الإقليد
في فتاوى التمذهب والاجتهاد والتقليد
بقلم
فهد بن عبد الله الحزمي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد
فهذه رسالة لطيفة ذكرت فيها جملة طيبة من الأسئلة التي وردتني والمتعلقة بالتمذهب والاجتهاد والتقليد.
والتي كثيرا ما يلتبس بعضها على طلبة العلم، فأرجو من قارئ هذه الرسالة أن يخصني بدعوة تكون لي رحمة وبركة، والله المستعان.
س- أي المذاهب أقرب على الدليل؟
ج- الحمد لله رب العالمين وبعد، فمن فضل الله عز وجل على الأمة أنه لم يجمعها في قضاياها الفقهية على قول واحد وإلا لشق الأمر على الكثيرين، ولو كان في جمعها على قول واحد في كل جزئية خير وفلاح ونجاح وعصمة لجعل الله الأمر كذلك ولأنزل من النصوص البينات ما لا يستطيع أحد المجادلة فيها.
وقد ظهر في تاريخنا الفقهي والعلمي أسماء لامعة أسست لمدارس فقهية مشهورة اندثر بعضها واستمر بعضها.
وقد كتب الاستمرار أربعة مذاهب: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي.
أما المذاهب المندثرة فالإسحاقية نسبة لإسحق بن راهوية، ومذهب ابن جرير الطبري، والظاهرية ومؤسسه داود الظاهري وغيرها.
وقد تعاظمت المذاهب الأربعة عبر القرون وانتشرت في البلدان تبعا لحكامها أو لوجود مشايخ ينتمون إلى مدرسة معينة، وتولد عن هذا الانتشار التزاحم بين المذاهب والاحتكاك بين الأتباع وظهر التقليد وفشى، وتولدت العصبية المذهبية وأصبح كل صاحب مذهب ينظر إلى مذهبه على أنه الحق الواجب الاتباع، وأن إمامه هو إمام الهدى، ومن أمثلة ذلك أن بعض الشافعية ألف رسالة سماها "مغيث الخلق إلى المذهب الحق" وينسبها بعضهم إلى إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وقد احتوت هذه الرسالة على ترجيح المذهب الشافعي على غيره، وأن الواجب على العامة اتباع هذا المذهب ونبذ غيره من المذاهب، لأنها احتوت على أصول وفروع تخالف الشرع.(1/1)
فاشتاط غضبا بعض الأحناف المتأخرين فجرد قلمه للرد على تلك الرسالة بكتاب سماه "إحقاق الحق" تجنى فيه على الشافعية بل على أئمة الإسلام الذين كانت لهم أيادي بيضاء في خدمة هذا الدين عامة والسنة النبوية خاصة كالذهبي والدارقطني وغيرهما.
ولم يكتف بهذا بل طعن في نسب الشافعي وزعم ناقلا عن غيره أن الإمام الشافعي مولى لبعض بني هاشم وليس هاشميا صليبة!!
وهذا رد لما هو معلوم من أنساب الإئمة بالضرورة لا لشيء إلا لطمس فضيلة ومنقبة لهذا الإمام، وقد ثبت في مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت" .
ولم يعلم هذا المسكين أنه قد تجاوز خطوط الشرع الحمراء وتجرأ على أهل العلم المتفق على إمامتهم وجلالتهم من أجل الانتصار لإمامه البريء من هذا الشطح.
لقد بلغ التعصب المذهبي ذروته عندما يقتتل مذهبان وتفنى قرى ويهرب أناس فارين بأنفسهم وأموالهم من الفناء والدمار، كما تقطع الأرحام ويهجر العالم ليس لأنه ارتكب كبيرة في الدين بل لأنه حول مذهبه، كما حصل مع أبي المظفر السمعاني حين تحول من الحنفي إلى الشافعي.
ونجد الصورة نفسها عند المالكية حيث يجعلون مذهبهم هو أولى المذاهب بالحق وأن غير مالك إنما هو تلميذ لمالك -تماما كما قال الحنفية في أبي حنيفة- وينص بعض المالكية على تضعيف الإمامين أبي حنيفة والشافعي كما فعل القاضي عياض في أوائل كتابه المدارك.
ونجد ابن العربي [المقلد] يسفه أراء الإمام الشافعي [المجتهد] فأين الثريا وأين الثرى.
بل يزعم "ابن العربي" بأنه ما من مسألة للشافعي إلا وله فيها إشكال كبير.
وهذا بلا شك تعصب مقيت ما كنا نود أن يقع في ابن العربي وأمثاله، ولكن هو مرض سرى في كثير من المتمذهبين، خاصة عندما لا يميزون بين الشرع المعصوم وأقوال الرجال التي يرد منها ويؤخذ، وفقا لمعيار النص وأصول الاستدلال.(1/2)
والآن نعود إلى السؤال: ما هو أقرب المذاهب إلى الحق؟
والجواب -بعيدا عن غلواء التعصب-: أنه لا بد أن نعلم أنه لا يوجد إمام معصوم، فكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فليس هناك مذهب متمحض الصواب، بل لكل مذهب خطأ وصواب، وتشديد وتيسير، وموافقة للدليل ومخالفة.
وعليه نقول:
الشافعية والحنابلة أقرب إلى الحق في أبواب العبادات.
والحنابلة أقرب فيما يتعلق بالعقود والشروط في المعاملات.
والحنفية والمالكية أقرب إلى الحق فيما يتعلق بالمعاملات المالية.
والمالكية يتفوقون على غيرهم في الأصول الاستنباطية.
وهناك جوانب أخرى كالترتيب وضبط المسائل وهذا ما يتفوق به الشافعية على غيرهم.
