2/787 789 والمستصفى /271 والمحصول 1/168 وفَتْح الباري 1/12 والفصول 1/322 ، 323 والبحر المحيط 4/51 وجَمْع الجوامع 1/251 وشَرْح تنقيح الفصول /57 ونَيْل الأوطار 1/163 وإرشاد الفحول /182 والقواعد والفوائد الأصوليّة /129
(2) أَخْرَجه البخاري في كتاب بَدْء الوحي : باب بَدْء الوحي برقم ( 1 ) وأبو داود في كتاب الطلاق : باب فيما عني به الطلاق والنِّيّات برقم ( 1882 ) وابن ماجة في كتاب الزهد : باب النِّيَّة برقم ( 4217 ) ، كُلّهم عن عُمَر بن الخطّاب - رضي الله عنه - .
(3) يُرَاجَع : اللُّمَع /46 والتمهيد لِلكلوذاني 2/224 وإحكام الفصول /511 وروضة الناظر 2/787 789 والمستصفى /271 والمحصول 1/168 والعُدّة 1/205 ، 206 والفصول 1/322 ، 323 والبحر المحيط 4/51 وجَمْع الجوامع 1/251 وشَرْح تنقيح الفصول /57 وإرشاد الفحول /182
(4) اللُّمَع /46 بتصرف ويُرَاجَع المحصول 1/169
وأدعم ترجيحي : بقول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - في ذلك :" { إِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَق } (1) تثبيت أمْرَيْن : أنّ الولاء لِلمعتِق بأكيد ، ونَفْي أنَّه لا يَكون إلا لِمَنْ أَعْتَق " (2) ا.هـ .
وقول ابن حَجَر رحمه الله تعالى :" { إِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَق } ويستفاد منه أنّ كلمة " إنَّمَا " تفيد الحصر ؛ وإلا لَمَا لَزم مِنْ إثبات الولاء لِلمعتِق نَفْيُه عَنْ غَيْرِه ، وهو الذي أريدَ مِنَ الخبر ، ويؤخَذ منه أنَّه لا ولاء لِلإنسان على أحد بِغَيْر العتق " (3) ا.هـ .(1/174)
وإذا ثَبَت أنّ " إنَّمَا " تفيد الحصر فتارةً تقتضي الحصر المُطْلَق ـ كَمَا ذَكَر ابن دقيق العيد (4) رحمه الله تعالى ـ وتارةً حصراً مخصوصاً ، ويُفْهَم ذلك بالقرائن والسياق : كقوله عَزّ وجَلّ { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِر } (5) ؛ فظاهِر ذلك حَصْرُه - صلى الله عليه وسلم - في النذارة ، وهو لا يَنحصر في ذلك ، بلْ له - صلى الله عليه وسلم - أوصاف جميلة كثيرة : كالبشارة وغَيْرها ، ولكنّ مفهوم الكلام يَقْتَضِي حَصْرَه في النذارة لِمَنْ لا يُؤْمِن " (6) .
(1) سَبَق تخريجه .
(2) الأُمّ 4/127 ويُرَاجَع : أحكام القرآن 2/164 ، 165 والبحر المحيط 4/50
(3) فَتْح الباري 9/406
(4) تقيّ الدين بن دقيق العيد : هو أبو الفتح مُحَمَّد بن علِيّ بن وهْب بن مطيع القشيري المنفلوطي المصري ، القوصي المنشأ ، المالكي ثُمّ الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 625 هـ ، فقيه أصوليّ نحويّ ، وُلِّي قضاء الديار المصرية ..
مِن مصنَّفاته : الإلمام في أحاديث الأحكام ، شَرْح كتاب العمدة في الأحكام ، شَرْح الأربعين النووية .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 702 هـ .
البداية والنهاية 14/27 والدُّرَر الكامنة 4/91 والفتح المُبِين 2/102
(5) سورة الرعد مِنَ الآية 7
(6) شَرْح عمدة الأحكام 1/8
وإفادة " إنَّمَا " لِلحصر فيه دلالة على أنَّهَا أحد أنواع مفهوم المخالَفة مِنْ جهة أنَّا نُثْبِت الحُكْم لِلمذكور بالمنطوق ونَنْفِيه عَنْ غَيْره بالمفهوم ..
فإذا قُلْنَا " إنَّمَا زَيْد قائم " كان إثبات القيام لِزَيْد منطوقاً ، ونَفْيُه عَنْ غَيْره مفهوم (1) ..
وهذا هو محلّ بَحْثِنَا ودراستنا .
خامساً - النوع الثاني : الاستثناء المُثْبت :(1/175)
إنّ الأصوليّين الذين وَقَفْتُ على مَراجعهم في هذا البحث لَمْ يتعرَّضوا لِلاستثناء المُثْبت ، وإنَّمَا اقْتَصَروا على بيان حُكْم الاستثناء المنفي ، إلا قِلّة مِمَّنْ أشاروا إلى ذلك : كالإسنوي ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" " إلا " تَدُلّ على الحصر قَطْعاً " (2) .
أمَّا البيانيّون : فإنّهم اخْتَلَفوا في إفادة الاستثناء المُثْبت الحصرَ ..
فالكثرة منهم لا يَعُدّونه مِنْ طُرُق أو أدوات الحصر .
وفي ذلك يقول أبو يعقوب المغربي رحمه الله تعالى :" ولَمْ يَقُلْ " الاستثناء " ؛ لأنّ الاستثناء مِن الإثبات : كقولك " جاء القوم إلا زَيْداً " لَيْس مِنْ طُرق القَصْر ؛ إذ الغرض منه الإثبات ، والاستثناء قَيْد ، فكأنَّك قُلْتَ " جاء القوم المغايِرون لِزَيْد " ، ولو كان مِنْ طُرُقه لَكان ـ أيضاً ـ مِنْ طُرُقه نَحْو قولك : جاء الناس الصالحون " (3) ا.هـ .
ومنهم مَنْ عَدَّه مِنْ طُرُق الحصر ..
(1) يُرَاجَع عروس الأفراح 2/204 ، 205
(2) الكوكب الدري /309 والتمهيد لِلإسنوي /218
(3) مواهب الفتّاح 2/191 ويُرَاجَع حاشية الدسوقي على شَرْح السعد 1/191
منهم : بهاء الدين السبكي ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" والاستثناء قَصْر ، سواء كان مع النفي أم الإيجاب : كقولك " قام الناس إلا زَيْداً " ؛ فإنَّك قَصَرْتَ عدم القيام على زَيْد ، لا يقال : لو قَصْرْتَ عدم القيام على زَيْد لَكان في قولك " قام الناس إلا زيداً " نَفْي لِقِيَام غَيْر الناس ؛ لأنَّا نَقول : هو قَصْر لِعدم القيام بالنسبة إلى غَيْر زَيْد ، فقولهم " مِنْ طُرُق الحصر النفي والاستثناء " لا يَظْهَر فيه مناسَبة لِلتعرض لِلنفي " (1) ا.هـ .
وإنِّي أَتَّفِق مع القائلين بإفادة الاستثناء مُطْلَقاً ـ مُثْبتاً كان أم منفيّاً ـ الحصرَ ؛ لأنّ فيه إثبات ونَفْي ..(1/176)
فقولنا " حَضَر القوم إلا زَيْداً " فَقَدْ أَثْبَتْنَا الحضور لِلقوم ونَفَيْنَاه عَنْ زَيْد ومِنْ هُنَا كان الاستثناء فيه إثبات لِلمذكور ونَفْي لِغَيْر المذكور ، وهو مَعْنَى الحصر ، لكنَّه يفيد الحصر بمنطوقه حينئذٍ .
ومِمَّا تَقَدَّم ـ وعلى الراجح عندي ـ يَكون الخِلاَف الوارد عند الأصوليّين في الاستثناء المنفي هو ذاته الوارد في الاستثناء المُثْبت ؛ لأنّ كلاهما حَصْر لِلمستثنى ، والذي سيأتي تفصيل القول في حُجِّيَّته فيما يأتي بإذن الله تعالى .
سادساً – النوع الثالث : الاستثناء المنفي :
تعريف الاستثناء :
والاستثناء هو : الإخراج تحقيقاً أو تقديراً بـ" إلا " أو ما في مَعْنَاهَا (2) .
أمثلة الاستثناء المنفي :
الأول : قولنا : لا إله إلا الله .
(1) عروس الأفراح 1/191 - 193
(2) الكوكب الدري /365
الثاني : قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ صَلاَةَ إِلاَّ بِطُهُور } (1) .
الثالث : قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْل } (2) (3) .
الرابع : قولنا : لا عالِم في البلد إلا زَيْد .
والأصل في الاستثناء المنفي أنْ يجيء لأمْر يُنْكِره المخاطَب أو يَشُكّ فيه ، أو لِمَا هو مُنْزَل هذه المنزلة ، ومِنَ الأخير قوله تعالى { وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ إِنْ أَنتَ إِلا نَذِير } (4) .
حُجِّيَّة الاستثناء المنفي :
اختلَف الأصوليّون في الاستثناء المنفي : هلْ يفيد الحصر أم لا ؟
لهم في ذلك مذهبان :
المذهب الأول : أنَّه لا يفيد الحصر .
وهو ما عليه الحنفيّة ومُنْكِرو المفهوم .
واحْتَجّوا لِذلك بأدلَّة ، أَذْكُر منها ما يلي :(1/177)
الدليل الأول : أنّ هذه الصيغة ليست مِنْ قَبِيل المفهوم ، وإنَّمَا فيها نُطْق بالمستثنى وسكوت عن المستثنى منه ، فما خرج بقول " إلا " فمَعْنَاه أنّه لَمْ يَدْخُلْ في الكلام ، فصار الكلام مقصوراً على الباقي ، والمستثنى غَيْر مُتَعَرَّض له بنَفْي ولا إثبات .
(1) أَخْرَجه مُسْلِم في كِتَاب الطهارة : باب وجوب الطهارة لِلصلاة برقم ( 329 ) والترمذي في كِتَاب الطهارة عَنْ رسول الله : باب ما جاء لا تُقْبَل صلاة بِغَيْر طهور برقم ( 1 ) وابن ماجة في كِتَاب الطهارة وسُنَنِهَا : باب لا يَقْبَل الله صلاةً بِغَيْر طهور برقم ( 268 ) ، كُلّهم عَنِ ابن عُمَر رضي الله عَنْهُمَا .
(2) أَخْرَجه ابن حبّان 9/386 والبيهقي في سُنَنِه الكُبْرَى 7/125 والطبراني في الأوسط 9/117 ، كُلّهم عَنِ ابن عبّاس رضي الله عَنْهُمَا .
(3) يُرَاجَع : المستصفى /272 والبحر المحيط 4/50 وروضة الناظر 2/786 وإرشاد الفحول /182
(4) جواهر البلاغة /149
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ نوقش هذا الدليل : بأنَّا لا نُسَلِّم أنّ المستثنى لا تَعَرُّض له بنَفْي ولا إثبات ، وإنَّمَا الإثبات ثابِت له ؛ لأنَّه استثناء مِنَ النفي ، والقاعدة أنّ الاستثناء مِنَ النفي إثبات (1) .
الدليل الثاني : قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيّ } { لاَ صَلاَةَ إِلاَّ بِطُهُور } ..
وَجْه الدّلالة فيهما : أنّ منطوقهما أفاد عدم صحَّة النكاح والصلاة إلا بِوَلِيّ وطهارة ، ولا يَلْزَم منهما تَحَقُّق النكاح عند حضور الولي ولا تَحَقُّق الصلاة عند حضور الوضوء عملاً بالمفهوم ، وحيث إنَّهما لَمْ يَلْزَمَا فَدَلّ ذلك على أنّ مفهوم الاستثناء لَيْس حُجَّةً (2) .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :(1/178)
وقَدْ نوقش هذا الدليل : بأنّ الحديثيْن فيهما صيغة شَرْط ، فيَنْتَفِي المشروط ( النكاح والصلاة ) بانتفاء الشَّرْط ( الولي والطهارة ) ، ولا يَلْزَم مِنْ وجوده وجود أحدهما ؛ فَقَدْ يَحْضُر الولي ولا يوجَد نكاح وتوجَد الطهارة ولا تُشرع الصلاة لِفوات شَرْط آخَر (3) .
المذهب الثاني : أنّ مفهوم الاستثناء حُجَّة .
وهو ما عليه الجمهور وأَكْثَر مُنْكِري المفهوم ، منهم الآمدي ، واختاره الغزالي والفخر الرازي وابن قدامة والفتوحي وابن السبكي والزركشي رحمهم الله تعالى (4) .
(1) يُرَاجَع : البحر المحيط 4/50 ، 51 وشَرْح مختصر الروضة 2/734 ، 735 وإحكام الفصول /510 وروضة الناظر 2/786 ، 787 وجَمْع الجوامع 1/251
(2) يُرَاجَع المحصول 1/412
(3) يُرَاجَع المَرَاجع السابقة وشَرْح مختصر الروضة 2/837 ، 838
(4) يُرَاجَع : المستصفى /272 والمحصول 1/411 وروضة الناظر 2/786 وشَرْح الكوكب المنير 3/520 وجَمْع الجوامع مع شَرْح المحلّي 1/251 والبحر المحيط 4/50
واحْتَجّوا لِذلك : بأنَّه لو لَمْ يَكُن الاستثناء في النفي إثباتاً لَمَا كان قولنا " لا إله إلا الله " مُوجِباً ثبوتَ الإلهيَّة لِلَّه جَلّ وعَلاَ ، وإنَّمَا كان مَعْنَاه نَفْي الإلهيَّة عَنْ غَيْره ، وأمَّا ثبوت الإلهيَّة له فلا ، ولو كان كذلك لَمَا تَمّ الإسلام ، ولَمَّا كان ذلك باطلاً عَلِمْنَا أنَّه يفيد الإثبات ، فدَلّ ذلك على أنّ مفهوم الاستثناء حُجَّة ، وهو المُدَّعَى (1) .
ومِمَّا تَقَدَّم أَرَى أنّ الأَوْلَى بالقبول والترجيح هو : ما عليه الجمهور أصحاب المذهب الثاني القائل بِحُجِّيَّة مفهوم الاستثناء .(1/179)
وأؤيِد ترجيحي بقول أحد مُنْكِري المفهوم ، وهو الآمدي ـ رحمه الله ـ في قوله :" والحقّ إنَّمَا هو المذهب الجمهوري ، ودليله ما بَيَّنّاه فيما تَقَدَّم مِنْ أنّ الاستثناء مِنَ النفي إثبات ، وأنّ قول القائل " لا إله إلا الله " نافٍ لِلإلهيَّة عَنْ غَيْر الله تعالى ومُثْبِت لِصفة الألوهيَّة لِلَّه تعالى " (2) ا.هـ .
سابعاً – النوع الرابع : حَصْر المبتدأ في الخبر :
صُوَر حَصْر المبتدأ في الخبر :
لَقَدْ ذَهَبَتِ الكثرة مِنَ الأصوليّين إلى حَصْر صُوَر حَصْر المبتدأ في الخبر في صورتيْن :
الأولى : تقديم الخبر المقترِن بلام ليست لِلعهد .
الثانية : أنْ يَكون الخبر مضافاً (3) .
لَكِنّ الزركشي والفتوحي والقرافي ـ رحمهم الله تعالى ـ أَوْرَد كُلّ واحد
(1) يُرَاجَع المحصول 1/411 ، 412
(2) الإحكام 3/108 ، 109
(3) يُرَاجَع : المستصفى /272 والبرهان 1/478 – 481 والمسوَّدة /363 وتيسير التحرير 1/102 والإحكام لِلآمدي 3/107 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/183 وإرشاد الفحول /182 ، 183 وشَرْح طلعة الشمس 1/264
منهم بَعْض الصُّوَر التي رَأَيْتُ مِنَ الأفضل إدراجها تَحْت هذا النوع ..
وكان أَكْثَرُهم في ذلك الزركشي ـ رحمه الله تعالى ـ حينما أَوْرَد ثلاث صُوَر :
الأولى : اقتران المبتدأ باللام الجنسيَّة .
الثانية : إفادة ضمير الفصل بَيْن المبتدأ والخبر الحصرَ .
الثالثة : إفادة لام التعريف في الخبر الحصرَ (1) .
كَمَا أَوْرَد القرافي ـ رحمه الله تعالى ـ صوراً ثلاث :
الأولى : أنْ يَكون الخبر نكرةً .
الثانية : أنْ يَكون الخبر مُعَرَّفاً بلام التعريف ، ونَسَبَها إلى الفخر الرازي رحمه الله تعالى .
الثالثة : الصفة في الصفة (2) .
كَمَا أَوْرَد الفتوحي ـ رحمه الله تعالى ـ ثلاث صُوَر :
الأولى : فَصْل المبتدأ مِنَ الخبر بضمير الفصل .
الثانية : أنْ يَكون الخبر نكرةً .
الثالثة : النفي (3) .(1/180)
ومِمَّا تَقَدَّم يُمْكِن حَصْر صُوَر حَصْر المبتدأ في الخبر في ثماني صُوَر :
الصورة الأولى : تقديم الخبر ـ المقترِن بلام ليست لِلعهد ـ على المبتدأ .
مثاله : قولنا " العالِم زَيْد " أو " القائم عَمْرو " .
الصورة الثانية : أنْ يَكون الخبر مضافاً .
(1) يُرَاجَع البحر المحيط 4/52 – 59
(2) يُرَاجَع شَرْح تنقيح الفصول /58 - 60
(3) يُرَاجَع شَرْح الكوكب المنير 3/519 – 521
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيم } (1) ، وقولنا " صديقي زَيْد " .
الصورة الثالثة : فَصْل المبتدأ مِن الخبر بضمير الفصل .
مثاله : قوله تعالى { فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِىّ } (2) ، وقوله تعالى { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَلِبُون } (3) .
الصورة الرابعة : أنْ يَكون الخبر مُعَرَّفاً بلام التعريف .
مثاله : قولنا " زَيْد المُنْطَلِق " أو " زَيْد المتحدِّث في هذه القضيَّة " .
والصورة الأولى ذَكَرَهَا الزركشي ـ رحمه الله تعالى ـ تَحْت عنوان ( اقتران الخبر باللاّم ) في قوله :" الثالثة : حَصْر المبتدأ في الخبر ، سواء كان الخبر مقروناً باللاّم ، نَحْو : العالِم زَيْد " (4) ا.هـ .
ثُمّ أَتَى بَعْد ذلك في مسألة لام التعريف في الخبر فقال :" لام التعريف في الخبر ، نَحْو : " زَيْد المُنْطَلِق " ، وهو مُقْتَضَى حَصْر الخبر في المبتدأ عَكْس الحصر في المبتدأ " (5) ا.هـ .
ولِذَا كان الفَرْق واضحاً بَيْن الصورتيْن أو المثاليْن " العالِم زَيْد " و" زَيْد المُنْطَلِق " ؛ فالأولى فيها حَصْر لِلمبتدأ في الخبر ، والثانية فيها حَصْر لِلخبر في المبتدأ .
الصورة الخامسة : حَصْر الصفة في الموصوف .(1/181)
(1) أَخْرَجه الترمذي في كِتَاب الطهارة عَنْ رسول الله : باب ما جاء أنّ مفتاح الصلاة الطهور برقم ( 3 ) وأبو داود في كِتَاب الطهارة : باب فَرْض الوضوء برقم ( 56 ) وابن ماجة في كِتَاب الطهارة وسُنَنِهَا : باب مفتاح الصلاة الطهور برقم ( 271 ) ، كُلّهم عَنْ عَلِيّ كَرَّم الله وَجْهَه .
(2) سورة الشورى مِنَ الآية 9
(3) سورة الصافات الآية 173
(4) البحر المحيط 4/52
(5) البحر المحيط 4/59 بتصرف .
مثاله : قولنا : النزاهة في القناعة ، والدِّين الوَرَع ، والبِشْر حُسْن الخُلُق ؟
الصورة السادسة : أنْ يَكون الخبر نكرةً .
مثاله : قولنا " زَيْد قائم " (1) .
