الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (1/1)
قال الفقيه الإمام أبو محمد علي بن أحمد رحمة الله عليه ورضوانه الحمد لله الذي امتن علينا بنعم عامة وخاصة فعم النوع الآدمي بأن أرسل إليهم رسلا مبشرين ومنذرين ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وخص من شاء منهم بأن وفقه للحق وهداه له ويسره لفهمه وسدده لاختياره وسهل عليه سبيله وخذل منهم من شاء فطبع على قلبه ووعر عليه طريق الحق ووفق قوما في سبيل ما ومنعهم التوفيق في سبيل أخرى كما قال عز و جل { والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } و { وجعلنا السمآء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون } دون أن يجبر مريد حق على إرادته أو يقسر قاصد باطل على قصده أو يحول بين أحد وبين ما دعاه تعالى إليه أو ندبه إليه لكن كما قال عز و جل { وآعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الأيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم } وكما قال تعالى { ثم دنا فتدلى } وقال تعالى { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون } لله وكما قال النبيان الفاضلان صلى الله عليهما إبراهيم ويوسف إذ يقول إبراهيم { فلمآ رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلمآ أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين } ويقول يوسف { قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين } وصلى الله على محمد عبده ورسوله إلى جميع الجن والإنس بالدين القيم بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا (1/7)
وبعد فإن الله عز و جل ركب في النفس الإنسانية قوة مختلفة فمنها عدل يزين لها الإنصاف ويحبب إليها موافقة الحق
قال تعالى { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتآء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهدآء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا } ومنها غضب وشهوة يزينان لها الجور ويعميانها عن طريق الرشد قال تعالى { وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد } وقال تعالى { كل نفس ذآئقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون } فالفاضل يسر لمعرفته بمقدار ما منحه الله تعالى والجاهل يسر لما لا يدري حقيقة وجهه ولما فيه وباله في أخراه وهلاكه في معاده
ومنها فهم يليح لها الحق من قريب وينير لها في ظلمات المشكلات فترى به الصواب ظاهرا جليا
ومنها جهل يطمس عليها الطرق ويساوي عندها بين السبل فتبقى النفس في حيرة تتردد وفي ريب تتلدد ويهجم بها على أحد الطرق المجانبة للحق المنكبة عن الصواب تهورا وإقداما أو جبنا أو إحجاما أو إلفا وسوء اختيار قال تعالى { أمن هو قانت آنآء الليل ساجدا وقآئما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب } وقال تعالى { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون }
ومنها قوة التمييز التي سماها الأوائل المنطق فجعل لها خالقها بهذه القوة سبيلا إلى فهم خطابه عز و جل وإلى معرفة الأشياء ما هي عليه وإلى إمكان التفهم الذي به ترتقي درجة الفهم ويتخلص من ظلمة الجهل فيها تكون معرفة الحق من الباطل
قال تعالى { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جآءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتهآ ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقآء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جآءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشآء فنعم أجر العاملين وترى الملائكة حآفين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار } (1/8)
ومنها قوة العقل التي تعين النفس المميزة على نصر العدل وعلى إيثار ما دلت عليه صحة الفهم وعلى اعتقاد ذلك علما وعلى إظهار باللسان وحركات الجسم فعلا وبهذه القوة التي هي العقل تتأيد النفس الموفقة لطاعته على كراهية الحود عن الحق وعلى رفض ما قاد إليه الجهل والشهوة والغضب المولد للعصبية وحمية الجاهلية فمن اتبع ما أناره له العقل الصحيح نجا وفاز ومن عاج عنه هلك وربما أهلك قال تعالى { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد }
قال أبو محمد علي أراد بذلك العقل وأما المضغة المسماة قلبا فهي لكل أحد متذكر وغير متذكر ولكن لما لم ينتفع غير العاقل بقلبه صار كمن لا قلب له قال تعالى شاهدا لما قلنا { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بهآ أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } وقال بعض السلف الصالح ترى الرجل لبيبا داهيا فطنا ولا عقل له فالعاقل من أطاع الله عز و جل
قال أبو محمد علي هذه كلمة جامعة كافية لأن طاعة الله عز و جل هي جماع الفضائل واجتناب الرذائل وهي السيرة الفاضلة على الحقيقة التي تخيرها لنا واهب النعم لا إله إلا هو فلا فضيلة إلا اتباع ما أمر الله عز و جل به أو حض عليه ولا رذيلة إلا ارتكاب ما نهى الله تعالى عنه أو نزه منه وأما الكيس في أمور الدنيا لا يبالي المرء ما وفق في استجلاب حظه فيها من علو صوت أو عرض جاه أو نمو مال أو نيل لذة من طاعة أو معصية فليس ذلك عقلا بل هو سخف وحمق ونقص شديد وسوء اختيار وقائد إلى الهلاك في دار الخلود
وقد شهد ربنا تعالى أن متاع الدنيا غرور وقد علمنا أن تارك الحق ومتبع الغرور سخيف الاختيار ضعيف العقل فاسد التمييز وبرهان ذلك أن كل تمييز في إنسان بان به عن البهائم فهو يشهد أن اختيار الشيء القليل في عدده الضعيف في (1/9)
منفعته المشوب بالآلام والمكاره الفاني بسرعة على الكثير في عدده العظيم في منفعته الخالص من الكدر والمضار الخالد أبدا حمق شديد وعدم للعقل البتة
ولو أن أمرأ خير في دنياه بين سكناه مائة عام في قصر أنيق واسع ذي بساتين وأنهار ورياض وأشجار ونواوير وأزهار وخدم وعبيد وأمن فاش وملك ظاهر ومال عريض إلا أن في طريقه إلى ذلك مشي يوم كامل في طريق فيها بعض الحزونة لا كلها وبين أن يمشي ذلك اليوم في طريق فيها مروج حسنة وفي خلالها مهالك ومخاوف وظلال طيبة وفي أثنائها أهوال ومتالف ثم يفضي عند تمام ذلك اليوم إلى دار ضيقة ومجلس ضنك ذي نكد وشقاء وخوف وفقر وإقلال فيسكنها مائة عام فاختار هذه الدار الحرجة لسرور يوم ممزوج بشوائب البلاء يلقاه في طريقه نحوها لكان عند كل من سمع خبره ذا آفة شديدة في تمييزه وفاسد العقل جدا ظاهر الحمق رديء الاختيار مذموما مدحورا ملوما
وهذه حال من آثر عاجل دنياه على آجل أخراه
فكيف بمن اختار فانيا عن قريب على ما لا يتناهى أبدا
اللهم إلا أن يكون شاكا في منقلبه متحيرا في مصيره فتلك أسوأ بل هي التي لا شوى لها نعوذ بالله من الخذلان ونسأله التوفيق والعصمة بمنه آمين
وكل ما قلنا فلم نقله جزافا بل لم نقل كلمة في ذلك كله إلا مما قاله الله تعالى شاهدا بصحته وميزه العقل عالما بحقيقته والحمد لله رب العالمين
وإن الله عز و جل ابتلى الأمم السالفة بأنبياء ابتعثهم إلى قومهم خاصة فمؤمن وكافر فريق في الجنة وفريق في السعير
ثم إنه تعالى بعث نبيه المختار وعبده المنتخب من جميع ولد آدم محمدا صلى الله عليه و سلم الهاشمي المكي إلى جميع خلقه من الجن والإنس فنسخ بملته جميع الملل وختم به الرسل وخصه بهذه الكرامة وسوده على جميع أنبيائه واتخذ صفيا ونجيا وخليلا ورسولا فلا نبي بعده ولا شريعة بعد شريعته إلى انقضاء الدنيا (1/10)
وإذ قد تيقنا أن الدنيا ليست دار قرار ولكنها دار ابتلاء واختبار ومجاز إلى دار الخلود وصح بذلك أنه لا فائدة في الدنيا وفي الكون فيها إلا العلم بما امر به عز و جل وتعليمه أهل الجهل والعمل بموجب ذلك وإن ما عدا هذا مما يتنافس فيه الناس من بعد الصوت غرور وأن كل ما تشره إليه النفوس الجاهلة من غرض خسيس خطأ إلا ما قصد به إظهار العدل وقمع الزور والحكم بأمر الله تعالى وبأمر رسوله صلى الله عليه و سلم وإحياء سنن الحق وإماتة طوالع الجور
وإن ما تميل إليه النفوس الخسيسة من اللذات بمناظر مألوفة متغيرة عما قليل وأصوات مستحسنة متقضية بهبوب الرياح ومشام مستطرفة منحلة بعيد ساعات ومذاوق مستعذبة مستحلية في أقرب مدة أقبح استحالة وملابس معجبة متبدلة في أيسر زمان تبدلا موحشا باطلا
وإن كل ما يشغل به أهل فساد التمييز من كسب المال المنتقل عما قريب فضول إلا ما أقام القوت وأمسك الرمق وأنفق في وجوه البر الموصلة إلى الفوز في دار البقاء كان أفضل ما عاناه المرء العاقل بيان ما يرجو به هدى أهل نوعه وإنقاذهم من حيرة الشك وظلمة الباطل وإخراجهم إلى بيان الحق ونور اليقين
فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن من هدى الله به رجلا واحدا فهو خير له من حمر النعم
وأخبر عليه السلام أن من سن سنة خير في الإسلام كان له مثل أجر كل من عمل بها لا ينتقص ذلك من أجورهم شيئا
وغبط من تعلم الحكمة وعلمها
فنظرنا بعون الله خالقنا تعالى لنا في هذه الطريق الفاضلة التي هي ثمرة بقائنا في هذه الدنيا فوجدناها على وجوه كثيرة فمن أوكدها وأحسنها مغبة بيان الدين واعتقاده والعمل به الذي ألزمنا إياه خالقنا عز و جل على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم وشرح الجمل التي تجمع أصناف أحكامه والعبارات الواردة فيه فإن بمعرفة العقدة من عقد تلك الجمل يلوح الحق في ألوف من المسائل غلط فيها ألوف من الناس
فإثم من قلدهم إثمين إثم التقليد وإثم الخطأ
ونقصت أجور من اتبعهم مجتهدا من كفلين إلى كفل واحد
ومن وفقه الله تعالى لبيان ما يتضاعف فيه أجر المعتقد والعامل بما عضده البرهان (1/11)
فقد عرضه لخير كثير وامتن عليه بتزايد الأجر وهو في التراب رميم
وذلك حظ لا يزهد فيه إلا محروم فكتبنا كتابنا المرسوم بكتاب التقريب وتكلمنا فيه على كيفية الاستدلال جملة وأنواع البرهان الذي به يستبين الحق من الباطل في كل مطلوب وخلصناها مما يظن أنه برهان وليس ببرهان وبينا كل ذلك بيانا سهلا لا إشكال فيه ورجونا بذلك الأجر من الله عز و جل فكان ذلك الكتاب أصلا لمعرفة علامات الحق من الباطل وكتبنا أيضا كتابنا المرسوم بالفصل فبينا فيه صواب ما اختلف الناس فيه من الملل والنحل بالبراهين التي أثبتنا جملها في كتاب التقريب
ولم ندع بتوفيق الله عز و جل لنا للشك في شيء من ذلك مساغا والحمد لله كثيرا
ثم جمعنا كتابنا هذا وقصدنا فيه بيان الجمل في مراد الله عز و جل منا فيما كلفناه من العبادات والحكم بين الناس بالبراهين التي أحكمناها في الكتاب المذكور آنفا
وجعلنا هذا الكتاب بتأييد خالقنا عز و جل لنا موعبا للحكم فيما اختلف فيه الناس من أصول الأحكام في الديانة مستوفى مستقصى محذوف الفضول محكم الفصول راجين أن ينفعنا الله عز و جل به يوم فقرنا إلى ما يثقل به ميزاننا من الحسنات وأن ينفع به تعالى من يشاء من خلقه فيضرب لنا في ذلك بقسط ويتفضل علينا منه بحظ فهو الذي لا يخيب رجاء من قصده بأمله وهو القادر على كل شيء لا إله إلا هو
وهذا حين نبدأ في ذلك بحول الله وقوته فنقول وبالله تعالى التوفيق إنه لما صح أن العالم مخلوق وأن له خالقا لم يزل عز و جل وصح أنه ابتعث رسوله محمدا صلى الله عليه و سلم إلى جميع الناس ليتخلص من أطاعه من أطباق النيران المحيطة بنا إلى الجنة المعدة لأوليائه عز و جل وليكب من عصاه في النار الحامية وصح أنه ألزمنا على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم شرائع من أوامر ونواه وإباحات باستعمال تلك الشرائع يوصل إلى الفوز وينجي من الهلاك وصح أنه أودع تلك الشرائع في الكلام الذي أمره به رسوله الله صلى الله عليه و سلم بتبليغه إلينا وسماه قرآنا وفي الكلام الذي أنطق به رسوله صلى الله عليه و سلم وسماه وحيا غير قرآن وألزمنا في كل ذلك طاعة نبيه عليه السلام لزمنا تتبع تلك الشرائع في هذين الكلامين لنتخلص بذلك من العذاب ونحصل على السلامة والحظوة في دار الخلود (1/12)
ووجدناه تعالى قد ألزمنا ذلك بقوله في كتابه المنزل { وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } فوجب علينا أن ننفر لما استنفرنا له خالقنا عز و جل فوجدناه قد قال في القرآن الذي قد ثبت أنه من قبله عز و جل والذي أودعه عهوده إلينا اللازمة لنا { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }
قال أبو محمد فنظرنا في هذه الآية فوجدناها جامعة لكل ما تكلم الناس فيه أولهم عن آخرهم مما أجمعوا عليه واختلفوا فيه الأحكام والعبادات التي شرعها الله عز و جل لا يشذ عنها شيء من ذلك فكان كتابنا هذا كله في بيان العمل بهذه الآية وكيفيته وبيان الطاعتين المأمور بهما لله تعالى ولرسوله عليه السلام وطاعة أولي الأمر ومن هم أولو الأمر وبيان التنازع الواقع منا وبيان ما يقع فيه التنازع بيننا وبيان رد ما تنوزع فيه إلى الله تعالى ورسوله عليه السلام وهذا هو جماع الديانة كلها
ووجدناه قد قال تعالى { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ومآ أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الأسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم } فأيقنا أن الدين قد كمل وتناهى وكل ما كمل فليس لأحد أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه ولا أن يبدله
فصح بهذه الآية يقينا أن الدين كله لا يؤخذ إلا عن الله عز و جل ثم على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو الذي يبلغ إلينا أمر ربنا عز و جل ونهيه وإباحته لا مبلغ إلينا شيئا عن الله تعالى أحد غيره
وهو عليه السلام لا يقول شيئا من عند نفسه لكن عن ربه تعالى ثم على ألسنة أولي الأمر منا فهم الذين يبلغون إلينا جيلا بعد جيل ما أتى به رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الله تعالى وليس لهم أن يقولوا من عند أنفسهم شيئا أصلا لكن عن النبي عليه السلام هذه صفة الدين الحق الذي كل ما عداه فباطل وليس من (1/13)
الدين إذ ما لم يكن من عند الله تعالى فليس من دين الله أصلا وما لم يبينه رسول الله صلى الله عليه و سلم فليس من الدين أصلا وما لم يبلغه إلينا أولو الأمر منا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فليس من الدين أصلا
فبينا بحول الله تعالى وقوته غلط من غلط في هذا الباب بأن ترك ما هو من الدين مخطئا غير عامد للمعصية أو عامدا لها أو أدخل فيه ما ليس منه كذلك فلا يخرج البتة الخطأ في أحكام الديانة عن هذين الوجهين إما ترك وإما زيادة ولخصنا الحق تلخيصا لا يشكل على نصح نفسه
وقصد الله عز و جل بنيته وما توفيقنا إلا بالله عز و جل
وجعلنا كتابنا هذا أبوابا لنقرب على من أراد النظر فيه ويسهل عليه البحث عما أراد الوقوف عليه منه رغبة منا في إيصال العلم إلى من طلبه ورجاء ثواب الله عز و جل في ذلك وبالله تعالى نتأيد
باب ترتيب الأبواب وهو الباب الثاني إذ الباب الأول في صدر هذا الكتاب وذكر الغرض فيه وهو الذي تم قبل هذا الابتداء
الباب الثاني هذا الذي نحن فيه وهو ترتيب أبواب هذا الكتاب
الباب الثالث في إثبات حجج العقل وبيان ما يدركه على الحقيقة وبيان غلط من ظن في العقل ما ليس فيه
الباب الرابع في كيفية ظهور اللغات التي يعبر بها عن جميع الأشياء ويتخاطب بها الناس
الباب الخامس في الألفاظ الدائرة بين أهل النظر
الباب السادس هل الأشياء في العقل على الحظر أو الإباحة
أو لا على واحد منها لكن على ترقب ما يرد فيها من خالقها عز و جل
الباب السابع في أصول أحكام الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي دليل أو لا
الباب الثامن في معنى البيان
الباب التاسع في تأخير البيان
الباب العاشر في القول بموجب القرآن (1/14)
الباب الحادي عشر في الأخبار التي هي السنن
وفي بعض فصول هذا الباب سبب الاختلاف الواقع بين الأئمة
الباب الثاني عشر في الأوامر والنواهي الواردة في القرآن والسنة والأخذ بالظاهر منهما وحمل كل ذلك على الوجوب والفور
أو الندب أو التراخي
الباب الثالث عشر في حملها على العموم أو الخصوص
الباب الرابع عشر في أقل الجمع الوارد فيها
الباب الخامس عشر في الاستثناء منها
الباب السادس عشر في الكتابة بالضمير
الباب السابع عشر في الكتابة بالإشارة
الباب الثامن عشر في المجاز والتشبيه
الباب التاسع عشر في أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي الشيء يراه أو يبلغه فيقره صامتا عن الأمر به أو النهي عنه الباب الموفي عشرين في النسخ
الباب الحادي والعشرون في المتشابه من القرآن والمحكم والفرق بينه وبين المتشابه المذكور في الحديث بين الحلال والحرام
الباب الثاني والعشرون في الإجماع
الباب الثالث والعشرون في استصحاب الحال وبطلان العقود والشروط إلا ما نص عليه منها أو أجمع على صحته وهو باب من الدليل الإجماعي
الباب الرابع والعشرون في أقل ما قيل وهو أيضا نوع من أنواع الدليل الإجماعي
الباب الخامس والعشرون في ذم الاختلاف والنهي عنه
الباب السادس والعشرون في أن الحق في واحد وسائر الأقوال كلها خطأ
الباب السابع والعشرون في الشذوذ ومعنى هذه اللفظة وإبطال التمويه بذكرها
الباب الثامن والعشرون في تسمية الفقهاء المعتد بهم في الخلاف بعد الصحابة رضي الله عنهم
الباب التاسع والعشرون في الدليل النظري والفرق بينه وبين القياس (1/15)
الباب الموفي ثلاثين في لزوم الشريعة الإسلامية لكل مؤمن وكافر
ووقت لزوم الشرائع للإنسان
الباب الحادي والثلاثون في صفة طلب الفقه وصفة المفتي وصفة الاجتهاد وما يلزم لكل واحد طلبه من دينه
الباب الثاني والثلاثون في وجوب النيات في الأعمال والفرق بين الخطأ المقصود بلا نية الخطأ غير المقصود والعمد المقصود بالفعل والنية جميعا وحيث يلحق عمل المرء غيره من إثم وبر وحيث لا يلحق
الباب الثالث والثلاثون في شرائع الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه و سلم أتلزمنا أم لا
الباب الرابع والثلاثون في الاحتياط وقطع الذرائع
الباب الخامس والثلاثون في إبطال الاستحسان والاستنباط والرأي
الباب السادس والثلاثون في إبطال التقليد
الباب السابع والثلاثون في دليل الخطاب
الباب الثامن والثلاثون في إبطال القياس
الباب التاسع والثلاثون في إبطال العلل التي يدعيها أهل القياس والفرق بينها وبين العلل الطبيعية التي هي العلل على الحقيقة والكلام في الأسباب والأغراض والمعاني والعلامات والأمارات
الباب الموفي أربعين في الاجتهاد ما هو وبيانه ومن هو معذور باجتهاده ومن ليس معذورا به ومن يقطع عليه أنه أخطأ عند الله عز و جل فيما أداه إليه اجتهاده ومن لا يقطع عليه أنه مخطىء عند الله عز و جل وإن خالفناه
في إثبات حجج العقول (1/16)
قال أبو محمد قال قوم لا يعلم شيء إلا بالإلهام وقال آخرون لايعلم شيء إلا بقول الإمام وهو عندهم رجل بعينه إلا أنه الآن منذ مائة عام وسبعين عاما معدوم المكان متلف العين ضالة من الضوال
وقال آخرون لا يعلم شيء إلا بالخبر
وقال آخرون لا يعلم شيء إلا بالتقليد واحتجوا في إبطال حجة العقل بأن قالوا قد يرى الإنسان يعتقد بشيء ويجادل عنه ولا يشك في أنه حق
ثم يلوح له غير ذلك فلو كانت حجج العقول صادقة لما تغيرت أدلتها
قال أبو محمد هذا تمويه فاسد ولا حجة لهم على مثبتي حجج العقول في رجوع من رجع عن مذهب كان يعتقده ويناضل عنه لأننا لم نقل إن كان معتقد لمذهب ما فهو محق فيه ولا قلنا إن كل ما استدل به مستدل ما على مذهبه فهو حق
ولو قلنا ذلك لفارقنا حكم العقول
لكن قلنا إن من الاستدلال ما يؤدي إلى مذهب صحيح إذا كان الاستدلال صحيحا مرتبا ترتيبا قويما على ما قد بيناه وأحكمناه غاية الإحكام في كتاب التقريب
وقد يوقع الاستدلال إذا كان فاسدا على مذهب فاسد وذلك إذا خولف به طريق الاستدلال الصحيح وقد نبهنا على الشعاب والعوارض المعترضة في طريق الاستدلال وبيناها وحذرنا منها في الكتاب المذكور ولم ندع هنالك في تبيين كل ما ذكرناه علقة وأوضحناه غاية الإيضاح
فالراجع عن مذهب إلى مذهب لا بد له ضرورة من أن يكون أحد استدلاليه فاسدا إما الأول وإما الثاني وقد يكونان معا فاسدين فيتنقل من مذهب فاسد إلى مذهبه فاسد
أو من مذهب صحيح إلى مذهب فاسد أو من مذهب فاسد إلى مذهب صحيح
لا بد من أحد هذه الوجوه ولا يجوز أن يكونا صحيحين معا البتة
لأن الشيء لا يكون حقا بإطلاق في وقت واحد من وجه واحد
وقد يكون أقساما (1/17)
كثيرة كلها باطل إلا واحدا فينتقل المرء من قسم فاسد منها إلى آخر فاسد وهذا إنما يعرض لمن غبن عقله ولم ينعم النظر فمال بهوى أو تهور بشهوة أو أحجم لفرط جبنه أو لمن كان جاهلا بوجوه طرق الاستدلال الصحيحة لم يطالعها ولا تعلمها
وأكثر ما يقع ذلك فيما يأخذ من مقدمات بعيدة فكان الطريق المؤدي من أوائل المعارف إلى صحة المذهب المطلوب طريقا بعيدا كثير الشعب فيكل فيها الذهن الكليل ويدخل مع طول الأمر وكثرة العمل ودقته السآمة فيتولد فيها الشك والخبال والسهو كما يدخله ذلك على الحاسب في حسابه على أن الحساب علم ضروري لا يتناقض فيجد أعدادا متفرقة في قرطاس فإذا أراد الحاسب جمعها فإن كثرت جدا فربما غفل وغلط حتى إذا حقق وتثبت ولم يشغل خاطره بشيء وقف على اليقين بلا شك
هذا شيء يوجد حسا كما ترى وقد يدخل أيضا على الحواس فيرى المرء بعينه شخصا فربما ظنه زيدا وكابر عليه حتى إذا تثبت فيه علم أنه عمرو وهكذا يعرض في الصوت المسموع وفي المشموم وفي الملموس وفي المذوق وقد يعرض ذلك الشيء يطلبه المرء وهو بين يديه في جملة أشياء كثيرة فيطول عناؤه في طلبه ويتعذر عليه وجوده ثم يجده بعد ذلك فلا يكون عدم وجوده إياه مبطلا لكونه بين يديه حقيقة فكذلك يعرض في الاستدلال وليس شيء من ذلك بموجب بطلان صحة إدراك الحواس ولا صحة إدراك العقل الذي به علمت صحة ما أدركته الحواس ولولاه لم نعلم أصلا كما أن حواس المجنون المطبق والمغشي عليه لا يكاد ينتفع بها وقل ما يعرض هذا في أعداد يسيرة ولا فيما أخذ بمقدمات قريبة من أوائل المعارف ولا سبيل إلى أن يعرض ذلك فيما أوجبته أوائل المعارف إلا لسوفسطائي رقيع يعلم يقينا بقلبه أنه كاذب وأنه مبطل وقاح أو لمرور ممسوس ينبغي أن يعالج دماغه فهذا معذور وإنما نكلم الأنفس لسنا نقصد بكلامنا الألسنة
ولا علينا قصر الألسنة بالحجة إلى الإذعان بالحق وإنما علينا قسر الأنفس إلى تيقن معرفته فقط
فهذا الذي ظنوه من رجوع من كان على مذهب ما إلى مذهب آخر أن ذلك كله حجج عقل تفاسدت إنما هو خطأ صريح فمن هنا دخلت عليهم الشبهة وإنما بيان ذلك أن ما كان من الدلائل صحيحا مسبورا محققا فهو حجة العقل وما كان (1/18)
منها بخلاف ذلك فليست حجة عقل بل العقل يبطلها فسقط ما ظنوا والحمد لله رب العالمين
وقد أحكمنا هذا غاية الإحكام والحمد لله رب العالمين في باب أفردناه لهذا المعنى في آخر كتابنا الموسوم بالفصل ترجمته
( باب الكلام على من قال بتكافؤ الأدلة )
وقد سألوا أيضا فقالوا بأي شيء عرفتم صحة حجة العقل أبحجة عقل أم بغير ذلك فإن قلتم عرفناها بحجة العقل ففي ذلك نازعناكم وإن قلتم بغير ذلك فهاتوه
قال أبو محمد وهذا سؤال مبطل الحقائق كلها والجواب على ذلك وبالله تعالى التوفيق أن صحة ما أوجبه العقل عرفناه بلا واسطة وبلا زمان ولم يكن بين أول أوقات فهمنا وبين معرفتنا بذلك مهلة البتة ففي أول أوقات فهمنا علمنا أن الكل أكثر من الجزء وأن كل شخص فهو غير الشخص الآخر وأن الشيء لا يكون قائما قاعدا في حال واحدة وأن الطويل أمد من القصير وبهذه القوة عرفنا صحة ما توجبه الحواس وكلما لم يكن بين أول أوقات معرفة المرء وبين معرفته به مهلة ولا زمان فلا وقت للاستدلال فيه ولا يدري أحد كيف وقع له ذلك إلا أنه فعل الله عز و جل في النفوس فقط
ثم من هذه المعرفة أنتجنا جميع الدلائل
ثم نقول له إن كنت مسلما بالقرآن يوجب صحة حجج العقول على ما سنورده في آخر هذا الباب إن شاء الله تعالى فإن كلامنا في هذا الديوان إنما هو مع أهل ملتنا
وأما إن كان المكلم به لنا غير مسلم فقد أجبناه عن هذا السؤال في كتابنا الموسوم بالفصل وكتابنا الموسوم بالتقريب وتقصينا هذا الشك وبينا خطأه بعون الله تعالى وليس كتابنا هذا مكان الكلام مع هؤلاء
قال أبو محمد ويقال لمن قال بإلهام ما الفرق بينك وبين من ادعى أنه ألهم بطلان قولك فلا سبيل له إلى الانفصال عنه
والفرق بين هذه الدعوى ودعوى من ادعى أنه يدرك بعقله خلاف ما يدركه ببديهة العقل وبين ما لا يدركه بأوائل العقل أن كل من في المشرق والمغرب إذا سئل عما ذكرناه أننا عرفناه بأوائل العقل أخبر بمثل ما نخبر سواء وأن المدعين للإلهام ولإدراك ما يدركه غيرهم بأوله عقله لا يتفق اثنان منهم على ما يدعيه كل واحد منهم (1/19)
إلهاما أو إدراكا فصح بلا شك أنهم كذبة
وأن الذي بهم وسواس
وأيضا فإن الإلهام دعوى مجردة من الدليل ولو أعطي كل امرىء بدعواه المعراة لما ثبت حق ولا بطل باطل ولا استقر ملك أحد على مال ولا انتصف من ظالم ولا صحت ديانة أحد أبدا لأنه لا يعجز أحد عن أن يقول ألهمت أن دم فلان حلال وأن ماله مباح لي أخذه وأن زوجه مباح لي وطؤها وهذا لا ينفك منه وقد يقع في النفس وساوس كثيرة لا يجوز أن تكون حقا وأشياء متضادة يكذب بعضها بعضا فلا بد من حاكم يميز الحق منها من الباطل وليس ذلك إلا العقل الذي لا تتعارض دلائله
وقد بينا ذلك في كتاب التقريب
وقال أبو محمد ويقال لمن قال بالإمام بأي شيء عرفت صحة قول الإمام أببرهان أم بمعجزة أم بإلهام أم بقوله مجردا
فإن قال ببرهان كلف بأن يأتي به ولا سبيل له إليه وإن قال بمعجزة ادعى البهتان لاسيما الآن وهم يقرون أنه قد خفي عنهم موضعه منذ مائة وسبعين عاما وإن قالوا بالإلهام سئلوا بما ذكرنا في إبطال الإلهام وإن قالوا بقوله مجردا سئلوا عن الفرق بين قوله وقول خصومهم في إبطال مذاهبهم دون دليل ولا سبيل إلى وجه خامس أصلا
قال أبو محمد ويقال لمن قال بالتقليد ما الفرق بينك وبين من قلد غير الذي قلدت أنت بل كفر من قلدته أنت أو جهله
فإن أخذ يستدل في فضل من قلده كان قد ترك التقليد وسلك في طريق الاستدلال من غير التقليد وقد أفردنا في إبطال التقليد بابا ضخما قرب آخر كتابنا هذا استوعبنا فيه إبطاله وبالله التوفيق
قال أبو محمد علي ويقال لمن قال لا يدرك شيء إلا من طريق الخبر أخبرنا الخبر كله حق أم كله باطل أم منه حق وباطل فإن قال هو باطل كله كان قد أبطل ما ذكر أنه لا يعلم شيء إلا به وفي هذا إبطال قوله وإبطال جميع العلم وإن قال حق كله عورض بأخبار مبطلة لمذهبه فلزمه ترك مذهبه لذلك أو اعتقاد الشيء وضده في وقت واحد وذلك ما لا سبيل إليه وكل مذهب أدى إلى المحال وإلى الباطل فهو باطل ضرورة فلم يبق إلا أن من الخبر (1/20)
حقا وباطلا فإذا كان كذلك بطل أن يعلم صحة الخبر بنفسه إذ لا فرق بين صورة الحق منه وصورة الباطل فلا بد من دليل يفرق بينهما وليس ذلك إلا لحجة العقل المفرقة بين الحق والباطل
قال أبو محمد علي ثم يقال لجميعهم بأي شيء عرفتم صحة ما تدعون إليه وصحة التوحيد والنبوة ودينك الذي أنت عليه أبعقل ذلك على صحة كل ذلك أم بغير عقل وبأي شيء عرفت فضل من قلدت أو صحة ما ادعيت أنك ألهمته بعد أن لم تكن ملهما إليه ولا مقلدا له برهة من دهرك وبأي شيء عرفت صحة ما بلغك من الأخبار بعد أن لم تكن بلغتك وهل لك من عقل أم لا عقل لك فإن قال عرفت كل ذلك بلا عقل ولا عقل لي فقد كفينا مؤنته وبلغنا في نفسه أكثر مما رغبنا منه فإننا إنما رغبنا منه الاعتراف بالخطأ فقد زادنا في نفسه منزلة لم نرغبها منه وسقط الكلام معه ولزمنا السكوت عنه وإلا كنا في نصاب من يكلم السكارى الطافحين والمجانين المتعرين على الطرق
فإن قال لي عقل وبعقلي عرفت ما عرفت فقد أثبت العقل وترك مذهبه الفاسد ضرورة
قال أبو محمد واحتجوا في إبطال الجدال والمناظرة بآيات ذكروها وهي قوله تعالى { فلذلك فدع وستقم كمآ أمرت ولا تتبع أهوآءهم وقل آمنت بمآ أنزل لله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم لله ربنا وربكم لنآ أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم لله يجمع بيننا وإليه لمصير ولذين يحآجون في لله من بعد ما ستجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد }
قال أبو محمد وهذه الآية مبينة وجه الجدال المذموم وهو قوله تعالى فيمن يحاج بعد ظهور الحق وهذه صفة المعاند للحق الآبي من قبول الحجة بعد ظهورها وهذا مذموم عند كل ذي عقل
ومنها قوله تعالى { وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون } (1/21)
قال أبو محمد وإنما ذم تعالى في هذه الآية من خاصم وجادل في الباطل وعارض الآلهة التي كانوا يعبدون من حجارة لا تعقل بعيسى النبي العبد المؤيد بالمعجزات من إحياء الموتى وغير ذلك
ومنها قوله تعالى { ويعلم لذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص } ومنها قوله تعالى { فإن حآجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن تبعن وقل للذين أوتوا لكتاب ولأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد هتدوا وإن تولوا فإنما عليك لبلاغ ولله بصير بلعباد }
قال أبو محمد قال تعالى { يريد لله أن يخفف عنكم وخلق لإنسان ضعيفا } فصح بهذه الآية أن كلام الله تعالى لا يتعارض ولا يختلف فوجدناه تعالى أثنى على الجدال بالحق وأمر به فعلمنا يقينا أن الذي أمر به تعالى هو غير الذي نهى عنه بلا شك فنظرنا في ذلك لنعلم وجه الجدال المنهي عنه المذموم ووجه الجدال المأمور به المحمود لأنا قد وجدناه تعالى قد قال { ومن أحسن قولا ممن دعآ إلى لله وعمل صالحا وقال إنني من لمسلمين } ووجدناه تعالى قد قال { دع إلى سبيل ربك بلحكمة ولموعظة لحسنة وجادلهم بلتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بلمهتدين } فكان تعالى قد أوجب الجدال في هذه الآية وعلم فيها تعالى جميع آداب الجدال كلها من الرفق والبيان والتزام الحق والرجوع إلى ما أوجبته الحجة القاطعة
وقال تعالى { قل فأتوا بكتاب من عند لله هو أهدى منهمآ أتبعه إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين }
ولم يأمر الله عز و جل رسوله صلى الله عليه و سلم أن يقول هذا شكا في صدق ما يدعو إليه ولكن قطعا لحجتهم وحسما لدعواهم وإلزاما لهم مثل ما التزم لهم من رجوعه إلى الأهدى واتباعه الأمر الأصوب وإعلاما لنا أن من لم يأت بحجة على قوله يصير بها أهدى من قول (1/22)
خصمه ويبين أن الذي يأتي به هو من عند الله عز و جل فليس صادقا وإنما هو متبع لهواه
وقال تعالى { قالوا تخذ لله ولدا سبحانه هو لغني له ما في لسماوات وما في لأرض إن عندكم من سلطان بهذآ أتقولون على لله ما لا تعلمون قل إن لذين يفترون على لله لكذب لا يفلحون }
قال أبو محمد ففي هذه الآية بيان أنه لا يقبل قول أحد إلا بحجة والسلطان ههنا بلا اختلاف من أهل العلم واللغة هو الحجة وإن من لم يأت على قوله بحجة فهو مبطل بنص حكم الله عز و جل وأنه مفتر على الله تعالى وكاذب عليه عز و جل بنص الآية لا تأويل ولا تبديل وأنه لا يفلح إذا قال قولة لا يقيم على صحتها حجة قاطعة ووجدناه تعالى قد علمنا في هذه الآيات وجوه الإنصاف الذي هو غاية العدل في المناظرة وهو أنه من أتى ببرهان ظاهر وجب الانصراف إلى قوله
وهكذا نقول نحن اتباعا لربنا عز و جل بعد صحة مذاهبنا لا شكا فيها ولا خوفا منه أن يأتينا أحد بما يفسدها ولكن ثقة منا بأنه لا يأتي أحد بما يعارضها به أبدا لأننا ولله الحمد أهل التخليص والبحث وقطع العمر في طلب تصحيح الحجة واعتقاد الأدلة قبل اعتقاد مدلولاتها حتى وفقنا ولله تعالى الحمد على ما ثلج اليقين وتركنا أهل الجهل والتقليد في ريبهم يترددون
وكذلك نقول فيما لم يصح عندنا حتى الآن فنقول مجدين مقرين إن وجدنا ما هو أهدى منه اتبعناه وتركنا ما نحن عليه
وإنما هذا في مسائل تعارضت فيها الأحاديث والآي في ظاهر اللفظ ولم يقم لنا بيان الناسخ من المنسوخ فيها فقط أو في مسائل وردت فيها أحاديث لم تثبت عندنا ولعلها ثابتة في نقلها فإن بلغنا ثباتها صرنا إلى القول بها إلا أن هذا في أقوالنا قليل جدا والحمد لله رب العالمين
وأما سائر مذاهبنا فنحن منها على غاية اليقين وقال تعالى { ولا تجادلوا أهل لكتاب إلا بلتي هي أحسن إلا لذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بلذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون } فأمر عز و جل (1/23)
كما ترى بإيجاب المناظرة في رفق وبالإنصاف في الجدال وترك التعسف والبذاء والاستطالة إلا على من بدأ بشيء من ذلك فيعارض حينئذ بما ينبغي
وقال تعالى { يمعشر لجن ولإنس إن ستطعتم أن تنفذوا من أقطار لسماوات ولأرض فنفذوا لا تنفذون إلا بسلطان } والسلطان الحجة كما ذكرنا وقال تعالى { وذر الذين تخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم لحياة لدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون لله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منهآ أولئك لذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون }
فذكر عز و جل تقدير إبراهيم عليه السلام قومه على نقله الكواكب والشمس والقمر التي كانوا يعبدون من دون الله وأن ذلك لدليل على خلقها وبرهان على حدوثها فقال عز و جل { وتلك حجتنآ آتيناهآ إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشآء إن ربك حكيم عليم }
وقد أمرنا تعالى في نص القرآن باتباع ملة إبراهيم عليه السلام وخبرنا تعالى أن من ملة إبراهيم المحاجة والمناظرة فمرة للملك ومرة لقومه والاستدلال كما أخبرنا تعالى عنه ففرض علينا اتباع المناظرة لنصرف أهل الباطل إلى الحق وأن نطلب الصواب بالاستدلال فيما اختلف فيه المختلفون
قال الله عز و جل { إن أولى لناس بإبراهيم للذين تبعوه وهذا لنبي ولذين آمنوا ولله ولي لمؤمنين } فنحن المتبعون لإبراهيم عليه السلام في المحاجة والمناظرة فنحن أولى الناس به وسائر الناس مأمورون بذلك
قال الله تعالى { قل صدق لله فتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من لمشركين } ومن ملته المناظرة كما ذكرنا فمن نهى عن المناظرة والحجة فليعلم أنه عاص لله عز و جل ومخالف لملة إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما
قال الله عز و جل وقد أثنى على أصحاب الكهف { نحن نقص عليك نبأهم بلحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى } فأثنى الله عز و جل عليهم في إنكارهم قول قومهم إذ لم يقم قومهم على قولهم حجة بينة وصدقهم تعالى في قولهم أن من ادعى قولا بلا دليل فهو مفتر على الله عز و جل الكذب (1/24)
وقال تعالى { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنهآ إنا من لمجرمين منتقمون } فلا أظلم ممن قامت عليه الحجة من كتاب الله تعالى ومن كلام نبيه صلى الله عليه و سلم فأعرض عنه وهو الحجة القاطعة والبرهان الصادع وقال الله تعالى { لذين يأكلون لربا لا يقومون إلا كما يقوم لذي يتخبطه لشيطان من لمس ذلك بأنهم قالوا إنما لبيع مثل لربا وأحل لله لبيع وحرم لربا فمن جآءه موعظة من ربه فنتهى فله ما سلف وأمره إلى لله ومن عاد فأولئك أصحاب لنار هم فيها خالدون } وقال تعالى { بل تبع لذين ظلموا أهوآءهم بغير علم فمن يهدي من أضل لله وما لهم من ناصرين } فأخبر تعالى كما تسمع أن ما اتبع قولا وافقه بلا علم بصحته فهو ظالم وإن من لم يرجع إلى ما يسمع من الحق فهو من أهل النار وقال تعالى { فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين } أنكر الله تعالى أن يكذب المرء بما لا يعلم
فقال تعالى { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب لذين من قبلهم فنظر كيف كان عاقبة لظالمين } فصح بكل ما ذكرنا الوقوف عما لا نعلم والرجوع إلى ما أوجبته الحجة بعد قيامها
وقال تعالى { ومن أظلم ممن فترى على لله كذبا أو كذب بلحق لما جآءه أليس في جهنم مثوى للكافرين }
قال أبو محمد في هذه الآية كفاية في إيجاب ألا يصدق أحد بما لم تقم عليه حجة وألا يأتي ما قامت عليه الحجة فمن أظلم ممن عرف ما ذكرنا وأخذ بوسواس يقوم في نفسه أو بخبر لم يقم على وجوب تصديقه برهان أو قلد إنسانا مثله لعله عند الله تعالى على خلاف ما يظن وعلى كل حال فهو معصوم لكن يخطىء ويصيب
وقال تعالى { وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } فأوجب تعالى أن من كان صادقا في دعواه فعليه أن يأتي بالبرهان وإن لم يأت بالبرهان فهو كاذب مبطل أو جاهل
وقال تعالى { هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحآجون فيما ليس لكم به علم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون } فلم يوجب تعالى المحاجة إلا بعلم ومنع منها بغير علم (1/25)
وقال تعالى { سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بلغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مرآء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا }
قال أبو محمد فلما وجدنا الله تعالى قد أمر في الآيات التي ذكرنا بالحجاج والمناظرة ولم يوجب قبول شيء إلا ببرهان وجب علينا تطلب الحجاج المذموم على ما قدمناه فوجدناه قد قال { وما نرسل لمرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل لذين كفروا بلباطل ليدحضوا به لحق وتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا } فذم تعالى كما ترى الجدال بغير حجة والجدال في الباطل وأبطل تعالى بذلك قول المجانين كل مفتون ملقن حجة وبين تعالى أن المفتون هو الذي لا يلقن حجة وأن المحق هو الملقن حجة على الحقيقة وهم أهل الحق
وقال تعالى { لذين يجادلون في آيات لله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند لله وعند لذين آمنوا كذلك يطبع لله على كل قلب متكبر جبار }
فقد جمعت هذه الآيات بيان الجدال المذموم والجدال المحمود الواجب فالواجب هو الذي يجادل متوليه في إظهار الحق والمذموم وجهان بنص الآيات التي ذكرنا أحدهما من جادل بغير علم والثاني من جادل ناصرا للباطل بشغب وتمويه بعد ظهور الحق إليه وفي هذا بيان أن الحق في واحد وأنه لا شيء إلا ما قامت عليه حجة العقل وهؤلاء المذمومون هم الذين قال الله تعالى فيهم { ألم تر إلى لذين يجادلون في آيات لله أنى يصرفون } وقوله تعالى { ومن لناس من يجادل في لله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد } وقوله تعالى { ومن لناس من يجادل في لله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل لله له في لدنيا خزي ونذيقه يوم لقيامة عذاب لحريق } وبقوله تعالى { ما يجادل في آيات لله إلا لذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في لبلاد كذبت قبلهم قوم نوح ولأحزاب من بعدهم (1/26)
وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بلباطل ليدحضوا به لحق فأخذتهم فكيف كان عقاب } فبين تعالى كما ترى أن الجدال المحرم هو الجدال الذي يجادل به لينصر الباطل ويبطل الحق بغير علم
قال أبو محمد ويقال لمن أبى عن مطالبته الجدال ومعاناة طلب البرهان أن فرعون قال { يقوم لكم لملك ليوم ظاهرين في لأرض فمن ينصرنا من بأس لله إن جآءنا قال فرعون مآ أريكم إلا مآ أرى ومآ أهديكم إلا سبيل لرشاد } { وقال لذي آمن يقوم تبعون أهدكم سبيل لرشاد } فبأي شيء يعرف المحق منهما من المبطل هل يجوز أن يعرف ذلك إلا بدلائل غير كلامها
فهذا كلام العزيز الجبار الخالق البارىء قد نصصناه في اتباع البرهان وتكذيب قول من لا حجة في يديه وهو الذي لا يسع مسلما خلافه
لا قول من قال اذهب إلى شاك مثلك فناظره فيقال له أترى رسول الله صلى الله عليه و سلم كان شاكا إذ علمه ربه تعالى مجادلة أهل الكتاب وأهل الكفر وأمره بطلب البرهان وإقامة الحجة على كل من خالفه ولا قول من قال أو كلما جاء رجل هو أجدل من رجل تركنا ما نحن عليه أو كلاما هذا معناه
قال أبو محمد وهذا كلام يستوي فيه مع قائله كل ملحد على ظهر الأرض فلئن وسع هذا القائل ألا يدع ما وجد عليه سلفه بلا حجة لحجة ظاهرة واردة عليه ليسعن اليهودي والنصراني ألا يدعا ما وجدا عليه سلفهما تقليدا بلا برهان وألا يقبلا برهان الإسلام الواردة عليهما وحجته القاطعة
قال الله عز و جل { قالوا يلوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من لليل ولا يلتفت منكم أحد إلا مرأتك إنه مصيبها مآ أصابهم إن موعدهم لصبح أليس لصبح بقريب فلما جآء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من لظالمين ببعيد وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يقوم عبدوا لله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا لمكيال ولميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويقوم أوفوا لمكيال ولميزان بلقسط ولا تبخسوا لناس أشيآءهم ولا تعثوا في لأرض مفسدين بقية لله خير لكم إن كنتم مؤمنين ومآ أنا عليكم بحفيظ قالوا يشعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد ءاباؤنآ أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت لحليم لرشيد قال يقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا ومآ أريد أن أخالفكم إلى مآ أنهاكم عنه إن أريد إلا لإصلاح ما ستطعت وما توفيقي إلا بلله عليه توكلت وإليه أنيب ويقوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل مآ أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد وستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود قالوا يشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك ومآ أنت علينا بعزيز }
قال أبو محمد فإذا قد حض الله تعالى على المجادلة بالحق وأمر بطلب البرهان فقد صح أن طلب الحجة هي سبيل الله عز و جل بالنص الذي ذكرنا أن من نهى عن ذلك وصد عنه فهو صاد عن سبيل الله تعالى ظالم ملعون بلا تأويل إلا على عين النص الوارد من قبل الله تعالى وبالله نعتصم (1/27)
وقال تعالى { ما كان لأهل لمدينة ومن حولهم من لأعراب أن يتخلفوا عن رسول لله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل لله ولا يطأون موطئا يغيظ لكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن لله لا يضيع أجر لمحسنين }
ولا غيظ أغيظ على الكفار والمبطلين من هتك أقوالهم بالحجة الصادعة وقد تهزم العساكر الكبار والحجة الصحيحة لا تغلب أبدا فهي أدعى إلى الحق وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمة وأفاضل الصحابة الذين لا نظير لهم إنما أسلموا بقيام البراهين على صحة نبوة محمد صلى الله عليه و سلم عندهم فكانوا أفضل ممن أسلم بالغلبة بلا خلاف من أحد من المسلمين
وأول ما أمر الله عز و جل نبيه محمدا صلى الله عليه و سلم أن يدعو له الناس بالحجة البالغة بلا قتال فلما قامت الحجة وعاندوا الحق أطلق الله تعالى السيف حينئذ وقال تعالى { قل فلله لحجة لبالغة فلو شآء لهداكم أجمعين }
وقال تعالى { بل نقذف بلحق على لباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم لويل مما تصفون }
ولا شك في أن هذا إنما هو بالحجة لأن السيف مرة لنا ومرة علينا وليس كذلك البرهان بل هو لنا أبدا ودامغ لقول مخالفينا ومزهق له أبدا
ورب قوة باليد قد دمغت بالباطل حقا كثيرا فأزهقته منها يوم الحرة ويوم قتل عثمان رضي الله عنه ويوم قتل الحسين وابن الزبير رضي الله عنهم ولعن قتلتهم وقد قتل أنبياء كثير وما غلبت حجتهم قط
قال أبو محمد وقد علمنا عز و جل الحجة على الدهرية في قوله تعالى { لله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض لأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار }
وقوله تعالى { ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا } وعلمنا الحجة على الثنوية بقوله تعالى { لو كان فيهمآ آلهة إلا لله لفسدتا فسبحان لله رب لعرش عما يصفون } وعلى النصارى وعلى جميع الملل وقد بينا ذلك في كتابنا المرسوم بكتاب الفصل ورأينا فيه عظيم ما أفادنا الله تعالى في ذلك من الحكمة والعلم بالمحاجة وإظهار البرهان بغاية الإيجاز والاختصار (1/28)
وقد أمر الله بالجدال على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم كما اخبرنا عبد الله بن الربيع قال أنبأنا محمد بن إسحاق بن السليم حدثنا ابن الأعرابي أنبأنا أبو داود حدثنا أبو موسى بن إسماعيل ثنا حماد هو ابن سلمة عن حميد عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم
قال أبو محمد وهذا حديث في غاية الصحة وفيه الأمر بالمناظرة وإيجابها كإيجاب الجهاد والنفقة في سبيل الله
قال أبو محمد وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وضع السؤال موضعه وكيفية المحاجة في الحديث الذي ذكر محاجة آدم موسى صلى الله عليهما وسلم
حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج عن ابن أبي عمر المكي ومحمد بن حاتم وغيرهما واللفظ لابن حاتم كلاهما عن سفيان بن عيينة عن عمرو هو ابن دينار عن طاوس قال سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فقال له آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة
فحج آدم موسى
قال أبو محمد فموسى صلى الله عليه و سلم وضع الملامة في غير موضعها فصار محجوجا وذلك لأنه لام آدم صلى الله عليه و سلم على أمر لم يفعله وهو خروج الناس من الجنة وإنما هو فعل الله عز و جل ولو أن موسى لام آدم على خطيئته الموجبة لذلك لكان واضعا للملامة موضعها ولكان آدم محجوجا وليس أحد ملوما إلا على ما يفعله لا على ما تولد من فعله ولا مما فعله غيره
والكافر إنما يلام على الفعل لا على دخول النار والقاتل إنما يلام على فعله لا على موت مقتوله ولا على أخذ القصاص منه
فعلمنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذا الحديث كما ترى كيف نسأل عند المحاجة وبين لنا صلى الله عليه و سلم أن المحاجة جائزة وأن من أخطأ موضع السؤال كان محجوجا وظهر بذلك قول الله عز و جل { كمآ أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم لكتاب ولحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } (1/29)
والذي ذكرنا هو نص الحديث لا ما ظنه من يتعسف الكلام ويحرفه عن مواضعه ويطلب فيه ما ليس فيه وليس هذا الحديث من باب إثبات القدر في شيء وإثبات القدر إنما يصح من أحاديث أخر وآيات أخر
قال أبو محمد وقد تحاج المهاجرون والأنصار وسائر الصحابة رضوان الله عليهم وحاج ابن عباس الخوارج بأمر علي رضى الله عنه وما أنكر قط أحد من الصحابة الجدال في طلب الحق
فلا معنى لقول لمن جاء بعدهم
وبالجملة فلا أضعف ممن يروم إبطال الجدال بالجدال
ويريد هدم جميع الاحتجاج بالاحتجاج ويتكلف فساد المناظرة بالمناظرة لأنه مقر على نفسه أنه يأتي بالباطل لأن حجته هي بعض الحجج التي يريد إبطال جملتها
وهذه طريق لا يركبها إلا جاهل ضعيف أو معاند سخيف
والجدال الذي ندعو إليه هو طلب الحق ونصره
وإزهاق الباطل وتبينه
فمن ذم طلب الحق وأنكر هدم الباطل فقد ألحد
وهو من أهل الباطل حقا
والخصام بالباطل هو اللدد الذي قال فيه عليه السلام أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم أو كما قال صلى الله عليه و سلم
فإذا قد بطلت كل طريق ادعاها خصومنا في الوصول إلى الحقائق من الإلهام والتقليد وثبت أن الخبر لا يعلم صحته بنفسه ولا يتميز حقه من كذبه وواجبه من غير واجبه إلا بدليل من غيره فقد صح أن المرجوع إليه حجج العقول وموجباتها وصح أن العقل إنما هو مميز بين صفات الأشياء الموجودات وموقف للمستدل به على حقائق كيفيات الأمور الكائنات وتمييز المحال منها
وأما من ادعى أن العقل يحلل أو يحرم أو أن العقل يوجد عللا موجبة لكون ما أظهر الله الخالق تعالى في هذا العالم من جميع أفاعيله الموجود فيه من الشرائع وغير الشرائع فهو بمنزلة من أبطل موجب العقل جملة
وهما طرفان أحدهما أفرط فخرج عن حكم العقل والثاني قصر فخرج عن حكم العقل ومن ادعى في العقل ما ليس فيه كمن أخرج منه ما فيه ولا فرق
ولا نعلم فرقة أبعد من طريق العقل من هاتين الفرقتين معا إحداهما التي تبطل حجج العقل جملة
والثانية التي تستدرك بعقولها على خالقها (1/30)
عز و جل أشياء لم يحكم فيها ربهم بزعمهم فثقفوها هم ورتبوها رتبا أوجبوا أن لا محيد لربهم تعالى عنها وأنه لا تجري أفعاله عز و جل إلا تحت قوانينها
لقد افترى كلا الفريقين على الله عز و جل إفكا عظيما وأتوا بما تقشعر منه جلود أهل العقول
وقد بينا أن حقيقة العقل إنما هي تمييز الأشياء المدركة بالحواس وبالفهم ومعرفة صفاتها التي هي عليها جارية على ما هي عليه فقط من إيجاب حدوث العالم وأن الخالق واحد لم يزل وصحة نبوة من قامت الدلائل على نبوته ووجوب طاعة من توعدنا بالنار على معصيته والعمل بما صححه العقل من ذلك كله وسائر ما هو في العالم موجود مما عدا الشرائع وأن يوقف على كيفيات كل ذلك فقط
فأما أن يكون العقل يوجب أن يكون الخنزير حراما أو حلالا أو يكون التيس حراما أو حلالا أو أن تكون صلاة الظهر أربعا وصلاة المغرب ثلاثا أو أن يمسح على الرأس في الوضوء دون العنق أو أن يحدث المرء من أسفله فيغسل أعلاه أو أن يتزوج أربعا ولا يتزوج خمسا أو أن يقتل من زنى وهو محصن وإن عفي عنه زوج المرأة وأبوها ولا يقتل قاتل النفس المحرمة عمدا إذا عفا عنه أولياء المقتول
أو أن يكون الإنسان ذا عينين دون أن يكون ذا ثلاثة أعين أو أربع أو أن تخص صورة الإنسان بالتمييز دون صورة الفرس أو أن تكون الكواكب المتحيرة سبعا دون أن تكون تسعا وكذلك سائر رتب العالم كلها
فهذا ما لا مجال للعقل فيه لا في إيجابه ولا في المنع منه وإنما في العقل الفهم عن الله تعالى لأوامره ووجوب ترك التعدي إلى ما يخاف العذاب على تعديه والإقرار بأن الله تعالى يفعل ما يشاء ولو شاء أن يحرم ما أحل أو يحل ما حرم لكان ذلك له تعالى ولو فعله لكان فرضا علينا الانقياد لكل ذلك ولا مزيد
ومعرفة صفات كل ما أدركنا معرفته مما في العالم وأنه على صفة كذا وهيئة كذا كما أحكمه ربه تعالى ولا زيادة فيه وبالله تعالى التوفيق وإليه الرغبة في دفع ما لا نطيق (1/31)
الباب الرابع في كيفية ظهور اللغات
أعن توقيف أم عن اصطلاح قال أبو محمد أكثر الناس في هذا والصحيح من ذلك أصل الكلام توقيف من الله عز و جل بحجة سمع وبرهان ضروري
فأما السمع فقول الله عز و جل { وعلم آدم الأسمآء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين }
وأما الضروري بالبرهان فهو أن الكلام لو كان اصطلاحا لما جاز أن يصطلح عليه إلا قوم قد كملت أذهانهم وتدربت عقولهم وتمت علومهم ووقفوا على الأشياء كلها الموجودة في العالم وعرفوا حدودها واتفاقها واختلافها وطبائعها وبالضرورة نعلم أن بين أول وجود الإنسان وبين بلوغه هذه الصفة سنين كثيرة جدا يقتضي في ذلك تربية وحياطة وكفالة من غيره
إذ المرء لا يقوم بنفسه إلا بعد سنين من ولادته
ولا سبيل إلى تعايش الوالدين والمتكفلين والحضان إلا بكلام يتفاهمون به مراداتهم فيما لا بد لهم منه فيما يقوم معايشهم من حرث أو ماشية أو غراس ومن معاناة ما يطرد به الحر والبرد والسباع ويعاني به الأمراض ولا بد لكل هذا من أسماء يتعارفون بها ما يعانونه من ذلك
وكل إنسان فقد كان في حالة الصغر التي ذكرنا من امتناع الفهم والاحتياج إلى كافل والاصطلاح يقتضي وقتا لم يكن موجودا قبله لأنه عمل المصطلحين وكل عمل لا بد من أن يكون له أو فكيف كانت حال المصطلحين على وضع اللغة قبل اصطلاحهم عليه فهذا من الممتنع المحال ضرورة
قال علي وهذا دليل برهاني ضروري من أدلة حدوث النوع الإنساني ومن أدلة وجود الواحد الخالق الأول تبارك وتعالى ومن أدلة وجود النبوة والرسالة لأنه لا سبيل إلى بقاء أحد من الناس ووجوده دون كلام والكلام حروف مؤلفة والتأليف فعل فاعل ضرورة لا بد له من ذلك وكل فعل فعله فله زمان ابتدىء فيه لأن الفعل حركة تعدها المدد فصح أن لهذا التأليف أولا والإنسان لا يوجد دونه
وما لم يوجد قبل ما له أول فله أول ضرورة فصح أن للمحدث محدثا بخلافة وصح أن ما علم من ذلك مما (1/32)
هو مبتدأ من عند الخالق تعالى مما ليس في الطبيعة معرفته دون تعليم فلا يمكن البتة معرفته إلا بمعلم علمه الباري إياه
ثم علم هو أهل نوعه ما علمه ربه تعالى
قال علي وأيضا فإن الاصطلاح على وضع لغة لا يكون ضرورة إلا بكلام متقدم بين المصطلحين على وضعها
أو بإشارات قد اتفقوا على فهمها
وذلك الاتفاق على فهم تلك الإشارات لا يكون إلا بكلام ضرورة ومعرفة حدود الأشياء وطبائعها التي عبر عنها بألفاظ اللغات لا يكون إلا بكلام وتفهيم
لا بد من ذلك
فقد بطل الاصطلاح على ابتداء الكلام
ولم يبق إلا أن يقول قائل إن الكلام فعل الطبيعة
قال علي وهذا يبطل ببرهان ضروري
وهو أن الطبيعة لا تفعل إلا فعلا واحدا لا أفعالا مختلفة وتأليف الكلام فعل اختياري متصرف في وجوه شتى
وقد لجأ بعضهم إلى نوع من الاختلاط وهو أن قال إن الأماكن أوجبت بالطبع على ساكنيها النطق بكل لغة نطقوا بها
قال علي وهذا محال ممتنع لأنه لو كانت اللغات على ما توجبه طبائع الأمكنة لما أمكن وجود كل مكان إلا بلغته التي يوجبها طبعه
وهذا يرى بالعيان بطلانه لأن كل مكان في الأغلب قد دخلت فيه لغات شتى على قدر تداخل أهل اللغات ومجاورتهم
فبطل ما قالوا وأيضا فليس في طبع المكان أن يوجب تسمية الماء ماء دون أن يسمى باسم آخر مركب من حروف الهجاء
ومن كابر في هذا فإما مجاهر بالباطل وإما عديم عقل لا بد له من أحد هذين الوجهين
فصح أنه توقيف من أمر الله عز و جل وتعليم منه تعالى
إلا أننا لا ننكر اصطلاح الناس على إحداث لغات شتى بعد أن كانت لغة واحدة وقفوا عليها بها علموا ماهية الأشياء وكيفياتها وحدودها ولا ندري أي لغة هي التي وقف آدم عليه السلام عليها أولا إلا أننا نقطع على أنها أتم اللغات كلها وأبينها عبارة وأقلها إشكالا وأشدها اختصارا وأكثرها وقوع أسماء مختلفة على المسميات كلها المختلفة من كل ما في العالم من جوهر أو عرض لقول الله عز و جل { وعلم آدم الأسمآء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين } فهذا التأكيد يرفع الإشكال ويقطع الشغب فيما قلنا (1/33)
وقد قال قوم هي السريانية وقال قوم هي اليونانية وقال قوم هي العبرانية
وقال قوم هي العربية
والله أعلم
إلا أن الذي وقفنا عليه وعلمناه يقينا أن السريانية والعبرانية والعربية هي لغة مضر وربيعة لا لغة حمير لغة واحدة تبدلت بتبدل مساكن أهلها فحدث فيها جرش كالذي يحدث من الأندلسي وإذا رام نغمة أهل القيروان ومن القيرواني إذا رام نغمة الأندلسي ومن الخراساني إذا رام نغمتها
ونحن نجد من سمع لغة أهل فحص البلوط وهي على ليلة واحدة من قرطبة كاد أن يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة
وهكذا في كثير من البلاد فإنه بمجاورة أهل البلدة بأمة أخرى تتبدل لغتها تبديلا لا يخفى على من تأمله
ونحن نجد العامة قد بدلت الألفاظ في اللغة العربية تبديلا وهو في البعد عن أصل تلك الكلمة كلغة أخرى ولا فرق
فنجدهم يقولون في العنب العينب وفي السوط أسطوط
وفي ثلاثة دنانير ثلثدا
وإذا تعرب البربري فأراد أن يقول الشجرة قال السجرة
وإذا تعرب الجليقي أبدل من العين والحاء هاء فيقول مهمدا إذا أراد أن يقول محمدا
ومثل هذا كثير
فممن تدبر العربية والعبرانية السريانية أيقن أن اختلافهما إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم
وأنها لغة واحدة في الأصل
وإذ تيقنا ذلك فالسريانية أصل للعربية وللعبرانية معا والمستفيض أن أول من تكلم بهذه العربية إسماعيل عليه السلام فهي لغة ولده والعبرانية لغة إسحاق ولغة ولده
والسريانية بلا شك هي لغة إبراهيم صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم بنقل الاستفاضة الموجبة لصحة العلم
فالسريانية أصل لهما وقد قال قوم إن اليونانية أبسط اللغات
ولعل هذا إنما هو الآن فإن اللغة يسقط أكثرها
ويبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم فإنما يقيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها وفراغهم
وأما من تلفت دولتهم وغلب عليهم عدوهم واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم فمضمون منهم موت الخواطر وربما كان ذلك سببا لذهاب لغتهم ونسيان أنسابهم وأخبارهم وبيود علومهم هذا موجود بالمشاهدة ومعلوم بالعقل (1/34)
ضرورة
ولدولة السريانيين مذ ذهبت وبادت آلاف من الأعوام في أقل منها ينسى جميع اللغة
فكيف تفلت أكثرها والله تعالى اعلم
ولسنا نقطع على أنها اللغة التي وقف الله تعالى عليها أولا ولا ندري لعل قائلا يقول لعل تلك اللغة قد درست البتة وذهبت بالجملة أو لعلها إحدى اللغات الباقية لا نعلمها بعينها وهذا هو الذي توجبه الضرورة ولا بد مما لا يمكن سواه أصلا وقد يمكن أن يكون الله تعالى وقف آدم عليه السلام على جميع اللغات التي ينطق بها الناس كلهم الآن
ولعلها كانت حينئذ لغة واحدة مترادفة الأسماء على المسميات ثم صارت لغات كثيرة إذ توزعها بنوه بعد ذلك وهذا هو الأظهر عندنا والأقرب إلا أننا لا نقطع على هذا كما نقطع على أنه لا بد من لغة واحدة وقف الله تعالى عليها ولكن هذا هو الأغلب عندنا نعني أن الله تعالى وقف على جميع هذه اللغات المنطوق بها وإنما ظننا هذا لأننا لا ندري أي سبب دعا الناس ولهم لغة يتكلمون بها ويتفاهمون بها إلى إحداث لغة أخرى وعظيم التعب في ذلك لغير معنى ومثل هذا من الفضول لا يتفرع له عاقل بوجه من الوجوه فإن وجد ذلك فمن فارع فضولي سيىء الاختيار مشتغل بما لا فائدة فيه عما يعينه وعما هو آكد عليه من أمور معاده ومصالح دنياه ولذاته وسائر العلوم النافعة
ثم من له بطاعة أهل بلده له في ترك لغتهم والكلام باللغة التي عمل لهم ولكنا لسنا نجعل ذلك محالا ممتنعا بل نقول إنه ممكن بعيد جدا فإن قالوا لعل ملكا كانت في مملكته لغات شتى فجمع لهم لغة يتفاهمون بها كلهم قلنا لهم هذا ضد وضع اللغات الكثيرة بل هو جمع اللغات على لغة واحدة ثم نقول وما الذي كان يدعو هذا الملك إلى هذه الكلفة الباردة الصعبة الثقيلة التي لا تفيد شيئا وكان أسهل له أن يجمعهم على لغة ما من تلك اللغات التي كانوا يتكلمون بها أو على لغته نفسه فكان أخف وأمكن من إحداث لغة مستأنفة وعلم ذلك عند الله عز و جل
وقد توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات
وهذا لا معنى له لأن وجوه الفضل معروفة وإنما هي بعمل أو اختصاص ولا عمل للغة ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة وقد قال تعالى { ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشآء ويهدي من يشآء وهو العزيز الحكيم } (1/35)
وقال تعالى { فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون }
فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه السلام لا لغير ذلك وقد غلط في ذلك جالينوس فقال إن لغة اليونانيين أفضل اللغات لأن سائر اللغات إنما هي تشبه إما نباح الكلاب أو نقيق الضفادع
قال علي وهذا جهل شديد لأن كل سامع لغة ليست لغته ولا يفهمها فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس ولا فرق
وقد قال قوم العربية أفضل اللغات لأنه بها كلام الله تعالى
قال علي وهذا لا معنى له لأن الله عز و جل قد أخبرنا أنه لم يرسل رسولا إلا بلسان قومه
وقال تعالى { إني إذا لفي ضلال مبين } وقال تعالى { وإنه لفي زبر الأولين } فبكل لغة قد نزل كلام الله تعالى ووحيه
وقد أنزل التوراة والإنجيل والزبور وكلم موسى عليه السلام بالعبرانية وأنزل الصحف على إبراهيم عليه السلام بالسريانية فتساوت اللغات في هذا تساويا واحدا
وأما لغة أهل الجنة وأهل النار فلا علم عندنا إلا ما جاء في النص والاجماع ولا نص ولا إجماع في ذلك إلا أنه لا بد لهم من لغة يتكلمون بها ولا يخلو ذلك من أحد ثلاثة أوجه ولا رابع لها إما أن تكون لهم لغة واحدة من اللغات القائمة بيننا الآن وإما أن تكون لهم لغة غير جميع هذا اللغات وإما أن تكون لهم لغات شتى لكن هذه المحاورة التي وصفها الله تعالى توجب القطع بأنهم يتفاهمون بلغة إما بالعربية المختلفة في القرآن عنهم أو بغيرها مما الله تعالى أعلم به
وقد ادعى بعضهم أن اللغة العربية هي لغتهم واحتج بقول الله عز و جل { دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } فقلت له فقل إنها لغة أهل النار لقوله تعالى عنهم أنهم قالوا { وما لنآ ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على مآ آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون } ولأنهم قالوا { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من المآء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين } (1/36)
ولأنهم قالوا { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } فقال لي نعم فقلت له فاقض أن موسى وجميع الأنبياء عليهم السلام كانت لغتهم العربية لأن كلامهم محكي في القرآن عنهم بالعربية فإن قلت هذا كذبت ربك وكذبك ربك في قوله { ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشآء ويهدي من يشآء وهو العزيز الحكيم } فصح أن الله تعالى إنما يحكي لنا معاني كلام كل قائل في لغته باللغة التي بها نتفاهم ليبين لنا عز و جل فقط وحروف الهجاء واحدة لا تفاضل بينها ولا قبح ولا حسن في بعضها دون بعض وهي تلك بأعيانها في كل لغة فبطلت هذه الدعاوى الزائغة الهجينة وبالله تعالى التوفيق
وقد أدى هذا الوسواس العامي اليهود إلى أن استجازوا الكذب والحلف على الباطل بغير العبرانية وادعوا أن الملائكة الذين يرفعون الأعمال لا يفهمون إلا العبرانية فلا يكتبون عليهم غيرها وفي هذا من السخف ما ترى وعالم الخفيات وما في الضمائر عالم بكل لسان ومعانيه عز و جل لا إله إلا هو وهو حسبنا ونعم الوكيل (1/37)
الباب الخامس في الألفاظ الدائرة بين أهل النظر
قال أبو محمد هذا باب خلط فيه كثير ممن تكلم في معانيه وشبك بين المعاني وأوقع الأسماء على غير مسمياتها ومزج بين الحق والباطل فكثر لذلك الشغب والالتباس وعظمت المضرة وخفيت الحقائق ونحن إن شاء الله تعالى بحوله وقوته مميزون معنى كل لفظة على حقيقتها فنقول وبالله تعالى نتأيد الحد هو لفظ وجيز يدل على طبيعة الشيء المخبر عنه كقولك الجسم هو كل طويل عريض عميق فإن الطول والعرض والعمق هي طبائع الجسم لو ارتفعت عنه ارتفعت عن الجسمية ضرورة ولم يكن جسما فكانت هذه العبارة مخبرة عن طبيعة الجسم ومميزة له مما ليس بجسم
والرسم هو لفظ وجيز يميز المخبر عنه مما سواه فقط دون أن ينبىء عن طبيعته كقولك الإنسان هو الضحاك فإنك ميزت الإنسان بهذا اللفظ تمييزا صحيحا مما سواه إلا أنك لم تخبر بطبيعته لأنك لو توهمت الضحك مرتفعا عن الإنسان لم تبطل بذلك عنه الإنسانية ولامتنع بذلك من الكلام في المعلوم والتصرف في الصناعات ولبقيت سائر طبائعه بحسبها
قال أبو محمد علي ولما كان هذان المعنيان متغايرين كل واحد منهما غير صاحبه وجب ضرورة أن يعبر عن كل واحد منهما بعبارة غير عبارتنا عن الآخر ولو عبرنا عنهما عبارة واحدة لكنا قد أوقعنا من يقبل منا في الإشكال ولكنا ظالمين لهم جدا وغير ناصحين لهم وهذا خلاف ما أخذه الله تعالى على العلماء إذ يقول الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم ليبينه للناس ولا يكتمونه ومن لبس الحقائق فقد كتمها
والعلم هو تيقن الشيء على ما هو عليه إما عن برهان ضروري موصل إلى تيقنه كذلك وإما أول بالحس أو ببديهة العقل وإما حادث عن أول على ما بينا في كتاب التقريب من أخذ المقدمات الراجعة إلى أول العمل أو الحس إما من قرب وإما (1/38)
من بعد وإما عن اتباع لمن أمر الله تعالى باتباعه فوافق فيه الحق وإن لم يكن عن ضرورة ولا عن استدلال برهان ذلك أن جميع الناس مأمورون بقول الحق واعتقاده وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا الناس كلهم إلى الإيمان بالله تعالى وبما جاء به والنطق بذلك ولم يشترط عليه السلام عليهم ألا يكون ذلك منهم إلا عن استدلال بل قنع بهذا من العالم والجاهل والحر والعبد والمسبي والمستعرب واجتمعت الأمة على ذلك بعده عليه إلى اليوم
وقنعوا بذلك ممن أجابهم إليه ولم يشترط عليهم استدلالا في ذلك فإذا ذاك كذلك فقد صح أن من اعتقد ما ذكرنا وقال به فهو عالم بذلك بيقين عارف به إذ لو كان غير عالم بذلك لحرم القول عليه بذلك ولحرم عليه اعتقاده لأن الله تعالى يقول { ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } وقال تعالى { إنما يأمركم بلسوء ولفحشآء وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون } فصح إذ هو مأمور باعتقاده الحق والقول به ومنهي عن القول بما لا يعلم وعن أن يقفوا ما لا يعلم أن عقده في الحق وقوله به علم صحيح ومعرفة حقيقية وإن لم يكن ذلك عن استدلال ومن ادعى تخصيص نهي الله تعالى عن القول بما لا علم لنا به وعن قفو ما لا نعلم كان مدعيا بلا دليل ومبطلا في قوله لأنه يقول { ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } إلا في الإيمان فاقف فيه ما لا علم لك به وهذا كذب على الله تعالى مجرد
فإن قال قائل فإن الله يقول { وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } قلنا نعم إنما خاطب الله بهذا من قال بالباطل ولا برهان لصاحب الباطل وأما المعتقد للحق فبرهان الحق قائم سواء علمه المعتقد له أو جهله وإنما يكف البرهان أهل الباطل لإدحاض باطلهم ولا يجوز أن يكلف المحق برهانا لأنه لا يخلو مكلفه البرهان من أن يكون محقا مثله أو مبطلا فإن كان محقا مثله فهو معنت له والتعنيت لا يجوز وإن كان مبطلا فحرام عليه الجدال في الحق قال تعالى { يجادلونك في لحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى لموت وهم ينظرون } وقال تعالى { كذبت قبلهم قوم نوح ولأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بلباطل ليدحضوا به لحق فأخذتهم فكيف كان عقاب } فلا يجوز تكليف المحق برهانا (1/39)
إلا على أن يعلمه فقط لا على سبيل معارضة لأن من فعل ذلك يكون معارضا للحق ومعارضته الحق بالباطل لا تجوز قال تعالى ذاما لقوم { كذبت قبلهم قوم نوح ولأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بلباطل ليدحضوا به لحق فأخذتهم فكيف كان عقاب }
وقد تحذلق قوم فأداهم ذلك إلى الهلكة فقالوا الحدود لا تختلف في قديم ولا محدث وهذا كلام موجب الكفر لأنهم يوقعون بذلك الباري تعالى تحت الحدوث لأن كل محدود متناه ومركب وكل مركب فمخلوق لأنه مركب من جنسه وفصله المميز له مما جامعه تحت جنسه فقد جعلوا ربهم محدثا تعالى الله عن ذلك
وقالوا حد العلم أنه صفة لا يتعذر بوجودها على الحي القادر إحكام الفعل
قال علي وهذا حد فاسد لأن النحل لا يتعذر عليها أحكام بناء الشمع ووضع العسل ولا تسمى عالمة وقد يعرض للعالم الناقد خدر يبطل يديه ورجليه فيعتذر عليه كل فعل حكمة أو غير حكمة وعلمه وعقله باقيان
وقالت طائفة منهم حد العلم منا ومن الله تعالى أنه صفة يتبين بها المعلوم على ما هو عليه من أحواله
قال علي وكلا الحدين فاسد ونحن نسألهم أهذه الصفة التي ذكرتم أهي والموصوف بها شيء واحد أم هي والموصوف بها شيئان متغايران فإن قالوا شيء واحد أبطلوا قولهم في الباري تعالى ووافقوا خصومهم إلا في العبارة فقط وأيضا فإن كون الصفة والموصوف شيئا واحدا غير موجود في العالم لأن الصفات تتعاقب على الموصوفات فتفتى والموصوف باق بحسبه ولا شك في أن الفاني غير الباقي والصفة عرض ونحن لم نقر بعلم الباري تعالى على معنى أنه صفة كصفاتنا ولكن اتباعا منا للنص الوارد في أن له علما فقط إلا أننا نقطع على أنه ليس غيره تعالى وأنه ليس عرضا ونحن لم نسم الباري تعالى عالما وإنما قلنا إنه عليم كما قال تعالى
فإن قالوا فأي فرق بين عالم وعليم
قيل لهم وأي فرق بين الجبار والمتجبر فسموا ربكم متجبرا وأي فرق بين أن نسميه تعالى خير الماكرين وأن له مكرا ولا نسميه ماكرا وكذلك نسميه حكيما ولا نسميه عاقلا ونسميه الواحد ولا نسميه الفرد ولا الفذ
وقد بينا في كتاب الفصل أن أسماءه تعالى أعلام وليست مشتقة أصلا وبالله (1/40)
التوفيق
فإن قالوا إن الصفة والموصوف شيئان متغايران صدقوا وأخرجوا بذلك صفات الباري تعالى عن هذا الحكم
والاعتقاد هو استقرار حكم بشيء ما في النفس
إما عن برهان أو اتباع من صح برهان قوله فيكون علما يقينا ولا بد وإما عن إقناع فلا يكن علما متيقنا ويكون إما حقا أو باطلا وإما لا عن إقناع لا عن برهان فيكون إما حقا بالبخت وإما باطلا بسوء الجد
والبرهان كل قضية أو قضايا دلت على حقيقة حكم الشيء
والدليل قد يكون برهانا وقد يكون اسما يعرف به المسمى وعبارة يتبين بها المراد كرجل ذلك على طريق تريد قصده فذلك اللفظ الذي خاطبك به هو دليل على ما طلبت وقد يسمى المرء الدال دليلا أيضا
والحجة هي الدليل نفسه إذا كان برهانا أو إقناعا أو شغبا
والدال هو المعرف بحقيقة الشيء وقد يكون إنسانا معلما وقد يعبر به عن الباري تعالى الذي علمنا كل ما نعلم وقد يسمى الدليل دالا على المجاز ويسمى الدال دليلا أيضا كذلك في اللغة العربية
والاستدلال طلب الدليل من قبل معارف العقل ونتائجه أو من قبل إنسان يعلم
والدلالة فعل الدال وقد تضاف إلى الدليل على المجاز
والإقناع قضية أو قضايا أنست النفس بحكم شيء ما دون أن توقفها على تحقيق حجة ولم يقم عندها برهان بإبطاله
والشغب تمويه بحجة باطلة بقضية أو قضايا فاسدة تقود إلى الباطل وهي السفسطة
والتقليد هو اعتقاد الشيء لأن فلانا قاله ممن لم يقم على صحة قوله برهان وأما اتباع من أمر الله باتباعه فليس تقليدا بل هو طاعة حق لله تعالى
والإلهام علم يقع في النفوس بلا دليل ولا استدلال ولا إقناع ولا تقليد وهو (1/41)
لا يكون إلا إما فعل الطبيعة من الحي غير الناطق ومن بعض الناطقين أيضا كنسج العنكبوت وبناء النحل وما أشبه ذلك وأخذ الصبي الثدي وما أشبه ذلك أو أول معرفة النفس قبل أوان استدلالها لنا كعلمنا أن الكل أكثر من الجزء وهو فيما عدا هذين الوجهين باطل
والنبوة اختصاص الله عز و جل رجلا أو امرأة من الناس بإعلامه بأشياء لم يتعلمها إما بواسطة ملك أو بقوة يضعها في نفسه خارجة عن قوى المخلوقين تعضدها خرق العادات وهو المعجزات وقد انقطعت بعد محمد صلى الله عليه و سلم
والرسالة أن يأمر الله تعالى نبيا بإنذار قوم وقبول عهده وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا
والبيان كون الشيء في ذاته ممكنا أن تعرف حقيقته لمن أراد علمه
والإبانة والتبيين فعل المبين وهو إخراجه للمعنى من الإشكال إلى إمكان الفهم له بحقيقة وقد يسمى أيضا على المجاز ما فهم منه الحق وإن لم يكن للمفهوم منه فعل ولا قصد إلى الأفهام مبينا كما تقول بين لي الموت أن الناس لا يخلدون والتبيين فعل نفس المبين للشيء في فهمه إياه وهو الاستبانة أيضا والمبين هو الدال نفسه
والصدق هو الإخبار عن الشيء بما هو عليه
والحق هو كون الشيء صحيح الوجود ولا يغلط من لا سعة لفهمه فيظن أن هذا الحد فاسد بأن يقول الكفر والجور صحيح وجودهما فينبغي أن يكون حقا
فليعلم أن هذا شغب فاسد لأن وجود الكفر والجور صحيحين في رضاء الله تعالى ليس هو صحيحا بل هو معدوم فرضا الله تعالى بهما باطل وأما كونهما موجودين من الكافر والجائز فحق صحيح ثابت لا شك فيه فمثل هذا من الفروق ينبغي مراعاته وتحقيق الكلام فيه وإلا وقع الإشكال وتحير الناظر
وقد رأينا من يفرق بين الحق والحقيقة وهذا خطأ لا يخفى على ذي فهم ينصف نفسه لأن الفرق بين هاتين اللفظتين لم تأت به لغة ولا أوجبته شريعة أصلا إلا في تسمية الباري تعالى التي لا تؤخذ إلا بالنص ولا يحل فيها التصريف فظهر فساد هذا الفرق بيقين وبالله تعالى التوفيق (1/42)
وأيضا فإن الله تعالى قال { حقيق على أن لا أقول على لله إلا لحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل } ولا فرق عند أحد بين قول القائل حقيق على كذا وبين قوله حق على كذا
فظهر فساد هذا الفرق
والباطل ما ليس حقا
والكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه
والأصل هو ما أدرك بأول العقل وبالحس وقد ذكرناه قبل
والفرع كل ما عرف بمقدمة راجعة إلى ما ذكرنا من قرب أو من بعد وقد يكون ذلك الفرع أصلا لما أنتج منه أيضا
والمعلوم قسمان معلوم بالأصل المذكور ومعلوم بالمقدمات الراجعة إلى الأصل كما بينا
وكل ما نقل بتواتر على النبي صلى الله عليه و سلم أو أجمع عليه نقل جميع علماء الأمة عنه عليه السلام أو نقله الثقة عن الثقة حتى يبلغ إليه عليه السلام فداخل في باب ما تيقن ضرورة بالمقدمات المذكورة
والنص هو اللفظ الوارد في القرآن أو السنة المستدل به على حكم الأشياء وهو الظاهر نفسه
وقد يسمى كل كلام يورد كما قاله المتكلم به نصا
والتأويل نقل اللفظ عما اقتضاه ظاهره وعما وضع له في اللغة إلى معنى آخر فإن كان نقله قد صح ببرهان وكان ناقله واجب الطاعة فهو حق وإن كان نقله بخلاف ذلك اطرح ولم يلتفت إليه وحكم لذلك النقل بأنه باطل
والعموم حمل اللفظ على كل ما اقتضاه في اللغة وكل عموم ظاهر وليس كل ظاهر عموما إذ قد يكون الظاهر خبرا عن شخص واحد ولا يكون العموم إلا على أكثر من واحد
والخصوص محل اللفظ على بعض ما يقتضيه في اللغة دون بعض والقول فيه كما قلنا في التأويل آنفا ولا فرق
والألفاظ إما دالة على واحد وإما على أكثر من واحد فإن كانت ناقصة غير دالة كانت هدرا
والمجمل لفظ يقتضي تفسيرا فيؤخذ من لفظ آخر (1/43)
والمفسر لفظ يفهم منه معنى المجمل المذكور
والأمر إلزام الآمر المأمور عملا ما فإن كان الخالق تعالى أو رسوله صلى الله عليه و سلم فالطاعة لهما فرض وإن كان ممن دونهما فلا طاعة له
والنهي إلزام الناهي المنهي ترك عمل ما والقول فيه كالقول في الأمر فلا فرق وطاعة الأئمة فيما ليس معصية طاعة لله تعالى لتقدم أمر الله عز و جل بذلك
والفرض ما استحق تاركه اللوم واسم المعصية لله تعالى وهو الواحب واللازم والحتم
والحرام وهو ما استحق فاعله اللوم واسم المعصية لله تعالى إلا أن يسقط ذلك عنه من الله تعالى عفو أو توبة وهو المحظور والذي لا يجوز والممنوع
والطاعة تنفيذ الأمر من المأمور فيما أمر به والتوقف عن إتيان المنهي عنه وقد يسمى كل بر طاعة
والمعصية ضد ذلك
والندب أمر بتخيير في الترك إلا أن فاعله مأجور وتاركه لا آثم ولا مأجور وهو الائتساء والمستحسن والمستحب وهو الاختيار وهو كل تطوع ونافلة كالركوع غير الفرض والصدقة كذلك والصوم كذلك وسائر أعمال البر
والكراهة نهي بتخيير في الفعل إلا أن على تركه ثوابا وليس في فعله أجر ولا إثم وذلك نحو ترك كل تطوع ونحو اتخاذ المحاريب في المساجد والتنشف بعد الغسل من الجنابة بثوب معد لذلك غير الذي يلبسه المرء وبيع السلاح ممن لا يؤمن منه أن يستعمله فيما لا يحل وابتياع الخصيان إذا أدى ذلك إلى خصائهم بطلب الغلاء في أثمانهم والحلق في غير علة أو حج أو عمرة والأكل متكئا
والإباحة تسوية بين الفعل والترك لا ثواب على شيء منهما ولا عقاب كمن جلس متربعا أو رافعا إحدى ركبتيه أو كمن صبغ ثوبه أخضر أو لازوديا وسائر الأمور كذلك وهو الحلال
والقياس عند القائلين به والمبطلين له أن يحكم بشيء ما بحكم لم يأت به نص لشبهه شيء آخر ورد فيه ذلك الحكم وهو باطل كله
والعلة طبيعة في الشيء يقتضي صفة تصحيحها ولا توجد الصفة دونها (1/44)
ككون النار علة للإحراق والإحراق هو معلولها والعلة أيضا المرض ولا علة في شيء من الدين أصلا والقول بها في الدين بدعة وباطل
والسبب أمر وقع فاختار الفاعل أن يوقع فعلا آخر من أجله ولو شاء ألا يوقعه لم يوقعه ككون الذنب سببا لعقوبة المذنب
والغرض نتيجة يقصدها الفاعل بفعله كالشبع الذي هو غرض الآكل في أكله
وقد يكون الغرض اختيارا كمراد الله تعالى بشرع الشرائع تعذيب من عصاه وتنعيم من أطاعه
والأمارة علامة بين المصطلحين على شيء ما إذا وجدت علم الواجد لها ما وافقه عليه الآخر وقد يجعلها المرء لنفسه ليستذكر بها ما يخاف نسيانه
والنية قصد العمل بإرادة النفس له دون غيره واعتقاد النفس ما استقر فيها
والشرط تعليق حكم ما بوجوب آخر ورفعه برفعه وهو باطل ما لم يأت به نص وذلك نحو قول القائل إن خدمتني شهرا أعطيتك درهما
والتفسير والشرح هما التبيين
والنسخ ورود أمر بخلاف أمر كان قبله ينقض به أمر الأول
والاستثناء ورود لفظ أو بيان بفعل بإخراج بعض ما اقتضاه لفظ آخر وكان المراد في اللفظ الأول ما بقي بعد المستثنى منه وهذا هو الفرق بين النسخ والاستثناء لأن النسخ كان فيه اللفظ الأول مرادا كله طول مدته وأما المستثنى منه فلم يكن اللفظ الأول مرادا كله قط
والجدل والجدال إخبار كل واحد من المختلفين بحجته أو بما يقدر أنه حجته وقد يكون كلاهما مبطلا وقد يكون أحدهما محقا والآخر مبطلا إما في لفظه وإما في مراده أو في كليهما ولا سبيل أن يكونا معا محقين في ألفاظهما ومعانيهما
والاجتهاد بلوغ الغاية واستنفاذ الجهد في المواضع التي يرجى وجوده فيها في طلب الحق فمصيب موقف أو محروم والرأي ما تخيلته النفس صوابا دون برهان ولا يجوز الحكم به أصلا
والاستحسان هو ما اشتهته النفس ووافقها كان خطأ أو صوابا (1/45)
والصواب إصابة الحق
والخطأ العدول عنه بغير قصد إلى ذلك
والعناد العدول عنه بالقصد إلى ذلك
والاحتياط طلب السلامة
والورع تجنب ما لا يظهر فيه ما يوجب اجتنابه خوفا أن يكون ذلك فيه
والجهل مغيب حقيقة العلم عن النفس
والطبيعة صفات موجودة في الشيء يوجد بها على ما هو عليه ولا يعدم منه إلا بفساده وسقوط ذلك الاسم عنه
ودليل الخطاب هو ضد القياس وهو أن يحكم للمسكوت عنه بخلاف حكم المنصوص عليه
والشريعة هي ما شرعه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم في الديانة وعلى ألسنة الأنبياء عليهم السلام قبله والحكم منها للناسخ وأصلها في اللغة الموضع الذي يتمكن فيه ورود الماء للراكب والشارب من النهر قال تعالى { شرع لكم من لدين ما وصى به نوحا ولذي أوحينآ إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا لدين ولا تتفرقوا فيه كبر على لمشركين ما تدعوهم إليه لله يجتبي إليه من يشآء ويهدي إليه من ينيب } وقال امرؤ القيس ولما رأت أن الشريعة همها وأن البياض من فرائصها دامي تيممت العين التي عند ضارج يفيء عليها الظل عرمضها طامي واللغة ألفاظ يعبر بها عن المسميات وعن المعاني المراد إفهامها ولكل أمة لغتهم
قال الله عز و جل { ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وهو لعزيز لحكيم } } ولا خلاف في أنه تعالى أراد اللغات
واللفظ هو كل ما حرك به اللسان
قال تعالى { إذ يتلقى لمتلقيان عن ليمين وعن لشمال قعيد } وحده على الحقيقة أنه هواء مندفع من الشفتين والأضراس والحنك والحلق والرئة على تأليف محدود وهذا أيضا هو الكلام نفسه (1/46)
والخلاف هو التنازع في أي شيء كان وهو أن يأخذ الإنسان في مسالك من القول أو العقل ويأخذ غيره في مسلك آخر وهو حرام في الديانة إذ لا يحل خلاف ما أثبته الله تعالى فيها وقال تعالى { وأطيعوا لله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وصبروا إن لله مع لصابرين } وقال تعالى { أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا } وهو التفريق أيضا قال تعالى { ولا تكونوا كلذين تفرقوا وختلفوا من بعد ما جآءهم لبينات وأولئك لهم عذاب عظيم }
والإجماع هو في اللغة ما اتفق عليه اثنان فصاعدا وهو الاتفاق وهو حينئذ مضاف إلى ما أجمع عليه وأما الإجماع الذي تقوم به الحجة في الشريعة فهو ما اتفق أن جميع الصحابة رضي الله عنهم قالوه ودانوا به عن نبيهم صلى الله عليه و سلم وليس الاجماع في الدين شيئا غير هذا وأما ما لم يكن إجماعا في الشريعة فهو ما اختلفوا فيه باجتهادهم أو سكت بعضهم ولو واحد منهم في الكلام فيه
والسنة هي الشريعة نفسها وهي في أصل اللغة وجه الشيء وظاهره قال الشاعر تريك سنة وجه غير مقرفة ما ساء ليس بها خال ولا ندب وأقسام السنة في الشريعة فرض أو ندب أو إباحة أو كراهة أو تحريم كل ذلك قد سنه رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الله عز و جل
والبدعة كل ما قيل أو فعل مما ليس له أصل فيما نسب إليه صلى الله عليه و سلم وهو في الدين كل ما لم يأت في القرآن ولا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا أن منها ما يؤجر عليه صاحبه ويغدر بما قصد إليه من الخير ومنها ما يؤجر عليه صاحبه ويكون حسنا وهو ما كان أصله الإباحة كما روي عن عمر رضي الله عنه نعمت البدعة هذه وهو ما كان فعل خير جاء النص بعموم استحبابه وإن لم يقرر عمله في النص
ومنها ما يكون مذموما ولا يعذر صاحبه وهو ما قامت به الحجة على فساده فتمادى عليه القائل به (1/47)
والكتابة لفظ يقام مقام الاسم كالضمائر المعهودة في اللغات وكالتعريض بما يفهم منه المراد وإن لم يصرح بالاسم ومنه قيل للكنية كنية
والإشارة تكون باللفظ وتكون ببعض الجوارح وهي تنبيه المشار إليه أو تنبيه عليه
والمجاز هو في اللغة ما سلك عليه من مكان إلى مكان وهو الطريق الموصل بين الأماكن ثم استعمل فيما نقل عن موضعه في اللغة إلى معنى آخر ولا يعلم ذلك إلا من دليل من اتفاق أو مشاهدة
وهو في الدين كل ما نقله الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه و سلم عن موضعه في اللغة إلى مسمى آخر ومعنى ثان ولا يقبل من أحد في شيء من النصوص أنه مجاز إلا ببرهان يأتي به من نص آخر أو جماع متيقن أو ضرورة حس وهو حينئذ حقيقيا لأن التسمية لله عز و جل فإذا سمى تعالى شيئا ما باسم ما فهو اسم ذلك الشيء على الحقيقة في ذلك المكان وليس ذلك في الدين لغير الله تعالى قال عز و جل { إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل لله بها من سلطان إن يتبعون إلا لظن وما تهوى لأنفس ولقد جآءهم من ربهم لهدى }
والتشبيه هو أن يشبه شيء بشيء في بعض صفاته وهذا لا يوجب في الدين حكما أصلا وهو أصل القياس وهو باطل لأن كل ما في العالم فمشبه بعضه لبعض ولا بد من وجه أو من وجوه ومخالف أيضا بعضه لبعض ولا بد من وجه أو من وجوه وهو أيضا التمثيل
والمتشابه لا يوجد في شيء من الشرائع إلا بالإضافة إلى من جهل دون من علم وهو في القرآن وهو الذي نهينا عن اتباع تأويله وعن طلبه وأمرنا بالإيمان به جملة وليس هو في القرآن إلا للأقسام التي في السورة كقوله تعالى { ولضحى ولليل إذا سجى } والحروف المقطعة التي في أوائل السور وكل ما عدا هذا من القرآن فهو محكم (1/48)
والمفصل هو ما بينت أقسامه وهو في أصل اللغة ما فرق بعضه عن بعض تقول فصلت الثوب واللحم وغير ذلك
والاستنباط إخراج الشيء المعيب من شيء آخر كان فيه وهو في الدين إن كان منصوصا على جملة معناه فهو حق وإن كان غير منصوص على جملة معناه فهو باطل لا يحل القول به
والحكم هو إمضاء قضية في شيء ما وهو في الدين تحريم أو إيجاب أو إباحة مطلقة أو بكراهة أو باختيار
والإيمان أصله في اللغة التصديق باللسان والقلب معا لا بأحدهما دون الثاني وهو في الدين التصديق بالقلب بكل ما أمر الله تعالى به على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم والنطق بذلك باللسان ولا بد من استعمال الجوارح في جميع الطاعات واجبها وندبها واجتناب محرمها ومكروهها برهان ذلك أن جميع أهل الإيمان مكذوب بأشياء منها أن يكون لله تعالى ولد وأن يكون مسيلمة نبيا وغير ذلك كثير ومصدقون بأشياء كثيرة وقد أطلق الله تعالى وأطلق جميعهم بعضهم على بعض اسم الإيمان مطلقا دون إضافة ولا خلاف بين أحد من الأمة في أنه لا يجوز أن يطلق اسم التكذيب عليهم إلا بإضافة والكفار مؤمنون بأشياء كثيرة ولا خلاف بين أحد من الأمة في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الإيمان مطلقا إلا بالإضافة فصح أن اسم الإيمان منقول عن موضوعه في اللغة إلى ما ذكرناه
والكفر أصله في اللغة التغطية قال عز و جل { علموا أنما لحياة لدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في لأموال ولأولاد كمثل غيث أعجب لكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي لآخرة عذاب شديد ومغفرة من لله ورضوان وما لحياة لدنيآ إلا متاع لغرور } قال لبيد بن أبي ربيعة ألقت ذكاء يمينها في كافر يريد الليل لأنه يغطي على كل شيء وهو في الدين صفة من جحد شيئا مما افترض الله تعالى الإيمان به بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه بقلبه دون لسانه أو بلسانه دون قلبه أو بهما معا أو عمل جاء النص بأنه مخرج له بذلك عن اسم الإيمان على (1/49)
ما بينا في غير هذا الكتاب برهان ذلك أن جميع من يطلق عليه اسم الكفر فإنه مصدق بأشياء مكذب بأشياء ولا خلاف في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الإيمان بلا إضافة وأهل الإيمان كفار بأشياء كثيرة منها التثليث وغير ذلك ولا خلاف في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الكفر بلا إضافة
والشرك هو في اللغة أن يجمع شيئا إلى شيء فيشرك بينهما فيما جمعا فيه وهو في الدين معنى الكفر سواء لما قد بيناه في غير هذا المكان والتسمية لله تعالى لا لغيره
والإلزام هو أن نحكم على الإنسان بحكم ما فإما واجب أو غير واجب
والعقل هو استعمال الطاعات والفضائل وهو غير التمييز لأنه استعمال ما ميز الإنسان فضله فكل عاقل مميز وليس كل مميز عاقلا وهو في اللغة المنع تقول عقلت البعير أعقله عقلا
وأهل الزمان يستعملونه فيما وافق أهواءهم في سيرهم وزيهم والحق هو في قول الله تعالى { وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن لله ويجعل لرجس على لذين لا يعقلون } يريد الذين يعصونه وأما فقد التمييز فهو الجهل أو الجنون على حسب ما قابل اللفظ من ذلك
والفور هو استعمال الشيء بلا مهلة ولكن على أثر ورود الأمر به
والتراخي تأخير إنفاذ الواجب وحكم أوامر الله عز و جل ورسوله صلى الله عليه و سلم كلها على الفور إلا أن يأتي نص بإباحة التراخي في شيء ما فيوقف عنده
والاحتياط هو التورع نفسه وهو اجتناب ما يتقي المرء أن يكون غير جائز وإن لم يصح تحريمه عنده أو اتقاء ما غيره خسر منه عند ذلك المحتاط وليس الاحتياط واجبا في الدين ولكنه حسن ولا يحل أن يقضى به على أحد ولا أن يلزم أحدا لكن يندب إليه لأن الله تعالى لم يوجب الحكم به
والورع هو الاحتياط نفسه (1/50)
فصل في معاني حروف تتكرر في النصوص
واو العطف لاشتراك الثاني مع الأول إما في حكمه وإما في الخبر عنه على حسب رتبة الكلام فإن كان الثاني جملة فهو اشتراك في الخبر فقط وإن كان اسما مفردا فهو مشترك في حكم الأول وهي لا تعطي رتبة أي أنها لا توجب أن الأول قبل الثاني ولا أنه بعده بل ممكن فيهما أن يكونا معا أو أن يكون أحدهما قبل الآخر بمهلة بلا مهلة كقولك جاءني زيد وعمرو فجائز أن يأتيا معا وجائز أن يأتي زيد قبل عمرو وعمرو قبل زيد بساعة وبعام وبأقل وبأكثر
والفاء تعطي رتبة الثاني بعد الأول بلا مهلة كقولك جاءني زيد فعمرو فزيد جاء قبل عمرو ولا بد وأتى عمرو أثره بلا مهلة
وثم توجب أن الثاني بعد الأول بمهلة
وواو القسم ليست واو عطف لأنها قد يبدأ بها أول الكلام ولا يبتدأ بواو العطف
وأو للشك وللتخيير مثل قولك خذ هذا أو هذا فإنما ملكت أخذ أحدهما وفي الشك قولك جاءني زيد أو عمرو فلم تقطع بمجيء أحدهما بعينه لكن حققت أن أحدهما أتاك ولم تعينه
ومعنى الباء الاتصال مثل قولك مررت بزيد تريد اتصال مرورك به ولا توجب تبعيضا ولا استيفاء
ومن معناها ابتداء أو تبعيض
وإلى معناها الانتهاء أو مع وهذا يكثر جدا ولهذا قلنا إنه لا بد للفقيه أن يكون نحويا لغويا وإلا فهو ناقص ولا يحل له أن يفتي لجهله بمعاني الأسماء وبعده عن فهم الأخبار (1/51)
الباب السادس
هل الأشياء في العقل قبل ورود الشرع على الحظر أو على الإباحة قال أبو محمد قال قوم الأشياء كلها في العقل قبل ورود الشرع على الحظر
وقال آخرون بل هي على الإباحة وقال آخرون بل هي على الحظر حاشا الحركة النقلية من مكان إلى مكان وشكر المنعم فقط
وقال آخرون بل هي على الإباحة حاشا الكفر والظلم وجحد المنعم وقال آخرون وهم جميع أهل الظاهر وطوائف من أهل أصحاب القياس ليس لها حكم في العقل أصلا لا بحظر ولا بإباحة وإن كل ذلك موقوف على ما ترد به الشريعة
قال أبو محمد وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره واحتج من قال بحظرها بأن قال الأشياء كلها ملك لله عز و جل ولا يجوز أن يقدم على ملك مالك إلا بإذنه
قال أبو محمد وهذا تمويه ساقط لأنه لم يحرم الإقدام على مالك غيرنا بنفس العقل وإنما حرم ما حرم من ذلك ورود الشرع بتحريمه ولو كان تحريم الإقدام على ملك المالك مركبا في ضرورة العقل لما جاز أن يأتي شرع بخلافه كما لا يجوز أن يأتي بشرع فإن الكل أقل من الجزء وأن القصير أطول مما هو أطول منه لأن كل شيء رتب الله تعالى في العقل إدراكه على صفة ما بخلاف ما قد رتبه تعالى ممتنعا ومحالا ورتب الاخبار به كذبا وإفكا وأخبرنا تعالى أن قوله الحق ولا سبيل أن يرد الشرع بمحال ولا بكذب
ومن أجاز ذلك خرج عن الإسلام
وقد وجدنا المالك فيما بيننا لملكه قد أمرنا تعالى بأخذه منه كرها فيما لزمه من نفقة زوجه التي هي لعلها أغنى منه وأقدر على المال وفي أشياء كثيرة من أروش ما أتلف بخطأ أو بغير قصد وبقصد
ووجدناه تعالى قد أجاز ما أنفذه أهل دار الحرب في أموالهم وملكهم إياها بقوله تعالى { وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان لله على كل شيء قديرا } وأجاز كل ما أنفذوه فيها من هبة وبيع ثم أطلقنا على أخذها منهم اختلاسا وغلبة وعلى كل وجه (1/52)
فإن قالوا كفرهم أباح أموالهم قيل لهم نحن نوجدكم الذمي كافرا لا يحل أخذ شيء من ماله حاشا الجزية التي لا تكاد تتجزأ من ماله وكلاهما كفره واحد فأين ما ادعته هذه الطائفة المغفلة من أن الإقدام على ملك مالك بغير إذنه حرام محرم في العقل
فإن قال قائل منهم تلك الأموال هي ملك الله عز و جل قيل له إنما حرمت أنت ملك الله تعالى قياسا على الشاهد بيننا من قبح التعدي على ملك مالك بزعمك فلا تعد إلى ما جعلته أصلا فتبطله
ويقال له أيضا وأنفسنا ملك لله عز و جل وفي منعها الأقوات والتناسل إبطال للنوع الإنساني وفي ذلك إبطال ملك لله عز و جل كثير وإتلاف مملوكات له كثيرة وهذا فسخ لأصلك فيكون الإتلاف على قولك حاظرا مبيحا في حالة واحدة وهذا لا يعقل
ويقال لمن قال بإباحتها واحتج بأن في مدخل الطعام ومخرجه عبرة ودليلا على قدرة الله عز و جل اطرد علتك وقل وفي فسقك بالذكور وبالنساء عبرة ودليل على قدرة الله عز و جل في مداخلة الأعضاء بعضها في بعض وفي تخلق الولد وولادته أعظم عبرة وأدل دليلا على قدرة الله عز و جل وكذلك في قتل النفس وسيلان الدم بعد منع الجلد له من السيلان وفي خروج النفس وانقطاع الحركة والحس أعظم عبرة وأدل دليلا على القدرة فأبح قتل النفس على هذا وقل إنه حسن في العقول بل واجب ومن قرأ كتب التشريح للأطباء علم أن في ذلك أعظم عبرة فليقل إن قتل الأنفس مباح في العقل
واحتج المبيحون أيضا بأن قالوا لا بد من فعل أو ترك أو حركة أو سكون فإن منعتموه الكل أوجبتم المحال والممتنع
قال أبو محمد وهذا إنما يخاطب به من قال بالحظر وأما نحن فلسنا نقول إن في العقل إباحة شيء ولا حظره وإنما فيه تمييز الموجودات على ما هي عليه وفهم الخطاب فقط
وبالجملة فكل شيء يعارض به القائلون بالإباحة أو الحظر فهي دعاوى مجردة واحتج بعض القائلين بالإباحة بقوله تعالى { من هتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } (1/53)
قال أبو محمد ولا حجة لهم في هذا لأننا لم نقل إنه تعالى يعذب من لم يبعث إليه رسولا فيعارضون بهذا وليست هذه الآية من مسألتنا في الإباحة والحظر في ورد ولا صدر لأن الأشياء لو ورد الحظر فيها بنص جلي إلا أنه لم يأت وعيد على مرتكبها لم يجز لأحد أن يقول إن الله تعالى يعذب من خالف أمره وليس في كون المرء عاصيا أو كافرا ما يوجب أنه يعذب ولا بد وإنما علمنا وجوب العذاب من طريق القرآن والخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم فقط ولولا ذلك ما علمناه
برهان ذلك أن الكفار الطغاة قد وجدناهم في هذا العالم يعمرون مدة أعمارهم غير معذبين لا بل في نعمة وملك وغلبة وكرامة ولا فرق بين جواز ذلك خمسين عاما وستين وسبعين وثمانين وبين تماديه هكذا أبدا وقتا بعد وقت ولا فرق بين جواز ذلك في الوقت الأول وبين جوازه في الوقت الثاني وليست هنا حال حدثت لهم إلا أن الله تعالى أراد أن يعذبهم في الآخرة ولو شاء أن يستمر نعيمهم لفعل ولكن ورد النص بالتعذيب قلنا به وقال بعض القائلين بالإباحة محال أن يخلق الله تعالى فينا الشهوات المقتضية لما تقتضيه ثم يحظر علينا ما خلق لنا
قال علي هذه مكابرة العيان وليست هذه هي حجة مسلم لأن الله عز و جل وقد فعل ما أنكروا وخلق فينا شهوات تقتضي إتيان الفواحش في كل امرأة جميلة نراها أو في حسان الغلمان وشرب الخمور في البساتين وأخذ كل شيء استحسنته النفوس والراحة وترك التعرض لسيوف أهل الشرك والنوم عن الصلوات في الهواجر الحارة والغدوات القارة ثم حرم علينا ذلك كله
فإن قال قائل فإن الله تعالى قد عوض من ذلك أشياء أباحها وعوض على ترك ما حرم ما هو خير وهو الجنة قلنا له وبالله تعالى التوفيق لقد كان تعالى قادرا أن يجمع الأمرين لنا معا ولقد كان يكون ذلك أقل لتعبنا وألذ لنفوسنا وأروح لأجسامنا وأتم لسرورنا ولكنه تعالى لم يرد إلا ما ترى لا معقب لحكمه
وبيان ذلك أنه قد نعم قوما في الدنيا والآخرة كداود وسليمان عليهما السلام وأعطاهما اللذات العظيمة والملك السنيع والنبوة مع ذلك
وسلط على أيوب وهو (1/54)
نبي مثلهما من البلايا ما لا قبل لأحد به دون ذنب سلف منه ولا إحسان سلف من سليمان وداود على جميعهم الصلاة والسلام وسلط محمدا صلى الله عليه و سلم على جميع أعدائه وعصمه منهم ومنحه النصر عليهم وسلط على أنبياء أخر أعداءهم فقتلوهم بأنواع المثل وكلهم مع ذلك من مسعود مسلط على عدوه في الدنيا ومحروم مسلط عليه عدوه فيها وكلهم مجتمعون في الجنة متنعمون فيها وفعل بنا ذلك أيضا فمن محسن منعم ومن محسن مشقي وقد نعم أيضا عز و جل ملوكا من الكفار في الدنيا وأصحبهم النصر والتأييد إلى أن قبض أرواحهم إلى النار وهم أطغى خلق الله وأكفره وأشد تسلطا على الفواحش
وحرم آخرين من الكفار فقتلهم بالفاقة والجوع والعري والقمل والمساءلة من باب إلى باب مع العاهات العظيمة والبلايا الشنيعة والأمراض المؤلمة ثم جعل مجتمعهم في جهنم مع منعهم في الدنيا ومنحوس فيها فأي عقل ترتبت فيه هذه الرتبة أو المنع منها ما يحس شيئا من ذلك في عقله إلا ناقص العقل ينبغي له أن يتهم حسه في ذلك
ونسأل من جعل العقل مرتبا في حظر أو إباحة قبل ورود الشرع فنقول له ما تقول في راهب في صومعة مريد لله عز و جل بقلبه كله موحد لله تعالى لا يدع خيرا إلا فعله ولا شرا إلا اجتنبه إلا أنه كان في جزائر الشاشيين في أقصى الدنيا يسمع قط ذكر محمد صلى الله عليه و سلم من جميع أهل ناحيته إلا متبعا بالكذب وبأقبح الصفات ومات على ذلك وهو شاك في نبوته صلى الله عليه و سلم أو مكذب لها أليس مصيره إلى النار خالدا مخلدا أبدا بلا نهاية فإن شك أحد في ذلك فهو كافر بإجماع الأمة
ثم نقول ما تقول في يهودي أو نصراني لم يدع قتل مسلم قدر عليه إلا قتله أو أنفذه ولم يبق شيئا من الفواحش إلا ارتكبه من الزنى وفعل قوم لوط عليه السلام وفعل كل بلية ثم إنه أيقن بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم وآمن وبرىء من كل دين إلا دين الإسلام وأقر بذلك بلسانه ومات أثر ذلك أليس من أهل الجنة بلا خلاف من أحد من الأمة فإن شك في ذلك فقد كفر
ففي أي موجب للعقل وجد إثبات هذا أو وجد إبطاله وما الذي أوجب في العقل أن يخص محمدا صلى الله عليه و سلم وسائر الأنبياء بهذه الفضائل وقد كان عليه السلام بين أظهر الناس أربعين سنة لم يحبه تعالى بهذه الفضيلة فأي عقل أوجب منعه من ذلك قبل أن يؤتاها أو أوجب أن يحبى بها إذ حبي بها هل هي إلا (1/55)
أفعال الله تعالى واختياره وكل هذا يبطل أن يكون للعقل محال في حظر أو إباحة أو تحسين أو تقبيح وأن كل ذلك منتظر فيه ما ورد من الله تعالى في وحيه فقط نسأل الله الهدى والعافية في الدنيا والآخرة بمنه آمين
وقال بعض المتكلفين من القائلين بالإباحة كل من اضطره الله إلى شيء فقد أباحه له
قال أبو محمد علي وهذا قول امرىء لم يتدرب في العلم وقد أخطأ في هذه القضية لأن الضرورة فعل الله تعالى والجائع مضطر إلى الجوع والمريض مضطر إلى المرض وقد قال تعالى في أهل النار { وإذ قال إبراهيم رب جعل هذا بلدا آمنا ورزق أهله من لثمرات من آمن منهم بلله وليوم لآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب لنار وبئس لمصير } أفيسوغ لذي عقل أن يقول إن الله تعالى أباح للجائع الجوع وللمريض المرض ولأهل جهنم الكون في جهنم وإنما يقول هذا من لا يعرف الأسماء ولا المسميات ولا حقيقة عبارة الألفاظ عن المعاني
فإن قال قائل فإن الشريعة تبطل حكم ما في العقول واحتج بأنه قد حسن في العقول الانقياد للأمر المنسوخ قبل أن ينسخ ثم أتى النسخ فقبح في العقل ما كان فيه حسنا
قيل له هذا شغب فاسد ولم نكرر أن الشريعة لا تحسن إلا ما حسنت العقول ولا تقبح ما قبحت بل هو قولنا نفسه وإنما أنكرنا أن يكون العقل رتبة في تحريم شيء أو تحليله أو تحسينه أو تقبيحه وأما إذا وردت الشريعة بالنهي عن شيء أو إباحته فواجب في العقول الانقياد لذلك والانقياد لمنع ما أبيح أو إباحة ما منع إن جاء أمر بخلاف الأمر المتقدم فلم يحدث في العقول شيء لم يكن ولا غير النسخ شيئا مما كان فيها من وجوب الانقياد لما وردت به الشريعة وقد قال بعض القائلين بالحظر إن معنى قوله عز و جل { هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم } إنما معنى هذا ليعتبر به
قال أبو محمد وهذا تحكم لا يشبه إلا تحكم الصبيان
ومن استجاز مثل هذا من نقل الألفاظ عن مراتبها في اللغة فلا ينكر على غلاة الروافض قولهم إن معنى (1/56)
الصلاة الدعاء لا الركوع والسجود معنى الزكاة طهارة الأنفس ومعنى الحج القصد إلى الإمام ومن سلك هذه الطريقة أبطل الديانة وأدى إلى إبطال جميع التفاهم ولم يكن في الدنيا كلام إلا واحتمل أن يقول فيه قائل إنه مقصود به غير ما يقتضيه لفظه وهذا هو إبطال الحقائق وساغ للعيسوية من اليهود أن يقولوا إن معنى قول رسول الله صلى الله عليه و سلم لا نبي بعدي أي من العرب فقط وساغ للمعتزلة أن تقول وخلق كل شيء أي الأجسام وأعراضها حاشا الحركات وساغ للحشوية أي تقول بل خلق كل شيء حاشا الروح والإيمان والكلام المسموع من القراء وساغ للمنانية أن يقولوا خلق كل شيء من الخير فقط وهذا كلام ومذهب يفسد الدين ويبطل حقيقة العقل
وقد علمنا ضرورة أن الألفاظ إنما وضعت ليعبر بها عما تقتضيه في اللغة وليعبر بكل لفظة عن المعنى الذي علقت عليه فمن أحالها فقد قصد إبطال الحقائق جملة وهذا غاية الإفساد وبالله تعالى التوفيق
قال علي ثم نبطل كلا المذهبين معا بحول الله وقوته
قال الله تعالى { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم لكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على لله لكذب إن لذين يفترون على لله لكذب لا يفلحون } وقال تعالى { قل أرأيتم مآ أنزل لله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على لله تفترون }
قال علي ففي هاتين الآيتين نص واضح على تحريم القول في شيء من كل ما في العالم أنه حرام أو أنه حلال فبطل بذلك قول من قال إن الأشياء قبل ورود الشرع على الحظر أو على الإباحة وصح أن من قال شيئا من من ذلك بغير إذن من الله تعالى فهو مفتر على الله عز و جل وأما إذا ورد الشرع بأي شيء ورد من إباحة الكل أو حظر الكل أو حظر البعض أو إباحة البعض فواجب القوم بكل ما ورد من ذلك وقال تعالى { ألم تر أن لله يعلم ما في لسماوات وما في لأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم لقيامة إن لله بكل شيء عليم } والسدي المهمل الذي لا يؤمر ولا ينهى فصح بهذه الآية أن الناس لم يبقوا قط هملا دون ورود شرع فبطل قول من قال إن العقول تعرف وقتا من الدهر من شرع وإذ قد بطل هذا القول فقد بطل أن يكون الشيء في العقل قبل وورد الشرع له حكم في العقل بحظر أو إباحة (1/57)
فصار قولهم محالا ممتنعا مع كونه حراما أيضا لو كان ممكنا وقال تعالى { إنآ أرسلناك بلحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } فبطل هذا أن تكون أمة وقتا من الدهر لم يتقدم فيهم نذير وقد كان آدم عليه السلام رسولا في الأرض وقال تعالى له إذ أنزله إلى الأرض { فأزلهما لشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا هبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في لأرض مستقر ومتاع إلى حين } فأباح تعالى الأشياء بقوله إنها متاع لنا ثم حظر ما شاء وكل ذلك بشرع وكذلك إذ خلقه في الجنة لم يتركه وقتا من الدهر دون شرع بل قد قال تعالى { وقلنا ياآدم سكن أنت وزوجك لجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه لشجرة فتكونا من لظالمين } فلم يخل قط وقت من الزمان عن أمر أو نهي
قال علي ويقال لهم أيضا لو جاز أن نبقى دون شرع لكان حكمنا كحكمنا قبل أن نحتلم فإن الأمور حينئذ لا حكم لها علينا لا بحظر ولا إباحة ولا فرق بين كونهما كذلك قبل البلوغ بنصف ساعة وبين كونهما كذلك بعد البلوغ وكلا الأمرين في العقول سواء
وما في العقل إيجاب الشرع على من احتلم وسقوطه عمن لم يحتلم
وليس بين الأمرين إلا نومة لطيفة فبطل بهذا ما ادعوه من أن العقول فيها حظر شيء أو إباحته قبل ورود الشرع وموافاة الخطاب من الله عز و جل ولو كان كذلك للزم غير المحتلم كلزومه المحتلم إذ موجب العقل لا يختلف
قال علي ويقال لمن قال لكل شيء مباح في العقل إلا الفكر أليس إقرار المرء بلسانه بالتثليث غير متبع له إنكارا
كفرا من قائله فإن قال لا
كفر وإن قال نعم
قيل له صدقت وقد أباح الله تعالى الإعلان به دون اتباع أفكار لمن اضطر وخاف الأذى
وقد أباح الله تعالى عند خوف القتل الكفر الصحيح الذي هو كفر في غير تلك الحال ولسنا نسألهم عن الكفر الذي هو العقد إنما نسألهم عن الكفر الذي هو النطق به فقط لأن بعضهم قال لم يبح الله تعالى قط الكفر لأن الكفر الذي هو العقد ولا خلاف بين من يعتد به في النطق بالكفر دون اتباع بإنكار ولا حكاية كفر صحيح فعن هذا الكفر سألناهم وهم يقرون بأن امرأ لو قال بلسانه أنا كافر بالإسلام مقر بالتثليث إن هذا كفر وإنه مرتد وهذا بعينه الذي أبيح عند (1/58)
الإكراه فقد جاءت إباحة الكفر نصا وحسن ذلك في عقولهم وبطل قولهم والذي نقول به إن الله تعالى لو أباح الكفر الذي هو العقد لكان حسنا مباحا وأنه إنما حظر بالشرع فقط وبالله تعالى التوفيق ويقال لمن قال إن كفر المنعم محظور بالعقل
ما تقول في كافر ربى إنسانا وأحسن إليه ثم لقيه في حرب أيقتله أم لا فإن قالوا لا
خالفوا الإجماع وإن قالوا نعم
نقضوا قولهم في أن كفر المنعم محظور بالعقل فإن قالوا إن قتله شكر له كابر وإن أقروا بأن قتله الذي هو سبب مصيره إلى الخلود في النار شكر له وإحسان إليه وهذا ضد ما ميزه العقل وبالله تعالى التوفيق
فصل فيمن لم يبلغه الأمر من الشريعة
قال علي بن أحمد اختلف الناس فيمن لم يبلغه الحكم الوارد من الله تعالى في الشريعة في خاص منها أو في جميعها فقالت طائفة كل أحد مأمور منهي ساعة ورود الأمر والنهي إلا أنه معفو عنه غير مؤاخذ بما لم يبلغه من الأمر والنهي وقالت طائفة إن الله تعالى لم يأمر قط بشيء من الدين إلا بعد بلوغ الأمر إلى المأمور وكذلك النهي ولا فرق وأما قبل انتهاء الأمر أو النهي إليه فإنه غير مأمور ولا منهي
قال علي وبهذا نقول لقول الله عز و جل { قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون } صلى الله عليه و سلم { لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين } ولإخبار رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه لا يسمع به يهودي أو نصراني فلم يؤمن به إلا وجبت له النار
حدثنا أحمد بن محمد بن عبدالله الطلمنكي ثنا ابن مفرج ثنا محمد بن أيوب الرقي أنبا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ثنا محمد بن المثنى ثنا معاذ بن هشام الدستوائي ثنا أبو علي قتادة عن الأسود بن سريع عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يعرض على الله تبارك وتعالى الأصم الذي لا يسمع شيئا والأحمق والهرم ورجل مات في الفترة فيقول الأصم رب جاء الإسلام وما أسمع شيئا ويقول الأحمق رب جاء الإسلام وما أعقل شيئا (1/59)
ويقول الذي مات في الفترة رب ما أتاني لك من رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل الله تعالى إليهم ادخلوا النار فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما
وبه إلى قتادة عن الحسن البصري عن أبي رافع عن أبي هريرة بمثله وزاد في آخره ومن لم يدخلها دخل النار
فصح كما أوردنا أنه لا نذارة إلا بعد بلوغ الشريعة إلى المنذر وأنه لا يكلف أحد ما ليس في وسعه وليس في وسع أحد علم الغيب في أن يعرف شريعة قبل أن تبلغ إليه فصح يقينا أن من لم تبلغه الشريعة لم يكلفها
واحتجت الطائفة الأخرى بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر فسماه عليه السلام مخطئا ولا يكون المخطىء إلا من خالف ما أمر به
قال أبو محمد وهذا الخبر لا حجة لهم فيه بل هو حجة لنا وبه نقول لأنه قد يكون مخطئا من لا يوافق الحق وإن لم يكن مأمورا بالعمل به كإنسان سمى آخر بغير اسمه غير عامد فهذا مخطىء ولا أمر يلزمه ها هنا وكمن أنشد بيت شعر فوهم فيه فهو مخطىء بلا شك وهذا المجتهد مخطىء بلا شك إذا حكم بخلاف ما ورد به الحكم من عند الله عز و جل وأدخل في الدين ما ليس منه وإن كان غير مأمور بالحكم بما لم يبلغه فإنه منهي عن الحكم بما ظن أنه حق وهو غير حق وأما إذا بلغه فإنه مأمور به وإن نسيه لأنه قد بلغه ولزمه
فإن قال قائل لو كان ما قلتم لكان الدين لازما لبعض الناس لا لكلهم قلنا وبالله التوفيق ليس كذلك بل الدين لازم للجن والإنس إذا بلغهم نعم ولكل من لم يخلق بعد إذا خلق وبلغه وبلغ حد التكليف لا قبل ذلك وأنتم لا تخالفوننا في الشريعة أنها لا تلزم من لم يخلق قبل أن يخلق ولا من لم يبلغ قبل أن يبلغ
فإن قالوا فكيف حال من لم يبلغه الأمر أهو مأمور بما هو عليه من خلاف ما أمره الله تعالى به مما لم يبلغه ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن قلتم هو مأمور بما أمره الله تعالى به وإن لم يبلغه فهو قولنا وإن قلتم هو غير مأمور بما أمره الله تعالى به أو أنه مأمور بما هو عليه من خلاف ما أمر الله تعالى به كان ذلك شغبا بشيعا
قلنا وبالله التوفيق لسنا نقول بواحد من هذين الجوابين لكنا نقول هو غير مأمور (1/60)
في ذلك بشيء أصلا حتى يبلغه وحاله في ذلك كحال من لم يبلغ حد التكليف حتى يبلغ فإن قالوا فكيف حكمه إن خالف ما يرى أنه الحق عامدا فوافق بذلك ما أمر الله تعالى به قلنا لهم هذا السؤال لازم لكم ولنا
فأما نحن فنقول وبالله التوفيق إنه ليس في ذلك مطيعا ولا عاصيا لكنه مستسهل لمخافة الحق هام بترك الحق إلا أنه لم يفعل ذلك بعد
هذه صفته على الحقيقة إلا أنه لم يخالف بفعله ذلك حقا ولا واقع باطلا
قال علي أهل هذه الصفة ينقسمون ثلاثة أقسام فقسم شهدوا ورود الأمر من الله تعالى ثم نسخ ولم يشهدوا الناسخ وليس أحد من هؤلاء موجودا بعد موت رسول الله صلى الله عليه و سلم لأن النسخ بطل بعد موته عليه السلام واستقرت الشرائع
وقسم ثان علموا المنسوخ ولم يبلغهم الناسخ أو بلغهم المجمل ولم يبلغهم المخصص وقسم ثالث بلغهم الناسخ والمنسوخ والمجمل والخاص ثم نسوا الخاص والناسخ أو تأولوا فيهما تأويلا قاصدين إلى الحق
فإما من كان في عصر رسول الله صلى الله عليه و سلم فبلغه المنسوخ ولم يبلغه الناسخ فهؤلاء خاصة لا يسقط عنهم الأمر بالمنسوخ حتى يبلغ إليهم الناسخ لأنه قد لزمهم الذي بلغهم بيقين لا شك فيه ولا يسقط اليقين إلا بيقين
برهان هذا أنه قد صح وثبت عند جميع أهل العلم أن المسلمين كانوا بأرض الحبشة وبأقصى جزيرة العرب فنزل الأمر من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه و سلم ما لم يكن فيه قبل ذلك أمر كالصوم والزكاة وتحريم بعض ما لم يكن حراما كالحق وإمساك المشركات وغير ذلك
فلا شك في أنه لم يأثم أحد منهم بتماديه على ما لم يعلم نزول الحكم فيه
وكذلك كان ينزل الأمر مما تقدم فيه حكم بخلاف هذا النازل كتحويل القبلة عن بيت المقدس وغير ذلك فلا شك أيضا في أنهم لم يأثموا ببقائهم على العمل بالمنسوخ بل كان فرضا عليهم الصلاة كما أمروا وعرفوا حتى يبلغهم نسخه هذا ما لا يختلف فيه اثنان فصح قولنا والحمد لله يقينا لا مجال للشك فيه
وهكذا بقي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزيد من عشرة أعوام مقرين لليهود والنصارى والمجوس بجزيرة العرب إذ لم يبلغهما نهي النبي عليه السلام عن إقرارهم فيها فلم يختلف أحد في أنهما لم يعصيا بذلك بل فعلا ما أمرا به ولو قال قائل إن هذا (1/61)
إجماع صحيح متيقن لما بعد عن الصدق لأنه لم ينكر ذلك عليهما أحد من الصحابة وليس منهم أحد خفي عليه إقرارهما لهم قبل بلوغ النهي إليهما وبالله تعالى التوفيق
فإن قيل فهلا قلتم إنه سقط عنهم استقبال بيت المقدس ولم يؤمروا باستقبال الكعبة بقول الله تعالى { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر لمسجد لحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا لذين ظلموا منهم فلا تخشوهم وخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون } قلنا لا لما قد ذكرنا من أن الحكم لا يلزم حتى يبلغ وإنما خاطب الله بهذا الأمر من بلغه ومن لم يخلق إذا خلق وبلغه ولا دليل على سقوط ما قد ثبت عليهم من استقبال بيت المقدس إلا ببلوغ الأمر إليهم بتركه
قال علي ولو كانوا مأمورين باستقبال الكعبة حين نزول الأمر من قبل أن يبلغهم لكان من أقدم منهم فصلى إلى الكعبة عامدا قبل أن يبلغهم الأمر جائز الصلاة وهذا باطل وأما لو أن إنسانا اليوم خفيت عليه دلائل القبلة فاستدل فأداه استدلاله إلى جهة ما وقطع بذلك ثم تعمد الصلاة إلى خلاف تلك الجهة فلما سلم إذا به الى القبلة فإن صلاته باطلة وهو بذلك فاسق لأنه تعمد العمل في صلاته بما ليس عالما أنه أمر به فيها فقصد العمل بما يرى أنه ليس من صلاته فقد قصد إفساد صلاته فبطلت بذلك
قال أبو محمد وأما من كان بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يبلغه الناسخ ولا الخالص فإنه أيضا مأمور بما يعتقد من المنسوخ ومن عموم المخصوص لأن الله تعالى لم يكلفه قط خلاف ذلك بل افترض عليه خلافا لذلك طاعة أمره تعالى جملة والمنسوخ من أمره فلا شك فهو لازم لكل من بلغه بعموم الأمر المذكور حتى يبلغه نسخه وبالله تعالى التوفيق
ومن المحال الممتنع أن يكون الله تعالى يورد على عبده أمرا يأمره به ثم ينهاه عنه ولا يعلمه بنهيه عنه وهو تعالى قد تكفل لنا بالبيان قال عز و جل { لا إكراه في لدين قد تبين لرشد من لغي فمن يكفر بلطاغوت ويؤمن بلله فقد ستمسك بلعروة لوثقى لا نفصام لها ولله سميع عليم } فلو ورد أمر الله تعالى ثم نهاه عنه ولم يبلغه نهيه لكان ذلك إضلالا والتباسا ولكان الرشد غير مبين من الغي وحاشا لله من هنا يقينا (1/62)
وأما من بلغه الناسخ والخاص ثم نسيهما أو تأول فيهما بمبلغ طاقته فهو مأمور بما بلغه من ذلك لأنه منذ بلغه منهي عما هو عليه لأنه قد بلغه النهي إلا أنه معذور مأجور مرة مأجور بقصده الخير ومعذور بجهله ونسيانه فهذا حكم هذا الباب بالبرهان الصحيح وبالله تعالى التوفيق
فإن احتج محتج بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ فرضت الصلاة ليلة الإسراء وفيه قول موسى عليه السلام كم فرض الله على أمتك قال خمسين صلاة أو نحوها فأخبر النبيان عليهما السلام أن الله تعالى فرض علينا قبل أن يبلغنا خمسين صلاة قلنا إنما معنى هذا أنه متى بلغنا الأمر لزمنا وبرهان ذلك أن ذلك لا يلزم من لم يخلق حتى يخلق ولا من لم يبلغ حتى يبلغ ولا من لم يأت عليه وقت الصلاة حتى يأتي وقتها
هذا ما لا خلاف فيه
فصح أن الفرض المذكور إنما هو بعد الخلق وبعد البلوغ وبعد انتهاء الشرع إليه وبعد دخول الوقت وبهذا تتألف الأخبار كلها وبالله تعالى التوفيق
برهان ذلك أنه لم يعص قط أحد من المسلمين بتركه الخمسين صلاة ولو وجبت وتركها تارك لكان عاصيا لله تعالى فصح أنه يلزمنا إلا ما بلغنا من الدين وأما من بلغ إليه خبر غير صحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم وصححه له متأول أو جاهل أو فاسق لم يعلم هو بفسقه فهذا هو مبلغ فهو إن عمل بما بلغه من ذلك الباطل فمعذور بجهله لا إثم عليه لأنه لم يتجانف لإثم والأعمال بالنيات فهو مجتهد مأجور مرة في قصده بنيته إلى الخير وإلى طاعة الله ورسوله صلى الله عليه و سلم فلو خالف ما بلغه من ذلك فإنما عليه إثم المستسهل بخلاف الرسول صلى الله عليه و سلم إما بعلمه فقط فهو فاسق وإما بنيته فهو كافر وبالله تعالى التوفيق (1/63)
الباب السابع
في أصول الأحكام في الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي دليل أو لا قال علي قد ذكرنا فيما خلا من هذا الكتاب وفي غيره من كتبنا أنه لا طريق إلى العلم أصلا إلا من وجهين أحدهما ما أوجبته بديهة العقل وأوائل الحس والثاني مقدمات راجعة إلى بديهة العقل وأوائل الحس
وقد بينا كل ذلك في غير هذا المكان فأغنى عن ترداده وقد بينا أيضا أن بالمقدمات الصحاح الضرورية المذكورة علمنا صحة التوحيد وصحة نبوة محمد صلى الله عليه و سلم وصدقه في كل ما قال وأن القرآن الذي أتى به هو عهد الله تعالى إلينا فلما كان فيما ذكر لنا عن ربه تعالى وجوب أشياء ألزمناها اجتهاد هذا الإنسان لم يكلفه الله تعالى أكثر ما في وسعه والانتهاء عن أشياء منعنا منها ووعد بالنعيم الأبدي من أطاعه وبالعذاب الشديد من عصاه وتيقنا وجوب صدقه في ذلك لزمنا الانقياد لما أمرنا له بالانقياد له وتيقنا صحة كل ما ذكر لنا ضرورة ولا محيد للنفس عنها بما نقلته الكواف مما أظهر من المعجزات التي لا يقدر عليها إلا الخالق الأول تعالى والشاهد لنبيه صلى الله عليه و سلم بها على صحة ما أتى به عنه تعالى فوجب علينا تفهم القرآن والأخذ بما فيه فوجدنا فيه التنبيه على صحة ما كنا متوصلين به إلى معرفة الأشياء على ما هي عليه من مدارك العقل والحواس ولسنا نعني بذلك أننا نصحح بالقرآن شيئا كنا نشك فيه من صحة ما أدركه العقل والحواس ولو فعلنا ذلك لكنا مبطلين للحقائق ولسلكنا برهان الدور الذي لا يثبت به شيء أصلا
وذلك أننا كنا نسأل فيقال لنا بم عرفتم أن القرآن حق فلا بد أن نقول بمقدمات صحاح يشهد لها العقل والحس ثم يقال لنا بماذا عرفتم صحة العقل والحس المصححين لتلك المقدمات فكنا نقول بالقرآن فهذا استدلال فاسد مبطل للحقائق ولكنا قلنا إن في القرآن التنبيه لأهل الجهل والغفلة وحسم شغب أهل العناد وذلك أن قوما من أهل ملتنا يبطلون حجج العقول ويصححون حجج القرآن فأريناهم أن في القرآن إبطال قولهم وإفساد مذاهبهم وأن الله تعالى قد علم أن سيكون في العالم أمثالهم فأخبرنا بما يبطل به شغبهم ويزيل شكوكهم كما قال (1/64)
تعالى { وما من دآبة في لأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في لكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون } فمما أمرنا فيه تعالى باستعمال دلائل العقل والحواس قوله تعالى { ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم لسمع ولأبصار ولأفئدة قليلا ما تشكرون } وصدق الله تعالى ما شكره من إبطال دلائل سمعه وبصره وعقله وقال تعالى { ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه لنجدين }
وذم تعالى من لم يستعمل دلائلها فقال حاكيا عن قوم معذبين ولإعراضهم عن الاستدلال المؤدي الى معرفة الحقائق قال الله تعالى { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من لجن ولإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بهآ أولئك كلأنعام بل هم أضل أولئك هم لغافلون ولله لأسمآء لحسنى فدعوه بها وذروا لذين يلحدون في أسمآئه سيجزون ما كانوا يعملون } إلى قوله { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من لجن ولإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بهآ أولئك كلأنعام بل هم أضل أولئك هم لغافلون ولله لأسمآء لحسنى فدعوه بها وذروا لذين يلحدون في أسمآئه سيجزون ما كانوا يعملون } وقال تعالى حاكيا عن مثلهم { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب لسعير } فصدقهم الله عز و جل في قولهم ذلك فقال تعالى { فعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب لسعير } وقال تعالى { ولقد مكناهم فيمآ إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فمآ أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات لله وحاق به ما كانوا به يستهزئون } فذم تعالى من لم ينتفع بما أعطاه من الحواس والعقل
قال أبو محمد أترى هؤلاء المقرين على أنفسهم أنهم كانوا لا يسمعون ولا يعقلون ولو سمعوا أو عقلوا ما دخلوا النار أكانت صمخ آذانهم ذات آفات مانعة من تأدية الأصوات أو كانوا جاهلين بأمور دنياهم وأحكام حرثهم وغراستهم والقيام على مواشيهم ونفقات أموالهم وإنمائها وبنيان منازلهم وعمارة بساتينهم وتدبير متاجرهم وصناعاتهم وحفظ أموالهم وطلب الجاه والرياسة كلا والذي عذبهم (1/65)
وأخزاهم وذمهم بل كانوا أعلم بذلك كله وأشد اهتبالا به وأشغل نفوسا فيه وأبصر لنموه وتكثيره وحياطته من أهل الفضل المقتصرين من ذلك مما يضيع العيال والجسم بتركه أو ما جاءهم من ذلك على ما لا بد منه عفوا وكان غير شاغل لهم عما هو آكد عليهم المقبلين على طلب معرفة الحقائق والوقوف على العلم والعمل الموصلين إلى معرفة الآخرة والسعادة في دار البقاء في الجنة التي وعدها الله تعالى أولياءه والمبعدين من الهلاك والقرار في دار العذاب في النار التي وعدها الله عز و جل لأعدائه المشتغلين بذلك عما تهافت عليه أهل الجهل والنقصان
كما ثنا عبدالله بن يوسف بن نامي عن أحمد بن فتح عن عبدالوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وكلاهما عن أسود بن عامر قال ثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة وثابت البناني هشام عن أبيه عن عائشة وثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أنتم أعلم بأمر دنياكم في حديث قوله عليه السلام في تلقيح النخل فتركوه فخرج شيصا ولكن هؤلاء المعذبون أضربوا عن استعمال السمع والبصر واللمس والذوق الشم والعقل في الاستدلال على الخالق تعالى ولم يقرب منه من عقد وقول وعمل وصرفوا كل ذلك في حطام فان لا يجدي ولا يغني بل يثقل ويندم وبالله تعالى التوفيق
قال علي ووجدنا في القرآن إلزامنا الطاعة لما أمرنا به ربنا تعالى فيه ولما أمرنا نبيه صلى الله عليه و سلم مما نقله عنه الثقات أو جاء عنه بتواتر أجمع عليه جميع علماء المسلمين على نقله عنه عليه السلام فوجدناه تعالى قد ساوى بين هذه الجمل الثلاث في وجوب طاعتها علينا فنظرنا فيها فوجدنا منها جملا إذا اجتمعت قام منها حكم منصوص على معناه فكان ذلك كأنه وجه رابع إلا أنه غير خارج عن الأصول الثلاثة التي ذكرنا وذلك نحو قوله عليه السلام كل مسكر خمر وكل خمر حرام فأنتج ذلك كل مسكر حرام فهذا منصوص على معناه نصا جليا ضروريا
لأن المسكر هو الخمر والخمر هي المسكر والخمر حرام فالمسكر الذي هو هي حرام
ومثل قوله تعالى { يوصيكم لله في أولادكم للذكر مثل حظ لأنثيين فإن كن نسآء فوق ثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها لنصف ولأبويه لكل واحد منهما لسدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه لثلث فإن كان له إخوة فلأمه لسدس من بعد وصية يوصي بهآ أو دين آبآؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من لله إن لله كان عليما حكيما } وقد تيقنا بالفعل الذي به (1/66)
علمنا الأشياء على ما هي عليه أن كل معدود فهو ثلث وثلثان فإذا كان للأم الثلث فقط وهي والأب وارثان فقط فالثلثان للأب وهذا علم ضروري لا محيد عنه للعقل ووجدنا ذلك منصوصا على المعنى وإن لم ينص على اللفظ
ومثل إجماع المسلمين على أن الله تعالى حكم بأن دم زيد حرام لإسلامه ثم قال قائل قد حل دمه فقلنا قد تيقنا بالنص وجوب الطاعة للإجماع وقد صح نقل الإجماع على أن دمه حرام فلا يجوز لنا خلاف ذلك إلا بنص منقول بالثقات أو بتواتر أو بإجماع ناقل لنا
فهذا منصوص على معناه
ومثل أن يدعي زيد على عمرو بمال فنقول إن الله تعالى نص على إيجاب اليمين على عمرو لأن النص قد جاء بإيجاب اليمين على من ادعي عليه وعمرو مدعى عليه فقد أوجب النص اليمين على عمرو فلا سبيل إلى معرفة شيء من أحكام الديانة أصلا إلا من أحد هذه الوجوه الأربعة وهي كلها راجعة إلى النص والنص معلوم وجوبه ومفهوم معناه بالعقل على التدريج الذي ذكرناه
وقد ادعى قوم أن من الشرائع ما لا سبيل في القدرة إلى تغييره فأتوا بأمر عظيم وأدى قولهم هذا الفاسد إلى أن ربهم تعالى مضطر إلى الأمر بما أمر من ذلك فمن التزم منهم ما توجبه مقدمته الفاسدة كفر ومن جبن عن التزامه تناقض وقضى بفساد معتقده الذي هو ثابت عليه إلا أنهم استعظموا أن يطلقوا ما يوجبه مذهبهم فحسنوه بعبارة كنوا بها عنه فقالوا لا سبيل في العقل إلى تغييره
قال علي والعقل لا يوجب على الباري تعالى حكما بل الباري تعالى خالق العقل بعد أن لم يكن ومرتب له وفيه ما قد رتب مما لو شاء أن يخترعه ويرتبه على خلاف ذلك لفعل
وإنما العقل مفهم عن الله تعالى مراده ومميز للأشياء التي قد رتبها الباري تعالى على ما هي عليه فقط
فقال هؤلاء إن الكفر والظلم لا يتوهم جواز استباحته
قال علي ولا دليل على ما ذكروا بل قد كان ممكنا أن يأمرنا تعالى بالكفر به وبجحده وبعبادة الأوثان وبالظلم ولكنه تعالى قد أخبرنا أنه لا يفعل ذلك فعلمنا أن ذلك لا يكون أبدا ليس لأنه ممتنع منه عز و جل لو شاءه ولا أنه تعالى عاجز عن ذلك لو أراده ولكن لأنه لا يقول إلا الصدق وقد أخبرنا أن ذلك لا يكون وأنه (1/67)
لا يرضى لنا الكفر ولا يأمر أن نتخذ إلهين اثنين فلما أخبرنا بذلك منعنا من كونه كما منعنا أن يأتي رسول بعد محمد صلى الله عليه و سلم وكما منعنا من عمارة مكان قفر قد رأيناه غير معمور إلى وقتنا هذا ومن خلاء مدينة قد عهدناها معمورة إلى وقتنا هذا وقد كان في الممكن خلاء تلك المدائن وعمران هذا القفر ولكن الله تعالى لم يرد ذلك إلى الآن
فعلى هذا الوجه منعنا أن يأمر بالكفر به لا على أن العقل مانع من جواز ذلك لو شاءه عز و جل
قال علي وبرهان ذلك أننا واجدون بالمشاهدة أكثر أنواع الحيوان لم تتعبد بالإيمان بالله عز و جل ولا ركب فيها التمييز الذي لا يعرف الله عز و جل إلا به فلو شاء تعالى أن يجعل الإنسان غير مأمور لفعل
ولما كان هنالك شيء يمنعه من ذلك تعالى وجهه ولا يوجب عليه فعل ما فعل ولا بد وهؤلاء الصبيان الذين بلغوا الأربعة عشر عاما ولم يشعروا ولم يحتلموا بإجماع أكثر الأمة بالإيمان أمر إلزام ولا منهيين عن الكفر نهي تحريم فإذا احتلموا لزمهم الإيمان فرضا وحرم عليهم الكفر حتما ولم يكن بين تعريهم من الأوامر والنواهي وبين حلولها عليهم إلا نومة لعلها أقل من مقدار شي بيضة ولم يزد التمييز الذي كان فيهم في تلك النومة شيئا
بل هو على حسبه الذي كان عليه قبل أن ينامها ولا فرق
هذا شيء يعلم بالحس والمشاهدة يعني تساوي التمييز فيهم في ذينك الوقتين
وهذا شيء قد يشهد النص به ولا خلاف فيه بين جمهور أهل الملة التي وضعنا كتابنا هذا في أحكامهم وعبادتهم اختلافهم في معنى براءة من لم يشعر ولم يحتلم ولا حاض إن كان امرأة ولا بلغ خمسة عشر عاما من جميع الأوامر الواردة من الله تعالى ولزومها لمن احتلم وبلغ خمسة عشر عاما مع الاحتلام أو حاض إن كان امرأة في هذه السن ولا فرق في العقل بين جواز عدم الأمر بالإيمان في كلتا الحالتين المذكورتين وبين جواز وجود الأمر به في كلتيهما
فإن شغب مشغب بتعلم الصبيان الصلاة وضربهم عليها وأراد بذلك غرور الضعفاء المقلدين فليعلم أنه لا خلاف عند الحاضرين من خصومنا في أن ذلك على سبيل التدريب وتعليم الخير لا على سبيل الإيجاب لذلك عليهم وكذلك دعاؤنا إياهم إلى الإسلام
وبرهان ذلك أننا لا نقتلهم إن ارتدوا حتى يحتلموا ولا نقتلهم إن قتلوا ولا نحدهم إن زنوا ولا يحرم الميراث وإن ارتد قبل بلوغه من موروثه المسلم (1/68)
فإن ادعى مدع أن البهائم متعبدة واختار اللحاق بأحمد بن حابط والخروج عن إجماع المسلمين فحسبه مفارقة الإسلام واللحاق بالكفر وليس هذا مكان محاجة أهل هذا المذهب وقد بينا ذلك في كتاب الفصل
وإنما قصدنا في كتابنا هذا بيان جمل الأحكام فقط فمن أراد أن يقف على هدم ما ذكرنا من الشغب فليقرأ كتابنا المرسوم بكتاب الفصل إن شاء الله تعالى
قال أبو محمد فإذ قد بينا أقسام المعارف جملة ثم بينا أقسام الأصول التي لا يعرف شيء من الشرائع إلا منها وأنها أربعة وهي نص القرآن ونص كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي إنما هو عن الله تعالى مما صح عنه عليه السلام نقل الثقات أو التواتر وإجماع جميع علماء الأمة أو دليل منها لا يحتمل إلا وجها واحدا فلنصف بحول الله وقوته كيف يستعمل المناظران أو المتعلم أو العالم السبيل إلى معرفة الحقائق مما ذكره
فنقول وبالله تعالى التوفيق أول ذلك سؤال السائل مسؤوله عن مذهبه في مسألة كذا إما مستفهما أو مناظرا فإذا أجابه سأله ما دليلك على كذا فإذا أجابه فقد وصلا إلى ميدان المعارضة فإن لم يكن هنالك إلا أن يصف كل واحد منهما مذهبه ولم يزد المسؤول على ذكر مذهبه فقط ولم يأت بدليل فقد سقط وبطل واكتفى بذلك عن تكلف إبطاله إذ قد بينا فيما تقدم من كتابنا هذا إبطال كل قول لم يقم عليه دليل فإن عارض المسؤول السائل بدليل مثل أن يستدل أحدهما على صحة مذهبه بآية فيحتج عليه الآخر بآية أخرى هي في ظاهرها مخالفة الحكم للتي احتج بها خصمه أو بحديث كذلك
أو احتج أحدهما بحديث فعارضه الآخر بآية هي ظاهرها مخالفة الحكم لذلك الحديث أو بحديث كذلك
فسنفرد لذلك بابا موعبا في كتابنا هذا إن شاء الله عز جل عند كلامنا في الأخبار وإن أمدنا الله بمده وقوته فسنفرد لكل هذه الوجوه كتبا مفردة في أشخاص الأحاديث والآي التي ظاهرها التعارض ونحن نبين بحول الله وقوته نفي الاختلاف عن كل ذلك وبالله تعالى نعتصم ونتأيد
وقد ذكر مخالفونا تعارض العلل
قال علي وسنبين في آخر كتابنا هذا إن شاء الله تعالى بطلان العلل في الشرائع بالجملة وإن أمدنا الله تعالى بمده وعون من قبله عز و جل فسنفرد في المسائل النظرية (1/69)
وهي التي دلائلها نتائج مأخوذة من مقدمات نصية أو إجماعية ديوانا موعبا نتقصى فيه إن شاء الله تعالى الأدلة الصحيحة وبطلان علل أصحاب القياس ومفاسدها بالجملة وبالله تعالى التوفيق
ثم رأينا كتابنا المعروف بالإيصال جامع لكل ذلك مغن عن إفراد كتب لكل صنف منها
قال علي وكل من قال بقبول خبر الواحد ثم صح عنده خبر عن النبي صلى الله عليه و سلم متكامل الشروط التي بوجودها يصح عنده الخبر جملة
فإن تركه لحديث آخر فهو مجتهد إما مخطىء وإما مصيب وكذلك إن تركه لنص قرآن وكذلك إن ترك نص قرآن لحديث آخر أو نص قرآن إلا أنه إن كان قد ترك في مكان آخر مثل تلك الآية التي أخذ بها الآن أو الحديث الذي أخذ به أو أخذ بمثل الحديث أو الآية اللذين ترك ههنا وخالف ترتيب أخذه في المسائل فإن كان لم يتنبه لذلك فهو غافل معذور بالجهل فإن نبه على ذلك فتمادى على خطأه فهو فاسق لإقراره في مكان ما بأن مثل ذلك العمل الذي استعمل ههنا باطل فهو مقدم على الأخذ بما يدري أنه باطل
وذلك مثل من أخذ بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وترك ظاهر قول الله تعالى { ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم } ثم إنه ترك قول رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تحرم الرضعة والرضعتان وأخذ بظاهر قوله عز و جل { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما } فهذا إذا وقف على تناقض فعله وتمادى عليه فهو فاسق
لأنه في أحد الموضعين مقر بأن ترك ظاهر القرآن للحديث خطأ لا يحل وفي الموضع الثاني استعمل ما أقر أنه لا يحل فهو مقدم على ما لا يجوز له بإقراره فإن علل حديث الرضعتين أريناه في حديث السارق مثل تلك العلل بعينها فإن تمادى على الأخذ بأحدهما وترك الآخر فهو فاسق متلاعب بدينه
وإن ترك نصا لقياس بعد قيام الحجة عليه بإبطال القياس فهو فاسق أيضا وإن ترك نصا لقول صاحب فمن دونه فإن كان يعتقد أن عند ذلك الصاحب علما عن النبي (1/70)
صلى الله عليه و سلم وقامت عليه الحجة ببطلان ذلك فتمادى ولم يتب فهو فاسق فإن كان يعتقد أن لأحد بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم أن يحرم شيئا كان حلالا إلى حين موته عليه السلام أو يحل شيئا كان حراما إلى حين موته عليه السلام أو يوجب حدا لم يكن واجبا إلى حين موته عليه السلام أو يشرع شريعة لم تكن في حياته عليه السلام فهو كافر مشرك حلال الدم والمال حكمه حكم المرتد ولا فرق
وقد ظن قوم مثل هذا في المنع من بيع أمهات الأولاد وفي حل الخمر وفي إسقاط ست قراءات كانت على عهد النبي صلى الله عليه و سلم مباحة فمن لم تقم عليه الحجة في بطلان هذا المعتقد فهو معذور بالجهل
وأما من قامت عليه وتمادى على مذهبه في ذلك فهو كافر مشرك مرتد حلال الدم والمال كما ذكرنا
وسنبين بحول الله وقوته وجوه هذه المسائل الثلاث في كلامنا في الإجمال من كتابنا هذا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
قال علي وكل ما قلنا فيه إنه يفسق فاعله أو يكفر بعد قيام الحجة عليه فهو ما لم تقم عليه الحجة معذور مأجور وإن كان مخطئا وصفة قيام الحجة عليه هو أن تبلغه فلا يكون عنده شيء يقاومها وبالله تعالى التوفيق
قال علي والوجه الذي ذكرنا آنفا وهو الذي فيه ظاهر تعارض بين آي وآي وبين حديث وحديث وبين حديث وآي فلسنا نقطع فيه على أننا مصيبون للحق ولا أننا علمناه يقينا ولا كنا نقول فيه هذا هو الحق عندنا
ونبين كل مسألة من ذلك في موضعها إن شاء الله تعالى وهذه هي المتشابهات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه و سلم في قوله الحلال بين والحرام بين وبينهما متشابهات لا يعلمها كثير من الناس وليس هذا من المتشابه الذي ذكر الله عز و جل في قوله { هو لذي أنزل عليك لكتاب منه آيات محكمات هن أم لكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه بتغاء لفتنة وبتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا لله ولراسخون في لعلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا لألباب } وسنبين ذلك كله في باب مفرد في آخر كتابنا هذا إن شاء الله تعالى عز و جل
إلا أننا قاطعون باتون على أن علم الحقيقة فيما أشكل علينا موجود عند غيرنا ولا بد لقول الله تعالى { لا إكراه في لدين قد تبين لرشد من لغي فمن يكفر بلطاغوت ويؤمن بلله فقد ستمسك بلعروة لوثقى لا نفصام لها ولله سميع عليم } ولقول رسول الله صلى الله عليه و سلم اللهم هل بلغت
قالوا اللهم نعم قال اللهم اشهد (1/71)
وأما كل حديث صح عندنا أنه ناسخ ولم يأت له معارض وكل آية وردت كذلك لا معارض لها
أو كل نص من حديث صحيح أو آية عارضهما نص آخر منهما
فإن الزائد في حكمه على الآخر هو الحق المتيقن
لأنه شرع وارد من عند الله تعالى لا يحل تركه إلا بنص يبين أنه منسوخ أو مخصوص فما كان هكذا من النصوص كلها فنحن موقنون بأننا فى اعتقاد موجبها محقون عند الله عز و جل وأن مخالفنا فيها مخطىء عند الله عز و جل
وكل إجماع صح وتيقن على نقله عن النبي صلى الله عليه و سلم فنحن قاطعون أيضا على أننا فيه محقون عند الله عز و جل
وإن حدث بعد الإجماع اختلاف في فرع من فروع المسألة
وإن استدل المخالف بحديث مرسل أو نقل ضعيف لم نتبعه ولم نقطع على أنه مبطل عند الله عز و جل بل نقول هذا الحق عندنا إلا أن نتيقن أن ذلك الخبر لم يأت قط مسندا من طريق يصح فنقطع حينئذ على أنه باطل عند الله تعالى على ما نبين بعد هذا في باب الكلام في الأخبار إن شاء الله تعالى
فإن لم يحتج في ذلك بشيء من نص لكن بتقليد أو قياس فنحن قاطعون بأنه مخطىء عند الله تعالى وأننا محقون عنده تعالى ولكل استدلال ما عدا ما ذكرناه من تقليد صاحب فمن دونه أو قياس أو استحسان فهو باطل بيقين عند الله عز و جل وبالله تعالى التوفيق
فصل في هل على النافي دليل أو لا
قال علي بن أحمد اختلف الناس في هذا على قسمين فطائفة قالت الدليل على من أوجب شيئا أو ثبت حكما أو قضية
وليس على النافي دليل
وقالت طائفة الدليل يلزم إقامته النافي والموجب معا
قال علي والصحيح من ذلك أنا وجدنا الله تعالى أنكر على من حقق شيئا بغير علم وأنكر على من كذب بغير علم فقال تعالى { قل إنما حرم ربي لفواحش ما ظهر منها وما بطن ولإثم ولبغي بغير لحق وأن تشركوا بلله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون } فقد حرم الله تعالى (1/72)
بنص هذه الآية أن يقول أحد على الله عز و جل شيئا لا يعلم صحته وعلم صحة كل شيء مما دون أوائل العقل وبداءة الحس لا يعلم إلا بدليل
فلزم بهذه الآية من ادعى إثبات شيء أن يأتي عليه بدليل وإلا فقد أتى محرما عليه
وقال تعالى { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب لذين من قبلهم فنظر كيف كان عاقبة لظالمين } فأنكر تعالى تكذيب المرء ما لا يعلم أنه كذب وقال تعالى { وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } فأوجب تعالى على كل مدع المصدق أن يأتي ببرهان وإلا فقوله ساقط ووجدنا كل ناف مدعيا للصدق في نفيه ما نفى ووجدنا كل مثبت مدعيا للصدق في إثباته ما أثبت فلزم كلتا الطائفتين أن تأتي بالبرهان على دعواها إن كانت صادقة
قال علي وأما من احتج من أصحابنا في إسقاط الدليل عن النافي بإيجاب رسول الله صلى الله عليه و سلم البينة على المدعي واليمين على من أنكر فإنما في الأحكام فإنه لا خلاف بين أهل الملة في أنه لا يمين على من أنكر شيئا في المناظرة في غير الأحكام
قال علي فإذا اختلف المختلفان فأثبت أحدهما شيئا ونفاه الآخر فعلى كل واحد منهما أن يأتي بالدليل على صحة دعواه كما بيناه آنفا بحكم كلام الله عز و جل فأيهما أقام البرهان صح قوله ولا يجوز أن يقيماه معا لأن الحق لا يكون في ضدين ومن الممتنع أن يكون الشيء باطلا صحيحا في حال واحدة من وجه واحد فإن عجز كلاهما عن إقامة الدليل وهذا ممكن فحكم ذلك الشيء أن يتوقف فيه فلا يوجب ولا ينفي لكن يترك في حد الإمكان لأنه لو أقام الدليل موجبه لكان الشيء موجبا حقا ولو أقام الدليل نافيه لكان الشيء باطلا منفيا
فإن لم يقمه واحد منهما قيل في ذلك الشيء هذا ممكن أن يكون حقا وممكن أن يكون باطلا إلا أننا لا نقول به ولا نحكم به ولا نقطع على أنه باطل وهكذا نص قوله تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم في حديث أهل الكتاب لا نصدق ولا نكذب ولكن نقول الله أعلم
قال علي وإنما أوقع أصحابنا في الكلام في هذه المسألة اختلافهم في القياس (1/73)
ولا معنى للتطول فيها والشغب لأن البراهين على صحة قولنا في إبطال القياس كثيرة جدا واضحة فلا معنى لمدافعة القائلين به بمثل هذا بل نقول لهم علينا البرهان في صحة قولنا بإبطاله فإذا أثبتناه سألناكم عن أدلتكم على إثباته ولا نقنع بأن نقول إن الشيء أنه باطل فلا معنى لتكلف إقامة الحجة على ضد ما تيقنت صحته وإن كان هذا قولا صحيحا ولكنا نقول لهم هاتوا كل ما تحتجون به في إثباته ثم علينا نقضه كله بحول الله تعالى وقوته ثقة منا بوضوح الأمر في إبطاله وسهولة المأخذ في ذلك وأنه ليس من الغامض الخفي لكن من الواضح الجلي وقد استوعبنا ذلك ولله الحمد في 3 باب الكلام في القياس والعلل من كتابنا هذا وفي كتابنا المرسوم بكتاب التقريب أيضا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإحجاجنا لهم بكل ما شغبوا به وزدناهم احتجاجا بما لم يحتجوا به لأنفسهم وبينا بطلان كل ما يمكن أن يموه به ذلك مموه وبالله تعالى التوفيق
قال علي كل أمر ثبت بيقين إما بحس وإما ببديهة عقل وإما بمقدمات راجعة إليهما مما وجد في نص قرآن أو نص سنة أو إجماع ثم ادعى مدع أن ذلك الحكم قد بطل وانتقل فعليه الدليل ههنا وليس هذا على الثابت على ما قد صح لأن الدليل قد ثبت بصحة قوله وما ثبت دليله فالقائل به غير مكلف تحديده في كل وقت وهذا شيء يقضي العقل بفساده كمن ادعى أن في الدنيا بلادا فيها ناس يمشون على أربع لا على رجلين ورؤوسهم على أسافلهم
أو ادعى أن في الناس قوما لهم حاسة سادسة غير حواسنا أو ادعى أن فلانا الذي عهدناه حيا مات فأراد قسم ميراثه ونكاح نسائه أو أن فلانا طلق امرأته التي عهدنا صحة زوجيته معها أو أن هذا الرجل الذي عهدنا عدالته قد فسق أو أن فلانا الذي عهدنا فسقه قد تعدل أو أن فلانا الذي عهدناه غير وال قد ولي الحكم في بلد كذا أو أن فلانا الذي عهدناه واليا قد عزل وأن الله تعالى قد ألزمكم أمر كذا أو حرم عليكم أمر كذا أو أحل لكم أمرا عهدناه حراما أو أسقط عنكم أمرا عهدناه لازما فكما ذكرنا من دعوى انتقال حال معلومة فعلى مدعي انتقالها الدليل ولا تكلف مبطل هذا القول دليلا على بطلان قول خصمه إذا قام الدليل على صحة قوله ولا يلزم التكرار للدليل بلا خلاف ما كل ما ذكرنا حاشا مسائل الإلزام والتحريم (1/74)
والإحلال والإسقاط فخصومنا موافقون لنا على القول بقولنا فيها بلا خلاف ومستخفون بمن خالفنا
وأما هذه المسائل الأربعة المذكورة فدليلنا على صحة قولنا هو قوله تعالى { يأيها لذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل لقرآن تبد لكم عفا لله عنها ولله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } فصح بنص الآية أن ما لم ينزل بنص القرآن وجوبه أو تحريمه فهو ساقط معفو عنه
وأما بطلان قول من ادعى سقوط شيء قد ثبت بنص أو إجماع أو إحلال ما قد حرم بنص أو إجماع فقد أبطل ذلك ربنا تعالى بقوله { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام لله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } وقال تعالى { لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون } وقال تعالى { وإن كادوا ليفتنونك عن لذي أوحينآ إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا }
قال علي فبين الله تعالى بيانا جليا لا إشكال فيه أنه لا يحل تحريف كلام الله تعالى ولا تعدي حدوده ولا أن نترك ما أوحي إلينا وأن من خرج عن شيء من ذلك فهو ظالم مفتر على الله تعالى فوجدنا الله عز و جل قد ألزمنا طاعة ما جاء في القرآن وطاعة ما جاء عن نبيه صلى الله عليه و سلم لأنه إنما ينطق عنه عز و جل وطاعة ما أجمع عليه جميع المسلمين عن نبيهم عليه السلام وأن هذه حدود الله تعالى
فمن أراد إخراجنا عما ثبت بشيء منها وأن يعدى بنا عنها فقد حرف كلام الله تعالى وظلم وأراد الفتنة عن الوحي وتكلف القربة إلا أن يأتي بنص أو إجماع على دعواه وإلا فنحن باقون على تلك الحدود غير متعدين لها ولا مفترين غيرها ولا محرفين لما قد ثبت بها وبالله تعالى التوفيق
وأيضا فإن من طرد هذا الأصل لزمه أن إن ادعى مدع على آخر أنه قتل وأنكر (1/75)
ذلك المدعى عليه أن يكلف المدعي عليه الدليل على براءته وإلا قتله ومن ادعى وجوب صيام مفترض غير رمضان وغير ما جاء في النص من الكفارات والنسك والنذر والقضاء أن يكلف المانع من ذلك الدليل وهذا خروج عن الإسلام مع ما فيه من مخالفة العقول
وكذلك القول فيمن قال بصحة الإلهام قول الرافضة في الإمام ومن ادعى الغول والعنقاء والنسناس وجميع الخرافات فإن كل ذلك لا يحل القول بشيء منه ولا الإقرار به وهو كله على الدفع والرد والإبطال بلا دليل يكلفه مبطله وإنما البرهان على من حقق شيئا من ذلك أو أوجبه
وهكذا كل دعوى أراد مدعيها إثبات شيء لم يثبت أو إبطال شيء قد ثبت لا تحاشي شيئا فإنه لا برهان على من امتنع من القول بشيء من ذلك لأنه فعل ما يلزمه من ذلك وإنما البرهان على من أراد إلزام شيء من ذلك فقط فإن أتى به صحت دعواه وإلا فواجب تركها وردها وإن كانت ممكنة غير ممتنعة وفيما ذكرنا من نص كلام الله تعالى كفاية توجب ضرورة العلم بما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق (1/76)
الباب الثامن في البيان ومعناه
قال علي قد بينا في باب تفسير الألفاظ الدائرة بين أهل النظر حد البيان وتفسيره ونحن نقول إن التخصيص أو الاستثناء نوعان من أنواع البيان لأن بيان الجملة قد يكون بتفسير كيفيتها وكميتها دون أن يخرج من لفظها شيء يقتضيه في اللغة كقوله تعالى وآتوا الزكاة فبين رسول الله صلى الله عليه و سلم ما هية هذه الزكاة المأمور بإيتائها دون أن يخرج من لفظ الزكاة شيئا وكذلك فسر عليه السلام من صفات النكاح والحج وغير ذلك وقد يكون باستثناء مثل ما روى عن نهيه عليه السلام عن بيع الرطب بالتمر ثم استثنى العرايا فيما دون خمسة أوسق فكان هذا مخرجا بحكم العاريا من جملة النهى المتقدم وقد يكون الاستثناء بألفاظ الاستثناء مثل إلا وخلا وحاشا وما لم وما أشبه ذلك وقد يكون حكما وأردا بلفظ الأمر أو بلفظ الخبر مستثنى من جملة أخرى وهذا يسمى التخصيص كتحريمه تعالى نكاح المشركات جملة ثم جاءت إباحة نكاح نساء أهل الكتاب بالزواج فكان هذا تخصيصا من الجملة المذكورة
وأما النسخ فهو رفع الحكم أو بعضه جملة والفرق بينه وبين الاستثناء والتخصيص أن الجملة الواردة التي جاء التخصيص أو الاستثناء منها لم يرد الله تعالى قط إلزامها لها على عمومها وقتا من الدهر كالذي ذكرنا من تحريم المشركات فإنه لم يرد قط بذلك نكاح نساء الكتابيين بالزواج وكذلك القول في العرايا وأما النسخ فإننا مكلفون بالجملة الأولى على عمومها مدة ما لم يأت أمر بإبطالها عنا أو إبطال بعضها على ما تبين في باب النسخ إذا بلغنا إليه إن شاء الله تعالى
فأما وجوه البيان التي ذكرنا من التفسير والاستثناء والتخصيص فقد يكون بالقرآن للقرآن وبالحديث للقرآن وبالإجماع للقرآن وقد يكون بالقرآن للحديث وبالحديث للحديث وبالإجماع المنقول للحديث (1/77)
وقولنا الحديث إنه انما نعنى به الأمر والفعل والإقرار والإشارة فكل ذلك يكون بينانا للقرآن ويكون القرآن بيانا له وإنما فرقنا آنفا بين التخصيص والاستثناء وبين النسخ لأنه قد تيقنا وجوب طاعة الله عز و جل ورسوله عليه السلام علينا فحرام علينا الخروج عن طاعتهما في شيء مما امر به أو أن نقول في شيء مما ألزمنا إنه منسوخ ساقط بعد وجوبه إلا ببيان جلي لا شك فيه وإذا وجدنا لحكم سقط بعضه بالاستثناء أو التخصيص فنحن على يقين من أنه لا يلزمنا فلا يحل لأحد أن يقول إنه لزم ثم سقط فيكون قد قفا ما ليس له به علم وقال بشك لا بيقين وذلك حرام ولا يجوز بأن نقول بأن الحكم كذا لزمنا إلا بيقين ولا يسقط بعد لزومه إلا بيقين فلهذا قلنا بالفرق المذكور بين النسخ وبين الاستثناء والتخصيص لأننا إذا قلنا في ذلك إنه نسخ فقد اقررنا أنه لزم ثم سقط وهذا لا يحل قوله إلا بيقين وبالله تعالى التوفيق
ومما خص من القرآن بالقرآن قوله تعالى إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فاستثنى تعالى الأزواج وملك اليمين من جملة ما حظر من إطلاق الفروج ثم خص تعالى الجمع بين الأختين وبين الأم والابنة والربيبة الزانية والحريمة بالقرابة والشركة بالقرآن وخص الحريمة بالرضاع بالسنة والذكور والبهائم والأمة المشركة بالإجماع المأخوذ من معنى دليل النص الثابت لا يحتمل إلا وجها واحد بالحظر من جملة المباح بملك اليمين
فإن قال قائل لا يجوز أن يبين القرآن إلا بالسنة لأن الله تعالى يقول وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم قيل له وبالله تعالى التوفيق ليس في الآية التي ذكرت أنه عليه الصلاة و السلام لا يبين إلا بوحي لا يتلى بل فيها بيان جلى ونص ظاهر أنه أنزل تعالى عليه الذكر ليبينه للناس والبيان هو بالكلام فإذا تلاه النبي صلى الله عليه و سلم فقد بينه ثم إن كان مجملا لا يفهم معناه من لفظه بينه حينئذ بوحي يوحى إليه إما متلوا أو غير متلو كما قال تعالى فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه فأخبر تعالى أن بيان القرآن عليه عز و جل وإذا كان عليه فبيانه من عنده تعالى والوحي كله متلوه وغير متلوه فهو (1/78)
من عند الله عز و جل وقد قال عز و جل يبين الله لكم ان تضلوا وقال تعالى مخبرا عن القرآن تبيانا لكل شيء
فصح بهذه الآية أنه تكون آية متلوة بيانا لأخرى ولا معنى لأنكار هذا وقد وجد فقد ذكر تعالى الطلاق مجملا ثم فسره في سورة الطلاق وبينه
ومما اجمل في السنة وبينه القرآن ما حدثناه عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم ثنا زهير بن حرب حدثنا إسماعيل بن علية ثنى أبو حيان ثنى يزيد بن حيان أنه سمع زيد بن أرقم يقول خطبنا رسول الله صلى الله عيله وسلم بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال أما بعد ألا يا أيها الناس فأنما أنا بشر يوشك أن يأتينى رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله عز و جل واستمسكوا به ثم قال وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتى أذكركم الله في أهل بيتي
قال علي وفسر زيد بن أرقم أنهم بنو هاشم
قال علي والتقليد باطل فوجب طلب من هم أهل بيته عليه السلام في الكتاب والسنة فوجدنا الله تعالى قال يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تظهيرا واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا
قال علي فرفعت هذه الآية الشك وبينت أن أهل بيته عليه السلام هن نساؤه فقط وأما بنو هاشم فإنهم آل محمد وذو القربى بنص القرآن والسنة فهم في قسمه الخمس وتحريم الصدقة (1/79)
وقد اجمل عليه السلام قوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ثم فسر الله تعالى ذلك وبينه بقوله في سورة براءة فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم
فإن قال قائل ما بين هذا الحديث إلا حديث ابن عمر وأبي هريرة أني أمرت أن أقاتل المشركين حين يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويؤمنوا بما أرسلت به
قيل له وبالله تعالى التوفيق هذا الخبر الذي ذكرت هو موافق لما في براءة فصح أن الله تعالى أنزل ذلك عليه في القرآن ثم أخبر به عليه السلام أصحابه بلفظ فكان بيانا مرددا تفسيرا مؤكدا فخبر أبي هريرة وابن عمر إنما هو حكاية لما في براءة يعلم ذلك ببديهة العقل عند قراءة الآية والحديث المذكور
قال علي وقد يرد البيان بالإشارة على ما في حديث كعب بن مالك مع أبي حدرد إذ أشار إليه عليه السلام بيده أن ضع النصف (1/80)
الباب التاسع في تأخير البيان
قال علي واختلفوا في نوع من أنواع البيان فقالت طائفة إنما يرد المجمل ثم يرد المفسر وقال آخرون لا يردان إلا معا وقال آخرون جائز ورود المجمل قبل المفسر والمفسر قبل المجمل وورودهما معا كل ذلك جائز
قال علي وبهذا نقول إلا أنه لا يجوز أن يتأخر البيان عن وقت إيجاب العمل البتة ولا يجوز أن يؤخره النبي صلى الله عليه و سلم بعد وروده عليه طرفة عين ولسنا نقول بهذا لأن العقل يمنع ذلك لكن لأن النص قد ورد بذلك وإنما منعنا من تأخير الله البيان عن وقت وجوب العمل لقول الله تعالى { لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين } وقد علمنا أنه ليس في وسع أحد أن يعمل بما لا يعرف به وإنما منعنا من تأخير النبي صلى الله عليه و سلم البيان عن ساعة وروده عليه السلام لقول الله تعالى { يأيها لرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ولله يعصمك من لناس إن لله لا يهدي لقوم لكافرين } فلو أخر عليه السلام البيان عن ساعة وروده عليه لكان عليه السلام في تلك المدة وإن قلت مستحقا لاسم أنه لم يبلغ ولو أنه لم يبلغ لكان عاصيا ولا ينسب هذا إلى النبي صلى الله عليه و سلم إلا جاهل ومن تمادى على نسبة المعصية إليه في طي الشريعة وترك تبليغها فهو كافر بإجماع الأمة