وهذه الأقربية السابقة أقربية جملية فلا يلزم منها رجحان هذه المذاهب في كل مسألة من الأبواب المذكورة وإنما المقصود الرجحان الجملي أو الغالب.
وما قلته هو وجهة نظر قد يخالفني فيه غيري والله وأعلم.
هذا وقد كان شيخنا القاضي محمد بن إسماعيل العمراني يذهب إلى أن المذهب الحنبلي هو الأقرب إلى الدليل.
س- لماذا كثر التصوف في المذهب الشافعي؟
ج- الحمد لله، أورد الكواكبي في بعض رسائله أن فقيها شافعيا سئل هذا السؤال فعزاه لكون الشافعية لا يتهمون الناس ويحملون الناس على حسن الظن، ومع احترامي لهذا الجواب إلا أني لا أرى السؤال من أصله سديدا، لأن التصوف لم يكن حكرا على الشافعية بل انتشر في المذاهب جميعها بل توجد طرق صوفية وصل بها الغلو إلى الكفر وهي تنتسب إلى مذاهب أخرى كالحنفية والمالكية، وهذا السؤال يسأله من يعيش في بلاد شافعية فيرى مظاهر التصوف تكثر في أتباع هذا المذهب فيظن أنه غالب عليه.(1/3)
لقد كان للتصوف في فترة الانحطاط وهي القرون المتأخرة صولة وجولة، وغزا المذاهب جميعا إلا أن أقلها تأثرا بهذا النهج هو المذهب الحنبلي لعوامل شتى من أهمها كون الإمام أحمد كان محدّثا مدافعا عن عقيدة الحق وألف في هذا الرسائل والكتب، كما أثر عنه ما لم يؤثر عن غيره في التحذير من البدع والتعريف بها وكيفية التعامل مع المبتدعة وذكر بعض علاماتهم وغيرها من القضايا والفتاوى التي عصمت الكثير من أتباعه، إضافة إلى قلة هؤلاء الأتباع إذ كان الحنبلي أقل المذاهب أتباعا.
س- أريد أن أتمذهب بمذهب فأي المذاهب أقرأ؟
ج- الحمد لله، إذا أردت أن تتمذهب فلا حرج في ذلك بتاتا بشرط ألا تأخذك العصبية للمذهب وآرائه، فللتقليد والانتماء لمدرسة ما عصبية تتولد في باطن أصحابها قد تظهر في بعض الأحوال والتصرفات، ولهذا من أراد أن يقرأ مذهبا ما فلا بد أن يجاهد نفسه وليعلم أنه متعبد بشرع الله أولاً، وأن كل الناس بما فيهم الأئمة يؤخذ من قولهم ويترك إلا رسول الله- صلى الله عليه وسلم -.
أما ما الذي تقرؤه فالأولى والأفضل أن تدرس المذهب الغالب أو المنتشر في بلدك من المذاهب الأربعة المتبوعة، لأن تحقق بهذا أمرين:
الأول: عدم الشذوذ على البيئة الفقهية الغالبة على بلدك مما قد يسبب لك إحراجات لا تدري مداها.
الثاني: تكون قد درست مذهبا فقهيا معتبرا، وألممت بمسائله وأصوله.
فإن كان الغالب على مذهب بلدك مذهبا بدعيا لا يمت إلى الحق بصلة إلا لماما كالفقه الجعفري، فهذا مما لا أجيز دراستة إلا للمتخصص الذي ندب نفسه لدراسة عقائد القوم وفقههم بعد تزوده من علم القرآن والسنة والتفقه على مذهب معتبر.
والسبب في هذا المنع هو الخشية من سريان الشبه والمفتريات والبدع التي يمتلئ بها هذا المذهب وأمثاله، مما قد يسلك بالطالب مسلكا مجافيا للحق وأهله.(1/4)
ولا تظن أن الفقه بمنأى عن العقيدة، بل الكل يمضي في طريق واحد جنبا إلى جنب، ويكمن التأثير العقدي في دراسة الفقه من جوانب :
قراءتك لعلماء يحملون تلك العقيدة، وعيشك مع تلك الكتب يورث تأثرا قد لا تدركه إلا على المدى البعيد؟ ولو لم يكن من ذلك إلا استحسان بعض ما يفتون به مما قد يوافق هوى في النفس، أو جهلا بأصول الاستنباط، أو عدم إلمام بالإساس البدعي الذي بنيت عليه تلك الفتوى.
اختلاطك بمشايخهم يؤثر سلبا عليك، وقديما قيل: "الصاحب ساحب".
إضافة إلى الفارق العمري بين الطالب والشيخ الذي قد يؤدي على التقليد والتأثر، وذوبان الشخصية.
هناك الكثير من المسائل الفقهية التي تنبني على أصل عقدي، ولا يدركها القارئ المبتدأ بل ولا المتوسط، إنما يسبر أغوارها من تعمق في دراسة الأصول والفروع وأثر كل منهما على الآخر.
بالدراسة المذهبية الفروعية يتمكن الطالب من التفريع على قواعد المذهب، وعليه فمن قرأ مذهبا منحرفا وتعمق فيه، فإنه لا محالة سيخرج عليه.
زد على هذا ما يحدث من مضار دينية على الطالب، والتي تختلف وتتنوع بتنوع المذاهب البدعية وتوجهاتها.
كما أن الغرض في نهاية الأمر ليس هو التمذهب بحد ذاته، وإنما هو التفقه على مدرسة فقهية تتصل بالهدي النبوي.
هذا وأحبذ أن يدرس الطالب بعد دراسته المذهبية كتبا في الفقه المقارن سواء كانت حديثية كنيل الأوطار وسبل السلام، أم فقهية كالمجموع والمغني، والله أعلم.
