الإشارة في معرفة الأصول و الوجازة في معرفة الدليل
[في أصول الفقه المالكي]
تصنيف
الإمام القاضي الفقيه الحافظ
أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي
(ت: 474 هـ)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد
وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
باب أقسام أدلة الشرع
أدلة الشرع على ثلاثة أضرب: أصل، ومعقول أصل، واستصحاب حال.
فأما الأصل فهو الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
وأما معقول الأصل: فهو لحن الخطاب، وفحوى الخطاب، والحصر، ومعنى الخطاب.
وأما استصحاب الحال، فهو استصحاب حال الأصل.
إذا ثبت ذلك فالكتاب على ضربين: مجاز وحقيقة.
فأما المجاز فهو لفظ تجوُّز به عن موضوعه، وهو على أربعة أضرب:
زيادة، كقوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم).
ونقصان، كقوله تعالى: (وسئل القرية).
وتقديم وتأخير، كقوله تعالى: (والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى).
واستعارة، كقوله تعالى: (بئسما يأمركم به إيمانكم)، وقوله عز وجل: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة).
وقال محمد بن خويز منداد من أصحابنا وداود الأصبهاني: إنه لا يصح وجود المجاز في القرآن، وقد بينا ذلك.
فصل
وأما الحقيقة فهو كل لفظ بقي على موضوعه، وهو على ضربين: مفصل ومجمل:
فأما المفصل: فهو ما فهم المراد به من لفظه، ولم يفتقر في بيانه إلى غيره، وهو على ضربين: غير محتمل ومحتمل.
فأما غير المحتمل فهو النص، وحده: ما رفع في بيانه إلى أرفع غاياته، نحو قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)، فهذا نص في الثلاثة، لا يحتمل غير ذلك، فإذا ورد وجب المصير إليه والعمل به إلا أن يرد ناسخ أو معارض.
وأما المحتمل فهو ما احتمل معنيين فزائداً، وهو على ضربين:
أحدهما أن لا يكون في أحد محتملاته أظهر منه في سائرها، نحو قولك: لون، للذي يقع على البياض والسواد وغيرهما من الألوان وقوعاً واحداً، ليس هو في واحدٍ منهما أظهر منه في سائرها.(1/1)
فإذا قال لك من يلزمك أمره: اصبغ هذا الثوب لوناً، فإن كان ذلك على معنى التخيير فأي لون صبغت الثوب كنت ممتثلاً لأمره، وإن أراد بذلك لوناً بعينه لم يمكنك امتثال أمره إلا بعد أن يبين اللون الذي أراد.
ولا يجوز أن يتأخر البيان عن وقت الحاجة إلى امتثال الفعل.
والثاني: أن يكون اللفظ في أحد محتملات أظهر منه في سائرها، كألفاظ الظاهر والعموم وغير ذلك.
فأما الظاهر فهو المعنى الذي يسبق فهم السامع من المعاني التي يحتملها اللفظ، كألفاظ الأوامر نحو قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)، (فاقتلوا المشركين) فهذا اللفظ إذا ورد وجب حمله على الأمر، وإن كان يجوز أن يراد به الإباحة نحو قوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا)، والتعجيز نحو قوله تعالى: (قل كونوا حجارة أو حديدا)، والتهديد نحو قوله تعالى: (اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير)، والتعجب نحو قولك: أحسن بزيد، وقد قيل ذلك في قوله تعالى: (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا)، والتكوين نحو قوله تعالى: (كونوا قردة خاسئين) إلا أنه أظهر في الأمر منه في سائر محتملاته، فيجب أن يحمل على أنه أمر إلا أن ترد قرينة تدل على أن المراد به غير الأمر، فيعدل عن ظاهره إلى ما يدل الدليل عليه.
فصل
إذا ثبت ذلك فالأمر اقتضاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء والقهر.
وهو على ضربين: واجب، ومندوب إليه.
فالواجب ما كان في تركه عقاب من حيث هو ترك له على وجهٍ ما، نحو قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة).
والمندوب إليه: هو المأمور به الذي في فعله ثواب، وليس في تركه عقاب من حيث هو ترك له على وجه ما، نحو قوله تعالى: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً، وآتوهم من مال الله الذي آتاكم).
إلا أن لفظ الأمر في الوجوب أظهر منه في الندب، فإذا ورد لفظ الأمر عارياً عن القرائن وجب حمله على الوجوب، إلا أن يدل دليل على أن الندب مراد به، فيحمل عليه.(1/2)
وقال القاضي أبو بكر: يتوقف فيه ولا يحمل على وجوب ولا ندب حتى يدل الدليل على المراد به.
وقال أبو الحسن بن المنتاب وأبو الفرج: يحمل على الندب ولا يعدل به إلى الوجوب إلا بدليل.
والدليل على ما نقوله: قوله عز وجل لإبليس: (ما منعك أن تسجد إذ أمرتك)، فوبخه وعاقبه لما لم يمتثل أمره بالسجود لآدم، ولو لم يكن مقتضاه الوجوب لما عاقبه ولا وبخه على ترك ما لا يجب عليه فعله.
فصل
إذا وردت لفظة افعل بعد الحظر اقتضت الوجوب أيضاً، على أصلها.
وقال جماعة من أصحابنا: إنها تقتضي الإباحة، وبه قال بعض أصحاب الشافعي.
والدليل على ما نقوله: أنا قد أجمعنا على أن لفظ الأمر بمجرده يقتضي الوجوب، وهذا لفظ الأمر مجرداً، فوجب أن يقتضي الوجوب، وتقدم الحظر على الأمر لا يخرجه عن مقتضاه، كما أن تقدم الأمر على الحظر لا يخرجه عن مقتضاه.
فصل
الأمر المطلق لا يقتضي الفور، وإليه ذهب القاضي أبو بكر، وذكر محمد بن خويز منداد أنه مذهب المغاربة من المالكيين، وقال المالكيون من البغداديين: إنه يقتضي الفور.
والدليل على ما نقوله: أن لفظة افعل لا تتضمن الزمان إلا كتضمن الأخبار عن الفعل للزمان، ولو أن مخبراً يخبر أنه يقوم لم يكن كاذباً إذا وجد قيامه متأخراً، وكذلك من أمر بالقيام لا يكون تاركاً لما أمر به إذا وجد منه القيام متأخراً، فإذا ثبت ذلك فإن للواجب على التراخي حالة يتعين وجوب الفعل فيها وهو إذا غلب على ظن المكلف فوات الفعل.
وتجري إباحة تأخير المكلف الفعل مجرى إباحة تعزير الإمام الجاني وتأديب المعلم الصبي إذا لم يغلب على الظن هلاكه، فإذا غلب على الظن هلاكه حرم ذلك.
فصل
إذا نسخ وجوب الأمر جاز أن يحتج به على الجواز.
وقال بعض أصحابنا: لا يجوز ذلك.(1/3)
والدليل على ما نقوله: أن الأمر بالفعل يقتضي وجوب الفعل وجوازه، والجواز ألزم له؛ لأنه قد يكون جائزاً ولا يكون واجباً، ومحال أن يكون واجباً ولا يكون جائزاً؛ لأنه مستحيل أن يؤمر بفعل ما لا يجوز له فعله.
ومعنى الجائز هاهنا ما وافق الشرع.
فإذا ثبت ذلك ونسخ الوجوب خاصة، بقي على حكمه في الجواز؛ لأن النسخ لم يتعلق بالجواز، وإنما تعلق بالوجوب دونه.
فصل
المسافر والمريض مأموران بصوم رمضان، مخيران بينه وبين صوم غيره.
وقال بعض أصحابنا: المسافر مخاطب بالصوم دون المريض.
وقال الكرخي: المسافر والمريض غير مخاطبين بالصوم.
والدليل على ما نقوله أن المسافر لو صام أثيب على فعله، وناب صومه عن فرضه، فلو كان غير مخاطب بصومه لما أثيب عليه كالحائض لما لم تخاطب بالصوم ولم تثب عليه في حال حيضها.
فصل
لا خلاف بين الأمة أن الكفار مخاطبون بالإيمان، والظاهر من مذهب مالك رحمه الله أنهم مخاطبون بالصوم والصلاة والزكاة وغير ذلك من شرائع الإيمان.
قال محمد بن خويز منداد: ليسوا مخاطبين بشيء من ذلك.
والدليل على ما نقوله: قوله تعالى عن المجرمين: (ما سلككم في سقر، قالوا: لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الدين)، فأخبر الله تعالى أن العذاب حق عليهم بترك الإيمان والصدقة والصلاة.
فصل
إذا قال الصحابي: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ونهانا عن كذا، وجب حمله على الوجوب.
وحكي عن أبي بكر بن داود أنه قال: لا يحمل على الوجوب حتى ينقل إلينا لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم.
وما قاله ليس بصحيح؛ لأن معرفة الأمر من غيره طريقه اللغة، وإذا كنا نحتج في اللغة والتمييز بين الأمر وغيره بقول امرئ القيس والنابغة، فبأن نحتج بقول أبي بكر وعمر أولى وأحق؛ لكونهما من أفصح العرب، ولما يقترن بذلك من الدين والفضل.
مسائل النهي(1/4)
الذي ذهب إليه أهل السنة أن الأمر بالشيء نهي عن أضداده، والنهي عن الشيء أمر بأحد أضداده.
والنهي ينقسم إلى قسمين: نهي على وجه الكراهة، ونهي على وجه التحريم.
إلا أن النهي إذا ورد وجب حمله على التحريم، إلا أن تقترن به قرينة تصرفه عن ذلك إلى الكراهية.
والنهي إذا ورد دلَّ على فساد المنهي عنه، وبهذا قال جمهور الفقهاء من أصحابنا وغيرهم.
وقال القاضي أبو بكر: لا يدل على ذلك.