الصورة السابعة : اقتران المبتدأ باللاّم الجنسيَّة .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { الْخَرَاجُ بِالضَّمَان } (2) (3) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَر } (4) .
الصورة الثامنة : النفي .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ صِيَامَ إِلاَّ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْل } (5) (6) .
أنواع حَصْر المبتدأ في الخبر :
ومِمَّا تَقَدَّم نَرَى أنّ حَصْر المبتدأ في الخبر يَنْقَسِم إلى نَوْعَيْن :
النوع الأول : حَصْر المبتدأ في الخبر .
وهو الغالب ، ويَنْدَرِج تَحْتَه جميع الصُّوَر المتقدِّمة عَدَا الصورتيْن
(1) يُرَاجَع شَرْح تنقيح الفصول /60 ، 61
(2) أَخرَجه الترمذي في كتاب البيوع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : باب ما جاء فيمَن يشتري العبدَ ويَستغِلّه ثُمّ يَجِد به عيباً برقم ( 1206 ) والنسائي في كتاب البيوع : باب الخراج بالضمان برقم ( 4414 ) كلاهما عن السيدة عائشة رضي الله عنها .
(3) يُرَاجَع البحر المحيط 4/55(1/182)
(4) أَخْرَجه الترمذي في كِتَاب البيوع عَنْ رسول الله : باب ما جاء فيمَنْ يَشْتَرِي العبد ويَسْتَغِلّه ثُمّ يَجِد به عيباً برقم ( 1206 ) والنسائي في كِتَاب البيوع : باب الخراج بالضمان برقم ( 1414 ) وأبو داود في كِتَاب البيوع : باب فيمَنْ يَشْتَرِي عبداً فاسْتَعْمَلَه ثُمّ وَجَد به عيباً برقم ( 3044 ) ، كُلّهم عَنِ السَّيِّدَة عائشة رضي الله عَنْهَا .
(5) أَخْرَجه النسائي في كِتَاب الصيام : باب ذِكْر اختلاف الناقلين لِخَبَر حفصة برقم ( 2291 ) والدارمي في كِتَاب الصوم : باب مَنْ لَمْ يُجْمِع الصيامَ مِنَ الليل برقم ( 1636 ) ، كِلاَهُمَا عَنِ السَّيِّدَة حفصة رضي الله عَنْهَا .
(6) يُرَاجَع شَرْح الكوكب المنير 3/520
الأولى والثانية .
النوع الثاني : حَصْر الخبر في المبتدأ .
وهو الأقلّ ، وهو قاصِر على الصورتيْن الأولى والثانية (1) .
ولِذَا كان تعبير الأصوليّين في هذه المسألة بـ( حَصْر المبتدأ في الخبر ) رجوعاً إلى الغالب والأكثر .
أصْل النزاع في حَصْر المبتدأ في الخبر :
وأصْل النزاع في هذه المسألة كَمَا ذَكَره الطوفي رحمه الله :" هو لام التعريف : فمَنْ قال " لِلاستغراق " قال : إنّ ذلك يفيد الحصر والعموم ، ومَنْ قال " إنَّهَا ليست لِلاستغراق " لَمْ يُفِدْ ذلك عنده الحصر " (2) ا.هـ .
شَرْط النزاع في حَصْر المبتدأ في الخبر :
وشَرْط النزاع في حَصْر المبتدأ في الخبر : أنْ لا يقع جواباً لِسؤال : كَمَا في قوله - صلى الله عليه وسلم - { الطَّهُورُ مَاؤُه ... } (3) ؛ فتعريف الطّهور باللاّم الجنسيّة المفيدة لِلحصر لا يَنْفِي طهوريَّة غَيْره مِنَ المياه ؛ لِوقوع ذلك جواباً لِسؤال مَنْ شَكّ في طهوريّة ماء البحر (4) .
حُجِّيَّة حَصْر المبتدأ في الخبر :
اختلَف الأصوليّون في حُجِّيَّة حَصْر المبتدأ في الخبر على مذْهبيْن :
المذهب الأول : أنَّه حُجَّة ، فيَدُلّ على الحصر .(1/183)
وهو ما عليه الجمهور ، واختاره الغزالي وابن قدامة وابن تيمية وإمام
(1) يُرَاجَع : شَرْح تنقيح الفصول /61 والبحر المحيط 4/59
(2) شَرْح مختصر الروضة 2/750 ، 751
(3) أَخْرَجه الترمذي في كتاب الطهارة عن رسول الله : باب ما جاء في ماء البحر أنّه طهور برقم ( 3 ) والنسائي في كتاب الطهارة : باب ماء البحر برقم ( 59 ) وأبو داود في كتاب الطهارة : باب الوضوء بماء البحر برقم ( 76 ) ، كُلّهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(4) يُرَاجَع نَيْل الأوطار 1/20
الحرميْن والقرافي والزركشي وابن السبكي رحمهم الله تعالى .
وهؤلاء اختلَفوا : هلْ أفاد الحصر بالمنطوق أم بالمفهوم ؟
فمنهم مَنْ قال بالأول ، ومنهم مَنْ قال بالثاني (1) .
واحْتَجّوا لِذلك : بأنّ المبتدأ يجوز أنْ يَكون أَخَصّ مِنَ الخبر أو مُساوِياً ويَمْتَنِع أنْ يَكون أَعَمّ لغةً وعقلاً ، فلا يجوز أنْ نقول : الحيوان إنسان ..
والمُساوِي يجب أنْ يَكون محصوراً في مُساويه ، والأخصّ محصوراً في أَعَمِّه ؛ وإلا لَمْ يَكُنْ أَخَصَّ ولا مُساوِياً .
فَدَلّ ذلك على أنّ حَصْر المبتدأ في الخبر حُجَّة ، وهو المُدَّعَى (2) .
المذهب الثاني : أنَّه لَيْس حُجَّةً ، فلا يَدُلّ على الحصر .
وهو ما عليه الحنفيّة والقاضي أبو بَكْر ـ رحمه الله تعالى ـ وجماعة مِنَ المتكلِّمين ، واختاره الآمدي رحمه الله تعالى (3) .
واسْتَثْنَى الحنفيَّةُ الحصرَ المستفادَ باللاّم الاستغراقيّة المفيدة لِلعموم والجزء الآخر الأخصّ : كـ" العالِم والرَّجُل زَيْد " تَقَدَّم أو تأخَّر؛ فهذا يَدُلّ على أنّ الحصر مفهوماً لا منطوقاً مِمَّا لا يَنْبَغِي أنْ يَقَع فيه خِلاَف ؛ لِلقَطْع بأنَّه لا نُطْق بالنفي أصلاً .(1/184)
أمَّا إذا كان الحصر مستفاداً مِنَ الإضافة : نَحْو " صديقي زَيْد " فإنَّه إنْ أَخَّر نَحْو " زَيْد صديقي " فإنَّه لا يفيد الحصر ؛ لانتفاء عمومه ، ويَنْدَرِج عندهم ـ حينئذٍ ـ في بيان الضرورة .
(1) يُرَاجَع : المستصفى /271 والبرهان 1/478 – 480 والمسوَّدة /362 وروضة الناظر 2/789 وشَرْح تنقيح الفصول /58 والبحر المحيط 4/52 وجَمْع الجوامع 1/252 وشَرْح مختصر الروضة 2/750 وشَرْح الكوكب المنير 3/518 ، 519 وشَرْح طلعة الشمس 1/264 وإرشاد الفحول /182
(2) يُرَاجَع : المستصفى /271 ، 272 وشَرْح تنقيح الفصول /58 وحاشية ابن القيّم 1/59
(3) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 3/107 وتيسير التحرير 1/134
واسْتَدَلّوا لِذلك : بأنّ الحصر المذكور مُرَكَّب مِنْ جزْأيْن : إثبات ونَفْي ..
واللفظ ناطِق بالأول فقط ، فيثبت الجنس ( الصداقة ) برُمّته لِواحد بحيث لا يوجَد في غَيْره .
والثاني وهو النفي عن الغَيْر : فإنَّه يثبت لِضرورة اتحاد الجنس بجملته معه ، فالدّالّ عليه أمْر معنويّ ومسكوت عنه ، وهو غَيْر ظاهِر .
وإذا كان كذلك .. كان حَصْر المبتدأ في الخبر لَيْس مأخوذاً مِنْ مفهوم اللفظ ، بلْ مِنْ منطوقه ، ومندرِجاً في بيان الضرورة (1) .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وأَرَى مُنَاقَشَة هذا الدليل : بأنَّكم سَلَّمْتُمْ في تقديم الوصف ـ كـ" العالِم زَيْد " ـ بالحصر وأنّ هذا الحصر مَرْجِعُه إلى المفهوم ؛ إذ لا نُطْق بالنفي أصلاً ، وهُنَا " زَيْد صديقي " أرجعتم الحصر إلى بيان الضرورة التي بها يَنْتَفِي الوصف عَنْ غَيْره .
وأراها تفرقةً بِغَيْر مُفَرِّق مقبول ؛ لأنّ الضرورة التي ادَّعيتم بيانها ـ وهي النفي عن الغَيْر ـ هي ذاتها التي قُلْتُمْ : إنَّه لا يَنْبَغِي أنْ يُخْتَلَف في أنَّها مأخوذة مِنَ المنطوق وإنَّمَا مِنَ المفهوم .(1/185)
والراجح عندي : ما عليه أصحاب المذهب الأول القائل بِحُجِّيَّة حَصْر المبتدأ في الخبر ؛ لِقوَّة حُجَّته وسلامة أدلّته مِنَ المناقَشَة والاعتراض ، ولِضَعْف أدلَّة المذهب الثاني المُنْكِر لِحُجِّيَّته .
وأَسْتَنِد في ذلك إلى قول أحد المُنْكِرين لِدلالته على الحصر ، وهو الآمدي رحمه الله تعالى :" وكذلك الحُكْم في قوله " العالِم زَيْد " أو " صديقي زَيْد " لَيْس عامّاً في كُلّ صديق ، بلْ كأنَّه قال : بَعْض
(1) يُرَاجَع : التيسير مع التحرير 1/134 ، 135 والتقرير والتحبير 1/156
أصدقائي زَيْد ، حتّى إنَّه لو ثَبَت أنّ الألِف واللاّم إذا دَخَلَتْ على اسم الجنس تَكون عامّةً وكان المتكلِّم مريداً لِلتعميم فإنَّه يَكون كاذباً بتقدير ظهور عالِم آخَر وصَدِيق آخَر له ، وكان قوله دالاًّ على الحصر لا محالة " (1) ا.هـ .
ثامناً – النوع الخامس : تقديم المعمول على العامل :
والمعمول هُنَا يَشْمَل المفعول والحال والظرف والخبر بالنسبة لِلمبتدأ ، وقَدْ تَقَدَّم في صُوَر حَصْر المبتدأ في الخبر .
مثاله : قوله تعالى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين } (2) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه حَصْر العبادة والاستعانة في الله تعالى ، ودَلّ مفهومه المخالِف أنّ غَيْر الله تعالى لا يَسْتَحِقّ العبادة والاستعانة المُطْلَقَة ، فدَلّ ذلك على أنّ تقديم المعمول ( المفعول ) يفيد الحصر .
ومثاله أيضاً : قوله تعالى { لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْد } (3) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه حَصْر المُلْك والحمد لله عَزّ وجَلّ ، ودَلّ مفهومه المخالِف على انتفاء المُلْك والحمد الكامليْن عَنْ غَيْر الله تعالى ، فَدَلّ ذلك على أنّ تقديم المعمول ( الجارّ والمجرور ) يفيد الحصر .
حُجِّيَّة تقديم المعمول :
اختلَف العلماء في تقديم المعمول على العامل : هلْ يفيد الحصر أم لا ؟(1/186)
(1) الإحكام 3/108 بتصرف .
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سورة التغابن مِنَ الآية 1
وَقَفْتُ لهم في ذلك على ثلاثة مذاهب :
المذهب الأول : أنَّه يفيد الحصر .
وهو ما عليه بَعْض الأصوليّين ومُحَقِّقو البيانيّين ، واختاره الفخر الرازي والفتوحي رحمهما الله تعالى ..
وذَكَر الزركشي ـ رحمه الله تعالى ـ نقلاً عَنْ بَعْضهم أنَّه لا خِلاَف في إفادة هذا الحصر عند القائلين به مِنْ جهة المفهوم لا المنطوق ، وذَكَرَه البيانيّون أيضاً (1) ا.هـ .
المذهب الثاني : أنَّه يفيد الاهتمام والعناية لا الحصر .
وهو اختيار ابن الحاجب في " شَرْح المُفَصَّل " والشيخ أَبِي حيّان (2) والسبكي رحمهم الله تعالى (3) ، ونَسَبَه الإسنوي ـ رحمه الله تعالى ـ لِلجمهور (4) .
واحْتَجّ ابن الحاجب ـ رحمه الله تعالى ـ أنّ تقديم المعمول لا يفيد الحصر تَمَسُّكاً بقوله تعالى { بَلِ اللَّهَ فَاعْبُد } (5) ..
(1) البحر المحيط 4/56 ويراجع : شَرْح الكوكب المنير 3/521 والتفسير الكبير 1/246 ، 247 وبغية الإيضاح 2/13 وجواهر البلاغة /147
(2) أبو حيّان : هو أثير الدِّين مُحَمَّد بن يوسف بن عَلِيّ بن حيّان الأندلسي الغرناطي رحمه الله تعالى وُلِد بغرناطة سَنَة 654 هـ .
مِنْ مصنَّفاته : تفسير البحر المحيط ، المُبْدِع ، التذكرة ، خلاصة التبيان .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالقاهرة سَنَة 745 هـ .
طبقات المفسرين 2/287 - 291 والبدر الطالع 2/288 - 291
(3) يُرَاجَع : البحر المحيط 4/56 وشَرْح الكوكب المنير 3/522 ، 523 وشَرْح المحلّي مع جَمْع الجوامع وحاشية البناني 1/257 ، 258 وتفسير القرطبي 1/145 وفَتْح القدير 1/22 وإعانة الطالبين 1/8
(4) الكوكب الدري /427
(5) سورة الزمر مِنَ الآية 66
وهو استدلال ضعيف ؛ لِورود قوله تعالى { فَاعْبُدِ اللَّه } (1) ؛ فيَلْزَم ـ حينئذٍ ـ أنّ المؤخّر يفيد عدم الحصر ؛ لِكَوْنه يقتضيه .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :(1/187)
وقَدْ نوقش هذا الدليل : بأنّ تأخير المعمول لا يَسْتَلْزِم حصراً ولا عدمه ، ولا يَلْزَم مِنْ عدم إفادة الحصر إفادة نَفْيه ، لا سِيَّمَا و{ مُخْلِصا } في قوله { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصا } (2) مُغْنٍ عَنْ إفادة الحصر .
واحْتَجّ أبو حيّان ـ رحمه الله تعالى ـ في رَدّ دَعْوَى الاختصاص : بأنّ سيبويه قال : إنّ التقديم لِلاهتمام والعناية ، فهو في التقديم والتأخير كَمَا في " ضَرَب زَيْد عَمْراً " و" ضَرَب عَمْراً زَيْد " ؛ فكَمَا أنّ هذا لا يَدُلّ على الاختصاص فكذلك لا يَدُلّ على الحصر ، وإنَّمَا يَدُلّ على الاهتمام والعناية (3) .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وقَدْ نوقش هذا الدليل : بأنّ تشبيه سيبويه إنَّمَا هو في أصْل الإسناد ، وأنّ التقديم يُشْعِر بالاهتمام والاعتناء ، ولا يَلْزَم مِنْ ذلك نَفْي الاختصاص والحصر (4) .
المذهب الثالث : أنَّه لا يَدُلّ على الحصر إلا بقرينة .
وهو قول ابن أَبِي الحديد (5) ـ رحمه الله تعالى ـ في " الفلك الدائر ".
(1) سورة الزمر مِنَ الآية 2
(2) سورة الزمر مِنَ الآية 2
(3) يُرَاجَع البحر المحيط لأَبِي حيّان 1/24
(4) شَرْح الكوكب المنير 3/522 ، 523 بتصرف ويُرَاجَع الفلك الدائر على المَثَل السائر /257
(5) ابن أَبِي الحديد : هو عِزّ الدين أبو حامد عَبْد الحميد بن هبة الله بن مُحَمَّد بن أَبِي الحديد المعتزلي رحمه الله تعالى ، أحد غلاة الشيعة ، كان بليغاً أديباً متكلِّماً مُنَاظِراً .
مِنْ مصنَّفاته : الفلك الدّائر على المَثَل السائر ، شَرْح نَهْج البلاغة . =
واحْتَجّ بآيات كثيرة تَقَدَّم المعمول فيها ولَمْ تُفِدِ الاختصاص ..
منها : قوله تعالى { وَجَعَلْنَا فِى الأَرْضِ رَوَسِىَ أَن تَمِيدَ بِهِم } (1) ؛ فلا يَدُلّ على أنّ غَيْر الرواسي لَمْ يَجْعَلْه في الأرض .(1/188)
وقوله تعالى { إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى } (2) ، ولَمْ يَكُنْ ذلك مختصّاً بآدم - عليه السلام - ؛ فَقَدْ كانت حوّاء كذلك .
وقوله تعالى { إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْم } (3) ؛ فلا يَدُلّ على أنَّهَا ما نَفشَتْ إلا فيه ؛ لأنّ النفش انتشار الغَنَم مِنْ غَيْر راعٍ سواء كان في حدث أو غَيْره (4) .
والأَوْلى عندي بالقبول : أنّ تقديم المعمول يفيد الاختصاص أي الاهتمام والعناية ، ولا يَدُلّ على الحصر إلا بدليل ؛ وذلك لِمَا ذَكره وأَوْرَده ابن أَبِي الحديد مِنْ أمثلة عديدة في القرآن الكريم تَقَدَّم المعمول فيها ولَمْ تُفِد الحصر .
وفي ذلك يقول الجلال المحلّي (5) رحمه الله :" فلَيْس في الاختصاص ما في الحصر مِنْ نَفْي الحُكْم مِنْ غَيْر المذكور ، وإنَّمَا جاء ذلك في
= تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 655 هـ .
البداية والنهاية 12/199
(1) سورة الأنبياء مِنَ الآية 31
(2) سورة طه الآية 118
(3) سورة الأنبياء مِنَ الآية 78
(4) البحر المحيط 4/58 بتصرف .
(5) الجلال المحَلِّي : هو جلال الدين مُحَمَّد بن أَحْمَد بن مُحَمَّد بن إبراهيم المحلِّي الشافعي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ متكلِّم نحويّ مفسِّر ، وُلِد بمصر سَنَة 791 هـ ..
مِن مصنَّفاته : شرْح جَمْع الجوامع ، شرْح المنهاج في الفقه ، شرْح الورقات .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 864 هـ .
شذرات الذهب 7/303 والفتح المبين 3/40
{ إِيَّاكَ نَعْبُد } لِلعِلْم بأنّ قائليه ـ أي المُؤْمِنين ـ لا يَعْبُدون غَيْرَ الله تعالى ، وحاصِله أنّ التقديم لِلاهتمام ، وقَدْ يَنْضَمّ إليه الحصر لِخارج " (1) ا.هـ .
والراجح عندي أيضاً : أنّ الاختصاص خِلاَف الحصر ، وهو ما عليه بَعْض المتأخِّرين كَمَا ذَكَر الزركشي رحمه الله تعالى ..(1/189)
وهو اختيار السبكي ـ رحمه الله تعالى ـ حيث قال :" لَيْس مَعْنَى الاختصاصِ الحصرَ ، خِلاَفاً لِمَا يَفْهَمه كَثِير مِنَ الناس ؛ لأنّ الفضلاء ـ كالزمخشري (2) ـ لَمْ يُعَبِّروا في نَحْو ذلك إلا بالاختصاص " (3) ا.هـ .
