الاحكام
ابن حزم ج 1(1/)
الاحكام في أصول الاحكام
للحافظ ابى محمد على بن حزم الاندلسي الظاهرى
هذا الكتاب النفيس، الذى لم تر العين مثيله في علم الاصول (أحمد شاكر)
الجزء الاول
قوبلت على نسخة أشرف على طبعها
الاستاذ العلامة أحمد شاكر رحمه الله
الناشر
زكريا على يوسف
مطبعة العاصمة بالقاهرة - ت 23680(1/1)
وعد..ووعد
ظهرت الطبعة الاول من هذا الكتاب القيم سنة 1345 ه بإشراف المر حوم الشيخ أحمد شاكر في ثمانية أجزاء صغيرد حسب تجزئة المؤلف.
وقد وعدوا القراء بكتابة ترجمة وافية للمؤلف، وفهارس تحليلية للكتاب، ولكت يبدو أن الظروف لم تساعد على إنجاز هذا الوعد.
أما هذه الطبعة فستكون إن شاء الله في مجلدين، كل مجلد 4 أجزاء في غلاف واحد، وسنحاول بعون الله أن نقوم ببعض ما فات القراء في الطبعة الاولى من الترجمة والفهرس التفصيلي، وما لا يدرك كله لا يترك كله، وسيكون ذلك ختام الكتاب إن شاء الله
وقد نفدت الطبعة الاولى من سنين كثيرة، وارتفع ثمنها إلى عشرة أمثال، ولما صح عزمنا على نشر بحشنا طويلا عن نسخة منها للمفالة عليها عند الطبع، وساعدنا في البحث كثير من إخواننا، فلم نعثر لها على أثر، ولما علم بذلك فضيلة الاستاذ الشيخ على المحيمو على محفوظ تفضل علينا بنسخة الخاصة فشكر الله له(1/3)
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة الناشر
مما أحفظه عن السيد رشيد رضا رحمه الله أنه كان يقول: لو وفق الله الطبع المغنى في الفقه أو المحلى لابن حزم على ما فيه من شدة على الائمة فإنى أموت وأنا مطمئن على الفقه الاسلامي حفظت ذلك عن صاحب المنار منذأ كثر من ثلاثين سنة، ومن يومها وأنا أقدر ابن حزم وأحترمه وأحبه وأتمنى أن أنشر له بعض آثاره القيمة التى تضئ للمسلم طريقه في دينه وديناه، وتجعله يسير بالنقد والشدة - أحيانا - لمن سبقه من الفقهاء والائمة إذا وجدهم عد علموا بأحاديث لم تصح عنده، أو عملوا بآراء تخالف ماصح عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولعل مرد ذلك النقد وتلك الشدة إلى مال الحظه ابن حزم رحمه الله من إقبال على التقليد لهؤلاء اللفقهاء والائمة، وإدبار عن طب الهدى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فأراد رحمه الله أن يخفف الناس من هذا الاقبال، ومن هذا الادبار، وأن يكسب للكتاب والسنة فريقا من الانصار يعلنون صوتهما إقامة لحجة الله على خلقه.
ولا نتصور أبدا أن ابن حزم كان لا يحترم هؤلاء الائمة أو لا يحبهم، أو ينكر عليهم فضلهم في علماء الاسلام، فما من أحد من هؤلاء الائمة إلا كان ينهى عن تقليده ويدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله لعيه وسلم.
وقد يكون مرد تلك الشدة في ابن حزم هو نشأته وبيئته وبيته ومنصبه، فقد تولى هو الزارة كا تو لاها والده وهذا الجو له تأثيره في النفس، الا ترى إلى موسى عليه السلام وقد تربى في بيت فرعون - كيف كان شديد البطش قوى البأس، وهو من أنبياء الله المرسلين ؟ وسيأتى تفصيل ذلك في ترجمة المؤلف في آخر الكتاب إن شاء الله.
زكريا على يوسف(1/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الفقيه الامام أبو محمد، على بن أحمد، رحمة الله عليه ورضوانه:
الحمد لله الذى امتن علينا بنعم عامة وخاصة، فعم النوع الة ممى بأن أرسل إليهم مقدمة المؤلف قال الفقيه الامام أبو محمد، علي بن أحمد، رحمة الله عليه ورضوانه: الحمد لله الذي امتن علينا بنعم عامة وخاصة، فعم النوع الآدمي بأن أرسل إليهم رسلا مبشرين ومنذرين ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، وخص من شاء منهم بأن وفقه للحق وهداه له، ويسره لفهمه، وسدده لاختياره، وسهل عليه سبيله، وخذل منهم من شاء، فطبع على قلبه، ووعر عليه طريق الحق، ووفق قوما في سبيل ما، ومنعهم التوفيق في سبيل أخرى، كما قال عز وجل: من يشأ لله يضلله ومن يشأ يجعله على طراط مستقيم. ولا يسئل عما يفعل وهم يسئلون دون * (والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) * و * (وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون) * أن يجبر مريد حق على إرادته، أو يقسر قاصد باطل على قصده، أو يحول بين أحد وبين ما دعاه تعالى إليه، أو ندبه إليه، لكن كما قال عز وجل: * (وآعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الايمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون ئ فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم) * وكما قال تعالى: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا، وقال تعالى (وكذلك زينا لكل أمة عملهم) وكما قال النبيان الفاضلان صلى الله عليهما إبراهيم ويوسف إذ يقول إبراهيم * (فلمآ رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلمآ أفل قال لئن لم يهدني ربي لاكونن من القوم الضالين) * ويقول يوسف * (قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) * وصلى الله على محمد عبده ورسوله إلى جميع الجن والانس بالدين القيم بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.
وبعد: فإن الله عز وجل ركب في النفس الانسانية قوة مختلفة، فمنها عدل يزين لها الانصاف، ويحبب إليها موافقة الحق.
قال تعالى: * (إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتآء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) * وقال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والاقربين) * ومنها غضب وشهوة يزينان لها الجور ويعميانها عن طريق الرشد، قال تعالى: * (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد) * وقال تعالى: * (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) * فالفاضل يسر لمعرفته بمقدار ما منحه الله تعالى، والجاهل يسر لما لا يدري حقيقة وجهه ولما فيه وباله(1/5)
في أخراه وهلاكه في معاده.
ومنها فهم يليح لها الحق من قريب، وينير لها في ظلمات المشكلات فترى به الصواب ظاهرا جليا.
ومنها جهل يطمس عليها الطرق، ويساوي عندها بين السبل، فتبقى النفس في حيرة تتردد، وفي ريب تتلدد، ويهجم بها على أحد الطرق المجانبة للحق المنكبة عن الصواب تهورا وإقداما أو جبنا أو إحجاما، أو إلفا وسوء اختيار، قال تعالى: * (ل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * وقال تعالى: * (انما يخشى الله من عباده العلماء) *.
ومنها قوة التمييز التي سماها الاوائل المنطق، فجعل لها خالقها بهذه القوة سبيلا إلى فهم خطابه عز وجل، وإلى معرفة الاشياء ما هي عليه، وإلى إمكان التفهم الذي به ترتقي درجة الفهم ويتخلص من ظلمة الجهل، فيها تكون معرفة الحق من الباطل.
قال تعالى: فبشر عبادي الذين يستعمون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هدا هم الله وألئك هم أولوا الالباب ومنها قوة العقل التي تعين النفس المميزة على نصر العدل، وعلى إيثار ما دلت عليه صحة الفهم، وعلى اعتقاد ذلك علما، وعلى إظهار باللسان وحركات الجسم فعلا، وبهذه القوة التي هي العقل تتأيد النفس الموفقة لطاعته على كراهية الحود عن الحق، وعلى رفض ما قاد إليه الجهل والشهوة، والغضب المولد للعصبية، وحمية الجاهلية، فمن اتبع ما أناره له العقل الصحيح نجا وفاز، ومن عاج عنه هلك وربما أهلك قال تعالى: * (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) *.
قال أبو محمد علي: أراد بذلك العقل، وأما المضغة المسماة قلبا فهي لكل أحد متذكر، وغير متذكر، ولكن لما لم ينتفع غير العاقل بقلبه صار كمن لا قلب له، قال تعالى، شاهدا لما قلنا: * (أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها وقال بعض السلف الصالح: ترى الرجل لبيبا داهيا فطنا ولا عقل له فالعاقل من أطاع الله عز وجل.
قال أبو محمد علي: هذه كلمة جامعة كافية، لان طاعة الله عز وجل، هي جماع(1/6)
الفضائل واجتناب الرذائل، وهي السيرة الفاضلة على الحقيقة التي تخيرها لنا واهب النعم، لا إله إلا هو، فلا فضيلة إلا اتباع ما أمر الله عز وجل به، أو حض عليه، ولا رذيلة إلا ارتكاب ما نهى الله تعالى عنه أو نزه منه، وأما الكيس في أمور الدنيا لا يبالي المرء ما وفق في استجلاب حظه فيها، من علو صوت، أو عرض
جاه، أو نمو مال، أو نيل لذة من طاعة أو معصية، فليس ذلك عقلا، بل هو سخف وحمق ونقص شديد وسوء اختيار، وقائد إلى الهلاك في دار الخلود.
وقد شهد ربنا تعالى أن متاع الدنيا غرور، وقد علمنا أن تارك الحق ومتبع الغرور سخيف الاختيار، ضعيف العقل، فاسد التمييز وبرهان ذلك أن كل تمييز في إنسان بان به عن البهائم، فهو يشهد أن اختيار الشئ القليل في عدده، الضعيف في منفعته، المشوب بالآلام والمكاره، الفاني بسرعة، على الكثير في عدده العظيم في منفعته، الخالص من الكدر والمضار، الخالد أبدا، حمق شديد وعدم للعقل البتة.
ولو أن أمرأ خير في دنياه بين سكناه مائة عام في قصر أنيق، واسع ذي بساتين وأنهار ورياض وأشجار، ونواوير وأزهار، وخدم وعبيد وأمن فاش وملك ظاهر، ومال عريض، إلا أن في طريقه إلى ذلك مشي يوم كامل في طريق فيها بعض الحزونة لا كلها، وبين أن يمشي ذلك اليوم في طريق فيها مروج حسنة، وفي خلالها مهالك ومخاوف وظلال طيبة، وفي أثنائها أهوال ومتالف، ثم يفضي عند تمام ذلك اليوم إلى دار ضيقة، ومجلس ضنك ذي نكد وشقاء وخوف وفقر وإقلال، فيسكنها مائة عام، فاختار هذه الدار الحرجة لسرور يوم ممزوج بشوائب البلاء، يلقاه في طريقه نحوها لكان عند كل من سمع خبره ذا آفة شديدة في تمييزه، وفاسد العقل جدا، ظاهر الحمق ردئ الاختيار، مذموما مدحورا ملوما.
وهذه حال من آثر عاجل دنياه على آجل أخراه.
فكيف بمن اختار فانيا عن قريب على ما لا يتناهى أبدا.
اللهم إلا أن يكون شاكا في منقلبه، متحيرا في مصيره، فتلك أسوأ بل هي التي لا شوى لها، نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله التوفيق والعصمة بمنه آمين.(1/7)
وكل ما قلنا فلم نقله جزافا، بل لم نقل كلمة في ذلك كله إلا مما قاله الله تعالى
شاهدا بصحته، وميزه العقل، عالما بحقيقته، والحمد لله رب العالمين.
وإن الله عز وجل ابتلى الامم السالفة بأنبياء ابتعثهم إلى قومهم خاصة، فمؤمن وكافر، فريق في الجنة وفريق في السعير.
ثم إنه تعالى بعث نبيه المختار، وعبده المنتخب من جميع ولد آدم، محمدا صلى الله عليه وسلم الهاشمي المكي، إلى جميع خلقه من الجن والانس، فنسخ بملته جميع الملل، وختم به الرسل، وخصه بهذه الكرامة وسوده على جميع أنبيائه، واتخذ صفيا ونجيا وخليلا ورسولا فلا نبي بعده، ولا شريعة بعد شريعته إلى انقضاء الدنيا.
وإذ قد تيقنا أن الدنيا ليست دار قرار، ولكنها دار ابتلاء واختبار ومجاز إلى دار الخلود، وصح بذلك أنه لا فائدة في الدنيا وفي الكون فيها إلا العلم بما امر به عز وجل وتعليمه أهل الجهل والعمل بموجب ذلك، وإن ما عدا هذا مما يتنافس فيه الناس من بعد الصوت، غرور، وأن كل ما تشره إليه النفوس الجاهلة من غرض خسيس، خطأ، إلا ما قصد به إظهار العدل وقمع الزور، والحكم بأمر الله تعالى وبأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإحياء سنن الحق، وإماتة طوالع الجور.
وإن ما تميل إليه النفوس الخسيسة من اللذات بمناظر مألوفة متغيرة عما قليل، وأصوات مستحسنة، متقضية بهبوب الرياح، ومشام مستطرفة، منحلة بعيد ساعات، ومذاوق مستعذبة، مستحلية في أقرب مدة أقبح استحالة، وملابس معجبة، متبدلة في أيسر زمان تبدلا موحشا، باطلا.
وإن كل ما يشغل به أهل فساد التمييز من كسب المال المنتقل عما قريب فضول، إلا ما أقام القوت وأمسك الرمق، وأنفق في وجوه البر الموصلة إلى الفوز في دار البقاء، كان أفضل ما عاناه المرء العاقل بيان ما يرجو به هدى أهل نوعه، وإنقاذهم من حيرة الشك وظلمة الباطل، وإخراجهم إلى بيان الحق ونور(1/8)
اليقين.
فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من هدى الله به رجلا واحدا فهو خير له من حمر النعم.
وأخبر عليه السلام أن من سن سنة خير في الاسلام، كان له مثل أجر كل عمل بها، لا ينتقص ذلك من أجورهم شيئا.
وغبط من تعلم الحكمة وعلمها.
فنظرنا بعون الله خالقنا تعالى لنا في هذه الطريق الفاضلة التي هي ثمرة بقائنا في هذه الدنيا فوجدناها على وجوه كثيرة: فمن أوكدها وأحسنها مغبة، بيان الدين واعتقاده والعمل به الذي ألزمنا إياه خالقنا عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ،وشرح الجمل التي تجمع أصناف أحكامه، والعبارات الواردة فيه، فإن بمعرفة العقدة من عقد تلك الجمل يلوح الحق في ألوف من المسائل غلط فيها ألوف من الناس.
فإثم من قلدهم إثمين: إثم التقليد، وإثم الخطأ.
ونقصت أجور من اتبعهم مجتهدا من كفلين إلى كفل واحد.
ومن وفقه الله تعالى لبيان ما يتضاعف فيه أجر المعتقد والعامل بما عضده البرهان فقد عرضه لخير كثير، وامتن عليه بتزايد الاجر، وهو في التراب رميم.
وذلك حظ لا يزهد فيه إلا محروم، فكتبنا كتابنا المرسوم بكتاب التقريب، وتكلمنا فيه على كيفية الاستدلال جملة، وأنواع البرهان الذي به يستبين الحق من الباطل في كل مطلوب، وخلصناها مما يظن أنه برهان وليس ببرهان، وبينا كل ذلك بيانا سهلا لا إشكال فيه، ورجونا بذلك الاجر من الله عز وجل، فكان ذلك الكتاب أصلا لمعرفة علامات الحق من الباطل، وكتبنا أيضا كتابنا المرسوم بالفصل، فبينا فيه صواب ما اختلف الناس فيه من الملل والنحل بالبراهين التي أثبتنا جملها في كتاب التقريب.
ولم ندع بتوفيق الله عز وجل لنا للشك في شئ من ذلك مساغا، والحمد لله كثيرا.
ثم جمعنا كتابنا هذا وقصدنا فيه بيان الجمل في مراد الله عز وجل منا فيما كلفناه من العبادات، والحكم بين الناس بالبراهين التي أحكمناها في الكتاب المذكور آنفا.
وجعلنا هذا الكتاب بتأييد خالقنا عز وجل لنا، موعبا للحكم فيما اختلف فيه الناس من أصول الاحكام في الديانة مستوفى، مستقصى، محذوف(1/9)
الفضول، محكم الفصول، راجين أن ينفعنا الله عز وجل به يوم فقرنا إلى ما يثقل به ميزاننا من الحسنات، وأن ينفع به تعالى من يشاء من خلقه، فيضرب لنا في ذلك بقسط، ويتفضل علينا منه بحظ، فهو الذي لا يخيب رجاء من قصده بأمله وهو القادر على كل شئ: لا إله إلا هو.
وهذا حين نبدأ في ذلك بحول الله وقوته فنقول وبالله تعالى التوفيق: إنه لما صح أن العالم مخلوق، وأن له خالقا لم يزل عز وجل، وصح أنه ابتعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، ليتخلص من أطاعه من أطباق النيران المحيطة بنا إلى الجنة المعدة لاوليائه عز وجل، وليكب من عصاه في النار الحامية، وصح أنه ألزمنا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم شرائع من أوامر ونواه وإباحات باستعمال تلك الشرائع، يوصل إلى الفوز، وينجي من الهلاك، وصح أنه أودع تلك الشرائع في الكلام الذي أمره به رسوله الله صلى الله عليه وسلم بتبليغه إلينا، وسماه قرآنا، وفي الكلام الذي أنطق به رسوله صلى الله عليه وسلم وسماه وحيا غير قرآن، وألزمنا في كل ذلك طاعة نبيه عليه السلام، لزمنا تتبع تلك الشرائع في هذين الكلامين لنتخلص بذلك من العذاب، ونحصل على السلامة والحظوة في دار الخلود، ووجدناه تعالى قد ألزمنا ذلك بقوله في كتابه المنزل: * (وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) *
فوجب علينا أن ننفر لما استنفرنا له خالقنا عز وجل، فوجدناه قد قال في القرآن الذي قد ثبت أنه من قبله عز وجل، والذي أودعه عهوده إلينا اللازمة لنا: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر.)
قال أبو محمد: فنظرنا في هذه الآية فوجدناها جامعة لكل ما تكلم الناس فيه أولهم عن آخرهم، مما أجمعوا عليه واختلفوا فيه الاحكام والعبادات التي شرعها الله عز وجل، لا يشذ عنها شئ من ذلك، فكان كتابنا هذا كله في بيان العمل بهذه الآية وكيفيته وبيان الطاعتين المأمور بهما لله تعالى ولرسوله عليه السلام(1/10)
وطاعة أولي الامر، ومن هم أولو الامر، وبيان التنازع الواقع منا، وبيان ما يقع فيه التنازع بيننا، وبيان رد ما تنوزع فيه إلى الله تعالى ورسوله عليه السلام، وهذا هو جماع الديانة كلها.
ووجدناه قد قال تعالى * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) * فأيقنا أن الدين قد كمل وتناهى، وكل ما كمل فليس لاحد أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه ولا أن يبدله.
فصح بهذه الآية يقينا أن الدين كله لا يؤخذ إلا عن الله عز وجل، ثم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي يبلغ إلينا أمر ربنا عز وجل ونهيه وإباحته، لا مبلغ إلينا شيئا عن الله تعالى أحد غيره.
وهو عليه السلام لا يقول شيئا من عند نفسه لكن عن ربه تعالى، ثم على ألسنة أولي الامر منا، فهم الذين يبلغون إلينا جيلا بعد جيل ما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، وليس لهم أن يقولوا من عند أنفسهم شيئا أصلا، لكن عن النبي عليه السلام، هذه صفة الدين الحق الذي كل ما عداه فباطل، وليس من الدين، إذ ما لم يكن من عند الله تعالى، فليس من دين الله أصلا، وما لم يبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فليس من الدين أصلا، وما لم يبلغه إلينا أولو الامر منا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس من الدين أصلا.
فبينا بحول الله تعالى وقوته غلط من غلط في هذا الباب، بأن ترك ما هو من الدين مخطئا غير عامد للمعصية، أو عامدا لها، أو أدخل فيه ما ليس منه كذلك، فلا يخرج البتة الخطأ في أحكام الديانة عن هذين الوجهين: إما ترك، وإما زيادة، ولخصنا الحق تلخيصا لا يشكل على نصح نفسه.
وقصد الله عز وجل بنيته وما توفيقنا إلا بالله عز وجل.
وجعلنا كتابنا هذا أبوابا لنقرب على من أراد النظر فيه، ويسهل عليه البحث عما أراد الوقوف عليه منه، رغبة منا في إيصال العلم إلى من طلبه، ورجاء ثواب الله عز وجل في ذلك، وبالله تعالى نتأيد.(1/11)
باب ترتيب الابواب، وهو الباب الثاني - إذ الباب الاول في صدر هذا الكتاب، وذكر الغرض فيه وهو الذي تم قبل هذا الابتداء.
الباب الثاني: هذا الذي نحن فيه وهو ترتيب أبواب هذا الكتاب
الباب الثالث: في إثبات حجج العقل وبيان ما يدركه على الحقيقة، وبيان غلط من ظن في العقل ما ليس فيه.
الباب الرابع: في كيفية ظهور اللغات التي يعبر بها عن جميع الاشياء ويتخاطب بها الناس.
الباب الخامس: في الالفاظ الدائرة بين أهل النظر.
الباب السادس: هل الاشياء في العقل على الحظر أو الاباحة. أو لا على واحد منها لكن على ترقب ما يرد فيها من خالقها عز وجل.
الباب السابع: في أصول أحكام الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي دليل أو لا.
الباب الثامن: في معنى البيان.
الباب التاسع: في تأخير البيان.
الباب العاشر: في القول بموجب القرآن.
الباب الحادي عشر: في الاخبار التي هي السنن - وفي بعض فصول هذا الباب - سبب الاختلاف الواقع بين الائمة.
الباب الثاني عشر: في الاوامر والنواهي الواردة في القرآن والسنة والاخذ بالظاهر منهما وحمل كل ذلك على الوجوب والفور.أو الندب أو التراخي.
الباب الثالث عشر: في حملها على العموم أو الخصوص.
الباب الرابع عشر: في أقل الجمع الوارد فيها.
الباب الخامس عشر: في الاستثناء منها.
الباب السادس عشر: في الكتابة بالضمير.
الباب السابع عشر: في الكتابة بالاشارة.
الباب الثامن عشر: في المجاز والتشبيه.(1/12)
الباب التاسع عشر: في أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الشئ يراه أو يبلغه فيقره صامتا عن الامر به أو النهي عنه.
الباب الموفي عشرين: في النسخ.
الباب الحادي والعشرون: في المتشابه من القرآن والمحكم، والفرق بينه وبين المتشابه المذكور في الحديث بين الحلال والحرام.
الباب الثاني والعشرون: في الاجماع.
الباب الثالث والعشرون: في استصحاب الحال وبطلان العقود والشروط إلا ما نص عليه منها أو أجمع على صحته، وهو باب من الدليل الاجماعي.
الباب الرابع والعشرون: في أقل ما قيل وهو أيضا نوع من أنواع الدليل الاجماعي.
الباب الخامس والعشرون: في ذم الاختلاف والنهي عنه.
الباب السادس والعشرون: في أن الحق في واحد وسائر الاقوال كلها خطأ.
الباب السابع والعشرون: في الشذوذ، ومعنى هذه اللفظة وإبطال التمويه بذكرها.
الباب الثامن والعشرون: في تسمية الفقهاء المعتد بهم في الخلاف بعد الصحابة رضي الله عنهم.
الباب التاسع والعشرون: في الدليل النظري والفرق بينه وبين القياس.
الباب الموفي ثلاثين: في لزوم الشريعة الاسلامية لكل مؤمن وكافر ووقت لزوم الشرائع للانسان.
الباب الحادي والثلاثون: في صفة طلب الفقه، وصفة المفتي، وصفة الاجتهاد وما يلزم لكل واحد طلبه من دينه.
الباب الثاني والثلاثون: في وجوب النيات في الاعمال والفرق بين الخطأ المقصود بلا نية الخطأ غير المقصود، والعمد المقصود بالفعل والنية جميعا وحيث يلحق عمل المرء غيره من إثم وبر وحيث لا يلحق.
الباب الثالث والثلاثون: في شرائع الانبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم أتلزمنا أم لا.(1/13)
الباب الرابع والثلاثون: في الاحتياط وقطع الذرائع.
الباب الخامس والثلاثون: في إبطال الاستحسان والاستنباط والرأي.
الباب السادس والثلاثون: في إبطال التقليد.
الباب السابع والثلاثون: في دليل الخطاب.
الباب الثامن والثلاثون: في إبطال القياس.
الباب التاسع والثلاثون: في إبطال العلل التي يدعيها أهل القياس والفرق بينها وبين العلل الطبيعية التي هي العلل على الحقيقة والكلام في الاسباب والاغراض والمعاني والعلامات والامارات.
الباب الموفي أربعين: في الاجتهاد ما هو وبيانه ومن هو معذور باجتهاده ومن ليس معذورا به، ومن يقطع عليه أنه أخطأ عند الله عز وجل فيما أداه إليه اجتهاده ومن لا يقطع عليه أنه مخطئ عند الله عز وجل وإن خالفناه.
الباب الثالث في إثبات حجج العقول
قال أبو محمد: قال قوم: لا يعلم شئ إلا بالالهام، وقال آخرون: لا يعلم شئ إلا بقول الامام، وهو عندهم رجل بعينه إلا أنه الآن منذ مائة عام وسبعين عاما معدوم المكان، متلف العين، ضالة من الضوال.
وقال آخرون: لا يعلم شئ إلا بالخبر.
وقال آخرون: لا يعلم شئ إلا بالتقليد، واحتجوا في إبطال حجة العقل بأن قالوا: قد يرى الانسان يعتقد بشئ ويجادل عنه، ولا يشك في أنه حق.
ثم يلوح له غير ذلك، فلو كانت حجج العقول صادقة لما تغيرت أدلتها.
قال أبو محمد: هذا تمويه فاسد، ولا حجة لهم على مثبتي حجج العقول في رجوع من رجع عن مذهب كان يعتقده، ويناضل عنه، لاننا لم نقل: إن كان معتقد لمذهب ما فهو محق فيه، ولا قلنا: إن كل ما استدل به مستدل ما على مذهبه فهو حق.(1/14)
ولو قلنا ذلك لفارقنا حكم العقول.
لكن قلنا: إن من الاستدلال ما يؤدي إلى مذهب صحيح إذا كان الاستدلال صحيحا مرتبا ترتيبا قويما على ما قد بيناه وأحكمناه غاية الاحكام في كتاب التقريب.
وقد يوقع الاستدلال إذا كان فاسدا
على مذهب فاسد، وذلك إذا خولف به طريق الاستدلال الصحيح، وقد نبهنا على الشعاب والعوارض المعترضة في طريق الاستدلال وبيناها وحذرنا منها في الكتاب المذكور، ولم ندع هنالك في تبيين كل ما ذكرناه علقة وأوضحناه غاية الايضاح.
فالراجع عن مذهب إلى مذهب لا بد له ضرورة من أن يكون أحد استدلالية فاسدا، إما الاول، وإما الثاني، وقد يكونان معا فاسدين، فيتنقل من مذهب فاسد إلى مذهبه فاسد.
أو من مذهب صحيح إلى مذهب فاسد، أو من مذهب فاسد إلى مذهب صحيح.
لا بد من أحد هذه الوجوه، ولا يجوز أن يكونا صحيحين معا البتة.
لان الشئ لا يكون حقا بإطلاق في وقت واحد من وجه واحد.
وقد يكون أقساما كثيرة كلها باطل إلا واحدا فينتقل المرء من قسم فاسد منها إلى آخر فاسد، وهذا إنما يعرض لمن غبن عقله ولم ينعم النظر، فمال بهوى أو تهور بشهوة، أو أحجم لفرط جبنه، أو لمن كان جاهلا بوجوه طرق الاستدلال الصحيحة لم يطالعها ولا تعلمها.
وأكثر ما يقع ذلك فيما يأخذ من مقدمات بعيدة، فكان الطريق المؤدي من أوائل المعارف إلى صحة المذهب المطلوب طريقا بعيدا كثير الشعب، فيكل فيها الذهن الكليل، ويدخل مع طول الامر وكثرة العمل ودقته السآمة، فيتولد فيها الشك والخبال والسهو، كما يدخله ذلك على الحاسب في حسابه، على أن الحساب علم ضروري لا يتناقض فيجد أعدادا متفرقة في قرطاس، فإذا أراد الحاسب جمعها فإن كثرت جدا فربما غفل وغلط، حتى إذا حقق وتثبت ولم يشغل خاطره بشئ وقف على اليقين بلا شك.(1/15)
هذا شئ يوجد حسا كما ترى، وقد يدخل أيضا على الحواس، فيرى المرء بعينه شخصا، فربما ظنه زيدا وكابر عليه، حتى إذا تثبت فيه علم أنه عمرو، وهكذا
يعرض في الصوت المسموع وفي المشموم وفي الملموس وفي المذوق، وقد يعرض ذلك الشئ، يطلبه المرء وهو بين يديه في جملة أشياء كثيرة فيطول عناؤه في طلبه ويتعذر عليه وجوده، ثم يجده بعد ذلك، فلا يكون عدم وجوده إياه مبطلا لكونه بين يديه حقيقة، فكذلك يعرض في الاستدلال، وليس شئ من ذلك بموجب بطلان صحة إدراك الحواس، ولا صحة إدراك العقل الذي به علمت صحة ما أدركته الحواس، ولولاه لم نعلم أصلا، كما أن حواس المجنون المطب والمغشي عليه لا يكاد ينتفع بها، وقل ما يعرض هذا في أعداد يسيرة ولا فيما أخذ بمقدمات قريبة من أوائل المعارف، ولا سبيل إلى أن يعرض ذلك فيما أوجبته أوائل المعارف إلا لسوفسطائي رقيع، يعلم يقينا بقلبه أنه كاذب، وأنه مبطل وقاح، أو لمرور ممسوس ينبغي أن يعالج دماغه، فهذا معذور، وإنما نكلم الانفس لسنا نقصد بكلامنا الالسنة.
ولا علينا قصر الالسنة بالحجة إلى الاذعان بالحق، وإنما علينا قسر الانفس إلى تيقن معرفته فقط.
فهذا الذي ظنوه من رجوع من كان على مذهب ما إلى مذهب آخر أن ذلك كله حجج عقل تفاسدت، إنما هو خطأ صريح، فمن هنا دخلت عليهم الشبهة، وإنما بيان ذلك أن ما كان من الدلائل صحيحا مسبورا محققا، فهو حجة العقل، وما كان منها بخلاف ذلك فليست حجة عقل، بل العقل يبطلها، فسقط ما ظنوا والحمد لله رب العالمين.
وقد أحكمنا هذا غاية الاحكام والحمد لله رب العالمين، في باب أفردناه لهذا المعنى في آخر كتابنا الموسوم بالفصل، ترجمته (باب الكلام على من قال بتكافؤ الادلة).
وقد سألوا أيضا فقالوا: بأي شئ عرفتم صحة حجة العقل ؟ أبحجة عقل أم بغير ذلك ؟ فإن قلتم: عرفناها بحجة العقل ففي ذلك نازعناكم، وإن قلتم بغير ذلك فهاتوه.
قال أبو محمد، وهذا سؤال مبطل الحقائق كلها، والجواب على ذلك وبالله تعالى(1/16)
التوفيق: أن صحة ما أوجبه العقل عرفناه بلا واسطة وبلا زمان، ولم يكن بين أول أوقات فهمنا، وبين معرفتنا بذلك مهلة البتة، ففي أول أوقات فهمنا علمنا أن الكل أكثر من الجزء، وأن كل شخص فهو غير الشخص الآخر، وأن الشئ لا يكون قائما قاعدا في حال واحدة، وأن الطويل أمد من القصير وبهذه القوة عرفنا صحة ما توجبه الحواس، وكلما لم يكن بين أول أوقات معرفة المرء وبين معرفته به مهلة ولا زمان، فلا وقت للاستدلال فيه، ولا يدري أحد كيف وقع له ذلك، إلا أنه فعل الله عز وجل في النفوس فقط.
ثم من هذه المعرفة أنتجنا جميع الدلائل.
ثم نقول له إن كنت مسلما بالقرآن يوجب صحة حجج العقول على ما سنورده في آخر هذا الباب إن شاء الله تعالى، فإن كلامنا في هذا الديوان إنما هو مع أهل ملتنا.
وأما إن كان المكلم به لنا غير مسلم فقد أجبناه عن هذا السؤال في كتابنا الموسوم بالفصل، وكتابنا الموسوم بالتقريب، وتقصينا هذا الشك وبينا خطأه بعون الله تعالى، وليس كتابنا هذا مكان الكلام مع هؤلاء.
قال أبو محمد: ويقال لمن قال بإلهام: ما الفرق بينك وبين من ادعى أنه ألهم بطلان قولك فلا سبيل له إلى الانفصال عنه.
والفرق بين هذه الدعوى ودعوى من ادعى أنه يدرك بعقله خلاف ما يدركه ببديهة العقل، وبين ما لا يدركه بأوائل العقل أن كل من في المشرق والمغرب إذا سئل عما ذكرناه أننا عرفناه بأوائل العقل أخبر بمثل ما نخبر سواء، وأن المدعين للالهام، ولادراك ما يدركه غيرهم بأول عقله، لا يتفق اثنان منهم على ما يدعيه كل واحد منهم، إلهاما أو إدراكا، فصح بلا شك أنهم كذبة.
وأن الذي بهم وسواس.
وأيضا فإن الالهام دعوى مجردة من الدليل، ولو أعطي كل امرئ بدعواه المعراة لما ثبت حق، ولا بطل باطل،
ولا استقر ملك أحد على مال ولا انتصف من ظالم، ولا صحت ديانة أحد أبدا، لانه لا يعجز أحد عن أن يقول: ألهمت أن دم فلان حلال، وأن ماله مباح لي أخذه، وأن زوجه مباح لي وطؤها، وهذا لا ينفك منه، وقد يقع في النفس وساوس كثيرة لا يجوز أن تكون حقا، وأشياء متضادة يكذب بعضها بعضا، فلا بد من حاكم(1/17)
يميز الحق منها من الباطل، وليس ذلك إلا العقل الذي لا تتعارض دلائله.
وقد بينا ذلك في كتاب التقريب.
وقال أبو محمد: ويقال لمن قال بالامام: بأي شئ عرفت صحة قول الامام، أببرهان أم بمعجزة أم بإلهام ؟ أم بقوله مجردا ؟.
فإن قال ببرهان كلف بأن يأتي به، ولا سبيل له إليه، وإن قال بمعجزة ادعى البهتان لاسيما الآن وهم يقرون أنه قد خفي عنهم موضعه منذ مائة وسبعين عاما، وإن قالوا بالالهام سئلوا بما ذكرنا في إبطال الالهام، وإن قالوا بقوله مجردا سئلوا عن الفرق بين قوله وقول خصومهم في إبطال مذاهبهم دون دليل، ولا سبيل إلى وجه خامس أصلا.
قال أبو محمد: ويقال لمن قال بالتقليد: ما الفرق بينك وبين من قلد غير الذي قلدت أنت، بل كفر من قلدته أنت أو جهله.
فإن أخذ يستدل في فضل من قلده كان قد ترك التقليد، وسلك في طريق الاستدلال من غير التقليد، وقد أفردنا في إبطال التقليد بابا ضخما قرب آخر كتابنا هذا استوعبنا فيه إبطاله وبالله التوفيق.
قال أبو محمد علي: ويقال لمن قال لا يدرك شئ إلا من طريق الخبر، أخبرنا الخبر كله حق ؟ أم كله باطل ؟ أم منه حق وباطل ؟ فإن قال هو باطل كله كان قد أبطل ما ذكر أنه لا يعلم شئ إلا به، وفي هذا إبطال قوله وإبطال جميع العلم، وإن قال حق كله، عورض بأخبار مبطلة لمذهبه، فلزمه ترك مذهبه لذلك أو اعتقاد الشئ وضده في وقت واحد، وذلك ما لا سبيل إليه، وكل مذهب أدى إلى المحال وإلى
الباطل فهو باطل ضرورة، فلم يبق إلا أن من الخبر حقا وباطلا، فإذا كان كذلك بطل أن يعلم صحة الخبر بنفسه، إذ لا فرق بين صورة الحق منه وصورة الباطل فلا بد من دليل يفرق بينهما، وليس ذلك إلا لحجة العقل المفرقة بين الحق والباطل.
قال أبو محمد علي: ثم يقال لجميعهم: بأي شئ عرفتم صحة ما تدعون إليه، وصحة(1/18)
التوحيد والنبوة، ودينك الذي أنت عليه، أبعقل ذلك على صحة كل ذلك أم بغير عقل ؟ وبأي شئ عرفت فضل من قلدت، أو صحة ما ادعيت أنك ألهمته بعد أن لم تكن ملهما إليه ولا مقلدا له برهة من دهرك ؟ وبأي شئ عرفت صحة ما بلغك من الاخبار بعد أن لم تكن بلغتك ؟ وهل لك من عقل أم لا عقل لك ؟ فإن قال: عرفت كل ذلك بلا عقل ولا عقل لي فقد كفينا مؤنته، وبلغنا في نفسه أكثر مما رغبنا منه، فإننا إنما رغبنا منه الاعتراف بالخطأ، فقد زادنا في نفسه منزلة لم نرغبها منه، وسقط الكلام معه ولزمنا السكوت عنه، وإلا كنا في نصاب من يكلم السكارى الطافحين والمجانين المتعرين على الطرق.
فإن قال: لي عقل وبعقلي عرفت ما عرفت فقد أثبت العقل وترك مذهبه الفاسد ضرورة.
قال أبو محمد: واحتجوا في إبطال الجدال والمناظرة بآيات ذكروها وهي قوله تعالى * (لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) * والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد) *.
قال أبو محمد: وهذه الآية مبينة وجه الجدال المذموم، وهو قوله تعالى: فيمن يحاج بعد ظهور الحق، وهذه صفة المعاند للحق، الآبي من قبول الحجة بعد ظهورها، وهذا مذموم عند كل ذي عقل.
ومنها قوله تعالى: * (وقالوا أآلهتنا خير
أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون) *.
قال أبو محمد: وإنما ذم تعالى في هذه الآية من خاصم وجادل في الباطل، وعارض الآلهة التي كانوا يعبدون من حجارة لا تعقل بعيسى النبي العبد المؤيد بالمعجزات، من إحياء الموتى وغير ذلك.
ومنها قوله تعالى: * (ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص) *، ومنها قوله تعالى: * (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعني قال أبو محمد قال تعالى: * ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا) * فصح بهذه الآية أن كلام الله تعالى لا يتعارض ولا يختلف، فوجدناه تعالى أثنى على الجدال بالحق وأمر به، فعلمنا يقينا أن الذي أمر به تعالى هو غير الذي نهى عنه بلا شك، فنظرنا في ذلك لنعلم وجه الجدال المنهي عنه المذموم، ووجه(1/19)
الجدال المأمور به المحمود، لانا قد وجدناه تعالى قد قال: ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين) * ووجدناه تعالى قد قال: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) * فكان تعالى قد أوجب الجدال في هذه الآية، وعلم فيها تعالى جميع آداب الجدال كلها من الرفق والبيان، والتزام الحق والرجوع إلى ما أوجبته الحجة القاطعة.
وقال تعالى: * (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين ئ فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين) *.
ولم يأمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا شكا في صدق ما يدعو إليه، ولكن قطعا لحجتهم وحسما لدعواهم وإلزاما لهم، مثل ما التزم لهم من رجوعه إلى الاهدى واتباعه الامر الاصوب، وإعلاما لنا أن من لم يأت بحجة على قوله يصير بها أهدى من قول خصمه، ويبين أن الذي يأتي به هو من عند الله عز وجل، فليس صادقا وإنما هو متبع لهواه.
وقال تعالى: * (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني
له ما في السماوات وما في الارض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون ئ قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) *.
قال أبو محمد: ففي هذه الآية بيان أنه لا يقبل قول أحد إلا بحجة، والسلطان ههنا بلا اختلاف من أهل العلم واللغة هو الحجة، وإن من لم يأت على قوله بحجة فهو مبطل بنص حكم الله عز وجل، وأنه مفتر على الله تعالى، وكاذب عليه عز وجل بنص الآية لا تأويل ولا تبديل، وأنه لا يفلح إذا قال قولة لا يقيم على صحتها حجة قاطعة، ووجدناه تعالى قد علمنا في هذه الآيات وجوه الانصاف الذي هو غاية العدل في المناظرة، وهو أنه من أتى ببرهان ظاهر وجب الانصراف إلى قوله.
وهكذا نقول نحن اتباعا لربنا عز وجل بعد صحة مذاهبنا لا شكا فيها ولا خوفا منه أن يأتينا أحد بما يفسدها، ولكن ثقة منا بأنه لا يأتي أحد بما يعارضها به أبدا، لاننا ولله الحمد أهل التخليص والبحث، وقطع العمر في طلب تصحيح الحجة واعتقاد الادلة، قبل اعتقاد مدلولاتها، حتى وفقنا، ولله تعالى الحمد على ما ثلج اليقين، وتركنا أهل الجهل والتقليد في ريبهم يترددون.(1/20)
وكذلك نقول فيما لم يصح عندنا حتى الآن فنقول مجدين مقرين إن وجدنا ما هو أهدى منه اتبعناه وتركنا ما نحن عليه.
وإنما هذا في مسائل تعارضت فيها الاحاديث والآي في ظاهر اللفظ، ولم يقم لنا بيان الناسخ من المنسوخ فيها فقط أو في مسائل وردت فيها أحاديث لم تثبت عندنا، ولعلها ثابتة في نقلها، فإن بلغنا ثباتها صرنا إلى القول بها، إلا أن هذا في أقوالنا قليل جدا والحمد لله رب العالمين.
وأما سائر مذاهبنا فنحن منها على غاية اليقين وقال تعالى: * (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) * فأمر عز وجل كما ترى
بإيجاب المناظرة في رفق، وبالانصاف في الجدال، وترك التعسف والبذاء والاستطالة إلا على من بدأ بشئ من ذلك، فيعارض حينئذ بما ينبغي.
وقال تعالى: * (فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) * والسلطان الحجة كما ذكرنا وقال تعالى: (ألم تر إلى الذي حاج ابراهيم في ربه) فذكر عز وجل تقرير ابراهيم عليه السلام قومه على نقله الكواكب والشمس والقمر التي كانوا يعبدون من دون الله، وأن ذلك لدليل على خلقها، وبرهان على حدوثها فقال عز وجل: * (وتلك حجتنا آتيناهآ إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم) *.
وقد أمرنا تعالى في نص القرآن باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وخبرنا تعالى أن من ملة إبراهيم المحاجة والمناظرة، فمرة للملك ومرة لقومه، والاستدلال كما أخبرنا تعالى عنه، ففرض علينا اتباع المناظرة لنصرف أهل الباطل إلى الحق وأن نطلب الصواب بالاستدلال فيما اختلف فيه المختلفون.
قال الله عز وجل: * (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) * فنحن المتبعون لابراهيم عليه السلام في المحاجة والمناظرة، فنحن أولى الناس به، وسائر الناس مأمورون بذلك.
قال الله تعالى: * (قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) * ومن ملته المناظرة كما ذكرنا، فمن نهى عن المناظرة والحجة فليعلم أنه عاص لله عز وجل ومخالف لملة إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما.
قال الله عز وجل، وقد أثنى على أصحاب(1/21)
الكهف: * (نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلو بهم إذا قاموا فقالوا ربنا رب السموات والارض لن ندعو من دونه إليها لقد قلنا أذا شططا.
هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بساهان بين، فمن أظلم ممن افترى * فأثنى الله عز وجل عليهم في إنكارهم قول قومهم إذ لم يقم قومهم على قولهم حجة بينه وصدقهم تعالى في قولهم أن من ادعى قولا بلا دليل فهو مفتر على الله عز وجل الكذب.
وقال تعالى: * (ومن أظلم ممن ذكر بآيات
ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون) * فلا أظلم ممن قامت عليه الحجة من كتاب الله تعالى، ومن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه، وهو الحجة القاطعة والبرهان الصادع وقال الله تعالى: * (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * وقال تعالى: * (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين) * فأخبر تعالى كما تسمع أن ما اتبع قولا وافقه بلا علم بصحته فهو ظالم، وإن من لم يرجع إلى ما يسمع من الحق فهو من أهل النار، وقال تعالى: * (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين) * أنكر الله تعالى أن يكذب المرء بما لا يعلم.
فقال تعالى: * (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله فصح بكل ماذ كرنا الوقوف عما لا نعلم والرجوع إلى ما أوجبته الحجة بعد قيامها وقال تعالى: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه
قال أبو محمد: في هذه الآية كفاية في إيجاب ألا يصدق أحد بما لم تقم عليه حجة، وألا يأتي ما قامت عليه الحجة، فمن أظلم ممن عرف ما ذكرنا وأخذ بوسواس يقوم في نفسه، أو بخبر لم يقم على وجوب تصديقه برهان، أو قلد إنسانا مثله لعله عند الله تعالى على خلاف ما يظن، وعلى كل حال فهو معصوم لكن يخطئ ويصيب.
وقال تعالى: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) فأوجب تعالى أن من كان صادقا في دعواه فعليه أن يأتي بالبرهان وإن لم يأت بالبرهان فهو كاذب مبطل، أو جاهل.
وقال تعالى: * (هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) * فلم يوجب تعالى المحاجة إلا بعلم، ومنع منها بغير علم.
وقال تعالى: * (فلا تمار فيهم إلا مرآء ظاهرا)(1/22)
قال أبو محمد: فلما وجدنا الله تعالى قد أمر في الآيات التي ذكرنا بالحجاج والمناظرة، ولم يوجب قبول شئ إلا ببرهان، وجب علينا تطلب الحجاج المذموم
على ما قدمناه فوجدناه قد قال: * (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق فذم تعالى الباطل، وأبطل تعالى بذلك قول المجانين كل مفتون ملقن حجة، وبين تعالى أن المفتون هو الذي لا يلقن حجة، وأن المحق هو الملقن حجة على الحقيقة وهم أهل الحق.
وقال تعالى: * (الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) *.
فقد جمعت هذه الآيات بيان الجدال المذموم، والجدال المحمود الواجب، فالواجب هو الذي يجادل متوليه في إظهار الحق، والمذموم وجهان بنص الآيات التي ذكرنا: أحدهما من جادل بغير علم والثاني من جادل ناصرا للباطل بشغب وتمويه بعد ظهور الحق إليه، وفي هذا بيان أن الحق في واحد، وأنه لا شئ إلا ما قامت عليه حجة العقل، وهؤلاء المذمومون الذين قال الله تعالى فيهم: * (ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون) * وقوله تعالى: * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد) * وقوله تعالى: * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ئ ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق) * وبقوله تعالى: * (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد ئ كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب) * فبين تعالى كما ترى أن الجدال ا لمحرم هو الجدال الذي يجادل به لينصر الباطل ويبطل الحق بغير علم.
قال أبو محمد: ويقال لمن أبى عن مطالبته الجدال ومعاناة طلب البرهان أن فرعون قال: * (مآ أريكم إلا مآ أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) * * (وقال الذي آمن يقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد) *، فبأي شئ يعرف المحق منهما من
المبطل: هل يجوز أن يعرف ذلك إلا بدلائل غير كلامها ؟.(1/23)
فهذا كلام العزيز الجبار الخالق البارئ قد نصصناه في اتباع البرهان، وتكذيب قول من لا حجة في يديه، وهو الذي لا يسع مسلما خلافه.
لا قول من قال اذهب إلى شاك مثلك فناظره، فيقال له: أترى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شاكا إذ علمه ربه تعالى مجادلة أهل الكتاب وأهل الكفر، وأمره بطلب البرهان، وإقامة الحجة على كل من خالفه، ولا قول من قال: أو كلما جاء رجل هو أجدل من رجل تركنا ما نحن عليه، أو كلاما هذا معناه.
قال أبو محمد: وهذا كلام يستوي فيه مع قائله كل ملحد على ظهر الارض، فلئن وسع هذا القائل ألا يدع ما وجد عليه سلفه بلا حجة لحجة ظاهرة واردة عليه، ليسعن اليهودي والنصراني ألا يدعا ما وجدا عليه سلفهما تقليدا بلا برهان، وألا يقبلا برهان الاسلام الواردة عليهما وحجته القاطعة.
قال الله عز وجل ألا لعنة الله على الظلالمين الذين يصدوق عن سبيل الله ويبغونها عوجا.
قال أبو محمد: فإذا قد حض الله تعالى على المجادلة بالحق وأمر بطلب البرهان فقد صح أن طلب الحجة هي سبيل الله عز وجل، بالنص الذي ذكرنا أن من نهى عن ذلك وصد عنه، فهو صاد عن سبيل الله تعالى، ظالم ملعون بلا تأويل إلا الا عين النص الوارد من قبل الله تعالى وبالله نعتصم.
وقال تعالى: * (ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح.
ولا غيظ أغيظ على الكفار والمبطلين من هتك أقوالهم بالحجة الصادعة، وقد تهزم العساكر الكبار، والحجة الصحيحة لا تغلب أبدا، فهي أدعى إلى الحق، وأنصر للدين من السلاح الشاكي، والاعداد الجمة، وأفاضل الصحابة الذين لا نظير
لهم، إنما أسلموا بقيام البراهين على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم، فكانوا أفضل ممن أسلم بالغلبة بلا خلاف من أحد من المسلمين.
وأول ما أمر الله عز وجل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يدعو له الناس بالحجة البالغة بلا قتال، فلما قامت الحجة وعاندوا الحق، أطلق الله تعالى السيف حينئذ وقال تعالى: * (قل فلله الحجة البالغة فلو شآء لهداكم أجمعين) *.
وقال تعالى: * (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولا شك في أن هذا إنما هو بالحجة لان السيف مرة لنا ومرة علينا، وليس كذلك(1/24)
البرهان، بل هو لنا أبدا، ودامغ لقول مخالفينا، ومزهق له أبدا.
ورب قوة باليد قد دمغت بالباطل حقا كثيرا فأزهقته، منها يوم الحرة ويوم قتل عثمان رضي الله عنه، ويوم قتل الحسين وابن الزبير رضي الله عنهم، ولعن قتلتهم، وقد قتل أنبياء كثير وما غلبت حجتهم قط.
قال أبو محمد: وقد علمنا عز وجل الحجة على الدهرية في قوله تعالى: * (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الارحام وما تزداد وكل شئ عنده بمقدار) *.
وقوله تعالى: * (ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شئ عددا) * وعلمنا الحجة على الثنوية بقوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون) * وعلى النصارى وعلى جميع الملل، وقد بينا ذلك في كتابنا المرسوم بكتاب الفصل ورأينا فيه عظيم ما أفادنا الله تعالى في ذلك من الحكمة والعلم بالمحاجة وإظهار البرهان بغاية الايجاز والاختصار.
وقد أمر الله بالجدال على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ،كما اخبرنا عبد الله بن الربيع قال: أنبأنا محمد بن إسحاق بن السليم، حدثنا ابن الاعرابي، أنبأنا أبو داود، أبو موسى بن إسماعيل، ثنا حماد هو ابن سلمة عن حميد عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم.
قال أبو محمد: وهذا حديث في غاية الصحة، وفيه الامر بالمناظرة وإيجابها كإيجاب الجهاد والنفقة في سبيل الله.
قال أبو محمد: وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع السؤال موضعه وكيفية المحاجة في الحديث الذي ذكر محاجة آدم موسى صلى الله عليهما وسلم حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، عن ابن أبي عمر المكي ومحمد بن حاتم وغيرهما، واللفظ لابن حاتم كلاهما عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، هو ابن دينار، عن طاوس قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، وخط لك بيده، أتلومني على أمر قدر الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة.
فحج آدم موسى.(1/25)
قال أبو محمد: فموسى صلى الله عليه وسلم وضع الملامة في غير موضعها، فصار محجوجا، وذلك لانه لام آدم صلى الله عليه وسلم على أمر لم يفعله، وهو خروج الناس من الجنة، وإنما هو فعل الله عز وجل، ولو أن موسى لام آدم على خطيئته الموجبة لذلك لكان واضعا للملامة موضعها، ولكان آدم محجوجا وليس أحد ملوما إلا على ما يفعله لا على ما تولد من فعله، ولا مما فعله غيره.
والكافر إنما يلام على الفعل، لا على دخول النار، والقاتل إنما يلام على فعله، لاعلى موت مقتوله ولا على أخذ القصاص منه.
فعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث كما ترى كيف نسأل عند المحاجة، وبين لنا صلى الله عليه وسلم أن المحاجة جائزة، وأن من أخطأ موضع السؤال كان محجوجا، وظهر بذلك قول الله عز وجل: * (كمآ أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) *.
والذي ذكرنا هو نص الحديث لا ما ظنه من يتعسف الكلام ويحرفه عن
مواضعه، ويطلب فيه ما ليس فيه، وليس هذا الحديث من باب إثبات القدر في شئ، وإثبات القدر إنما يصح من أحاديث أخر وآيات أخر.
قال أبو محمد: وقد تحاج المهاجرون والانصار وسائر الصحابة رضوان الله عليهم، وحاج ابن عباس الخوارج بأمر علي رضى الله عنه، وما أنكر قط أحد من الصحابة الجدال في طلب الحق.
فلا معنى لقول لمن جاء بعدهم.
وبالجملة فلا أضعف ممن يروم إبطال الجدال بالجدال.
ويريد هدم جميع الاحتجاج بالاحتجاج، ويتكلف فساد المناظرة بالمناظرة، لانه مقر على نفسه أنه يأتي بالباطل، لان حجته هي بعض الحجج التي يريد إبطال جملتها.
وهذه طريق لا يركبها إلا جاهل ضعيف، أو معاند سخيف.
والجدال الذي ندعو إليه هو طلب الحق ونصره.
وإزهاق الباطل وتبينه.
فمن ذم طلب الحق وأنكر هدم الباطل فقد ألحد.
وهو من أهل الباطل حقا.
والخصام بالباطل هو اللدد الذي قال فيه عليه السلام: أبغض الرجال إلى الله الالد الخصم أو كما قال صلى الله عليه وسلم .
فإذا قد بطلت كل طريق ادعاها خصومنا في الوصول إلى الحقائق من الالهام(1/26)
والتقليد، وثبت أن الخبر لا يعلم صحته بنفسه، ولا يتميز حقه من كذبه، وواجبه من غير واجبه، إلا بدليل من غيره، فقد صح أن المرجوع إليه حجج العقول وموجباتها، وصح أن العقل إنما هو مميز بين صفات الاشياء الموجودات، وموقف للمستدل به على حقائق كيفيات الامور الكائنات، وتمييز المحال منها.
وأما من ادعى أن العقل يحلل أو يحرم، أو أن العقل يوجد عللا موجبة لكون ما أظهر الله الخالق تعالى في هذا العالم من جميع أفاعيله الموجود فيه من الشرائع وغير الشرائع، فهو بمنزلة من أبطل موجب العقل جملة.
وهما طرفان
أحدهما أفرط فخرج عن حكم العقل، والثاني قصر فخرج عن حكم العقل، ومن ادعى في العقل ما ليس فيه كمن أخرج منه ما فيه، ولا فرق.
ولا نعلم فرقة أبعد من طريق العقل من هاتين الفرقتين معا، إحداهما: التي تبطل حجج العقل جملة.
والثانية: التي تستدرك بعقولها على خالقها عز وجل أشياء لم يحكم فيها ربهم بزعمهم، فثقفوها هم ورتبوها رتبا أوجبوا أن لا محيد لربهم تعالى عنها، وأنه لا تجري أفعاله عز وجل إلا تحت قوانينها.
لقد افترى كلا الفريقين على الله عز وجل إفكا عظيما، وأتوا بما تقشعر منه جلود أهل العقول.
وقد بينا أن حقيقة العقل إنما هي تمييز الاشياء المدركة بالحواس وبالفهم ومعرفة صفاتها التي هي عليها جارية على ما هي عليه فقط من إيجاب حدوث العالم، وأن الخالق واحد لم يزل، وصحة نبوة من قامت الدلائل على نبوته، ووجوب طاعة من توعدنا بالنار على معصيته، والعمل بما صححه العقل من ذلك كله، وسائر ما هو في العالم موجود، مما عدا الشرائع، وأن يوقف على كيفيات كل ذلك فقط.
فأما أن يكون العقل يوجب أن يكون الخنزير حراما أو حلالا، أو يكون التيس حراما أو حلالا، أو أن تكون صلاة الظهر أربعا وصلاة المغرب ثلاثا أو أن يمسح على الرأس في الوضوء دون العنق، أو أن يحدث المرء من أسفله فيغسل أعلاه، أو أن يتزوج أربعا ولا يتزوج خمسا، أو أن يقتل من زنى وهو محصن وإن عفي عنه زوج المرأة وأبوها ولا يقتل قاتل النفس المحرمة عمدا إذا عفا عنه أولياء المقتول.
أو أن يكون الانسان ذا عينين دون أن يكون ذا ثلاثة أعين أو أربع، أو أن تخص(1/27)
صورة الانسان بالتمييز دون صورة الفرس، أو أن تكون الكواكب المتحيرة سبعا دون أن تكون تسعا، وكذلك سائر رتب العالم كلها.
فهذا ما لا مجال للعقل
فيه لا في إيجابه ولا في المنع منه، وإنما في العقل الفهم عن الله تعالى لاوامره، ووجوب ترك التعدي إلى ما يخاف العذاب على تعديه، والاقرار بأن الله تعالى يفعل ما يشاء، ولو شاء أن يحرم ما أحل أو يحل ما حرم لكان ذلك له تعالى، ولو فعله لكان فرضا علينا الانقياد لكل ذلك ولا مزيد.
ومعرفة صفات كل ما أدركنا معرفته مما في العالم وأنه على صفة كذا وهيئة كذا كما أحكمه ربه تعالى ولا زيادة فيه وبالله تعالى التوفيق، وإليه الرغبة في دفع ما لا نطيق.
الباب الرابع في كيفية ظهور اللغات أعن توقيف أم عن اصطلاح
قال أبو محمد: أكثر الناس في هذا، والصحيح من ذلك أصل الكلام توقيف من الله عز وجل بحجة سمع وبرهان ضروري.
فأما السمع فقول الله عز وجل: * (وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين) *.
وأما الضروري بالبرهان: فهو أن الكلام لو كان اصطلاحا لما جاز أن يصطلح عليه إلا قوم قد كملت أذهانهم، وتدربت عقولهم، وتمت علومهم، ووقفوا على الاشياء كلها الموجودة في العالم وعرفوا حدودها واتفاقها، واختلافها وطبائعها وبالضرورة نعلم أن بين أول وجود الانسان وبين بلوغه هذه الصفة سنين كثيرة جدا يقتضي في ذلك تربية وحياطة وكفالة من غيره.
إذ المرء لا يقوم بنفسه إلا بعد سنين من ولادته.
ولا سبيل إلى تعايش الوالدين والمتكفلين والحضان إلا بكلام يتفاهمون به مراداتهم فيما لا بد لهم منه، فيما يقوم معايشهم من حرث أو ماشية أو غراس، ومن معاناة ما يطرد به الحر والبرد والسباع، ويعاني به الامراض، ولا بد لكل هذا من أسماء يتعارفون بها ما يعانونه من ذلك.
وكل إنسان فقد كان في حالة الصغر التي ذكرنا من امتناع الفهم والاحتياج إلى كافل، والاصطلاح يقتضي وقتا لم يكن موجودا قبله، لانه عمل المصطلحين، وكل عمل لا بد من أن يكون
له أو فكيف كانت حال المصطلحين على وضع اللغة قبل اصطلاحهم عليه، فهذا من الممتنع المحال ضرورة.(1/28)
قال علي: وهذا دليل برهاني ضروري من أدلة حدوث النوع الانساني، ومن أدلة وجود الواحد الخالق الاول تبارك وتعالى، ومن أدلة وجود النبوة والرسالة لانه لا سبيل إلى بقاء أحد من الناس ووجوده دون كلام، والكلام حروف مؤلفة، والتأليف فعل فاعل ضرورة لا بد له من ذلك، وكل فعل فعله فله زمان ابتدئ فيه، لان الفعل حركة تعدها المدد، فصح أن لهذا التأليف أولا، والانسان لا يوجد دونه.
وما لم يوجد قبل ما له أول فله أول ضرورة، فصح أن للمحدث محدثا بخلافة، وصح أن ما علم من ذلك مما هو مبتدأ من عند الخالق تعالى مما ليس في الطبيعة معرفته دون تعليم فلا يمكن البتة معرفته إلا بمعلم علمه الباري إياه.
ثم علم هو أهل نوعه ما علمه ربه تعالى.
قال علي: وأيضا فإن الاصطلاح على وضع لغة لا يكون ضرورة إلا بكلام متقدم بين المصطلحين على وضعها.
أو بإشارات قد اتفقوا على فهمها.
وذلك الاتفاق على فهم تلك الاشارات لا يكون إلا بكلام ضرورة ومعرفة حدود الاشياء وطبائعها التي عبر عنها بألفاظ اللغات لا يكون إلا بكلام وتفهيم.
لابد من ذلك.
فقد بطل الاصطلاح على ابتداء الكلام.
ولم يبق إلا أن يقول قائل: إن الكلام فعل الطبيعة.
قال علي: وهذا يبطل ببرهان ضروري.
وهو أن الطبيعة لا تفعل إلا فعلا واحدا لا أفعالا مختلفة، وتأليف الكلام فعل اختياري متصرف في وجوه شتى.
وقد لجأ بعضهم إلى نوع من الاختلاط، وهو أن قال: إن الاماكن أوجبت بالطبع على ساكنيها النطق بكل لغة نطقوا بها.
قال علي: وهذا محال ممتنع، لانه لو كانت اللغات على ما توجبه طبائع الامكنة لما أمكن وجود كل مكان إلا بلغته التي يوجبها طبعه.
وهذا يرى بالعيان بطلانه لان كل مكان في الاغلب قد دخلت فيه لغات شتى على قدر تداخل أهل اللغات ومجاورتهم.
فبطل ما قالوا: وأيضا فليس في طبع المكان أن يوجب تسمية الماء ماء دون أن يسمى باسم آخر مركب من حروف الهجاء.
ومن كابر في هذا، فإما مجاهر بالباطل وإما عديم عقل، لا بد له من أحد هذين الوجهين.
فصح أنه توقيف من أمر الله عز وجل وتعليم منه تعالى.(1/29)
إلا أننا لا ننكر اصطلاح الناس على إحداث لغات شتى بعد أن كانت لغة واحدة وقفوا عليها، بها علموا ماهية الاشياء وكيفياتها وحدودها، ولا ندري أي لغة هي التي وقف آدم عليه السلام عليها أولا، إلا أننا نقطع على أنها أتم اللغات كلها، وأبينها عبارة، وأقلها إشكالا، وأشدها اختصارا وأكثرها وقوع أسماء مختلفة على المسميات كلها المختلفة من كل ما في العالم من جوهر أو عرض لقول الله عز وجل: * (وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين) * فهذا التأكيد يرفع الاشكال ويقطع الشغب فيما قلنا.
وقد قال قوم: هي السريانية وقال قوم: هي اليونانية: وقال قوم: هي العبرانية.
وقال قوم هي العربية.
والله أعلم.
إلا أن الذي وقفنا عليه وعلمناه يقينا أن السريانية والعبرانية والعربية هي لغة مضر وربيعة لا لغة حمير، لغة واحدة تبدلت بتبدل مساكن أهلها فحدث فيها جرش كالذي يحدث من الاندلسي، وإذا رام نغمة أهل القيروان، ومن القيرواني إذا رام نغمة الاندلسي، ومن الخراساني إذا رام نغمتها.
ونحن نجد من سمع لغة أهل فحص البلوط وهي على ليلة واحدة من قرطبة كاد أن يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل
قرطبة.
وهكذا في كثير من البلاد فإنه بمجاورة أهل البلدة بأمة أخرى تتبدل لغتها تبديلا لا يخفى على من تأمله.
ونحن نجد العامة قد بدلت الالفاظ في اللغة العربية تبديلا وهو في البعد عن أصل تلك الكلمة كلغة أخرى ولا فرق.
فنجدهم يقولون في العنب: العينب وفي السوط أسطوط.
وفي ثلاثة دنانير ثلثدا.
وإذا تعرب البربري فأراد أن يقول الشجرة قال السجرة.
وإذا تعرب الجليقي أبدل من العين والحاء هاء فيقول مهمدا إذا أراد أن يقول محمدا.
ومثل هذا كثير.
فممن تدبر العربية والعبرانية السريانية أيقن أن اختلافهما إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبديل ألفاظ الناس على طول الازمان واختلاف البلدان ومجاورة الامم.
وأنها لغة واحدة في الاصل.
وإذ تيقنا ذلك فالسريانية أصل للعربية وللعبرانية معا، والمستفيض أن(1/30)
أول من تكلم بهذه العربية إسماعيل عليه السلام فهي لغة ولده، والعبرانية لغة إسحاق ولغة ولده.
والسريانية بلا شك هي لغة إبراهيم صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم بنقل الاستفاضة الموجبة لصحة العلم.
فالسريانية أصل لهما وقد قال قوم: إن اليونانية أبسط اللغات.
ولعل هذا إنما هو الآن فإن اللغة يسقط أكثرها.
ويبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم، فإنما يقيد لغة الامة وعلومها وأما من تلفت دولتهم، وغلب عليهم وأخبارها قوة دولتها، ونشاط أهلها وفراغهم عدوهم، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم، فمضمون منهم موت الخواطر، وربما كان ذلك سببا لذهاب لغتهم، ونسيان أنسابهم وأخبارهم وبيود علومهم، هذا موجود بالمشاهدة، ومعلوم بالعقل ضرورة.
ولدولة السريانيين مذ ذهبت وبادت آلاف من الاعوام في أقل منها ينسى جميع اللغة.
فكيف تفلت أكثرها، والله تعالى اعلم.
ولسنا نقطع على أنها اللغة التي وقف الله تعالى عليها أولا، ولا ندري لعل قائلا يقول: لعل تلك اللغة قد درست البتة وذهبت بالجملة أو لعلها إحدى اللغات الباقية لا نعلمها بعينها، وهذا هو الذي توجبه الضرورة ولا بد مما لا يمكن سواه أصلا، وقد يمكن أن يكون الله تعالى وقف آدم عليه السلام على جميع اللغات التي ينطق بها الناس كلهم الآن.
ولعلها كانت حينئذ لغة واحدة مترادفة الاسماء على المسميات ثم صارت لغات كثيرة، إذ توزعها بنوه بعد ذلك، وهذا هو الاظهر عندنا والاقرب، إلا أننا لا نقطع على هذا كما نقطع على أنه لا بد من لغة واحدة وقف الله تعالى عليها، ولكن هذا هو الاغلب عندنا، نعني أن الله تعالى وقف على جميع هذه اللغات المنطوق بها، وإنما ظننا هذا لاننا لا ندري أي سبب دعا الناس ولهم لغة يتكلمون بها ويتفاهمون بها إلى إحداث لغة أخرى، وعظيم التعب في ذلك لغير معنى، ومثل هذا من الفضول لا يتفرع له عاقل بوجه من الوجوه، فإن وجد ذلك فمن فارع فضولي سيئ الاختيار، مشتغل بما لا فائدة فيه عما يعينه، وعما هو آكد عليه من أمور معاده، ومصالح دنياه ولذاته وسائر العلوم النافعة.
ثم من له بطاعة أهل بلده له في ترك لغتهم والكلام باللغة التي عمل لهم،(1/31)
ولكنا لسنا نجعل ذلك محالا ممتنعا بل نقول: إنه ممكن بعيد جدا، فإن قالوا: لعل ملكا كانت في مملكته لغات شتى فجمع لهم لغة يتفاهمون بها كلهم، قلنا لهم: هذا ضد وضع اللغات الكثيرة، بل هو جمع اللغات على لغة واحدة، ثم نقول: وما الذي كان يدعو هذا الملك إلى هذه الكلفة الباردة الصعبة الثقيلة التي لا تفيد شيئا ؟ وكان أسهل له أن يجمعهم على لغة ما من تلك اللغات التي كانوا يتكلمون بها أو على لغته نفسه فكان أخف وأمكن من إحداث لغة مستأنفة، وعلم ذلك عند الله عز وجل.
وقد توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات.
وهذا لا معنى له لان وجوه الفضل معروفة، وإنما هي بعمل أو اختصاص ولا عمل للغة، ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة، وقد قال تعالى: * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشآء ويهدي من يشآء وهو العزيز الحكيم) * وقال تعالى: * (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون) *.
فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه السلام لا لغير ذلك، وقد غلط في ذلك جالينوس فقال: إن لغة اليونانيين أفضل اللغات لان سائر اللغات إنما هي تشبه إما نباح الكلاب أو نقيق الضفادع.
قال علي: وهذا جهل شديد لان كل سامع لغة ليست لغته ولا يفهمها، فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس ولا فرق.
وقد قال قوم: العربية أفضل اللغات لانه بها كلام الله تعالى.
قال علي: وهذا لا معنى له، لان الله عز وجل قد أخبرنا أنه لم يرسل رسولا إلا بلسان قومه.
وقال تعالى: * (إني إذا لفي ضلال مبين) * وقال تعالى: * (وإنه لفي زبر الاولين) * فبكل لغة قد نزل كلام الله تعالى ووحيه.
وقد أنزل التوراة والانجيل والزبور، وكلم موسى عليه السلام بالعبرانية، وأنزل الصحف على إبراهيم عليه السلام بالسريانية، فتساوت اللغات في هذا تساويا واحدا.
وأما لغة أهل الجنة وأهل النار فلا علم عندنا إلا ما جاء في النص والاجماع، ولا نص ولا إجماع في ذلك، إلا أنه لا بد لهم من لغة يتكلمون بها ولا يخلو ذلك من أحد ثلاثة أوجه ولا رابع لها: إما أن تكون لهم لغة واحدة من اللغات(1/32)
القائمة بيننا الآن، وإما أن تكون لهم لغة غير جميع هذا اللغات، وإما أن تكون لهم لغات شتى: لكن هذه المحاورة التي وصفها الله تعالى توجب القطع بأنه يتفاهمون بلغة إما بالعربية المختلفة في القرآن عنهم، أو بغيرها مما الله
تعالى أعلم به.
وقد ادعى بعضهم أن اللغة العربية هي لغتهم، واحتج بقول الله عز وجل: * (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) * فقلت له: فقل إنها لغة أهل النار لقوله تعالى عنهم أنهم قالوا: * (وما لنآ ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على مآ آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون) * ولانهم قالوا: * (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين) * ولانهم قالوا: * (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) * فقال لي: نعم، فقلت له: فاقض أن موسى وجميع الانبياء عليهم السلام كانت لغتهم العربية، لان كلامهم محكي في القرآن عنهم بالعربية، فإن قلت هذا كذبت ربك، وكذبك ربك في قوله: * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشآء ويهدي من يشآء وهو العزيز الحكيم) * فصح أن الله تعالى إنما يحكي لنا معاني كلام كل قائل في لغته باللغة التي بها نتفاهم، ليبين لنا عز وجل فقط، وحروف الهجاء واحدة لا تفاضل بينها ولا قبح، ولا حسن في بعضها دون بعض، وهي تلك بأعيانها في كل لغة، فبطلت هذه الدعاوى الزائغة الهجينة، وبالله تعالى التوفيق.
وقد أدى هذا الوسواس العامي، اليهود إلى أن استجازوا الكذب والحلف على الباطل بغير العبرانية، وادعوا أن الملائكة الذين يرفعون الاعمال لا يفهمون إلا العبرانية فلا يكتبون عليهم غيرها، وفي هذا من السخف ما ترى وعالم الخفيات وما في الضمائر عالم بكل لسان ومعانيه عز وجل لا إله إلا هو وهو حسبنا ونعم الوكيل.(1/33)
الباب الخامس في الالفاظ الدائرة بين أهل النظر
قال أبو محمد: هذا باب خلط فيه كثير ممن تكلم في معانيه، وشبك بين المعاني وأوقع الاسماء على غير مسمياتها، ومزج بين الحق والباطل، فكثر لذلك الشغب والالتباس، وعظمت المضرة وخفيت الحقائق، ونحن إن شاء الله تعالى بحوله وقوته مميزون معنى كل لفظة على حقيقتها، فنقول وبالله تعالى نتأيد: الحد: هو لفظ وجيز يدل على طبيعة الشئ المخبر عنه كقولك: الجسم هو كل طويل عريض عميق، فإن الطول والعرض والعمق هي طبائع الجسم لو ارتفعت عنه ارتفعت عن الجسمية ضرورة ولم يكن جسما، فكانت هذه العبارة مخبرة عن طبيعة الجسم ومميزة له مما ليس بجسم.
والرسم: هو لفظ وجيز يميز المخبر عنه مما سواه فقط دون أن ينبئ عن طبيعته كقولك: الانسان هو الضحاك، فإنك ميزت الانسان بهذا اللفظ تمييزا صحيحا مما سواه، إلا أنك لم تخبر بطبيعته لانك لو توهمت الضحك مرتفعا عن الانسان لم تبطل بذلك عنه الانسانية ولامتنع بذلك من الكلام في المعلوم والتصرف في الصناعات ولبقيت سائر طبائعه بحسبها.
قال أبو محمد علي: ولما كان هذان المعنيان متغايرين، كل واحد منهما غير صاحبه، وجب ضرورة أن يعبر عن كل واحد منهما بعبارة غير عبارتنا عن الآخر، ولو عبرنا عنهما عبارة واحدة لكنا قد أوقعنا من يقبل منا في الاشكال ولكنا ظالمين لهم جدا وغير ناصحين لهم، وهذا خلاف ما أخذه الله تعالى على العلماء، إذ يقول الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : ليبينه للناس ولا يكتمونه، ومن لبس الحقائق فقد كتمها.
والعلم: هو تيقن الشئ على ما هو عليه، إما عن برهان ضروري موصل إلى تيقنه كذلك، وإما أول بالحس أو ببديهة العقل، وإما حادث عن أول على ما بينا في كتاب التقريب من أخذ المقدمات الراجعة إلى أول العمل أو الحس، إما من(1/34)
قرب وإما من بعد، وإما عن اتباع لمن أمر الله تعالى باتباعه، فوافق فيه الحق، وإن لم يكن عن ضرورة ولا عن استدلال، برهان ذلك أن جميع الناس مأمورون بقول الحق واعتقاده، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس كلهم إلى الايمان بالله تعالى، وبما جاء به والنطق بذلك، ولم يشترط عليه السلام عليهم ان ألا يكون ذلك منهم إلا عن استدلال، بل قنع بهذا من العالم والجاهل، والحر والعبد، والمسبي والمستعرب، واجتمعت الامة على ذلك بعده عليه إلى اليوم.
وقنعوا بذلك ممن أجابهم إليه، ولم يشترط عليهم استدلالا في ذلك، فإذا ذاك كذلك فقد صح أن من اعتقد ما ذكرنا وقال به فهو عالم بذلك بيقين عارف به، إذ لو كان غير عالم بذلك لحرم القول عليه بذلك، ولحرم عليه اعتقاده لان الله تعالى يقول: * (ولا تقف ما ليس لك به علم * وقال تعالى: * (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * فصح إذ هو مأمور باعتقاده الحق والقول به، ومنهي عن القول بما لا يعلم، وعن أن يقفوا ما لا يعلم أن عقده في الحق وقوله به علم صحيح ومعرفة حقيقية وإن لم يكن ذلك عن استدلال، ومن ادعى تخصيص نهي الله تعالى عن القول بما لا علم لنا به، وعن قفو ما لا نعلم، كان مدعيا بلا دليل، ومبطلا في قوله لانه يقول: * (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) * إلا في الايمان، فاقف فيه ما لا علم لك به، وهذا كذب على الله تعالى مجرد.
فإن قال قائل: فإن الله يقول: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) * قلنا: نعم إنما خاطب الله بهذا من قال بالباطل، ولا برهان لصاحب الباطل، وأما المعتقد للحق فبرهان الحق قائم، سواء علمه المعتقد له أو جهله، وإنما يكف البرهان أهل الباطل لادحاض باطلهم، ولا يجوز أن يكلف المحق برهانا، لانه لا يخلو مكلفه البرهان من أن يكون محقا مثله أو مبطلا، فإن كان محقا مثله فهو معنت له، والتعنيت لا يجوز وإن كان مبطلا فحرام عليه الجدال في الحق، قال
تعالى: * (يجادلونك في الحق بعد ما تبين) * وقال تعالى: * (وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب) * فلا يجوز تكليف المحق برهانا إلا على أن يعلمه فقط لا على سبيل معارضة، لان من فعل ذلك يكون معارضا للحق، ومعارضته الحق بالباطل لا تجوز، قال تعالى ذاما لقوم: * (كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق(1/35)
فأخذتهم فكيف كان عقاب) وقد تحذلق قوم فأداهم ذلك إلى الهلكة، فقالوا: الحدود لا تختلف في قديم ولا محدث، وهذا كلام موجب الكفر، لانهم يوقعون بذلك الباري تعالى تحت الحدوث، لان كل محدود متناه ومركب، وكل مركب فمخلوق، لانه مركب من جنسه وفصله المميز له مما جامعه تحت جنسه، فقد جعلوا ربهم محدثا تعالى الله عن ذلك وقالوا: حد العلم أنه صفة لا يتعذر بوجودها على الحي القادر إحكام الفعل.
قال علي: وهذا حد فاسد لان النحل لا يتعذر عليها أحكام بناء الشمع ووضع العسل، ولا تسمى عالمة، وقد يعرض للعالم الناقد خدر يبطل يديه ورجليه فيعتذر عليه كل فعل حكمة أو غير حكمة وعلمه وعقله باقيان.
وقالت طائفة منهم: حد العلم منا ومن الله تعالى أنه صفة يتبين بها المعلوم على ما هو عليه من أحواله.
قال علي: وكلا الحدين فاسد، ونحن نسألهم: أهذه الصفة التي ذكرتم ؟ أهي والموصوف بها شئ واحد ؟ أم هي والموصوف بها شيئان متغايران ؟ فإن قالوا شئ واحد أبطلوا قولهم في الباري تعالى، ووافقوا خصومهم إلا في العبارة فقط، وأيضا فإن كون الصفة والموصوف شيئا واحدا غير موجود في العالم لان الصفات تتعاقب على الموصوفات فتفتي، والموصوف باق بحسبه، ولا شك في أن
الفاني غير الباقي، والصفة عرض ونحن لم نقر بعلم الباري تعالى على معنى أنه صفة كصفاتنا، ولكن اتباعا منا للنص الوارد في أن له علما فقط، إلا أننا نقطع على أنه ليس غيره تعالى وأنه ليس عرضا، ونحن لم نسم الباري تعالى عالما، وإنما قلنا: إنه عليم كما قال تعالى.
فإن قالوا: فأي فرق بين عالم وعليم.
قيل لهم: وأي فرق بين الجبار والمتجبر، فسموا ربكم متجبرا، وأي فرق بين أن نسميه تعالى خير الماكرين، وأن له مكرا، ولا نسميه ماكرا، وكذلك نسميه حكيما ولا نسميه عاقلا ونسميه الواحد ولا نسميه الفرد ولا الفذ.
وقد بينا في كتاب الفصل أن أسماءه تعالى أعلام وليست مشتقة أصلا(1/36)
وبالله التوفيق.
فإن قالوا: إن الصفة والموصوف شيئان متغايران صدقوا وأخرجوا بذلك صفات الباري تعالى عن هذا الحكم.
والاعتقاد: هو استقرار حكم بشئ ما في النفس.
إما عن برهان، أو اتباع من صح برهان قوله فيكون علما يقينا ولابد، وإما عن إقناع فلا يكن علما متيقنا ويكون إما حقا أو باطلا، وإما لا عن إقناع لا عن برهان فيكون إما حقا بالبخت وإما باطلا بسوء الجد.
والبرهان: كل قضية أو قضايا دلت على حقيقة حكم الشئ.
والدليل: قد يكون برهانا وقد يكون اسما يعرف به المسمى، وعبارة يتبين بها المراد كرجل ذلك على طريق تريد قصده، فذلك اللفظ الذي خاطبك به هو دليل على ما طلبت، وقد يسمى المرء الدال دليلا أيضا.
والحجة: هي الدليل نفسه إذا كان برهانا أو إقناعا أو شغبا.
والدال: هو المعرف بحقيقة الشئ وقد يكون إنسانا معلما، وقد يعبر به
عن الباري تعالى الذي علمنا كل ما نعلم، وقد يسمى الدليل دالا على المجاز، ويسمى الدال دليلا أيضا كذلك في اللغة العربية.
والاستدلال: طلب الدليل من قبل معارف العقل ونتائجه أو من قبل إنسان يعلم.
والدلالة: فعل الدال، وقد تضاف إلى الدليل على المجاز والاقناع: قضية أو قضايا أنست النفس بحكم شئ ما دون أن توقفها على تحقيق حجة ولم يقم عندها برهان بإبطاله.
والشغب: تمويه بحجة باطلة بقضية أو قضايا فاسدة تقود إلى الباطل وهي السفسطة.
والتقليد: هو اعتقاد الشئ لان فلانا قاله ممن لم يقم على صحة قوله برهان، وأما اتباع من أمر الله باتباعه فليس تقليدا، بل هو طاعة حق لله تعالى.(1/37)
والالهام: علم يقع في النفوس بلا دليل ولا استدلال ولا إقناع ولا تقليد، وهو لا يكون إلا: إما فعل الطبيعة من الحي غير الناطق ومن بعض الناطقين أيضا كنسج العنكبوت وبناء النحل وما أشبه ذلك، وأخذ الصبي الثدي وما أشبه ذلك: أو أول معرفة النفس قبل أوان استدلالها لنا كعلمنا أن الكل أكثر من الجزء، وهو فيما عدا هذين الوجهين باطل.
والنبوة: اختصاص الله عز وجل رجلا أو امرأة من الناس بإعلامه بأشياء لم يتعلمها، إما بواسطة ملك، أو بقوة يضعها في نفسه خارجة عن قوى المخلوقين تعضدها خرق العادات وهو المعجزات، وقد انقطعت بعد محمد صلى الله عليه وسلم .
والرسالة: أن يأمر الله تعالى نبيا بإنذار قوم وقبول عهده، وكل رسول نبي
وليس كل نبي رسولا.
والبيان: كون الشئ في ذاته ممكنا أن تعرف حقيقته لمن أراد علمه.
والابانة والتبيين: فعل المبين وهو إخراجه للمعنى من الاشكال إلى إمكان الفهم له بحقيقة، وقد يسمى أيضا على المجاز ما فهم منه الحق وإن لم يكن للمفهوم منه فعل ولا قصد إلى الافهام مبينا كما تقول بين لي الموت أن الناس لا يخلدون، والتبيين فعل نفس المبين للشئ في فهمه إياه وهو الاستبانة أيضا والمبين هو الدال نفسه.
والصدق: هو الاخبار عن الشئ بما هو عليه.
والحق: هو كون الشئ صحيح الوجود، ولا يغلط من لا سعة لفهمه فيظن أن هذا الحد فاسد بأن يقول الكفر والجور صحيح وجودهما فينبغي أن يكون حقا.
فليعلم أن هذا شغب فاسد، لان وجود الكفر والجور صحيحين في رضاء الله تعالى ليس هو صحيحا، بل هو معدوم، فرضا الله تعالى بهما باطل، وأما كونهما موجودين من الكافر والجائز فحق صحيح ثابت لا شك فيه، فمثل هذا من الفروق ينبغي مراعاته وتحقيق الكلام فيه، وإلا وقع الاشكال وتحير الناظر.
وقد رأينا من يفرق بين الحق والحقيقة وهذا خطأ لا يخفى على ذي فهم ينصف نفسه، لان(1/38)
الفرق بين هاتين اللفظتين لم تأت به لغة ولا أوجبته شريعة أصلا إلا في تسمية الباري تعالى التي لا تؤخذ إلا بالنص، ولا يحل فيها التصريف، فظهر فساد هذا الفرق بيقين، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا فإن الله تعالى قال: * (حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل) * ولا فرق عند أحد بين قول القائل حقيق على كذا وبين قوله حق على كذا.
فظهر فساد هذا الفرق.
والباطل: ما ليس حقا.
والكذب: هو الاخبار عن الشئ بخلاف ما هو عليه.
والاصل: هو ما أدرك بأول العقل وبالحس وقد ذكرناه قبل.
والفرع: كل ما عرف بمقدمة راجعة إلى ما ذكرنا من قرب أو من بعد وقد يكون ذلك الفرع أصلا لما أنتج منه أيضا.
والمعلوم: قسمان: معلوم بالاصل المذكور، ومعلوم بالمقدمات الراجعة إلى الاصل كما بينا.
وكل ما نقل بتواتر على النبي صلى الله عليه وسلم أو أجمع عليه نقل جميع علماء الامة عنه عليه السلام أو نقله الثقة عن الثقة حتى يبلغ إليه عليه السلام، فداخل في باب ما تيقن ضرورة بالمقدمات المذكورة.
والنص: هو اللفظ الوارد في القرآن أو السنة المستدل به على حكم الاشياء وهو الظاهر نفسه.
وقد يسمى كل كلام يورد كما قاله المتكلم به نصا.
والتأويل: نقل اللفظ عما اقتضاه ظاهره وعما وضع له في اللغة إلى معنى آخر، فإن كان نقله قد صح ببرهان وكان ناقله واجب الطاعة فهو حق، وإن كان نقله بخلاف ذلك اطرح ولم يلتفت إليه وحكم لذلك النقل بأنه باطل.
والعموم: حمل اللفظ على كل ما اقتضاه في اللغة، وكل عموم ظاهر، وليس كل ظاهر عموما، إذ قد يكون الظاهر خبرا عن شخص واحد ولا يكون العموم إلا على أكثر من واحد.
والخصوص: محل اللفظ على بعض ما يقتضيه في اللغة دون بعض والقول فيه كما قلنا في التأويل آنفا ولا فرق.
والالفاظ إما دالة على واحد، وإما على أكثر من واحد، فإن كانت ناقصة غير دالة كانت هدرا.
والمجمل: لفظ يقتضي تفسيرا فيؤخذ من لفظ آخر.(1/39)
والمفسر: لفظ يفهم منه معنى المجمل المذكور.
والامر: إلزام الآمر المأمور عملا ما، فإن كان الخالق تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم فالطاعة لهما فرض، وإن كان ممن دونهما فلا طاعة له.
والنهي: إلزام الناهي المنهي ترك عمل ما، والقول فيه كالقول في الامر فلا فرق وطاعة الائمة فيما ليس معصية طاعة لله تعالى لتقدم أمر الله عز وجل بذلك.
والفرض: ما استحق تاركه اللوم واسم المعصية لله تعالى وهو: الواحب، واللازم، والحتم.
والحرام: وهو ما استحق فاعله اللوم واسم المعصية لله تعالى إلا أن يسقط ذلك عنه من الله تعالى عفو أو توبة وهو المحظور، والذي لا يجوز، والممنوع.
والطاعة: تنفيذ الامر من المأمور فيما أمر به والتوقف عن إتيان المنهي عنه، وقد يسمى كل بر طاعة.
والمعصية: ضد ذلك.
والندب: أمر بتخيير في الترك إلا أن فاعله مأجور، وتاركه لا آثم ولا مأجور وهو: الائتساء، والمستحسن، والمستحب، وهو الاختيار وهو كل تطوع ونافلة كالركوع غير الفرض والصدقة كذلك والصوم كذلك وسائر أعمال البر.
والكراهة: نهي بتخيير في الفعل إلا أن على تركه ثوابا وليس في فعله أجر ولا إثم، وذلك نحو ترك كل تطوع، ونحو اتخاذ المحاريب في المساجد، والتنشف بعد الغسل من الجنابة بثوب معد لذلك غير الذي يلبسه المرء، وبيع السلاح ممن لا يؤمن منه أن يستعمله فيما لا يحل، وابتياع الخصيان إذا أدى ذلك إلى خصائهم بطلب الغلاء في أثمانهم، والحلق في غير علة أو حج أو عمرة، والاكل متكئا.
والاباحة: تسوية بين الفعل والترك لا ثواب على شئ منهما ولا عقاب، كمن جلس متربعا أو رافعا إحدى ركبتيه، أو كمن صبغ ثوبه أخضر، أو لازوديا، وسائر الامور كذلك وهو الحلال.
والقياس: عند القائلين به والمبطلين له أن يحكم بشئ ما بحكم لم يأت به نص(1/40)
لشبهه شئ آخر ورد فيه ذلك الحكم، وهو باطل كله.
والعلة: طبيعة في الشئ يقتضي صفة تصحيحها، ولا توجد الصفة دونها ككون النار علة للاحراق والاحراق هو معلولها، والعلة أيضا المرض ولا علة في شئ من الدين أصلا، والقول بها في الدين بدعة وباطل.
والسبب: أمر وقع فاختار الفاعل أن يوقع فعلا آخر من أجله، ولو شاء ألا يوقعه لم يوقعه ككون الذنب سببا لعقوبة المذنب.
والغرض: نتيجة يقصدها الفاعل بفعله، كالشبع الذي هو غرض الآكل في أكله.
وقد يكون الغرض اختيارا، كمراد الله تعالى بشرع الشرائع تعذيب من عصاه وتنعيم من أطاعه.
والامارة: علامة بين المصطلحين على شئ ما إذا وجدت علم الواجد لها ما وافقه عليه الآخر، وقد يجعلها المرء لنفسه ليستذكر بها ما يخاف نسيانه.
والنية: قصد العمل بإرادة النفس له دون غيره واعتقاد النفس ما استقر فيها.
والشرط: تعليق حكم ما بوجوب آخر، ورفعه برفعه وهو باطل ما لم يأت به نص، وذلك نحو قول القائل: إن خدمتني شهرا أعطيتك درهما.
والتفسير والشرح: هما التبيين.
والنسخ: ورود أمر بخلاف أمر كان قبله ينقض به أمر الاول.
والاستثناء: ورود لفظ أو بيان بفعل بإخراج بعض ما اقتضاه لفظ آخر وكان المراد في اللفظ الاول ما بقي بعد المستثنى منه، وهذا هو الفرق بين النسخ والاستثناء، لان النسخ كان فيه اللفظ الاول مرادا كله طول مدته، وأما المستثنى منه فلم يكن اللفظ الاول مرادا كله قط.
والجدل والجدال: إخبار كل واحد من المختلفين بحجته، أو بما يقدر أنه حجته وقد يكون كلاهما مبطلا، وقد يكون أحدهما محقا والآخر مبطلا، إما في لفظه وإما في مراده أو في كليهما، ولا سبيل أن يكونا معا محقين في ألفاظهما ومعانيهما.
والاجتهاد: بلوغ الغاية واستنفاذ الجهد في المواضع التي يرجى وجوده فيها في طلب الحق، فمصيب موقف أو محروم والرأي: ما تخيلته النفس صوابا دون برهان، ولا يجوز الحكم به أصلا.(1/41)
والاستحسان: هو ما اشتهته النفس ووافقها كان خطأ أو صوابا.
والصواب: إصابة الحق.
والخطأ: العدول عنه بغير قصد إلى ذلك.
والعناد: العدول عنه بالقصد إلى ذلك.
والاحتياط: طلب السلامة.
والورع: تجنب ما لا يظهر فيه ما يوجب اجتنابه خوفا أن يكون ذلك فيه.
والجهل: مغيب حقيقة العلم عن النفس.
والطبيعة: صفات موجودة في الشئ يوجد بها على ما هو عليه، ولا يعدم منه إلا بفساده وسقوط ذلك الاسم عنه.
ودليل الخطاب: هو ضد القياس، وهو أن يحكم للمسكوت عنه بخلاف حكم المنصوص عليه.
والشريعة: هي ما شرعه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم في الديانة وعلى ألسنة الانبياء عليهم السلام قبله، والحكم منها للناسخ، وأصلها في اللغة الموضع الذي يتمكن فيه ورود الماء للراكب والشارب من النهر، قال تعالى: * (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم
وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشآء ويهدي إليه من ينيب) * وقال امرؤ القيس: ولما رأت أن الشريعة همها وأن البياض من فرائصها دامي تيممت العين التي عند ضارج يفئ عليها الظل عرمضها طامي واللغة: ألفاظ يعبر بها عن المسميات وعن المعاني المراد إفهامها، ولكل أمة لغتهم.
قال الله عز وجل: * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشآء ويهدي من يشآء وهو العزيز الحكيم) *) * ولا خلاف في أنه تعالى أراد اللغات.
واللفظ: هو كل ما حرك به اللسان.
قال تعالى ما يلفظ من قول إلا لدية: * (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد) * وحده على الحقيقة أنه هواء مندفع من الشفتين والاضراس والحنك والحلق والرئة على تأليف محدود، وهذا أيضا هو الكلام نفسه.
والخلاف: هو التنازع في أي شئ كان، وهو أن يأخذ الانسان في مسالك من القول أو العقل، ويأخذ غيره في مسلك آخر وهو حرام في الديانة، إذ لا يحل(1/42)
خلاف ما أثبته الله تعالى فيها، وقال تعالى: * (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) * وقال تعالى: ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * وهو التفريق أيضا، قال تعالى: * (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا والاجماع: هو في اللغة ما اتفق عليه اثنان فصاعدا وهو الاتفاق، وهو حينئذ مضاف إلى ما أجمع عليه، وأما الاجماع الذي تقوم به الحجة في الشريعة فهو ما اتفق أن جميع الصحابة رضي الله عنهم قالوه ودانوا به عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ،وليس الاجماع في الدين شيئا غير هذا، وأما ما لم يكن إجماعا في الشريعة فهو ما اختلفوا فيه باجتهادهم أو سكت بعضهم، ولو واحد منهم عن في الكلام فيه.
والسنة: هي الشريعة نفسها، وهي في أصل اللغة وجه الشئ وظاهره، قال الشاعر: تريك سنة وجه غير مقرفة ما ساء ليس بها خال ولا ندب وأقسام السنة في الشريعة: فرض، أو ندب، أو إباحة، أو كراهة، أو تحريم كل ذلك قد سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل والبدعة: كل ما قيل أو فعل مما ليس له أصل فيما نسب إليه صلى الله عليه وسلم ،وهو في الدين كل ما لم يأت في القرآن، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن منها ما يؤجر عليه صاحبه، ويغدر بما قصد إليه من الخير، ومنها ما يؤجر عليه صاحبه ويكون حسنا، وهو ما كان أصله الاباحة كما روي عن عمر رضي الله عنه، نعمت البدعة هذه وهو ما كان فعل خير جاء النص بعموم استحبابه وإن لم يقرر عمله في النص.
ومنها ما يكون مذموما ولا يعذر صاحبه وهو ما قامت به الحجة على فساده فتمادى عليه القائل به.
والكتابة: لفظ يقام مقام الاسم كالضمائر المعهودة في اللغات، وكالتعريض بما يفهم منه المراد وإن لم يصرح بالاسم ومنه قيل للكنية كنية.
والاشارة: تكون باللفظ وتكون ببعض الجوارح وهي تنبيه المشار إليه أو تنبيه عليه.(1/43)
والمجاز: هو في اللغة ما سلك عليه من مكان إلى مكان وهو الطريق الموصل بين الاماكن، ثم استعمل فيما نقل عن موضعه في اللغة إلى معنى آخر، ولا يعلم ذلك إلامن دليل من اتفاق أو مشاهدة.
وهو في الدين كل ما نقله الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم عن موضعه في اللغة إلى مسمى آخر ومعنى ثان، ولا يقبل من أحد في شئ من النصوص أنه مجاز إلا ببرهان يأتي به من نص آخر، أو جماع متيقن، أو ضرورة حس وهو حينئذ حقيقيا، لان التسمية لله عز وجل
فإذا سمى تعالى شيئا ما باسم ما فهو اسم ذلك الشئ على الحقيقة في ذلك المكان، وليس ذلك في الدين لغير الله تعالى، قال عز وجل: * (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) *.
والتشبيه: هو أن يشبه شئ بشئ في بعض صفاته، وهذا لا يوجب في الدين حكما أصلا وهو أصل القياس، وهو باطل لان كل ما في العالم فمشبه بعضه لبعض ولا بد من وجه أو من وجوه، ومخالف أيضا بعضه لبعض ولا بد من وجه أو من وجوه، وهو أيضا التمثيل.
والمتشابه: لا يوجد في شئ من الشرائع إلا بالاضافة إلى من جهل دون من علم، وهو في القرآن، وهو الذي نهينا عن اتباع تأويله وعن طلبه، وأمرنا بالايمان به جملة، وليس هو في القرآن إلا للاقسام التي في السورة كقوله تعالى: * (والضحى والليل إذا سجى) * والحروف المقطعة التي في أوائل السور وكل ما عدا هذا من القرآن فهو محكم.
والمفصل: هو ما بينت أقسامه وهو في أصل اللغة ما فرق بعضه عن بعض، تقول فصلت الثوب واللحم وغير ذلك.
والاستنباط: إخراج الشئ المعيب من شئ آخر كان فيه، وهو في الدين إن كان منصوصا على جملة معناه فهو حق، وإن كان غير(1/44)
منصوص على جملة معناه فهو باطل لا يحل القول به.
والحكم: هو إمضاء قضية في شئ ما، وهو في الدين تحريم أو إيجاب أو إباحة مطلقة، أو بكراهة، أو باختيار.
والايمان: أصله في اللغة التصديق باللسان والقلب معا، لا بأحدهما دون الثاني، وهو في الدين التصديق بالقلب بكل ما أمر الله تعالى به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم والنطق بذلك باللسان، ولا بد من استعمال الجوارح في جميع الطاعات: واجبها، وندبها، واجتناب محرمها ومكروهها، برهان ذلك أن جميع أهل الايمان مكذوب بأشياء منها أن يكون لله تعالى ولد، وأن يكون مسيلمة نبيا، وغير ذلك كثير ومصدقون بأشياء كثيرة، وقد أطلق الله تعالى وأطلق جميعهم بعضهم على بعض اسم الايمان مطلقا دون إضافة، ولا خلاف بين أحد من الامة في أنه لا يجوز أن يطلق اسم التكذيب عليهم إلا بإضافة، والكفار مؤمنون بأشياء كثيرة، ولا خلاف بين أحد من الامة في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الايمان مطلقا إلا بالاضافة، فصح أن اسم الايمان منقول عن موضوعه في اللغة إلى ما ذكرناه.
والكفر: أصله في اللغة التغطية، قال عز وجل: * (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الاموال والاولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته قال لبيد بن أبي ربيعة: ألقت ذكاء يمينها في كافر يريد الليل لانه يغطي على كل شئ، وهو في الدين: صفة من جحد شيئا مما افترض الله تعالى الايمان به بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه بقلبه دون لسانه أو بلسانه دون قلبه، أو بهما معا، أو عمل جاء النص بأنه مخرج له بذلك عن اسم الايمان على ما بينا في غير هذا الكتاب برهان ذلك، أن جميع من يطلق عليه اسم الكفر فإنه مصدق بأشياء، مكذب بأشياء ولا خلاف في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الايمان بلا إضافة وأهل الايمان كفار بأشياء كثيرة منها التثليث وغير ذلك ولا خلاف في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الكفر بلا إضافة.(1/45)
والشرك: هو في اللغة أن يجمع شيئا إلى شئ فيشرك بينهما فيما جمعا فيه وهو في الدين معنى الكفر سواء لما قد بيناه في غير هذا المكان والتسمية لله تعالى لا لغيره.
والالزام: هو أن نحكم على الانسان بحكم ما فإما واجب أو غير واجب.
والعقل: هو استعمال الطاعات والفضائل، وهو غير التمييز لانه استعمال ما ميز الانسان فضله، فكل عاقل مميز وليس كل مميز عاقلا، وهو في اللغة: المنع، تقول: عقلت البعير أعقله عقلا.
وأهل الزمان يستعملونه فيما وافق أهواءهم في سيرهم وزيهم، والحق هو في قول الله تعالى: * (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) * يريد الذين يعصونه، وأما فقد التمييز فهو الجهل أو الجنون على حسب ما قابل اللفظ من ذلك.
والفور: هو استعمال الشئ بلا مهلة ولكن على أثر ورود الامر به.
والتراخي: تأخير إنفاذ الواجب، وحكم أوامر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم كلها على الفور إلا أن يأتي نص بإباحة التراخي في شئ ما فيوقف عنده.
والاحتياط: هو التورع نفسه وهو اجتناب ما يتقي المرء أن يكون غير جائز، وإن لم يصح تحريمه عنده، أو اتقاء ما غيره خسر منه عند ذلك المحتاط، وليس الاحتياط واجبا في الدين ولكنه حسن، ولا يحل أن يقضى به على أحد ولا أن يلزم أحدا لكن يندب إليه لان الله تعالى لم يوجب الحكم به.
والورع: هو الاحتياط نفسه.
فصل: في معاني حروف تتكرر في النصوص
واو العطف: لاشتراك الثاني مع الاول: إما في حكمه، وإما في الخبر عنه على حسب رتبة الكلام، فإن كان الثاني جملة فهو اشتراك في الخبر فقط، وإن كان اسما مفردا فهو مشترك في حكم الاول، وهي لا تعطي رتبة أي أنها لا توجب أن الاول قبل الثاني، ولا أنه بعده بل ممكن فيهما أن يكونا معا، أو أن يكون أحدهما قبل
الآخر بمهلة بلا مهلة كقولك: جاءني زيد وعمرو، فجائز أن يأتيا معا، وجائز أن يأتي(1/46)
زيد قبل عمرو، وعمرو قبل زيد بساعة وبعام وبأقل وبأكثر.
والفاء: تعطي رتبة الثاني بعد الاول بلا مهلة كقولك: جاءني زيد فعمرو، فزيد جاء قبل عمرو ولا بد، وأتى عمرو أثره بلا مهلة.
وثم: توجب أن الثاني بعد الاول بمهلة.
وواو القسم: ليست واو عطف لانها قد يبدأ بها أول الكلام ولا يبتدأ بواو العطف.
وأو: للشك وللتخيير: مثل قولك خذ هذا أو هذا، فإنما ملكت أخذ أحدهما، وفي الشك قولك: جاءني زيد أو عمرو فلم تقطع بمجئ أحدهما بعينه لكن حققت أن أحدهما أتاك ولم تعينه.
ومعنى الباء: الاتصال مثل قولك: مررت بزيد، تريد اتصال مرورك به ولا توجب تبعيضا ولا استيفاء.
ومن: معناها ابتداء أو تبعيض.
وإلى: معناها الانتهاء أو مع، وهذا يكثر جدا ولهذا قلنا: إنه لا بد للفقيه أن يكون نحويا لغويا وإلا فهو ناقص، ولا يحل له أن يفتي لجهله بمعاني الاسماء وبعده عن فهم الاخبار.
الباب السادس هل الاشياء في العقل قبل ورود الشرع على الحظر أو على الاباحة
قال أبو محمد: قال قوم: الاشياء كلها في العقل قبل ورود الشرع على الحظر.
وقال آخرون: بل هي على الاباحة، وقال آخرون: بل هي على الحظر حاشا الحركة النقلية من مكان إلى مكان وشكر المنعم فقط.
وقال آخرون: بل هي
على الاباحة حاشا الكفر والظلم وجحد المنعم، وقال آخرون - وهم جميع أهل الظاهر وطوائف من أهل أصحاب القياس -: ليس لها حكم في العقل أصلا لا بحظر ولا بإباحة، وإن كل ذلك موقوف على ما ترد به الشريعة.
قال أبو محمد: وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره واحتج من قال بحظرها بأن قال: الاشياء كلها ملك لله عز وجل، ولا يجوز أن يقدم على ملك مالك إلا بإذنه.(1/47)
قال أبو محمد: وهذا تمويه ساقط، لانه لم يحرم الاقدام على مالك غيرنا بنفس العقل، وإنما حرم ما حرم من ذلك ورود الشرع بتحريمه، ولو كان تحريم الاقدام على ملك المالك مركبا في ضرورة العقل، لما جاز أن يأتي شرع بخلافه كما لا يجوز أن يأتي بشرع، فإن الكل أقل من الجزء، وأن القصير أطول مما هو أطول منه، لان كل شئ رتب الله تعالى في العقل إدراكه على صفة ما بخلاف ما قد رتبه تعالى ممتنعا ومحالا، ورتب الاخبار به كذبا وإفكا، وأخبرنا تعالى أن قوله الحق، ولا سبيل أن يرد الشرع بمحال ولا بكذب.
ومن أجاز ذلك خرج عن الاسلام.
وقد وجدنا المالك فيما بيننا لملكه قد أمرنا تعالى بأخذه منه كرها فيما لزمه من نفقة زوجه التي هي لعلها أغنى منه وأقدر على المال، وفي أشياء كثيرة من أروش ما أتلف بخطأ أو بغير قصد وبقصد.
ووجدناه تعالى قد أجاز ما أنفذه أهل دار الحرب في أموالهم وملكهم إياها بقوله تعالى: * (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شئ قديرا) * وأجاز كل ما أنفذوه فيها من هبة وبيع، ثم أطلقنا على أخذها منهم اختلاسا وغلبة وعلى كل وجه.
فإن قالوا: كفرهم أباح أموالهم، قيل لهم: نحن نوجدكم الذمي كافرا لا يحل أخذ شئ من ماله حاشا الجزية التي لا تكاد تتجزأ من ماله، وكلاهما كفره واحد، فأين ما ادعته هذه الطائفة المغفلة من أن الاقدام على ملك مالك بغير إذنه حرام
محرم في العقل.
فإن قال قائل منهم: تلك الاموال هي ملك الله عز وجل، قيل له: إنما حرمت أنت ملك الله تعالى قياسا على الشاهد بيننا من قبح التعدي على ملك مالك بزعمك فلا تعد إلى ما جعلته أصلا فتبطله.
ويقال له أيضا: وأنفسنا ملك لله عز وجل، وفي منعها الاقوات والتناسل إبطال للنوع الانساني، وفي ذلك إبطال ملك لله عز وجل كثير، وإتلاف مملوكات له كثيرة، وهذا فسخ لاصلك، فيكون الاتلاف على قولك حاظرا مبيحا في حالة واحدة، وهذا لا يعقل.(1/48)
ويقال لمن قال بإباحتها واحتج بأن في مدخل الطعام ومخرجه عبرة ودليلا على قدرة الله عز وجل، اطرد علتك وقل: وفي فسقك بالذكور وبالنساء عبرة ودليل على قدرة الله عز وجل في مداخلة الاعضاء بعضها في بعض، وفي تخلق الولد وولادته أعظم عبرة، وأدل دليلا على قدرة الله عز وجل، وكذلك في قتل النفس وسيلان الدم بعد منع الجلد له من السيلان، وفي خروج النفس وانقطاع الحركة والحس أعظم عبرة وأدل دليلا على القدرة، فأبح قتل النفس على هذا وقل: إنه حسن في العقول بل واجب، ومن قرأ كتب التشريح للاطباء علم أن في ذلك أعظم عبرة، فليقل إن قتل الانفس مباح في العقل.
واحتج المبيحون أيضا بأن قالوا: لابد من فعل، أو ترك، أو حركة أو سكون فإن منعتموه الكل أوجبتم المحال والممتنع.
قال أبو محمد: وهذا إنما يخاطب به من قال بالحظر، وأما نحن فلسنا نقول: إن في العقل إباحة شئ ولا حظره، وإنما فيه تمييز الموجودات على ما هي عليه وفهم الخطاب فقط.
وبالجملة فكل شئ يعارض به القائلون بالاباحة أو الحظر فهي دعاوى مجردة، واحتج بعض القائلين بالاباحة بقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
قال أبو محمد: ولا حجة لهم في هذا، لاننا لم نقل إنه تعالى يعذب من لم يبعث إليه رسولا فيعارضون بهذا، وليست هذه الآية من مسألتنا في الاباحة والحظر في ورد ولا صدر، لان الاشياء لو ورد الحظر فيها بنص جلي إلا أنه لم يأت وعيد على مرتكبها لم يجز لاحد أن يقول: إن الله تعالى يعذب من خالف أمره، وليس في كون المرء عاصيا أو كافرا ما يوجب أنه يعذب ولا بد، وإنما علمنا وجوب العذاب من طريق القرآن والخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فقط، ولولا ذلك ما علمناه.
برهان ذلك، أن الكفار الطغاة قد وجدناهم في هذا العالم يعمرون مدة أعمارهم غير معذبين، لا بل في نعمة وملك وغلبة وكرامة، ولا فرق بين جواز ذلك خمسين عاما وستين وسبعين وثمانين، وبين تماديه هكذا أبدا وقتا بعد وقت، ولا فرق بين جواز ذلك في الوقت الاول، وبين جوازه في الوقت الثاني، وليست(1/49)
هنا حال حدثت لهم، إلا أن الله تعالى أراد أن يعذبهم في الآخرة، ولو شاء أن يستمر نعيمهم لفعل، ولكن ورد النص بالتعذيب قلنا به، وقال بعض القائلين بالاباحة: محال أن يخلق الله تعالى فينا الشهوات المقتضية لما تقتضيه ثم يحظر علينا ما خلق لنا.
قال علي: هذه مكابرة العيان، وليست هذه هي حجة مسلم، لان الله عز وجل وقد فعل ما أنكروا، وخلق فينا شهوات تقتضي إتيان الفواحش في كل امرأة جميلة نراها أو في حسان الغلمان، وشرب الخمور في البساتين، وأخذ كل شئ استحسنته النفوس والراحة، وترك التعرض لسيوف أهل الشرك، والنوم عن الصلوات في الهواجر الحارة والغدوات القارة، ثم حرم علينا ذلك كله.
فإن قال قائل: فإن الله تعالى قد عوض من ذلك أشياء أباحها، وعوض على ترك ما حرم ما هو خير وهو الجنة، قلنا له وبالله تعالى التوفيق: لقد كان تعالى قادرا أن يجمع الامرين لنا معا، ولقد كان يكون ذلك أقل لتعبنا وألذ لنفوسنا وأروح لاجسامنا وأتم لسرورنا، ولكنه تعالى لم يرد إلا ما ترى لا معقب لحكمه.
وبيان ذلك: أنه قد نعم قوما في الدنيا والآخرة، كداود وسليمان عليهما السلام وأعطاهما اللذات العظيمة والملك السنيع والنبوة مع ذلك.
وسلط على أيوب وهو نبي مثلهما من البلايا ما لا قبل لاحد به دون ذنب سلف منه، ولا إحسان سلف من سليمان وداود على جميعهم الصلاة والسلام، وسلط محمدا صلى الله عليه وسلم على جميع أعدائه، وعصمه منهم، ومنحه النصر عليهم، وسلط على أنبياء أخر أعداءهم فقتلوهم بأنواع المثل، وكلهم مع ذلك من مسعود مسلط على عدوه في الدنيا ومحروم مسلط عليه عدوه فيها، وكلهم مجتمعون في الجنة متنعمون فيها وفعل بنا ذلك أيضا، فمن محسن منعم، ومن محسن مشقي، وقد نعم أيضا عز وجل ملوكا من الكفار في الدنيا، وأصحبهم النصر والتأييد إلى أن قبض أرواحهم إلى النار، وهم أطغى خلق الله وأكفره، وأشد تسلطا على الفواحش.
وحرم آخرين من الكفار، فقتلهم بالفاقة والجوع والعري والقمل والمسألة من باب إلى باب مع(1/50)
العاهات العظيمة والبلايا الشنيعة والامراض المؤلمة، ثم جعل مجتمعهم في جهنم مع منعهم في الدنيا، ومنحوس فيها، فأي عقل ترتبت فيه هذه الرتبة أو المنع منها ما يحس شيئا من ذلك في عقله إلا ناقص العقل، ينبغي له أن يتهم حسه في ذلك.
ونسأل من جعل العقل مرتبا في حظر أو إباحة قبل ورود الشرع فنقول له: ما تقول في راهب في صومعة، مريد لله عز وجل بقلبه كله، موحد لله تعالى لا يدع خيرا إلا فعلولا شرا إلا اجتنبه، إلا أنه كان في جزائر الشاشيين في أقصى
الدنيا يسمع قط ذكر محمد صلى الله عليه وسلم من جميع أهل ناحيته إلا متبعا بالكذب وبأقبح الصفات، ومات على ذلك وهو شاك في نبوته صلى الله عليه وسلم أو مكذب لها، أليس مصيره إلى النار خالدا، مخلدا أبدا بلا نهاية ؟ فإن شك أحد في ذلك فهو كافر بإجماع الامة.
ثم نقول: ما تقول في يهودي أو نصراني لم يدع قتل مسلم قدر عليه إلا قتله أو أنفذه ولم يبق شيئا من الفواحش إلا ارتكبه، من الزنى وفعل قوم لوط عليه السلام، وفعل كل بلية، ثم إنه أيقن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ،وآمن وبرئ من كل دين إلا دين الاسلام، وأقر بذلك بلسانه ومات أثر ذلك، أليس من أهل الجنة ؟ بلا خلاف من أحد من الامة، فإن شك في ذلك فقد كفر.
ففي أي موجب للعقل وجد إثبات هذا أو وجد إبطاله، وما الذي أوجب في العقل أن يخص محمدا صلى الله عليه وسلم وسائر الانبياء بهذه الفضائل، وقد كان عليه السلام بين أظهر الناس أربعين سنة لم يحبه تعالى بهذه الفضيلة، فأي عقل أوجب منعه من ذلك قبل أن يؤتاها أو أوجب أن يحبى بها إذ حبي بها، هل هي إلا أفعال الله تعالى واختياره، وكل هذا يبطل أن يكون للعقل محال في حظر أو إباحة، أو تحسين أو تقبيح، وأن كل ذلك منتظر فيه ما ورد من الله تعالى في وحيه فقط، نسأل الله الهدى والعافية في الدنيا والآخرة بمنه آمين.
وقال بعض المتكلفين من القائلين بالاباحة: كل من اضطره الله إلى شئ فقد أباحه له.
قال أبو محمد علي: وهذا قول امرئ لم يتدرب في العلم، وقد أخطأ في هذه القضية لان الضرورة فعل الله تعالى، والجائع مضطر إلى الجوع، والمريض مضطر إلى المرض، وقد قال تعالى في أهل النار: ثم ضطره إلى عذاب النار أفيسوغ(1/51)
لذي عقل أن يقول: إن الله تعالى أباح للجائع الجوع، وللمريض المرض،
ولاهل جهنم الكون في جهنم، وإنما يقول هذا من لا يعرف الاسماء ولا المسميات ولا حقيقة عبارة الالفاظ عن المعاني.
فإن قال قائل: فإن الشريعة تبطل حكم ما في العقول، واحتج بأنه قد حسن في العقول الانقياد للامر المنسوخ قبل أن ينسخ، ثم أتى النسخ فقبح في العقل ما كان فيه حسنا.
قيل له: هذا شغب فاسد، ولم نكرر أن الشريعة لا تحسن إلا ما حسنت العقول ولا تقبح ما قبحت، بل هو قولنا نفسه، وإنما أنكرنا أن يكون العقل رتبة في تحريم شئ أو تحليله أو تحسينه أو تقبيحه، وأما إذا وردت الشريعة بالنهي عن شئ أو إباحته، فواجب في العقول الانقياد لذلك، والانقياد لمنع ما أبيح، أو إباحة ما منع إن جاء أمر بخلاف الامر المتقدم، فلم يحدث في العقول شئ لم يكن ولا غير النسخ شيئا مما كان فيها من وجوب الانقياد لما وردت به الشريعة، وقد قال بعض القائلين بالحظر: إن معنى قوله عز وجل: خلق لكم ما في الارض جميعا إنما معنى هذا ليعتبر به.
قال أبو محمد: وهذا تحكم لا يشبه إلا تحكم الصبيان.
ومن استجاز مثل هذا من نقل الالفاظ عن مراتبها في اللغة، فلا ينكر على غلاة الروافض قولهم: إن معنى الصلاة الدعاء لا الركوع والسجود، معنى الزكاة طهارة الانفس، ومعنى الحج القصد إلى الامام، ومن سلك هذه الطريقة أبطل الديانة، وأدى إلى إبطال جميع التفاهم، ولم يكن في الدنيا كلام إلا واحتمل أن يقول فيه قائل إنه مقصود به غير ما يقتضيه لفظه، وهذا هو إبطال الحقائق، وساغ للعيسوية من اليهود أن يقولوا: إن معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نبي بعدي، أي من العرب فقط، وساغ للمعتزلة أن تقول: وخلق كل شئ، أي الاجسام وأعراضها حاشا الحركات، وساغ للحشوية أي تقول: بل خلق كل شئ حاشا الروح والايمان
والكلام المسموع من القراء، وساغ للمنانية أن يقولوا خلق كل شئ من الخير(1/52)
فقط، وهذا كلام ومذهب يفسد الدين، ويبطل حقيقة العقل.
وقد علمنا ضرورة أن الالفاظ إنما وضعت ليعبر بها عما تقتضيه في اللغة، وليعبر بكل لفظة عن المعنى الذي علقت عليه، فمن أحالها فقد قصد إبطال الحقائق جملة، وهذا غاية الافساد وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: ثم نبطل كلا المذهبين معا بحول الله وقوته.
قال الله تعالى: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب وقال تعالى قل أرأيتم ما نزل الله لكم من زذرق فجلتم منه حراما وحلالاقل آلله أذن لكم أم على الله تفترون) *.
قال علي: ففي هاتين الآيتين نص واضح على تحريم القول في شئ من كل ما في العالم أنه حرام أو أنه حلال، فبطل بذلك قول من قال: إن الاشياء قبل ورود الشرع على الحظر أو على الاباحة، وصح أن من قال شيئا من من ذلك بغير إذن من الله تعالى فهو مفتر على الله عز وجل، وأما إذا ورد الشرع بأي شئ ورد من إباحة الكل، أو حظر الكل، أو حظر البعض، أو إباحة البعض فواجب القوم بكل ما ورد من ذلك، وقال تعالى أيحسب الانسان أن يترك سدى والسدى المهمل الذى لا يأمر ولا ينهى فصح بهذه الآية أن الناس لم بيقو القط هملا دون ورود شروع فبطل قول من قال: ان العقول تعرت وقتا من الدهر من شرع وإذ قد بطل هذا القول، فقد بطل أن يكون الشئ في العقل قبل ورود الشرع له حكم في العقل بحظر أو إباحة.
قصار قولهم محالا ممتنعا، مع كونه حراما أيضا لو كان ممكنا وقال تعالى وإن من أمة إلا خلا فيها نذير فبطل هذا أن تكون أمة وقتا من الدهر لم يتقدم فيهم نذير وقد كان آدم عليه السلام رسولا فح الارض
وقال تعالى له إذ أنزله إلى الارض ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين فأباح تعالى الاشياء بقوله أنها متاع لنا ثم حظر ما شاء وكل ذلك بشرع وكذلك إذ خلقه في الجنة لم يتركه وقتا من الدهر دون شرع بل قد قال تعالى وكلا منها رغدا حيث شئنما ولا تقربا هذه الشجرة: فلم يخل فط يخل فط وقت من الزمان عن أمر أو نهى قال على: ويقال لهم أيضا: لو جاز أن نبقى دون شرع لكان حكمنا كحكمنا(1/53)
قبل أن نحتلم، فإن الامور حينئذ لا حكم لها علينا لا بحظر ولا إباحة، ولا فرق بين كونهما كذلك قبل البلوغ بنصف ساعة وبين كونهما كذلك بعد البلوغ وكلا الامرين في العقول سواء.
وما في العقل إيجاب الشرع على من احتلم وسقوطه عمن لم يحتلم.
وليس بين الامرين إلا نومة لطيفة، فبطل بهذا ما ادعوه من أن العقول فيها حظر شئ أو إباحته قبل ورود الشرع وموافاة الخطاب من الله عز وجل، ولو كان كذلك للزم غير المحتلم كلزومه المحتلم إذ موجب العقل لا يختلف.
قال علي: ويقال لمن قال: لكل شئ مباح في العقل، إلا الفكر، أليس إقرار المرء بلسانه بالتثليث غير متبع له إنكارا.
كفرا من قائله، فإن قال: لا.
كفر، وإن قال: نعم.
قيل له صدقت، وقد أباح الله تعالى الاعلان به دون اتباع أفكار لمن اضطر وخاف الاذى.
وقد أباح الله تعالى عند خوف القتل الكفر الصحيح الذي هو كفر في غير تلك الحال، ولسنا نسألهم عن الكفر الذي هو العقد، إنما نسألهم عن الكفر الذي هو النطق به فقط، لان بعضهم قال: لم يبح الله تعالى قط الكفر، لان الكفر الذي هو العقد، ولا خلاف بين من يعتد به في النطق بالكفر دون اتباع بإنكار ولا حكاية، كفر صحيح، فعن هذا الكفر سألناهم وهم يقرون
بأن امرأ لو قال بلسانه: أنا كافر بالاسلام، مقر بالتثليث، إن هذا كفر، وإنه مرتد، وهذا بعينه الذي أبيح عند الاكراه، فقد جاءت إباحة الكفر نصا، وحسن ذلك في عقولهم، وبطل قولهم، والذي نقول به إن الله تعالى لو أباح الكفر الذي هو العقد لكان حسنا مباحا، وأنه إنما حظر بالشرع فقط وبالله تعالى التوفيق، ويقال لمن قال: إن كفر المنعم محظور بالعقل.
ما تقول في كافر ربى إنسانا وأحسن إليه، ثم لقيه في حرب أيقتله أم لا ؟ فإن قالوا: لا.
خالفوا الاجماع، وإن قالوا: نعم.
نقضوا قولهم في أن كفر المنعم محظور بالعقل، فإن قالوا: إن قتله شكر له، كابر، وإن أقروا بأن قتله الذي هو سبب مصيره إلى الخلود في النار شكر له وإحسان إليه، وهذا ضد ما ميزه العقل، وبالله تعالى التوفيق.(1/54)
فصل: فيمن لم يبلغه الامر من الشريعة
قال علي بن أحمد: اختلف الناس فيمن لم يبلغه الحكم الوارد من الله تعالى في الشريعة في خاص منها أو في جميعها، فقالت طائفة: كل أحد مأمور منهي ساعة ورود الامر والنهي، إلا أنه معفوعنه غير مؤاخذ بما لم يبلغه من الامر والنهي، وقالت طائفة: إن الله تعالى ليأمر قط بشئ من الدين إلا بعد بلوغ الامر إلى المأمور، وكذلك النهي ولا فرق، وأما قبل انتهاء الامر أو النهي إليه فإنه غير مأمور ولا منهي.
قال علي: وبهذا نقول لقول الله عز وجل: لانذر كم به ومن بلغ ولقوله لا يكلف الله نفسا الا وسعها ولاخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يسمع به يهودى أو نصراني فلم يؤمن به الا وجبت له النار، حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي، ثنا ابن مفرج، ثنا محمد بن أيوب الرقي، أنبا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار، ثنا محمد بن المثنى، ثنا معاذ بن هشام الدستوائي، ثنا أبو علي
قتادة عن الاسود بن سريع، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يعرض على الله تبارك وتعالى الاصم الذي لا يسمع شيئا، والاحمق والهرم، ورجل مات في الفترة، فيقول الاصم: رب جاء الاسلام وما أسمع شيئا، ويقول الاحمق: رب جاء الاسلام وما أعقل شيئا، ويقول الذي مات في الفترة: رب ما أتاني لك من رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل الله تعالى إليهم: ادخلوا النار، فو الذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما.
وبه إلى قتادة عن الحسن البصري، عن أبي رافع عن أبي هريرة بمثله وزاد في آخره: ومن لم يدخلها دخل النار.
فصح كما أوردنا أنه لا نذارة إلا بعد بلوغ الشريعة إلى المنذر، وأنه لا يكلف أحد ما ليس في وسعه، وليس في وسع أحد علم الغيب في أن يعرف شريعة قبل أن تبلغ إليه، فصح يقينا أن من لم تبلغه الشريعة لم يكلفها.
واحتجت الطائفة الاخرى بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر فسماه عليه السلام مخطئا ولا يكون المخطئ إلا من خالف ما أمر به.(1/55)
قال أبو محمد: وهذا الخبر لا حجة لهم فيه، بل هو حجة لنا وبه نقول، لانه قد يكون مخطئا من لا يوافق الحق، وإن لم يكن مأمورا بالعمل به كإنسان سمى آخر بغير اسمه غير عامد، فهذا مخطئ ولا أمر يلزمه ها هنا، وكمن أنشد بيت شعر فوهم فيه، فهو مخطئ بلا شك، وهذا المجتهد مخطئ بلا شك إذا حكم بخلاف ما ورد به الحكم من عند الله عز وجل، وأدخل في الدين ما ليس منه، وإن كان غير مأمور بالحكم بما لم يبلغه فإنه منهي عن الحكم بما ظن أنه حق، وهو غير حق، وأما إذا بلغه فإنه مأمور به وإن نسيه لانه قد بلغه ولزمه.
فإن قال قائل: لو كان ما قلتم لكان الدين لازما لبعض الناس لا لكلهم، قلنا
وبالله التوفيق: ليس كذلك بل الدين لازم للجن والانس إذا بلغهم، نعم ولكل من لم يخلق بعد إذا خلق وبلغه وبلغ حد التكليف لا قبل ذلك، وأنتم لا تخالفوننا في الشريعة أنها لا تلزم من لم يخلق قبل أن يخلق، ولا من لم يبلغ قبل أن يبلغ.
فإن قالوا: فكيف حال من لم يبلغه الامر، أهو مأمور بما هو عليه من خلاف ما أمره الله تعالى به مما لم يبلغه أم هو مأخور بما أمر ه الله تعلى به مما لم يبلغه، ولا سبيل إلى قسم ثالث ؟ فإن قلتم: هو مأمور بما أمره الله تعالى به، وإن لم يبلغه فهو قولنا، وإن قلت هو غير مأمور بما أمره الله تعالى به، أو أنه مأمور بما هو عليه من خلاف ما أمر الله تعالى به كان ذلك شغبا بشيعا.
قلنا وبالله التوفيق: لسنا نقول بواحد من هذين الجوابين لكنا نقول: هو غير مأمور في ذلك بشئ أصلا حتى يبلغه، وحاله في ذلك كحال من لم يبلغ حد التكليف حتى يبلغ، فإن قالوا: فكيف حكمه إن خالف ما يرى أنه الحق عامدا فوافق بذلك ما أمر الله تعالى به، قلنا لهم: هذا السؤال لازم لكم ولنا.
فأما نحن فنقول وبالله التوفيق، إنه ليس في ذلك مطيعا ولا عاصيا، لكنه مستسهل لمخافة الحق، هام بترك الحق، إلا أنه لم يفعل ذلك بعد.
هذه صفته على الحقيقة إلا أنه لم يخالف بفعله ذلك حقا ولا واقع باطلا.
قال علي: أهل هذه الصفة ينقسمون ثلاثة أقسام: فقسم شهدوا ورود الامر من الله تعالى ثم نسخ ولم يشهدوا الناسخ، وليس أحد من هؤلاء موجودا بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ،لان النسخ بطل بعد موته عليه السلام(1/56)
واستقرت الشرائع.
وقسم ثان: علموا المنسوخ ولم يبلغهم الناسخ، أو بلغهم المجمل ولم يبلغهم المخصص، وقسم ثالث: بلغهم الناسخ والمنسوخ والمجمل والخاص ثم نسوا الخاص والناسخ، أو تأولوا فيهما تأويلا قاصدين إلى الحق.
فإما من كان في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغه المنسوخ ولم يبلغه الناسخ، فهؤلاء خاصة لا يسقط عنهم الامر بالمنسوخ حتى يبلغ إليهم الناسخ، لانه قد لزمهم الذي بلغهم بيقين لا شك فيه، ولا يسقط اليقين إلا بيقين.
برهان هذا: أنه قد صح وثبت عند جميع أهل العلم أن المسلمين كانوا بأرض الحبشة، وبأقصى جزيرة العرب، فنزل الامر من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم ما لم يكن فيه قبل ذلك أمر كالصوم والزكاة، وتحريم بعض ما لم يكن حراما كالحق، وإمساك المشركات وغير ذلك.
فلا شك في أنه لم يأثم أحد منهم بتماديه على ما لم يعلم نزول الحكم فيه.
وكذلك كان ينزل الامر مما تقدم فيه حكم بخلاف هذا النازل كتحويل القبلة عن بيت المقدس وغير ذلك، فلا شك أيضا في أنهم لم يأثموا ببقائهم على العمل بالمنسوخ، بل كان فرضا عليهم الصلاة كما أمروا وعرفوا حتى يبلغهم نسخه هذا ما لا يختلف فيه اثنان فصح قولنا، والحمد لله يقينا لا مجال للشك فيه.
وهكذا بقي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزيد من عشرة أعوام مقرين لليهود والنصارى والمجوس بجزيرة العرب، إذ لم يبلغهما نهي النبي عليه السلام عن إقرارهم فيها، فلم يختلف أحد في أنهما لم يعصيا بذلك، بل فعلا ما أمرا به ولو قال قائل: إن هذا إجماع صحيح متيقن لما بعد عن الصدق، لانه لم ينكر ذلك عليهما أحد من الصحابة، وليس منهم أحد خفي عليه إقرارهما لهم قبل بلوغ النهي إليهما، وبالله تعالى التوفيق.
فإن قيل: فهلا قلتم إنه سقط عنهم استقبال بيت المقدس، ولم يؤمروا باستقبال الكعبة بقول الله تعالى: * (ومن حيث ما كنتم فولوا وجود هكم شطه) قلنا: لا لما قد ذكرنا من أن الحكم لا يلزم حتى يبلغ، وإنما خاطب الله بهذا الامر من بلغه ومن لم يخلق إذا خلق وبلغه، ولا دليل على سقوط ما قد ثبت عليهم من استقبال بيت المقدس إلا ببلوغ الامر إليهم بتركه.(1/57)
قال علي: ولو كانوا مأمورين باستقبال الكعبة حين نزول الامر من قبل أن يبلغهم لكان من أقدم منهم فصلى إلى الكعبة عامدا قبل أن يبلغهم الامر جائز الصلاة، وهذا باطل، وأما لو أن إنسانا اليوم خفيت عليه دلائل القبلة، فاستدل فأداه استدلاله إلى جهة ما، وقطع بذلك ثم تعمد الصلاة إلى خلاف تلك الجهة، فلما سلم إذا به إلى القبلة فإن صلاته باطلة، وهو بذلك فاسق، لانه تعمد العمل في صلاته بما ليس عالما أنه أمر به فيها، فقصد العمل بما يرى أنه ليس من صلاته، فقد قصد إفساد صلاته فبطلت بذلك.
قال أبو محمد: وأما من كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبلغه الناسخ ولا الخالص، فإنه أيضا مأمور بما يعتقد من المنسوخ ومن عموم المخصوص، لان الله تعالى لم يكلفه قط خلاف ذلك، بل افترض عليه خلافا لذلك طاعة أمره تعالى جملة، والمنسوخ من أمره فلا شك، فهو لازم لكل من بلغه بعموم الامر المذكور حتى يبلغه نسخه وبالله تعالى التوفيق.