س- هل يوجد في عصرنا مجتهدون؟
ج: الحمد لله، اختلف علماء الأصول في شروط الاجتهاد على ثلاث فرق:(1/5)
الفريق الأول شدد وغالى في تلك الشروط حتى كاد ينعدم وجود من تتوافر فيه تلك الشروط، إذ يشترط هذا الفريق معرفة المجتهد بعلوم القرآن قراءة وتفسيرا وخلافا وأسباب النزول والمكي من المدني ...الخ ومعرفة السنة إسنادا بما فيه من رواة وطبقاتهم وما قيل فيهم ومتنا بحيث يلم بكل معاني السنة المتفق عليها والمختلف فيها، مع معرفة علوم السنة من مصطلح وغيره، كما يجب أن يلم بعلوم اللغة كاملة والتي أوصلها البعض إلى اثني عشر علما بحيث يساوي جهابذتها سيبويه وأضرابه، إضافة إلى بقية الشروط الآتي ذكرها.
الفريق الثاني: تساهل في وضع شروط للاجتهاد غاية التساهل بحيث يجوزونه لكل من لديه معرفة في علوم الآلة يتمكن بها من معرفة الخطاب والبحث.
الفريق الثالث توسط فاشترط في المجتهد ما يلي:
معرفة آيات الأحكام ولا يشترط حفظها بل يكفي معرفته بمواضعها.
معرفة أحاديث الأحكام ولا يشترط حفظها بل يكفي معرفة مواضعها.
معرفة اللغة ولا يشترط أن يصل إلى مرتبة جهابذتها بل بحيث يفهم الخطاب كعربي كان في عصر النبوة.
معرفة علم الأصول.
معرفة عوائد الناس.
وهنا نعود إلى السؤال هل يوجد مجتهدون في عصرنا؟
نحن لو أخذنا بقول الفريق الأول فسنقطع بانعدام المجتهدين في هذا العصر.
ولو أخذنا بالقولين الأخيرين فسنقطع بوجود مجتهدين في هذا العصر فالأكاديميون القادرون على البحث وتتوفر فيهم الشروط كثيرون.
ولست أدري لماذا يحاول البعض إنكار وجود مجتهدين معاصرين أيريد أن يحجر نعمة الله، هل فضل الله يخص قرونا بذاتها دون غيرها، إن فضله سبحانه واسع، وليس بينه وبعض خلقه عهود وعلاقات تجعله يمنح هذا الفضل لأناس ويمنعه عن آخرين يسعون إليه ويرغبون فيه، ويبذلون قصارى جهدهم في سبيله.(1/6)
إن الدعوى القائلة بانعدام المجتهدين بعد القرن الثالث مجازفة كبيرة سرت بين كثير من الأوساط الفقهية، وكانت عوائدها وبيلة على الأمة، إذ حكم على الأمة بالعقم وبقيت تراوح في مكانها تعيد إنتاج القديم دون تجديد يذكر بل إذا ما قام أحد ودعا إلى الاجتهاد المنضبط للمؤهل قامت عليه الدنيا وما قعدت، كالسيوطي الذي دعا إلى الاجتهاد وألف كتابا سماه "الرد على من أخلد إلى الأرض وجحد أن الاجتهاد في كل عصر فرض" ورغم أن السيوطي لم يدع الاجتهاد المطلق ولا المذهبي بل أدنى من ذلك رغم ذلك لم يقبل منه هذا القول واستكثره البعض عليه.
لقد كان من نتائج هذا الإعلاق أنه لم يكن يأتي قرن من الزمان إلا وهو أسوأ من دما سبقه، وإذا بالأمة ترجع القهقرى في حين تقدم أعداؤها فما درت إلا وجيوش العدو تهاجمها وتستولي على أرضها وتذيقها سوء العذاب، ولا زلنا إلى اليوم نعاني من هذا الاستعمار.
لقد أنجبت الأمة نوابغ في العلم الشرعي خاصة الفقه فكان منهم العز بن عبد السلام، وابن دقيق العيد وابن تيمية وابن القيم والسيوطي والسخاوي وغيرهم كثيرون ومع هذا فالكثير ممن لم يبلغوا مرتبة هؤلاء وأعلنوا إلاق باب الاجتهاد يبخلون بالاعتراف لأولئك المجتهدين بالاجتهاد.
إن مما ينبغي أن نفقهه أن وجود مجتهدين لكل عصر من ضروريات هذا الدين، لأننا نعلم أن كثيرا من الأحكام تتغير زمانا ومكانا، وأن الزمن ليس ثابتا بل تعتريه عواما التغيير والتبديل والتطور مما يعني ضرورة وجود مجتهد يستطيع تنزيل أحكام الله على الوقائع والمتغيرات المستجدة، ونحن إذا كنا نحتاج إلى مجتهد في الأزمنة الماضية فنحن في هذا الزمان أ شد حاجة نظرا لكثرة المستجدات والنوازل التي لم نستطع مجاراتها بل اللحاق بها مما يستدعي ضرورة توفر مجتهدين لا مجتهد واحد.
س- هل يوجد أئمة شافعية يتبنون المنهج السلفي دون الصوفي والأشعري؟(1/7)
ج- الحمد لله، نعم هناك الكثير من فقهاء وأئمة الشافعية من ينتسب إلى أهل السنة بالمعنى الخاص منهم على سبيل المثال: إمام الأئمة ابن خزيمة، وأبو عثمان الصابوني، وابن أبي الخير العمراني وكان شافعية جبال اليمن على عقيدة أهل السنة حتى القرن السابع أو بعده بقليل حيث انتشرت الأشعرية وغلبت على أهل تلك البلاد.