وأكَّد الزركشي ـ رحمه الله تعالى ـ الفَرْق بَيْنَهُمَا بقوله :" ويَدُلّ على أنّ الحصر غَيْر الاختصاص : قوله تعالى { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء } (4) فإنَّه لا يجوز أنْ يقال " إنَّه تعالى يَقْصِر رَحْمَتَه على مَنْ يشاء " ؛ لأنَّهَا لا تُقْصَر ولا تختَصّ بها ؛ لأنَّهَا لا تخْتَصّ ، بلْ مدلول الآية أنَّه يَرْحَم مَنْ يشاء ، وغَيْرُهُمْ يُعْرِض عنه " (5) ا.هـ .
وهناك مِنَ العلماء مَنْ ذَهَب إلى أنّ الاختصاص والحصر والقَصْر بِمَعْنىً واحد ، وهو ظاهِر كلام البيانيّين ..
لكنّ الراجحَ التفريقُ بَيْنَهما كَمَا تَقَدَّم ؛ لأنّ الاختصاص إعطاء الحُكْم
(1) شَرْح المحلّي على جَمْع الجوامع 1/258
(2) الزمخشري : هو جار الله أبو القاسم محمود بن عُمَر بن مُحَمَّد الخوارزمي الزمخشري المعتزلي رحمه الله تعالى ، مفسر متكلم نحويّ أديب لغويّ ، وُلِد بزمخشر سَنَة 467 هـ .
مِنْ مصنَّفَاته : الكَشّاف في التفسير ، الفائق في غريب الحديث .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بجرجانية سَنَة 538 هـ .
البداية والنهاية 12/219 والنجوم الزاهرة 5/274 وشذرات الذهب 4/118 - 121
(3) شَرْح الكوكب المنير 3/524 ويُرَاجَع : جَمْع الجوامع 1/258 والإتقان /804
(4) سورة آل عمران مِنَ الآية 74
(5) البحر المحيط 4/59
لِشيء والإعراض عَمَّا سِوَاه ، فهو مسكوت عنه ، والحصر إعطاء الحُكْم له والتعرض لِنَفْيه عَمَّا عَدَاه ، ففي الاختصاص قضيَّة واحدة ، وفي الحصر قضيّتان (1) .
تاسعاً – النوع السادس : العطف :(1/190)
والعطف عند البيانيّين قاصِر على العطف بـ" لا " و" بلْ " و" لكنْ " ؛ لأنّ هذا العطف يَقْتَضِي ثبوت ضِدّ حُكْم ما قَبْلَه لِمَا بَعْدَه ، والأصل في العطف أنْ يُنَصّ فيه على المُثْبَت له الحُكْم والمَنْفِي عنه إلا إذا خيف التطويل ، أمَّا في غَيْره فإنَّه يُنَصّ على المُثْبت فقط إلا الاستثناء المُثْبت (2) .
حُجِّيَّة العطف :
لا خِلاَف عند أهْل البيان أنّ العطف بـ" لا " وأُخْتَيْهَا يفيد الحصر ، إلا صاحِب " عروس الأفراح " فقال :" أيْ قصر في العطف بـ" لا " إنَّمَا فيه نَفْي وإثبات ؛ فقولك " زَيْد شاعِر لا كاتِب " لا تَعَرُّض فيه لِنَفْي صفة ثالثة والقَصْر إنَّمَا يَكون بِنَفْي جميع الصفات غَيْر المُثْبت حقيقةً أو مَجازاً ، ولَيْس هو خاصّاً بنفي الصفة التي يَعتقدها المخاطَب ، وأمَّا العطف بـ" بلْ " فأَبْعَد منه ؛ لأنَّه لا يَسْتَمِرّ فيها النفي والإثبات " (3) ا.هـ .
أقسام الحصر بالعطف :
قَسَّم أبو يعقوب المغربي ـ رحمه الله ـ الحصر بالعطف إلى قِسْمَيْن :
القِسْم الأول : الإثبات ..
فيَكون الثابت لِمَا بَعْدَه نفياً إفراداً ، نَحْو : " زَيْد شاعِر لا كاتِب " ؛ فَقَدْ
(1) يُرَاجَع : البحر المحيط 4/58 وشَرْح الكوكب المنير 3/524 والكليات /59
(2) يُرَاجَع : جواهر البلاغة /149 وبغية الإيضاح 2/9
(3) يُرَاجَع : مواهب الفتّاح 2/186 ، 187 وعروس الأفراح 2/186 ، 187 والإتقان 2/81 والمَرْجِعَيْن السابقيْن .
أَثْبَت الشِّعْر لِزَيْد قَبْل حروف العطف ، ونَفَى عنه الكتابة التي لا تُنَافِي الشِّعْر .
القِسْم الثاني : النفي ..
فيَكون الثابت بالحَرْف لِمَا بَعْدَه إثباتاً : كقولك " ما زَيْد كاتباً بلْ شاعِر " ..
وقلباً أيْ قَصْر قَلْب في صورة تقديم الإثبات " زَيْد قائم لا قاعِد " ..
أو في صورة تقديم النفي ، نَحْو : " ما زَيْد قاعداً بلْ قائم " ؛ فَقَدْ نَفَى القعود وأَثْبَت القيام (1) .(1/191)
هذا .. ولَمْ أَقِفْ على أحد مِنَ الأصوليّين ذَكَر العطف كأحد أنواع الحصر .
فائدتان :
الأولى :
أنّ أَقْوَى طُرُق أو أنواع الحصر عند الأصوليّين : الاستثناء المنفي ، ثُمّ الحصر بـ" إنَّمَا " ، ثُمّ حَصْر المبتدأ في الخبر ، ثُمّ تقديم المعمول على العامل (2) .
أمَّا أقواها عند البيانيّين : فهو العطف ؛ لأنّ فيه تصريحاً بالإثبات والنفي ، ويليه النفي والاستثناء فـ" إنَّمَا " فالتقديم ، وإنَّمَا كان التقديم آخِرَهَا لأنّ دلالته على القَصْر ذوقيّة لا وضعيّة (3) .
الثانية :
أنّ الأصوليّين اختلَفوا في ترتيب المفاهيم باعتبار قُوَّتِهَا ..
(1) يُرَاجَع مواهب الفتّاح 2/186 - 188
(2) يُرَاجَع : البحر المحيط 4/50 – 52 وإرشاد الفحول /182 وشَرْح طلعة الشمس 1/264
(3) يُرَاجَع بغية الإيضاح 2/9
فالغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ رَتَّبَهَا على النحو التالي : الصفة ، والشَّرْط ، والحصر بـ" إنَّمَا " ، والغاية ، والاستثناء المنفي (1) .
وابن قدامة ـ رحمه الله ـ رَتَّبَهَا على النحو التالي : الغاية ، فالشرط ، فالصفة الخاصة ، فتخصيص بَعْض الأوصاف ، فالعَدَد ، فاللقب (2) .
وتَبِعه في ذلك الطوفي رحمه الله تعالى (3) .
والفتوحي ـ رحمه الله تعالى ـ رَتَّبَهَا على النحو التالي : الاستثناء ، فحَصْر بنفي ، فحَصْر مبتدأ في خبر ، فشَرْط ، فصفة ، فعَدَد ، فتقديم معمول (4)
والسالمي ـ رحمه الله تعالى ـ رَتَّبَهَا على النحو التالي : الشَّرْط ، فالغاية ، فالحصر ، فالاستثناء ..
ثُمّ أَضْعَفها : اللقب ، ثُمّ الصفة ، ثُمّ مفهوم العَدَد ، ثُمّ الحصر بـ" إنَّمَا " (5) .
هؤلاء هم الأصوليّون الذين وَقَفْتُ على نَصّهم على الدرجات أو قوّة المفاهيم وضَعْفها .(1/192)
والأَوْلَى عندي : ترتيب السالمي رحمه الله تعالى ، لِيصبح ترتيب المفاهيم الستة على النحو التالي : مفهوم الشَّرْط ، فمفهوم الغاية ، فمفهوم الحصر ، فمفهوم العَدَد ، فمفهوم الصفة ، ثُمّ مفهوم اللقب الذي هو أَضْعَفها .
(1) يُرَاجَع المستصفى /270 – 272
(2) يُرَاجَع روضة الناظر 2/790 - 796
(3) يُرَاجَع شَرْح مختصر الروضة 2/756 – 771
(4) يُرَاجَع شَرْح الكوكب المنير 3/524
(5) يُرَاجَع شَرْح طلعة الشمس 1/266 ، 267
الفصل السادس
أَثَر دلالة المفهوم في الأحكام
وفيه مَبْحَث تمهيديّ في : بيان أَثَر دلالة المفهوم في الأحكام .
وعشرة فروع :
الفرع الأول : النِّيَّة في الأعمال .
الفرع الثاني : الإسراع إلى الصلاة .
الفرع الثالث : خروج النساء ليلاً إلى المساجد .
الفرع الرابع : مَنْ أَصْبَح صائماً على جنابة .
الفرع الخامس : زكاة الأنعام غَيْر السائمة .
الفرع السادس : نكاح الربيبة .
الفرع السابع : الزواج مِن الأَمَة .
الفرع الثامن : تحريم نكاح الأُمّهات .
الفرع التاسع : نفقة البائن الحامل .
الفرع العاشر : قَطْع يد السّارق .
مَبْحَث تمهيديّ في
بيان أَثَر دلالة المفهوم في الأحكام
لَمَّا كان عِلْم أصول الفقه هو ( العِلْم بالقواعد التي يُتَوَصَّل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية مِنْ أدلّتها التفصيلية ) (1) فإنّ هذه القواعد منها ما كان متعلِّقاً بمنطوق النَّصّ ومنها ما كان متعلِّقاً بمفهومه ..
وقَدْ حاولْتُ حَصْر قواعد المفهوم ومَسائله عند الأصوليّين في هذا البحث الذي تَيَقَّنَّا مِنْ خلاله أهميَّة المفهوم وعنايتهم بدراسته ، فحَدَّدوا أقسامه وأصَّلوا قواعده التي يُمْكِن على ضوئها استخراج الأحكام ..(1/193)
بَدَا ذلك واضحاً في إيراد بَعْض الأحكام التي بَنَوْهَا على مفهوم النَّصّ وفْق القواعد التي أَوْرَدوها ؛ لِيؤكِّدوا عُمْق الرابطة والعلاقة بَيْن الفقه والأصول ، ولِيُبَيِّنوا كَيْف كان دَوْر المفهوم في بناء الأحكام ، وأنّ هذا الدور هو الدافع والعامل الأهمّ في اهتمامهم وعنايتهم بالبحث والدراسة عن المفهوم ومَسائله ، وهذا ما قَصَدْتُه مِنْ عنوان هذا البحث ( الإمام في دلالة المفهوم على الأحكام ) .
وفي هذا الفصل حاولْتُ الاقتداء بهم وإبراز دَوْر قواعد المفهوم في الجانب التطبيقي وبيان أَثَرِهَا في الأحكام الشرعية مِنْ خلال بَعْض الفروع الفقهيَّة ، وقد اكْتَفَيْتُ بإيراد عشرة فروع في هذا الفصل .
(1) مختصر المنتهى 1/18
الفرع الأول
النِّيَّة (1) في الأعمال
النَّصّ الوارد فيه : حديث { إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } (2) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا الحديث أفاد منطوقه حَصْر الأعمال في النيات وتَوَقُّفَها عليها ، وأنّ لِكُلّ امرئٍ ما نَوَى ؛ فإنْ نَوَى خيراً فله ، وإنْ شرّاً فعليْه ..
وأَخَذْنَا مِنْ مفهومه دلالتيْن :
الدّلالة الأولى : دلالة الاقتضاء .
وَجْه التفريع : أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بَيَّن لنا أنّ الأعمال لا بُدّ فيها مِنَ النِّيَّة ، والأعمال كُلُّهَا مِنْ صلاة وصوْم وسائر العبادات يُمْكِن أن تحقَّق بِلاَ نيَّة ، وهو ما يُعارِض ظاهِرَ الحديث ، ولِذَا كان صِدْق هذا الكلام متوقِّفاً على تقدير محذوف ، وهذا المحذوف اختلَف الفقهاء في تقديره تبعاً لاشتراطهم النِّيَّةَ أو عدم اشتراطها ..
فمَن اشْتَرَط النِّيَّةَ قَدَّروا ( صِحَّة ) أو ما يقارِبه .
ومَنْ لَمْ يَشْتَرِط النِّيَّةَ قَدَّروا ( كمال ) أو ما يقاربه .
(1) النِّيَّة لغةً : القصد ..
واصطلاحاً : قَصْد الشيء مقترِناً بفعله ..
يُرَاجَع : مُغْنِي المحتاج 1/47(1/194)
(2) سَبَق تخريجه .
والأَوْلى عندي : تقدير الصحة ؛ أيْ : إنَّمَا صحَّة الأعمال بالنيات .
وسِرّ ترجيحي ذَكَرَه ابن دقيق العيد ـ رحمه الله ـ في قوله :" والأول أَرْجَح ؛ لأنّ الصحة أَكْثَر لزوماً لِلحقيقة مِنَ الكمال ، فالحَمْل عليها أَوْلَى ؛ لأنّ ما كان أَلْزَم لِلشيء كان أَقْرَبَ إلى خطوره بالبال عند إطلاق اللفظ ، فكان الحَمْل عليه أَوْلى " (1) .
الدّلالة الثانية : الحصر .
وَجْه التفريع : أنّ " إنَّمَا " تفيد الحصر ، فتُثْبِت الحُكْمَ لِلمذكور وتنفيه عَنْ غَيْرِه ، أيْ تَحبس الحُكْم ـ وهو صحّة الأعمال ـ على وجود النِّيَّة ، وهو حُكْم مأخوذ مِنْ دلالة الاقتضاء كَمَا تَقَدَّم .
كَمَا أنَّهَا تَنْفِي هذا الحُكْمَ إذا لَمْ توجد النِّيَّة ، فتَنْتَفِي الأعمال بانتفائها ، وهذا حُكْم مَبْنِيّ على مفهوم الحصر الذي هو أحد أنواع مفهوم المخالَفة (2) .
إلا أنّ الحنفيَّة فَرَّقوا بَيْن النِّيَّة في المَقاصد فأَوْجَبوها ، وبَيْن النِّيَّة في الوسائل : الوضوء والغُسْل فَلَمْ يُوجِبوها (3) .
والراجح فيما أَرَى : ما عليه الجمهور مِنْ وجوب النِّيَّة في العبادات المفروضة ..
وفي ذلك يقول ابن رجب الحنبلي (4) رحمه الله تعالى :" فالأعمال إنَّمَا
(1) شَرْح عمدة الأحكام 1/10 ويُرَاجَع : فَتْح الباري 1/14 وفَتْح المُعِين 1/37 وإعانة الطالبين 1/37 وتيسير التحرير 1/133 والسَّيْل الجرّار 1/80
(2) يُرَاجَع : اللُّمَع /46 والتمهيد لِلكلوذاني 2/224 والمستصفى /271 والعُدَّة 1/205 ، 206 والفصول 1/322 ، 323
(3) يُرَاجَع : الهداية 1/185 وتبيين الحقائق 1/99
(4) ابن رجب : هو زَيْن الدِّين وجمال الدِّين أبو الفَرَج عَبْد الرحمن بن أَحْمَد بن رجب بن الحَسَن البغدادي الدمشقي الحنبلي رحمه الله ، مُحَدِّث حافِظ فقيه أصوليّ مؤرخ ، وُلِد ببغداد سَنَة 736 هـ .(1/195)
مِنْ مصنَّفاته : لطائف المعارف ، تقرير القواعد ، جامِع العلوم والحِكَم . =
أُرِيدَ بها الأعمال الشرعية المفتقِرة إلى النِّيَّة ، فأمَّا ما لا يَفتقر إلى النِّيَّة ـ كالعادات مِنَ الأكل والشرب واللبس وغَيْرِهَا ، أو مِثْل رَدّ الأمانات والمضمونات كالودائع والغصوب ـ فلا يَحتاج شيء مِنْ ذلك إلى نيَّة ، فَيُخَصّ هذا كُلُّه مِنْ عموم الأعمال المذكورة ها هُنَا " (1) ا.هـ .
ويقول الخطيب الشربيني (2) رحمه الله تعالى :" وحُكْمُهَا الوجوب ، ومحلّها القلب ، والمقصود بها تمييز العبادة عن العادة : كالجلوس لِلاعتكاف تارةً ولِلاستراحة أخرى ، أو تمييز رُتْبَتِهَا : كالصلاة تَكون لِلفرض تارةً ولِلنفل أخرى " (3) ا.هـ .
= تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 795 هـ .
الدُّرَر الكامنة 2/321 ، 322 وشذرات الذهب 6/339 ، 340
(1) جامِع العلوم والحِكَم /16
(2) الخطيب الشربيني : هو شَمْس الدِّين مُحَمَّد بن أَحْمَد الشربيني القاهري الشافعي رحمه الله تعالى فقيه مفسر متكلم نحويّ صوفيّ .
مِنْ مصنَّفَاته : مغني المحتاج ، شَرْح منهاج الدِّين .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 977 هـ .
شذرات الذهب 8/384 ومعجم المؤلفين 8/269
(3) مُغْنِي المحتاج 1/47
الفرع الثاني
الإسراع إلى الصلاة
النَّصّ الوارد فيه : حديث { إِذَا سَمِعْتُمُ الإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلاَةِ ، وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَلاَ تُسْرِعُوا ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا ، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا } (1) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه وجوب المشي بالسكينة عند سماع إقامة الصلاة ، والنهي عن السرعة في المشي ، وعَلَيْنَا أنْ نُصَلِّي ما أَدْرَكْنَا مع الإمام وأنْ نُتِمّ ما فاتنا معه ..
كَمَا أَخَذْنَا حُكْمَيْن مِنْ مفهومه :
الحُكْم الأول : النهي عن الإسراع قَبْل إقامة الصلاة .(1/196)
وَجْه التفريع : أنّ المُسْرِع إلى الصلاة عند إقامتها إنَّمَا كان ترجِّياً لإدراك فضيلة التكبيرة الأولى مع الإمام ونَحْو ذلك ، ومع ذلك فَقَدْ نُهِي عن الإسراع ، فغَيْرُه مِمَّن جاء قَبْل الإقامة لا يَحتاج إلى الإسراع ؛ لِتَحَقُّق إدراك الصلاة كُلِّهَا ..
ولِذَا كان النهي عن الإسراع إلى الصلاة قَبْل الإقامة مأخوذاً مِنْ دلالة مفهوم الموافَقة لِلنَّصّ ، بلْ هو مِنْ باب أَوْلَى .
الحُكْم الثاني : جواز الإسراع قَبْل سماع الإقامة .
وَجْه التفريع : أنّ النهي عن الإسراع والأمر بالمشي بالسكينة مُقَيَّد
(1) أَخْرَجه البخاري في كِتَاب الأذان : باب لا يَسْعَى إلى الصلاة ولْيَأْتِ بالسكينة والوقار برقم ( 600 ) والإمام أَحْمَد في باقِي مُسْنَد المُكْثِرين برقم ( 10473 ) ، كِلاَهُمَا عَنْ أَبِي هريرة - رضي الله عنه - .
بِشَرْط وهو سماع الإقامة ، فإذا انْتَفَى الشَّرْط انْتَفَى الحُكْم ..
ولِذَا لا كراهة في الإسراع لِمَنْ جاء قَبْل الصلاة ؛ عملاً بمفهوم المخالَفة ( مفهوم الشَّرْط ) .
لكنّ ابن حَجَر ـ رحمه الله تعالى ـ رَدّ هذا المفهوم المخالِف لِمُعارَضته صريح قوله - صلى الله عليه وسلم - { إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلاَة ... } (1) ؛ فإنَّه مُتَنَاوِل الإتيان قَبْل الإقامة والإتيان بَعْدَهَا ..
أمَّا تقييد الحديث بالإقامة : لأنّ ذلك هو الأدعى والحامل على الإسراع في الغالب ، ولِذَا لا يُحْمَل على مفهومه المُخالِف ، وإنَّمَا على مفهومه المُوافِق الذي هو مِنْ باب أَوْلَى (1) .