والدليل على ما نقوله: اتفاق الأمة من الصحابة فمن بعدهم على الاستدلال بمجرد النهي في القرآن والسنة على فساد العقد المنهي عنه، كاستدلالهم على فساد عقد الربا بقوله: (وذروا ما بقي من الربا)، وبنهي النبي عليه الصلاة والسلام عن بيع الذهب بالذهب متفاضلاً، واحتجاج عمر في تحريم نكاح المشركات وفساده بقوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن)، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة.
أبواب العموم وأقسامه
قد ذكرنا أن المحتمل الظاهر في أحد محتملاته منه على ضربين: أوامر وعموم، وقد تكلمنا في الأوامر، والكلام هاهنا في العموم.
وله خمسة ألفاظ، منها:
لفظ الجمع، كالمسلمين، والمؤمنين، والأبرار، والفجار.
وألفاظ الجنس، كالحيوان، والإبل.
وألفاظ النهي، كقوله: ما جاءني من أحد.
والألفاظ المبهمة، كـ(من) فيمن يعقل، و(ما) فيما لا يعقل، و(أي) فيهما، و(متى) في الزمان، و(أين) في المكان.
والاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام، نحو قولنا: الرجل والإنسان والمشرك، فهذا إذا ورد اقتضى أمرين: أحدهما: أن يراد به واحد بعينه، وذلك لا يكون إلا بقرينة عهد، والثاني: أن يراد به جميع الجنس، فإذا ورد عارياً من القرائن حمل على جميع الجنس.
والدليل على ذلك اتفاقنا على أنه معرفة، ولا بد أن يكون معرفة بالعهد أو باستيعاب الجنس، فإذا لم يكن عهدٌ حمل على استيعاب الجنس، وإلا كان نكرة.(1/5)
ومن ألفاظ العموم: الإضافة إلى ما تصح الإضافة إليه من هذه الألفاظ المتقدمة، نحو قوله صلى الله عليه وسلم: (في سائمة الغنم الزكاة).
فصل
إذا ثبت ذلك، فإذا ورد شيء من ألفاظ العموم المذكورة وجب حملها على عمومها إلا أن يدل الدليل على تخصيص شيء منها، فيصار إلى ما يقتضيه الدليل.
وقال القاضي أبو بكر: يتوقف فيها، ولا تحمل على عموم ولا خصوص حتى يدل الدليل على المراد بها.
وقال أبو الحسن بن المنتاب: تحمل على أقل ما تقتضيه الألفاظ.
والدليل على ما نقوله: ما قدمناه من كونها معرفة، وإنما تكون معرفة إذا اقتضت استغراق الجنس، فيتميز ما يقع تحتها من غيره، ولو لم يرد بها جميع الجنس لكانت نكرة؛ لأنه لا يتميز المراد بها من غيره، إذ قد بقي من جنسه ما يقع عليه هذا اللفظ، ولذلك قلنا: إن لفظ الجمع إذا ذكر لا يقتضي استغراق الجنس؛ لأنه لو اقتضى استغراق الجنس لكان معرفة.
فصل
فإذا دل الدليل على تخصيص ألفاظ العموم بقي ما تناوله اللفظ العام بعد التخصيص على عمومه أيضاً يحتج به كما كان يحتج به لو لم يخص شيء منه.
وذلك نحو قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين) فإن هذا اللفظ يقتضي قتل كل مشرك، ثم قد خص ذلك بأن منع من قتل من أدى الجزية من أهل الكتاب، فبقي الباقي على ما كان عليه من وجوب القتل يحتج به في وجوب قتل المشركين غير من قد خرج بالتخصيص المذكور.
وكذلك لو ورد تخصيص آخر لبقي باقي اللفظ العام على ما كان عليه قبل التخصيص.
ويجوز أن يرد التخصيص والبيان مع اللفظ العام، ويجوز تأخيره عنه إلى وقت فعل العبادة، ولا يجوز أن يتأخر عن ذلك الوقت.
فصل
أقل الجمع اثنان عند جماعة من أصحاب مالك رحمه الله، وحكى القاضي أبو بكر بن الطيب: إنه مذهب مالك.
وقال بعض أصحابنا وأصحاب الشافعي: أقل الجمع ثلاثة.(1/6)
والدليل على ما ذهبنا إليه قوله تعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين)، وقوله تعالى: (فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون)، وذكر أنه مذهب الخليل وسيبويه، وأنشد في ذلك:
مهمين يممتهما مرتين ... ظهراهما مثل ظهور الترسين
فصل
إذا ورد لفظ الجمع المذكر لم تدخل فيه جماعة المؤنث إلا بدليل؛ لأن لكل طائفة لفظاً تختص به في مقتضى اللغة.
قال الله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات).
وقال أهل اللغة: إن الواو في الجمع السالم يدل على خمسة أشياء: على التذكير والسلامة والرفع والجمع ومن يعقل، ولا يجوز أن يقع تحته المؤنث إلا بدليل، كما لا يقع تحته ما لا يعقل إلا بدليل.
فصل
إذا ثبت ذلك فقد يرد أول الخبر عاماً، وآخره خاصاً، ويرد آخره عاماً وأوله خاصاً، فيجب أن يحمل كل لفظ على مقتضاه، ولا يعتبر بسواه، وذلك نحو قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)، وهذا عام في كل مطلقة مدخول بها، رجعية كانت أو بائنة، ثم قال بعد ذلك: (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك)، وهذا خاص في الرجعية.
ومما خص أوله وعم آخره قوله تعالى: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء).
فصل
إذا تعارض لفظان خاص وعام، بني العام على الخاص، مثل: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس)، ثم قال: (من نام عن صلاة أن نسيها فليصلها إذا ذكرها)، فأخرج بهذا اللفظ الخاص الصلاة المنسية من جملة الصلوات المنهي عنها بعد العصر، وسواء كان الخاص متقدماً أو متأخراً.
وقال أبو حنيفة: إذا كان الخاص متقدماً نسخه العام المتأخر، وإن كان العام متفقاً عليه والخاص مختلفاً فيه، قدم العام على الخاص.
والدليل على ما نقوله: أن الخاص يتناول الحكم على وجهٍ لا يحتمل التأويل، والعام يتناوله على وجهٍ يحتمل التأويل، فكان الخاص أولى.
فصل(1/7)
فإذا تعارض اللفظان على وجهٍ لا يمكن الجمع بينهما فإن علم التاريخ فيهما نسخ المتقدم بالمتأخر، وإن جهل نظر في ترجيح أحدهما على الآخر بوجهٍ من وجوه الترجيح التي تأتي بعد هذا، فإن أمكن ذلك وجب المصير إلى ما ترجح، فإن تعذر الترجيح فيهما ترك النظر فيهما وعدل إلى سائر أدلة الشرع، فما دلَّ عليه الدليل أخذ به، فإن تعذر في الشرع دليل على حكم تلك الحادثة كان الناظر مخيراً في أن يأخذ بأي اللفظين شاء الحاظر أو المبيح؛ إذ ليس في العقل حظر ولا إباحة.
فصل
يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وعليه جمهور الفقهاء.
ويجوز تخصيص عموم السنة بالقرآن، وتخصيص عموم القرآن وأخبار الآحاد بالقياس الجلي والخفي؛ لأن ذلك جمع بين دليلين، ومتى أمكن الجمع بين دليلين كان أولى من اطراح أحدهما والأخذ بالآخر؛ لأن الأدلة إنما نصبت للأخذ بها والحكم بمقتضاها، فلا يجوز اطراح شيء منها ما أمكن استعماله.
فصل
وقد يقع التخصيص أيضاً بمعانٍ من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، وإقراره على الحكم وما جرى مجرى ذلك.
ولا يقع التخصيص بمذهب الراوي وذلك مثل ما روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا)، وقال ابن عمر رضي الله عنه: التفرق بالأبدان، فذهب بعض أصحابنا وأصحاب الشافعي إلى أنه يقع التخصيص بذلك، وذهب مالك رحمه الله أنه لا يقع به التخصيص، وهو الصحيح؛ لأن الأحكام إنما تؤخذ من قول صاحب الشرع، ولا يجوز أن يطرح قول صاحب الشرع لقول غيره.
فصل
هذا الكلام في اللفظ العام الوارد ابتداء، فأما الوارد على سبب فإنه على ضربين: مستقل بنفسه، وغير مستقل بنفسه:(1/8)
فأما المستقل بنفسه فمثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن بئر بضاعة فقال: (الماء الطهور لا ينجسه شيء)، فمثل هذا اللفظ العام اختلف أصحابنا فيه، فروي عن مالك أنه يقصر على سببه ولا يحمل على عمومه، وروي عنه أيضاً أنه يحمل على عمومه ولا يقصر على سببه، وإليه ذهب إسماعيل القاضي وأكثر أصحابنا.
والدليل على ذلك أن الأحكام متعلقة بلفظ صاحب الشرع دون السبب؛ لأن لفظ صاحب الشرع لو انفرد لتعلق به الحكم، والسبب لو انفرد لم يتعلق به حكم، فيجب أن يكون الاعتبار بما يتعلق به الحكم دون ما لا يتعلق به.
وأما ما لا يستقل بنفسه فمثل ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر فقال: (أينقص الرطب إذا جف؟) قالوا: نعم، قال: (فلا)، إذ بمثل هذا الجواب يقصر على سببه، ويعتبر به في خصوصه وعمومه، ولا اختلف في ذلك نعلمه.
باب أحكام الاستثناء
ومما يتصل بالتخصيص ويجري مجراه الاستثناء، وهو على ضربين:
استثناء يقع به تخصيص، واستثناء لا يقع به تخصيص.