ومن المحال الممتنع أن يكون الله تعالى يورد على عبده أمرا يأمره به ثم ينهاه عنه ولا يعلمه بنهيه عنه، وهو تعالى قد تكفل لنا بالبيان، قال عز وجل قد تبين الرشد من الغى) فلو ورد أمر الله تعالى ثم نهاه عنه ولم يبلغه نهيه لكان ذلك إضلالا والتباسا، ولكان الرشد غى مبين من الغى: وحاشا لله من هذا بيقينا.
وأما من بلغه الناسخ والخاص ثم نسيهما أو تأول فيهما بمبغ طاقته فهو مأمور بما بلغه من ذلك، لانه مذ بلغه منهى عما هو عليه، لانه قد بلغه النهى إلا أنه معذور مأجور مرة، مأجور بقصده الخير، ومعذور ونسيانه، فهذا حكم هذا الباب البرهان الصحيح، وبالله تعالى التوفيق.
فإن احتج بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فرضت الصلاة ليلة الاسراء:
وفيه قول موسى عليه السلام: كم فرض الله على أمتك ؟ قال خمسين صلاة أو نحوه فأخبر النبيان عليهما السلام أن الله تعالى فرض علينا قبل أن يبلغنا خمسين صلاة، قلنا: إنما معنى هذا أنه متى بلغنا الامر لزمنا، وبرهان ذلك: أن ذلك لا يلزم من لم يخلق حتى يخلق، ولا من لم يبلغ حتى يبلغ، ولا من لم يأت عليه وقت الصلاة(1/58)
حتى يأتي وقتها.
هذا ما لا خلاف فيه.
فصح أن الفرض المذكور إنما هو بعد الخلق وبعد البلوغ، وبعد انتهاء الشرع إليه، وبعد دخول الوقت: وبهذا تتألف الاخبار كلها، وبالله تعالى التوفيق.
برهان ذلك: أنه لم يعص قط أحد من المسلمين بتركه الخمسين صلاة، ولو وجبت وتركها تارك لكان عاصيا لله تعالى، فصح أنه يلزمنا إلا ما بلغنا من الدين، وأما من بلغ إليه خبر غير صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وصححه له متأول أو جاهل أو فاسق لم يعلم هو بفسقه، فهذا هو مبلغ، اجتهاد هذا الانسان، ولم يكلفه الله تعالى أكثر مما في وسعه ولا ما لم يبلغه فهو طن علم بما بلغه من ذلك الباطل فمعذور بجهله لا إثم عليه، لانه لم يتجانف لاثم، والاعمال بالنيات، فهو مجتهد مأجور مرة في قصده بنيته إلى الخير، وإلى طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ،فلو خالف ما بلغه من ذلك فإنما عليه إثم المستسهل، بخلاف الرسول صلى الله عليه وسلم ،إما بعلمه فقط فهو فاسق، وإما بنيته فهو كافر، وبالله تعالى التوفيق.
الباب السابع في أصول الاحكام في الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي دليل أو لا ؟
قال علي: قد ذكرنا فيما خلا من هذا الكتاب وفي غيره من كتبنا: أنه لا طريق إلى العلم أصلا إلا من وجهين: أحدهما ما أوجبته بديهة العقل، وأوائل الحس، والثاني مقدمات راجعة إلى بديهة العقل وأوائل الحس.
وقد بينا كل ذلك في غير
هذا المكان، فأغنى عن ترداده، وقد بينا أيضا أن بالمقدمات الصحاح الضرورية المذكورة علمنا صحة التوحيد، وصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه في كل ما قال، وأن القرآن الذي أتى به هو عهد الله تعالى إلينا، فلما كان فيما ذكر لنا عن ربه تعالى، وجوب أشياء ألزمناها والانتهاء عن أشياء منعنا منها ووعد بالنعيم الابدي من أطاعه، وبالعذاب الشديد من عصاه، وتيقنا وجوب صدقه في ذلك لزمنا الانقياد لما أمرنا له بالانقياد له، وتيقنا صحة كل ما ذكر لنا ضرورة ولا محيد للنفس عنها بما نقلته الكواف مما أظهر من المعجزات التي لا يقدر عليها إلا(1/59)
الخالق الاول تعالى، والشاهد لنبيه صلى الله عليه وسلم بها على صحة ما أتى به عنه تعالى، فوجب علينا تفهم القرآن والاخذ بما فيه، فوجدنا فيه التنبيه على صحة ما كنا متوصلين به إلى معرفة الاشياء على ما هي عليه من مدارك العقل والحواس، ولسنا نعني بذلك أننا نصحح بالقرآن شيئا كنا نشك فيه من صحة ما أدركه العقل والحواس، ولو فعلنا ذلك لكنا مبطلين للحقائق، ولسلكنا برهان الدور الذي لا يثبت به شئ أصلا.
وذلك أننا كنا نسأل فيقال لنا: بم عرفتم أن القرآن حق ؟ فلا بد أن نقول بمقدمات صحاح يشهد لها العقل والحس، ثم يقال لنا: بماذا عرفتم صحة العقل والحس المصححين لتلك المقدمات ؟ فكنا نقول بالقرآن، فهذا استدلال فاسد مبطل للحقائق، ولكنا قلنا: إن في القرآن التنبيه لاهل الجهل والغفلة وحسم شغب أهل العناد، وذلك أن قوما من أهل ملتنا يبطلون حجج العقول ويصححون حجج القرآن فأريناهم أن في القرآن إبطال قولهم، وإفساد مذاهبهم، وأن الله تعالى قد علم أن سيكون في العالم أمثالهم، فأخبرنا بما يبطل به شغبهم، ويزيل شكوكهم، كما قال تعالى: ما فرطنا في الكتاب من شئ فما أمر نا فيه تعالى
باستعمال دلائل العقل والحواس قوله تعالى: * (ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون) * وصدق الله تعالى ما شكره من إبطال دلائل سمعه وبصره وعقله وقال تعالى: * (ألم نجعل له عينين ئ ولسانا وشفتين ئ وهديناه النجدين) *.
وذم تعالى من لم يستعمل دلائلها، فقال حاكيا عن قوم معذبين، ولاعراضهم عن الاستدلال المؤدي إلى معرفة الحقائق، قال الله تعالى: * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالانعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) إلى قوله (سيجزون ما كانوا يعملون) وقا تعالى حاكيا عن مثلهم (وقالو لو كنا نسمع ونعقل ما كنا في أصحاب السعير) * فصدقهم الله عز وجل في قولهم ذلك فقال تعالى: (فاعتر فوا بذنبهم فسحقا لاصحاب السعير) وقال تعالى (فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصار هم ولا أفئد تهم من شئ) فذم تعالى من لم ينتفع بما أعطاه من الحواس والعقل(1/60)
قال أبو محمد: أترى هؤلاء المقرين على أنفسهم أنهم كانوا لا يسمعون ولا يعقلون، ولو سمعوا أو عقلوا ما دخلوا النار، أكانت صمخ آذانهم ذات آفات مانعة من تأدية الاصوات ؟ أو كانوا جاهلين بأمور دنياهم وأحكام حرثهم وغراستهم ؟ والقيام على مواشيهم ونفقات أموالهم وإنمائها، وبنيان منازلهم وعمارة بساتينهم، وتدبير متاجرهم وصناعاتهم، وحفظ أموالهم، وطلب الجاه والرياسة ؟ كلا والذي عذبهم وأخزاهم وذمهم ؟ بل كانوا أعلم بذلك كله، وأشد اهتبالا به، وأشغل نفوسا فيه، وأبصر لنموه وتكثيره وحياطته - من أهل الفضل، المقتصرين من ذلك مما يضيع العيال والجسم بتركه أو ما جاءهم من ذلك على ما لابد منه عفوا، وكان غير شاغل لهم عما هو آكد عليهم، المقبلين
على طلب معرفة الحقائق، والوقوف على العلم والعمل، الموصلين إلى معرفة الآخرة والسعادة في دار البقاء في الجنة التي وعدها الله تعالى أولياءه والمبعدين من الهلاك والقرار في دار العذاب في النار التي وعدها الله عز وجل لاعدائه المشتغلين بذلك عما تهافت عليه أهل الجهل والنقصان.
كما ثنا عبد الله بن يوسف بن نامي، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد، وكلاهما عن أسود بن عامر قال: ثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة وثابت البناني: هشام عن أبيه عن عائشة، وثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم في حديث قوله عليه السلام في تلقيح النخل فتركوه فخرج شيصا، ولكن هؤلاء المعذبون أضربوا عن استعمال السمع والبصر، واللمس والذوق الشم، والعقل في الاستدلال على الخالق تعالى، ولم يقرب منه من عقد وقول وعمل وصرفوا كل ذلك في حطام فان، لا يجدي ولا يغني، بل يثقل ويندم، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: ووجدنا في القرآن إلزامنا الطاعة لما أمرنا به ربنا تعالى فيه، ولما(1/61)
أمرنا نبيه صلى الله عليه وسلم ،مما نقله عنه الثقات، أو جاء عنه بتواتر أجمع عليه جميع علماء المسلمين على نقله عنه عليه السلام، فوجدناه تعالى قد ساوى بين هذه الجمل الثلاث في وجوب طاعتها علينا، فنظرنا فيها فوجدنا منها جملا إذا اجتمعت قام منها حكم منصوص على معناه، فكان ذلك كأنه وجه رابع، إلا أنه غير خارج عن الاصول الثلاثة التي ذكرنا وذلك نحو قوله عليه السلام: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام فأنتج ذلك كل مسكر حرام فهذا منصوص على معناه نصا جليا ضروريا.
لان المسكر هو الخمر، والخمر هي المسكر، والخمر
حرام، فالمسكر الذي هو هي حرام.
ومثل قوله تعالى وورثه أبواه فلامه الثلث وقد تيقنا بالفعل الذي به علمنا الاشياء على ما هي عليه أن كل معدود فهو ثلث وثلثان، فإذا كان للام الثلث فقط وهي والاب وارثان فقط فالثلثان للاب، وهذا علم ضروري لا محيد عنه للعقل، ووجدنا ذلك منصوصا على المعنى وإن لم ينص على اللفظ.
ومثل إجماع المسلمين على أن الله تعالى حكم بأن دم زيد حرام لاسلامه ثم قال قائل: قد حل دمه فقلنا: قد تيقنا بالنص وجوب الطاعة للاجماع، وقد صح نقل الاجماع على أن دمه حرام، فلا يجوز لنا خلاف ذلك إلا بنص منقول بالثقات أو بتواتر أو بإجماع ناقل لنا.
فهذا منصوص على معناه.
ومثل أن يدعي زيد على عمرو بمال فنقول: إن الله تعالى نص على إيجاب اليمين على عمرو، لان النص قد جاء بإيجاب اليمين على من ادعي عليه، وعمرو مدعى عليه فقد أوجب النص اليمين على عمرو، فلا سبيل إلى معرفة شئ من أحكام الديانة أصلا إلا من أحد هذه الوجوه الاربعة، وهي كلها راجعة إلى النص، والنص معلوم وجوبه، ومفهوم معناه بالعقل على التدريج الذي ذكرناه وقد ادعى قوم: أن من الشرائع ما لا سبيل في القدرة إلى تغييره، فأتوا بأمر عظيم، وأدى قولهم هذا الفاسد إلى أن ربهم تعالى مضطر إلى الامر بما أمر من ذلك: فمن التزم منهم ما توجبه مقدمته الفاسدة كفر، ومن جبن عن التزامه تناقض وقضى بفساد معتقده الذي هو ثابت عليه، إلا أنهم استعظموا أن يطلقوا ما يوجبه مذهبهم فحسنوه بعبارة كنوا بها عنه فقالوا: لا سبيل في العقل إلى تغييره.(1/62)
قال علي: والعقل لا يوجب على الباري تعالى حكما، بل الباري تعالى خالق العقل بعد أن لم يكن، ومرتب له وفيه ما قد رتب مما لو شاء أن يخترعه ويرتبه
على خلاف ذلك لفعل.
وإنما العقل مفهم عن الله تعالى مراده، ومميز للاشياء التي قد رتبها الباري تعالى على ما هي عليه فقط.
فقال هؤلاء: إن الكفر والظلم لا يتوهم جواز استباحته.
قال علي: ولا دليل على ما ذكروا، بل قد كان ممكنا أن يأمرنا تعالى بالكفر به وبجحده وبعبادة الاوثان وبالظلم، ولكنه تعالى قد أخبرنا أنه لا يفعل ذلك فعلمنا أن ذلك لا يكون أبدا، ليس لانه ممتنع منه عز وجل لو شاءه، ولا أنه تعالى عاجز عن ذلك لو أراده، ولكن لانه لا يقول إلا الصدق، وقد أخبرنا أن ذلك لا يكون، وأنه لا يرضى لنا الكفر، ولا يأمر أن نتخذ إلهين اثنين، فلما أخبرنا بذلك منعنا من كونه، كما منعنا أن يأتي رسول بعد محمد صلى الله عليه وسلم وكما منعنا من عمارة مكان قفر قد رأيناه غير معمور إلى وقتنا هذا، ومن خلاء مدينة قد عهدناها معمورة إلى وقتنا هذا، وقد كان في الممكن خلاء تلك المدائن، وعمران هذا القفر: ولكن الله تعالى لم يرد ذلك إلى الآن.
فعلى هذا الوجه منعنا أن يأمر بالكفر به لا على أن العقل مانع من جواز ذلك لو شاءه عز وجل.
قال علي: وبرهان ذلك أننا واجدون بالمشاهدة أكثر أنواع الحيوان لم تتعبد بالايمان بالله عز وجل، ولا ركب فيها التمييز الذي لا يعرف الله عز وجل إلا به فلو شاء تعالى أن يجعل الانسان غير مأمور لفعل.
ولما كان هنالك شئ يمنعه من ذلك تعالى وجهه، ولا يوجب عليه فعل ما فعل ولا بد، وهؤلاء الصبيان الذين بلغوا الاربعة عشر عاما ولم يشعروا ولم يحتلموا بإجماع أكثر الامة بالايمان أمر إلزام، ولا منهيين عن الكفر نهي تحريم، فإذا احتلموا لزمهم الايمان فرضا، وحرم عليهم الكفر حتما، ولم يكن بين تعريهم من الاوامر والنواهي، وبين حلولها عليهم إلا نومة لعلها أقل من مقدار شي بيضة، ولم يزد التمييز الذي كان فيهم في تلك النومة شيئا.
بل هو على حسبه الذي كان عليه قبل
أن ينامها، ولا فرق.
هذا شئ يعلم بالحس والمشاهدة، يعني تساوي التمييز فيهم في ذينك الوقتين.
وهذا شئ قد يشهد النص به ولا خلاف فيه بين جمهور أهل(1/63)
الملة التي وضعنا كتابنا هذا في أحكامهم وعبادتهم، اختلافهم في معنى براءة من لم يشعر ولم يحتلم، ولا حاض إن كان امرأة، ولا بلغ خمسة عشر عاما من جميع الاوامر الواردة من الله تعالى ولزومها لمن احتلم وبلغ خمسة عشر عاما مع الاحتلام، أو حاض إن كان امرأة في هذه السن، ولا فرق في العقل بين جواز عدم الامر بالايمان في كلتا الحالتين المذكورتين، وبين جواز وجود الامر به في كلتيهما.
فإن شغب مشغب بتعلم الصبيان الصلاة وضربهم عليها، وأراد بذلك غرور الضعفاء المقلدين، فليعلم أنه لا خلاف عند الحاضرين من خصومنا في أن ذلك على سبيل التدريب وتعليم الخير، لا على سبيل الايجاب لذلك عليهم، وكذلك دعاؤنا إياهم إلى الاسلام.
وبرهان ذلك: أننا لا نقتلهم إن ارتدوا حتى يحتلموا، ولا نقتلهم إن قتلوا، ولا نحدهم إن زنوا، ولا يحرم الميراث وإن ارتد قبل بلوغه من موروثه المسلم.
فإن ادعى مدع: أن البهائم متعبدة، واختار اللحاق بأحمد بن حابط والخروج عن إجماع المسلمين، فحسبه مفارقة الاسلام واللحاق بالكفر، وليس هذا مكان محاجة أهل هذا المذهب، وقد بينا ذلك في كتاب الفصل.
وإنما قصدنا في كتابنا هذا بيان جمل الاحكام فقط فمن أراد أن يقف على هدم ما ذكرنا من الشغب فليقرأ كتابنا المرسوم بكتاب الفصل إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد: فإذ قد بينا أقسام المعارف جملة، ثم بينا أقسام الاصول التي لا يعرف شئ من الشرائع إلا منها، وأنها أربعة وهي: نص القرآن، ونص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ،الذي إنما هو عن الله تعالى مما صح عنه
عليه السلام نقل الثقات أو التواتر، وإجماع جميع علماء الامة، أو دليل منها لا يحتمل إلا وجها واحدا، فلنصف بحول الله وقوته كيف ستعمل المناظران(1/64)
أو المتعلم أو العالم السبيل إلى معرفة الحقائق مما ذكره.
فنقول وبالله تعالى التوفيق: أول ذلك سؤال السائل مسؤوله عن مذهبه في مسألة كذا، إما مستفهما أو مناظرا، فإذا أجابه سأله: ما دليلك على كذا ؟ فإذا أجابه فقد وصلا إلى ميدان المعارضة، فإن لم يكن هنالك إلا أن يصف كل واحد منهما مذهبه، ولم يزد المسؤول على ذكر مذهبه فقط، ولم يأت بدليل فقد سقط وبطل واكتفى بذلك عن تكلف إبطاله، إذ قد بينا فيما تقدم من كتابنا هذا إبطال كل قول لم يقم عليه دليل، فإن عارض المسؤول السائل بدليل، مثل أن يستدل أحدهما على صحة مذهبه بآية، فيحتج عليه الآخر بآية أخرى، هي في ظاهرها مخالفة الحكم للتي احتج بها خصمه أو بحديث كذلك.
أو احتج أحدهما بحديث فعارضه الآخر بآية هي ظاهرها مخالفة الحكم لذلك الحديث أو بحديث كذلك.
فسنفرد لذلك بابا موعبا في كتابنا هذا إن شاء الله عز جل عند كلامنا في الاخبار، وإن أمدنا الله بمده وقوته فسنفرد لكل هذه الوجوه كتبا مفردة في أشخاص الاحاديث والآي التي ظاهرها التعارض، ونحن نبين بحول الله وقوته نفي الاختلاف عن كل ذلك وبالله تعالى نعتصم ونتأيد.
وقد ذكر مخالفونا تعارض العلل.
قال علي: وسنبين في آخر كتابنا هذا إن شاء الله تعالى بطلان العلل في الشرائع بالجملة، وإن أمدنا الله تعالى بمده وعون من قبله عز وجل فسنفرد في المسائل النظرية، وهي التي دلائلها نتائج مأخوذة من مقدمات نصية أو إجماعية ديوانا موعبا نتقصى فيه إن شاء الله تعالى الادلة الصحيحة، وبطلان علل أصحاب القياس
ومفاسدها بالجملة، وبالله تعالى التوفيق.
ثم رأينا كتابنا المعروف بالايصال جامع لكل ذلك مغن عن إفراد كتب لكل صنف منها.
قال علي: وكل من قال بقبول خبر الواحد، ثم صح عنده خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم متكامل الشروط التي بوجودها يصح عنده الخبر جملة.
فإن تركه لحديث آخر فهو مجتهد، إما مخطئ، وإما مصيب، وكذلك إن تركه لنص قرآن، وكذلك إن ترك نص قرآن لحديث آخر، أو نص قرآن، إلا أنه إن كان قد ترك في مكان آخر(1/65)
مثل تلك الآية التي أخذ بها الآن أو الحديث الذي أخذ به أو أخذ بمثل الحديث أو الآية اللذين ترك ههنا، وخالف ترتيب أخذه في المسائل، فإن كان لم يتنبه لذلك فهو غافل معذور بالجهل، فإن نبه على ذلك فتمادى على خطأه فهو فاسق لاقراره في مكان ما بأن مثل ذلك العمل الذي استعمل ههنا باطل، فهو مقدم على الاخذ بما يدري أنه باطل.
وذلك مثل من أخذ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وترك ظاهر قول الله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله ثم إنه ترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحرم الرضعة والرضعتان وأخذ بظاهر قوله عز وجل (وأمها اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) فهذا ادا وقف على تناقض فعله واتمادى عليه فهو فاسق، لانه في أحد الموضعين مفر بأن ترك ظاهر القرآن للحديث خطا لا يحل، وفي الموضع الثاني استعمل ما أقر أنه لا يحل، فهو مقدم على ما لا يجوز له بإقراره فإن علل حديث الرضعتين أريناه في حديث السارق مثل تلك العلل بعينها، فإن تمادى على الاخذ بأحد هما وترك الآخر فهو فاسق أيضا وان ترك نصا لقياس بعد قيام الحجة عليه بإبطال القياس فهو فاسق أيضا.
وان ترك نصا لقول صاحب فمن دونه فإن كاتن يعتقد أن عند ذلك الصاحب
علما عن النبي صلى الله عليه وسلم وقامت عليه الحجة ببطلاتن ذلك فتمادى ولم يتب فهو فاسق.
فإن كان يعتقد أن لاحد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرم شيئا كان حلالا إلى حين موته عليه السلام، أو يحل شيئا كان حراما إلى حين موته عليه السلام أو يوجب حدا لم يكن واجبا حدا لم يكن واحبا إلى حين موته عليه السلام.
أو يشرع شريعة لم تكن في حياته عليه السلام فهو كافر مشرك حلال الدم والمال حكمة حكم المرتد ولا فرق.
وقد ظن قوم مثل هذا في المنع من بيع أمهات الاولاد، وفي حمل الخمر، وفي اسقاط ست قرا آت كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مباحه، فمن لم تقم عليه الحجة في بطلان هذا المعتقد فهو معذور بالجهل وأما من قامت عليه وتمادى على مذهبه في ذلك فهو كافر مشرك مرتد حلال الدم والمال كما ذكرنا.
وسنبين(1/66)
بحول الله وقوته وجوه هذه المسائل الثلاث في كلامنا في الاجمال من كتابنا هذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال علي: وكل ما قلنا فيه إنه يفسق فاعله أو يكفر بعد قيام الحجة عليه، فهو ما لم تقم عليه الحجة معذور مأجور وإن كان مخطئا، وصفة قيام الحجة عليه هو أن تبلغه فلا يكون عنده شئ يقاومها، وبالله تعال التوفيق.
قال علي: والوجه الذي ذكرنا آنفا، وهو الذي فيه ظاهر تعارض بين آي وآي، وبين حديث وحديث، وبين حديث وآي، فلسنا نقطع فيه على أننا مصيبون للحق، ولا أننا علمناه يقينا، ولا كنا نقول فيه هذا هو الحق عندنا.
ونبين كل مسألة من ذلك في موضعها إن شاء الله تعالى، وهذه هي المتشابهات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: الحلال بين والحرام بين وبينهما متشابهات لا يعلمها كثيمن الناس وليس هذا من المتشابه الذي ذكر الله عز وجل
في قوله: منه آيات محكمات هن أم والكتاب وأخر متشابهات) وسنبين ذلك كله في باب مفرد في آخر كتابنا هذا إن شاء الله تعالى عزو جل إلا أننا قاطعون باتون على أن علم الحقيقة فيما أشكل علينا موجود عند غيرنا ولا بد لقول الله تعالى: قد تبين الرشد من الغي ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم هل بلغت.
قالوا: اللهم نعم، قال اللهم اشهد.
وأما كل حديث صح عندنا أنه ناسخ ولم يأت له معارض، وكل آية وردت كذلك لا معارض لها.
أو كل نص من حديث صحيح أو آية عارضهما نص آخر منهما.
فإن الزائد في حكمه على الآخر هو الحق المتيقن.
لانه شرع وارد من عند الله تعالى لا يحل تركه إلا بنص يبين أنه منسوخ أو مخصوص، فما كان هكذا من النصوص كلها فنحن موقنون بأننا في اعتقاد موجبها محقون عند الله عز وجل وأن مخالفنا فيها مخطئ عند الله عز وجل.
وكل إجماع صح وتيقن على نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم فنحن قاطعون أيضا على أننا فيه محقون عند الله عز وجل.
وإن حدث بعد الاجماع اختلاف في فرع من فروع المسألة.
وإن استدل المخالف بحديث مرسل أو نقل ضعيف، لم نتبعه ولم نقطع على أنه مبطل عند الله عز وجل، بل نقول: هذا الحق عندنا إلا أن نتيقن أن ذلك(1/67)
الخبر لم يأت قط مسندا من طريق يصح، فنقطع حينئذ على أنه باطل عند الله تعالى على ما نبين بعد هذا في باب الكلام في الاخبار إن شاء الله تعالى.
فإن لم يحتج في ذلك بشئ من نص، لكن بتقليد أو قياس، فنحن قاطعون بأنه مخطئ عند الله تعالى، وأننا محقون عنده تعالى، ولكل استدلال ما عدا ما ذكرناه من تقليد صاحب فمن دونه، أو قياس أو استحسان، فهو باطل بيقين عند الله عز وجل وبالله تعالى التوفيق.
فصل: في هل على النافي دليل أو لا ؟
قال علي بن أحمد: اختلف الناس
في هذا على قسمين، فطائفة قالت: الدليل على من أوجب شيئا، أو ثبت حكما أو قضية.
وليس على النافي دليل.
وقالت طائفة: الدليل يلزم إقامته النافي والموجب معا.
قال علي: والصحيح من ذلك أنا وجدنا الله تعالى أنكر على من حقق شيئا بغير علم وأنكر على من كذب بغير علم، فقال تعالى: * (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * فقد حرم الله تعالى بنص هذه الآية أن يقول أحد على الله عز وجل شيئا لا يعلم صحته، وعلم صحة كل شئ مما دون أوائل العقل وبداءة الحس لا يعلم إلا بدليل.
فلزم بهذه الآية من ادعى إثبات شئ أن يأتي عليه بدليل وإلا فقد أتى محرما عليه.
وقال تعالى: * بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأويله فأنكر تعالى تكذيب المرء ما لا يعلم أنه كذب، وقال تعالى: قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) * فأوجب تعالى على كل مدع المصدق أن يأتي ببرهان، وإلا فقوله ساقط، ووجدنا كل ناف مدعيا للصدق في نفيه ما نفى، ووجدنا كل مثبت مدعيا للصدق في إثباته ما أثبت، فلزم كلتا الطائفتين أن تأتي بالبرهان على دعواها إن كانت صادقة.
قال علي: وأما من احتج من أصحابنا في إسقاط الدليل عن النافي بإيجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي واليمين على من أنكر، فإنما في الاحكام فإنه لا خلاف بين أهل الملة في أنه لا يمين على من أنكر شيئا في المناظرة في غير الاحكام.
قال علي: فإذا اختلف المختلفان، فأثبت أحدهما شيئا ونفاه الآخر، فعلى كل واحد منهما أن يأتي بالدليل على صحة دعواه كما بيناه آنفا بحكم كلام الله عز وجل، فأيهما أقام البرهان صح قوله، ولا يجوز أن يقيماه معا لان الحق لا يكون في ضدين، ومن الممتنع أن يكون الشئ باطلا صحيحا في حال واحدة من وجه واحد، فإن عجز كلاهما عن إقامة الدليل، وهذا ممكن، فحكم ذلك الشئ أن يتوقف فيه فلا يوجب ولا ينفي، لكن يترك(1/68)
في حد الامكان لانه لو أقام الدليل موجبه، لكان الشئ موجبا حقا، ولو أقام الدليل نافيه لكان الشئ باطلا منفيا.
فإن لم يقمه واحد منهما قيل في ذلك الشئ هذا ممكن أن يكون حقا، وممكن أن يكون باطلا إلا أننا لا نقول به ولا نحكم به ولا نقطع على أنه باطل، وهكذا نص قوله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أهل الكتاب: لا نصدق ولا نكذب، ولكن نقول الله أعلم.
قال علي: وإنما أوقع أصحابنا في الكلام في هذه المسألة اختلافهم في القياس، ولا معنى للتطول فيها والشغب، لان البراهين على صحة قولنا في إبطال القياس كثيرة جدا واضحة، فلا معنى لمدافعة القائلين به بمثل هذا، بل نقول لهم علينا البرهان في صحة قولنا بإبطاله، فإذا أثبتناه سألناكم عن أدلتكم على إثباته، ولا نقنع بأن نقول إن الشئ أنه باطل فلا معنى لتكلف إقامة الحجة على ضد ما تيقنت صحته، وإن كان هذا قولا صحيحا، ولكنا نقول لهم: هاتوا كل ما تحتجون به في إثباته، ثم علينا نقضه كله بحول الله تعالى وقوته، ثقة منا بوضوح الامر في إبطاله، وسهولة المأخذ في ذلك، وأنه ليس من الغامض الخفي لكن من الواضح الجلي، وقد استوعبنا ذلك ولله الحمد، في باب الكلام في القياس والعلل من كتابنا هذا، وفي كتابنا المرسوم بكتاب التقريب أيضا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإحجاجنا لهم بكل ما شغبوا به وزدناهم احتجاجا بما لم يحتجوا به لانفسهم، وبينا بطلان كل ما يمكن أن يموه به ذلك مموه، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: كل أمر ثبت بيقين إما بحس، وإما ببديهة عقل، وإما بمقدمات راجعة إليهما مما وجد في نص قرآن أو نص سنة أو إجماع، ثم ادعى مدع أن ذلك الحكم قد بطل وانتقل، فعليه الدليل ههنا وليس هذا على الثابت على ما قد صح، لان الدليل قد ثبت بصحة قوله، وما ثبت دليله فالقائل به غير مكلف تحديده
في كل وقت، وهذا شئ يقضي العقل بفساده كمن ادعى أن في الدنيا بلادا فيها ناس يمشون على أربع لا على رجلين، ورؤوسهم على أسافلهم.
أو ادعى أن في الناس قوما لهم حاسة سادسة غير حواسنا، أو ادعى أن فلانا الذي عهدناه حيا مات، فأراد قسم ميراثه ونكاح نسائه، أو أن فلانا طلق امرأته التي عهدنا صحة زوجيته(1/69)
معها، أو أن هذا الرجل الذي عهدنا عدالته قد فسق، أو أن فلانا الذي عهدنا فسقه قد تعدل، أو أن فلانا الذي عهدناه غير وال قد ولي الحكم في بلد كذا، أو أن فلانا الذي عهدناه واليا قد عزل، وأن الله تعالى قد ألزمكم أمر كذا، أو حرم عليكم أمر كذا، أو أحل لكم أمرا عهدناه حراما، أو أسقط عنكم أمرا عهدناه لازما، فكما ذكرنا من دعوى انتقال حال معلومة فعلى مدعي انتقالها الدليل، ولا تكلف مبطل هذا القول دليلا على بطلان قول خصمه، إذا قام الدليل على صحة قوله، ولا يلزم التكرار للدليل بلا خلاف ما كل ما ذكرنا حاشا مسائل الالزام والتحريم والاحلال والاسقاط، فخصومنا موافقون لنا على القول بقولنا فيها بلا خلاف، ومستخفون بمن خالفنا.
وأما هذه المسائل الاربعة المذكورة، فدليلنا على صحة قولنا هو قوله تعالى: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم ئ قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين) * فصح بنص الآية أن ما لم ينزل بنص القرآن وجوبه أو تحريمه فهو ساقط معفو عنه.
وأما بطلان قول من ادعى سقوط شئ قد ثبت بنص أو إجماع أو إحلال ما قد حرم بنص أو إجماع، فقد أبطل ذلك ربنا تعالى بقوله: * (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) *، وقال تعالى: تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) * وقال تعالى: * (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا
لاتخذوك خليلا)
قال علي: فبين الله تعالى بيانا جليا لا إشكال فيه، أنه لا يحل تحريف كلام الله تعالى ولا تعدي حدوده، ولا أن نترك ما أوحي إلينا، وأن من خرج عن شئ من ذلك فهو ظالم مفتر على الله تعالى، فوجدنا الله عز وجل قد ألزمنا طاعة ما جاء في القرآن وطاعة ما جاء عن نبيه صلى الله عليه وسلم ،لانه إنما ينطق عنه عز وجل، وطاعة ما أجمع عليه جميع المسلمين عن نبيهم عليه السلام، وأن هذه حدود الله تعالى.
فمن أراد إخراجنا عما ثبت بشئ منها، وأن يعدى بنا عنها فقد حرف(1/70)
كلام الله تعالى وظلم، وأراد الفتنة عن الوحي وتكلف القربة إلا أن يأتي بنص أو إجماع على دعواه، وإلا فنحن باقون على تلك الحدود، غير متعدين لها ولا مفترين غيرها ولا محرفين لما قد ثبت بها، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا فإن من طرد هذا الاصل لزمه أن: إن ادعى مدع على آخر أنه قتل وأنكر ذلك المدعى عليه أن يكلف المدعي عليه الدليل على براءته وإلا قتله، ومن ادعى وجوب صيام مفترض غير رمضان وغير ما جاء في النص من الكفارات والنسك والنذر والقضاء، أن يكلف المانع من ذلك الدليل، وهذا خروج عن الاسلام مع ما فيه من مخالفة العقول.
وكذلك القول فيمن قال بصحة الالهام قول الرافضة في الامام، ومن ادعى الغول والعنقاء والنسناس وجميع الخرافات، فإن كل ذلك لا يحل القول بشئ منه، ولا الاقرار به، وهو كله على الدفع والرد والابطال بلا دليل يكلفه مبطله، وإنما البرهان على من حقق شيئا من ذلك أو أوجبه.
وهكذا كل دعوى أراد مدعيها إثبات شئ لم يثبت، أو إبطال شئ قد ثبت لا تحاشي شيئا فإنه لا برهان على من امتنع من القول بشئ من ذلك، لانه فعل ما يلزمه من ذلك،
وإنما البرهان على من أراد إلزام شئ من ذلك فقط، فإن أتى به صحت دعواه، وإلا فواجب تركها وردها، وإن كانت ممكنة غير ممتنعة، وفيما ذكرنا من نص كلام الله تعالى كفاية توجب ضرورة العلم بما ذكرنا، وبالله تعالى التوفيق.
الباب الثامن في البيان ومعناه
قال علي: قد بينا في باب تفسير الالفاظ الدائرة بين أهل النظر حد البيان وتفسيره ونحن نقول: إن التخصيص أو الاستثناء نوعان من أنواع البيان، لان بيان الجملة قد يكون بتفسير كيفياتها وكمياتها دون أو يخرج من لفظها شئ يقتضيه(1/71)
في اللغة، كقوله تعالى: فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ماهية هذه الزكاة المأمور بإيتائها، دون أن يخرج من لفظ الزكاة شيئا، وكذلك فسر عليه السلام من صفات النكاح والحج وغير ذلك، وقد يكون باستثناء مثل ما روي عن نهيه عليه السلام عن بيع الرطب بالتمر، ثم استثنى العرايا فيما دون خمسة أوسق، فكان هذا مخرجا بحكم العرايا من جملة النهي المتقدم، وقد يكون الاستثناء بألفاظ الاستثناء مثل: إلا وخلا وحاشا وما لم، وما أشبه ذلك.
وقد يكون حكما واردا بلفظ الامر، أو بلفظ الخبر، مستثنى من جملة أخرى، وهذا يسمى التخصيص، كتحريمه تعالى نكاح المشركات جملة، ثم جاءت إباحة نكاح نساء أهل الكتاب والزواج، فكان هذا تخصيصا من الجملة المذكورة.
وأما النسخ، فهو رفع الحكم أو بعضه جملة، والفرق بينه وبين الاستثناء والتخصيص أن الجملة الواردة التي جاء التخصيص أو الاستثناء منها لم يرد الله تعالى قط إلزامها لنا على عمومها وقتا من الدهر، كالذي ذكرنا من تحريم المشركات، فإنه لم يرد قط بذلك نكاح نساء الكتابيين بالزواج، وكذلك القول في العرايا
وأما النسخ فإننا مكلفون الجملة الاولى على عمومها مدة ما لم يأت أمر بإبطالها عنا، أو إبطال بعضها على ما تبين في باب النسخ إذا بلغنا إليه إن شاء الله تعالى.
فإما وجوه البيان التي ذكرنا من التفسير والاستثناء والتخصيص، فقد يكون بالقرآن للقرآن، وبالحديث للقرآن، وبالاجماع للقرآن، وقد يكون بالقرآن للحديث، وبالحديث للحديث، وبالاجماع المنقول للحديث.
وقولنا: الحديث، إنما نعني به الامر والفعل والاقرار والاشارة، فكل ذلك يكون بيانا للقرآن، ويكون القرآن بيانا له، وإنما فرقنا آنفا بين التخصيص والاستثناء وبين النسخ لانه قد تيقنا وجوب طاعة الله عز وجل ورسوله عليه السلام علينا، فحرام علينا الخروج عن طاعتهما في شئ مما أمرا به، أو أن نقول في شئ مما ألزمنا إنه منسوخ ساقط بعد وجوبه إلا بيان جلي لا شك فيه، وإذا وجدنا الحكم سقط بعضه بالاستثناء أو التخصيص فنحن على يقين من أنه لا يلزمنا فلا يحل لاحد أن يقول إنه لزم ثم سقط، فيكون قد قفا ما ليس له به علم، وقال بشك لا بيقين، وذلك حرام.
ولا يجوز بأن نقول(1/72)
بأن حكم كذا لزمنا إلا بيقين، ولا يسقط بعد لزومه إلا بيقين، فلهذا قلنا بالفرق المذكور بين النسخ وبين الاستثناء والتخصيص، لاننا إذا قلنا في ذلك إنه نسخ فقد أقررنا أنه لزم ثم سقط، وهذا لا يحل قوله إلا بيقين.
وبالله تعالى التوفيق.
ومما خص من القرآن بالقرآن قوله تعالى: إلا على أز واجهم أو ماملك فاستثنى تعالى الازواج وملك اليمين من جملة ما حظر من إطلاق الفروج، ثم خص تعالى الجمع بين الاختين وبين الام والابنة، والربيبة والزانية، والحريمة بالقرابة، والشركة بالقرآن، وخص الحريمة بالرضاع بالسنة، والذكور والبهائم، والامة المشركة بالاجماع المأخوذ من معنى دليل النص الثابت لا يحتمل
إلا وجها واحدا بالحظر من جملة المباح بملك اليمين فإن قال قائل: لا يجوز أن يبين القرآن إلا بالسنة، لان الله تعالى يقول وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) * قيل له، وبالله تعالى التوفيق: ليس في الآية التي ذكرت أنه عليه الصلاة والسلام لا يبين إلا بوحي لا يتلى، بل فيها بيان جلي، ونص ظاهر أنه أنزل تعالى عليه الذكر ليبينه للناس، والبيان هو بالكلام، فإذا تلاه النبي صلى الله عليه وسلم فقد بينه، ثم إن كان مجملا لا يفهم معناه من لفظه بينه حينئذ بوحي يوحى إليه، إما متلو أو غير متلو، كما قال تعالى: * (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ئ ثم إن علينا بيانه) * فأخبر تعالى أن بيان القرآن عليه عز وجل، وإذا كان عليه فبيانه من عنده تعالى، والوحي كله، متلوه وغير متلوه، فهو من عند الله عز وجل: وقد قال عز وجل (يبين الله لكم أن تضلوا) وقال تعالى مخبرا عن القرآن (تبيانا لكل شي) فصح بهذه الآية أنه تكون آية متلوه بيانا لاخرى، ولا معنى لانكار هذا وقد وجد، فقد ذكر تعالى الطلاق مجملا، ثم فسره في سورة الطلاق وبينه.
ومما أجمل في السنة وبينه القرآن ما حدثناه عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي عن مسلم، ثنا زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن علية، ثنا أبو حيان، ثنا يزيد بن حيان أنه سمع زيد بن أرقم يقول: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء يدعى خما بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: أما بعد ألا يا أيها الناس(1/73)
فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله عز وجل واستمسكوا به ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي.
قال علي: وفسر زيد بن أرقم - أنهم بنو هاشم.
قال علي: والتقليد باطل، فوجب طلب من هم أهل بيته عليه السلام في الكتاب والسنة، فوجدنا الله تعالى قال: * (ينسآء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا ئ وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا) *
قال علي: فرفعت هذه الآية الشك، وبينت أن أهل بيته عليه السلام هن نساؤه فقط، وأما بنو هاشم فإنهم آل محمد وذوو القربى بنص القرآن والسنة، فهم في قسمه الخمس، وتحريم الصدقة.
وقد أجمل عليه السلام قوله: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ثم فسر الله تعالى ذلك وبينه بقوله في سورة براءة فان تابوا واقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فحلوا سبيلهم فإن قال قائل: ما بين هذا الحديث إلا حديث ابن عمر وأبي هريرة: إني أمرت أن أقاتل المشركين حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة ويؤمنوا بما أرسلت به.
قيل له، وبالله تعالى التوفيق: هذا الخبر الذي ذكرت هو موافق لما في براءة، فصح أن الله تعالى أنزل ذلك عليه في القرآن، ثم أخبر به عليه السلام أصحابه بلفظ فكان بيانا مرددا تفسيرا مؤكدا، فخبر أبي هريرة وابن عمر إنما هو حكاية لما في براءة.
يعلم ذلك ببديهة العقل عند قراءة الآية والحديث المذكور.
قال علي: وقد يرد البيان بالاشارة على ما في حديث كعب بن مالك مع أبي حدرد إذ أشار إليه عليه السلام بيده: أن ضع النصف.(1/74)
الباب التاسع في تأخير البيان
قال علي: واختلفوا في نوع من أنواع البيان فقالت طائفة: إنما يرد المجمل ثم يرد المفسر، وقال آخرون: لا يردان إلا معا، وقال آخرون: جائز ورود المجمل قبل المفسر، والمفسر قبل المجمل، وورودهما معا، كل ذلك جائز.
قال علي: وبهذا نقول: إلا أنه لا يجوز أن يتأخر البيان عن وقت إيجاب العمل البتة، ولا يجوز أن يؤخره النبي صلى الله عليه وسلم بعد وروده عليه طرفة عين، ولسنا نقول بهذا لان العقل يمنع ذلك، لكن لان النص قد ورد بذلك، وإنما منعنا من تأخير الله البيان عن وقت وجوب العمل لقول الله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقد علمنا أنه ليس في وسع لاخد لان يعمل بما لايعرف به، وإنما منعنا من تأخير النبي صلى الله عليه وسلم البيان عن ساعة وروده عليه السلام لقول الله تعالى: * (يأيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين) * فلو أخر عليه السلام البيان عن ساعة وروده عليه لكان عليه السلام في تلك المدة، وإن قلت مستحقا لاسم أنه لم يبلغ، ولو أنه لم يبلغ لكان عاصيا، ولا ينسب هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا جاهل، ومن تمادى على نسبة المعصية إليه في طي الشريعة وترك تبليغها فهو كافر بإجماع الامة.
قال علي: وقد نزلت الصلوات الخمس مفسرة بمكة، ثم جاءت آيات كثيرة مدنيات فيها: أقيموا الصلاة - فقط، فصح بذلك ما ذكرنا من أنه قد ينزل المفسر قبل المجمل، وأما نزول المجمل قبل المفسر فقد نزل ذلك في الصيام وتحريم حشيش مكة ثم جاء تخصيص الاذخر.
قال علي: وأما قولنا بتأخير الله عز وجل البيان ما لم يأت وقت إيجابه تعالى
العمل به، فهو منصوص في قوله تعالى: * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) * وقد أنزل الله عز وجل آيات كثيرة فيها: قصة موسى، وقصة عيسى عليهما السلام، وقصة عاد وثمود وإبراهيم عليهم السلام، بعضها قبل بعض، وبعضها بمكة،(1/75)
وبعضها بالمدينة، وبعضها أكمل من بعض، فهلا اعترض المانعون ربهم تعالى من أن يفعل ما يشاء بغير نص منه تعالى أنه لا يفعله - على ربهم فيما ذكرنا فيقولون: هلا نزلت هذه القصص كاملة في مكان واحد، فتكون أتم للوعظ، وأشفى للخبر، ثم يؤكدها كذلك إن شاء.
وليت شعري إذ أقر هؤلاء بأن التأكيد حكمة، فماذا يقولون في قصص كثيرة ومواعظ لم يذكرها عز وجل في القرآن إلا مرة واحدة ؟ أتراها عريت عن الحكمة إذ لم تكرر ولا وكدت ؟ وأيضا فإن أكد تعالى تكرار مسألة موسى عليه السلام عشرين مرة مثلا ما الفرق بين عشرين مرة، وبين إحدى وعشرين مرة أو تسع عشر مرة ؟ فإن ادعى أن هذا العدد أبلغ في الحكمة ادعى القحة وبانت قلة الحياء في وجهه، وقال ما يعلم أنه بخلاف ما يقول، وسألناه أيضا عن قصص أخر كررت أقل من تكرار قصة موسى عليه السلام.
فإن قال اكتفى بتكرار قصة موسى، قيل له: ما الفرق أن يكتفي بتكرار قصة موسى عن تكرار قصة إبراهيم.
ولا يكتفي بتكرار قصة إبراهيم عن تكرار قصة موسى ؟ وما الفرق بين ذكره تعالى ما ذكر من قصص الانبياء عليهم السلام، وبين ما أمسك عنه تعالى من ذكره لبعضهم ؟ وما الفرق بين ذلك وبين أن لو ذكر من أمسك عنه وأمسك عمن ذكر، وقد ذكر من لا شريعة له غير شريعة من قبله كثيرا، كإلياس واليسع وذي الكفل، وغيرهم، ولعل من أمسك عنه تعالى ولم يذكره من الرسل أعظم
آية، وأبلغ في الوعظ ممن ذكر.
قال علي: وأنا أقطع ولا أمتري أن ملقي هذه النكتة إلى ضعفاء المسلمين مغمور في دينه، ضعيف في عقله، كائد للشريعة، ولا شك في ذلك، ثم تهافت بالتقليد مع من تهافت، وبالله تعالى التوفيق.
ومما سأل عنه المانعون من تأخير البيان جملة أن قالوا: ما تقولوا فيمن سمع آية قطع السارق، ولم يسمع الحديث المبين للتوقيت في ذلك، أيقطع كل سارق لفلس من ذهب ؟ وفيمن سمع آية الزنى ولم يسمع حكم الرجم، وفيمن سمع آية الرضاع ولم يسمع الحديث في التوقيت في ذلك، أيجلد المحصن ولا يرجمه ؟ ويجلد(1/76)
الامة مائة ويحرم برضعة واحدة أم كيف يفعل ؟ فإن قلتم: ينفذ ما سمع على جملته، كنتم قد أمرتموه بالباطل، وإن قلتم: لا يفعل، أمرتموه بمعصية ما سمع من القرآن.
فالجواب: أننا لم نجد قط تأخير ورود البيان عن وقت وجوب العمل، وأما قبل وجوبه فليس يلزمه إلا الاقرار بالجملة، وأن يقول: سمعت وأطعت، ولا مزيد إذا لم تكن مبينة مفهومة مثل قوله تعالى: * (وآتوا الزكاة) * فهذا ليس عليه إلا الاقرار بتصديق ذلك كما قلنا فقط.
إذ لم يأته بيان ما كلف من ذلك، وأما إن كان النص مفهوما بينا فعليه العمل به حتى يبلغه نسخه، أو تخصيصه ولا بد، إذا من قال: لا يلزمه العمل بما بلغه من ذلك فقد قال له: لا تطع ربك، ولا تعمل بما أمرك فلعل ههنا نصا ناسخا لهذا النص، أو نصا مخصصا له، وهذا خلاف أمر الله تعالى في القرآن بطاعته.
ومن طرد هذا القول السخيف لزمه ألا يعمل بشئ من القرآن، ولا السنن أبدا.
حتى يستوعب معرفة جميع أحكام القرآن، وضبط جميع السنن، وفي هذا الخروج عن الاسلام وإبطال الشريعة
قال علي: ونسألهم في رد هذا السؤال عليهم فنقول: ما الذي يلزم من سمع
أمرا ما، والرسول عليه السلام حي مما جاء النسخ بعد ذلك فيه، أيعتقد في ذلك الامر التأييد فيكون معتقدا للباطل.
أو يعتقد فيه السقوط بعد حين فيعتقد المعصية لما سمع ؟ فجوابهم ها هنا جوابنا آنفا فيما سألونا عنه، وأنه يلزم من سمع ذلك الاقرار والطاعة والاعتقاد أن ه حق لازم ما لم يأت ما ينسخه فهو على التأييد، وإن جاء ما ينسخه فهو متروك للناسخ.
قال علي: وتأخير الاستثناء والتخصيص عندنا جائز كتأخير البيان جملة ولا فرق، وهو جائز ما لم يأت وقت إيجاب العمل، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: ومما يبين صحة قولنا قوله تعالى: * (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ئ ثم إن علينا بيانه) * وثم توجب مهلة وقوله تعالى في قصة الملائكة القائلين لابراهيم عليه السلام: إنا منهلكوا أهل هذه القرية ژن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوصا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجية وأهله امرأته كانت من الغابرين فعموا في أول الامر وأخروا البيان حتى وقع السؤال عن لوط فأجابوا بأنهم لم يعنوه بالهلال يعنوه بالهلال وأهله حاشا أمرأته فقط.(1/77)
وقد اعترض في هذا بعض من منع من تأخير البيان جملة بأن قال: قد كان يجب أن يعلم إبراهيم عليه السلام أن لوطا خارج عن العذاب لقولهم إن أهلها كانوا ظالمين ولوط ليس ظالما قيل لهم وبالله تعالى التوفيق.
يمكن أن يحدث من لوط ما يستحق به الظلم فأشفق إبراهيم عليه السلام من ذلك فسأل عنه وقد أجعل لنوح عليه السلام خلاص أهله، فظن أن الاهل هم القرابة حتى بين له بعد ذلك أن المراد بأهله أهل دينه فإن قال قائل: فما المراد من المجمل الوارد قبل ورود بيانه ؟ قيل له وبالله تعالى التوفيق.
المراد منا فيه هو المراد منا في المتشابه الذي أمرنا بأن نبحث عنه، ولا نبتغي تأويله، وأن يقول كل من عند ربنا، وأما المراد فيه فالذي يأتي به البيان إذا أتى ويبين قولنا قول الله تعالى يبين الله لكم ان تضلوا فإنما يبين لنا لئلا نضل ولا ضلال في ورود الامر ما لم يأت وقت وجوب العمل به، فأما إذا جاء وقت وجوب العمل به فلو تركنا نعمل بغير ما أريد منا لكنا قد ضللنا، وقد أخبرنا تعالى بأن ذلك لا يكون، وقوله تعالى صدق وحق بالله تعالى التوفيق.
فعلى هذا الوجه منعنا من تأخير البيان عند وجوب العمل، وإلا فليس في العقل ما يمنع من ذلك لو شاء تعالى، ولو فعل الله تعالى ذلك لكان تعنيتا لنا، وقد أخبرنا تعالى فقال: * (ولو شاء الله لاعنتكم) * فأخبر تعالى أنه لو أراد أن يكلفنا العنت فعل، وهذا نفس قولنا وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: يختلف في الوضوح، فيكون بعضه جليا، وبعضه خفيا، فيختلف الناس في فهمه فيفهمه بعضهم ويتأخر بعضهم عن فهمه، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إلا أن يؤتي الله رجلا فهما في دينه، وكما تعذر على عمر رضي الله عنه، وهو الغاية في العلم بنص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فيه - فهم آية الكلالة فمات وهو يقر أنه لم يفهمها وفهمها غيره من الصحابة رضي الله عنهم،(1/78)
وانتهره عليه السلام وأخبره بأنها بينة يكفي من فهمها الآية التي نزلت في الصيف، وكما عرض لعدي في توهمه أن الخيط الابيض والاسود من خيوط الناس حتى زاده الل تعالى بيانا في أن ذلك من الفجر، وقد اكتفى غير عدي بالآية نفسها، وعلم أن المراد الفجر.
وكما توهم ابن أم مكتوم أنه ملوم في تأخره عن الغزو، فزاده الله بيانا باستثناء أولي الضرر، وقد اكتفى غير ابن أم مكتوم بسائر النصوص الواردة في رفع الحرج، وأن لا حرج على مريض
ولا أعمى، وأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها.
قال علي: فهذه حقائق الكلام في البيان وتأخيره مجموعة باستيعاب وإيجاز وبالله تعالى التوفيق.
والتأكيد نوع من أنواع البيان، قال الله عز وجل: * (تلك عشرة كالمة وقال تعالى: فتم ميقات ربه لاربعين ليلة بعد أن ذكر تعالى ثلاثين ليلة وعشرا، فإن قال قائل: إن الله تعالى علمنا الحساب بذلك فقد افترى، لاننا كنا نعلم الحساب قبل نزول القرآن، نعني النوع الانسان جملة، وبالله تعالى التوفيق، وقد أتى بعض أهل القياس المتحذلقين المتنطعين في قوله تعالى: تلك عشرة كاملة) آبدة فقال معنى قوله تعالى: تلك عشرة كاملة دليل على أن الهدي الذي عوض منه الصوم في التمتع لا يكون إلا كاملا.
قال علي: وأول ما في هذا القول الدعوى بلا دليل، وهذا حرام لا سيما على الله عز وجل، وأيضا فإنه قد جل الله تعالى عن أن يريد أن يكون الهدي كاملا فيترك أن يصفه بذلك، ويقتصر على أن يقول: فما استيسر من الهدى ثم ينبه على كمال الهدي بذكر أن تكون العشرة الايام في الصوم كاملة، فبان كذب هذا القائل، وصح أن قوله تعالى: عشرة كاملة، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الزكاة، فابن لبون ذكر، وكقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الفرائض: فما أبقت الفرائض فلاولى رجل ذكر وإنما هذا توكيد وبيان زائد فقط.(1/79)
قال علي: ومما يبين أن الله تعالى يؤخر البيان قبل أن يريد منا تعالى العمل بالحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى يعرض في الخمر، فمن كان عنده منها شئ فليبعها، فما أتى الوقت الذي أراد الله تعالى أن يوجب علينا اجتنابها أنزل الآيات في تحريمها، وتلا ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
على الناس من وقته وقد يزيد عليه السلام بيانا بعد تقدم البيان قبله، فيكون تأكيدا وإخبارا لمن يبلغه الخبر الاول، كما نزلت الصلوات الخمس بمكة مبينة بأوقاتها، ثم سأل السائل بالمدينة عن أوقاتها وأوائلها وأواخرها فأراه عليه السلام ذلك بالعمل، وقد بينها أيضا بكلامه عليه السلام لغير ذلك السائل.
وكما أخر الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم بيان المناسك قبل أن يأتي وقت وجوب عملها، فلما أتى وقت وجوبها بينها له عليه السلام، فبينها عليه السلام بفعله غير مؤخر لها، ومن ادعى أنه عليه السلام كان عنده بيان المناسك وكتمها عن أصحابه، ومنعهم الاجر بالعلم بها وبالاقرار بجملتها، فقد افترى وكذب نبيه صلى الله عليه وسلم إذ يقول: إن حقا على كل نبي أن يدل أمته على أحسن ما يعلمه لهم ومن قال بهذا فقد أكذب ربه تعالى إذ يقول عز وجل واصفا لنبيه صلى الله عليه وسلم : * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم) * وإذا كتمهم ما يستعجلون الاجر بالاقرار به ويزدادون علما بفهمه، فقد خالف الصفة التي ذكرها الله تعالى، ومن قال ذلك فقد فارق الاسلام.
فإن قال قائل: فأنت تصف الآن محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه يريد أن يزداد أهل الارض خيرا، وهذا خلاف قولك إن الله عز وجل لم يرد هذا بكل الناس، فقد وصفت محمدا صلى الله عليه وسلم بأفضل مما وصفت به الله عز وجل، وبأنه أرأف بنا من الله تعالى.
قال علي: فنقول وبالله التوفيق: هذه شغبية ضعيفة، وإنما يماثل بين الشيئين أو يفاضل بينهما، إذا كانا واقعين تحت نوع واحد، أو تحت جنس واحد، وليس صفتنا لله تعالى من نوع صفتنا للمخلوقين، ورحمة محمد صلى الله عليه وسلم بالناس هي من جنس تراحمنا بعضنا لبعض، إلا أنها أعلى من كل رحمة لانسي، وأكمل وأتم وأدوم، وليس الله تعالى واقعا معنا تحت نوع البشرية كوقوع محمد(1/80)
صلى الله عليه وسلم معنا تحتها، وإن كان أفضل من كل من دونه، ولا يثنى على الله عز وجل بما يثني به على خلقه، ألا ترى أننا نصف الله عز وجل مثنين عليه بأنه جبار متكبر ؟ وهذا في كل مخلوق دونه تعالى ذم شديد، واستنقاص عظيم، ونصفه تعالى بأنه ذو غضب شديد، أنه يفعل ما يريد، وأنه ذو مكر لا يؤمن.
وكل هذا لو وصفنا به مخلوقا لكان ذما ونقصا.
ونمدح المخلوقين بالعقل والكيس، والنبل والنجدة والعفة وكل هذا لا يجوز أن يوصف به الله عز وجل، فمن أراد أن يقيس رحمة الله تعالى لخلقه برحمة نبيه صلى الله عليه وسلم لهم فقد ألحد في وصفه لربه تعالى، وقد علمنا يقينا أن الله عز وجل لم يرد قط أن يهدي أبا طالب ولو شاء أن يؤمن لشرح صدره للاسلام، بل أراد أن يعذبه في نار جهنم أبدا، وعلمنا يقينا أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان من أبعد آماله أن يؤمن أبو طالب، وقد كفانا الله تعالى ذلك بقوله: * (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشآء وهو أعلم بالمهتدين) *.
فأما من آمن بالله فالله أرأف به من نفسه بنفسه، ومن محمد صلى الله عليه وسلم ومن أبيه وأمه اللذين ولداه.
لانه جازاه على ذلك بما لو ملك الاختيار لم يبلغ مقدار ما أعطاه الله تعالى في الجنة، ولا سمح له أبواه بذلك، ولانه تعالى غفر له ما لو فعله عاصيا لابيه ما غفر له ذلك، فإن الرجل يزني بأمة الله تعالى فيغفر له بالتوبة، وبموازنة حسناته لسيئاته، ولو زنى بأمة أبيه لقطعه.
وأما من لم يؤمن فما أراد الله به خيرا قط، ولو أراد به خيرا لاماته سقطا، فمن قال: إن الله تعالى لم يقدر على ذلك فقد ألحد ووصف ربه تعالى بغاية النقص، ومن قال: إن الله تعالى أراد الخير بفرعون فنحن نباهله ونقول: اللهم لا ترد بنا من الخير ما أردته بفرعون، فليدع ربه تعالى أن يريد به من الخير ما أراده بفرعون.
فإن شغب مشغب فقال: إنك الآن تصف محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه أراد غير ما أراد الله عز وجل، وبالله تعالى التوفيق: وهذه شغبية ضعيفة كالتي قبلها.(1/81)
نعم كذلك نقول في هذا المكان مقرين بما قال ربنا عز وجل من أن محمدا صلى الله عليه وسلم أحب أن يهتدي قوم لم يحب الله تعالى أن يهديهم، وليس في اختلاف ما أراد الله تعالى ههنا وما أراد نبيه عليه السلام، عيب على نبيه عليه السلام لانه إنما يمدح النبي فمن دونه من المخلوقين بالائتمار لربه تعالى فقط، لا بأن يوافق ربه فيما لم يكلفه، ألا ترى أننا نمدح أنفسنا بالنكاح والاولاد وهما منفيان عن الله عز وجل لم يردهما لنفسه قط، ونمدح بالصدقة على المحتاج الذي لم يرد الله أن يغنيه، ولو أراد أن يغنيه لكان قادرا عز وجل على ذلك فلم نؤمن نحن قط أن تريد ما أراده الله عز وجل في كل وقت، بل نهينا عن ذلك فقد أراد الله عز وجل قتل من سلط عليه الكفار من المؤمنين، ولو أردنا نحن ذلك لفسقنا، وإنما أريد منا الائتمار لما أمرنا به والانتهاء عما نهينا عنه، وقول خصومنا يؤول إلى قول بعض أهل الالحاد: أن الواجب علينا التشبه بالله عز وجل، وهذا كفر عندنا، لان الله تعالى لا يشبهه شئ، فلا يروم التشبه به إلا كافر ملحد.
وهذا بين، وبالله تعالى التوفيق.
ثم نرجع إلى بقية الكلام في تأخير البيان، فإن احتج بعض من يجيز تأخير البيان عن وقت وجوب الامر بقصة موسى والخضر عليهما السلام فلا سواء، فموسى عليه السلام لم يلزمه قط أمر في تلك القصة يلزمه التقصير إن لم يأته، وإنما سأله ناسيا والنسيان مرفوع، وكذلك كان سؤال نوح عليه السلام في ابنه ناسيا، لان الله تعالى قد كان بين له أن يحمل أهله إلا من سبق عليه القول منهم، فنسي نوح عليه السلام هذا الاستثناء، وقد كان كافيه لان ابنه كان كافرا قد سبق عليه القول في جملة من كفر.
واحتجوا أيضا بأمر بقرة بني إسرائيل، وأنه تعالى أخر عنهم بيان الصفات التي زادهم بعد ذلك.
قال علي: وهذا لا حجة لهم فيه، لان تلك الصفات إنما هي زيادات شرائع لو لم يسألوا عنها لم يزادوهم، ولو ذبحوا في أول ما أمروا بقرة بيضاء أو حمراء أو بلقاء لاجزت عنهم، لكنهم لما زادوا سؤالا زيدوا شرعا، ودخلوا بذلك في جملة من ذم الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ،إذ يقول: إن من أعظم الناس(1/82)
جرما في الاسلام من سأل عن شئ لم يحرم فحرم من أجل مسألته.
وفي قوله عليه السلام: إنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم.
ويبين صحة قولنا هذا قوله عز وجل: * (يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم ئ قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين) *) * فأخبر تعالى بنص ما قلنا وله الحمد، وبين لنا أن الاشياء معفوة ساقطة عنا قبل أن نسأل عنها، فإذا سألنا عنها لزمتنا، ولعلنا نعصي حينئذ فنهلك، وكل ذلك قد سبق في علمه عز وجل.
وأما تأخر نزول: * (يأيها الذين سبقب لهم منا أولئك عنها مبعدون في قصة ابن الزبعرى إذ اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم في تلاوة إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) فقال: نحن نعبد الملائكة والنصارى يعبدون عيسى، فهم في جهنم معنا، فإن ابن الزبعرى كان مغفلا عن تدبر الآية الاولى وقد كان له فيها كفاية له عقل، ولكن الثانية أتت مؤكدة لها فقط وهي إخباره تعالى عن سؤاله الملائكة فقال تعالى: ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) * فأخبر تعالى عن الملائكة الصادقين المقدسين أنهم قالوا: * (قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم
مؤمنون) * فليس قول القائل: أنا أعبد الملائكة، ولا قول النصارى: نحن نعبد المسيح موجب لصدقهم، لان العبادة إنما هي الاتباع والانقياد مأخوذة من العبودية، وإنما يعبد المرء من ينقاد له، ومن يتبع أمره، وأما من يعصي ويخالف فليس عابدا له وهو كاذب في ادعائه أنه يعبده.(1/83)
فالقائلون نحن نعبد الملائكة والمسيح كذبة في دعواهم لذلك ما عبدوهم قط، وإنما عبدوا الشياطين لانقيادهم لامرهم واتباعهم إغواءهم، ولو اتبعوا الملائكة والمسيح عليه السلام ما أمروهم إلا بعبادة الله عز وجل، وبأن يقولوا: إننا لا نعبد شيئا من دون الله عز وجل، بل كانوا ينهونهم عن الكذب وهذا عين الكذب، وقد بين عليه السلام معنى قول ربه تعالى: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم فقال قائل: يا رسول الله ما كنا نعبدهم، فأخبرهم عليه السلام أنهم إذا أطاعوهم في تحريم ما حرموا، وتحليل ما أحلوا، فقد اتخذوهم أربابا، ونحن إنما أطعنا أمر نبينا عليه السلام لعلمنا أنه كله من عند الله عز وجل، وأنه لا يقول من تلقاء نفسه شيئا.
قال الله عز وجل: * (وما ينطق عن ا لهوى ئ إن هو إلا وحي يوحى) *.
فإن قال قائل: فعلى قولك فمن عصى منا لم يعبد الله عز وجل ؟ قيل له: نعم، لم يعبد الله تعالى لتلك المعصية ولا فيها، ولكن عبده في سائر طاعته وإقراره بالتوحيد.
فإن قال قائل: فعلى قولك إننا إذا أطعنا الرسول صلى الله عليه وسلم لقد عبدناه.
قيل له وبالله تعالى التوفيق: إن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم توجب ألا يطلق لفظ العبادة ولا معناها إلا لله عز وجل وحده لا شريك له، وتوجب أن من أطاع الشيطان في الكفر فقد عبده، وهذه معان شرعية لا يتجاوز فيها ما أتت به الشريعة فقط، وأما من ادعى بيان كون أن السلب للقاتل نزل بعد آية قسم الغنائم،
فدعوى لا يقوم عليها دليل ولا روي ذلك قط من وجه يصح، وكذلك القول في بيان سهم ذي القربى وأن بيان كون بني هاشم وبني عبد المطلب هم ذو القربى، دون بني عبد شمس وبني نوفل، نزل متأخرا عن الآية دعوى لا تصح أصلا.
فإن قال قائل: فإن عثمان رضي الله عنه، وجبير بن مطعم جهلا هذا، قيل له: نعم، وما في هذا علينا من الحجة، ومتى منعنا أن يخفى على الصاحب والصاحبين والعشرة والاكثر منهم فهم آية أو آيات من القرآن.
وقد كان في قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني المطلب دونهما ما يكفي، لانهما كانا يوقنان بلا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع ذا حق حقه، ولا يعطي أحدا غير حقه، فكان(1/84)
في هذا كفاية، لانه لو كان لبني عبد شمس، وبني نوفل حق في سهم ذوي القربى ما منعهم إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولو كان بنو عبد المطلب خارجين من ذوي القربى ما أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم حقا ليس لهم، ولكن عثمان وجبير رضي الله عنهما أرادا علم السبب الذي من أجله استحق بنو المطلب الدخول فيما خرج قومهما منه، والخصلة التي بان بها بنو عبد المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل، وقد قال عثمان رضي الله عنه في الجمع بين الاختين بملك اليمين: أحلتهما آية وحرمتهما آية، فأخبر رضي الله عنه أنه خفيت عليه رتبة هاتين الآيتين، ولم يدر أيهما يغلب ويستثني من الاخرى، ولا يجوز عند ذي فهم ولب أن يعتقد الشئ حراما حلالا في وقت واحد، على شخص واحد، فيكون يحل له أن يفعله ولا يحل له أن يفعله، فيفعل ولا يفعل، وهذا محال ظاهر الامتناع، ومن بلغ ههنا كفانا نفسه، وأما العرايا فقد جاء الحديث موصولا في استثنائها من التمر بالرطب، وبالله تعالى التوفيق.
الباب العاشر في الاخذ بموجب القرآن
قال علي: ولما تبين بالبراهين والمعجزات، أن القرآن هو عهد الله إلينا والذي ألزمنا الاقرار به، والعمل بما فيه، وصح بنقل الكافة الذي لا مجال للشك فيه، أن هذا القرآن هو المكتوب في المصاحف، المشهورة في الآفاق كلها، وجب الانقياد لما فيه فكان هو الاصل المرجوع إليه، لاننا وجدنا فيه ما رطنا في الكتاب من شئ فما في القرآن من أمر أو نهي فواجب الوقوف عنده، وسنذكر إن شاء الله تعالى في باب الاخبار التالي لهذا الباب كيف العمل في بناء آي القرآن خاصها مع عامها، وبناء السنن عليها، وسنذكر إن شاء الله تعالى في باب الاوامر والنواهي، كيف العمل في حمل أوامر القرآن ونواهيه على الظاهر، والوجوب، والفور، ونذكر إن شاء تعالى في باب العموم والخصوص، ما يقتضيه ذلك(1/85)
الباب من أخذ آي القرآن على عمومها، ونوعب الرد على كل من خالف الحق في ذلك إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق.
قال علي: ولا خلاف بين أحد من الفرق المنتمية إلى المسلمين من أهل السنة والمعتزلة والخوارج والمرجئة والزيدية في وجوب الاخذ بما في القرآن، وأنه هو المتلو عندنا نفسه، وإنما خالف في ذلك قوم من غلاة الروافض هم كفار بذلك مشركون عند جميع أهل الاسلام، وليس كلامنا مع هؤلاء، وإنما كلامنا في هذا الكتاب مع أهل ملتنا، إذا قد أحكمنا بطلان سائر الملل في كتاب الفصل وبالله تعالى التوفيق.
ونذكر إن شاء الله تعالى في باب الاجماع من هذا الكتاب(1/86)
بالبرهان الصحيح أن القراءات السبع التي نزل بها القرآن باقية عندنا كلها، وبطلان قول من ظن أن عثمان رضي الله عنه جمع الناس على قراءة واحدة منها أو على بعض الاحرف السبعة دون بعض وبالله تعالى التوفيق.
الباب الحادي عشر في الكلام في الاخبار وهي السنن المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي بعض فصول هذا الباب ذكر السبب في الاختلاف الواقع بين الائمة في صدر هذه الامة.
قال علي: لما بينا أن القرآن هو الاصل المرجوع إليه في الشرائع نظرنا فيه فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ووجدناه عز وجل يقول فيه واصفا لرسوله صلى الله عليه وسلم : * (وما ينطق عن الهوى ئ إن هو إلا وحي يوحى) * فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم على قسمين: أحدهما وحي متلو مؤلف تأليفا معجز النظام وهو القرآن، والثاني: وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز النظام ولا متلو لكنه مقروء، وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المبين عن الله عز وجل مراده منا.
قال الله تعالى: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * ووجدناه تعالى قد أوجب طاعة هذا القسم الثاني كما أوجب طاعة القسم الاول الذي هو القرآن ولا فرق فقال تعالى: * أطيعوا الله وأطيعوا الرسول كانت الاخبار التي ذكرنا أحد الاصول الثلاثة التي ألزمنا طاعتها في الآية الجامعة لجميع الشرائع أولها عن أخرها، وهي قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا اللله * فهذا أصل، وهو القرآن.
ثم قال تعالى: وأطيعوا الرسول) فهذا ثان وهو الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ثم قال تعالى: وأولى الامر منكم فهذا ثالث وهو الاجماع المنقول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمه، وصح لنا بنص القرآن، أن الاخبار هي أحد الاصلين المرجوع إليهما عند التنازع، قال تعالى: فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر(1/87)
قال علي: والبرهان على أن المراد بهذا الرد إنما هو إلى القرآن والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لان الامة مجمعة على أن هذا الخطاب متوجه إلينا وإلى كل من يخلق ويركب روحه في جسده إلى يوم القيامة من الجنة والناس، كتوجهه إلى من كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وكل من أتى بعده عليه السلام وقبلنا ولا فرق، وقد علمنا علم ضرورة أنه لا سبيل لنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وحتى لو شغب مشغب بأن هذا الخطاب إنما هو متوجه إلى من يمكن لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمكنه هذا الشغب في الله عز وجل، إذ لا سبيل لاحد إلى مكالمته تعالى، فبطل هذا الظن، وصح أن المراد بالرد المذكور في الآية التي نصصنا إنما هو إلى كلام الله تعالى، وهو القرآن وإلى كلام نبيه صلى الله عليه وسلم المنقول على مرور الدهر إلينا جيل بعد جيل.
قال علي: وأيضا فليس في الآية المذكورة ذكر للقاء ولا مشافهة أصلا، ولا دليل عليه، وإنما فيه الامر بالرد فقط، ومعلوم بالضرورة أن هذا الرد إنما هو تحكيم، وأوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم موجودة عندنا، منقول كل ذلك إلينا، فهي التي جاء نص الآية بالرد إليها دون تكلف تأويل ولا مخالفة ظاهر.
قال علي: والقرآن والخبر الصحيح بعضها مضاف إلى بعض.
وهما شئ واحد في أنهما من عند الله تعالى، وحكمها حكم واحد في باب وجوب الطاعة لهما لما قد مناه آنفا في صدر هذا الباب قال تعالى: * (يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ئ ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) * فبين تعالى بهذه الآية أنه لم يرد منا الاقرار بالطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،بلا عمل بأوامره واجتناب نواهيه، وهذه صفة المقلدين فإنهم يقولون طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة، فإذا أتاهم أمر من أوامره يقروه
بصحته، لم يصعب عليهم التولي عنه وهم يسمعون، نعوذ بالله من ذلك.
وقال تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * وقال تعالى * (قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون) * فأخبر تعالى كما قدمنا أن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم كله وحي، والوحي بلا خوف ذكر، والذكر محفوظ بنص القرآن.(1/88)
فصح بذلك أن كلامه صلى الله عليه وسلم كله محفوظ بحفظ الله عز وجل مضمون لنا أنه لا يضيع منه شئ، إذ ما حفظ الله تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شئ فهو منقول إلينا كله.
فلله الحجة علينا أبدا، وقال تعالى: * (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب) * فوجدنا الله تعالى يردنا إلى كلام نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قدمنا آنفا، فلم يسمع مسلما يقر بالتوحيد أن يرجع عند التنازع إلى غير القرآن والخبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يأتي عما وجد فيهما فإن فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه فهو فاسق، وأما من فعله مستحلا للخروج عن أمرهما وموجبا لطاعة أحد دونهما، فهو كافر شك عندنا في ذلك.
وقد ذكرنا محمد بن نصر المروزي أن إسحاق بن راهويه كان يقول: من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يقر بصحته ثم رده بغير تقية فهو كافر، ولم نحتج في هذا بإسحاق، وإنما أوردناه لئلا يظن جاهل أننا منفردون بهذا القول، وإنما احتججنا في تكفيرنا من استحل خلاف ما صح عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وسلم : * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) *.
قال علي: هذه كافية لمن عقل وحذر وآمن بالله واليوم الآخر، وأيقن أن هذا العهد عهد ربه تعالى إليه، ووصيته عز وجل الواردة عليه، فليفتش الانسان نفسه، فإن وجد في نفسه مما قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل خبر
يصححه مما قد بلغه، أو وجد نفسه غير مسلمة لما جاءه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ووجد نفسه مائلة إلى قول فلان وفلان، أو قياسه واستحسانه، وأوجد نفسه تحكم فيما نازعت فيه أحدا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم متى صاحت فمن دونه، فليعلم أن الله تعالى قد أقسم، وقوله الحق إنه ليس مؤمنا وصدق الله تعالى، وإذا لم يكن مؤمنا فهو كافر، ولا سبيل إلى قسم ثالث.
وليعلم أن كل من قلد، من صاحب أو تابع أو مالكا أو أبو حنيفة والشافعي وسفيان والاوزاعي وأحمد وداود رضي الله عنهم متبرئون منه في الدنيا(1/89)
والآخرة، ويوم يقوم الاشهاد، اللهم إنك تعلم أنا لا نحكم أحدا إلا كلامك وكلام نبيك - الذي صليت عليه وسلمت - في كل شئ مما شجر بيننا، وفي كل ما تنازعنا فيه، واختلفنا في حكمه، وأننا لا نجد في أنفسنا حرجا مما قضى به نبيك، ولو أسخطنا بذلك جميع من في الارض وخالفناهم، وصرنا دونهم حزبا وعليهم حربا، وإننا مسلمون لذلك طيبة أنفسنا عليه، مبادرون نحوه لا نتردد ولا نتلكأ، عاصون لكل من خالف ذلك، موقنون أنه على خطأ عندك، وأنا على صواب لديك.
اللهم فثبتنا على ذلك ولا تخالف بنا عنه، وأسألك اللهم بأبنائنا وإخواننا المسلمين هذه الطريقة حتى ننقل جميعا ونحن مستمسكون بها إلى دار الجزاء، آمين...بمنك يا أرحم الراحمين.
قال علي: وإذ قد بين الله لنا أن كلام نبيه إنما هو كله وحي من عنده، وأن القرآن وحي من عنده، وأيضا فقد قال فيه عز وجل: * (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * فصح بهذه الآية صحة ضرورية أن القرآن والحديث الصحيح متفقان، هما شئ واحد لا تعارض بينهما ولا اختلاف، يوفق الله تعالى لفهم ذلك من شاء من عباده، ويحرمه من شاء لا إله إلا هو، كما يؤتي
الفهم والذكاء والصبر على الطلب للخير من شاء ويؤتي البلدة وبعد الفهم والكسل من شاء، نسأل الله من هبته ما يقرب منه ويزلف لديه آمين.
وصح بما ذكرنا بطلان قول من ضرب القرآن بعضه ببعض، أو ضرب الحديث الصحيح بعضه ببعض، أو ضرب القرآن بالحديث بعضهما ببعض وإن أمدنا الله بانفساخ مدة وأيدنا بعون من قبله، فسنجمع في كل ذلك دواوين نبين فيها أشخاص السؤال والجواب، والتأليف في كل ما ظنه أهل الجهل من ذلك متعارضا مختلف الحكم، ونبين بحول الله وقوته أن كل ذلك شئ واحد لا اختلاف فيه، وأن يختر منا قبل ذلك، فحسبنا ما اطلع عليه من نيتنا في ذلك، لا إله إلا هو،(1/90)
وقال تعالى: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) * وقال تعالى: * (وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) *.
قال علي بن أحمد: فليتق الله - الذي إليه المعاد - امرؤ على نفسه، ولتوجل نفسه عند قراءة هذه الآية، وليشتد إشفاقه من أن يكون مختارا للدخول تحت هذه الصفة المذكورة المذمومة الموبقة الموجبة للنار، فإن من ناظر خصمه في مسألة من مسألة الديانة وأحكامها التي أمرنا بالتفقه فيها، فدعاه خصمه إلى ما أنزل الله تعالى، وإلى كلام الرسول، فصده عنهما ودعاه إلى قياس، أو إلى قول فلان وفلان، فليعلم أن الله عز وجل قد سماه منافقا.
نعوذ بالله من هذه المنزلة المهلكة.
فالتوبة التوبة عباد الله قبل حلول الاجل وانقطاع المهل، قال تعالى: من يطتع الرسول فقد أطاع الله، وقال تعالى: * (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) * فصح أن البيان كله موقوف على كلام الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم ،وقال عز وجل: * (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون
لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) *.
قال علي: هذه الآية كافية من عند رب العالمين في أنه ليس لنا اختيار عند ورود أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ،وأنه من خير نفسه في التزام أو ترك، أو في الرجوع إلى قول قائل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله بنص هذه الآية، فقد ضل ضلالا مبينا، وأن المقيم على أمر سماه الله ضلالا لمخذول، وقال تعالى: * (وما أرسلنا من رسول ألا ليطاع بإذن الله وقال تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقال تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصبيهم عذاب إليهم
قال علي: ومن جاءه خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقر أنه صحيح، وأن الحجة تقوم بمثله، أو قد صحح مثل ذلك الخبر في مكان آخر ثم ترك مثله في هذا المكان لقياس، أو لقول فلان وفلان، فقد خالف أمر الله وأمر رسوله واستحق الفتنة والعذاب الاليم.(1/91)
قال علي: أما الفتنة فقد عجلت له ولا فتنة أعظم من تماديه على ما هو فيه وارتطامه في هذه العظيمة أعظم فتنة، ووالله ليصحن القسم الآخر إن لم يتدارك نفسه بالتوبة والاقلاع، والطاعة لما أتاه من نبيه صلى الله عليه وسلم ورفض قبول قول من دونه كائنا من كان، وبالله تعالى التوفيق.
وقال تعالى: * (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين ئ وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون ئ وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين ئ أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون ئ إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا
وأولئك هم المفلحون ئ ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون ئ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون ئ قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين) *
قال علي: هذه الآيات محكمات لم تدع لاحد علقة يشغب بها، قد بين الله فيها صفة فعل أهل زماننا فإنهم يقولون: نحن المؤمنون بالله وبالرسول، ونحن طائعون لهما، ثم يتولى طائفة منهم بعد هذا الاقرار، فيخالفون ما وردهم عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ،أولئك بنص حكم الله تعالى عليهم ليسوا مؤمنين، وإذا دعوا إلى آيات من قرآن أو حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم يخالف كل ذلك تقليدهم الملعون أعرضوا عن ذلك، فمن قائل: ليس عليه العمل، ومن قائل: هذا خصوص، ومن قائل: هذا متروك، ومن قائل: أبى هذا فلان، ومن قائل: القياس غير هذا، حتى إذا وجدوا في الحديث أو القرآن شيئا يوافق ما قلدوا فيه طاروا به كل مطار، وأتوا إليه مذعنين كما وصف الله حرفا حرفا، فيا ويلهم ما بالهم، أفي قلوبهم مرض وريب ؟ أم يخافون جور الله تعالى وجور رسوله صلى الله عليه وسلم ؟ ألا إنهم هم الظالمون كما ثم بين تعالى أن قول المؤمنين سماهم الله رب العالمين فبعدا للقوم الظالمين إذا دعوا إلى كتاب الله تعالى، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم ،(1/92)
ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا، وهذا جواب أصحاب الحديث الذين شهد لهم الله تعالى - وقوله الحق - أنهم مؤمنون، وأنهم مفلحون، وأنهم هم الفائزون، اللهم فثبتنا فيهم، ولا تخالف بنا عنهم، واكتبنا في عدادهم، واحشرنا في سوادهم، آمين رب العالمين.
ثم أخبرنا تعالى بما شهدناه من اكثر أهل زماننا، وبما يميزونه من أنفسهم
بظاهر أحوالهم وباطنها، من أنهم يقولون: نسمع لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ويقسمون على ذلك، فقال لهم تعالى: لا تقسموا، ولكن أطيعوا، أن حققوا ما تقولون بإقراركم وفعلكم واتركوا حكم كل حاكم، وقول كل قائل دون قول الله تعالى وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم أخبرنا تعالى أنه ليس على رسول الله صلى الله عليه وسلم غير ما حمله ربه وهو التبليغ والتبيين، وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك، وأخبرنا تعالى أن علينا ما حملنا وهو الطاعة والانقياد لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بذلك، لا لما أمرنا به من دونه، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: لقد كان في آية واحدة مما تلونا كفاية لمن عقل وفهم، فكيف وقد أبدأ ربنا تعالى في ذلك وأعاد وكرر وأكد، ولم يدع لاحد متعلقا، وقد أنذرنا كما أمرنا وألزمنا في القرآن، وما توفيقنا إلا بالله عز وجل، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فصل: فيه أقسام الاخبار عن الله تعالى
قال أبو محمد: جاء النص ثم لم يختلف فيه مسلمان - في أن ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال، ففرض اتباعه، وأنه تفسير لمراد الله تعالى في القرآن، وبيان لمجمله، ثم اختلف المسلمون في الطريق المؤدية إلى صحة الخبر عنه عليه السلام بعد الاجماع المتيقن المقطوع به على ما ذكرنا، وعلى الطاعة من كل مسلم لقوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فنظرنا في ذلك فوجدنا الاخبار تنقسم قسمين: خبر تواتر، وهو ما نقلته كافة بعد كافة حتى تبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم وهذا خبر لم يختلف مسلمان في وجوب الاخذ به، وفي أنه حق مقطوع على غيبه، لان بمثله(1/93)
عرفنا أن القرآن هو الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم وبه علمنا صحة مبعث النبي
صلى الله عليه وسلم وبه علمنا عدد ركوع كل صلاة وعدد الصلوات، وأشياء كثيرة من أحكام الزكاة وغير ذلك مما لم يبين في القرآن تفسيره، وقد تكلمنا في كتاب الفصل على ذلك وبينا أن البرهان قائم على صحته، وبينا كيفيته وأن الضرورة والطبيعة توجبان قبوله، وأن به عرفنا ما لم نشاهد من البلاد، ومن كان قبلنا من الانبياء والعلماء والفلاسفة والملوك والوقائع والتوالف.
ومن أنكر ذلك كان بمنزلة من أنكر ما يدرك بالحواس الاول ولا فرق.
ولزمه أن يصدق بأنه كان قبله زمان ولا أن أباه وأمه كانا قبله، ولا أنه مولود من امرأة.
قال علي: وقد اختلف الناس في مقدار عدد النقلة للخبر الذي ذكرنا، فطائفة قالت: لا يقبل الخبر إلا من جميع أهل المشرق والمغرب، وقالت طائفة: لا يقبل إلا من عدد لا نحصيه نحن.
وقالت طائفة: لا يقبل أقل من ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، عدد أهل بدر، وقالت طائفة لا يقبل إلا من سبعين.
وقالت طائفة: لا يقبل إلا من خمسين، عدد القسامة، وقالت طائفة لا يقبل إلا من أربعين لانه العدد الذي لما بلغه المسلمون أظهروا الدين، وقالت طائفة: لا يقبل إلا من عشرين، وقالت طائفة: لا يقبل إلا من اثني عشر، وقالت طائفة: لا يقبل إلا من خمسة، وقالت طائفة: لا يقبل إلا من أربعة وقالت طائفة: لا يقبل إلا من ثلاثة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه إنه قد نزل به جائحة، وقالت طائفة: لا يقبل إلا من اثنين.
قال علي: وهذه كلها أقوال بلا برهان، وما كان هكذا فقد سقط.
ويكفي في إبطال ذلك أن ننبه كل من يقول بشئ من هذه الحدود على أن يقيس كل ما يعتقد صحته من أخبار دينه ودنياه، فإنه لا سبيل له البتة إلى أن يكون شئ منها صح عنده بالعدد الذي شرط كل واحد من ذلك العدد عن مثل ذلك العدد كله.
وهكذا متزايدا حتى يبلغ إلى تحقيق ذلك الخبر من دينه أو دنياه، فحصل من كل قول
منها بطلان كل خبر جملة، ولا نحاشي شيئا لانه وإن سمع هو بعض الاخبار من العدد الذي شرط، فلا بد أن يبطل تلك المرتبة فيما فوق ذلك.
وكل قول أدى(1/94)
إلى الباطل فهو باطل بلا شك، وبالله تعالى التوفيق، فلم يبق إلا قول من قال بالتواتر ولم يحد عددا.
قال علي: ونقول ههنا إن شاء الله تعالى قولا باختصار، فنقول وبالله تعالى التوفيق: لكل من حد في عدد نقلة خبر التواتر حدا لا يكون أقل منه يوجب تيقن صدقه ضرورة من سبعين أو عشرين، أو عدد لا نحصيهم، وإن كان في ذاته محصي ذاعدد محدود، أو أهل المشرق والمغرب، ولا سبيل إلى لقائه ولا لقاء أحد لهم كلهم ولا بد له من الاقتصار على بعضهم دون بعض بالضرورة، ولا بد من أن يكون لذلك التواتر الذي يدعونه في ذاته عدد إن نقص منه واحد لم يكن متواترا، وإلا فقد ادعوا ما لا يعرف أبدا ولا يعقل.
فإذن لا بد من تحديد عدد ضرورة، فنقول لهم: ما تقولون إن سقط من هذا الحد الذي حددتم واحد، أيبطل سقوط ذلك الواحد قبول ذلك الخبر أم لا يبطله ؟ فإن قال: يبطله، تحكم بلا برهان، وكل قول بمجرد الدعوى بلا برهان فهو مطروح ساقط، فإن قال بقبوله أسقطنا له آخر ثم آخر، حتى يبلغ إلى واحد فقط، وإن حد عددا سئل عن الدليل على ذلك فلا سبيل له إليه البتة.
وأيضا فإنه ما في القول فرق بين ما نقله عشرون وبين ما نقله تسعة عشر، ولا بين ما نقله سبعون ولا ما نقله تسعة وستون، وليس ذكر هذه الاعداد في القرآن وفي القسامة وفي بعض الاحوال وفي بعض الاخبار بموجب ألا يقبل أقل منها في الاخبار، وقد ذكر تعالى في القرآن أعدادا غير هذه، فذكر تعالى الواحد والاثنين والثلاثة والاربعة والمائة ألف وغير ذلك، ولا فرق بين ما تعلق
بعدد منها وبين ما تعلق بعدد آخر منها، ولم يأت من هذه الاعداد في القرآن شئ في باب قبول الاخبار ولا في قيام حجة بهم، فصارف ذكرها إلى ما لم يقصد بها مجرم وقاح محرف للكلم عن مواضعه، وإن قال: لا يبطل قبول الخبر بسقوط واحد من العدد الذي حد - كان قد ترك مذهبه الفاسد، ثم سألناه عن إسقاط آخر أيضا مما بقي من ذلك العدد، وهكذا حتى يبعد عما حد بعدا شديدا، فإن نظروا هذا بما يمكن حده من الاشياء كانوا مدعين بلا دليل، ومشبهين بلا برهان، وحكم كل شئ يجعله المرء دينا له أن ينظر في حدوده ويطلبها، إلا ما أصبح إجماع أو نص(1/95)
أو أوجبت طبيعة ترك طلب حده، وقد قال بعضهم: لا يقبل من الاخبار إلا ما نقلته جماعة لا يحصرها العدد.
قال أبو محمد: وهذا قول من غمره الجهل، لانه ليس هذا موجدا في العالم أصلا، وكل ما فيه فقد حصره العدد وإن لم نعلمه نحن، وإحصاؤه ممكن لمن تكلف ذلك، فعلى هذا القول الفاسد قد سقط قبول جميع الاخبار جملة وسقط كون النبي صلى الله عليه وسلم في العالم وهذا كفر.
وأيضا فيلزم هؤلاء وكل من حد في عدد من لا تصح الاخبار بأقل من نقل ذلك العدد أمر فظيع يدفعه العقل ببديهته، وهو أن لا يصح عندهم كل أمر يشهده أقل من العدد الذي حدوا، وألا يصح عندهم كل أمر حصره عدد من الناس، وكل أمر لم يحصره أهل المشرق والمغرب، فتبطل الاخبار كلها ضرورة على حكم هذه الاقوال الفاسدة، وهم يعرفون بضرورة حسهم صدق أخبار كثيرة من موت وولادة ونكاح وعزل وولاية واغتفال منزل، وخروج عدو شر واقع، وسائر عوارض العالم مما لا يشهده الا النفر اليسير، ومن خالف هذا فقد كابر عقله ولم يصح عنده شئ مما ذكرنا أبدا، لا سيما إن كان ساكنا في قرية ليس فيها إلا عدد يسير، مع أنه لا سبيل له إلى لقاء أهل المشرق والمغرب.
قال علي: فإن سألنا سائل، فقال: ما حد الخبر الذي يوجب الضرورة ؟ فالجواب وبالله تعالى التوفيق أننا نقول: إن الواحد من غير الانبياء المعصومين بالبراهين عليهم السلام - قد يجوز عليه تعمد الكذب، يعلم ذلك بضرورة الحس، وقد يجوز على جماعة كثيرة أن يتواطؤوا على كذبة إذا اجتمعوا ورغبوا أو رهبوا.
ولكن ذلك لا يخفى من قبلهم، بل يعلم اتفاقهم على ذلك الكذب بخبرهم إذا تفرقوا لا بد من ذلك.
ولكنا نقول إذا جاء اثنان فأكثر من ذلك، وقد تيقنا أنهما لم يلتقيا، ولا دسسا، ولا كانت لهما رغبة فيما أخبر به، ولا رهبة منه، ولم يعلم أحدهما(1/96)
بالآخر، فحدث كل واحد منهما مفترقا عن صاحبه بحديث طويل لا يمكن أن يتفق خاطر اثنين على توليد مثله، وذكر كل واحد منهما مشاهدة أو لقاء لجماعة شاهدت أو أخبرت عن مثلها بأنها شاهدت، فهو خبر صدق يضطر بلا شك من سمعه إلى تصديقه ويقطع على غيبه.
وهذا الذي قلنا يعلمه حسا من تدبره ورعاه فيما يرده كل يوم من أخبار زمانه من موت أو ولادة أو نكاح أو عزل أو ولاية أو وقعة وغير ذلك، وإنما خفي ما ذكرنا على من خفي عليه لقلة مراعاته يمر به، ولو أنك تكلف إنسانا واحدا اختراع حديث طويل كاذب لقدر عليه، يعلم ذلك بضرورة المشاهدة، فلو أدخلت اثنين في بيتين لا يلتقيان، وكلفت كل واحد منهما توليد حديث كاذب لما جاز بوجه من الوجوه أن يتفقا فيه من أوله إلى آخره.
هذا ما لا سبيل إليه بوجه من الوجوه أصلا، وقد يقع في الندرة التي لم نكد نشاهدها اتفاق الخواطر على الكلمات اليسيرة، والكلمتين نحو ذلك.
والذي شاهدنا اتفاق شاعرين في نصف بيت، شاهدنا ذلك مرتين من عمرنا فقط.
وأخبرني من لا أثق به: أن خاطره وافق خاطر شاعر آخر في بيت كامل واحد،
ولست أعلم ذلك صحيحا.
وأما الذي لا أشك فيه وهو ممتنع في العقل، فاتفاقهما في قصيدة بل في بيتين فصاعدا.
والشعر نوع من أنواع الكلام، ولكل كلام تأليف ما، والذي ذكره المتكلمون في الاشعار من الفصل الذي سموه المواردة، وذكروا أن خواطر شعراء اتفقت في عدة أبيات، فأحاديث مفتعلة لا تصح أصلا ولا تتصل.
وما هي إلا سراقات وغارات من بعض الشعراء على بعض.
قال علي: وقد يضطر خبر الواحد إلى العلم بصحته إلا أن اضطراره ليس بمطرد، ولا في وقت ولكن على قدر ما يتهيأ.
وقد بينا ذلك في كتاب الفضل.
قال علي: فهذا قسم.
قال علي: القسم الثاني من الاخبار ما نقله الواحد عن الواحد، فهذا إذا اتصل برواية العدول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب العمل به، ووجب العلم بصحته أيضا، وبين هذا وبين شهادة العدول فرق نذكره إن شاء الله تعالى، وهو قول الحارث بن أسد المحاسبي، والحسين بن علي الكرابيسي.
وقد قال به أبو سليمان، وذكره ابن خويز(1/97)
منداد عن مالك بن أنس، والبرهان على صحة وجوب قبوله قول الله عز وجل: الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) * فأوجب الله تعالى على كل فرقة نذارة النافر منها بأمره بالنفقة وبالنذارة، ومن أمره الله تعالى بالتفقه في الدين وإنذار قومه، فقد انطوى في هذا الامر إيجاب قبول نذارته على من أمره بإنذارهم.
والطائفة في لغة العرب التي بها خوطبنا يقع على الواحد فصاعدا، وطائفة من الشئ بمعنى بعضه هذا ما لا خلاف بين أهل اللغة فيه، وإنما حد من حد في قوله تعالى وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) أنهم أربعة لدليل ادعاه، وكان بذلك ناقضا لمعهود اللغة، ولم يدع قط قائل ذلك القول أن الطائفة في اللغة لا تقع
إلا على أربعة.
وأما نحن فاللازم عندنا أن يشهد عذاب الزنى واحد على ما نعرف من معنى الطائفة، فإن شهد اكثر فذلك مباح والواحد يجزي.
وبرهان آخر، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رسولا إلى كل ملك من ملوك الارض المجاورين لبلاد العرب، وقد اعترض بعض من يخالفنا في ذلك بأن قال: إن الرفاق والتجار، وردوا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقتصر بذلك على الرسول وحده.
قال أبو محمد: وهذا شغب وتمويه لا يجوز إلا على ضعيف، ونحن لا نشك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر بالرسل المذكورين على الاخبار بظهوره ومعجزاته المنقولة بخير الرفاق والسفار، بل أمرهم بتعليم من أسلم شرائع الاسلام ومسائل العبادات والاحكام، ليس من شئ من ذلك منقولا على ألسنة الرفاق والسفار، وبعثه هؤلاء الرسل مشهورة بلا خوف، منقولة نقل الكواف.
فقد ألزم النبي صلى الله عليه وسلم كل ملك.
ورعيته قبول ما أخبرهم به الرسول الموجه نحوهم من شرائع دينهم.
قال علي: وكذلك بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى الجند(1/98)
وجهات من اليمن.
وأبا موسى إلى جهة أخرى، وهي زبيد وغيرها، وأبا بكر على الموسم مقيما للناس حجهم، وأبا عبيدة إلى نجران، وعليا قاضيا إلى اليمن، وكل من هؤلاء مضى إلى جهة ما، معلما لهم شرائع الاسلام، وكذلك بعث أميرا إلى كل جهة أسلمت، بعدت منه أو قربت، كأقصى اليمن والبحرين وسائر الجهات والاحياء والقبائل التي أسلمت، بعث إلى كل طائفة رجلا معلما لهم دينهم، ومعلما لهم القرآن، ومفتيا لهم في أحكام دينهم، وقاضيا فيما وقع بينهم، وناقلا إليهم ما يلزمهم عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وهم مأمورون بقبول ما يخبرونهم به على نبيهم صلى الله عليه وسلم .
وبعثه هؤلاء المذكورين مشهورة بنقل التواتر من كافر ومؤمن، لا يشك فيها أحد من العلماء ولا من المسلمين، ولا في أن بعثهم إنما كانت لما ذكرنا من المحال الباطل الممتنع أن يبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من لا تقوم عليهم الحجة بتبليغه، ومن لا يلزمهم قبول ما علموهم من القرآن وأحكام الدين وما أفتوهم به في الشريعة، ومن لا يجب عليهم الانقياد لما أخبروهم به من كل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،إذ لو كان ذلك لكانت بعثته لهم فضولا، ولكان عليه السلام قائلا للمسلمين: بعثت إليكم من لا يجب عليكم أن تقبلوا منه ما بلغكم عني، ومن حكمكم ألا تلتفتوا إلى ما نقل إليكم عني وألا تسمعوا منه ما أخبركم به عني، ومن قال بهذا فقد فارق الاسلام.
وكذلك من نشأ في قرية أو مدينة ليس بها إلا مقرئ واحد، أو محدث واحد، أو مفت واحد، فنقول لمن خالفنا: ماذا تقولون ؟ أيلزمه إذا قرأ القرآن على ذلك المقرئ أن يؤمن بما أقرأه، وأن يصدق بأنه كلام الله تعالى، ويثبت على ذلك أم عليه أن يشك، ولا يصدق بأنه كلام الله عز وجل ؟ فإن قالوا: يلزمه الاقرار بأنه كلام الله تعالى.
قلنا: صدقتم، فأي فرق بين نقلهم للقرآن وبين نقلهم لسائر السنن، وكلاهما من عند الله تعالى، وكلاهما فرض قبوله ؟ وإن قالوا: عليه أن يشك فيه حتى يلقى الكواف، أتوا بعظيمة في الدين ونسألهم حينئذ فيمن لقي من ذلك اثنين أو ثلاثة أو أربعة، فلابد لهم من حد يقفون عنده من العدد، فيكون قولهم سخريا وباطلا، ودعوى بلا برهان،(1/99)
أو يحيلوا على معدوم فيما لا يصح على قولهم قبول القرآن والدين إلا به، وفي هذا إبطال للدين والقرآن جملة، والمنع من اعتمادهما، ونعوذ بالله من هذا، وهكذا القول في وجوب طاعة من أخذ عن أولئك الرسل قرآنا أو سنة وبلغ
ذلك إلى غيره، ولانها بلاد واسعة لا سبيل لكل واحد من أولئك الرسل إلى لقاء جميعهم من رجل وامرأة، لكن يبلغ ويبلغ من بلغه هو وهكذا أبدا لئلا يقول جاهل هذا خصوص لاولئك الرسل.
وقال تعالى: * (يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة الآية.
قال أبو محمد: لا يخلو النافر للتفقه في الدين من أن يكون عدلا أو فاسقا ولا سبيل إلى قسم ثالث، فإن كان فاسقا فقد أمرنا بالتبين في أمره وخبره من غير جهته فأوجب ذلك سقوط قبوله، فلم يبق إلا العدل.
فكان هو المأمور بقبول نذارته.
قال أبو محمد: وهذا برهان ضروري لا محيد عنه رافع للاشكال والشك جملة.
وقد بينا هذا النوع من البرهان في كتابنا في حدود الكلام المعروف بالتقريب
قال علي: وقد توهم من لا يعلم أنا إنما أوجبنا قبول خبر العدل من قوله تعالى: ا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا فقط.
قال أبو محمد: وقد أغفل من تأول علينا ذلك، ولو لم تكن إلا هذه الآية وحدها لما كان فيها ما يدل على قبول خبر العدل ولا على المنع من قبوله، بل إنما منع فيها من قبول خبر الفاسق فقط وكان يبقى خبر العدل موقوفا على دليله، ولكن لما استفاضت هذه الآية التي فيها المنع من قبول خبر الفاسق إلى الآية التي فيها قبول نذارة النافر للتفقه، صارتا مقدمتين أنتجتا قبول خبر الواحد العدل دون الفاسق بضرورة البرهان وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: وقد أوجب الله تعالى على كل طائفة إنذار قومها، وأوجب على قومها قبول نذارتهم بقوله تعالى: * (وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)(1/100)
فقد حذر تعالى من مخالفة نذارة الطائفة - والطائفة في اللغة تقع على بعض الشئ
كما قدمنا - ولا يختلف اثنان من المسلمين في أن مسلما ثقة لو دخل أرض الكفر فدعا قوما إلى الاسلام وتلا عليهم القرآن وعلمهم الشرائع لكان لازما لهم قبوله، ولكانت الحجة عليهم بذلك قائمة.
وكذلك لو بعث الخليفة أو الامير رسولا إلى ملك من ملوك الكفر، أو إلى أمة من أمم الكفر، ويدعوهم إلى الاسلام ويعلمهم القرآن وشرائع الدين، ولا فرق.
وما قال قط مسلم إنه كان حكم أهل اليمن أن يقولوا لمعاذ ولمن بعثه عليه السلام إلى كل ناحية معلما ومفتيا ومقرئا.
نعم أنت رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقد الايمان حق عندنا.
ولكن ما أفتيتنا به وعلمتنا من أحكام الصلاة ونوازل الزكاة وسائر الديانة عن النبي صلى الله عليه وسلم وما أقرأتنا من القرآن عنه عليه السلام، فلا نقبله منك ولا نأخذه عنك، لان الكذب جائز عليك، ومتوهم منك، حتى يأتينا لكل ذلك كواف وتواتر.
بل لو قالوا ذلك لكانوا غير مسلمين.
وكذلك لا يختلف اثنان في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث من بعث من رسله إلى الآفاق لينقلوا إليهم عنه القرآن، والسنن وشرائع الدين، وأنه عليه السلام لم يبعثهم إليه ليشرعوا لهم دينا لم يأت هو به عن الله تعالى، فصح بهذا كله أن كل ما نقله الثقة عن الثقة مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرآن أو سنة ففرض قبوله، والاقرار به والتصديق به، واعتقاده والتدين به، وأن كل ما صح عن صاحب أو تابع أو من دونهم من قراءة لم تستند إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو من فتيا لم تسند إليه صلى الله عليه وسلم ،فلا يحل قبول شئ من ذلك لانه لم يوجبه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ،وكل ذلك قد صح عن الواحد بعد الواحد من الصحابة والتابعين، وليس فضلهم بموجب قبول آرائهم، ولا بمانع أن يهموا فيما قالوه بظنهم، لكن فضلهم معف على كل خطأ كان منهم، وراجح به، وموجب تعظيمهم وحبهم وبالله تعالى التوفيق.
وبرهان آخر: وهو أنه قد صح يقينا وعلم ضرورة أن جميع الصحابة أولهم عن آخرهم قد اتفقوا دون اختلاف من أحد منهم، ولا من أحد من التابعين الذين كانوا في عصرهم، على أن كل أحد منهم كان إذا نزلت به النازلة سأل الصاحب عنها(1/101)
وأخذ بقوله فيها، وإنما كانوا يسألونه عما أوجبه النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى في الدين في هذه القصة، ولم يسأل قط أحد منهم إحداث شرع في الدين لم يأذن به الله تعالى، وهكذا كل من بعدهم جيلا فجيلا لا نحاشي أحدا، ولا خلاف بين مؤمن ولا كافر قطعا في أن كل صاحب وكل تابع سأله مستفت عن نازلة في الدين، فإنه لم يقل له قط: لا يجوز لك أن تعمل بما أخبرتك به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يخبرك بذلك الكواف كما قالوا لهم فيما أخبروا به: أنه رأى منهم فلم يلزموهم قبوله.
فإن قيل: فاجعل هذه الحجة نفسها حجة في قبول المرسل، قلنا: ليس كذلك لانه لم يصح الاجماع قط، لا قديما ولا حديثا على قبول المرسل، بل في التابعين من لم يقبله كالزهري وغيره، يسألون من أخبرهم عمن أخبرهم حتى يبلغوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،وإنما سقط ذلك عمن ليس في قوته فهم الاسناد ومعرفته فقط، وقد قال الزهري لاهل الشام: ما لي أرى أحاديثكم لا خطم لها ولا أزمة، فصاروا حينئذ إلى قوله، وغير الزهري أيضا كثير.
فصح بهذا إجماع الامة كلها على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم ،وأيضا فإن جميع أهل الاسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم ،يجزي على ذلك كل فرقة في علمها كأهل السنة والخوارج والشيعة والقدرية حتى حدث متكلمو المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالفوا الاجماع في ذلك، ولقد كان عمرو بن عبيد يتدين بما يروي عن الحسن ويفتي به هذا أمر لا يجهله من له أقل علم.
وبرهان آخر: وهو أنه عدد محصور فالتواطؤ جائز عليهم وممكن منهم،
ولا خلاف بين كل ذي علم بشئ من أخبار الدنيا، مؤمنهم وكافرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالمدينة وأصحابه رضي الله عنهم مشاغيل في المعاش، وتعذر القوت عليهم لجهد العيش بالحجاز، وأنه عليه السلام كان يفتي بالفتيا، ويحكم بحضرة من حضره من أصحابه فقط، وإن الحجة إنما قامت على سائر من لم يحضره عليه السلام بنقل من حضره وهم واحد واثنان، وفي الجملة عدد لا يمتنع من مثلهم بالتواطؤ عند(1/102)
خصومنا، فإذ جميع الشرائع إلا الاقل منها راجعة إلى هذه الصفة من النقل، وقد صح الاجماع من الصدر الاول كلهم، نعم وممن بعدهم على قبول خبر الواحد، لانها كلها راجعة إليه وإلى ما كان في معناه، وهذا برهان ضروري، وبالله تعالى التوفيق.
وبالضرورة نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إذا أفتى بالفتيا أو إذا حكم بالحكم يجمع لذلك جميع من بالمدينة، هذا ما لا شك فيه، لكنه عليه السلام كان يقتصر على من بحضرته، ويرى أن الحجة بمن يحضره قائما على من غاب، هذا ما لا يقدر على دفعه ذو حس سليم، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: وأقوى ما شغب به من أنكر قبول خبر الواحد أن نزع بقول الله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم
قال أبو محمد: وهذه الآية حجة لنا عليهم في هذه المسألة، لانا لم نقف ما ليس لنا به علم، بل ما قد صح لنا به العلم، وقام البرهان على وجوب قبوله، وصح العلم بلزوم اتباعه والعمل به، فسقط اعتراضهم بهذه الآية، والحمد لله رب العالمين.
وقال بعضهم: أنتم لا تقبلون الواحد في فلس فكيف تقبلونه في إثبات الشرائع ؟
قال أبو محمد: هذا السؤال لا يلزمنا، لاننا لا نقيس شريعة على شريعة، ولا نتعدى ما جاءت به النصوص وثبت في القرآن والسنن، فصح البرهان كما ذكرنا بقبول خبر الواحد في العبادات والشرائع وقبول القرآن فقلنا به، وصح
الخبر بقبول المرأة الواحدة في أوضاع فقلنا به، وصح الخبر بقبول الواحد مع اليمين فيما عدا الحدود فقلنا به، وصح الخبر والنص بقبول الرجلين أو الرجل والمرأتين فيما عدا الزنى فقلنا به، وصح النص بقبول أربعة في الزنى فقلنا به، ولم نعارض شريعة بشريعة ولا تعقبنا على ربنا عز وجل، ونحن وهم نقبل في إباحة الدم الحرام من المسلم الفاضل، والفرج الحرام من المسلمة الفاضلة، والبشرة المحرمة في جلد ثمانين في القذف، وفي قطع اليد والرجل رجلين، ولا نقبلهما فيما يوجب إلا خمسين جلدة من زنى الامة، لا على مؤمنة ولا على كافر، فأين هم عن هذا الاعتراض الفاسد لو عقلوا وهم يقعوا تحت إنكار ربهم تعالى عليهم إذ يقول: * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) *.
وقد قال بعض المتحكمين في الدين بقلة الورع ممن يدعي أنه من أهل القول،(1/103)
بقبول السنن من طرق الآحاد: إن الخبر إذا كان مما يعظم به البلوى لم يقبل فيه خبر الواحد، ومثل ذلك بعضهم بالآثار المروية في الاذان والاقامة، وقال: إن الاذان والاقامة كانا بالمدينة بحضرة الائمة من الصحابة رضي الله عنهم خمس مرات كل يوم، فهذا مما تعظم به البلوى، فمحال أن يعرف حكمه الواحد، ويجهله الجماعة، ومثل ذلك بعضهم أيضا بخبر الوضوء من مس الذكر.
قال أبو محمد: وهذا كلام فاسد متناقض، أول ذلك أن الدين كله تعظم به البلوى، ويلزم للناس معرفته، وليس هذا ما وقع في الدهر مرة من أمر الطهارة والحج أوجب في أنه فرض أو حرام مما يقع في كل يوم، ولا يفرق بين ذلك إلا جاهل أو من لا يبالي بما تكلم، ويقال له في الاذان الذي ذكر: لا فرق بين أذان المؤذن بالمدينة بحضرة عمر وعثمان رضي الله عنهما خمس مرات كل يوم، وبين أذان المؤذن بالكوفة بحضرة ابن مسعود وعلي خمس مرات كل يوم، وليست نسبة
الرضا بتبديل الاذان إلى علي وابن مسعود بأخف من نسبة ذلك إلى عمر وعثمان فبطل تمويه هذا الجاهل وبان تخليطه.
وكذلك الوضوء من مس الذكر ليست البلوى به بأعظم من البلوى بإيجاب الوضوء من الرعاف والقلس، وقد أوجبه الحنفيون بخبر ساقط ولم يعرفه المالكيون ولا الشافعيون، ولا البلوى أيضا بذلك أعظم من البلوى بإيجاب الوضوء من المسة والقبلة للذة، ومن إيجاب التدلك في الغسل وقد أوجبها المالكيون، ولا يعرف ذلك الحنفيون، ومثل هذا كثير جدا، فإن قالوا: أوجبنا ذلك بالقرآن.
قيل لهم: قد عرف القرآن غيركم كما عرفتموه، فما رأوا فيه ما ذكرتم مع عظيم البلوى به، وقد بينا في كتابنا هذا أن مغيب السنة عمن غاب عنه من صاحب أو غيره ليس حجة على من بلغته وإنما الحجة في السنة.
وقد غاب نسخ التطبق في الركوع عن ابن مسعود وهو مما تعظم به البلوى به،(1/104)
ويتكرر على المسلم أكثر من بضع عشرة مرة في كل يوم وليلة، وخفي على عمر رضي الله عنه أمر جزية المجوس، والامر في قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم لها من مجوس هجر عاما بعد عام، وأبي بكر بعده عاما بعد عام أشهر من الشمس، ولم تكن فضلة قليلة، بل قد ثبت أنه لم يقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مال أكثر منه على قلة المال هناك حينئذ، وخفي على عمر وابن عمر أيضا الوضوء من المذي، وهو مما تعظم البلوى به، وهذا كثير جدا، ويكفي من هذا أن قول هذا القائل دعوى مجردة بلا دليل، وما كان هكذا فهو باطل مطرح قال عز وجل: * قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ولا يجوز أن يعارض ما قد صح البرهان به من وجوب قبول السنن من طريق الآحاد بدعوى ساقطة فاسدة، وبالله تعالى التوفيق.
وقال أيضا بعض الحنفيين: ما كان من الاخبار زائدا على ما في القرآن
أو ناسخا له أو مخالفا له لم يجز أخذه بخبر الواحد إلا حتى يأتي به التواتر.
قال أبو محمد: وهذا تقسيم باطل ودعوى كاذبة وحكم بلا برهان، وما كان هكذا فهو ضلال لا يحل القول به، ونقول لهم: أيجوز الاخذ بشئ من أخبار الآحاد في شئ من الشريعة أم لا ؟ فإن قالوا: لا، كلمناهم بما قد فرغنا منه آنفا وكانوا خارجين عن مذهبهم أيضا، وإن قالوا: نعم، وهو قولهم.
قلنا لهم: من أين جوزتم أن يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم به، وأن يشرع به في دين الله عز وجل شريعة تضاف إليه في الصلاة والزكاة والصوم والحج وغير ذلك في الموضع الذي أجزيتموه فيه، ثم منعتم من قوله حيث هو بزعمك زائد على ما في القرآن أو ناسخ له، فلا سبيل إلى فرق أصلا، وأما قولهم: مخالف الاصول، فكلام فاسد فارغ من المعنى واقع على ما لا يعقل، لان خبر الواحد الثقة المسند أصل من أصول الدين، وليس سائر الاصول أولى بالقبول منه ولا يجوز أن تتنافى أصول الدين، حاشا لله من هذا.
ثم نقول: اعلموا أن كل خبر روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواية صحيحة مسندة فإنه ولا بد زائد حكم على ما في القرآن، أو أتي بما في نص القرآن لا بد من أحد الوجهين فيه.
والزائد حكما على ما في القرآن ينقسم قسمين: إما جاء(1/105)
بما لم يذكر في القرآن كغسل الرجلين في الوضوء، وكرجم المحصن، ونحو ما أخذوا به من إباحة صوم رمضان للمسافر، ومن إيجاب الوضوء من القهقهة في الصلاة، ومن الوضوء بالنبيذ، ومن القلس والقئ والرعاف، وكتخصيص ظاهر القرآن، كعدد ما لا يقطع السارق في أقل منه، وما لا يحرم من الرضاع أقل منه فهذا أيضا زائد حكم على ما في القرآن، ومثله ما بين مجمل القرآن كصفة الصلاة وصفة الزكاة وسائر ما جاءت به السنن فهو زائد حكم على ما في القرآن.
فمن أين جوزتم أخذ الزائد على ما في القرآن كما ذكرنا حيث اشتهيتم، ومنعتم منه حيث اشتهيتم، وهذا ضلال لا خفاء به وكل ما وجب العمل به في الشريعة فهو واجب أبدا في كل حال، وفي كل موضع إلا أن يأتي نص قرآني أو سنة بالمنع من بعض ذلك فيوقف عنده، وأما بالآراء المضلة والاهواء السخيفة فلا، على أنهم آخذ الناس بخلاف القرآن برأي فاسد أو قياس سخيف أو خبر ساقط كالوضوء من القهقهة وسائر تلك الاخبار الفاسدة، وتأملوا ما نقول لكم: قد أجمعوا معنا على قبول ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسخ للقرآن أو زيادة عليه، واتفقوا معنا على أن خبر الواحد الثقة عن مثله مسندا حجة في الدين، ثم تناقضوا كما ذكرنا بلا برهان ونعوذ بالله من الخذلان، وقد ثبت عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وداود رضي الله عنهم وجوب القول بخبر الواحد، وهذا حجة على من قلد أحدهم في وجوب القول بخبر الواحد، وإن خالف من قلده من بعض من ذكرنا خطأ وتناقضا لا يعزى منه بشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى التوفيق.
ومن البرهان في قبول خبر الواحد: خبر الله تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال له رجل: إن الملا يأ تمرون بك ليقتلوك فصدقه وخرج فارا وتصديقه المرأة في قولها: إن أبى يدعوك ليجز يك أجر ما سيقت لنا) فمضى معها وصدقها، وبالله تعالى التوفيق.(1/106)
فصل هل يوجب خبر الواحد العدل العلم مع العمل أو العمل دون العلم ؟
قال أبو محمد: قال أبو سليمان والحسين، عن أبي علي الكرابيسي، والحارث بن أسد المحاسبي وغيرهم، أن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوجب العلم والعمل معا، وبهذا نقول: وقد ذكر هذا القول أحمد بن إسحاق المعروف بابن خويز منداد، عن مالك بن أنس.
وقال الحنفيون والشافعيون وجمهور المالكيين وجميع المعتزلة والخوارج: إن خبر الواحد لا يوجب العلم، ومعنى هذا عند جميعهم أنه قد يمكن أن يكون كذبا أو موهوما فيه، واتفقوا كلهم في هذا، وسوى بعضهم بين المسند والمرسل.
وقال بعضهم: لمرسل لا يوجب علما ولا عملا، وقد يمكن أن يكون حقا وجعلت المعتزلة والخوارج هذا حجة لهم في ترك العمل به، قالوا: ما جاز أن يكون كذبا أو خطأ فلا يحل الحكم به في دين الله عز وجل، ولا أن يضاف إلى الله تعالى ولا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولا يسع أحدا أن يدين به، وقال سائر من ذكرنا: إنه يوجب العمل، واحتج كل من ذكرنا بأن هذه صفة كل خبر واحد في جواز الكذب وتعمده وإمكان السهو فيه، وإن لم يتعمد الكذب.
وقال أبو بكر بن كيسان الاصم البصري: لو أن مائة خبر مجموعة قد ثبت أنها كلها صحاح إلا واحدا منها لا يعرف بعينه أيها هو - قال: فإن الواجب التوقف عن جميعها، فكيف وكل خبر منها لا يقطع على أنه حق متيقن، ولا يؤمن فيه الكذب والنسخ والغلط.
قال أبو محمد: أما احتجاج من احتج بأن صفة كل خبر واحد هي أنه يجوز عليه الكذب والوهم فهو كما قالوا، إلا أن يأتي برهان حسي ضروري أو برهان منقول نقلا يوجب العلم من نص ضروري على أن الله تعالى قد برأ بعض الاخبار من ذلك، فيخرج بدليله عن أن يجوز فيه الكذب والوهم، وقد وافقنا المعتزلة - وكل من يخالفنا في هذا المكان - على أن خبر النبي صلى الله عليه وسلم في الشريعة لا يجوز فيه الكذب ولا الوهم لقيام الدليل على ذلك.(1/107)
وقال أصحاب القياس: إن إجماع الامة على القياس معصوم من الخطأ بخلاف
إجماع سائر الملل لقيام دليل ادعوه في ذلك، وكما أجمعتم معنا على القطع ببراءة عائشة رضي الله عنها، وخروج ما قذفت به عن الامكان لقيام البرهان بذلك عند جميعكم وعندنا، وقد ادعى الروافد منكم هذا في خبر الامام، فإن وجدنا نحن برهانا على أن خبر الواحد المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحكام الشريعة لا يجوز عليه الكذب ولا الوهم، فقد صح قولنا وقولهم في أن خبر النبي صلى الله عليه وسلم في الشريعة لا يجوز عليه الكذب والوهم، وإن لم نجد برهانا على ذلك فهو قولهم، وقد صح البرهان بذلك، ولله الحمد على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وأما قول ابن كيسان فباطل لانه دعوى بلا دليل، بل الواجب حينئذ البحث عن الخبر الواهي والمنسوخ حتى يعرف فيجتنب، وإلا فالعمل واجب، لان الاصل وجوب العمل بالسنن حتى يصح فيها بطلان أو نسخ، وإلا فهي على البراءة من النسخ ومن الكذب والوهم حتى يصح في الخبر شئ من ذلك فيترك لقول الله تعالى: أطيعوا الله الرسول ولقوله تعالى (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم) ولقوله تعالى: (لتبين للناس ما نزل إليهم) وقد علمنا أن في القرآن آيات منسوخة بلا شك لقوله تعالى (ما نننسخ من آية أو ننساها نات بخير منها أو مثلها وقد اختلف العلماء فيها، فطائفة قالت في آية إنها منسوخة وطاقة قالت: ليست منسوخة بل هي محكمة فما قال مسلم فط لا ابلن كيسان والا غيره إن الواجب التوقف عن العمل بشئ من القرآن من أجل ذلك، وخوفا أن يعمل بمنسوخ لا يحل العمل به، بل الواجب العمل بكل آية منه حتى يصح النسخ فيها فيترك العمل بها.
وقول ابن كيسان يوجب ترك الحق يقينا ولا فرق بين ترك الحق يقينا وبين العمل بالباطل يقينا، وكلاهما لا يحل، فقد تعجل ابن كيسان لنفسه الذي فر عنه وأشد منه، لانه ترك الحق يقينا خوف أن يقع في خطأ
لعله لا يقع فيه، وهذا كما ترى.(1/108)
قال علي: وهذا حين نأخذ إن شاء الله تعالى في إيراد البراهين على أن خبر الواحد العدل المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحكام الشريعة يوجب العلم، ولا يجوز فيه البتة الكذب ولا الوهم، فنقول وبالله تعالى التوفيق: قال الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم : * (وما ينطق عن الهوى ئ إن هو إلا وحي يوحى) * وقال تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * وقال تعالى: لتبين للناس ما نزل إليهم فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل، لا شك في ذلك ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين، وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون ألا يضيع منه وألا يحرف منه شئ أبدا تحريفا لا يأتي البيان ببطلانه، إذ لو جاز غير ذلك لكان كلام الله تعالى كذبا وضمانه خائسا، وهذا لا يخطر ببال ذي مسكة عقل، فوجب أن الدين الذي أتانا به محمد صلى الله عليه وسلم محفوظ بتولي الله تعالى حفظه، مبلغ كما هو إلى كل ما طلبه مما يأتي أبدا إلى انقضاء الدنيا قال تعالى ومن بلغ فإذ ذلك كذلك فبا لضروري ندري أنه لا سبيل البتة إلى ضياع شئ قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين، ولا سبيل البتة إلى أن يختلط به باطل موضوع اختلاطا لا يتميز عن أحد من الناس بيقين، إذ لو جاز ذلك لكان الذكر غير محفوظ، ولكان قول الله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * كذبا ووعدا مخلفا وهذا لا يقوله مسلم.
فإن قال قائل: إنما عنى تعالى بذلك القرآن وحده، فهو الذي ضمن تعالى حفظه
لسائر الوحي الذي ليس قرآنا.
قلنا له وبالله تعالى التوفيق: هذه دعوى كاذبة مجردة من البرهان، وتخصيص للذكر بلا دليل، وما كان هكذا فهو باطل لقوله تعالى قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) * فصح أن لا برهان له على دعواه،(1/109)
فليس بصادق فيها، والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن أو من سنة وحي يبين بها القرآن، وأيضا فإن الله تعالى يقول: * (بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) * فصح أنه عليه السلام مأمور ببيان القرآن للناس.
وفي القرآن مجمل كثير كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك مما لا نعلم ما ألزمنا الله تعالى فيه بلفظه، لكن بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا كان بيانه عليه السلام لذلك المجمل غير محفوظ ولا مضمون سلامته مما ليس منه، فقد بطل الانتفاع بنص القرآن فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا فيه، فإذا لم ندر صحيح مراد الله تعالى منها، فما أخطأ فيه المخطئ أو تعمد فيه الكذب الكاذب، ومعاذ الله من هذا، وأيضا نقول لمن قال: إن خبر الواحد العدل عن مثله مبلغا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يوجب العلم، وإنما يجوز فيه الكذب والوهم، وأنه غير مضمون الحفظ: أخبرونا هل يمكن عندكم أن تكون شريعة فرض أو تحريم أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات وهي باقية لازمة للمسلمين غير منسوخة، فجهلت حتى لا يعملها علم يقين أحد من أهل الاسلام في العالم أبدا، وهل يمكن عندكم أن يكون حكم موضوع بالكذب أو بخطأ بالوهم قد جاز ومضى واختلط بأحكام الشريعة اختلاطا لا يجوز أن يميزه أحد من أهل الاسلام في العالم أبدا، أم لا يمكن عندكم شئ من هذين الوجهين ؟.
فإن قالوا: لا يمكنان أبدا، بل قد أمنا ذلك، صاروا إلى قولنا وقطعوا أن كل خبر رواه الثقة عن الثقة مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الديانة، فإنه حق قد قاله عليه السلام كما هو، وأنه يوجب العلم ونقطع بصحته، ولا يجوز أن
يختلط به خبر موضوع أو موهوم فيه لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم قط اختلاطا لا يتميز فيه الباطل من الحق أبدا وإن قالوا: بل كل ذلك ممكن كانوا قد حكموا بأن الدين دين الاسلام قد فسد وبطل أكثره، واختلط ما أمر الله تعالى به مع ما لم يأمر به اختلاطا لا يميزه أحد أبدا، وأنهم لا يدرون أبدا ما أمرهم به الله تعالى مما لم يأمرهم به، ولا ما وضعه الكاذبون والمستخفون مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالظن الذي هو أكذب الحديث، والذي لا يغني من الحق شيئا وهذا انسلاخ من الاسلام، وهدم(1/110)
للدين، وتشكيك في الشرائع.
ثم نقول لهم: أخبرونا إن كان ذلك كله ممكنا عندكم، فهل أمركم الله تعالى بالعمل بما رواه الثقات مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يأمركم بالعمل به ؟ ولا بد من أحدهما.
فإن قالوا: لم يأمرنا الله تعالى بذلك لحقوا بالمعتزلة، وسيأتي جوابهم على هذا القول إن شاء الله تعالى، وإن قالوا: بل أمرنا الله تعالى بالعمل بذلك قلنا لهم: فقد قلتم إن الله تعالى أمركم بالعمل في دينه بما لم يأمركم به مما وضعه الكذابون، وأخطأ فيه الواهمون، وأمركم بأن تنسبوا إليه تعالى وإلى نبيه صلى الله عليه وسلم ما لم يأتكم به قط، وما لم يقله الله تعالى قط ولا رسوله صلى الله عليه وسلم .
وهذا قطع بأنه عز وجل أمر بالكذب عليه، وافترض العمل بالباطل، وبما ليس من الدين، وبما شرع الكذابون مما لم يأذن به الله تعالى وهذا عظيم جدا لا يستجيز القول به مسلم.
ثم نسألهم عما قالوا: إنه ممكن من سقوط بعض ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحكم في الدين بإيجاب أو تحريم حتى لا يوجد عند أحد، هل بقي علينا العمل به أم سقط عنا ؟ ولا بد من أحدهما، فإن قالوا: بل هو باق علينا.
قلنا لهم: كيف يلزمنا العمل بما لا ندري وبما لم يبلغنا ولا يبلغنا أبدا.
وهذا هو تحميل الاصر والحرج والعسر الذي قد آمننا الله تعالى منه.
وإن قالوا: بل سقط عنا العمل به، قلنا لهم: فقد أجزتم نسخ شرائع من شرائع الاسلام مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي محكمة ثابتة لازمة، فأخبرونا من الذي نسخها وأبطلها، وقد مات صلى الله عليه وسلم وهي لازمة لنا غير منسوخة ؟ وهذا خلاف الاسلام والخروج منه جملة.
فإن قالوا: لا يجوز أن يسقط حكم شريعة مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لازم لنا ولم ينسخ.
قلنا لهم: فمن أين أجزتم هذا النوع من الحفظ في الشريعة ؟ ولم تجيزوا تمام الحفظ للشريعة في ألا يختلط بها باطل لم يأمر الله تعالى به قط، اختلاطا لا يتميز معه الحق الذي أمر الله تعالى به من الباطل الذي لم يأمر به تعالى قط ؟ وهذا لا مخلص لهم منه، ولا فرق بين من منع من سقوط شريعة حق وأجاز اختلاطها بالباطل، وبين من منع من اختلاط الحق في الشريعة بالباطل، وأجاز سقوط شريعة حق، وكل هذا باطل لا يجوز البتة وممتنع(1/111)
قد أمنا كونه ولله الحمد، وإذا صح هذا فقد ثبت يقينا أن خبر الواحد العدل عن قد أمنا كونه ولله الحمد وإذا صح هذا فقد ثبت يقينا أن خبر الواحد العدل عن مثله مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حق مقطوع به موجب للعمل والعلم معا.
وأيضا قال الله تعالى: لتبين للناس ما نزل إليهم) * وقد قال تعالى: يا أيها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس نسألهم هل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنزل الله إليه أو لم يبين ؟ وهل بلغ ما أنزل الله إليه أو لم يبلغ ؟ ولا بد من أحدهما، فمن قولهم إنه عليه السلام قد بلغ ما أنزل الله إليه وبينه للناس، وأقام به الحجة على من بلغه، فنسألهم عن ذلك التبليغ وذلك البيان: أهما باقيان عندنا وإلى يوم القيامة ؟ أم هما
غير باقيين ؟ فإن قالوا: بل هما باقيان وإلى يوم القيامة رجعوا إلى قولنا، وأقروا أن الحق من كل ما أنزل الله تعالى في الدين مبين مما لم ينزله، مبلغ إلينا وإلى يوم القيامة، وهذا هو نص قولنا في أن خبر الواحد العدل عن مثله مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حق مقطوع على مبينه موجب للعلم والعمل.
وإن قالوا: بل هما غير باقين، دخلوا في عظيمة وقطعوا بأن كثيرا من الدين قد بطل، وإن التبليغ قد سقط في كثير من الشرائع، وأن تبيين رسول الله صلى الله عليه وسلم لكثير من الدين قد ذهب ذهابا لا يوجد معه أبدا، وهذا هو قول الروافض بل شر منه، لان الروافض ادعت أن حقيقة الدين موجودة عند إنسان مضمون كونه في العالم، وهؤلاء أبطلوه من جميع العالم، ونعوذ بالله من كلا القولين.
وأيضا فإن الله تعالى قال: قل انما حرم ربى الفواحش ما طهر منها وما بطن والاثم والبغى بغير الحقى وان تشر كوا بالله ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * وقال تعالى: إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس ولقد جاء هم من ربهم الهدى) * وقال تعالى: إن الظن لا يغني من الحق شيئا) * وقال تعالى ذاما لقوم قا لوا إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) * وقال تعالى: قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنآ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون) *.
وقد صح أن الله تعالى افترض علينا العمل بخبر الواحد الثقة عن مثله مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وأن نقول أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، وقال عليه السلام كذا، وفعل عليه السلام كذا، وحرم القول في دينه(1/112)
بالظن، وحرم تعالى أن نقول عليه إلا بعلم.
فلو كان الخبر المذكور يجوز فيه الكذب، أو الوهم لكنا قد أمرنا الله تعالى بأن نقول عليه ما لا نعلم، ولكان تعالى قد أوجب علينا الحكم في الدين بالظن الذي لا نتيقنه، والذي هو الباطل
الذي لا يغني من الحق شيئا، والذي هو غير الهدى الذي جاءنا من عند الله تعالى، وهذا هو الكذب والافك والباطل الذي لا يحل القول به، والذي حرم الله تعالى علينا أن نقول به، وبالتخرص المحرم فصح يقينا أن الخبر المذكور حق مقطوع على غيبه، موجب للعلم والعمل معا، وبالله تعالى التوفيق.
وصار كل من يقول بإيجاب العمل بخبر الواحد، وأنه مع ذلك ظن لا يقطع بصحة غيبه، ولا يوجب العلم - قائلا بأن الله تعالى تعبدنا أن نقول عليه تعالى ما ليس لنا به علم، وأن نحكم في ديننا بالظن الذي قد حرم تعالى علينا أن نحكم به في الدين، وهذا عظيم جدا.