(1) أَخْرَجه البخاري في كِتَاب الأذان : باب قَوْل الرَّجُل : فاتتنا الصلاة برقم ( 599 ) ومُسْلِم في كِتَاب المَسَاجِد : باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة برقم ( 948 ) وأَحْمَد في باقِي مُسْنَد الأنصار برقم ( 21560 ) ، كُلّهم عَنْ أَبِي قتادة - رضي الله عنه - .
(2) يُرَاجَع : فَتْح الباري 2/117 ونَيْل الأوطار 3/165 ، 166(1/197)
الفرع الثالث
خروج النساء ليلاً إلى المَساجد
النَّصّ الوارد فيه : حديث { ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسَاجِد } (1) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النّصّ أفاد منطوقه الإذن لِلنساء بالصلاة في المساجد ليلاً ..
والحُكْم هُنَا مُقَيَّد بالزمان { بِاللَّيْل } ، ولِذَا فإنَّ له دلالةً مِنْ جهة مفهومه .
وَجْه التفريع : أنّ تقييد الحُكْم هُنَا بالليل هلْ يَدُلّ بمفهومه ـ المُوافِق أو المُخالِف ـ على عدم الإذن لهنّ بالصلاة في المساجد نهاراً ؟
اختلَف العلماء في ذلك :
فمنهم مَن اعتبَره مِنْ مفهوم الموافَقة ، ومنهم : الكرماني (2) رحمه الله تعالى ..
ووُجْهَتُه : أنَّه إذا أُذِن لهنّ بالليل ـ مع أنَّه مظنّة الريبة ـ فالإذن لهنّ
(1) أَخْرَجه البخاري في كِتَاب الجمعة : باب هَلْ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الجمعةَ غُسْل مِنَ النساء والصبيان ؟ برقم ( 848 ) ومُسْلِم في كِتَاب الصلاة : باب خروج النساء إلى المَسَاجِد إذا لَمْ يَتَرَتَّبْ عليه فتنة برقم ( 671 ) والترمذي في كِتَاب الجمعة عَنْ رسول الله : باب ما جاء في خروج النساء إلى المَسَاجِد برقم ( 520 ) ، كُلّهم عَنِ ابن عُمَر رضي الله عَنْهُمَا .
(2) الكرماني : هو رُكْن الدِّين أبو الفضل عَبْد الرحمن بن مُحَمَّد بن أميرويه الكرماني الحنفي رحمه الله تعالى ، وُلِد بكرمان سَنَة 457 هـ .
مِنْ مصنَّفاته : التجريد في الفقه ، شَرْح الجامع الكبير ، الفتاوى .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بكرمان سَنَة 543 هـ .
الفوائد البهية /91 ، 92 ومعجم المؤلفين 6/111
بالصلاة في المساجد بالنهار بطريق الأَوْلَى .
واعتبَره بَعْض الحنفيَّة مفهوم مخالَفة ..
ووُجْهَتُهم : أنّ التقييد بالليل لِكَوْن الفسّاق فيه في شُغل بفِسْقِهم ، بِخِلاَف النهار ؛ فإنَّهم يَنتشرون فيه .
والراجح عندي : أنّ الإذن لهنّ نهاراً إلى المساجد مِنْ باب أَوْلَى ..(1/198)
وأمَّا وجهة القائلين بمفهوم المخالَفة : ففيها نَظَر ؛ لأنّ مظنّة الريبة في الليل أَشَدّ ، ولَيْس كُلّ الفسّاق يَجِد ما يَنْشَغِل به ليلاً ، أمَّا النهار فإنَّه يَفْضَحهم غالباً ويَمنعهم مِنَ التعرض لِلنساء فيه ؛ لانتشار الناس وصعوبة تَعَرُّضِهِمْ لَهُنّ (1) .
ومِمَّا يُعَضِّد ترجيحي : حديث ابن عُمَر رضي الله عنهما { إِذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمُ امْرَأَتُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلاَ يَمْنَعْهَا } (2) ، وفي رواية { لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّه } (3) ، وكلاهما صريح في النهي عن المنع لِلنساء عن المساجد عند الاستئذان ، مِمَّا يَدُلّ على إباحته لَهُنّ ولكنْ بشروط (4) .
(1) يُرَاجَع : فَتْح الباري 2/382 ، 383
(2) أَخْرَجه البخاري في كِتَاب النكاح : باب استئذان المرأةِ زَوْجَهَا بالخروج إلى المسجد وغَيْرِه برقم ( 4837 ) ومُسْلِم في كِتَاب الصلاة : باب خروج النساء إلى المَسَاجِد إذا لَمْ يَتَرَتَّبْ عليه فتنة برقم ( 666 ) والنسائي في كِتَاب المَسَاجِد : باب النهي عَنْ مَنْع النساء مِنْ إتيان المساجد برقم ( 699 ) ، كُلّهم عَنِ ابن عُمَر رضي الله عَنْهُمَا .
(3) أَخْرَجه البخاري في كِتَاب الجمعة : باب هَلْ على مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الجمعةَ غُسْل مِنَ النساء والصبيان ؟ برقم ( 849 ) ومُسْلِم في كِتَاب الصلاة : باب خروج النساء إلى المَسَاجِد إذا لَمْ يَتَرَتَّبْ عليه فتنة برقم ( 666 ) وابن ماجة في المقدِّمَة : باب تعظيم حديث رسول الله والتغليظ على مَنْ عارَضَه برقم ( 16 ) كُلّهم عَنِ ابن عُمَر رضي الله عَنْهُمَا .
(4) يُرَاجَع شَرْح عمدة الأحكام 1/167 ، 168
الفرع الرابع
مَنْ أَصْبَح صائماً على جنابة(1/199)
النَّصّ الوارد فيه : قوله تعالى { فَالْئَنَ بَشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر } (1) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه جواز الأكل والشرب لِلصائم حتّى طلوع الفجر ..
وفيه دلالات بالمفهوم :
الدّلالة الأولى : دلالة الإشارة .
وَجْه التفريع : أنّ جواز الأكل والشرب والمباشَرة إلى طلوع الفجر فيه إشارة إلى أنَّه لو أَصْبَح جُنُباً لَمْ يَفْسَدْ صَوْمُه ؛ لأنّ مَنْ جامَع في آخِر الليل لا بُدّ مِنْ تَأخُّر غُسْلِه إلى النهار ، فلو كان ذلك مِمَّا يُفْسِد الصيام لَمَا أُبِيح الجِمَاع في آخِر جزء مِنَ الليل (2) .
وقَدِ اختلَف العلماء في صيام مَنْ أَصْبَح جُنُباً على أقوال :
القول الأول : صِحَّة صَوْمه .
وهو ما عليه الجمهور وعليه الأئمّة الأربعة - رضي الله عنهم - .
(1) سورة البقرة مِنَ الآية 187
(2) يُرَاجَع : المستصفى /264 والمختصر مع شَرْح العضد 2/172 والإحكام لِلآمدي 3/73 وعمدة الحواشي مع أصول الشاشي /101 وشَرْح الكوكب المنير 3/476 ، 477 وشَرْح عمدة الأحكام 2/211
وحُجّتُهم : حديث السيدة عائشة والسيدة أُمّ سَلَمَة (1) رضي الله عنهما أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُصْبِح جُنُباً مِنْ غَيْر احتلام ثُمّ يَصُوم (2) .
وعن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت :" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ جُنُبُ مِنْ غَيْرِ احْتِلاَمٍ فَيَغْتَسِلُ وَيَصُوم " (3) .
القول الثاني : عدم صِحَّة صَوْمه .
وهو منقول عَنْ أَبِي هريرة - رضي الله عنه - (4) .
وحُجَّتُه : ما رواه { مَنْ أَصْبَحَ جُنُباً فَلاَ صَوْمَ لَه } (5) .
القول الثالث : عدم صِحَّة صَوْمه إنْ عَلِم بجنابته ثُمّ نام حَتَّى أَصْبَح ، وإلا فلا .(1/200)
وهو مَرْوِيّ عَنْ أَبِي هريرة وعطاء وطاووس (6) وعروة
(1) السَّيِّدة أُمّ سلمة : هي أُمّ المؤمِنين السَّيِّدة هند بنت أبي أميّة سَهْل بن المغيرة المخزوميّة رضي الله عنها ، مِن المهاجرات الأُوَل ، تَزَوَّجها النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - سَنَة 4 هـ ..
تُوُفِّيَت سَنَة 59 هـ .
سِيَر أعلام النبلاء 2/201 - 210
(2) أَخْرَجه مُسْلِم في كِتَاب الصيام : باب صحّة صَوْم مَنْ طَلع عليه الفجر وهو جُنُب برقم ( 1864 ) وأبو داود في كِتَاب الصوم : باب فِيمَنْ أَصْبَح جُنُباً في شَهْر رمضان برقم ( 2040 ) وأَحْمَد في باقِي مُسْنَد الأنصار برقم ( 22933 )
(3) أَخْرَجه البخاري في كِتَاب الصوم : باب اغتسال الصائم برقم ( 1795 ) ومُسْلِم في كِتَاب الصيام : باب صحّة صَوْم مَنْ طَلع عليه الفجر وهو جُنُب برقم ( 1865 )
(4) أبو هُرَيْرَة : هو الصّحابيّ الجليل عبد الرحمن بن صخْر الدّوسيّ - رضي الله عنه - ، أسلَم أول سَنَة سبْع عام خَيْبَر وشَهِدَهَا مع رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولازَمَه يَدُور معه حيث دار ، ولِذا حَفِظ عنه - صلى الله عليه وسلم - ما لم يُلْحَق به في كثْرته ، ورَوَى هنه أَكْثَر مِن ثمانمائة رَجُل..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 58 هـ .
طبقات ابن سعْد 2/362 والاستيعاب لابن عبد البر 4/1768 - 1772 والإصابة 4/202
(5) أَخْرَجه الإمام أَحْمَد في باقِي مُسْنَد المُكْثِرين برقم ( 7083 ) .
(6) طاووس : هو أبو عَبْد الرحمن طاووس بن كيسان اليماني الجندي رحمه الله تعالى ، مِنْ كِبَار =
ابن الزُّبَيْر (1) - رضي الله عنهم - .
القول الرابع : صِحَّة ذلك في التطوع ، أمَّا النفل فيُتِمّ صَوْمَه ويَقْضِيه .
وهو مَرْوِيّ عن النخعي (2) والحَسَن البصري (3) .(1/201)
والراجح عندي : ما عليه الجمهور مِنْ صِحَّة صَوْم مَنْ أَصْبَح جُنُباً مُطْلَقاً ، سواء كان صَوْمَ فَرْض أم صَوْمَ نَفْل ، عالِماً بجنابته أم غَيْرَ عالِم وذلك لِقُوَّة حُجَّتِهِمْ ، وفي المقابِل ضَعْف حُجَّة الآخَرين ووُجْهَتِهِمْ .
الدّلالة الثانية : مفهوم الموافَقة ( مفهوم مُسَاوِي ) :
وَجْه التفريع : أنّ جواز المباشَرة إلى طلوع الفجر فيه دلالة على جواز أنْ يُصْبِح الصائم جُنُباً (4) .
الدّلالة الثالثة ( لِلباحث ) : مفهوم المخالَفة ( مفهوم الغاية ) :
وَجْه التفريع : أنّ النَّصّ الكريم أفاد إباحة الأكل والشرب والمباشَرة
= التابعين ، سَمِع مِنِ ابن عباس والسَّيِّدَة عائشة وزَيْد - رضي الله عنهم - ، حَدَّث عنه الزُّهْرِي والمكي وابن ميسرة رحمهم الله تعالى .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 106 هـ .
تذكرة الحُفّاظ 1/90 - 92
(1) عروة بن الزبير : هو أبو عبد الله عروة بن الزبير بن العوّام القرشي الأسدي المدني رحمه الله تعالى ، مِن التابعين ، أحد فقهاء المدينة السبعة ، وُلِد في خلافة عثمان - رضي الله عنه - ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 90 هـ .
تذكرة الحُفّاظ 1/62 وسِيَر أعلام النبلاء 4/423 – 433 وشذرات الذهب 1/103
(2) النخعي : هو أبو عمران إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي اليماني ثُمّ الكوفي رحمه الله تعالى ، أحد الأعلام الحُفّاظ وفقيه العراق ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 96 هـ .
طبقات الفقهاء لِلشيرازي /82 وطبقات الحفّاظ لِلسيوطي /29
(3) يُرَاجَع : تفسير القرطبي 2/325 ، 326 وتفسير القرآن العظيم 1/223 ، 224 والتاج والإكليل 2/442 والتمهيد لابن عَبْد البَرّ 22/41 ، 42 والمُدَوَّنَة 1/206 ورسالة القيرواني 1/62 والمُحَلَّى 6/203
(4) يُرَاجَع الإبهاج 1/367
إلى طلوع الفجر ، فإذا طَلَع الفجر انْتَفَى الحُكْم وارتَفَعَتِ الإباحة وأَصْبَحَتْ هذه الأمور مُحَرَّمةً في حقّ الصائم .(1/202)
وأَرَى : أنّ أَقْوَى هذه الدّلالات دلالة الإشارة ، وأنّ الحُكْم المأخوذ منها مُؤَيَّد بالسُّنَّة ، يليها مفهوم الغاية ، أمَّا مفهوم الموافَقة فَبِنَاء الحُكْم عليه بعيد وفيه نظر .
الفرع الخامس
زكاة الأنعام غَيْر السائمة (1)
النَّصّ الوارد فيه : حديث { فِي الإِبِلِ السَّائِمَةِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاة } (2) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه وجوب الزكاة في الإبل والغَنَم السائمة ، كَمَا أفاد مفهومه المُخالِف عَدَم الزكاة في غَيْر السائمة .
وَجْه التفريع : أنّ هذا الحُكْم المُوجِب لِلزكاة في الإبل والغَنَم مُقَيَّد بصفة وهي السوم ..
فهلْ يَنْتَفِي الحُكْم بانتفائها عملاً بمفهوم الصفة ( مفهوم المخالِف ) أم لا ؟
أو بِمَعْنىً آخَر : هلْ تجب الزكاة في الأنعام غَيْر السائمة ؟
العلماء لهم في ذلك أقوال :
القول الأول : عدم وجوب الزكاة في غَيْر السائمة مِنَ الأنعام ، وهي المعلوفة .
وهو ما عليه الجمهور .
وحُجَّتُهم : أنّ حُكْم وجوب الزكاة مُقَيَّد بالصفة وهي السوم ، ولِذَا فإنَّه
(1) السوم لغةً : عَرْض السلعة على البيع ، والسوام والسائمة بِمَعْنَى المال ..
والسوم : الرعي ، ومنه سَوْم المواشي : رَعْيُهَا ..
يُرَاجَع : المغني في الإنباء 1/193 ولسان العرب 12/310 ، 311
(2) أَخْرَجه أبو داود في كتاب الزكاة : باب في زكاة السائمة برقم ( 1344 ) والدارمي في كتاب الزكاة : باب ليس في عوامل الإبل صدقة برقم ( 1615 ) ، كلاهما عن معاوية بن حيدة - رضي الله عنه - .
يَنْتَفِي بانتفائها ، فلا تجب الزكاة في المعلوفة طُولَ الحَوْل أو مُعْظَمَه ، أمَّا القَدْر اليسير منه فلا يَمْنَع وجوب الزكاة فيها (1) .
القول الثاني : وجوب الزكاة في غَيْر السائمة مِنَ الأنعام .(1/203)
وهو ما عليه مالِك وربيعة (2) والليث (3) ، واختاره ابن حَزْم الظاهري رحمهم الله تعالى .
وحُجّتهم : حديث ابن عُمَر ـ رضي الله عنهما ـ الذي وَرَد مُطْلَقاً دون ذِكْر صفة السوم { وَفِي الْغَنَمِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاة } (4) ، وعَدّوا هذا الحديث مُعارِضاً لِحديث أَبِي بَكْر - رضي الله عنه - (5) ، فكان هذا زائداً على ما في
(1) يُرَاجَع : شَرْح اللُّمَع 2/123 – 132 والخرشي على مختصر سيدي خليل مع حاشية العدوي 2/148 وبداية المجتهد 1/183 ، 184 وحاشية الدسوقي 1/432 وروضة الطالبين 2/190 والمُغْنِي لابن قدامة 2/230 ، 231 وكشّاف القِنَاع 2/183 والمبدع 2/311 والمُحَلَّى 6/46 – 48 وتبيين الحقائق 1/258 ، 259 وفِقْه الزكاة 1/170 ، 171
(2) ربيعة : هو أبو عثمان ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ القرشي التميمي المدني رحمه الله تعالى تابعيّ جليل ، فقيه مُحَدِّث ، عُرِف بالرأي والقياس ، شيْخ الإمام مالك - رضي الله عنه - ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالمدينة سَنَة 136 هـ .
وفيات الأعيان 2/50 وشذرات الذهب 1/194
(3) اللَّيْث : هو اللَّيْث بن سَعْد بن عَبْد الرَّحْمَن رحمه الله تعالى ، وُلِد في مِصْر سَنَة 94 هـ ..
قال عنه الإمام الشافعي : كان اللَّيْث أَفْقَه مِن مالك ، إلا أنّه ضَيَّعه أصحابه .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 175 هـ .
طبقات ابن سعد 7/517 وشذرات الذهب 1/285
(4) أَخْرَجه الترمذي في كتاب الزكاة عن رسول الله : باب ما جاء في زكاة الإبل والغَنَم برقم ( 564 ) وأبو داود في كتاب الزكاة : باب في زكاة السائمة برقم ( 1340 ) وابن ماجة في كتاب الزكاة : باب صدقة الغَنَم برقم ( 1795 ) .
(5) أبو بَكْر الصِّدِّيق : هو الصّحابيّ الجليل عبد الله بن عثمان بن عامر التيمي رضي الله عنهما ، وُلِد بمكة سَنَة 51 هـ قَبْل الهجرة ، أول مَن أَسْلَم مِن الرجال ، وأول الخلفاء الراشدين ..(1/204)
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 13 هـ .
أسد الغابة 3/205 والإصابة 2/341
حديث أَبِي بَكْر - رضي الله عنه - ، والزيادة لا يجوز تَرْكُهَا (1) .
كَمَا رَدّوا القول الأول : بأنّ التقييد بالسوم في الحديث قَدْ خرج مَخْرَج الغالب على مَوَاشِي العرب وهو السوم ، فكان بياناً لِلواقع لا مفهوم له .
القول الثالث : وجوب الزكاة في الإبل والغَنَم السائمة وغَيْرها ، أمَّا البقر فلا تُزَكَّى إلا سائمتها .
ونَسَبه ابن حَزْم ـ رحمه الله تعالى ـ إلى بَعْضهم .
القول الرابع : عدم وجوبها في العوامل مِنَ البقر والإبل .
وهو قول إبراهيم النخعي والحَسَن البصري رضي الله عَنْهُمَا (2) .
والمشهور هو : القولان الأوّلان .
والراجح عندي هو : النظر في صفة السوم التي قُيِّد بها الحُكْم : هلْ هو تقييد بها لأنَّه خرج مَخْرَج الغالب على مواشي العرب ، وحينئذٍ لا عَمَل لِلمفهوم ؛ لانتفاء أحد شروطه وهو أنْ لا يخرج مَخْرَج الغالب ، ولِذا كانت الزكاة واجبةً في جميع الأنعام سائمةً وغَيْر سائمة ..
وإنْ كانت الصفة مقصودةً كانت الزكاة غَيْرَ واجبة في المعلوفة ؛ عملاً بالمفهوم المخالِف .
وأَرَى : أنّ كفَّة المذْهبيْن متعادِلة ، ووجهة كُلٍّ منهما مقبولة ، إلاّ أنّ المُرَجِّح بَيْنَهُمَا هو ما يَعُود على الفقراء والمساكين ، وهو ما يحقِّقه المذهب الثاني القائل بوجوبها في الجميع عَدَا العوامل .