س- هل يجوز لطالب العلم أن يقلد؟
ج- الحمد لله، نعم يجوز لطالب العلم تقليد غيره.
س- ما هي شروط الاجتهاد؟ وهل يستطيع أن يبلغها أحد الآن؟
ج- الحمد لله، اعتنى علماء أصول الفقه ببيان الشروط التي يجب توفرها فيمن يريد بلوغ مرتبة الاجتهاد، وكان منهم المشددون، والمتساهلون والمتوسطون باختلاف درجاتهم.
وأقل ما يمكن من تلك الشروط ما يلي:
1- معرفة مواضع آيات الأحكام.
2- " " أحاديث الأحكام .
3- الإلمام بعلم اللغة العربية.
4- " " أصول الفقه.
5- معرفة مقاصد الشرع.
6- معرفة عوائد الناس.
أما عن السؤال حول قدرة أحد أن يصل إلى هذه المرتبة، فهذا مما لا يمكن إنكاره، لأن الأمة مكلفة أن تخرج العلماء المجتهدين، وما كان كذلك فهو في قدرة الأمة، لأن الله لا يكلف بما لا يطاق.
كما أن في تاريخنا الإسلامي نماذج كثيرة جدا لهؤلاء المجتهدين، حتى في العصور التي زعم البعض فيها انعدام المجتهدين، نجد من شهد له بالاجتهاد كابن دقيق العيد، والسبكي، وغيرهم، بل هناك من علا هذه المرتبة وتجاوزها بمفاوز كشيخ الإسلام ابن تيمية.
وفي العصور المتأخرة ظهر مجتهدون كثر أيضا زخرت بلاد اليمن ببعضهم كابن الوزير وابن الأمير والشوكاني والموزعي وغيرهم.
وفي عصرنا الحاضر نماذج وفيرة كذلك منها على سبيل المثال شيخنا القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني وغيره.
والحقيقة أن بعضهم قد يتشدد في شروط الاجتهاد فينفي وجود مجتهدين بناء على معياره المتشدد، وبسؤال بسيط يتهاوى هذا التشدد، وهو سؤاله عن واضع هذه الشروط هل هو مجتهد أو مقلد؟(1/8)
إن غالب الشروط المتشددة وضعها مقلدون، وعليه لا يقبل قول من شخص الحكم على شيء لا يتصوره إذ من بدهيات المنطق أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
بل حتى وإن ذكر بعض هذه الشروط مجتهدون فنقول قد خالفهم غيرهم ولم يروا في تلك الشروط ضرورة كأن يشترط أحدهم حفظ السنة وفقهها، فهذا مما يصعب على طلاب العلم اليوم، ولو شرطناه لما وجدنا مجتهدا قط، ومن قواعد شرعنا العامة قاعدة رفع الحرج، وبناء عليها نقول لا يمكن أن نعتبر هذا الشرط ضروريا فيمن يبلغ رتبة الاجتهاد.
ومقابل هؤلاء هناك متساهلون لدرجة أن بعض بدائيي طلاب العلم لا يرى أن للاجتهاد شروطا.
وخير الأمور أوسطها، وهو إثبات شروط للاجتهاد وهي ما سبق ذكرها، وربما أضيف إليها شروط مكملة أخرى تضمن عدم تسور الجهلة هذه المرتبة والاستهانة بها، والذي غالبا ما يودي بالمجتمع واطمئنانه.
ويكفينا نموذجان من نماذج الغلوين السابق ذكرهما:
النموذج الأول: وهو نموذج الغالين في شروط الاجتهاد، حيث دخلت الأمة مرحلة التقليد المقيت بكل سلبياته والتي منها الانحطاط الفكري والعلمي والعمراني، بل أصبح التدين الذي ما غالى المغالون في شروط الاجتهاد إلا لحفظه أصبح التدين مجرد شعارات ومناسك بدعية من عبادة لغير الله وطواف على القبور وانتشار للسحرة والدجالين والمشعوذين، وغدا الجهل والتخلف في كل مكان فما درت الأمة إلا وهي ترزح تحت نير الاستعمار مسلوبة الإرادة القيادة والعقيدة
النموذج الثاني: وهو نموذج المتساهلون النافون لشروط الاجتهاد، وهو نموذج الخوارج حيث ادعوا لأنفسهم الاجتهاد ولم يكونوا مؤهلين له، ففارقوا جماعة المسلمين واستحلوا دماءهم وأعراضهم وأموالهم، وأشاعوا في الأرض الخراب، وعندما استمع بعضهم لمجتهد تربى في مدرسة محمد- صلى الله عليه وسلم - وهو عبد الله ابن عباس رجعوا الآلاف منهم إلى الحق.(1/9)
فهذان نموذجان يبينان لنا مقدار الخطأ الذي ينتهجه الفريقان، وعظم الجناية التي تثمر عن هذا الخطأ والأمور بخواتيمها.
لكن قد لا يتنبه البعض إلى النتيجة لأنه بمقدار الخطأ يكون مقدار الانحطاط، فإن كان الخطأ جسيما بالغ الذروة في الجسامة كانت النتيجة عاجلة ماحقة، وإن كان الخطأ أقل جسامة كانت النتيجة أبطأ لحوقا وربما بدأت عن قرب لكنها تزداد مع مرور السنين وربما القرون حتى تظهر بائسة يائسة، وقد يدرك المخلصون حينها عوج الطريق ويحاولون الإصلاح، ولكنهم قد ينجحون وفي أحايين كثيرة يخفقون.
س- بسبب كثرة الآراء في الفقه الإسلامي يلتبس علينا ما نأخذه وتمييز الصواب منه فكيف نعمل؟.