وأيضا فإن الله تعالى يقول: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا وقال تعالى ومن بينع غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وقال تعالى ان الدين عند الله الاسلام وما اختلف الدين أو تو الكتاب الا من بعد ما جاء هم العلم بغيا بينهم وقال تعالى كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه قال أبو محمد فنقول لمن جوز ان يكون ما امر الله تعالى به نبيه عليه عليه السلام من بيان شريعة الاسلام لنا غير محفوظ، وإنه يجوز فيه التبديل، وأن يختلط بالكذب الموضوع اختلاطا لا يتميز أبدا: أخبرونا عن إكمال الله دينا ورضاه الاسلام لنا دينا، ومنعه تعالى من قبول كل دين حاشا الاسلام، أكل ذلك باق علينا ولنا إلى يوم القيامة ؟ أم إنما كان ذلك للصحابة رضي الله عنهم فقط ؟ أم لا للصحابة ولا لنا ؟ ولا بد من أحد هذه الوجوه.(1/113)
فإن قالوا: لا للصحابة ولا لنا، كان قائل هذا القول كافرا لتكذيبه الله تعالى جهارا وهذا لا يقوله مسلم، وأن قالوا: بل كان كل ذلك باق لنا وعلينا إلى يوم القيامة صاروا إلى قولنا ضرورة، وصح أن شرائع الاسلام كلها كاملة، والنعمة بذلك علينا تامة، وأن دين الاسلام الذي ألزمنا الله تعالى اتباعه لانه هو الدين عنده عز وجل متميز عن غيره الذي لا يقبله الله تعالى من أحد، وأننا ولله الحمد قد هدانا الله تعالى له، وأننا على يقين من أنه الحق وما عداه هو الباطل، وهذا برهان ضروري قاطع على أنه كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين، وفي بيان ما يلزمنا محفوظ لا يختلط به أبدا ما لم يكن منه وإن قالوا: بل كان ذلك للصحابة رضي الله عنهم، وليس ذلك لنا ولا علينا كانوا قد قالوا الباطل وخصصوا خطاب الله تعالى بدعوى كاذبة، إذ خطابه تعالى بالآيات التي ذكرنا عموم لكل مسلم في الابد، ولزمهم مع هذه العظيمة أن دين الاسلام غير كامل عندنا، وأنه تعالى رضي لنا منه ما لم ينبته علينا، وألزمنا ما لا ندري أين نجده، أو ألزمنا ما لم ينزله، وافترض علينا اتباع ما كذبه الزنادقة والمستخفون، ووضعوه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ،أو وهم فيه الواهمون مما لم يقله نبيه صلى الله عليه وسلم وهذا بيقين ليس هو دين الاسلام، بل هو إبطال الاسلام جهارا، ولو كان هذا - وقد أمنا ولله الحمد أن يكون - لكان ديننا كدين اليهود والنصارى الذي أخبرنا الله تعالى أنهم كتبوا الكتاب وقالوا هو من عند الله.
قال أبو محمد: حاشا لله من هذا، بل قد وثقنا بأن الله تعالى صدق في قوله فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه وأنه تعالى قد هذا نا للحق فصح يقينا أن كل ما قاله عليه السلام فقد هدانا الله تعالى له وأنه الحق المقطوع عليه، والعلم المتيقن الذى لا يمكن امتزاجه بالباطل أبدا.
قال على: وقال بعضهم إذا انقطعت به الاسباب خبر الواحد يوجب علما ظاهرا
قال أبو محمد: وهذا كلام لا يعقل، وما علمنا علما ظاهرا غير باطن، ولا علما باطنا، غير ظاهر، بل كل علم تيقن فهو ظاهر إلى من علمه وباطن في قلبه(1/114)
معا.
وكل ظن يتيقن فليس علما أصلا، لا ظاهرا ولا باطنا، بل هو ضلال وشك وظن محرم القول به في دين الله تعالى ونقول لهم: إذا جاز عندكم أن يكون كثير من دين الاسلام قد اختلط بالباطل، فما يؤمنكم إذ ليس محفوظا من أنه لعل كثيرا من الشرائع قد بطلت، لانها لم ينقلها أحد أصلا ؟ فإن منعوا من ذلك لزمهم المنع من اختلاطها بما ليس منها، لان ضمان حفظ الله تعالى يقتضي الامان من كل ذلك.
وأيضا فإنه لا يشك أحد من المسلمين قطعا في أن كل ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من شرائع الدين واجبها وحرامها ومباحها، فإنها سنة الله تعالى، وقد قال عز وجل ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا هذا نص كلامه تعالى.
وقد قال تعالى لا تبديل لكلمات الله فلو جاز أن يكون ما نقله الثقات الذين افترض الله تعالى علينا قبول نقلهم والعمل به القول بأنه سنة الله تعالى وبيان نبيه عليه السلام يمكن في شئ منه التحويل أو التبديل، لكان إخبار الله تعالى بأنه لا يوجد لهما تبديل ولا تحويل كذبا، ولكانت كلماته كذبا، وهذا ما لا يجيزه مسلم أصلا، فصح يقينا لا شك فيه أن كل سنة سنها الله تعالى من الدين لرسوله صلى الله عليه وسلم .
وسنها رسوله عليه السلام لامته، فإنها لا يمكن في شئ منها تبديل ولا تحويل أبدا وهذا يوجب أن نقل الثقات في الدين يوجب العلم بأنه حق كما هو عند الله تعالى، وقولنا ولله الحمد.
وأيضا: فإنهم مجمعون معنا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم من الله تعالى في البلاغ في الشريعة، وعلى تكفير من قال ليس معصوما في تبليغه الشريعة إلينا.
فنقول لهم: اخبرونا عن الفضيلة بالعصمة التي جعلها الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في تبليغه الشريعة التي بعث بها ؟ أهي له عليه السلام في إخباره الصحابة بذلك فقط ؟ أم هي باقية لما أتى به عليه السلام في بلوغه إلينا وإلى يوم القيامة ؟ فإن قالوا: بل هي له عليه السلام مع من شاهده خاصة لا في بلوغ الدين إلى من بعدهم.(1/115)
قلنا لهم: إذا جوزتم بطلان العصمة في تبليغ الدين بعد موته عليه السلام، وجوزتم وجود الداخلة والفساد والبطلان والزيادة والنقصان والتحريف في الدين، فمن أين وقع لكم الفرق بين ما جوزتم من ذلك بعده عليه السلام ؟ وبين ما منعتم من ذلك في حياته منه عليه السلام ؟ فإن قالوا: لانه كان يكون عليه السلام غير مبلغ ما أمر به، ولا معصوم، والله تعالى يقول: * (يأيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين) * قيل لهم: نعم وهذا التبليغ المعترض عليه - والذي هو فيه عليه السلام معصوم بإجماعكم معنا من الكذب والوهم - هو إلينا كما هو إلى الصحابة رضي الله عنهم ولا فرق، والدين لازم لنا كما هو لازم لهم سواء بسواء فالعصمة واجبة في التبليغ للديانة باقية مضمونة ولابد إلى يوم القيامة كما كانت قائمة عن الصحابة رضي الله عنهم سواء بسواء.
ومن أنكر هذا فقد قطع بأن الحجة علينا في الدين غير قائمة والحجة لا تقوم بما لا يدرى أحق هو أم باطل كذب ؟.
ثم نقول لهم وكذلك قال تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا فمن يقبل منه قد تبين الرشد
من الغى فإن اعوا إجماعا قلنا لهم من الكرامية من يقول انه عليه السلام غير معصوم في تبليغ الشريعة.
فإن قالوا: ليس هؤلاء ممن يعد في الاجماع، قلنا: صدقتم، ولا يعد في الاجماع من قال: إن الدين غير محفوظ، وإن كثيرا من الشرائع ا لتي أنزل الله تعالى قد بطلت واختلطت بالباطل الموضوع والموهوم فيه اختلاطا لا يتميز معه الرشد من الغي ولا الحق من الباطل ولا دين الله تعالى من دين إبليس أبدا.
فإن قالوا: بل الفضيلة بعصمة ما أتى النبي صلى الله عليه وسلم به من الدين باقية إلى يوم القيامة صاروا إلى الحق الذي هو قولنا ولله تعالى الحمد.
فإن قالوا: فإنه صفة كل مخبر وطبيعته أن خبره يجوز فيه الصدق والكذب والخطأ، وقولكم بأن خبر الواحد العدل في الشريعة موجب للعلم إحالة لطبيعة الخبر وطبيعة المخبرين، وخرق لصفات كل ذلك وللعادة فيه.
قلنا لهم: لا ينكر من الله تعالى إحالة ما شاء من الطبائع إذا صح البرهان بأنه فعل الله تعالى، والعجب من إنكاركم هذا مع(1/116)
قولكم به بعينه في إيجابكم عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب والوهم في تبليغه الشريعة، وهذا هو الذي أنكرتم بعينه، بل لم تقنعوا بالتناقض إذا أصبتم في ذلك وأخطأتم في منعكم من ذلك في خبر الواحد العدل، حتى أتيتم بالباطل المحض إذ جوزتم على جميع الامم موافقة الخطأ في إجماعها في رأيها، وذلك طبيعة في الكل وصفة لهم، ومنعتم من جواز الخطأ والوهم على ما ادعيتموه من إجماع الامة من المسلمين خاصة في اجتهادها في القياس، وحاشا لله أن تجمع الامة على الباطل - والقياس عين الباطل - فخرقتم بذلك العادة وأحلتم الطبائع بلا برهان لا سيما إن كان المخالف لنا من المرجئة القاطعين بأنه لا يمكن أن يكون يهودي ولا نصراني يعرف بقلبه أن الله تعالى حق.
فإن هؤلاء أحالوا الطبائع بلا برهان ومنعوا من إحالتها إذا قام البرهان بإحالتها.
فإن قالوا: فإنه يلزمكم أن تقولوا إن نقلة الاخبار الشرعية التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم معصومون في نقلها، وإن كل واحد منهم معصوم في نقله من تعمد الكذب ووقوع الوهم منه.
قلنا لهم: نعم هكذا نقول، وبهذا نقطع ونبت.
وكل عدل روى خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين أو فعله عليه السلام، فذلك الراوي معصوم من تعمد الكذب - مقطوع بذلك عند الله تعالى - ومن جواز الوهم فيه عليه إلا ببيان وارد - ولا بد - من الله تعالى ببيان ما وهم فيه، كما فعل تعالى بنبيه عليه السلام، إذ سلم من ركعتين ومن ثلاث واهما، لقيام البراهين التي قدمنا من حفظ جميع الشريعة وبيانها مما ليس منها، وقد علمنا ضرورة أن كل من صدق في خبر ما فإنه معصوم في ذلك الخبر من الكذب والوهم بلا شك فأي نكرة في هذا ؟.
فإن قالوا: تعبدنا الله تعالى بحسن الظن به، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول: أنا عند ظن عبدي بي قلنا: ليس هذا من الحكم في الدين بالظن في شئ بل كله باب واحد لانه تعالى حرم علينا أن نقول عليه ما لا نعلم ونحن لا نعلم أيغفر لنا أم يعذبنا فوجب علينا الوقوف في ذلك والرجاء والخوف، وحرم علينا أن نقول عليه في الدين والتحريم والاباحة والايجاب ما لا نعلم، وبين لنا كل ما ألزمنا من ذلك فوجب القطع بكل ذلك كما وجب(1/117)
القطع بتخليد الكفار في النار أو تخليد المؤمنين في الجنة، ولا فرق ولم يجز القول بالظن في شئ من ذلك كله.
فإن قالوا: أنتم تقولون: إن الله تعالى أمرنا بالحكم بما شهد به العدل مع يمين الطالب وبما شهد به العدلان فصاعدا، وبما حلف عليه المدعى عليه، إذا لم يقم المدعي بينة في إباحة الدماء المحرمة، والفروج المحرمة، والابشار المحرمة،
والاموال المحرمة، وكل ذلك بإقراركم ممكن أن يكون في باطن الامر بخلاف ما شهد به الشاهد، وما حلف عليه الحالف، وهذا هو الحكم بالظن الذي أنكرتم علينا في قولنا في خبر الواحد ولا فرق.
قلنا لهم وبالله التوفيق: بين الامرين فروق واضحة كوضوح الشمس.
أحدهما: أن الله تعالى قد تكفل بحفظ الدين وإكماله، وتبينه من الغي ومما ليس منه.
ولم يتكفل تعالى قط بحفظ دمائنا، ولا بحفظ فروجنا، ولا بحفظ أبشارنا ولا بحفظ أموالنا في الدنيا.
بل قدر تعالى بأن كثيرا من كل ذلك يؤخذ بغير حق في الدنيا.
وقد نص على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من الآخر فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار وبقوله عليه السلام للمتلاعنين: الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب أو كما قال عليه السلام في كل ذلك.
والفرق الثاني: أن حكمنا بشهادة الشاهد وبيمين الحالف، ليس حكما بالظن كما زعموا، بل نحن نقطع ونبت بأن الله عز وجل افترض علينا الحكم بيمين الطالب مع شهادة العدل، وبيمين المدعى عليه إذا لم يقم بينة، وبشهادة العدل والعدلين والعدول عندنا، وإن كانوا في باطن أمرهم كذابين أو واهمين والحكم بكل ذلك حق عند الله تعالى، وعندنا مقطوع على غيبه، برهان ذلك: أن حاكما لو تحاكم إليه اثنان ولا بينة للمدعي، فلم يحكم للمدعى عليه باليمين، أو شهد عنده عدلان فلم يحكم بشهادتهما.
فإن ذلك الحاكم فاسق عاص لله عز وجل، مجرح الشهادة ظالم، سواء كان المدعى عليه مبطلا في إنكاره أو محقا، أو كان(1/118)
الشهود كذبة أو واهمين أو صادقين، إذا لم يعلم باطن أمرهم.
ونحن مأمورون يقينا بأمر الله عز وجل لنا بأن نقتل هذا البرئ المشهود عليه بالباطل، وأن نبيح هذ البشرة المحرمة، وهذا المال الحرام المشهود فيه بالباطل، وحرم على المبطل أن يأخذ شيئا من ذلك.
وقضى ربنا بأننا إن لم نحكم بذلك فإننا في الدين فساق عصاة له تعالى ظلمه متوعدون بالنار على ذلك وما أمرنا تعالى قط بأن نحكم في الدين بخبر وضعه فاسق أو وهم فيه واهم.
وقال تعالى: فهذا فرق في غاية البيان.
وفرق ثالث، وهو أن نقول: إن الله تعالى افترض علينا أن نقول في جميع الشريعة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأمرنا الله تعالى بكذا، لانه تعالى يقول: * وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وما آتاكم الرسول فخذوه وما نها كم عنه فانتهوا ففرض علينا أن نقول: نهانا الله تعالى ورسول صلى الله عليه وسلم عن كذا، وأمرنا بكذا، ولم يأمرنا تعالى قط أن نقول: شهد هذا بحق، ولا حلف هذا الجانب على حق، ولا أن هذا الذي قضينا به لهذا حق له يقينا، ولا قال تعالى ما قال هذا الشاهد، لكن الله تعالى قال لنا: احكموا بشهادة العدول، وبيمين المدعى عليه إذا لم يقم عليه بينة، وهذا فرق لا خفاء به فلم نحكم بالظن في شئ من كل ذلك أصلا ولله الحمد، بل بعلم قاطع، ويقين ثابت أن كل ما حكمنا به مما نقله العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحق من عند الله تعالى أوحى به ربنا تعالى، مضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محكي عنه أنه قال وكل ما حكمنا فيه بشهادة العدول عندنا فحق مقطوع به من عند الله تعالى لانه أمرنا بالحكم به، ولم يأمرنا بأن نقول فيما شهدوا به، وما حلف به الحالف أنه من عند الله تعالى، ولا أنه حق مقطوع به، فإن قالوا: إنما قال تعالى: إن بعض الظن إثم ولم ولم يقل كل الظن إثم.
قلنا: قد بين الله تعالى الاثم من البر وهو أن القول عليه تعالى بما لا نعلم حرام، فهذا من الظن الذي هو إثم بلا شك.
قال علي: فلجأت المعتزلة إلى الامتناع من الحكم بخبر الواحد، للدلائل التي ذكرنا، وظنوا أنهم تخلصوا بذلك ولم يتخلصوا، بل كل ما لزم غيرهم مما ذكرنا هو ملازم لهم، وذلك أننا نقول لهم أخبرونا عن الاخبار التي رواها الآحاد أهي كلها(1/119)
حق إذا كانت من روا ية الثقات خاصة ؟ أم كلها باطل ؟ أم فيها حق وباطل ؟ فإن قالوا: فيها حق وباطل وهو قولهم.
قلنا لهم: هل يجوز أن تبطل شريعة أوحى الله تعالى بها إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ليبينها لعباده حتى يختلط بكذب وضعه فاسق ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،أو وهم فيها واهم فيختلط الحق المأمور به مع الباطل المختلق اختلاطا لا يتميز به الحق من الباطل أبدا لاحد من الناس، وهل الشرائع الاسلامية كلها محفوظة لازمة لنا أو هي غير محفوظة، ولا كلها لازم لنا، بل قد سقط منها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، وهل قامت الحجة علينا لله تعالى فيما افترض من الشرائع بأنها بينة لنا متميزة مما لم يأمرنا به، أو لم تقم لله تعالى علينا حجة في الدين لان كثيرا منه مختلط بالكذب غير متميز منها أبدا ؟.
فإن أجازوا اختلاط شرائع الدين التي أوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بما ليس في الدين، وقالوا: لم تقم لله تعالى علينا حجة فيما أمرنا به.
دخل عليهم في القول بفساد الشريعة، وذهاب الاسلام، وبطلان ضمان الله تعالى بحفظ الذكر كالذي دخل على غيرهم حرفا بحرف، سواء بسواء، ولزمهم أنهم تركوا كثيرا من الدين الصحيح كما لزم غيرهم سواء بسواء، أنهم يعملون بما ليس من الدين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بطل بيانه، وأنه حجة الله تعالى بذلك لم تقم علينا سواء بسواء، وفي هذا ما فيه.
فإن لجأوا إلى الاقتصار على خبر التواتر، لم ينفكوا بذلك من أن كثيرا من الدين قد بطل لاختلاطه بالكذب الموضوع، وبالموهوم فيه، ومن جواز أن يكون
كثير من شرائع الاسلام لم ينقل إلينا، إذ قد بطل ضمان حفظ الله تعالى فيها، وأيضا فإنه لا يعجز أحد أن يدعي في أي خبر شاء أنه منقول نقل التواتر، بل أصحاب الاسناد أصح دعوى في ذلك، لشهادة كثرة الرواة وتغير الاسانيد لهم بصحة قولهم في نقل التواتر وبالله تعالى التوفيق.
فإن لجأ لاجئ إلى أن يقول بأن كل خبر جاء من طريق الآحاد الثقات، فإنه كذب موضوع ليس منه شئ قاله قط رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وقلنا وبالله تعالى التوفيق: هذه مجاهرة ظاهرة، ومدافعة لما نعلم بالضرورة خلافه، وتكذيب لجميع الصحابة أولهم عن آخرهم، ولجميع فضلاء التابعين، ولكل إنسان(1/120)
من العلماء جيلا بعد جيل، لان كل ما ذكرنا رووا الاخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا شك من أحد، واحتج بها بعضهم على بعض، وعملوا بها، وأفتوا بها في دين الله تعالى وهذا اطراح للاجماع المتيقن، وباطل لا تختلف النفوس فيه أصلا، لانا بالضرورة ندري أنه لا يمكن البتة في البنية أن يكون كل من ذكرنا لم يصدق قط في كلمة رواها، بل كلهم وضعوا كل ما رووا.
وأيضا ففيه إبطال الشرائع التي لا يشك مسلم ولا غير مسلم في أنها ليست في القرآن مبينة كالصلاة، والزكاة، والحج، وغير ذلك، وأنه إنما أخذ بيانها من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وفي هذا القطع بأن كل صاحب من الصحابة، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه هو الواضع، والمخترع للكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، ولا يشك أحد على وجه الارض في أن كل صاحب من الصحابة قد حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أهله وجيرانه، وفي هذا إثبات وضع الشرائع على جميعهم، أولهم عن آخرهم، وما بلغت الروافض والخوارج قط هذا المبلغ، مع أنها دعوى بلا برهان،
وما كان كذلك فهو باطل بيقين، في ثلاثة أقوال كما ترى لا رابع لها.
إما أن يكون كل خبر نقله العدل عن العدل مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبا كلها أولها عن آخرها موضوعة بأسرها، وهذا باطل بيقين كما بينا، وإيجاب أن كل صاحب وتابع وعالم - لا نحاشي أحدا - قد اتفقوا على وضع الشرائع والكذب فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وهذا انسلاخ عن الاسلام، أو يكون فيها حق وفيها باطل إلا أنه لا سبيل إلى تمييز الحق منها من الباطل لاحد أبدا، وهذا تكذيب لله تعالى في إخباره بحفظ الذكر المنزل، وبإكماله الدين لنا، وبأنه لا يقبل منا إلا دين الاسلام لا شيئا سواه.
وفيه أيضا فساد الدين واختلاطه بما لم يأمر به تعالى قط به، وأنه لا سبيل لاحد في العالم إلى أن يعرف ما أمره الله تعالى به في دينه مما لم يأمره به أبدا، وأن حقيقة الاسلام وشرائعه قد بطلت بيقين، وهذا انسلاخ عن الاسلام.
أو أنها كلها حق مقطوع على غيبها عند الله تعالى، موجبة كلها للعلم، لاخبار الله(1/121)
تعالى بأنه حافظ لما أنزل من الذكر، ولتحريمه تعالى الحكم في الدين بالظن والقول عليه بما لا علم لنا به، ولاخباره تعالى بأنه قد بين الرشد من الغي، وليس الرشد إلا ما أنزله الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ،وفي فعله، وليس الغي إلا ما لم ينزله الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ،وهذا قولنا والحمد لله رب العالمين
قال علي: فإذا قد صح هذا القول بيقين، وبطل كل ما سواه، فلنتكلم بعون الله تعالى على تقسيمه فنقول وبالله تعالى نتأيد: إننا قد أمنا ولله الحمد أن تكون شريعة أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ،أو ندب إليها أو فعلها عليه السلام، فتضيع ولم تبلغ إلى أحد من أمته إما بتواتر أو بنقل الثقة عن الثقة، حتى تبلغ إليه صلى الله عليه وسلم ،وأمنا أيضا قطعا أن يكون الله تعالى يفرد بنقلها من لا تقوم الحجة بنقله من العدول،
وأمنا أيضا قطعا أن تكون شريعة يخطئ فيها راويها الثقة، ولا يأتي بيان جلي واضح بصحة خطئه فيه وأمنا أيضا قطعا أو يطلق الله عز وجل من قد وجبت الحجة علينا بنقله على وضع حديث فيه شرع يسنده إلى من تجب الحجة بنقله، حتى يبلغ به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وكذلك نقطع ونثبت بأن كل خبر لم يأت قط إلا مرسلا، أو لم يروه قط إلا مجهول أو مجرح ثابت الجرحة، فإنه خبر باطل بلا شك موضوع لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لو جاز أن يكون حقا لكان ذلك شرعا صحيحا غير لازم لنا، لعدم قيام الحجة علينا فيها.
قال علي: وهذا الحكم الذي قدمنا إنما هو فيما نقله من اتفق على عدالته كالصحابة وثقات التابعين ثم كشعبة وسفيان وسفيان ومالك وغيرهم، من الائمة في عصرهم وبعدهم إلينا وإلى يوم القيامة، وفي كل من ثبتت جرحته كالحسن بن عمارة وجابر الجعفي وسائر المجرحين الثابتة جرحتهم، وأما من اختلف فيه فعدله قوم وجرحه آخرون، فإن ثبتت عندنا عدالته قطعنا على صحة خبره، وإن ثبتت عندنا جرحته قطعنا على بطلان خبره، وإن لم يثبت عندنا شئ من ذلك وقفنا في ذلك، وقطعنا ولا بد حتما على أن غيرنا لا بد أن يثبت عنده أحد(1/122)
الامرين فيه، وليس خطؤنا نحن إن أخطأنا، وجهلنا إن جهلنا، حجة على وجوب ضياع دين الله تعالى، بل الحق ثابت معروف عند طائفة وإن جهلته أخرى، والباطل كذلك أيضا، كما يجهل قوم ما نعلمه نحن أيضا، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، ولا يصح الخطأ في خبر الثقة إلا بأحد ثلاثة أوجه: إما تثبت الراوي واعترافه بأنه أخطأ فيه، وإما شهادة عدل على أنه سمع الخبر مع راويه فوهم فيه فلان، وإما بأن توجب المشاهدة بأنه أخطأ.
قال علي: وكذلك نقطع ونبت في كل خبرين صحيحين متعارضين، وكل
آيتين متعارضتين، وكل آية وخبر صحيح متعارضين، وكل اثنين متعارضين، لم يأت نص بين بالتناسخ منهما، فإن الحكم الزائد على الحكم المتقدم من معهود الاصل هو الناسخ، وأن الموافق لمعهود الاصل المتقدم، وهو المنسوخ قطعا يقينا للبراهين التي قدمنا من أن الدين محفوظ، فلو جاز أن يخفى فيه ناسخ من منسوخ، أو أن يوجد عموم لا يأتي نص صحيح بتخصيصه، ويكون المراد به الخصوص، لكان الدين غير محفوظ، ولكانت الحجة غير قائمة على أحد في الشريعة، ولكنا متعبدين بالظن الكاذب المحرم، بل بالعمل بما لم يأمر الله تعالى قط به، وهذا باطل مقطوع على بطلانه
قال علي: فإن وجد لنا يوما غير هذا فنحن تائبون إلى الله تعالى منه، وهي وهلة نستغفر الله عز وجل منها، وإنا لنرجو ألا يوجد لنا ذلك بمن الله تعالى ولطفه.
صفة من يلزم قبوله نقل الاخبار
قال أبو محمد: واستدركنا برهانا في وجوب قبول الخبر الواحد قاطعا، وهو خبر الله تعالى عن موسى عليه السلام إذ جاءه: * (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يموسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين) فخرج منها خائقا يترقب (إلى قوله تعالى إن يدعوك ليجزيك أجر ما سبقت لنا (إلى قوله تعالى إنى أريد أن أنكحك إحدى ابتنى هالتين على أن تأحرنى ثمانى حجج(1/123)
إلى آخر القصة، فصدق موسى عليه السلام قول المنذر له، وخرج عن وطنه بقوله، وصوب الله تعالى ذلك من فعله، وصدق قول المرأة التي أباها يدعوه فمضى معها، وصدق أباها في قوله إنها ابنته، واستحل نكاحها وجماعها بقوله وحده، وصوب الله ذلك كله، فصح يقينا ما قلنا بأن خبر الواحد ما يضطر إلى تصديقه
يقينا.
والحمد لله رب العالمين.
قال علي: وقد ذكرنا في الباب الذي قبل هذا وجوب قبول نذارة العدل النافر للتفقه في الدين، فإذا كان الراوي عدلا حافظا لما تفقه فيه، أو ضابطا له بكتابه وجب قبول نذارته، فإن كان كثير الغلط والغفلة غير ضابط بكتابه، فلم يتفقه فيما نفر للتفقه فيه، وإذا لم يتفقه فليس ممن أمرنا بقبول نذارته، ومن جهلنا حاله فلم ندر أفاسق هو أم عدل، وأغافل هو أم حافظ أو ضابط ؟ ففرض علينا التوقف عن قبول خبره حتى يصح عندنا فقهه وعدالته وضبطه أو حفظه فيلزمنا حينئذ قبول نذارته، أو تثبت عندنا جرحته، أو قلة حفظه وضبطه فيلزمنا اطراح خبره حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا أبو عامر الاشعري، ثنا أبو أسامة هو حماد بن أسامة، عن بريد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلا والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلا.
(فذلك مثل) من فقه في دين الله بما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به.
وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني، ثنا إبراهيم بن أحمد البلخي، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا محمد بن العلاء، ثنا حماد بن أسامة عن يزيد، فذكره(1/124)
بإسناده ولفظه، إلا أنه قال مكان طيبة: نقية، ومكان غيث: الغيث الكثير،
ومكان ورعوا: وزرعوا، ومكان فقه: تفقه، ومكان قيعان: قيعة، واتفقا في كل ما عدا ذلك.
قال علي: وليس اختلاف الروايات عيبا في الحديث إذا كان المعنى واحدا، لان النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه إذا كان يحدث بحديث كرره ثلاث مرات، فنقل كل إنسان بحسب ما سمع فليس هذا الاختلاف في الروايات مما يوهن الحديث إذا كان المعنى واحدا.
قال علي: فقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مراتب أهل العلم دون أن يشذ منها شئ، فالارض الطيبة النقية هي مثل الفقيه الضابط لما روى، الفهم للمعاني التي يقتضيها لفظ النص، المتنبه على رد ما اختلف فيه الناس إلى نص حكم القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وأما الاجادب، الممسكة للماء التي يستقي منها الناس، فهي مثل الطائفة التي حفظت ما سمعت أو ضبطته بالكتاب وأمسكته، حتى أدته إلى غيرها غير مغير، ولم يكن لها تنبه على معاني ألفاظ ما روت، ولا معرفة بكيفية رد ما اختلف الناس فيه إلى نص القرآن والسنن التي روت، لكن نفع الله تعالى بهم في التبليغ فبلغوه إلى من هو أفهم بذلك فقد أنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا إذ يقول: فرب مبلغ أوعى من سامع، وكما روي عنه عليه السلام أنه قال: فرب حامل فقه ليس بفقيه.
قال أبو محمد: فمن لم يحفظ ما سمع ولا ضبطه، فليس مثل الارض الطيبة ولا مثل الاجادب الممسكة للماء بل هو محروم معذور أو مسخوط بمنزلة القيعان التي لا تنبت الكلا ولا تمسك الماء وفي هذا كفاية بيان، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: فمن استطاع منكم فليكن من أمثال الارض الطيبة، فإن حرم ذلك فمن الاجادب وليس بعد ذلك درجة في الفضل والبسوق، ونعوذ بالله من أن نكون من القيعان، لكن من استقى من الاجادب ورعى من الطيبة فقد نجا، وبالله التوفيق.
قال علي: فإذا روى العدل عن مثله كذلك خبرا حتى يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم فقد وجب الاخذ به، ولزمت طاعته والقطع به، سواء أرسله غيره أو أوقفه سواه، أو رواه كذاب من الناس، وسواء روي من طريق أخرى أو لم(1/125)
يرو إلا من تلك الطريق، وسواء كان ناقله عبدا أو امرأة أو لم يكن، وإنما الشرط العدالة والتفقه فقط، وإن العجب ليكثر من قوم من المدعين أنهم قائلون بخبر الواحد، ثم يعللون ما خالف مذاهبهم من الاحاديث الصحاح بأن يقولوا: هذا مما لم يروه إلا فلان، ولم يعرف له مخرج من غير هذا الطريق.
قال أبو محمد: وهذا جهل شديد وسقوط مفرط، لانهم قد اتفقوا معنا على وجوب قبول خبر الواحد والاخذ به، ثم هم دأبا يتعللون في ترك السنة بأنه خبر واحد، والعجب أنهم يأخذون بذلك إذا اشتهوا، فهذا محمد بن مسلم الزهري له نحو تسعين حديثا انفرد بها عن النبي صلى الله عليه وسلم ،لم يروها أحد من الناس سواه، ليس أحد من الائمة إلا وله أخبار انفرد بها، ما تعلل أحد من هؤلاء المحرمون في رد شئ منها بذلك، فليت شعري ما الفرق بين من قبلوا خبره ولم يروه أحد معه، وبين من ردوا خبره لانه لم يروه أحد معه، وهل في الاستخفاف بالسنن أكثر من هذا ؟.
وأيضا فإن الخبر وإن روي من طرق ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك فهو كله خبر واحد، من أثبت شيئا من ذلك أثبت خبر الواحد، ومن نفى خبر الواحد نفى كل ذلك، لان العلة عندهم في كل ذلك واحدة، وهي أن كل ما لا يضطر إلى التصديق عندهم ولم يوجب القطع على صحة مغيبة لديهم، فهو خبر واحد، وهذه عندهم صفة كل ما لم ينقل بالتواتر، فقد تركوا مذهبهم وهم لا يشعرون، أو يشعرون ويتعمدون، وهذه أسوأ وأقبح، ونعوذ بالله من الخذلان.
قال علي: وأما المدلس فينقسم إلى قسمين: أحدهما: حافظ عدل ربما أرسل حديثه، وربما أسنده، وربما حدث به على سبيل المذاكرة أو الفتيا أو المناظرة، فلم يذكر له سندا، وربما اقتصر على ذكر بعض رواته دون بعض، فهذا لا يضر ذلك سائر رواياته شيئا، لان هذا ليس جرحة ولا غفلة، لكنا نترك من حديثه ما علمنا يقينا أنه أرسله وما علمنا أنه أسقط بعض من في إسناده، ونأخذ من حديثه ما لم نوقن فيه شيئا من ذلك.
وسواء قال: أخبرنا فلان، أو قال: عن فلان، أو قال: فلان عن فلان كل ذلك واجب قبوله، ما لم يتيقن أنه أورد حديثا بعينه إيرادا غير مسند، فإن أيقنا(1/126)
ذلك تركنا ذلك الحديث وحده فقط وأخذنا سائر رواياته.
وقد روينا عن عبد الرزاق بن همام قال: كان معمر يرسل لنا أحاديث، فلما قدم عليه عبد الله بن المبارك أسندها له وهذا النوع منهم كان جلة أصحاب الحديث وأئمة المسلمين كالحسن البصري، وأبي إسحاق السبيعي، وقتادة بن دعامة، وعمرو بن دينار، وسليمان الاعمش، وأبي الزبير، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وقد أدخل علي بن عمر الدار قطني فيهم مالك بن أنس، ولم يكن كذلك ولا يوجد له هذا إلا في قليل من حديثه أرسله مرة وأسنده أخرى.
وقسم آخر: قد صح عنهم إسقاط من لا خير فيه من أسانيدهم عمدا، وضم القوي إلى القوي تلبيسا على من يحدث، وغرورا لم يأخذ عنه، ونصرا لما يريد تأييده من الاقوال، مما لو سمى من سكت عن ذكره لكان ذلك علة ومرضا في الحديث، فهذا رجل مجرح، وهذا فسق ظاهر واجب اطراح جميع حديثه، صح أنه دلس فيه أو لم يصح أنه دلس فيه، وسواء قال سمعت أو أخبرنا أو لم يقل، كل ذلك مردود غير مقبول لانه ساقط العدالة، غاش لاهل الاسلام
باستجازته ما ذكرناه، ومن هذا النوع كان الحسين بن عمارة وشريك بن عبد الله القاضي، وغيرهما.
قال علي: ومن صح أنه قبل التلقين ولو مرة سقط حديثه كله لانه لم يتفقه في دين الله عز وجل، ولا حفظ ما سمع، وقد قال عليه السلام: نضر الله امرأ سمع منا حديثا حفظه حتى بلغه غيره فإنما أمر عليه السلام بقبول تبليغ الحافظ، والتلقين هو أن يقول له القائل: حدثك فلان بكذا، ويسمي له من شاء من غير أن يسمعه منه، فيقول نعم، فهذا لا يخلو من أحد وجهين ولا بد من أحدهما ضرور، إما أن يكون فاسقا يحدث بما لم يسمع، أو يكون من الغفلة بحيث يكون الذاهن العقل المدخول الذهن، ومثل هذا لا يلتفت له لانه ليس من ذوي الالباب، ومن هذا النوع كان سماك بن حرب، أخبر بأنه شاهد ذلك منه شعبة الامام الرئيس ابن الحجاج.
قال علي: ومما غلط فيه بعض أصحاب الحديث أنه قال: فلان يحتمل في الرقائق ولا يحتمل في الاحكام.(1/127)
قال أبو محمد: وهذا باطل لانه تقسيم فاسد لا برهان عليه، بل البرهان يبطله وذلك أنه لا يخلو كل أحد في الارض من أن يكون فاسقا أو غير فاسق، فإن كان غير فاسق كان عدلا، ولا سبيل إلى مرتبة ثالثة، فالعدل ينقسم إلى قسمين: فقيه وغير فقيه، فالفقيه العدل مقبول في كل شئ، والفاسق لا يحتمل في شئ، والعدل غير الحافظ لا تقبل نذارته خاصة في شئ من الاشياء، لان شرط القبول الذي نص الله تعالى عليه ليس موجودا فيه، ومن كان عدلا في بعض نقله، فهو عدل في سائره، ومن المحال أن يجوز قبول بعض خبره، ولا يجوز قبول سائره إلا بنص من الله تعالى أو إجماع في التفريق بين ذلك، وإلا فهو تحكم
بلا برهان، وقول بلا علم، وذلك لا يحل.
قال علي: وقد غلط أيضا قوم آخرون منهم، فقالوا: فلان أعدل من فلان وراموا بذلك ترجيح خبر الاعدل على من هو دونه في العدالة.
قال علي: وهذا خطأ شديد، وكان يكفي من الرد عليهم أن نقول لهم: إنهم أبرك الناس لذلك، وفي أكثر أمرهم يأخذون بما روى الاول عدالة ويتركون ما روى الاعدل، ولعلنا سنورد من ذلك طرفا صالحا إن شاء الله تعالى، ولكن لا بد لنا بمشيئة الله تعالى من إبطال هذا القول بالبرهان الظاهر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فأول ذلك: أن الله عز وجل لم يفرق بين خبر عدل، وخبر عدل آخر أعدل من ذلك، ومن حكم في الدين بغير أمر من الله عز وجل، أو من رسوله عليه السلام، أو إجماع متيقن مقطوع به منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قفا ما ليس له به علم، وفاعل ذلك عاص لله عز وجل، لانه قد نهاه تعالى عن ذلك، وإنما أمر تعالى بقبول نذارة النافر الفقيه العدل فقط، وبقبول شهادة العدول فقط، فمن زاد حكما فقد أتى بما لا يجوز له، وترك ما لم يأمره الله تعالى بتركه، وغلب ما لم يأمره الله عز وجل بتغليبه.
قال علي: وأيضا فقد يعلم الاقل عدالة ما لا يعلمه من هو أتم منه عدالة، وقد جهل أبو بكر وعمر ميراث الجدة، وعلمه المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة وبينهما وبين أبي بكر وعمر بون بعيد إلا أنهم كلهم عدول، وقد رجع أبو بكر إلى(1/128)
خبر المغيرة في ذلك، ورجع عمر إلى خبر مخبر أخبره عن أملاص المرأة، ولم يكن ذلك عند عمر، وذلك المخبر بينه وبين عمر في العدالة درج، وأيضا فإن كل ما يتخوفمن العدل فإنه متخوف من أعدل من في الارض بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ،وأيضا فلو شهد أبو بكر وحده، ما قبل قبولا لا يوجب الحكم بشهادته، ولو شهد عدلان من عرض الناس قبلا، فلا معنى للاعدل.
وأيضا فإن العدالة إنما هي التزام العدل، والعدل هو القيام بالفرائض واجتناب المحارم والضبط لما روى وأخبر به فقط، ومعنى قولنا فلان أعدل من فلان أي أنه أكثر نوافل في الخبر فقط، وهذه صفة لا مدخل لها في العدالة، إذ لو انفردت من صفة العدالة التي ذكرنا لم يكن فضلا ولا خيرا.
فاسم العدالة مستحق دونهما كما هو مستحق معها سواء بسواء ولا فرق، فصح أنه لا يجوز ترجيح رواية على أخرى، ولا ترجيح شهادة على أخرى، بأن أحد الراوين أو أحد الشاهدين أعدل من الآخر، وهذا الذي تحكموا به إنما هو من باب طيب النفس، وطيب النفس باطل لا معنى له، وشهوة لم يأذن بها الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ،وإنما هو حق - فسواء طابت النفس عليه أو كرهته - فهو حرام عليها، وهذا من باب اتباع الهوى، وقد حرم الله تعالى ذلك، قال عز وجل: * (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى) *، وقال تعالى: * (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله فمن حكم في دين الله عز وجل بما استحسن وطابت نفسه عليه دون برهان من نص ثابت أو إجماع، فلا أحد أضل منه وبالله تعالى نعوذ من الخذلان.
إلا من جهل ولم تقم عليه ججة، فلخطأ لا ينكر، وهو مخذور مأجور ولكن من بلغه البيان وقامت عليه الحجة فتماد على هواه فهو فاسق عاص لله عز وجل.
قال علي: ووجدنا الله تعالى لم يرض في القبول في الشهادة بزنى الامة إلا أربعة(1/129)
عدول لا أقل، وإنما في ذلك خمسون جلدة وتغريب نصف عام، ووجدنا كما قد وافقتمونا على القبول في إباحة دم المسلم ودماء الجماعة باثنين، وكذلك في القذف والقطع، فأين طيب النفس ههنا.
فبهذا وغيره يجب قبول ما قام الدليل عليه،
وسواء طابت عليه النفس أو لم تطب.
قال علي: والمرأة والرجل والعبد في كل ما ذكرنا سواء، ولا فرق ولم يخص تعالى عدلا من عدل، ولا رجلا من امرأة ولا حرا من عبد.
قال علي: وبما ذكرنا ههنا يبطل قول من قال: هذا الحديث لم يرو من غير هذا الوجه ثم قال: إنما طلبنا كثرة الرواة على استطابة النفس، فإن اعترضوا بقول إبراهيم عليه السلام إذ يقول: رب أرنى كيف تحيى الموتى الآية قيل لهم: أفترون يقين الخليل عليه السلام كان مدخولا قبل أن يرى إحياء الطير فإن قلتم هذا كفرتم ولو لم يره الله تعالى ذلك - كما لم ير موسى ما سأل - ما تخالج إبراهيم شك في صحة إحياء الله تعالى الموتى، وكذلك نحن إن وجدنا الحديث مرويا من طرق كان ذلك أبلغ أن الحجة عند المخالف فقط وإن عدمناه فقد لزمنا القبول لنقل الواحد بالحجاج التي قدمنا، وبينا على أي وجه طلب إبراهيم ما طلب في كتابنا في الملل والنحل.
قال علي: ومن عدله عدل وجرحه عدل فهو ساقط الخبر، والتجريح يغلب التعديل، لانه علم زائد عند المجرح لم يكن عند المعدل، وليس هذا تكذيبا للذي عدل بل هو تصديق لهما معا، فإن قال قائل: فهلا قلتم بل عند المعدل علم لم يكن عند المجرح ؟ قيل له: كذلك نقول ونصدق كل واحد منهما، فإذا صح خبرهما معا عليه فلا خلاف في أن كل من جمع عدالة ومعصية فأطاع في قصة وصلى وصام، وزكى وفسق في أخرى وزنى أو شرب الخمر أو أتى كبيرة أو جاهر بصغيرة، فإنه فاسق عند جميع الامة بلا خلاف، ولا يقع عليه اسم عدل، ولو لم يفسق إلا من تمحص الشر ولا يعمل شيئا من الخير لما فسق مسلم أبدا، لان توحيده خير وفضل وإحسان وبر، وفي صحة القول بأن فينا عدولا وفساقا بنص القرآن، ورضا وغير رضا، بيان ما قلنا، ولو أخذنا بالتعديل وأسقطنا التجريح لكنا قد
كذبنا المجرح وذلك غير جائز، وهكذا القول في الشهادة ولا فرق.(1/130)
قال علي: ولا يقبل في التجريح قول أحد إلا حتى يبين وجه تحريمه، فإن قوما جرحوا آخرين بشرب الخمر، وإنما كانوا يشربون النبيذ المختلف فيه بتأويل منهم أخطؤوا فيه، ولم يعلموه حراما ولو علموه مكروها فضلا عن حرام ما أقدموا عليه ورعا وفضلا، منهم الاعمش وإبراهيم وغيرهما من الائمة رضي الله عنهم، وهذا ليس جرحة لانهم مجتهدون طلبوا الحق فأخطؤوه.
ولا يكون الجرح في نقلة الاخبار إلا بأحد أربعة أوجه لا خامس لها: الاقدام على كبيرة قد صح عند المقدم عليها بالنص الثابت أنها كبيرة.
الثاني: الاقدام على ما يعتقد المرء حراما وإن كان مخطئا فيه قبل أن تقوم الحجة عليه بأنه مخطئ.
والثالث: المجاهرة بالصغائر التي صح عند المجاهر بها بالنص أنها حرام، وهذه الاوجه الثلاثة هي جرحه في نقلة الاخبار وفي الشهود، وفي جميع الشهادات في الاحكام وهذه صفات الفاسق بالنص وبإجماع من المخالفين لنا، وإنما أسقطنا المستتر بالصغائر للحديث الصحيح في الذي قبل امرأة فأخبره عليه السلام أن صلاته كفرت ذلك عنه ولقوله عز وجل: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) *) فمن غفر الله له فحرام علينا أن نثبت عليه ما قد غفر الله تعالى له.
وكذلك التائب من الكبائر ومن الكفر أيضا فهو عدل وليس هذا من باب ثبات الحد عليه في شئ لان الملامة ساقطة عن التائب، والحد عنه غير ساقط على حديث ماعز، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رجمه بعد توبته وأمر بالاستغفار له ونهى عن سبه وإنما قلنا: إن المجاهرة بالصغائر جرحة للاجماع المتيقن على ذلك، والنص الوارد من الامر بإنكار المنكر، والصغائر من المنكر
لان الله تعالى أنكرها وحرمها ونهى عنها، فمن أعلن بها فهو من أهل المنكر فقد استحق التغيير عليه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان ومن كان من أهل المنكر في الدين فهو فاسق لان المنكر فسق والفاسق لا يقبل خبره.
وصح بما قدمنا أن المستتر بالصغائر ليس صاحبه فاسقا ولا يجب التغيير(1/131)
عليه، ولا الانكار عليه، لانه لم ير منه ما يلزمنا فيه تغيير ولا إنكار ولا تعزير، ولو أن امرأ شهد على آخر بأنه يتستر بالصغائر لكانت شهادة الشاهد عليه بذلك مردودة وكان ملوما، ولم يجز أن يقدح ذلك في شهادة المستتر بها لوجهين: أحدهما أنه لا ينجو أحد من ذنب صغير.
والثاني أنه معفو عنه، ولو شهد على أحد أنه يستتر بكبيرة لقبلت شهادته عليه، ولردت شهادة المستتر بها لانها ليست مغفورة إلا بالتوبة، أو برجوح الميزان عند الموازنة يوم القيامة.
قال علي: والوجه الرابع ينفرد به نقلة الاخبار دون الشهود في الاحكام وهو ألا يكون المحدث إلا فقيها فيما روى أي حافظا، لان النص الوارد في قبول نذارة النافر للتفقه إنما هو بشرط أن يتفقه في العلم، ومن لم يحفظ ما روى فلم يتفقه، وإذا لم يتفقه فليس ممن أمرنا بقبول نذارته، وليس ذلك في الشهادة، لان الشرط في الشهادة إنما هي العدالة فقط بنص القرآن، فلا يضر الشاهد أن يكون معروفا بالغفلة والغلط، ولا يسقط ذلك شهادته إلا أن تقوم بينة بأنه غلط في شهادة ما، فتسقط تلك التي غلط فيها فقط، ولا يضر ذلك شهادته في غيرها، لا قبل الشهادة ولا بعدها، بل هو مقبول أبدا، ولا يحل لاحد أن يزيشرطا لم يأت به الله تعالى، فقد قال عليه السلام: كل شرط ليس
في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط.
فمن شرط في العدل في الشهادة خاصة أن يكون غير معروف بالغلط، فقد زاد شرطا ليس في كتاب الله عز وجل، فهو مبطل فيه والتدليس الذي ذكرنا أنه يسقط العدالة هو إحدى الكبائر، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : من غشنا فليس منا ولا غش في الاسلام أكبر من إسقاط الضعفاء من سند حديث ليوقع الناس في العمل به وهو غير صحيح، ولقوله عليه السلام: الدين النصيحة وواجب ذلك لله تعالى ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم، ومن دلس التدليس الذي ذممنا، فلم ينصح لله تعالى ولا لرسوله عليه السلام في تبليغه عنهما، ولا نصح للمسلمين في التلبيس عليهم حتى يوقعهم فيما لا يجوز العمل به.
قال علي: وأما من قدم على ما يعتقده حلالا مما لم يقم عليه في تحريمه حجة،(1/132)
فهو معذور مأجور وإن كان مخطئا، وأهل الاهواء معتزليهم ومرجئيهم، وزيدييهم وأبا ضييهم بهذه الصفة إلا من أخرجه هواه عن الاسلام إلى كفر متفق على أنه كفر، وقد بينا ذلك في كتاب الفصل، أو من قامت عليه حجة من نص أو إجماع فتمادى ولم يرجع فهو فاسق.
وكذلك القول فيمن خالف حديث النبي صلى الله عليه وسلم لتقليد أو قياس ولا فرق - أو من سب أحد الصحابة رضي الله عنهم، فإن ذلك عصبية - والعصبية فسق وصدق أبو يوسف القاضي إذ سئل عن شهادة من يسب السلف الصالح فقال: لو ثبت عندي على رجل أنه يسب جيرانه ما قبلت شهادته، فكيف من يسب أفاضل الامة ؟ إلا أن يكون من الجهل بحيث لم تقم عليه حجة النص بفضلهم والنهي عن سبهم فهذا لا يقدح سبهم في دينه أصلا، ولا ما هو أعظم من سبهم
لكن حكمه أن يعلم ويعرف، فإن تمادى فهو فاسق، وإن عاند في ذلك الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مشرك، ولو أن امرأ بدل القرآن مخطئا جاهلا، أو صلى لغير القبلة كذلك، ما قدح ذلك في دينه عند أحد من أهل الاسلام، حتى تقوم عليه الحجة بذلك، فإن تمادى فهو فاسق، وإن عاند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مشرك.
قال علي: وقد علل قوم أحاديث بأن رواها ناقلها عن رجل مرة، وعن رجل مرة أخرى.
قال علي: وهذا قوة للحديث وزيادة في دلائل صحته، ودليل على جهل من جرح الحديث بذلك، وذلك نحو أن يروي الاعمش الحديث عن سهل عن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، ويرويه غير الاعمش عن سهيل عن أبيه عن أبي سعيد.
قال علي: وهذا لا مدخل للاعتراض به، لان في الممكن أن يكون أبو صالح سمع الحديث من أبي هريرة ومن أبي سعيد، فيرويه مرة عن هذا ومرة عن هذا.(1/133)
ومثل هذا لا يتعلل به في الحديث إلا جاهل أو معاند، ونحن نفعل هذا كثيرا، لاننا نرى الحديث من طرق شتى، فنرويه من بعض المواضع من أحد طرقه، ونرويه مرة أخرى من طريق ثانية، وهذا قوة للحديث لا ضعف وكل ما تعللوا به من مثل هذا وشبهه فهي دعاوى لا برهان عليها، وكل دعوى بلا برهان فهي ساقطة، وكذلك ما رواه العدل عن أحد العدلين شك في أحدهما أيهما حدثه إلا أنه موقن أن أحدهما حدثه بلا شك، فهذا صحيح يجب الاخذ به مثل أن يقول الثقة: حدثنا أبو سلمة أو سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، فهذا ليس علة في الحديث البتة، لانه أيهما كان فهو عدل رضا معلوم الثقة مشهور العدال.
وأيضا فإن قالوا: إن الغفلة والخطأ من الاثنين أبعد منه من الواحد.
قيل
ومثل هذا لا يتعلل به في الحديث إلا جاهل أو معاند، ونحن نفعل هذا كثيرا، لاننا نرى الحديث من طرق شتى، فنرويه من بعض المواضع من أحد طرقه، ونرويه مرة أخرى من طريق ثانية، وهذا قوة للحديث لا ضعف وكل ما تعللوا به من مثل هذا وشبهه فهي دعاوى لا برهان عليها، وكل دعوى بلا برهان فهي ساقطة، وكذلك ما رواه العدل عن أحد العدلين شك في أحدهما أيهما حدثه إلا أنه موقن أن أحدهما حدثه بلا شك، فهذا صحيح يجب الاخذ به مثل أن يقول الثقة: حدثنا أبو سلمة أو سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، فهذا ليس علة في الحديث البتة، لانه أيهما كان فهو عدل رضا معلوم الثقة مشهور العدال.
وأيضا فإن قالوا: إن الغفلة والخطأ من الاثنين أبعد منه من الواحد.
قيل لهم: وهو من الاربعة أبعد منه من الثلاثة، فلا يقبلوا إلا ما رواه أربعة وهكذا فيما زاد حتى يلحقوا بالقائلين بالتواتر.
تم الجزء الاول ويليه الجزء الثاني استدراك جاء في أول (ص 107) ذكر للعلامة الكر ابيسى، ولما كان ذلك الامام غير مشهور اليوم بيننا، فقد رأينا أن نكتب عنه كلمة موجزة.
الكرابيسى هو أبو على الحسين بن على بن يزيد الكرابيسى البغدادي، وهو صاحب الامام الشافعي وأشهر تلاميذه بخضور مجلسه وأحفظهم لمذهبه.
له تصانيف كثيرة في أصول الفقه وفروعه عارفا بالحديث توفي سنة 245 تقريبا.
والكرابيسي نسبة إلى الكرابيس وهى الثياب الغليظة واحدها (كرباس) وهو الفظ فارسي معرب وكان بييعها فنسب إليها.
هذا ما قلته دائرة المعارف للاستاذ محمد فريد وجدى.
ونحن نلاحظ أن هذا العلامة لم يكن يستغل عله للدينا بل كان يأكل من التجارة في الثياب ؟(1/134)
الاحكام
ابن حزم ج 2(2/)
الاحكام في أصول الاحكام
للحافظ ابى محمد على بن حزم الاندلسي الظاهرى
هذا الكتاب النفيس، الذى لم تر العين مثيله في علم الاصول (أحمد شاكر)
قوبلت على نسخة أشرف على طبعها
الاستاذ العلامة أحمد شاكر رحمه الله
الناشر زكريا على يوسف
مطبعة العاصمة بالقاهرة - ت 23680
الجزء الثاني
فصل في المرسل
قال أبو محمد: المرسل من الحديث هو الذى سقط بين أحد رواته وبين النبي صلى الله عليه وسلم ناقل واحد فصاعدا.
وهو المنطقع أيضا.
هو غير مقبول ولا تقوم به حجة لانه عن مجهول، وقد قدمنا أن جهلنا حاله وسواء قال الراوي العدل حدثنا الثقة أو لم يقل، لا يجب أن يلتفت إلى ذلك.
إذ قد يكون عنده ثقة من لا يعلم من جرحته ما يعلم غيره، وقد قدمنا أن الجرح أولى من التعديل، وقد وثق سفيان جابرا الجعفي، وجابر من الكذب والفسق والشر والخروج عن الاسلام بحيث قد عرف، ولكن خفي أمره على سفيان فقال بما ظهر منه إليه، ومرسل سعيد بن المسيب، ومرسل الحسن البصري، وغير هما سواء، لا يؤخذ منه بشئ، وقد ادعى بعض من لا يحصل ما يقول، أن الحسن البصري كان إذا حدثه
بالحديث أربعة من الصحابة أرسله.
قال: فهو أقوى من المسند.
قال أبو محمد: وقائل هذا القول اترك خلق الله لمرسل الحسن، وحسبك بالمرء سقوطا أن يضعف قولا يعتقده ويعمل به، ويقوي قولا يتركه ويرفضه، وقد توجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل إلى قوم ممن يجاور المدينة فأخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يعرس بامرأة منهم، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أخبره بذلك فوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه رسولا وأمر بقتله إن وجده حيا، فوجده قد مات.
فهذا كما ترى قد كذب على النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي، وقد كان في عصر الصحابة رضي الله عنهم منافقون ومرتدون.
فلا يقبل حديث قال راويه فيه عن رجل من الصحابة، أو حدثني من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حتى يسميه، ويكون معلوما بالصحبة الفاضلة ممن شهد الله تعالى لهم بالفضل والحسنى.
قال الله عز وجل: * (وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن أهل(2/135)
المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم) * وقد ارتد قوم ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم عن الاسلام كعيينة بن حصن، والاشعث بن قيس، والرجال، وعبد الله بن أبي سرح.
قال علي: ولقاء التابع لرجل من أصاغر الصحابة شرف وفخر عظيم، فلاي معنى يسكت عن تسميته لو كان ممن حمدت صحبته، ولا يخلو سكوته عنه من أحد وجهين: إما أنه لا يعرف من هو، ولا عرف صحة دعواه الصحبة، أو لانه كان من بعض ما ذكرنا.
حدثنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، ثنا يحيى بن يحيى، حدثنا خالد
بن عبد الله، عن عبد الملك، عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، وكان خالد ولد عطاء قال: أرسلتني أسماء إلى عبد الله بن عمر فقالت: بلغني أنك تحرم أشياء ثلاثة: العلم في الثوب، وميثرة الارجوان، وصوم رجب كله، فأنكر ابن عمر أن يكون حرم شيئا من ذلك.
فهذه أسماء وهي صحابية، من قدماء الصحابة وذوات الفضل منهم، قد حدثها بالكذب من شغل بالها حديثه عن ابن عمر حتى استبرأت ذلك، فصح كذب ذلك المخبر، وقد ذكر عن ابن سيرين في أمر طلاق ابن عمر امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ذلك، فواجب على كل أحد ألا يقبل إلا من عرف اسمه، وعرفت عدالته وحفظه.
قال علي: والمخالفون لنا في قبول المرسل هم أصحاب أبي حنيفة، وأصحاب مالك، وهم أترك خلق الله للمرسل إذا خالف مذهب صاحبهم ورأيه، وقد ترك مالك حديث أبي العالية في الوضوء من الضحك في الصلاة، ولم يعيبوه إلا بالارسال وأبو العالية قد أدرك الصحابة رضي الله عنهم، وقد رواه أيضا الحسن وإبراهيم(2/136)
النخعي والزهري مرسلا، وتركوا حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرضه الذي مات فيه بالناس جالسا والناس قيام، وترك مالك وأصحابه الحديث المروي من طريق الليث، عن عقيل بن خالد، عن الزهري، عن سعيبن المسيب والقاسم وسالم وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر مدين من بر على كل إنسان، مكان صاع من شعير، وذكر سعيد بن المسيب أن ذلك كان من عمل الناس أيام أبي بكر وعمر، وذكر غيره أنه حكم عثمان أيضا وابن عباس، وذكر ابن عمر أنه عمل الناس، فهؤلاء فقهاء المدينة رووا هذا الحديث مرسلا، وأنه صحبه العمل
عندهم، فترك ذلك أصحاب مالك.
فأين اتباعهم المرسل وتصحيحهم إياه ؟ وأين اتباعهم رواية أهل المدينة وعمل الائمة بها ؟.
وترك الحنفيون حديث سعيد بن المسيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن لا يباع الحيوان باللحم، وهو أيضا فعل أبي بكر الصديق رضوان الله عليه، ومثل هذا كثير جدا، ولو تتبعنا ما تركت كلتا الطائفتين لبلغت أزيد من ألفي حديث بلا شك، وسنجمع من ذلك ما تيسر إن شاء الله تعالى في كتاب مفرد لذلك إن أعان الله تعالى بقوة من عنده، وأمد بفسحة من العمر.
فإنما أوقعهم في الاخذ بالمرسل، أنهم تعلقوا بأحاديث مرسلات في بعض مسائلهم فقالوا فيها بالاخذ بالمرسل، ثم تركوه في غير تلك المسائل، وإنما غرض القوم نصر المسألة الحاضرة بما أمكن من باطل أو حق، ولا يبالون بأن يهدموا بذلك ألف مسألة لهم، ثم لا يبالون بعد ذلك بإبطال ما صححوه في هذه المسألة إذا أخذوا في الكلام في أخرى، وسنبين من ذلك كثيرا إن شاء الله تعالى.
ونحن ذاكرون من عيب المرسل ما فيه كفاية لمن نصح نفسه إن شاء الله تعالى.
أخبرني أحمد بن عمر العذري، حدثنا أبو ذر عبد بن أحمد الهروي، ثنا زاهر بن أحمد أبو علي السرخسي الفقيه، ثنا زنجويه بن محمد النيسابوري، ثنا محمد بن إسماعيل البخاري - هو مؤلف الصحيح - ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد عن النعمان بن راشد، عن زيد بن أبي أنيسة: أن رجلا أجنب فغسل فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لو يمموه، قتلوه قتلهم الله.(2/137)
قال النعمان: فحدثت به الزهري فرأيته بعد يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: من حدثك ؟ قال: أنت حدثتني، عمن تحدثه ؟ قلت: عن رجل من أهل الكوفة، قال: أفسدته، في حديث أهل الكوفة دغل كثير.
وبالاستناد المتقدم
إلى البخاري قال: قال معاذ، عن أشعث، عن ابن سيرين، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي في شعرنا.
قال البخاري: ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن سعيد بن أبي صدقة، قلت لمحمد بن سيرين: ممن سمعت هذا الحديث ؟ قال سمعته من زمان لا أدري ممن سمعته، ولا أدري أثبت أم لا، فسلوا عنه.
وفيما كتب إلي به يوسف بن عبد الله النمري قال: قال يحيى بن سعيد القطان: مالك عن سعيد بن المسيب أحب إلي من الثوري عن إبراهيم.
لو كان شيخ الثوري فيه رمق لبرح به وصاح وقال مرة أخرى: كلاهما عندي شبه الريح
قال أبو محمد: فإذا كان الزهري، ومحمد بن سيرين، وسفيان ومالك وهم من هم في التحفظ والحفظ والثقة، في مراسليهم ما ترى، فما أحد ينصح نفسه يثق بمرسل أصلا، ولو جمعنا بلايا المراسيل لاجتمع من ذلك جزء ضخم وفي هذا دليل على ما سواه، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في أقسام السنن
قال أبو محمد: السنن تنقسم ثلاثة أقسام: قول من النبي صلى الله عليه وسلم أو فعل منه عليه السلام، أو شئ رآه وعلمه فأقر عليه ولم ينكره.
فحكم أوامره عليه السلام الفرض والوجوب - على ما نبينه إن شاء الله عز وجل في باب الاوامر من هذا الكتاب - ما لم يقم دليل على خروجه من باب الوجوب إلى باب الندب، أو سائر وجوه الاوامر وحكم فعله عليه السلام الائتساء به فيه، وليس واجبا إلا أن يكون تنفيذا لحكم، أو بيانا لامر على ما يقع في باب الكلام في أفعاله عليه السلام من هذا الكتاب، وأما إقراره عليه السلام على ما علم وترك إنكاره إياه،(2/138)
فإنما هو مبيح لذلك الشئ فقط، وغير موجب له، ولا نادب إليه، لان الله عز وجل افترض عليه التبليغ وأخبره أنه يعصمه من الناس وأوجب عليه أن يبين
للناس ما نزل إليهم فمن ادعى أنه عليه السلام علم منكرا فلم ينكره، فقد كفر لانه جحد أن يكون عليه السلام بلغ كما أمر، ووصفه بغير ما وصفه به ربه تعالى، وكذبه في قوله عليه السلام: اللهم هل بلغت فقال الناس: نعم، فقال: اللهم اشهد قال ذلك في حجة الوداع.
فإن اعترض معترض بحديث جابر أنه سمع عمر رضوان الله عليهما يحلف بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم على أن ابن صياد هو الدجال فلم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا حجة علينا في هذا، لان ابن صياد في أول أمره كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شاكا في أمره، أهو الدجال أم لا ؟ بذلك جاءت الاحاديث الصحاح ويبين ذلك قول عمر فيه: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فقال عليه السلام: إن يكن هو فلن تسلط عليه أو نحو ذلك من الكلام، فحلف عمر على تقديره ومن حلف على ما لا يعلم ولا يوقن أنه باطل ولا حق فليس هو عندنا حانثا ولا آثما، إذا كان تقديره أنه كما حلف عليه، فهذا الحديث حجة لنا، وليس فيه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم صدق يمينه فإنا في الحديث أن أمر ابن صياد كان حينئذ ممكنا، والحالف على الممكن كما ذكرنا لم يأت منكرا، فيلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تغييره.
قال علي: وأما من قال: إن أفعاله صلى الله عليه وسلم على الوجوب، فقوله ساقط، لان الله تعالى لم يوجب علينا قط في شئ من القرآن والسنن أن نفعل مثل فعله عليه السلام، بل قال تعالى: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وانما أنكر عليه السلام على من تنزه أن يفعل مثل فعله عليه السلام، وهذا هو غاية المنكر كمن تنزه عن التقبيل في رمضان نهارا وهو صائم، أتنزه أن يمشي حافيا حاسرا زاريا على من فعل ذلك، وأما من ترك أن يفعل مثل فعله عليه السلام لا عن رغبة عنه فما أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قط، وهذا التارك للائتساء به صلى الله عليه وسلم غير راغب عن ذلك لا محسن ولا مسئ ولا مأجور ولا آثم، والمؤتسي به
عليه السلام محسن مأجور والراغب عن الائتساء به بعد قيام الحجة عليه إن كان زاريا على محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وما نعلم لمن صحح عنه فعلا ثم رغب عنه(2/139)
وجها ينجو به من الشرك، إلا أن يتعلق بفعل له عليه السلام آخر، أو بأمر له آخر أو يكون لم يصح عنده ذلك الامر الذي رغب عنه، فإن تعلق بأنه خصوص له صلى الله عليه وسلم ،فهو أحد الكاذبين الفساق، ما لم يأت على دعواه بدليل من نص أو إجماع
قال علي: وأما من ادعى أن أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض علينا أن نفعل مثلها فقد أغفل جدا، وأتى بما لا برهان له على صحته، وما كان هكذا فهو دعوى كاذبة، لان الاصل ألا يلزمنا حكم حتى يأتي نص قرآن أو نص سنة بإيجابه، وأيضا فإنه قول يؤدي إلى ما لا يفعل، ولزمه أن يوجب على كل مسلم أن يسكن حيث سكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وأن يجعل رجليه حيث جعلهما عليه السلام، وأن يصلي حيث صلى عليه السلام، وأن يصوم فرضا الايام التي كان يصومها عليه السلام، وأن يجلس حيث جلس، وأن يتحرك مثل كل حركة تحركها عليه السلام، وأن يحرم الاكل متكئا وعلى خوان والشبع من خبز البر مأدوما ثلاثا تباعا، وأن يوجب فرضا أكل الدباء ويتتبعها وهذا ما لا يوجبه مسلم، مع أن هذا يخرج إلى المحال، وإلى إرجاع ما لا سبيل إلى إرجاعه مما قد فات وبطل بالاكل والشرب منه عليه السلام.
فبطل بما ذكرنا أن تكون أفعاله عليه السلام واجبة علينا، إذ لم يأت على ذلك دليل، بل قد قام الدليل والبرهان على أن ذلك غير واجب بالآية التي ذكرنا، وكل من له أقل علم باللغة العربية فإنه يعلم أن ما قيل فيه: هذا لك أنه غير واجب قبوله، بل مباح له تركه إن أحب كالمواريث وكل ما خيرنا فيه، وأن ما جاء بلفظ: عليك كذا فهذا هو الملزم لنا، ولا بد فلما قال تعالى: * (لقد كان لكم
في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) * كنا مندوبين إلى ذلك، وكنا مباحا لنا ألا نأتسي غير راغبين عن الائتساء به، لكن عالمين أن الذي تركنا أفضل والذي فعلنا مباح كجلوس الانسان وتركه أن يصلي تطوعا، فليس آثما بذلك ولو صلى تطوعا لكان أفضل إلا أن يكون ترك التطوع راغبا عنها في الوقت المباح فيه التطوع، فهذا خارج عن الاسلام بلا خلاف، لانه شارع شريعة لم يأت بها إذن.(2/140)
قال علي: وإنما نازعنا في وجوب الافعال بعض أصحاب مالك، على أنهم أترك خلق الله تعالى لافعال رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فمن ذلك أنه عليه السلام جلد في الخمر أربعين، وهم يجلدون ثمانين وودى حضريا - وهو عبد الله بن سهل ادعى قتله على حضريين وهم يهود خيبر - بالابل، فقالوا هم: لا يجوز ذلك ولا يودى إلا بالذهب أو الفضة.
وصلى على قبر، فقالوا هم: لا نفعل ذلك، وصلى على غائب، فقالوا هم: لا نرى ذلك، وقبل وهو صائم.
فقالوا هم: نكره ذلك، وصلى عليه السلام حاملا أمامة، فقالوا نكره ذلك، وصلى جالسا والناس وراءه وأبو بكر إلى جنبه قائم.
فقالوا: لا يجوز ذلك، ومن صلى كذلك بطلت صلاته، في كثير جدا اقتصرنا منه على ما ذكرنا.
وبعضهم تعلق في هذه الافعال بأنها خصوص له عليه السلام، ومن فعل ذلك فقد تعرض لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ومن تعرض لغضبه عليه السلام فقد تعرض لغضب الله عز وجل، فقد غضب عليه السلام غضبا شديدا حين سأله الانصاري عن قبلة الصائم: فأخبر عليه السلام أنه يفعل ذلك، فقال القائل: لست مثلنا يا رسول الله، أنت قد غفر لك ذنبك، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ غضبا شديدا وأنكر هذا القول، فمن أضل ممن تعرض لغضب الله عز وجل، وغضب رسوله عليه السلام في تقليد
إنسان لا ينفعه ولا يضره، ولا يغني عنه من الله تعالى شيئا.
قال علي: واحتجوا في تخصيص القبلة للصائم بقول عائشة رضي الله عنها: وأيكم أملك لاربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال أبو محمد: وهذا القول منها، رضي الله عنها، أعظم الحجة عليهم، لانها لم تقل ذلك على ما توهموا، وإنما قالته إنكارا على من استعظم القبلة للصائم.
فأخبرهم أنه عليه السلام كان أورع منهم، وأملك لاربه، ولكنه مع ذلك لم يمتنع من التقبيل وهو صائم، فكيف أنتم.
ويدل على صحة هذا التأويل دليلان بينان: أحدهما: أنها رضي الله عنها هكذا قالت في مباشرة الحائض أنه عليه السلام كان يأمرها فتتزر ثم يباشرها، وأيكم أملك لاربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فيلزمهم(2/141)
أن يتركوا إباحة مباشرة الحائض، لقول عائشة، وأيكم أملك لاربه كما قالت في قبلة الصائم سواء بسواء.
والثاني: أنهم رووا عنها أنها قالت لابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن وهو أشب ما كان: ألا تقبل زوجتك وتلاعبها ؟ تعني عائشة بنت طلحة وهي بنت أختها وأجمل جواري أهل زمانها قاطبة، فقال: إني صائم.
فقالت لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم، فهي دأبا تحض الصائم الشاب على التقبيل للجارية الحسناء، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وائتساء به.
وهذا هو قولنا لا قولهم، ففعلوا ما ترى فيما أخبر عليه السلام أنه عموم، وغضب على من ادعى أنه خصوص، ثم أتوا إلى ما أخبر عليه السلام أنه خصوص له دون سائر الناس، وهو قتله بمكة من قتل الكفار، وخطب عليه السلام الناس فنهاهم عن أن يسفك فيها أحد دما، ثم لم يقنع عليه السلام بذلك، حتى قال في خطبته تلك: وإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا: إن الله أحلها لنبيه صلى الله عليه وسلم ولم يحلها لكم، وإنما أحلت لي ساعة من نهار
ثم عادت كحرمتها بالامس إلى يوم القيامة أو كلاما هذا معناه، فقالوا: هذا عموم وليس خصوصا.
قال أبو محمد: فلو قيل لهؤلاء القوم اعكسوا الحقائق، ما زادوا على ما فعلوا، وأن هذا لعظائم لا ندري كيف استجاز من له أدنى ورع التقليد في مثل هذا، لمن قد أداه اجتهاده إلى الخطأ في ذلك، ممن قد بلغتهم الآثار، وقامت عليهم الحجة، وسقطت عنهم المعذرة، وإن الظن ليسوء جدا بمن هذا معتقده، ونعوذ بالله من كل حب رياسة تقود إلى مثل هذا، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: وإذا مدح الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم أحدا على فعل ما كان ذلك الفعل مندوبا إليه، مستحبا يؤجر فاعله ولا يؤجر تاركه ولا يأثم، وليس ذلك الشئ فرضا لما قد أوردنا في الحجاج في أن الفرض ليس إلا ما جاء به الامر فقط، وإن لم نؤمر به فمعفوا عنه، وأما ما ذمه الله تعالى فهو مكروه، وليس حراما إلا بدليل، لما ذكرناه في المدح ولا فرق، وقد ذم الله تعالى الشح، وليس حراما إذا أدى المرء فرائضه، ولكنه مذموم مكروه، وقد مدح الله(2/142)
تعالى المغتسلين بالماء للاستنجاء، وليس فرضا، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم من لم يكتوا ولا استرقى، وليس كل ذلك حراما، لكن إن قام دليل من أمر أو نهي على الشئ المذموم أو الممدوح صير فيه إلى دليل الامر والنهي، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في خلاف الصاحب للرواية وتعلل أهل الباطل بذلك وفيما زعموا أن البلوى تكثر به فلا يقبل فيه إلا التواتر
قال أبو محمد: ووجدنا الصاحب من الصحابة رضي الله عنهم يبلغه الحديث فيتناول فيه تأويلا يخرجه به عن ظاهره، ووجدناهم رضي الله عنهم يقرون ويعترفون بأنهم لم يبلغهم كثير من السنن، وهكذا الحديث المشهور عن أبي هريرة إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالاسواق، وإن إخواني من الانصار كان يشغلهم القيام على أموالهم، وهكذا قال البراء: حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، ثنا أحمد بن عون، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، ثنا محمد بن المثنى العنزي، ثنا أبو أحمد الزبيري وسفيان الثوري، عن أبي إسحاق السبيعي، عن البراء بن عازب قال: أما كل ما تحدثتموه سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولكن حدثنا أصحابنا وكانت تشغلنا رعية الابل.
وهذا أبو بكر رضي الله عنه لم يعرف فرض ميراث الجدة، وعرفه محمد بن مسلمة، والمغيرة بن شعبة، وقد سأل أبو بكر رضي الله عنه عائشة في كم كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذا عمر رضي الله عنه يقول في حديث الاستئذان: أخفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ألهاني الصفق في الاسواق.
وقد جهل أيضا أمر إملاص المرأة وعرفه غيره، وغضب على عيينة بن حصن حتى ذكره الحر بن قيس بن حصن بقوله تعالى: * (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) * وخفي عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب إلى آخر خلافته،(2/143)
وخفي على أبي بكر رضي الله عنه قبله أيضا طول مدة خلافته، فلما بلغ ذلك عمر أمر بإجلائهم فلم يترك بها منهم أحدا.
وخفي على عمر أيضا أمره عليه السلام بترك الاقدام على الوباء، وعرف ذلك عبد الرحمن بن عوف.
وسأل عمر أبا واقد الليثي عما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاتي الفطر والاضحى.
وهذا وقد صلاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أعواما كثيرة، ولم يدر ما يصنع بالمجوس، حتى ذكره عبد الرحمن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم،
ونسي قبوله عليه السلام الجزية من مجوس البحرين، وهو أمر مشهور، ولعله رضي الله عنه قد أخذ من ذلك المال حظا كما أخذ غيره منه.
ونسي أمره عليه السلام بأن يتيمم الجنب فقال: لا يتيمم أبدا ولا يصلي ما لم يجد الماء، وذكره بذلك عمار، وأراد قسمة مال الكعبة حتى احتج عليه أبي بن كعب بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك فأمسك، وكان يرد النساء اللواتي حضن ونفرن قبل أن يودعن البيت، حتى أخبر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في ذلك، فأمسك عن ردهن، وكان يفاضل بين ديات الاصابع، حتى بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالمساواة بينها، فترك قوله وأخذ بالمساواة، وكان يرى الدية للعصبة فقط، حتى أخبره الضحاك بن سفيان بأن النبي صلى الله عليه وسلم ورث المرأة من الدية فانصرف عمر إلى ذلك، ونهى عن المغالاة في مهور النساء استدلالا بمهور النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذكرته امرأة بقول الله عز وجل: * (للل (النساء: 20) فرجع عن نهيه، وأراد رجم مجنونة حتى أعلم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : رفع القلم عن ثلاثة فأمر ألا ترجم، وأمر برجم مولاة حاطب حتى ذكره عثمان بأن الجاهل لا حد عليه، فأمسك عن رجمها، وأنكر على حسان الانشاد في المسجد، فأخبره هو وأبو هريرة أنه قد أنشد فيه بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت عمر.
وقد خفي على الانصار وعلى المهاجرين كعثمان وعلي وطلحة والزبير وحفصة أم المؤمنين وجوب الغسل من الايلاج إلا أن يكون أنزل، وهذا مما تكثر فيه البلوى، وخفي على عائشة، وأم حبيبة، أمي المؤمنين: وابن عمر، وأبي هريرة، وأبي موسى.
وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، وسائر الجلة من فقهاء المدينة(2/144)
وغيرهم - نسخ الوضوء مما مست النار وكل هذا تعظم البلوى به وتعم، وهذا كله وما بعد هذا يبطل ما قاله من لا يبالي بكلامه من الحنفيين والمالكيين.
إن
الامر إذا كان مما تعم البلوى به لم يقبل خبر الواحد.
والعجب أن كلتا الطائفتين قد قبلت أخبارا خالفها غيرهم تعم البلوى، كقبول الحنفيين الوضوء من الضحك، وجهله غيرهم وكقبول المالكيين اليمين مع الشاهد، وجهله غيرهم، ومثل هذا كثير جدا.
حدثنا محمد بن سعيد، ثنا أحمد به عبد النصير، حدثنا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، ثنا محمد بن المثنى، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا صخر بن جويرية، حدثنا عامر بن عبد الله بن الزبير، أن عبد الرحمن بن الاسود أخبره قال: كنت جالسا مع أبي بعرفة وابن الزبير يخطب الناس، فقال ابن الزبير: إن هذا يوم تكبير وتحميد وتهليل، فكبروا الله واحمدوه وهللوا، فقام أبي يجوس حتى انتهى إليه فأصغى إليه فقال: أشهد لسمعت عمر بن الخطاب على هذا المنبر يلبي، فقال ابن الزبير: لبيك اللهم لبيك - وكان صيتا.
قال أبو محمد: فقد خفي هذا كما ترى على ابن الزبير وغيره، وهو مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد نهى عمر أن يسمى بأسماء الانبياء، وهو يرى محمد بن مسلمة يغدو عليه ويروح وهو أحد الصحابة الجلة منهم، ويرى أبا أيوب الانصاري، وأبا موسى الاشعري، وهما لا يعرفان إلا بكناهما من الصحابة، ويرى محمد بن أبي بكر الصديق، وقد ولد بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حجة الوداع، واستفتته أمه إذ ولدته ماذا تصنع في إحرامها وهي نفساء، وقد علم يقينا أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بأسماء من ذكرنا وبكناهم بلا شك، وأقرهم عليها ودعاهم بها، ولم يغير شيئا من ذلك عليه السلام.
فلما أخبره طلحة وصهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم بإباحة ذلك، أمسك عن النهي عنه، وهم بترك الرمل في الحج، ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله.
فقال: لا يجب لنا أن نتركه.(2/145)
وهذا عثمان رضي الله عنه، فقد رووا عنه أنه بعث إلى الفريعة أخت أبي سعيد الخدري يسألها عما أفتاها به رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر عدتها، وأنه أخذ بذلك، وأمر برجم امرأة قد ولدت لستة أشهر، فذكره علي بالقرآن وأن الحمل قد يكون ستة أشهر، فرجع عن الامر برجمها.
وهذا علي رضوان الله عليه: يعترف بأن كثيرا من الصحابة كانوا يحدثونه بما ليس عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم ،وأنه كان يستحلفهم على ذلك حاشا أبا بكر فإنه كان لا يستحلفه، وأن الله تعالى كان ينفعه بما شاء أن ينفعه مما سمع من ذلك مما لم يكن عنده قبل ذلك.
وهذا طلحة: يبيح الذهب بالفضة نسيئة، حتى ذكره عمر.
وهذا ابن عمر وابن عباس: يبيعان الدرهم بالدرهمين، حتى ذكرا فأمسكا، ثم رواه ابن عمر عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ،ذكره مسلم، فرجع ابن عمر إلى ذلك وترك رأيه ثم رواه ابن عمر فقال: هذا عهد نبينا إلينا.
ذكره مالك عن حميد عن مجاهد عن ابن عمر، وصدق ابن عمر، ونحن نقول في حديث النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغنا: هذا عهد نبينا إلينا فهكذا نحمل أمر جميع ما روي من رواية الصاحب للحديث، ثم روي عنه مخالفته إياه أنه إنما أفتى بخلاف الحديث قبل أن يبلغه، فلما حدث بما بلغه، لا يحل أن يظن بالصاحب غير هذا، وهذا نص ما ذكرنا عن ابن عمر ببيان لا يخفى، وأنهم تأولوا فيما سمعوا من الحديث.
ومن حمل ذلك على غير ما قلنا فإنه يوقع الصاحب ولا محالة تحت أمرين، وقد أعاذهم الله تعالى منهما، كلاهما ضلال وفسق، وهما إما المجاهرة بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لا يحل لاحد، ولا يحل أن يظن بهم، وإما أن يكون عندهم علم أوجب عليهن مخالفة ما رووا فما هم في حل أن يكتموه عنا ويحدثوا بالمنسوخ، ويكتموا عنا الناسخ.
وهذه الصفة كفر من فاعلها وتلبيس في الدين، ولا ينسب هذا إليهم
إلا زائغ القلب أو جاهل أعمى القلب، فبطل ظنهم الفاسد، وصح قولنا والحمد لله رب العالمين.
ولا سبيل إلى وجه ثالث أصلا إلا أن يكونوا نسوا حينئذ بعض ما قد رووه قبل ذلك فهذا ممكن أيضا.
فإن كانوا تأولوا فالتأويل منهم(2/146)
رضي الله عنهم ظن، وروايتهم على النبي صلى الله عليه وسلم يقين، ولا يحل لمسلم أن يترك اليقين للظن، فارتفع الاشكال جملة هذا الباب، والحمد لله رب العالمين.
وأما هم رضوان الله عليهم فمعذورون، لانه اجتهاد منهم، مع أن ذلك منهم أيضا قليل جدا، وليس كذلك من يقلدهم بعد أن نبه على ما ذكرناه وهذه عائشة وأبو هريرة رضي الله عنهما خفي عليهما المسح على الخفين، وعلى ابن عمر معهما، وعلمه جرير ولم يسلم إلا قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بأشهر، وأقرت عائشة أنها لا علم لها به، وأمرت بسؤال من يرجى عنده علم ذلك وهو علي رضي الله عنه، وهذه حفصة أم المؤمنين سئلت عن الوطئ يجنب فيه الواطئ، أفيه غسل أم لا ؟ فقالت لا علم لي.
وهذا ابن عمر توقع أن يكون حدث نهي من النبي صلى الله عليه وسلم عن كراء الارض بعد أزيد من أربعين سنة من موت النبي صلى الله عليه وسلم ،فأمسك عنها وأقر أنهم كانوا يكرونها على عهد أبي بكر وعمر وعثمان، ولم يقل إنه لا يمكن أن يخفى على هؤلاء ما يعرف رافع وجابر وأبو هريرة.
وهؤلاء إخواننا يقولون - فيما اشتهوا -: لو كان هذا حقا ما خفي على عمر.
وقد خفي على زيد بن ثابت، وابن عمر، وجمهور أهل المدينة إباحة النبي صلى الله عليه وسلم للحائض أن تنفر، حتى أعلمهم بذلك ابن عباس وأم سليم، فرجعوا عن قولهم: وخفي على ابن عمر الاقامة حتى يدفن الميت، حتى أخبره بذلك أبو هريرة وعائشة فقال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة، وقيل لابن عمر
في اختياره متعة الحج على الافراد: إنك تخالف أباك.
فقال: أكتاب الله أحق أن يتبع أم عمر ؟ روينا ذلك عنه من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر.
وخفي على عبد الله بن عمر الوضوء من مس الذكر، حتى أمرته بذلك - عن النبي صلى الله عليه وسلم - بسرة بنت صفوان، فأخذ بذلك.
وخفي على ابن عباس النهي عن المتعة، وعن تحريم الحمر الاهلية، حتى أعلمه بذلك علي رضي الله عنه(2/147)
وقال ابن عباس: ألا تخافون أن يخسف الله بكم الارض، أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر، وهؤلاء الانصار نسوا قوله عليه السلام: الائمة من قريش، وقد رواه أنس.
وقد روى عبادة بن الصامت ما يدل على ذلك وما كانوا يتركون اجتهادهم إلا لامر بلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ،وهذا أبو هريرة يذكر أنهم كانوا رضوان الله عليهم تشغلهم أموالهم ومتاجرهم، وأنه هو كان يلازم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضر ما لا يحضرون، وقد ذكرنا هذا الحديث في باب الاجماع - في ديواننا هذا - في فصل ترجمته: إبطال قول من قال إن الجمهور إذا أجمعوا على قول وخالفهم واحد فإنه لا يلتفت إلى قوله فأغنى ذكرنا إياه هنالك عن ترداده ههنا.
وإذا وجدنا الصاحب تخفى عليه السنة، أو تبلغه فيتأول فيها التأويلات كما فعلوا في تحريم الخمر، فإن البخاري روى أنهم اختلفوا فمن قائل: حرمت لانها كانت تأكل العذرة، ومن قائل: لانها لم تخمس.
ومن قائل: إنه خشي فناء الظهر، وقال بعضهم: بل حينئذ حرمت البتة.
قال علي: وكل ذلك باطل إلا قول من قال: حرمت البتة، وقد جاء النص بتحريمها لعينها، ولانها رجس، روى ذلك أنس.
فلما صح كل ما ذكرنا وبطل
التقليد جملة، وجب أن يؤخذ برأي صاحب، وإن تعرى من مخالفة الخبر - فكيف إذا استضاف إلى مخالفة الخبر.
وقد كتبنا في باب إبطال التقليد من هذا الكتاب ما أفتوا به رضوان الله عليهم، فأخبر عليه السلام: أنه ليس كذلك.
قال علي: وكل ما تعلق به أهل اللواذ عن الحقائق - عند غلبة الحيرة عليهم من مثل هذا وشبهه - فهم أترك خلق الله تعالى له، وإنما تعلق بهذا أصحاب أبي حنيفة في خلافهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم : بغسل الاناء من ولوغ الكلب سبعا فقالوا: قد روي أن أبا هريرة أفتى من رأيه بأن يغسل منه ثلاثا، ثم تركوا قول أبي هريرة، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فخالفوا روايته التي لا يحل خلافها، ورأيه الذي احتجوا به، وأحدثوا دينا حديثا، فقالوا: لا يغسل إلا مرة واحدة، ونقدها هنا المالكيون أصولهم ووفقوا في ذلك فقالوا: يغسل سبعا فأخذوا برواية أبي هريرة وتركوا رأيه، وتعلقوا كلهم بذلك أيضا في حديث ابن عباس(2/148)
وعائشة في الصوم عن الميت فقالوا: قد أفتى ابن عباس وعائشة بخلاف ذلك، فتناقض المالكيون والحنفيون ههنا، فأخذوا بقول ابن عباس وعائشة وتركوا روايتهما.
وأخذ المالكيون آنفا برواية أبي هريرة، وتركوا قوله، ولا حجة للحنفيين في خلاف عائشة وابن عباس هذا الحديث، لانه إن كان تركته عائشة، فقد رواه أيضا بريدة الاسلمي، ولم يخالفه، وأما ابن عباس فالاصح عنه أنه أفتى بما رواه عنه محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وليس بالقوي، وروى سعيد بن جبير خلاف ذلك وهو أصح.
وأما تعلقهم بأن عائشة رضي الله عنها خالفت في فتياها ما روت من الامر بالصيام عن الميت، فأين هم عن طرد هذا الاصل الفاسد ؟ إذ روت عائشة رضي الله عنها أن الصلاة فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة
الحضر، وكانت هي تتم في السفر، فأخذوا بروايتها وتركوا رأيها وعملها، وإذ روت التحريم بلبن العجل، ثم كانت لا تأخذ بذلك، ولا يدخل عليها من أرضعته نساء إخوتها، ويدخل عليها من أرضعته بنات أخواتها فتركوا رأيها، وأخذوا بروايتها، وإذ روت أن كل امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فخالفت ذلك وأنكحت بنت أخيها عبد الرحمن - المنذر - ابن الزبير - وعبد الرحمن حي غائب غيبة قريبة بالشام بغير علمه ولا أمره، فأخذ المالكيون بروايتها وتركوا رأيها وعملها.
فإن قالوا: تأولت في كل هذا قلنا لهم: وهكذا تأولت في فتياها بألا يصام عن الميت، ولعل المرأة التي أفتت ألا يصام عنها كانت لا ولي لها، فلم تر عائشة رضي الله عنها أن تخرج من ظاهر الحديث الذي روت في ذلك لان نصه من مات وعليه صيام صام عنه وليه.
وهكذا فعل المالكيون فيما روي عن عمر أنه رأى للمبتوتة السكنى والنفقة،(2/149)
وبلغه حديث فاطمة بنت قيس فلم يأخذ به، فخالف المالكيون رأي عمر، وأخذوا بنصف حديث فاطمة فلم يروا للمبتوتة نفقة، فخالفوا الحديث وعمر في النصف الثاني فرأوا لها السكنى.
وعمر قد قرأ الآية كما قرؤوها.
وهكذا فعلوا في رواية ابن عباس في حديث: حد المكاتب وميراثه ودينه بمقدار ما أدى فقالوا: خالفه ابن عباس فأفتى بغير ذلك، ولا حجة لهم في هذا لان هذا الحديث قد رواه أيضا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأخذوا به وأفتي به.
فلم كان ترك ابن عباس للحديث حجة على عمل علي به ؟ وقد يحتمل ترك ابن عباس وغيره لما روي وجوها منها أن يتأول فيه تأويلا كما ذكرنا آنفا، أو يكون نسيه جملة، أو يكون نسيه حين أفتى بهذه الفتيا المخالفة له كما ذكرنا آنفا فيمن أفتى منهم بخلاف القرآن وهو ناس لما في حفظه من ذلك، أو يكون لم يكن يبلغه حين أفتى بما أفتى به ثم بلغه
الحديث بعد ذلك، فإن هذه الوجوه كلها موجودة فيما روي عنهم، فلا يحل لاحد ترك كلامه عليه السلام الفتيا جاءت عن صاحب فمن دونه مخالفة لما صح عنه عليه السلام، ولو تتبعنا ما تركوا فيه روايات الصحابة وأخذوا بفتياهم، وما تركوا فيه فتيا الصحابة وأخذوا برواياتهم، لكثر ذلك جدا، لان القوم إنما حسبهم ما نصروا به المسألة التي بين أيديهم فقط، وإن هدموا بذلك سائر مسائلهم.
وفيما ذكرنا كفاية.
وبالجملة فصرف الداخلة التي يعترضون بها على رواية الصاحب لما ترك برأيه أولى أن يكون إلى النقل - لمخالفته لذلك - منه إلى الرواية التي يلزم اتباعها.
وهذا باب قد عظم تناقضهم فيه، فهذا ابن عمر وأبو برزة هما رويا حديث: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فحملاه على تفرق الابدان، فخالفهما المالكيون والحنفيون فقالوا: التفرق بالكلام ولم يلتفوا إلى ما حمل عليه الحديث الصاحبان اللذان روياه.
وهذا علي رضي الله عنه روى: الصلاة تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم ثم روي عنه تركه وأنه أفتى بأنه إذ وقع رأسه من السجود فقد تمت صلاته فخالفه المالكيون، ورأوا التسليم فرضا لا بد منه.
وتناقضهم في الباب عظيم جدا.(2/150)
فصل في حكم العدل
قال علي: وإذ علمنا أن الراوي العدل قد أدرك من روى عنه من العدول فهو على اللقاء والسماع، لان شرط العدل القبول، والقبول يضاد تكذيبه في أن يسند إلى غيره ما لم يسمعه منه، إلا أن يقوم دليل على ذلك من فعله، وسواء قال حدثنا أو أنبأنا، أو قال عن فلان، أو قال: قال فلان، كل ذلك محمول على السماع منه ولو علمنا أن أحدا منهم يستجير التلبيس بذلك كان ساقط العدالة
في حكم الناس، وحكم العدل الذي قد تبنت عدالته فهن على الورع والصدق لا على الفسق والتهمة وسوء الظن المحرم بالنص حتى يصح خلاف ذلك، ولا خلاف في هذه الجملة بين أحد من المسلمين، وإنما تناقض من تناقض في تفريع المسائل، وبالله التوفيق.
فصل فيما ادعاه قوم من تعارض النصوص
قال علي: إذا تعارض الحديثان، أو الآيتان، أو الآية والحديث، فيما يظن من لا يعلم، ففرض على كل مسلم استعمال كل ذلك، لانه ليس بعض ذلك أولى بالاستعمال من بعض، ولا حديث بأوجب من حديث آخر مثله، ولا آية أولى بالطاعة لها من آية أخرى مثلها، وكل من عند الله عز وجل، وكل سواء في باب وجوب الطاعة والاستعمال ولا فرق.
حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي قال أنبأنا محمد بن إسحاق بن السليم، وأحمد بن عون الله، قال: حدثنا ابن الاعرابي، قال حدثنا سليمان بن الاشعث السجستاني، حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا أشعث بن شعبة، أنبأنا أرطاة بن المنذر، سمعت أبا الاحوص حكيم بن عمير يحدث عن العرباض بن سارية، أنه حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس وهو يقول: أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله تعالى لم يحرم شيئا إلا ما في القرآن ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن.
قال علي: صدق النبي صلى الله عليه وسلم هي مثل القرآن، ولا فرق في وجوب(2/151)
طاعة كل ذلك علينا.
وقد صدق الله تعالى هذا القول إذ يقول: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) * وهي أيضا مثل القرآن في أن كل ذلك من عند الله تعالى قال الله عز وجل: * (وما ينطق عن الهوى ئ إن هو إلا وحي يوحى)
قال علي: ولا خلاف بين المسلمين في أنه لا فرق بين وجوب طاعة قول الله عز وجل: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون) * وبين وجوب طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في أمره: أن يصلي المقيم الظهر أربعا، والمسافر ركعتين، وأنه ليس ما في القرآن من ذلك بأوجب ولا أثبت مما جاء من ذلك منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه وسلم ،وإن كانوا قد اختلفوا في كيفية الطريق التي بها يصح النقل فقط.
قال علي: وقد روينا في هذا الحديث من بعض الطرق: إنها لمثل القرآن وأكثر.
قال علي: ولا نكرة في هذا اللفظ لانه صلى الله عليه وسلم إنما أراد بذلك أنها أكثر عددا مما ذكر في القرآن، وهذا أمر تعلم صحته بالمشاهدة، لان الفرائض الواردة في كلامه صلى الله عليه وسلم بيانا لامر ربه تعالى أكثر من الفرائض الواردة في القرآن.
قال علي: فإذا ورد النصان كما ذكرنا، فلا يخلو ما يظن به التعارض منهما، وليس تعارضا - من أحد أربعة أوجه لا خامس لها، إما أن يكون أحدهما أقل معاني من الآخر، أو يكون أحدهما حاظرا والآخر مبيحا، أو يكون أحدهما موجبا والثاني نافيا، فواجب ههنا أن يستثنى الاقل معاني من الاكثر معاني، وذلك مثل أمره عليه السلام ألا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت، وأذن للحائض أن تنفر قبل أن تودع فوجب استثناء الحائض من جملة النافرين، وكذلك حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الرطب بالتمر مع إباحة ذلك في العرايا فيها دون خمسة أوسق، ومثل أمر الله عز وجل بقطع (يد) السارق والسارقة جملة مع قوله عليه السلام: لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا فوجب استثناء سارق أقل من ربع دينار من القطع، وبقي سارق ما عدا ذلك على وجوب القطع عليه، وكذلك تحريمه تعالى أمهات الرضاعة، مع قوله صلى الله عليه وسلم : لا تحرم الرضعة والرضعتان ونسخ العشر المحرمات بالخمس المحرمات،
فوجب استثناء ما دون الخمس رضعات من التحريم، ويبقى الخمس فصاعدا على(2/152)
التحريم، ومثل قوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولامة مع إباحته المحصنات من نساء أهل الكتاب بالزواج، فكن بذلك مستثنيات من جملة المشركات، وبقي سائر المشركات على التحريم، ومثل قوله عليه السلام: دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام مع قوله تعالى: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) وأمر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بقتل من ارتد بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا، أو شرب خمرا بعد أن حد فيها ثلاثا، وأباح قتل من سعى في الارض فسادا، وأمر بأخذ أموال معروفة في الزكوات والنفقات والكفارات، وأمر بتغيير المنكر باليد، فكان كل ذلك مستثنى من جملة تحريم الدماء والاموال والاعراض، وبقي سائرها على التحريم.
فقد أرينا في هذه المسائل استثناء الاقل معاني من الاكثر معاني، وأرينا في ذلك إباحة من حظر، وحظرا من إباحة، وحديثا من آية، وآية من حديث، وآية من آية، وحديثا من حديث، ولا نبالي في هذا الوجه كما نعلم أي النصين ورد أولا أو لم نعلم ذلك، وسواء كان الاكثر معاني ورد أولا، أو ورد آخرا كل ذلك سواء، ولا يترك واحد منهما للآخر، لكن يستعملان معا كما ذكرنا - فهذا وجه.
والوجه الثاني أن يكون أحد النصين موجبا بعض ما أوجبه النص الآخر، أو حاظرا بعض ما حظره النص الآخر، فهذا يظنه قوم تعارضا، وتحيروا في ذلك فأكثروا وخبطوا العشواء، وليس في شئ من ذلك تعارض.
وقد بينا غلطهم في هذا الكتاب في كلامنا في باب دليل الخطاب، وذلك قوله عز وجل: وبالوالدين إحسانا وقال في موضع آخر إن الله يأمر بالعدل والاحسان وقال عليه السلام إن الله كتب الاحسان على كل شئ فكان أمره
تعالى بالاحسان إلى الوالدين غيره معارض للاحسان إلى سائر الناس وإلى البهائم المتملكة والمقتولة بل هو بعضه وداخل في جملته.
ومثل نهيه عليه السلام أن يزني أحدنا بحليلة جاره مع عموم قوله تعالى: * (ولا تقربوا الزنا فليس ذكره عليه السلام امرأ ة الجار معارضا لعموم النهي عن الزنى، بل هو بعضه.
فغلط قوم في هذا الباب فظنوا قوله عليه السلام في سائمة الغنم كذا، معارضا(2/153)
لقوله في مكان آخر: في كل أربعين شاة شاة وليس كما ظنوا، بل الحديث الذي فيه ذكر السائمة هو بعض الحديث الآخر وداخل في عمومه، والزكاة واجبة في السائمة بالحديث الذي فيه ذكر السائمة وبالحديث الآخر معا والزكاة واجبة في غير السائمة بالحديث الآخر خاصة.
وكذلك غلط قوم أيضا فظنوا قوله تعالى: * (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين) * معارضا لقوله تعالى: * (وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين) * والآية الاولى بعض هذه وداخلة في جملتها كما قلنا في حديث السائمة ولا فرق.
وكذلك غلط قوم آخرون فظنوا قوله تعالى: * (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة وزينة معارضا لقوله تعالى: فكلوا مما في الارض حلالا طيبا ولقوله تعالى معارضا لقوله عز وجل حرمت عليكم الميتة والدم وليس كذلك على ما قدمنا قبل لانه ليس في شئ من النصوص التى ذكرنا نهى عمافى الاخر ليس في حديث السائمة نهى عن أن يزكى غير السائمة ولا أمر بها فحكمها مطلوب من غير حديث السائمة.
ولا في الامر بتمتيع المطلقة غير الممسوسة نهى عن تمتيع الممسوسة السائمة نهي عن أن يزكي غير السائمة، ولا أمر بها فحكمها مطلوب من غير حديث السائمة، ولا في الامر بتمتيع المطلقة غير المحسوسة نهي عن تمتيع الممسوسة،
ولا أمر به فحكمها مطلوب من موضع آخر، ولا في إخباره تعالى بأن خلق الخيل لتركب وزينة نهي عن أكلها وبيعها، ولا إباحة لهما فحكمها مطلوب من مكان آخر، ولا في تحريمه تعالى الدم المسفوح إخبارا بأن ما عدا المسفوح حلال، بل هو كله حرام بالآية الاخرى، كما قلنا إنه ليس في أمره تعالى بالاحسان إلى الآباء نهي عن الاحسان إلى غيرهم، ولا أمر به، فحكم الاحسان إلى غير الآباء مطلوب من مكان آخر، ومن فرق بين شئ من هذا الباب فقد تحكم بلا دليل وتكلم بالباطل من غير علم ولا هدى من الله تعالى.
قال علي: فهذا وجه ثان.
والوجه الثالث: أن يكون أحد النصين فيه أمر بعمل ما، معلق بكيفية ما، أو بزمان ما، أو على شخص ما، أو في مكان ما، ويكون في النص الآخر نهي عن عمل ما، بكيفية ما، أو في زمان ما، أو مكان ما، أو عدد ما،(2/154)
أو عذر ما، ويكون في كل واحد من العملين المذكورين اللذين أمر بأحدهما ونهى عن الآخر شئ ما - يمكن أن يستثنى من الآخر، وذلك بأن يكون على ما وصفنا في كل نص من النصين المذكورين حكمان فصاعدا، فيكون بعض ما ذكر في أحد النصين عاما لبعض ما ذكر في النص الآخر، ولا شئ آخر معه، ويكون الحكم الثاني الذي في النص الثاني عاما أيضا لبعض ما ذكر في هذا النص الآخر، ولا شيئا آخر معه.
قال علي: وهذا من أدق ما يمكن أن يعترض أهل العلم من تأليف النصوص وأغمضه وأصعبه، ونحن نمثل من ذلك أمثلة تعين بحول الله وقوته على فهم هذا المكان اللطيف.
وليعلم طالب العلم والحريص عليه وجه العمل في ذلك إن شاء الله عز وجل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وما وجدنا أحدا
قبلنا شغل باله في هذا المكان بالشغل الذي يستحقه هذا الباب، فإن الغلط والتناقض فيه يكثر جدا إلا من سدده الله بمنه ولطفه، لا إله إلا هو.
قال علي: فمن ذلك قول الله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) وقال عليه السلام: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم منها ففي الآية عموم الناس وإيجاب عمل خاص عليهم وهو السفر إلى مكان واحد نفسه بعينه من سائر الاماكن، وهو مكة أعزها الله، فاضبط هذا، وفي الحديث المذكور تخصيص بعض الناس وهم النساء، ونهيهن عن عمل عام وهو السفر جملة، لم يخص بذلك مكان دون مكان.
فاختلف الناس في كيفية استعمال هذين النصين.
فقالت طوائف منهم: معنى ذلك ولله على الناس حج البيت حاشا النساء اللواتي لا أزواج لهن ولا ذا محرم، فليس عليهم حج إذا سافرت إليه سفرا قدره كذا، فاستثنوا كما ترى النساء من الناس.
وقالت طوائف أخر: معنى ذلك لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم، إلا أن يكون سفرا أمرت به كالحج أو ندبت إليه كالنظر في مالها، أو ألزمته كالتغريب، فإنها تسافر إليه دون زوج ودون(2/155)
ذي محرم، فاستثنوا كما ترى الاسفار الواجبة والمندوب إليها من جملة الاسفار المباحة كلها، وأبقوا على كل سفر مباح غير واجب ولا مندوب إليه على عموم التحريم على النساء إلا مع زوج أو ذي محرم.
قال علي: لم يكن بيد كل طائفة من الطائفتين اللتين ذكرنا، إلا وصفها ترتيب مذهبها في استعمال النصين المذكورين فليس أحدهما أولى من الثاني فلا بد من طلب الدليل على صحة أحد الاستثناءين، وابتغاء البرهان على الواجب
منهما من مكان غيرهما.
قال علي: وأما نحن فإنما ملنا إلى استثناء الاسفار الواجبة والمندوب إليها من سائر الاسفار المباحة، وأوجبنا على المرأة السفر إلى الحج والعمرة الواجبتين، والتغريب، وأبحنا لها التطوع بالعمرة والحج، ومطالعة ما لها دون زوج ودون ذي محرم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب سنة ولقوله عليه السلام: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله فجاء النص كما ترى في النساء بأنه لا يحل منعهن عن المساجد، ومكة من المساجد فكان هذا النص أقل معاني من حديث النهي عن سفر النساء جملة فوجب أن يكون مستثنى منه ضرورة، وخرجنا إلى القسم الذي ذكرنا أولا، وإلا صار المانع لهن عاصيا لهذا الحديث، تاركا له بلا دليل.
قال علي: وقد احتج للاستثناء الثاني بعض القائلين به بحديث فيه أنه عليه السلام لما نهى عن أن تسافر المرأة إلا مع زوج أو ذي محرم قال له رجل من الانصار: يا رسول الله إني اكتتبت في غزوة كذا،
قال علي: وهذا وإن امرأتي خرجت حاجة فقال عليه السلام: حج مع امرأتك قال على لا لحديث حجة عليهم لانه عليه السلام لم يلزمها الرجوع، ولا أوقع عليها النهي عن الحج، ولكنه عليه السلام أمر زوجها بالحج معها، فكل زوج أبى من الحج مع امرأته فهو عاص، ولا يسقط عنها لاجل معصيته فرض الحج، هذا نص الحديث الذي احتجوا به، وليس يفهم منه غير ذلك أصلا، لان الامر في هذا الحديث متوجه إلى الزوج لا إلى المرأة.
قال علي: ومن هذا النوع أمره عليه السلام بالانصات للخطبة، وفي الصلاة،(2/156)
مع قوله تعالى: * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منهآ أو ردوها إن الله كان على كل شئ حسيبا) * الآية: فنظرنا في النصين المذكورين فوجدنا الانصات عاما لكل كلام، سلاما كان أو غيره، ووجدنا ذلك في وقت خاص وهو وقت الخطبة والصلاة، ووجدنا في النص الثاني إيجاب رد السلام وهو بعض الكلام في كل حالة على العموم.
فقال بعض العلماء: معنى ذلك أنصت إلا عن السلام الذي أمرت بإفشائه ورده في الخطبة، وقال بعضهم: رد السلام وسلم إلا أن تكون منصتا للخطبة أو في الصلاة.
قال علي: فليس أحد الاستثناءين أولى من الثاني، فلا بد من طلب الدليل من غير هذه الرتبة.
قال علي: وإنما صرنا إلى إيجاب السلام رد السلام وابتدائه في الخطبة دون الصلاة لان الصلاة قد ورد فيها نص بين بأنه عليه السلام، سلم عليه فيها فلم يرد بعد أن كان يرد، وأنه سئل عن ذلك فقال عليه السلام: إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإنه أحدث ألا تكلموا في الصلاة أو كلاما هذا معناه.
قال علي: وليس امتناع رد السلام في الصلاة موجبا ألا يرد أيضا في الخطبة، لان الخطبة ليست صلاة، ولم يلزم فيها استقبال القبلة ولا شئ مما يلزم في الصلاة، وأما الخطبة فإنا نظرنا في أمرها فوجدنا المعهود، والاصل إباحة الكلام جملة، ثم جاء النهي عن الكلام في الخطبة، وجاء الامر برد السلام واجبا وإفشائه، فكان النهي عن الكلام زيادة على معهود الاصل، وشريعة واردة قد تيقنا لزومها، وكان رد السلام وإفشاؤه أقل معاني من النهي عن الكلام فوجب استثناؤه، فصرنا بهذا الترتيب الذي ذكرناه في القسم الاول آنفا.
قال علي: ومن ذلك أمره عليه السلام: من نام عن الصلاة أو نسيها أن يصليها إذا ذكرها، ونهيه عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح، وحين استواء الشمس، فقال بعض العلماء: معناه فليصلها إذا ذكرها إلا أن يكون وقتا
منهيا عن الصلاة فيها.
وقال آخرون: معناه لا تصلوا بعد العصر، ولا بعد الصبح ولا حين استواء الشمس، إلا أن تكون صلاة نمتم عنها أو نسيتموها أو أمرتم بها ندبا أو فرضا أو تعودتموها.(2/157)
قال علي: فليس أحد الاستثناءين أولى من الثاني إلا ببرهان من غيرهما، ولكن العمل في ذلك أن يطلب البرهان على أصح العملين المذكورين من نص آخر غيرهما، فإن لم يوجد صبر إلى الاخذ بالزيادة، وبالله التوفيق.
قال علي: ومن هذا قول الله تعالى: * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) * ومع قوله تعالى لنا: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس فليس أحد النصين أولى بالاستثناء من الآخر، إلا بنص أو إجماع، لانه جائز أن يقول قائل: معناه: كنتم خير أمة أخرجت للناس إلا بني إسرائيل الذين فضلهم الله على العالمين، وجائز أن يقول قائل معناه: أني فضلتكم على العالمين إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم خير أمة أخرجت للناس، فلابد من ترجيح أحد الاستثناءين على الآخر ببرهان آخر وإلا فليس أحدهما أولى من الثاني.
قال علي: فنظرنا فوجدنا قوله تعالى: وقد قام البرهان على أنه ليس على عمومه، لان الملائكة أفضل نهم بيقين، فوقفنا على هذا، ثم نظرنا قوله تعالى كنتم خير أمة أخر للناس لم يأت نص ولا إجماع بأنه ليس على ظاهره، لان الملائكة يدخلون في العالمين، وقد خرج من عموم ذلك الجن بالنصوص في ذلك، ولا يدخلون في الامم المخرجة للناس، فلما كان هذا النص لم يأت نص آخر ولا إجماع بأنه ليس على عمومه لم يجز لاحد بأن يخصه، فإذا لم يجز تخصيصه فالفرض الحمل له على عمومه، فإذا ذلك فرض، ولابد من أن نخص
أحد ذينك النصين من الآخر، ولم يجز تخصيص هذا، فقد وجب تخصيص الآخر ولابد، إذ لا بد من تخصيص أحدهما، وهذا برهان ضروري صحيح من الخبر الثابت: بأن مثلنا مع من قبلنا كمن أجر أجراء فعملوا إلى نصف النهار بقيراط قيراط، ثم أجر آخرين فعملوا إلى العصر بقيراط قيراط، ثم أجر آخرين فعملوا إلى الليل بقيراطين قيراطين قال عليه السلام: فأنتم أقل عملا وأكثر أجرا وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: ونقول قطعا إنه لا بد ضرورة في كل ما كان هكذا، من دليل قائم بين البرهان على الصحيح من الاستثناءين والحق من الاستعمالين، لان الله تعالى قد تكفل بحفظ دينه فلو لم يكن ههنا دليل لائح، وبرهان واضح لكان ضمان الله(2/158)
تعالى خائسا، وهذا كفر ممن أجازه، فصح أنه لا بد من وجوده لمن يسره الله تعالى لفهمه، وبالله تعالى التوفيق.
والوجه الرابع: أن يكون أحد النصين حاظرا لما أبيح في النص الآخر بأسره أي يكون أحدهما موجبا والآخر مسقطا لما وجب في هذا النص بأسره.
قال علي: فالواجب في هذا النوع أن ننظر إلى النص الموافق لما كنا عليه لو لم يرد واحد منهما فنتركه ونأخذ بالآخر، لا يجوز غير هذا أصلا وبرهان ذلك أننا على يقين من أننا قد كنا على ما في ذلك الحديث الموافق لمعهود الاصل، ثم لزمنا يقينا للعمل بالامر الوارد بخلاف ما كنا عليه بلا شك فقد صح عندنا يقينا إخراجنا عما كنا عليه، ثم لم يصح عندنا نسخ ذلك الامر الزائد الوارد بخلاف معهود الاصل، ولا يجوز لنا أن نترك يقينا بشك، ولا أن نخالف الحقيقة للظن، وقد نهى الله تعالى عن ذلك فقال: * (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) * وقال: * (وإن تطع أكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) * وقال تعالى ذاما لقوم قالوا حاكمين بظنهم: * (وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) * وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : فإن الظن أكذب الحديث.
ولا يحل أن يقال فيما صح وورد الامر به هذا منسوخ إلا بيقين، ولا يحل أن يترك أمر قد تيقن وروده خوفا أن يكون منسوخا، ولا أن يقول قائل: لعله منسوخ، وكيف ونحن على يقين مقطوع به من أن المخالف لمعهود الاصل هو الناسخ بلا شك ولا مرية عند الله تعالى، برهان ذلك ما قد ذكرناه آنفا من ضمان الله تعالى حفظ الشريعة والذكر المنزل، فلو جاز أن يكون ناسخ من الدين مشكلا بمنسوخ، حتى لا يدرى الناسخ من المنسوخ أصلا، لكان الدين غير محفوظ، والذكر مضيعا قد تلفت الحامق فيه، وحاش لله من هذا وقد صح بيقين لا إشكال فيه، نسخ الموافق لمعهود الاصل من النصين الناقل عن تلك الحال إذ ورد ذلك النص، فهذا يقين الذي أمر الله تعالى به وأقره، وأقام الحجة به وأثبت البرهان وجوبه، ومدعي خلاف هذا كاذب مقطوع بكذبه إذ لا برهان له على دعواه، إلا الظن، والله تعالى يقول قل هاتوا برهانكم إن: كنتم صادقين فصح أن من لا برهان له على صحة قوله فليس صادقا فيه أصلا،(2/159)
وصح النص أن جميع دين الله تعالى، فإن البرهان قائم ظاهر فيه، وحرم القول بما عدا هذا، لانه ظن من قائله بإقراره على نفسه، وقد حرم الله تعالى القول بالظن، وأخبر أنه خلاف الحق، وأنه أكذب الحديث، فوجب القطع على كذب الظن في الدين كله.
وهذا أيضا برهان واضح في إبطال القول بالقياس، والتعليل والاستحسان فجميع المسائل الجزئيات إلى الشريعة، وفي جملة القول بكل ذلك، لان القول بكل ذلك ظن من قائله بلا شك، وبالله تعالى التوفيق.
ومن ذلك الحديث الوارد: في ألا يغتسل من الاكسال والحديث
الوارد في الغسل منه، فإن ترك الغسل منه موافق لمعهود الاصل، إذ الاصل أن لا غسل على أحد إلا أن يأمره الله تعالى بذلك، فلما جاء الامر بالغسل وإن لم ينزل، علمنا يقينا أن هذا الامر قد لزمنا، وأنه للحكم الاول بلا شك، ثم لا ندري، أنسخ بالحديث الذي فيه أن لا غسل على من أكسل أم لا، فلم يسعنا ترك ما أيقنا أننا أمرنا به إلا بيقين، ومن ذلك أمره عليه السلام ألا يشرب أحد قائما، وجاء حديث بأنه عليه السلام شرب قائما، فقلنا نحن على يقين من أنه كان الاصل أن يشرب كل أحد كما شاء من قيام أو قعود أو اضطجاع، ثم جاء النهي عن الشرب قائما، بلا شك، فكان مانعا مما كنا عليه من الاباحة السالفة.
ثم لا ندري أنسخ ذلك بالحديث الذي فيه إباحة الشرب قائما أم لا ؟ فلم يحل لاحد ترك ما قد تيقن أنه أمر به خوفا أن يكون منسوخا.
قال علي: فإن صح النسخ بيقين صرنا إليه، ولم نبال زائدا كان على معهود الاصل أم موافقا له، كما فعلنا في الوضوء مما مست النار، فإنه لولا أنه روى جابر: أنه كان آخر الامرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار لاوجبنا الوضوء من كل ما مست النار، ولكن لما صح أنه منسوخ تركناه، وكذلك فعلنا في حديث أبي هريرة: من أدركه الصبح جنبا فقد أفطر لانه علمنا أنه موافق للحكم المنسوخ من ألا يأكل أحد ولا يشرب، ولا يطأ بعد أن ينام(2/160)
فنسخ ذلك بالاباحة بيقين، فصرنا إلى الناسخ.
وكذلك أخذنا بالحديث الذي فيه إيجاب الوضوء من مس الفرج، لانه زائد على ما في حديث طلق من إسقاط الوضوء منه، لان حديث طلق موافق لمعهود الاصل.
وأما من تناقض فأخذ مرة بحديث قد ترك مثله في مكان آخر، وأخذ بضده فذو بنيان هار يوشك أن ينهار به في مخالفة ربه عز وجل في قوله تعالى يحلونه
عاما ويحرمو نه عاما
قال علي: وإن أمدنا الله بعمر، وأيدنا بعون من عنده فسنجمع في النصوص التي ظاهرها التعارض كتبا كافية من غيرها إن شاء الله تعالى، ولا حول ولا قوة إلا به، فهذه الوجوه التي فيها بعض الغموض قد بيناها بتوفيق الله عز وجل، لا إله إلا هو.
قال علي: وها هنا وجه خامس، ظنه أهل الجهل تعارضا ولا تعارض فيه أصلا ولا إشكال، وذلك ورود حديث بحكم ما، في وجه ما وورود حديث آخر بحكم آخر في ذلك الوجه بعينه، فظنه قوم تعارضا وليس كذلك، ولكنهما جميعا مقبولان ومأخوذ بهما، ونحو ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق ابن مسعود: بالتطبيق في الركوع، وروي من طريق أبي حميد الاكف على الركب فهذا لا تعارض فيه، وكلا الامرين جائز، أي ذلك فعله المرء حسن.
قال علي: إلا أن يأتي أمر بأحد الوجهين فيكون حينئذ مانعا من الوجه الآخر، وقد جاء الامر بوضع الاكف على الركب، فصار مانعا من التطبيق على ما بينا من أخذ الزائد المتيقن في حال وروده، ومنعه ما كان مباحا قبل ذلك، وقد وجدنا أمرا ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاخذ بالركب، فخرج عن هذا الباب، وصح أن التطبيق منسوخ بيقين على ما جاء عن سعد إنا كنا نفعله ثم نهينا عنه، وأمرنا بالركب لكن من هذا الباب اغتساله صلى الله عليه وسلم بين وطئه المرأتين من نسائه رضي الله عنهن، وتركه الاغتسال بينهما حتى يغتسل من آخرهن غسلا واحدا.
فهذا كله مباح، وهذا إنما هو في الافعال منه عليه السلام لا في الاوامر المتدافعة، ومثل ذلك ما روي عن نهيه عليه السلام عن الجمع بين المرأة وعمتها(2/161)
، والمرأة وخالتها، مع قوله تعالى، وقد ذكر ما حرم من النساء.
ثم قال تعالى
وأجل لكم ما وراء ذلكم فكان نهي النبي صلى الله عليه وسلم مضافا إلى ما نهى الله عنه في هذه الآية المذكورة، ومثل ما حرم الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من لحوم الحمر والسباع وذوات المخالب من الطير، مع قوله تعالى: * (قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم) * الآية.
فكان ما حرمه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم مضافا إلى ما في هذه الآية ومضموما معه، وكذلك ما روي عن مسحه عليه السلام برأسه ثلاثا واثنتين وواحدة، وعلى ناصيته وعمامته، وعلى عمامته فقط كل ذلك مضموم بعضه إلى بعض، وشرائع لازمة كلها، وقد سقط ههنا قوم أساؤوا النظر جدا، فقالوا: إن ذكر بعض ما قلنا في نص ما، وعدمه في نص آخر، دليل على سقوطه.
قال علي: وهذا إقدام عظيم، وإسقاط لجميع الشرائع، ويجب عليهم من هذا أن كل شريعة لم تذكر في كل آية وفي كل حديث هي ساقطة وهذا كفر مجرد، لانه لا فرق بين من قال لما قال الله تعالى: وأشهدوا إذا تبايعتم ولم يذكر الافتراق وقال عليه السلام: إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع أو يترادان فلم يذكر الافتراق، دل ذلك على سقوط حكم الافتراق، وعلى تمام البيع دونه، فلا فرق بين هذا الكلام وبين من قال لما لم يذكر الله تعالى ورسوله عليه السلام في الآية المذكورة النهي عن بيع الغرر، وعن الملامسة والمنابذة، وعن بيع الخمر والخنازير، وجب أن يكون كل ذلك مباحا، ولما لم يذكر الله تعالى في قوله: قل لا أجد فيما أو حى إلى محرما على طاعم يطعمه الآية.
إن العذرة حرام، وإن الخمر حرام، وجب أن يكون حلالا، وهذا الكلام مع أنه كفر فهو ساقط جدا، لانه لا يلزم تكرير كل شريعة في كل حديث، ولو لزم ذلك لبطلت جميع شرائع الدين أولها عن آخرها، لانها غير مذكورة في كل آية ولا في كل حديث.
قال علي: ويبين صحة ما قلنا - من أنه لا تعارض بين شئ من نصوص القرآن
ونصوص كلام النبي صلى الله عليه وسلم وما نقل من أفعاله - قول الله عز وجل مخبرا عن رسوله عليه السلام: * (وما ينطق عن الهوى ئ إن هو إلا وحي يوحى) * وقوله تعالى: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وقال تعالى ولو كان من عند غير الله(2/162)
لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * فأخبر عز وجل أن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم وحي من عنده، كالقرآن في أنه وحي، وفي أنه كل من عند الله عز وجل، وأخبرنا تعالى أنه راض عن أفعال نبيه صلى الله عليه وسلم ،وأنه موفق لمراد ربه تعالى فيها لترغيبه عز وجل في الائتساء به عليه السلام، فلما صح أن كل ذلك من عند الله تعالى، ووجدناه تعالى قد أخبرنا أنه لا اختلاف فيما كان من عنده تعالى - صح أنه لا تعارض ولا اختلاف في شئ من القرآن والحديث الصحيح، وأنه كله متفق كما قلنا ضرورة، وبطل مذهب من أراد ضرب الحديث بعضه ببعض، أو ضرب الحديث بالقرآن، وصح أن ليس شئ من كل ذلك مخالفا لسائره، علمه من علمه، وجهله من جهله، إلا أن الذي ذكرنا من العمل هو القائم في بديهة العقل الذي يقود إليه مفهوم اللغة التي خوطبنا بها في القرآن والحديث، وبالله تعالى التوفيق، وكل ذلك كلفظة واحدة وخبر واحد موصول بعضه ببعض، ومضاف بعضه إلى بعض، ومبني بعضه على بعض، إما بعطف وإما باستثناء، وهذان الوجهان - نعني العطف والاستثناء - يوجبان الاخذ بالزائد أبدا.
وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم - في حلة عطارد - إذ قال لعمر رضي الله عنه: إنما يلبس هذه من لا خلاق له ثم بعث إلى عمر حلة سيراء فأتاه عمر فقال: يا رسول الله أبعثت إلي هذه، وقد قلت في حلة عطارد ما قلت ؟ فقال عليه السلام: إني لم أبعثها إليك لتلبسها وفي بعض الاحاديث: إنما بعثتها إليك لتصيب بها حاجتك أو كلاما هذا معناه.
ففي هذا الحديث تعليم عظيم لاستعمال الاحاديث والنصوص والاخذ بها كلها، لانه صلى الله عليه وسلم أباح ملك الحلة من الحرير وبيعها وهبتها وكسوتها النساء، وأمر عمر أن يستثني من ذلك اللباس المذكور في حديث النهي فقط، وأن لا يتعدى ما أمر إلى غيره، وألا تعارض بين أحكامه عليه السلام
قال علي: وفي هذا الحديث إبطال القياس، لان عمر رضي بين أحكامه عليه السلام الله عنه أراد أن يحمل الحكم الوارد في النهي عن اللباس على سائر وجوه الانتفاع به، فأخبره(2/163)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك باطل، وفيه أيضا أن حكمه عليه السلام في عين ما حكم على جميع نوع تلك العين، لانه إنما وقع الكلام على حلة سيراء كان يبيعها عطارد، ثم أخبر عليه السلام أن ذلك حكم جار في كل حلة حرير.
وأخبر أن ذلك الحكم لا يتعدى إلى غير نوع اللباس، وهذا هو نص قولنا في عموم الحكم وإبطال القياس.
قال علي: وقد استعمل قوم بعض الوجوه الذي ذكرنا في غير موضعه، ونحن نوقف على ذلك ونرى منه طرفا ليتنبه الطالب للعلم على سائره إذا ما ورد عليه إن شاء الله عز وجل، وما توفيقي إلا بالله.
وذلك أننا قد قلنا باستعمال الحديثين إذا كان أحدهما أقل معاني من الآخر، بأن يستثنى الاقل من الاكثر، فيستعمل الاقل معاني على عمومه، ويستعمل الاكثر معاني - حاشا ما أخرجنا منه بالاستثناء المذكور - على ما بينا قبل - فورد حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيه النهي عن استقبال القبلة واستدبارها لبول أو غائط، وورد حديث عن ابن عمر أنه أشرف على سطح فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا لحاجته على لبنتين وهو مستدبر القبلة.
قال علي: فقال قوم: نستبيح استدبار القبلة واستقبالها في البنيان، ونمنع
منه في الصحارى.
قال علي: وأخطؤوا من وجهين: أحدهما، تحكمهم في الفرق بين البنيان وغيره وليس في شئ من الحديثين نص ولا دليل على ذلك، بل وجدنا أبا أيوب الانصاري - وهو بعض رواة حديث النهي - قد أنكر ذلك في البيوت، فلو عكس عاكس فقال: بل يستباح ذلك في الصحارى ولا يستباح في البنيان، هل كان يكون بينهم وبينه فرق ؟ ومثل هذا في دين الله تعالى لا يستسله ولا يتمادى عليه - بعد أن يوقف عليه - ذو ورع، لقوله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) * مع آيات كثيرة تزجر عن ذلك وليس في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بنيان، بل قد وصفت عائشة(2/164)
رضي الله عنها أنهم كانوا يأنفون من اتخاذ الكنف في البيوت، وأنهم كانوا يتبرزون خارج المنازل، والرواية الصحيحة أنه عليه السلام كان إذا أراد أن يتبرز أبعد، وليس لاحد أن يقول: إن ابن عمر إذا أشرف من السطح رآه في بنيان إلا كان متكهنا فهذا وجه.
والوجه الثاني: أنه حتى لو صح أنه عليه السلام كان في بنيان فليس في ذلك الحديث إلا الاستدبار وحده، فبأي شئ استحلوا استقبال القبلة بالغائط، ولا نص عندهم فيه ؟ وليس إذا نسخ أو خص بعض ما ذكر في الحديث وجب أن ينسخ أو يترك سائره، فإن قالوا: بل يترك سائره كانوا متحكمين في الدين، ومسقطين لشرائع الله تعالى بلا دليل، وسنستوعب الكلام في هذا الفصل في باب الخصوص أو النسخ من كتابنا هذا إن شاء الله عز وجل.
ولزمهم أيضا أن يقولوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى عن مهر البغي وحلوان الكاهن وثمن الكلب وكسب الحجام، ثم أباح كسب الحجام، أن يستباح حلوان الكاهن ومهر البغي وثمن الكلب،لان كل ذلك مذكور في حديث واحد، وإلا كانوا متناقضين.
قال علي: ووجه العمل في هذين الحديثين، هو الاخذ بالزائد، وقد كان الاصل بلا شك أن يجلس كل أحد لحاجته كما يشاء، فحديث ابن عمر موافق لما كان الناس عليه قبل ورود النهي، ثم صار ذلك النهي رافعا لتلك الاباحة بيقين، ولا يقين عندنا أنسخ شئ من ذلك النهي أم لا ؟ فحرام أن نترك يقينا لشك، وأن نخالف حقيقة لظن، وليس لاحد أن يقول: إن حديث ابن عمر متأخر، إلا لكان لغيره، أن يقول بل حديث النهي هو المتأخر، لانه قد رواه سليمان، وإسلامه في سنة الخندق، وأبو هريرة وإسلامه بعد انقضاء فتح خيبر، إلا أن النهي شريعة واردة رافعة لما كان الناس عليه من إباحة ذلك بيقين، ولا يقين عندنا في أن الاباحة عادت بعد ارتفاعها، ولو صح أن حديث ابن عمر كان متأخرا ما كان فيه إلا رفع النهي عن استدبار القبلة فقط، وليبق استقبالها على التحريم.(2/165)
فصل في تمام الكلام في تعارض النصوص
قال علي: وذهب بعض أصحابنا إلى ترك الحديثين إذا كان أحدهما حاظرا والآخر مبيحا، أو كان أحدهما موجبا والآخر مسقطا.
قال: فيرجع حينئذ إلى ما كنا نكون عليه لو لم يرد ذانك الحديثان.
قال علي: وهذا خطأ من جهات، أحدها: أننا قد أيقنا أن الاحاديث لا تتعارض لما قد قدمنا من قوله تعالى: * (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * مع إخباره تعالى أن كل ما قال نبيه صلى الله عليه وسلم فإنه وحي فبطل أن يكون في شئ من النصوص تعارض أصلا، وإذا بطل التعارض فقد بطل الحكم الذي يوجبه التعارض، إذ كل شئ بطل سببه فالمسبب من السبب
الباطل باطل بضرورة الحس والمشاهدة.
والثاني: أنهم يتركون كلا الخبرين والحق في أحدهما بلا شك، فإذا تركوهما جميعا فقد تركوا الحق يقينا في أحدهما، ولا يحل لاحد أن يترك الحق اليقين أصلا.
والثالث: أنهم لا يفعلون ذلك في الآيتين اللتين إحداهما حاظرة والاخرى مبيحة، أو إحداهما موجبة والثانية نافية، بل يأخذون بالحكم الزائد ويستثنون الاقل من الاكثر، وقد بينا فيما سلف أنه لا فرق بين وجوب ما جاء في القرآن، وبين وجوب ما جاء في كلام النبي صلى الله عليه وسلم .
قال علي: كان حجتهم في ذلك أن قالوا إن أحد الخبرين ناسخ بلا شك، ولسنا نعلمه بعينه، فلما نعلمه لم يجز لنا أن نقدم عليه بغير علم فيدخل في قوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم الآية.
قال علي: وهذه الحجة فاسدة من وجهين، أحدهما: أنه يلزمهم مثل ذلك الآيتين وهم لا يفعلون ذلك.
والوجه الثاني: أنه لا يجوز أن يقال في خبر ولا آية: إن هذا منسوخ إلا بيقين.
قال علي: ويكفي من بطلان هذا الذي احتجوا به أننا على يقين من أن الحكم الزائد على معهود الاصل رافع لما كان الناس عليه قبل وروده، فهو الناسخ بلا شك، ونحن على شك من هل نسخ ذلك الحكم بحكم آخر يردنا إلى ما كنا عليه أو لا ؟(2/166)
فحرام ترك اليقين للشكوك.
وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: وقد اضطرب خاطر أبي بكر محمد بن داود رحمه الله إلى ما ذهبنا إليه إلا أنه رحمه الله اخترم قبل إنعام النظر في ذلك، وذلك أنه قال في كتاب الوصول والعمل في الخبرين المتعارضين كالعمل في الآيتين ولا فرق.