فأما الذي يقع به تخصيص فعلى ضربين: استثناء من الجنس، واستثناء من الجملة، فأما الاستثناء من الجنس فقولك: رأيت الناس إلا زيداً، وأما الاستثناء من الجملة فقولك: رأيت زيداً إلا يده.
وأما الاستثناء من غير الجنس فلا يقع به التخصيص؛ لأنه لا يخرج من الجملة بعض ما تناولته، وعندي أنه يجوز.
وقال محمد بن خويز منداد: لا يجوز.
ودليلنا قوله تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطئا)، والخطأ لا يقال فيه للمؤمن أن يفعله، ولا ليس له أن يفعله، لأنه ليس بداخل تحت التكليف، وقد قال النابغة:
وقفت فيها أصيلاً كي أسائلها ... عيت جواباً وما بالربع من أحد
إلا الأوارى لأيا ما أبينها ... ... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد
فصل
الاستثناء المتصل بجمل من الكلام معطوف بعضها على بعض، يجب رجوعها إلى جميعها عند جماعة من أصحابنا.
وقال القاضي أبو بكر فيه بمذهبه بالوقف.(1/9)
وقال المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة: يرجع إلى أقرب مذكور إليه.
ومثال ذلك قوله تعالى: (فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم).
والدليل على ذلك أن المعطوف بعضه على بعض بمنزلة المذكور جميعه باسم واحد، ولا فرق عندهم بين من قال: اضرب زيداً وعمرا ًوخالداً، وبين من قال: اضرب هؤلاء الثلاثة.
وإذا كان ذلك كذلك، فلو ورد الاستثناء عقيب جملة مذكورة باسم واحد لرد إلى جميعها، فكذلك إذا ورد عقيب ما عطف بعضه على بعض.
باب حكم المطلق والمقيد
ومما يتصل بالعام والخاص المقيد والمطلق، ونحن نبين حكمها:
التقييد يقع بثلاثة أشياء:
الغاية والشرط والصفة
فأما الغاية فقولك: اضرب زيداً وعمراً أبداً، حتى يرجع إلى الحق، فلولا أنه قيد الضرب بالرجوع إلى الحق لاقتضى ذلك ضربه أبداً.
وأما الشرط فقولك: من جاءني من الناس فأعطه درهماً، فقيد ذلك بالشرط.
وأما الصفة فقولك: أعط القرشيين المؤمنين، فقيد بصفة الإيمان، ولولا ذلك لاقتضى اللفظ كل قرشي.
فإذا ثبت ذلك وورد لفظ مطلق ومقيد، فلا يخلو أن يكونا من جنسين أو جنس واحد:
فإن كانا من جنسين، فالمشهور من قول العلماء أنه لا يحمل المطلق على المقيد؛ لأن تقييد الشهادة بالعدالة لا يقتضي تقييد رقبة العتق بالإيمان.
وأما إن كانا من جنس واحدٍ، فلا يخلو أن يتعلقا بسببين مختلفين أو سبب واحد:
فإن تعلقا بسببين مختلفين نحو أن يقيد الرقبة في القتل بالإيمان، ويطلقها في الظهار، فإنه لا يحمل المطلق على المقيد عند أكثر أصحابنا، إلا بدليل يقتضي ذلك، وقال بعض أصحابنا وأصحاب الشافعي: يحمل المطلق على المقيد من جهة وضع اللغة.(1/10)
والدليل على ما نقوله: أن الحكم المطلق غير المقيد، وإطلاق المطلق يقتضي نفي المقيد عنه، كما أن تقييد المقيد يقتضي نفي الإطلاق عنه، فلو وجب تقييد المطلق لأن من جنسه ما هو مقيد لوجب إطلاق المقيد لأن من جنسه ما هو مطلق.
وأما إذا كانا متعلقين بسبب واحد مثل أن ترد الزكاة في موضع واحد مقيدة بالسوم، وترد في موضع آخر مطلقة، فإنه لا يجب عند أكثر أصحابنا أيضاً حمل المطلق على المقيد، ومن أصحابنا من أوجب ذلك، وهو من باب دليل الخطاب، وسيرد في موضعه الكلام عليه إن شاء الله.
باب بيان حكم المجمل
قد ذكرنا أن الحقيقة على ضربين: مفصل، ومجمل، وقد مر الكلام في المفصل، والكلام هاهنا في المجمل.
وجملته أن المجمل ما لا يفهم المراد به من لفظه، ويفتقر في البيان إلى غيره، نحو قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) فلا يفهم المراد بالحق من نفس اللفظ، ولا بد له من بيان يكشف عن جنس الحق وقدره.
فإذا ورد مثل هذا وجب اعتقاد وجوبه إلى أن يرد بيانه، فيجب امتثاله.
وقد اختلف أصحابنا في قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)، و(كتب عليكم الصيام) و(لله على الناس حج البيت)، و(أحل الله البيع وحرم الربا) فذهب قوم من أصحابنا إلى أنها مجملة.
وقال أبو محمد بن نصر: كلها مجملة إلا قوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا)، فهو عام.
وقال محمد بن خويز منداد: كلها عامة، فيجب حملها على عمومها إلا ما خصه الدليل، وهو الصحيح عندي.(1/11)
والدليل على ذلك أن كل لفظ من هذه الألفاظ يقتض في اللغة جنسا مخصوصاً، فالصلاة معناها الدعاء، فإذا ورد هذا اللفظ كان امتثاله بكل ما يقع عليه هذا الاسم من الدعاء، إلا ما خصه الدليل؛ لأن الشرع قد خص منه دعاءا مخصوصاً تقترن به أفعال مخصوصة من ركوع وسجود وغير ذلك، والصوم هو الإمساك، لكن الشرع قد خص منه إمساكاً مخصوصاً عن أشياء مخصوصة في أوقات مخصوصة على وجهٍ مخصوص، والزكاة هو النماء، والحج هو القصد، وكان ذلك بمنزلة قوله تعالى: (واقتلوا المشركين) الذي يقتضي قتل كل مشرك، وقد خص الشرع من ذلك أنواعاً من المشركين.
باب بيان الأسماء العرفية
ومما يتصل بهذا الباب الأسماء العرفية، ومعنى قولنا عرفية أن تكون اللفظة موضوعة في كلام العرب لجنس ما، ثم يغلب عليها عرف الاستعمال في بعض ذلك الجنس، نحو قولنا: دابة، هو اسم موضوع لكل ما دب، ثم غلب عليه عرف الاستعمال في نوع من الحيوان دون غيره.
وكذلك قولنا: صلاة، هو اسم لكل دعاء في اللغة، ثم غلب عليه عرف الاستعمال في نوعٍ من الدعاء على وجهٍ مخصوص.
فصل
إذا ثبت ذلك فعرف الاستعمال يكون من ثلاثة أوجه: أحدهما اللغة، نحو قولنا: دابة.
والثاني: عرف الشريعة، نحو قولنا: صلاة وصوم وحج.
والثالث: عرف الصناعة كتسمية أهل الكتابة الديوان زماماً، وتسمية أهل الإبل الخطام زماماً، وغير ذلك.
فإذا ورد شيء من الألفاظ العربية وجب حملها على ما عرفت بالاستعمال به، من الجهة التي وردت منها.
باب أحكام أفعال النبي صلى الله عليه وسلم
السنة الواردة على النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أضرب: أقوال، وأفعال، وإقرار.
وقد تقدم القول في الأقوال، والكلام في الأفعال، وهي تنقسم قسمين:
أحدهما: ما يفعله بياناً للمجمل، فحكمه حكم المجمل في الوجوب أو الندب أو الإباحة.
والثاني: ما يفعله ابتداء، وذلك على ضربين:(1/12)
أحدهما: أن تكون فيه قربة، نحو: أن يصلي أو يصوم، فهذا قد اختلف أصحابنا فيه، فذهب ابن القصار والأبهري وغيرهما إلى أنها محمولة على الوجوب.
وقال ابن المنتاب: هي على الندب.
وقال القاضي أبو بكر: هي على الوقف.
والأول أصح.
والدليل على ذلك قوله تعالى: (واتبعوه لعلكم تهتدون)، والأمر يقتضي الوجوب.
وقوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره)، والأمر يقع على القول والفعل حقيقة، ويدل على ذلك من جهة الإجماع رجوعهم إلى قول عائشة رضي الله عنها لما اختلفوا في وجوب الغسل من التقاء الختانين: (فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا)، وأخذ به جميع الصحابة رضي الله عنهم والتزموه واجباً.
وأما الضرب الثاني: وهو ما لا قربة فيه، نحو الأكل والشرب واللباس، فإنه يدل على الإباحة.
وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أنه يدل على الندب، نحو الأكل باليمين، وابتداء التنعل باليمين، وهذا غلط؛ لأن الندب هاهنا ليس في نفس الفعل، وإنما هو في صفة الفعل، وتلك قربة.
وأما الإقرار فأن يفعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فعل ولا ينكره، فإن ذلك يدل على جوازه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على المنكر، وذلك نحو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سلم من اثنتين فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم الكلام في الصلاة ليفهم الإمام، فيدل ذلك على جوازه وصحته.
باب أحكام الأخبار
الخبر هو الوصف للمخبر عنه، وهو ينقسم إلى قسمين: صدق وكذب، فالصدق هو الوصف للمخبر عنه على ما هو به، والكذب هو الوصف للمخبر عنه على ما ليس به.
فصل
إذا ثبت ذلك فإنه ينقسم إلى قسمين: تواتر وآحاد:
فالتواتر ما وقع العلم بمخبره ضرورة من جهة الخبر به، نحو الأخبار المتواترة عن وجود مكة وخراسان ومصر وظهور محمد صلى الله عليه وسلم وكورود القرآن.(1/13)
وأما خبر الآحاد فما قصر عن التواتر، وذلك لا يقع به العلم، وإنما يغلب على ظن السامع له صحته؛ لثقة المخبر به؛ لأن المخبر وإن كان ثقة يجوز عليه الغلط والسهو، كالشاهد.