ج- الحمد لله، إذا كان المسلم يستطيع تمييز الأدلة وظهر مرجح ظاهر واضح كما في مسألة النكاح بغير ولي والتي قال بصحتها أبي حنيفة خلافا للجمهور فهنا لا يجوز له الحيد عن اتباع السنة الصحيحة الثابتة.
وما كان غير ذلك فله تقليد من شاء من أهل العلم بشرط أن يكونوا من المشهورين بالعلم تزكية أو استفاضة.
فإذا استفتى أكثر من واحد وكل أجابه بجواب مغاير للآخر فليستفت قلبه، أو يتخير ما شاء، لأن الواجب في حقه سؤال أهل العلم وقد فعل ذلك.
س- هل يجوز تقليد العلماء المتأخرين كالشوكاني وابن الأمير والمعاصرين؟
ج- الحمد لله، لا يخلو المسلم في مسألة التقليد من ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون مجتهدا، وهذا لا يجوز له التقليد البتة، إلا إذا دهمته قضية أو استفتاء وضاق عليه الوقت فلم يتمكن من مراجعة الكتب والنظر في الأدلة فيجوز حينئذ التقليد لنفسه أو لغيره.(1/10)
الثانية: أن يكون عاميا لا يميز بين الدليل الراجح والمرجوح، ولا فرق عنده بين دلالات الأدلة فهذا لا يجوز له الاجتهاد البتة وإنما فرضه التقليد بسؤال أهل العلم، الذين أمر الله بسؤالهم ورد الاختلاف إليهم، فإذا ما اجتهد فقد ارتكب منكرا، وربما كبيرة، والله يقول: { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون } .
الثالثة: أن يكون طالب علم يستطيع التمييز بين الأدلة وعنده شيء من علوم الآلة، فهو في مرتبة وسطى بين المرتبتين، وهذا الصنف مراتب قد يقرب بعضهم من وصف العامي فنوجب عليه التقليد، وقد يقرب من وصف الاجتهاد فنلزمه العمل بما ترجح لديه مما كانت دلالته ظاهرة، ورجحانه واضح، وما ليس كذلك فهو فيه عامي.
ومن هنا نقول إن من ألزمناه بالتقليد لا نخص شخصا بعينه يجب تقليده بل كل من توفرت فيه شروط الاجتهاد فهو مجتهد ويجوز تقليده فيما استفتي فيه.
والإمام الشوكاني وابن الأمير وغيرهم ممن بلغ رتبة الاجتهاد كغيرهم من المجتهدين الذي تنطبق عليهم هذه القاعدة.
أما بالنسبة لتقليد المعاصرين فنقول:
أمر الله المسلم بسؤال أهل العلم، وأهل العلم متوافرون في كل زمان، نعم قد يقلون في بعض الأزمنة أو الأمكنة إلا أنه لا يخلو زمان من قائم لله بحجة، أو من يبلغ شرع الله بعلم.
ولا يخلو العالم المعاصر من حالات ثلاث:
الأولى: أن يكون مجتهدا .
الثانية: أن يكون مقلدا.
الثالثة: أن يكون طالب علم وناقل فقه.
فإن تيسر للسائل سؤال المجتهد فهو الأصل أو الأولى، لأن المجتهد هو من يطلق عليه وصف العالم حقا، وهو من أهل الذكر -أي القرآن- الذي أمرنا الله بسؤاله، لأن المقلد ليس من أهل الذكر حقيقة، إذ إن أهل الذكر هم القادرون على الاستنباط منه، وهذا ليس للمقلد.(1/11)
أما بالنسبة للمقلد فهو في الحقيقة حافظ مسائل وقصارى أمره أن يخرج على مذهبه، وإن كان فقهاء المذاهب ممن جمد على التقليد ينفون وجود من يصل إلى هذه المرتبة.
ومع هذا نقول يجوز استفتاء هؤلاء والأخذ بفتاويهم اعتبارا بالعمل الذي توارثه العلماء قديما، ولقلة المجتهدين بل ندرتهم، واعتبارا بالقائل الأصلي لتلك الفتوى.
لكن لا يكون هذا الأخذ على إطلاقه، فهناك من القضايا التي لا ينفع فيها إلا مراجعات ومشاورات ومجامع فقهية ومؤهلات خاصة، وهناك ما هو أقل من ذلك لكنه يتعلق بالفروج وضياع الأسر وخراب مجتمع فهذا لا ينبغي أن يستفتى فيه المقلد، وإذا كان هذا المقلد يعرف قولا فيه يسر لإمام معتبر آخر وليس فيه مصادمة لدليل صحيح صريح فينبغي على المفتى أن يفتي بهذا القول أو يدل المستفتي على من يفتيه به أو ينقل له ذلك القول.
وهناك أمثلة كثيرة على هذا نذكر منها مسألة كثيرا ما يسأل عنها المفتون ويقع الكثيرون بسببها في حرج كبير وهي مسألة الطلاق الثلاث في المجلس الواحد دون تخلل رجعة، فالمقلدون يفتون بنفاذ الطلاق، دون أي اعتبار لما قد تخلفه فتواهم تلك من هدم للأسرة وضياع للأبناء وشرخ في المجتمع قد لا يُرأب.
علما أن هناك من المجتهدين الكبار كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من جعلها واحدة.
فإذا كان في المسألة سعة بل ودليل صحيح يؤيد قول ابن تيمية فلا ضير إذن من اتباعه في فتواه، وحماية أسرة من الفرقة والشتات والضياع.