قال علي: وقال بعض أهل القياس: نأخذ بأشبه الخبرين بالكتاب والسنة.
قال علي: وهذا باطل، لانه ليس الذي ردوا إليه حكم هذين الخبرين أولى بأن يأخذ به من الخبرين المردودين إليه، بل النصوص كلها سواء في وجوب الاخذ بها، والطاعة لها، فإذ قد صح ذلك بيقين، فما الذي جعل بعضها مردودا وبعضها مردودا إليه، وما الذي أوجب أن يكون بعضها أصلا وبعضها فرعا، وبعضها حاكما وبعضها محكوما فيه ؟ فإن قال: الاختلاف الواقع في هذين هو الذي حط درجتهما إلى أن يعرضا على غيرهما.
قال علي: وهذه دعوى مفتقرة إلى برهان، لانه ليس الاختلاف موجبا لكونهما معروضين على غيرهما، لان الاختلاف باطل، فظنهم أنه اختلاف ظن فاسد يكذبه قول الله عز وجل: * (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * فإذ قد أبطل الله تعالى الاختلاف الذي جعلوه سببا لعرض الحديثين على سنة أخرى أو آية أخرى، فقد وجب ضرورة أن يبطل مسببه الذي هو العرض، وهذا برهان ضروري، وبالله تعالى التوفيق
قال علي: وإذا كانت النصوص كلها سواء في باب وجوب الاخذ بها، فلا يجوز تقوية أحدها بالآخر، وإنما ذلك من باب طيب النفس، وهذا هو الاستحسان الباطل وقد أنكره بعضهم على بعض.
قال علي: وقد رجح بعض أصحاب القياس أحد الخبرين على الآخر بترجيحات فاسدة، نذكرها إن شاء الله تعالى، ونبين غلطهم فيها بحول الله تعالى وقوته.
فمن ذلك أن قالوا: إن كان أحد الخبرين معمولا به
قال علي: وهذا غير باطل لما نذكره إن شاء الله تعالى بعد هذا - في فصل فيه إبطال قوم من احتج بعمل أهل المدينة - إلا أننا نقول ها هنا جملة: لا يخلو الخبر(2/167)
قبل أن يعمل به من أن يكون حقا واجبا أو باطلا، فإن كان حقا واجبا
لم يزده العمل به قوة، لانه لا يمكن أن يكون حق أحق من حق آخر في أنه حق، وإن كان باطلا فالباطل لا يحققه أن يعمل به.
قال علي: واحتج بعضهم في وجوب ترجيح أحد الخبرين على الآخر.
فقال: كما نرجح إحدى البينتين على الاخرى إذا تعارضتا مرة بالقرعة ومرة باليد.
قال علي: وهذا هو عكس الخطأ على الخطأ ولسنا نساعدهم على ترجيح بينة على أخرى لا بيد ولا بقرعة، لان ذلك لم يوجبه نص ولا إجماع.
وأيضا: فحتى لو صح ترجيح إحدى البينتين على الاخرى لما جاز ذلك في الحديثين، لان هذا قياس والقياس باطل، وأيضا فحتى لو صح ترجيح إحدى البينتين على الاخرى وكان القياس حقا، لكان ترجيح الحديثين أحدهما على الآخر لا يجوز لان الاختلاف في الحديثين باطل، والتعارض عنهما منفي بما ذكرنا من قوله تعالى ولو كان من عند غير الله لو جدوا فيه اختلافا كثيرا وبإخبار تعالى أن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم وحي كله، وأما البينتان فالتعارض فيهما موجود، والاختلاف فيهما ممكن
قال علي: وقالوا إن كان أحد الخبرين حاظرا والآخر مبيحا فإنما نأخذ بالحاظر وندع المبيح.
قال علي: وهذا خطأ لانه تحكم بلا برهان، ولو عكس عاكس فقال: بل نأخذ بالمبيح لقوله تعالى: وما جعل عليكم في الدين من حرج ولقوله تعالى يديد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولقوله تعالى: يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا) * أما كان يكون قوله أقوى من قولهم ؟ ولكنا لا نقول ذلك، بل نقول: إن كل أمر من الله تعالى لنا فهو يسر، وهو رفع الحرج، وهو التخفيف، ولا يسر ولا تخفيف ولا رفع حرج أعظم من شئ أدى إلى الجنة ونجى من جهنم، وسواء كان حظرا أو إباحة، ولو أنه قتل الانفس والابناء والآباء
قال علي: ويبطل ما قالوا أيضا بقوله عليه السلام: إذا نهيتكم عن شئ
فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم.
قال علي: فأوجب عليه السلام من الفعل ما انتهت إليه الطاقة، ولم يفسح في(2/168)
ترك شئ منه إلا ما خرج عن الاستطاعة، ووقع العجز عنه فقط، وقد ظن قوم أن هذا الحديث مؤكد للنهي عن الامر.
قال علي: وهذا ظن فاسد لان الاجتناب ترك، والترك لا يعجز عنه أحد، وأما العمل فهو حركة لهكلفة أو إمساك عما تقتضيه الطبيعة من الاكل والشرب، وفي ذلك تكلف، وربما يعجز المرء عن كثير منه، فكلفنا من ذلك كل ما انتهى إليه الوسع، ولم يسقط عنا منه شئ إلا لم يكن بنا طاقة على فعله، هذا نص الحديث لمن تأمله ولم يحله عن مفهوم لفظه، فصح بذلك التسوية بين الامر والنهي، وإيجاب الطاعة للحظر والاباحة على السواء، فليس الحاظر بأوكد من المبيح، ولا المبيح بأوكد من الحاظر.
قال علي: وقالوا: نرجح أيضا بأن يكون راوي أحد الخبرين أضبط وأتقن.
قال علي: هذا أيضا خطأ بما قد أبطلنا - فيما سلف من هذا الباب - قول من رام ترجيح الخبر بأن فلانا أعدل من فلان، فأغنى ذلك عن إعادته، ولكنا نقول ههنا: إن هذا الذي الذي قالوا دعوى لا برهان عليها من نص ولا إجماع وما كان كذلك فهو ساقط.
قال علي: وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون رواه جماعة، وروى الآخر واحد.
قال علي: وقد أبطلنا هذا - فيما سلف من هذا الباب - بأن القائلين بذلك قد تركوا ظاهر القرآن الذي نقله أهل الارض كلهم لخبر نقله واحد، ومثلنا ذلك بتحريمهم الجمع بين المرأة وعمتها، وقطعهم السارق في ربع دينار ولا يقطعونه
في أقل، ويرجمون المحصن ومثل هذا كثير، وبينا فيما خلا أن خبر الواحد وخبر الجماعة سواء في باب وجوب العمل بهما، وفي القطع بأنهما حق ولا فرق.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قصد به بيان الحكم، والآخر لم يقصد به الحكم، ومثلوا ذلك بالنهي عن جلود السباع مع قوله عليه السلام: إذا دبغ الاهاب فقد طهر.
قال علي: أما هذا الترجيح فصحيح، لان الحديث إذا لم يقصد به بيان الحكم فلا إشكال فيه في أنه خلاف الذي قصد به بيان الحكم، وأما الحديثان(2/169)
اللذان ذكروا فليسا واقعين تحت هذه الجملة التي ذكروا، بل كل واحد من الحديثين المذكورين فهو مقصود به بيان الحكم والتنظير الصحيح ههنا هو مثل أمره صلى الله عليه وسلم ،بأن يكفن المحرم إذا مات في ثوبيه، وألا يمس طيبا ولا يغطي وجهه ولا رأسه، فهذا قصد به بيان حكم العمل في تكفين المحرم، فهو أولى من منع من ذلك بما روي من قوله صلى الله عليه وسلم : إذا مات الانسان انقطع عمله إلا من ثلاث لان هذا الحديث لم يقصد به بيان حكم عملنا نحن فيمن مات من محرم أو غيره، وأيضا فحديث النهي عن جلود السباع لا يصح، ولو صح لكانت إذ دبغت جلودها يجب أن تستثنى من سائر الجلود السبعية التي لم تدبغ، لان المدبوغة منها أقل من غير المدبوغة.
وقالوا: ونرجح أحد الخبرين بأن يكون راوي أحدهما باشر الامر الذي حدث به بنفسه وراوي الآخر لم يباشره، فتكون رواية من باشر أولى، ومثلوا ذلك بالرواية عن ميمونة: نكحني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان.
وبالرواية عن ابن عباس: نكح رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم.
قال علي: وهذا ترجيح صحيح، لانا قد تيقنا أن من لم يحضر الخبر إنما نقله
غيره، ولا ندري عمن نقله، ولا تقوم الحجة بمجهول، ولا شك في أن كل أحد أعلم بما شاهد من أمر نفسه.
قال علي: إلا أن قائل هذا قد نسي نفسه فتناقض، وهدم ما بنى في قوله نرجح الخبر بأن يكون راويه أضبط وأتقن، وتركوا ذلك في هذا المكان، وقد قال الاكابر من أصحاب ابن عباس رحمة الله عليه - إذ حدثوا بحديث ميمونة المذكور وإنما رواه عنها يزيد بن الاصم - فقالوا: كلا لا نترك حديثا حدثناه البحر عبد الله بن العباس لحديث رواه أعرابي بوال على عقبيه.
قال علي: فإن كان كون أحد الرواة أعدل واجبا أن نترك له رواية من دونه في العدالة، فليتركوا ها هنا رواية يزيد بن الاصم لرواية ابن عباس، فلا خلاف عند من له أدنى مسكة عقل أن البون بين ابن عباس وبين يزيد بن الاصم، كما بين(2/170)
السماء والارض، وإن كان لا معنى لذلك، فلا ترجحوا بكون أحد الراويين أعدل.
قال أبو محمد: ونسوا أنفسهم أيضا، فتركوا ما رجحوا به ها هنا من تغليب رواية من باشر على رواية من لم يباشر، في قول أنس: أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وركبتي تمس ركبته وأنا إلى جنبه رديف لابي طلحة، وهو عليه السلام يقول: لبيك عمرة وحجا، لبيك عمرة وحجا وفي قول البراء بن عازب إذ يقول: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كيفية حجه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني سقت الهدي وقرنت.
وفي قول حفصة أم المؤمنين له: لم تحل من عمرتك، فصدقها النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وبين عليها لم فعل ذلك، فتركوا ما سمع أنس بن مالك من لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه، لكلام عن عائشة لم تدع أنها سمعته، وقد اضطرب عنها أيضا فيه، فروي عنها مثل ما قال أنس والبراء وحفصة رضي الله عن جميعهم، ولكلام عن جابر
لم يدع أنه سمعه، وهو مع ذلك أيضا يحتمل التأويل، وقد اضطرب عنه أيضا في ذلك ولا شك عند ذي عقل أنه عليه السلام أعلم بأمر نفسه من جابر وعائشة، وأن أنسا والبراء وحفصة - الذين ذكروا أنهم سمعوا من لفظه صلى الله عليه وسلم ذلك، وباشروه يقول ذلك - أيقن من جابر فيما لم يدع أنه سمعه، ولكن هكذا يكون من اعتقد قولا قبل أن يعتقد برهانه: * (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) *.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قولا لم يختلف فيه، والآخر فعلا مختلفا فيه، ومثلوا ذلك برواية عثمان رضي الله عنه: لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب، وبالرواية في نكاح ميمونة مرة بأنه عليه السلام كان حلالا، ومرة بأنه عليه السلام كان محرما.
قال علي: وهذا لا معنى له، لان العدل إذا روى شيئا قد بينا أنه لا يبطله خلاف من خالفه، ولا كثرة من خالفه، وليس العمل في الاخبار كدراهم قمار تلقى درهم بدرهم ويبقى الفضل للغالب، لكن خبر واحد يستثنى منه أخبار كثيرة،(2/171)
ويستثنى هو من أخبار كثيرة، أو يؤخذ به إذا كان زائدا عليها، أو يؤخذ بها إن كانت زائدة عليه.
لان قائلها كلها وقائل ذلك واحد، أو فاعلها وفاعله، أو قائلها وفاعله، أو فاعلها وقائله واحد - وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن واحد هو الله عز وجل، وليس تكرار قوله بموجب منه ما لم يكن يجب لولا تكراره، وتركه تكرار ما لم يكرر لا يخرج ما لم يكرر عن وجوب الطاعة له، وإذا قال القول مرة واحدة فقد لزم فرضا كما لو كرره ألف مرة ولا مزيد، وإذا فعل الفعل مرة واحدة فالفضل في الائتساء به عليه السلام فيه، كما لو فعله ألف مرة ولا مزيد ولا فرق.
ولم يخص الله تعالى إذا أمرنا بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما كرر دون ما لم يكرر، بل ألزمنا الطاعة لامره، وأمره مرة يسمى أمرا كما لو كرره ألف مرة، كل ذلك يقع عليه اسم أمر، ولا خص لنا تعالى إذا حضنا على الائتساء بنبيه صلى الله عليه وسلم ما فعله مرات دون ما فعله مرة، ولا ما فعله مرة دون ما فعله مرات، بل إذا فعل عليه السلام الفعل مرة فقد وقع عليه اسم أنه فعله ألف ألف مرة، كل ذلك يقع عليه اسم فعل، ومن قال غير هذا فقد تعدى حدود الله عز وجل، وشرع ما لم يأذن به الله عز وجل، وقفا ما لا علم له به، واستحق اسم الظلم والوعيد وبالله تعالى نعتصم.
ونسأل أيضا من أتى بهذا الهوس فنقول له: إذا سقط عندك ما صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله مرة ثم لم يفعله بعدها، ولا نهى عنه بأنه لم يعد إليه، فما تقول فيما صح أنه عليه السلام فعله مرتين، ثم لم يعد إليه ولا نهى عنه ؟ فإن تركه من أجل ترك العود، سألناه عما فعله ثلاث مرات ثم لم يعد إليه ولا نزال نزيده مرة بعد مرة حتى يبدو سخف قوله إلى قول إلى كل ذي فهم، أو يترك قوله الفاسد ويرجع إلى الحق.
قال علي: وإنما أخذنا بالمنع من نكاح المحرم برواية عثمان رضي الله عنه لانها زائدة على معهود الاصل، لان الاصل إباحة النكاح على كل حال بقوله فانكحوا ما طاب لكم من النساء فجا النهي من طريق عثمان من أن ينكح المحرم فتيقنا ارتفاع الحالة الاولى بلا شك، واستثنينا النهي حالة الاحرام عن النكاح من جملة العموم بإباحة النكاح، وشككنا هل نسخ هذا النهي بعد وجوبه أو لا ؟ فلم يجز لاحد(2/172)
ترك ما أيقن وجوبه بظن لم يصح، فصح يقينا لا مرية فيه أن حكم حديث ابن عباس في نكاح ميمونة قد نسخ وبطل بلا شك، ومن ادعى عود المنسوخ وبطلان الناسخ فقد كذب وأفك.
ثم حتى لو شككنا هل نسخ هذا النهي بعد وجوبه أو لا ؟ لم يجز لاحد ترك ما أيقن وجوبه بظن ولم يصح، وحتى ولو صح قول ابن عباس أنه نكحها وهو محرم - دون أن تخبر ميمونة رضوان الله عليها بخلاف ذلك، بل لو وافقته ميمونة على أنه عليه السلام نكحها وهو محرم - لما وجب بذلك ترك ما قد تيقناه من النهي عن نكاح المحرم الناسخ للاباحة المتقدمة لامر لا ندري أقبله كان أم بعده، وترك اليقين للشك وتغليب الظن على الحقيقة باطل وحرام لا يحل وهذا ما لا يخيل على ذي لب، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا فحتى لو صح أن نكاحه عليه السلام ميمونة رضي الله عنها كان حرما وأنه كان بعد نهيه عن نكاح المحرم - لما كان ذلك مبيحا لانكاح المحرم غيره، ولا لخطبته على نفسه، وعلى غيره، ولكان نكاح المحرم حينئذ منسوخا مستثنى من النهي الوارد عن نكاحه وإنكاحه وخطبته، ولكان باقي الحديث واجبا لازما لا يحل مخالفته، وهذه كلها وجوه لائحة واضحة، والحمد لله رب العالمين.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين، بأن يكون أحدهما اختلف على راويه فيه، والآخر لم يختلفوا على راويه فيه، ومثلوا ذلك بحديث ابن عمر، فإن زادت الابل على عشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون، وبحديث علي فإن زادت الابل على عشرين ومائة واحدة، ففي كل أربعين بنت لبون وفي خمسين حقة.
قال علي: وهذا بين ليس من أجل الاختلاف - فقد أبطلنا ذلك في الفصل الذي قبل هذا - ولكن لان حديث ابن عمر هو الزائد حكما على حديث علي رضي الله عنهما.
وقالوا أيضا: نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قد قيل فيه إنه من كلام الراوي، ولم يقل ذلك في الآخر، فأخذ بالذي لم يقل ذلك فيه، ومثلوا بحديث عتق الشقص الذي أحدهما من طريق ابن عمر دون أن يكون فيه ذكر الاستسعاء.
والآخر من طريق أبي هريرة وفيه ذكر الاستسعاء.
قالوا وقد قيل: إن(2/173)
الاستسعاء من لفظ سعيد بن أبي عروبة، لان شعبة وهماما روياه عن قتادة ولم يذكر ذلك فيه، وقد قيل إنه من لفظ قتادة.
قال علي: وهذا خطأ قد تابع سعيدا - على ذكر الاستسعاء - جرين بن حازم الازدي، وأبان بن يزيد العطار، ويزيد بن زريع، وحجاج بن حجاج، وموسى بن خلف كلهم لم يذكر فيه الاستسعاء عن قتادة مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،فالاخذ بالاستسعاء واجب لا يجوز تركه، لانه حكم زائد ثابت، وليس في حديث ابن عمر ما يضاده ولا ينافيه، وإنما فيه: فقد عتق منه ما عتق ولا يصح ما زاد فيه بعضهم من قوله: وقد رق ما رق ولا أتى ذلك من طرق تصح أصلا.
قال علي: وتناقض في هذا الخبر أصحاب مالك وأصحاب أبي حنيفة تناقضا فاحشا، فجعل أصحاب أبي حنيفة ذكره عليه السلام السائمة مسقطا للزكاة عما في حديث الآخر من عموم الزكاة في جميع الغنم، ولم يجعلوا قوله عليه السلام في حديث ابن عمر: فقد عتق منه ما عتق موجبا لا رقاق سائره، وقد كان يجب أن يطلبوا لقوله عليه السلام: فقد عتق منه ما عتق فائدة تنبئ أن ما لم يعتق منه لم يعتق كما قالوا في السائمة، ولم يجعل أصحاب مالك ذكر السائمة مسقطا للزكاة في غير السائمة بالعموم الذي في حديث ابن عمر في ذكره الغنم، وجعلوا قوله عليه السلام: فقد عتقوا منه ما عتق مسقطا لعتق باقيه المذكور في حديث أبي هريرة بالاستسعاء.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين، بأن يكون أحدهما اجتمع فيه الامر والفعل، وانفرد الآخر بأحدهما، فيكون الذي اجتمعا فيه أولى، ومثلوا ذلك بما روي من أنه عليه السلام سعى وأمر بالسعي بين الصفا والمروة، وبما روي من قوله عليه السلام: الحج عرفة.
قال علي: وهذا لا معنى له، لان الحديث الذي فيه إيجاب السعي إنما صح من طريق أبي موسى، وهو زائد على ما روي من أن الحج عرفة، فوجب الاخذ بالشريعة الزائدة، وليس في حديث: الحج عرفة ما يمنع من وجوب الاحرام والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بمزدلفة.
قال علي: وقد تناقضوا ههنا فأوجبوا السعي فرضا، ولم يسقطوا وجوبه، لما روي من أن الحج عرفة ولم يوجبوا الوقوف بمزدلفة، وذكر الله عز وجل فيها، وقد(2/174)
جاء النص الصحيح من القرآن والسنة بإيجاب ذلك فرضا، فأما القرآن فقوله تعالى فإذا أفضتم من عرفات فاذكر والله عند المشعر الحرام وأما السنة فقوله عليه السلام لعروة بن مضرس: من أدرك الصلاة ههنا - يعني بمزدلفة - مع الناس والامام فقد أدرك، وإلا فلم يدرك أو كما قال عليه السلام، وتحكم أصحاب التقليد وأهل القياس أكثر من أن يحصيه إلا خالقهم الذي أحصى عدد القطر وورق الشجر ومكايل البحار، لا إله إلا وقالوا: نرجح أحد الخبرين بأن يوافقه عمل أهل المدينة.
قال علي: وهذا هو باطل، وقد أفردنا له فصلا بعد كلامنا هذا في هذا الباب وبالله تعالى التوفيق، ومثلوا ذلك بأخبار رويت في الاذان والاقامة.
قال علي: ولا يصح في ذلك خبر مسند إلا حديث أنس بن مالك رضوان الله عليه: أمر بلال أن يشفع الاذان ويوتر الاقامة وبه نأخذ.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قد علق الحكم فيه بالاسم، ويكون الآخر قد علق الحكم فيه بالمعنى، فيكون الذي علق الحكم فيه بالمعنى أولى.
قال علي: وهذا لا معنى له، لانها دعوى بلا برهان، وإذ لو عارضهم معارض فقال: بل الذي علق فيه الحكم بالاسم أولى، لما انفصلوا منه، ومثلوا ذلك
بقوله عليه السلام: من بدل دينه فاقتلوه مع نهيه عليه السلام عن قتل النساء.
قال علي: وإنما أخذنا بقتل النساء المرتدات، لان النهي عن قتل النساء عموم، والامر بقتل من غير دينه مخصوص من ذلك العموم، على ما قدمنا قبل من استثناء الاقل معاني من الاكثر معاني، وأيضا فقد اتفقت الامة على أن نهيه عليه السلام عن قتل النساء ليس على ظاهره، واتفقوا أنها إن زنت وهي محصنة أنها تقتل، وإن قتلت مسلما أنها تقتل، وأيضا فإن نهيه عليه السلام عن قتل النساء، إنما هو داخل في جملة قوله: دماؤكم عليكم حرام فهو بعض تلك الجملة واستثنى كل من ورد أمر بإيجاب قتله أو إباحته من باغ أو شارب خمر بعد أن حد فيها ثلاثا، أو زان محصن، أو قاتل عمدا أو مرتد، وصح أن النهي عن قتل النساء إنما هو من الاسارى من أهل دار الحرب.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما منصوصا بنسبته إلى(2/175)
النبي صلى الله عليه وسلم ،والآخر إنما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم استدلالا.
قال علي: وهذا لا إشكال فيه، ولا يجوز أن يؤخد بشئ لم ينص عليه أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم - أو يوقن بأنه عنه ببرهان لا يحتمل إلا وجها واحدا، ولا يجوز أن يكون عن غيره - إلا أن يكون إجماع في شئ ما، فيؤخذ به، والاجماع أيضا راجع إلى التوقف منه عليه السلام، لا بد من ذلك.
قال علي: ومثلوا ذلك بالتشهد المروي عن عمر رضي الله عنه، أنه كان يعلمه الناس وهو على المنبر، وبالتشهد المروي عن ابن عباس وعائشة وأبي موسى وابن مسعود مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
قال علي: وليس في تعليم عمر - رضي الله عنه - الناس التشهد على المنبر ما يدل على أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ،وقد نهى عمر رضوان الله عليه وهو على المنبر
عن المغالاة في مهور النساء، وعلم الناس ذلك، ولا شك عند أحد في أن نهيه عن ذلك ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم ،وأن ذلك من اجتهاد عمر فقط، وقد أقر رحمه الله بذلك في ذلك الوقت، ورجع عن النهي عنه، إذ ذكر أن نهيه مخالف لما في القرآن، وأما التشهدات المروية عن ابن عباس، وعائشة وابن مسعود، وأبي موسى رضوان الله عليهم، فهي التي لا يحل تعديها لصحة سندها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،وقد خالف تشهد عمر - الذي علمه الناس على المنبر - ابنه عبد الله، وابن مسعود وابن عباس وعائشة، وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم، وقد شهدوه يخطب به، وغاب عنهم من أنه حجة إجماعية ما ادعى هؤلاء لانفسهم من فهمه، ومن أنه يغيب عنهم، وهذا كما نرى.
وقالوا: ونرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قد ثبت فيه الخصوص، والآخر لم يثبت فيه الخصوص، فغلب الذي لم يثبت فيه الخصوص، على الذي ثبت فيه، ومثلوا ذلك بآية النهي عن الجمع بين الاختين مع الآية التي فيها إباحة ذلك بملك اليمين.
قال علي: الآية التي فيها إباحة ملك اليمين، أكثر معاني من الآيات التي فيها النهي عن وطئ الحريمة بنسب أو صهر، ومن التي فيها النهي عن الجمع بين الاختين، والام وابنتها، والمرأة المشتركة، ووطئ الحائض والصائمة والمحرمة(2/176)
والزانية، ووطئ الذكور المماليك، والبهائم المملوكة والمشتركة، فوجب استثناء كل ذلك، لانه أقل معاني مما أبيح بملك اليمين، فخرج كل ما ذكرنا بالتحريم، وتبقى الآية المسلمة التي ليس فيها شئ من الصفات التي ذكرنا على الاباحة، وكذلك الآية التي فيها: فانكحوا ما طاب لكم من النساء أكثر معاني من الآيات التي ذكرنا، فوجب استثناء كل ذلك بالتحريم، لانه أقل معاني مما أبيح بالنكاح،
فنكون على يقين من استعمالنا جميع النصوص الواردة، وأننا لم نخالف منها شيئا ولا تناقضنا في تخصيص ما خصصنا، واستثنائنا ما استثنينا، وبالله تعالى التوفيق.
وقالوا: ونرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما ورد جوابا، والآخر ورد ابتداء، فنغلب الذي ورد جوابا على الذي ورد ابتداء.
قال علي: هذا خطأ، لانه قبل كل شئ تحكم بلا برهان، والبرهان أيضا على بطلان هذا الحكم قائم، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معلما، وقد سئل عن شئ فأجاب عن أشياء كثيرة، وقد سئل عن شحوم الميتة فأجاب عليه السلام عنها ولعن اليهود، ونهى أيضا في ذلك الحديث عن بيع ما حرم من الميتات، ولم يكن سئل عن كل ذلك، ومثل هذا كثير، ولا فرق بين ما ورد من قوله عليه السلام جوابا، وبين ما ورد ابتداء، وكل ذلك محمول على عمومه، وعلى ما فهم من لفظه لا يحل أن يقتصر به على بعض ما يقع عليه ذلك اللفظ دون بعض، إلا بنص أو إجماع، وكذلك القول فيما ورد من القرآن جوابا عن سؤال متقدم، وقد سئل عن اليتامى فأجاب تعالى فيهم، ثم قال عز وجل وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء فأخبرهم عن النساء زائدا على ما سألوا عنه.
قالوا: ونرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما من رواية من يختص بذلك المعنى، والآخر برواية من لا يختص به، ومثلوا ذلك برواية عائشة رضي الله عنها في الغسل من الاكسال على خبر من روى أن لا غسل منه.
قال علي: وهذا باطل، لان الراوين أن لا غسل منه مختصون بالوطئ لنسائهم كاختصاص النساء ولا فرق - ولان كل عالم نفر للتفقه فهو مختص بالسؤال عن(2/177)
الحيض كسؤال المرأة عنه ولا فرق، وحرص العالم على أن يتعلم كحرص الممتحن
بالنازلة التي يسأل عنها ولا فرق، وإنما أوجبنا الغسل من الاكسال لحديث أبي هريرة لانه زائد على سائر الاحاديث، لان الاصل أن لا غسل على أحد، وجاء حديث أبي هريرة بإيجاب الغسل، فكان شريعة واردة زائدة بيقين، ثم لم يصح أنها نسخت، ولو لم يكن في ذلك إلا حديث عائشة رضي الله عنها لما وجب به الغسل، لانه ليس فيه إلا: فعلت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا.
وليس في هذا الحديث إيجاب الغسل، وإنما فيه أن الغسل فضل فقط.
وقد روي وصح أنه عليه السلام كان ربما اغتسل بين كل وطأتين وليس ذلك واجبا، فلو لم يكن هنا إلا قول عائشة رضي الله عنها لكان اغتساله عليه السلام من الاكسال كاغتساله بين كل وطأتين ولا فرق، وإنما هو عمل يؤجر من ائتسى به عليه السلام، ولا يأثم من لم يفعله غير راغب عنه، وبالله تعالى التوفيق.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين على الآخر، بأن يكون أحد المختلفين استعمل كل واحد من الخبرين في موضع الخلاف، فيكون أولى ممن لا يستعملها، ومثلوا ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : كل امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل مع قوله عليه السلام: الايم أحق بنفسها من وليها.
قال علي: وهذا الذي ذكروا لا معنى له، بوجه من الوجوه هو كلام ساقط زائف، لانه ليس عمل أحد الخصمين حجة على الآخر، إلا أن يأتي ببرهان يصحح عمله، وأما الحديثان اللذان ذكروا فإنما حملناهما على ظاهرهما فأبطلنا نكاح كل امرأة نكحت بغير إذن مواليها ثيبا كانت أو بكرا، على عموم الحديث.
وظاهر لفظه المفهوم منه في بطلان نكاحها بغير إذنهم، وهو الذي لا يحل لاحد تعديه، وقلنا الايم أحق بنفسها من وليها في اختيار نكاح من شاءت، والاذن فيه أورده فلا اعتراض لوليها في ذلك عليها، ولا على كل بالغ من بكر - ذات أب أو يتيمة - بأحاديث أخر وآي مضافة بعضها إلى بعض، فاستثنينا الانكاح
وحده وهو المنصوص عليه من سائر أحوالها، لانه الاخص فاستثني من الاعم، وكانت أحق بنفسها في سائر أمورها كلها من وليها حاشا عقد الانكاح وحده، وهذا هو لفظ الحديثين نصا بلا مزيد.(2/178)
وقالوا: نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما يعضده قول الائمة، والآخر يعضده قول غيرهم، فيكون الذي أيده قول الائمة أولى، ومثلوا لذلك بالتكبير في العيدين سبعا في الاولى، وخمسا في الثانية، وبما روي من طريق حذيفة من تكبير ثلاث في الاولى قبل القراءة، وأربع في الثانية بعد القراءة.
قال علي: وهذا لا معنى له، لما قد أبطلناه في باب إبطال الاحتجاج بعمل أهل المدينة من هذا الباب، وبما قد أبطلناه من القول بالتقليد في باب التقليد من هذا الكتاب، وإنما أخذنا بتكبير سبع وخمس، لانه فعل في الخير زائد وذكر لله تعالى ولان الخبر المروي في ذلك لا بأس به.
وأما خبر حذيفة فليس يقوم بسنده حجة لما سنبينه في أمر موضعه من الكلام في أشخاص الاحاديث إن شاء الله.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين بأن يكون يميل إليه الاكثر من الناس.
قال علي: وهذا لا معنى له، لما سنبينه في باب الاجماع من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، ولان كثرة القائلين بالقول لا تصحح ما لم يكن صحيحا قبل أن يقولوا به، وقلة القائلين بالقول لا تبطل ما كان حقا قبل أن يقول به أحد، وقد بينا هذا جدا في باب إبطال قول من رجح الخبر بعمل أهل المدينة في آخر هذا الباب، وأيضا فإن القول قد يكثر القائلون به بعد أن كانوا قليلا، ويقلون بعد أن كانوا كثيرا، فقد كان جميع أهل الاندلس على مذهب الاوزاعي رحمه الله، ثم رجعوا إلى مذهب مالك، وقد كان جمهور أهل إفريقية ومصر على مذهب
أبي حنيفة، وكذلك أهل العراق، ثم غلب على إفريقية مذهب مالك، وعلى مصر والعراق مذهب الشافعي، فيلزم على هذا أن القول إذا كثر قائلوه صار حقا، وإذا قلوا - كما ذكرنا - عاد باطلا، وهذا هو الهذيان نفسه.
وقد احتج نصراني على مسلم بكثرة أهل القسطنطينية، وأنهم لم يكونوا لتجتمع تلك الاعداد على باطل، وهذا لا يلزم لمن رجح الاقوال بالكثرة، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من هذا القول، بل الحق حق وإن لم يقل به أحد، والباطل باطل ولو اتفق عليه جميع أهل الارض.
قال علي: ويكفي من كشف غمة من اغتر بالكثرة من أن نقول له: لا تغتر بكثرة من(2/179)
ترى من أصحاب المذاهب، فإنما هم ثلاثة رجال فقط: مالك والشافعي وأبو حنيفة، ولا مزيد فقد حصلنا من كل ما نرى على ثلاثة رجال فقط، وبالله تعالى التوفيق.
وهم يخالفون هذا كثيرا، لانهم أخذوا بقول زيد في إبطال الرد على ذوي الارحام، وتركوا قول عمر، وعثمان، وعائشة، وابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين في ذلك.
وأخذوا بقول من قال: إن القرء هو الطهر، وإنما قال به نحو ثلاثة من الصحابة، والجمهور على أنه الحيض، وقد ترك أيضا، أصحاب أبي حنيفة قول الجمهور في أشياء كثيرة.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين بأن يعضد أحدهما خبر مرسل
قال علي: وهذا لا معنى له، لان المرسل في نفسه لا تجب به حجة، فكيف يؤيد غيره ما لا يقوم بنفسه ؟.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين، بأن يكون راوي أحدهما أشد تقصيا للحديث، ومثلوا ذلك بحديث جابر، يعني الحديث الطويل في الحج.
قال علي: هذا لا معنى له، لان من حفظ أشياء كثيرة فليس ذلك بمانع أن
يحفظ غيره بعض ما غاب عنه، مما جرى في تلك الاشياء التي حفظ أكثرها، وقد سمع أنس، والبراء، وحفصة من فم النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحجة ما لم يسمع جابر، وثقفوا ما لم يثقفه جابر، فالواجب قبول الزيادة التي عند هؤلاء على ما عند جابر، وقبول الزيادة التي عند جابر على ما عند هؤلاء، فنأخذ بروايتهم كلها ولا نترك منها شيئا، وكلهم عدل صادق، وهذا الذي لا يجوز غيره.
وقالوا: نرجح أحد النصين، بأن يكون أحدهما مكشوفا، ويكون الآخر فيه حذف، فنأخذ بالمكشوف، ومثلوا ذلك بقوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله مع قوله تعالى: فإن أحصر تم فما استيسر من الهدى.
قالوا: لان هذه الاخيرة فيها حذف، كأنه قال تعالى: فإن أحصرتم فأحللتم.
قال علي: وهذا الذي ذكروا خطأ، لان آية الاحصار أخص من آية الاتمام، لان المحصرين هم بعض المعتمرين والحجاج، فواجب ضرورة أن يستثنوا(2/180)
منهم، مع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك من قوله عليه السلام: من كسر أو عرج فقد حل والحذف الذي ذكروا لا يعتد به إلا جاهل لان ما تيقن فقد يحذف في كلام العرب كثيرا، عن ذلك قوله تعالى: وإن كنتم من مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائظ أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء مسافرا لا يوجب عليه وضوءا إلا أن يحدث ومن ذلك قوله تعالى (ذلك كقارة لايمانكم إذا حلفتم) لا يختلف مسلمان في لان في هذه الآية خذفا وأن معناه ذا حلفتم فحنثتم، أو أردتم الحنث، كلا المعنيين قد قال به قوم، لان الحلف لا يوجب كفارة إلا بالحنث أو بإرادته.
ومن ذلك قوله عز وجل: أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه) وأن اضرب بعصاك البحر فانفلق لا خلاف عند ذي عقل في أن في كلتا الآيتين حذفا، وأنه كأنه تعالى قال: فضرب فانفلق، وضربت فانبسجت، فمثل هذا الحذف
لا يتعلل به - في كلام الله تعالى، وفي كلام رسوله صلى الله عليه وسلم ،وفي كلام كل متكلم - إلا جاهل مظلم الجهل لا علم له بمواقع اللغة وهو كالمذكور الذي لم يحذف سواء بسواء.
ومن ذلك أيضا قوله: * (كل من عليها فان) *، ونحن نقول في كل وقت قال تعالى، وقال عليه السلام، ولا يذكر اسم الله تعالى في ذلك، ولا اسم نبيه صلى الله عليه وسلم ،اكتفاء منا بفهم السامع، وأن ذلك لا يخيل عليه البتة وكذلك قال تعالى حتى توارت الحجاب: ولم يذكر الشمس اكتفاء بأن السامع قد علم المراد ضرورة.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما ورد في لفظه حكمه، والآخر لم يرد في لفظه حكمه، ومثلوا ذلك بقوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة وقوله عليه السلام: أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وقوله عليه السلام: رفع القلم عن ثلاث فذكر الصبي حتى يحتلم: والمجنون حتى يفيق.
قال علي: ليس في قوله عليه السلام: ورفع القلم عن ثلاث ما يوجب سقوط(2/181)
الحقوق عن أموالهم، وإنما فيه سقوط العبادات عن أبدانهم، وقد قالوا بإخراج الديات والاروش وزكاة ما خرج من الارض من مال الصبي والمجنون، وهو داخل في جملة الاغنياء وأسقطوا عنه زكاة الناض تحكما بلا برهان، فهلا قاسوا وجوب زكاة الناض عليه بوجوب زكاة ما أخرجت ثماره، عليه وبوجوب زكاة الفطر عليه ؟ وهم يدينون الله تعالى بالقياس، ويعصون له أوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم ،ولكن هكذا يتناقض من اتبع السبل فتفرقت بهم عن سبيل الله.
وقالوا: نرجح أحد النصين بأن يكون مؤثرا في الحكم، والآخر غير مؤثر، ومثلوا ذلك بالاختلاف في زوج بريرة أحرا كان أم عبدا.
قال علي: وهذا لا يعقل، لان التأثير الذي ذكروا تحكم بلا دليل، وليس في كونه عبدا ما يمنع من تخييرها تحت الحر، وحتى لو اتفق النقلة كلهم على أنه كان عبدا لما أوجب ذلك ألا تخيير تحت حر إذا جاء ما يوجب ذلك.
وإنما نص النبي صلى الله عليه وسلم على تخيير الامة المتزوجة إذا أعتقت، ولم يقل عليه السلام - إنما خيرتها لانها تحت عبد، فوجب بالنص تخيير كل أمة متزوجة إذا أعتقت، ولا نبالي تحت من كانت، وليس من قال: إنها خيرت لانها كانت تحت عبد، بأولى ممن قال: بل لانها كانت أسود، وكل هذا لا معنى له، فكيف ولا اختلاف في الروايات، وكلها صحيح، فالذي روى - أنه كان عبدا - أخبر عن حاله في أول أمره، والذي روى - أنه كان حرا - أخبر بما صار إليه، وكان ذلك أولى لانه كان عنده علم من تحريره زائدا على من لم يكن عنده علم ذلك.
وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون منقولا من طرق بألفاظ شتى، والآخر لم ينقل إلا من طريق واحد.
ومثلوا ذلك بحديث وابصة بن معبد الاسدي في إعادة المنفرد خلف الصف، وبحديث أبي بكرة في تكبيره دون الصف، وحديث ابن عباس في رده عليه السلام إياه عن شماله إلى يمينه، وحديث صلاة جدة أنس منفردة خلف النبي صلى الله عليه وسلم .(2/182)
قال علي: أما كثرة الرواة فقد قدمنا إبطال الاحتجاج بها، لانهم يتركون أكثر ما نقله أهل الارض - برهم وفاجرهم - وهو ظاهر القرآن لما نقله واحد، فكيف يجوز لمن فعل ذلك أن يغلب ما نقله ثلاثة على ما نقله واحد ؟ وليس في التناقض وقلب المعقول أكثر من هذا، وأما الاحاديث التي ذكروا فلا حجة لهم فيها، وبعضها حجة عليهم.
أما حديث أبي بكرة فقد نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك نصا وقال له:
زادك الله حرصا ولا تعد فنهاه عن العودة إلى التكبير خلف الصف وحده، ولم يأمره عليه السلام بإعادة الصلاة.
قال قوم: لان أبا بكرة جهل الحكم في ذلك قبل أن يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن فعله ذلك لا يجوز، فأعلمه بنهيه إياه عن أن يعود لذلك كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أساء الصلاة في حديث رافع بالاعادة مرة بعد مرة، فلما قال له: يا رسول الله، والله ما أدري غير هذا فعلمني، فعلمه، ولم يأمره حينئذ الاعادة، ولو أن أبا بكرة يعود لما نهاه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لبطلت صلاته بلا شك، لانه كان يكون مؤديا لصلاة لم يؤمر بها غير الصلاة التي أمر بها بحكم ضرورة العقل، وقد قال عليه السلام: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.
والذي نقول به، وبالله تعالى التوفيق: أن خبر أبي بكرة موافق لمعهود الاصل في إباحة الصلاة حيث شاء وأنه حينئذ ثبت الامر بالمنع من الصلاة خلف الصف، فجازت صلاته الكائنة قبل ورود الامر، ولزم النهي عنه في المستأنف، ولان النهي عن الصلاة خلف الصف أمر وارد، وحكم زائد، وشرع حادث بلا شك، فهو ناسخ للاباحة المتقدمة بيقين، وأما الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بعد قوله: ارجع فصل فإنك لم تصل فإن الامر بالصلاة ثابت عليه ولا بد، ولازم حتى يؤديه كما أمره عليه السلام، وليس في ذلك الخبر أنه عليه السلام أسقط عنه لجهله ما كان أمره به من الصلاة ما دام وقتها قائما.
فلا يجوز أن يسقط أمر متيقن بظن كاذب، وبالله تعالى التوفيق.
وأما حديث جدة أنس بن مالك، فإنما ذلك حكم النساء، وهكذا نقول: إن حكم النساء في ذلك مخالف لحكم الرجال، وإن حكم المرأة والنساء ألا يصلين(2/183)
مع رجل في صفه، وهذا ما لا خلاف فيه، فأخذنا بحديث جدة أنس بن مالك
في النساء، وبحديث وابصة في الرجال، لانه جاء منصوصا في رجل صلى خلف الصف، فأخذنا بكلا الحديثين، وأطعنا أمره عليه السلام في جميع الوجهين، ولم نعص شيئا من أحكامه عليه السلام، ولا ضربنا بعضها ببعض، ولا أبطلنا بعضها ببعض، ولم نجعل فيها اختلافا وليس من ترك حديث وابصة لحديث جدة أنس بأولى من أن يكون مصيبا ممن ترك حديث جدة أنس لحديث وابصة، فأبطل ذلك على المرأة كإبطاله على الرجل، وكل ذلك لا يجوز، وليس أحد الحديثين أولى بالطاعة من الآخر، والغرض أن يستعملا جميعا فيما ورد فيه، فيؤمر الرجل الذي يصلي خلف الصف وحده بالاعادة، ولا تؤمر المرأة.
وأما حديث ابن عباس: فإنه كبر مع النبي صلى الله عليه وسلم منفردا في مكان لا يصلح له الوقوف فيه، وهو جاهل بذلك غير عالم بالسنة فيه، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المكان الذي حقه أن يقف فيه، ولم يبطل ما عمل متأولا بغير علم، وكذلك نقول في الرجل المأمور بالاعادة، إنه لولا أن النهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد تقدم عن ذلك لما أمر بالاعادة.
وقد اعترض بعضهم باعتراضين غثين فقالوا: لعل أمر النبي صلى الله عليه وسلم لابي بكر ألا يعود، إنما كا من سعيه بالكد إلى الصلاة، فقيل لهم: نعم كذلك نقول: إنه عليه السلام نهاه بقوله: لا تعد عن كل عمل عمله على غير الواجب، وكان من أبي بكرة رضي الله عنه في ذلك الوقت أعمال منهي عنها، أحدها سعيه إلى الصلاة، والثاني تكبيره دون الصف، والثالث مشيه في الصلاة فعن كل ذلك نهاه عليه السلام بقوله: ولا تعد لا سيما وقد روينا نص قولنا بلا إشكال.
كما حدثنا عبد الله بن ربيع قال: ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان الاسدي، ثنا أحمد بن جعفر، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا الحجاج بن المنهال السلمي، حدثنا ملازم بن عمرو الحنفي، عن عبد الله بن بدر، عن عبد الرحمن بن علي بن شيبان، عن أبيه
علي بن شيبان قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى الصلاة، ورجل فرد يصلي خلف الصف.
فوقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قضى الرجل صلاته ثم قال له(2/184)
رسول الله صلى الله عليه وسلم : استقبل صلاتك فإنه لا صلاة لفرد خلف الصف.
والاعتراض الثاني أن قالوا: لعل المأمور بالاعادة إنما أمره عليه السلام بذلك لعمل ما، غير انفراده في الصف.
فقيل لهم: هذا تكهن لا دليل عليه، والراوي الذي نقل ذلك من الصحابة رضي الله عنهم إنما أخبر أن سبب أمره بالاعادة كان انفراده، ولم يذكر غير ذلك، وقد قال تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) رسول الله صلى الله عليه وسلم من وشم في الوجه، ومن غير منار الارض، إنما لعنه لامر ما غير هذين الفعلين، ولعله عليه السلام جلد الامة التي زنت، ورجم ماعزا، ورجم الغامدية - لغير الزنى، ولشئ ما لم يذكر لنا.
ومثل هذا من الاعتراض فإنما هو عناد ظاهر وجهل شديد وإن العجب ليطول من أصحاب أبي حنيفة الذين يأمرون المرأة إذا صلت مع الرجل إلى جنبه - أن يعيد الرجل، ومن أصحاب مالك الذين يأمرون الامام - إذا صلى في مكان مرتفع والناس تحته - أن يعيد، فإن سئلوا عن الحجة في ذلك قالوا: لانهما صليا حيث لم يبح لهما، ولا يأمرون المنفرد خلف الصف والمصلي في مكان مغصوب بالاعادة، وكلاهما قد صلى على الحقيقة في مكان لم يبح له بلا شك، وأما الامام المصلي في المكان المرتفع، والرجل الذي صلت المرأة إلى جنبه بصلاته - وهو غير راض بذلك - فما صليا إلا كما أمر، وكما أبيح لهما، فلو عكس هؤلاء القوم أكثر مذاهبهم لاصابوا فكيف وقد صح نص قولنا عن النبي صلى الله عليه وسلم ،كما حدثنا عبد الله بن ربيع قال: حدثنا محمد بن إسحاق بن السليم،
حدثنا ابن الاعرابي، ثنا أبو داود السجستاني، ثنا حميد بن مسعدة: أن يزيد بن زريع حدثهم قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن زياد الاعلم، قال: أنبأنا الحسن - وهو البصري - أن أبا بكرة حدثه قال: إنه دخل المسجد ونبي الله صلى الله عليه وسلم راكع فركعت دون الصف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : زادك الله حرصا ولا تعد.
قال علي: وحتى لو صح هذا الترجيح الفاسد الذي ذكرنا في أول كلامنا هذا،(2/185)
لكان حديث وابصة هو الذي يجب أن يؤخذ به، لان الاحاديث الواردة من طرق جمة وألفاظ شتى في تسوية الصفوف وإيجاب ذلك، والوعيد الشديد على خلافه - مؤيدة كلها لحديث وابصة وموافقة له، ومبطلة لصلاة من لم يقم الصف من الرجال، وكل من صلى وحده منفردا خلف الصف فلم يقم الصف، وتلك الاحاديث التي ذكرناها رواها جابر بن سلمة، وأبو مسعود البدري، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، والنعمان بن بشير، وأبو هريرة من طرق في غاية الصحة.
وروي ذلك أيضا من طريق ابن عمرو، وأبي مالك الاشعري، والعرباض بن سارية، والبراء بن عازب، كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ،وقد ذكرنا أن حديث أبي بكر موافق لحديث وابصة، فثبت حديث وابصة لا معارض له، وصار بكثرة من ذكرنا من رواة معناه، والحكم الواجب فيه منقولا نقل التواتر، موجبا للعلم الضروري، لانه رواه اثنا عشر صاحبا، منهم الكوفي والبصري والرقي والشامي والمدني من طرق شتى، وهذه صفة نقل الكافة، وبالله تعالى التوفيق.
وقالوا: نرجح أحد النصين بأن يكون أحدهما أبعد من الشناعة، ومثلوا ذلك بقوله تعالى: إن جاء كم بنبا فتبينوا الآية مع قوله عز وجل أو آخران من غير كم
قال علي: وهذا لا معنى له، ولا شناعة إلا المخالفة لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ،
والتحكم بالآراء الفاسدة على ما أمرنا به، فهذه هي الشنعة التي لا شنعة غيرها.
وقوله تعالى أو آخران من غير كم مستثنى من آية النهي عن قبول خبر الواحد الفاسق فلا يقبل فاسق أصلا إلا في الوصية في السفر فقط، فإنه يقبل فيها كافران خاصة دون سائر الفساق، ولا شنعة أعظم ولا أفحش ولا أقبح ولا أظهر من بطلان قول من قال وآخران من غير كم أي من غير قبيلتكم، تعالى الله عن هذا الهذر علوا كبيرا، وليت شعري أي قبيلة خاطب الله عز وجل بهذا الخطاب خاصة دون سائر القبائل، وقد قال تعالى في أول الآية: يا ايها الذين امنوا وما علمنا الذين أمنوا قبيلة بعينها.
بل في الذين آمنوا: عرب، وفرس، وقبط، ونبط، وروم، وصقلب، وخزر، وسودان حبشة، وزنج، ونوبة، وبجاة، وبربر، وهند، وسند، وترك، وديلم، وكرد، فثبت بضرورة لا مجال للشك فيها، أن غير الذين آمنوا: هم الذين كفروا، ولا ينكر(2/186)
ذلك إلا من سفه نفسه، وأنكر عقله، وقال على ربه تعالى بغير علم ولا برهان، ولعمري لقد كان ينبغي أن يستحي قائلمن غيركم من غير قبيلتكم، من هذا التأويل الساقط الظاهر عواره، الذي ليس عليه من نور الحق أثر.
والعجب يكثر من أصحاب أبي حنيفة الذين يقبلون اليهود والنصارى في جميع الحقوق بعضهم على بعض، وقد نهاهم الله تعالى عن قبول الفاسقين، ثم لا يقبلونهم في الوصية في السفر، وقد جاء نص القرآن بقبولهم فيها، وحسبنا الله وما عسى أن يقال في هذا المكان أكثر من وصف هذا القول البشيع الشنيع الفظيع، فإن ذكره كاف من تكلف الرد عليه، وبالله تعالى التوفيق.
وقالوا: ونرجع بأن يكون الاشتقاق يؤيد أحد النصين، ومثلوا ذلك بالشفق، وادعوا أن اشتقاقه يؤيد أنه الحمرة.
قال علي: ما سمعنا هذا في علم اللغة ولا علمناه، ولا سمع لغوي قط أن الشفق
مشتق من الحمرة، وإنما عهدنا الشعراء يسمون الحمرة والبياض - المختلطين في الجدود - بالشفق على سبيل التشبيه فقط، وإنما قلنا: إن وقت العشاء الآخرة يدخل بمغيب الحمرة، لان الحمرة تسمى شفقا والبياض يسمى شفقا، فمتى غاب ما يقع عليه اسم شفق من حمرة أو بياض فقد غاب الشفق ودخل وقتها بيقين الخبر في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا هو القول بالعموم والظاهر.
وأما من قال: حتى يغيب كل ما يسمى شفقا فقد خصص الحديث بلا معنى ولا برهان، وادعى أن المراد بذلك بعض ما يسمى شفقا وهو البياض، وأنه قد يغيب الشفق ولا يكون ذلك وقتا للعتمة، وذلك مغيب الحمرة.
وهذا تخصيص للحديث بلا دليل، وإنما بينا هذا لئلا يموه مموه فيقول لنا: أنتم خصصتم الظاهر في هذا المكان، ولئلا يدعوا أنهم قالوا بعمومه في هذا المكان.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما يضيف إلى السلف نقصا والآخر لا يضف إليهم ذلك، فيكون الذي لا يضيف إليهم ذلك النقص أولى، ومثلوا ذلك بمثال لا يصح، فذكروا حديثين وردا في إعادة الوضوء من القهقهة في الصلاة، وفي إسقاط الوضوء منها وكلا الحديثين ساقط لا يصح.
أحدهما رواه الحسن بن دينار وهو ضعيف، وروي مرسلا من طريق أبي العالية وقد(2/187)
بينا أن المرسل لا تقوم به حجة، والآخر رواه أبو سفيان عن جابر، وأبو سفيان طلحة بن نافع ضعيف.
ولكنا نمثل في ذلك مثالا يصح، وذلك الحديث المروي أن امرأة مخزومية سرقت، فشفع فيها أسامة ألا تقطع يدها، فأنكر عليه السلام على أسامة رضي الله عنه وقال له: يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله تعالى.
وروي أيضا: أن امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، فشفع فيها أسامة، فقال من رجح إحدى الروايتين بما ذكرنا، محال أن يزجر النبي صلى الله عليه وسلم أسامة عن أن يشفع في حد ثم يعود لمثل ذلك، فراموا أن يثبتوا بذلك أنها قصة واحدة وامرأة واحدة، وأنها قطعت للسرقة لا لجحد العارية.
قال علي: هذا لا معنى له ولا حجة فيه، لاننا لم نقل إن أسامة رضي الله عنه أقدم على ذلك وهو يعلمه حدا، وليس في الحديث زجر، وإنما فيه تعليم ولسنا ننكر على أسامة وغير أسامة جهل شريعة ما حتى يعلمه إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ومن قال في خبر ورد في سارقة، وخبر ورد في مستعيرة إنها قصة واحدة، فقد كان كابر وقال بغير برهان، وقفا ما ليس له به علم.
وأما نحن فنقول يقينا بغير شك: إن حال المستعيرة غير حال السارقة، وإن العارية والجحود غير السرقة، وإنهما قضيتان متغايرتان بلا شك، ثم لسنا نقطع على أنهما امرأتان، ولا على أنها امرأة واحدة، لان كل ذلك ممكن، وقد يمكن ولو كانت امرأة واحدة أن تكون سرقت مرة فقطعت يدها، ثم استعارت فجحدت فقطعت يدها الثانية، والله تعالى أعلم، وإنما نقول ما روينا وصحح عندنا، ولا نزيد من رأينا ما لم نسمع، ولا قام به برهان، فنحصل في حد الكذب، ونعوذ بالله من ذلك، إلا أننا نقول: إنا قد روينا بالسند الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقطع يد امرأة استعارت المتاع وجحدته، فنحن نقطع يد كل مستعير جاحد إذا قامت عليه بذلك بينة، أو علم بذلك الحاكم، أو أقر هو بذلك.
ونقول قد روينا أنه عليه السلام قطع يد من سرق، فنحن نقطع يد من سرق إذا ثبت عليه شئ مما ذكرنا.
هذا على أن حديث قطع المستعيرة قد روي من(2/188)
غير طريق عائشة رضي الله عنها بسند صحيح، ليس فيه ذكر شفاعة أسامة ولا شئ مما
في حديث السارقة، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: ولهم ترجيحات فاسدة جدا، والتي ذكرنا تستوعبها كلها، وقد بينا سقوطها بالبراهين الواضحة وبتعري دعاويهم من الادلة، وعلى ذلك فكل ما رجحوا به في مكان ما فقد تركوه في أمكنة كثيرة، وقد بينا الوجوه التي بها يرفع التعارض المظنون عن النصوص من القرآن والحديث، بيانا لائحا والحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فصل
قال علي: قد بينا فيما قبل هذا بحول الله تعالى وقوته كيف يستثنى ما جاء في الحديث مما جاء في القرآن، وما جاء في القرآن مما جاء في الحديث، وما جاء في كل واحد منهما من خاص مما جاء فيهما من عام، ووجه الاخذ بالزائد في كل ذلك، وذكر تخبط من خالف تلك الطريقة في حيرة التناقض وغلبة الشكوك على أقوالهم، وبقي من خبال قولهم شئ نذكره ههنا إن شاء الله تعالى، وهو أن بعضهم رأى أن يرد بعض ما بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم مما قد أخذ بمثله فيما بين من المواضع، فقال: لا يجوز تخصيص القرآن بالخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ،وقد بينا فيما خلا أن القوم إنما حسبهم نصر المسألة التي بين أيديهم فقط، بأي شئ أمكنهم، وإن هدموا على أنفسهم ألف مسألة مما يحتجون به في هذه، ثم لا يبالون إذا تناولوا مسألة أخرى أن يحققوا ما أبطلوا في هذه ويبطلوا ما حققوا فيها، فهم أبدا كما ترى يحلونه عاما ويحرمونه عاما.
ولقد كان ينبغي لمن ترك قول الله تعالى: فلمخ تجدوا ماء فتيموا صعيدا طيبا لحديث الو ضوء بالنبيذ المسكر الحرام، وهو لا يصح أبدا، ولمن ترك قول الله تعالى: فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان فقال بل يتبعه بالضرب بالسياط والنفي في البلاد، ومثل هذا كثير - أن يستحي
من أن يقول: لا أخصص القرآن بالحديث الصحيح الذي نقله الثقات.
وإن العجب ليطول ممن أبى قبول خبر الواحد في الحكم باليمين مع الشاهد(2/189)
وفي تمام صيام الآكل ناسيا، وفي التحريم بخمس رضعات، وفي قضاء الصيام عمن مات وعليه صوم، وفي ألا يحنط المحرم الميت، وفي مئين من الاحكام، ثم لا يستحي من أن يقول: لا أجلد الزاني المحصن.
وقد جاء القرآن بجلد كل زان ولم يخص محصنا من غيره، فقال تعالى: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولم يخص تعالى من ذلك إلا الاماء والعبيد فقط.
فتركوا القرآن كما ترى والسنة الصحيحة من طريق عبادة في إيجاب الجلد على الزاني محصنا كان أو غير محصن، لظن ظنوه في أن ماعزا رجم ولم يجلد، وقد علمنا وجه قول المعتزلة لا نأخذ بالحديث إلا حتى نجد حكمه في القرآن، وما علمنا وجها لقول من قال لا نأخذ بالقرآن حتى يأتي حكمه في الحديث.
وهذا هو نفس قول إخواننا، وفقهم الله في هذا المسألة، وإنما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجلد ماعزا، من طريق ساقطة لا يقوم به حجة.
وقد فعل مثل ذلك أيضا بعضهم، فسمع القرآن قد نزل بقوله تعالى: * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) * فقالوا: لا نستعيذ إذا قرأنا في الصلاة، لانه لم يأت خبر بإيجاب الاستعاذة، فمرة يتركون الاخبار الصحاح لانها لم تذكر أحكامها في القرآن، ومرة يتركون القرآن لان حكمه لم يأت به خبر، فأين تطلب مذاهب هؤلاء القوم، وكيف يستجيزون هذه العظائم الشنيعة التي لا تطرد مع خطئها، وعدم الحجة عليها وقيام البرهان على بطلانها.
وقد اعترض بعضهم في ترك الاستعاذة بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : كان يفتتح القرآن بالحمد لله رب العالمين.
قال علي: وهذا من غريب احتجاجهم، وليت شعري متى قلنا لهم إن الاستعاذة قراءة يحتجون علينا بها، وإنما قلنا لهم: إن الاستعاذة قبل القراءة، وبعد ما روي من التوجيه والدعاء أثر التكبير، وأما استفتاح القراءة فبالحمد لله رب العالمين بلا شك، ولا نقول غير ذلك.
قال علي: فإن قالوا لنا: أتقولون إن ماعزا جلده النبي صلى الله عليه وسلم ،وأنه عليه السلام كان يستعيذ قبل القراءة في الصلاة ؟ قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق: إنا نقول ونقطع(2/190)
أن الله عز وجل قد أمر بجلد كل زان على كل حال، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكم على الزاني المحصن بالجلد مع الرجم، وأنه عليه السلام لم يخالف ربه قط، ولا شك عندنا في أن ماعزا جلد مع الرجم، ولا ندري إن كان أمره بعد ورود النص بالجلد مع الرجم وقد يمكن أن يكون رجمه قبل نزول آية الجلد، فقد روينا بأصح طريق أنه قيل لبعض الصحابة رضوان الله عليهم في رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصن والمحصنة أكان ذلك قبل نزول سورة النور أم بعد نزولها ؟ فقال: لا أدري، فصح قولنا، وكذلك فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه جلد شراحة الهمدانية ثم رجمها.
وكذلك نقول أيضا إن الله عز وجل قد أمر كل قارئ بالاستعاذة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخالف أمر ربه قط، ولا شك عندنا في وجوب الاستعاذة في الصلاة وقد استعاذ قبل القراءة جماعة من الصحابة.
روينا ذلك عنهم بالسند الصحيح، وما روي إنكار ذلك عن أحد منهم، ولا يبطل ما صح بقول القائل لعله نسخ، ولا بأن يروى أنه عليه السلام كرره وكذلك إن كان أمرا فلا يبطل بألا يروى أنه عليه السلام فعله، وقد بينا أن الامر ساعة وروده يلزم ما لم يتيقن نسخه، ولو كان الامر لا يصح إلا بأن يكرر للزم مثل ذلك في التكرار،
وفي تكرار التكرار إلى ما لا نهاية له، وللزم مثل ذلك في الافعال، فكان لا تصح شريعة أبدا.
وهذا قول يؤدي إلى إبطال جميع الشرائع وإلى الكفر، وليس الامر الثاني بأوكد من الاول أصلا.
قال علي: ثم نعكس عليهم هذا السؤال الفاسد فنقول لمن كان منهم مالكيا أتقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الزكاة من زيت الفجل، ومن الفول والعلس ومن عروض التجارة، وقد كان ذلك موجودا بالمدينة، وكانت التجارة هي الغالبة على المهاجرين، ومعاش جميع أهل مكة لا نحاشي منهم أحدا في أيامه عليه السلام وهل حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في الثمار، وقد كانت تتبايع على عهده بالمدينة بلا شك ؟.(2/191)
ونقول له إن كان حنفيا: أتقول إنه عليه السلام أخذ الزكاة من القثاء والرمان والخضروات والقطن.
ونقول لمن كان منهم شافعيا: هل تقول إنه عليه السلام بسمل ولا بد في كل ركعة قبل أم القرآن ؟.
فإن قالوا: قد قام الدليل على كل ما ذكرنا ولا ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما أوجبه القرآن، وخلاف ما جاء به أمره، قلنا لهم: هذا قولنا نفسه في جلد ماعز، وفي الاستعاذة.
فإن قالوا: نعم، قد فعل ذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: ما لم يأت في شئ من الروايات أنه فعله عليه السلام فلا ينكروا هذا على من قاله فيما جاء به نص كلام الله عز وجل، وإن قالوا: لم يفعله عليه السلام، ولكنا أوجبناه بالدلائل، أقروا على أنفسهم بالكفر وبإحداث شريعة لم يأذن بها الله تعالى، ولا علمها الرسول صلى الله عليه وسلم وصرحوا بأن النبي عليه السلام خالف أمر ربه جاهرا وضيع الواجب، وأنهم استدركوا ذلك وعملوا بأمر ربهم، وهذا
لا يقوله مسلم، والله الموفق للصواب.
فصل
قال علي: وقد يرد خبر مر سل إلا أن الاجماع قد صح بما فيه متيقنا منقولا جيلا فجيلا، فإن كان هذا علمنا أنه منقول نقل كافة كنقل القرآن، فاستغني عن ذكر السند فيه، وكان ورود ذلك المرسل، وعدم وروده سواء ولا فرق، وذلك نحو: لا وصية لوارث وكثير من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم ،وإن كان قوم قد رووها بأسانيد صحاح فهي منقوله نقل الكافة كشق القمر مع أنه مذكور في القرآن، وكإطعامه النفر الكثير من الطعام اليسير، وكسقيه الجيش من ماء يسير في قدح وكصبه وضوءه في البئر فانثالت بماء عظيم بتبوك، وكرميه التراب في عيون أهل حنين، فأصابت جميعهم وهي مذكورة في القرآن.
وأما المرسل الذي لا إجماع عليه فهو مطروح على ما ذكرنا، لانه لا دليل عن قبوله البتة، فهو داخل في جملة الاقوال التي إذا جمع عليها قبلت، وإذا اختلفت فيها سقطت، وهي كل قولة لم يأت بتفصيلها باسمها نص.
ومن قال بذلك دون(2/192)
برهان كان عاصيا لقول الله تعالى: قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن ووالبغى الحق وأن تشر كون بالله ما لم ينزل به مسلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعملون
قال علي: وإن العجب ليكثر من الحنفيين، والمالكيين، فإنهم يأبون قبول خبر الواحد في عدة مواضع، ويقولون: قد جاء القرآن بخلافها، نعم ويتركونها والقرآن موافق لها على ما قد ذكرنا، ثم يتركون القرآن لنقل لا أحد، فإن قال قائل: وكيف ذلك ؟ قلنا له وبالله تعالى التوفيق: إنهم يقولون كثيرا بالمرسل، وهو نقل لا أحد لان المسكوت عن ذكره المجهول حاله هو ومن هو
معدوم سواء.
وبالله تعالى التوفيق.
فصل أجاز بعض أصحابنا أن يرد الحديث الصحيح
قال علي: وقد أجاز بعض أصحابنا أن يرد حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ،ويكون الاجماع على خلافه، قال وذلك دليل على أنه منسوخ.
قال علي: وهذا عندنا خطأ فاحش متيقن، لوجهين برهانيين ضروريين: أحدهما: أن ورود حديث صحيح يكون الاجماع على خلافه معدوم، لم يكن قط ولا هو في العالم فمن ادعى أنه موجود فليذكره لنا، ولا سبيل له والله إلى وجوده أبدا.
والثاني: أن الله تعالى قد قال: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون فمضمون عند كل من يؤمن بالله واليوم الآخر أن ما تكفل الله عز وجل بحفظه فهو غير ضائع أبدا، لا يشك في ذلك مسلم، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم كله وحي بقوله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى ئ إن هو إلا وحي يوحى) * والوحي ذكر بإجماع الامة كلها، والذكر محفوظ بالنص، فكلامه عليه السلام محفوظ بحفظ الله عز وجل ضرورة، منقول كله إلينا لا بد من ذلك.
فلو كان هذا الحديث الذي ادعى هذا القائل أنه مجمع على تركه، وأنه منسوخ كما ذكر لكان ناسخه الذي اتفقوا عليه قد ضاع ولم يحفظ، وهذا تكذيب لله عز وجل في أنه حافظ للذكر كله، ولو كان ذلك لسقط كثير مما بلغ عليه السلام عن ربه، وقد أبطل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله في حجة الوداع: اللهم هل بلغت.(2/193)
قال علي: ولسنا ننكر أن يكون حديث صحيح وآية صحيحة التلاوة منسوخين بحديث آخر صحيح، وإما بآية متلوة، ويكون الاتفاق على النسخ المذكور قد ثبت، بل هو موجود عندنا، إلا أننا نقول: لا بد أن يكون الناسخ لهما موجودا أيضا عندنا، منقولا إلينا محفوظا عندنا، مبلغا نحونا بلفظه، قائم النص
لدينا، لا بد من ذلك، وإنما الذي منعنا منه - فهو أن يكون المنسوخ محفوظا منقولا مبلغا إلينا، ويكون الناسخ له قد سقط ولم ينقل إلينا لفظه، فهذا باطل عندنا، لا سبيل إلى وجوده في العالم أبد الابد، لانه معدوم البتة، قد دخل - بأنه غير كائن - في باب المحال والممتنع عندنا، وبالله تعالى التوفيق فصل
قال علي: وإذا قال الصحابي: السنة كذا، وأمرنا بكذا، فليس هذا إسنادا، ولا يقطع على أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ،ولا ينسب إلى أحد قول لم يرو أنه قاله ولم يقم برهان على أنه قاله، وقد جاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: كنا نبيع أمهات الاولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ،حتى نهانا عمر فانتهينا.
وقد قال بعضهم: السنة كذا، وإنما يعني أن ذلك هو السنة عنده على ما أداه إليه اجتهاده، فمن ذلك ما حدثناه حمام، ثنا الاصيلي، ثنا أبو زيد المروزي، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا أحمد بن محمد، ثنا عبد الله، أنبأ يونس، عن الزهري، أخبرني سالم بن عبد الله، قال: كان ابن عميقول: أليس حسبكم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت وبالصفا وبالمروة، ثم حل من كل شئ حتى يحج عاما قابلا فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديا.
قال أبو محمد: ولا خلاف بين أحد من الامة كلها أن النبي صلى الله عليه وسلم إذ صد عن البيت لم يطف به، ولا بالصفا والمروة، بل أحل حيث كان بالحديبية ولا مزيد، وهذا الذي ذكره ابن عمر لم يقع قط لرسوله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا حمام بن أحمد قال: ثنا عياش بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن قال: ثنا محمد بن إسماعيل الصايغ، ثنا عبد الله بن بكر السهمي، ثنا سعيد بن أبي عروبة عن مطر هو - الوراق، عن رجاء بن حيوة، عن قبصه بن ذؤيب، عن عمرو بن العاص.(2/194)
قال: لا تلبسوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها عدة الحرة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا.
حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية، ثنا أحمد بن شعيب، ثنا محمد بن بشار بندار، ثنا يحيى هو ابن سعيد القطان، ثنا عبد المجيد بن جعفر، ثنا وهب بن كيسان قال: اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير، فأخر الخروج حتى تعالى النهار، ثم خرج فخطب فأطال الخطبة، ثم نزل فصل ركعتين، ولم يصل للناس يومئذ الجمعة، فذكر ذلك لابن عباس، فقال: أصاب السنة.
قال أبو محمد: وقد صح عن ابن عباس أنه قرأ أم القرآن على الجنازة في الصلاة وجهر، وقال: إنها سنة، كما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد، ثنا أبو إسحاق البلخي، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا محمد بن بشار، ثنا غندر، ثنا شعبة، عن سعد، عن طلحة، قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب قال: لتعلموا أنها سنة - سعد هذا هو - ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف - وطلحة - هو ابن عبد الله بن عوف، وروي عن أنس: أنه أفطر في منزله في رمضان إذا أراد السفر قبل أن يخرج قال: إنها سنة.
وخصومنا في هذا الموضع لا يقولون بشئ من هذا، فقد نقضوا أصلهم ومن أضل ممن لا يجعل قول هؤلاء: هي السنة سنة، ويجعل قول سعيد بن المسيب في دية أصابع المرأة: هي السنة سنة.
قال أبو محمد: فلما وجدنا ذلك منصوصا عنهم، لم يحل لنا أن ننسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئا لا نعمله، فنكون قد دخلنا في نهي الله عز وجل إذ يقول: * (ولا تقف ما ليس لك به علم فمن أقدم على هذا فهو قليل الورع حاكم بالظن، والظن لا يغني من الحق شيئا، وهذا مذهب أهل الصدر الاول، كما حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي، عن عبد الملك بن عمر الخولاني، عن محمد بن بكر المصري، عن سليمان بن الاشعث، ثنا
عبد الله بن معاذ، أخبرني أبي، ثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: استحيضت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرت أن تعجل العصر وتؤخر الظهر، وتغتسل لهما غسلا، وأن تؤخر المغرب وتعجل العشاء، وتغتسل لهما غسلا، وتغتسل لصلاة(2/195)
الصبح غسلا، فقلت لعبد الرحمن: أعن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: لا أحدثك عن النبي صلى الله عليه وسلم شئ.
قال علي: فهذا عبد الرحمن يحكي أنها أمرت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستجز أن يقول: ومن يأمر بهذا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ،لا سيما في حياته عليه السلام، وإنما أقدم على القطع في هذا، من قل فهمه، ورق ورعه، واشتغل بالقياسات الفاسدة، عن مراعاة حديث النبي صلى الله عليه وسلم وألفاظ القرآن.
وقد قال بعضهم: إذا جاء عن صاحب فتيا من قوله، إلا أن فيها شرع شريعة أو حدا محدودا، أو وعيدا، فإن هذا مما لا يقال بقياس، ولا يقال إلا بتوقيف فاستدل بذلك على أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال علي: وقائل هذا القول الساقط يقر أنهم رتبوا في الخمر ثمانين برأيهم، وقد أعاذهم الله تعالى من ذلك، ونحن نجد أنهم رضي الله عنهم قالوا بكل ما ذكرنا بآرائهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي وبعد موته، فقد قال طائفة من الصحابة: حبط عمل عامر بن الاكوع، إذ ضرب نفسه بسيفه في الحرب، فأكذب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وعمر قد قال: دعني أضرب عنق حاطب فقد نافق، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله ذلك، وفي قول عمر الذي ذكرنا إيجاب شرع في ضرب عنق امرئ مسلم، وإخبار بغيب في أنه منافق، ومثل هذا كثير مما سنذكره في باب إبطال التقليد إن شاء الله تعالى.
وكل هذا فقد يقوله
المرء مجتهدا متأولا ومستعظما لما يرى فمخطئ ومصيب.
وإن العجب ليكثر ممن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل ما ذكرنا بظنه الفاسد، وينكر أن يكون عليه السلام جلد ماعزا، وقد صح عنه عليه السلام الحكم بالجلد على المحصن مع الرجم، ونزل القرآن بجلد الزناة كلهم، وقد ذكر أبو هريرة حديث النفقة على الزوجة والولد والعبد، فقال في آخره: تقول امرأتك أنفق علي أو طلقني، فقيل له: أهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: لا ولكن هذا من كيس أبي هريرة.
والعجب من القائل: إن مثل هذا لا يقال بالقياس، نعني في مثل قول عائشة(2/196)
رضي الله عنها لام ولد زيد بن أرقم: أبلغني زيدا أنه إن لم يتب فقد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وهو يقول بالقياس ما هو أشنع من هذا، فبعضهم يفرق بين الفأرة والعصفورة الواقعين في البئر يموتان فيها، وبين الدجاجة والسنور يموتان في البئر فيوجب من أحدهما عشرين دلوا ومن الآخر أربعين دلوا، ويجيز بيع ثوب من ثوبين أو ثلاثة يختاره المشتري بغير عينه، ولا يجيز بيع ثوب من أربعة أثواب فصاعدا يختاره المشتري، ويرى القطع في الساج والقنا ولا يراه في سائر الخشب وبعضهم يفرق بين سلم بغل في بغلين، وبين سلم بغلين في بغلين، فيحل أحد الوجهين ويحرم الآخر، وتحكمهم في الدين لو جمع لقامت منه أسفار ونحن لا ننسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما صح عنه بالنقل، أو صح أن ربه تعالى أمره به ولم ينسخه عنه، فقد قال عليه السلام: إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.
قال علي: وليس في تعمد الكذب أكثر من أن تسمع كلاما لم يخبرك أحد تثق به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، ولا سمعته يقوله، ولا علمت أن الله تعالى أمره
به فتنسبه أنت برأيك، وطنك إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، نعوذ بالله العظيم من ذلك.
فصل
قال علي: وقد ذكر قوم لا يتقون الله عز وجل أحاديث في بعضها إبطال شرائع الاسلام، وفي بعضها نسبة الكذب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإباحة الكذب عليه، وهو ما حدثنا المهلب بن أبي صفرة، حدثنا ابن مناس، ثنا محمد بن مسرور القيرواني، ثنا يونس بن عبد الاعلى، عن ابن وهب، أخبرني شمر بن نمير، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس عن أبيه عن جده علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سيأتي ناس يحدثون عني حديثا، فمن(2/197)
حدثكم حديثا يضارع القرآن فأنا قلته، ومن حدثكم بحديث لا يضارع القرآن فلم أقله، فإنما هو حسوة من النار.
قال أبو محمد: الحسين بن عبد الله ساقط منهم بالزندقة، وبه إلى ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن الاصبغ بن محمد أبي منصور أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الحديث عني على ثلاث، فأيما حديث بلغكم عني تعرفونه بكتاب الله تعالى فاقبلوه، وأيما حديث بلغكم عني لا تجدون في القرآن ما تنكرونه به ولا تعرفون موضعه فيه فاقبلوه، وأيما حديث بلغكم عني تقشعر منه جلودكم وتشمئز منه قلوبكم وتجدون في القرآن خلافه فردوه.
قال أبو محمد: هذا حديث مرسل، والاصبغ مجهول.
حدثنا أحمد بن عمر، ثنا ابن يعقوب، ثنا ابن محلون، ثنا المغامي ثنا عبد الملك بن حبيب عن مطرف بن عبد الله، عن مالك، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: لا يمسك الناس علي شيئا لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه وهذا مرسل إلا أن معناه صحيح، لانه عليه
السلام إنما أخبر في هذا الخبر بأنه لم يقل شيئا من عند نفسه بغير وحي من الله تعالى به إليه، وأحال بذلك على قول الله تعالى في كتابه: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) * فنص كتاب الله تعالى يقضي بأن كل ما قاله عليه السلام فهو عن الله تعالى.
وأخبرني المهلب بالسند الاول إلى ابن وهب، حدثني سليمان بن بلال، عن عمرو ابن أبي عمرو، عمن لا يتهم، عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وإني لا أدري لعلكم أن تقولوا عني بعدي ما لم أقل، ما حدثتم عني مما يوافق القرآن فصدقوا به، وما حدثتم عني مما لا يوافق القرآن فلا تصدقوا به وما لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقول ما لا يوافق القرآن، وبالقرآن هداه الله.
قال أبو محمد: وهذا مرسل وفيه: عمرو بن أبي عمرو - وهو ضعيف، وفيه أيضا مجهول، حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان، ثنا أحمد بن خالد، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا حجاج بن المنهال، ثنا عبد الوهاب - هو الثقفي - سمعت يحيى بن سعيد قال: أخبرني ابن أبي مليكة، أن ابن عمير حدثه أن رسول الله(2/198)
صلى الله عليه وسلم جلس في مرضه الذي مات فيه إلى جنب الحجر، فحذر الفتن، وقال: إني والله لا يمسك الناس علي بشئ، إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه.
قال علي: وهذا مرسل لا يصح، وفيما أخذناه عن بعض أصحابنا عن القاضي عبد الله بن محمد بن يوسف، عن ابن الدخيل، عن محمد بن عمرو العقيلي، حدثنا محمد بن أيوب، ثنا أبو عون محمد بن عون الزيادي، ثنا أشعث بن بزار، عن قتادة، عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا حدثتم عني بحديث يوافق الحق فخذوا به حدثت به أو لم أحدث.
قال علي: وأشعث بن بزار كذاب ساقط لا يؤخذ حديثه، وحدثنا المهلب بن أبي صفرة، ثنا ابن مناس، ثنا محمد بن مسرور، ثنا يونس بن عبد الاعلى، عن ابن وهب، أخبرني الحارث بن نبهان، عن محمد بن عبد الله العرزمي، عن عبد الله بن سعيد آآبن أبي سعيد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما بلغكم عني من قول حسن لم أقله فأنا قلته.
قال علي: الحارث ضعيف، والعرزمي ضعيف، وعبد الله بن سعيد كذاب مشهور، وهذا هو نسبة الكذب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،لانه حكي عنه أنه قال: لم أقله فأنا قلته فكيف يقول ما لم يقله هل يستجيز هذا إلا كذاب زنديق كافر أحمق ؟ إنا لله وإنا إليه راجعون على عظم المصيبة، بشدة مطالبة الكفار لهذه الملة الزهراء، وعلى ضعف بصائر كثير من أهل الفضل، يجوز عليهم مثل هذه البلايا لشدة غفلتهم، وحسن ظنهم لمن أظهر لهم الخير.
قال علي: فإحدى الطائفتين أبطلت الشرائع، والاخرى أباحت الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ونحن نبرأ إلى الله تعالى من كلتا هاتين الطائفتين وهاتين المسألتين.
ونقول للاولى: أول ما نعرض على القرآن الحديث الذي ذكرتموه، فلما(2/199)
عرضناه وجدنا القرآن يخالفه، قال الله تعالى وما آتا كم الرسول فخذوه وما نها كم عنه فاتنهوا وقال تعالى (من يطع الرسول فقد أطاع الله وقال تعالى لتحكم بين الناس بما أراك الله ونسأل قائل هذا القول الفاسد: في أي قرآن وجد أن الظهر أربع ركعات، وأن المغرب ثلاث ركعات، وأن الركوع على صفة كذا، والسجود على صفة كذا، وصفة القراءة فيها والسلام، وبيان ما يجتنب في الصوم، وبيان كيفية زكاة الذهب والفضة، والغنم والابل والبقر، ومقدار الاعداد المأخوذ منها
الزكاة، ومقدار الزكاة المأخوذة، وبيان أعمال الحج من وقت الوقوف بعرفة، وصفة الصلاة بها وبمزدلفة ورمي الجمار، وصفة الاحرام، وما يجتنب فيه، وقطع يد السارق، وصفة الرضاع المحرم، وما يحرم من المآكل، وصفة الذبائح والضحايا وأحكام الحدود، وصفة وقوع الطلاق، وأحكام البيوع، وبيان الربا، والاقضية والتداعي والايمان والاحباس، والعمرى، والصدقات، وسائر أنواع الفقه ؟ وإنما في القرآن جمل لو تركنا وإياها، لم ندر كيف نعمل فيها، وإنما المرجوع إليه في كل ذلك النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وكذلك الاجماع إنما هو على مسائل يسيرة قد جمعناها كلها في كتاب واحد وهو المرسوم بكتاب المراتب فمن أراد الوقوف عليها فليطلبها هنالك فلا بد من الرجوع إلى الحديث ضرورة ولو أن امرأ قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافرا بإجماع الامة، ولكان لا يلزمه إلا ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل، وأخرى عند الفجر، لان ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم صلاة، ولا حد للاكثر في ذلك.
وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال، وإنما ذهب إلى هذا بعض غالية الرافضة ممن قد اجتمعت الامة على كفرهم وبالله تعالى التوفيق ولو أن امرأ لا يأخذ إلا بما اجتمعت عليه الامة فقط، ويترك كل ما اختلفوا فيه مما قد جاءت فيه النصوص لكان فاسقا بإجماع الامة، فهاتان المقدمتان توجب بالضرورة الاخذ بالنقل.
وأما من تعلق بحديث التقسيم فقال: ما كان في القرآن أخذناه، وما لم يكن في القرآن لا ما يوافقه ولا ما يخالفه أخذناه، وما كان خلافا للقرآن تركناه،(2/200)
فيقال لهم: ليس في الحديث الذي صح شئ يخالف القرآن، فإن عد الزيادة خلافا لزمه أن يقطع في فلس من الذهب، لان القرآن جاء بعموم القطع.
ولزمه أن يحل
العذرة، لان في نص القرآن: * (قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم) * والعذرة ليست شيئا مما ذكر، فإن قال: هي رجس، قيل له: كل محرم فهو رجس، لا سيما إن كان مخاطبنا ممن يستحل أبوال الابل وبعرها، فأي فرق بين أنواع المعذرات لولا التحكم، ولزمه أيضا، أن يحل الجمع بين العمة وبنت أخيها، لان القرآن نص على المحرمات، ثم قال: وأحل لكم ما وراء ذلكم فإن عد الزيادة خلافا لزمه كما ذكر ناه.
وأما لطائفة الاخرى المبيحة للقول بما لم يأت نصا خلافا، لزمه كما ذكرناه عن النبي صلى الله عليه وسلم وإباحة أن ينسب ذلك إليه، فحسبنا أنهم مقرون على أنفسهم بأنهم كاذبون، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين.
حدثنا أحمد بن محمد الجسوري قال: ثنا وهب بن مسرة، ثنا ابن وضاح، عن أبي بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع عن شعبة وسفيان، عن حبيب، عن ميمون بن أبي شبيب، عن المغيرة بن شعبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال عليه السلام: لا تكذبوا علي فإنه من يكذب علي يلج النار وروينا هذا المعنى مسندا صحيحا من طريق علي، وأبي هريرة، وسمرة وأنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال علي: وقال محمد بن عبد الله بن مسرة: الحديث ثلاثة أقسام: فحديث موافق لما في القرآن، فالاخذ به فرض، وحديث زائد على ما في القرآن، فهو مضاف إلى ما في القرآن، والاخذ به فرض، وحديث مخالف لما في القرآن فهو مطرح.
قال علي بن أحمد: لا سبيل إلى وجود خبر صحيح مخالف لما في القرآن أصلا، وكل خبر شريعة، فهو إما مضاف إلى ما في القرآن ومعطوف عليه ومفسر لجملته، وإما مستثنى منه لجملته، ولا سبيل إلى وجه ثالث.
فإن احتجوا بأحاديث محرمة أشياء ليست في القرآن قلنا لهم: قد قال الله(2/201)
عز وجل يحل لهم الطيبان ويحرم عليهم الخبائث فكل ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الحمار الاهلي وسباع الطير، وذوات الانياب، وغير ذلك فهو من الخبائث، وهو مذكور في الجملة المتلوة في القرآن ومفسر لها، والمعترض بها يسأل: أيحرم أكل عذرته أم يحلها، فإن أحلها خرج عن إجماع الامة وكفر، وإن حرمها فقد حرم ما لم ينص الله تعالى على اسمه في القرآن، فإن قال: هي من الخبائث قيل له: وكل ما حرم عليه السلام فهو كالخنزير، وكل ذلك من الخبائث.
قال علي: فإن قال: قد صح الاجماع على تحريمها، قيل له: قد أقررت بأن الامة مجمعة على إضافة ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من السنن إلى القرآن، مع ما صح على النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن ذلك، كما حدثنا عبد الرحمن بن سلمة - صاحب لنا - قال: ثنا أحمد بن خليل قال: ثنا خالد بن سعيد، ثنا أحمد بن خالد، ثنا أحمد بن عمرو المكي - وكان ثقة - ثنا محمد بن أبي عمر العدني، ثنا سفيان - هو ابن عيينة - عن سالم أبي النضر عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الامر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري ما وجدنا في كتاب الله تعالى اتبعناه فهذا حديث صحيح بالنهي عما تعلل به هؤلاء الجهال، وبالله تعالى التوفيق، مع ما قدمنا من أنه لا يختلف مسلمان في أن ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو مضاف إلى ما في القرآن، وأنهم إنما اختلفوا في الطرق التي بها يصح ما جاء عنه عليه السلام فقط.
وقد سألت بعض من يذهب هذا المذهب عن قول الله تعالى وقد ذكر النساء المحرمات في القرآن، ثم قال تعالى: وأحل لكم ما وراء ذلكم ثم روى أبو هريرة وأبو سعيد أنه عليه السلام حرم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها،
وليس هذا إجماعا، فعثمان البتي وغيره يرون الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها حلالا.
فقال لي: ليس هذا الحديث خلافا للآية لكنه مضاف إليها، فقلت له: فعلى هذا لا سبيل إلى وجود حديث مخالف لما في القرآن أصلا، وكل حديث أتى فهو مضاف إلى ما في القرآن ولا فرق، وبالله تعالى التوفيق(2/202)
فصل قال على وليس كل من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ورآه صحابيا، ولو كان ذلك لكان أبو جهل من الصحابة، لانه قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم وحادثه وجالسه وسمع منه، وليس كل من أدركه عليه السلام ولم يلقه، ثم أسلم بعد موته عليه السلام، أو في حياته - إلا أنه لم يره - معدودا في الصحابة، ولو كان ذلك لكان كل من كان في عصره عليه السلام صحابيا، ولا خلاف بين أحد في أن علقمة والاسود ليسا صحابيين، وهما من الفضل والعلم والبر بحيث هما، وقد كانا عالمين جليلين أيام عمر، وأسلما في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما الصحابة الذين قال الله تعالى فيهم: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماه بينهم الآية ومن سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحدث بشئ - والسامع كافر ثم أسلم فحدث به وهو عدل - فهو مسند صحيح واجب الاخذ به، ولا خلاف بين أحد من العلماء في ذلك، وإنما شرط العدالة في حين النذارة والمجئ بالخير، لا في حين مشاهدة ما أخبر به، وقد كان في المدينة في عصره عليه السلام منافقون بنص القرآن، وكان بها أيضا من لا ترضي حاله كهيت المخنث الذي أمر عليه السلام بنفيه، والحكم الطريد وغيرهما، فليس هؤلاء ممن يقع عليهم اسم الصحابة.
حدثني أحمد بن قاسم قال: حدثني أبي قاسم بن محمد بن قاسم قال: حدثني جدي قاسم بن أصبغ قال: حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي، ثنا زكريا بن عدي، ثنا علي
بن مسهر عن صالح بن حيان عن أبي بريدة عن أبيه قال: كان حي من بني ليث على ميلين من المدينة، قال فجاءهم رجل وعليه حلة، فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كساني هذه الحلة، وأمرني أن أحكم في دمائكم وأموالكم بما أرى قال: وقد كان خطب منهم امرأة في الجاهلية فلم يزوجوه، فانطلق حتى نزل على تلك المرأة، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كذب عدو الله ثم أرسل رجلا فقال: إن وجدته حيا - ولا أراك تجده - فاضرب عنقه، وإن وجدته ميتا فاحرقه بالنار.
قال علي: فهذا من كان في عصره صلى الله عليه وسلم يكذب عليه كما ترى فلا يقبل إلا من سمي وعرف فضله، وأما قدامة بن مظعون، وسمرة بن جندب،(2/203)
والمغيرة بن شعبة، وأبو بكرة، رضوان الله عليهم، فأفاضل أئمة عدول.
أما قدامة فبدري مغفور له بيقين مرضي عنه، وكل من تيقنا أن الله عز وجل رضي عنه، وأسقط عنه الملامة، ففرض علينا أن نرضى عنه، وأن لا نعدد عليه شيئا، فهو عدل بضرورة البرهان القائم على عدالته من عند الله عز وجل وعندنا، وبقوله عليه السلام: إن الله اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
وأما المغيرة بن شعبة، فمن أهل بيعة الرضوان وقد أخبر عليه السلام أ لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة فالقول فيه كالقول في قدامة.
وأما سمرة بن جندب فأحدي وشهد المشاهد بعد أحد وهلم جرا، والامر فيه كالامر في المغيرة بن شعبة.
وأما أبو بكرة، فيحتمل أن يكون شبه عليه، وقد قال ذلك المغيرة، فلا يأثم هو ولا المغيرة، وبهذا نقول: وكل ما احتمل ولم يكن ظاهره يقينا فغير منقول عن متيقن حاله بالامس، فهما على ما ثبت من عدالتهما.
ولا يسقط اليقين بالشك وهذا هو استصحاب الحال الذي أباه خصومنا، وهم راجعون إليه
في هذا المكان بالصغر منهم.
فما منهم أحد امتنع من الرواية عن المغيرة وأبي بكرة معا، وأبي بكرة وهو متأول وأما سمرة فمتأول أيضا، والمتأول مأجور وإن كان مخطئا، وكذلك قدامة تأول أن لا جناح عليه - وصدق - لا جناح عليه عند الله تعالى في الآخرة بلا شك، وأما في أحكام الدنيا فلا، ولنا في الدنيا أحكام غير أحكام الآخرة.
وكذلك كل من قاتل عليا رضوان الله عليه يوم صفين، وأما أهل الجمل فما قصدوا قط قتال علي رضوان الله عليه، ولا قصد علي رضوان الله عليه قتالهم، وإنما اجتمعوا بالبصرة للنظر في قتلة عثمان رضوان الله عليه، وإقامة حق الله تعالى فيهم، فأسرع الخائفون على أنفسهم أخذ حد الله تعالى منهم - وكانوا أعدادا عظيمة يقربون من الالوف - فأثاروا القتال خفية حتى اضطر كل واحد من الفريقين إلى الدفاع عن أنفسهم، إذ رأوا السيف قد خالطهم، وقد جاء ذلك نصا مرويا.
وإن العجب ليكثر ممن يبيح لابي حنيفة ومالك والشافعي والاوزاعي، والليث وسفيان وأحمد وداود رحمهم الله أن يجتهدوا في الدماء، وفي الفروج وفي العبادات(2/204)
فيسفك هذا دما يحله باجتهاده، ويحرمه سائد من ذكرنا فرجا ويحرمه الآخر ويحل أحدهم مالا ويحرمه الآخر، ويوجب أحدهم حدا ويسقطه الآخر، ويوجب أحدهم فرضا وينقضه الآخر، ويحرم أحدهما عملا ويحله الآخر، ولم يختلفوا قط إلا فيما ذكرنا، فيجيز لهؤلاء الحكم فيما ذكرنا، ويعذرهم في اختلافهم في استباحة الدماء فما دونها، وليس عندنا من أمرهم إلا أنهم فيما بدا لنا مسلمون فاضلون، يلزمنا توقيرهم والاستغفار لهم، إلا أننا لا نقطع لهم بالجنة ولا بمغيب عقودهم، ولا برضى الله عز وجل عنهم، لكن نرجو لهم ذلك ونخاف عليهم كسائر أفاضل المسلمين ولا فرق، ثم لا نجيز ذلك لعلي وأم المؤمنين وطلحة والزبير
وعمار وهشام بن حكيم ومعاوية وعمرو والنعمان وسمرة وأبي الغادية وغيرهم، وهم أئمة الاسلام حقا والمقطوع على فضلهم، وعلى أكثرهم، بأنهم في الجنة، وهذا لا يخيل إلا على مخذول وكل من ذكرنا من مصيب أو مخطئ - فمأجور على اجتهاده إما أجرين وإما أجرا، وكل ذلك غير مسقط عدالتهم.
وبالله تعالى التوفيق.
فصل
قال علي: وحكم الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يورد بنص لفظه لا يبدل ولا يغير، إلا في حال واحدة، وهي أن يكون المرء قد تثبت فيه، وعرف معناه يقينا فيسأل فيفتي بمعناه وموجبه، أو يناطر فيحتج بمعناه وموجبه، فيقول: حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، وأمر عليه السلام بكذا، وأباح عليه السلام كذا، ونهى عن كذا، وحرم كذا، والواجب في هذه القضية ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو كذا.
وكذلك القول فيما جاء من الحكم في القرآن ولا فرق، وجائز أن يخبر المرء بموجب الآية وبحكمها بغير لفظها وهذا ما لا خلاف فيه من أحد - في أن ذلك مباح كما ذكرنا.
وأما من حدث وأسند القول إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،وقصد التبليغ لما بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحل له إلا أن يتحرى الالفاظ كما سمعها لا يبدل حرفا مكان آخر، وإن كان معناهما واحدا، ولا يقدم حرفا ولا يؤخر آخر، وكذلك من قصد تلاوة آية أو تعلمها وتعليمها ولا فرق، وبرهان ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم (2/205)
علم البراء بن عازب دعاء وفيه: ونبيك الذي أرسلت فلما أراد البراء أن يعرض ذلك الدعاء على النبي صلى الله عليه وسلم قال: وبرسولك الذي أرسلت: فقال النبي عليه السلام: لا، ونبيك الذي أرسلت فأمره عليه السلام كما تسمع ألا يضع لفظة رسول في موضع لفظة نبي وذلك حق لا يحيل معنى، وهو عليه السلام
رسول ونبي، فكيف يسوغ للجهال المغفلين أو الفساق المبطلين، أن يقولوا: إنه عليه السلام كان يجيز أن توضع في القرآن مكان عزيز حكيم غفور رحيم أو سميع عليم وهو يمنع من ذلك في دعاء ليس قرآنا والله تعالى يقول مخبرا عن نبيه صلى الله عليه وسلم ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسي) ولا تبديل أكثر من وضع كلمة مكان أخرى، أم كيف يسوغ لاهل الجهل والعمى إباحة القراءة المفروضة في الصلاة بالاعجمية مما ذكرنا، ومع إجماع الامة على أن إنسانا لو قرأ أم القرآن فقدم آية على أخرى، أو قال: الشكر للصمد مولى الخلائق، وقال هذا هو القرآن المنزل لكان كافرا بإجماع ومع قوله تعالى لسان الذى يلحدن إليه أعجمى وهذا لسان عربي مبين ففرق تعالى بينهما، وأخبر أن القرآن إنما هو باللفظ العربي لا بالعجمي، وأمر بقراءة القرآن في الصلاة، فمن قرأ بالاعجمية فلم يقرأ القرآن بلا شك.
والعجب أن قائل هذا الهجر لا يجيز الدعاء في الصلاة إلا بما يشبه ما في القرآن لا بتسمية المدعو لهم، ولا بغير ذلك، وقد جاء النص بإباحة الدعاء فيها جملة ويقول: إن من عطس في الصلاة فقال: الحمد لله رب العالمين، فحرك بها لسانه فقد بطلت صلاته، فسبحان من وفقهم لخلاف الحق في كلا الوجهين، فيجيزون القراءة في الصلاة بخلاف القرآن، ويبطلون الصلاة بذكر آية من القرآن، ويمنعون من الدعاء فيها إلا بما في القرآن أو ما يشبهه، ولا شبه للقرآن في شئ من الكلام بإجماع الامة.
واحتج بعضهم في ذلك بقوله تعالى: وانه لفي زبر الاولين) * وبخطابه تعالى لنا بالعربية حاكيا كلام موسى عليه السلام
قال علي: وهذا لا حجة لهم فيه، لان الذي في زبر الاولين إنما هو معنى القرآن لا القرآن، ولو كان القرآن في زبر الاولين لما كان محمد صلى الله عليه وسلم مخصوصا به،(2/206)
ولا كانت فيه آية، وهذا خلاف النصوص والخروج عن الاسلام، لانه لو أنزل على غيره قبله لما كان محمد صلى الله عليه وسلم مخصوصا به، وأما حكايته تعالى لنا كلام موسى وغيره بلغتنا فلم يلزمنا تعالى قراءة ألفاظهم بنصها، ولا نمنع نحن من تلاوته في الصلاة، وإنما نمنع من تلاوته في القرآن، أو على سبيل التقريب بتلاوته إلى الله تعالى بغير اللفظ الذي أنزل به، لا بكلام أعجمي، ولا بغير تلك الالفاظ، وإن وافقتها في العربية، ولا بتقديم تلك الالفاظ بعينها ولا بتأخيرها، وإنما نجيز الترجمة التي أجازها النص على سبيل التعليم والافهام فقط، لا على سبيل التلاوة التي نقصد بها القربة، وبالله تعالى التوفيق.
وبلا خلاف من أحد من الامة أن القرآن معجزة وبيقين ندري أنه إذا ترجم بلغة أعجمية أو بألفاظ عربية غير ألفاظه، فإن تلك الترجمة غير معجزة، وإذ هي غير معجزة فليست قرآنا.
ومن قال فيما ليس قرآنا إنه قرآن فقد فارق الاجماع وكذب الله تعالى، وخرج عن الاسلام إلا أن يكون جاهلا، ومن أجاز هذا وقامت عليه الحجة، ولم يرجع فهو كافر مشرك مرتد حلال الدم والمال، لا نشك في ذلك أصلا.
وأيضا فقد قال تعالى مخبرا عن نبيه صلى الله عليه وسلم : * (ومينطق عن الهوى ئ إن هو إلا وحي يوحى) * فلما صح بنص القرآن أن كلامه عليه السلام وحي كله حرم بلا شك تحريف الوحي وإحالته كما حرم ذلك في الوحي المتلو الذي هو القرآن ولا فرق.
ومن حدث بحديث فبلغه إلى غيره كما بلغه إياه غيره، وأخذ عنه فليس عليه أن يكرره أبدا حتى يحصل في حد الهذيان، وقد أدى ما عليه بتبليغه.
قال أبو محمد: وبهذا يبطل قول من رام توهين الحديث المسند، بأن فلانا أرسله إذ لو كان سكوت المرء - في بعض الاحيان - عن تأدية ما سمع مسقطا
للاحتجاج به، إذ أداه في وقت آخر أو لم يؤده هو وأداه غيره، لكان إذا نام أو أكل أو وطئ أو اشتغل بصلاة أو مصلحة دنياه أو بشئ من أمر دينه، أو بتبليغ حديث آخر - قد بطل الاحتجاج بما سكت عنه في الاحوال التي ذكرنا، وهذا جنون فادح ممن قاله، وكفى سقوطه بكل قول أخرج إلى الجنون، وأدى إلى المحال والممتنع، وبالله تعالى التوفيق.(2/207)
وأما اللحن في الحديث فإن كان شيئا له وجه في لغة بعض العرب، فليروه كما سمعه ولا يبدله ولا يرده إلى أفصح منه ولا إلى غيره، وإن كان شيئا لا وجه له في لغة العرب البتة فحرام على كل مسلم أن يحدث باللحن عن النبي صلى الله عليه وسلم ،فإن فعل فهو كاذب مستحق للنار في الآخرة، لانا قد أيقنا أنه عليه السلام لم يلحن قط كتيقننا أن السماء محيطة بالارض، وأن الشمس تطلع من المشرق وتغرب من المغرب، فمن نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم اللحن فقد نقل عنه الكذب بيقين، وفرض عليه أن يصلحه ويبشره من كتابه، ويكتبه معربا، ولا يحدث به إلا معربا.
ولا يلتفت إلى ما وجد في كتابه من لحن ولا إلى ما حدث شيوخه ملحونا.
ولهذا لزم لمن طلب الفقه أن يتعلم النحو واللغة، وإلا فهو ناقص منحط لا تجوز له الفتية في دين الله عز وجل.
ثنا يونس بن عبد الله، ثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم، ثنا أحمد بن خالد، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، ثنا محمد بن بشار - بندار - ثنا عمرو بن محمد بن أبي رزين، ثنا سفيان الثوري، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يضرب ولده على اللحن.
قال علي: اللحن المحكي عن الله تعالى ورسوله عليه السلام كذب، والكذب واجب أن يضرب آتيه وقد روي عن شعبة أو عن حماد بن سلمة - الشك مني - أنه قال: من حدث عني بلحن فقد كذب علي، ونحن نقول ذلك وكان شعبة وحماد وخالد بن الحارث وبشر بن المفضل والحسن البصري لا يلحنون البتة وبالله تعالى التوفيق.
فصل في زيادة العدل
قال علي: وإذا روى العدل زيادة على ما روى غيره فسواء انفرد بها أو شاركه فيها غيره مثله أو دونه أو فوقه، فالاخذ بتلك الزيادة فرض، ومن خالفنا في ذلك فإنه يتناقض أقبح تناقض، فيأخذ بحديث رواه واحد ويضيفه إلى ظاهر القرآن - الذي نقله أهل الدنيا كلهم، أو يخصه به وهم بلا شك أكثر من(2/208)
رواة الخبر الذي زاد عليهم آخر حكما لم يروه غيره، وفي هذا التناقض من القبح ما لا يستجيزه ذوقهم وذو ورع، وذلك كتركهم قول الله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا عائشة رضي الله عنها ولم يشاركها فيه أحد.
وهو: لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا، ويترك قوله تعالى في الآيات التي ذكر فيها المحرمات من النساء.
ثم قال تعالى بعد ذكر من ذكر: * (وأحل لكم ما وراء ذلك فحرموا الجمع بين المرأة وعمتها، وليس ذلك مذكورا في آية التحريم، بل فيها إحلال كل ما لم يذكر في الآية، فتركوا ذلك لحديث انفرد به أبو هريرة وأبو سعيد وحدهما.
وليس ذلك إجماعا، فإن عثمان البتي يبيح الجمع بين المرأة وعمتها، ثم يعترضون على حكم رواه عدل بأن عدلا آخر لم يرو تلك الزيادة، وأن فلانا انفرد بها.
قال علي: وهذا جهل شديد، وقد ترك أصحاب أبي حنيفة الزيادة التي روى مالك في حديث زكاة الفطر وهي: من المسلمين فقالوا: انفرد بها مالك.
وترك أصحاب مالك الاستسعاء الذي رواه سعيد بن أبي عروبة، وقالوا: انفرد بها سعيد فكلا الطائفتين عابت ما فعلت، وأنكرت ما أتت به، مع أنه قد شورك
من ذكرنا هاتين الزيادتين ولو انفردا بها ما ضر ذلك شيئا.
ولا فرق بين أن يروي العدل الراوي العدل حديثا، فلا يرويه أحد غيره، أو يرويه غيره مرسلا، أو يرويه ضعفاء، وبين أن يروي الراوي العدل لفظة زائدة لم يروها غيره من رواة الحديث، وكل ذلك سواء واجب قبوله بالبرهان الذي قدمناه في وجوب قبول خبر الواحد العدل الحافظ، وهذه الزيادة وهذا الاسناد هما خبر واحد عدل حافظ، ففرض قبولهما، ولا نبالي روى مثل ذلك غيرهما أو لم يروه سواهما، ومن خالفنا فقد دخل في باب ترك قبول الخبر الواحد ولحق بمن أتى ذلك من المعتزلة وتناقض في مذهبه، وانفراد العدل باللفظة كانفراده بالحديث كله، ولا فرق.
قال علي: فإن كانت اللفظة الزائدة ناقصة من المعنى، فالحكم للمعنى الزائد لا للفظة الزيادة، لان زيادة المعنى هو العموم، وهو الزيادة حينئذ على الحقيقة وهو الحكم الزائد والشرع الوارد والامر الحادث، ولان النبي صلى الله عليه وسلم (2/209)
إنما بعث شارعا ومحلالا ومحرما، وهكذا قال ابن عباس إذ ذكر عنده الضب.
فإذا روى العدل لفظة لها حكم زائد لم يروها غيره، أو رواها غيره، أو روى العدل عموما فيه حكم زائد، وروى آخرون لفظة فيها إسقاط ذلك الحكم، فالفرض أن يؤخذ بالحكم الزائد أبدا، لانه شريعة واردة قد تيقنا لزومها لنا، وأننا مأمورون بها ولم نتيقن نسخها ولا سقوطها، ولا يجوز ترك يقين لظن.
فمن ادعى تلك الشريعة - التي قد صح أمر الله عز وجل لنا بها - قد سقطت عنا، وأن الحكم قد رجع إلى ما كنا عليه قبل ورود تلك الشريعة، فهو مفتر على الله عز وجل إلا أن يأتي ببرهان من نص أو إجماع على دعواه، ولا يحل لمسلم يخاف الله عز وجل - أن يترك يقينا لما لعله ليس كما يظن.
قال علي: ونمثل من ذلك مثالا فنقول: روى بعض العدول عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم النهي عن آنية الفضة هكذا مجملا، وروى بعضهم النهي عن الشرب في آنية الفضة، فكانت هذه اللفظة يعني - الشرب - ناقصة عن معنى الحديث الآخر الذي فيه إجمال النهي عن آنية الفضة نقصانا عظيما، ومبيحة لعظائم في عموم ذلك الحديث إيجاب تحريمها من الاكل فيها، والاغتسال فيها، والوضوء فيها، فهذه اللفظة وإن كانت زائدة في الصوت والخط فهي ناقصة من المعنى، والحديث الآخر وإن كان ناقص اللفظ فهو زائد في الحكم والمعاني، فهو الذي لا يجب الاخذ به، لان الحديث المذكور فيه الشرب هو بعض ما في الحديث الآخر.
وهذا نحو ما قلنا في الحديثين في زكاة الغنم اللذين ذكر في أحدهما السائمة ولم يذكر في الآخر، فوجب الاخذ بالعام للسائمة وغيرها لان من أخذ بالحديث العام كان آخذا بالخاص أيضا، لانه إذا اجتنب آنية الفضة جملة كان قد اجتنب الشرب في جملة ما اجتنب أيضا، وإذا زكى الغنم كلها كان زكى السائمة أيضا.
فكان آخذا بكلا الامرين، وغير عاص لشئ من النصين، وكان من آخذ بالحديث الاخص وحده عاصيا للحديث الآخر، تاركا له بلا دليل، إلا التحكم والدعوى بغير علم، لانه إذا زكى السائمة وحدها، فقد ترك زكاة غير السائمة، وخالف ما أوجبه الحديث الآخر، وكان إذا اجتنب الشرب في آنية الفضة وحدها كان قد عصى ما في النص الآخر والاستباح ما حرم الله تعالى فيه، وذلك(2/210)
لا يحل، لانه ليس أحد النصين أولى بالطاعة من الآخر، وليس أحدهما نافيا للآخر ولا مبطلا له.
ومن ذلك أيضا ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على نصف ما يخرج منها، فكان هذا عاما لكل ما يخرج منها زرعا أو خضرا أو ثمارا، وروى بعضهم هذا الحديث بعينه فقال: من ثمر النخل، فمن أخذ
بالمساقاة في ثمر النخل خاصة وحظر ما سوى ذلك كان مخالفا لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم المنقول في لفظ العموم، وليس قول من قال في ثمر النخل بمبطل أن يكون ساقاهم وعاملهم وزارعهم أيضا في غير ثمر النخل، ولكن هذا الراوي ذكر بعض ما عوملوا عليه وسكت عن بعض، وعم غيره كل ما وقعت فيه المعاملة، وكان هذا الحديث ناسخا لحديث النهي عن المزارعة بيقين.
لانه آخر فعله عليه السلام بلا شك الذي ثبت عليه إلى أن مات، وحديث النهي عن المزارعة كان قبله بلا شك، فلذلك قطعنا أنه منسوخ ولولا هذا البيان ما استجزنا ذلك.
قال علي: ومن هذا الباب أن يشهد عدلان أن زيدا طلق امرأته، وقال سائر من حضر المجلس وهم عدول.
لم يطلقها البتة، فلا نعلم خلافا في وجوب الحكم عليه بالطلاق.
وإنفاذ شهادة من شهد به، لان عندهما علما زائدا شهدا به لم يكن عند سائر من حضر المجلس، وهذا نفسه هو قبول زيادة العدل ولا فرق، وإن انفرد بها، وإنها كسائر نقله، وليس جهل من جهل حجة على علم من علم، ولا سكوت عدل مبطلا لكلام عدل آخر، ولا فرق بين أن ينفرد بالحديث كله وبين أن ينفرد بلفظة منه أو بحكم زائد فيه.
وقد وافقنا من يخاصم في هذا المعنى على قبول ما انفرد به العدل من الاخبار، وخالفونا في قبول الزيادة بلا دليل إلا التحكم بالدعوى فقط، إلا أن بعضهم رام أن يحتج فأضحك من نفسه، وذلك أنه قال: قد وافقناكم على قبول الخبر إذا سلم من الزيادة انفرد بها بعض الرواة، ومن إرسال غير هذا الراوي له، ومن مخالفة من هو أعدل منه وأحفظ في لفظه، وخالفناكم في قبوله إذا كان فيه شئ من هذه المعاني.(2/211)
قال علي: فيقال له وبالله تعالى التوفيق: هذا يشبه تمويه اليهود، إذ يقولون
قد وافقناكم على قبول نبوة موسى صلى الله عليه وسلم ،ووجوب شريعته، وترك العمل في السبت، وأن ذلك كله قد أمر به الله تعالى، وخالفناكم في قبول نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ،ووجوب شريعته.
قال علي: وهذا احتجاج من لا حجة له، وتمويه ضعيف، وذلك أننا لم نقبل نبوة موسى صلى الله عليه وسلم لاجل موافقتهم لنا عليهم، ولا نبالي وافقونا عليها أم خالفونا، كما لم نبال بتكذيب المجوس والمنانية والصابئين لنبوة موسى عليه السلام وإنما أخذنا بقبول نبوته عليه السلام لقيام البراهين على صحتها، وبمثل تلك البراهين نفسها وجب قبول نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا فرق، والحق إذا ثبت برهانه فلا معنى لقبول من قبله، ولا يزيده ذلك صحة، ولا معنى لمخالفة من خالفه، ولا يضره ذلك شيئا ونفسه ضر المخالف ولم يضر الحق.
وكذلك الشئ إذا لم يقم على صحته برهان، فلا معنى لقبول من قبله ولا يصححه ذلك، وكذلك قبول خبر الواحد لم نأخذ به، لان الحنفيين والمالكيين وافقونا على قبوله، وما نبالي وافقونا أم خالفونا، كما لم نبال بخلافهم لنا في القياس والتقليد، وكما لم نبال بخلاف من خالفنا - من المعتزلة وغيرهم - في قبول خبر الواحد، وإنما أخذنا بقبول خبر الواحد لقيام البرهان على وجوب القول به.
وبتلك الدلائل والبراهين بأعيانها، وجب اطراح العلل التي راموا بها إبطال الاخذ بالزيادة، وبما أرسله عدل وأسنده عدل، وما خولف فيه راويه، وبذلك البرهان نفسه وجب قبول الزيادة - وإن انفرد بها العدل - وتصحيح ما أسنده العدل - وإن أرسله غيره، وسواء كان أعدل منه أو أحفظ أو مثله أو دونه، وصح أن ما خالف هذا الحكم هذيان لا معنى له، وإنما يلزم الاحتجاج بما موهوا به غير موضعه، ففي حكم لم نراع فيه غير الاجماع المتيقن به إذا ثبت، وفيما لولا الاجماع المذكور لم نقل به، مما قد أمرنا باتباع الاجماع المتيقن المقطوع به
فيه مما لم يأت فيه نص محفوظ اللفظ، وإن كان أصل ذلك الاجماع لا يمكن البتة أن يكون إلا عن نص، وذلك مثل المسائل التي وجدنا فيها خلافا من واحد فما فوقه لم نقل بها ولا برهان(2/212)
عندنا فيها إلا الاجماع وحده، وذلك مثل القراض الذي لولا الاجماع على جوازه لاتصال نقل الاعصار به عصرا بعد عصر بأنه كان القراض في الجاهلية مشهورا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقره ولم ينه عنه، وهو يعلمه فاشيا في قريش، وكانوا أهل تجارة ولا عيش لهم إلا منها - لم نجزه، ولو وجدنا واحدا من العلماء يقول بإبطاله لوافقناه ولقلنا بقوله، إذ لا نص في إباحته، ولانه شرط لم يأت به نص، وكل شرط هذه صفته فإن لم يتفق على صحته فهو باطل بقوله عليه السلام: كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل فما كان من هذا النوع فإنا نراعي في مسائله الاجماع، فما أجمعوا عليه منها قلنا به.
وما اختلف فيه أسقطناه بالبتة، لانه قد بطل الاجماع فيه، والاجماع هو برهان صحته الذي لا برهان لصحته سواه، وما بطل برهان صحته فقد بطل القول به، وأما ما قام برهان ع لى صحته من غير الاجماع.
فلا ينبغي أن يلتفت من وافق عليه، ولا من خالف، ولا يتكثر بمن وافق فيه كائنا من كان، ولا يستوحش ممن خالف فيه كائنا من كان ولو كان ما ذكر هذا المغفل حجة لساغ للحنيفي أن يقول: قد وافقتموني على وجوب قطع يد من سرق ما يساوي عشرة دراهم، وخالفتكم في قطع من سرق أقل من ذلك، فلا يلزمني إلا ما اتفقنا عليه، لا ما اختلفنا فيه.
ولساغ له أن يقول: قد وافقتموني على أن القصر يكون من ثلاثة أيام فصاعدا، واختلفنا في أقل، فلا يجب إلا ما اتفقنا عليه.
ولساغ له أن يقول: قد وافقتموني على أن الصداق يكون عشرة دراهم، وخالفتكم في أقل من ذلك، فلا يصح إلا ما اتفقنا عليه، لا ما اختلفنا فيه.
ولساغ للمالكي أن يقول: قد وافقتموني على أن المغتسل إذا تدلك تم غسله، وخالفتكم فيه إذا لم يتدلك، فلا يجب إلا ما اتفقنا عليه دون مما اختلفنا فيه ووافقتموني على أن من وقف بعرفة ليلا أن وقوفه صحيح، وخالفتكم فيمن وقف نهارا ودفع قبل غروب الشمس، فلا يصح إلا ما اتفقنا عليه دون ما اختلفنا فيه.
ولساغ له أن يقول: قد وافقتكم على أن الصوم إذا سلم من الاكل بالنسيان(2/213)
تام، وخالفتكم في تمامه إذا وقع فيه أكل بنسيان، فلا يتم إلا ما اتفقنا عليه دون ما اختلفنا فيه.
ولساغ للشافعي أن يقول لهما: قد وافقتماني على أن من قرأ، بسم الله الرحمن الرحيم في تمام صلاته أنها تامة، وخالفتكم في تمام صلاة من لم يقرأها، ووافقتماني على تمام صلاة من صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر تشهده، وخالفتكم في تمام صلاة من لم يصل عليه صلى الله عليه وسلم ،ووافقتماني في جواز صيام من بيته كل ليلة، وخالفتكم في صيام من لم يبيته، فلا يصح إلا ما اتفقنا عليه دون ما اختلفنا فيه.
وللزمهم أن يكتفوا منا بأن نقول لهم: قد وافقتمونا على قبول النصوص والاجماع، وخالفناكم في القول بالقياس فلا يلزم إلا ما اتفقنا عليه دون ما اختلفنا فيه، ومثل هذا كثير جدا، يقوم منه عشرات ألوف من المسائل، فلما لم يكن كل ما ذكرنا حجة، لانه كلام موضوع في غير موضعه، سقط شغب من قال: قد اتفقنا عن قبول الخبر إذا عري من زيادة أو مخالفة، واختلفا في قبول الزيادة وبحكم العقل ندري أن كل من رضي لنفسه على خصمه بما لا يرضى على نفسه لخصمه، فجاهل أو مجنون أو وقاح لا بد له من أحد هذه الوجوه، وهي كلها خطط خسف، ونعوذ بالله العظيم منها، اللهم إلا أن يكون خصمه رضي بحكم ما فله أن يلزمه حينئذ إياه، وإن لم يلزمه هو، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في إبطال ترجيح الحديث بعمل أهل المدينة وإبطال الاحتجاج بعملهم أيضا وبيان السبب في الاختلاف الواقع بين سلفنا من الائمة في صدر هذه الامة والرد على من ذم الاكثار من رواية الحديث ذهب أصحاب مالك: إلى أنه لا يجوز العمل بالخبر حتى يصحبه العمل.
قال علي: وهذا من أفسد قول وأشده سقوطا، فأول ذلك أن هذا العمل الذي يذكرون، قسألهم من سلف من الحنفيين، والشافعيين، وأصحاب الحديث من أصحابنا، منذ مائتي عام ونيف وأربعين عاما، عمل من هو هذا العمل الذي يذكرون ؟ فما عرفوا عمل من يريدون، ولا عجب أعجب من جهل قوم(2/214)
بمعنى قولهم، وشرح كلامهم.
وسنبين هذا بعد صدر من كلامنا في هذا الفصل إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق.
ويقال لمن قال: لا أقبل الخبر حتى يصحبه العمل، أللعمل أول أم لا أول له ؟ فإن قال: لا أول له، جاهر بالكذب ولحق بالدهرية، وإن قال: له أول، قيل له، وبالله تعالى التوفيق: يجب على قولك أن ذلك العمل الاول باطل لا يجوز اتباعه، لانه ابتدئ فيه بعمل بخبر لم يعمل به قبل ذلك، والخبر لا يجوز اتباعه حتى يعمل به، فهذا العمل قد وقع قبل أن يعمل بالخبر فهو باطل على حكمكم الفاسد المؤدي إلى الهذيان، وإلى ألا يصح عمل بخبر أبدا، وكفى سقوطا بقول أدى إلى ما لا يعقل، وكثير مما يقتحمون مثل هذا، كقولهم في معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا وكقولهم في أن الركعة الثانية من صلاة من يقضي صلاة أدرك منها ركعة مع الامام، هي قبل الاولى، والثالثة قبل الثانية، وهذا كما ترى لا يعقل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وإذا كان ما ذكروا من أنه لا يجوز أن يعمل بخبر حتى يعمل به قبل هذا العمل، وكان الخبر قد وجد وقتا من الدهر قبل أن يعمل له، فلا يجوز أن يصح العمل بخبر أبدا، وإذا كان ذلك فكل عمل بخبر من الاخبار فهو باطل، والباطل لا يصحح الحق، ولا يحقق الباطل، ولا يثبت به شئ.
ويقال لهم أيضا: أرأيتم الخبر المسند الصحيح قبل أن يعمل به، أحق هو أم باطل ؟ ولا بد من أحد هذين، فإن قالوا: حق، فسواء عمل به أو لم يعمل به، ولو لا يزيد الحق درجة في أنه حق أن يعمل به،، ولا يبطله أن يترك العمل به، أن أهل الارض كلهم أصفقوا على معصية محمد صلى الله عليه وسلم ما كان ذلك مسقطا لوجوب طاعته، وقد فعلوا ذلك في أول مبعثه صلى الله عليه وسلم ،فما كان ذلك مبطلا لصحة قوله، ولو آمن به جميع أهل الارض وأطاعوه، ما زاد قوله عليه السلام منزلة في الصحة على ما كان عليه قبل أن يقبله أو يعمل به أحد من الناس، ونفسه ضر تارك العمل بالحق، ولم يضر الحق شيئا، وكذلك لو أصفق(2/215)
أهل الارض كلهم على نبوة مسيلمة - لعنه الله - ما حققها ذلك، وإذا أجمعوا على الكفر به ما زاد ذلك في قوله في البطلان على ما كان عليه حين نطقه به.
وإن قالوا: الخبر باطل قبل العمل به، فالباطل لا يحققه العمل له، ولا يزيد الله بالعمل بالباطل إلا ضلالا وخزيا، فثبت بالبرهان الضروري أن لا معنى للعمل، ولا ينبغي أن يلتفت إليه ولا يعبأ به، وقد أصفق أهل الارض كلهم على العمل بشرائع الكفر قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فما صححها ذلك.
قال علي: وهذه لفظة قذفها الشيطان في قلوبهم، وطرحها على ألسنتهم، وأيد ذلك الجهل والعصبية المردية، وبالله نستعيذ من البلاء وإياه نستعين على إدراك الصواب، وبالله تعالى التوفيق.
ثم نقول لهم: متى أثبت الله العمل بالخبر الصحيح، أقبل أن يعمل به، أم بعد أن يعمل به ؟ فإن قالوا: قبل أن يعمل به، فهو قولنا، وإن قالوا: بعد أن يعمل به، لزمهم أن العاملين به هم الذين شرعوا تلك الشريعة، وهذا كفر من قائله، ولم يبق لهم إلا أن يقولوا: لما ترك العمل بالخبر علمنا أنه منسوخ وهذا هو باب الالهام الذي ادعته الروافض لانفسها لانه قول بلا برهان.
قال علي: وإنما هذا كله بعد أن يعرفوا عمل من يريدون، وأما وهم لا يدرون عمل من يعنون، فلسنا نحتاج أن نبلغ معهم ههنا، وقد حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان، ثنا أحمد بن خالد، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا الحجاج بن المنهال، عن يزيد بن إبراهيم التستري، ثنا زريق - وكان عاملا لعمر بن عبد العزيز على أيلة - قال: كتبت إلى عمر بن عبد العزيز في عبد آبق سرق، وذكرت أن أهل الحجاز لا يقطعون العبد الآبق إذا سرق - قال: فكتب إلي: كتبت إلي في عبد آبق سرق، وذكرت أن أهل الحجاز لا يقطعون الآبق إذا سرق، وإن الله تعالى يقول: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا الآية، فإن كان قد سرق قدر ما يبلغ ربع دينار فاقطعه به.
وبه إلى حجاج بن المنهال، ثنا الربيع بن صبيح قال: سألت نافعا مولى ابن عمر، أو سأله رجل وأنا شاهد على الرهن والقبيل في السلف(2/216)
والورق والطعام إلى أجل مسمى ؟ قال: لا أرى بذلك بأسا.
فقلت له: إن الحسن يكرهه، قال: لولا أنكم تزعمون أن الحسن يكرهه ما رأيت به بأسا، فأما إذا كرهه الحسن فهو أعلم به، فهذا عمر بن عبد العزيز لم يبال بعمل أهل الحجاز إذ وجد القرآن بخلاف، وهذا نافع مولى ابن عمر - من كبار فقهاء أهل المدينة - توقف في فتياه إذ خالفه الحسن وهو عراقي.
ثم نسألهم فنقول لهم: عمل من تريدون ؟ أعمل أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلهم، أم عمل عصر دون عصر ؟ أم عمل محمد صلى الله عليه وسلم ؟ أم عمل أبي بكر ؟ أم عمل عمر ؟ أم عمل
عثمان ؟ ولم يكن في المدينة إمام غير هؤلاء - أم عمل صاحب من سكان المدينة بعينه ؟ أم عمل جميع فقهاء المدينة ؟ أم عمل بعضهم ؟ ولا سبيل إلى وجه غير ما ذكرنا.
فإن قالوا: عمل أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلها بان كذبهم، لان الخلاف بين الامة أشهر من ذلك، وهم دأبا إنما يتكلمون على من يخالفهم، فإن كانت الامة مجمعة على قولهم فمع من يتكلمون إذا، وإن قالوا عصرا ما دون سائر الاعصار، بان كذبهم أيضا إذ كل عصر فالاختلاف بين فقهائه موجود منقول مشهور، ولا سبيل إلى وجود مسألة اتفق عليها أهل عصر ما، ولم يكن تقدم فيها خلاف قبلهم، ثم اختلف فيها الناس.
هذا ما لا يوجد أبدا.
فإن قالوا: عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أريناهم أنهم أترك الناس لعمله عليه السلام، بل لآخر عمله، فإنهم رووا: أن آخر عمله كان الافطار في رمضان في السفر، والنهي عن صيامه، فقالوا هم: الصوم أفضل، وكان آخر عمله عليه السلام الصلاة بالناس جالسا وهم أصحاء، وراءه، إما جلوس على قولنا، وإما قيام على قول غيرنا.
فقالوا هم: صلاة من صلى كذلك باطل، ورووا في الموطأ أنه صلى الله عليه وسلم : كان إذا اغتسل من الجنابة أفاض الماء على جسده، فقالوا هم: طهور من تطهر كذلك باطل حتى يتدلك.
ورووا أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الصلاة إذا ركع وإذا رفع، فقالوا: ليس عليه العمل، ورووا أنه صلى الله عليه وسلم صلى فقرأ بالطور في المغرب، وبالمرسلات، وكان ذلك في آخر عمره صلى الله عليه وسلم فقالوا: ليس عليه العمل، ورووا أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أم الناس فأتم أم القرآن قال آمين(2/217)
قالوا: ليس عليه العمل.
ورووا أنه عليه السلام سجد في: * (إذا السماء انشقت) * فقالوا: ليس عليه العمل.
ورووا أنه صلى الله عليه وسلم : صلى بالناس جالسا وهم جلوس وراءه فقالوا: صلاة من صلى كذلك باطل، وليس عليه العمل، ورووا أن
أبا بكر الصديق، رضي الله عنه ابتدأ بالصلاة بالناس فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فدخل فجلس إلى جنب أبي بكر رضي الله عنه فأتم عليه الصلاة بالناس، فقالوا: ليس عليه العمل، ومن صلى هكذا بطلت صلاته، ومن البديع أن بعضهم قال: صلاته عليه السلام في غزوة تبوك خلف عبد الرحمن بن عوف ناسخة لهذا العمل.
قال علي: وهذا كلام لو قيل لقائله أسف ما شئت واجتهد ما قدر بأن يأتي بأكثر مما أتى به لوجهين: أحدهما: أن صلاته عليه السلام خلف عبد الرحمن بن عوف - التي ادعوا أنها ناسخة - كانت في تبوك، وصلاته عليه السلام إلى جنب أبي بكر - التي ادعوا أنها منسوخة - كانت قبل موته عليه السلام بخمس ليال فقط، وهي آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس فكيف ينسخ أمر كان قبل موته عليه السلام بأشهر، أمرا كان قبل موته عليه السلام بخمس ليال ؟ أيفوه بهذا من له مسكة عقل، أو يحل لمن هذا مقدار علمه وعقله أن يتكلم في دين الله عز وجل ؟ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا يقول: إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاهموه انتزاعا، ولكن ينزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون.
قال علي: والوجه الثاني من سقوط كلام هذا الجاهل: أنه حتى لو كانت صلاته عليه السلام خلف عبد الرحمن بعد صلاته خلف أبي بكر، ما كان فيها نسخ لها، لانه ليس في صلاته خلف عبد الرحمن نهي عما في صلاته خلف أبي بكر ولا مخالفة، بل هو حكم آخر، وعلم آخر، وفي الاحتجاج المذكور عبرة لمن اعتبر، ولهم مثله كثير.
ورووا أنه عليه السلام: جمع بين الظهر والعصر في غير خوف ولا سفر، فقال مالك: أرى ذلك كان من مطر.
فقالوا: ليس عليه العمل لا في مطر ولا في غيره، ورووا أنه عليه السلام أتي بصبي فبال على ثوبه فدعا بماء فأتبعه إياه ونضحه ولم يغسله.
فقالوا: ليس عليه العمل، وهذا لا يطهر الثوب، ومن صلى بثوب هذا(2/218)
صفته صلى بنجس، فعلموا نبيهم صلى الله عليه وسلم ما لم يكن في علمه، وجعلوه مصليا بثوب نجس، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، ورووا أنه عليه السلام صلى بالناس وهو يحمل أمامة بنت أبي العاص على عنقه، فقالوا: ليس عليه العمل، وهذا إسقاط للخشوع.
قال علي: هذا كلام من قاله منهم ناسبا لسقوط الخشوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كفر، وارتد وحل دمه وماله، ولحق باليهود والنصارى، ومن نسب ذلك إلى المقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم ينسبه إلى المقتدي به، فقد توقح ما شاء وسخف، وهما خطتا خسف لا بد من إحداهما.
وأظرف من كل ظريف، أنهم احتجوا بهذا الحديث نفسه في أن الصلاة لا تبطل على من صلاها وهو حامل نجاسة، فعصوا الحديث فيما ورد فيه، وجاهروا بالكذب في أن يستبيحوا به ما ليس فيه، ولهم مثله كثير، ورووا أنه عليه السلام كان يقرأ في صلاة العيد بسورة * (ق والقرآن المجيد) لشاب، وليس عليه العمل، ورووا أنه عليه السلام.