وقال محمد بن خويز منداد: يقع العلم بخبر الواحد، والأول عليه جميع الفقهاء.
فصل
إذا ثبت ذلك فإنه على ضربين: مسند ومرسل.
فالمسند ما اتصل إسناده، وهو يجب العمل به؛ لأن الشرع قد ورد بذلك.
وأنكر العمل به جماعة من أهل البدع.
والدليل على ما نقوله أنه لا يمتنع من جهة العقل أن يتعبدنا الباري سبحانه وتعالى بالعمل بخبر من يغلب على ظننا ثقته وأمانته، وإن لم يقع لنا العلم بصدقه، كما تعبدنا بالعمل بشهادة الشاهدين، إذا غلب على ظننا ثقتهما وإن لم يقع لنا العلم بصدقهما، ولذلك يرجع كثير من الشهود عن شهادته بعد قبولها وبعد إنفاذ الحكم بها.
ومما يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفذ أمراء إلى البلاد يعلمون الناس الدين والإسلام، ويأخذون منهم الصدقات.
ومما يدل على ذلك إجماع الصحابة على وجوب العمل بخبر الآحاد، كرجوع عمر بن الخطاب رضي الله عنه لخبر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأخذه جزية المجوس بخبره، ورجوع الصحابة إلى خبر عائشة رضي الله عنها في الغسل من التقاء الختانين، وأخذ عثمان رضي الله عنه في السكنى بخبر فريعة بنت مالك، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة.
فصل
وأما المرسل فهو ما انقطع إسناده فأخلَّ فيه بذكر بعض رواته، ولا خلاف أنه لا يجب العمل به إذا كان المرسل غير محترز.
فإذا كان متحرزاً لا يرسل إلا عن الثقات كإبراهيم النخعي وسعيد بن المسيب، فإنه يجب العمل به عند مالك رحمه الله وأبي حنيفة.
وقال الشافعي: لا يجب العمل به إلا أن يكون مرسل سعيد بن المسيب خاصة، فإني اعتبرتُ مراسيله فوجدتها مسندة.
والدليل على ما نقوله اتفاق الصدر الأول على نقل المرسل ولو كان ذلك يبطل الحديث لما حل الإرسال.(1/14)
فممَّن أرسل وبلغنا ذلك عنه أبو هريرة وابن عباس والبراء بن عازب وابن عمر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم، وغيرهم، وأكثر التابعين، ومن بعدهم.
قال محمد بن جرير: إنكار المرسل بدعة ظهرت بعد المائتين.
وأيضاً فإنه لا فرق بين مرسل سعيد بن المسيب وغيره، إذا كان المرسل ثقة محترزاً؛ لأن الشافعي إن كان لم يأخذ من مرسل سعيد إلا بما اتصل به إسناده، فلم يأخذ بمرسله، وإنما أخذ بالمسند، فلا معنى لقوله: آخذ بمرسل سعيد، وإن كان أخذ بمراسيله لأنه قد وجد منها ما ينسند، فهكذا حكم غيره.
ومما يدل على صحة العمل بالمرسل أننا قد اتفقنا على أن التعديل يقع بقول الواحد: فلان ثقة، ولا يحتاج إذا كان من أهل العلم أن يبين معنى العدالة عنده، فإذا علم من حاله أنه لا يرسل إلا عن ثقة أو أخبر بذلك عن نفسه فإرساله عنه بمنزلة أن يقول: حدثني فلان، وهو ثقة.
وقد أجمعنا على أنه لو قال ذلك لوجب تقليده في تعديله، فكذلك إذا أرسل عنه.
فصل
إذا روى الراوي الخبر وترك العمل به لم يمنع ذلك وجوب العمل به عند بعض أصحابنا.
وقد قال بعض أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة: إن ذلك يبطل وجوب العمل به.
والدليل على ما نقوله: أن خبر النبي صلى الله عليه وسلم إذا ورد وجب على الصحابي وغيره امتثالاً إلا أن يرد دليل على نسخه، وليس إذا تركه تارك مما يسقط وجوب العمل به عمن بلغه، ولذلك استدللنا بخبر ابن عباس في أن بريرة بيعت فأعتقت تحت عبد فخيرت، وإن كان مذهب ابن عباس أن بيع الأمة طلاقها.
فصل
إذا روى الراوي الخبر فأنكره المروي عنه، فإن ذلك يقع على ضربين: أحدهما أن يتوقف فيهما ويشك، والثاني: أن يقطع على أنه لم يخبر به.
فأما إن شك المروي عنه فيه فقد ذهب جمهور أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي إلى وجوب العمل به.
وذهب الكرخي إلى أنه لا يجب العمل به.(1/15)
والدليل على ما نقوله: أن نسيانه لا يكون أكثر من موته، وقد أجمعنا على أن موته لا يسقط العمل به من جهة المروي، فكذلك نسيانه.
وأما إذا قطع أنه لم يحدثه به فهو على ضربين: أحدهما أن يقول: هو في روايتي ولم أحدث به الراوي، فهذا لا يمنع وجوب العمل به من جهة المروي عنه.
وأما إذا قال: لم أروه قط، فهذا لا يجوز الاحتجاج به جملة؛ لأن المروي عنه إن كان كاذباً فقد بطل الخبر من جهته، وإن كان صادقاً فقد بطل الخبر أيضاً؛ لأنه لم يروه.
فصل
رواية العدل الثبت المشهور بالحفظ والإتقان الزيادةَ في الخبر على رواية غيره، معمولٌ بها، خلافاً لبعض أصحاب الحديث في قولهم: لا يقبل ذلك على الإطلاق، ولبعض المتفقهة في قولهم: تقبل الزيادة من العدل على الإطلاق.
والدليل على ما نقوله: أنه لو شهد شاهدان لرجل على غريمه بألف دينار، وشهد شاهدان آخران بألف وخمسمائة لأخذ بالزيادة، فكذلك الخبر.
ولأنه لو انفرد بنقل خبر لقبل منه، فكذلك إذا انفرد بنقل زيادة في الخبر.
فصل
يجب العمل بما نقل على وجه الإجازة، وبه قال عامة العلماء.
وقال أهل الظاهر: لا يجوز العمل إلا أن تكون مناولة، وأن يكتب إليه المجيز أن الكتاب الفلاني أو الديوان الفلاني يعدد من ذلك من روايتي عن فلان، فارو ذلك عني.
والدليل على ما نقوله: أن من كتب إلى غيره أن ديوان الموطأ وغيره من الكتب المعلومة رويته عن زيد، فارو عني إذا صح عندك، يحتاج في إثبات الكتاب عنده إلى نقل الثقة، ثم يحتاج في تصحيح كتاب الموطأ والعلم بأنه مماثل لأصل المجيز له إلى نقل ثقة أيضاً، فتحصل له الرواية بعد ثبات ذلك عنده من طريقين، وإذا قال له مشافهة ما صح عندك من حديثي فاروه عني لم يحتج في ذلك إلى إخبار ثقة، فإن هذا الكتاب رواه المجيز له عن فلان فلا يحتاج أن يصح ذلك عنده إلا من طريق واحد، ثم إذا ثبت وتقرر أن في النوع الأول تصح إجازته فبأن تصح هاهنا أولى وأحرى.
باب أحكام الناسخ والمنسوخ(1/16)
النسخ هو إزالة الحكم الثابت بالشرع المتقدم، بشرع متأخر عنه، على وجهٍ لولاه لكان ثابتاً.
وذلك أن الناسخ والمنسوخ لا بد أن يكونا حكمين شرعيين، فأما الناقل عن حكم الأصل أو الساقط بعد ثبوته وامتثال موجبه فإنه لا يسمى نسخاً.
فصل
إذا ثبت ذلك فإذا نقص بعض الجملة أو الشرط من شروطها فقد ذهب أكثر الفقهاء إلى أنه ليس بنسخ، وقال بعض الناس: هو نسخ.
وكذلك الزيادة في النص، قال أصحاب أبي حنيفة: هو نسخ، وقال أصحابنا وأصحاب الشافعي: ليست بنسخ.
وقال القاضي أبو بكر: إن كان النقص من العبادة أو الزيادة فيها بغير الحكم المزيد فيه أو المنقوص منه، حتى يجعل ما لم يكن منه عبادة قائمة بنفسها عبادة ثابتة وقربة مستقلة أو يجعل ما كان عبادة شرعية غير شرعية فهو نسخ. نحو أن يزاد في الصلاة التي هي ركعتان ركعتان أخريان، فهذا يكون نسخاً؛ لأن الركعتين الأولتين حينئذ لا تكون صلاة شرعية.
وكذلك إذا ورد الأمر بالصلاة الرباعية أن تصلى ركعتين فإنه نسخ أيضاً؛ لأن الأربع ركعات لا تكون صلاة.
وأما إذا لم تغير الزيادة ولا النقصان حكم المزيد عليه، ولا المنقوص منه، فليس بنسخ، مثل أن يؤمر في حد شارب الخمر بأربعين ثم يؤمر فيه بثمانين، فإن هذه الزيادة لا تبطل حكم المزيد عليه؛ لأنه لو ضرب أربعين بعد الأمر بالثمانين لأجزت عن الأربعين، وليبني عليها إن أراد أن يتم الثمانين، والذي أمر بأربع ركعات فصلى ركعتين لا يجزيه أن يتم عليها ركعتين حتى يبتدئ أربع ركعات، وكذلك لو أمر بجلد ثمانين في الخمر، ثم نقص منها فإنه لا يكون نسخاً لجميع الحد، وإنما يكون نسخاً للأربعين فقط.
فصل
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن النسخ لا يدخل الأخبار.
وقالت طائفة: يدخل النسخ في الأخبار.