ومثل هذه المسألة مسائل التعاليق أو الحلف بالطلاق ونحوها مما يتعلق بحياة الأسرة والمجتمع واستقرارهما.(1/12)
وللأسف أن ما نفقده في المقلد هو هذا الحس الذي يستطيع من خلاله النظر إلى أحوال الناس ونفسياتهم، ومراعاة المقاصد، وفهم قاعدة الاحتياط فهما سديدا، وأن يكون هدفه الأول هو جعل مسيرة الحياة متوافقة مع الشرع باعثة للاطمئنان والسلامة الأسرية والمجتمعية، وألا يكون هدفه هو الانتصار للمذهب من خلال الإفتاء به ولو كان ذلك سينزل كالصاعقة على الغير.
إن المفتي المقلد لا يرى في فتواه أي حرج بل إنه سيجيب بكل برود ومن ثم ينصرف راشدا إلى بيته ليضع رأسه على وسادته هادئ البال وكأن شيئا لم يكن، وكأنه لم يتسبب في هدم بيت..أجل هدم بيت، والذي له تبعاته وموبقاته.
ومن هنا نقول إن على المستفتي أن يتحرى المجتهد في مثل هذه المسائل.
أقول هذا وإن كنت أعلم أن معظم المستفتين يعملون "مناقصات" في الفتاوى كما يقول شيخنا محمد العمراني، بمعنى أنهم يستفتون الجماء الغفير من الفقهاء والعلماء بل بعضهم يكتب سؤاله ثم يصوره عدة صور ثم يرسل كلا من أقاربه إلى عالم ليعودوا إليه لاحقا بفتاوى متنوعة يأخذ منها ما سهل وخف تنفيذه.
أما بالنسبة لطالب العلم فلا يجوز استفتاؤه إلا في المسائل الظاهرة الواضحة والتي ما هو فيها إلا بمثابة ناقل.
ويشترط في هذه المسائل ألا تكون مما يتغير بتغير الزمان والمكان والعرف، أو مما تتعدد صورها ويدق التفريق بينها إلا لمن كان مجتهدا أو مقاربا له.
ومما يستطيع طال بالعلم الإجابة عليه تلك المسائل الدائرة في فلك العبادات، مثل بعض مسائل الطهارات ومبطلات الصلاة أو الصوم ونحوها مما يغلب على طالب العلم معرفتها وضبطها.
أقول هذا لأن هناك الكثير من العامة قد لا يهتدي إلى عالم في منطقته أو لربما أقعده الكسل عن الذهاب إلى أهل العلم وسؤالهم، نتيجة لتساهل أو غيره فيسأل أي شخص يرى فيه سيما الصلاح.
ولهذا نحذر طالب العلم هنا من أن ينجر في الإفتاء حتى يقع في التقول على الله بغير علم والذي هو من الكبائر كما ذكرنا.(1/13)
فالواجب أن يجيب على ما يعلمه وأن يعتذر عما لا يعلم ويحاول سؤال أهل العلم كي يفيد ويستفيد.
س- ما منزلة الشوكاني في العلم، خاصة وأن بعضهم يحط من قدره؟
ج- الحمد لله، الإمام محمد بن علي الشوكاني هو من أئمة المسلمين المتأخرين، ويشهد لعلو كعبه في العلم تلك الكتب التي تزخر بها المكتبة الإسلامية والتي تنوعت بين التفسير والعقيدة وفقه الحديث والأصول وغيرها، والتي يعتبر كثير منها مراجع في العلوم الشرعية ومما لا يستغني عنها طالب العلم، كـ: تفسيره الضخم "فتح القدير" والذي أبدع فيه أيما إبداع، وإنما زهد فيه بعض المتأخرين لقلة معرفته باللغة العربية، وسآمتهم من مناقشة بعض قضاياها.
و"نيل الأوطار" والذي يعتبر بحق مرجعا مهما في فقه الحديث، لا يستغني عنه عالم فضلا عن طالب العلم، وقد كان بعض أهل العلم يصطحبه في رحلاته وخروجاته.
وأنا لا أشك لحظة في أن الشوكاني قد بلغ مرتبة الاجتهاد المطلق والتي يعز الوصول إليها.
أما بالنسبة للذين يحطون من قدره فهم في غالبيتهم مقلدون لمذاهب متبوعة غضب علماؤها المتأخرون الجامدون على التقليد وتحريمه وإغلاق بابه غضبوا من جرأة الشوكاني في دعواه الاجتهاد والدعوة إلى نبذ التقليد لمن هو أهل، فثارت ئائرتهم، ورموه بالفضائع حتى إن أحد الأعاجم الشركس يذكر في مقالاته أن الشوكاني ابن ليهودية!!!
وهو والله لا يدري أين "شوكان" من الأرض.
ولكن هكذا يفعل التقليد الأعمى بأهله.
وإن مما يذكر هؤلاء على هذا العلم أن كتبه في معظمها ما هي إلا نقل من كتب غيره، وأنه لم يضف شيئا.
وهذا يقوله من لم يقرأ كتب الشوكاني، إذ لو قرأها لوجدها مليئة بمناقشاته وتحريراته وترجيحاته ويكفي أن تطالع كتاب البحر الزخار لتجد ذلك جليا.
ثم من قال بأن من ضرورة تأليف الكتب أن يكون جميعه من رأسه؟
إني أتحدى أحدا يأتيني بذلك.
فها هو ابن حجر الهيتمي ينقل التحفة شرح المنهاج من حواشي شيخه ابن عبد الحق.(1/14)
وها هو الرملي ينقل من التحفة حتى إنك لا تكاد تفرق بين الناقل والمنقول منه، وهذان عمدتا متأخري الشافعية، فهل أنقص هذا من قدرهم شيئا عند أتباعهم؟ الجواب: لا، كما هو ظاهر.