قال علي وقد نزلت الصلوات الخمس مفسرة بمكة ثم جاءت آيات كثيرة مدنيات فيها أقيموا الصلاة فقط فصح بذلك ما ذكرنا من أنه قد ينزل المفسر قبل المجمل وأما نزول المجمل قبل المفسر فقد نزل ذلك في الصيام وتحريم حشيش مكة ثم جاء تخصيص الإذخر
قال علي وأما قولنا بتأخير الله عز و جل البيان ما لم يأت وقت إيجابه تعالى العمل (1/81)
به فهو منصوص في قوله تعالى { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } وقد أنزل الله عز و جل آيات كثيرة فيها قصة موسى وقصة عيسى عليهما السلام وقصة عاد وثمود وإبراهيم عليهم السلام بعضها قبل بعض وبعضها بمكة وبعضها بالمدينة وبعضها أكمل من بعض فهلا اعترض المانعون ربهم تعالى من أن يفعل ما يشاء بغير نص منه تعالى أنه لا يفعله على ربهم فيما ذكرنا فيقولون هلا نزلت هذه القصص كاملة في مكان واحد فتكون أتم للوعظ وأشفى للخبر ثم يؤكدها كذلك إن شاء
وليت شعري إذ أقر هؤلاء بأن التأكيد حكمة فماذا يقولون في قصص كثيرة ومواعظ لم يذكرها عز و جل في القرآن إلا مرة واحدة أتراها عريت عن الحكمة إذ لم تكرر ولا وكدت
وأيضا فإن أكد تعالى تكرار مسألة موسى عليه السلام عشرين مرة مثلا ما الفرق بين عشرين مرة وبين إحدى وعشرين مرة أو تسع عشر مرة فإن ادعى أن هذا العدد أبلغ في الحكمة ادعى القحة وبانت قلة الحياء في وجهه وقال ما يعلم أنه بخلاف ما يقول وسألناه أيضا عن قصص أخر كررت أقل من تكرار قصة موسى عليه السلام
فإن قال اكتفى بتكرار قصة موسى قيل له ما الفرق أن يكتفي بتكرار قصة موسى عن تكرار قصة إبراهيم
ولا يكتفي بتكرار قصة إبراهيم عن تكرار قصة موسى وما الفرق بين ذكره تعالى ما ذكر من قصص الأنبياء عليهم السلام وبين ما أمسك عنه تعالى من ذكره لبعضهم وما الفرق بين ذلك وبين أن لو ذكر من أمسك عنه وأمسك عمن ذكر وقد ذكر من لا شريعة له غير شريعة من قبله كثيرا كإلياس واليسع وذي الكفل وغيرهم ولعل من أمسك عنه تعالى ولم يذكره من الرسل أعظم آية وأبلغ في الوعظ ممن ذكر
قال علي وأنا أقطع ولا أمتري أن ملقي هذه النكتة إلى ضعفاء المسلمين مغمور في دينه ضعيف في عقله كائد للشريعة ولا شك في ذلك ثم تهافت بالتقليد مع من تهافت وبالله تعالى التوفيق (1/82)
ومما سأل عنه المانعون من تأخير البيان جملة أن قالوا ما تقولوا فيمن سمع آية قطع السارق ولم يسمع الحديث المبين للتوقيت في ذلك أيقطع كل سارق لفلس من ذهب وفيمن سمع آية الزنى ولم يسمع حكم الرجم وفيمن سمع آية الرضاع ولم يسمع الحديث في التوقيت في ذلك أيجلد المحصن ولا يرجمه ويجلد الأمة مائة ويحرم برضعة واحدة أم كيف يفعل فإن قلتم ينفذ ما سمع على جملته كنتم قد أمرتموه بالباطل وإن قلتم لا يفعل أمرتموه بمعصية ما سمع من القرآن
فالجواب أننا لم نجد قط تأخير ورود البيان عن وقت وجوب العمل وأما قبل وجوبه فليس يلزمه إلا الإقرار بالجملة وأن يقول سمعت وأطعت ولا مزيد إذا لم تكن مبينة مفهومة مثل قوله تعالى { وآتوا لزكاة } فهذا ليس عليه إلا الإقرار بتصديق ذلك كما قلنا فقط
إذ لم يأته بيان ما كلف من ذلك وأما إن كان النص مفهوما بينا فعليه العمل به حتى يبلغه نسخه أو تخصيصه ولا بد إذا من قال لا يلزمه العمل بما بلغه من ذلك فقد قال له لا تطع ربك ولا تعمل بما أمرك
فلعل ههنا نصا ناسخا لهذا النص أو نصا مخصصا له وهذا خلاف أمر الله تعالى في القرآن بطاعته
ومن طرد هذا القول السخيف لزمه ألا يعمل بشيء من القرآن ولا السنن أبدا
حتى يستوعب معرفة جميع أحكام القرآن وضبط جميع السنن وفي هذا الخروج عن الإسلام وإبطال الشريعة
قال علي ونسألهم في رد هذا السؤال عليهم فنقول ما الذي يلزم من سمع أمرا ما والرسول عليه السلام حي مما جاء النسخ بعد ذلك فيه أيعتقد في ذلك الأمر التأييد فيكون معتقدا للباطل
أو يعتقد فيه السقوط بعد حين فيعتقد المعصية لما سمع فجوابهم ها هنا جوابنا آنفا فيما سألونا عنه وأنه يلزم من سمع ذلك الإقرار والطاعة والاعتقاد أن ه حق لازم ما لم يأت ما ينسخه فهو على التأييد وإن جاء ما ينسخه فهو متروك للناسخ
قال علي وتأخير الاستثناء والتخصيص عندنا جائز كتأخير البيان جملة ولا فرق وهو جائز ما لم يأت وقت إيجاب العمل وبالله تعالى التوفيق (1/83)
قال علي ومما يبين صحة قولنا قوله تعالى { فإذا قرأناه فتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه } وثم توجب مهلة وقوله تعالى في قصة الملائكة القائلين لإبراهيم عليه السلام { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم لقيامة عما كانوا يفترون ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم لطوفان وهم ظالمون فأنجيناه وأصحاب لسفينة وجعلناهآ آية للعالمين وإبراهيم إذ قال لقومه عبدوا لله وتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون إنما تعبدون من دون لله أوثانا وتخلقون إفكا إن لذين تعبدون من دون لله لا يملكون لكم رزقا فبتغوا عند لله لرزق وعبدوه وشكروا له إليه ترجعون وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على لرسول إلا لبلاغ لمبين أولم يروا كيف يبديء لله لخلق ثم يعيده إن ذلك على لله يسير قل سيروا في لأرض فنظروا كيف بدأ لخلق ثم لله ينشىء لنشأة لآخرة إن لله على كل شيء قدير يعذب من يشآء ويرحم من يشآء وإليه تقلبون ومآ أنتم بمعجزين في لأرض ولا في لسمآء وما لكم من دون لله من ولي ولا نصير ولذين كفروا بآيات لله ولقآئه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم فما كان جواب قومه إلا أن قالوا قتلوه أو حرقوه فأنجاه لله من لنار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون وقال إنما تخذتم من دون لله أوثانا مودة بينكم في لحياة لدنيا ثم يوم لقيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم لنار وما لكم من ناصرين فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو لعزيز لحكيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته لنبوة ولكتاب وآتيناه أجره في لدنيا وإنه في لآخرة لمن لصالحين ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون لفاحشة ما سبقكم بها من أحد من لعالمين أئنكم لتأتون لرجال وتقطعون لسبيل وتأتون في ناديكم لمنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ئتنا بعذاب لله إن كنت من لصادقين قال رب نصرني على لقوم لمفسدين ولما جآءت رسلنآ إبراهيم بلبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه لقرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا مرأته كانت من لغابرين } فعموا في أول الأمر وأخروا البيان حتى وقع السؤال عن لوط فأجابوا بأنهم لم يعنوه بالهلاك حاشا امرأته فقط
وقد اعترض في هذا بعض من منع من تأخير البيان جملة بأن قال قد كان يجب أن يعلم إبراهيم عليه السلام أن لوطا خارج عن العذاب لقولهم { } ج ولوط ليس ظالما قيل لهم وبالله تعالى التوفيق
يمكن أن يحدث من لوط ما يستحق به الظلم فأشفق إبراهيم عليه السلام من ذلك فسأل عنه وقد أجمل لنوح عليه السلام خلاص أهله فظن أن الأهل هم القرابة حتى بين له بعد ذلك أن المراد بأهله أهل دينه
فإن قال قائل فما المراد من المجمل الوارد قبل ورود بيانه قيل له وبالله تعالى التوفيق المراد منا فيه هو المراد منا في المتشابه الذي أمرنا بأن نبحث عنه ولا نبتغي تأويله وأن يقول كل من عند ربنا وأما المراد فيه فالذي يأتي به البيان إذا أتى ويبين قولنا قول الله تعالى { } فإنما يبين لنا لئلا نضل ولا ضلال في ورود الأمر ما لم يأت وقت وجوب العمل به فأما إذا جاء وقت وجوب العمل به فلو تركنا نعمل بغير ما أريد منا لكنا قد ضللنا وقد أخبرنا تعالى بأن ذلك لا يكون وقوله تعالى صدق وحق بالله تعالى التوفيق
فعلى هذا الوجه منعنا من تأخير البيان عند وجوب العمل وإلا فليس في العقل ما يمنع من ذلك لو شاء تعالى ولو فعل الله تعالى ذلك لكان تعنيتا لنا وقد أخبرنا (1/84)
تعالى فقال { } فأخبر تعالى أنه لو أراد أن يكلفنا العنت فعل وهذا نفس قولنا وبالله تعالى التوفيق
قال علي يختلف في الوضوح فيكون بعضه جليا وبعضه خفيا فيختلف الناس في فهمه فيفهمه بعضهم ويتأخر بعضهم عن فهمه كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلا أن يؤتي الله رجلا فهما في دينه وكما تعذر على عمر رضي الله عنه وهو الغاية في العلم بنص النبي صلى الله عليه و سلم على ذلك فيه فهم آية الكلالة فمات وهو يقر أنه لم يفهمها وفهمها غيره من الصحابة رضي الله عنهم وانتهره عليه السلام وأخبره بأنها بينة يكفي من فهمها الآية التي نزلت في الصيف وكما عرض لعدي في توهمه أن الخيط الأبيض والأسود من خيوط الناس حتى زاده الله تعالى بيانا في أن ذلك من الفجر وقد اكتفى غير عدي بالآية نفسها وعلم أن المراد الفجر
وكما توهم ابن أم مكتوم أنه ملوم في تأخره عن الغزو فزاده الله بيانا باستثناء أولي الضرر وقد اكتفى غير ابن أم مكتوم بسائر النصوص الواردة في رفع الحرج وأن لا حرج على مريض ولا أعمى وأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها
قال علي فهذه حقائق الكلام في البيان وتأخيره مجموعة باستيعاب وإيجاز وبالله تعالى التوفيق
والتأكيد نوع من أنواع البيان قال الله عز و جل { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } وقال تعالى { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون خلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل لمفسدين } بعد أن ذكر تعالى ثلاثين ليلة وعشرا فإن قال قائل إن الله تعالى علمنا الحساب بذلك فقد افترى لأننا كنا نعلم الحساب قبل نزول القرآن نعني النوع الإنسان جملة وبالله تعالى التوفيق وقد أتى بعض أهل القياس المتحذلقين المتنطعين في قوله تعالى { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } بآبدة فقال معنى قوله تعالى { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } دليل على أن الهدي الذي عوض منه الصوم في التمتع لا يكون إلا كاملا (1/85)
قال علي وأول ما في هذا القول الدعوى بلا دليل وهذا حرام لاسيما على الله عز و جل وأيضا فإنه قد جل الله تعالى عن أن يريد أن يكون الهدي كاملا فيترك أن يصفه بذلك ويقتصر على أن يقول { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } ) ثم ينبه على كمال الهدي بذكر أن تكون العشرة الأيام في الصوم كاملة فبان كذب هذا القائل وصح أن قوله تعالى { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } 1 2 كقول رسول الله صلى الله عليه و سلم في حديث الزكاة فابن لبون ذكر وكقوله عليه الصلاة و السلام في حديث الفرائض فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر وإنما هذا توكيد وبيان زائد فقط
قال علي ومما يبين أن الله تعالى يؤخر البيان قبل أن يريد منا تعالى العمل بالحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه و سلم بأن الله تعالى يعرض في الخمر فمن كان عنده منها شيء فليبعها فما أتى الوقت الذي أراد الله تعالى أن يوجب علينا اجتنابها أنزل الآيات في تحريمها وتلا ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم على الناس من وقته وقد يزيد عليه السلام بيانا بعد تقدم البيان قبله فيكون تأكيدا وإخبارا لمن يبلغه الخبر الأول كما نزلت الصلوات الخمس بمكة مبينة بأوقاتها ثم سأل السائل بالمدينة عن أوقاتها وأوائلها وأواخرها فأراه عليه السلام ذلك بالعمل وقد بينها أيضا بكلامه عليه السلام لغير ذلك السائل
وكما أخر الله تعالى عن النبي صلى الله عليه و سلم بيان المناسك قبل أن يأتي وقت وجوب عملها فلما أتى وقت وجوبها بينها له عليه السلام فبينها عليه السلام بفعله غير مؤخر لها ومن ادعى أنه عليه السلام كان عنده بيان المناسك وكتمها عن أصحابه ومنعهم الأجر بالعلم بها وبالإقرار بجملتها فقد افترى وكذب نبيه صلى الله عليه و سلم إذ يقول إن حقا على كل نبي أن يدل أمته على أحسن ما يعلمه لهم ومن قال بهذا فقد أكذب ربه تعالى إذ يقول عز و جل واصفا لنبيه صلى الله عليه و سلم { لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بلمؤمنين رءوف رحيم } وإذا كتمهم ما يستعجلون الأجر بالإقرار به ويزدادون علما بفهمه فقد خالف الصفة التي ذكرها الله تعالى ومن قال ذلك فقد فارق الإسلام (1/86)
فإن قال قائل فأنت تصف الآن محمدا صلى الله عليه و سلم بأنه يريد أن يزداد أهل الأرض خيرا وهذا خلاف قولك إن الله عز و جل لم يرد هذا بكل الناس فقد وصفت محمدا صلى الله عليه و سلم بأفضل مما وصفت به الله عز و جل وبأنه أرأف بنا من الله تعالى
قال علي فنقول وبالله التوفيق هذه شغبية ضعيفة وإنما يماثل بين الشيئين أو يفاضل بينهما إذا كانا واقعين تحت نوع واحد أو تحت جنس واحد وليس صفتنا لله تعالى من نوع صفتنا للمخلوقين ورحمة محمد صلى الله عليه و سلم بالناس هي من جنس تراحمنا بعضنا لبعض إلا أنها أعلى من كل رحمة لإنسي وأكمل وأتم وأدوم وليس الله تعالى واقعا معنا تحت نوع البشرية كوقوع محمد صلى الله عليه و سلم معنا تحتها وإن كان أفضل من كل من دونه ولا يثنى على الله عز و جل بما يثني به على خلقه ألا ترى أننا نصف الله عز و جل مثنين عليه بأنه جبار متكبر وهذا في كل مخلوق دونه تعالى ذم شديد واستنقاص عظيم ونصفه تعالى بأنه ذو غضب شديد أنه يفعل ما يريد وأنه ذو مكر لا يؤمن
وكل هذا لو وصفنا به مخلوقا لكان ذما ونقصا
ونمدح المخلوقين بالعقل والكيس والنبل والنجدة والعفة وكل هذا لا يجوز أن يوصف به الله عز و جل فمن أراد أن يقيس رحمة الله تعالى لخلقه برحمة نبيه صلى الله عليه و سلم لهم فقد ألحد في وصفه لربه تعالى وقد علمنا يقينا أن الله عز و جل لم يرد قط أن يهدي أبا طالب ولو شاء أن يؤمن لشرح صدره للإسلام بل أراد أن يعذبه في نار جهنم أبدا وعلمنا يقينا أن محمدا صلى الله عليه و سلم كان من أبعد آماله أن يؤمن أبو طالب وقد كفانا الله تعالى ذلك بقوله { إنك لا تهدي من أحببت ولكن لله يهدي من يشآء وهو أعلم بلمهتدين }
فأما من آمن بالله فالله أرأف به من نفسه بنفسه ومن محمد صلى الله عليه و سلم ومن أبيه وأمه اللذين ولداه
لأنه جازاه على ذلك بما لو ملك الاختيار لم يبلغ مقدار ما أعطاه الله تعالى في الجنة ولا سمح له أبواه بذلك ولأنه تعالى غفر له ما لو فعله عاصيا لأبيه ما غفر له ذلك فإن الرجل يزني بأمة الله تعالى فيغفر له بالتوبة وبموازنة حسناته لسيئاته ولو زنى بأمة أبيه لقطعه (1/87)
وأما من لم يؤمن فما أراد الله به خيرا قط ولو أراد به خيرا لأماته سقطا فمن قال إن الله تعالى لم يقدر على ذلك فقد ألحد ووصف ربه تعالى بغاية النقص ومن قال إن الله تعالى أراد الخير بفرعون فنحن نباهله ونقول اللهم لا ترد بنا من الخير ما أردته بفرعون فليدع ربه تعالى أن يريد به من الخير ما أراده بفرعون
فإن شغب مشغب فقال إنك الآن تصف محمدا صلى الله عليه و سلم بأنه أراد غير ما أراد الله عز و جل وبالله تعالى التوفيق وهذه شغبية ضعيفة كالتي قبلها
نعم كذلك نقول في هذا المكان مقرين بما قال ربنا عز و جل من أن محمدا صلى الله عليه و سلم أحب أن يهتدي قوم لم يحب الله تعالى أن يهديهم وليس في اختلاف ما أراد الله تعالى ههنا وما أراد نبيه عليه السلام عيب على نبيه عليه السلام لأنه إنما يمدح النبي فمن دونه من المخلوقين بالائتمار لربه تعالى فقط لا بأن يوافق ربه فيما لم يكلفه ألا ترى أننا نمدح أنفسنا بالنكاح والأولاد وهما منفيان عن الله عز و جل لم يردهما لنفسه قط ونمدح بالصدقة على المحتاج الذي لم يرد الله أن يغنيه ولو أراد أن يغنيه لكان قادرا عز و جل على ذلك فلم نؤمن نحن قط أن تريد ما أراده الله عز و جل في كل وقت بل نهينا عن ذلك فقد أراد الله عز و جل قتل من سلط عليه الكفار من المؤمنين ولو أردنا نحن ذلك لفسقنا وإنما أريد منا الائتمار لما أمرنا به والانتهاء عما نهينا عنه وقول خصومنا يؤول إلى قول بعض أهل الإلحاد أن الواجب علينا التشبه بالله عز و جل وهذا كفر عندنا لأن الله تعالى لا يشبهه شيء فلا يروم التشبه به إلا كافر ملحد
وهذا بين وبالله تعالى التوفيق
ثم نرجع إلى بقية الكلام في تأخير البيان فإن احتج بعض من يجيز تأخير البيان عن وقت وجوب الأمر بقصة موسى والخضر عليهما السلام فلا سواء فموسى عليه السلام لم يلزمه قط أمر في تلك القصة يلزمه التقصير إن لم يأته وإنما سأله ناسيا والنسيان مرفوع وكذلك كان سؤال نوح عليه السلام في ابنه ناسيا لأن الله تعالى قد كان بين له أن يحمل أهله إلا من سبق عليه القول منهم فنسي نوح عليه السلام هذا الاستثناء وقد كان كافيه لأن ابنه كان كافرا قد سبق عليه القول في جملة من كفر
واحتجوا أيضا بأمر بقرة بني إسرائيل وأنه تعالى أخر عنهم بيان الصفات التي زادهم بعد ذلك (1/88)
قال علي وهذا لا حجة لهم فيه لأن تلك الصفات إنما هي زيادات شرائع لو لم يسألوا عنها لم يزادوهم ولو ذبحوا في أول ما أمروا بقرة بيضاء أو حمراء أو بلقاء لأجزت عنهم لكنهم لما زادوا سؤالا زيدوا شرعا ودخلوا بذلك في جملة من ذم الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم إذ يقول إن من أعظم الناس جرما في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته
وفي قوله عليه السلام إنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم
ويبين صحة قولنا هذا قوله عز و جل { يأيها لذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل لقرآن تبد لكم عفا لله عنها ولله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } } فأخبر تعالى بنص ما قلنا وله الحمد وبين لنا أن الأشياء معفوة ساقطة عنا قبل أن نسأل عنها فإذا سألنا عنها لزمتنا ولعلنا نعصي حينئذ فنهلك وكل ذلك قد سبق في علمه عز و جل
وأما تأخر نزول { يأيها لذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل لقرآن تبد لكم عفا لله عنها ولله غفور حليم } في قصة ابن الزبعرى إذ اعترض على النبي صلى الله عليه و سلم في تلاوة { علموا أن لله شديد لعقاب وأن لله غفور رحيم } فقال نحن نعبد الملائكة والنصارى يعبدون عيسى فهم في جهنم معنا فإن ابن الزبعرى كان مغفلا عن تدبر الآية الأولى وقد كان له فيها كفاية له عقل ولكن الثانية أتت مؤكدة لها فقط وهي إخباره تعالى عن سؤاله الملائكة فقال تعالى { ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } فأخبر تعالى عن الملائكة الصادقين المقدسين أنهم قالوا { قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون لجن أكثرهم بهم مؤمنون } فليس قول القائل أنا أعبد (1/89)
الملائكة ولا قول النصارى نحن نعبد المسيح موجب لصدقهم لأن العبادة إنما هى الاتباع والانقياد مأخوذة من العبودية وإنما يعبد المرء من ينقاد له ومن يتبع أمره وأما من يعصي ويخالف فليس عابدا له وهو كاذب في ادعائه أنه يعبده
فالقائلون نحن نعبد الملائكة والمسيح كذبة في دعواهم لذلك ما عبدوهم قط وإنما عبدوا الشياطين لانقيادهم لأمرهم واتباعهم إغواءهم ولو اتبعوا الملائكة والمسيح عليه السلام ما أمروهم إلا بعبادة الله عز و جل وبأن يقولوا إننا لا نعبد شيئا من دون الله عز و جل بل كانوا ينهونهم عن الكذب وهذا عين الكذب وقد بين عليه السلام معنى قول ربه تعالى { تخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون لله ولمسيح بن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } فقال قائل يا رسول الله ما كنا نعبدهم فأخبرهم عليه السلام أنهم إذا أطاعوهم في تحريم ما حرموا وتحليل ما أحلوا فقد اتخذوهم أربابا ونحن إنما أطعنا أمر نبينا عليه السلام لعلمنا أنه كله من عند الله عز و جل وأنه لا يقول من تلقاء نفسه شيئا
قال الله عز و جل { وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى }
فإن قال قائل فعلى قولك فمن عصى منا لم يعبد الله عز و جل قيل له نعم لم يعبد الله تعالى لتلك المعصية ولا فيها ولكن عبده في سائر طاعته وإقراره بالتوحيد
فإن قال قائل فعلى قولك إننا إذا أطعنا الرسول صلى الله عليه و سلم لقد عبدناه
قيل له وبالله تعالى التوفيق إن طاعة الرسول صلى الله عليه و سلم توجب ألا يطلق لفظ العبادة ولا معناها إلا لله عز و جل وحده لا شريك له وتوجب أن من أطاع الشيطان في الكفر فقد عبده وهذه معان شرعية لا يتجاوز فيها ما أتت به الشريعة فقط وأما من ادعى بيان كون أن السلب للقاتل نزل بعد آية قسم الغنائم فدعوى لا يقوم عليها دليل ولا روي ذلك قط من وجه يصح وكذلك القول في بيان سهم ذي القربى وأن بيان كون بني هاشم وبني عبد المطلب هم ذو القربى دون بني عبد شمس وبني نوفل نزل متأخرا عن الآية دعوى لا تصح أصلا
فإن قال قائل فإن عثمان رضي الله عنه وجبير بن مطعم جهلا هذا قيل له (1/90)
نعم وما في هذا علينا من الحجة ومتى منعنا أن يخفى على الصاحب والصاحبين والعشرة والأكثر منهم فهم آية أو آيات من القرآن
وقد كان في قسمة رسول الله صلى الله عليه و سلم لبني المطلب دونهما ما يكفي لأنهما كانا يوقنان بلا شك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يمنع ذا حق حقه ولا يعطي أحدا غير حقه فكان في هذا كفاية لأنه لو كان لبني عبد شمس وبني نوفل حق في سهم ذوي القربى ما منعهم إياه رسول الله صلى الله عليه و سلم ولوكان بنو عبد المطلب خارجين من ذوي القربى ما أعطاهم النبي صلى الله عليه و سلم حقا ليس لهم ولكن عثمان وجبير رضي الله عنهما أرادا علم السبب الذي من أجله استحق بنو المطلب الدخول فيما خرج قومهما منه والخصلة التي بان بها بنو عبد المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل وقد قال عثمان رضي الله عنه في الجمع بين الأختين بملك اليمين أحلتهما آية وحرمتهما آية فأخبر رضي الله عنه أنه خفيت عليه رتبة هاتين الآيتين ولم يدر أيهما يغلب ويستثني من الأخرى ولا يجوز عند ذي فهم ولب أن يعتقد الشيء حراما حلالا في وقت واحد على شخص واحد فيكون يحل له أن يفعله ولا يحل له أن يفعله فيفعل ولا يفعل وهذا محال ظاهر الامتناع ومن بلغ ههنا كفانا نفسه وأما العرايا فقد جاء الحديث موصولا في استثنائها من التمر بالرطب وبالله تعالى التوفيق (1/91)
الباب العاشر في الأخذ بموجب القرآن
قال علي ولما تبين بالبراهين والمعجزات أن القرآن هو عهد الله إلينا والذي ألزمنا الإقرار به والعمل بما فيه وصح بنقل الكافة الذي لا مجال للشك فيه أن هذا القرآن هو المكتوب في المصاحف المشهورة في الآفاق كلها وجب الانقياد لما فيه فكان هو الأصل المرجوع إليه لأننا وجدنا فيه { وما من دآبة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون } فما في القرآن من أمر أو نهي فواجب الوقوف عنده وسنذكر إن شاء الله تعالى في باب الأخبار التالي لهذا الباب كيف العمل في بناء آي القرآن خاصها مع عامها وبناء السنن عليها وسنذكر إن شاء الله تعالى في باب الأوامر والنواهي كيف العمل في حمل أوامر القرآن ونواهيه على الظاهر والوجوب والفور ونذكر إن شاء تعالى في باب العموم والخصوص ما يقتضيه ذلك الباب من أخذ آي القرآن على عمومها ونوعب الرد على كل من خالف الحق في ذلك إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق
قال علي ولا خلاف بين أحد من الفرق المنتمية إلى المسلمين من أهل السنة والمعتزلة والخوارج والمرجئة والزيدية في وجوب الأخذ بما في القرآن وأنه هو المتلو عندنا نفسه وإنما خالف في ذلك قوم من غلاة الروافض هم كفار بذلك مشركون عند جميع أهل الإسلام وليس كلامنا مع هؤلاء وإنما كلامنا في هذا الكتاب مع أهل ملتنا إذا قد أحكمنا بطلان سائر الملل في كتاب الفصل وبالله تعالى التوفيق
ونذكر إن شاء الله تعالى في باب الإجماع من هذا الكتاب بالبرهان الصحيح أن القراءات السبع التي نزل بها القرآن باقية عندنا كلها وبطلان قول من ظن أن عثمان رضي الله عنه جمع الناس على قراءة واحدة منها أو على بعض الأحرف السبعة دون بعض وبالله تعالى التوفيق (1/92)
الباب الحادي عشر
في الكلام في الأخبار وهي السنن المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي بعض فصول هذا الباب ذكر السبب في الاختلاف الواقع بين الأئمة في صدر هذه الأمة
قال علي لما بينا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع نظرنا فيه فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه و سلم ووجدناه عز و جل يقول فيه واصفا لرسوله صلى الله عليه و سلم { وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى } فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله عز و جل إلى رسوله صلى الله عليه و سلم على قسمين أحدهما وحي متلو مؤلف تأليفا معجز النظام وهو القرآن والثاني وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز النظام ولا متلو لكنه مقروء وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو المبين عن الله عز و جل مراده منا
قال الله تعالى { بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } ووجدناه تعالى قد أوجب طاعة هذا الثاني كما أوجب طاعة القسم الأول الذي هو القرآن ولا فرق فقال تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فكانت الأخبار التي ذكرنا أحد الأصول الثلاثة التي ألزمنا طاعتها في الآية الجامعة لجميع الشرائع أولها عن أخرها وهي قوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فهذا أصل وهو القرآن
ثم قال تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فهذا ثان وهو الخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال تعالى (1/93)
{ يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فهذا ثالث وهو الإجماع المنقول إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حكمه وصح لنا بنص القرآن أن الأخبار هي أحد الأصلين المرجوع إليهما عند التنازع قال تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }
قال علي والبرهان على أن المراد بهذا الرد إنما هو إلى القرآن والخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لأن الأمة مجمعة على أن هذا الخطاب متوجه إلينا وإلى كل من يخلق ويركب روحه في جسده إلى يوم القيامة من الجنة والناس كتوجهه إلى من كان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وكل من أتى بعده عليه السلام وقبلنا ولا فرق وقد علمنا علم ضرورة أنه لا سبيل لنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وحتى لو شغب مشغب بأن هذا الخطاب إنما هو متوجه إلى من يمكن لقاء رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أمكنه هذا الشغب في الله عز و جل إذ لا سبيل لأحد إلى مكالمته تعالى فبطل هذا الظن وصح أن المراد بالرد المذكور في الآية التي نصصنا إنما هو إلى كلام الله تعالى وهو القرآن وإلى كلام نبيه صلى الله عليه و سلم المنقول على مرور الدهر إلينا جيل بعد جيل
قال علي وأيضا فليس في الآية المذكورة ذكر للقاء ولا مشافهة أصلا ولا دليل عليه وإنما فيه الأمر بالرد فقط ومعلوم بالضرورة أن هذا الرد إنما هو تحكيم وأوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه و سلم موجودة عندنا منقول كل ذلك إلينا فهي التي جاء نص الآية بالرد إليها دون تكلف تأويل ولا مخالفة ظاهر
قال علي والقرآن والخبر الصحيح بعضها مضاف إلى بعض
وهما شيء واحد في أنهما من عند الله تعالى وحكمها حكم واحد في باب وجوب الطاعة لهما لما قدمناه آنفا في صدر هذا الباب قال تعالى { يأيها لذين آمنوا أطيعوا لله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون } فبين تعالى بهذه الآية أنه لم يرد منا الإقرار بالطاعة لرسول الله صلى الله عليه و سلم بلا عمل بأوامره واجتناب نواهيه وهذه صفة المقلدين فإنهم يقولون طاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم واجبة فإذا أتاهم أمر من أوامره يقروه بصحته لم يصعب عليهم (1/94)
التولي عنه وهم يسمعون نعوذ بالله من ذلك
وقال تعالى { إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون } وقال تعالى { قل إنمآ أنذركم بلوحي ولا يسمع لصم لدعآء إذا ما ينذرون } فأخبر تعالى كما قدمنا أن كلام نبيه صلى الله عليه و سلم كله وحي والوحي بلا خوف ذكر والذكر محفوظ بنص القرآن
فصح بذلك أن كلامه صلى الله عليه و سلم كله محفوظ بحفظ الله عز و جل مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء إذ ما حفظ الله تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شيء فهو منقول إلينا كله
فلله الحجة علينا أبدا وقال تعالى { وما ختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى لله ذلكم لله ربي عليه توكلت وإليه أنيب } فوجدنا الله تعالى يردنا إلى كلام نبيه صلى الله عليه و سلم على ما قدمنا آنفا فلم يسمع مسلما يقر بالتوحيد أن يرجع عند التنازع إلى غير القرآن والخبر على رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا أن يأتي عما وجد فيهما فإن فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه فهو فاسق وأما من فعله مستحلا للخروج عن أمرهما وموجبا لطاعة أحد دونهما فهو كافر شك عندنا في ذلك
وقد ذكرنا محمد بن نصر المروزي أن إسحاق بن راهويه كان يقول من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم خبر يقر بصحته ثم رده بغير تقية فهو كافر ولم نحتج في هذا بإسحاق وإنما أوردناه لئلا يظن جاهل أننا منفردون بهذا القول وإنما احتججنا في تكفيرنا من استحل خلاف ما صح عنده عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بقول الله تعالى مخاطبا لنبيه صلى الله عليه و سلم { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }
قال علي هذه كافية لمن عقل وحذر وآمن بالله واليوم الآخر وأيقن أن هذا العهد عهد ربه تعالى إليه ووصيته عز و جل الواردة عليه فليفتش الإنسان نفسه فإن وجد في نفسه مما قضاه رسول الله صلى الله عليه و سلم في كل خبر يصححه مما قد بلغه أو وجد نفسه غير مسلمة لما جاءه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ووجد نفسه مائلة إلى قول فلان وفلان أو قياسه واستحسانه وأوجد نفسه تحكم فيما نازعت فيه أحدا دون (1/95)
رسول الله صلى الله عليه و سلم متى صاحت فمن دونه فليعلم أن الله تعالى قد أقسم وقوله الحق إنه ليس مؤمنا وصدق الله تعالى وإذا لم يكن مؤمنا فهو كافر ولا سبيل إلى قسم ثالث
وليعلم أن كل من قلد من صاحب أو تابع أو مالكا أو أبو حنيفة والشافعي وسفيان والأوزاعي وأحمد وداود رضي الله عنهم متبرئون منه في الدنيا والآخرة ويوم يقوم الأشهاد اللهم إنك تعلم أنا لا نحكم أحدا إلا كلامك وكلام نبيك الذي صليت عليه وسلمت في كل شيء مما شجر بيننا وفي كل ما تنازعنا فيه واختلفنا في حكمه وأننا لا نجد في أنفسنا حرجا مما قضى به نبيك ولو أسخطنا بذلك جميع من في الأرض وخالفناهم وصرنا دونهم حزبا وعليهم حربا وإننا مسلمون لذلك طيبة أنفسنا عليه مبادرون نحوه لا نتردد ولا نتلكأ عاصون لكل من خالف ذلك موقنون أنه على خطأ عندك وأنا على صواب لديك
اللهم فثبتنا على ذلك ولا تخالف بنا عنه وأسألك اللهم بأبنائنا وإخواننا المسلمين هذه الطريقة حتى ننقل جميعا ونحن مستمسكون بها إلى دار الجزاء آمين
بمنك يا أرحم الراحمين
قال علي وإذ قد بين الله لنا أن كلام نبيه إنما هو كله وحي من عنده وأن القرآن وحي من عنده وأيضا فقد قال فيه عز و جل { أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا } فصح بهذه الآية صحة ضرورية أن القرآن والحديث الصحيح متفقان هما شيء واحد لا تعارض بينهما ولا اختلاف يوفق الله تعالى لفهم ذلك من شاء من عباده ويحرمه من شاء لا إله إلا هو كما يؤتي الفهم والذكاء والصبر على الطلب للخير من شاء ويؤتي البلدة وبعد الفهم والكسل من شاء نسأل الله من هبته ما يقرب منه ويزلف لديه آمين
وصح بما ذكرنا بطلان قول من ضرب القرآن بعضه ببعض أو ضرب الحديث الصحيح بعضه ببعض أو ضرب القرآن بالحديث بعضهما ببعض وإن أمدنا الله بانفساخ مدة وأيدنا بعون من قبله فسنجمع في كل ذلك دواوين نبين فيها أشخاص السؤال والجواب والتأليف في كل ما ظنه أهل الجهل من ذلك متعارضا مختلف الحكم ونبين بحول الله وقوته أن كل ذلك شيء واحد لا اختلاف فيه وأن يختر منا قبل ذلك فحسبنا ما اطلع عليه من نيتنا في ذلك لا إله إلا هو وقال تعالى (1/96)
{ ألم تر إلى لذين أوتوا نصيبا من لكتاب يدعون إلى كتاب لله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون } وقال تعالى { وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل لله وإلى لرسول رأيت لمنافقين يصدون عنك صدودا }
قال علي بن أحمد فليتق الله الذي إليه المعاد امرؤ على نفسه ولتوجل نفسه عند قراءة هذه الآية وليشتد إشفاقه من أن يكون مختارا للدخول تحت هذه الصفة المذكورة المذمومة الموبقة الموجبة للنار فإن من ناظر خصمه في مسألة من مسألة الديانة وأحكامها التي أمرنا بالتفقه فيها فدعاه خصمه إلى ما أنزل الله تعالى وإلى كلام الرسول فصده عنهما ودعاه إلى قياس أو إلى قول فلان وفلان فليعلم أن الله عز و جل قد سماه منافقا
نعوذ بالله من هذه المنزلة المهلكة
فالتوبة التوبة عباد الله قبل حلول الأجل وانقطاع المهل قال تعالى { وإذا حضر لقسمة أولوا لقربى وليتامى ولمساكين فرزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا } وقال تعالى { ومآ أنزلنا عليك لكتاب إلا لتبين لهم لذي ختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } فصح أن البيان كله موقوف على كلام الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه و سلم وقال عز و جل { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى لله ورسوله أمرا أن يكون لهم لخيرة من أمرهم ومن يعص لله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا }
قال علي هذه الآية كافية من عند رب العالمين في أنه ليس لنا اختيار عند ورود أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه و سلم وأنه من خير نفسه في التزام أو ترك أو في الرجوع إلى قول قائل دون رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد عصى الله بنص هذه الآية فقد ضل ضلالا مبينا وأن المقيم على أمر سماه الله ضلالا لمخذول وقال تعالى { ومآ أرسلنا من رسول ألا ليطاع بإذن لله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآءوك فستغفروا لله وستغفر لهم لرسول لوجدوا لله توابا رحيما } وقال تعالى { مآ أفآء لله على رسوله من أهل لقرى فلله وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل كي لا يكون دولة بين لأغنيآء منكم ومآ آتاكم لرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا وتقوا لله إن لله شديد لعقاب } وقال تعالى { في بيوت أذن لله أن ترفع ويذكر فيها سمه يسبح له فيها بلغدو ولآصال } (1/97)
قال علي ومن جاءه خبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم يقر أنه صحيح وأن الحجة تقوم بمثله أو قد صحح مثل ذلك الخبر في مكان آخر ثم ترك مثله في هذا المكان لقياس أو لقول فلان وفلان فقد خالف أمر الله وأمر رسوله واستحق الفتنة والعذاب الأليم
قال علي أما الفتنة فقد عجلت له ولا فتنة أعظم من تماديه على ما هو فيه وارتطامه في هذه العظيمة أعظم فتنة ووالله ليصحن القسم الآخر إن لم يتدارك نفسه بالتوبة والإقلاع والطاعة لما أتاه من نبيه صلى الله عليه و سلم ورفض قبول قول من دونه كائنا من كان وبالله تعالى التوفيق
وقال تعالى { ويقولون آمنا بلله وبلرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك ومآ أولئك بلمؤمنين وإذا دعوا إلى لله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم لحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم رتابوا أم يخافون أن يحيف لله عليهم ورسوله بل أولئك هم لظالمون إنما كان قول لمؤمنين إذا دعوا إلى لله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم لمفلحون ومن يطع لله ورسوله ويخش لله ويتقه فأولئك هم لفآئزون وأقسموا بلله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن لله خبير بما تعملون قل أطيعوا لله وأطيعوا لرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على لرسول إلا لبلاغ لمبين } قال علي هذه الآيات محكمات لم تدع لأحد علقة يشغب بها قد بين الله فيها صفة فعل أهل زماننا فإنهم يقولون نحن المؤمنون بالله وبالرسول ونحن طائعون لهما ثم يتولى طائفة منهم بعد هذا الإقرار فيخالفون ما وردهم عن الله عز و جل ورسوله صلى الله عليه و سلم أولئك بنص حكم الله تعالى عليهم ليسوا مؤمنين وإذا دعوا إلى آيات من قرآن أو حديث عن الرسول صلى الله عليه و سلم يخالف كل ذلك تقليدهم الملعون أعرضوا عن ذلك فمن قائل ليس عليه العمل ومن قائل هذا خصوص ومن قائل هذا متروك (1/98)
ومن قائل أبى هذا فلان ومن قائل القياس غير هذا حتى إذا وجدوا في الحديث أو القرآن شيئا يوافق ما قلدوا فيه طاروا به كل مطار وأتوا إليه مذعنين كما وصف الله حرفا حرفا فيا ويلهم ما بالهم أفي قلوبهم مرض وريب أم يخافون جور الله تعالى وجور رسوله صلى الله عليه و سلم ألا إنهم هم الظالمون كما سماهم الله رب العالمين فبعدا للقوم الظالمين
ثم بين تعالى أن قول المؤمنين إذا دعوا إلى كتاب الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه و سلم ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وهذا جواب أصحاب الحديث الذين شهد لهم الله تعالى وقوله الحق أنهم مؤمنون وأنهم مفلحون وأنهم هم الفائزون اللهم فثبتنا فيهم ولا تخالف بنا عنهم واكتبنا في عدادهم واحشرنا في سوادهم آمين رب العالمين
ثم أخبرنا تعالى بما شهدناه من اكثر أهل زماننا وبما يميزونه من أنفسهم بظاهر أحوالهم وباطنها من أنهم يقولون نسمع لله ولرسوله صلى الله عليه و سلم ويقسمون على ذلك فقال لهم تعالى لا تقسموا ولكن أطيعوا أن حققوا ما تقولون بإقراركم وفعلكم واتركوا حكم كل حاكم وقول كل قائل دون قول الله تعالى وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم
ثم أخبرنا تعالى أنه ليس على رسول الله صلى الله عليه و سلم غير ما حمله ربه وهو التبليغ والتبيين وقد فعل صلى الله عليه و سلم ذلك وأخبرنا تعالى أن علينا ما حملنا وهو الطاعة والانقياد لما أمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم والعمل بذلك لا لما أمرنا به من دونه وبالله تعالى التوفيق
قال علي لقد كان في آية واحدة مما تلونا كفاية لمن عقل وفهم فكيف وقد أبدأ ربنا تعالى في ذلك وأعاد وكرر وأكد ولم يدع لأحد متعلقا وقد أنذرنا كما أمرنا وألزمنا في القرآن وما توفيقنا إلا بالله عز و جل ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل
فصل فيه أقسام الإخبار عن الله تعالى
قال أبو محمد جاء النص ثم لم يختلف فيه مسلمان في أن ما صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال ففرض اتباعه وأنه تفسير لمراد الله تعالى في القرآن وبيان لمجمله (1/99)
ثم اختلف المسلمون في الطريق المؤدية إلى صحة الخبر عنه عليه السلام بعد الإجماع المتيقن المقطوع به على ما ذكرنا وعلى الطاعة من كل مسلم لقوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فنظرنا في ذلك فوجدنا الأخبار تنقسم قسمين خبر تواتر وهو ما نقلته كافة بعد كافة حتى تبلغ به النبي صلى الله عليه و سلم وهذا خبر لم يختلف مسلمان في وجوب الأخذ به وفي أنه حق مقطوع على غيبه لأن بمثله عرفنا أن القرآن هو الذي أتى به محمد صلى الله عليه و سلم وبه علمنا صحة مبعث النبي صلى الله عليه و سلم وبه علمنا عدد ركوع كل صلاة وعدد الصلوات وأشياء كثيرة من أحكام الزكاة وغير ذلك مما لم يبين في القرآن تفسيره وقد تكلمنا في كتاب الفصل على ذلك وبينا أن البرهان قائم على صحته وبينا كيفيته وأن الضرورة والطبيعة توجبان قبوله وأن به عرفنا ما لم نشاهد من البلاد ومن كان قبلنا من الأنبياء والعلماء والفلاسفة والملوك والوقائع والتوالف
ومن أنكر ذلك كان بمنزلة من أنكر ما يدرك بالحواس الأول ولا فرق
ولزمه أن يصدق بأنه كان قبله زمان ولا أن أباه وأمه كانا قبله ولا أنه مولود من امرأة
قال علي وقد اختلف الناس في مقدار عدد النقلة للخبر الذي ذكرنا فطائفة قالت لا يقبل الخبر إلا من جميع أهل المشرق والمغرب وقالت طائفة لا يقبل إلا من عدد لا نحصيه نحن
وقالت طائفة لا يقبل أقل من ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا عدد أهل بدر وقالت طائفة لا يقبل إلا من سبعين
وقالت طائفة لا يقبل إلا من خمسين عدد القسامة وقالت طائفة لا يقبل إلا من أربعين لأنه العدد الذي لما بلغه المسلمون أظهروا الدين وقالت طائفة لا يقبل إلا من عشرين وقالت طائفة لا يقبل إلا من اثني عشر وقالت طائفة لا يقبل إلا من خمسة وقالت طائفة لا يقبل إلا من أربعة وقالت طائفة لا يقبل إلا من ثلاثة لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه إنه قد نزل به جائحة وقالت طائفة لا يقبل إلا من اثنين
قال علي وهذه كلها أقوال بلا برهان وما كان هكذا فقد سقط
ويكفي في إبطال ذلك أن ننبه كل من يقول بشيء من هذه الحدود على أن يقيس كل ما يعتقد صحته من أخبار دينه ودنياه فإنه لا سبيل له البتة إلى أن يكون شيء منها صح عنده (1/100)
بالعدد الذي شرط كل واحد من ذلك العدد عن مثل ذلك العدد كله
وهكذا متزايدا حتى يبلغ إلى تحقيق ذلك الخبر م 8 ن دينه أو دنياه فحصل من كل قول منها بطلان كل خبر جملة ولا نحاشي شيئا لأنه وإن سمع هو بعض الأخبار من العدد الذي شرط فلا بد أن يبطل تلك المرتبة فيما فوق ذلك
وكل قول أدى إلى الباطل فهو باطل بلا شك وبالله تعالى التوفيق فلم يبق إلا قول من قال بالتواتر ولم يحد عددا
قال علي ونقول ههنا إن شاء الله تعالى قولا باختصار فنقول وبالله تعالى التوفيق لكل من حد في عدد نقلة خبر التواتر حدا لا يكون أقل منه يوجب تيقن صدقه ضرورة من سبعين أو عشرين أو عدد لا نحصيهم وإن كان في ذاته محصي ذا عدد محدود أو أهل المشرق والمغرب ولا سبيل إلى لقائه ولا لقاء أحد لهم كلهم ولا بد له من الاقتصار على بعضهم دون بعض بالضرورة ولا بد من أن يكون لذلك التواتر الذي يدعونه في ذاته عدد إن نقص منه واحد لم يكن متواترا وإلا فقد ادعوا ما لا يعرف أبدا ولا يعقل
فإذن لا بد من تحديد عدد ضرورة فنقول لهم ما تقولون إن سقط من هذا الحد الذي حددتم واحد أيبطل سقوط ذلك الواحد قبول ذلك الخبر أم لا يبطله فإن قال يبطله تحكم بلا برهان وكل قول بمجرد الدعوى بلا برهان فهو مطروح ساقط فإن قال بقبوله أسقطنا له آخر ثم آخر حتى يبلغ إلى واحد فقط وإن حد عددا سئل عن الدليل على ذلك فلا سبيل له إليه البتة
وأيضا فإنه ما في القول فرق بين ما نقله عشرون وبين ما نقله تسعة عشر ولا بين ما نقله سبعون ولا ما نقله تسعة وستون وليس ذكر هذه الأعداد في القرآن وفي القسامة وفي بعض الأحوال وفي بعض الأخبار بموجب ألا يقبل أقل منها في الأخبار وقد ذكر تعالى في القرآن أعدادا غير هذه فذكر تعالى الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة والمائة ألف وغير ذلك ولا فرق بين ما تعلق بعدد منها وبين ما تعلق بعدد آخر منها ولم يأت من هذه الأعداد في القرآن شيء في باب قبول الأخبار ولا في قيام حجة بهم فصارف ذكرها إلى ما لم يقصد بها مجرم وقاح محرف للكلم عن مواضعه وإن قال لا يبطل قبول الخبر بسقوط واحد من العدد الذي حد كان قد ترك مذهبه الفاسد ثم سألناه عن (1/101)
إسقاط آخر أيضا مما بقي من ذلك العدد وهكذا حتى يبعد عما حد بعدا شديدا فإن نظروا هذا بما يمكن حده من الأشياء كانوا مدعين بلا دليل ومشبهين بلا برهان وحكم كل شيء يجعله المرء دينا له أن ينظر في حدوده ويطلبها إلا ما أصبح إجماع أو نص أو أوجبت طبيعة ترك طلب حده وقد قال بعضهم لا يقبل من الأخبار إلا ما نقلته جماعة لا يحصرها العدد
قال أبو محمد وهذا قول من غمره الجهل لأنه ليس هذا موجدا في العالم أصلا وكل ما فيه فقد حصره العدد وإن لم نعلمه نحن وإحصاؤه ممكن لمن تكلف ذلك فعلى هذا القول الفاسد قد سقط قبول جميع الأخبار جملة وسقط كون النبي صلى الله عليه و سلم في العالم وهذا كفر
وأيضا فيلزم هؤلاء وكل من حد في عدد من لا تصح الأخبار بأقل من نقل ذلك العدد أمر فظيع يدفعه العقل ببديهته وهو ألا يصح عندهم كل أمر يشهده أقل من العدد الذي حدوا وألا يصح عندهم كل أمر حصره عدد من الناس وكل أمر لم يحصره أهل المشرق والمغرب فتبطل الأخبار كلها ضرورة على حكم هذه الأقوال الفاسدة وهم يعرفون بضرورة حسهم صدق أخبار كثيرة من موت وولادة ونكاح وعزل وولاية واغتفال منزل وخروج عدو شر واقع وسائر عوارض العالم مما لا يشهده الا النفر اليسير ومن خالف هذا فقد كابر عقله ولم يصح عنده شيء مما ذكرنا أبدا لا سيما إن كان ساكنا في قرية ليس فيها إلا عدد يسير مع أنه لا سبيل له إلى لقاء أهل المشرق والمغرب
قال علي فإن سألنا سائل فقال ما حد الخبر الذي يوجب الضرورة فالجواب وبالله تعالى التوفيق أننا نقول إن الواحد من غير الأنبياء المعصومين بالبراهين عليهم السلام قد يجوز عليه تعمد الكذب يعلم ذلك بضرورة الحس وقد يجوز على جماعة كثيرة أن يتواطؤوا على كذبة إذا اجتمعوا ورغبوا أو رهبوا
ولكن ذلك لا يخفى من قبلهم بل يعلم اتفاقهم على ذلك الكذب بخبرهم إذا تفرقوا لا بد من ذلك
ولكنا نقول إذا جاء اثنان فأكثر من ذلك وقد تيقنا أنهما لم يلتقيا ولا دسسا ولا كانت لهما رغبة فيما أخبر به ولا رهبة منه ولم يعلم أحدهما بالآخر فحدث كل واحد منهما مفترقا عن صاحبه بحديث طويل لا يمكن أن يتفق خاطر اثنين على توليد مثله وذكر كل واحد منهما مشاهدة أو لقاء لجماعة شاهدت أو أخبرت عن مثلها بأنها (1/102)
شاهدت فهو خبر صدق يضطر بلا شك من سمعه إلى تصديقه ويقطع على غيبه
وهذا الذي قلنا يعلمه حسا من تدبره ورعاه فيما يرده كل يوم من أخبار زمانه من موت أو ولادة أو نكاح أو عزل أو ولاية أو وقعة وغير ذلك وإنما خفي ما ذكرنا على من خفي عليه لقلة مراعاته يمر به ولو أنك تكلف إنسانا واحدا اختراع حديث طويل كاذب لقدر عليه يعلم ذلك بضرورة المشاهدة فلو أدخلت اثنين في بيتين لا يلتقيان وكلفت كل واحد منهما توليد حديث كاذب لما جاز بوجه من الوجوه أن يتفقا فيه من أوله إلى آخره
هذا ما لا سبيل إليه بوجه من الوجوه أصلا وقد يقع في الندرة التي لم نكد نشاهدها اتفاق الخواطر على الكلمات اليسيرة والكلمتين نحو ذلك
والذي شاهدنا اتفاق شاعرين في نصف بيت شاهدنا ذلك مرتين من عمرنا فقط
وأخبرني من لا أثق به أن خاطره وافق خاطر شاعر آخر في بيت كامل واحد ولست أعلم ذلك صحيحا
وأما الذي لا أشك فيه وهو ممتنع في العقل فاتفاقهما في قصيدة بل في بيتين فصاعدا
والشعر نوع من أنواع الكلام ولكل كلام تأليف ما والذي ذكره المتكلمون في الأشعار من الفصل الذي سموه المواردة وذكروا أن خواطر شعراء اتفقت في عدة أبيات فأحاديث مفتعلة لا تصح أصلا ولا تتصل
وما هي إلا سراقات وغارات من بعض الشعراء على بعض
قال علي وقد يضطر خبر الواحد إلى العلم بصحته إلا أن اضطراره ليس بمطرد ولا في وقت ولكن على قدر ما يتهيأ
وقد بينا ذلك في كتاب الفضل
قال علي فهذا قسم
قال علي القسم الثاني من الأخبار ما نقله الواحد عن الواحد فهذا إذا اتصل برواية العدول إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وجب العمل به ووجب العلم بصحته أيضا وبين هذا وبين شهادة العدول فرق نذكره إن شاء الله تعالى وهو قول الحارث بن أسد المحاسبي والحسين بن علي الكرابيسي
وقد قال به أبو سليمان وذكره ابن خويز منداد عن مالك بن أنس والبرهان على صحة وجوب قبوله قول الله عز و جل { وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } فأوجب الله تعالى على كل فرقة قبول نذارةالنافر منها (1/103)
بأمره النافر بالنفقة وبالنذارة ومن أمره الله تعالى بالتفقه في الدين وإنذار قومه فقد انطوى في هذا الأمر إيجاب قبول نذارته على من أمره بإنذارهم
والطائفة في لغة العرب التي بها خوطبنا يقع على الواحد فصاعدا وطائفة من الشيء بمعنى بعضه هذا ما لا خلاف بين أهل اللغة فيه وإنما حد من حد في قوله تعالى { لزانية ولزاني فجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين لله إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر وليشهد عذابهما طآئفة من لمؤمنين } ( النور 2 ) أنهم أربعة لدليل ادعاه وكان بذلك ناقضا لمعهود اللغة ولم يدع قط قائل ذلك القول أن الطائفة في اللغة لا تقع إلا على أربعة
وأما نحن فاللازم عندنا أن يشهد عذاب الزنى واحد على ما نعرف من معنى الطائفة فإن شهد اكثر فذلك مباح والواحد يجزي
وبرهان آخر وهو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث رسولا إلى كل ملك من ملوك الأرض المجاورين لبلاد العرب وقد اعترض بعض من يخالفنا في ذلك بأن قال إن الرفاق والتجار وردوا بأمر النبي صلى الله عليه و سلم فلم يقتصر بذلك على الرسول وحده
قال أبو محمد وهذا شغب وتمويه لا يجوز إلا على ضعيف ونحن لا نشك أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقتصر بالرسل المذكورين على الإخبار بظهوره ومعجزاته المنقولة بخير الرفاق والسفار بل أمرهم بتعليم من أسلم شرائع الإسلام ومسائل العبادات والأحكام ليس من شيء من ذلك منقولا على ألسنة الرفاق والسفار وبعثه هؤلاء الرسل مشهورة بلا خوف منقولة نقل الكواف
فقد ألزم النبي صلى الله عليه و سلم كل ملك
ورعيته قبول ما أخبرهم به الرسول الموجه نحوهم من شرائع دينهم
قال علي وكذلك بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم معاذا إلى الجند وجهات من اليمن
وأبا موسى إلى جهة أخرى وهي زبيد وغيرها وأبا بكر على الموسم مقيما للناس حجهم وأبا عبيدة إلى نجران وعليا قاضيا إلى اليمن وكل من هؤلاء مضى إلى جهة ما معلما لهم شرائع الإسلام وكذلك بعث أميرا إلى كل جهة أسلمت بعدت منه أو قربت كأقصى اليمن والبحرين وسائر الجهات والأحياء والقبائل التي أسلمت بعث إلى كل طائفة رجلا معلما لهم دينهم ومعلما لهم القرآن ومفتيا لهم في أحكام دينهم وقاضيا فيما وقع بينهم وناقلا إليهم ما يلزمهم عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم وهم مأمورون بقبول ما يخبرونهم به على نبيهم صلى الله عليه و سلم (1/104)
وبعثه هؤلاء المذكورين مشهورة بنقل التواتر من كافر ومؤمن لا يشك فيها أحد من العلماء ولا من المسلمين ولا في أن بعثهم إنما كانت لما ذكرنا من المحال الباطل الممتنع أن يبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم من لا تقوم عليهم الحجة بتبليغه ومن لا يلزمهم قبول ما علموهم من القرآن وأحكام الدين
وما أفتوهم به في الشريعة ومن لا يجب عليهم الانقياد لما أخبروهم به من كل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ لو كان ذلك لكانت بعثته لهم فضولا ولكان عليه السلام قائلا للمسلمين بعثت إليكم من لا يجب عليكم أن تقبلوا منه ما بلغكم عني ومن حكمكم ألا تلتفتوا إلى ما نقل إليكم عني وألا تسمعوا منه ما أخبركم به عني ومن قال بهذا فقد فارق الإسلام
وكذلك من نشأ في قرية أو مدينة ليس بها إلا مقرىء واحد أو محدث واحد أو مفت واحد فنقول لمن خالفنا ماذا تقولون أيلزمه إذا قرأ القرآن على ذلك المقرىء أن يؤمن بما أقرأه وأن يصدق بأنه كلام الله تعالى ويثبت على ذلك أم عليه أن يشك ولا يصدق بأنه كلام الله عز و جل فإن قالوا يلزمه الإقرار بأنه كلام الله تعالى
قلنا صدقتم فأي فرق بين نقلهم للقرآن وبين نقلهم لسائر السنن وكلاهما من عند الله تعالى وكلاهما فرض قبوله وإن قالوا عليه أن يشك فيه حتى يلقى الكواف أتوا بعظيمة في الدين
ونسألهم حينئذ فيمن لقي من ذلك اثنين أو ثلاثة أو أربعة فلا بد لهم من حد يقفون عنده من العدد فيكون قولهم سخريا وباطلا ودعوى بلا برهان أو يحيلوا على معدوم فيما لا يصح على قولهم قبول القرآن والدين إلا به وفي هذا إبطال للدين والقرآن جملة والمنع من اعتمادهما ونعوذ بالله من هذا وهكذا القول في وجوب طاعة من أخذ عن أولئك الرسل قرآنا أو سنة وبلغ ذلك إلى غيره ولأنها بلاد واسعة لا سبيل لكل واحد من أولئك الرسل إلى لقاء جميعهم من رجل وامرأة لكن يبلغ ويبلغ من بلغه هو وهكذا أبدا لئلا يقول جاهل هذا خصوص لأولئك الرسل
وقال تعالى { يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } (1/105)
قال أبو محمد لا يخلو النافر للتفقه في الدين من أن يكون عدلا أو فاسقا ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن كان فاسقا فقد أمرنا بالتبين في أمره وخبره من غير جهته فأوجب ذلك سقوط قبوله فلم يبق إلا العدل
فكان هو المأمور بقبول نذارته
قال أبو محمد وهذا برهان ضروري لا محيد عنه رافع للإشكال والشك جملة
وقد بينا هذا النوع من البرهان في كتابنا في حدود الكلام المعروف بالتقريب قال علي وقد توهم من لا يعلم أنا إنما أوجبنا قبول خبر العدل من قوله تعالى { يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } فقط
قال أبو محمد وقد أغفل من تأول علينا ذلك ولو لم تكن إلا هذه الآية وحدها لما كان فيها ما يدل على قبول خبر العدل ولا على المنع من قبوله بل إنما منع فيها من قبول خبر الفاسق فقط وكان يبقى خبر العدل موقوفا على دليله ولكن لما استفاضت هذه الآية التي فيها المنع من قبول خبر الفاسق إلى الآية التي فيها قبول نذارة النافر للتفقه صارتا مقدمتين أنتجتا قبول خبر الواحد العدل دون الفاسق بضرورة البرهان وبالله تعالى التوفيق
قال علي وقد أوجب الله تعالى على كل طائفة إنذار قومها وأوجب على قومها قبول نذارتهم بقوله تعالى { وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } فقد حذر تعالى من مخالفة نذارة الطائفة والطائفة في اللغة تقع على بعض الشيء كما قدمنا ولا يختلف اثنان من المسلمين في أن مسلما ثقة لو دخل أرض الكفر فدعا قوما إلى الإسلام وتلا عليهم القرآن وعلمهم الشرائع لكان لازما لهم قبوله ولكانت الحجة عليهم بذلك قائمة
وكذلك لو بعث الخليفة أو الأمير رسولا إلى ملك من ملوك الكفر أو إلى أمة من أمم الكفر ويدعوهم إلى الإسلام ويعلمهم القرآن وشرائع الدين ولا فرق
وما قال قط مسلم إنه كان حكم أهل اليمن أن يقولوا لمعاذ ولمن بعثه عليه السلام إلى كل ناحية معلما ومفتيا ومقرئا
نعم أنت رسول رسول الله صلى الله عليه و سلم وعقد الإيمان حق (1/106)
عندنا
ولكن ما أفتيتنا به وعلمتنا من أحكام الصلاة ونوازل الزكاة وسائر الديانة عن النبي صلى الله عليه و سلم وما أقرأتنا من القرآن عنه عليه السلام فلا نقبله منك ولا نأخذه عنك لأن الكذب جائز عليك ومتوهم منك حتى يأتينا لكل ذلك كواف وتواتر
بل لو قالوا ذلك لكانوا غير مسلمين
وكذلك لا يختلف اثنان في أن رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما بعث من بعث من رسله إلى الآفاق لينقلوا إليهم عنه القرآن والسنن وشرائع الدين وأنه عليه السلام لم يبعثهم إليه ليشرعوا لهم دينا لم يأت هو به عن الله تعالى فصح بهذا كله أن كل ما نقله الثقة عن الثقة مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من قرآن أو سنة ففرض قبوله والإقرار به والتصديق به واعتقاده والتدين به وأن كل ما صح عن صاحب أو تابع أو من دونهم من قراءة لم تستند إلى النبي صلى الله عليه و سلم أو من فتيا لم تسند إليه صلى الله عليه و سلم فلا يحل قبول شيء من ذلك لأنه لم يوجبه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه و سلم وكل ذلك قد صح عن الواحد بعد الواحد من الصحابة والتابعين وليس فضلهم بموجب قبول آرائهم ولا بمانع أن يهموا فيما قالوه بظنهم لكن فضلهم معف على كل خطأ كان منهم وراجح به وموجب تعظيمهم وحبهم وبالله تعالى التوفيق
وبرهان آخر وهو أنه قد صح يقينا وعلم ضرورة أن جميع الصحابة أولهم عن آخرهم قد اتفقوا دون اختلاف من أحد منهم ولا من أحد من التابعين الذين كانوا في عصرهم على أن كل أحد منهم كان إذا نزلت به النازلة سأل الصاحب عنها وأخذ بقوله فيها وإنما كانوا يسألونه عما أوجبه النبي صلى الله عليه و سلم عن الله تعالى في الدين في هذه القصة ولم يسأل قط أحد منهم إحداث شرع في الدين لم يأذن به الله تعالى وهكذا كل من بعدهم جيلا فجيلا لا نحاشي أحدا ولا خلاف بين مؤمن ولا كافر قطعا في أن كل صاحب وكل تابع سأله مستفت عن نازلة في الدين فإنه لم يقل له قط لا يجوز لك أن تعمل بما أخبرتك به عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يخبرك بذلك الكواف كما قالوا لهم فيما أخبروا به أنه رأى منهم فلم يلزموهم قبوله
فإن قيل فاجعل هذه الحجة نفسها حجة في قبول المرسل قلنا ليس كذلك لأنه لم يصح الإجماع قط لا قديما ولا حديثا على قبول المرسل بل في التابعين من لم يقبله كالزهري وغيره يسألون من أخبرهم عمن أخبرهم حتى يبلغوه إلى النبي صلى الله عليه و سلم (1/107)
وإنما سقط ذلك عمن ليس في قوته فهم الإسناد ومعرفته فقط وقد قال الزهري لأهل الشام ما لي أرى أحاديثكم لا خطم لها ولا أزمة فصاروا حينئذ إلى قوله وغير الزهري أيضا كثير
فصح بهذا إجماع الأمة كلها على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه و سلم وأيضا فإن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه و سلم يجزي على ذلك كل فرقة في علمها كأهل السنة والخوارج والشيعة والقدرية حتى حدث متكلمو المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالفوا الإجماع في ذلك ولقد كان عمرو بن عبيد يتدين بما يروي عن الحسن ويفتي به هذا أمر لا يجهله من له أقل علم
وبرهان آخر وهو أنه عدد محصور فالتواطؤ جائز عليهم وممكن منهم ولا خلاف بين كل ذي علم بشيء من أخبار الدنيا مؤمنهم وكافرهم أن النبي صلى الله عليه و سلم كان بالمدينة وأصحابه رضي الله عنهم مشاغيل في المعاش وتعذر القوت عليهم لجهد العيش بالحجاز وأنه عليه السلام كان يفتي بالفتيا ويحكم بحضرة من حضره من أصحابه فقط وإن الحجة إنما قامت على سائر من لم يحضره عليه السلام بنقل من حضره وهم واحد واثنان وفي الجملة عدد لا يمتنع من مثلهم بالتواطؤ عند خصومنا فإذ جميع الشرائع إلا الأقل منها راجعة إلى هذه الصفة من النقل وقد صح الإجماع من الصدر الأول كلهم نعم وممن بعدهم على قبول خبر الواحد لأنها كلها راجعة إليه وإلى ما كان في معناه وهذا برهان ضروري وبالله تعالى التوفيق
وبالضرورة نعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن إذا أفتى بالفتيا أو إذا حكم بالحكم يجمع لذلك جميع من بالمدينة هذا ما لا شك فيه لكنه عليه السلام كان يقتصر على من بحضرته ويرى أن الحجة بمن يحضره قائما على من غاب هذا ما لا يقدر على دفعه ذو حس سليم وبالله تعالى التوفيق
قال علي وأقوى ما شغب به من أنكر قبول خبر الواحد أن نزع بقول الله تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا }
قال أبو محمد وهذه الآية حجة لنا عليهم في هذه المسألة لأنا لم نقف ما ليس لنا به علم بل ما قد صح لنا به العلم وقام البرهان على وجوب قبوله وصح العلم بلزوم اتباعه والعمل به فسقط اعتراضهم بهذه الآية والحمد لله رب العالمين (1/108)
وقال بعضهم أنتم لا تقبلون الواحد في فلس فكيف تقبلونه في إثبات الشرائع قال أبو محمد هذا السؤال لا يلزمنا لأننا لا نقيس شريعة على شريعة ولا نتعدى ما جاءت به النصوص وثبت في القرآن والسنن فصح البرهان كما ذكرنا بقبول خبر الواحد في العبادات والشرائع وقبول القرآن فقلنا به وصح الخبر بقبول المرأة الواحدة في أوضاع فقلنا به وصح الخبر بقبول الواحد مع اليمين فيما عدا الحدود فقلنا به وصح الخبر والنص بقبول الرجلين أو الرجل والمرأتين فيما عدا الزنى فقلنا به وصح النص بقبول أربعة في الزنى فقلنا به ولم نعارض شريعة بشريعة ولا تعقبنا على ربنا عز و جل ونحن وهم نقبل في إباحة الدم الحرام من المسلم الفاضل والفرج الحرام من المسلمة الفاضلة والبشرة المحرمة في جلد ثمانين في القذف وفي قطع اليد والرجل رجلين ولا نقبلهما فيما يوجب إلا خمسين جلدة من زنى الأمة لا على مؤمنة ولا على كافر فأين هم عن هذا الاعتراض الفاسد لو عقلوا وهم يقعوا تحت إنكار ربهم تعالى عليهم إذ يقول { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون }
وقد قال بعض المتحكمين في الدين بقلة الورع ممن يدعي أنه من أهل القول بقبول السنن من طرق الآحاد إن الخبر إذا كان مما يعظم به البلوى لم يقبل فيه خبر الواحد ومثل ذلك بعضهم بالآثار المروية في الأذان والإقامة وقال إن الأذان والإقامة كانا بالمدينة بحضرة الأئمة من الصحابة رضي الله عنهم خمس مرات كل يوم فهذا مما تعظم به البلوى فمحال أن يعرف حكمه الواحد ويجهله الجماعة ومثل ذلك بعضهم أيضا بخبر الوضوء من مس الذكر
قال أبو محمد وهذا كلام فاسد متناقض أول ذلك أن الدين كله تعظم به البلوى ويلزم للناس معرفته وليس هذا ما وقع في الدهر مرة من أمر الطهارة والحج أوجب في أنه فرض أو حرام مما يقع في كل يوم ولا يفرق بين ذلك إلا جاهل أو من لا يبالي بما تكلم ويقال له في الأذان الذي ذكر لا فرق بين أذان المؤذن بالمدينة بحضرة عمر وعثمان رضي الله عنهما خمس مرات كل يوم وبين أذان المؤذن بالكوفة بحضرة ابن مسعود وعلي خمس مرات كل يوم وليست نسبة الرضا بتبديل الأذان إلى (1/109)
علي وابن مسعود بأخف من نسبة ذلك إلى عمر وعثمان فبطل تمويه هذا الجاهل وبان تخليطه
وكذلك الوضوء من مس الذكر ليست البلوى به بأعظم من البلوى بإيجاب الوضوء من الرعاف والقلس وقد أوجبه الحنفيون بخبر ساقط ولم يعرفه المالكيون ولا الشافعيون ولا البلوى أيضا بذلك أعظم من البلوى بإيجاب الوضوء من المسة والقبلة للذة ومن إيجاب التدلك في الغسل وقد أوجبها المالكيون ولا يعرف ذلك الحنفيون ومثل هذا كثير جدا فإن قالوا أوجبنا ذلك بالقرآن
قيل لهم قد عرف القرآن غيركم كما عرفتموه فما رأوا فيه ما ذكرتم مع عظيم البلوى به وقد بينا في كتابنا هذا أن مغيب السنة عمن غاب عنه من صاحب أو غيره ليس حجة على من بلغته وإنما الحجة في السنة
وقد غاب نسخ التطبق في الركوع عن ابن مسعود وهو مما تعظم به البلوى به ويتكرر على المسلم أكثر من بضع عشرة مرة في كل يوم وليلة وخفي على عمر رضي الله عنه أمر جزية المجوس والأمر في قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم لها من مجوس هجر عاما بعد عام وأبي بكر بعده عاما بعد عام أشهر من الشمس ولم تكن فضلة قليلة بل قد ثبت أنه لم يقدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم مال أكثر منه على قلة المال هناك حينئذ وخفي على عمر وابن عمر أيضا الوضوء من المذي وهو مما تعظم البلوى به وهذا كثير جدا ويكفي من هذا أن قول هذا القائل دعوى مجردة بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل مطرح قال عز و جل { وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } ولا يجوز أن يعارض ما قد صح البرهان به من وجوب قبول السنن من طريق الآحاد بدعوى ساقطة فاسدة وبالله تعالى التوفيق
وقال أيضا بعض الحنفيين ما كان من الأخبار زائدا على ما في القرآن أو ناسخا له أو مخالفا له لم يجز أخذه بخبر الواحد إلا حتى يأتي به التواتر
قال أبو محمد وهذا تقسيم باطل ودعوى كاذبة وحكم بلا برهان وما كان هكذا فهو ضلال لا يحل القول به ونقول لهم أيجوز الأخذ بشيء من أخبار الآحاد في شيء (1/110)
من الشريعة أم لا فإن قالوا لا كلمناهم بما قد فرغنا منه آنفا وكانوا خارجين عن مذهبهم أيضا وإن قالوا نعم وهو قولهم
قلنا لهم من أين جوزتم أن يخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم به وأن يشرع به في دين الله عز و جل شريعة تضاف إليه في الصلاة والزكاة والصوم والحج وغير ذلك في الموضع الذي أجزيتموه فيه ثم منعتم من قوله حيث هو بزعمك زائد على ما في القرآن أو ناسخ له فلا سبيل إلى فرق أصلا وأما قولهم مخالف الأصول فكلام فاسد فارغ من المعنى واقع على ما لا يعقل لأن خبر الواحد الثقة المسند أصل من أصول الدين وليس سائر الأصول أولى بالقبول منه ولا يجوز أن تتنافى أصول الدين حاشا لله من هذا
ثم نقول اعلموا أن كل خبر روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم رواية صحيحة مسندة فإنه ولا بد زائد حكم على ما في القرآن أو أتي بما في نص القرآن لا بد من أحد الوجهين فيه
والزائد حكما على ما في القرآن ينقسم قسمين إما جاء بما لم يذكر في القرآن كغسل الرجلين في الوضوء وكرجم المحصن ونحو ما أخذوا به من إباحة صوم رمضان للمسافر ومن إيجاب الوضوء من القهقهة في الصلاة ومن الوضوء بالنبيذ ومن القلس والقيء والرعاف وكتخصيص ظاهر القرآن كعدد ما لا يقطع السارق في أقل منه وما لا يحرم من الرضاع أقل منه فهذا أيضا زائد حكم على ما في القرآن ومثله ما بين مجمل القرآن كصفة الصلاة وصفة الزكاة وسائر ما جاءت به السنن فهو زائد حكم على ما في القرآن
فمن أين جوزتم أخذ الزائد على ما في القرآن كما ذكرنا حيث اشتهيتم ومنعتم منه حيث اشتهيتم وهذا ضلال لا خفاء به وكل ما وجب العمل به في الشريعة فهو واجب أبدا في كل حال وفي كل موضع إلا أن يأتي نص قرآني أو سنة بالمنع من بعض ذلك فيوقف عنده وأما بالآراء المضلة والأهواء السخيفة فلا على أنهم آخذ الناس بخلاف القرآن برأي فاسد أو قياس سخيف أو خبر ساقط كالوضوء من القهقهة وسائر تلك الأخبار الفاسدة وتأملوا ما نقول لكم قد أجمعوا معنا على قبول ما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم من نسخ للقرآن أو زيادة عليه واتفقوا معنا على أن خبر الواحد الثقة عن مثله مسندا حجة في الدين ثم تناقضوا كما ذكرنا بلا برهان ونعوذ بالله من الخذلان وقد ثبت عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وداود رضي الله عنهم وجوب القول بخبر (1/111)
الواحد وهذا حجة على من قلد أحدهم في وجوب القول بخبر الواحد وإن خالف من قلده من بعض من ذكرنا خطأ وتناقضا لا يعزى منه بشر بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم وبالله تعالى التوفيق
ومن البرهان في قبول خبر الواحد خبر الله تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال له رجل { وجآء رجل من أقصى لمدينة يسعى قال يموسى إن لملأ يأتمرون بك ليقتلوك فخرج إني لك من لناصحين } فصدقه وخرج فارا وتصديقه المرأة في قولها { فجآءته إحداهما تمشي على ستحيآء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جآءه وقص عليه لقصص قال لا تخف نجوت من لقوم لظالمين } فمضى معها وصدقها وبالله تعالى التوفيق
فصل هل يوجب خبر الواحد العدل العلم مع العمل أو العمل دون العلم
قال أبو محمد قال أبو سليمان والحسين عن أبي علي الكرابيسي والحارث بن أسد المحاسبي وغيرهم أن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يوجب العلم والعمل معا وبهذا نقول وقد ذكر هذا القول أحمد بن إسحاق المعروف بابن خويز منداد عن مالك بن أنس
وقال الحنفيون والشافعيون وجمهور المالكيين وجميع المعتزلة والخوارج إن خبر الواحد لا يوجب العلم ومعنى هذا عند جميعهم أنه قد يمكن أن يكون كذبا أو موهوما فيه واتفقوا كلهم في هذا وسوى بعضهم بين المسند والمرسل
وقال بعضهم المرسل لا يوجب علما ولا عملا وقد يمكن أن يكون حقا وجعلت المعتزلة والخوارج هذا حجة لهم في ترك العمل به قالوا ما جاز أن يكون كذبا أو خطأ فلا يحل الحكم به في دين الله عز و جل ولا أن يضاف إلى الله تعالى ولا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يسع أحدا أن يدين به وقال سائر من ذكرنا إنه يوجب العمل واحتج كل من ذكرنا بأن هذه صفة كل خبر واحد في جواز الكذب وتعمده (1/112)
وإمكان السهو فيه وإن لم يتعمد الكذب
وقال أبو بكر بن كيسان الأصم البصري لو أن مائة خبر مجموعة قد ثبت أنها كلها صحاح إلا واحدا منها لا يعرف بعينه أيها هو قال فإن الواجب التوقف عن جميعها فكيف وكل خبر منها لا يقطع على أنه حق متيقن ولا يؤمن فيه الكذب والنسخ والغلط
قال أبو محمد أما احتجاج من احتج بأن صفة كل خبر واحد هي أنه يجوز عليه الكذب والوهم فهو كما قالوا إلا أن يأتي برهان حسي ضروري أو برهان منقول نقلا يوجب العلم من نص ضروري على أن الله تعالى قد برأ بعض الأخبار من ذلك فيخرج بدليله عن أن يجوز فيه الكذب والوهم وقد وافقنا المعتزلة وكل من يخالفنا في هذا المكان على أن خبر النبي صلى الله عليه و سلم في الشريعة لا يجوز فيه الكذب ولا الوهم لقيام الدليل على ذلك
وقال أصحاب القياس إن إجماع الأمة على القياس معصوم من الخطأ بخلاف إجماع سائر الملل لقيام دليل ادعوه في ذلك وكما أجمعتم معنا على القطع ببراءة عائشة رضي الله عنها وخروج ما قذفت به عن الإمكان لقيام البرهان بذلك عند جميعكم وعندنا وقد ادعى الروافد منكم هذا في خبر الإمام فإن وجدنا نحن برهانا على أن خبر الواحد المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في أحكام الشريعة لا يجوز عليه الكذب ولا الوهم فقد صح قولنا وقولهم في أن خبر النبي صلى الله عليه و سلم في الشريعة لا يجوز عليه الكذب والوهم وإن لم نجد برهانا على ذلك فهو قولهم وقد صح البرهان بذلك ولله الحمد على ما نذكره إن شاء الله تعالى
وأما قول ابن كيسان فباطل لأنه دعوى بلا دليل بل الواجب حينئذ البحث عن الخبر الواهي والمنسوخ حتى يعرف فيجتنب وإلا فالعمل واجب لأن الأصل وجوب العمل بالسنن حتى يصح فيها بطلان أو نسخ وإلا فهي على البراءة من النسخ ومن الكذب والوهم حتى يصح في الخبر شيء من ذلك فيترك لقول الله تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } ولقوله تعالى { تبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون } ولقوله تعالى { بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } (1/113)
وقد علمنا أن في القرآن آيات منسوخة بلا شك لقوله تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير } وقد اختلف العلماء فيها فطائفة قالت في آية إنها منسوخة وطائفة قالت ليست منسوخة بل هي محكمة
فما قال مسلم قط لا ابن كيسان ولا غيره إن الواجب التوقف عن العمل بشيء من القرآن من أجل ذلك وخوفا أن يعمل بمنسوخ لا يحل العمل به بل الواجب العمل بكل آية منه حتى يصح النسخ فيها فيترك العمل بها
وقول ابن كيسان يوجب ترك الحق يقينا ولا فرق بين ترك الحق يقينا وبين العمل بالباطل يقينا وكلاهما لا يحل فقد تعجل ابن كيسان لنفسه الذي فر عنه وأشد منه لأنه ترك الحق يقينا خوف أن يقع في خطأ لعله لا يقع فيه وهذا كما ترى
قال علي وهذا حين نأخذ إن شاء الله تعالى في إيراد البراهين على أن خبر الواحد العدل المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في أحكام الشريعة يوجب العلم ولا يجوز فيه البتة الكذب ولا الوهم فنقول وبالله تعالى التوفيق قال الله عز و جل عن نبيه صلى الله عليه و سلم { وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى } وقال تعالى آمرا لنبيه عليه الصلاة و السلام أن يقول { قل ما كنت بدعا من لرسل ومآ أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي ومآ أنا إلا نذير مبين } وقال تعالى { إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون } وقال تعالى { بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون }
فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم كله في الدين وحي من عند الله عز و جل لا شك في ذلك ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون ألا يضيع منه وألا يحرف منه شيء أبدا تحريفا لا يأتي البيان ببطلانه إذ لو جاز غير ذلك لكان كلام الله تعالى كذبا وضمانه خائسا وهذا لا يخطر ببال ذي مسكة عقل فوجب أن الذي أتانا به محمد صلى الله عليه و سلم محفوظ بتولي الله تعالى حفظه مبلغ كما هو إلى كل ما طلبه مما يأتي أبدا إلى انقضاء الدنيا قال تعالى { قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون } (1/114)
فإذ ذلك كذلك فبالضروري ندري أنه لا سبيل البتة إلى ضياع شيء قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم في الدين ولا سبيل البتة إلى أن يختلط به باطل موضوع اختلاطا لا يتميز عن أحد من الناس بيقين إذ لو جاز ذلك لكان الذكر غير محفوظ ولكان قول الله تعالى { إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون } كذبا ووعدا مخلفا وهذا لا يقوله مسلم
فإن قال قائل إنما عنى تعالى بذلك القرآن وحده فهو الذي ضمن تعالى حفظه لسائر الوحي الذي ليس قرآنا
قلنا له وبالله تعالى التوفيق هذه دعوى كاذبة مجردة من البرهان وتخصيص للذكر بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل لقوله تعالى { وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } فصح أن لا برهان له على دعواه فليس بصادق فيها والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه و سلم من قرآن أو من سنة وحي يبين بها القرآن وأيضا فإن الله تعالى يقول { بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } فصح أنه عليه السلام مأمور ببيان القرآن للناس
وفي القرآن مجمل كثير كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك مما لا نعلم ما ألزمنا الله تعالى فيه بلفظه لكن بيان رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا كان بيانه عليه السلام لذلك المجمل غير محفوظ ولا مضمون سلامته مما ليس منه فقد بطل الانتفاع بنص القرآن فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا فيه فإذا لم ندر صحيح مراد الله تعالى منها فما أخطأ فيه المخطىء أو تعمد فيه الكذب الكاذب ومعاذ الله من هذا وأيضا نقول لمن قال إن خبر الواحد العدل عن مثله مبلغا إلى النبي صلى الله عليه و سلم لا يوجب العلم وإنما يجوز فيه الكذب والوهم وأنه غير مضمون الحفظ أخبرونا هل يمكن عندكم أن تكون شريعة فرض أو تحريم أتى بها رسول الله صلى الله عليه و سلم ومات وهي باقية لازمة للمسلمين غير منسوخة فجهلت حتى لا يعملها علم يقين أحد من أهل الإسلام في العالم أبدا وهل يمكن عندكم أن يكون حكم موضوع بالكذب أو بخطأ بالوهم قد جاز ومضى واختلط بأحكام الشريعة اختلاطا لا يجوز أن يميزه أحد من أهل الإسلام في العالم أبدا أم لا يمكن عندكم شيء من هذين الوجهين (1/115)
فإن قالوا لا يمكنان أبدا بل قد أمنا ذلك صاروا إلى قولنا وقطعوا أن كل خبر رواه الثقة عن الثقة مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في الديانة فإنه حق قد قاله عليه السلام كما هو وأنه يوجب العلم ونقطع بصحته ولا يجوز أن يختلط به خبر موضوع أو موهوم فيه لم يقله رسول الله صلى الله عليه و سلم قط اختلاطا لا يتميز فيه الباطل من الحق أبدا
وإن قالوا بل كل ذلك ممكن كانوا قد حكموا بأن الدين دين الإسلام قد فسد وبطل أكثره واختلط ما أمر الله تعالى به مع ما لم يأمر به اختلاطا لا يميزه أحد أبدا وأنهم لا يدرون أبدا ما أمرهم به الله تعالى مما لم يأمرهم به ولا ما وضعه الكاذبون والمستخفون مما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا بالظن الذي هو أكذب الحديث والذي لا يغني من الحق شيئا وهذا انسلاخ من الإسلام وهدم للدين وتشكيك في الشرائع
ثم نقول لهم أخبرونا إن كان ذلك كله ممكنا عندكم فهل أمركم الله تعالى بالعمل بما رواه الثقات مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أو لم يأمركم بالعمل به ولا بد من أحدهما
فإن قالوا لم يأمرنا الله تعالى بذلك لحقوا بالمعتزلة وسيأتي جوابهم على هذا القول إن شاء الله تعالى وإن قالوا بل أمرنا الله تعالى بالعمل بذلك قلنا لهم فقد قلتم إن الله تعالى أمركم بالعمل في دينه بما لم يأمركم به مما وضعه الكذابون وأخطأ فيه الواهمون وأمركم بأن تنسبوا إليه تعالى وإلى نبيه صلى الله عليه و سلم ما لم يأتكم به قط وما لم يقله الله تعالى قط ولا رسوله صلى الله عليه و سلم
وهذا قطع بأنه عز و جل أمر بالكذب عليه وافترض العمل بالباطل وبما ليس من الدين وبما شرع الكذابون مما لم يأذن به الله تعالى وهذا عظيم جدا لا يستجيز القول به مسلم
ثم نسألهم عما قالوا إنه ممكن من سقوط بعض ما قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم من الحكم في الدين بإيجاب أو تحريم حتى لا يوجد عند أحد هل بقي علينا العمل به أم سقط عنا ولا بد من أحدهما فإن قالوا بل هو باق علينا
قلنا لهم كيف يلزمنا العمل بما لا ندري وبما لم يبلغنا ولا يبلغنا أبدا
وهذا هو تحميل الإصر والحرج والعسر الذي قد آمننا الله تعالى منه
وإن قالوا بل سقط عنا العمل به قلنا لهم فقد أجزتم نسخ شرائع من شرائع الإسلام مات رسول الله صلى الله عليه و سلم وهي محكمة ثابتة لازمة فأخبرونا من الذي نسخها (1/116)
وأبطلها وقد مات صلى الله عليه و سلم وهي لازمة لنا غير منسوخة وهذا خلاف الإسلام والخروج منه جملة
فإن قالوا لا يجوز أن يسقط حكم شريعة مات رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو لازم لنا ولم ينسخ
قلنا لهم فمن أين أجزتم هذا النوع من الحفظ في الشريعة ولم تجيزوا تمام الحفظ للشريعة في ألا يختلط بها باطل لم يأمر الله تعالى به قط اختلاطا لا يتميز معه الحق الذي أمر الله تعالى به من الباطل الذي لم يأمر به تعالى قط وهذا لا مخلص لهم منه ولا فرق بين من منع من سقوط شريعة حق وأجاز اختلاطها بالباطل وبين من منع من اختلاط الحق في الشريعة بالباطل وأجاز سقوط شريعة حق وكل هذا باطل لا يجوز البتة وممتنع قد أمنا كونه ولله الحمد وإذا صح هذا فقد ثبت يقينا أن خبر الواحد قد أمنا كونه ولله الحمد وإذا صح هذا فقد ثبت يقينا أن خبر الواحد العدل عن مثله مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حق مقطوع به موجب للعمل والعلم معا
وأيضا قال الله تعالى { بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } وقد قال تعالى { يأيها لرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ولله يعصمك من لناس إن لله لا يهدي لقوم لكافرين } نسألهم هل بين رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أنزل الله إليه أو لم يبين وهل بلغ ما أنزل الله إليه أو لم يبلغ ولا بد من أحدهما فمن قولهم إنه عليه السلام قد بلغ ما أنزل الله إليه وبينه للناس وأقام به الحجة على من بلغه فنسألهم عن ذلك التبليغ وذلك البيان أهما باقيان عندنا وإلى يوم القيامة أم هما غير باقيين فإن قالوا بل هما باقيان وإلى يوم القيامة رجعوا إلى قولنا وأقروا أن الحق من كل ما أنزل الله تعالى في الدين مبين مما لم ينزله مبلغ إلينا وإلى يوم القيامة وهذا هو نص قولنا في أن خبر الواحد العدل عن مثله مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حق مقطوع على مبينه موجب للعلم والعمل
وإن قالوا بل هما غير باقين دخلوا في عظيمة وقطعوا بأن كثيرا من الدين قد بطل وإن التبليغ قد سقط في كثير من الشرائع وأن تبيين رسول الله صلى الله عليه و سلم لكثير من الدين قد ذهب ذهابا لا يوجد معه أبدا وهذا هو قول الروافض بل شر منه لأن الروافض ادعت أن حقيقة الدين موجودة عند إنسان مضمون كونه في العالم وهؤلاء أبطلوه من جميع العالم ونعوذ بالله من كلا القولين (1/117)
وأيضا فإن الله تعالى قال { قل إنما حرم ربي لفواحش ما ظهر منها وما بطن ولإثم ولبغي بغير لحق وأن تشركوا بلله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون } وقال تعالى { إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل لله بها من سلطان إن يتبعون إلا لظن وما تهوى لأنفس ولقد جآءهم من ربهم لهدى } وقال تعالى { وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا } وقال تعالى ذاما لقوم قالوا { وإذا قيل إن وعد لله حق ولساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما لساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين } وقال تعالى { سيقول لذين أشركوا لو شآء لله مآ أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب لذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنآ إن تتبعون إلا لظن وإن أنتم إلا تخرصون }
وقد صح أن الله تعالى افترض علينا العمل بخبر الواحد الثقة عن مثله مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وأن نقول أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بكذا وقال عليه السلام كذا وفعل عليه السلام كذا وحرم القول في دينه بالظن وحرم تعالى أن نقول عليه إلا بعلم
فلو كان الخبر المذكور يجوز فيه الكذب أو الوهم لكنا قد أمرنا الله تعالى بأن نقول عليه ما لا نعلم ولكان تعالى قد أوجب علينا الحكم في الدين بالظن الذي لا نتيقنه والذي هو الباطل الذي لا يغني من الحق شيئا والذي هو غير الهدى الذي جاءنا من عند الله تعالى وهذا هو الكذب والإفك والباطل الذي لا يحل القول به والذي حرم الله تعالى علينا أن نقول به وبالتخرص المحرم فصح يقينا أن الخبر المذكور حق مقطوع على غيبه موجب للعلم والعمل معا وبالله تعالى التوفيق
وصار كل من يقول بإيجاب العمل بخبر الواحد وأنه مع ذلك ظن لا يقطع بصحة غيبه ولا يوجب العلم قائلا بأن الله تعالى تعبدنا أن نقول عليه تعالى ما ليس لنا به علم وأن نحكم في ديننا بالظن الذي قد حرم تعالى علينا أن نحكم به في الدين وهذا عظيم جدا
وأيضا فإن الله تعالى يقول (1/118)
{ حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم } وقال تعالى { ومن يبتغ غير لإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في لآخرة من لخاسرين } وقال تعالى { إن الدين عند لله لإسلام وما ختلف لذين أوتوا لكتاب إلا من بعد ما جآءهم لعلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات لله فإن لله سريع لحساب } وقال تعالى { كان لناس أمة واحدة فبعث لله لنبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم لكتاب بلحق ليحكم بين لناس فيما ختلفوا فيه وما ختلف فيه إلا لذين أوتوه من بعد ما جآءتهم لبينات بغيا بينهم فهدى لله لذين آمنوا لما ختلفوا فيه من لحق بإذنه ولله يهدي من يشآء إلى صراط مستقيم }
قال أبو محمد فنقول لمن جوز أن يكون ما أمر الله تعالى به نبيه عليه السلام من بيان شريعة الإسلام لنا غير محفوظ وإنه يجوز فيه التبديل وأن يختلط بالكذب الموضوع اختلاطا لا يتميز أبدا أخبرونا عن إكمال الله دينا ورضاه الإسلام لنا دينا ومنعه تعالى من قبول كل دين حاشا الإسلام أكل ذلك باق علينا ولنا إلى يوم القيامة أم إنما كان ذلك للصحابة رضي الله عنهم فقط أم لا للصحابة ولا لنا ولا بد من أحد هذه الوجوه
فإن قالوا لا للصحابة ولا لنا كان قائل هذا القول كافرا لتكذيبه الله تعالى جهارا وهذا لا يقوله مسلم وأن قالوا بل كان كل ذلك باق لنا وعلينا إلى يوم القيامة صاروا إلى قولنا ضرورة وصح أن شرائع الإسلام كلها كاملة والنعمة بذلك علينا تامة وأن دين الإسلام الذي ألزمنا الله تعالى اتباعه لأنه هو الدين عنده عز و جل متميز عن غيره الذي لا يقبله الله تعالى من أحد وأننا ولله الحمد قد هدانا الله تعالى له وأننا على يقين من أنه الحق وما عداه هو الباطل وهذا برهان ضروري قاطع على أنه كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم في الدين وفي بيان ما يلزمنا محفوظ لا يختلط به أبدا ما لم يكن منه
وإن قالوا بل كان ذلك للصحابة رضي الله عنهم وليس ذلك لنا ولا علينا كانوا (1/119)
قد قالوا الباطل وخصصوا خطاب الله تعالى بدعوى كاذبة إذ خطابه تعالى بالآيات التي ذكرنا عموم لكل مسلم في الأبد ولزمهم مع هذه العظيمة أن دين الإسلام غير كامل عندنا وأنه تعالى رضي لنا منه ما لم ينبته علينا وألزمنا ما لا ندري أين نجده أو ألزمنا ما لم ينزله وافترض علينا اتباع ما كذبه الزنادقة والمستخفون ووضعوه على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم أو وهم فيه الواهمون مما لم يقله نبيه صلى الله عليه و سلم وهذا بيقين ليس هو دين الإسلام بل هو إبطال الإسلام جهارا ولو كان هذا وقد أمنا ولله الحمد أن يكون لكان ديننا كدين اليهود والنصارى الذي أخبرنا الله تعالى أنهم كتبوا الكتاب وقالوا هو من عند الله
قال أبو محمد حاشا لله من هذا بل قد وثقنا بأن الله تعالى صدق في قوله { كان لناس أمة واحدة فبعث لله لنبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم لكتاب بلحق ليحكم بين لناس فيما ختلفوا فيه وما ختلف فيه إلا لذين أوتوه من بعد ما جآءتهم لبينات بغيا بينهم فهدى لله لذين آمنوا لما ختلفوا فيه من لحق بإذنه ولله يهدي من يشآء إلى صراط مستقيم } وأنه تعالى قد هدانا للحق فصح يقينا أن كل ما قاله عليه السلام فقد هدانا الله تعالى له وأنه الحق المقطوع عليه والعلم المتيقن الذي لا يمكن امتزاجه بالباطل أبدا
قال علي وقال بعضهم إذا انقطعت به الأسباب خبر الواحد يوجب علما ظاهرا
قال أبو محمد وهذا كلام لا يعقل وما علمنا علما ظاهرا غير باطن ولا علما باطنا غير ظاهر بل كل علم تيقن فهو ظاهر إلى من علمه وباطن في قلبه معا
وكل ظن يتيقن فليس علما أصلا لا ظاهرا ولا باطنا بل هو ضلال وشك وظن محرم القول به في دين الله تعالى ونقول لهم إذا جاز عندكم أن يكون كثير من دين الإسلام قد اختلط بالباطل فما يؤمنكم إذ ليس محفوظا من أنه لعل كثيرا من الشرائع قد بطلت لأنها لم ينقلها أحد أصلا فإن منعوا من ذلك لزمهم المنع من اختلاطها بما ليس منها لأن ضمان حفظ الله تعالى يقتضي الأمان من كل ذلك
فإنه لا يشك أحد من المسلمين قطعا في أن كل ما علمه رسول الله صلى الله عليه و سلم أمته من شرائع الدين واجبها وحرامها ومباحها فإنها سنة الله تعالى وقد قال عز و جل { سنة لله في لذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة لله تبديلا } { ستكبارا في لأرض ومكر لسيىء ولا يحيق لمكر لسيىء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة آلأولين فلن تجد لسنة لله تبديلا ولن تجد لسنة لله تحويلا } هذا نص كلامه تعالى
وقد قال تعالى { لهم لبشرى في لحياة لدنيا وفي لآخرة لا تبديل لكلمات لله ذلك هو لفوز لعظيم } فلو جاء (1/120)
أن يكون ما نقله الثفات الذين افترض الله علينا قبول نقلهم والعمل به والقبول بأنه سنة الله تعالى وبيان نبيه عليه السلام يمكن في شيء منه التحويل أو التبديل لكان إخبار الله تعالى بأنه لا يوجد لهما تبديل ولا تحويل كذبا ولكانت كلماته كذبا وهذا ما لا يجيزه مسلم أصلا فصح يقينا لا شك فيه أن كل سنة سنها الله تعالى من الدين لرسوله صلى الله عليه و سلم
وسنها رسوله عليه السلام لأمته فإنها لا يمكن في شيء منها تبديل ولا تحويل أبدا وهذا يوجب أن نقل الثقات في الدين يوجب العلم بأنه حق كما هو عند الله تعالى وقولنا ولله الحمد
وأيضا فإنهم مجمعون معنا على أن رسول الله صلى الله عليه و سلم معصوم من الله تعالى في البلاغ في الشريعة وعلى تكفير من قال ليس معصوما في تبليغه الشريعة إلينا
فنقول لهم اخبرونا عن الفضيلة بالعصمة التي جعلها الله تعالى لرسوله صلى الله عليه و سلم في تبليغه الشريعة التي بعث بها أهي له عليه السلام في إخباره الصحابة بذلك فقط أم هي باقية لما أتى به عليه السلام في بلوغه إلينا وإلى يوم القيامة فإن قالوا بل هي له عليه السلام مع من شاهده خاصة لا في بلوغ الدين إلى من بعدهم
قلنا لهم إذا جوزتم بطلان العصمة في تبليغ الدين بعد موته عليه السلام وجوزتم وجود الداخلة والفساد والبطلان والزيادة والنقصان والتحريف في الدين فمن أين وقع لكم الفرق بين ما جوزتم من ذلك بعده عليه السلام وبين ما منعتم من ذلك في حياته منه عليه السلام فإن قالوا لأنه كان يكون عليه السلام غير مبلغ ما أمر به ولا معصوم والله تعالى يقول { يأيها لرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ولله يعصمك من لناس إن لله لا يهدي لقوم لكافرين } قيل لهم نعم وهذا التبليغ المعترض عليه والذي هو فيه عليه السلام معصوم بإجماعكم معنا من الكذب والوهم هو إلينا كما هو إلى الصحابة رضي الله عنهم ولا فرق والدين لازم لنا كما هو لازم لهم سواء بسواء فالعصمة واجبة في التبليغ للديانة باقية مضمونة ولا بد إلى يوم القيامة كما كانت قائمة عن الصحابة رضي الله عنهم سواء بسواء
ومن أنكر هذا فقد قطع بأن الحجة علينا في الدين غير قائمة والحجة لا تقوم بما لا يدرى أحق هو أم باطل كذب
ثم نقول لهم وكذلك قال تعالى { إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون } { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم } { ومن يبتغ غير لإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في لآخرة من لخاسرين } (1/121)
{ لا إكراه في لدين قد تبين لرشد من لغي فمن يكفر بلطاغوت ويؤمن بلله فقد ستمسك بلعروة لوثقى لا نفصام لها ولله سميع عليم } فإن ادعوا إجماعا قلنا لهم من الكرامية من يقول إنه عليه السلام غير معصوم في تبليغ الشريعة فإن قالوا ليس هؤلاء ممن يعد في الإجماع قلنا صدقتم ولا يعد في الإجماع من قال إن الدين غير محفوظ وإن كثيرا من الشرائع التي أنزل الله تعالى قد بطلت واختلطت بالباطل الموضوع والموهوم فيه اختلاطا لا يتميز معه الرشد من الغي ولا الحق من الباطل ولا دين الله تعالى من دين إبليس أبدا
فإن قالوا بل الفضيلة بعصمة ما أتى النبي صلى الله عليه و سلم به من الدين باقية إلى يوم القيامة صاروا إلى الحق الذي هو قولنا ولله تعالى الحمد
فإن قالوا فإنه صفة كل مخبر وطبيعته أن خبره يجوز فيه الصدق والكذب والخطأ وقولكم بأن خبر الواحد العدل في الشريعة موجب للعلم إحالة لطبيعة الخبر وطبيعة المخبرين وخرق لصفات كل ذلك وللعادة فيه
قلنا لهم لا ينكر من الله تعالى إحالة ما شاء من الطبائع إذا صح البرهان بأنه فعل الله تعالى والعجب من إنكاركم هذا مع قولكم به بعينه في إيجابكم عصمة النبي صلى الله عليه و سلم من الكذب والوهم في تبليغه الشريعة وهذا هو الذي أنكرتم بعينه بل لم تقنعوا بالتناقض إذا أصبتم في ذلك وأخطأتم في منعكم من ذلك في خبر الواحد العدل حتى أتيتم بالباطل المحض إذ جوزتم على جميع الأمم موافقة الخطأ في إجماعها في رأيها وذلك طبيعة في الكل وصفة لهم ومنعتم من جواز الخطأ والوهم على ما ادعيتموه من إجماع الأمة من المسلمين خاصة في اجتهادها في القياس وحاشا لله أن تجمع الأمة على الباطل والقياس عين الباطل فخرقتم بذلك العادة وأحلتم الطبائع بلا برهان لا سيما إن كان المخالف لنا من المرجئة القاطعين بأنه لا يمكن أن يكون يهودي ولا نصراني يعرف بقلبه أن الله تعالى حق
فإن هؤلاء أحالوا الطبائع بلا برهان ومنعوا من إحالتها إذا قام البرهان بإحالتها
فإن قالوا فإنه يلزمكم أن تقولوا إن نقلة الأخبار الشرعية التي قالها رسول الله صلى الله عليه و سلم معصومون في نقلها وإن كل واحد منهم معصوم في نقله من تعمد الكذب ووقوع الوهم منه
قلنا لهم نعم هكذا نقول وبهذا نقطع ونبت
وكل عدل روى خبرا عن (1/122)
رسول الله صلى الله عليه و سلم في الدين أو فعله عليه السلام فذلك الراوي معصوم من تعمد الكذب مقطوع بذلك عند الله تعالى ومن جواز الوهم فيه عليه إلا ببيان وارد ولا بد من الله تعالى ببيان ما وهم فيه كما فعل تعالى بنبيه عليه السلام إذ سلم من ركعتين ومن ثلاث واهما لقيام البراهين التي قدمنا من حفظ جميع الشريعة وبيانها مما ليس منها وقد علمنا ضرورة أن كل من صدق في خبر ما فإنه معصوم في ذلك الخبر من الكذب والوهم بلا شك فأي نكرة في هذا
فإن قالوا تعبدنا الله تعالى بحسن الظن به وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله تعالى يقول أنا عند ظن عبدي بي قلنا ليس هذا من الحكم في الدين بالظن في شيء بل كله باب واحد لأنه تعالى حرم علينا أن نقول عليه ما لا نعلم ونحن لا نعلم أيغفر لنا أم يعذبنا فوجب علينا الوقوف في ذلك والرجاء والخوف وحرم علينا أن نقول عليه في الدين والتحريم والإباحة والإيجاب ما لا نعلم وبين لنا كل ما ألزمنا من ذلك فوجب القطع بكل ذلك كما وجب القطع بتخليد الكفار في النار أو تخليد المؤمنين في الجنة ولا فرق ولم يجز القول بالظن في شيء من ذلك كله
فإن قالوا أنتم تقولون إن الله تعالى أمرنا بالحكم بما شهد به العدل مع يمين الطالب وبما شهد به العدلان فصاعدا وبما حلف عليه المدعى عليه إذا لم يقم المدعي بينة في إباحة الدماء المحرمة والفروج المحرمة والأبشار المحرمة والأموال المحرمة وكل ذلك بإقراركم ممكن أن يكون في باطن الأمر بخلاف ما شهد به الشاهد وما حلف عليه الحالف وهذا هو الحكم بالظن الذي أنكرتم علينا في قولنا في خبر الواحد ولا فرق
قلنا لهم وبالله التوفيق بين الأمرين فروق واضحة كوضوح الشمس
أحدهما أن الله تعالى قد تكفل بحفظ الدين وإكماله وتبينه من الغي ومما ليس منه
ولم يتكفل تعالى قط بحفظ دمائنا ولا بحفظ فروجنا ولا بحفظ أبشارنا ولا بحفظ أموالنا في الدنيا
بل قدر تعالى بأن كثيرا من كل ذلك يؤخذ بغير حق في الدنيا (1/123)
وقد نص على ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ يقول إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من الآخر فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار وبقوله عليه السلام للمتلاعنين الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب أو كما قال عليه السلام في كل ذلك
والفرق الثاني أن حكمنا بشهادة الشاهد وبيمين الحالف ليس حكما بالظن كما زعموا بل نحن نقطع ونبت بأن الله عز و جل افترض علينا الحكم بيمين الطالب مع شهادة العدل وبيمين المدعى عليه إذا لم يقم بينة وبشهادة العدل والعدلين والعدول عندنا وإن كانوا في باطن أمرهم كذابين أو واهمين والحكم بكل ذلك حق عند الله تعالى وعندنا مقطوع على غيبه برهان ذلك أن حاكما لو تحاكم إليه اثنان ولا بينة للمدعي فلم يحكم للمدعى عليه باليمين أو شهد عنده عدلان فلم يحكم بشهادتهما
فإن ذلك الحاكم فاسق عاص لله عز و جل مجرح الشهادة ظالم سواء كان المدعى عليه مبطلا في إنكاره أو محقا أو كان الشهود كذبة أو واهمين أو صادقين إذا لم يعلم باطن أمرهم
ونحن مأمورون يقينا بأمر الله عز و جل لنا بأن نقتل هذا البريء المشهود عليه بالباطل وأن نبيح هذه البشرة المحرمة وهذا المال الحرام المشهود فيه بالباطل وحرم على المبطل أن يأخذ شيئا من ذلك
وقضى ربنا بأننا إن لم نحكم بذلك فإننا في الدين فساق عصاة له تعالى ظلمه متوعدون بالنار على ذلك وما أمرنا تعالى قط بأن نحكم في الدين بخبر وضعه فاسق أو وهم فيه واهم
وقال تعالى { يأيها لذين آمنوا لا تتبعوا خطوات لشيطان ومن يتبع خطوات لشيطان فإنه يأمر بلفحشآء ولمنكر ولولا فضل لله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن لله يزكي من يشآء ولله سميع عليم }
فهذا فرق في غاية البيان
وفرق ثالث وهو أن نقول إن الله تعالى افترض علينا أن نقول في جميع الشريعة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
وأمرنا الله تعالى بكذا لأنه تعالى يقول { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } { مآ أفآء لله على رسوله من أهل لقرى فلله وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل كي لا يكون دولة بين لأغنيآء منكم ومآ آتاكم لرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا وتقوا لله إن لله شديد لعقاب } ففرض علينا أن نقول نهانا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم عن كذا (1/124)
وأمرنا بكذا ولم يأمرنا تعالى قط أن نقول شهد هذا بحق ولا حلف هذا الجانب على حق ولا أن هذا الذي قضينا به لهذا حق له يقينا ولا قال تعالى ما قال هذا الشاهد لكن الله تعالى قال لنا احكموا بشهادة العدول وبيمين المدعى عليه إذا لم يقم عليه بينة وهذا فرق لا خفاء به فلم نحكم بالظن في شيء من كل ذلك أصلا ولله الحمد بل بعلم قاطع ويقين ثابت أن كل ما حكمنا به مما نقله العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فحق من عند الله تعالى أوحى به ربنا تعالى مضاف إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم محكي عنه أنه قال وكل ما حكمنا فيه بشهادة العدول عندنا فحق مقطوع به من عند الله تعالى لأنه أمرنا بالحكم به ولم يأمرنا بأن نقول فيما شهدوا به وما حلف به الحالف أنه من عند الله تعالى ولا أنه حق مقطوع به فإن قالوا إنما قال تعالى { يأيها لذين آمنوا جتنبوا كثيرا من لظن إن بعض لظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه وتقوا لله إن لله تواب رحيم } ولم يقل كل الظن إثم
قلنا قد بين الله تعالى الإثم من البر وهو أن القول عليه تعالى بما لا نعلم حرام فهذا من الظن الذي هو إثم بلا شك
قال علي فلجأت المعتزلة إلى الامتناع من الحكم بخبر الواحد للدلائل التي ذكرنا وظنوا أنهم تخلصوا بذلك ولم يتخلصوا بل كل ما لزم غيرهم مما ذكرنا هو ملازم لهم وذلك أننا نقول لهم وبالله تعالى التوفيق أخبرونا عن الأخبار التي رواها الآحاد أهي كلها حق إذا كانت من رواية الثقات خاصة أم كلها باطل أم فيها حق وباطل فإن قالوا فيها حق وباطل وهو قولهم
قلنا لهم هل يجوز أن تبطل شريعة أوحى الله تعالى بها إلى نبيه صلى الله عليه و سلم ليبينها لعباده حتى يختلط بكذب وضعه فاسق ونسبه إلى النبي صلى الله عليه و سلم أو وهم فيها واهم فيختلط الحق المأمور به مع الباطل المختلق اختلاطا لا يتميز به الحق من الباطل أبدا لأحد من الناس وهل الشرائع الإسلامية كلها محفوظة لازمة لنا أو هي غير محفوظة ولا كلها لازم لنا بل قد سقط منها بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم كثير وهل قامت الحجة علينا لله تعالى فيما افترض من الشرائع بأنها بينة لنا متميزة مما لم يأمرنا به أو لم تقم لله تعالى علينا حجة في الدين لأن كثيرا منه مختلط بالكذب غير متميز منها أبدا
فإن أجازوا اختلاط شرائع الدين التي أوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه و سلم بما ليس في (1/125)
الدين وقالوا لم تقم لله تعالى علينا حجة فيما أمرنا به
دخل عليهم في القول بفساد الشريعة وذهاب الإسلام وبطلان ضمان الله تعالى بحفظ الذكر كالذي دخل على غيرهم حرفا بحرف سواء بسواء ولزمهم أنهم تركوا كثيرا من الدين الصحيح كما لزم غيرهم سواء بسواء أنهم يعملون بما ليس من الدين وأن النبي صلى الله عليه و سلم قد بطل بيانه وأنه حجة الله تعالى بذلك لم تقم علينا سواء بسواء وفي هذا ما فيه
فإن لجأوا إلى الاقتصار على خبر التواتر لم ينفكوا بذلك من أن كثيرا من الدين قد بطل لاختلاطه بالكذب الموضوع وبالموهوم فيه ومن جواز أن يكون كثير من شرائع الإسلام لم ينقل إلينا إذ قد بطل ضمان حفظ الله تعالى فيها وأيضا فإنه لا يعجز أحد أن يدعي في أي خبر شاء أنه منقول نقل التواتر بل أصحاب الإسناد أصح دعوى في ذلك لشهادة كثرة الرواة وتغير الأسانيد لهم بصحة قولهم في نقل التواتر وبالله تعالى التوفيق
فإن لجأ لاجىء إلى أن يقول بأن كل خبر جاء من طريق الآحاد الثقات فإنه كذب موضوع ليس منه شيء قاله قط رسول الله صلى الله عليه و سلم وقلنا وبالله تعالى التوفيق هذه مجاهرة ظاهرة ومدافعة لما نعلم بالضرورة خلافه وتكذيب لجميع الصحابة أولهم عن آخرهم ولجميع فضلاء التابعين ولكل إنسان من العلماء جيلا بعد جيل لأن كل ما ذكرنا رووا الأخبار عن النبي صلى الله عليه و سلم بلا شك من أحد واحتج بها بعضهم على بعض وعملوا بها وأفتوا بها في دين الله تعالى وهذا اطراح للإجماع المتيقن وباطل لا تختلف النفوس فيه أصلا لأنا بالضرورة ندري أنه لا يمكن البتة في البنية أن يكون كل من ذكرنا لم يصدق قط في كلمة رواها بل كلهم وضعوا كل ما رووا
وأيضا ففيه إبطال الشرائع التي لا يشك مسلم ولا غير مسلم في أنها ليست في القرآن مبينة كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك وأنه إنما أخذ بيانها من كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي هذا القطع بأن كل صاحب من الصحابة روى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه هو الواضع والمخترع للكذب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه ولا يشك أحد على وجه الأرض في أن كل صاحب من الصحابة قد حدث عن النبي صلى الله عليه و سلم أهله وجيرانه وفي هذا إثبات وضع الشرائع على جميعهم أولهم عن آخرهم وما بلغت الروافض والخوارج قط هذا المبلغ مع أنها دعوى بلا برهان وما كان كذلك فهو باطل بيقين في ثلاثة أقوال كما ترى لا رابع لها (1/126)
إما أن يكون كل خبر نقله العدل عن العدل مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم كذبا كلها أولها عن آخرها موضوعة بأسرها وهذا باطل بيقين كما بينا وإيجاب أن كل صاحب وتابع وعالم لا نحاشي أحدا قد اتفقوا على وضع الشرائع والكذب فيها على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا انسلاخ عن الإسلام أو يكون فيها حق وفيها باطل إلا أنه لا سبيل إلى تمييز الحق منها من الباطل لأحد أبدا وهذا تكذيب لله تعالى في إخباره بحفظ الذكر المنزل وبإكماله الدين لنا وبأنه لا يقبل منا إلا دين الإسلام لا شيئا سواه
وفيه أيضا فساد الدين واختلاطه بما لم يأمر به تعالى قط به وأنه لا سبيل لأحد في العالم إلى أن يعرف ما أمره الله تعالى به في دينه مما لم يأمره به أبدا وأن حقيقة الإسلام وشرائعه قد بطلت بيقين وهذا انسلاخ عن الإسلام
أو أنها كلها حق مقطوع على غيبها عند الله تعالى موجبة كلها للعلم لإخبار الله تعالى بأنه حافظ لما أنزل من الذكر ولتحريمه تعالى الحكم في الدين بالظن والقول عليه بما لا علم لنا به ولإخباره تعالى بأنه قد بين الرشد من الغي وليس الرشد إلا ما أنزله الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم وفي فعله وليس الغي إلا ما لم ينزله الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم وهذا قولنا والحمد لله رب العالمين
قال علي فإذا قد صح هذا القول بيقين وبطل كل ما سواه فلنتكلم بعون الله تعالى على تقسيمه فنقول وبالله تعالى نتأيد إننا قد أمنا ولله الحمد أن تكون شريعة أمر بها رسول الله صلى الله عليه و سلم أو ندب إليها أو فعلها عليه السلام فتضيع ولم تبلغ إلى أحد من أمته إما بتواتر أو بنقل الثقة عن الثقة حتى تبلغ إليه صلى الله عليه و سلم وأمنا أيضا قطعا أن يكون الله تعالى يفرد بنقلها من لا تقوم الحجة بنقله من العدول وأمنا أيضا قطعا أن تكون شريعة يخطىء فيها راويها الثقة ولا يأتي بيان جلي واضح بصحة خطئه فيه وأمنا أيضا قطعا أو يطلق الله عز و جل من قد وجبت الحجة علينا بنقله على وضع حديث فيه شرع يسنده إلى من تجب الحجة بنقله حتى يبلغ به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وكذلك نقطع ونثبت بأن كل خبر لم يأت قط إلا مرسلا أو لم يروه قط إلا مجهول أو مجرح ثابت الجرحة فإنه خبر باطل بلا شك موضوع لم يقله رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ لو جاز أن يكون حقا لكان ذلك شرعا صحيحا غير لازم لنا لعدم قيام الحجة علينا فيها (1/127)
قال علي وهذا الحكم الذي قدمنا إنما هو فيما نقله من اتفق على عدالته كالصحابة وثقات التابعين ثم كشعبة وسفيان وسفيان ومالك وغيرهم من الأئمة في عصرهم وبعدهم إلينا وإلى يوم القيامة وفي كل من ثبتت جرحته كالحسن بن عمارة وجابر الجعفي وسائر المجرحين الثابتة جرحتهم وأما من اختلف فيه فعدله قوم وجرحه آخرون فإن ثبتت عندنا عدالته قطعنا على صحة خبره وإن ثبتت عندنا جرحته قطعنا على بطلان خبره وإن لم يثبت عندنا شيء من ذلك وقفنا في ذلك وقطعنا ولا بد حتما على أن غيرنا لا بد أن يثبت عنده أحد الأمرين فيه وليس خطؤنا نحن إن أخطأنا وجهلنا إن جهلنا حجة على وجوب ضياع دين الله تعالى بل الحق ثابت معروف عند طائفة وإن جهلته أخرى والباطل كذلك أيضا كما يجهل قوم ما نعلمه نحن أيضا والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ولا يصح الخطأ في خبر الثقة إلا بأحد ثلاثة أوجه إما تثبت الراوي واعترافه بأنه أخطأ فيه وإما شهادة عدل على أنه سمع الخبر مع راويه فوهم فيه فلان وإما بأن توجب المشاهدة بأنه أخطأ
قال علي وكذلك نقطع ونبت في كل خبرين صحيحين متعارضين وكل آيتين متعارضتين وكل آية وخبر صحيح متعارضين وكل اثنين متعارضين لم يأت نص بين بالتناسخ منهما فإن الحكم الزائد على الحكم المتقدم من معهود الأصل هو الناسخ وأن الموافق لمعهود الأصل المتقدم وهو المنسوخ قطعا يقينا للبراهين التي قدمنا من أن الدين محفوظ فلو جاز أن يخفى فيه ناسخ من منسوخ أو أن يوجد عموم لا يأتي نص صحيح بتخصيصه ويكون المراد به الخصوص لكان الدين غير محفوظ ولكانت الحجة غير قائمة على أحد في الشريعة ولكنا متعبدين بالظن الكاذب المحرم بل بالعمل بما لم يأمر الله تعالى قط به وهذا باطل مقطوع على بطلانه
قال علي فإن وجد لنا يوما غير هذا فنحن تائبون إلى الله تعالى منه وهي وهلة نستغفر الله عز و جل منها وإنا لنرجو ألا يوجد لنا ذلك بمن الله تعالى ولطفه (1/128)
صفة من يلزم قبوله نقل الأخبار قال أبو محمد واستدركنا برهانا في وجوب قبول الخبر الواحد قاطعا وهو خبر الله تعالى عن موسى عليه السلام إذ جاءه { وجآء رجل من أقصى لمدينة يسعى قال يموسى إن لملأ يأتمرون بك ليقتلوك فخرج إني لك من لناصحين } { فجآءته إحداهما تمشي على ستحيآء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جآءه وقص عليه لقصص قال لا تخف نجوت من لقوم لظالمين } إلى قوله تعالى { قال إني أريد أن أنكحك إحدى بنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك ومآ أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين } إلى آخر القصة فصدق موسى عليه السلام قول المنذر له وخرج عن وطنه بقوله وصوب الله تعالى ذلك من فعله وصدق قول المرأة التي أباها يدعوه فمضى معها وصدق أباها في قوله إنها ابنته واستحل نكاحها وجماعها بقوله وحده وصوب الله ذلك كله فصح يقينا ما قلنا بأن خبر الواحد ما يضطر إلى تصديقه يقينا
والحمد لله رب العالمين
قال علي وقد ذكرنا في الباب الذي قبل هذا وجوب قبول نذارة العدل النافر للتفقه في الدين فإذا كان الراوي عدلا حافظا لما تفقه فيه أو ضابطا له بكتابه وجب قبول نذارته فإن كان كثير الغلط والغفلة غير ضابط بكتابه فلم يتفقه فيما نفر للتفقه فيه وإذا لم يتفقه فليس ممن أمرنا بقبول نذارته ومن جهلنا حاله فلم ندر أفاسق هو أم عدل وأغافل هو أم حافظ أو ضابط ففرض علينا التوقف عن قبول خبره حتى يصح عندنا فقهه وعدالته وضبطه أو حفظه فيلزمنا حينئذ قبول نذارته أو تثبت عندنا جرحته أو قلة حفظه وضبطه فيلزمنا اطراح خبره
حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو عامر الأشعري ثنا أبو أسامة هو حماد بن أسامة عن بريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب (1/129)
الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ
( فذلك مثل ) من فقه في دين الله بما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به
وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني ثنا إبراهيم بن أحمد البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا محمد بن العلاء ثنا حماد بن أسامة عن يزيد فذكره بإسناده ولفظه إلا أنه قال مكان طيبة نقية ومكان غيث الغيث الكثير ومكان ورعوا وزرعوا ومكان فقه تفقه ومكان قيعان قيعة واتفقا في كل ما عدا ذلك
قال علي وليس اختلاف الروايات عيبا في الحديث إذا كان المعنى واحدا لأن النبي صلى الله عليه و سلم صح عنه أنه إذا كان يحدث بحديث كرره ثلاث مرات فنقل كل إنسان بحسب ما سمع فليس هذا الاختلاف في الروايات مما يوهن الحديث إذا كان المعنى واحدا
قال علي فقد جمع رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذا الحديث مراتب أهل العلم دون أن يشذ منها شيء فالأرض الطيبة النقية هي مثل الفقيه الضابط لما روى الفهم للمعاني التي يقتضيها لفظ النص المتنبه على رد ما اختلف فيه الناس إلى نص حكم القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وأما الأجادب الممسكة للماء التي يستقي منها الناس فهي مثل الطائفة التي حفظت ما سمعت أو ضبطته بالكتاب وأمسكته حتى أدته إلى غيرها غير مغير ولم يكن لها تنبه على معاني ألفاظ ما روت ولا معرفة بكيفية رد ما اختلف الناس فيه إلى نص القرآن والسنن التي روت لكن نفع الله تعالى بهم في التبليغ فبلغوه إلى من هو أفهم بذلك فقد أنذر رسول الله صلى الله عليه و سلم بهذا إذ يقول فرب مبلغ أوعى من سامع وكما روي عنه عليه السلام أنه قال فرب حامل فقه ليس بفقيه
قال أبو محمد فمن لم يحفظ ما سمع ولا ضبطه فليس مثل الأرض الطيبة ولا مثل الأجادب الممسكة للماء بل هو محروم معذور أو مسخوط بمنزلة القيعان التي لا تنبت الكلأ ولا تمسك الماء وفي هذا كفاية بيان وبالله تعالى التوفيق (1/130)
قال علي فمن استطاع منكم فليكن من أمثال الأرض الطيبة فإن حرم ذلك فمن الأجادب وليس بعد ذلك درجة في الفضل والبسوق ونعوذ بالله من أن نكون من القيعان لكن من استقى من الأجادب ورعى من الطيبة فقد نجا وبالله التوفيق
قال علي فإذا روى العدل عن مثله كذلك خبرا حتى يبلغ به النبي صلى الله عليه و سلم فقد وجب الأخذ به ولزمت طاعته والقطع به سواء أرسله غيره أو أوقفه سواه أو رواه كذاب من الناس وسواء روي من طريق أخرى أو لم يرو إلا من تلك الطريق وسواء كان ناقله عبدا أو امرأة أو لم يكن وإنما الشرط العدالة والتفقه فقط وإن العجب ليكثر من قوم من المدعين أنهم قائلون بخبر الواحد ثم يعللون ما خالف مذاهبهم من الأحاديث الصحاح بأن يقولوا هذا مما لم يروه إلا فلان ولم يعرف له مخرج من غير هذا الطريق
قال أبو محمد وهذا جهل شديد وسقوط مفرط لأنهم قد اتفقوا معنا على وجوب قبول خبر الواحد والأخذ به ثم هم دأبا يتعللون في ترك السنة بأنه خبر واحد والعجب أنهم يأخذون بذلك إذا اشتهوا فهذا محمد بن مسلم الزهري له نحو تسعين حديثا انفرد بها عن النبي صلى الله عليه و سلم لم يروها أحد من الناس سواه ليس أحد من الأئمة إلا وله أخبار انفرد بها ما تعلل أحد من هؤلاء المحرمون في رد شيء منها بذلك فليت شعري ما الفرق بين من قبلوا خبره ولم يروه أحد معه وبين من ردوا خبره لأنه لم يروه أحد معه وهل في الاستخفاف بالسنن أكثر من هذا
وأيضا فإن الخبر وإن روي من طرق ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك فهو كله خبر واحد من أثبت شيئا من ذلك أثبت خبر الواحد ومن نفى خبر الواحد نفى كل ذلك لأن العلة عندهم في كل ذلك واحدة وهي أن كل ما لا يضطر إلى التصديق عندهم ولم يوجب القطع على صحة مغيبة لديهم فهو خبر واحد وهذه عندهم صفة كل ما لم ينقل بالتواتر فقد تركوا مذهبهم وهم لا يشعرون أو يشعرون ويتعمدون وهذه أسوأ وأقبح ونعوذ بالله من الخذلان
قال علي وأما المدلس فينقسم إلى قسمين أحدهما حافظ عدل ربما أرسل حديثه وربما أسنده وربما حدث به على سبيل المذاكرة أو الفتيا أو المناظرة فلم يذكر له سندا وربما اقتصر على ذكر بعض رواته دون (1/131)
بعض فهذا لا يضر ذلك سائر رواياته شيئا لأن هذا ليس جرحة ولا غفلة لكنا نترك من حديثه ما علمنا يقينا أنه أرسله وما علمنا أنه أسقط بعض من في إسناده ونأخذ من حديثه ما لم نوقن فيه شيئا من ذلك
وسواء قال أخبرنا فلان أو قال عن فلان أو قال فلان عن فلان كل ذلك واجب قبوله ما لم يتيقن أنه أورد حديثا بعينه إيرادا غير مسند فإن أيقنا ذلك تركنا ذلك الحديث وحده فقط وأخذنا سائر رواياته
وقد روينا عن عبد الرزاق بن همام قال كان معمر يرسل لنا أحاديث فلما قدم عليه عبد الله بن المبارك أسندها له وهذا النوع منهم كان جلة أصحاب الحديث وأئمة المسلمين كالحسن البصري وأبي إسحاق السبيعي وقتادة بن دعامة وعمرو بن دينار وسليمان الأعمش وأبي الزبير وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وقد أدخل علي بن عمر الدارقطني فيهم مالك بن أنس ولم يكن كذلك ولا يوجد له هذا إلا في قليل من حديثه أرسله مرة وأسنده أخرى
وقسم آخر قد صح عنهم إسقاط من لا خير فيه من أسانيدهم عمدا وضم القوي إلى القوي تلبيسا على من يحدث وغرورا لم يأخذ عنه ونصرا لما يريد تأييده من الأقوال مما لو سمى من سكت عن ذكره لكان ذلك علة ومرضا في الحديث فهذا رجل مجرح وهذا فسق ظاهر واجب اطراح جميع حديثه صح أنه دلس فيه أو لم يصح أنه دلس فيه وسواء قال سمعت أو أخبرنا أو لم يقل كل ذلك مردود غير مقبول لأنه ساقط العدالة غاش لأهل الإسلام باستجازته ما ذكرناه ومن هذا النوع كان الحسين بن عمارة وشريك بن عبد الله القاضي وغيرهما
قال علي ومن صح أنه قبل التلقين ولو مرة سقط حديثه كله لأنه لم يتفقه في دين الله عز و جل ولا حفظ ما سمع وقد قال عليه السلام نضر الله امرأ سمع منا حديثا حفظه حتى بلغه غيره فإنما أمر عليه السلام بقبول تبليغ الحافظ والتلقين هو أن يقول له القائل حدثك فلان بكذا ويسمي له من شاء من غير أن يسمعه منه فيقول نعم فهذا لا يخلو من أحد وجهين ولا بد من أحدهما ضرورة إما أن يكون فاسقا يحدث بما لم يسمع أو يكون من الغفلة بحيث يكون الذاهل العقل المدخول الذهن ومثل هذا لا يلتفت له لأنه ليس من ذوي الألباب ومن هذا النوع كان سماك بن حرب أخبر بأنه شاهد ذلك منه شعبة الإمام الرئيس ابن الحجاج (1/132)
قال علي ومما غلط فيه بعض أصحاب الحديث أنه قال فلان يحتمل في الرقائق ولا يحتمل في الأحكام
قال أبو محمد وهذا باطل لأنه تقسيم فاسد لا برهان عليه بل البرهان يبطله وذلك أنه لا يخلو كل أحد في الأرض من أن يكون فاسقا أو غير فاسق فإن كان غير فاسق كان عدلا ولا سبيل إلى مرتبة ثالثة فالعدل ينقسم إلى قسمين فقيه وغير فقيه فالفقيه العدل مقبول في كل شيء والفاسق لا يحتمل في شيء والعدل غير الحافظ لا تقبل نذارته خاصة في شيء من الأشياء لأن شرط القبول الذي نص الله تعالى عليه ليس موجودا فيه ومن كان عدلا في بعض نقله فهو عدل في سائره ومن المحال أن يجوز قبول بعض خبره ولا يجوز قبول سائره إلا بنص من الله تعالى أو إجماع في التفريق بين ذلك وإلا فهو تحكم بلا برهان وقول بلا علم وذلك لا يحل
قال علي وقد غلط أيضا قوم آخرون منهم فقالوا فلان أعدل من فلان وراموا بذلك ترجيح خبر الأعدل على من هو دونه في العدالة
قال علي وهذا خطأ شديد وكان يكفي من الرد عليهم أن نقول لهم إنهم أبرك الناس لذلك وفي أكثر أمرهم يأخذون بما روى الأول عدالة ويتركون ما روى الأعدل ولعلنا سنورد من ذلك طرفا صالحا إن شاء الله تعالى ولكن لا بد لنا بمشيئة الله تعالى من إبطال هذا القول بالبرهان الظاهر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
فأول ذلك أن الله عز و جل لم يفرق بين خبر عدل وخبر عدل آخر أعدل من ذلك ومن حكم في الدين بغير أمر من الله عز و جل أو من رسوله عليه السلام أو إجماع متيقن مقطوع به منقول عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد قفا ما ليس له به علم وفاعل ذلك عاص لله عز و جل لأنه قد نهاه تعالى عن ذلك وإنما أمر تعالى بقبول نذارة النافر الفقيه العدل فقط وبقبول شهادة العدول فقط فمن زاد حكما فقد أتى بما لا يجوز له وترك ما لم يأمره الله تعالى بتركه وغلب ما لم يأمره الله عز و جل بتغليبه
قال علي وأيضا فقد يعلم الأقل عدالة ما لا يعلمه من هو أتم منه عدالة وقد جهل أبو بكر وعمر ميراث الجدة وعلمه المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة وبينهما وبين أبي بكر وعمر بون بعيد إلا أنهم كلهم عدول وقد رجع أبو بكر إلى خبر المغيرة (1/133)
في ذلك ورجع عمر إلى خبر مخبر أخبره عن أملاص المرأة ولم يكن ذلك عند عمر وذلك المخبر بينه وبين عمر في العدالة درج وأيضا فإن كل ما يتخوف من العدل فإنه متخوف من أعدل من في الأرض بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأيضا فلو شهد أبو بكر وحده ما قبل قبولا لا يوجب الحكم بشهادته ولو شهد عدلان من عرض الناس قبلا فلا معنى للأعدل
وأيضا فإن العدالة إنما هي التزام العدل والعدل هو القيام بالفرائض واجتناب المحارم والضبط لما روى وأخبر به فقط ومعنى قولنا فلان أعدل من فلان أي أنه أكثر نوافل في الخبر فقط وهذه صفة لا مدخل لها في العدالة إذ لو انفردت من صفة العدالة التي ذكرنا لم يكن فضلا ولا خيرا
فاسم العدالة مستحق دونهما كما هو مستحق معها سواء بسواء ولا فرق فصح أنه لا يجوز ترجيح رواية على أخرى ولا ترجيح شهادة على أخرى بأن أحد الراوين أو أحد الشاهدين أعدل من الآخر وهذا الذي تحكموا به إنما هو من باب طيب النفس وطيب النفس باطل لا معنى له وشهوة لم يأذن بها الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه و سلم وإنما هو حق فسواء طابت النفس عليه أو كرهته فهو حرام عليها وهذا من باب اتباع الهوى وقد حرم الله تعالى ذلك قال عز و جل { وأما من خاف مقام ربه ونهى لنفس عن لهوى } وقال تعالى { فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين }
فمن حكم في دين الله عز و جل بما استحسن وطابت نفسه عليه دون برهان من نص ثابت أو إجماع فلا أحد أضل منه وبالله تعالى نعوذ من الخذلان إلا من جهل ولم تقم عليه حجة فالخطأ لا ينكر وهو معذور مأجور ولكن من بلغه البيان وقامت عليه الحجة فتمادى على هواه فهو فاسق عاص لله عز و جل
قال علي ووجدنا الله تعالى لم يرض في القبول في الشهادة بزنى الأمة إلا أربعة عدول لا أقل وإنما في ذلك خمسون جلدة وتغريب نصف عام ووجدنا كما قد وافقتمونا (1/134)
على القبول في إباحة دم المسلم ودماء الجماعة باثنين وكذلك في القذف والقطع فأين طيب النفس ههنا
فبهذا وغيره يجب قبول ما قام الدليل عليه وسواء طابت عليه النفس أو لم تطب
قال علي والمرأة والرجل والعبد في كل ما ذكرنا سواء ولا فرق ولم يخص تعالى عدلا من عدل ولا رجلا من امرأة ولا حرا من عبد
قال علي وبما ذكرنا ههنا يبطل قول من قال هذا الحديث لم يرو من غير هذا الوجه ثم قال إنما طلبنا كثرة الرواة على استطابة النفس فإن اعترضوا بقول إبراهيم عليه السلام إذ يقول { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي لموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من لطير فصرهن إليك ثم جعل على كل جبل منهن جزءا ثم دعهن يأتينك سعيا وعلم أن لله عزيز حكيم } الآية قيل لهم أفترون يقين الخليل عليه السلام كان مدخولا قبل أن يرى إحياء الطير فإن قلتم هذا كفرتم ولو لم يره الله تعالى ذلك كما لم ير موسى ما سأل ما تخالج إبراهيم شك في صحة إحياء الله تعالى الموتى وكذلك نحن إن وجدنا الحديث مرويا من طرق كان ذلك أبلغ أن الحجة عند المخالف فقط وإن عدمناه فقد لزمنا القبول لنقل الواحد بالحجاج التي قدمنا وبينا على أي وجه طلب إبراهيم ما طلب في كتابنا في الملل والنحل
قال علي ومن عدله عدل وجرحه عدل فهو ساقط الخبر والتجريح يغلب التعديل لأنه علم زائد عند المجرح لم يكن عند المعدل وليس هذا تكذيبا للذي عدل بل هو تصديق لهما معا فإن قال قائل فهلا قلتم بل عند المعدل علم لم يكن عند المجرح قيل له كذلك نقول ونصدق كل واحد منهما فإذا صح خبرهما معا عليه فلا خلاف في أن كل من جمع عدالة ومعصية فأطاع في قصة وصلى وصام وزكى وفسق في أخرى وزنى أو شرب الخمر أو أتى كبيرة أو جاهر بصغيرة فإنه فاسق عند جميع الأمة بلا خلاف ولا يقع عليه اسم عدل ولو لم يفسق إلا من تمحص الشر ولا يعمل شيئا من الخير لما فسق مسلم أبدا لأن توحيده خير وفضل وإحسان وبر وفي صحة القول بأن فينا عدولا وفساقا بنص القرآن ورضا وغير رضا بيان ما قلنا ولو أخذنا بالتعديل وأسقطنا التجريح لكنا قد كذبنا المجرح وذلك غير جائز وهكذا القول في الشهادة ولا فرق (1/135)
قال علي ولا يقبل في التجريح قول أحد إلا حتى يبين وجه تحريمه فإن قوما جرحوا آخرين بشرب الخمر وإنما كانوا يشربون النبيذ المختلف فيه بتأويل منهم أخطؤوا فيه ولم يعلموه حراما ولو علموه مكروها فضلا عن حرام ما أقدموا عليه ورعا وفضلا منهم الأعمش وإبراهيم وغيرهما من الأئمة رضي الله عنهم وهذا ليس جرحة لأنهم مجتهدون طلبوا الحق فأخطؤوه
ولا يكون الجرح في نقلة الأخبار إلا بأحد أربعة أوجه لا خامس لها الإقدام على كبيرة قد صح عند المقدم عليها بالنص الثابت أنها كبيرة
الثاني الإقدام على ما يعتقد المرء حراما وإن كان مخطئا فيه قبل أن تقوم الحجة عليه بأنه مخطىء
والثالث المجاهرة بالصغائر التي صح عند المجاهر بها بالنص أنها حرام وهذه الأوجه الثلاثة هي جرحه في نقلة الأخبار وفي الشهود وفي جميع الشهادات في الأحكام وهذه صفات الفاسق بالنص وبإجماع من المخالفين لنا وإنما أسقطنا المستتر بالصغائر للحديث الصحيح في الذي 3 قبل امرأة فأخبره عليه السلام أن صلاته كفرت ذلك عنه ولقوله عز و جل { إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما } فمن غفر الله له فحرام علينا أن نثبت عليه ما قد غفر الله تعالى له
وكذلك التائب من الكبائر ومن الكفر أيضا فهو عدل وليس هذا من باب ثبات الحد عليه في شيء لأن الملامة ساقطة عن التائب والحد عنه غير ساقط على حديث ماعز فإن النبي صلى الله عليه و سلم رجمه بعد توبته وأمر بالاستغفار له ونهى عن سبه وإنما قلنا إن المجاهرة بالصغائر جرحة للإجماع المتيقن على ذلك والنص الوارد من الأمر بإنكار المنكر والصغائر من المنكر لأن الله تعالى أنكرها وحرمها ونهى عنها فمن أعلن بها فهو من أهل المنكر فقد استحق التغيير عليه بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ومن كان من أهل المنكر في الدين فهو فاسق لأن المنكر فسق والفاسق لا يقبل خبره
وصح بما قدمنا أن المستتر بالصغائر ليس صاحبه فاسقا ولا يجب التغيير عليه ولا الإنكار عليه لأنه لم ير منه ما يلزمنا فيه تغيير ولا إنكار ولا تعزير ولو أن امرأ شهد (1/136)
على آخر بأنه يتستر بالصغائر لكانت شهادة الشاهد عليه بذلك مردودة وكان ملوما ولم يجز أن يقدح ذلك في شهادة المستتر بها لوجهين أحدهما أنه لا ينجو أحد من ذنب صغير
والثاني أنه معفو عنه ولو شهد على أحد أنه يستتر بكبيرة لقبلت شهادته عليه ولردت شهادة المستتر بها لأنها ليست مغفورة إلا بالتوبة أو برجوح الميزان عند الموازنة يوم القيامة
قال علي والوجه الرابع ينفرد به نقلة الأخبار دون الشهود في الأحكام وهو ألا يكون المحدث إلا فقيها فيما روى أي حافظا لأن النص الوارد في قبول نذارة النافر للتفقه إنما هو بشرط أن يتفقه في العلم ومن لم يحفظ ما روى فلم يتفقه وإذا لم يتفقه فليس ممن أمرنا بقبول نذارته وليس ذلك في الشهادة لأن الشرط في الشهادة إنما هي العدالة فقط بنص القرآن فلا يضر الشاهد أن يكون معروفا بالغفلة والغلط ولا يسقط ذلك شهادته إلا أن تقوم بينة بأنه غلط في شهادة ما فتسقط تلك التي غلط فيها فقط ولا يضر ذلك شهادته في غيرها لا قبل الشهادة ولا بعدها بل هو مقبول أبدا ولا يحل لأحد أن يزيد شرطا لم يأت به الله تعالى فقد قال عليه السلام كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط
فمن شرط في العدل في الشهادة خاصة أن يكون غير معروف بالغلط فقد زاد شرطا ليس في كتاب الله عز و جل فهو مبطل فيه والتدليس الذي ذكرنا أنه يسقط العدالة هو إحدى الكبائر لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم من غشنا فليس منا ولا غش في الإسلام أكبر من إسقاط الضعفاء من سند حديث ليوقع الناس في العمل به وهو غير صحيح ولقوله عليه السلام الدين النصيحة وواجب ذلك لله تعالى ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ومن دلس التدليس الذي ذممنا فلم ينصح لله تعالى ولا لرسوله عليه السلام في تبليغه عنهما ولا نصح للمسلمين في التلبيس عليهم حتى يوقعهم فيما لا يجوز العمل به
قال علي وأما من قدم على ما يعتقده حلالا مما لم يقم عليه في تحريمه حجة فهو معذور مأجور وإن كان مخطئا وأهل الأهواء معتزليهم ومرجئيهم وزيدييهم وأباضييهم (1/137)
بهذه الصفة إلا من أخرجه هواه عن الإسلام إلى كفر متفق على أنه كفر وقد بينا ذلك في كتاب الفصل أو من قامت عليه حجة من نص أو إجماع فتمادى ولم يرجع فهو فاسق
وكذلك القول فيمن خالف حديث النبي صلى الله عليه و سلم لتقليد أو قياس ولا فرق أو من سب أحد الصحابة رضي الله عنهم فإن ذلك عصبية والعصبية فسق وصدق أبو يوسف القاضي إذ سئل عن شهادة من يسب السلف الصالح فقال لو ثبت عندي على رجل أنه يسب جيرانه ما قبلت شهادته فكيف من يسب أفاضل الأمة إلا أن يكون من الجهل بحيث لم تقم عليه حجة النص بفضلهم والنهي عن سبهم فهذا لا يقدح سبهم في دينه أصلا ولا ما هو أعظم من سبهم لكن حكمه أن يعلم ويعرف فإن تمادى فهو فاسق وإن عاند في ذلك الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه و سلم فهو كافر مشرك ولو أن امرأ بدل القرآن مخطئا جاهلا أو صلى لغير القبلة كذلك ما قدح ذلك في دينه عند أحد من أهل الإسلام حتى تقوم عليه الحجة بذلك فإن تمادى فهو فاسق وإن عاند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم فهو كافر مشرك
قال علي وقد علل قوم أحاديث بأن رواها ناقلها عن رجل مرة وعن رجل مرة أخرى
قال علي وهذا قوة للحديث وزيادة في دلائل صحته ودليل على جهل من جرح الحديث بذلك وذلك نحو أن يروي الأعمش الحديث عن سهل عن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة ويرويه غير الأعمش عن سهيل عن أبيه عن أبي سعيد
قال علي وهذا لا مدخل للاعتراض به لأن في الممكن أن يكون أبو صالح سمع الحديث من أبي هريرة ومن أبي سعيد فيرويه مرة عن هذا ومرة عن هذا
ومثل هذا لا يتعلل به في الحديث إلا جاهل أو معاند ونحن نفعل هذا كثيرا لأننا نرى الحديث من طرق شتى فنرويه من بعض المواضع من أحد طرقه ونرويه مرة أخرى من طريق ثانية وهذا قوة للحديث لا ضعف وكل ما تعللوا به من مثل هذا وشبهه فهي دعاوى لا برهان عليها وكل دعوى بلا برهان فهي ساقطة وكذلك ما رواه العدل عن أحد العدلين شك في أحدهما أيهما حدثه إلا أنه موقن أن أحدهما حدثه بلا شك فهذا صحيح يجب الأخذ به مثل أن يقول الثقة حدثنا أبو سلمة أو سعيد (1/138)
بن المسيب عن أبي هريرة فهذا ليس علة في الحديث البتة لأنه أيهما كان فهو عدل رضا معلوم الثقة مشهور العدال
وأيضا فإن قالوا إن الغفلة والخطأ من الاثنين أبعد منه من الواحد
قيل لهم وهو من الأربعة أبعد منه من الثلاثة فلا يقبلوا إلا ما رواه أربعة وهكذا فيما زاد حتى يلحقوا بالقائلين بالتواتر (1/139)
فصل في المرسل
قال أبو محمد المرسل من الحديث هو الذي سقط بين أحد رواته وبين النبي صلى الله عليه و سلم ناقل واحد فصاعدا وهو المنقطع أيضا
وهو غير مقبول ولا تقوم به حجة لأنه عن مجهول وقد قدمنا أن من جهلنا حاله ففرض علينا التوقف عن قبول خبره وعن قبول شهادته حتى نعلم حاله وسواء قال الراوي العدل حدثنا الثقة أو لم يقل لا يجب أن يلتفت إلى ذلك
إذ قد يكون عنده ثقة من لا يعلم من جرحته ما يعلم غيره وقد قدمنا أن الجرح أولى من التعديل وقد وثق سفيان جابرا الجعفي وجابر من الكذب والفسق والشر والخروج عن الإسلام بحيث قد عرف ولكن خفي أمره على سفيان فقال بما ظهر منه إليه ومرسل سعيد بن المسيب ومرسل الحسن البصري وغيرهما سواء لا يؤخذ منه بشيء وقد ادعى بعض من لا يحصل ما يقول أن الحسن البصري كان إذا حدثه بالحديث أربعة من الصحابة أرسله
قال فهو أقوى من المسند
قال أبو محمد وقائل هذا القول اترك خلق الله لمرسل الحسن وحسبك بالمرء سقوطا أن يضعف قولا يعتقده ويعمل به ويقوي قولا يتركه ويرفضه وقد توجه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم رجل إلى قوم ممن يجاور المدينة فأخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمره أن يعرس بامرأة منهم فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم من أخبره بذلك فوجه رسول الله صلى الله عليه و سلم إليه رسولا وأمر بقتله إن وجده حيا فوجده قد مات
فهذا كما ترى قد كذب على النبي صلى الله عليه و سلم وهو حي وقد كان في عصر الصحابة رضي الله عنهم منافقون ومرتدون
فلا يقبل حديث قال راويه فيه عن رجل من الصحابة أو حدثني من صحب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا حتى يسميه ويكون معلوما بالصحبة الفاضلة ممن شهد الله تعالى لهم بالفضل والحسنى
قال الله عز و جل (2/143)
{ وممن حولكم من لأعراب منافقون ومن أهل لمدينة مردوا على لنفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم } وقد ارتد قوم ممن صحب النبي صلى الله عليه و سلم عن الإسلام كعيينة بن حصن والأشعث بن قيس والرجال وعبد الله بن أبي سرح
قال علي ولقاء التابع لرجل من أصاغر الصحابة شرف وفخر عظيم فلأي معنى يسكت عن تسميته لو كان ممن حمدت صحبته ولا يخلو سكوته عنه من أحد وجهين إما أنه لا يعرف من هو ولا عرف صحة دعواه الصحبة أو لأنه كان من بعض ما ذكرنا
حدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى حدثنا خالد بن عبد الله عن عبد الملك عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما وكان خالد ولد عطاء قال أرسلتني أسماء إلى عبد الله بن عمر فقالت بلغني أنك تحرم أشياء ثلاثة العلم في الثوب وميثرة الأرجوان وصوم رجب كله فأنكر ابن عمر أن يكون حرم شيئا من ذلك
فهذه أسماء وهي صحابية من قدماء الصحابة وذوات الفضل منهم قد حدثها بالكذب من شغل بالها حديثه عن ابن عمر حتى استبرأت ذلك فصح كذب ذلك المخبر وقد ذكر عن ابن سيرين في أمر طلاق ابن عمر امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم نحو ذلك فواجب على كل أحد ألا يقبل إلا من عرف اسمه وعرفت عدالته وحفظه
قال علي والمخالفون لنا في قبول المرسل هم أصحاب أبي حنيفة وأصحاب مالك وهم أترك خلق الله للمرسل إذا خالف مذهب صاحبهم ورأيه وقد ترك مالك حديث أبي العالية في الوضوء من الضحك في الصلاة ولم يعيبوه إلا بالإرسال وأبو العالية قد أدرك الصحابة رضي الله عنهم وقد رواه أيضا الحسن وإبراهيم النخعي والزهري مرسلا وتركوا حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى (2/144)
في مرضه مات فيه بالناس جالسا والناس قيام وترك مالك وأصحابه الحديث المروي من طريق الليث عن عقيل بن خالد عن الزهري عن سعيد بن المسيب والقاسم وسالم وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه و سلم فرض زكاة الفطر مدين من بر على كل إنسان مكان صاع من شعير وذكر سعيد بن المسيب أن ذلك كان من عمل الناس أيام أبي بكر وعمر وذكر غيره أنه حكم عثمان أيضا وابن عباس وذكر ابن عمر أنه عمل الناس فهؤلاء فقهاء المدينة رووا هذا الحديث مرسلا وأنه صحبه العمل عندهم فترك ذلك أصحاب مالك
فأين اتباعهم المرسل وتصحيحهم إياه وأين اتباعهم رواية أهل المدينة وعمل الأئمة بها
وترك الحنفيون حديث سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه و سلم في ألا يباع الحيوان باللحم وهو أيضا فعل أبي بكر الصديق رضوان الله عليه ومثل هذا كثير جدا ولو تتبعنا ما تركت كلتا الطائفتين لبلغت أزيد من ألفي حديث بلا شك وسنجمع من ذلك ما تيسر إن شاء الله تعالى في كتاب مفرد لذلك إن أعان الله تعالى بقوة من عنده وأمد بفسحة من العمر
فإنما أوقعهم في الأخذ بالمرسل أنهم تعلقوا بأحاديث مرسلات في بعض مسائلهم فقالوا فيها بالأخذ بالمرسل ثم تركوه في غير تلك المسائل وإنما غرض القوم نصر المسألة الحاضرة بما أمكن من باطل أو حق ولا يبالون بأن يهدموا بذلك ألف مسألة لهم ثم لا يبالون بعد ذلك بإبطال ما صححوه في هذه المسألة إذا أخذوا في الكلام في أخرى وسنبين من ذلك كثيرا إن شاء الله تعالى
ونحن ذاكرون من عيب المرسل ما فيه كفاية لمن نصح نفسه إن شاء الله تعالى
أخبرني أحمد بن عمر العذري حدثنا أبو ذر عبد بن أحمد الهروي ثنا زاهر بن أحمد أبو علي السرخسي الفقيه ثنا زنجويه بن محمد النيسابوري ثنا محمد بن إسماعيل البخاري هو مؤلف الصحيح ثنا سليمان بن حرب ثنا حماد بن زيد عن النعمان بن راشد عن زيد بن أبي أنيسة أن رجلا أجنب فغسل فمات فقال النبي صلى الله عليه و سلم لو يمموه قتلوه قتلهم الله
قال النعمان فحدثت به الزهري فرأيته بعد يروي عن النبي صلى الله عليه و سلم فقلت من حدثك قال أنت حدثتني عمن تحدثه قلت عن رجل من أهل الكوفة (2/145)
قال أفسدته في حديث أهل الكوفة دغل كثير
وبالاستناد المتقدم إلى البخاري قال قال معاذ عن أشعث عن ابن سيرين عن عبد الله بن شقيق عن عائشة كان النبي صلى الله عليه و سلم لا يصلي في شعرنا
قال البخاري ثنا سليمان بن حرب ثنا حماد بن زيد عن سعيد بن أبي صدقة قلت لمحمد بن سيرين ممن سمعت هذا الحديث قال سمعته من زمان لا أدري ممن سمعته ولا أدري أثبت أم لا فسلوا عنه
وفيما كتب إلي به يوسف بن عبد الله النمري قال قال يحيى بن سعيد القطان مالك عن سعيد بن المسيب أحب إلي من الثوري عن إبراهيم
لو كان شيخ الثوري فيه رمق لبرح به وصاح وقال مرة أخرى كلاهما عندي شبه الريح
قال أبو محمد فإذا كان الزهري ومحمد بن سيرين وسفيان ومالك وهم من هم في التحفظ والحفظ والثقة في مراسليهم ما ترى فما أحد ينصح نفسه يثق بمرسل أصلا ولو جمعنا بلايا المراسيل لاجتمع من ذلك جزء ضخم وفي هذا دليل على ما سواه وبالله تعالى التوفيق
فصل في أقسام السنن
قال أبو محمد السنن تنقسم ثلاثة أقسام قول من النبي صلى الله عليه و سلم أو فعل منه عليه السلام أو شيء رآه وعلمه فأقر عليه ولم ينكره
فحكم أوامره عليه السلام الفرض والوجوب على ما نبينه إن شاء الله عز و جل في باب الأوامر من هذا الكتاب ما لم يقم دليل على خروجه من باب الوجوب إلى باب الندب أو سائر وجوه الأوامر وحكم فعله عليه السلام الائتساء به فيه وليس واجبا إلا أن يكون تنفيذا لحكم أو بيانا لأمر على ما يقع في باب الكلام في أفعاله عليه السلام من هذا الكتاب وأما إقراره عليه السلام على ما علم وترك إنكاره إياه فإنما هو مبيح لذلك الشيء فقط وغير موجب له ولا نادب إليه لأن الله عز و جل افترض عليه التبليغ وأخبره أنه يعصمه من (2/146)
الناس وأوجب عليه أن يبين للناس ما نزل إليهم فمن ادعى أنه عليه السلام علم منكرا فلم ينكره فقد كفر لأنه جحد أن يكون عليه السلام بلغ كما أمر ووصفه بغير ما وصفه به ربه تعالى وكذبه في قوله عليه السلام اللهم هل بلغت فقال الناس نعم فقال اللهم اشهد قال ذلك في حجة الوداع
فإن اعترض معترض بحديث جابر أنه سمع عمر رضوان الله عليهما يحلف بحضرة النبي صلى الله عليه و سلم على أن ابن صياد هو الدجال فلم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا حجة علينا في هذا لأن ابن صياد في أول أمره كان رسول الله صلى الله عليه و سلم شاكا في أمره أهو الدجال أم لا بذلك جاءت الأحاديث الصحاح ويبين ذلك قول عمر فيه دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقال عليه السلام إن يكن هو فلن تسلط عليه أو نحو ذلك من الكلام فحلف عمر على تقديره ومن حلف على ما لا يعلم ولا يوقن أنه باطل ولا حق فليس هو عندنا حانثا ولا آثما إذا كان تقديره أنه كما حلف عليه فهذا الحديث حجة لنا وليس فيه أيضا أن النبي صلى الله عليه و سلم صدق يمينه فإنا في الحديث أن أمر ابن صياد كان حينئذ ممكنا والحالف على الممكن كما ذكرنا لم يأت منكرا فيلزم رسول الله صلى الله عليه و سلم تغييره
قال علي وأما من قال إن أفعاله صلى الله عليه و سلم على الوجوب فقوله ساقط لأن الله تعالى لم يوجب علينا قط في شيء من القرآن والسنن أن نفعل مثل فعله عليه السلام بل قال تعالى { لقد كان لكم في رسول لله أسوة حسنة لمن كان يرجو لله وليوم لآخر وذكر لله كثيرا } وإنما أنكر عليه السلام على تنزه أن يفعل مثل فعله عليه السلام وهذا هو غاية المنكر كمن تنزه عن التقبيل في رمضان نهارا وهو صائم أو تنزه أن يمشي حافيا حاسرا زاريا على من فعل ذلك وأما من ترك أن يفعل مثل فعله عليه السلام لا عن رغبة عنه فما أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم قط وهذا التارك للائتساء به صلى الله عليه و سلم غير راغب عن ذلك لا محسن ولا مسيء ولا مأجور ولا آثم والمؤتسي به عليه السلام محسن مأجور والراغب عن الائتساء به بعد قيام الحجة عليه إن كان زاريا على محمد صلى الله عليه و سلم فهو كافر وما نعلم لمن صحح عنه فعلا ثم رغب عنه وجها ينجو به من الشرك إلا أن يتعلق بفعل له عليه (2/147)
السلام آخر أو بأمر له آخر أو يكون لم يصح عنده ذلك الأمر الذي رغب عنه فإن تعلق بأنه خصوص له صلى الله عليه و سلم فهو أحد الكاذبين الفساق ما لم يأت على دعواه بدليل من نص أو إجماع
قال علي وأما من ادعى أن أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم فرض علينا أن نفعل مثلها فقد أغفل جدا وأتى بما لا برهان له على صحته وما كان هكذا فهو دعوى كاذبة لأن الأصل ألا يلزمنا حكم حتى يأتي نص قرآن أو نص سنة بإيجابه وأيضا فإنه قول يؤدي إلى ما لا يفعل ولزمه أن يوجب على كل مسلم أن يسكن حيث سكن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأن يجعل رجليه حيث جعلهما عليه السلام وأن يصلي حيث صلى عليه السلام وأن يصوم فرضا الأيام التي كان يصومها عليه السلام وأن يجلس حيث جلس وأن يتحرك مثل كل حركة تحركها عليه السلام وأن يحرم الأكل متكئا وعلى خوان والشبع من خبز البر مأدوما ثلاثا تباعا وأن يوجب فرضا أكل الدباء ويتتبعها وهذا ما لا يوجبه مسلم مع أن هذا يخرج إلى المحال وإلى إرجاع ما لا سبيل إلى إرجاعه مما قد فات وبطل بالأكل والشرب منه عليه السلام
فبطل بما ذكرنا أن تكون أفعاله عليه السلام واجبة علينا إذ لم يأت على ذلك دليل بل قد قام الدليل والبرهان على أن ذلك غير واجب بالآية التي ذكرنا وكل من له أقل علم باللغة العربية فإنه يعلم أن ما قيل فيه هذا لك أنه غير واجب قبوله بل مباح له تركه إن أحب كالمواريث وكل ما خيرنا فيه وأن ما جاء بلفظ عليك كذا فهذا هو الملزم لنا ولا بد فلما قال تعالى { لقد كان لكم في رسول لله أسوة حسنة لمن كان يرجو لله وليوم لآخر وذكر لله كثيرا } كنا مندوبين إلى ذلك وكنا مباحا لنا ألا نأتسي غير راغبين عن الائتساء به لكن عالمين أن الذي تركنا أفضل والذي فعلنا مباح كجلوس الإنسان وتركه أن يصلي تطوعا فليس آثما بذلك ولو صلى تطوعا لكان أفضل إلا أن يكون ترك التطوع راغبا عنها في الوقت المباح فيه التطوع فهذا خارج عن الإسلام بلا خلاف لأنه شارع شريعة لم يأت بها إذن
قال علي وإنما نازعنا في وجوب الأفعال بعض أصحاب مالك على أنهم أترك (2/148)
خلق الله تعالى لأفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم فمن ذلك أنه عليه السلام جلد في الخمر أربعين وهم يجلدون ثمانين وودى حضريا وهو عبد الله بن سهل ادعى قتله على حضريين وهم يهود خيبر بالإبل فقالوا هم لا يجوز ذلك ولا يودى إلا بالذهب أو الفضة
وصلى على قبر فقالوا هم لا نفعل ذلك وصلى على غائب فقالوا هم لا نرى ذلك وقبل وهو صائم
فقالوا هم نكره ذلك وصلى عليه السلام حاملا أمامة فقالوا نكره ذلك وصلى جالسا والناس وراءه وأبو بكر إلى جنبه قائم
فقالوا لا يجوز ذلك ويعلم صحةمن صلى كذلك بطلت صلاته في كثير جدا اقتصرنا منه على ما ذكرنا
وبعضهم تعلق في هذه الأفعال بأنها خصوص له عليه السلام ومن فعل ذلك فقد تعرض لغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن تعرض لغضبه عليه السلام فقد تعرض لغضب الله عز و جل فقد غضب عليه السلام غضبا شديدا حين سأله الأنصاري عن قبلة الصائم فأخبر عليه السلام أنه يفعل ذلك فقال القائل لست مثلنا يا رسول الله أنت قد غفر لك ذنبك فغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم حينئذ غضبا شديدا وأنكر هذا القول فمن أضل ممن تعرض لغضب الله عز و جل وغضب رسوله عليه السلام في تقليد إنسان لا ينفعه ولا يضره ولا يغني عنه من الله تعالى شيئا
قال علي واحتجوا في تخصيص القبلة للصائم بقول عائشة رضي الله عنها وأيكم أملك لإربه من رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال أبو محمد وهذا القول منها رضي الله عنها أعظم الحجة عليهم لأنها لم تقل ذلك على ما توهموا وإنما قالته إنكارا على من استعظم القبلة للصائم
فأخبرهم أنه عليه السلام كان أورع منهم وأملك لإربه ولكنه مع ذلك لم يمتنع من التقبيل وهو صائم فكيف أنتم
ويدل على صحة هذا التأويل دليلان بينان أحدهما أنها رضي الله عنها هكذا قالت في مباشرة الحائض أنه عليه السلام كان يأمرها فتتزر ثم يباشرها وأيكم أملك لإربه من رسول الله صلى الله عليه و سلم فيلزمهم أن يتركوا إباحة مباشرة الحائض لقول عائشة وأيكم أملك لإربه كما قالت في قبلة الصائم سواء بسواء
والثاني أنهم رووا عنها أنها قالت لابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن وهو أشب ما كان ألا تقبل زوجتك وتلاعبها تعني عائشة بنت طلحة وهي بنت أختها وأجمل (2/149)
جواري أهل زمانها قاطبة فقال إني صائم
فقالت لقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقبل وهو صائم فهي دأبا تحض الصائم الشاب على التقبيل للجارية الحسناء اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم وائتساء به
وهذا هو قولنا لا قولهم ففعلوا ما ترى فيما أخبر عليه السلام أنه عموم وغضب على من ادعى أنه خصوص ثم أتوا إلى ما أخبر عليه السلام أنه خصوص له دون سائر الناس وهو قتله بمكة من قتل الكفار وخطب عليه السلام الناس فنهاهم عن أن يسفك فيها أحد دما ثم لم يقنع عليه السلام بذلك حتى قال في خطبته تلك وإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها فقولوا إن الله أحلها لنبيه صلى الله عليه و سلم ولم يحلها لكم وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت كحرمتها بالأمس إلى يوم القيامة أو كلاما هذا معناه فقالوا هذا عموم وليس خصوصا
قال أبو محمد فلو قيل لهؤلاء القوم اعكسوا الحقائق ما زادوا على ما فعلوا وأن هذا لعظائم لا ندري كيف استجاز من له أدنى ورع التقليد في مثل هذا لمن قد أداه اجتهاده إلى الخطأ في ذلك ممن قد بلغتهم الآثار وقامت عليهم الحجة وسقطت عنهم المعذرة وإن الظن ليسوء جدا بمن هذا معتقده ونعوذ بالله من كل حب رياسة تقود إلى مثل هذا وبالله تعالى التوفيق
قال علي وإذا مدح الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه و سلم أحدا على فعل ما كان ذلك الفعل مندوبا إليه مستحبا يؤجر فاعله ولا يؤجر تاركه ولا يأثم وليس ذلك الشيء فرضا لما قد أوردنا في الحجاج في أن الفرض ليس إلا ما جاء به الأمر فقط وإن لم نؤمر به فمعفوا عنه وأما ما ذمه الله تعالى فهو مكروه وليس حراما إلا بدليل لما ذكرناه في المدح ولا فرق وقد ذم الله تعالى الشح وليس حراما إذا أدى المرء فرائضه ولكنه مذموم مكروه وقد مدح الله تعالى المغتسلين بالماء للاستنجاء وليس فرضا ومدح النبي صلى الله عليه و سلم من لم يكتوا ولا استرقى وليس كل ذلك حراما لكن إن قام دليل من أمر أو نهي على الشيء المذموم أو الممدوح صير فيه إلى دليل الأمر والنهي وبالله تعالى التوفيق (2/150)
فصل في خلاف الصاحب للرواية
وتعلل أهل الباطل بذلك وفيما زعموا أن البلوى تكثر به فلا يقبل فيه إلا التواتر قال أبو محمد ووجدنا الصاحب من الصحابة رضي الله عنهم يبلغه الحديث فيتناول فيه تأويلا يخرجه به عن ظاهره ووجدناهم رضي الله عنهم يقرون ويعترفون بأنهم لم يبلغهم كثير من السنن وهكذا الحديث المشهور عن أبي هريرة إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على أموالهم وهكذا قال البراء حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عون ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى العنزي ثنا أبو أحمد الزبيري وسفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب قال أما كل ما تحدثتموه سمعناه من رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكن حدثنا أصحابنا وكانت تشغلنا رعية الإبل
وهذا أبو بكر رضي الله عنه لم يعرف فرض ميراث الجدة وعرفه محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة وقد سأل أبو بكر رضي الله عنه عائشة في كم كفن رسول الله صلى الله عليه و سلم
وهذا عمر رضي الله عنه يقول في حديث الاستئذان أخفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم ألهاني الصفق في الأسواق
وقد جهل أيضا أمر إملاص المرأة وعرفه غيره وغضب على عيينة بن حصن حتى ذكره الحر بن قيس بن حصن بقوله تعالى { خذ لعفو وأمر بلعرف وأعرض عن لجاهلين } وخفي عليه أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب إلى آخر خلافته وخفي على أبي بكر رضي الله عنه قبله أيضا طول مدة خلافته فلما بلغ ذلك عمر أمر بإجلائهم فلم يترك بها منهم أحدا
وخفي على عمر أيضا أمره عليه السلام بترك الإقدام على الوباء وعرف ذلك (2/151)
عبد الرحمن بن عوف
وسأل عمر أبا واقد الليثي عما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه و سلم في صلاتي الفطر والأضحى
وهذا وقد صلاهما رسول الله صلى الله عليه و سلم أعواما كثيرة ولم يدر ما يصنع بالمجوس حتى ذكره عبد الرحمن بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم ونسي قبوله عليه السلام الجزية من مجوس البحرين وهو أمر مشهور ولعله رضي الله عنه قد أخذ من ذلك المال حظا كما أخذ غيره منه
ونسي أمره عليه السلام بأن يتيمم الجنب فقال لا يتيمم أبدا ولا يصلي ما لم يجد الماء وذكره بذلك عمار وأراد قسمة مال الكعبة حتى احتج عليه أبي بن كعب بأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يفعل ذلك فأمسك وكان يرد النساء اللواتي حضن ونفرن قبل أن يودعن البيت حتى أخبر بأن رسول الله صلى الله عليه و سلم أذن في ذلك فأمسك عن ردهن وكان يفاضل بين ديات الأصابع حتى بلغه عن النبي صلى الله عليه و سلم أمره بالمساواة بينها فترك قوله وأخذ بالمساواة وكان يرى الدية للعصبة فقط حتى أخبره الضحاك بن سفيان بأن النبي صلى الله عليه و سلم ورث المرأة من الدية فانصرف عمر إلى ذلك ونهى عن المغالاة في مهور النساء استدلالا بمهور النبي صلى الله عليه و سلم حتى ذكرته امرأة فرجع عن نهيه وأراد رجم مجنونة حتى أعلم بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم رفع القلم عن ثلاثة فأمر ألا ترجم وأمر برجم مولاة حاطب حتى ذكره عثمان بأن الجاهل لا حد عليه فأمسك عن رجمها وأنكر على حسان الإنشاد في المسجد فأخبره هو وأبو هريرة أنه قد أنشد فيه بحضرة رسول الله صلى الله عليه و سلم فسكت عمر
وقد خفي على الأنصار وعلى المهاجرين كعثمان وعلي وطلحة والزبير وحفصة أم المؤمنين وجوب الغسل من الإيلاج إلا أن يكون أنزل وهذا مما تكثر فيه البلوى وخفي على عائشة وأم حبيبة أمي المؤمنين وابن عمر وأبي هريرة وأبي موسى
وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب وسائر الجلة من فقهاء المدينة وغيرهم نسخ الوضوء مما مست النار وكل هذا تعظم البلوى به وتعم وهذا كله وما بعد هذا يبطل ما قاله من لا يبالي بكلامه من الحنفيين والمالكيين
إن الأمر إذا كان مما تعم البلوى به لم يقبل خبر الواحد (2/152)