والصحيح من ذلك أن نفس الخبر لا يدخله النسخ؛ لأن ذلك لا يكون نسخاً، وإنما يكون كذباً، لكن إن ثبت بالخبر حكمٌ من الأحكام جاز أن يدخله نسخ.
فصل(1/17)
يجوز نسخ العبادة بمثلها وبما هو أخف منها وأثقل، وعليه جمهور الفقهاء.
ومنع قوم نسخ العبادة بما هو أثقل منها.
والدليل على ما نقوله: أن الباري تعالى قد أوجب على المكلفين ما يشق عليهم وجوبه، وحرم عليهم ما يشق عليهم تحريمه، وإذا جاز أن يبتدئ التعبد بما هو أ ثقل عليهم من حكم الأصل، جاز أيضاً أن تنسخ عنهم العبادة بما هو أثقل عليهم منها.
فصل
إذا وردت التلاوة متضمنة حكماً واجباً علينا من تحريم أو فرض أو غير ذلك من العبادات، وأمرنا بتلاوتها، فإن فيها حكمين: أحدهما ما تضمنته من العبادة، والثاني: ما ألزمناه من حفظها وتلاوتها، وذلك بمثابة ما لو تضمن الخبر حكمين أحدهما صوم والآخر صلاة، فإذا ثبت ذلك جاز نسخ الحكم مع بقاء التلاوة وجاز نسخ التلاوة وبقاء الحكم.
فأما نسخ الحكم مع بقاء التلاوة، فهو مثل نسخ حكم التخيير بين الصوم أو الفدية لمن أطاق الصوم، ونسخ الوصية للوالدين والأقربين، ونسخ تقديم الصدقة عند مناجاة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن بقيت التلاوة لذلك كله.
وأما بقاء الحكم ونسخ التلاوة، فما تظاهرت به الأخبار من نسخ تلاوة آية الرجم، ونسخ خمس رضعات وغير ذلك مما بقي حكمه بعد تلاوته.
فصل
يصح نسخ العبادة قبل وقت الفعل وعلى هذا أكثر الفقهاء.
وقال أبو بكر الصيرفي وبعض أصحاب أبي حنيفة: لا يصح نسخ العبادة قبل وقت الفعل.
والدليل على ما نقوله: ما أمر به إبراهيم عليه السلام من ذبح ابنه، ثم نسخ عنه قبل فعله.
وأيضاً فقد ذكرنا أن النسخ إنما هو إزالة الحكم الثابت بالشرع المتقدم، وإذا خرج وقت العبادة فلا يخلو أن يكون فعلها أو لم يفعلها: فإن كان فعلها فلا يحتاج إلى النسخ؛ لأن المأمور قد امتثله، وإن كان لم يفعلها فلا يصح النسخ أيضاً؛ لأن لا يقال له: لا تفعل أمس كذا؛ لأن الفعل فيما مضى غير داخل في التكليف فعله ولا تركه، فلا يصح النسخ إلا قبل انقضاء وقت العبادة.(1/18)
وأما ترك إيجاب مثل العبادة في المستقبل فليس بنسخ نفس المأمور به، وإنما هو إسقاط مثله.
فصل
لا خلاف بين أهل العلم في جواز نسخ القرآن بالقرآن والخبر المتواتر بمثله.
وذهب أكثر الفقهاء إلى أنه يجوز نسخ القرآن بالخبر المتواتر، ومنع من ذلك الشافعي.
والدليل على ذلك أن القرآن والخبر المتواتر كلاهما شرع مقطوع بصحته، فإذا جاز أن ينسخ القرآن بالقرآن، جاز أن ينسخ بالخبر المتواتر.
ومما يبين ذلك أن قوله تعالى: (الوصية للوالدين والأقربين) منسوخ بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث).
فصل
ويجوز عند جمهور الفقهاء نسخ السنة بالقرآن، ومنع من ذلك الشافعي.
والدليل على ذلك ما ورد من القرآن بصلاة الخوف، بعد أن ثبت بالسنة تأخيرها يوم الخندق إلى أن يأمن، ونسخه التوجه إلى بيت المقدس بقوله تعالى: (فول وجهك شطر المسجد الحرام)، وقوله تعالى: (فلا ترجعوهن إلى الكفار) بعد أن قرر النبي صلى الله عليه وسلم رد من جاءه من المسلمين إليهم.
فصل
يجوز نسخ القرآن والخبر المتواتر بخبر الآحاد.
وقد منعت من ذلك طائفة.
والدليل على ذلك ما ظهر من تحول أهل قباء إلى الكعبة بخبر الآتي، وقد كانوا يعلمون استقبال بيت المقدس من دين النبي عليه الصلاة والسلام ضرورة.
إلا أنه لا يجوز ذلك بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم، للإجماع على ذلك.
فأما القياس فلا يصح النسخ به جملة.
فصل
ذهبت طائفة من أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة والشافعي إلى أن شريعة من قبلنا لازمة لنا، إلا ما دل الدليل على نسخه.
وقال القاضي أبو بكر وجماعة من أصحابنا بالمنع من ذلك.
والدليل على ما نقوله: قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)، فأمر باتباعهم وأمرنا باتباعه.
وقوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك)، إلى قوله: (ولا تتفرقوا فيه).(1/19)
ومما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى قال: (وأقم الصلاة لذكري).
وإنما خوطب بذلك موسى عليه السلام، فأخذ به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
باب الإجماع وأحكامه
إجماع الأمة على حكم الحادثة دليل شرعي، فيجب المصير إلى ما أجمعت عليه، والقطع بصحته، خلافاً للإمامية.
والدليل على ذلك قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً)، فتوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين، فكان ذلك أمراً باتباع سبيلهم.
فصل
فإذا ثبت ذلك، فالأمة على ضربين: خاصة وعامة: فيجب اعتبار أقوال الخاصة والعامة فيما كلفت الخاصة والعامة معرفة الحكم فيه.
فأما ما ينفرد الحكام والفقهاء بمعرفته من أحكام الطلاق والنكاح والبيوع والعتق والتدبير والكتابة والجنايات والرهون وغير ذلك من الأحكام التي لا علم للعامة بها، فلا اعتبار فيها بخلاف العامة، وبذلك قال جمهور الفقهاء.
وقال القاضي أبو بكر: يعتبر بأقوال العامة في ذلك كله.
والدليل على ما نقوله أن العامة يلزمهم اتباع العلماء فيما ذهبوا إليه، ولا يجوز لهم مخالفتهم، فهم في ذلك بمنزلة أهل العصر الثاني مع من تقدمهم، بل حال أهل العصر الثاني أفضل؛ لأنهم من أهل العلم والاجتهاد، ثم ثبت أنه لا اعتبار بأقوال أهل العصر الثاني مع اتفاق أقوال أهل العصر الأول، فبأن لا يعتبر بأقوال العامة مع اتفاق أقوال العلماء أولى وأحرى.
فصل
لا ينعقد الإجماع إلا باتفاق جميع العلماء، فإن شذَّ منهم واحد لم ينعقد إجماع.
وذهب ابن خويز منداد إلى أن الواحد والاثنين لا يعتد بهم.
والدليل على ما نقوله قوله تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله)، وقد وجد الاختلاف.
فصل
إذا أجمع العلماء على حكم حادثة، انعقد الإجماع، وحرمت المخالفة، ولا يعتبر في ذلك بانقراض العصر.(1/20)
وعلى هذا أكثر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم.
وقال أبو تمام البصري من أصحابنا، وبعض أصحاب الشافعي: لا ينعقد الإجماع إلا بانقراض العصر.
والدليل على ذلك أن حجة الإجماع لا يخلو من أن تثبت بالإجماع أو بانقراض العصر أو بهما: ولا يجوز أن تبثت بانقراض العصر؛ لأنه ليس بقول ولا حجة، ولأن ذلك يوجب أن يكون الاختلاف حجة مع انقراض العصر، ولا يجوز أن يكون انقراض العصر والاتفاق جميعاً حجة؛ لأن كل واحد منها بانفراده إذا لم يكن حجة فبإضافته إلى الآخر لا يصير حجة، فلم يبق إلا أن يكون الاتفاق حجة، وذلك موجود مع بقاء العصر.
فصل
إجماع أهل كل عصر حجة، هذا قول جماعة الفقهاء، غير داود بن علي الأصبهاني، فإنه قال: إجماع عصر الصحابة دون إجماع المؤمنين في سائر الأعصار.
ودليلنا قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ويتبع غير سبيل المؤمنين، نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً).
وإذا ثبت أن غير الصحابة يشارك الصحابة في هذا الاسم وجب أن يثبت لهم هذا الحكم، إلا أن يدل دليل على اختصاص الصحابة به.
فصل
وأما إجماع أهل المدينة، على ساكنها السلام، فقد أطلق أصحابنا هذا اللفظ، وإنما عول مالك رحمه الله ومحققو أصحابه على الاحتجاج بذلك فيما طريقه النقل، كمسألة الآذان والصاع وترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الفريضة وغير ذلك من المسائل التي طريقها النقل واتصل العمل بها في المدينة على وجه لا يخفى مثله، ونقل نقلاً متواتراً.
وإنما خصت المدينة بهذه الحجة دون سائر البلاد لوجود ذلك فيها دون غيرها من البلاد؛ لأنها كنت موضع النبوة ومستقر الصحابة والخلافة بعده صلى الله عليه وسلم، ولو تهيأ مثل ذلك في سائر البلاد لكان حكمها كذلك أيضاً.
فصل(1/21)
إذا قال الصحابي أو الإمام قولاً أو حكم بحكم وظهر ذلك وانتشر انتشاراً لا يخفى مثله ولم يعلم له مخالف ولم يسمع له منكر، فإنه إجماع وحجة قاطعة، وبه قال جمهور أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة والشافعي.