أمَّا المذهب الأول القائل بعدم وجوب الزكاة في المعلوفة : فإنَّه يَفْتَح باباً كبيراً لِلهروب مِنَ الزكاة لِمَنْ يَملكون مَزارع كبيرةً لِلمواشي تَضُمّ مئات أو آلاف الرءوس بملايين الجنيهات ، فهلْ يُعْقَل أنْ نُلْزِم صاحِب
(1) يُرَاجَع : المُحَلَّى 5/369 وحاشية الدسوقي 1/432
(2) يُرَاجَع المُحَلَّى 6/46 ، 47(1/205)
الأربعين شاةً أنْ يُزَكِّيَهَا بشاة وصاحِب المَزارع السابقة مُعْفى منها ؟! هذا تَنَاقُض عجيب وإجحاف وبُعْد عَنْ قواعد الإنصاف والعدالة ، وحرمان وحَجْب لِلفقراء والمساكين مِنْ حَقّهم في هذا المال الوفير ..
إلا إنْ زُكِّيَتْ هذه المَزارع زكاةَ عَرُوض التجارة والمشاريع التجارية الاستثمارية ، وهو ما يَقُوم به الكثرة ، إلا أنّ الأَوْلَى الأخذ بالمذهب الثاني حتّى نُغْلِق باب التهرب مِنَ الزكاة لِضِعَاف النفوس .
الفرع السادس
نكاح الربيبة (1)
النَّصّ الوارد في ذلك : قوله تعالى { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَتُكُمْ وَعَمَّتُكُمْ وَخَلَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَتُكُمُ الَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَتُكُم مِّنَ الرَّضَعَةِ وَأُمَّهَتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَئِبُكُمُ الَّتِى فِى حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ الَّتِى دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيما } (2) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه حرمة الزواج بالربيبة المدخول بأُمِّهَا بشَرْط كَوْنِهَا في حِجْر زَوْج أُمِّهَا ..
فهلْ يُعْمَل بمفهوم المخالَفة هُنَا أم لا ؟
وَجْه التفريع : أنّ الله تعالى قَيَّد تحريم نكاح الربيبة المدخول بأُمِّهَا بِشَرْط كَوْنها في حِجْره ..
فهلْ يَختلف الحُكْم عند انتفائه عملاً بمفهوم المخالَفة أم لا ؟
لِلعلماء في ذلك قولان :
القول الأول : عدم اشتراط كَوْنِهَا في حِجْره .
وهو قول الجمهور ، ورُوِي عَنْ سائر الصحابة وعامّة الفقهاء - رضي الله عنهم - .(1/206)
(1) الربيبة : فعيلة بمعنى مفعولة : بنت امرأة الرَّجُل مِنْ غَيْرِه ، سُمِّيَتْ بذلك لأنّه يُرَبِّيهَا في حِجْرِه ، فهي مربوبة .. تفسير القرطبي 5/112 ويُرَاجَع المفردات /191 ، 192
(2) سورة النساء الآية 23
وحُجَّتهم : أنّ هذا الشَّرْط ـ كَوْنُهُنّ في الحجور ـ إنَّمَا ذلك على الأغلب مِمَّا يَكون عليه الربائب ؛ لأنَّهنّ لا يُحَرَّمْن إذا لَمْ يَكُنّ كذلك ، فهو شَرْط لِبيان الواقع وجَرَى مَجْرَى الغالب ، فلا يَنْتَفِي الحُكْم بانتفائه ، وتحرم الربيبة التي ليست في الحِجْر ..
ولِذَا فإنّ المفهوم هُنَا ـ مفهوم الشَّرْط ـ لا عَمَل له ولا يُبْنَى عليه حُكْم ؛ لِمَا تَقَدَّم .
القول الثاني : اشتراط كَوْنها في الحِجْر .
وهو مَرْوِيّ عَنْ عَلِي - رضي الله عنه - (1) ، وهو قَوْل داود رحمه الله تعالى ، واختاره ابن حَزْم رحمه الله تعالى ، وحُكِي عَنْ مالِك - رضي الله عنه - عملاً بظاهر النَّصّ (2) .
واحْتَجّوا بأدلّة ، حَصَرْتُهَا فيما يلي :
الدليل الأول : أنّ الله عَزّ وجَلّ قَيَّد حرمة نكاح الربيبة المدخول بأُمِّهَا بِكَوْنِهَا في الحِجْر ، فلا يَتَحَقَّق هذا الحُكْم إلا بوجود الشَّرْط ، فإذا انْتَفَى الشَّرْط انْتَفَى الحُكْم .
وهذه الحُجَّة ـ فيمَا نَرَى ـ مَبْنِيَّة على العمل بمفهوم المخالَفة ( مفهوم الشَّرْط ) .
(1) الإمام عَلِيّ : هو الصّحابيّ الجليل أبو الحَسَن عَلِيّ بن أبي طالب بن عبد المُطَّلِب كَرَّم الله وجْهه ابن عمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أوَّل مَن أَسلَم مِن الصِّبيان ، وُلِد سَنَة 23 قَبْل الهجرة ، وتَرَبَّى في حِجْر المصطفَى - صلى الله عليه وسلم - ، وهو رابِع الخلفاء الراشدين ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 40 هـ .
الفتح المبِين 1/60 - 65(1/207)
(2) يُرَاجَع : تفسير القرطبي 5/112 وأحكام القرآن لابن العربي 1/378 وتفسير آيات الأحكام لِلسايس 2/422 وتفسير أبي السعود 1/672 ، 673 وأحكام القرآن لِلكيا الهراسي 2/242
الدليل الثاني : ما رُوِي عَنْ زَيْنَب بنت أَبِي سَلَمَة (1) أنّ أُمّ حبيبة (2) ـ رضي الله عنهما ـ قالت في حديث طويل :" يَا رَسُولَ اللَّهِ .. لَقَدْ أُخْبِرْتُ أَنَّكَ تَخْطِبُ بِنْتَ أَبِي سَلَمَة ؟ " فقال - صلى الله عليه وسلم - { بِنْتُ أَبِي سَلَمَة } قالَت :" نَعَم " فقال - صلى الله عليه وسلم - { أَمَا وَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِي ؛ إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَة } (3) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَيَّد الربيبةَ بِكَوْنِهَا في حِجْره - صلى الله عليه وسلم - ، فدَلّ ذلك على أنّ شَرْط تحريم الربيبة كَوْنُهَا في الحِجْر ؛ وإلا لَمَا كان لِذِكْر هذا الشَّرْط فائدة (4) .
الدليل الثالث : ما رُوِي عَنْ مالك بن أَوْس بن الحدثان (5) قال : كانت
(1) زينب بنت أبي سلمة : هي الصّحابيّة الجليلة السَّيِّدَة زَيْنَب بِنْت أَبِي سَلَمَة بن عَبْد الأسد المخزوميّة رضي الله عَنْهُمَا ، ربيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كان اسمُهَا برّة فسَمّاهَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " زَيْنَبَ " وَلَدَتْهَا أُمُّهَا بالحَبَشَة ، تَزَوَجَّتْ عَبْدَ الله بن زمعة الأسود الأسديّ - رضي الله عنه - ، كانت مِنْ أَفْقَه نساء زمانها .
تُوُفِّيَتْ رضي الله عَنْهَا سَنَة 73 هـ .
أسد الغابة 7/132 ، 133 والبداية والنهاية 8/355
(2) السَّيِّدَة أُمّ حبيبة : هي أُمّ المُؤْمِنين السَّيِّدَة رملة بِنْت أَبِي سفيان صَخْر بن حَرْب بن أُمَيَّة رضي الله عَنْهَا ، تَزَوَّجَها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي بالحبشة سَنَة 6 هـ .
تُوُفِّيَتْ رضي الله عَنْهَا سَنَة 44 هـ .(1/208)
الاستيعاب 4/1843 - 1846 وسِيَر أعلام النبلاء 2/218 - 223
(3) أَخْرَجه البخاري في كِتَاب النفقات : باب المراضع مِنَ المواليات وغَيْرِهِنّ برقم ( 4953 ) ومُسْلِم في كِتَاب الرضاع : باب تحريم الربيبة وأخت المرأة برقم ( 2626 ) والنسائي في كِتَاب النكاح : باب تحريم الجَمْع بَيْن الأُمّ والبنت برقم ( 3233 ) .
(4) يُرَاجَع المُحَلَّى 9/529 – 531
(5) مالِك بن أَوْس بن الحدثان : هو الصّحابيّ الجليل أبو سعيد مالِك بن أَوْس بن الحدثان بن عَوْف ابن ربيعة بن يربوع النصري المديني - رضي الله عنه - ، قِيل إنَّه مِنْ كِبَار التابعين ، مِنْ فصحاء العَرَب ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 92 هـ .
الاستيعاب 3/1346 ، 1347 والإصابة 5/709 - 711
عندي امرأة فتُوُفِّيَتْ وقَدْ وَلَدَتْ لي ، فوَجَدْتُ عليها ، فلَقِيَنِي عَلِيّ بن أبي طالِب - رضي الله عنه - فقال :" مَا لَك ؟ " فَقُلْتُ :" تُوُفِّيَتِ المرأة " ، فقال :" لَهَا ابْنَة ؟ " قُلْتُ :" نَعَمْ ، وهي بالطائف " ، قال :" كَانَتْ فِي حِجْرِك ؟ " قُلْتُ :" لا ؛ هي بالطائف " ، قال :" فَانْكِحْهَا " قُلْتُ :" فأيْن قول الله تعالى { وَرَبَئبُكُمُ الَّتِى فِى حُجُورِكُم } (1) ؟! " قال :" إِنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِكَ ، إِنَّمَا ذَلِكَ إِذَا كَانَتْ فِي حِجْرِك " ا.هـ ..
وذَكَر ابن كثير (2) ـ رحمه الله تعالى ـ أنّ إسناده قَوِيّ (3) ، وهو قول غريب جدّاً (4) .
والراجح عندي : ما عليه الجمهور وعامّة الصحابة القائلون بحرمة نكاح الربيبة ، كانت في الحِجْر أو لَمْ تَكُنْ ، وأنّ الحِجْر المُقَيَّد به الحُكْم إنَّمَا هو بيان لِلواقع وجارٍ مَجْرَى الغالب .
(1) سورة النساء مِنَ الآية 23(1/209)
(2) ابن كثير : هو أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن كثير بن ضوء البصري ثُمّ الدمشقي رحمه الله تعالى ، الفقيه الشافعي ، وُلِد سَنَة 700 هـ ، كان إماماً فاضلاً عالِماً بالحديث والتاريخ والعربية والتفسير ..
مِن مصنَّفاته : البداية والنهاية ، مختصَر تهذيب الكمال ، تفسير القرآن العظيم .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 774 هـ .
شذرات الذهب 6/230 - 232
(3) تفسير ابن كثير 1/471
(4) يُرَاجَع : تفسير القرطبي 5/112 وأحكام القرآن لابن العربي 1/378 وتفسير آيات الأحكام لِلسايس 2/422 وتفسير أبي السعود 1/672 ، 673 وأحكام القرآن لِلكيا الهراسي 2/242
الفرع السابع
الزواج مِنَ الأَمَة
النَّصّ الوارد فيه : قوله تعالى { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا (1) أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَتِ الْمُؤْمِنَتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَنُكُم مِّن فَتَيَتِكُمُ الْمُؤْمِنَتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَنِكُم بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَتٍ غَيْرَ مُسَفِحَتٍ وَلا مُتَّخِذَتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنكُمْ وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم } (2) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه جواز نكاح الأَمَة المُسْلِمَة عند عدم القدرة على نكاح الحُرَّة المُسْلِمَة وخشية العنت ..
وفيه دلالتان بالمفهوم :
الدّلالة الأولى : مفهوم الشَّرْط .
وَجْه التفريع : أنّ الله تعالى قَيَّد جواز نكاح الأَمَة المُسْلِمَة بشرْطيْن :
الأول : عدم الاستطاعة على نكاح المُحْصَنَات المُؤْمِنَات .
(1) الطَّوْل : كِنَايَة عَمَّا يُصْرَف إلى المَهْر والنَّفَقَة ..
المفردات /321 وأحكام القرآن لابن العربي 1/393(1/210)
وذَكَر القرطبي في مَعْنَاه أقوالاً ثلاثةً :
الأول : السعة والغِنَى .
الثاني : الحُرَّة .
الثالث : الجَلَد والصبر لِمَنْ أَحَبّ أَمَةً وهَوِيَهَا حَتَّى لا يستطيع أنْ يَتَزَوَّج غَيْرَهَا ..
يُرَاجَع تفسير القرطبي 5/136 ، 137
(2) سورة النساء الآية 25
الثاني : خَوْف العنت .
ولِذَا وعملاً بمفهوم المخالَفة فإنّ الحُكْم يَنْتَفِي بانتفاء الشَّرْطَيْن أو أحدهما ، فيحرم نكاح الأَمَة المُسْلِمَة عند الاستطاعة على نكاح الحُرَّة المُؤْمِنَة .
وقَدِ اختلَف الفقهاء في حُكْم نكاح الأَمَة المُسْلِمَة تبعاً لِذلك على قوْليْن :
القول الأول : حرمة نكاحها عند القدرة على نكاح الحُرَّة المُسْلِمَة .
وهو ما عليه جمهور العلماء ؛ عملاً بمفهوم المخالَفة ، وهو مرويّ عَنْ جابر بن عَبْد الله (1) وابن عبّاس وعطاء وطاووس والزُّهْري (2) وأَبِي ثَوْر - رضي الله عنهم - (3) .
القول الثاني : جواز نكاحها عند القدرة على نكاح الحُرَّة المُسْلِمَة .
وهو ما عليه الحنفيَّة ؛ جرياً على عدم حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة عندهم .
واحْتَجّوا : بأنّ الأَمَة داخلة في عموم قوله تعالى { فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء } (4) وقوله تعالى بَعْد أنْ ذَكَر المُحَرَّمَات مِنَ النساء في
(1) جابر بن عَبْد الله : هو الصّحابيّ الجليل أبو عبد الله جابر بن عبد الله بن عَمْرو بن حرام ابن كعْب الأنصاري السلمي رضي الله عنهما ، شَهِد بيعة العَقَبَة الثانية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير ، وشَهِد مع النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ثماني عشرة غزوة ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 74 هـ ، وقيل : سَنَة 78 هـ .
أسد الغابة 1/351 والإصابة 1/434 ، 435 وشذرات الذهب 1/44(1/211)
(2) الزُّهْري : هو أبو بَكْر مُحَمَّد بن مُسْلِم بن عُبَيْد الله بن عَبْد الله بن شهاب القرشي الزُّهْرِي رحمه الله تعالى ، تابعيّ جليل ، أحد الأعلام مِنْ أئمّة الإسلام ، وُلِد سَنَة 58 هـ .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بأدامى بيْن فلسطين والحجاز سَنَة 124 هـ .
البداية والنهاية 9/353 - 361
(3) يُرَاجَع : تفسير القرطبي 5/137 والمُهَذَّب 2/44 ، 45 والمُغْنِي 7/104
(4) سورة النساء مِنَ الآية 3
النكاح { وَأُحِلَّ لَكُم مَّاَ وَرَاءَ ذَلِكُم } (1) ، والأَمَة مندرِجة تَحْت عموم هاتيْن الآيتيْن ، كَمَا أنَّهَا مُحَلَّلَة له بمِلْك اليمين ؛ فتَحِلّ له بالنكاح (2) .
والراجح عندي : ما عليه الجمهور أصحاب القول الأول القائل بحرمة نكاح الأَمَة عند القدرة على نكاح الحُرَّة المُسْلِمَة ؛ عملاً بالمفهوم المُخالِف وإلا لَمَا كان لِتقييد الحُكْم بالشَّرْط فائدة ، ونصوص الشرع تنأى عَنْ ذلك .
الدّلالة الثانية : مفهوم الصفة .
وَجْه التفريع : أنّ الله تعالى وَصَف الأَمَة ـ التي يجوز نكاحها عند عدم الطَّوْل ـ بالمُؤْمِنَة في قوله تعالى { مِن فَتَيَتِكُمُ الْمُؤْمِنَت } (3) ..
ولِذَا اختلَفوا في نكاح الأَمَة الكتابيّة على قوْليْن :
القول الأول : عدم جواز نكاحها .
وهو ما عليه الجمهور ؛ عملاً بمفهوم المخالَفة .
القول الثاني : جواز نكاحها .
وهو ما عليه الحنفيَّة وأصحاب الرأي ؛ لِعدم حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة عندهم .
واحْتَجّوا : بأنّ الصفة هُنَا ليست قيداً في الحُكْم ، وإنَّمَا هي على جهة الوصف الفاضل ، وهو بمنزلة قوله تعالى { فَإِن خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَحِدَة } (4) ، فإنْ خاف ألاّ يَعْدِل فتَزَوَّج أَكْثَرَ مِنْ واحدة جاز ، ولكنّ الأفضل ألاّ يَتزوج ؛ فكذلك هُنَا الأفضل ألاّ يَتَزَوَّج إلا مُؤْمِنَةً ، ولو تَزَوَّج
(1) سورة النساء مِنَ الآية 24(1/212)
(2) يُرَاجَع : المبسوط 5/108 – 110 والهداية شَرْح البداية 1/193 وأحكام القرآن لابن العربي 1/393 ، 394 وأحكام القرآن لِلكيا الهراسي 1/30 وأحكام القرآن لِلشافعي 1/188
(3) سورة النساء مِنَ الآية 25
(4) سورة النساء مِنَ الآية 3
غَيْرَهَا جاز ..
وقياساً على الزواج مِنَ الحرائر مِنَ الكتابيّات جازت الإماء (1) .
والأَوْلَى عندي : ما عليه الجمهور ؛ عملاً بمفهوم المخالَفة .
ويُعَضِّد اختياري في ذلك : ما ذَكَره ابن جرير الطبري (2) ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" وأَوْلَى القوْليْن في ذلك بالصواب : قول مَنْ قال : هو دلالة على تحريم نكاح إماء أهْل الكِتَاب ؛ فإنّهنّ لا يَحللن إلا بمِلْك اليمين ، وذلك أنّ الله جَلّ ثناؤه أَحَلّ نكاح الإماء بشروط ، فما لَمْ تَجْتَمِع الشروط التي سَمَّاهَا فيهنّ فَغَيْر جائز لِمُسْلِم نكاحهنّ ..
فإنْ قال قائل : فإنّ الآية التي في " المائدة " تَدُلّ على إباحتهنّ بالنكاح ؟
قيل : إنّ التي في " المائدة " قَدْ أبان أنّ حُكْمَهَا في خاصّ مِنْ مُحْصَنَاتِهِمْ ، وأنَّهَا مَعْنِيّ بها حرائرهم دون إمائهم ..
قوله تعالى { مِن فَتَيَتِكُمُ الْمُؤْمِنَت } (3) : وليست إحدى الآيتيْن دافعاً حُكْمُهَا حُكْمَ الأخرى ، بلْ إحداهما مُبَيِّنةٌ حُكْمَ الأخرى ، وإنَّمَا تَكون إحداهما دافعةً حُكْمَ الأخرى لو لَمْ يَكُنْ جائزاً اجتماع حُكْمَيْهِمَا على صِحَّة ، فأمَّا وهُمَا جائزٌ اجتماع حُكْمِهِمَا على الصِّحَّة فَغَيْر جائز أنْ يُحْكَم لإحداهما بأنَّهَا دافعةٌ حُكْمَ الأخرى إلا بِحُجَّة يجب التسليم بها مِنْ خَبَر أو قياس ،
(1) يُرَاجَع : تفسير القرطبي 5/140 والهداية 1/193 ، 194 وأحكام القرآن لِلجصّاص 2/164 وأحكام القرآن لِلكيا الهراسي 1/303 وأحكام القرآن لِلشافعي 1/188(1/213)
(2) الطبري : هو أبو جَعْفَر مُحَمَّد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالِب الطَّبَرِي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 224 هـ ، استوطَن بغداد وأقام بها ، ورَحَل إلى الآفاق في طلب العِلْم .
مِنْ مصنَّفاته : جامِع البيان في تفسير القرآن ، تاريخ الأُمَم والملوك ، تهذيب الآثار .