والعجب أن كلتا الطائفتين قد قبلت أخبارا خالفها غيرهم تعم البلوى كقبول الحنفيين الوضوء من الضحك وجهله غيرهم وكقبول المالكيين اليمين مع الشاهد وجهله غيرهم ومثل هذا كثير جدا
حدثنا محمد بن سعيد ثنا أحمد به عبد النصير حدثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا صخر بن جويرية حدثنا عامر بن عبد الله بن الزبير أن عبد الرحمن بن الأسود أخبره قال كنت جالسا مع أبي بعرفة وابن الزبير يخطب الناس فقال ابن الزبير إن هذا يوم تكبير وتحميد وتهليل فكبروا الله واحمدوه وهللوا فقام أبي يجوس حتى انتهى إليه فأصغى إليه فقال أشهد لسمعت عمر بن الخطاب على هذا المنبر يلبي فقال ابن الزبير لبيك اللهم لبيك وكان صيتا
قال أبو محمد فقد خفي هذا كما ترى على ابن الزبير وغيره وهو مشهور عن النبي صلى الله عليه و سلم
وقد نهى عمر أن يسمى بأسماء الأنبياء وهو يرى محمد بن مسلمة يغدو عليه ويروح وهو أحد الصحابة الجلة منهم ويرى أبا أيوب الأنصاري وأبا موسى الأشعري وهما لا يعرفان إلا بكناهما من الصحابة ويرى محمد بن أبي بكر الصديق وقد ولد بحضرة رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي حجة الوداع واستفتته أمه إذ ولدته ماذا تصنع في إحرامها وهي نفساء وقد علم يقينا أن النبي صلى الله عليه و سلم علم بأسماء من ذكرنا وبكناهم بلا شك وأقرهم عليها ودعاهم بها ولم يغير شيئا من ذلك عليه السلام
فلما أخبره طلحة وصهيب عن النبي صلى الله عليه و سلم بإباحة ذلك أمسك عن النهي عنه وهم بترك الرمل في الحج ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم فعله
فقال لا يجب لنا أن نتركه
وهذا عثمان رضي الله عنه فقد رووا عنه أنه بعث إلى الفريعة أخت أبي سعيد الخدري يسألها عما أفتاها به رسول الله صلى الله عليه و سلم في أمر عدتها وأنه أخذ بذلك وأمر برجم امرأة قد ولدت لستة أشهر فذكره علي بالقرآن وأن الحمل قد يكون ستة أشهر فرجع عن الأمر برجمها
وهذا علي رضوان الله عليه يعترف بأن كثيرا من الصحابة كانوا يحدثونه بما ليس (2/153)
عنده عن النبي صلى الله عليه و سلم وأنه كان يستحلفهم على ذلك حاشا أبا بكر فإنه كان لا يستحلفه وأن الله تعالى كان ينفعه بما شاء أن ينفعه مما سمع من ذلك مما لم يكن عنده قبل ذلك
وهذا طلحة يبيح الذهب بالفضة نسيئة حتى ذكره عمر
وهذا ابن عمر وابن عباس يبيعان الدرهم بالدرهمين حتى ذكرا فأمسكا ثم رواه ابن عمر عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم ذكره مسلم فرجع ابن عمر إلى ذلك وترك رأيه ثم رواه ابن عمر فقال هذا عهد نبينا إلينا
ذكره مالك عن حميد عن مجاهد عن ابن عمر وصدق ابن عمر ونحن نقول في حديث النبي صلى الله عليه و سلم إذا بلغنا هذا عهد نبينا إلينا فهكذا نحمل أمر جميع ما روي من رواية الصاحب للحديث ثم روي عنه مخالفته إياه أنه إنما أفتى بخلاف الحديث قبل أن يبلغه فلما حدث بما بلغه لا يحل أن يظن بالصاحب غير هذا وهذا نص ما ذكرنا عن ابن عمر ببيان لا يخفى وأنهم تأولوا فيما سمعوا من الحديث
ومن حمل ذلك على غير ما قلنا فإنه يوقع الصاحب ولا محالة تحت أمرين وقد أعاذهم الله تعالى منهما كلاهما ضلال وفسق وهما إما المجاهرة بخلاف النبي صلى الله عليه و سلم وهذا لا يحل لأحد ولا يحل أن يظن بهم وإما أن يكون عندهم علم أوجب عليهن مخالفة ما رووا فما هم في حل أن يكتموه عنا ويحدثوا بالمنسوخ ويكتموا عنا الناسخ
وهذه الصفة كفر من فاعلها وتلبيس في الدين ولا ينسب هذا إليهم إلا زائغ القلب أو جاهل أعمى القلب فبطل ظنهم الفاسد وصح قولنا والحمد لله رب العالمين
ولا سبيل إلى وجه ثالث أصلا إلا أن يكونوا نسوا حينئذ بعض ما قد رووه قبل ذلك فهذا ممكن أيضا
فإن كانوا تأولوا فالتأويل منهم رضي الله عنهم ظن وروايتهم على النبي صلى الله عليه و سلم يقين ولا يحل لمسلم أن يترك اليقين للظن فارتفع الإشكال جملة هذا الباب والحمد لله رب العالمين
وأما هم رضوان الله عليهم فمعذورون لأنه اجتهاد منهم مع أن ذلك منهم أيضا قليل جدا وليس كذلك من يقلدهم بعد أن نبه على ما ذكرناه
وهذه عائشة وأبو هريرة رضي الله عنهما خفي عليهما المسح على الخفين وعلى ابن عمر معهما وعلمه جرير ولم يسلم إلا قبل موت النبي صلى الله عليه و سلم بأشهر وأقرت عائشة (2/154)
أنها لا علم لها به وأمرت بسؤال من يرجى عنده علم ذلك وهو علي رضي الله عنه وهذه حفصة أم المؤمنين سئلت عن الوطء يجنب فيه الواطىء أفيه غسل أم لا فقالت لا علم لي
وهذا ابن عمر توقع أن يكون حدث نهي من النبي صلى الله عليه و سلم عن كراء الأرض بعد أزيد من أربعين سنة من موت النبي صلى الله عليه و سلم فأمسك عنها وأقر أنهم كانوا يكرونها على عهد أبي بكر وعمر وعثمان ولم يقل إنه لا يمكن أن يخفى على هؤلاء ما يعرف رافع وجابر وأبو هريرة
وهؤلاء إخواننا يقولون فيما اشتهوا لو كان هذا حقا ما خفي على عمر
وقد خفي على زيد بن ثابت وابن عمر وجمهور أهل المدينة إباحة النبي صلى الله عليه و سلم للحائض أن تنفر حتى أعلمهم بذلك ابن عباس وأم سليم فرجعوا عن قولهم وخفي على ابن عمر الإقامة حتى يدفن الميت حتى أخبره بذلك أبو هريرة وعائشة فقال لقد فرطنا في قراريط كثيرة وقيل لابن عمر في اختياره متعة الحج على الإفراد إنك تخالف أباك
فقال أكتاب الله أحق أن يتبع أم عمر روينا ذلك عنه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر
وخفي على عبد الله بن عمر الوضوء من مس الذكر حتى أمرته بذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم بسرة بنت صفوان فأخذ بذلك
وخفي على ابن عباس النهي عن المتعة وعن تحريم الحمر الأهلية حتى أعلمه بذلك علي رضي الله عنه
وقال ابن عباس ألا تخافون أن يخسف الله بكم الأرض أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وتقولون قال أبو بكر وعمر وهؤلاء الأنصار نسوا قوله عليه السلام الأئمة من قريش وقد رواه أنس
وقد روى عبادة بن الصامت ما يدل على ذلك وما كانوا يتركون اجتهادهم إلا لأمر بلغهم عن النبي صلى الله عليه و سلم وهذا أبو هريرة يذكر أنهم كانوا رضوان الله عليهم تشغلهم أموالهم ومتاجرهم وأنه هو كان يلازم رسول الله صلى الله عليه و سلم ويحضر ما لا يحضرون وقد ذكرنا هذا الحديث في باب الإجماع في ديواننا هذا في فصل ترجمته إبطال قول من قال إن الجمهور إذا أجمعوا على قول وخالفهم واحد فإنه لا يلتفت إلى قوله فأغنى ذكرنا إياه هنالك عن ترداده ههنا (2/155)
وإذا وجدنا الصاحب تخفى عليه السنة أو تبلغه فيتأول فيها التأويلات كما فعلوا في تحريم الخمر فإن البخاري روى أنهم اختلفوا فمن قائل حرمت لأنها كانت تأكل العذرة ومن قائل لأنها لم تخمس
ومن قائل إنه خشي فناء الظهر وقال بعضهم بل حينئذ حرمت البتة
قال علي وكل ذلك باطل إلا قول من قال حرمت البتة وقد جاء النص بتحريمها لعينها ولأنها رجس روى ذلك أنس
فلما صح كل ما ذكرنا وبطل التقليد جملة وجب أن يؤخذ برأي صاحب وإن تعرى من مخالفة الخبر فكيف إذا استضاف إلى مخالفة الخبر
وقد كتبنا في باب إبطال التقليد من هذا الكتاب ما أفتوا به رضوان الله عليهم فأخبر عليه السلام أنه ليس كذلك
قال علي وكل ما تعلق به أهل اللواذ عن الحقائق عند غلبة الحيرة عليهم من مثل هذا وشبهه فهم أترك خلق الله تعالى له وإنما تعلق بهذا أصحاب أبي حنيفة في خلافهم أمر النبي صلى الله عليه و سلم بغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا فقالوا قد روي أن أبا هريرة أفتى من رأيه بأن يغسل منه ثلاثا ثم تركوا قول أبي هريرة وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم فخالفوا روايته التي لا يحل خلافها ورأيه الذي احتجوا به وأحدثوا دينا حديثا فقالوا لا يغسل إلا مرة واحدة ونقدها هنا المالكيون أصولهم ووفقوا في ذلك فقالوا يغسل سبعا فأخذوا برواية أبي هريرة وتركوا رأيه وتعلقوا كلهم بذلك أيضا في حديث ابن عباس وعائشة في الصوم عن الميت فقالوا قد أفتى ابن عباس وعائشة بخلاف ذلك فتناقض المالكيون والحنفيون ههنا فأخذوا بقول ابن عباس وعائشة وتركوا روايتهما
وأخذ المالكيون آنفا برواية أبي هريرة وتركوا قوله ولا حجة للحنفيين في خلاف عائشة وابن عباس هذا الحديث لأنه إن كان تركته عائشة فقد رواه أيضا بريدة الأسلمي ولم يخالفه وأما ابن عباس فالأصح عنه أنه أفتى بما رواه عنه محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان وليس بالقوي وروى سعيد بن جبير خلاف ذلك وهو أصح
وأما تعلقهم بأن عائشة رضي الله عنها خالفت في فتياها ما روت من الأمر بالصيام عن الميت فأين هم عن طرد هذا الأصل الفاسد إذ روت عائشة رضي الله عنها أن (2/156)
الصلاة فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر وكانت هي تتم في السفر فأخذوا بروايتها وتركوا رأيها وعملها وإذ روت التحريم بلبن العجل ثم كانت لا تأخذ بذلك ولا يدخل عليها من أرضعته نساء إخوتها ويدخل عليها من أرضعته بنات أخواتها فتركوا رأيها وأخذوا بروايتها وإذ روت أن كل امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فخالفت ذلك وأنكحت بنت أخيها عبد الرحمن المنذر ابن الزبير وعبد الرحمن حي غائب غيبة قريبة بالشام بغير علمه ولا أمره فأخذ المالكيون بروايتها وتركوا رأيها وعملها
فإن قالوا تأولت في كل هذا قلنا لهم وهكذا تأولت في فتياها بألا يصام عن الميت ولعل المرأة التي أفتت ألا يصام عنها كانت لا ولي لها فلم تر عائشة رضي الله عنها أن تخرج من ظاهر الحديث الذي روت في ذلك لأن نصه من مات وعليه صيام صام عنه وليه
وهكذا فعل المالكيون فيما روي عن عمر أنه رأى للمبتوتة السكنى والنفقة وبلغه حديث فاطمة بنت قيس فلم يأخذ به فخالف المالكيون رأي عمر وأخذوا بنصف حديث فاطمة فلم يروا للمبتوتة نفقة فخالفوا الحديث وعمر في النصف الثاني فرأوا لها السكنى
وعمر قد قرأ الآية كما قرؤوها
وهكذا فعلوا في رواية ابن عباس في حديث حد المكاتب وميراثه ودينه بمقدار ما أدى فقالوا خالفه ابن عباس فأفتى بغير ذلك ولا حجة لهم في هذا لأن هذا الحديث قد رواه أيضا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأخذوا به وأفتي به
فلم كان ترك ابن عباس للحديث حجة على عمل علي به وقد يحتمل ترك ابن عباس وغيره لما روي وجوها منها أن يتأول فيه تأويلا كما ذكرنا آنفا أو يكون نسيه جملة أو يكون نسيه حين أفتى بهذه الفتيا المخالفة له كما ذكرنا آنفا فيمن أفتى منهم بخلاف القرآن وهو ناس لما في حفظه من ذلك أو يكون لم يكن يبلغه حين أفتى بما أفتى به ثم بلغه الحديث بعد ذلك فإن هذه الوجوه كلها موجودة فيما روي عنهم فلا يحل لأحد ترك كلامه عليه السلام الفتيا جاءت عن صاحب فمن دونه مخالفة لما صح عنه عليه السلام ولو تتبعنا ما تركوا فيه روايات الصحابة وأخذوا بفتياهم وما تركوا فيه فتيا الصحابة وأخذوا برواياتهم لكثر ذلك جدا لأن القوم إنما حسبهم ما نصروا به المسألة التي بين أيديهم فقط وإن هدموا بذلك سائر مسائلهم
وفيما ذكرنا كفاية (2/157)
وبالجملة فصرف الداخلة التي يعترضون بها على رواية الصاحب لما ترك برأيه أولى أن يكون إلى النقل لمخالفته لذلك منه إلى الرواية التي يلزم اتباعها
وهذا باب قد عظم تناقضهم فيه فهذا ابن عمر وأبو برزة هما رويا حديث البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فحملاه على تفرق الأبدان فخالفهما المالكيون والحنفيون فقالوا التفرق بالكلام ولم يلتفوا إلى ما حمل عليه الحديث الصاحبان اللذان روياه
وهذا علي رضي الله عنه روى الصلاة تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ثم روي عنه تركه وأنه أفتى بأنه إذ وقع رأسه من السجود فقد تمت صلاته فخالفه المالكيون ورأوا التسليم فرضا لا بد منه
وتناقضهم في الباب عظيم جدا
فصل في حكم العدل
قال علي وإذ علمنا أن الراوي العدل قد أدرك من روى عنه من العدول فهو على اللقاء والسماع لأن شرط العدل القبول والقبول يضاد تكذيبه في أن يسند إلى غيره ما لم يسمعه منه إلا أن يقوم دليل على ذلك من فعله وسواء قال حدثنا أو أنبأنا أو قال عن فلان أو قال قال فلان كل ذلك محمول على السماع منه ولو علمنا أن أحدا منهم يستجير التلبيس بذلك كان ساقط العدالة في حكم الناس وحكم العدل الذي قد تبنت عدالته فهن على الورع والصدق لا على الفسق والتهمة وسوء الظن المحرم بالنص حتى يصح خلاف ذلك ولا خلاف في هذه الجملة بين أحد من المسلمين وإنما تناقض من تناقض في تفريع المسائل وبالله التوفيق
فصل فيما ادعاه قوم من تعارض النصوص
قال علي إذا تعارض الحديثان أو الآيتان أو الآية والحديث فيما يظن من لا يعلم ففرض على كل مسلم استعمال كل ذلك لأنه ليس بعض ذلك أولى بالاستعمال من بعض ولا حديث بأوجب من حديث آخر مثله ولا آية أولى بالطاعة لها من آية أخرى مثلها وكل من عند الله عز و جل وكل سواء في باب (2/158)
وجوب الطاعة والاستعمال ولا فرق
حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي قال أنبأنا محمد بن إسحاق بن السليم وأحمد بن عون الله قال حدثنا ابن الأعرابي قال حدثنا سليمان بن الأشعث السجستاني حدثنا محمد بن عيسى حدثنا أشعث بن شعبة أنبأنا أرطاة بن المنذر سمعت أبا الأحوص حكيم بن عمير يحدث عن العرباض بن سارية أنه حضر رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب الناس وهو يقول أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله تعالى لم يحرم شيئا إلا ما في القرآن ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن
قال علي صدق النبي صلى الله عليه و سلم هي مثل القرآن ولا فرق في وجوب طاعة كل ذلك علينا
وقد صدق الله تعالى هذا القول إذ يقول { من يطع لرسول فقد أطاع لله ومن تولى فمآ أرسلناك عليهم حفيظا } وهي أيضا مثل القرآن في أن كل ذلك وحي من عند الله تعالى قال الله عز و جل { وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى }
قال علي ولا خلاف بين المسلمين في أنه لا فرق بين وجوب طاعة قول الله عز و جل { وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وأطيعوا لرسول لعلكم ترحمون } وبين وجوب طاعة رسوله صلى الله عليه و سلم في أمره أن يصلي المقيم الظهر أربعا والمسافر ركعتين وأنه ليس ما في القرآن من ذلك بأوجب ولا أثبت مما جاء من ذلك منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه و سلم وإن كانوا قد اختلفوا في كيفية الطريق التي بها يصح النقل فقط
قال علي وقد روينا في هذا الحديث من بعض الطرق إنها لمثل القرآن وأكثر
قال علي ولا نكرة في هذا اللفظ لأنه صلى الله عليه و سلم إنما أراد بذلك اللفظ أنها أكثر عددا مما ذكر في القرآن وهذا أمر تعلم صحته بالمشاهدة لأن الفرائض الواردة في كلامه صلى الله عليه و سلم بيانا لأمر ربه تعالى أكثر من الفرائض الواردة في القرآن
قال علي فإذا ورد النصان كما ذكرنا فلا يخلو ما يظن به التعارض منهما وليس تعارضا من أحد أربعة أوجه لا خامس لها إما أن يكون أحدهما أقل معاني من (2/159)
الآخر أو يكون أحدهما حاظرا والآخر مبيحا أو يكون أحدهما موجبا والثاني نافيا فواجب ههنا أن يستثنى الأقل معاني من الأكثر معاني وذلك مثل أمره عليه السلام ألا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت وأذن للحائض أن تنفر قبل أن تودع فوجب استثناء الحائض من جملة النافرين وكذلك حديث نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن الرطب بالتمر مع إباحة ذلك في العرايا فيها دون خمسة أوسق ومثل أمر الله عز و جل بقطع ( يد ) السارق والسارقة جملة مع قوله عليه السلام لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا فوجب استثناء سارق أقل من ربع دينار من القطع وبقي سارق ما عدا ذلك على وجوب القطع عليه وكذلك تحريمه تعالى أمهات الرضاعة مع قوله صلى الله عليه و سلم لا تحرم الرضعة والرضعتان ونسخ العشر المحرمات بالخمس المحرمات فوجب استثناء ما دون الخمس رضعات من التحريم ويبقى الخمس فصاعدا على التحريم ومثل قوله تعالى { ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } مع إباحته المحصنات من نساء أهل الكتاب بالزواج فكن بذلك مستثنيات من جملة المشركات وبقي سائر المشركات على التحريم ومثل قوله عليه السلام دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام مع قوله تعالى { لشهر لحرام بلشهر لحرام ولحرمات قصاص فمن عتدى عليكم فعتدوا عليه بمثل ما عتدى عليكم وتقوا لله وعلموا أن لله مع لمتقين } وأمر على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم بقتل من ارتد بعد إسلامه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفسا أو شرب خمرا بعد أن حد فيها ثلاثا وأباح قتل من سعى في الأرض فسادا وأمر بأخذ أموال معروفة في الزكوات والنفقات والكفارات وأمر بتغيير المنكر باليد فكان كل ذلك مستثنى من جملة تحريم الدماء والأموال والأعراض وبقي سائرها على التحريم
فقد أرينا في هذه المسائل استثناء الأقل معاني من الأكثر معاني وأرينا في ذلك إباحة من حظر وحظرا من إباحة وحديثا من آية وآية من حديث وآية من آية وحديثا من حديث ولا نبالي في هذا الوجه كما نعلم أي النصين ورد أولا أو لم نعلم ذلك وسواء كان الأكثر معاني ورد أولا أو ورد آخرا كل ذلك سواء ولا يترك واحد منهما للآخر لكن يستعملان معا كما ذكرنا فهذا وجه (2/160)
والوجه الثاني أن يكون أحد النصين موجبا بعض ما أوجبه النص الآخر أو حاظرا بعض ما حظره النص الآخر فهذا يظنه قوم تعارضا وتحيروا في ذلك فأكثروا وخبطوا العشواء وليس في شيء من ذلك تعارض
وقد بينا غلطهم في هذا الكتاب في كلامنا في باب دليل الخطاب وذلك قوله عز و جل { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما } وقال في موضع آخر { إن لله يأمر بلعدل ولإحسان وإيتآء ذي لقربى وينهى عن لفحشاء ولمنكر ولبغي يعظكم لعلكم تذكرون } وقال عليه السلام إن الله كتب الإحسان على كل شيء فكان أمره تعالى بالإحسان إلى الوالدين غير معارض للإحسان إلى سائر الناس وإلى البهائم المتمالكة والمقتولة بل هو بعضه وداخل في جملته ومثل نهيه عليه السلام أن يزني أحدنا بحليلة جاره مع عموم قوله تعالى { ولا تقربوا لزنى إنه كان فاحشة وسآء سبيلا } فليس ذكره عليه السلام امرأة الجار معارضا لعموم النهي عن الزنى بل هو بعضه
فغلط قوم في هذا الباب فظنوا قوله عليه السلام في سائمة الغنم كذا معارضا لقوله في مكان آخر في كل أربعين شاة شاة وليس كما ظنوا بل الحديث الذي فيه ذكر السائمة هو بعض الحديث الآخر وداخل في عمومه والزكاة واجبة في السائمة بالحديث الذي فيه ذكر السائمة وبالحديث الآخر معا والزكاة واجبة في غير السائمة بالحديث الآخر خاصة
وكذلك غلط قوم أيضا فظنوا قوله تعالى { لا جناح عليكم إن طلقتم لنسآء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على لموسع قدره وعلى لمقتر قدره متاعا بلمعروف حقا على لمحسنين } معارضا لقوله تعالى { وللمطلقات متاع بلمعروف حقا على لمتقين } والآية الأولى بعض هذه وداخلة في جملتها كما قلنا في حديث السائمة ولا فرق
وكذلك غلط قوم آخرون فظنوا قوله تعالى { ولخيل ولبغال ولحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون } (2/161)
معارضا لقوله تعالى { يأيها لناس كلوا مما في لأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات لشيطان إنه لكم عدو مبين } ولقوله تعالى { ثم إن ربك للذين عملوا لسوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } وظن قوم أن قوله تعالى { وكم أهلكنا من لقرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا } معارضا لقوله عز و جل { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم } وليس كذلك على ما قدمنا قبل لأنه ليس في شيء من النصوص التي ذكرنا نهي عما في الآخر ليس في حديث السائمة نهي عن أن يزكي غير السائمة ولا أمر بها فحكمها مطلوب من غير حديث السائمة ولا في الأمر بتمتيع المطلقة غير المحسوسة نهي عن تمتيع الممسوسة ولا أمر به فحكمها مطلوب من موضع آخر ولا في إخباره تعالى بأن خلق الخيل لتركب وزينة نهي عن أكلها وبيعها ولا إباحة لهما فحكمها مطلوب من مكان آخر ولا في تحريمه تعالى الدم المسفوح إخبارا بأن ما عدا المسفوح حلال بل هو كله حرام بالآية الأخرى كما قلنا إنه ليس في أمره تعالى بالإحسان إلى الآباء نهي عن الإحسان إلى غيرهم ولا أمر به فحكم الإحسان إلى غير الآباء مطلوب من مكان آخر ومن فرق بين شيء من هذا الباب فقد تحكم بلا دليل وتكلم بالباطل من غير علم ولا هدى من الله تعالى
قال علي فهذا وجه ثان
والوجه الثالث أن يكون أحد النصين فيه أمر بعمل ما معلق بكيفية ما أو بزمان ما أو على شخص ما أو في مكان ما ويكون في النص الآخر نهي عن عمل ما بكيفية ما أو في زمان ما أو مكان ما أو عدد ما أو عذر ما ويكون في كل واحد من العملين المذكورين اللذين أمر بأحدهما ونهى عن الآخر شيء ما يمكن أن يستثنى من الآخر وذلك بأن يكون على ما وصفنا في كل نص من النصين المذكورين حكمان فصاعدا فيكون بعض ما ذكر في أحد النصين عاما لبعض ما ذكر في النص الآخر ولا شيء آخر معه ويكون الحكم الثاني الذي في النص الثاني عاما أيضا لبعض ما ذكر في هذا النص الآخر ولا شيئا آخر معه (2/162)
قال علي وهذا من أدق ما يمكن أن يعترض أهل العلم من تأليف النصوص وأغمضه وأصعبه ونحن نمثل من ذلك أمثلة تعين بحول الله وقوته على فهم هذا المكان اللطيف
وليعلم طالب العلم والحريص عليه وجه العمل في ذلك إن شاء الله عز و جل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وما وجدنا أحدا قبلنا شغل باله في هذا المكان بالشغل الذي يستحقه هذا الباب فإن الغلط والتناقض فيه يكثر جدا إلا من سدده الله بمنه ولطفه لا إله إلا هو
قال علي فمن ذلك قول الله تعالى { فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين } وقال عليه السلام لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم منها ففي الآية عموم الناس وإيجاب عمل خاص عليهم وهو السفر إلى مكان واحد نفسه بعينه من سائر الأماكن وهو مكة أعزها الله فاضبط هذا وفي الحديث المذكور تخصيص بعض الناس وهم النساء ونهيهن عن عمل عام وهو السفر جملة لم يخص بذلك مكان دون مكان
فاختلف الناس في كيفية استعمال هذين النصين
فقالت طوائف منهم معنى ذلك ولله على الناس حج البيت حاشا النساء اللواتي لا أزواج لهن ولا ذا محرم فليس عليهم حج إذا سافرت إليه سفرا قدره كذا فاستثنوا كما ترى النساء من الناس
وقالت طوائف أخر معنى ذلك لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخرأن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم إلا أن يكون سفرا أمرت به كالحج أو ندبت إليه كالنظر في مالها أو ألزمته كالتغريب فإنها تسافر إليه دون زوج ودون ذي محرم فاستثنوا كما ترى الأسفار الواجبة والمندوب إليها من جملة الأسفار المباحة كلها وأبقوا على كل سفر مباح غير واجب ولا مندوب إليه على عموم التحريم على النساء إلا مع زوج أو ذي محرم
قال علي لم يكن بيد كل طائفة من الطائفتين اللتين ذكرنا إلا وصفها ترتيب مذهبها في استعمال النصين المذكورين فليس أحدهما أولى من الثاني فلا بد من طلب الدليل على صحة أحد الاستثناءين وابتغاء البرهان على الواجب منهما من مكان غيرهما (2/163)
قال علي وأما نحن فإنما ملنا إلى استثناء الأسفار الواجبة والمندوب إليها من سائر الأسفار المباحة وأوجبنا على المرأة السفر إلى الحج والعمرة الواجبتين والتغريب وأبحنا لها التطوع بالعمرة والحج ومطالعة ما لها دون زوج ودون ذي محرم لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم البكر بالبكر جلد مائة وتغريب سنة ولقوله عليه السلام لا تمنعوا إماء الله مساجد الله فجاء النص كما ترى في النساء بأنه لا يحل منعهن عن المساجد ومكة من المساجد فكان هذا النص أقل معاني من حديث النهي عن سفر النساء جملة فوجب أن يكون مستثنى منه ضرورة وخرجنا إلى القسم الذي ذكرنا أولا وإلا صار المانع لهن عاصيا لهذا الحديث تاركا له بلا دليل
قال علي وقد احتج للاستثناء الثاني بعض القائلين به بحديث فيه أنه عليه السلام لما نهى عن أن تسافر المرأة إلا مع زوج أو ذي محرم قال له رجل من الأنصار يا رسول الله إني اكتتبت في غزوة كذا وإن امرأتي خرجت حاجة فقال عليه السلام حج مع امرأتك
قال علي وهذا الحديث حجة عليهم لأنه عليه السلام لم يلزمها الرجوع ولا أوقع عليها النهي عن الحج ولكنه عليه السلام أمر زوجها بالحج معها فكل زوج أبى من الحج مع امرأته فهو عاص ولا يسقط عنها لأجل معصيته فرض الحج هذا نص الحديث الذي احتجوا به وليس يفهم منه غير ذلك أصلا لأن الأمر في هذا الحديث متوجه إلى الزوج لا إلى المرأة
قال علي ومن هذا النوع أمره عليه السلام بالإنصات للخطبة وفي الصلاة مع قوله تعالى { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منهآ أو ردوهآ إن لله كان على كل شيء حسيبا } الآية فنظرنا في النصين المذكورين فوجدنا الإنصات عاما لكل كلام سلاما كان أو غيره ووجدنا ذلك في وقت خاص وهو وقت الخطبة والصلاة ووجدنا في النص الثاني إيجاب رد السلام وهو بعض الكلام في كل حالة على العموم
فقال بعض العلماء معنى ذلك أنصت إلا عن السلام الذي أمرت بإفشائه ورده في الخطبة وقال بعضهم رد السلام وسلم إلا أن تكون منصتا للخطبة أو في الصلاة
قال علي فليس أحد الاستثناءين أولى من الثاني فلا بد من طلب الدليل من غير (2/164)
هذه الرتبة
قال علي وإنما صرنا إلى إيجاب السلام رد السلام وابتدائه في الخطبة دون الصلاة لأن الصلاة قد ورد فيها نص بين بأنه عليه السلام سلم عليه فيها فلم يرد بعد أن كان يرد وأنه سئل عن ذلك فقال عليه السلام إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإنه أحدث ألا تكلموا في الصلاة أو كلاما هذا معناه
قال علي وليس امتناع رد السلام في الصلاة موجبا ألا يرد أيضا في الخطبة لأن الخطبة ليست صلاة ولم يلزم فيها استقبال القبلة ولا شيء مما يلزم في الصلاة وأما الخطبة فإنا نظرنا في أمرها فوجدنا المعهود والأصل إباحة الكلام جملة ثم جاء النهي عن الكلام في الخطبة وجاء الأمر برد السلام واجبا وإفشائه فكان النهي عن الكلام زيادة على معهود الأصل وشريعة واردة قد تيقنا لزومها وكان رد السلام وإفشاؤه أقل معاني من النهي عن الكلام فوجب استثناؤه فصرنا بهذا الترتيب الذي ذكرناه في القسم الأول آنفا
قال علي ومن ذلك أمره عليه السلام من نام عن الصلاة أو نسيها أن يصليها إذا ذكرها ونهيه عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح وحين استواء الشمس فقال بعض العلماء معناه فليصلها إذا ذكرها إلا أن يكون وقتا منهيا عن الصلاة فيها
وقال آخرون معناه لا تصلوا بعد العصر ولا بعد الصبح ولا حين استواء الشمس إلا أن تكون صلاة نمتم عنها أو نسيتموها أو أمرتم بها ندبا أو فرضا أو تعودتموها
قال علي فليس أحد الاستثناءين أولى من الثاني إلا ببرهان من غيرهما ولكن العمل في ذلك أن يطلب البرهان على أصح العملين المذكورين من نص آخر غيرهما فإن لم يوجد صبر إلى الأخذ بالزيادة وبالله التوفيق
قال علي ومن هذا قول الله تعالى { يابني إسرائيل ذكروا نعمتي لتي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على لعالمين } ومع قوله تعالى لنا { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بلمعروف وتنهون عن لمنكر وتؤمنون بلله ولو آمن أهل لكتاب لكان خيرا لهم منهم لمؤمنون وأكثرهم لفاسقون } فليس أحد النصين أولى بالاستثناء من (2/165)
الآخر إلا بنص أو إجماع لأنه جائز أن يقول قائل معناه كنتم خير أمة أخرجت للناس إلا بني إسرائيل الذين فضلهم الله على العالمين وجائز أن يقول قائل معناه أني فضلتكم على العالمين إلا أمة محمد صلى الله عليه و سلم الذين هم خير أمة أخرجت للناس فلا بد من ترجيح أحد الاستثناءين على الآخر ببرهان آخر وإلا فليس أحدهما أولى من الثاني
قال علي فنظرنا فوجدنا قوله تعالى { يابني إسرائيل ذكروا نعمتي لتي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على لعالمين } وقد قام البرهان على أنه ليس على عمومه لأن الملائكة أفضل منهم بيقين فوقفنا على هذا ثم نظرنا قوله تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بلمعروف وتنهون عن لمنكر وتؤمنون بلله ولو آمن أهل لكتاب لكان خيرا لهم منهم لمؤمنون وأكثرهم لفاسقون } ولم يأت نص ولا إجماع بأنه ليس على ظاهره لأن الملائكة يدخلون في العالمين وقد خرج من عموم ذلك الجن بالنصوص في ذلك ولا يدخلون في الأمم المخرجة للناس فلما كان هذا النص لم يأت نص آخر ولا إجماع بأنه ليس على عمومه لم يجز لأحد بأن يخصه فإذا لم يجز تخصيصه فالفرض الحمل له على عمومه فإذا ذلك فرض ولا بد من أن نخص أحد ذينك النصين من الآخر ولم يجز تخصيص هذا فقد وجب تخصيص الآخر ولا بد إذ لا بد من تخصيص أحدهما وهذا برهان ضروري صحيح من الخبر الثابت بأن مثلنا مع من قبلنا كمن أجر أجراء فعملوا إلى نصف النهار بقيراط قيراط ثم أجر آخرين فعملوا إلى العصر بقيراط قيراط ثم أجر آخرين فعملوا إلى الليل بقيراطين قيراطين قال عليه السلام فأنتم أقل عملا وأكثر أجرا وبالله تعالى التوفيق
قال علي ونقول قطعا إنه لا بد ضرورة في كل ما كان هكذا من دليل قائم بين البرهان على الصحيح من الاستثناءين والحق من الاستعمالين لأن الله تعالى قد تكفل بحفظ دينه فلو لم يكن ههنا دليل لائح وبرهان واضح لكان ضمان الله تعالى خائسا وهذا كفر ممن أجازه فصح أنه لا بد من وجوده لمن يسره الله تعالى لفهمه وبالله تعالى التوفيق
والوجه الرابع أن يكون أحد النصين حاظرا لما أبيح في النص الآخر بأسره أي يكون أحدهما موجبا والآخر مسقطا لما وجب في هذا النص بأسره
قال علي فالواجب في هذا النوع أن ننظر إلى النص الموافق لما كنا عليه لو لم يرد (2/166)
واحد منهما فنتركه ونأخذ بالآخر لا يجوز غير هذا أصلا وبرهان ذلك أننا على يقين من أننا قد كنا على ما في ذلك الحديث الموافق لمعهود الأصل ثم لزمنا يقينا للعمل بالأمر الوارد بخلاف ما كنا عليه بلا شك فقد صح عندنا يقينا إخراجنا عما كنا عليه ثم لم يصح عندنا نسخ ذلك الأمر الزائد الوارد بخلاف معهود الأصل ولا يجوز لنا أن نترك يقينا بشك ولا أن نخالف الحقيقة للظن وقد نهى الله تعالى عن ذلك فقال { وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا } وقال { وإن تطع أكثر من في لأرض يضلوك عن سبيل لله إن يتبعون إلا لظن وإن هم إلا يخرصون } وقال تعالى ذاما لقوم قالوا حاكمين بظنهم { وإذا قيل إن وعد لله حق ولساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما لساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين } وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن الظن أكذب الحديث
ولا يحل أن يقال فيما صح وورد الأمر به هذا منسوخ إلا بيقين ولا يحل أن يترك أمر قد تيقن وروده خوفا أن يكون منسوخا ولا أن يقول قائل لعله منسوخ وكيف ونحن على يقين مقطوع به من أن المخالف لمعهود الأصل هو الناسخ بلا شك ولا مرية عند الله تعالى برهان ذلك ما قد ذكرناه آنفا من ضمان الله تعالى حفظ الشريعة والذكر المنزل فلو جاز أن يكون ناسخ من الدين مشكلا بمنسوخ حتى لا يدرى الناسخ من المنسوخ أصلا لكان الدين غير محفوظ والذكر مضيعا قد تلفت الحامق فيه وحاش لله من هذا وقد صح بيقين لا إشكال فيه نسخ الموافق لمعهود الأصل من النصين الناقل عن تلك الحال إذ ورد ذلك النص فهذا يقين الذي أمر الله تعالى به وأقره وأقام الحجة به وأثبت البرهان وجوبه ومدعي خلاف هذا كاذب مقطوع بكذبه إذ لا برهان له على دعواه إلا الظن والله تعالى يقول { وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } فصح أن من لا برهان له على صحة قوله فليس صادقا فيه أصلا وصح بهذا النص أن جميع دين الله تعالى فإن البرهان قائم ظاهر فيه وحرم القول بما عدا هذا لأنه ظن من قائله بإقراره على نفسه وقد حرم الله تعالى (2/167)
القول بالظن وأخبر أنه خلاف الحق وأنه أكذب الحديث فوجب القطع على كذب الظن في الدين كله
وهذا أيضا برهان واضح في إبطال القول بالقياس والتعليل والاستحسان في جميع المسائل الجزئيات إلى الشريعة وفي جملة القول بكل ذلك لأن القول بكل ذلك ظن من قائله بلا شك وبالله تعالى التوفيق
ومن ذلك الحديث الوارد في ألا يغتسل من الإكسال والحديث الوارد في الغسل منه فإن ترك الغسل منه موافق لمعهود الأصل إذ الأصل أن لا غسل على أحد إلا أن يأمره الله تعالى بذلك فلما جاء الأمر بالغسل وإن لم ينزل علمنا يقينا أن هذا الأمر قد لزمنا وأنه للحكم الأول بلا شك ثم لا ندري أنسخ بالحديث الذي فيه أن لا غسل على من أكسل أم لا فلم يسعنا ترك ما أيقنا أننا أمرنا به إلا بيقين ومن ذلك أمره عليه السلام ألا يشرب أحد قائما وجاء حديث بأنه عليه السلام شرب قائما فقلنا نحن على يقين من أنه كان الأصل أن يشرب كل أحد كما شاء من قيام أو قعود أو اضطجاع ثم جاء النهي عن الشرب قائما بلا شك فكان مانعا مما كنا عليه من الإباحة السالفة
ثم لا ندري أنسخ ذلك بالحديث الذي فيه إباحة الشرب قائما أم لا فلم يحل لأحد ترك ما قد تيقن أنه أمر به خوفا أن يكون منسوخا
قال علي فإن صح النسخ بيقين صرنا إليه ولم نبال زائدا كان على معهود الأصل أم موافقا له كما فعلنا في الوضوء مما مست النار فإنه لولا أنه روى جابر أنه كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه و سلم ترك الوضوء مما مست النار لأوجبنا الوضوء من كل ما مست النار ولكن لما صح أنه منسوخ تركناه وكذلك فعلنا في حديث أبي هريرة من أدركه الصبح جنبا فقد أفطر لأنه علمنا أنه موافق للحكم المنسوخ من ألا يأكل أحد ولا يشرب ولا يطأ بعد أن ينام فنسخ ذلك بالإباحة بيقين فصرنا إلى الناسخ
وكذلك أخذنا بالحديث الذي فيه إيجاب الوضوء من مس الفرج لأنه زائد على ما في حديث طلق من إسقاط الوضوء منه لأن حديث طلق موافق لمعهود الأصل
وأما من تناقض فأخذ مرة بحديث قد ترك مثله في مكان آخر وأخذ بضده فذو بنيان هار يوشك أن ينهار به في مخالفة ربه عز و جل في قوله تعالى { إنما لنسيء زيادة في لكفر يضل به لذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم لله فيحلوا ما حرم لله زين لهم سوء أعمالهم ولله لا يهدي لقوم لكافرين } (2/168)
قال علي وإن أمدنا الله بعمر وأيدنا بعون من عنده فسنجمع في النصوص التي ظاهرها التعارض كتبا كافية من غيرها إن شاء الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا به فهذه الوجوه التي فيها بعض الغموض قد بيناها بتوفيق الله عز و جل لا إله إلا هو
قال علي وها هنا وجه خامس ظنه أهل الجهل تعارضا ولا تعارض فيه أصلا ولا إشكال وذلك ورود حديث بحكم ما في وجه ما وورود حديث آخر بحكم آخر في ذلك الوجه بعينه فظنه قوم تعارضا وليس كذلك ولكنهما جميعا مقبولان ومأخوذ بهما ونحو ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم من طريق ابن مسعود بالتطبيق في الركوع وروي من طريق أبي حميد الأكف على الركب فهذا لا تعارض فيه وكلا الأمرين جائز أي ذلك فعله المرء حسن
قال علي إلا أن يأتي أمر بأحد الوجهين فيكون حينئذ مانعا من الوجه الآخر وقد جاء الأمر بوضع الأكف على الركب فصار مانعا من التطبيق على ما بينا من أخذ الزائد المتيقن في حال وروده ومنعه ما كان مباحا قبل ذلك وقد وجدنا أمرا ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بالأخذ بالركب فخرج عن هذا الباب وصح أن التطبيق منسوخ بيقين على ما جاء عن سعد إنا كنا نفعله ثم نهينا عنه وأمرنا بالركب لكن من هذا الباب اغتساله صلى الله عليه و سلم بين وطئه المرأتين من نسائه رضي الله عنهن وتركه الاغتسال بينهما حتى يغتسل من آخرهن غسلا واحدا
فهذا كله مباح وهذا إنما هو في الأفعال منه عليه السلام لا في الأوامر المتدافعة ومثل ذلك ما روي عن نهيه عليه السلام عن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها مع قوله تعالى وقد ذكر ما حرم من النساء
ثم قال تعالى { ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما } فكان نهي النبي صلى الله عليه و سلم مضافا إلى ما نهى الله عنه في هذه الآية المذكورة ومثل ما حرم الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم من لحوم الحمر والسباع وذوات المخالب من الطير مع قوله تعالى { قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير لله به فمن ضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم } الآية
فكان ما حرمه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم مضافا إلى ما في هذه الآية ومضموما معه وكذلك ما روي (2/169)
عن مسحه عليه السلام برأسه ثلاثا واثنتين وواحدة وعلى ناصيته وعمامته وعلى عمامته فقط كل ذلك مضموم بعضه إلى بعض وشرائع لازمة كلها وقد سقط ههنا قوم أساؤوا النظر جدا فقالوا إن ذكر بعض ما قلنا في نص ما وعدمه في نص آخر دليل على سقوطه
قال علي وهذا إقدام عظيم وإسقاط لجميع الشرائع ويجب عليهم من هذا أن كل شريعة لم تذكر في كل آية وفي كل حديث هي ساقطة وهذا كفر مجرد لأنه لا فرق بين من قال لما قال الله تعالى { يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم } ولم يذكر الافتراق وقال عليه السلام إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع أو يترادان فلم يذكر الافتراق دل ذلك على سقوط حكم الافتراق وعلى تمام البيع دونه فلا فرق بين هذا الكلام وبين من قال لما لم يذكر الله تعالى ورسوله عليه السلام في الآية المذكورة النهي عن بيع الغرر وعن الملامسة والمنابذة وعن بيع الخمر والخنازير وجب أن يكون كل ذلك مباحا ولما لم يذكر الله تعالى في قوله { قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير لله به فمن ضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم } الآية
إن العذرة حرام وإن الخمر حرام وجب أن يكون حلالا وهذا الكلام مع أنه كفر فهو ساقط جدا لأنه لا يلزم تكرير كل شريعة في كل حديث ولو لزم ذلك لبطلت جميع شرائع الدين أولها عن آخرها لأنها غير مذكورة في كل آية ولا في كل حديث
قال علي ويبين صحة ما قلنا من أنه لا تعارض بين شيء من نصوص القرآن ونصوص كلام النبي صلى الله عليه و سلم وما نقل من أفعاله قول الله عز و جل مخبرا عن رسوله عليه السلام { وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى } وقوله تعالى { لقد كان لكم في رسول لله أسوة حسنة لمن كان يرجو لله وليوم لآخر وذكر لله كثيرا } وقال تعالى { أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا } فأخبر عز و جل أن كلام نبيه صلى الله عليه و سلم وحي من عنده كالقرآن في أنه وحي وفي أنه كل من عند الله عز و جل وأخبرنا تعالى أنه راض عن أفعال نبيه صلى الله عليه و سلم وأنه موفق (2/170)
لمراد ربه تعالى فيها لترغيبه عز و جل في الائتساء به عليه السلام فلما صح أن كل ذلك من عند الله تعالى ووجدناه تعالى قد أخبرنا أنه لا اختلاف فيما كان من عنده تعالى صح أنه لا تعارض ولا اختلاف في شيء من القرآن والحديث الصحيح وأنه كله متفق كما قلنا ضرورة وبطل مذهب من أراد ضرب الحديث بعضه ببعض أو ضرب الحديث بالقرآن وصح أن ليس شيء من كل ذلك مخالفا لسائره علمه من علمه وجهله من جهله إلا أن الذي ذكرنا من العمل هو القائم في بديهة العقل الذي يقود إليه مفهوم اللغة التي خوطبنا بها في القرآن والحديث وبالله تعالى التوفيق وكل ذلك كلفظة واحدة وخبر واحد موصول بعضه ببعض ومضاف بعضه إلى بعض ومبني بعضه على بعض إما بعطف وإما باستثناء وهذان الوجهان نعني العطف والاستثناء يوجبان الأخذ بالزائد أبدا
وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم في حلة عطارد إذ قال لعمر رضي الله عنه إنما يلبس هذه من لا خلاق له ثم بعث إلى عمر حلة سيراء فأتاه عمر فقال يا رسول الله أبعثت إلي هذه وقد قلت في حلة عطارد ما قلت فقال عليه السلام إني لم أبعثها إليك لتلبسها وفي بعض الأحاديث إنما بعثتها إليك لتصيب بها حاجتك أو كلاما هذا معناه
ففي هذا الحديث تعليم عظيم لاستعمال الأحاديث والنصوص والأخذ بها كلها لأنه صلى الله عليه و سلم أباح ملك الحلة من الحرير وبيعها وهبتها وكسوتها النساء وأمر عمر أن يستثني من ذلك اللباس المذكور في حديث النهي فقط وألا يتعدى ما أمر إلى غيره وألا تعارض بين أحكامه عليه السلام
قال علي وفي هذا الحديث إبطال القياس لأن عمر رضي الله عنه أراد أن يحمل الحكم الوارد في النهي عن اللباس على سائر وجوه الانتفاع به فأخبره رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ذلك باطل وفيه أيضا أن حكمه عليه السلام في عين ما حكم على جميع نوع تلك العين لأنه إنما وقع الكلام على حلة سيراء كان يبيعها عطارد ثم أخبر عليه السلام أن ذلك حكم جار في كل حلة حرير
وأخبر أن ذلك الحكم لا يتعدى إلى غير نوع اللباس وهذا هو نص قولنا في عموم الحكم وإبطال القياس (2/171)
قال علي وقد استعمل قوم بعض الوجوه الذي ذكرنا في غير موضعه ونحن نوقف على ذلك ونرى منه طرفا ليتنبه الطالب للعلم على سائره إذا ما ورد عليه إن شاء الله عز و جل وما توفيقي إلا بالله
وذلك أننا قد قلنا باستعمال الحديثين إذا كان أحدهما أقل معاني من الآخر بأن يستثنى الأقل من الأكثر فيستعمل الأقل معاني على عمومه ويستعمل الأكثر معاني حاشا ما أخرجنا منه بالاستثناء المذكور على ما بينا قبل فورد حديث النبي صلى الله عليه و سلم فيه النهي عن استقبال القبلة واستدبارها لبول أو غائط وورد حديث عن ابن عمر أنه أشرف على سطح فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قاعدا لحاجته على لبنتين وهو مستدبر القبلة
قال علي فقال قوم نستبيح استدبار القبلة واستقبالها في البنيان ونمنع منه في الصحارى
قال علي وأخطؤوا من وجهين أحدهما تحكمهم في الفرق بين البنيان وغيره وليس في شيء من الحديثين نص ولا دليل على ذلك بل وجدنا أبا أيوب الأنصاري وهو بعض رواة حديث النهي قد أنكر ذلك في البيوت فلو عكس عاكس فقال بل يستباح ذلك في الصحارى ولا يستباح في البنيان هل كان يكون بينهم وبينه فرق ومثل هذا في دين الله تعالى لا يستسله ولا يتمادى عليه بعد أن يوقف عليه ذو ورع لقوله تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } مع آيات كثيرة تزجر عن ذلك وليس في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم كان في بنيان بل قد وصفت عائشة رضي الله عنها أنهم كانوا يأنفون من اتخاذ الكنف في البيوت وأنهم كانوا يتبرزون خارج المنازل والرواية الصحيحة أنه عليه السلام كان إذا أراد أن يتبرز أبعد وليس لأحد أن يقول إن ابن عمر إذا أشرف من السطح رآه في بنيان إلا كان متكهنا فهذا وجه
والوجه الثاني أنه حتى لو صح أنه عليه السلام كان في بنيان فليس في ذلك الحديث إلا الاستدبار وحده فبأي شيء استحلوا استقبال القبلة بالغائط ولا نص عندهم فيه وليس إذا نسخ أو خص بعض ما ذكر في الحديث وجب أن ينسخ أو (2/172)
يترك سائره فإن قالوا بل يترك سائره كانوا متحكمين في الدين ومسقطين لشرائع الله تعالى بلا دليل وسنستوعب الكلام في هذا الفصل في باب الخصوص أو النسخ من كتابنا هذا إن شاء الله عز و جل
ولزمهم أيضا أن يقولوا إن النبي صلى الله عليه و سلم لما نهى عن مهر البغي وحلوان الكاهن وثمن الكلب وكسب الحجام ثم أباح كسب الحجام أن يستباح حلوان الكاهن ومهر البغي وثمن الكلب لأن كل ذلك مذكور في حديث واحد وإلا كانوا متناقضين
قال علي ووجه العمل في هذين الحديثين هو الأخذ بالزائد وقد كان الأصل بلا شك أن يجلس كل أحد لحاجته كما يشاء فحديث ابن عمر موافق لما كان الناس عليه قبل ورود النهي ثم صار ذلك النهي رافعا لتلك الإباحة بيقين ولا يقين عندنا أنسخ شيء من ذلك النهي أم لا فحرام أن نترك يقينا لشك وأن نخالف حقيقة لظن وليس لأحد أن يقول إن حديث ابن عمر متأخر إلا لكان لغيره أن يقول بل حديث النهي هو المتأخر لأنه قد رواه سليمان وإسلامه في سنة الخندق وأبو هريرة وإسلامه بعد انقضاء فتح خيبر إلا أن النهي شريعة واردة رافعة لما كان الناس عليه من إباحة ذلك بيقين ولا يقين عندنا في أن الإباحة عادت بعد ارتفاعها ولو صح أن حديث ابن عمر كان متأخرا ما كان فيه إلا رفع النهي عن استدبار القبلة فقط وليبق استقبالها على التحريم
فصل في تمام الكلام في تعارض النصوص
قال علي وذهب بعض أصحابنا إلى ترك الحديثين إذا كان أحدهما حاظرا والآخر مبيحا أو كان أحدهما موجبا والآخر مسقطا
قال فيرجع حينئذ إلى ما كنا نكون عليه لو لم يرد ذانك الحديثان
قال علي وهذا خطأ من جهات أحدها أننا قد أيقنا أن الأحاديث لا تتعارض لما قد قدمنا من قوله تعالى { أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا } مع إخباره تعالى أن كل ما قال نبيه صلى الله عليه و سلم فإنه وحي فبطل أن (2/173)
يكون في شيء من النصوص تعارض أصلا وإذا بطل التعارض فقد بطل الحكم الذي يوجبه التعارض إذ كل شيء بطل سببه فالمسبب من السبب الباطل باطل بضرورة الحس والمشاهدة
والثاني أنهم يتركون كلا الخبرين والحق في أحدهما بلا شك فإذا تركوهما جميعا فقد تركوا الحق يقينا في أحدهما ولا يحل لأحد أن يترك الحق اليقين أصلا
والثالث أنهم لا يفعلون ذلك في الآيتين اللتين إحداهما حاظرة والأخرى مبيحة أو إحداهما موجبة والثانية نافية بل يأخذون بالحكم الزائد ويستثنون الأقل من الأكثر وقد بينا فيما سلف أنه لا فرق بين وجوب ما جاء في القرآن وبين وجوب ما جاء في كلام النبي صلى الله عليه و سلم
قال علي كان حجتهم في ذلك أن قالوا إن أحد الخبرين ناسخ بلا شك ولسنا نعلمه بعينه فلما نعلمه لم يجز لنا أن نقدم عليه بغير علم فيدخل في قوله تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا }
قال علي وهذه الحجة فاسدة من وجهين أحدهما أنه يلزمهم مثل ذلك الآيتين وهم لا يفعلون ذلك
والوجه الثاني أنه لا يجوز أن يقال في خبر ولا آية إن هذا منسوخ إلا بيقين
قال علي ويكفي من بطلان هذا الذي احتجوا به أننا على يقين من أن الحكم الزائد على معهود الأصل رافع لما كان الناس عليه قبل وروده فهو الناسخ بلا شك ونحن على شك من هل نسخ ذلك الحكم بحكم آخر يردنا إلى ما كنا عليه أو لا فحرام ترك اليقين للشكوك
وبالله تعالى التوفيق
قال علي وقد اضطرب خاطر أبي بكر محمد بن داود رحمه الله إلى ما ذهبنا إليه إلا أنه رحمه الله اخترم قبل إنعام النظر في ذلك وذلك أنه قال في كتاب الوصول والعمل في الخبرين المتعارضين كالعمل في الآيتين ولا فرق
قال علي وقال بعض أهل القياس نأخذ بأشبه الخبرين بالكتاب والسنة
قال علي وهذا باطل لأنه ليس الذي ردوا إليه حكم هذين الخبرين أولى بأن يأخذ به من الخبرين المردودين إليه بل النصوص كلها سواء في وجوب الأخذ بها (2/174)
والطاعة لها فإذ قد صح ذلك بيقين فما الذي جعل بعضها مردودا وبعضها مردودا إليه وما الذي أوجب أن يكون بعضها أصلا وبعضها فرعا وبعضها حاكما وبعضها محكوما فيه فإن قال الاختلاف الواقع في هذين هو الذي حط درجتهما إلى أن يعرضا على غيرهما
قال علي وهذه دعوى مفتقرة إلى برهان لأنه ليس الاختلاف موجبا لكونهما معروضين على غيرهما لأن الاختلاف باطل فظنهم أنه اختلاف ظن فاسد يكذبه قول الله عز و جل { أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا } فإذ قد أبطل الله تعالى الاختلاف الذي جعلوه سببا لعرض الحديثين على سنة أخرى أو آية أخرى فقد وجب ضرورة أن يبطل مسببه الذي هو العرض وهذا برهان ضروري وبالله تعالى التوفيق
قال علي وإذا كانت النصوص كلها سواء في باب وجوب الأخذ بها فلا يجوز تقوية أحدها بالآخر وإنما ذلك من باب طيب النفس وهذا هو الاستحسان الباطل وقد أنكره بعضهم على بعض
قال علي وقد رجح بعض أصحاب القياس أحد الخبرين على الآخر بترجيحات فاسدة نذكرها إن شاء الله تعالى ونبين غلطهم فيها بحول الله تعالى وقوته
فمن ذلك أن قالوا إن كان أحد الخبرين معمولا به والآخر غير معمول به رجحنا بذلك الخبر المعمول به على غير المعمول به
قال علي وهذا باطل لما نذكره إن شاء الله تعالى بعد هذا في فصل فيه إبطال قوم من احتج بعمل أهل المدينة إلا أننا نقول ها هنا جملة لا يخلو الخبر قبل أن يعمل به من أن يكون حقا واجبا أو باطلا فإن كان حقا واجبا لم يزده العمل به قوة لأنه لا يمكن أن يكون حق أحق من حق آخر في أنه حق وإن كان باطلا فالباطل لا يحققه أن يعمل به
قال علي واحتج بعضهم في وجوب ترجيح أحد الخبرين على الآخر
فقال كما نرجح إحدى البينتين على الأخرى إذا تعارضتا مرة بالقرعة ومرة باليد
قال علي وهذا هو عكس الخطأ على الخطأ ولسنا نساعدهم على ترجيح بينة على (2/175)
أخرى لا بيد ولا بقرعة لأن ذلك لم يوجبه نص ولا إجماع
وأيضا فحتى لو صح ترجيح إحدى البينتين على الأخرى لما جاز ذلك في الحديثين لأن هذا قياس والقياس باطل وأيضا فحتى لو صح ترجيح إحدى البينتين على الأخرى وكان القياس حقا لكان ترجيح الحديثين أحدهما على الآخر لا يجوز لأن الاختلاف في الحديثين باطل والتعارض عنهما منفي بما ذكرنا من قوله تعالى { أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا } وبإخباره تعالى أن كلام نبيه صلى الله عليه و سلم وحي كله وأما البينتان فالتعارض فيهما موجود والاختلاف فيهما ممكن قال علي وقالوا إن كان أحد الخبرين حاظرا والآخر مبيحا فإنما نأخذ بالحاظر وندع المبيح
قال علي وهذا خطأ لأنه تحكم بلا برهان ولو عكس عاكس فقال بل نأخذ بالمبيح لقوله تعالى { وجاهدوا في لله حق جهاده هو جتباكم وما جعل عليكم في لدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم لمسلمين من قبل وفي هذا ليكون لرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهدآء على لناس فأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وعتصموا بلله هو مولاكم فنعم لمولى ونعم لنصير } ولقوله تعالى { شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } ولقوله تعالى { يريد لله أن يخفف عنكم وخلق لإنسان ضعيفا } أما كان يكون قوله أقوى من قولهم ولكنا لا نقول ذلك بل نقول إن كل أمر من الله تعالى لنا فهو يسر وهو رفع الحرج وهو التخفيف ولا يسر ولا تخفيف ولا رفع حرج أعظم من شيء أدى إلى الجنة ونجى من جهنم وسواء كان حظرا أو إباحة ولو أنه قتل الأنفس والأبناء والآباء
قال علي ويبطل ما قالوا أيضا بقوله عليه السلام إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم
قال علي فأوجب عليه السلام من الفعل ما انتهت إليه الطاقة ولم يفسح في ترك شيء منه إلا ما خرج عن الاستطاعة ووقع العجز عنه فقط وقد ظن قوم أن هذا الحديث مؤكد للنهي عن الأمر
قال علي وهذا ظن فاسد لأن الاجتناب ترك والترك لا يعجز عنه أحد وأما (2/176)
العمل فهو حركة لها كلفة أو إمساك عما تقتضيه الطبيعة من الأكل والشرب وفي ذلك تكلف وربما يعجز المرء عن كثير منه فكلفنا من ذلك كل ما انتهى إليه الوسع ولم يسقط عنا منه شيء إلا لم يكن بنا طاقة على فعله هذا نص الحديث لمن تأمله ولم يحله عن مفهوم لفظه فصح بذلك التسوية بين الأمر والنهي وإيجاب الطاعة للحظر والإباحة على السواء فليس الحاظر بأوكد من المبيح ولا المبيح بأوكد من الحاظر
قال علي وقالوا نرجح أيضا بأن يكون راوي أحد الخبرين أضبط وأتقن
قال علي هذا أيضا خطأ بما قد أبطلنا فيما سلف من هذا الباب قول من رام ترجيح الخبر بأن فلانا أعدل من فلان فأغنى ذلك عن إعادته ولكنا نقول ههنا إن هذا الذي الذي قالوا دعوى لا برهان عليها من نص ولا إجماع وما كان كذلك فهو ساقط
قال علي وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون رواه جماعة وروى الآخر واحد
قال علي وقد أبطلنا هذا فيما سلف من هذا الباب بأن القائلين بذلك قد تركوا ظاهر القرآن الذي نقله أهل الأرض كلهم لخبر نقله واحد ومثلنا ذلك بتحريمهم الجمع بين المرأة وعمتها وقطعهم السارق في ربع دينار ولا يقطعونه في أقل ويرجمون المحصن ومثل هذا كثير وبينا فيما خلا أن خبر الواحد وخبر الجماعة سواء في باب وجوب العمل بهما وفي القطع بأنهما حق ولا فرق
وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قصد به بيان الحكم والآخر لم يقصد به الحكم ومثلوا ذلك بالنهي عن جلود السباع مع قوله عليه السلام إذا دبغ الإهاب فقد طهر
قال علي أما هذا الترجيح فصحيح لأن الحديث إذا لم يقصد به بيان الحكم فلا إشكال فيه في أنه خلاف الذي قصد به بيان الحكم وأما الحديثان اللذان ذكروا فليسا واقعين تحت هذه الجملة التي ذكروا بل كل واحد من الحديثين المذكورين فهو مقصود به بيان الحكم والتنظير الصحيح ههنا هو مثل أمره صلى الله عليه و سلم بأن يكفن المحرم إذا مات في ثوبيه وألا يمس طيبا ولا يغطي وجهه ولا رأسه فهذا قصد به بيان (2/177)
حكم العمل في تكفين المحرم فهو أولى من منع من ذلك بما روي من قوله صلى الله عليه و سلم إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث لأن هذا الحديث لم يقصد به بيان حكم عملنا نحن فيمن مات من محرم أو غيره وأيضا فحديث النهي عن جلود السباع لا يصح ولو صح لكانت إذ دبغت جلودها يجب أن تستثنى من سائر الجلود السبعية التي لم تدبغ لأن المدبوغة منها أقل من غير المدبوغة
وقالوا ونرجح أحد الخبرين بأن يكون راوي أحدهما باشر الأمر الذي حدث به بنفسه وراوي الآخر لم يباشره فتكون رواية من باشر أولى ومثلوا ذلك بالرواية عن ميمونة نكحني رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن حلالان
وبالرواية عن ابن عباس نكح رسول الله صلى الله عليه و سلم ميمونة وهو محرم
قال علي وهذا ترجيح صحيح لأنا قد تيقنا أن من لم يحضر الخبر إنما نقله غيره ولا ندري عمن نقله ولا تقوم الحجة بمجهول ولا شك في أن كل أحد أعلم بما شاهد من أمر نفسه
قال علي إلا أن قائل هذا قد نسي نفسه فتناقض وهدم ما بنى في قوله نرجح الخبر بأن يكون راويه أضبط وأتقن وتركوا ذلك في هذا المكان وقد قال الأكابر من أصحاب ابن عباس رحمة الله عليه إذ حدثوا بحديث ميمونة المذكور وإنما رواه عنها يزيد بن الأصم فقالوا كلا لا نترك حديثا حدثناه البحر عبد الله بن العباس لحديث رواه أعرابي بوال على عقبيه
قال علي فإن كان كون أحد الرواة أعدل واجبا أن نترك له رواية من دونه في العدالة فليتركوا ها هنا رواية يزيد بن الأصم لرواية ابن عباس فلا خلاف عند من له أدنى مسكة عقل أن البون بين ابن عباس وبين يزيد بن الأصم كما بين السماء والأرض وإن كان لا معنى لذلك فلا ترجحوا بكون أحد الراويين أعدل
قال أبو محمد ونسوا أنفسهم أيضا فتركوا ما رجحوا به ها هنا من تغليب رواية من باشر على رواية من لم يباشر في قول أنس أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم وركبتي تمس ركبته وأنا إلى جنبه رديف لأبي طلحة وهو عليه السلام يقول لبيك عمرة وحجا لبيك عمرة وحجا وفي قول البراء بن عازب إذ يقول سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن كيفية حجه فقال له (2/178)
رسول الله صلى الله عليه و سلم إني سقت الهدي وقرنت
وفي قول حفصة أم المؤمنين له لم تحل من عمرتك فصدقها النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك وبين عليها لم فعل ذلك فتركوا ما سمع أنس بن مالك من لفظ رسول الله صلى الله عليه و سلم وما أخبر به رسول الله صلى الله عليه و سلم عن نفسه لكلام عن عائشة لم تدع أنها سمعته وقد اضطرب عنها أيضا فيه فروي عنها مثل ما قال أنس والبراء وحفصة رضي الله عن جميعهم ولكلام عن جابر لم يدع أنه سمعه وهو مع ذلك أيضا يحتمل التأويل وقد اضطرب عنه أيضا في ذلك ولا شك عند ذي عقل أنه عليه السلام أعلم بأمر نفسه من جابر وعائشة وأن أنسا والبراء وحفصة الذين ذكروا أنهم سمعوا من لفظه صلى الله عليه و سلم ذلك وباشروه يقول ذلك أيقن من جابر فيما لم يدع أنه سمعه ولكن هكذا يكون من اعتقد قولا قبل أن يعتقد برهانه { أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا }
وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قولا لم يختلف فيه والآخر فعلا مختلفا فيه ومثلوا ذلك برواية عثمان رضي الله عنه لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب وبالرواية في نكاح ميمونة مرة بأنه عليه السلام كان حلالا ومرة بأنه عليه السلام كان محرما
قال علي وهذا لا معنى له لأن العدل إذا روى شيئا قد بينا أنه لا يبطله خلاف من خالفه ولا كثرة من خالفه وليس العمل في الأخبار كدراهم قمار تلقى درهم بدرهم ويبقى الفضل للغالب لكن خبر واحد يستثنى منه أخبار كثيرة ويستثنى هو من أخبار كثيرة أو يؤخذ به إذا كان زائدا عليها أو يؤخذ بها إن كانت زائدة عليه
لأن قائلها كلها وقائل ذلك واحد أو فاعلها وفاعله أو قائلها وفاعله أو فاعلها وقائله واحد وهو رسول الله صلى الله عليه و سلم عن واحد هو الله عز و جل وليس تكرار قوله بموجب منه ما لم يكن يجب لولا تكراره وتركه تكرار ما لم يكرر لا يخرج ما لم يكرر عن وجوب الطاعة له وإذا قال القول مرة واحدة فقد لزم فرضا كما لو كرره ألف مرة ولا مزيد وإذا فعل الفعل مرة واحدة فالفضل في الائتساء به عليه السلام فيه كما لو فعله ألف مرة ولا مزيد ولا فرق
ولم يخص الله تعالى إذا أمرنا بطاعة رسوله صلى الله عليه و سلم فيما كرر دون ما لم يكرر بل ألزمنا (2/179)
الطاعة لأمره وأمره مرة يسمى أمرا كما لو كرره ألف مرة كل ذلك يقع عليه اسم أمر ولا خص لنا تعالى إذا حضنا على الائتساء بنبيه صلى الله عليه و سلم ما فعله مرات دون ما فعله مرة ولا ما فعله مرة دون ما فعله مرات بل إذا فعل عليه السلام الفعل مرة فقد وقع عليه اسم أنه فعله ألف ألف مرة كل ذلك يقع عليه اسم فعل ومن قال غير هذا فقد تعدى حدود الله عز و جل وشرع ما لم يأذن به الله عز و جل وقفا ما لا علم له به واستحق اسم الظلم والوعيد وبالله تعالى نعتصم
ونسأل أيضا من أتى بهذا الهوس فنقول له إذا سقط عندك ما صح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم فعله مرة ثم لم يفعله بعدها ولا نهى عنه بأنه لم يعد إليه فما تقول فيما صح أنه عليه السلام فعله مرتين ثم لم يعد إليه ولا نهى عنه فإن تركه من أجل ترك العود سألناه عما فعله ثلاث مرات ثم لم يعد إليه ولا نزال نزيده مرة بعد مرة حتى يبدو سخف قوله إلى قول إلى كل ذي فهم أو يترك قوله الفاسد ويرجع إلى الحق
قال علي وإنما أخذنا بالمنع من نكاح المحرم برواية عثمان رضي الله عنه لأنها زائدة على معهود الأصل لأن الأصل إباحة النكاح على كل حال بقوله تعالى { وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا } فجاء النهي من طريق عثمان من أن ينكح المحرم فتيقنا ارتفاع الحالة الأولى بلا شك واستثنينا النهي حالة الإحرام عن النكاح من جملة العموم بإباحة النكاح وشككنا هل نسخ هذا النهي بعد وجوبه أو لا فلم يجز لأحد ترك ما أيقن وجوبه بظن لم يصح فصح يقينا لا مرية فيه أن حكم حديث ابن عباس في نكاح ميمونة قد نسخ وبطل بلا شك ومن ادعى عود المنسوخ وبطلان الناسخ فقد كذب وأفك
ثم حتى لو شككنا هل نسخ هذا النهي بعد وجوبه أو لا لم يجز لأحد ترك ما أيقن وجوبه بظن ولم يصح وحتى ولو صح قول ابن عباس أنه نكحها وهو محرم دون أن تخبر ميمونة على أنه عليه السلام نكحها وهو محرم لما وجب بذلك ترك ما قد تيقناه من النهي عن نكاح المحرم الناسخ للإباحة المتقدمة لأمر لا ندري أقبله كان أم بعده وترك اليقين للشك وتغليب الظن على الحقيقة باطل وحرام لا يحل وهذا ما لا يخيل على ذي لب وبالله تعالى التوفيق (2/180)
وأيضا فحتى لو صح أن نكاحه عليه السلام ميمونة رضي الله عنها كان حرما وأنه كان بعد نهيه عن نكاح المحرم لما كان ذلك مبيحا لإنكاح المحرم غيره ولا لخطبته على نفسه وعلى غيره ولكان نكاح المحرم حينئذ منسوخا مستثنى من النهي الوارد عن نكاحه وإنكاحه وخطبته ولكان باقي الحديث واجبا لازما لا يحل مخالفته وهذه كلها وجوه لائحة واضحة والحمد لله رب العالمين
وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما اختلف على راويه فيه والآخر لم يختلفوا على راويه فيه ومثلوا ذلك بحديث ابن عمر فإن زادت الإبل على عشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون وبحديث علي فإن زادت الإبل على عشرين ومائة واحدة ففي كل أربعين بنت لبون وفي خمسين حقة
قال علي وهذا بين ليس من أجل الاختلاف فقد أبطلنا ذلك في الفصل الذي قبل هذا ولكن لأن حديث ابن عمر هو الزائد حكما على حديث علي رضي الله عنهما
وقالوا أيضا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قد قيل فيه إنه من كلام الراوي ولم يقل ذلك في الآخر فأخذ بالذي لم يقل ذلك فيه ومثلوا بحديث عتق الشقص الذي أحدهما من طريق ابن عمر دون أن يكون فيه ذكر الاستسعاء
والآخر من طريق أبي هريرة وفيه ذكر الاستسعاء
قالوا وقد قيل إن الاستسعاء من لفظ سعيد بن أبي عروبة لأن شعبة وهماما روياه عن قتادة ولم يذكر ذلك فيه وقد قيل إنه من لفظ قتادة
قال علي وهذا خطأ قد تابع سعيدا على ذكر الاستسعاء جرين بن حازم الأزدي وأبان بن يزيد العطار ويزيد بن زريع وحجاج بن حجاج وموسى بن خلف كلها لم يذكر فيه الاستسعاء عن قتادة مسندا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فالأخذ بالاستسعاء واجب لا يجوز تركه لأنه حكم زائد ثابت وليس في حديث ابن عمر ما يضاده ولا ينافيه وإنما فيه فقد عتق منه ما عتق ولا يصح ما زاد فيه بعضهم من قوله وقد رق ما رق ولا أتى ذلك من طرق تصح أصلا
قال علي وتناقض في هذا الخبر أصحاب مالك وأصحاب أبي حنيفة تناقضا فاحشا فجعل أصحاب أبي حنيفة ذكره عليه السلام السائمة مسقطا للزكاة عما في حديث الآخر من عموم الزكاة في جميع الغنم ولم يجعلوا قوله عليه السلام في حديث (2/181)
ابن عمر فقد عتق منه ما عتق موجبا لإرقاق سائره وقد كان يجب أن يطلبوا لقوله عليه السلام فقد عتق منه ما عتق فائدة تنبىء أن ما لم يعتق منه لم يعتق كما قالوا في السائمة ولم يجعل أصحاب مالك ذكر السائمة مسقطا للزكاة في غير السائمة بالعموم الذي في حديث ابن عمر في ذكره الغنم وجعلوا قوله عليه السلام فقد عتقوا منه ما عتق مسقطا لعتق باقيه المذكور في حديث أبي هريرة بالاستسعاء
وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما اجتمع فيه الأمر والفعل وانفرد الآخر بأحدهما فيكون الذي اجتمعا فيه أولى ومثلوا ذلك بما روي من أنه عليه السلام سعى وأمر بالسعي بين الصفا والمروة وبما روي من قوله عليه السلام الحج عرفة
قال علي وهذا لا معنى له لأن الحديث الذي فيه إيجاب السعي إنما صح من طريق أبي موسى وهو زائد على ما روي من أن الحج عرفة فوجب الأخذ بالشريعة الزائدة وليس في حديث الحج عرفة ما يمنع من وجوب الإحرام والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بمزدلفة
قال علي وقد تناقضوا ههنا فأوجبوا السعي فرضا ولم يسقطوا وجوبه لما روي من أن الحج عرفة ولم يوجبوا الوقوف بمزدلفة وذكر الله عز و جل فيها وقد جاء النص الصحيح من القرآن والسنة بإيجاب ذلك فرضا فأما القرآن فقوله تعالى { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذآ أفضتم من عرفات فذكروا لله عند لمشعر لحرام وذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن لضآلين } وأما السنة فقوله عليه السلام لعروة بن مضرس من أدرك الصلاة ههنا يعني بمزدلفة مع الناس والإمام فقد أدرك وإلا فلم يدرك أو كما قال عليه السلام وتحكم أصحاب التقليد وأهل القياس أكثر من أن يحصيه إلا خالقهم الذي أحصى عدد القطر وورق الشجر ومكايل البحار لا إله إلا هو
وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يوافقه عمل أهل المدينة
قال علي وهذا باطل وقد أفردنا له فصلا بعد كلامنا هذا في هذا الباب وبالله تعالى التوفيق ومثلوا ذلك بأخبار رويت في الأذان والإقامة
قال علي ولا يصح في ذلك خبر مسند إلا حديث أنس بن مالك رضوان الله عليه أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة وبه نأخذ (2/182)
وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قد علق الحكم فيه بالاسم ويكون الآخر قد علق الحكم فيه بالمعنى فيكون الذي علق الحكم فيه بالمعنى أولى
قال علي وهذا لا معنى له لأنها دعوى بلا برهان وإذ لو عارضهم معارض فقال بل الذي علق فيه الحكم بالاسم أولى لما انفصلوا منه ومثلوا ذلك بقوله عليه السلام من بدل دينه فاقتلوه مع نهيه عليه السلام عن قتل النساء
قال علي وإنما أخذنا بقتل النساء المرتدات لأن النهي عن قتل النساء عموم والأمر بقتل من غير دينه مخصوص من ذلك العموم على ما قدمنا قبل من استثناء الأقل معاني من الأكثر معاني وأيضا فقد اتفقت الأمة على أن نهيه عليه السلام عن قتل النساء ليس على ظاهره واتفقوا أنها إن زنت وهي محصنة أنها تقتل وإن قتلت مسلما أنها تقتل وأيضا فإن نهيه عليه السلام عن قتل النساء إنما هو داخل في جملة قوله دماؤكم عليكم حرام فهو بعض تلك الجملة واستثنى كل من ورد أمر بإيجاب قتله أو إباحته من باغ أو شارب خمر بعد أن حد فيها ثلاثا أو زان محصن أو قاتل عمدا أو مرتد وصح أن النهي عن قتل النساء إنما هو من الأسارى من أهل دار الحرب
وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما منصوصا بنسبته إلى النبي صلى الله عليه و سلم والآخر إنما ينسب إلى النبي صلى الله عليه و سلم استدلالا
قال علي وهذا لا إشكال فيه ولا يجوز أن يؤخد بشيء لم ينص عليه أنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أو يوقن بأنه عنه ببرهان لا يحتمل إلا وجها واحدا ولا يجوز أن يكون عن غيره إلا أن يكون إجماع في شيء ما فيؤخذ به والإجماع أيضا راجع إلى التوقف منه عليه السلام لا بد من ذلك
قال علي ومثلوا ذلك بالتشهد المروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يعلمه الناس وهو على المنبر وبالتشهد المروي عن ابن عباس وعائشة وأبي موسى وابن مسعود مسندا إلى النبي صلى الله عليه و سلم
قال علي وليس في تعليم عمر رضي الله عنه الناس التشهد على المنبر ما يدل على أنه عن النبي صلى الله عليه و سلم وقد نهى عمر رضوان الله عليه وهو على المنبر عن المغالاة في مهور النساء وعلم الناس ذلك ولا شك عند أحد في أن نهيه عن ذلك ليس عن (2/183)
النبي صلى الله عليه و سلم وأن ذلك من اجتهاد عمر فقط وقد أقر رحمه الله بذلك في ذلك الوقت ورجع عن النهي عنه إذ ذكر أن نهيه مخالف لما في القرآن وأما التشهدات المروية عن ابن عباس وعائشة وابن مسعود وأبي موسى رضوان الله عليهم فهي التي لا يحل تعديها لصحة سندها إلى النبي صلى الله عليه و سلم وقد خالف تشهد عمر الذي علمه الناس على المنبر ابنه عبد الله وابن مسعود وابن عباس وعائشة وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم وقد شهدوه يخطب به وغاب عنهم من أنه حجة إجماعية ما ادعى هؤلاء لأنفسهم من فهمه ومن أنه يغيب عنهم وهذا كما نرى
وقالوا ونرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قد ثبت فيه الخصوص والآخر لم يثبت فيه الخصوص فغلب الذي لم يثبت فيه الخصوص على الذي ثبت فيه ومثلوا ذلك بآية النهي عن الجمع بين الأختين مع الآية التي فيها إباحة ذلك بملك اليمين
قال علي الآية التي فيها إباحة ملك اليمين أكثر معاني من الآيات التي فيها النهي عن وطء الحريمة بنسب أو صهر ومن التي فيها النهي عن الجمع بين الأختين والأم وابنتها والمرأة المشتركة ووطء الحائض والصائمة والمحرمة والزانية ووطء الذكور المماليك والبهائم المملوكة والمشتركة فوجب استثناء كل ذلك لأنه أقل معاني مما أبيح بملك اليمين فخرج كل ما ذكرنا بالتحريم وتبقى الآية المسلمة التي ليس فيها شيء من الصفات التي ذكرنا على الإباحة وكذلك الآية التي فيها { وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا } أكثر معاني من الآيات التي ذكرنا فوجب استثناء كل ذلك بالتحريم لأنه أقل معاني مما أبيح بالنكاح فنكون على يقين من استعمالنا جميع النصوص الواردة وأننا لم نخالف منها شيئا ولا تناقضنا في تخصيص ما خصصنا واستثنائنا ما استثنينا وبالله تعالى التوفيق
وقالوا ونرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما ورد جوابا والآخر ورد ابتداء فنغلب الذي ورد جوابا على الذي ورد ابتداء
قال علي هذا خطأ لأنه قبل كل شيء تحكم بلا برهان والبرهان أيضا على بطلان هذا الحكم قائم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث معلما وقد سئل عن شيء فأجاب عن أشياء كثيرة وقد سئل عن شحوم الميتة فأجاب عليه السلام عنها ولعن اليهود ونهى أيضا (2/184)
في ذلك الحديث عن بيع ما حرم من الميتات ولم يكن سئل عن كل ذلك ومثل هذا كثير ولا فرق بين ما ورد قوله عليه السلام جوابا وبين ما ورد ابتداء وكل ذلك محمول على عمومه وعلى ما فهم من لفظه لا يحل أن يقتصر به على بعض ما يقع عليه ذلك اللفظ دون بعض إلا بنص أو إجماع وكذلك القول فيما ورد من القرآن جوابا عن سؤال متقدم وقد سئل عن اليتامى فأجاب تعالى فيهم ثم قال عز و جل { وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا } فأخبرهم عن النساء زائدا على ما سألوا عنه
فقالوا ونرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما من رواية من يختص بذلك المعنى والآخر برواية من لا يختص به ومثلوا ذلك برواية عائشة رضي الله عنها في الغسل من الإكسال على خبر من روى أن لا غسل منه
قال علي وهذا باطل لأن الراوين أن لا غسل منه مختصون بالوطء لنسائهم كاختصاص النساء ولا فرق ولأن كل عالم نفر للتفقه فهو مختص بالسؤال عن الحيض كسؤال المرأة عنه ولا فرق وحرص العالم على أن يتعلم كحرص الممتحن بالنازلة التي يسأل عنها ولا فرق وإنما أوجبنا الغسل من الإكسال لحديث أبي هريرة لأنه زائد على سائر الأحاديث لأن الأصل أن لا غسل على أحد وجاء حديث أبي هريرة بإيجاب الغسل فكان شريعة واردة زائدة بيقين ثم لم يصح أنها نسخت ولو لم يكن في ذلك إلا حديث عائشة رضي الله عنها لما وجب به الغسل لأنه ليس فيه إلا فعلت أنا ورسول الله صلى الله عليه و سلم فاغتسلنا
وليس في هذا الحديث إيجاب الغسل وإنما فيه أن الغسل فضل فقط
وقد روي وصح أنه عليه السلام كان ربما اغتسل بين كل وطأتين وليس ذلك واجبا فلو لم يكن هنا إلا قول عائشة رضي الله عنها لكان اغتساله عليه السلام من الإكسال كاغتساله بين كل وطأتين ولا فرق وإنما هو عمل يؤجر من ائتسى به عليه السلام ولا يأثم من لم يفعله غير راغب عنه وبالله تعالى التوفيق
وقالوا نرجح أحد الخبرين على الآخر بأن يكون أحد المختلفين استعمل كل واحد (2/185)
من الخبرين في موضع الخلاف فيكون أولى ممن لا يستعملها ومثلوا ذلك بقوله صلى الله عليه و سلم كل امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل مع قوله عليه السلام الأيم أحق بنفسها من وليها
قال علي وهذا الذي ذكروا لا معنى له بوجه من الوجوه هو كلام ساقط زائف لأنه ليس عمل أحد الخصمين حجة على الآخر إلا أن يأتي ببرهان يصحح عمله وأما الحديثان اللذان ذكروا فإنما حملناهما على ظاهرهما فأبطلنا نكاح كل امرأة نكحت بغير إذن مواليها ثيبا كانت أو بكرا على عموم الحديث
وظاهر لفظه المفهوم منه في بطلان نكاحها بغير إذنهم وهو الذي لا يحل لأحد تعديه وقلنا الأيم أحق بنفسها من وليها في اختيار نكاح من شاءت والإذن فيه أورده فلا اعتراض لوليها في ذلك عليها ولا على كل بالغ من بكر ذات أب أو يتيمة بأحاديث أخر وآي مضافة بعضها إلى بعض فاستثنينا الإنكاح وحده وهو المنصوص عليه من سائر أحوالها لأنه الأخص فاستثني من الأعم وكانت أحق بنفسها في سائر أمورها كلها من وليها حاشا عقد الإنكاح وحده وهذا هو لفظ الحديثين نصا بلا مزيد
وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما يعضده قول الأئمة والآخر يعضده قول غيرهم فيكون الذي أيده قول الأئمة أولى ومثلوا لذلك بالتكبير في العيدين سبعا في الأولى وخمسا في الثانية وبما روي من طريق حذيفة من تكبير ثلاث في الأولى قبل القراءة وأربع في الثانية بعد القراءة
قال علي وهذا لا معنى له لما قد أبطلناه في باب إبطال الاحتجاج بعمل أهل المدينة من هذا الباب وبما قد أبطلناه من القول بالتقليد في باب التقليد من هذا الكتاب وإنما أخذنا بتكبير سبع وخمس لأنه فعل في الخير زائد وذكر لله تعالى ولأن الخبر المروي في ذلك لا بأس به
وأما خبر حذيفة فليس يقوم بسنده حجة لما سنبينه في أمر موضعه من الكلام في أشخاص الأحاديث إن شاء الله
وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون يميل إليه الأكثر من الناس (2/186)
قال علي وهذا لا معنى له لما سنبينه في باب الإجماع من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى ولأن كثرة القائلين بالقول لا تصحح ما لم يكن صحيحا قبل أن يقولوا به وقلة القائلين بالقول لا تبطل ما كان حقا قبل أن يقول به أحد وقد بينا هذا جدا في باب إبطال قول من رجح الخبر بعمل أهل المدينة في آخر هذا الباب وأيضا فإن القول قد يكثر القائلون به بعد أن كانوا قليلا ويقلون بعد أن كانوا كثيرا فقد كان جميع أهل الأندلس على مذهب الأوزاعي رحمه الله ثم رجعوا إلى مذهب مالك وقد كان جمهور أهل إفريقية ومصر على مذهب أبي حنيفة وكذلك أهل العراق ثم غلب على إفريقية مذهب مالك وعلى مصر والعراق مذهب الشافعي فيلزم على هذا أن القول إذا كثر قائلوه صار حقا وإذا قلوا كما ذكرنا عاد باطلا وهذا هو الهذيان نفسه
وقد احتج نصراني على مسلم بكثرة أهل القسطنطينية وأنهم لم يكونوا لتجتمع تلك الأعداد على باطل وهذا لا يلزم لمن رجح الأقوال بالكثرة ونحن نبرأ إلى الله تعالى من هذا القول بل الحق حق وإن لم يقل به أحد والباطل باطل ولو اتفق عليه جميع أهل الأرض
قال علي ويكفي من كشف غمة من اغتر بالكثرة أن نقول له لا تغتر بكثرة من ترى من أصحاب المذاهب فإنما هم ثلاثة رجال فقط مالك والشافعي وأبو حنيفة ولا مزيد فقد حصلنا من كل ما نرى على ثلاثة رجال فقط وبالله تعالى التوفيق
وهم يخالفون هذا كثيرا لأنهم أخذوا بقول زيد في إبطال الرد على ذوي الأرحام وتركوا قول عمر وعثمان وعائشة وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين في ذلك
وأخذوا بقول من قال إن القرء هو الطهر وإنما قال به نحو ثلاثة من الصحابة والجمهور على أنه الحيض وقد ترك أيضا أصحاب أبي حنيفة قول الجمهور في أشياء كثيرة
وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يعضد أحدهما خبر مرسل
قال علي وهذا لا معنى له لأن المرسل في نفسه لا تجب به حجة فكيف يؤيد غيره ما لا يقوم بنفسه
وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون راوي أحدهما أشد تقصيا للحديث (2/187)
ومثلوا ذلك بحديث جابر يعني الحديث الطويل في الحج
قال علي هذا لا معنى له لأن من حفظ أشياء كثيرة فليس ذلك بمانع أن يحفظ غيره بعض ما غاب عنه مما جرى في تلك الأشياء التي حفظ أكثرها وقد سمع أنس والبراء وحفصة من فم النبي صلى الله عليه و سلم في تلك الحجة ما لم يسمع جابر وثقفوا ما لم يثقفه جابر فالواجب قبول الزيادة التي عند هؤلاء على ما عند جابر وقبول الزيادة التي عند جابر على ما عند هؤلاء فنأخذ بروايتهم كلها ولا نترك منها شيئا وكلهم عدل صادق وهذا الذي لا يجوز غيره
وقالوا نرجح أحد النصين بأن يكون أحدهما مكشوفا ويكون الآخر فيه حذف فنأخذ بالمكشوف ومثلوا ذلك بقوله تعالى { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } مع قوله تعالى { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب }
قالوا لأن هذه الأخيرة فيها حذف كأنه قال تعالى فإن أحصرتم فأحللتم
قال علي وهذا الذي ذكروا خطأ لأن آية الإحصار أخص من آية الإتمام لأن المحصرين هم بعض المعتمرين والحجاج فواجب ضرورة أن يستثنوا منهم مع ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك من قوله عليه السلام من كسر أو عرج فقد حل والحذف الذي ذكروا لا يعتد به إلا جاهل لأن ما تيقن فقد يحذف في كلام العرب كثيرا عن ذلك قوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا لا تقربوا لصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغآئط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم إن لله كان عفوا غفورا } فلا خلاف بين أحد من الأمة في أن في هذه الآية حذفا كأنه قال تعالى أو على سفر فأحدثتم لأن كون المرء مريضا أو مسافرا لا يوجب عليه وضوءا إلا أن يحدث ومن ذلك قوله تعالى { لا يؤاخذكم لله بللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم لأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحفظوا أيمانكم كذلك يبين لله لكم آياته لعلكم تشكرون } لا يختلف مسلمان في أن في هذه الآية حذفا وأن معناه إذا حلفتم فحنثتم أو أردتم الحنث كلا المعنيين قد قال به قوم لأن الحلف لا يوجب كفارة إلا بالحنث أو بإرادته
ومن ذلك قوله عز و جل { وقطعناهم ثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينآ إلى موسى إذ ستسقاه قومه أن ضرب بعصاك لحجر فنبجست منه ثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم لغمام وأنزلنا عليهم لمن ولسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } { فأوحينآ إلى موسى أن ضرب بعصاك لبحر فنفلق فكان كل فرق كلطود لعظيم } لا خلاف عند ذي (2/188)
عقل في أن في كلتا الآيتين حذفا وأنه كأنه تعالى قال فضرب فانفلق وضربت فانبسجت فمثل هذا الحذف لا يتعلل به في كلام الله تعالى وفي كلام رسوله صلى الله عليه و سلم وفي كلام كل متكلم إلا جاهل مظلم الجهل لا علم له بمواقع اللغة وهو كالمذكور الذي لم يحذف سواء بسواء
ومن ذلك أيضا قوله { كل من عليها فان } ونحن نقول في كل وقت قال تعالى وقال عليه السلام ولا يذكر اسم الله تعالى في ذلك ولا اسم نبيه صلى الله عليه و سلم اكتفاء منا بفهم السامع وأن ذلك لا يخيل عليه البتة وكذلك قال تعالى { فقال إني أحببت حب لخير عن ذكر ربي حتى توارت بلحجاب } ولم يذكر الشمس اكتفاء بأن السامع قد علم المراد ضرورة
وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما ورد في لفظه حكمه والآخر لم يرد في لفظه حكمه ومثلوا ذلك بقوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم } وقوله عليه السلام أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وقوله عليه السلام رفع القلم عن ثلاث فذكر الصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق
قال علي ليس في قوله عليه السلام ورفع القلم عن ثلاث ما يوجب سقوط الحقوق عن أموالهم وإنما فيه سقوط العبادات عن أبدانهم وقد قالوا بإخراج الديات والأروش وزكاة ما خرج من الأرض من مال الصبي والمجنون وهو داخل في جملة الأغنياء وأسقطوا عنه زكاة الناض تحكما بلا برهان فهلا قاسوا وجوب زكاة الناض عليه بوجوب زكاة ما أخرجت ثماره وبوجوب زكاة الفطر عليه وهم يدينون الله تعالى بالقياس ويعصون أوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه و سلم ولكن هكذا يتناقض من اتبع السبل فتفرقت بهم عن سبيل الله
وقالوا نرجح أحد النصين بأن يكون مؤثرا في الحكم والآخر غير مؤثر ومثلوا ذلك بالاختلاف في زوج بريرة أحرا كان أم عبدا (2/189)
قال علي وهذا لا يعقل لأن التأثير الذي ذكروا تحكم بلا دليل وليس في كونه عبدا ما يمنع من تخييرها تحت الحر وحتى لو اتفق النقلة كلهم على أنه كان عبدا لما أوجب ذلك ألا تخيير تحت حر إذا جاء ما يوجب ذلك
وإنما نص النبي صلى الله عليه و سلم على تخيير الأمة المتزوجة إذا أعتقت ولم يقل عليه السلام إنما خيرتها لأنها تحت عبد فوجب بالنص تخيير كل أمة متزوجة إذا أعتقت ولا نبالي تحت من كانت وليس من قال إنها خيرت لأنها كانت تحت عبد بأولى ممن قال بل لأنها كانت أسود وكل هذا لا معنى له فكيف ولا اختلاف في الروايات وكلها صحيح فالذي روى أنه كان عبدا أخبر عن حاله في أول أمره والذي روى أنه كان حرا أخبر بما صار إليه وكان ذلك أولى لأنه كان عنده علم من تحريره زائدا على من لم يكن عنده علم ذلك
وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون منقولا من طرق بألفاظ شتى والآخر لم ينقل إلا من طريق واحد
ومثلوا ذلك بحديث وابصة بن معبد الأسدي في إعادة المنفرد خلف الصف وبحديث أبي بكرة في تكبيره دون الصف وحديث ابن عباس في رده عليه السلام إياه عن شماله إلى يمينه وحديث صلاة جدة أنس منفردة خلف النبي صلى الله عليه و سلم
قال علي أما كثرة الرواة فقد قدمنا إبطال الاحتجاج بها لأنهم يتركون أكثر ما نقله أهل الأرض برهم وفاجرهم وهو ظاهر القرآن لما نقله واحد فكيف يجوز لمن فعل ذلك أن يغلب ما نقله ثلاثة على ما نقله واحد وليس في التناقض وقلب المعقول أكثر من هذا وأما الأحاديث التي ذكروا فلا حجة لهم فيها وبعضها حجة عليهم
أما حديث أبي بكرة فقد نهاه النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك نصا وقال له زادك الله حرصا ولا تعد فنهاه عن العودة إلى التكبير خلف الصف وحده ولم يأمره عليه السلام بإعادة الصلاة
قال قوم لأن أبا بكرة جهل الحكم في ذلك قبل أن يعلمه النبي صلى الله عليه و سلم أن فعله ذلك لا يجوز فأعلمه بنهيه إياه عن أن يعود لذلك كما أمر النبي صلى الله عليه و سلم الذي أساء الصلاة في حديث رافع بالإعادة مرة بعد مرة فلما قال له يا رسول الله والله ما أدري غير هذا فعلمني فعلمه ولم يأمره حينئذ الإعادة ولو (2/190)
أن أبا بكرة يعود لما نهاه عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم لبطلت صلاته بلا شك لأنه كان يكون مؤديا لصلاة لم يؤمر بها غير الصلاة التي أمر بها بحكم ضرورة العقل وقد قال عليه السلام من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد
والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق أن خبر أبي بكرة موافق لمعهود الأصل في إباحة الصلاة حيث شاء وأنه حينئذ ثبت الأمر بالمنع من الصلاة خلف الصف فجازت صلاته الكائنة قبل ورود الأمر ولزم النهي عنه في المستأنف ولأن النهي عن الصلاة خلف الصف أمر وارد وحكم زائد وشرع حادث بلا شك فهو ناسخ للإباحة المتقدمة بيقين وأما الذي علمه النبي صلى الله عليه و سلم الصلاة بعد قوله ارجع فصل فإنك لم تصل فإن الأمر بالصلاة ثابت عليه ولا بد ولازم حتى يؤديه كما أمره عليه السلام وليس في ذلك الخبر أنه عليه السلام أسقط عنه لجهله ما كان أمره به من الصلاة ما دام وقتها قائما
فلا يجوز أن يسقط أمر متيقن بظن كاذب وبالله تعالى التوفيق
وأما حديث جدة أنس بن مالك فإنما ذلك حكم النساء وهكذا نقول إن حكم النساء في ذلك مخالف لحكم الرجال وإن حكم المرأة والنساء ألا يصلين مع رجل في صفه وهذا ما لا خلاف فيه فأخذنا بحديث جدة أنس بن مالك في النساء وبحديث وابصة في الرجال لأنه جاء منصوصا في رجل صلى خلف الصف فأخذنا بكلا الحديثين وأطعنا أمره عليه السلام في جميع الوجهين ولم نعص شيئا من أحكامه عليه السلام ولا ضربنا بعضها ببعض ولا أبطلنا بعضها ببعض ولم نجعل فيها اختلافا وليس من ترك حديث وابصة لحديث جدة أنس بأولى من أن يكون مصيبا ممن ترك حديث جدة أنس لحديث وابصة فأبطل ذلك على المرأة كإبطاله على الرجل وكل ذلك لا يجوز وليس أحد الحديثين أولى بالطاعة من الآخر والغرض أن يستعملا جميعا فيما ورد فيه فيؤمر الرجل الذي يصلي خلف الصف وحده بالإعادة ولا تؤمر المرأة
وأما حديث ابن عباس فإنه كبر مع النبي صلى الله عليه و سلم منفردا في مكان لا يصلح له الوقوف فيه وهو جاهل بذلك غير عالم بالسنة فيه فرده رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المكان الذي حقه أن يقف فيه ولم يبطل ما عمل متأولا بغير علم وكذلك نقول في الرجل (2/191)
المأمور بالإعادة إنه لولا أن النهي من رسول الله صلى الله عليه و سلم كان قد تقدم عن ذلك لما أمر بالإعادة
وقد اعترض بعضهم باعتراضين غثين فقالوا لعل أمر النبي صلى الله عليه و سلم لأبي بكر ألا يعود إنما كان من سعيه بالكد إلى الصلاة فقيل لهم نعم كذلك نقول إنه عليه السلام نهاه بقوله لا تعد عن كل عمل عمله على غير الواجب وكان من أبي بكرة رضي الله عنه في ذلك الوقت أعمال منهي عنها أحدها سعيه إلى الصلاة والثاني تكبيره دون الصف والثالث مشيه في الصلاة فعن كل ذلك نهاه عليه السلام بقوله ولا تعد لا سيما وقد روينا نص قولنا بلا إشكال
كما حدثنا عبد الله بن ربيع قال ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان الأسدي ثنا أحمد بن جعفر ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال السلمي حدثنا ملازم بن عمرو الحنفي عن عبد الله بن بدر عن عبد الرحمن بن علي بن شيبان عن أبيه علي بن شيبان قال صلينا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقضى الصلاة ورجل فرد يصلي خلف الصف
فوقف عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قضى الرجل صلاته ثم قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم استقبل صلاتك فإنه لا صلاة لفرد خلف الصف
والاعتراض الثاني أن قالوا لعل المأمور بالإعادة إنما أمره عليه السلام بذلك لعمل ما غير انفراده في الصف
فقيل لهم هذا تكهن لا دليل عليه والراوي الذي نقل ذلك من الصحابة رضي الله عنهم إنما أخبر أن سبب أمره بالإعادة كان انفراده ولم يذكر غير ذلك وقد قال تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } ولو ساغ هذا لساغ لغيرهم أن يقول لعل ما روي من لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم من وشم في الوجه ومن غير منار الأرض إنما لعنه لأمر ما غير هذين الفعلين ولعله عليه السلام جلد الأمة التي زنت ورجم ماعزا ورجم الغامدية لغير الزنى ولشيء ما لم يذكر لنا
ومثل هذا من الاعتراض فإنما هو عناد ظاهر وجهل شديد وإن العجب ليطول من أصحاب أبي حنيفة الذين يأمرون المرأة إذا صلت مع الرجل إلى جنبه أن يعيد الرجل ومن أصحاب مالك الذين يأمرون الإمام إذا صلى في (2/192)
مكان مرتفع والناس تحته أن يعيد فإن سئلوا عن الحجة في ذلك قالوا لأنهما صليا حيث لم يبح لهما ولا يأمرون المنفرد خلف الصف والمصلي في مكان مغصوب بالإعادة وكلاهما قد صلى على الحقيقة في مكان لم يبح له بلا شك وأما الإمام المصلي في المكان المرتفع والرجل الذي صلت المرأة إلى جنبه بصلاته وهو غير راض بذلك فما صليا إلا كما أمر وكما أبيح لهما فلو عكس هؤلاء القوم أكثر مذاهبهم لأصابوا فكيف وقد صح نص قولنا عن النبي صلى الله عليه و سلم كما حدثنا عبد الله بن ربيع قال حدثنا محمد بن إسحاق بن السليم حدثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود السجستاني ثنا حميد بن مسعدة أن يزيد بن زريع حدثهم قال ثنا سعيد بن أبي عروبة عن زياد الأعلم قال أنبأنا الحسن وهو البصري أن أبا بكرة حدثه قال إنه دخل المسجد ونبي الله صلى الله عليه و سلم راكع فركعت دون الصف فقال النبي صلى الله عليه و سلم زادك الله حرصا ولا تعد
قال علي وحتى لو صح هذا الترجيح الفاسد الذي ذكرنا في أول كلامنا هذا لكان حديث وابصة هو الذي يجب أن يؤخذ به لأن الأحاديث الواردة من طرق جمة وألفاظ شتى في تسوية الصفوف وإيجاب ذلك والوعيد الشديد على خلافه مؤيدة كلها لحديث وابصة وموافقة له ومبطلة لصلاة من لم يقم الصف من الرجال وكل من صلى وحده منفردا خلف الصف فلم يقم الصف وتلك الأحاديث التي ذكرناها رواها جابر بن سلمة وأبو مسعود البدري وأبو سعيد الخدري وأنس بن مالك والنعمان بن بشير وأبو هريرة من طرق في غاية الصحة
وروي ذلك أيضا من طريق ابن عمرو وأبي مالك الأشعري والعرباض بن سارية والبراء بن عازب كلهم عن النبي صلى الله عليه و سلم وقد ذكرنا أن حديث أبي بكر موافق لحديث وابصة فثبت حديث وابصة لا معارض له وصار بكثرة من ذكرنا من رواة معناه والحكم الواجب فيه منقولا نقل التواتر موجبا للعلم الضروري لأنه رواه اثنا عشر صاحبا منهم الكوفي والبصري والرقي والشامي والمدني من طرق شتى وهذه صفة نقل الكافة وبالله تعالى التوفيق
وقالوا نرجح أحد النصين بأن يكون أحدهما أبعد من الشناعة ومثلوا ذلك بقوله تعالى { يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } الآية مع قوله عز و جل { يا أيها لذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم لموت حين لوصية ثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في لأرض فأصابتكم مصيبة لموت تحبسونهما من بعد لصلاة فيقسمان بلله إن رتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة لله إنآ إذا لمن لآثمين } (2/193)
قال علي وهذا لا معنى له ولا شناعة إلا المخالفة لله ولرسول الله صلى الله عليه و سلم والتحكم بالآراء الفاسدة على ما أمرنا به فهذه هي الشنعة التي لا شنعة غيرها
وقوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم لموت حين لوصية ثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في لأرض فأصابتكم مصيبة لموت تحبسونهما من بعد لصلاة فيقسمان بلله إن رتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة لله إنآ إذا لمن لآثمين } مستثنى من آية النهي عن قبول خبر الواحد الفاسق فلا يقبل فاسق أصلا إلا في الوصية في السفر فقط فإنه يقبل فيها كافران خاصة دون سائر الفساق ولا شنعة أعظم ولا أفحش ولا أقبح ولا أظهر من بطلان قول من قال { يا أيها لذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم لموت حين لوصية ثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في لأرض فأصابتكم مصيبة لموت تحبسونهما من بعد لصلاة فيقسمان بلله إن رتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة لله إنآ إذا لمن لآثمين } أي من غير قبيلتكم تعالى الله عن هذا الهذر علوا كبيرا وليت شعري أي قبيلة خاطب الله عز و جل بهذا الخطاب خاصة دون سائر القبائل وقد قال تعالى في أول الآية { يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } وما علمنا الذين أمنوا قبيلة بعينها
بل في الذين آمنوا عرب وفرس وقبط ونبط وروم وصقلب وخزر وسودان حبشة وزنج ونوبة وبجاة وبربر وهند وسند وترك وديلم وكرد فثبت بضرورة لا مجال للشك فيها أن غير الذين آمنوا هم الذين كفروا ولا ينكر ذلك إلا من سفه نفسه وأنكر عقله وقال على ربه تعالى بغير علم ولا برهان ولعمري لقد كان ينبغي أن يستحي قائلمن غيركم من غير قبيلتكم من هذا التأويل الساقط الظاهر عواره الذي ليس عليه من نور الحق أثر
والعجب يكثر من أصحاب أبي حنيفة الذين يقبلون اليهود والنصارى في جميع الحقوق بعضهم على بعض وقد نهاهم الله تعالى عن قبول الفاسقين ثم لا يقبلونهم في الوصية في السفر وقد جاء نص القرآن بقبولهم فيها وحسبنا الله وما عسى أن يقال في هذا المكان أكثر من وصف هذا القول البشيع الشنيع الفظيع فإن ذكره كاف من تكلف الرد عليه وبالله تعالى التوفيق
وقالوا ونرجع بأن يكون الاشتقاق يؤيد أحد النصين ومثلوا ذلك بالشفق وادعوا أن اشتقاقه يؤيد أنه الحمرة (2/194)
قال علي ما سمعنا هذا في علم اللغة ولا علمناه ولا سمع لغوي قط أن الشفق مشتق من الحمرة وإنما عهدنا الشعراء يسمون الحمرة والبياض المختلطين في الجدود بالشفق على سبيل التشبيه فقط وإنما قلنا إن وقت العشاء الآخرة يدخل بمغيب الحمرة لأن الحمرة تسمى شفقا والبياض يسمى شفقا فمتى غاب ما يقع عليه اسم شفق من حمرة أو بياض فقد غاب الشفق ودخل وقتها الخبر في ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم
وهذا هو القول بالعموم والظاهر
وأما من قال حتى يغيب كل ما يسمى شفقا فقد خصص الحديث بلا معنى ولا برهان وادعى أن المراد بذلك بعض ما يسمى شفقا وهو البياض وأنه قد يغيب الشفق ولا يكون ذلك وقتا للعتمة وذلك مغيب الحمرة
وهذا تخصيص للحديث بلا دليل وإنما بينا هذا لئلا يموه مموه فيقول لنا أنتم خصصتم الظاهر في هذا المكان ولئلا يدعوا أنهم قالوا بعمومه في هذا المكان
وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما يضيف إلى السلف نقصا والآخر لا يضف إليهم ذلك فيكون الذي لا يضيف إليهم ذلك النقص أولى ومثلوا ذلك بمثال لا يصح فذكروا حديثين وردا في إعادة الوضوء من القهقهة في الصلاة وفي إسقاط الوضوء منها وكلا الحديثين ساقط لا يصح
أحدهما رواه الحسن بن دينار وهو ضعيف وروي مرسلا من طريق أبي العالية وقد بينا أن المرسل لا تقوم به حجة والآخر رواه أبو سفيان عن جابر وأبو سفيان طلحة بن نافع ضعيف
ولكنا نمثل في ذلك مثالا يصح وذلك الحديث المروي أن امرأة مخزومية سرقت فشفع فيها أسامة ألا تقطع يدها فأنكر عليه السلام على أسامة رضي الله عنه وقال له يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله تعالى
وروي أيضا أن امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقطع يدها فشفع فيها أسامة فقال من رجح إحدى الروايتين بما ذكرنا محال أن يزجر النبي صلى الله عليه و سلم أسامة عن أن يشفع في حد ثم يعود لمثل ذلك فراموا أن يثبتوا بذلك أنها قصة واحدة وامرأة واحدة وأنها قطعت للسرقة لا لجحد العارية
قال علي هذا لا معنى له ولا حجة فيه لأننا لم نقل إن أسامة رضي الله عنه أقدم على ذلك وهو يعلمه حدا وليس في الحديث زجر وإنما فيه تعليم ولسنا (2/195)
ننكر على أسامة وغير أسامة جهل شريعة ما حتى يعلمه إياها رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن قال في خبر ورد في سارقة وخبر ورد في مستعيرة إنها قصة واحدة فقد كان كابر وقال بغير برهان وقفا ما ليس له به علم
وأما نحن فنقول يقينا بغير شك إن حال المستعيرة غير حال السارقة وإن العارية والجحود غير السرقة وإنهما قضيتان متغايرتان بلا شك ثم لسنا نقطع على أنهما امرأتان ولا على أنها امرأة واحدة لأن كل ذلك ممكن وقد يمكن ولو كانت امرأة واحدة أن تكون سرقت مرة فقطعت يدها ثم استعارت فجحدت فقطعت يدها الثانية والله تعالى أعلم وإنما نقول ما روينا وصحح عندنا ولا نزيد من رأينا ما لم نسمع ولا قام به برهان فنحصل في حد الكذب ونعوذ بالله من ذلك إلا أننا نقول إنا قد روينا بالسند الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر بقطع يد امرأة استعارت المتاع وجحدته فنحن نقطع يد كل مستعير جاحد إذا قامت عليه بذلك بينة أو علم بذلك الحاكم أو أقر هو بذلك
ونقول قد روينا أنه عليه السلام قطع يد من سرق فنحن نقطع يد من سرق إذا ثبت عليه شيء مما ذكرنا
هذا على أن حديث قطع المستعيرة قد روي من غير طريق عائشة رضي الله عنها بسند صحيح ليس فيه ذكر شفاعة أسامة ولا شيء مما في حديث السارقة وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد ولهم ترجيحات فاسدة جدا والتي ذكرنا تستوعبها كلها وقد بينا سقوطها بالبراهين الواضحة وبتعري دعاويهم من الأدلة وعلى ذلك فكل ما رجحوا به في مكان ما فقد تركوه في أمكنة كثيرة وقد بينا الوجوه التي بها يرفع التعارض المظنون عن النصوص من القرآن والحديث بيانا لائحا والحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
فصل فيمن قال لا يجوز تخصيص القرآن بالخبر والرد عليه
قال علي قد بينا فيما قبل هذا بحول الله تعالى وقوته كيف يستثنى ما جاء في الحديث مما جاء في القرآن وما جاء في القرآن مما جاء في الحديث وما جاء في كل (2/196)
واحد منهما من خاص مما جاء فيهما من عام ووجه الأخذ بالزائد في كل ذلك وذكر تخبط من خالف تلك الطريقة في حيرة التناقض وغلبة الشكوك على أقوالهم وبقي من خبال قولهم شيء نذكره ههنا إن شاء الله تعالى وهو أن بعضهم رأى أن يرد بعض ما بلغه عن النبي صلى الله عليه و سلم مما قد أخذ بمثله فيما بين من المواضع فقال لا يجوز تخصيص القرآن بالخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم وقد بينا فيما خلا أن القوم إنما حسبهم نصر المسألة التي بين أيديهم فقط بأي شيء أمكنهم وإن هدموا على أنفسهم ألف مسألة مما يحتجون به في هذه ثم لا يبالون إذا تناولوا مسألة أخرى أن يحققوا ما أبطلوا في هذه ويبطلوا ما حققوا فيها فهم أبدا كما ترى يحلونه عاما ويحرمونه عاما
ولقد كان ينبغي لمن ترك قول الله تعالى { يا أيها لذين آمنوا لا تقربوا لصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغآئط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم إن لله كان عفوا غفورا } لحديث الوضوء بالنبيذ المسكر الحرام وهو لا يصح أبدا ولمن ترك قول الله تعالى { يأيها لذين آمنوا كتب عليكم لقصاص في لقتلى لحر بالحر ولعبد بلعبد ولأنثى بلأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فتباع بلمعروف وأدآء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن عتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } فقال بل يتبعه بالضرب بالسياط والنفي في البلاد ومثل هذا كثير أن يستحي من أن يقول لا أخصص القرآن بالحديث الصحيح الذي نقله الثقات
وإن العجب ليطول ممن أبى قبول خبر الواحد في الحكم باليمين مع الشاهد وفي تمام صيام الآكل ناسيا وفي التحريم بخمس رضعات وفي قضاء الصيام عمن مات وعليه صوم وفي ألا يحنط المحرم الميت وفي مئين من الأحكام ثم لا يستحي من أن يقول لا أجلد الزاني المحصن
وقد جاء القرآن بجلد كل زان ولم يخص محصنا من غيره فقال تعالى { لزانية ولزاني فجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين لله إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر وليشهد عذابهما طآئفة من لمؤمنين } ولم يخص تعالى من ذلك إلا الإماء والعبيد فقط
فتركوا القرآن كما ترى والسنة الصحيحة من طريق عبادة في إيجاب الجلد على الزاني محصنا كان أو غير محصن لظن ظنوه في أن ماعزا رجم ولم يجلد وقد علمنا وجه قول المعتزلة لا نأخذ (2/197)
بالحديث إلا حتى نجد حكمه في القرآن وما علمنا وجها لقول من قال لا نأخذ بالقرآن حتى يأتي حكمه في الحديث
وهذا هو نفس قول إخواننا وفقهم الله في هذا المسألة وإنما روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يجلد ماعزا من طريق ساقطة لا يقوم به حجة
وقد فعل مثل ذلك أيضا بعضهم فسمع القرآن قد نزل بقوله تعالى { فإذا قرأت لقرآن فستعذ بلله من لشيطان لرجيم } فقالوا لا نستعيذ إذا قرأنا في الصلاة لأنه لم يأت خبر بإيجاب الاستعاذة فمرة يتركون الأخبار الصحاح لأنها لم تذكر أحكامها في القرآن ومرة يتركون القرآن لأن حكمه لم يأت به خبر فأين تطلب مذاهب هؤلاء القوم وكيف يستجيزون هذه العظائم الشنيعة التي لا تطرد مع خطئها وعدم الحجة عليها وقيام البرهان على بطلانها
وقد اعترض بعضهم في ترك الاستعاذة بما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم كان يفتتح القرآن بالحمد لله رب العالمين
قال علي وهذا من غريب احتجاجهم وليت شعري متى قلنا لهم إن الاستعاذة قراءة يحتجون علينا بها وإنما قلنا لهم إن الاستعاذة قبل القراءة وبعد ما روي من التوجيه والدعاء أثر التكبير وأما استفتاح القراءة فبالحمد لله رب العالمين بلا شك ولا نقول غير ذلك
قال علي فإن قالوا لنا أتقولون إن ماعزا جلده النبي صلى الله عليه و سلم وأنه عليه السلام كان يستعيذ قبل القراءة في الصلاة قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق إنا نقول ونقطع أن الله عز و جل قد أمر بجلد كل زان على كل حال وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد حكم على الزاني المحصن بالجلد مع الرجم وأنه عليه السلام لم يخالف ربه قط ولا شك عندنا في أن ماعزا جلد مع الرجم ولا ندري إن كان أمره بعد ورود النص بالجلد مع الرجم وقد يمكن أن يكون رجمه قبل نزول آية الجلد فقد روينا بأصح طريق أنه قيل لبعض الصحابة رضوان الله عليهم في رجم رسول الله صلى الله عليه و سلم المحصن والمحصنة أكان ذلك قبل (2/198)
نزول سورة النور أم بعد نزولها فقال لا أدري فصح قولنا وكذلك فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه و سلم فإنه جلد شراحة الهمدانية ثم رجمها
وكذلك نقول أيضا إن الله عز و جل قد أمر كل قارىء بالاستعاذة وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يخالف أمر ربه قط ولا شك عندنا في وجوب الاستعاذة في الصلاة وقد استعاذ قبل القراءة جماعة من الصحابة
روينا ذلك عنهم بالسند الصحيح وما روي إنكار ذلك عن أحد منهم ولا يبطل ما صح بقول القائل لعله نسخ ولا بأن يروى أنه عليه السلام كرره وكذلك إن كان أمرا فلا يبطل بألا يروى أنه عليه السلام فعله وقد بينا أن الأمر ساعة وروده يلزم ما لم يتيقن نسخه ولو كان الأمر لا يصح إلا بأن يكرر للزم مثل ذلك في التكرار وفي تكرار التكرار إلى ما لا نهاية له وللزم مثل ذلك في الأفعال فكان لا تصح شريعة أبدا
وهذا قول يؤدي إلى إبطال جميع الشرائع وإلى الكفر وليس الأمر الثاني بأوكد من الأول أصلا
قال علي ثم نعكس عليهم هذا السؤال الفاسد فنقول لمن كان منهم مالكيا أتقول إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذ الزكاة من زيت الفجل ومن الفول والعلس ومن عروض التجارة وقد كان ذلك موجودا بالمدينة وكانت التجارة هي الغالبة على المهاجرين ومعاش جميع أهل مكة لا نحاشي منهم أحدا في أيامه عليه السلام وهل حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالشفعة في الثمار وقد كانت تتبايع على عهده بالمدينة بلا شك
ونقول له إن كان حنفيا أتقول إنه عليه السلام أخذ الزكاة من القثاء والرمان والخضروات والقطن
ونقول لمن كان منهم شافعيا هل تقول إنه عليه السلام بسمل ولا بد في كل ركعة قبل أم القرآن
فإن قالوا قد قام الدليل على كل ما ذكرنا ولا ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم خلاف ما أوجبه القرآن وخلاف ما جاء به أمره قلنا لهم هذا قولنا نفسه في جلد ماعز وفي الاستعاذة
فإن قالوا نعم قد فعل ذلك كله رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا ما لم يأت في شيء من الروايات أنه فعله عليه السلام فلا ينكروا هذا على من قاله فيما جاء به نص كلام الله عز و جل وإن قالوا لم يفعله عليه السلام ولكنا أوجبناه بالدلائل أقروا (2/199)
على أنفسهم بالكفر وبإحداث شريعة لم يأذن بها الله تعالى ولا علمها الرسول صلى الله عليه و سلم وصرحوا بأن النبي عليه السلام خالف أمر ربه جاهرا وضيع الواجب وأنهم استدركوا ذلك وعملوا بأمر ربهم وهذا لا يقوله مسلم والله الموفق للصواب
فصل وقد يرد خبر مرسل
إلا أن الإجماع صح بما فيه متيقنا قال علي وقد يرد خبر مرسل إلا أن الإجماع قد صح بما فيه متيقنا منقولا جيلا فجيلا فإن كان هذا علمنا أنه منقول نقل كافة كنقل القرآن فاستغني عن ذكر السند فيه وكان ورود ذلك المرسل وعدم وروده سواء ولا فرق وذلك نحو لا وصية لوارث وكثير من أعلام نبوته صلى الله عليه و سلم وإن كان قوم قد رووها بأسانيد صحاح فهي منقوله نقل الكافة كشق القمر مع أنه مذكور في القرآن وكإطعامه النفر الكثير من الطعام اليسير وكسقيه الجيش من ماء يسير في قدح وكصبه وضوءه في البئر فانثالت بماء عظيم بتبوك وكرميه التراب في عيون أهل حنين فأصابت جميعهم وهي مذكورة في القرآن
وأما المرسل الذي لا إجماع عليه فهو مطروح على ما ذكرنا لأنه لا دليل عن قبوله البتة فهو داخل في جملة الأقوال التي إذا جمع عليها قبلت وإذا اختلفت فيها سقطت وهي كل قولة لم يأت بتفصيلها باسمها نص
ومن قال بذلك دون برهان كان عاصيا لقول الله تعالى { قل إنما حرم ربي لفواحش ما ظهر منها وما بطن ولإثم ولبغي بغير لحق وأن تشركوا بلله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون }
قال علي وإن العجب ليكثر من الحنفيين والمالكيين فإنهم يأبون قبول خبر الواحد في عدة مواضع ويقولون قد جاء القرآن بخلافها نعم ويتركونها والقرآن موافق لها على ما قد ذكرنا ثم يتركون القرآن لنقل لا أحد فإن قال قائل وكيف ذلك قلنا له وبالله تعالى التوفيق إنهم يقولون كثيرا بالمرسل وهو نقل لا أحد لأن المسكوت عن ذكره المجهول حاله هو ومن هو معدوم سواء
وبالله تعالى التوفيق (2/200)
فصل أجاز بعض أصحابنا أن يرد الحديث الصحيح
قال علي وقد أجاز بعض أصحابنا أن يرد حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم ويكون الإجماع على خلافه قال وذلك دليل على أنه منسوخ
قال علي وهذا عندنا خطأ فاحش متيقن لوجهين برهانيين ضروريين أحدهما أن ورود حديث صحيح يكون الإجماع على خلافه معدوم لم يكن قط ولا هو في العالم فمن ادعى أنه موجود فليذكره لنا ولا سبيل له والله إلى وجوده أبدا
والثاني أن الله تعالى قد قال { إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون } فمضمون عند كل من يؤمن بالله واليوم الآخر أن ما تكفل الله عز و جل بحفظه فهو غير ضائع أبدا لا يشك في ذلك مسلم وكلام النبي صلى الله عليه و سلم كله وحي بقوله تعالى { وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى } والوحي ذكر بإجماع الأمة كلها والذكر محفوظ بالنص فكلامه عليه السلام محفوظ بحفظ الله عز و جل ضرورة منقول كله إلينا لا بد من ذلك
فلو كان هذا الحديث الذي ادعى هذا القائل أنه مجمع على تركه وأنه منسوخ كما ذكر لكان ناسخه الذي اتفقوا عليه قد ضاع ولم يحفظ وهذا تكذيب لله عز و جل في أنه حافظ للذكر كله ولو كان ذلك لسقط كثير مما بلغ عليه السلام عن ربه وقد أبطل ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله في حجة الوداع اللهم هل بلغت
قال علي ولسنا ننكر أن يكون حديث صحيح وآية صحيحة التلاوة منسوخين بحديث آخر صحيح وإما بآية متلوة ويكون الاتفاق على النسخ المذكور قد ثبت بل هو موجود عندنا إلا أننا نقول لا بد أن يكون الناسخ لهما موجودا أيضا عندنا منقولا إلينا محفوظا عندنا مبلغا نحونا بلفظه قائم النص لدينا لا بد من ذلك وإنما الذي منعنا منه فهو أن يكون المنسوخ محفوظا منقولا مبلغا إلينا (2/201)
ويكون الناسخ له قد سقط ولم ينقل إلينا لفظه فهذا باطل عندنا لا سبيل إلى وجوده في العالم أبد الأبد لأنه معدوم البتة قد دخل بأنه غير كائن في باب المحال والممتنع عندنا وبالله تعالى التوفيق
فصل ليس كل قول الصحابي إسنادا
قال علي وإذا قال الصحابي السنة كذا وأمرنا بكذا فليس هذا إسنادا ولا يقطع على أنه عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا ينسب إلى أحد قول لم يرو أنه قاله ولم يقم برهان على أنه قاله وقد جاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نهانا عمر فانتهينا
وقد قال بعضهم السنة كذا وإنما يعني أن ذلك هو السنة عنده على ما أداه إليه اجتهاده فمن ذلك ما حدثناه حمام ثنا الأصيلي ثنا أبو زيد المروزي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا أحمد بن محمد ثنا عبد الله أنبأ يونس عن الزهري أخبرني سالم بن عبد الله قال كان ابن عمر يقول أليس حسبكم سنة نبيكم صلى الله عليه و سلم إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت وبالصفا وبالمروة ثم حل من كل شيء حتى يحج عاما قابلا فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديا
قال أبو محمد ولا خلاف بين أحد من الأمة كلها أن النبي صلى الله عليه و سلم إذ صد عن البيت لم يطف به ولا بالصفا والمروة بل أحل حيث كان بالحديبية ولا مزيد وهذا الذي ذكره ابن عمر لم يقع قط لرسوله صلى الله عليه و سلم
حدثنا حمام بن أحمد قال ثنا عياش بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن قال ثنا محمد بن إسماعيل الصايغ ثنا عبد الله بن بكر السهمي ثنا سعيد بن أبي عروبة عن مطر هو الوراق عن رجاء بن حيوة عن قبصه بن ذؤيب عن عمرو بن العاص
قال لا تلبسوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه و سلم عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها عدة الحرة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا
حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا محمد بن بشار (2/202)
بندار ثنا يحيى هو ابن سعيد القطان ثنا عبد المجيد بن جعفر ثنا وهب بن كيسان قال اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير فأخر الخروج حتى تعالى النهار ثم خرج فخطب فأطال الخطبة ثم نزل فصل ركعتين ولم يصل للناس يومئذ الجمعة فذكر ذلك لابن عباس فقال أصاب السنة
قال أبو محمد وقد صح عن ابن عباس أنه قرأ أم القرآن على الجنازة في الصلاة وجهر وقال إنها سنة كما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا أبو إسحاق البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا محمد بن بشار ثنا غندر ثنا شعبة عن سعد عن طلحة قال صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب قال لتعلموا أنها سنة سعد هذا هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وطلحة هو ابن عبد الله بن عوف وروي عن أنس أنه أفطر في منزله في رمضان إذا أراد السفر قبل أن يخرج قال إنها سنة
وخصومنا في هذا الموضع لا يقولون بشيء من هذا فقد نقضوا أصلهم ومن أضل ممن لا يجعل قول هؤلاء هي السنة سنة ويجعل قول سعيد بن المسيب في دية أصابع المرأة هي السنة سنة
قال أبو محمد فلما وجدنا ذلك منصوصا عنهم لم يحل لنا أن ننسب إلى النبي صلى الله عليه و سلم شيئا لا نعمله فنكون قد دخلنا في نهي الله عز و جل إذ يقول { ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } فمن أقدم على هذا فهو قليل الورع حاكم بالظن والظن لا يغني من الحق شيئا وهذا مذهب أهل الصدر الأول كما حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي عن عبد الملك بن عمر الخولاني عن محمد بن بكر المصري عن سليمان بن الأشعث ثنا عبد الله بن معاذ أخبرني أبي ثنا شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت استحيضت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمرت أن تعجل العصر وتؤخر الظهر وتغتسل لهما غسلا وأن تؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل لهما غسلا وتغتسل لصلاة الصبح غسلا فقلت لعبد الرحمن أعن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا أحدثك عن النبي صلى الله عليه و سلم شيء (2/203)
قال علي فهذا عبد الرحمن يحكي أنها أمرت في عهد النبي صلى الله عليه و سلم ولم يستجز أن يقول ومن يأمر بهذا إلا النبي صلى الله عليه و سلم لا سيما في حياته عليه السلام وإنما أقدم على القطع في هذا من قل فهمه ورق ورعه واشتغل بالقياسات الفاسدة عن مراعاة حديث النبي صلى الله عليه و سلم وألفاظ القرآن
وقد قال بعضهم إذا جاء عن صاحب فتيا من قوله إلا أن فيها شرع شريعة أو حدا محدودا أو وعيدا فإن هذا مما لا يقال بقياس ولا يقال إلا بتوقيف فاستدل بذلك على أنه من رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال علي وقائل هذا القول الساقط يقر أنهم رتبوا في الخمر ثمانين برأيهم وقد أعاذهم الله تعالى من ذلك ونحن نجد أنهم رضي الله عنهم قالوا بكل ما ذكرنا بآرائهم ورسول الله صلى الله عليه و سلم حي وبعد موته فقد قال طائفة من الصحابة حبط عمل عامر بن الأكوع إذ ضرب نفسه بسيفه في الحرب فأكذب النبي صلى الله عليه و سلم ذلك وعمر قد قال دعني أضرب عنق حاطب فقد نافق فأبطل رسول الله صلى الله عليه و سلم قوله ذلك وفي قول عمر الذي ذكرنا إيجاب شرع في ضرب عنق امرىء مسلم وإخبار بغيب في أنه منافق ومثل هذا كثير مما سنذكره في باب إبطال التقليد إن شاء الله تعالى
وكل هذا فقد يقوله المرء مجتهدا متأولا ومستعظما لما يرى فمخطىء ومصيب
وإن العجب ليكثر ممن ينسب إلى النبي صلى الله عليه و سلم كل ما ذكرنا بظنه الفاسد وينكر أن يكون عليه السلام جلد ماعزا وقد صح عنه عليه السلام الحكم بالجلد على المحصن مع الرجم ونزل القرآن بجلد الزناة كلهم وقد ذكر أبو هريرة حديث النفقة على الزوجة والولد والعبد فقال في آخره تقول امرأتك أنفق علي أو طلقني فقيل له أهذا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لا ولكن هذا من كيس أبي هريرة
والعجب من القائل إن مثل هذا لا يقال بالقياس نعني في مثل قول عائشة رضي الله عنها لأم ولد زيد بن أرقم أبلغني زيدا أنه إن لم يتب فقد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يقول بالقياس ما هو أشنع من هذا فبعضهم يفرق بين الفأرة والعصفورة الواقعين في البئر يموتان فيها وبين الدجاجة والسنور يموتان في البئر فيوجب من أحدهما عشرين دلوا ومن الآخر أربعين دلوا ويجيز بيع ثوب من ثوبين أو ثلاثة يختاره المشتري بغير عينه ولا يجيز بيع ثوب من أربعة أثواب فصاعدا يختاره المشتري ويرى القطع في (2/204)
الساج والقنا ولا يراه في سائر الخشب وبعضهم يفرق بين سلم بغل في بغلين وبين سلم بغلين في بغلين فيحل أحد الوجهين ويحرم الآخر وتحكمهم في الدين لو جمع لقامت منه أسفار ونحن لا ننسب إلى النبي صلى الله عليه و سلم إلا ما صح عنه بالنقل أو صح أن ربه تعالى أمره به ولم ينسخه عنه فقد قال عليه السلام إن كذبا علي ليس ككذب على أحد فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار
قال علي وليس في تعمد الكذب أكثر من أن تسمع كلاما لم يخبرك أحد تثق به أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله ولا سمعته يقوله ولا علمت أن الله تعالى أمره به فتنسبه أنت برأيك وطنك إلى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله نعوذ بالله العظيم من ذلك
فصل في قوم لا يتقون الله فيما ينسب إلى النبي صلى الله عليه و سلم
قال علي وقد ذكر قوم لا يتقون الله عز و جل أحاديث في بعضها إبطال شرائع الإسلام وفي بعضها نسبة الكذب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وإباحة الكذب عليه وهو ما حدثنا المهلب بن أبي صفرة حدثنا ابن مناس ثنا محمد بن مسرور القيرواني ثنا يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب أخبرني شمر بن نمير عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس عن أبيه عن جده علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال سيأتي ناس يحدثون عني حديثا فمن حدثكم حديثا يضارع القرآن فأنا قلته ومن حدثكم بحديث لا يضارع القرآن فلم أقله فإنما هو حسوة من النار
قال أبو محمد الحسين بن عبد الله ساقط منهم بالزندقة وبه إلى ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن الأصبغ بن محمد أبي منصور أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الحديث عني على ثلاث فأيما حديث بلغكم عني تعرفونه بكتاب الله تعالى فاقبلوه وأيما حديث بلغكم عني لا تجدون في القرآن ما تنكرونه به ولا تعرفون موضعه فيه فاقبلوه وأيما حديث بلغكم عني تقشعر منه جلودكم وتشمئز منه قلوبكم وتجدون في القرآن خلافه فردوه (2/205)
قال أبو محمد هذا حديث مرسل والأصبغ مجهول
حدثنا أحمد بن عمر ثنا ابن يعقوب ثنا ابن محلون ثنا المغامي ثنا عبد الملك بن حبيب عن مطرف بن عبد الله عن مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في مرضه لا يمسك الناس علي شيئا لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه وهذا مرسل إلا أن معناه صحيح لأنه عليه السلام إنما أخبر في هذا الخبر بأنه لم يقل شيئا من عند نفسه بغير وحي من الله تعالى به إليه وأحال بذلك على قول الله تعالى في كتابه { وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى } فنص كتاب الله تعالى يقضي بأن كل ما قاله عليه السلام فهو عن الله تعالى
وأخبرني المهلب بالسند الأول إلى ابن وهب حدثني سليمان بن بلال عن عمرو ابن أبي عمرو عمن لا يتهم عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال وإني لا أدري لعلكم أن تقولوا عني بعدي ما لم أقل ما حدثتم عني مما يوافق القرآن فصدقوا به وما حدثتم عني مما لا يوافق القرآن فلا تصدقوا به وما لرسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يقول ما لا يوافق القرآن وبالقرآن هداه الله
قال أبو محمد وهذا مرسل وفيه عمرو بن أبي عمرو وهو ضعيف وفيه أيضا مجهول حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا حجاج بن المنهال ثنا عبد الوهاب هو الثقفي سمعت يحيى بن سعيد قال أخبرني ابن أبي مليكة أن ابن عمير حدثه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جلس في مرضه الذي مات فيه إلى جنب الحجر فحذر الفتن وقال إني والله لا يمسك الناس علي بشيء إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه
قال علي وهذا مرسل لا يصح وفيما أخذناه عن بعض أصحابنا عن القاضي عبد الله بن محمد بن يوسف عن ابن الدخيل عن محمد بن عمرو العقيلي حدثنا محمد بن أيوب ثنا أبو عون محمد بن عون الزيادي ثنا أشعث بن بزار عن قتادة (2/206)
عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إذا حدثتم عني بحديث يوافق الحق فخذوا به حدثت به أو لم أحدث
قال علي وأشعث بن بزار كذاب ساقط لا يؤخذ حديثه وحدثنا المهلب بن أبي صفرة ثنا ابن مناس ثنا محمد بن مسرور ثنا يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب أخبرني الحارث بن نبهان عن محمد بن عبد الله العرزمي عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ما بلغكم عني من قول حسن لم أقله فأنا قلته
قال علي الحارث ضعيف والعرزمي ضعيف وعبد الله بن سعيد كذاب مشهور وهذا هو نسبة الكذب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنه حكي عنه أنه قال لم أقله فأنا قلته فكيف يقول ما لم يقله هل يستجيز هذا إلا كذاب زنديق كافر أحمق إنا لله وإنا إليه راجعون على عظم المصيبة بشدة مطالبة الكفار لهذه الملة الزهراء وعلى ضعف بصائر كثير من أهل الفضل يجوز عليهم مثل هذه البلايا لشدة غفلتهم وحسن ظنهم لمن أظهر لهم الخير
قال علي فإحدى الطائفتين أبطلت الشرائع والأخرى أباحت الكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن نبرأ إلى الله تعالى من كلتا هاتين الطائفتين وهاتين المسألتين
ونقول للأولى أول ما نعرض على القرآن الحديث الذي ذكرتموه فلما عرضناه وجدنا القرآن يخالفه قال الله تعالى { مآ أفآء لله على رسوله من أهل لقرى فلله وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل كي لا يكون دولة بين لأغنيآء منكم ومآ آتاكم لرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا وتقوا لله إن لله شديد لعقاب } وقال تعالى { من يطع لرسول فقد أطاع لله ومن تولى فمآ أرسلناك عليهم حفيظا } وقال تعالى { إنآ أنزلنا إليك لكتاب بلحق لتحكم بين لناس بمآ أراك لله ولا تكن للخآئنين خصيما }
ونسأل قائل هذا القول الفاسد في أي قرآن وجد أن الظهر أربع ركعات وأن المغرب ثلاث ركعات وأن الركوع على صفة كذا والسجود على صفة كذا وصفة القراءة فيها والسلام وبيان ما يجتنب في الصوم وبيان كيفية زكاة الذهب والفضة (2/207)
والغنم والإبل والبقر ومقدار الأعداد المأخوذ منها الزكاة ومقدار الزكاة المأخوذة وبيان أعمال الحج من وقت الوقوف بعرفة وصفة الصلاة بها وبمزدلفة ورمي الجمار وصفة الإحرام وما يجتنب فيه وقطع يد السارق وصفة الرضاع المحرم وما يحرم من المآكل وصفة الذبائح والضحايا وأحكام الحدود وصفة وقوع الطلاق وأحكام البيوع وبيان الربا والأقضية والتداعي والإيمان والأحباس والعمرى والصدقات وسائر أنواع الفقه وإنما في القرآن جمل لو تركنا وإياها لم ندر كيف نعمل فيها وإنما المرجوع إليه في كل ذلك النقل عن النبي صلى الله عليه و سلم
وكذلك الإجماع إنما هو على مسائل يسيرة قد جمعناها كلها في كتاب واحد وهو المرسوم بكتاب المراتب فمن أراد الوقوف عليها فليطلبها هنالك فلا بد من الرجوع إلى الحديث ضرورة ولو أن امرأ قال لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافرا بإجماع الأمة ولكان لا يلزمه إلا ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل وأخرى عند الفجر لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم صلاة ولا حد للأكثر في ذلك
وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال وإنما ذهب إلى هذا بعض غالية الرافضة ممن قد اجتمعت الأمة على كفرهم وبالله تعالى التوفيق
ولو أن امرأ لا يأخذ إلا بما اجتمعت عليه الأمة فقط ويترك كل ما اختلفوا فيه مما قد جاءت فيه النصوص لكان فاسقا بإجماع الأمة فهاتان المقدمتان توجب بالضرورة الأخذ بالنقل
وأما من تعلق بحديث التقسيم فقال ما كان في القرآن أخذناه وما لم يكن في القرآن لا ما يوافقه ولا ما يخالفه أخذناه وما كان خلافا للقرآن تركناه فيقال لهم ليس في الحديث الذي صح شيء يخالف القرآن فإن عد الزيادة خلافا لزمه أن يقطع في فلس من الذهب لأن القرآن جاء بعموم القطع
ولزمه أن يحل العذرة لأن في نص القرآن { قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير لله به فمن ضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم } والعذرة ليست شيئا مما ذكر فإن قال هي رجس قيل له كل محرم فهو رجس لا سيما إن كان مخاطبنا ممن يستحل أبوال الإبل وبعرها فأي فرق بين (2/208)
أنواع المعذرات لولا التحكم ولزمه أيضا أن يحل الجمع بين العمة وبنت أخيها لأن القرآن نص على المحرمات ثم قال { ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما } فإن عد الزيادة خلافا لزمه كما ذكرناه
وأما الطائفة الأخرى المبيحة للقول بما لم يأت نصا عن النبي صلى الله عليه و سلم وإباحة أن ينسب ذلك إليه فحسبنا أنهم مقرون على أنفسهم بأنهم كاذبون وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين
حدثنا أحمد بن محمد الجسوري قال ثنا وهب بن مسرة ثنا ابن وضاح عن أبي بكر بن أبي شيبة ثنا وكيع عن شعبة وسفيان عن حبيب عن ميمون بن أبي شبيب عن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه و سلم وقال عليه السلام لا تكذبوا علي فإنه من يكذب علي يلج النار وروينا هذا المعنى مسندا صحيحا من طريق علي وأبي هريرة وسمرة وأنس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال علي وقال محمد بن عبد الله بن مسرة الحديث ثلاثة أقسام فحديث موافق لما في القرآن فالأخذ به فرض وحديث زائد على ما في القرآن فهو مضاف إلى ما في القرآن والأخذ به فرض وحديث مخالف لما في القرآن فهو مطرح
قال علي بن أحمد لا سبيل إلى وجود خبر صحيح مخالف لما في القرآن أصلا وكل خبر شريعة فهو إما مضاف إلى ما في القرآن ومعطوف عليه ومفسر لجملته وإما مستثنى منه لجملته ولا سبيل إلى وجه ثالث
فإن احتجوا بأحاديث محرمة أشياء ليست في القرآن قلنا لهم قد قال الله عز و جل { لذين يتبعون لرسول لنبي لأمي لذي يجدونه مكتوبا عندهم في لتوراة ولإنجيل يأمرهم بلمعروف وينهاهم عن لمنكر ويحل لهم لطيبات ويحرم عليهم لخبآئث ويضع عنهم إصرهم ولأغلال لتي كانت عليهم فلذين آمنوا به وعزروه ونصروه وتبعوا لنور لذي أنزل معه أولئك هم لمفلحون } فكل ما حرمه رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل الحمار الأهلي وسباع الطير وذوات الأنياب وغير ذلك فهو من الخبائث وهو مذكور في الجملة المتلوة في القرآن ومفسر لها والمعترض بها يسأل أيحرم أكل عذرته أم يحلها فإن أحلها خرج عن إجماع الأمة وكفر وإن حرمها فقد حرم ما لم ينص الله تعالى على اسمه في القرآن فإن قال هي من الخبائث قيل له وكل ما حرم عليه السلام فهو كالخنزير وكل ذلك من الخبائث (2/209)
قال علي فإن قال قد صح الإجماع على تحريمها قيل له قد أقررت بأن الأمة مجمعة على إضافة ما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم من السنن إلى القرآن مع ما صح على النبي صلى الله عليه و سلم من النهي عن ذلك كما حدثنا عبد الرحمن بن سلمة صاحب لنا قال ثنا أحمد بن خليل قال ثنا خالد بن سعيد ثنا أحمد بن خالد ثنا أحمد بن عمرو المكي وكان ثقة ثنا محمد بن أبي عمر العدني ثنا سفيان هو ابن عيينة عن سالم أبي النضر عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري ما وجدنا في كتاب الله تعالى اتبعناه فهذا حديث صحيح بالنهي عما تعلل به هؤلاء الجهال وبالله تعالى التوفيق مع ما قدمنا من أنه لا يختلف مسلمان في أن ما صح عن النبي صلى الله عليه و سلم فهو مضاف إلى ما في القرآن وأنهم إنما اختلفوا في الطرق التي بها يصح ما جاء عنه عليه السلام فقط
وقد سألت بعض من يذهب هذا المذهب عن قول الله تعالى وقد ذكر النساء المحرمات في القرآن ثم قال تعالى { ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما } ثم روى أبو هريرة وأبو سعيد أنه عليه السلام حرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها وليس هذا إجماعا فعثمان البتي وغيره يرون الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها حلالا
فقال لي ليس هذا الحديث خلافا للآية لكنه مضاف إليها فقلت له فعلى هذا لا سبيل إلى وجود حديث مخالف لما في القرآن أصلا وكل حديث أتى فهو مضاف إلى ما في القرآن ولا فرق وبالله تعالى التوفيق
فصل ليس كل من أدرك النبي صلى الله عليه و سلم ورآه صحابيا
قال علي وليس كل من أدرك النبي صلى الله عليه و سلم ورآه صحابيا ولو كان ذلك لكان أبو جهل من الصحابة لأنه قد رأى النبي صلى الله عليه و سلم وحادثه وجالسه وسمع منه وليس كل من (2/210)
أدركه عليه السلام ولم يلقه ثم أسلم بعد موته عليه السلام أو في حياته إلا أنه لم يره معدودا في الصحابة ولو كان ذلك لكان كل من كان في عصره عليه السلام صحابيا ولا خلاف بين أحد في أن علقمة والأسود ليسا صحابيين وهما من الفضل والعلم والبر بحيث هما وقد كانا عالمين جليلين أيام عمر وأسلما في أيام النبي صلى الله عليه و سلم وإنما الصحابة الذين قال الله تعالى فيهم { محمد رسول لله ولذين معه أشدآء على لكفار رحمآء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من لله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر لسجود ذلك مثلهم في لتوراة ومثلهم في لإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فستغلظ فستوى على سوقه يعجب لزراع ليغيظ بهم لكفار وعد لله لذين آمنوا وعملوا لصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما }
ومن سمع النبي صلى الله عليه و سلم يحدث بشيء والسامع كافر ثم أسلم فحدث به وهو عدل فهو مسند صحيح واجب الأخذ به ولا خلاف بين أحد من العلماء في ذلك وإنما شرط العدالة في حين النذارة والمجيء بالخير لا في حين مشاهدة ما أخبر به وقد كان في المدينة في عصره عليه السلام منافقون بنص القرآن وكان بها أيضا من لا ترضي حاله كهيت المخنث الذي أمر عليه السلام بنفيه والحكم الطريد وغيرهما فليس هؤلاء ممن يقع عليهم اسم الصحابة
حدثني أحمد بن قاسم قال حدثني أبي قاسم بن محمد بن قاسم قال حدثني جدي قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي ثنا زكريا بن عدي ثنا علي بن مسهر عن صالح بن حيان عن أبي بريدة عن أبيه قال كان حي من بني ليث على ميلين من المدينة قال فجاءهم رجل وعليه حلة فقال إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كساني هذه الحلة وأمرني أن أحكم في دمائكم وأموالكم بما أرى قال وقد كان خطب منهم امرأة في الجاهلية فلم يزوجوه فانطلق حتى نزل على تلك المرأة فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال كذب عدو الله ثم أرسل رجلا فقال إن وجدته حيا ولا أراك تجده فاضرب عنقه وإن وجدته ميتا فاحرقه بالنار
قال علي فهذا من كان في عصره صلى الله عليه و سلم يكذب عليه كما ترى فلا يقبل إلا من سمي وعرف فضله وأما قدامة بن مظعون وسمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة وأبو بكرة رضوان الله عليهم فأفاضل أئمة عدول (2/211)
أما قدامة فبدري مغفور له بيقين مرضي عنه وكل من تيقنا أن الله عز و جل رضي عنه وأسقط عنه الملامة ففرض علينا أن نرضى عنه وأن لا نعدد عليه شيئا فهو عدل بضرورة البرهان القائم على عدالته من عند الله عز و جل وعندنا وبقوله عليه السلام إن الله اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم
وأما المغيرة بن شعبة فمن أهل بيعة الرضوان وقد أخبر عليه السلام ألا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة فالقول فيه كالقول في قدامة
وأما سمرة بن جندب فأحدي وشهد المشاهد بعد أحد وهلم جرا والأمر فيه كالأمر في المغيرة بن شعبة
وأما أبو بكرة فيحتمل أن يكون شبه عليه وقد قال ذلك المغيرة فلا يأثم هو ولا المغيرة وبهذا نقول وكل ما احتمل ولم يكن ظاهره يقينا فغير منقول عن متيقن حاله بالأمس فهما على ما ثبت من عدالتهما
ولا يسقط اليقين بالشك وهذا هو استصحاب الحال الذي أباه خصومنا وهم راجعون إليه في هذا المكان بالصغر منهم
فما منهم أحد امتنع من الرواية عن المغيرة وأبي بكرة معا وأبي بكرة وهو متأول
وأما سمرة فمتأول أيضا والمتأول مأجور وإن كان مخطئا وكذلك قدامة تأول أن لا جناح عليه وصدق لا جناح عليه عند الله تعالى في الآخرة بلا شك وأما في أحكام الدنيا فلا ولنا في الدنيا أحكام غير أحكام الآخرة
وكذلك كل من قاتل عليا رضوان الله عليه يوم صفين وأما أهل الجمل فما قصدوا قط قتال علي رضوان الله عليه ولا قصد علي رضوان الله عليه قتالهم وإنما اجتمعوا بالبصرة للنظر في قتلة عثمان رضوان الله عليه وإقامة حق الله تعالى فيهم فأسرع الخائفون على أنفسهم أخذ حد الله تعالى منهم وكانوا أعدادا عظيمة يقربون من الألوف فأثاروا القتال خفية حتى اضطر كل واحد من الفريقين إلى الدفاع عن أنفسهم إذ رأوا السيف قد خالطهم وقد جاء ذلك نصا مرويا
وإن العجب ليكثر ممن يبيح لأبي حنيفة ومالك والشافعي والأوزاعي والليث وسفيان وأحمد وداود رحمهم الله أن يجتهدوا في الدماء وفي الفروج وفي العبادات فيسفك هذا دما يحله باجتهاده ويحرمه سائد من ذكرنا فرجا ويحرمه الآخر ويحل أحدهم مالا ويحرمه الآخر ويوجب أحدهم حدا ويسقطه الآخر ويوجب أحدهم (2/212)
فرضا وينقضه الآخر ويحرم أحدهما عملا ويحله الآخر ولم يختلفوا قط إلا فيما ذكرنا فيجيز لهؤلاء الحكم فيما ذكرنا ويعذرهم في اختلافهم في استباحة الدماء فما دونها وليس عندنا من أمرهم إلا أنهم فيما بدا لنا مسلمون فاضلون يلزمنا توقيرهم والاستغفار لهم إلا أننا لا نقطع لهم بالجنة ولا بمغيب عقودهم ولا برضى الله عز و جل عنهم لكن نرجو لهم ذلك ونخاف عليهم كسائر أفاضل المسلمين ولا فرق ثم لا نجيز ذلك لعلي وأم المؤمنين وطلحة والزبير وعمار وهشام بن حكيم ومعاوية وعمرو والنعمان وسمرة وأبي الغادية وغيرهم وهم أئمة الإسلام حقا والمقطوع على فضلهم وعلى أكثرهم بأنهم في الجنة وهذا لا يخيل إلا على مخذول وكل من ذكرنا من مصيب أو مخطىء فمأجور على اجتهاده إما أجرين وإما أجرا وكل ذلك غير مسقط عدالتهم
وبالله تعالى التوفيق
فصل في حكم الخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم
قال علي وحكم الخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم أن يورد بنص لفظه لا يبدل ولا يغير إلا في حال واحدة وهي أن يكون المرء قد تثبت فيه وعرف معناه يقينا فيسأل فيفتي بمعناه وموجبه أو يناطر فيحتج بمعناه وموجبه فيقول حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم بكذا وأمر عليه السلام بكذا وأباح عليه السلام كذا ونهى عن كذا وحرم كذا والواجب في هذه القضية ما صح عن النبي صلى الله عليه و سلم وهو كذا
وكذلك القول فيما جاء من الحكم في القرآن ولا فرق وجائز أن يخبر المرء بموجب الآية وبحكمها بغير لفظها وهذا ما لا خلاف فيه من أحد في أن ذلك مباح كما ذكرنا
وأما من حدث وأسند القول إلى النبي صلى الله عليه و سلم وقصد التبليغ لما بلغه عن النبي صلى الله عليه و سلم فلا يحل له إلا أن يتحرى الألفاظ كما سمعها لا يبدل حرفا مكان آخر وإن كان معناهما واحدا ولا يقدم حرفا ولا يؤخر آخر وكذلك من قصد تلاوة آية أو تعلمها وتعليمها ولا فرق وبرهان ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم علم البراء بن عازب دعاء وفيه (2/213)
ونبيك الذي أرسلت فلما أراد البراء أن يعرض ذلك الدعاء على النبي صلى الله عليه و سلم قال وبرسولك الذي أرسلت فقال النبي عليه السلام لا ونبيك الذي أرسلت فأمره عليه السلام كما تسمع ألا يضع لفظة رسول في موضع لفظة نبي وذلك حق لا يحيل معنى وهو عليه السلام رسول ونبي فكيف يسوغ للجهال المغفلين أو الفساق المبطلين أن يقولوا إنه عليه السلام كان يجيز أن توضع في القرآن مكان وهو يمنع من ذلك في دعاء ليس قرآنا والله يقول مخبرا عن نبيه صلى الله عليه و سلم { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال لذين لا يرجون لقآءنا ئت بقرآن غير هذآ أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقآء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } ولا تبديل أكثر من وضع كلمة مكان أخرى أم كيف يسوغ لأهل الجهل والعمى إباحة القراءة المفروضة في الصلاة بالأعجمية مع ما ذكرنا ومع إجماع الأمة على أن إنسانا لو قرأ أم القرآن فقدم آية على أخرى أو قال الشكر للصمد مولى الخلائق وقال هذا هو القرآن المنزل لكان كافرا بإجماع ومع قوله تعالى { ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان لذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين } ففرق تعالى بينهما وأخبر أن القرآن إنما هو باللفظ العربي لا بالعجمي وأمر بقراءة القرآن في الصلاة فمن قرأ بالأعجمية فلم يقرأ القرآن بلا شك
والعجب أن قائل هذا الهجر لا يجيز الدعاء في الصلاة إلا بما يشبه ما في القرآن لا بتسمية المدعو لهم ولا بغير ذلك وقد جاء النص بإباحة الدعاء فيها جملة ويقول إن من عطس في الصلاة فقال الحمد لله رب العالمين فحرك بها لسانه فقد بطلت صلاته فسبحان من وفقهم لخلاف الحق في كلا الوجهين فيجيزون القراءة في الصلاة بخلاف القرآن ويبطلون الصلاة بذكر آية من القرآن ويمنعون من الدعاء فيها إلا بما في القرآن أو ما يشبهه ولا شبه للقرآن في شيء من الكلام بإجماع الأمة
واحتج بعضهم في ذلك بقوله تعالى { وإنه لفي زبر لأولين } وبخطابه تعالى لنا بالعربية حاكيا كلام موسى عليه السلام
قال علي وهذا لا حجة لهم فيه لأن الذي في زبر الأولين إنما هو معنى القرآن (2/214)
لا القرآن ولو كان القرآن في زبر الأولين لما كان محمد صلى الله عليه و سلم مخصوصا به ولا كانت فيه آية وهذا خلاف النصوص والخروج عن الإسلام لأنه لو أنزل على غيره قبله لما كان محمد صلى الله عليه و سلم مخصوصا به وأما حكايته تعالى لنا كلام موسى وغيره بلغتنا فلم يلزمنا تعالى قراءة ألفاظهم بنصها ولا نمنع من تلاوته في الصلاة وإنما نمنع من تلاوته في القرآن أو على سبيل التقريب بتلاوته إلى الله تعالى بغير اللفظ الذي أنزل به لا بكلام أعجمي ولا بغير تلك الألفاظ وإن وافقتها في العربية ولا بتقديم تلك الألفاظ بعينها ولا بتأخيرها وإنما نجيز الترجمة التي أجازها النص على سبيل التعليم والإفهام فقط لا على سبيل التلاوة التي نقصد بها القربة وبالله تعالى التوفيق
وبلا خلاف من أحد من الأمة أن القرآن معجزة وبيقين ندري أنه إذا ترجم بلغة أعجمية أو بألفاظ عربية غير ألفاظه فإن تلك الترجمة غير معجزة وإذ هي غير معجزة فليست قرآنا
ومن قال فيما ليس قرآنا إنه قرآن فقد فارق الإجماع وكذب الله تعالى وخرج عن الإسلام إلا أن يكون جاهلا ومن أجاز هذا وقامت عليه الحجة ولم يرجع فهو كافر مشرك مرتد حلال الدم والمال لا نشك في ذلك أصلا
وأيضا فقد قال تعالى مخبرا عن نبيه صلى الله عليه و سلم { وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى } فلما صح بنص القرآن أن كلامه عليه السلام وحي كله حرم بلا شك تحريف الوحي وإحالته كما حرم ذلك في الوحي المتلو الذي هو القرآن ولا فرق
ومن حدث بحديث فبلغه إلى غيره كما بلغه إياه غيره وأخذ عنه فليس عليه أن يكرره أبدا حتى يحصل في حد الهذيان وقد أدى ما عليه بتبليغه
قال أبو محمد وبهذا يبطل قول من رام توهين الحديث المسند بأن فلانا أرسله إذ لو كان سكوت المرء في بعض الأحيان عن تأدية ما سمع مسقطا للاحتجاج به إذ أداه في وقت آخر أو لم يؤده هو وأداه غيره لكان إذا نام أو أكل أو وطىء أو اشتغل بصلاة أو مصلحة دنياه أو بشيء من أمر دينه أو بتبليغ حديث آخر قد بطل الاحتجاج بما سكت عنه في الأحوال التي ذكرنا وهذا جنون فادح ممن قاله وكفى سقوطه بكل قول أخرج إلى الجنون وأدى إلى المحال والممتنع وبالله تعالى التوفيق (2/215)
وأما اللحن في الحديث فإن كان شيئا له وجه في لغة بعض العرب فليروه كما سمعه ولا يبدله ولا يرده إلى أفصح منه ولا إلى غيره وإن كان شيئا لا وجه له في لغة العرب البتة فحرام على كل مسلم أن يحدث باللحن عن النبي صلى الله عليه و سلم فإن فعل فهو كاذب مستحق للنار في الآخرة لأنا قد أيقنا أنه عليه السلام لم يلحن قط كتيقننا أن السماء محيطة بالأرض وأن الشمس تطلع من المشرق وتغرب من المغرب فمن نقل عن النبي صلى الله عليه و سلم اللحن فقد نقل عنه الكذب بيقين وفرض عليه أن يصلحه ويبشره من كتابه ويكتبه معربا ولا يحدث به إلا معربا
ولا يلتفت إلى ما وجد في كتابه من لحن ولا إلى ما حدث شيوخه ملحونا
ولهذا لزم لمن طلب الفقه أن يتعلم النحو واللغة وإلا فهو ناقص منحط لا تجوز له الفتية في دين الله عز و جل
ثنا يونس بن عبد الله ثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم ثنا أحمد بن خالد ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار بندار ثنا عمرو بن محمد بن أبي رزين ثنا سفيان الثوري عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه كان يضرب ولده على اللحن
قال علي اللحن المحكي عن الله تعالى ورسوله عليه السلام كذب والكذب واجب أن يضرب آتيه وقد روي عن شعبة أو عن حماد بن سلمة الشك مني أنه قال من حدث عني بلحن فقد كذب علي ونحن نقول ذلك وكان شعبة وحماد وخالد بن الحارث وبشر بن المفضل والحسن البصري لا يلحنون البتة وبالله تعالى التوفيق
فصل في زيادة العدل
قال علي وإذا روى العدل زيادة على ما روى غيره فسواء انفرد بها أو شاركه فيها غيره مثله أو دونه أو فوقه فالأخذ بتلك الزيادة فرض ومن خالفنا في ذلك فإنه يتناقض أقبح تناقض فيأخذ بحديث رواه واحد ويضيفه إلى ظاهر القرآن الذي نقله أهل الدنيا كلهم أو يخصه به وهم بلا شك أكثر من رواة الخبر الذي زاد عليهم آخر حكما لم يروه غيره وفي هذا التناقض من القبح ما لا يستجيزه ذوقهم وذو ورع (2/216)
وذلك كتركهم قول الله تعالى { ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم } لحديث انفردت به عائشة رضي الله عنها ولم يشاركها فيه أحد
وهو لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا ويترك قوله تعالى في الآيات التي ذكر فيها المحرمات من النساء
ثم قال تعالى بعد ذكر من ذكر { ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما } فحرموا الجمع بين المرأة وعمتها وليس ذلك مذكورا في آية التحريم بل فيها إحلال كل ما لم يذكر في الآية فتركوا ذلك لحديث انفرد به أبو هريرة وأبو سعيد وحدهما
وليس ذلك إجماعا فإن عثمان البتي يبيح الجمع بين المرأة وعمتها ثم يعترضون على حكم رواه عدل بأن عدلا آخر لم يرو تلك الزيادة وأن فلانا انفرد بها
قال علي وهذا جهل شديد وقد ترك أصحاب أبي حنيفة الزيادة التي روى مالك في حديث زكاة الفطر وهي من المسلمين فقالوا انفرد بها مالك
وترك أصحاب مالك الاستسعاء الذي رواه سعيد بن أبي عروبة وقالوا انفرد بها سعيد فكلا الطائفتين عابت ما فعلت وأنكرت ما أتت به مع أنه قد شورك من ذكرنا هاتين الزيادتين ولو انفردا بها ما ضر ذلك شيئا
ولا فرق بين أن يروي العدل الراوي العدل حديثا فلا يرويه أحد غيره أو يرويه غيره مرسلا أو يرويه ضعفاء وبين أن يروي الراوي العدل لفظة زائدة لم يروها غيره من رواة الحديث وكل ذلك سواء واجب قبوله بالبرهان الذي قدمناه في وجوب قبول خبر الواحد العدل الحافظ وهذه الزيادة وهذا الإسناد هما خبر واحد عدل حافظ ففرض قبولهما ولا نبالي روى مثل ذلك غيرهما أو لم يروه سواهما ومن خالفنا فقد دخل في باب ترك قبول الخبر الواحد ولحق بمن أتى ذلك من المعتزلة وتناقض في مذهبه وانفراد العدل باللفظة كانفراده بالحديث كله ولا فرق
قال علي فإن كانت اللفظة الزائدة ناقصة من المعنى فالحكم للمعنى الزائد (2/217)
لا للفظة الزيادة لأن زيادة المعنى هو العموم وهو الزيادة حينئذ على الحقيقة وهو الحكم الزائد والشرع الوارد والأمر الحادث ولأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما بعث شارعا ومحلالا ومحرما وهكذا قال ابن عباس إذ ذكر عنده الضب
فإذا روى العدل لفظة لها حكم زائد لم يروها غيره أو رواها غيره أو روى العدل عموما فيه حكم زائد وروى آخرون لفظة فيها إسقاط ذلك الحكم فالفرض أن يؤخذ بالحكم الزائد أبدا لأنه شريعة واردة قد تيقنا لزومها لنا وأننا مأمورون بها ولم نتيقن نسخها ولا سقوطها ولا يجوز ترك يقين لظن
فمن ادعى تلك الشريعة التي قد صح أمر الله عز و جل لنا بها قد سقطت عنا وأن الحكم قد رجع إلى ما كنا عليه قبل ورود تلك الشريعة فهو مفتر على الله عز و جل إلا أن يأتي ببرهان من نص أو إجماع على دعواه ولا يحل لمسلم يخاف الله عز و جل أن يترك يقينا لما لعله ليس كما يظن
قال علي ونمثل من ذلك مثالا فنقول روى بعض العدول عن رسول الله صلى الله عليه و سلم النهي عن آنية الفضة هكذا مجملا وروى بعضهم النهي عن الشرب في آنية الفضة فكانت هذه اللفظة يعني الشرب ناقصة عن معنى الحديث الآخر الذي فيه إجمال النهي عن آنية الفضة نقصانا عظيما ومبيحة لعظائم في عموم ذلك الحديث إيجاب تحريمها من الأكل فيها والاغتسال فيها والوضوء فيها فهذه اللفظة وإن كانت زائدة في الصوت والخط فهي ناقصة من المعنى والحديث الآخر وإن كان ناقص اللفظ فهو زائد في الحكم والمعاني فهو الذي لا يجب الأخذ به لأن الحديث المذكور فيه الشرب هو بعض ما في الحديث الآخر
وهذا نحو ما قلنا في الحديثين في زكاة الغنم اللذين ذكر في أحدهما السائمة ولم يذكر في الآخر فوجب الأخذ بالعام للسائمة وغيرها لأن من أخذ بالحديث العام كان آخذا بالخاص أيضا لأنه إذا اجتنب آنية الفضة جملة كان قد اجتنب الشرب في جملة ما اجتنب أيضا وإذا زكى الغنم كلها كان زكى السائمة أيضا
فكان آخذا بكلا الأمرين وغير عاص لشيء من النصين وكان من آخذ بالحديث الأخص وحده عاصيا للحديث الآخر تاركا له بلا دليل إلا التحكم والدعوى بغير علم لأنه إذا زكى السائمة وحدها فقد ترك زكاة غير السائمة وخالف ما أوجبه الحديث الآخر (2/218)
وكان إذا اجتنب الشرب في آنية الفضة وحدها كان قد عصى ما في النص الآخر والاستباح ما حرم الله تعالى فيه وذلك لا يحل لأنه ليس أحد النصين أولى بالطاعة من الآخر وليس أحدهما نافيا للآخر ولا مبطلا له
ومن ذلك أيضا ما روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عامل أهل خيبر على نصف ما يخرج منها فكان هذا عاما لكل ما يخرج منها زرعا أو خضرا أو ثمارا وروى بعضهم هذا الحديث بعينه فقال من ثمر النخل فمن أخذ بالمساقاة في ثمر النخل خاصة وحظر ما سوى ذلك كان مخالفا لفعل رسول الله صلى الله عليه و سلم المنقول في لفظ العموم وليس قول من قال في ثمر النخل بمبطل أن يكون ساقاهم وعاملهم وزارعهم أيضا في غير ثمر النخل ولكن هذا الراوي ذكر بعض ما عوملوا عليه وسكت عن بعض وعم غيره كل ما وقعت فيه المعاملة وكان هذا الحديث ناسخا لحديث النهي عن المزارعة بيقين
لأنه آخر فعله عليه السلام بلا شك الذي ثبت عليه إلى أن مات وحديث النهي عن المزارعة كان قبله بلا شك فلذلك قطعنا أنه منسوخ ولولا هذا البيان ما استجزنا ذلك
قال علي ومن هذا الباب أن يشهد عدلان أن زيدا طلق امرأته وقال سائر من حضر المجلس وهم عدول
لم يطلقها البتة فلا نعلم خلافا في وجوب الحكم عليه بالطلاق
وإنفاذ شهادة من شهد به لأن عندهما علما زائدا شهدا به لم يكن عند سائر من حضر المجلس وهذا نفسه هو قبول زيادة العدل ولا فرق وإن انفرد بها وإنها كسائر نقله وليس جهل من جهل حجة على علم من علم ولا سكوت عدل مبطلا لكلام عدل آخر ولا فرق بين أن ينفرد بالحديث كله وبين أن ينفرد بلفظة منه أو بحكم زائد فيه
وقد وافقنا من يخاصم في هذا المعنى على قبول ما انفرد به العدل من الأخبار وخالفونا في قبول الزيادة بلا دليل إلا التحكم بالدعوى فقط إلا أن بعضهم رام أن يحتج فأضحك من نفسه وذلك أنه قال قد وافقناكم على قبول الخبر إذا سلم من الزيادة انفرد بها بعض الرواة ومن إرسال غير هذا الراوي له ومن مخالفة من هو أعدل منه وأحفظ في لفظه وخالفناكم في قبوله إذا كان فيه شيء من هذه المعاني
قال علي فيقال له وبالله تعالى التوفيق هذا يشبه تمويه اليهود إذ يقولون قد وافقناكم على قبول نبوة موسى صلى الله عليه و سلم ووجوب شريعته وترك العمل في السبت وأن ذلك كله قد أمر به الله تعالى وخالفناكم في قبول نبوة محمد صلى الله عليه و سلم ووجوب شريعته (2/219)
قال علي وهذا احتجاج من لا حجة له وتمويه ضعيف وذلك أننا لم نقبل نبوة موسى صلى الله عليه و سلم لأجل موافقتهم لنا عليهم ولا نبالي وافقونا عليها أم خالفونا كما لم نبال بتكذيب المجوس والمنانية والصابئين لنبوة موسى عليه السلام وإنما أخذنا بقبول نبوته عليه السلام لقيام البراهين على صحتها وبمثل تلك البراهين نفسها وجب قبول نبوة محمد صلى الله عليه و سلم ولا فرق والحق إذا ثبت برهانه فلا معنى لقبول من قبله ولا يزيده ذلك صحة ولا معنى لمخالفة من خالفه ولا يضره ذلك شيئا ونفسه ضر المخالف ولم يضر الحق
وكذلك الشيء إذا لم يقم على صحته برهان فلا معنى لقبول من قبله ولا يصححه ذلك وكذلك قبول خبر الواحد لم نأخذ به لأن الحنفيين والمالكيين وافقونا على قبوله وما نبالي وافقونا أم خالفونا كما لم نبال بخلافهم لنا في القياس والتقليد وكما لم نبال بخلاف من خالفنا من المعتزلة وغيرهم في قبول خبر الواحد وإنما أخذنا بقبول خبر الواحد لقيام البرهان على وجوب القول به
وبتلك الدلائل والبراهين بأعيانها وجب اطراح العلل التي راموا بها الأخذ بالزيادة وبما أرسله عدل وأسنده عدل وما خولف فيه راويه وبذلك البرهان نفسه وجب قبول الزيادة وإن انفرد بها العدل وتصحيح ما أسنده العدل وإن أرسله غيره وسواء كان أعدل منه أو أحفظ أو مثله أو دونه وصح أن ما خالف هذا الحكم هذيان لا معنى له وإنما يلزم الاحتجاج بما موهوا به غير موضعه ففي حكم لم نراع فيه غير الإجماع المتيقن به إذا ثبت وفيما لولا الإجماع المذكور لم نقل به مما قد أمرنا باتباع الإجماع المتيقن المقطوع به فيه مما لم يأت فيه نص محفوظ اللفظ وإن كان أصل ذلك الإجماع لا يمكن البتة أن يكون إلا عن نص وذلك مثل المسائل التي وجدنا فيها خلافا من واحد فما فوقه لم نقل بها ولا برهان عندنا فيها إلا الإجماع وحده وذلك مثل القراض الذي لولا الإجماع على جوازه لاتصال نقل الأعصار به عصرا بعد عصر بأنه كان القراض في الجاهلية مشهورا وأن النبي صلى الله عليه و سلم أقره ولم ينه عنه وهو يعلمه فاشيا في قريش وكانوا أهل تجارة ولا عيش لهم إلا منها لم نجزه ولو وجدنا واحدا من العلماء يقول بإبطاله لوافقناه ولقلنا بقوله إذ لا نص في إباحته ولأنه شرط لم يأت به نص وكل شرط هذه صفته فإن لم يتفق على صحته فهو باطل بقوله عليه السلام كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل فما كان من هذا النوع فإنا نراعي في مسائله الإجماع فما أجمعوا عليه منها قلنا به (2/220)