صلى على كان يقبل في رمضان نهارا فقالوا نكره ذلك لشاب وليس عليه العمل ورووا أنه عليه السلام صلى عليه سهيل بن بيضاء في المسجد فقالوا ليس عليه العمل وقال شيخ منهم كبير عندهم صغير في الحقيقة هذا ادخال الجيف في المسجد فتعقب عاقبه اللله على نبيه صلى الله عليه وسلم ورووا أنه صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي وهو غائب وأصحاب رضى اللله عنهم خلفه صفوف فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه صلى الله عليه وسلم صلى على قبر فقالوا ليس عليه العمل ثم احتجوا بهذا الحديث في إباحة الصلاة إلى القبور فعصوا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في نهيهم عما جاء به العمل الصحيح وافتر وا في الحديث ما ليس فيه
ورموار بذلك إبطلال نهى صحيح قد ثبت لا يحل خلافه، ورووا أنه عليه السلام أعطى القاتل السلب وقضى بذلك فقالوا ليس عليه العمل إلا أن يرى الامام ذلك ورووا أنه عليه السلام أباح النكاح بخاتم حديد فقالوا: ليس عليه العمل وهذا نكاح لا يجوز ولابد من ربع دينار تحكما من آرائهم الفاسدة وقياسا على ما تقطع فيه اليد عندهم فهلا قاسوه على ما يستباح به الظهر من جرعه خمر لاتساوى فلسا(2/219)
على أن إيلام الظهر أشبه باستياحة الفرح من قطع اليد باستباحة الفرج لان الفرح والظهر عضوان مستوران والظهر والفرج والظهر عضوان مستوران والظهر والفرج لا بقطان وليد تقطع وتبان فأحاط الخطأ بهم من كل وجه ورووا أنه عليه السلام أنكح رجلا امرأة بسورة من القرآن فقالوا: ليس عليه العمل وهذا لا يجوز ورورا أنه صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة، فقالوا: ليس عليه العمل، ولكن إن كان جنين حرة ففيه خمسون دينارا، وإن كان جنين أمة ففيه عشر قيمة أمة، قياسا على بيضة النعامة يكسرها المحرم فأخطؤوا في خلافهم حكم الله تعالى ورسوله عليه السلام، وأخطؤوا في شرعهم ما لم يأذن به الله تعالى، وتحكموا في القيمة بلا برهان ولا هدى من الله تعالى، وأخطؤوا في تفريقهم بين جنين الحرة وجنين الامة بلا دليل، في قياس جنين الامة على بيضة النعامة خطأ يضحك، في إيجابهم في بيضة النعامة عشر البدنة، وهم لا يرون الاشتراك في الهدي، وكل ذلك بلا دليل وبالله تعالى التوفيق وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودى عبد الله بن سهل - وهو حضري مدني - مائة من الابل فقالوا: ليس عليه العمل، ولا يودي بالابل إلا أهل البادية، وأما أهل الحاضرة فلا يودون إلا بالدنانير والدراهم، وتعلقوا في ذلك بعمر، وهم قد خالفوا عمر في هذا المكان نفسه، لان عمر كما جعل على أهل الذهب الذهب وعلى أهل الفضة الفضة، وكذلك جعل على أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الغنم
ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة فقالوا: ليس على فعل عمر العمل في البقر والغنم والحلل.
وإنما نفعل فعله في الذهب والورق والابل خاصة.
ورووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل القسامة في قتيل وجد بخيبر، فقالوا: ليس عليه العمل، ولا يعجز أحد عن أن يلقي قتيلا قتله في دور قوم آخرين، فخالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وخالفوا عمل عمر في القسامة أيضا واحتج إسماعيل في ذلك ببقرة بني إسرائيل، فأتى بحديث لم يأت به قرآن ولا خبر عن النبي، وإنما هي خرافة في خرافات أهل الكتاب، ولو صح قولهم لكانت آية معجزة عظيمة، لا يقدرون على مثلها أبدا، وتلك الآية لم يكن فيها قسامة، فقد خالفوا عمل بني إسرائيل أيضا وقالوا: إنما القسامة في دعوى المريض أن فلانا(2/220)
قتله، وقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبل قول أحد في ادعائه دم أحد أو ماله فقبلوا دعواه في الدم ولم يتهموه، وأبطلوا دعاواه في المال واتهموه، وكفى بذكر هذا عن تكلف رد عليه، ورووا أنه عليه السلام رجم يهوديين زنيا.
فقالوا: ليس عليه العمل ولا يجوز رجمهم، وأتى بعضهم في ذلك بعظيمة تخرج عن الاسلام.
وذلك أن قال: إنما رجمهما رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفيذا لما في التوراة.
فجعلوه عليه السلام منفذا لاحكام اليهود، وصانوا أنفسهم الدنية الساقطة عن ذلك، ويعيذ الله تعالى نبيه وخيرته من الانس أن يحكم بغير ما أمره الله به، وقد أمره الله تعالى أن يقول: إن أتبع إلا ما يوحى إلى وروو ا أنه عليه السلام قضى بالتغريب على الزاني غير المحصن فقالوا: لا نغرب العبد لانه ضرر بسيده، ولم يراعوا في تغريب الحر الضرر بزوجته وولده وماله وأبويه، إن كان له أبوان.
ورووا أنه عليه السلام: احتجم وهو محرم.
فقالوا: ليس عليه العمل، ورووا أنه عليه السلام تطيب لاحرامه قبل أن يحرم فقالوا: ليس عليه العمل،
ورووا أنه عليه السلام تطيب لحله قبل أن يطوف بالبيت فقالوا: ليس عليه العمل.
ورووا أنه عليه السلام قضى بإبطال كل شرط ليس في كتاب الله عز وجل، فأجازوا أزيد من ألف شرط ليس منها واحد في كتاب الله.
منها من شرط لاهل دار الحرب النزول في دار الاسلام بأسرى المسلمين وسبايا المسلمات يطؤونهن ويردونهن إلى بلاد الكفر، ويستخدمونهم ويهبونهم ويبيعونهم، وهذا شرط لا يجيزه إلا إبليس ومن اتبعه ورووا أنه السلام قسم خيبر.
فقالوا: ليس عليه إلا إبليس ومن اتبعه العمل، وتركوا ذلك لايقاف عمر الارض مع إقرارهم بأنهم لا يعرفون كيف عمل عمر في ذلك، أفيكون أعجب من ترك عمل مشهور متيقن على النبي صلى الله عليه وسلم مع جميع أصحابه لعمل مجهول لا يدرون كيف وقع بإقرارهم من عمل عمر ؟ وقد خالفه في ذلك الزبير وبلال وغيرهما، ورووا أنه عليه السلام قضى بإيجاب الولاء لمن أعتق فقالوا: من أعتق سائبة فلا ولاء له.
قال علي: فهذا ما تركوا فيه عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من روايتهم في الموطأ خاصة، ولو تتبعنا ذلك من رواية غيرهم لبلغ أضعاف ما ذكرنا،(2/221)
وما خالفوا فيه أوامره عليه السلام من روايتهم ورواية غيرهم أضعاف ذلك، ولعل ذلك يتجاوز الالوف، فقد بطل كما ترى ما ادعوه من اتباع عمل النبي صلى الله عليه وسلم ،وثبت أنهم أترك خلق الله لعمل نبي الله صلى الله عليه وسلم ،ثم لآخر عمله ولعمل الائمة بعده.
فإن قالوا: عمل أبي بكر.
قلنا لهم وبالله التوفيق: لم ترووا في الموطأ عن أبي بكر رضي الله عنه إلا عشر قضايا، خالفتموه منها في ثمان.
ورووا عنه أنه صلى بالبقرة ركعتين ووراءه المهاجرون والانصار من أهل المدينة،
فقالوا: ليس عليه العمل.
ورووا عنه أن قرأ في الثالثة من المغرب بعد أم القرآن: ربنا لا تزغ قلو بنا بعد إذا هديتنا الآية.
فقالوا: ليس عليه العمل.
ورووا عنه أنه أمر أميرا له وجهه إلى الشام ألا يقطع شجرا مثمرا، فقالوا: ليس عليه العمل وجائز قطع الشجرة المثمر في دار الحرب.
ورووا أنه أمره ألا يعقر شاة ولا بعيرا إلا لمأكله.
فقالوا: ليس عليه العمل، وجائز عقرها في دار الحرب لغير مأكله، وهذا مما خالفوا فيه قضاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر معا - لآرائهم.
ورووا أنه نهاه عن تخريب العامر فقالوا: ليس عليه العمل ولا بأس بتخريبه.
ورووا عنه أنه ابتدأ الصلاة بالناس فكبر، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فتخلل الصفوف فصفق الناس، فتأخر أبو بكر وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فأتم الصلاة بالناس.
فقالوا: هذه صلاة لا تجوز، وليس عليه العمل فخالفوا، كما ترى، عمل النبي صلى الله عليه وسلم وعمل أبي بكر وعمل جميع من حضر ذلك من المهاجرين والانصار، وهم أهل العلم من أهل المدينة، برأي من آرائهم الفاسدة.
ورووا أنه أمر يهودية أن ترقي عائشة رضي الله عنها.
فقالوا: ليس عليه العمل، ونكره رقى أهل الكتاب.
هذا من روايتهم في الموطأ، وأما من رواية غيرهم فكثير.
ومما خالفوه أيضا: سبيه نساء أهل الردة وصبيانهم، وعمله بذلك في المدينة مع المهاجرين والانصار إلا من خالفه في ذلك منهم فقالوا: ليس عليه العمل.
فإن قالوا: عمل عمر، قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: رويتم عن عمر رضوان الله عليه أنه قرأ في صلاة الصبح بسورة الحج وسورة يوسف ووراءه أهل المدينة من(2/222)
الانصار والمهاجرين.
فقالوا: ليس عليه العمل.
ورووا أنه سجد في الحج سجدتين فقالوا: ليس عليه العمل.
ورووا أنه سجد في سورة النجم سجدة.
فقالوا ليس عليه العمل، وهذا مما خالفوا فيه عمل النبي صلى الله عليه وسلم وعمر وجميع الصحابة، وادعوا في ذلك علما خفي عنهم.
ورووا أنه نزل عن المنبر يوم الجمعة وهو يخطب، فسجد وسجد معه المهاجرون والانصار، ثم رجع إلى خطبته.
فقالوا: ليس عليه العمل.
ورووا أمر أبيا وتميما أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة في ليالي رمضان، فقالوا: ليس عليه العمل.
ورووا أن الناس كانوا يقومون أيام عمر بثلاث وعشرين ركعة في ليالي رمضان، فقالوا: ليس عليه العمل، فخالفوا قضاء عمر، وعمل أبي بن كعب، وتميم الداري، والمهاجرين والانصار بالمدينة لدعوى زائغة وعمل مجهول، وقالوا: العمل في القيام على تسعة وثلاثين ركعة.
ورووا أنه صلى المغرب بالناس ومعه أهل المدينة والمهاجرون والانصار فلم يقرأ فيها شيئا، فأخبر بذلك فلم يعد الصلاة، ولا أمر بإعادتها، فقالوا: يس عليه العمل، وقد بطلت صلاة من صلى هكذا.
ورووا أنه كتب إلى عماله أن يأخذوا من سائمة الغنم الزكاة، فقالوا: السائمة وغير السائمة سواء.
ورووا أنه شرب لبنا فأعجبه.
فأخبر أنه من نعم الصدقة فتقيأه، فقالوا: ليس عليه العمل، ورووا أنه كان يقرد بعيره في طين بالسقيا وهو محرم، فقالوا: ليس عليه العمل، فلا ندري أجعلوا القردان صيدا منهيا عنه في الاحرام، أم جعلوا على البعران إحراما أم كيف وقع لهم هذا ؟.
ورووا عنه أنه قضى في الارنب بعناق قالوا: ليس عليه العمل.
وقد وافقه على ذلك غيره من الصحابة رضوان الله عليهم، وافترض تعالى في جزاء الصيد ما حكم به ذوا عدل، ولا عدول أعدل من الصحابة، فقد خالفوا ههنا القرآن،(2/223)
وفعل الصحابة، وتركوا الحق بيقين.
ورووا أنه حكم في اليربوع بجفرة، فقالوا ليس عليه العمل، وهذا كالذي قبله.
وروي أنه حلف لئن أتي بمسلم أمن مشركا ثم قتله ليقتلن ذلك المسلم، فقالوا: ليس عليه العمل، ولا يقتل مؤمن بكافر، فمرة يتركون الحديث لقول عمر، ويقولون عمر كان أعلم منا، ومرة يتركون قول عمر: ويقولون الحديث أحق أن يتبع، وفي هذا من التناقض ما فيه.
ثم رأوا من رأيهم أن يخالفوا الحديث المذكور الذي له تركوا قول عمر، فقال يقتل المؤمن بالكافر إذا قتله قتل غيلة.
ورووا عنه أنه جعل القراض مضمونا على عبد الله ابنه.
فقالوا: لا يجوز وليس عليه العمل، فتركوا عمل عمر وعبد الله بن عمر وقضاءه بحضرة المهاجرين والانصار.
ورووا عنه أنه قضى فيمن تزوج امرأة فوجد بها جنونا أو جذاما أو برصا فمسها، فلها صداقها كاملا، ويرجع به الزوج على وليها، فقالوا: لا يغرم الولي شيئا إلا أن يكون أبا أو أخا، فأما إن كان من العشيرة فلا غرم عليه، لكن تغرم هي الصداق إلى ربع دينار.
ورووا عنه: أنه إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق، فقالوا: إن طال نعم وإلا فلا.
ورووا عنه: أنه قضى بأنه لو تقدم في نكاح السر لرجم فيه، فقالوا ليس عليه العمل ولا رجم فيه، هذا مع فسخهم نكاح السر وإبطالهم إياه وتحريمهم له.
ورووا عنه: أنه قضى في المتعة لو تقدم فيها لرجم، فقالوا: ليس عليه العمل ولا رجم فيها.
وقد قال بعضهم: إنما هذا من عمر وعيد لا حقيقة، فنسبوا إليه الكذب الذي قد نزهه الله عنه - ولا غرو - فقد قال ذلك بعضهم في قوله عليه السلام إذ هم بحرق بيوت المتخلفين عن الصلاة مثل ذلك.
وتلك التي تستك منها المسامع ورووا عنه أنه أشخص رجلا قال لامرأته: حبلك على غاربك من العراق
إلى مكة، واستحلفه عن نيته في ذلك.
قالوا: ليس عليه العمل، ولا يستجلب أحد من العراق إلى مكة لليمين، ولا ينوي أحد في ذلك، وهي ثلاث أبدا، فخالفوا قضاء عمر في موضعين من هذا الحديث خاصة.(2/224)
ورووا عنه أنه قال: لا حكرة في سوقنا، فقالوا: لا بأس بالحكرة في السوق.
ورووا عنه أنه قضى بالمدينة - بحضرة المهاجرين والانصار - على محمد بن مسلمة بأن يمر الضحاك بن خليفة في أرضه بخليج جلبه، ومحمد كاره لذلك.
فقالوا: ليس عليه العمل.
ورروا عنه أنه قضى على جد عمرو بن يحيى المازني بأن يحول عبد الرحمن بن عوف خليجا له في أرض ذلك المازني من مكان إلى مكان والمازني كاره، فخالفوا قضاء عمر وعبد الرحمن بن عوف بحضرة المهاجرين والانصار بالمدينة وقالوا: ليس عليه العمل، وقال ابن نافع صاحب مالك - وقد ذكر ذلك الخبر - فقال عليه العمل، فليت شعري عمل من هو هذا العمل المتجاذب الذي يدعيه قوم منهم، وينكره آخرون.
ورووا عنه: أنه أغرم حاطبا في ناقة لرجل من مزينة نحرها عبيد لحاطب فقطع أيديهم، وسأل عن ثمن الناقة فكان أربعمائة فأضعف القيمة على حاطب وأغرمه بمائتي درهم، وذلك بحضرة المهاجرين والانصار من أهل المدينة فقالوا: ليس عليه العمل.
ورووا عنه أو عن عثمان أنه قضى في أمة غرت من نفسها.
فادعت أنها حرة فتزوجها رجل فولدت، فقضى عليه أن يفدي أولاده بمثلهم.
فقالوا: ليس عليه العمل، ولا يقضى عليه بعبيد، لكن بالقيمة.
ورووا عنه: أنه حكم في منبوذ وجده رجل، أن ولاءه للذي وجده، فقالوا: ليس عليه العمل، ولا ولاء للملتقط على اللقيط.
ورووا عنه: أنه قضى في هبة الثواب، أنه على هبته يرجع فيها إن لم يرض منها فقال: ليس عليه العمل، وإن تغيرت الهبة عند الموهوب له بزيادة أو نقصان
فلا رجوع للواهب فيها، وليس له إلا القيمة.
ورووا عنه: أنه كانت الابل الضوال مهملات لا يعرض لها أحد في أيامه فقالوا: ليس عليه العمل، فخالفوا عمل عمر بحضرة المهاجرين والانصار مع موافقة ذلك لامر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فإن قالوا: عثمان رأى غير ذلك، أريناهم ما يخالفوا فيه عمل عثمان، وأيضا فما الذي جعل عثمان أولى بأن يتبع من عمر ؟ لولا التخليط وفساد الرأي.
ورووا عنه: أن رجلا من بني سعد بن ليث أجرى فرسا فوطأ أصبع رجل(2/225)
من جهينة فنزف الجهني فمات، فقال عمر للسعديين: أتحلفون بالله خمسين يمينا ما مات منها، فتحرجوا وأبوا، فقال للجهنيين: احلفوا أنتم لمات منها فأبوا، فقضى على السعديين بنصف الدية، فقالوا: ليس عليه العمل، ولكن يبدأ المدعون وقالوا: ليس العمل على إغرامه أولياء القاتل نصف الدية.
ومن العجب العجيب أن مالكا الذي خالف هذا الحديث في ثلاثة مواضع أحدها تبدئة المدعى عليهم في اليمين، وثانيها إغرام المدعى عليهم بلا يمين من المدعين، وثالثها إغرامهم نصف الدية لا كلها، ثم احتج به بعد أوراق من كتابه في إغرام الراكب والقائد والسائق وجعل أصله في ذلك فعل عمر بالسعديين، وهو قد خالفه في الحديث نفسه كما ترى، فليت شعري ما الذي جعل ربع حكم عمر في هذا الحديث حجة يوقف عندها، وثلاثة أرباعه مطرحا لا يعمل له ؟ فلولا البلاء لما كان يقلد هؤلاء القوم هذه الاقوال، ويتركون لها القرآن وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ورووا عنه: أنه قضى في الترقوة بجمل.
فقالوا ليس عليه العمل، ورووا عنه أنه قضى في الضرس بجمل.
فقالوا: ليس عليه العمل.
ورووا عنه: أنه قضى في الضلع بجمل، فقالوا: ليس عليه العمل، ورووا عنه: أنه جلد عبدا زنى وغربه.
فقالوا: ليس عليه العمل ولا يغرب العبد، فخالفوا قضاء عمر وعمله بحضرة
المهاجرين والانصار بالمدينة، ومعه سنة النبي صلى الله عليه وسلم لآرائهم الفاسدة.
ورووا عنه: أنه أمر ثابت بن الضحاك - وكان قد التقط بعيرا، بأنه يعرفه ثلاثا، ثم أمره بإرساله حيث وجده، فخالفوا قضاء عمر وعمل ثابت.
فهذا ما خالفوا فيه عمر من روايتهم في الموطأ خاصة، وأما من رواية غيرهم فأضعاف ذلك.
فإن قالوا: عمل عثمان قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: إنهم رووا عن عثمان أنه كان يصلي الجمعة ثم ينصرف وما للجدران ظل.
فقالوا: ليس عليه العمل ولا تجوز الصلاة إلا بعد الخطبة، ولا يبتدأ بالخطبة إلا بعد الاذان، ولا يبتدأ بالاذان إلا بعد الزوال، فإن زالت الشمس فقد حدث للجدران ظل.
ورووا عنه: أنه أذن على المنبر لاهل العالية في يوم عيد وافق يوم جمعة في أن يرجع منهم من أحب.(2/226)
فقالوا: ليس عليه العمل، ولا نأخذ بإذن عثمان في ذلك، وهو قد قضى ذلك بحضرة المهاجرين والانصار بالمدينة.
ورووا عنه: أنه كان يغطي وجهه وهو محرم.
فقالوا: ليس عليه العمل، ولا يغطي المحرم وجهه.
ورووا عنه: أنه كان يخاطب أصحاب الديون من الذهب والفضة فيقول على المنبر: هذا شهر زكاتكم.
فقالوا: ليس عليه العمل وليس للدنانير والدراهم شهر زكاة معروف.
ورووا عنه: أنه نهى عن القران والمتعة ورووا عن عمر مثل ذلك.
فقالوا: ليس عليه العمل ولا ينهى عن ذلك، فهلا فعلوا مثل ذلك في توريثه المطلقة ثلاثا من زوجها إذا طلقها وهو مريض، وهلا تركوا تقليده هنالك بلا دليل كما تركوه ههنا، فكانوا يوقفون في ذلك.
ورووا عنه: أنه صلى بمنى أربع ركعات، فقالوا: ليس عليه العمل، وقالوا: القصر حق تلك الصلاة، واحتجوا في ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وقد ذكرنا ما خالفوا فيه عمل كل من ذكرنا آنفا، وما تركوا فيه عمر لعثمان، ورووا: أنه
كان يكثر من قراءة يوسف في صلاة الصبح.
ورووا أيضا نعني قراءتها عن عمر فقالوا: ليس عليه العمل.
ورووا عنه: من أصح طريق وأجلها، وهي رواية مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: رأيت عثمان - فذكر أنه رآه بالعرج وهو محرم - ثم أتي بلحم صيد فقال لاصحابه: كلوا، فقالوا: ولا تأكل أنت، فقال: إني لست كهيئتكم، إنما صيد من أجلي، فقالوا: ليس عليه العمل ولا يجوز أن يأكل محرم ما صيد من أجل محرم غيره، ومحا مالك قول عثمان هذا وكرهه كراهة شديدة، هذا نص الموطأ، فأين العمل إن لم يكن عمل النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان بحضرة المهاجرين والانصار.
ورووا عنه، وعن عمر: النهي عن الحكرة.
فقالوا: ليس عليه العمل ولا بأس بها.
قال علي: وكذلك خالفوا عمل عائشة رضي الله عنها، وابن عمر وسائر الصحابة بالمدينة، لا نحاشي منهم أحدا، وكذلك خالفوا سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وسائر فقهاء المدينة، وأقرب ذلك خلافهم للزهري وربيعة في أشياء كثيرة جدا، منها أن الزهري كان يرى الزكاة في الخضر والتيمم إلى الآباط وغير ذلك وقد حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا عبد الله بن عثمان الاسدي، ثنا أحمد بن خالد،(2/227)
ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا الحجاج بن المنهال، ثنا عبد الله بن عمر النميري، ثنا يونس بن يزيد الابلي، سمعت الزهري قال: هذه نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب في الصدقة - وهي عند آل عمر بن الخطاب، قال الزهري: اقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر، فوعيتها على وجهها، وهي التي انتسخ عمر بن عبد العزيز من عبد الله بن عبد الله بن عمر وسالم بن عبد الله بن عمر، حين أمر على المدينة، فأمر عماله بالعمل بها، وكتب بها إلى الوليد بن عبد الملك، فأمر الوليد عماله بالعمل بها، ثم لم يزل الخلفاء يأمرون بذلك، ثم أمر هشام بن محمد بن هانئ عامله فنسخها إلى كل عامل
من عمال المسلمين، وأمرهم بالعمل بما فيها، ولا يتعدونه، وذكر باقي الحديث.
قال علي: فهذا عمل فاش كما ترى، وأصله صحيفة مرسلة غير مسندة كما ترى، ثم لم يفش العمل بها إلا بعد نحو ثمانين عاما من موت النبي صلى الله عليه وسلم وقد عمل عمال عثمان قبل ذلك بغير ذلك، وعمال علي رضوان الله عليه بما جاءت به الرواية عن علي، وعمال ابن الزبير بغير ذلك، وعمال أبي بكر الصديق بغير ذلك، وعند آل حزم صحيفة أخرى فما الذي جعل عمل الوليد الظالم ومن بعده - من لا يعتد به حاش عمر بن عبد العزيز وحده - أولى من عمل ابن الزبير وعمل علي، وعمل عثمان، وعمل أبي بكر الصديق، وهذا تنازع يوجب الرد إلى القرآن، وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بالاسانيد الصحيحة، وليس ذلك إلا في حديث أنس عن أبي بكر وحده، فقد صح تركهم لعمل كل من له عمل يمكن أن يراعى أو يقتدى به، وصح ما قلنا من أنهم لا يدرون عمل من يعنون بقولهم: ليس عليه العمل.
فإن قالوا عمل الاكثر، فقد أريناهم أنه لا أكثر من أهل عصر عمر وعثمان، ومن صلى معهم، ووافقهم على ما ترك هؤلاء من أعمال أولئك وأنهم قد تركوا عمل الاكثر.
وثبت بهذا ما ذكره بعض الرواة، ومن أنهم إنما يعنون عمل صاحب السوق في المدينة في عصر مالك، وهذا كما ترى، وقد جمع عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ما اتفق عليه فقهاء المدينة السبعة خاصة، فلم يبلغ ذلك إلا أوراقا يسيرة، هذا وعبد الرحمن من هو في الضعف والسقوط، ألا يحتج بروايته، وما جعل الله أولئك أولى بالقبول منهم من نظرائهم من أهل الكوفة، الذين هم أفضل منهم في ظاهر الامر كعلقمة بن قيس، والاسود بن يزيد، وشريح القاضي، وعمرو بن ميمون، ومسروق، وأبي عبد الرحمن(2/228)
السلمي، وعبيدة السلماني، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن عتبة بن مسعود، وعبد الرحمن بن يزيد الليثي، وسعيد بن جبير، ولا من نظرائهم من أهل البصرة كالحسن
البصري، ومحمد بن سيرين، وجابر بن زيد، ومسلم بن يسار، وأبي قلابة، وبكر بن عبد الله المزني، وزرارة بن أوفى، وحميد بن عبد الرحمن، وأيوب، وابن عون، ويونس بن عبيد، وسليمان التيمي، ولا من نظرائهم من أهل الشام كعمر بن عبد العزيز، وأبي إدريس الخولاني، وقبيصة بن ذؤيب، وجبير بن نفير، ورجاء بن حيوة، ولا من نظرائهم من أهل مكة، كطاوس، وعطاء، ومجاهد، وعمر بن دينار، وعبيد بن عمير، وابنه عبد الله، وعبد الله بن طاووس، ومذ مضى الصحابة الخلفاء رضوان الله عليهم فما ولي قضاء المدينة مثل شريح، ولا مثل محارب بن دثار، ولا مثل زرارة بن أوفى، ولا مثل الشعبي، ولا مثل أبي عبيدة بن عبد الله، ولا مثل عبد الله بن عتبة، أصلا.
ويقال لهم أيضا هل اختلف عمل أهل المدينة أو لم يختلف ؟ فإن قالوا: لم يختلف أكذبهم الموطأ وجميع الروايات، وإن قالوا: اختلف، قيل لهم: فما الذي جعل اتباع عمل بعضهم أولى بالاتباع من عمل سائرهم ؟ وقد أبطل الله كل عمل عند الاختلاف حاشى الرد إلى كتاب الله، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول فمن رد إلى غيرهما فقد عصى الله ورسوله، وضل ضلالا مبينا لقوله تعالى: ومن يعص الله ورسول فقد ضل ورسوله وضل ضلالا مبينا لقوله تعالى صلا لا مبينا وهم ينسبون إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضوان الله عليهم - بهذا الاصل الملعون أعظم الفرية، وأشد التضييع للاسلام، وقلة المبالاة به، وهذا لا يحل لمسلم أصلا أن يظنه، فكيف أن يعتقده، ويدعو إليه، وذلك لان عمر رضي الله عنه مصر البصرة والكوفة ومصر والشام، وأسكنها المسلمين، وولى عليهم الصحابة كسعد بن أبي وقاص، والمغيرة بن شعبة، وأبي موسى الاشعري، وعتبة بن غزوان، وغيرهم وولى عثمان عليهم، ولاته أيضا كذلك، كمعاوية وعمرو بن العاص، وقد وليا لعمر أيضا مع عمار، وابن مسعود، وغيرهم ثم ولى علي البصرة عثمان بن حنيف، وعبد الله بن
عباس، وولى مصر قيس بن سعد، أفترى عمر وعثمان وعليا وعمالهم المذكورين كتموا رعيتهم من أهل هذه الامصار دين الله تعالى، والحكم في الاسلام والعمل بشرائعه ؟ وما يفعل هذا مسلم، بل الذي لا شك فيه أنهم كلهم علموا رعيتهم كل ما يلزمهم كأهل المدينة ولا فرق.
ثم سكن علي الكوفة أفتراه - رضي الله عنه - كتم أهلها شرائع الاسلام وواجبات(2/229)
الاحكام ؟ والله ما يظن هذا مسلم ولا ذمي مميز بالسير، فإذ لا شك في هذا فما بالمدينة سنة إلا وهي في سائر الامصار كلها ولا فرق، وأما مذ مضى هذا الصدر الكريم - رضي الله عنهم - فوالله ما ولي المدينة ولا حكم فيها إلا فساق الناس، كعمرو بن سعيد، والحجاج بن يوسف، وطارق، وخالد بن عبد الله القسري، و عبد الرحمن بن الضحاك، وعثمان بن حيان المري، وكل عدو لله حاشى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وأبان بن عثمان، وعمر بن عبد العزيز، فإنه كان كل واحد منهم فاضلا، وليها أبو بكر أربعة أعوام، عامين قاضيا وعامين أميرا لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
فأي مزية لاهل المدينة على غيرهم في علم أو فضل أو رواية ؟ لو نصحوا أنفسهم وتركوا هذا التخليط الذي لا يسلم معه دين من غلبة الهوى ونصر الباطل، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان.
وما أدرك مالك بالمدينة أعلى من نافع، وهو قليل الفتيا جدا، وربيعة وكان كثير الرأي قليل العلم بالحديث، وأبي الزناد وزيد بن أسلم، وكانا قليلي الفتيا، وأما الزهري فإنما كان بالشام، وما كتب عنه مالك إلا بمكة، وأما من القضاة فأبو بكر بن عمرو بن حزم، وابنه محمد، ويحيى بن سعيد الانصاري، على أن أهل العراق يجاذبونه إياه، لانه مات وهو قاض ببغداد، وأما سعد بن إبراهيم فكان ثقة إلا أن مالكا لم يأخذ عنه.
ثم يقال لهم لا خلاف بين أحد من أهل العلم بالاخبار أن مالكا ولد سنة
ثلاث وتسعين من الهجرة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث وثمانين سنة، وأنه بقي أزيد من ثلاثين سنة، وما اشتهر علمه، فأخبروني على أي مذهب كان الناس قبل مالك، وطول المدة التي ذكرنا، وهي نحو مائة عام وعشرين عاما ؟ كان فيها خيار أهل الارض من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين رحمة الله عليهم، فإن قالوا: على مذهب مالك أكذبهم مالك في موطئه بما أورد فيه من الاختلاف القديم بين الصحابة والتابعين، وقد ذكرنا آنفا من ذلك طرفا صالحا.
ويقال لهم أيضا: إن كان الامر كما تقولون فما الذي جعل نسبة هذا المذهب إلى مالك أولى من نسبته إلى أبي بكر، أو عمر، أو عثمان، أو عائشة، أو ابن عمر، أو سعيد بن المسيب، أو سليمان بن يسار، أو عروة بن الزبير، أو ربيعة ؟ ولم خصصتم مالكا وحده بأن تنسبوه إليه دون أن تنسبوه إلى من ذكرنا، وهم كانوا(2/230)
أفضل منه وأهيب في الصدور ؟ فإن قالوا: لان مالكا ثبت واختلف الناس، بان كذبهم بما أورده مالك في موطئه مما خالف فيه من كان قبلهم، وقيل لهم انفصلوا ممن عكس قولكم، فقال: بل الناس ثبتوا وانفرد مالك بمذهب أوجب أن ينسب إليه، وإنما تنسب المذاهب إلى محدثيها، لا إلى من اتبع غيره فيها.
وإن قالوا: كان الناس على اختلاف في مذاهبهم وتحير، قيل لهم: فلا ترغبوا عما كان عليه السلف الصالح، فليس والله فيما حدث بعدهم شئ من الخير، يعني مما يكونوا عليه، ولا علمه ذلك الصدر - فإن تكن الامور بالدلائل، فالدلائل توضح أن ذلك الصدر كانوا على صواب في الاختيار والنظر، مختلفين في مذاهبهم متفقين على إبطال التقليد، متفقين على الاخذ بحديث النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغهم وصح طريقه.
وإن لم يكن الامر بالتقليد - ونعوذ بالله من ذلك - فتقليد عمر وعثمان وسائر
من تقدم أولى من تقليد من أتى بعدهم، اللهم إلا إذا كان العمل الذي يشيرون إليه من جنس ما حدثناه عبد الله بن يوسف بن نامي، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد الفقيه الاشقر، ثنا أحمد بن علي القلانسي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا محمد بن حاتم، ثنا بهز، ثنا وهيب، ثنا موسى بن عقبة، عن عبد الواحد بن حمزة، عن عباد بن عبد الله بن الزبير يحدث عن عائشة أنها لما توفي سعد بن أبي وقاص، أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يمروا بجنازته فيصلين عليه، ففعلوا فوقف به على حجرهن يصلين عليه، وأخرج به من باب الجنائز الذي كان إلى المقاعد، فبلغهن أن الناس عابوا ذلك.
وقالوا: ما كانت الجنائز يدخل بها المسجد.
فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها فقالت: ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به، عابوا علينا أن يمر بجنازة في المسجد.
وما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في جوف المسجد.
وبالسند المذكور إلى مسلم: ثنا محمد بن حاتم بن ميمون، ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي المنهال قال: باع شريك لي ورقا بنسيئة إلى الموسم أو إلى الحج، فجاء إلي فأخبرني فقلت: هذا الامر لا يصلح قال: قد بعته في السوق، فلم ينكر ذلك علي أحد، فأتيت البراء بن عازب فسألته فقال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم (2/231)
المدينة ونحن نبيع هذا البيع فقال: ما كان يدا بيد فلا بأس به، وما كان نسيئة فهو ربا وائت زيد بن أرقم فإنه كان أعظم تجارة مني، فأتيته فسألته فقال مثل ذلك.
وبالسند المذكور إلى مسلم: حدثنا الحسن بن علي الحلواني، ثنا أبو أسامة، ثنا محمد بن عمرو، ثنا عمر بن مسلم بن عمار الليثي قال: كنا في الحمام قبيل الاضحى فأطلي فيه ناس، فقال بعض أهل الحمام: إن سعيد بن المسيب يكره هذا وينهى عنه، فلقيت سعيد بن المسيب، فذكرت ذلك له، فقال: يا ابن أخي هذا حديث قد
نسي وترك، حدثتني أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ...فذكرت من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي، أو كلاما هذا معناه.
قال علي: عمرو بن مسلم هذا هو ابن أكيمة الذي يروي عنه مالك وغيره.
قال علي: فإن كان عمل أهل المدينة - الذين يحتجون به ويتركون له كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الباب الذي ذكرنا فنحن نبرأ إلى الله تعالى من هذا العمل، ونحن متقربون إلى الله تعالى بعصيان هذا العمل ومضادته، ولا شك أنهم يريدون عمل الجمهور الذي وصفنا، من نحو إنكار عامة أهل المدينة على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم المرور في المسجد، وبيع أهل سوق المدينة الورق بالورق، أو بالذهب نسيئة، ولا ينكر ذلك أحد منهم.
ومثل تركهم ونسيانهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم في ألا يمس الشعر والظفر من أراد أن يضحي إذا أهل ذو الحجة بشهادة سعيد بن المسيب - فقيه أهل المدينة - عليهم بذلك، فإذا ما قد بينا أنهم لا يتعلقون بعمل النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعمل أبي بكر وعمر وعثمان، ولا بعمل أحد بعينه من الصحابة رضوان الله عليهم، فلم يبق بأيديهم شئ إلا العمل الذي وصفنا، ونعوذ بالله من التعلق بمثل هذا العمل فهو الضلال المبين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وقد فشا الشكوى بالعمال، وتعديهم في المدينة في أيام الصحابة رضوان الله عليهم، كما حدثنا حمام بن أحمد قال: ثنا عبد الله بن إبراهيم الاصيلي، ثنا أبو زيد المروزي، حدثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا قتيبة بن سعيد ثنا سفيان بن عيينة، عن محمد بن سوقة، عن منذر الثوري، عن محمد بن علي - هو ابن الحنفية - قال: جاء عليا ناس(2/232)
فشكوا سعاة عثمان، فقال لي علي: اذهب بهذه الصحيفة إلى عثمان، فأخبره أنها
صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فمر سعاتك يعملون بها، فأتيته بها، فقال أغنها عنا.
فأتيت بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأخبرته، فقال: ضعها حيث أخذتها.
فقد صح كما ترى في بطلان قول من يدعي حجة بعمل أهل المدينة أو غيرهم، ووجب أن لاحجة إلا فيما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ،وقد أنكر عمر رضي الله عنه على حسان إنشاده الشعر في المسجد، فلما قال له: قد أنشدت فيه وفيه من هو خير منك، وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت عمر ومضى، فهذا كله يبين أن لا حجة في قول أحد ولا في علمه بعد النبي صلى الله عليه وسلم ،فإن قالوا: مالك أتى متأخرا فتعقب.
قيل لهم: فتقليد من أتى بعد مالك فتعقب عليه أولى، كالشافعي وأحمد بن حنبل وداود وغيرهم، إلى أن يبلغ الامر إلينا، ثم إلى من بعدنا.
قال علي: والصحيح من ذلك أن أبا حنيفة ومالكا - رحمهما الله - اجتهدا وكانا مما أمرا بالاجتهاد، إذ كل مسلم ففرض عليه أن يجتهد في دينه، وجريا على طريق من سلف في ترك التقليد، فأجرا فيما أصابا فيه أجرين، وأجرا فيما أخطأ فيه أجرا واحدا، وسلما من الوزر في ذلك على كل حال.
وهكذا حال كل عالم ومتعلم غيرهما، ممن كان قبلهما، وممن كان معهما، وممن أتى بعدهما أو يأتي، ولا فرق، فقلدهما من شاء الله عز وجل، ممن أخطأ وابتدع، وخالف أمر الله عز وجل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين وما كان عليه القرون الصالحة وما توجبه دلائل العقل، واتبع هواه بغير آإعالى فضل وأضل.
وكذلك المقلدون للشافعي رحمه الله، إلا أن الشافعي رضي الله عنه أصل أصولا الصواب فيها أكثر من الخطأ، فالمقلدون له أعذر في اتباعه فيما أصاب فيه، وهم ألوم وأقل عذرا في تقليدهم إياه فيما أخطأ فيه.
وأما أصحاب الظاهر فهم أبعد الناس من التقليد، فمن قلد أحدا مما يدعي أنه
منهم فليس منهم، ولم يعصم أحد من الخطأ، وإنما يلام من اتبع قولا لا حجة عنده به،(2/233)
به وألوم من هذا من اتبع قولا وضح البرهان على بطلانه فتمادى ولج في غيه، وبالله تعالى التوفيق.
وألوم من هذين وأعظم جرما من يقيم على قول يقر أنه حرام، وهم المقلدون الذين يقلدون ويقرون أن التقليد حرام، ويتركون أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ويقرون أنها صحاح وأنها حق، فمن أضل من هؤلاء ؟ نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله الهدى والعصمة، فكل شئ بيده لا إله إلا هو.
قال أبو محمد: وقد قال بعضهم: قد صح ترك جماعات من الصحابة والتابعين لكثير مما بلغهم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ،فلا يخلو من أن يكونوا تركوه مستخفين به، وهذا كفر من فاعله.
أو يكونوا تركوه لفضل علم كان عندهم فهذا أولى أن يظن بهم.
قال علي: وهذا يبطل من وجوه، أحدها أنه قال قائل: لعل الحديث الذي تركه متركه منهم فيه داخلة.
قيل له: ولعل الرواية التي رويت بأن فلانا الصاحب ترك حديثا كذا هي المدخولة، وما الذي جعل أن تكون الداخلة في رواة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى من أن تكون في النقلة الذين رووا ترك من تركها، وأيضا فإن قوما منهم تركوا بعض الحديث، وقوما منهم أخذوا بذلك الحديث الذي ترك هؤلاء فلان فرق بين من قال: لا بد من أنه كان عند من تركه علم من أجله ركه، وبين من قال: لا بد من أنه كان عند من عمل به علم من أجله عمل به، وكل دعوى عريت من برهان فهي ساقطة.
وقد قدمنا أنه لا يستوحش لمن ترك العمل بالحق، سواء تركه مخطئا معذورا أو تركه عاصيا موزورا، ولا يتكثر بمن عمل به كائنا من كان، وسواء عمل به أو تركه
وفرض على كل من سمعه أن يعمل به على كل حال.
وأيضا فإن الاحاديث التي روي أنه تركها بعض من سلف، ليست في أكثر الامر التي ترك هؤلاء المحتجون بترك من سلف لما تركوا منها، بل ترك هؤلاء ما أخذ به أولئك، وأخذ هؤلاء، بما تركه أولئك، فلا حجة لهم في ترك بعض ما سلف لما ترك من الحديث.
لانهم أول مخالف لهم في ذلك، وأول مبطل لذلك(2/234)
الترك.
ولا أسوأ من احتجاج امرئ بما يبطل على من لا يحقق ذلك الاحتجاج بل يبطله كإبطال المحتج به له أو أشد.
وأيضا فلو صح ما افتروه - من أنه كان عند الصاحب التارك لبعض الحديث علم من أجله ترك ما ترك من الحديث، ونعوذ بالله العظيم من ذلك، ونعيذ كل من يظن به خيرا من مثل ما نسبوا إلى أفاضل هذه الامة المقدسة - لوجب أن يكون من فعل ذلك ملعونا بلعنة الله عز وجل.
قال الله تعالى: * (إن الذين يكتمون مآ أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) * فنحن نقول: لعن الله كل من كان عنده علم من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وكتمه عن الناس كائنا من كان.
ومن نسب هذا إلى الصحابة رضوان الله عليهم، فقد نسبهم إلى الادخال في الدين وكيد الشريعة وهذا أشد ما يكون من الكفر.
وقد عارضت بنحو من هذا الكلام الليث بن حرفش العبدي في مجلس القاضي عبد الرحمن بن أحمد ببشر رحمه الله، وفي حفل عظيم من فقهاء المالكيين، فما أحد منهم أجاب بكلمة معارضة، بل صمتوا كلهم، إلا قليل منهم أجابوني بالتصديق لقولي: وذلك أني قلت له: لقد نسبت إلى مالك رضي الله عنه ما لو صح عنه لكان أفسق الناس، وذلك أنك تصفه بأنه أبدى إلى الناس، المعلول
والمتروك والمنسوخ من روايته، وكتمهم المستعمل والسالم والناسخ حتى مات ولم يبده إلى أحد، وهذه صفة من يقصد إفساد الاسلام والتدليس على أهله، وقد أعاذه الله من ذلك، بل كان عندنا أحد الائمة الناصحين لهذه الملة، ولكنه أصاب وأخطأ، واجتهد فوفق وحرم، كسائر العلماء ولا فرق، أو كلاما هذا معناه، وقد افترض الله تعالى التبليغ على كل عالم، وقد قال عليه السلام مخبرا: إن من كتم علما عنده فسئل عنه ألجم يوم القيام بلجام من نار.
فإن قالوا: بل ما كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر يصح إلا وقد أبداه ورواه للناس، وبلغه كما يحق في علمه وروعه قلنا: صدقتم، وهذه صفته عندنا، ونحن على اتباع روايته ورواية غيره من العدول لانه عدل، وقد أمرنا بقبول خبر العدل.
ونحن على رفض رأيه ورأي غيره لقيام البرهان على تحريم التقليد،(2/235)
وهو أول الناس ينهى عن تقليده، والعجب من دعواهم أنهم أخذوا بالآخر من فعله صلى الله عليه وسلم ،وأخذوا بالاول المنسوخ لذلك فما حضرنا ذكره - مما تركوا فيه آخر فعله صلى الله عليه وسلم وأخذوا بالاول المنسوخ.
فإنهم لم يجيزوا أن يأتي الامام المعهود، وقد بدأ خليفته على الصلاة بالصلاة، فدخل الامام المعهود فيتم الصلاة ويبني سائر من خلفه على من كبروا في أول صلاتهم.
ويصير الامام الذي ابتدأ الصلاة مأموما، وهذه آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس في مرضه الذي مات فيه، فأبطلوا هذه الصلاة وأجازوا أن يخرج الامام من الصلاة لعذر أصابه ويستخلف من يتم بالناس صلاتهم، وهذا ما لم يأت فيه نص ولا إجماع، ولم يروا الصلاة خلف الامام القاعد، والاصحاء وراءه قعود أو قيام، وهذه صفة آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وتعلقوا بحديث رواه الجعفي - وهو كذاب - عن الشعبي مرسلا:
لا يؤمن أحد بعدي جالسا وهي رواية كوفية.
وهم يردون الصحيح من رواية أهل الكوفة، ويتعلقون بهذه الرواية التي لا شك في كذبها من روايات أهل الكوفة.
وكرهوا التكبير بتكبير الامام، وأبطلوا في نص روايتهم صلاة المذكور، وهذه صفة آخر صلاة صلاها أبو بكر خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة جميع المهاجرين والانصار، إلا الاقل منهم، وتركوا إباحة الشرب لكل ما لا يسكر من المباحات في جميع الظروف - وهو الناسخ، وأخذوا بالنهي عن الدباء والمزفت وهو منسوخ بالنص الجلي، وكان ذلك في أول الاسلام.
وتركوا ما في سورة براءة - وهي آخر سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه لا تؤخذ جزية إلا من كتابي، وتركوا أيضا ما فيها من قوله تعالى ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله وتعلقوا بحديث تخيير من أسلم وعنده أكثر من أربع نسوة، لانه لا يجوز أن يوجد أحد نكح أكثر من أربع نكاحا جائزا، لان نكاح من نكح خامسة اليوم باطل حين عقده إياه، مفسوخ لا يجوز - وإن جوزه الكفار - لان الله تعالى قد حرمه، وتحريم الله تعالى لاحق بهم لازم لهم.(2/236)
وتركوا النهي عن الصوم في السفر في رمضان، وهو الناسخ، وأخذوا بإباحة ذلك وهي منسوخة، وتركوا النهي عن الكلام مع الامام في إصلاح الصلاة، وهو الناسخ، وتعلقو بالمخصوص المنسوخ، وتركوا قراءة والمرسلات في المغرب، وهو من آخر فعله صلى الله عليه وسلم وتركوا تطيبه صلى الله عليه وسلم لحله ولاحرامه قبل أن يطوف بالبيت، وهو آخر فعله عليه السلام، وتعلقوا بالمنسوخ المخصوص الذي كان في الحديبية قبل حجة الوداع.
وتركوا إيجابه عليه السلام السلب للقاتل - وكان في غزوة حنين - وهو الناسخ وتعلقوا بما كان في غزوة مؤتة وهو منسوخ - قبل حنين - وتركوا ما في سورة
براءة من ألا يهادن مشرك إلا على الاسلام ولا كتابي إلا على الصغار والجزية، وأخذوا بحديث أبي جندل، وهو منسوخ قبل براءة، ومثل هذا كثير.
فصل فيه بيان سبب الاختلاف الواقع بين الائمة في صدر هذه الامة
فإن قيل: فعلى أي وجه ترك هو ومن قبله كثيرا من الاحاديث ؟ قيل له وبالله التوفيق: وقد بينا هذا فيما خلا، ولكن نأتي بفصول تقتضي تكرار ما قد ذكر فلا بد من تكراره، وذلك أن مالكا وغيره بشر ينسى كما ينسى سائر الناس، وقد تجد الرجل يحفظ الحديث ولا يحضره ذكره حتى يفتي بخلافه، وقد يعرض هذا في آي القرآن، وقد أمر عمر على المنبر بألا يزاد في مهور النساء على عدد ذكره، فذكرته امرأة بقول الله تعالى: وآتيتم احداهن قنطارا فترك قوله وقال: كل أحد أفقه منك يا عمر، وقال: امرأة أصابت وأمير المؤمنين أخطأ، وأمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر، فذكره علي بقول الله تعالى وحمهله وقصاله ثلاثون شهرا مع قوله تعالى: * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين فرجع عن الامر برجمها.
وهم أن يسطو بعيينة بن حصن، إذ قال له: يا عمر ما تعطينا الجزل، ولا تحكم(2/237)
فينا بالعدل.
فذكره الحر بن قيس بن حصن بن حذيفة بقول الله تعالى: واعرض عن الجاهلين وقال له: يا أمير المؤمنين هذا من الجاهلين فأمسك عمر.
وقال يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يموت حتى يكون آخرنا، أو كلاما هذا معناه، حتى قرئت عليه: * (إنك ميت وإنهم ميتون) * فسقط السيف من يده وخر إلى الارض.
وقال: كأني والله لم أكن قرأتها قط.
فإذا أمكن هذا في القرآن، فهو في الحديث أمكن، وقد ينساه البتة، وقد
لا ينساه بل يذكره، ولكن يتأول فيه تأويلا فيظن فيه خصوما أو نسخا أو معنى ما، وكل هذا لا يجوز اتباعه إلا بنص أو إجماع، لانه رأي من رأى ذلك، ولا يحل تقليد أحد ولا قبول رأيه.
وقد علم كل أحد أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا حوالي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة مجتمعين، وكانوا ذوي معايش يطلبونها، وفي ضنك من القوت شديد - قد جاء ذلك منصوصا - وأن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر أخرجهم الجوع من بيوتهم، فكانوا من متحرف في الاسواق، ومن قائم على نخلة، ويحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل وقت منهم الطائفة إذا وجدوا أدنى فراغ مما هم بسبيله، هذما لا يستطيع أحد أن ينكره وقد ذكر ذلك أبو هريرة فقال: إن إخواني من المهاجر كان يشغلهم الصفق بالاسواق، وإن إخواني من الانصار كان يشغلهم القيام على نخلهم، وكنت امرأ مسكينا أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مل ء بطني، وقد أقر بذلك عمر فقال: فاتني مثل هذا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ألهاني الصفق في الاسواق، ذكر ذلك في حديث استئذان أبي موسى فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن المسألة، ويحكم بالحكم، ويأمر بالشئ ويفعل الشئ، فيعيه من حضره ويغيب بمن غاب عنه.
فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم وولي أبو بكر رضي الله عنه، فمن حينئذ تفرق الصحابة للجهاد، إلى مسيلمة وإلى أهل الردة، وإلى الشام والعراق، وبقي بعضهم بالمدينة مع أبي بكر رضي الله عنه.
فكان إذا جاءت القضية ليس عنده فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم أمر، سأل من بحضرته من الصحابة عن ذلك فإن وجد(2/238)
عندهم رجع إليه وإلا اجتهد في الحكم، ليس عليه غير ذلك، فلما ولي عمر رضي الله عنه فتحت الامصار، وزاد تفرق الصحابة في الاقطار، فكانت الحكومة
تنزل في المدينة أو في غيرها من البلاد، فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أثر، حكم به، وإلا اجتهد أمير تلك المدينة في ذلك، وقد يكون في تلك القضية حكم عن النبي صلى الله عليه وسلم موجود عند صاحب آخر، في بلد آخر.
وقد حضر المديني ما لم يحضر المصري، وحضر المصري ما لم يحضر الشامي، وحضر الشامي ما لم يحضر البصري، وحضر البصري ما لم يحضر الكوفي، وحضر الكوفي ما لم يحضر المديني، كل هذا موجود في الآثار وفي ضرورة العلم بما قدمنا من مغيب بعضهم عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الاوقات وحضور غيره، ثم مغيب الذي حضر أمس وحضور الذي غاب فيدري كل واحد منهم ما حضر، ويفوته ما غاب عنه.
وهذا معلوم ببديهة العقل.
وقد كان علم التيمم عند عمار وغيره.
وجهله عمر وابن مسعود فقالا: لا يتيمم الجنب، ولو لم يجد الماء شهرين وكان حكم المسح عند علي وحذيفة رضي الله عنهما وغيرهم، وجهلته عائشة وابن عمر وأبو هريرة، وهم مدنيون.
وكان توريث بنت الابن مع البنت عند ابن مسعود، وجهله أبو موسى، وكان حكم الاستئذان عند أبي موسى، وعند أبي سعيد وجهله عمر.
وكان حكم الاذن للحائض في أن تنفر قبل أن تطوف، عند ابن عباس وأم سليم، وجهله عمر وزيد بن ثابت، وكان حكم تحريم المتعة والحمر الاهلية عند علي وغيره، وجهله ابن عباس.
وكان حكم الصرف عند عمر وأبي سعيد وغيرهما وجهله طلحة وابن عباس وابن عمر، وكان حكم إجلاء أهل الذمة من بلاد العرب، عند ابن عباس وعمر فنسيه عمر سنين فتركهم حتى ذكر فذكر، فأجلاهم.
وكان علم الكلالة عند بعضهم، ولم يعلمه عمر، وكان النهي عن بيع الخمر عند عمر وجهله سمرة.
وكان حكم الجدة عند المغيرة ومحمد بن مسلمة وجهله أبو بكر وعمر.
وكان حكم أخذ الجزية من(2/239)
المجوس، وألا يقدم على بلد فيه الطاعون، عند عبد الرحمن بن عوف، وجهله عمر وأبو عبيدة وجمهور الصحابة رضوان الله عنهم وكان حكم ميراث الجد عند معقل بن سنان، وجهله عمر.
ومثل هذا كثير جدا، فمضى الصحابة على ما ذكرنا، ثم خلف بعدهم التابعون الآخذون عنهم، وكل طبقة من التابعين في البلاد التي ذكرنا فإذا تفقهوا مع من كان عندهم من الصحابة، وكانوا لا يتعدون فتاويهم، لا تقليدا لهم، ولكن لانهم إنما أخذوا ورووا عنهم، إلا اليسير مما بلغهم عن غير من كان في بلادهم من الصحابة رضي الله عنهم، كاتباع أهل المدينة في الاكثر فتاوى ابن عمر، واتباع أهل الكوفة في الاكثر فتاوى ابن مسعود واتباع أهل مكة في الاكثر فتاوى ابن عباس.
ثم أتى بعد التابعين فقهاء الامصار: كأبي حنيفة، وسفيان، وابن أبي ليلى بالكوفة، وابن جريج بمكة، ومالك وابن الماجشون بالمدينة، وعثمان البتي وسوار بالبصرة، والاوزاعي بالشام، والليث بمصر، فجروا على تلك الطريقة من أخذ كل واحد منهم عن التابعين من أهل بلده فيما كان عندهم، واجتهادهم فيما لم يجدوا عندهم، وهو موجود عند غيرهم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
وكل ما ذكرنا مأجور على ما أصاب فيه حكم النبي صلى الله عليه وسلم أجرين ومأجور فيما خفي عنه منه أجرا واحدا، وقد يبلغ الرجل مما ذكرنا حديثان ظاهرهما التعارض، فيميل إلى أحدهما دون الثاني بضرب من الترجيحات التي صححنا أو أبطلنا قبل هذا في هذا الباب ويميل غيره إلى الحديث الذي ترك هذا بضرب من تلك الترجيحات كما روي عن عثمان في الجمع بين الاختين، حرمتهما آية، وأحلتهما آية، وكما مال ابن عمر إلى تحريم نساء أهل الكتاب جملة بقوله: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن قال ولا أعلم شركا أعظم من قول المرأة: إ ن عيسى ربها.
وغلب ذلك على الاباحة المنصوصة في الآية الاخرى، وكما جعل ابن عباس عدة ا لحامل آخر الاجلين من وضع الحمل، أو تمام أربعة أشهر وعشر، وكما تأول بعض الصحابة في الحمر الاهلية أنها إنما حرمت لانها لم تخمس، وتأول آخر منهم أنها حرمت لانها حمولة الناس، وتأول آخر منهم أنها حرمت لانها كانت تأكل(2/240)
العذرة، وقال بعضهم: بل حرمت لعينها، وكما تأول قدامة في شرب الخمر، قول الله تعالى: * (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا فعلى هذه الوجوه ترك مالك ومن كان قبله ما تركوا من الاحاديث والآيات، وعلى هذه الوجوه خالفهم نظراؤهم، فأخذ هؤلاء ما ترك أولئك، وأخذ أولئك ما ترك هؤلاء، فهي وجوه عشرة كما ذكرنا: أحدها: ألا يبلغ العالم الخبر فيفتي فيه بنص آخر بلغه، كما قال عمر في خبر الاستئذان: خفي علي هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهاني الصفق بالاسواق.
وقد أوردناه بإسناده من طريق البخاري في غير هذا المكان.
وثانيها: أن يقع في نفسه أن راوي الخبر لم يحفظ، وأنه وهم كفعل عمر في خبر فاطمة بنت قيس، وكفعل عائشة في خبر الميت يعذب ببكاء أهله، وهذا ظن لا معنى له، إن أطلق بطلت الاخبار كلها وإن خص به مكان دون مكان كان تحكما بالباطل.
وثالثها: أن يقع في نفسه أنه منسوخ كما ظن ابن عمر في آية نكاح الكتابيات.
ورابعها: أن يغلب نصا على نص بأنه أحوط وهذا لا معنى له، إذ لا يوجبه قرآن ولا سنة.
وخامسها: أن يغلب نصا على نص لكثرة العاملين به أو لجلالتهم، وهذا لا معنى له لما قد أفدناه قبلا في ترجيح الاخبار.
وسادسها: أن يغلب نصا لم يصح على نص صحيح، وهو لا يعلم بفساد الذي غلب.
وسابعها: أن يخصص عموما بظنه.
وثامنها: أن يأخذ بعموم لم يجب
الاخذ به، ويترك الذي يثبت تخصيصه.
وتاسعها: أن يتأول في الخبر غير ظاهره بغير برهان لعله ظنها بغير برهان.
وعاشرها: أن يترك نصا صحيحا لقول صاحب بلغه، فيظن أنه لم يترك ذلك النص إلا لعلم كان عنده.
فهذه ظنون توجب الاختلاف الذي سبق في علم الله عز وجل، أنه سيكون، ونسأل الله تعالى التثبيت على الحق بمنه آمين.
ثم كثرت الرحل إلى الآفاق، وتداخل الناس والتقوا، وانتدب أقوام لجمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم وضمه وتقييده، ووصل من البلاد البعيدة إلى من لم يكن عنده وقامت الحجة على من بلغه شئ منه، وجمعت الاحاديث المبينة لصحة أحد التأويلات المتأول في الحديث، وعرف الصحيح من السقيم، وزيف الاجتهاد(2/241)
المؤدي إلى خلاف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى ترك عمله، وسقط العذر عمن خالف ما بلغه من السنن بلوغه إليه، وقيام الحجة به عليه، فلم يبق إلا العناد والجهل، والتقليل والاثم.
وعلى هذا الطريق كان الصحابة رضي الله عنهم، وكثير من التابعين يرحلون في طلب الحديث الواحد الايام الكثيرة، وقد رحل أبو أيوب من المدينة إلى مصر، إلى عقبة بن عامر في حديث واحد.
وكتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إلي ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ورحل علقمة والاسود إلى عائشة وعمر رضي الله عنهما، ورحل علقمة إلى أبي الدرداء بالشام.
فقد بينا وجه ترك من ترك بعض الحديث وأزحنا العلة في ذلك، ورفعنا الاشكال جملة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال أبو محمد: وقد موه بعضهم بأن قال: إن ابن مسعود كان يسأل عن الشئ فيتركه حتى يأتي المدينة.
قال علي: وإنما كان هذا في مسألتين فقط وهي: مسألة نكاح الام التي
لم يدخل بابنتها فخالفه عمر، وقد صح عن زيد بن ثابت - وهو مدني - مثل قول ابن مسعود.
والثانية: بيعه نفاية بيت المال، ثم رجع عن ذلك.
قال علي: وكيف يكون هذا والصحيح أن ابن مسعود قال مخبرا عن نفسه: ما من سورة من كتاب الله تعالى إلا وأنا أدري فيما نزلت، ولو أني أعلم مكان رجل أعلم مني بكتاب الله عز وجل تبلغني إليه الابل لاتيته.
فكيف يرجع إلى قول غيره من هذه صفته ؟ ولقد صدق رضي الله عنه، وهو الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتمسك بعهده، وأن يؤخذ القرآن عنه وعن ثلاثة مذكورين معه، وقد صح أن عمر بن الخطاب أمر برجم مجنونة، فرده عن ذلك - على وهو كوفي - وكذلك وجد عند المغيرة خبر إملاص المرأة - وهو كوفي - لم يكن عند أهل المدينة.
قال علي: وقد موه بعضهم بأن ذكر ما حدثناه عبد الله بن ربيع، ثنا عمر بن عبد الملك، ثنا محمد بن بكر، ثنا أبو داود، ثنا محمد بن المثنى، ثنا سهل بن يوسف، قال حميد: أنبأ عن الحسن قال: خطب ابن عباس في آخر رمضان على منبر البصرة فقال: أخرجوا صدقة صومكم، فكأن الناس لم يعلموا، فقال من ههنا من أهل(2/242)
المدينة ؟ فقوموا إلى إخوانكم فعلموهم، فإنهم لا يعلمون، فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصدقة صاعا من تمر أو شعير، أو نصف صاع من قمح على كل حر أو مملوك، ذكر أو أنثى، صغير أو كبير.
فلما قدم علي رأى رخص الشعير، قال: قد أوسع الله عليكم فلو جعلتموه صاعا من كل شئ.
قال علي: وهذا الحديث قبل كل شئ لا يصح، لوجوه ظاهرة: أولها: أن الكذب والتوليد والوضع فيه ظاهر كالشمس: لانه لا خلاف بين أحد من أهل العلم بالاخبار، أن يوم الجمل كان لعشر خلون من جمادى الآخرة
سنة ست وثلاثين، ثم أقام علي بالبصرة باقي جمادى الآخرة، وخرج راجعا إلى الكوفة في صرجب، وترك ابن عباس بالبصرة أميرا عليها، ولم يرجع علي بعدها إلى البصرة هذا ما لا خلاف فيه من أحد له علم بالاخبار.
وفي الخبر المذكور ذكر تعليم ابن عباس أهل البصرة صدقة الفطر، ثم قدم علي بعد ذلك وهذا هو الكذب البحت الذي لا خفاء فيه.
ووجه ثان: أن الحسن لم يسمع من ابن عباس أيام ولايته البصرة شيئا، ولا كان الحسن يومئذ بالبصرة، وإنما كان بالمدينة هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من نقلة الحديث.
وأيضا وجه ثالث: فإنه حديث مفتعل لا يصح، لان البصرة فتحها وبناها - سنة أربع عشرة من الهجرة - عتبة بن غزوان المازني بدري مدني، ووليها بعده المغيرة بن شعبة، وأبو موسى، وعبد الله بن عامر، وكلهم مدنيون، ونزلها من الصحابة المدنيين أزيد من ثلاثمائة رجل، منهم عمران بن الحصين، وأنس بن مالك، وهشام بن عامر، والحكم بن عمرو، وغيرهم، وفتحت أيام عمر بن الخطاب وتداولها ولاته إلى أن وليها ابن عباس بعد صدر كبير من سنة ست وثلاثين من الهجرة، فلم يكن في هؤلاء كلهم من يخبرهم بزكاة الفطر، بل ضيعوا ذلك وأهملوه واستخفوا به أو جهلوه مدة أزيد من اثنين وعشرين عاما، مدة خلافة عمر بن الخطاب، وعثمان رضوان الله عليهم، حتى وليهم ابن عباس بعد يوم الجمل.
أترى عمر وعثمان ضيعا إعلام رعيتهما هذه الفريضة، أترى أهل البصرة لم يحجوا أيام عمر وعثمان، ولا دخلوا المدينة، فغابت عنهم زكاة الفطر إلى بعد يوم الجمل ؟ إن هذا لهو الضلال المبين، والكذب المفترى، ونسبة البلاء إلى الصحابة رضوان(2/243)
الله عليهم، أن هذا الخبر ما يدخل تصحيحه في عقل سليم ؟ وما حدث الحسن، والله أعلم بهذا الحديث إلا على وجه التكذيب له، لا يجوز غير ذلك.
ثم نقول لهم: لو صح - وهو لا يصح - لكان حجة على المالكيين، لانه خلاف مذهبهم في صدقة الفطر، لانهم يرون أنه لا يجزي فيها من البر إلا صاع فعاد حجة عليهم، ولا أضل ممن يحتج بما لا يصح نعوذ بالله من الخذلان، وإنما يصح هذا الحديث بخلاف اللفظ المذكور، لكن كما حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية، ثنا أحمد بن شعيب، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا حماد - هو ابن زيد - عن أيوب السختياني، عن أبي رجاء - هو العطاردي - قال: سمعت ابن عباس يخطب على منبركم - يعني منبر البصرة - يقول: صدقة الفطر صاع من طعام.
وقد موه بعضهم بأن قال: إن أهل المدينة هم شهدوا آخر عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال علي: وهذا قول رجل جاهل أو مدلس، لا بد له ضرورة من أحد الوجهين، فإن كان جاهلا وكان هذا مقداره من العلم فما كان في وسعه أن يفتي في دين الله عز وجل، وإن كان هذا مستحيلا للتلبيس في دين الله تعالى، فهذا أخبث وأنتن.
قال علي: وهذا كلام يبطل من وجهين ضروريين، أحدهما: أننا قد بينا في هذا الباب أنهم أترك الناس لآخر عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم والثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا كلهم مدنيين طول مدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدة أبي بكر وإنما سكنوا الشام والبصرة والكوفة في صدر خلافة عمر رضوان الله عليه فما بعد ذلك، لان الشام ومصر كانت بأيدي الروم، والعراق حيث بنيت الكوفة والبصرة كانت بأيدي الفرس، ولم يفتتح شئ من كل ذلك ولا سكنه مسلم إلا بعد صدر إمارة عمر، هذا أمر لا يجهله من له أقل نصيب من العلم، وكل من كان بالعراق والشام ومصر من الصحابة فلم يفارقوا سكنى المدينة طوال حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولم ينفرد قط برسول الله من بقي منهم بالمدينة دون من سكن بعد موته عليه السلام العراق أو الشام أو مصر، فبطل كذب من موه بما ذكرنا، ولله الحمد ووجب بالضرورة أن من بقي بالمدينة من
الصحابة رضي الله عنهم، ليس بأولى بحسن الظن بهم في الثبات على ما شهدوه من(2/244)
النبي صلى الله عليه وسلم من سائر الصحابة الذين بالامصار، ولا هم أولى بالعلم منهم، بل كلهم واجب الحق، موصوف بالعلم والدين والنصيحة للمسلمين.
قال أبو محمد: وهذا الذي جرى عليه الناس، كما حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان، ثنا أحمد بن خالد، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا الحجاج بن المنهال، ثنا يزيد بن أبي إبراهيم، ثنا رزيق - وكان عاملا لعمر بن عبد العزيز على أيلة - أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز في عبد أبق وسرق، وذكر أن أهل الحجاز لا يقطعون العبد إذا سرق، فكتب إليه، كتبت إلي في عبد أبق وسرق، وذكر أن أهل الحجاز لا يقطعون الآبق إذا سرق، وأن الله تعالى يقول: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء مما كسبا فإن كان قد سرق قدر ما يبلغ ربع دينار فاقطعه.
قال علي: فهذا عمر بن عبد العزيز لم يلتفت إلى عمل أهل الحجاز، وأخذ بعموم القرآن وهو الذي لا يجوز خلافه.
فصل في فضل الاكثار من الرواية للسنن
قال علي: واستغاث بعضهم إلى ذم الاكثار من الرواية، ونسبوا ذلك إلى عمر بن الخطاب، وذكروا الخبر عنه أنه لم يلتفت لرواية فاطمة بنت قيس في أن لا نفقة ولا سكنى للمبتوتة ثلاثا، وأنه قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لكلام امرأة لا ندري لعلها نسيت، وتوعد أبا موسى بضرب الظهر والبطن إن لم يأته بشاهد على ما حدث به من حكم الاستئذان.
وإن أبا بكر الصديق لم يأخذ برواية المغيرة بن شعبة في ميراث الجدة.
حتى شهد له بذلك محمد بن مسلمة، وأن عائشة أم المؤمنين لم تلتفت إلى قول أبي هريرة في المشي في خف واحد وقالت: لاحنثن
أبا هريرة، ومشت في نعل واحدة وأن عثمان حمل إليه محمد بن علي بن أبي طالب، من عند أبيه كتاب حكم النبي صلى الله عليه وسلم في الزكاة فقال له: أغنها عنا، فرجع إلى أبيه فقال: ضع(2/245)
الصحيفة حيث وجدتها، وأن عمارا قال لعمر في حديث التيمم: أما والله يا أمير المؤمنين لئن شئت - لما جعل الله لك علي من الحق - ألا أحدث بذلك أبدا فعلت.
فقال له عمر: لا، ولكن نوليك من ذلك ما توليت، وأن ابن عباس لم يلتفت لرواية أبي هريرة في الوضوء مما مست النار، ولا رواية الحكم بن عمرو الغفاري في الوضوء من فضل المرأة، ولا رواية علي في النهي عن المتعة، ولا رواية أبي سعيد الخدري في النهي عن الدرهم بالدرهمين يدا بيد، وابن عمر ذكرت له رواية أبي هريرة في كلب الزرع فقال: إن لابي هريرة زرعا، وإن معاوية لم يلتفت لرواية عبادة بن الصامت، وأبي الدرداء في النهي عن الفضة بالفضة بتفاضل يدا بيد.
فهؤلاء، أبو بكر وعثمان وعلي وعائشة وعمار وابن عباس وابن عمر ومعاوية ذكروا نحو هذا أيضا عن نفر من التابعين.
قال علي: وقولهم هذا دحض بالبرهان الظاهر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، وهو أنه يقال لمن ذم الاكثار من الرواية: أخبرنا عن الرواية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ،أخير هي أم شر ؟ ولا سبيل إلى وجه ثالث، فإن قال: هي خير، فالاكثار من الخير خير، وإن قال: هي شر، فالقليل من الشر شر، وهم قد أخذوا منه بنصيب، فيلزمهم أن يعترفوا بأنهم يتعلمون الشر ويعلمون به، أما نحن فلسنا نقر بذلك، بل نقول: إن الاكثار منها لطلب ما صح هو الخير كله.
وأيضا فنقول لهم: عرفونا حد الاكثار من الرواية المذمومة عندكم، لنعرف ما تكرهون، وحد غير الاكثار المستحب عندكم، فإن حدوا في ذلك حدا كانوا قد قالوا بالباطل: وشرعوا في الدين ما لم يأذن به الله تعالى وقالوا بلا برهان وبغير علم، وإن لم يجدوا في ذلك حدا كانوا قد حصلوا في أسخف منزلة، إذ لا يدرون ما ينكرون ولا يحسنون.
وهذا هو الضلال ونعوذ بالله منه.
وأيضا فيقال لهم: ما الذي جعل أن يكون ما رواه مالك من الحديث خيرا، ويكون ما رواه شرا دون أن تكون القصة معكوسة، ونحن نعوذ بالله من كل ذلك، بل الخير كله التفقه في الآثار والقرآن، وضبط ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم .(2/246)
وقد حض النبي صلى الله عليه وسلم على أن يبلغ عنه، وهذا التفقه والنذرة التي أمر الله تعالى بها، وليت شعري، إذا كان الاكثار من الحديث شرا فأين الخير ؟ أفي التقليد الذي لا يلزمه إلا جاهل أو فاسق ؟ أم في التحكم في دين الله عز وجل بالآراء الفاسدة التي قد حذر الله تعالى منها، وزجر النبي صلى الله عليه وسلم عنها.
وفخر بعضهم بأن مالكا كان يسقط من موطئه كل سنة وإنه لم يحدث بكثير مما كان عنده.
قال علي: هذا فخر من يريد أن يمدح فيذم، ويريد أن يبني فيهدم، ولا يخلو ما حدث به مالك وما لم يحدث به من أن يكون حدث بالصحيح عنده، وترك ما لم يصح فقد أحسن.
وكذا كل من حدث أيضا بما يصح عنده ممن ليس مالك بأعلم منه، ولا أروع كسفيان وشعبة والاوزاعي وأيوب وغيرهم، وأن يكون حدث بالسقيم وكتم الصحيح، وقد نزهه الله تعالى عن ذلك، لان هذه صفة أفسق الفاسقين، أو يكون حدث بسقيم وصحيح، وكتم صحيحا وسقيما، فمن فعل ذلك فهو آثم وملعون لكتمانه علما صحيحا عنده، فبطل ما أرادوا يمدحوه به، وعاد ذما
عظيما لو صح عليه ذلك، وأعوذ بالله من ذلك.
وبرهان آخر يوضح كذب من قال هذا، وهو أن الموطأ ألفه مالك رضي الله عنه بعد موت يحيى بن سعيد الانصاري بلا شك، ومات يحيى بن سعيد في سنة ثلاث وأربعين ومائة.
ولسنا نقول هذا بظننا بل يقينا، فهكذا روينا بإسناد متصل إلى يحيى بن سعيد القطان أنه قال: لقينا مالكا قبل أن يصنف، ولقيناه سنة اثنتين وأربعين ومائة بعد موت موسى بن عقبة بسنة، ولم يزل الموطأ يروى عن مالك منذ ألفه، طائفة بعد طائفة، وأمة بعد أمة، وآخر من رواه عنه من الثقات أبو المصعب الزهري لصغر سنه، وعاش بعد موت مالك ثلاثا وستين سنة، وموطؤه أكمل الموطآت، لانه فيه خمسمائة حديث وتسعين حديثا بالمكرر أما بإسقاط التكرار فخمسمائة حديث وتسعة وخمسون حديثا، وكان سماع ابن وهب للموطأ من مالك قبل سماع أبي المصعب بدهر، وكذلك سماع ابن القاسم، ومعن بن عيسى، وليس في موطأ ابن القاسم إلا خمسمائة حديث وثلاثة أحاديث،(2/247)
وفي موطأ ابن وهب كما في موطأ أبي المصعب ولا مزيد فبان كذب هذا القائل، والحمد لله رب العالمين.
قال علي: ولئن كان جميع حديث النبي صلى الله عليه وسلم مذموما فإن مالكا لمن أول من فعل ذلك، فإن أول من ألف في جمع الحديث فحماد بن سلمة، ومعمر، ثم مالك، ثم تلاهم الناس، وأما نحن فإننا نحمد ذلك من فعلهم.
ونقول: إن لهم ولمن فعل فعلهم في ذلك أعظم الاجر لعظيم ما قيدوا من السنن، وكثيرا ما بينوا من الحق، وما رفعوا من الاشكال في الدين، وما فرجوا بما كتبوا من حكم الاختلاف، فمن أعظم أجرا منهم، جعلنا الله بمنه ممن تبعهم في ذلك بإحسان آمين.
وأما رد عمر رضي الله عنه لحديث فاطمة بنت قيس فقد خالفته فاطمة وهي من المبايعات المهاجرات للصواحب، فهو تنازع من أولي الامر ليس قول أولى من قولها، ولا قولها أولى من قوله، إلا بنص والنص موافق لقول فاطمة، وعمر مجتهد مخطئ في رد ذلك، مأجور مرة ولا تعلق للمالكيين بهذا الخبر، لانهم خالفوا رواية فاطمة وخالفوا قول عمر، فلم يتعلقوا بأحدهما.
وأما ما ذكروا من نهي عمر رضي الله عنه في الاكثار من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ،فحدثنا محمد بن سعيد، ثنا أحمد بن عون الله، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا الخشن، ثنا بندار، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا شعبة عن بيان عن الشعبي عن قرظة - هو ابن كعب الانصاري - قال شيعنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى صرار، فانتهى إلى مكان فتوضأ فيه.
فقال: أتدرون لما شيعتكم ؟ قلنا: لحق الصحبة.
قال: إنكم ستأتون قوم تهتز ألسنتهم بالقرآن كاهتزاز النخل فلا تصدروهم بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم، قال قرظة: فما حدثت بشئ بعد، ولقد سمعت كما سمع الصحابي.
فهذا لم يذكر فيه الشعبي أنه سمعه من قرظة، وما نعلم أن الشعبي لقي قرظة ولا سمع منه، بل لا شك في ذلك، لان قرظة رضي الله عنه مات والمغيرة بن شعبة أمير الكوفة.(2/248)
هذا مذكور في الخبر الثابت المسند، وأول من نيح عليه بالكوفة قرظة بن كعب.
فذكر المغيرة عند ذلك خبرا مسندا في النوح، ومات المغيرة سنة خمسين بلا شك، والشعبي أقرب إلى الصبا، فلا شك في أنه لم يلق قرظة قط فسقط هذا الخبر، بل قد ذكر بعض أهل العلم بالاخبار أن قرظة بن كعب مات وعلي رضوان الله عليه بالكوفة فصح يقينا أن الشعبي لم يلق قط قرظة ولا عقل عنه كلمة، وحدثنا أيضا أحمد بن محمد بن الجسور، ثنا محمد بن عيسى بن رفاعة، ثنا علي بن عبد العزيز،
ثنا أبو عبيد، ثنا أبو بكر - هو ابن عياش - عن أبي حصين، يرفعه إلى عمر - أنه حين وجه الناس إلى العراق، قال جردوا القرآن.
وأقلوا الراوية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم.
قال أبو محمد: وأبو حصين لم يولد إلا بعد موت عمر بدهر، وأعلى من عنده ابن عباس والشعبي.
قال علي: وروي عنه أيضا أنه رضي الله عنه: أنه حبس ابن مسعود من أجل الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ،كما روينا بالسند المذكور إلى بندار، ثنا غندر، ثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه قال: قال عمر لابن مسعود، ولابي الدرداء، وأبي ذر: ما هذا الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: وأحسبه أنه لم يدعهم أن يخرجوا من المدينة حتى مات.
قال علي: هذا مرسل ومشكوك فيه من شعبة فلا يصح.
ولا يجوز الاحتجاج به، ثم هو في نفسه ظاهر الكذب والتوليد، لانه لا يخلو عمر من أن يكون اتهم الصحابة، وفي هذا ما فيه، أو يكون نهى عن نفس الحديث وعن تبليغ سنن(2/249)
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين، وألزمهم كتمانها وجحدها وأن لا يذكروها لاحد، فهذا خروج عن الاسلام، وقد أعاذ الله أمير المؤمنين من كل ذلك، ولئن كان سائر الصحابة متهمين في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم فما عمر إلا واحد منهم، وهذا قول لا يقوله مسلم أصلا، ولئن كان حسبهم وغيرهم متهمين لقد ظلمهم، فليختر المحتج لمذهبه الفاسد بمثل هذه الروايات الملعونة أي الطريقتين الخبيثتين شاء، ولا بد له من أحدهما، وإنما معنى نهي عمر رضي الله عنه من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو صح، فهو بين في الحديث الذي أوردناه من طريق قرظة، وإنما نهى عن الحديث بالاخبار عمن سلف من الامم وعما أشبه.
وأما بالسنن عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن النهي عن ذلك هو مجرد، وهذا ما لا يحل
لمسلم أن يظنه ممن دون عمر من عامة المسلمين، فكيف بعمر رضي الله عنه.
ودليل ما قلنا: أن عمر قد حدث بحديث كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم .
فإن كان الحديث عنه عليه السلام مكروها، فقد أخذ عمر من ذلك بأوفر نصيب، ولا يحل لمسلم أن يظن بعمر رضي الله عنه أنه نهى عن شئ وفعله، لانه قد روي عنه رضوان الله عليه خمسمائة حديث ونيف، على قرب موته من موت النبي صلى الله عليه وسلم فصح أنه كثير الرواية، والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وما في الصحابة أكثر رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم من عمر بن الخطاب، إلا بضعة عشر منهم فقط.
فصح أنه قد أكثر الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم فصح بذلك التأويل الذي ذكرنا لكلامه رضي الله عنه، وهكذا القول فيما روي من ذلك عن معاوية رضي الله عنه، ولا فرق.
وقد جاء ما قلناه عن عمر رضي الله نصا دون تأويل، كما أنبأ عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية القرشي، ثنا ابن خليفة الفضل بن الحباب الجمحي قال: ثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، ثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن بكير بن عبد الله بن الاشج أن عمر بن الخطاب قال: سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنة أعلم بكتاب الله عز وجل.
قال علي: وقد صح بهذا أن عمر أمر بتعليم السنن، وأخبر أنها تبين القرآن فصح ما قلناه يقينا بلا مرية، وارتفع اللبس، والحمد لله رب العالمين.
وأعجب من هذا كله: أن المالكيين المحتجين بأن عمر رضي الله عنه حبس(2/250)
ابن مسعود، وأبا موسى وأبا الدرداء بالمدينة، على الاكثار من الحديث ينبغي لهم أن يحاسبوا أنفسهم فيقولوا: إذا أنكر عمر على ابن مسعود وأبي موسى وأبي الدرداء، الاكثار من الحديث، وسجنهم على ذلك، وهم أكابر الصحابة وعدول الامة، وليس لابن مسعود إلا ثمانمائة حديث ونيف، فقط لعله انما يصح
منها عنه أقل من النصف وليس لابي الدرداء إلا مائة حديث ونيف، لعله لا يصح عنهما إلا أقل من نصف هذين العددين ماذا كان يصنع بمالك لو رأى موطأه، قد جمع فيه ثمانمائة حديث ونيفا وثلاثين حديثا من مسند ومرسل ؟ أين كنتم ترونه يبلغ به وهو ينكر على الصحابة بزعمكم الكاذب دون هذا العدد ؟ فلو كان لهؤلاء القوم دين أو عقل أما كان يحجزهم عن الاقدام على الانكار على الصحابة رضوان الله عليهم أمرا يجيزون لصاحبهم أكثر منه ؟ إن هذا لعجب.
وأما الحنفيون: فقد طردوا أصلهم ههنا، لان صاحبهم أقل الحديث ولم يطلبه بكثرة خطئه وقلة حديثه، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والرواية في حبس ابن مسعود في ذلك عنه ضعيفة، وإنما صح أنه تشدد في الحديث كما ذكرنا، وكان يكلف من حدثه بحديث أن يأتي بآخر سمعه معه، وإنما فعل ذلك اجتهادا منه، وقد أنكره عليه أبي، فرجع عمر عن ذلك، وذلك مذكور في حديث الاستئذان، وحتى لو صح ذلك عن عمر ومعاوية فقد خالفهما في ذلك أبي وعبادة، وبلغ ذلك بأحدهما إلى أن حلف ألا يساكنه في بلد واحد، فمن جعل قول معاوية أولى من قول عبادة وأبي الدرداء ؟.
وأما الرواية عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه لم يقنع بقول المغيرة وروايته فمنقطعة لا تصح، ولو صححت لما كان لهم فيها حاجة.
لانهم يقولون بخبر الواحد إذا وافقهم ولا معنى لطلب راو آخر فالذي يدخل خبر الواحد يدخل خبر الاثنين، ولا فرق إلا أن يفرق بين ذلك نص فيوقف عنده.
وأما الرواية عن عائشة أم المؤمنين، فإنما موهوا بإيرادها ولا حجة لهم فيها، لانها لم تقل قط أنها لم تصدق أبا هريرة، ولا أنها تستجيز رد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وإنما ذكر لها أن أبا هريرة ينهى عن المشي في نعل واحد فقالت:(2/251)
لاحنثن أبا هريرة وأحسنت وبرت.
فلو لم يكن في هذا إلا قول أبي هريرة لما لزم الاخذ به.
وأما خبر عثمان فلا ندري على أي وجه أورده.
والذي نظن بعثمان أنه كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم رواية في صفة الزكاة، استغنى بها عما عند علي بل نقطع بهذا عليه قطعا، ولا وجه لذلك الخبر سوى هذا أو المجاهرة بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم ،وقد أعاذه الله من ذلك فإن صاروا إلى توجيهنا، بطل تعلقهم بهذا الخبر.
وإن وجهوه على هذا الوجه الآخر، لحقوا بالروافض ونسبوا إلى عثمان الكفر أو الفسق، وقد برأه الله من ذلك وأن من نسب إليه لاولى به من عثمان بلا شك.
وأما قول عمار لعمر: فيعيذ الله عمارا من أن يستجيز جحد سنة عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لرأي عمر.
هذه صفة توجب الكفر لمن استحلها ويوجب الفسق لمن فعلها غير مستحل لها، لا يختلف في ذلك اثنان من أهل الاسلام، مع مجئ النص بذلك فيمن يكتم حكم الله تعالى أو يخالفه.
وإنما قال ذلك عمار مبكتا لعمر إذ خالفه، بمعنى أترى لي أن أكتم هذا الخبر، نعم إن شئت كما قال تعالى اعملوا ما شئتم أو غير هذا، وهو في الخبر ذكر أن عمر أجنب فلم يصل، فهذا الذي أراد عمار كتمانه، وأنه لا يحدث به أبدا لواجب حق عمر عليه وهذا مباح إذ ليس ذكر اسم عمر في ذلك من السنن، ولا له فائدة، لكن عمر رضي الله عنه لم يفسح له في ذلك بل ولاه من التصريح باسمه في ذلك ما تولى.
وأما ابن عباس فإنه روى في فضل المرأة من طريق ميمونة خبرا بنى عليه وروى في المتعة إباحة شهدها فثبت عليها ولم يحقق النظر، وقد أنكر ذلك عليه علي بن أبي طالب وأغلظ عليه القول - وروي في الدرهم بالدرهمين خبرا
عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم فثبت عليه وأنكر عليه ذلك أبو سعيد وأغلظ له في القول جدا، ولم يعارض خبر الحكم في فضل المرأة بأكثر من أن قال: هي ألطف بنانا، وأطيب ريحا، فليس في هذا رد للحديث ولا لحكمه، بل صدق في ذلك، وقد(2/252)
خالفه في الوضوء مما مست النار، وفي غسل اليد ثلاثا قبل إدخالها في الاناء أبو هريرة وأغلظ له في القول فليت شعري من جعل قول ابن عباس أولى من قول علي وأبي هريرة والحكم بن عمرو وأبي سعيد ؟.
وأما قول ابن عمر: إن لابي هريرة زرعا، فصدق وليس في هذا رد لرواية أبي هريرة أصلا، فإذا لم يبق من جميع ما اعترضوا به إلا اختلاف الصحابة في بعض ذلك مما صح وثبت، فالواجب الرد المفترض الذي لا يحل سواه هو الرد في ذلك إلى الله تعالى وإلى النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان صاحب في ذاته فغير مبعد عنه الوهم لا سيما إذا اختلفوا فمضمون أن أحد القولين خطأ، فوجدنا الله تعالى قد أمر بالتفقه في الدين، وإنذار الناس به، وأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ،ولا سبيل إلى طاعته عليه السلام إلا بنقل كلامه وضبطه وتبليغه ولا سبيل إلى التفقه في الدين إلا بنقل أحكام الله تعالى وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم ،ووجدناه صلى الله عليه وسلم قد حض على تبليغ الحديث عنه وقال في حجة الوداع لجميع من حضر: ألا فليبلغ الشاهد الغائب فسقط قول من ذم الاكثار من الحديث.
ثم العجب فيه إيرادهم لهذه الآثار التي ذكرنا عمن أوردوها عنه من الصحابة فوالله العظيم ما أدري غرضهم في ذلك ولا منفعتهم بها، ولا شك أنهم لا يدرون لماذا أوردوها، لانهم إن كانوا أوردوها طعنا في القول بخبر الواحد فليس هذا قولهم، بل هم كلهم يقولون بخبر الواحد، وأيضا فهي كلها أخبار آحاد وليس شئ منها حجة عند من لا يقول بخبر الواحد، وهذا عجب جدا، أو يكونوا أوردوها
على إباحة رد المرء ما لم يوافقه من خبر الواحد، وأخذ ما وافقه من ذلك، فهذا هوس عتيق، أول ذلك أنهم يردون بعض ما لم يرده من احتجوا به من الصحابة، ويأخذون ببعض ما رده من احتجوا به منهم، وأيضا فإن كان الامر كذلك فقد اختلط الدين وبطل، لان لخصومهم أن يردوا بهذا الباب نفسه ما أخذوا به، ويأخذوا ما ردوه هم منه ونعوذ بالله منه.
قال علي: ولا أضل ولا أجهل ولا أبعد من الله عز وجل، ممن يزجر عن تبليغ كلام النبي صلى الله عليه وسلم .
ويأمر بألا يكثر من ذلك، أو يرد ما لم يوافقه مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بنظره الملعون، ورأيه الفاسد، وهواه الخبيث،(2/253)
ودعواه الكاذبة، ثم يغني دهره في الاكثار من تبليغ آراء مالك وابن القاسم وسحنون وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن، والتلقي بالقبول لجميعها على غلبة الفساد عليها، ألا إن ذلك هو الضلال البعيد.
والفتيا بالآراء المتناقضة وبالله تعالى نعتصم.
قال علي: وأما من ظن أن أحدا بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسخ حديث النبي صلى الله عليه وسلم ،ويحدث شريعة لم تكن في حياته عليه السلام، فقد كفر وأشرك وحل دمه وماله ولحق بعبدة الاوثان، لتكذيبه قول الله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتمعت عليكم نعتي ورضيت لكم الاسلام دينا وقال تعالى (ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) * فمن ادعى أن شيئا مما كان في عصره عليه السلام على حكم، ثم بدل بعد موته فقد ابتغى غير الاسلام دينا، لان تلك العبادات والاحكام والمحرمات والمباحات والواجبات التي كانت على عهده عليه السلام هي الاسلام الذي رضيه الله تعالى لنا، وليس الاسلام شيئا غيرها فمن ترك شيئا
منها فقد ترك الاسلام، ومن أحدث شيئا غيرها فقد أحدث غير الاسلام، ولا مرية في شئ أخبرنا الله تعالى به أنه قد أكمله، وكل حديث أو آية كانا بعد نزول هذه الآية فإنما هي تفسير لما نزل قبلها، وبيان لجملتها، وتأكيد لامر متقدم.
وبالله تعالى التوفيق ومن ادعى في شئ من القرآن أو الحديث الصحيح أنه منسوخ ولم يأت على ذلك ببرهان، ولا أتى بالناسخ الذي ادعى من نص آخر فهو كاذب مفتر على الله عز وجل داع إلى رفض شريعة قد تيقنت، فهو داعية من دعاة إبليس، وصاد عن سبيل الله عز وجل، نعوذ بالله، قال الله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * فمن ادعى أن الناسخ لم يبلغ، وأنه قد سقط فقد كذب ربه، وادعى أن هنالك ذكرا لم يحفظه الله بعد إذ أنزله.
فإن قال قائل: الحديث قد يدخله السهو الغلط، قيل له: إن كنت ممن يقول بخبر الواحد، فاترك كل ما أخذت به منه، فإنه في قولك محتمل أن يكون دخل فيه السهو الغلط، وإن كنت مقلدا، فاترك كل من قلدت فإن السهو والغلط قد(2/254)
يدخلان عليه بالضمان.
وقد يدخلان أيضا في الرواة عنهم الذين عنهم أخذت دينك، وإلا فالرواة عن النبي صلى الله عليه وسلم أوثق من الرواة عن مالك وأبي حنيفة، نعم ومن مالك وأبي حنيفة أنفسهما.
وإن كنت ممن يبطل خبر الواحد جملة، فقد أثبتنا البرهان على وجوب قبوله، وما ثبت بيقين فلا يبطل بخوف سهو لم يتيقن، والحق لا تسقطه الظنون قال الله تعالى: * (وما لهم به من علم إن يتبعون ولزمه أن يسقط القبول لشهادة الشاهدين في الدماء والفروج والاموال، إذ يدخل عليهما السهو والغلط وتعمد الكذب، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في صفة الرواية
قال علي: الرواية هي أن يسمع السامع الناقل الثقة يحدث بحديث من كتابه أو من حفظه أو بأحاديث.
فجائز أن يقول: حدثنا وحدثني، وأخبرنا وأخبرني، وقال لي وقال لنا، وسمعت وسمعنا، وعن فلان وكل ذلك سواء، وكل ذلك معنى واحد أو يقرأ الراوي عن الناقل حديثا أو أحاديث فيقول المروي عليه بها، ويقول: نعم هذه روايتي، وأن يسمعها تقرأ عليه ويقر بها المروي عنه، أو يناول المروي عنه الراوي كتابا فيه حديث أو أحاديث، أو ديوانا بأسره عظم أو صغر فيقول له: هذا ديوان كذا، كل ما فيه أخذته عن فلان عن فلان حتى يبلغه إلى مؤلفه، ويستثني شيئا إن كان فاته منه بعينه فإن لم يفته شئ فلا يستثني شيئا، أن يقول له: عن ديوان مشهور مقبول عند الناس نقل تواتر ليس في ألفاظه اختلاف، ديوان كذا أخذته عن فلان عن فلان حتى يبلغ إلى مؤلفه، فأي هذه الوجوه كان، فجائز أن يقول فيه القائل: حدثني وأخبرني، وهو محق في ذلك، وهو كله خبر صحيح، ونقل صادق ورواية تامة، لا داخلة فيها، كالقراءة والسماع ولا فرق فإن سمعه يخاطب بذلك غيره فليقل: سمعت فلانا يخبر عن فلان، أو يحدث عن فلان، ولا يقل حينئذ: نا، ولا ني، ولا أنا، ولا إني، فيكذب، ولكن إن قال سمعت فلانا، فهي رواية صحيحة تامة، فليحدث بها وليروها الناس.
وسواء(2/255)
أذن له المسموع عنه في ذلك أو لم يأذن، حجر عليه الحديث عنه أو أباحه إياه، كل ذلك لا معنى له ولا يحل لاحد أن يمنع من نقل حق فيه خير للناس قد سمعه الناقل، ولا يحل لاحد أن يبيح لغيره نقل ما لم يسمع، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، وإنما هو حق أو كذب، فالحق الذي ينتفع به مسلم
واحد فصاعدا واجب نقله، والكذب حرام نقله.
وأما من كتب إلى آخر كتابا يوقن المكتوب إليه أنه من عنده، فيقول له في كتابه: ديوان كذا أخذته عن فلان كما وصفنا قبل، فليقل المكتوب إليه أخبرني فلان في كتابه إلي.
ونحن نقول: أنبأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وأخبرنا الله تعالى، وقال لنا الله تعالى، وقال تعالى: ومن أصدق من الله قيلا وقال تعالى: * (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني وإنما ذلك لانه تعالى خاطب بكتابه كل من يأتي من الانس والجن إلى يوم القيامة، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمخاطبة كل من يأتي إلى يوم القيامة من الانس والجن أيضا، فليس منا أحد إلا وخطاب الله تعالى وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم يتوجهان إليه يوم القيامة، وليس ذلك لمن دونهما أصلا، وإنما يخاطب كل من دون الله تعالى ودون رسوله صلى الله عليه وسلم ،من شافه أو من كتب إليه، أو من سمع منه لفظه، إذ لم يأمر الله تعالى أحدا من ولد آدم عليه السلام دون رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ينذر جميع أهل الارض، وإنما يصح من فعل كل واحد ما وافق ما أمره تعالى به، لا ما خالف ما أمره الله عز وجل، ومن فعل ما لم يؤمر به ففعله باطل مردود.
قال علي: وأما الاجازة التي يستعملها الناس، فباطل، ولا يجوز لاحد أن يجيز الكذب، ومن قال لآخر: ارو عني جميع روايتي دون أن يخبره بها ديوانا ديوانا، وإسنادا إسنادا، فقد أباح له الكذب، لانه إذا قال حدثني فلان أو عن فلان فهو كاذب أو مدلس بلا شك، لانه لم يخبره بشئ فهذه أربعة أوجه جائزة وهي: مخاطبة المحدث للآخذ عنه، أو سماع المحدث من الآخذ عنه، وقراره له بصحته، أو كتاب المحدث إلى الآخذ عنه، أو مناولته إياه كتابا فيه علم.(2/256)
وقوله: هذا أخبرني به فلان عن فلان، وكل هذه الوجوه قد صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن جميع الصحابة.
فأما الاخبار: فإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالسنن، وإخبار الصحابة بعضهم بعضا، فأبو بكر أخبره المغيرة، ومحمد بن مسلمة، وكذلك كل من بعده منهم، وأما قراءة الآخذ على المحدث: فقد قال بعض الناس للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبرني أهل العلم أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم فصدق النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك سأل الناس أصحابه عن الاحكام قصدقوا الحق وأنكروا الباطل.
وأما الكتاب: فكتب النبي صلى الله عليه وسلم بالسنن إلى ملوك اليمن، وإلى من غاب عنه من ملوك الارض الذين دعاهم إلى الايمان، وكذلك فعل أصحابه بعده إلى قضاتهم وأمرائهم.
وأما المناولة: فقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا لعمرو بن حزم، ولعمر وغيره إذ بعثهم أمراء، يعلمهم فيها السنن، وأمرهم بالعمل بما فيها، وكذلك لعبد الله بن جحش، وأعطاه الكتاب وأمره بالعمل بما فيه، وكذلك فعل أبو بكر بأنس، وبعث علي كتابا مع ابنه إلى عثمان، وقال: هذه صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر عمالك يعملون بها.
وأما الاجازة: فما جاءت قط عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم، ولا عن أحد منهم، ولا عن أحد من التابعين ولا عن أحد من تابعي التابعين فحسبك بدعة بما هذه صفته، وبالله تعالى التوفيق.(2/257)
فصل وقد تعلل قوم في أحاديث صحاح بأن قالوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر عمالك يعملون بها.
وأما الاجازة: فما جاءت قط عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم، ولا عن أحد منهم، ولا عن أحد من التابعين ولا عن أحد من تابعي التابعين فحسبك بدعة بما هذه صفته، وبالله تعالى التوفيق.(2/258)
فصل وقد تعلل قوم في أحاديث صحاح بأن قالوا هذا حديث أسنده فلان وأرسله فلان
قال علي: وهذا لا معنى له، لان فلانا الذي أرسله لو لم يروه أصلا أو لم يسمعه البتة، ما كان ذلك مسقطا لقبول ذلك الحديث، فكيف إذا رواه مرسلا وليس في إرسال المرسل ما أسنده غيره، ولا في جهل الجاهل ما علمه غيره، حجة مانعة من قبول ما أسنده العدول، لا سيما إن كان المعترض بها مالكيا أو حنفيا، فإنهم يرون المرسل مقبولا كالمسند، فكيف يوهنون الصحيح بما يرونه موافقا له وشاذا ومؤيدا، إن هذا لعجيب وإن هذا لافراط في الجهل والسقوط، ولا معنى لقولهم: إنما يراعى هذا إذا كان المرسل أو الموقف أعدل من المسند، فإنما يجب قبول الخبر إذا رواه العدل عن العدل، ولا معنى لتفاضل العدالة على ما قد ذكرنا في هذا الباب، إذ لا نص ولا إجماع ولا دليل على مراعاة عدل وأعدل منه، وإنما الواجب مراعاة العدالة فقط، وبالله تعالى نتأيد ونعتصم.
انقضى الكلام في الأخبار والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وأهل بيته وسلم تسليما تم الجزء الثاني من الإحكام(2/258)
الاحكام
ابن حزم ج 3(3/)
الاحكام في أصول الاحكام
للحافظ ابى محمد على بن حزم الاندلسي الظاهرى
هذا الكتاب النفيس، الذى لم تر العين مثيله في علم الاصول (أحمد شاكر)
قوبلت على نسخة أشرف على طبعها
الاستاذ العلامة أحمد شاكر رحمه الله
الناشر زكريا على يوسف
مطبعة العاصمة بالقاهرة - ت 23680
الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الثاني عشر في الاوامر والنواهي الواردة في القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم والاخذ بظاهرها وحملها على الوجوب والفور وبطلان قول من صرف شيئا من ذلك إلى التأويل أو التراخي أو الندب أو الوقف بلا برهان ولا دليل.
قال أبو محمد: الذي يفهم من الامر، أن الآمر أراد أن يكون ما أمر، وألزم المأمور ذلك الامر، وقال بعض الحنفيين، وبعض المالكيين، وبعض الشافعيين: إن أوامر القرآن والسنن ونواهيهما على الوقف حتى يقوم دليل على حملها، إما على وجوب في العمل أو في التحريم، وإما على ندب، وإما على إباحة، وإما على كراهة، وذهب قوم من الطوائف التي ذكرنا، وجميع أصحاب
الظاهر إلى القول: بأن كل ذلك على الوجوب في التحريم أو الفعل حتى يقوم دليل على صرف شئ من ذلك إلى ندب، أو كراهة، أو إباحة فتصير إليه.
قال علي: وهذا هو الذي لا يجوز غيره، ونحن إن شاء الله تعالى ذاكرون ما اعترض به المخالفون، وبطلان شغبهم بالبراهين الصحيحة، ثم نذكر الادلة على صحة ما ذهبنا إليه، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: فعمدة ما موهوا به أن قالوا: لو كان لفظ الامر موضوعا للايجاب لم يوجد أبدا إلا كذلك، لكن لما وجدنا بلا خلاف منكم لنا أوامر معناها الندب أو الاباحة، ووجدنا نواهي بلا خلاف منكم لنا معناها الكراهة، وجب ألا نصرف الالفاظ إلى بعض ما تحتمله من المعاني دون بعض، إلا بدليل، قالوا: وألفاظ الاوامر عندنا من الالفاظ المشتركة التي لا تختص بمعنى واحد، لكنها بمنزلة عير ورجل ولون وعين، فإن قولك: رجل ليس هو بأن يوقع على العضو، أولى منه بأن يوقع على جماعة الجراد، وقولك: عير ليس بأن يوقع(3/259)
على الحمار أولى من أن يوقع على العظم الذي في القدم، وقولك: عين ليس بأن يوقع على يمين عين النظر، أولى من أن يوقع على عين الماء، وقولك: لون ليس بأن يوقع على الحمرة، أولى من أن يوقع على البياض، فكذلك قول القائل افعل لما وجد يراد به الندب، ووجد يراد به إيجاب، لم يكن إيقاعه على الايجاب أولى من إيقاعه على الندب إلا بدليل.
قال علي: هذا شغب فاسد، وذلك أنا نقول وبالله تعالى التوفيق: إن لكل مسمى من عرض أو جسم اسما يختص به، يتبين به مما سواه من الاشياء ليقع بها التفاهم، وليعلم السامع المخاطب به مراد المتكلم المخاطب له، ولو لم يكن ذلك لما كان تفاهم أبدا، ولبطل خطاب الله تعالى لنا، وقد قال الله تعالى وما أرسلنا من
رسول إلا بلسان قرمه ليبين لهم ولو لم يكن لكل معنى اسم منفرد به لما صح البيان أبدا، لان تخليط المعاني هو الاشكال نفسه، فإذن الاصل ما ذكرناه بضرورة العقل، وبنص القرآن، ثم وجدنا في اللغة أشياء مما ذكروا من أسماء تقع على معان شتى، ووجدناها أيضا أسماء يختص كل اسم منها بمسماه فقط، وعلمنا أن المراد باللغة إنما هو الافهام لا الاشكال، لزمنا أن نلزم الاصل الذي هو اختصاص كل معنى باسمه دون أن يشاركه فيه غيره، حتى يصح عندنا أن هذا الاسم مرتب بخلاف هذ الرتبة، وأنه مما لا يقع به بيان فيطلب بيانه حينئذ من غيره.
قال علي: والذي شبهوا به الاوامر من الاسماء المشتركة التي ذكروا، مثل لون وعير ورجل تشبيه فاسد ضرورة، وذلك أن المخاطب إذا خاطبنا بخبر ما عن رجل أو عن لون أو أمرنا بأمر ما في ذلك فممكن أن نحمل خبره وأمره على كل ما يقتضيه ما ذكر مثل أن يقول: لا تأكلوا عيرا فيجتنب كل ما يقع عليه اسم عير، وإن اختلفت أنواعه، وكذلك قوله تعالى: انظروا إلى ثمرة إذا أثمر كان ذلك واقعا على كل ثمر، وإن اختلفت أنواعه، وكذلك قول القائل: الهواء لا لون له.
فقد انتفى بذلك عنه البياض والحمرة والسواد والخضرة والصفرة، فالفائدة بالخطاب بهذه الاسماء قائمة، والتفاهم ممكن، وحملها على ما يقتضيه جائز حسن إلا أن يقوم دليل على تخصيص بعض ما تحتها فيصار إليه.(3/260)
وهذا غير ممكن في الاوامر التي أرادوا أن يشبهوها بالاسماء التي ذكرنا، لانه إذا قيل لنا: افعلوا، وكان هذا اللفظ ممكنا أن يراد به الايجاب وممكنا به الندب أو الاباحة، فلا سبيل في بنية الطبيعة إلى حمله على كل الوجوه التي ذكرنا، إذ ممتنع بالضرورة أن يكون الشئ ملزما ولا بد، ومباحا تركه في وقت واحد لانسان واحد، هذا محال لا يمكن ولا يقدر عليه، فيبطل تشبيههم، وصح أن الامر
لو كان كما ذكروا لكان غير مقدر على الائتمار له أبدا، ولو كان ذلك لبطل الامر كله ضرورة، وإذ قد صح ورود الامر من الله عز وجل، وصح التخاطب بالاوامر في اللغة بين الناس، علمنا أنه لا يجوز أن يخاطبنا تعالى بما لا سبيل إلى الائتمار له وبالمحالات التي لا نقدر عليها، وصح أن الامر مراد به معنى مختص بلفظه وبنيته وليس ذلك إلا كون ما خوطب به المأمور، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: وإنما الذي ذكروا من أنهم قد وجدوا أوامر معناها الندب فصدقوا، والوجه في ذلك أننا قد وجدنا في اللغة ألفاظا نقلت على معهودها وعن موضوعها في اللسان، وعلقت على أشياء أخر، فعل ذلك خالق اللغة وأهلها الذي رتبها كيف شاء عز وجل، أو فعل في ذلك بعض أهل اللغة من العرب، أو فعل ذلك مصطلحان فيما بينها، كما نقل تعالى اسم الصلاة عن موضوعها في اللغة، عن الدعاء إلى استقبال الكعبة، ووقوف وركوع وسجود وجلوس، بصفات محدودة لا تتعدى، وكما نقل تعالى اسم الصيام عن الوقوف إلى امتناع الاكل والشرب والوطئ في أيام معلومة، وكما نقل اسم الكفر عن التغطية إلى أقوال محدودة ونيات معلومة، فإذا قد وجدنا ذلك لزمنا، إذ قام دليل، على أن لفظا ما قد نقل عن موضوعه من اللغة، ورتب في مكان آخر أن يعتقد ذلك، وإما ما لم يقم دليل على نقله فلا سبيل إلى إحالته عن مكانه البتة، وقد قال بعض المفسدين للحقائق، المتكلمين بما لا يعقل، ليس هذا نقلا، إنما النقل ما لم يجز أن يبقى على ما نقل عنه.
قال علي: وهذا تحكم لا يعرفه أهل اللغة، بل كل حال أحيلت، فقد تنقل حكمها عما كان عليه، والاسم إذا وقع على معنى ما فأوقعه الله تعالى أيضا على معنى آخر، فقد نقله على حكم الوقوع على معنى واحد إلى حكم الوقوع على معنيين، وأيضا(3/261)
فلسنا نحاكرهم في لفظ النقل، وإنما نريد أن اللفظة كانت تقع في اللغة على معنى
ما، فأوقعت أيضا على غير ذلك.
قال علي: ثم نقول لهم ما يلزمكم إن صححتم دليلكم الذي ذكرتم، أنكم قد وجدتم آيات كثيرة، وأحاديث كثيرة منسوخات لا يحل العمل بها، أن تتوقفوا في كل آية، وفي كل حديث، لاحتمال كل شئ منها في نفسه أن يكون منسوخا، كاحتمال كل أمر في نفسه أن يكون ندبا فإن التزمتم ذلك كفرتم، وخرجتم عن الاسلام، وإن أبيت التزامه أصبتم وكنتم قد أبطلتم دليلكم في أنه لما قد وجدت أوامر معناها الندب وجب التوقف عن جميع الاوامر حتى يصح أنها إما إيجاب أو ندب.
قال علي: وليس بين ما ألزمناهم من التوقف عن كل آية، وحديث من أجل وجودهم آيات منسوخة وأحاديث منسوخات، وبين ما التزموا من التوقف عن كل أمر من أجل وجودهم أوامر معناها الندب - فرق البتة، بل هو ذلك بعينه لسنا نقول: إن مثله بل نقول إن المعنى في ذلك واحد، وبيان ذلك: أن المنسوخ هو الذي لا يلزم أن يستعمل، أو يجوز أن يستعمل، والمندوب إليه هو الذي لا يلزم فرضا أن يستعمل أيضا، فقد اجتمعنا في سقوط وجوب الاستعمال اجتماعا مستويا، وإنما افترقا أن المندوب إليه مباح استعماله، والمنسوخ ليس مباحا استعماله في بعض الاحوال فقط، فبطل تمويههم - وبالله تعالى التوفيق - بإقرارهم أنه ليس من أجل وجودنا ألفاظا مصروفة عن مواضعها في اللغة، يجوز أن يتوقف في سائر الالفاظ خوف أن تكون مصروفة عن مواضعها، فقد بطل الاستدلال الذي أرادوا تحقيقه، وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن لفظة أو ولفظة إن شئت مفهوم منهما التخيير بلا خلاف منا ومنهم، ومن جميع أهل اللغة، وقد سمعناه تعالى يقول فمن شاه قليومن ومن شاء فليكفر وسمعناه تعالى يقول: * (قل كونوا حجارة أو حديدا) * وجدنا الدليل البرهاني قد قام على خروج هاتين الآيتين عن التخيير إلى معنى آخر، فيلزم على
دليلهم الفاسد ألا يحملوا لفظة أو ولا لفظة إن شئت أبدا على التخيير، لانه يقال لهم كما قالوا: لو كانت لفظتا أو وإن شئت على التخيير لكانت متى وجدت لما تكن إلا للتخيير، فلما وجدت لغير التخيير في عدة مواضع بطل أن تكون للتخيير.(3/262)
قال علي: وفي هذا إبطال الكلام كله وإبطال التفاهم وفساد الحق والشرائع كلها والعلوم كلها، لانه لا قول إلا وقد يوجد موضوعا في غير بنيته في اللغة، إما على المجاز أو الاتفاق بين المتخاطبين، فلو وجب من أجل ذلك أن يبطل حمل الاسماء على معانيها التي رتبت لها في اللغة لبطل كل ما ذكرنا، وكفى فسادا بكل قول أدى إلى إبطال الحقائق، وبالله تعالى التوفيق
قال علي: فإن قالوا: إنا لم نوافقكم على أن لفظ الامر موضوعه في اللغة الوجوب، فيلزمنا ما ألزمتمونا، وإنما قلنا: إنه ليس موضوعه في اللغة الوجوب دون الندب، ولا الندب دون الوجوب.
قال علي: فنقول وبالله تعالى التوفيق: قد أبطلنا في كلامنا هذا جواز وقوع لفظ الامر على الوجوب وعلى الندب معا، وفرقنا بين ذلك وبين وقوع الالفاظ المشتركة مثل لون وعير على معان شتى، وبينا أن ذلك جائز ممكن موجود، وأن وقوع لفظ الامر على الوجوب وعلى الندب معا محال ممتنع لا سبيل إليه، ولا يتشكل في العقل البتة فصح ضرورة أن لفظ الامر موضوع في أصل اللغة، إما للوجوب فقط - ثم نقل بدليل كما ذكرنا في بعض المواضع إلى الندب، أو إلى غير الوجوب من سائر المعاني التي سنبينها إن شاء الله تعالى، وإما أنه موضوع في أصل اللغة للندب خاصة، أو لمعنى ما من سائر المعاني التي قدوردت بلفظ الامر، ثم نقل إلى الوجوب بدليل، فهذا هو الذي يتشكل في العقل، وأما احتمال وقوع لفظ الامر على الندب والوجوب معا في وقت واحد، فهذا باطل لانه يوجب أن ورود
الامر لا حقيقة له أصلا، ولا له معنى البتة، وهذا أحمق من قول السوفسطائية فهذا الذي أردنا أن نبين إحالته، وقد صح والحمد لله.
ولا بد لكم من المصير إلى أحد الخبرين ضرورة، إما أن تقولوا: لفظ الامر موضوع للوجوب في اللغة، حتى يصح دليل بنقله إلى غير الوجوب، وهذا قولنا، وإما أن تقولوا: لفظ الامر موضوع لغير الوجوب في اللغة، حتى يصح دليل ينقله إلى الوجوب، فإن قلتم ذلك، سهل أمركم بقول وجيز بحول الله وقوته، وحسبنا أن قد قلعناكم بلطف الله عن مكان الشغب على الجهال، وذلك أن قول القائل: الاوامر كلها على غير الوجوب حتى يصح دليل نقلها إلى الوجوب، دخول(3/263)
في عظيمتين: إحداهما خرق الاجماع، فما قال بهذا أحد قط، وإنما شغب من شغب بالموقف، وبما قدمنا إبطاله من احتمال الامرين، والثانية: إبطال فائدة العقل، لانه يصير حينئذ قائلا: إن الموضوع في اللغة من لفظة افعل: لا تفعل إن شئت، وهذا خلاف فهم جميع أهل اللغات، لان الثابت في فطرة العقل أن النهي عن الشئ غير الامر به، وكفى، مع أن الاجماع على ترك هذا القول كاف عن تكلف دليل.
وبرهان ضروري: وهو أنه إن كانت لفظة افعل موضوعة لغير الايجاب إلا بدليل يخرجها إلى الايجاب، وكانت أيضا لفظة لا تفعل موضوعة لغير التحريم إلا بدليل يخرجها إلى التحريم، وكان كلتا اللفظتين تعطي: افعل إن شئت أو لا تفعل إن شئت، فقد صار ولا بد من المفهوم من لا تفعل هو المفهوم من افعل، وهذا لا يقوله ذو مسكة عقل.
قال علي: قالوا: وبأي شئ يدل على أنه على الوجوب أبنفسه أم بدليله ؟ فإن قلتم: بنفسه ففي ذلك اختلفنا، وإن كان بدليله، فإذا لم يدل هو فدليله أحرى أن لا يدل.
قال علي: وهذا شغب فاسد ضعيف جدا.
تعلقوا إليه من قبل مبطلي الحقائق، فإنهم قد سألونا بهذا السؤال نفسه فقالوا: بماذا ثبت عندكم أن الاشياء حق ؟ أبأنفسها ففيها اختلفنا، أم بغيرها فلا شئ في العالم يوجد من غير الاشياء الموجودة، وليس غير الاشياء إلا لا شئ ؟ فإذا لم يدل الشئ على حقيقة نفسه فلا شئ أحرى ألا يدل، وتعلق أيضا بهذا السؤال مبطلو دلائل العقل فقالوا: بأي شئ علمتم صحة ما يدل عليه العقل ؟ أبالعقل أم بغير العقل ؟ ونحو هذا من الهذيان كثير، وهؤلاء القوم في شعبة من طريق مبطلي الحقائق ومبطلي مدركات العقل.
ونعكس عليهم سؤالهم هذا السخيف الذي صححوه - فهو لازم لهم لا لنا - إذ لم نصححه ونقول لهم: بأي شئ يدل الامر على أنه على الوقف، أبنفسه أم بدليله ؟ فإن قلتم بنفسه ففي ذلك اختلفنا، وإن كان بدليله، فإذا لم يدل هو فدليله أحرى ألا يدل، فمن أحمق استدلالا ممن دليله عائد عليه، وهادم لقوله ؟ وإنما هم قوم لا يحققون شيئا، إنما هم في سبيل التشغيب على الضعفاء، وما يخدعون إلا أنفسهم.(3/264)
والجواب عن هذا السؤال السخيف وبالله تعالى التوفيق: أنا قد أخبرنا - فيما خلا وفي سائر كتبنا - بأننا مضطرون إلى معرفة أن الاشياء حقائق، وأنها موجودة على حسب ما هي عليه، وبأنه لا يدري أحد كيف وقع له ذلك وبينا أن هذه المعرفة - التي اضطرنا إليها، وخلقها الباري تعالى في أنفسنا في أول أوقات فهمنا بعد تركيبها في الجسد، هي أصل لتمييز الحقائق من البواطن، وهي عنصر لكل معرفة، وإننا عرفنا إيجاب الاوامر ببديهة العقل وبالتمييز الموضوعين فينا، لنعرف بها الاشياء على ما هي عليه، فعلمنا أن الحجر صليب، وأن الماء سيال في طبعه، وإن انتقل إلى الجمود في بعض أحواله، وأن قول القائل: فلان أحمق، ذم، وأن قوله: فلان عاقل مدح، وأن الامر عنصر من عناصر الكلام
التي هي خير ودعاء واستفهام وأمر، فلما استقر في النفس أن إرادة الامر أن يفعل المأمور ما يأمره به، معنى قائم في النفوس لم يكن له بد من عبارة يقع بها التفاهم، وعلمنا ذلك أيضا بنصوص سنذكرها في تمام إبطال ما شغبتم به إن شاء الله تعالى، وبالله نتأيد وإياه نستعين.
هذا كل ما احتج به القائلون بالوقف ولا مزيد، فقد أبطلناه بالبرهان الضروري بتوفيق الله تعالى وتعليمه لا إله إلا هو، إلا أن ابن المنتاب المالكي أتى بعظيمة فلزمنا التنبيه عليها إن شاء الله تعالى وذلك أنه قال: إن من الدليل على أن الاوامر على الوقف قول الله تعالى مخبرا عن أهل اللغة الذين هم العرب: (ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا فال فلو كانت الاوامر على الوجوب، والالفاظ على العموم، لما كان لسؤالهم عما قاله عليه السلام معنى إذ لو فهم الوجوب والعموم من نفس اللفظ لكان سؤالهم فاسدا.
قال علي: لا يشبه هذا القول احتجاج مسلم، لان الله تعالى حكى هذا الاعتراض عن قوم منافقين كفار، لم يرض فعلهم ولا سؤالهم، وإنما حكى الله عز وجل ذلك عنهم منكرا عليهم، وقد قال تعالى أو يكفهم أنا أنزلنا عليك(3/265)
الكتاب يتلى عليهم فأخبر تعالى أن ظاهر القرآن وتلاوته تكفي أن ذلك يجب قبوله على ظاهره حين وروده هذا نص الآية المذكورة، ووصية الله تعالى التي لا تحتمل غير ما ذكرنا، ولا أعجب من احتجاج من يدعي أنه مسلم في إسقاطه إيجاب طاعة الله عز وجل، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بكلام قوم كفار منافقين مستهزئين بآيات الله عز وجل.
وما نعرف لهذا الاحتجاج مثلا في الشنعة والفظاعة، إلا قول إسماعيل بن
إسحاق في كتابه الخمس وهو كتاب مشهور معلوم، ولنا عليه فيه رد هتكنا عواره فيه، وفضحناه بحول الله وقوته، فإن قال في الكتاب المذكور لو كان ما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صناديد قريش - من غنائم هوازن، إثر يوم حنين - من نصيبه من خمس الخمس، كما قال الشافعي، ما قالت الانصار في ذلك ولا قال ذو الخويصرة ما قال.
قال علي: فمن أضل ممن يحتج بكلام ذي الخويصرة ويتخذ ذا الخويصرة وليجة من دون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم : ويجعل إنكار كافر مشرك شر خلق الله هجور لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،حجة على المؤمنين القائلين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أعطى من أعطى نصيبه الذي فوض الله تعالى أمره إليه، لا مما جعله الله عز وجل لاقوام مسلمين معروفين، اللهم إنا نبرأ إليك من هذا الكلام، ومن نصر مذهب قاد إلى الاحتجاج بإنكار ذي الخويصرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وبقول المنافقين: ماذا قال آنفا.(3/266)
ونحن نقول قول إنصاف - إذ قد اقتدى ابن المنتاب بالقائلين إذ خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وقد استمعوا إليه ثم قالوا لاهل العلم: ماذا قال آنفا وتبر أنا نحن منهم ومن مثل سوالهم واقتدينا نحن بالدين قالوا سمعنا وأطفنا فلله ما اختار، وله إن شاء الله تعالى ما أعطى الله للذين اقتدى بهم، إذ قال عز وجل يعقب حكاية قولهم ما ذا قال آنفا أو لئلك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواء هم نحن راجون أن يعطنا الله بمنه وطوله ما أعطى من اقتدينا بهم في قولهم سمعنا وأطعنا طذا يقول تعالى إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقوله سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) * ونعم فليعلم الجاهل - المعترض بأقوال المنافقين المشركين على كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم - أن قول الذين قالوا
للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا، لا معنى لسؤالهم هذا، ولا يعقل سؤالهم لانه سؤال مجنون فاسد الدين ملعون وشغب بعهم بقول تعالى وإذا حللتم فاصطا دوا وإذا اقضيت الصلاة فانتشروا في الأرض قالوا: وهذا إباحة بلا شك، فقلنا: يجب عليكم إذا احتججتم بهذا أن تقولوا إن جميع الاوامر على الندب، حتى يقوم دليل على الوجوب وهذا ليس قولهم، وأما هاتان الآيتان فإنما خرجتا عن الوجوب إلى الاباحة ببرهان، أما التصيد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حل بالطواف بالبيت وانحدر إلى منى ولم يصطد، فصح أنه ليس فرضا بهذا النص الآخر، وأما: * (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فان علبدالله بن ربيع قال: حدثنا عمر بن عبد الملك، حدثنا ابن الاعرابي، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا القعنبي، ثنا مالك، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه، ما لم يحدث: اللهم اغفر له اللهم ارحمه.
قال أبو محمد: فندبنا إلى القعود في مصلانا بعد الصلاة، فصح بذلك أن الانتشار بعد الصلاة إباحة، فمن جاءنا في شئ من الاوامر ببرهان ينقله عن الفرض إلى الندب، وعن التحريم إلى الكراهية، صرنا إليه، وأما بالدعوة الكاذبة المحيلة للقرآن والسنن على موضوعها، فمعاذ الله من ذلك.(3/267)
واحتج على بعضهم بالخبر الثابت من طريق أنس: أن رجلا اتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر النبي عليه السلام علي بن أبي طالب أن يقتله فأتاه فوجده في ركي يتبرد، فأمره بالخروج فلما خرج فإذا هو مجبوب لا ذكر له فتركه وعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، وزاد بعض من لا يوثق به في هذا الخبر أن عليا قال له: يا رسول الله أنفذ لامرك كالسكة المحماة،
أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ؟ فقال له: بل الشاهد يرى ما لا يراه الغائب وقد ذكر هذا اللفظ أيضا في خبر بعثه عليه السلام عليا إلى خيبر، وكلاهما لا يصح أصلا، بل هما زيادتا كذب، لم يرو قط من طريق فيها خير، ويلزم من صححها أن يسقط من الصلاة ثلاث صلوات، أو من كل صلاة ركعة إن رأى ذلك أصلح، أو ينقل صوم رمضان إلى الربيع رفقا بالناس، إذ الشاهد يرى مالا يرى الغائب، وأن يزيد في الحدود والزكاة، أو ينقص منها، وهذا كفر صريح فبطل التعلق بهذا اللفظ الموضوع.
وكذلك ما روي أنه عليه السلام أمر أبا بكر وعمر بقتل ذي الخويصرة فرجعا وقال أحدهما: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدته ساجدا، وقال الآخر: وجدته راكعا، فهو خبر كاذب لم يأت قط من طريق خير، وأما أمره عليه السلام بقتل ذلك الانسان فيخرج على أحد وجهين: إما أنه شهد عند النبي عليه السلام بذلك قوم عدول في الظاهر، منافقون في الباطن كاذبون بأنهم سمعوه يقر بذلك فوجب عليه القتل لاذاه النبي صلى الله عليه وسلم ،ففضح الله كذبهم، وأما أنه تعالى أوحى إليه بالامر بقتله، وقد علم تعالى أنه سينسخ ذلك الامر بإظهار براءته، وكذب الناقل، وكلا الامرين وجه صحيح، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: فإذا قدذكرنا كل ما شغبوا به، فلنذكر إن شاء الله تعالى البراهين المصححة أن الاوامر كلها على الوجوب، والنواهي كلها على التحريم إلا ما خرج(3/268)
منها بدليل، ونقول قبل ذلك: إنما لجأ إلى القول بالوقف وتعلق بهذه العوارض، وسلك في هذه المضايق من بهر شعاع الحق عقله، والتمع نور الله تعالى بصر قلبه، وارتبك في غيه ناصرا لما قد ألفه من الاقوال الفاسدة، وطمعا في إطفاء ما لا ينطفئ من ضياء الحق، وإنما التزموا ذلك في مسائل يسيرة، ثم تناقضوا
فأوجبوا أحكاما كثيرة، فرضا بنفس الامر مما قد خالفهم فيها غيرهم، وفعلت كل طائفة منهم مثل ما فعلت الاخرى.
قال أبو محمد: فأول ذلك أنه لا يعقل أحد من أهل كل لغة أي لغة كانت من لفظة افعل أو اللفظة التي يعبر بها في كل لغة عن معنى: افعل، ولا يفهم منها أحد لا تفعل، ولا يعقل أحد من لفظة لا تفعل، أو مما يعبر به عن معنى: لا تفعل، ولا يفهم منها أحد افعل، ومدعي هذا على اللغات وأهلها في أسوأ من حال الكهان وقد قال تعالى: * (قتل الخراصون) *.
قال علي: ويقال لهم: بأي شئ تعرفون أن في الاوامر شيئا على الوجوب مما تقرون فيه أنه واجب، فأجابوا عن ذلك بجوابين، أحدهما: إن قال بعضهم: نعرف أن الامر على الوجوب إذا اقترن معه وعيد.
وقال بعضهم: لسنا نجدد دلائل الوجوب، وهي أشياء تقترن بالاوامر التي يراد بها الايجاب، ولسنا نقدر على العبارة عنها.
قال علي: أما هؤلاء فقد أقروا بالانقطاع وبالعجز عن بيان مذهبهم، وإذا كان شئ لا يقدر على بيانه، فباليقين أن العجز عن نصره أوجد وليس يعجز أحد له لسان، وليس له حياء ولا ورع، أن يدعي ما شاء فإذا سئل عن دليل قوله وبيانه قال: إني لا أقدر على بيانه، ولكنه شئ معلوم إذا عرف.
قال علي: ولسنا ممن يجوز عليه هذا الهذيان، ولكنا نقول لمن هذا: صف لنا حال نفسك في معرفتك ما عرفت أنه واجب، فإن عجزت عن ذلك بان كذبك وادعاؤك الباطل: لان كل واحد يدعي حالا يستدل بها على حقيقة ليست من أوائل المعارف فهو مميز لتلك الحال والا فهو مدع للباطل.(3/269)
قال: أبو محمدو يقال لمن قال يعرف أن الامر على الوجوب إذا اقترن به
وعيد: اعلم أن الوعيد من الله عز وجل قد اقترن بجميع أوامر نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: فيحذر الذين مخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم فاقترن التحذير من الفتنة والوعيد، بكل من خالف أمره عليه السلام.
قال علي: واعترض بعضهم في ذلك بأن قال: لما صح في أن أوامره عليه السلام، ما لا يصيب مخالفه عذاب أليم، وهو أمر كان معناه الندب، علمنا أن الوعيد المحذر منه إنما هو فيما كان من الاوامر معناه الوجوب فقط، وأن هذه الآية لا توجب كون جميع أوامره فرضا، وإن كان ذلك، فقد بطل أن يكون حجة في حمل الامر على الوجوب.
قال علي: فيقال له وبالله تعالى التوفيق: إن ما خرج من الاوامر عن استحقاق العذاب المنصوص في الآية على تركه، بخروجه إلى معنى الندب، إنما هو مستثنى من جملة ما جاءت الآية به، بمنزلة المنسوخ الخارج عن الوجوب، فلا يبطل ذلك بقاء سائر الشريعة على الاستعمال، وكذلك خروج ما خرج بدليله إلى الندب ليس بمبطل بقاء ما لا دليل على أنه ندب، على استحقاق العذاب على تركه، إلا أن الوعيد قد حصل مقرونا بالاوامر كلها، إلا ما جاء نص أو إجماع متيقن منقول إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا وعيد عليه، لانه غير واجب ولا يسقط من كلام الله تعالى إلا ما أسقطه وحي له تعالى آخر فقط.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني، ثنا أبو إسحاق البلخي، عن الفربري، عن البخاري، ثنا محمد بن سنان، ثنا فليح ثنا هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى.
قالوا: يا رسول الله ومن يأبى ؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى.
قال علي: يسأل من قال: إن الاوامر لا تحمل على الوجوب إلا بدليل،
ما معنى المعصية، فلا بد له من أن يقول: هي ترك المأمور أن يفعل ما أمره به الآمر، فإذا لا بد من ذلك.
فمن استجاز ترك ما أمره به الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم ،(3/270)
فقد عصى الله ورسوله، ومن عصاهما فقد ضل ضلالا بعيدا، واستحق النار، وأن لا يدخل الجنة، بنص كلام الله وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: ومن يعص الله ورسوله فإن له نار حنهم خالدين فيها أبدا.
قال علي: ولا عصيان أعظم من أن يقول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم افعل - أمرا - كذا فيقول المأمور: لا أفعل إلا إن شئت أن أفعل، ومباح لي أن أترك ما أمرتماني به.
أو يقول الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم لا تفعل - أمرا - كذا فيقول أنا أفعل إن شئت أن أفعله، ومباح لي أن أفعل ما نهيتماني عنه.
قال علي: ما يعرف أحد من العصيان غير هذا.
والحجة على هؤلاء القوم أبين في العقول بيانا وأقرب مأخذا منها على المشركين، لان المشركين لا يقرون بوجوب طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ،وإنما الكلام معهم في إثبات ذلك وهؤلاء يقرون بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم يقولون لنا: لا نطيع، وليس الائتمار لهما بواجب إلا بدليل غير نفس أمرهما.
نعوذ بالله من الخذلان ومن التمادي على الباطل بعد وضوحه.
واحتج بعضهم بما حدثنا المهلب، عن ابن مناس عن ابن مسرور عن يونس بن عبد الاعلي عن ابن وهب أخبرني جرير بن حازم عن سليمان الاعمش قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعطيت القرآن على سبعة أحرف، لكل حرف منها ظهر وبطن، وبه إلى ابن وهب أخبرني خالد بن حميد، عن يحيى بن أبي أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن القرآن ذلول ذو وجوه، فاتقوا ذله وكثرة وجوهه، وبه إلى ابن وهب، أنبأ مسلمة بن علي، عن هشام، عن الحسن أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال - فذكر حديثا، وذكر فيه القرآن وفيه: وما منه آية إلا ولها ظهر وبطن، وما فيه حرف إلا وله حد ولكل حد مطلع.
قال علي: هذه كلها مرسلات لا تقوم بها حجة أصلا، ولو صحت لما كان لهم في شئ منها حجة بوجه من الوجوه، لانه لو كان كما ذكروا لكل آية ظهر وبطن، لكنا لا سبيل لنا إلى علم البطن منها بظن، ولا بقول قائل، لكن ببيان النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمره الله تعالى بأن يبين للناس ما نزل إليهم، فإن أوجدونا(3/271)
بيانا عن النبي صلى الله عليه وسلم ،بنقل الآية عن ظاهرها إلى باطن ما صرنا إليه طائعين، وإن لم يوجدونا بيانا عن النبي صلى الله عليه وسلم ،فليس أحد أولى بالتأويل - في باطن ما تحتمله تلك الآية - من آخر من تأول أيضا.
ومن الباطل المحال أن يكون للآية باطن لا يبينه النبي صلى الله عليه وسلم لانه كان يكون حينئذ لم يبلغ كما أمر وهذا لا يقوله مسلم، فبطل ما ظنوه.
وقد أتت الاحاديث الصحاح بحمل كل كلام على ظاهره كما حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي قال: ثنا محمد بن معاوية المرواني، عن أحمد بن شعيب النسائي، ثنا محمد بن عبد الله بن المبارك، ثنا أبو هشام - واسمه المغيرة بن سلمة المخزومي بصري ثقة - قال علي وأنبأناه أيضا عبد الله بن يوسف بن نامي، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، حدثني زهير بن حرب.