البداية والنهاية 11/156 - 158
(3) سورة النساء مِنَ الآية 25
ولا خَبَر في ذلك ولا قياس ، والآية مُحْتَمِلة ما قُلْنَا : والمُحْصَنَات مِنْ حرائر الذين أوتوا الكِتَاب مِنْ قَبْلِكُمْ دون إمائهم " (1) ا.هـ .
(1) جامِع البيان 8/190
الفرع الثامن
تحريم نكاح الأمّهات
النَّصّ الوارد في ذلك : قوله تعالى { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَتُكُم } (1) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه حرمة الأمّهات ، والأمّهات أعيان ، والعقل يأبَى إضافة الأحكام إليها ، ولِذَا كانت صِحَّة هذا الكلام عقلاً متوقِّفة على مُضْمَر محذوف تقدير " نكاح " .
وَجْه التفريع : أنّ هذا النَّصّ أفاد مفهومه المَبْنِيّ على اقتضاء المُضْمَر الذي تَوَقَّف صِحَّة الكلام عقلاً عليه أنّ وطء الأُمّهات حرام (2) .
(1) سورة النساء مِنَ الآية 23
(2) يُرَاجَع : المستصفى /263 وروضة الناظر 2/770 وشَرْح مختصر الروضة 2/710 ، 711
الفرع التاسع
نفقة البائن الحائل
النَّصّ الوارد في ذلك : قوله تعالى { وَإِن كُنَّ أُولَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ } (2) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه وجوب النفقة لِلزوجة المُطَلَّقَة طلاقاً بائناً إنْ كانت حاملاً حتّى تَضَع حَمْلَهَا .
وَجْه التفريع : أنّ الحُكْم هُنَا ـ وهو وجوب النفقة لِلبائن ـ مُقَيَّد بشَرْط أنْ تَكون حاملاً ، فإذا انْتَفَى هذا الشَّرْط فهَلْ يَنْتَفِي الحُكْم بانتفائه فلا نفقةَ لِلبائن الحائل عملاً بمفهوم المخالَفة أم لا ؟(1/214)
اختلَف العلماء تبعاً لِذلك على ثلاثة أقوال :
القول الأول : وجوب السُّكْنَى والنَّفَقَة .
وهو ما عليه الحنفيَّة ، وهو قول عُمَر وابن مسعود وكثير مِنْ فقهاء
(1) البائن : مِنْ " بَيْن " ، والبَيْن في كلام العرب جاء على وجْهيْن : يَكون البَيْنُ الفُرْقَةَ ، ويَكون الوصلَ ، وهو مِنَ الأضداد ..
وبانَت المرأة عَنِ الرَّجُل : انْفَصَلَتْ عنه بطلاق .
والطلاق البائن : هو الذي لا يَملك الزوج فيه استرجاعَ المرأة إلا بعَقْد جديد .. يُرَاجَع لسان العرب 13/62 – 64
والحائل : مِنْ " حول " أيْ حَجَز ..
وناقة حائل : حُمِل عليها فلَمْ تُلَقَّحْ ، وهي الناقة التي لَمْ تَحْمِلْ سَنَةً أو سَنَتَيْن أو سنوات ، وكذلك كُلّ حامِل يَنْقَطِع عنها الحَمْل سَنَةً أو سنوات حَتّى تَحْمِل .
والحامل : الأنثى مِنْ وَلَد الناقة .. يُرَاجَع لسان العرب 11/187 – 189
(2) سورة الطلاق مِنَ الآية 6
الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - .
واحْتَجّوا لِذلك : بقوله تعالى { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } (1) ؛ فهو أمْر بالسُّكْنَى لِكُلّ مُطَلَّقَة ، حاملاً كانت أم حائلاً ..
ولو كان الإنفاق جزاءً لِلحَمْل لَوَجَب في ماله إذا كان له مال ، ولَمْ يقولوا به ، واعتبَروا الشَّرْط لا مفهوم له مخالِف ، وإنَّمَا فائدته أنّ الحامل قَدْ يُتَوَهَّم أنَّهَا لا نفقة لها لِطُول مُدَّة الحَمْل ، فأَثْبَت لها النفقة لِيُعْلِم غَيْرَهَا بطريق الأَوْلَى ، فهو مِنْ مفهوم الموافَقة .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :
وأَرَى مناقَشة هذا الدليل مِنْ وجوه :
الوجه الأول : أنّ الآية الكريمة أَمَرَتْ لَهُنّ بالسُّكْنَى ، ومحلّ نِزَاعِنَا هو النفقة ولَيْس السُّكْنَى .(1/215)
الوجه الثاني : أنَّا لا نُسَلِّم لكم أنّ عدم وجوب النفقة في مال الجنين أو الحَمْل دليل على أنّ الإنفاق لَيْس جزاءً لِلحَمْل ؛ لأنّ الإنفاق واجب على الأب لأنَّه ولدُه ، والشرع أَلْزَمَه بنفقته وإرضاعه بمُقْتَضَى قوله تعالى { وَالْوَلِدَتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف } (2) .
الوجه الثالث : أنّ القول بدلالة الشَّرْط على وجوب النفقة على الحامل بطريق الأَوْلَى مردود ولا يُقْبَل إلا إذا كانت النفقة واجبةً على الحائل ؛ فإنَّهَا تَكون واجبةً على الحامل مِنْ باب أَوْلَى ؛ لِوجود سبب يَستدعي ذلك ..
أمَّا إيجاب النفقة لِلحامل البائن بسبب حَمْلِهَا : فإنَّه يَكون أَدْعَى إلى عدم النفقة على الحائل ؛ لِعدم وجود ما يَستدعي النفقة عليها ، وهذا الحُكْم
(1) سورة الطلاق مِنَ الآية 6
(2) سورة البقرة مِنَ الآية 233
مَبْنِيّ على العمل بمفهوم المخالَفة .
القول الثاني : عدم وجوب السُّكْنَى والنَّفَقَة .
وهو ما عليه الحنابلة وسائر أهْل الحديث ، ومَرْوِيّ عن ابن عبّاس وجابِر وفاطمة بنت قَيْس (1) وكَثِير مِنَ التابعين - رضي الله عنهم - .
وحُجَّتُهم : حديث فاطمة بنت قَيْس رضي الله عنها أنّ أبَا عَمْرو بن حَفْص (2) طَلَّقَهَا البتَّةَ وهو غائب ، فأَرْسَل إليها وكيلَه بشعير فسَخطَتْه ، فقال :" وَاللَّهِ مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَيْء " ، فجاءت رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فذَكَرَتْ ذلك له فقال { لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَة } (3) ، وفي رواية { لاَ نَفَقَةَ وَلاَ سُكْنَى } (4) .
ورَدّوا استدلال القول الأول بقوله تَبَارَك وتعالى { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } (5) : بأنَّه إنَّمَا هو في الرّجعيّات خاصّة ..(1/216)
(1) السَّيِّدَة فاطمة بِنْت قَيْس : هي الصّحابيّة الجليلة السَّيِّدَة فاطمة بنت قيس بن خالد الفهريّة القرشيّة رضي الله عنها ، أخت الضّحّاك بن قيس - رضي الله عنه - ، مِن المهاجرات الأُوَل ، وتزوَّجَت أسامة بن زيْد رضي الله عنهما ، روت أربعةً وثلاثين حديثاً ..
تُوُفِّيَتْ رضي الله عنها في خلافة معاوية بن أبي سفيان .
الاستيعاب 1/383 والإصابة 4/384
(2) أبو عَمْرو بن حَفْص : هو الصّحابيّ الجليل أبو عَمْرو بن حَفْص بن المغيرة بن عَبْد الله ابن عَمْرو المخزوميّ - رضي الله عنه - ، قِيل : إنّ اسمه أَحْمَد ، وقِيل : عَبْد الحميد ، وقِيل : اسمه كُنْيَتُه .
خَرَج مع عَلِيّ ـ كَرَّم الله وَجْهَه ـ إلى اليَمَن لَمّا أَمَّرَه النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهَا فمات بها ، وقِيل : إنّه بَقِي إلى خِلاَفَة عُمَر - رضي الله عنه - .
الاستيعاب 4/1719 ، 1720 والإصابة 7/287
(3) أَخْرَجه مُسْلِم في كِتَاب الطلاق : باب ما جاء في نفقة المُطَلَّقَة برقم ( 2709 ) وأبو داود في كِتَاب الطلاق : باب في نفقة المبتوتة برقم ( 1944 ) ومالِك في كِتَاب الطلاق : باب ما جاء في نفقة المُطَلَّقَة برقم ( 1064 ) .
(4) أَخْرَجه مُسْلِم في كِتَاب الطلاق : باب ما جاء في نفقة المُطَلَّقَة برقم ( 2710 ) وأبو داود في كِتَاب الطلاق : باب في نفقة المبتوتة برقم ( 1945 ) والنسائي في كِتَاب الطلاق : باب الرخصة في ذلك برقم ( 3352 ) .
(5) سورة الطلاق مِنَ الآية 6
وقالوا : لو سَلَّمْنَا بعمومها في الرَّجعيّات والبوائن لَكان الحديث مخالِفاً لِعمومها ، وحينئذٍ يَكون الحديث مُخَصِّصاً لِعمومها .
مُنَاقَشَة هذا الدليل :(1/217)
وأَرَى مُنَاقَشَة هذا الدليل : بأنّ آية الإسكان عامّة في الرّجعيّات والبوائن ، والرواية الأولى مِنْ حديث فاطمة بنت قَيْس ـ رضي الله عنها ـ نَفَتِ النفقة ، فلا تَعارُض بَيْنَهُمَا ـ حينئذٍ ـ إلا على الرواية الثانية التي نفت السُّكْنَى والنفقة ، وهُنَا يَكون الحديث مُخَصِّصاً لِعموم آية الإسكان ..
لكنّ تخصيص مِثْل هذا الخبر لِعموم القرآن فيه نظر ، ولَيْس مُسَلَّماً عند الأصوليّين ، وإنَّمَا اختلَفوا فيه .
القول الثالث : وجوب السُّكْنَى دون النَّفَقَة .
وهو قول الإماميْن مالِك والشافعي ، ومَرْوِيّ عَنْ فقهاء المدينة - رضي الله عنهم - .
واحَتْجّوا لِذلك : بظاهر قوله تعالى { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } (1) فإنَّه دالّ على وجوب السُّكْنَى .
أمَّا عدم وجوب النَّفَقَة : فلِقوله تعالى { وَإِن كُنَّ أُولَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ } (2) ؛ فإنّ مفهومه : إذا لَمْ يَكُنّ حوامل لا يُنْفق عليهنّ .
وقالوا : إنّ حديث فاطمة بنت قَيْس ـ رضي الله عنها ـ صحيح لا نُنْكِر صِحَّتَه ، لكنَّه قَدْ خالَف في السُّكْنَى ظاهِرَ العموم في قوله { أَسْكِنُوهُنّ } ، ويجب قُبَيْل القول بالتخصيص أو النسخ الجَمْعُ بَيْن الحديث والآية ما أَمْكَن ..
(1) سورة الطلاق مِنَ الآية 6
(2) سورة الطلاق مِنَ الآية 6
وقَدْ جاء في الصحيح عَنْ سعيد بن المسيّب (1) ـ رحمه الله تعالى ـ أنّ فاطمة رضي الله عنها كانت امرأةً لَسِنَةً ، وأنَّهَا استطالَتْ على أحمائها ، فأَمَرَهَا النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بالانتقال مِنْ مَسْكَن فراقها (2) (3) .(1/218)
والراجح عندي : ما عليه أصحاب القول الثالث مِنْ وجوب السُّكْنَى لِلمُطَلَّقَة البائن الحائل ما لَمْ تَتَزَوَّجْ ؛ وذلك لِمُقْتَضَى الأمر في قوله تعالى { أَسْكِنُوهُنّ } (4) ، وعدم وجوب النَّفَقَة ؛ عملاً بمفهوم المخالَفة ؛ لِقوله تعالى { وَإِن كُنَّ أُولَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ } (5) .
(1) سعيد بن المسيّب : هو أبو مُحَمَّد سَعِيد بن المُسَيَّب بن حزن بن أَبِي وَهْب بن عَمْرو المخزومي القُرَشِي رحمه الله تعالى ، مِنْ كِبَار التابعين ، وُلِد لِسَنَتَيْن مَضَتَا مِنْ خِلاَفَة عُمَر - رضي الله عنه - على الأرجح ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالمدينة سَنَة 93 هـ .
طبقات ابن سَعْد 5/119 - 143 ووفيات الأعيان 2/375 - 378
(2) أَخْرَجه أبو داود في كِتَاب الطلاق : باب مَنْ أَنْكَر ذلك على فاطمة بِنْت قَيْس برقم ( 1951 ) .
(3) يُرَاجَع : تفسير آيات الأحكام لِلسايس 4/574 – 577 وجامِع البيان 28/94 ، 95 وأحكام القرآن لابن العربي 4/1827 ، 1828 وأحكام القرآن لِلكيا الهراسي 4/482 ، 483 وتفسير القرآن العظيم 4/383
(4) سورة الطلاق مِنَ الآية 6
(5) سورة الطلاق مِنَ الآية 6
الفرع العاشر
قَطْع يد السارق
النَّصّ الوارد فيه : قوله تعالى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءَ بِمَا كَسَبَا نَكَلا مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم } (1) ..
وَجْه الدّلالة : أنّ هذا النَّصّ أفاد منطوقه وجوب قَطْع يد السارق ، ودخول الفاء على الحُكْم المسبوق بالعِلّة المتقدِّمة فيه دلالة على أنّ العِلّة في الحُكْم هي السرقة .
وَجْه التفريع : أنّ ذِكْر الحُكْم عقب الوصف المناسِب فيه تنبيه وإيماء على أنّ السرقة هي العِلَّة في الحُكْم (2) .(1/219)
وفي ذلك يقول الفخر الرازي رحمه الله تعالى :" والثاني : أنّ السرقة جناية ، والقَطْع عقوبة ، ورَبْط العقوبة بالجناية مناسِب ، وذِكْر الحُكْم عُقَيْب الوصف المناسِب يَدُلّ على أنّ الوصف عِلَّة لِذلك الحُكْم " (3) ا.هـ .
(1) سورة المائدة الآية 38
(2) يُرَاجَع : المنخول /343 ، 344 وروضة الناظر 2/771 والإحكام لِلآمدي 3/235 وجَمْع الجوامع مع شَرْح المحلّي مع حاشية البناني 2/264 ونهاية السول 3/44 ، 45 ومناهج العقول 3/42 ، 43 وجامِع البيان 6/148 وتفسير القرآن العظيم 2/55
(3) التفسير الكبير 11/223
الخاتمة
الحمد لله الذي أَسْبَغ عَلْيَنَا نِعَمَه ظاهرةً وباطنةً ، ومنها الوصول إلى نهاية هذا البحث في دلالة المفهوم على الأحكام ..
وأَشْهَد أنْ لا إله إلا الله وَحْدَه لا شريك له ، شَرَح صدورَنَا بالإسلام ، وأنار عقولَنَا بالتعلم والإيمان .
وأَشْهَد أنّ سيدنا مُحَمَّداً عَبْد الله ورسوله ، سَيِّد ولد عدنان ، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصَحْبه ومَنْ تَبِع هُدَاهُمْ إلى يَوْم الدِّين ..
وبَعْدُ ..
فهذا بَحْثِي قَدْ حاولْتُ أنْ أَجْمَع شتاتَه وجزئيّاته المتفرِّقة في المَراجع الأصوليّة ، ثُمّ حَقَّقْتُهَا تحقيقاً عِلْميّاً ، وحاولْتُ أنْ أُدْلِي بدلوي في كُلّ مسألة كَيْ أُسْهِم مع فحول هذا العِلْم ورجاله في الحِفَاظ عليه ونَشْره وتسهيل عَرْضه ، مع يقيني بأنِّي دونهم في العِلْم والصلاح والتُّقَى ، ولكنْ كَمَا قال الشاعر :
فتَشَبَّهُوا إنْ لَمْ تَكُونوا مِثْلَهُمْ إنّ التَّشَبُّه بالرِّجَال فَلاَحُ
ويُمْكِن في خِتَام هذا البحث حَصْر النتائج التي يُتَوَصَّل إليها وَفْق الراجح عندي فيما يلي :
1- الدّلالة لغةً : الإرشاد .
واصطلاحاً : كَوْن الشيء يَلْزَم مِنْ فَهْمه فَهْم شيء آخَر .
وهي تَنقسم إلى ثلاثة أقسام : عقليّة ، ووضعيّة ، وطبيعيّة .(1/220)
وكُلّ واحد منها يَنقسم إلى : دلالة لفظيّة ، وغَيْر لفظيَّة .
2- الدّلالة اللفظية الوضعية هي المقصودة عند الأصوليّين ..
وعَرَّفوها بأنَّهَا : كَوْن اللفظ بحيث إذا أُرْسِل فُهِم المَعْنَى لِلعِلْم بوضعه .
وهي تَنقسم إلى ثلاثة أقسام : دلالة مطابقيّة ، ودلالة تضَمُّنِيَّة ، ودلالة التزاميَّة .
ودلالة المطابقة ودلالة التضمن دلالتهما لفظيّة ، ودلالة الالتزام عقليّة .
3- قَسَّم الحنفيَّة الدلالة الوضعية إلى : لفظيّة وغَيْر لفظيّة ، ويُسَمّونها " بيان الضرورة " ..
وقَسّموا غَيْر اللفظية أربعة أقسام .
كَمَا قَسَّموا اللفظ باعتبار دلالته على الحُكْم إلى أربعة أقسام : عِبَارَة النَّصّ ، وإشارة النَّصّ ، ودلالة النَّصّ ، واقتضاء النَّصّ .
4- قَسَّم الأصوليّون مُقْتَضَى النَّصّ أقساماً ثلاثةً : ما أُضْمِر ضرورةَ صِدْق المُتَكَلِّم ، أو لِصِحَّة الكلام عقلاً ، أو لِصِحَّته شرعاً .
5- الكثرة مِنَ الأصوليّين غَيْر الحنفيَّة قَسَّموا دلالة اللفظ على الحُكْم إلى قِسْمَيْن : منطوق ، ومفهوم ..
ولِذَا فإنَّهم يَلْتَقون مع الحنفيَّة في دلالتيْن : عبارة النَّصّ التي تُقابِل المنطوق ، ودلالة النَّصّ التي تُقَابِل مفهوم الموافَقة ..
أمَّا مفهوم المخالَفة : فلَمْ يَحْتَجّ به الحنفيَّة .
6- المنطوق لغةً : اسم مفعول مِنْ " نَطَق " أيْ تَكَلَّم بصوْت وحروف تُعْرَف بها المَعاني .
واصطلاحاً : ما فُهِم مِنْ دلالة اللفظ قَطْعاً في محلّ النطق .
ويَنْقَسِم إلى : نَصّ ، وظاهِر .
والنَّصّ : صريح ، وهو ما دَلّ عليه اللفظ بالمطابَقة أو التضمن ..
وغَيْر صريح ، وهو ما دلّ عليه بالالتزام .
ويَنْقَسِم إلى ثلاث دلالات : اقتضاء ، وإيماء ، وإشارة .
والظاهر : المتردِّد بَيْن احتمالَيْن فأَكْثَر هو في أحدهما أَرْجَح .
7- المفهوم لغةً : اسم مفعول مِنْ " فَهِم " أيْ عَلِم .(1/221)
واصطلاحاً : ما دَلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق ، وحُجَّته مستفادة مِنَ اللغة .
وأقسامه خمسة : دلالة الاقتضاء ، ودلالة الإشارة ، ودلالة الإيماء ( التنبيه ) ، ومفهوم الموافَقة ، ومفهوم المخالَفة .
8- دلالة الاقتضاء هي : المُضْمَر المقصود الذي يتوقَّف عليه صِدْق الكلام أو صِحَّته شرعاً أو عقلاً .
وشروطها أربعة : أنْ يَكون مُضْمَراً ، ويتوقَّف صِحَّة الكلام أو صِدْقه عليه ، وأنْ لا يَدُلّ عليه اللفظ ، وأنْ يَكون مقصوداً لِلمتكلِّم .