بل إن كثيرا من كتب الإمام النووي ما هي إلا تلخيصات واختصارات لكتب غيره، والتي كان منها منهاج الطالبين الذي احتصره من المحرر للرافعي، ومنها روضة الطالبين والذي يعتبر من أكبر المراجع الفقهية إطلاقا وفي المذهب الشافعي على وجه الخصوص، وهاهو شرحه لصحيح مسلم معظمه مأخوذ من شرح القاضي عياض على صحيح مسلم أيضا.
فهل أنقص هذا من قدره شيئا؟
فإذا كان هؤلاء وغيرهم على هذا المنوال فلماذا تريدون استثناء الشوكاني؟ ألأنه قال: لا للتقليد والتعصب الأعمى؟
أم لأنه رفض أن تقام أربع جماعات في المسجد الحرام وفي غيره.
إن هذا يعد ميزة زائدة للشوكاني، فيكفيه أن كسر ذلك الجمود وحرك المياه الراكدة، وأثر التأثير الإيجابي البالغ في الحياة العلمية والفكرية للأمة الإسلامية إلى اليوم وإلى ما شاء الله، ورحمك الله يا إمام.
س- هل تأثرت اليمن بالدعوة الوهابية وما مقدار هذا التأثر؟
ج- الحمد لله، لا شك أن الدعوة الوهابية هي من مظاهر التجديد التي مرت على الأمة الإسلامية، والتي كان من مبادئها الأساسية تعبيد الناس لله وحده في أفعاله سبحانه وفي أفعالهم.
وقد نجحت في ذلك أيما نجاح وكان لها التأثير الكبير على الساحة الإسلامية برمتها.
أما بالنسبة لليمن فقد ظهر دعاة وعلماء كبار مجددون متاوزين مع ظهور الوهابية، وأيدوها أيما تأييد، منهم العلامة ابن الأمير الصنعاني الذي دبج قصيدة شعرية في الثناء على الدعوة الوهابية فجاءه بعد ذلك بعض المتضررين من تلك الدعوة وادعوا دعاوى على الوهابية أثبت التاريخ بطلانها، وبما أنه لم يكن في ذلك العصر اتصالات أو مواصلات فقد صدق ابن الأمير تلك الدعوى فعاد ذاما للوهابية.(1/15)
وعلى كل فإن ابن الأمير كان مجددا كذلك وأعلن حربا شعواء على القبوريين وهذا هو بعينه منهج ابن عبد الوهاب.
جاء بعد ابن الأمير الإمام الشوكاني وتولى منصب قاضي القضاة اليمن وكانت دعوته هي نفسها دعوة ابن عبد الوهاب من تعبيد الناس لله والرجوع للقرآن والسنة واتباع السلف الصالح، وكان له التأثير الكبير، فقد تخرج على يديه العديد من التلاميذ الذين حملوا دعوته ونشروها، إلا أن انتشارها في اليمن كان محدودا.
ومن أشهر من يحمل راية المدرسة الشوكانية بل هو أشهرها بعد الشوكاني هو شيخنا وأستاذنا القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني والذي كان يدرس كتب السنة: البخاري ومسلم والسنن الأربع وغيرها في وسط لم يكن يعتبر لهذه الكتب وزنا أو على الأقل لا يعرفها.
فكان أن عرف القاضي بهذه الكتب وتخرج على يديه الكثير من التلاميذ الذين كان لهم التأثير الكبير في قطاعات واسعة في المجتمع اليمني حكومة وشعبا.
ولا أنسى هنا أن أشير إلى أن كثيرا من قضايا المنهج السلفي لم تصل إلى اليمن من المملكة السعودية وإنما جاءت من مصر وأخص بالذكر مجلة المنار لمؤسسها محمد رشيد رضا التي يخبرنا القاضي العمراني أنه كان مولعا بها هو وكثيرين وكانوا ينتظرون أعدادها بفارغ الصبر وكانوا يتناوبون على قراءتها، إضافة إلى إصدارات أخرى لعلماء آخرين كان لها الأثر الطيب.
ومع قيام الثورة اليمنية وتشكيل حكومات يمنية متعاقبة كان الكثير ممن أمسك بزمام الأمور في قطاع التعليم والأوقاف وغيرهما ممن يحمل العقيدة السلفية، والغالب أن هؤلاء كانوا من مدرسة الإمام الشوكاني وابن الأمير وابن الوزير، أو من المتأثرين ومن التلاميذ للقاضي العمراني.(1/16)
ثم بعد ذلك أنشئت المعاهد العلمية والتي كان لها أكبر الأثر في تصحيح المعتقدات والأفكار الباطلة وتوجيه شباب الأمة لطريق السنة، وعادت مناطق شاسعة للسنة بعد أن مكثت ردحا من الزمن لا تعرف إلا البدع والخرافات بشتى أشكالها ومذاهبها!!!
ومع تيسر سبل الاتصالات والمواصلات هاجر الكثير من اليمنيين -وكان قد سبقهم كثيرون- للملكة السعودية للعمل والدراسة، وعاد الكثيرون منهم يحملون العقيدة السلفية فكان منهم الأستاذ الجامعي والموظف ومدرس المدرسة وهكذا فأكملوا المشوار.
وبحمد الله إن العقيدة السنية اليوم عقيدة غالب الشباب اليمني.
نعم بقيت جزر من البدع هنا وهناك، وهذا طبيعي لأن التدافع سنة باقية إلى قيام الساعة.
س- لماذا قلّ فقهاء الشافعية في اليمن في العصور المتأخرة؟
ج- الحمد لله، يمكن أن نجيب على هذا السؤال بكلمة واحدة هي "البدعة".