ثنا يزيد بن هارون،
قال علي: واللفظ لفظ المغيرة، قال المغيرة ويزيد: ثنا الربيع بن مسلم، ثنا محمد بن زياد، عن أبي هريرة قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: إن الله تعالى قد فرض عليكم الحج فقام رجل فقال: أفي كل عام ؟ فسكت عنه، حتى أعاده ثلاثا.
فقال: لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما قمتم بها، ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم
فإذا أمرتكم بالشئ فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه.
وقد روي أيضا من طرق صحاح إلى الزهري، عن أبي سنان، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد روي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن نفعل ما أمر به ما نستطيع، وأن نجتنب ما نهى عنه من طريق أبي هريرة مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم - أبو سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب، وأبو صالح، والاعرج، وهمام بن منبه ومحمد بن زياد، كلهم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه عن همام معمر، ورواه عن الاعرج أبو الزناد، ورواه عن أبي صالح الاعمش، ورواه عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة الزهري، ورواه عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة مسندا أيضا شعبة، والربيع بن مسلم، ورواه عمن ذكرنا الثقات الاكابر.
قال علي: فبين عليه السلام في هذا الحديث بيانا لا إشكال فيه أن كل ما أمر به فهو واجب، حتى لو لم يقدر عليه.
وهذا معنى قوله تعالى: ولو شاء الله(3/272)
لأعنتكم ولكنه تعالى رفع عنا الحرج ورحمنا، فأمر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم كما تسمع، أن ما أمر به عليه السلام فواجب أن يعمل به حيث انتهت الاستطاعة، وأنه لا يسقط من ذلك إلا ما عجزت عنه الاستطاعة فقط، وأن ما نهى عليه السلام عنه فواجب اجتنابه.
ثنا عبد الله بن يوسف - بالسند المذكور إلى مسلم - قال: ثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ثنا أبو علي الحنفي، ثنا مالك بن أنس، عن أبي الزبير المكي، أن أبا الطفيل عامر بن وائله، أخبره أن معاذ بن جبل أخبره، وقال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي قال: فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، العين مثل الشراك تبض بشئ من ماء قال: فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم
هل مسستما من مائها شيئا.
قالا: نعم فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول.
ثم ذكر باقي الحديث وفيه الآية في نبعان الماء ببركته صلى الله عليه وسلم .
قال علي: فهذان استحقا السب من النبي صلى الله عليه وسلم ،لخلافهما نهيه في مس الماء، ولم يكن هناك وعيد متقدم، فثبت أن أمره على الوجوب كله إلا ما خصه نص، ولولا أنهما تركا واجبا ما استحقا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وبه إلى مسلم، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو أسامة، ثنا عبيد الله - هو ابن عمر - عن نافع عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما أخبرني الله تعالى فقال: * (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم وسأزيد على السبعين قال: إنه منا فق، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: * (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره
قال علي: ففي هذا الحديث بيان كاف في حمل كل شئ على ظاهره، فحمل(3/273)
رسول الله صلى الله عليه وسلم اللفظ الوارد بأو على التخيير، فلما جاء النهي المجرد حمله على الوجوب، وصح بهذا أن لفظ الامر والنهي غير لفظ التخيير والندب، ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بلغة العرب التي بها خاطبه ربه تعالى.
فإن قال قائل: فما كان مراد الله بالتخيير، الذي حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على التخيير، وبذكره تعالى السبعين مرة، أتقولون: إنه أراد تعالى ما قال عمر بن الخطاب من ألا يصلي عليهم ولا يستغفر لهم ثم نزلت الآية الاخرى مبينة ؟.
فالجواب: أننا وبالله تعالى التوفيق، لا نقول ذلك، ولا يسوغ لمسلم أن يقوله، ولا نقول إن عمر، ولا أحدا من ولد آدم عليه السلام فهم عن الله تعالى شيئا لم يفهمه
عنه نبي الله صلى الله عليه وسلم ،وهذا القول عندنا كفر مجرد، وبرهان ذلك أن الله تعالى لو لم يرض صلاة النبي على عبد الله بن أبي، لما أقره عليها، ولانزل الوحي عليه لمنعه كما نهاه بعد صلاته عليه أن يصلي على غيره منهم، فصح أن قول عمر كان اجتهادا منه أراد به الخير فأخطأ فيه، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وأجر عمر في ذلك أجرا واحدا، لكنا نقول: إنه عز وجل خير نبيه صلى الله عليه وسلم في ذلك على الحقيقة، فكان مباحا له صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لهم ما لم ينه عن ذلك.
وأما ذكر السبعين فليس في الاقتصار عليه إيجاب أن المغفرة تقع لهم بما زاد على السبعين، ولا فيه أيضا منع من وقوع المغفرة لهم بما زاد على السبعين، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طمع ورجا إن زاد على السبعين أن يغفر لهم، ولم يحقق أن المغفرة تكون بالزيادة، وهذا هو نفس قولنا بعينه، فلما أعلمه الله تعالى بما كان في علمه عز وجل، ولم يكن أعلمه قبل ذلك به علمه حينئذ نبيه صلى الله عليه وسلم ولم يكن علم قبل نزول المنع من الاستغفار لهم بالبت، أن ما زاد على السبعين غير مقبول، فدعا راج لم ييأس من المغفرة، ولا أيقن بها، وهذا بين في لفظ الحديث، وبالله تعالى التوفيق.
وقد سألت بريرة النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال لها: لو راجعتيه يعني النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مغيثا - فقالت: أتأمرني يا رسول الله، فقال: لا، إنما أشفع ففرق صلى الله عليه وسلم كما ترى بين أمره وشفاعته، فثبت أن الشفاعة لا توجب على أحد فعل ما شفع فيه عليه السلام، وأن أمره بخلاف ذلك: وليس فيه إلا الايجاب فقط.(3/274)
وقال الله عز وجل: * (يأيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته
قال علي: في هذه الآية بيان جلي رافع لكل شك، في أن من لم يفعل ما أمر
به فقد عصى، لانه تعالى بين أن نبيه صلى الله عليه وسلم إن لم يبلغ كما أمر، فلم يفعل ما أمر به، ولا معنى لهذا الخبر وهذا التقدم، إلا أن خلاف الامر معصية لا موافقة، وبالله تعالى التوفيق وهم يقرون على أنفسهم أنهم لا يفعلون ما أمروا به حتى يأمرهم أبو حنيفة، ومالك، والشافعي.
وقال تعالى: يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ولا تكونوا كالذين قالو سمعنا وهم لا يسمعون فصح أنه لم يرد تعالى منا الاقرار وحده إلا مع العمل بما أمرنا معه.
وقا تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمران أن تكون لهم الخيرة من أمر هم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلالا مبينا.
قال على وانبلج الحكم بهذه الآية ولم يبق للشك مجال، لان الندب تخيير، وقد صح أن كل أمر لله ولرسوله ص) فلا اختيار فيه لاحد، وإذا بطل الاختيار فقد لزم الوجوب ضرورة، لان الاختيار إنما هو في الندب والاباحة للذين لنا فيهما الخيرة، إن شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل، فأبطل الله عز وجل الاختيار في كل أمر يرد من عند نبيه صلى الله عليه وسلم ،وثبت بذلك الوجوب والفرض في جميع أوامرهما، ثم لم يدعنا تعالى في شك من القسم الثالث وهو الترك، فقال تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) *.
قال علي: وليس يقابل الامر الوارد إلا بأحد ثلاثة أوجه، لا رابع لها نعلم ذلك بضرورة الطبيعة، وببديهة العقل: إما الوجوب وهو قولنا، وإما الندب والتخيير في فعل أو ترك، وقد أبطل الله عز وجل هذا الوجه في قوله تعالى: * (أن تكون لهم الخيرة من أمر هم) * وأما الترك وهو المعصية فأخبر تعالى أن من فعل ذلك فقد ضل ضلالا مبينا، فارتفع الاشكال جملة، وبطل كل شغب يأتون به.
وقال تعالى: * (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهخم) * فنص تعالى على توبيخ من لم يكتف بالتلاوة، وهذا هو الحكم بالظاهر، وحظر الانتقال إلى(3/275)
التأويل وقال تعالى: * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) * وقال تعالى: * (أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) * فصح أن لا بيان إلا نص القرآن ونص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فإن قالوا: فإنتحملون كثيرا من أوامره تعالى على التخيير والندب، فقد نقضتم هذا الحكم.
لهم وبالله تعالى التوفيق: ما فعلنا ما تقولون من النقض، لاننا إنما حملنا منها على التخيير بأمر الله تعالى، حملناه أيضا على وجوبه، فإذا نص ربنا عز وجل في أمر قد أمر به على أننا إن شئنا فعلنا، وإن شئنا تركنا، فقد أوجب علينا قبول هذا النص على ظاهره ضرورة، فلم نخرج عن أصلنا، ولم يكن لنا خيرة في صرفه إلى الوجوب بأحد طرفيه دون الآخر فقط، كما أنه تعالى أو نبيه صلى الله عليه وسلم إذا اقتصر المخاطب لنا منهما على لفظ لا تخيير معه، فلا خيرة لنا في صرفه عن أمره الذي اقتصر عليه، فكل أمر مفرد فواجب علينا حمله على انفراده، وكل أمر بتخيير فواجب علينا حمله على التخيير، فالقبول فرض علينا لما يرد من الالفاظ على ظواهرها، ولا خيرة لنا في شئ من ذلك، والاجماع إذا صح على حمل آية أو خبر على التخيير، فقد أيقنا أن أصل الاجماع توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فحملنا ذلك التوقيف أيضا على الوجوب فلم ننقض قولنا بحمد الله تعالى.
قال علي: أفلا يستحي أن يتكلم في الدين من يسمع كلام الله تعالى في قسمة الصدقات يقول: * (إنما الصدقات المفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فرضية من الله) * فيقول: ليس ذلك فريضة، وجائز للامام أن يصرفها إلى ما يرى من وجوه البر، أو إلى بعض هذه الاصناف، ثم يأتي إلى قول ابن عمر: فرض رسول الله (ص صدقة الفطر على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، صاعا من تمر
أو صاعا من شعير، فيقول: ليس صدقة الفطر فريضة، ولا الشعير ولا التمر فيها أيضا فرضا، ولا مستحبا، بل البر الذي لم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم أفضل.
ثم يأتي إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صلى ههنا معنا، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد أدرك فقال: لا تخيير في ذلك، والفرض الوقوف ليلا(3/276)
ولا بد، وإلا بطل الحج.
ويقول في قول الله تعالى: * () *، إنه يفهم منه أن خطبة الجمعة فرض تبطل الصلاة بتركها.
وأن ذكره تعالى للاعتكاف بعد ذكره لحكم الصيام، موجب أن يكون الصوم في الاعتكاف فرضا لا يجزي الاعتكاف إلا به.
أيكون في عكس الحقائق ومجاهرة العقول الفهمة للغة العربية، ومخالفة القرآن والسنة أكثر من هذا ؟.
وقال تعالى: * () *.
قال علي: فهذا لفظ الوعيد بقوله تعالى: * () * مقرونا بمخالفة الطاعة، فأخبرنا تعالى أن ترك الطاعة تول، ولا تركا للطاعة أكثر ممن يستجيز أن يترك ما أمر به أو يفعل ما نهى عنه.
وقال تعالى: * (الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر فصح بالنص كما ترى أن كل ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو معروف، وكل ما نهى عنه فهو منكر عن المعروف، فبين تعالى أن كل من نهى عما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو منافق، وكل من قال في قوله تعالى افعل.
فقال هو لا تفعل إن شئت، فقد أباح تركه والنهي عنه نصا.
وقال تعالى: ومن لم وقال تعالى ومن: * (وليحكم أهل الانجيل بمآ أنزل الله فيه ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) *.
قال علي: ومن أجاز لنفسه ترك العمل بما أنزل الله فهو فاسق ظالم بنص القرآن، وبنص تسمية الله عز وجل له، فقد نصصنا كلام الله تعالى، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم في إيجاب أوامرهما ونواهيهما فرضا، وبطل بذلك قول من قال على الندب أو الوقف.
قال علي: وقد فرق قوم بين أوامر الله عز وجل، وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم ،وهذا بين الفساد، فقد أنكر الله تعالى ذلك بقوله: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله إن العجب ليكثر من الحنفيين والمالكيين الذين يجعلون الخطبة يوم الجمعة فرضا، فإذا سئلوا عن البرهان في ذلك قالوا قول الله عز وجل: * (وإذا رأوا(3/277)
تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما) *.
قال علي: وما ندري ماذا تأدى إليهم في هذا اللفظ من إيجاب الخطبة.
ويقولون إن الصيام في الاعتكاف فرض، إذا سئلوا عن برهان ذلك قالوا: ذكر الله تعالى الاعتكاف إثر ذكر الصيام، وعلى هذا فكل شريعة ففرض ألا تتم إلا بضم كل شريعة في القرآن إليها، فلا حج لمن لم يصل.
ولا صلاة لمن أفطر في رمضان، ولا نكاح لمن لا يقسط في اليتامى، فينفسخ نكاحه مع امرأته، لان الله تعالى عطف النكاح على أمر اليتامى فقال تعالى: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم معطوف بعضها على بعض.
ثم قالوا: في قوله تعالى: * (وأتمو الحج ولعمرة لله ليست العمرة فرضا، وقد عطفها تعالى على الحج عطفا شركها به معه في الاتمام، ولم يعطف الاعتكاف على الصيام، ولا الصيام على الاعتكاف، وإنما عطف النهي عن المباشر في حال الاعتكاف على أحكام الصيام، عطف جملة على جملة، لا عطف اشتراك.
ثم قالوا في قوله تعالى في قسمة الخمس: * (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شئ قدير) * فقالوا: ليس هذا فرضا، وللامام أن يضع الخمس حيث رأى من مصالح المسلمين، هذا وهم يسمعون الله تعالى يقول في قسمة الخمس على من سمى: الصدقات، وقد قال تعالى ان كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا وقالوا في آخرها: * فريضة من الله فقالوا ليست فريضة لهؤلاء فمن أضل ممن جعل الخطبة والصيام في الاعتكاف فرضا ولم يأت به أمر، ولا ندب، وأسقط إيجاب ما سماه الله تعالى فريضة، وقال فيه: وان كنتم آمنتم بالله وأما المالكيون فإنهم احتجوا في عتق الاخ يملكه أخوه بقوله تعالى: * (قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) * وما عقل قط ذو لب وجوب عتق الاخ من هذه الآية كما لم يعقل وجوب صلاة الظهر منها، وأسقطوا النفقة على الوارث بآرائهم وقد قال تعالى: وعلى المولود له رزقهن و كسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس(3/278)
إلا وسعها لاتضار والدة بولدها ولا مولود له وعليه الوارث مثل ذلك، ففرقوا بين مضارة الوالد بولده فأوجبوا فيها النفقة، وبين مضارة الوارث بموروثه، فلم يوجبوا فيها النفقة، وقد سوى الله عز وجل بينهما تسوية واحدة، ولا ضرر في التمييز والعقل، أعظم من ترك الوارث موروثه يسأل أو يموت جوعا، وهو ذو مال يغنيه، ويفضل عنه، وخالفوا في ذلك حكم عمر بن الخطاب وعمله.
وقال المالكيون: أمر تعالى بالمكاتبة ندب، وأمره بإتيانهم من مال الله الذي آتاهم ندب، وأمره بالمتعة ندب، ثم قالوا قوله تعالى: * () * فرض، فلو تدبروا هذه الفضائح التي يطلقون، لكان أولى بهم من معارضة
أوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم بهذيان لا يطردونه، بل يتناقضون فيه في كل حين، فمرة يقولون في بعض الاوامر ليس فرضا، فإذا قيل لهم قد أمر الله تعالى بها، قالوا الاوامر موقوفة، ولا يحمل على الفرض إلا بدليل، ومرة يوجبون الاوامر فرضا بلا دليل ولا قرينة إلا التحكم والتقليد فقط، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: وأما الموافقون لهم على الوقف من أصحاب الشافعي، فإنهم يقولون: إن لم نجد دليلا على أن الامر على الندب أمضينا الاوامر على الوجوب.
قال علي: وهذا ترك منهم لقولهم بالوقف، لانهم راجعون إلى إمضاء الاوامر على الوجوب بمجردها بلا قرينة، إذا عدموا دليلا على الندب.
قال علي: وهذا قولنا نفسه، ولم نخالفهم في أن الامر إذا جاء نص أو إجماع على أنه ندب، فواجب أن يصار إلى أنه ندب، وإنما خالفناهم في الوقف فقط.
قال علي: ونسألهم ألهذا الوقف غاية ؟ فإن حدوا حدا كلفوا عليه البرهان ولا سبيل إليه، فإن لم يجدوا فيه حدا صار مدة العمر، فبطل العمل بشئ من الاوامر وهذا يؤدي إلى إبطال الشريعة.
وقد احتج بعض من يقول بقولنا ممن سلف، فقال: لو كان الامر لا يعلم بلفظه أنه على الوجوب، لكان لا يخلو من أن يعلم المراد فيه، إما بأمر آخر، أو بشئ يستخرج من الامر، وكلا الامرين فلا بد من الرجوع فيه إلى أمر،(3/279)
فالكلام في الامر الثاني كالكلام في الامر الاول، وهذا لا إلى غاية، فعلى هذا لا يثبت وجوب أمر أبدا.
وقالوا أيضا محتجين عن أهل الوقف: المعصية في اللغة هي مخالفة الامر، والطاعة هو تنفيذ الامر، وقال الله تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد
حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) * وقال تعالى: * (وما أرسلنا من رسول ألا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا فثبت الوجوب في الاوامر ضرورة، بحكم الله تعالى فالنار على من تركها.
قال علي: ويقال لمن قال بالوقف: ماذا تصنع إن وجدت أوامر واردة من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم خالية من قرينة بالجملة، ولا دليل هناك يدل على أنها فرض، ولا على أنها ندب، فلا بد من أحد ثلاثة أوجه إما أن يقف أبدا، وفي هذا ترك استعمال أوامر الله تعالى، وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم ،وهذا هو نفسه ترك الديانة، أو يحمل ذلك على الندب، فيجمع وجهين، أحدهما: القول بلا دليل، والثاني، استجازة مخالفة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بلا برهان، أو يحمل ذلك على الفرض، وهذا قولنا، وفي ذلك ترك لمذهبه وأخذ بالاوامر فرضا بنفس لفظها دون قرينة، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: فإن تعلقوا بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم بني قريظة: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فصلى قوم العصر قبلها وقالوا: لم يرد هنا هنا، وصلاها آخرون بعد العتمة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدة من الطائفتين.
قال علي: هذا حجة لهم فيه أيضا، ولو شغب بهذا الحديث من يرى الحق في القولين المختلفين لكان أدخل في الشغب، مع أنه لا حجة لهم فيه أيضا.
فأما احتجاج من حمل الاوامر على غير الوجوب، فلا حجة لهم فيه، لانه قد كان تقدم من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر في وقت العصر أنه مذ يزيد ظل الشئ على مثله إلى أن تصفر الشمس، وأن مؤخرها إلى الصفرة بغير عذر يفعل فعل المنافقين، فاقترن على الصحابة في ذلك اليوم أمران واردان، واجب أن يغلب أحدهما على الآخر ضرورة، فأخذت إحدى الطائفتين بالامر المتقدم، وأخذت(3/280)
الطائفة الاخرى بالامر المتأخر، إلا أن كل واحدة من الطائفتين حملت الامر الذي أخذت به على الفرض والوجوب، وغلبته على الامر الثاني.
وقد ذكرنا هذا النوع من الاحاديث فيما خلا، وبينا كيفية العمل في ذلك، ولو أننا حاضرون يوم بني قريظة لما صلينا العصر إلا فيها، ولو بعد نصف الليل، على ما قد بينا في رتبة العمل في جميع الاحاديث التي ظاهرها الاختلاف، وهي في الحقيقة متفقة من الاخذ بالزائد، ومن استثناء الاقل معاني من الاكثر معاني، وقد جمع هذان الحديثان كلا الوجهين معا، فأمره عليه السلام في ذلك اليوم بأن لا يصلى صلاة العصر إلا في بني قريظة، أمر خاص في صلاة واحدة، من يوم واحد في الدهر فقط، فكان ذلك مستثنى من عموم أمره يصلى كل عصر، من كل يوم في الابد يخرج وقت الظهر إلى أن تصفر الشمس، وأما ما لم تغب للمضطر حاشى يوم عرفة.
وأيضا فإن أمره عليه السلام بألا يصلى العصر من ذلك اليوم إلا في بني قريظة، شريعة زائدة، وأمر وارد بخلاف الحكم السالف، وبخلاف معهود الاصل في حكم صلاة العصر قبل ذلك اليوم وبعده، فواجب طاعة ذلك الامر الحادث، والشرع الطارئ، لما قدمنا من البراهين على وجوب القبول لكل ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى، وكان أمره بألا يصلى العصر في ذلك اليوم إلا في بني قريظة كقوله ليلة يوم النحر في الحج - وقد ذكر بصلاة المغرب - فقال عليه السلام: الصلاة أمامك فكان ذلك عند جميع المسلمين ناقلا لوقت المغرب في تلك الليلة خاصة في الحج خاصة، في ذلك المكان خاصة، عن وقتها المعهود إلى وقت آخر.
ولا فرق بين ورود ما أمر به في العصر يوم بني قريظة، وفي المغرب ليلة المزدلفة، وهذا بين لمن تأمله.
قال أبو محمد: وأما إن احتج بهذا الحديث من يرى الحق في القولين المختلفين
وقال: ترك النبي صلى الله عليه وسلم أن يعنف كل واحدة من الطائفتين، دليل على أن كل واحدة منهما مصيبة.
قيل له، وبالله التوفيق: لا دليل فيه على ما ذكرت، ولكنه دليل واضح على أن إحدى الطائفتين مصيبة مأجورة أجرين، والاخرى مجتهدة مأجورة(3/281)
أجرا واحدا، معذورة في خطئها بالاجتهاد، لانها لم تتعمد المعصية وقد قال عز وجل: * () * وقال عليه السلام: لكل امرئ ما نوى وكلا الطائفتين نوت الخير وقد نص عليه السلام على أن الحاكم إذا اجتهد فأخطأ فله أجر.
وكل متكلم في مسألة شرعية ممن له أن يتكلم على الوجه الذي أمر به من الاستدلال الذي لا يشوبه تقليد ولا هوى، فهو حاكم في تلك المسألة، لانه موجب فيها حكما، وكل موجب حكما فهو حاكم، وهو داخل في استجلاب الامر بالحديث المذكور.
فإن قال قائل: فلم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائفة المخطئة عندكم بالاعادة، إن كانت هي التي صلت العصر في وقتها المعهود، قبل البلوغ إلى بني قريظة، وإنما كان وقتها عندكم في ذلك اليوم بعد البلوغ إلى بني قريظة - أي وقت بلغ البالغ إليهم - أو لم يعنف الطائفة المؤخرة للعصر إلى بعد نصف الليل إن كانت هي المخطئة على تأخيرهم صلاة فرض عن وقتها ؟.
قيل له وبالله تعالى التوفيق: لسنا ندري في أي وقت بلغ خبر الطائفتين المذكورتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولعل ذلك قد بلغه عليه السلام في اليوم التالي، وبعد خروج وقت العصر جملة، ولا إعادة على تارك صلاة بتأول ممن له أن يتأول على الوجه المحمود لا بتقليد ولا بهوى، ولا إعادة على تارك صلاة عمدا بلا تأول ولا ضرورة حتى يخرج وقتها، وأما المتأول فمعذور ولا يكلف
إلا ما علم، وأما العامد فذنبه أجل من أن نأمره نحن بكفارة أو بصلاة لم يأمره الله تعالى بها، ولا يحل لنا ولا لغيرنا تعدي حدود الله عز وجل بأن نلزمه فرضا لم يأذن به الله تعالى، ونسقط عنه بذلك فرضا قد أمره الله تعالى به، ونعوذ بالله تعالى من ذلك، وأمره إلى خالقه لا إلينا، وسيرد على ذي مغفرة واسعة، وذي عقاب أليم، حيث لا يضيع له شئ، ولا يجمع عنده شئ، فعند الموازين يعرف كل امرئ ما له وما عليه، نسأل الله عفوه وغفرانه في ذلك الموقف آمين.
قال علي: وقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سعيد بن المعلى إذ ناداه فلم يستجب له - وكان في صلاة - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألم يقل الله تعالى: * () *.(3/282)
قال علي: وفي هذا بيان جلي في حمل أوامر الله تعالى وأوامر نبيه صلى الله عليه وسلم على الوجوب، وعلى الظاهر منها، ومن تلك الاوامر أمره تعالى أن يطاع رسوله عليه السلام.
وفي قوله عليه السلام المذكور لابي سعيد، بيان جلي في صحة ما أثبتناه قبل، من استثناء الاقل معاني من الاكثر معاني واستعمال جميع الاوامر، لانه تعالى قال: * () * وقال تعالى: * () * خص عليه السلام دون سائر الناس، أن يكلمه المصلون إذا كلمهم، ولا يكون ذلك قاطعا لصلاتهم.
وبهاتين الآيتين والحديث المذكور بطل قول من قال: بأن المصلين يكلمون الامام إذا وهل في صلاته ورام أن يحتج في ذلك بحديث ذي اليدين، فبالنصوص التي ذكرنا أيقنا أن ذلك خاص للنبي صلى الله عليه وسلم دون من سواه، وسبحان من يسر لاخواننا المالكيين، أن يجعلوا الخصوص في هذا المكان عموما، وأن يجعلوا العموم الذي نص عليه السلام على أنه عموم، وغضب على من أراد أن يجعله
خصوصا، من القبلة في صيام رمضان، فجعلوه خصوصا كل ذلك بلا دليل وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال أبو محمد: وأما من استجاز أن يكون ورود الوعيد على معنى التهديد، لا على معنى الحقيقة، فقد اضمحلت الشريعة بين يديه، ولعل وعيد الكفار أيضا كذلك، ومن بلغ هذا المبلغ فقد سقط الكلام معه، لانه يلزمه تجويز ترك الشريعة كلها، إذ لعلها ندب، ولعل كل وعيد ورد إنما هو تهديد، وهذا مع فراقه المعقول خروج عن الاسلام، لانه تكذيب لله عز وجل، وبالله تعالى التوفيق.
ومما يبين أن أوامر الله تعالى كلها على الفرض حتى يأتي نص أو إجماع، أنه ليس فرضا قوله تعالى: * () *.
قال علي: فعدد الله تعالى في كفر الانسا ن أنه لم يقض ما أمره به، وكل من حمل الاوامر على غير الفرض واستجاز تركها، فلم يقض ما أمره وفيما ذكرنا كفاية، وبالله تعالى التوفيق.(3/283)
وقد فرق صلى الله عليه وسلم بين أمر الفرض، وأمر التخيير بفرق، ولا مدخل للشغب فيه بعده، وهو ما حدثناه عن عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم، ثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري، ثنا أبو عوانة، عن شيبان، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة، قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال: إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ قال: أتوضأ من لحوم الابل ؟ قال: نعم فتوضأ من لحوم الابل.
قال علي: فأورد عليه السلام الوضوء الذي ليس عليه واجبا بلفظ التخيير، وأورد الآخر بلفظ الامر فقط، ولو كان معناهما واحدا، لما كان عليه السلام
مبينا للسائل ما سأل عنه، وهذا ما لا يظنه مسلم، والله الهادي إلى سواء السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل
فصل في كيفية ورود الامر
قال علي: الاوامر الواجبة ترد على وجهين: أحدهما: بلفظ افعل، أو افعلوا، والثاني: بلفظ الخبر إما بجملة فعل وما يقتضيه من فاعل أو مفعول، وإما بجملة ابتداء وخبر.
فأما الذي يرد بلفظ افعل أو افعلوا، فكثير واضح مثل: * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وخذ من أموالهم صدقة وما أشبه ذلك.
وأما الذي يرد بلفظ الخبر وبجملة فعل وما يقتضيه فكقوله تعالى: * (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير بين ان الله يأمر كم أن تؤدوا الأمانات الى ألها وكقوله تالى كتب عليكم الصيامو وكتب عليكم القتال حرمت عليكم أمهاتكم واحل لكم ليلة الصيام وكتب عليكم القتال وحرمت عليكم امتهاتكم واحل لكم اليلة الصيام و الرفث أي نساتكم وامرت(3/284)
قال علي: فلا طريق لورود الاوامر والشرائع الواجبة إلا على هذين الوجهين فقط، فأما عنصر الامر والنهي، فإنما هو ما ورد بلفظ: افعل أو لا تفعل، فهذه صيغة لا يشركه فيها الخبر المجرد الذي معناه معنى الخبر المحض، ولا يشركه فيها التعجب، ولا يشركه فيها القسم، وإنما يشركه في هذه الصيغة الطلبية فقط، فما كان منها إلى الله عز وجل فهو الدعاء فقط، وما كان منها إلى من دونه تعالى، فهو الرغبة.
وقد يسمى الدعاء إلى الله عز وجل أيضا رغبة ولا يسمى الدعاء على الاطلاق إلا ما كان طلبة إلى الله عز وجل، حتى إذا جاز أضيف أن ينسب إلى غير الله تعالى، فنقول: ادع فلانا بمعنى ناده.
قال علي: وأما المقدمات المأخوذة لانتاج النتائج في المناظرة، فإنما الاصل فيها أن تصاغ بصيغة الخبر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم : كل مسكر خمر، وكل خمر حرام النتيجة فكل مسكر حرام.
إلا أننا في مناظرتنا أهل ملتنا وأهل نحلتنا فيما تنازعنا فيه، قد غنينا عن ذلك، لاتفاقنا على أن لفظ افعل، مقدمة مقبولة تقوم بها الحجة فيما بيننا قياما تاما.
قال علي: ويميز ما جاء في الاوامر بلفظ الاخبار، مما جاء بلفظ الخبر ومعناه الخبر المجرد، بضرورة العقل، فإن قول الله عز وجل: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب منا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة في ظاهر ورود الامر إلا أن أحد اللفظين خبر مجرد لفظه لفظ الخبر، ومعناه معنى الخبر، والآخر لفظه لفظ الخبر، ومعناه معنى الامر، وإنما علمنا ذلك(3/285)
لان الجزاء بجهنم لا يجوز أن نؤمن نحن به، لان ذلك ليس في وسعنا، وقد أمننا الله من أن يأمرنا بما ليس في وسعنا قال الله عز وجل: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وأما التحرير للرقبة، وتسليم الدية، فبضرورة العقل علمنا أن ذلك من مقدوراتنا ومما لا يفعله الله عز وجل دون توسط فاعل منا، فبهذا يتميز ما كان الخبر معناه الامر، وما كان منه مجردا للخبر في معناه ولفظه.
وقد اعترض قوم من الملحدين علينا في قوله: * () * وأرادوا أن يحملوا ذلك على أنه خبر في معناه ولفظه.
قال علي: وهذا خطأ بنص القرآن، وبضرورة المشاهدة، أما نص القرآن، فقوله تعالى: * () * فارتفع ظن من ظن أن قول الله عز وجل: * () * خبر وكيف يكون ذلك وقد أمر تعالى بقتل من قاتلنا فيه وعنده.
وأما ضرورة المشاهدة، فما قد تيقناه
مما وقع فيه من القتل مرة بعد مرة، على يدي الحصين بن نمير، والحجاج بن يوسف، وابن الافطس العلوي، وإخوانهم القرامطة، والله تعالى لا يقول إلا حقا، فصح أن معنى قوله تعالى: * () * إنما هو أمر بالبرهانين الضروريين اللذين قدمناهما.
وكذلك نقول: إنه لا يحل أن يقام في شئ من الحرم حد على أحد، بوجه من الوجوه، ولا بسجن، ولا تعزير ولا قطع، ولا جلد، ولا قصاص، ولا رجم، ولا قتل، لا في ردة، ولا في زنى، ولا في غير ذلك.
حاشا من قاتلنا فيه فقط على نص القرآن، وبهذا جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأما من أجاز أن يخالف الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ويقتدي بعمرو بن سعيد، ويزيد، والحجاج، والحصين بن نمير، فيقيم فيه الحدود ويقتل فيه من استحق القتل عنده في غيره، فليفكر فيما يلزمه من تكذيب ربه، وله ما اختار من اتباع من اتبع، وخلاف الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ليتخلص من السؤال الذي ذكرناه آنفا، ولو قدر على ذلك لما قدر على التخلص من عصيان نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله: إنها إنما أحلت لي ساعة من نهار ولم تحل لكم ثم عادت كحرمتها بالامس إلى يوم القيامة لا يسفك فيها دم وبين عليه السلام بنص كلامه، أنه ليس لاحد أن يترخص في ذلك لاجل قتاله عليه السلام، ونص على أن ذلك خاص له.(3/286)
قال علي: وهذا خبر على التأبيد، وأمر على التأكيد، لا يجوز أن يدخل فيه نسخ أبدا لنصه عليه السلام، على أن ذلك باق إلى يوم القيامة، فمن أجاز ورود نسخ لهذا، فقد أجاز الكذب من الرسول صلى الله عليه وسلم ،ومن أجاز ذلك فهو كافر مشرك حلال الدم والمال، وسبحان من يسر لهؤلاء القوم عكس الحقائق، فيجعلون ما قد جاء النص فيه بأنه خاص عاما، وما جاء فيه النص بأنه عام خاصا، وبالله تعالى نتأيد.
وإنما سفك عليه السلام فيها الدماء المباحة، ونهى عن الاقتداء
به ذلك جملة، وقولنا في هذا هو قول عبد الله بن عمر وعطاء وغيرهما، وكان عبد الله بن عمر يقول: لو لقيت فيها قاتل عمر، ما ندهته.
قال علي: فما ورد من الاوامر والنواهي على الصفتين المذكورتين فهو فرض أبدا ما لم يرد نص أو إجماع على أنه منسوخ، أو أنه مخصوص، أو أنه ندب، أو أنه بعض الوجوه الخارجة عن الالزام على ما سنفرد لها فصلا في آخر هذا الباب إن شاء الله تعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال علي: وأما صورة الندب، فهو أن يرد اللفظ: أو بمدح الفاعل أو للفعل مثل قول عليه السلام إذ قال: يهلك الناس هذا الحي من قريش ثم قال عليه السلام: لو أن الناس اعتزلوهم فكان هذا ندبا إلى ترك القتال مع التأولين منهم، ومثل قوله عليه السلام: لو اغتسلتم وإنما أوجبنا غسل الجمعة بحديث آخر فيه لفظ الايجاب، وأما المدح فمثل قوله تعالى: * () * فكان ذلك حضا على مثل فعلهم وهو الاستنجاء بالماء، ومثل إخباره صلى الله عليه وسلم : أن لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة وما أشبه ذلك.
فما جاء باللفظ الذي ذكرنا فهو ندب لا إيجاب، يعلم ذلك بصيغة اللغة ومراتبها، علم بضرورة لا يفهم سواه.
قال علي: وأما أمر الاباحة فإنه يراد بلفظ أو مثل قوله تعالى: * () * ومثل قوله عليه السلام، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا، وأن العجب ليكثر ممن حمل ما روى النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر(3/287)
به الواطئ في رمضان، من صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكينا، أو تحرير رقبة على التخيير.
وقد روى حديث صحيح بالترتيب في ذلك، ثم رأى من رأيه أن يحمل قوله عليه السلام في الوقوف بعرفة ليلا أو نهارا على إيجاب الوقوف
ليلا ولا بد، ويكفي هذا القول وصفه.
وقد يرد أيضا لفظ الاباحة بلا حرج وبلا جناح مثل قوله تعالى: * (ليس على الاعمى حرج، وقوله عليه السلام، وقد سئل عن تقديم الرمي على الحلق وعلى النحر، وتقديم الحلق على النحر وعلى الرمي: لا حرج.
لا حرج.
قال علي: وبهذا النص صح لنا أن قوله عز وجل: * (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله أنه ليس المراد به النحر، ولكن بلوغ وقت الاحلال بالنحر مع موافقة قولنا لظاهر الآية دون تكلف تأويل بلا دليل ومثل قوله تعالى: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومثل قوله تعالى فلا جناح على لان يطوف بها ومثل قول فلا جناح عليهما ان يصالحا صلحا وقوله تعالى ليس عليكم جناج ان تبتغوا فضلا من ربكم وقوله تعالى فان اراد افصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناج عليهما يريد تعالى قبل تمام الحولين بنص الآية.
وقوله تعالى فلا جناح عليهما فيما افتدت به وقوله تعالى فان ي لقها فلا جناح عليهما ان يتراجعا وقوله تعالى ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خي بة النساء أو أكنتم في انفسكم وقوله تعالى لا جناح عليكم ان طلقتم النساء ما لم تمسو هن أو تفرضوا لهن فريضة وقوله تعالى (وان اردتم ان تستر ضعوا اولادكم فلا جناح عليكم) وقوله تعالى (الا ان تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح الا تكتبوها) وقوله تعالى ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفرضية ان الله كان عليما) وقوله تعالى (ولا جناح عليكم ان كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى ان تضعوا اسلحتكم) قال على: وهذا هو المعهود في اللغة ومن أراد أن يجعل قوله تعالى (ان الصفا والمروة من شعائر الله، فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) حجة في ايجاب الطواف بين الصفاء والمرة فرضا على الحاج وعلى المعتمر فقد
أغفل جدا لأنه يلزمنه - مع مخالفة مفهوم اللغة - أن يقول في الآيات التى تلونا(3/288)
آنفا: ان كل ما ذكر فيها فرض افتداء المرأة من زوجها فرض، وإن مراجعة المطلق ثلاثا للمطلقة بعد طلاق الزوج الثاني لها فرض، وإن قصر الصلاة فرض، وإن طلاق المرأة قبل أن تمس فرض، وإن تصالحهما على فطام ا لولد قبل الحولين فرض، وكذلك سائر ما في تلك الآية.
قال علي: وإنما واجبنا السعي بينهما فرضا لحديث أبي موسى الاشعري، إذ أمره عليه السلام بالطواف بينهما، ولولا ذلك الحديث ما كان السعي بينهما فرضا، لا في عمرة ولا في حج، وبالله تعالى التوفيق.
وإنما قلنا أيضا: بوجوب القصر فرضا لقوله عليه السلام، فاقبلوا صدقته وبأحاديث أخر صح بها وجوب قصرها.
وكل لفظ ورد ب (عليكم) فهو فرض، وكل أمر ورد بلكم أو بأنه صدقة فهو ندب، لان علينا إيجاب، ولنا صدقة إنما معناها الهبة، وليس قبول الهبة فرضا إلا أن يؤمر بقبولها فيكون حينئذ فرضا، ومما تحل به الاوامر على الندب أن يرد استثناء يعقبه في تخيير المأمور، مثل قوله تعالى في الديات: * (الا ان تصدقوا وفي وجوب الصداق (الا ان يعفون) وفي قضاء الدين (وان تصدقوا خير لكم) وما أشبه ذلك وهذا معلوم كله بموضوع اللغة ومراتبها وبالله التوفيق
فصل في حمل الاوامر والاخبار على ظواهرها
قال علي: ذهب قوم ممن بلح عندما أراد من نصر ما لم يأذن الله تعالى بنصره من التقليد الفاسد، واتباع الهوى المضل - إلى أن قالوا: لا نحمل الالفاظ من الاوامر والاخبار على ظواهرها، بل هي على الوقف وقال بعضهم - وهو بكر البشري -: إنما ضلت الخوارج بحملها القرآن على ظاهره، واحتج بعضهم
أيضا بأن قال: لما وجدنا من الالفاظ ألفاظا مصروفة عن ظاهرها ووجدنا قول القائل: إنك سخي، وإنك جميل، قد تكون على الهزؤ، والمراد إنك قبيح،(3/289)
وإنك لئيم، علمنا أن الالفاظ لا تنبئ عن المعاني بمجردها.
قال علي: هذا كل ما موهوا به، وهؤلاء هم السوفسطائيون حقا بلا مرية، وقد علم كل ذي عقل أن اللغات إنما رتبها الله عز وجل ليقع بها البيان، واللغات ليست شيئا غير الالفاظ المركبة على المعاني، المبينة عن مسمياتها قال الله تعالى: * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشآء ويهدي من يشآء وهو العزيز الحكيم) *) * واللسان هي اللغة بلا خلاف ههنا، فإذا لم يكن الكلام مبينا عن معانيه.
فأي شئ يفهم هؤلاء المخذولون عن ربهم تعالى، وعن نبيهم صلى الله عليه وسلم بل بأي شئ يفهم به بعضكم بعضا ؟.
ويقال لهم: إذا أمكن ما قلتم فبأي شئ نعرف مرادكم من كلامكم هذا ؟ ولعلكم تريدون به شيئا آخر غير ما ظهر منه، ولعلكم تريدون إثبات ما أظهرتم إبطاله.
فبأي شئ أجابوا به فهو لازم لهم في عظيم ما أتوا به من السخف، وهؤلاء قوم قد أبطلوا الحقائق جملة، ومنعوا من الفهم بالبتة، فيكاد الكلام يكون معهم عناء لولا كثرة من اغتر بهم من الضعفاء، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أنذر باتخاذ الناس رؤساء جهالا فيضلون ويضلون.
وأما قول بكر: إن الخوارج إنما ضلت باتباعها الظاهر، فقد كذب وأفك وافترى وأثم.
ما ضلت إلا بمثل ما ضل هو به، من تعلقهم بآيات ما وتركوا غيرها، وتركوا بيان الذي أمره الله عز وجل أن يبين للناس ما نزل إليهم، كما تركه بكر أيضا، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولو أنهم جمعوا آي القرآن كلها، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم ،وجعلوه كله لازما وحكما واحدا ومتبعا كله لاهتدوا على أن الخوارج أعذر منه، وأقل ضلالا، لانهم لم يلتزموا
قبول خبر الواحد، وأما هو فالتزم وجوبه، ثم أقدم على استحلال عصيانه.
والقول الصحيح ههنا: هو أن الروافض إنما ضلت بتركها الظاهر، واتباعها ما اتبع بكر، ونظراؤه من التقليد، والقول بالهوى بغير علم ولا هدى من الله عز وجل ولا سلطان ولا برهان، فقال الروافض: * (وإذ قال موسى لقومه إن الله تذبحو ابقرة) * قالوا: ليس هذا على ظاهره، ولم يرد الله تعالى بقرة قط، إنما هي عائشة رضي الله تعالى عنها، ولعن من عقها، وقالوا: الجبت والطاغوت، ليسا على ظاهرهما(3/290)
إنما هما أبو بكر وعمر رضوان الله عليهما، ولعن من سبهما.
وقالوا: * (يوم تمور السماء مورا ئ وتسير الجبال سيرا) * ليس هذا على ظاهره إنما السماء محمو والجبال أصحابه، وقالوا: * (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ليس هذا على ظاهره، إنما النحل بنو هاشم، والذي يخرج من بطونها هو العلم.
وسلك بكر ونظراؤه طريقهم، فقالوا: * (وثيابك فطهر) * ليس الثياب على ظاهر الكلام، إنما هو القلب.
وقالوا: البيعان بالخيار ما لم يفترقا، ليس على ظاهره من تفرق الابدان، إنما معناه ما لم يتفقا على الثمن.
وقالوا: * () * ليس على ظاهره: إنما هو ابن ذكر، وأما الانثى فلا.
وقالوا: * (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم قبيلتكم.
قال علي: ويسأل هؤلاء القوم، أركبت الالفاظ على معان عبر بها عنها دون غيرها أم لا ؟ فإن قالوا: لا سقط الكلام معهم، ولزمنا ألا نفهم عنهم شيئا، إذ لا يدل كلامهم على معنى، ولا تعبر ألفاظهم عن حقيقة، وإن قالوا نعم ؟ تركوا مذهبهم الفاسد، وكل ما أدخلنا على من قال بالوقف في الاوامر، فهو داخل على هؤلاء.
ويدخل على هؤلاء زيادة إبطال جميع الكلام، أوله عن آخره،
وكذلك يدخل عليهم أيضا ما يدخل على القائلين بالوقف في العموم، وسنذكره في بابه إن شاء الله تعالى ولا قوة إلا بالله.
فإن قالوا: بأي شئ تعرفون ما صرف من الكلام عن ظاهره ؟ قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: نعرف ذلك بظاهر آخر مخبر بذلك، أو بإجماع متيقن منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وعلى أنه مصروف عن ظاهره فقط، وسنبين ذلك في آخر باب الكلام في العموم والخصوص إن شاء الله عز وجل، وبالله تعالى التوفيق.
وقد أكذب الله تعالى هذه الفرقة الضالة بقوله عز وجل - ذاما لقوم يحرفون الكلم عن مواضعه -: * () * لا بيان أجلى من هذ ه الآية في أنه لا يحل صرف كلمة عن موضعها في اللغة، ولا تحريفها عن موضعها في اللسان، وأن من فعل ذلك فاسق مذموم عاص، بعد أن يسمع ما قاله تعالى.
قال عز وجل(3/291)
: * (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا ئ من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا) * فصح أن الوحي كله من يترك ظاهره فقد أعرض عنه، وأقبل على تأويل ليس عليه دليل.
وقال تعالى: وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعملوم وكل من صرف لفظا عن مفهومه في اللغة فقد حرفه.
وقد أنكر الله تعالى ذلك في كلام الناس بينهم فقال تعالى: * (فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم) * وليس التبديل شيئا غير صرف الكلام عن موضعه ورتبته، إلى غيرها، بلا دليل من نصر أو إجماع متيقن عنه صلى الله عليه وسلم .
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم) * فصح أن اتباع الظاهر فرض، وأنه لا يحل تعديه أصلا.
وقال تعالى: * (يأيها الذين يحب المعتدين) *.
والاعتداء هو تجاوز الواجب، ومن أزاح اللفظ عن موضوعه في اللغة التي
بها خوطبنا بغير أمر من الله تعالى، أو رسوله صلى الله عليه وسلم ،فعداه إلى معنى آخر، فقد اعتدى فليعلم أن الله لا يحبه، وإذا لم يحبه فقد أبغضه، نعوذ بالله من ذلك.
وقال تعالى: * (يتعد حدود الله فأولئك هم لظالمون) * وقال تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) *.
وقد أخبر تعالى أنه: * (وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتص ادقين) * فنص نصا جليا لا يحتمل تأويلا، على أنه علق كل مسمى اسما مخصوصا به، وكذلك من حدود الله تعالى التي قد أخبر أنه من تعداها فهو ظالم، وأنه يدخله نارا - وأهل ذلك هم - لاقدامهم على الباطل الذي لا يخفى على ذي لب، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان، ونسأله التوفيق، فكل شئ يبدله لا إله إلا هو، فلا موفق إلا من هدى، ولا ضال إلا من خذل.
ولله تعالى في كل ذلك الحجة البالغة علينا.
ولا حجة لنا عليه.
ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وقال تعالى: * (اتبع مآ أوحي إليك من ربك) * فأمره باتباع الوحي النازل وهو(3/292)
المسموع الظاهر فقط وقال تعالى: * (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) * أخبر تعالى أن الواجب علينا أن نكتفي بما يتلى علينا وهذا منع صحيح لتعديه إلى طلب تأويل غير ظاهره المتلو علينا فقط، وقال تعالى آمرا لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: * (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب) * إلى منتهى قوله تعالى اتن اتبع الا ما يوحى الى.
قال علي: ولو لم يكن إلا هذه الآية لكفت، لانه عليه السلام قد تبرأ من الغيب، وأنه إنما يتبع ما يوحى إليه فقط، ومدعي التأويل وتارك الظاهر تارك
للوحي مدع لعلم الغيب، وكل شئ غاب عن المشاهد الذي هو الظاهر فهو غيب ما لم يقم عليه دليل من ضرورة عقل، أو نص من الله تعالى، أو من رسوله صلى الله عليه وسلم ،أو إجماع راجع إلى النص المذكور وقال تعالى: * (أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا فمن ابتغى حكما غير النصوص الواردة من الله تعالى في القرآن، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ،فقد ابتغى غير الله حكما.
وبين تعالى أن الحكم هو ما أنزل في الكتاب مفصلا، وهذا هو الظاهر الذي لا يحل تعديه وقال تعالى: * () * فنص تعالى على أن الباطل إنما يمتحى، وأن الحق إنما يصح بكلماته تعالى، فثبت يقينا أن الكلمات معبرات عما وضعت له في اللغة، وأن ما عدا ذلك باطل، فصح اتباع ظاهر اللفظ بضرورة البرهان.
وقال تعالى: * (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره) *.
قال علي: ومن ترك ظاهر اللفظ وطلب معاني لا يدل عليها لفظ الوحي فقد افترى على الله عز وجل، بنص الآية المذكورة.
وقال تعالى: * () * وقال تعالى: * () * فنص تعالى على البيان، إنما هو القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم فقد فصح بذلك اتباع ما أوجب القرآن وكلامه عليه السلام، وبطلان كل تأويل دونهما وقال تعالى: * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) *.
قال علي: ففي هذه الآية كفاية لمن عقل أن لغة النبي صلى الله عليه وسلم التي(3/293)
خاطبنا بها، لا يحل أن نتعدى بألفاظها عن موضوعاتها إلى ما سواه أصلا.
أخبرني يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري كتابا إلي، حدثنا سعيد بن نصر، حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا محمد بن وضاح، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا
خالد بن مخلد، حدثنا محمد بن جعفر قال: أخبرنا هشام، عن عروة، عن أبيه، قالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول شيئا من القرآن إلا آيا بعدد أخبره بهن جبريل عليه السلام.
قال علي: فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتأول شيئا من القرآن إلا بوحي فيخرجه عن ظاهرة التأويل، فمن فعل خلاف ذلك فقد خالف الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ،وقد نهى تعالى وحرم أن يقال عليه ما لم يعلمه القائل، وإذا كنا لا نعلم إلا ما علمنا، فترك الظاهر الذي علمناه وتعديه - إلى تأويل لم يأت به ظاهر آخر - حرام وفسق ومعصية لله تعالى، وقد أنذر الله تعالى وأعذر فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها.
حدثنا حمام بن أحمد قال: حدثنا محمد بن يحيى بن مفرج، حدثنا ابن الاعرابي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر عن جعفر بن برقان قال: قال أبو هريرة: يا ابن أخي إذا حدثت بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له الامثال، وصدق أبو هريرة رضي الله عنه ونصح.
وبالله تعالى التوفيق.
فصل في الاوامر، أعلى الفور هي أم على التراخي
قال القائلون: إن الاوامر على التراخي، وقال آخرون: فرض الاوامر البدار إلا ما أباح التراخي فيها نص آخر أو إجماع.
قال علي: وهذا هو الذي لا يجوز غيره، لقول الله تعالى: * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) * وقال تعالى: * (فاستبقوا الخيرات) * وقد قدمنا أن أوامر الله تعالى على الوجوب، فإذا أمرنا تعالى بالاستباق إلى الخيرات، والمسارعة إلى ما يوجب المغفرة، فقد ثبت وجوب البدار إلى ما أمرنا به ساعة ورود الامر(3/294)
دون تأخر ولا تردد، وقد شغب بعض المخالفين فقال: ليس في قوله تعالى: * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم في أن الاوامر واجب البدار إليها، لانه تعالى أمرنا بالمسارعة إلى المغفرة لا إلى الفعل.
قال علي: وهذا مما يسر فيه هؤلاء القوم لعكس الحقائق، وقد أيقنا بقوله تعالى: * (هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) * أن أحدا لا يؤتى المغفرة إلا بعمل صالح يقتضي له وعد الله تعالى بالرحمة والمغفرة، وعلمنا ذلك يقينا أن مراد الله تعالى بقوله: * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) * إنما هو سارعوا إلى الاعمال الموجبة للمغفرة من ربكم إذ لا سبيل إلى المسارعة إلى المغفرة إلا بذلك، وهذا من الحذف الذي دلت عليه الحال، وإنما قلنا هذا لوجهين: أحدهما: النص الجلي الوارد في أنه لا يجزي أحد بمغفرة ولا غيرها إلا بحسب عمله.
والثاني: النص الوارد بأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وليس في وسع أحد المسارعة إلى المغفرة المجردة دون توسط عمل صالح، فهذان الظاهران نصا أن في تلك الآية حذفا دلت عليه الحال، فما كان مرتبطا بوقت واحد كصيام رمضان فقد جاء النص بإيجاب تأخيره إلى وقته، فإذا خرج الوقت فقد ثبت العجز عن تأديته كما أمرنا إلا بأن يأتي في شئ من ذلك نص آخر فيوقف عنده، وما كان مرتبطا بوقت فيه مهلة فقد جاء النص بإباحة تأخيره إلى آخر وقته، وإيجاب تأخيره إلى أول وقته، فإذا خرج الوقت فكل ما قلنا في الذي قبله ولا فرق، وذلك كأوقات الصلاة.
وما لم يأت مرتبطا بوقت، ففرضه البدار في أول أوقات الامكان، إلا أن الامر به لا يسقط عن المأمور به لعصيانه في تأخيره، وكذلك ما كان مرتبطا بوقت له أول محدود لم يحد آخره، أو ما كان مرتبطا بوق ت محدود متكرر.
فالنوع الاول: كقضاء صيام المريض والمسافر لايام رمضان، فذلك لازم
في أول أوقات القدرة عليه، فإن بادر إليه فقد أدى ما عليه وإن أخره لغير عذر كان عاصيا بالتأخير وكان الامر عليه ثابتا أبدا.
والنوع الثاني: كوجوب الزكاة، فإن لوقتها أولا وهو انقضاء الحول، وليس قبل ذلك أصلا، وليس لآخر وقتها آخر محدود، بل هو باق أبدا إلى وقت العرض(3/295)
على الله عز وجل، لان النص لم يأت في ذلك بانتهاء، والقول في المبادرة إلى أدائها وفي التأخير كما قلنا في النوع الذي قبله.
والنوع الثالث: كالحج فإنه مرتبط بوقت من العام محدود، وليس ذلك على الانسان في عام بعينه، بل هو ثابت على كل مستطيع إلى وقت العرض على الله عز وجل، والقول في البدار إليه أو تأخيره، كالقول في النوعين اللذين قبله.
فإن قال قائل: فلم أجزتم صيام كفارة اليمين وقضاء رمضان غير متتابع، وكذلك صيام متعة الحج، وكذلك غسل الاعضاء في الوضوء، والغسل من الجنابة والجمعة، فأجزتم كل ذلك غير متتابع ؟.
قيل له، وبالله تعالى التوفيق: إنا لم نفارق أصلنا الذي ذكرنا، ولا خالفنا النص في شئ من ذلك، لان الله تعالى إنما أوجب في الكفارة ثلاثة أيام، ومعنى ثلاثة أيام يوم ويوم ويوم، ولكل يوم حكمه.
فإذا صام يوما فقد صام بعض فرضه، وأدى من ذلك فرضا قائما بنفسه، والصيام شئ آخر غير المبادرة، فإذا صام غير مبادر فقد أطاع في أداء الصوم، وعصى في ترك البدار، وهما فرضان متغايران لا يبطل أحدهما ببطلان الآخر، وإنما ذلك كمن صلى ولم يزك، فعليه معصية ترك الزكاة، وله أجر الطاعة بالصلاة، ولا تظلم نفس شيئا: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ئ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) *.
وإنما كان يبطل أحدهما بترك الآخر، ولو جاء النص يربط أحدهما بالآخر،
كربطه تعالى التتابع في صيام الظهار، وفي صيام كفارة القتل، فهذان إن لم يتابعا فلم يؤديا كما أمر الله تعالى، ولم يشترط التتابع في قضاء رمضان، ولا في الكفارات، ولا في متعة الحج، وأمر الله تعالى بالمسارعة إلى الطاعات، هو أمر بأن يكون فعلنا على تلك الصفة من المسارعة، فالمسارعة المأمور بها صفة لفعلنا، فمن تركها عصى وكان مؤديا لما أداه غير مسارع ما لم يشترط الوقت والتتابع، وأمره تعالى بالتتابع في صيام الظهار، وكفارة القتل، هو أمر بأن يكون ذلك الصيامان على هذه الصفة، فالمتابعة المأمور بها هنالك صفة للشهرين، فإذا لم يكونا متتابعين فليسا اللذين أمر الله تعالى بهما.
وكذلك نقول في غسل الاعضاء في الوضوء وغسل الجنابة أنه غير مأمور(3/296)
بذلك، إلا إذا قام إلى الصلاة فقط، فمتى أراد صلاة تطوع أو صلاة فرض فهو قائم إلى الصلاة، ولم يخص تعالى بذلك القيام إلى الصلاة فرض دون القيام إلى صلاة تطوع، فله حينئذ أن يغتسل ويتوضأ، فإذا أتمها فله أن يؤخر التطوع ما شاء، وله تأخير الفرض بمقدار ما يدركها مع الامام، أو كان ممن عليه فرض حضورها في الجماعة، أو إلى آخر وقتها، إن كان ممن لا يلزمه فرض حضورها في جماعة، ثم لا يحل له تأخيرها أصلا أكثر.
وأما من لا يريد صلاة، ولا يمكنه صلاة، كالحائض إثر الجماع، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه طاف على جميع نسائه، واغتسل بين كل اثنتين منهن، فصح بهذا النص أن الغسل جائز تعجيله، وإن لم يرد الصلاة بعده، وبالله تعالى نتأيد فلما أبيح لنا ذلك كان المفرق والمتابع يقع على فعلهما اسم وضوء وغسل على السواء وقوعا مستويا، وكان في غسله عضوا من أعضائه بنية ما أبيح له من تعجله، مؤديا لفرض غسل ذلك العضو، ولكل عضو حكمه فمن فرق غسله أو وضوءه
ما لم يقم إلى الصلاة فلم يترك مسارعة أمر بها حتى إذا أراد القيام إلى الصلاة، إما مع الامام، وإما في آخر وقتها، ففرض عليه المسارعة إلى إتمام وضوئه وغسله.
وكذلك قلنا في قضاء رمضان: إنه إنما أمر تعالى بأيام أخر، ولم يشترط فيها المتابعة، فمن بادر إلى صيامها فقد أدى فرض الصوم وفرض البدار، ومن لم يبادر وصام فقد أدى فرض الصوم، وعصى في ترك فرض المسارعة.
وكذلك نقول فيمن لم يعجل تأدية زكاته في أول أوقات وجوبها، وفيمن أخر الحج عن أول أوقات الامكان، أنه إن حج وزكى بعد ذلك فقد أدى فرض الزكاة والحج، وعليه إثم المعصية بترك المسارعة، لا يسقط ذلك الاثم عنه أداء ما أدى من ذلك إلا في الموازنة يوم القيامة، يوم وجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا.
قال علي: ومما يوجب أيضا فرض المبادرة إلى الطاعة، قول الله تعالى: * (والسابقون السابقون ئ أولئك المقربون) * وقد قال عليه السلام: لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله تعالى أو كلاما هذا معناه، هذا وإن كان إنما أوجب أن يقول عليه السلام تأخر قوم عن الصف الاول لبعض الامر المكروه، فهو محمول على ظاهره ومقتضى لفظه على ما قد أثبتنا وجوبه في الفصل الذي قبل هذا(3/297)
قال علي: وقد سأل أبو بكر محمد بن داود - رحمة الله عليه - من أجاز تأخير الحج فقال: متى صار المؤخر للحج إلى أن مات عاصيا، أفي حياته فهذا غير قولكم أو بعد موته ؟ فالموت لا يثبت على أحد معصية لم تكن لازمة في حياته.
قال علي: ونحن نزيد في هذا السؤال فنقول: وبعد الموت لا يأثم أحد إلا من سن سنة سوء يقتدى به فيها.
فأجابه بعض المجيزين لذلك - وهو أبو الحسن القطان الشافعي - بأن قال: إنما كان له في التأخير بشرط أن يفعل قبل أن يموت، فلما مات قبل أن يفعل علمنا أنه
لم يكن له مباحا التأخير.
قال علي: ونحن نقول: إن أبا الحسن لم يحقق الجواب الشافي، وكان أدخل في الشغب لو قال: إنه إثم في آخر عام قدر فيه على الحج ولم يحج، كما قال الشافعي فيمن حلف بالطلاق، إن لم يطلق امرأته، إنها لا تطلق إلا آخر أوقات صحته التي كان فيها قادرا على الطلاق.
قال علي: ونحن نجيب في هذين الجوابين معا ببيان لائح بحول الله وقوته فنقول: قال الله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * وإنما يلزم الله تعالى الاثم من ترك ما لم يعلم أنه ليس له تركه، أو قامت عليه بذلك حجة، أو عمل ما يعلم أنه ليس له أن يعمله، أو قامت عليه حجة بذلك، ولم يطلع الله أحدا على وقت منيته، ولا عرفه بآخر أوقات قدرته، ولا قامت عليه حجة في ذلك الوقت إلا ما قد قام في سائر الاحوال قبل ذلك، ولا حدث عليه من الاوامر إلا ما حدث قبل ذلك الوقت، فإن كان عاصيا في ذلك الوقت فهو عاص قبل ذلك الوقت، وإن لم يكن عاصيا قبل ذلك الوقت فليس عاصيا في ذلك الوقت، إلا بنص يخص ذلك الوقت، بوقوع المأثم فيه دون غيره، ومن فرق بين الاوقات بلا نص ولا إجماع، فقد قال بلا علم وذلك حرام.
وأيضا فإن الله تعالى لم يكلف أحدا أن يعلم هل يموت قبل أن يؤدي ما عليه فيأثم، أو يعلم أنه لا يموت حتى يؤدي فيسقط عنه المأثم، وقول القطان يوجب أن الناس مكلفون ذلك، ويوجب أيضا أن يكون المستطيعون للحج المؤخرون له بلا عذر مختلفي الاحكام، فبعضهم آثم في تأخيره،(3/298)
وهذا مع ما فيه من التحكم بلا دليل، ومن تكليف المرء علم متى يموت، فمخالف لجملة مذاهب أصحابه في الفسخ في تأخير الحج جملة، وهو ممن لا يخالفها أصلا،
ولولا ذلك لشكرناه على خلافها ولم نلمه، وبالله تعالى التوفيق.
فبقي سؤال أبي بكر رحمة الله عليه بحسبه.
قال أبو محمد، ومما يبين أن الاوامر على الفور قوله تعالى: * (فلولا نفر من كل فأوجب تعالى قبول النذارة، وقال تعالى: * () * فأمر تعالى بالتوقف في قبول خبر الفاسق واستثناه من قبول النذارة، وليس إلا توقف أو بدار، ولا سبيل إلى قسم ثالث إلا الترك جملة، والتوقف هو أيضا ترك، فلما خص خبر الفاسق بالتوقف فيه، وأبانه بذلك عن خبر غير الفاسق، وجب البدار ضرورة إلى خبر العدل، فوجب الفور بالبرهان الضروري، وبطل الوقف إلا في خبر الفاسق.
قال علي: ويكفي من ذلك ما حدثناه عبد الله بن يوسف الرجل الصالح، قال: ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى البغدادي، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، ثنا عبد الله بن معاذ العنبري وقال: ثنا أبي، ثنا شعبة، عن الحكم، سمع علي بن الحسين عن ذكوان مولى عائشة أنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لاربع مضين من ذي الحجة أو خمس، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان، فقلت: من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار ؟ قال: أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون، ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريه، ثم أحل كما حلوا.
قال علي: فرفع هذا الحديث الشك جملة، وبين عليه السلام أن أمره كله على الفرض، وعلى الفور، وإن التردد حرام لا يحل، ونعوذ بالله العظيم من كل ما أغضب النبي صلى الله عليه وسلم .
فإن اعترضوا بمن بلغه المنسوخ ولم يبلغه الناسخ، قلنا: هو بمنزلة من لم يبلغه الامر في أنه لم يلزم حكما فلا يلام على تركه حتى يبلغه، ولا يعذب على تركه حتى يعمله - وبالله تعالى التوفيق - بل حكمه الثبات على ما بلغه من المنسوخ، لانه
مأمور به جملة حتى يبلغه الناسخ، لقوله تعالى: * (لانذر كم به ومن بلغ) * فصح أن(3/299)
الذي بلغه من أمر الله تعالى في القرآن أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو اللازم، لقوله عز وجل: * (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) * حتى يبلغه الامر الناسخ، فحينئذ يسقط عنه المنسوخ ويلزمه الناسخ.
وأما احتجاجهم بتأخيره عليه السلام الحج، فقد حج عليه السلام قبل الهجرة، ورآه جبير بن مطعم واقفا بعرفة، فأنكر جبير ذلك، لانه كان عليه السلام من الخمس الذين لا يقفون بعرفة، ويكفي من هذا كله أنا على يقين من أن الله تعالى أمره بتأخير الحج، حتى يعهد إلى المشركين ألا يقربوا المسجد الحرام، وإنما قطعنا على ذلك لقول الله تعالى آمرا أن يقول: * (ان اتبع الا ما يوحى الى فصح يقنا انه عليه السلام لا يفعل إلا ما يوحي إليه ربه عز وجل، فلما أخر الحج علمنا أنه فعل ذلك عليه السلام بوحي، وكان عليه السلام قد أعلمه ربه تعالى أنه لا يقبضه حتى يتم التعليم، ويكمل التبليغ، ويدخل الناس في دين الله أفواجا، وهذا يقتضي أنه لا يموت حتى يعلم الناس مناسكهم، وليس غيره عليه السلام كذلك.
وأيضا فلا ندري متى نزل فرض الحج عليه لعله إنما نزل عليه إذ حج عليه السلام حجة الوداع، وهذا هو الاظهر، لانه لو نزل قبل ذلك لما آخر عليه السلام تعليم المناسك إلى حجة الوداع التي قال فيها: خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا أو كما قال عليه السلام، ويبين ذلك الحديث الطويل عن جابر، ففي أوله: ثم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج، فلو فرض الحج قبل ذلك لما أخر الاذان في الناس بوجوبه عليهم.
والحديث المأثور من طريق ابن عباس وأبي هريرة إذ خطب الناس فقال:
إن الله فرض عليكم الحج فقال له قائل: - وقيل إنه الاقرع بن حابس - أفي كل عام يا رسول الله ؟ وهذا والله أعلم إنما كان في حجة الوداع.
وقد أخبرت عائشة رضي الله عنها بما يدل على ذلك من خروجهم إلى الحج في ذلك العام، ينتظرون أمره عليه السلام، والوحي ينزل عليه، والاحكام التي نزلت في تلك الحجة من نسخ الحج لمن لم يسق الهدي، وأن يحل بمتعة، ومن(3/300)
إيجاب القران على من ساق الهدي، وسائر ما نزل في تلك الحجة من بيان شرائع الحج مما لم يكن نزل قبل ذلك، وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله على محمد نبي الرحمة، وهادي الامة وسلم.
فصل في الامر المؤقت بوقت محدود الطرفين في الامر المؤقت بوقت محدود الطرفين، متى يجب أفي أوله أم في آخره ؟
والامر المرتبط به بصفة ما، والامر المؤقت بوقت محدود الاول غير محدود الآخر، وفيه زيادات تتعلق بالفصل الذي أتممناه قبل هذا.
قال علي: أما الامر المرتبط بوقت لا فسحة فيه فغير جائز تعجيل أدائه قبل وقته، ولا تأخيره عن وقته، وذلكم ما ذكرنا قبل هذا من صيام شهر رمضان، فإن جاء نص بالتعويض منه وأدائه في وقت آخر، وقف عنده، وكان ذلك عملا آخر مأمورا به، وإن لم يأت بذلك نص ولا إجماع، فلا يجوز أن يؤدى بشئ منه في غير وقته.
وكذلك كل عمل مرتبط بوقت محدود الطرفين، كأوقات الصلوات وما جرى هذا المجرى، فلا يجوز أداء شئ من ذلك قبل دخول وقته، ولا بعد خروج وقته، ومن شبه ذلك بديون الآدميين لزمه أن يجيز صيام رمضان في شعبان قياسا على تعجيل ديون الناس قبل حلول أوقاتها، ولزمه أن يجيز تقديم الصلوات قبل وقتها
قياسا على ذلك، وعلى ما أجازوا من تعجيل الزكاة قبل حلول وقتها، فبعضهم قال: بثلاثة أعوام، وبعضهم قال: بعام فأقل، وبعضهم قال: الشهر والشهرين ونحو ذلك، وبعضهم فرق متحكما، فأجاز تعجيل الزكاة التي في الاموال قبل الحول بشهر أو شهرين، ومنع من شهرين ونصف، وأجاز في تعجيل زكاة الفطر اليوم واليومين ومنع من ثلاثة أيام، وهذا قول يكفي من بطلانه سماعه، لانه حكم بلا إذن من الله عز وجل، وفرق بلا دليل.
قال علي: ولا فرق بين ما أجاز أداء الامر بعد انقضاء وقته، وبين من أجازه قبل دخول وقته هذا على أن بعضهم قد أجاز للمريض الذي يخاف تغير عقله تعجيل الصلاة قبل وقتها، فإذا ادعوا أن الاجماع منعهم من ذلك أكذبهم قول(3/301)
ابن عباس، فإنه يجيز أداء الصلاة قبل دخول وقتها، وصلاة الظهر قبل زوال الشمس، ولا فرق في ديون الناس بين أدائها بعد وقتها وحلول أجلها، وبين أدائها قبل وقتها وحلول أجلها فليقولوا كذلك في جميع شرائع الله تعالى.
قال علي: وبطلان هذا القياس سهل، فلو كان القياس حقا لكان في هذا المكان باطلا بحتا، بحول الله وقوته، فنقول وبالله تعالى التوفيق: إن ديون الناس التي إلى أجل، لا يجوز لاحد أداؤها قبل حلول أوقاتها، ولا تأخيرها عن حلول أوقاتها إلا بإذن الذين لهم الديون ورضاهم، ولا خلاف في ذلك جملة، ولكن تناقض من تناقض في بعض ذلك، ولا خلاف في أن من كان له على أحد ثلاثة ديون من ثلاث معاملات، وكلها إلى آجال محددة، فأذن الذي له الدين في تعجيل أحد تلك الديون بعينه قبل الاجل، ورضي بذلك الغريم ثم أذن في تأخير آخر من تلك الديون بعينه بعد حلول أجله، فليس ذلك بموجب جواز تعجيل الدين الذي لم يأذن بتعجيله، ولا بمجيز تأخيره عن أجله هذا ما لا خلاف بين اثنين
فيه، فإذا لم يكن إذن الناس فيما أذنوا فيه من تعجيل ديونهم أو تأجيلها، موجبا أن يقاس ما سكتوا عنه من سائر ديونهم على ما أذنوا فيه من تعجيل ديونهم، فذلك أبعد من أن تقاس ديون الله تعالى التي لم يأذن في تأجيلها، ولا في تعجيلها على ما أذن الناس فيه من تعجيل ديونهم وتأجيلها.
قال علي: وهذا ما لا خفاء به على من له مسكة عقل، وأيضا فلا خلاف بين اثنين في أن من له دين فأسقطه البتة، ورضي الغريم بذلك، فإن ذلك الدين ساقط، فيلزمهم إذا أجازوا تأخير ديون الله تعالى عن أوقاتها، وتعجيل بعضها عن أوقاتها - وإن لم يأذن الله تعالى في ذلك - قياسا على جواز تأخير ديون الناس، وجواز تعجيلها إذا أذنوا في ذلك - بأن يجيزوا سقوط ديون الله تعالى بالبتة، وإن لم يأذن الله تعالى في ذلك، قياسا على سقوط ديون الناس بالبتة - إذا أذنوا في ذلك - وهذا أصح قياس وأشبه بقياسهم الذين حكوا، لو كان القياس حقا، والقياس بحمد الله تعالى باطل محض.
قال علي: وأيضا فإن الزكوات والكفارات بالصدقات، وإن كان الله تعالى قد جعلها للمساكين، فليست من حكم ديون الناس في ورد ولا صدر، لان ديون(3/302)
الناس التي راموا تشبيه الزكوات بها، هي لاقوام بأعيانهم، فحكمهم جائز فيها، لانها مال متعين لهم، وموروث عنهم، وأما الزكوات والكفارات فليست لقوم من المساكين بأعيانهم، ولا هؤلاء المساكين بأولى بها من غيرهم من المساكين، فما كان هكذا فلا إذن لمن حضر من المساكين فيها لا بتعجيل ولا بتأجيل، ولا يستحقونها إلا بقبضها في أوقاتها، لا قبل ذلك ولا بعده.
وبيان ذلك أنها لا تورث عنهم قبل قبضهم لها، ولا يجوز حكمهم فيها، ولا تصرفهم ولا إبراؤهم قبل قبضها، وكل هذا لا خلاف فيه، وإنما شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم
ديون الناس بديون الله تعالى في شيئين لا ثالث لهما.
أحدها: بقاء حكمها بعد الموت وبعد العجز.
والثاني: أداء الولي لها عن الميت فعصوا الله تعالى - أو من عصاه منهم - ورسوله صلى الله عليه وسلم ،في الوجهين اللذين شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ديون الناس بديون الله تعالى، وتركوهما معا، فقالوا: من مات وعليه حج أو زكاة أو صيام أو كفارات، فقد سقط وجوبها فيما ترك، ولا يقضى عنه إلا أن يأمر بذلك فيقضى عنه الزكاة والحج خاصة من الثلث، ويطعم عنه إن - أوصى بذلك - في الصيام فقط.
ثم شبهوا ديون الله بديون الناس فيما لا شبه فيه بينهما، وفيما لم يأذن به الله عز وجل، ومن شغب منهم بالحديث الذي روي من جمع زكاة الفطر في المسجد، ومبيت أبي هريرة عليها، فلا حجة لهم فيه، لانه لا يخلو ذلك الجمع المذكور من أحد وجهين لا ثالث لهما: أحدهما: أن تكون جمعت ولم تفرق حتى يأتي يوم الفطر الذي هو وقت أدائها، وليس هذا مخالفا لقولنا، ولو جاء وقت أدائها لما حل لمسلم أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه أخر إعطاءها - وهو عليه السلام إذ بقي عنده دينار لم يستحقه عليه أحد لم يأو إلى نسائه، ولا فارق المسجد ليلا ولا نهارا قلقا آسفا حتى يعطيه، فكيف يمنع أحدا حقا وقد وجب أداؤه، - ومن ظن هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد هذي.
أو تكون أخرجت في وقتها ولا يحضر من يستحقها فانتظر النبي صلى الله عليه وسلم حضورهم كما كان يفعل بما اجتمع عنده عليه السلام من غنم الصدقة ونعمها، ولا يحل لمؤمن أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم غير(3/303)
أحد هذين الوجهين.
وبالله تعالى التوفيق، وليس في المذكور أنها أعطيت المساكين قبل يوم الفطر فبطل تشغيبهم به، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: فإذا كان حكم الاموال والعبادات ما ذكرنا، فلا خلاف في أن الوقت إنما معناه زمان العمل، وأنه لا يفهم من قول الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم : اعملوا عمل كذا في وقت كذا، وصلوا صلاة كذا من حين كذا إلى حين كذا - إلا أن هذا الزمان المحدود هو الذي أمرنا فيه بالعمل المذكور، فنقول حينئذ للمخالف: ما معنى خروج الوقت ؟ فلا بد ضرورة من أنه انقضاء زمان العمل، فإذا ذهب زمان العمل، فلا سبيل إلى العمل، إذ لا يتشكل في العقول كون شئ في غير زمانه الذي جعله الله تعالى زمانا له، ولم يجعل له زمانا غيره، وهذا من أمحل المحال وأشد الامتناع الذي لا يدخل في الامكان البتة.
فإن قال قائل: كل وقت فهو لذلك العمل وقت.
أبطل حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في حدهما الوقت، وتعدى حدودهما واستحق النار، وقد قال تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وتعدي الحدود على الحقوق، هو أن يحد الله تعالى وقتا فيتعداه مخلوق من الناس - دون نص ورد - إلى وقت آخر، وهذا غاية البيان وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا فإنهم لا يقدمون على إطلاق تمادي الوقت بعد خروج الوقت المنصوص.
ويقال لهم أيضا: أخبرونا عن هذا الذي تعمد ترك الصلاة حتى خرج وقتها فأمرتموه بإعادتها، أفي الوقت الذي رتبه الله تعالى أمرتموه بها ؟ أم في وقت لم يرتبه الله تعالى لها وقرنها به ؟ فإن قالوا في وقتها الذي رتبه الله تعالى لها، كفروا وكذبوا مجاهرة، وإن قالوا: بل في وقتها، أقروا بأنهم أمروا أن تؤدى الصلاة بخلاف ما أمر الله تعالى، ومن فعل شيئا بخلاف ما أمر الله تعالى به، فلم يفعل الذي أمر، بل فعل ما لم يؤمر به، فهو عاص في ذلك الفعل مرة ثانية، وإنما يأمرونه بمعصية وبأمر غير مقبول لقوله عليه السلام: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد فصح لما ذكرنا - صحة جلية - أن من أمره الله تعالى
بأداء عمل ما، في وقت ما، فعمله في غير ذلك الوقت، فإنما عمل عملا لم يؤمر به،(3/304)
ومن أمر بعمله فقد شرع شريعة لم يأذن بها الله تعالى، بل قد نهى عنها، إذ نهى عن تعدي حدوده.
ولا يشك ذو حس أن صوم غد هو غير صوم اليوم، فمن أمره الله بصيام اليوم فأفطر عامدا للمعصية، ثم صام غدا، فإنما صام يوما لم يأمره الله تعالى بصيامه، فلا يكون ذلك قاضيا ما أمر به، ولا يؤدي أحد ما أمر به إلا كما أمر به، لا كما نهى، ولا فرق بين هذا وبين ما أمره الله تعالى بحركة إلى مكان ما، كالحج إلى مكة في ذي الحجة، فحج هو إلى المدينة في ذي القعدة فأي فرق بين هذا وبين من أمر بصيام في رمضان، فصام هو في شوال ؟ أو بصلاة ما بين زوال الشمس إلى زيادة الظل على مثل من يوم بعينه، فصلاها هو في وقت آخر من يوم آخر، وأي فرق بين هذا وبين من أمر أن يفعل فعلا في عين ما كنفقة على زوجة له مباح له وطؤها، ففعل هو ذلك الفعل في غير تلك المرأة، فهل هذا كله إلا غير الذي أمر به، وكل ذلك باب واحد، وطريق واحدة يجمعه كلها جمعا مستويا قوله تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) * وقوله عليه السلام: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وأي فرق بين تعلق الامر بالازمان وبين تعلقه بالاعيان أو بمكان دون مكان ؟.
فإن قالوا: إنا قد وجدنا أوامر معلقة بزمان ينوب عنها تأدية ذلك العمل في زمان آخر.
قيل له وبالله التوفيق: إذا جاء بذلك نص أو إجماع فقد علمنا أن الله عز وجل مد ذلك الوقت، وعلق ذلك الامر، بذلك الزمان الثاني، وجعله وقتا له، ونحن لا ننكر هذا، بل نقر به إذا أمرنا به، لا إذا نهينا عنه، وقد جاء مثل ذلك في الامكنة، كمن نذر صلاة في بيت المقدس، فإنه إن صلى بمكة أجزأه
للنص في ذلك، ولا يجزي ذلك فيما لم يرد فيه نص، وكذلك من مات وعليه صيام لزم وليه أن يصوم عنه، للامر الوارد في ذلك، وكذلك من لم يحج أحج عنه من رأس ماله للنصوص الواردة في كل ذلك.
فإن قالوا لنا: ما تقولون في الصلاة المنسية ؟ أو التي ينام عنها ؟ أكل وقت لها وقت ؟ قيل له، وبالله تعالى التوفيق: نعم كل وقت لها، ومتى ما صلاها(3/305)
فهو وقتها بنص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وكذلك السكران لقوله تعالى * () * فإن قالوا: فبأي شئ تأمرون من تعمد ترك صلاة حتى خرج وقتها، وتعمد ترك صوم رمضان في غير عذر - من سفر أو مرض أو غير ذلك مما جاء فيه نص أو إجماع ؟ قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق: نأمرهم بما أمرهم به ربهم عز وجل إذ يقول: * (إن الحسنات يذهبن السيئات) * وبما يقول لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم إذ يقول: إن من فرط في صلاة فرض جبرت يوم القيامة من تطوعه وكذلك الزكاة وكذلك سائر الاعمال، فأمره بالتوبة والندم والاستغفار والاكثار من التطوع، ليثقل ميزانه يوم القيامة، ويسد ما ثلم منه، وأما أن نأمره بأن يصلي صلاة ينوي بها ظهرا، لم يأمره الله عز وجل به أو عصرا لم يأت به نص، أو نأمره بصيام يوم على أنه من رمضان وهو من غير رمضان فمعاذ الله من ذلك.
فإذن كنا نكون متعدين بين يدي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وآمرين له بأن يعمل غير ما أمره الله تعالى به بل ما قد نهاه عنه.
ثم نسألهم فنقول: هذا الذي تعمد ترك صلاة أو صوم، ثم أمرتموه بقضائه أقضى ما أمره الله تعالى من ذلك كما أمر أم لا ؟ فإن قالوا: نعم كذبوا، وهم لا يقولون ذلك، وإن قالوا: لا أقروا بأنهم أمروه أن يؤدي العمل على غير
ما أمره الله تعالى به فإن سألونا بمثل ذلك في ناسي الصلاة والنائم عنها، والمفطر لسفر أو مرض ؟ قلنا لهم: قد أدى ما أمره الله تعالى به كما أمره، وفي الوقت الذي أمره الله تعالى به، ولا ندري أقبل منه أم لا ؟ وكذلك كل عمل يعمله في وقته ولا فرق، ولو صح الحديث في إيجاب القضاء على عامد الافطار لقلنا به، ولكنه لم يصح إنما رواه عبد الجابر بن عمر، ومن هو مثله في الضعف، فإن قالوا: أنتم تأمرون الولي بأن يصوم عنه إن مات، ولا توجبون عليه أن يصوم عن نفسه.
قال علي: فنقول: كذبتم، إنما قلنا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صيام صام عنه وليه ومعنى عليه صيام، عليه أن يصوم، لان الصيام مصدر، تقول: صام يصوم صياما وصوما، فإنما هذا فيمن مات وعليه أن يصوم(3/306)
- وإنما ذلك النادر - والذي فرط في قضاء رمضان أفطره السفر أو مرض، فأما العامد للفطر بغير عذر فليس عليه صيام، وإنما عليه إثم ترك الصيام، وفي هذا كفاية لمن عقل، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: وكل أمر علق بوصف ما، لا يتم ذلك للعمل المأمور به إلا بما علق به فلم يأت به المأمور كما أمر، فلم يفعل ما أمر به فهو باق عليه كما كان، وهو عاص بما فعل، والمعصية لا تنوب عن الطاعة، ولا يشكل ذلك في عقل ذي عقل، فمن ذلك: من صلى بثوب نجس أو مغصوب وهو يعلم ذلك، ويعلم أنه لا يجوز له ذلك الفعل، أو صلى في مكان نهي عن الاقامة فيه كمكان نجس، أو مكان مغصوب، أو في عطن الابل، أو إلى قبر، أو من ذبح بسكين مغصوبة، أو حيوان غيره بغير إذن صاحبه، أو توضأ بماء مغصوب، أو بآنية فضة، أو بإناء ذهب، فكل هذا لا يتأدى فيفرض، فمن صلى كما ذكرنا فلم يصل، ومن توضأ
كما ذكرنا فلم يتوضأ، ومن ذبح كمذكرنا فلم يذبح وهي ميتة لا يحل لاحد أكلها لا لربها ولا لغيره، وعلى ذابحها ضمان مثلها حية، لانه فعل كل ذلك بخلاف ما أمر.
وقال عليه السلام: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.
قال علي: وقد نهاه الله تعالى عن استعمال تلك السكين، وعن ذبح حيوان غيره بغير إذن مالكه، وعن الاقامة في المكان المغصوب، وأمر بالاقامة للصلاة، وبتذكية ما يحل أكله، وبضرورة العقل، علمنا أن العمل المأمور به هو غير العمل المنهي عنه، ولا يتشكل في العقل غير ذلك، فذبحه حيوان غيره أو بسكين مغصوبة ليس هو التذكية المأمور بها، فإذا لم يذك كما أمر فلم يحل بذلك العمل المنهي عنه أكل ما لا يحل أكله إلا بالتذكية المأمور بها، ولا شك في أن إقامته في المكان المغصوب ليست الاقامة المأمور بها في الصلاة، ولو كان ذلك لكان الله عز وجل آمرا بها، ناهيا عنها إنسانا واحدا، في وقت واحد، في حال واحدة، وهذا مما قد تنزه الحكيم العليم في إخباره تعالى أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، وليس اجتناب الشئ والاتيان به في وقت واحد في وسع أحد، فصح ما قلنا، وبالله التوفيق.
وقد عارض في هذا بعض أهل الاغفال بمن طلق أو أعتق في مكان مغصوب، أو صبغ لحيته بحناء مغصوبة، أو تعلم القرآن في مصحف مغصوب.(3/307)
قال علي: وهذا الاعتراض يبين جهل المعترض به، لان الطلاق والعتاق والبيع والعطايا والصدقات لفظ لا يقتضي إقامة مأمورا بها، بل مباح له أن يطلق ويفعل كل ذلك، وهو يمشي أو وهو يسبح في الماء، فليس مرتبطا بالاقامة في المكان، والصلاة لا بد لها من إقامة إلا في حالة المسابقة أو الضرورة، فمن اضطر إلى الاقامة في مكان مغصوب فصلاته فيه تامة، لانه ليس مختارا للاقامة هناك، والصابغ بالحناء بعد إزالة الحناء ليس هو مستعملا في تلك الحال لشئ مغصوب، وأما
لو صلى وهو مختضب بها لبطلت صلاته لفعله فيها ما لا يحل له، وأما تعلم القرآن فليس مرتبطا بجنس المصحف، وقد يتعلم المرء تلقينا، ثم أيضا هو في حال حفظه غير مستعمل لشئ مغصوب، وكذلك في قراءاته ما حفظ في صلاته، وبالله التوفيق.
وبالجملة فلا يتأدى عمل إلا كما أمر الله تعالى، أو كما أباح، لا كما نهى عنه، وبالله تعالى التوفيق، وكل عمل لا يصح إلا بصحة ما لا يصح، فإن ذلك العمل لا يصح أبدا، وكل ما لا يوجد إلا بعد وجود ما لا يوجد، فهو غير موجود أبدا، وكل ما لا يتوصل إليه إلا بعمل حرام فهو حرام أبدا، وكل شئ بطل سببه الذي لا يكون إلا به فهو باطل أبدا، وهذه براهين ضرورية معلومة بأول(3/308)
الحس، وبديهة العقل، ومن خالف فيها فهو سوفسطائي، مكابر للعيان، وبالله التوفيق.
قال علي: وقد أشار قوم من إخواننا إلى أنه لا يقبل تطوع من عليه فرض.
قال علي: وهذا إذا أجمل دون تفسير أو خطأ، وذلك أن الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يجيز صلاة من لم يتم فرض صلاته بتطوع إن كان له وكذلك الزكاة، وكذلك سائر الاعمال.
قال علي: والصحيح في هذا الباب أن كل فرض تعين في وقت لا فسحة فيه، فإنه لا يجزي أحدا أداه غيره في ذلك الوقت، وذلك كإنسان أراد صيام نذر عليه، أو تطوع في شهر رمضان وهو مقيم صحيح، فهذا لا يجزيه، أو كإنسان لم يبق عليه من وقت الصلاة إلا مقدار ما يدخل فيها فقط، فهذا حرام عليه أن يتطوع أو يقضي صلاة عليه، أو يصلي صلاة نذر عليه، حتى تتم التي حضر وقتها بلا مهلة ولا فسحة، فإن قضى حينئذ صلاة فاتته لم تجزئه، وعليه قضاؤها ثانية، وكذلك إن صلى صلاة نذر عليه، وليس كذلك من لزمته زكاة، ولم يبق من ماله إلا قدر ما يؤدي ما وجب عليه منها فقط، إلا أن له غنى بعد ذلك، فهذا يجزئه أن يتصدق
بما شاء منه تطوعا، وأن يؤدي منه نذرا، بخلاف ما ذكرنا قبل، لان الزكاة في ذمته، لا في عين ما بيده.
وكذلك من أحاطت بماله ديون الناس - حاشا بعد الموت - لان النص منع من ذلك، ولم يجعل وصية ولا ميراثا إلا بعد الدين.
ولكن من حضره وقت الحج وهو مستطيع، فلا يجزئه أن يحج تطوعا ولا نذرا قبل أداء الفرض، وكذلك العمرة، لان النبي صلى الله عليه وسلم قال: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد، فالمستطيع للحج مأمور بأدائه حينئذ، ومن حضر رمضان فهو مأمور بصيامه لرمضان، ومن لم يبق عليه من وقت صلاته إلا مقدار ما يدخل فيها فهو مأمور بالدخول فيها، فإذا فعل غير ما أمر به فهو رد بنص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس كذلك من لم يبق بيده من ماله إلا مقدار الزكاة، أو مقدار ديون الناس، لانه ليس مأمورا بأداء ذلك مما بيده، ولا بد لانه لو استقرض مالا فأدى منه الزكاة التي عليه، وديون الناس التي عليه أجزأه ذلك بلا خلاف، ولم يجز للقاضي أن يلزمه الاداء من ماله ولا بد، والصلاة والحج والصيام في أوقاتها بخلاف ذلك.(3/309)
وأما إذا دخل وقت الصلاة وفيه مهلة بعد، فلا خلاف بين أحد من المسلمين في جواز التطوع حينئذ، وبهذا جاءت النصوص، وأما من سافر في رمضان، أو مرض فهو غير مأمور بصيامه لرمضان، وغير منهي عن صيامه لغير رمضان، فله أن يصومه لما شاء من نذر، أو تطوع أو قضاء واجب، وأما من عليه صلوات نسيها أو نام عنها، وعليه قضاء رمضان سافر فيه أو مرض فأفطر، فإن وقت هذه الصلوات وقت قضاء هذا الصوم ممتدا أبدا، فإن أخر قضاء ذلك وهو قادر غير معذور فهو عاص بالتأخير فقط، وذلك لا يسقط عنه قضاء ما لزمه قضاؤه من ذلك، فهذا والصلاة التي دخل وقتها سواء، فإن تطوع بصلاته أو
صيام لم يضع له ذلك عند الله تعالى، لان وقت ما لزمه ممتد بعد فلا يفوته.
وبالله تعالى التوفيق، ومما يبين هذا حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانت تكون على الايام من قضاء رمضان، يعني من قضاء أيام حيضها، ولا أستطيع أن أقضيها إلا في شعبان، لشغلي برسول الله صلى الله عليه وسلم أو كلاما هذا معناه.
قال علي: وهذا مما قد أيقنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه وأقر عليه، لانه لا يجوز أن تحيض إلا وهو يعلم ذلك، لانها كانت لها ليلتان من تسع، ولا يمكن أن يغفل عليه السلام أمرها بتعجيل القضاء لو كان الفرض لا يجزئ إلا بتعجيله، وقولها لا أستطيع، أوضح عذر، وهذا نص ما قلنا وبيانه.
ومما يبين صحة ما قلنا آنفا، من أن الزكاة وديون الناس وسائر فرائض الاموال إنما هي واجبة في ذمة المرء، لا في عين ما بيده من المال، أنه لو كانت واجبة في عين ما بيده من المال، ثم تلف ذلك المال لسقطت عنه تلك الحقوق، وهذا باطل، وأيضا فإنه مما لا يقوله مسلم، فلما لم تسقط الحقوق المذكورة بذهاب جميع عين المال، صح يقينا أنها في ذمته، وإنما يصير ما له لغيره بأحد وجوه أربعة أوجبها النص وهي: أداؤه من ماله، أو قبض من له حق حقه مما ظفر منه من ماله، أو قضاء الحاكم بما له للغرماء فيما لزمه من الحقوق، أو بموته فقط.
وكان يكفي من هذا الحديث الصحيح: عن النبي صلى الله عليه وسلم بأمره بإكفاء القدور وهي تفور باللحم الذي عجل أصحابه رضي الله عنهم، فذبحوا من(3/310)
المغنم قبل القسمة، فلو جاز أكل ذلك اللحم لما أمر عليه السلام بإكفاء القدور وهي تفور.
وقد روي من طريق أخرى أنه عليه السلام جعل يرمله بالتراب ويقول: إن النهبة ليست بأحل من الميتة أو كلاما هذا معناه، فإن اعترضوا بحديث الشاة
التي روي أنه عليه السلام قال فيها: إني لاجد طعم لحم أخذ بغير إذن أهله، أو كلاما هذا معناه، قال: ثم أمر عليه السلام بإطعامه للاسارى، فهذا حديث لا يصح لانه إنما روي من طريق رجل من الانصار، ولم يأت من غير هذه الطريق أصلا فسقط الاحتجاج به، وهرقه عليه السلام اللحم من القدور في الارض، مع نهيه عليه السلام عن إضاعة المال، دليل واضح على أنه لا يحل أكله وهذا نص قولنا.
وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: وأما العمل المأمور به في وقت محدود الطرفين، قد ورد النص بالفسحة في تأخيره - فإنه يجب بأول الوقت، إلا أنه قد أذن له في تأخيره، وكان مخيرا في ذلك وفي تعجيله، فأي ذلك أدى فقد أدى فرضه، إلا أنه يؤجر على التعجيل لتحصيله العمل، واتهمه به، ولا يأثم على التأخير لانه فعل ما أبيح له، وذلك مثل تأخير المرء الصلاة إلى آخر وقتها الواسع، ولذلك أسقطنا الملامة والقضاء عن المرأة تؤخر الصلاة عن أول وقتها فتحيض فعلت ما أبيح لها، ومن فعل ما أبيح له فقد أحسن.
وقال تعالى: * (ما على المخسنين من سبيل) * فسقطت الملامة.
وقد أخر عليه السلام الصلاة إلى آخر وقتها، فصح بذلك أن ذلك جائز مباح حسن، وإن كان التعجيل أحسن، وسقط القضاء عنها لخروج الوقت، لانه يؤدي عمل إلا في وقته المأمور به، كما أسقط خصومنا - موافقين لنا - القضاء عن المغمى عليه أكثر من خمس صلوات، وبعضهم أسقطها عن المغمى عليه صلاة فما فوقها.
وأما كل عمل محدود الطرف الاول غير محدود الطرف الآخر، فإن الامر به ثابت متجدد وقتا بعد وقت، وهو ملوم في تأخيره، لانه لم يفسح له ذلك، وكلما أخره حصل عليه اسم التضييع، وإثم الترك لما أمر به.
فإن أداه سقط عنه إثم الترك، وقد استقر عليه إثم ترك البدار.
ولا يسقطه عنه إلا ربه تعالى بفضله(3/311)
إن شاء - لا إله إلا هو - كسائر ذنوبه التي لا بد من الموازنة فيها، لان الاداء والتعجيل فعلان متغايران كما قدمناه، وقد يؤدي من لا يعجل، فصح أنهما شيئان متغايران، وكذلك القول في ديون الناس، فإن المماطل الغني آثم بالمطل، وآثم بمنع الحق، فإذا أدى الحق يوما ما سقط عنه المنع، وقد استقر إثم المطل عليه فلا يسقط عنه بالاداء، لان المنع والمطل شيئان متغايران، وقد يؤدي ولا يمنع من قد مطل.
ولذلك قلنا، فيمن غصب مالا فلم يؤده إلى صاحبه حتى مات المغصوب منه ثم أداه إلى ورثته: إنه باق عليه إثم الغصب من الميت، وإنما سقط عنه إثم الغصب من الوارث وهو الثاني، لانه لا شك عند كل ذي عقل أن ظلمه لزيد الموروث غير ظلمه لعمرو الحي الوارث.
وقد انتقل ملك المال إلى الوارث، وملك الوارث لذلك المال غير ملك المورث له، هذا شئ يعلم بضرورة العقل وبديهة الحس.
فإن أحدث الغاصب ظلما ثانيا لهذا الحي، فهو عمل آخر، وإثم متجدد، فإن رد إليه ماله فقد سقط عنه إثم ظلمه إياه، ولا يسقط ما وجب لزيد من الحق في حياته إنصاف هذا الغاصب لعمرو بعد موت زيد، وكذلك لو مات الغاصب فصرف المال وارثه، فإنما سقط الاثم عن الوارث الصارف، لا عن الميت الغاصب، لان عمل زيد لا يلحق عمرا إلا بنص أو إجماع، قال الله عز وجل: * (ولا تكسب كل نفس الا عليها) * وقال تعالى: * (وأن ليس للانسان إلا ما سعى) * اللهم إلا أن يرد نص بأن عمل زيد يلحق عمرا بعد موته أو في حياته، فنقر بذلك سامعين طائعين، كالصيام عن الميت والحج عنه وأداء ديونه، فلو أمر الميت أن يرد ما غصب في حياته كان قد تبرأ أو سقط عنه إثم الامساك، وبقي عليه إثم المطل، لان كل ذلك أعمال متغايرة، فلو تطوع امرؤ برد دين أو غصب عن ميت وجعل الاجر للميت لكان ذلك لاحقا بالميت ومرد عنه على حديث أبي قتادة،(3/312)
وإنما نقول ما قال لنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ونعلم ما علمناه ولا مزيد، وبالله التوفيق.
وأصحاب القياس يتناقضون في المسائل التي ذكرنا أقبح تناقض، فيجيزون قضاء الحج إذا وصى به، ولا يجيزون قضاء الصوم إذا أوصى به، ويجيزون تقديم الصلاة قبل وقتها للمريض إذا خشي على عقله، وفي ليلة المطر، ولا يقيسون على تقديم العتمة قبل ليلة المطر - تقديم العصر قبل وقتها يوم المطر ولا تقديم الظهر قبل وقتها.
فإن قالوا: الوقت مشترك بين العتمة والمغرب لزمهم أن يجيزوا تقديم العتمة إلى وقت المغرب لغير ضرورة، لانه وقتها، ومن صلى الصلاة في وقتها فقد أحسن، ولزمهم تقديم العصر إلى الظهر بغير ضرورة لذلك أيضا، وقد قال بذلك ابن عباس وجماعة من السلف رضي الله عنهم، ولسنا نقول بذلك إلا في يوم عرفة فقط، لانه لم يأت في ذلك نص غيره، فظهر عظم تناقضهم.
ولقد شاهدت بعض أهل مساجد الجانب الشرقي بقرطبة أيام تغلب البربر عليها، يستفتون شيوخ المالكيين في تعجيل العتمة قبل وقتها خوف القتل، إذ كان متلصصة البرابر يقفون لهم في الظلام في طرق المسجد، فربما أوذوا إيذاء شديدا - فما فسحوا لهم في ذلك، ولم يقيسوا ضرورة خوف الموت على ضرورة خوف بلل الثياب في الطين، وهذا كما ترى، وبالله تعالى التوفيق.
وقال قوم: إن العمل المأمور به في وقت محدود الطرفين هو في أول الوقت ندب وفي آخره فرض.
قال علي: وهذا خطأ فاحش لانه لو كانت تأديته في أول الوقت ندبا لما أجزأه ذلك، لان الندب غير الفرض، ولا ينوب عمل عن عمل آخر غيره من غير نوعه إلا بنص، ولكن هذا بمنزلة الاشياء المخير فيها في الكفارات أيها أدى فهو فرضه، وكذلك من صلى أول الوقت فقد أدى فرضه، وإن صلى في وسطه فقد أدى فرضه،
وإن صلى في آخره فقد أدى فرضه، فإن قال الآمرون من تعمد ترك صلاة حتى خرج وقتها بالقضاء: إنما فعلنا ذلك قياسا على قضاء الصلاة المنسية، والتي نيم عنها.
قيل لهم، وبالله تعالى التوفيق: أكثركم لا يرى على الحالف على الحنث عمدا كفارة، ولا على القاتل عمدا كفارة، قياسا على المخطئ غير المعتمد، وهذا(3/313)
تناقض منكم، وحتى لو طردتم خطأكم لكان ذلك زيادة في الخطأ، لان القياس عن القائلين به إنما هو الحكم للشئ بحكم شئ آخر لعلة جامعة بينهما، ولا علة تجمع بين الناسي والعامد، وهذا هو قياس الشي على ضده، لا على نظيره، وهذا خطأ عندكم وعند جميع الناس، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في موافقة معنى الامر لمعنى النهي
قال علي: النهي مطابق لمعنى الامر لان النهي أمر بالترك، وترك الشئ ضد فعله، وليس عن الشئ أمرا بخلافه الاخص، ولا بضده الاخص، وتفسير الضد الاخص أنه المضاد في النوع، وتفسير الضد الاعم أنه المضاد في الجنس، فإذا قلت للانسان لا تتحرك فقد ألزمته السكون ضرورة، لانه لا واسطة بين الضد الاعم، وبين ضده، فمن خرج من أحدهما دخل في الآخر، وهذا الذي سميناه في كتاب التقريب المنافي، وأما من نهيته عن نوع من أنواع الحركة فليس ذلك أمرا بضده، مثال ذلك: لو قلت لآخر: لا تقم فإنك لم تأمره بالجلوس ولا بد، لان بين الجلوس والقيام وسائط من الاتكاء والركوع والسجود والانحناء والاضطجاع، فأيها فعل فليس عاصيا لك في نهيك إياه عن القيام وكذلك لو قيل لانسان: لا تلبس السواد فليس في ذلك إيجاب لباسه البياض ولا بد، بل إن لبس الحمرة والصفرة أو الخضرة، لم يكن بذلك عاصيا، بل يكون مؤتمرا في تركه السواد، وبالله تعالى التوفيق.
وأما الامر: فهو نهي عن فعل كل ما خالف العمل المأمور، وعن كل ضد له خاص أو عام، فإنك إذا أمرته بالقيام فقد نهيته عن القعود والاضطجاع والاتكاء والانحناء والسجود، وعن كل هيئة حاشا القيام، وإنما كان هكذا لان ترك أفعال كثيرة مختلفة في وقت واحد واجب موجود ضرورة، لان من قام فقد ترك كل فعل خالف القيام كما أخبرنا في حال قيامه.
وأما الاتيان بأفعال كثيرة في وقت واحد، وهي مختلفة متنافية ومتضادة، فمحال لا سبيل إليه ألا ترى من سافر فإنما يمشي إلى جهة واحدة وهو تارك لكل جهة غير التي توجه نحوها، ولا يمكنه أن يتوجه إلى جهتين في وقت واحد بفعله(3/314)
نفسه.
وتخالف أيضا بنية النهي بنية الامر في وجه آخر، وهو أن ما ورد نهيا بلفظ أو فهو نهي عن الجميع، مثل قوله تعالى: * (فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا) * ومثل قولك لا تقتل زيدا أو عمرا أو خالدا، فهو يقتضي النهي عن قتلهم كلهم، وما ورد أمرا بلفظ، أو فهو تخيير في أحد الاقسام المذكورة مثل قولك: كل خبزا أو تمرا أو لحما، وخذ هذا أو هذا.
والنهي يقتضي اجتناب المنهى عنه، كما أن الامر يقتضي إتيان المأمور به، وقد بينا أن النهي عن الشئ أمر بتركه، والامر بالترك يقتضي وجوب الترك، وبينا أن الامر بالشئ نهي عن تركه، فالنهي عن الترك يقتضي الفعل الذي بوقوعه يرتفع تركه، وبالله تعالى التوفيق.
وقد اعترض في هذا بعض أهل الشغب فقال: لو كان الامر بالشئ نهيا عن تركه، أو كان النهي عن الشئ أمرا بتركه، لكان العلم بالشئ جهلا بضده.
قال علي: وحكاية هذا الكلام الساقط تغني عن تكلف الرد عليه، لانه رام التشبيه بين ما لا تشابه بينه، وهو بمنزلة من قال: لو كان الموت ضد الحياة لكان السمع ضد البصر، ومثل هذا من الغثائث ينبغي لمن كان به رمق أن يرغب بنفسه
عنه، ولكن من لم يعد كلامه من عمله كثرت أهذاره، ومن لم يستح فعل ما شاء، وأما العلم بالشئ، فهو على الحقيقة عدم العلم بضده، لان علمك بأن زيدا حي، وهو عدم العلم، وبطلان العلم بأنه ميت، وقول القائل: لا نأكل لا شك عند كل ذي حس أن معناه: اترك الاكل ولا فرق.
وهذا من المتلائمات.
وقد أفردنا لهذا بابا في كتاب التقريب وبطل مما ذكرنا قول من قال: النهي نوع من أنواع الامر، وقول من قال: الامر نوع من أنواع النهي وصح أن كل أمر فهو أيضا نهي، وكل نهي فهو أيضا أمر.
فإن قال قائل: قد يرد أمر ليس فيه نهي عن شئ أصلا، وهو أمر الاجابة.
وقال آخر: قد يرد نهي ليس فيه معنى من الامر أصلا، وهو نهي عن الاختيار للترك.
قال علي: كلاهما مخطئ، أما الامر بالاباحة فإنما معناه إن شئت افعل، وإن شئت لا تفعل، فليس مائلا إلى الامر إلا كميله إلى النهي ولا فرق، وكذلك القول في نهي الاختيار للترك، وهو الكراهية ولا فرق، وهكذا أمر الندب ولا فرق، وفيه معنى إباحة الترك موجود، وبالله تعالى التوفيق.(3/315)
فصل في الامر هل يتكرر أبدا أو يجري منه ما يستحق به المأمور اسم فاعل لما أمر به.
قال علي: اختلف الناس في الامر، إذا ورد بفعل ما، هل يخرج من فعله مرة عن اسم المعصية، أو يتكرر عليه الامر أبدا فيلزمه التكرار له ما أمكنه، فبكلا القولين قال القائلون.
قال علي: والصواب أن المطيع غير العاصي، ومحال أن يكون الانسان مطيعا عاصيا من وجه واحد.
فمن أمر بفعل ما ولم يأت نص بإيجاب تكراره، ففعله فقد استحق اسم مطيع، وارتفع عنه اسم عاص بيقين، وكل شئ بطل فلا يعود إلا بيقين من نص أو إجماع.
وإنما تكلم في هذه المسألة القائلون بقول الشافعي رحمه الله، في تكرار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل صلاة، لاجل قوله تعالى: * (يايها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) *.
قال علي: ولو كان ما احتجوا به من وجوب التكرار صحيحا، لما كان موضع الجلوس الآخر من الصلاة أحق به من القيام والسجود وسائر أحوال الانسان، وهم إنما أوجبوا ذلك بعد التشهد الاخير من الصلاة فقط.
وقد ورد حديث في لفظه إبعاد لمن ذكر عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فلم يصل عليه، فإن صح لقلت هو فرض متى ذكر عليه السلام، وإن لم يصح فقد صح أن من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرا، ولا يزهد في هذا إلا محروم، والذي يوقن فهو أنه من يرغب عن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وعن السلام عليه، فهو كافر مشرك، ومن صلى عليه وسلم ثم ترك غير راغب عن ذلك، ولكن عالم بأنه مقصر باخس نفسه حظا جليلا - فلا أجر له في ذلك ولا إثم عليه.
فإن قالوا: فما تقولون في الجهاد ؟ قلنا: قد صح أن الجهاد فرض علينا إلى أن لا يبقى في الدنيا إلا مؤمن أو كتابي يغرم الجزية صاغرا بأمر الله تعالى لنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله، ويؤمن المشركون كلهم، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ويعطي أهل الكتاب الجزية وهم صاغرون.
فالقتال ثابت(3/316)
علينا أبدا، حتى يكون ما ذكرنا، وحسبنا أنه فرض على الكفاية، وتركه للمطبق مكروه ما لم يقو للعدو، أو لم يستنفر الامام، فأي ذلك كان، فالجهاد فرض على كل مطيق في ذات نفسه متعين عليه.
ويبطل قول من قال بالتكرار: أنه لو كان قوله صحيحا، للزم من سلم عليه
أن يرد أبدا، ولا يمسك عن تكرار الرد، لقوله تعالى: * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منهآ أو ردوها إن الله كان على كل شئ حسيبا) * ولا خلاف في أن بمرة واحدة يخرج من فرض الرد.
وأما الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمنكر الذي يرى غدا غير المنكر الذي يرى اليوم، وفرض علينا تغيير كل منكر، وكذلك القول في الامر بالمعروف، لان المعروف الذي يأمر به غدا غير الذي أمر به اليوم، وقد جاء النص مبينا بقوله صلى الله عليه وسلم : من رأى منكم منكرا فليغيره ومما يبطل قول من قال بالتكرار قوله تعالى: * (فريه مسلمه الى أهل وتحرير رقبة مؤمنة) * وأمره تعالى بأداء الزكاة، وما أشبه ذلك، لا يلزم تكراره إلا ما جاء النص مبينا بإيجاب تكراره، وإلا فوفاء واحد يجزي، ودية واحدة، ورقبة واحدة.
قال علي: وقد احتج على القائلين بالتكرار بعض من سلف، ممن يقول بأنه يخرج المأمور بذلك بفعله مرة واحدة، بأن قال لما أجمع الناس على أن التكرار لا يلزم حتى يمتنع المرء من الاكل والنوم والنظر في أسبابه، فلما صح ذلك لم يكن من حد في ذلك حدا أولى ممن حد حدا آخر، فوجب أنه يخرج من المعصية بفعل ما أمر بفعله مرة، واحتجوا أيضا بقوله عليه السلام إذ سئل عن الحج أفي كل عام ؟ فقال عليه السلام: دعوني ما تركتكم قالوا: فلو كان الامر يجب تكراره لما أنكر عليه السلام على السائل عن الحج أفي كل عام ؟ لانه كان يكون واضعا للسؤال موضعه، أو سائلا تخفيفا عما يقتضيه اللفظ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم خشي أن يكون سؤاله موجبا لنزول زيادة على ما اقتضاه لفظ الامر بالحج، فيدخل ذلك السائل في جملة من ذم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله أعظم الناس جرما في الاسلام من سأل عن أمر لم يحرم فحرم من أجل مسألته.
قال علي: وهذا احتجاج صحيح ظاهر.
قال علي: وقد تعلق بالتكرار من قال بإيجاب التيمم لكل صلاة.(3/317)
قال أبو محمد: وهذا خطأ، لان نص الآية لا يوجب التيمم إلا على من أحدث بقوله تعالى: * (وان كنم مرضى أو على سفرا أو جاء.
حد منكم من الغائط أو لا مستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) * فلو تركنا ظاهر هذه الآية لوجب الوضوء فرضا على كل قائم إلى الصلاة، ولما وجب ذلك في التيمم.
لان نص الآية بإيجاب الوضوء على قائم إلى الصلاة، وليس فيه إيجاب التيمم إلا على من أحدث فقط، ولكن لما صلى عليه السلام الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد، علمنا أن المأمور بالوضوء هو المحدث فقط، وأما تكرار التيمم فنص الآية يبطله.
قال علي: واحتج القائلون بالتكرار بأن قالوا: وافقتمونا على أن النهي متكرر ثابت أبدا، وأنه متجدد كل وقت، فهلا قلتم إن المنهي يخرج عن النهي بترك ما نهي عنه ساعة من الدهر فقط، كما قلتم: إن يفعل مرة واحدة يخرج عن الامر، وإن الامر لا يعود عليه.
قال علي: هذه شغبة دقيقة، وقد قدمنا فيما خلا أن النهي هو أمر بالترك، وأن الترك ممكن لكل أحد، وليس يمتنع الترك على مخلوق، والفعل بخلاف ذلك منه ممكن، ومنه ما لا يقدر عليه، وقدمنا أن ترك المرء لافعال كثيرة في وقت واحد موجود واجب، وأن فعله بخلاف ذلك، وأن المرء في حال نومه وأكله وصلاته ونظره في أسبابه، تارك لكل ما نهي عن تركه إن أراد الترك، وليس الامر كذلك، بل لا يقدر على أداء أكثر الاوامر في الاحوال التي ذكرنا، وقد أمرنا عليه السلام أن نجتنب ما نهانا عنه، وأمرنا أن نفعل ما أمرنا به ما استطعنا، ولم يقل عليه السلام: فأتوه ما استطعتم، وكان حينئذ يلزم التكرار، وإنما قال عليه السلام فأتوا منه ما استطعتم ومن إنما هي للتبعيض المقدور، فلما امتنع تكرار الامر بما قدمنا قبل، من أن التكرار لوازم لكان تكليفا لما لا يطاق،
وأنه لما بطل ذلك كان من اقتصر في ذلك على حد ما يجده، أو عدد من التكرار يوجبه، أو على وقت ما - متحكما بلا دليل لم يلزم منه إلا ما اتفق عليه، وهو مرة واحدة يقع عليه بها اسم فاعل مطيع، ويرتفع بها عنه اسم عاص، وكان ذلك فرقا صحيحا بين ما يقدر عليه مما ذكرنا، وبين ما يقدر عليه من الترك في كل وقت، وفي كل حال، ومن أدى من الامر ما استطاع فقد فعل ما أمر به،(3/318)
ومن فعل ما أمر فقد سقط عنه الامر، وبالله تعالى التوفيق.
والقائلون بالتكرار: إنما اضطروا إليه في مسألتين أو ثلاث، وهم في سائر مسائلهم تاركون له، وقد قدمنا أن القوم إنما حسبهم نص المسألة الحاضرة بما لا يبالون أن يهدموا به سائر مسائلهم، وبالله تعالى التوفيق فال علي: وصحيح القول في هذه المسألة هو ما قلنا من أن يفعل مرة واحدة يؤدي المرء ما عليه، ولا يلزمه تكرار الفعل لما ذكرنا، إلا أن ترتفع تلك الحال التي فيها ذلك الامر ثم تعود، فإن الامر يعود ولا بد، كمرض المسلم تجب عيادته، فبمرة واحدة يخرج من الفرض ما دام في تلك العلة، فإن أفاق ثم مرض عاد حكم العيادة أيضا، وفك العاني متى صار عانيا وجب فكه، كإطعام الجائع متى عاد جوعه عاد وجوب إطعامه، وكالتعوذ متى قطع الانسان القراءة ثم ابتدأ القراءة، وكالوضوء متى أحدث، وكالصلاة في كل يوم، ولا يلزم تكرار شئ من ذلك بعد فعله في حال واحدة، وبالله تعالى التوفيق.
والقول بالتكرار باطل، لانه تكليف ما لا يطاق، أو القول بلا برهان، وكلاهما باطل، لاننا نسألهم عن تكرار الاوامر المختلفة، وبعضها يقطع عن فعل بعض فلا بد ضرورة من ترك جميعها إلا واحدا، فأيها هو الواحد، وهذا هو القول بلا برهان، وكل ما كان هكذا فهو باطل بلا شك، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في التخيير
قال علي: واختلفوا في الاشياء إذا خير الله عز وجل بينها، وأوجب على المخير أن يقصد أيها شاء فيفعله ككفارة الايمان، وكفارة الحلق في الحج قبل يوم النحر لمرض أو أذى من الرأس، وفي العمرة كذلك، قبل تمامها، وفي جزاء الصيد وما أشبه ذلك، فقال قوم: هي كلها واجبة، فإذا فعل أحدها سقط سائرها.
قال علي: وهذا خطأ فاحش لوجهين: أحدهما: أن أو لا توجب تساوي ما عطف بها واجتماعه، وإنما يوجب ذلك الواو والفاء وثم، هذا ما لا يجهله من له أدنى بصر باللغة العربية، والثاني: أنها لو وجبت كلها لما سقطت بفعل بعضها،(3/319)
وما لزم فرضا فإنما يسقط بأن يفعل، لا بأن يفعل غيره، وهذا شئ يعلم بالضرورة، لان ما أوجب الله تعالى عليك عمله فلم يرد منك أن تقيم مقامه غيره إلا بنص وارد في ذلك، وإلا فأنت عاص، إن لم تفعل الذي أمرت به، فلو أوجب تعالى عليه عتق رقبة لم يخرج منها بكسوة، وهذا الذي لا يعقل سواه.
وذهب قوم إلى أنه تعالى إنما أوجب في ذلك شيئا واحدا مما خير فيه تعالى لا بعينه، ولكن أيها شاء المخير، ونحن لا ننكر هذا، لان عقولنا ليست عيارا على ربنا عز وجل، ولا في العقل ما يمنع من أن يريد الله تعالى إيجاب ما شاء إلى الموجب عليه، فإذا فعل المخير المكفر أي الكفارات - التي خوطب بها - شاء فقد أدى فرضه، وهو الذي سبق في علم الله عز وجل أنه به يسقط عنه الاثم.
والتخيير ينقسم قسمين: أحدهما الذي ذكرنا، وهو أن يلزم المرء أحد وجهين، أو أحد وجوه لا بد من أن يأتي ببعضها أيها شاء، فهذا فرضه الذي يأتي به مما خير فيه.
والقسم الثاني أن يقال للمرء: إن شئت أن تفعل كذا، وإن شئت ألا تفعله
أصلا، وهذا النوع لا يجوز أن يكون فرضا أصلا، ولا يكون إلا تطوعا، لان كل شئ أبيح للمرء تركه جملة أو فعله فهو تطوع بلا خلاف من أحد، وهذا لازم لمن قال إن المرء مخير في السفر بين إتمام الصلاة أو قصرها، لان من قول هذا القائل أن الركعتين الزائدتين أن من تركهما لم يأثم، فهي إذن تطوع، وإذا كانتا تطوعا فغير جائز أن يصليهما بركعتي الفرض اللتين لا بد له من أن يأتي بهما، وليس يلزمهم هذا في قولهم في الصيام إن شاء صام في رمضان في السفر، وإن شاء أفطر، لانهم لا يسقطون عنه الصيام جملة كما يسقطون عنه الركعتين اللتين تتم بهما الصلاة أربعا، لكن يقولون: إن شاء صام رمضان فيه، وإن شاء صامه في أيام أخر، ولا بد عندهم من صيامه، فإنما هذا تخيير في أحد الوقتين لا في ترك الصيام أصلا، وهناك خيروه في الاتيان بالركعتين أو تركهما البتة، فافهم.(3/320)
فصل في الامر بعد الحظر ومراتب الشريعة
قال علي: قد بينا في غير موضع: أن مراتب الشريعة خمسة: حرام وفرض، وهذان طرفان، ثم يلي الحرام المكروه، ويلي الفرض الندب، وبين الندب والكراهة واسطة وهي الاباحة، فالحرام ما لا يحل فعله ويكون تاركه مأجورا مطيعا، وفاعله آثما عاصيا، والفرض ما لا يحل تركه ويكون فاعله مأجورا مطيعا، ويكون تاركه آثما، والمكروه هو ما إن فعله المرء لم يأثم ولم يؤجر، وإن تركه أجر، والندب هو ما إن فعله المرء أجر، وإن تركه لم يأثم ولم يؤجر، والاباحة هي ما إن فعله المرء لم يأثم ولم يؤجر، وإن تركه لم يأثم ولم يؤجر، كصبغ المرء ثوبه أخضر أو أصفر، فإذا نسخ الحظر نظرنا، فإن جاء نسخه بلفظ الامر فهو فرض واجب فعله بعد أن كان حراما، وإن كان أتى فعل لشئ تقدم فيه النهي فهو منتقل إلى الاباحة فقط، والنهي باق على الاختيار، وكذلك الامر إذا أتى بعده فعل بخلافه فهو منتقل إلى الاباحة، والامر باق على الندب، كما قلنا في أمره عليه السلام الناس إذا صلى إمامهم جالسا أن يصلوا وراءه جلوسا، ثم صلى عليه السلام في مرضه الذي توفي فيه جالسا، والناس وراءه وأبو بكر إلى جنبه قائم، فعلمنا أن نهيه عليه السلام عن القيام للمذكر خاصة ندب واختيار، إلا أن يفعل ذلك تعظيما للامام فهو حرام، وعلمنا أن الوقوف له مباح، وإنما هذا فيما تيقنا فيه للمتقدم والمتأخر، وأما ما لم يعلم أي الخبرين كان قبل، فالعمل بذلك الاخذ بالزائد، والاستثناء على ما قدمناه، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: وقد ادعى بعض من سلف أنه تقرأ الاوامر كلها الواردة بعد لحظر، فوجدها كلها اختيارا أو إباحة، وذكر من ذلك قوله تعالى: * (وإذا حللتم فاصطادوا (فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمر كم الله) ونهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وعن الانتباذ في الظروف فانتبذوا * (فالآن باشروهن(3/321)
قال علي: وقد أغفل هذا القائل: قد قال الله تعالى: * (ما كتب الله لكم وكلوا أو اشربوا، فكان الفطر بالاكل والشرب فرضا لا بد منه، بين ذلك النهي عن الوصال وكذلك قوله تعالى: لله الآية إلى قوله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا فالانتشار المذكور في هذه ا لآية هو الخروج عن بيوت النبي صلى الله عليه وسلم ،وهو فرض لا يحل لهم القعود فيها بعد أن يطعموا ما دعوا إلى طعامه، وأما الاوامر التي ذكرنا قبل، فإن دلائل النصوص قد صحت على أنها ندب، ونحن لا نأبى الاقرار بما أتى به نص بل نبادر إلى قبوله، وإنما ننكر الحكم بالآراء الفاسدة والاهواء الزائغة بغير برهان من الله عز وجل.
أما قوله تعالى: * (وإذا حللتم فاصطادوا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حل من عمرته ومن حجه ولم يصطد، فعلمنا أنه ندب وإباحة، وأما قوله تعالى
: * (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة لا تزال تصلي على المرء ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث، ولم يخص صلاة من صلاة، فصح أن الانتشار مباح إلا للحدث والنظر في مصالح نفسه وأهله فهو فرض.
وأما قوله عليه السلام في القبور، فزوروها، فإن الفرض لا يكون إلا محدودا، إما موكولا إلى المرء ما فعل منه، أو محمولا على الطاقة والمعروف، وليس في زيارة القبور نص بشئ من هذه الوجوه، ثم لو كان فرضا لكان زائرها مرة واحدة قد أدى فرضه في ذلك، لما قدمنا في إبطال التكرار.
وأما قوله عليه السلام: فانتبذوا فإنه عليه السلام لم ينتبذ، لكن كان ينتبذ له، فصح أن الانتباذ ليس فرضا، لكنه إباحة، وأما قوله تعالى: * (فالآ باشروهن) * والمباشرة من الرجل لزوجته فرض ولا بد، ولا يحل له هجرها في المضجع، ولا الامتناع من وطئها إلا بتجافيها له عن ذلك، على ما بينا في كتاب النكاح من كلامنا في الاحكام، والحمد لله رب العالمين.
قال علي: وقد ذهب بعض المالكيين إلى أن ههنا واجبا ليس فرضا ولا تطوعا.
قال علي: وهذا هذيان فاسد لا يعقل أصلا، لان الواجب هو الذي لا بد من(3/322)
فعله، وغير الواجب هو ما إن شاء فعله المرء وإن شاء تركه، ولا يعرف ههنا شئ يتوسط هذين الطرفين، فإن راعوا ما ورد به لفظ الفرض في الشريعة فهم أول عاص لما ورد فيها، لان الله عز وجل يقول: * (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) * الآية الى قوله تعالى فرضية من الله، فقالوا هم: هذه القسمة ليست فريضة، بل جائز أن يعطى من الصدقات غير هؤلاء، وجائز أن توضع في بعض هذه الاصناف دون بعض، وقال ابن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على كل
صغير أو كبير ذكرا أو أنثى، حرا أو عبدا، من المسلمين صاعا من تمر أو صاعا من شعير فقالوا: ليس هذا فرضا، ولا الشعير أيضا، ولا التمر فيها فرضا فما نعلم أحدا ترك لفظ الفرض الوارد في الشريعة منهم، ثم احتجوا في البرسام الذي ادعوه من وجوه أنه شئ واجب ليس فرضا ولا تطوعا، فقالوا: ذلك مثل الاذان والوتر وركعتي الفجر وصلاة العيدين والصلاة في جماعة ورمي الجمار للمبيت ليالي منى بمنى.
قال علي: وكل هذا فدعوى فاسدة، أما الصلاة في جماعة والاذان ورمي الجمار ففرائض واجبة يعصي من تركها، لامر النبي صلى الله عليه وسلم بها، وأما صلاة العيدين والوتر وركعتا الفجر والمبيت ليالي منى بمنى، فليست فرائض، ولكنها تطوع يكره تركها، فلو تركها، تارك دهره كله متعمدا ما أثم ولا عصى الله عز وجل، ولا قدح ذلك في عدالته، وقد قال عليه السلام في الذي حلف أن لا يزيد على الصلوات الخمس الفرائض: أفلح والله إن صدق، دخل الجنة إن صدق وقد سأل هذا القائل النبي صلى الله عليه وسلم إذ وصف له الصلوات الخمس فقال: يا رسول الله هل علي غيرها ؟ فقال: لا، إلا أن تطوع فسمى النبي صلى الله عليه وسلم تارك كل صلاة ما عدا الخمس مفلحا ولم يعنفه، وأخبر عليه السلام أن كل صلاة ما عدا الخمس فهي تطوع فحرام على كل أحد خلاف النبي صلى الله عليه وسلم ،ولولا أن الامر ورد بصلاة الجنائز فصارت فرضا لا بد منه، لكانت تطوعا، ولكن من هذه الخلال أشياء يكره تركها، فمن تركها لم يأثم ولم يؤجر، ومن فعلها أجر، فبطلت بما ذكرنا قسمتهم الفاسدة، والحمد لله رب العالمين.(3/323)
فصل في ورود الامر بلفظ خطاب الذكور
قال علي: اختلف الناس: فقالت طائفة: إذا ورد الامر بصورة خطاب الذكور، فهو على الذكور دون الاناث، إلا أن يقوم دليل على دخول الاناث
فيه، واحتجوا بأن قالوا: إن لكل معنى لفظا يعبر عنه، فخطاب النساء افعلن، وخاطب الرجال: افعلوا، فلا سبيل إلى إيقاع لفظ على غير ما علق عليه إلا بدليل.
وذ هبت طائفة أخرى إلى أن خطاب النساء والإنات لا يدخل فيه الذكور وأن خطاب الذكور يدخل فيه النساء والإناث إلا أن تأتى نص أو إجماع على إخراج النساء والإناث من ذلك
قال علي: وبهذا نأخذ، وهو الذي لا يجوز غيره، والدليل الذي استدلت به الطائفة الاولى هو أعظم الحجة عليهم، وهو دليلنا على إبطال قولهم، لان لكل معنى لفظا يعبر به كما قالوا ولا بد، ولا خلاف بين أحد من العرب، ولا من حاملي لغتهم أولهم عن آخرهم، في أن الرجال والنساء، وأن الذكور والاناث إذا اجتمعوا وخوطبوا أخبر عنهم، أن الخطاب والخبر يردان بلفظ الخطاب، والخبر عن الذكور إذا انفردوا ولا فرق، وأن هذا أمر مطرد أبدا على حالة واحدة، فصح بذلك أنه ليس لخطاب الذكور - خاصة - لفظ مجرد في اللغة العربية غير اللفظ الجامع لهم وللاناث، ألا أن يأتي بيان زائد بأن المراد الذكور دون الاناث، فلما صح لم يجز حمل الخطاب على بعض ما يقتضيه دون بعض إلا بنص أو بإجماع، فلما كانت لفظة افعلوا والجمع بالواو والنون وجمع التكسير يقع على الذكور والاناث معا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الرجال والنساء بعثا مستويا، وكان خطاب الله تعالى، وخطاب نبيه صلى الله عليه وسلم للرجال والنساء خطابا واحدا - لم يجز أن يخص بشئ من ذلك الرجال دون النساء إلا بنص جلي أو إجماع لان ذلك تخصيص الظاهر، وهذا غير جائز، وكل ما لزم القائلين بالخصوص فهو لازم لهؤلاء، وسيأتي ذلك مستوعبا في بابه إن شاء الله تعالى.
فإن قالوا: فأوجبوا الجهاد فرضا على النساء قيل لهم، وبالله تعالى التوفيق، لولا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة - إذ استأذنته في الجهاد -(3/324)
لكن أفضل الجهاد حج مبرور لكان الجهاد عليهن فرضا، ولكن بهذا الحديث علمنا أن الجهاد على النساء ندب لا فرض، لانه عليه السلام لم ينهها عن ذلك، ولكن أخبرها أن الحج لهن أفضل منه، ومما يبين صحة قولنا أن عائشة - وهي حجة في اللغة - لما سمعت الامر بالجهاد قدرت أن النساء يدخلن في ذلك الوجوب حتى بين النبي صلى الله عليه وسلم لها أنه عليهم ندب لا فرض، وأن الحج لهن أفضل منه، ونحن لا ننكر صرف اللفظ عن موضوعه في اللغة، بدليل من نص أو إجماع، أو بضرورة طبيعة تدل على أنه مصروف عن موضوعه، وإنما يبطل دعوى من ادعى صرف اللفظ عن موضوعه في اللغة بلا دليل، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليها حملها الخطاب بلفظ خطاب الذكور على عموم دخول النساء في ذلك وفي هذا كفاية لمن عقل.
فإن قالوا: فأوجبوا عليهن النفار للتفقه في الدين، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، قلنا، وبالله تعالى التوفيق: نعم هذا واجب عليهن كوجوبه على الرجال وفرض على كل امرأة النفقة في كل ما يخصها كما ذلك فرض على الرجال ففرض على ذات المال منهن معرفة أحكام الزكاة، وفرض عليهن كلهن معرفة أحكام الطهارة والصلاة والصوم، وما يحل وما يحرم من المآكل والمشارب والملابس وغير ذلك كالرجال ولا فرق، ولو تفقهت امرأة في علوم الديانة للزمنا قبول نذارتها، وقد كان ذلك، فهؤلاء أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ،وصواحبه قد نقل عنهن أحكام الدين، وقامت الحجة بنقلهن، ولا خلاف بين أصحابنا وجميع أهل نحلتنا في ذلك، فمنهن سوى أزواجه عليه السلام: أم سليم، وأم حرام، وأم عطية، وأم كرز، وأم شريك، وأم الدرداء، وأم خالد، وأسماء بنت أبي بكر، وفاطمة بنت قيس، ويسرة، وغيرهن، ثم في التابعين عمرة، وأم الحسن، والرباب، وفاطمة بنت المنذر، وهند الفراسية، وحبيبة بنت ميسرة، وحفصة بنت سيرين، وغيرهن.
ولا خلاف
بين أحد من المسلمين قاطبة في أنهن مخاطبات بقوله تعالى: * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ومن شهد منك اشهر فالصمه ووذروا ما بقى من الربا وحرمت عليكم الميتة والدم والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبو هم وأشهدوا إذا تا يعتم ولله على الناس حج البيت وأفيضوان من حيث(3/325)
أفاض الناس وهل أنتم منهون وابتول اليتامى حتى إذا بلغو النكاح وسائر أوامر القرآن، وإنما في مسألة أو مسألتين تحكموا فيها وقلدوا، فاضطروا إلى مكابرة العيان، ودعوى خروج النساء من الخطاب بلا دليل، ثم رجعوا إلى عمومهن مع الرجال، بلا رقبة ولا حياء.
قال علي: وقد قال الله تعالى: * (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) *.