وقال القاضي أبو بكر: لا يكون إجماعاً حتى ينقل قول كل واحد من الصحابة كذلك، وبه قال داود.
والدليل على ما نقوله أن العادة جارية بأنه لا يجوز أن يسمع العدد الكثير والجم الغفير الذي لا يصح عليهم التواطؤ والتشاجر قولاً يعتقدون خطأه وبطلانه ثم يمسك جميعهم عن إنكاره وإظهار خلافه، بل أكثرهم يسرع إلى ذلك ويسابق إليه، فإذا ظهر قول وانتشر وبلغ أقاصي الأرض ولم يعلم له مخالف، علم أن ذلك السكوت رضىً منهم به وإقرار عليه، لما جرت به العادة.
ولو لم يصح إجماع ولا تثبت به حجة إلا بعد أن يروى الاتفاق على حكم الحادثة عن كل أحد من أهل العلم في عصر الإجماع لبطل الإجماع، وبطل الاحتجاج به؛ لاستحالة وجود ذلك في مسألة من مسائل الأصول أو الفروع، كما لا نعلم اليوم اتفاق علماء عصرنا في جميع الآفاق على حكم حادثة من الحوادث، بل أكثر العلماء لا نعلم بوجودهم في العالم.
فصل
إذا اختلفت الصحابة في حكم على قولين لم يجز إحداث قول ثالث، هذا قول كافة أصحابنا وأصحاب الشافعي.
وقال داود: يجوز إحداث قول ثالث.
والدليل على ما نقوله: إنهم إذا أجمعوا على القولين فقد أجمعوا على أن ما عدا القولين خطأ، وإنما اختلفوا في تعيين الحق في أحدهما، ولم يختلفوا في أن ما عداهما خطأ، فمن قال بغيرهما فقد صوب ما أجمعت الصحابة على أنه خطأ.
فصل
يصلح أن ينعقد الإجماع على حكمٍ من جهة القياس في قول كافة الفقهاء.
وذهب ابن جرير الطبري إلى أن ذلك لا يصح وجوده، ولو وجد لكان دليلاً.
وقال داود: لا يصح هذا، وهذا مبني عنده على أن القياس ليس بدليل، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله.
باب الكلام في معقول الأصل(1/22)
قد ذكرنا أن أدلة الشرع على ثلاثة أضرب: أصل ومعقول أصل واستصحاب حال.
وقد مر الكلام في الأصل، والكلام هاهنا في معقول الأصل، وهو ينقسم أربعة أقسام: لحن الخطاب، وفحوى الخطاب، والحصر، ومعنى الخطاب.
فأما لحن الخطاب فهو الضمير الذي لا يتم الكلام إلا به، مأخوذ من اللحن، وهو ما يبدو في عرض الكلام من معناه، نحو قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر)، معناه: فأفطر فعدة من أيام أخر.
فهذا حجة يجب المصير إليها والعمل بها.
وقد يلحق بذلك ما ليس منه، وهو ادعاء ضمير يتم الكلام دونه، نحو استدلالنا على أن العظم تحله الحياة لقوله تعالى: (قال من يحيى العظام وهي رميم)، فيقول الحنفي: المراد بذلك من يحيي أصحاب العظام، فمثل هذا لا يجوز فيه تقدير مضمر إلا بدليل استقلال الكلام دونه.
وأما الضرب الثاني فهو فحوى الخطاب، وهو ما يفهم من نفس الخطاب من قصد المتكلم بعرف اللغة، نحو قوله تعالى: (فلا تقل لهما أف)، فهذا يفهم منه من جهة اللغة المنع من الضرب والشتم، ويجري مجرى النص على ذلك في وجوب العمل به والمصير إليه.
فصل
وأما الضرب الثالث وهو الحصر، فله لفظ واحد، وهو: إ نما، وذلك نحو قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الولاء لمن أعتق)، فظاهر هذا اللفظ يدل على أن غير المعتق لا ولاء له، وقد يرد مثل هذا اللفظ لتحقيق المنصوص عليه، لا لنفي ما سواه، نحو قولك: إنما الكريم يوسف، وإنما الشجاع عنترة، ولم ترد نفي الكرم عن غير يوسف، ولا نفي الشجاعة عن غير عنترة، وإنما أردت إثبات ذلك ليوسف عليه السلام، وأن تجعل له مزية على غيره في الكرم، إلا أن الظاهر ما بدأنا به أولاً، فلا يعدل عنه إلا بدليل.
فصل(1/23)
ومما يلحق بذلك ويقرب منه عند كثير من الناس دليل الخطاب، وهو أن يعلق الحكم على معنى في بعض الجنس، فيقتضي ذلك عند القائلين به نفي ذلك الحكم عمَّن لم يكن به ذلك المعنى من ذلك الجنس، نحو قوله عليه الصلاة والسلام: (في سائمة الغنم الزكاة)، فيقتضي ذلك نفي الزكاة في غير السائمة.
فهذا النوع من الاستدلال يسمى عند أهل النظر دليل الخطاب.
وقد ذهب إلى القول به جماعة من أصحابنا وأصحاب الشافعي، ومنع منه جماعة من أصحابنا وأصحاب الشافعي وأبي حنيفة، وهو الصحيح؛ لأن تعليق الحكم بصفة في بعض الجنس يفيد تعليق ذلك الحكم بما وجدت فيه تلك الصفة خاصة، ويبقى الباقي في حكم المسكوت عنه، يطلب دليل حكمه في الشرع.
يدل على ذلك ما روى البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجر الأخضر، فقال: أيشرب في الأبيض؟ قال: لا.
فوجه الدليل منه أنه نص على الجر الأخضر، ثم ذكر أن حكم الأبيض حكمه، وهو من أهل اللسان، ولو جاز التعلق بدليل الخطاب لوجب أن يحكم له بالمخالفة، وأن لا يعلق الحكم بالجر الأخضر خاصة.
باب أحكام القياس
وأما الضرب الرابع من معقول الأصل، فهو معنى الخطاب، وهو القياس.
وحده حمل أحد المعلومين على الآخر في إثبات حكم أو إسقاطه بأمر جامع بينهما.
وهو دليل شرعي عند جميع العلماء.
وقال داود: يجوز التعبد به من جهة العقل، إلا أن الشرع منع منه.
والدليل على ما ذهب إليه جماعة أهل العلم قوله تعالى: (فاعتبروا يا أولي الأبصار)، والاعتبار في اللغة: هو تمثيل الشيء بالشيء، وإجراء حكمه عليه، ولذلك يقال: عبرت الدنانير والدراهم، إذا قايستها بمقاديرها من الأوزان، ويقال لمفسر الرؤيا معبر، وعبرت الرؤيا أي حكمت لها بحكم ما يماثلها وقستها بما يشاكلها، وعبرت عن كلام فلان إذا جئت بألفاظ تطابق معانيه وتماثلها وتقاس بها.(1/24)
دليل ثان: ومما يدل على ذلك قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، ونحن نجد أحكاماً كثيرة ليس لها ذكر في القرآن ولا في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، مثل رجل له دينار وقع في محبرة لغيره، فلم يستطع على إخراجه، ومثل: ثوب أبيض وقع في قدر لصباغ، فكمل صبغه وحسن وغير ذلك، فلا يجوز أن يراد بالآية أنه نص على حكم كل حادثة في القرآن، وإنما أراد به أنه نص فيه على بعض الأحكام وأحال على سائر الأدلة فيه، فكان ذلك بمنزلة أن ينص في القرآن على جميعها.
فمن الأدلة التي أحال على الأحكام بها القياس؛ لأننا نجد أحكاماً كثيرة لا طريق إلى إثباتها إلا بالقياس والرأي، كالأحكام التي ذكرناها وما شاكلها.
ومما يدل على ذلك من جهة السنة قوله عليه السلام لعمر رضي الله عنه حين سأله عن قبلة الصائم: (أرأيت لو تمضمضت هل كان عليك من جناح؟) قال: لا، قال (ففيم إذاً!).
وقوله للخثعمية: (أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟)، قالت: نعم، قال: (فدين الله أحق أن يقضى).
وقوله للذي أنكر لون ابنه: (هل لك من إبل؟) قال: نعم، قال: (فما ألوانها؟) قال: حمر، قال: (هل فيها من أورق؟) قال: نعم، قال: (فأنى ترى ذلك؟)، قال: عرق نزعه، قال: (فلعل هذا عرق نزعه)، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة.
ومما يدل على ذلك علمنا بأن الصحابة اختلفت في مسائل كثيرة جرت بينهم فيها مناظرات كثيرة ومنازعات مشهورة ومراجعات كثيرة، كاختلافهم في توريث الجد مع الأخوة، واختلافهم في الحرام والعول والظهار، فلا يخلو ذلك من ثلاثة أحوال: إما أن يكون في هذه الأحكام المختلف فيها نص لا يحتمل التأويل، أو ظاهر يحتمل التأويل، أو لا يرد ذكر لحكمها جملة.
ويستحيل أن يكون فيها نص، فيذهب عن جميعهم، لأن ذلك إجماع منهم على الخطأ، ولا يجوز هذا ولو جاز ذلك لجاز أيضاً أن تذهب عليهم شرائع وصلوات وصيام وعبادات، قد نص عليها صاحب الشرع، وهذا باطل باتفاق المسلمين.(1/25)
ويستحيل أن يكون في ذلك دليل يحتمل التأويل، لأنه لو كان ذلك لوجب بمستقر العادة أن ينزع كل مخالف إلى الظاهر الذي تعلق به، ويبين احتجاجه منه، ولا يحتج بالرأي والقياس؛ لأن المستدل والمحتج إنما يحتج بما ثبت عنده به الحكم، ولا يعدل عند المناظرةِ وقصدِ إثبات الحق إلى ما ليس بدليل ولا حجة عنده ولا عند خصمه.