وأقسامها ثلاثة : ما يتوقَّف عليه صِدْق الكلام ، وما يتوقَّف صِحَّة الكلام عليه شرعاً ، وما يتوقَّف صِحَّتُه عليه عقلاً .
9- دلالة الإشارة هي : المَعْنَى المستفاد مِنَ اللفظ غَيْر مقصود لِلمتكلِّم ولا سِيق الكلام لأجْله ولَيْس بظاهر مِنْ كُلّ وَجْه .
وشروطها ثلاثة : أنْ يَكون المَعْنَى المستفاد مِنَ اللفظ غَيْرَ مقصود لِلمتكلِّم ، وأنْ لا يَكون الكلام قَدْ سِيق لأجْل هذا المَعْنَى ، وأنْ يَكون هذا المَعْنَى لَيْس ظاهراً مِنْ كُلّ وَجْه .
10- دلالة الإيماء ( التنبيه ) هي : اقتران اللفظ بِحُكْم مضاف إلى وَصْف مناسِب يُفْهَم منه عِلِّيَّتُه لِلحُكْم .
وشروطها ثلاثة : وجود حُكْم شرعيّ ، واقترانه بوصف مناسِب ،
وأنْ يَكون هذا الوصف عِلَّةً لِلحُكْم .
ومِنْ أنواعها ( خمسة ) : تعليق الحُكْم على العِلَّة بفاء لِلتعقيب ، وأنْ يُفَرّق بَيْن حُكْمَيْن بوصْفَيْن ، وأنْ يذْكر الحُكْم مترتِّباً على وصْف هو عِلَّتُه ، واقتران الحُكْم بوصف مناسِب ، وورود النهي عَنْ فِعْل يَمْنَع ما تَقَدَّم جوازه .
11- مفهوم الموافَقة هو : ما كان المسكوت عنه مُوَافِقاً لِلمنطوق في الحُكْم .
وشروطه خمسة : نَصّ شرعيّ ، وحُكْم شرعيّ لِهذا النَّصّ ، ووجود وقائع سَكَت عنها النَّصّ ، ووجود رابِط أو علاقة بَيْن المنطوق والمسكوت عنه ، واتِّفَاق المسكوت عنه والمنطوق في الحُكْم .(1/222)
ويَنْقَسِم إلى تَقْسِيمَيْن :
التقسيم الأول : الأولويّ والمُساوِي .
وهو قِسْمَان : أولويّ ، ومُسَاوِي .
التقسيم الثاني : القَطْعِيّ والظَّنِّيّ .
وهو قِسْمَان : مفهوم موافَقة قَطْعِيّ ، ومفهوم موافَقة ظَنِّيّ .
ومفهوم الموافَقة حُجَّة ، ودلالته لفظيَّة وليست قياسيّة .
12- مفهوم المخالَفة هو : ما كان المسكوت عنه مخالِفاً في الحُكْم لِلمنطوق .
وهو حُجَّة .
وشروط العمل به أربعة عَشَر شرطاً : أنْ لا يَكون المسكوت عنه أَوْلى بالحُكْم مِن المنطوق ، وأنْ لا يخرج المنطوق مخرج الغالب ، وأنْ لا يَكون جواباً لِسؤال أو بيان لِحادثة ، وأنْ لا يَكون مذكوراً لِتقدير جَهْل
المخاطَب به ، وأنْ لا يُقْصَد بالمنطوقِ الامتنانَ ، وأنْ لا يُقْصَد به التنفير أو التفخيم أو تأكيد الحال ، وأنْ لا يَعُود العمل به على الأصل بالإبطال ، وأنْ لا يَظْهَر مِنَ السياق قَصْد التعميم ، وأنْ يذْكر المنطوق مستقِلاًّ ، وأنْ لا يعارِض المسكوتَ عنه بما يَقْتَضِي خِلاَفَه ، وحاجة المخاطَب ، وأنْ لا يَكون المسكوت عنه لِخَوْف مِنَ المتكلِّم ، وأنْ لا يَكون المنطوق مُعَلَّق حُكْمُه على صفة غَيْر مقصودة ، وأنْ لا يَكون هناك عَهْد .
13- حُصِر مفهوم المخالَفة في سِتَّة أنواع :
النوع الأول : مفهوم اللقب .
النوع الثاني : مفهوم الصفة .
النوع الثالث : مفهوم الشَّرْط .
النوع الرابع : مفهوم الغاية .
النوع الخامس : مفهوم العَدَد .
النوع السادس : مفهوم الحصر .
14- مفهوم اللقب هو : تعليق الحُكْم بالاسم ، طلباً كان أو خبراً .
وهو لَيْس حُجَّةً ، فلا يَنْتَفِي الحُكْم بانتفائه .
وقَدْ أَلْحَق بَعْض الأصوليّين بمفهوم اللقب ثلاثة أنواع : مفهوم الاسم ، ومفهوم الاسم المُشْتَقّ الدّالّ على جِنْس ، ومفهوم الأعيان .
15- مفهوم الصفة هو : اقتران الحُكْم بصفة خاصّة يَنْتَفِي الحُكْم بانتفائها .(1/223)
وهو حُجَّة ، فيَنْتَفِي الحُكْم بانتفائها ، كَمَا أنَّه رأْس المفاهيم .
والحُكْم المُطْلَق إذا اقْتَرَن بِحُكْم مُعَلَّق بصفة فلا يقيّد هذا المُطْلَق بالصفة التي عُلِّق عليها الحُكْم .
وهناك سبعة مِنْ أنواع المفاهيم يُمْكِن إدراجها في مفهوم الصفة :
المفهوم الأول : إذا كانت الصفة في جِنْس فإنّ الحُكْم يَنْتَفِي بانتفائها في ذلك الجنس فقط دون غَيْرِه ، ولا يَنْتَفِي عَنْ غَيْرِهَا إلا بدليل آخَر .
المفهوم الثاني : مفهوم الحال ، فيَنْتَفِي الحُكْم بانتفائه كالصِّفَة .
المفهوم الثالث : مفهوم الزمان .
المفهوم الرابع : مفهوم المكان .
المفهوم الخامس : مفهوم العِلَّة .
المفهوم السادس : مفهوم الاسم المُشْتَقّ مِنْ مَعْنى .
المفهوم السابع : مفهوم الصفة التي تَطْرَأ وتَزُول .
16- مفهوم الشَّرْط مراد به الشَّرْط اللغوي ، وهو : ما عُلِّق مِنَ الحُكْم على شيء بأداة الشَّرْط مِثْل " إنْ " و" إذا " ونَحْوهما .
ومفهوم الشَّرْط حُجَّة ، فيَنْتَفِي الحُكْم بانتفائه .
والحُكْم الذي تَعَلَّق الشَّرْط به إنْ كان متعدِّداً : فإنْ كان تعليقه به على الجميع فيَنْتَفِي الحُكْم بانتفاء بَعْضها ، وإنْ كان على البدل فيَنْتَفِي الحُكْم بانتفاء جميعها .
17- مفهوم الغاية هو : مَدّ الحُكْم بأداة الغاية ( إلى وحَتّى واللاّم ) .
وهو حُجَّة ، ولِذَا فإنّ الحُكْم يَنْتَفِي بانتفائها .
18- مفهوم العَدَد هو : تعليق الحُكْم بعَدَد مخصوص .
وهو حُجَّة ، فيَنْتَفِي الحُكْم بانتفاء العَدَد المُقَيَّد به الحُكْم .
19- مفهوم الحصر هو : إثبات نَقِيض حُكْم المنطوق لِلمسكوت عنه بصيغة " إنَّمَا " ونَحْوها .
وأنواع الحصر أَشْهَرُها أربعة ، وزِدْنَا ثنْتَيْن عليها لِتُصْبِح سِتَّةً :
النوع الأول : " إنَّمَا " .
وهي تفيد الحصر ، فتُثْبِت الحُكْمَ لِلمنطوق وتنفيه عَمَّا عَدَاه .
النوع الثاني : الاستثناء المُثْبت .(1/224)
وهو يفيد الحصر ؛ لأنّ فيه إثباتاً لِلحُكْم لِلمذكور ونَفْيه عَنْ غَيْره .
النوع الثالث : الاستثناء المَنْفِي .
وهو يفيد الحصر ، ويَنْتَفِي الحُكْم عَنْ غَيْر المذكور .
النوع الرابع : حَصْر المبتدأ في الخبر .
وله ثماني صُوَر :
الصورة الأولى : تقديم الخبر المُقْتَرِن بلام لَيْسَتْ لِلعهد على المبتدأ .
نَحْو : العالِم زَيْد .
الصورة الثانية : أنْ يَكون الخبر مضافاً .
نَحْو : صديقي زَيْد .
الصورة الثالثة : فَصْل المبتدأ مِنَ الخبر بضمير الفصل .
نَحْو : قوله تعالى { فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِىّ } (1) .
الصورة الرابعة : أنْ يَكون الخبر مُعَرَّفاً بلام التعريف .
نَحْو : زَيْد المُنْطَلِق .
الصورة الخامسة : حَصْر الصفة في الموصوف .
نَحْو : الدِّين الوَرَع .
الصورة السادسة : أنْ يَكون الخبر نكرةً .
نَحْو : زَيْد قائم .
الصورة السابعة : اقتران المبتدأ باللاّم الجنسيَّة .
نَحْو : قوله - صلى الله عليه وسلم - { الْخَرَاجُ بِالضَّمَان } (2) .
(1) سورة الشورى مِنَ الآية 9
(2) سَبَق تخريجه .
الصورة الثامنة : النفي .
نَحْو : قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْل } (1) .
والحصر نوعان :
الأول : حَصْر المبتدأ في الخبر .
وهو الغالب في الصُّوَر السابقة عَدَا الأولى والثانية .
الثاني : حَصْر الخبر في المبتدأ .
وهو قاصِر على الصُّورَتَيْن الأُولى والثانية .
وشَرْط النزاع في مفهوم الحصر : ألاّ يَقَع جواباً لِسؤال .
ومفهوم الحصر حُجَّة ، فيَنْتَفِي الحُكْم عَنْ غَيْر المحصور .
النوع الخامس : تقديم المعمول على العامل .
نَحْو : قوله تعالى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين } (2) .
وهو يفيد الاختصاص أيْ الاهتمام والعناية ، ولا يَدُلّ على الحصر إلا بدليل .
النوع السادس : العطف .(1/225)
والعطف هُنَا مراد به ما كان بـ" لا " أو " بلْ " أو " لكنْ " لا غَيْرها .
وهو قِسْمَان :
القِسْم الأول : عَطْف يَقْتَضِي الإثبات .
نَحْو : " زَيْد شاعِر لا كاتِب " ، فيَنْتَفِي ما بَعْدَه .
القِسْم الثاني : عَطْف يَقْتَضِي النفي .
نَحْو : " ما زَيْد كاتباً بلْ شاعِر " ، فيثْبت ما بَعْدَه .
(1) سَبَق تخريجه .
(2) سورة الفاتحة الآية 5
20- أنّ المجتهِدين نَظَروا إلى الكِتَاب والسُّنَّة فوَجَدوا أنّ نصوصهما الخاصّة بالأحكام منها ما أُخِذَتِ الأحكام مِنْ منطوقه ومنها ما أَخَذوه مِنْ مفهومه ، وقَدْ أَوْرَدْنَا بَعْضاً منها على سبيل المِثَال لا الحصر .
وختاماً .. فإنِّي قَدْ حاولْتُ في هذا البحث أنْ أَقِف على مكانة المفهوم ومَنْزِلَته الأصوليَّة وكَيْف كان أَثَرُه في الأحكام ، وحمداً لله تعالى أنّ هذه الغاية قَدْ تَحَقَّقَتْ ، غَيْرَ أنَّه كعملٍ بَشَرِيّ لَمْ ولنْ يَخْلُو مِنْ زلاّت وهفوات وسقطات ..
ولِذَا فإنّي أرجو أساتذتي وشيوخي الكرام وزملائي الأفاضل غَضّ الطَّرْف والعفو عنها ؛ فَهُمْ أهْل لِذلك ، على أنْ لا يَحرموني مِنْ توجيهاتهم السديدة ونصائحهم الرشيدة ..
وصلى الله على سَيِّدِنَا مُحَمَّد وعلى آلِه وصَحْبه وسَلَّم .
أهمّ المراجع
أولاً : القرآن الكريم وعلومه
* القرآن الكريم .
* الإتقان في علوم القرآن لِلسيوطي .. دار ابن كثير – دمشق .
* أحكام القرآن لابن العربي .. دار الكتب العلمية – بيروت 1988 م .
* أحكام القرآن لِلجصاص .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* أحكام القرآن لِلشافعي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* أحكام القرآن لِلكيا الهراسي .. دار الكتب العلميّة - بيروت 1405 هـ .
* البحر المحيط لأبِي حيّان .. دار الفكر – بيروت .
* البرهان في علوم القرآن لِلزركشي .. مكتبة الحلبي – القاهرة .
* تفسير أبي السعود .. مكتبة الرياض الحديثة – السعودية .(1/226)
* تفسير آيات الأحكام لِلسايس .. دار ابن كثير – دمشق .
* تفسير القرآن العظيم لابن كثير .. دار الفكر - بيروت .
* جامِع البيان في تفسير القرآن لِلطبري .. دار المعرفة – بيروت .
* الجامع لأحكام القرآن لِلقرطبي .. دار الكتب العلمية .
* فَتْح القدير لِلشوكاني .. دار الفكر – بيروت .
* المفردات في غريب القرآن لِلأصفهاني .. مكتبة الحلبي - القاهرة .
ثانياً : الحديث الشريف وعلومه
* إحكام الأحكام لابن دقيق العيد .. دار الفكر - بيروت .
* تحفة الطالب لابن كثير .. دار حراء - مكة .
* تلخيص الحبير لِلحافظ ابن حَجَر العسقلاني .. المدينة المنوّرة 1964 م .
* جامِع العلوم والحِكَم لابن رجب الحنبلي .. إدارة البحوث والإفتاء
بالرياض .
* الدراية في تخريج أحاديث الهداية لِلحافظ ابن حَجَر العسقلاني .. دار
المعرفة - بيروت .
* الديباج المُذهب لِلشريف الجرجاني .. مكتبة الحلبي - القاهرة .
* السُّنَّة لِمُحَمَّد بن نصْر المروزي .. دار الكتب الثّقافيّة - بيروت
1408 هـ .
* سُنَن ابن ماجة .. دار إحياء التراث العربي – بيروت .
* سُنَن أبي داود .. دار الحديث – حمص 1969 م .
* سُنَن الترمذي .. دار الفكر – بيروت .
* سُنَن الدارقطني .. دار المحاسن – القاهرة .
* سُنَن الدارمي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* السُّنَن الكبرى لِلبيهقي .. حيدر آباد – الهند 1355 هـ .
* سُنَن النسائي .. دار الفكر – بيروت .
* شَرْح الديباج المُذهب لِشَمْس الدين التبريزي .. مكتبة الحلبي - القاهرة .
* شَرْح صحيح مُسْلِم لِلنووي .. دار إحياء التراث العربي – بيروت .
* شَرْح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* صحيح ابن حبّان .. مؤسسة الرسالة - بيروت 1414 هـ .
* صحيح البخاري .. دار الشعب – القاهرة .
* فتح الباري بشرح صحيح البخاري لِلحافظ ابن حجر العسقلاني ..
المكتبة السلفية – القاهرة .(1/227)
* المُسْتَدْرَك لِلحاكم .. دار الكتاب العربي – بيروت .
* مُسْنَد الإمام أَحْمَد .. دار صادر – بيروت .
* المُعْجَم الأوسط لِلطبراني .. دار الحرميْن - القاهرة 1415 هـ .
* الموطأ لِلإمام مالك .. دار النفائس – بيروت 1400 هـ .
* نَصْب الراية لِلزيلعي .. دار الحديث - مصر 1357 هـ .
* نَيْل الأوطار لِلشوكاني .. دار الجيل - بيروت .
ثالثاً : أصول الفقه
* الإبهاج في شرح المنهاج لِلسبكي وولده .. مكتبة الكليات الأزهرية –
القاهرة 1401 هـ .
* إحكام الفصول لِلباجي .. دار الغرب الإسلامي - بيروت 1982 م .
* الإحكام في أصول الأحكام لِلآمدي .. مكتبة الحلبي - القاهرة .
* الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم .. دار الكتب العلمية – بيروت
1404 هـ .
* إرشاد الفحول إلى تحقيق الحقّ مِن عِلْم الأصول لِلشوكاني .. مكتبة
الحلبي - القاهرة 1356 هـ .
* أصول البزدوي ( كنز الوصول إلى معرفة الأصول ) .. دار الكتاب
العربي – بيروت 1411 هـ .
* أصول السرخسي .. دار المعرفة – بيروت .
* أصول الشاشي .. دار الكتاب العربي - بيروت .
* أصول الفقه لابن مفلح .. ط السّعوديّة .
* أصول الفقه لأبي زهرة .. دار الفكر العربي - القاهرة .
* أصول الفقه لِزكريّا البري .. مكتبة نهضة الشرق - القاهرة .
* أصول الفقه لِلشيخ مُحَمَّد أبي النور زهير .. المكتبة الأزهرية - القاهرة
1412 هـ .
* الإمام في أدلّة الأحكام لِلعزّ بن عَبْد السلام .. دار البشائر الإسلاميّة –
بيروت .
* البحر المحيط للزركشي .. أوقاف الكويت 1413 هـ .
* البرهان لإمام الحرميْن الجويني .. دار الأنصار – القاهرة 1400 هـ .
* بيان المختصر لِلأصفهاني .. جامعة أُمّ القُرَى - مكة المكرمة 1406 هـ .
* التبصرة لِلشيرازي .. دار الفكر – دمشق 1403 هـ .
* التحرير لابن الهمام .. مكتبة الحلبي - القاهرة ( مع تيسير التحرير )
1350 هـ .
* التحصيل مِن المحصول لِلأرموي .. مؤسسة الرسالة – بيروت(1/228)
1408 هـ .
* تشنيف المسامع لِلزركشي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* تفسير النصوص لِشَيْخِنَا فضيلة الأستاذ الدكتور حسنين محمود حسنين
ط دبي – الإمارات .
* التقرير والتحبير لابن أمير الحاج .. المكتبة العلمية – بيروت .
* التلويح لِلتفتازاني .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* التمهيد في أصول الفقه لِلكلوذاني .. جامعة أُمّ القُرَى – مكة المكرمة
1406 هـ .
* التمهيد في تخريج الفروع على الأصول لِلإسنوي .. مؤسسة الرسالة –
بيروت 1404 هـ .
* التنقيح لِصَدْر الشريعة .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* التوضيح مع التلويح لِصدر الشريعة .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* تيسير التحرير لأمير بادشاه .. مكتبة الحلبي - القاهرة 1350 هـ .
* جَمْع الجوامع مع حاشية البناني لابن السبكي .. مكتبة الحلبي - القاهرة .
* حاشية البناني مع شَرْح المحلِّي .. مكتبة الحلبي - القاهرة 1356 هـ .
* حاشية الجرجاني على شَرْح العضد .. مكتبة الكليات الأزهرية -
القاهرة 1403 هـ .
* حاشية السّعد على شَرْح العضد .. المكتبة الأزهرية لِلتراث - القاهرة .
* حاشية نسمات الأسحار على شَرْح إفاضة الأنوار لابن عابدين .. مكتبة
الحلبي - القاهرة 1399 هـ .
* حقائق الأصول شَرْح منهاج الوصول لِلأردبيلي ( تحقيق د./ إسماعيل
مُحَمَّد علي عبد الرحمن [ الجزء الأول ] ، د./ قاسم عبد الدايم [ الجزء
الثاني ] ) .. رسالة ماجستير بكلية الشريعة بالأزهر .
* الرسالة لِلإمام الشافعي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة .. دار العاصمة – الرياض .
* السيل الجَرّار لِلشّوكاني .. دار الكتب العلميّة - بيروت 1405 هـ .
* شَرْح إفاضة الأنوار على مَتْن أصول المنار لِعلاء الدين الحصني ..
مكتبة الحلبي - القاهرة 1399 هـ .