وقال أيضا: * (وأنذر عشيرتك الاقربين) * فنادى عليه السلام بطون قريش بطنا بطنا ثم قال: يا صفية بنت عبد المطلب، يا فاطمة بنت محمد، فأدخل النساء مع الرجال في الخطاب الوارد كما نرى.
فإن قال قائل: فقد قال تعالى: * (لا يسخر قوم من قوم عس أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن) * وقال زهير: وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إن اللفظ إذا جاء مرادا به بعض ما يقع تحته في اللغة وبين ذلك دليل فلسنا ننكره فقد قال تعلى: * (يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم) *، فلا خلاف بين لغوي وشرعي أن هذا الخطاب متوجه إلى كل آدمي من ذكر أو أنثى، ثم قال تعالى: * (فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) * فقام الدليل على أن المراد ههنا بعض الناس لا كلهم، فوجب الوقوف عند ذلك لقيام الدليل عليه، ولولا ذلك لما جاز أن يكون محمولا إلا على عموم الناس كلهم.
قال أبو محمد: وقد سأل عمرو بن العاص رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أحب إليك ؟ فقال: عائشة قال: ومن الرجال ؟ قال: أبوها ثناه عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، أنبأ يحيى، ثنا خالد بن عبد الله، عن خالد - هو الحذاء - عن أبي عثمان - هو النهدي - قال أخبرني عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس باللغة التي بعث بها، فحمل اللفظ على عمومه في دخول النساء مع الرجال حتى أخبره السائل أنه أراد بعض من يقع عليه الاسم الذي خاطب به فقبل ذلك منه عليه السلام، وهذا هو نص مذهبنا، وهو أن نحمل(3/326)
الكلام على عمومه، فإذا قام دليل على أنه أراد به الخصوص صرنا إليه، ولا خلاف بين المسلمين في أن قوله تعالى: * (أو لحم خنزير) * واقع على إناث الخنازير كوقوعها على ذكورها بنفس اللفظ للنوع كله.
وقد اعترض بعضهم بحديث ذكروه من طريق أم سلمة رضي الله عنها فيه: أن النساء شكون وقلن ما نرى الله تعالى يذكر إلا الرجال فنزلت: * (إن المسلمين والمسلمات الآية.
قال علي: وهذا حديث لا يصح البتة، ولا روي من طريق يثبت، حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، قال أحمد بن عبد البصير: ثنا قاسم بن إصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، ثنا محمد بن بشار بندار، ثنا أبو داود الطيالسي، ثنا شعبة، عن حصين قال: سمعت عكرمة يقول: قالت أم عمار: يا رسول الله يذكر الرجال في القرآن ولا يذكر النساء، قال فنزلت * (ان المسلمنى والمسلمات) * الآلة.
قال علي: وهذا مرسل كما نرى لا تقوم به حجة، وثناه أيضا محمد بن سعيد النباتي، ثنا أحمد بن عبد البصير، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا الخشني، ثنا محمد بن المثنى، حدثنا مؤمل،
ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: قالت أم سلمة: يذكر الرجال في الهجرة ولا نذكر، فنزلت: * (انى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر وانثى وقالت أم سلمة: يا رسول الله لا نقطع الميراث ولا نغزو في سبيل الله فنقتل، فنزلت: * (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض وقالت أم سلمة: يذكر الرجال ولا نذكر، فنزلت: * (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمخؤمنات) *
قال علي: ويقال إن التفسير لم يسمعه ابن أبي نجيح من مجاهد، ثنا بذلك يحيى بن عبد الرحمن، عن أحمد بن دحيم، عن إبراهيم بن حماد، عن إسماعيل بن إسحاق، ولم يذكر مجاهد سماعا لهذا الخبر عن أم سلمة، ولا يعلم له منها سماع أصلا، وإنما صح أنهن قلن: يا رسول الله غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوما، فجعل لهن عليه السلام يوما وعظهن فيه وأمرهن بالصدقة، وكذلك صح ما روي في خطبته عليه السلام في العيد، وأمره النساء أن يشهدن، ثم رأى عليه السلام أنه لم يسمعهن فأتاهن فوعظهن قائما، أتاهن عليه السلام إذ خشي أنهن لم يسمعن وإلا فقد كان يكفيهن جملة كلامه على المنبر.(3/327)
قال أبو محمد: والصحيح من هذا ما حدثناه عبد الله بن يوسف بالسند المتقدم ذكره إلى مسلم، حدثنا يونس بن عبد الاعلى الصدفي، وأبو معن الرقاشي، وأبو بكر نافع، وعبد الله بن حميد، قال هؤلاء الثلاثة: ثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، ثنا أفلح بن سعيد، حدثنا عبد الله بن رافع، وقال يونس بن عبد الاعلى: ثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو - هو ابن الحار ث أن بكيرا حدثه عن القاسم بن عباس الهاشمي، عن عبد الله بن رافع، مولى ابن أم سلمة، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: كنت أسمع الناس يذكرون الحوض ولم أسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان يوما من ذلك والجارية تمشطني، فسمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيها الناس، فقلت للجارية: استأخري عني، قالت: إنما دعا الرجال ولم يدع النساء، فقلت إني من الناس، ثم ذكرت الحديث.
قال علي: في هذا بيان دخول النساء مع الرجال في الخطاب الوارد بصيغة خطاب الذكور.
قال أبو محمد: واحتج بعضهم بقوله تعالى: * (ان المسلمين والمسلمات والمؤمنى والمؤمنات) * فالجواب وبالله التوفيق: أنه لا ينكر التأكيد والتكرار، وقد ذكر الله تعالى الملائكة ثم قال: * (وجبريل وميكال) * وهما من الملائكة ويكفي من هذا ما قدمناه من أوامر القرآن المتفق على أن المراد بهذا الرجال والنساء معا بغير نص آخر، ولا بيان زائد إلا اللفظ، وكذلك قوله: * (واشتهدوا شهيدين من رجالكم) * بيان جلي على أن المراد بذلك الرجال والنساء معا، لانه لا يجوز في اللغة أن يخاطب الرجال فقط، بأن يقال لهم وإنما كان يقال من أنفسكم فإن قالوا: قد تيقنا أن الرجال مرادون بالخطاب الوارد بلفظ الذكور، ولم نوقن ذلك في النساء، فالتوقف فيهن واجب، قيل له: قد تيقنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوث إليهن كما هو إلى الرجال، وإن الشريعة التي هي الاسلام لازمة لهن كلزومها للرجال، وأيقنا أن الخطاب بالعبادات والاحكام متوجه إليهن، كتوجهه إلى الرجال إلا ما خصهن أو خص الرجال منهن دليل، وكل هذا يوجب ألا يفرد الرجال دونهن بشئ قد صح اشتراك الجميع فيها إلا بنص أو إجماع وبالله تعالى التوفيق.(3/328)
قال علي: وإن العجب ليكثر ممن قال بخلاف قولنا - من الحنفيين والمالكيين - ثم هم يأتون إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الواطئ في رمضان بالكفارة، فقالوا: الواجب على المرأة من مثل ذلك ما على الرجل، فأي مجاهرة أشنع من مجاهرة من
يأتي إلى خطاب عام لجميع أهل الاسلام فيريد إخراج النساء منه، ثم يأتي إلى خطاب لرجل منصوص عليه لم يذكر معه غيره، فيريدون إلزامه النساء بلا دليل ثم تناقضوا في ذلك، فألزموا الموطوءة الواطئ ولا نص في الموطوءة، ولم يلزموا المظاهرة ما ألزموا المظاهر، والعلة على قولهم واحدة وهي قوله: * (منكرا من القو وزورا) * والمظاهرات قد قالت ذلك، وقد أوجب عليها - مثل ما يجب على المظاهر - قوم كثير من العلماء، وهكذا أحكام من تعدى حدود الله عز وجل، واتبع الرأي والقياس، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في الخطاب الوارد هل يخص به الاحرار دون العبيد أم يدخل فيه العبيد معهم ؟
قال علي: ذهب قوم إلى أن قوله تعالى: * (وأشهدوا ذوى عدل منكم) * أنه للاحرار دون العبيد، واحتجوا بقوله تعالى: * (وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم *.
قال: ما ندري أيهما أشد إقداما على الله وجرأة، أتخصيصهم الاحرار في الآية الاولى دون العبيد ؟ أم استشهادهم بالآية الثانية في ذلك ؟ فأول إبطال قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى العبيد والاحرار بعثا مستويا بإجماع جميع الامة، ففرض استواء العبيد مع الاحرار - إلا ما فرق فيه النص بينهم - كوجوب استواء العرب والعجم من قريش، إلا ما فرق فيه النص بينهم، من كون الخلافة لقريش دون العرب ومن تحريم الصدقة على بني هاشم وبني المطلب دون سائر قريش والعرب، وكوجوب خمس الخمس لهم دون سائر قريش والعرب، وإنما خاطبنا الله تعالى في آية الانكاح، لانه عز وجل لم يجعل للعبد أن ينكح نفسه وجعله للحر، وهذا مكان نص فيه على الفرق، ثم نعارضهم بقول الله تعالى(3/329)
: * (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) * وبقوله: * (ومن يتو لهم منكم فإنه منهم) * وبقوله تعالى: * (ومن يتو لهم فأو لئك هم الظالمون) * وبقوله تعالى: * (يومن بالله ويومن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم) * وبقوله تعالى: * (ان نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين) * وبقوله تعالى: * (كانوا أشد منكم قوة) * وبقوله تعالى: * (كانو أشد منكم قوة) وبقوله تعالى: * (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به) * وبقوله تعالى: * (ولقد علمنا المستقدين منكم ولقد علمنا المستأخرين) * وبقوله تعالى: * (إذا فريق منكم بربهم يشركون) * وبقوله تعالى: * (ومنكم من يرد أرذل العمر) * وبقوله تعالى (ومن منكم إلا واردها) * هل خص بهذا الخطاب الاحرار دون العبيد ؟ أو عم الجميع ؟ فلا بد من أنه عموم للاحرار والعبيد، فكل خطاب ورد فهو هكذا، ولا فرق إلا ما فرق النص فيه بين الاحرار والعبيد، وكذلك قالوا في قوله تعالى: * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) * فقالوا هذا للأحرار دون العبيد.
قال علي: وهذه أعجوبة شنيعة، أترى العبيد ليسوا من رجالنا ؟ إن هذا الامر كان ينبغي أن يستحيى منه، وأن من جاهر بأن العبيد ليسوا من رجالنا الواجب أن يرغب عن الكلام معه.
وأيضا فإن أول الآية المذكورة: * (يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى الآية والآية الأخرى من قوله * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) * الآية، ولا خلاف بين أحد في أنهما متوجهتان إلى الأحرار و العبيد، وأن هذا حكم عام للمتبايعين من الأحرار وللمطلقين من الأحرار والعبيد، فإذا قد صح ذلك فكيف يسوغ لذى عقل ودين يقول: إن قوله تعالى * (من رجالكم) * وقوله تعالى * (منكم) * مخصوص به الأحرار دون العبيد والآيتان كلتا هما بلا خلاف منهم مخاطب بهما الأحرار والعبيد سواء
فصل في أمره عليه السلام واحدا هل يكون أمرا للجميع ؟
قال علي: قد أيقنا أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى كل من كان حيا في عصره في معمور الارض، من إنسي أو جني، وإلى من ولد بعده إلى يوم القيامة، وليحكم في كل(3/330)
عين وعرض يخلقهما تعالى إلى يوم القيامة، فلما صح ذلك بإجماع الامة - المتيقن المقطوع به المبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم - وبالنصوص الثابتة بما ذكرنا من بقاء الدين إلى يوم القيامة.
ولزومه الانس والجن، وعلمنا بضرورة الحس أنه لا سبيل إلى مشاهدته عليه السلام من يأتي بعده، كان أمره صلى الله عليه وسلم لواحد من النوع، وفي واحد من النوع - أمرا في النوع كله، وللنوع كله، وبين هذا أن ما كان من الشريعة خاصا لواحد، أو لقوم فقد بينه عليه السلام نصا، وأعلم أنه خصوص، كفعله في الجذعة بأبي بردة بن نيار، وأخبره عليه السلام أنها لا تجزي عن أحد بعده، وكان أمره عليه السلام للمستحاضة أمرا لكل مستحاضة، وإقامته ابن عباس وجابرا عن يمينه في الصلاة، حكما على كل مصل وحده مع إمام، ولا خلاف بين أحد في أن أمره لاصحابه رضي الله عنهم وهم حاضرون، أمر لكل من يأتي إلى يوم القيامة.
وأما إخواننا: فاضطربوا في هذا اضطرابا شديدا، فقالوا في فتياه عليه السلام للواطئ في رمضان: إن ذلك الحكم جار على كل واطئ، وأصابوا في ذلك، ثم لم يقنعوا بالصواب حتى تعدوه إلى الخطأ فقالوا: وذلك الحكم أيضا جار على كل مفطر بغير الوطئ ثم لم يقنعوا بذلك حتى قالوا: هو على النساء كما هو على الرجال، ثم أتوا إلى حكم النبي صلى الله عليه وسلم في محرم مات، فأمر عليه السلام أ لا يمس طيبا ولا يغطي وجهه ولا رأسه، وأن يكفن في ثوبه فقالوا هو خصوص لذلك الواحد، وليس هذا حكم من مات وهو محرم، أفسمع السامعون بأعجب
من هذا التحكم ؟ واحتجوا في ذلك بابن عمر وقد تركوا ابن عمر في أزيد من مائة قضية، وتركوا في ذلك قول من خالف ابن عمر في ذلك من أصحابه، واحتجوا بانقطاع عمل الميت تمويها وشغبا، وليس هذا للميت ولكنه عمل الاحياء المأمورين بذلك كما أمروا بغسله ومواراته ولا عمل للميت في ذلك ولا فرق.
فإن احتجوا في ذلك بقول علي رضي الله عنه: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أقول نهاكم، فقد قال كعب بن عجرة في أمر فدية حلق الرأس نزلت في خاصة وهي لكم عامة.(3/331)
وأيضا فقد بينا في آخر كتابنا أنه لا يجوز التقليد، وقد بين علي رضي الله عنه أن قوله هذا ليس على ما ظن الظان، من أن ذلك النهي لا يتعداه ذلك إذ سئل: أعهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم بشئ لم يعهده إلى غيرك ؟ فقال: لا، ما خصني رسول الله صلى الله عليه وسلم بشئ إلا ما في هذه الصحيفة، وكان فيها العقل وأشياء من الجراحات، ولا يقتل مؤمن بكافر، فصح أن قول علي نهاني، إنما هو تحر للفظه عليه السلام فقط، وبالله تعالى التوفيق، وهو الموفق للصواب.
فصل في أوامر ورد فيها ذكر حكمه عليه السلام ولم يأت فيها من لفظه عليه السلام السبب المحكوم فيه
قال علي: وإذا ورد خبر صحيح، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أمرا كذا فحكم فيه بكذا، فإن الواجب أن نحكم في ذلك الامر بمثل ذلك الحكم ولا بد، لانه كسائر أوامره التي قدمنا وجوبها، وذلك مثل ما روي أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي منفردا خلف الصفوف، فأمره بالاعادة.
ورأى رجلا يحتجم فقال: أفطر الحاجم والمحجوم وأتي بشارب فجلده، فاعترض قوم فقالوا: لعله
عليه السلام إنما أمره بالاعادة ليس من أجل انفراده، ولكن لغير ذلك، وأن الحجام والمحجوم، كانا يغتابان الناس.
قال علي: وهذا لا يجوز لوجوه خمسة: أحدها: أنه عليه السلام مأمور بالتبليغ، فلو أمر إنسانا بإعادة صلاة أبطلها عليه، ولم يبين عليه السلام، وجه بطلانها لكان عليه السلام غير مبلغ وقد نزهه الله تعالى عن ذلك، ولكان غير مبين ومن نسب هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد كفر.
والوجه الثاني: أن يقول القائل: لعله عليه السلام قد بين ذلك ولم يصل إلينا.
قال علي: فمن قال ذلك أكذبه الله عز وجل بقوله: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * وبقوله تعالى عن نبيه عليه السلام: * (وما ينطق عن الهوى ئ إن هو(3/332)
إلا وحي يوحى) * فصح أن كلامه كله صلى الله عليه وسلم وحي، وأن الوحي محفوظ لانه ذكر، فلو بينه عليه السلام ولم ينقل إلينا لكان غير محفوظ، وقد أكذب الله تعالى هذا القول، لانه لم ينقل أحد أنه أمره بالاعادة لغير الانفراد.
والوجه الثالث: أن أحاديث كثيرة ثبتت بفرض تسوية الصفوف فيها، وفيها إبطال صلاة من صلى منفردا، وقد ذكرناها في الفصل الذي فيه ترجيح الاحاديث في باب الاخبار من كتابنا هذا.
والرابع: إن نقل الناقل الثقة أنه صلى منفردا فأعاد نقل وإنذار ببطلان صلاة المنفرد - عنه عليه السلام، فواجب قبوله.
والخامس: أن قول القائل لعله كان هنالك سبب لم ينقل إلينا ظن.
وقد قال تعالى: * (إن الظن لا يغنى من الحق شيئا) *.
وقال عليه ا لسلام: الظن أكذب الحديث ولا يحل ترك نقل الثقات لظنون زائفات.
وأما تخريج من خرج منهم: أن الحاجم والمحجوم كانا يغتابان الناس، فإنهم
استجاروا من الرمضاء بالنار، وهم لا يرون إفطار الصائم بالغيبة، فقد عصوا على كل حال، ولولا أن الرخصة وردت صحيحة من الحجامة للصائم، لاوجبنا الافطار بها، ولكن استعمال الاحاديث يوجب قبول الرخصة، لانها متيقنة بعد النهي، إذ لا تكون لفظة الرخصة إلا عن شئ تقدم التحذير منه، ولهذا الحديث أجزنا الحجامة للصائم، وأن يكون حاجما ومحجوما على ظاهر لفظ الاحاديث، لا بالحديث الذي يقول: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم، لانه ليس في ذلك الحديث دليل على أنه كان بعد النهي فهو موافق لمعهود الاصل ولا فيه بيان أيضا، أنه كان في صيام فرض لا يجوز الافطار فيه، بل لعله كان في تطوع يجوز الافطار فيه، أو في سفر كما جاء في بعض تلك الاحاديث: أنه كان صائما محرما عليه السلام، وبالله تعالى التوفيق.(3/333)
فصل في ورود حكمين بنقل يدل لفظه على أنهما في أمر واحد لا أمرين
قال علي: روي أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضا وهو يقول: احترقت، وأنه وصف أنه وطأ امرأته وهو صائم، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بكفارة موصوفة، وروي من تلك الطريق بعينها أن رجلا أفطر في رمضان، فأمره عليه السلام بتلك الكفارة بعينها، وذكر باقي الحديث الاول، فعلمنا بذلك أنهما حديث واحد، لان الرواة لهذا هم أولئك الذين رووا بأي شئ كان الافطار، وسياق الحديثين واحد، فصح أن بعض الرواة عن الزهري فسر القصة وهم: سفيان، ومعمر، والليث، والاوزاعي، ومنصور بن المعتمر، وعراك بن مالك، وأن بعضهم عن الزهري أجملها، وهم مالك، وابن جريج، إلا أنهم كلهم عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة.
قال علي: وليس هكذا حديث السارقة والمستعيرة، لان الوطئ في حال الصوم إفطار صحيح، يقع عليه في الشريعة اسم إفطار على الحقيقة، ولا يقع على السارق اسم مستعير جاحدا البتة، ولا يقع على المستعير الجاحد اسم البتة.
وأيضا فقد روى حديث قطع المستعيرة ابن عمر، ولم يذكر سرقة وإنما ذكر أمر السرقة عن عائشة فصح أنهما حديثان متغايران، وهذا أيضا ما تعلق به المانعون من المسح على العمامة في حديث المغيرة فقالوا: ذكره المسح على العمامة هو حديث واحد مع الذي فيه ذكر المسح على الناصية والعمامة.
قال علي: وهذا خطأ، لان الوضوء لم يكن مرة واحدة منه عليه السلام، بل كانت آلافا من المرار، فمن ادعى أن ذلك كله وضوء واحد في وقت واحد، فقد دخل تحت الكذب، والقول بما لا يعلم، وهذا لا يحل لمسلم.
وأيضا فقد روى المسح على العمامة والخمار - من لم يذكر مسحا على الناصية أصلا وهم: سلمان، وبلال، وكعب بن عجرة، وعمرو بن أمية الضمري، لا سيما المالكيين المانعين من الاقتصار على المسح للناصية فقط، فإنهم لا متعلق لهم(3/334)
بحديث المغيرة أصلا، وكل ما تعلقوا به بهذا الباب فهو حجة عليهم فصح بما ذكرنا أن حديث المغيرة وحديث من ذكرنا متغايران، وبالله تعالى التوفيق.
فينبغي مراعاة هذا في النصوص.
ومثل ذلك من القرآن قول الله عز وجل: * (براءة من الله ورسوله الى الذين عاعد تم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) * ثم قال تعالى في تلك السورة نفسها بعد يسير: * (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الاكبر أن الله برئ من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم ئ إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا
عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين ئ فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) *.
قال علي: فوجدناه تعالى قد جعل مدة من عاهدوا من المشركين أربعة أشهر، ثم وجدناه تعالى قد جعل مدة المشركين من يوم الحج الاكبر - وهو يوم النحر بنص تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك انسلاخ الاشهر الحرم.
فليس بين الامدين إلا خمسون يوما، فعلمنا يقينا أن هؤلاء المشركين الذين جعل أمدهم شهرين غير عشرة أيام، هم غير المشركين الذين عوهدوا أربعة أشهر، وهذا ينبغي أن يتفقد جدا، فإنه برفع الاشكال كثير، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في عطف الاوامر بعضها على بعض
قال علي: وقد يعطف أوامر مفروضات على غير مفروضات، ويعطف غير مفروضات على مفروضات، والاصل في ذلك: أن كل أمر فهو فرض إلا ما خرج عن ذلك بضرورة حس أو بنص أو إجماع، فإذا كانت أوامر معطوفات فخرج بعضها بأحد الدلائل التي ذكرنا عن الوجوب، بقي سائرها على حكم المفهوم من الاوامر في الجملة، ولا نبالي كان الخارج عن معهود حكمه هو الاول في الذكر، أو الآخر أو الاوسط.
كل ذلك سواء، وهو بمنزلة ما لو خرج بنسخ، فإن سائرها يبقى على حكم الوجوب والطاعة، فمن ذلك قوله تعالى: * (كلوا من ثمرة إذا ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاره، فلوا لا الإجماع على أن(3/335)
الاكل من الثمر ليس فرضا لقلنا إنه فرض.
ولكن لما خرج عن أن يكون فرضا بدليل الاجماع، بقي الفعل المعطوف عليه على حكم الوجوب، وهو قوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين *.
قال علي: وإنما آتينا بما يوافقنا عليه أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي،
وإلا فقد تناقضوا في مثل هذا، إلا أن الحقيقة ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.
ومن ذلك أيضا، فانتبذوا ولا تشربوا مسكرا: وزوروها - يعني القبور - ولا تقولوا هجرا.
الامر الاول ندب الاجماع والثاني فرض، وبالله تعالى التوفيق.
وكذلك قوله: * (فاسعوا ألى ذكر الله وذروا البيع) * كان السعي خاصا للرجال دون النساء، ولم يمنع ذلك الامر بترك البيع من أن يكون فرضا فرضا على ظاهره وعاما لكل أحد من رجل أو امرأة ووافقنا على ذلك أصحاب مالك، ومثل هذا كثير، وبالله تعالى التوفيق، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فصل في تناقض القائلين بالوقف
هاك نبذ من تناقض القائلين بالوقف، وحملهم أوامر كثيرة على وجوبها وعن ظاهرها بغير قرينة ولا دليل، إلا مجرد الامر، وصيغة اللفظ فقط، وما تعدوا فيه طريق الحق، إلى أن أوجبوا فرائض لا دليل على إيجابها، يدل على كثير تناقضهم وفساد قولهم.
قال علي: إن القائلين بالوقف - من المالكيين والشافعيين والحنفيين - قد أوجبوا أحكاما كثيرة بأوامر وردت لا قرينة معها، فكان نقضا لمذهبهم في الوقف، وما قنعوا بذلك حتى أوجبوا فرائض بلا أوامر أصلا، فمن أعجب ممن لم يوجب بأمر الله تعالى إنفاذ ما أمر به، وأوجب أحكاما بغير أمر من الله تعالى، فمن ذلك أن المالكيين قالوا في قوله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) * فأبطلوا البيع بمجرد هذا الامر، ولم يقنعوا بذلك حتى أبطلوا ما لم يبطل الله عز وجل من النكاح، والاجازة - تعديا لحدوده تعالى، وقد تعلل بعضهم في هذا بأن لفظة * (ذروا) * لا يقع إلا للفرض.(3/336)
قال علي: وهذا ما لا يعرفه حامل لغة من العرب.
وقد قال تعالى: * (ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) * أفترى ذر في هذا المكان موجبة ترك الكفارة، دون وعظ ودعاء إلى الايمان وقتل موسى وإغرام جزية وصغار وقال في قوله تعالى: * (كتب عليكم وهو كره لكم) * و: * (كتب عليكم القصاص) * و: * (وكتب عليكم الصيام) * هذه فرائض وقالوا في قوله: * (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين) * فقالوا: ليس هذا فرضا، مع أمره عليه السلام من عنده شئ يوصي فيه: أن لا يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده، ففرقوا بلا دليل وقالوا في قوله تعالى: * (فإن احصرتم فما استيسر من الهدى) * هذا فرض وفي قوله تعالى: * (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام) * قالوا: هذا فرض وكذلك قالوا في هدي العمرة وجزاء الصيد، وقالوا بفرض التكبير في أول الصلاة والتسليم منها ذلك فرض، وقالوا في حكم المصراة ذلك فرض، وقالوا في التقويم على الشريك المعتق ذلك فرض، وأوجبوا الزكاة في أموال الصغار بعموم قولتعالى: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) * وبقوله عليه السلام: إن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، ولم يوجبوا صدقة الفطر فرضا وقد جاء النص بأنه عليه السلام فرضها، وهي داخلة في جملة قوله عليه السلام: إن عليهم صدقة وفي جملة قوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة وأو جبوا الزكاة في الزيتون بقوله تعالى: * (والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمرة إذا أثمرة وآتوا حقه حصاره) * ولم يروها في الرمان، وقد ذكرهما تعالى في الآية ذكرا واحدا، وأوجبوا غسل الاناء من ولوغ الكلب سبعا لو ورد الامر بذلك فقط.
وأما الحنفيون فإنهم رأوا ألا تقف المرأة مع الرجل في الصلاة فرضا، ورأوا الاستسعاء فرضا، ولم يروا الايتاء من مال الله للمكاتب فرضا ولا مكاتبة من دعا إلى المكاتبة فرضا وكل ذلك مأمور به، ورأوا تمتيع المطلقة التي لم تمس
ولم يفرض لها صداق فرضا بقوله: * (فمتعوهن) * ولم يروا ذلك فرضا لسائر المطلقات وقد قال تعالى: * (وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين) * ومثل هذا كثير.
ورأى الشافعيون: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فرضا، ولم يروا التكبير(3/337)
في الركوع والرفع فرضا، وقد جاء به الامر، ورأوا النية في الوضوء فرضا، ولم يروا فعل الاستنثار فرضا، وبكل ذلك جاء الامر سواء، ورأوا الخيار قبل التفرق في البيع فرضا، ولم يروا الاشهاد فيه فرضا، وبكل ذلك جاء الامر.
ومثل هذا كثير: ورأوا الايتاء من مال الله للمكاتب فرضا ولم يروا كتابة من دعا إلى المكاتبة مما ملكت أيمانكم فرضا، وكلاهما جاء به الامر مجيئا مستويا، وفيم ذكرنا طرف يستدل به على تناقض من قال بالوقف وبالله تعالى التوفيق.
وقد ذكرنا أقسام الاوامر في كتاب التقريب فأغنى عن إعادتها، وسنذكر إن شاء الله تعالى الدلائل المخرجة للامر عن موضوعه في الايجاب إلى سائر أقسامه، في فصل آخر باب العموم التالي لكلامنا في هذا إن شاء الله عز وجل، وبالله تعالى التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والله الموفق للصواب.
الباب الثالث عشر في حمل الامر وسائر الالفاظ كلها على العموم وإبطال قول من قال في كل ذلك بالوقف أو الخصوص، إلا ما أخرجه عن العموم دليل حق
قال علي: اختلف الناس في هذا الباب، فقالت طائفة: لا تحمل الالفاظ إلا على الخصوص، ومعنى ذلك حملها على بعض ما يقتضيه الاسم في اللغة دون بعض، وقال بعضهم: بل نقف فلا نحملها على عموم ولا خصوص إلا بدليل، فالقول الاول هو لبعض الحنفيين، وبعض المالكيين، وبعض الشافعيين، والثاني لبعض الحنفيين، وبعض المالكيين وبعض الشافعيين، وقالت طائفة: الواجب حمل كل لفظ على عمومه، وهو كل ما يقع عليه لفظه المرتب في اللغة للتعبير عن المعاني الواقعة تحته، ثم اختلفوا على قولين، فقالت طائفة منهم: إنما يفعل ذلك بعد أن ينظر هل خص ذلك اللفظ شئ أم لا، فإن وجدنا دليلا على ذلك صرنا إليه، وإلا حملنا اللفظ على عمومه دون أن نطلب على العموم دليلا، وهذا قول عض الشافعيين وبعض الحنفيين.
وقالت طائفة الواجب حمل كل لفظ على عمومه، وكل ميقتضيه اسمه دون توقف ولا نظر، لكن إن جاءنا دليل يوجب أن نخرج عن عمومه بعض ما يقتضيه(3/338)
لفظه صرنا إليه حينئذ، وهذا قول جميع أصحاب الظاهر، وبعض المالكيين، وبعض الشافعيين، وبعض الحنفيين، وبهذا نأخذ، وهو الذي لا يجوز غيره، وإنما اختلف من ذكرنا على قدر ما بحضرتهم من المسائل على ما قدمنا من أقوالهم فيما خلا، فإن وافقهم القول بالخصوص قالوا به.
وإن وافقهم القول بالعموم قالوا به، فأصولهم معكوسة على فروعهم ودلائلهم مرتبة على ما توجبه مسائلهم.
وفي هذا عجب: أن يكون الدليل على القول مطلوبا بعد اعتقاد القول، وإنما فائدة الدليل، وثمرته إنتاج ما يجب اعتقاده من الاقوال، فمتى يهتدي من اعتقد قولا بلا دليل ثم جعل يطلب الادلة بشرط موافقة قوله، وإلا فهي مطرحة عنده.
قال علي: وكل ما ذكرنا أنه يدخل على القائلين بالوقف، أو التأويل في صرف الاوامر عن الوجوب، وصرف الالفاظ عن ظواهرها، فهو أدخل على من قال بالوقف أو الخصوص ههنا، ويدخل عليهم أيضا أشياء زائدة.
قال علي: فما احتج به من ذهب إلى أن اللفظ لا يحمل على عمومه إلا بعد طلب دليل على الخصوص، أو إلا بدليل على أنه على العموم، أن قالوا: ليست الالفاظ مقتضية للعموم بصيغها لما وجدت أبدا إلا كذلك، كما لا يوجد اسم السواد على
البياض، فلما وجدنا ألفاظا ظاهرها العموم والمراد بها الخصوص، علمنا أنها لا تحمل على العموم إلا بدليل.
قال علي: وقد تقدم إفسادنا لهذا الاستدلال فيما خلا من القول بالوجوب وبالظاهر، ونقول ههنا: إنه ليس وجودنا ألفاظا منقولة عن موضوعها في اللغة بموجب أن يبطل كل لفظ، ويفسد وقوع الاسماء على مسمياتها، ولو كان ذلك لكان وجودنا آيات منسوخة، لا يجوز العمل بها موجبا لترك العمل بشئ من سائر الآيات كلها، إلا بدليل يوجب العمل بها من غير لفظها، ومن قال هذا فقد كفر بإجماع، ومن لم يقله فقد تناقض، ودل على فساد مذهبه، وأما قولهم: كما لا يوضع اسم السواد على البياض، فقد يوضع أسود على غير اللون، فيقال: فلان أسود من فلان من معنى السيادة، وليس ذلك بمبطل أن يكون السواد موضوعا لعدم الالوان، وقد يقال للاسود أبو البيضاء وليس ذلك بمبطل أن يكون البياض موضوعا للون المفرق للبصر.(3/339)
وقد احتج عليهم بعض من تقدم من القائلين بالعموم فقال ليس إلى وجود لفظ عام يراد به الخصوص سبيل البتة إلا بدليل وارد يبين أنه منقول عن مرتبته إلى غيرها، كالدليل على تخصيص قوله تعالى: * (تدمر كل شئ بامر ربها) * فصح بالنص وبالظاهر، وبمقتضى اللفظ أنها لم تدمر من الاشياء إلا ما أمرت بتدميره وهذا لفظ خصوص لبعض الاشياء، لا لفظ عموم لجميعها، لكنه عموم لما قصد به، قال: وكذلك كل لفظ عموم أريد به الخصوص، قال: فلما صح ذلك بطل ما احتجوا به من وجودهم لفظا ظاهره العموم المطلق ويراد به الخصوص.
قال علي: واحتجوا أيضا فقالوا: لم نجد قط خطابا إلا خاصا لا عاما، فصح أن كل خطاب فإنما قصد به من بلغه الخطاب من العاقلين البالغين خاصة دون غيرهم.
قال علي: هذا تشغيب جاهل متكلم بغير علم، ليت شعري أين كان عن قوله: * (وهو بكل شئ عليم) *.
وأيضا فإن الذي ذكر من تو جه الخطاب إلى البالغين العقلاء العالمين بالامر دون غيرهم، فإنما ذلك بنص وارد فيهم، فهو عموم لهم كلهم، ولم نعن بقولنا بالعموم كل موجود في العالم، وإنما عنينا كل من اقتضاه اللفظ الوارد، وكل ما اقتضاه الخطاب، فعلى هذا قلنا بالعموم، وإنما أردنا حمل كل لفظ أتى على ما يقتضي، ولو لم يقتض إلا اثنين من النوع، فإن ذلك عموم لهما، وإنما أنكرنا تخصيص ما اقتضاه اللفظ بلا دليل أو التوقف فيه بلا دليل، مثل قوله تعالى: * (ولا تقتلوا النفس التى حرم الله الا باحلق فقلنا هذا عموم لكل نفس حرمهما الله من انسان ملى أو ذمى لم يتأتنا ما يوجب القتل لهما ومن قتل حيوانا نهى عن قتله إما لتملك غيرنا له أو لبعض الأمر ومثل قوله تعالى ولا تنحكوا ما نكح آباؤ كم من النساء الا ما قد سلف فإنما أنكرنا استباحة نفس بلا دليل ونكاح ما نكح الآباء، ومن خالفنا لزمه ألا ينفذ تحريم قتل نفس إلا بدليل، وألا يحرم كثيرا منكح الآباء إلا بدليل من غير هذه الآية، مبين لكل عين في ذاتها، وهذا يخرج إلى الوسواس، وإلى إبطال التفاهم وبطلان اللغة، وبطلان الدين ومثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : البر بالبر ربا، إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا، إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا، إلا هاء وهاء، والملح بالملح ربا إلا هاء وهاء، والذهب(3/340)
بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة ربا إلا هاء وهاء فوجب حمل كل ذلك على كل بر، وكل شعير، وكل تمر، وكل ملح، وكل ذهب، وكل فضة، وكقوله عليه السلام: كل مسكر حرام فوجب أن يحمل على كل مسكر، وكل من تعدى هذا فقد أبطل حكم اللغة، وحكم الديانة.
قال علي: وشغبوا أيضا بآيات الوعيد مثل قوله تعالى: * (وإن الفجار لفي جحيم) * * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * قالوا: وهي غير محمولة على عمومها.
قال علي: ولولا النصوص الواردة بقبول التوبة، وبالموازنة، وبغفران السيئات باجتناب الكبائر لوجب ضرورة حمل آيات الوعيد على ظاهرها وعمومها، ولكن صرنا إلى بيان خطاب آخر، وكذلك القول في الآية الاخرى، وفي كل آية وخطاب حديث وخبر، ونحن لا ننكر تخصيص العموم بدليل نص آخر أو ضرورة حس، وإنما أنكرنا تخصيصه بلا دليل.
قال علي: وسألونا أيضا فقالوا: تعتقدون في أول سماعكم الآية والحديث، قبل تفهمكم فالجواب: إننا نعتقد العموم ولا بد من ذلك، وإلا أننا في أول سماعنا وقبل تفقهنا لسنا مفتين ولا حكاما ولا منذرين، حتى نتفقه، فإذا تفقهنا حملنا حينئذ كل لفظ على ظاهره وعمومه وحكمنا بذلك، وأفتينا وتدينا إلا ما قام عليه دليل أنه ليس على ظاهره وعمومه فنصير إليه، ولو أن حاكما، أو مفتيا لم يبلغه تخصيص ما بلغه من العموم، لكان الفرض عليهما الحكم بالذي بلغهما من العموم والفتيا به، وإلا فهما فاسقان حتى يبلغهما الخصوص فيصير إليه.
ثم نعكس عليهم هذا السؤال فنقول: ماذا تعتقدون في الآية والحديث إذا سمعتموها قبل تفقهكم، أتعتقدون في بطلان الطاعة لهما، وأنهما منسوخان، أو تعتقدون وجوب الطاعة لهما وأنهما مستعملان محكمان، ما لم يقم دليل على نسخهما ؟ فإن قالوا: نعتقد أنهما منسوخان، وأنهما على الوقف فارقوا قول جميع المسلمين، وأدى ذلك إلى إبطال جميع الشرائع ومفارقة الاسلام، لان الدليل الذي يطلب على بطلان النسخ ليس إلا آية أخرى، أو نصا أو إجماعا، ويلزمهم من الوقف في الآية الاخرى، وفي الحديث الآخر أو من القول بأنهما منسوخان ما لزم في الخطاب الاول، ولا فرق، وهكذا أبدا، ولزمهم الوقف أيضا في دعواهم الاجماع،(3/341)
لعل ههنا خلافا فبطلت الديانة على قولهم، ووجب بهذا القول ألا يعمل أحد
بشئ من الدين إذ لعل ههنا شيئا خصه أو شيئا نسخه، وهذا خلاف دين الاسلام، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من كل قول أدى إلى هذا، وإن قالوا: بل على أنهما محكمان حتى يقوم دليل على أنهما منسوخان رجعوا إلى الحق، وهذا يلزمهم في القول بالوقف أو الخصوص ولا فرق.
قال علي: وشغبوا أيضا فقالوا: نحن في الخطاب الوارد كالحاكم، شهد عنده شاهدان، فلا بد له من السؤال عنهما والتوقف حتى تصح عدالتهما.
قال علي: وهذا تشبيه فاسد، لان الشاهدين لو صح عندنا قبل شهادتهما أنهما عدلان فهما على تلك العدالة، ولا يحل التوقف على شهادتهما، والفرض إنفاذ الحكم بها ساعة يشهدان، وكذلك ما أيقنا أنه خطاب الله تعالى، أو خطاب رسوله صلى الله عليه وسلم لنا، وإنما نتوقف في الشاهدين إذا لم نعلمهما، وكذلك نتوقف في الخبر إذا لم يصح عندنا أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا نحكم بشئ من ذلك.
قال علي: ومما احتجوا به أن قالوا قال الله تعالى: * (تدمر كل شئ) * قال تعالى: * (ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم) * وقال تعالى: * (أوتيت من كل شئ) * وقد علمنا أن الريح تدمر كل شئ في العالم، وأن بلقيس لم تؤت كل شئ، لان سليمان عليه السلام أوتي ما لم تؤت هي.
قال علي: وهذا كله لا حجة لهم فيه أما قوله تعالى: * (تدمر كل شئ) * فإنا قد قلنا إن الله تعالى لم يقل ذلك وأمسك، بل قال تعالى: * (تدمر كل شئ بأمر ربها) * فصح بالنص عموم هذا اللفظ، لانه تعالى إنما قال: إنها دمرت كل شئ على العموم من الاشياء التي أمرها الله تعالى بتدميرها فسقط احتجاجهم بهذه الآية، وأما قوله: * (ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم) * فهذه الآية مبطلة لقولهم، لانه إنما أخبر أنها دمرت كل شئ أتت عليه لا كل شئ لم تأت عليه فبطل تمويههم.
وأما قوله تعالى: * (وأوتيت من كل شئ) * فإنما حكى تعالى هذا القول عن
الهدهد، ونحن لا نحتج بقول الهدهد، وإنما نحتج بما قاله الله تعالى مخبرا به لنا عن علمه، أو ما حققه الله تعالى من خبر من نقل إلينا خبره، وقد نقل تعالى إلينا عن(3/342)
اليهود والنصارى أقوالا كثيرة، ليست مما تصح.
فإن قال قائل: فإن سليمان عليه السلام قال للهدهد: * (قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين) * قلنا نعم، ولكن لم يخبرنا الله تعالى أن الهدهد صدق في كل ما ذكر، فلا حجة لهم في هذه الآية أصلا.
ثم نقول لهم، وبالله تعالى التوفيق: إذا احتججتم بهذه الآيات في حمل القرآن، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص لا على العموم، فالتزموا ذلك، ولسنا نبعدكم عن هذه الآية التي احتججتم بها، فنقول لكم، قول الله تعالى: * (و جعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصار هم ولا أفئد تهم من شئ إذا كانو يجحدون بآيات الله) * فأخبرونا على قوله تعالى، في هذه الآية، إن سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم لم تغن عنهم شيئا أهو على عمومه ؟ أم يقولون: إنها أغنت عنهم شيئا ؟ فإن قلتم كذبتم ربكم، وإن لم تقولوا، تركتم مذهبكم الفاسد، ومثل هذا في القرآن كثير جدا، بل هو الذي لا يوجد غيره أصلا في شئ من القرآن والكلام إلا في مواضع يسيرة قد قام الدليل على خصوصها، ولولا قيام الدليل على خصوصها لم يحل لاحد أن يحملها إلا على العموم، وبالله تعالى التوفيق
قال علي: وموهوا أيضا بما هو عليهم لا لهم، وهو تردد بني إسرائيل في أمره تعالى لهم بذبح البقرة.
قال علي: ومن كان هذا مقداره في العلم فحرام عليه الكلام فيه، لان الله تعالى ذمهم بذلك التوقف أشد الذم، أفيسوغ لمسلم أن يقوي مذهبه بأنه موافق لامر ذمه الله عز وجل ؟ ولو لم يكن في ترددهم إلا قولهم لموسى عليه السلام: * (أتتخذنا
هزوا قال) * جوابا لقوله: * (إن الله يأمر كم أن تذبحوا بقرة) ومن خاطبه نبي عن الله عز وجل بأمر ما، فجعله المخاطب هزوا فقد كفر.
قال علي: فحسبهم وحسبنا لهم اقتداؤهم باليهود الحاملين كلام ربهم تعالى على أنه هزء، واحتجوا بقوله: * (خلق كل شئ) * وهو عز وجل غير مخلوق، وبقوله تعالى: * (الذين قال لهم الناس ان الناس قد جعوا لكم فاخشو هم) *.
قال علي: وإنما قال ذلك لهم بعض الناس، وإنما كان الجامعون لهم بعض الناس لا كلهم.(3/343)
قال علي: نحن لا ننكر أن يرد دليل يخرج بعض الالفاظ عن موضوعها في اللغة، بل أجزنا ذلك، وهاتان الآيتان قد قام البرهان الضروري على أن المراد بخلقه تعالى كل شئ: أن ذلك في كل ما دونه عز وجل على العموم، وهذا مفهوم من نص الآية، لانه لما كان تعالى هو الذي خلق كل شئ، ومن المحال أن يحدث أحد نفسه لضرورات براهين أحكمناها في كتاب الفصل، صح أن اللفظ لم يأت قط لعموم الله تعالى فيما ذكر أنه خلقه، وكذلك لما كان المخبرون لهؤلاء بأن: * (الناس قد جمعو لهم) * ناسا غير الناس الجامعين، وكان الناس الجامعون لهم غير الناس المخبرين لهم، وكانت الطائفتان معا غير المجموع لها، علمنا أن اللفظ لم يقصد به إلا ما قام في العقل، وإنما ننكر دعوى إخراج الالفاظ عن مفهومها بلا دليل، وكذلك لا ننكر نسخ الامر كله بدليل يقوم على ذلك، وإنما ننكر دعوى النسخ بلا دليل.
قال علي: وموهوا أيضا بأن قالوا: لو كان للعموم صيغة تقتضيه، ولفظ موضوع له، لما كان لدخول التأكيد عليه معنى، لانه كان يكتفى في ذلك باللفظ الدال على العموم.
قال علي: وهذا تعليم منهم لربهم أشياء استدركوها لا ندري ما ظنهم فيها،
أنسيان أم فوات أم عمد ؟ وكل هذا كفر، وهذا جري منهم على عادتهم في الحكم بالقياس في أشياء ادعوا أن ربهم تعالى لم يذكرها، ولا حكم فيها، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من ذلك، ونقول: إنه علم لنا إلا ما علمنا، وأن التأكيد في اللغة موجود كثير، كتكراره تعالى ما كرر من الاخبار، وكتكراره عز وجل سورة واحدة: * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * إحدى وثلاثين مرة: * (ويفعل الله ما يشآء) * و: * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) * ولهذا أعظم الفائدة لانه تعالى علم أنه سيكون في خلقه قوم أمثالهم يرومون إبطال الحقائق فحسم من دعاويهم ما شاء بالتأكيد، وليقيم بذلك الحجة عليهم وترك التأكيد فيما شاء، ليضلوا فيها ويستحق منهم من قلد وعاند العذاب الاليم، ويؤجر من أطاع وسلم الاجر الجزيل بمنه وطوله، لا إله إلا هو ولو أنه تعالى لم يكرر ما كرر من أخبار الامم السالفة، ومن أمره فأقيموا(3/344)
الصلاة وآتوا الزكاة، في غير ما موضع، ومن أمره تعالى بالايمان واجتناب الكفر في غير ما سورة، ومن ذكر النار والجنة في غير ما سورة فما كان ذلك مسقطا لوجوب ما وجب من ذلك كله إذ كرره، ولكان ذلك واجبا بذكره مرة واحدة، كوجوبه إذا ذكر ألف ألف مرة ولا فرق، ولكان الشك في خبر ذكر مرة واحدة، أو تكذيبه يوجب الكفر، كوجوب الكفر بالشك فيما كرره ألف مرة، وكوجوب الكفر بتكذيبه ولا فرق، وقد ذكر تعالى قصة موسى عليه السلام في مواضع كثيرة من القرآن، ولم يذكر قصة يوسف عليه السلام إلا مرة واحدة، ولا فرق عند أحد من الامة بين صحة قصة يوسف، وبين صحة قصة موسى عليهما السلام، ومن شك في ذلك فهو كافر مشرك حلال الدم والمال، فالتأكيد كالتكرار ولا فرق، ولو لم يؤكد تعالى ما أكد لكان واجبا
وعاما، لا يقتضيه اسمه، كوجوبه مع التأكيد، ولا فرق، وإنما معنى التأكيد كمعنى قول القائل: أنا شهدت فلانا، ونظرت إليه بعيني هاتين، وهو يفعل أمر كذا، وقد علمنا أن النظر لا يكون إلا بالعينين، وكذلك يقول سمعت بأذني والسمع لا يكون إلا بالاذنين، ولو سكت عن ذلك لعلمنا من خبره كالذي علمنا إذا ذكر العينين والاذنين ولا فرق.
وأيضا فإن الاستثناء جائز بعد التأكيد، كجوازه قبل التأكيد فنقول: رأيت الوجوه إلا فلانا، فلو كان التأكيد مخرجا للكلام عن الخصوص إلى العموم لما جاز فيه الاستثناء، فصح أنه بمنزلة التكرار ولا فرق.
قال علي: ثم نعكس عليهم سؤالهم الفاسد، فنقول لهم: لو جاز أن تكون صيغة العموم للخصوص لما جاز أن يدخل عليها للتأكيد فينقلها إلى العموم، وهذا لهم لازم، لانهم صححوا هذا السؤال، فكل من صحح القضية فهي لازمة له، وليست لازمة لمن يصححها ولا ابتدأ السؤال.
قال علي: ولو صح قولهم لوجب أن يكون كل شئ انتقل عن حاله باطلا، وأن يكون ذلك الانتقال دليلا على أن المنتقل لم يكن حقا، لانه يلزمهم أن الشئ لو كان حقا لما صار باطلا، ولما قام دليل على بطلانه، ونحن نجد الحياة للانسان باتصال النفس في الجسد، ثم تذهب تلك الحياة وتبطل بيقين، فيلزمهم إذ قالوا:(3/345)
لو كان العموم حقا لما انتقل لفظه إلى خصوص، أن يقولوا: لو كانت الحياة حقا لما انتقل حاملها إلى الموت، هذا مع افتقار دليلهم هذا إلى دليل، وأنه دعوى مجردة ساقطة، لان دعواهم أن انتقال الشئ عن مرتبته مبطل لكونها مرتبة لها دعوى ساقطة، يشبه سؤال السوفسطائية واليهود، وقد أبطلنا استدلالهم في ذلك في كتاب الفصل بحمد الله تعالى.
قال علي: وقالوا أيضا: لو كان العموم حقا لما حسن الاستثناء منه، وصرفه بذلك إلى الخصوص.
قال علي: وهذا غاية التمويه، لان العموم صيغة ورود اللفظ الجامع لاشياء ركب ذلك اللفظ عليها، فإذا جاء الاستثناء، كان ذلك اللفظ مع الاستثناء معا صيغة للخصوص، وهذا نص قولنا، فورود الاستثناء عبارة عن الخصوص وعدم الاستثناء عبارة عن العموم.
قال علي: ثم يعكس عليهم هذا السؤال نفسه فيقال لهم: لو كان للخصوص صيغة لما كان للاستثناء معنى، لانه لم يكن يستفاد به فائدة أكثر مما يفهم من اللفظ قبل ورود الاستثناء، وقد قدمنا أنه إنما يلزم القضية من صححها وسأل بها، وأما نحن، فهذه كلها سؤالات فاسدة، ولكنها لهم لازمة إذا ابتدؤوا بالسؤال بها.
وقالوا أيضا: لو كان اللفظ يقتضي العموم ما حسن فيه الاستفهام، أخصوصا أراد أم عموما ؟ فلما حسن فيه الاستفهام علمنا أنه لا يقتضي العموم بنص لفظه.
قال علي: وهذا كالاول، وإنما يحسن الاستفهام من جاهل بحدود الكلام، واستفهام المستفهم عن الآية أو الحديث مذموم، وقد أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اتركوني ما تركتكم، ثم نعكس عليهم هذا السؤال نفسه فنقول لهم: لو كان اللفظ يفهم منه الخصوص، لما كان للاستفهام معنى.
قالوا: ألا ترى أن السؤال والاستفهام لا يحسن في الخبر عن الواحد، لانه مفهوم من نص لفظه.
قال علي: وهذا خطأ، لان الاستفهام يحسن في الواحد كحسنه في العموم، وذلك أن يقول القائل: أتاني اليوم زيد، فيقول السامع: أجاءك زيد نفسه ؟ إما على سبيل الاكبار، وإما على سبيل السرور، أو على بعض الوجوه المشاهدة،(3/346)
وهذا أمر معلوم لا ينكره ذو عقل، وقد يحسن ذلك الشريعة أيضا من طالب راحة أو تخفيف، كما سأل ابن أم مكتوم إذ نزلت آية المجاهدين، فطلب أن يخرج له عذر من عموم اللفظ الوارد، وقد كان له كفاية في غير هذه الآية في قوله تعالى: * (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) * وما أشبه ذلك، وكسؤال العباس في الاذخر فاستثنى من العموم في النهي عن أن يختلى خلا الحرم بمكة، وقد يحسن أيضا الاستفهام في العدد، كقول القائل: أتاني عشرة من الناس في أمر كذا فيقول له السامع: أعشرة ؟ فيقول: نعم وذلك نحو قول الله عز وجل: * (ثلاثه أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة) * فقد كنا نعلم لو لم يذكر تعالى العشرة، إن ثلاثة وسبعة عشرة، وقد كنا نعلم بقوله تعالى: * (تلك عشرة) * إنها عشرة، ولكنه تعالى ذكر * (كاملة) * كما شاء، فلما صح كل ما ذكرناه وحسن الاستفهام عن اسم واحد، وعن العدد وهو لا يحتمل صرفا عن وجهه أصلا، ولم يكن ذلك مجيزا لوقوع اسم الواحد على أكثر من واحد، وكذلك في العدد - لم يكن أيضا وقوع الاستفهام في العموم، موجبا لاسقاط حمله على العموم، وبالله تعالى التوفيق.
وقالوا أيضا: أرأيتم قولكم بالعموم ؟ أبعموم قلتموه وعلمتم صحته، أم بغير عموم ؟
قال علي: وهذا من الهذيان الذي قد تقدم إبطالنا إياه في كلامنا في حجة العقل، وهو سخف أتى به بعض السوفسطائيين القاصدين إبطال الحقائق، وهو ينعكس عليهم في قولهم بالخصوص وفي قولهم بالوقف، فيقال لهم: أرأيتم قولكم بالوقف، أبو قف قلتموه وعلمتموه أم بغير وقف ؟ وأرأيتم قولكم بالخصوص، أبخصوص قلتموه وعلمتموه أم بغير خصوص ؟ والجواب الصحيح المبين لجهلهم: هو أننا نقول، وبالله تعالى التوفيق: إنما قلنا بالعموم استدلالا بضرورة العقل الحاكم بأن اللغة إنما هي رتبت لكل معنى في العالم، عبارة مبينة عنه موجبة للتفاهم بين المخاطب والمخاطب، ولاننا وجدنا الاجناس العامة
للانواع الكثيرة، ووجدنا الانواع العامة للاشخاص الكثيرة - يخبر عنها بأخبار، وترد فيها شرائع لوازم، فلا بد ضرورة من لفظ يخبر به عن الجنس كله، وهذا لا بد منه، وإلا بطل الخبر عن الاجناس، وهذا ما لا سبيل إليه أصلا،(3/347)
ولا بد أيضا من لفظ يحضر به عن بعض ما تحت الجنس، ليفهم المخاطب بذلك ما يريد، ومبطل هذا مبطل للعيان، جاحد للضرورات.
وسألوا أيضا فقالوا: إن كان قولكم بالعموم والظاهر حقا، فما قولكم فيمن سمع آية قطع يد السارق، وآية جلد الزناة، وآية تحريم المرضعات لنا، والراضعات معنا، ولم يسمع أحاديث التخصيص لكل ذلك، ولا آية التخصيص للاماء، أتأمرونه بقطع يد من سرق فلسا من ذهب، وبجلد الامة والعبد مائة مائة إذا زنيا، وتحرمون من أرضعت رضعتين، وتقولون إنه مأمور من عند الله تعالى بذلك ؟ فلزمكم القول بأنه مأمور بما لم يأمر به، والقول بأنه مأمور بالباطل أو تأمرونه بأن لا ينفذ شيئا من ذلك حتى يطلب الدليل فيتركون القول العموم بالظاهر.
قال علي: فنقول، وبالله تعالى التوفيق: إن الله تعالى لم يأمر قط بقطع سارق أقل من ربع دينار ذهبا ولا حرم قط من أرضعت أقل من خمس رضعات، ولا أمر قط بجلد العبد والامة أكثر من خمسين، لان الرسول عليه السلام قد بين كل ذلك وكلامه عليه السلام وكلام ربه سواء، في أنه كله وحي، وفي أنه كله لازمة طاعته، فالآيات التي ذكروا، والاحاديث المبينة، لها مضموم كل ذلك بعضه إلى بعض غير مفصول منه شئ عن آخر، بل هو كله كآية واحدة أو كلمة واحدة، ولايجوز لاحد أن يأخذ ببعض النص الوارد دون بعض، وهذه النصوص وإن فرقت في التلاوة فالتلاوة غير الحكم، ولم تفرق في الحكم قط، بل بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع ورود الآي معا، ولا يفرق بين قوله تعالى
: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * مع قوله عليه السلام: لا قطع في أقل من ربع دينار فصاعدا وبين قوله تعالى: * (ألف سنة إلا خمسين عاما) *.
وكذلك لا فرق بين قوله تعالى: * (وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم) * وبين نزول خمس رضعات محرمات ناسخة لعشر محرمات، وبين قول القائل: لا إله إلا الله، فلا يجوز أن يفصل شئ من ذلك في الحكم عن بيانه، كما لا يحل لاحد أن يأخذ القائل لا إله إلا الله في بعض كلامه دون بعض، فيقضي عليه بقوله: لا إله بالكفر، لكن نضم كلامه كله بعضه إلى بعض فنأخذه بكلامه وكذلك إذا نزلت الآية المجملة أتى بعقبها الاحاديث المفسرات فكان ذلك(3/348)
مضمونا بعضه إلى بعض، ومستثني بعضه من بعض، ومعطوفا بعضه على بعض، فبطل ماراموا أن يموهوا به، وصح أنه سؤال فاسد، وأن الذين خوطبوا بالآيات المذكورات خوطبوا ببيانها معا، وأما نحن فكل إنسان منا فلا يخلو من أحد وجهين: إما أن يكون لم يتفقه في الدين، أو يكون قد تفقه في الدين ولا سبيل إلى وجه ثالث، فالذي لم يتفقه في الدين وليس من الذين خاطبهم الله بقوله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * ولا من الذين خوطبوا بالفتيا والحكم في تحريم المرضعات، ولا من المأمورين بجلد الزناة، وإنما أمر بذلك كله الفقهاء والحكام العالمون باللغة والفقه، بلا خلاف من أحد من المسلمين في ذلك.
وقد بين تعالى ذلك بقوله: * (وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذ رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) * فصح بالنص أنه ليس كل أحد مأمورا بالتفقه في غيما يخصه في نفسه.
فصح بما ذكرنا أن المأمورين بتنفيذ الاحكام والفتيا في الدين الفقهاء الذين قد سمعوا النصوص كلها، وعرفوها وعرفوا الاجماع والاختلاف، وأن كل من
كان بخلاف هذه الصفة، فلم يأمر قط بقطع من سرق جبالا من ذهب، ولا بأن يفتي يفتى في تحريم من أرضعت ألف رضعة ولا بجلد زان حرا أو عبدا وكل متفقه فقبل أن يكمل تعلم النصوص والإجماع فهو، غير مأمور ولا مخاطب بالحكم في شئ ولا بالفتيا في شئ، لكنه مأمور بالطلب والتعليم، فإذا فقه فحينئذ لزمه تنفيذ ما سمع على عمومه وظاهره، ما لم يأت نص بنسخ أو تخصيص أو تأويل، فبطل سؤالهم بطلانا ظاهرا، والحمد لله تعالى.
ولكنا نقول: لو أن امرأ سمع هذه الآيات، ولم يسمع ما خصصها لكان حكى العمل بما يبلغه التخصيص، فيلزمه حينئذ كما قلنا في المنسوخ، سواء بسواء وليس بعد النبي صلى الله عليه وسلم من أحاط بجميع العلم، وإنما يلزم كل واحد ما بلغه، وقد رجم عثمان التي ولدت لستة أشهر، وقد أمر عمر برجم مجنونة حتى نهاه علي عن ذلك وأخبره بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن القلم مرفوع عن المجنون.
قال علي: وهم تناقضوا في هذه الآيات بلا دليل، فحملوا بعضها على العموم، وبعضها على الخصوص، فتركوا قولهم بالوقف، وحملوا على العموم ما قد صح(3/349)
الخصوص فيه، واعترضوا أيضا بأن قالوا: لما كان المعهود أن يقول القائلون: جاءني بنو تميم، وفسد الناس، ولا خير في واحد، وذهب الخلق وذهب الوفاء، ولا يكون ذلك كذبا، وقد تيقنا أنه لم يرد بذلك جميع بني تميم، ولا جميع الناس، ولا جميع الا حدين، ولا جميع الخير، ولا جميع الخلق ولا الوفاء كله صح الخصوص.
قال علي: وهؤلاء القوم لا ندري مع من يتكلمون، ونحن لم ننكر أن يكون في اللغة ألفاظ يقوم الدليل على أنها مخصوصات، وكل ما ذكروا فقد قام الدليل على أنه ليس على عمومه كما قام الدليل، على أن آيات كثيرة أنها منسوخة لا يحل العمل بها، فلما لم يكن كل ذلك واجبا أن تحمل النسخ من أجله على سائر الآيات، لم يكن أيضا واجبا أن نحمل التخصيص على كل لفظ من أجل وجودنا ألفاظا
كثيرة قد قام الدليل على أنها مخصوصة، ولكن القوم يسوموننا إذا وجدنا لفظا منقولا عن موضوعه في اللغة أن نحكم بذلك في كل لفظ، وفي هذا إبطال اللغة كلها، وإبطال التفاهم وإيجاب للحكم بلا دليل، والدليل الذي قام على تخصيص ما ذكروا، علمنا أنه لو أراد به العموم لكان كاذبا، وأما لو أمكن أن يكون صادقا لما انتقل عن عمومه إلا بدليل.
قال علي: وقالوا أيضا: قد اتفقنا على وجوب استعمال الخطاب على بعض ما اقتضاه، واختلفنا في سائره، فلا يلزمنا إلا ما اتفقنا عليه.
قيل لهم، وبالله تعالى التوفيق: هذا اعتراض فاسد من وجوه كثيرة أحدها: أنه خلاف النصوص والعقول والاجماع، لان الامة مجمعة، والعقول قاضية، والنصوص من القرآن والسنن واردة - كل ذلك متفق - أن ما قام عليه دليل برهاني فواجب المصير إليه، وإن اختلف الناس فيه وواجب ألا نقتصر على ما أجمع عليه دون ما اختلف فيه إلا في المسائل التي لا دليل عليها إلا الاجماع المجرد المنقول إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وأيضا فقد قال تعالى: * (فإن تناز عتم في شئ فردوه الى الله والرسول فأمر تعالى عند التنازع بالرد إلى القرآن والسنة ودلائلهما قد قامت بوجوب حمل الالفاظ على موضوعها في اللغة.(3/350)
وأيضا فإن هذا من سؤالات اليهود إذ قالوا: قد وافقتمونا على نبوة موسى عليه السلام، وخالفناكم في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ،وهذا سؤال فاسد، لان الدلائل التي أوجبت تصديق موسى عليه السلام، هي التي أوجبت تصديق محمد صلى الله عليه وسلم ،فإن لم يجب بها تصديق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لم يجب بها تصديق نبوة موسى عليه السلام، وكذلك الدلائل التي دلت على حمل لفظ الخصوص على
الخصوص التي دلت على حمل العموم على العمل، والدلائل التي دلت على حمله اللفظ على ذلك البعض وافقتمونا عليه: هي التى دلت حمله على سائره الذي خالفتمونا فيه، ولا فرق.
وأيضا، فإنهم مناقضون لهذا القول، لانه كان يلزمهم على ذلك ألا يقتلوا مشركا إلا مشركا اتفقوا على قتله، وهم لا يفعلون، لان قائل هذا إن كان مالكيا فقد ناقض، لانه لم يقتل المرأة المرتدة، ولم يتفق على قتلها، ويقتل ولد المرتد الحادث له الردة إذا بلغ ولم يسلم، وابن ابنه كذلك، ولم يتفق على قتلهم، ويقتل المشرك إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتفق على قتله، وإن كان شافعيا، فكذلك أيضا.
ويقتل - زائدا على من ذكرنا - من خرج من اليهودية إلى النصرانية، ومن خرج من النصرانية إلى اليهودية إلا أن يسلم، وإن كان حنفيا، فهم يقتلون المسلم المختلف في قتله، إذا قتل كافرا، بعموم قوله تعالى: * (النفس بالنفس) * وأن من تورع عن قتل كافر قد أباح الله تعالى قتله، وجاء النص بقتله، وأقدم على قتل مسلم قد حرم الله دمه عموما وخصوصا بعموم آية لم نخاطب بها، ولا ألزمنا الحكم بما فيها، لعظيم الجرم قليل الورع مقدم على أكبر الكبائر، وبالله تعالى التوفيق.
وكذلك إن قال: لا أقطع إلا سارقا اتفق على قطعه، فهم أيضا ينكرون ذلك لانهم نعني المالكيين - يقطعون في أقل من عشرة دراهم، وليس متفقا عليه، ويقطعون في الزرنيخ والنورة والفاكهة واللحم، وليس القطع في ذلك إجماعا، والحنفيون يقطعون من سرق شيئا مغصوبا من مال الغاصب، وليس قطعهم إجماعا، ويلزمهم بهذا القول إلا يقولوا إلا بما أجمع عليه.
قال علي: وهم لا يفعلون ذلك البتة، فقد أفسدوا دليلهم وبالله تعالى التوفيق،(3/351)
فإنه يقال لهم: أبنص صح عندكم هذا القول أم بإجماع ؟ فإن قالوا: بنص، أو ذكروا دليلا ما، كذبوا، وادعوا ما لا يجدون أبدا، وكانوا مع كذبهم قد تركوا قولهم بألا يقولوا إلا بما أجمع عليه، لانهم يقولون بالنص، وإن خالف الاجماع، وإن قالوا: قلنا ذلك بإجماع كذبوا وجاهروا.
وبالجملة فهذا مذهب لم يخلق له معتقد قط، وهو ألا يقول القائل بالنص حتى يوافقه الاجماع، بل قد أصبح الاجماع على أن قائل هذا القول معتقدا له كافل بلا خوف لرفضه القول بالنصوص التي لا خلاف بين أحد في وجوب طاعتها.
قال علي: وقالوا أيضا: إن على المراد بالكلام دلائل تدل على الرضا والسخط، من تغيير اللون، وحدة الامر والنجه والبشر.
قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: ليس هذا مما نحن فيه، ولا كون هذه الاحوال مما يمنع من إخراج الامر على العموم، ثم نعكس عليهم هذا في قولهم بالخصوص والوقف فيلزمهم الوقف إلى أن يجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وفي هذا إبطال الدين والخروج عن الاسلام، وتشبه هذه التساؤلات أن تكون سؤالات ملحد جاهل قليل الحياء.
وقالوا أيضا: إنكم اعتقدتم العموم فيما أراد الله تعالى به الخصوص، فقد خالفتموه عز وجل، قيل لهم وأنتم إن أردتم الخصوص فيما أراد الله تبارك وتعالى العموم، فقد خالفتموه عز وجل، وإن اعتقدتم الوقف فيها حكم الله تعالى فيه بما حكم، من عموم أو خصوص - فلا بد من أحدهما - فقد خالفتم الله عز وجل بيقين لا شك فيه، ولا شك في أن الله تعالى لم يرد قط في شئ من أحكامه وقفا، بل أنفذ تعالى الحكم بما أنفذ.
وأيضا فنحن قاطعون على أن كل أمر لم يأت نص ولا إجماع بأنه ليس على عمومه، فهو على عمومه بلا شك ولا مرية، نقطع على ذلك عند الله عز وجل، ونقطع أيضا بأن كل من بلغه العموم ولم يبلغه الخصوص، أو بلغه المنسوخ ولم
يبلغه الناسخ، فإن الله تعالى لم يلزمه قط إلا ما بلغه لا ما لم يبلغه، قال تعالى(3/352)
: * (لانذر كم ومن بلغ) *، ونقطع بأن هذا كله هو الحق عند الله عز وجل لنصه تعالى، على أن عليه بيانه فما لم يبين على غير وجهه، فقد تيقنا على أنه مراد منا على اقتضاء لفظه، ولا بد.
قال علي: فهذه اعتراضاتهم كلها قد استوعبناها ونقضناها، وبينا فسادها كلها وانعكاسها عليهم من فسادها بحمد الله تعالى، ونحن الآن شارعون - بتوفيق الله تعالى لنا وعونه إيانا - في إيراد البراهين على بطلان قولهم ووجوب حمل الالفاظ على عمومها، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: واحتج من سلف من القائلين بالعموم، المخالفين في ذلك فقال: لو كان الخطاب على الوقف أو الخصوص حتى يقوم الدليل على العموم، لكان ذلك الدليل لا ينفك ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما، وإما أن يكون لفظا بخطاب أو معنى مستخرجا من خطاب، فإن كان خطابا فالخطاب الثاني كالاول، ولا فرق إن كان يدل بنفسه على العموم، فالاول مثله، وإن كان الاول لا يدل بنفسه على أنه على العموم، فالثاني لا يدل أيضا، وإن كان معنى مستخرجا من خطاب، فلا يجوز أن يكون المعنى المستخرج من الخطاب أقوى من الخطاب الذي منه استخرج وهذا يقتضي وجوب خطابات لا نهاية لها، وهذا ممتنع لا سبيل إليه، ويؤدي أيضا إلى إبطال فهم كل خطاب أصلا.
وقالوا أيضا: إننا وجدنا في اللغة أسماء للواحد لا تتعداه كزيد وكرجل من شأنه وصفته فلا يعقل منه أكثر من واحد، ووجدنا فيها أسماء التثنية لا تقع على واحد ولا على أكثر من اثنين، ووجدنا أيضا لفظا للجمع الزائد على الاثنين، فكان ذلك واقفا على كل ما يقتضيه الجمع إلا أن يأتي بيان باستثناء
أو بصفة أو بعدد يختص بذلك بعض الجمع دون بعض فتصير إليه.
وقالوا: يقال لمن قال بالخصوص: ما معنى قولكم هذا خصوص ؟ فلا جواب لهم إلا أن يقولوا هو حمل للاسم على بعض ما يقتضيه دون بعض مثل قوله تعالى: * (فاقتلوا المشركين حيث وجد تموهم) * فيقولون: هذا على بعض المشركين دون بعض، فيقال لهم فبأي شئ استحق عندكم هذا البعض - الذي حملتم اللفظ عليه - أن يكون محمولا عليه ذلك اللفظ دون سائر من أخرجتم عنه ؟ وما الفرق بينكم(3/353)
وبين من قال: بل اللفظ محمول على الذي أخرجتم عنه أنتم، وغير محمول على الذين حملتموه أنتم عليه، فإن قالوا: الدليل كذا صاروا إلى أن التخصيص إنما كان بدليل غير حمل اللفظ على بعض ما يقتضيه دون بعض بغير دليل، وهذا الامر لا ننكره، بل نقول متى قام الدليل على التخصيص صرنا إليه، وبطل بهذا حمل الاسم على بعض ما يقتضيه دون بعض بغير دليل، فذلك ما أردنا أن نبين، وهذا ترك منهم لمذهبهم الفاسد، وإن لم يكن بأيديهم إلا الاقتصار على التخصيص لمن خصوا بلا دليل، حصلوا على التحكم والدعوى، وكل دعوى بلا دليل فهي ساقطة، وبالله تعالى التوفيق.
احتجوا على القائلين بالوقف فقالوا: هذا القول إلى متى يكون ؟ فإن حدوا حدا كانوا متحكمين بلا دليل، وإن قالوا حتى ننظر في دلائل القرآن والسنة، سألناهم فقلنا لهم: فإن لم تجدوا دليلا على عموم ولا خصوص، ولم تجدوا غير اللفظ الوارد ماذا تصنعون ؟ فإن قالوا: نقف أبدا أقروا بالعصيان ومخالفة الاوامر، وأدى قولهم إلى أن الله يبين مراده، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين ولم يبلغ وهذا كفر.
وإن قالوا: إن لم نجد دليل على الخصوص صرنا إلى العموم، فقد رجعوا
إلى ما نكروا، وأقروا بأنهم إنما حملوا الكلام على العموم بصيغته ولفظه، وبعدم الدليل على الخصوص، وهذا هو نفس قولنا الذي أبوه أولا عادوا إليه من قريب، فإن قال قائل: إن هذا لا يوجد لزمهم السؤال الذي سألنا به أولا من قولنا لهم: هل يخلو الدليل من أن يكون لفظا آخر، أو معنى مستخرجا من لفظ ؟ وألزمهم إيقاظ التفاهم أبدا، وأيضا فإن ذلك موجود وقد قال تعالى: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا) * ولم تؤكد بشئ أصلا وهذا عندهم محمول على عمومه، وقد قال تعالى: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء.
ولم يأت بتوكيد زائد فحملوه على عمومه دو ن دليل غيره وارد اللفظ فقط، ومثل هذا كثير جدا، بل هو الاكثر في القرآن والسنة، وإنما ادعوا الخصوص في مسائل يسيرة، وليس هذا مكان احتجاجهم بقرينة الوعيد، لاننا إنما نكلمهم في عموم كل ما اقتضاه اللفظ لا في الوجوب.(3/354)
وقد حمل مالك قوله تعالى: * (وأنتم عاكفون في المساجد) * على عموم جميع المساجد بنص اللفظ، لا بدليل زائد ولا بيان وارد، وحمل قوله تعالى: * (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) * على جميع الازواج، بلا دليل زائد، وليس شئ من ذلك إجماعا.
وحمل هو وأبو حنيفة قوله تعالى: * (وأن تجمعوا بين الأختين) * على عمومه في النكاح والوطئ بملك اليمين.
وحملوا كلهم أيضا قوله تعالى: * (أمهاتكم وبناتكم م اللاتي أرضعنكم) * على عموم بلا دليل، بل الدليل قام على خصوص ذلك، فأبوا من قبوله، فبان تناقضهم في ذلك، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: ويلزمهم أيضا ألا يحكموا بالاجماع، إذ لعل ههنا خلافا
لم يبلغهم ولا يحكموا بنص، إذ لعله منسوخ ولا يقاس لان القياس لا يكون إلا على نص أو إجماع والوقف واجب في النقص والاجماع، فبطل الدين كله على قول هؤلاء القوم.
قال علي: ويقال لهم: ما الفرق بينكم وبين من خص بالخطاب بعض الازمان دون بعض، كما خصصتم أنتم بعض الاعيان دون بعض ؟ فإن قالوا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليحكم في كل زمان.
قيل لهم: وكذلك أيضا بعث عليه السلام ليحكم على كل أحد في كل عين ولا فرق.
قال علي: وقد بينا في غير ما مكان أن اللغة إنما وضعت ليقع بها التفاهم، فلا بد لكل معنى من اسم مختص به: فلا بد لعموم الاجناس من اسم، ولعموم كل نوع من اسم، وهكذا أبدا إلى أن يكون لكل شخص اسمه، ومن سعى في إبطال هذا فهو سوفسطائي على الحقيقة، عاكس للامور على وجوهه، مفسد للحقائق، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
قال علي: ولا فرق بين الاخبار بالاوامر في كل ذلك وكل اسم فهو يقتضي عموم ما يقع تحته، ولا يتعدى إلى غير ما يقع تحته، والوعد والوعيد في كل ذلك كسائر الخطاب ولا فرق، والحديث والقرآن كله كاللفظة الواحدة، فلا يحكم بآية دون أخرى، ولا بحديث دون آخر، بل بضم كل ذلك بعضه إلى بعض، إذ ليس(3/355)
بعض ذلك أولى بالاتباع من بعض، ومن فعل غير هذا فقد تحكم بلا دليل.
ويقال لهم: ما الفرق بينكم وبين من قال: لعل الخطاب الوارد إنما خص به الصحابة دون غيرهم ؟ فكل ما قالوا ههنا فهو مردود عليهم في دعواهم خصوص بعض ما يقع عليه الخطاب دون بعض.
ويقال لهم: بأي شئ استجزتم قتل من قتلتم من المشركين، وقطع من قطعتم
من السراق، وجلدتم من جلدتم من الزناة، وحد من حددتم من القذفة، وخصصتموهم بإيقاع هذه الاحكام عليهم، دون سائر من يقع عليه اسم زان أو قاتل أو قاذف أو سارق، فهل ههنا إلا أنهم سرقوا وقتلوا وزنوا وقذفوا ؟ فهكذا فعل غيركم ممن أخرجتموه من الخطاب، وأسقطتم عنه ما حملتم على هؤلاء، فلاي معنى خصصتم من أمضيتم عليه الحكم دون من لم تمضوه عليه ؟ فإن قالوا: بدلائل دلت على ذلك، لم نأب ذلك، وقلنا لهم: هذا قولنا، وحسبنا أننا قد أزلناكم عن الحكم بالخصوص المجرد الذي هو الافتراء على الله عز وجل في الحكم عنه تعالى بما لم يأذن به، وقد رام قوم أن يفرقوا بين الاوامر والاخبار، واحتجوا بأنهم مضطرون إلى العمل بالاوامر، وليست الاخبار كذلك.
وقال علي: وهذا فرق فاسد، لاننا مضطرون إلى وجوب اعتقاد صحة الاخبار وإلى الاقرار بها - وهي التي وردت بها النصوص - كما نحن مضطرون إلى العمل بالاوامر، ولا فرق، والاعتقاد الصحيح فعل الله تعالى في النفس والاقرار بالمعتقد فعل النفس بتحريكها آلات الكلام من اللسان والحنك ومخارج الحروف، فلا بد لها من أن تخص بالاقرار بما اعتقدت أو تعم، وخوف الخطأ في العمل في الاوامر، كخوف الخطأ في الاعتقاد للاخبار على ما لا يجوز، واعتقاد الباطل لا يجوز، كما لا يجوز العمل بالباطل فصح أن الاخبار كالاوامر ولا فرق.
واحتج بعض من سلف من القائلين بالعموم على القائلين بالخصوص فقال: ما تقولون في قوله تعالى: * (الله وخاتم) * للنبيين من العرب دون غيرهم، أم عموم بنفس اللفظ ؟ فإن قالوا: خصوص كفروا، وإن قالوا: عموم بنفس اللفظ، تركوا لمذهبهم الفاسد، فإن ادعوا أن ذلك إجماع، لزمهم أن لا يقولوا إلا بما أجمع عليه فقط، وقد قدمنا إفساد هذا القول فإنهم لو قالوا(3/356)
لكانوا بذلك خارجين عن الاجماع، لان الامة مجمعة على أن الاقتصار على القول بالاجماع فقط دون الائتمار للنصوص - وإن وقع فيها اختلاف - حرام لا يفعله مسلم، ولا يسع مسلم فعله، والنص من القرآن والسنن، جاء بوجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم وتحكيمه عند التنازع والاختلاف، وأيضا فهم لا يفعلون ذلك، فسقط تعلقهم بكل وجه، بحمد الله تعالى.
فإن قالوا: علمنا أنه عليه السلام آخر النبيين بقوله صلى الله عليه وسلم : لا نبي بعدي قيل لهم، وبالله تعالى التوفيق: وهذا يحتمل من الخصوص ما تحمله سائر النصوص، ولا فرق، ولعله أنه أراد لا نبي بعدي من العرب أو في الحجاز أو إلى مائة عام أو ما أشبه ذلك، كما زعمت العيسوية من اليهود والجر مدانية - القائلون بتواتر الرسل - والغالية التي قالت بنبوة علي ونزيع والمغيرة ومنصور الكسف بالكوفة، وبيان وأبي الخطاب، وأيضا فإن الاجماع إذ قد صح على ذلك فهو أعظم الحجج عليهم لاجماع الامة على حمل هذا الخطاب على عمومه، وكذلك يسألون عن قوله صلى الله عليه وسلم : بعثت إلى الاحمر والاسود وهذا يحتمل من الخصوص ما احتمله: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * وما احتمله قوله عز وجل: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) *، فلاي معنى خصصتم أحد الخطابين بلا دليل، وحملتم الآخر على عمومه بلا دليل إلا نفس اللفظ فقط ؟ واحتج عليهم بعض من سلف من القائلين بالعموم بأن قال إنكم متفقون على أن اللفظ إذا ورد فيه تأكيد فإنه محمول على عمومه، قال: فيقال لهم: إن التأكيد يحتمل من الخصوص مثل ما يحتمل الخطاب المؤكد ولا فرق، وقد جاء النص بذلك، فقال تعالى: * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون الا ابليس) * فجاء الاستثناء بعد تأكيدين اثنين.
قال علي: قال تعالى: * (ولكن حق القول مني لاملان جهنم من الجنة والناس
أجمعين) * ثم جاء الاستثناء بقوله: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ئ لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون وقال تعالى مخاطبا لابليس * (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم) * ثم جاء الاستثناء فيمن(3/357)
تاب عن اتباع إبليس، وفيمن تساوت حسناته وسيئاته التي اتبع فيها إبليس فجاء التخصيص كما ترى بعد التأكيد، فبطل احتجاجهم بالتأكيد، ولزمهم ألا يحملوا خطابا على عمومه أبدا، أكد أو لم يؤكد، ولزمهم الوقف أبدا وألا ينتفعوا بتأكيد ولا غيره.
فإن قالوا: إنه يلزمهم إذا ورد الاستثناء، أن تقرروا بأن ذلك الخطاب أريد به الخصوص، قلنا لهم: وكذلك نقول: ولسنا معترضين على ربنا تعالى، ولا على نبينا صلى الله عليه وسلم ،ولا نعلم إلا ما علمنا تعالى، ولا ننكر صرفهما الالفاظ عن وجوهها ولا شرعهما الشرائع علينا، ولا تحريم ما حرما، ولا تحليل ما حللا، ولو أمرانا بقتل آبائنا وأمهاتنا وأبنائنا لسارعنا إلى ذلك مبادرين، أو أمسكنا مقرين بالمعصية غير داعين إلى ضلالة، ولا مصوبين لذنوبنا، بل مستغفرين الله تعالى من ذلك، راغبين في التوبة.
قال علي: وما أخوفني أن يكون ملقي هاتين النكتتين من القول بالوقف، في اتباع الظاهر وفي الوجوب، وفي العموم وفي الفور ومن القول بصرف الالفاظ الواردة عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى تأويل بلا دليل، وإلى سقوط الوجوب بلا دليل، وإلى الخصوص بلا دليل، وإلى التراخي بلا دليل كافرا مشركا زنديقا مدلسا على المسلمين، ساعيا في إبطال الديانة، فإن هذه الملة الزهراء الحنيفية السمحة كيدت من وجوه خمسة، وبغيت الغوائل من طرق شتى، ونصبت لها الحبائل من سبل خفية، وسعي عليها بالحيل الغامضة، وأشد هذه الوجوه سعي من تزيا بزيهم، وتسمى
باسمهم، ودس لهم سم الاساود في الشهد والماء البارد، فلطف لهم في مخالفة القرآن والسنة، فبلغ ما أراد ممن شاء الله تعالى خذلانه، وبه تعالى نستعيذ من البلاء، ونسأله العصمة بمنه، لا إله إلا هو.
فلتسؤ ظنونكم أيها الناس بمن يحسن لكم مفارقة ظاهر كلام ربكم تعالى، أو كلام نبيكم صلى الله عليه وسلم بغير بيان منها، أو إجماع من جميع الامة، وبمن يزين لكم التأخر عن طاعتها، ويسهل عليكم ترك الانقياد لهما، ويقرب لديكم التحكم في خطابهما، والفرق بينهما بطاعة بعض ومعصية بعض، وهذا هو التخصيص الذي يدعونه بلا دليل، وبالله نعتصم.(3/358)
قال علي: ويلزمهم إذا أجازوا تخصيص ألفاظ القرآن والسنن بلا دليل أو الوقف فيها، أن يجيزوا مثل ذلك في الاعداد ولا فرق، فيقفوا فيما أوجب الله تعالى من صيام شهرين متتابعين في كفارة الظهار، وكفارة القتل، وكفارة الواطئ في شهر رمضان، فلعله تعالى قد استثنى من الشهرين عشرة أيام في حديث لم يبلغهم، أو بقياس لم ينتبهوا له بعد كما استثنى تعالى من مدة نوح عليه السلام في قومه خمسين عاما بعد ذكره عز وجل ألف سنة، ومثل هذا لازم لهم في جميع ما خوطبوا به، وهذا قول كما قدمنا ليس فيه إلا إبطال الديانة مع فاحش تناقضهم، وأنه دعوى بأيديهم بلا دليل.
فإن قالوا: هذا لا يجوز في الاعداد، لانه لو لم يكن الاستثناء متصلا بها لكانت كذبا قيل لهم: وكذلك الاخبار إن لم يكن على عمومها، ولم يأت نص آخر أو إجماع بتخصيصها كانت كذبا ولا فرق، وكذلك الاوامر إن كان المراد بها الخصوص، ولم يأت نص آخر، ولا إجماع بتخصيصها كانت تعنيتا، تعالى الله عن ذلك كله.
قال لهم بعض من سلف القائلين بالعموم: فإذا لم يفهم من كل خطاب بمجرده ما اقتضاه لفظه فلعل قولك: نقول بالوقف: وقول من قال منكم نقول بالخصوص،
إنما أردتم به في بعض المواضع دون بعض، ولعلكم أردتم غير ما ظهر إلينا من كلامكم، فإنكم تناظرونا دأبا في ألا نحمل الالفاظ على ظواهرها، ولا على عمومها، فأول ما ينبغي أن يستعمل هذا فيه، ففي كلامكم، فتجعلون في نصاب من لا يفهم عنهم مرادهم ولا يصح خطابهم، وصحت السفسطة بعينها عليهم.
قال علي: وكذلك يقال أيضا للقائلين بالوقف أو الندب: أموجبون أنتم لحمل الاشياء الواردة من الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم على أنها غير واجبة، وعلى الوقف فيها، أم أنتم نادبون إلى ذلك ؟ فإن قالوا: نحن موجبون لذلك قيل لهم: فما الذي جعل كلامكم محمولا على الوجوب ؟ وكلام ربكم تعالى محمولا على غير الوجوب ؟ وهذا كفر شديد ممن اعتقده، وضلال عظيم ممن تقلده، وإن قالوا: بل نحن نادبون إلى ذلك أقروا أنهم لا يلزمنا قبول قولهم، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا
قال علي: قولهم بحمل الالفاظ على الخصوص إنما معناه بحملها على بعض ما يقتضيه لفظها.
قال علي: وهذا أمر ليس في طاقة أحد فهمه، والوقوف على حقيقته أبدا، لانه لا ندري أي أبعاض تلك الجملة يقبل، ولا أيها يرد، وليس بعضها أولى بحمل الحكم عليه من بعض، فصار ذلك تكليفا لما ليس في الوسع، وهذه هي السفسطة نفسها وإبطال الحقائق جملة، وقد أكذبهم تعالى بقوله: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ويقال لهم أيضا: أرأيتم قول الله تعالى: * (وعلم آدم الاسماء كلها) * لهذا التعليم الذي(3/359)
امتن الله تعالى به على أبينا آدم عليه السلام فائدة ؟ أم لا فائدة له ؟ فإن قالوا: لا فائدة له كفروا، وكذبتم الملائكة في إقرارهم بأن ذلك علم عظيم لم يكن عندهم حتى علمهم إياه الخالق عز وجل، وإن قالوا: إن لذلك التعليم فائدة سئلوا ما هي ؟ ولا سبيل إلى أن تكون تلك الفائدة إلا إيقاع الاسماء على مسمياتها، والفصل بين المسميات بالاسماء، ومعرفة صفات المسميات التي باختلافها وجب تخالف الاسماء، ليقع
بذلك التفاهم بين النوع الذي أسكنه الله أرضه، وأرسل إليهم الانبياء بالشرائع، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.
وإذ قد ثبت هذا وصح فكل من أراد أن يثبت أن الاسماء لا تفهم منها مسمياتها على عموم ما يقتضيه اللفظ، ولا يعرف بها ما علقت عليه فهو مبطل للعقل والشريعة معا، وبالله تعالى التوفيق، وله الحمد على جميع نعمه لا إله إلا هو.
ويلزمهم في قوله تعالى: * (حرمت عليكم أمهاتكم) * أن يكون لعل ذلك في بعض الامهات دون بعض، وفي بعض الاخوات والبنات دون بعض، أو لعل الذي حرم هو بيعه أو أكلهن دون جماعهن كما حملتم قوله تعالى: * (فاقتلوا المشكين حيث وجدتمو هم) * على بعض المشركين دون بعض، فلم تبيحوا قتل الرهبان، ولا قتل المرتدات، ولا أولاد المرتدين إذا بلغوا كفارا، وكما فعلتم في القذف فلم تحدوا قاذف الكافرة والامة المسلمة، وسائر ما حملتموه على الخصوص، ومثل هذا لازم لهم في كل خطاب في القرآن والسنن، وبالله تعالى التوفيق.
ويقال لمن قال منهم: إن الذي يدل على حمل الالفاظ على عمومه إنما هو للتأكيد الوارد.
قال علي: يقال لهم: لو كان التأكيد ما ذكرتم لكان كلامهم متناقضا، لانا نجد التأكيد يأتي مرتين وثلاثا، الاول، يأتي لاخراج اللفظ من الخصوص إلى العموم، الثاني: مثله أيضا، ولو وجب أن يكون مخرجا للكلام المؤكد والتأكيد الاول - عن الخصوص إلى العموم، فكان يكون التأكيد الاول خصوصا وعموما معا، وهذا ولا يعلل الصحيح في ذلك ما قدمناه من أن التأكيد إنما هو حسم لشغب أمثالهم فقط، وليس التأكيد مخرجا للكلام المؤكد عن خصوص إلى عموم أصلا، وقد قال الله تعالى: * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) * وقد أجاب بعض القائلين بالوقف عن هذه المسألة فقال: معنى قوله تعالى: * (أجمعون) * ي بعد ذكر: * (كلهم) * هو غير المعنى في * (كلهم) * ى لان * (كلهم) * هو مخرج لقوله تعالى: * (الملائكة) * وعن الخصوص إلى
العموم و: * (وأجمعون) * دال على أنهم سجدوا مجتمعين لا مفترقين.
قال علي: وهذا جهل شديد، وكذب مفرط، لان جميعا ليس معناه الاجتماع، ولا هو(3/360)
من بابه، وهذه مجاهرة في اللغة، ولا يعرفها أهل اللغة، ولا يعرف أحد من أهل اللسان أن قول القائل: أتاني القوم أجمعون، أنه أراد مجتمعين، بل جائز أن يكون الذين أتوا أفرادا مفترقين، وهذه هي السفسطة التي حذر منها الاوائل، وجملة الامران أن هؤلاء قوم تعلقوا بأنهم وجدوا ألفاظا خارجة عن موضوعها في اللغة إما إلى مجاز، وإما إلى معان مشتركة فرأوا بذلك إبطال الحقائق كلها، وإبطال وقوع الاسماء على مسمياتها، واختصاص كل اسم بمنعها، وعمومه لكل ما علق عليه كانوا بمنزلة من قال: لما وجدت في الكلام كذبا كثيرا فأنا أحمله كله على الكذب، ووجدت في الشريعة منسوخا كثيرا لا يحل العمل به، إذ لعله قصد به غير ما يعقل منه، ووجدنا العمل بجميعه، ولا فرق بين هذا وبين قولهم: وجدنا ألفاظا على غير ظاهرها، فنحن نقف في كل لفظ فلا نستعمله على مفهومه، إذ لعله قصد به غير ما يعقل منه، ووجدنا ألفاظا لا يراد بها عمومها، فنحن نقف في كل لفظ فلا نمضيه على ما علق عليه.
قال علي: وقد قال بعض أهل الوقف، إذ سئل: فأي شئ نعرف بأن اللفظ على عمومه، بلفظ أم بمعنى ؟ وألزم أن احتمال التخصيص داخل في الثاني كدخوله في الاول، وهكذا أبدا، وكلف والفرق بين اللفظ الثاني والاول فبلح عند ذلك، إذ لا سبيل إلى فرق، فقال إن الاشياء التي بها يلوح العموم لا تحد ولا تحصر ولا سبيل إلى بيانها.
قال علي: وهذه ثنية الانقطاع التي من بلغها سقط حسيرا، وعلم أنه لا حيلة عنده ولا قوة لديه، وهو دليل من دلائل العجز والضعف، وكل من أقر بأنه لا يقدر على بيان قوله، فقد حصل في محل لا يعجز عن مثله ذو لسان إذا استجاز لنفسه الفضائح، فلا يعجز أحد عن أن يدعي ما شاء من المحالات
والدعاوى، فإذا كلف بيانا أو دليلا قال: هذا لا يطاق عليه.
قال علي: ونظر ذلك هذا المبلح، بأن قال: كما أن العدد الذي وجب ضرورة العلم في الاخبار لا سبيل إلى حده.
قال علي: وقد كذب، بل ذلك محدود، وقد بينا فيما خلا، وهو أنه إذا ورد اثنان من جبهتين مختلفتين فحدثا غير مجتمعين، وقد تيقن أنهما لم يلتقيا ولا توطأ، فأخبرا بحديث طويل لا يمكن اتفاق خاطر اثنين على توكيده، ولم يكن هناك لهما ولا لمن حدثا رغبة فيما حدثا به وعنه، ولا رهبة ولا هوى وذكرا مشاهدة أو سماعا من اثنتين فصاعدا،(3/361)
كما وصفنا أيضا أنهما شاهدا، فهو خبر ضروي يوجب العلم واليقين بلا شك، وأن عشرات الالوف إذا حشدوا وكلفوا خبرا ما، ولهم في ذلك رغبة أو رهبة أو هوى فجائز اجتماعهم على فعل الكذب، وقد شاهدنا ذلك في شكر الولاة وذمهم، إلا أن هذا لا يخفى، بل هو معلوم ضرورة من قبلهم، لانهم وإن اجتمعوا على ما جمعوا له فكلهم يخبر صديقه وامرأته وجاره قبل أن يجمع، وبعد أن ينفض من ذلك الجمع بحقيقة الامر وجلية الخبر، وهذا مشاهد كل يوم من أحوال الناس ونقل أخبارهم من موت أو ولادة أو نكاح أو طلاق أو عزلة أو ولاية أو وقفة أو ما شبه ذلك، وإنما أغفل الناس هذا لقلة المتفقدين لمثل هذا وشبهه، ولكثرة من ينسى ما يمر عليه من ذلك، وأصيخوا رحمكم الله إلى ما نقول لكم: اعلموا ان كل من لا يحمل كلام تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على ظاهره عمومه والوجوب فإن مذهبه الذى يصرح به هو انه متى امره الله تعالى بأمر أو رسوله عليه السلام قال لا اقبل شيئا من هذا الكلام إذ لعل له بأويلا على العموم إذ لعلك أردث به بعض ما يقع عليه فاعرفوا الآن ان هذا هو الكفر الصريح والخروج عن الإسلام جهارا لابد منه أو من الرجوع الى طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والائمار بالقرآن والسنن وأخذها على ماهى عليه في اللغة العربية والعمل بما جاء الأمر فيهما فهذا هو الإسلام فعليكم به وارفضوا ما خالفه ما ذكرنا قبل ففيه لاح - بحمد الله تعالى - افك القائلين بالخصوص أو بالوقف
قال فصل في بيان العموم والخصوص
قال علي: الكلام ينقسم ثلاثة أقسام: فمنخصوص يراد به الخصوص بقوله: زيد وعمرو وما أشبه ذلك، وعموم يراد به العم، ومعنى ذلك حمله على كل ما يقتضيه لفظه، فمنه ما يكون اسما لجنس يعم أنواع كثيرة كقوله تعالى: * (وجعلنا من الماء كل شئ حى) * فيقع تحت الحي المذكور الانس وأنواع الطير كلها، وأنواع ذوات الاربع كلها، وأنواع الهوام كلها، وقد خرج من هذا العموم الملائكة لاخبار الرسول صلى الله عليه وسلم(3/362)
أنهم خلقوا من نور، وأما الجن فمن النار بنص القرآن، إلا أننا نبعد أن يكون في تركيبهم شئ من الماء، وإن كان العنصر هو النار، كما في تركيبنا الماء والنار والهواء، وإن كان عنصرنا التراب، ومنها ما يكون اسما لنوع ما كقوله تعالى: * (والخيل والبغال والحمير) * فهذا عموم لجميع الخيل، ولجميع البغال والحمير، دون سائر الانواع، وليس هذا خصوصا لان معنى قولنا: عموم وإنما هو ما اقتضاه اللفظ فقط دون ما تقتضيه، فمن سمى هذا خصوصا فقد شغب وشبك.
وإنما يسمى ما بقي من الجملة بعد أن يستثنى منها خصوصا، وما استثني منها مما بقي خصوصا، لان العموم الذي ذكرنا قد ارتفع ضرورة، لان اللفظ حينئذ ليس محمولا على كل ما يقتضيه لفظه، فلما بطل أن يسمى ذلك عموما سمي خصوصا لانه خص منه بعضه دون بعض بالاستثناء وبالابقاء، ومنه ما يقع لاهل صفة ما من النوع، كقوله تعالى: * (ولذي القربى) *، فلما كان هذا عموما لذوي القربى كلهم دون غيرهم وكان شاملا لكل ما وقعت عليه هذه التسمية بهذه الصفة وكقوله تعالى: * (إنما
الصدقات للفقراء والمساكين) * الآية، فكان ذلك عموما لكل صدقة فرض بدليل أخرج منها ما ليس فرضا، وكان ذلك عموما لكل مسكين، ولكل فقير، ولكل عامل عليها، ولكل مؤلف قلبه، ولكل ما سمي رقبة، إلا أن يخص شيئا من ذلك نص أو إجماع، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : الائمة من قريش فهذا عموم لكل قرشي إلا من خصه نص أو إجماع من النساء والصبيان، وكذلك سائر النصوص.
والقسم الثالث: عموم دل نص القرآن والسنة على أنه قد استثني منه شئ، فخرج ذلك المستثنى مخصوصا من الحكم الوارد بذلك اللفظ.
قال علي: ومن العموم أن يكون لفظه مشتركا يقع على معان شتى، وقوعا مستويا في اللغة، ومعنى قولنا: مستو، أنه وقوع حقيقي، وتسمية صحيحة لا مجازية، فإذا كان ذلك فحملها واجب على كل معنى وقعت عليه، ولا يجوز أن يخص بها بعض ما يقع تحتها دون بعض بالبراهين التي أثبتنا آنفا في إيجاب القول بالعموم.
قال علي: ومن خالف هذا من أصحاب الظاهرين، فقد تناقض، ولا فرق وبين وقوع اسم على ثلاثة من نوع فصاعدا إلى تمام جميع النوع كقولك: مساكين وفقراء، وبين وقوع اسم على ثلاثة أشياء فصاعدا مختلفة الحدود، يقع عليها كلها وقوعا مستويا، ليس بعضها أحق به من بعض، ولهذا قلنا في قوله تعالى: * (الزانية لا ينكحها إلا زان(3/363)
أو مشرك) * إن الآية على عمومها، ولا يحل لمسلم زان أو عفيف أن ينكح زانية مسلمة لا بوطئ ولا بعقد زواج، فإن وقع فسخ أبدا ما لم تتب قبل أن يعقد معها النكاح، ولا يحل لمسلمة زانية أو عفيفة أن تنكح زانيا ما لم يتب، فإن وقع الزواج فسخ أبدا، وأبحنا للزاني خاصة نكاح الذمية العفيفة فقط، لان النص لم يأت إلا بتحريم ذلك على المؤمنين خاصة، والزناة والزواني مؤمنون، فقد حرم ذلك عليهم بالنص، ولم يأت في ذلك تحريم على المشركين، وهذه كرامة المسلم والمسلمة، لا يدخل
فيها المشركون لان حكمهم الصغار.
وقد تناقض في هذا أصحابنا فحملوا النكاح ههنا على الوطئ خاصة، وحملوه في قوله تعالى: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) * على العموم لكل ما يقع عليه اسم نكاح، وهذا كما ترى بلا دليل، وأما من ادعى أن قوله: * (الزانية لا ينكحها) * الآية منسوخة بقوله تعالى: * (وأنكحوا الايامى منكم) * فمغفل لوجهين: أحدهما إجماع الامة على أنه لا يحل لاحد أن يقول في آية أو حديث: إنهما منسوخان لا يجوز العمل بهما إلا بنص جلي أو إجماع.
والثاني: أن قوله تعالى: * (و أنكحوا الأيامى منكم) * (ليس فيه ما يرد قوله تعالى: * (والزانية لا ينكحها الا زان أو مشرك) * كما ليس فيها إباحة نكاح الاخت والبنت المحرمتين وإن كانتا من الايامى ولكن إحدى الآيتين مضمومة إلى الاخرى فننكح الايامى منا ما لم يكن زواني مع أنه يبعد عندنا في اللغة وقوع اسم أيم على الزانية، فالواجب استعمال الآيتين معا، لان استثناء بعضها من بعض ممكن، وقد قدمنا أنه لا يحل ترك آية لاخرى أصلا
قال علي: وكذلك قلنا نحن وسائر أصحابنا: إن قوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلد) * فأوجبنا كلنا معشر القائلين بالظاهر إلا قوما توقفوا دون قطع - وقلنا بإيجاب حد القذف كاملا على كل قاذف محصنة بأي معنى وقع عليها اسم محصنة من عفاف أو إسلام أو زواج، فأوجبنا الحد على قاذف الامة والكافرة والصغيرة، وكذلك أوجبنا الزكاة في القمح والشعير والتمر دون سائر الحبوب والثمار لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس فيما دون خمسة أوسق من حب أو تمر صدقة ولفظة دون في اللغة التي بها خوطبنا تقع على معنيين وقوعا مستويا حقيقيا مجازيا، وهما: بمعنى أقل، وبمعنى غير كما قال تعالى: * (واتخذوا من دون الله) * يريد غير الله تعالى، وقوله تعالى: * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل
ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم) * فذكر تعالى المجاهرين(3/364)
بالعداوة للمسلمين وآخرين من غيرهم مكاتمين بها فلم يكن حمل لفظة دون في الحديث المذكور على معنى أقل، أولى من حملها على معنى غير، فوجب حملها على كلا المعنيين جميعا، وقد تناقض في ذلك أصحابنا، فلم يحملوها إلا على معنى: أقل، فقط.
قال علي: وهذا ترك منهم لقولهم بالعموم، وحمل لفظة دون على معنى غير أولى، لان حملها على معنى غير يقضي في جملته أقل فهو القول بالعموم، لان الاقل من خمسة أوسق هو أيضا غير الخمسة الاوسق، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: فهذه أقسام مفهوم الكلام، وقد جعل قوم قسما رابعا: فقالوا: وخصوص يراد به العموم.
قال علي: وهذا خطأ، وليس هذا موجودا في اللغة، وسنستوعب الكلام في هذا إن شاء الله تعالى في باب الكلام في القياس، وفي باب دليل الخطاب بحول الله وقوته، فإن اعترضوا علينا بأحاديث وردت في رجال بأعيانهم، ثم صار حكمها عندنا على جميع الناس، فليس ذلك بما ظنوا، ولكن جميع تلك الاحاديث فيها أحكام في أحوال توجب الاخذ بذلك في أنواع تلك الاحوال، اتباعا للفظ الحكم المعلق على المعنى المحكوم فيه، وقد بينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعث ليحكم على أهل عصره فقط، لكن على كل من يأتي إلى يوم القيامة، وفي كل ما يحدث من جسم أو عرض إلى انقضاء الدنيا، ولا سبيل إلى أن يبقي عليه حيا إلى أن يلقى كل أحد، فكان حكمه على إنسان في حال ما، حدثت له أو منه، حكما في وقوع تلك الحال كما قلنا.
ويبين ذلك الحديث الذي فيه: هو جبريل أتاكم يعلمكم دينكم أجل بيان وأوضحه، في أن كل خطاب منه صلى الله عليه وسلم لواحد فيما يفتيه به، ويعلمه
إياه هو خطاب لجميع أمته إلى يوم القيامة، وتعليم منه عليه السلام لكل من يأتي إلى انقضاء الدنيا، لان ذلك الحديث إنما خرج بلفظ تعليم الواحد في قوله صلى الله عليه وسلم : أن تعبد الله كأنك تراه.
ويكفينا من هذا الحديث قوله عليه السلام - أثر جوابه لجبريل عليه السلام - إن هذا الذي ذكر تعليم لهم، فأشار إلى الخطاب المتقدم للواحد، وبين ذلك أيضا(3/365)
قوله تعالى: * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) * فبدأ بالجماعة، ثم خاطب خطاب واحد، وقد صح أن المراد بهذا الخطاب كل مسلم، والحكم على الاسماء فكل اسم حكم فيه عليه السلام فهو على كل ما تحت ذلك النوع الذي يقع عليه ذلك الاسم.
قال علي: وهم أولى الناس بالهروب عن هذا السؤال، لانهم أتوا إلى حديث الواطئ في رمضان، وهو المأمور بما يجب في ذلك من الكفارة فلم يقنعوا بأن جعلوه عاما لكل واطئ حتى تعدوا فجعلوه على كل آكل وشارب، ثم على كل موطوءة وآكلة وشاربة من الناس، وأتوا إلى حديث الميت في إحرامه فقالوا: لا يتعدى به ذلك الميت بعينه، وأتوا إلى أمره صلى الله عليه وسلم في غسل ابنته فقالوا: هو عام لكل ميتة، وأتوا إلى صلاته على قبر المسكينة فقالوا: هو خاص لتلك المسكينة ولهم من مثل هذا أزيد من ألف حكم كلها ينقض بعضها بعضا.
والعجب كل العجب في قياسهم إفطارا على إفطار، فجعلوا في الاكل الكفارة كالواطئ، ولم يقيسوا صياما على صيام، فلم يروا على المفطر عمدا في قضاء رمضان كفارة ولا على المفطر في قضاء النذر أيضا، وليس شئ من ذلك إجماعا، لان إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير، لا يريان الكفارة على الواطئ، وأصحاب الشافعي كلهم لا يرون الكفارة على المفطر بغير الوطئ، وقتادة يرى الكفارة على
المفطر في قضاء رمضان كهي على المفطر في رمضان، ولا فرق لانه فرض وفرض، وصوم وصوم، وفطر وفطر.
وقد ادعى قوم في أحاديث وردت أنها خصوص، مثل حديث رضاع سالم.
قال علي: وليس كما قالوا، بل كل رضاع فمحرم بظاهر القرآن، إلا ما استثني بالسنة، من الاربع رضعات فأقل، وأما رضاع سالم فقد قال قوم: إنما كان حكما في التبني، والتبني قد نسخ بقوله تعالى: * (ادعوهم لآبائهم) * فلما سقط التبني سقط الحكم المر تبط به، ولما لم يعلم أي الامرين كان قبل: أحديث سالم أم قوله صلى الله عليه وسلم : الرضاعة من المجاعة ؟ وجب الاخذ بالزائد على معهود الاصل وكان قوله صلى الله عليه وسلم : إنما الرضاعة من المجاعة مع قوله تعالى: * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين لمن أراد يتم الرضاعة) * زائدا(3/366)
على معهود الاصل في التحريم بعموم الرضاع فوجب الاخذ بالزائد.
قال علي: بل حديث سالم هو الزائد فيلزم الاخذ به، لان قوله تعالى: * (يرضغن أو لادهن حولين لمن أراد أن يتم الرضاعة) * مسقط لحكم ما زاد على الحولين، فصار حديث سالم زائدا على الآية، وحاكما بتمادي التحريم بالرضاعة أبدا وما ندري في المصائب أطم من قول من عصى النبي صلى الله عليه وسلم في التحريم برضاع سالم، وسمع وأطاع لتحريم برضاع شهرين بعد الحولين فقط، ولتحريم أبي حنيفة برضاع ستة أشهر بعد الحولين فقط ولا حولا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
قال علي: ومما يبين قولنا قوله صلى الله عليه وسلم لابي بردة في الاضحية بعناق جذعة: تجزيك ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك، فبين صلى الله عليه وسلم أن هذا الحكم خصوصا لابي بردة ولو كان فتياه لواحد لا يكون فتيا في نوع تلك الحال لما
احتاج عليه السلام إلى بيان تخصيصه، ومثله قوله تعالى: * (خالصة لك من دون المؤمنين) * فخرج عليه السلام في نكاحه في جملة قوله تعالى: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * ومثله أمره تعالى بقوله: * (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) * فخرج بذلك عليه السلام من جملة قوله صلى الله عليه وسلم : إن هذه الصلاة لا يحل فيها شئ من كلام الناس.
وقد تناقض أبو يوسف فرأى قوله تعالى: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة خصوصا له عليه السلام ولم يرقوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة) * خصوصا له عليه السلام.
وهذا تناقض ظاهر، وصلاة الخوف لازمة لنا لقوله صلى الله عليه وسلم : صلوا كما ترني أصلي، وأخذ الزكاة لازمة للامة لقوله صلى الله عليه وسلم : أرضوا مصدقيكم، وبقوله عليه السلام: فمن سألها عن وجهها فليعطها ومن سئل أكثر منها فلا يعطها فإذا سألها أولو الامر المأمور في القرإن بطاعتهم بقوله تعالى: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) * لزم فرض أدائها إليهم، وكذلك أمره تعالى بقتال المشركين حتى يعطوا الجزية موجب كل ذلك على الائمة قبضها وإرسال السعاة والولاة فيها.
وأما خصوص لفظ في نوع يراد به نوع آخر فهذا خطأ لا سبيل إليه، وهو(3/367)
باطل بالطبيعة والشريعة واللغة، أما الشريعة فقوله تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) * وحدوده تعالى ما نص على تحريمه، أو إيجابه أو إباحته فمن حرم غير ما نص الله تعالى على تحريمه، أو أوجب غير ما نص الله تعالى على إيجابه، فقد تعدى حدود الله تعالى.
وأما الطبيعة فقد علمنا علم ضرورة أن الاسماء إنما وضعت ليعبر بها عن المعاني التي علقت عليها وسميت بها، لا عما لم يعلق عليه ولا سمي بها، هذا ما لا يثبت في
عقل أحد غيره، وما عداه فسفسطة وتخليط وإفساد للعالم ولبنية الحس والعقل.
وأما اللغة فإنا نسأل كل عالم وجاهل: ما البر ؟ فيقول: القمح، فإن قلنا له عن الشعير: ما هذا ؟ قال شعير، فإن قلنا: هو بر، أنكر ذلك وهزأ بقائله، هذا ما لا يختلف فيه أحد من شرق الدنيا وغربها حتى إذا أتى الدين - الذي هو المحتاط فيه الواجب تحقيقه - حكموا للشعير بحكم البر، وخالفوا ما أقروا أنه الحقيقة وحكموا بما أثبتنا نحن وهم أنه باطل، وتعدوا الحدود وأوقعوا الاسماء على غير مسمياتها، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في الوجوه التي تنقل فيها الاسماء عن مسمياتها، فيخرج بذلك الامر عن وجوبه إلى سائر وجوهه، وعن الفور إلى التراخي، وعن الظاهر إلى التأويل وعن العموم لكل ما يقتضي إلى تخصيص بعضه وذكر الدلائل التي تدل على أن الاسماء قد انتقلت عن مسمياتها إلى ما ذكرناه
قال علي: هذا باب كثر فيه التخليط، وعظمت فيه الاغاليط ولو قلنا: إنه أصل لكل خطأ وقع في الشرائع لم يبعد عن الصواب فلنقل - بحمد الله وعونه - فيه قولا يرفع إن شاء الله تعالى الاشكال فنقول وبالله تعالى التوفيق: إن الاسماء المنقولة عن معانيها تكون بأربعة أوجه: أحدها نقل الاسم عن بعض معناه الذي يقع دون بعض، وهذا هو العموم الذي استثني منه شئ ما فبقي سائر مخصوصا من كل ما يقع عليه كقوله تعالى: * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم) * وكسائر ما ذكرنا.(3/368)
والوجه الثاني نقل الاسم عن موضوعه في اللغة بالكلية، وإطلاقه على شئ آخر، كنقل الله تعالى اسم الصلاة عن الدعاء فقط، إلى حركات محدودة من
قيام وركوع وسجود وجلوس وقراءة ما، وذكر ما، لا يتعدى شئ من ذلك إلى غيره.
وكنقله تعالى اسم الزكاة عن التطهر من القبائح إلى إعطاء مال محدود بصفة محدودة لا يتعدى، وكنقله تعالى اسم الكفر عن التغطية إلى الجحد له عز وجل، أو لنبي من أنبيائه، أو لشئ صح عن الله تعالى، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بلوغ كونه كذلك إلى الجاحد له، وكنقل الامر الوارد عن الوجوب إلى الندب أو الاباحة، لان هذا هو وضع اللفظ المرتب للايجاب في غير معناه، ونقل له عن موضوعه إلى الندب الذي هو غير معناه، بل له صيغة أخرى تدل على أنه التخيير، وكنقل الامر عن إلزام العمل به إلى المهلة فيه.
قال علي: فقد بان بما ذكرنا أن نقل الامر عن الوجوب والفور إلى الندب والتراخي هو باب واحد، مع نقل اللفظ عما يقتضيه ظاهره إلى معنى آخر، وهذا الباب يسمى في الكلام وفى الشعر الاستعارة والمجاز، ومنه قوله تعالى: * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) ومثل هذا كثير.
والوجه الثالث: نقل خبر عن شئ ما إلى شئ آخر اكتفاء بفهم المخاطب كقوله تعالى: * (واسأل القرية التى كنا فيها والعير التى أقبلنا فيها) * وإنما أراد تعالى أهل القرية وأهل العير، فأقام الخبر عن القرية والعير مقام الخبر عن أهلها، وكقوله تعالى: * (وان كنتم مرضى أو على سفر) * فأقام ذكر السفر والمرض مقام الحديث، لان المراد فأحدثتم.
وكقوله تعالى: * (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلقتم) * فأوقع تعالى الحكم على الحلف، وإنما هو على الحنث أو إرادته لا على الحلف، ومثل هذا كثير.
والوجه الرابع نقل لفظ عن كونه حقا موجبا لمعناه إلى قوله باطلا محرما، وهذا هو النسخ كنقله تعالى الامر بالصلاة إلى بيت المقدس إلى أن يحل ذلك اليوم أصلا بالعمد لغير ضرورة.
قال علي: وإنما فرقنا بين النسخ وبين نقل الامر عن الوجوب إلى الندب أو
غيره، وإن كان كل ذلك نقلا، لان النسخ كان الامر المنسوخ مرادا منا العمل به(3/369)
قبل أن ينسخ، وأما المحمول على الندب فلم يرد قط منا إلزامنا العمل به، وهذا فرق ظاهر.
قال علي: وكل ما ذكرنا فلا يحل أن يتعدى به موضوعه، لانه كما ترى أنواع يجمعها جنس النقل للاسماء على مراتبها، فمن استجاز منها واحدا بغير برهان لزمه أن يجيز جميعها، وفي ذلك القضاء بالنسخ على كل شريعة، وبأنه لا يفهم عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم لفظ أصلا إذ لعله قد نقل إلى معنى آخر، وهذا خروج عن الاسلام.
قال علي: وإذا قد ذكرنا وجود النقل للاسماء عن معانيها، ومثلنا منها أمثلة، تدل عليها، وتنبه على أمثالها مما لم نذكره بحول الله تعالى وقوته: فنذكر إن شاء الله تعالى بتوفيقه لنا، وعونه إيانا - الدلائل التي بها تعلم صحة الوجوه التي ذكرنا، وبها يثبت عندنا أن الاسم قد نقل إلى بعض الوجوه التي ذكرنا، والتي متى لم توجد لم يحل لمسلم أن يقول: إن هذا اللفظ على غير موجبه وبالله تعالى التوفيق، فلنقل وبالله نعتصم: إن البرهان الدال على النقل الذي ذكرنا ينقسم قسمين لا ثالث لهما: إما طبيعة وإما شريعة.
فالطبيعة هو ما دل العقل بموجبه على أن اللفظ منقول من موضوعه إلى أحد وجوه النقل الذي قدمنا مثل قوله تعالى: * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم) * - فصح بضرورة العقل، أن المراد بذلك بعض الناس لان العقل يوجب ضرورة أن الناس كلهم لم يحشروا في صعيد واحد، ليخبروا هؤلاء بما أخبرهم به، ولان العقل يوجب ضرورة أن المخبرين لهم بأن الناس قد جمعوا لهم، غير الجامعين لهم، وغير المجموع لهم بلا شك،
وأن الجامعين غير المخبرين بالجمع، وغير المجموع لهم بلا شك ومثل قوله تعالى: * (كونوا حجارة أو حديدا علمنا بضرورة العقل أنه أمر تعجيز، لانه لا يقدر أحد على أن يصير حجارة أو حديدا، ولو كان أمر تكوين لكانوا كذلك، فلما وجدهم العقل لم يكونوا حجارة ولا حديدا علم أنه تعجيز وأما الشريعة فهي أن يأتي نص قرآن أو سنة، أو نص فعل منه عليه السلام، أو إقرار منه عليه السلام، أو إجماع على أحد وجوه النقل الذي ذكرنا كما دل الاجماع على أن اسم أب في(3/370)
قوله تعالى: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) * منقول عن الاقتصا ر على الاب وعلى الاجداد من الاب والام وإن بعدوا، إلى الآباء من الرضاعة والاجداد من الرضاعة لقوله عليه السلام: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب كما دل نص أيضا على نقل اسم الاب إلى العم في قوله حاكيا عن القائلين: * (نعبد الهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) * وإنما كان إسماعيل عما لا أبا، ولم يجب من أجل هذا أن ننقل اسم أب في المواريث إلى الجد من الام أصلا، وكما دل النقل المتواتر أيضا على نقل اسم ابن في قوله تعالى: * (وحلائل أبائكم الذين من أصلابكم) * عن لاقتصار على الابن وبني البنين وبني البنات، وإن بعدوا، إلى البنين من الرضاعة أيضا، ولم يجب من ذلك أن ننقل اسم الابن في المواريث إلى ابن الرضاعة، وبني البنات، ولا يحجب بابن الرضاعة ولا ببني البنات الام عن الثلث ولا الزوج عن النصف، ولا الزوجة عن الربع إلى السدس والربع والثمن، ولم يوجب شئ مما ذكرنا أن ننقل اسلام عن الوالدات اللاتي حملن الانسان في بطونهن في كل حكم إلى أمهات الرضاعة، لان العلم واجب ضرورة بأن الناس ماتوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهم بنو البنات والاجداد من قبل الامهات، وكذلك من الرضاعة، فلم يرث أحد منهم شيئا بالنقل عن الكواف عصرا عصرا، وكم يجب إذا خص الجد من الاب والابن من الولادة، والام
من الولادة بالميراث أن يتعدى ذلك فيخص بعض الوالدات، وبعض الابناء، وبعض الاجداد بلا دليل، ولذلك ورثنا الجد للاب إذا لم يكن هنالك أب دون الاخوة ولانه متفق على أنه في تلك الفرائض والاخوة مختلف فيهم ولا نص في ذلك، فلزم ألا نورث أحدا بلا نص ولا إجماع، وهم الاخوة، ولزم أن يورث الجد لانه متفق على أنه يرث في تلك الفرائض مع النص على أنه أب، وكان يلزم من يقول بالخصوص أن يخرج بعض النبيين على أن يورثهم مع سائر النبيين قياسا على الاجماع في ألا يورث بنو البنات، لانهم بنون، ولا يحرم على آباء أمهاتهم نكاح حلائلهم، ومن قال إن الجدة قيست على الام في التحريم لزمه أن يقيسها عليها في التوريث، وإلا كان متناقضا، وبالله تعالى التوفيق.
فصح بما ذكرنا أن إخراج الاسماء عن مواضعها إذا قام دليل من الادلة التي(3/371)
ذكرنا - واجب لانه أخذ في كل ذلك بالظاهر الوارد وبالنص الزائد، فلم يخرج عن الظاهر في كل ذلك، ووجب إذا عدم دليل منها ألا ينقل شئ من الخطاب عن ظاهره في اللغة، وأما من خصص الظاهر أو العموم بقياس، أو بدليل خطاب، أو بقول صاحبه، فذلك باطل، وسنبين ذلك في الابواب المذكورة إن شاء الله تعالى.
وقد قال تعالى: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * فلاح أن لا بيان إلا بنص أو بضرورة عقل كما قدمنا، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو التالي علينا القرآن فهو المبين به، وهو الآمر لنا بالسنن المبينة علينا، وهو الآمر باتباع القرآن والسنن والاجماع، وهو عليه السلام الذي نص علينا في القرآن إيجاب استعمال العقل والحس.
وقد ذكرنا في باب الاخبار من هذا الكتاب كيف التخصيص بالآية للآي وللحديث، وبالحديث للآي وللحديث.
قال علي: ومن التخصيص بالاجماع قوله تعالى: * (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) * فلما أجمعت الامة بلا خلاف أنهم إن بذلوا فلسا أو فلسين لم يجز بذلك حقن دمائهم، ولا خرجوا عن إيجاب قتلهم، وحتى لو كثر القائلون بذلك، واشتهر فضلهم ما وجب أن يعتد بهذا القول، لانه لم يأت به قرآن ولا سنة، ولكن لما قال تعالى: * (حتى يعطوا الجزية) * بالالف واللام، وهما في اللغة التي بها نزل القرآن للعهد والتعريف - علمنا أنه أراد تعالى جزية معلومة معهودة، وبين ذلك بقوله تعالى: * (الجزية) * بالا لف واللام، والالف واللام في لغة العرب لا يقع إلا على معهود، وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بأخذ دينار من كل محتلم منهم ومحتلمة، علمنا أن ما دون الدينار ليس هو الجزية المحرمة لدمائهم وأموالهم، ولم يكن لاقصى الجزية وأكثرها حد يوقف عنده فيدعى فيه وجوبه بالاجماع، فإن يحيى بن آدم وعطاء بن رباح، وعمرو بن دينار، وسفيان الثوري، كلهم يقول: ليس لاكثر الجزية حد، وإنما هو ما ترضوا به، فلما كان اسم الجزية يقع على الدينار وجب قبوله ممن لا يقدر على أكثر منه، ولزم المصالحين ما صالحوا عنه وهو أكثر من الدينار، ووجب أن يفرض على من يطيق أكثر من دينار من أهل العنوة ما أطاق، ما لا يجحف به.(3/372)
وأما نقل الامر عن الوجوب إلى الندب فإنه لا مدخل للعقل فيه، وإنما يؤخذ من نص آخر أو إجماع فقط، كما قلنا في قوله تعالى: * (إذا حللتم فاصطادوا) * أنه إباحة لما ذكرنا في ذلك للاجماع على ذلك، وقلنا في الوتر: إنه ندب لقول الله تعالى له ليلة أسري به: هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي ولانه عليه السلام كان ينتقل على البعير، فإذا أراد الفريضة نزل وكان يوتر على البعير وأما النهي عن القران بين التمرتين في الاكل والاشهاد على التبايع وكتاب
الديون، والانتشار بعد الصلاة للنوم والاكل وطلب الرزق، والاكل من الهدي والاطعام منه، ومن الاضحية والمكاتبة لمن طلبها ممن فيه خير من الرقيق، وإيتاؤهم من مالنا، ففرائض كلها، لانه لا نص في إخراجها عن الوجوب، ولا إجماع، وأما أمره تعالى لاهل النار بالدخول فيها وأن يخسؤوا، وبصليها، فأمر اضطرار لا محيد لهم عنه، وأما أمره تعالى لاهل الجنة بالاكل وبالشرب وقبول النعيم فأمر إيجاب لا بد لهم من قبوله مختارين مغتبطين، كما تفعل الملائكة فيما يؤمرون به، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في النص يخص بعضه هل الباقي على عمومه أم لا يحل على عمومه
قال علي: وأما النص الذي يصح البرهان على أنه ليس على عمومه، فقد قال قوم الباقي على عمومه، وقال بعضهم - وهو عيسى بن أبان الحنفي قاضي البصرة -: لا نأخذ منه إلا ما اتفق عليه.
قال علي: والصحيح من ذلك أنه كان من النصوص التي لو تركنا وظاهرها لم يفهم منه المراد - فإننا لا نأخذ منها إلا ما يبينه نص آخر أو إجماع، وذلك مثل: أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأيضا فإن الله تعالى نص لنا على الصلاة والزكاة بالالف واللام، والالف واللام إنما يقعان على معهود، ولا يفهم من هذا الظاهر كيفية الصلاة والزكاة الواجبين علينا فوجب أن يطلب بيانهما من نصوص أخر أو إجماع، وقد أخبرنا تعالى أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، وليس في وسعنا(3/373)
أن نفهم استقبال الكعبة والاتيان بأربع ركعات للظهر في كل ركعة سجدتان، وثلاث للمغرب من قوله تعالى: * (وأقيموا الصلاة) * ولا في وسعنا أن نفهم إعطاء شاة من خمس من الابل، وما يجب من الزكاة من البقر والغنم من قوله تعالى:
* (آتوا الزكاة) * ولاجل هذا النص منعنا من أن يكون تعالى يكلفنا ما لا نطيق، وأما لو شاء ذلك تعالى لكان حسنا في العقل، ولو أنه تعالى كلفنا شرب ماء البحر في جرعة، ثم يعذبنا إن لم نفعل لكان ذلك عدلا وحقا، ولكنه تعالى قد تفضل علينا وآمننا من ذلك ولم يكلفنا ما لا نطيق، فله الحمد والشكر لا إله إلا هو.
وكذلك قوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) * ليس فيها بيان كيفية تلك الصدقة، ولا متى تؤخذ أفي كل يوم أم في كل شهر أم في كل عام ؟ أم مرة في الدهر ؟ ولا مقدار ما يؤخذ ولا من أي مال، ففي قوله تعالى: * (من أموالهم) * عمومان اثنان أحدهما: الاموال، والثاني: الضمير الراجع إلى أرباب الاموال، فأما عموم الاموال: فقد صح الاجماع المنقول جيلا جيلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يوجب الزكاة إلا في بعض الاموال دون بعض، مع أن نص الآية يوجب ذلك، لانه إنما قال تعالى: * (خذ من أموالهم) * فالظاهر يقتضي أن ما أخذ مما قل أو كثر فقد أخذ من أموالهم كما أمر، وقوله عليه السلام إذ سئل عن الحمير: أفيها زكاة أم لا على أن هذا اللفظ ليس مرادا به جميع الاموال وقد قال عليه السلام: إن أموالكم عليكم حرام وقال عليه السلام: كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، ونص عليه السلام على أنه لا يحل له أخذ مال أحد إلا بطيب نفسه وليست الزكاة كذلك، بل هم مقاتلون إن منعوها.
وأيضا فإن لفظة: * (من) * في قوله تعالى: * (من أموالهم) * إنما هي للتبعيض وأيضا فلو كانت الاموال مرادة على عمومها لكان ذلك ممتنعا، لان ذلك كان يوجب الاخذ من كل برة، ومن كل خردلة، ومن كل سمة، لان كل ذلك أموال، فلما صح بكل ما ذكرنا أنه تعالى لم يرد كل مال وجب طلب معرفة الاموال التي تجب فيها الزكاة، ومقدار ما يؤخذ منها، ومتى يؤخذ من نص آخر، أو من الاجماع إذ قد ثبت أن المأخوذ هو شئ من بعض ما يملكونه، فلا بد من بيان ذلك الشئ
المراد، فإنه إذا أخذ شئ يقع عليه اسم شئ واحد من جميع أموالهم، فقد أخذ(3/374)
من أموالهم، وكان هذا أيضا موافقا للظاهر وغير مخالف له البتة، وليس إلا هذا الوجه، إلا أن يوجب أكثر منه نص أو إجماع، لانه قد تعذر الوجه الثاني، وهو أن يؤخذ من كل مال جزء، وإذا لم يكن لشئ إلا قسمان فسقط أحدهما ثبت الآخر، فلو لم تأت نصوص وإجماع على الاخذ من المواشي والذهب والفضة والبر والشعير والتمر، لما وجب إلا ما يقع عليه اسم أخذ، لاجزأ إعطاء برة واحدة أو شعيرة واحدة، أو أي شئ أعطاه المرء، ولكن النصوص والاجماع على ما ذكرنا، فرض الوقوف عندهما.
وأما العموم الثاني: وهو عموم أرباب الاموال فبين واضح، وهو من: كل إنسان ذي مال، فوجب استعماله على عمومه، إذ عرف مقدار ما يؤخذ، ومتى يؤخذ، ومما يؤخذ، فلا مخرج من ذلك إلا ما أخرجه نص أو إجماع على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وأما النص المفسر الذي يفهم معناه من لفظه، وكان يمكننا استعماله على عمومه ولو لم يأتنا غيره، فأتى نص آخر أو إجماع، فخص منه بعض ما يقع عليه الاسم، فإنه لا يخرج منه إلا أخرج النص والاجماع، والحجة في ذلك هي الحجج التي أثبتنا بها القول بالعموم في أول هذا الباب الذي نحن الآن في فصوله، ويلزم من قال: لا أبقي منه إلا ما جاء نص أو إجماع في بقائه أن يبيح دماء جميع الامة إلا ما اتفق على تحريم دمه، لان قوله عليه السلام: دماؤكم وأموالكم عليكم حرام لقد اتفق على أنه ليس على عمومه، بل لخص منه كثير كالزناة المحصنين، وقتلة الانفس وغيرهم، فيلزمهم أن يقتلوا شارب الخمر في الرابعة، هذا لو لم يأت فيه نص، ولكن على أصلهم الفاسد، وأن يقتل الساحر إن كان حنفيا أو شافعيا، وأن يقتل السيد بعبده، والمؤمن بالكافر إن كان مالكيا، وإلا فقد تناقضوا وأقروا بأن العموم الذي قد خص بعضه، فإن باقيه على العموم أيضا، إلا أن يخصه نص أو إجماع، ونحن نرى - إن شاء الله تعالى - مسألة فيها تخصيص مترادف مرآة لكيفية العمل فيما ذكرنا، وبالله تعالى التوفيق، فنقول: قال الله عز وجل: * (هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا) * فلا نص أكثر معاني ولا وقال تعالى: أعلم من هذا، وفيه إباحة النساء والمآكل كلها، وكل ما في الارض(3/375)
وقال تعالى * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) * فلا شئ بعد النص المذكور آنفا أعم ولا أكثر معاني من هذا النص الثاني.
فلو لم يرد غيرهما لحرم النكاح جملة، والوطئ بالبتة، ولكان النساء كلهن مستثنيات مما أبيح النص الاكثر المذكور آنفا، فلو لم يرد غير هذين النصين لحرم النساء جملة.
وقال تعالى: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * فكان هذا مبيحا لما حظر النص المذكور الذ ي فيه حفظ الفروج، لو لم يرد غير هذه النصوص لوجب الاخذ بالتحريم، لان الآية التي فيها إباحة النكاح موافقة للنص الاكثر الذي فيه إباحة كل ما في العالم، وإنما هي تأكيد وتكرار كسائر ما في القرآن من التكرار والتأكيد الذي أورده الله تعالى كما شاء، * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) * كما كرر تعالى أخبار الانبياء عليهم السلام: * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) * و * (أطيعوا الرسول) * فكرر إباحة نكاح النساء كما شاء.
ولسنا نقول: إن شيئا من هذه النصوص قبل كل شئ، ولا أن شيئا منها بعد شئ، وسواء نزل بعضها قبل بعض، أو نزلت معا، لا فرق عندنا بين شئ من ذلك، وليس شئ مما نزل بعد رافعا لشئ نزل قبل إلا بنص جلي في أنه رافع له، أو بإجماع على ذلك، وإلا فهو مضاف إليه ومعمول به معه ضرورة
لا بد من ذلك، فلما صح ما قلنا من استثناء تحريم النكاح جملة مما أباح تعالى لنا، ووجدناه تعالى قد استثنى إباحة النكاح من حفظ الفروج استثناء تاما بقوله تعالى: * (والذين هم لفروجهم حافظون ئ إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ئ فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) * فصح يقينا أن الزواج وملك اليمين مستثنى مما حرم من إهمال الفروج.