ولما رأينا كل واحد منهم احتج في ذلك بالرأي والقياس دون منكر ولا مخالف، علمنا إجماعهم على القول بصحة القياس والرأي.
ومما يدل على ذلك إجماع الصحابة على أحكام كثيرة من جهة القياس والرأي، كإجماعهم على إمامة أبي بكر بالقياس والرأي، وإجماعهم على إمامة عثمان رضي الله عنه، وغير ذلك مما أجمعوا عليه.(1/26)
ومن ذلك خبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ ذهب إلى الشام بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ سرغ بلغه أن الوباء وقع بها، فاستشار المهاجرين الأولين، فاختلفوا عليه، فمنهم من قال له: أرى ألا تفر من قدر الله، ومنهم من قال: لا تقدم ببقية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوباء، ثم دعا الأنصار فاختلفوا كاختلاف المهاجرين قبلهم، ثم دعا من حضره من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فلم يختلفوا عليه، وأمروه بالرجوع، ولم يكن منهم أحد ذكر في ذلك آية من كتاب الله ولا حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أشار كل واحد منهم برأيه، وبما أداه إليه اجتهاده، ولم ينكر أحد عليه فعله، فقال عمر: إني مصبح غداً على ظهر، فأصبحوا عليه، فقال له أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: أفرار من قدر الله ؟ فقال له عمر: لو غيرك قالها، نعم نفر من قدر إلى الله إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لرجل إبل في واد له عدوتان: إحداهم خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعى الجدبة رعاها بقدر الله وإن رعى الخصبة رعاها بقدر الله، فاعترض عليه أبو عبيدة بالرأي، وجاوبه عمر بالرأي، ولم يحتج أحدهما في ذلك بكتاب ولا سنة ولا إجماع، ثم شاعت هذه القصة وذاعت ولم يكن في المسلمين من أنكر على أحدهم القول بالرأي.
وما أعلم أن مسألة يدعى الإجماع فيها أثبت في حكم الإجماع من هذه المسألة.
فصل
إذا ثبت أن القياس دليل شرعي، فإنه يصح أن تثبت به الحدود والكفارات والمقدرات والأبدال.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يثبت شيء من ذلك بالقياس، وما قاله ليس بصحيح؛ لأن الآية عامة في الأمر بالاعتبار، فلا يجوز أن يخص إلا بدليل.
فصل
العلة الواقفة عندنا صحيحة، نحو علة منع التفاضل في الدنانير والدراهم؛ لأنها أصول الأثمان وقيم المتلفات.
وقال أصحاب أبي حنيفة: ليست بصحيحة.
والدليل على ما نقوله أن القياس أمارة شرعية، فجاز أن تكون خاصة وعامة كالخبر.
فصل(1/27)
ذكر محمد بن خويز منداد أن معنى الاستحسان الذي ذهب إليه بعض أصحاب مالك رحمه الله هو القول بأقوى الدليلين، مثل تخصيص بيع العرايا من بيع الرطب بالتمر، للسنة الواردة في ذلك؛ لأنه لو لم يرد شرع في إباحة بيع العرايا بخرصها تمراً لما جاز؛ لأنه من بيع التمر بالرطب.
وهذا الذي ذهب إليه هو الدليل، وإنما سماه استحساناً على معنى المواضعة، ولا يمتنع ذلك في حق أهل كل صناعة.
والاستحسان الذي يختلف أهل الأصول في إثباته هو اختيار القول من غير دليل ولا تقليد.
وذهب بعض المصريين من أصحاب مالك وأصحاب أبي حنيفة إلى إثباته، ومنع منه شيوخنا العراقيون.
والدليل على ما نقوله أن هذه معارضة للقياس بغير دليل، فوجب أن يبطل أصل ذلك، وإن عورض بمجرد الهوى.
فصل
مذهب مالك رحمه الله المنع من الذرائع
وهي المسألة التي ظاهرها الإباحة، ويتوصل بها إلى فعل محظور، وذلك نحو أن يبيع السلعة بمائة إلى أجل، ثم يشتريها بخمسين نقداً، ليتوصل بذلك إلى بيع خمسين مثقالاً نقداً بمائة إلى أجل.
وأباح الذرائع أبو حنيفة والشافعي.
والدليل على ما نقوله قوله تعالى: (وسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم).
فوجه الدليل من هذه الآية أنه تعالى حرم الاصطياد يوم السبت وأباحه سائر الأيام، فكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم وتغيب عنهم في سائر الأيام، فكانوا يحضرون عليها إذ جاءت يوم السبت ويصدون عليها المسالك، ويقولون: إنما منعنا من الاصطياد يوم السبت فقط، وإنما نفعل الاصطياد في سائر الأيام، وهذه صورة الذرائع.
ويدل على ذلك قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا، وللكافرين عذاب أليم)، فمنع جميع المؤمنين أن يقولوا راعنا لما كان اليهود يتوصلون بذلك إلى سب النبي صلى الله عليه وسلم فمنع من ذلك المؤمنين وإن كانوا لا يقصدون به ما منع من أجله.(1/28)
ويدل على ذلك أيضاً ما روي عن النبي صلى الله وعليه وسلم أنه قال: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، ثم قال: (احتجبي منه يا سودة)، لما رأى من شبهه بعتبة.
وأيضاً فإن ذلك إجماع الصحابة، وذلك أن عمر رضي الله عنه قال: يا أيها الناس إن النبي عليه الصلاة والسلام قبض ولم يفسر لنا الربا فاتركوا الريبة.
وقالت عائشة لما اشترى زيد بن الأرقم من أم ولده جارية بثمانمائة إلى العطاء وباعها منها بستمائة نقدا: أبلغي زيد بن الأرقم أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب.
وقال ابن عباس لما سئل عن بيع الطعام قبل أن يستوفى: دراهم بدراهم والطعام مرجى.
فصل
يصح الاستدلال بالعكس، وقال أبو حامد الإسفراييني: لا يجوز.
والدليل على قولنا: أن المعلل إذا قال: لا تحل الشعرة الروح؛ لأنه لو حلته لما جاز أخذه من الحيوان حال الحياة مع السلامة، ولما جاز أخذه منه حال الحياة علمنا أن الروح لا تحله كالريش. هذا استدلال صحيح؛ لأنه لو حلت الحياة الشعر وجاز أخذه من الحيوان حال الحياة لانتفت العلة.
فصل
لا يجوز الاستدلال بالقرائن عند أكثر أصحابنا، وقال أبو محمد ابن نصر: يجوز ذلك، وبه قال المزني.
والدليل على ما نقوله: أن كل واحد من اللفظين المقترنين له حكم نفسه، ويصح أن يفرد بحكمٍ دون ما قارنه، فلا يجوز أن يجمع بينهما إلا بدليل، كما لو وردا مفترقين.
باب حكم استصحاب الحال
قد ذكرنا أن أدلة الشرع ثلاثة أضرب: أصل، ومعقول أصل، واستصحاب حال، وقد مر الكلام في الأصل ومعقول الأصل، والكلام هاهنا في استصحاب الحال.
وهو على ضربين:
أحدهما: استصحاب حال الفعل، وذلك إذا ادعى في المسألة أحد الخصمين حكماً شرعياً، وادعى الآخر البقاء على حكم العقل، وذلك مثل أن يسأل المالكي عن وجوب الوتر، فيقول: الأصل براءة الذمة، وطريق اشتغالها الشرع، فمن ادعى شرعاً يوجب ذلك فعليه الدليل، وهذه طريقة صحيحة من الاستدلال.(1/29)
والثاني: استصحاب حال الإجماع، وذلك مثل: استدلال داود على أن أم الولد يجوز بيعها؛ لأننا قد أجمعنا على جواز بيعها قبل الحمل، فمن ادعى المنع من ذلك بعد الحمل فعليه الدليل.
وهذا غير صحيح من الاستدلال؛ لأن الإجماع لا يتناول موضع الخلاف، وإنما يتناول موضع الاتفاق، وما كان حجةً فلا يصح الاحتجاج به في الموضع الذي لا يوجد فيه، كألفاظ صاحب الشرع إذا تناولت موضعاً خاصاً لم يجز الاحتجاج بها في الموضع الذي لا تتناوله.
فصل
إذا ثبت ذلك فليس في العقل حظر ولا إباحة، وإنما تثبت الإباحة أو التحريم بالشرع، والباري تعالى يحلل ما يشاء ويحرم ما يشاء، هذا قول جمهور أصحابنا.
وقال أبو بكر الأبهري: الأشياء في الأصل على الحظر.
وقال أبو الفرج المالكي: الأشياء في الأصل على الإباحة.
والدليل على ما نقوله: أنه لو كان العقل يوجب إباحة شيء من هذه الأعيان أو حظره لاستحال أن ينقله الشرع عما يقتضيه العقل، كما يستحيل ورود الشرع بما ينافي العقل، كما يستحيل أن يرد بنفي أن الاثنين أكثر من الواحد.
فصل
من ادعى نفي حكم وجب عليه الدليل كما يجب ذلك على من أثبته.
وقال داود: لا دليل على النافي.
والدليل على ذلك قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، تلك أمانيهم، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين).
فصل
صفة المجتهد أن يكون عارفاً بموضع الأدلة، ومواضعها من جهة العقل، ويكون عارفاً بطريق الإيجاب وبطريق المواضعة في اللغة والشرع.
ويكون عالماً بأصول الديانات، وأصول الفقه، عالماً بأحكام الخطاب من العموم والأوامر والنواهي والمفسر والمجمل والنص والنسخ وحقيقة الإجماع، عالماً بأحكام الكتاب والسنة والآثار والأخبار وطرقها والتمييز بين صحيحها وسقيمها، عالماً بأقوال الفقهاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وبما أجمعوا عليه وما اختلفوا عليه، عالماً من النحو والعربية بما يفهم به معاني كلام العرب.(1/30)
ويكون مع ذلك مأموناً في دينه موثوقاً به في فضله.