وما اختلف فيه أسقطناه بالبتة لأنه قد بطل الإجماع فيه والإجماع هو برهان صحته الذي لا برهان لصحته سواه وما بطل برهان صحته فقد بطل القول به وأما ما قام برهان على صحته من غير الإجماع
فلا ينبغي أن يلتفت من وافق عليه ولا من خالف ولا يتكثر بمن وافق فيه كائنا من كان ولا يستوحش ممن خالف فيه كائنا من كان
ولو كان ما ذكر هذا المغفل حجة لساغ للحنيفي أن يقول قد وافقتموني على وجوب قطع يد من سرق ما يساوي عشرة دراهم وخالفتكم في قطع من سرق أقل من ذلك فلا يلزمني إلا ما اتفقنا عليه لا ما اختلفنا فيه
ولساغ له أن يقول قد وافقتموني على أن القصر يكون من ثلاثة أيام فصاعدا واختلفنا في أقل فلا يجب إلا ما اتفقنا عليه
ولساغ له أن يقول قد وافقتموني على أن الصداق يكون عشرة دراهم وخالفتكم في أقل من ذلك فلا يصح إلا ما اتفقنا عليه لا ما اختلفنا فيه
ولساغ للمالكي أن يقول قد وافقتموني على أن المغتسل إذا تدلك تم غسله وخالفتكم فيه إذا لم يتدلك فلا يجب إلا ما اتفقنا عليه دون مما اختلفنا فيه ووافقتموني على أن من وقف بعرفة ليلا أن وقوفه صحيح وخالفتكم فيمن وقف نهارا ودفع قبل غروب الشمس فلا يصح إلا ما اتفقنا عليه دون ما اختلفنا فيه
ولساغ له أن يقول قد وافقتكم على أن الصوم إذا سلم من الأكل بالنسيان تام وخالفتكم في تمامه إذا وقع فيه أكل بنسيان فلا يتم إلا ما اتفقنا عليه دون ما اختلفنا فيه
ولساغ للشافعي أن يقول لهما قد وافقتماني على أن من قرأ { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا } في صلاته أنها تامة وخالفتكم في تمام صلاة من لم يقرأها ووافقتماني على تمام صلاة من صلى على رسول الله صلى الله عليه و سلم في آخر تشهده وخالفتكم في تمام صلاة من لم يصل عليه صلى الله عليه و سلم ووافقتماني في جواز صيام من بيته كل ليلة وخالفتكم في صيام من لم يبيته فلا يصح إلا ما اتفقنا عليه دون ما اختلفنا فيه
وللزمهم أن يكتفوا منا بأن نقول لهم قد وافقتمونا على قبول النصوص والإجماع وخالفناكم في القول بالقياس فلا يلزم إلا ما اتفقنا عليه دون ما اختلفنا فيه ومثل هذا كثير جدا يقوم منه عشرات ألوف من المسائل فلما لم يكن كل ما ذكرنا حجة (2/221)
لأنه كلام موضوع في غير موضعه سقط شغب من قال قد اتفقنا عن قبول الخبر إذا عري من زيادة أو مخالفة واختلفا في قبول الزيادة وبحكم العقل ندري أن كل من رضي لنفسه على خصمه بما لا يرضى على نفسه لخصمه فجاهل أو مجنون أو وقاح لا بد له من أحد هذه الوجوه وهي كلها خطط خسف ونعوذ بالله العظيم منها اللهم إلا أن يكون خصمه رضي بحكم ما فله أن يلزمه حينئذ إياه وإن لم يلزمه هو وبالله تعالى التوفيق
فصل في إبطال ترجيح الحديث بعمل أهل المدينة
وإبطال الاحتجاج بعملهم أيضا وبيان السبب في الاختلاف الواقع بين سلفنا من الأئمة في صدر هذه الأمة والرد على من ذم الإكثار من رواية الحديث ذهب أصحاب مالك إلى أنه لا يجوز العمل بالخبر حتى يصحبه العمل
قال علي وهذا من أفسد قول وأشده سقوطا فأول ذلك أن هذا العمل الذي يذكرون قد سألهم من سلف من الحنفيين والشافعيين وأصحاب الحديث من أصحابنا منذ مائتي عام ونيف وأربعين عاما عمل من هو هذا العمل الذي يذكرون فما عرفوا عمل من يريدون ولا عجب أعجب من جهل قوم بمعنى قولهم وشرح كلامهم
وسنبين هذا بعد صدر من كلامنا في هذا الفصل إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق
ويقال لمن قال لا أقبل الخبر حتى يصحبه العمل أللعمل أول أم لا أول له فإن قال لا أول له جاهر بالكذب ولحق بالدهرية وإن قال له أول قيل له وبالله تعالى التوفيق يجب على قولك أن ذلك العمل الأول باطل لا يجوز اتباعه لأنه ابتدىء فيه بعمل بخبر لم يعمل به قبل ذلك والخبر لا يجوز اتباعه حتى يعمل به فهذا العمل قد وقع قبل أن يعمل بالخبر فهو باطل على حكمكم الفاسد المؤدي إلى الهذيان وإلى ألا يصح عمل بخبر أبدا وكفى سقوطا بقول أدى إلى ما لا يعقل وكثير مما يقتحمون مثل هذا كقولهم في معنى قول رسول الله صلى الله عليه و سلم البيعان بالخيار ما لم يتفرقا وكقولهم في أن الركعة الثانية من صلاة من يقضي صلاة أدرك منها ركعة مع (2/222)
الإمام هي قبل الأولى والثالثة قبل الثانية وهذا كما ترى لا يعقل وحسبنا الله ونعم الوكيل
وإذا كان ما ذكروا من أنه لا يجوز أن يعمل بخبر حتى يعمل به قبل هذا العمل وكان الخبر قد وجد وقتا من الدهر قبل أن يعمل له فلا يجوز أن يصح العمل بخبر أبدا وإذا كان ذلك فكل عمل بخبر من الأخبار فهو باطل والباطل لا يصحح الحق ولا يحقق الباطل ولا يثبت به شيء
ويقال لهم أيضا أرأيتم الخبر المسند الصحيح قبل أن يعمل به أحق هو أم باطل ولا بد من أحد هذين فإن قالوا حق فسواء عمل به أو لم يعمل به ولولا يزيد الحق درجة في أنه حق أن يعمل به ولا يبطله أن يترك العمل به أن أهل الأرض كلهم أصفقوا على معصية محمد صلى الله عليه و سلم ما كان ذلك مسقطا لوجوب طاعته وقد فعلوا ذلك في أول مبعثه صلى الله عليه و سلم فما كان ذلك مبطلا لصحة قوله ولو آمن به جميع أهل الأرض وأطاعوه ما زاد قوله عليه السلام منزلة في الصحة على ما كان عليه قبل أن يقبله أو يعمل به أحد من الناس ونفسه ضر تارك العمل بالحق ولم يضر الحق شيئا وكذلك لو أصفق أهل الأرض كلهم على نبوة مسيلمة لعنه الله ما حققها ذلك وإذا أجمعوا على الكفر به ما زاد ذلك في قوله في البطلان على ما كان عليه حين نطقه به
وإن قالوا الخبر باطل قبل العمل به فالباطل لا يحققه العمل له ولا يزيد الله بالعمل بالباطل إلا ضلالا وخزيا فثبت بالبرهان الضروري أن لا معنى للعمل ولا ينبغي أن يلتفت إليه ولا يعبأ به وقد أصفق أهل الأرض كلهم على العمل بشرائع الكفر قبل مبعث محمد صلى الله عليه و سلم فما صححها ذلك
قال علي وهذه لفظة قذفها الشيطان في قلوبهم وطرحها على ألسنتهم وأيد ذلك الجهل والعصبية المردية وبالله نستعيذ من البلاء وإياه نستعين على إدراك الصواب وبالله تعالى التوفيق
ثم نقول لهم متى أثبت الله العمل بالخبر الصحيح أقبل أن يعمل به أم بعد أن يعمل به فإن قالوا قبل أن يعمل به فهو قولنا وإن قالوا بعد أن يعمل به (2/223)
لزمهم أن العاملين به هم الذين شرعوا تلك الشريعة وهذا كفر من قائله ولم يبق لهم إلا أن يقولوا لما ترك العمل بالخبر علمنا أنه منسوخ وهذا هو باب الإلهام الذي ادعته الروافض لأنفسها لأنه قول بلا برهان
قال علي وإنما هذا كله بعد أن يعرفوا عمل من يريدون وأما وهم لا يدرون عمل من يعنون فلسنا نحتاج أن نبلغ معهم ههنا وقد حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال عن يزيد بن إبراهيم التستري ثنا زريق وكان عاملا لعمر بن عبد العزيز على أيلة قال كتبت إلى عمر بن عبد العزيز في عبد آبق سرق وذكرت أن أهل الحجاز لا يقطعون العبد الآبق إذا سرق قال فكتب إلي كتبت إلي في عبد آبق سرق وذكرت أن أهل الحجاز لا يقطعون الآبق إذا سرق وإن الله تعالى يقول { ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم } الآية فإن كان قد سرق قدر ما يبلغ ربع دينار فاقطعه به
وبه إلى حجاج بن المنهال ثنا الربيع بن صبيح قال سألت نافعا مولى ابن عمر أو سأله رجل وأنا شاهد على الرهن والقبيل في السلف والورق والطعام إلى أجل مسمى قال لا أرى بذلك بأسا
فقلت له إن الحسن يكرهه قال لولا أنكم تزعمون أن الحسن يكرهه ما رأيت به بأسا فأما إذا كرهه الحسن فهو أعلم به فهذا عمر بن عبد العزيز لم يبال بعمل أهل الحجاز إذ وجد القرآن بخلاف وهذا نافع مولى ابن عمر من كبار فقهاء أهل المدينة توقف في فتياه إذ خالفه الحسن وهو عراقي
ثم نسألهم فنقول لهم عمل من تريدون أعمل أمة محمد صلى الله عليه و سلم كلهم أم عمل عصر دون عصر أم عمل محمد صلى الله عليه و سلم أم عمل أبي بكر أم عمل عمر أم عمل عثمان ولم يكن في المدينة إمام غير هؤلاء أم عمل صاحب من سكان المدينة بعينه أم عمل جميع فقهاء المدينة أم عمل بعضهم ولا سبيل إلى وجه غير ما ذكرنا
فإن قالوا عمل أمة محمد صلى الله عليه و سلم كلها بان كذبهم لأن الخلاف بين الأمة أشهر من ذلك وهم دأبا إنما يتكلمون على من يخالفهم فإن كانت الأمة مجمعة على قولهم (2/224)
فمع من يتكلمون إذا وإن قالوا عصرا ما دون سائر الأعصار بان كذبهم أيضا إذ كل عصر فالاختلاف بين فقهائه موجود منقول مشهور ولا سبيل إلى وجود مسألة اتفق عليها أهل عصر ما ولم يكن تقدم فيها خلاف قبلهم ثم اختلف فيها الناس
هذا ما لا يوجد أبدا
فإن قالوا عمل رسول الله صلى الله عليه و سلم أريناهم أنهم أترك الناس لعمله عليه السلام بل لآخر عمله فإنهم رووا أن آخر عمله كان الإفطار في رمضان في السفر والنهي عن صيامه فقالوا هم الصوم أفضل وكان آخر عمله عليه السلام الصلاة بالناس جالسا وهم أصحاء وراءه إما جلوس على قولنا وإما قيام على قول غيرنا
فقالوا هم صلاة من صلى كذلك باطل ورووا في الموطأ أنه صلى الله عليه و سلم كان إذا اغتسل من الجنابة أفاض الماء على جسده فقالوا هم طهور من تطهر كذلك باطل حتى يتدلك
ورووا أنه صلى الله عليه و سلم كان يرفع يديه في الصلاة إذا ركع وإذا رفع فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه صلى الله عليه و سلم صلى فقرأ بالطور في المغرب وبالمرسلات وكان ذلك في آخر عمره صلى الله عليه و سلم فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه صلى الله عليه و سلم كان إذا أم الناس فأتم أم القرآن قال آمين قالوا ليس عليه العمل
ورووا أنه عليه السلام سجد في { إذا لسمآء نشقت } فقالوا ليس عليه العمل
ورووا أنه صلى الله عليه و سلم صلى بالناس جالسا وهم جلوس وراءه فقالوا صلاة من صلى كذلك باطل وليس عليه العمل ورووا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ابتدأ بالصلاة بالناس فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فدخل فجلس إلى جنب أبي بكر رضي الله عنه فأتم عليه الصلاة بالناس فقالوا ليس عليه العمل ومن صلى هكذا بطلت صلاته ومن البديع أن بعضهم قال صلاته عليه السلام في غزوة تبوك خلف عبد الرحمن بن عوف ناسخة لهذا العمل
قال علي وهذا كلام لو قيل لقائله أسف ما شئت واجتهد ما قدر بأن يأتي بأكثر مما أتى به لوجهين أحدهما أن صلاته عليه السلام خلف عبد الرحمن بن عوف التي ادعوا أنها ناسخة كانت في تبوك وصلاته عليه السلام إلى جنب أبي بكر التي ادعوا أنها منسوخة كانت قبل موته عليه السلام بخمس ليال فقط وهي آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه و سلم بالناس فكيف ينسخ أمر كان قبل موته عليه السلام بأشهر أمرا (2/225)
كان قبل موته عليه السلام بخمس ليال أيفوه بهذا من له مسكة عقل أو يحل لمن هذا مقدار علمه وعقله أن يتكلم في دين الله عز و جل وصدق رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا يقول إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاهموه انتزاعا ولكن ينزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون
قال علي والوجه الثاني من سقوط كلام هذا الجاهل أنه حتى لو كانت صلاته عليه السلام خلف عبد الرحمن بعد صلاته خلف أبي بكر ما كان فيها نسخ لها لأنه ليس في صلاته خلف عبد الرحمن نهي عما في صلاته خلف أبي بكر ولا مخالفة بل هو حكم آخر وعلم آخر وفي الاحتجاج المذكور عبرة لمن اعتبر ولهم مثله كثير
ورووا أنه عليه السلام جمع بين الظهر والعصر في غير خوف ولا سفر فقال مالك أرى ذلك كان من مطر
فقالوا ليس عليه العمل لا في مطر ولا في غيره ورووا أنه عليه السلام أتي بصبي فبال على ثوبه فدعا بماء فأتبعه إياه ونضحه ولم يغسله
فقالوا ليس عليه العمل وهذا لا يطهر الثوب ومن صلى بثوب هذا صفته صلى بنجس فعلموا نبيهم صلى الله عليه و سلم ما لم يكن في علمه وجعلوه مصليا بثوب نجس تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ورووا أنه عليه السلام صلى بالناس وهو يحمل أمامة بنت أبي العاص على عنقه فقالوا ليس عليه العمل وهذا إسقاط للخشوع
قال علي هذا كلام من قاله منهم ناسبا لسقوط الخشوع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد كفر وارتد وحل دمه وماله ولحق باليهود والنصارى ومن نسب ذلك إلى المقتدي بالنبي صلى الله عليه و سلم ولم ينسبه إلى المقتدي به فقد توقح ما شاء وسخف وهما خطتا خسف لا بد من إحداهما
وأظرف من كل ظريف أنهم احتجوا بهذا الحديث نفسه في أن الصلاة لا تبطل على من صلاها وهو حامل نجاسة فعصوا الحديث فيما ورد فيه وجاهروا بالكذب في أن يستبيحوا به ما ليس فيه ولهم مثله كثير ورووا أنه عليه السلام كان يقرأ في صلاة العيد بسورة { ق ولقرآن لمجيد } { قتربت لساعة ونشق لقمر } فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه عليه السلام كان يقبل في رمضان نهارا فقالوا نكره ذلك لشاب وليس (2/226)
عليه العمل ورووا أنه عليه السلام
صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد
فقالوا ليس عليه العمل وقال شيخ منهم كبير عندهم صغير في الحقيقة هذا إدخال الجيف في المسجد فنعقب عاقبة الله على نبيه صلى الله عليه و سلم ورووا أنه صلى الله عليه و سلم صلى على النجاشي وهو غائب وأصحابه رضي الله عنهم خلفه صفوف فقالوا ليس عليه العمل
ورووا أنه صلى الله عليه و سلم صلى على قبر فقالوا ليس عليه العمل ثم احتجوا بهذا الحديث في إباحة الصلاة إلى القبور فعصوا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم في نهيهم عما جاء به العمل الصحيح وافتروا في الحديث ما ليس فيه وراموا بذلك إبطال نهي صحيح قد ثبت لا يحل خلافه ورووا أنه عليه السلام أعطى القاتل السلب وقضى بذلك فقالوا ليس عليه العمل إلا أن يرى الإمام ذلك ورووا أنه عليه السلام أباح النكاح بخاتم حديد فقالوا ليس عليه العمل وهذا نكاح لا يجوز ولا بد من ربع دينار تحكما من آرائهم الفاسدة وقياسا على ما تقطع فيه اليد عندهم فهلا قاسوه على ما يستباح به الظهر من جرعة خمر لا تساوي فلسا على أن إيلام الظهر أشبه باستباحة الفرج من قطع اليد باستباحة الفرج لأن الفرج والظهر عضوان مستوران والظهر والفرج لا يقطعان واليد تقطع وتبان فأحاط الخطأ بهم من كل وجه
ورووا أنه عليه السلام أنكح رجلا امرأة بسورة من القرآن فقالوا ليس عليه العمل
وهذا لا يجوز
ورووا أنه صلى الله عليه و سلم قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة فقالوا ليس عليه العمل ولكن إن كان جنين حرة ففيه خمسون دينارا وإن كان جنين أمة ففيه عشر قيمة أمة قياسا على بيضة النعامة يكسرها المحرم فأخطؤوا في خلافهم حكم الله تعالى ورسوله عليه السلام وأخطؤوا في شرعهم ما لم يأذن به الله تعالى وتحكموا في القيمة بلا برهان ولا هدى من الله تعالى وأخطؤوا في تفريقهم بين جنين الحرة وجنين الأمة بلا دليل في قياس جنين الأمة على بيضة النعامة خطأ يضحك في إيجابهم في بيضة النعامة عشر البدنة وهم لا يرون الاشتراك في الهدي وكل ذلك بلا دليل وبالله تعالى التوفيق
وروي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ودى عبد الله بن سهل وهو حضري مدني مائة من الإبل فقالوا ليس عليه العمل ولا يودي بالإبل إلا أهل البادية وأما أهل الحاضرة (2/227)
فلا يودون إلا بالدنانير والدراهم وتعلقوا في ذلك بعمر وهم قد خالفوا عمر في هذا المكان نفسه لأن عمر كما جعل على أهل الذهب الذهب وعلى أهل الفضة الفضة وكذلك جعل على أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الغنم ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة فقالوا ليس على فعل عمر العمل في البقر والغنم والحلل
وإنما نفعل فعله في الذهب والورق والإبل خاصة
ورووا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جعل القسامة في قتيل وجد بخيبر فقالوا ليس عليه العمل ولا يعجز أحد عن أن يلقي قتيلا قتله في دور قوم آخرين فخالفوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وخالفوا عمل عمر في القسامة أيضا
واحتج إسماعيل في ذلك ببقرة بني إسرائيل فأتى بحديث لم يأت به قرآن ولا خبر عن النبي وإنما هي خرافة في خرافات أهل الكتاب ولو صح قولهم لكانت آية معجزة عظيمة لا يقدرون على مثلها أبدا وتلك الآية لم يكن فيها قسامة فقد خالفوا عمل بني إسرائيل أيضا وقالوا إنما القسامة في دعوى المريض أن فلانا قتله وقد أبطل النبي صلى الله عليه و سلم أن يقبل قول أحد في ادعائه دم أحد أو ماله فقبلوا دعواه في الدم ولم يتهموه وأبطلوا دعاواه في المال واتهموه وكفى بذكر هذا عن تكلف رد عليه ورووا أنه عليه السلام رجم يهوديين زنيا
فقالوا ليس عليه العمل ولا يجوز رجمهم وأتى بعضهم في ذلك بعظيمة تخرج عن الإسلام
وذلك أن قال إنما رجمهما رسول الله صلى الله عليه و سلم تنفيذا لما في التوراة
فجعلوه عليه السلام منفذا لأحكام اليهود وصانوا أنفسهم الدنية الساقطة عن ذلك ويعيذ الله تعالى نبيه وخيرته من الإنس أن يحكم بغير ما أمره الله به وقد أمره الله تعالى أن يقول { قل لا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي لأعمى ولبصير أفلا تتفكرون } ورووا أنه عليه السلام قضى بالتغريب على الزاني غير المحصن فقالوا لا نغرب العبد لأنه ضرر بسيده ولم يراعوا في تغريب الحر الضرر بزوجته وولده وماله وأبويه إن كان له أبوان
ورووا أنه عليه السلام احتجم وهو محرم
فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه عليه السلام تطيب لإحرامه قبل أن يحرم فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه عليه (2/228)
السلام تطيب لحله قبل أن يطوف بالبيت فقالوا ليس عليه العمل
ورووا أنه عليه السلام قضى بإبطال كل شرط ليس في كتاب الله عز و جل فأجازوا أزيد من ألف شرط ليس منها واحد في كتاب الله
منها من شرط لأهل دار الحرب النزول في دار الإسلام بأسرى المسلمين وسبايا المسلمات يطؤونهن ويردونهن إلى بلاد الكفر ويستخدمونهم ويهبونهم ويبيعونهم وهذا شرط لا يجيزه إلا إبليس ومن اتبعه
ورووا أنه عليه السلام قسم خيبر
فقالوا ليس عليه العمل وتركوا ذلك لإيقاف عمر الأرض مع إقرارهم بأنهم لا يعرفون كيف عمل عمر في ذلك أفيكون أعجب من ترك عمل مشهور متيقن على النبي صلى الله عليه و سلم مع جميع أصحابه لعمل مجهول لا يدرون كيف وقع بإقرارهم من عمل عمر وقد خالفه في ذلك الزبير وبلال وغيرهما ورووا أنه عليه السلام قضى بإيجاب الولاء لمن أعتق فقالوا من أعتق سائبة فلا ولاء له
قال علي فهذا ما تركوا فيه عمل رسول الله صلى الله عليه و سلم من روايتهم في الموطأ خاصة ولو تتبعنا ذلك من رواية غيرهم لبلغ أضعاف ما ذكرنا وما خالفوا فيه أوامره عليه السلام من روايتهم ورواية غيرهم أضعاف ذلك ولعل ذلك يتجاوز الألوف فقد بطل كما ترى ما ادعوه من اتباع عمل النبي صلى الله عليه و سلم وثبت أنهم أترك خلق الله لعمل نبي الله صلى الله عليه و سلم ثم لآخر عمله ولعمل الأئمة بعده
فإن قالوا عمل أبي بكر
قلنا لهم وبالله التوفيق لم ترووا في الموطأ عن أبي بكر رضي الله عنه إلا عشر قضايا خالفتموه منها في ثمان
ورووا عنه أنه صلى بالبقرة ركعتين ووراءه المهاجرون والأنصار من أهل المدينة فقالوا ليس عليه العمل
ورووا عنه أن قرأ في الثالثة من المغرب بعد أم القرآن { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت لوهاب } الآية
فقالوا ليس عليه العمل
ورووا عنه أنه أمر أميرا له وجهه إلى الشام ألا يقطع شجرا مثمرا فقالوا ليس عليه العمل وجائز قطع الشجرة المثمر في دار الحرب
ورووا أنه أمره ألا يعقر شاة ولا بعيرا إلا لمأكله
فقالوا ليس عليه العمل وجائز عقرها في دار الحرب لغير مأكله وهذا مما خالفوا فيه قضاء النبي صلى الله عليه و سلم وأبي بكر معا (2/229)
لآرائهم
ورووا أنه نهاه عن تخريب العامر فقالوا ليس عليه العمل ولا بأس بتخريبه
ورووا عنه أنه ابتدأ الصلاة بالناس فكبر ثم أتى النبي صلى الله عليه و سلم فتخلل الصفوف فصفق الناس فتأخر أبو بكر وتقدم النبي صلى الله عليه و سلم فأتم الصلاة بالناس
فقالوا هذه صلاة لا تجوز وليس عليه العمل فخالفوا كما ترى عمل النبي صلى الله عليه و سلم وعمل أبي بكر وعمل جميع من حضر ذلك من المهاجرين والأنصار وهم أهل العلم من أهل المدينة برأي من آرائهم الفاسدة
ورووا أنه أمر يهودية أن ترقي عائشة رضي الله عنها
فقالوا ليس عليه العمل ونكره رقى أهل الكتاب
هذا من روايتهم في الموطأ وأما من رواية غيرهم فكثير
ومما خالفوه أيضا سبيه نساء أهل الردة وصبيانهم وعمله بذلك في المدينة مع المهاجرين والأنصار إلا من خالفه في ذلك منهم فقالوا ليس عليه العمل
فإن قالوا عمل عمر قيل لهم وبالله تعالى التوفيق رويتم عن عمر رضوان الله عليه أنه قرأ في صلاة الصبح بسورة الحج وسورة يوسف ووراءه أهل المدينة من الأنصار والمهاجرين
فقالوا ليس عليه العمل
ورووا أنه سجد في الحج سجدتين فقالوا ليس عليه العمل
ورووا أنه سجد في سورة النجم سجدة
فقالوا ليس عليه العمل وهذا مما خالفوا فيه عمل النبي صلى الله عليه و سلم وعمر وجميع الصحابة وادعوا في ذلك علما خفي عنهم
ورووا أنه نزل عن المنبر يوم الجمعة وهو يخطب فسجد وسجد معه المهاجرون والأنصار ثم رجع إلى خطبته
فقالوا ليس عليه العمل
ورووا أمر أبيا وتميما أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة في ليالي رمضان فقالوا ليس عليه العمل
ورووا أن الناس كانوا يقومون أيام عمر بثلاث وعشرين ركعة في ليالي رمضان فقالوا ليس عليه العمل فخالفوا قضاء عمر وعمل أبي بن كعب وتميم الداري والمهاجرين والأنصار بالمدينة لدعوى زائغة وعمل مجهول وقالوا العمل في القيام على تسعة وثلاثين ركعة
ورووا أنه صلى المغرب بالناس ومعه أهل المدينة والمهاجرون والأنصار فلم يقرأ فيها شيئا فأخبر بذلك فلم يعد الصلاة ولا أمر بإعادتها فقالوا ليس عليه العمل (2/230)
وقد بطلت صلاة من صلى هكذا
ورووا أنه كتب إلى عماله أن يأخذوا من سائمة الغنم الزكاة فقالوا السائمة وغير السائمة سواء
ورووا أنه شرب لبنا فأعجبه
فأخبر أنه من نعم الصدقة فتقيأه فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه كان يقرد بعيره في طين بالسقيا وهو محرم فقالوا ليس عليه العمل فلا ندري أجعلوا القردان صيدا منهيا عنه في الإحرام أم جعلوا على البعران إحراما أم كيف وقع لهم هذا
ورووا عنه أنه قضى في الأرنب بعناق قالوا ليس عليه العمل
وقد وافقه على ذلك غيره من الصحابة رضوان الله عليهم وافترض تعالى في جزاء الصيد ما حكم به ذوا عدل ولا عدول أعدل من الصحابة فقد خالفوا ههنا القرآن وفعل الصحابة وتركوا الحق بيقين
ورووا أنه حكم في اليربوع بجفرة فقالوا ليس عليه العمل وهذا كالذي قبله
وروي أنه حلف لئن أتي بمسلم أمن مشركا ثم قتله ليقتلن ذلك المسلم فقالوا ليس عليه العمل ولا يقتل مؤمن بكافر فمرة يتركون الحديث لقول عمر ويقولون عمر كان أعلم منا ومرة يتركون قول عمر ويقولون الحديث أحق أن يتبع وفي هذا من التناقض ما فيه
ثم رأوا من رأيهم أن يخالفوا الحديث المذكور الذي له تركوا قول عمر فقال يقتل المؤمن بالكافر إذا قتله قتل غيلة
ورووا عنه أنه جعل القراض مضمونا على عبد الله ابنه
فقالوا لا يجوز وليس عليه العمل فتركوا عمل عمر وعبد الله بن عمر وقضاءه بحضرة المهاجرين والأنصار
ورووا عنه أنه قضى فيمن تزوج امرأة فوجد بها جنونا أو جذاما أو برصا فمسها فلها صداقها كاملا ويرجع به الزوج على وليها فقالوا لا يغرم الولي شيئا إلا أن يكون أبا أو أخا فأما إن كان من العشيرة فلا غرم عليه لكن تغرم هي الصداق إلى ربع دينار
ورووا عنه أنه إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق فقالوا إن طال نعم وإلا فلا
ورووا عنه أنه قضى بأنه لو تقدم في نكاح السر لرجم فيه فقالوا ليس عليه العمل ولا رجم فيه هذا مع فسخهم نكاح السر وإبطالهم إياه وتحريمهم له (2/231)
ورووا عنه أنه قضى في المتعة لو تقدم فيها لرجم فقالوا ليس عليه العمل ولا رجم فيها
وقد قال بعضهم إنما هذا من عمر وعيد لا حقيقة فنسبوا إليه الكذب الذي قد نزهه الله عنه ولا غرو فقد قال ذلك بعضهم في قوله عليه السلام إذ هم بحرق بيوت المتخلفين عن الصلاة مثل ذلك
وتلك التي تستك منها المسامع ورووا عنه أنه أشخص رجلا قال لامرأته حبلك على غاربك من العراق إلى مكة واستحلفه عن نيته في ذلك
قالوا ليس عليه العمل ولا يستجلب أحد من العراق إلى مكة لليمين ولا ينوي أحد في ذلك وهي ثلاث أبدا فخالفوا قضاء عمر في موضعين من هذا الحديث خاصة
ورووا عنه أنه قال لا حكرة في سوقنا فقالوا لا بأس بالحكرة في السوق
ورووا عنه أنه قضى بالمدينة بحضرة المهاجرين والأنصار على محمد بن مسلمة بأن يمر الضحاك بن خليفة في أرضه بخليج جلبه ومحمد كاره لذلك
فقالوا ليس عليه العمل
ورروا عنه أنه قضى على جد عمرو بن يحيى المازني بأن يحول عبد الرحمن بن عوف خليجا له في أرض ذلك المازني من مكان إلى مكان والمازني كاره فخالفوا قضاء عمر وعبد الرحمن بن عوف بحضرة المهاجرين والأنصار بالمدينة وقالوا ليس عليه العمل وقال ابن نافع صاحب مالك وقد ذكر ذلك الخبر فقال عليه العمل فليت شعري عمل من هو هذا العمل المتجاذب الذي يدعيه قوم منهم وينكره آخرون
ورووا عنه أنه أغرم حاطبا في ناقة لرجل من مزينة نحرها عبيد لحاطب فقطع أيديهم وسأل عن ثمن الناقة فكان أربعمائة فأضعف القيمة على حاطب وأغرمه بمائتي درهم وذلك بحضرة المهاجرين والأنصار من أهل المدينة فقالوا ليس عليه العمل
ورووا عنه أو عن عثمان أنه قضى في أمة غرت من نفسها
فادعت أنها حرة فتزوجها رجل فولدت فقضى عليه أن يفدي أولاده بمثلهم
فقالوا ليس عليه العمل ولا يقضى عليه بعبيد لكن بالقيمة
ورووا عنه أنه حكم في منبوذ وجده رجل أن ولاءه للذي وجده فقالوا ليس عليه العمل ولا ولاء للملتقط على اللقيط
ورووا عنه أنه قضى في هبة الثواب أنه على هبته يرجع فيها إن لم يرض منها فقال (2/232)
ليس عليه العمل وإن تغيرت الهبة عند الموهوب له بزيادة أو نقصان فلا رجوع للواهب فيها وليس له إلا القيمة
ورووا عنه أنه كانت الإبل الضوال مهملات لا يعرض لها أحد في أيامه فقالوا ليس عليه العمل فخالفوا عمل عمر بحضرة المهاجرين والأنصار مع موافقة ذلك لأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم
فإن قالوا عثمان رأى غير ذلك أريناهم ما يخالفوا فيه عمل عثمان وأيضا فما الذي جعل عثمان أولى بأن يتبع من عمر لولا التخليط وفساد الرأي
ورووا عنه أن رجلا من بني سعد بن ليث أجرى فرسا فوطأ أصبع رجل من جهينة فنزف الجهني فمات فقال عمر للسعديين أتحلفون بالله خمسين يمينا ما مات منها فتحرجوا وأبوا فقال للجهنيين احلفوا أنتم لمات منها فأبوا فقضى على السعديين بنصف الدية فقالوا ليس عليه العمل ولكن يبدأ المدعون وقالوا ليس العمل على إغرامه أولياء القاتل نصف الدية
ومن العجب العجيب أن مالكا الذي خالف هذا الحديث في ثلاثة مواضع أحدها تبدئة المدعى عليهم في اليمين وثانيها إغرام المدعى عليهم بلا يمين من المدعين وثالثها إغرامهم نصف الدية لا كلها ثم احتج به بعد أوراق من كتابه في إغرام الراكب والقائد والسائق وجعل أصله في ذلك فعل عمر بالسعديين وهو قد خالفه في الحديث نفسه كما ترى فليت شعري ما الذي جعل ربع حكم عمر في هذا الحديث حجة يوقف عندها وثلاثة أرباعه مطرحا لا يعمل له فلولا البلاء لما كان يقلد هؤلاء القوم هذه الأقوال ويتركون لها القرآن وكلام رسول الله صلى الله عليه و سلم
ورووا عنه أنه قضى في الترقوة بجمل
فقالوا ليس عليه العمل ورووا عنه أنه قضى في الضرس بجمل
فقالوا ليس عليه العمل
ورووا عنه أنه قضى في الضلع بجمل فقالوا ليس عليه العمل ورووا عنه أنه جلد عبدا زنى وغربه
فقالوا ليس عليه العمل ولا يغرب العبد فخالفوا قضاء عمر وعمله بحضرة المهاجرين والأنصار بالمدينة ومعه سنة النبي صلى الله عليه و سلم لآرائهم الفاسدة
ورووا عنه أنه أمر ثابت بن الضحاك وكان قد التقط بعيرا بأنه يعرفه ثلاثا ثم أمره بإرساله حيث وجده فخالفوا قضاء عمر وعمل ثابت
فهذا ما خالفوا فيه عمر من روايتهم في الموطأ خاصة وأما من رواية غيرهم فأضعاف ذلك
فإن قالوا عمل عثمان قيل لهم وبالله تعالى التوفيق إنهم رووا عن عثمان أنه كان يصلي (2/233)
الجمعة ثم ينصرف وما للجدران ظل
فقالوا ليس عليه العمل ولا تجوز الصلاة إلا بعد الخطبة ولا يبتدأ بالخطبة إلا بعد الأذان ولا يبتدأ بالأذان إلا بعد الزوال فإن زالت الشمس فقد حدث للجدران ظل
ورووا عنه أنه أذن على المنبر لأهل العالية في يوم عيد وافق يوم جمعة في أن يرجع منهم من أحب
فقالوا ليس عليه العمل ولا نأخذ بإذن عثمان في ذلك وهو قد قضى ذلك بحضرة المهاجرين والأنصار بالمدينة
ورووا عنه أنه كان يغطي وجهه وهو محرم
فقالوا ليس عليه العمل ولا يغطي المحرم وجهه
ورووا عنه أنه كان يخاطب أصحاب الديون من الذهب والفضة فيقول على المنبر هذا شهر زكاتكم
فقالوا ليس عليه العمل وليس للدنانير والدراهم شهر زكاة معروف
ورووا عنه أنه نهى عن القران والمتعة ورووا عن عمر مثل ذلك
فقالوا ليس عليه العمل ولا ينهى عن ذلك فهلا فعلوا مثل ذلك في توريثه المطلقة ثلاثا من زوجها إذا طلقها وهو مريض وهلا تركوا تقليده هنالك بلا دليل كما تركوه ههنا فكانوا يوقفون في ذلك
ورووا عنه أنه صلى بمنى أربع ركعات فقالوا ليس عليه العمل وقالوا القصر حق تلك الصلاة واحتجوا في ذلك بفعل النبي صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وعمر وقد ذكرنا ما خالفوا فيه عمل كل من ذكرنا آنفا وما تركوا فيه عمر لعثمان ورووا أنه كان يكثر من قراءة يوسف في صلاة الصبح
ورووا أيضا نعني قراءتها عن عمر فقالوا ليس عليه العمل
ورووا عنه من أصح طريق وأجلها وهي رواية مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال رأيت عثمان فذكر أنه رآه بالعرج وهو محرم ثم أتي بلحم صيد فقال لأصحابه كلوا فقالوا ولا تأكل أنت فقال إني لست كهيئتكم إنما صيد من أجلي فقالوا ليس عليه العمل ولا يجوز أن يأكل محرم ما صيد من أجل محرم غيره ومحا مالك قول عثمان هذا وكرهه كراهة شديدة هذا نص الموطأ فأين العمل إن لم يكن عمل النبي صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وعمر وعثمان بحضرة المهاجرين والأنصار
ورووا عنه وعن عمر النهي عن الحكرة
فقالوا ليس عليه العمل ولا بأس بها
قال علي وكذلك خالفوا عمل عائشة رضي الله عنها وابن عمر وسائر الصحابة بالمدينة لا نحاشي منهم أحدا وكذلك خالفوا سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وسائر فقهاء المدينة وأقرب ذلك خلافهم للزهري وربيعة في أشياء كثيرة جدا منها أن الزهري كان يرى الزكاة في الخضر والتيمم إلى الآباط وغير ذلك (2/234)
وقد حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن عثمان الأسدي ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال ثنا عبد الله بن عمر النميري ثنا يونس بن يزيد الأبلي سمعت الزهري قال هذه نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي كتب في الصدقة وهي عند آل عمر بن الخطاب قال الزهري اقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر فوعيتها على وجهها وهي التي انتسخ عمر بن عبد العزيز من عبد الله بن عبد الله بن عمر وسالم بن عبد الله بن عمر حين أمر على المدينة فأمر عماله بالعمل بها وكتب بها إلى الوليد بن عبد الملك فأمر الوليد عماله بالعمل بها ثم لم يزل الخلفاء يأمرون بذلك ثم أمر هشام بن محمد بن هانىء عامله فنسخها إلى كل عامل من عمال المسلمين وأمرهم بالعمل بما فيها ولا يتعدونه وذكر باقي الحديث
قال علي فهذا عمل فاش كما ترى وأصله صحيفة مرسلة غير مسندة كما ترى ثم لم يفش العمل بها إلا بعد نحو ثمانين عاما من موت النبي صلى الله عليه و سلم وقد عمل عمال عثمان قبل ذلك بغير ذلك وعمال علي رضوان الله عليه بما جاءت به الرواية عن علي وعمال ابن الزبير بغير ذلك وعمال أبي بكر الصديق بغير ذلك وعند آل حزم صحيفة أخرى فما الذي جعل عمل الوليد الظالم ومن بعده من لا يعتد به حاش عمر بن عبد العزيز وحده أولى من عمل ابن الزبير وعمل علي وعمل عثمان وعمل أبي بكر الصديق وهذا تنازع يوجب الرد إلى القرآن وما صح عن النبي صلى الله عليه و سلم بالأسانيد الصحيحة وليس ذلك إلا في حديث أنس عن أبي بكر وحده فقد صح تركهم لعمل كل من له عمل يمكن أن يراعى أو يقتدى به وصح ما قلنا من أنهم لا يدرون عمل من يعنون بقولهم ليس عليه العمل
فإن قالوا عمل الأكثر فقد أريناهم أنه لا أكثر من أهل عصر عمر وعثمان ومن صلى معهم ووافقهم على ما ترك هؤلاء من أعمال أولئك وأنهم قد تركوا عمل الأكثر
وثبت بهذا ما ذكره بعض الرواة ومن أنهم إنما يعنون عمل صاحب السوق في المدينة في عصر مالك وهذا كما ترى وقد جمع عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ما اتفق عليه فقهاء المدينة السبعة خاصة فلم يبلغ ذلك إلا أوراقا يسيرة هذا وعبد الرحمن من هو في الضعف والسقوط ألا يحتج بروايته وما جعل الله أولئك أولى بالقبول منهم من نظرائهم من أهل الكوفة الذين هم أفضل منهم في ظاهر الأمر كعلقمة بن قيس والأسود بن يزيد وشريح (2/235)
القاضي وعمرو بن ميمون ومسروق وأبي عبد الرحمن السلمي وعبيدة السلماني وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الله بن عتبة بن مسعود وعبد الرحمن بن يزيد الليثي وسعيد بن جبير ولا من نظرائهم من أهل البصرة كالحسن البصري ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد ومسلم بن يسار وأبي قلابة وبكر بن عبد الله المزني وزرارة بن أوفى وحميد بن عبد الرحمن وأيوب وابن عون ويونس بن عبيد وسليمان التيمي ولا من نظرائهم من أهل الشام كعمر بن عبد العزيز وأبي إدريس الخولاني وقبيصة بن ذؤيب وجبير بن نفير ورجاء بن حيوة ولا من نظرائهم من أهل مكة كطاوس وعطاء ومجاهد وعمر بن دينار وعبيد بن عمير وابنه عبد الله وعبد الله بن طاووس ومذ مضى الصحابة الخلفاء رضوان الله عليهم فما ولي قضاء المدينة مثل شريح ولا مثل محارب بن دثار ولا مثل زرارة بن أوفى ولا مثل الشعبي ولا مثل أبي عبيدة بن عبد الله ولا مثل عبد الله بن عتبة أصلا
ويقال لهم أيضا هل اختلف عمل أهل المدينة أو لم يختلف فإن قالوا لم يختلف أكذبهم الموطأ وجميع الروايات وإن قالوا اختلف قيل لهم فما الذي جعل اتباع عمل بعضهم أولى بالاتباع من عمل سائرهم وقد أبطل الله كل عمل عند الاختلاف حاشى الرد إلى كتاب الله وكلام نبيه صلى الله عليه و سلم بقوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فمن رد إلى غيرهما فقد عصى الله ورسوله وضل ضلالا مبينا لقوله تعالى { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى لله ورسوله أمرا أن يكون لهم لخيرة من أمرهم ومن يعص لله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا }
وهم ينسبون إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم بهذا الأصل الملعون أعظم الفرية وأشد التضييع للإسلام وقلة المبالاة به وهذا لا يحل لمسلم أصلا أن يظنه فكيف أن يعتقده ويدعو إليه وذلك لأن عمر رضي الله عنه مصر البصرة والكوفة ومصر والشام وأسكنها المسلمين وولى عليهم الصحابة كسعد بن أبي وقاص والمغيرة بن شعبة وأبي موسى الأشعري وعتبة بن غزوان وغيرهم وولى عثمان عليهم ولاته أيضا كذلك كمعاوية وعمرو بن العاص وقد وليا لعمر أيضا (2/236)
مع عمار وابن مسعود وغيرهم ثم ولى علي البصرة عثمان بن حنيف وعبد الله بن عباس وولى مصر قيس بن سعد أفترى عمر وعثمان وعليا وعمالهم المذكورين كتموا رعيتهم من أهل هذه الأمصار دين الله تعالى والحكم في الإسلام والعمل بشرائعه وما يفعل هذا مسلم بل الذي لا شك فيه أنهم كلهم علموا رعيتهم كل ما يلزمهم كأهل المدينة ولا فرق
ثم سكن علي الكوفة أفتراه رضي الله عنه كتم أهلها شرائع الإسلام وواجبات الأحكام والله ما يظن هذا مسلم ولا ذمي مميز بالسير فإذ لا شك في هذا فما بالمدينة سنة إلا وهي في سائر الأمصار كلها ولا فرق وأما مذ مضى هذا الصدر الكريم رضي الله عنهم فوالله ما ولي المدينة ولا حكم فيها إلا فساق الناس كعمرو بن سعيد والحجاج بن يوسف وطارق وخالد بن عبد الله القسري وعبد الرحمن بن الضحاك وعثمان بن حيان المري وكل عدو لله حاشى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وأبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز فإنه كان كل واحد منهم فاضلا وليها أبو بكر أربعة أعوام عامين قاضيا وعامين أميرا لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه
فأي مزية لأهل المدينة على غيرهم في علم أو فضل أو رواية لو نصحوا أنفسهم وتركوا هذا التخليط الذي لا يسلم معه دين من غلبة الهوى ونصر الباطل وبالله تعالى نعوذ من الخذلان
وما أدرك مالك بالمدينة أعلى من نافع وهو قليل الفتيا جدا وربيعة وكان كثير الرأي قليل العلم بالحديث وأبي الزناد وزيد بن أسلم وكانا قليلي الفتيا وأما الزهري فإنما كان بالشام وما كتب عنه مالك إلا بمكة وأما من القضاة فأبو بكر بن عمرو بن حزم وابنه محمد ويحيى بن سعيد الأنصاري على أن أهل العراق يجاذبونه إياه لأنه مات وهو قاض ببغداد وأما سعد بن إبراهيم فكان ثقة إلا أن مالكا لم يأخذ عنه
ثم يقال لهم لا خلاف بين أحد من أهل العلم بالأخبار أن مالكا ولد سنة ثلاث وتسعين من الهجرة بعد موت رسول الله صلى الله عليه و سلم بثلاث وثمانين سنة وأنه بقي أزيد من ثلاثين سنة وما اشتهر علمه فأخبروني على أي مذهب كان الناس قبل مالك وطول المدة التي ذكرنا وهي نحو مائة عام وعشرين عاما كان فيها خيار أهل الأرض (2/237)
من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين رحمة الله عليهم فإن قالوا على مذهب مالك أكذبهم مالك في موطئه بما أورد فيه من الاختلاف القديم بين الصحابة والتابعين وقد ذكرنا آنفا من ذلك طرفا صالحا
ويقال لهم أيضا إن كان الأمر كما تقولون فما الذي جعل نسبة هذا المذهب إلى مالك أولى من نسبته إلى أبي بكر أو عمر أو عثمان أو عائشة أو ابن عمر أو سعيد بن المسيب أو سليمان بن يسار أو عروة بن الزبير أو ربيعة ولم خصصتم مالكا وحده بأن تنسبوه إليه دون أن تنسبوه إلى من ذكرنا وهم كانوا أفضل منه وأهيب في الصدور فإن قالوا لأن مالكا ثبت واختلف الناس بان كذبهم بما أورده مالك في موطئه مما خالف فيه من كان قبلهم وقيل لهم انفصلوا ممن عكس قولكم فقال بل الناس ثبتوا وانفرد مالك بمذهب أوجب أن ينسب إليه وإنما تنسب المذاهب إلى محدثيها لا إلى من اتبع غيره فيها
وإن قالوا كان الناس على اختلاف في مذاهبهم وتحير قيل لهم فلا ترغبوا عما كان عليه السلف الصالح فليس والله فيما حدث بعدهم شيء من الخير يعني مما يكونوا عليه ولا علمه ذلك الصدر فإن تكن الأمور بالدلائل فالدلائل توضح أن ذلك الصدر كانوا على صواب في الاختيار والنظر مختلفين في مذاهبهم متفقين على إبطال التقليد متفقين على الأخذ بحديث النبي صلى الله عليه و سلم إذا بلغهم وصح طريقه
وإن لم يكن الأمر بالتقليد ونعوذ بالله من ذلك فتقليد عمر وعثمان وسائر من تقدم أولى من تقليد من أتى بعدهم اللهم إلا إذا كان العمل الذي يشيرون إليه من جنس ما حدثناه عبد الله بن يوسف بن نامي ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد الفقيه الأشقر ثنا أحمد بن علي القلانسي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن حاتم ثنا بهز ثنا وهيب ثنا موسى بن عقبة عن عبد الواحد بن حمزة عن عباد بن عبد الله بن الزبير يحدث عن عائشة أنها لما توفي سعد بن أبي وقاص أرسل أزواج النبي صلى الله عليه و سلم أن يمروا بجنازته فيصلين عليه ففعلوا فوقف به على حجرهن يصلين عليه وأخرج به من باب الجنائز الذي كان إلى المقاعد فبلغهن أن الناس عابوا ذلك
وقالوا ما كانت الجنائز يدخل بها المسجد
فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها فقالت ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا (2/238)
ما لا علم لهم به عابوا علينا أن يمر بجنازة في المسجد
وما صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم على سهيل بن بيضاء إلا في جوف المسجد
وبالسند المذكور إلى مسلم ثنا محمد بن حاتم بن ميمون ثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي المنهال قال باع شريك لي ورقا بنسيئة إلى الموسم أو إلى الحج فجاء إلي فأخبرني فقلت هذا الأمر لا يصلح قال قد بعته في السوق فلم ينكر ذلك علي أحد فأتيت البراء بن عازب فسألته فقال قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة ونحن نبيع هذا البيع فقال ما كان يدا بيد فلا بأس به وما كان نسيئة فهو ربا وائت زيد بن أرقم فإنه كان أعظم تجارة مني فأتيته فسألته فقال مثل ذلك
وبالسند المذكور إلى مسلم حدثنا الحسن بن علي الحلواني ثنا أبو أسامة ثنا محمد بن عمرو ثنا عمر بن مسلم بن عمار الليثي قال كنا في الحمام قبيل الأضحى فأطلي فيه ناس فقال بعض أهل الحمام إن سعيد بن المسيب يكره هذا وينهى عنه فلقيت سعيد بن المسيب فذكرت ذلك له فقال يا ابن أخي هذا حديث قد نسي وترك حدثتني أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
فذكرت من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي أو كلاما هذا معناه
قال علي عمرو بن مسلم هذا هو ابن أكيمة الذي يروي عنه مالك وغيره
قال علي فإن كان عمل أهل المدينة الذين يحتجون به ويتركون له كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم من هذا الباب الذي ذكرنا فنحن نبرأ إلى الله تعالى من هذا العمل ونحن متقربون إلى الله تعالى بعصيان هذا العمل ومضادته ولا شك أنهم يريدون عمل الجمهور الذي وصفنا من نحو إنكار عامة أهل المدينة على أزواج النبي صلى الله عليه و سلم المرور في المسجد وبيع أهل سوق المدينة الورق بالورق أو بالذهب نسيئة ولا ينكر ذلك أحد منهم
ومثل تركهم ونسيانهم أمر النبي صلى الله عليه و سلم في ألا يمس الشعر والظفر من أراد أن يضحي إذا أهل ذو الحجة بشهادة سعيد بن المسيب فقيه أهل المدينة عليهم بذلك (2/239)
فإذا ما قد بينا أنهم لا يتعلقون بعمل النبي صلى الله عليه و سلم ولا بعمل أبي بكر وعمر وعثمان ولا بعمل أحد بعينه من الصحابة رضوان الله عليهم فلم يبق بأيديهم شيء إلا العمل الذي وصفنا ونعوذ بالله من التعلق بمثل هذا العمل فهو الضلال المبين وحسبنا الله ونعم الوكيل
وقد فشا الشكوى بالعمال وتعديهم في المدينة في أيام الصحابة رضوان الله عليهم كما حدثنا حمام بن أحمد قال ثنا عبد الله بن إبراهيم الأصيلي ثنا أبو زيد المروزي حدثنا الفربري ثنا البخاري ثنا قتيبة بن سعيد ثنا سفيان بن عيينة عن محمد بن سوقة عن منذر الثوري عن محمد بن علي هو ابن الحنفية قال جاء عليا ناس فشكوا سعاة عثمان فقال لي علي اذهب بهذه الصحيفة إلى عثمان فأخبره أنها صدقة رسول الله صلى الله عليه و سلم فمر سعاتك يعملون بها فأتيته بها فقال أغنها عنا
فأتيت بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأخبرته فقال ضعها حيث أخذتها
فقد صح كما ترى في بطلان قول من يدعي حجة بعمل أهل المدينة أو غيرهم ووجب أن لا حجة إلا فيما صح عن النبي صلى الله عليه و سلم وقد أنكر عمر رضي الله عنه على حسان إنشاده الشعر في المسجد فلما قال له قد أنشدت فيه وفيه من هو خير منك وذكر له رسول الله صلى الله عليه و سلم سكت عمر ومضى فهذا كله يبين أن لا حجة في قول أحد ولا في علمه بعد النبي صلى الله عليه و سلم فإن قالوا مالك أتى متأخرا فتعقب
قيل لهم فتقليد من أتى بعد مالك فتعقب عليه أولى كالشافعي وأحمد بن حنبل وداود وغيرهم إلى أن يبلغ الأمر إلينا ثم إلى من بعدنا
قال علي والصحيح من ذلك أن أبا حنيفة ومالكا رحمهما الله اجتهدا وكانا مما أمرا بالاجتهاد إذ كل مسلم ففرض عليه أن يجتهد في دينه وجريا على طريق من سلف في ترك التقليد فأجرا فيما أصابا فيه أجرين وأجرا فيما أخطآ فيه أجرا واحدا وسلما من الوزر في ذلك على كل حال
وهكذا حال كل عالم ومتعلم غيرهما ممن كان قبلهما وممن كان معهما وممن أتى (2/240)
بعدهما أو يأتي ولا فرق فقلدهما من شاء الله عز و جل ممن أخطأ وابتدع وخالف أمر الله عز و جل وسنة النبي صلى الله عليه و سلم وإجماع المسلمين وما كان عليه القرون الصالحة وما توجبه دلائل العقل واتبع هواه بغير آإعالى فضل وأضل
وكذلك المقلدون للشافعي رحمه الله إلا أن الشافعي رضي الله عنه أصل أصولا الصواب فيها أكثر من الخطأ فالمقلدون له أعذر في اتباعه فيما أصاب فيه وهم ألوم وأقل عذرا في تقليدهم إياه فيما أخطأ فيه
وأما أصحاب الظاهر فهم أبعد الناس من التقليد فمن قلد أحدا مما يدعي أنه منهم فليس منهم ولم يعصم أحد من الخطأ وإنما يلام من اتبع قولا لا حجة عنده به وألوم من هذا من اتبع قولا وضح البرهان على بطلانه فتمادى ولج في غيه وبالله تعالى التوفيق
وألوم من هذين وأعظم جرما من يقيم على قول يقر أنه حرام وهم المقلدون الذين يقلدون ويقرون أن التقليد حرام ويتركون أوامر النبي صلى الله عليه و سلم ويقرون أنها صحاح وأنها حق فمن أضل من هؤلاء نعوذ بالله من الخذلان ونسأله الهدى والعصمة فكل شيء بيده لا إله إلا هو
قال أبو محمد وقد قال بعضهم قد صح ترك جماعات من الصحابة والتابعين لكثير مما بلغهم من حديث النبي صلى الله عليه و سلم فلا يخلو من أن يكونوا تركوه مستخفين به وهذا كفر من فاعله
أو يكونوا تركوه لفضل علم كان عندهم فهذا أولى أن يظن بهم
قال علي وهذا يبطل من وجوه أحدها أنه قال قائل لعل الحديث الذي تركه من تركه منهم فيه داخلة
قيل له ولعل الرواية التي رويت بأن فلانا الصاحب ترك حديثا كذا هي المدخولة وما الذي جعل أن تكون الداخلة في رواة الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أولى من أن تكون في النقلة الذين رووا ترك من تركها وأيضا فإن قوما منهم تركوا بعض الحديث وقوما منهم أخذوا بذلك الحديث الذي ترك هؤلاء فلإن فرق بين من قال لا بد من أنه كان عند من تركه علم من أجله تركه وبين من قال لا بد من أنه كان عند من عمل به علم من أجله عمل به وكل دعوى عريت من برهان فهي ساقطة
وقد قدمنا أنه لا يستوحش لمن ترك العمل بالحق سواء تركه مخطئا معذورا أو تركه عاصيا موزورا ولا يتكثر بمن عمل به كائنا من كان وسواء عمل به أو تركه (2/241)
وفرض على كل من سمعه أن يعمل به على كل حال
وأيضا فإن الأحاديث التي روي أنه تركها بعض من سلف ليست في أكثر الأمر التي ترك هؤلاء المحتجون بترك من سلف لما تركوا منها بل ترك هؤلاء ما أخذ به أولئك وأخذ هؤلاء بما تركه أولئك فلا حجة لهم في ترك بعض ما سلف لما ترك من الحديث
لأنهم أول مخالف لهم في ذلك وأول مبطل لذلك الترك
ولا أسوأ من احتجاج امرىء بما يبطل على من لا يحقق ذلك الاحتجاج بل يبطله كإبطال المحتج به له أو أشد
وأيضا فلو صح ما افتروه من أنه كان عند الصاحب التارك لبعض الحديث علم من أجله ترك ما ترك من الحديث ونعوذ بالله العظيم من ذلك ونعيذ كل من يظن به خيرا من مثل ما نسبوا إلى أفاضل هذه الأمة المقدسة لوجب أن يكون من فعل ذلك ملعونا بلعنة الله عز و جل
قال الله تعالى { إن لذين يكتمون مآ أنزلنا من لبينات ولهدى من بعد ما بيناه للناس في لكتاب أولئك يلعنهم لله ويلعنهم للاعنون } فنحن نقول لعن الله كل من كان عنده علم من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم وكتمه عن الناس كائنا من كان
ومن نسب هذا إلى الصحابة رضوان الله عليهم فقد نسبهم إلى الإدخال في الدين وكيد الشريعة وهذا أشد ما يكون من الكفر
وقد عارضت بنحو من هذا الكلام الليث بن حرفش العبدي في مجلس القاضي عبد الرحمن بن أحمد بن بشر رحمه الله وفي حفل عظيم من فقهاء المالكيين فما أحد منهم أجاب بكلمة معارضة بل صمتوا كلهم إلا قليل منهم أجابوني بالتصديق لقولي وذلك أني قلت له لقد نسبت إلى مالك رضي الله عنه ما لو صح عنه لكان أفسق الناس وذلك أنك تصفه بأنه أبدى إلى الناس المعلول والمتروك والمنسوخ من روايته وكتمهم المستعمل والسالم والناسخ حتى مات ولم يبده إلى أحد وهذه صفة من يقصد إفساد الإسلام والتدليس على أهله وقد أعاذه الله من ذلك بل كان عندنا أحد الأئمة الناصحين لهذه الملة ولكنه أصاب وأخطأ واجتهد فوفق وحرم كسائر (2/242)
العلماء ولا فرق أو كلاما هذا معناه وقد افترض الله تعالى التبليغ على كل عالم وقد قال عليه السلام مخبرا إن من كتم علما عنده فسئل عنه ألجم يوم القيام بلجام من نار
فإن قالوا بل ما كان عنده عن النبي صلى الله عليه و سلم خبر يصح إلا وقد أبداه ورواه للناس وبلغه كما يحق في علمه وروعه قلنا صدقتم وهذه صفته عندنا ونحن على اتباع روايته ورواية غيره من العدول لأنه عدل وقد أمرنا بقبول خبر العدل
ونحن على رفض رأيه ورأي غيره لقيام البرهان على تحريم التقليد وهو أول الناس ينهى عن تقليده والعجب من دعواهم أنهم أخذوا بالآخر من فعله صلى الله عليه و سلم وأخذوا بالأول المنسوخ لذلك فما حضرنا ذكره مما تركوا فيه آخر فعله صلى الله عليه و سلم وأخذوا بالأول المنسوخ
فإنهم لم يجيزوا أن يأتي الإمام المعهود وقد بدأ خليفته على الصلاة بالصلاة فدخل الإمام المعهود فيتم الصلاة ويبني سائر من خلفه على من كبروا في أول صلاتهم
ويصير الإمام الذي ابتدأ الصلاة مأموما وهذه آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه و سلم بالناس في مرضه الذي مات فيه فأبطلوا هذه الصلاة
وأجازوا أن يخرج الإمام من الصلاة لعذر أصابه ويستخلف من يتم بالناس صلاتهم وهذا ما لم يأت فيه نص ولا إجماع ولم يروا الصلاة خلف الإمام القاعد والأصحاء وراءه قعود أو قيام وهذه صفة آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه و سلم وتعلقوا بحديث رواه الجعفي وهو كذاب عن الشعبي مرسلا لا يؤمن أحد بعدي جالسا وهي رواية كوفية
وهم يردون الصحيح من رواية أهل الكوفة ويتعلقون بهذه الرواية التي لا شك في كذبها من روايات أهل الكوفة
وكرهوا التكبير بتكبير الإمام وأبطلوا في نص روايتهم صلاة المذكور وهذه صفة آخر صلاة صلاها أبو بكر خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم بحضرة جميع المهاجرين والأنصار إلا الأقل منهم وتركوا إباحة الشرب لكل ما لا يسكر من المباحات في جميع الظروف وهو الناسخ وأخذوا بالنهي عن الدباء والمزفت وهو منسوخ بالنص الجلي وكان ذلك في أول الإسلام
وتركوا ما في سورة براءة وهي آخر سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم من أنه لا تؤخذ جزية إلا من كتابي وتركوا أيضا ما فيها من قوله تعالى { قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون } (2/243)
وتعلقوا بحديث تخيير من أسلم وعنده أكثر من أربع نسوة لأنه لا يجوز أن يوجد أحد نكح أكثر من أربع نكاحا جائزا لأن نكاح من نكح خامسة اليوم باطل حين عقده إياه مفسوخ لا يجوز وإن جوزه الكفار لأن الله تعالى قد حرمه وتحريم الله تعالى لاحق بهم لازم لهم
وتركوا النهي عن الصوم في السفر في رمضان وهو الناسخ وأخذوا بإباحة ذلك وهي منسوخة وتركوا النهي عن الكلام مع الإمام في إصلاح الصلاة وهو الناسخ وتعلقوا بالمخصوص المنسوخ وتركوا قراءة والمرسلات في المغرب وهو من آخر فعله صلى الله عليه و سلم وتركوا تطيبه صلى الله عليه و سلم لحله ولإحرامه قبل أن يطوف بالبيت وهو آخر فعله عليه السلام وتعلقوا بالمنسوخ المخصوص الذي كان في الحديبية قبل حجة الوداع
وتركوا إيجابه عليه السلام السلب للقاتل وكان في غزوة حنين وهو الناسخ وتعلقوا بما كان في غزوة مؤتة وهو منسوخ قبل حنين وتركوا ما في سورة براءة من ألا يهادن مشرك إلا على الإسلام ولا كتابي إلا على الصغار والجزية وأخذوا بحديث أبي جندل وهو منسوخ قبل براءة ومثل هذا كثير
فصل فيه بيان سبب الاختلاف الواقع بين الأئمة
في صدر هذه الأمة فإن قيل فعلى أي وجه ترك هو ومن قبله كثيرا من الأحاديث قيل له وبالله التوفيق وقد بينا هذا فيما خلا ولكن نأتي بفصول تقتضي تكرار ما قد ذكر فلا بد من تكراره وذلك أن مالكا وغيره بشر ينسى كما ينسى سائر الناس وقد تجد الرجل يحفظ الحديث ولا يحضره ذكره حتى يفتي بخلافه وقد يعرض هذا في آي القرآن وقد أمر عمر على المنبر بألا يزاد في مهور النساء على عدد ذكره فذكرته امرأة بقول الله تعالى { وإن أردتم ستبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا } فترك قوله وقال كل أحد أفقه منك (2/244)
يا عمر وقال امرأة أصابت وأمير المؤمنين أخطأ وأمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر فذكره علي بقول الله تعالى { ووصينا لإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك لتي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من لمسلمين } مع قوله تعالى { ولوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم لرضاعة وعلى لمولود له رزقهن وكسوتهن بلمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضآر والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى لوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم مآ آتيتم بلمعروف وتقوا لله وعلموا أن لله بما تعملون بصير } فرجع عن الأمر برجمها
وهم أن يسطو بعيينة بن حصن إذ قال له يا عمر ما تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل
فذكره الحر بن قيس بن حصن بن حذيفة بقول الله تعالى { خذ لعفو وأمر بلعرف وأعرض عن لجاهلين } وقال له يا أمير المؤمنين هذا من الجاهلين فأمسك عمر
وقال يوم مات رسول الله صلى الله عليه و سلم والله ما مات رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يموت حتى يكون آخرنا أو كلاما هذا معناه حتى قرئت عليه { إنك ميت وإنهم ميتون } فسقط السيف من يده وخر إلى الأرض
وقال كأني والله لم أكن قرأتها قط
فإذا أمكن هذا في القرآن فهو في الحديث أمكن وقد ينساه البتة وقد لا ينساه بل يذكره ولكن يتأول فيه تأويلا فيظن فيه خصوما أو نسخا أو معنى ما وكل هذا لا يجوز اتباعه إلا بنص أو إجماع لأنه رأي من رأى ذلك ولا يحل تقليد أحد ولا قبول رأيه
وقد علم كل أحد أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا حوالي رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة مجتمعين وكانوا ذوي معايش يطلبونها وفي ضنك من القوت شديد قد جاء ذلك منصوصا وأن النبي صلى الله عليه و سلم وأبا بكر وعمر أخرجهم الجوع من بيوتهم فكانوا من متحرف في الأسواق ومن قائم على نخلة ويحضر رسول الله صلى الله عليه و سلم في كل وقت منهم الطائفة إذا وجدوا أدنى فراغ مما هم بسبيله هذا ما لا يستطيع أحد أن ينكره وقد ذكر ذلك أبو هريرة فقال إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على نخلهم وكنت امرأ مسكينا أصحب رسول الله صلى الله عليه و سلم على ملء بطني وقد أقر بذلك عمر فقال فاتني مثل (2/245)
هذا من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم ألهاني الصفق في الأسواق ذكر ذلك في حديث استئذان أبي موسى فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يسأل عن المسألة ويحكم بالحكم ويأمر بالشيء ويفعل الشيء فيعيه من حضره ويغيب بمن غاب عنه
فلما مات النبي صلى الله عليه و سلم وولي أبو بكر رضي الله عنه فمن حينئذ تفرق الصحابة للجهاد إلى مسيلمة وإلى أهل الردة وإلى الشام والعراق وبقي بعضهم بالمدينة مع أبي بكر رضي الله عنه
فكان إذا جاءت القضية ليس عنده فيها عن النبي صلى الله عليه و سلم أمر سأل من بحضرته من الصحابة عن ذلك فإن وجد عندهم رجع إليه وإلا اجتهد في الحكم ليس عليه غير ذلك فلما ولي عمر رضي الله عنه فتحت الأمصار وزاد تفرق الصحابة في الأقطار فكانت الحكومة تنزل في المدينة أو في غيرها من البلاد فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها في ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم أثر حكم به وإلا اجتهد أمير تلك المدينة في ذلك وقد يكون في تلك القضية حكم عن النبي صلى الله عليه و سلم موجود عند صاحب آخر في بلد آخر
وقد حضر المديني ما لم يحضر المصري وحضر المصري ما لم يحضر الشامي وحضر الشامي ما لم يحضر البصري وحضر البصري ما لم يحضر الكوفي وحضر الكوفي ما لم يحضر المديني كل هذا موجود في الآثار وفي ضرورة العلم بما قدمنا من مغيب بعضهم عن مجلس النبي صلى الله عليه و سلم في بعض الأوقات وحضور غيره ثم مغيب الذي حضر أمس وحضور الذي غاب فيدري كل واحد منهم ما حضر ويفوته ما غاب عنه
وهذا معلوم ببديهة العقل
وقد كان علم التيمم عند عمار وغيره
وجهله عمر وابن مسعود فقالا لا يتيمم الجنب ولو لم يجد الماء شهرين وكان حكم المسح عند علي وحذيفة رضي الله عنهما وغيرهم وجهلته عائشة وابن عمر وأبو هريرة وهم مدنيون
وكان توريث بنت الابن مع البنت عند ابن مسعود وجهله أبو موسى وكان حكم الاستئذان عند أبي موسى وعند أبي سعيد وجهله عمر
وكان حكم الإذن للحائض في أن تنفر قبل أن تطوف عند ابن عباس وأم سليم وجهله عمر وزيد بن ثابت وكان حكم تحريم المتعة (2/246)
والحمر الأهلية عند علي وغيره وجهله ابن عباس
وكان حكم الصرف عند عمر وأبي سعيد وغيرهما وجهله طلحة وابن عباس وابن عمر وكان حكم إجلاء أهل الذمة من بلاد العرب عند ابن عباس وعمر فنسيه عمر سنين فتركهم حتى ذكر فذكر فأجلاهم
وكان علم الكلالة عند بعضهم ولم يعلمه عمر وكان النهي عن بيع الخمر عند عمر وجهله سمرة
وكان حكم الجدة عند المغيرة ومحمد بن مسلمة وجهله أبو بكر وعمر
وكان حكم أخذ الجزية من المجوس وألا يقدم على بلد فيه الطاعون عند عبد الرحمن بن عوف وجهله عمر وأبو عبيدة وجمهور الصحابة رضوان الله عنهم وكان حكم ميراث الجد عند معقل بن سنان وجهله عمر
ومثل هذا كثير جدا فمضى الصحابة على ما ذكرنا ثم خلف بعدهم التابعون الآخذون عنهم وكل طبقة من التابعين في البلاد التي ذكرنا فإذا تفقهوا مع من كان عندهم من الصحابة وكانوا لا يتعدون فتاويهم لا تقليدا لهم ولكن لأنهم إنما أخذوا ورووا عنهم إلا اليسير مما بلغهم عن غير من كان في بلادهم من الصحابة رضي الله عنهم كاتباع أهل المدينة في الأكثر فتاوى ابن عمر واتباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوى ابن مسعود واتباع أهل مكة في الأكثر فتاوى ابن عباس
ثم أتى بعد التابعين فقهاء الأمصار كأبي حنيفة وسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة وابن جريج بمكة ومالك وابن الماجشون بالمدينة وعثمان البتي وسوار بالبصرة والأوزاعي بالشام والليث بمصر فجروا على تلك الطريقة من أخذ كل واحد منهم عن التابعين من أهل بلده فيما كان عندهم واجتهادهم فيما لم يجدوا عندهم وهو موجود عند غيرهم و { لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين }
وكل ما ذكرنا مأجور على ما أصاب فيه حكم النبي صلى الله عليه و سلم أجرين ومأجور فيما خفي عنه منه أجرا واحدا وقد يبلغ الرجل مما ذكرنا حديثان ظاهرهما التعارض فيميل إلى أحدهما دون الثاني بضرب من الترجيحات التي صححنا أو أبطلنا قبل هذا في هذا الباب ويميل غيره إلى الحديث الذي ترك هذا بضرب من تلك الترجيحات كما روي عن عثمان في الجمع بين الأختين حرمتهما آية وأحلتهما آية وكما مال ابن عمر إلى تحريم نساء أهل الكتاب جملة بقوله { ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } قال ولا أعلم شركا (2/247)
أعظم من قول المرأة إن عيسى ربها
وغلب ذلك على الإباحة المنصوصة في الآية الأخرى وكما جعل ابن عباس عدة الحامل آخر الأجلين من وضع الحمل أو تمام أربعة أشهر وعشر وكما تأول بعض الصحابة في الحمر الأهلية أنها إنما حرمت لأنها لم تخمس وتأول آخر منهم أنها حرمت لأنها حمولة الناس وتأول آخر منهم أنها حرمت لأنها كانت تأكل العذرة وقال بعضهم بل حرمت لعينها وكما تأول قدامة في شرب الخمر قول الله تعالى { ليس على لذين آمنوا وعملوا لصالحات جناح فيما طعموا إذا ما تقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا ولله يحب لمحسنين } فعلى هذه الوجوه ترك مالك ومن كان قبله ما تركوا من الأحاديث والآيات وعلى هذه الوجوه خالفهم نظراؤهم فأخذ هؤلاء ما ترك أولئك وأخذ أولئك ما ترك هؤلاء فهي وجوه عشرة كما ذكرنا أحدها ألا يبلغ العالم الخبر فيفتي فيه بنص آخر بلغه كما قال عمر في خبر الاستئذان خفي علي هذا من رسول الله صلى الله عليه و سلم ألهاني الصفق بالأسواق
وقد أوردناه بإسناده من طريق البخاري في غير هذا المكان
وثانيها أن يقع في نفسه أن راوي الخبر لم يحفظ وأنه وهم كفعل عمر في خبر فاطمة بنت قيس وكفعل عائشة في خبر الميت يعذب ببكاء أهله وهذا ظن لا معنى له إن أطلق بطلت الأخبار كلها وإن خص به مكان دون مكان كانت تحكما بالباطل
وثالثها أن يقع في نفسه أنه منسوخ كما ظن ابن عمر في آية نكاح الكتابيات
ورابعها أن يغلب نصا على نص بأنه أحوط وهذا لا معنى له إذ لا يوجبه قرآن ولا سنة
وخامسها أن يغلب نصا على نص لكثرة العاملين به أو لجلالتهم وهذا لا معنى له لما قد أفدناه قبلا في ترجيح الأخبار
وسادسها أن يغلب نصا لم يصح على نص صحيح وهو لا يعلم بفساد الذي غلب
وسابعها أن يخصص عموما بظنه (2/248)
وثامنها أن يأخذ بعموم لم يجب الأخذ به ويترك الذي يثبت تخصيصه
وتاسعها أن يتأول في الخبر غير ظاهره بغير برهان لعله ظنها بغير برهان
وعاشرها أن يترك نصا صحيحا لقول صاحب بلغه فيظن أنه لم يترك ذلك النص إلا لعلم كان عنده
فهذه ظنون توجب الاختلاف الذي سبق في علم الله عز و جل أنه سيكون ونسأل الله تعالى التثبيت على الحق بمنه آمين
ثم كثرت الرحل إلى الآفاق وتداخل الناس والتقوا وانتدب أقوام لجمع حديث النبي صلى الله عليه و سلم وضمه وتقييده ووصل من البلاد البعيدة إلى من لم يكن عنده وقامت الحجة على من بلغه شيء منه وجمعت الأحاديث المبينة لصحة أحد التأويلات المتأول في الحديث وعرف الصحيح من السقيم وزيف الاجتهاد المؤدي إلى خلاف كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم وإلى ترك عمله وسقط العذر عمن خالف ما بلغه من السنن بلوغه إليه وقيام الحجة به عليه فلم يبق إلا العناد والجهل والتقليل والإثم
وعلى هذا الطريق كان الصحابة رضي الله عنهم وكثير من التابعين يرحلون في طلب الحديث الواحد الأيام الكثيرة وقد رحل أبو أيوب من المدينة إلى مصر إلى عقبة بن عامر في حديث واحد
وكتب معاوية إلى المغيرة اكتب إلي ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم ورحل علقمة والأسود إلى عائشة وعمر رضي الله عنهما ورحل علقمة إلى أبي الدرداء بالشام
فقد بينا وجه ترك من ترك بعض الحديث وأزحنا العلة في ذلك ورفعنا الإشكال جملة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
قال أبو محمد وقد موه بعضهم بأن قال إن ابن مسعود كان يسأل عن الشيء فيتركه حتى يأتي المدينة
قال علي وإنما كان هذا في مسألتين فقط وهي مسألة نكاح الأم التي لم يدخل بابنتها فخالفه عمر وقد صح عن زيد بن ثابت وهو مدني مثل قول ابن مسعود
والثانية بيعه نفاية بيت المال ثم رجع عن ذلك
قال علي وكيف يكون هذا والصحيح أن ابن مسعود قال مخبرا عن نفسه ما من سورة من كتاب الله تعالى إلا وأنا أدري فيما نزلت ولو أني أعلم مكان رجل أعلم مني بكتاب الله عز و جل تبلغني إليه الإبل لأتيته
فكيف يرجع إلى قول غيره من هذه (2/249)
صفته ولقد صدق رضي الله عنه وهو الذي أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يتمسك بعهده وأن يؤخذ القرآن عنه وعن ثلاثة مذكورين معه وقد صح أن عمر بن الخطاب أمر برجم مجنونة فرده عن ذلك وهو كوفي وكذلك وجد عند المغيرة خبر إملاص المرأة وهو كوفي لم يكن عند أهل المدينة
قال علي وقد موه بعضهم بأن ذكر ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود ثنا محمد بن المثنى ثنا سهل بن يوسف قال حميد أنبأ عن الحسن قال خطب ابن عباس في آخر رمضان على منبر البصرة فقال أخرجوا صدقة صومكم فكأن الناس لم يعلموا فقال من ههنا من أهل المدينة فقوموا إلى إخوانكم فعلموهم فإنهم لا يعلمون فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الصدقة صاعا من تمر أو شعير أو نصف صاع من قمح على كل حر أو مملوك ذكر أو أنثى صغير أو كبير
فلما قدم علي رأى رخص الشعير قال قد أوسع الله عليكم فلو جعلتموه صاعا من كل شيء
قال علي وهذا الحديث قبل كل شيء لا يصح لوجوه ظاهرة أولها أن الكذب والتوليد والوضع فيه ظاهر كالشمس لأنه لا خلاف بين أحد من أهل العلم بالأخبار أن يوم الجمل كان لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين ثم أقام علي بالبصرة باقي جمادى الآخرة وخرج راجعا إلى الكوفة في صدر رجب وترك ابن عباس بالبصرة أميرا عليها ولم يرجع علي بعدها إلى البصرة هذا ما لا خلاف فيه من أحد له علم بالأخبار
وفي الخبر المذكور ذكر تعليم ابن عباس أهل البصرة صدقة الفطر ثم قدم علي بعد ذلك وهذا هو الكذب البحت الذي لا خفاء فيه
ووجه ثان أن الحسن لم يسمع من ابن عباس أيام ولايته البصرة شيئا ولا كان الحسن يومئذ بالبصرة وإنما كان بالمدينة هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من نقلة الحديث
وأيضا وجه ثالث فإنه حديث مفتعل لا يصح لأن البصرة فتحها وبناها سنة أربع عشرة من الهجرة عتبة بن غزوان المازني بدري مدني ووليها بعده المغيرة بن شعبة وأبو موسى وعبد الله بن عامر وكلهم مدنيون ونزلها من الصحابة المدنيين (2/250)
أزيد من ثلاثمائة رجل منهم عمران بن الحصين وأنس بن مالك وهشام بن عامر والحكم بن عمرو وغيرهم وفتحت أيام عمر بن الخطاب وتداولها ولاته إلى أن وليها ابن عباس بعد صدر كبير من سنة ست وثلاثين من الهجرة فلم يكن في هؤلاء كلهم من يخبرهم بزكاة الفطر بل ضيعوا ذلك وأهملوه واستخفوا به أو جهلوه مدة أزيد من اثنين وعشرين عاما مدة خلافة عمر بن الخطاب وعثمان رضوان الله عليهم حتى وليهم ابن عباس بعد يوم الجمل
أترى عمر وعثمان ضيعا إعلام رعيتهما هذه الفريضة أترى أهل البصرة لم يحجوا أيام عمر وعثمان ولا دخلوا المدينة فغابت عنهم زكاة الفطر إلى بعد يوم الجمل إن هذا لهو الضلال المبين والكذب المفترى ونسبة البلاء إلى الصحابة رضوان الله عليهم أن هذا الخبر ما يدخل تصحيحه في عقل سليم وما حدث الحسن والله أعلم بهذا الحديث إلا على وجه التكذيب له لا يجوز غير ذلك
ثم نقول لهم لو صح وهو لا يصح لكان حجة على المالكيين لأنه خلاف مذهبهم في صدقة الفطر لأنهم يرون أنه لا يجزي فيها من البر إلا صاع فعاد حجة عليهم ولا أضل ممن يحتج بما لا يصح نعوذ بالله من الخذلان وإنما يصح هذا الحديث بخلاف اللفظ المذكور لكن كما حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا قتيبة بن سعيد ثنا حماد هو ابن زيد عن أيوب السختياني عن أبي رجاء هو العطاردي قال سمعت ابن عباس يخطب على منبركم يعني منبر البصرة يقول صدقة الفطر صاع من طعام
وقد موه بعضهم بأن قال إن أهل المدينة هم شهدوا آخر عمل رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال علي وهذا قول رجل جاهل أو مدلس لا بد له ضرورة من أحد الوجهين فإن كان جاهلا وكان هذا مقداره من العلم فما كان في وسعه أن يفتي في دين الله عز و جل وإن كان هذا مستحيلا للتلبيس في دين الله تعالى فهذا أخبث وأنتن
قال علي وهذا كلام يبطل من وجهين ضروريين أحدهما أننا قد بينا في هذا الباب أنهم أترك الناس لآخر عمل رسول الله صلى الله عليه و سلم والثاني أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا كلهم مدنيين طول مدة رسول الله صلى الله عليه و سلم ومدة أبي بكر وإنما سكنوا الشام والبصرة والكوفة في صدر خلافة عمر رضوان الله عليه فما بعد ذلك لأن الشام ومصر (2/251)
كانت بأيدي الروم والعراق حيث بنيت الكوفة والبصرة كانت بأيدي الفرس ولم يفتتح شيء من كل ذلك ولا سكنه مسلم إلا بعد صدر إمارة عمر هذا أمر لا يجهله من له أقل نصيب من العلم وكل من كان بالعراق والشام ومصر من الصحابة فلم يفارقوا سكنى المدينة طوال حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم ينفرد قط برسول الله من بقي منهم بالمدينة دون من سكن بعد موته عليه السلام العراق أو الشام أو مصر فبطل كذب من موه بما ذكرنا ولله الحمد ووجب بالضرورة أن من بقي بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم ليس بأولى بحسن الظن بهم في الثبات على ما شهدوه من النبي صلى الله عليه و سلم من سائر الصحابة الذين بالأمصار ولا هم أولى بالعلم منهم بل كلهم واجب الحق موصوف بالعلم والدين والنصيحة للمسلمين
قال أبو محمد وهذا الذي جرى عليه الناس كما حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال ثنا يزيد بن أبي إبراهيم ثنا رزيق وكان عاملا لعمر بن عبد العزيز على أيلة أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز في عبد أبق وسرق وذكر أن أهل الحجاز لا يقطعون العبد إذا سرق فكتب إليه كتبت إلي في عبد أبق وسرق وذكر أن أهل الحجاز لا يقطعون الآبق إذا سرق وأن الله تعالى يقول { لئن بسطت إلي يدك لتقتلني مآ أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف لله رب لعالمين } فإن كان قد سرق قدر ما يبلغ ربع دينار فاقطعه
قال علي فهذا عمر بن عبد العزيز لم يلتفت إلى عمل أهل الحجاز وأخذ بعموم القرآن وهو الذي لا يجوز خلافه
فصل في فضل الإكثار من الرواية للسنن
قال علي واستغاث بعضهم إلى ذم الإكثار من الرواية ونسبوا ذلك إلى عمر بن الخطاب وذكروا الخبر عنه أنه لم يلتفت لرواية فاطمة بنت قيس في أن لا نفقة ولا سكنى للمبتوتة ثلاثا وأنه قال لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لكلام امرأة لا ندري لعلها نسيت وتوعد أبا موسى بضرب الظهر والبطن إن لم يأته بشاهد على (2/252)
ما حدث به من حكم الاستئذان
وإن أبا بكر الصديق لم يأخذ برواية المغيرة بن شعبة في ميراث الجدة
حتى شهد له بذلك محمد بن مسلمة وأن عائشة أم المؤمنين لم تلتفت إلى قول أبي هريرة في المشي في خف واحد وقالت لأحنثن أبا هريرة ومشت في نعل واحدة
وأن عثمان حمل إليه محمد بن علي بن أبي طالب من عند أبيه كتاب حكم النبي صلى الله عليه و سلم في الزكاة فقال له أغنها عنا فرجع إلى أبيه فقال ضع الصحيفة حيث وجدتها وأن عمارا قال لعمر في حديث التيمم أما والله يا أمير المؤمنين لئن شئت لما جعل الله لك علي من الحق ألا أحدث بذلك أبدا فعلت
فقال له عمر لا ولكن نوليك من ذلك ما توليت وأن ابن عباس لم يلتفت لرواية أبي هريرة في الوضوء مما مست النار ولا رواية الحكم بن عمرو الغفاري في الوضوء من فضل المرأة ولا رواية علي في النهي عن المتعة ولا رواية أبي سعيد الخدري في النهي عن الدرهم بالدرهمين يدا بيد وابن عمر ذكرت له رواية أبي هريرة في كلب الزرع فقال إن لأبي هريرة زرعا وإن معاوية لم يلتفت لرواية عبادة بن الصامت وأبي الدرداء في النهي عن الفضة بالفضة بتفاضل يدا بيد
فهؤلاء أبو بكر وعثمان وعلي وعائشة وعمار وابن عباس وابن عمر ومعاوية ذكروا نحو هذا أيضا عن نفر من التابعين
قال علي وقولهم هذا دحض بالبرهان الظاهر ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم وهو أنه يقال لمن ذم الإكثار من الرواية أخبرنا عن الرواية لحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم أخير هي أم شر ولا سبيل إلى وجه ثالث فإن قال هي خير فالإكثار من الخير خير وإن قال هي شر فالقليل من الشر شر وهم قد أخذوا منه بنصيب فيلزمهم أن يعترفوا بأنهم يتعلمون الشر ويعلمون به أما نحن فلسنا نقر بذلك بل نقول إن الإكثار منها لطلب ما صح هو الخير كله
وأيضا فنقول لهم عرفونا حد الإكثار من الرواية المذمومة عندكم لنعرف ما تكرهون وحد غير الإكثار المستحب عندكم فإن حدوا في ذلك حدا كانوا قد قالوا بالباطل { يأيها لذين آمنوا لا تتبعوا خطوات لشيطان ومن يتبع خطوات لشيطان فإنه يأمر بلفحشآء ولمنكر ولولا فضل لله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن لله يزكي من يشآء ولله سميع عليم } وقالوا (2/253)
بلا برهان وبغير علم وإن لم يجدوا في ذلك حدا كانوا قد حصلوا في أسخف منزلة إذ لا يدرون ما ينكرون ولا يحسنون
وهذا هو الضلال ونعوذ بالله منه
وأيضا فيقال لهم ما الذي جعل أن يكون ما رواه مالك من الحديث خيرا ويكون ما رواه شرا دون أن تكون القصة معكوسة ونحن نعوذ بالله من كل ذلك بل الخير كله التفقه في الآثار والقرآن وضبط ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم
وقد حض النبي صلى الله عليه و سلم على أن يبلغ عنه وهذا التفقه والنذرة التي أمر الله تعالى بها وليت شعري إذا كان الإكثار من الحديث شرا فأين الخير أفي التقليد الذي لا يلزمه إلا جاهل أو فاسق أم في التحكم في دين الله عز و جل بالآراء الفاسدة التي قد حذر الله تعالى منها وزجر النبي صلى الله عليه و سلم عنها
وفخر بعضهم بأن مالكا كان يسقط من موطئه كل سنة وإنه لم يحدث بكثير مما كان عنده
قال علي هذا فخر من يريد أن يمدح فيذم ويريد أن يبني فيهدم ولا يخلو ما حدث به مالك وما لم يحدث به من أن يكون حدث بالصحيح عنده وترك ما لم يصح فقد أحسن
وكذا كل من حدث أيضا بما يصح عنده ممن ليس مالك بأعلم منه ولا أروع كسفيان وشعبة والأوزاعي وأيوب وغيرهم وأن يكون حدث بالسقيم وكتم الصحيح وقد نزهه الله تعالى عن ذلك لأن هذه صفة أفسق الفاسقين أو يكون حدث بسقيم وصحيح وكتم صحيحا وسقيما فمن فعل ذلك فهو آثم وملعون لكتمانه علما صحيحا عنده فبطل ما أرادوا يمدحوه به وعاد ذما عظيما لو صح عليه ذلك وأعوذ بالله من ذلك
وبرهان آخر يوضح كذب من قال هذا وهو أن الموطأ ألفه مالك رضي الله عنه بعد موت يحيى بن سعيد الأنصاري بلا شك ومات يحيى بن سعيد في سنة ثلاث وأربعين ومائة
ولسنا نقول هذا بظننا بل يقينا فهكذا روينا بإسناد متصل إلى يحيى بن سعيد القطان أنه قال لقينا مالكا قبل أن يصنف ولقيناه سنة اثنتين وأربعين ومائة بعد موت موسى بن عقبة بسنة ولم يزل الموطأ يروى عن مالك منذ ألفه طائفة بعد طائفة وأمة بعد أمة وآخر من رواه عنه من الثقات أبو المصعب الزهري لصغر سنه وعاش بعد موت مالك ثلاثا وستين سنة وموطؤه أكمل الموطآت لأنه فيه (2/254)
خمسمائة حديث وتسعين حديثا بالمكرر أما بإسقاط التكرار فخمسمائة حديث وتسعة وخمسون حديثا وكان سماع ابن وهب للموطأ من مالك قبل سماع أبي المصعب بدهر وكذلك سماع ابن القاسم ومعن بن عيسى وليس في موطأ ابن القاسم إلا خمسمائة حديث وثلاثة أحاديث وفي موطأ ابن وهب كما في موطأ أبي المصعب ولا مزيد فبان كذب هذا القائل والحمد لله رب العالمين
قال علي ولئن كان جميع حديث النبي صلى الله عليه و سلم مذموما فإن مالكا لمن أول من فعل ذلك فإن أول من ألف في جمع الحديث فحماد بن سلمة ومعمر ثم مالك ثم تلاهم الناس وأما نحن فإننا نحمد ذلك من فعلهم
ونقول إن لهم ولمن فعل فعلهم في ذلك أعظم الأجر لعظيم ما قيدوا من السنن وكثيرا ما بينوا من الحق وما رفعوا من الإشكال في الدين وما فرجوا بما كتبوا من حكم الاختلاف فمن أعظم أجرا منهم جعلنا الله بمنه ممن تبعهم في ذلك بإحسان آمين
وأما رد عمر رضي الله عنه لحديث فاطمة بنت قيس فقد خالفته فاطمة وهي من المبايعات المهاجرات للصواحب فهو تنازع من أولي الأمر ليس قول أولى من قولها ولا قولها أولى من قوله إلا بنص والنص موافق لقول فاطمة وعمر مجتهد مخطىء في رد ذلك مأجور مرة ولا تعلق للمالكيين بهذا الخبر لأنهم خالفوا رواية فاطمة وخالفوا قول عمر فلم يتعلقوا بأحدهما
وأما ما ذكروا من نهي عمر رضي الله عنه في الإكثار من الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم فحدثنا محمد بن سعيد ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا الخشن ثنا بندار ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا شعبة عن بيان عن الشعبي عن قرظة هو ابن كعب الأنصاري قال شيعنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى صرار فانتهى إلى مكان فتوضأ فيه
فقال أتدرون لما شيعتكم قلنا لحق الصحبة
قال إنكم ستأتون قوم تهتز ألسنتهم بالقرآن كاهتزاز النخل فلا تصدروهم بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا شريككم قال قرظة فما حدثت بشيء بعد ولقد سمعت كما سمع الصحابي
فهذا لم يذكر فيه الشعبي أنه سمعه من قرظة وما نعلم أن الشعبي لقي قرظة ولا سمع منه بل لا شك في ذلك لأن قرظة رضي الله عنه مات والمغيرة بن شعبة أمير الكوفة (2/255)
هذا مذكور في الخبر الثابت المسند وأول من نيح عليه بالكوفة قرظة بن كعب
فذكر المغيرة عنده ذلك خبرا مسندا في النوح ومات المغيرة سنة خمسين بلا شك والشعبي أقرب إلى الصبا فلا شك في أنه لم يلق قرظة قط فسقط هذا الخبر بل قد ذكر بعض أهل العلم بالأخبار أن قرظة بن كعب مات وعلي رضوان الله عليه بالكوفة فصح يقينا أن الشعبي لم يلق قط قرظة ولا عقل عنه كلمة وحدثنا أيضا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا محمد بن عيسى بن رفاعة ثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو عبيد ثنا أبو بكر هو ابن عياش عن أبي حصين يرفعه إلى عمر أنه حين وجه الناس إلى العراق قال جردوا القرآن
وأقلوا الراوية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا شريككم
قال أبو محمد وأبو حصين لم يولد إلا بعد موت عمر بدهر وأعلى من عنده ابن عباس والشعبي
قال علي وروي عنه أيضا أنه رضي الله عنه أنه حبس ابن مسعود من أجل الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم كما روينا بالسند المذكور إلى بندار ثنا غندر ثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال قال عمر لابن مسعود ولأبي الدرداء وأبي ذر ما هذا الحديث على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال وأحسبه أنه لم يدعهم أن يخرجوا من المدينة حتى مات
قال علي هذا مرسل ومشكوك فيه من شعبة فلا يصح
ولا يجوز الاحتجاج به ثم هو في نفسه ظاهر الكذب والتوليد لأنه لا يخلو عمر من أن يكون اتهم الصحابة وفي هذا ما فيه أو يكون نهى عن نفس الحديث وعن تبليغ سنن رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المسلمين وألزمهم كتمانها وجحدها وأن لا يذكروها لأحد فهذا خروج عن الإسلام وقد أعاذ الله أمير المؤمنين من كل ذلك ولئن كان سائر الصحابة متهمين في الكذب على النبي صلى الله عليه و سلم فما عمر إلا واحد منهم وهذا قول لا يقوله مسلم أصلا (2/256)
ولئن كان حسبهم وغيرهم متهمين لقد ظلمهم فليختر المحتج لمذهبه الفاسد بمثل هذه الروايات الملعونة أي الطريقتين الخبيثتين شاء ولا بد له من أحدهما وإنما معنى نهي عمر رضي الله عنه من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لو صح فهو بين في الحديث الذي أوردناه من طريق قرظة وإنما نهى عن الحديث بالأخبار عمن سلف من الأمم وعما أشبه
وأما بالسنن عن النبي صلى الله عليه و سلم فإن النهي عن ذلك هو مجرد وهذا ما لا يحل لمسلم أن يظنه ممن دون عمر من عامة المسلمين فكيف بعمر رضي الله عنه
ودليل ما قلنا أن عمر قد حدث بحديث كثير عن النبي صلى الله عليه و سلم
فإن كان الحديث عنه عليه السلام مكروها فقد أخذ عمر من ذلك بأوفر نصيب ولا يحل لمسلم أن يظن بعمر رضي الله عنه أنه نهى عن شيء وفعله لأنه قد روي عنه رضوان الله عليه خمسمائة حديث ونيف على قرب موته من موت النبي صلى الله عليه و سلم فصح أنه كثير الرواية والحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم وما في الصحابة أكثر رواية عن النبي صلى الله عليه و سلم من عمر بن الخطاب إلا بضعة عشر منهم فقط
فصح أنه قد أكثر الرواية عن النبي صلى الله عليه و سلم فصح بذلك التأويل الذي ذكرنا لكلامه رضي الله عنه وهكذا القول فيما روي من ذلك عن معاوية رضي الله عنه ولا فرق
وقد جاء ما قلناه عن عمر رضي الله نصا دون تأويل كما أنبأ عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية القرشي ثنا ابن خليفة الفضل بن الحباب الجمحي قال ثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي ثنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن عبد الله بن الأشج أن عمر بن الخطاب قال سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنة أعلم بكتاب الله عز و جل
قال علي وقد صح بهذا أن عمر أمر بتعليم السنن وأخبر أنها تبين القرآن فصح ما قلناه يقينا بلا مرية وارتفع اللبس والحمد لله رب العالمين
وأعجب من هذا كله أن المالكيين المحتجين بأن عمر رضي الله عنه حبس ابن مسعود وأبا موسى وأبا الدرداء بالمدينة على الإكثار من الحديث ينبغي لهم أن يحاسبوا أنفسهم فيقولوا إذا أنكر عمر على ابن مسعود وأبي موسى وأبي الدرداء الإكثار من (2/257)
الحديث وسجنهم على ذلك وهم أكابر الصحابة وعدول الأمة وليس لابن مسعود إلا ثمانمائة حديث ونيف وليس لأبي الدرداء إلا مائة حديث ونيف لعله لا يصح عنهما إلا أقل من نصف هذين العددين ماذا كان يصنع بمالك لو رأى موطأه قد جمع فيه ثمانمائة حديث ونيفا وثلاثين حديثا من مسند ومرسل أين كنتم ترونه يبلغ به وهو ينكر على الصحابة بزعمكم الكاذب دون هذا العدد فلو كان لهؤلاء القوم دين أو عقل أما كان يحجزهم عن الإقدام على الإنكار على الصحابة رضوان الله عليهم أمرا يجيزون لصاحبهم أكثر منه إن هذا لعجب
وأما الحنفيون فقد طردوا أصلهم ههنا لأن صاحبهم أقل الحديث ولم يطلبه بكثرة خطئه وقلة حديثه وحسبنا الله ونعم الوكيل والرواية في حبس ابن مسعود في ذلك عنه ضعيفة وإنما صح أنه تشدد في الحديث كما ذكرنا وكان يكلف من حدثه بحديث أن يأتي بآخر سمعه معه وإنما فعل ذلك اجتهادا منه وقد أنكره عليه أبي فرجع عمر عن ذلك وذلك مذكور في حديث الاستئذان وحتى لو صح ذلك عن عمر ومعاوية فقد خالفهما في ذلك أبي وعبادة وبلغ ذلك بأحدهما إلى أن حلف ألا يساكنه في بلد واحد فمن جعل قول معاوية أولى من قول عبادة وأبي الدرداء
وأما الرواية عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لم يقنع بقول المغيرة وروايته فمنقطعة لا تصح ولو صححت لما كان لهم فيها حاجة
لأنهم يقولون بخبر الواحد إذا وافقهم ولا معنى لطلب راو آخر فالذي يدخل خبر الواحد يدخل خبر الاثنين ولا فرق إلا أن يفرق بين ذلك نص فيوقف عنده
وأما الرواية عن عائشة أم المؤمنين فإنما موهوا بإيرادها ولا حجة لهم فيها لأنها لم تقل قط أنها لم تصدق أبا هريرة ولا أنها تستجيز رد حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما ذكر لها أن أبا هريرة ينهى عن المشي في نعل واحد فقالت لأحنثن أبا هريرة وأحسنت وبرت
فلو لم يكن في هذا إلا قول أبي هريرة لما لزم الأخذ به
وأما خبر عثمان فلا ندري على أي وجه أورده
والذي نظن بعثمان أنه كان عنده عن النبي صلى الله عليه و سلم رواية في صفة الزكاة استغنى بها عما عند علي بل نقطع بهذا عليه قطعا ولا وجه لذلك الخبر سوى هذا أو المجاهرة بخلاف النبي صلى الله عليه و سلم وقد أعاذه الله من ذلك فإن صاروا إلى توجيهنا بطل تعلقهم بهذا الخبر
وإن وجهوه على هذا الوجه الآخر (2/258)
لحقوا بالروافض ونسبوا إلى عثمان الكفر أو الفسق وقد برأه الله من ذلك وأن من نسب إليه لأولى به من عثمان بلا شك
وأما قول عمار لعمر فيعيذ الله عمارا من أن يستجيز جحد سنة عنده عن النبي صلى الله عليه و سلم موافقة لرأي عمر
هذه صفة توجب الكفر لمن استحلها ويوجب الفسق لمن فعلها غير مستحل لها لا يختلف في ذلك اثنان من أهل الإسلام مع مجيء النص بذلك فيمن يكتم حكم الله تعالى أو يخالفه
وإنما قال ذلك عمار مبكتا لعمر إذ خالفه بمعنى أترى لي أن أكتم هذا الخبر نعم إن شئت كما قال تعالى { إن لذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينآ أفمن يلقى في لنار خير أم من يأتي آمنا يوم لقيامة عملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير } أو غير هذا وهو في الخبر ذكر أن عمر أجنب فلم يصل فهذا الذي أراد عمار كتمانه وأنه لا يحدث به أبدا لواجب حق عمر عليه وهذا مباح إذ ليس ذكر اسم عمر في ذلك من السنن ولا له فائدة لكن عمر رضي الله عنه لم يفسح له في ذلك بل ولاه من التصريح باسمه في ذلك ما تولى
وأما ابن عباس فإنه روى في فضل المرأة من طريق ميمونة خبرا بنى عليه وروى في المتعة إباحة شهدها فثبت عليها ولم يحقق النظر وقد أنكر ذلك عليه علي بن أبي طالب وأغلظ عليه القول وروي في الدرهم بالدرهمين خبرا عن أسامة عن النبي صلى الله عليه و سلم فثبت عليه وأنكر عليه ذلك أبو سعيد وأغلظ له في القول جدا ولم يعارض خبر الحكم في فضل المرأة بأكثر من أن قال هي ألطف بنانا وأطيب ريحا فليس في هذا رد للحديث ولا لحكمه بل صدق في ذلك وقد خالفه في الوضوء مما مست النار وفي غسل اليد ثلاثا قبل إدخالها في الإناء أبو هريرة وأغلظ له في القول فليت شعري من جعل قول ابن عباس أولى من قول علي وأبي هريرة والحكم بن عمرو وأبي سعيد
وأما قول ابن عمر إن لأبي هريرة زرعا فصدق وليس في هذا رد لرواية أبي هريرة أصلا فإذا لم يبق من جميع ما اعترضوا به إلا اختلاف الصحابة في بعض ذلك مما صح وثبت فالواجب الرد المفترض الذي لا يحل سواه هو الرد في ذلك إلى الله تعالى وإلى النبي صلى الله عليه و سلم إذ كان صاحب في ذاته فغير مبعد عنه الوهم لا سيما إذا اختلفوا فمضمون أن أحد القولين خطأ فوجدنا الله تعالى قد أمر بالتفقه في الدين وإنذار (2/259)
الناس به وأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه و سلم ولا سبيل إلى طاعته عليه السلام إلا بنقل كلامه وضبطه وتبليغه ولا سبيل إلى التفقه في الدين إلا بنقل أحكام الله تعالى وأحكام رسوله صلى الله عليه و سلم ووجدناه صلى الله عليه و سلم قد حض على تبليغ الحديث عنه وقال في حجة الوداع لجميع من حضر ألا فليبلغ الشاهد الغائب فسقط قول من ذم الإكثار من الحديث
ثم العجب فيه إيرادهم لهذه الآثار التي ذكرنا عمن أوردوها عنه من الصحابة فوالله العظيم ما أدري غرضهم في ذلك ولا منفعتهم بها ولا شك أنهم لا يدرون لماذا أوردوها لأنهم إن كانوا أوردوها طعنا في القول بخبر الواحد فليس هذا قولهم بل هم كلهم يقولون بخبر الواحد وأيضا فهي كلها أخبار آحاد وليس شيء منها حجة عند من لا يقول بخبر الواحد وهذا عجب جدا أو يكونوا أوردوها على إباحة رد المرء ما لم يوافقه من خبر الواحد وأخذ ما وافقه من ذلك فهذا هوس عتيق أول ذلك أنهم يردون بعض ما لم يرده من احتجوا به من الصحابة ويأخذون ببعض ما رده من احتجوا به منهم وأيضا فإن كان الأمر كذلك فقد اختلط الدين وبطل لأن لخصومهم أن يردوا بهذا الباب نفسه ما أخذوا به ويأخذوا ما ردوه هم منه ونعوذ بالله منه
قال علي ولا أضل ولا أجهل ولا أبعد من الله عز و جل ممن يزجر عن تبليغ كلام النبي صلى الله عليه و سلم
ويأمر بألا يكثر من ذلك أو يرد ما لم يوافقه مما صح عن النبي صلى الله عليه و سلم بنظره الملعون ورأيه الفاسد وهواه الخبيث ودعواه الكاذبة ثم يغني دهره في الإكثار من تبليغ آراء مالك وابن القاسم وسحنون وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والتلقي بالقبول لجميعها على غلبة الفساد عليها ألا إن ذلك هو الضلال البعيد
والفتيا بالآراء المتناقضة وبالله تعالى نعتصم
قال علي وأما من ظن أن أحدا بعد موت رسول الله صلى الله عليه و سلم ينسخ حديث النبي صلى الله عليه و سلم ويحدث شريعة لم تكن في حياته عليه السلام فقد كفر وأشرك وحل دمه وماله ولحق بعبدة الأوثان لتكذيبه قول الله تعالى { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم } وقال تعالى (2/260)
{ ومن يبتغ غير لإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في لآخرة من لخاسرين } فمن ادعى أن شيئا مما كان في عصره عليه السلام على حكم ما ثم بدل بعد موته فقد ابتغى غير الإسلام دينا لأن تلك العبادات والأحكام والمحرمات والمباحات والواجبات التي كانت على عهده عليه السلام هي الإسلام الذي رضيه الله تعالى لنا وليس الإسلام شيئا غيرها فمن ترك شيئا منها فقد ترك الإسلام ومن أحدث شيئا غيرها فقد أحدث غير الإسلام ولا مرية في شيء أخبرنا الله تعالى به أنه قد أكمله وكل حديث أو آية كانا بعد نزول هذه الآية فإنما هي تفسير لما نزل قبلها وبيان لجملتها وتأكيد لأمر متقدم
وبالله تعالى التوفيق
ومن ادعى في شيء من القرآن أو الحديث الصحيح أنه منسوخ ولم يأت على ذلك ببرهان ولا أتى بالناسخ الذي ادعى من نص آخر فهو كاذب مفتر على الله عز و جل داع إلى رفض شريعة قد تيقنت فهو داعية من دعاة إبليس وصاد عن سبيل الله عز و جل نعوذ بالله قال الله تعالى { إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون } فمن ادعى أن الناسخ لم يبلغ وأنه قد سقط فقد كذب ربه وادعى أن هنالك ذكرا لم يحفظه الله بعد إذ أنزله
فإن قال قائل الحديث قد يدخله السهو الغلط قيل له إن كنت ممن يقول بخبر الواحد فاترك كل ما أخذت به منه فإنه في قولك محتمل أن يكون دخل فيه السهو الغلط وإن كنت مقلدا فاترك كل من قلدت فإن السهو والغلط قد يدخلان عليه بالضمان
وقد يدخلان أيضا في الرواة عنهم الذين عنهم أخذت دينك وإلا فالرواة عن النبي صلى الله عليه و سلم أوثق من الرواة عن مالك وأبي حنيفة نعم ومن مالك وأبي حنيفة أنفسهما
وإن كنت ممن يبطل خبر الواحد جملة فقد أثبتنا البرهان على وجوب قبوله وما ثبت بيقين فلا يبطل بخوف سهو لم يتيقن والحق لا تسقطه الظنون قال الله تعالى { وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا } ولزمه أن يسقط القبول لشهادة الشاهدين في الدماء والفروج والأموال إذ يدخل عليهما السهو والغلط وتعمد الكذب وبالله تعالى التوفيق (2/261)
فصل في صفة الرواية
قال علي الرواية هي أن يسمع السامع الناقل الثقة يحدث بحديث من كتابه أو من حفظه أو بأحاديث
فجائز أن يقول حدثنا وحدثني وأخبرنا وأخبرني وقال لي وقال لنا وسمعت وسمعنا وعن فلان وكل ذلك سواء وكل ذلك معنى واحد أو يقرأ الراوي عن الناقل حديثا أو أحاديث فيقول المروي عليه بها ويقول نعم هذه روايتي وأن يسمعها تقرأ عليه ويقر بها المروي عنه أو يناول المروي عنه الراوي كتابا فيه حديث أو أحاديث أو ديوانا بأسره عظم أو صغر فيقول له هذا ديوان كذا كل ما فيه أخذته عن فلان عن فلان حتى يبلغه إلى مؤلفه ويستثني شيئا إن كان فاته منه بعينه فإن لم يفته شيء فلا يستثني شيئا أن يقول له عن ديوان مشهور مقبول عند الناس نقل تواتر ليس في ألفاظه اختلاف ديوان كذا أخذته عن فلان عن فلان حتى يبلغ إلى مؤلفه فأي هذه الوجوه كان فجائز أن يقول فيه القائل حدثني وأخبرني وهو محق في ذلك وهو كله خبر صحيح ونقل صادق ورواية تامة لا داخلة فيها كالقراءة والسماع ولا فرق
فإن سمعه يخاطب بذلك غيره فليقل سمعت فلانا يخبر عن فلان أو يحدث عن فلان ولا يقل حينئذ نا ولا ني ولا أنا ولا إني فيكذب ولكن إن قال سمعت فلانا فهي رواية صحيحة تامة فليحدث بها وليروها الناس
وسواء أذن له المسموع عنه في ذلك أو لم يأذن حجر عليه الحديث عنه أو أباحه إياه كل ذلك لا معنى له ولا يحل لأحد أن يمنع من نقل حق فيه خير للناس قد سمعه الناقل ولا يحل لأحد أن يبيح لغيره نقل ما لم يسمع ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه وإنما هو حق أو كذب فالحق الذي ينتفع به مسلم واحد فصاعدا واجب نقله والكذب حرام نقله
وأما من كتب إلى آخر كتابا يوقن المكتوب إليه أنه من عنده فيقول له في كتابه ديوان كذا أخذته عن فلان كما وصفنا قبل فليقل المكتوب إليه أخبرني في كتابه إلي
ونحن نقول أنبأنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخبرنا الله تعالى (2/262)
وقال لنا الله تعالى وقال تعالى { ولذين آمنوا وعملوا لصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها لأنهار خالدين فيهآ أبدا وعد لله حقا ومن أصدق من لله قيلا } وقال تعالى { لله نزل أحسن لحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود لذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر لله ذلك هدى لله يهدي به من يشآء ومن يضلل لله فما له من هاد } وإنما ذلك لأنه تعالى خاطب بكتابه كل من يأتي من الإنس والجن إلى يوم القيامة وأمر نبيه صلى الله عليه و سلم بمخاطبة كل من يأتي إلى يوم القيامة من الإنس والجن أيضا فليس منا أحد إلا وخطاب الله تعالى وخطاب رسوله صلى الله عليه و سلم يتوجهان إليه يوم القيامة وليس ذلك لمن دونهما أصلا وإنما يخاطب كل من دون الله تعالى ودون رسوله صلى الله عليه و سلم من شافه أو من كتب إليه أو من سمع منه لفظه إذ لم يأمر الله تعالى أحدا من ولد آدم عليه السلام دون رسول الله صلى الله عليه و سلم بأن ينذر جميع أهل الأرض وإنما يصح من فعل كل واحد ما وافق ما أمره تعالى به لا ما خالف ما أمره الله عز و جل ومن فعل ما لم يؤمر به ففعله باطل مردود
قال علي وأما الإجازة التي يستعملها الناس فباطل ولا يجوز لأحد أن يجيز الكذب ومن قال لآخر ارو عني جميع روايتي دون أن يخبره بها ديوانا ديوانا وإسنادا إسنادا فقد أباح له الكذب لأنه إذا قال حدثني فلان أو عن فلان فهو كاذب أو مدلس بلا شك لأنه لم يخبره بشيء فهذه أربعة أوجه جائزة وهي مخاطبة المحدث للآخذ عنه أو سماع المحدث من الآخذ عنه وقراره له بصحته أو كتاب المحدث إلى الآخذ عنه أو مناولته إياه كتابا فيه علم
وقوله هذا أخبرني به فلان عن فلان وكل هذه الوجوه قد صحت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وعن جميع الصحابة
فأما الأخبار فإخبار النبي صلى الله عليه و سلم بالسنن وإخبار الصحابة بعضهم بعضا فأبو بكر أخبره المغيرة ومحمد بن مسلمة وكذلك كل من بعده منهم وأما قراءة الآخذ على المحدث فقد قال بعض الناس للنبي صلى الله عليه و سلم فأخبرني أهل العلم أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فصدق النبي صلى الله عليه و سلم وكذلك سأل الناس أصحابه عن الأحكام قصدقوا الحق وأنكروا الباطل (2/263)
وأما الكتاب فكتب النبي صلى الله عليه و سلم بالسنن إلى ملوك اليمن وإلى من غاب عنه من ملوك الأرض الذين دعاهم إلى الإيمان وكذلك فعل أصحابه بعده إلى قضاتهم وأمرائهم
وأما المناولة فقد كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم كتابا لعمرو بن حزم ولعمر وغيره إذ بعثهم أمراء يعلمهم فيها السنن وأمرهم بالعمل بما فيها وكذلك لعبد الله بن جحش وأعطاه الكتاب وأمره بالعمل بما فيه وكذلك فعل أبو بكر بأنس وبعث علي كتابا مع ابنه إلى عثمان وقال هذه صدقة رسول الله صلى الله عليه و سلم فمر عمالك يعملون بها
وأما الإجازة فما جاءت قط عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم ولا عن أحد منهم ولا عن أحد من التابعين ولا عن أحد من تابعي التابعين فحسبك بدعة بما هذه صفته وبالله تعالى التوفيق (2/264)
فصل وقد تعلل قوم في أحاديث صحاح
بأن قالواهذا حديث أسنده فلان وأرسله فلان قال علي وهذا لا معنى له لأن فلانا الذي أرسله لو لم يروه أصلا أو لم يسمعه البتة ما كان ذلك مسقطا لقبول ذلك الحديث فكيف إذا رواه مرسلا وليس في إرسال المرسل ما أسنده غيره ولا في جهل الجاهل ما علمه غيره حجة مانعة من قبول ما أسنده العدول لا سيما إن كان المعترض بها مالكيا أو حنفيا فإنهم يرون المرسل مقبولا كالمسند فكيف يوهنون الصحيح بما يرونه موافقا له وشاذا ومؤيدا إن هذا لعجيب وإن هذا لإفراط في الجهل والسقوط ولا معنى لقولهم إنما يراعى هذا إذا كان المرسل أو الموقف أعدل من المسند فإنما يجب قبول الخبر إذا رواه العدل عن العدل ولا معنى لتفاضل العدالة على ما قد ذكرنا في هذا الباب إذ لا نص ولا إجماع ولا دليل على مراعاة عدل وأعدل منه وإنما الواجب مراعاة العدالة فقط وبالله تعالى نتأيد ونعتصم (2/265)
الباب الثاني عشر (3/266)
في الأوامر والنواهي الواردة في القرآن وكلام النبي صلى الله عليه و سلم والأخذ بظاهرها وحملها على الوجوب والفور وبطلان قول من صرف شيئا من ذلك إلى التأويل أو التراخي أو الندب أو الوقف بلا برهان ولا دليل
قال أبو محمد الذي يفهم من الأمر أن الآمر أراد أن يكون ما أمر وألزم المأمور ذلك الأمر وقال بعض الحنفيين وبعض المالكيين وبعض الشافعيين إن أوامر القرآن والسنن ونواهيهما على الوقف حتى يقوم دليل على حملها إما على وجوب في العمل أو في التحريم وإما على ندب وإما على إباحة وإما على كراهة وذهب قوم من الطوائف التي ذكرنا وجميع أصحاب الظاهر إلى القول بأن كل ذلك على الوجوب في التحريم أو الفعل حتى يقوم دليل على صرف شيء من ذلك إلى ندب أو كراهة أو إباحة فتصير إليه
قال علي وهذا هو الذي لا يجوز غيره ونحن إن شاء الله تعالى ذاكرون ما اعترض به المخالفون وبطلان شغبهم بالبراهين الصحيحة ثم نذكر الأدلة على صحة ما ذهبنا إليه وبالله تعالى التوفيق
قال علي فعمدة ما موهوا به أن قالوا لو كان لفظ الأمر موضوعا للإيجاب لم يوجد أبدا إلا كذلك لكن لما وجدنا بلا خلاف منكم لنا أوامر معناها الندب أو الإباحة ووجدنا نواهي بلا خلاف منكم لنا معناها الكراهة وجب ألا نصرف الألفاظ إلى بعض ما تحتمله من المعاني دون بعض إلا بدليل قالوا وألفاظ الأوامر عندنا من الألفاظ المشتركة التي لا تختص بمعنى واحد لكنها بمنزلة عير ورجل ولون وعين فإن قولك رجل ليس هو بأن يوقع على العضو أولى منه بأن يوقع على جماعة الجراد وقولك عير ليس بأن يوقع على الحمار أولى من أن يوقع على العظم الذي في القدم وقولك عين ليس بأن يوقع على يمين عين النظر أولى من أن يوقع (3/269)
على عين الماء وقولك لون ليس بأن يوقع على الحمرة أولى من أن يوقع على البياض فكذلك قول القائل افعل لما وجد يراد به الندب ووجد يراد به إيجاب لم يكن إيقاعه على الإيجاب أولى من إيقاعه على الندب إلا بدليل
قال علي هذا شغب فاسد وذلك أنا نقول وبالله تعالى التوفيق إن لكل مسمى من عرض أو جسم اسما يختص به يتبين به مما سواه من الأشياء ليقع بها التفاهم وليعلم السامع المخاطب به مراد المتكلم المخاطب له ولو لم يكن ذلك لما كان تفاهم أبدا ولبطل خطاب الله تعالى لنا وقد قال الله تعالى { ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وهو لعزيز لحكيم } ولو لم يكن لكل معنى اسم منفرد به لما صح البيان أبدا لأن تخليط المعاني هو الإشكال نفسه فإذن الأصل ما ذكرناه بضرورة العقل وبنص القرآن ثم وجدنا في اللغة أشياء مما ذكروا من أسماء تقع على معان شتى ووجدناها أيضا أسماء يختص كل اسم منها بمسماه فقط وعلمنا أن المراد باللغة إنما هو الإفهام لا الإشكال لزمنا أن نلزم الأصل الذي هو اختصاص كل معنى باسمه دون أن يشاركه فيه غيره حتى يصح عندنا أن هذا الاسم مرتب بخلاف هذه الرتبة وأنه مما لا يقع به بيان فيطلب بيانه حينئذ من غيره
قال علي والذي شبهوا به الأوامر من الأسماء المشتركة التي ذكروا مثل لون وعير ورجل تشبيه فاسد ضرورة وذلك أن المخاطب إذا خاطبنا بخبر ما عن رجل أو عن لون أو أمرنا بأمر ما في ذلك فممكن أن نحمل خبره وأمره على كل ما يقتضيه ما ذكر مثل أن يقول لا تأكلوا عيرا فيجتنب كل ما يقع عليه اسم عير وإن اختلفت أنواعه وكذلك قوله تعالى { وهو لذي أنزل من لسمآء مآء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن لنخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب ولزيتون ولرمان مشتبها وغير متشابه نظروا إلى ثمره إذآ أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } وكان ذلك واقعا على كل ثمر وإن اختلفت أنواعه وكذلك قول القائل الهواء لا لون له
فقد انتفى بذلك عنه البياض والحمرة والسواد والخضرة والصفرة فالفائدة بالخطاب بهذه الأسماء قائمة والتفاهم ممكن وحملها على ما يقتضيه جائز حسن إلا أن يقوم دليل على تخصيص بعض ما تحتها فيصار إليه (3/270)
وهذا غير ممكن في الأوامر التي أرادوا أن يشبهوها بالأسماء التي ذكرنا لأنه إذا قيل لنا افعلوا وكان هذا اللفظ ممكنا أن يراد به الإيجاب وممكنا به الندب أو الإباحة فلا سبيل في بنية الطبيعة إلى حمله على كل الوجوه التي ذكرنا إذ ممتنع بالضرورة أن يكون الشيء ملزما ولا بد ومباحا تركه في وقت واحد لإنسان واحد هذا محال لا يمكن ولا يقدر عليه فيبطل تشبيههم وصح أن الأمر لو كان كما ذكروا لكان غير مقدر على الائتمار له أبدا ولو كان ذلك لبطل الأمر كله ضرورة وإذ قد صح ورود الأمر من الله عز و جل وصح التخاطب بالأوامر في اللغة بين الناس علمنا أنه لا يجوز أن يخاطبنا تعالى بما لا سبيل إلى الائتمار له وبالمحالات التي لا نقدر عليها وصح أن الأمر مراد به معنى مختص بلفظه وبنيته وليس ذلك إلا كون ما خوطب به المأمور وبالله تعالى التوفيق
قال علي وإنما الذي ذكروا من أنهم قد وجدوا أوامر معناها الندب فصدقوا والوجه في ذلك أننا قد وجدنا في اللغة ألفاظا نقلت على معهودها وعن موضوعها في اللسان وعلقت على أشياء أخر فعل ذلك خالق اللغة وأهلها الذي رتبها كيف شاء عز و جل أو فعل في ذلك بعض أهل اللغة من العرب أو فعل ذلك مصطلحان فيما بينها كما نقل تعالى اسم الصلاة عن موضوعها في اللغة عن الدعاء إلى استقبال الكعبة ووقوف وركوع وسجود وجلوس بصفات محدودة لا تتعدى وكما نقل تعالى اسم الصيام عن الوقوف إلى امتناع الأكل والشرب والوطء في أيام معلومة وكما نقل اسم الكفر عن التغطية إلى أقوال محدودة ونيات معلومة فإذا قد وجدنا ذلك لزمنا إذا قام دليل على أن لفظا ما قد نقل عن موضوعه من اللغة ورتب في مكان آخر أن يعتقد ذلك وإما ما لم يقم دليل على نقله فلا سبيل إلى إحالته عن مكانه البتة وقد قال بعض المفسدين للحقائق المتكلمين بما لا يعقل ليس هذا نقلا إنما النقل ما لم يجز أن يبقى على ما نقل عنه
قال علي وهذا تحكم لا يعرفه أهل اللغة بل كل حال أحيلت فقد تنقل حكمها عما كان عليه والاسم إذا وقع على معنى ما فأوقعه الله تعالى أيضا على معنى آخر فقد نقله على حكم الوقوع على معنى واحد إلى حكم الوقوع على معنيين وأيضا فلسنا نحاكرهم في لفظ النقل وإنما نريد أن اللفظة كانت تقع في اللغة على معنى ما فأوقعت أيضا على غير ذلك (3/271)
قال علي ثم نقول لهم ما يلزمكم إن صححتم دليلكم الذي ذكرتم أنكم قد وجدتم آيات كثيرة وأحاديث كثيرة منسوخات لا يحل العمل بها أن تتوقفوا في كل آية وفي كل حديث لاحتمال كل شيء منها في نفسه أن يكون منسوخا كاحتمال كل أمر في نفسه أن يكون ندبا فإن التزمتم ذلك كفرتم وخرجتم عن الإسلام وإن أبيتم التزامه أصبتم وكنتم قد أبطلتم دليلكم في أنه لما قد وجدت أوامر معناها الندب وجب التوقف عن جميع الأوامر حتى يصح أنها إما إيجاب أو ندب
قال علي وليس بين ما ألزمناهم من التوقف عن كل آية وحديث من أجل وجودهم آيات منسوخة وأحاديث منسوخات وبين ما التزموا من التوقف عن كل أمر من أجل وجودهم أوامر معناها الندب فرق البتة بل هو ذلك بعينه لسنا نقول إن مثله بل نقول إن المعنى في ذلك واحد وبيان ذلك أن المنسوخ هو الذي لا يلزم أن يستعمل أو يجوز أن يستعمل والمندوب إليه هو الذي لا يلزم فرضا أن يستعمل أيضا فقد اجتمعنا في سقوط وجوب الاستعمال اجتماعا مستويا وإنما افترقا أن المندوب إليه مباح استعماله والمنسوخ ليس مباحا استعماله في بعض الأحوال فقط فبطل تمويههم وبالله تعالى التوفيق بإقرارهم أنه ليس من أجل وجودنا ألفاظا مصروفة عن مواضعها في اللغة يجوز أن يتوقف في سائر الألفاظ خوف أن تكون مصروفة عن مواضعها فقد بطل الاستدلال الذي أرادوا تحقيقه وبالله تعالى التوفيق
وأيضا فإن لفظة أو ولفظة إن شئت مفهوم منهما التخيير بلا خلاف منا ومنهم ومن جميع أهل اللغة وقد سمعناه تعالى يقول { وقل لحق من ربكم فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بمآء كلمهل يشوي لوجوه بئس لشراب وسآءت مرتفقا } سمعناه تعالى يقول { قل كونوا حجارة أو حديدا } وجدنا الدليل البرهاني قد قام على خروج هاتين الآيتين عن التخيير إلى معنى آخر فيلزم على دليلهم الفاسد ألا يحملوا لفظة أو ولا لفظة إن شئت أبدا على التخيير لأنه يقال لهم كما قالوا لو كانت لفظتا أو و إن شئت على التخيير لكانت متى وجدت لما تكن إلا للتخيير فلما وجدت لغير التخيير في عدة مواضع بطل أن تكون للتخيير (3/272)
قال علي وفي هذا إبطال الكلام كله وإبطال التفاهم وفساد الحق والشرائع كلها والعلوم كلها لأنه لا قول إلا وقد يوجد موضوعا في غير بنيته في اللغة إما على المجاز أو الاتفاق بين المتخاطبين فلو وجب من أجل ذلك أن يبطل حمل الأسماء على معانيها التي رتبت لها في اللغة لبطل كل ما ذكرنا وكفى فسادا بكل قول أدى إلى إبطال الحقائق وبالله تعالى التوفيق
قال علي فإن قالوا إنا لم نوافقكم على أن لفظ الأمر موضوعه في اللغة الوجوب فيلزمنا ما ألزمتمونا وإنما قلنا إنه ليس موضوعه في اللغة الوجوب دون الندب ولا الندب دون الوجوب
قال علي فنقول وبالله تعالى التوفيق قد أبطلنا في كلامنا هذا جواز وقوع لفظ الأمر على الوجوب وعلى الندب معا وفرقنا بين ذلك وبين وقوع الألفاظ المشتركة مثل لون وعير على معان شتى وبينا أن ذلك جائز ممكن موجود وأن وقوع لفظ الأمر على الوجوب وعلى الندب معا محال ممتنع لا سبيل إليه ولا يتشكل في العقل البتة فصح ضرورة أن لفظ الأمر موضوع في أصل اللغة إما للوجوب فقط ثم نقل بدليل كما ذكرنا في بعض المواضع إلى الندب أو إلى غير الوجوب من سائر المعاني التي سنبينها إن شاء الله تعالى وإما أنه موضوع في أصل اللغة للندب خاصة أو لمعنى ما من سائر المعاني التي قد وردت بلفظ الأمر ثم نقل إلى الوجوب بدليل فهذا هو الذي يتشكل في العقل وأما احتمال وقوع لفظ الأمر على الندب والوجوب معا في وقت واحد فهذا باطل لأنه يوجب أن ورود الأمر لا حقيقة له أصلا ولا له معنى البتة وهذا أحمق من قول السوفسطائية فهذا الذي أردنا أن نبين إحالته وقد صح والحمد لله
ولا بد لكم من المصير إلى أحد الخبرين ضرورة إما أن تقولوا لفظ الأمر موضوع للوجوب في اللغة حتى يصح دليل بنقله إلى غير الوجوب وهذا قولنا وإما أن تقولوا لفظ الأمر موضوع لغير الوجوب في اللغة حتى يصح دليل ينقله إلى الوجوب فإن قلتم ذلك سهل أمركم بقول وجيز بحول الله وقوته وحسبنا أن قد قلعناكم بلطف الله عن مكان الشغب على الجهال وذلك أن قول القائل الأوامر كلها على غير الوجوب حتى يصح دليل نقلها إلى الوجوب دخول في عظيمتين إحداهما خرق الإجماع فما قال بهذا أحد قط وإنما شغب من شغب بالموقف وبما قدمنا (3/273)
إبطاله من احتمال الأمرين والثانية إبطال فائدة العقل لأنه يصير حينئذ قائلا إن الموضوع في اللغة من لفظة افعل لا تفعل إن شئت وهذا خلاف فهم جميع أهل اللغات لأن الثابت في فطرة العقل أن النهي عن الشيء غير الأمر به وكفى مع أن الإجماع على ترك هذا القول كاف عن تكلف دليل
وبرهان ضروري وهو أنه إن كانت لفظة افعل موضوعة لغير الإيجاب إلا بدليل يخرجها إلى الإيجاب وكانت أيضا لفظة لا تفعل موضوعة لغير التحريم إلا بدليل يخرجها إلى التحريم وكان كلتا اللفظتين تعطي افعل إن شئت أو لا تفعل إن شئت فقد صار ولا بد من المفهوم من لا تفعل هو المفهوم من افعل وهذا لا يقوله ذو مسكة عقل
قال علي قالوا وبأي شيء يدل على أنه على الوجوب أبنفسه أم بدليله فإن قلتم بنفسه ففي ذلك اختلفنا وإن كان بدليله فإذا لم يدل هو فدليله أحرى أن لا يدل
قال علي وهذا شغب فاسد ضعيف جدا
تعلقوا إليه من قبل مبطلي الحقائق فإنهم قد سألونا بهذا السؤال نفسه فقالوا بماذا ثبت عندكم أن الأشياء حق أبأنفسها ففيها اختلفنا أم بغيرها فلا شيء في العالم يوجد من غير الأشياء الموجودة وليس غير الأشياء إلا لا شيء فإذا لم يدل الشيء على حقيقة نفسه فلا شيء أحرى ألا يدل وتعلق أيضا بهذا السؤال مبطلو دلائل العقل فقالوا بأي شيء علمتم صحة ما يدل عليه العقل أبالعقل أم بغير العقل ونحو هذا من الهذيان كثير وهؤلاء القوم في شعبة من طريق مبطلي الحقائق ومبطلي مدركات العقل
ونعكس عليهم سؤالهم هذا السخيف الذي صححوه فهو لازم لهم لا لنا إذ لم نصححه ونقول لهم بأي شيء يدل الأمر على أنه على الوقف أبنفسه أم بدليله فإن قلتم بنفسه ففي ذلك اختلفنا وإن كان بدليله فإذا لم يدل هو فدليله أحرى ألا يدل فمن أحمق استدلالا ممن دليله عائد عليه وهادم لقوله وإنما هم قوم لا يحققون شيئا إنما هم في سبيل التشغيب على الضعفاء وما يخدعون إلا أنفسهم
والجواب عن هذا السؤال السخيف وبالله تعالى التوفيق أنا قد أخبرنا فيما خلا وفي سائر كتبنا بأننا مضطرون إلى معرفة أن الأشياء حقائق وأنها موجودة على (3/274)
حسب ما هي عليه وبأنه لا يدري أحد كيف وقع له ذلك وبينا أن هذه المعرفة التي اضطرنا إليها وخلقها الباري تعالى في أنفسنا في أول أوقات فهمنا بعد تركيبها في الجسد هي أصل لتمييز الحقائق من البواطن وهي عنصر لكل معرفة وإننا عرفنا إيجاب الأوامر ببديهة العقل وبالتمييز الموضوعين فينا لنعرف بها الأشياء على ما هي عليه فعلمنا أن الحجر صليب وأن الماء سيال في طبعه وإن انتقل إلى الجمود في بعض أحواله وأن قول القائل فلان أحمق ذم وأن قوله فلان عاقل مدح وأن الأمر عنصر من عناصر الكلام التي هي خير ودعاء واستفهام وأمر فلما استقر في النفس أن إرادة الأمر أن يفعل المأمور ما يأمره به معنى قائم في النفوس لم يكن له بد من عبارة يقع بها التفاهم وعلمنا ذلك أيضا بنصوص سنذكرها في تمام إبطال ما شغبتم به إن شاء الله تعالى وبالله نتأيد وإياه نستعين
هذا كل ما احتج به القائلون بالوقف ولا مزيد فقد أبطلناه بالبرهان الضروري بتوفيق الله تعالى وتعليمه لا إله إلا هو إلا أن ابن المنتاب المالكي أتى بعظيمة فلزمنا التنبيه عليها إن شاء الله تعالى وذلك أنه قال إن من الدليل على أن الأوامر على الوقف قول الله تعالى مخبرا عن أهل اللغة الذين هم العرب { ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا لعلم ماذا قال آنفا أولئك لذين طبع لله على قلوبهم وتبعوا أهوآءهم } قال فلو كانت الأوامر على الوجوب والألفاظ على العموم لما كان لسؤالهم عما قاله عليه السلام معنى إذ لو فهم الوجوب والعموم من نفس اللفظ لكان سؤالهم فاسدا
قال علي لا يشبه هذا القول احتجاج مسلم لأن الله تعالى حكى هذا الاعتراض عن قوم منافقين كفار لم يرض فعلهم ولا سؤالهم وإنما حكى الله عز و جل ذلك عنهم منكرا عليهم وقد قال تعالى { فأنجيناه وأصحاب لسفينة وجعلناهآ آية للعالمين } فأخبر تعالى أن ظاهر القرآن وتلاوته تكفي أن ذلك يجب قبوله على ظاهره حين وروده هذا نص الآية المذكورة ووصية الله تعالى التي لا تحتمل غير ما ذكرنا ولا أعجب من احتجاج من يدعي أنه مسلم في إسقاطه إيجاب طاعة الله عز و جل وطاعة رسوله صلى الله عليه و سلم بكلام قوم كفار منافقين مستهزئين بآيات الله عز و جل (3/275)
وما نعرف لهذا الاحتجاج مثلا في الشنعة والفظاعة إلا قول إسماعيل بن إسحاق في كتابه الخمس وهو كتاب مشهور معلوم ولنا عليه فيه رد هتكنا عواره فيه وفضحناه بحول الله وقوته فإن قال في الكتاب المذكور لو كان ما أعطى النبي صلى الله عليه و سلم صناديد قريش من غنائم هوازن إثر يوم حنين من نصيبه من خمس الخمس كما قال الشافعي ما قالت الأنصار في ذلك ولا قال ذو الخويصرة ما قال
قال علي فمن أضل ممن يحتج بكلام ذي الخويصرة ويتخذ ذا الخويصرة وليجة من دون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم ويجعل إنكار كافر مشرك شر خلق الله هجور لرسول الله صلى الله عليه و سلم حجة على المؤمنين القائلين إن رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما أعطى من أعطى نصيبه الذي فوض الله تعالى أمره إليه لا مما جعله الله عز و جل لأقوام مسلمين معروفين اللهم إنا نبرأ إليك من هذا الكلام ومن نصر مذهب قاد إلى الاحتجاج بإنكار ذي الخويصرة على رسول الله صلى الله عليه و سلم وبقول المنافقين ماذا قال آنفا
ونحن نقول قول إنصاف إذ قد اقتدى ابن المنتاب بالقائلين إذ خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد استمعوا إليه ثم قالوا لأهل العلم ممم وتبرأنا نحن منهم ومن مثل سؤالهم واقتدينا نحن بالذين قالوا { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم لمفلحون } فلله ما اختار وله إن شاء الله تعالى ما أعطى الله للذين اقتدى بهم إذ قال عز و جل يعقب حكاية قوله { يا أيها لذين آمنوا لا تحلوا شعآئر لله ولا لشهر لحرام ولا لهدي ولا لقلائد ولا آمين لبيت لحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن لمسجد لحرام أن تعتدوا وتعاونوا على لبر ولتقوى ولا تعاونوا على لإثم ولعدوان وتقوا لله إن لله شديد آلعقاب }
{ يا أيها لذين آمنوا لا تحلوا شعآئر لله ولا لشهر لحرام ولا لهدي ولا لقلائد ولا آمين لبيت لحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن لمسجد لحرام أن تعتدوا وتعاونوا على لبر ولتقوى ولا تعاونوا على لإثم ولعدوان وتقوا لله إن لله شديد آلعقاب } { ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا لعلم ماذا قال آنفا أولئك لذين طبع لله على قلوبهم وتبعوا أهوآءهم } } ( محمد 16 ) ونحن راجون أن يعطينا الله بمنه وطوله ما أعطى من اقتدينا بهم في قولهم { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم لمفلحون } إذ يقول الله تعالى { إنما كان قول لمؤمنين إذا دعوا إلى لله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم لمفلحون } ونعم فليعلم الجاهل المعترض بأقوال المنافقين المشركين على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه و سلم أن قول الذين قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا لا معنى لسؤالهم هذا ولا يعقل سؤالهم لأنه سؤال مجنون فاسد الدين ملعون (3/276)
وشغب بعضهم بقول الله تعالى { يا أيها لذين آمنوا لا تحلوا شعآئر لله ولا لشهر لحرام ولا لهدي ولا لقلائد ولا آمين لبيت لحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن لمسجد لحرام أن تعتدوا وتعاونوا على لبر ولتقوى ولا تعاونوا على لإثم ولعدوان وتقوا لله إن لله شديد آلعقاب } { فإذا قضيت لصلاة فنتشروا في لأرض وبتغوا من فضل لله وذكروا لله كثيرا لعلكم تفلحون } قالوا وهذا إباحة بلا شك فقلنا يجب عليكم إذا احتججتم بهذا أن تقولوا إن جميع الأوامر على الندب حتى يقوم دليل على الوجوب وهذا ليس قولهم وأما هاتان الآيتان فإنما خرجتا عن الوجوب إلى الإباحة ببرهان أما التصيد فإن النبي صلى الله عليه و سلم حل بالطواف بالبيت وانحدر إلى منى ولم يصطد فصح أنه ليس فرضا بهذا النص الآخر وأما { فإذا قضيت لصلاة فنتشروا في لأرض وبتغوا من فضل لله وذكروا لله كثيرا لعلكم تفلحون } فإن عبد الله بن ربيع قال حدثنا عمر بن عبد الملك حدثنا ابن الأعرابي ثنا علي بن عبد العزيز ثنا القعنبي ثنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث اللهم اغفر له اللهم ارحمه
قال أبو محمد فندبنا إلى القعود في مصلانا بعد الصلاة فصح بذلك أن الانتشار بعد الصلاة إباحة فمن جاءنا في شيء من الأوامر ببرهان ينقله عن الفرض إلى الندب وعن التحريم إلى الكراهية صرنا إليه وأما بالدعوة الكاذبة المحيلة للقرآن والسنن على موضوعها فمعاذ الله من ذلك
واحتج على بعضهم بالخبر الثابت من طريق أنس أن رجلا اتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمر النبي عليه السلام علي بن أبي طالب أن يقتله فأتاه فوجده في ركي يتبرد فأمره بالخروج فلما خرج فإذا هو مجبوب لا ذكر له فتركه وعاد إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره وزاد بعض من لا يوثق به في هذا الخبر أن عليا قال له يا رسول الله أنفذ لأمرك كالسكة المحماة أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فقال له بل الشاهد يرى ما لا يراه الغائب وقد ذكر هذا اللفظ أيضا في خبر بعثه عليه السلام عليا إلى خيبر وكلاهما لا يصح أصلا بل هما زيادتا كذب لم يرو قط من طريق فيها خير ويلزم من صححها أن يسقط من الصلاة ثلاث صلوات أو من كل صلاة ركعة إن رأى ذلك أصلح أو ينقل صوم رمضان إلى الربيع رفقا بالناس إذ الشاهد يرى ما لا يرى الغائب وأن يزيد في الحدود والزكاة أو ينقص منها وهذا كفر صريح فبطل التعلق بهذا اللفظ الموضوع (3/277)
وكذلك ما روي أنه عليه السلام أمر أبا بكر وعمر بقتل ذي الخويصرة فرجعا وقال أحدهما يا رسول الله صلى الله عليه و سلم وجدته ساجدا وقال الآخر وجدته راكعا فهو خبر كاذب لم يأت قط من طريق خير وأما أمره عليه السلام بقتل ذلك الإنسان فيخرج على أحد وجهين إما أنه شهد عند النبي عليه السلام بذلك قوم عدول في الظاهر منافقون في الباطن كاذبون بأنهم سمعوه يقر بذلك فوجب عليه القتل لأذاه النبي صلى الله عليه و سلم ففضح الله كذبهم وأما أنه تعالى أوحى إليه بالأمر بقتله وقد علم تعالى أنه سينسخ ذلك الأمر بإظهار براءته وكذب الناقل وكلا الأمرين وجه صحيح وبالله تعالى التوفيق
قال علي فإذا قد ذكرنا كل ما شغبوا به فلنذكر إن شاء الله تعالى البراهين المصححة أن الأوامر كلها على الوجوب والنواهي كلها على التحريم إلا ما خرج منها بدليل ونقول قبل ذلك إنما لجأ إلى القول بالوقف وتعلق بهذه العوارض وسلك في هذه المضايق من بهر شعاع الحق عقله والتمع نور الله تعالى بصر قلبه وارتبك في غيه ناصرا لما قد ألفه من الأقوال الفاسدة وطمعا في إطفاء ما لا ينطفىء من ضياء الحق وإنما التزموا ذلك في مسائل يسيرة ثم تناقضوا فأوجبوا أحكاما كثيرة فرضا بنفس الأمر مما قد خالفهم فيها غيرهم وفعلت كل طائفة منهم مثل ما فعلت الأخرى
قال أبو محمد فأول ذلك أنه لا يعقل أحد من أهل كل لغة أي لغة كانت من لفظة افعل أو اللفظة التي يعبر بها في كل لغة عن معنى افعل ولا يفهم منها أحد لا تفعل ولا يعقل أحد من لفظة لا تفعل أو مما يعبر به عن معنى لا تفعل ولا يفهم منها أحد افعل ومدعي هذا على اللغات وأهلها في أسوأ من حال الكهان وقد قال تعالى { قتل لخراصون }
قال علي ويقال لهم بأي شيء تعرفون أن في الأوامر شيئا على الوجوب مما تقرون فيه أنه واجب فأجابوا عن ذلك بجوابين أحدهما إن قال بعضهم نعرف أن الأمر على الوجوب إذا اقترن معه وعيد
وقال بعضهم لسنا نجدد دلائل الوجوب وهي أشياء تقترن بالأوامر التي يراد بها الإيجاب ولسنا نقدر على العبارة عنها (3/278)
قال علي أما هؤلاء فقد أقروا بالانقطاع وبالعجز عن بيان مذهبهم وإذا كان شيء لا يقدر على بيانه فباليقين أن العجز عن نصره أوجد وليس يعجز أحد له لسان وليس له حياء ولا ورع أن يدعي ما شاء فإذا سئل عن دليل قوله وبيانه قال إني لا أقدر على بيانه ولكنه شيء معلوم إذا وجد عرف
قال علي ولسنا ممن يجوز عليه هذا الهذيان ولكنا نقول لمن هذا صف لنا حال نفسك في معرفتك ما عرفت أنه واجب فإن عجزت عن ذلك بان كذبك وادعاؤك الباطل لأن كل واحد يدعي حالا يستدل بها على حقيقة ليست من أوائل المعارف فهو مميز لتلك الحال وإلا فهو مدع للباطل
قال أبو محمد ويقال لمن قال يعرف أن الأمر على الوجوب إذا اقترن به وعيد اعلم أن الوعيد من الله عز و جل قد اقترن بجميع أوامر نبيه صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى { لا تجعلوا دعآء لرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم لله لذين يتسللون منكم لواذا فليحذر لذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } فاقترن التحذير من الفتنة والوعيد بكل من خالف أمره عليه السلام
قال علي واعترض بعضهم في ذلك بأن قال لما صح في أن أوامره عليه السلام ما لا يصيب مخالفه عذاب أليم وهو أمر كان معناه الندب علمنا أن الوعيد المحذر منه إنما هو فيما كان من الأوامر معناه الوجوب فقط وأن هذه الآية لا توجب كون جميع أوامره فرضا وإن كان ذلك فقد بطل أن يكون حجة في حمل الأمر على الوجوب
قال علي فيقال له وبالله تعالى التوفيق إن ما خرج من الأوامر عن استحقاق العذاب المنصوص في الآية على تركه بخروجه إلى معنى الندب إنما هو مستثنى من جملة ما جاءت الآية به بمنزلة المنسوخ الخارج عن الوجوب فلا يبطل ذلك بقاء سائر الشريعة على الاستعمال وكذلك خروج ما خرج بدليله إلى الندب ليس بمبطل بقاء ما لا دليل على أنه ندب على استحقاق العذاب على تركه إلا أن الوعيد قد حصل مقرونا بالأوامر كلها إلا ما جاء نص أو إجماع متيقن منقول إلى النبي صلى الله عليه و سلم بأنه لا وعيد عليه لأنه غير واجب ولا يسقط من كلام الله تعالى إلا ما أسقطه وحي له تعالى آخر فقط (3/279)
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني ثنا أبو إسحاق البلخي عن الفربري عن البخاري ثنا محمد بن سنان ثنا فليح ثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى
قالوا يا رسول الله ومن يأبى قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى
قال علي يسأل من قال إن الأوامر لا تحمل على الوجوب إلا بدليل ما معنى المعصية فلا بد له من أن يقول هي ترك المأمور أن يفعل ما أمره به الآمر فإذا لا بد من ذلك
فمن استجاز ترك ما أمره به الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه و سلم فقد عصى الله ورسوله ومن عصاهما فقد ضل ضلالا بعيدا واستحق النار وألا يدخل الجنة بنص كلام الله وكلام نبيه صلى الله عليه و سلم قال الله تعالى { إلا بلاغا من لله ورسالاته ومن يعص لله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيهآ أبدا }
قال علي ولا عصيان أعظم من أن يقول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم افعل أمرا كذا فيقول المأمور لا أفعل إلا إن شئت أن أفعل ومباح لي أن أترك ما أمرتماني به
أو يقول الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه و سلم لا تفعل أمرا كذا فيقول أنا أفعل إن شئت أن أفعله ومباح لي أن أفعل ما نهيتماني عنه
قال علي ما يعرف أحد من العصيان غير هذا
والحجة على هؤلاء القوم أبين في العقول بيانا وأقرب مأخذا منها على المشركين لأن المشركين لا يقرون بوجوب طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه و سلم وإنما الكلام معهم في إثبات ذلك وهؤلاء يقرون بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه و سلم ثم يقولون لنا لا نطيع وليس الائتمار لهما بواجب إلا بدليل غير نفس أمرهما
نعوذ بالله من الخذلان ومن التمادي على الباطل بعد وضوحه
واحتج بعضهم بما حدثنا المهلب عن ابن مناس عن ابن مسرور عن يونس بن عبد الأعلي عن ابن وهب أخبرني جرير بن حازم عن سليمان الأعمش قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أعطيت القرآن على سبعة أحرف لكل حرف منها ظهر وبطن وبه إلى ابن وهب أخبرني خالد بن حميد عن يحيى بن أبي أسيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال (3/280)
إن القرآن ذلول ذو وجوه فاتقوا ذله وكثرة وجوهه وبه إلى ابن وهب أنبأ مسلمة بن علي عن هشام عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فذكر حديثا وذكر فيه القرآن وفيه وما منه آية إلا ولها ظهر وبطن وما فيه حرف إلا وله حد ولكل حد مطلع
قال علي هذه كلها مرسلات لا تقوم بها حجة أصلا ولو صحت لما كان لهم في شيء منها حجة بوجه من الوجوه لأنه لو كان كما ذكروا لكل آية ظهر وبطن لكنا لا سبيل لنا إلى علم البطن منها بظن ولا بقول قائل لكن ببيان النبي صلى الله عليه و سلم الذي أمره الله تعالى بأن يبين للناس ما نزل إليهم فإن أوجدونا بيانا عن النبي صلى الله عليه و سلم بنقل الآية عن ظاهرها إلى باطن ما صرنا إليه طائعين وإن لم يوجدونا بيانا عن النبي صلى الله عليه و سلم فليس أحد أولى بالتأويل في باطن ما تحتمله تلك الآية من آخر من تأول أيضا
ومن الباطل المحال أن يكون للآية باطن لا يبينه النبي صلى الله عليه و سلم لأنه كان يكون حينئذ لم يبلغ كما أمر وهذا لا يقوله مسلم فبطل ما ظنوه
وقد أتت الأحاديث الصحاح بحمل كل كلام على ظاهره كما حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي قال ثنا محمد بن معاوية المرواني عن أحمد بن شعيب النسائي ثنا محمد بن عبد الله بن المبارك ثنا أبو هشام واسمه المغيرة بن سلمة المخزومي بصري ثقة قال علي وأنبأناه أيضا عبد الله بن يوسف بن نامي عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج حدثني زهير بن حرب
ثنا يزيد بن هارون قال علي واللفظ لفظ المغيرة قال المغيرة ويزيد ثنا الربيع بن مسلم ثنا محمد بن زياد عن أبي هريرة قال خطب رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس فقال إن الله تعالى قد فرض عليكم الحج فقام رجل فقال أفي كل عام فسكت عنه حتى أعاده ثلاثا
فقال لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بالشيء فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه
وقد روي أيضا من طرق صحاح إلى الزهري عن أبي سنان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم
وقد روي أمر النبي صلى الله عليه و سلم بأن نفعل ما أمر به ما نستطيع وأن نجتنب (3/281)
ما نهى عنه من طريق أبي هريرة مسندا إلى النبي صلى الله عليه و سلم أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب وأبو صالح والأعرج وهمام بن منبه ومحمد بن زياد كلهم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم رواه عن همام معمر ورواه عن الأعرج أبو الزناد ورواه عن أبي صالح الأعمش ورواه عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة الزهري ورواه عن محمد بن زياد عن أبي هريرة مسندا أيضا شعبة والربيع بن مسلم ورواه عمن ذكرنا الثقات الأكابر
قال علي فبين عليه السلام في هذا الحديث بيانا لا إشكال فيه أن كل ما أمر به فهو واجب حتى لو لم يقدر عليه
وهذا معنى قوله تعالى { في لدنيا ولآخرة ويسألونك عن ليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ولله يعلم لمفسد من لمصلح ولو شآء لله لأعنتكم إن لله عزيز حكيم } ولكنه تعالى رفع عنا الحرج ورحمنا فأمر على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم كما تسمع أن ما أمر به عليه السلام فواجب أن يعمل به حيث انتهت الاستطاعة وأنه لا يسقط من ذلك إلا ما عجزت عنه الاستطاعة فقط وأن ما نهى عليه السلام عنه فواجب اجتنابه
ثنا عبد الله بن يوسف بالسند المذكور إلى مسلم قال ثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ثنا أبو علي الحنفي ثنا مالك بن أنس عن أبي الزبير المكي أن أبا الطفيل عامر بن وائله أخبره أن معاذ بن جبل أخبره وقال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم عام غزوة تبوك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي قال فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان العين مثل الشراك تبض بشيء من ماء قال فسألهما رسول الله صلى الله عليه و سلم هل مسستما من مائها شيئا
قالا نعم فسبهما النبي صلى الله عليه و سلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول
ثم ذكر باقي الحديث وفيه الآية في نبعان الماء ببركته صلى الله عليه و سلم
قال علي فهذان استحقا السب من النبي صلى الله عليه و سلم لخلافهما نهيه في مس الماء ولم يكن هناك وعيد متقدم فثبت أن أمره على الوجوب كله إلا ما خصه نص ولولا أنهما تركا واجبا ما استحقا سب رسول الله صلى الله عليه و سلم
وبه إلى مسلم ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا أبو أسامة ثنا عبيد الله هو ابن عمر عن نافع عن ابن عمر قال لما (3/282)
توفي عبد الله بن أبي ابن سلول فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم ليصلي عليه فقام عمر فقال يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما أخبرني الله تعالى فقال { ستغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر لله لهم ذلك بأنهم كفروا بلله ورسوله ولله لا يهدي لقوم لفاسقين } وسأزيد على السبعين قال إنه منافق فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله عز و جل { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بلله ورسوله وماتوا وهم فاسقون }
قال علي ففي هذا الحديث بيان كاف في حمل كل شيء على ظاهره فحمل رسول الله صلى الله عليه و سلم اللفظ الوارد بأو على التخيير فلما جاء النهي المجرد حمله على الوجوب وصح بهذا أن لفظ الأمر والنهي غير لفظ التخيير والندب ورسوله صلى الله عليه و سلم أعلم الناس بلغة العرب التي بها خاطبه ربه تعالى
فإن قال قائل فما كان مراد الله بالتخيير الذي حمل رسول الله صلى الله عليه و سلم على التخيير وبذكره تعالى السبعين مرة أتقولون إنه أراد تعالى ما قال عمر بن الخطاب من ألا يصلي عليهم ولا يستغفر لهم ثم نزلت الآية الأخرى مبينة
فالجواب أننا وبالله تعالى التوفيق لا نقول ذلك ولا يسوغ لمسلم أن يقوله ولا نقول إن عمر ولا أحدا من ولد آدم عليه السلام فهم عن الله تعالى شيئا لم يفهمه عنه نبي الله صلى الله عليه و سلم وهذا القول عندنا كفر مجرد وبرهان ذلك أن الله تعالى لو لم يرض صلاة النبي على عبد الله بن أبي لما أقره عليها ولأنزل الوحي عليه لمنعه كما نهاه بعد صلاته عليه أن يصلي على غيره منهم فصح أن قول عمر كان اجتهادا منه أراد به الخير فأخطأ فيه وأصاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وأجر عمر في ذلك أجرا واحدا لكنا نقول إنه عز و جل خير نبيه صلى الله عليه و سلم في ذلك على الحقيقة فكان مباحا له صلى الله عليه و سلم أن يستغفر لهم ما لم ينه عن ذلك (3/283)
وأما ذكر السبعين فليس في الاقتصار عليه إيجاب أن المغفرة تقع لهم بما زاد على السبعين ولا فيه أيضا منع من وقوع المغفرة لهم بما زاد على السبعين إلا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم طمع ورجا إن زاد على السبعين أن يغفر لهم ولم يحقق أن المغفرة تكون بالزيادة وهذا هو نفس قولنا بعينه فلما أعلمه الله تعالى بما كان في علمه عز و جل ولم يكن أعلمه قبل ذلك به علمه حينئذ نبيه صلى الله عليه و سلم ولم يكن علم قبل نزول المنع من الاستغفار لهم بالبت أن ما زاد على السبعين غير مقبول فدعا راج لم ييأس من المغفرة ولا أيقن بها وهذا بين في لفظ الحديث وبالله تعالى التوفيق
وقد سألت بريرة النبي صلى الله عليه و سلم إذ قال لها لو راجعتيه يعني النبي صلى الله عليه و سلم زوجها مغيثا فقالت أتأمرني يا رسول الله فقال لا إنما أشفع ففرق صلى الله عليه و سلم كما ترى بين أمره وشفاعته فثبت أن الشفاعة لا توجب على أحد فعل ما شفع فيه عليه السلام وأن أمره بخلاف ذلك وليس فيه إلا الإيجاب فقط
وقال الله عز و جل { يأيها لرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ولله يعصمك من لناس إن لله لا يهدي لقوم لكافرين }
قال علي في هذه الآية بيان جلي رافع لكل شك في أن من لم يفعل ما أمر به فقد عصى لأنه تعالى بين أن نبيه صلى الله عليه و سلم إن لم يبلغ كما أمر فلم يفعل ما أمر به ولا معنى لهذا الخبر وهذا التقدم إلا أن خلاف الأمر معصية لا موافقة وبالله تعالى التوفيق وهم يقرون على أنفسهم أنهم لا يفعلون ما أمروا به حتى يأمرهم أبو حنيفة ومالك والشافعي
وقال تعالى { فصح أنه لم يرد تعالى منا الإقرار وحده إلا مع العمل بما أمرنا معه
وقال تعالى { } (3/284)
قال علي وانبلج الحكم بهذه الآية ولم يبق للشك مجال لأن الندب تخيير وقد صح أن كل أمر لله ولرسوله صلى الله عليه و سلم فلا اختيار فيه لأحد وإذا بطل الاختيار فقد لزم الوجوب ضرورة لأن الاختيار إنما هو في الندب والإباحة للذين لنا فيهما الخيرة إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل فأبطل الله عز و جل الاختيار في كل أمر يرد من عند نبيه صلى الله عليه و سلم وثبت بذلك الوجوب والفرض في جميع أوامرهما ثم لم يدعنا تعالى في شك من القسم الثالث وهو الترك فقال تعالى { }
قال علي وليس يقابل الأمر الوارد إلا بأحد ثلاثة أوجه لا رابع لها نعلم ذلك بضرورة الطبيعة وببديهة العقل إما الوجوب وهو قولنا وإما الندب والتخيير في فعل أو ترك وقد أبطل الله عز و جل هذا الوجه في قوله تعالى { } وأما الترك وهو المعصية فأخبر تعالى أن من فعل ذلك فقد ضل ضلالا مبينا فارتفع الإشكال جملة وبطل كل شغب يأتون به
وقال تعالى { } فنص تعالى على توبيخ من لم يكتف بالتلاوة وهذا هو الحكم بالظاهر وحظر الانتقال إلى التأويل وقال تعالى { } وقال تعالى { } فصح أن لا بيان إلا نص القرآن ونص كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم
فإن قالوا فإنكم تحملون كثيرا من أوامره تعالى على التخيير والندب فقد نقضتم هذا الحكم
قيل لهم وبالله تعالى التوفيق ما فعلنا ما تقولون من النقض لأننا إنما حملنا منها على التخيير بأمر الله تعالى حملناه أيضا على وجوبه فإذا نص ربنا عز و جل في أمر قد أمر به على أننا إن شئنا فعلنا وإن شئنا تركنا فقد أوجب علينا قبول هذا النص على ظاهره ضرورة فلم نخرج عن أصلنا ولم يكن لنا خيرة في صرفه إلى الوجوب بأحد طرفيه دون الآخر فقط كما أنه تعالى أو نبيه صلى الله عليه و سلم إذا اقتصر المخاطب لنا منهما على لفظ لا تخيير معه فلا خيرة لنا في صرفه عن أمره الذي اقتصر عليه فكل (3/285)
أمر مفرد فواجب علينا حمله على انفراده وكل أمر بتخيير فواجب علينا حمله على التخيير فالقبول فرض علينا لما يرد من الألفاظ على ظواهرها ولا خيرة لنا في شيء من ذلك والإجماع إذا صح على حمل آية أو خبر على التخيير فقد أيقنا أن أصل الإجماع توقيف من رسول الله صلى الله عليه و سلم فحملنا ذلك التوقيف أيضا على الوجوب فلم ننقض قولنا بحمد الله تعالى
قال علي أفلا يستحي أن يتكلم في الدين من يسمع كلام الله تعالى في قسمة الصدقات يقول { } فيقول ليس ذلك فريضة وجائز للإمام أن يصرفها إلى ما يرى من وجوه البر أو إلى بعض هذه الأصناف ثم يأتي إلى قول ابن عمر فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم صدقة الفطر على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى صغير أو كبير صاعا من تمر أو صاعا من شعير فيقول ليس صدقة الفطر فريضة ولا الشعير ولا التمر فيها أيضا فرضا ولا مستحبا بل البر الذي لم يذكره النبي صلى الله عليه و سلم أفضل
ثم يأتي إلى قول رسول الله صلى الله عليه و سلم من صلى ههنا معنا وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد أدرك فقال لا تخيير في ذلك والفرض الوقوف ليلا ولا بد وإلا بطل الحج
ويقول في قول الله تعالى { } إنه يفهم منه أن خطبة الجمعة فرض تبطل الصلاة بتركها
وأن ذكره تعالى للاعتكاف بعد ذكره لحكم الصيام موجب أن يكون الصوم في الاعتكاف فرضا لا يجزي الاعتكاف إلا به
أيكون في عكس الحقائق ومجاهرة العقول الفهمة للغة العربية ومخالفة القرآن والسنة أكثر من هذا
وقال تعالى { } (3/286)
قال علي فهذا لفظ الوعيد بقوله تعالى { } مقرونا بمخالفة الطاعة فأخبرنا تعالى أن ترك الطاعة تول ولا تركا للطاعة أكثر ممن يستجيز أن يترك ما أمر به أو يفعل ما نهى عنه
وقال تعالى { لذين يتبعون لرسول لنبي لأمي لذي يجدونه مكتوبا عندهم في لتوراة ولإنجيل يأمرهم بلمعروف وينهاهم عن لمنكر ويحل لهم لطيبات ويحرم عليهم لخبآئث ويضع عنهم إصرهم ولأغلال لتي كانت عليهم فلذين آمنوا به وعزروه ونصروه وتبعوا لنور لذي أنزل معه أولئك هم لمفلحون } فصح بالنص كما ترى أن كل ما أمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو معروف وكل ما نهى عنه فهو منكر عن المعروف فبين تعالى أن كل من نهى عما أمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو منافق وكل من قال في قوله تعالى افعل
فقال هو لا تفعل إن شئت فقد أباح تركه والنهي عنه نصا
وقال تعالى { وكتبنا عليهم فيهآ أن لنفس بلنفس ولعين بلعين ولأنف بلأنف ولأذن بلأذن ولسن بلسن ولجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لظالمون } وقال تعالى { وليحكم أهل لإنجيل بمآ أنزل لله فيه ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لفاسقون }
قال علي ومن أجاز لنفسه ترك العمل بما أنزل الله فهو فاسق ظالم بنص القرآن وبنص تسمية الله عز و جل له فقد نصصنا كلام الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه و سلم في إيجاب أوامرهما ونواهيهما فرضا وبطل بذلك قول من قال على الندب أو الوقف
قال علي وقد فرق قوم بين أوامر الله عز و جل وأوامر رسوله صلى الله عليه و سلم وهذا بين الفساد فقد أنكر الله تعالى ذلك بقوله { من يطع لرسول فقد أطاع لله ومن تولى فمآ أرسلناك عليهم حفيظا } وإن العجب ليكثر من الحنفيين والمالكيين الذين يجعلون الخطبة يوم الجمعة فرضا فإذا سئلوا عن البرهان في ذلك قالوا قول الله عز و جل { وإذا رأوا تجارة أو لهوا نفضوا إليها وتركوك قآئما قل ما عند لله خير من للهو ومن لتجارة ولله خير لرازقين }
قال علي وما ندري ماذا تأدى إليهم في هذا اللفظ من إيجاب الخطبة
ويقولون إن الصيام في الاعتكاف فرض إذا سئلوا عن برهان ذلك قالوا ذكر الله تعالى الاعتكاف إثر ذكر الصيام وعلى هذا فكل شريعة ففرض ألا تتم إلا بضم كل شريعة في القرآن إليها فلا حج لمن لم يصل
ولا صلاة لمن أفطر في رمضان ولا نكاح لمن لا يقسط في اليتامى فينفسخ نكاحه مع امرأته لأن الله تعالى عطف النكاح على أمر (3/287)
اليتامى فقال تعالى { وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا } لأنها كلها معطوف بعضها على بعض
ثم قالوا في قوله تعالى { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } ليست العمرة فرضا وقد عطفها تعالى على الحج عطفا شركها به معه في الإتمام ولم يعطف الاعتكاف في الصيام ولا الصيام على الاعتكاف وإنما عطف النهي عن المباشر في حال الاعتكاف على أحكام الصيام عطف جملة على جملة لا عطف اشتراك
ثم قالوا في قوله تعالى في قسمة الخمس { وعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل إن كنتم آمنتم بلله ومآ أنزلنا على عبدنا يوم لفرقان يوم لتقى لجمعان ولله على كل شيء قدير } فقالوا ليس هذا فرضا وللإمام أن يضع الخمس حيث رأى من مصالح المسلمين هذا وهم يسمعون الله تعالى يقول في قسمة الخمس على من سمى { وعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل إن كنتم آمنتم بلله ومآ أنزلنا على عبدنا يوم لفرقان يوم لتقى لجمعان ولله على كل شيء قدير } وقالوا في آية الصدقات وقد قال تعالى في آخرها { إنما لصدقات للفقرآء ولمساكين ولعاملين عليها ولمؤلفة قلوبهم وفي لرقاب ولغارمين وفي سبيل لله وبن لسبيل فريضة من لله ولله عليم حكيم } فقالوا ليست فريضة لهؤلاء فمن أضل ممن جعل الخطبة والصيام في الاعتكاف فرضا ولم يأت به أمر ولا ندب وأسقط إيجاب ما سماه الله تعالى فريضة وقال فيه { وعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل إن كنتم آمنتم بلله ومآ أنزلنا على عبدنا يوم لفرقان يوم لتقى لجمعان ولله على كل شيء قدير }
وأما المالكيون فإنهم احتجوا في عتق الأخ يملكه أخوه بقوله تعالى { قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي ففرق بيننا وبين لقوم لفاسقين } وما عقل قط ذو لب وجوب عتق الأخ من هذه الآية كما لم يعقل وجوب صلاة الظهر منها وأسقطوا النفقة على الوارث بآرائهم وقد قال تعالى { ولوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم لرضاعة وعلى لمولود له رزقهن وكسوتهن بلمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضآر والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى لوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم مآ آتيتم بلمعروف وتقوا لله وعلموا أن لله بما تعملون بصير } ففرقوا بين مضارة الوالد بولده فأوجبوا فيها النفقة وبين مضارة (3/288)
الوارث بموروثه فلم يوجبوا فيها النفقة وقد سوى الله عز و جل بينهما تسوية واحدة ولا ضرر في التمييز والعقل أعظم من ترك الوارث موروثه يسأل أو يموت جوعا وهو ذو مال يغنيه ويفضل عنه وخالفوا في ذلك حكم عمر بن الخطاب وعمله
وقال المالكيون أمر تعالى بالمكاتبة ندب وأمره بإتيانهم من مال الله الذي آتاهم ندب وأمره بالمتعة ندب ثم قالوا قوله تعالى { يأيها لذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم لجمعة فسعوا إلى ذكر لله وذروا لبيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } فرض فلو تدبروا هذه الفضائح التي يطلقون لكان أولى بهم من معارضة أوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه و سلم بهذيان لا يطردونه بل يتناقضون فيه في كل حين فمرة يقولون في بعض الأوامر ليس فرضا فإذا قيل لهم قد أمر الله تعالى بها قالوا الأوامر موقوفة ولا يحمل على الفرض إلا بدليل ومرة يوجبون الأوامر فرضا بلا دليل ولا قرينة إلا التحكم والتقليد فقط وبالله تعالى التوفيق
قال علي وأما الموافقون لهم على الوقف من أصحاب الشافعي فإنهم يقولون إن لم نجد دليلا على أن الأمر على الندب أمضينا الأوامر على الوجوب
قال علي وهذا ترك منهم لقولهم بالوقف لأنهم راجعون إلى إمضاء الأوامر على الوجوب بمجردها بلا قرينة إذا عدموا دليلا على الندب
قال علي وهذا قولنا نفسه ولم نخالفهم في أن الأمر إذا جاء نص أو إجماع على أنه ندب فواجب أن يصار إلى أنه ندب وإنما خالفناهم في الوقف فقط
قال علي ونسألهم ألهذا الوقف غاية فإن حدوا حدا كلفوا عليه البرهان ولا سبيل إليه فإن لم يجدوا فيه حدا صار مدة العمر فبطل العمل بشيء من الأوامر وهذا يؤدي إلى إبطال الشريعة
وقد احتج بعض من يقول بقولنا ممن سلف فقال لو كان الأمر لا يعلم بلفظه أنه على الوجوب لكان لا يخلو من أن يعلم المراد فيه إما بأمر آخر أو بشيء يستخرج من الأمر وكلا الأمرين فلا بد من الرجوع فيه إلى أمر فالكلام في الأمر الثاني كالكلام في الأمر الأول وهذا لا إلى غاية فعلى هذا لا يثبت وجوب أمر أبدا
وقالوا أيضا محتجين عن أهل الوقف المعصية في اللغة هي مخالفة الأمر (3/289)
والطاعة هو تنفيذ الأمر وقال الله تعالى { ومن يعص لله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين } وقال تعالى { ومآ أرسلنا من رسول ألا ليطاع بإذن لله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآءوك فستغفروا لله وستغفر لهم لرسول لوجدوا لله توابا رحيما }
فثبت الوجوب في الأوامر ضرورة بحكم الله تعالى فالنار على من تركها
قال علي ويقال لمن قال بالوقف ماذا تصنع إن وجدت أوامر واردة من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه و سلم خالية من قرينة بالجملة ولا دليل هناك يدل على أنها فرض ولا على أنها ندب فلا بد من أحد ثلاثة أوجه إما أن يقف أبدا وفي هذا ترك استعمال أوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه و سلم وهذا هو نفسه ترك الديانة أو يحمل ذلك على الندب فيجمع وجهين أحدهما القول بلا دليل والثاني استجازة مخالفة الله ورسوله صلى الله عليه و سلم بلا برهان أو يحمل ذلك على الفرض وهذا قولنا وفي ذلك ترك لمذهبه وأخذ بالأوامر فرضا بنفس لفظها دون قرينة وبالله تعالى التوفيق
قال علي فإن تعلقوا بما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال يوم بني قريظة لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فصلى قوم العصر قبلها وقالوا لم يرد هنا هنا وصلاها آخرون بعد العتمة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فلم يعنف واحدة من الطائفتين
قال علي هذا حجة لهم فيه أيضا ولو شغب بهذا الحديث من يرى الحق في القولين المختلفين لكان أدخل في الشغب مع أنه لا حجة لهم فيه أيضا
فأما احتجاج من حمل الأوامر على غير الوجوب فلا حجة لهم فيه لأنه قد كان تقدم من رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر في وقت العصر أنه مذ يزيد ظل الشيء على مثله إلى أن تصفر الشمس وأن مؤخرها إلى الصفرة بغير عذر يفعل فعل المنافقين فاقترن على الصحابة في ذلك اليوم أمران واردان واجب أن يغلب أحدهما على الآخر ضرورة فأخذت إحدى الطائفتين بالأمر المتقدم وأخذت الطائفة الأخرى بالأمر المتأخر إلا أن كل واحدة من الطائفتين حملت الأمر الذي أخذت به على الفرض والوجوب وغلبته على الأمر الثاني
وقد ذكرنا هذا النوع من الأحاديث فيما خلا وبينا كيفية العمل في ذلك (3/290)
ولو أننا حاضرون يوم بني قريظة لما صلينا العصر إلا فيها ولو بعد نصف الليل على ما قد بينا في رتبة العمل في جميع الأحاديث التي ظاهرها الاختلاف وهي في الحقيقة متفقة من الأخذ بالزائد ومن استثناء الأقل معاني من الأكثر معاني وقد جمع هذان الحديثان كلا الوجهين معا فأمره عليه السلام في ذلك اليوم بألا يصلى صلاة العصر إلا في بني قريظة أمر خاص في صلاة واحدة من يوم واحد في الدهر فقط فكان ذلك مستثنى من عموم أمره بأن يصلى كل عصر من كل يوم في الأبد يخرج وقت الظهر إلى أن تصفر الشمس وأما ما لم تغب للمضطر حاشى يوم عرفة
وأيضا فإن أمره عليه السلام بألا يصلى العصر من ذلك اليوم إلا في بني قريظة شريعة زائدة وأمر وارد بخلاف الحكم السالف وبخلاف معهود الأصل في حكم صلاة العصر قبل ذلك اليوم وبعده فواجب طاعة ذلك الأمر الحادث والشرع الطارىء لما قدمنا من البراهين على وجوب القبول لكل ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ربه تعالى وكان أمره بألا يصلى العصر في ذلك اليوم إلا في بني قريظة كقوله ليلة يوم النحر في الحج وقد ذكر بصلاة المغرب فقال عليه السلام الصلاة أمامك فكان ذلك عند جميع المسلمين ناقلا لوقت المغرب في تلك الليلة خاصة في الحج خاصة في ذلك المكان خاصة عن وقتها المعهود إلى وقت آخر
ولا فرق بين ورود ما أمر به في العصر يوم بني قريظة وفي المغرب ليلة المزدلفة وهذا بين لمن تأمله
قال أبو محمد وأما إن احتج بهذا الحديث من يرى الحق في القولين المختلفين وقال ترك النبي صلى الله عليه و سلم أن يعنف كل واحدة من الطائفتين دليل على أن كل واحدة منهما مصيبة
قيل له وبالله التوفيق لا دليل فيه على ما ذكرت ولكنه دليل واضح على أن إحدى الطائفتين مصيبة مأجورة أجرين والأخرى مجتهدة مأجورة أجرا واحدا معذورة في خطئها بالاجتهاد لأنها لم تتعمد المعصية وقد قال عز و جل { دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما } وقال عليه السلام لكل امرىء ما نوى وكلا الطائفتين نوت الخير وقد نص عليه السلام على أن الحاكم إذا اجتهد فأخطأ فله أجر
وكل متكلم (3/291)
في مسألة شرعية ممن له أن يتكلم على الوجه الذي أمر به من الاستدلال الذي لا يشوبه تقليد ولا هوى فهو حاكم في تلك المسألة لأنه موجب فيها حكما وكل موجب حكما فهو حاكم وهو داخل في استجلاب الأمر بالحديث المذكور
فإن قال قائل فلم يأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم الطائفة المخطئة عندكم بالإعادة إن كانت هي التي صلت العصر في وقتها المعهود قبل البلوغ إلى بني قريظة وإنما كان وقتها عندكم في ذلك اليوم بعد البلوغ إلى بني قريظة أي وقت بلغ البالغ إليهم أو لم يعنف الطائفة المؤخرة للعصر إلى بعد نصف الليل إن كانت هي المخطئة على تأخيرهم صلاة فرض عن وقتها