البدعة التي تمثلت في أشكال عدة منها -مثلا- بدعة الموالد، فقد كان الطالب يتعلم القراءة والكتابة ثم شيئا من الفقه ثم ينطلق ليقيم الموالد هنا وهناك، وأصبح قصارى هم المتعلمين هي التعلم الذي يدر عليهم دخلا.
هذا من جانب ومن جانب آخر كان الاهتمام بحضور الموالد أو غيره من البدع أكثر بكثير من الاهتمام بالعلم وتدريسه، فأصبح العلم أمرا ثانويا.
ولا ننسى التخلف والجهل الذي عانى من الشعب اليمني لفترة طويلة، والتي تسبب فيها كثرة الحروب والمجاعات والبعد عن مراكز العلم والاختلاط بالآخرين بسبب الحصار الذي أحكمه بعض سلاطين اليمن.
كل هذا أدى أيضا إلى انتشار البدع وتجذرها في قلوب العامة تماما كما حدث في بقية العالم الإسلامي؟
س- هل يجوز تقليد المذهب الجعفري؟
ج- الحمد لله، أولا لابد أن نتعرف على المذهب الجعفري، ثم نحكم بعد ذلك.(1/17)
يزعم أتباع هذا المذهب أنهم يقلدون ويتبعون جعفر الصادق، ولكن المطلع أدنى اطلاع على حقيقة مذهبهم يجد أن جعفر الصادق لم يؤسس لمذهب فقهي بتاتا، وأن فتاواه كثيرا ما تتناقض بسبب تناقض تلاميذه إذ انتسب إليه الكثير من الكذابين والزنادقة والشكاك في الدين كما يذكر هذا أئمتهم كالمجلسي وغيره.
ولهذا ضاعت أقوال الصادق في ذاك الركام من التزوير.
زد على ذلك أن بعض المنتسبين إليه ابتدع أو تبع غيره في أصول بدعية كان لها دور فعال في ابتعاد المذهب الجعفري عن الحق.
من هذه البدع "التقية" والتي جعلها المتأخرون مطية في رد ما وافق السنة، وترجيح ما خالفها بحجة أن ما قاله الصادق موافقا للسنة ما هو إلا تقية، وما خالفها فهو الحق.
وقد شكا جعفر الصادق كثيرا من هؤلاء المندسين، وتبرأ منهم ولكن دون فائدة.
زد على ذلك أن الجعفرية تذكر نفسها على أنها دين فتقول: "الدين الجعفري" والسبب أن لهم أصولا مغايرة تماما بل مصادمة لأصول الإسلام منها: القول بتحريف القرآن، والطعن في عرض النبي- صلى الله عليه وسلم - واتهام زوجه عائشة، وتكفير الصحابة الذين بلغوا هذا الدين ودكوا معاقل الفرس، ورد السنة الصحيحة جملة وقبول ما جاء في كتبهم فقط من عجائب وغرائب تبعد من الإسلام بعد المشرقين، وتعبيد الناس لغير الله من ملالايهم وكبرائهم والذي من مظاهر هذا التعبيد السجود لغير الله ودعاء غير الله، فهم يلهجون بذكر الحسين أكثر من لهجهم بالصلاة على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بل أكثر من لهجهم بذكر الله.
ولقد عانى المسلمون منهم الويلات ويكفي أن تطلع على التاريخ لتجد كيف دمرت بلاد الإسلام أرضا وبشرا بسببهم بداية من تأليههم عليا، ومرروا بالنكبات والخروقات التي أحدثوها في صفوف الأمة والتي من أبرزها حاثة التتار، وقتل الملايين من المسلمين في إيران والعراق، وإجبار الباقين على التحول إلى الرفض.
ولِمَ نذهب بعيدا ها هو واقع العراق خير شاهد.(1/18)
ويكفي أن الإمام زيد سماهم الرافضة لرفضهم إمامة الشيخين أبي بكر وعمر!
زد على ذلك أن أهل العلم نصوا على شروط للمجتهد الذي يجوز تقليده واستفتاؤه فذكروا: معرفة القرآن والسنة واللغة والأصول ومقاصد الشرع، وسلامة المعتقد والسلوك.
والآن نعود إلى السؤال: هل يجوز تقليد الرافضة؟
عرفنا أولا أنهم ينكرون حفظ الله للقرآن ويردون السنة ويطعنون في جمل من ثوابت الدين، فهم إذن غير سليمي المعتقد، وعليه فلا يجوز سؤالهم ولا استفتاؤهم ولا تقليدهم، إذ كيف نجوز استفتاء من يكفرك وأهلك وعشيرتك وأمتك، بل ويكفر آباءك وأجدادك بل وأصحاب نبيك ويطعن في عرض رسولك.
كيف نجيز ذلك في شخص يتعبد بقتلك وغشك وخداعك والتآمر عليك؟
إن هذا ما لا يقوله عاقل.
أما بالنسبة لما يشاع بأن أحد مشايخ الأزهر أفتى بجواز ذلك، فهذا بلا شك هفوة، صدرت منه بسبب عدم اطلاعه على كتب وأفعال هؤلاء القوم، ويكفي أن أدلك على كتاب لهم لو قرأته لوجدت فيه العجب، وهو كتاب الكافي للكليني، وستجد معالم الشرك بالله واضحة وكيف تضفى صفات الله على خلقه من آل النبي- صلى الله عليه وسلم - الذين يتمسح هؤلاء بحبهم وهم منهم براء بل لقد أمر علي ابن أبي طالب بتحريق أسلافهم السبئية بالنار وقال:
لما رأيت الأمر أمرا منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا
والحمد لله رب العالمين(1/19)