فإذا كملت هذه الخصال كان من أهل الاجتهاد، وجاز له أن يفتي، وجاز للعامي تقليده فيما يفتيه به.
باب أحكام الترجيح
الترجيح في أخبار الآحاد يراد لقوة غلبة الظن بإحدى الخبرين عند تعارضهما.
والدليل على صحة ذلك إجماع السلف على تقديم بعض أخبار الرواة على أخبار سائرهم ممن يظن الضبط والحفظ والاهتمام بالحادثة.
فصل
إذا ثبت ذلك فالترجيح يقع في الأخبار التي تتعارض ولا يمكن الجمع بينها ولا يعرف المتأخر منها -فيحمل على أنه ناسخ-، في موضعين: أحدهما: الإسناد، والثاني: المتن.
فأما الترجيح في الإسناد فعلى أوجه:
الأول: أن يكون أحد الخبرين مروياً في قصة مشهورة متداولة عند أهل النقل، ويكون المعارض له عارياً من ذلك، فيقدم الخبر المروي في قصة مشهورة؛ لأن النفس إلى ثبوته أسكن والظن في صحته أغلب.
والثاني: أن يكون راوي أحد الخبرين أضبط وأحفظ، وراوي الذي يعارضه دون ذلك، وإن كانا جميعاً يحتج بحديثهما، فيقدم خبر أحفظهما وأتقنهما؛ لأن النفس أسكن إلى روايته وأوثق بحفظه.
والثالث: أن يكون رواة أحد الخبرين أكثر من رواة الخبر الآخر، فيقدم الخبر الكثير الرواة؛ لأن السهو والغلط أبعد عن الجماعة وأقرب إلى الواحد.
والرابع: أن يقول راوي أحد الخبرين: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقدم من سمع؛ لأن السماع من العالم أقوى من الأخذ من كتاب الوارد.
والخامس: أن يكون أحد الخبرين متفقاً على رفعه إلى رسول الله، والآخر مختلفاً فيه، فيقدم المتفق عليه؛ لأنه أبعد من الخطأ والسهو.
والسادس: أن يكون أحد الخبرين تختلف الرواية عن راويه، فيروى عنه إثبات الحكم ونفيه، وراوي الخبر الآخر لا تختلف الرواة عنه، وإنما يروى عنه أحد الأمرين، فتقدم رواية من لم يختلف عليه؛ لأن ذلك دليل على حفظ الرواة عنه وشدة اهتبالهم بحفظ ما رواه، فكان أولى.(1/31)
والسابع: أن يكون راوي أحد الخبرين هو صاحب القصة والمتلبس بها، وراوي الخبر الآخر أجنبي، فيقدم خبر صاحب القصة؛ لأنه أعلم بظاهرها وباطنها، وأشد اهتماماً بحفظ حكمها.
والثامن: إطباق أهل المدينة على العمل بموجب أحد الخبرين، فيكون أولى من خبر من يخالف عمل أهل المدينة؛ لأنها موضع الرسالة ومجتمع الصحابة، فلا يتصل العمل فيها إلا بأصح الروايات.
والتاسع: أن يكون أحد الراويين أشد تقصياً للحديث وأحسن نسقاً له من الآخر، فيقدم حديثه عليه؛ لأن ذلك يدل على شدة اهتباله بحكمه وبحفظ جميع أمره.
والعاشر: أن يكون أحد الإسنادين سالماً عن الاضطراب، والآخر مضطرباً، فيكون السالم أولى؛ لأن ذلك يدل على إتقان رواته وحفظ جملته.
والحادي عشر: أن يكون أحد الحديثين يوافق ظاهر الكتاب، والآخر يخالفه، فيكون الموافق لظاهر الكتاب أولى.
باب ترجيحات المتون
قد مضى الكلام في الترجيح من جهة الإسناد، والكلام هاهنا في الترجيح من جهة المتن، وذلك على أوجه:
أحدهما: أن يسلم أحد المتنين من الاضطراب والاختلاف، ويكون متن الحديث الثاني المعارض له مضطرباً مختلفاً فيه، فيكون السالم من الاضطراب أولى؛ لأن ذلك دليل للحفظ والإتقان.
والثاني: أن يكون ما تضمنه أحد الخبرين من الحكم منطوقاً به، والآخر محتملاً، فيقدم المنطوق بحكمه؛ لأن الغرض فيه أبين والمقصود فيه أجلى.
والثالث: أن يكون أحد الخبرين مستقلاً بنفسه، والآخر غير مستقل بنفسه، فيكون المستقل بنفسه أولى؛ لأن المستقل بنفسه متيقن المراد به، وغير المستقل بنفسه لا يتيقن المراد به إلا بعد نظرٍ واستدلال.
والرابع: أن يستعمل الخبران في موضع الخلاف فيكون أولى من استعمال أحدهما واطراح الآخر؛ لأن في ذلك اطراح أحد الدليلين، واستعمالهما أولى من اطراح أحدهما.
والخامس: أن يكون أحد العمومين متنازعاً في تخصيصه، والآخر متفقاً على تخصيصه، فيكون المتعلق بعموم ما لم يجمع على تخصيصه أولى.(1/32)
والسادس: أن يكون أحد الخبرين يقصد به بيان الحكم، والآخر لا يقصد به بيان الحكم، فيكون ما قصد به بيان الحكم أولى، لأنه أبعد من الاحتمال.
والسابع: أن يكون أحد الخبرين مؤثراً في الحكم، والآخر غير مؤثر فيه، فيكون المؤثر أولى.
الثامن: أن يكون أحدهما ورد على سبب، والآخر ورد على غير سبب، فيقدم ما ورد على غير سبب على الوارد في سبب؛ لأن معارضته للخبر الآخر تدل على أنه مقصور على سببه.
والتاسع: أن يكون أحد الخبرين قد قضى به على الآخر، في موضع من المواضع، فيكون أولى منه في سائر المواضع.
والعاشر: أن يكون أحد المعنيين وارداً بألفاظ متغايرة وعبارات مختلفة، فيكون أولى ما روي من أخبار الآحاد بلفظ واحد؛ لأنه أبعد من الغلط والسهو والتحريف.
والحادي عشر: أن يكون أحد الخبرين ينفي النقص عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر يضيفه إليهم، فيكون النافي أولى؛ لأنه أشبه بفضلهم ودينهم وما وصفهم الله تعالى به وأثنى عليهم به.
باب ترجيح المعاني
قد مضى الكلام في ترجيح الأخبار، والكلام هاهنا في ترجيح العلل، وذلك أن قد يتعارض قياسان في حكم حادثة ويتردد الفرع بين أصلين يصح حمله على أحدهما بعلة مستنبطة منه، ويصح حمله على الثاني بعلة مستنبطة منه، فيحتاج الناظر إلى ترجيح إحدى العلتين على الأخرى، وذلك على أحد عشر ضرباً:
أحدهما: أن تكون إحدى العلتين منصوصاً عليها، والأخرى غير منصوص عليها، فيقدم المنصوص عليه؛ لأن نص صاحب الشرع عليها دليل على صحتها.
والثاني: أن تكون إحدى العلتين لا تعود على أصلها بالتخصيص، والثانية تعود على أصلها بالتخصيص، فالتي تعود على أصله بالتخصيص أولى؛ لأن التعلق بالعموم أولى استنباطاً ونطقاً.
والثالث: أن تكون إحدى العلتين موافقة للفظ الأصل، والأخرى مخالفة، فتقدم الموافقة؛ لأن الأصل شاهد للفظها.(1/33)
والرابع: أن تكون إحدى العلتين مطردة منعكسة، والأخرى مطردة غير منعكسة، فتقدم المنعكسة؛ لأن العلة إذا اطردت وانعكست غلب على الظن تعلق الحكم بها، لوجوده بوجودها وعدمه بعدمها.
والخامس: أن تكون إحدى العلتين تشهد لها أصول كثيرة، والأخرى لا يشهد لها إلا أصل واحد، فما شهد لها أصول كثيرة أولى؛ لأن غلبة الظن إنما تحصل بشهادة الأصول، فكلما كثر ما يشهد لها من الأصول غلب على الظن صحتها.
والسادس: أن يكون أحد القائسين رد الفرع إلى الأصل من جنسه، والآخر رد الفرع إلى الأصل من غير جنسه، فيكون قياس من رد الفرع إلى جنسه أولى؛ لأن قياس الشيء على جنسه أولى من قياسه على مخالفه.
والسابع: أن تكون إحدى العلتين واقفة والأخرى متعدية، فتقدم المتعدية.
والثامن: أن تكون إحداهما لا تعم فروعها، والأخرى تعم فروعها، فتكون العامة أولى؛ لأن كثرة الفروع تجري مجرى شهادة الأصول لها.
والتاسع: أن تكون إحدى العلتين عامة، والأخرى خاصة، فتكون العامة أولى؛ لأن كثرة الفروع تجري مجرى شهادة الأصول لها.
والعاشر: أن تكون إحدى العلتين منتزعة من أصل منصوص عليه، والأخرى منتزعة من أصل لم ينص عليه، فتكون المنتزعة من أصل منصوص عليه أولى.
والحادي عشر: أن تكون إحدى العلتين أقل أوصافاً، والأخرى كثيرة الأوصاف، فتقدم قليلة الأوصاف؛ لأنها أعم فروعاً، ولأن كل وصف يحتاج في إثباته إلى ضرب من الاجتهاد، وكلما استغنى الدليل عن كثرة الاجتهاد كان أولى.
تم كتاب الإشارات للشيخ الباجي، بفوز الله وتوفيقه وإحسانه وفضله، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين.(1/34)