قيل له وبالله تعالى التوفيق لسنا ندري في أي وقت بلغ خبر الطائفتين المذكورتين إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ولعل ذلك قد بلغه عليه السلام في اليوم التالي وبعد خروج وقت العصر جملة ولا إعادة على تارك صلاة بتأول ممن له أن يتأول على الوجه المحمود لا بتقليد ولا بهوى ولا إعادة على تارك صلاة عمدا بلا تأول ولا ضرورة حتى يخرج وقتها وأما المتأول فمعذور ولا يكلف إلا ما علم وأما العامد فذنبه أجل من أن نأمره نحن بكفارة أو بصلاة لم يأمره الله تعالى بها ولا يحل لنا ولا لغيرنا تعدي حدود الله عز و جل بأن نلزمه فرضا لم يأذن به الله تعالى ونسقط عنه بذلك فرضا قد أمره الله تعالى به ونعوذ بالله تعالى من ذلك وأمره إلى خالقه لا إلينا وسيرد على ذي مغفرة واسعة وذي عقاب أليم حيث لا يضيع له شيء ولا يجمع عنده شيء فعند الموازين يعرف كل امرىء ما له وما عليه نسأل الله عفوه وغفرانه في ذلك الموقف آمين
قال علي وقد أنكر رسول الله صلى الله عليه و سلم على أبي سعيد بن المعلى إذ ناداه فلم يستجب له وكان في صلاة فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم ألم يقل الله تعالى { يأيها لذين آمنوا ستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن لله يحول بين لمرء وقلبه وأنه إليه تحشرون } (3/292)
قال علي وفي هذا بيان جلي في حمل أوامر الله تعالى وأوامر نبيه صلى الله عليه و سلم على الوجوب وعلى الظاهر منها ومن تلك الأوامر أمره تعالى أن يطاع رسوله عليه السلام
وفي قوله عليه السلام المذكور لأبي سعيد بيان جلي في صحة ما أثبتناه قبل من استثناء الأقل معاني من الأكثر معاني واستعمال جميع الأوامر لأنه تعالى قال { يأيها لذين آمنوا ستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن لله يحول بين لمرء وقلبه وأنه إليه تحشرون } وقال تعالى { لذي جعل لكم لأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون } خص عليه السلام دون سائر الناس أن يكلمه المصلون إذا كلمهم ولا يكون ذلك قاطعا لصلاتهم
وبهاتين الآيتين والحديث المذكور بطل قول من قال بأن المصلين يكلمون الإمام إذا وهل في صلاته ورام أن يحتج في ذلك بحديث ذي اليدين فبالنصوص التي ذكرنا أيقنا أن ذلك خاص للنبي صلى الله عليه و سلم دون من سواه وسبحان من يسر لإخواننا المالكيين أن يجعلوا الخصوص في هذا المكان عموما وأن يجعلوا العموم الذي نص عليه السلام على أنه عموم وغضب على من أراد أن يجعله خصوصا من القبلة في صيام رمضان فجعلوه خصوصا كل ذلك بلا دليل وحسبنا الله ونعم الوكيل
قال أبو محمد وأما من استجاز أن يكون ورود الوعيد على معنى التهديد لا على معنى الحقيقة فقد اضمحلت الشريعة بين يديه ولعل وعيد الكفار أيضا كذلك ومن بلغ هذا المبلغ فقد سقط الكلام معه لأنه يلزمه تجويز ترك الشريعة كلها إذ لعلها ندب ولعل كل وعيد ورد إنما هو تهديد وهذا مع فراقه المعقول خروج عن الإسلام لأنه تكذيب لله عز و جل وبالله تعالى التوفيق
ومما يبين أن أوامر الله تعالى كلها على الفرض حتى يأتي نص أو إجماع أنه ليس فرضا قوله تعالى { قتل لإنسان مآ أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم لسبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شآء أنشره كلا لما يقض مآ أمره } (3/293)
قال علي فعدد الله تعالى في كفر الإنسان أنه لم يقض ما أمره به وكل من حمل الأوامر على غير الفرض واستجاز تركها فلم يقض ما أمره وفيما ذكرنا كفاية وبالله تعالى التوفيق
وقد فرق صلى الله عليه و سلم بين أمر الفرض وأمر التخيير بفرق ولا مدخل للشغب فيه بعده وهو ما حدثناه عن عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم ثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري ثنا أبو عوانة عن شيبان عن عثمان بن عبد الله بن موهب عن جعفر بن أبي ثور عن جابر بن سمرة قال سأل رجل رسول الله صلى الله عليه و سلم أتوضأ من لحوم الغنم قال إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ قال أتوضأ من لحوم الإبل قال نعم فتوضأ من لحوم الإبل
قال علي فأورد عليه السلام الوضوء الذي ليس عليه واجبا بلفظ التخيير وأورد الآخر بلفظ الأمر فقط ولو كان معناهما واحدا لما كان عليه السلام مبينا للسائل ما سأل عنه وهذا ما لا يظنه مسلم والله الهادي إلى سواء السبيل وحسبنا الله ونعم الوكيل
فصل في كيفية ورود الأمر
قال علي الأوامر الواجبة ترد على وجهين أحدهما بلفظ افعل أو افعلوا والثاني بلفظ الخبر إما بجملة فعل وما يقتضيه من فاعل أو مفعول وإما بجملة ابتداء وخبر
فأما الذي يرد بلفظ افعل أو افعلوا فكثير واضح مثل { وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وركعوا مع لراكعين } { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم } وما أشبه ذلك
وأما الذي يرد بلفظ الخبر وبجملة فعل وما يقتضيه فكقوله تعالى { قل إنما حرم ربي لفواحش ما ظهر منها وما بطن ولإثم ولبغي بغير لحق وأن تشركوا بلله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون } وكقوله تعالى (3/294)
{ إن لله يأمركم أن تؤدوا لأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين لناس أن تحكموا بلعدل إن لله نعما يعظكم به إن لله كان سميعا بصيرا } وكقوله تعالى { يأيها لذين آمنوا كتب عليكم لصيام كما كتب على لذين من قبلكم لعلكم تتقون } و { كتب عليكم لقتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون } { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما } و { أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون } و أمرت أن أسجد على سبعة أعظم وما أشبه ذلك وكثير من الأوامر التي ذكرنا وردت كما ترى بمفعول لم يسم فاعله ولكن لما قال عز و جل وقوله الحق على نبيه صلى الله عليه و سلم { وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى } علمنا يقينا لا مجال للريب فيه أنه لا ينقل أمرا ولا نهيا إلا عن ربه تعالى فكان السكوت عن تسمية الآمر والناهي عز و جل وذكره سواء في صحة فهمنا أن المراد بأحكام الشريعة هو الله تعالى وحده لا من سواه
وأما ما ورد من هذا بجملة لفظ ابتداء وخبر فكقوله تعالى { لا يؤاخذكم لله بللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم لأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحفظوا أيمانكم كذلك يبين لله لكم آياته لعلكم تشكرون } { يأيها لذين آمنوا لا تقتلوا لصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من لنعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ لكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا لله عما سلف ومن عاد فينتقم لله منه ولله عزيز ذو نتقام } { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما } { ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بلمعروف ولله بما تعملون خبير } ) { ولمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق لله في أرحامهن إن كن يؤمن بلله وليوم لآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل لذي عليهن بلمعروف وللرجال عليهن درجة ولله عزيز حكيم } { فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين } ومثل هذا كثير (3/295)
قال علي فلا طريق لورود الأوامر والشرائع الواجبة إلا على هذين الوجهين فقط فأما عنصر الأمر والنهي فإنما هو ما ورد بلفظ افعل أو لا تفعل فهذه صيغة لا يشركه فيها الخبر المجرد الذي معناه معنى الخبر المحض ولا يشركه فيها التعجب ولا يشركه فيها القسم وإنما يشركه في هذه الصيغة الطلبية فقط فما كان منها إلى الله عز و جل فهو الدعاء فقط وما كان منها إلى من دونه تعالى فهو الرغبة
وقد يسمى الدعاء إلى الله عز و جل أيضا رغبة ولا يسمى الدعاء على الإطلاق إلا ما كان طلبة إلى الله عز و جل حتى إذا جاز أضيف أن ينسب إلى غير الله تعالى فنقول ادع فلانا بمعنى ناده
قال علي وأما المقدمات المأخوذة لإنتاج النتائج في المناظرة فإنما الأصل فيها أن تصاغ بصيغة الخبر مثل قوله صلى الله عليه و سلم كل مسكر خمر وكل خمر حرام النتيجة فكل مسكر حرام
إلا أننا في مناظرتنا أهل ملتنا وأهل نحلتنا فيما تنازعنا فيه قد غنينا عن ذلك لاتفاقنا على أن لفظ افعل مقدمة مقبولة تقوم بها الحجة فيما بيننا قياما تاما
قال علي ويميز ما جاء في الأوامر بلفظ الأخبار مما جاء بلفظ الخبر ومعناه الخبر المجرد بضرورة العقل فإن قول الله عز و جل { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خالدا فيها وغضب لله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } هو بمنزلة قوله تعالى { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما } في ظاهر ورود الأمر إلا أن أحد اللفظين خبر مجرد لفظه لفظ الخبر ومعناه معنى الخبر والآخر لفظه لفظ الخبر ومعناه معنى الأمر وإنما علمنا ذلك لأن الجزاء بجهنم لا يجوز أن نؤمن نحن به لأن ذلك ليس في وسعنا وقد أمننا الله من أن يأمرنا بما ليس في وسعنا قال الله عز و جل { لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين } وأما التحرير للرقبة وتسليم الدية (3/296)
فبضرورة العقل علمنا أن ذلك من مقدوراتنا ومما لا يفعله الله عز و جل دون توسط فاعل منا فبهذا يتميز ما كان الخبر معناه الأمر وما كان منه مجردا للخبر في معناه ولفظه
وقد اعترض قوم من الملحدين علينا في قوله { فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين } وأرادوا أن يحملوا ذلك على أنه خبر في معناه ولفظه
قال علي وهذا خطأ بنص القرآن وبضرورة المشاهدة أما نص القرآن فقوله تعالى { وقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ولفتنة أشد من لقتل ولا تقاتلوهم عند لمسجد لحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فقتلوهم كذلك جزآء لكافرين } فارتفع ظن من ظن أن قول الله عز و جل { فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين } خبر وكيف يكون ذلك وقد أمر تعالى بقتل من قاتلنا فيه وعنده
وأما ضرورة المشاهدة فما قد تيقناه مما وقع فيه من القتل مرة بعد مرة على يدي الحصين بن نمير والحجاج بن يوسف وابن الأفطس العلوي وإخوانهم القرامطة والله تعالى لا يقول إلا حقا فصح أن معنى قوله تعالى { فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين } إنما هو أمر بالبرهانين الضروريين اللذين قدمناهما
وكذلك نقول إنه لا يحل أن يقام في شيء من الحرم حد على أحد بوجه من الوجوه ولا بسجن ولا تعزير ولا قطع ولا جلد ولا قصاص ولا رجم ولا قتل لا في ردة ولا في زنى ولا في غير ذلك
حاشا من قاتلنا فيه فقط على نص القرآن وبهذا جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
وأما من أجاز أن يخالف الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم ويقتدي بعمرو بن سعيد ويزيد والحجاج والحصين بن نمير فيقيم فيه الحدود ويقتل فيه من استحق القتل عنده في غيره فليفكر فيما يلزمه من تكذيب ربه وله ما اختار من اتباع من اتبع وخلاف الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم ليتخلص من السؤال الذي ذكرناه آنفا ولو قدر على ذلك لما قدر على التخلص من عصيان نبيه صلى الله عليه و سلم في قوله إنها إنما أحلت لي ساعة من نهار ولم تحل لكم ثم عادت كحرمتها بالأمس إلى يوم القيامة لا يسفك فيها دم وبين عليه السلام بنص كلامه أنه ليس لأحد أن يترخص في ذلك لأجل قتاله عليه السلام (3/297)
ونص على أن ذلك خاص له
قال علي وهذا خبر على التأبيد وأمر على التأكيد لا يجوز أن يدخل فيه نسخ أبدا لنصه عليه السلام على أن ذلك باق إلى يوم القيامة فمن أجاز ورود نسخ لهذا فقد أجاز الكذب من الرسول صلى الله عليه و سلم ومن أجاز ذلك فهو كافر مشرك حلال الدم والمال وسبحان من يسر لهؤلاء القوم عكس الحقائق فيجعلون ما قد جاء النص فيه بأنه خاص عاما وما جاء فيه النص بأنه عام خاصا وبالله تعالى نتأيد
وإنما سفك عليه السلام فيها الدماء المباحة ونهى عن الاقتداء به ذلك جملة وقولنا في هذا هو قول عبد الله بن عمر وعطاء وغيرهما وكان عبد الله بن عمر يقول لو لقيت فيها قاتل عمر ما ندهته
قال علي فما ورد من الأوامر والنواهي على الصفتين المذكورتين فهو فرض أبدا ما لم يرد نص أو إجماع على أنه منسوخ أو أنه مخصوص أو أنه ندب أو أنه بعض الوجوه الخارجة عن الإلزام على ما سنفرد لها فصلا في آخر هذا الباب إن شاء الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
قال علي وأما صورة الندب فهو أن يرد اللفظ أو بمدح الفاعل أو للفعل مثل قوله عليه السلام إذ قال يهلك الناس هذا الحي من قريش ثم قال عليه السلام لو أن الناس اعتزلوهم فكان هذا ندبا إلى ترك القتال مع التأولين منهم ومثل قوله عليه السلام لو اغتسلتم وإنما أوجبنا غسل الجمعة بحديث آخر فيه لفظ الايجاب وأما المدح فمثل قوله تعالى { لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على لتقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا ولله يحب لمطهرين } فكان ذلك حضا على مثل فعلهم وهو الاستنجاء بالماء ومثل إخباره صلى الله عليه و سلم أن لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة وما أشبه ذلك
فما جاء باللفظ الذي ذكرنا فهو ندب لا إيجاب يعلم ذلك بصيغة اللغة ومراتبها علم بضرورة لا يفهم سواه
قال علي وأما أمر الإباحة فإنه يراد بلفظ أو مثل قوله تعالى { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } ومثل قوله عليه السلام وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو (3/298)
نهارا وأن العجب ليكثر ممن حمل ما روى النبي صلى الله عليه و سلم أنه أمر به الواطىء في رمضان من صيام شهرين أو إطعام ستين مسكينا أو تحرير رقبة على التخيير
وقد روى حديث صحيح بالترتيب في ذلك ثم رأى من رأيه أن يحمل قوله عليه السلام في الوقوف بعرفة ليلا أو نهارا على إيجاب الوقوف ليلا ولا بد ويكفي هذا القول وصفه
وقد يرد أيضا لفظ الإباحة بلا حرج وبلا جناح مثل قوله تعالى { ليس على لأعمى حرج ولا على لأعرج حرج ولا على لمريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبآئكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند لله مباركة طيبة كذلك يبين لله لكم لآيات لعلكم تعقلون } وقوله عليه السلام وقد سئل عن تقديم الرمي على الحلق وعلى النحر وتقديم الحلق على النحر وعلى الرمي لا حرج
لا حرج
قال علي وبهذا النص صح لنا أن قوله عز و جل { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } أنه ليس المراد به النحر ولكن بلوغ وقت الإحلال بالنحر مع موافقة قولنا لظاهر الآية دون تكلف تأويل بلا دليل ومثل قوله تعالى { وذكروا لله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن تقى وتقوا لله وعلموآ أنكم إليه تحشرون } ومثل قوله تعالى { إن لصفا ولمروة من شعآئر لله فمن حج لبيت أو عتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن لله شاكر عليم } ومثل قوله { وإن مرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهمآ أن يصلحا بينهما صلحا ولصلح خير وأحضرت لأنفس لشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن لله كان بما تعملون خبيرا } وقوله تعالى { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذآ أفضتم من عرفات فذكروا لله عند لمشعر لحرام وذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن لضآلين } وقوله تعالى { ولوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم لرضاعة وعلى لمولود له رزقهن وكسوتهن بلمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضآر والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى لوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم مآ آتيتم بلمعروف وتقوا لله وعلموا أن لله بما تعملون بصير } يريد تعالى قبل تمام الحولين بنص الآية وقوله تعالى { لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون } وقوله تعالى { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهمآ أن يتراجعآ إن ظنآ أن يقيما حدود لله وتلك حدود لله يبينها لقوم يعلمون } وقوله تعالى { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة لنسآء أو أكننتم في أنفسكم علم لله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة لنكاح حتى يبلغ لكتاب أجله وعلموا أن لله يعلم ما في أنفسكم فحذروه وعلموا أن لله غفور حليم } (3/299)
وقوله تعالى { لا جناح عليكم إن طلقتم لنسآء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على لموسع قدره وعلى لمقتر قدره متاعا بلمعروف حقا على لمحسنين } وقوله تعالى { ولوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم لرضاعة وعلى لمولود له رزقهن وكسوتهن بلمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضآر والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى لوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم مآ آتيتم بلمعروف وتقوا لله وعلموا أن لله بما تعملون بصير } وقوله تعالى { يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم } وقوله تعالى { ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما } أو قوله تعالى { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم لصلاة فلتقم طآئفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورآئكم ولتأت طآئفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود لذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن لله أعد للكافرين عذابا مهينا }
قال علي وهذا هو المعهود في اللغة ومن أراد أن يجعل قوله تعالى { إن لصفا ولمروة من شعآئر لله فمن حج لبيت أو عتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن لله شاكر عليم } حجة في إيجاب الطواف بين الصفا والمروة فرضا على الحاج وعلى المعتمر فقد أغفل جدا لأنه يلزمه مع مخالفة مفهوم اللغة أن يقول في الآيات التي تلونا آنفا إن كل ما ذكر فيها فرض فإن افتداء المرأة من زوجها فرض وإن مراجعة المطلق ثلاثا للمطلقة بعد طلاق الزوج الثاني لها فرض وإن قصر الصلاة فرض وإن طلاق المرأة قبل أن تمس فرض وإن تصالحهما على فطام الولد قبل الحولين فرض وكذلك سائر ما في تلك الآية
قال علي وإنما واجبنا السعي بينهما فرضا لحديث أبي موسى الأشعري إذ أمره عليه السلام بالطواف بينهما ولولا ذلك الحديث ما كان السعي بينهما فرضا لا في عمرة ولا في حج وبالله تعالى التوفيق
وإنما قلنا أيضا بوجوب القصر فرضا لقوله عليه السلام فاقبلوا صدقته وبأحاديث أخر صح بها وجوب قصرها (3/300)
وكل لفظ ورد بعليكم فهو فرض وكل أمر ورد بلكم أو بأنه صدقة فهو ندب لأن علينا إيجاب ولنا صدقة إنما معناها الهبة وليس قبول الهبة فرضا إلا أن يؤمر بقبولها فيكون حينئذ فرضا ومما تحل به الأوامر على الندب أن يرد استثناء يعقبه في تخيير المأمور مثل قوله تعالى في الديات { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خالدا فيها وغضب لله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } وفي وجوب الصداق { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفوا لذي بيده عقدة لنكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا لفضل بينكم إن لله بما تعملون بصير } وفي قضاء الدين { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون } وما أشبه ذلك وهذا معلوم كله بموضوع اللغة ومراتبها وبالله التوفيق
فصل في حمل الأوامر والأخبار على ظواهرها
قال علي ذهب قوم ممن بلح عندما أراد من نصر ما لم يأذن الله تعالى بنصره من التقليد الفاسد واتباع الهوى المضل إلى أن قالوا لا نحمل الألفاظ من الأوامر والأخبار على ظواهرها بل هي على الوقف وقال بعضهم وهو بكر البشري إنما ضلت الخوارج بحملها القرآن على ظاهره واحتج بعضهم أيضا بأن قال لما وجدنا من الألفاظ ألفاظا مصروفة عن ظاهرها ووجدنا قول القائل إنك سخي وإنك جميل قد تكون على الهزؤ والمراد إنك قبيح وإنك لئيم علمنا أن الألفاظ لا تنبىء عن المعاني بمجردها
قال علي هذا كل ما موهوا به وهؤلاء هم السوفسطائيون حقا بلا مرية وقد علم كل ذي عقل أن اللغات إنما رتبها الله عز و جل ليقع بها البيان واللغات ليست شيئا غير الألفاظ المركبة على المعاني المبينة عن مسمياتها قال الله تعالى { ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وهو لعزيز لحكيم } } واللسان هي اللغة بلا خلاف ههنا فإذا لم يكن الكلام مبينا عن معانيه
فأي شيء يفهم هؤلاء (3/301)
المخذولون عن ربهم تعالى وعن نبيهم صلى الله عليه و سلم بل بأي شيء يفهم به بعضكم بعضا
ويقال لهم إذا أمكن ما قلتم فبأي شيء نعرف مرادكم من كلامكم هذا ولعلكم تريدون به شيئا آخر غير ما ظهر منه ولعلكم تريدون إثبات ما أظهرتم إبطاله
فبأي شيء أجابوا به فهو لازم لهم في عظيم ما أتوا به من السخف وهؤلاء قوم قد أبطلوا الحقائق جملة ومنعوا من الفهم بالبتة فيكاد الكلام يكون معهم عناء لولا كثرة من اغتر بهم من الضعفاء وصدق رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ أنذر باتخاذ الناس رؤساء جهالا فيضلون ويضلون
وأما قول بكر إن الخوارج إنما ضلت باتباعها الظاهر فقد كذب وأفك وافترى وأثم
ما ضلت إلا بمثل ما ضل هو به من تعلقهم بآيات ما وتركوا غيرها وتركوا بيان الذي أمره الله عز و جل أن يبين للناس ما نزل إليهم كما تركه بكر أيضا وهو رسول الله صلى الله عليه و سلم ولو أنهم جمعوا آي القرآن كلها وكلام النبي صلى الله عليه و سلم وجعلوه كله لازما وحكما واحدا ومتبعا كله لاهتدوا على أن الخوارج أعذر منه وأقل ضلالا لأنهم لم يلتزموا قبول خبر الواحد وأما هو فالتزم وجوبه ثم أقدم على استحلال عصيانه
والقول الصحيح ههنا هو أن الروافض إنما ضلت بتركها الظاهر واتباعها ما اتبع بكر ونظراؤه من التقليد والقول بالهوى بغير علم ولا هدى من الله عز و جل ولا سلطان ولا برهان فقال الروافض { وإذ قال موسى لقومه إن لله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بلله أن أكون من لجاهلين } قالوا ليس هذا على ظاهره ولم يرد الله تعالى بقرة قط إنما هي عائشة رضي الله تعالى عنها ولعن من عقها وقالوا الجبت والطاغوت ليسا على ظاهرهما إنما هما أبو بكر وعمر رضوان الله عليهما ولعن من سبهما
وقالوا { يوم تمور لسمآء مورا وتسير لجبال سيرا } ليس هذا على ظاهره إنما السماء محمد والجبال أصحابه وقالوا { وأوحى ربك إلى لنحل أن تخذي من لجبال بيوتا ومن لشجر ومما يعرشون } ليس هذا على ظاهره إنما النحل بنو هاشم والذي يخرج من بطونها هو العلم
وسلك بكر ونظراؤه طريقهم فقالوا { وثيابك فطهر } ليس الثياب (3/302)
على ظاهر الكلام إنما هو القلب
وقالوا البيعان بالخيار ما لم يفترقا ليس على ظاهره من تفرق الأبدان إنما معناه ما لم يتفقا على الثمن
وقالوا { يستفتونك قل لله يفتيكم في لكلالة إن مرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثهآ إن لم يكن لهآ ولد فإن كانتا ثنتين فلهما لثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونسآء فللذكر مثل حظ لأنثيين يبين لله لكم أن تضلوا ولله بكل شيء عليم } ليس على ظاهره إنما هو ابن ذكر وأما الأنثى فلا
وقالوا { يا أيها لذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم لموت حين لوصية ثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في لأرض فأصابتكم مصيبة لموت تحبسونهما من بعد لصلاة فيقسمان بلله إن رتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة لله إنآ إذا لمن لآثمين } ليس على ظاهره إنما أراد من غير قبيلتكم
قال علي ويسأل هؤلاء القوم أركبت الألفاظ على معان عبر بها عنها دون غيرها أم لا فإن قالوا لا سقط الكلام معهم ولزمنا ألا نفهم عنهم شيئا إذ لا يدل كلامهم على معنى ولا تعبر ألفاظهم عن حقيقة وإن قالوا نعم تركوا مذهبهم الفاسد وكل ما أدخلنا على من قال بالوقف في الأوامر فهو داخل على هؤلاء
ويدخل على هؤلاء زيادة إبطال جميع الكلام أوله عن آخره وكذلك يدخل عليهم أيضا ما يدخل على القائلين بالوقف في العموم وسنذكره في بابه إن شاء الله تعالى ولا قوة إلا بالله
فإن قالوا بأي شيء تعرفون ما صرف من الكلام عن ظاهره قيل لهم وبالله تعالى التوفيق نعرف ذلك بظاهر آخر مخبر بذلك أو بإجماع متيقن منقول عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلى أنه مصروف عن ظاهره فقط وسنبين ذلك في آخر باب الكلام في العموم والخصوص إن شاء الله عز و جل وبالله تعالى التوفيق
وقد أكذب الله تعالى هذه الفرقة الضالة بقوله عز و جل ذاما لقوم يحرفون الكلم عن مواضعه { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم لطور خذوا مآ آتيناكم بقوة وسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم لعجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين } لا بيان أجلى من هذه الآية في أنه لا يحل صرف كلمة عن موضعها في اللغة ولا تحريفها عن موضعها في اللسان وأن من فعل ذلك فاسق مذموم عاص بعد أن يسمع ما قاله تعالى
قال عز و جل { كذلك نقص عليك من أنبآء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم لقيامة وزرا } فصح أن الوحي كله من (3/303)
يترك ظاهره فقد أعرض عنه وأقبل على تأويل ليس عليه دليل
وقال تعالى { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام لله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } وكل من صرف لفظا عن مفهومه في اللغة فقد حرفه
وقد أنكر الله تعالى ذلك في كلام الناس بينهم فقال تعالى { فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على لذين يبدلونه إن لله سميع عليم } وليس التبديل شيئا غير صرف الكلام عن موضعه ورتبته إلى غيرها بلا دليل من نصر أو إجماع متيقن عنه صلى الله عليه و سلم
وقال تعالى { ياأيها لذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا نظرنا وسمعوا وللكافرين عذاب أليم } فصح أن اتباع الظاهر فرض وأنه لا يحل تعديه أصلا
وقال تعالى { يأيها لذين آمنوا لا تحرموا طيبات مآ أحل لله لكم ولا تعتدوا إن لله لا يحب لمعتدين }
والاعتداء هو تجاوز الواجب ومن أزاح اللفظ عن موضوعه في اللغة التي بها خوطبنا بغير أمر من الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه و سلم فعداه إلى معنى آخر فقد اعتدى فليعلم أن الله لا يحبه وإذا لم يحبه فقد أبغضه نعوذ بالله من ذلك
وقال تعالى { لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون } وقال تعالى { ومن يعص لله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين }
وقد أخبر تعالى أنه { وعلم آدم لأسمآء كلها ثم عرضهم على لملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين } فنص نصا جليا لا يحتمل تأويلا على أنه علق كل مسمى اسما مخصوصا به وكذلك من حدود الله تعالى التي قد أخبر أنه من تعداها فهو ظالم وأنه يدخله نارا وأهل ذلك هم لإقدامهم على الباطل الذي لا يخفى على ذي لب وبالله تعالى نعوذ من الخذلان ونسأله التوفيق فكل شيء يبدله لا إله إلا هو فلا موفق إلا من هدى (3/304)
ولا ضال إلا من خذل
ولله تعالى في كل ذلك الحجة البالغة علينا
ولا حجة لنا عليه
ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون
وحسبنا الله ونعم الوكيل
وقال تعالى { تبع مآ أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن لمشركين } فأمره باتباع الوحي النازل وهو المسموع الظاهر فقط وقال تعالى { أولم يكفهم أنآ أنزلنا عليك لكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } أخبر تعالى أن الواجب علينا أن نكتفي بما يتلى علينا وهذا منع صحيح لتعديه إلى طلب تأويل غير ظاهره المتلو علينا فقط وقال تعالى آمرا لنبيه صلى الله عليه و سلم أن يقول { قل لا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي لأعمى ولبصير أفلا تتفكرون } إلى منتهى قوله تعالى
قال علي ولو لم يكن إلا هذه الآية لكفت لأنه عليه السلام قد تبرأ من الغيب وأنه إنما يتبع ما يوحى إليه فقط ومدعي التأويل وتارك الظاهر تارك للوحي مدع لعلم الغيب وكل شيء غاب عن المشاهد الذي هو الظاهر فهو غيب ما لم يقم عليه دليل من ضرورة عقل أو نص من الله تعالى أو من رسوله صلى الله عليه و سلم أو إجماع راجع إلى النص المذكور وقال تعالى { أفغير لله أبتغي حكما وهو لذي أنزل إليكم لكتاب مفصلا ولذين آتيناهم لكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بلحق فلا تكونن من لممترين } فمن ابتغى حكما غير النصوص الواردة من الله تعالى في القرآن وعلى لسان نبيه صلى الله عليه و سلم فقد ابتغى غير الله حكما
وبين تعالى أن الحكم هو ما أنزل في الكتاب مفصلا وهذا هو الظاهر الذي لا يحل تعديه وقال تعالى { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } فنص تعالى على أن الباطل إنما يمتحى وأن الحق إنما يصح بكلماته تعالى فثبت يقينا أن الكلمات معبرات عما وضعت له في اللغة وأن ما عدا ذلك باطل فصح اتباع ظاهر اللفظ بضرورة البرهان
وقال تعالى { وإن كادوا ليفتنونك عن لذي أوحينآ إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا }
قال علي ومن ترك ظاهر اللفظ وطلب معاني لا يدل عليها لفظ الوحي فقد (3/305)
افترى على الله عز و جل بنص الآية المذكورة
وقال تعالى { ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلآء ونزلنا عليك لكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } وقال تعالى { بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } فنص تعالى على البيان إنما هو القرآن وكلام النبي صلى الله عليه و سلم فقد فصح بذلك اتباع ما أوجب القرآن وكلامه عليه السلام وبطلان كل تأويل دونهما وقال تعالى { ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وهو لعزيز لحكيم }
قال علي ففي هذه الآية كفاية لمن عقل أن لغة النبي صلى الله عليه و سلم التي خاطبنا بها لا يحل أن نتعدى بألفاظها عن موضوعاتها إلى ما سواه أصلا
أخبرني يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري كتابا إلي حدثنا سعيد بن نصر حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا خالد بن مخلد حدثنا محمد بن جعفر قال أخبرنا هشام عن عروة عن أبيه قالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتأول شيئا من القرآن إلا آيا بعدد أخبره بهن جبريل عليه السلام
قال علي فإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم لا يتأول شيئا من القرآن إلا بوحي فيخرجه عن ظاهرة التأويل فمن فعل خلاف ذلك فقد خالف الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم وقد نهى تعالى وحرم أن يقال عليه ما لم يعلمه القائل وإذا كنا لا نعلم إلا ما علمنا فترك الظاهر الذي علمناه وتعديه إلى تأويل لم يأت به ظاهر آخر حرام وفسق ومعصية لله تعالى وقد أنذر الله تعالى وأعذر فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها
حدثنا حمام بن أحمد قال حدثنا محمد بن يحيى بن مفرج حدثنا ابن الأعرابي حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن جعفر بن برقان قال قال أبو هريرة يا ابن أخي إذا حدثت بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا تضرب له الأمثال وصدق أبو هريرة رضي الله عنه ونصح
وبالله تعالى التوفيق (3/306)
فصل في الأوامر أعلى الفور هي أم على التراخي
قال القائلون إن الأوامر على التراخي وقال آخرون فرض الأوامر البدار إلا ما أباح التراخي فيها نص آخر أو إجماع
قال علي وهذا هو الذي لا يجوز غيره لقول الله تعالى { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها لسماوات ولأرض أعدت للمتقين } وقال تعالى { ولكل وجهة هو موليها فستبقوا لخيرات أين ما تكونوا يأت بكم لله جميعا إن لله على كل شيء قدير } وقد قدمنا أن أوامر الله تعالى على الوجوب فإذا أمرنا تعالى بالاستباق إلى الخيرات والمسارعة إلى ما يوجب المغفرة فقد ثبت وجوب البدار إلى ما أمرنا به ساعة ورود الأمر دون تأخر ولا تردد وقد شغب بعض المخالفين فقال ليس في قوله تعالى { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها لسماوات ولأرض أعدت للمتقين } حجة في أن الأوامر واجب البدار إليها لأنه تعالى أمرنا بالمسارعة إلى المغفرة لا إلى الفعل
قال علي وهذا مما يسر فيه هؤلاء القوم لعكس الحقائق وقد أيقنا بقوله تعالى { ومن جآء بلسيئة فكبت وجوههم في لنار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون } أن أحدا لا يؤتى المغفرة إلا بعمل صالح يقتضي له وعد الله تعالى بالرحمة والمغفرة وعلمنا ذلك يقينا أن مراد الله تعالى بقوله { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها لسماوات ولأرض أعدت للمتقين } إنما هو سارعوا إلى الأعمال الموجبة للمغفرة من ربكم إذ لا سبيل إلى المسارعة إلى المغفرة إلا بذلك وهذا من الحذف الذي دلت عليه الحال وإنما قلنا هذا لوجهين أحدهما النص الجلي الوارد في أنه لا يجزي أحد بمغفرة ولا غيرها إلا بحسب عمله
والثاني النص الوارد بأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وليس في وسع أحد المسارعة إلى المغفرة المجردة دون توسط عمل صالح فهذان الظاهران نصا أن في تلك الآية حذفا دلت عليه الحال فما كان مرتبطا بوقت واحد كصيام رمضان فقد جاء النص بإيجاب تأخيره إلى وقته (3/307)
فإذا خرج الوقت فقد ثبت العجز عن تأديته كما أمرنا إلا بأن يأتي في شيء من ذلك نص آخر فيوقف عنده وما كان مرتبطا بوقت فيه مهلة فقد جاء النص بإباحة تأخيره إلى آخر وقته وإيجاب تأخيره إلى أول وقته فإذا خرج الوقت فكل ما قلنا في الذي قبله ولا فرق وذلك كأوقات الصلاة
وما لم يأت مرتبطا بوقت ففرضه البدار في أول أوقات الإمكان إلا أن الأمر به لا يسقط عن المأمور به لعصيانه في تأخيره وكذلك ما كان مرتبطا بوقت له أول محدود لم يحد آخره أو ما كان مرتبطا بوقت محدود متكرر
فالنوع الأول كقضاء صيام المريض والمسافر لأيام رمضان فذلك لازم في أول أوقات القدرة عليه فإن بادر إليه فقد أدى ما عليه وإن أخره لغير عذر كان عاصيا بالتأخير وكان الأمر عليه ثابتا أبدا
والنوع الثاني كوجوب الزكاة فإن لوقتها أولا وهو انقضاء الحول وليس قبل ذلك أصلا وليس لآخر وقتها آخر محدود بل هو باق أبدا إلى وقت العرض على الله عز و جل لأن النص لم يأت في ذلك بانتهاء والقول في المبادرة إلى أدائها وفي التأخير كما قلنا في النوع الذي قبله
والنوع الثالث كالحج فإنه مرتبط بوقت من العام محدود وليس ذلك على الإنسان في عام بعينه بل هو ثابت على كل مستطيع إلى وقت العرض على الله عز و جل والقول في البدار إليه أو تأخيره كالقول في النوعين اللذين قبله
فإن قال قائل فلم أجزتم صيام كفارة اليمين وقضاء رمضان غير متتابع وكذلك صيام متعة الحج وكذلك غسل الأعضاء في الوضوء والغسل من الجنابة والجمعة فأجزتم كل ذلك غير متتابع
قيل له وبالله تعالى التوفيق إنا لم نفارق أصلنا الذي ذكرنا ولا خالفنا النص في شيء من ذلك لأن الله تعالى إنما أوجب في الكفارة ثلاثة أيام ومعنى ثلاثة أيام يوم ويوم ويوم ولكل يوم حكمه
فإذا صام يوما فقد صام بعض فرضه وأدى من ذلك فرضا قائما بنفسه والصيام شيء آخر غير المبادرة فإذا صام غير مبادر فقد أطاع في أداء الصوم وعصى في ترك البدار وهما فرضان متغايران لا يبطل أحدهما ببطلان الآخر وإنما ذلك كمن صلى ولم يزك فعليه معصية ترك الزكاة وله أجر الطاعة (3/308)
بالصلاة ولا تظلم نفس شيئا { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره }
وإنما كان يبطل أحدهما بترك الآخر ولو جاء النص يربط أحدهما بالآخر كربطه تعالى التتابع في صيام الظهار وفي صيام كفارة القتل فهذان إن لم يتابعا فلم يؤديا كما أمر الله تعالى ولم يشترط التتابع في قضاء رمضان ولا في الكفارات ولا في متعة الحج وأمر الله تعالى بالمسارعة إلى الطاعات هو أمر بأن يكون فعلنا على تلك الصفة من المسارعة فالمسارعة المأمور بها صفة لفعلنا فمن تركها عصى وكان مؤديا لما أداه غير مسارع ما لم يشترط الوقت والتتابع وأمره تعالى بالتتابع في صيام الظهار وكفارة القتل هو أمر بأن يكون ذلك الصيامان على هذه الصفة فالمتابعة المأمور بها هنالك صفة للشهرين فإذا لم يكونا متتابعين فليسا اللذين أمر الله تعالى بهما
وكذلك نقول في غسل الأعضاء في الوضوء وغسل الجنابة أنه غير مأمور بذلك إلا إذا قام إلى الصلاة فقط فمتى أراد صلاة تطوع أو صلاة فرض فهو قائم إلى الصلاة ولم يخص تعالى بذلك القيام إلى الصلاة فرض دون القيام إلى صلاة تطوع فله حينئذ أن يغتسل ويتوضأ فإذا أتمها فله أن يؤخر التطوع ما شاء وله تأخير الفرض بمقدار ما يدركها مع الإمام أو كان ممن عليه فرض حضورها في الجماعة أو إلى آخر وقتها إن كان ممن لا يلزمه فرض حضورها في جماعة ثم لا يحل له تأخيرها أصلا أكثر
وأما من لا يريد صلاة ولا يمكنه صلاة كالحائض إثر الجماع فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه طاف على جميع نسائه واغتسل بين كل اثنتين منهن فصح بهذا النص أن الغسل جائز تعجيله وإن لم يرد الصلاة بعده وبالله تعالى نتأيد فلما أبيح لنا ذلك كان المفرق والمتابع يقع على فعلهما اسم وضوء وغسل على السواء وقوعا مستويا وكان في غسله عضوا من أعضائه بنية ما أبيح له من تعجله مؤديا لفرض غسل ذلك العضو ولكل عضو حكمه فمن فرق غسله أو وضوءه ما لم يقم إلى الصلاة فلم يترك مسارعة أمر بها حتى إذا أراد القيام إلى الصلاة إما مع الأمام وإما في آخر وقتها ففرض عليه المسارعة إلى إتمام وضوئه وغسله (3/309)
وكذلك قلنا في قضاء رمضان إنه إنما أمر تعالى بأيام أخر ولم يشترط فيها المتابعة فمن بادر إلى صيامها فقد أدى فرض الصوم وفرض البدار ومن لم يبادر وصام فقد أدى فرض الصوم وعصى في ترك فرض المسارعة
وكذلك نقول فيمن لم يعجل تأدية زكاته في أول أوقات وجوبها وفيمن أخر الحج عن أول أوقات الإمكان أنه إن حج وزكى بعد ذلك فقد أدى فرض الزكاة والحج وعليه إثم المعصية بترك المسارعة لا يسقط ذلك الإثم عنه أداء ما أدى من ذلك إلا في الموازنة يوم القيامة يوم وجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا
قال علي ومما يوجب أيضا فرض المبادرة إلى الطاعة قول الله تعالى { ولسابقون لسابقون أولئك لمقربون } وقد قال عليه السلام لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله تعالى أو كلاما هذا معناه هذا وإن كان إنما أوجب أن يقول عليه السلام تأخر قوم عن الصف الأول لبعض الأمر المكروه فهو محمول على ظاهره ومقتضى لفظه على ما قد أثبتنا وجوبه في الفصل الذي قبل هذا
قال علي وقد سأل أبو بكر محمد بن داود رحمة الله عليه من أجاز تأخير الحج فقال متى صار المؤخر للحج إلى أن مات عاصيا أفي حياته فهذا غير قولكم أو بعد موته فالموت لا يثبت على أحد معصية لم تكن لازمة في حياته
قال علي ونحن نزيد في هذا السؤال فنقول وبعد الموت لا يأثم أحد إلا من سن سنة سوء يقتدى به فيها
فأجابه بعض المجيزين لذلك وهو أبو الحسن القطان الشافعي بأن قال إنما كان له في التأخير بشرط أن يفعل قبل أن يموت فلما مات قبل أن يفعل علمنا أنه لم يكن له مباحا التأخير
قال علي ونحن نقول إن أبا الحسن لم يحقق الجواب الشافي وكان أدخل في الشغب لو قال إنه إثم في آخر عام قدر فيه على الحج ولم يحج كما قال الشافعي فيمن حلف بالطلاق إن لم يطلق امرأته إنها لا تطلق إلا آخر أوقات صحته التي كان فيها قادرا على الطلاق (3/310)
قال علي ونحن نجيب في هذين الجوابين معا ببيان لائح بحول الله وقوته فنقول قال الله تعالى { لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين } وإنما يلزم الله تعالى الإثم من ترك ما لم يعلم أنه ليس له تركه أو قامت عليه بذلك حجة أو عمل ما يعلم أنه ليس له أن يعمله أو قامت عليه حجة بذلك ولم يطلع الله أحدا على وقت منيته ولا عرفه بآخر أوقات قدرته ولا قامت عليه حجة في ذلك الوقت إلا ما قد قام في سائر الأحوال قبل ذلك ولا حدث عليه من الأوامر إلا ما حدث قبل ذلك الوقت فإن كان عاصيا في ذلك الوقت فهو عاص قبل ذلك الوقت وإن لم يكن عاصيا قبل ذلك الوقت فليس عاصيا في ذلك الوقت إلا بنص يخص ذلك الوقت بوقوع المأثم فيه دون غيره ومن فرق بين الأوقات بلا نص ولا إجماع فقد قال بلا علم وذلك حرام
وأيضا فإن الله تعالى لم يكلف أحدا أن يعلم هل يموت قبل أن يؤدي ما عليه فيأثم أو يعلم أنه لا يموت حتى يؤدي فيسقط عنه المأثم وقول القطان يوجب أن الناس مكلفون ذلك ويوجب أيضا أن يكون المستطيعون للحج المؤخرون له بلا عذر مختلفي الأحكام فبعضهم آثم في تأخيره وهذا مع ما فيه من التحكم بلا دليل ومن تكليف المرء علم متى يموت فمخالف لجملة مذاهب أصحابه في الفسخ في تأخير الحج جملة وهو ممن لا يخالفها أصلا ولولا ذلك لشكرناه على خلافها ولم نلمه وبالله تعالى التوفيق
فبقي سؤال أبي بكر رحمة الله عليه بحسبه
قال أبو محمد ومما يبين أن الأوامر على الفور قوله تعالى { وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } فأوجب تعالى قبول النذارة وقال تعالى { يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } فأمر تعالى بالتوقف في قبول خبر الفاسق واستثناه من قبول النذارة وليس إلا توقف أو بدار ولا سبيل إلى قسم ثالث إلا الترك جملة والتوقف هو أيضا ترك فلما خص خبر الفاسق بالتوقف فيه وأبانه بذلك عن خبر غير الفاسق وجب البدار ضرورة إلى خبر (3/311)
العدل فوجب الفور بالبرهان الضروري وبطل الوقف إلا في خبر الفاسق
قال علي ويكفي من ذلك ما حدثناه عبد الله بن يوسف الرجل الصالح قال ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى البغدادي عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج ثنا عبد الله بن معاذ العنبري وقال ثنا أبي ثنا شعبة عن الحكم سمع علي بن الحسين عن ذكوان مولى عائشة أنها قالت قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم لأربع مضين من ذي الحجة أو خمس فدخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو غضبان فقلت من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار قال أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريه ثم أحل كما حلوا
قال علي فرفع هذا الحديث الشك جملة وبين عليه السلام أن أمره كله على الفرض وعلى الفور وإن التردد حرام لا يحل ونعوذ بالله العظيم من كل ما أغضب النبي صلى الله عليه و سلم
فإن اعترضوا بمن بلغه المنسوخ ولم يبلغه الناسخ قلنا هو بمنزلة من لم يبلغه الأمر في أنه لم يلزم حكما فلا يلام على تركه حتى يبلغه ولا يعذب على تركه حتى يعمله وبالله تعالى التوفيق بل حكمه الثبات على ما بلغه من المنسوخ لأنه مأمور به جملة حتى يبلغه الناسخ لقوله تعالى { قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون } فصح أن الذي بلغه من أمر الله تعالى في القرآن أو على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم هو اللازم لقوله عز و جل { وأطيعوا لله وأطيعوا لرسول وحذروا فإن توليتم فعلموا أنما على رسولنا لبلاغ لمبين } حتى يبلغه الأمر الناسخ فحينئذ يسقط عنه المنسوخ ويلزمه الناسخ
وأما احتجاجهم بتأخيره عليه السلام الحج فقد حج عليه السلام قبل الهجرة ورآه جبير بن مطعم واقفا بعرفة فأنكر جبير ذلك لأنه كان عليه السلام من الخمسة الذين لا يقفون بعرفة ويكفي من هذا كله أنا على يقين من أن الله تعالى أمره بتأخير الحج حتى يعهد إلى المشركين ألا يقربوا المسجد الحرام وإنما قطعنا على ذلك لقول الله تعالى آمرا أن يقول { قل ما كنت بدعا من لرسل ومآ أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي ومآ أنا إلا نذير مبين } فصح يقينا أنه عليه السلام (3/312)
لا يفعل إلا ما يوحي إليه ربه عز و جل فلما أخر الحج علمنا أنه فعل ذلك عليه السلام بوحي وكان عليه السلام قد أعلمه ربه تعالى أنه لا يقبضه حتى يتم التعليم ويكمل التبليغ ويدخل الناس في دين الله أفواجا وهذا يقتضي أنه لا يموت حتى يعلم الناس مناسكهم وليس غيره عليه السلام كذلك
وأيضا فلا ندري متى نزل فرض الحج عليه لعله إنما نزل عليه إذ حج عليه السلام حجة الوداع وهذا هو الأظهر لأنه لو نزل قبل ذلك لما آخر عليه السلام تعليم المناسك إلى حجة الوداع التي قال فيها خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا أو كما قال عليه السلام ويبين ذلك الحديث الطويل عن جابر ففي أوله ثم أذن رسول الله صلى الله عليه و سلم في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حاج فلو فرض الحج قبل ذلك لما أخر الأذان في الناس بوجوبه عليهم
والحديث المأثور من طريق ابن عباس وأبي هريرة إذ خطب الناس فقال إن الله فرض عليكم الحج فقال له قائل وقيل إنه الأقرع بن حابس أفي كل عام يا رسول الله وهذا والله أعلم إنما كان في حجة الوداع
وقد أخبرت عائشة رضي الله عنها بما يدل على ذلك من خروجهم إلى الحج في ذلك العام ينتظرون أمره عليه السلام والوحي ينزل عليه والأحكام التي نزلت في تلك الحجة من نسخ الحج لمن لم يسق الهدي وأن يحل بمتعة ومن إيجاب القران على من ساق الهدي وسائر ما نزل في تلك الحجة من بيان شرائع الحج مما لم يكن نزل قبل ذلك وبالله تعالى التوفيق وصلى الله على محمد نبي الرحمة وهادي الأمة وسلم
فصل في الأمر المؤقت بوقت محدود الطرفين
في الأمر المؤقت بوقت محدود الطرفين متى يجب أفي أوله أم في آخره والأمر المرتبط به بصفة ما والأمر المؤقت بوقت محدود الأول غير محدود الآخر وفيه زيادات تتعلق بالفصل الذي أتممناه قبل هذا
قال علي أما الأمر المرتبط بوقت لا فسحة فيه فغير جائز تعجيل أدائه قبل وقته (3/313)
ولا تأخيره عن وقته وذلكم ما ذكرنا قبل هذا من صيام شهر رمضان فإن جاء نص بالتعويض منه وأدائه في وقت آخر وقف عنده وكان ذلك عملا آخر مأمورا به وإن لم يأت بذلك نص ولا إجماع فلا يجوز أن يؤدى بشيء منه في غير وقته
وكذلك كل عمل مرتبط بوقت محدود الطرفين كأوقات الصلوات وما جرى هذا المجرى فلا يجوز أداء شيء من ذلك قبل دخول وقته ولا بعد خروج وقته ومن شبه ذلك بديون الآدميين لزمه أن يجيز صيام رمضان في شعبان قياسا على تعجيل ديون الناس قبل حلول أوقاتها ولزمه أن يجيز تقديم الصلوات قبل وقتها قياسا على ذلك وعلى ما أجازوا من تعجيل الزكاة قبل حلول وقتها فبعضهم قال بثلاثة أعوام وبعضهم قال بعام فأقل وبعضهم قال الشهر والشهرين ونحو ذلك وبعضهم فرق متحكما فأجاز تعجيل الزكاة التي في الأموال قبل الحول بشهر أو شهرين ومنع من شهرين ونصف وأجاز في تعجيل زكاة الفطر اليوم واليومين ومنع من ثلاثة أيام وهذا قول يكفي من بطلانه سماعه لأنه حكم بلا إذن من الله عز و جل وفرق بلا دليل
قال علي ولا فرق بين ما أجاز أداء الأمر بعد انقضاء وقته وبين من أجازه قبل دخول وقته هذا على أن بعضهم قد أجاز للمريض الذي يخاف تغير عقله تعجيل الصلاة قبل وقتها فإذا ادعوا أن الإجماع منعهم من ذلك أكذبهم قول ابن عباس فإنه يجيز أداء الصلاة قبل دخول وقتها وصلاة الظهر قبل زوال الشمس ولا فرق في ديون الناس بين أدائها بعد وقتها وحلول أجلها وبين أدائها قبل وقتها وحلول أجلها فليقولوا كذلك في جميع شرائع الله تعالى
قال علي وبطلان هذا القياس سهل فلو كان القياس حقا لكان في هذا المكان باطلا بحتا بحول الله وقوته فنقول وبالله تعالى التوفيق إن ديون الناس التي إلى أجل لا يجوز لأحد أداؤها قبل حلول أوقاتها ولا تأخيرها عن حلول أوقاتها إلا بإذن الذين لهم الديون ورضاهم ولا خلاف في ذلك جملة ولكن تناقض من تناقض في بعض ذلك ولا خلاف في أن من كان له على أحد ثلاثة ديون من ثلاث معاملات وكلها إلى آجال محددة فأذن الذي له الدين في تعجيل أحد تلك الديون بعينه قبل الأجل ورضي بذلك الغريم ثم أذن في تأخير آخر من تلك الديون بعينه بعد حلول (3/314)
أجله فليس ذلك بموجب جواز تعجيل الدين الذي لم يأذن بتعجيله ولا بمجيز تأخيره عن أجله هذا ما لا خلاف بين اثنين فيه فإذا لم يكن إذن الناس فيما أذنوا فيه من تعجيل ديونهم أو تأجيلها موجبا أن يقاس ما سكتوا عنه من سائر ديونهم على ما أذنوا فيه من تعجيل ديونهم فذلك أبعد من أن تقاس ديون الله تعالى التي لم يأذن في تأجيلها ولا في تعجيلها على ما أذن الناس فيه من تعجيل ديونهم وتأجيلها
قال علي وهذا ما لا خفاء به على من له مسكة عقل وأيضا فلا خلاف بين اثنين في أن من له دين فأسقطه البتة ورضي الغريم بذلك فإن ذلك الدين ساقط فيلزمهم إذا أجازوا تأخير ديون الله تعالى عن أوقاتها وتعجيل بعضها عن أوقاتها وإن لم يأذن الله تعالى في ذلك قياسا على جواز تأخير ديون الناس وجواز تعجيلها إذا أذنوا في ذلك بأن يجيزوا سقوط ديون الله تعالى بالبتة وإن لم يأذن الله تعالى في ذلك قياسا على سقوط ديون الناس بالبتة إذا أذنوا في ذلك وهذا أصح قياس وأشبه بقياسهم الذين حكوا لو كان القياس حقا والقياس بحمد الله تعالى باطل محض
قال علي وأيضا فإن الزكوات والكفارات بالصدقات وإن كان الله تعالى قد جعلها للمساكين فليست من حكم ديون الناس في ورد ولا صدر لأن ديون الناس التي راموا تشبيه الزكوات بها هي لأقوام بأعيانهم فحكمهم جائز فيها لأنها مال متعين لهم وموروث عنهم وأما الزكوات والكفارات فليست لقوم من المساكين بأعيانهم ولا هؤلاء المساكين بأولى بها من غيرهم من المساكين فما كان هكذا فلا إذن لمن حضر من المساكين فيها لا بتعجيل ولا بتأجيل ولا يستحقونها إلا بقبضها في أوقاتها لا قبل ذلك ولا بعده
وبيان ذلك أنها لا تورث عنهم قبل قبضهم لها ولا يجوز حكمهم فيها ولا تصرفهم ولا إبراؤهم قبل قبضها وكل هذا لا خلاف فيه وإنما شبه رسول الله صلى الله عليه و سلم ديون الناس بديون الله تعالى في شيئين لا ثالث لهما
أحدها بقاء حكمها بعد الموت وبعد العجز
والثاني أداء الولي لها عن الميت فعصوا الله تعالى أو من عصاه منهم ورسوله صلى الله عليه و سلم في الوجهين اللذين شبه رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها ديون الناس بديون الله تعالى وتركوهما معا فقالوا من مات وعليه حج أو زكاة أو صيام أو كفارات فقد سقط (3/315)
وجوبها فيما ترك ولا يقضى عنه إلا أن يأمر بذلك فيقضى عنه الزكاة والحج خاصة من الثلث ويطعم عنه إن أوصى بذلك في الصيام فقط
ثم شبهوا ديون الله بديون الناس فيما لا شبه فيه بينهما وفيما لم يأذن به الله عز و جل ومن شغب منهم بالحديث الذي روي من جمع زكاة الفطر في المسجد ومبيت أبي هريرة عليها فلا حجة لهم فيه لأنه لا يخلو ذلك الجمع المذكور من أحد وجهين لا ثالث لهما أحدهما أن تكون جمعت ولم تفرق حتى يأتي يوم الفطر الذي هو وقت أدائها وليس هذا مخالفا لقولنا ولو جاء وقت أدائها لما حل لمسلم أن يظن بالنبي صلى الله عليه و سلم أنه أخر إعطاءها وهو عليه السلام إذ بقي عنده دينار لم يستحقه عليه أحد لم يأو إلى نسائه ولا فارق المسجد ليلا ولا نهارا قلقا آسفا حتى يعطيه فكيف يمنع أحدا حقا وقد وجب أداؤه ومن ظن هذا بالنبي صلى الله عليه و سلم فقد هذي
أو تكون أخرجت في وقتها ولا يحضر من يستحقها فانتظر النبي صلى الله عليه و سلم حضورهم كما كان يفعل بما اجتمع عنده عليه السلام من غنم الصدقة ونعمها ولا يحل لمؤمن أن يظن بالنبي صلى الله عليه و سلم غير أحد هذين الوجهين
وبالله تعالى التوفيق وليس في المذكور أنها أعطيت المساكين قبل يوم الفطر فبطل تشغيبهم به وبالله تعالى التوفيق
قال علي فإذا كان حكم الأموال والعبادات ما ذكرنا فلا خلاف في أن الوقت إنما معناه زمان العمل وأنه لا يفهم من قول الله عز و جل ورسوله صلى الله عليه و سلم اعملوا عمل كذا في وقت كذا وصلوا صلاة كذا من حين كذا إلى حين كذا إلا أن هذا الزمان المحدود هو الذي أمرنا فيه بالعمل المذكور فنقول حينئذ للمخالف ما معنى خروج الوقت فلا بد ضرورة من أنه انقضاء زمان العمل فإذا ذهب زمان العمل فلا سبيل إلى العمل إذ لا يتشكل في العقول كون شيء في غير زمانه الذي جعله الله تعالى زمانا له ولم يجعل له زمانا غيره وهذا من أمحل المحال وأشد الامتناع الذي لا يدخل في الإمكان البتة
فإن قال قائل كل وقت فهو لذلك العمل وقت
أبطل حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم في حدهما الوقت وتعدى حدودهما واستحق النار وقد قال تعالى { ومن يعص لله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين } وتعدي الحدود على (3/316)
الحقوق هو أن يحد الله تعالى وقتا فيتعداه مخلوق من الناس دون نص ورد إلى وقت آخر وهذا غاية البيان وبالله تعالى التوفيق
وأيضا فإنهم لا يقدمون على إطلاق تمادي الوقت بعد خروج الوقت المنصوص
ويقال لهم أيضا أخبرونا عن هذا الذي تعمد ترك الصلاة حتى خرج وقتها فأمرتموه بإعادتها أفي الوقت الذي رتبه الله تعالى أمرتموه بها أم في وقت لم يرتبه الله تعالى لها وقرنها به فإن قالوا في وقتها الذي رتبه الله تعالى لها كفروا وكذبوا مجاهرة وإن قالوا بل في وقتها أقروا بأنهم أمروا أن تؤدى الصلاة بخلاف ما أمر الله تعالى ومن فعل شيئا بخلاف ما أمر الله تعالى به فلم يفعل الذي أمر بل فعل ما لم يؤمر به فهو عاص في ذلك الفعل مرة ثانية وإنما يأمرونه بمعصية وبأمر غير مقبول لقوله عليه السلام من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد فصح لما ذكرنا صحة جلية أن من أمره الله تعالى بأداء عمل ما في وقت ما فعمله في غير ذلك الوقت فإنما عمل عملا لم يؤمر به ومن أمر بعمله فقد شرع شريعة لم يأذن بها الله تعالى بل قد نهى عنها إذ نهى عن تعدي حدوده
ولا يشك ذو حس أن صوم غد هو غير صوم اليوم فمن أمره الله بصيام اليوم فأفطر عامدا للمعصية ثم صام غدا فإنما صام يوما لم يأمره الله تعالى بصيامه فلا يكون ذلك قاضيا ما أمر به ولا يؤدي أحد ما أمر به إلا كما أمر به لا كما نهى ولا فرق بين هذا وبين ما أمره الله تعالى بحركة إلى مكان ما كالحج إلى مكة في ذي الحجة فحج هو إلى المدينة في ذي القعدة فأي فرق بين هذا وبين من أمر بصيام في رمضان فصام هو في شوال أو بصلاة ما بين زوال الشمس إلى زيادة الظل على مثل من يوم بعينه فصلاها هو في وقت آخر من يوم آخر وأي فرق بين هذا وبين من أمر أن يفعل فعلا في عين ما كنفقة على زوجة له مباح له وطؤها ففعل هو ذلك الفعل في غير تلك المرأة فهل هذا كله إلا غير الذي أمر به وكل ذلك باب واحد وطريق واحدة يجمعه كلها جمعا مستويا قوله تعالى { ومن يعص لله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين } وقوله عليه السلام من عمل عملا ليس (3/317)
عليه أمرنا فهو رد وأي فرق بين تعلق الأمر بالأزمان وبين تعلقه بالأعيان أو بمكان دون مكان
فإن قالوا إنا قد وجدنا أوامر معلقة بزمان ينوب عنها تأدية ذلك العمل في زمان آخر
قيل له وبالله التوفيق إذا جاء بذلك نص أو إجماع فقد علمنا أن الله عز و جل مد ذلك الوقت وعلق ذلك الأمر بذلك الزمان الثاني وجعله وقتا له ونحن لا ننكر هذا بل نقر به إذا أمرنا به لا إذا نهينا عنه وقد جاء مثل ذلك في الأمكنة كمن نذر صلاة في بيت المقدس فإنه إن صلى بمكة أجزأه للنص في ذلك ولا يجزي ذلك فيما لم يرد فيه نص وكذلك من مات وعليه صيام لزم وليه أن يصوم عنه للأمر الوارد في ذلك وكذلك من لم يحج أحج عنه من رأس ماله للنصوص الواردة في كل ذلك
فإن قالوا لنا ما تقولون في الصلاة المنسية أو التي ينام عنها أكل وقت لها وقت قيل له وبالله تعالى التوفيق نعم كل وقت لها ومتى ما صلاها فهو وقتها بنص كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم وكذلك السكران لقوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا لا تقربوا لصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغآئط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم إن لله كان عفوا غفورا }
فإن قالوا فبأي شيء تأمرون من تعمد ترك صلاة حتى خرج وقتها وتعمد ترك صوم رمضان في غير عذر من سفر أو مرض أو غير ذلك مما جاء فيه نص أو إجماع قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق نأمرهم بما أمرهم به ربهم عز و جل إذ يقول { وأقم لصلاة طرفي لنهار وزلفا من لليل إن لحسنات يذهبن لسيئات ذلك ذكرى للذاكرين } وبما يقول لهم نبيهم صلى الله عليه و سلم إذ يقول إن من فرط في صلاة فرض جبرت يوم القيامة من تطوعه وكذلك الزكاة وكذلك سائر الأعمال فأمره بالتوبة والندم والاستغفار والإكثار من التطوع ليثقل ميزانه يوم القيامة ويسد ما ثلم منه وأما أن نأمره بأن يصلي صلاة ينوي بها ظهرا لم يأمره الله عز و جل به أو عصرا لم يأت به نص أو نأمره بصيام يوم على أنه من رمضان وهو من غير رمضان فمعاذ الله من ذلك
فإذن كنا نكون متعدين بين يدي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم وآمرين له بأن يعمل غير ما أمره الله تعالى به بل ما قد نهاه عنه (3/318)
ثم نسألهم فنقول هذا الذي تعمد ترك صلاة أو صوم ثم أمرتموه بقضائه أقضى ما أمره الله تعالى من ذلك كما أمر أم لا فإن قالوا نعم كذبوا وهم لا يقولون ذلك وإن قالوا لا أقروا بأنهم أمروه أن يؤدي العمل على غير ما أمره الله تعالى به
فإن سألونا بمثل ذلك في ناسي الصلاة والنائم عنها والمفطر لسفر أو مرض قلنا لهم قد أدى ما أمره الله تعالى به كما أمره وفي الوقت الذي أمره الله تعالى به ولا ندري أقبل منه أم لا وكذلك كل عمل يعمله في وقته ولا فرق ولو صح الحديث في إيجاب القضاء على عامد الإفطار لقلنا به ولكنه لم يصح إنما رواه عبد الجابر بن عمر ومن هو مثله في الضعف فإن قالوا أنتم تأمرون الولي بأن يصوم عنه إن مات ولا توجبون عليه أن يصوم عن نفسه
قال علي فنقول كذبتم إنما قلنا كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من مات وعليه صيام صام عنه وليه ومعنى عليه صيام عليه أن يصوم لأن الصيام مصدر تقول صام يصوم صياما وصوما فإنما هذا فيمن مات وعليه أن يصوم وإنما ذلك النادر والذي فرط في قضاء رمضان أفطره السفر أو مرض فأما العامد للفطر بغير عذر فليس عليه صيام وإنما عليه إثم ترك الصيام وفي هذا كفاية لمن عقل وبالله تعالى التوفيق
قال علي وكل أمر علق بوصف ما لا يتم ذلك للعمل المأمور به إلا بما علق به فلم يأت به المأمور كما أمر فلم يفعل ما أمر به فهو باق عليه كما كان وهو عاص بما فعل والمعصية لا تنوب عن الطاعة ولا يشكل ذلك في عقل ذي عقل فمن ذلك من صلى بثوب نجس أو مغصوب وهو يعلم ذلك ويعلم أنه لا يجوز له ذلك الفعل أو صلى في مكان نهي عن الإقامة فيه كمكان نجس أو مكان مغصوب أو في عطن الإبل أو إلى قبر أو من ذبح بسكين مغصوبة أو حيوان غيره بغير إذن صاحبه أو توضأ بماء مغصوب أو بآنية فضة أو بإناء ذهب فكل هذا لا يتأدى فيه فرض فمن صلى كما ذكرنا فلم يصل ومن توضأ كما ذكرنا فلم يتوضأ ومن ذبح كما ذكرنا فلم يذبح وهي ميتة لا يحل لأحد أكلها لا لربها ولا لغيره وعلى ذابحها ضمان مثلها حية لأنه فعل كل ذلك بخلاف ما أمر
وقال عليه السلام من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3/319)
قال علي وقد نهاه الله تعالى عن استعمال تلك السكين وعن ذبح حيوان غيره بغير إذن مالكه وعن الإقامة في المكان المغصوب وأمر بالإقامة للصلاة وبتذكية ما يحل أكله وبضرورة العقل علمنا أن العمل المأمور به هو غير العمل المنهي عنه ولا يتشكل في العقل غير ذلك فذبحه حيوان غيره أو بسكين مغصوبة ليس هو التذكية المأمور بها فإذا لم يذك كما أمر فلم يحل بذلك العمل المنهي عنه أكل ما لا يحل أكله إلا بالتذكية المأمور بها ولا شك في أن إقامته في المكان المغصوب ليست الإقامة المأمور بها في الصلاة ولو كان ذلك لكان الله عز و جل آمرا بها ناهيا عنها إنسانا واحدا في وقت واحد في حال واحدة وهذا مما قد تنزه الحكيم العليم في إخباره تعالى أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها وليس اجتناب الشيء والإتيان به في وقت واحد في وسع أحد فصح ما قلنا وبالله التوفيق
وقد عارض في هذا بعض أهل الإغفال بمن طلق أو أعتق في مكان مغصوب أو صبغ لحيته بحناء مغصوبة أو تعلم القرآن في مصحف مغصوب
قال علي وهذا الاعتراض يبين جهل المعترض به لأن الطلاق والعتاق والبيع والعطايا والصدقات لفظ لا يقتضي إقامة مأمورا بها بل مباح له أن يطلق ويفعل كل ذلك وهو يمشي أو وهو يسبح في الماء فليس مرتبطا بالإقامة في المكان والصلاة لا بد لها من إقامة إلا في حالة المسابقة أو الضرورة فمن اضطر إلى الإقامة في مكان مغصوب فصلاته فيه تامة لأنه ليس مختارا للإقامة هناك والصابغ بالحناء بعد إزالة الحناء ليس هو مستعملا في تلك الحال لشيء مغصوب وأما لو صلى وهو مختضب بها لبطلت صلاته لفعله فيها ما لا يحل له وأما تعلم القرآن فليس مرتبطا بجنس المصحف وقد يتعلم المرء تلقينا ثم أيضا هو في حال حفظه غير مستعمل لشيء مغصوب وكذلك في قراءاته ما حفظ في صلاته وبالله التوفيق
وبالجملة فلا يتأدى عمل إلا كما أمر الله تعالى أو كما أباح لا كما نهى عنه وبالله تعالى التوفيق وكل عمل لا يصح إلا بصحة ما لا يصح فإن ذلك العمل لا يصح أبدا وكل ما لا يوجد إلا بعد وجود ما لا يوجد فهو غير موجود أبدا وكل ما لا يتوصل إليه إلا بعمل حرام فهو حرام أبدا وكل شيء بطل سببه الذي لا يكون إلا به فهو باطل أبدا وهذه براهين ضرورية معلومة بأول الحس وبديهة العقل ومن خالف فيها فهو سوفسطائي مكابر للعيان وبالله التوفيق (3/320)
قال علي وقد أشار قوم من إخواننا إلى أنه لا يقبل تطوع من عليه فرض
قال علي وهذا إذا أجمل دون تفسير أو خطأ وذلك أن الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الله تعالى يجيز صلاة من لم يتم فرض صلاته بتطوع إن كان له وكذلك الزكاة وكذلك سائر الأعمال
قال علي والصحيح في هذا الباب أن كل فرض تعين في وقت لا فسحة فيه فإنه لا يجزي أحدا أداه غيره في ذلك الوقت وذلك كإنسان أراد صيام نذر عليه أو تطوع في شهر رمضان وهو مقيم صحيح فهذا لا يجزيه أو كإنسان لم يبق عليه من وقت الصلاة إلا مقدار ما يدخل فيها فقط فهذا حرام عليه أن يتطوع أو يقضي صلاة عليه أو يصلي صلاة نذر عليه حتى تتم التي حضر وقتها بلا مهلة ولا فسحة فإن قضى حينئذ صلاة فاتته لم تجزئه وعليه قضاؤها ثانية وكذلك إن صلى صلاة نذر عليه وليس كذلك من لزمته زكاة ولم يبق من ماله إلا قدر ما يؤدي ما وجب عليه منها فقط إلا أن له غنى بعد ذلك فهذا يجزئه أن يتصدق بما شاء منه تطوعا وأن يؤدي منه نذرا بخلاف ما ذكرنا قبل لأن الزكاة في ذمته لا في عين ما بيده
وكذلك من أحاطت بماله ديون الناس حاشا بعد الموت لأن النص منع من ذلك ولم يجعل وصية ولا ميراثا إلا بعد الدين
ولكن من حضره وقت الحج وهو مستطيع فلا يجزئه أن يحج تطوعا ولا نذرا قبل أداء الفرض وكذلك العمرة لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد فالمستطيع للحج مأمور بأدائه حينئذ ومن حضر رمضان فهو مأمور بصيامه لرمضان ومن لم يبق عليه من وقت صلاته إلا مقدار ما يدخل فيها فهو مأمور بالدخول فيها فإذا فعل غير ما أمر به فهو رد بنص كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم وليس كذلك من لم يبق بيده من ماله إلا مقدار الزكاة أو مقدار ديون الناس لأنه ليس مأمورا بأداء ذلك مما بيده ولا بد لأنه لو استقرض مالا فأدى منه الزكاة التي عليه وديون الناس التي عليه أجزأه ذلك بلا خلاف ولم يجز للقاضي أن يلزمه الأداء من ماله ولا بد والصلاة والحج والصيام في أوقاتها بخلاف ذلك
وأما إذا دخل وقت الصلاة وفيه مهلة بعد فلا خلاف بين أحد من المسلمين في (3/321)
جواز التطوع حينئذ وبهذا جاءت النصوص وأما من سافر في رمضان أو مرض فهو غير مأمور بصيامه لرمضان وغير منهي عن صيامه لغير رمضان فله أن يصومه لما شاء من نذر أو تطوع أو قضاء واجب وأما من عليه صلوات نسيها أو نام عنها وعليه قضاء رمضان سافر فيه أو مرض فأفطر فإن وقت هذه الصلوات ووقت قضاء هذا الصوم ممتدا أبدا فإن أخر قضاء ذلك وهو قادر غير معذور فهو عاص بالتأخير فقط وذلك لا يسقط عنه قضاء ما لزمه قضاؤه من ذلك فهذا والصلاة التي دخل وقتها سواء فإن تطوع بصلاته أو صيام لم يضع له ذلك عند الله تعالى لأن وقت ما لزمه ممتد بعد فلا يفوته
وبالله تعالى التوفيق ومما يبين هذا حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت كانت تكون على الأيام من قضاء رمضان يعني من قضاء أيام حيضها ولا أستطيع أن أقضيها إلا في شعبان لشغلي برسول الله صلى الله عليه و سلم أو كلاما هذا معناه
قال علي وهذا مما قد أيقنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم علمه وأقر عليه لأنه لا يجوز أن تحيض إلا وهو يعلم ذلك لأنها كانت لها ليلتان من تسع ولا يمكن أن يغفل عليه السلام أمرها بتعجيل القضاء لو كان الفرض لا يجزىء إلا بتعجيله وقولها لا أستطيع أوضح عذر وهذا نص ما قلنا وبيانه
ومما يبين صحة ما قلنا آنفا من أن الزكاة وديون الناس وسائر فرائض الأموال إنما هي واجبة في ذمة المرء لا في عين ما بيده من المال أنه لو كانت واجبة في عين ما بيده من المال ثم تلف ذلك المال لسقطت عنه تلك الحقوق وهذا باطل وأيضا فإنه مما لا يقوله مسلم فلما لم تسقط الحقوق المذكورة بذهاب جميع عين المال صح يقينا أنها في ذمته وإنما يصير ما له لغيره بأحد وجوه أربعة أوجبها النص وهي أداؤه من ماله أو قبض من له حق حقه مما ظفر منه من ماله أو قضاء الحاكم بما له للغرماء فيما لزمه من الحقوق أو بموته فقط
وكان يكفي من هذا الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم بأمره بإكفاء القدور وهي تفور باللحم الذي عجل أصحابه رضي الله عنهم فذبحوا من المغنم قبل القسمة فلو جاز أكل ذلك اللحم لما أمر عليه السلام بإكفاء القدور وهي تفور
وقد روي من طريق أخرى أنه عليه السلام جعل يرمله بالتراب ويقول إن النهبة (3/322)
ليست بأحل من الميتة أو كلاما هذا معناه فإن اعترضوا بحديث الشاة التي روي أنه عليه السلام قال فيها إني لأجد طعم لحم أخذ بغير إذن أهله أو كلاما هذا معناه قال ثم أمر عليه السلام بإطعامه للأسارى فهذا حديث لا يصح لأنه إنما روي من طريق رجل من الأنصار ولم يأت من غير هذه الطريق أصلا فسقط الاحتجاج به وهرقه عليه السلام اللحم من القدور في الأرض مع نهيه عليه السلام عن إضاعة المال دليل واضح على أنه لا يحل أكله وهذا نص قولنا
وبالله تعالى التوفيق
قال علي وأما العمل المأمور به في وقت محدود الطرفين قد ورد النص بالفسحة في تأخيره فإنه يجب بأول الوقت إلا أنه قد أذن له في تأخيره وكان مخيرا في ذلك وفي تعجيله فأي ذلك أدى فقد أدى فرضه إلا أنه يؤجر على التعجيل لتحصيله العمل واتهمه به ولا يأثم على التأخير لأنه فعل ما أبيح له وذلك مثل تأخير المرء الصلاة إلى آخر وقتها الواسع ولذلك أسقطنا الملامة والقضاء عن المرأة تؤخر الصلاة عن أول وقتها فتحيض فعلت ما أبيح لها ومن فعل ما أبيح له فقد أحسن
وقال تعالى { ليس على لضعفآء ولا على لمرضى ولا على لذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على لمحسنين من سبيل ولله غفور رحيم } فسقطت الملامة
وقد أخر عليه السلام الصلاة إلى آخر وقتها فصح بذلك أن ذلك جائز مباح حسن وإن كان التعجيل أحسن وسقط القضاء عنها لخروج الوقت لأنه يؤدي عمل إلا في وقته المأمور به كما أسقط خصومنا موافقين لنا القضاء عن المغمى عليه أكثر من خمس صلوات وبعضهم أسقطها عن المغمى عليه صلاة فما فوقها
وأما كل عمل محدود الطرف الأول غير محدود الطرف الآخر فإن الأمر به ثابت متجدد وقتا بعد وقت وهو ملوم في تأخيره لأنه لم يفسح له ذلك وكلما أخره حصل عليه اسم التضييع وإثم الترك لما أمر به
فإن أداه سقط عنه إثم الترك وقد استقر عليه إثم ترك البدار
ولا يسقطه عنه إلا ربه تعالى بفضله إن شاء لا إله إلا هو كسائر ذنوبه التي لا بد من الموازنة فيها لأن الأداء والتعجيل فعلان متغايران كما قدمناه وقد يؤدي من لا يعجل فصح أنهما شيئان متغايران وكذلك القول في (3/323)
ديون الناس فإن المماطل الغني آثم بالمطل وآثم بمنع الحق فإذا أدى الحق يوما ما سقط عنه المنع وقد استقر إثم المطل عليه فلا يسقط عنه بالأداء لأن المنع والمطل شيئان متغايران وقد يؤدي ولا يمنع من قد مطل
ولذلك قلنا فيمن غصب مالا فلم يؤده إلى صاحبه حتى مات المغصوب منه ثم أداه إلى ورثته إنه باق عليه إثم الغصب من الميت وإنما سقط عنه إثم الغصب من الوارث وهو الثاني لأنه لا شك عند كل ذي عقل أن ظلمه لزيد الموروث غير ظلمه لعمرو الحي الوارث
وقد انتقل ملك المال إلى الوارث وملك الوارث لذلك المال غير ملك المورث له هذا شيء يعلم بضرورة العقل وبديهة الحس
فإن أحدث الغاصب ظلما ثانيا لهذا الحي فهو عمل آخر وإثم متجدد فإن رد إليه ماله فقد سقط عنه إثم ظلمه إياه ولا يسقط ما وجب لزيد من الحق في حياته إنصاف هذا الغاصب لعمرو بعد موت زيد وكذلك لو مات الغاصب فصرف المال وارثه فإنما سقط ال 9 إثم عن الوارث الصارف لا عن الميت الغاصب لأن عمل زيد لا يلحق عمرا إلا بنص أو إجماع قال الله عز و جل { قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } وقال تعالى { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } اللهم إلا أن يرد نص بأن عمل زيد يلحق عمرا بعد موته أو في حياته فنقر بذلك سامعين طائعين كالصيام عن الميت والحج عنه وأداء ديونه فلو أمر الميت أن يرد ما غصب في حياته كان قد تبرأ أو سقط عنه إثم الإمساك وبقي عليه إثم المطل لأن كل ذلك أعمال متغايرة فلو تطوع امرؤ برد دين أو غصب عن ميت وجعل الأجر للميت لكان ذلك لاحقا بالميت ومرد عنه على حديث أبي قتادة وإنما نقول ما قال لنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم ونعلم ما علمناه ولا مزيد وبالله التوفيق
وأصحاب القياس يتناقضون في المسائل التي ذكرنا أقبح تناقض فيجيزون قضاء الحج إذا وصى به ولا يجيزون قضاء الصوم إذا أوصى به ويجيزون تقديم الصلاة قبل وقتها للمريض إذا خشي على عقله وفي ليلة المطر ولا يقيسون على تقديم العتمة قبل ليلة المطر تقديم العصر قبل وقتها يوم المطر ولا تقديم الظهر قبل وقتها (3/324)
فإن قالوا الوقت مشترك بين العتمة والمغرب لزمهم أن يجيزوا تقديم العتمة إلى وقت المغرب لغير ضرورة لأنه وقتها ومن صلى الصلاة في وقتها فقد أحسن ولزمهم تقديم العصر إلى الظهر بغير ضرورة لذلك أيضا وقد قال بذلك ابن عباس وجماعة من السلف رضي الله عنهم ولسنا نقول بذلك إلا في يوم عرفة فقط لأنه لم يأت في ذلك نص غيره فظهر عظم تناقضهم
ولقد شاهدت بعض أهل مساجد الجانب الشرقي بقرطبة أيام تغلب البربر عليها يستفتون شيوخ المالكيين في تعجيل العتمة قبل وقتها خوف القتل إذ كان متلصصة البرابر يقفون لهم في الظلام في طرق المسجد فربما أوذوا إيذاء شديدا فما فسحوا لهم في ذلك ولم يقيسوا ضرورة خوف الموت على ضرورة خوف بلل الثياب في الطين وهذا كما ترى وبالله تعالى التوفيق
وقال قوم إن العمل المأمور به في وقت محدود الطرفين هو في أول الوقت ندب وفي آخره فرض
قال علي وهذا خطأ فاحش لأنه لو كانت تأديته في أول الوقت ندبا لما أجزأه ذلك لأن الندب غير الفرض ولا ينوب عمل عن عمل آخر غيره من غير نوعه إلا بنص ولكن هذا بمنزلة الأشياء المخير فيها في الكفارات أيها أدى فهو فرضه وكذلك من صلى أول الوقت فقد أدى فرضه وإن صلى في وسطه فقد أدى فرضه وإن صلى في آخره فقد أدى فرضه فإن قال الآمرون من تعمد ترك صلاة حتى خرج وقتها بالقضاء إنما فعلنا ذلك قياسا على قضاء الصلاة المنسية والتي نيم عنها
قيل لهم وبالله تعالى التوفيق أكثركم لا يرى على الحالف على الحنث عمدا كفارة ولا على القاتل عمدا كفارة قياسا على المخطىء غير المعتمد وهذا تناقض منكم وحتى لو طردتم خطأكم لكان ذلك زيادة في الخطأ لأن القياس عن القائلين به إنما هو الحكم للشيء بحكم شيء آخر لعلة جامعة بينهما ولا علة تجمع بين الناسي والعامد وهذا هو قياس الشي على ضده لا على نظيره وهذا خطأ عندكم وعند جميع الناس وبالله تعالى التوفيق (3/325)
فصل في موافقة معنى الأمر لمعنى النهي
قال علي النهي مطابق لمعنى الأمر لأن النهي أمر بالترك وترك الشيء ضد فعله وليس عن الشيء أمرا بخلافه الأخص ولا بضده الأخص وتفسير الضد الأخص أنه المضاد في النوع وتفسير الضد الأعم أنه المضاد في الجنس فإذا قلت للإنسان لا تتحرك فقد ألزمته السكون ضرورة لأنه لا واسطة بين الضد الأعم وبين ضده فمن خرج من أحدهما دخل في الآخر وهذا الذي سميناه في كتاب التقريب المنافي وأما من نهيته عن نوع من أنواع الحركة فليس ذلك أمرا بضده مثال ذلك لو قلت لآخر لا تقم فإنك لم تأمره بالجلوس ولا بد لأن بين الجلوس والقيام وسائط من الاتكاء والركوع والسجود والانحناء والاضطجاع فأيها فعل فليس عاصيا لك في نهيك إياه عن القيام وكذلك لو قيل لإنسان لا تلبس السواد فليس في ذلك إيجاب لباسه البياض ولا بد بل إن لبس الحمرة والصفرة أو الخضرة لم يكن بذلك عاصيا بل مؤتمرا في تركه السواد وبالله تعالى التوفيق
وأما الأمر فهو نهي عن فعل كل ما خالف العمل المأمور وعن كل ضد له خاص أو عام فإنك إذا أمرته بالقيام فقد نهيته عن القعود والاضطجاع والاتكاء والانحناء والسجود وعن كل هيئة حاشا القيام وإنما كان هكذا لأن ترك أفعال كثيرة مختلفة في وقت واحد واجب موجود ضرورة لأن من قام فقد ترك كل فعل خالف القيام كما أخبرنا في حال قيامه
وأما الإتيان بأفعال كثيرة في وقت واحد وهي مختلفة متنافية ومتضادة فمحال لا سبيل إليه ألا ترى من سافر فإنما يمشي إلى جهة واحدة وهو تارك لكل جهة غير التي توجه نحوها ولا يمكنه أن يتوجه إلى جهتين في وقت واحد بفعله نفسه
وتخالف أيضا بنية النهي بنية الأمر في وجه آخر وهو أن ما ورد نهيا بلفظ أو فهو نهي عن الجميع مثل قوله تعالى { فصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا } ومثل قولك (3/326)
لا تقتل زيدا أو عمرا أو خالدا فهو يقتضي النهي عن قتلهم كلهم وما ورد أمرا بلفظ أو فهو تخيير في أحد الأقسام المذكورة مثل قولك كل خبزا أو تمرا أو لحما وخذ هذا أو هذا
والنهي يقتضي اجتناب المنهى عنه كما أن الأمر يقتضي إتيان المأمور به وقد بينا أن النهي عن الشيء أمر بتركه والأمر بالترك يقتضي وجوب الترك وبينا أن الأمر بالشيء نهي عن تركه فالنهي عن الترك يقتضي الفعل الذي بوقوعه يرتفع تركه وبالله تعالى التوفيق
وقد اعترض في هذا بعض أهل الشغب فقال لو كان الأمر بالشيء نهيا عن تركه أو كان النهي عن الشيء أمرا بتركه لكان العلم بالشيء جهلا بضده
قال علي وحكاية هذا الكلام الساقط تغني عن تكلف الرد عليه لأنه رام التشبيه بين ما لا تشابه بينه وهو بمنزلة من قال لو كان الموت ضد الحياة لكان السمع ضد البصر ومثل هذا من الغثائث ينبغي لمن كان به رمق أن يرغب بنفسه عنه ولكن من لم يعد كلامه من عمله كثرت أهذاره ومن لم يستح فعل ما شاء وأما العلم بالشيء فهو على الحقيقة عدم العلم بضده لأن علمك بأن زيدا حي وهو عدم العلم وبطلان العلم بأنه ميت وقول القائل لا نأكل لا شك عند كل ذي حس أن معناه اترك الأكل ولا فرق
وهذا من المتلائمات
وقد أفردنا لهذا بابا في كتاب التقريب وبطل مما ذكرنا قول من قال النهي نوع من أنواع الأمر وقول من قال الأمر نوع من أنواع النهي وصح أن كل أمر فهو أيضا نهي وكل نهي فهو أيضا أمر
فإن قال قائل قد يرد أمر ليس فيه نهي عن شيء أصلا وهو أمر الإجابة
وقال آخر قد يرد نهي ليس فيه معنى من الأمر أصلا وهو نهي عن الاختيار للترك
قال علي كلاهما مخطىء أما الأمر بالإباحة فإنما معناه إن شئت افعل وإن شئت لا تفعل فليس مائلا إلى الأمر إلا كميله إلى النهي ولا فرق وكذلك القول في نهي الاختيار للترك وهو الكراهية ولا فرق وهكذا أمر الندب ولا فرق وفيه معنى إباحة الترك موجود وبالله تعالى التوفيق (3/327)
فصل في الأمر
هل يتكرر أبدا أو يجري منه ما يستحق به المأمور اسم فاعل لما أمر به
قال علي اختلف الناس في الأمر إذا ورد بفعل ما هل يخرج من فعله مرة عن اسم المعصية أو يتكرر عليه الأمر أبدا فيلزمه التكرار له ما أمكنه فبكلا القولين قال القائلون
قال علي والصواب أن المطيع غير العاصي ومحال أن يكون الإنسان مطيعا عاصيا من وجه واحد
فمن أمر بفعل ما ولم يأت نص بإيجاب تكراره ففعله فقد استحق اسم مطيع وارتفع عنه اسم عاص بيقين وكل شيء بطل فلا يعود إلا بيقين من نص أو إجماع
وإنما تكلم في هذه المسألة القائلون بقول الشافعي رحمه الله في تكرار الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم في كل صلاة لأجل قوله تعالى { إن لله وملائكته يصلون على لنبي يأيها لذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما }
قال علي ولو كان ما احتجوا به من وجوب التكرار صحيحا لما كان موضع الجلوس الآخر من الصلاة أحق به من القيام والسجود وسائر أحوال الإنسان وهم إنما أوجبوا ذلك بعد التشهد الأخير من الصلاة فقط
وقد ورد حديث في لفظه إبعاد لمن ذكر عنده رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يصل عليه فإن صح لقلت هو فرض متى ذكر عليه السلام وإن لم يصح فقد صح أن من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرا ولا يزهد في هذا إلا محروم والذي يوقن فهو أنه من يرغب عن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم وعن السلام عليه فهو كافر مشرك ومن صلى عليه وسلم ثم ترك غير راغب عن ذلك ولكن عالم بأنه مقصر باخس نفسه حظا جليلا فلا أجر له في ذلك ولا إثم عليه (3/328)
فإن قالوا فما تقولون في الجهاد قلنا قد صح أن الجهاد فرض علينا إلى ألا يبقى في الدنيا إلا مؤمن أو كتابي يغرم الجزية صاغرا بأمر الله تعالى لنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ويؤمن المشركون كلهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويعطي أهل الكتاب الجزية وهم صاغرون
فالقتال ثابت علينا أبدا حتى يكون ما ذكرنا وحسبنا أنه فرض على الكفاية وتركه للمطبق مكروه ما لم يقو للعدو أو لم يستنفر الإمام فأي ذلك كان فالجهاد فرض على كل مطيق في ذات نفسه متعين عليه
ويبطل قول من قال بالتكرار أنه لو كان قوله صحيحا للزم من سلم عليه أن يرد أبدا ولا يمسك عن تكرار الرد لقوله تعالى { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منهآ أو ردوهآ إن لله كان على كل شيء حسيبا } ولا خلاف في أن بمرة واحدة يخرج من فرض الرد
وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالمنكر الذي يرى غدا غير المنكر الذي يرى اليوم وفرض علينا تغيير كل منكر وكذلك القول في الأمر بالمعروف لأن المعروف الذي يأمر به غدا غير الذي أمر به اليوم وقد جاء النص مبينا بقوله صلى الله عليه و سلم من رأى منكم منكرا فليغيره ومما يبطل قول من قال بالتكرار قوله تعالى { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما } وأمره تعالى بأداء الزكاة وما أشبه ذلك لا يلزم تكراره إلا ما جاء النص مبينا بإيجاب تكراره وإلا فوفاء واحد يجزي ودية واحدة ورقبة واحدة
قال علي وقد احتج على القائلين بالتكرار بعض من سلف ممن يقول بأنه يخرج المأمور بذلك بفعله مرة واحدة بأن قال لما أجمع الناس على أن التكرار لا يلزم حتى يمتنع المرء من الأكل والنوم والنظر في أسبابه فلما صح ذلك لم يكن من حد في ذلك حدا أولى ممن حد حدا آخر فوجب أنه يخرج من المعصية بفعل ما أمر بفعله مرة واحتجوا أيضا بقوله عليه السلام إذ سئل عن الحج أفي كل عام فقال عليه السلام دعوني ما تركتكم قالوا فلو كان الأمر يجب تكراره لما أنكر عليه السلام على (3/329)
السائل عن الحج أفي كل عام لأنه كان يكون واضعا للسؤال موضعه أو سائلا تخفيفا عما يقتضيه اللفظ ولكن رسول الله صلى الله عليه و سلم خشي أن يكون سؤاله موجبا لنزول زيادة على ما اقتضاه لفظ الأمر بالحج فيدخل ذلك السائل في جملة من ذم رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله أعظم الناس جرما في الإسلام من سأل عن أمر لم يحرم فحرم من أجل مسألته
قال علي وهذا احتجاج صحيح ظاهر
قال علي وقد تعلق بالتكرار من قال بإيجاب التيمم لكل صلاة
قال أبو محمد وهذا خطأ لأن نص الآية لا يوجب التيمم إلا على من أحدث بقوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا لا تقربوا لصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغآئط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم إن لله كان عفوا غفورا } فلو تركنا ظاهر هذه الآية لوجب الوضوء فرضا على كل قائم إلى الصلاة ولما وجب ذلك في التيمم
لأن نص الآية بإيجاب الوضوء على قائم إلى الصلاة وليس فيه إيجاب التيمم إلا على من أحدث فقط ولكن لما صلى عليه السلام الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد علمنا أن المأمور بالوضوء هو المحدث فقط وأما تكرار التيمم فنص الآية يبطله
قال علي واحتج القائلون بالتكرار بأن قالوا وافقتمونا على أن النهي متكرر ثابت أبدا وأنه متجدد كل وقت فهلا قلتم إن المنهي يخرج عن النهي بترك ما نهي عنه ساعة من الدهر فقط كما قلتم إن يفعل مرة واحدة يخرج عن الأمر وإن الأمر لا يعود عليه
قال علي هذه شغبة دقيقة وقد قدمنا فيما خلا أن النهي هو أمر بالترك وأن الترك ممكن لكل أحد وليس يمتنع الترك على مخلوق والفعل بخلاف ذلك منه ممكن ومنه ما لا يقدر عليه وقدمنا أن ترك المرء لأفعال كثيرة في وقت واحد موجود واجب وأن فعله بخلاف ذلك وأن المرء في حال نومه وأكله وصلاته ونظره في أسبابه تارك لكل ما نهي عن تركه إن أراد الترك وليس الأمر كذلك بل لا يقدر (3/330)
على أداء أكثر الأوامر في الأحوال التي ذكرنا وقد أمرنا عليه السلام أن نجتنب ما نهانا عنه وأمرنا أن نفعل ما أمرنا به ما استطعنا ولم يقل عليه السلام فأتوه ما استطعتم وكان حينئذ يلزم التكرار وإنما قال عليه السلام فأتوا منه ما استطعتم و من إنما هي للتبعيض المقدور فلما امتنع تكرار الأمر بما قدمنا قبل من أن التكرار لوازم لكان تكليفا لما لا يطاق وأنه لما بطل ذلك كان من اقتصر في ذلك على حد ما يجده أو عدد من التكرار يوجبه أو على وقت ما متحكما بلا دليل لم يلزم منه إلا ما اتفق عليه وهو مرة واحدة يقع عليه بها اسم فاعل مطيع ويرتفع بها عنه اسم عاص وكان ذلك فرقا صحيحا بين ما لا يقدر عليه مما ذكرنا وبين ما يقدر عليه من الترك في كل وقت وفي كل حال ومن أدى من الأمر ما استطاع فقد فعل ما أمر به ومن فعل ما أمر فقد سقط عنه الأمر وبالله تعالى التوفيق
والقائلون بالتكرار إنما اضطروا إليه في مسألتين أو ثلاث وهم في سائر مسائلهم تاركون له وقد قدمنا أن القوم إنما حسبهم نص المسألة الحاضرة بما لا يبالون أن يهدموا به سائر مسائلهم وبالله تعالى التوفيق
قال علي وصحيح القول في هذه المسألة هو ما قلنا من أن يفعل مرة واحدة يؤدي المرء ما عليه ولا يلزمه تكرار الفعل لما ذكرنا إلا أن ترتفع تلك الحال التي فيها ذلك الأمر ثم تعود فإن الأمر يعود ولا بد كمرض المسلم تجب عيادته فبمرة واحدة يخرج من الفرض ما دام في تلك العلة فإن أفاق ثم مرض عاد حكم العيادة أيضا وفك العاني متى صار عانيا وجب فكه كإطعام الجائع متى عاد جوعه عاد وجوب إطعامه وكالتعوذ متى قطع الإنسان القراءة ثم ابتدأ القراءة وكالوضوء متى أحدث وكالصلاة في كل يوم ولا يلزم تكرار شيء من ذلك بعد فعله في حال واحدة وبالله تعالى التوفيق
والقول بالتكرار باطل لأنه تكليف ما لا يطاق أو القول بلا برهان وكلاهما باطل لأننا نسألهم عن تكرار الأوامر المختلفة وبعضها يقطع عن فعل بعض فلا بد ضرورة من ترك جميعها إلا واحدا فأيها هو الواحد وهذا هو القول بلا برهان وكل ما كان هكذا فهو باطل بلا شك وبالله تعالى التوفيق (3/331)
فصل في التخيير
قال علي واختلفوا في الأشياء إذا خير الله عز و جل بينها وأوجب على المخير أن يقصد أيها شاء فيفعله ككفارة الأيمان وكفارة الحلق في الحج قبل يوم النحر لمرض أو أذى من الرأس وفي العمرة كذلك قبل تمامها وفي جزاء الصيد وما أشبه ذلك فقال قوم هي كلها واجبة فإذا فعل أحدها سقط سائرها
قال علي وهذا خطأ فاحش لوجهين أحدهما أن أو لا توجب تساوي ما عطف بها واجتماعه وإنما يوجب ذلك الواو والفاء وثم هذا ما لا يجهله من له أدنى بصر باللغة العربية والثاني أنها لو وجبت كلها لما سقطت بفعل بعضها وما لزم فرضا فإنما يسقط بأن يفعل لا بأن يفعل غيره وهذا شيء يعلم بالضرورة لأن ما أوجب الله تعالى عليك عمله فلم يرد منك أن تقيم مقامه غيره إلا بنص وارد في ذلك وإلا فأنت عاص إن لم تفعل الذي أمرت به فلو أوجب تعالى عليه عتق رقبة لم يخرج منها بكسوة وهذا الذي لا يعقل سواه
وذهب قوم إلى أنه تعالى إنما أوجب في ذلك شيئا واحدا مما خير فيه تعالى لا بعينه ولكن أيها شاء المخير ونحن لا ننكر هذا لأن عقولنا ليست عيارا على ربنا عز و جل ولا في العقل ما يمنع من أن يريد الله تعالى إيجاب ما شاء إلى الموجب عليه فإذا فعل المخير المكفر أي الكفارات التي خوطب بها شاء فقد أدى فرضه وهو الذي سبق في علم الله عز و جل أنه به يسقط عنه الإثم
والتخيير ينقسم قسمين أحدهما الذي ذكرنا وهو أن يلزم المرء أحد وجهين أو أحد وجوه لا بد من أن يأتي ببعضها أيها شاء فهذا فرضه الذي يأتي به مما خير فيه
والقسم الثاني أن يقال للمرء إن شئت أن تفعل كذا وإن شئت ألا تفعله أصلا وهذا النوع لا يجوز أن يكون فرضا أصلا ولا يكون إلا تطوعا لأن كل شيء أبيح للمرء تركه جملة أو فعله فهو تطوع بلا خلاف من أحد وهذا لازم لمن قال إن المرء مخير في السفر بين إتمام الصلاة أو قصرها لأن من قول هذا القائل أن الركعتين (3/332)
الزائدتين أن من تركهما لم يأثم فهي إذن تطوع وإذا كانتا تطوعا فغير جائز أن يصليهما بركعتي الفرض اللتين لا بد له من أن يأتي بهما وليس يلزمهم هذا في قولهم في الصيام إن شاء صام في رمضان في السفر وإن شاء أفطر لأنهم لا يسقطون عنه الصيام جملة كما يسقطون عنه الركعتين اللتين تتم بهما الصلاة أربعا لكن يقولون إن شاء صام رمضان فيه وإن شاء صامه في أيام أخر ولا بد عندهم من صيامه فإنما هذا تخيير في أحد الوقتين لا في ترك الصيام أصلا وهناك خيروه في الإتيان بالركعتين أو تركهما البتة فافهم
فصل في الأمر بعد الحظر ومراتب الشريعة
قال علي قد بينا في غير موضع أن مراتب الشريعة خمسة حرام وفرض وهذان طرفان ثم يلي الحرام المكروه ويلي الفرض الندب وبين الندب والكراهة واسطة وهي الإباحة فالحرام ما لا يحل فعله ويكون تاركه مأجورا مطيعا وفاعله آثما عاصيا والفرض ما لا يحل تركه ويكون فاعله مأجورا مطيعا ويكون تاركه آثما والمكروه هو ما إن فعله المرء لم يأثم ولم يؤجر وإن تركه أجر والندب هو ما إن فعله المرء أجر وإن تركه لم يأثم ولم يؤجر والإباحة هي ما إن فعله المرء لم يأثم ولم يؤجر وإن تركه لم يأثم ولم يؤجر كصبغ المرء ثوبه أخضر أو أصفر فإذا نسخ الحظر نظرنا فإن جاء نسخه بلفظ الأمر فهو فرض واجب فعله بعد أن كان حراما وإن كان أتى فعل لشيء تقدم فيه النهي فهو منتقل إلى الإباحة فقط والنهي باق على الاختيار وكذلك الأمر إذا أتى بعده فعل بخلافه فهو منتقل إلى الإباحة والأمر باق على الندب كما قلنا في أمره عليه السلام الناس إذا صلى إمامهم جالسا أن يصلوا وراءه جلوسا ثم صلى عليه السلام في مرضه الذي توفي فيه جالسا والناس وراءه وأبو بكر إلى جنبه قائم فعلمنا أن نهيه عليه السلام عن القيام للمذكر خاصة ندب واختيار إلا أن يفعل ذلك تعظيما للإمام فهو حرام وعلمنا أن الوقوف له مباح وإنما هذا فيما تيقنا فيه للمتقدم والمتأخر وأما ما لم يعلم أي الخبرين كان قبل فالعمل بذلك الأخذ بالزائد والاستثناء على ما قدمناه وبالله تعالى التوفيق (3/333)
قال علي وقد ادعى بعض من سلف أنه تقرأ الأوامر كلها الواردة بعد الحظر فوجدها كلها اختيارا أو إباحة وذكر من ذلك قوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا لا تحلوا شعآئر لله ولا لشهر لحرام ولا لهدي ولا لقلائد ولا آمين لبيت لحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن لمسجد لحرام أن تعتدوا وتعاونوا على لبر ولتقوى ولا تعاونوا على لإثم ولعدوان وتقوا لله إن لله شديد آلعقاب } { ويسألونك عن لمحيض قل هو أذى فعتزلوا لنسآء في لمحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم لله إن لله يحب لتوابين ويحب لمتطهرين } و نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها وعن الانتباذ في الظروف فانتبذوا { أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون }
قال علي وقد أغفل هذا القائل قد قال الله تعالى { أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون } فكان الفطر بالأكل والشرب فرضا لا بد منه بين ذلك النهي عن الوصال وكذلك قوله تعالى لله الآية إلى قوله تعالى { يأيها لذين آمنوا لا تدخلوا بيوت لنبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فدخلوا فإذا طعمتم فنتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي لنبي فيستحيي منكم ولله لا يستحيي من لحق وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من ورآء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول لله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند لله عظيما } فالانتشار المذكور في هذه الآية هو الخروج عن بيوت النبي صلى الله عليه و سلم وهو فرض لا يحل لهم القعود فيها بعد أن يطعموا ما دعوا إلى طعامه وأما الأوامر التي ذكرنا قبل فإن دلائل النصوص قد صحت على أنها ندب ونحن لا نأبى الإقرار بما أتى به نص بل نبادر إلى قبوله وإنما ننكر الحكم بالآراء الفاسدة والأهواء الزائغة بغير برهان من الله عز و جل
أما قوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا لا تحلوا شعآئر لله ولا لشهر لحرام ولا لهدي ولا لقلائد ولا آمين لبيت لحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن لمسجد لحرام أن تعتدوا وتعاونوا على لبر ولتقوى ولا تعاونوا على لإثم ولعدوان وتقوا لله إن لله شديد آلعقاب } فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم حل من عمرته ومن حجه ولم يصطد فعلمنا أنه ندب وإباحة وأما قوله تعالى { فإذا قضيت لصلاة فنتشروا في لأرض وبتغوا من فضل لله وذكروا لله كثيرا لعلكم تفلحون } فقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الملائكة لا تزال تصلي على المرء ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث ولم يخص صلاة من صلاة فصح أن الانتشار مباح إلا للحدث والنظر في مصالح نفسه وأهله فهو فرض (3/334)
وأما قوله عليه السلام في القبور فزوروها فإن الفرض لا يكون إلا محدودا وإما موكولا إلى المرء ما فعل منه أو محمولا على الطاقة والمعروف وليس في زيارة القبور نص بشيء من هذه الوجوه ثم لو كان فرضا لكان زائرها مرة واحدة قد أدى فرضه في ذلك لما قدمنا في إبطال التكرار
وأما قوله عليه السلام فانتبذوا فإنه عليه السلام لم ينتبذ لكن كان ينتبذ له فصح أن الانتباذ ليس فرضا لكنه إباحة وأما قوله تعالى { أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون } والمباشرة من الرجل لزوجته فرض ولا بد ولا يحل له هجرها في المضجع ولا الامتناع من وطئها إلا بتجافيها له عن ذلك على ما بينا في كتاب النكاح من كلامنا في الأحكام والحمد لله رب العالمين
قال علي وقد ذهب بعض المالكيين إلى أن ههنا واجبا ليس فرضا ولا تطوعا
قال علي وهذا هذيان فاسد لا يعقل أصلا لأن الواجب هو الذي لا بد من فعله وغير الواجب هو ما إن شاء فعله المرء وإن شاء تركه ولا يعرف ههنا شيء يتوسط هذين الطرفين فإن راعوا ما ورد به لفظ الفرض في الشريعة فهم أول عاص لما ورد فيها لأن الله عز و جل يقول { إنما لصدقات للفقرآء ولمساكين ولعاملين عليها ولمؤلفة قلوبهم وفي لرقاب ولغارمين وفي سبيل لله وبن لسبيل فريضة من لله ولله عليم حكيم } فقالوا هم هذه القسمة ليست فريضة بل جائز أن يعطى من الصدقات غير هؤلاء وجائز أن توضع في بعض هذه الأصناف دون بعض وقال ابن عمر فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم صدقة الفطر على كل صغير أو كبير ذكرا أو أنثى حرا أو عبدا من المسلمين صاعا من تمر أو صاعا من شعير فقالوا ليس هذا فرضا ولا الشعير أيضا ولا التمر فيها فرضا فما نعلم أحدا ترك لفظ الفرض الوارد في الشريعة منهم ثم احتجوا في البرسام الذي ادعوه من وجوه أنه شيء واجب ليس فرضا ولا تطوعا فقالوا ذلك مثل الأذان والوتر وركعتي الفجر وصلاة العيدين والصلاة في جماعة ورمي الجمار للمبيت ليالي منى بمنى (3/335)
قال علي وكل هذا فدعوى فاسدة أما الصلاة في جماعة والأذان ورمي الجمار ففرائض واجبة يعصي من تركها لأمر النبي صلى الله عليه و سلم بها وأما صلاة العيدين والوتر وركعتا الفجر والمبيت ليالي منى بمنى فليست فرائض ولكنها تطوع يكره تركها فلو تركها تارك دهره كله متعمدا ما أثم ولا عصى الله عز و جل ولا قدح ذلك في عدالته وقد قال عليه السلام في الذي حلف ألا يزيد على الصلوات الخمس الفرائض أفلح والله إن صدق دخل الجنة إن صدق وقد سأل هذا القائل النبي صلى الله عليه و سلم إذ وصف له الصلوات الخمس فقال يا رسول الله هل علي غيرها فقال لا إلا أن تطوع فسمى النبي صلى الله عليه و سلم تارك كل صلاة ما عدا الخمس مفلحا ولم يعنفه وأخبر عليه السلام أن كل صلاة ما عدا الخمس فهي تطوع فحرام على كل أحد خلاف النبي صلى الله عليه و سلم ولولا أن الأمر ورد بصلاة الجنائز فصارت فرضا لا بد منه لكانت تطوعا ولكن من هذه الخلال أشياء يكره تركها فمن تركها لم يأثم ولم يؤجر ومن فعلها أجر فبطلت بما ذكرنا قسمتهم الفاسدة والحمد لله رب العالمين
فصل في ورود الأمر بلفظ خطاب الذكور
قال علي اختلف الناس فقالت طائفة إذا ورد الأمر بصورة خطاب الذكور فهو على الذكور دون الإناث إلا أن يقوم دليل على دخول الإناث فيه واحتجوا بأن قالوا إن لكل معنى لفظا يعبر عنه فخطاب النساء افعلن وخاطب الرجال افعلوا فلا سبيل إلى إيقاع لفظ على غير ما علق عليه إلا بدليل
قال علي وبهذا نأخذ وهو الذي لا يجوز غيره والدليل الذي استدلت به الطائفة الأولى هو أعظم الحجة عليهم وهو دليلنا على إبطال قولهم لأن لكل معنى لفظا يعبر به كما قالوا ولا بد ولا خلاف بين أحد من العرب ولا من حاملي لغتهم أولهم عن آخرهم في أن الرجال والنساء وأن الذكور والإناث إذا اجتمعوا وخوطبوا أخبر عنهم أن الخطاب والخبر يردان بلفظ الخطاب والخبر عن الذكور إذا انفردوا ولا فرق وأن هذا أمر مطرد أبدا على حالة واحدة فصح بذلك أنه ليس لخطاب الذكور خاصة لفظ مجرد في اللغة العربية غير اللفظ الجامع لهم وللإناث ألا أن يأتي (3/336)
بيان زائد بأن المراد الذكور دون الإناث فلما صح لم يجز حمل الخطاب على بعض ما يقتضيه دون بعض إلا بنص أو بإجماع فلما كانت لفظة افعلوا والجمع بالواو والنون وجمع التكسير يقع على الذكور والإناث معا وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم مبعوثا إلى الرجال والنساء بعثا مستويا وكان خطاب الله تعالى وخطاب نبيه صلى الله عليه و سلم للرجال والنساء خطابا واحدا لم يجز أن يخص بشيء من ذلك الرجال دون النساء إلا بنص جلي أو إجماع لأن ذلك تخصيص الظاهر وهذا غير جائز وكل ما لزم القائلين بالخصوص فهو لازم لهؤلاء وسيأتي ذلك مستوعبا في بابه إن شاء الله تعالى
فإن قالوا فأوجبوا الجهاد فرضا على النساء قيل لهم وبالله تعالى التوفيق لولا قول رسول الله صلى الله عليه و سلم لعائشة إذ استأذنته في الجهاد لكن أفضل الجهاد حج مبرور لكان الجهاد عليهن فرضا ولكن بهذا الحديث علمنا أن الجهاد على النساء ندب لا فرض لأنه عليه السلام لم ينهها عن ذلك ولكن أخبرها أن الحج لهن أفضل منه ومما يبين صحة قولنا أن عائشة وهي حجة في اللغة لما سمعت الأمر بالجهاد قدرت أن النساء يدخلن في ذلك الوجوب حتى بين النبي صلى الله عليه و سلم لها أنه عليهم ندب لا فرض وأن الحج لهن أفضل منه ونحن لا ننكر صرف اللفظ عن موضوعه في اللغة بدليل من نص أو إجماع أو بضرورة طبيعة تدل على أنه مصروف عن موضوعه وإنما يبطل دعوى من ادعى صرف اللفظ عن موضوعه في اللغة بلا دليل فلم ينكر النبي صلى الله عليه و سلم عليها حملها الخطاب بلفظ خطاب الذكور على عموم دخول النساء في ذلك وفي هذا كفاية لمن عقل
فإن قالوا فأوجبوا عليهن النفار للتفقه في الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قلنا وبالله تعالى التوفيق نعم هذا واجب عليهن كوجوبه على الرجال وفرض على كل امرأة النفقة في كل ما يخصها كما ذلك فرض على الرجال ففرض على ذات المال منهن معرفة أحكام الزكاة وفرض عليهن كلهن معرفة أحكام الطهارة والصلاة والصوم وما يحل وما يحرم من المآكل والمشارب والملابس وغير ذلك كالرجال ولا فرق ولو تفقهت امرأة في علوم الديانة للزمنا قبول نذارتها وقد كان ذلك فهؤلاء أزواج النبي صلى الله عليه و سلم وصواحبه قد نقل عنهن أحكام الدين وقامت الحجة بنقلهن ولا خلاف بين أصحابنا وجميع أهل نحلتنا في ذلك فمنهن سوى أزواجه (3/337)
عليه السلام أم سليم وأم حرام وأم عطية وأم كرز وأم شريك وأم الدرداء وأم خالد وأسماء بنت أبي بكر وفاطمة بنت قيس ويسرة وغيرهن ثم في التابعين عمرة وأم الحسن والرباب وفاطمة بنت المنذر وهند الفراسية وحبيبة بنت ميسرة وحفصة بنت سيرين وغيرهن
ولا خلاف بين أحد من المسلمين قاطبة في أنهن مخاطبات بقوله تعالى { وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وركعوا مع لراكعين } { شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } و { يأيها لذين آمنوا تقوا لله وذروا ما بقي من لربا إن كنتم مؤمنين } و { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم } و { وليستعفف لذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم لله من فضله ولذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال لله لذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على لبغآء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض لحياة لدنيا ومن يكرههن فإن لله من بعد إكراههن غفور رحيم } و { يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم } و { فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين } و { ثم أفيضوا من حيث أفاض لناس وستغفروا لله إن لله غفور رحيم } و { إنما يريد لشيطان أن يوقع بينكم لعداوة ولبغضآء في لخمر ولميسر ويصدكم عن ذكر لله وعن لصلاة فهل أنتم منتهون } و { وبتلوا ليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فدفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوهآ إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بلمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بلله حسيبا } وسائر أوامر القرآن وإنما من لجأ إلى هذه المضايق في مسألة أو مسألتين تحكموا فيها وقلدوا فاضطروا إلى مكابرة العيان ودعوى خروج النساء من الخطاب بلا دليل ثم رجعوا إلى عمومهن مع الرجال بلا رقبة ولا حياء
قال علي وقد قال الله تعالى { وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون }
وقال أيضا { وأنذر عشيرتك لأقربين } فنادى عليه السلام بطون قريش بطنا بطنا ثم قال يا صفية بنت عبد المطلب يا فاطمة بنت محمد فأدخل النساء مع الرجال في الخطاب الوارد كما نرى
فإن قال قائل فقد قال تعالى { يأيها لذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نسآء من نسآء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بلألقاب بئس لاسم لفسوق بعد لإيمان ومن لم يتب فأولئك هم لظالمون } وقال زهير (3/338)
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن اللفظ إذا جاء مرادا به بعض ما يقع تحته في اللغة وبين ذلك دليل فلسنا ننكره فقد قال تعالى { يأيها لناس تقوا ربكم إن زلزلة لساعة شيء عظيم } فلا خلاف بين لغوي وشرعي أن هذا الخطاب متوجه إلى كل آدمي من ذكر أو أنثى ثم قال تعالى { لذين قال لهم لناس إن لناس قد جمعوا لكم فخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا لله ونعم لوكيل } فقام الدليل على أن المراد ههنا بعض الناس لا كلهم فوجب الوقوف عند ذلك لقيام الدليل عليه ولولا ذلك لما جاز أن يكون محمولا إلا على عموم الناس كلهم
قال أبو محمد وقد سأل عمرو بن العاص رسول الله صلى الله عليه و سلم أي الناس أحب إليك فقال عائشة قال ومن الرجال قال أبوها ثناه عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج أنبأ يحيى ثنا خالد بن عبد الله عن خالد هو الحذاء عن أبي عثمان هو النهدي قال أخبرني عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ورسول الله صلى الله عليه و سلم أعلم الناس باللغة التي بعث بها فحمل اللفظ على عمومه في دخول النساء مع الرجال حتى أخبره السائل أنه أراد بعض من يقع عليه الاسم الذي خاطب به فقبل ذلك منه عليه السلام وهذا هو نص مذهبنا وهو أن نحمل الكلام على عمومه فإذا قام دليل على أنه أراد به الخصوص صرنا إليه ولا خلاف بين المسلمين في أن قوله تعالى { قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير لله به فمن ضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم } واقع على إناث الخنازير كوقوعها على ذكورها بنفس اللفظ للنوع كله
وقد اعترض بعضهم بحديث ذكروه من طريق أم سلمة رضي الله عنها فيه أن النساء شكون وقلن ما نرى الله تعالى يذكر إلا الرجال فنزلت { إن لمسلمين ولمسلمات ولمؤمنين ولمؤمنات ولقانتين ولقانتات ولصادقين ولصادقات ولصابرين ولصابرات ولخاشعين ولخاشعات ولمتصدقين ولمتصدقات ولصائمين ولصائمات ولحافظين فروجهم ولحافظات ولذاكرين لله كثيرا ولذاكرات أعد لله لهم مغفرة وأجرا عظيما }
قال علي وهذا حديث لا يصح البتة ولا روي من طريق يثبت حدثنا محمد بن (3/339)
سعيد بن نبات قال أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن إصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار بندار ثنا أبو داود الطيالسي ثنا شعبة عن حصين قال سمعت عكرمة يقول قالت أم عمار يا رسول الله يذكر الرجال في القرآن ولا يذكر النساء قال فنزلت { إن لمسلمين ولمسلمات ولمؤمنين ولمؤمنات ولقانتين ولقانتات ولصادقين ولصادقات ولصابرين ولصابرات ولخاشعين ولخاشعات ولمتصدقين ولمتصدقات ولصائمين ولصائمات ولحافظين فروجهم ولحافظات ولذاكرين لله كثيرا ولذاكرات أعد لله لهم مغفرة وأجرا عظيما }
قال علي وهذا مرسل كما نرى لا تقوم به حجة وثناه أيضا محمد بن سعيد النباتي ثنا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ ثنا الخشني ثنا محمد بن المثنى حدثنا مؤمل ثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال قالت أم سلمة يذكر الرجال في الهجرة ولا نذكر فنزلت { فستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فلذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها لأنهار ثوابا من عند لله ولله عنده حسن لثواب } وقالت أم سلمة يا رسول الله لا نقطع الميراث ولا نغزو في سبيل الله فنقتل فنزلت { ولا تتمنوا ما فضل لله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما كتسبوا وللنسآء نصيب مما كتسبن وسألوا لله من فضله إن لله كان بكل شيء عليما } وقالت أم سلمة يذكر الرجال ولا نذكر فنزلت { ورد لله لذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى لله لمؤمنين لقتال وكان لله قويا عزيزا } قال علي ويقال إن التفسير لم يسمعه ابن أبي نجيح من مجاهد ثنا بذلك يحيى بن عبد الرحمن عن أحمد بن دحيم عن إبراهيم بن حماد عن إسماعيل بن إسحاق ولم يذكر مجاهد سماعا لهذا الخبر عن أم سلمة ولا يعلم له منها سماع أصلا وإنما صح أنهن قلن يا رسول الله غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما فجعل لهن عليه السلام يوما وعظهن فيه وأمرهن بالصدقة وكذلك صح ما روي في خطبته عليه السلام في العيد وأمره النساء أن يشهدن ثم رأى عليه السلام أنه لم يسمعهن فأتاهن فوعظهن قائما أتاهن عليه السلام إذ خشي أنهن لم يسمعن وإلا فقد كان يكفيهن جملة كلامه على المنبر (3/340)
قال أبو محمد والصحيح من هذا ما حدثناه عبد الله بن يوسف بالسند المتقدم ذكره إلى مسلم حدثنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي وأبو معن الرقاشي وأبو بكر نافع وعبد الله بن حميد قال هؤلاء الثلاثة ثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو العقدي ثنا أفلح بن سعيد حدثنا عبد الله بن رافع وقال يونس بن عبد الأعلى ثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو هو ابن الحارث أن بكيرا حدثه عن القاسم بن عباس الهاشمي عن عبد الله بن رافع مولى ابن أم سلمة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم أنها قالت كنت أسمع الناس يذكرون الحوض ولم أسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما كان يوما من ذلك والجارية تمشطني فسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول أيها الناس فقلت للجارية استأخري عني قالت إنما دعا الرجال ولم يدع النساء فقلت إني من الناس ثم ذكرت الحديث
قال علي في هذا بيان دخول النساء مع الرجال في الخطاب الوارد بصيغة خطاب الذكور
قال أبو محمد واحتج بعضهم بقوله تعالى { إن لمسلمين ولمسلمات ولمؤمنين ولمؤمنات ولقانتين ولقانتات ولصادقين ولصادقات ولصابرين ولصابرات ولخاشعين ولخاشعات ولمتصدقين ولمتصدقات ولصائمين ولصائمات ولحافظين فروجهم ولحافظات ولذاكرين لله كثيرا ولذاكرات أعد لله لهم مغفرة وأجرا عظيما } فالجواب وبالله التوفيق أنه لا ينكر التأكيد والتكرار وقد ذكر الله تعالى الملائكة ثم قال { من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن لله عدو للكافرين } وهما من الملائكة ويكفي من هذا ما قدمناه من أوامر القرآن المتفق على أن المراد بهذا الرجال والنساء معا بغير نص آخر ولا بيان زائد إلا اللفظ وكذلك قوله { يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم } بيان جلي على أن المراد بذلك الرجال والنساء معا لأنه لا يجوز في اللغة أن يخاطب الرجال فقط بأن يقال لهم { يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم }
وإنما كان يقال من أنفسكم فإن قالوا قد تيقنا أن الرجال مرادون بالخطاب الوارد بلفظ الذكور ولم نوقن ذلك في النساء فالتوقف فيهن واجب قيل له قد تيقنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مبعوث إليهن كما هو إلى الرجال وإن الشريعة التي هي الإسلام لازمة لهن كلزومها للرجال وأيقنا أن الخطاب بالعبادات والأحكام متوجه إليهن كتوجهه إلى الرجال إلا ما خصهن أو خص الرجال منهن دليل وكل هذا يوجب ألا يفرد الرجال دونهن بشيء قد صح اشتراك الجميع (3/341)
فيه إلا بنص أو إجماع وبالله تعالى التوفيق
قال علي وإن العجب ليكثر ممن قال بخلاف قولنا من الحنفيين والمالكيين ثم هم يأتون إلى خطاب النبي صلى الله عليه و سلم للرجل الواطىء في رمضان بالكفارة فقالوا الواجب على المرأة من مثل ذلك ما على الرجل فأي مجاهرة أشنع من مجاهرة من يأتي إلى خطاب عام لجميع أهل الإسلام فيريد إخراج النساء منه ثم يأتي إلى خطاب لرجل منصوص عليه لم يذكر معه غيره فيريدون إلزامه النساء بلا دليل ثم تناقضوا في ذلك فألزموا الموطوءة الواطىء ولا نص في الموطوءة ولم يلزموا المظاهرة ما ألزموا المظاهر والعلة على قولهم واحدة وهي قوله { لذين يظاهرون منكم من نسآئهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا للائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من لقول وزورا وإن لله لعفو غفور } والمظاهرات قد قالت ذلك وقد أوجب عليها مثل ما يجب على المظاهر قوم كثير من العلماء وهكذا أحكام من تعدى حدود الله عز و جل واتبع الرأي والقياس وبالله تعالى التوفيق
فصل في الخطاب الوارد هل يخص به الأحرار دون العبيد
أم يدخل فيه العبيد معهم قال علي ذهب قوم إلى أن قوله تعالى { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا لشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بلله وليوم لآخر ومن يتق لله يجعل له مخرجا } أنه للأحرار دون العبيد واحتجوا بقوله تعالى { وأنكحوا لأيامى منكم ولصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقرآء يغنهم لله من فضله ولله واسع عليم }
قال ما ندري أيهما أشد إقداما على الله وجرأة أتخصيصهم الأحرار في الآية الأولى دون العبيد أم استشهادهم بالآية الثانية في ذلك فأول إبطال قولهم إن النبي صلى الله عليه و سلم بعث إلى العبيد والأحرار بعثا مستويا بإجماع جميع الأمة ففرض استواء العبيد مع الأحرار إلا ما فرق فيه النص بينهم كوجوب استواء العرب والعجم من قريش إلا ما فرق فيه النص بينهم من كون الخلافة لقريش دون العرب ومن تحريم الصدقة على بني هاشم وبني المطلب دون سائر قريش والعرب وكوجوب خمس الخمس لهم دون (3/342)
سائر قريش والعرب وإنما خاطبنا الله تعالى في آية الإنكاح لأنه عز و جل لم يجعل للعبد أن ينكح نفسه وجعله للحر وهذا مكان نص فيه على الفرق ثم نعارضهم بقول الله تعالى { وتقوا فتنة لا تصيبن لذين ظلموا منكم خآصة وعلموا أن لله شديد لعقاب } وبقوله { يأيها لذين آمنوا لا تتخذوا ليهود ولنصارى أوليآء بعضهم أوليآء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن لله لا يهدي لقوم لظالمين } وبقوله تعالى { يأيها لذين آمنوا لا تتخذوا آبآءكم وإخوانكم أوليآء إن ستحبوا لكفر على لإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم لظالمون } وبقوله تعالى { ومنهم لذين يؤذون لنبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بلله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم ولذين يؤذون رسول لله لهم عذاب أليم } وبقوله تعالى { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طآئفة منكم نعذب طآئفة بأنهم كانوا مجرمين } وبقوله تعالى { كلذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كلذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في لدنيا ولآخرة وأولئك هم لخاسرون } وبقوله تعالى { سوآء منكم من أسر لقول ومن جهر به ومن هو مستخف بلليل وسارب بلنهار } وبقوله تعالى { ولقد علمنا لمستقدمين منكم ولقد علمنا لمستأخرين } وبقوله تعالى { ثم إذا كشف لضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون } وبقوله تعالى { ولله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل لعمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن لله عليم قدير } وبقوله تعالى { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا } هل خص بهذا الخطاب الأحرار دون العبيد أو عم الجميع فلا بد من أنه عموم للأحرار والعبيد فكل خطاب ورد فهو هكذا ولا فرق إلا ما فرق النص فيه بين الأحرار والعبيد وكذلك قالوا في قوله تعالى { يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم } فقالوا هذا للأحرار دون العبيد (3/343)
قال علي وهذه أعجوبة شنيعة أترى العبيد ليسوا من رجالنا إن هذا الأمر كان ينبغي أن يستحيى منه وأن من جاهر بأن العبيد ليسوا من رجالنا الواجب أن يرغب عن الكلام معه
وأيضا فإن أول الآية المذكورة { يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم }
والآية الأخرى من قوله { يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود لله ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا } الآية ولا خلاف بين أحد في أنهما متوجهتان إلى الأحرار والعبيد وأن هذا حكم عام للمتبايعين من الأحرار والعبيد وللمطلقين من الأحرار والعبيد فإذا قد صح ذلك فكيف يسوغ لذي عقل ودين أن يقول إن قوله تعالى { من رجالكم }
وقوله تعالى { منكم } ) مخصوص به الأحرار دون العبيد والآيتان كلتاهما لا خلاف منهم مخاطب بهما والأحرار والعبيد سواء
فصل في أمره عليه السلام واحدا هل يكون أمرا للجميع
قال علي قد أيقنا أنه صلى الله عليه و سلم بعث إلى كل من كان حيا في عصره في معمور الأرض من إنسي أو جني وإلى من ولد بعده إلى يوم القيامة وليحكم في كل عين وعرض يخلقهما تعالى إلى يوم القيامة فلما صح ذلك بإجماع الأمة المتيقن المقطوع به المبلغ إلى النبي صلى الله عليه و سلم وبالنصوص الثابتة بما ذكرنا من بقاء الدين إلى يوم القيامة
ولزومه الإنس والجن وعلمنا بضرورة الحس أنه لا سبيل إلى مشاهدته عليه السلام من يأتي بعده كان أمره صلى الله عليه و سلم لواحد من النوع وفي واحد من النوع أمرا في النوع كله وللنوع كله وبين هذا أن ما كان من الشريعة خاصا لواحد أو لقوم فقد بينه عليه السلام نصا وأعلم أنه خصوص كفعله في الجذعة بأبي بردة بن نيار وأخبره عليه (3/344)
السلام أنها لا تجزي عن أحد بعده وكان أمره عليه السلام للمستحاضة أمرا لكل مستحاضة وإقامته ابن عباس وجابرا عن يمينه في الصلاة حكما على كل مصل وحده مع إمام ولا خلاف بين أحد في أن أمره لأصحابه رضي الله عنهم وهم حاضرون أمر لكل من يأتي إلى يوم القيامة
وأما إخواننا فاضطربوا في هذا اضطرابا شديدا فقالوا في فتياه عليه السلام للواطىء في رمضان إن ذلك الحكم جار على كل واطىء وأصابوا في ذلك ثم لم يقنعوا بالصواب حتى تعدوه إلى الخطأ فقالوا وذلك الحكم أيضا جار على كل مفطر بغير الوطء ثم لم يقنعوا بذلك حتى قالوا هو على النساء كما هو على الرجال ثم أتوا إلى حكم النبي صلى الله عليه و سلم في محرم مات فأمر عليه السلام ألا يمس طيبا ولا يغطي وجهه ولا رأسه وأن يكفن في ثوبه فقالوا هو خصوص لذلك الواحد وليس هذا حكم من مات وهو محرم أفسمع السامعون بأعجب من هذا التحكم واحتجوا في ذلك بابن عمر وقد تركوا ابن عمر في أزيد من مائة قضية وتركوا في ذلك قول من خالف ابن عمر في ذلك من أصحابه واحتجوا بانقطاع عمل الميت تمويها وشغبا وليس هذا للميت ولكنه عمل الأحياء المأمورين بذلك كما أمروا بغسله ومواراته ولا عمل للميت في ذلك ولا فرق
فإن احتجوا في ذلك بقول علي رضي الله عنه نهاني رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا أقول نهاكم فقد قال كعب بن عجرة في أمر فدية حلق الرأس نزلت في خاصة وهي لكم عامة
وأيضا فقد بينا في آخر كتابنا أنه لا يجوز التقليد وقد بين علي رضي الله عنه أن قوله هذا ليس على ما ظن الظان من أن ذلك النهي لا يتعداه ذلك إذ سئل أعهد إليك رسول الله صلى الله عليه و سلم بشيء لم يعهده إلى غيرك فقال لا ما خصني رسول الله صلى الله عليه و سلم بشيء إلا ما في هذه الصحيفة وكان فيها العقل وأشياء من الجراحات ولا يقتل مؤمن بكافر فصح أن قول علي نهاني إنما هو تحر للفظه عليه السلام فقط وبالله تعالى التوفيق وهو الموفق للصواب (3/345)
فصل في أوامر ورد فيها ذكر حكمه عليه السلام
ولم يأت فيها من لفظه عليه السلام السبب المحكوم فيه قال علي وإذا ورد خبر صحيح وفيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى أمرا كذا فحكم فيه بكذا فإن الواجب أن نحكم في ذلك الأمر بمثل ذلك الحكم ولا بد لأنه كسائر أوامره التي قدمنا وجوبها وذلك مثل ما روي أنه صلى الله عليه و سلم رأى رجلا يصلي منفردا خلف الصفوف فأمره بالإعادة
ورأى رجلا يحتجم فقال أفطر الحاجم والمحجوم وأتي بشارب فجلده فاعترض قوم فقالوا لعله عليه السلام إنما أمره بالإعادة ليس من أجل انفراده ولكن لغير ذلك وأن الحجام والمحجوم كانا يغتابان الناس
قال علي وهذا لا يجوز لوجوه خمسة أحدها أنه عليه السلام مأمور بالتبليغ فلو أمر إنسانا بإعادة صلاة أبطلها عليه ولم يبين عليه السلام وجه بطلانها لكان عليه السلام غير مبلغ وقد نزهه الله تعالى عن ذلك ولكان غير مبين ومن نسب هذا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقد كفر
والوجه الثاني أن يقول القائل لعله عليه السلام قد بين ذلك ولم يصل إلينا
قال علي فمن قال ذلك أكذبه الله عز و جل بقوله { إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون } وبقوله تعالى عن نبيه عليه السلام { وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى } فصح أن كلامه كله صلى الله عليه و سلم وحي وأن الوحي محفوظ لأنه ذكر فلو بينه عليه السلام ولم ينقل إلينا لكان غير محفوظ وقد أكذب الله تعالى هذا القول لأنه لم ينقل أحد أنه أمره بالإعادة لغير الانفراد
والوجه الثالث أن أحاديث كثيرة ثبتت بفرض تسوية الصفوف فيها وفيها إبطال صلاة من صلى منفردا وقد ذكرناها في الفصل الذي فيه ترجيح الأحاديث في باب الأخبار من كتابنا هذا
والرابع إن نقل الناقل الثقة أنه صلى منفردا فأعاد نقل وإنذار ببطلان صلاة (3/346)
المنفرد عنه عليه السلام فواجب قبوله
والخامس أن قول القائل لعله كان هنالك سبب لم ينقل إلينا ظن
وقد قال تعالى { وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا }
وقال عليه السلام الظن أكذب الحديث ولا يحل ترك نقل الثقات لظنون زائفات
وأما تخريج من خرج منهم أن الحاجم والمحجوم كانا يغتابان الناس فإنهم استجاروا من الرمضاء بالنار وهم لا يرون إفطار الصائم بالغيبة فقد عصوا على كل حال ولولا أن الرخصة وردت صحيحة من الحجامة للصائم لأوجبنا الإفطار بها ولكن استعمال الأحاديث يوجب قبول الرخصة لأنها متيقنة بعد النهي إذ لا تكون لفظة الرخصة إلا عن شيء تقدم التحذير منه ولهذا الحديث أجزنا الحجامة للصائم وأن يكون حاجما ومحجوما على ظاهر لفظ الأحاديث لا بالحديث الذي يقول احتجم رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو صائم لأنه ليس في ذلك الحديث دليل على أنه كان بعد النهي فهو موافق لمعهود الأصل ولا فيه بيان أيضا أنه كان في صيام فرض لا يجوز الإفطار فيه بل لعله كان في تطوع يجوز الإفطار فيه أو في سفر كما جاء في بعض تلك الأحاديث أنه كان صائما محرما عليه السلام وبالله تعالى التوفيق
فصل في ورود حكمين بنقل يدل لفظه على أنهما في أمر واحد لا أمرين
قال علي روي أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم في رمضان وهو يقول احترقت وأنه وصف أنه وطأ امرأته وهو صائم فأمره رسول الله صلى الله عليه و سلم بكفارة موصوفة وروي من تلك الطريق بعينها أن رجلا أفطر في رمضان فأمره عليه السلام بتلك الكفارة بعينها وذكر باقي الحديث الأول فعلمنا بذلك أنهما حديث واحد لأن الرواة لهذا هم أولئك الذين رووا بأي شيء كان الإفطار وسياق الحديثين واحد فصح أن بعض الرواة عن الزهري فسر القصة وهم سفيان ومعمر والليث والأوزاعي ومنصور بن المعتمر وعراك بن مالك وأن بعضهم عن الزهري أجملها وهم مالك وابن (3/347)
جريج إلا أنهم كلهم عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة
قال علي وليس هكذا حديث السارقة والمستعيرة لأن الوطء في حال الصوم إفطار صحيح يقع عليه في الشريعة اسم إفطار على الحقيقة ولا يقع على السارق اسم مستعير جاحدا البتة ولا يقع على المستعير الجاحد اسم البتة
وأيضا فقد روى حديث قطع المستعيرة ابن عمر ولم يذكر سرقة وإنما ذكر أمر السرقة عن عائشة فصح أنهما حديثان متغايران وهذا أيضا ما تعلق به المانعون من المسح على العمامة في حديث المغيرة فقالوا ذكره المسح على العمامة هو حديث واحد مع الذي فيه ذكر المسح على الناصية والعمامة
قال علي وهذا خطأ لأن الوضوء لم يكن مرة واحدة منه عليه السلام بل كانت آلافا من المرار فمن ادعى أن ذلك كله وضوء واحد في وقت واحد فقد دخل تحت الكذب والقول بما لا يعلم وهذا لا يحل لمسلم
وأيضا فقد روى المسح على العمامة والخمار من لم يذكر مسحا على الناصية أصلا وهم سلمان وبلال وكعب بن عجرة وعمرو بن أمية الضمري لا سيما المالكيين المانعين من الاقتصار على المسح للناصية فقط فإنهم لا متعلق لهم بحديث المغيرة أصلا وكل ما تعلقوا به بهذا الباب فهو حجة عليهم فصح بما ذكرنا أن حديث المغيرة وحديث من ذكرنا متغايران وبالله تعالى التوفيق
فينبغي مراعاة هذا في النصوص
ومثل ذلك من القرآن قول الله عز و جل { برآءة من لله ورسوله إلى لذين عاهدتم من لمشركين فسيحوا في لأرض أربعة أشهر وعلموا أنكم غير معجزي لله وأن لله مخزي لكافرين } ثم قال تعالى في تلك السورة نفسها بعد يسير { وأذان من لله ورسوله إلى لناس يوم لحج لأكبر أن لله بريء من لمشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فعلموا أنكم غير معجزي لله وبشر لذين كفروا بعذاب أليم إلا لذين عاهدتم من لمشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن لله يحب لمتقين فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم } (3/348)
قال علي فوجدناه تعالى قد جعل مدة من عاهدوا من المشركين أربعة أشهر ثم وجدناه تعالى قد جعل مدة المشركين من يوم الحج الأكبر وهو يوم النحر بنص تسمية رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك انسلاخ الأشهر الحرم
فليس بين الأمدين إلا خمسون يوما فعلمنا يقينا أن هؤلاء المشركين الذين جعل أمدهم شهرين غير عشرة أيام هم غير المشركين الذين عوهدوا أربعة أشهر وهذا ينبغي أن يتفقد جدا فإنه برفع الإشكال كثير وبالله تعالى التوفيق
فصل في عطف الأوامر بعضها على بعض
قال علي وقد يعطف أوامر مفروضات على غير مفروضات ويعطف غير مفروضات على مفروضات والأصل في ذلك أن كل أمر فهو فرض إلا ما خرج عن ذلك بضرورة حس أو بنص أو إجماع فإذا كانت أوامر معطوفات فخرج بعضها بأحد الدلائل التي ذكرنا عن الوجوب بقي سائرها على حكم المفهوم من الأوامر في الجملة ولا نبالي كان الخارج عن معهود حكمه هو الأول في الذكر أو الآخر أو الأوسط
كل ذلك سواء وهو بمنزلة ما لو خرج بنسخ فإن سائرها يبقى على حكم الوجوب والطاعة فمن ذلك قوله تعالى { وهو لذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ولنخل ولزرع مختلفا أكله ولزيتون ولرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذآ أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب لمسرفين } فلولا الإجماع على أن الأكل من الثمر ليس فرضا لقلنا إنه فرض
ولكن لما خرج عن أن يكون فرضا بدليل الإجماع بقي الفعل المعطوف عليه على حكم الوجوب وهو قوله تعالى { وهو لذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ولنخل ولزرع مختلفا أكله ولزيتون ولرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذآ أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب لمسرفين }
قال علي وإنما آتينا بما يوافقنا عليه أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي وإلا فقد تناقضوا في مثل هذا إلا أن الحقيقة ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق (3/349)
ومن ذلك أيضا فانتبذوا ولا تشربوا مسكرا وزوروها يعني القبور ولا تقولوا هجرا
الأمر الأول ندب الإجماع والثاني فرض وبالله تعالى التوفيق
وكذلك قوله { يأيها لذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم لجمعة فسعوا إلى ذكر لله وذروا لبيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } كان السعي خاصا للرجال دون النساء ولم يمنع ذلك الأمر بترك البيع من أن يكون فرضا فرضا على ظاهره وعاما لكل أحد من رجل أو امرأة ووافقنا على ذلك أصحاب مالك ومثل هذا كثير وبالله تعالى التوفيق وحسبنا الله ونعم الوكيل
فصل في تناقض القائلين بالوقف
هاك نبذ من تناقض القائلين بالوقف وحملهم أوامر كثيرة على وجوبها وعن ظاهرها بغير قرينة ولا دليل إلا مجرد الأمر وصيغة اللفظ فقط وما تعدوا فيه طريق الحق إلى أن أوجبوا فرائض لا دليل على إيجابها يدل على كثير تناقضهم وفساد قولهم
قال علي إن القائلين بالوقف من المالكيين والشافعيين والحنفيين قد أوجبوا أحكاما كثيرة بأوامر وردت لا قرينة معها فكان نقضا لمذهبهم في الوقف وما قنعوا بذلك حتى أوجبوا فرائض بلا أوامر أصلا فمن أعجب ممن لم يوجب بأمر الله تعالى إنفاذ ما أمر به وأوجب أحكاما بغير أمر من الله تعالى فمن ذلك أن المالكيين قالوا في قوله تعالى { يأيها لذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم لجمعة فسعوا إلى ذكر لله وذروا لبيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } فأبطلوا البيع بمجرد هذا الأمر ولم يقنعوا بذلك حتى أبطلوا ما لم يبطل الله عز و جل من النكاح والإجازة تعديا لحدوده تعالى وقد تعلل بعضهم في هذا بأن لفظة { يأيها لذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم لجمعة فسعوا إلى ذكر لله وذروا لبيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } لا يقع إلا للفرض
قال علي وهذا ما لا يعرفه حامل لغة من العرب
وقد قال تعالى { وما قدروا لله حق قدره إذ قالوا مآ أنزل لله على بشر من شيء قل من أنزل لكتاب لذي جآء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل لله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } أفترى ذر في هذا المكان موجبة ترك الكفارة دون (3/350)
وعظ ودعاء إلى الإيمان وقتل موسى وإغرام جزية وصغار وقال في قوله تعالى { كتب عليكم لقتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون } و { يأيها لذين آمنوا كتب عليكم لقصاص في لقتلى لحر بالحر ولعبد بلعبد ولأنثى بلأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فتباع بلمعروف وأدآء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن عتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } و { يأيها لذين آمنوا كتب عليكم لصيام كما كتب على لذين من قبلكم لعلكم تتقون } هذه فرائض وقالوا في قوله { كتب عليكم إذا حضر أحدكم لموت إن ترك خيرا لوصية للوالدين ولأقربين بلمعروف حقا على لمتقين } فقالوا ليس هذا فرضا مع أمره عليه السلام من عنده شيء يوصي فيه أن لا يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ففرقوا بلا دليل وقالوا في قوله تعالى { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } هذا فرض وفي قوله تعالى { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } قالوا هذا فرض وكذلك قالوا في هدي العمرة وجزاء الصيد وقالوا بفرض التكبير في أول الصلاة والتسليم منها ذلك فرض وقالوا في حكم المصراة ذلك فرض وقالوا في التقويم على الشريك المعتق ذلك فرض وأوجبوا الزكاة في أموال الصغار بعموم قوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم } وبقوله عليه السلام إن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم ولم يوجبوا صدقة الفطر فرضا وقد جاء النص بأنه عليه السلام فرضها وهي داخلة في جملة قوله عليه السلام إن عليهم صدقة وفي جملة قوله تعالى { وهو لذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ولنخل ولزرع مختلفا أكله ولزيتون ولرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذآ أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب لمسرفين } وأجبوا الزكاة في الزيتون بقوله تعالى { وهو لذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ولنخل ولزرع مختلفا أكله ولزيتون ولرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذآ أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب لمسرفين } ولم يروها في الرمان وقد ذكرهما تعالى في الآية ذكرا واحدا وأوجبوا غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا لو ورد الأمر بذلك فقط (3/351)
وأما الحنفيون فإنهم رأوا ألا تقف المرأة مع الرجل في الصلاة فرضا ورأوا الاستسعاء فرضا ولم يروا الإيتاء من مال الله للمكاتب فرضا ولا مكاتبة من دعا إلى المكاتبة فرضا وكل ذلك مأمور به ورأوا تمتيع المطلقة التي لم تمس ولم يفرض لها صداق فرضا بقوله { فمتعوهن } ولم يروا ذلك فرضا لسائر المطلقات وقد قال تعالى { وللمطلقات متاع بلمعروف حقا على لمتقين } ومثل هذا كثير
ورأى الشافعيون الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم في الصلاة فرضا ولم يروا التكبير في الركوع والرفع فرضا وقد جاء به الأمر ورأوا النية في الوضوء فرضا ولم يروا فعل الاستنثار فرضا وبكل ذلك جاء الأمر سواء ورأوا الخيار قبل التفرق في البيع فرضا ولم يروا الإشهاد فيه فرضا وبكل ذلك جاء الأمر
ومثل هذا كثير ورأوا الإيتاء من مال الله للمكاتب فرضا ولم يروا كتابة من دعا إلى المكاتبة مما ملكت أيمانكم فرضا وكلاهما جاء به الأمر مجيئا مستويا وفيم ذكرنا طرف يستدل به على تناقض من قال بالوقف وبالله تعالى التوفيق
وقد ذكرنا أقسام الأوامر في كتاب التقريب فأغنى عن إعادتها وسنذكر إن شاء الله تعالى الدلائل المخرجة للأمر عن موضوعه في الإيجاب إلى سائر أقسامه في فصل آخر باب العموم التالي لكلامنا في هذا إن شاء الله عز و جل وبالله تعالى التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والله الموفق للصواب (3/352)
الباب الثالث عشرفي حمل الأمر وسائر الألفاظ كلها على العموم
وإبطال قول من قال في كل ذلك بالوقفأو الخصوص إلا ما أخرجه عن العموم دليل حق
قال علي اختلف الناس في هذا الباب فقالت طائفة لا تحمل الألفاظ إلا على الخصوص ومعنى ذلك حملها على بعض ما يقتضيه الاسم في اللغة دون بعض وقال بعضهم بل نقف فلا نحملها على عموم ولا خصوص إلا بدليل فالقول الأول هو لبعض الحنفيين وبعض المالكيين وبعض الشافعيين والثاني لبعض الحنفيين وبعض المالكيين وبعض الشافعيين وقالت طائفة الواجب حمل كل لفظ على عمومه وهو كل ما يقع عليه لفظه المرتب في اللغة للتعبير عن المعاني الواقعة تحته ثم اختلفوا على قولين فقالت طائفة منهم إنما يفعل ذلك بعد أن ينظر هل خص ذلك اللفظ شيء أم لا فإن وجدنا دليلا على ذلك صرنا إليه وإلا حملنا اللفظ على عمومه دون أن نطلب على العموم دليلا وهذا قول بعض الشافعيين وبعض الحنفيين
وقالت طائفة الواجب حمل كل لفظ على عمومه وكل ما يقتضيه اسمه دون توقف ولا نظر لكن إن جاءنا دليل يوجب أن نخرج عن عمومه بعض ما يقتضيه لفظه صرنا إليه حينئذ وهذا قول جميع أصحاب الظاهر وبعض المالكيين وبعض الشافعيين وبعض الحنفيين وبهذا نأخذ وهو الذي لا يجوز غيره وإنما اختلف من ذكرنا على قدر ما بحضرتهم من المسائل على ما قدمنا من أقوالهم فيما خلا فإن وافقهم القول بالخصوص قالوا به
وإن وافقهم القول بالعموم قالوا به فأصولهم معكوسة على فروعهم ودلائلهم مرتبة على ما توجبه مسائلهم
وفي هذا عجب أن يكون الدليل على القول مطلوبا بعد اعتقاد القول وإنما فائدة الدليل وثمرته إنتاج ما يجب اعتقاده من الأقوال فمتى يهتدي من اعتقد قولا بلا دليل ثم جعل يطلب الأدلة بشرط موافقة قوله وإلا فهي مطرحة عنده
قال علي وكل ما ذكرنا أنه يدخل على القائلين بالوقف أو التأويل في صرف (3/353)
الأوامر عن الوجوب وصرف الألفاظ عن ظواهرها فهو أدخل على من قال بالوقف أو الخصوص ههنا ويدخل عليهم أيضا أشياء زائدة
قال علي فما احتج به من ذهب إلى أن اللفظ لا يحمل على عمومه إلا بعد طلب دليل على الخصوص أو إلا بدليل على أنه على العموم أن قالوا ليست الألفاظ مقتضية للعموم بصيغها لما وجدت أبدا إلا كذلك كما لا يوجد اسم السواد على البياض فلما وجدنا ألفاظا ظاهرها العموم والمراد بها الخصوص علمنا أنها لا تحمل على العموم إلا بدليل
قال علي وقد تقدم إفسادنا لهذا الاستدلال فيما خلا من القول بالوجوب وبالظاهر ونقول ههنا إنه ليس وجودنا ألفاظا منقولة عن موضوعها في اللغة بموجب أن يبطل كل لفظ ويفسد وقوع الأسماء على مسمياتها ولو كان ذلك لكان وجودنا آيات منسوخة لا يجوز العمل بها موجبا لترك العمل بشيء من سائر الآيات كلها إلا بدليل يوجب العمل بها من غير لفظها ومن قال هذا فقد كفر بإجماع ومن لم يقله فقد تناقض ودل على فساد مذهبه وأما قولهم كما لا يوضع اسم السواد على البياض فقد يوضع أسود على غير اللون فيقال فلان أسود من فلان من معنى السيادة وليس ذلك بمبطل أن يكون السواد موضوعا لعدم الألوان وقد يقال للأسود أبو البيضاء وليس ذلك بمبطل أن يكون البياض موضوعا للون المفرق للبصر
وقد احتج عليهم بعض من تقدم من القائلين بالعموم فقال ليس إلى وجود لفظ عام يراد به الخصوص سبيل البتة إلا بدليل وارد يبين أنه منقول عن مرتبته إلى غيرها كالدليل على تخصيص قوله تعالى { تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي لقوم لمجرمين } فصح بالنص وبالظاهر وبمقتضى اللفظ أنها لم تدمر من الأشياء إلا ما أمرت بتدميره وهذا لفظ خصوص لبعض الأشياء لا لفظ عموم لجميعها لكنه عموم لما قصد به قال وكذلك كل لفظ عموم أريد به الخصوص قال فلما صح ذلك بطل ما احتجوا به من وجودهم لفظا ظاهره العموم المطلق ويراد به الخصوص
قال علي واحتجوا أيضا فقالوا لم نجد قط خطابا إلا خاصا لا عاما فصح أن كل خطاب فإنما قصد به من بلغه الخطاب من العاقلين البالغين خاصة دون غيرهم (3/354)
قال علي هذا تشغيب جاهل متكلم بغير علم ليت شعري أين كان عن قوله { هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم }
وأيضا فإن الذي ذكر من توجه الخطاب إلى البالغين العقلاء العالمين بالأمر دون غيرهم فإنما ذلك بنص وارد فيهم فهو عموم لهم كلهم ولم نعن بقولنا بالعموم كل موجود في العالم وإنما عنينا كل من اقتضاه اللفظ الوارد وكل ما اقتضاه الخطاب فعلى هذا قلنا بالعموم وإنما أردنا حمل كل لفظ أتى على ما يقتضي ولو لم يقتض إلا اثنين من النوع فإن ذلك عموم لهما وإنما أنكرنا تخصيص ما اقتضاه اللفظ بلا دليل أو التوقف فيه بلا دليل مثل قوله تعالى { ولا تقتلوا لنفس لتي حرم لله إلا بلحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في لقتل إنه كان منصورا } فقلنا هذا عموم لكل نفس حرمها الله من إنسان ملي أو ذمي لم يأتنا ما يوجب القتل لهما ومن قتل حيوانا نهي عن قتله إما لتملك غيرنا له أو لبعض الأمر ومثل قوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من لنسآء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وسآء سبيلا } فإنما أنكرنا استباحة نفس بلا دليل ونكاح ما نكح الآباء ومن خالفنا لزمه ألا ينفذ تحريم قتل نفس إلا بدليل وألا يحرم كثيرا مما نكح الآباء إلا بدليل من غير هذه الآية مبين لكل عين في ذاتها وهذا يخرج إلى الوسواس وإلى إبطال التفاهم وبطلان اللغة وبطلان الدين ومثل قول رسول الله صلى الله عليه و سلم البر بالبر ربا إلا هاء وهاء والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء والملح بالملح ربا إلا هاء وهاء والذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء والفضة بالفضة ربا إلا هاء وهاء فوجب حمل كل ذلك على كل بر وكل شعير وكل تمر وكل ملح وكل ذهب وكل فضة وكقوله عليه السلام كل مسكر حرام فوجب أن يحمل على كل مسكر وكل من تعدى هذا فقد أبطل حكم اللغة وحكم الديانة
قال علي وشغبوا أيضا بآيات الوعيد مثل قوله تعالى { وإن لفجار لفي جحيم } { إنآ أنزلنا لتوراة فيها هدى ونور يحكم بها لنبيون لذين أسلموا للذين هادوا ولربانيون ولأحبار بما ستحفظوا من كتاب لله وكانوا عليه شهدآء فلا تخشوا لناس وخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لكافرون } قالوا وهي غير محمولة على عمومها (3/355)
قال علي ولولا النصوص الواردة بقبول التوبة وبالموازنة وبغفران السيئات باجتناب الكبائر لوجب ضرورة حمل آيات الوعيد على ظاهرها وعمومها ولكن صرنا إلى بيان خطاب آخر وكذلك القول في الآية الأخرى وفي كل آية وخطاب حديث وخبر ونحن لا ننكر تخصيص العموم بدليل نص آخر أو ضرورة حس وإنما أنكرنا تخصيصه بلا دليل
قال علي وسألونا أيضا فقالوا تعتقدون في أول سماعكم الآية والحديث قبل تفهمكم فالجواب إننا نعتقد العموم ولا بد من ذلك وإلا أننا في أول سماعنا وقبل تفقهنا لسنا مفتين ولا حكاما ولا منذرين حتى نتفقه فإذا تفقهنا حملنا حينئذ كل لفظ على ظاهره وعمومه وحكمنا بذلك وأفتينا وتدينا إلا ما قام عليه دليل أنه ليس على ظاهره وعمومه فنصير إليه ولو أن حاكما أو مفتيا لم يبلغه تخصيص ما بلغه من العموم لكان الفرض عليهما الحكم بالذي بلغهما من العموم والفتيا به وإلا فهما فاسقان حتى يبلغهما الخصوص فيصير إليه
ثم نعكس عليهم هذا السؤال فنقول ماذا تعتقدون في الآية والحديث إذا سمعتموها قبل تفقهكم أتعتقدون في بطلان الطاعة لهما وأنهما منسوخان أو تعتقدون وجوب الطاعة لهما وأنهما مستعملان محكمان ما لم يقم دليل على نسخهما فإن قالوا نعتقد أنهما منسوخان وأنهما على الوقف فارقوا قول جميع المسلمين وأدى ذلك إلى إبطال جميع الشرائع ومفارقة الإسلام لأن الدليل الذي يطلب على بطلان النسخ ليس إلا آية أخرى أو نصا أو إجماعا ويلزمهم من الوقف في الآية الأخرى وفي الحديث الآخر أو من القول بأنهما منسوخان ما لزم في الخطاب الأول ولا فرق وهكذا أبدا ولزمهم الوقف أيضا في دعواهم الإجماع لعل ههنا خلافا فبطلت الديانة على قولهم ووجب بهذا القول ألا يعمل أحد بشيء من الدين إذ لعل ههنا شيئا خصه أو شيئا نسخه وهذا خلاف دين الإسلام ونحن نبرأ إلى الله تعالى من كل قول أدى إلى هذا وإن قالوا بل على أنهما محكمان حتى يقوم دليل على أنهما منسوخان رجعوا إلى الحق وهذا يلزمهم في القول بالوقف أو الخصوص ولا فرق
قال علي وشغبوا أيضا فقالوا نحن في الخطاب الوارد كالحاكم شهد عنده شاهدان فلا بد له من السؤال عنهما والتوقف حتى تصح عدالتهما (3/356)
قال علي وهذا تشبيه فاسد لأن الشاهدين لو صح عندنا قبل شهادتهما أنهما عدلان فهما على تلك العدالة ولا يحل التوقف على شهادتهما والفرض إنفاذ الحكم بها ساعة يشهدان وكذلك ما أيقنا أنه خطاب الله تعالى أو خطاب رسوله صلى الله عليه و سلم لنا وإنما نتوقف في الشاهدين إذا لم نعلمهما وكذلك نتوقف في الخبر إذا لم يصح عندنا أنه عن النبي صلى الله عليه و سلم فلا نحكم بشيء من ذلك
قال علي ومما احتجوا به أن قالوا قال الله تعالى { تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي لقوم لمجرمين } قال تعالى { ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كلرميم } وقال تعالى { إني وجدت مرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم } وقد علمنا أن الريح تدمر كل شيء في العالم وأن بلقيس لم تؤت كل شيء لأن سليمان عليه السلام أوتي ما لم تؤت هي
قال علي وهذا كله لا حجة لهم فيه أما قوله تعالى { تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي لقوم لمجرمين } فإنا قد قلنا إن الله تعالى لم يقل ذلك وأمسك بل قال تعالى { تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي لقوم لمجرمين } فصح بالنص عموم هذا اللفظ لأنه تعالى إنما قال إنها دمرت كل شيء على العموم من الأشياء التي أمرها الله تعالى بتدميرها فسقط احتجاجهم بهذه الآية وأما قوله { ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كلرميم } فهذه الآية مبطلة لقولهم لأنه إنما أخبر أنها دمرت كل شيء أتت عليه لا كل شيء لم تأت عليه فبطل تمويههم
وأما قوله تعالى { إني وجدت مرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم } فإنما حكى تعالى هذا القول عن الهدهد ونحن لا نحتج بقول الهدهد وإنما نحتج بما قاله الله تعالى مخبرا به لنا عن علمه أو ما حققه الله تعالى من خبر من نقل إلينا خبره وقد نقل تعالى إلينا عن اليهود والنصارى أقوالا كثيرة ليست مما تصح
فإن قال قائل فإن سليمان عليه السلام قال للهدهد { قال سننظر أصدقت أم كنت من لكاذبين } قلنا نعم ولكن لم يخبرنا الله تعالى أن الهدهد صدق في كل ما ذكر فلا حجة لهم في هذه الآية أصلا (3/357)
ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق إذا احتججتم بهذه الآيات في حمل القرآن وكلام النبي صلى الله عليه و سلم على الخصوص لا على العموم فالتزموا ذلك ولسنا نبعدكم عن هذه الآية التي احتججتم بها فنقول لكم قول الله تعالى { ولقد مكناهم فيمآ إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فمآ أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات لله وحاق به ما كانوا به يستهزئون } فأخبرونا على قوله تعالى في هذه الآية إن سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم لم تغن عنهم شيئا أهو على عمومه أم يقولون إنها أغنت عنهم شيئا فإن قلتم كذبتم ربكم وإن لم تقولوا تركتم مذهبكم الفاسد ومثل هذا في القرآن كثير جدا بل هو الذي لا يوجد غيره أصلا في شيء من القرآن والكلام إلا في مواضع يسيرة قد قام الدليل على خصوصها ولولا قيام الدليل على خصوصها لم يحل لأحد أن يحملها إلا على العموم وبالله تعالى التوفيق
قال علي وموهوا أيضا بما هو عليهم لا لهم وهو تردد بني إسرائيل في أمره تعالى لهم بذبح البقرة
قال علي ومن كان هذا مقداره في العلم فحرام عليه الكلام فيه لأن الله تعالى ذمهم بذلك التوقف أشد الذم أفيسوغ لمسلم أن يقوي مذهبه بأنه موافق لأمر ذمه الله عز و جل ولو لم يكن في ترددهم إلا قولهم لموسى عليه السلام { وإذ قال موسى لقومه إن لله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بلله أن أكون من لجاهلين } جوابا لقوله { وإذ قال موسى لقومه إن لله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بلله أن أكون من لجاهلين } ومن خاطبه نبي عن الله عز و جل بأمر ما فجعله المخاطب هزوا فقد كفر
قال علي فحسبهم وحسبنا لهم اقتداؤهم باليهود الحاملين كلام ربهم تعالى على أنه هزء واحتجوا بقوله { بديع لسماوات ولأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم } وهو عز و جل غير مخلوق وبقوله تعالى { لذين قال لهم لناس إن لناس قد جمعوا لكم فخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا لله ونعم لوكيل }
قال علي وإنما قال ذلك لهم بعض الناس وإنما كان الجامعون لهم بعض الناس لا كلهم (3/358)
قال علي نحن لا ننكر أن يرد دليل يخرج بعض الألفاظ عن موضوعها في اللغة بل أجزنا ذلك وهاتان الآيتان قد قام البرهان الضروري على أن المراد بخلقه تعالى كل شيء أن ذلك في كل ما دونه عز و جل على العموم وهذا مفهوم من نص الآية لأنه لما كان تعالى هو الذي خلق كل شيء ومن المحال أن يحدث أحد نفسه لضرورات براهين أحكمناها في كتاب الفصل صح أن اللفظ لم يأت قط لعموم الله تعالى فيما ذكر أنه خلقه وكذلك لما كان المخبرون لهؤلاء بأن { لذين قال لهم لناس إن لناس قد جمعوا لكم فخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا لله ونعم لوكيل } ناسا غير الناس الجامعين وكان الناس الجامعون لهم غير الناس المخبرين لهم وكانت الطائفتان معا غير المجموع لها علمنا أن اللفظ لم يقصد به إلا ما قام في العقل وإنما ننكر دعوى إخراج الألفاظ عن مفهومها بلا دليل وكذلك لا ننكر نسخ الأمر كله بدليل يقوم على ذلك وإنما ننكر دعوى النسخ بلا دليل
قال علي وموهوا أيضا بأن قالوا لو كان للعموم صيغة تقتضيه ولفظ موضوع له لما كان لدخول التأكيد عليه معنى لأنه كان يكتفى في ذلك باللفظ الدال على العموم
قال علي وهذا تعليم منهم لربهم أشياء استدركوها لا ندري ما ظنهم فيها أنسيان أم فوات أم عمد وكل هذا كفر وهذا جري منهم على عادتهم في الحكم بالقياس في أشياء ادعوا أن ربهم تعالى لم يذكرها ولا حكم فيها ونحن نبرأ إلى الله تعالى من ذلك ونقول إنه لا علم لنا إلا ما علمنا وأن التأكيد في اللغة موجود كثير كتكراره تعالى ما كرر من الأخبار وكتكراره عز و جل سورة واحدة { فبأي آلاء ربكما تكذبان } وغيرها ) إحدى وثلاثين مرة { يثبت لله لذين آمنوا بلقول لثابت في لحياة لدنيا وفي لآخرة ويضل لله لظالمين ويفعل لله ما يشآء } و { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } ولهذا أعظم الفائدة لأنه تعالى علم أنه سيكون في خلقه قوم أمثالهم يرومون إبطال الحقائق فحسم من دعاويهم ما شاء بالتأكيد وليقيم بذلك الحجة عليهم وترك التأكيد فيما شاء (3/359)
ليضلوا فيها ويستحق منهم من قلد وعاند العذاب الأليم ويؤجر من أطاع وسلم الأجر الجزيل بمنه وطوله لا إله إلا هو
ولو أنه تعالى لم يكرر ما كرر من أخبار الأمم السالفة ومن أمره فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة في غير ما موضع ومن أمره تعالى بالإيمان واجتناب الكفر في غير ما سورة ومن ذكر النار والجنة في غير ما سورة فما كان ذلك مسقطا لوجوب ما وجب من ذلك كله إذ كرره ولكان ذلك واجبا بذكره مرة واحدة كوجوبه إذا ذكر ألف ألف مرة ولا فرق ولكان الشك في خبر ذكر مرة واحدة أو تكذيبه يوجب الكفر كوجوب الكفر بالشك فيما كرره ألف مرة وكوجوب الكفر بتكذيبه ولا فرق وقد ذكر تعالى قصة موسى عليه السلام في مواضع كثيرة من القرآن ولم يذكر قصة يوسف عليه السلام إلا مرة واحدة ولا فرق عند أحد من الأمة بين صحة قصة يوسف وبين صحة قصة موسى عليهما السلام ومن شك في ذلك فهو كافر مشرك حلال الدم والمال فالتأكيد كالتكرار ولا فرق ولو لم يؤكد تعالى ما أكد لكان واجبا وعاما لا يقتضيه اسمه كوجوبه مع التأكيد ولا فرق وإنما معنى التأكيد كمعنى قول القائل أنا شهدت فلانا ونظرت إليه بعيني هاتين وهو يفعل أمر كذا وقد علمنا أن النظر لا يكون إلا بالعينين وكذلك يقول سمعت بأذني والسمع لا يكون إلا بالأذنين ولو سكت عن ذلك لعلمنا من خبره كالذي علمنا إذا ذكر العينين والأذنين ولا فرق
وأيضا فإن الاستثناء جائز بعد التأكيد كجوازه قبل التأكيد فنقول رأيت الوجوه إلا فلانا فلو كان التأكيد مخرجا للكلام عن الخصوص إلى العموم لما جاز فيه الاستثناء فصح أنه بمنزلة التكرار ولا فرق
قال علي ثم نعكس عليهم سؤالهم الفاسد فنقول لهم لو جاز أن تكون صيغة العموم للخصوص لما جاز أن يدخل عليها للتأكيد فينقلها إلى العموم وهذا لهم لازم لأنهم صححوا هذا السؤال فكل من صحح القضية فهي لازمة له وليست لازمة لمن يصححها ولا ابتدأ السؤال
قال علي ولو صح قولهم لوجب أن يكون كل شيء انتقل عن حاله باطلا وأن يكون ذلك الانتقال دليلا على أن المنتقل لم يكن حقا لأنه يلزمهم أن الشيء لو كان (3/360)
حقا لما صار باطلا ولما قام دليل على بطلانه ونحن نجد الحياة للإنسان باتصال النفس في الجسد ثم تذهب تلك الحياة وتبطل بيقين فيلزمهم إذ قالوا لو كان العموم حقا لما انتقل لفظه إلى خصوص أن يقولوا لو كانت الحياة حقا لما انتقل حاملها إلى الموت هذا مع افتقار دليلهم هذا إلى دليل وأنه دعوى مجردة ساقطة لأن دعواهم أن انتقال الشيء عن مرتبته مبطل لكونها مرتبة لها دعوى ساقطة يشبه سؤال السوفسطائية واليهود وقد أبطلنا استدلالهم في ذلك في كتاب الفصل بحمد الله تعالى
قال علي وقالوا أيضا لو كان العموم حقا لما حسن الاستثناء منه وصرفه بذلك إلى الخصوص
قال علي وهذا غاية التمويه لأن العموم صيغة ورود اللفظ الجامع لأشياء ركب ذلك اللفظ عليها فإذا جاء الاستثناء كان ذلك اللفظ مع الاستثناء معا صيغة للخصوص وهذا نص قولنا فورود الاستثناء عبارة عن الخصوص وعدم الاستثناء عبارة عن العموم
قال علي ثم يعكس عليهم هذا السؤال نفسه فيقال لهم لو كان للخصوص صيغة لما كان للاستثناء معنى لأنه لم يكن يستفاد به فائدة أكثر مما يفهم من اللفظ قبل ورود الاستثناء وقد قدمنا أنه إنما يلزم القضية من صححها وسأل بها وأما نحن فهذه كلها سؤالات فاسدة ولكنها لهم لازمة إذا ابتدؤوا بالسؤال بها
وقالوا أيضا لو كان اللفظ يقتضي العموم ما حسن فيه الاستفهام أخصوصا أراد أم عموما فلما حسن فيه الاستفهام علمنا أنه لا يقتضي العموم بنص لفظه
قال علي وهذا كالأول وإنما يحسن الاستفهام من جاهل بحدود الكلام واستفهام المستفهم عن الآية أو الحديث مذموم وقد أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال اتركوني ما تركتكم ثم نعكس عليهم هذا السؤال نفسه فنقول لهم لو كان اللفظ يفهم منه الخصوص لما كان للاستفهام معنى