* شَرْح تنقيح الفصول لِلقرافي .. المكتبة الأزهرية لِلتراث – القاهرة
1414 هـ .(1/229)
* شَرْح طلعة الشمس لِلسالمي .. وزارة التراث القومي – سلطنة عمان
1405 هـ .
* شَرْح العضد على مختصر ابن الحاجب .. مكتبة الكليات الأزهرية -
القاهرة 1403 هـ .
* شَرْح الكوكب المنير لِلفتوحي .. جامعة أُمّ القُرَى – مكة المكرمة
1400 هـ .
* شَرْح اللُّمَع لِلشيرازي .. البخاري – بريدة ( المملكة السعودية ) .
* شَرْح المحلِّي على جَمْع الجوامع .. مكتبة الحلبي - القاهرة ( مع حاشية
البناني وحاشية العطار ) .
* شَرْح مختصر الروضة لِلطّوفي .. مؤسسة الرسالة – بيروت .
* شَرْح منار الأنوار لابن ملك .. المطبعة العثمانيّة - استانبول 1315 هـ .
* شَرْح المنهاج لِلأصفهاني .. مكتبة الرشد – الرياض 1401 هـ .
* العدة في أصول الفقه لِلقاضي أبي يَعْلَى .. ط السعودية .
* عِلْم أصول الفقه لِلشيخ عبد الوهاب خلاّف .. دار القلم – الكويت
1407 هـ .
* عمدة الحواشي مع أصول الشاشي لِلكنكوهي .. دار الكتاب العربي -
بيروت .
* فَتْح الغفّار بشَرْح المنار لابن نجيم .. مكتبة الحلبي - القاهرة 1355 هـ .
* الفصول في الأصول لِلجصّاص .. الكويت .
* فواتح الرحموت بشرح مُسَلَّم الثبوت لِلأنصاري .. دار الكتب العلمية –
بيروت .
* قواطع الأدلَّة لابن السمعاني .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* القواعد والفوائد الأصوليّة لابن اللحام .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* كَشْف الأسرار على أصول فَخْر الإسلام البزدوي لِعلاء الدين البخاري
دار الكتاب العربي – بيروت 1411 هـ .
* كَشْف الأسرار لِلنسفي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* الكوكب الدري لِلإسنوي .. أوقاف الكويت .
* اللُّمَع لِلشيرازي .. مكتبة الحلبي - القاهرة .
* مَبَاحِث في أصول الفقه لِشَيْخِنَا أ.د. رمضان عَبْد الودود عَبْد التَّوّاب
اللخمي .. دار الهُدَى – مصر .
* المحصول في عِلم الأصول لِلرازي .. دار الكتب العلمية – بيروت
1408 هـ .(1/230)
* مختصر المنتهى لابن الحاجب ( مع شرح العضد ) .. المكتبة
الأزهرية لِلتراث – القاهرة .
* المدخل إلى مذهب الإمام أَحْمَد بن حنبل لابن بدران الدمشقي .. المكتبة
المنيريّة .
* المستصفى مِن عِلم الأصول لِلإمام الغزالي .. دار الكتب العلمية –
بيروت 1403 هـ .
* مُسَلَّم الثبوت لابن عبد الشكور .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* المُسَوَّدة في أصول الفقه لآل تيمية .. دار الكتاب العربي – بيروت .
* المعالم في عِلْم أصول الفقه لِلرازي .. دار عالَم المعرفة – القاهرة
1414 هـ .
* المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري .. دار الكتب العلمية –
بيروت 1403 هـ .
* المُغْنِي لِلخبّازي .. جامعة أُمّ القُرَى - مكة المكرمة .
* المنار مع حاشية نسمات الأسحار .. دار الكتب العلمية – بيروت
1406 هـ .
* مناهج العقول لِلبدخشي ( مطبوع مع نهاية السول ) دار الكتب العِلْميّة -
بيروت 1409 هـ .
* المنخول لِلغزالي دار الفكر - بيروت .
* منهاج الوصول إلى عِلْم الأصول لِلبيضاوي .. مكتبة صبيح - القاهرة .
* ميزان العقول لِلسمرقندي .. دار التراث - القاهرة .
* النُّبَذ الكافية لابن حَزْم .. مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة .
* نَشْر البنود على مراقي السعود لِعبد الله الشنقيطي .. دار الكتب العلمية
بيروت 1409 هـ .
* نهاية السول في شَرْح منهاج الوصول لِلإسنوي .. دار الكتب العلمية –
بيروت 1405 هـ .
* نهاية الوصول لِصفيّ الدين الهندي .. الباز - مكة المكرمة .
* الواضح في أصول الفقه لابن عقيل .. مؤسسة الرسالة - بيروت .
* الوجيز في أصول الفقه د./ عبد الكريم زيدان .. مؤسسة الرسالة –
بيروت .
رابعاً : الفقه وقواعده
* إعانة الطالبين لِلبكري الدمياطي .. دار الفكر – بيروت .
* الأُمّ لِلإمام الشافعي .. دار المعرفة – بيروت .
* بدائع الصنائع لِعلاء الدين الكاساني .. دار الكتاب العربي 1982 م .(1/231)
* بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد .. دار المعرفة – بيروت
1401 هـ .
* التاج والإكليل لِلعبدري .. دار الفكر – بيروت .
* تبيين الحقائق لِلزيلعي .. دار المعرفة – بيروت .
* التمهيد لابن عَبْد البَرّ .. وزارة الأوقاف المغربية .
* حاشية الدسوقي على الشرح الكبير .. دار المعرفة - بيروت .
* الخرشي على مختصر سيدي خليل .. دار صادر - بيروت .
* رسالة القيرواني .. دار الفكر – بيروت .
* روضة الطالبين وعمدة المتقين لِلنووي .. المكتب الإسلامي - بيروت
1405 هـ .
* فَتْح المُعِين لِلمليباري الشافعي .. دار الفكر – بيروت .
* فِقْه الزكاة لِلقرضاوي .. دار الرشاد .
* كشّاف القناع لِلبهوتي .. دار الفكر – بيروت .
* المُبْدع لابن مفلح .. المكتب الإسلامي – بيروت .
* المبسوط لِلسرخسي .. دار المعرفة – بيروت .
* المُحَلَّى لابن حَزْم .. دار الآفاق الجديدة .
* المُدَوَّنَة الكُبْرَى لِلإمام مالِك .. دار صادِر – بيروت .
* المُغْنِي لابن قدامة المقدسي .. دار الفكر – بيروت .
* مُغْنِي المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج لِلخطيب الشربيني ..
دار الفكر - القاهرة 1377 هـ .
* المُغْنِي في الإنباء عَنْ غريب المُهَذَّب والأسماء لابن بطيس .. مكتبة
الباز – مكَّة المُكَرَّمَة .
* المُهَذَّب في فِقْه الإمام الشافعي لِلشيرازي .. دار القلم – دمشق
1412 هـ .
* الهداية شَرْح البداية لِلمرغيناني .. المكتبة الإسلاميَّة .
خامساً : اللغة والمعاجم ونَحْوها
* أساس البلاغة لِلزمخشري .. دار المعرفة – بيروت .
* إيضاح المُبْهَم لِلدمنهوري .. مكتبة الحلبي - القاهرة .
* بغية الإيضاح لِلصعيدي .. مكتبة الآداب – القاهرة .
* التعريفات لِلجرجاني .. دار الكتاب المصري - القاهرة .
* جواهر البلاغة لِلهاشمي .. دار الكتب العلميّة – بيروت .
* حاشية الدسوقي على شَرْح السعد .. عيسى الحلبي – القاهرة .(1/232)
* عروس الأفراح لِبهاء الدين السبكي .. عيسى الحلبي – القاهرة .
* الصحاح لِلجوهري .. دار العِلْم لِلملايين - بيروت .
* القاموس المحيط .. مؤسسة الرسالة - بيروت .
* الكُلِّيّات لأبي البقاء الكفوي .. مؤسسة الرسالة – بيروت 1412 هـ .
* لسان العرب لابن منظور .. دار إحياء التراث – بيروت .
* مختار الصحاح لِزين الدين الرازي .. مكتبة الحلبي – القاهرة .
* مختصر التفتازاني على تلخيص المفتاح .. عيسى الحلبي – القاهرة .
* مدخل إلى عِلْم المنطق لِلدكتور مهدي فَضْل الله .. دار الطليعة .
* المصباح المنير لِلفيومي .. المكتبة العلمية – بيروت .
* المُعْجَم الوسيط .. دار إحياء التراث العربي - بيروت .
* المنطق الواضح لِمُحَمَّد عَبْد الوهّاب فايد .. مكتبة صبيح - القاهرة .
* المنطق المفيد لِلبهنسي .. ط المعاهد الأزهرية .
* مَوَاهِب الفتّاح لِلمغربي .. عيسى الحلبي – القاهرة .
سادساً : التراجم والتاريخ وغَيْرها
* الاستيعاب في معرفة الأصحاب لأبي عُمَر بن عبد البرّ .. دار الجيل -
بيروت .
* أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الجزري .. مكتبة الحياة – بيروت .
* الإصابة في تمييز الصحابة لابن حَجَر العسقلاني .. مكتبة المثنى –
بغداد .
* الأعلام لِلزركلي .. دار العِلْم لِلملايين – بيروت 1384 هـ .
* البداية والنهاية لابن كثير .. مكتبة المعارف – بيروت 1985 م .
* تاريخ بغداد لِلخطيب البغدادي .. دار الكتب العلمية - بيروت .
* تاريخ الطبري .. دار المعارف - القاهرة .
* التاريخ الكبير لِلإمام البخاري .. دار الكتب العلمية - بيروت .
* تهذيب الكَمَال لأَبِي الحَجّاج المِزِّيّ .. مؤسَّسَة الرِّسَالة - بيروت
1400 هـ .
* الجواهر المضيئة في طبقات الحنفيّة لِعبد القادر بن مُحَمَّد القرشي
الحنفي .. دار هجر - القاهرة .
* حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نُعَيّم الأصبهاني .. دار الكتب
العلميّة - بيروت .(1/233)
* الدُّرَر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حَجَر العسقلاني .. حيدرآباد
الهند .
* الديباج المُذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لابن فرحون المالكي ..
دار التراث - القاهرة .
* سِيَر أعلام النبلاء لِلذهبي .. مؤسسة الرسالة – بيروت 1413 هـ .
* شجرة النور الزكية في طبقات المالكية لِلشيخ مُحَمَّد حسنين مخلوف ..
دار الفكر – بيروت .
* شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب لابن العماد الحنبلي .. دار المسيرة
بيروت .
* الضوء اللامع لأهْل القَرْن التاسع لِلسخاوي .. دار الكتاب الإسلامي .
* طبقات الحُفّاظ لِلسيوطي .. دار الكتب العلميّة - بيروت .
* طبقات الحنابلة لأبي يَعْلَى .. دار إحياء الكتب العربية - القاهرة .
* طبقات الشّافعيّة الكبرى لابن السبكي .. دار إحياء الكتب العربية -
القاهرة .
* الطبقات الكبرى لابن سعْد .. دار الفكر - بيروت .
* طبقات المُفَسِّرين لِشمْس الدين الدّاودي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* الفتح المُبِين في طبقات الأصوليّين لِلشيخ عبد الله المراغي .. عبد
الحميد حنفي - القاهرة .
* معجم المؤلِّفين لِعُمَر رضا كحالة .. دار إحياء التراث العربي -
بيروت .
* النجوم الزاهرة في ملوك مِصْر والقاهرة لابن تغربردي .. دار المعرفة
بيروت .
* وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان .. دار صادر –
بيروت .
فهرس
ص ... الموضوع
3 ... المقدمة.........................................................
9 ... الفصل الأول : الدّلالة ودلالة الألفاظ على الأحكام :
11 ... المطلب الأول : تعريف الدّلالة وأقسامها :
11 ... أوّلاً : تعريف الدّلالة لغةً.........................................
12 ... ثانياً : تعريف الدّلالة اصطلاحاً..................................
12 ... ثالثاً : أقسام الدّلالة..............................................
13 ... رابعاً : أقسام الدّلالة الوضعيّة عند الحنفيّة........................(1/234)
14 ... خامساً : تعريف الدّلالة اللَّفظيّة الوضعيّة وأقسامها................
16 ... سادساً : مذاهب الأصوليّين في لفظيّة دلالة التَّضَمُّن والالتزام....
19 ... المطلب الثاني : دلالة الألفاظ على الأحكام عند الحنفيّة...........
29 ... المطلب الثالث : دلالة الألفاظ على الأحكام عند غَيْر الحنفيّة......
المطلب الرابع : مقارنة دلالة الألفاظ على الأحكام عند الحنفيّة وغَيْرهم.........................................................
37 ... الفصل الثاني : المنطوق والمفهوم وأقسامهما :
39 ... المطلب الأول : تعريف المنطوق وأقسامه :
41 ... أوّلاً : تعريف المنطوق لغةً......................................
41 ... ثانياً : تعريف المنطوق اصطلاحاً...............................
41 ... ثالثاً : أقسام المنطوق............................................
42
ص ... الموضوع
44 ... رابعاً : تعقيب وترجيح...........................................
46 ... خامساً : القِسْم الأول : النَّصّ....................................
49 ... سادساً : القِسْم الثاني : الظاهر..................................
53 ... المطلب الثاني : تعريف المفهوم والمستفاد منه وأقسامه :
53 ... أوّلاً : تعريف المفهوم لغةً.......................................
53 ... ثانياً : تعريف المفهوم اصطلاحاً.................................
56 ... ثالثاً : المستفاد مِن المفهوم.......................................
58 ... رابعاً : أقسام المفهوم............................................
65 ... خامساً : تعقيب وترجيح.........................................
69 ... المطلب الثالث : دلالة الاقتضاء :
69 ... أوّلاً : تعريف الاقتضاء..........................................
72 ... ثانياً : شروط الاقتضاء..........................................
73 ... ثالثاً : أركان الاقتضاء...........................................(1/235)
74 ... رابعاً : أقسام دلالة الاقتضاء.....................................
77 ... المطلب الرابع : دلالة الإشارة :
77 ... أوّلاً : تعريف الإشارة لغةً.......................................
77 ... ثانياً : تعريف دلالة الإشارة اصطلاحاً...........................
79 ... ثالثاً : شروط دلالة الإشارة......................................
79 ... رابعاً : أمثلة دلالة الإشارة.......................................
83 ... المطلب الخامس : دلالة الإيماء ( التنبيه ) :
83 ... أوّلاً : تعريف الإيماء والتنبيه لغةً................................
ص ... الموضوع
83 ... ثانياً : تعريف دلالة الإيماء اصطلاحاً............................
84 ... ثالثاً : شروط دلالة الإيماء.......................................
85 ... رابعاً : أنواع دلالة الإيماء.......................................
89 ... الفصل الثالث : مفهوم الموافَقة :
91 ... المطلب الأول : مُسَمَّى مفهوم الموافَقة..........................
101 ... المطلب الثاني : تعريف مفهوم الموافَقة.........................
107 ... المطلب الثالث : أقسام مفهوم الموافَقة :
107 ... التقسيم الأول : الأَوْلوي والمُساوِي..............................
109 ... التقسيم الثاني : القَطْعي والظَّنِّي.................................
111 ... المطلب الرابع : حُجِّيَّة مفهوم الموافَقة..........................
115 ... المطلب الخامس : دلالة مفهوم الموافَقة.........................
121 ... الفصل الرابع : مفهوم المخالَفة :
123 ... المطلب الأول : مُسَمَّى مفهوم المخالَفة..........................
127 ... المطلب الثاني : تعريف مفهوم المخالَفة.........................
133 ... المطلب الثالث : حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة :
133 ... أوّلاً : تمهيد في حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة............................
133 ... ثانياً : مذاهب الأصوليّين في حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة...............(1/236)
138 ... ثالثاً : أدلّة المذاهب في حُجِّيَّة مفهوم المخالَفة....................
150 ... رابعاً : تعقيب وترجيح...........................................
153 ... المطلب الرابع : شروط العمل بمفهوم المخالَفة..................
161 ... المطلب الخامس : أنواع مفهوم المخالَفة ( جملةً )..............
ص ... الموضوع
165 ... الفصل الخامس : أنواع مفهوم المخالَفة ( تفصيلاً ) :
167 ... المطلب الأول : مفهوم اللقب :
167 ... أوّلاً : تعريف اللقب.............................................
168 ... ثانياً : تعريف مفهوم اللقب......................................
169 ... ثالثاً : حُجِّيَّة مفهوم اللقب........................................
176 ... رابعاً : الأنواع التي تندرج تَحْت مفهوم اللقب....................
179 ... المطلب الثاني : مفهوم الصفة :
179 ... أوّلاً : تعريف الصفة.............................................
180 ... ثانياً : تعريف مفهوم الصفة.....................................
181 ... ثالثاً : حُجِّيَّة مفهوم الصفة.......................................
183 ... رابعاً : اقتران حُكْم مُطْلَق بِحُكْم مُعَلَّق بصفة......................
185 ... خامساً : الأنواع التي تَنْدَرِج تَحْت مفهوم الصفة..................
195 ... المطلب الثالث : مفهوم الشَّرْط :
195 ... أوّلاً : تعريف الشَّرْط لغةً واصطلاحاً............................
196 ... ثانياً : أنواع الشَّرْط.............................................
197 ... ثالثاً : تحرير محلّ النزاع.......................................
198 ... رابعاً : مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم................................
203 ... خامساً : تعقيب وترجيح.........................................
203 ... سادساً : تَعَدُّد الحُكْم الذي تَعَلَّق به الشَّرْط........................
205 ... المطلب الرابع : مفهوم الغاية...................................(1/237)
217 ... المطلب الخامس : مفهوم العَدَد :
217 ... أوّلاً : المراد بمفهوم العَدَد.......................................
ص ... الموضوع
217 ... ثانياً : مِثَال مفهوم العَدَد.........................................
218 ... ثالثاً : تحرير محلّ النزاع في مفهوم العَدَد.......................
221 ... رابعاً : مذاهب الأصوليّين في مفهوم العَدَد وأدلّتهم................
224 ... خامساً : تعقيب وترجيح.........................................
227 ... المطلب السادس : مفهوم الحصر :
227 ... أوّلاً : تعريف الحصر...........................................
228 ... ثانياً : تعريف مفهوم الحصر....................................
229 ... ثالثاً : طُرُق الحصر جملةً.......................................
230 ... رابعاً : النوع الأول : " إنَّمَا "....................................
236 ... خامساً : النوع الثاني : الاستثناء المُثْبَت.........................
237 ... سادساً : النوع الثالث : الاستثناء المنفي.........................
240 ... سابعاً : النوع الرابع : حَصْر المبتدأ في الخبر...................
247 ... ثامناً : النوع الخامس : تقديم المعمول على العامل...............
252 ... تاسعاً : النوع السادس : العطف................................
255 ... الفصل السادس : أَثَر دلالة المفهوم في الأحكام :
257 ... مَبْحَث تمهيديّ في : بيان أَثَر دلالة المفهوم في الأحكام..........
258 ... الفرع الأول : النِّيَّة في الأعمال..................................
261 ... الفرع الثاني : الإسراع إلى الصلاة..............................
263 ... الفرع الثالث : خروج النساء ليلاً إلى المساجد...................
265 ... الفرع الرابع : مَنْ أَصْبَح صائماً على جنابة.....................
269 ... الفرع الخامس : زكاة الأنعام غَيْر السائمة.......................
ص ... الموضوع(1/238)
273 ... الفرع السادس : نكاح الربيبة...................................
277 ... الفرع السابع : الزواج مِن الأَمَة.................................
282 ... الفرع الثامن : تحريم نكاح الأُمّهات.............................
283 ... الفرع التاسع : نفقة البائن الحامل...............................
288 ... الفرع العاشر : قَطْع يد السّارق..................................
289 ... الخاتمة..........................................................
299 ... أهَمّ المَرَاجِع.....................................................
رقم الإيداع بِدار الكتب
13847/2004
الترقيم الدّولي
977 - 5899 - 42 - 7(1/239)