قالوا ألا ترى أن السؤال والاستفهام لا يحسن في الخبر عن الواحد لأنه مفهوم من نص لفظه
قال علي وهذا خطأ لأن الاستفهام يحسن في الواحد كحسنه في العموم وذلك (3/361)
أن يقول القائل أتاني اليوم زيد فيقول السامع أجاءك زيد نفسه إما على سبيل الإكبار وإما على سبيل السرور أو على بعض الوجوه المشاهدة وهذا أمر معلوم لا ينكره ذو عقل وقد يحسن ذلك الشريعة أيضا من طالب راحة أو تخفيف كما سأل ابن أم مكتوم إذ نزلت آية المجاهدين فطلب أن يخرج له عذر من عموم اللفظ الوارد وقد كان له كفاية في غير هذه الآية في قوله تعالى { ليس على لضعفآء ولا على لمرضى ولا على لذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على لمحسنين من سبيل ولله غفور رحيم } وما أشبه ذلك وكسؤال العباس في الإذخر فاستثنى من العموم في النهي عن أن يختلى خلا الحرم بمكة وقد يحسن أيضا الاستفهام في العدد كقول القائل أتاني عشرة من الناس في أمر كذا فيقول له السامع أعشرة فيقول نعم وذلك نحو قول الله عز و جل { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } فقد كنا نعلم لو لم يذكر تعالى العشرة إن ثلاثة وسبعة عشرة وقد كنا نعلم بقوله تعالى { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } إنها عشرة ولكنه تعالى ذكر { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } 2 كما شاء فلما صح كل ما ذكرناه وحسن الاستفهام عن اسم واحد وعن العدد وهو لا يحتمل صرفا عن وجهه أصلا ولم يكن ذلك مجيزا لوقوع اسم الواحد على أكثر من واحد وكذلك في العدد لم يكن أيضا وقوع الاستفهام في العموم موجبا لإسقاط حمله على العموم وبالله تعالى التوفيق
وقالوا أيضا أرأيتم قولكم بالعموم أبعموم قلتموه وعلمتم صحته أم بغير عموم قال علي وهذا من الهذيان الذي قد تقدم إبطالنا إياه في كلامنا في حجة العقل وهو سخف أتى به بعض السوفسطائيين القاصدين إبطال الحقائق وهو ينعكس عليهم في قولهم بالخصوص وفي قولهم بالوقف فيقال لهم أرأيتم قولكم بالوقف أبوقف قلتموه وعلمتموه أم بغير وقف وأرأيتم قولكم بالخصوص أبخصوص قلتموه وعلمتموه أم بغير خصوص والجواب الصحيح المبين لجهلهم هو أننا نقول وبالله تعالى التوفيق إنما قلنا (3/362)
بالعموم استدلالا بضرورة العقل الحاكم بأن اللغة إنما هي رتبت لكل معنى في العالم عبارة مبينة عنه موجبة للتفاهم بين المخاطب والمخاطب ولأننا وجدنا الأجناس العامة للأنواع الكثيرة ووجدنا الأنواع العامة للأشخاص الكثيرة يخبر عنها بأخبار وترد فيها شرائع لوازم فلا بد ضرورة من لفظ يخبر به عن الجنس كله وهذا لا بد منه وإلا بطل الخبر عن الأجناس وهذا ما لا سبيل إليه أصلا ولا بد أيضا من لفظ يحضر به عن بعض ما تحت الجنس ليفهم المخاطب بذلك ما يريد ومبطل هذا مبطل للعيان جاحد للضرورات
وسألوا أيضا فقالوا إن كان قولكم بالعموم والظاهر حقا فما قولكم فيمن سمع آية قطع يد السارق وآية جلد الزناة وآية تحريم المرضعات لنا والراضعات معنا ولم يسمع أحاديث التخصيص لكل ذلك ولا آية التخصيص للإماء أتأمرونه بقطع يد من سرق فلسا من ذهب وبجلد الأمة والعبد مائة مائة إذا زنيا وتحرمون من أرضعت رضعتين وتقولون إنه مأمور من عند الله تعالى بذلك فلزمكم القول بأنه مأمور بما لم يأمر به والقول بأنه مأمور بالباطل أو تأمرونه بألا ينفذ شيئا من ذلك حتى يطلب الدليل فيتركون القول العموم بالظاهر
قال علي فنقول وبالله تعالى التوفيق إن الله تعالى لم يأمر قط بقطع سارق أقل من ربع دينار ذهبا ولا حرم قط من أرضعت أقل من خمس رضعات ولا أمر قط بجلد العبد والأمة أكثر من خمسين لأن الرسول عليه السلام قد بين كل ذلك وكلامه عليه السلام وكلام ربه سواء في أنه كله وحي وفي أنه كله لازمة طاعته فالآيات التي ذكروا والأحاديث المبينة لها مضموم كل ذلك بعضه إلى بعض غير مفصول منه شيء عن آخر بل هو كله كآية واحدة أو كلمة واحدة ولا يجوز لأحد أن يأخذ ببعض النص الوارد دون بعض وهذه النصوص وإن فرقت في التلاوة فالتلاوة غير الحكم ولم تفرق في الحكم قط بل بين النبي صلى الله عليه و سلم ذلك مع ورود الآي معا ولا يفرق بين قوله تعالى { ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم } مع قوله عليه السلام لا قطع في أقل من ربع دينارفصاعدا وبين قوله تعالى { ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم لطوفان وهم ظالمون } (3/363)
وكذلك لا فرق بين قوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما } وبين نزول خمس رضعات محرمات ناسخة لعشر محرمات وبين قول القائل لا إله إلا الله فلا يجوز أن يفصل شيء من ذلك في الحكم عن بيانه كما لا يحل لأحد أن يأخذ القائل لا إله إلا الله في بعض كلامه دون بعض فيقضي عليه بقوله لا إله بالكفر لكن نضم كلامه كله بعضه إلى بعض فنأخذه بكلامه
وكذلك إذا نزلت الآية المجملة أتى بعقبها الأحاديث المفسرات فكان ذلك مضمونا بعضه إلى بعض ومستثنى بعضه من بعض ومعطوفا بعضه على بعض فبطل ما راموا أن يموهوا به وصح أنه سؤال فاسد وأن الذين خوطبوا بالآيات المذكورات خوطبوا ببيانها معا وأما نحن فكل إنسان منا فلا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون لم يتفقه في الدين أو يكون قد تفقه في الدين ولا سبيل إلى وجه ثالث فالذي لم يتفقه في الدين وليس من الذين خاطبهم الله بقوله تعالى { ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم } ولا من الذين خوطبوا بالفتيا والحكم في تحريم المرضعات ولا من المأمورين بجلد الزناة وإنما أمر بذلك كله الفقهاء والحكام العالمون باللغة والفقه بلا خلاف من أحد من المسلمين في ذلك
وقد بين تعالى ذلك بقوله { وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } فصح بالنص أنه ليس كل أحد مأمورا بالتفقه في غير ما يخصه في نفسه
فصح بما ذكرنا أن المأمورين بتنفيذ الأحكام والفتيا في الدين الفقهاء الذين قد سمعوا النصوص كلها وعرفوها وعرفوا الإجماع والاختلاف وأن كل من كان بخلاف هذه الصفة فلم يأمر قط بقطع من سرق جبالا من ذهب ولا بأن يفتي في تحريم من أرضعت ألف رضعة ولا بجلد زان حرا أو عبدا وكل متفقه فقبل أن يكمل تعلم النصوص والإجماع فهو غير مأمور ولا مخاطب بالحكم في شيء ولا بالفتيا في شيء لكنه مأمور بالطلب (3/364)
والتعليم فإذا فقه فحينئذ لزمه تنفيذ ما سمع على عمومه وظاهره ما لم يأت نص بنسخ أو تخصيص أو تأويل فبطل سؤالهم بطلانا ظاهرا والحمد لله تعالى
ولكنا نقول لو أن امرأ سمع هذه الآيات ولم يسمع ما خصصها لكان حكى العمل بما يبلغه التخصيص فيلزمه حينئذ كما قلنا في المنسوخ سواء بسواء وليس بعد النبي صلى الله عليه و سلم من أحاط بجميع العلم وإنما يلزم كل واحد ما بلغه وقد رجم عثمان التي ولدت لستة أشهر وقد أمر عمر برجم مجنونة حتى نهاه علي عن ذلك وأخبره بأن النبي صلى الله عليه و سلم أخبر أن القلم مرفوع عن المجنون
قال علي وهم تناقضوا في هذه الآيات بلا دليل فحملوا بعضها على العموم وبعضها على الخصوص فتركوا قولهم بالوقف وحملوا على العموم ما قد صح الخصوص فيه واعترضوا أيضا بأن قالوا لما كان المعهود أن يقول القائلون جاءني بنو تميم وفسد الناس ولا خير في واحد وذهب الخلق وذهب الوفاء ولا يكون ذلك كذبا وقد تيقنا أنه لم يرد بذلك جميع بني تميم ولا جميع الناس ولا جميع الأحدين ولا جميع الخير ولا جميع الخلق ولا الوفاء كله صح الخصوص
قال علي وهؤلاء القوم لا ندري مع من يتكلمون ونحن لم ننكر أن يكون في اللغة ألفاظ يقوم الدليل على أنها مخصوصات وكل ما ذكروا فقد قام الدليل على أنه ليس على عمومه كما قام الدليل على أن آيات كثيرة أنها منسوخة لا يحل العمل بها فلما لم يكن كل ذلك واجبا أن تحمل النسخ من أجله على سائر الآيات لم يكن أيضا واجبا أن نحمل التخصيص على كل لفظ من أجل وجودنا ألفاظا كثيرة قد قام الدليل على أنها مخصوصة ولكن القوم يسوموننا إذا وجدنا لفظا منقولا عن موضوعه في اللغة أن نحكم بذلك في كل لفظ وفي هذا إبطال اللغة كلها وإبطال التفاهم وإيجاب للحكم بلا دليل والدليل الذي قام على تخصيص ما ذكروا علمنا أنه لو أراد به العموم لكان كاذبا وأما لو أمكن أن يكون صادقا لما انتقل عن عمومه إلا بدليل
قال علي وقالوا أيضا قد اتفقنا على وجوب استعمال الخطاب على بعض ما اقتضاه واختلفنا في سائره فلا يلزمنا إلا ما اتفقنا عليه
قيل لهم وبالله تعالى التوفيق هذا اعتراض فاسد من وجوه كثيرة أحدها أنه خلاف النصوص والعقول والإجماع لأن الأمة مجمعة والعقول قاضية والنصوص من (3/365)
القرآن والسنن واردة كل ذلك متفق أن ما قام عليه دليل برهاني فواجب المصير إليه وإن اختلف الناس فيه وواجب ألا نقتصر على ما أجمع عليه دون ما اختلف فيه إلا في المسائل التي لا دليل عليها إلا الإجماع المجرد المنقول إلى النبي صلى الله عليه و سلم
وأيضا فقد قال تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فأمر تعالى عند التنازع بالرد إلى القرآن والسنة ودلائلهما قد قامت بوجوب حمل الألفاظ على موضوعها في اللغة
وأيضا فإن هذا من سؤالات اليهود إذ قالوا قد وافقتمونا على نبوة موسى عليه السلام وخالفناكم في نبوة محمد صلى الله عليه و سلم وهذا سؤال فاسد لأن الدلائل التي أوجبت تصديق موسى عليه السلام هي التي أوجبت تصديق محمد صلى الله عليه و سلم فإن لم يجب بها تصديق نبوة محمد صلى الله عليه و سلم لم يجب بها تصديق نبوة موسى عليه السلام وكذلك الدلائل التي دلت على حمل لفظ الخصوص هي التي دلت على حمل العموم على العمل والدلائل التي دلت على حمله على سائره الذي خالفتمونا فيه ولا فرق
وأيضا فإنهم مناقضون لهذا القول لأنه كان يلزمهم على ذلك ألا يقتلوا مشركا إلا مشركا اتفقوا على قتله وهم لا يفعلون لأن قائل هذا إن كان مالكيا فقد ناقض لأنه لم يقتل المرأة المرتدة ولم يتفق على قتلها ويقتل ولد المرتد الحادث له الردة إذا بلغ ولم يسلم وابن ابنه كذلك ولم يتفق على قتلهم ويقتل المشرك إذا سب النبي صلى الله عليه و سلم ولم يتفق على قتله وإن كان شافعيا فكذلك أيضا
ويقتل زائدا على من ذكرنا من خرج من اليهودية إلى النصرانية ومن خرج من النصرانية إلى اليهودية إلا أن يسلم وإن كان حنفيا فهم يقتلون المسلم المختلف في قتله إذا قتل كافرا بعموم قوله تعالى { وكتبنا عليهم فيهآ أن لنفس بلنفس ولعين بلعين ولأنف بلأنف ولأذن بلأذن ولسن بلسن ولجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لظالمون } وأن من تورع عن قتل كافر قد أباح الله تعالى قتله وجاء النص بقتله وأقدم على قتل مسلم قد حرم الله دمه عموما وخصوصا بعموم آية لم نخاطب بها ولا ألزمنا الحكم بما فيها لعظيم الجرم قليل الورع مقدم على أكبر الكبائر وبالله تعالى التوفيق (3/366)
وكذلك إن قال لا أقطع إلا سارقا اتفق على قطعه فهم أيضا ينكرون ذلك لأنهم نعني المالكيين يقطعون في أقل من عشرة دراهم وليس متفقا عليه ويقطعون في الزرنيخ والنورة والفاكهة واللحم وليس القطع في ذلك إجماعا والحنفيون يقطعون من سرق شيئا مغصوبا من مال الغاصب وليس قطعهم إجماعا ويلزمهم بهذا القول إلا يقولوا إلا بما أجمع عليه
قال علي وهم لا يفعلون ذلك البتة فقد أفسدوا دليلهم وبالله تعالى التوفيق فإنه يقال لهم أبنص صح عندكم هذا القول أم بإجماع فإن قالوا بنص أو ذكروا دليلا ما كذبوا وادعوا ما لا يجدون أبدا وكانوا مع كذبهم قد تركوا قولهم بألا يقولوا إلا بما أجمع عليه لأنهم يقولون بالنص وإن خالف الإجماع وإن قالوا قلنا ذلك بإجماع كذبوا وجاهروا
وبالجملة فهذا مذهب لم يخلق له معتقد قط وهو ألا يقول القائل بالنص حتى يوافقه الإجماع بل قد أصبح الإجماع على أن قائل هذا القول معتقدا له كافل بلا خوف لرفضه القول بالنصوص التي لا خلاف بين أحد في وجوب طاعتها
قال علي وقالوا أيضا إن على المراد بالكلام دلائل تدل على الرضا والسخط من تغيير اللون وحدة الأمر والنجه والبشر
قيل لهم وبالله تعالى التوفيق ليس هذا مما نحن فيه ولا كون هذه الأحوال مما يمنع من إخراج الأمر على العموم ثم نعكس عليهم هذا في قولهم بالخصوص والوقف فيلزمهم الوقف إلى أن يجتمعوا بالنبي صلى الله عليه و سلم يوم القيامة وفي هذا إبطال الدين والخروج عن الإسلام وتشبه هذه التساؤلات أن تكون سؤالات ملحد جاهل قليل الحياء
وقالوا أيضا إنكم اعتقدتم العموم فيما أراد الله تعالى به الخصوص فقد خالفتموه عز و جل قيل لهم وأنتم إن أردتم الخصوص فيما أراد الله تبارك وتعالى العموم فقد خالفتموه عز و جل وإن اعتقدتم الوقف فيها حكم الله تعالى فيه بما حكم من عموم أو خصوص فلا بد من أحدهما فقد خالفتم الله عز و جل بيقين لا شك فيه ولا شك في أن الله تعالى لم يرد قط في شيء من أحكامه وقفا بل أنفذ تعالى الحكم بما أنفذ (3/367)
وأيضا فنحن قاطعون على أن كل أمر لم يأت نص ولا إجماع بأنه ليس على عمومه فهو على عمومه بلا شك ولا مرية نقطع على ذلك عند الله عز و جل ونقطع أيضا بأن كل من بلغه العموم ولم يبلغه الخصوص أو بلغه المنسوخ ولم يبلغه الناسخ فإن الله تعالى لم يلزمه قط إلا ما بلغه لا ما لم يبلغه قال تعالى { قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون } ونقطع بأن هذا كله هو الحق عند الله عز و جل لنصه تعالى على أن عليه بيانه فما لم يبين على غير وجهه فقد تيقنا على أنه مراد منا على اقتضاء لفظه ولا بد
قال علي فهذه اعتراضاتهم كلها قد استوعبناها ونقضناها وبينا فسادها كلها وانعكاسها عليهم من فسادها بحمد الله تعالى ونحن الآن شارعون بتوفيق الله تعالى لنا وعونه إيانا في إيراد البراهين على بطلان قولهم ووجوب حمل الألفاظ على عمومها وبالله تعالى التوفيق
قال علي واحتج من سلف من القائلين بالعموم المخالفين في ذلك فقال لو كان الخطاب على الوقف أو الخصوص حتى يقوم الدليل على العموم لكان ذلك الدليل لا ينفك ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما وإما أن يكون لفظا بخطاب أو معنى مستخرجا من خطاب فإن كان خطابا فالخطاب الثاني كالأول ولا فرق إن كان يدل بنفسه على العموم فالأول مثله وإن كان الأول لا يدل بنفسه على أنه على العموم فالثاني لا يدل أيضا وإن كان معنى مستخرجا من خطاب فلا يجوز أن يكون المعنى المستخرج من الخطاب أقوى من الخطاب الذي منه استخرج وهذا يقتضي وجوب خطابات لا نهاية لها وهذا ممتنع لا سبيل إليه ويؤدي أيضا إلى إبطال فهم كل خطاب أصلا
وقالوا أيضا إننا وجدنا في اللغة أسماء للواحد لا تتعداه كزيد وكرجل من شأنه وصفته فلا يعقل منه أكثر من واحد ووجدنا فيها أسماء التثنية لا تقع على واحد ولا على أكثر من اثنين ووجدنا أيضا لفظا للجمع الزائد على الاثنين فكان ذلك واقفا على كل ما يقتضيه الجمع إلا أن يأتي بيان باستثناء أو بصفة أو بعدد يختص بذلك بعض الجمع دون بعض فتصير إليه (3/368)
وقالوا يقال لمن قال بالخصوص ما معنى قولكم هذا خصوص فلا جواب لهم إلا أن يقولوا هو حمل للاسم على بعض ما يقتضيه دون بعض مثل قوله تعالى { فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم } فيقولون هذا على بعض المشركين دون بعض فيقال لهم فبأي شيء استحق عندكم هذا البعض الذي حملتم اللفظ عليه أن يكون محمولا عليه ذلك اللفظ دون سائر من أخرجتم عنه وما الفرق بينكم وبين من قال بل اللفظ محمول على الذي أخرجتم عنه أنتم وغير محمول على الذين حملتموه أنتم عليه فإن قالوا الدليل كذا صاروا إلى أن التخصيص إنما كان بدليل غير حمل اللفظ على بعض ما يقتضيه دون بعض بغير دليل وهذا الأمر لا ننكره بل نقول متى قام الدليل على التخصيص صرنا إليه وبطل بهذا حمل الاسم على بعض ما يقتضيه دون بعض بغير دليل فذلك ما أردنا أن نبين وهذا ترك منهم لمذهبهم الفاسد وإن لم يكن بأيديهم إلا الاقتصار على التخصيص لمن خصوا بلا دليل حصلوا على التحكم والدعوى وكل دعوى بلا دليل فهي ساقطة وبالله تعالى التوفيق
احتجوا على القائلين بالوقف فقالوا هذا القول إلى متى يكون فإن حدوا حدا كانوا متحكمين بلا دليل وإن قالوا حتى ننظر في دلائل القرآن والسنة سألناهم فقلنا لهم فإن لم تجدوا دليلا على عموم ولا خصوص ولم تجدوا غير اللفظ الوارد ماذا تصنعون فإن قالوا نقف أبدا أقروا بالعصيان ومخالفة الأوامر وأدى قولهم إلى أن الله يبين مراده وأن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يبين ولم يبلغ وهذا كفر
وإن قالوا إن لم نجد دليل على الخصوص صرنا إلى العموم فقد رجعوا إلى ما نكروا وأقروا بأنهم إنما حملوا الكلام على العموم بصيغته ولفظه وبعدم الدليل على الخصوص وهذا هو نفس قولنا الذي أبوه أولا عادوا إليه من قريب فإن قال قائل إن هذا لا يوجد لزمهم السؤال الذي سألنا به أولا من قولنا لهم هل يخلو الدليل من أن يكون لفظا آخر أو معنى مستخرجا من لفظ وألزمهم إيقاظ التفاهم أبدا وأيضا فإن ذلك موجود وقد قال تعالى { إن لله يأمركم أن تؤدوا لأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين لناس أن تحكموا بلعدل إن لله نعما يعظكم به إن لله كان سميعا بصيرا } ولم تؤكد بشيء أصلا وهذا عندهم محمول على عمومه وقد قال (3/369)
تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من لنسآء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وسآء سبيلا } ولم يأت بتوكيد زائد فحملوه على عمومه دون دليل غيره وارد اللفظ فقط ومثل هذا كثير جدا بل هو الأكثر في القرآن والسنة وإنما ادعوا الخصوص في مسائل يسيرة وليس هذا مكان احتجاجهم بقرينة الوعيد لأننا إنما نكلمهم في عموم كل ما اقتضاه اللفظ لا في الوجوب
وقد حمل مالك قوله تعالى { أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون } على عموم جميع المساجد بنص اللفظ لا بدليل زائد ولا بيان وارد وحمل قوله تعالى { ولذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهدآء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بلله إنه لمن لصادقين } على جميع الأزواج بلا دليل زائد وليس شيء من ذلك إجماعا
وحمل هو وأبو حنيفة قوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما } على عمومه في النكاح والوطء بملك اليمين
وحملوا كلهم أيضا قوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما } على عموم بلا دليل بل الدليل قام على خصوص ذلك فأبوا من قبوله فبان تناقضهم في ذلك وبالله تعالى التوفيق
قال علي ويلزمهم أيضا ألا يحكموا بالإجماع إذ لعل ههنا خلافا لم يبلغهم ولا يحكموا بنص إذ لعله منسوخ ولا يقاس لأن القياس لا يكون إلا على نص أو إجماع والوقف واجب في النقص والإجماع فبطل الدين كله على قول هؤلاء القوم
قال علي ويقال لهم ما الفرق بينكم وبين من خص بالخطاب بعض الأزمان دون بعض كما خصصتم أنتم بعض الأعيان دون بعض فإن قالوا إن محمدا صلى الله عليه و سلم إنما بعث ليحكم في كل زمان
قيل لهم وكذلك أيضا بعث عليه السلام ليحكم على كل أحد في كل عين ولا فرق (3/370)
قال علي وقد بينا في غير ما مكان أن اللغة إنما وضعت ليقع بها التفاهم فلا بد لكل معنى من اسم مختص به فلا بد لعموم الأجناس من اسم ولعموم كل نوع من اسم وهكذا أبدا إلى أن يكون لكل شخص اسمه ومن سعى في إبطال هذا فهو سوفسطائي على الحقيقة عاكس للأمور على وجوهها مفسد للحقائق ويأبى الله إلا أن يتم نوره
قال علي ولا فرق بين الأخبار بالأوامر في كل ذلك وكل اسم فهو يقتضي عموم ما يقع تحته ولا يتعدى إلى غير ما يقع تحته والوعد والوعيد في كل ذلك كسائر الخطاب ولا فرق والحديث والقرآن كله كاللفظة الواحدة فلا يحكم بآية دون أخرى ولا بحديث دون آخر بل بضم كل ذلك بعضه إلى بعض إذ ليس بعض ذلك أولى بالاتباع من بعض ومن فعل غير هذا فقد تحكم بلا دليل
ويقال لهم ما الفرق بينكم وبين من قال لعل الخطاب الوارد إنما خص به الصحابة دون غيرهم فكل ما قالوا ههنا فهو مردود عليهم في دعواهم خصوص بعض ما يقع عليه الخطاب دون بعض
ويقال لهم بأي شيء استجزتم قتل من قتلتم من المشركين وقطع من قطعتم من السراق وجلدتم من جلدتم من الزناة وحد من حددتم من القذفة وخصصتموهم بإيقاع هذه الأحكام عليهم دون سائر من يقع عليه اسم زان أو قاتل أو قاذف أو سارق فهل ههنا إلا أنهم سرقوا وقتلوا وزنوا وقذفوا فهكذا فعل غيركم ممن أخرجتموه من الخطاب وأسقطتم عنه ما حملتم على هؤلاء فلأي معنى خصصتم من أمضيتم عليه الحكم دون من لم تمضوه عليه فإن قالوا بدلائل دلت على ذلك لم نأب ذلك وقلنا لهم هذا قولنا وحسبنا أننا قد أزلناكم عن الحكم بالخصوص المجرد الذي هو الافتراء على الله عز و جل في الحكم عنه تعالى بما لم يأذن به وقد رام قوم أن يفرقوا بين الأوامر والأخبار واحتجوا بأنهم مضطرون إلى العمل بالأوامر وليست الأخبار كذلك
وقال علي وهذا فرق فاسد لأننا مضطرون إلى وجوب اعتقاد صحة الأخبار وإلى الإقرار بها وهي التي وردت بها النصوص كما نحن مضطرون إلى العمل بالأوامر ولا فرق والاعتقاد الصحيح فعل الله تعالى في النفس والإقرار بالمعتقد فعل النفس (3/371)
بتحريكها آلات الكلام من اللسان والحنك ومخارج الحروف فلا بد لها من أن تخص بالإقرار بما اعتقدت أو تعم وخوف الخطأ في العمل في الأوامر كخوف الخطأ في الاعتقاد للأخبار على ما لا يجوز واعتقاد الباطل لا يجوز كما لا يجوز العمل بالباطل فصح أن الأخبار كالأوامر ولا فرق
واحتج بعض من سلف من القائلين بالعموم على القائلين بالخصوص فقال ما تقولون في قوله تعالى { لله وخاتم } للنبيين من العرب دون غيرهم أم عموم بنفس اللفظ فإن قالوا خصوص كفروا وإن قالوا عموم بنفس اللفظ تركوا لمذهبهم الفاسد فإن ادعوا أن ذلك إجماع لزمهم ألا يقولوا إلا بما أجمع عليه فقط وقد قدمنا إفساد هذا القول فإنهم لو قالوا لكانوا بذلك خارجين عن الإجماع لأن الأمة مجمعة على أن الاقتصار على القول بالإجماع فقط دون الائتمار للنصوص وإن وقع فيها اختلاف حرام لا يفعله مسلم ولا يسع مسلم فعله والنص من القرآن والسنن جاء بوجوب طاعة النبي صلى الله عليه و سلم وتحكيمه عند التنازع والاختلاف وأيضا فهم لا يفعلون ذلك فسقط تعلقهم بكل وجه بحمد الله تعالى
فإن قالوا علمنا أنه عليه السلام آخر النبيين بقوله صلى الله عليه و سلم لا نبي بعدي قيل لهم وبالله تعالى التوفيق وهذا يحتمل من الخصوص ما تحمله سائر النصوص ولا فرق ولعله أنه أراد لا نبي بعدي من العرب أو في الحجاز أو إلى مائة عام أو ما أشبه ذلك كما زعمت العيسوية من اليهود والجرمدانية القائلون بتواتر الرسل والغالية التي قالت بنبوة علي ونزيع والمغيرة ومنصور الكسف بالكوفة وبيان وأبي الخطاب وأيضا فإن الإجماع إذ قد صح على ذلك فهو أعظم الحجج عليهم لإجماع الأمة على حمل هذا الخطاب على عمومه وكذلك يسألون عن قوله صلى الله عليه و سلم بعثت إلى الأحمر والأسود وهذا يحتمل من الخصوص ما احتمله { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } وما احتمله قوله عز و جل { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فاجلدوهم ثمانين جلدة } (3/372)
فلأي معنى خصصتم أحد الخطابين بلا دليل وحملتم الآخر على عمومه بلا دليل إلا نفس اللفظ فقط واحتج عليهم بعض من سلف من القائلين بالعموم بأن قال إنكم متفقون على أن اللفظ إذا ورد فيه تأكيد فإنه محمول على عمومه قال فيقال لهم إن التأكيد يحتمل من الخصوص مثل ما يحتمل الخطاب المؤكد ولا فرق وقد جاء النص بذلك فقال تعالى { فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس } فجاء الاستثناء بعد تأكيدين اثنين
قال علي قال تعالى { ولكن حق لقول مني لأملأن جهنم من لجنة والناس أجمعين } ثم جاء الاستثناء بقوله { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون } وقال تعالى مخاطبا لإبليس { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } ثم جاء الاستثناء فيمن تاب عن اتباع إبليس وفيمن تساوت حسناته وسيئاته التي اتبع فيها إبليس فجاء التخصيص كما ترى بعد التأكيد فبطل احتجاجهم بالتأكيد ولزمهم ألا يحملوا خطابا على عمومه أبدا أكد أو لم يؤكد ولزمهم الوقف أبدا وألا ينتفعوا بتأكيد ولا غيره
فإن قالوا إنه يلزمهم إذا ورد الاستثناء أن تقرروا بأن ذلك الخطاب أريد به الخصوص قلنا لهم وكذلك نقول ولسنا معترضين على ربنا تعالى ولا على نبينا صلى الله عليه و سلم ولا نعلم إلا ما علمنا تعالى ولا ننكر صرفهما الألفاظ عن وجوهها ولا شرعهما الشرائع علينا ولا تحريم ما حرما ولا تحليل ما حللا ولو أمرانا بقتل آبائنا وأمهاتنا وأبنائنا لسارعنا إلى ذلك مبادرين أو أمسكنا مقرين بالمعصية غير داعين إلى ضلالة ولا مصوبين لذنوبنا بل مستغفرين الله تعالى من ذلك راغبين في التوبة
قال علي وما أخوفني أن يكون ملقي هاتين النكتتين من القول بالوقف في اتباع الظاهر وفي الوجوب وفي العموم وفي الفور ومن القول بصرف الألفاظ الواردة عن الله (3/373)
تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم إلى تأويل بلا دليل وإلى سقوط الوجوب بلا دليل وإلى الخصوص بلا دليل وإلى التراخي بلا دليل كافرا مشركا زنديقا مدلسا على المسلمين ساعيا في إبطال الديانة فإن هذه الملة الزهراء الحنيفية السمحة كيدت من وجوه خمسة وبغيت الغوائل من طرق شتى ونصبت لها الحبائل من سبل خفية وسعي عليها بالحيل الغامضة وأشد هذه الوجوه سعي من تزيا بزيهم وتسمى باسمهم ودس لهم سم الأساود في الشهد والماء البارد فلطف لهم في مخالفة القرآن والسنة فبلغ ما أراد ممن شاء الله تعالى خذلانه وبه تعالى نستعيذ من البلاء ونسأله العصمة بمنه لا إله إلا هو
فلتسؤ ظنونكم أيها الناس بمن يحسن لكم مفارقة ظاهر كلام ربكم تعالى أو كلام نبيكم صلى الله عليه و سلم بغير بيان منها أو إجماع من جميع الأمة وبمن يزين لكم التأخر عن طاعتها ويسهل عليكم ترك الانقياد لهما ويقرب لديكم التحكم في خطابهما والفرق بينهما بطاعة بعض ومعصية بعض وهذا هو التخصيص الذي يدعونه بلا دليل وبالله نعتصم
قال علي ويلزمهم إذا أجازوا تخصيص ألفاظ القرآن والسنن بلا دليل أو الوقف فيها أن يجيزوا مثل ذلك في الأعداد ولا فرق فيقفوا فيما أوجب الله تعالى من صيام شهرين متتابعين في كفارة الظهار وكفارة القتل وكفارة الواطىء في شهر رمضان فلعله تعالى قد استثنى من الشهرين عشرة أيام في حديث لم يبلغهم أو بقياس لم ينتبهوا له بعد كما استثنى تعالى من مدة نوح عليه السلام في قومه خمسين عاما بعد ذكره عز و جل ألف سنة ومثل هذا لازم لهم في جميع ما خوطبوا به وهذا قول كما قدمنا ليس فيه إلا إبطال الديانة مع فاحش تناقضهم وأنه دعوى بأيديهم بلا دليل
فإن قالوا هذا لا يجوز في الأعداد لأنه لو لم يكن الاستثناء متصلا بها لكانت كذبا قيل لهم وكذلك الأخبار إن لم يكن على عمومها ولم يأت نص آخر أو إجماع بتخصيصها كانت كذبا ولا فرق وكذلك الأوامر إن كان المراد بها الخصوص ولم يأت نص آخر ولا إجماع بتخصيصها كانت تعنيتا تعالى الله عن ذلك كله
قال لهم بعض من سلف القائلين بالعموم فإذا لم يفهم من كل خطاب بمجرده ما اقتضاه لفظه فلعل قولك نقول بالوقف وقول من قال منكم نقول بالخصوص (3/374)
إنما أردتم به في بعض المواضع دون بعض ولعلكم أردتم غير ما ظهر إلينا من كلامكم فإنكم تناظرونا دأبا في ألا نحمل الألفاظ على ظواهرها ولا على عمومها فأول ما ينبغي أن يستعمل هذا فيه ففي كلامكم فتجعلون في نصاب من لا يفهم عنهم مرادهم ولا يصح خطابهم وصحت السفسطة بعينها عليهم
قال علي وكذلك يقال أيضا للقائلين بالوقف أو الندب أموجبون أنتم لحمل الأشياء الواردة من الله تعالى ونبيه صلى الله عليه و سلم على أنها غير واجبة وعلى الوقف فيها أم أنتم نادبون إلى ذلك فإن قالوا نحن موجبون لذلك قيل لهم فما الذي جعل كلامكم محمولا على الوجوب وكلام ربكم تعالى محمولا على غير الوجوب وهذا كفر شديد ممن اعتقده وضلال عظيم ممن تقلده وإن قالوا بل نحن نادبون إلى ذلك أقروا أنهم لا يلزمنا قبول قولهم وبالله تعالى التوفيق
وأيضا قال علي قولهم بحمل الألفاظ على الخصوص إنما معناه بحملها على بعض ما يقتضيه لفظها
قال علي وهذا أمر ليس في طاقة أحد فهمه والوقوف على حقيقته أبدا لأنه لا ندري أي أبعاض تلك الجملة يقبل ولا أيها يرد وليس بعضها أولى بحمل الحكم عليه من بعض فصار ذلك تكليفا لما ليس في الوسع وهذه هي السفسطة نفسها وإبطال الحقائق جملة وقد أكذبهم تعالى بقوله { لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين }
ويقال لهم أيضا أرأيتم قول الله تعالى { وعلم آدم لأسمآء كلها ثم عرضهم على لملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين } لهذا التعليم الذي امتن الله تعالى به على أبينا آدم عليه السلام فائدة أم لا فائدة له فإن قالوا لا فائدة له كفروا وكذبتم الملائكة في إقرارهم بأن ذلك علم عظيم لم يكن عندهم حتى علمهم إياه الخالق عز و جل وإن قالوا إن لذلك التعليم فائدة سئلوا ما هي ولا سبيل إلى أن تكون تلك الفائدة إلا إيقاع الأسماء على مسمياتها والفصل بين المسميات بالأسماء ومعرفة صفات المسميات التي باختلافها وجب تخالف الأسماء ليقع بذلك التفاهم بين النوع الذي أسكنه الله أرضه وأرسل إليهم الأنبياء بالشرائع ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة (3/375)
وإذ قد ثبت هذا وصح فكل من أراد أن يثبت أن الأسماء لا تفهم منها مسمياتها على عموم ما يقتضيه اللفظ ولا يعرف بها ما علقت عليه فهو مبطل للعقل والشريعة معا وبالله تعالى التوفيق وله الحمد على جميع نعمه لا إله إلا هو
ويلزمهم في قوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما } أن يكون لعل ذلك في بعض الأمهات دون بعض وفي بعض الأخوات والبنات دون بعض أو لعل الذي حرم هو بيعه أو أكلهن دون جماعهن كما حملتم قوله تعالى { فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم } عن بعض المشركين دون بعض فلم تبيحوا قتل الرهبان ولا قتل المرتدات ولا أولاد المرتدين إذا بلغوا كفارا وكما فعلتم في القذف فلم تحدوا قاذف الكافرة والأمة المسلمة وسائر ما حملتموه على الخصوص ومثل هذا لازم لهم في كل خطاب في القرآن والسنن وبالله تعالى التوفيق
ويقال لمن قال منهم إن الذي يدل على حمل الألفاظ على عمومه إنما هو للتأكيد الوارد
قال علي يقال لهم لو كان التأكيد ما ذكرتم لكان كلامهم متناقضا لأنا نجد التأكيد يأتي مرتين وثلاثا الأول يأتي لإخراج اللفظ من الخصوص إلى العموم الثاني مثله أيضا ولو وجب أن يكون مخرجا للكلام المؤكد والتأكيد الأول عن الخصوص إلى العموم فكان يكون التأكيد الأول خصوصا وعموما معا وهذا ولا يعلل الصحيح في ذلك ما قدمناه من أن التأكيد إنما هو حسم لشغب أمثالهم فقط وليس التأكيد مخرجا للكلام المؤكد عن خصوص إلى عموم أصلا وقد قال الله تعالى { فسجد لملائكة كلهم أجمعون } وقد أجاب بعض القائلين بالوقف عن هذه المسألة فقال معنى قوله تعالى { فسجد لملائكة كلهم أجمعون } ي بعد ذكر { فسجد لملائكة كلهم أجمعون } ى هو غير المعنى في { فسجد لملائكة كلهم أجمعون } ى لأن { فسجد لملائكة كلهم أجمعون } ى هو مخرج لقوله تعالى { فسجد لملائكة كلهم أجمعون } و عن الخصوص إلى العموم و { فسجد لملائكة كلهم أجمعون } ي دال على أنهم سجدوا مجتمعين لا مفترقين (3/376)
قال علي وهذا جهل شديد وكذب مفرط لأن جميعا ليس معناه الاجتماع ولا هو من بابه وهذه مجاهرة في اللغة ولا يعرفها أهل اللغة ولا يعرف أحد من أهل اللسان أن قول القائل أتاني القوم أجمعون أنه أراد مجتمعين بل جائز أن يكون الذين أتوا أفرادا مفترقين وهذه هي السفسطة التي حذر منها الأوائل وجملة الأمران أن هؤلاء قوم تعلقوا بأنهم وجدوا ألفاظا خارجة عن موضوعها في اللغة إما إلى مجاز وإما إلى معان مشتركة فرأوا بذلك إبطال الحقائق كلها وإبطال وقوع الأسماء على مسمياتها واختصاص كل اسم بمنعها وعمومه لكل ما علق عليه كانوا بمنزلة من قال لما وجدت في الكلام كذبا كثيرا فأنا أحمله كله على الكذب ووجدت في الشريعة منسوخا كثيرا لا يحل العمل به إذ لعله قصد به غير ما يعقل منه ووجدنا العمل بجميعه ولا فرق بين هذا وبين قولهم وجدنا ألفاظا على غير ظاهرها فنحن نقف في كل لفظ فلا نستعمله على مفهومه إذ لعله قصد به غير ما يعقل منه ووجدنا ألفاظا لا يراد بها عمومها فنحن نقف في كل لفظ فلا نمضيه على ما علق عليه
قال علي وقد قال بعض أهل الوقف إذ سئل فأي شيء نعرف بأن اللفظ على عمومه بلفظ أم بمعنى وألزم أن احتمال التخصيص داخل في الثاني كدخوله في الأول وهكذا أبدا وكلف والفرق بين اللفظ الثاني والأول فبلح عند ذلك إذ لا سبيل إلى فرق فقال إن الأشياء التي بها يلوح العموم لا تحد ولا تحصر ولا سبيل إلى بيانها
قال علي وهذه ثنية الانقطاع التي من بلغها سقط حسيرا وعلم أنه لا حيلة عنده ولا قوة لديه وهو دليل من دلائل العجز والضعف وكل من أقر بأنه لا يقدر على بيان قوله فقد حصل في محل لا يعجز عن مثله ذو لسان إذا استجاز لنفسه الفضائح فلا يعجز أحد عن أن يدعي ما شاء من المحالات والدعاوى فإذا كلف بيانا أو دليلا قال هذا لا يطاق عليه
قال علي ونظر ذلك هذا المبلح بأن قال كما أن العدد الذي وجب ضرورة العلم في الأخبار لا سبيل إلى حده (3/377)
قال علي وقد كذب بل ذلك محدود وقد بينا فيما خلا وهو أنه إذا ورد اثنان من جبهتين مختلفتين فحدثا غير مجتمعين وقد تيقن أنهما لم يلتقيا ولا توطآ فأخبرا بحديث طويل لا يمكن اتفاق خاطر اثنين على توكيده ولم يكن هناك لهما ولا لمن حدثا رغبة فيما حدثا به وعنه ولا رهبة ولا هوى وذكرا مشاهدة أو سماعا من اثنتين فصاعدا كما وصفنا أيضا أنهما شاهدا فهو خبر ضروي يوجب العلم واليقين بلا شك وأن عشرات الألوف إذا حشدوا وكلفوا خبرا ما ولهم في ذلك رغبة أو رهبة أو هوى فجائز اجتماعهم على فعل الكذب وقد شاهدنا ذلك في شكر الولاة وذمهم إلا أن هذا لا يخفى بل هو معلوم ضرورة من قبلهم لأنهم وإن اجتمعوا على ما جمعوا له فكلهم يخبر صديقه وامرأته وجاره قبل أن يجمع وبعد أن ينفض من ذلك الجمع بحقيقة الأمر وجلية الخبر وهذا مشاهد كل يوم من أحوال الناس ونقل أخبارهم من موت أو ولادة أو نكاح أو طلاق أو عزلة أو ولاية أو وقفة أو ما شبه ذلك وإنما أغفل الناس هذا لقلة المتفقدين لمثل هذا وشبهه ولكثرة من ينسى ما يمر عليه من ذلك وأصيخوا رحمكم الله إلى ما نقول لكم (3/378)
فصل في بيان العموم والخصوص
قال علي الكلام ينقسم ثلاثة أقسام فمنه خصوص يراد به الخصوص بقوله زيد وعمرو وما أشبه ذلك وعموم يراد به العموم ومعنى ذلك حمله على كل ما يقتضيه لفظه فمنه ما يكون اسما لجنس يعم أنواعا كثيرة كقوله تعالى { أولم ير لذين كفروا أن لسماوات ولأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من لمآء كل شيء حي أفلا يؤمنون } فيقع تحت الحي المذكور الإنس وأنواع الطير كلها وأنواع ذوات الأربع كلها وأنواع الهوام كلها وقد خرج من هذا العموم الملائكة لإخبار الرسول صلى الله عليه و سلم أنهم خلقوا من نور وأما الجن فمن النار بنص القرآن إلا أننا نبعد أن يكون في تركيبهم شيء من الماء وإن كان العنصر هو النار كما في تركيبنا الماء والنار والهواء وإن كان عنصرنا التراب ومنها ما يكون اسما لنوع ما كقوله تعالى { ولخيل ولبغال ولحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون } فهذا عموم لجميع الخيل ولجميع البغال والحمير دون سائر الأنواع وليس هذا خصوصا لأن معنى قولنا عموم وإنما هو ما اقتضاه اللفظ فقط دون ما تقتضيه فمن سمى هذا خصوصا فقد شغب وشبك
وإنما يسمى ما بقي من الجملة بعد أن يستثنى منها خصوصا وما استثني منها مما بقي خصوصا لأن العموم الذي ذكرنا قد ارتفع ضرورة لأن اللفظ حينئذ ليس محمولا على كل ما يقتضيه لفظه فلما بطل أن يسمى ذلك عموما سمي خصوصا لأنه خص منه بعضه دون بعض بالاستثناء وبالإبقاء ومنه ما يقع لأهل صفة ما من النوع كقوله تعالى { ولذي لقربى } فلما كان هذا عموما لذوي القربى كلهم دون غيرهم وكان شاملا لكل ما وقعت عليه هذه التسمية بهذه الصفة وكقوله تعالى { إنما لصدقات للفقرآء ولمساكين ولعاملين عليها ولمؤلفة قلوبهم وفي لرقاب ولغارمين وفي سبيل لله وبن لسبيل فريضة من لله ولله عليم حكيم } الآية فكان ذلك عموما لكل صدقة فرض بدليل أخرج منها ما ليس فرضا وكان ذلك عموما لكل مسكين ولكل فقير ولكل عامل عليها ولكل مؤلف قلبه ولكل ما سمي رقبة إلا أن (3/379)
يخص شيئا من ذلك نص أو إجماع وكذلك قوله صلى الله عليه و سلم الأئمة من قريش فهذا عموم لكل قرشي إلا من خصه نص أو إجماع من النساء والصبيان وكذلك سائر النصوص
والقسم الثالث عموم دل نص القرآن والسنة على أنه قد استثني منه شيء فخرج ذلك المستثنى مخصوصا من الحكم الوارد بذلك اللفظ
قال علي ومن العموم أن يكون لفظه مشتركا يقع على معان شتى وقوعا مستويا في اللغة ومعنى قولنا مستو أنه وقوع حقيقي وتسمية صحيحة لا مجازية فإذا كان ذلك فحملها واجب على كل معنى وقعت عليه ولا يجوز أن يخص بها بعض ما يقع تحتها دون بعض بالبراهين التي أثبتنا آنفا في إيجاب القول بالعموم
قال علي ومن خالف هذا من أصحاب الظاهرين فقد تناقض ولا فرق بين وقوع اسم على ثلاثة من نوع فصاعدا إلى تمام جميع النوع كقولك مساكين وفقراء وبين وقوع اسم على ثلاثة أشياء فصاعدا مختلفة الحدود يقع عليها كلها وقوعا مستويا ليس بعضها أحق به من بعض ولهذا قلنا في قوله تعالى { لزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ولزانية لا ينكحهآ إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على لمؤمنين } إن الآية على عمومها ولا يحل لمسلم زان أو عفيف أن ينكح زانية مسلمة لا بوطء ولا بعقد زواج فإن وقع فسخ أبدا ما لم تتب قبل أن يعقد معها النكاح ولا يحل لمسلمة زانية أو عفيفة أن تنكح زانيا ما لم يتب فإن وقع الزواج فسخ أبدا وأبحنا للزاني خاصة نكاح الذمية العفيفة فقط لأن النص لم يأت إلا بتحريم ذلك على المؤمنين خاصة والزناة والزواني مؤمنون فقد حرم ذلك عليهم بالنص ولم يأت في ذلك تحريم على المشركين وهذه كرامة المسلم والمسلمة لا يدخل فيها المشركون لأن حكمهم الصغار
وقد تناقض في هذا أصحابنا فحملوا النكاح ههنا على الوطء خاصة وحملوه في قوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من لنسآء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وسآء سبيلا } على العموم لكل ما يقع عليه اسم نكاح وهذا كما ترى بلا دليل وأما من ادعى أن قوله (3/380)
{ لزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ولزانية لا ينكحهآ إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على لمؤمنين } الآية منسوخة بقوله تعالى { وأنكحوا لأيامى منكم ولصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقرآء يغنهم لله من فضله ولله واسع عليم } فمغفل لوجهين أحدهما إجماع الأمة على أنه لا يحل لأحد أن يقول في آية أو حديث إنهما منسوخان لا يجوز العمل بهما إلا بنص جلي أو إجماع
والثاني أن قوله تعالى { ولذين يرمون لمحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم لفاسقون } ( ليس فيه ما يرد قوله تعالى { ولذين يرمون لمحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم لفاسقون } كما ليس فيها إباحة نكاح الأخت والبنت المحرمتين وإن كانتا من الأيامى ولكن إحدى الآيتين مضمومة إلى الأخرى فننكح الأيامى منا ما لم يكن زواني مع أنه يبعد عندنا في اللغة وقوع اسم أيم على الزانية فالواجب استعمال الآيتين معا لأن استثناء بعضها من بعض ممكن وقد قدمنا أنه لا يحل ترك آية لأخرى أصلا
قال علي وكذلك قلنا نحن وسائر أصحابنا إن قوله تعالى { ولذين يرمون لمحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم لفاسقون } فأوجبنا كلنا معشر القائلين بالظاهر إلا قوما توقفوا دون قطع وقلنا بإيجاب حد القذف كاملا على كل قاذف محصنة بأي معنى وقع عليها اسم محصنة من عفاف أو إسلام أو زواج فأوجبنا الحد على قاذف الأمة والكافرة والصغيرة وكذلك أوجبنا الزكاة في القمح والشعير والتمر دون سائر الحبوب والثمار لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس فيما دون خمسة أوسق من حب أو تمر صدقة ولفظة دون في اللغة التي بها خوطبنا تقع على معنيين وقوعا مستويا حقيقيا لا مجازيا وهما بمعنى أقل وبمعنى غير كما قال تعالى { أم تخذوا من دون لله شفعآء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون } يريد غير الله تعالى وقوله تعالى { وأعدوا لهم ما ستطعتم من قوة ومن رباط لخيل ترهبون به عدو لله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم لله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل لله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون } فذكر تعالى المجاهرين بالعداوة للمسلمين وآخرين من غيرهم مكاتمين بها فلم يكن حمل لفظة دون في الحديث المذكور على معنى أقل أولى من حملها على معنى غير فوجب حملها على كلا المعنيين جميعا (3/381)
وقد تناقض في ذلك أصحابنا فلم يحملوها إلا على معنى أقل فقط
قال علي وهذا ترك منهم لقولهم بالعموم وحمل لفظة دون على معنى غير أولى لأن حملها على معنى غير يقضي في جملته أقل فهو القول بالعموم لأن الأقل من خمسة أوسق هو أيضا غير الخمسة الأوسق وبالله تعالى التوفيق
قال علي فهذه أقسام مفهوم الكلام وقد جعل قوم قسما رابعا فقالوا وخصوص يراد به العموم
قال علي وهذا خطأ وليس هذا موجودا في اللغة وسنستوعب الكلام في هذا إن شاء الله تعالى في باب الكلام في القياس وفي باب دليل الخطاب بحول الله وقوته فإن اعترضوا علينا بأحاديث وردت في رجال بأعيانهم ثم صار حكمها عندنا على جميع الناس فليس ذلك بما ظنوا ولكن جميع تلك الأحاديث فيها أحكام في أحوال توجب الأخذ بذلك في أنواع تلك الأحوال اتباعا للفظ الحكم المعلق على المعنى المحكوم فيه وقد بينا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يبعث ليحكم على أهل عصره فقط لكن على كل من يأتي إلى يوم القيامة وفي كل ما يحدث من جسم أو عرض إلى انقضاء الدنيا ولا سبيل إلى أن يبقي عليه حيا إلى أن يلقى كل أحد فكان حكمه على إنسان في حال ما حدثت له أو منه حكما في وقوع تلك الحال كما قلنا
ويبين ذلك الحديث الذي فيه هو جبريل أتاكم يعلمكم دينكم أجل بيان وأوضحه في أن كل خطاب منه صلى الله عليه و سلم لواحد فيما يفتيه به ويعلمه إياه هو خطاب لجميع أمته إلى يوم القيامة وتعليم منه عليه السلام لكل من يأتي إلى انقضاء الدنيا لأن ذلك الحديث إنما خرج بلفظ تعليم الواحد في قوله صلى الله عليه و سلم أن تعبد الله كأنك تراه
ويكفينا من هذا الحديث قوله عليه السلام أثر جوابه لجبريل عليه السلام إن هذا الذي ذكر تعليم لهم فأشار إلى الخطاب المتقدم للواحد وبين ذلك أيضا قوله تعالى { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما } فبدأ بالجماعة ثم خاطب خطاب واحد وقد صح أن المراد بهذا الخطاب كل مسلم والحكم على الأسماء فكل اسم (3/382)
حكم فيه عليه السلام فهو على كل ما تحت ذلك النوع الذي يقع عليه ذلك الاسم
قال علي وهم أولى الناس بالهروب عن هذا السؤال لأنهم أتوا إلى حديث الواطىء في رمضان وهو المأمور بما يجب في ذلك من الكفارة فلم يقنعوا بأن جعلوه عاما لكل واطىء حتى تعدوا فجعلوه على كل آكل وشارب ثم على كل موطوءة وآكلة وشاربة من الناس وأتوا إلى حديث الميت في إحرامه فقالوا لا يتعدى به ذلك الميت بعينه وأتوا إلى أمره صلى الله عليه و سلم في غسل ابنته فقالوا هو عام لكل ميتة وأتوا إلى صلاته على قبر المسكينة فقالوا هو خاص لتلك المسكينة ولهم من مثل هذا أزيد من ألف حكم كلها ينقض بعضها بعضا
والعجب كل العجب في قياسهم إفطارا على إفطار فجعلوا في الأكل الكفارة كالواطىء ولم يقيسوا صياما على صيام فلم يروا على المفطر عمدا في قضاء رمضان كفارة ولا على المفطر في قضاء النذر أيضا وليس شيء من ذلك إجماعا لأن إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير لا يريان الكفارة على الواطىء وأصحاب الشافعي كلهم لا يرون الكفارة على المفطر بغير الوطء وقتادة يرى الكفارة على المفطر في قضاء رمضان كهي على المفطر في رمضان ولا فرق لأنه فرض وفرض وصوم وصوم وفطر وفطر
وقد ادعى قوم في أحاديث وردت أنها خصوص مثل حديث رضاع سالم
قال علي وليس كما قالوا بل كل رضاع فمحرم بظاهر القرآن إلا ما استثني بالسنة من الأربع رضعات فأقل وأما رضاع سالم فقد قال قوم إنما كان حكما في التبني والتبني قد نسخ بقوله تعالى { دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما } فلما سقط التبني سقط الحكم المرتبط به ولما لم يعلم أي الأمرين كان قبل أحديث سالم أم قوله صلى الله عليه و سلم الرضاعة من المجاعة وجب الأخذ بالزائد على معهود الأصل وكان قوله صلى الله عليه و سلم إنما الرضاعة من المجاعة مع قوله تعالى { نسآؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم وتقوا لله وعلموا أنكم ملاقوه وبشر لمؤمنين } زائدا على معهود الأصل في التحريم بعموم الرضاع فوجب الأخذ بالزائد
قال علي بل حديث سالم هو الزائد فيلزم الأخذ به لأن قوله تعالى { ولوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم لرضاعة وعلى لمولود له رزقهن وكسوتهن بلمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضآر والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى لوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم مآ آتيتم بلمعروف وتقوا لله وعلموا أن لله بما تعملون بصير } (3/383)
مسقط لحكم ما زاد على الحولين فصار حديث سالم زائدا على الآية وحاكما بتمادي التحريم بالرضاعة أبدا وما ندري في المصائب أطم من قول من عصى النبي صلى الله عليه و سلم في التحريم برضاع سالم وسمع وأطاع لتحريم برضاع شهرين بعد الحولين فقط ولتحريم أبي حنيفة برضاع ستة أشهر بعد الحولين فقط ولا حولا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
قال علي ومما يبين قولنا قوله صلى الله عليه و سلم لأبي بردة في الأضحية بعناق جذعة تجزيك ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك فبين صلى الله عليه و سلم أن هذا الحكم خصوصا لأبي بردة ولو كان فتياه لواحد لا يكون فتيا في نوع تلك الحال لما احتاج عليه السلام إلى بيان تخصيصه ومثله قوله تعالى { يأيها لنبي إنآ أحللنا لك أزواجك للاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك ممآ أفآء لله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك للاتي هاجرن معك ومرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد لنبي أن يستنكحها خالصة لك من دون لمؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان لله غفورا رحيما } فخرج عليه السلام في نكاحه في جملة قوله تعالى { لقد كان لكم في رسول لله أسوة حسنة لمن كان يرجو لله وليوم لآخر وذكر لله كثيرا } ومثله أمره تعالى بقوله { يأيها لذين آمنوا ستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن لله يحول بين لمرء وقلبه وأنه إليه تحشرون } فخرج بذلك عليه السلام من جملة قوله صلى الله عليه و سلم إن هذه الصلاة لا يحل فيها شيء من كلام الناس
وقد تناقض أبو يوسف فرأى قوله تعالى { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم لصلاة فلتقم طآئفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورآئكم ولتأت طآئفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود لذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن لله أعد للكافرين عذابا مهينا } خصوصا له عليه السلام ولم ير قوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم } خصوصا له عليه السلام
وهذا تناقض ظاهر وصلاة الخوف لازمة لنا لقوله صلى الله عليه و سلم صلوا كما تروني أصلي وأخذ الزكاة لازمة للأمة لقوله صلى الله عليه و سلم أرضوا مصدقيكم وبقوله عليه السلام فمن سألها عن وجهها فليعطها ومن سئل أكثر منها فلا يعطها فإذا سألها أولو الأمر المأمور في القرإن بطاعتهم بقوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } لزم فرض أدائها إليهم وكذلك أمره تعالى بقتال المشركين حتى يعطوا الجزية موجب كل ذلك على الأئمة قبضها وإرسال السعاة والولاة فيها (3/384)
وأما خصوص لفظ في نوع يراد به نوع آخر فهذا خطأ لا سبيل إليه وهو باطل بالطبيعة والشريعة واللغة أما الشريعة فقوله تعالى { ومن يعص لله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين } وحدوده تعالى ما نص على تحريمه أو إيجابه أو إباحته فمن حرم غير ما نص الله تعالى على تحريمه أو أوجب غير ما نص الله تعالى على إيجابه فقد تعدى حدود الله تعالى
وأما الطبيعة فقد علمنا علم ضرورة أن الأسماء إنما وضعت ليعبر بها عن المعاني التي علقت عليها وسميت بها لا عما لم يعلق عليه ولا سمي بها هذا ما لا يثبت في عقل أحد غيره وما عداه فسفسطة وتخليط وإفساد للعالم ولبنية الحس والعقل
وأما اللغة فإنا نسأل كل عالم وجاهل ما البر فيقول القمح فإن قلنا له عن الشعير ما هذا قال شعير فإن قلنا هو بر أنكر ذلك وهزأ بقائله هذا ما لا يختلف فيه أحد من شرق الدنيا وغربها حتى إذا أتى الدين الذي هو المحتاط فيه الواجب تحقيقه حكموا للشعير بحكم البر وخالفوا ما أقروا أنه الحقيقة وحكموا بما أثبتنا نحن وهم أنه باطل وتعدوا الحدود وأوقعوا الأسماء على غير مسمياتها وبالله تعالى التوفيق
فصل في الوجوه التي تنقل فيها الأسماء عن مسمياتها
فيخرج بذلك الأمر عن وجوبه إلى سائر وجوهه وعن الفور إلى التراخي وعن الظاهر إلى التأويل وعن العموم لكل ما يقتضي إلى تخصيص بعضه وذكر الدلائل التي تدل على أن الأسماء قد انتقلت عن مسمياتها إلى ما ذكرناه قال علي هذا باب كثر فيه التخليط وعظمت فيه الأغاليط ولو قلنا إنه أصل لكل خطأ وقع في الشرائع لم يبعد عن الصواب فلنقل بحمد الله وعونه فيه قولا يرفع إن شاء الله تعالى الإشكال فنقول وبالله تعالى التوفيق إن الأسماء المنقولة عن معانيها تكون بأربعة أوجه أحدها نقل الاسم عن بعض (3/385)
معناه الذي يقع دون بعض وهذا هو العموم الذي استثني منه شيء ما فبقي سائر مخصوصا من كل ما يقع عليه كقوله تعالى { لذين قال لهم لناس إن لناس قد جمعوا لكم فخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا لله ونعم لوكيل } وكسائر ما ذكرنا
والوجه الثاني نقل الاسم عن موضوعه في اللغة بالكلية وإطلاقه على شيء آخر كنقل الله تعالى اسم الصلاة عن الدعاء فقط إلى حركات محدودة من قيام وركوع وسجود وجلوس وقراءة ما وذكر ما لا يتعدى شيء من ذلك إلى غيره
وكنقله تعالى اسم الزكاة عن التطهر من القبائح إلى إعطاء مال محدود بصفة محدودة لا يتعدى وكنقله تعالى اسم الكفر عن التغطية إلى الجحد له عز و جل أو لنبي من أنبيائه أو لشيء صح عن الله تعالى وعن رسول الله صلى الله عليه و سلم مع بلوغ كونه كذلك إلى الجاحد له وكنقل الأمر الوارد عن الوجوب إلى الندب أو الإباحة لأن هذا هو وضع اللفظ المرتب للإيجاب في غير معناه ونقل له عن موضوعه إلى الندب الذي هو غير معناه بل له صيغة أخرى تدل على أنه التخيير وكنقل الأمر عن إلزام العمل به إلى المهلة فيه
قال علي فقد بان بما ذكرنا أن نقل الأمر عن الوجوب والفور إلى الندب والتراخي هو باب واحد مع نقل اللفظ عما يقتضيه ظاهره إلى معنى آخر وهذا الباب يسمى في الكلام وفي الشعر الاستعارة والمجاز ومنه قوله تعالى { ذق إنك أنت لعزيز لكريم } ومثل هذا كثير
والوجه الثالث نقل خبر عن شيء ما إلى شيء آخر اكتفاء بفهم المخاطب كقوله تعالى { قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى لله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو لعليم لحكيم } وإنما أراد تعالى أهل القرية وأهل العير فأقام الخبر عن القرية والعير مقام الخبر عن أهلها وكقوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا لا تقربوا لصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغآئط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم إن لله كان عفوا غفورا } فأقام ذكر السفر والمرض مقام الحديث لأن المراد فأحدثتم
وكقوله تعالى { لا يؤاخذكم لله بللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم لأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحفظوا أيمانكم كذلك يبين لله لكم آياته لعلكم تشكرون } فأوقع تعالى الحكم على الحلف وإنما هو على الحنث (3/386)
أو إرادته لا على الحلف ومثل هذا كثير
والوجه الرابع نقل لفظ عن كونه حقا موجبا لمعناه إلى قوله باطلا محرما وهذا هو النسخ كنقله تعالى الأمر بالصلاة إلى بيت المقدس إلى أن يحل ذلك اليوم أصلا بالعمد لغير ضرورة
قال علي وإنما فرقنا بين النسخ وبين نقل الأمر عن الوجوب إلى الندب أو غيره وإن كان كل ذلك نقلا لأن النسخ كان الأمر المنسوخ مرادا منا العمل به قبل أن ينسخ وأما المحمول على الندب فلم يرد قط منا إلزامنا العمل به وهذا فرق ظاهر
قال علي وكل ما ذكرنا فلا يحل أن يتعدى به موضوعه لأنه كما ترى أنواع يجمعها جنس النقل للأسماء على مراتبها فمن استجاز منها واحدا بغير برهان لزمه أن يجيز جميعها وفي ذلك القضاء بالنسخ على كل شريعة وبأنه لا يفهم عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه و سلم لفظ أصلا إذ لعله قد نقل إلى معنى آخر وهذا خروج عن الإسلام
قال علي وإذا قد ذكرنا وجود النقل للأسماء عن معانيها ومثلنا منها أمثلة تدل عليها وتنبه على أمثالها مما لم نذكره بحول الله تعالى وقوته فنذكر إن شاء الله تعالى بتوفيقه لنا وعونه إيانا الدلائل التي بها تعلم صحة الوجوه التي ذكرنا وبها يثبت عندنا أن الاسم قد نقل إلى بعض الوجوه التي ذكرنا والتي متى لم توجد لم يحل لمسلم أن يقول إن هذا اللفظ على غير موجبه وبالله تعالى التوفيق فلنقل وبالله نعتصم إن البرهان الدال على النقل الذي ذكرنا ينقسم قسمين لا ثالث لهما إما طبيعة وإما شريعة
فالطبيعة هو ما دل العقل بموجبه على أن اللفظ منقول من موضوعه إلى أحد وجوه النقل الذي قدمنا مثل قوله تعالى { لذين قال لهم لناس إن لناس قد جمعوا لكم فخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا لله ونعم لوكيل } فصح بضرورة العقل أن المراد بذلك بعض الناس لأن العقل يوجب ضرورة أن الناس كلهم لم يحشروا في صعيد واحد ليخبروا هؤلاء بما أخبرهم به ولأن العقل يوجب ضرورة أن المخبرين لهم بأن الناس قد جمعوا لهم غير الجامعين لهم وغير المجموع لهم بلا شك وأن الجامعين غير المخبرين بالجمع وغير المجموع لهم بلا شك ومثل قوله تعالى { قل كونوا حجارة أو حديدا } { صلى الله عليه و سلم } ( الإسراء 50 ) علمنا بضرورة العقل أنه أمر تعجيز لأنه لا يقدر أحد على أن يصير حجارة أو حديدا ولو كان أمر تكوين لكانوا كذلك (3/387)
فلما وجدهم العقل لم يكونوا حجارة ولا حديدا علم أنه تعجيز وأما الشريعة فهي أن يأتي نص قرآن أو سنة أو نص فعل منه عليه السلام أو إقرار منه عليه السلام أو إجماع على أحد وجوه النقل الذي ذكرنا كما دل الإجماع على أن اسم أب في قوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من لنسآء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وسآء سبيلا } منقول عن الاقتصار على الأب وعلى الأجداد من الأب والأم وإن بعدوا إلى الآباء من الرضاعة والأجداد من الرضاعة لقوله عليه السلام يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب كما دل نص أيضا على نقل اسم الأب إلى العم في قوله حاكيا عن القائلين { أم كنتم شهدآء إذ حضر يعقوب لموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون } وإنما كان إسماعيل عما لا أبا ولم يجب من أجل هذا أن ننقل اسم أب في المواريث إلى الجد من الأم أصلا وكما دل النقل المتواتر أيضا على نقل اسم ابن في قوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما } عن الاقتصار على الابن وبني البنين وبني البنات وإن بعدوا إلى البنين من الرضاعة أيضا ولم يجب من ذلك أن ننقل اسم الابن في المواريث إلى ابن الرضاعة وبني البنات ولا يحجب بابن الرضاعة ولا ببني البنات الأم عن الثلث ولا الزوج عن النصف ولا الزوجة عن الربع إلى السدس والربع والثمن ولم يوجب شيء مما ذكرنا أن ننقل اسم الأم عن الوالدات اللاتي حملن الإنسان في بطونهن في كل حكم إلى أمهات الرضاعة لأن العلم واجب ضرورة بأن الناس ماتوا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ولهم بنو البنات والأجداد من قبل الأمهات وكذلك من الرضاعة فلم يرث أحد منهم شيئا بالنقل عن الكواف عصرا عصرا وكم يجب إذا خص الجد من الأب والابن من الولادة والأم من الولادة بالميراث أن يتعدى ذلك فيخص بعض الوالدات وبعض الأبناء وبعض الأجداد بلا دليل ولذلك ورثنا الجد للأب إذا لم يكن هنالك أب دون الإخوة ولأنه متفق على أنه في تلك الفرائض والإخوة مختلف فيهم ولا نص في ذلك فلزم ألا نورث أحدا بلا نص ولا إجماع وهم الإخوة ولزم أن يورث الجد لأنه متفق على أنه يرث في تلك الفرائض مع النص على أنه أب وكان يلزم من يقول بالخصوص أن يخرج بعض النبيين على أن يورثهم مع سائر النبيين قياسا على الإجماع في (3/388)
ألا يورث بنو البنات لأنهم بنون ولا يحرم على آباء أمهاتهم نكاح حلائلهم ومن قال إن الجدة قيست على الأم في التحريم لزمه أن يقيسها عليها في التوريث وإلا كان متناقضا وبالله تعالى التوفيق
فصح بما ذكرنا أن إخراج الأسماء عن مواضعها إذا قام دليل من الأدلة التي ذكرنا واجب لأنه أخذ في كل ذلك بالظاهر الوارد وبالنص الزائد فلم يخرج عن الظاهر في كل ذلك ووجب إذا عدم دليل منها ألا ينقل شيء من الخطاب عن ظاهره في اللغة وأما من خصص الظاهر أو العموم بقياس أو بدليل خطاب أو بقول صاحبه فذلك باطل وسنبين ذلك في الأبواب المذكورة إن شاء الله تعالى
وقد قال تعالى { بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } فلاح أن لا بيان إلا بنص أو بضرورة عقل كما قدمنا لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم هو التالي علينا القرآن فهو المبين به وهو الآمر لنا بالسنن المبينة علينا وهو الآمر باتباع القرآن والسنن والإجماع وهو عليه السلام الذي نص علينا في القرآن إيجاب استعمال العقل والحس
وقد ذكرنا في باب الأخبار من هذا الكتاب كيف التخصيص بالآية للآي وللحديث وبالحديث للآي وللحديث
قال علي ومن التخصيص بالإجماع قوله تعالى { قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون } فلما أجمعت الأمة بلا خلاف أن 9 هم إن بذلوا فلسا أو فلسين لم يجز بذلك حقن دمائهم ولا خرجوا عن إيجاب قتلهم وحتى لو كثر القائلون بذلك واشتهر فضلهم ما وجب أن يعتد بهذا القول لأنه لم يأت به قرآن ولا سنة ولكن لما قال تعالى { قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون } بالألف واللام وهما في اللغة التي بها نزل القرآن للعهد والتعريف علمنا أنه أراد تعالى جزية معلومة معهودة وبين ذلك بقوله تعالى { قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون } بالألف واللام والألف واللام في لغة العرب لا يقع إلا على معهود وصح أن النبي صلى الله عليه و سلم لما أمر بأخذ دينار من كل محتلم منهم ومحتلمة علمنا أن ما دون الدينار ليس هو الجزية المحرمة لدمائهم وأموالهم ولم يكن لأقصى الجزية وأكثرها حد يوقف عنده فيدعى فيه وجوبه بالإجماع فإن يحيى بن آدم وعطاء بن رباح وعمرو بن دينار وسفيان الثوري كلهم يقول ليس لأكثر الجزية حد (3/389)
وإنما هو ما ترضوا به فلما كان اسم الجزية يقع على الدينار وجب قبوله ممن لا يقدر على أكثر منه ولزم المصالحين ما صالحوا عنه وهو أكثر من الدينار ووجب أن يفرض على من يطيق أكثر من دينار من أهل العنوة ما أطاق ما لا يجحف به
وأما نقل الأمر عن الوجوب إلى الندب فإنه لا مدخل للعقل فيه وإنما يؤخذ من نص آخر أو إجماع فقط كما قلنا في قوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا لا تحلوا شعآئر لله ولا لشهر لحرام ولا لهدي ولا لقلائد ولا آمين لبيت لحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن لمسجد لحرام أن تعتدوا وتعاونوا على لبر ولتقوى ولا تعاونوا على لإثم ولعدوان وتقوا لله إن لله شديد آلعقاب } أنه إباحة لما ذكرنا في ذلك للإجماع على ذلك وقلنا في الوتر إنه ندب لقول الله تعالى له ليلة أسري به هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي ولأنه عليه السلام كان ينتقل على البعير فإذا أراد الفريضة نزل وكان يوتر على البعير
وأما النهي عن القران بين التمرتين في الأكل والإشهاد على التبايع وكتاب الديون والانتشار بعد الصلاة للنوم والأكل وطلب الرزق والأكل من الهدي والإطعام منه ومن الأضحية والمكاتبة لمن طلبها ممن فيه خير من الرقيق وإيتاؤهم من مالنا ففرائض كلها لأنه لا نص في إخراجها عن الوجوب ولا إجماع وأما أمره تعالى لأهل النار بالدخول فيها وأن يخسؤوا وبصليها فأمر اضطرار لا محيد لهم عنه وأما أمره تعالى لأهل الجنة بالأكل وبالشرب وقبول النعيم فأمر إيجاب لا بد لهم من قبوله مختارين مغتبطين كما تفعل الملائكة فيما يؤمرون به وبالله تعالى التوفيق
فصل في النص يخص بعضه هل الباقي على عمومه أم لا
يحل على عمومه قال علي وأما النص الذي يصح البرهان على أنه ليس على عمومه فقد قال قوم الباقي على عمومه وقال بعضهم وهو عيسى بن أبان الحنفي قاضي البصرة لا نأخذ منه إلا ما اتفق عليه
قال علي والصحيح من ذلك أنه كان من النصوص التي لو تركنا وظاهرها لم يفهم منه المراد فإننا لا نأخذ منها إلا ما يبينه نص آخر أو إجماع وذلك مثل أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأيضا فإن الله تعالى نص لنا على الصلاة والزكاة بالألف واللام (3/390)
والألف واللام إنما يقعان على معهود ولا يفهم من هذا الظاهر كيفية الصلاة والزكاة الواجبين علينا فوجب أن يطلب بيانهما من نصوص أخر أو إجماع وقد أخبرنا تعالى أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها وليس في وسعنا أن نفهم استقبال الكعبة والإتيان بأربع ركعات للظهر في كل ركعة سجدتان وثلاث للمغرب من قوله تعالى { وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وركعوا مع لراكعين } ولا في وسعنا أن نفهم إعطاء شاة من خمس من الإبل وما يجب من الزكاة من البقر والغنم من قوله تعالى { وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وركعوا مع لراكعين } ولأجل هذا النص منعنا من أن يكون تعالى يكلفنا ما لا نطيق وأما لو شاء ذلك تعالى لكان حسنا في العقل ولو أنه تعالى كلفنا شرب ماء البحر في جرعة ثم يعذبنا إن لم نفعل لكان ذلك عدلا وحقا ولكنه تعالى قد تفضل علينا وآمننا من ذلك ولم يكلفنا ما لا نطيق فله الحمد والشكر لا إله إلا هو
وكذلك قوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم } ليس فيها بيان كيفية تلك الصدقة ولا متى تؤخذ أفي كل يوم أم في كل شهر أم في كل عام أم مرة في الدهر ولا مقدار ما يؤخذ ولا من أي مال ففي قوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم } عمومان اثنان أحدهما الأموال والثاني الضمير الراجع إلى أرباب الأموال فأما عموم الأموال فقد صح الإجماع المنقول جيلا جيلا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه لم يوجب الزكاة إلا في بعض الأموال دون بعض مع أن نص الآية يوجب ذلك لأنه إنما قال تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم } فالظاهر يقتضي أن ما أخذ مما قل أو كثر فقد أخذ من أموالهم كما أمر وقوله عليه السلام إذ سئل عن الحمير أفيها زكاة أم لا على أن هذا اللفظ ليس مرادا به جميع الأموال وقد قال عليه السلام إن أموالكم عليكم حرام وقال عليه السلام كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ونص عليه السلام على أنه لا يحل له أخذ مال أحد إلا بطيب نفسه وليست الزكاة كذلك بل هم مقاتلون إن منعوها
وأيضا فإن لفظة { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم } في قوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم } إنما هي (3/391)
للتبعيض وأيضا فلو كانت الأموال مرادة على عمومها لكان ذلك ممتنعا لأن ذلك كان يوجب الأخذ من كل برة ومن كل خردلة ومن كل سمة لأن كل ذلك أموال فلما صح بكل ما ذكرنا أنه تعالى لم يرد كل مال وجب طلب معرفة الأموال التي تجب فيها الزكاة ومقدار ما يؤخذ منها ومتى يؤخذ من نص آخر أو من الإجماع إذ قد ثبت أن المأخوذ هو شيء من بعض ما يملكونه فلا بد من بيان ذلك الشيء المراد فإنه إذا أخذ شيء يقع عليه اسم شيء واحد من جميع أموالهم فقد أخذ من أموالهم وكان هذا أيضا موافقا للظاهر وغير مخالف له البتة وليس إلا هذا الوجه إلا أن يوجب أكثر منه نص أو إجماع لأنه قد تعذر الوجه الثاني وهو أن يؤخذ من كل مال جزء وإذا لم يكن لشيء إلا قسمان فسقط أحدهما ثبت الآخر فلو لم تأت نصوص وإجماع على الأخذ من المواشي والذهب والفضة والبر والشعير والتمر لما وجب إلا ما يقع عليه اسم أخذ لأجزأ إعطاء برة واحدة أو شعيرة واحدة أو أي شيء أعطاه المرء ولكن النصوص والإجماع على ما ذكرنا فرض الوقوف عندهما
وأما العموم الثاني وهو عموم أرباب الأموال فبين واضح وهو من كل إنسان ذي مال فوجب استعماله على عمومه إذ عرف مقدار ما يؤخذ ومتى يؤخذ ومما يؤخذ فلا مخرج من ذلك إلا ما أخرجه نص أو إجماع على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى
وأما النص المفسر الذي يفهم معناه من لفظه وكان يمكننا استعماله على عمومه ولو لم يأتنا غيره فأتى نص آخر أو إجماع فخص منه بعض ما يقع عليه الاسم فإنه لا يخرج منه إلا ما أخرج النص والإجماع والحجة في ذلك هي الحجج التي أثبتنا بها القول بالعموم في أول هذا الباب الذي نحن الآن في فصوله ويلزم من قال لا أبقي منه إلا ما جاء نص أو إجماع في بقائه أن يبيح دماء جميع الأمة إلا ما اتفق على تحريم دمه لأن قوله عليه السلام دماؤكم وأموالكم عليكم حرام لقد اتفق على أنه ليس على عمومه بل لخص منه كثير كالزناة المحصنين وقتلة الأنفس وغيرهم فيلزمهم أن يقتلوا شارب الخمر في الرابعة هذا لو لم يأت فيه نص ولكن على أصلهم الفاسد وأن يقتل الساحر إن كان حنفيا أو شافعيا وأن يقتل السيد بعبده والمؤمن بالكافر إن كان مالكيا وإلا فقد تناقضوا وأقروا بأن العموم الذي قد خص بعضه فإن باقيه (3/392)
على العموم أيضا إلا أن يخصه نص أو إجماع ونحن نرى إن شاء الله تعالى مسألة فيها تخصيص مترادف مرآة لكيفية العمل فيما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق فنقول قال الله عز و جل { هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم } فلا نص أكثر معاني ولا أعلم من هذا وفيه إباحة النساء والمآكل كلها وكل ما في الأرض
وقال تعالى { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن لله خبير بما يصنعون } فلا شيء بعد النص المذكور آنفا أعم ولا أكثر معاني من هذا النص الثاني
فلو لم يرد غيرهما لحرم النكاح جملة والوطء بالبتة ولكان النساء كلهن مستثنيات مما أبيح النص الأكثر المذكور آنفا فلو لم يرد غير هذين النصين لحرم النساء جملة
وقال تعالى { وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا } فكان هذا مبيحا لما حظر النص المذكور الذي فيه حفظ الفروج لو لم يرد غير هذه النصوص لوجب الأخذ بالتحريم لأن الآية التي فيها إباحة النكاح موافقة للنص الأكثر الذي فيه إباحة كل ما في العالم وإنما هي تأكيد وتكرار كسائر ما في القرآن من التكرار والتأكيد الذي أورده الله تعالى كما شاء { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } كما كرر تعالى أخبار الأنبياء عليهم السلام { وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وركعوا مع لراكعين } و { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فكرر إباحة نكاح النساء كما شاء
ولسنا نقول إن شيئا من هذه النصوص قبل كل شيء ولا أن شيئا منها بعد شيء وسواء نزل بعضها قبل بعض أو نزلت معا لا فرق عندنا بين شيء من ذلك وليس شيء مما نزل بعد رافعا لشيء نزل قبل إلا بنص جلي في أنه رافع له أو بإجماع على ذلك وإلا فهو مضاف إليه ومعمول به معه ضرورة لا بد من ذلك فلما (3/393)
صح ما قلنا من استثناء تحريم النكاح جملة مما أباح تعالى لنا ووجدناه تعالى قد استثنى إباحة النكاح من حفظ الفروج استثناء تاما بقوله تعالى { ولذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن بتغى ورآء ذلك فأولئك هم لعادون } فصح يقينا أن الزواج وملك اليمين مستثنى مما حرم من إهمال الفروج
ثم وجدها هذا الاستثناء يحتمل أن يؤخذ به على عمومه فيخص به من آية التحريم أشياء كثيرة منها الأختان بملك اليمين والأم والابنة بملك اليمين والكتابية بملك اليمين والحائض والمحرمة والصائمة فرضا والحريمة بصهر أو رضاع ويحتمل ألا يخرج من النص الذي فيه تحريم إهمال الفروج جملة إلا ما خص نص جلي أو إجماع متيقن على إخراجه منه فلو أخرجنا من النص الذي فيه تحريم إهمال الفروج كل ما يحتمل إخراجه لكنا قد أسقطنا ما تيقنا وجوبه بما شككنا في إباحته ونحن إذا لم نخرج منه إلا ما جاء نص جلي أو إجماع بإخراجه منه كنا قد علمنا بما تيقنا لزومه لنا من النص المبيح للوطء وعلمنا أيضا بما تيقنا وجوبه من النص الذي فيه التحريم إذ في استعمالنا ما في إية إباحة الوطء كله رجوع إلى الأصل الأول الذي فيه إباحة كل ما في الأرض وترك ما قد لزم إخراجه منه بيقين
فلو فعلنا ذلك لكنا متناقضين لأنها ثلاثة نصوص كما ترى نص عام ثم آخر دونهما في العموم ثم ثالث دونهم معا في العموم
فإن قال قائل بل نأخذ بالنص الأخص قلنا له وبالله التوفيق إنك إن فعلت ذلك رجعت إلى قولنا لأننا نوجد لا نصا أخص من النص الذي فيه إباحة الوطء فيلزمك أن تغلب هذا الأخص الذي هو نص رابع وإلا نقضت قولك وهو قول الله تعالى { ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } والمشركات من الكتابيات هن بعض من تملك أيماننا وكذلك الأختان إذ ملكناهما
وأما أصحابنا القياسيون فتناقضوا تناقضا فاحشا ظاهر الخطأ لأنهم عمدوا إلى قوله عز و جل { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما } (3/394)
إلى قوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما } وإلى قوله سبحانه وتعالى { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما } وهذه كما ترى آيات محرمات لنساء موصوفات وعمدوا إلى قوله تعالى { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } فاستثنوا الأختين بملك اليمين والأم وابنتها بملك اليمين والعمة وبنت أخيها بملك اليمين والخالة وبنت الخالة بملك اليمين من الآية التي فيها إباحة ملك اليمين
إلا أن يكون أختان معا أو أم وابنة أو عمة وبنت أخيها فإن أولئك لا يحل وطؤهن ثم إن يستثنوا الإماء الكتابيات بما أباحوه من ملك اليمين فلو أن عاكسا عكس فأباح الأختين والأم والابنة بملك اليمين وحرم الأمة الكتابية بقوله تعالى { ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } أي فرق كان يكون بينهم إلا التحكم بلا دليل
فإن قالوا قد أبيحت الكتابية قيل لهم أخطأتم إنما أبيحت بالزواج لقوله تعالى { ليوم أحل لكم لطيبات وطعام لذين أوتوا لكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ولمحصنات من لمؤمنات ولمحصنات من لذين أوتوا لكتاب من قبلكم إذآ آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بلإيمان فقد حبط عمله وهو في لآخرة من لخاسرين } فإنما أباح المحصنات الكتابيات بشرط إيتائهن الأجور وإيتاؤهن الأجور لا يكون إلا في الزواج لا في ملك اليمين وهذا ما لا شك فيه عند أحد فبطل أن يكون المراد بالإباحة المذكورة الإماء الكتابيات فبقين على أصل التحريم
ولو أننا رضينا لأنفسنا من الحجة بنحو ما يرضون به لأنفسهم لقلنا لهم إن قوله تعالى { ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } إنما قصد به الإماء لقوله تعالى في أثر ذلك { ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } ولكنا في ذلك نبين بأقوى مما يحتاجون به في أكثر مسائلهم مثل احتجاجهم في إيجاب الخطبة بقوله تعالى { وإذا رأوا تجارة أو لهوا نفضوا إليها وتركوك قآئما قل ما عند لله خير من للهو ومن لتجارة ولله خير لرازقين } ومثل احتجاجهم في عتق الأخ بقوله تعالى { قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي ففرق بيننا وبين لقوم لفاسقين } ومثل احتجاجهم في المنع من النفخ في الصلاة بقوله تعالى { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما } ومثل احتجاجهم في القسامة (3/395)
ببقرة بني إسرائيل
ومثل هذا من التمويه البارد الفاسد الداخل في حدود هذيان المبرسمين ولكن الله عز و جل قد أغنانا بالنصوص الظاهرة التي لا مجال للتأويل فيها وبنصره تعالى لنا عن تكلف بنيات الطرق وادعاء ما لا يصح ومن أمكنته السيوف لم يفتقر إلى المحاربة بحطام التبن ولا سيما من قال منهم إن النص إذا خص بعضه لم يؤخذ من باقيه إلا ما أجمع عليه فإنه يقال له في هذا المكان إباحة ملك اليمين قد خرج منه بالنص بالإجماع أشياء كثيرة فمنها الذكور والبهائم والأم من الرضاع والأخت من الرضاع وكل حريمة بصهر ورضاع وكل حائض وكل صائمة فرض وأخرجت أنت منه الأختين والأم والابنة والعمة والخالة فيلزمك ألا تبيح مما بقي إلا ما اتفق عليه ولم يتفق على إباحة الأمة الكتابية بملك اليمين ولا جاء بها نص
فواجب عليك القول بتحريمها
ويقول لسائرهم أنتم أهل القياس فقيسوا ما اختلفنا فيه من وطء الأمة الكتابية بملك اليمين على ما اتفقنا عليه من تحريم الأختين بملك اليمين وسائر ما ذكرنا ويقال للمالكيين منهم أنتم تدخلون التحريم بأدق سبب ولا تدخلون التحليل إلا بأبين وجه فحرموا الوطء للأمة الكتابية إذ لا سبب معكم في تحليلها لا دقيق ولا جليل ولكم في تحريمها أبين سبب فإن ادعوا إجماعا أكذبهم ابن عمر فقد صح عنه تحريم الكتابيات جملة وتلا الآية التي ذكرنا
قال علي وأما جمهور أصحابنا الظاهريين فإنهم سلكوا طريقة لهم في ترك ما ظاهره التعارض قد بينا بطلانها فجعلوا قوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما } { ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } { ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } معارضا لقوله تعالى { ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما } ورجعوا إلى الأصل بالإباحة
قال علي وهذا خطأ شديد من كل وجه وحتى لو كان التعارض موجودا وكان (3/396)
العمل صحيحا لكان ههنا باطلا فكيف والتعارض غير موجود لقوله تعالى { يريد لله أن يخفف عنكم وخلق لإنسان ضعيفا } ولقوله تعالى والعمل المذكور عنهم فاسد بترك ما قد ثبت اليقين بوجوب الطاعة له
قال علي ولو كان العمل المذكور صحيحا لكان الرجوع إلى قوله تعالى { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن لله خبير بما يصنعون } أولى منه إلى إباحة قد خص منها حفظ الفروج ولكن الصواب ما بينا من استثناء الأقل معاني من الأكثر والعجب كل العجب من تحريمهم الأمة الوثنية بملك اليمين بلا خلاف منهم بقوله تعالى { ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } وإباحتهم لأمة الكتابية بملك اليمين بلا نص فيها أصلا ولا إجماع فخصوا قوله تعالى { ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } بلا دليل وفرقوا بين الأمة الوثنية والكتابية بلا دليل
فإن قالوا إن قوله تعالى { ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } إنما قصد به الزواج اخطؤوا من وجهين أحدهما تخصيص العموم بلا دليل والثاني تناقضهم وتحريمهم الأمة الوثنية بملك اليمين وإنما جاء نص الإباحة من الكتابيات بالزواج فقط فحرام أن يستثنى من تحريم المشركات بشيء غير الزواج وحده الذي استثني بالنص ولا سيما وهم يبطلون القياس إنما أباح الإماء بملك اليمين من أباحهن قياسا على الحرائر منهن في الزواج والقياس باطل فلم يبق إلا أن يقولوا إن المشركات اسم لا يقع على الكتابيات فإن قالوا هذا وكان القائل مالكيا أو شافعيا تناقض في أنهم حملوا قوله تعالى { يأيها لذين آمنوا إنما لمشركون نجس فلا يقربوا لمسجد لحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم لله من فضله إن شآء إن لله عليم حكيم } على الكتابي كما حملوه على الوثني
وإن كان حنفيا تناقض في حمله قوله تعالى { فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم } الآية على الكتابي كحملهم إياها على الوثني (3/397)
وبرهان ذلك قبولهم إسلامهم إن أسلم وليس في آية حرب أهل الكتاب إلا { قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون } فقط
وبالله التوفيق
ومما احتج به عيسى بن أبان في قوله إن النص إذا خص منه شيء وجب حمل سائره على الخصوص أن قال إن ذلك مثل شاهدين جرحا بقصة ما فوجب على سائر شهادتهما في كل شيء
قال علي بن أحمد وهذا القول فمع ما فيه من الاضطراب وتشبيهه بشيء لا يشبهه إقدام عظيم على الله عز و جل وعلى رسوله صلى الله عليه و سلم ولو كان القياس حقا وقد أعاذ الله تعالى من ذلك لكان هذا القياس أحمق قياس في الأرض فكيف والقياس كله باطل
ولله تعالى الحمد
فيقال لعيسى ليت شعري ما الذي شبه كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه و سلم الذي ألزمنا الله تعالى توقيره والطاعة له وحرم علينا معصيته بكلام فاسقين قد ثبت جرحتهما وقد أمرنا تعالى ألا نقبل خبرهما
بل لقائل هذا القول المردود مثل السوء ولله تعالى ولرسوله المثل الأعلى وهلا قال إذ لم يوفقه الله تعالى لقبول الحق إن النص الذي خص بعضه بمنزلة شاهدين عدلين شهدا لأبيهما فلم يقبلا على مذهبه الفاسد فلا يكون ذلك موجبا لرد شهادتهما في سائر ما شهدا به لغير أبيهما فهذا قياس أصح من قياسه لو كان القياس حقا فكيف والقياس باطل كله فاسد إلا أن الذي علمناهم أمثل لأننا مأمورون بقبول شهادة العدلين كما نحن مأمورون بقبول النص الوارد من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم والعمل به فإذا سقط عنا قبول ما شهدا به لدليل قام على ذلك في بعض المواضع لم يوجب ذلك سقوط سائر شهادتهما في سائر المواضع وكذلك النص اللازم لنا قبوله إذا قام دليل على سقوط بعضه في بعض المواضع لم يكن ذلك موجبا لسقوط باقيه وسائره
فهذا أشبه مما قال لأن الجرح الذي نظر به مسقط العدالة بالجملة وليس خصوص النص بمسقط للعمل به جملة
ولو شبه الشاهد المجرح عدالته بالمنسوخ من الملك والشرائع فأوجب بذلك سقوط جميعها عنا لكان أدخل في التمويه وألطف في التشبيه ولكنهم مع قولهم بالقياس (3/398)
وتركهم له كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه و سلم فإنك تجدهم أجهل الخلق بترتيب باطلهم وأشدهم اضطرابا فيه وهكذا يكون ما كان من عند غير الله
ولله الحمد على ما وفق بمنه
قال علي ونسي عيسى نفسه إذ قال بما ذكرنا من أن النص إذا خص بعضه لم يؤخذ من باقيه إلا ما اتفق على الأخذ به منه فهلا تذكر على هذا الأصل إذ قال في نهيه صلى الله عليه و سلم عن قتل النساء إن المرتدة لا تقتل وهذا نص قد خص منه الزانية المحصنة والقاتلة فهلا أسقط أيضا منه المرتدة ولم يأخذ منه إلا ما اتفق عليه من المنع من قتل الحربيات المأسورات ولكن القوم إنما هم ناصرون لما حضرهم من مسائلهم لا يبالون بما أصلوا في ذلك ولا بما احتجوا ولا يستحيون من نقضه بعد ساعة وإبطاله بأصل مضاد للأصل الأول على حسب ما يرد عليهم من المسائل كل ذلك طاعة لمالك وأبو حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وقلة مبالاة لمخالفة القرآن وترك كلام النبي صلى الله عليه و سلم
وبالله تعالى نستعين من الخذلان ونسأل المزيد من التوفيق
قال علي ولا فرق بين تخصيص بعض آية أو حديث لم يرد في ذلك البعض تخصيص لكن لأنه قد خص بعض آخر منهما وبين من أراد من ذلك أن يخص كل آية وكل حديث لأنه قد وجد آيات مخصوصات وأحاديث مخصوصة وكل هذا تحكم بلا دليل أو بدليل فاسد
وفي هذا إبطال الشريعة ومن استجاز ما ذكرنا وصوبه لزمه أن يقول بنسخ كل آية لأنه قد وردت آيات منسوخات
وهذا يخرج إلى إبطال الإسلام ويقال لهم ما الفرق بينكم وبين من خص سورة بكمالها أو قال بنسخ كل ما فيها لأنه وجد بعضها منسوخا ومخصوصا
وهذا ما لا يقولونه وهو موجب قولهم الفاسد
قال علي واحتج بعض من ذهب هذا المذهب فقال من حلف أن هذه الآية أو الحديث مخصوصا فيما قد قام الدليل على تخصيص بعضهما لم يحنث
قال علي يقال له صدقت
ومن نازعك في هذا حتى تلحقه ونحن نقر لك بأن هذا النص مخصوص إذا قام الدليل على خصوص بعضه ولكن الباقي بعد ما خص مأخوذ على موجبه وعلى كل ما اقتضاه لفظه بعد ما خرج منه ونحن على ما لزمنا من وجوب الطاعة له (3/399)
قال علي ويلزم من قال بهذا أن يقول متى وجدت عددا قد استثني منه شيء وجب أن أسقطه كله ومتى وجدت إنسانا قد وجب أخذ بعض ماله لم أمتنع من أخذ باقته إلا أن يمنعني منه إجماع ومن قال هذا لزمه في قول الله تعالى { ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم لطوفان وهم ظالمون } أن يقول لعله قد خصت منها خمسون أخر بالاستثناء فيكون مقامه فيهم تسعمائة عام فقط أو أقل وهذا فساد في العقل وكفر في الإسلام
فإن قال قائل قد رخص للزبير وعبد الرحمن في الحرير لحكة كانت بهما فقلتم أنتم هو عام لكل من كان في مثل حالهما
قيل له هذا هو نص قوله تعالى { وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر سم لله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما ضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بلمعتدين } فكل مضطر إلى محرم فهو له حلال وهذا الحديث الذي فيه إباحة الحرير لعبد الرحمن والزبير هو بعض الآية المذكورة وهو بمنزلة مفت سمع أن اليمين على من ادعي عليه فأوجب اليمين بذلك على زيد وعلى عمرو وعلى خالد لأنهم مدعى عليهم فأصاب في ذلك وكل هؤلاء قد اقتضاهم الحديث المذكور
فإن قال قائل فهلا عممتم الآية التي ذكرتم في قوله { وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر سم لله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما ضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بلمعتدين } فأبحتم به أكل الميتة للباغي إذا اضطر إليها وأنتم لا تفعلون ذلك قيل له وبالله تعالى التوفيق إنما منعناه لوجهين أحدهما أن الباغي مستثنى من جملة المضطرين وقد قلنا إنه يجب استثناء الأقل معاني من الأكثر معان
والوجه الثاني أن الباغي مضطر لأنه لو ترك البغي لارتفعت ضرورته من أجله فهو مختار لحاله غير مضطر إلى الميتة لأنه لو أراد ترك البغي لكان قادرا على ذلك ولحلت له الميتة حينئذ لضرورة إن كانت به إنما المضطر الذي لا يقدر على دفع ضرورته ومن سلك طريقا وهو باغ وتحصن في حصن وهو باغ فهو المختار لعدم التصرف فليس مضطرا فليس له دخول في جملة من أبيحت له الميتة
وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل (3/400)
فصل في مسائل من العموم والخصوص
قال علي ومما تناقض فيه القائلون بتخصيص النصوص بالقياس أن قالوا بعموم قوله تعالى { ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بلمعروف ولله بما تعملون خبير } فقالوا المدخول بها وغير المدخول بها سواء ولم يقيسوا غير المدخول بها في الوفاة على غير المدخول بها في الطلاق كما قاس بعضهم الإحداد على المطلقة ثلاثا على الإحداد على المتوفى عنها زوجها فإن كان القياس حقا فليستعملوه في كل مشتبهين وإن كان باطلا فليجتنبوه
قال ومما خص بالإجماع قوله تعالى { يوصيكم لله في أولادكم للذكر مثل حظ لأنثيين فإن كن نسآء فوق ثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها لنصف ولأبويه لكل واحد منهما لسدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه لثلث فإن كان له إخوة فلأمه لسدس من بعد وصية يوصي بهآ أو دين آبآؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من لله إن لله كان عليما حكيما } فخص بنص السنة العبد بأنه لا يرث وخصت السنة أيضا الكافر بأنه لا يرث المسلم ولا المسلم الكافر
وقال تعالى { دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما } وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان فخص الكتاب قائل الخطأ بوجوب الكفارة عليه وخص الإجماع المنقول من أحدث ناسيا أنه منتقض الوضوء وقد ادعى قوم أن حد العبد مخصوص بالقياس على حد الأمة
قال علي وقد أفكوا في ذلك بل جاء النص بأن حد العبد مخالف لحد الحر في حديث دية المكاتب من طريق علي رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنهما
وقالوا أيضا في قوله تعالى { ولبدن جعلناها لكم من شعائر لله لكم فيها خير فذكروا سم لله عليها صوآف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا لقانع ولمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون } أنه خص منها جزاء الصيد في أنه لا يؤكل منه بالإجماع وهدي المتعة قيس عليه
قال علي هذا خطأ إنما أمر تعالى بالأكل من التطوع ما لم يعطب قبل محله (3/401)
وأما كل هدي واجب فقد قال تعالى { يا أيها لذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بلباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن لله كان بكم رحيما } فلما كانت هذه الواجبات كلها مأمورا بإخراجها من أموالنا وكان ذلك مسقطا لملكنا عنها كانت قد انتقلت إما إلى ملك المساكين وإما إلى ملك الله عز و جل لا بد من أحد الوجهين المذكورين وما خرج عن ملكنا فلا يحل لنا أن ننصرف فيه إلا بنص مبيح أو إجماع والعجب من حملهم أمر الله تعالى بالأكل منها والإطعام على أن ذلك غير واجب ثم أرادوا أن يخصموا منها بقياس لا يشبه ما أرادوا تشبيهه به نعني هدي المتعة بهدي الجزاء فهلا إذ قاسوا هدي المتعة على هدي الجزاء قاسوا صيام الجزاء على صيام المتعة ولكن هذا في تناقضهم يسير جدا وأيضا فلا إجماع في تحريم الأكل من جزاء الصيد وقد روينا عن بعض التابعين إباحة الأكل منه
قال علي وقال بعضهم كيف تتركون ظاهر القرآن الذي من أنكره أو شك فيه كفر لخبر واحد لا تكفرون ما خالفكم فيه ولا تفسقونه قال علي فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق القطع على وجوب الائتمار لهما معا واحد بالدلائل التي قد ذكرناها في باب إثبات العمل بخبر الواحد من هذا الكتاب وكلاهم وحي من عند الله تعالى والقطع في المراد منهما بالمغيب منهما معا إنما هو على حسب الظاهر منهما وإنما يكفر من أنكر تنزيل القرآن أو تنزيل بعضه فقط وأما إن أنكر الأخذ بظاهره وتأول في آياته تأويلات لا يخرج بها عن الإجماع فإننا لا نكفره ما لم تقم الحجة عليه كما لا نكفر من خالفنا في قبول خبر الواحد ما لم تقم الحجة عليه وكلا الأمرين سواء ولو أن امرأ يقول لا أقبل ما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لكان كافرا مشركا كمن أنكر القرآن أو شك فيه ولا فرق وبالله تعالى التوفيق (3/402)
فصل من الكلام في العموم
قال علي وإذا ورد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم فعل فعلا كذا نظرنا فإن كان عرضا منتهكا أو دما مسفوحا أو مالا مأخوذا علمنا أن ذلك واجب لأنه عليه السلام حرم الدماء والأموال والأعراض جملة إلا بحق فما أخذ عليه السلام من ذلك علمنا أنه فرض أخذه وأنه مستثنى من التحريم المذكور من ذلك جلد الشارب وهمه عليه السلام بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة وهو عليه السلام لا يهم إلا لحق واجب لو أصر عليه المهموم فيهم لأنفذه عليهم لا يحل لأحد أن يظن غير ذلك ومن قال إنه عليه السلام يتوعد بما لا يفعل فقد نسب إليه الكذب وناسب ذلك إليه كافر ومثل ذلك القضاء باليمين مع الشاهدين وغير ذلك كثير
فصل من العموم
قال علي العموم قسمان منه مفسر ومنه مجمل فالمجمل هو الذي لا يفهم من ظاهره معناه والمفسر قد ذكرناه وأما المجمل فلا بد من طلب المراد فيه من أحد موضعين إما من نص آخر وإما من إجماع فإذا وجدنا تفسير تلك الكلمة في نص آخر قلنا به وصرنا إليه ولم نبال من خالفنا فيه ولا استوحشنا منه كثروا أو قلوا صغروا أو جلوا ولم نتكثر بمن وافقنا فيه كائنا من كان من قديم أو من حديث وقليل وكثير وليس ممن كان معه الله ورسوله صلى الله عليه و سلم قلة ولا ذلة ولا وحشة إلى أحد ولا فاقة إلى وفور عدد فإذا لم نجد نصا آخر نفسر هذا المجمل وجب علينا ضرورة فرض طلب المراد من ذلك المجمل في الإجماع المتيقن المنقول عن جميع علماء الأمة الذين قال تعالى فيهم { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } وكيفية العمل في ذلك أن نأخذ بما أجمعوا عليه من (3/403)
المراد بمعنى ذلك المجمل ونترك ما اختلفوا فيه فهذا هو حقيقة ما أمرنا به من الأخذ بالإجماع وترك كل قول لم يقم عليه دليل
وهذا الذي نسميه استصحاب الحال وأقل ما قيل فإن قال قائل إن هذان اسمان مختلفان في المعنى فما الفرق بينهما ولم صرتم إلى أحدهما في بعض الأمكنة وإلى الآخر في أمكنة أخرى وما حد المواضع التي تأخذون فيها باستصحاب الحال وما حد المواضع التي تأخذون فيها بأقل ما قيل وأنتم تسمون فعلكم في كلا الموضعين اتباعا للإجماع وإجماعا صحيحا وأنتم لا تسمون من أنفسكم بإجمال لا تستطيعون تفسيره وتعيبون بذلك أصحاب القياس أشد عيب قيل له وبالله تعالى التوفيق
صدقت في صفتك وأحسنت في سؤالك والجواب عما سألت عنه إن الذي عملنا فيه بأن سميناه أقل ما قيل فإنما ذلك في حكم أوجب غرامة مال أو عملا بعدد لم يأت في بيان مقدار ذلك نص فوجب فرضا ألا نحكم على أحد لم يرد ناقض في الحكم عليه إلا بإجماع على الحكم عليه وكان العدد الذي قد اتفقوا على وجوبه وقد صح الإجماع في الحكم به وكان ما زاد على ذلك قولا بلا دليل لا من نص ولا إجماع فحرام على كل مسلم الأخذ به وأما الذي عملنا فيه بأن سميناه استصحاب الحال فكل أمر ثبت إما بنص أو إجماع فيه تحريم أو تحليل أو إيجاب ثم جاء نص مجمل ينقله عن حاله فإنما ننتقل منه إلى ما نقلنا النص فإذا اختلفوا ولم يأت نص ببرهان على أحد الوجوه التي اختلفوا عليه وكانت كلها دعاوى فإذا ثبت على ما قد صح الإجماع أو النص عليه ونستصحب تلك الحال ولا ننتقل عنها إلى دعاوى لا دليل عليها وهذا القسم موجود كثيرا فهذا الجواب مستوعب لبيان جميع الوجوه التي سألت عنها ومبين للحد الذي سألت عنه وللفرق الذي سألت عنه ولوجوب المصير إلى ما سألت عن دليل وجوب المصير إليه وبيان كون كلا الوجهين إجماعا وبالله تعالى التوفيق
قال علي ومن خالف الطريق التي ذكرنا فلا بد له ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يقول برأيه بلا دليل في دين الله عز و جل وإما أن يقلد وكل ذلك (3/404)
باطل فلا بد له من الباطل
قال علي ونحن نمثل من ذلك أمثله لتكون أبين للطالب فنقول وبالله تعالى التوفيق إن ذلك مثل قوله تعالى { قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون }
ومثل ذلك قوله تعالى { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما } وقوله تعالى { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } وقوله تعالى { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتمآسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بلله ورسوله وتلك حدود لله وللكافرين عذاب أليم } وقوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم } وقوله تعالى { للذين يؤلون من نسآئهم تربص أربعة أشهر فإن فآءوا فإن لله غفور رحيم } وقوله تعالى { وليستعفف لذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم لله من فضله ولذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال لله لذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على لبغآء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض لحياة لدنيا ومن يكرههن فإن لله من بعد إكراههن غفور رحيم } وقوله تعالى { يأيها لذين آمنوا لا تقتلوا لصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من لنعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ لكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا لله عما سلف ومن عاد فينتقم لله منه ولله عزيز ذو نتقام } وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها وما من صاحب بقر لا يؤدي حقها وما من صاحب فضة أو ذهب لا يؤدي حقها إلا فعل به يوم القيامة كذا وكذا وجاء النص بإيجاب النفقة على الزوجات وذوي الرحم وملك اليمين
فأما قوله تعالى { قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون } فإنه حكم في مشركين قد أمرنا بقتلهم وأخذ أموالهم وسبي نسائهم وأطفالهم وأوجب كل ذلك علينا وصح بالنص إيجاب دينار على الواحد منهم فصح أن من بذل منهم أقل من دينار لم يجز حقن دمائهم بذلك فكان الدينار أقل ما قال قائلون إنه جزية يلزم قبولها بالنص وليس في أكثر من ذلك حد ووقف عنده فيقول القائل هو أكثر ما قيل فلو لم يكن ههنا حد يوقف عنده لما وقع عقد ذمته أبدا لأنهم كانوا يكونون إنما بذلوا شيئا طلب منهم أكثر وهذا لا نهاية له وليس من حد حدا بأولى ممن حد حدا آخر فهذا لا ينضبط أبدا فصح أن الحد الأول هو الواجب أخذه وهو الدينار (3/405)
إذا بذلوه ولم يطيقوا أكثر منه وليس في النص لأخذ أكثر من الدينار ممن أطاقه وبالله تعالى التوفيق
وأما زكاة البقر فقد قدمنا ذكر خبر معاذ رضي الله عنه وأن مسروقا أدركه وحضر حكمه وشاهده هذا ما لا شك فيه ولم يكن أخذ زكاة البقر من عمل معاذ نادرا ولا خفيا بل كان فاشيا ظاهرا معلنا مرددا كل عام كثيرا فهذا غاية صحة النقل الموجب للعلم والعمل وكذلك عمله ونقله في الجزية فصح أن زكاة البقر والجزية مسندان صحيحان عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من طريق معاذ
وأما عدد الجزية ومقدارها فقد ذكرناه آنفا فهو اللازم إلا أن يتفقوا معنا باختيارهم على أكثر أو يتملكوا دون عهد فيلزموا ما يطيقون ويحرم بذلك دماؤهم وسبيهم
وأما الصغار عليهم فإن النص قد ورد بإلزامه إياهم فكل ما وقع عليه اسم صغار فنحن نأتيه فيهم إلا ما منعنا منه نص أو إجماع فقط ولذلك أبحنا دماءهم إن ركبوا فرسا أو حملوا سلاحا أو تكنوا بكنى المسلمين أو تشبهوا بهم أو سبوا مسلما أو أهانوه أو خالفوا شيئا من الشروط التي قد جمعناها في كتاب ذي القواعد لأنه عموم واجب أخذه كله وحمله على كل ما اقتضاه اسمه وهذا بخلاف ما جاء عن المسلمين فإن المسلمين قد جاء النص فيهم بتحريم دمائهم وأموالهم وأعراضهم والإضرار بهم وأوجب الله علينا كرامة كل مسلم بنهينا عن التحاسد والتنازع وأن يحقر أحدنا أخاه المسلم وأمرنا بالتراحم والتعاطف وهذا بخلاف ما أمرنا به في المشركين فلا يحل من مال مسلم ولا من عرضه ولا من دمه ولا من أذاه إلا ما صح بإيجابه فلذلك قلنا في الدية المأخوذة من المسلمين بأقل ما قيل
ولما صح تحريم أموال أهل الذمة بالجزية المتفق على قبولها وجب أيضا ألا نحكم عليهم بعد تيقنا تحريم دمائهم وأموالهم وسبيهم إلا بأقل ما قيل عليهم واستصحابا للحال التي قد تيقنا وجوبها علينا فيهم وإنما حرم بعد الجزية مال الذمي استصحابا للحال التي قد تيقنا وجوبها عليهم فيها فلذلك لم نقل أيضا في الدية المأخوذة منهم في قتل بعضهم بعضا إلا بأقل ما قيل وذلك ثلثا عشر دية المسلم إما ثمانمائة درهم وإما (3/406)
ستة أبعرة وثلثا بعير ما لم ينقضوا ذمتهم فيعودوا بنقضها إلى ما كانوا عليه قبل الذمة بالإجماع والنص وبالله التوفيق
وأما قوله تعالى { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } فقد بين ذلك نص عن النبي صلى الله عليه و سلم جلي
وأما قوله تعالى { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتمآسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بلله ورسوله وتلك حدود لله وللكافرين عذاب أليم } فإننا صرنا في تفسير مقدار هذا الإطعام إلى نص ورد في الواطىء خاصة وصرنا في كفارة الظهار إلى أقل ما قيل في ذلك وهو موافق للنص الوارد في كفارة الواطىء
وأما قوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم } فإننا صرنا في ذلك إلى بيان نصوص وردت في ذلك وتركنا ما لم يأت فيه نص من الأموال فلم نأخذ منه شيئا لما ذكرنا من تحريم أخذ مال مسلم بغير طيب نفسه فحرم أن يؤخذ من مال مسلم شيء أصلا إلا بنص بين جلي أو إجماع لأن قوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم } هو مستثنى من جملة تحريم أموالهم فلا يخرج من ذلك النص الأكثر الأعم إلا ما بينه نص أو إجماع
وأما قوله تعالى { لا جناح عليكم إن طلقتم لنسآء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على لموسع قدره وعلى لمقتر قدره متاعا بلمعروف حقا على لمحسنين } فإنما نأخذ في مقدار متعة المطلقة بما أوجبه البرهان قبل استصحابا لما قلنا من تحريم مال المسلم جملة
وأما قوله { وليستعفف لذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم لله من فضله ولذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال لله لذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على لبغآء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض لحياة لدنيا ومن يكرههن فإن لله من بعد إكراههن غفور رحيم } فإنا لا نجبر السيد على قبول أقل من قيمة المكاتب ولا نجبر المكاتب على أكثر مما يطيق لإجماع القائلين بإيجاب ذلك وهم أهل الحق على إيجاب المقدار الذي ذكرناه
وأما قوله تعالى { يأيها لذين آمنوا لا تقتلوا لصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من لنعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ لكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا لله عما سلف ومن عاد فينتقم لله منه ولله عزيز ذو نتقام } فإنا صرنا في ذلك إلى مقتضى ظاهر الآية على ما بيناه في كتابنا في المسائل لأن الأصل ما قد ذكرنا من تحريم مال المسلم جملة ومن أنه لا يحل لأحد أن يفرض شريعة على أحد لا من صيام ولا من غيره إلا ما أوجبه نص وأما قوله عليه السلام ما من صاحب إبل وما من صاحب غنم وما من صاحب بقر وما من صاحب ذهب (3/407)
فإنا صرنا في بيان مقدار الإبل والغنم والبقر المأخوذ منها ومقدار الحق المأخوذ منها إلى نصوص واردة في ذلك مبينة بيانا جليا ولذلك أوجبنا حلبها يوما وردها فرضا
وأما الذهب فإنه لا نص في مقدار ما يؤخذ منه الحق منها ولا في مقدار الحق المأخوذ منها فصرنا في ذلك إلى الإجماع ضرورة وقد قدمنا أنه لا يحل من مال مسلم إلا ما أوجبه نص أو إجماع فلم نوجب في الذهب إلا أقل ما قيل فلم نأخذ أقل من أربعين دينارا من ذهب ولا من الزيادة حتى يبلغ أربعين دينارا أبدا بخلاف الفضة لأن الفضة ورد فيها نص فوجب حمله على عمومه بخلاف الذهب الذي لم يرد في مقدار ما يؤخذ منه نص يصح البتة وبالله تعالى التوفيق
وأما حلي الذهب فإنه قد أجمعت الأمة على وجوب الزكاة في الذهب قبل أن يصاغ حليا إذا بلغ المقدار الذي ذكرنا ثم اختلفوا في سقوطها إذا صيغ فاستصحبنا الحال الذي أجمعنا عليها ولم نسقط الاختلاف ما قد وجب باليقين والإجماع
وأما النفقات الواجبات فقد أوجبها تعالى بالمعروف وأمرنا بالإحسان في ذلك وهذا يقتضي الشبع والسكن والكفاية وستر العورة بما لا يكون شهرة ولا مثلة فقد رأينا في هذا كله وجه العمل الذي من حفظه ووقف عليه كفي تعبا عظيما ولاح له الحق دون تخطيط ولا إشكال بحول الله وقوته
قال علي وأما إذا ورد لفظ لغوي فواجب أن يحمل على عمومه وعلى كل ما يقع في اللغة تحته وواجب ألا ندخل فيه ما لا يفيده لفظه مثل قوله تعالى { وليستعفف لذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم لله من فضله ولذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال لله لذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على لبغآء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض لحياة لدنيا ومن يكرههن فإن لله من بعد إكراههن غفور رحيم } فالخير في اللغة يقع على الصلاح في الدين وعلى المال فلا يجوز أن نخص بهذا النص بعض ما يقع عليه دون بعض إلا بنص فلما قال تعالى { وليستعفف لذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم لله من فضله ولذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال لله لذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على لبغآء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض لحياة لدنيا ومن يكرههن فإن لله من بعد إكراههن غفور رحيم } } ولم يقل معهم ولا قال تعالى عندهم أنه إنما أراد الدين فقط فلذلك قلنا إنه لا يجوز مكاتبة كافر لأنه لا خير فيه البتة وأما المسلم فقوله لا إله إلا الله محمد رسول الله خير كثير ففيه خير على كل حال ولم يقل تعالى خير وبعض الخير خير وبالله تعالى التوفيق
ومن ذلك قوله عليه السلام ليس فيما دون خمسة أوسق من حب أو تمر صدقة (3/408)
فوجب حمل دون على كل ما يقتضيه من أقل ومن غير فسقت بذلك الزكاة عن الخضراوات كلها والقطاني والفاكهة وسائر الثمار كلها لأنها غير الحب والتمر ووجب حمل الحب على ما يقع عليه في اللغة لا يقع على القمح والشعير فقط ذكر ذلك الكسائي وغيره من ثقات أهل اللغة في علمهم ودينهم
ومثل ما جاء أنه عليه السلام كان يجعل فضل المال في الكراع والسلاح فوجب وضعه في كل ما يسمى كراعا وسلاحا ولذلك لم يجز تحبيس شيء من الأموال إلا ما جاء فيه نص لأنه شرع شريعة فلا يحل الحكم بها إلا بنص وأجزنا أن يحبس المرء على نفسه لأنه داخل في عموم قوله عليه السلام إن شئت حبست الأصل وتصدقت بالثمرة فجائز للمرء أن يتصدق على نفسه وعلى غيره لأنه كله تصدق وقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم قوله ابدأ بنفسك فتصدق عليها
قال أبو محمد وذكر بعض أهل الكلام في هذا الباب حديثا رواه أبو عبيد في غريب الحديث وهو أمره عليه السلام قوما من جهينة بإدفاء رجل كان أصابه البرد والإدفاء في لغتهم القتل فقتلوه
قال علي وهذا حديث مكذوب لا يصح البتة بل نحن على يقين من كذب مفتري لأنه عليه السلام أفصح العرب وأعرفهم في لغتهم ومأمور بالبيان وليس من البيان أن يأمرهم بكلام يقتضي عندهم غير مراده صلى الله عليه و سلم ولا حجة لهم في قصة عدي في الخيطين لأن عديا من قبله أتى سوء الفهم وقد كان لعدي في قوله تعالى { أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون } كفاية في أن المراد خيط الفجر من خيط الليل وقد كان نزل بعد { دد وقد فعل فعل عدي سائر الصحابة رضوان الله عليهم وهم أهل اللغة
وأصابوا في ذلك حتى نزل { لل وانتقلوا عن الظاهر الأول إلى الظاهر النازل بعده وهذا هو الذي لا يجوز لأحد تعديه وبالله تعالى التوفيق وهو الموفق للصواب (3/409)
الباب الرابع عشر في أقل الجمع (4/410)
قال علي اختلف الناس في أقل الجمع فقالت طائفة أقل الجمع اثنان فصاعدا وهو قول جمهور أصحابنا وقالت طائفة أقل الجمع ثلاثة وهو قول الشافعي وبه نأخذ واحتج أصحابنا لقولهم بأن قالوا الجمع في اللغة ضم شيء إلى شيء آخر فلما ضم الواحد إلى الواحد كان ذلك جمعا صحيحا
قال علي هذا خطأ ولا حجة فيه لأنه يلزمهم على ذلك أن يكون الجسم الواحد مخبرا عنه بالخبر عن الجمع واقعا عليه اسم الجمع لأنه جمع جزء إلى جزء وعضو إلى عضو وليس المراد باسم الجمع الذي اختلفنا فيه هذا المعنى من معاني الضم وإنما المقصود به ما عدا الإفراد والتثنية وليس ذلك إلا ثلاثة أشخاص متغايرة فصاعدا بلا خلاف من أهل اللغة وحفاظ ألفاظها وضباط إعرابها
واحتجوا أيضا بأن قالوا روي عن النبي صلى الله عليه و سلم الاثنان فما فوقهما جماعة
قال علي لا حجة لهم فيه لأنه حديث لم يصح حدثني أحمد بن عمر بن أنس بن عبد الله بن حسين بن عقال ثنا إبراهيم بن محمد الدينوري ثنا محمد بن أحمد بن الجهم ثنا بشير بن موسى ثنا يحيى بن إسحاق ثنا عليلة بن بدر هو الربيع بن بدر عن أبيه عن جده عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الاثنان فما فوقهما جماعة وبه إلى ابن الجهم قال ثنا عبد الكريم بن الهيثم حدثنا أبو توبة ثنا مسلمة بن علي عن يحيى بن الحارث عن القاسم عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال اثنان فما فوقهما جماعة
وقال أبو محمد رحمه الله عليلة ساقط بإجماع وأبوه مجهول ومسلمة بن علي ضعيف بلا خلاف وكذلك القاسم عن أبي أمامة فسقط الحديثان وإنما المعتمد عليه في حكم الصلاة قوله عليه السلام لمالك بن الحويرث وابن عمه فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما وبإمامته في النافلة صلى الله عليه و سلم ابن عباس وحده (4/413)
واحتجوا أيضا بأن قالوا خبر الاثنين عن أنفسهما كخبر الكثير عن أنفسهم ولا فرق فيقول الاثنان فعلنا وصنعنا كما يقول الجماعة سواء بسواء
قال علي لا حجة لهم في ذلك في إيجابهم بهذا أن يكون الخبر عن الاثنين كالخبر عن الجماعة لأن ذلك قياس والقياس فاسد وأيضا فإن الخبر عن الاثنين بخلاف الخبر عن الجماعة فنقول عن الاثنين فعلا وعن الجماعة فعلوا وأيضا فإن المرأتين تخبران عن أنفسهما كما يخبر الرجلان عن أنفسهما فتقول المرأتان فعلنا وصنعنا وليس ذلك بموجب أن يخبر عنهما كما يخبر عن الرجلين فيقال فعلا بمنزلة فعلنا ولا يجوز في اللغة قياس بإجماع عن أهلها وإنما هي مسموعة والضمائر مختلفة عن الغائب والحاضر والمخبر عن نفسه والتثنية والجمع والمؤنث والمذكر وقد تتفق الضمائر أيضا في مواضع فليس اتفاقها فيها بموجب لاتفاقها في كل موضع ولا اختلافها في بعض المواضع بموجب اختلافها في كل موضع بل كل ذلك مأخوذ عن أهل اللغة كما سمعوه عن العرب وقد يخبر الواحد عن نفسه كما يخبر الاثنان وكما يخبر الجماعة فيقول فعلنا وصنعنا ونفعل ونصنع ونحن نقول وهذا عندنا وليس ذلك بموجب أن يكون الواحد جمعا فبطل احتجاجهم بأن خبر الاثنين عن أنفسهما كخبر الجمع وهو حجة في كون الاثنين جمعا
واحتجوا أيضا بقوله تعالى { إن تتوبآ إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير } وإنما كان لهما قلبان
قال علي ولا حجة لهم في هذا لأن هذا باب محفوظ في الجوارح خاصة وقد نقل النحويون هذا الباب وقالوا إن كل اثنين من اثنين فإنه يخبر عنهما كما يخبر عن الجمع كأن العرب عدت الشيئين المخبر عنهما ثم أضافتهما إلى الشيئين اللذين هما منهما فصارت أربعة فصح الجمع وأنشدوا في ذلك ومهمهين فدفدين مرتين ظهراهما مثل ظهور الترسين وهذا باب لا يتعدى فيه مسموعه من العرب فقط ولا يجوز أن يقاس عليه واحتجوا أيضا بقوله عز و جل { وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين } (4/414)
قال علي وهذا لا حجة لهم فيه لأن الضمير في حكم العربية أن يكون راجعا إلى أقرب مذكور إليه وأقرب مذكور إلى الضمير قوله تعالى { وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين } فالقوم وداود وسليمان جماعة بلا شك فكأنه تعالى قال وكنا لحكم القوم في ذلك أي للحكم عليهم كما تقول هذا حكم أمر كذا أي الحكم فيه وعليه
واحتجوا أيضا بقوله تعالى { وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنآ إلى سوآء الصراط } وبين تعالى أنهما اثنان بقوله { قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطآء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب } ويقول أحدهما { إن هذآ أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب }
قال علي لا حجة لهم فيه لأن الخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة وقوعا مستويا وكذلك الزور على الزائر الواحد والاثنين والجماعة وكذلك الإلب والحرب تقول هو إلب علي وهو حرب علي وهما حرب علي وإلب علي وهم حرب علي وإلب علي فلا يسوغ لأحد أن يقول إن المتسورين على داود صلى الله عليه و سلم كانا اثنين دون أن يقول بل كانوا جماعة وقد قال ذلك بعض المفسرين وقال تعالى { هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم } وإنما نزلت في ستة نفر علي وحمزة وعبيد بن الحارث رضي الله عنهم وفي عتبة وشيبة والوليد بن عتبة إذ تبارزوا يوم بدر وقد أخبر تعالى في آخر الآية بما يبين أنهم جماعة يقول تعالى { هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم } إلى منتهى قوله { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير }
حدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن (4/415)
محمد بن عيسى عن إبراهيم بن محمد بن سفيان عن مسلم بن الحجاج ثنا عمرو بن زرارة ثنا هشام عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد قال سمعت أبا ذر يقسم قسما { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير } إنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة رضي الله عنهم وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة وإذا لم يأت نص بين في أن الخصمين المختصمين إلى داود صلى الله عليه و سلم كان إذ تسورا اثنين فقط لا ثالث لهما فليس لأحد أن يحتج بذلك في إبطال ما قد صح في اللغة ولا في إثبات أمر لم يثبت بعد
واحتجوا أيضا بقوله تعالى { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم }
قال علي ولا حجة لهم في ذلك وليس كما ظنوا بل هذا جمع صحيح لأن لكل واحد من السارقين يدان فهي أربع أيد بيقين وقطع يدي السارق جميعا واجب يدا بعد يد إذا سرق سرقة بعد سرقة بنص القرآن
واحتجوا أيضا بقوله تعالى { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نسآء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بهآ أو دين آبآؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما }
قال علي وهذا عليهم لا لهم أنه لا يجوز أن تحط الأم عن الثلث إلى السدس عندنا إلا بثلاثة من الإخوة لا باثنين وقولنا في ذلك هو قول ابن عباس وهو في اللغة بحيث لا يجهل محله إلا جاهل وإنما حكم من حكم برد الأم إلى السدس باثنين من الإخوة إما بقياس وإما بتقليد وكل ذلك فاسد فإن قيل قد قال بذلك عثمان قيل له قد خالفه ابن عباس وأنكر عليه ذلك وبين عليه أن اللغة خلاف ما يحكم به فلم يقدر عثمان على إنكار ذلك ولم نرد على أن قال لا أقدر أن أرد ما قد توارث به الناس
واحتجوا بقوله تعالى حاكيا عن يعقوب عليه السلام في قوله { قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم } قالوا وإنما كان يوسف وأخاه
قال علي هذا خطأ بل ما كانوا إلا ثلاثة يوسف وأخاه الذي حبس من أجل (4/416)
الصواع الذي وجد في رحله والأخ الكبير الذي قال { فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يأبانا إن ابنك سرق وما شهدنآ إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين } فلما فقد يعقوب ثلاثة من بنيه تمنى رجوعهم كلهم
واحتجوا أيضا بقوله تعالى { وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فآءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } والطائفة تقع على الواحد وعلى الاثنين وعلى الأكثر فأخبر تعالى عن الطائفتين مرة بلفظ الجمع بقوله { وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فآءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } ومرة بلفظ الاثنين { وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فآءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } وقال تعالى في الآية التالية لها { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } ) فأمر بالإصلاح بين الاثنين كما أمر بالإصلاح بين الجماعة
قال علي وهذا لا حجة لهم فيه لأن الطائفة كما ذكروا تقع على الواحد والاثنين والأكثر فإذا أخبر عنهما بلفظ الجمع فالمراد بهما الجمع والمراد بالطائفتين في أول الآية المذكورة الكثير منهم ومعنى قوله تعالى { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } أي بين الجماعتين المقتتلتين ثم علمنا تعالى وجوب الإصلاح بين الاثنين كوجوبه بين الكثيرين بقوله تعالى { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } ) وحمل الآية على ما نقول هو الذي لا يجوز غيره لأنه عموم لكيفية الإصلاح بين الكثير والقليل ولو كان ما ظن مخالفنا لما علمنا فيها الإصلاح بين الاثنين فقط وهذا خطأ
واحتجوا بقوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام { قال كلا فاذهبا بآياتنآ إنا معكم مستمعون } ولم يقل معكما
قال علي وهذا لا حجة لهم فيه لأنهم ثلاثة بلا شك المرسلان وفرعون المكلم المرسل إليه فالمستمعون ثلاثة بيقين
قال علي فإن قد بطل احتجاجهم بكل ما احتجوا به فلنقل في بيان صحة مذهبنا وبالله تعالى التوفيق (4/417)
فنقول إن الألفاظ في اللغة إنما هي عبارات عن المعاني ولا خلاف بين القرب في أن الاثنين لهما صيغة في الإخبار عنهما غير الصيغة التي للثلاثة فصاعدا وإن للثلاثة فصاعدا إلى ما لا نهاية له من العدد صيغة غير صيغة الخبر عن الاثنين وهي صيغة الجمع ولا خلاف بين أحد من أهل اللسان في أنه لا يجوز أن يقال قام الزيدون وأنت تريد اثنين
ولا جاءني الهندات وأنت تريد اثنتين وضمير الغائب موضوع بلا خلاف بين أحد من أهل اللسان في موضع اسم الغائب ومبدل منه فلا يجوز أن يبدل ضمير الجماعة إلا من الجماعة ولا ضمير الاثنين إلا من الاثنين ولو كان ذلك لوقع الإشكال وارتفع البيان وكذلك المخاطبات لا يجوز البتة أن نقول لاثنين قمتم وقعدتم وإنما يقال قمتما وقعدتما ولا يقال لاثنين قمتن ولا يقال للنساء قمتما وإنما قال قمتن فصح ما قلنا بحكم ظاهر اللغة التي بها نزل القرآن وبها تكلم النبي صلى الله عليه و سلم وإلى مفهومها نرجع في أحكام الديانة إلا ما نقلنا عنه نص جلي وبالله تعالى التوفيق وهذا ما لا يجوز خلافه والله الموفق للصواب
فصل من الخطاب الوارد بلفظ الجمع
قال علي وإذا ورد لفظ بصورة جمع وقدر على استيعابه فلا بد من استيعابه ضرورة وإلا فقد صحت المعصية وخلاف الأمر فإن لم يقدر على ذلك ولم يكن إلى استيعابه سبيل فللناس قولان أحدهما أنه واجب أن يؤدي من ذلك ما أمكن وما انتهى إليه الوسع ولا يسقط عنه إلا ما عجز عنه أو ما قام نص أو إجماع بسقوطه وبهذا نأخذ وقالت طائفة لا يلزم من ذلك إلا أقل ما يقع عليه اسم ذلك الجمع وهو ثلاثة فصاعدا وما زاد على ذلك فليس فرضا
قال علي والحجة للقول الأول هي حجتنا على القائلين بالخصوص أو الوقف وقد لزم عموم ذلك الجمع بيقين فلا يسقط بشك ولا بدعوى فأما ما عجز عنه فساقط وأما ما لم يعجز عنه فباق على وجوب الطاعة له ويبين ذلك قول رسول الله صلى الله عليه و سلم وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (4/418)
قال علي فمن ذلك قول الله عز و جل { إنما الصدقات للفقرآء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم } الآية وقوله تعالى { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين } فنقول إن الإمام القادر على استيعاب جميع مساكين المسلمين وفقرائهم وغازيتهم وسائر الأصناف المسماة ففرض عليه استيعابهم وأما من عجز عن ذلك فمن دونه فقد أجمعت الأمة بلا خلاف على أن له أن يقتصر على بعض دون بعض ودل على ذلك قوله صلى الله عليه و سلم لزينب امرأة عبد الله بن مسعود إذ سألته أيجزي عني أن أتصدق على زوجي وولدي منه من الصدقة فقال عليه السلام نعم
قال علي فبهذه النصوص صرنا إلى هذا الحكم والاستيعاب والعموم معناهما واحد وهذا كله من باب استعمال الظاهر والوجوب وقد رام قوم أن يفرقوا بين الاستيعاب والعموم وهذا خطأ ولا يقدرون على ذلك أبدا وقال هؤلاء القوم العموم لبعض ما يقع عليه الاسم عموم ذلك الجزء الذي عم به
قال علي فيقال لهم وكذلك الاستيعاب لبعض ما يقع عليه الاسم استيعاب لذلك الجزء الذي استوعب به ولا فرق
قال علي والجمع بلفظ المعرفة والنكرة سواء في اقتضاء الاستيعاب كقوله تعالى { قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } فهذا عموم لكل قوم لا يؤمنون وهو بلفظ النكرة كما ترى وقد ظن قوم أن الجمع إذا جاء بلفظ النكرة فإنه لا يوجب العموم فقالوا قولك جاء رجال لا يفهم منه العموم كما يفهم من قولك جاء الرجال
قال علي وهذا ظن فاسد لا دليل عليه وإنما هو ألفه لما وقع في أنفسهم في عادات سواء استعملوها في تخاطبهم وبخلاف معهود اللغة في الحقيقة وقد أبطلنا ذلك بالآية التي ذكرنا آنفا وبالله تعالى التوفيق (4/419)
الباب الخامس عشر في الاستثناء
قال علي قد بينا في باب الأخبار وفي باب العموم والخصوص كيفية الاستثناء ونحن الآن متكلمون إن شاء الله عز و جل بتأييده لنا في ماهية الاستثناء وأنواعه فنقول وبالله تعالى التوفيق إن الاستثناء هو تخصيص بعض الشيء من جملته أو إخراج شيء ما مما أدخلت فيه شيء آخر إلا أن النحويين اعتادوا أن يسموا بالاستثناء ما كان من ذلك بلفظ حاشا وخلا وإلا وما لم يكن وما عدا وما سوى وأن يجعلوا ما كان خبرا من خبر كقولك اقتل القوم ودع زيدا مسمى باسم التخصيص لا استثناء وهما في الحقيقة سواء على ما قدمنا
قال علي واختلفوا في نحو من أنحاء الاستثناء فقالت طائفة لا يجوز أن يستثنى الشيء من غير جنسه أو نوعه المخبر عنه وقالت طائفة جائز أن يستثنى الشيء من غير جنس أو المخبر عنه وبكلا هذين القولين قالت طوائف من أصحابنا الظاهرين ومن إخواننا القياسيين
قال علي ونحن نقول إن استثناء الشيء من غير جنسه ونوعه المخبر عنه جائز واسمه في العربية عند النحويين الاستثناء المنقطع وهو حينئذ ابتداء خبر آخر كقائل قال أتاني المسلمون إلا اليهود فهذا جائز كأنه قال إلا اليهود فإنهم لم يأتوني وهذا لا ينكره نحوي ولا لغوي أصلا إذا كان على الوجه الذي ذكرناه
قال علي والبرهان القاطع في ذلك قوله تعالى { فسجد لملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس ستكبر وكان من لكافرين } وقال تعالى { وإذا قلنا للملائكة سجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من لجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أوليآء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا } فلم يدع تعالى للشك ههنا مجالا إلا بينه وأخبر أن إبليس كان من الجن وقد حمل التهور قوما راموا نصر مذهبهم ههنا فقالوا إن الملائكة يسمون جنا لاجتنانهم (4/420)
قال علي وهذا قول فاحش من وجوه أحدها وأوضحها قول الله عز و جل إذ سأل الملائكة { ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } فقالت الملائكة { قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون لجن أكثرهم بهم مؤمنون } ففرق تعالى بين الملائكة والجن فرقا كما ترى والوجه الثاني إخباره عليه السلام إن الملائكة خلقت من نور والجن خلقت من نار ففرق بين النوعين فرقا من خالفه كفر
حدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج عن عبد الله بن حميد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم
والثالث إجماع الأمة على أن من سمى جبريل أو ميكائيل جنيا فقد كفر فقد ظهر بطلان هذا القول الفاسد وكان أقصى ما احتج له القائلون به أن قالوا الاجتنان هو الاستتار ومن ذلك يسمى المجن مجنا والجنة جنة فالملائكة والجن مستترون عنا فهم جن
قال علي وهذا هذيان لبعض أهل اللغة وفي كل قوم جنون فلو أن عاكسا عكس عليهم فقال ما اشتق الاجتنان الذي هو الاستتار إلا من الجن بماذا كانوا ينفصلون وأيضا فيقال لهم حتى لو صح قولكم إن الجن اشتقوا من الاجتنان فمن أي شيء اشتق الاجتنان فإن جروا هكذا إلى غير غاية وهذا يوجب أشياء موجودات لا أوائل لها ولا نهاية لعددها وهذا محال ممتنع وموافقة أهل الكفر وإن قالوا ليس للفظ الذي اشتق منه اشتقاق قيل لهم فما الذي جعل تلك اللفظة بأن تكون مبتدأة أولى من هذه الثانية
وقد سقط في هذا كبار النحويين منهم أبو جعفر النحاس فإنه ألف كتابا في اشتقاق أسماء الله عز و جل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وهذا يلزمهم القول بحدوث أسماء الله عز و جل لأن كل شيء مشتق فهو مأخوذ مما اشتق منه وكل مأخوذ فقد كان قبل أن يوجد غير مأخوذ فقد كانت الأسماء على أصلهم غير موجودة (4/421)
والكلام ههنا يطول ويتشعب ويخرجنا عن غرض كتابنا وأسماء الله عز و جل إنما هي أسماء أعلام كقولك زيد وعمرو والمراد بها الله تعالى الذي لم يزل وحده لا شريك له ولا يزال خالق كل شيء لا إله إلا هو رب العرش العظيم وأما الأصوات المسموعة المعبر بها فمخلوقة لم تكن ثم كانت
ومنهم أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي فإنه قال في نوادره العشقة نبت يخضر ثم يصفر ثم يهيج ومنه سمي العاشق عاشقا أو ما علم هذا الرجل أن كل نبت في الأرض فهذه صفته فهلا يسمى العاشق باقلا مشتقا من البقل الذي يخضر ثم يصفر ثم يهيج فإن ركب هذا الطريق اتسع له جدا وأخرجه ذلك إلى بعض خرق من أدركناه من أهل الجنون وأدخله في باب المضاحك والمطايب والمجون
والذي نعتقد ونقول ونقطع على صحته أن الاشتقاق كله باطل حاشا أسماء الفاعلين من أفعالهم فقط وأسماء الموصوفين المأخوذة من صفاتهم الجسمانية والنفسانية وهذا أيضا لا ندري هل أخذت الأسماء من الصفات أو أخذت الصفات من الأسماء إلا أننا نوقن أن أحدهما أخذ من صاحبه مثل ضارب من الضرب ومثل آكل من الأكل ومثل أبيض من البياض وغضبان من الغضب وما أشبه ذلك
وأما سائر الأسماء الواقعة على الأجناس والأنواع كلها فلا اشتقاق لها أصلا وليس بعضها قبل بعض بل كلها معا وقد كنت أجري في هذا مع شيخنا أبي عبده حسان بن مالك رحمه الله وكان أذكر من لقينا للغة مع شدة عنايته بها وثقته وتحريه في نقلها فكان يقول لي قد قال بهذا الذي تذهب إليه كثير من أهل اللغة قديم وسماه لي وشككت الآن في اسمه لبعد العهد وأظن أنه نفطويه
وكيف يسوغ لذي عقل أن يسمي الملائكة جنا وهو يسمع قول الله عز و جل { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق لقول مني لأملأن جهنم من لجنة ولناس أجمعين } وما علمنا مسلما يقول إن أحدا من الملائكة يدخل جهنم وقد قال تعالى { قل أعوذ برب لناس ملك لناس إله لناس من شر لوسواس لخناس لذى يوسوس في صدور لناس من لجنة ولناس } أفتراه تعالى أمر نبيه صلى الله عليه و سلم بأن يستعيذ (4/422)
من شر الملائكة هذا ما لا يظنه ذو عقل وقد اعترض على بعض من كلمني في هذا المعنى بقوله تعالى { وجعلوا بينه وبين لجنة نسبا ولقد علمت لجنة إنهم لمحضرون } وقال إنهم كانوا يقولون الملائكة بنات الرحمن
قال علي وهذا ليس بشي لأنه قد روي عن ابن عباس أن قريشا كانت تقول سروات الجن هم بنات الرحمن فإنما عنى تعالى الجن على الحقيقة في هذا المكان لا الملائكة ونسأل من ذهب إلى هذا أيجوز أن يقول قائل والجن حافون من حول العرش وهذا ما لا يجيزه مسلم وقد أخبر تعالى أن الجن عن السمع لمعزولون ودون السماء بالشهب مقذوفون وأن الملائكة بخلاف ذلك ويلزم من سمى الجن جنا من أجل اجتنانهم أن يسمي دماغه جنيا ويسمي مصيره جنيا لأن كل ذلك مجتن وقد اعترض بعضهم بأن إبليس دخل مع الملائكة في الأمر بالسجود لآدم صلى الله عليه و سلم
قال علي وهذا باطل لأن الله تعالى أخبر أنه كان من الجن ولا تدخل الجن مع الملائكة فيما خصت به الملائكة فلا بد أنه تعالى أمر إبليس أيضا بالسجود وقد جاء النص بذلك فقال تعالى { قال يإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من لعالين } فقد أيقنا أن الله تعالى أمره بالسجود كما أمر الملائكة فقد وجدنا الله تعالى استثنى إبليس من غير نوعه فلا مجال للشك في هذا المعنى بعد هذا ووجدناه تعالى قد قال أيضا { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما } أي لكن خطأ وقال تعالى { يا أيها لذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بلباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن لله كان بكم رحيما }
وقال تعالى { لا يذوقون فيها لموت إلا لموتة لأولى ووقاهم عذاب لجحيم } فاستثنى عز و جل الموتة الأولى وليست الموتة فيما يذاق أصلا في الجنة واستثنى تعالى التجارة وهي حق من الباطل واستثنى تعالى الخطأ من القتل المحرم وليس المخطىء قاتلا من (4/423)
العمد الحرم واستثنى تعالى القول الطيب سلاما سلاما من قول الإثم ومن هذا الباب لا إله إلا الله واستثنى الله تعالى من جملة الآلهة التي عبدها من سوانا وليس تعالى من جنسها ولا نوعها ولا له عز و جل نوع ولا جنس أصلا وقد قال تعالى { وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا بتغآء وجه ربه لأعلى } وقال النابغة الذبياني ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب فاستثنى الفخر من المعائب وقال أيضا وقفت فيها أصيلانا أسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا الأواري لأيا ما أبينها والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد فاستثنى الأثافي والنؤى من الأحدين وقال آخر وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس وقال تعالى { ولئن شئنا لنذهبن بلذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا } فاستثنى عز و جل رحمته من الوكيل عليه الذي لا سبيل إليه فأي شيء قاله من أبى استثناء الشيء من غير جنسه في هذه الآيات وفي هذه الآي فهو قولنا وهو أنه استثناء منقطع وعطف خبر على خبر بمعنى لكن أو حتى وقد صح بلا ضرورة أن يخبر بخبر إيجاب عن واحد وبخبر نفي عن آخر ولا فرق بين أن يرد أحد الخبرين على الآخر بحرف العطف وبين أن يرد بحرف الاستثناء وقد جاء كل ذلك كما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق (4/424)
فصل من الاستثناء
قال علي واختلفوا في نوع من أنواع الاستثناء وهو أن يستثنى من الجملة أكثرها ويبقى الأقل فأجازه قوم وهو قول جميع أصحابنا أهل الظاهر وبه نأخذ وبه قال جمهور الشافعيين وأباه قوم وهو قول جمهور المالكيين ولا نعلم لهؤلاء القوم حجة أصلا في المنع من ذلك إلا أن يقول بعضهم إنكم قد وافقتمونا على جواز استثناء ولا نوافقكم على جواز استثناء الأكثر
قال علي وهذه حجة إنما تصح فيما لا نص فيه أو فيما لم يقم عليه برهان وأما كل ما قام فيه برهان عقلي أو شرعي فلا نبالي من وافقنا فيه ولا من خالفنا وقد قامت البراهين على جواز استثناء الأكثر من جملة لا يبقى منها بعد ذلك إلا الأقل قال الله عز و جل { قم لليل إلا قليلا نصفه أو نقص منه قليلا أو زد عليه ورتل لقرآن ترتيلا } فأبدل تعالى النصف من القليل وهو بدل البيان ولم يختلف قط أحد أنه لم يفرض عليه قيام الليل كله وإنما فرض عليه القيام في الليل وهذا البدل يحل محل المبدل منه فالمفهوم أنه قال تعالى قم الليل إلا نصفه ثم زادنا الله تعالى فائدة عظيمة وهي أن النصف قليل بالإضافة إلى الكل
قال علي فإن قال قائل كيف تحتجون بهذا وأنتم تقولون إن قيام أكثر من ثلث الليل لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه و سلم إنه لا قيام فوق داود وكان يقوم ثلث الليل بعد أن ينام نصفه ثم ينام سدسه قيل له وبالله تعالى التوفيق معنى قوله تعالى { نصفه أو نقص منه قليلا أو زد عليه ورتل لقرآن ترتيلا } إنما هو والله أعلم إعلام بوقت القيام لا بمقدار القيام ليتفق معنى الآية والحديث فكل من عند الله تعالى وما كان من عنده تعالى فلا اختلاف فيه (4/425)
قال الله عز و جل { أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا } فصح أن معنى قوله تعالى { قم لليل إلا قليلا } قم في الليل إلا في قليل في نصفه
وهكذا قوله تعالى { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي لليل ونصفه وثلثه وطآئفة من لذين معك ولله يقدر لليل ولنهار علم ألن تحصوه فتاب عليكم فقرءوا ما تيسر من لقرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في لأرض يبتغون من فضل لله وآخرون يقاتلون في سبيل لله فقرءوا ما تيسر منه وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وأقرضوا لله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند لله هو خيرا وأعظم أجرا وستغفروا لله إن لله غفور رحيم } إنما معناه في أدنى وقوله تعالى { كانوا قليلا من لليل ما يهجعون } مع نهيه على لسان نبيه عن قيام أكثر من ثلث الليل بيان أن الثلثين قبل الإضافة إلى الكل لأنهم كانوا يهجعون قليلا وهو الثلثان
ويخرج أيضا على أن ما ههنا جحد محقق فيكون معناه كانوا ما يهجعون قليلا من الليل وهو الثلث فأقل فيكون هذا أيضا حسنا موافقا لما صح عن النبي صلى الله عليه و سلم في قيام الثلث وكلا القولين متفق لأنه إذا هجع الثلثين وقام الثلث فإن الثلثين قليل بالإضافة إلى الكل والثلث أيضا كذلك وبالله تعالى التوفيق
فإن اعترض معترض بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم الثلث كثير قيل له صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم الثلث كثير بالإضافة إلى ما هو أقل منه وهكذا كل عدد من العالم فألف ألف كثيرا بالإضافة إلى عشرة آلاف وألف ألف قليل بالإضافة إلى عشرة آلاف ألف
قال علي ونقدر أن الذي أقحم هؤلاء القوم في هذه الورطة تجويزهم للمحتبس استثناء أقل من الثلث ولم يجوزوا له استثناء الأكثر من ذلك فقادهم الخطأ إلى ما هو أشد خطأ منه وإن أولى الناس بالتقنع إذا ذكر هذا الحديث الذي اعترضوا به من قول رسول الله صلى الله عليه و سلم الثلث كثير فالمالكيون لأنهم يجعلون الثلث كثيرا في الاستثناء من الحبس كما ذكرنا
ثم يجعلونه في حكم المرأة ذات الزوج في مالها قليلا فيجوزون لها الثلث دون رأي زوجها ويمنعونها من أكثر من الثلث إلا برأيه ثم يجعلون الثلث كثيرا في الجائحة إذا أصابت من الثمرة ثلثها فصاعدا ويجعلون ما دون الثلث قليلا لا حكم له ثم يجعلون الثلث قليلا في استثناء البائع من حائطه المبيع أو زرعه المبيع مكيلة تبلغ الثلث فأقل ويجعلون ما زاد على الثلث في ذلك كثيرا ممنوعا (4/426)
ثم يجعلون الثلث كثيرا في الشاة تباع ويستثنى منها أرطال فمنعوا من ذلك إن كانت الأرطال مقدار الثلث وأجازوه إن كانت أقل من الثلث ثم يجعلون الثلث قليلا في الدار تكترى وفيها نخل لم يظهر بعد فيه ثمرة أو ظهرت ولم يبد صلاحها فأجازوا دخول تلك الثمرة في الكراء
قالوا فإن كانت أكثر من الثلث لم يجز ذلك ويجعلون العشر قليلا وما زاد عليه كثيرا فيمن أمر آخر أن يشتري له جارية بثلاثين فاشترى له جارية بثلاثة وثلاثين قالوا هي لازمة للآمر
فإن كان أكثر فهي غير لازمة للآمر وقد قالوا أيضا إن ما زاد على نصف العشر كثير فيمن أمر آخر أن يشتري له عبدا بمائة دينار فاشتراه له بمائة وخمسة دنانير أنه يلزمه ولا يلزمه إن اشتراه بأكثر ومرة يجعلون النصف قليلا فيمن كان له عند آخر دينارا فصارفه في نصفه بدراهم فأخذ بالنصف الثاني طعاما أن ذلك جائز فإن صارفه بأكثر من النصف وأخذ بالباقي لم يجز ذلك لأنه كثير
وقالوا من ابتاع سلعا فوجد بعضها فاسدة لا يجوز بيعها كشاة ميتة بين مذكيات ونحو ذلك فإن كان وجه الصفقة والذي يرجى فيه الربح فسخت الصفقة كلها وإن كان أقل من ذلك فسخ الحرام ونفذ العقد في الحلال وحدوا الكثير في ذلك بالسبعين من المائة فجعلوا ما دون الثلاثة الأرباع قليلا وجعلوا نقص النصف من الأذن والذنب مانعا من جواز التضحية
ونرجح في الثلث فما فوقه إلى النصف ثم يجعلون الثلث قليلا في الحلي والسيف والمصحف يكون فيه فضة تقع في ذلك قيمته ما هي فيه فيجيزون بيعه كله أو بعضه أو يكون فيه ذهب يقع في ثلث قيمة ما هو فيه فيباع بالذهب
قالوا فإن كان مقدار ذلك أكثر من الثلث مما هو فيه لم يجز بيعه إن كان فضة بفضة أصلا وإن كان ذهبا بذهب أصلا قالوا والسكين بخلاف الحلي والسيف المصحف في ذلك
قال علي فمرة كما ترى يجعلونه الثلث قليلا ومرة يجعلونه كثيرا ومرة يجعلون النصف قليلا ومرة يجعلون ما زاد على العشر كثيرا تحكما بآرائهم الفاسدة بلا دليل وإن سماع هذه القضايا الفاسدة التي لم يأذن بها الله عز و جل لعبرة لمن اعتبر (4/427)
وآية لمن تفكر والعجب يتضاعف من قوم قبلوا ذلك ودانوا به كما ترى وتركوا له دلائل القرآن والسنة ونصوصهما وحسبنا الله ونعم الوكيل
قال علي وقد جاء في نص القرآن استثناء الأكثر من جملة يبقى منها الأقل بعد ذلك فبطل كلام كل من خالفه قال الله عز و جل لإبليس { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من تبعك من لغاوين } وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا في الأمم التي تدخل النار كالشعرة السوداء في الثور الأبيض وأنه عليه السلام يرجو أن يكون نصف أهل الجنة وأن بعث أهل النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون للنار واحد إلى الجنة هذا حكم جميع ولد آدم عليه السلام ويكفي من ذلك قوله تعالى { ومآ أكثر لناس ولو حرصت بمؤمنين } فقد استثنى الغاوين من جملة الناس وهم أكثر الناس فاستثنى كما ترى ألفا غير واحد من ألف
قال علي وأيضا فإن الاستثناء إنما هو إخراج للشيء المستثنى مما أخبر به المخبر عن الجملة المستثنى منها ولا فرق بين إخراجك من ذلك الأكثر وبين إخراجك الأقل وكل ذلك خبر يخبر به فالخبر جائز عن الأكثر كجوازه عن الأقل ولا يمنع من ذلك إلا وقاح معاند أو جاهل وأيضا فلا شك بضرورة التمييز أن عشرة آلاف أكثر من عشرة آلاف حاشا واحدا فإذا كان ذلك فعشرة آلاف غير واحد قليل بالإضافة إلى عشرة آلاف كاملة وإذا كان ذلك فاستثناء القليل من الكثير جائز لا تمانع فيه
وأيضا فإنه لا فرق بين قول القائل ألف غير تسعمائة وتسعة وتسعين وبين قوله واحد ولا فرق بين قول القائل سبعمائة وثلاثمائة وبين قوله ألف وهذا كله من المتلائمات وهي ألفاظ مختلفة معناها واحد وإذا كان ذلك فلا فرق بين استثناء ثلاثمائة من ألف لأنها بعض الألف وبين استثناء تسعة وتسعمائة وتسعين من الألف أيضا لأنها بعض الألف ولا فرق
فإن قال قائل إن ربك ألف غير تسعمائة وتسعة وتسعين إذا كان ذلك بمعنى واحد قيل له وبالله تعالى التوفيق لو عقلت معنى تسمية ربك تعالى لم تسمنا هذا ونحن لا يحل عندنا أن نقول إن الله تعالى فرد ولا أنه فذ ولا نقول إلا واحد وتر (4/428)
كما جاء النص فقط لأن كل ذلك تسمية ولا يحل تسمية الباري تعالى بغير ما سمى به نفسه ومن فعل ذلك فقد ألحد في أسمائه وهو تعالى ليس عددا وإنما يسمى ما دونه واحدا على المجاز وإلا فليس في العالم واحد أصلا لأن الواحد الذي لا يتكثر البتة وليس هذا في العالم البتة حاشا الله تعالى وحده وبالله تعالى التوفيق
فإن قال قائل فأخر استثناء الجملة كلها قيل له هذا لا يجوز لأنه كان يتكون أحد الخبرين مبطلا للآخر ومكذبا له كله لأنه إذا قال أتاني إخوتك إلا إخوتك كأن قد قال إتاني إخوتك لم يأتني إخوتك وهذا تناقض وتكاذب وخلف من الكلام ومحال لا يجوز أصلا وليس هذا المحال موجودا في استثناء الأكثر من جملة يبقى منها الأقل ولا في استثناء الشيء من غير جنسه ألا ترى أنك إذا قلت أتاني إخوتك ولم يأتني بنو عمك وأتاني إخوتك ولم يأتوني كلهم لكن بعضهم فهذان الخبران صدق إذا صدق فيهما والإخبار بهما صحيح حسن فهذا فرق ما بين استثناء الجملة كلها وبين استثناء أكثرها واستثناء الشيء من غير جنسه
وقد قال قائلون إن من لفظ بعموم في خبره فلا بد له أن يبقي إن استثنى من جنس تلك الجملة ما يقع عليه اسم عموم ولم يجوزوا أن يقول القائل أتاني إخوتك لم يأتني كلهم ولكن أتاني واحد منهم وقالوا إن الآتي ليس إخوة ولكنه أخ فلا يستثنى إلا بأن يبقى ثلاثة فصاعدا
قال علي وهذا لا معنى له لأن ألف سنة ليس مطابقا لتسعمائة فإن قال هو مطابق لتسعمائة وخمسين قيل له ومجيء الأخ الواحد مطابق لعدم مجيء جميعهم حاشاه ولا فرق فإن قال قائل فإذا لا تجوزون استثناء الجملة كلها فكيف قلتم إن من قال لفلان عندي مائة دينار إلا عبدا قيمته مائة دينار أو قال لفلان عندي مائة دينار إلا مائة دينار
إن هذا الإقرار لا يحكم عليه بشيء منه ولا يقضى لذلك لفلان عليه بشيء قيل له وبالله تعالى التوفيق وهذا موافق لأصلنا لأنه لما كان استثناء جميع الجملة محالا وكان الناطق بذلك ناطقا بمحال لا يجوز فكان كلامه ذلك باطلا وإقراره فاسدا والإقرار لا يجوز إلا صحيحا مجردا من كل ما يبطله فلذلك لم نحكم عليه بهذا الإقرار لأنه متناقض وقد وافقنا خصومنا في ذلك على أن رجلا لو قال بحضرة عدول إني زنيت الساعة أمامكم بامرأة كانت معنا وقتلت (4/429)
الساعة بحضرتكم رجلا مسلما حرام الدم بلا سبب وكذلك لو قال رفعت رجلا مسلما إلى السحاب ثم أرسلته فسقط في البحر فمات أو قال أخذت عصا موسى عليه السلام وطعنت بها رجلا فقتلته فإنه لا يؤخذ بشيء من ذلك ولا يحكم عليه إلا بالهوس والجنون ولا فرق بين ما ذكرنا وبين ما حكمنا نحن به من إسقاط كل إقرار فاسد متناقض يسقط آخره أوله ويبطله ولا فرق بين إسقاط بعض الجملة المقر بها الاستثناء وبين إسقاط جميعها بالتناقض أو بذكر البراء منها وبالله تعالى التوفيق
فصل من الاستثناء
قال علي وإذا وردت أشياء معطوفات بعضها على بعض ثم جاء الاستثناء في آخرها فإن لم يكن في الكلام نص بيان على أن ذلك الاستثناء مردود على بعضها دون بعض فواجب محله على أنه مردود على جميعها والبرهان على ذلك أنه ليس بعضها أولى بها من بعض فإن قال قائل فهلا قلتم إنه مردود عن أقربها منه لأن الألفاظ التي تقدمت قد حصلت على عمومها فواجب ألا ينتقل عنه إلا بنص أو إجماع فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن كل ألفاظ جمعت في حكم واحد فلم يكمل بعد أمرها حتى ينقضي الكلام فإذا جاء بعقبها استثناء فقد صح الاستثناء يقينا وإذا صح يقينا فقد حصل التخصيص بالنص وصار الاقتصار به على بعض ما قبله دون بعض دعوى مجردة لا دليل عليه فإن قال قائل فإن رده على أقرب ما يليه يقين ورده على كل ما قبله شك قيل له وبالله تعالى التوفيق ليس شكا إذا قام الدليل على صحته بل هو يقين وأيضا فظاهر اللفظ رده على كل ما قبله وتخصيص الظاهر بلا دليل لا يجوز
قال علي وكذلك نقول في آية القذف في قوله تعالى { ولذين يرمون لمحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم لفاسقون إلا لذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن لله غفور رحيم } راجع إلى كل ما تقدم ومسقط للفسق عنهم وموجب لقبول شهادتهم فإن قال قائل فهلا أسقطتم به الحد قلنا منع من ذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم لقاذف امرأته البينة وإلا فحد في ظهرك لأنه عليه السلام (4/430)
لم يسقط الحد إلا ببينة لا بالتوبة وقد حد حمله ومسطحا في قذفهم عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ولا شك في توبتهم حين نزول الآية ببراءتها ولو لم يتوبوا لارتدوا وكفروا ولحلت دماؤهم فصح أنهم حدوا بعد يقين توبتهم
وكذلك قلنا في قوله تعالى { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما }
فلولا بيان الاستثناء أنه مردود إلى الأهل فقط لسقطت به الرقبة ولكن لا حق للأهل في الرقبة ولا صدقة لهم فيها وقد قال تعالى { قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون }
وكذلك قلنا في قوله عز و جل { وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا } فهذا الاستثناء مردود على المخاطبين أنفسهم وهذا القليل عندنا مستثنى من الفضل والرحمة لا من اتباع الشيطان والآية على ظاهرها دون تكلف تأويل ومعناها أن الله رحمكم وتفضل عليكم حاشا قليلا منكم لم يرحمهم ولا تفضل عليهم وهم الكفار منكم والمنافقون الذين فيكم فلم تتبعوا الشيطان بفضل الله تعالى ورحمته وأما الذين لم يتفضل الله عليهم ولا رحمهم فاتبعوا الشيطان وهذا الذي قلنا هو العيان المشهود والنص المسموع فإن الأقل من المخاطبين الحاضرين مع الصحابة رضي الله عنهم كانوا منافقين خارجين عن الفضل والرحمة متبعين الشيطان فهم القليل المستثنون بقوله تعالى { وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا } واستثنوا من جملة المتفضل عليهم والمرجومين والممتنعين بذلك من اتباع الشيطان فهو راجع على كل من ذكر في الآية وبالله تعالى التوفيق
وللناس في هذه الآية أقوال فقوم قالوا هذا الاستثناء راجع إلى قوله تعالى { وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا } { وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا }
قال علي وهذا خطأ لأن رد الاستثناء إلى أبعد مذكور دعوى ساقطة فاسدة لم يقل بها قط أحد من النحويين وأهل اللغة الذين إليهم يرجع في مثل هذا وإنما الناس على قولين كما قدمنا قوم قالوا الاستثناء مردود إلى أقرب مذكور وقوم قالوا إلى الجملة كلها فإن وجد استثناء راجع إلى أبعد مذكور فلا يحمل غيره على حكمه لأنه بمنزلة ما خرج عن (4/431)
معهود أصله وكلفظ نقل عن موضوعه وقال بعضهم { وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا } راجع إلى قوله تعالى { وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا } أي أذاعوا به إلا قليلا
قال علي ويبطل قول هؤلاء بما بطل به قول من ذكرنا قبلهم ولا فرق وقال بعضهم فضل الله ورحمته المذكوران في الآية هما محمد صلى الله عليه و سلم والقرآن أي لولاهما لكنتم كفارا متبعين الشيطان إلا قليلا ممن هديناه قبل ذلك كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة
قال علي وهذا تأويل فاسد النية لأن زيدا وقسا لولا فضل الله ورحمته لهما لاتبعا الشيطان والاستثناء إنما هو مخرج لما استثنى من جملة ما استثنى منه فلا يجوز أن يكون هذا الاستثناء إلا من الفضل والرحمة والامتناع من اتباع الشيطان الذي ذكر كل ذلك في الآية وبالله تعالى التوفيق
قال علي وحتى لو لم يجز في الاستثناء إلا رده إلى أقرب مذكور لما كان في ذلك ما يوجب ألا نقبل شهادة القاذف إذا تاب لأن الفسق مرتفع عنه بالتوبة بنص الآية بإجماع الأمة وإذا ارتفع الفسق ثبتت العدالة ضرورة لأنه ليس في العالم من المخاطبين إلا فاسق أو عدل وإذا ثبتت العدالة وجب قبول الشهادة لقوله تعالى { جزآؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها لأنهار خالدين فيهآ أبدا رضى لله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه } فحرام علينا ألا نرضى عمن رضي الله عنه وإذا كان حراما علينا ففرضنا الرضا عنه وإذا كان الرضا عنه فرضا ففرض علينا قبول شهادته لأنه ممن نرضى من الشهداء بنص القرآن في إيجاب شهادة { يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم } فقد صح أن سقوط الفسق عنه موجب لقبول شهادته
والعجب من أصحاب أبي حنيفة في تركهم ظاهر الآية وميلهم إلى رأيهم الفاسد فإن نص الآية إنما يوجب ألا تقبل شهادته بنص القذف وليس في ذلك أن شهادته لا تسقط إلا بعد أن يحد وقالوا هم إن شهادته لا تسقط إلا أن يحد فزادوا في رأيهم ما ليس في القرآن وخالفوا الآية في كل حال فقبلوا شهادته أفسق ما كان قبل أن يحد وردوها بعد أن ظهر الحد وقد أخبر عليه السلام في كثير من الحدود أن إقامتها كفارة (4/432)
لفاعليها وهم أهل القياس بزعمهم فهلا قاسوا المحدود في القذف على المحدود في السرقة والزنى وقد شاركهم المالكيون في بعض ذلك فردوا شهادة المحدود فيما حد فيه وأجازوها فيما لم يحد فيه وهذا كله افتراء على الله لم يأذن به وحكم في الدين بغير نص
وبالله تعالى التوفيق
قال علي وكذلك قوله عز و جل { ولذين لا يدعون مع لله إلها آخر ولا يقتلون لنفس لتي حرم لله إلا بلحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له لعذاب يوم لقيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل لله سيئاتهم حسنات وكان لله غفورا رحيما } إلى قوله تعالى فإن الاستثناء الذي في آخرها راجع بإجماع إلى كل ما تقدم
قال علي والاشتراط هو معنى الاستثناء في كل ما قلنا من ذلك قوله تعالى { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح لمحصنات لمؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم لمؤمنات ولله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فنكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بلمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذآ أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على لمحصنات من لعذاب ذلك لمن خشي لعنت منكم وأن تصبروا خير لكم ولله غفور رحيم } فهذا كما تراه استثناء صحيح لمن خشي العنت مع كل ما تقدم من الشروط دون ذكر من لم يخش العنت وكذلك قوله تعالى { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } في كفارات الأيمان فكان هذا الشرط عن عدم كل مذكور في الآية من رقبة وكسوة وإطعام لا على أقرب مذكور فيها
وكذلك قوله تعالى في آية المحاربة { إلا لذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فعلموا أن لله غفور رحيم } فكان ذلك راجعا على سقوط كل ما ذكر في الآية من قتل وصلب ونفي وقطع وخزي وعذاب لا على بعض ذلك دون بعض بإجماع
فإن اعترض معترض بقوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما } وأننا نقول إنه راجع إلى أقرب مذكور
قال علي وإنما وجب ذلك لضرورة بينة في تلك الآية فإنه لا يجوز البتة في نصها أن يرد الشرط على كل مذكور فيها لأنه تعالى قال { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما } فكان ذكر الدخول من صلة وصف النساء اللواتي هن أمهات الربائب لا بوصف (4/433)
أمهات النساء إذ من المحال الممتنع أن يقول تعالى وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن لأنه كلام فاسد البتة لا يفهم فلما صح أن الدخول المذكور إنما هو مراد به أمهات ربائبنا ضرورة لأنه من صلة اللاتي واللاتي صفة للنساء اللواتي هن أمهات ربائبنا ضرورة كان قوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما } مردودا إليهن ضرورة أيضا لأنه أحد قسميهن اللذين هما دخول ولا دخول وهو صلة الكلام المتصل به لا مما قبله
فإن قال قائل أنتم تجيزون أن يستثنى الشيء من خير جنسه فكيف تقولون فيمن باع بدينار إلا درهما أو إلا قفيز قمح أو ما أشبه هذا قلنا له وبالله تعالى التوفيق هذا عندنا ممتنع في البيع حرام لأنه يرجع إلى بيعتين في بيعة لأن الدرهم والعرض لا يستثنى من غير جنسه عندنا إلا على معنى الاستثناء المنقطع كما بينا في أول هذا الباب فإن كان ذلك فإنما مرجعه إلى القيمة فإن كان ذلك في البيع فقد وجب أنه باعه بدينار إلا ما قابل صرف الدرهم من الدينار وهذه بيعة أو ثمن مجهول وكلاهما حرام في البيوع وهو جائز في الإقرار لأنه أقر له بدينار وذكر أن له عنده درهما فخرج الدرهم أو قيمته مما أقر به
وكذلك لو قال مقر له عندي دينار ولي عنده ديناران أو إلا دينارين لي عنده لم يحكم عليه بشيء أصلا لأنه بعد أن أقر له أتى بما سقط به عند الإقرار جملة ولو كان ذلك في البيع لم يجز عند أحد من المسلمين وبالله تعالى التوفيق (4/434)
الباب السادس عشر في الكناية بالضمير
قال علي والضمير راجع إلى أقرب مذكور لا يجوز غير ذلك لأنه مبدل من مخبر عنه أو مأمور فيه فلو رجع إلى أقرب مذكور لكان ذلك إشكالا رافعا للفهم وإنما وضعت اللغات للبيان فإذا كانت الأشياء المحكوم فيها أو المخبر عنها كثيرة وجاء الضمير يعقبها ضمير جمع فهو راجع إلى جميعها كما قلنا في الاستثناء ولا فرق ألا ترى أنك لو قلت أتاني زيد وعمرو وخالد فقتلته أنه لا خلاف بين أحد من أهل اللغة في أن الضمير راجع إلى خالد وأنه لا يجوز رده إلى زيد أو إلى عمرو فإن وجد يوما ما في شيء من النصوص رجوع ضمير إلى أبعد مذكور فهو بمنزلة ما ذكرنا من نقل اللفظ عن موضوعه في اللغة ولو قال أتاني زيد وعمرو وخالد وعبد الله ويزيد فقتلتهم لكان راجعا بلا خلاف بين أحد من أهل اللغة إلى جميعهم وكلهم
قال علي وما يبين أن الشرط في آية التحريم إنما هو في الربائب لا في أمهات النساء ما ذكرنا من أن الضمير راجع إلى أقرب مذكور والضمير بجمع المؤنث في قوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسآئكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما } راجع لما قدمنا إلى أقرب مذكور إليه لا يجوز غير ذلك وأقرب مذكور إليه أمهات ربائبنا فوجب أن يكون راجعا إليهن على ما قدمنا وبالله تعالى التوفيق (4/435)
الباب السابع عشر في الإشارة
قال علي والإشارة بخلاف الضمير وهي عائدة إلى أبعد مذكور وهذا حكمها في اللغة إذا كانت الإشارة بذلك أو تلك أو هو أو أولئك أو هم أو هي أو هما فإن كانت بهذا أو هذه فهي راجعة إلى حاضر قريب ضرورة وهذا ما لا خلاف فيه بين أحد من أهل اللغة ولا يعرف نحوي أصلا غير ما ذكرنا ولذلك أوجبنا أن يكون القرء في حكم العدة هو الطهر خاصة دون الحيض وإن كان القرء في اللغة واقعا على الحيض كوقوعه على الطهر ولا فرق ولكن لما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء فكان قوله عليه السلام تلك إشارة تقتضي بعيدا وأبعد مذكور في الحديث قوله عليه السلام تطهر فلما صح أن الطهر بهذا الحديث هو العدة المأمور أن تطلق لها النساء صح أنه هو العدة المأمور بحفظها لإكمال العدة وبالله تعالى التوفيق (4/436)
الباب الثامن عشر في المجاز والتشبيه
قال علي اختلف الناس في المجاز فقوم أجازوه في القرآن والسنة وقوم منعوا منه والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق أن الاسم إذا تيقنا بدليل نص أو إجماع أو طبيعة أنه منقول عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر وجب الوقوف عنده فإن الله تعالى هو الذي علم آدم الأسماء كلها وله تعالى أن يسمي ما شاء بما شاء
وأما ما دمنا لا نجد دليلا على نقل الاسم عن موضوعه في اللغة فلا يحل لمسلم أن يقول إنه منقول لأن الله تعالى قال { ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وهو لعزيز لحكيم } فكل خطاب خاطبنا الله تعالى به أو رسوله صلى الله عليه و سلم فهو على موضوعه في اللغة ومعهوده فيها إلا بنص أو إجماع أو ضرورة حس نشهد بأن الاسم قد نقله الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه و سلم عن موضوعه إلى معنى آخر فإن وجد ذلك أخذناه على ما نقل إليه
قال علي وهذا الذي لا يجوز غيره ومن ضبط هذا الفضل وجعله نصب عينيه ولم ينسه عظمت منفعته به جدا وسلم من عظائم وقع فيها كثير من الناس
قال علي فكل كلمة نقلها تعالى عن موضوعها في اللغة إلى معنى آخر فإن كان تعالى تعبدنا بها قولا وعملا كالصلاة والزكاة والحج والصيام والربا وغير ذلك فليس شيء من هذا مجازا بل هي تسمية صحيحة واسم حقيقي لازم مرتب من حيث وضعه الله تعالى وأما ما نقله الله تعالى عن موضوعه في اللغة إلى معنى تعبدنا بالعمل به دون أن يسميه بذلك الاسم فهذا هو المجاز كقوله تعالى { وخفض لهما جناح لذل من لرحمة وقل رب رحمهما كما ربياني صغيرا } فإنما تعبدنا تعالى بأن نذل للأبوين ونرحمهما ولم يلزمنا تعالى قط أن ننطق ولا بد فيما بيننا بأن للذل جناحا وهذا لا خلاف فيه وليس (4/437)
كذلك الصلاة والزكاة والصيام لأنه لا خلاف في أن فرضا علينا أن ندعو إلى هذه الأعمال بهذه الأسماء بأعيانها ولا بد وبالله تعالى التوفيق
واحتج من منع من المجاز بأن قال إن المجاز كذب والله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم يبعدان عن الكذب
قال علي فيقال له صدقت وليس نقل الله تعالى الاسم عما كان علقه عليه في موضع ما إلى موضع آخر كذبا بل هو الحق بعينه لأن الحق هو ما فعله تعالى والباطل هو ما لم يأمر به أو لم يفعله ومن ظن أن هنا حقا هو عيار على الله تعالى وزمام على أفعاله يلزمه عز و جل أن يجري أفعاله عليه فقد كفر وقد تكلمنا في هذا في باب إثبات حجج العقول ونستوعب الكلام فيه إن شاء الله تعالى في باب إبطال العلل من كتابنا هذا وقد تكلمنا على ذلك أيضا في كتابينا الموسومين بالتقريب والفصل كلاما كافيا وبالله تعالى التوفيق
وليست الأسماء موضوعة على المسميات إلا إما بتوقيف وإما باصطلاح ولا موقف إلا الله عز و جل فإذا أوقع الموقف الأول جل وعز اسما ما على مسمى ما في مدة ما أو في معنى ما ثم نقل ذلك الاسم إلى معنى آخر في مكان آخر فلا كذب في ذلك ولا للكذب ههنا مدخل وإنما يكون كاذبا من نقل منا اسما عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر يلبس به بلا برهان فهذا هو الكاذب الآفك الأثيم وكذلك لو اصطلح اثنان على أن يسميا شيئا ما اسما ما مخترع من عندهما أو منقول عن شيء آخر يتفاهما به لا ليلبسا به فلا كذب في ذلك فإذا جاز هذا فيما بيننا فهو للذي يلزم للجميع أن يعبدوه ويطيعوه ما أمكن وهو بذلك تعالى أولى
والتلبيس في هذا هو من قال العسل حلال والمسكر من مصراة عسل فهو حلال فهذا كاذب فإنه أتى إلى عين سماها الله عز و جل خمرا والخمر حرام فسماها بغير اسمها ليستحلها بذلك وقد أنذر بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم
حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي عن محمد بن إسحاق القاضي عن ابن الأعرابي عن سليمان بن أشعث عن أحمد بن حنبل ثنا زيد بن الحباب ثنا معاوية بن صالح عن حاتم بن حريث عن مالك بن أبي مريم ثنا عبد الرحمن بن غنم قال أنبأ أبو مالك الأشعري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ثنا عبد الله بن ربيع عن محمد بن معاوية المرواني (4/438)
عن أحمد بن شعيب ثنا محمد بن عبد الأعلى ثنا خالد هو ابن الحارث عن شعبة سمعت أبا بكر بن حفص يقول سمعت ابن محيريز يحدث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم عن النبي صلى الله عليه و سلم بمثله
قال علي فقد بينا وجه الحقيقة في هذا ثم نذكر إن شاء الله تعالى طرفا من الآي التي تنازعوا فيها فإن الشيء إذا مثل سهل فهمه
فمن ذلك قوله عز و جل { وسأل لقرية لتي كنا فيها ولعير لتي أقبلنا فيها وإنا لصادقون } فقال قوم معناه واسأل أهل القرية واسأل أهل العير وقال آخرون يعقوب نبي فلو سأل العير أنفسها والقرية نفسها لأجابته
قال علي وكلا الأمرين ممكن ومنه قوله تعالى { فنطلقا حتى إذآ أتيآ أهل قرية ستطعمآ أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا } فقد علمنا بضرورة العقل أن الجدار لا ضمير له والإرادة لا تكون إلا بضمير الحي هذه هي الإرادة المعهودة التي لا يقع اسم إرادة في اللغة على سواها فلما وجدنا الله تعالى وقد أوقع هذه الصفة على الجدار الذي ليس فيه ما يوجب هذه التسمية علمنا يقينا أن الله عز و جل قد نقل اسم الإرادة في هذا المكان إلى ميلان الحائط فسمى الميل إرادة وقد قدمنا أن الله تعالى يسمي ما شاء بما شاء إلا أن ذلك لا يوجب نقل الحقائق التي رتب تعالى في عالمه عن مراتبها ولا نقل ذلك الاسم في غير المكان الذي نقله فيه الخالق عز و جل ولولا الضرورة التي ذكرنا ما استجزنا أن نحكم على اسم بأنه منقول عن مسماه أصلا وقد أنشد أبو بكر محمد بن يحيى الصولي في نقل اسم الإرادة عن موضوعها في اللغة إلى غيره قول الراعي قلق الفؤوس إذا أردن نضولا وذكر أبو بكر الصولي رحمه الله أن ابن فراس الكاتب وكان دهريا سأله في هذه الآية فأجاب أبو بكر بهذا البيت وقد قال قوم إنه تعالى قادر على أن يحدث في الجدار إرادة وبلى هو قادر على ما يشاء وكل ما يتشكل في الفكر ولكن كل ما لم يأتنا نص أنه خرق تعالى فيه ما قد تمت به كلماته من المعهودات فهو مكذب كما أن لكل مدع ما لم يأت بدليل فهو مبطل وكذلك قوله تعالى { وهي تجري بهم في موج كلجبال ونادى نوح بنه وكان في معزل يبني ركب معنا ولا تكن مع لكافرين } (4/439)
فإنه تعالى سمى حركة السفينة جريا وحركة السفينة اضطرارية وهذا مما قلنا من أنه تعالى يسمي ما شاء بما شاء فهو خالق الأسماء والمسميات كلها حاشاه لا إله إلا هو وأما قوله تعالى { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم لطور خذوا مآ آتيناكم بقوة وسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم لعجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين } فإنما عنى تعالى حب العجل على ما ذكرنا من الحذف الذي أقيم لفظ غيره مقامه وأما قوله تعالى { يوم نقول لجهنم هل متلأت وتقول هل من مزيد } وهو عندنا حقيقة وإنطاق لها
وقد احتج علينا قوم بقول الله تعالى { إنا عرضنا لأمانة على لسماوات ولأرض ولجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها لإنسان إنه كان ظلوما جهولا }
قال علي وهذا أيضا عندنا على الحقيقة وأن الله تعالى وضع فيها التمييز إذ خيرها فلما أبت حمل الشرائع وأشفقت من تحمل الأمانة سلبها إياه وسقطت الكلف عنها وممكن أن يكون على نقل اللفظ أيضا والمراد بذلك أنها لم يحملها إذا لم يركب تعالى فيها قوة الفهم والعقل ولا النفس المختارة المميزة
وهذا موجود في كلام العرب وأشعارها فإن العرب تقول إذا أرادت أن تمدح أبى ذلك سؤددك وإذا أرادت الذم أبى ذلك لؤمك أي إن سؤددك غير قابل لهذه الفعلة لمضادتها له وكذلك في الذم أي إن لؤمك غير قابل لهذه المكرمة لمضادتها له فعلى هذا كانت إباية السموات والأرض لا على ما سواه إلا أن الأول أصح وبه نقول
وإنما فرقنا بين هذا في هذا الوجه وبين ما قلنا آنفا في إنطاق جهنم لأن كلام الله عز و جل كله عندنا بيان لنا وجار على معهود ما أوجبه فهمنا بإدراك عقولنا وحواسنا وإنما قلنا ذلك لقول الله عز و جل { ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم لسمع ولأبصار ولأفئدة قليلا ما تشكرون } وحضنا تعالى على التفكير والتدبر للقرآن وأخبرنا بأنه بيان لنا وكل ذلك يكون إلا بما تميزه عقولنا لا بما يضادها فلما صح ذلك كله وأدانا التدبير والبصر والسمع والعقل إلى أن السموات جمادات لا تعقل (4/440)
وأن الأرض كذلك وأن حد النطق هو التمييز للأشياء وأن التمييز لا يكون إلا في حي وأن الحي هو الحساس المتحرك بإرادة وأن المميز هو بعض الحي لا كله وأن حد التمييز هو إمكان معرفة الأشياء على ما هي عليه وإمكان التصرف في الصناعات والأعمال المختلفة بإرادة وأيقنا أن كل هذه الصفات ليست الأرض ولا الأفلاك ولا الجبال له حاملة علمنا أن هذه اللفظة التي أخبرنا بها تعالى عن هذه التي ليست أحياء لفظة منقولة عن معهودها عندنا إلى معان أخر من صفات هذه الأشياء المخبر عنها الموجودة فيها على الحقيقة ومن تعدى هذه الطريقة فقد لبس الأشياء ورام إطفاء نور الله تعالى الموضوع فينا
وبالجملة فمن أراد إخراج الأمور عن حقائقها في المبادىء ثم عن حقائقها في المعاهد فينبغي أن يتهم في دينه وسوء أغراضه فإن سلم من ذلك فلا بد من وصمة في عقله أو قوة في جهله إلا أن هذا كله لا يعترض على الوجه الأول لأن الإنطاق الذي كان وضعه الله تعالى فيها حينئذ قد سلبها إياه إذ أبت قبول الأمانة وإنما يعترض بهذا كله على من يقول إنها باقية على نطقها إلى اليوم فهذا باطل لا شك فيه بما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق
وقد ذكر رجل من المالكيين يلقب خويز منداذ أن للحجارة عقلا ولعل تمييزه يقرب من تمييزها وقد شبه الله قوما زاغوا عن الحق بالأنعام وصدق تعالى إذ قضى أنهم أضل سبيلا منها فإن الأنعام لا تعدوا ما رتبها ربها لها من طلب الغذاء وإرادة بقاء النوع وكراهة فسادها بعد كونها وهؤلاء رتبهم خالقهم عز و جل ليعرفوا قدرته وإنها بخلاف قدرة من خلق وليعرفوا رتبة ما خلق على ما هي عليه فبعدوا ذلك فمن مشبه قدرة ربه تعالى حكم عقله فيصرفه به تعالى الله عما يقول أهل الظلم علوا كبيرا
ومن مفسد رتب المخلوقات وساع في إبطال حدودها وإفساد الاستدلال بها على التوحيد { من لذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } وسيرد الجميع إلى عالم الغيب والشهادة فيحكم بيننا فيما فيه نختلف وتالله لتطولن ندامة من (4/441)
لم يجعل حظه من الدين والعلم إلا نصر قول فلان بعينه ولا يبالي ما أفسد من الحقائق في تلك السبيل العضلة وبالله تعالى نعوذ من الخذلان فقال هذا الجاهل إن من الدليل على أن الحجارة تعقل قوله تعالى { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كلحجارة أو أشد قسوة وإن من لحجارة لما يتفجر منه لأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه لمآء وإن منها لما يهبط من خشية لله وما لله بغافل عما تعملون } قال فقد أخبر تعالى أن منها ما يهبط من خشية الله فدل ذلك على أن لها عقلا أو كلاما هذا معناه
قال علي ونحن نقول إن من العجب العجيب استدلال هذا الرجل بعقله على أنه لا يخشى الله تعالى إلا ذو عقل فهلا استدل بذلك العقل نفسه على ما شاهد بحسه من أن الحجارة لا عقل لها وكيف يكون لها تمييز وعقل والله تعالى قد شبه قلوب الكفار التي لم تنقد إلى معرفته عز و جل بالحجارة في أنها لا تذعن للحق الوارد عليها فكذب الله تعالى في نفيه المعرفة عن الحجارة نصا إذ جعلها تعالى بمنزلة قلوب الكفار في عنود تلك القلوب عن الطاعة له عز و جل فكيف يكون للحجارة عقل أو تمييز بعد هذا
فإن قال قائل فما وجه إضافة الخشية إلى الحجارة قلنا له وبالله تعالى التوفيق قد قدمنا أن الله تعالى رتب الأسماء على المسميات وجعل ذلك سببا للتفاهم ولولا ذلك ما كان تفاهم أبدا ولا فهمنا عنه تعالى شريعة ولا علمنا مراده عز و جل في أمر ولا نهي ولا في خبر أخبرنا به وعرفنا تعالى بذلك التمييز الذي وضع فينا من صفات المخلوقات ما قد عرفناه وجعل لتلك الصفات أسماء نعبر بها عنها ونفاهم بها الأخبار عنها
فكان مما رتب لنا من ذلك في اللغة العربية إن سمينا تمييزا حال من رأيناه يفهم ويتكلم ويسأل عن وجوه الأشياء المشكلة فيجاب فيفهم ويسأل عما علم منها فيجب ويحدث بما رأى وشاهد وسمع ويؤمر بالكلام وينهى عن ضروب مختلفة من الأفاعيل فيفهم ما يزاد منه كل ذلك
وكان مما رتب لنا أيضا عز و جل أن لم تكن فيه هذه الصفات سميناه غير مميز فإن (4/442)
كان من الحيوان مما سوى الملائكة والجن والإنس سميناه حيا غير مميز وإن كان من غير الحيوان سميناه جمادا غير حي إن كان من الشجر أو الحجارة أو الأرض أو الماء أو النار أو الهواء أو غير ذلك
وأقر تعالى هذه الرتب في أنفسنا بما وضع فيها من التمييز إقرارا صار من أنكر شيئا منه ربما آل به إلى أن نسقط عنه الحدود ولا يقتص منه إن قتل
وتسقط عنه الشرائع ويصير في محل من لا يخاطب لعدم عقله وتمييزه فإن زاد ذلك لم يؤمن عليه أن يغل ويداوي دماغه الذي هو منبعث الحس والحركة بأنواع كريهة من العلاج
فلما أيقنا أن تلك الصفات المسماة برتبة الله تعالى تمييزا ليست في الحجارة وجب ضرورة أن تسمى مميزة
وأيضا فقد قال تعالى مصدقا لإبراهيم خليله عليه السلام في قوله { إذ قال لابيه يأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا } وإنما كان يعبد الحجارة
فصح بالنص أنها لا تفهم ولا تعقل
فلما رأيناه تعالى قد أوقع عليها خشية له علمنا أن هذه اللفظة هنالك منقولة عن موضعها عندنا إلى صفة أخرى من صفات الحجارة وهي تصريفه لها تعالى كيف شاء لا تخرج تلك الخشية عن هذه الجملة التي فسرنا البتة
فهذا وجه إضافة الخشية إلى الحجارة إذ الخشية المعهودة عندنا هي الخوف من وعيد الله عز و جل والائتمار لأمره تعالى والحجارة خالية بيقين من كل ذلك وكيف يخشى من لم يؤمر ولا ينهى ولا كلف ولا وعد أم أي شيء يخشى غير العقاب ولا عقاب إلا على عاص ولا عاصي إلا مأمور والحجارة ليست بمأمورة فليست عاصية فلا عقاب عليها ولا خشية عليها نعني الخشية المعهودة فيما بيننا ولا مميز إلا حي والحجارة ليست حية فليست مميزة
ومما ذكرنا من نقل بعض الأسماء إلى غير معهودها قول رسول الله صلى الله عليه و سلم في الفرس إن وجدناه لبحرا فأوقع عليه السلام لفظة بحر على الفرس الجواد وكذلك لما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ارفق بالقوارير يعني النساء كان ذلك نقلا لاسم القوارير عن موضوعه في اللغة عن الزجاج إلى النساء وكذلك قوله تعالى { قواريرا من فضة قدروها تقديرا } (4/443)
هو نقل أيضا للقوارير عن موضوعه في اللغة عن الزجاج إلى الفضة إلا أنه لا يحل لمسلم أن يقول في لفظه لم يأت نص ولا ضرورة حس بأنها منقولة عن موضوعها إنها منقولة ولا يتعدى بكل ذلك ما جاء في نص أو ضرورة حس ولا يصرف لفظ عن موضوعه إلا بأحد هذين الوجهين وإلا فهي باقية في مرتبتها في اللغة وليس لأحد أن يصرف عنه وجهه إذ لم يصرفه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه و سلم وإن العجب ليكثر ممن يقول إن الشحم يسمى ندى فإذا سئل من أين قلت ذلك أنشد قول أعرابي جلف كثوب العداب الفرد يضربه الندى تعلى الندى في متنه وتحدرا فيكون ذلك قاطعا لخصمه يستشهد أن الجواري يسمين القوارير وأن الفرس الجواد يسمى بحرا وأن الخشية قد يسمى بها الوقوع تحت التدبير بأن خالق اللغات والمتكلمين أوقع هذا الاسم على هذا المعنى وبأن أفصح العرب سمى النساء قوارير والفرس بحرا
ولعمري لو أنه عليه السلام يقول ذلك قبل بلوغه أربعين عاما وقبل أن ينبأ لكان قوله أعظم حجة لفصاحته وعلمه بلغة قومه وأنه من وسيطة قريش ومسترضع في بني سعد بن أبي بكر بن هوازن فجمع فصاحة الحيين خندف وقيس أهل تهامة والحجارة العالية الذين إليهم انتهت الفصاحة في اللغة العربية الإسماعيلية والذي لا شك فيه فهو أنه عليه السلام أفصح من امرىء القيس ومن الشماخ ومن حسن البصري وأعلم بلغة قومه من الأصمعي وأبي عبيدة وأبي عبيد
فما في الضلال أبعد من أن يحتج في اللغة بألفاظ هؤلاء ولا يحتج بلفظة فيها عليه السلام فكيف وقد أضاف ربه تعالى فيه إلى ذلك العصمة ومن الخطأ فيها القول والتأييد الإلهي والنبوة والصدق المقطوع على غيبه الذي صحبه خرق العادات والآيات والمعجزات وفي أقل من هذا كفاية لمن كانت فيه حشاشة فكيف أن يظن به عليه السلام أن يخبر عن ربه تعالى خبرا يكلفنا فهمه وهو بخلاف ما يفهم ويعقل ويشاهد ويحس ما ينسب هذا إليه صلى الله عليه و سلم إلا ملحد في الدين كائد (4/444)
وأعجب العجب أن هؤلاء القوم يأتون إلى الألفاظ اللغوية فينقلونها عن موضوعها بغير دليل فيقولون معنى قوله تعالى { وثيابك فطهر } ليس للثياب المعهودة وإنما هو القلب
ثم يأتون إلى ألفاظ قد قام البرهان الضروري على أنها منقولة عن موضعها في اللغة إلى معنى آخر وهو إيقاع الخشية على الحجارة
فيقولون ليس هذا اللفظ ههنا منقولا عن موضوعه مكابرة للعيان وسعيا في طمس نور الحق وإقرارا لعيون الملحدين الكائدين لهذا الدين ويأبى الله إلا أن يتم نوره وبالله تعالى التوفيق
فصل في التشبيه
قال علي التشبيه بين الأشياء المشتبهة حق مشاهد فإذا شبه الله عز و جل أو رسوله صلى الله عليه و سلم شيئا بشيء فهو صدق وحق وتنبيه على قدرة عظيمة لأنه ليس في العالم شيئان إلا وهما مشتبهان من وجه ما وغير مشتبهين من وجه آخر وقد قال الله تعالى { لذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق لرحمن من تفاوت فرجع لبصر هل ترى من فطور } فهذا الذي قلنا هو ارتفاع التفاوت لأن التماثل هو ضد التفاوت وإذا بطل التفاوت صح التماثل ولذلك افتقر الناس إلى معرفة حدود الكلام وضبط الصفات التي تتفق فيها الموصوفات التي سعى قوم من النوكى في إبطالها وهيهات من إبطال الحقائق
فإن قال قائل إنه عليه السلام قد شبه ديون الله تعالى بديون الناس في وجوب قضائها وأنتم لا تقولون بقضاء الصلاة عن الميت
فالجواب وبالله تعالى التوفيق إننا بتوفيق الله عز و جل لنا أهل الطاعة لهذا الحديث وغيره وقد نسب إلينا الباطل من ظن أننا نخص هذا الحديث أو غيره بلا نص فنقول يقضى الصوم والحج والصلاة المنذورة والمنسية والتي نيم عنها وأما الصلاة المفروضة المتروكة عمدا والصوم المفروض في رمضان المتروك عمدا فإن الذي فرط فيها لا يقدر على قضائها أبدا وليس عليه صيام يقضيه ولا صلاة يقضيها وإنما عليه إثم أمره فيه إلى ربه تعالى فلا يقضى عنه ذلك وبالله تعالى التوفيق (4/445)
قال علي وهذه أيضا من عجائب هؤلاء القوم فإنهم يأتون إلى أشياء لم يشبه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه و سلم بعضها ببعض فيحكون لها بحكم واحد لادعائهم أنها مشتبهة فيقولون لا يجوز للنكاح بأقل مما يقطع في اليد في السرقة وقد علم كل ذي عقل أنه لا شبه بين السرقة والنكاح ثم يأتون إلى ما أكد الله تعالى شبهه وساوى بينهما فيبطلون التساوي فيهما فيقولون إن ديون الناس تقضى عن الميت وديون الله تعالى لا تقضى عنه فهل في تقحم الباطل أعظم من هذا قال علي وهذا الذي قلنا في المجاوز والتشبيه هو عين الحقيقة بالبراهين التي ذكرنا لم نترك فيه علقة لمتعقب منصف وبالله تعالى التوفيق فأما أهل الشغب فهم بمنزلة التائه في الفلوات وإنما علينا بعون الله تعالى نهج الطريق القصد وإيضاحه حتى لا يوجد بحول الله تعالى وقوته طريق أنهج ولا أخصر منه والحمد لله رب العالمين ويوفق الله تعالى من يشاء بما يشاء وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل (4/446)
الباب التاسع عشرفي أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم
وفي الشيء يراه عليه السلام أو يبلغه فيقره صامتا عليه لا يأمر به ولا ينهى عنه
قال علي بن أحمد رحمه الله قال قوم من المالكيين أفعاله عليه السلام على الوجوب وهي آكد من أوامره وقال آخرون منهم من الحنفيين الأفعال كالأوامر وقال آخرون من كلتا الطائفتين ومن الشافعيين الأفعال موقوفة على دليلها فما قام منها على أنه واجب صير إليه وما قام دليل أنه منها ندب أو إباحة صير إليه وممن قال بهذا من الشافعيين أبو بكر الصيرفي وابن فورك وقال سائر الشافعيين وجميع أصحاب الظاهر ليس شيء من أفعاله عليه السلام واجبا وإنما ندبنا إلى أن نتأسى به عليه السلام فيها فقط وألا نتركها على معنى الرغبة عنها ولكن كما نترك سائر ما ندبنا إليه مما إن فعلناه أجرنا وإن تركناه لم نأثم ولم نؤجر إلا ما كان من أفعاله بيانا لأمر أو تنفيذا لحكم فهي حينئذ فرض لأن الأمر قد تقدمها فهي تفسير الأمر
قال علي وهذا هو القول الصحيح الذي لا يجوز غيره
واحتج من قال إنها على الوجوب وإنها أوكد من الأوامر بما حدثنا سعيد الجعفري قال ثنا أبو بكر بن الأدفوي ثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل بن النحاس النحوي عن أحمد بن شعيب النسائي عن سعيد بن عبد الرحمن حدثنا سفيان هو ابن عيينة عن الزهري قال وثبتني معمر بعد عن الزهري عن عروة بن الزبير أن مسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يزيد أحدهما على صاحبه قالا خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الحديبية فذكر الحديث وفيه طول فلما فرغ من قصة الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا قال فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة يا رسول الله أتحب ذلك اخرج ثم لا تكلم منهم أحدا حتى تنحر وتحلق فخرج عليه السلام (4/447)
فنحر بدنة ودعا بحالقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما
قال علي وما نعلم حجة أشنع عليهم من هذا الحديث الذي احتجوا به لأن الذي أوجب الله علينا طاعته وأمرنا باتباعه هو النبي صلى الله عليه و سلم الذي أنكر عليهم التأخر عما أمرهم به ولم يأمر باتباع الذين خالفوه حتى فعل ما أمرهم به والذين أوهموه حتى جعلوه يشكوا ما لقي منهم
ومن أخذ بفعل الناس وترك أمر نبيه صلى الله عليه و سلم وعمل بما أنكره عليه السلام ولم يلتفت إلى أمر نبيه صلى الله عليه و سلم وصوب فعل من أغضبه وتعمد ذلك فقد ضل ضلالا ولم نأمن عليه مفارقة الإسلام
وليعلم كل ذي لب أن ذلك الفعل من أهل الحديبية رضي الله عنهم خطأ ومعصية ولكنهم مغفور لهم بيقين النص في أنه لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية وليس غيرهم كذلك ولا يحل لمسلم أن يقتدي بهم في ذلك فلا بد لكل فاضل من زلة
وكل عالم من وهلة وكل أحد من الخيار فإنه يؤخذ من قوله وفعله ويترك ويرغب من كثير من قوله وفعله إلا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن اقتدى بأهل الحديبية في هذا الفعل الذي أنكره رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد هلك رضي الله عنهم مضمون لهم المغفرة في ذلك وغيره ولم يضمن ذلك لغيرهم
وقد أقر بعضهم رضي الله عنهم على نفسه الخطأ العظيم في هذا الباب كما حدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح قال ثنا عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم ثنا أبو كريب محمد بن العلاء ومحمد بن عبد الله بن نمير قالا أنبأنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال سمعت سهل بن حنيف بصفين يقول اتهموا رأيكم على دينكم فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع رد أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الأعمش عن أبي وائل عن سهل لرددته
قال علي ويوم أبي جندل هو يوم الحديبية فقد أقر سهل رضي الله عنهم أنهم أساؤوا الرأي يوم الحديبية حتى لو استطاعوا رد أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم لردوه
حدثنا أبو سعيد الجعفري حدثنا ابن الأدفوي ثنا أبو جعفر بن الصفار عن النسائي عن سعيد بن عبد الرحمن حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري قال وثبتني (4/448)
معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم فذكرا حديث الحديبية وفيه أن عمر بن الخطاب قال والله ما شككت مذ أسلمت إلا يومئذ فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت ألست نبي الله حقا قال بلى قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قلت فلم نعطى الدنية في ديننا إذا قال إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري قلت أو ليس وعدتنا أنا سنأتي البيت فنطوف به قال بلى أفأخبرتك أنك تأتيه العام قلت لا قال إنك تأتيه وتطوف به قال فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا قال بلى قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قلت فلم نعطى الدنية إذا قال أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه حتى تموت فوالله إنه لعلى الحق
قلت أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به قال بلى أفأخبرك أنك تأتيه العام قلت لا
قال إنك ستأتيه وتطوف به
قال الزهري قال عمر فعملت لذلك أعمالا
قال علي لم يشك عمر قط مذ أسلم في صحة نبوة محمد صلى الله عليه و سلم ومعاذ الله من أن يظن ذلك به ذو مسكة ولكنه شك في وجوب اتباع ما أمرهم به من الحلق والنحر وإمضاء القضية بينه وبين قريش ثم ندم على ذلك كما ترى وعمل لذلك أعمالا مستغفرا مما سلف منه من الأمر الذي ينصره الآن من أضله الله تعالى بالتقليل الفاسد ومثل هذا من غير أهل الحديبية فسق شديد ولكنهم بشهادته صلى الله عليه و سلم مغفور لهم لا يدخله النار منهم أحد إلا صاحب الجمل الأحمر وحده
قال علي وقد بين النبي صلى الله عليه و سلم دينهم في هذا الباب كما ثنا يحيى بن عبد الرحمن ثنا ابن دحيم ثنا إبراهيم بن حماد ثنا إسماعيل بن إسحاق ثنا نصر بن علي ثنا وهب بن جرير ثنا أبي عن ابن إسحاق قال ثنا عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال حلق يوم الحديبية رجال وقصر آخرون فذكر ابن عباس أنه صلى الله عليه و سلم ترحم على المحلقين ثلاثا وعلى المقصرين واحدة بعد أن ذكر بهم ثلاث مرات فقالوا ما بال المحلقين ظاهرت لهم الترحم فقال صلى الله عليه و سلم إنهم لم يشكوا
قال علي لم يشكوا في وجوب تنفيذ أمره وشك المترددون فعوقبوا كما ترى وإن (4/449)
كانوا مغفورا لهم كلهم وكذلك الذين فروا من الزحف يوم أحد فأخبر تعالى أنه إنما استفزهم الشيطان ببعض ما كسبوا ثم أخبر تعالى أنه عفا عنهم فمن اقتدى بهم في الفرار من الزحف فهو غير حاصل على ما حصلوا عليه من العفو بل يبوء بغضب من الله تعالى
ولا عجب أعجب ممن يقتدي بأهل الحديبية في خطيئة وقعت منهم قد ندموا عليها واعترفوا بها وينهى عن الاقتداء بهم في فعل فعلوه كلهم موافق لرضا الله عز و جل ورضا رسوله صلى الله عليه و سلم في نحرهم البدنة في ذلك اليوم عن سبعة والبقرة عن سبعة بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنهم نحروا سبعين بدنة عن سبعمائة إنسان ما سوى البقر فيقول هؤلاء لا يجوز الاقتداء بهم في ذلك تقليدا لما ثم يحض على الاقتداء بهم في خطيئة أخطؤوها قد تابوا منها فهل في عكس الحقائق والمجاهرة بالباطل أشنع من هذين المذهبين وبالله تعالى نعوذ من الخذلان
ومن العجائب التي لا يفهم منها إلا الاستخفاف بالدين والخنا احتجاج ابن خويز منداذ المالكي إيجاب أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم فرضا بحديث الأنصاري الذي قبل امرأته وهو صائم فأمرها أن تستفتي في ذلك أم سلمة فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فوجد المرأة فسأل عنها فأخبرته أم سلمة بخبرها فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا أخبرتها أني أفعل ذلك فقالت قد فعلت فزاده ذلك شرا وقال يحل الله لرسوله ما شاء فغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال أما والله إني لأتقاكم لله وأعلمكم بما أتقي
قال أبو محمد وإن احتجاج ابن خويز منداذ بهذا الحديث وهو لا يقول به ولا يستحبه ولا يبيحه بل يكره القبلة للصائم ويرغب عن فعل النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك ويسخط الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم لرغبته عما كان عليه السلام يفعله لآية من الآيات الشنيعة وهو لا يرى هذا الفعل واجبا ولا مستحبا ولا مطلقا ثم يحتج به في إيجاب أفعاله صلى الله عليه و سلم وليس العجب ممن يطلق لسانه بمثل هذا الخنا فإنه قد عدم الرقبة والحياء والخوف ولا يبالي بالإثم ولا بالعار وإنما العجب ممن يسمعه ثم يقبله ويكتبه مصدقا له مستحسنا وإنا لله وإنا إليه راجعون على دروس العلم وذهابه
وهذا الحديث الذي ذكر أعظم حجة في أن أفعاله عليه السلام ليست على الوجوب ولكنها مستحبة مندوب إليها يأتي من تركها راغبا عنها كما يأثم ابن خويز (4/450)
منداذ ونظراؤه في رغبتهم عن فعل النبي صلى الله عليه و سلم في التقبيل وهو صائم ولا يأثم من تركها مستحبا لها غير راغب عنها ولا يؤجر أيضا وأما من فعلها مؤتسيا فيها بالنبي صلى الله عليه و سلم فهو مأجور والحمد لله رب العالمين
واحتج من قال إن أفعاله عليه السلام كأوامره بأن قال قد أمرنا باتباعه عليه السلام بقوله تعالى { قل يأيها لناس إني رسول لله إليكم جميعا لذي له ملك لسماوات ولأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بلله ورسوله لنبي لأمي لذي يؤمن بلله وكلماته وتبعوه لعلكم تهتدون } قالوا وهذا إيجاب علينا اتباعه في فعله وأمره سواء
قال علي الاتباع لا يفهم منه محاكاة الفعل في اللغة أصلا وإنما يقتضي الامتثال لأمره عليه السلام والطاعة لما علم عن ربه عز و جل وقد بين ذلك عليه السلام في قوله من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وبقوله صلى الله عليه و سلم كل أحد يدخل الجنة إلا من أبى قيل ومن يأبى يا رسول الله قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى
قال علي والمعصية إنما هي مخالفة الأمر لا ترك محاكاة الفعل وما فهم قط من اللغة أن يسمى تارك محاكاة الفعل عاصيا إلا بعد أن يؤمر بمحاكاته فإنما استثنى عليه السلام من دخول الجنة من خالف الأمر فقط وبقي من لا يحاكي الفعل غير راغب عنه على دخول الجنة فقد صح أنه ليس عاصيا وإذا لم يكن عاصيا فلم يجتنب فرضا فقد صح أن محاكاة الفعل ليست فرضا وأيضا فما فهم عربي قط من خليفة يقول اتبعوا أمري هذا أنه أراد افعلوا ما يفعل وإنما يفهم من هذا امتثال أمره فقط وأيضا فإن أفعال النبي صلى الله عليه و سلم لا يختلف أحد في أنها غير فرض عليه بمجردها ومن المحال أن يكون كذلك ويكون فرضا علينا وهذا هو خلاف الاتباع حقا وقد هذر قوم بأن قالوا من الحجة في ذلك قول الله عز و جل { مآ أفآء لله على رسوله من أهل لقرى فلله وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل كي لا يكون دولة بين لأغنيآء منكم ومآ آتاكم لرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا وتقوا لله إن لله شديد لعقاب }
قال علي وهذا تخليط لأن الإيتاء في اللغة إنما هو الإعطاء والفعل لا يعطى وإنما يعطينا أوامره فقط ولا سيما وقد اتبع ذلك النهي وإنما توعد الله على مخالفة الأمر (4/451)
بقوله تعالى { لا تجعلوا دعآء لرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم لله لذين يتسللون منكم لواذا فليحذر لذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } وقال بعضهم الضمير في أمره راجع إلى الله عز و جل
قال علي فيقال لهم لا عليكم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم هو أمر من الله عز و جل نفسه بقوله تعالى { وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى } فنطقه كله أمر الله عز و جل
قال علي الآية كافية في أن اللازم إنما هو الأمر فقط لا الفعل لأن الله عز و جل إنما أخبر أن الوحي من قبله تعالى هو النطق والنطق إنما هو الأمر وأما الفعل فلا يسمى نطقا البتة فصح أن فعله عليه السلام كله إباحة وندب لا إيجاب إلا ما كان منه بيانا لأمر
قال علي وقال بعضهم معنى أمره ههنا حاله كما تقول أمر فلان اليوم على إقامة أو أمره على عوج يعني حاله
قال علي وهذا يبطل بأن هذه الآية إنما جاءت بإيجاب ما ذكر قبلها من الأمر الذي هو النطق قال الله عز و جل { لا تجعلوا دعآء لرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم لله لذين يتسللون منكم لواذا فليحذر لذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } فصح أن هذا الوعيد في أمره لهم بالبقاء معه وكذلك كان عليه السلام لا يؤذن لشيء من صلوات التنفل كالعيدين والكسوف تفريقا بين الفعل والأمر إذ لو دعوا إلى الصلاة لكان أمرا والأمر فرض
وقد حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم ثنا زهير بن حرب ثنا جرير عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة أم المؤمنين قالت صنع رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرا نترخص فيه فبلغ ذلك ناسا من أصحابه فكأنهم كرهوه وتنزهوا عنه فبلغه ذلك فقام خطيبا فقال ما بال رجال بلغهم عني أمر ترخصت فيه فكرهوه وتنزهوا عنه فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية (4/452)
قال علي فهذا نص جلي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم ينكر عليهم ترك فعل ما فعل فصح أنه ليس ذلك واجبا ولو كان واجبا لأنكر تركه وإنما أنكر عليهم إنكاره والتنزه عنه وهذا منكر جدا وقد أنكر عليهم ترك أمره فوضح الفرق بين الفعل والأمر لمن عقل وبالله تعالى التوفيق
وبه إلى مسلم حدثنا محمد بن رافع وعبيد الله بن معاذ وابن أبي عمر وقتيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير وأبو كريب وأبو بكر بن أبي شيبة قال ابن رافع ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن همام بن منبه وقال ابن معاذ ثنا أبي ثنا شعبة عن محمد بن زياد وقال ابن أبي عمر ثنا سفيان وهو ابن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج وقال قتيبة ثنا المغيرة الخرامي عن أبي الزناد عن الأعرج وقال ابن نمير ثنا أبي عن الأعمش عن أبي صالح السمان
وقال ابن أبي شيبة وأبو كريب ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح ثم اتفق همام ومحمد بن زياد والأعرج وأبو صالح كلهم عن أبي هريرة أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم عن أنبيائهم ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم
وهذه رواية كل من ذكرنا ولم يخالفهم همام في شيء إلا أنه قال ما تركتكم
قال أبو محمد وهذا خبر منقول نقل التواتر عن أبي هريرة فلم يوجب رسول الله صلى الله عليه و سلم على أحد إلا ما استطاع مما أمر به واجتناب ما نهى عنه فقط ولا يجوز البتة في اللغة العربية أن يقال أمرتكم بما فعلته وأسقط عليه السلام ما عدا ذلك وأمرهم بتركه ما تركهم
وقد علمنا بضرورة الحس والمشاهدة أنه عليه السلام وكل حي في الأرض لا يخلو طرفة عين من فعل إما جلوس أو مشي أو وقوف أو اضطجاع أو نوم أو اتكاء أو غير ذلك من الأفعال فأسقط عليه السلام عنا كل هذا وأمرنا بتركه فيه حاشا ما أمر به أو نهى عنه فقط فوضح يقينا أن الأفعال كلها منه عليه السلام لا تلزم أحدا وإنما فيها الائتساء المتقدمة فقط
قال أبو محمد وصح بالحديث الذي قبل هذا أنه لا حجة في فعل أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ولا في قوله لأن أولئك الذين كرهوا ما فعله عليه (4/453)
السلام قصدوا بذلك الخير في اجتهادهم وقد أنكر عليه السلام ذلك فصح أنه لا حجة إلا فيما جاء عنه عليه السلام فقط والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد وإنما حضنا الله تعالى في أفعاله عليه السلام على الائتساء به بقوله تعالى { لقد كان لكم في رسول لله أسوة حسنة لمن كان يرجو لله وليوم لآخر وذكر لله كثيرا } وما كان لنا فهو إباحة فقط لأن لفظ الإيجاب إنما هو علينا لا لنا نقول عليك أن تصلي الخمس وتصوم رمضان ولك أن تصوم عاشوراء وتتصدق تطوعا ولا يجوز أن يقول أحد في اللغة العربية عليك أن تصوم عاشوراء وتتصدق تطوعا ولك أن تصلي الخمس وتصوم رمضان هذا الذي لا يفهم سواه في اللغة التي بها خاطبنا الله تعالى بما ألزمنا من شرائعه
قال أبو محمد وقال بعضهم قوله تعالى بعقب الآية المذكورة { لقد كان لكم في رسول لله أسوة حسنة لمن كان يرجو لله وليوم لآخر وذكر لله كثيرا } بيان أن ذلك إيجاب لأن هذا وعيد
قال أبو محمد التأويل خطأ لأن الائتساء المندوب إليه في الآية المذكورة إنما هو للمؤمنين الذين يرجون الله واليوم الآخر ولم يقل تعالى هو على الذين يرجون الله واليوم الآخر وأما الكفار الذين لا يرجون الله واليوم الآخر فراغبون عن الائتساء به عليه السلام وكذلك قوله صلى الله عليه و سلم إني أصوم وأفطر وأنكح النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني وصدق عليه السلام أن من ترك شيئا من أفعاله راغبا عنها فهو كافر وأما من تركها غير راغب عنها لكن اقتصارا على الفرض وتخفيفا من التطوع عالما بأنه يترك فضلا كثيرا فقد أفلح كما قال عليه السلام للأعرابي الذي حلف لا يزيد على الأوامر الواجبات شيئا فقال عليه السلام أفلح والله إن صدق دخل الجنة
قال أبو محمد وفي هذا الحديث بيان كاف في أن الأوامر هي الفروض وأن أفعاله عليه السلام ليست فرضا لأن الأعرابي إنما سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عما أمر به لا عما يفعل ثم حلف ألا يفعل غير ذلك فصوب رسول الله صلى الله عليه و سلم قوله وحسن فعله وهذا كاف لمن عقل إذ لم يلزمه عليه السلام اتباع أفعاله وهذا ما لا إشكال فيه
قال أبو محمد بل أنكر رسول الله صلى الله عليه و سلم على أصحابه رضي الله عنهم التزام المماثلة لأفعاله كما حدث عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية القرشي ثنا أبو خليفة (4/454)
ثنا أبو داود الطيالسي هو هشام بن عبد الملك عن حماد بن سلمة عن أبي نضلة السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما صلى خلع نعليه فوضعهما يساره فخلع القوم نعالهم فلما قضى صلاته قال ما لكم خلعتم نعالكم قالوا رأيناك خلعت فخلعنا قال إني لم أضعهما من بأس ولكن جبريل أخبرني أن فيهما قذرا وأذى فإذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه فإن كان فيهما أذى فليمسحه
قال أبو محمد فهذا عدل من الصحابة أبو سعيد الخدري شهد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنكر عليهم التزام مماثلة أفعاله فبطل كل تعلل بعد هذا وصح ألا يلزم إلا أمره عليه السلام فقط
قال أبو محمد وإنما تعلق بما ذكرنا قوم من أصحاب مالك على أنهم أترك خلق الله لأفعاله عليه السلام فقد تركوا فعله عليه السلام في صلاته بالناس وهم وراءه قيام أو جلوس وتركوا فعله عليه السلام في دخوله وإمامته بالناس بعد ابتداء أبي بكر بالتكبير بهم والصلاة وجوزوه في الاستخلاف حيث لم يأت به نص ولا إجماع ورغبوا عن فعله عليه السلام في الصب على بول الصبي واختاروا الصوم في رمضان في السفر ورغبوا عن فعله عليه السلام في الفطر ورغبوا عن فعله عليه السلام في التقبيل وهو صائم وقد غضب رسول الله صلى الله عليه و سلم على من رغب عن ذلك أو تنزه عنه وخطب الناس ناهيا عن ذلك ورغبوا عن فعله عليه السلام في قراءته { والطور } في المغرب وتركوا فعله عليه السلام في تطيبه في حجة الوداع وأخذوا بأمر له متقدم لو كان على ما ظنوه كان منسوخا بآخر فعله عليه السلام وتركوا فعله عليه السلام حكمه بالسلب للقاتل وتركوا فعله عليه السلام في سجوده في سورة { والنجم } وفي { إذا السماء انشقت } وتركوا فعل جميع الصحابة في هذين الموضعين وكل من أسلم من الجن والإنس
قال أبو محمد فأما ما كان من أفعاله عليه السلام تنفيذا لأمر فهو واجب فمن ذلك قوله عليه السلام صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم وهمه بإحراق منازل المتخلفين عن الصلاة في الجماعة وجلده شارب الخمر لأنه عليه السلام لما أخبر أن الأموال والأعراض حرام ثم أن ينتهك شر منها أو بأنه يريد (4/455)
انتهاكها علمنا أن ذلك حق وأما بعد الأمر فواجب لا إباحة لأنه عليه السلام لا يهم إلا بأمر حق وقد أمر بجلد الشارب ثم كان فعله بيانا للجلد الذي أمر به
وكذلك ما كان من أفعاله عليه السلام نهيا عن شيء أو أمرا بشيء فهو على الوجوب كإزالته صلى الله عليه و سلم ابن عباس عن يساره ورده إلى يمينه فهذا وإن كان فعلا فهو أمر لابن عباس للوقوف عن يمينه ونهي له عن الوقوف عن يساره وإنما الفعل المجرد هو الذي ليس فيه معنى الأمر
فإن قال قائل فهلا قلتم إن همه عليه السلام بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة إباحة لا فرض على أصلكم في انتقال الشيء إذا نسخ إلى أقرب المراتب منه لا إلى أبعدها عنه قيل له وبالله تعالى التوفيق كذلك نقول ما لم يأت دليل على أنه منقول إلى أبعد المراتب عنه ولكن لما قال عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ثم أخبر عليه السلام أنه قد هم بحرق بيوت المتخلفين علمنا بالنص المذكور أن ذلك حق واجب إنفاذه إذ قد نص أنه لا يستبيح دما ولا مالا إلا بحق والحق فرض ما لم يأت دليل على أنه إباحة
قال أبو محمد قد قلنا إن القائلين بأن أفعاله عليه السلام على الوجوب هم أشد الناس خلافا لهذا الأصل الفاسد فإن المالكيين يقولون إن خطبة الإمام يوم الجمعة خطبتين قائما يجلس بينهما ليست فرضا وإنما الفرض خطبة واحدة وما روي قط أن النبي صلى الله عليه و سلم خطب إلا خطبتين قائما يجلس بينهما فلم يروا فعله عليه السلام ههنا على الوجوب
ويقولون إن ترتيب الوضوء ليس فرضا ولا شك في أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يرتب وضوءه ولا ينكسه لا يشك مسلم في ذلك
ويرون أن الصلاة للصبح بمزدلفة ليس فرضا ولا يبطل حج من تركه ورسول الله صلى الله عليه و سلم صلاها هناك وآذن أن من لم يدركها هنالك فلا حج له ويرون أن من صلى المغرب قبل مزدلفة ليلة النحر فصلاته تامة ورسول الله صلى الله عليه و سلم أخرها إلى المزدلفة فلم يصلها إلا فيها ولا يرون رمي جمرة العقبة فرضا ورسول الله صلى الله عليه و سلم قد رماها ولا يرون الضجعة بعد ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح فرضا ورسول الله صلى الله عليه و سلم كان (4/456)
يفعلها دائما عليها مواظبا لها وكذلك فقهاء المدينة السبعة وأهل المدينة وكل هذه المسائل فجماهير الصحابة والتابعين والفقهاء يرونها فرضا وإنما أتينا بهذه المسائل لئلا يدعو إجماعا على أنها ليست فرضا ومثل هذا لو تتبع كثير وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد فإن تعارض فعل وقول مثل أن يحرم عليه السلام شيئا ثم يفعله فإن هذا إن علمنا أن الفعل كان بعد القول فهو نسخ له وبيان أن حكم ذلك القول قد ارتفع لأنه عليه السلام لا يفعل شيئا محرما ولا يجوز أن يقال في شيء فعله عليه السلام أنه خصوص له إلا بنص في ذلك لأنه عليه السلام قد غضب على من قال ذلك وكل شيء أغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو حرام وذلك مذكور في حديث الأنصاري الذي سأله عن قبلة الصائم فأخبره عليه السلام أنه يفعل ذلك فقال الأنصاري يا رسول الله إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال والله إني لأتقاكم لله وأعلمكم بما آتي وما أذر أو كما قال عليه السلام
فلا يحل لأحد بعد هذا أن يقول في شيء فعله عليه السلام إنه خصوص له إلا بنص مثل النص الوارد في الموهبة بقوله تعالى { يأيها لنبي إنآ أحللنا لك أزواجك للاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك ممآ أفآء لله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك للاتي هاجرن معك ومرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد لنبي أن يستنكحها خالصة لك من دون لمؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان لله غفورا رحيما } ومثل وصاله عليه السلام في الصوم وقوله ناهيا لهم إني لست كهيئتكم ومثل نومه عليه السلام وصلاته دون تجديد وضوء فسئل عليه السلام عن ذلك فقال عيناي تنامان ولا ينام قلبي فما جاء فيه بيان كما ذكرنا فهو خصوص وما لم يأت فيه نص كما قلنا فلنا أن نتأسى به عليه السلام ولنا في ذلك الأجر الجزيل ولنا أن نترك غير راغبين عن ذلك فلا نأثم ولا نؤجر
فمما جاء كما ذكرنا نهيه عليه السلام عن الصلاة قائما إذا صلى الإمام جالسا ثم هو عليه السلام صلى جالسا في مرضه الذي مات فيه وصلى أبو بكر مذكرا إلى جانبه قائما فأقر فعلمنا أن ذلك نسخ لإيجاب الجلوس عن المذكر خاصة فإن شاء صلى جالسا وذلك أفضل عندنا وإن شاء قائما كل ذلك جائز حسن (4/457)
وكذلك قلنا في حضه عليه السلام على صيام يوم عرفة ثم أفطر عليه السلام فيه فقلنا صيامه أفضل للحاج وغيره وإفطاره مباح حسن وقد روت عائشة أنه عليه السلام كان يترك الفعل وهو يحبه خشية أن يفعله الناس فيفرض عليهم كما فعل عليه السلام في قيام الليل في رمضان قام ثم ترك خوفا أن يفرض علينا
وإنما قلنا هذا لئلا يقول جاهل أيجوز أن يترك عليه السلام الأفضل ويفعل الأقل فضلا فأعلمناه عليه السلام يفعل ذلك رفقا منه كما أخبر عليه السلام أنه لولا رجال من أصحابه لا يتخلفون عنه أصلا وأنه لا يجد ما يحملهم عليه ما تخلف عن سرية يوجهها في سبيل الله فأخبر عليه السلام أنه يتخلف عن الجهاد وهو أفضل خوفا أن يشق على أمته وهذا كثير
قال أبو محمد وأما إذا لم يعلم أي الحكمين قبل الأمر أم الفعل فإنا نأخذ بالزائد كما فعلنا في نهيه عليه السلام عن الشرب قائما وروي عنه عليه السلام أنه شرب قائما وفي نهيه عليه السلام عن الاستلقاء ووضع رجل على رجل وروي عنه أنه عليه السلام رئي مضطجعا في المسجد كذلك فأخذنا ههنا بالزائد وهو النهي في كلا الموضوعين لأن الأصل إباحة الاضطجاع على كل حال والاستلقاء كما يشاء وإباحة الشرب على كل حال فقد تيقنا أننا نقلنا عن هذه الإباحة إلى نهي عن كلا الأمرين بلا شك في ذلك ثم لا ندري هل نسخ ذلك النهي أو لا ولا يحل لمسلم أن يترك شيئا هو على يقين من أنه قد لزمه لشيء لا يدري أهو ناسخ أم لا واليقين لا يبطل بالشك والظن لا يغني من الحق شيئا فنحن على ما صح لدينا أنه قد لزمنا حتى يقيم المدعي لبطلانه علينا البرهان في صحة دعواه وإلا فهي ساقطة وبالله تعالى التوفيق
وهكذا قلنا في حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم كل مما يليك مع ما قد صح من تتبعه الدباء من نواحي القصعة ولا فرق على أن هذا الخبر ليس فيه أنه عليه السلام تناول الدباء مما لا يليه بل يمكن تتبعه من نواحي الصحفة مما يليه وليس هكذا الأقوال فإنه صلى الله عليه و سلم إذا قال قولا فيه إباحة ثم جاء بعد عموم تحريم إلا أنه ممكن استثناء إباحة قبل فواجب ضم القولين جميعا إلى واحد واستثناء الأقل من الأكثر لأن القول بيان جلي وليس في الفعل بيان المراد لا بتخصيص ولا بغيره (4/458)
قال أبو محمد فالحاصل من هذا أن القولين إذا تعارضا وأمكن أن يستثنى أحدهما من الآخر فيستعملان جميعا لم يجز غير ذلك وسواء أيقنا أيهما أول أو لم نوقن ولا يجوز القول بالنسخ في ذلك إلا ببرهان جلي من نص أو إجماع أو تعارض لا يمكن معه استثناء أحدهما من الآخر وأما القول والفعل إذا تعارضا فإن كان الفعل قبل القول أو لم يعلم أقبله أم بعده فالحكم القول ويكون الفعل حينئذ منسوخا ولا يجوز أن يستثنى منه الفعل لأننا لا ندري أحاله نخص أم زمانه أم مكانه إذ ليس في الفعل بيان عموم ولا تفسير حد وإن كان الفعل بعد القول فحينئذ نخص تلك الحال بيقين فقط لأننا من ذلك على يقين ولسنا من تخصيص الزمان والمكان على يقين ولا يجوز أن نحكم في الدين بالشك كما فعلنا فيما قد صح من أن المرأة تقطع الصلاة
ثم صح أن عائشة ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يصلي وهي بين يديه معترضة كاعتراض الجنازة فتكره أن تقعد فتؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم فتمسك كما هي فصح بهذا النص أن هذا الفعل كان بعد النهي لأنها أخبرت أنها لو قعدت لآذت رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك ودل أيضا هذا الخبر على المداومة على ذلك فاستثناء حال الاضطجاع من قطع المرأة الصلاة على سائر أحوالها وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد لو كانت الأفعال على الوجوب لكان ذلك تكليفا لما لا يطلق من وجهين ضروريين أحدهما أنه كان يلزمنا أن نضع أيدينا حيث وضع صلى الله عليه و سلم يده وأن نضع أرجلنا حيث وضع عليه السلام رجله وأن نمشي حيث مشى وننظر إلى ما نظر إليه وهذا كله خروج عن المعقول
والوجه الثاني أن أكثر هذه الأشياء التي تصرف عليه السلام بأفعاله فيها فقد ثبت فكنا من ذلك مكلفين ما لا نطيق فبطل كل قول في هذا الباب حاشا (4/459)
ما ذكرنا من الائتساء به عليه السلام في أفعاله وأما من قال نطلب الدليل فإن وجدنا دليلا على وجوب الفعل صرنا إليه وإن لم نجد دليلا حملنا الأفعال على الائتساء فقط فهي نفس قولنا إلا أننا نحملها على الائتساء أبدا ما لم نجد دليلا على الوجوب فإن وجدناه صرنا إليه وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وأما الشيء يراه عليه السلام أو يبلغه أو يسمعه فلا ينكره ولا يأمر به فمباح لأن الله عز و جل وصفه عليه السلام فقال { لذين يتبعون لرسول لنبي لأمي لذي يجدونه مكتوبا عندهم في لتوراة ولإنجيل يأمرهم بلمعروف وينهاهم عن لمنكر ويحل لهم لطيبات ويحرم عليهم لخبآئث ويضع عنهم إصرهم ولأغلال لتي كانت عليهم فلذين آمنوا به وعزروه ونصروه وتبعوا لنور لذي أنزل معه أولئك هم لمفلحون } فلو كان ذلك الشيء منكرا لنهى عنه عليه السلام بلا شك فلما لم ينه عنه لم يكن منكرا فهو مباح المباح معروف وما عرفه عليه السلام فهو معروف ولا معروف إلا ما عرف ولا منكر إلا ما أنكر فمن ذلك غناء الجاريتين في بيته وهو عليه السلام يسمع ولا ينكر فأنكر ذلك أبو بكر فأنكر النبي صلى الله عليه و سلم على أبي بكر إنكاره فصح بذلك ما ذكرنا نصا ووجب الإنكار على كل ما أنكر ما علمه عليه السلام فأقره
ومن ذلك زفن السودان فنهاهم عمر فأنكر عليه السلام على عمر إنكاره عليهم ومن ذلك اللعب التي رأى عليه السلام عند عائشة وفيها فرس ذو أجنحة مع نهيه عليه السلام عن الصور فكان ذلك إذا مستثنى مما نهى عنه ومثل إنكاره عليه السلام الصور في الستر مع إباحته لذلك إذا كان رقما في ثوب واستثناءه إياه من جملة ما نهى عنه من الصور فلما قطعت عائشة الستر وسادتين اتكأ عليه السلام عليهما ولم ينكرهما فصح من ذلك أن المعلق من الثياب التي فيها الصور مكروه ليس حراما ولا مستحبا لكن من تركها أجر ومن استعملها لم يأثم واختار ههنا عليه السلام الأفضل واختاره لعائشة وفاطمة رضي الله عنهما وصح بذلك أن الثياب التي فيها الصور وإذا كانت وسائد فذلك حسن مباح ولا مستحب لا نكرهه أصلا بل نحبه
وكذلك الشيء إذا تركه عليه السلام ولم ينه عنه ولا أمر به فهو عندنا مباح مكروه ومن تركه أجر ومن فعله لم يأثم ولم يؤجر كمن أكل متكئا ومن استمع زمارة (4/460)
الراعي فلو كان ذلك حراما لما أباحه عليه السلام لغيره ولو كان مستحبا لفعله عليه السلام فلما تركه كارها له كرهناه ولم نحرمه
فإن قال قائل فقد ناموا بحضرة رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم صلوا ولم يأمرهم بإعادة الوضوء وأنتم لا ترون ذلك قيل له وبالله التوفيق ما روى أحد قط أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رآهم نياما ولا أعلم أنهم ناموا وإنما جاء الحديث أنه عليه السلام أبطأ بالعشاء الآخرة حتى نام الناس وسمع لهم غطيط وصاح عمر نام النساء والصبيان
فالحديث كما تسمع بين في أنهم ناموا وهو عليه السلام غائب غير حاضر وإنما أعلمه عمر بنوم النساء والصبيان وهذان الصنفان ليس عليهم حضور الصلاة في الجماعة فرضا وأيضا فمن أين للمحتج بهذا أن يقول ناموا قعودا نوما قليلا بلا أن يرد ذلك في الحديث ولعل فيهم من نام مستندا إلى صاحبه أو إلى الحائط أو مضطجعا نوما طويلا ما يدري من لم يحضر نومهم كيف كان نومهم ومثل هذا من الدعاوى لا يستجيزها ذو دين متهم بالصدق
فلما صح أنه عليه السلام كان غائبا ولم يأتنا نص في أنه عليه السلام علم نومهم وصح أمره عليه السلام في حديث صفوان بن عسال المرادي بالوضوء من النوم جملة لزمنا ألا نزول عما أمرنا لأمر لا ندري أعلمه عليه السلام أم لم يعلمه ولو صح عندنا أنه عليه السلام علم أنهم ناموا وأقرهم على ذلك لقلنا به ولأسقطنا الوضوء عمن نام جملة على أي حال نام ولو صح في ذلك الخبر أن عمر قال نام الناس لما كان لهم فيه متعلق لأنه كان يكون معناه نام الناس الذين ينتظرونه عليه السلام وكيف وكل طائفة منهم تخالف هذا الخبر لأنهم يخصون بعض أحوال النوم دون بعض وليس بيننا في الخبر أصلا
فإن قال قائل أيجوز أن يخفى ذلك على رسول الله صلى الله عليه و سلم قيل له نعم كما جاز عندكم معاشر الشافعيين والمالكيين والحنفيين قول جابر كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله
على أن بيع أمهات الأولاد أشهر من نوم قوم في الليل والقوم في عوزة من المصابيح بركن المسجد
وكما يقول المالكيون إنه خفي عليه ذبح آل أبي بكر الفرس وأكلهم إياه بالمدينة وهذا أشيع من نوم قوم في ركن المسجد لقلة الخيل عندهم بالمدينة في أيامه صلى الله عليه و سلم (4/461)
ولشدة العيش عندهم وقلة الإدام وشدة امتزاج أهل بيت أبي بكر مع النبي صلى الله عليه و سلم ومجاورتهم له فكيف يخفى عليه أنهم ذبحوا فرسا فأكلوه ولا يخفى عليه نوم قوم في ركن المسجد وهو غائب عنهم ولو صح أنه عليه السلام كان حاضرا في المسجد لأمكن أن يختفي نوم من في ركن المسجد عنه فكيف وقد صح أنه عليه السلام كان غائبا عنهم مع أن تخصيص نومهم بأنهم كانوا قعودا لا مستندين ولا مضطجعين ولا متكئين كذب من أقدم عليه وبالله التوفيق
قال أبو محمد وفي باب القول بالأخبار من كتابنا في أول الباب المذكور أشياء قاطعة من الكلام في أفعال النبي صلى الله عليه و سلم وفي الشيء يعلمه فيقر عليه إذا استضافت إلى ما ههنا تم الكلام في ذلك وكرهنا تكرارها وبالله تعالى التوفيق (4/462)
الباب العشرون الكلام في النسخ
قال أبو محمد علي بن أحمد حد النسخ أنه بيان انتهاء زمان الأمر الأول فيما لا يتكرر وأما ما علق بوقت ما فإذا خرج ذلك الوقت أو أدى ذلك الفعل سقط الأمر به فليس هذا نسخا فلو كان هذا نسخا لكانت الصلاة المنسوخة إذا خرج وقتها والصيام منسوخا بالإحراج والحيض والصيام والحج منسوخا وهذا ما لا يقوله أحد بالإجماع المقطوع به على ألا يسمى نسخا يكفي من الإطالة فيه وبالله تعالى التوفيق مع من سمى هذا نسخا فعليه البرهان على وجوب تسميته نسخا ولا سبيل إلى وجوبه فهو باطل قال تعالى { وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين }
قال أبو محمد وقد قال بعض من تقدم إن النسخ هو تأخير البيان نفسه
قال أبو محمد والنسخ على ما فسرناه قبل نوع من أنواع تأخير البيان لأن تأخير البيان ينقسم قسمين أحدهما جماعة غير مفهومة المراد بذاتها مثل قوله تعالى { وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند لله إن لله بما تعملون بصير } إذا جاء وقت تكليف ذلك بين لنا الحكم المراد منا في ذلك اللفظ المجمل بلفظ آخر مفسر
والقسم الثاني عمل مأمور به في وقت ما وقد سبق في علم الله عز و جل أنه سيحيلنا عنه إلى غيره في وقت آخر فإذا جاء ذلك الوقت بين لنا تعالى ما كان مستورا عنا من النقل عن ذلك العمل إلى غيره وبالجملة فإن اسم البيان يعم جميع أحكام الشريعة كلها لأنها كلها إعلام من الله تعالى لنا وبيان المراد منا (4/463)
فإن قال قائل ليس النسخ من البيان لأن البيان يقع في الأخبار والنسخ لا يقع في الأخبار قيل له وبالله تعالى التوفيق إننا لم نقل إن النسخ هو البيان وإنما قلنا هو نوع من أنواع البيان فكل نسخ بيان وليس كل بيان نسخا فمن البيان ما يقع في الأخبار وفي الأوامر ومنه ما يقع في الأوامر فقط فمن هذا النوع الواقع في الأوامر النسخ هو رفع لأمر متقدم وقد يكون أيضا بيان يقع في الأوامر ليس نسخا لكنه تفسير لجلة إلا أنه لا يجوز لأحد أن يحمل شيئا من البيان على أنه نسخ رافع لأمر متقدم إلا بنص جلي في ذلك أو إجماع أو برهان ضروري على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى في باب كيفية معرفة المنسوخ من المحكم
ألا ترى أن قوله تعالى { فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم } فلسنا نقول إنه نسخ أهل الكتاب من هذا الحكم لكنا نقول إن المراد بقوله تعالى في هذه الآية { فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم } لله إنما هم من عدا أهل الكتاب وبين ذلك تعالى في استثنائه أهل الكتاب في الآية الأخرى
وهكذا قولنا في آية الرضاع وآية قطع السارق وقوله تعالى { ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم لطوفان وهم ظالمون } فنقول بلا شك إن الله تعالى لم يرد بذلك كل رضاعة ولا كل سارق ثم نسخ ذلك عن بعضهم وكذلك قوله تعالى { لزانية ولزاني فجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين لله إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر وليشهد عذابهما طآئفة من لمؤمنين } فإنه تعالى لم يرد بذلك العبيد والإماء ثم نسخ خمسين عنهم ولا ألف سنة كاملة ثم استدرك تعالى إسقاط الخمسين عاما لكنه تعالى أراد في كل ما ذكرناه ما بقي عندما استثنى عز و جل وخص من كل ذلك وكذلك قولنا في قوله تعالى { وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب } أنه تعالى لم يرد كل ما يقع عليه اسم نسك أو صدقة أو صيام لكن أراد ما بينه النبي صلى الله عليه و سلم في حديث لكعب بن عجرة
فإن قال قائل إن البيان يقع موصولا بعضه ببعض والنسخ لا يقع موصولا (4/464)
فالجواب وبالله تعالى التوفيق إننا قد قلنا في هذا ما يقع فيه من أنه ليس كل بيان نسخا فما كان من البيان نسخا لم يقع موصولا وما كان منه غير نسخ لكن تفسيرا لمراده تعالى في جملة ما فجائز أن يقع موصولا وجائز أن يقع في مكان آخر من القرآن والسنة وبالله تعالى التوفيق
والنسخ ينقسم في اللغة إلى قسمين أحدهما التعفية تقول انتسخت دولة فلان ونسخت الربح أو القوم أي عفته جملة والقسم الثاني تجديد الشيء وتكثير أمثاله تقول نسخت الكتاب نسخا كثيرة فالقسم الأول الذي هو التعفية هو الذي قصدناه بالكلام في هذا الباب ولم نقصد القسم الثاني وإنما ذكرناه ليوقف عليه وليعلم أنا لا نقصده بالكلام في هذا الباب فيرتفع التخليط والإشكال إن شاء الله تعالى
فصل في الأوامر في نسخها وإثباتها
قال أبو محمد الأوامر نسخها وإثباتها تنقسم أقساما أربعة لا خامس لها فقسم ثبت لفظه وحكمه وقسم ارتفع حكمه ولفظه وقسم ارتفع لفظه وبقي حكمه وقسم ارتفع حكمه وبقي لفظه ففي هذه الأقسام الثلاثة الأواخر يقع النسخ وأما القسم الذي صدرنا به فلا نسخ فيه أصلا وأما القسم الذي ارتفع حكمه ولفظه
فقد روينا أن رجلا قرأ آية وحفظها ثم أراد قراءتها فلم يقدر فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبر عليه السلام أنها رفعت ومن ذلك العشر الرضعات المحرمات ومن ذلك السورة التي ذكر أبو موسى الأشعري أنهم كانوا يقرؤونها على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانت في طول سورة براءة وأنها نسيت فارتفعت من الحفاظ إلا آية منها وهي لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب
والسورة التي ذكرها أيضا أبو موسى أنها كانت تشبه إحدى المسبحات فنسيت (4/465)
ولم يحفظ منها إلا آية ذكرها وقد نص الله تعالى على ذلك إذ يقول { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير } وقد روينا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ سورة فأسقط منها آية فلما سلم قال أثم أبي أو كما قال عليه السلام فأجابه فسأله رسول الله صلى الله عليه و سلم عما منعه أن يلقنه الآية فقال أبي ظننت أنها رفعت فقال عليه السلام لم ترفع فهذا بيان صحة ما ذكرنا من أنه يرفع لفظ الآية جملة
وأما القسم الذي رفع لفظه وبقي حكمه فآية الرجم وآية الخمس رضعات المحرمات وقد تعلل قوم في رد هذا الحديث بقول عائشة رضي الله عنها فتوفي رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنهما لمما يقرأ من القرآن
قال أبو محمد وهذا لا تعلل فيه وإنما معناه أنه يقرأ من القرآن الذي سقط رسمه وإثباته في المصحف ولم تقل قط عائشة إنه من القرآن المتلو في المصحف فبطل تعللهم وأما القسم الذي رفع حكمه وبقي لفظه فقوله تعالى { وللاتي يأتين لفاحشة من نسآئكم فستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في لبيوت حتى يتوفاهن لموت أو يجعل لله لهن سبيلا } وقوله تعالى { أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى لذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون } وآيات كثيرة جدا وأما الذي ثبت لفظه وحكمه فسائر الآيات المحكمات
والأوامر الواردة بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم منقسمة على الأقسام الأربعة التي ذكرنا أيضا ولا يظن ظان أن قولنا هذا معارض لقولنا إنه ليس له عليه السلام لفظ إلا قد بلغ إلينا فإننا إنما نفينا بقولنا هذا أن يكون له عليه السلام لفظ لم ينسخ حكمه فيسقط فلا يبلغ إلينا لا لفظه ولا حكمه
فهذا الذي نفينا جملة بقوله تعالى { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم } وبقوله تعالى { وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى } وبقوله { إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون } والحفظ يكون بتبليغ المعنى (4/466)
فكل حكم نقل إلينا كيفية فعله صلى الله عليه و سلم فيه وصفة حكمه ولم ينقل إلينا نص لفظه في ذلك فهو مما ارتفع لفظه وبقي حكمه وذلك نحو ما روي من قسمه عليه السلام مال البحرين وحكمه بالتمييز مع الشاهد ومساقاته ومزارعته أهل خيبر وما أشبه ذلك فهذا لا بد من أنه قد كان له من ذلك لفظ إلا أنه لم ينقل ونقل الحكم فهم بمنزلة ما ذكرنا أنه رفع لفظه من التلاوة وبقي حكمه ولا فرق وكل ذلك وحي من الله تعالى وأما المنسوخ لفظه وحكمه فمرفوع عنا علمه وتتبعه وطلبه
فصل في رد المؤلف على القائلين
قال أبو محمد قال بعض القائلين وقد ذكر النسخ وارتفاع اللفظ المنسوخ فقال وهذا وجه من وجوه الحكمة يجوز أن يكون علم الله تعالى أن يرفع هذا اللفظ يصلح ما لا يصلح ببقائه وذلك أنه إذا رفع تعالى الكل فقد علم أننا سنقبل على الأمر الناسخ ولا تتداخلنا فيه الشكوك لأن الله تعالى علم أن سيكون قوم من خلقه يبطلون النسخ فكانوا يضلون ببقاء اللفظ المنسوخ فرفعه لهذا المعنى
قال أبو محمد وهذا من أفسد قول في الأرض وأسقطه ويقال لمن قال بهذا الهجر أكان الله تعالى غير قادر من وجوه الصلاح على أكثر من أن يرفع بعض كلامه لئلا يضل به قوم من خلقه أو كان قادرا على أن يكفيهم هذه المؤنة كلها ويهديهم بأن يبين لهم المنسوخ بيانا جليا يرفع به عنهم الشكوك والحيرة فإن قال لم يقدر الله تعالى على أكثر كفر ووصف نفسه من القدرة بأكثر مما وصف به خالقه عز و جل لأنه دائبا يشرح بزعمه ويبين ليهدي الناس فيما يدعي وإن قال بل إنه تعالى قادر على ما ذكرت قيل له فقد فعل ما غيره أصلح لهم منه وهذا ضد مذهبك الفاسد
ويقال له أيضا إذا كانت الحكمة عندك رفع لفظ بعض المنسوخ جملة لئلا يضل به قوم فلأي شيء أبقى تعالى لفظا آخر منسوخا حتى ضل به جماعة أنت أحدهم في أشياء كثيرة تدعي أنت فيها النسخ ويخالفك فيها غيرك وأشياء كثيرة تدعي أنت أنها غير منسوخة ويدعي غيرك فيها النسخ فأين تلك الحكمة التي تطالب بها ربك تعالى وما الذي جعل رفع ما رفع أولى بالرفع من المنسوخ الذي أبقي لفظه (4/467)
حتى تحيرت فيه طوائف من أهل الملة وما الذي جعل إبقاء ما أبقي لفظه المنسوخ أولى بالإبقاء مما رفع لفظه من المنسوخ وما الذي أوجب نقض الحكم بما كان أمس فرضا ثم حرم اليوم أو ما كان حراما أمس ثم أبيح اليوم وهل هذا هنا حال استحالت أو طبيعة انتقضت فأوجب ذلك تبديل الشرائع إن هذا لهو الضلال البعيد والغناء الشديد والجهل المظلم والقحة الزائدة وما ههنا شيء أصلا إلا أن الله تعالى أراد أن يحرم علينا بعض ما خلق مدة ما ثم أراد تعالى أن يحرمه علينا ولا علة لشيء من ذلك كما لا علة لبعثه محمدا عليه الصلاة و السلام في العصر الذي بعثه دون أن يبعثه في العصر الذي كان قبله وكما لا علة لكون الصلوات خمسا دون أن تكون ثلاثا أو سبعا
فصل في قول الله تعالى { ما ننسخ من آية }
قال أبو محمد قال الله تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير } وقد قرىء أو ننسها ومعنى اللفظين مختلف فالنسخ قد بينا معناه وهو رفع الحكم وأما ننسها فمعناه من النسيان وهو رفع اللفظ جملة وأما ننسأها فهو من التأخير ومعناه أن يؤخر العمل بها إلى مدة معلومة ويفعل الله من كل ذلك ما شاء لا معقب لحكمه
فصل في اختلاف الناس على النسخ
اختلف الناس في النسخ على ما يقع أعلى الأمر أم على المأمور به قال أبو محمد والصحيح من ذلك أن النسخ إنما يقع على الأمر ولا يجوز أن يقع على المأمور به أصلا لأن المأمور به هو فعلنا وفعلنا لا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون قد وقع منا بعد وإما أن يكون لم يقع منا بعد فإن كان قد وقع منا بعد فقد (4/468)
فني لأن أفعالنا أعراض فانية ولا يجوز أن ينهى عما قد فني إذ لا سبيل إلى عودته أبدا
وكذلك لا يجوز أن يؤمر أيضا بما قد فني لأنه لا يجوز أن يعود أيضا ولا أن يباح لنا ما قد فني أيضا لأن كل هذا محال وإن كان لم يقع منا فكيف ينسخ شيء لم يكن بعد فصح أن المرفوع إنما هو الأمر المتقدم لا الفعل الذي لم تفعله بعد فإذا قد صح أن الأمر هو المرفوع فهو المنسوخ والنسخ إنما يقع في الآمر لا في الأمر ولا في المأمور به
وبالله تعالى التوفيق
وبرهان ما ذكرناه قوله تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير } فأخبر تعالى أن الآية هي المنسوخة لا أفعالنا المأمور بها والمنهي عنها والآية هي الأمر الوارد من قبله تعالى بإيجاب ما أوجب أو تحريم ما حرم
وأما المأمور به فهي حركاتنا وأعمالنا من صلاة وصيام وإقامة حد وغير ذلك فصح ما ذكرنا نصا وبالله تعالى التوفيق
فصل في تشكيك قوم في معاني النسخ
وقد تشكك قوم في معاني النسخ والتخصيص والاستثناء فقوم جعلوها كلها نوعا واحدا
قال أبو محمد وهذا خطأ لأن النسخ هو رفع حكم قد كان حقا وسواء عرفنا أنه سيرفع عنها أو لم نعرف بذلك وقد أعلم الله تعالى موسى وعيسى عليهما السلام أنه سيبعث نبيا يسمى محمدا بشرائع مخالفة لشرائعهما فهذا نسخ قد علمنا به وأما التخصيص فهو أن يخص شخص أو أشخاص من سائر النوع كما خص عليه السلام بفرض التهجد وإباحة تسع نسوة وكما خص أبو هاشم وبنو المطلب بتحريم الصدقة وأبو بردة تجزىء عنه الجزعة في الأضحية
وأما الاستثناء فهو ما جاء بلفظ عام ثم استثني منه بعض ما يقع عليه ذلك اللفظ
كقوله تعالى { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } وما أشبه ذلك
إلا أن (4/469)
التخصيص إذا حقق فيه النظر فهو استثناء صحيح والفرق بين النسخ والاستثناء هو أن الجملة المستثنى منها بعضها ولم يرد قط تعالى إلزامنا إياها بعمومها ولا أراد إلا ما بقي منها بعد الاستثناء
وأما النسخ فالذي نهينا عنه اليوم قد كان مراد منا بالأمس بخلاف الاستثناء
وبالله تعالى التوفيق
فإن قال قائل إن النسخ استثناء الزمان الثاني من إطلاق الفعل على التأييد قيل له وبالله تعالى التوفيق ليس هذا مما نجعله مع الاستثناء المطلق نوعا واحدا لما ذكرنا من أن المستثنى لم يرد قط منا بوجه من الوجوه وأن المنسوخ قد كلفناه هذا فرق ظاهر بين فإن كان هذا المخالف يريد أن يقول إن النسخ نوع من أنواع الاستثناء لأن استثناء زمان تخصيصه بالعمل سائر الأزمان لم نأب عليه ذلك ويكون حينئذ صواب القول إن كل نسخ استثناء وليس كل استثناء نسخا
وهذا صحيح
فصل في إمكان النسخ ثم إيجابه ثم امتناعه
قال أبو محمد أنكر بعض اليهود النسخ جملة وقد تكلمنا في هذا في كتابنا الموسوم بالفصل ونعيد ههنا منا ما يليق بغرض كتابنا هذا إن شاء الله تعالى
فنقول وبالله تعالى التوفيق إن منكري النسخ قالوا ليس من الحكمة أن يأمر الله تعالى بشيء أمس ثم ينهى عن مثله اليوم وهذا من نظائر قول أصحابنا بالعلل وهؤلاء قوم يتعقبون على ربهم تعالى فيقال لهم أخبرونا أي حكمة وجبت عليه تعالى أن يأمر أمس بما أمر به أترى لو لم يأمر تعالى بما أمر به لكانت تبطل حكمته أو لو أمر بغير ما أمر به لكانت تبطل حكمته أو ترون إذ قدس الأرض المقدسة ولعن أريحا ولعن أورشليم أكان ذلك مفسدا لحكمته وإذ حظر العمل في السبت وأباحه في الأحد أرأيتم لو عكس الأمر أكان ذلك مبطلا لحكمته فإن راموا فرقا بين شيء من ذلك لحقوا بالمجانين وجاهروا بما لا يفهم وبما يعلم بطلانه (4/470)
ثم يقال لهم أليس الله تعالى قد ملك قوما من الكفار العصاة الظلمة ومكنهم وأذل قوما من الكفار العصاة الظلمة وملك غيرهم رقابهم وملك قوما صالحين فضلاء مؤمنين ومكنهم وبسط أيديهم وأذل قوما صالحين فضلاء مؤمنين وملك غيرهم رقابهم ومد أعمار قوم كفار طغاة واخترم آخرين منهم قبل بلوغ الاكتهال وفعل مثل ذلك بقوم مؤمنين أفاضل ومكن قوما عصاة مردة من البيان والكلام في العلوم حتى أضلوا أمما من الخلق وجعل آخرين منهم بلداء أغبياء وفعل مثل ذلك أيضا بالمؤمنين سواء بسواء فما الذي جعل هذا حكمه دون عكس كل ذلك وما الفرق بين هذا من أفعاله تعالى وبين أن يأمر اليوم بأمر ثم ينهى عن مثله غدا وما يفرق بين كل ما ذكر إلا عديم عقل أو وقح سخيف
فإن قالوا إن هذا هو البداء لزمهم مثل ذلك في كل ما ذكرنا آنفا وفي إحيائه من يحيي ثم إماتته وفي إغنائه من يغني ثم إفقاره وفي تصحيحه جسم من يرزقه العافية ثم يمرضه وفي الهرم بعد الفتوة
فإن قال قائل ما الفرق بين البداء والنسخ
قيل له وبالله تعالى التوفيق الفرق بينهما لائح وهو أن البداء هو أن يأمر بالأمر والأمر لا يدري ما يؤول إليه الحال والنسخ هو أن يأمر بالأمر والأمر يدري أنه سيحيله في وقت كذا ولا بد قد سبق ذلك في عمله وحتمه من قضائه فلما كان هذان الوجهان معنيين متغايرين مختلفين وجب ضرورة أن يعلق على كل واحد منها اسم يعبر به عنه غير اسم الآخر ليقع التفاهم ويلوح الحق فالبداء ليس من صفات الباري تعالى ولسنا نعني الباء والدال والألف وإنما نعني المعنى الذي ذكرنا من أن يأمر بالأمر لا يدري ما عاقبته فهذا مبعد من الله عز و جل وسواء سموه نسخا أو بداء أو ما أحبوا وأما النسخ فمن صفات الله تعالى من جهة أفعاله كلها وهو القضاء بالأمر قد علم أنه سيحيله بعد مدة معلومة عنده عز و جل كما سبق في علمه تعالى
ولسنا نكابر على النون والسين والخاء وإنما نعني المعنى الذي بينا وسواء سموه نسخا أو بداء أو ما أحبوا من الأسماء ولكن اسمه عند النسخ وبهذه العبارة نعبر عن هذا المعنى الذي لا يخلو الله تعالى فعل منه أصلا في دار الابتلاء وكل شيء منها كائن فاسد وهذا هو النسخ وهو نوع من أنواع الكون والفساد الجاريين في طبيعة العالم (4/471)
بتقدير خالقه ومخترعه ومدبره ومتممه لا إله إلا هو
واسم الصفة الأولى عندنا البداء فيها يعبر عن هذا المعنى الذي هو من صفات المختارين من الإنس والجن وسائر الحيوان وهو خلق مذموم لأنه نتيجة الملل والندم والسآمة وهذه الأخلاق منفية عن الملائكة بنص القرآن فكيف عن الباري تعالى فهذا فرق ما بين البداء والنسخ قد لاح والحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم
قال أبو محمد والنسخ قبل حلول الوقت الذي علم الله عز و جل أنه يحيل فيه الحال ممتنع في الوجود لا في قدرته تعالى على ذلك وهو عندنا في ظاهر الأمر ممكن
قال أبو محمد وهو في وقت حلوله وبلوغ أمده الذي قدره تعالى كائنا فيه واجب وهو بعد أن علمنا الله عز و جل أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه و سلم ممتنع لا سبيل إليه في الوجود لا على معنى أنه تعالى لا يوصف بالقدرة على ذلك بل نعوذ بالله من الفكر في هذا أو التشكيك بل هو عز و جل قادر الآن وأبدا على أن يبعث نبيا آخر بدين آخر ولكنه أخبرنا أنه لا يفعل ذلك مريدا لتركه وقوله الحق فعلمنا أن كون ما لا يريد تعالى كونه ممتنع أن يكون أبدا
ويقال لمن أبى النسخ ما الفرق بين أن يأمرنا الله بشيء في وقت ما ويبينه لنا ويعلمنا أنه إذا أتى وقت كذا وجب الانتقال إلى شيء آخر وبين أن يأمرنا ولا يعلمنا أنه سينقلنا إلى شيء آخر وهذا ما لا سبيل إلى وجود فرق فيه أبدا لذي تمييز وعقل لأنه ليس لنا على الله تعالى شرط ولا عليه أن يطلعنا على علمه ولا يتقمن مسارنا ولا أن يأخذ آراءنا في شيء ومدعي هذا ملحد في دين الله عز و جل كافر به مفتر عليه وقد نص تعالى على ذلك بقوله تعالى { لله لا إله إلا هو لحي لقيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في لسماوات وما في لأرض من ذا لذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شآء وسع كرسيه لسماوات ولأرض ولا يؤوده حفظهما وهو لعلي لعظيم } وبقوله عز و جل { عالم لغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من رتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا } وهذا ما لا يخالفنا فيه إلا بعض اليهود وأما أهل (4/472)
الإسلام فكلهم يجيزون النسخ إلا بعض من منع من هذه اللفظة وأجاز المعنى وهذا ما لا ننازعه فيه إذا سلم لنا الصفة المسماة فلسنا ممن يشتغل بالاسم إلا حيث أوجب ذلك النص
وأما اليهود فغير منكر من شدة جهلهم وضعف عقولهم وعظيم بهتهم وكذبهم وتناقض أقوالهم وصلابة وجوههم ورخاوة قلوبهم وفرط غيظهم على ربهم عز و جل إذا أحل بهم من البلاء والذل والمهانة والخسة ما أحل أن يدعوا أن لهم على ربهم شروطا أكثر من هذا فهم يدعون لكلب من أخبارهم يسمى إشماعيل لعنة الله عليه وعليهم أن الله تعالى عما يقول اليهود المشركون علوا كبيرا تعلق في خرب بيت المقدس بثياب إشماعيل وهو يعنون ربهم يبكي ويئن كما تئن الحمامة وأنهم يعنون ربهم رغب إلى إشماعيل هذا الرذل أن يبارك عليه
بمعنى أن ربهم طلب من إشماعيل البركة فمن كان ربه عنده في نصاب من يطلب بركة إشماعيل لنفسه غير منكر أن يسفهوه فيما أحبوا وهذه صفة جني لعب بعقولهم وسخر منهم لا صفة الباري تعالى عز و جل على أنه قد بين لهم في التوراة أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنذروا به
فصح بذلك أن شريعتهم إنما علقت لهم بشرط ما لم يأت النبي صلى الله عليه و سلم المنتظر الذي هو رجاء الأمم والذي يستعلي من جبار فاران ومعه ألوف من الصالحين والذي يجعل الله تعالى كلامه في فمه ومن عصاه انتقم منه فصار ذلك بمنزلة ما أمروا به من العمل في التيه بأوامر ما وفي البيت والشام بأوامر أخر ومثله ما أمروا به من العمل في غير السبت ثم تحريم العمل في السبت وبمنزلة صيام وقت ما والمنع منه في وقت آخر ومثل إباحة الوطء في وقت ما وتحريمه في وقت الحيض وسائر الشرائع المرتبطة بأوقات ما فإذا عدمت تلك الأوقات انتقل حكم تلك الشرائع وكل ذلك لا علة له ولا شيء يوجبه أصلا لا مصلحة ولا غيرها إلا أنه تعالى أراد ذلك كما أراد خلق ما خلق من الخلائق المختلفات فقط وبالله تعالى التوفيق
فكيف وفي توراتهم أن الله تعالى أباح لآدم وبنيه أكل حيوان حاشا الدم وهذا خلاف شريعة موسى عليه السلام فقد صح النسخ عندهم (4/473)
فصل فيما يجوز النسخ فيه وفيما لا يجوز فيه
النسخ قال أبو محمد النسخ لا يجوز إلا في الكلام الذي معناه الأمر أو النهي وقد بينا في كتابنا الموسوم بكتاب التقريب لحدود المنطق أن الكلام كله ينقسم أربعة أقسام أمر ورغبة وخبر واستفهام فالاستفهام والخبر والرغبة لا يقع فيها نسخ وإنما يسمى الرجوع عن الخبر وعن الاستفهام استدراكا فكل ذلك منفي عن الله عز و جل لأن الرجوع عنهما إنما هو تكذيب للخبر المرجوع عنه ومعرفة وكراهية لما رجع عن الاستفهام عنه لعرض حدث أو لعلم بشيء كان يجهل
وأما الرجوع عن الرغبة فإنما يسمى استقالة أو تنزها عما انحط إليه قبل ذلك وقد قدمنا أن المعاني إذا اختلفت فواجب أن يخالف بين أسمائها لئلا يقع الإشكال وليلوح البيان ويصح الفهم والإفهام فبقي الرجوع عن الأمر بإحداث أمر غيره فيسمى نسخا وهو فعل من علم أن سيرفع أمره ويحيله
فإذا ورد الكلام لفظه لفظ الخبر ومعناه معنى الأمر جاز النسخ فيه مثل قوله تعالى { ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى لحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف ولله عزيز حكيم } وفي هذا توجد منا المعصية مثل قوله تعالى { فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين } فإنما هذا أمر لنا بأن نؤمن كل من دخل مقام إبراهيم وليس هذا خبرا ولو كان خبرا لكان كذبا لأنه قد قتل الناس حوله ظلما وعدوانا
قال أبو محمد وموجود في كل لغة أن يرد الأمر بلفظ الخبر وبلفظ الاستفهام كقول القائل لعبده أتفعل أمر كذا أو ترى ما يحل بك وإنما ذلك أن الخبر عن الشيء إيجاب لما يخبر به عنه والأمر إيجاب لفعل المأمور به فهذا اشتراك بين صيغة الخبر وصيغة الأمر فإذا قال قائل حق عليك القيام إلى زيد فهذا خبر صحيح البنية معناه قم إلى زيد
وكذلك قوله تعالى { فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين } معناه ليحج الناس منكم من استطاع وكذلك إذا قال القائل قد (4/474)
أوجبت عليك القيام إلى زيد فهذا خبر صحيح البنية معناه قم إلى زيد وكذلك قوله تعالى { يأيها لذين آمنوا كتب عليكم لصيام كما كتب على لذين من قبلكم لعلكم تتقون } معناه صوموا فما كان من الأخبار هكذا فالنسخ فيها جائز وأما ما كان خبرا مجردا مثل قام زيد وهذا عمرو ووقع أمس خطب كذا وزيد الآن قائم وغدا يكون أمر كذا فهو لا يجوز النسخ فيه البتة لأنه تكذيب لهذا الخبر والله تعالى منزه عن الكذب بإخباره تعالى أن قوله الحق وبقوله تعالى { قال فلحق ولحق أقول } وهو موصوف بأنه ينسخ ويحيل ويبدل الأمور بقوله تعالى { يمحو لله ما يشآء ويثبت وعنده أم لكتاب } وبقوله تعالى { قل للهم مالك لملك تؤتي لملك من تشآء وتنزع لملك ممن تشآء وتعز من تشآء وتذل من تشآء بيدك لخير إنك على كل شيء قدير } وبقوله تعالى { قل للهم مالك لملك تؤتي لملك من تشآء وتنزع لملك ممن تشآء وتعز من تشآء وتذل من تشآء بيدك لخير إنك على كل شيء قدير } بإخباره تعالى أنه كل يوم في شأن وقد اختلف أصحابنا في بعض الأوامر أيجوز فيها النسخ أم لا فقالوا كل ما علم بالعقل فلا يجوز أن ينسخ مثل التوحيد وشبهه
قال أبو محمد وهذا فاسد من القول لأنه مجمل لما لا يجوز مع ما لا يجوز ولكن يسأل قائل هذا القول فيقال ما أردت بقولك لا يجوز نسخ التوحيد فإن كنت تريد أنه بعد أن أعلمنا الله تعالى أنه لا ينسخ هذا الدين أبدا لا يجوز تبديله وإن كنت تريد أنه لما سلف في سابق علم الله تعالى أنه لا ينسخه أبدا علمنا أنه لا يجوز نسخه فنعم هذا قوله صحيح وهكذا إباحة الكبش وتحريم الخنزير وجميع شرائع الملة الحنيفة المستقرة لا يجوز نسخ شيء منها أبدا ولا فرق بين التوحيد وسائر الشرائع في ذلك البتة
وإن كنت تريد أنه تعالى غير قادر على نسخ التوحيد أو أنه تعالى قادر على نسخه والأمر بالتثنية أو التثليث إلا أنه لو فعل ذلك لكان ظلما وعبثا فاعلم أنك مخطىء ومفتر على الله تعالى لأنك معجز له متحكم عليه وقاض بأنك مدبر لخالقك عز و جل وموقع له تحت رتب وقوانين بعقلك إن خالفها عبث وظلم (4/475)
وهذا كلام يؤول إلى الكفر المجرد والشرك المحض مع عظيم ما فيه من الجهل والجنون
بل نقول إن الله عز و جل قادر على أن ينسخ التوحيد وعلى أن يأمر بالتثنية والتثليث وعبادة الأوثان وأنه تعالى لو فعل ذلك لكان حكمة وعدلا وحقا ولكان التوحيد كفرا وظلما وعبثا ولكنه تعالى لا يفعل ذلك أبدا لأنه قد أخبرنا أن لا يحيل دينه الذي أمرنا به فلما أمنا ذلك صار ما تبرأ الله منه كفرا وظلما وعبثا وصار ما أمر به حقا وعدلا وحكمة فقط
وليس اعتقادنا التوحيد حقا ولا حكمة بذاته دون أن يكون لله فيه أمر ولكن إنما صار حقا وعدلا وحكمة لأن الله تعالى أمر به ورضيه وسماه حقا وعدلا وحكمة فقط
فهذا دين الله عز و جل الذي نص عليه بأن يفعل ما يشاء وأنه { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } وأنه لو أراد أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء وهذا هو القول الذي دلت العقول على صحته وبطلان ما عداه لأن العقل يشهد أن الله تعالى خلقه وأنه كان تعالى حقا واحدا أولا إذ لا نفس حيوانية ولا عقل مركب فيها ولا في غيرها ولا جوهر ولا عرض ولا عدد ولا معدود ولا رتبة من الرتب وأنه تعالى خلق النفوس بعد أن لم تكن وخلق العقول على ما هي عليه بعد أن لم تكن ورتب فيها الرتب على ما هي عليه بعد أن لم يكن شيء منها وأنه لو شاء أن يخلق العقول على غير ما هي عليه وأن يرتب الأمور فيها على خلاف ما رتبها لفعله ولما تعذر ذلك عليه ولكان حينئذ هو الحق والعدل والحكمة وما عداه الظلم والجور والعبث لا معقب لحكمه
ومن ادعى غير هذا فقد ادعى أن رتبة العقل المجهول في النفس كانت موجودة إذ لا عقل ولا نفس وهذا عين التناقض والخبال والخلف والمحال ومن أنار الله تعالى عقله وسيره لأن يستضيء به وتصور له حدوث العالم بعد أن لم يكن أشرف على (4/476)
صحة ما ذكرناه وأيقنه وشاهده وعلمه ضرورة ولم يكن عنه له محيد أصلا ومن أصحب الله تعالى نفسه والحيرة وتمييزه الضعف تحير وتصور الأمور بخلاف ما هي عليه ولم يخرج إلى طرف وظن الظنون المردية ولله تعالى الحمد على ما علم وهدى لا إله إلا هو الرحمن الرحيم
قال أبو محمد ومن بديع ما قطع أصحابنا على أنه لا يجوز نسخه شكر المنعم وأن كفر المنعم لا سبيل إلى إباحته في العقل أصلا
قال أبو محمد فنسأل قائل هذا القول الفاسد فنقول له ما تقول في رجل استنقذ طفلا قد أشرف الأسد على افتراسه فرباه ولا أب له ولا أم ولا مال فأحسن تربيته ثم علمه العلوم وأكرمه وبره ولم يذله ولا استخدمه وموله وزوجه وخوله ثم إن ذلك المحسن إليه زنى وهو محصن وسرق وقذف ثم تاب من كل ذلك وتعبد ثم قامت عليه بذلك بينة عدل وقدم إلى يتيمه وهو بعد حاكم من حكام المسلمين فما ترى أن يفعل فيه أيشكر فيعفو عنه ولا سيما وقد تاب أو يأمر بأن يوجع متناه بالسياط ثم يقطع يده ثم يأمر بشدخ هامته بالحجارة حتى يموت فإن قال أرى أن يعفو عنه كفر إن اعتقد ذلك أو فسق إن أشار بذلك غير معتقد له وإن قال أرى أن يوقع به أنواع العذاب الذي ذكرنا فقد ترك مذهبه الفاسد في ألا يكفر إحسان المنعم
فإن قال إن هذا الفعل هو شكره على الحقيقة
قال خلاف ما ادعى أن العقل يوجبه وسمى غاية الإساءة إحسانا فإن رجع إلى أن يقول إنما يحسن في العقول شكر المنعم الذي أمر الله تعالى بشكره لا شكر المنعم الذي أمر الله تعالى بالإضرار به وألا يقارض على إحسانه رجع إلى الحق وإلى أنه لا حسن إلا ما فعل الله تعالى ولا قبيح إلا ما نهى الله عنه وهذا الذي لا يجوز غيره
والعجب من ذهاب هؤلاء القوم عن نور الحق في هذه المسألة وهم يسمعون الله تعالى يقول { لا تجد قوما يؤمنون بلله وليوم لآخر يوآدون من حآد لله ورسوله ولو كانوا آبآءهم أو أبنآءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم لإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها لأنهار خالدين فيها رضي لله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب لله ألا إن حزب لله هم لمفلحون } (4/477)
وقوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا كونوا قوامين بلقسط شهدآء لله ولو على أنفسكم أو لوالدين ولأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فلله أولى بهما فلا تتبعوا لهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن لله كان بما تعملون خبيرا } فأوجب تعالى القيام عليهم بمر الحق وإن أدى إلى صلبهم وقتلهم وقطع أيديهم وأرجلهم وأعضائهم وضربهم بالسياط وشدخهم بالحجارة وهتك أستارهم وسبي نسائهم وذراريهم وبيع أملاكهم وبيعهم مماليك وأخذ أموالهم وإن كانوا آباءنا المحسنين إلينا إذا كفروا فأين شكر المنعم وبر الأب على الإطلاق وهذا كله محال
وإنما الذي يجب فهو بر الوالدين الأبوين الذين أوجب الله برهما وإنما الذي يجب أيضا فهو شكر المنعم الذي أمر الله بشكره ولم يأمرنا الله تعالى ببر الوالدين لما وجب برهما ولا عقوقهما ولو لم يأمرنا بشكر المنعم لما لزم شكره ولا كفره كما لا يلزم بر الوالدين الحربيين أو المحاربين وكذلك المنعم الحربي أو المحارب ولو لم يأمرنا بالرحمة لما وجبت أيضا
كما أننا نضجع الخروف الصغير ونذبحه ونطبخ لحمه ونأكله ونفعل ذلك أيضا بالفصيل الصغير ونثكل أمه إياه ونولد عليها من الحنين والوله أمرا ترق قلوب سامعيه له وتؤلم نفوس مشاهديها وقد شاهدنا كيف خوار البقر وفعلها إذا وجدت دم ثور قد ذبح وكل هذا حلال بلا مأمور به ويكفر من لم يستحله ويجب بذلك سفك دمه فأي فرق في العقول بين هذا وبين ذبح صبي آدمي لو أبيح لنا ذلك وقد جاء في بعض الشرائع أن موسى عليه السلام أمر في أهل مدين إذا حاربهم بقتل جميع أطفالهم أولهم عن آخرهم من الذكور وقد سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أطفال المشركين يصابون في البيات فقال هم من آبائهم فهل في هذا كله شيء غير الأمور الواردة من الله عز و جل
وقد قال قوم إذا جاء أمر بشريعة ما وجاء على فعلها وعد وعلى تركها وعيد ثم نسخ ذلك الأمر فقد نسخ الوعد والوعيد عليه
قال أبو محمد فيقال له وبالله تعالى التوفيق لم ينسخ الوعد ولا الوعيد لأنهما إنما (4/478)
كانا متعلقين بثبات ذلك الأمر لا على الإطلاق وإنما يصح النسخ فيها لو بقي ذلك الأمر بحبسه ثم يأتي خبر بإسقاط ذلك الوعيد وهذا ما لا سبيل إليه بعد ورود الخبر به
ولا نسخ في الوعد ولا في الوعيد البتة لأنه كان يكون كذبا وإخلافا وقد تنزه الله تعالى عن ذلك ولكن الآيات والأحاديث الواردة في ذلك مضموم بعضها إلى بعض ولا يجوز أن نقتصر منها على بعض دون بعض على ما بينا في كتاب الفصل وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد وقد غلط قوم غلطا شديدا وأتوا بأخبار ولدها الكاذبون والملحدون منها أن الداجن أكل صحيفة فيها آية متلوة فذهب البتة ومنها أن قرآنا أخذه عثمان بشهادة رجلين وشهادة واحدة ومنها أن قراءات كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أسقطها عثمان وجمع الناس على قراءة واحدة
قال أبو محمد وهذا كله ضلال نعوذ بالله منه ومن اعتقاده وأما الذي لا يحل اعتقاد سواه فهو قول الله تعالى { إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون } فمن شك في هذا كفر ولقد أساء الثناء على أمهات المؤمنين ووصفهن بتضييع ما يتلى في بيوتهن حتى تأكله الشاة فيتلف مع أن هذا كذب ظاهر ومحال ممتنع لأن الذي أكل الداجن لا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون رسول الله صلى الله عليه و سلم حافظا له أو كان قد أنسيه فإن كان في حفظه فسواء أكل الدواجن الصحيفة أو تركها وإن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أنسيه فسواء أكله الداجن أو تركه قد رفع من القرآن فلا يحل إثباته فيه كما قال تعالى { سنقرئك فلا تنسى إلا ما شآء لله إنه يعلم لجهر وما يخفى }
فنص تعالى على أنه لا ينسى أصلا شيئا من القرآن إلا ما أراد تعالى رفعه بإنسائه
فصح أن حديث الداجن إفك وكذب وفرية ولعن الله من جوز هذا أو صدق به بل كل ما رفعه الله تعالى من القرآن فإنما رفعه في حياة النبي صلى الله عليه و سلم قاصدا إلى رفعه ناهيا عن تلاوته إن كان غير منسي أو ممحوا من الصدور كلها ولا سبيل إلى كون شيء من ذلك بعد موت رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يجيز هذا مسلم لأنه تكذيب لقوله تعالى { إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون } ولكان (4/479)
ذلك أيضا تكذيبا لقوله تعالى { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم } ولكان ما يرفع منه بعد موت رسول الله صلى الله عليه و سلم خرما في الدين ونقصا منه وإبطالا للكمال المضمون ولكان ذلك مبطلا لهذه الفضيلة التي خصصنا بها والفضائل لا تنسخ والحمد لله رب العالمين
وأما فعل عثمان رضي الله عنه فلم يمت رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا والقرآن مجموع كما هو مرتب لا مزيد فيه ولا نقص ولا تبديل والقراءات التي كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم باقية كلها كما كانت لم يسقط منها شيء ولا يحل حظر شيء منها قل أو كثر
قال الله تعالى { إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه } ولبيانه هذا وتقصي الكلام فيه مكانه من باب الإجماع من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى
قال أبو محمد وقد قال قوم في آية الرجم إنها لم تكن قرآنا وفي آيات الرضعات كذلك
قال أبو محمد ونحن لا نأبى هذا ولا نقطع أنها كانت قرآنا متلوا في الصلوات ولكنا نقول إنها كانت وحيا أوحاه الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه و سلم مع ما أوحى إليه من القرآن فقرىء المتلو مثبوتا في المصاحف والصلوات وقرىء سائر الوحي منقولا محفوظا معمولا به كسائر كلامه الذي هو وحي فقط ولسنا ننكر رفع آيات في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم من الصدور جملة لقوله تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير } ولا نجيز ذلك بعد موته لقوله تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير } فإنما اشترط الله تعالى لنا رفعها معلقا بأن يأتينا بخير منها أو مثلها وهذا ما لا سبيل إليه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم لأن الإتيان بآية بعده لا سبيل إليه إذ قد انقطع الوحي بموته ومن أجاز ذلك فقد أجاز كون النبوة بعده ومن أجاز ذلك فقد كفر وحل دمه وماله ولا سبيل إلى أن ينسى عليه السلام شيئا من القرآن قبل أن يبلغه فإذا بلغه وحفظه للناس فلسنا ننكر أن ينساه عليه السلام لأنه بعد محفوظ مثبت وقد جاء مثل ذلك في خبر صحيح أنه سمع رجلا يتلو القرآن فدعا له (4/480)
بالرحمة وأخبر عليه السلام أنه أذكره آية كان نسيها ولأنه قد بلغه كما أمر
كما حدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا ثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم سمع رجلا يقرأ من الليل فقال رحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أسقطتها من سورة كذا وكذا ورواه عبدة وأبو معاوية عن هشام أذكرني آية كنت أنسيتها
فصل هل يجوز نسخ الناسخ
قال أبو محمد ولا فرق بين أن ينسخ تعالى حكما بغيره وبين أن ينسخ ذلك الثاني بثالث وذلك الثالث برابع وهكذا كل ما زاد كل ذلك ممكن إذا وجد برهان على صحته وقد جاء في بعض الآثار أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال وأحيل الصيام ثلاثة أحوال فكان عاشوراء فرضا ثم نسخ فرضه بصيام رمضان بشرط أن من شاء صام ومن شاء أطعم مسكينا وأفطر هو ثم نسخ ذلك بإيجاب الصيام على الحاضر المطيق الصحيح البالغ العاقل وكان من نام لا يحل له الأكل ولا الوطء ثم نسخ ذلك بإباحة كل ذلك في الليل والحظر لصيام الليل إلى الفجر وقد أوردنا في كتاب النكاح من ديواننا الكبير المسمى بالإيصال بأصح أسانيد أن نكاح المتعة أباحه الله تعالى ثم نسخه ثم أباحه ثم نسخه ثم أباحه ثم نسخه إلى يوم القيامة
فصل في مناقل النسخ
قال أبو محمد مراتب الأوامر في الشريعة كلها خمسة لا سادس لها وهي حرام وهو الطرف الواحد وفرض وهو الطرف الثاني وبين هذين الطرفين ثلاث مراتب فيلي الحرام مرتبة الكراهة وهي الأشياء التي تركها خير من فعلها إلا أن من تركها أجر ومن فعلها لم يأثم وذلك نحو الأكل متكئا والتمسح من الغسل في ثوب معد (4/481)
لذلك وما أشبه ذلك
ويلي مرتبة الفرض مرتبة الندب وهي الأشياء التي فعلها خير من تركها إلا أن من فعلها أجر ومن تركها غير راغب عنها لم يأثم وفي هذا الباب يدخل التطوع كله بأفعال الخير وبين هاتين المرتبتين مرتبة المباح المطلق وهو ما تركه وفعله سواء إن فعله لم يؤجر ولم يأثم وإن تركه لم يؤجر ولم يأثم كجلوس الإنسان مربعا أو مرفوع الركبة الواحدة وصباغة ثوبه أخضر أو أسود وحسه الشيء بيده وما أشبه ذلك فإذا نسخ الفرض نظر فإن كان بلفظ لا تفعل بعد أن أمرنا بفعله فهو منتقل إلى التحريم لأن هذه صيغة للتحريم
وإن نسخ بأن قال { يأيها لذين آمنوا إذا جآءكم لمؤمنات مهاجرات فمتحنوهن لله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى لكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم مآ أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذآ آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم لكوافر واسألوا مآ أنفقتم وليسألوا مآ أنفقوا ذلكم حكم لله يحكم بينكم ولله عليم حكيم } أو بلفظ تخفيف أو بترك أو بفعل لم ينتقل إلا إلى أقرب المراتب وهو الندب وذلك مثل صيام عاشوراء فإنه لما نسخ وجوبه انتقل إلى الندب وكذلك إن نسخ التحريم فإن كان نسخه بلفظ افعل انتقل إلى الفرض لأن هذه صيغة الفرض وإن نسخ بلا جناح أو بتخفيف انتقل إلى أقرب المراتب إليه وهي الكراهة وإذا نسخت الكراهة أو الندب بلفظ افعل انتقل إلى أقرب المراتب إليه وهي الكراهة وإذا نسخت الكراهة أو الندب بلفظ افعل انتقلا إلى الفرض فإن نسخا بلفظ لا تفعل انتقلا إلى التحريم فإن نسخا بتخفيف انتقلا إلى الإباحة المطلقة لأن الإباحة أقرب إليهما من الفرض والتحريم لأن المكروه والمندوب إليه مباحان ولكنهما معلقان بشرط كما ترى وقد نسخ تحريم وطء النساء بعد النوم في ليالي الصوم إلا الإباحة بالندب ونسخ المنع من القتال بإيجابه ونسخ فرض استقبال بيت المقدس بالتحريم وقد نسخ فرض بفرض آخر كنسخ حبس الزواني إلى الجلد والرجم أو الجلد والتغريب
فصل في آية ينسخ بعضها ما حكم سائرها
قال أبو محمد إذا جمعت الآية أو الحديث حكمين فصاعدا فجاء نص أو إجماع بنسخ أحد الحكمين أو تخصيصه أو إخراجه إلى الندب وقف عنده ولم يحل لمسلم أن يقول إن الحكم الآخر منسوخ من أجل هذا الحكم المذكور معه في الآية (4/482)
أو الحديث ولا أنه مخصوص ولا أنه ندب بل يبقى على حكمه كما كان وعلى ما يوجبه ظاهره لقول الله عز و جل { ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا }
ومن ادعى أن هذا الحكم مرتبط بيانه أو نسخه بحكم آخر فقد افترى على الله عز و جل وادعى ما لا دليل عليه ولزمه أن متى وجد في سورة واحدة آية منسوخة أن يقول إن تلك السورة منسوخة كلها من أجل الآية المنسوخة منها ولزمه ما هو أفحش من هذا وهو أن يقول إن القرآن كله منسوخ من أجل وجوده فيه أحكاما كثيرة منسوخة
ولا فرق بين عطف حكم على حكم وبين عطف آية على آية ولا فرق بين ذكر حكمين في آية وبين ذكرهما في سورة فإذا وجب أن يكون أحد الحكمين المذكورين في الآية منسوخا لزم مثل ذلك في أحكام السورة كلها لأن الحكم المذكور معها منسوخ أيضا ولا فرق وهذا إبطال للشريعة جملة وخروج عن الإسلام ومن الله تعالى العافية علينا من ذلك وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد مثال ذلك قوله تعالى { وللاتي يأتين لفاحشة من نسآئكم فستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في لبيوت حتى يتوفاهن لموت أو يجعل لله لهن سبيلا } ثم نسخ تعالى الإمساك في البيوت وأثبت استشهاد الأربعة
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن مهر البغي وحلوان الكاهن وكسب الحجام وثمن الكلب فخرج كسب الحجام عن التحريم بحديثه عليه السلام أطعمه رقيقك وناضحك فيلزم من خالفنا أن يبيح من أجل ذلك مهر البغي وحلوان الكاهن وهذا ما لا يقوله مسلم وقد قال الطحاوي إن النهي عن ثمن الكلب منسوخ بنسخ إيجاب قتل الكلاب
قال أبو محمد ولا أدري في أي عقل أم في أي نص وجد هذا الرجل أنه إذا حرم قتل حيوان حل بيعه أتراه جهل أن يبيعه وبيع كل حر حرام وقتله حرام ما لم يقترف ما حل دمه إن هذه لغباوة شديدة وعصبية لمذهبه الفاسد قبيحة (4/483)
ونعوذ بالله من التقليد المؤدي إلى القول على الله تعالى بمثل هذا بغير علم ولا هدي ولا كتاب منير وليت شعري ما الفرق بينه وبين من عارضه فقال بل لما حرم الله أكلها حرم بيعها
فصل في كيف يعلم المنسوخ والناسخ مما ليس منسوخا
قال أبو محمد لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شيء من القرآن والسنة هذا منسوخ إلا بيقين لأن الله عز و جل يقول { ومآ أرسلنا من رسول ألا ليطاع بإذن لله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآءوك فستغفروا لله وستغفر لهم لرسول لوجدوا لله توابا رحيما } وقال تعالى { قل من حرم زينة لله لتي أخرج لعباده والطيبات من لرزق قل هي للذين آمنوا في لحياة لدنيا خالصة يوم لقيامة كذلك نفصل لآيات لقوم يعلمون } فكل ما أنزل الله تعالى في القرآن أو على لسان نبيه ففرض اتباعه فمن قال في شيء من ذلك إنه منسوخ
فقد أوجب ألا يطاع ذلك الأمر وأسقط لزوم اتباعه وهذه معصية لله تعالى مجردة وخلاف مكشوف إلا أن يقوم برهان على صحة قوله وإلا فهو مفتر مبطل
ومن استجاز خلاف ما قلنا فقوله يؤول إلى إبطال الشريعة كلها لأنه لا فرق بين دعواه النسخ في آية ما أو حديث ما وبين دعوى غيره والنسخ في آية ما أو حديث ما وبين دعوى غيره النسخ في آية أخرى وحديث آخر فعلى هذا لا يصح شيء من القرآن والسنة وهذا خروج عن الإسلام وكل ما ثبت بيقين فلا يبطل بالظنون ولا يجوز أن تسقط طاعة أمر أمرنا به الله تعالى ورسوله إلا بيقين نسخ لا شك فيه فإذا قد صح ذلك وثبت فلنقل في الوجوه التي بها يصح نسخ الآية أو الحديث فإذا عدم شيء من تلك الوجوه فقد بطلت دعوى من ادعى النسخ في شيء من الآيات أو الأحاديث
قال أبو محمد فإذا اجتمعت علماء الأمة كلهم بلا خلاف من واحد منهم على نسخ آية أو حديث فقد صح النسخ حينئذ فإن اختلفوا نظرنا فإن وجدنا الأمرين لا يمكن استعمالهما معا أو وجدنا أحدهما كان بعد الآخر بلا شك أو وجدنا نصا جليا على منسوخ ووجدنا نصا في ذلك من نهي بعد أمر أو أمر بعد نهي (4/484)
أو نقل من مرتبة إلى مرتبة على ما قدمنا فقد أيقنا بالنسخ مثل قوله عليه السلام نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن الانتباذ في الأسقية فانتبذوا وأباح الانتباذ في كل ظرف ومثل قول جابر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه و سلم ترك الوضوء مما مست النار ومثل ما روي أنه رخص في الحجامة للصائم والترخيص لا يكون إلا بعد النهي والحجامة هكذا فعل الحاجم والمحجوم معا فهذان وجهان
أو نجد حالا قد أيقنا بإبطالها وارتفاعها وحالا أخرى قد أيقنا بنزولها ووجوبها ورفعها للحال الأولى ثم جاء نص من قرآن أو حديث موافق للحال المرفوعة التي قد سقطت بيقين إلا أننا لا ندري هل جاء هذا النص الموافق لتلك الحال المرفوعة قبل مجيء الحال الرافعة أو بعدها فإذا كان مثل هذا ففرض ألا يترك ما أيقنا بوجوبه علينا وصح عندنا لزومه لنا وحرم علينا أن نرجع إلى حال قد أيقنا بارتفاعها عنا وصح عندنا بطلانها إلا بنص جلي راد لنا إلى الحالة الأولى ورافع عنا الحالة الثانية
ومن تعدى هذا فقد قفا ما لا علم له به وترك الحق واليقين واستعمل الشك والظنون وذلك ما لا يحل أصلا فكيف وقول الله تعالى { إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون } وقوله تعالى { لا إكراه في لدين قد تبين لرشد من لغي فمن يكفر بلطاغوت ويؤمن بلله فقد ستمسك بلعروة لوثقى لا نفصام لها ولله سميع عليم } وقوله تعالى { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم } شواهد قاطعة بأنه لا يجوز البتة أن يكون الله تعالى تركنا في عمياء وضلالة لا ندري معها أبدا هل هذا الحكم منسوخ أو غير منسوخ هذا أمر قد أمنا وقوعه أبدا إذ لو كان ذلك لكان الدين قد بطل أكثره ولكننا في شك متصل لا ندري أنعمل بالباطل في نصوص كثيرة من القرآن والسنن أم نعمل بالحق وهل نحن في طاعات كثيرة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه و سلم على ضلال أو على هدى حاشا لله من هذا
فصح يقينا أن حكم تيقنا بطلانه فهو باطل أبدا بلا شك حتى يأتي نص ثابت بأنه قد عاد بعد بطلانه هكذا ولا بد وإلا فلا والحمد لله رب العالمين (4/485)
فمن هذا الباب ما قد أيقنا من أن إباحة زواج أكثر من أربع نسوة قد ارتفعت وأن نكاح أكثر من أربع حرام على كل أحد بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم بيقين وقد جاء حديث بتخيير من أسلم وعنده أكثر من أربع فكان هذا الحديث موافقا لحال ما نسخ من ترك التحريم لزواج أكثر من أربع وما كان عليه من أسلم وعنده أكثر من أربع لأنهم نكحوهن وذلك غير محظور عليهم فلما نزل التحريم خيروا في أربع منهن وكان من ابتدأ نكح خامسا فصاعدا وأكثر من أربع معا أو أختين أو أم وابنتها بعد نزول تحريم كل ذلك عاصيا لله عز و جل وعاملا عملا ليس عليه أمره فهو رد ففعله ذلك كله مردود
وعقده ذلك فاسد مفسوخ محلول غير ماض أصلا فصح بذلك ارتفاع التخيير وأنه إنما كان ذلك للذين نكحوا أكثر من أربع قبل أن يحظر ذلك وأيضا فلو صح تخيير من ابتدأ نكاح خمس في كفر بعد ورود النهي عن ذلك لما كان في ذلك إباحة تخيير من أسلم وعنده أختان أو حريمتان ومع ذلك أيضا أننا قد أيقنا أنه قد كان في صدر الإسلام إذا نام الرجل في ليل رمضان حرم عليه الوطء والأكل والشرب ثم نسخ ذلك وجاء حديث أبي هريرة عن الفضل بن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم بأن من أدركه الصبح وهو جنب فقد أفطر فكان هذه الحديث موافقا لتلك الحال المنسوخة وقد أيقنا برفعها وبإباحة الوطء إلى تبين طلوع الفجر فلا سبيل إلى الرجوع إلى حظر الوطء إلا ببيان جلي
ومن ذلك أننا قد أيقنا بأن الوصية لم تكن مدة من صدر الإسلام فرضا ثم أيقنا نزول وجوب الوصية للوالدين والأقربين ثم جاء حديث عمران بن الحصين في الستة الأعبد فكان هذا الحديث موافقا للحال المرفوعة من ألا يلزم المرء أن يوصي لوالديه وأقربيه فلم يجز لنا أن نرفع به حكم الآية التي أيقنا أنها ناسخة للحال الأولى ولا جاز لنا أن نرجع إلى حالة قد أيقنا أنها حظرت علينا إلا بنص جلي
إن هذا الحديث كان بعد نزول الآية وبأن أولئك الأعبد لم يكونوا أقارب الموصي بعتقهم ولا سبيل إلى وجود بيان بذلك أبدا وبالله تعالى التوفيق
فصح أن كل ما كان في معنى الحال المتقدمة من إباحة ترك الوصية للوالدين والأقربين منسوخ بيقين ولم يصح أنه عاد بعد أن نسخ ولا يحل الحكم بالظنون (4/486)
وأيضا فقد ملك قوم من العرب أقاربهم وقد كان هراسة أخا عنترة واستلحف شداد عنترة وكان هراسة عبدا لأخيه وقد كان في نساء الصحابة رضي الله عنهم من باعها عمها أخو أبيها وهي أم ولد أبي اليسر الأنصاري
قال أبو محمد ومن استجاز أن يترك اليقين من الآية المذكورة بأن يقول لعل حديث عمران في الأعبد الستة نسخها فليقنعوا من أصحاب أبي حنيفة بقولهم لعل حكم العرايا نسخ بالنهي عن المزابنة وبقولهم لعل القصاص بغير نسخ بالنهي عن المثلة وليقولوا بقول من منع أن يمسح على الخفين وقال لعل ذلك نسخ بآية الوضوء التي بالمائدة وليأخذوا بقول ابن عباس في إباحة الدرهم بالدرهمين ويقولوا لعل النهي عن ذلك نسخ بقوله عليه السلام إنما الربا في النسيئة وليأخذوا بقول عثمان البتي في إبطال العاقلة ويقولوا لعل حكم العاقلة نسخ بقوله تعالى { قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } { قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } وليبطلوا السلم ويقولوا لعله نسخ بنهيه عليه السلام عن بيع ما ليس عندك ويستحلوا أكل الحمير والسباع ويقولوا لعل النهي عنها منسوخ بقوله تعالى { قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون }
فإن أبوا من كل ما ذكرنا وقالوا لا نقول في شيء من ذلك إنه منسوخ إلا بيقين فكذلك يلزمهم أن يقولوا أيضا بقول ابن عباس إن الآية القصرى نسخت الآية الطولى فيوجبوا خلود القاتل من المسلمين في نار جهنم أبدا فإن أبوا ألزمهم مثل ذلك في آية الوصية ولا فرق
وكذلك القول فيمن قال في رضاع سالم فإنه لما كان مرتبطا بالتبني وكان التبني منسوخا بطل حكم التعلق به لبطلانه وكل سبب بطل فإن مسببه يبطل بلا شك فإن هذا أيضا خطأ لأنه لم يأت نص ولا إجماع ولا ضرورة مشاهدة بأن هذا الحكم مخصوص به التبني فقط بل هو عموم على ظاهره ولا يجوز تخصيصه بالدعوى بلا نص ولا إجماع
فهذه الوجوه الأربعة لا سبيل إلى أن يعلم نسخ آية أو حديث بغيرها أبدا إما (4/487)
إجماع متيقن وإما تاريخ بتأخر أحد الأمرين عن الآخر مع عدم القوة على استعمال الأمرين وإما نص بأن هذا الأمر ناسخ للأول وأمر نتركه وإما يقين لنقل حال ما فهو نقلي لكل ما وافق تلك الحال أبدا بلا شك
فمن ادعى نسخا بوجه غير هذه الوجوه الأربعة فقد افترى إثما عظيما وعصى عصيانا ظاهرا وبالله تعالى التوفيق
فمما تبين بالنص أنه منسوخ قوله تعالى { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهدآء على لناس ويكون لرسول عليكم شهيدا وما جعلنا لقبلة لتي كنت عليهآ إلا لنعلم من يتبع لرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على لذين هدى لله وما كان لله ليضيع إيمانكم إن لله بلناس لرءوف رحيم } ثم قال تعالى { قد نرى تقلب وجهك في لسمآء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر لمسجد لحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن لذين أوتوا لكتاب ليعلمون أنه لحق من ربهم وما لله بغافل عما يعملون } فهذا تأخير لائح أن القبلة التي كانت قبل هذه منسوخة وأن التوجه إلى الكعبة كان بعد تلك القبلة
وهذا أيضا له إجماع ومثل قوله تعالى { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن لله يتوب عليه إن لله غفور رحيم } فنسخ بذلك النهي عن الوطء في ليل رمضان ومثل قوله تعالى { شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } نسخ به قوله تعالى { أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى لذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون } وهذا نقل مسند إلى النبي صلى الله عليه و سلم بإجماع يعني نسخ إباحة الفطر والإطعام من ندب إلى فرض ومثل نسخ قيام الليل فإنه نسخ بالنص المنقول بإجماع من فرض إلى ندب
قال أبو محمد وقد ادعى قوم في قوله تعالى { لآن خفف لله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن لله ولله مع لصابرين } إنه نسخ لقوله تعالى { يأيها لنبي حرض لمؤمنين على لقتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من لذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون }
قال أبو محمد وهذا خطأ لأنه ليس إجماعا ولا فيه بيان نسخ ولا نسخ عندنا في هذه الآيات أصلا وإنما هي فرض البراز للمشركين وأما بعد اللقاء فلا يحل لواحد (4/488)
منا أن يولي دبره جميع من على وجه الأرض من المشركين إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة على ما نبين في موضعه إن شاء الله تعالى أو من كان مريضا أو زمنا بقوله تعالى { ليس على لضعفآء ولا على لمرضى ولا على لذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على لمحسنين من سبيل ولله غفور رحيم }
فإن قالوا إن الضعيف القلب معذور لأنه دخل في جملة الضعفاء قيل لهم هذا خطأ لأن من رضي أن يكون مع الخوالف لضعف قلبه ملوم بالنص غير معذور وأيضا فإن ضعف القلب قد نهينا عنه بقوله تعالى { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } ولا يجوز أن يكون تعالى أراد وهن البدن لأنه لا يستطاع دفعه أصلا والله تعالى لا يكلف إلا ما نطيق وضعف القلب مقدور على دفعه ولو أراد الجبان أن يثبت لثبت ولكنه آثر هواه والفرار على ما لا بد له من إدراكه من الموت الذي لا يعدو وقعه ولا يتقدم ولا يتأخر وهذا بين وبالله تعالى التوفيق
والعجب ممن يقول إن هذه الآية مبيحة لهروب واحد أمام ثلاثة فليت شعري من أين وقع لهم ذلك وهل في الآية التي ذكروا فرارا أو تولية دبر بوجه من الوجوه أو إشارة إليه ودليل عليه ما في الآية شيء من ذلك البتة وإنما فيها أخبار عن الغلبة فقط بشرط الصبر وتبشير بالنصر مع الثبات
ولقد كان ينبغي أن يكون أشد الناس حياء من الاحتجاج بهذه الآيات في إباحة الفرار عن ثلاثة أصحاب القياس المحتجين علينا بقول الله تعالى { ومن أهل لكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قآئما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في لأميين سبيل ويقولون على الله لكذب وهم يعلمون } ويقول لنا إن ما فوق القنطار بمنزلة القنطار فهلا جعلوا ههنا ما فوق الاثنين بمنزلة الاثنين ولكن هكذا يفعل الله بمن ركب ردعه واتبع هواه وأضرب عن الحقيقة جانبا
وأما نحن فلو رأينا في الآيات المذكورة ذكر إباحة فرار لقلنا به ولسلمنا لأمر ربنا ولكنا لم نجد فيها لإباحة الفرار أثرا ولا دليلا بوجه من الوجوه وإنما وجدنا فيها أننا إن صبرنا غلب المائة منا المائتين وصدق الله عز و جل فليس في ذلك ما يمنع أن يكون (4/489)
أقل من مائة أو أكثر من مائة يغلبون العشرة آلاف منهم وأقل وأكثر كما قال تعالى { فلما فصل طالوت بلجنود قال إن لله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من غترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو ولذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا ليوم بجالوت وجنوده قال لذين يظنون أنهم ملاقوا لله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن لله ولله مع لصابرين } وهكذا كله إخبار عن فعل الله تعالى ونصره عز و جل لمن صبر منا فتلك الآية التي فيها أن المائة منا تغلب المائتين وهي إخبار عن بعض ما في الآية التي فيها أن المائة منا تغلب الألف وهاتان الآيتان معا هما إخبار عن بعض ما في الآية التي فيها { فلما فصل طالوت بلجنود قال إن لله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من غترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو ولذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا ليوم بجالوت وجنوده قال لذين يظنون أنهم ملاقوا لله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن لله ولله مع لصابرين } فلم يخص في هذه الآية عددا من عدد بل عم عموما تاما
فإن قال قليل التحصيل فأي معنى لتكرار ذلك وما فائدته
قيل له قد ذكرنا الجواب عن هذا الفضول من السؤال السخيف في باب دليل الخطاب من ديواننا هذا ولكن لا بد من إيراد بعض ذلك لورود هذا السؤال فيقول وبالله تعالى التوفيق هذا اعتراض منك على الله عز و جل
والمعنى في ذلك والفائدة كالمعنى والفائدة في تكرار قصة موسى عليه السلام في عدة مواضع بعضها أتم في الخبر من بعض وبعضها مساو لبعض وكما كرر تعالى العنب والرمان والنخل بعد ذكر الفاكهة وكما كرر تعالى وأقيموا الصلاة والصلاة الوسطى بعد ذكر المحافظة على جميع الصلوات
وكما كرر تعالى { فبأي آلاء ربكما تكذبان } في سورة واحدة إحدى وثلاثين مرة ولم يكررها ثلاثين مرة لا ثمانية وعشرين مرة
ولا كررها أيضا في غير تلك السورة وكما أخبر تعالى في مكان بأنه رب السموات والأرض وما بينهما في مكان آخر بأنه رب الشعرى ولم يذكر معها غيرها
ولا يسأل رب العالمين عما قال ولا ما فعل وإنما علينا الإيمان بكل ما أتى من عند الله وقبوله كما هو واعتقاده في موجبه ولا نتعداه ولنا الأجر على الإقرار به وعلى تلاوته وعلى قبوله كما ذكرنا
فأي حظ أعظم من هذا الحظ المؤدي إلى الجنة وفوز الأبد وهل يبتغي أكثر من هذا الأمر إلا من لا عقل له ولا يسأل الله عما يفعل إلا ملحد أو جاهل أو سخيف أو فاسق لا بد من أحد هذه وما فيها حظ لمختار
فإن قال قائل فما معنى قول الله تعالى { لآن خفف لله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن لله ولله مع لصابرين } في (4/490)
الآيات المذكورات
وما هذا التخفيف وهو شيء قد خاطبنا الله تعالى به وامتن به علينا فلا بد من طلب معناه والوقوف على مقدار النعمة علينا في ذلك وما هذا الشيء الذي خفف عنا لنحمد الله تعالى عليه ونعرف وجه الفضل علينا فيه
فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن هذا السؤال صحيح حسن ووجه ذلك أن أول الآية يبين وجه النعمة عليه وموضع التخفيف وهو قوله تعالى { يأيها لنبي حرض لمؤمنين على لقتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من لذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون } فكان في هذه الآية التحريض لنا على قتالهم وإيجاب نهوضنا إليهم وهجومنا على ديارهم ونحن في عشر عددهم هذا هو ظاهر الآية ومفهومها الذي لا يفهم منها أحد غير ذلك ثم خفف عنا تعالى ذلك وجعلنا في سنة من ترك التعرض للقصد إلى محالهم إذا كان المقاتلون من الجهة المقصودة أكثر من ضعيفنا وكنا بالآية الأولى في حرج إن لم نغزهم ونحن في عشر عددهم فنحن الآن في حرج إن لم نقصدهم إذا كان المقاتلون من الجهة المقصودة مثلينا فأقل فإن كانوا ثلاثة أمثالنا فصاعدا فنحن في سعة من أن لا نقصدهم ما لم ينزلوا بنا وما لم يستنفر الإمام أو أميره إلا أن نختار النهوض إليهم وهم في أضعاف عددنا
فأي هذه الوجوه الثلاثة كان قد حرم علينا الفرار جملة ولو أنهم جميع أهل الأرض والملاقي لهم مسلم واحد فصاعدا فهذا هو وجه التخفيف
وبهذا تتآلف الآيات المذكورة مع قوله تعالى { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد بآء بغضب من لله ومأواه جهنم وبئس لمصير } ومع قول رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا استنفرتم فانفروا ومع إجماع الأمة على أنه إذا نزل العدو ساحتنا ففرض علينا الكفاح والدفاع
وأيضا فقول الله عز و جل { لآن خفف لله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن لله ولله مع لصابرين } يبين وجه التخفيف وإنما هو عمن فيه ضعف فقط فصار هذا التخفيف إنما هو عن الضعفاء فقط كقوله تعالى { لا يستوي لقاعدون من لمؤمنين غير أولي لضرر ولمجاهدون في سبيل لله بأموالهم وأنفسهم فضل لله لمجاهدين بأموالهم وأنفسهم على لقاعدين درجة وكلا وعد لله لحسنى وفضل لله لمجاهدين على لقاعدين أجرا عظيما } وكقوله تعالى { ليس على لضعفآء ولا على لمرضى ولا على لذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على لمحسنين من سبيل ولله غفور رحيم } (4/491)
ومن النسخ الذي بينه النص قول رسول الله صلى الله عليه و سلم المنقول بالإجماع لا وصية لوارث فنسخ بذلك الوصية للوالدين والأقربين الذين يرثون وبقي الولدان والأقربون الذين لا يرثون على وجوب فرض الوصية لهم
قال أبو محمد وقد بينا في كتابنا هذا في باب الكلام في الأخبار المأثورة عن النبي صلى الله عليه و سلم في فصل أفردناه للكلام فيما ادعاه قوم من تعارض الأخبار كلاما استغنينا عن تكراره ههنا فيه بيان غلط قوم فيما ظنوه نسخا وليس بنسخ ولكن اكتفينا بأن نبهنا عليه ههنا لأنه لا غنى بمزيد معرفة فقه النسخ عنه وبالله تعالى التوفيق
فصل لا يضر كون الآية المنسوخة متقدمة في الترتيب
قال أبو محمد ولا يضر كون الآية المنسوخة في ترتيب المصحف في الخط والتلاوة متقدمة في أول السورة أو في سورة متقدمة في الترتيب
وتكون الناسخة لها في السورة أو في سورة متأخرة في الترتيب لأن القرآن لم ترتب آياته وسوره على حسب نزول ذلك لكن كما شاء ذو الجلال والإكرام منزله
لا إله إلا الله
ومرتبه الذي لم يكل ترتيبه إلى أحد دونه
فأول ما نزل من القرآن { } قرأ بسم ربك لذي خلق ثم { يأيها لمدثر } وهما متأخرتان قرب آخر المصحف في الخط والتلاوة وآخر ما نزل آية الكلالة في سورة النساء وسورة براءة وهما في صدر المصحف في الخط والتلاوة فلا يجوز مراعاة رتبة التأليف في معرفة الناسخ والمنسوخ البتة
وقد نسخ الله قوله تعالى { ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى لحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف ولله عزيز حكيم } بقوله تعالى { ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بلمعروف ولله بما تعملون خبير } ) (4/492)
بإجماع الأمة كلها والناسخة في المصحف في الخط والتلاوة والترتيب والتأليف قبل المنسوخة وفي هذا كفاية وبالله تعالى التوفيق
فصل في نسخ الأخف بالأثقل والأثقل بالأخف
قال قوم من أصحابنا ومن غيرهم لا يجوز نسخ الأخف بالأثقل
قال أبو محمد وقد أخطأ هؤلاء القائلون
وجائز نسخ الأخف بالأثقل والأثقل بالأخف والشيء بمثله ويفعل الله ما يشاء ولا يسأل عما يفعل وإن احتج محتج بقوله الله تعالى { شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } وبقوله تعالى { يريد لله أن يخفف عنكم وخلق لإنسان ضعيفا } وبقوله تعالى { وجاهدوا في لله حق جهاده هو جتباكم وما جعل عليكم في لدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم لمسلمين من قبل وفي هذا ليكون لرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهدآء على لناس فأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وعتصموا بلله هو مولاكم فنعم لمولى ونعم لنصير } وبقوله تعالى { شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } فلا حجة لهم في شيء من ذلك
أما قوله تعالى { شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } { وجاهدوا في لله حق جهاده هو جتباكم وما جعل عليكم في لدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم لمسلمين من قبل وفي هذا ليكون لرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهدآء على لناس فأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وعتصموا بلله هو مولاكم فنعم لمولى ونعم لنصير } فنعم دين الله كله يسر والعسر والحرج وهو ما لا يستطاع إما ما استطيع فهو يسر
وأما قوله تعالى { يريد لله أن يخفف عنكم وخلق لإنسان ضعيفا } فنعم ولا خفيف في العالم إلا وهو ثقيل بالإضافة إلى ما هو أخف منه ولا ثقيل البتة إلا وهو خفيف بالإضافة (4/493)
إلى ما هو أثقل منه هذا أمر يعلم حسا ومشاهدة ولا يشك ذو عقل أن الصلوات الخمس المفروضة علينا أخف من خمسين صلاة وأنها لو كانت صلاة واحدة كانت أخف علينا من الخمس وقد خفف الله تعالى عن المسافر فجعلها ركعتين وعن الخائف فجعلها ركعة واحدة ولو شاء ألا يكلفنا صلاة أصلا لكان أخف بلا شك
وقد نص الله تعالى في الصلاة على أنها كبيرة إلا على الخاشعين ولا يشك ذو عقل وحس أن صيام شهر أخف من صيام عام وأن صيام ساعة أخف من صيام يوم فكل ما كلفنا الله تعالى فهو يسر وتخفيف بالإضافة إلى ما هو أشد مما حمله من كان قبلنا كما قال الله تعالى آمرا لنا أن ندعوه فنقول { لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين }
وكما نص تعالى أنه وضع بنبيه صلى الله عليه و سلم الإصر الذي كان عليهم والأغلال التي كانوا يطوقونها إذ يقول تعالى { لذين يتبعون لرسول لنبي لأمي لذي يجدونه مكتوبا عندهم في لتوراة ولإنجيل يأمرهم بلمعروف وينهاهم عن لمنكر ويحل لهم لطيبات ويحرم عليهم لخبآئث ويضع عنهم إصرهم ولأغلال لتي كانت عليهم فلذين آمنوا به وعزروه ونصروه وتبعوا لنور لذي أنزل معه أولئك هم لمفلحون } فهذا هو عين اليسر وعين التخفيف وإسقاط الحرج وأين يقع ما كلفناه نحن مما كلفه بعض قوم موسى من قتل أنفسهم بأيديهم فكل شيء كلفناه يهون عند هذا وكذلك ما في شرائع اليهود من أنه من خطر على ميت تنجس يوما إلى الليل وسائر الثقائل التي كلفوا وحرم عليهم وخفف عنا ذلك كله
ولله الحمد والمنة
وأما قوله تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير } فإنما معناه بخير منها لكم وكلام الله لا يتفاضل في ذاته فمعناه أكثر أجرا
ولو احتج بهذه الآية من يستجيز أن يقول لا ننسخ الأخف إلا بالأثقل لكنا أقوى (4/494)
شغبا ممن خالفه لأنه لا خلاف أن الأثقل فاعله أعظم أجرا وقد قال عليه السلام لعائشة في العمرة هي على قدر نصبك ونفقتك كانت الناسخة أعظم أجرا فلا يكون ذلك إلا لثقلها فهذه الآية عليهم لا لهم فسقط احتجاجهم بكل ما شغبوا به
ثم نقول إن من قال إن الله تعالى إنما يلزمنا أخف الأشياء فإنه يلزمه إسقاط الشرائع كلها لأنها كلها ثقال بالإضافة إلى ترك عملها والاقتصار على عمل جزء من كل عمل منها وهذا شيء يعلم بالحس والمشاهدة
فصار قول من خالفنا مؤديا إلى الخروج عن الإسلام جملة ولا عمل في الدنيا إلا وفيه كلفة ومشقة
وقد قال الشاعر هل الولد المحبوب إلا تعلة وهل خلوة الحسناء إلا أذى البعل وفي الأكل والشرب مشقة فلو أن الإنسان يصل إلى ذوق الطعوم المستطابة والشبع دون تكلف تناول ومضغ وبلع لكان أخف عليه وأقل مشقة وأيسر غررا فرب مختنق بأكله كان في ذلك حتفه أو الإشراف على الحتف
ورب متأذ بما يدخل من ذلك في جوفه وبما يدخل بين أضراسه ومغث لمعدته فيتقيأ فيألم لذلك ومن ملوث لثوبه بما يسقط من يده ولو تتبعنا ما في اللذات من عسر ومشقة لطال ذلك جدا فكيف بالأعمال المكلفة
ولكن العسر والمشقة تتفاضل فإنما رفع الله عز و جل عنا في بعض المواضع ما لا نطيق وخفف تعالى في بعضها تخفيفا أكثر من تخفيف آخر
وقد جاء في الأثر حفت الجنة بالمكاره فبطل بهذا الحديث نصا قول من قال إن الله تعالى لا ينسخ الأخف بالأثقل
وصح أن الله تعالى يفعل ما يشاء فينسخ الأخف بالأثقل والأثقل بالأخف والشيء بمثله والشيء بإسقاطه جملة ويزيدنا شريعة من غير أن يخفف عنا أخرى لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل
فإن اعترضوا بقوله تعالى { لآن خفف لله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن لله ولله مع لصابرين } فهذه حجة عليهم بينة لا محيد عنها لأن التخفيف لا يكون إلا بعد تثقيل فإذا ثقل علينا تعالى أولا فما الذي يمنع من أن يثقل علينا آخرا إن شاء
وقد كنا برهة خالين من ذلك التثقيل الأول ثم ثقلنا به فما المانع من أن يعود علينا ثانية كما كان أولا وأن نزاد تثقيلا آخر أشد منه ويكفي من هذا كله وجودنا (4/495)
ما لا سبيل لهم إلى دفع نسخه تعالى أشياء خفافا بأشياء ثقال
فمن ذلك نسخه تعالى صيام يوم عاشوراء بصيام شهر رمضان ونسخ إباحة الإفطار في رمضان وإطعام مساكين بدل ما يفطر من أيامه بوجوب صيامه فرضا على كل حاضر صحيح بالغ عاقل عالم بالشهر ولزوم الصيام فيه ونسخ سقوط الغسل عن المولج العامد الذاكر لطهارته بإيجاب الغسل عليه ونسخ تعالى إباحة الكلام للمصلي بعد أن كان حلالا بتحريمه وقد كان الكلام فيها فيما ناب الإنسان أخف بلا شك ونسخ تعالى سقوط فرض الجهاد وبيعة المسلمين لرسول الله صلى الله عليه و سلم على بيعة النساء بإيجاب القتال وحرم الخمر بعد إحلالها وقال تعالى { كل لطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل لتوراة قل فأتوا بلتوراة فتلوها إن كنتم صادقين } فصح أنه تعالى حرم عليهم أشياء كانت لهم حلالا وقد كان المنسوخ من كل ما ذكرنا أخف من الناسخ بالحس والمشاهدة
وقد بين الله تعالى ذلك بإخباره أن في الخمر والميسر منافع للناس فأبطل تعالى علينا تلك المنافع ولا يشك ذو عقل أن عدم المنفعة أثقل من وجودها
ونسخ تعالى الأذى والحبس عن الزواني والزناة والرجم والتغريب ولا شك عند من له عقل أن الحجارة والسياط أثقل من السب والسجن
وقد اعترض بعض من يخالف قولنا في هذه المسألة بأن قال في نسخ الحبس عن الزواني إن الحبس لم يكن مطلقا وإنما كان مقيدا بوقت منتظرا لقوله تعالى { وللاتي يأتين لفاحشة من نسآئكم فستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في لبيوت حتى يتوفاهن لموت أو يجعل لله لهن سبيلا }
قال أبو محمد وهذا الاعتراض ساقط من وجوه ثلاثة أحدها أنه لا يجد مثل هذا الشرط في أذى الزناة وتبكيتهم ولا في سائر ما ذكرنا من الخفائف المنسوخة بالثقائل
والثاني أن كل نسخ في الدنيا فهذه صفته وإنما هو مقيد عند الله تعالى بوقت محدود في علمه تعالى كما قالت عائشة في فرض قيام الليل إنه تعالى أمسك خاتمة الآية في السماء اثني عشر شهرا ثم أنزلها
ولا فرق بين أن يبدي إلينا ربنا تعالى أنه سينسخ ما يأمرنا به بعد مدة وبين ألا يبدي إلينا ذلك حتى ينسخه وكل ذلك نسخ ولا فرق بين معجل النسخ ومؤجله في أن كل ذلك نسخ (4/496)
والثالث أن السبيل الذي انتظر بهن هو أثقل مما كان عليهن أولا لأنه شدخ بالحجارة حتى يقع الموت بعد الإيلام بالسوط أو نفي في الأرض بعد الإيلام بالسوط فكانت السبيل المحمولة لهن سبيل الهلاك أو البلاء وكل ذلك أشد من الحبس
وهذا نفس ما اختلفنا فيه فأجزناه نحن وأبوه هم
وقد اعترض بعضهم في نسخ البيعة على بيعة النساء بإيجاب القتال بأن قال كان القتال أثقل علينا في صدر الإسلام لقلتنا فلما كثر عددنا صار تركه أثقل
قال أبو محمد ولو كان لهذا القائل علم بكيفيات الأسماء وحدود الكلام لم يأت بهذا الهذر
ويقال له أخبرنا أزاد الناس حين نزول آية إيجاب القتال زيادة قووا بها قوة ثانية أكثر مما كانوا أم لا فإن قال لا
نقص قوله وتبرأ منه وأخبر أن الحال بعد نزول هذه الآية الموجبة للقتال بعد أن كان غير واجب كالحال التي كانت قبل نزول إيجاب القتال
وبطل ما قدر من التفاضل في القوة الموجبة لنزول إيجاب القتال وإن قال نعم جمع أمرين أحدهما أنه يقفو ما ليس له به علم ويكذب والثاني أنه لم يتخلص بعد من إلزامنا ويقال له لا بد أنه قد كان بين بلوغهم العدد الذي بلغوه حين نزول آية إيجاب القتال عليهم وبين نزول الآية وقت ما لا بد منه فقد كان العدد موجودا ولا قتال عليهم
ثم نسخ بإيجاب القتال
وأيضا فإنه ليس في المعقول أصلا ولا في الوجود عدد إذا بلغته الجماعة قويت على محاربة أهل الأرض كلهم وقد ألزم الله تعالى المسلمين إذا أمرهم بالقتال مجاهدة كل من يسكن معمور العالم من الناس والمسلمون يومئذ لم يبلغوا الألف وقد علم كل ذي عقل أنه لا فرق في القوة على محاربة أهل الأرض كلهم بين ألف وألفين وبين واحد واثنين
وإنما ههنا نزول النصر فإذا أنزل الله تعالى على الإنسان الواحد قوي ذلك الواحد على محاربة أهل الأرض كلهم وعجزوا كلهم عنه كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم { هههه ( المائدة 67 ) وأيقنا بذلك لو بارزوه كلهم لسقطوا أمامه ولقدر على جميعهم
وقد قال بعض المخالفين لقولنا إن الصبر على القتال أثقل لذي النفس الآنفة (4/497)
قال أبو محمد ويكفينا من الرد على هذه المقالة تكذيب الله عز و جل لها فإنه تعالى خاطب الصحابة رضي الله عنهم وهم آنف الناس نفوسا وأحماهم قلوبا وأعزهم همما أو خاطب أيضا كل مسلم يأتي إلى يوم القيامة وهم أعز الأمم نفوسا وأقرها على الضيم بأن قال تعالى { كتب عليكم لقتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون } وكفانا عز و جل الشغب والتعب وبين أن الكتاب مكروه عندنا
والمكروه أثقل شيء
وأخبرنا سبحانه وتعالى أن المكروه الذي هو أثقل قد يكون لنا فيه خير أكثر مما في الأخف فقد حكم الله تعالى لنا في هذه المسألة حكما جليا لا يسوغ لأحد أن يتكلم بعد سماعه في هذا المعنى بكلمة مخالفة لقولنا والحمد لله رب العالمين
واعترض بعضهم بأن قال لم تكن الخمر مباحة بل كانت حراما بالعقل فلم ينسخ إباحتها
قال أبو محمد فنقول وبالله تعالى التوفيق إذ هذا القائل لو اشتغل بقراءة حديث النبي صلى الله عليه و سلم لكان ذلك أولى به من الكلام في الدين قبل النفقة فيه وقد روينا في الحديث الصحيح تحليلها قبل أن تحرم حدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج قال ثنا عبيد الله بن عمر القواريري ثنا أبو همام عبد الأعلى ثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يا أيها الناس إن الله يعرض بالخمر ولعل الله سينزل فيها أمرا فمن كان عنده منها شيء فليبعه ولينتفع به
قال فما لبثنا إلا يسيرا حتى قال صلى الله عليه و سلم إن الله حرم الخمر فمن أدركته هذه الآية وعنده شيء فلا يشرب ولا يبع
وروينا من الأطراف الصحاح شربها معلنا بعلم رسول الله صلى الله عليه و سلم أكثر ذلك عن حمزة وسعد وأبي عبيدة بن الجراح (4/498)
وسهيل بن بيضاء وعبد الرحمن بن عوف وأبي أيوب وأبي طلحة وأبي دجانة سماك بن خرشة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وغيرهم من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم فكيف يقول هذا الجاهل إنها لم تكن حلالا وإن العقل حرمها وأين عقل هذا الجنون العديم العقل على الحقيقة من عقل رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي كان يراهم يشربونها ولا ينكر ذلك عليهم أزيد من ستة عشر عاما بعد مبعثه عليه السلام فإن الخمر لم تحرم إلا بعد أحد
وأحد كانت في الثالث من الهجرة وتنادم الصحابة في المدينة بحضرة رسول الله صلى الله عليه و سلم وما وقع لبعضهم من العربدة على بعض ومن الجنايات في شارفي علي ومن التخليط في الصلاة أشهر من أن يجهله من له علم بالأخبار وكل ذلك يعلمه ولا ينكره عليه السلام ولا يحل لمؤمن أن يقول إنه عليه السلام أقر على حرام أصلا ويكفي من هذا ما قدمنا من أمره عليه السلام يبيعها قبل أن تحرم وبأن ينتفع بها والشرب يدخل في الانتفاع وبالله التوفيق
فصل في نسخ الشيء قبل أن يعمل به
قال أبو محمد أكثر المتقدمون في هذا الفصل وما ندري أن لطالب الفقه حاجة ولكن ما تكلموا ألزمنا بيان الحق في ذلك بحول الله وقوته والصحيح من ذلك أن النسخ بعد العمل به وقبل العمل به جائز كل ذلك وقد نسخ تعالى عنا إيجابه خمسة وأربعين صلاة في كل يوم وليلة قبل أن يعمل بها أحد
قال أبو محمد ومن جعل هذا بداء فقد جعل النسخ بداء ولا فرق وكل ما دخلوه في نسخ الشيء قبل أن يعمل به راجع عليهم في نسخه بعد أن يعمل به ولا فرق والله تعالى يفعل ما يشاء والذي نقدر أن الذي حداهم إلى الكلام في هذه المسألة مذهبهم الفاسد في المصالح ونحن لا نقول بها بل نفوض الأمر إلى الله عز و جل يفعل (4/499)
ما يشاء ليس عليه زمام ولا له متعقب وسنبين ذلك في باب العلل من هذا الديوان إن شاء الله تعالى
فإن قال قائل فماذا أراد الله عز و جل منا إذ قال خمسين صلاة في كل يوم وليلة ثم نسخها وردها إلى خمس قبل أن نصلي الخمسين قيل له وبالله تعالى التوفيق إنه أراد منا الطاعة والانقياد والعزيمة على صلاتها والاعتقاد لوجوبها علينا فقط ولم يرد تعالى قط منا كون تلك الصلوات ولا أن نعملها ونحن لا ننكر أن يأمر تعالى بما لم يرد قط منا كونه بل يوجب ذلك ونقول إنه تعالى أمر أبا طالب بالإيمان ولم يرد قط تعالى كون إيمانه موجودا
وقد نص تعالى على ذلك بقوله { يأيها لرسول لا يحزنك لذين يسارعون في لكفر من لذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن لذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون لكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فحذروا ومن يرد لله فتنته فلن تملك له من لله شيئا أولئك لذين لم يرد لله أن يطهر قلوبهم لهم في لدنيا خزي ولهم في لآخرة عذاب عظيم } وقوله تعالى { إنك لا تهدي من أحببت ولكن لله يهدي من يشآء وهو أعلم بلمهتدين }
فأخبر تعالى أنه لم يجب هداية أبي طالب وأنه أراد ألا يهدي قوما وكلهم مأمور بالاهتداء وقد بينا هذا في كتاب الفصل ولو أنه تعالى لم ينسخها حتى نصليها لعلمنا حينئذ أنه تعالى أراد كونها منا كما علمنا أنه تعالى أراد إسلام أبي بكر وعمر وسائر من أسلم وإنما نعلم ما أراد تعالى كونه بعد ظهوره أو أخبرنا الله تعالى بأنه سيكون والله أعلم وهو الذي أطلعنا عليه من غيبه ونحن كنا مأمورون بالصلاة
وقد يموت كثير من الناس قبل أن يتأتى عليه وقت صلاة بعد بلوغه إنه تعالى إنما أراد من هؤلاء الانقياد والعزيمة فقط والله تعالى لم يرد قط ممن مات قبل حلول وقت الصلاة أن يصليها
واحتج بعض من تقدم في إجازة نسخ الشيء قبل العمل به بحديث الزبير إذ خاصم الأنصاري في سيل مهزور ومذينب وجعل الأمر الآخر منه عليه السلام ناسخا للأول
وأبطل قول من قال كان الأمر الأول على سبيل الصلح وترك الزبير بعض حقه وقال إن هذا لا يحل أن يقال لأن حكمه عليه السلام كله حق واجب (4/500)
لقول الله تعالى { لا تجعلوا دعآء لرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم لله لذين يتسللون منكم لواذا فليحذر لذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } فلم يخص أمرا دون أمر ولو ساغ ذلك في هذا الحديث لساغ لكل أحد أن يقول في أي حكم حكم به رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا على سبيل الصلح لا على سبيل الحقيق وهذا كفر من قائله
قال أبو محمد وقد صدق هذا المحتج فيما قال
قال بعضهم لو جاز النسخ قبل العمل لجاز قبل الاعتقاد
قال أبو محمد وهذا قياس والقياس باطل ولو كان القياس حقا لكان هذا فاسدا إذ ليس سقوط العقل موجبا لسقوط الاعتقاد وقد يعتقد وجوب الشيء وتصحيحه من لا يفعله من المسلمين العصاة وقد يفعله من لا يعتقده من المنافقين والمرائين وهذا أمر يعلم بالمشاهدة فبطل أن يكون الاعتقاد مرتبطا بالعمل وبطل ما موه به هذا المعترض من أنه لو جاز النسخ قبل العمل لجاز قبل الاعتقاد فإن قالوا لو جاز نسخ الشيء قبل العمل به لكان اعتقاده حسنا وطاعة وفعله قبيحا ومعصية وهذا محال
فالجواب إن هذا شغب ضعيف لأنهم جمعوا بين حكم زمانين مختلفين وإنما يكون اعتقاد الشيء حقا إن فعل إذا لم ينسخ فأما إذا نسخ فإنما الواجب اعتقادا أنه معصية إن فعل واعتقاد أنه قد كان طاعة في وقت آخر وهذا ليس محالا فإن قالوا الاعتقاد فعل قيل لهم الاعتقاد فعل النفس منفردة لا شركة للجسد معها فيه والعمل فعل النفس بتحريك الجسد فهو شيء آخر غير الاعتقاد وقد فرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما بقوله صلى الله عليه و سلم العمل بالنيات فجعل النية وهي الاعتقاد غير العمل
قال أبو محمد وقد احتج القدماء من القائلين بقولنا في هذه المسألة بحجج منها أمره تعالى إبراهيم عليه السلام بذبح ولده وقول إبراهيم عليه السلام { إن هذا لهو لبلاء لمبين } وقالوا هذا بيان جلي أن الذي أمر به نسخ قبل أن يكون لأن قوما قالوا إنما أمر بتحريك السكين على حلق ولده فقط فأبطل تعالى قولهم بقول إبراهيم { إن هذا لهو لبلاء لمبين } ولو لم يؤمر بقتله لما كان (4/501)
في تحريك السكين على حلقه بلاء فصح بقول إبراهيم عليه السلام أنه إنما أمر بقتل ولده وإماتته بالذبح ثم نسخ ذلك قبل فعله
قال أبو محمد وهذا احتجاج صحيح لا ينفك منه أصلا
فإن قال قائل عرفونا ما الذي أراد الله تعالى منا إذا أمرنا بالشيء ثم نسخه قبل فعله أراد العمل به ثم بدا له قبل فعله أم أراد ألا يعمل به والشيء إذا لم يرده تعالى فقد سخطه وكرهه ولم يرضه فعلى قولكم إنه تعالى يأمرنا بما يكره ويسخط ويلزمنا ما لا يرضى كونه منا
قال أبو محمد فيقال وبالله تعالى التوفيق إنه تعالى أمر بما أمر من ذلك ولا مراد له إلا الانقياد في المأمور فقط ولم يرد قط وقوع الفعل ونهانا عنه قبل أن يكون منا ولا يسأل عما يفعل ولسنا ننكر أن يأمرنا تعالى الآن بأمر قد علم أنه بعد مدة ينهى عنه ويسخطه وإنما الذي ننكر أن يأمر تعالى بما هو ساخط له في حين أمره فهذا لا سبيل إليه
وأما أن يأمرنا بأمر قد علم أنه سينهانا عنه في ثاني الأمر ويسخطه بعد مرور وقت الأمر به فهذا واجب وهذه صفة كل نسخ وكل أمر مرتبط بكل وقت وبالله تعالى التوفيق وقد اعترض بعضهم في أمره تعالى بخمسين صلاة ثم جعلها تعالى إلى خمس بأن قال إنما يلزمنا الأمر إذا بلغنا وكان ذلك الأمر لم يبلغ بعد إلى المسلمين فأجاب بعض من سلف القائلين بقولنا إنه تعالى قد أبلغ أمره بذلك إلى رسوله فهو سيدنا وإمامنا فكان الخمسون اللازمة له لبلوغ الأمر إليه ثم نسخت عنه قبل أن يعمل بها
قال أبو محمد فإن قالوا لم يرد الله تعالى قط بالخمسين إلا خمسا يعطي بكل واحدة عشر حسنات واحتجوا بما في آخر الحديث من قوله تعالى هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن هذا الكلام هو بيان قولنا لا قولهم لأن الخمس لا تكون خمسين في العدد أصلا وإنما هي خمسون في العدد وخمسون في الأجل وكنا ألزمنا أولا خمسين في العدد وهي خمسون في الأجر فقط فأسقط عنا التعب وبقي لنا الأجر فصح أن الساقط غير اللازم ضرورة وبرهان ذلك حطه تعالى إلى خمس وأربعين وإلى أربعين ثم إلى خمس وثلاثين ثم ثلاثين (4/502)
وهكذا خمسا خمسا حتى بقيت خمسا وهذا لا إشكال فيه في أن الملزم غير المستقر آخرا فبطل اعتراضهم والحمد لله رب العالمين
ومن طريق ما اعترض به بعضهم أن قال لعله عليه السلام قد صلى الخمسين صلاة قبل نسخها أو لعل الملائكة صلتها قبل نسخها
قال أبو محمد وهذا جهل شديد ولو كان لقائل هذا أدنى علم بالأخبار لم يقل هذا الهجر لأن الإسراء إنما كان في جوف الليل ولم يأت الصباح إلا وهو صلى الله عليه و سلم قد رجع إلى مكة وكان بها قبل مغيب الشفق وبعد غروب الشمس وقبل طلوع الشمس من تلك الليلة وإنما لزمت الخمسون في يوم وليلة
وأيضا فهو عليه السلام يذكر بلفظه في الحديث أنه لم ينفك راجعا وآتيا من ربه تعالى إلى موسى عليه السلام وأما الملائكة فلم يبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم إليهم بل بعضهم هم الرسل من الله تعالى إليه وإنما بعث إلى الجن والإنس الساكنين دون سماء الدنيا وهذا ما لا خلاف فيه بين المسلمين مع النصوص الواردة في القرآن والحديث في خطاب هذين النوعين فقط وإنما بعث إليهما فقط والملائكة في مكان لا ليل فيه وإنما هي في السموات التي هي الأفلاك وفي الكرسي وتحت العرش وحوله والليل إنما يبلغ إلى فلك القمر الذي هو سماء الدنيا فقط والجن مرجومون بالشهب إذا دنوا منها بنص القرآن بقوله تعالى { ولقد زينا لسمآء لدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب لسعير } فصح يقينا أن الملائكة لا تلزمهم صلاتنا لأنهم لا ليل عندهم ولا نهار وإنما هو أنوار بسيطة صافية وإنما تلزم الصلوات في أوقات الليل والنهار
وقد احتج في هذا بعض من تقدم بأن قال يقال لمن أبى ذلك ما الذي أنكرتم أنسخ ما قد فعل أم نسخ ما لم يفعل أن نسخ الأمر الوارد بالفعل ولا سبيل إلى قسم رابع فإن قالوا نسخ ما قد فعل أحالوا ولا سبيل إلى نسخ ما قد فعل لأنه قد فعل وفني فلا سبيل إلى رده وإن قالوا نسخ ما لم يفعل فقد أثبتوا نسخ الشيء قبل فعله وهذا هو نفس ما أبطلوا لأن الذي لم يفعل هو غير الذي فعل ضرورة (4/503)
فإن قالوا نسخ الأمر فلا فرق بين نسخ الأمر قبل أن يفعل الناس ما أوجب ذلك الأمر وبين نسخه بعد أن يفعل الناس ما أوجب ذلك الأمر والفعل المأمور به على كل حال غير الأمر به فلا يتعلق الأمر بالفعل لأنه غيره لأن الأمر هو فعل الله مجردا والفعل هو فعلنا نحن فبينهما فرق كما ترى
قال أبو محمد وهذه حجة ضرورة لا محيد عنها
واحتج أيضا بأن قال إن الأمر إذا ورد ففعله فاعلون ثم نسخ فلا خلاف في جواز ذلك ولا شك في أنه قد بقي خلق كثير لم يعملوا به ممن لم يأت بعد وقد كانوا مخاطبين بذلك الأمر حين نزوله فقد نسخ قبل أن يعمل به الذين لم يعملوا به ولا فرق بين أن يجوز نسخه قبل أن يعمل به بعض المأمور وبين نسخه قبل أن يعمل به أحد منهم
قال أبو محمد وهذه أيضا حجة ضرورية لا محيد عنها
قال أبو محمد وسألني سائل فقال لو أمر الله تعالى بأمر فقال اعملوا بهذا الأمر ثمانية متصلة أو قال أبدا أيجوز نسخ هذا أم لا فقلت إن النسخ جائز في هذه لأنه من باب نسخ الشيء قبل أن يعمل به ولا فرق بين أن يأمرنا بخمسين صلاة نصليها وبين أن يأمرنا بعمل ما أبدا أو ثمانية أيام ثم ينسخه عنا قبل أن يتم عمل ذلك وليس الكذب في الأمر والنهي مدخل وإنما يدخل الكذب في الأخبار فلو أن الأمر خرج بهذا التحديد بلفظ الخبر لم يجز نسخه لأنه كان يكون كذبا مجردا إذ في الأخبار يقع الكذب وهذا بخلاف الأمر إذا خرج بلفظ الخبر غير مرتبط بتحديد وقت فالنسخ جائز فيه لأنه ليس يكون حينئذ كذبا وإنما يكون النسخ حينئذ بيانا للوقت الذي لزمنا ذلك العمل فما جاء بلفظ الخبر على التأييد فلا يجوز نسخه قول الله هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي فلو بدل لكان هذا القول كذبا ومنه لأبد الأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة والقول في المتعة فهي حرام بحرمة الله ورسوله إلى يوم القيامة فلو نسخ هذان الأمران لكان هذان القولان كذبا إذ كان يبطل وجوده ما أخبرنا بوجوده إلى يوم القيامة وبالله تعالى التوفيق (4/504)
فصل في نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن
قال أبو محمد اختلف الناس في هذا بعد أن اتفقوا على جواز نسخ القرآن بالقرآن وجواز نسخ السنة بالسنة فقالت طائفة لا تنسخ السنة بالقرآن ولا القرآن بالسنة وقالت طائفة جائز كل ذلك والقرآن ينسخ بالقرآن وبالسنة والسنة تنسخ بالقرآن وبالسنة
قال أبو محمد وبهذا نقول وهو الصحيح وسواء عندنا السنة المنقولة بالتواتر والسنة المنقولة بأخبار الآحاد كل ذلك ينسخ بعضه بعضا وينسخ الآيات من القرآن وينسخه الآيات من القرآن وبرهان ذلك ما بيناه في باب الأخبار من هذا الكتاب من وجوب الطاعة لما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم كوجوب الطاعة لما جاء في القرآن ولا فرق وأن كل ذلك من عند الله تعالى { وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى } فإذا كان كلامه وحيا من عند الله عز و جل والقرآن وحي فنسخ الوحي بالوحي جائز لأن كل ذلك سواء في أنه وحي
واحتج من منع ذلك بقوله تعالى { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال لذين لا يرجون لقآءنا ئت بقرآن غير هذآ أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقآء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم }
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأننا لم نقل إن رسول الله صلى الله عليه و سلم بدله من تلقاء نفسه وقائل هذا كافر وإنما نقول إنه عليه السلام بدله بوحي من عند الله تعالى كما قال آمرا له أن يقول { قل لا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي لأعمى ولبصير أفلا تتفكرون } فصح بهذا نصا جواز نسخ الوحي بالوحي والسنة وحي فجائز نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن
واحتجوا أيضا بقوله تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير } (4/505)
قالوا والسنة ليست مثلا للقرآن ولا خيرا منه
قال أبو محمد وهذا أيضا لا حجة لهم فيه لأن القرآن أيضا ليس بعضه خيرا من بعض وإنما المعنى نأت بخير منها لكم أو مثلها لكم ولا شك أن العمل بالناسخ خير من العمل بالمنسوخ قبل أن ينسخ وقد يكون الأجر على العمل بالناسخ مثل الأجر على العمل بالمنسوخ قبل أن ينسخ وقد يكون أكثر منه إلا أن فائدة الآية أننا قد أمنا أن يكون العمل بالناسخ أقل أجرا من العمل بالمنسوخ قبل أن ينسخ لكن إنما يكون أكثر منه أو مثله ولا بد من أحد الوجهين تفضلا من الله تعالى لا إله إلا هو علينا
وأيضا فإن السنة مثل القرآن في وجهين أحدهما أن كلاهما من عند الله عز و جل على ما تلونا آنفا من قوله تعالى { وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى }
والثاني استواؤهما في وجوب الطاعة بقوله تعالى { من يطع لرسول فقد أطاع لله ومن تولى فمآ أرسلناك عليهم حفيظا } وبقوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } وإنما افترقا في ألا يكتب في المصحف غير القرآن ولا يتلى معه غيره مخلوطا به وفي الإعجاز فقط
وليس في العالم شيئان إلا وهما يشتبهان من وجه ويختلفان من آخر لا بد من ذلك ضرورة ولا سبيل إلى أن يختلفا من كل وجه ولا أن يتماثلا من كل وجه وإذ قد صح هذا كله فالعمل بالحديث الناسخ أفضل وخير من العمل بالآية المنسوخة وأعظم أجرا كما قلنا قبل ولا فرق وقد قال تعالى { ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } وقد تكون المشركة خيرا منها في الجمال وفي أشياء من الأخلاق ونحوها وإن كانت المؤمنة خيرا عند الله تعالى وهذا شيء يعلم حسا ومشاهدة وبالله تعالى التوفيق (4/506)
واحتجوا أيضا بقوله تعالى { يمحو لله ما يشآء ويثبت وعنده أم لكتاب }
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنه كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم فالله عز و جل هو المثبت له وهو تعالى الماحي به لما شاء أن يمحو من أوامره وكل من عند الله وهذه الآية حجة لنا عليهم في أنه تعالى يمحو ما شاء بما شاء عن العموم ويدخل في ذلك السنة والقرآن
واحتجوا أيضا بقوله تعالى { بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } قالوا والمبين لا يكون ناسخا
قال أبو محمد وهذا خطأ من وجهين أحدهما ما قد بينا في أول الكلام في النسخ من أن النسخ نوع من أنواع البيان لأنه بيان ارتفاع الأمر المنسوخ وبيان إثبات الأمر الناسخ والثاني أن قولهم إن المبين لا يكون ناسخا دعوى لا دليل عليها وكل دعوى تعرت من برهان فهي فاسدة ساقطة
واحتجوا بقوله تعالى { وإذا بدلنآ آية مكان آية ولله أعلم بما ينزل قالوا إنمآ أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون }
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنه لم يقل تعالى إني لا أبدل آية إلا مكان آية وإنما قال لنا إنه يبدل آية مكان آية ونحن لم ننكر بل أثبتناه وقلنا إنه يبدل آية ويفعل أيضا غير ذلك وهو تبديل وحي غير ذلك متلو مكان آية ببراهين أخر وكل ما أبطلنا به أقوالهم الفاسدة في دليل الخطاب فهو مبطل لاحتجاجهم بهذه الآية
واحتجوا بقوله تعالى { فتعالى لله لملك لحق ولا تعجل بلقرآن من قبل إن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما } قالوا فإذا منعه الله تعالى من أن يبين القرآن من قبل أن يقضي إليه وحيه فهو من نسخه أشد منعا (4/507)
قال أبو محمد وهذا شغب وتمويه لأننا لم نجز قط أن يكون الرسول عليه السلام ينسخ الآيات من القرآن قبل أن يقضى إليه وحي نسخها وقائل ذلك عندنا كافر وإنما قلنا إنه عليه السلام إذا قضى إليه ربه تعالى وحيا غير متلو بنسخ آية أبداه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الناس حينئذ بكلامه فكان سنة مبلغة وشريعة لازمة ووحيا منقولا ولا يضره أن يسمى قرآنا ولا يكتب في المصحف كما لم يضر ذلك سائر الشرائع التي ثبتت بالسنة ولا بيان لها في القرآن من عدد ركوع الصلوات ووجوه الزكوات وما حرم من البيوع وسائر الأحكام وكل ذلك من عند الله عز و جل
واحتج بعضهم بقوله تعالى { قل نزله روح لقدس من ربك بلحق ليثبت لذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين } قال وهذا لا يطلق إلا على القرآن
قال أبو محمد وهذا كله كذب من قائله وافتراء وكل وحي أتى إلى النبي صلى الله عليه و سلم بشريعة من الشرائع فإذا نزل به الروح القدس من ربه وقد جاء نص الحديث بأن جبريل عليه السلام نزل فصلى فصلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه و سلم هكذا حتى علمه الصلوات الخمس وليس هذا في القرآن وقد نزله روح القدس كما ترى
قال أبو محمد فبطل كل ما احتجوا به وبالله تعالى التوفيق
وقد قال الشافعي رحمة الله عليه إذا أحدث الله تعالى لنبيه عليه السلام أمرا برفع سنة تقدمت أحدث النبي عليه السلام سنة تكون ناسخة لتلك السنة الأولى
فأنكر عليه بعض أصحابه هذا القول فقال لو جاز أن يقال في وحي نزل ناسخا لسنة تقدمت فعمل بها النبي صلى الله عليه و سلم أن عمله هذا نسخ السنة الأولى لكان إذا عمل عليه السلام سنة فنسخ بها سنة سالفة له فعمل بها الناس إن عمل الناس نسخ السنة الأولى وهذا خطأ
قال أبو محمد وهذا اعتراض صحيح والرسول صلى الله عليه و سلم مفترض عليه الانقياد لأمر ربه عز و جل
فإنما الناسخ هو الأمر الوارد من الله عز و جل لا العمل الذي لا بد منه والذي إنما يأتي انقيادا لذلك الأمر المطاع (4/508)
قال أبو محمد فيقال لمن خالفنا في هذه المسألة أيفعل الرسول صلى الله عليه و سلم أو يقول شيئا من قبل نفسه دون أن يوحى إليه به فإن قال نعم كفر وكذبه ربه تعالى بقوله عز و جل { وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى } وبقوله تعالى آمرا له أن يقول { قل لا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي لأعمى ولبصير أفلا تتفكرون } فلما بطل أن يكون فعله صلى الله عليه و سلم أو قوله إلا وحيا وكان الوحي ينسخ بعضه بعضا كانت السنة والقرآن ينسخ بعضها بعضا
قال أبو محمد ومما يبين نسخ القرآن بالسنة بيانا لا خفاء به قوله تعالى { وللاتي يأتين لفاحشة من نسآئكم فستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في لبيوت حتى يتوفاهن لموت أو يجعل لله لهن سبيلا } ثم قال صلى الله عليه و سلم خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم فكان كلامه صلى الله عليه و سلم الذي ليس قرآنا ناسخا للحبس الذي ورد به القرآن
فإن قال قائل ما نسخ الحبس إلا قوله تعالى { لزانية ولزاني فجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين لله إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر وليشهد عذابهما طآئفة من لمؤمنين } قيل له أخطأت لأن هذا الحديث يوجب بنصه أنه قبل نزول آية الجلد لأنه بيان السبيل الذي ذكر الله تعالى وأمر لهم باستماع تلك السبيل وأيضا فإن في الحديث التغريب والجلد وليس ذلك في الآية التي ذكرت فالحديث هو الناسخ على الحقيقة لا سيما إذا كان خصمنا من أصحاب أبي حنيفة والشافعي أو مالك فإنهم لا يرون على الثيب جلدا إنما يرون الرجم فقط فوجب على قولهم الفاسد ألا مدخل للآية المذكورة أصل في نسخ الأذى والحبس الذي كان حد الزناة والزواني
فإن قال قائل منهم ما نسخ الأذى والحبس إلا ما روي مما كان نازلا وهو الشيخ والشيخة فارجموهما البتة قيل له وبالله تعالى التوفيق قد تركت قولك ووافقتنا على جواز نسخ القرآن المتلو بما ليس مثله في التلاوة وبما ليس مثله في أن يكتب في المصحف فإذا جوزت ذلك فكذلك كلامه صلى الله عليه و سلم بنص القرآن وحي غير متلو وليس ذلك بمانع من أن ينسخ به (4/509)
وقد بلح بعضهم ههنا فقال إنما عنى بقوله { لزانية ولزاني فجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين لله إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر وليشهد عذابهما طآئفة من لمؤمنين } غير المحصنين فقط وقال كما خرج العبد والأمة من هذا النص فكذلك خرج المحصن والمحصنة منه
قال أبو محمد فيقال له إذا جوزت خروج حكم ما من أجل خروج حكم آخر بدليل فلا ننكر على أبي حنيفة قوله من تزوج أمه وهو يعلم أنها أمه فوطئها خارج عن حكم الزناة ولا ننكر على مالك قوله إن من وطىء عمته وخالته بملك اليمين وهو يعلم أنهما محرمتان عليه خارج عن حكم الزناة ولا تدخل أنت فيهم اللوطي ولا ذكر له فيهم وهذا من غلطهم أن يخرجوا من الزناة من وقع عليه اسم زان وأن يدخلوا فيهم من لا يقع عليه اسم زان وهذا جهار بالمعصية لله تعالى وخلاف أمره وتحكم في الدين بلا دليل نعوذ بالله من ذلك
قال أبو محمد ومما نسخت فيه السنة القرآن قوله عز و جل { يا أيها لذين آمنوا إذا قمتم إلى لصلاة فغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى لمرافق ومسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى لكعبين وإن كنتم جنبا فطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغائط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد لله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } ) فإن القراءة بخفض أرجلكم وفتحها كلاهما لا يجوز إلا أن يكون معطوفا على الرؤوس في المسح ولا بد لأنه لا يجوز البتة أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بخبر غير الخبر عن المعطوف عليه لأنه إشكال وتلبيس وإضلال لا بيان لا تقول ضربت محمدا وزيدا ومررت بخالد وعمرا وأنت تريد أنك ضربت عمرا أصلا فلما جاءت السنة بغسل الرجلين صح أن المسح منسوخ عنهما
وهكذا عمل الصحابة رضي الله عنهم فإنهم كانوا يمسحون على أرجلهم حتى قال عليه السلام ويل للأعقاب والعراقيب من النار وكذلك قال ابن عباس نزل القرآن بالمسح
قال أبو محمد والنسخ تخصيص بعض الأزمان بالحكم الوارد دون سائر الأزمان وهم يجيزون بالسنة تخصيص بعض الأعيان مثل قوله عليه السلام لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وما أشبه ذلك فما الفرق بين جواز تخصيص بعض الأعيان بالسنة وبين جواز تخصيص بعض الأزمان بها وما الذي أوجب أن يكون هذا (4/510)
ممنوعا وذلك موجودا فإن قالوا ليس التخصيص كالنسخ لأن التخصيص لا يرفع النص والنسخ يرفع النص كله
قيل لهم إذا جاز رفع بعض النص بالسنة وبعض النص نص فلا فرق بين رفع بعض نص آخر بها وكل ذلك سواء ولا فرق بين شيء منه
قال أبو محمد وقد أقروا وثبت الخبر بأن آيات كثيرة رفع رسمها البتة ولا يجوز أن ترفع بقرآن إذ لو رفعت بقرآن لكان ذلك القرآن موجودا متلوا وليس في شيء من المتلو ذكر رفع لآية كذا مما رفع البتة فوجب ضرورة أن ما ارتفع وهذا نفس ما أجزنا من نسخ القرآن بالسنة فإن قالوا إنما رفع بالإنساء قيل لهم الإنساء ليس قرآنا وإنما ذلك هو فعل منه تعالى وأمر بألا يتلى
قال أبو محمد ومما نسخ من القرآن بالسنة قوله تعالى { كتب عليكم إذا حضر أحدكم لموت إن ترك خيرا لوصية للوالدين ولأقربين بلمعروف حقا على لمتقين } نسخ بعضها قوله صلى الله عليه و سلم لا وصية لوارث وقد قال قوم إن آيات المواريث نسخت هذه الآية
قال أبو محمد وهذا خطأ محض لأن النسخ هو رفع حكم المنسوخ ومضاد له وليس في آية المواريث ما يمنع الوصية للوالدين والأقربين إذ جائز أن يرثوا ويوصى لهم مع ذلك من الثلث ومن بديع ما يقع لمن قال إن القرآن لا تنسخه السنة أنهم نسوا أنفسهم فجعلوا حديث عمران بن الحصين في الستة الأعبد ناسخا لوصية الوالدين والأقربين فأثبتوا ما نفوا وصححوا ما أبطلوا وقد تكلمنا في بطلان ذلك فأغنى عن ترديده ولا فرق بينهم في دعواهم لذلك وبين من قال بل الآية نسخت حديث الستة الأعبد
ومما نسخ من السنة بالقرآن صلحه صلى الله عليه و سلم أهل الحديبية إلى المدة التي كانت ثم نسخ الله تعالى ذلك في سورة براءة ولم يجز لنا صلح مشرك إلا على الإسلام فقط حاشا أهل الكتاب فإنه تعالى أجاز صلحهم على أداء الجزية مع الصغار وأبطل تعالى تلك الشروط كلها وتلك المدة كلها وبالله تعالى التوفيق (4/511)
فصل في نسخ الفعل بالأمر والأمر بالفعل
قال أبو محمد قد بينا أن كل ما فعله صلى الله عليه و سلم من أمور الديانة أو قاله منها فهو وحي من عند الله عز و جل بقوله تعالى { قل لا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي لأعمى ولبصير أفلا تتفكرون } وبقوله تعالى { وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى } والله تعالى يفعل ما يشاء فمرة ينزل أوامره بوحي يتلى ومرة بوحي ينقل ولا يتلى ومرة بوحي يعمل به ولا يتلى ولا ينقل لكنه قد رفع رسمه وبقي حكمه ومرة أن يري نبيه صلى الله عليه و سلم في منامه ما شاء ومرة يأتيه جبريل بالوحي لا معقب لحكمه فجائز نسخ أمره صلى الله عليه و سلم بفعله وفعله بأمره وجائز نسخ القرآن بكل ذلك وجائز نسخ كل ذلك بالقرآن وكل ذلك سواء ولا فرق
وكذلك الشيء يراه رسول الله صلى الله عليه و سلم ويقره ولا ينكره وقد كان تقدم عنه تحريم جلي فإن ذلك نسخ لتحريمه لأنه مفترض عليه التبليغ وإنكار المنكر وإقرار المعروف وبيان اللوازم وهو معصوم من الناس ومن خلاف ما أمره به ربه تعالى فلما صح كل ما ذكرنا أيقنا أنه إذا علم شيئا كان قد حرمه ثم علمه ولم يغيره أن التحريم قد نسخ وأن ذلك قد عاد حقا مباحا ومعروفا غير منكر
وأما إن كان قد تقدم في ذلك الشيء نهي فقط ثم رآه صلى الله عليه و سلم أو علمه فأقره فإنما ذلك بين أن ذلك النهي على سبيل الكرامة فقط لأنه لا يحل لأحد أن يقول في شيء من الأوامر إن هذا منسوخ إلا ببرهان جلي إذ كلها على وجوب الطاعة لها وما تيقنا وجوب طاعتنا له فحرام علينا مخالفته لقول قائل هذا منسوخ ولو جاز قبول ذلك ممن ادعاه بلا برهان لسقطت الشرائع كلها لأنه ليس قول زيد وعمر ومالك والشافعي وأبي حنيفة هذا منسوخ بأولى من قول كل من على ظهر الأرض فيما يستعمله من ذكرنا هذا أيضا منسوخ
وقد قال تعالى { وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } ومن قال في (4/512)
شيء من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله صلى الله عليه و سلم هذا منسوخ أو هذا متروك أو هذا مخصوص أو هذا ليس عليه العمل فقد قال دعوا ما أمركم به ربكم أو نبيكم ولا تعملوا به وخذوا قولي وأطيعوني في خلاف ما أمرتم به
قال أبو محمد فحق من قال ذلك أن يعصى ولا يلتفت إلى كلامه إلا أن يأتي ببرهان من نص أو إجماع كما قدمنا في فصل كيفية معرفة المنسوخ من المحكم
قال أبو محمد ومما ذكرنا أنه نهى عنه صلى الله عليه و سلم ثم رآه فلم ينكره نهيه المصلين خلف الجالس عن القيام
ثم صلى عليه السلام في مرضه الذي مات فيه جالسا والناس وراءه قيام ولم ينكر عليه السلام ذلك فصح أن ذلك النهي الأول ندب إلا من فعل ذلك إعظاما للإمام فهو حرام على ما بين عليه السلام يوم صلاته إذ ركب فرس أبي طلحة فسقط
فصل في متى يقع النسخ عمن بعد عن موضع نزول الوحي
قال أبو محمد قال قوم النسخ يقع حين نزول الوحي لأن المنسوخ على ما بينا إنما هو أمر الله المتقدم لا أفعال المأمورين إلا أن الغائب لا يقع عليه الملامة ولا الوعيد إلا بعد بلوغ الأمر الناسخ إليه وكذلك سائر الأوامر التي لم تنسخ هي لازمة لكل من قرب وبعد ولكل من لم يخلق بعد لكن الملامة والوعيد مرفوعان عمن لم يبلغه حتى يبلغه
فإذا بلغته فأطاع حمد وأجر وإن عصى ليم واستحق الوعيد وأجره على فعل ما نسخ مما لم يبلغه نسخه أجر واحد لأنه مجتهد مخطىء كما نص رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك
والذي نقول به إن النسخ لا يلزم إلا إذا بلغ وبين ما قلنا قوله تعالى { قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون } فإما أوجب الحكم بعد البلوغ
فلو أن من بلغه المنسوخ ممن بعد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم لم يبلغه الناسخ أقدم على ترك المنسوخ الذي بلغه دون علم الناسخ وعمل بالناسخ كان عليه إثم المستسهل (4/513)
لترك الفرض لا إثم تارك الفرض إنه لا يجوز لمن علم نسخ الحكم أن ينفذ عليه حكم ما بلغه تحريم الحكم على الجاهل لم يجز له أن يحكم عليه بحكم العالم
مثال ذلك رجل لقي رجلا فقتله على نية الحرابة فإذا بذلك المقتول هو قاتل والد الذي قتله أو وجده مشركا محاربا فهذا ليس عليه إثم قاتل مؤمن عمدا ولا قود عليه ولا دية لأنه لم يقتل مؤمنا حرم الدم عليه وإنما عليه إثم مريد قتل المؤمن عمدا ولم ينفذ ما أراد وبين الإثمين بون كبير لأن أحدهما هام والآخر فاعل وكإنسان لقي امرأة فظنها أجنبية فوطئها فإذا بها زوجته فهذا ليس عليه إثم الزنى ومن قذفه حد حد القذف لكن عليه إثم مريد الزنى
ولا حد عليه ولا يقع عليه اسم فاسق بذلك
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه ولو أن رجلا ممن بلغه فرض استقبال بيت المقدس ولم يبلغه نسخ ذلك وصلى إلى الكعبة لكان مفسدا لصلاته بعبثه فيها لا بصلاته إلى غير القبلة ولأن الائتمار إنما يكون بعد العلم بالأمر اللازم له لا قبل ولا تكون طاعة أصلا إلا بنية وقصد إلى عمل بعدما أمر به علمه بأنه لازم له وإلا فهو عبث لا يسمى ذلك في اللغة طائعا أصلا ولكتب عليه اسم المستسهل للصلاة إلى غير القبلة ومثاله الآن بينما رجل في صحراء أداه اجتهاده إلى جهة ما فخالفها متعمدا فوافق في الوجهة التي صلى إليها إن كانت القبلة على حق فهذا عابث في صلاته فاسق وليس مصليا إلى غير القبلة
قال أبو محمد كذلك كانت صلاة أهل قباء ومن كان بأرض الحبشة إلى بيت المقدس صلاة تامة وإن كان النسخ قد وقع بالقبلة إلى الكعبة على من بلغه لأنهم لم يعلموا ذلك ولكن أجرهم على صلاتهم كذلك أجران وأما من بلغه ذلك ثم نسيه أو تأول فيه فأجرهم على صلاته كذلك أجرا واحدا لأنهم مجتهدون أخطؤوا ما عند الله عز و جل وهم مأمورون باستقبال الكعبة ولكنهم غير ملومين ولا آثمين في ترك ذلك لأنهم معذورون بالجهل وهذا بين وبالله تعالى التوفيق وليس كذلك أهل قباء ومن كان بأرض الحبشة لأن فرضهم البقاء على ما بلغهم حتى ينتقل بلوغ النسخ إليهم
قال أبو محمد وقد تبين بهذا ما قلناه في غير موضع من كتابنا أن المخطىء أفضل (4/514)
عند الله من المقلد المصيب وكذلك قلنا في جميع العبادات فإن سأل سائل عن قولنا في الوكيل يعزله موكله أو يموت فينفذ الوكيل ما كان وكل عليه بعد عزله وهو يعلم أنه معزول أو بعد موت الذي وكله وهو لا يعلم بموته قلنا له وبالله تعالى التوفيق قال الله عز و جل { قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون }
وقال 9 صلى الله عليه و سلم دماؤكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام فكل أمر انفذه الوكيل بعد عزله وهو غير عالم فنافذ لأن عازله ولا يعلمه مضار وقد قال صلى الله عليه و سلم من ضار أضر الله به فهو منهي عن المضارة
وأما ما أنفذ بعد موت موكله وهو عالم أو غير عالم فهو مردود منسوخ لأنه كاسب على غيره بغير نص ولا إجماع ولا يجوز القياس أصلا ولكل حكم حكمه وليست هذه الأمور بابا واحدا فيستوي الحكم فيها إلا أن يكون وكله على دفع وديعة أو دين أو حق لآخر فهذا نافذ عزله أو علم الوكيل أنه عزله أو أنه مات أو لم يعلم لأن الذي فعل حق للمدفوع إليه لا للدافع فليس كاسبا على غيره بل فعل فعلا واجبا على كل أحد أن يفعله أمر بذلك أو لم يؤمر لأنه قيام بالقسط
قال الله تعالى { يا أيها لذين آمنوا كونوا قوامين بلقسط شهدآء لله ولو على أنفسكم أو لوالدين ولأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فلله أولى بهما فلا تتبعوا لهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن لله كان بما تعملون خبيرا } وقال تعالى { يا أيها لذين آمنوا لا تحلوا شعآئر لله ولا لشهر لحرام ولا لهدي ولا لقلائد ولا آمين لبيت لحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن لمسجد لحرام أن تعتدوا وتعاونوا على لبر ولتقوى ولا تعاونوا على لإثم ولعدوان وتقوا لله إن لله شديد آلعقاب } ومن البر إيصال كل أحد حقه
وأما القاضي والأمين يعزله الأمير فليس للإمام أن يضيع أمور المسلمين فيبقيهم دون من ينفذ أحكامهم لكن يكتب أو يوصي إلى القاضي أو الوالي إذا أتاك عهدي فاعتزل عملنا
فإن لم يفعل كذلك فكل حكم أنفذه المعزول قبل أن يعلم العزل بحق فهو نافذ لأنه لم يكلف علم الغيب وقد ظلم الإمام إذ عزله دون تقديم غيره والظلم مردود ومن باع مال غيره أو تأمر فحكم فوافق أن صاحب ذلك المال المبيع قد كان وكله قبل أن يبيع ما باع ولم يعلم الوكيل بذلك أو وافق أن الإمام قد كان ولاه ما تأمر عليه ولم يعلم هو بذلك فكل ما فعل فمردود منسوخ لأنهما غير مطيعين بما فعلا بل هما عاصيان لأن الطاعة عمل من الأعمال والأعمال بالنيات ولا نية لهذين فيما فعلا لأنهما لم يفعلا كما أمرا بل كما لم يؤمرا (4/515)
كما قلنا قبل فيمن صلى إلى جهة ولا يشك أنها غير القبلة
فوافق أنها القبلة فصلاته فاسدة لأنه لم ينو الطاعة المأمور بها وكذلك من باع فوافق أنه ماله ولا يعلم أو قد ورثه أو استحقه فبيعه ذلك مردود أبدا وكذلك هبته وصدقته لو وهبه أو تصدق به
وكذلك لو كان عبدا فأعتقه
ويرد كل ذلك لأنه عمل لم يعمل بالنية التي أبيح له أن يعمله بها ولا عمل إلا بنية
وأما من لقي امرأة فظنها أجنبية فوطئها فإذا هي زوجته
فإنها تستحق بذلك جميع المهر وتحل لمطلقها ثلاثا لأن الوطء لا يحتاج فيه إلى نية وقد رجم النبي صلى الله عليه و سلم بوطء في الكفر ولو تزوجها وهو عاقل ثم جن فوطأها في حال جنونه لاستحقت في ماله جميع الصداق بلا خوف ويلحق به الولد بلا خوف فصح أن الوطء لا يحتاج فيه إلى نية بإجماع
وأما من صام رمضان وهو لا يدري فوافق رمضان فلا يجزيه
وكذلك الصلاة يصليها وهو لا يدري أدخل وقتها أم لا
لأن هذه الأعمال تقضي نية مرتبطة بها لا يصلح العمل إلا بها
فإن امتزجت بغير تلك النية أو عدمت ارتباط النية بها بطلت وكذلك الصلاة خاصة
فإنها قد دخل فيها عمل يبطلها وهو العبث وكذلك الزكاة يعطيها بغير نية أنها زكاة
قال أبو محمد وموت الموكل عزل لوكيله البتة
وموت الإمام بخلاف ذلك وليس موته عزلا لعماله حتى يعزلهم الإمام الوالي بعده لأن مال الموكل قد انتقل إلى وراثة غيره
وقد قال تعالى { قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } ولأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد مات وله عمال باليمن والبحرين وغيرهما فلم يختلف مسلمان في أن موته صلى الله عليه و سلم لم يكن عزلا لمن ولى حتى عزل أبو بكر من عزل منهم
والقياس باطل وهاتان مسألتان قد فرق بينهما النص والإجماع ولا سبيل إلى الجمع بينهما (4/516)
فصل في النسخ بالإجماع
قال أبو محمد النسخ بالإجماع المنقول عن النبي صلى الله عليه و سلم جائز لأن الإجماع أصله التوقيف من النبي صلى الله عليه و سلم إما بنص قرآن أو برهان قائم من آي مجموعة منه أو بنص سنة أو برهان قائم منها كذلك أو بفعل منه عليه السلام أو بإقرار منه عليه السلام لشيء علمه
فإذا كان الإجماع كذلك فالنسخ به جائز
قال أبو محمد وقد ادعى قوم أن الإجماع صح على أن القتل منسوخ على شارب الخمر في الرابعة
قال أبو محمد وهذه دعوة كاذبة لأن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو يقولان بقتله ويقولان جيئونا به فإن لم نقتله فنحن كاذبان
قال أبو محمد وبهذا القول نقول وبالله تعالى التوفيق
فصل في رد المؤلف على من أجاز نسخ القرآن والسنة بالقياس
قال أبو محمد وقد أجاز قوم نسخ القرآن والسنة بالقياس
قال أبو محمد وهذا قول تقشعر منه الجلود والقياس باطل والكلام في إبطاله مكان من هذا الديوان إن شاء الله تعالى ومن العجب العجيب أن القائلين بهذا الأمر العظيم يمنعون من نسخ القرآن بالسنة فهل في عكس الحقائق أعظم من هذا
وإذا كان القياس باطلا فالباطل لا يحل استعماله ولا ترك الحقائق له وقد أجاز قوم نسخ السنة بقول الصاحب
قال أبو محمد وهذا كفر من قائله وخروج عن الإسلام لقوله تعالى { أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون } ولقوله تعالى { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم } فهذا تكذيب للباري تعالى ومن كذب وأجاز لأحد أن يزيد في الدين (4/517)
أو يبدله أو ينقص منه فقد كفر فمن أضل ممن دان بأن غير رسول الله صلى الله عليه و سلم يبطل برأيه وإرادته دينا أتى به النبي صلى الله عليه و سلم عن الله عز و جل وبالله تعالى التوفيق
وأيضا فإن الأمة مجمعة بلا خلاف على أن خبر التواتر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يحل لأحد أن يعارضه بنظر وخبر الواحد إذا صح عند القائلين به كخبر التواتر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في وجوب الطاعة ولا فرق فمن أجاز نسخه بنظر أو معارضته بقياس فقد تناقض وخرج عن الإجماع وفي هذا ما فيه وبالله تعالى التوفيق (4/518)
الباب الحادي والعشرون في المتشابه من القرآن
والفرق بينه وبين المتشابه في الأحكام
قال الله تعالى { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب }
وأنبأنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي ثنا يزيد بن إبراهيم التستري عن عبد الله بن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة
قالت تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب }
قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله تعالى فاحذروهم وبه إلى مسلم قال ثنا محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني قال حدثنا زكريا عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول وأهوى النعمان بأصبعه إلى أذنيه إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن حمى الله محارمه وقال تعالى { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } وقال تعالى { وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } (4/519)
قال أبو محمد فوجدناه تعالى قد حض على تدبر القرآن وأوجب التفقه فيه والضرب في البلاد لذلك ووجدناه تعالى قد نهى عن اتباع المتشابه منه ووجدناه صلى الله عليه و سلم قد أخبر بأن المتشابهات التي بين الحرام البين والحلال البين لا يعلمها كثير من الناس فكان ذلك فضلا لمن علمها فأيقنا أن الذي نهى عز و جل عن تتبعه هو غير الذي أمر بتتبعه وتدبره والتفقه فيه وأيقنا بلا شك أن المشتبه الذي غبط صلى الله عليه و سلم عالمه هو غير المتشابه الذي حذر من تتبعه هذا الذي لا يقوم في المعقول سواه إذ لا يجوز أن يكلفنا تعالى طلب شيء وينهانا عن طلبه في وقت واحد فلما علمنا ذلك وجب علينا طلب المتشابه الذي أمرنا بطلبه لنتفقه فيه وأن نعرف أي الأشياء هو المتشابه الذي نهينا عن تتبعه فنمسك عن طلبه
فنظرنا في القرآن وتدبرناه كما أمرنا تعالى فوجدناه جاء بأشياء منها التوحيد وإلزامه فكان ذلك مما أمرنا باعتقاده والفكرة فيه فعلمنا أنه ليس من المتشابه الذي نهينا عن تتبعه ومنها صحة النبوة وإلزامنا الإيمان بها فعلمنا أن ذلك ليس من المتشابه الذي نهينا عن تتبعه ومنها الشرائع المفترضة والمحرمة والمندوب إليها والمكروهة والمباحة وذلك كله مفترض علينا تتبعه وطلبه فأيقنا أن ذلك مما أمرنا بالتفكير فيه بقوله تعالى { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } وبقوله تعالى { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنآ ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } مثنيا عليهم فأيقنا أنه ليس من المتشابه
ومنها أخبار سالفة جاءت على معنى الوعظ لنا وهي مما أمرنا بالاعتبار به بقوله تعالى { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } فأيقنا أن ذلك ليس من المتشابه الذي نهينا عن تتبعه ومنها وعد أمرنا وحضضنا على العمل لاستحقاقه ووعيد حذرنا منه وكل ذلك مما أمرنا به بالفكرة فيه لنجتهد في طلب الجنة ونفر عن النار فأيقنا أن ذلك ليس من المتشابه الذي نهينا عن تتبعه
فلما علمنا أن كل ما ذكرنا ليس متشابها وعلمنا يقينا أنه ليس في القرآن إلا محكم ومتشابه وأيقنا أن كل محكم فلما أيقنا ذلك ضرورة علمنا يقينا أن ما عدا ما ذكرنا هو المتشابه فنظرنا لنعلم أي شيء هو فنجتنبه ولا نتتبعه وإنما طلبناه (4/520)
لنعلم ماهيته لا كيفيته ولا معناه فلم نجد في القرآن شيئا غير ما ذكرنا حاشا الحروف المقطعة التي في أوائل بعض السور وحاشا الأقسام التي في أوائل بعض السور أيضا فعلمنا يقينا أن هذين النوعين هما المتشابه الذي نهينا عن اتباعه وحذر النبي صلى الله عليه و سلم من المتبعين له وكذلك وجدنا عمر رضي الله عنه قد أوجع صبيا على سؤاله عن تفسير والذاريات
فصح ضرورة أن هذين القسمين هما المتشابه الذي نهينا عن ابتغاء تأويله إذ لم يبق بعد ما ذكرنا مما أمرنا بتتبعه إلا هذان النوعان فلم يبق غيرهما فحرام على كل مسلم أن يطلب معاني الحروف المقطعة التي في أوائل السور
مثل { كهيعص } و { حم عسق } و { ن } و { الم } و { ص } و { طسم } وحرام أيضا على كل مسلم أن يطلب معاني الأقسام التي في أوائل السور مثل { والنجم } و { الذاريات } { والطور } { والمرسلات عرفا } { والعاديات ضبحا } وما أشبه ذلك
قال أبو محمد وقد قال قوم إن المتشابه هو ما اختلف فيه من أحكام القرآن
قال أبو محمد وهذا خطأ فاحش لأن هذا القول دعوى ورأي من قائله لا برهان على صحته وأيضا فإن ما اختلف فيه فلا بد من أن الحق في بعض ما قيل فيه موجود واضح لمن طلبه برهان ذلك قوله تعالى { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } وقوله تعالى { بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } فالبيان مضمون موجود فمن طلبه طلبا صحيحا وفقه الله تعالى وأيضا فإن الأحكام المختلف فيها فرض علينا تتبعها وابتغاء تأويلها وطلب حكمها الحق فيها والعناية بها والعمل بها وأما المتشابه فحرام علينا بالنص تتبعه وطلب معناه فبطل بذلك أن يكون المختلف فيه متشابها
وإذا بطل ذلك صح أنه محكم ولا يضر الحق جهل من جهل ولا اختلاف من اختلف فيه
وقال آخرون المتشابه هو ما تقابلت فيه الأدلة
قال أبو محمد وهذا خطأ فاحش لأنه دعوى من قائله بلا برهان ورأي (4/521)
فاسد ولأن تقابل الأدلة باطل وشيء معدوم لا يمكن وجوده أبدا في الشريعة ولا في شيء من الأشياء والحق لا يتعارض أبدا
وإنما أتى من أتى في ذلك لجهله بيان الحق ولإشكال تمييز البرهان عليه مما ليس ببرهان وليس جهل من جهل في إبطال الحق
ودليل الحق ثابت لا معارض له أصلا
وقد بينا وجوه البراهين في كتابنا التقريب وكتابنا الموسوم بالفصل وفي كتابنا هذا ولا سبيل إلى أن يأمرنا تعالى بطلب أدلة قد ساوى فيها بين الحق والباطل ومن نسب هذا إلى الله تعالى فقد ألحد وأكذبه ربه تعالى إذ يقول { ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلآء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } وإذ يقول تعالى { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم } وبقوله تعالى { وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين } فصح أن متشابه الأحكام الذي ذكر صلى الله عليه و سلم أنها لا يعلمها كثير من الناس مبينة بالقرآن والسنة يعلمها من وفقه الله تعالى لفهمه من الفقهاء الذين أمر عز و جل بسؤالهم إذ يقول تعالى { ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }
وقد قال قوم إن قوله تعالى { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب } معطوف على الله عز و جل
قال أبو محمد وهذا غلط فاحش وإنما هو ابتداء وخبره في { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب } والواو لعطف جملة على جملة
وبرهان ذلك أن الله حرم تتبع ذلك المتشابه وأخبر أن متبعه وطالب تأويله زائغ القلب مبتغي فتنة وحذر النبي صلى الله عليه و سلم ممن اتبعه ولا سبيل إلى علم معنى شيء دون تتبعه وطلب معناه فإذا كان التتبع حراما فالسبيل إلى علمه مسدود وإذا كانت مسدودة فلا سبيل إلى علمه أصلا فصح أن الراسخين لا يعلمونه أبدا وأيضا فإن فرضا على العلماء بيان ما علموا الناس كلهم يقول الله تعالى { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه ورآء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون } وبقوله عز و جل { إن الذين يكتمون مآ أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } (4/522)
قال أبو محمد فلو علمه الراسخون في العلم لكان فرضا عليهم أن يبينوه للناس ولو لم يبينوه لكانوا ملعونين ولو بينوه لعلمه الناس ولو علمه الناس لكان محكما لا متشابها
ولتساوى فيه الراسخون وغيرهم وهذا ضد ما قال تعالى فبطل بذلك قول من ظن أن الراسخين يعلمونه وأما ذمه عليه السلام من جهل تلك المتشابهات إن وقع حولها فإنما ذلك بنص الحديث خوف مواقعة الحرام البين فصح أن تلك المتشابهات ليست حراما في ذاتها على من جهلها خاصة ليست حراما عليه إذ لم يبلغه تفصيل تحريمها عليه ولكن الورع أن يتركها خوف وقوعه في الحرام البين
قال أبو محمد وبين صحة قولنا في هذا الباب ما حدثناه عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى بن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم ثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب ثنا يزيد بن إبراهيم التستري عن عبد الله بن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب } قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم
قال أبو محمد فقد حذر عليه السلام ممن اتبع ما تشابه من القرآن وقد علمنا أن اتباع أحكامه كلها فرض فصح أن المتشابه هو غير ما أمرنا بتدبيره والتفقه فيه كما ذكرنا
وقد تأول قوم في قوله تعالى { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب } إن ذلك نزل في قوم من المنافقين كانوا يعترضون على التنازل من القرآن ويقولون لعله سينزل غدا نسخه فيحملون معنى تأويله على أنه مآله
أي لا يعلم النازل من القرآن أينسخ أم لا إله إلا الله تعالى (4/523)
قال أبو محمد وهذا فاسد لأنه دعوى بلا برهان وما كان هكذا هو باطل بيقين
لقول الله تعالى { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } وتخصيص ما يقتضيه كلام الله تعالى ما لم يقل وكذب عليه نعوذ بالله من هذا وليكن هذا تخصيصا للآية بلا دليل
وقد أبطلنا تخصيص الظواهر بلا دليل فيما خلا من كتابنا هذا لأننا الآن قد علمنا ما لكل آية في القرآن وغيرها ما قد نسخ منها وما لم ينسخ بعد أبدا
وقال قوم أيضا إن معنى { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب } أي وما يعلم علة نزول الآيات إلا الله
قال أبو محمد وهذا أيضا فاسد كالذي قبله لأنه دعوى بلا برهان وتقويل لله ما لم يقل وإخبار عنه تعالى بما لم يخبر به عن نفسه ولأنه لو كان كما ذكروا لكان لنزول الآيات علل لا يعلمها إلا الله عز و جل وقد أبطلنا قول من قال إن الله تعالى يفعل لعلة في باب إبطال العلل من كتابنا هذا وبالله تعالى التوفيق (4/524)
الباب الثاني والعشرون في الإجماع
وعن أي شيء يكون الإجماع وكيف ينقل الإجماع
قال أبو محمد اتفقنا نحن وجميع أهل الإسلام جنهم وإنسهم في كل زمان إجماعا صحيحا متيقنا على أن القرآن الذي أنزله الله على محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم وكل ما قاله محمد صلى الله عليه و سلم فإنه حق لازم لكل أحد وإنه دين الإسلام
ثم اختلفوا في الطريق المؤدية إلى رسوله صلى الله عليه و سلم فاعلموا رحمكم الله أن من اتبع نص القرآن وما أسند من طريق الثقات إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد اتبع الإجماع يقينا وأن من عاج عن شيء من ذلك فلم يتبع الإجماع
وكذلك إجماع أهل الإسلام كلهم جنهم وإنسهم في كل زمان وكل مكان على أن السنة واجب اتباعها وأنها ما سنه رسول الله صلى الله عليه و سلم وكذلك اتفقوا على وجوب لزوم الجماعة فاعلموا رحمكم الله أن ما اتبع ما صح برواية الثقات مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد اتبع السنة يقينا ولزوم الجماعة وهم الصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان ومن أتى بعدهم من الأئمة وأن من اتبع أحدا دون رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يتبع السنة ولا الجماعة وأنه كاذب في ادعائه السنة والجماعة فنحن معشر المتبعين للحديث المعتمدين عليه أهل السنة والجماعة حقا بالبرهان الضروري وأننا أهل الإجماع كذلك والحمد لله رب العالمين
ثم اتفقنا نحن وأكثر المخالفين لنا على أن الإجماع من علماء أهل الإسلام حجة وحق مقطوع به في دين الله عز و جل
ثم اختلفنا فقالت طائفة هو شيء غير القرآن وغير ما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم لكنه أن يجتمع علماء المسلمين على حكم لا نص فيه لكن برأي منهم أو بقياس منهم عن منصوص
وقلنا نحن هذا باطل ولا يمكن البتة أن يكون إجماع من علماء الأمة على غير نص من قرآن أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم يبين في أي قول (4/525)
المختلفين هو الحق لا بد من هذا فيكون من وافق ذلك النص هو صاحب الحق المأجور مرتين مرة على اجتهاده وطلبه الحق ومرة ثانية على قوله بالحق واتباعه له
ويكون من خالف ذلك النص غير مستجيز لخلافه لكن قاصدا إلى الحق مخطئا مأجورا أجرا واحدا على طلبه للحق مرفوعا عنه الإثم إذا لم يعمد له
وقد تيقن ألا يختلف المسلمون في بعض النصوص ولكن يوقع الله عز و جل لهم الإجماع عليه كما أوقع تعالى بينهم الاختلاف فيما شاء أن يختلفوا فيه من النصوص
واحتجت الطائفة المخالفة لنا بأن قالت قال الله عز و جل { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }
قالوا فافترض الله طاعة أولي الأمر كما افترض طاعة رسوله صلى الله عليه و سلم وكما افترض طاعة نفسه عز و جل أيضا ولا فرق
فلو كان عز و جل إنما افترض طاعتهم فيما نقلوه إلينا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما كان لتكرار الأمر بطاعتهم بمعنى لأنه يكتفي عز و جل بذكر طاعة رسوله صلى الله عليه و سلم فقط لأنها على قولكم معنى واحد فصح أنه إنما افترض عز و جل طاعتهم فيما قالوه برأي أو قياس مما ليس فيه نص عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه و سلم
قال أبو محمد وجمعوا في استدلالهم بهذه الآية إلى تصحيح الإجماع تصحيح القول بالرأي والقياس فيما ظنوا وقالوا أيضا قال عز و جل { وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا } قالوا وهذه كالتي قبلها وقالوا أيضا قال الله عز و جل { ومن يشاقق لرسول من بعد ما تبين له لهدى ويتبع غير سبيل لمؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا } قالوا فتوعدوا على مخالفة سبيل المؤمنين أشد الوعيد فصح فرض اتباعهم فيما أجمعوا عليه من أي وجه أجمعوا عليه لأنه سبيلهم الذي لا يجوز ترك اتباعه (4/526)
وذكروا ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا سعيد بن منصور وأبو الربيع العتكي وقتيبة قالوا حدثنا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبى عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله زاد العتكي وسعيد في روايتهما وهم كذلك
وبه إلى مسلم حدثنا منصور بن أبي مزاحم ثنا يحيى بن حمزة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني عمير بن هاني قال سمعت معاوية على المنبر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفريري ثنا البخاري ثنا الحميدي ثنا الوليد هو ابن مسلم ثنا ابن جابر هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني عمير بن هاني قال سمعت معاوية يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك قالوا فصح أنه لا تجتمع أمة محمد صلى الله عليه و سلم على غير الحق أبدا لأنه صلى الله عليه و سلم قد أنذر بأنه لا يزال منهم قائم بالحق أبدا
قال أبو محمد وقد روي أنه عليه السلام قال لا تجتمع أمتي على ضلالة وهذا وإن لم يصح لفظه ولا سنده فمعناه صحيح بالخبرين المذكورين آنفا
قال أبو محمد هذا كل ما احتجوا به ما لهم حجة غير هذا أصلا
قال أبو محمد وكل هذا حق لا ينكره مسلم ونحن لم نخالفهم في صحة الإجماع وإنما خالفناهم في موضعين من قولهم
أحدهما تجويزهم أن يكون الإجماع على غير نص
والثاني دعواهم الإجماع في مواضع ادعوا فيها الباطل بحيث لا يقطع أنه إجماع بلا برهان
أما في مكان قد صح فيه الاختلاف موجودا وإما في مكان لا نعلم نحن فيه (4/527)
اختلافا إلا أن وجود الاختلاف فيه ممكن نعم وقد خالفوا الإجماع المتيقن على ما تبين بعد هذا إن شاء الله تعالى فإذا الأمر هكذا فلا حجة لهم في شيء من هذه النصوص أصلا فيما أنكرناه عليهم
إنما الأخبار التي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنما فيها أن أمته عليه السلام لا تجتمع ولا ساعة واحدة من الدهر على باطل بل لا بد أن يكون فيهم قائل بالحق وقائم بالحق وقائم به وهكذا نقول وهذا الخبر إنما فيه بنص لفظه وجود الاختلاف فقط وأن مع الاختلاف فلا بد فيهم من قائل بالحق
وأما قوله تعالى { ومن يشاقق لرسول من بعد ما تبين له لهدى ويتبع غير سبيل لمؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا } فإنها حجة قائمة عليهم والحمد لله رب العالمين وذلك أن الله تعالى لم يتوعد في هذه الآية متبع على غير سبيل المؤمنين فقط لا مع مشاقته لرسول الله صلى الله عليه و سلم بعد أن تبين الهدى وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين
واعلم أنه لا سبيل للمؤمنين البتة إلا طاعة القرآن والسنن الثابتة على رسول الله صلى الله عليه و سلم وأما إحداث شرع لم يأت به نص فليس سبيل المؤمنين بل هو سبيل الكفر قال الله تعالى { إنما كان قول لمؤمنين إذا دعوا إلى لله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم لمفلحون }
قال أبو محمد هذه سبيل المؤمنين بنص كلام الله تعالى لا سبيل لهم غيرها أصلا فعادت هذه الآية حجة لنا عليهم وأما قوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } وقوله تعالى { وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا } فإن هذا مكان قد اختلف الصدر الأول فيه في من هم أولي الأمر كما حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي ثنا محمد بن مفرج ثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس ثنا محمد بن علي بن زيد الصائغ ثنا سعيد بن منصور ثنا أبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة في قوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } قال هم الأمراء (4/528)
وروينا عن مجاهد والحسن وعكرمة وعطاء قال هم الفقهاء وروينا ذلك بالسند المذكور إلى سعيد بن منصور عن هشيم وسفيان بن عيينة قال هشيم أخبرنا أبو معاوية ومنصور وعبد الملك بن معاوية عن الأعمش عن مجاهد ومنصور عن الحسن وعبد الملك عن عطاء وقال سفيان عن الحكم بن أبان عن عكرمة
قال أبو محمد فإذا لم يأت قرآن ببيان أنهم العلماء المجمعون ولا صح بذلك إجماع فالواجب حمل الآيتين على ظاهرهما ولا يحل تخصيصهما بدعوى بلا برهان لأنه مع ذلك تقويل لله عز و جل ما لم يقل ونحن نقطع بأنه تعالى لو أراد بعض أولي الأمر دون بعض لبينه لنا ولم يدعنا في لبس فوجب ما قلناه من حمل الآيتين على عمومهما
فنقول إن أولي الأمر منا وإذ هذا هو الحق فمن الباطل المتيقن أن يقول قائل إن الله تعالى أمرنا بقبول طاعة الأمراء العلماء فيما لم يأمر به الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه و سلم فصح أن طاعة العلماء الأمراء إنما تجب علينا فيما أمرنا به مما أمر الله به تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم فقط
وأما قولهم إن الله تبارك وتعالى لو أراد هذا لاكتفى بالأمر بطاعة الرسول عليه السلام على أن يذكر تعالى أولى الأمر فكلام فاسد لأنه يقال لهم إن قلتم إن ذكره تعالى طاعة أولي الأمر منا فيما قالوا برأي أو قياس لا فيما نقلوه إلينا عن النبي صلى الله عليه و سلم إذ قد أغنى أمره تعالى بطاعة الرسول عن تكراره فيلزمكم سواء بسواء أن تقولوا أيضا إن أمره تعالى بطاعة رسوله صلى الله عليه و سلم بعد أمره بطاعة نفسه عز و جل دليل على أنه عز و جل إنما أمرنا بطاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما قاله من عند نفسه لا فيما أتانا به من عند ربه عز و جل إذ قد أغنى أمر بطاعة نفسه عن تكراره لا فرق بين القولين
فإن أبيتم من هذا ظهر تناقضكم وتحكمكم بالباطل بلا برهان وإن جسرتم وقلتموه أيضا كنتم أتيتم بعظائم مخالفة للقرآن وللرسول عليه السلام وللإجماع المتيقن إذ جوزتم أن يأتي رسول الله صلى الله عليه و سلم بشرائع لم يوح الله تعالى بشيء منها إليه قط والله تعالى قد أكذب هذا القول إذ أمره أن يقول { قل لا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي لأعمى ولبصير أفلا تتفكرون } (4/529)
وإذ يقول عز و جل مخبرا عنه صلى الله عليه و سلم { وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى } فأخبر تعالى عن أن النبي صلى الله عليه و سلم لا ينطق البتة إلا بوحي يوحى إليه وأنه لا يتبع البتة إلا ما يوحي الله تعالى إليه فقط فمن كذب ربه فلينظر أين مستقره
وإذا جوزتم أن يجمع الناس على شرائع يحدثونها لم يوح بها الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه و سلم ولا بينها رسوله صلى الله عليه و سلم والله تعالى يكذب من قال هذا إذ يقول { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم } فالدين قد كمل وما كمل فلا مزيد فيه أصلا
وأما تكرار الله تعالى الأمر بطاعة رسوله صلى الله عليه و سلم بعد أمره بطاعة نفسه تعالى وتكراره الأمر بطاعة أولي الأمر بعد أمره بطاعة الرسول صلى الله عليه و سلم وإن كان كل ذلك ليس فيه إلا طاعة ما أمر الله به فقط لا ما لم يأت به الوحي منه عز و جل فوجه ذلك واضح وهو بيان زائد لولا مجيئه لالتبس على بعض الناس فهم ذلك الأمر وذلك أنه لو لم يأمرنا الله تعالى إلا على الأمر بطاعته فقط لتوهم بعض الجهال أنه لا يلزمنا إلا ما قاله تعالى في القرآن فقط وأنه لا يلزمنا طاعة رسوله صلى الله عليه و سلم فيما جاءنا به مما ليس في نص القرآن فلما أمر تعالى مع طاعته بطاعة رسوله صلى الله عليه و سلم ليظهر البيان ولم يمكن أن يمنع من طاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما أمرنا إلا معاند له
ولو لم يأمرنا تعالى إلا على الأمر بطاعة أولي الأمر منا لأمكن أن يهم جاهل فيقول لا يلزمنا طاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا فيما سمعنا منه مشافهة
فلما أمرنا تعالى بطاعة أولي الأمر منا ظهر البيان في وجوب طاعة ما نقله إلينا العلماء عن النبي صلى الله عليه و سلم فقط فبطل أن يكون لهاتين الآيتين متعلق والحمد لله رب العالمين
فإن قالوا لو كان هذا لما كان قوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } معنى لأن ما جاءنا عن الله تعالى وعن النبي صلى الله عليه و سلم فواجب قبوله اتفق عليه أو اختلف فيه فأي معنى للفرق وبين أمره تعالى بطاعة أولي الأمر ثم أمره بالرد عند الشارع إلى الله ورسوله (4/530)
قلنا ليس في قوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير 9 وأحسن تأويلا } خلاف لأمره تعالى بطاعة أولي الأمر بل كل ذلك ليس فيه إلا طاعة القرآن والسنن المبلغة إلينا فقط ولكن في قوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } معنى زائد ليس فيما تقدم من الآية وهو نهيه تعالى عن تقليد أحد واتباعه والأمر بالاقتصار على القرآن والسنة فقط ولا مزيد
وأيضا والكل من المسلمين متفقون على أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرنا أن نصلي إلى بيت المقدس مدة ثم أمرنا بترك تلك القبلة وبالصلاة إلى مكة فوجب ذلك وأنه عليه السلام لو نهانا عن أن نصلي الخمس وعن صوم رمضان لحرم علينا أن نصليها أو نصومه وهكذا في سائر الشرائع أفهكذا القول عندكم و أمرنا بذلك بعد جميع أهل الأرض فإن قالوا نعم كفروا وإن قالوا لا فرقوا بين طاعته عليه السلام وطاعة أولي الأمر
فإن قالوا هذا محال لا يجوز أن يجمع الناس على ذلك لأنه كفر وضلال قلنا صدقتم وكذلك أيضا محال لا يجوز أن يجمعوا على إحداث شرع لم يأمر الله تعالى به ولا رسوله صلى الله عليه و سلم برأي أو بقياس ولا فرق فبطل أن يكون لهم في شيء من النصوص المذكورة متعلق بوجه من الوجوه والحمد لله رب كثيرا
وقالوا لو كان الإجماع لا يكون إلا عن نص وتوقيف لكان ذلك النص محفوظا لأن الله تعالى قال { إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون } فلما لم يوجد ذلك النص علمنا أن الإجماع ليس على نص
قال أبو محمد وهذا كلام أوله حق وآخره كذب
ونحن نقول لا إجماع إلا عن نص وذلك النص إما كلام منه صلى الله عليه و سلم فهو منقول ولا بد محفوظ حاضر وإما عن فعل منه عليه السلام فهو منقول أيضا كذلك وإما إقراره إذ علمه فأقره ولم ينكره فهي أيضا حال منقولة محفوظة وكل من ادعى إجماعا علمه على غير هذه الوجوه كلفناه تصحيح دعواه في أنه إجماع لا سبيل إلى برهان على ذلك أبدا بأكثر من دعواه وما كان دعوى بلا برهان فهو باطل فإن لجأ إلى ما لا يعرف فيه خلاف (4/531)
فهو إجماع قلنا له وهذا تدبير من الكذب والدعوى الأفيكة بلا برهان وتمام هذه المسألة إن شاء الله تعالى في باب بعد هذا مفرد لبعض قول من قال إن ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فكيف وفيما ذكرنا ههنا من أنها دعوى بلا برهان كفاية
قال أبو محمد وإذا قد بطل كل ما اعترضوا به فلنقل بعون الله تعالى على إيراد البراهين على صحة قولنا قال عز و جل { تبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون } فأمرنا تعالى أن نتبع ما أنزل ونهانا عن أن نتبع أحدا دونه قطعا فبطل بهذا أن يصح قول أحد لا يوافق النص وبطل بهذا أن يكون إجماع على غير نص لأن النص باطل والإجماع حق والحق لا يوافق الباطل
وقد ذكرنا قوله تعالى { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم } فصح أنه لا يحدث بعد النبي صلى الله عليه و سلم شيء من الدين وهذا باطل أن يجمع على شيء من الدين لم يأت به قرآن ولا سنة ويصح بضرورة العقل أنه لا يمكن أن يعرف أحد ما كلفه الله تعالى عباده إلا بخبر من عنده عز و جل وإلا فالخبر عنه تعالى بأنه أمر بكذا ونهي عن كذا كاذب على الله عز و جل إلا أن يخبر بذلك عنه تعالى من يأتيه الوحي من عند ربه فقط
وصح أيضا بضرورة العقل أن من أدخل في الدين حكما يقر بأنه لم يأت به وحي من عند الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه و سلم فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى وقد ذم الله تعالى ذلك وأنكره في نص القرآن فقال { أم لهم شركاء شرعوا لهم من لدين ما لم يأذن به لله ولولا كلمة لفصل لقضي بينهم وإن لظالمين لهم عذاب أليم }
قال أبو محمد ومن طريق النظر الضروري الراجع إلى العقل والمشاهدة والحس أننا نسأل من أجاز أن يجمع علماء المسلمين على ما لا نص فيه فيكون حقا لا يسع خلافه فنقول له وبالله تعالى التوفيق أفي الممكن عندك أن يجتمع علماء جميع الإسلام في موضع واحد حتى لا يشذ عنهم منهم أحد بعد افتراق الصحابة رضي الله عنهم في (4/532)
الأمصار أم هذا ممتنع غير ممكن البتة فإن قال هذا ممكن كابر العيان لأن علماء أهل الإسلام قد افترق الصحابة رضي الله عنهم في عصر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى اليوم وهلم جرا لم يجتمعوا مذ أن افترقوا فصار بعضهم في اليمن في مدنها وبعضهم في عمان وبعضهم في البحرين وبعض في الطائف وبعض بمكة وبعض بنجد
وبعض بجبل طيىء وكذلك في سائر جزائر العرب
ثم اتسع الأمر بعده عليه السلام فصاروا من السند وكابل إلى مغارب الأندلس وسواحل بلاد البربر ومن سواحل اليمن إلى ثغور أرمينية فما بين ذلك من البلاد البعيدة واجتماع هؤلاء ممتنع غير ممكن أصلا لكثرتهم وتنائي أقطارهم
فإن قال ليس اجتماعهم ممكنا قلنا صدقت
وأخبرنا الآن كيف الأمر إذا قال بعضهم قولا لا نص فيه أتقطع على أنه حق وأنت لا تدري أيجمع عليه سائرهم أم لا أم تقف فيه فإن قال أقطع بأنه حق قلنا حكمت بالغيب وبما لا تدري وحكمت بالباطل بلا شك فإن قال بل أقف فيه حتى يجمع عليه سائرهم قلنا فإنما يصح إذ قال به آخر قائل منهم فلا بد من نعم فيقال لهم فلو خالفهم فعلى قولك لا يكون حقا فمن قوله نعم فيقال له فكيف يكون حقا ما يمكن أمس أن يكون باطلا وهذا حكم على الله تعالى وليس هذا حكم الله وكفى بهذا بيانا
وأيضا فإن اليقين قد صح بأن الناس مختلفون في هممهم واختيارهم وآرائهم وطبائعهم الداعية إلى اختيار ما يختارونه وينفرون عما سواه متباينون في ذلك تباينا شديدا متفاوتا جدا فمنهم رقيق القلب يميل إلى الرفق بالناس ومنهم قاسي القلب شديد يميل إلى التشديد على الناس ومنهم قوي على العمل مجد إلى العزم والصبر والتفرد ومنهم ضعيف الطاقة يميل إلى التخفيف ومنهم جانح إلى لين العيش يميل إلى الترفيه ومنهم مائل إلى الخشونة مجنح إلى الشدة ومنهم معتدل في كل ذلك إلى التوسط ومنهم شديد الغضب يميل إلى شدة الإنكار ومنهم حليم يميل إلى الإغضاء ومن المحال اتفاق هؤلاء كلهم على إيجاب حكم برأيهم أصلا لاختلاف دعاويهم ومذاهبهم فيما ذكرنا وإنما يجمع ذو الطبائع المختلفة على ما استووا فيه من الإدراك بحواسهم وعلموه (4/533)
ببدائة عقولهم فقط وليست أحكام الشريعة من هذين القسمين فبطل أن يصح فيها إجماع على غير توقيف وهذا برهان قاطع ضروري
وأما الإجماع على القياس فيبطل من قرب لأنهم لم يجمعوا على صحة القياس فكيف يجمعون على ما لم يجمعوا عليه
قال أبو محمد فاعترض فيها بعض المخالفين فقال قد اختلف الناس في القول بخبر الواحد وقد أجمع على بعض ما جاء به خبر الواحد
قال أبو محمد وهذا باطل ومخرقة ضعيفة لأن المسلمين لم يختلفوا قط في وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما اختلفوا في الطريق المؤدية إليه صلى الله عليه و سلم والذين لا يقولون بخبر الواحد
ثم أجمعوا على حكم ما جاء من أخبار الآحاد فإنهم يقولون إنما قلنا به لأنه نقل كافة لا لأنه خبر واحد
فإن قلتم إن من القياس ما يوافق النص قلنا لكم المتبع حينئذ إنما هو النص ولا نبالي وافقه القياس أو خالفه فلم نتبع القياس قط وافق النص أو خالفه وكذلك لا يجوز الإجماع على قول إنسان دون النبي صلى الله عليه و سلم لأنه لا أحد بعده إلا وقد خالفه طوائف من المسلمين في كثير من قوله
وأيضا فإن كان من بعده عليه السلام فممكن أن يصيب وأن يخطىء فاتباع خطأ من أخطأ باطل وأما صواب المصيب في الدين فإنما هو باتباع النص فالنص هو المتبع حينئذ لا قول الذي اتبع النص وإنما يجب اتباع النص سواء وافقه الموافق أو خالفه المخالف
وأيضا فإنه يقال لمن أجاز الإجماع على غير نص من قرآن أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبرونا عما جوزتم من الإجماع بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم على غير نص هل يخلو من أربعة أوجه لا خامس لها إما أن يجمعوا على تحريم شيء مات صلى الله عليه و سلم ولم يحرمه أو على تحليل شيء مات رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد حرمه أو على إيجاب فرض مات رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يوجبه أو على إسقاط فرض مات رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أوجبه وكل هذه الوجوه كفر مجرد وإحداث دين بدل به دين الإسلام ولا فرق بين هذه الوجوه وبين من جوز الإجماع على إسقاط الصلوات الخمس أو بعضها أو ركعة منها أو على إيجاب صلوات غيرها أو ركوع زائدة فيها أو على إبطال صوم رمضان أو على إيجاب (4/534)
صوم شهر رجب أو على إبطال الحج إلى مكة أو على إيجابه إلى الطائف أو على إباحة الخنزير أو على تحريم الكبش كل هذا كفر صراح لا خفاء به
فإن قالوا كل هذه نصوص وإنما جوزنا الإجماع على ما لا نص فيه قلنا وكل ما ذكرنا لا نص فيه وإنما هي شرائع زائدة في دين الله تعالى أو ناقصة منه هذه صفة ما لا نص فيه لا سبيل إلى أن يكون حكم لا نص فيه يخرج من أحد هذين الوجهين
فإن قالوا هذا لا يجوز رجعوا إلى قولنا من قرب ومن أجاز شيئا من هذا كفر وبالله تعالى التوفيق
وهذا أيضا برهان قاطع في إبطال القول بالقياس بالرأي والاستحسان لا مخلص منه
واعلموا أن قولهم هذه المسألة لا نص فيها قول باطل وتدليس في الدين وتطريق إلى هذه العظائم لأن كل ما يحرمه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم إلى أن مات صلى الله عليه و سلم فقد حلله بقوله تعالى { هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم } وقوله { وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر سم لله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما ضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بلمعتدين } وكل ما لم يأمر به عليه السلام فلم يوجبه وهذه ضرورة لا يمكن أن يقوم في عقل أحد غيرها وأما كل ما نص يأمر به صلى الله عليه و سلم بالأمر به أو النهي عنه فقد حرمه أو أوجبه فلا يحل لأحد مخالفته فصح أنه لا شيء إلا وفيه نص جلي فصح أنه لا إجماع إلا على نص ولا اختلاف إلا في نص كما ذكرنا ولا قياس يوجب في نص إلا وهو زائد في الدين أو ناقص منه ولا بد
ثم نقول لهم أيضا أخبرونا عن الإجماع جملة هل يخلو من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها بضرورة العقل أما أن يجمع الناس على ما لا نص فيه كما ادعيتم فقد أريناكم بطلان ذلك وأنه محال ذلك وأنه محال وجوده لصحة وجود النصوص في كل شيء من الدين أو يكون إجماع الناس على خلاف النص الوارد من غير نسخ أو تخصيص له وردا قبل موت رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذا كفر مجرد كما قدمنا
أو يكون إجماع الناس على شيء منصوص فهذا قولنا هذه قسمة ضرورية لا محيد (4/535)
عنها أصلا وإذ هو كما ذكرنا فاتباع النص فرض سواء أجمع الناس عليه أو اختلفوا فيه لا يزيد النص مرتبة في وجوب الاتباع أن يجمع الناس عليه ولا يوهن وجوب اتباع اختلاف الناس فيه بل الحق حق وإن اختلف فيه وإن الباطل باطل وإن كثر القائلون به ولولا صحة النص عن النبي صلى الله عليه و سلم بأن أمته لا يزال منهم من يقوم بالحق ويقول به فبطل بذلك أن يجمعوا على باطل لقلنا والباطل باطل وإن أجمع عليه لكن لا سبيل إلى الإجماع على باطل
قال أبو محمد فإذا الأمر كذلك فإنما علينا صلب أحكام القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ ليس في الدين سواهما أصلا ولا معنى لطلبنا هل أجمع على ذلك الحكم أو هل اختلف فيه لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق
فإن قيل فقد صححتم الإجماع آنفا ثم توجبون الآن أنه لا معنى له قلنا الإجماع موجود كما الاختلاف موجود إلا أننا لم يكلفنا الله تعالى معرفة شيء من ذلك إنما كلفنا اتباع القرآن وبيان رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي نقله إلينا الأمر منا على ما بينا فقط ولأن أحكام الدين كلها من القرآن والسنن لا تخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما إما وحي مثبت في المصحف وهو القرآن وإما وحي غير مثبت في المصحف وهو بيان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال تعالى { بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } وقال تعالى { وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى }
ثم ينقسم كل ذلك ثلاثة أقسام لا رابع لها إما شيء نقلته الأمة كلها عصرا بعد عصر كالإيمان والصلوات والصيام ونحو ذلك وهذا هو الإجماع ليس من هذا القسم شيء لم يجمع عليه وإما شيء نقل نقل تواتر كافة عن كافة من عندنا كذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ككثير من السنن وقد يجمع على بعض ذلك وقد يختلف فيه كصلاة النبي صلى الله عليه و سلم قاعدا بجميع الحاضرين من أصحابه وكدفعه خيبر إلى يهود بنصف ما يخرج منها من زرع أو تمر يخرجهم إذا شاء وغير ذلك كثير وإما شيء نقله الثقة عن الثقة كذلك مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فمنه ما أجمع على القول به ومنه ما اختلف فيه فهذا معنى الإجماع الذي لا إجماع في الديانة غيره البتة ومن ادعى (4/536)
غير هذا فإنما يخبط فيما لا يدري ويقول ما لا علم له ويقول بما لا يفهم ويدين بما لا يعرف حقيقته
وبالله تعالى التوفيق وبه نعوذ من التخليط في الدين بما لا يعقل
فصل في اختلاف الناس في وجوه من الإجماع
قال أبو محمد ثم اختلف الناس في وجوه من الإجماع لا علينا أن نذكرها إن شاء الله تعالى وإن كنا قد بينا آنفا أنه لا حاجة بأحد إلى طلب إجماع أو اختلاف وإنما الفرض على الجميع والذي يحتاج إليه الكل فهو معرفة أحكام القرآن وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقط كما بينا أن أهل العلم مالوا إلى معرفة الإجماع ليعظموا خلاف من خالفه ويزجروه عن خلافه فقط وكذلك مالوا إلى معرفة اختلاف الناس لتكذيب من لا يبالي بادعاء الإجماع جرأة على الكذب حيث الاختلاف موجود فيردعونه بإيراده عن اللجاج في كذبه فقط وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد فقالت طائفة الإجماع إجماع الصحابة رضي الله عنهم فقط وأما إجماع من بعدهم فليس إجماعا وقالت طائفة إجماع أهل كل عصر إجماع صحيح ثم اختلف هؤلاء فقالت طائفة منهم إذا صح إجماع كل عصر ما فهو إجماع صحيح وليس لهم ولا لأحد بعد أن يقول بخلافه
وقالت طائفة منهم أخرى بل يجب مراعاة ذلك العصر فإن انقرضوا كلهم ولم يحدثوا ولا أحد منهم خلافا لما أجمعوا عليه فهو إجماع قد انعقد لا يجوز لأحد خلافه وإن رجع أحد منهم عما أجمع مع أصحابه فله ذلك ولا يكون ذلك إجماعا
وقالت طائفة إذا اختلف أهل عصر في مسألة ما فقد ثبت الاختلاف ولا ينعقد في تلك المسألة إجماع أبدا
وقالت طائفة بل إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما ثم أجمع أهل العصر الذي بعدهم على بعض قول أهل العصر الماضي فهو إجماع صحيح لا يسع أحدا خلافه أبدا وقالت طائفة إذا اختلف أهل العصر على عشرة أقوال مثلا أو أقل أو أكثر فهو اختلاف فيما اختلفوا فيه وهو إجماع صحيح على ترك ما لم يقولوا به من الأقوال فلا يسع أحدا الخروج على تلك الأقوال كلها له أن يتخير منها ما أداه إليه اجتهاده (4/537)
وقالت طائفة ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع صحيح لا يجوز خلافه لأحد وقالت طائفة ليس إجماعا وقالت طائفة إذا اتفق الجمهور على قول خالفهم واحد من العلماء فلا يلتفت إلى ذلك الواحد وقول الجمهور هو إجماع صحيح وهذا قول محمد بن جرير الطبري
وقالت طائفة ليس هذا إجماعا
وقالت طائفة قول الجمهور والأكثر إجماع وإن خالفهم من هو أقل عددا منهم وقالت طائفة ليس هذا إجماعا
وقالت طائفة إجماع كل أهل المدينة هو الإجماع وهذا قول المالكيين ثم اختلفوا فقال ابن بكير منهم وطائفة معه سواء كان عن رأي أو قياس أو نقلا وقال محمد بن صالح الأبهري منهم وطائفة معه إنما ذلك فيما كان نقلا فقط
وقالت طائفة إجماع أهل الكوفة وهذا قول بعض الحنفيين
وقالت طائفة إذا جاء القول عن الصاحب الواحد أو أكثر من واحد من الصحابة ولم يعرف له مخالف منهم فهو إجماع وإن خالفه من بعد الصحابة رضي الله عنهم وهو قول بعض الشافعيين وجمهور الحنفيين والمالكيين
وقال بعض الشافعيين إنما يكون إجماعا إذا اشتهر ذلك القول فيهم وانتشر ولم يعرف له منهم مخالف وأما إذا لم يشتهر ولا انتشر فليس إجماعا بل خلافه جائز
ثم ههنا أقوال هي داخلة في باب الهوس إن سلم أصحابها من القصد إلى التلاعب بالدين كقول بعض الحنفيين ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد وأن اختيارات الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وداود بن علي وسائر العلماء شذوذ خرق الإجماع
وكقول بكر بن العلاء القشيري المالكي إن بعد سنة مائتين قد استقر الأمر وليس لأحد أن يختار وكقول إنسان ذكره أبو ثور في رسالة ورد عليه وكان قوله إنه ليس لأحد أن يخرج عن اختيارات الأوزاعي وسفيان الثوري وعبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح
قال أبو محمد أصناف الحمق أكثر من أصناف التمر ويكفي في بطلان كل قول من الدين لم يأت به قرآن ولا سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قول الله تعالى { لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون } وقوله تعالى { وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } (4/538)
فصح أنه لا برهان في الدين إلا ما حده الله تعالى وأن حدود الله ليست إلا في كلامه وبيان رسول الله صلى الله عليه و سلم فقط وأن من لم يأت في قوله في الدين ببرهان من القرآن وأن حكم مستند ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فليس من الصادقين بل هو كاذب آفك ضال مضل وبالله تعالى التوفيق إلا أنه لا بد بحول الله تعالى من بيان شبه هذه الأقوال الفاسدة التي قد عظم خطأ أهلها وكثر اتباعها لعل الله تعالى يهدي بهداه لنا أحدا فيكون خيرا لنا من حمر النعم كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبي ونعم الوكيل
واعلموا أن جميع هذه الفرق متفقة على أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم إجماع صحيح وقائلون بأن كل ما اشتهر فيهم رضي الله عنهم ولم يقع منهم نكير له فهو إجماع صحيح فاعلموا أن إجماع هذه الفرق على ما ذكرنا حاكم لنا عليهم وموجب لنا أننا المتبعون للإجماع وأن مخالفينا كلهم مخالفون للإجماع بإقرارهم والحمد لله رب العالمين كما نذكر في الباب المتصل بهذا إن شاء الله تعالى
فصل ذكر الكلام في الإجماع
إجماع من هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم أم الأعصار بعدهم وأي شيء هو الإجماع وبأي شيء يعرف أنه إجماع قال أبو محمد قال سليمان وكثير من أصحابنا لا إجماع إلا إجماع الصحابة رضي الله عنهم واحتج في ذلك بأنهم شهدوا التوقيف من رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد صح أنه لا إجماع إلا عن توقيف وأيضا فإنهم رضي الله عنهم كانوا جميع المؤمنين لا مؤمن من الناس سواهم ومن هذه صفته فإجماعهم هو إجماع المؤمنين وهو الإجماع المقطوع به وأما كل عصر بعدهم فإنما بعض المؤمنين لا كلهم وليس إجماع بعض المؤمنين (4/539)
إجماعا إنما الإجماع إجماع جميعهم وأيضا فإنهم كانوا عددا محصورا يمكن أن يحاط بهم وتعرف أقوالهم وليس من بعدهم كذلك
قال أبو محمد أما قوله إنهم شهدوا التوقيف من رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو كما قال وهذا إنما هو حجة في أنه لا إجماع إلا عن توقيف ولا شك في أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم إجماع صحيح وإنما الكلام في الأعصار بعدهم وقد عارضه مخالفوه بأن قالوا قد يجوز أن يحمل أهل عصر بعدهم على دليل نص قرآن أو سنة فهذا يدخل في التوقيف وأما قوله إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا جميع المؤمنين وإن من بعدهم إنما هو بعض المؤمنين فقول صحيح يعرف صدقه بالعيان والمشاهدة إلا أنه قد عارض مخالفوه في نكتة من هذه الجملة وهو أنه قال إن كان هكذا فإنه مذ ماتت خديجة رضي الله عنها أو بعض قدماء الصحابة رضي الله عنهم فإن الباقين منهم إنما هم بعض المؤمنين لا كلهم أيضا فقل إن الإجماع إنما هو إجماع من أسلم منهم بمكة قبل أن يموت منهم أحد فعارضه بعض أصحابنا بأن قال نعم هذا حق ما جاء قط نص قرآن ولا سنة بتسمية ما اتفق عليه من بقي من بعد من مات إجماعا
قال بعض أصحابنا لا ولكن نقول إن كل من مات منهم رضي الله عنهم فنحن موقنون قاطعون بأنه لو كان حيا لسلم الوحي المنزل من القرآن أو البيان من رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنه لم يمت إلا مؤمنا بكل ما ينزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم بعده بلا شك وليس كذلك من بعدهم لأنه حدث فيمن بعدهم من لا يقول بخبر الواحد الثقة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا نقطع عليهم بطاعة ما حكم به صلى الله عليه و سلم بخلاف الصحابة الذين من مات منهم فهو داخل في الإجماع بهذه الجملة
فعارضه المخالف فقال إن الأمر وإن كان كذلك فمع ذلك فقد كان يمكن أن يخالف الوحي متأولا باجتهاده كما فعل عمر وخالد وأبو السنابل وغيرهم فإن لم يعتد هذا خلافا لأنه وهم من صاحبه فلا يعتد بخلاف أحد من أهل الإسلام للنص إذا خالفه متأولا باجتهاده لأن كل مسلم كان أو يكون فإنه مسلم لما قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم وحكم به وإن خالف بعد ذلك متأولا باجتهاده مخطئا قاصدا إلى الخير في تقديره فقد صار على هذا القول كل حكم إجماعا وبطل الاختلاف
قال أبو محمد وهذا اعتراض غير صحيح ولا يمنع مما أوجبه أبو سليمان من أن (4/540)
من بعد الصحابة إنما هم بعض المؤمنين لا كلهم لأن كل حكم نزل من الله تعالى بعد موت من مات من الصحابة رضي الله عنهم فلم يكلفوا قط ألا يخالفوا ذلك الحكم لأنه لم يبلغهم وإنما يلزمهم الحكم بعد بلوغه
قال عز و جل { قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون } وإنما كان يراعي إجماعهم عليه أو خلافهم له لو بلغهم وليس من بعدهم إذا بلغ الحكم كذلك بل إن اتبعوه لقد أجمعهم عليه ومن خالفه منهم مجتهدا فقد وجب الاختلاف في ذلك الحكم
وأما قوله إن عدد الصحابة رضي الله عنهم كان محصورا ممكنا جمعه وممكنا ضبط أقوالهم وليس كذلك من بعدهم فإنما كان هذا إذا كانوا كلهم بحضرة رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل تفرقهم في البلاد وأما بعد تفرقهم فالحال في تعذر حصر أقوالهم كالحال فيمن بعدهم سواء ولا فرق هذا أمر يعرف بالمشاهدة والضرورة
قال أبو محمد وأما من قال إن إجماع أهل كل عصر فهو إجماع كل صحيح فقول الباطل لما ذكرنا من أنهم بعض المسلمين لا كلهم لكنه حق لما ذكرنا قبل من قول رسول الله صلى الله عليه و سلم إنه لا تزال طائفة من أمتي على الحق إلى أن يأتي أمر الله
قال أبو محمد ونحن إن شاء الله مبينون كيفية الإجماع بيانا ظاهرا يشهد له الحس والضرورة وبالله تعالى التوفيق
فنقول إن الإجماع الذي هو الإجماع المتيقن ولا إجماع غيره لا يصح تفسيره ولا ادعاؤه بالدعوى لكن ينقسم قسمين أحدهما كل ما لا يشك فيه أحد من أهل الإسلام في أن من لم يقل به فليس مسلما كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وكوجوب الصلوات الخمس وكصوم شهر رمضان وكتحريم الميتة والدم والخنزير والإقرار بالقرآن وجملة الزكاة فهذه أمور من بلغته فلم يقر بها فليس مسلما فإذا ذلك كذلك فكل من قال بها فهو مسلم فقد صح أنها إجماع من جميع أهل الإسلام
والقسم الثاني شيء شهده جميع الصحابة رضي الله عنهم من فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم أو تيقن أنه عرفه كل من غاب عنه صلى الله عليه و سلم منهم كفعله في خيبر إذ أعطاها يهود بنصف ما يخرج منها من زرع أو تمر
يخرجهم المسلمون إذا شاؤوا
فهذا لا شك عند كل أحد في أنه لم يبق مسلم في المدينة إلا شهد الأمر أو (4/541)
وصل إليه يقع ذلك الجماعة من النساء والصبيان الضعفاء
ولم يبق بمكة والبلاد النائية مسلم إلا عرفه وسر به
على أن هذا القسم من الإجماع قد خالفه قوم بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم وهما منهم وقصدا إلى الخير وخطأ باجتهادهم فهذان قسمان للإجماع ولا سبيل إلى أن يكون الإجماع خارجا عنهما ولا أن يعرف إجماع بغير نقل صحيح إليهما
ولا يمكن أحدا إنكارهما وما عداهما فدعوى كاذبة وبالله تعالى ومن ادعى أنه يعرف إجماعا خارجا من هذين النوعين
فقد كذب على جميع أهل الإسلام ونعوذ بالله العظيم من مثل هذا
قال أبو محمد نا محمد بن سعيد بن عمر بن نبات نا محمد بن أحمد بن مفرج نا ابن الورد نا أحمد بن حماد زغبة نا يحيى بن بكير نا الليث بن سعد حدثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب قال أخبرني أنس بن مالك أنه سمع عمر بن الخطاب الغد حين بايع المسلمون أبا بكر في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد استوى أبو بكر على المنبر ثم استوى يعني عمر فتشهد قبل أبي بكر فقال أما بعد فإني قلت لكم أمس مقالة وإنها لم تكن كما قلت وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب أنزله الله تعالى ولا في عهد عهده إلي رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يدبرنا فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا بما هدي له رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال أبو محمد فهذا عمر رضي الله عنه على المنبر بحضرة جميع الصحابة رضي الله عنهم يعلن ويعترف بأنه يقول القول لم يجده في قرآن ولا في سنة وأنه ليس كما قال
ولا ينكر ذلك أحد من الصحابة ويأمر باتباع القرآن ولا يخالفه في ذلك أحد منهم فصح أن قولنا بألا يتبع ما روي عن أحد من الصحابة إلا أن يوجد في قرآن أو سنة هو إجماع الصحابة الصحيح وأن وجوب اتباع النصوص هو الإجماع الصحيح وهو قولنا والحمد لله رب العالمين وأن من خالف هذين القولين فقد خالف الإجماع الصحيح
وكذلك من قلد إنسانا بعينه في جميع أقواله أو جهل وكده الاحتجاج بجميع (4/542)
أقوال إنسان بعينه كما فعل الحنفيون والمالكيون والشافعيون خلاف متيقن لجميع عصر الصحابة ولجميع عصر التابعين ولجميع عصر تابعي التابعين أولهم عن آخرهم فنحن ولله الحمد المتبعون للإجماع وهم المخالفون للإجماع المتيقن نسأل الله تعالى أن يفيء بهم إلى الهدى وأن يثبتنا عليه
فصل في من قال إن الإجماع لا يجوز لأحد خلافه
وأما من قال إن الإجماع لا يجوز لأحد خلافه فقول صحيح
وضعوه موضع تلبيس وأخرجوه مخرج تدليس وصارت كلمة حق أريد بها باطل وذلك أنهم أوهموا أن ما لا إجماع فيه فإن الاختلاف فيه سائغ جائز
قال أبو محمد وهذا باطل بل كل ما أجمع عليه أو اختلف فيه فهما سواء في هذا الباب فهلا يحل لأحد خلاف الحق أصلا سواء أجمع عليه أو اختلف فيه فإن قيل فهلا عذرتم من خالف الإجماع كما عذرتم من خالف فيم فيه خلاف قلنا كلا لعمري ما فعلنا شيئا مما تقولون ولا فرق عندنا فيما نسبتم إلينا الفرق بينه بل قولنا الذي ندين الله تعالى به هو أنه لا حق في الدين فيما جاء به كلام الله تعالى في القرآن أو بيان رسول الله صلى الله عليه و سلم للوحي المنزل إليه وأنه لا يحل لأحد خلاف شيء من ذلك فمن جهل وأخطأ قاصدا إلى الخير لم يتبين له الحق ولا فهمه فخالف شيئا من ذلك فسواء أجمع عليه أو اختلف فيه هو مخطىء معذور مأجور مرة كمن أسلم ولم يبلغه فرض الصلاة أو كمن أخطأ في القرآن الذي لا إجماع كالإجماع عليه فأسقط آية أو بدل كلمة أو زادها غير عامد لكنه مقدر أنه كذلك فهذا لا إثم عليه ولا حرج
وهكذا في كل شيء ومن عمد فخالف ما صح عن النبي صلى الله عليه و سلم غير مسلم بقلبه أو بلسانه أنه كحكمه عليه السلام فهو كافر سواء كان فيما أجمع عليه أو فيما اختلف فيه قال تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } (4/543)
وإن خالف ما صح عنده من ذلك بعلمه وسلم له بقلبه ولسانه فهو مؤمن فاسق كالزاني وشارب الخمر وسائر العصاة سواء كان مما أجمع عليه أو مما اختلف فيه
فهذه الحقائق التي لا يقدر أحد على معارضتها لا الأقوال المموهة وبالله تعالى التوفيق
فصل في من قال بمراعاة انقراض العصر في الإجماع
وأما من قال بمراعاة انقراض العصر في الإجماع فمن أحسن قول قيل لأن عصر الصحابة رضي الله عنهم اتصل مائة عام وثلاثة أعوام لأن سمية أم عمار رضي الله عنها ماتت في أول الإسلام ثم لم يزالوا يموت منهم من بلغ أجله كأبي أمامة وخديجة وعثمان بن مظعون وقتلى بدر وأحد وأهل البعوث عاما عاما
ومن مات في خلال ذلك إلى أن مات أنس سنة إحدى وتسعين من الهجرة وكان عصر التابعين مداخلا لعصر الصحابة رضي الله عنهم لأنه لما أسلم الاثنا عشر رجلا من الأنصار رضي الله عنهم قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر كاملة لأنهم أسلموا في ذي الحجة في أيام الحج وحملوا مع أنفسهم مصعب بن عمير رضي الله عنه معلما لهم القرآن والدين وبقوا كذلك تمام عام ثم حج منهم سبعون مسلما وثلاث نسوة مسلمات كلهم يعرف اسمه وحسبه وهم أهل بيعة العقبة وتركوا بالمدينة إسلاما كثيرا فاشيا يتجاوز المائتين من الرجال والنساء ثم هاجر صلى الله عليه و سلم في ربيع الأول
فلا شك في أنه قد مات في تلك الخمسة عشر شهرا منهم موتى من نساء ورجال لأنهم أعداد عظيمة وكلهم من جملة التابعين وهم الجمهور إلا من شاهد منهم النبي صلى الله عليه و سلم وهم الأقل
وهكذا كل مسلم ممن أسلم ولم يلق النبي صلى الله عليه و سلم من جميع جزيرة العرب كبلاد اليمن والبحرين وعمان والطائف وبلاد مصر وقضاعة وسائر ربيعة وجبلي طيىء والنجاشي
فكل من لم يلق منهم النبي صلى الله عليه و سلم فهو من التابعين فلم يزل التابعون يموت منهم (4/544)
الواحد والاثنان والعشرات والمئون والآلاف من قبل الهجرة بسنة وشهرين إلى أن مات آخرهم في حدود ثمانين ومائة من الهجرة كخلف بن خليفة الذي رأى عمرو بن حريث وكمن ذكر عنه أنه رأى أنس بن مالك رضي الله عنه فمن هذا الواهي دماغه الذي يتعاطى مراعاة انقراض أهل عصر مقدار مائة عام وثلاثة أعوام ثم عصر آخر مقدار مائة سنة وثمانين سنة ويضبط أنفاسهم وإجماعهم هل اختلفوا بعد ذلك أم لا فكيف أن يوجب ذلك على الناس لا سيما وأهل ذينك العصرين متداخلان مضى كثير من أهل العصر الثاني قبل انقراض العصر الأول بدهر طويل أكثر من مائة عام وقد أفتى جمهورهم من الصحابة كعلقمة ومسروق وشريح وسليمان وربيعة وغيرهم ماتوا في عصر الصحابة
وهكذا تتداخل الأعصار إلى يوم القيامة
وقد اعترض بعضهم في هذا بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم خيركم القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فقلت بين الأمرين فرق كما بين النور والظلمة لأن الذي تباينت به الأعصار المذكورة هو شفوف في الفضل لا يلحقه الآخرون معروف لمن تأخر من قرن الصحابة على من تقدم من قرن التابعين
وليس كذلك جواز الفتيا لأنه إن لم تجز الفتيا لتابع حتى ينقرض عصر الصحابة لم تجز فتيا من ذكرنا ممن مات من التابعين في عصر الصحابة وهذا باطل أو يقولون إنه يراعي انقراض عصر التابعين مع عصر الصحابة معا ففي هذا مراعاة كل عصر إلى يوم القيامة مع عصر الصحابة لتداخل الأعصار وهذا محال والذي يدخل هذا القول من الجنون أكثر من هذا لأنه يجب على قولهم أنه إذا لم يبق من الصحابة إلا أنس وحده فإنه كان له ولغيره من التابعين أن يرجعوا عما أجمعوا عليه قالها أنس
انسد عليهم هذا الباب وألقيت المعلقة فحرم عليهم من الرجوع ما كان مباحا لهم قبيل ذلك وكفى بهذا جنونا
وليت شعري متى يمكنه التطوف عليهم في آفاقهم بل ألا يزايلهم إلى أن يموتوا ومتى جمعوا له في صعيد واحد ما في الرعونة أكثر من هذا ولا في الهزل والتدين بالباطل ما يفوق هذا ونعوذ بالله العظيم من الضلال (4/545)
فصل في ما إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة
ما وأما من قال إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما فقد ثبت الاختلاف ولا ينعقد في تلك المسألة إجماع أبدا فإنه كلام فاسد لأن الاختلاف لا حكم له إلا الإنكار له والمنع منه وإيجاب القول على كل أحد بما أمر الله تعالى به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم فقط ولا مزيد فالاختلاف لا يحل أن يثبت ولا يسع أحدا خلاف الحق أصلا لكن من خالفه جاهلا متأولا فهو مخطىء معذور مأجور أجرا واحدا كما ذكرنا آنفا
وفرض على كل من بلغه الحق أن يرجع إليه فإن عانده بقلبه أو بلسانه عالما بالحق فهو كافر وإن عانده بفعله عالما ففاسق كما قدمنا وبالله تعالى التوفيق
فصل في اختلاف أهل عصر ما ثم إجماع أهل عصر ثان
وأما من قال إذا اختلف أهل عصر ما ثم أجمع أهل عصر ثان على أحد الأقوال التي اختلف عليه أهل الماضي فليس لأحد خلاف ما أجمع عليه أهل العصر الثاني فقد قلنا في تعذر علم هذا بما قلنا آنفا وسنزيد في ذلك بيانا لا يحيل إن شاء الله تعالى عن ذي لب وقد قلنا إنه لا معنى لمراعاة ما أجمع عليه مما اختلف فيه إنما هو حق أو خطأ والحق في الدين ليس إلا في كلام الله تعالى أو بيان رسول الله صلى الله عليه و سلم الثابت عنه بنقل الثقات مسندا فقط
وهذا لا يسع أحدا خلافه ولا يقويه ولا يزيده رتبة في أنه حق أن يجمع عليه ولا يوهنه أن يختلف فيه والخطأ هو خلاف النص ولا يحل لأحد أن يخطىء لأنه يعذر بتأوله وجهله كما قدمنا أو يكفر بعناده أو بقلبه أو بلسانه أو يفسق بمخالفته بعمله فقط وبالله تعالى التوفيق
ولا سبيل إلى إجماع أهل عصر ما على خلاف نص ثابت لأن خلاف النص باطل ولا يجوز إجماع الأمة على باطل لقول النبي صلى الله عليه و سلم لا تزال طائفة من أمتي على الحق فصح أن هذا القول الذي صدرنا في الباب فاسد (4/546)
فصل في من قال إن افترق أهل عصر على أقوال كثيرة
وأما قول من قال إن افترق أهل العصر على أقوال كثيرة جدا أو أكثر من واحد فإن ما لم يقولوه قد صح الإجماع منهم على تركه فقد قلنا في تعذر معرفة ذلك وحصره ونقول أيضا إن شاء الله تعالى وقد قلنا إنه لا يمكن مع ذلك أن يجمع أهل عصر طرفة عين فما فوقها خطأ على خطأ لإخبار النبي صلى الله عليه و سلم بأنه لا تزال طائفة من أمتي على الحق فهذه الأقوال كلها متخاذلة غير موضوعة وضعا صحيحا خارجة عن الإمكان إلى الامتناع وما كان هكذا فلا وجه للاشتغال به
قال أبو محمد فموهوا ههنا بأن قالوا قد صح الإجماع من الصحابة رضي الله عنهم بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم على المنع من بيع أمهات الأولاد وكان بيعهم على عهده صلى الله عليه و سلم حلالا وقد صح إجماعهم على جلد شارب الخمر ثمانين جلدة ولم يكن ذلك على عهده صلى الله عليه و سلم وقد صح إجماعهم على إسقاط ستة أحرف من جملة الأحرف السبعة التي كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم
قلنا كذبتم وأفكتم أما جلد شارب الخمر ثمانين فيعيذ الله تعالى عمر من أن يشرع حدا لم يأت به وحي من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم
ونحن نسألكم ما الفرق بين ما تدعونه بالباطل من إحداث حد لم يشرعه رسول الله صلى الله عليه و سلم في الخمر وبين إثبات حد في اللياطة بقطع الذكر أو في الزنى بجلد مائتين أو بقطع يد الغاصب أو بقلع أضراس آكل الخنزير وما الفرق بين هذا كله وبين إسقاط صلاة وزيادة أخرى وإبطال صوم رمضان وإحداث شهر آخر ومن أجاز هنا فقد خرج عن الإسلام وكفر كفرا صراحا ولحق بالباطنية وغلاة الروافض واليهود والنصارى الذين بدلوا دينهم وإنما جلد عمر الأربعين الزائدة تعزيرا كما صح عنه أنه كان إذا أتي بمن تتابع في الخمر جلده ثمانين وإذا أتي بمن لم يكن له منه إلا الوهلة ونحوها جلده أربعين
ويا معشر من لا يستحي من الكذب أين الإجماع الذي تدعونه وقد صح أن (4/547)
عثمان وعليا وعبد الله بن جعفر بحضرة الصحابة جلدوا في الخمر أربعين بعد موت عمر
كما حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا إسحاق بن راهويه حدثنا يحيى بن حماد ثنا عبد العزيز بن المختار ثنا عبد الله بن الفيروز الداناج مولى ابن عامر ثنا حصين بن المنذر أبو ساسان قال شهدت عثمان أتى الوليد يشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر والثاني أنه قاءها قال عثمان يا علي قم فاجلده فقال علي يا حسن قم فاجلده فقال الحسن ول حارها من تولى قارها فكأنه وجد عليه فقال علي يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين فقال أمسك جلد رسول الله صلى الله عليه و سلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة
فإن كان ضرب الثمانين إجماعا فعثمان وعلي وأبي جعفر والحسن ومن حضرهم خالفوا الإجماع ومخالف الإجماع عندهم كافر
فانظروا فيما تقحمهم آراؤهم
وحاشا للأئمة الصحابة رضي الله عنهم من الكفر ومن مخالفة الحق ومن إحداث شرع لم يأذن به الله تعالى
فإن قيل فما معنى قول علي وكل سنة
قلبا
صدق لأن التعزير سنة فإن قيل إن التعزير عندكم لا يتجاوز عشر جلدات
قلنا يمكن أن يجلده عمر لكل كأس عشر جلدات تعزيرا فهذا جائز وقد تعلل في هذا الخبر بعض من لا يبالي بما أطلق به لسانه في نصر ضلاله فإن ذكر ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني حدثنا أبو إسحاق البلخي ثنا الفربري ثنا عبد الله بن عبد الوهاب ثنا خالد بن الحارث حدثنا سفيان الثوري عن أبي حصين أنه حدث قال سمعت ابن سعد النخعي قال سمعت علي بن أبي طالب قال ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأحد نفسي إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يسنه (4/548)
قال أبو محمد فاعجبوا لعمى هذا الإنسان يعلل حديثا صحيحا لا مغمز فيه بحديث مملوء عللا أولها أن راويه مختلف فيه مرة عمير بن سعيد ومرة عمير بن سعد ومرة نخعي ومرة حنفي
ثم الطامة الكبرى كيف يجعل هذا المفتون حجة شيئا يخبر علي عن نفسه أنه يجد في نفسه ما لا يجد من سائر الحدود فإن كان حقا وسنة فلم يجد في نفسه أذى حتى يؤدي ديته إن مات من ذلك الجلد وهلا وجد في نفسه ممن مات في سائر الحدود وفي هذا كفاية ثم معاذ الله أن يثبت علي في الدين ما لم يسنه عليه السلام ثم لو صح لكان وجهه بينا وهو أنه إنما يجد في الأربعين الزائدة التي جلدوها تعزيرا
ثم نقول لهم لو ادعى عليكم ههنا خلاف الإجماع لصدق مدعي ذلك عليكم لأنكم تقرون أن عمر أول من جلد في الخمر ثمانين وقد كان استقر الإجماع قبله على أربعين فقد أقررتم على أنفسكم بخلاف الإجماع ونسبتم عمر إلى خلاف الإجماع وقد أعاذه الله تعالى من ذلك وأما أنتم فأنتم أعلم بأنفسكم وإقراركم على أنفسكم لازم لكم فإن لجأتم إلى مراعة انقراض العصر لزمكم مثله في جلد عثمان وعلي في الخمر أربعين بعدهم ولا فرق
وأما أمهات الأولاد فكذبه في ذلك أفحش من كل كذب
لأن عبد الله بن الربيع قال ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود السجستاني ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر فلما كان عمر نهانا فانتهينا فهذا عمل الناس أيام رسول الله صلى الله عليه و سلم وأيام أبي بكر
أنبأنا محمد بن سعيد بن ثابت أنبأنا أحمد بن عون الله أنبأنا قاسم بن أصبغ أنبأنا محمد بن عبد السلام الخشني أنبأنا محمد بن بشار أنبأنا محمد بن جعفر غندر أنبأنا محمد بن سعيد بن الحكم بن عتيبة عن زيد بن وهب
قال انطلقت أنا ورجل إلى عبد الله بن مسعود نسأله عن أم الولد فإذا هو يصلي ورجلان قد اكتنفاه فلما صلى سألاه فقال لأحدهما من أقرأك قال اقرأنيها أبو عبدة أو أبو الحكم المزني (4/549)
وقال الآخر أقرأنيها عمر بن الخطاب فبكى ابن مسعود حتى بل الحصى بدموعه وقال اقرأ كما أقرأك عمر فإنه كان للإسلام حصنا حصينا يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه فلما أصيب عمر انثلم الحصن فخرج الناس من الإسلام وقال وسألته عن أم الولد فقال تعتق من نصيب ولدها
نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا سفيان بن عيينة عن الأعمش عن زيد بن وهب
قال مات رجل منا وترك أم ولد فأراد الوليد بن عقبة بيعها في دينه فأتينا ابن مسعود فوجدناه يصلي فانتظرناه حتى فرغ من صلاته فذكرنا ذلك له فقال إن كنتم لا بد فاجعلوها في نصيب ولدها
وبه إلى عبد الرزاق عن ابن جريج أنه حدثه قال أخبرنا عطاء بن أبي رباح أن ابن الزبير أقام أم حبي أم ولد محمد بن صهيب في مال ابنها وجعلها من نصيبه ويسمى ابنها خالدا
قال عطاء وقال عباس لا تعتق أم الولد حتى يلفظ سيدها بعتقها
نا أحمد بن محمد الطلمنكي نا محمد بن أحمد بن مفرج نا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا محمد بن علي بن زيد نا سعيد بن منصور نا هشيم أخبرنا مغيرة بن مقسم عن الشعبي عن عبيدة السلماني أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب أعتقا أمهات الأولاد قال علي بن أبي طالب فقضى بذلك عمر حتى أصيب ثم قضى بذلك عثمان حتى أصيب فلما وليت رأيت أن أرقهن
قال أبو محمد وهذا قول زيد بن ثابت وغيره فيقال لهؤلاء الذين قد أعمى الله تعالى أبصارهم أتقرون أن عمر هو أول من منع من بيعهن فمن قولهم نعم ويدعونه إجماعا من كل من معه من الصحابة رضي الله عنهم فيقال لهم قد أقررتم أن عمر قد خالف الإجماع بهذا الفعل إذا قلتم إن المسلمين كانوا على بيعهن حتى نهاهم عمر فهل في خلاف الإجماع أكثر من هذا أو كذبتم إذ قلتم إن عمر أول من حرم بيعهم لا بد من إحداهما
وقد أعاذ الله عمر من خلاف الإجماع وأما أنتم فأعلم بأنفسكم وإقراركم بذلك على أنفسكم لازم لكم ثم لو صح لكم أن عمر رضي الله عنه وكل من أجمعوا على ذلك (4/550)
فصار إجماعا للزمكم أن ابن مسعود وعلي بن أبي طالب وابن عباس وابن الزبير وزيد بن ثابت خالفوا الإجماع وخلاف الإجماع عندكم كفر فانظروا أي مضايق تقتحمون ومن أي أحواف تتساقطون ولا بد من هذا أو من كذبكم في دعوى الإجماع على حكم عمر بذلك لا مخرج من أحدهما
وأما نحن فدعوى الإجماع عندنا في مثل هذا إفك وكذب وجرأة على التجليح بالكذب على جميع أهل الإسلام ولا ينكر الوهم بالاجتهاد والخطأ مع قصد إلى طلب الحق والخير على أحد بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا نقول في شيء من الدين إلا بنص قرآن أو سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا نبالي من خالف في ذلك ولا نتكثر بمن ولولا وما نا أحمد بن قاسم قال نا أبو قاسم بن محمد بن قاسم نا جدي قاسم بن أصبغ نا مصعب بن محمد نا عبيد الله بن عمر الرقي عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال لما ولدت مارية إبراهيم قال النبي صلى الله عليه و سلم أعتقها ولدها مع دلائل من نصوص أخرى ثابتة قد ذكرناها في كتاب الإيصال
ما قلنا إلا ببيع أمهات الأولاد لكن السنة الثابتة لا يحل خلافها وما نبالي خلاف ابن عباس لروايته فقد يخالفها متأولا أنه خصوص أو قد ينسى ما روي وما كلفنا الله تعالى قط أن نراعي أقوال القائلين إنما أمرنا بقبول رواية النافرين ليتفقهوا في الدين المنذرين لمن خلفهم المؤمنين مما بلغهم وصح عنهم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
وبالله تعالى التوفيق
وأما دعواهم أن عثمان رضي الله عنه أسقط ستة أحرف من جملة الأحرف السبعة المنزل بها القرآن من عند الله عز و جل فعظيمة من عظائم الإفك والكذب ويعيذ الله تعالى عثمان رضي الله عنه من الردة بعد الإسلام
ولقد أنكر أهل التعسف على عثمان رضي الله عنه أقل من هذا مما لا نكره فيه أصلا فكيف لو ظفروا له بمثل هذه العظيمة ومعاذ الله من ذلك وسواء عند كل ذي عقل إسقاط قراءة أنزلها الله تعالى أو إسقاط آية أنزلها الله تعالى ولا فرق وتالله إن من أجاز هذا غافلا ثم وقف عليه وعلى برهان المنع من ذلك وأصر فإنه خروج عن الإسلام لا شك فيه لأنه تكذيب لله تعالى في قوله الصادق لنا { إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون } (4/551)
وفي قوله الصادق { إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه } فالكل مأمورون باتباع قرآنه الذي أنزله الله تعالى عليه وجمعه
فمن أجاز خلاف ذلك فقد أجاز خلاف الله تعالى وهذه ردة صحيحة لا مرية فيها وما رامت غلاة الروافض وأهل الإلحاد الكائدون للإسلام إلا بعض هذا
وهذه الآية تبين ضرورة أن جميع القرآن كما هو من ترتيب حروفه وكلماته وآياته وسوره حتى جمع كما هو فإنه من فعل الله عز و جل وتوليه جمعه أوحى به إلى نبيه عليه السلام وبينه عليه السلام للناس فلا يسع أحدا تقديم مؤخر من ذلك ولا تأخير مقدم أصلا
ونحن نبين فعل عثمان رضي الله عنه ذلك بيانا لا يخفى على مؤمن ولا على كافر وهو أنه رضي الله عنه علم أن الوهم لا يعزى منه بشر وأن في الناس منافقين يظهرون الإسلام ويكنون الكفر هذا أمر يعلم وجوده في العالم ضرورة فجمع من حضره من الصحابة رضي الله عنهم على نسخ مصاحف مصححة كسائر مصاحف المسلمين ولا فرق
إلا أنها نسخت بحضرة الجماعة فقط
ثم بعث إلى كل مصر مصحفا يكون عندهم فإن وهم واهم في نسخ مصحف وتعمد ملحد تبديل كلمة في المصحف أو في القراءة رجع إلى المصحف المشهور المتفق على نقله ونسخه
فعلم أن الذي فيه هو الحق وكيف كان يقدر عثمان على ما ظنه أهل الجهل والإسلام قد انتشر من خراسان إلى برقة ومن اليمن إلى أذربيجان وعند المسلمين أزيد من مائة ألف مصحف وليست قرية ولا حلة ولا مدينة إلا والمعلمون للقرآن موجودون فيها يعلمونه من تعلمه من صبي أو امرأة ويؤمهم به في الصلوات في المساجد
وقد حدثني يونس بن عبد الله بن مغيث قال أدركت بقرطبة مقرئا يعرف بالقرشي أحد مقرئين ثلاثة للعامة كانوا فيها وكان هذا القرشي لا يحسن النحو فقرأ عليه قارىء يوما في سورة ق { وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد } فرده عليه القرشي تحيد التنوين فراجعه القارىء وكان يحسن النحو (4/552)
فلج المقرىء وثبت على التنوين وانتشر ذلك الخبر إلى أن بلغ إلى يحيى بن مجاهد الفزاري الألبيري وكان منقطع القرين في الزهد والخير والعقل وكان صديقا لهذا المقرىء فمضى إليه فدخل عليه وسلم عليه وسأله عن حاله
ثم قال له إنه بعد عهدي بقراءة القرآن على مقرىء فأردت تجديد ذلك عليك فسارع المقرىء إلى ذلك فقال له الفزاري أريد أن أبتدىء بالمفصل فهو الذي يتردد في الصلوات فقال له المقرىء ما شئت فبدأ عليه من أول المفصل فلما بلغ سورة ق وبلغ الآية المذكورة ردها عليه المقرىء بالتنوين فقال له يحيى بن مجاهد لا تفعل ما هي إلا غير منوتة بلا شك فلج المقرىء
فلما رأى يحيى بن مجاهد لجاجه قال له يا أخي إنه لم يحملني على القراءة عليك إلا لترجع إلى الحق في لطف وهذه عظيمة أوقعك فيها قلة علمك بالنحو فإن الأفعال لا يدخلها تنوين البتة فتحير المقرىء إلا أنه لم يقنع بهذا فقال يحيى بن مجاهد بيني وبينك المصاحف فبعثوا فأحضرت جملة من مصاحف الجيران فوجدوها مشكولة بلا تنوين فرجع المقرىء إلى الحق
وحدثني حمام بن أحمد بن حمام قال حدثني عبد الله بن محمد بن علي عن اللخمي الباجي قال نا محمد بن لبانة قال أدركت محمد بن يوسف بن مطروح الأعرج يتولى صلاة الجمعة في جامع قرطبة وكان عديم الورع بعيدا عن الصلاح قال فخطبنا يوم الجمعة فتلا في خطبته { لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بلمؤمنين رءوف رحيم } فقرأها بنونين عننتم
قال فلما انصرف أتيناه وكنا نأخذ عنه رأي مالك فذكرنا له قراءته للآية وأنكرناها فقال نعم هكذا أقرأناها وهكذا هي فلج فحاكمناه إلى المصحف فقام ليخرج المصحف ففتحه في بيته وتأمله فلما وجد الآية بخلاف ما قرأها عليه أنف الفاسق من رجوعه إلى الحق فأخذ القلم وألحق ضرسا زائدا قال محمد بن عمر فوالله لقد خرج إلينا والنون لم يتم بعد جفوف مدادها (4/553)
قال أبو محمد فالأول واهم مغفل والثاني فاسق خبيث فلولا كثرة المصاحف بأيدي الناس لتشكك كثير من الناس في مثل هذا إذا شاهدوه ممن يظنون به خيرا أو علما ولخفي الخطأ والتعمد
فمثل هذا تخويف عثمان رضي الله عنه ولقد عظمت منفعة فعله ذلك أحسن الله جزاءه
وأما الأحرف السبعة فباقية كما كانت إلى يوم القيامة مثبوتة في القراءات المشهورة من المشرق إلى المغرب ومن الجنوب إلى الشمال فما بين ذلك لأنها من الذكر المنزل الذي تكفل الله تعالى بحفظه وضمان الله تعالى لا يخيس أصلا وكفالته تعالى لا يمكن أن تضيع
ومن البرهان على كذب أهل الجهل وأهل الإفك على عثمان رضي الله عنه في هذا أنبأناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني نا إبراهيم بن أحمد البلخي نا الفربري نا البخاري نا أمية هو ابن بسطام نا يزيد بن ربيع عن حبيب بن الشهيد عن ابن مليكة عن ابن الزبير قال قلت لعثمان { ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بلمعروف ولله بما تعملون خبير } قال قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها قال يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه
وبه إلى البخاري نا موسى بن إسماعيل نا إبراهيم حدثنا أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان بن عفان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق
فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى
فأرسل عثمان إلى حفصة أم المؤمنين أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بهما إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف
وقال عثمان للرهط القريشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من (4/554)
القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق
فهذان الخبران عن عثمان إذا جمعا صححا قولنا وهو أنه لم يحل شيئا من القرآن عن مكانه الذي أنزله الله تعالى عليه وأنه أحرق ما سوى ذلك مما وهم فيه واهم أو تعمد تبديله متعمد
نا عبد الله بن الربيع التميمي نا عمر بن عبد الملك الخولاني نا أبو سعيد الأعرابي العزي نا سليمان بن الأشعث نا محمد بن المثنى نا محمد بن جعفر نا شعبة عن الحكم عن مجاهد عن أبي ليلى عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه و سلم كان عند أضاة بني غفار فأتاه جبريل عليه السلام فقال له إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على حرف
فقال أسأل الله معافاته ومغفرته إن أمتي لا تطيق على ذلك ثم أتاه الثانية فذكر نحو هذا حتى بلغ سبعة أحرف فقال إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على سبعة أحرف قرؤوا عليه فقد أصابوا
وبه إلى سليمان بن الأشعث نا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم أقرأنيها فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى انصرف ثم لففته بردائه فجئت به رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم اقرأ القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هكذا أنزلت ثم قال لي اقرأ فقرأت فقال هكذا نزلت ثم قال صلى الله عليه و سلم إن القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه
قال أبو محمد فحرام على كل أحد أن يظن أن شيئا أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أمته لا تطيق ذلك أتى عثمان فحمل الناس عليه فأطاقوه ومن أجاز هذا فقد كذب رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله لله تعالى إن أمته لا تطيق ذلك ولم ينكر الله تعالى عليه ذلك ولا جبريل عليه السلام وقال هؤلاء المجرمون إنهم يطيقون ذلك وقد أطاقوه فيا لله ويا للمسلمين أليس هذا اعتراضا مجردا على الله عز و جل مع التكذيب لرسوله صلى الله عليه و سلم فهل الكفر إلا هذا نعوذ بالله العظيم أن يمر بأوهامنا فكيف أن نعتقده (4/555)
وأيضا فإن الله تعالى آتانا تلك الأحرف فضيلة لنا فيقول من لا يحصل ما يقول إن تلك الفضيلة بطلت فالبلية إذا قد نزلت حاشا لله من هذا
قال أبو محمد ولقد وقفت على هذا مكي بن أبي طالب المقرىء رحمه الله فمرة سلك هذه السبيل الفاسدة فلما وقفته على ما فيها رجع ومرة قال بالحق في ذلك كما تقول ومرة قال لي ما كان من الأحرف السبعة موافقا لخط المصحف فهو باق وما كان منها مخالفا لخط المصحف فقد رفع فقلت له إن البلية التي فررت منها في رفع السبعة الأحرف باقية بحسبها في إجازتك رفع حركة واحدة من حركات جميع الأحرف السبعة أكثر من ذلك فمن أين وجب أن يراعى خط المصحف وليس هو من تعليم رسول الله لأنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب واتباع عمل من دونه من غير توقيف منه عليه السلام لا حجة فيه ولا يجب قبوله وقد صححت القراءة من طريق أبي عمرو بن العلاء التميمي مسنده إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم { إن هذان لساحران } وهو خلاف خط المصحف وما أنكرها مسلم قط فاضطرب وتلجلج
قال أبو محمد وقد قال بعض من خالفنا في هذا إن الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا عربا يصعب على كل طائفة منهم القراءة بلغة غيرهم فلذلك فسح لهم في القراءة على أحرف شتى من بعدهم كذلك فقلنا كذب هؤلاء مرتين إحداهما على الله تعالى والثانية على جميع الناس كذبا مفضوحا جهارا لا يخفى على أحد
أما كذبهم على الله عز و جل فإخبارهم بأنه تعالى إنما جعله يقرأ على أحرف شتى لأجل صعوبة انتقال القبيلة إلى لغة غيرها فمن أخبرهم بها عن الله تعالى أنه من أجل ذلك حكم بما صح أنه تعالى حكم به وهل يستجيز مثل هذا ذو دين أو مسكة عقل وهل يعلم مراد الله تعالى في ذلك إلا بخبر وارد من عنده عز و جل اللهم عياذك من مثل هذا الترامي من حالق إلى المهالك
ومن أخبر عن مراد غيره بغير أن يطلعه ذلك المخبر عنه على ما في نفسه فهو كاذب بلا شك والكذب على الله تعالى أشد من الكذب على خلقه
وأما كذبهم على الناس فبالمشاهدة يدري كل أحد صعوبة القراءة على الأعجمي المسلم من الترك والفرس والروم والنبط والقبط والبربر والديلم والأكراد وسائر قبائل (4/556)
العجم بلغة العرب التي بها نزل القرآن أشد مراما من صعوبة قراءة اليماني على لغة المضري والربعي على لغة القرشي بلا شك وأن تعلم العربي للغة قبيلة من العرب غير قبيلته أمكن وأسهل من تعلم الأعجمي للعربية بلا شك والأمر الآن أشد مما كان حينئذ أضعافا مضاعفة فالحاجة إلى بقاء الأحرف الآن أشد منها حينئذ على قول المستسهلين للكذب في عللهم التي يستخرجونها نصرا لضلالهم ولتقليدهم من غلط قاصد إلى خلاف الحق ولاتباعهم وله عالم قد حدروا عنها ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق
وبرهان كذبهم في دعواهم المذكورة أنه لو كان ما قالوه حقا لم يكن لاقتضاء نزوله على سبعة أحرف معنى بل كان الحكم أن تطلق كل قبيلة على لغتها وبرهان آخر على كذبهم في ذلك أيضا أن المختلفين في الخبر المذكور الذي أوردناه آنفا أنهما قرآ سورة الفرقان بحرفين مختلفين كانا جميعا بني عم قرشيين من قريش البطاح من قبيلة واحدة جاران ساكنان في مدينة واحدة وهي مكة لغتهما واحدة وهما عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قريظ بن رزاح بن عدي بن كعب وهشام بن حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن كلاب بن مرة بن كعب ويجتمعان جميعا في كعب بن لؤي بين كل واحد منهما وبين كعب بن لؤي ثمانية آباء فقط فظهر كذب من ادعى أن اختلاف الأحرف إنما كان لاختلاف لغات قبائل العرب وأبى ربك إلا أن يحق الحق ويبطل الباطل ويظهر كذب الكاذب ونعوذ بالله العظيم من الضلال والعصبية للخطأ
قال أبو محمد وقال آخرون منهم الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها إنما هي وعد ووعيد وحكم وزادوا من هذا التقسيم حتى بلغوا سبعة معان
قال أبو محمد المقلدون كالغرقى فأي شيء وجدوه تعلقوا به
قال أبو محمد وكذب هذا القول أظهر من الشمس لأن خبر أبي الذي ذكرنا وخبر عمر الذي أوردناه شاهدان بكذبه مخبران بأن الأحرف إنما هي اختلاف ألفاظ القراءات لا تغير القرآن ولا يجوز أن يقال في هذه الأقسام التي ذكرنا أيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا وأيضا فإنهم ليسوا في تقسيمهم هذا بأولى من آخر (4/557)
اقتصر على مبادىء الكلام الأول فجعل القرآن ثلاثة أقسام فقط خبرا وتقديرا وأمرا بشرع وجعل الوعد والوعيد تحت قسم الخبر ولا هم أيضا بأولى من آخر قسم الأنواع التي في اشخاص المعاني فجعل القرآن أقساما كثيرة أكثر من عشرة فقال فرض وندب ومباح ومكروه وحرام ووعد ووعيد والخبر عن الأمم السالفة وخبر عما يأتي من القيامة والحساب وذكر الله تعالى وأسمائه وذكر النبوة ونحو هذا فظهر فساد هذا وأيضا فإن هذه الأقسام التي ذكروا هي في قراءة عمر كما هي في قراءة هشام بن حكيم ولا فرق فهذا بيان زائد في كذب هذا التقسيم
قال أبو محمد فإن ذكر ذاكر الرواية الثابتة بقراءات منكرة صححت عن طائفة من الصحابة رضي الله عنهم مثل ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه { وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد } ومثل ما صح عن عمر رضي الله عنه من قراءة { صراط لذين أنعمت عليهم غير لمغضوب عليهم ولا لضآلين } ومن أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يعد المعوذتين من القرآن وأن أبيا رضي الله عنه كان يعد القنوت من القرآن ونحو هذا
قلنا كل ذلك موقوف على من روى عنه شيء ليس منه عن النبي صلى الله عليه و سلم البتة ونحن لا ننكر على من دون رسول الله صلى الله عليه و سلم الخطأ فقد هتفنا به هتفا ولا حجة فيما روي عن أحد دونه عليه السلام ولم يكلفنا الله تعالى الطاعة له ولا أمرنا بالعمل به ولا تكفل بحفظه فالخطأ فيه واقع فيما يكون من الصاحب فمن دونه ممن روى عن الصاحب والتابع ولا معارضة لنا بشيء من ذلك وبالله تعالى التوفيق
وإنما تلزم هذه المعارضة من يقول بتقليد الصاحب على ما صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلى القرآن فهم الذين يلزمهم التخلص من هذه المذلة وأما نحن فلا والحمد لله رب العالمين إلا خبرا واحدا وهو الذي رويناه من طريق النخعي والشعبي كلاهما عن علقمة بن مسعود وأبي الدرداء كلاهما عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه أقرأهما { ولليل إذا يغشى ولنهار إذا تجلى وما خلق لذكر ولأنثى } (4/558)
قال أبو محمد وهذا خبر صحيح مسند عن النبي صلى الله عليه و سلم
قال أبو محمد إلا أنهما قراءة منسوخة لأن قراءة عاصم المشهورة المأثورة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم وقراءة ابن عامر مسندة إلى أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فيهما جميعا { وما خلق لذكر ولأنثى } فهي زيادة لا يجوز تركها وأنبأنا يونس بن عبد الله بن مغيث القاضي قال حدثنا يحيى بن مالك بن عابد الطرطوشي أخبرنا الحسن بن أحمد بن أبي خليفة أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي نا إبراهيم بن أبي داود نا حفص بن عمر الحوضي نا أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس بن مالك قال اختلفوا في القراءات على عهد عثمان بن عفان حتى اقتتل الغلمان والمعلمون فبلغ ذلك عثمان فقال عندي تكذبون به وتختلفون فيه فما تأبى عني كان أشد تكذيبا وأكثر لحنا يا صحابة محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس قال فكتبوا قال فحدثني أنهم كانوا إذا تراودوا في آية قالوا هذه أقرأها رسول الله صلى الله عليه و سلم فلانا فيرسل إليه وهو على ثلاثة من المدينة فيقول كيف أقرأك رسول الله صلى الله عليه و سلم فيقول كذا وكذا فيكتبونها وقد تركوا لها مكانا
قال أبو محمد فهذه صفة عمل عثمان رضي الله عنه بحضرة الصحابة رضي الله عنهم في نسخ المصاحف وحرق ما حرق منها مما غير عمدا وخطأ ومن العجب أن جمهرة من المعارضين لنا وهم المالكيون قد صح عن صاحبهم ما ناه المهلب بن أبي صفرة الأسدي التميمي قال ابن مناس نا ابن مسرور نا يحيى نا يونس بن عبد الأعلى نا ابن وهب حدثني ابن أنس قال أقرأ عبد الله بن مسعود رجلا { إن شجرة لزقوم طعام لأثيم } فجعل الرجل يقول طعام اليتيم فقال له ابن مسعود طعام الفاجر
قال ابن وهب قلت لمالك أترى أن يقرأ كذلك قال نعم أرى ذلك واسعا فقيل لمالك أفترى أن يقرأ بمثل ما قرأ عمر بن الخطاب فامضوا إلى ذكر الله قال (4/559)
مالك ذلك جائز قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرؤوا منه ما تيسر مثل تعلمون يعلمون قال مالك لا أرى في اختلافهم في مثل هذا بأسا ولقد كان الناس ولهم مصاحف والستة الذين أوصى لهم عمر بن الخطاب كانت لهم مصاحف
قال أبو محمد فكيف يقولون مثل هذا أيجيزون القراءة هكذا فلعمري لقد هلكوا وأهلكوا وأطلقوا كل بائقة في القرآن أو يمنعون من هذا فيخالفون صاحبهم في أعظم الأشياء وهذا إسناد عنه في غاية الصحة وهو مما أخطأ فيه مالك مما لم يتدبره لكن قاصدا إلى الخير ولو أن أمرا ثبت على هذا وجازه بعد التنبيه له على ما فيه وقيام حجة الله تعالى عليه في ورود القرآن بخلاف هذا لكان كافرا ونعوذ بالله من الضلال
قال أبو محمد فبطل ما قالوه في الإجماع بأوضع بيان والحمد لله رب العالمين
فصل فيمن قال ما لا يعرف فيه خلاف
فهو إجماع وبسط الكلام فيما هو إجماع وفيما ليس إجماعا قال أبو محمد قد ذكرنا قبل قسمي الإجماع الذي لا إجماع في العالم غيرهما أصلا وهما إما شيء لا يكون مسلما من لا يعتقده كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والبراءة من كل دين يخالف دين الإسلام كجملة القرآن وكالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان
فإنه لا يشك مؤمن ولا كافر في أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا الناس إلى هذه الشهادة وحكم باسم الإسلام وحكمه لمن أجابه إليها وحكم باسم الكفر وحكمه لمن لم يجبه إليه وأن أهل الإسلام بعده عليه السلام جروا على هذا إلى يومنا هذا
ولا يشك مؤمن ولا كافر في أنه صلى الله عليه و سلم صلى الصلوات الخمس بكل من حضره خمس مرات كل يوم وليلة وصلاها النساء وأهل العذر في البيوت كذلك وصلاها أهل كل محلة وأهل كل قرية وأهل كل محلة في كل مدينة فيها إسلام في كل يوم من عهده عليه السلام إلى يومنا هذا لا يختلفون في ذلك وكذلك الأذان والإقامة والغسل من الجنابة والوضوء (4/560)
ولا يشك مؤمن ولا كافر في أنه صلى الله عليه و سلم صام شهر رمضان الذي بين شوال وشعبان في كل عام وصامه كل مسلم بالغ حاضر من رجل أو امرأة معه وفي زمانه وبعده في كل مكان وفي كل عام إلى يومنا هذا ولا يشك مؤمن ولا كافر في أنه صلى الله عليه و سلم حج إلى مكة في ذي الحجة وحج معه من لا يحصي عددهم إلا خالقهم عز و جل ثم حج الناس إلى يومنا هذا كل عام إلى مكة في ذي الحجة
وهكذا جملة القرآن لا يشك مؤمن ولا كافر في أنه صلى الله عليه و سلم أتى به وذكر أن الله تعالى أوحاه إليه وكذلك تحريم الأم والابنة والجدة والخالة والعمة والأخت وبنت الأخت وبنت الأخ والخنزير والميتة وكثير سوى هذا
فقطع كل مؤمن وكافر أنه صلى الله عليه و سلم وقف عليه وعلمه المسلمين وعلمه المسلمون جيلا في كل زمان وكل مكان قطعا إلا من أفرط جهله ولم يبلغه ذلك من بدوي أو مجلوب من أهل الكفر
ولا يختلف في أنه إذا علمه فأجاب إليه فهو مسلم وإن لم يجب إليه فليس مسلما وأن في بعض ما جرى هذا المجرى أمورا حدث فيها خلاف بعد صحة الإجماع وتيقنه عليها كالخمر والجهاد وغير ذلك فإن بعض الناس رأى ألا يجاهد مع أئمة الجور
وهذا يعذر لجهله وخطأه ما لم تقم عليه الحجة فإن قامت عليه الحجة وتمادى على التدين بخلاف رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو كافر مشرك حلال الدم والمال لقوله تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }
فإن قيل فقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن فهلا أخرجتم بهذه الأشياء من الإيمان كما أخرجتم من الإيمان بوجود الحرج مما قضى صلى الله عليه و سلم وترك تحكيمه
قلنا لأنه صلى الله عليه و سلم أتى بالزاني والسارق والشارب فحكم فيهم بالحكم في المسلمين لا بحكم الكافر فخرجوا بذلك من الكفر وبقي من لم يأت بإخراجه عن الكفر على الكفر والخروج عن الإيمان كما ورد فيه النص فهذا أحد قسمي الإجماع (4/561)
والثاني شيء يوقن بالنقل المتصل الثابت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم علمه وفعله جميع من بحضرته ومن كان مستضعفا أو غائبا بغير حضرته كفتح خيبر وإعطائه إياها بعد قسمتها على المسلمين لليهود على أن يعملوها بأموالهم وأنفسهم ولهم نصف ما يخرج منها من زرع أو تمر على أن المسلمين يخرجونهم متى شاؤوا
وهكذا كل ما جاء هذا المجيء فهو إجماع مقطوع على صحته من كل مسلم علمه أو بلغه على أنه قد خالف في هذا بعد ذلك من وهم أو خطأ فعذر لجهله ما لم تقم عليه الحجة وكما ذكرنا قبل ولا فرق فلا إجماع في الإسلام إلا ما جاء هذا المجيء ومن ادعى إجماعا فيما عدا ما ذكرنا فهو كاذب آفك مفتر على جميع المسلمين قائل عليهم ما لا علم له به
وقد قال تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } وقال تعالى ذاما لقوم قالوا { وإذا قيل إن وعد لله حق ولساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما لساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين } وقال تعالى { إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل لله بها من سلطان إن يتبعون إلا لظن وما تهوى لأنفس ولقد جآءهم من ربهم لهدى } وقال تعالى { وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا }
فصح بنص كلام الله تعالى الذي لا يعرض عنه مسلم أن الظن هو غير الحق وإذ هو غير الحق فهو باطل وكذب بلا شك إذ لا سبيل إلى قسم ثالث وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث
قال أبو محمد فهذا هو الحق الذي لا يحيل عليه من سمعه ثم حدث بعد القرن الرابع طائفة قلت مبالاتها بما تطلق به ألسنتها في دين الله تعالى ولم تفكر فيما تخبر به عن الله عز و جل ولا عن رسوله صلى الله عليه و سلم ولا عن جميع المسلمين قصرا لتقليد من لا يغني عنهم من الله شيئا من أبي حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله الذين قد برئوا إليهم عما هم عليه من التقليد فصاروا إذا أعوزهم شغب ينصرون به فاحش خطأهم في خلافهم نص القرآن ونص حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم (4/562)
وبلحوا وبلدوا ونطحت أظفارهم في الصفا الصلد أرسلوها إرسالا فقالوا هذا إجماع فإذا قيل لهم كيف تقدمون على إضافة الإجماع إلى من لم يروا عنه في ذلك كله أما تتقون الله قال أكابرهم كل ما انتشر في العلماء واشتهر ممن قالته طائفة منهم ولم يأت على سائر خلاف له فهو إجماع منهم لأنهم أهل الفضل والذين أمر الله تعالى بطاعتهم فمن المحال أن يسمعوا ما ينكرونه ولا ينكرونه فصح أنهم راضون به هذا كل ما موهوا به ما لهم متعلق أصلا بغير هذا وهذا تمويه منهم ببراهين ظاهرة لا خفاء بها نوردها إن شاء الله عز و جل وبه نستعين
قال أبو محمد أول ما نسألكم عنه أن نقول لكم هذا لا تعلمون فيه خلافا أيمكن أن يكون فيه خلاف من صاحب أو تابع أو عالم بعدهم لم يبلغكم أم لا يمكن ذلك البتة فإن قالوا عند ذلك إن قال هذا القول عالم كان ذلك إجماعا وإن قاله غير عالم لم يكن ذلك إجماعا
قلنا لهم قد نزلتم درجة وسؤالنا باق لذلك العالم بحسبه كما أوردناه سواء بسواء فإن قالوا بل يمكن أن يكون في ذلك خلاف لم يبلغ ذلك العالم قلنا فقد أقررتم بالكذب إذ قطعتم بأنه إجماع وجوزتم مع ذلك أن يكون الخلاف فيه موجودا
فإن قالوا بل يمكن أن يكون في ذلك خلاف لم يبلغ ذلك العالم قلنا فقد أقررتم بالكذب إذ قطعتم بأنه إجماع وجوزتم مع ذلك أن يكون الخلاف فيه موجودا
فإن قالوا بل يمكن أن يكون في ذلك خلاف لم يبلغ ذلك العالم قلنا فقد أقررتم بالكذب إذ قطعتم بأنه إجماع وجوزتم مع ذلك أن يكون الخلاف فيه موجودا فإن قالوا بل لا يمكن أن يكون في ذلك خلاف
قلنا ومن أين لكم بأن ذلك العالم أحاط بجميع أقوال أهل الإسلام ونحن نبدأ لكم بالصحابة رضي الله عنهم فنقول بالضرورة ندري يقينا لا مرية فيه بأنهم كانوا عشرات ألوف فقد غزا صلى الله عليه و سلم حنينا في اثني عشر ألف إنسان وغزا تبوك في أكثر من ذلك وحج حجة الوداع في أضعاف ذلك ووفد عليه من كل بطن من بطون قبائل العرب وفودا أسلموا وسألوه عن الدين وأقرأهم القرآن وصلوا معه كلهم يقع عليه اسم الصحابة
ولقد تقصينا من روى عنه فتيا في مسألة واحدة فأكثر فلم نجدهم إلا مائة وثلاثة وخمسين بين رجل وامرأة فقط مع شدة طلبنا في ذلك وتهممنا وليس منهم مكثرون إلا سبعة فقط وهم عمر وابنه عبد الله وعلي وابن عباس وابن مسعود وأم المؤمنين عائشة وزيد بن ثابت والمتوسطون فهم ثلاثة عشر فقط يمكن أن يوجد في فتيا كل واحد منهم جزء صغير (4/563)
فهؤلاء عشرون فقط والباقون مقلون جدا فيهم من لم يرو عنه إلا فتيا في مسألة واحدة فقط ومنهم في مسألتين وأكثر من ذلك يجتمع من فتيا جميعهم جزء واحد هو إلى أصغر أقرب منه الكبر أفترى سائرهم لم يفت ولا مسألة إلا هذا والله هو الكذب البحت والإفك والبهت ثم ما قد نص الله تعالى في قرآنه من أن طوائف من الجن أسلموا
قال { قل أوحي إلي أنه ستمع نفر من لجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى لرشد فآمنا به ولن نشرك بربنآ أحدا } وقال تعالى حاكيا عنهم أنهم قالوا { وأنا منا لصالحون ومنا دون ذلك كنا طرآئق قددا } وأنهم قالوا { وأنا منا لمسلمون ومنا لقاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا }
وصح عن النبي صلى الله عليه و سلم بأنه أخبر بأن وفدا من الجن أتوه وأسلموا وبايعوه وعلمهم القرآن فصح أن منهم مسلمين صالحين راشدين من خيار الصحابة هذا لا ينكره مسلم ومن أنكره كفر وحل دمه فيا هؤلاء هبكم جسرتم على دعوى العلم بقول عشرات ألوف من الناس من الصحابة وإن لم يبلغكم عنهم فيما ادعيتم إجماعهم عليه كلمة أتراكم يمكنكم الجسر على دعوى إجماع أولئك الصحابة من الجن على ما تدعون بظنكم الكاذب الإجماع عليه لئن أقدمكم على ذلك القاسطون من شياطين الجن فانقدتم لهم لتضاعفن فضيحة كذبكم وليلوحن إفككم لكل صغير وكبير ولئن ردعكم عن ذلك رادع ليبطلن دعواكم الإجماع
وهذا لا مخلص منه فإنهم كسائر الصحابة مأمورون منهيون مؤمنون موعودون متوعدون ولا فرق
فإن قالوا إن شرائعهم غير شرائعنا قلنا كذبتم بل شرائعنا وشرائعهم سواء لتصديق الله تعالى لهم في قولهم { وأنا منا لمسلمون ومنا لقاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا } والإسلام واحدا إلا ما جاء به نص صحيح بأنهم خصوا به كما خصوا أيضا طوائف من الناس كقريش بالإمامة وبني عبد المطلب بالخمس من الخمس ونحو ذلك (4/564)
ثم انقضى عصر الصحابة رضي الله عنهم وأتى عصر التابعين فملؤوا الأرض بلاد خراسان وهي مدن عظيمة كثيرة وقرى لا يحصيها إلا خالقها عز و جل وكابل وفارس وأصبهان والأهواز والجبال وكرمان وسجستان ومكران والسودان والعراق والموصل والجزيرة وديار ربيعة وأرمينية وأذربيجان والحجاز واليمن والشام ومصر والجزائر وإفريقية وبلاد البربر وأرض الأندلس ليس فيها قرية كبيرة إلا وفيها من يفتي ولا فيها مدينة إلا وفيها مفتون فمن الجاهل القليل الحياء المدعي إحصاء أقوال كل مفتي في جميع هذه البلاد مذ أفتوا إلى أن ماتوا إن كل واحد يعلم ضرورة أنه كذاب آفك ضعيف الدين قليل الحياء فبطل دعوى الإجماع كما بطل كل محال مدعي إلا حيث ذكرنا قبل فقط
فإن قالوا إنما يقول المرء هذا إجماع عندي فقط قلنا قوله هذا كلا قول لأن الإجماع عنده إذا لم يكن إجماعا عند غيره فمن الباطل أن يكون الشيء مجمعا عليه عند غير مجمع عليه معا
وأيضا فإن قوله هذا إجماع عندي باطل لأنه منهي عن القطع بظنه فمعنى قوله هذا إنما هو أنه يظن إجماع وقد مضى الكلام في المنع من القطع بالظن وقال تعالى { إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند لله عظيم } الآية وقال تعالى { هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحآجون فيما ليس لكم به علم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون }
وهذا مالك يقول في موطئه إذ ذكر وجوب رد اليمين على المدعي إذا نكل المدعى عليه ثم قال هذا ما لا خوف فيه عن أحد من الناس ولا في بلد من البلدان
قال أبو محمد وهذه عظيمة جدا وإن القائلين بالمنع من رد اليمين أكثر من القائلين بردها
ونا أحمد بن محمد بن الجسور نا وهب بن مسرة نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن القاسم قال نا مالك ليس كل أحد يعرف أن اليمين ترد ذكر هذا في كتاب السرقة من المدونة (4/565)
هذا الشافعي يقول في زكاة البقر في الثلاثين تبيع وفي الأربعين مسنة لا أعلم فيه خلافا وإن الخلاف في ذلك عن جابر بن عبد الله وسعيد بن المسيب وقتادة وعمال ابن الزبير بالمدينة ثم عن إبراهيم النخعي وعن أبي حنيفة لأشهر من أن يجهله من يتعاطى العلم إلى كثير لهم جدا من مثل هذا إلا من قال لا أعلم خلافا فقد صدق عن نفسه ولا ملامة عليه وإنما البلبلة والعار والنار على من أقدم على الكذب جهارا فادعى الإجماع إذ لم يعلم خلافا
وقد ادعوا أن الإجماع على أن القصر في أقل من ستة وأربعين ميلا غير صحيح وبالله إن القائلين من الصحابة والتابعين بالقصر في أقل من ذلك لأكثر أضعافا من القائلين منهم بالقصر في ستة وأربعين ميلا ولو لم يكن لهؤلاء الجهال الذين لا علم لهم بأقوال الصحابة والتابعين إلا الروايات عن مالك بالقصر في ستة وثلاثين ميلا وفي أربعين ميلا وفي اثنين وأربعين ميلا وفي خمسة وأربعين ميلا ثم قوله من تأول فأفطر في ثلاثة أميال في رمضان لا يجاوزها فلا شيء عليه إلا القضاء فقط
وادعوا الإجماع على أن دية اليهودي والنصراني تجب فيها ثلث دية المسلم لا أقل وهذا باطل
روينا عن الحسن البصري بأصح طريق أن ديتهما كدية المجوسي ثمانمائة درهم وادعوا الإجماع أنه يقبل في القتل شاهدان
وقد روينا عن الحسن البصري بأصح طريق أنه لا يقبل في القتل إلا أربعة كالزنى ومثل هذا لهم كثير جدا كدعواهم الإجماع على وجوب خمس من الإبل في الموضحة وغير ذلك كثير جدا ولقد أخرجنا على أبي حنيفة والشافعي ومالك مئين كثيرة من المسائل قال فيها كل واحد منهم بقول لا نعلم أحدا من المسلمين قاله قبله فاعجبوا لهذا
فقالوا إنما نقول ذلك إذا انتشر القول في الناس فلم يحفظ عن أحد من العلماء إنكار ذلك فحينئذ نقول إنه إجماع لما ذكرنا من أنهم يقرون على ما ينكرون كما نقول في أصحاب مذهب الشافعي وأصحاب مذهب مالك وأصحاب مذهب أبي حنيفة وإن لم يرو لنا ذلك عن واحد منهم وكما نقول ذلك في أهل البلاد التي غلبت عليها الشبه والروافض والاعتزال ومذهب الخوارج أو مذهب مالك أو الشافعي أو أبي حنيفة وإن لم يرو لنا ذلك عن كل واحد من أهلها
قلنا لهم لم تخلصوا من هذا القول الذي هو حسبكم واحد منهم في كتابكم (4/566)
وآخرها إلا على كذبتين زائدتين على كذبكم في دعوى الإجماع كنتم في غنى عن اختفائهما إحداهما قولكم إنكم تقولون ذلك إذا انتشر قول طائفة من الصحابة أو من بعدهم فقالوا ههنا فمن هذا نسألكم من أين علمتم بانتشار ذلك القول ومن أين قطعتم بأنه لم يبق صاحب من الجن والإنس إلا علمه ولا يفتي في شرق الأرض ولا غربها عالم إلا وقد بلغه ذلك القول فهذه أعجوبة ثانية وسوأة من السوءات لا يجيزها إلا ممخرق يريد أن يطبق عين الشمس نصرا لتقليده وتمشية لمقولته المنحلة عما قريب ثم يندب حين لا تنفعها الندامة
والكذبة الأخرى قولكم فلم ينكروها فحتى لو صح لكم أنهم كلهم علموها فمن أين قطعتم بأنهم لم ينكروها وأنهم رضوها وهذه طامة أخرى
ونحن نوجدكم أنهم قد علموا ما أنكروا وسكنوا عن إنكاره لبعض الأمر
نا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود نا أحمد بن دحيم بن خليل نا إبراهيم بن حمادة نا إسماعيل بن إسحاق القاضي نا علي بن عبد الله هو ابن المديني نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد نا أبي عن محمد بن إسحاق الزهري محمد بن مسلم بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن مسعود أنه وزفر بن أوس بن الحدثان أتيا عبد الله بن عباس فأخبرهما بقوله في إبطال العول وخلافه لعمر بن الخطاب في ذلك قال فقال له زفر فما منعك يا ابن عباس أن تشير عليه بهذا الرأي قال هبته
نا حمام بن أحمد نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي ثنا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه أن أبا أيوب الأنصاري كان يصلي قبل خلافة عمر ركعتين بعد العصر فلما استخلف عمر تركهما فلما توفي عمر ركعهما قيل له ما هذه قال إن عمر كان يضرب الناس عليهما
نا جهم نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي الديري نا عبد الرزاق عن معمر أخبرني هشام بن عروة عن أبيه أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب جاء عمر بن الخطاب بأمة سوداء كانت لحاطب فقال إن العتاقة أدركت وقد أصابت فاحشة وقد أحصنت فدعاها عمر فسألها عن ذلك (4/567)
فقالت نعم من مرعوش بدرهمين وهي حينئذ تذكر ذلك لا ترى به بأسا فقال عمر لعلي وعبد الرحمن وعثمان أشيروا علي فقال علي وعبد الرحمن نرى أن ترجمها فقال عمر لعثمان أشر فقال قد أشار عليك أخواك قال عزمت عليك إلا أشرت علي برأيك قال فإني لا أرى الحد إلا على من علمه وأراها تستهل به كأنها لا ترى به بأسا فقال عمر صدقت والذي نفسي بيده ما الحد إلا عمن علمه
فضربها عمر مائة وغربها عاما
وبه عبد الرزاق نا ابن جريج أخبرني هشام بن عروة عن أبيه أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب حدثه قال توفي عبد الرحمن بن حاطب وأعتق من صلى من رقيقه وصام وكانت له نوبية قد صلت وصامت وهي أعجمية لم تفقه فلم يرعها إلا حبلها وكانت ثيبا فذهب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فحدثه فأرسل إليها عمر فسألها فقال أحبلت فقال نعم من مرعوش بدرهمين وإذا هي تستهل به لا تكتمه فصادف عنده علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف وعثمان فقال أشيروا علي وكان عثمان جالسا فاضطجع فقال علي وعبد الرحمن قد وقع عليها الحد فقال عمر أشر علي يا عثمان قال قد أشار عليك أخواك قال أشر علي أنت
قال عثمان أراها تستهل به كأنها لا تعلمه وليس الحد إلا على من علمه فأمر بها عمر فجلدت مائة وغربها ثم قال لعثمان صدقت والذي نفسي بيده ما الحد إلا على من علمه
فهذا ابن عباس يخبر أنه منعته الهيبة من الإنكار على عمر فيما يقطع ابن عباس أنه الحق ويدعو فيه إلى المباهلة عند الحجر الأسود وهذا أبو أيوب رجل صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعي الإنكار على عمر ضربه على الصلاة بعد العصر وبعيد ضربه وهذا عثمان سكت وقد رأي أمرا أنكره في أشنع الأشياء وأعظمها وهو دم حرام يسفك بغير واجب سأله عمر فتمادى على سكوته إلى أن عزم عليه وقد يسكت المرء لأنه لم يلح له الحق أو يسكت موافقا ثم يبدو له وجه الحق أو رأى آخر بعد مدة فينكر ما كان يقول ويرجع عنه كما فعل علي في بيع أمهات الأولاد وفي التخيير بعد موافقته لعمر على كلا الأمرين أو ينكر فلا يبلغنا إنكاره ويبلغ غيرنا في أقصى المشرق وأقصى المغرب أو أقصى اليمين أو أقصى إرمينية (4/568)
وأما تنظيركم بأهل مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة والبلاد التي ظهر فيها وغلب عليها قول ما فهذا أعظم حجة عليكم لأنه لا يختلف اثنان أن جمهور القائلين بمذهب رجل ممن ذكرتم لم يخلو قط من خلاف لصاحبهم في المسألة والمسألتين والمسائل وكذلك لم تخل قط البلاد المذكورة من مخالف لمذهب أهلها ولا أكثر من غلبة مذهب مالك على الأندلس وإفريقية وقد كان طوائف علماء مخالفون له جملة قائلون بالحديث أو بمذهب الظاهر أو مذهب الشافعي
وهذا أمر مشاهد في كل وقت ولا أكثر من غلبة الإسلام على البلاد التي غلب عليها ولله الحمد وإن فيها مع ذلك يهود ونصارى وملحدين كثيرا جدا
فظهر فساد تنظيرهم عيانا وعاد ما موهوا به مبطلا لدعواهم وثبت بهذا حتى لو انتشر القول وعرفه جميع العلماء وإن في الممكن أن يخالفه جمهورهم أو بعضهم ثم هذا عمر قد جلد التي لم يرد عليها الرجم لجهلها وهي محصنة مائة وغربها عاما بحضرة علي وعبد الرحمن وعثمان ولم ينكروا عليه ذلك فإن كان عندهم إجماعا فيقولوا به وليس من خصومنا الحاضرين أحد يقول بهذا وإن كان سكوتهم ليس موافقة ولا رضى فليتركوا هذا الأصل الفاسد المهلك في الدين لمن تعلق به ولا بد من أحدهما بالتلاعب بدين الله عز و جل وقد أريناهم سكوتهم رضي الله عما يقولون به فمن الجاهل المنكر لهذا حتى لو صح لهم أنهم عرفوه فكيف وهذا لا يصح أبد الأبد على ما بينا
فإن قال قائل فإذ هو كما قلتم فمن أين قطعتم بالخلاف فيه وإن لم يبلغكم وهلا أنكرتم ذلك على أنفسكم كما أنكرتموه علينا إذ قلنا إنه إجماع قلنا نعم فقلنا ذلك لبرهانين ضروريين قاطعين
أحدهما أن الأصل من الناس وجود الاختلاف في آرائهم لما قدمنا قبل اختلاف أغراضهم وطبائعهم والثاني لأن الله تعالى بذلك قضى إذ يقول { ولو شآء ربك لجعل لناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من لجنة ولناس أجمعين } فصح إن الأصل هو الاختلاف الذي أخبر تعالى أننا لا نزال عليه والذي له خلقنا إلا من استثنى من الأقل
وبرهان ثالث وهو الذي لا يسع أحدا خلافه وهو أن ما ادعيتم فيه الإجماع بالظن الكاذب كما قدمنا لا يخلو ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما أصلا (4/569)
إما أن تدعوه في أمر موافق لنص القرآن أو السنة الثابتة المسندة فهذا أمر لا نبالي اتفق عليه أم اختلف فيه إنما الغرض أن يؤخذ بالنص في ذلك سواء أجمع الناس أم اختلفوا ولا معنى حينئذ للاحتجاج بدعوى الإجماع عليه والحجة قائمة بالنص الوارد فيه فلا حاجة إلى القطع بالظن الكاذب في دعوى الإجماع البتة وإما أن تدعوه في أمر لا يوافقه نص قرآن ولا سنة صحيحة مسندة بل هو مخالف لها في عمومها أو ظاهرهما لتصححوه بدعواكم الكاذبة في أنه إجماع فهذه كبيرة من الكبائر وقصد منكم إلى رد اليقين بالظنون وإلى مخالفة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم بدعوى كاذبة مفتراة وهذا لا يحل
وإذا كان هذا القسم فنحن نقطع حينئذ ونثبت أنه لا بد من خلاف ثابت فيما ادعيتموه إجماعا لأن الله تعالى قد أعاذ أمة نبيه صلى الله عليه و سلم من الإجماع على الباطل والضلال لمخالفة القرآن وحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنتم لم تقتنعوا بأن كذبتم على جميع الأمة حتى نسبتم إليهم الإجماع على الخطأ في مخالفة القرآن والسنة الثابتة وهذه من العظائم التي نعوذ بالله العظيم من مثلها وليس ههنا قسم ثالث أصلا لما قد أوردنا من البراهين على أنه لا يمكن وقوع نازلة لا يكون حكمها منصوصا في القرآن وبيان النبي صلى الله عليه و سلم إما باسمها الأعم وإما باسمها الأخص
قال أبو محمد واعلموا أن إقدام هؤلاء القوم وجسرهم على معنى الإجماع حيث وجد الاختلاف أو حيث لم يبلغنا ولكنه ممكن أن يوجد أو مضمون أن يوجد فإنه قول خالفوا فيه الإجماع حقا وما روي قط عن صاحب ولا عن تابع القطع بدعوى الإجماع حتى أتى هؤلاء الذين جعلوا الكلام في دين الله تعالى مغالبة ومجاذبة وتحققا بالرياسة على مقلدهم وكفى بهذا فضيحة
وأيضا قد تيقن إجماع المسلمين على أنه لا يحل لأحد أن يقطع بظنه اليقين فيه فهذا إجماع آخر فقد خالفوه في هذه المسألة نا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي نا ابن مفرج نا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا محمد بن علي بن زيد نا سعيد بن منصور نا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال قال رجل لابن مسعود أوصني بكلمات جوامع فقال له ابن مسعود اعبد الله ولا تشرك به شيئا وزل مع القرآن حيث زال ومن أتاك بحق فاقبل منه وإن كان بعيدا بغيضا ومن أتاك بالباطل فاردده وإن كان قريبا حبيبا (4/570)
قال أبو محمد هذه جوامع الحق اتباع القرآن وفيه اتباع بيان الرسول وأخذ الحق ممن أتى به ولئن كان لا خير فيه وممن يجب بغضه وإبعاده وألا يقلد خطأ فاضل وإن كان محبوبا واجبا تعظيمه
نا حمام بن أحمد نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي نا عبد الله بن يونس المرادي نا بقي بن مخلد نا أبو بكر بن أبي شيبة نا معاوية بن هشام نا سفيان هو الثوري عن جبلة بن عامر بن مطر قال قال لي حذيفة في كلام فأمسك بما أنت عليه اليوم فإنه الطريق الواضح كيف أنت يا عامر بن مطر إذا أخذ الناس طريقا مع أيهما تكون
قال عامر فقلت له مع القرآن أحيا مع القرآن وأموت قال له حذيفة فأنت إذا أنت
قال أبو محمد اللهم إني أقول كما قال عامر أكون والله مع القرآن أحيا متمسكا به وأموت إن شاء الله متمسكا به ولا أبالي بمن سلك غير طريق القرآن ولو أنهم جميع أهل الأرض غيري
قال أبو محمد وهذا حذيفة يأمر بترك طريق الناس واتباع طريق القرآن إذا خالفه الناس
نا أحمد بن محمد الطلمنكي نا ابن مفرج نا أحمد بن فريس نا محمد بن علي بن زيد نا سعيد بن المنصور نا هشيم أخبرنا مغيرة عن الشعبي عن عبيدة السلماني أن عمر بن الخطاب وعليا أعتقا أمهات الأولاد قال عبيدة قال علي فقضى بذلك عمر حتى أصيب ثم ولي عثمان فقضى بذلك حتى أصيب فلما وليت رأيت أن أرقهن
قال أبو محمد هذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم ير حكم عمر ثم حكم عثمان المشتهر المنتشر الفاشي والذي وافقهما عليه إجماعا بل سارع إلى خلافه إذ أراه اجتهاده الصواب في خلافه ولعمر الله إن أقل من هذا بدرجات ليقطع هؤلاء المجرمون بأنه إجماع
والسند المذكور قيل إلى سعيد بن منصور نا عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي نا عبد الملك بن سليمان عن أبي إسحاق السبيعي عن الشعبي قال أحرم عقيل بن أبي طالب في موردتين فقال له عمر خالفت الناس فقال له علي دعنا منك فإنه ليس لأحد أن يعلمنا السنة (4/571)
فقال له عمر صدقت فهذا علي وعقيل لم ينكرا خلاف الناس ورجع عمر عن قوله إلى ذلك إذ لم يكن ما أضافه إلى الناس سنة يجب اتباعها بل السنة خلافه فلا ينكر خلاف جمهور الناس للسنة
وبه إلى سعيد بن منصور نا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن عطاء بن أبي رياح قال قلت لابن عباس إن الناس لا يأخذون بقولي ولا بقولك ولو مت أنا وأنت ما اقتسموا ميراثنا على ما نقول
قال ابن عباس فليجتمعوا فلنضع أيدينا على الركن ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ما حكم الله بما قالوا
قال أبو محمد فهذا ابن عباس بأصح إسناد عنه لا يلتفت إلى الناس ولا إلى ما اشتهر عندهم وانتشر من الحكم بينهم إذا كان خلافا لحكم الله تعالى
في مثل هذا يدعي من لا يبالي بالكذب الإجماع وبه إلى سعيد بن منصور نا سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي زيد
أنه سمع ابن عباس يقول في قول الله عز و جل { يأيها لذين آمنوا ليستأذنكم لذين ملكت أيمانكم ولذين لم يبلغوا لحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة لفجر وحين تضعون ثيابكم من لظهيرة ومن بعد صلاة لعشآء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين لله لكم لآيات ولله عليم حكيم } قال ابن عباس لم يؤمن بهذه الآية أكثر الناس وإني لآمر هذه أن تستأذن علي يعني جارية له
قال أبو محمد وهذا كالذي قبله نا يحيى بن عبد الرحيم نا أحمد بن دحيم نا إبراهيم بن حماد نا إسماعيل بن إسحاق نا علي بن المديني نا سفيان بن عيينة نا مصعب بن عبد الله بن الزبير عن أبي مليكة عن ابن عباس
قال أمر ليس في كتاب الله عز و جل ولا في قضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم وستجدونه في الناس كلهم ميراث الأخت مع البنت
فهذا ابن عباس لم ير الناس كلهم حجة على نفسه في أن يحكم بما لم يجد في القرآن ولا في السنة
نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب نا أحمد بن محمد نا محمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا يحيى بن يحيى
قال قرأت على مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبيد بن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من الصحابة يصنعها
فقال وما هن يا ابن جريج قال رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين ورأيتك تلبس النعال (4/572)
السبتية ورأيتك تصبغ بالصفرة ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا أروا الهلال ولم تهل أنت حتى يكون يوم التروية
فقال له ابن عمر أما الأركان فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه و سلم يمس إلا اليمانيين وأما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها فأنا أحب أن ألبسها وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه و سلم يهل حتى تنبعث به راحلته
قال أبو محمد فهذا ابن عمر رضي الله عنه بأصح إسناد إليه لم ينكر مخالفته لجميع أصحابه فيما اقتدى فيه برسول الله صلى الله عليه و سلم ولا أنكر على ابن جريج إخباره بأن أصحابه يخالفونه فصح أنه لم ير أصحابه كلهم قدوة فيما وافق وحدانية رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا هو الحق الذي لا يسع أحدا القصد إلى خلافه
قال أبو محمد ثم هذا أبو حنيفة يقول ما جاء عن الله تعالى فعلى الرأس والعينين وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فسمعا وطاعة وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم تخيرنا من أقوالهم ولم نخرج عنهم وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال فلم ينكر عن نفسه مخالفة التابعين وإنما لم ير الخروج عن أقوال الصحابة توقيرا لهم
وهذا مالك يفتي بالشفعة في الثمار ويقول إثر فتياه به وإنه لشيء ما سمعته ولا بلغني أن أحدا قاله فهذا مالك لم ير القول بما لم يسمع عن أحد قال به خلافا للإجماع كما يدعي هؤلاء الذين لا معنى لهم وهذا الشافعي يقول في رسالته المصرية ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعا
قال حمام بن أحمد ويحيى بن عبد الرحمن بن مسعود قال حمام نا عباس بن أصبغ وقال يحيى نا أحمد بن سعيد بن حزم ثم اتفق عباس وأحمد قالا جميعا نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا عبد الرحمن بن حنبل قال سمعت أبي يقول ما يدعي فيه الرجل الإجماع هو الكذب من ادعى الإجماع فهو كذاب لعل الناس قد اختلفوا ما بد به ولم ينتبه إليه فليقل لا نعلم الناس اختلفوا دعوى بشر المريسي والأصم ولكن يقول لا نعلم الناس اختلفوا أو لم يبلغني ذلك
قال أبو محمد صدق أحمد ولله دره وبئس القدوة بشر بن عتاب المريسي (4/573)
وعبد الرحمن بن كيسان الأصم ولعمري إنهما لمن أول من هجم على هذه الدعوى وهما المرءان يرغب قولهما نا يوسف بن عبد الله النمري نا عبيد الله بن محمد نا الحسن بن سلمون نا عبد الله بن علي بن الجارود نا إسحاق بن منصور قال سمعت إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه وقد ذكر له قول أحمد بن حنبل في مسألة فقال إسحاق أجاد لقد ظننت أن أحدا لا يتابعني عليها فهذا إسحاق لا ينكر القول بما يقع في تقديره أنه لا يتابعه أحد عليه إذا رأى الحق فيما قاله به من ذلك
قال أبو إسحاق فهؤلاء الصحابة والتابعون ثم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وداود كلهم يوجب القول بما أداه إليه اجتهاده أنه الحق وألا يعلم قائلا به قبله فبمن تعلق هؤلاء القوم ليت شعري بل بالمريسي والأصم كما قال أحمد رحمه الله
قال أبو محمد ولئن كان ما اشتهر من قول طائفة من الصحابة أو التابعين ولم يعرف له خلاف إجماعا فيما في الأرض أشد خلافا للإجماع ممن قلدوه دينهم مالك والشافعي وأبي حنيفة ولقد أخرجنا لهم مئين من المسائل ليس منها مسألة إلا ولا يعرف أحد قال بذلك القول قبل الذي قاله من هؤلاء الثلاثة فبئس ما وسموا به من قلدوه دينهم
وقد ذكر محمد بن جرير الطبري أنه وجد للشافعي أربعمائة مسألة خالف فيها الإجماع
وهكذا القول حرفا حرفا في أقوال ابن أبي ليلى وسفيان والأوزاعي وزفر وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زيادة وأشهب وابن الماجشون والمزني وأبي ثور وأحمد وإسحاق وداود ومحمد بن جرير ما منهم أحد إلا وقد صحت عنه أقوال في الفتيا لا يعلم أحد من العلماء قالها قبل ذلك القائل ممن سمينا
وأكثر ذلك فيما لا شك في انتشاره واشتهاره
ثم ليعلموا أن كل فتيا جاءت عن تابع لم يرو عن صاحب في تلك المسألة قول فإن ذلك التابع قال فيها بقول ولا يعرف أن أحدا قاله فالتابعون على هذا القول الخبيث مخالفون للإجماع كلهم أو أكثرهم ومخالف الإجماع عند هؤلاء الجهال كافر فالتابعون على قولهم كفار ونعوذ بالله العظيم من كل قول أدى إلى هذا (4/574)
واعلموا أن الذي يدعي ويقطع بدعوى الإجماع في مثل هذا فإنه من أجهل الناس بأقوال الناس واختلافهم
وحسبنا الله ونعم الوكيل فظهر كذب من ادعى أن ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع وبالله تعالى التوفيق
وأعجب شيء في الدنيا أنهم يدعون في مثله هذا أنه إجماع ثم يأتون إلى الإجماع الصحيح المقطوع به المتيقن فيخالفونه جهارا وهو أنه لا شك عند أحد من أهل العلم أنه لم يكن قط في عصر الصحابة رضي الله عنهم أحد أتى إلى قول صاحب أكبر منه فأخذ به كله ورد لقوله نصوص القرآن وكلام رسول الله صلى الله عليه و سلم وجعل يحتال لنصره بكل ما أمكنه من حق أو باطل أو مناقضة
ثم لا شك عند أحد من أهل العلم في أنه لم يكن قط في عصر التابعين أحد أتى إلى قول تابع أكبر منه أو إلى قول صاحب فأخذ به كله كما ذكرنا ثم لا خلاف بين أحد من أهل العلم في أنه لم يكن في القرن الثالث أحد أتى إلى قول تابع أو قول صاحب فأخذ به كله فهذا الإجماع المقطوع به المتيقن في ثلاثة أعصار متصلة ثم هي الأعصار المحمودة قد خالفها المقلدون الآخذون بأقوال أبي حنيفة فقط أو بأقوال مالك فقط أو بأقوال الشافعي فقط وهو عمل محدث مخالف للإجماع الصحيح فلهذا أعجبوا فهو مكان العجب حقا أن يخالفوا الإجماع المتيقن جهارا ثم يدعون الإجماع حيث لا إجماع ونعوذ بالله العظيم من الضلال
فصل في من قال بأن خلاف الواحد من الصحابة
أو ممن بعدهم لا يعد خلافا وأن قول من سواه فيمن خالفهم فيه إجماع قال أبو محمد ذهب محمد بن جرير الطبري إلى أن خلاف الواحد لا يعد خلافا وحكى أبو بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي أن أبا حازم عبد العزيز بن عبد الحميد القاضي الحنفي فسخ الحكم بتوريث بيت المال ما فضل عن ذوي السهام وقال إن زيد بن ثابت لا يعد خلافا على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم
قال أبو محمد فيقال لهم ما معنى قولكم لا يعد خلافا أتنفون وجود خلاف فهذا كذب تدفعه المشاهدة والعيان أم تقولون إن الله تعالى أمركم ألا تسموه (4/575)
خلافا أو رسوله صلى الله عليه و سلم أمركم بذلك فهذه شر من الأولى لأنه كذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه و سلم أم تقولون إن قليل ذلك الخلاف من الضعة والسقوط في المسلمين إما لفسقه وإما لجهله بحيث لا يكون وجود قوله إلا كعدمه ففي هذا ما فيه إذ ينزلون زيد بن ثابت أو ابن عباس أو غيرهما من التابعين الأئمة في هذه المنزلة
ولعمري إن من أنزل عالما من الصحابة رضي الله عنهم أو من التابعين أو من أئمة المسلمين هذه المنزلة لأحق بهذه الصفة وأولى بها ولا يخرج قولكم من إحدى هذه الثلاث قبائح إذ لا رابع لها
فإن قالوا إنما قلنا إنه خطأ وشذوذ قلنا قد قدمنا أن كل من خالف أحدا فقد شذ عنه وكل قول خالف الحق فهو شاذ عن الحق فوجب أن كل خطأ فهو شذوذ عن الحق وكل شذوذ عن الحق فهو خطأ وليس كل خطأ خلافا للإجماع فليس كل شذوذ خلافا للإجماع ولا كل حق إجماعا وإنما نكلمكم ههنا في قولكم ليس خلافا ولكون ما عداه إجماعا فقد ظهر كذب دعواهم وفسادها والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد ووجدناهم احتجوا برواية لا تصح عليكم بالسواد الأعظم ووجدنا من طريق محمد بن عبد السلام الخشني عن المسيب بن واضح عن المعتمر بن سليمان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تجتمع أمة محمد على ضلالة أبدا وعليكم بالسواد الأعظم فإنه من شذ شذ إلى النار
قال أبو محمد المسيب بن واضح منكر الحديث لا يحتج به روى المنكرات منها أنه أسند إلى النبي صلى الله عليه و سلم من ضرب أباه فاقتلوه وهذا لا يعرف ولو صح الخبر المذكور لكان معناه من شذ عن الحق لا يجوز غير ذلك وبما أنبأناه أحمد بن عمر بن أنس العذري نا عبد الله بن الحسين نا عقال نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن أحمد بن الجهم نا أبو قلابة نا وهب بن جرير بن حازم قال سمعت عبد الملك بن عمير يحدث عن جابر بن سمرة قال خطبنا عمر بن الخطاب فقال قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم كقيامي فيكم فقال من أحب منكم بحبوحة الجنة فليلتزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد
نا عبد الله بن (4/576)
ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أخبرني إبراهيم بن الحسن نا حجاج بن محمد نا يوسف بن أبي إسحاق عن عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن الزبير قال قام عمر بن الخطاب أمير المؤمنين على باب الجابية فقال إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قام فينا كقيامي فيكم فقال يا أيها الناس أكرموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى إن الرجل ليحلف قبل أن يستحلف ويشهد قبل أن يستشهد فمن سره أن ينال بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة فإن يد الله فوق الجماعة ولا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما ألا إن الشيطان مع واحد وهو من الاثنين أبعد من سائته سيئته وسرته حسنته فهو المؤمن
وبه إلى أحمد بن شعيب نا الربع بن سليمان نا إسحاق بن بكر عن يزيد بن عبد الله عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر
قال إن عمر بن الخطاب لما قدم الشام قام فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم قام فينا كقيامي فيكم
فقال أكرموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب فيحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد ولا يستشهد فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد
وبه إلى أحمد بن شعيب نا إسحاق بن إبراهيم وهو ابن راهويه نا جرير هو ابن عبد الحميد عن عبد الملك بن مالك بن عمر عن جابر بن سمرة قال خطب عمر بن الخطاب الناس بالجابية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم قام في مثل مقامي هذا فقال أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب فيحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد ولا يستشهد فمن أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد
وبه إلى أحمد بن شعيب نا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه نا جرير هو ابن عبد الحميد عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال خطب عمر بن الخطاب الناس بالجابية فقال إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قام في مثل مقامي هذا فقال أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى إن الرجل ليحلف على اليمين قبل أن يستحلف ويشهد على الشهادة قبل أن يستشهد عليها فمن أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن (4/577)
الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد لا يخلو رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان ألا من كان منكم تسوءه سيئته وتسره حسنته فهو مؤمن
قال أبو محمد هذا الخبر لم يخرجه أحد ممن اشترط الصحيح ولكنا نتكلم فيه على علاته فنقول وبالله تعالى نتأيد إنه إن صح فإن ما ذكر فيه من الجماعة إنما هي بلا شك جماعة الحق
ولو لم يكونوا إلا ثلاثة من الناس وقد أسلمت خديجة رضي الله عنها أم المؤمنين وسائر الناس كفار فكانت على الحق وسائر أهل الأرض على ضلال
ثم أسلم زيد بن حارثة وأبو بكر رضي الله عنهم فكانوا بلا شك هم الجماعة وجميع أهل الأرض على الباطل
وقد نبىء رسول الله صلى الله عليه و سلم وحده فكان على الحق واحدا وجميع أهل الأرض على الباطل والضلال وقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أن زيد بن عمر بن نفيل يبعث يوم القيامة أمة وحده
قال أبو محمد وذلك لأن زيدا آمن بالله تعالى وحده وجميع أهل الأرض على ضلالة
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال إن هذا الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء قيل ومن هم يا رسول الله قال النزاع من القبائل وقال صلى الله عليه و سلم الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة وقال صلى الله عليه و سلم إن الساعة لا تقوم إلا على من لا خير فيهم نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا محمد بن عباد وابن أبي عمر كلاهما عن مروان بن معاوية الفزاري عن يزيد بن كيسان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء
وبه إلى مسلم نا الفضل بن سهل نا شبابة به سوار نا عاصم هو ابن محمد العمري عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ نا أحمد بن محمد بن الجسور نا محمد بن أبي دليم أخبرنا ابن وضاح أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة نا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء قال النزاع من القبائل (4/578)
وبالسند المتقدم إلى مسلم نا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تقوم الساعة على أحد يقول لا إله إلا الله
وقال الله عز و جل وذكر أهل الحق فقال { ركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب } وقال تعالى { وقال لذي شتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنآ أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في لأرض ولنعلمه من تأويل لأحاديث ولله غالب على أمره ولكن أكثر لناس لا يعلمون } في سورة يوسف وقال تعالى { وإن تطع أكثر من في لأرض يضلوك عن سبيل لله إن يتبعون إلا لظن وإن هم إلا يخرصون } وقال تعالى { ومآ أكثر لناس ولو حرصت بمؤمنين } وكلام الله تعالى حق وكلام رسوله صلى الله عليه و سلم حق والحق لا يتعارض
وهذه النصوص التي أوردناها هي قرآن منزل أو أثر في غاية الصحة منقول نقل التواتر وكلاهما في غاية البيان فالأقل في الدين هم أهل الحق وأن أكثر الناس على ضلال وعلى جهل وأن الواحد قد يكون هو المصيب وجميع الناس هم على باطل لا تحتمل هذه النصوص شيئا غير هذا البتة فلو صحت تلك الآثار التي قدمنا لوجب ضرورة أنها ليست في الدين لكن في شيء آخر وبالضرورة تدري أنها ليست على عمومها لأن انفراد الرجل وحده في بيته غير منكر وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده
وبرهان كاف قاطع لكل من له أقل فهم في أنه صلى الله عليه و سلم لم يرد قط بالجماعة المذكورة كثرة العدد لا يشك في ذلك لأن النصارى جماعة واليهود جماعة والمجوس وعباد النار جماعة أفترونه صلى الله عليه و سلم أراد هذه الجماعات حاشا لله من هذا فإن قالوا إنما أراد جميع المسلمين قلنا فإن المنتمين إلى الإسلام فرق فالخوارج جماعة والروافض جماعة والمرجئة جماعة والمعتزلة جماعة أفترونه عليه السلام أراد شيئا من هذه الجماعات حاشا له من ذلك
فإن قالوا إنما أراد أهل السنة قلنا أهل السنة فرق فالحنفية جماعة (4/579)