ثم وجدها هذا الاستثناء يحتمل أن يؤخذ به على عمومه، فيخص به من آية التحريم أشياء كثيرة: منها الاختان بملك اليمين، والام والابنة بملك اليمين، والكتابية بملك اليمين، والحائض والمحرمة والصائمة فرضا، والحريمة بصهر أو رضاع، ويحتمل ألا يخرج من النص الذي فيه تحريم إهمال الفروج جملة إلا ما خص نص جلي أو إجماع متيقن على إخراجه منه، فلو أخرجنا من النص الذي فيه تحريم إهمال الفروج كل ما يحتمل إخراجه، لكنا قد أسقطنا ما تيقنا(3/376)
وجوبه بما شككنا في إباحته، ونحن إذا لم نخرج منه إلا ما جاء نص جلي، أو إجماع بإخراجه منه، كنا قد علمنا بما تيقنا لزومه لنا من النص المبيح للوطئ، وعلمنا أيضا بما تيقنا وجوبه من النص الذي فيه التحريم، إذ في استعمالنا ما في إية إباحة الوطئ كله رجوع إلى الاصل الاول الذي فيه إباحة كل ما في الارض، وترك ما قد لزم إخراجه منه بيقين.
فلو فعلنا ذلك لكنا متناقضين، لانها ثلاثة نصوص كما ترى: نص عام، ثم آخر دونهما في العموم ثم ثالث دونهم معا في العموم.
فإن قال قائل: بل نأخذ بالنص الاخص قلنا له وبالله التوفيق: إنك إن فعلت ذلك رجعت إلى قولنا، لاننا نوجد لا نصا أخص من النص الذي فيه إباحة الوطئ فيلزمك أن تغلب هذا الاخص الذي هو نص رابع، وإلا نقضت
قولك، وهو قول الله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * والمشركات من الكتابيات هن بعض من تملك أيماننا، وكذلك الاختان إذ ملكناهما.
وأما أصحابنا القياسيون فتناقضوا تناقضا فاحشا ظاهر الخطأ، لانهم عمدوا إلى قوله عز وجل: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * إلى قوله تعالى: * (وان تجمعوان بين الاختنى الا ما قد سلف) * وإلى قوله سبحانه وتعالى: * (وأمهات نسائكم) * وهذه كما ترى آيات محرمات لنساء موصوفات، وعمدوا إلى قوله تعالى: * (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) * فاستثنوا الاختين بملك اليمين، والام وابنتها بملك اليمين، والعمة وبنت أخيها بملك اليمين، والخالة وبنت الخالة بملك اليمين، من الآية التي فيها إباحة ملك اليمين.
إلا أن يكون أختان معا أو أم وابنة، أو عمة وبنت أخيها، فإن أولئك لا يحل وطؤهن، ثم إن يستثنوا الاماء الكتابيات بما أباحوه من ملك اليمين، فلو أن عاكسا عكس فأباح الاختين والام والابنة بملك اليمين، وحرم الامة الكتابية بقوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن كان يكون بينهم إلا التحكم بلا دليل ؟.
فإن قالوا: قد أبيحت الكتابية، قيل لهم: أخطأتم إنما أبيحت بالزواج لقوله تعالى: * (والمحصنات من الذين أو توا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجور هن) *(3/377)
فإنما أباح المحصنات الكتابيات بشرط إيتائهن الاجور، وإيتاؤهن الاجور لا يكون إلا في الزواج لا في ملك اليمين، وهذا مالا شك فيه عند أحد، فبطل أن يكون المراد بالاباحة المذكورة الاماء الكتابيات، فبقين على أصل التحريم.
ولو أننا رضينا لانفسنا من الحجة بنحو ما يرضون به لانفسهم لقلنا لهم: إن قوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * إنما قصد به الاماء لقوله تعالى في أثر ذلك: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * ولكنا في ذلك
نبين بأقوى مما يحتاجون به في أكثر مسائلهم: مثل احتجاجهم في إيجاب الخطبة بقوله تعالى: * (وتركوك فائما) * ومثل احتجاجهم في عتق الاخ بقوله تعالى: * (لا أملك إلا نفسي وأخي) * م في المنع من النفخ في الصلاة بقوله تعالى: * (ولا تقل لهما أف) * ومثل احتجاجهم في القسامة ببقرة بني إسرائيل.
ومثل هذا من التمويه البارد الفاسد الداخل في حدود هذيان المبرسمين، ولكن الله عز وجل قد أغنانا بالنصوص الظاهرة التي لا مجال للتأويل فيها، وبنصره تعالى لنا عن تكلف بنيات الطرق، وادعاء ما لا يصح، ومن أمكنته السيوف لم يفتقر إلى المحاربة بحطام التبن، ولا سيما من قال منهم: إن النص إذا خص بعضه لم يؤخذ من باقيه إلاما أجمع عليه، فإنه يقال له في هذا المكان: إباحة ملك اليمين قد خرج منه بالنص بالاجماع أشياء كثيرة فمنها الذكور والبهائم، والام من الرضاع والاخت من الرضاع، وكل حريمة بصهر ورضاع، وكل حائض، وكل صائمة فرض، وأخرجت أنت منه الاختين والام والابنة والعمة والخالة، فيلزمك ألا تبيح مما بقي إلا ما اتفق عليه، ولم يتفق على إباحة الامة الكتابية بملك اليمين، ولا جاء بها نص.
فواجب عليك القول بتحريمها.
ويقول لسائرهم: أنتم أهل القياس فقيسوا ما اختلفنا فيه من وطئ الامة الكتابية بملك اليمين على ما اتفقنا عليه من تحريم الاختين بملك اليمين، وسائر ما ذكرنا، ويقال للمالكيين منهم: أنتم تدخلون التحريم بأدق سبب ولا تدخلون التحليل إلا بأبين وجه، فحرموا الوطئ للامة الكتابية، إذ لا سبب معكم في تحليلها لا دقيق ولا جليل، ولكم في تحريمها أبين سبب فإن ادعوا إجماعا أكذبهم ابن عمر، فقد(3/378)
صح عنه تحريم الكتابيات جملة، وتلا الآية التي ذكرنا.
قال علي: وأما جمهور أصحابنا الظاهريين، فإنهم سلكوا طريقة لهم في ترك
ما ظاهره التعارض - قد بينا بطلانها - فجعلوا قوله تعالى: * (وأن تجمعوا بين الاختين) * * (وأمهات نسائكم) * * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) *: معارضا لقوله تعالى: * (إلا ما ملكت أيما نكم) * ورجعوا إلى الاصل بالاباحة.
قال علي: وهذا خطأ شديد من كل وجه، وحتى لو كان التعارض موجودا وكان العمل صحيحا لكان ههنا باطلا، فكيف والتعارض غير موجود لقوله تعالى * (ولو كان من عند غير الله لو جدوا فيه اختلافا كثيرا) * ولقوله تعالى * (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) * العمل المذكور عنهم فاسد بترك ما قد ثبت اليقين بوجوب الطاعة له.
قال علي: ولو كان العمل المذكور صحيحا لكان الرجوع إلى قوله تعالى: * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) * أولى منه إلى إباحة قد خص منها حفظ الفروج، ولكن الصواب ما بينا من استثناء الاقل معاني من الاكثر والعجب كل العجب من تحريمهم الامة الوثنية بملك اليمين بلا خلاف منهم بقوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * وإباحتهم لامة الكتابية بملك اليمين بلا نص فيها أصلا ولا إجماع، فخصوا قوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * بلا دليل، وفرقوا بين الامة الوثنية والكتابية بلا دليل.
فإن قالوا: إن قوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات) * إنما قصد به الزواج اخطؤوا من وجهين: أحدهما: تخصيص العموم بلا دليل، والثاني: تناقضهم وتحريمهم الامة الوثنية بملك اليمين، وإنما جاء نص الاباحة من الكتابيات بالزواج فقط فحرام أن يستثنى من تحريم المشركات بشئ غير الزواج وحده الذي استثني بالنص، ولا سيما وهم يبطلون القياس، إنما أباح الاماء بملك اليمين من أباحهن قياسا على الحرائر منهن في الزواج، والقياس باطل، فلم يبق إلا أن يقولوا: إن المشركات اسم لا يقع على الكتابيات، فإن قالوا هذا وكان القائل مالكيا أو شافعيا تناقض(3/379)
في أنهم حملوا قوله تعالى: * (انما المشركون نس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) * على الكتابي كما حملوه على الوثني.
وإن كان حنفيا تناقض في حمله قوله تعالى: * (فاقتلوا المشركين حيث وجد تمو هم) * الآية على الكتابي كحملهم إياها على الوثني، وبرهان ذلك قبولهم إسلامهم إن أسلم، وليس في آية حرب أهل الكتاب إلا * (حتى يعطوا الجزية) * فقط.
وبالله التوفيق.
ومما احتج به عيسى بن أبان في قوله: إن النص إذا خص منه شئ وجب حمل سائره على الخصوص - أن قال: إن ذلك مثل شاهدين جرحا بقصة ما، فوجب على سائر شهادتهما في كل شئ قال علي بن أحمد: وهذا القول فمع ما فيه من الاضطراب وتشبيهه بشئ لا يشبهه، إقدام عظيم على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ،ولو كان القياس حقا - وقد أعاذ الله تعالى من ذلك - لكان هذا القياس أحمق قياس في الارض، فكيف والقياس كله باطل.
ولله تعالى الحمد.
فيقال لعيسى: ليت شعري ما الذي شبه كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم الذي ألزمنا الله تعالى توقيره والطاعة له، وحرم علينا معصيته - بكلام فاسقين قد ثبت جرحتهما، وقد أمرنا تعالى ألا نقبل خبرهما.
بل لقائل هذا القول المردود مثل السوء، ولله تعالى ولرسوله المثل الاعلى، وهلا قال إذ لم يوفقه الله تعالى لقبول الحق: إن النص الذي خص بعضه بمنزلة شاهدين عدلين شهدا لابيهما فلم يقبلا على مذهبه الفاسد، فلا يكون ذلك موجبا لرد شهادتهما في سائر ما شهدا به لغير أبيهما، فهذا قياس أصح من قياسه لو كان القياس حقا، فكيف والقياس باطل كله فاسد، إلا أن الذي علمناهم أمثل لاننا مأمورون بقبول شهادة العدلين كما نحن مأمورون بقبول النص الوارد من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والعمل به ؟ فإذا سقط عنا قبول ما شهدا به لدليل قام على ذلك في بعض
المواضع، لم يوجب ذلك سقوط سائر شهادتهما في سائر المواضع، وكذلك النص اللازم لنا قبوله إذا قام دليل على سقوط بعضه في بعض المواضع لم يكن ذلك موجبا لسقوط باقيه وسائره.
فهذا أشبه مما قال، لان الجرح الذي نظر به مسقط العدالة بالجملة، وليس خصوص النص بمسقط للعمل به جملة.(3/380)
ولو شبه الشاهد المجرح عدالته بالمنسوخ من الملك والشرائع فأوجب بذلك سقوط جميعها عنا، لكان أدخل في التمويه، وألطف في التشبيه، ولكنهم مع قولهم بالقياس وتركهم له كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فإنك تجدهم أجهل الخلق بترتيب باطلهم، وأشدهم اضطرابا فيه وهكذا يكون ما كان من عند غير الله.
ولله الحمد على ما وفق بمنه.
قال علي: ونسي عيسى نفسه إذ قال بما ذكرنا، من أن النص إذا خص بعضه لم يؤخذ من باقيه إلا ما اتفق على الاخذ به منه، فهلا تذكر على هذا الاصل إذ قال - في نهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء - إن المرتدة لا تقتل، وهذا نص قد خص منه الزانية المحصنة والقاتلة، فهلا أسقط أيضا منه المرتدة، ولم يأخذ منه إلا ما اتفق عليه من المنع من قتل الحربيات المأسورات، ولكن القوم إنما هم ناصرون لما حضرهم من مسائلهم لا يبالون بما أصلوا في ذلك، ولا بما احتجوا، ولا يستحيون من نقضه بعد ساعة، وإبطاله بأصل مضاد للاصل الاول على حسب ما يرد عليهم من المسائل كل ذلك طاعة لمالك وأبو حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن، وقلة مبالاة لمخالفة القرآن وترك كلام النبي صلى الله عليه وسلم .
وبالله تعالى نستعين من الخذلان، ونسأل المزيد من التوفيق.
قال علي: ولا فرق بين تخصيص بعض آية أو حديث - لم يرد في ذلك البعض تخصيص، لكن لانه قد خص بعض آخر منهما - وبين من أراد من ذلك أن يخص
كل آية وكل حديث، لانه قد وجد آيات مخصوصات وأحاديث مخصوصة، وكل هذا تحكم بلا دليل، أو بدليل فاسد.
وفي هذا إبطال الشريعة، ومن استجاز ما ذكرنا وصوبه، لزمه أن يقول بنسخ كل آية، لانه قد وردت آيات منسوخات.
وهذا يخرج إلى إبطال الاسلام، ويقال لهم: ما الفرق بينكم وبين من خص سورة بكمالها أو قال بنسخ كل ما فيها، لانه وجد بعضها منسوخا ومخصوصا.
وهذا ما لا يقولونه وهو موجب قولهم الفاسد.
قال علي: واحتج بعض من ذهب هذا المذهب فقال: من حلف أن هذه الآية أو الحديث مخصوصا فيما قد قام الدليل على تخصيص بعضهما لم يحنث.(3/381)
قال علي: يقال له صدقت.
ومن نازعك في هذا حتى تلحقه، ونحن نقر لك بأن هذا النص مخصوص إذا قام الدليل على خصوص بعضه، ولكن الباقي بعد ما خص مأخوذ على موجبه وعلى كل ما اقتضاه لفظه بعد ما خرج منه، ونحن على ما لزمنا من وجوب الطاعة له.
قال علي: ويلزم من قال بهذا أن يقول: متى وجدت عددا قد استثني منه شئ وجب أن أسقطه كله، ومتى وجدت إنسانا قد وجب أخذ بعض ماله، لم أمتنع من أخذ باقته إلا أن يمنعني منه إجماع، ومن قال هذا لزمه في قول الله تعالى: * (فلث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) * أن يقول لعله قد خصت منها خمسون أخر بالاستثناء فيكون مقامه فيهم تسعمائة عام فقط أو أقل، وهذا فساد في العقل وكفر في الاسلام.
فإن قال قائل: قدرخص للزبير وعبد الرحمن في الحرير لحكة كانت بهما فقلتم أنتم: هو عام لكل من كان في مثل حالهما.
قيل له: هذا هو نص قوله تعالى * (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) * فكل مضطر إلى محرم فهو له حلال، وهذا الحديث - الذي فيه إباحة الحرير لعبد الرحمن والزبير هو بعض
الآية المذكورة، وهو بمنزلة مفت سمع أن اليمين على من ادعي عليه، فأوجب اليمين بذلك على زيد، وعلى عمرو، وعلى خالد، لانهم مدعى عليهم، فأصاب في ذلك وكل هؤلاء قد اقتضاهم الحديث المذكور.
فإن قال قائل: فهلا عممتم الآية التي ذكرتم في قوله تعالى * (إلا ما اضطر رتم إليه) * فأبحتم به أكل الميتة للباغي إذا اضطر إليها، وأنتم لا تفعلون ذلك ؟ قيل له وبالله تعالى التوفيق: إنما منعناه لوجهين: أحدهما: أن الباغي مستثنى من جملة المضطرين، وقد قلنا: إنه يجب استثناء الاقل معاني من الاكثر معان.
والوجه الثاني: أن الباغي مضطر، لانه لو ترك البغي لارتفعت ضرورته من أجله، فهو مختار لحاله غير مضطر إلى الميتة، لانه لو أراد ترك البغي لكان قادرا على ذلك، ولحلت له الميتة حينئذ لضرورة - إن كانت به - إنما المضطر الذي لا يقدر على دفع ضرورته، ومن سلك طريقا وهو باغ وتحصن في حصن وهباغ فهو المختار لعدم التصرف فليس مضطرا، فليس له دخول في جملة من أبيحت للميتة.
وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.(3/382)
فصل في مسائل من العموم والخصوص
قال علي: ومما تناقض فيه القائلون بتخصيص النصوص بالقياس: أن قالوا بعموم قوله تعالى: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) * فقالوا: المدخول بها وغير المدخول بها سواء، ولم يقيسوا غير المدخول بها في الوفاة على غير المدخول بها في الطلاق، كما قاس بعضهم الاحداد على المطلقة ثلاثا، على الاحداد على المتوفى عنها زوجها، فإن كان القياس حقا فليستعملوه في كل مشتبهين، وإن كان باطلا فليجتنبوه.
قال: ومما خص بالاجماع قوله تعالى: * (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) * فخص بنص السنة العبد بأنه لا يرث وخصت السنة أيضا الكافر بأنه
لا يرث المسلم، ولا المسلم الكافر.
وقال تعالى: * (ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) * وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان فخص الكتاب قائل الخطأ بوجوب الكفارة عليه، وخص الاجماع المنقول من أحدث ناسيا أنه منتقض الوضوء، وقد ادعى قوم أن حد العبد مخصوص بالقياس على حد الامة.
قال علي: وقد أفكوا في ذلك، بل جاء النص بأن حد العبد مخالف لحد الحر في حديث دية المكاتب من طريق علي رضي الله عنه، وابن عباس رضي الله عنهما وقالوا أيضا في قوله تعالى: * (فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها) * أنه خص منها جزاء الصيد في أنه لا يؤكل منه بالاجماع، وهدي المتعة قيس عليه.
قال علي: هذا خطأ، إنما أمر تعالى بالاكل من التطوع ما لم يعطب قبل محله، وأما كل هدي واجب فقد قال تعالى: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) * فلما كانت هذه الواجبات كلها مأمورا بإخراجها من أموالنا، وكان ذلك مسقطا لملكنا عنها كانت قد انتقلت إما إلى ملك المساكين، وإما إلى ملك الله عز وجل، لا بد من أحد الوجهين المذكورين، وما خرج عن ملكنا فلا يحل لنا أن ننصرف فيه إلا بنص مبيح أو إجماع والعجب من حملهم أمر الله تعالى بالاكل منها والاطعام، على أن ذلك غير واجب، ثم أرادوا أن(3/383)
يخصموا منها بقياس لا يشبه ما أرادوا تشبيهه به، نعني هدي المتعة بهدي الجزاء فهلا إذ قاسوا هدي المتعة على هدي الجزاء قاسوا صيام الجزاء على صيام المتعة ولكن هذا في تناقضهم يسير جدا، وأيضا فلا إجماع في تحريم الاكل من جزاء الصيد، وقد روينا عن بعض التابعين إباحة الاكل منه.
قال علي: وقال بعضهم: كيف تتركون ظاهر القرآن الذي من أنكره أو شك فيه كفر، لخبر واحد لا تكفرون ما خالفكم فيه، ولا تفسقونه ؟
قال علي: فيقال لهم: وبالله تعالى التوفيق: القطع على وجوب الائتمار لهما معا واحد بالدلائل التي قد ذكرناها في باب إثبات العمل بخبر الواحد من هذا الكتاب، وكلاهم وحي من عند الله تعالى، والقطع في المراد منهما بالمغيب منهما معا إنما هو على حسب الظاهر منهما، وإنما يكفر من أنكر تنزيل القرآن أو تنزيل بعضه فقط، وأما إن أنكر الاخذ بظاهره، وتأول في آياته تأويلات لا يخرج بها عن الاجماع، فإننا لا نكفره ما لم تقم الحجة عليه، كما لا نكفر من خالفنا في قبول خبر الواحد ما لم تقم الحجة عليه، وكلا الامرين سواء، ولو أن امرأ يقول: لا أقبل ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان كافرا مشركا كمن أنكر القرآن أو شك فيه ولا فرق، وبالله تعالى التوفيق.
* (فصل من الكلام في العموم) *
قال علي: وإذا ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل فعلا كذا نظرنا فإن كان عرضا منتهكا، أو دما مسفوحا، أو مالا مأخوذا، علمنا ذلك واجب لانه عليه السلام حرم الدماء والاموال والاعراض جملة إلا بحق، فما أخذ عليه السلام من ذلك علمنا أنه فرض أخذه، وأنه مستثنى من التحريم المذكور، من ذلك جلد الشارب، وهمه عليه السلام بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة، وهو عليه السلام لا يهم إلا لحق واجب لو أصر عليه المهموم فيهم لانفذه عليهم، لا يحل لاحد أن يظن غير ذلك، ومن قال: إنه عليه السلام يتوعد بما لا يفعل فقد نسب إليه الكذب وناسب ذلك إليه كافر، ومثل ذلك القضاء باليمين مع الشاهدين وغير ذلك كثير.(3/384)
فصل من العموم
قال علي: العموم قسمان: منه مفسر، ومنه مجمل، فالمجمل هو الذي لا يفهم
من ظاهره معناه، والمفسر قد ذكرناه، وأما المجمل فلا بد من طلب المراد فيه من أحد موضعين: إما من نص آخر، وإما من إجماع، فإذا وجدنا تفسير تلك الكلمة في نص آخر قلنا به وصرنا إليه، ولم نبال من خالفنا فيه ولا استوحشنا منه كثروا أو قلوا صغروا أو جلوا، ولم نتكثر بمن وافقنا فيه كائنا من كان من قديم أو من حديث وقليل وكثير، وليس ممن كان معه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قلة، ولا ذلة ولا وحشة إلى أحد، ولا فاقة إلى وفور عدد، فإذا لم نجد نصا آخر نفسر هذا المجمل، وجب علينا ضرورة فرض طلب المراد من ذلك المجمل في الاجماع المتيقن المنقول عن جميع علماء الامة - الذين قال تعالى فيهم: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) * - وكيفية العمل في ذلك أن نأخذ بما أجمعوا عليه من المراد بمعنى ذلك المجمل، ونترك ما اختلفوا فيه، فهذا هو حقيقة ما أمرنا به من الاخذ بالاجماع، وترك كل قول لم يقم عليه دليل.
وهذا الذي نسميه استصحاب الحال، وأقل ما قيل.
فإن قال قائل: إن هذان اسمان مختلفان في المعنى، فما الفرق بينهما ؟ ولم صرتم إلأحدهما في بعض الامكنة ؟ وإلى الآخر في أمكنة أخرى، وما حد المواضع التي تأخذوا فيها باستصحاب الحال، وما حد المواضع التي تأخذون فيها بأقل ما قيل وأنتتسمون فعلكم في كلا الموضعين اتباعا للاجماع، وإجماعا صحيحا، وأنتم لا تسمون من انفسكم بإجمال لا تستطيعون تفسيره، وتعيبون بذلك أصحاب القياس أشد عيب قيل له، وبالله تعالى التوفيق.
صدقت في صفتك وأحسنت في سؤالك، والجواب عما سألت عنه، إن الذي عملنا فيه بأن سميناه أقل ما قيل، فإنما ذلك في حكم أوجب غرامة مال أو عملا بعدد لم يأت في بيان مقدار ذلك نص، فوجب فرضا ألا نحكم على احد لم يرد ناقض في الحكم عليه إلا بإجماع على الحكم عليه، وكان العدد الذي قد اتفقوا على وجوبه وقد صح الاجماع في الحكم
به، وكان ما زاد على ذلك قولا بلا دليل، لا من نص ولا إجماع، فحرام على كل(3/385)
مسلم الاخذ به، وأما الذي عملنا فيه بأن سميناه استصحاب الحال، فكل أمر ثبت إما بنص أو إجماع فيه تحريم أو تحليل أو إيجاب، ثم جاء نص مجمل ينقله عن حاله فإنما ننتقل منه إلى ما نقلنا النص، فإذا اختلفوا ولم يأت نص ببرهان على أحد الوجوه التي اختلفوا عليه، وكانت كلها دعاوى، فإذا ثبت على ما قد صح الاجماع أو النص عليه، ونستصحب تلك الحال، ولا ننتقل عنها إلى دعاوى لا دليل عليها، وهذا القسم موجود كثيرا، فهذا الجواب مستوعب لبيان جميع الوجوه التي سألت عنها، ومبين للحد الذي سألت عنه، وللفرق الذي سألت عنه ولوجوب المصير إلى ما سألت عن دليل وجوب المصير إليه، وبيان كون كلا الوجهين إجماعا، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: ومن خالف الطريق التي ذكرنا فلا بد له ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما أن يقول برأيه بلا دليل في دين الله عز وجل، وإما أن يقلد، وكل ذلك باطل، فلا بد له من الباطل.
قال علي: ونحن نمثل من ذلك أمثله لتكون أبين للطالب، فنقول، وبالله تعالى التوفيق، إن ذلك مثل قوله تعالى: * (حتى يعطوا الجزية عن يدوهم صاغرون) * ومثل ذلك قوله تعالى: * (فدية مسلمة إلى أهله) * وقوله تعالى: * (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) * وقوله تعالى: * (فإطعام ستين مسكينا) * وقوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة) * وقوله تعالى: * (فمتعوهن) * وقوله تعالى: * (فكاتبو هم ان علمتم فيهم خيرا) * وقوله تعالى: * (أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما) * وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها، وما من صاحب بقر لا يؤدي حقها، وما من صاحب فضة أو ذهب لا يؤدي حقها حقها وما من صاحب فضد أو ذهب لا يؤدى حقها
إلا فعل به يوم القيامة كذا وكذا، وجاء النص بإيجاب النفقة على الزوجات وذوي الرحم وملك اليمين.
فأما قوله تعالى: * (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) * فإنه حكم في مشركين قد أمرنا بقتلهم وأخذ أموالهم وسبي نسائهم وأطفالهم، وأوجب كل ذلك علينا وصح بالنص إيجاب دينار على الواحد منهم، فصح أن من بذل منهم أقل من دينار لم يجز حقن دمائهم بذلك، فكان الدينار أقل ما قال قائلون إنه جزية يلزم(3/386)
قبولها بالنص، وليس في أكثر من ذلك حد ووقف عنده فيقول القائل: هو أكثر ما قيل، فلو لم يكن ههنا حد يوقف عنده لما وقع عقد ذمته أبدا، لانهم كانوا يكونو إنما بذلوا شيئا طلب منهم أكثر، وهذا لا نهاية له، وليس من حد حدا بأولى ممن حد حدا آخر، فهذا لا ينضبط أبدا، فصح أن الحد الاول هو الواجب أخذه وهو الدينار إذا بذلوه ولم يطيقوا أكثر منه، وليس في النص لاخذ أكثر من الدينار ممن أطاقه، وبالله تعالى التوفيق.
وأما زكاة البقر فقد قدمنا ذكر خبر معاذ رضي الله عنه، وأن مسروقا أدركه وحضر حكمه وشاهده، هذا ما لا شك فيه، ولم يكن أخذ زكاة البقر من عمل معاذ نادرا ولا خفيا، بل كان فاشيا ظاهرا معلنا مرددا كل عام كثيرا، فهذا غاية صحة النقل الموجب للعلم والعمل، وكذلك عمله ونقله في الجزية فصح أن زكاة البقر والجزية مسندان صحيحان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق معاذ.
وأما عدد الجزية ومقدارها فقد ذكرناه آنفا، فهو اللازم إلا أن يتفقوا معنا باختيارهم على أكثر، أو يتملكوا دون عهد فيلزموا ما يطيقون، ويحرم بذلك دماؤهم، وسبيهم.
وأما الصغار عليهم، فإن النص قد ورد بإلزامه إياهم، فكل ما وقع عليه اسم صغار فنحن نأتيه فيهم، إلا ما منعنا منه نص أو إجماع فقط
، ولذلك أبحنا دماءهم إن ركبوا فرسا أو حملوا سلاحا أو تكنوا بكنى المسلمين، أو تشبهوا بهم أو سبوا مسلما أو أهانوه أو خالفوا شيئا من الشروط التي قد جمعناها في كتا ب ذي القواعد، لانه عموم واجب أخذه كله وحمله على كل ما اقتضاه اسمه، وهذا بخلافما جاء عن المسلمين، فإن المسلمين قد جاء النص فيهم بتحريم دمائهم وأموالهم وأعراضهم والاضرار بهم، وأوجب الله علينا كرامة كل مسلم بنهينا عن التحاسد والتنازع، وأن يحقر أحدنا أخاه المسلم، وأمرنا بالتراحم والتعاطف وهذا بخلاف ما أمرنا به في المشركين، فلا يحل من مال مسلم ولا من عرضه ولا من دمه ولا من أذاه إلا ما صح بإيجابه، فلذلك قلنا في الدية المأخوذة من المسلمين بأقل ما قيل.
ولما صح تحريم أموال أهل الذمة بالجزية المتفق على قبولها، وجب أيضا ألا نحكم عليهم بعد تيقنا تحريم دمائهم وأموالهم، وسبيهم، إلا بأقل ما قيل(3/387)
عليهم، واستصحابا للحال التي قد تيقنا وجوبها علينا فيهم، وإنما حرم بعد الجزية مال الذمي استصحابا للحال التي قد تيقنا وجوبها عليهم فيها، فلذلك لم نقل أيضا في الدية المأخوذة منهم في قتل بعضهم بعضا إلا بأقل ما قيل وذلك ثلثا عشر دية المسلم إما ثمانمائة درهم، وإما ستة أبعرة وثلثا بعير، ما لم ينقضوا ذمتهم فيعودوا بنقضها إلى ما كانوا عليه قبل الذمة بالاجماع والنص وبالله التوفيق.
وأما قوله تعالى: * (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) * فقد بين ذلك نص عن النبي صلى الله عليه وسلم جلي.
وأما قوله تعالى: * (فإطعام ستين مسكينا) * فإننا صرنا في تفسير مقدار هذا الاطعام إلى نص ورد في الواطئ خاصة، وصرنا في كفارة الظهار إلى أقل ما قيل في ذلك، وهو موافق للنص الوارد في كفارة الواطئ.
وأما قوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة) * فإننا صرنا في ذلك إلى بيان
نصوص وردت في ذلك، وتركنا ما لم يأت فيه نص من الاموال، فلم نأخذ منه شيئا، لما ذكرنا من تحريم أخذ مال مسلم بغير طيب نفسه، فحرم أن يؤخذ من مال مسلم شئ أصلا إلا بنص بين جلي أو إجماع، لان قوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) * هو مستثنى من جملة تحريم أموالهم، فلا يخرج من ذلك النص الاكثر الاعم إلا ما بينه نص أو إجماع.
وأما قوله تعالى: * (فمتعوهن) * فإنما نأخذ في مقدار متعة المطلقة بما أوجبه البرهان قبل، استصحابا لما قلنا من تحريم مال المسلم جملة.
وأما قوله: * (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) * فإنا لا نجبر السيد على قبول أقل من قيمة المكاتب، ولا نجبر المكاتب على أكثر مما يطيق، لاجماع القائلين بإيجاب ذلك - وهم أهل الحق - على إيجاب المقدار الذي ذكرناه.
وأما قوله تعالى: * (أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما) * فإنا صرنا في ذلك إلى مقتضى ظاهر الآية على ما بيناه في كتابنا في المسائل، لان الاصل ما قد ذكرنا من تحريم مال المسلم جملة، ومن أنه لا يحل لاحد أن يفرض شريعة على أحد لا من صيام ولا من غيره إلا ما أوجبه نص، وأما قوله عليه السلام: ما من صاحب إبل وما من صاحب غنم، وما من صاحب بقر، وما من صاحب ذهب فإنا صرنا في بيان مقدار الابل والغنم والبقر المأخوذ منها ومقدار(3/388)
الحق المأخوذ منها - إلى نصوص واردة في ذلك مبينة بيانا جليا، ولذلك أوجبنا حلبها يوما وردها فرضا.
وأما الذهب فإنه لانص في مقدار ما يؤخذ منه الحق منها، ولا في مقدار الحق المأخوذ منها، فصرنا في ذلك إلى الاجماع ضرورة، وقد قدمنا أنه لا يحل من مال مسلم إلا ما أوجبه نص أو إجماع، فلم نوجب في الذهب إلا أقل
ما قيل، فلم نأخذ أقل من أربعين دينارا من ذهب ولا من الزيادة حتى يبلغ أربعين دينارا أبدا بخلاف الفضة، لان الفضة ورد فيها نص، فوجب حمله على عمومه بخلاف الذهب الذي لم يرد في مقدار ما يؤخذ منه نص يصح البتة، وبالله تعالى التوفيق.
وأما حلي الذهب فإنه قد أجمعت الامة على وجوب الزكاة في الذهب قبل أن يصاغ حليا - إذا بلغ المقدار الذي ذكرنا - ثم اختلفوا في سقوطها إذا صيغ فاستصحبنا الحال الذي أجمعنا عليها، ولم نسقط الاختلاف ما قد وجب باليقين والاجماع.
وأما النفقات الواجبات فقد أوجبها تعالى بالمعروف، وأمرنا بالاحسان في ذلك، وهذا يقتضي الشبع والسكن والكفاية وستر العورة بما لا يكون شهرة ولا مثلة، فقد رأينا في هذا كله وجه العمل الذي من حفظووقف عليه كفي تعبا عظيما، ولاح له الحق دون تخطيط ولا إشكال، بحول الله وقوته.
قال علي: وأما إذا ورد لفظ لغوي فواجب أن يحمل على عمومه وعلى كل ما يقع في اللغة تحته، وواجب ألا ندخل فيه ما لا يفيده لفظه، مثل قوله تعالى * (إن علمتم فيهم خيرا) *، فالخير في اللغة يقع على الصلاح في الدين وعلى المال، فلا يجوز أن نخص بهذا النص بعض ما يقع عليه دون بعض إلا بنص، فلما قال تعالى: * (فيهم) *، ولم يقل معهم، ولا قال تعالى عندهم، أنه إنما أراد الدين فقط، فلذلك قلنا: إنه لا يجوز مكاتبة كافر لانه لا خير فيه البتة، وأما المسلم فقوله: لا إله إلا الله محمد رسول الله خير كثير ففيه خير على كل حال، ولم يقل تعالى خير، وبعض الخير خير، وبالله تعالى التوفيق.
ومن ذلك قوله عليه السلام: ليس فيما دون خمسة أوسق من حب أو تمر(3/389)
صدقة، فوجب حمل دون على كل ما يقتضيه من أقل ومن غير، فسقطت بذلك الزكاة عن الخضراوات كلها والقطاني والفاكهة وسائر الثمار كلها لانها غير الحب والتمر، ووجب حمل الحب على ما يقع عليه في اللغة، لا يقع على القمح والشعير فقط، ذكر ذلك الكسائي وغيره من ثقات أهل اللغة في علمهم ودينهم.
ومثل ما جاء أنه عليه السلام كان يجعل فضل المال في الكراع والسلاح، فوجب وضعه في كل ما يسمى كراعا وسلاحا، ولذلك لم يجز تحبيس شئ من الاموال إلا ما جاء فينص، لانه شرع شريعة، فلا يحل الحكم بها إلا بنص، وأجزنا أن يحبس المرء على نفسه، لانه داخل في عموم قوله عليه السلام: إن شئت حبست الاصل وتصدقت بالثمرة، فجائز للمرء أن يتصدق على نفسه وعلى غيره، لانه كله تصدق وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ابدأ بنفسك فتصدق عليها.
قال أبو محمد: وذكر بعض أهل الكلام في هذا الباب حديثا رواه أبو عبيد في غريب الحديث، وهو أمره عليه السلام قوما من جهينة بإدفاء رجل كان أصابه البرد، والادفاء في لغتهم القتل فقتلوه.
قال علي: وهذا حديث مكذوب لا يصح البتة، بل نحن على يقين من أنه كذب مفترى، لأنه عليه السلام أفصح العرب وأعرفهم في لغتهم، ومأمورا بالبيان، وليس من البيان أن يأمر هم بكلام يقتضى عند هم غاير مراده صلى الله عليه وسلم ولا خحجة لهم في قصة عدى في الخيطين، لان عديا من قبله أتى سوء الفهم، وقد كان لعدي في قوله تعالى: * (ثم وتموا الصيام الى الليل) * كفاية في أن المراد خيط الفجر من خيط الليل، وقد كان نزل بعد: * (من الفجر) * وقد فعل فعل عدى سائر الصحابة رضوان الله عليهم وهم أهل اللغة، وأصابوا في ذلك حتى نزل * (من الفجز) * وانتقلوا عن الظاهر الاول الى الظاهر النازل بعده،
بذلك الزكاة عن الخضراوات كلها والقطاني والفاكهة وسائر الثمار كلها لانها غير الحب والتمر، ووجب حمل الحب على ما يقع عليه في اللغة، لا يقع على القمح والشعير فقط، ذكر ذلك الكسائي وغيره من ثقات أهل اللغة في علمهم ودينهم.
ومثل ما جاء أنه عليه السلام كان يجعل فضل المال في الكراع والسلاح، فوجب وضعه في كل ما يسمى كراعا وسلاحا، ولذلك لم يجز تحبيس شئ من الاموال إلا ما جاء فينص، لانه شرع شريعة، فلا يحل الحكم بها إلا بنص، وأجزنا أن يحبس المرء على نفسه، لانه داخل في عموم قوله عليه السلام: إن شئت حبست الاصل وتصدقت بالثمرة، فجائز للمرء أن يتصدق على نفسه وعلى غيره، لانه كله تصدق وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ابدأ بنفسك فتصدق عليها.
قال أبو محمد: وذكر بعض أهل الكلام في هذا الباب حديثا رواه أبو عبيد في غريب الحديث، وهو أمره عليه السلام قوما من جهينة بإدفاء رجل كان أصابه البرد، والادفاء في لغتهم القتل فقتلوه.
قال علي: وهذا حديث مكذوب لا يصح البتة، بل نحن على يقين من أنه كذب مفترى، لأنه عليه السلام أفصح العرب وأعرفهم في لغتهم، ومأمورا بالبيان، وليس من البيان أن يأمر هم بكلام يقتضى عند هم غاير مراده صلى الله عليه وسلم ولا خحجة لهم في قصة عدى في الخيطين، لان عديا من قبله أتى سوء الفهم، وقد كان لعدي في قوله تعالى: * (ثم وتموا الصيام الى الليل) * كفاية في أن المراد خيط الفجر من خيط الليل، وقد كان نزل بعد: * (من الفجر) * وقد فعل فعل عدى سائر الصحابة رضوان الله عليهم وهم أهل اللغة، وأصابوا في ذلك حتى نزل * (من الفجز) * وانتقلوا عن الظاهر الاول الى الظاهر النازل بعده، وهذا الذى لا يجوز لأحد تعديه، وبالله تعالى التوفيق، وهو الموفق للصواب.(3/390)
الاحكام
ابن حزم ج 4(4/)
الاحكام في أصول الاحكام
للحافظ ابى محمد على بن حزم الاندلسي الظاهرى
هذا الكتاب النفيس، الذى لم تر العين مثيله في علم الاصول (أحمد شاكر)
قوبلت على نسخة أشرف على طبعها
الاستاذ العلامة أحمد شاكر رحمه الله
الناشر زكريا على يوسف
مطبعة العاصمة بالقاهرة - ت 23680
الجزء الرابع
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الرابع عشر في أقل الجمع
قال علي: اختلف الناس في أقل الجمع فقالت طائفة: أقل الجمع اثنان فصاعدا، وهو قول جمهور أصحابنا، وقالت طائفة: أقل الجمع ثلاثة، وهو قول الشافعي وبه نأخذ، واحتج أصحابنا لقولهم بأن قالوا: الجمع في اللغة ضم شئ إلى شئ آخر، فلما ضم الواحد إلى الواحد كان ذلك جمعا صحيحا.
قال علي: هذا خطأ ولا حجة فيه، لانه يلزمهم على ذلك أن يكون الجسم ا لواحد مخبرا عنه بالخبر عن الجمع واقعا عليه اسم الجمع لانه جمع جزء إلى جزء وعضو إلى عضو، وليس المراد باسم الجمع الذي اختلفنا فيه هذا المعنى من معاني
الضم، وإنما المقصود به ما عدا الافراد والتثنية وليس ذلك إلا ثلاثة أشخاص متغايرة فصاعدا بلا خلاف من أهل اللغة وحفاظ ألفاظها وضباط إعرابها.
واحتجوا أيضا بأن قالوا: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : الاثنان فما فوقهما جماعة.
قال علي: لا حجة لهم فيه، لانه حديث لم يصح، حدثني أحمد بن عمر بن أنس بن عبد الله بن حسين بن عقال، ثنا إبراهيم بن محمد الدينوري، ثنا محمد بن أحمد بن الجهم، ثنا بشير بن موسى، ثنا يحيى بن إسحاق، ثنا عليلة بن بدر هو الربيع بن بدر، عن أبيه، عن جده، عن أبي موسى الاشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الاثنان فما فوقهما جماعة وبه إلى ابن الجهم قال: ثنا عبد الكريم بن الهيثم، حدثنا أبو توبة، ثنا مسلمة بن علي، عن يحيى بن الحارث، عن القاسم، عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اثنان فما فوقهما جماعة.
وقال أبو محمد رحمه الله: عليلة ساقط بإجماع، وأبوه مجهول، ومسلمة بن علي(4/391)
ضعيف بلا خلاف، وكذلك القاسم عن أبي أمامة، فسقط الحديثان، وإنما المعتمد عليه في حكم الصلاة قوله عليه السلام لمالك بن الحويرث وابن عمه: فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما وبإمامته في النافلة - صلى الله عليه وسلم - ابن عباس وحده.
واحتجوا أيضا بأن قالوا: خبر الاثنين عن أنفسهما كخبر الكثير عن أنفسهم ولا فرق، فيقول الاثنان: فعلنا وصنعنا، كما يقول الجماعة سواء بسواء.
قال علي: لا حجة لهم في ذلك في إيجابهم بهذا أن يكون الخبر عن الاثنين كالخبر عن الجماعة، لان ذلك قياس، والقياس فاسد، وأيضا فإن الخبر عن الاثنين بخلاف الخبر عن الجماعة، فنقول عن الاثنين: فعلا، وعن الجماعة: فعلوا، وأيضا فإن المرأتين تخبران عن أنفسهما، كما يخبر الرجلان عن أنفسهما، فتقول
المرأتان فعلنا وصنعنا، وليس ذلك بموجب أن يخبر عنهما كما يخبر عن الرجلين فيقال: فعلا بمنزلة فعلنا، ولا يجوز في اللغة قياس بإجماع عن أهلها، وإنما هي مسموعة والضمائر مختلفة عن الغائب والحاضر، والمخبر عن نفسه، والتثنية والجمع والمؤنث والمذكر، وقد تتفق الضمائر أيضا في مواضع، فليس اتفاقها فيها بموجب لاتفاقها في كل موضع، ولا اختلافها في بعض المواضع بموجب اختلافها في كل موضع، بل كل ذلك مأخوذ عن أهل اللغة كما سمعوه عن العر ب، وقد يخبر الواحد عن نفسه كما يخبر الاثنان، وكما يخبر الجماعة فيقول: فعلنا وصنعنا ونفعل ونصنع، ونحن نقول وهذا عندنا، وليس ذلك بموجب أن يكون الواحد جمعا، فبطل احتجاجهم بأن خبر الاثنين عن أنفسهما كخبر الجمع، وهو حجة في كون الاثنين جمعا.
واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) * وإنما كان لهما قلبان.
قال علي: ولا حجة لهم في هذا، لان هذا باب محفوظ في الجوارح خاصة، وقد نقل النحويون هذا الباب وقالوا: إن كل اثنين من اثنين، فإنه يخبر عنهما كما يخبر عن الجمع، كأن العرب عدت الشيئين المخبر عنهما ثم أضافتهما إلى الشيئين اللذين هما منهما، فصارت أربعة، فصح الجمع، وأنشدوا في ذلك: ومهمهين فدفدين مرتين ظهراهما مثل ظهور الترسين(4/392)
وهذا باب لا يتعدى فيه مسموعه من العرب فقط، ولا يجوز أن يقاس عليه، واحتجوا أيضا بقوله عز وجل: * (وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين) *.
قال علي: وهذا لا حجة لهم فيه، لان الضمير في حكم العربية أن يكون راجعا
إلى أقرب مذكور إليه، وأقرب مذكور إلى الضمير قوله تعالى: * (غنم القوم) * فالقوم وداود وسليمان جماعة بلا شك فكأنه تعالى قال: وكنا لحكم القوم في ذلك أي للحكم عليهم، كما تقول هذا حكم أمر كذا، أي الحكم فيه وعليه.
واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض) * وبين تعالى أنهما اثنان بقوله في آخر الآية * (لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) * ويقول أحدهما: * (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب) *.
قال علي: لا حجة لهم فيه، لان الخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة وقوعا مستويا، وكذلك الزور على الزائر الواحد والاثنين والجماعة، وكذلك الالب والحرب، تقول هو إلب علي وهو حرب علي وهما حرب علي وإلب علي، وهم حرب علي وإلب علي، فلا يسوغ لاحد أن يقول: المتسورين على داود صلى الله عليه وسلم كانا اثنين دون أن يقول: بل كانوا جماعة، وقد قال ذلك بعض المفسرين، وقال تعالى: * (هذان خصمان اختصموا في ربهم) * وإنما نزلت في ستة نفر، علي، وحمزة، وعبيد بن الحارث رضي الله عنهم، وفي عتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة، إذ تبارزوا يوم بدر، وقد أخبر تعالى في آخر الآية بما يبين أنهم جماعة يقول تعالى: * (فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار) * إلى منتهى قوله * (يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير) *.
حدثنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن محمد بن عيسى، عن إبراهيم بن محمد بن سفيان، عن مسلم بن الحجاج، ثنا عمرو بن زرارة ثنا هشام، عن أبي هاشم، عن أبي مجلز، عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يقسم قسما: * (هذان خصما اختصموا في ربهم) * إنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر(4/393)
علي وحمزة وعبيدة رضي الله عنهم، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة.
وإذا لم يأت نص بين في أن الخصمين المختصمين إلى داود صلى الله عليه وسلم كان إذ تسورا اثنين فقط لا ثالث لهما، فليس لاحد أن يحتج بذلك في إبطال ما قد صح في اللغة ولا في إثبا ت أمر لم يثبت بعد.
واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) *.
قال علي: ولا حجة لهم في ذلك، وليس كما ظنوا، بل هذا جمع صحيح، لان لكل واحد من السارقين يدان، فهي أربع أيد بيقين، وقطع يدي السارق جميعا واجب يدا بعد يد، إذا سرق سرقة بعد سرقة، بنص القرآن.
واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (فإن كان له إخوة فلامه السدس) *.
قال علي: وهذا عليهم لا لهم، أنه لا يجوز أن تحط الام عن الثلث إلى السدس عندنا إلا بثلاثة من الاخوة لا باثنين، وقولنا في ذلك هو قول ابن عباس، وهو في اللغة بحيث لا يجهل محله إلا جاهل، وإنما حكم من حكم برد الام إلى السدس باثنين من الاخوة، إما بقياس، وإما بتقليد، وكل ذلك فاسد فإن قيل: قد قال بذلك عثمان، قيل له: قد خالفه ابن عباس وأنكر عليه ذلك، وبين عليه أن اللغة خلاف ما يحكم به، فلم يقدر عثمان على إنكار ذلك، ولم نرد على أن قال: لا أقدر أن أرد ما قد توارث به الناس.
واحتجوا بقوله تعالى حاكيا عن يعقوب عليه السلام في قوله: * (عسى الله أن يأتيني بهم جميعا) * قالوا: وإنما كان يوسف وأخاه.
قال علي: هذا خطأ، بل ما كا نوا إلا ثلاثة، يوسف وأخاه الذي حبس من أجل الصواع الذي وجد في رحله، والاخ الكبير الذي قال: * (فلن أبرح الارض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ارجعوا إلى أبيكم
فقولوا يأبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا) * فلما فقد يعقوب ثلاثة من بنيه تمنى رجوعهم كلهم.
واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) * والطائفة تقع على الواحد وعلى الاثنين وعلى الاكثر، فأخبر تعالى عن الطائفتين مرة بلفظ الجمع بقوله: * (اقتتلوا) * ومرة بلفظ الاثنين: * (فأصلحوا بينهما) *(4/394)
وقال تعالى في الآية التالية لها: * (فأصلحوا بين أخويكم) * فأمر بالاصلاح بين الاثنين كما أمر بالاصلاح بين الجماعة.
قال علي: وهذا لا حجة لهم فيه، لان الطائفة كما ذكروا تقع على الواحد والاثنين والاكثر، فإذا أخبر عنهما بلفظ الجمع، فالمراد بهما الجمع، والمراد بالطائفتين في أول الآية المذكورة الكثير منهم، ومعنى قوله تعالى: * (فأصلحوا بينهما) * أي بين الجماعتين المقتتلتين، ثم علمنا تعالى وجوب الاصلاح بين الاثنين كوجوبه بين الكثيرين بقوله تعالى: * (فأصلحوا بين أخويكم) * وحمل الآية على ما نقول هو الذي لا يجوز غيره، لانه عموم لكيفية الاصلاح بين الكثير والقليل ولو كان ما ظن مخالفنا، لما علمنا فيها الاصلاح بين الاثنين فقط وهذا خطأ.
واحتجوا بقوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: * (كلا فاذهبا بآياتنآ إنا معكم مستمعون) * ولم يقل معكما.
قال علي: وهذا لا حجة لهم فيه، لانهم ثلاثة بلا شك، المرسلان وفرعون المكلم المرسل إليه، فالمستمعون ثلاثة بيقين.
قال علي: فإن قد بطل احتجاجهم بكل ما احتجوا به، فلنقل في بيان صحة مذهبنا، وبالله تعالى التوفيق.
فنقول: إن الالفاظ في اللغة إنما هي عبارات عن المعاني، ولا خلاف بين
القرب في أن الاثنين لهما صيغة في الاخبار عنهما، غير الصيغة التي للثلاثة فصاعدا، وإن للثلاثة فصاعدا - إلى ما لا نهاية له من العدد - صيغة غير صيغة الخبر عن الاثنين، وهي صيغة الجمع، ولا خلا ف بين أحد من أهل اللسان في أنه لا يجوز أن يقال قام الزيدون، وأنت تريد اثنين.
ولا جاءني الهندات، وأنت تريد اثنتين، وضمير الغائب موضوع بلا خلاف بين أحد من أهل اللسان في موضع اسم الغائب ومبدل منه، فلا يجوز أن يبدل ضمير الجماعة إلامن الجماعة، ولا ضمير الاثنين إلا من الاثنين، ولو كان ذلك لوقع الاشكال وارتفع البيان، وكذلك المخاطبات لا يجوز البتة أن نقول لاثنين: قمتم وقعدتم، وإنما يقال: قمتما وقعدتما: ولا يقال لاثنين: قمتن، ولا يقال للنساء: قمتما، وإنما قال: قمتن، فصح ما قلنا بحكم ظاهر اللغة التي بها نزل القرآن وبها تكلم النبي صلى الله عليه وسلم ،وإلى مفهومها نرجع(4/395)
في أحكام الديانة، إلا ما نقلنا عنه نص جلي وبالله تعالى التوفيق، وهذا ما لا يجوز خلافه، والله الموفق للصواب.
فصل من الخطاب الوارد بلفظ الجمع
قال علي: وإذا ورد لفظ بصورة جمع وقدر على استيعابه، فلا بد من استيعابه ضرورة، وإلا فقد صحت المعصية وخلاف الامر، فإن لم يقدر على ذلك ولم يكن إلى استيعابه سبيل، فللناس قولان: أحدهما، أنه واجب أن يؤدي من ذلك ما أمكن، وما انتهى إليه الوسع، ولا يسقط عنه إلا ما عجز عنه أو ما قام نص أو إجماع بسقوطه، وبهذا نأخذ، وقالت طائفة: لا يلزم من ذلك إلا أقل ما يقع عليه اسم ذلك الجمع، وهو ثلاثة فصاعدا، وما زاد على ذلك فليس فرضا.
قال علي: والحجة للقول الاول هي حجتنا على القائلين بالخصوص أو الوقف وقد لزم عموم ذلك الجمع بيقين، فلا يسقط بشك ولا بدعوى، فأما ما عجز عنه
فساقط، وأما ما لم يعجز عنه فباق على وجوب الطاعة له، ويبين ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم.
قال علي: فمن ذلك قول الله عز وجل: * (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) * الآية وقوله تعالى * (الوصية للوالدين والأقربين) * فنقول إن الامام القادر على استيعاب جميع مساكين المسلمين وفقرائهم وغازيتهم وسائر الاصناف المسماة، ففر ض عليه استيعابهم، وأما من عجز عن ذلك فمن دونه، فقد أجمعت الامة بلا خلاف على أن له أن يقتصر على بعض دون بعض، ودل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لزينب امرأة عبد الله بن مسعود إذ سألته أيجزي عني أن أتصدق على زوجي وولدي منه من الصدقة فقال عليه السلام: نعم.
قال علي: فبهذه النصوص صرنا إلى هذا الحكم، والاستيعاب والعموم معناهما واحد، وهذا كله من باب استعمال الظاهر، والوجوب، وقد رام قوم أن يفرقوا بين الاستيعاب والعموم، وهذا خطأ ولا يقدرون على ذلك أبدا، وقال هؤلاء القوم: العموم لبعض ما يقع عليه الاسم عموم ذلك الجزء الذي عم به.
قال علي: فيقال لهم: وكذلك الاستيعاب لبعض ما يقع عليه الاسم استيعاب لذلك الجزء الذي استوعب به ولا فرق.(4/396)
قال علي: والجمع بلفظ المعرفة والنكرة سواء في اقتضاء الاستيعاب، كقوله تعالى: * (وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) * فهذا عموم لكل قوم لا يؤمنون، وهو بلفظ النكرة كما ترى، وقد ظن قوم أن الجمع إذا جاء بلفظ النكرة فإنه لا يوجب العموم، فقالوا: قولك جاء رجال لا يفهم منه العموم، كما يفهم من قولك جاء الرجال.
قال علي: وهذا ظن فاسد لا دليل عليه، وإنما هو ألفه لما وقع في أنفسهم
في عادات سواء استعملوها في تخاطبهم، وبخلاف معهود اللغة في الحقيقة، وقد أبطلنا ذلك بالآية التي ذكرنا آنفا، وبالله تعالى التوفيق.
الباب الخامس عشر في الاستثناء
قال علي: قد بينا في باب الاخبار وفي باب العموم والخصوص كيفية الاستثناء، ونحن الآن متكلمون - إن شاء الله عز وجل بتأييده لنا - في ماهية الاستثناء وأنواعه، فنقول وبالله تعالى التوفيق.
إن الاستثناء هو تخصيص بعض الشئ من جملته، أو إخراج شئ ما مما أدخلت فيه شئ آخر، إلا أن النحويين اعتادوا أن يسموا بالاستثناء ما كان من ذلك بلفظ: حاشا، وخلا، وإلا، وما لم يكن، وما عدا، وما سوى، وأن يجعلوا ما كان خبرا من خبر كقولك: اقتل القوم ودع زيدا، مسمى باسم التخصيص لا استثناء، وهما في الحقيقة سواء على ما قدمنا.
قال علي: واختلفوا في نحو من أنحاء الاستثناء، فقالت طائفة: لا يجوز أن يستثنى الشئ من غير جنسه أو نوعه المخبر عنه، وقالت طائفة: جائز أن يستثنى الشئ من غير جنس أو المخبر عنه، وبكلا هذين القولين قالت طوائف من أصحابنا الظاهرين، ومن إخواننا القياسيين.
قال علي: ونحن نقول: إن استثناء الشئ من غير جنسه ونوعه المخبر عنه جائز، واسمه في العربية عند النحويين الاستثناء المنقطع، وهو حينئذ ابتداء خبر آخر كقائل قال: أتاني المسلمون إلا اليهود، فهذا جائز كأنه قال: إلا اليهود فإنهم لم يأتوني،(4/397)
وهذا لا ينكره نحوي ولا لغوي أصلا، إذا كان على الوجه الذي ذكرناه.
قال علي: والبرهان القاطع في ذلك قوله تعالى: * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس) *، وقال تعالى: * (وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) * فلم يدع تعالى للشك ههنا مجالا
إلا بينه، وأخبر أن إبليس كان من الجن، وقد حمل التهور قوما راموا نصر مذهبهم ههنا فقالوا: إن الملائكة يسمون جنا لاجتنانهم.
قال علي: وهذا قول فاحش من وجوه، أحدها وأوضحها قول الله عز وجل إذ سأل الملائكة: * (أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) * فقالت الملائكة: * (سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن) * ففرق تعالى بين الملائكة والجن فرقا كما ترى، والوجه الثاني إخباره عليه السلام: إن الملائكة خلقت من نور والجن خلقت من نار، ففرق بين النوعين فرقا من خالفه كفر.
حدثنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، عن عبد الله بن حميد، عن عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم.
والثالث إجماع الامة على أن من سمى جبريل أو ميكائيل جنيا فقد كفر، فقد ظهر بطلان هذا القول الفاسد، وكان أقصما احتج له القائلون به أن قالوا: الاجتنان هو الاستتار، ومن ذلك يسمى المجن مجنا، والجنة جنة، فالملائكة والجن مستترون عنا فهم جن.
قال علي: وهذا هذيان لبعض أهل اللغة، وفي كل قوم جنون، فلو أن عاكسا عكس عليهم فقال: ما اشتقا الاجتنان الذي هو الاستتار إلا من الجن، بماذا كانوا ينفصلون ؟ وأيضا فيقال لهم حتى لو صح قولكم: إن الجن اشتقوا من الاجتنان فمن أي شئ اشتق الاجتنان ؟ فإن جروا هكذا إلى غير غاية، وهذا يوجب أشياء موجودات لا أوائل لها، ولا نهاية لعددها، وهذا محال ممتنع، وموافقة أهل الكفر، وإن قالوا: ليس للفظ الذي اشتق منه اشتقاق، قيل لهم: فما الذي(4/398)
جعل تلك اللفظة بأن تكون مبتدأة أولى من هذه الثانية.
وقد سقط في هذا كبار النحويين منهم أبو جعفر النحاس: فإنه ألف كتابا في اشتقاق أسماء الله عز وجل - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وهذا يلزمهم القول بحدوث أسماء الله عز وجل، لان كل شئ مشتق فهو مأخوذ مما اشتق منه وكل مأخوذ فقد كان قبل أن يوجد غير مأخوذ، فقد كانت الاسماء على أصلهم غير موجودة، والكلام ههنا يطول ويتشعب، ويخرجنا عن غرض كتابنا، وأسماء الله عز وجل إنما هي أسماء أعلام كقولك زيد وعمرو، والمراد بها الله تعالى الذي لم يزل وحده لا شريكله ولا يزال خالق كل شئ لا إله إلا هو رب العرش العظيم، وأما الاصوات المسموعة المعبر بها فمخلوقة لم تكن ثم كانت.(4/399)
ومنهم أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، فإنه قال في نوادره: * (العشقة نبت يخضر ثم يصفر ثم يهيج ومنه سمي العاشق عاشقا) * أو ما علم هذا الرجل أن كل نبت في الارض فهذه صفته، فهلا يسمى العاشق باقلا مشتقا من البقل الذي يخضر، ثم يصفر، ثم يهيج، فإن ركب هذا الطريق اتسع له جدا، وأخرجه ذلك إلى بعض خرق من أدركناه من أهل الجنون، وأدخله في باب المضاحك والمطايب والمجون.
والذي نعتقد ونقول ونقطع على صحته، أن الاشتقاق كله باطل حاشا أسماء الفاعلين من أفعالهم فقط، وأسماء الموصوفين المأخوذة من صفاتهم الجسمانية والنفسانية، وهذا أيضا لا ندري هل أخذت الاسماء من الصفات، أو أخذت الصفات من الاسماء ؟ إلا أننا نوقن أن أحدهما أخذ من صاحبه، مثل ضارب من الضرب، ومثل آكل من الاكل، ومثل أبيض من البياض وغضبان من
الغضب، وما أشبه ذلك.
وأما سائر الاسماء الواقعة على الاجناس والانواع كلها، فلا اشتقاق لها أصلا وليس بعضها قبل بعض، بل كلها معا، وقد كنت أجري في هذا مع شيخنا أبي عبده حسان بن مالك رحمه الله، وكان أذكر من لقينا للغة مع شدة عنايته بها، وثقته وتحريه في نقلها، فكان يقول لي: قد قال بهذا الذي تذهب إليه كثير من أهل اللغة قديم وسماه لي، وشككت الآن في اسمه لبعد العهد وأظن أنه نفطويه.
وكيف يسوغ لذي عقل أن يسمي الملائكة جنا، وهو يسمع قول الله عز وجل * (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) * وما علمنا مسلما يقول: إن أحدا من الملائكة يدخل جهنم، وقد قال تعالى: * (قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذى يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس) * أفتراه تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يستعيذ من شر الملائكة ؟ هذا ما لا يظنه ذو عقل، وقد اعترض على بعض من كلمني في هذا المعنى بقوله تعالى: * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) * وقال: إنهم كانوا يقولون الملائكة بنات الرحمن.
قال علي: وهذا ليس بشي، لانه قد روي عن ابن عباس أن قريشا كانت تقول: سروات الجن هم بنات الرحمن، فإنما عنى تعالى الجن على الحقيقة في هذا(4/400)
المكان لا الملائكة، ونسأل من ذهب إلى هذا، أيجوز أن يقول قائل، والجن حافون من حول العرش ؟ وهذا ما لا يجيزه مسلم، وقد أخبر تعالى أن الجن عن السمع لمعزولون، ودون السماء بالشهب مقذوفون، وأن الملائكة بخلاف ذلك.
ويلزم من سمى الجن جنا من أجل اجتنانهم أن يسمي دماغه جنيا ويسمي مصيره جنيا، لان كل ذلك مجتن، وقد اعترض بعضهم بأن إبليس دخل مع الملائكة في الامر بالسجود لآدم صلى الله عليه وسلم .
قال علي: وهذا باطل لان الله تعالى أخبر أنه كان من الجن، ولا تدخل الجن مع الملائكة فيما خصت به الملائكة، فلا بد أنه تعالى أمر إبليس أيضا بالسجود، وقد جاء النص بذلك فقال تعالى: * (يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى) * فقد أيقنا أن الله تعالى أمره بالسجود كما أمر الملائكة، فقد وجدنا الله تعالى استثنى إبليس من غير نوعه، فلا مجال للشك في هذا المعنى بعد هذا، ووجدناه تعالى قد قال أيضا: * (ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا) * أي لكن خطأ وقال تعالى: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة) * وقال تعالى * (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الاولى) *.
وقال تعالى * (لا يسمعون فيها لغو أو لا تأثما الاقيلا سلاما سلاما) * فاستثنى عز وجل الموتة الاولى وليست الموتة فيما يذاق أصلا في الجنة واستثنى تعالى التجارة - وهي حق - من الباطل واستثنى تعالى الخطأ من القتل المحرم، وليس المخطئ قاتلا من العمد الحرم، واستثنى تعالى القول الطيب سلاما سلاما من قول الاثم، ومن هذا الباب لا إله إلا الله، واستثنى الله تعالى من جملة الآلهة التي عبدها من سوانا وليس تعالى من جنسها ولا نوعها، ولا له عز وجل نوع ولا جنس أصلا، وقد قال تعالى: * (وما لاحد عنده من نعمة تجزى ئ إلا ابتغآء وجه ربه الاعلى) * وقال النابغة الذبياني: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب(4/401)
فاستثنى الفخر من المعائب، وقال أيضا: وقفت فيها أصيلانا أسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا الاواري لايا ما أبينها والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد فاستثنى الاثافي والنؤى من الا حدين، وقال آخر: وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
وقال تعالى: * (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا ئ إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا) * فاستثنى عز وجل رحمته من الوكيل عليه الذي لا سبيل إليه، فأي شئ قاله من أبى استثناء الشئ من غير جنسه في هذه الآيا ت وفي هذه الآي، فهو قولنا، وهو أنه استثناء منقطع، وعطف خبر على خبر، بمعنى لكن، أو حتى، وقد صح بلا ضرورة أن يخبر بخبر إيجاب عن واحد، وبخبر نفي عن آخر، ولا فرق بين أن يرد أحد الخبرين على الآخر بحرف العطف، وبين أن يرد بحر ف الاستثناء، وقد جاء كل ذلك كما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.
فصل من الاستثناء
قال علي: واختلفوا في نوع من أنواع الاستثناء، وهو أن يستثنى من الجملة أكثرها، ويبقى الاقل، فأجازه قوم وهو قول جميع أصحابنا أهل الظاهر، وبه نأخذ، وبه قال جمهور الشافعيين، وأباه قوم وهو قول جمهور المالكيين، ولا نعلم لهؤلاء القوم حجة أصلا في المنع من ذلك إلا أن يقول بعضهم: إنكم قد وافقتمونا على جواز استثناء، ولا نوافقكم على جواز استثناء الاكثر.
قال علي: وهذه حجة إنما تصح فيما لا نص فيه، أو فيما لم يقم عليه برهان، وأما كل ما قام فيه برهان عقلي أو شرعي فلا نبالي من وافقنا فيه، ولا من خالفنا، وقد قامت البراهين على جواز استثناء الاكثر من جملة لا يبقى منها بعد ذلك الاستثناء إلا الاقل، قال الله عز وجل: * (قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أورد عليه) *، وهو بدل البيان، ولم يختلف قط أحد أنه(4/402)
لم يفرض عليه قيام الليل كله، وإنما فرض عليه القيام في الليل، وهذا البدل يحل محل المبدل منه فالمفهوم أنه قال تعالى: قم الليل إلا نصفه، ثم زادنا الله تعالى
فائدة عظيمة، وهي أن النصف قليل بالاضافة إلى الكل.
قال علي: فإن قال قائل: كيف تحتجون بهذا وأنتم تقولون إن قيام أكثر من ثلث الليل لا يجوز ؟ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إنه لا قيام فوق داود، وكان يقوم ثلث الليل بعد أن ينام نصفه ثم ينام سدسه ؟ قيل له وبالله تعالى التوفيق: معنى قوله تعالى: * (قم الليل إلا قليلا) * إنما هو - والله أعلم - إعلام بوقت القيام لا بمقدار القيام، ليتفق معنى الآية والحديث، فكل من عند الله تعالى وما كان من عنده تعالى فلا اختلاف فيه.
قال الله عز وجل: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * فصح أن معنى قوله تعالى: * (قم الليل إلا قليلا) * قم في الليل إلا في قليل في نصفه.
وهكذا قوله تعالى: * (إن أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه ثلثه) * إنما معناه في أئنى.
وقوله تعالى * (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) * مع نهيه على لسان نبيه عن قيام أكثر من ثلث الليل، بيان أن الثلثين قبل الاضافة إلى الكل، لانهم كانوا يهجعون قليلا وهو الثلثان.
ويخرج أيضا على أن ما ههنا جحد محقق، فيكون معناه: كانوا ما يهجعون قليلا من الليل وهو الثلث فأقل، فيكون هذا أيضا حسنا موافقا لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الثلث، وكلا القولين متفق، لانه إذا هجع الثلثين وقام الثلث، فإن الثلثين قليل بالاضافة إلى الكل، والثلث أيضا كذلك، وبالله تعالى التوفيق.
فإن اعترض معترض بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : الثلث كثير.
قيل له صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ،الثلث كثير بالاضافة إلى ما هو أقل منه، وهكذا كل عدد من العالم فألف ألف كثيرا بالاضافة إلى عشرة آلاف، وألف ألف قليل بالاضافة إلى عشرة آلاف ألف.
قال علي: ونقدر أن الذي أقحم هؤلاء القوم في هذه الورطة، تجويزهم للمحتبس س استثناء أقل من الثلث، ولم يجوزوا له استثناء الاكثر من ذلك، فقادهم الخطأ
إلى ما هو أشد خطأ منه، وإن أولى الناس بالتقنع إذا ذكر هذا الحديث الذي(4/403)
اعترضوا به من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : الثلث كثير فالمالكيون، لانهم يجعلون الثلث كثيرا في الاستثناء من الحبس كما ذكرنا.
ثم يجعلونه في حكم المرأة ذات الزوج في مالها قليلا، فيجوزون لها الثلث دون رأي زوجها، ويمنعونها من أكثر من الثلث إلا برأيه، ثم يجعلون الثلث كثيرا في الجائحة إذا أصابت من الثمرة ثلثها فصاعدا، ويجعلون ما دون الثلث قليلا لا حكم له، ثم يجعلون الثلث قليلا في استثناء البائع من حائطه المبيع، أو زرعه المبيع مكيلة تبلغ الثلث فأقل، ويجعلون ما زاد على الثلث في ذلك كثيرا ممنوعا.
ثم يجعلون الثلث كثيرا في الشاة تباع، ويستثنى منها أرطال فمنعوا من ذلك إن كانت الارطال مقدار الثلث، وأجازوه إن كانت أقل من الثلث، ثم يجعلون الثلث قليلا في الدار تكترى وفيها نخل لم يظهر بعد فيه ثمرة، أو ظهرت ولم يبد صلاحها، فأجازوا دخول تلك الثمرة في الكراء.
قالوا: فإن كانت أكثر من الثلث لم يجز ذلك ويجعلون العشر قليلا وما زاد عليه كثيرا، فيمن أمر آخر أن يشتري له جارية بثلاثين، فاشترى له جارية بثلاثة وثلاثين، قالوا: هي لازمة للآمر.
فإن كان أكثر فهي غير لازمة للآمر، وقد قالوا أيضا: إن ما زاد على نصف العشر كثير، فيمن أمر آخر أن يشتري له عبدا بمائة دينار، فاشتراه له بمائة وخمسة دنانير، أنه يلزمه ولا يلزمه إن اشتراه بأكثر، ومرة يجعلون النصف قليلا، فيمن كان له عند آخر دينارا فصارفه في نصفه بدراهم، فأخذ بالنصف الثاني طعاما، أن ذلك جائز، فإن صارفه بأكثر من النصف وأخذ بالباقي لم يجز ذلك، لانه كثير.
وقالوا: من ابتاع سلعا فوجد بعضها فاسد، لا يجوز بيعها كشاة ميتة بين مذكيات ونحو ذلك، فإن كان وجه الصفقة والذي يرجى فيه الربح، فسخت
الصفقة كلها، وإن كان أقل من ذلك فسخ الحرام ونفذ العقد في الحلال، وحدوا الكثير في ذلك بالسبعين من المائة، فجعلوا ما دون الثلاثة الارباع قليلا، وجعلوا نقص النصف من الاذن والذنب مانعا من جواز التضحية.
ونرجح في الثلث فما فوقه إلى النصف، ثم يجعلون الثلث قليلا، في الحلو السيف، والمصحف يكون فيه فضة تقع في ذلك قيمته ما هي فيه، فيجيزون بيعه كله أو بعضه، أو يكون فيه ذهب يقع في ثلث قيمة ما هو فيه، فيباع بالذهب(4/404)
قالوا: فإن كان مقدار ذلك أكثر من الثلث مما هو فيه، لم يجز بيعه إن كان فضة بفضة أصلا، وإن كان ذهبا بذهب أصلا، قالوا: والسكين بخلاف الحلي والسيف المصحف في ذلك.
قال علي: فمرة كما ترى يجعلونه الثلث قليلا، ومرة يجعلونه كثيرا، ومرة يجعلون النصف قليلا، ومرة يجعلون ما زاد على العشر كثيرا، تحكما بآرائهم الفاسدة بلا دليل، وإن سماع هذه القضايا الفاسدة التي لم يأذن بها الله عز وجل لعبرة لمن اعتبر، وآية لمن تفكر، والعجب يتضاعف من قوم قبلوا ذلك ودانوا به كما ترى وتركوا له دلائل القرآن والسنة ونصوصهما، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال علي: وقد جاء في نص القرآن استثناء الاكثر من جملة يبقى منها الاقل بعد ذلك، فبطل كلام كل من خالفه، قال الله عز وجل لابليس: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) * وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا في الامم التي تدخل النار، كالشعرة السوداء في الثور الابيض، وأنه عليه السلام يرجو ان يكون نصف أهل الجنة، وأن بعث أهل النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون للنار، واحد إلى الجنة، هذا حكم جميع ولد آدم عليه السلام، ويكفي من ذلك قوله تعالى: * (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) *
فقد استثنى الغاوين من جملة الناس وهم أكثر الناس، فاستثنى كما ترى ألفا غير واحد من ألف.
قال علي: وأيضا فإن الاستثناء إنما هو إخراج للشئ المستثنى، مما أخبر به المخبر عن الجملة المستثنى منها، ولا فرق بين إخراجك من ذلك الاكثر، وبين إخراجك الاقل، وكل ذلك خبر يخبر به، فالخبر جائز عن الاكثر كجوازه عن الاقل، ولا يمنع من ذلك إلا وقاح معاند أو جاهل، وأيضا فلا شك بضرورة التمييز أن عشرة آلاف أكثر من عشر آلاف حاشا واحدا، فإذا كان ذلك فعشرة آلاف غير واحد قليل بالاضافة إلى عشرة آلاف كاملة، وإذا كان ذلك فاستثناء القليل من الكثير جائز لا تمانع فيه.
وأيضا فإنه لا فرق بين قول القائل ألف غير تسعمائة وتسعة وتسعين، وبين قوله، واحد، ولا فرق بين قول القائل: سبعمائة وثلاثمائة، وبين قوله: ألف، وهذا كله من المتلائمات وهي(4/405)
ألفاظ مختلفة معناها واحد، وإذا كان ذلك فلا فرق بين استثناء ثلاثمائة من ألف لانها بعض الالف، وبين استثناء تسعة وتسعمائة وتسعين من الالف أيضا لانها بعض الالف ولا فرق.
فإن قال قائل: إن ربك ألف غير تسعمائة وتسعة وتسعين إذا كان ذلك بمعنى واحد، قيل له وبالله تعالى التوفيق: لو عقلت معنى تسمية ربك تعالى لم تسمنا هذا، ونحن لا يحل عندنا أن نقول: إن الله تعالى فرد ولا أنه فذ ولا نقول إلا واحد وتر كما جاء النص فقط، لان كل ذلك تسمية، ولا يحل تسمية الباري تعالى بغير ما سمى به نفسه، ومن فعل ذلك فقد ألحد في أسمائه، وهو تعالى ليس عددا وإنما يسمى ما دونه واحدا على المجاز وإلا فليس في العالم واحد أصلا لان الواحد الذي لا يتكثر البتة، وليس هذا في العالم البتة حاشا الله تعالى
وحده، وبالله تعالى التوفيق.
فإن قال قائل: فأخر استثناء الجملة كلها، قيل له: هذا لا يجوز، لانه كان يتكون أحد الخبرين مبطلا للآخر، ومكذبا له كله، لانه إذا قال: أتاني إخوتك إلا إخوتك كأن قد قال: إتاني إخوتك لم يأتني إخوتك، وهذا تناقض وتكاذب وخلف من الكلام، ومحال لا يجوز أصلا، وليس هذا المحال موجودا في استثناء الاكثر من جملة يبقى منها الاقل، ولا في استثناء الشئ من غير جنسه، ألا ترى أنك إذا قلت: أتاني إخوتك، ولم يأتني بنو عمك، وأتاني إخوتك، ولم يأتوني كلهم لكن بعضهم، فهذان الخبران صدق إذا صدق فيهما، والاخبار بهما صحيح حسن، فهذا فرق ما بين استثناء الجملة كلها وبين استثناء أكثرها، واستثناء الشئ من غير جنسه.
وقد قال قائلون: إن من لفظ بعموم في خبره، فلا بد له أن يبقي - إن استثنى من جنس تلك الجملة - ما يقع عليه اسم عموم، ولم يجوزوا أن يقول القائل: أتاني إخوتك، لم يأتني كلهم ولكن أتاني واحد منهم، وقالوا: إن الآتي ليس إخوة ولكنه أخ، فلا يستثنى إلا بأن يبقى ثلاثة فصاعدا.(4/406)
قال علي: وهذا لا معنى له، لان ألف سنة ليس مطابقا لتسعمائة، فإن قال: هو مطابق لتسعمائة وخمسين، قيل له: ومجئ الاخ الواحد مطابق لعدم مجئ جميعهم حاشاه ولا فرق، فإن قال قائل: فإذا لا تجوزون استثناء الجملة كلها، فكيف قلتم، إن من قال: لفلان عندي مائة دينار إلا عبدا قيمته مائة دينار، أو قال: لفلان عندي مائة دينار إلا مائة دينار.
إن هذا الاقرار لا يحكم عليه بشئ منه ولا يقضى لذلك لفلان عليه بشئ، قيل له وبالله تعالى التوفيق: وهذا موافق لاصلنا، لانه لما كان استثناء جميع الجملة محالا، وكان الناطق بذلك ناطقا بمحال لا يجوز، فكان كلامه ذلك باطلا، وإقراره فاسدا، والاقرار لا يجوز إلا صحيحا
مجردا من كما يبطله، فلذلك لم نحكم عليه بهذا الاقرار، لانه متناقض، وقد وافقنا خصومنا في ذلك على أن رجلا لو قال بحضرة عدول: إني زنيت الساعة أمامكم بامرأة كانت معنا، وقتلت الساعة بحضرتكم رجلا مسلما حرام الدم بلا سبب، وكذلك لو قال: رفعت رجلا مسلما إلى السحاب ثم أرسلته فسقط في البحر فمات، أو قال: أخذت عصا موسى عليه السلام وطعنت بها رجلا فقتلته فإنه لا يؤخذ بشئ من ذلك، ولا يحكم عليه إلا بالهوس والجنون، ولا فرق بين ما ذكرنا وبين ما حكمنا نحن به من إسقاط كل إقرار فاسد متناقض يسقط آخره أوله ويبطله، ولا فرق بين إسقاط بعض الجملة المقر بها الاستثناء، وبين إسقاط جميعها بالتناقض أو بذكر البراء منها، وبالله تعالى التوفيق.
فصل من الاستثناء
قال علي: وإذا وردت أشياء معطوفات بعضها على بعض، ثم جاء الاستثناء في آخرها فإن لم يكن في الكلام نص بيان على أن ذلك الاستثناء مردود على بعضها دون بعض، فواجب محله على أنه مردود على جميعها، والبرهان على ذلك: أنه ليس بعضها أولى بها من بعض، فإن قال قائل: فهلا قلتم: إنه مردود عن أقربها منه، لان الالفاظ التي تقدمت قد حصلت على عمومها، فواجب ألا ينتقل عنه إلا بنص أو إجماع، فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إن كل ألفاظ جمعت في حكم(4/407)
واحد فلم يكمل بعد أمرها حتى ينقضي الكلام، فإذا جاء بعقبها استثناء فقد صح الاستثناء يقينا، وإذا صح يقينا فقد حصل التخصيص بالنص، وصار الاقتصار به على بعض ما قبله دون بعض دعوى مجردة لا دليل عليه، فإن قال قائل: فإن رده على أقرب ما يليه يقين، ورده على كل ما قبله شك، قيل له وبالله تعالى التوفيق: ليس شكا إذا قام الدليل على صحته، بل هو يقين، وأيضا فظاهر اللفظ
رده على كل ما قبله، وتخصيص الظاهر بلا دليل لا يجوز.
قال علي: وكذلك نقول في آية القذف في قوله تعالى: * (وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) * راجع إلى كل ما تقدم، ومسقط للفسق عنهم، وموجب لقبول شهادتهم، فإن قال قائل: فهلا أسقطتم به الحد، قلنا: منع من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لقاذف امرأته: البينة وإلا فحد في ظهرك، لانه عليه السلام لم يسقط الحد إلا ببينة لا بالتوبة، وقد حد حمله ومسطحا في قذفهم عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، ولا شك في توبتهم حين نزول الآية ببراءتها، ولو لم يتوبوا لارتدوا وكفروا ولحلت دماؤهم، فصح أنهم حدوا بعد يقين توبتهم.
وكذلك قلنا في قوله تعالى: * (فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا) *.
فلولا بيان الاستثناء أنه مردود إلى الاهل فقط، لسقطت به الرقبة ولكن لا حق للاهل في الرقبة ولا صدقة لهم فيها، وقد قال تعالى * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) *.
وكذلك قلنا في قوله عز وجل: * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) * فهذا الاستثناء مردود على المخاطبين أنفسهم، وهذا القليل عندنا مستثنى من الفضل والرحمة، لا من اتباع الشيطان، والآية على ظاهرها دون تكلف تأويل، ومعناها: أن الله رحمكم وتفضل عليكم حاشا قليلا منكم لم يرحمهم ولا تفضل عليهم، وهم الكفار منكم والمنافقون الذين فيكم، فلم تتبعوا الشيطان بفضل الله تعالى ورحمته، وأما الذين لم يتفضل الله عليهم ولا رحمهم فاتبعوا الشيطان، وهذا الذي قلنا هو العيان المشهود والنص المسموع، فإن الاقل من المخاطبين الحاضرين مع الصحابة رضي الله عنهم كانوا(4/408)
منافقين خارجين عن الفضل والرحمة، متبعين الشيطان فهم القليل المستثنون بقوله
تعالى: * (تعالى إلا قليلا) * واستثنوا من جملة المتفضل عليهم والمرجومين والممتنعين بذلك من اتباع الشيطان، فهو راجع على كل من ذكر في الآية، وبالله تعالى التوفيق وللناس في هذه الآية أقوال فقوم قالوا: هذا الاستثناء راجع إلى قوله تعالى * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * * (إلا قليلا) *.
قال علي: وهذا خطأ، لان رد الاستثناء إلى أبعد مذكور دعوى ساقطة فاسدة لم يقل بها قط أحد من النحويين وأهل اللغة الذين إليهم يرجع في مثل هذا، وإنما الناس على قولين كما قدمنا، قوم قالوا: الاستثناء مردود إلى أقرب مذكور، وقوم قالوا: إلى الجملة كلها، فإن وجد استثناء راجع إلى أبعد مذكور فلا يحمل غيره على حكمه، لانه بمنزلة ما خرج عن معهود أصله، وكلفظ نقل عن موضوعه وقال بعضهم: * (إلا قليلا) * راجع إلى قوله تعالى: * (أذاعوا به) * أي أذاعوا به إلا قليلا.
قال علي: ويبطل قول هؤلاء بما بطل به قول من ذكرنا قبلهم ولا فرق، وقال بعضهم: فضل الله ورحمته المذكوران في الآية هما: محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن أي لولاهما لكنتم كفارا متبعين الشيطان إلا قليلا ممن هديناه قبل ذلك كزيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة.
قال علي: وهذا تأويل فاسد النية، لان زيدا وقسا لولا فضل الله ورحمته لهما لا تبعا الشيطان، والاستثناء إنما هو مخرج لما استثنى من جملة ما استثنى منه، فلا يجوز أن يكون هذا الاستثناء إلا من الفضل والرحمة والامتناع من اتباع الشيطان، الذي ذكر كل ذلك في الآية، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: وحتى لو لم يجز في الاستثناء إلا رده إلى أقرب مذكور، لما كان في ذلك ما يوجب ألا نقبل شهادة القاذف إذا تاب، لان الفسق مرتفع عنه بالتوبة بنص الآية بإجماع الامة، وإذا ارتفع الفسق ثبتت العدالة ضرورة، لانه
ليس في العالم من المخاطبين إلا فاسق أو عدل، وإذا ثبتت العدالة وجب قبول الشهادة لقوله تعالى: * (رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه) * فحرام علينا ألا نرضى عمن رضي الله عنه، وإذا كان حراما علينا، ففرضنا الرضا(4/409)
عنه، وإذا كان الرضا عنه فرضا ففرض علينا قبول شهادته، لانه ممن نرضى من الشهداء بنص القرآن في إيجاب شهادة * (من ترضون من الشهداء) * فقد صح أن سقوط الفسق عنه موجب لقبول شهادته.
والعجب من أصحاب أبي حنيفة في تركهم ظاهر الآية وميلهم إلى رأيهم الفاسد، فإن نص الآية إنما يوجب ألا تقبل شهادته بنص القذف، وليس في ذلك أن شهادته لا تسقط إلا بعد أن يحد، وقالوا هم: إن شهادته لا تسقط إلا أن يحد، فزادوا في رأيهم ما ليس في القرآن، وخالفوا الآية في كل حال فقبلوا شهادته أفسق ما كان قبل أن يحد وردوها بعد أن ظهر الحد، وقد أخبر عليه السلام في كثير من الحدود أن إقامتها كفارة لفاعليها، وهم أهل القياس بزعمهم، فهلا قاسوا المحدود في القذف على المحدود في السرقة والزنى، وقد شاركهم المالكيون في بعض ذلك، فردوا شهادة المحدود فيما حد فيه وأجازوها فيما لم يحد فيه، وهذا كله افتراء على الله لم يأذن به، وحكم في الدين بغير نص.
وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: وكذلك قوله عز وجل: * (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق) * إلى قوله تعالى: * (الا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا) * فإن الاستثناء الذي في آخرها راجع بإجماع إلى كل ما تقدم
قال علي: والاشتراط هو معنى الاستثناء في كل ما قلنا من ذلك قوله تعالى * (ذلك لمن خشي العنت منكم) * فهذا كما تراه استثناء صحيح لمن خشي العنت مع كل
ما تقدم من الشروط دون ذكر من لم يخش العنت، وكذلك قوله تعالى: * (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام) * في كفارات الايمان فكان هذا الشرط عن عدم كل مذكور في الآية من رقبة وكسوة وإطعام لا على أقرب مذكور فيها.
وكذلك قوله تعالى في آية المحاربة: * (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) * فكان ذلك راجعا على سقوط كل ما ذكر في الآية من قتل وصلب ونفي وقطع وخزي وعذاب، لا على بعض ذلك دون بعض بإجماع فإن اعترض معترض بقوله تعالى: * (فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم) * وأننا نقول إنه راجع إلى أقرب مذكور.(4/410)
قال علي: وإنما وجب ذلك لضرورة بينة في تلك الآية، فإنه لا يجوز البتة في نصها أن يرد الشرط على كل مذكور فيها، لانه تعالى قال: * (وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) * فكان ذكر الدخول من صلة وصف النساء اللواتي هن أمهات الربائب، لا بوصف أمهات النساء، إذ من المحال الممتنع أن يقول تعالى: وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، لانه كلام فاسد البتة لا يفهم فلما صح أن الدخول المذكور إنما هو مراد به أمهات ربائبنا ضرورة، لانه من صلة اللاتي، واللاتي صفة للنساء اللواتي هن أمهات ربائبنا ضرورة، كان قوله تعالى: * (فإن لم تكونوا دخلتم بهن) * مرد ودا إليهن ضرورة أيضا، لانه أحد قسميهن اللذين هما دخول ولا دخول، وهو صلة الكلام المتصل به لا مما قبله.
فإن قال قائل: أنتم تجيزون أن يستثنى الشئ من خير جنسه، فكيف تقولون فيمن باع بدينار إلا درهما، أو إلا قفيز قمح، أو ما أشبه هذا ؟ قلنا له وبالله تعالى التوفيق: هذا عندنا ممتنع في البيع حرام، لانه يرجع إلى بيعتين في بيعة،
لان الدرهم والعرض، لا يستثنى من غير جنسه عندنا إلا على معنى الاستثناء المنقطع، كما بينا في أول هذا الباب، فإن كان ذلك فإنما مرجعه إلى القيمة، فإن كان ذلك في البيع فقد وجب أنه باعه بدينار إلا ما قابل صرف الدرهم من الدينار، وهذه بيعة أو ثمن مجهول، وكلاهما حرام في البيوع وهو جائز في الاقرار، لانه أقر له بدينار، وذكر أن له عنده درهما، فخرج الدرهم أو قيمته مما أقر به.
وكذلك لو قال مقر: له عندي دينار، ولي عنده ديناران، أو إلا دينارين لي عنده، لم يحكم عليه بشئ أصلا، لانه بعد أن أقر له أتى بما سقط به عنه الاقرار جملة، ولو كان ذلك في البيع لم يجز عند أحد من المسلمين، وبالله تعالى التوفيق.(4/411)
الباب السادس عشر في الكناية بالضمير
قال علي: والضمير راجع إلى أقرب مذكور، لا يجوز غير ذلك، لانه مبدل من مخبر عنه أو مأمور فيه، فلو رجع إلى أقرب مذكور لكان ذلك إشكالا رافعا للفهم، وإنما وضعت اللغات للبيان، فإذا كانت الاشياء المحكوم فيها أو المخبر عنها كثيرة، وجاء الضمير يعقبها ضمير جمع فهو راجع إلى جميعها كما قلنا في الاستثناء، ولا فرق ألا ترى أنك لو قلت أتاني زيد وعمرو وخالد، فقتلته، أنه لا خلاف بين أحد من أهل اللغة في أن الضمير راجع إلى خالد، وأنه لا يجوز رده إلى زيد أو إلى عمرو، فإن وجد يوما ما في شئ من النصوص رجوع ضمير إلى أبعد مذكور، فهو بمنزلة ما ذكرنا من نقل اللفظ عن موضوعه في اللغة، ولو قال: أتاني زيد وعمرو وخالد وعبد الله ويزيد فقتلتهم، لكان راجعا بلا خلاف بين أحد من أهل اللغة إلى جميعهم وكلهم.
قال علي: وما يبين أن الشرط في آية التحريم إنما هو في الربائب لا في أمهات النساء، ما ذكرنا من أن الضمير راجع إلى أقرب مذكور، والضمير بجمع المؤنث في قوله تعالى: * (دخلتم بهن) * راجع لما قدمنا إلى أقرب مذكور إليه لا يجوز غير ذلك، وأقرب مذكور إليه أمهات ربائبنا، فوجب أن يكون راجعا إليهن على ما قدمنا، وبالله تعالى التوفيق.
الباب السابع عشر في الاشارة
قال علي: والاشارة بخلاف الضمير، وهي عائدة إلى أبعد مذكور، وهذا حكمها في اللغة إذا كانت الاشارة بذلك أو تلك أو هو أو أولئك أو هم أو هي أو هما، فإن كانت بهذا أو هذه، فهي راجعة إلى حاضر قريب ضرورة، وهذا ما لا خلاف فيه بين أحد من أهل اللغة، ولا يعرف نحوي أصلا غير ما ذكرنا، ولذلك أوجبنا أن يكون القرء في حكم العدة هو الطهر خاصة دون الحيض، وإن كان القرء في اللغة واقعا على الحيض كوقوعه على الطهر ولا فرق، ولكن لما قال(4/412)
رسول الله صلى الله عليه وسلم : مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء فكان قوله عليه السلام: تلك إشارة تقتضي بعيدا وأبعد مذكور في الحديث قوله عليه السلام: تطهر فلما صح أن الطهر بهذا الحديث هو العدة المأمور أن تطلق لها النساء صح أنه هو العدة المأمور بحفظها لاكمال العدة، وبالله تعالى التوفيق.
الباب الثامن عشر في المجاز والتشبيه
قال علي: اختلف الناس في المجاز، فقوم أجازوه في القرآن والسنة، وقوم منعوا منه، والذي نقول به، وبالله تعالى التوفيق: أن الاسم إذا تيقنا بدليل نص
أو إجماع أو طبيعة أنه منقول عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر وجب الوقوف عنده، فإن الله تعالى هو الذي علم آدم الاسماء كلها، وله تعالى أن يسمي ما شاء بما شاء.
وأما ما دمنا لا نجد دليلا على نقل الاسم عن موضوعه في اللغة فلا فيحل لمسلم أن يقول: إنه منقول، لان الله تعالى قال: * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) * فكل خطاب خاطبنا الله تعالى به أو رسوله صلى الله عليه وسلم فهو على موضوعه في اللغة ومعهوده فيها، إلا بنص أو إجماع أو ضرورة حس، نشهد بأن الاسم قد نقله الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم عن موضوعه إلى معنى آخر، فإن وجد ذلك أخذناه على ما نقل إليه.
قال علي: وهذا الذي لا يجوز غيره، ومن ضبط هذا الفضل وجعله نصب عينيه ولم ينسه، عظمت منفعته به جدا، وسلم من عظائم وقع فيها كثير من الناس.
قال علي: فكل كلمة نقلها تعالى عن موضوعها في اللغة إلى معنى آخر، فإن كان تعالى تعبدنا بها قولا وعملا كالصلاة والزكاة والحج والصيام والربا وغير ذلك فليس شئ من هذا مجازا، بل هي تسمية صحيحة واسم حقيقي لازم مرتب من حيث وضعه الله تعالى، وأما ما نقله الله تعالى عن موضوعه في اللغة إلى معنى تعبدنا بالعمل به دون أن يسميه بذلك الاسم، فهذا هو المجاز، كقوله تعالى: * (واخفض(4/413)
لهما جناح الذل من الرحمة) * فإنما تعبدنا تعالى بأن نذل للابوين ونرحمهما، ولم يلزمنا تعالى قط أن ننطق، ولا بد فيما بيننا بأن للذل جناحا، وهذا لا خلاف فيه، وليس كذلك الصلاة والزكاة والصيام، لانه لا خلاف في أن فرضا علينا أن ندعو إلى هذه الاعمال بهذه الاسماء بأعيانها ولا بد، وبالله تعالى التوفيق.
واحتج من منع من المجاز بأن قال: إن المجاز كذب، والله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم يبعدان عن الكذب.
قال علي: فيقال له صدقت وليس نقل الله تعالى الاسم عما كان علقه عليه في موضع ما إلى موضع آخر كذبا، بل هو الحق بعينه، لان الحق هو ما فعله تعالى والباطل هو ما لم يأمر به أو لم يفعله، ومن ظن أن هنا حقا هو عيار على الله تعالى، وزمام على أفعاله يلزمه عز وجل أن يجري أفعاله عليه فقد كفر، وقد تكلمنا في هذا في باب إثبات حجج العقول، ونستوعب الكلام فيه إن شاء الله تعالى في باب إبطال العلل من كتابنا هذا، وقد تكلمنا على ذلك أيضا في كتابينا الموسومين بالتقريب والفصل كلاما كافيا، وبالله تعالى التوفيق.
وليست الاسماء موضوعة على المسميات، إلا إما بتوقيف وإما باصطلاح، ولا موقف إلا الله عز وجل، فإذا أوقع الموقف الاول - عز وجل - اسما ما على مسمى ما في مدة ما، أو في معنى ما، ثم نقل ذلك الاسم إلى معنى آخر، في مكان آخر، فلا كذب في ذلك، ولا للكذب ههنا مدخل، وإنما يكون كاذبا من نقل منا اسما عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر يلبس به بلا برهان، فهذا هو الكاذب الآفك الاثيم، وكذلك لو اصطلح اثنان على أن يسميا شيئا ما اسما ما - مخترع من عندهما أو منقول عن شئ آخر - يتفاهما به لا ليلبسا به فلا كذب في ذلك، فإذا جاز هذا فيما بيننا فهو للذي يلزم للجميع أن يعبدوه ويطيعوه ما أمكن، وهو بذلك تعالى أولى.
والتلبيس في هذا هو من قال: العسل حلال، والمسكر من مصراة عسل فهو حلال، فهذا كاذب، فإنه أتى إلى عين سماها الله عز وجل خمرا - والخمر حرام - فسماها بغير اسمها ليستحلها بذلك، وقد أنذر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي، عن محمد بن إسحاق القاضي، عن ابن الاعرابي، عن(4/414)
سليمان بن أشعث، عن أحمد بن حنبل، ثنا زيد بن الحباب، ثنا معاوية بن صالح، عن حاتم بن حريث، عن مالك بن أبي مريم، ثنا عبد الرحمن بن غنم قال: أنبأ أبى ومالك
الاشعري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، ثنا عبد الله بن ربيع، عن محمد بن معاوية المرواني، عن أحمد بن شعيب ثنا محمد بن عبد الاعلى، ثنا خالد - هو ابن الحارث - عن شعبة، سمعت أبا بكر بن حفص يقول: سمعت ابن محيريز يحدث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.
قال علي: فقد بينا وجه الحقيقة في هذا، ثم نذكر إن شاء الله تعالى طرفا من الآي التي تنازعوا فيها، فإن الشئ إذا مثل سهل فهمه.
فمن ذلك قوله عز وجل: * (واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها) * فقال قوم: معناه واسأل أهل القرية، واسأل أهل العير، وقال آخرون: يعقوب نبي فلو سأل العير أنفسها والقرية نفسها لاجابته.
قال علي: وكلا الامرين ممكن، ومنقوله تعالى: * (جدارا يريد أن ينقض) * فقد علمنا بضرورة العقل أن الجد ار لا ضمير له، والارادة لا تكون إلا بضمير الحي - هذه هي الارادة المعهودة التي لا يقع اسم إرادة في اللغة على سواها - فلما وجدنا الله تعالى، وقد أوقع هذه الصفة على الجدار الذي ليس فيه ما يوجب هذه التسمية، علمنا يقينا أن الله عز وجل قد نقل اسم الارادة في هذا المكان إلى ميلان الحائط، فسمى الميل إرادة، وقد قدمنا أن الله تعالى يسمي ما شاء بما شاء، إلا أن ذلك لا يوجب نقل الحقائق التي رتب تعالى في عالمه عن مراتبها، ولا نقل ذلك الاسم في غير المكان الذي نقله فيه الخالق عز وجل، ولولا الضرورة التي ذكرنا ما استجزنا أن نحكم على اسم بأنه منقول عن مسماه أصلا، وقد أنشد أبو بكر محمد بن يحيى الصولي في نقل اسم الارادة عن موضوعها في اللغة إلى غيره قول الراعي: قلق الفؤوس إذا أردن نضولا وذكر أبو بكر الصولي رحمه الله أن ابن فراس الكاتب، وكان دهريا سأله في هذه
الآية، فأجاب أبو بكر بهذا البيت، وقد قال قوم: إنه تعالى قادر على أن يحدث في الجدار إرادة، وبلى هو قادر على ما يشاء، وكل ما يتشكل في الفكر، ولكن(4/415)
كل ما لم يأتنا نص أنه خرق تعالى فيه ما قد تمت به كلماته من المعهودات، فهو مكذب، كما أن لكل مدع ما لم يأت بدليل فهو مبطل، وكذلك قوله تعالى: * (وهي تجري بهم في موج كالجبال) * فإنه تعالى سمى حركة السفينة جريا، وحركة السفينة اضطرارية، وهذا مما قلنا من أنه تعالى يسمي ما شاء بما شاء، فهو خالق الاسماء والمسميات كلها، حاشاه لا إله إلا هو وأما قوله تعالى: * (وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم) * فإنما عن تعالى حب العجل، على ما ذكرنا من الحذف الذي أقيم لفظ غيره مقامه، وأما قول تعالى: * (يوم نقول لجهنم هل امتلات وتقول هل من مزيد) * وهو عندنا حقيقة وإنطاق لها.
وقد احتج علينا قوم بقول الله تعالى: * (إنا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها) *.
قال علي: وهذا أيضا عندنا على الحقيقة، وأن الله تعالى وضع فيها التمييز إذ خيرها، فلما أبت حمل الشرائع وأشفقت من تحمل الامانة سلبها إياه، وسقطت الكلف عنها، وممكن أن يكون على نقل اللفظ أيضا، والمراد بذلك أنها لم يحملها إذا لم يركب تعالى فيها قوة الفهم والعقل، ولا النفس المختارة المميزة.
وهذا موجود في كلام العرب وأشعارها، فإن العرب تقول إذا أرادت أن تمدح: أبى ذلك سؤددك، وإذا أرادت الذم: أبى ذلك لؤمك، أي إن سؤددك غير قابل لهذه الفعلة لمضادتها له، وكذلك في الذم أي إن لؤمك غير قابل لهذه المكرمة لمضادتها له، فعلى هذا كانت إباية السموات والارض لا على ما سواه إلا أن الاول أصح وبه نقول.
وإنما فرقنا بين هذا في هذا الوجه، وبين ما قلنا آنفا في إنطاق جهنم، لان كلام
الله عز وجل كله عندنا بيان لنا، وجار على معهود ما أوجبه فهمنا بإدراك عقولنا وحواسنا، وإنما قلنا ذلك لقول الله عز وجل: * (وجعل لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون) * وحضنا تعالى على التفكير والتدبر للقرآن، وأخبرنا بأنه بيان لنا، وكل ذلك يكون إلا بما تميزه عقولنا، لا بما يضادها، فلما صح ذلك كله، وأدانا التدبير والبصر والسمع والعقل إلى أن السموات جمادات لا تعقل، وأن الارض كذلك، وأن حد النطق هو التمييز للاشياء، وأن التمييز لا يكون إلا(4/416)
في حي، وأن الحي هو الحساس المتحرك بإرادة، وأن المميز هو بعض الحي لا كله، وأن حد التمييز هو إمكان معرفة الاشياء على ما هي عليه، وإمكان التصرف في الصناعات والاعمال المختلفة بإرادة، وأيقنا أن كل هذه الصفات ليست الارض، ولا الافلاك، ولا الجبال له حاملة، علمنا أن هذه اللفظة، التي أخبرنا بها تعالى عن هذه التي ليست أحياء، لفظة منقولة عن معهودها عندنا إلى معان أخر من صفات هذه الاشياء المخبر عنها، الموجودة فيها على الحقيقة، ومن تعدى هذه الطريقة فقد لبس الاشياء، ورام إطفاء نور الله تعالى الموضوع فينا.
وبالجملة فمن أراد إخراج الامور عن حقائقها في المبادئ، ثم عن حقائقها في المعاهد فينبغي أن يتهم في دينه، وسوء أغراضه، فإسلم من ذلك فلا بد من وصمة في عقله، أو قوة في جهله، إلا أن هذا كله لا يعتر ض على الوجه الاول، لان الانطاق الذي كان وضعه الله تعالى فيها حينئذ قد سلبها إياه، إذ أبت قبول الامانة، وإنما يعترض بهذا كله على من يقول: إنها باقية على نطقها إلى اليوم، فهذا باطل لا شك فيه بما ذكرنا، وبالله تعالى التوفيق.
وقذكر رجل من المالكيين - يلقب خويز منداذ: أن للحجارة عقلا، ولعل تمييزه يقرب من تمييزها، وقد شبه الله قوما زاغوا عن الحق بالانعام
وصدق تعالى، إذ قضى أنه أضل سبيلا منها، فإن الانعام لا تعدوا ما رتبها ربها لها من طلب الغذاء، وإراد بقاء النوع، وكراهة فسادها بعد كونها، وهؤلاء رتبهم خالقهم عز وجل ليعرفوا قدرته، وإنها بخلاف قدرة من خلق، وليعرفوا رتبة ما خلق على ما هي عليه، فبعدوا ذلك، فمن مشبه قدرة ربه تعالى بقدرة المخلوقين ومن مريد أن يجرى على ربه تعالى حكم عقله فيصرفه به، تعالى الله عما يقول أهل الظلم علوا كبيرا.
ومن مفسد رتب المخلوقات، وساع في إبطال حدودها، وإفساد الاستدلال بها على التوحيد وكل حزب بما لديهم فرحون وسيرد الجميع إلى عالم الغيب والشهادة فيحكم بيننا فيما فيه نختلف، وتالله لتطولن ندامة من لم يجعل حظه من الدين والعلم إلا نصر قول فلان بعينه، ولا يبالي ما أفسد من الحقائق في تلك السبيل العضلة، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان، فقال هذا الجاهل: إن من الدليل على أن الحجارة تعقل قوله تعالى: * (إن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار(4/417)
وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية) * قال: فقد أخبر تعالى أن منها ما يهبط من خشية الله، فدل ذلك على أن لها عقلا، أو كلاما هذا معناه.
قال علي: ونحن نقول: إن من العجب العجيب استدلال هذا الرجل بعقله على أنه لا يخشى الله تعالى إلا ذو عقل، فهلا استدل بذلك العقل نفسه على ما شاهد بحسه من أن الحجارة لا عقل لها، وكيف يكون لها تمييز وعقل، والله تعالى قد شبه قلوب الكفار التي لم تنقد إلى معرفته عز وجل بالحجارة في أنها لا تذعن للحق الوارد عليها، فكذب الله تعالى في نفيه المعرفة عن الحجارة نصا، إذ جعلها تعالى بمنزلة قلوب الكفار في عنود تلك القلوب عن الطاعة له عز وجل، فكيف يكون للحجارة عقل أو تمييز بعد هذا.
فإن قال قائل: فما وجه إضافة الخشية إلى الحجارة ؟ قلنا له، وبالله تعالى التوفيق: قد قدمنا أن الله تعالى رتب الاسماء على المسميات، وجعل ذلك سببا للتفاهم،
ولولا ذلك ما كان تفاهم أبدا، ولا فهمنا عنه تعالى شريعة، ولا علمنا مراده عز وجل في أمر ولا نهي، ولا في خبر أخبرنا به، وعرفنا تعالى بذلك التمييز الذي وضع فينا من صفات المخلوقات ما قد عرفناه، وجعل لتلك الصفات أسماء نعبر بها عنها ونفاهم بها الاخبار عنها.
فكان مما رتب لنا من ذلك في اللغة العربية، إن سمينا تمييزا حال من رأيناه يفهم ويتكلم ويسأل عن وجوه الاشياء المشكلة، فيجا ب فيفهم، ويسأل عما علم منها فيجب ويحدث بما رأى وشاهد وسمع، ويؤمر بالكلام وينهى عن ضروب مختلفة من الافاعيل، فيفهم ما يزاد منه كل ذلك.
وكان مما رتب لنا أيضا عز وجل أن لم تكن فيه هذه الصفات سميناه غير مميز، فإن كان من الحيوان مما سوى الملائكة والجن والانس سميناه حيا غير مميز، وإن كان من غير الحيوا سميناه جمادا غير حي، إن كان من الشجر أو الحجارة أو الارض أو الماء أو النار أو الهواء أو غير ذلك.
وأقر تعالى هذه الرتب في أنفسنا - بما وضع فيها من التمييز - إقرارا صار من أنكر شيئا منه ربما آل به إلى أن نسقط عنه الحدود، ولا يقتص منه إن قتل.
وتسقط عنه الشرائع، ويصير في محل من لا يخاطب لعدم عقله وتمييزه، فإن زاد ذلك، لم يؤمن عليه أن يغل ويداوي دماغه الذي هو منبعث الحس والحركة، بأنواع كريهة من العلاج.
فلما(4/418)
أيقنا أن تلك الصفات - المسماة برتبة الله تعالى تمييزا - ليست في الحجارة وجب ضرورة أن تسمى مميزة.
وأيضا فقد قال تعالى مصدقا لابراهيم خليله عليه السلام في قوله: * (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) * وإنما كان يعبد الحجارة.
فصح بالنص أنها لا تفهم ولا تعقل.
فلما رأيناه تعالى قد أوقع عليها خشية له، علمنا أن هذه اللفظة هنالك منقولة
عن موضعها عندنا إلى صفة أخرى من صفات الحجارة، وهي تصريفه لها تعالى كيف شاء، لا تخرج تلك الخشية عن هذه الجملة التي فسرنا البتة.
فهذا وجه إضافة الخشية إلى الحجارة، إذ الخشية المعهودة عندنا هي الخوف من وعيد الله عز وجل، والائتمار لامره تعالى، والحجارة خالية بيقين من كل ذلك، وكيف يخشى من لم يؤمر ولا ينهى ولا كلف ولا وعد أم أي شئ يخشى غير العقا ب ولا عقاب إلا على عاص، ولا عاصي إلا مأمور والحجارة ليست بمأمورة، فليست عاصي فلا عقاب عليها ولا خشية عليها نعني الخشية المعهودة فيما بيننا ولا مميز إلا حي، والحجارة ليست حية فليست مميزة.
ومما ذكرنا من نقل بعض الاسماء إلى غير معهودها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفرس: إن وجدناه لبحرا فأوقع عليه السلام لفظة بحر على الفرس الجواد، وكذلك لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارفق بالقوارير يعني - النساء - كان ذلك نقلا لاسم القوارير عن موضوعه في اللغة عن الزجاج إلى النساء، وكذلك قوله تعالى: * (قواريرا من فضة) * هو نقل أيضا للقوارير عن موضوعه في اللغة عن الزجاج إلى الفضة، إلا أنه لا يحل لمسلم أن يقول في لفظه لم يأت نص ولا ضرورة حس بأنها منقولة عن موضوعها إنها منقولة ولا يتعدى بكل ذلك ما جاء في نص أو ضرورة حس، ولا يصرف لفظ عن موضوعه إلا بأحد هذين الوجهين، وإلا فهي باقية في مرتبتها في اللغة، وليس لاحد أن يصرف عن وجهه إذ لم يصرفه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وإن العجب ليكثر ممن يقول إن الشحم يسمى ندى فإذا سئل من أين قلت ذلك ؟ أنشد قول أعرابي جلف:(4/419)
كثوب العداب الفرد يضربه الندى تعلى الندى في متنه وتحدرا
فيكون ذلك قاطعا لخصمه، يستشهد أن الجواري يسمين القوارير وأن الفرس الجواد يسمى بحرا، وأن الخشية قد يسمى بها الوقوع تحت التدبير: بأن خالق اللغات والمتكلمين أوقع هذا الاسم على هذا المعنى، وبأن أفصح العرب سمى النساء قوارير، والفرس بحرا.
ولعمري لو أنه عليه السلام يقول ذلك قبل بلوغه أربعين عاما، وقبل أن ينبأ لكان قوله أعظم حجة لفصاحته وعلمه بلغة قومه، وأنه من وسيطة قريش ومسترضع في بني سعد بن أبي بكر بن هوازن فجمع فصاحة الحيين: خندف وقيس أهل تهامة والحجارة العالية، الذين إليهم انتهت الفصاحة في اللغة العربية الاسماعيلية والذي لا شك فيه، فهو أنه عليه السلام أفصح من امرئ القيس، ومن الشماخ، ومن حسن البصري، وأعلم بلغة قومه من الاصمعي وأبي عبيدة، وأبي عبيد.
فما في الضلال أبعد من أن يحتج في اللغة بألفاظ هؤلاء، ولا يحتج بلفظة فيها عليه السلام فكيف وقد أضاف ربه تعالى فيه إلى ذلك العصمة، ومن الخطأ فيها القول والتأييد الالهي، والنبوة والصدق المقطوع على غيبه الذي صحبه خرق العادات والآيات والمعجزات، وفي أقل من هذا كفاية لمن كانت فيه حشاشة، فكيف أن يظن به عليه السلام أن يخبر عن ربه تعالى خبرا يكلفنا فهمه، وهو بخلاف ما يفهم ويعقل ويشاهد ويحس ما ينسب هذا إليه صلى الله عليه وسلم إلا ملحد في الدين كائد له.
وأعجب العجب أن هؤلاء القوم يأتون إلى الالفاظ اللغوية فينقلونها عن(4/420)
موضوعها بغير دليل، فيقولون: معنى قوله تعالى: * (وثيابك فطهر) * ليس للثيا ب المعهودة، وإنما هو القلب.
ثم يأتون إلى ألفاظ قد قام البرهان الضروري على أنها منقولة عن موضعها في اللغة إلى معنى آخر، وهو إيقاع الخشية على الحجارة.
فيقولون: ليس هذا اللفظ ههنا منقولا عن موضوعه مكابرة للعيان، وسعيا في طمس نور الحق، وإقرارا لعيون الملحدين الكائدين لهذا الدين، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في التشبيه
قال علي: التشبيه بين الاشياء المشتبهة حق مشاهد، فإذا شبه الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وسلم شيئا بشئ فهو صدق وحق وتنبيه على قدرة عظيمة لانه ليس في العالم شيئان إلا وهما مشتبهان من وجه ما، وغير مشتبهين من وجه آخر وقد قال الله تعالى: * (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) * فهذا الذي قلنا هو ارتفاع التفاوت، لان التماثل هو ضد التفاوت، وإذا بطل التفاوت صح التماثل، ولذلك افتقر الناس إلى معرفة حدود الكلام، وضبط الصفا ت التي تتفق فيها الموصوفات التي سعى قوم من النوكى في إبطالها، وهيهات من إبطال الحقائق.
فإن قال قائل: إنه عليه السلام قد شبه ديون الله تعالى بديون الناس في وجوب قضائها، وأنتم لا تقولون بقضاء الصلاة عن الميت.
فالجواب، وبالله تعالى التوفيق: إننا بتوفيق الله عز وجل لنا أهل الطاعة لهذا الحديث، وغيره، وقد نسب إلينا الباطل من ظن أننا نخص هذا الحديث أو غيره بلا نص، فنقول: يقضى الصوم والحج والصلاة المنذورة والمنسية والتي نيم عنها، وأما الصلاة المفروضة المتروكة عمدا، والصوم المفروض في رمضان المتروك عمدا، فإن الذفرط فيها لا يقدر على قضائها أبدا، وليس عليه صيام يقضيه، ولا صلاة يقضيها، وإنما عليه إثم، أمره فيه إلى ربه تعالى، فلا يقضى عنه ذلك، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: وهذه أيضا من عجائب هؤلاء القوم، فإنهم يأتون إلى أشياء لم يشبه(4/421)
الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم بعضها ببعض، فيحكون لها بحكم واحد لادعائهم أنها مشتبهة فيقولون: لا يجوز للنكاح بأقل مما يقطع في اليد في السرقة، وقد علم كل ذي عقل أنه لا شبه بين السرقة والنكاح، ثم يأتون إلى ما أكد الله تعالى شبهوساوى بينهما، فيبطلون التساوي فيهما فيقولون: إن ديون الناس تقضى عن الميت وديون الله تعالى لا تقضى عنه، فهل في تقحم الباطل أعظم من هذا ؟
قال علي: وهذا الذي قلنا في المجاوز والتشبيه هو عين الحقيقة بالبراهين التي ذكرنا لم نتر ك فيه علقة لمتعقب منصف، وبالله تعالى التوفيق، فأما أهل الشغب فهم بمنزلة التائه في الفلوات، وإنما علينا - بعون الله تعالى - نهج الطريق القصد وإيضاحه، حتى لا يوجد بحول الله تعالى وقوته طريق أنهج ولا أخصر منه، والحمد لله رب العالمين ويوفق الله تعالى من يشاء بما يشاء، وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الباب التاسع عشر في أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وفي الشئ يراه عليه السلام أو يبلغه فيقره صامتا عليه لا يأمر به ولا ينهى عنه
قال علي بن أحمد رحمه الله: قال قوم من المالكيين: أفعاله عليه السلام على الوجوب، وهي آكد من أوامره، وقال آخرون منهم من الحنفيين: الافعال كالاوامر، وقال آخرون من كلتا الطائفتين ومن الشافعيين: الافعال موقوفة على دليلها، فما قام منها على أنه واجب صير إليه، وما قام دليل أنه منها ندب أو إباحة صير إليه، وممن قال بهذا من الشافعيين أبو بكر الصيرفي، وابن فورك، وقال سائر الشافعيين وجميع أصحاب الظاهر: ليس شئ من أفعاله عليه السلام واجبا، وإنما ندبنا إلى أن نتأسى به عليه السلام فيها فقط، وألا نتركها على معنى الرغبة عنها، ولكن كما نترك سائر ما ندبنا إليه مما
إن فعلناه أجرنا، وإن تركناه لم نأثم ولم نؤجر، إلا ما كامن أفعاله بيانا لامر أو تنفيذا لحكم، فهي حينئذ فرض، لان الامر قد تقدمها، فهتفسير الامر.(4/422)
قال علي: وهذا هو القول الصحيح الذي لا يجوز غيره.
واحتج من قال إنها على الوجوب، وإنها أوكد من الاوامر بما حدثنا سعيد الجعفري قال: ثنا أبو بكر بن الادفوي، ثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل بن النحاس النحوي، عن أحمد بن شعيب النسائي، عن سعيد بن عبد الرحمن، حدثنا سفيان - هو ابن عيينة - عن الزهري، قال وثبتني معمر بعد عن الزهري، عن عروة بن الزبير أن مسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم - يزيد أحدهما على صاحبه - قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فذكر الحديث وفيه طول، فلما فرغ من قصة الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة: يا رسول الله أتحب ذلك، اخرج ثم لا تكلم منهم أحدا حتى تنحر وتحلق، فخرج عليه السلام فنحر بدنة ودعا بحالقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما.
قال علي: وما نعلم حجة أشنع عليهم من هذا الحديث الذي احتجوا به، لان الذي أوجب الله علينا طاعته وأمرنا باتباعه هو النبي صلى الله عليه وسلم الذي أنكر عليهم التأخر عما أمرهم به، ولم يأمر باتباع الذين خالفوه حتى فعل ما أمرهم به والذين أوهموه حتى جعلوه يشكوا ما لقي منهم.
ومن أخذ بفعل الناس وترك أمر نبيه صلى الله عليه وسلم ،وعمل بما أنكره عليه السلام ولم يلتفت إلى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم ،وصوب فعل من
أغضبه وتعمد ذلك، فقد ضل ضلالا، ولم نأمن عليه مفارقة الاسلام.
وليعلم كل ذي لب أن ذلك الفعل من أهل الحديبية رضي الله عنهم خطأ ومعصية، ولكنهم مغفور لهم بيقين النص في أنه لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية، وليس غيرهم كذلك، ولا يحل لمسلم أن يقتدي بهم في ذلك، فلا بد(4/423)
لكل فاضل من زلة.
وكل عالم من وهلة، وكل أحد من الخيار فإنه يؤخذ من قوله وفعله، ويترك ويرغب من كثير من قوله وفعله، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن اقتدى بأهل الحديبية في هذا الفعل الذي أنكره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد هلك، رضي الله عنهم مضمون لهم المغفرة في ذلك وغيره، ولم يضمن ذلك لغيرهم.
وقد أقر بعضهم رضي الله عنهم على نفسه الخطأ العظيم في هذا الباب كما حدثنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح قال: ثنا عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم، ثنا أبو كريب محمد بن العلاء، ومحمد بن عبد الله بن نمير قالا: أنبأنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، قال: سمعت سهل بن حنيف بصفين يقول: اتهموا رأيكم على دينكم فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع رد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الاعمش عن أبي وائل عن سهل - لرددته.
قال علي: ويوم أبي جندل هو يوم الحديبية، فقد أقر سهل رضى الله عنهم أنهم أساؤوا الرأي يوم الحديبية، حتى لو استطاعوا رد أمر رسول الله ص) لردوه.
حدثنا أبو سعيد الجعفري، حدثنا ابن الادفوي، ثنا أبو جعفر بن الصفار، عن النسائي، عن سعيد بن عبد الرحمن، حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري قال: وثبتني معمر عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم
فذكرا حديث الحديبية، وفيه أن عمر بن الخطاب قال: والله ما شككت مذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقا ؟ قال: بلى قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال: بلى قلت: فلم نعطى الدنية في ديننا إذا ؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري قلت: أو ليس وعدتنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال: بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ قلت: لا قال: إنك تأتيه وتطوف به قال فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا ؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال: بلى، قلت فلم نعطى الدنية إذا ؟ قال: أيها الرجل إنه رسول الله، وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق.(4/424)
قلت: أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام ؟ قلت: لا.
قال: إنك ستأتيه وتطوف به.
قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا.
قال علي: لم يشك عمر قط مذ أسلم في صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ،ومعاذ الله من أن يظن ذلك به ذو مسكة، ولكنه شك في وجوب اتباع ما أمرهم به من الحلق والنحر، وإمضاء القضية بينه وبين قريش، ثم ندم على ذلك كما ترى، وعمل لذلك أعمالا مستغفرا مما سلف منه، من الامر الذي ينصره الآن من أضله الله تعالى بالتقليل الفاسد، ومثل هذا، من غير أهل الحديبية، فسق شديد، ولكنهم بشهادته صلى الله عليه وسلم مغفور لهم لا يدخله النار منهم أحد إلا صاحب الجمل الاحمر وحده.
قال علي: وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم دينهم في هذا الباب، كما ثنا يحيى بن عبد الرحمن، ثنا ابن دحيم، ثنا إبراهيم بن حماد، ثنا إسماعيل بن إسحاق، ثنا نصر بن علي، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي، عن ابن إسحاق قال: ثنا عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد،
عن ابن عباس قال: حلق يوم الحديبية رجال، وقصر آخرون فذكر ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم ترحم على المحلقين ثلاثا، وعلى المقصرين واحدة، بعد أن ذكر بهم ثلاث مرات فقالوا: ما بال المحلقين ظاهرت لهم الترحم ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : إنهم لم يشكوا.
قال علي: لم يشكوا في وجوب تنفيذ أمره، وشك المترددون فعوقبوا كما ترى، وإن كانوا مغفورا لهم كلهم، وكذلك الذين فروا من الزحف يوم أحد، فأخبر تعالى أنه إنما استفزهم الشيطان ببعض ما كسبوا، ثم أخبر تعالى أنه عفا عنهم، فمن اقتدى بهم في الفرار من الزحف فهو غير حاصل على ما حصلوا عليه من العفو، بل يبوء بغضب من الله تعالى.
ولا عجب أعجب ممن يقتدي بأهل الحديبية في خطيئة وقعت منهم قد ندموا عليها، واعترفوا بها، وينهى عن الاقتداء بهم في فعل فعلوه كلهم، موافق لرضا الله عز وجل، ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم في نحرهم البدنة في ذلك اليوم عن سبعة، والبقرة عن سبعة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وأنهم نحروا سبعين بدنة عن سبعمائة إنسان ما سوى البقر، فيقول هؤلاء: لا يجوز الاقتداء بهم في ذلك تقليدا لما لك ثم يحض على الاقتداء بهم في خطيئة أخطؤوها قد تابوا منها، فهل في عكس الحقائق(4/425)
والمجاهرة بالباطل أشنع من هذين المذهبين وبالله تعالى نعوذ من الخذلان.
ومن العجائب التي لا يفهم منها إلا الاستخفاف بالدين والخنا، احتجاج ابن خويز منداذ المالكي، إيجاب أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضا، بحديث الانصاري الذي قبل امرأته وهو صائم، فأمرها أن تستفتي في ذلك أم سلمة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوجد المرأة فسأل عنها، فأخبرته أم سلمة بخبرها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أخبرتها أني أفعل ذلك ؟ فقالت: قد فعلت، فزاده ذلك شرا وقال: يحل الله لرسوله ما شاء، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أما والله
إني لاتقاكم لله وأعلمكم بما أتقي.
قال أبو محمد: وإن احتجاج ابن خويز منداذ بهذا الحديث، وهو لا يقول به، ولا يستحبه ولا يبيحه، بل يكره القبلة للصائم ويرغب عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ويسخط الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لرغبته عما كان عليه السلام يفعله، لآية من الآيات الشنيعة، وهو لا يرى هذا الفعل واجبا ولا مستحبا ولا مطلقا، ثم يحتج به في إيجاب أفعاله صلى الله عليه وسلم وليس العجب ممن يطلق لسانه بمثل هذا الخنا فإنه قد عدم الرقبة والحياء والخوف، ولا يبالي بالاثم ولا بالعار، وإنما العجب ممن يسمعه ثم يقبله، ويكتبه مصدقا له مستحسنا، وإنا لله وإنا إليه راجعون على دروس العلم وذهابه.
وهذا الحديث الذي ذكر أعظم حجة في أن أفعاله عليه السلام ليست على الوجوب، ولكنها مستحبة مندوب إليها، يأتي متركها راغبا عنها، كما يأثم ابن خويز منداذ ونظراؤه في رغبتهم عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في التقبيل وهو صائم ولا يأثم من تركها مستحبا لها غير راغب عنها ولا يؤجر أيضا، وأما من فعلها مؤتسيا فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو مأجور، والحمد لله رب العالمين.
واحتج من قال: إن أفعاله عليه السلام كأوامره، بأن قال: قد أمرنا باتباعه عليه السلام بقوله تعالى: * (فآمنوا بالله ورسوله النبي الامي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) * قالوا: وهذا إيجاب علينا اتباعه، في فعله وأمره سواء.
قال علي: الاتباع لا يفهم منه محاكاة الفعل في اللغة أصلا، وإنما يقتضي الامتثال لامره عليه السلام، والطاعة لما علم عن ربه عز وجل، وقد بين ذلك عليه(4/426)
السلام في قوله: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وبقوله صلى الله عليه وسلم : كل أحد يدخل الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله ؟ قال:
من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى.
قال علي: والمعصية إنما هي مخالفة الامر، لا ترك محاكاة الفعل، وما فهم قط من اللغة أن يسمى تارك محاكاة الفعل عاصيا إلا بعد أن يؤمر بمحاكاته، فإنما استثنى عليه السلام من دخول الجنة من خالف الامر فقط، وبقي من لا يحاكي الفعل غير راغب عنه على دخول الجنة، فقد صح أنه ليس عاصيا، وإذا لم يكن عاصيا فلم يجتنب فرضا فقد صح أن محاكاة الفعل ليست فرضا، وأيضا فما فهم عربي قط من خليفة يقول: اتبعوا أمري هذا، أنه أراد افعلوا ما يفعل، وإنما يفهم من هذا امتثال أمره فقط، وأيضا فإن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم لا يختلف أحد في أنها غير فرض عليه بمجردها، ومن المحال أن يكون كذلك ويكون فرضا علينا، وهذا هو خلاف الاتباع حقا، وقد هذرقوم بأن قالوا: من الحجة في ذلك قول الله عز وجل: * (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) *.
قال علي: وهذا تخليط، لان الايتاء في اللغة إنما هو الاعطاء، والفعل لا يعطى، وإنما يعطينا أوامره فقط، ولا سيما وقد اتبع ذلك النهي، وإنما توعد الله على مخالفة الامر بقوله تعالى: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) * وقال بعضهم: الضمير في أمره راجع إلى الله عز وجل.
قال علي: فيقال لهم لا عليكم، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أمر من الله عز وجل نفسه، بقوله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) * فنطقه كله أمر الله عز وجل.
قال علي: الآية كافية في أن اللازم إنما هو الامر فقط لا الفعل، لان الله عز وجل إنما أخبر أن الوحي من قبله تعالى هو النطق، والنطق إنما هو الامر، وأما الفعل فلا يسمى نطقا البتة، فصح أن فعله عليه السلام كله إباحة وندب لا إيجاب، إلا ما كان منه بيانا لامر.
قال علي: وقال بعضهم: معنى أمره ههنا حاله، كما تقول أمر فلان اليوم
على إقامة، أو أمره على عوج، يعني حاله.(4/427)
قال علي: وهذا يبطل بأن هذه الآية إنما جاءت بإيجاب ما ذكر قبلها من الامر الذي هو النطق قال الله عز وجل: * (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) * فصح أن هذا الوعيد في أمره لهم بالبقاء معه، وكذلك كان عليه السلام لا يؤذن لشئ من صلوات التنفل كالعيدين والكسوف تفريقا بين الفعل والامر، إذ لو دعوا إلى الصلاة لكان أمرا، والامر فرض.
وقد حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم، ثنا زهير بن حرب، ثنا جرير، عن الاعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة أم المؤمنين، قالت: صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا نترخص فيه، فبلغ ذلك ناسا من أصحابه، فكأنهم كرهوه وتنزهوا عنه، فبلغه ذلك فقام خطيبا فقال: ما بال رجال بلغهم عني أمر ترخصت فيه فكرهوه وتنزهوا عنه، فوالله لانا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية.
قال علي: فهذا نص جلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم ترك فعل ما فعل، فصح أنه ليس ذلك واجبا، ولو كان واجبا لانكر تركه، وإنما أنكر عليهم إنكاره، والتنزه عنه، وهذا منكر جدا، وقد أنكر عليهم ترك أمره، فوضح الفرق بين الفعل والامر لمن عقل، وبالله تعالى التوفيق.
وبه إلى مسلم حدثنا محمد بن رافع، وعبيد الله بن معاذ، وابن أبي عمر، وقتيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وأبو كريب، وأبو بكر بن أبي شيبة، قال ابن رافع: ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن همام بن منبه، وقال ابن معاذ: ثنا أبي، ثنا شعبة، عن محمد بن زياد، وقال ابن أبي عمر: ثنا سفيان - وهو ابن عيينة - عن أبي الزناد،
عن الاعرج، وقال قتيبة: ثنا المغيرة الخرامي، عن أبي الزناد، عن الاعرج، وقال ابن نمير: ثنا أبي، عن الاعمش، عن أبي صالح السمان.
وقال ابن أبي شيبة، وأبو كريب: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن أبي صالح، ثم اتفق همام ومحمد بن زياد والاعرج وأبو صالح، كلهم عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذروني ما تركتكم، فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم.
وهذه(4/428)
رواية كل من ذكرنا، ولم يخالفهم همام في شئ إلا أنه قال: * (ما تركتكم) *.
قال أبو محمد:، وهذا خبر منقول نقل التواتر عن أبي هريرة فلم يوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحد إلا ما استطاع مما أمر به، واجتناب ما نهى عنه فقط، ولا يجوز البتة في اللغة العربية أن يقال: أمرتكم بما فعلته، وأسقط عليه السلام ما عدا ذلك، وأمرهم بتركه ما تركهم.
وقد علمنا بضرورة الحس والمشاهدة أنه عليه السلام، وكل حي في الارض لا يخلو طرفة عين من فعل، إما جلوس أو مشي، أو وقوف أو اضطجاع، أو نوم أو اتكاء، أو غير ذلك من الافعال، فأسقط عليه السلام عنا كل هذا، وأمرنا بتركه فيه، حاشا ما أمر به أو نهى عنه فقط، فوضح يقينا أن الافعال كلها منه عليه السلام لا تلزم أحدا وإنما فيها الائتساء المتقدمة فقط.
قال أبو محمد: وصح بالحديث الذي قبل هذا، أنه لا حجة في فعل أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ولا في قوله، لان أولئك الذين كرهوا ما فعله عليه السلام، قصدوا بذلك الخير في اجتهادهم، وقد أنكر عليه السلام ذلك فصح أنه لا حجة إلا فيما جاء عنه عليه السلام فقط، والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: وإنما حضنا الله تعالى في أفعاله عليه السلام على الائتساء به بقوله
تعالى: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * وما كان لنا فهو إباحة فقط، لان لفظ الايجاب إنما هو علينا لا لنا، نقول: عليك أن تصلي الخمس، وتصوم رمضان، ولك أن تصوم عاشوراء، وتتصدق تطوعا، ولا يجوز أن يقول أحد في اللغة العربية: عليك أن تصوم عاشوراء وتتصدق تطوعا، ولك أن تصلي الخمس، وتصوم رمضان، هذا الذي لا يفهم سواه في اللغة التي بها خاطبنا الله تعالى بما ألزمنا من شرائعه.
قال أبو محمد: وقال بعضهم: قوله تعالى بعقب الآية المذكورة: * (لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) * بيان أن ذلك إيجاب لان هذا وعيد.
قال أبو محمد: التأويل خطأ لان الائتساء المندوب إليه في الآية المذكورة إنما هو للمؤمنين الذين يرجون الله واليوم الآخر، ولم يقل تعالى هو على الذين يرجون الله واليوم الآخر وأما الكفار الذين لا يرجون الله واليوم الآخر،(4/429)
فراغبون عن الائتساء به عليه السلام، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : إني أصوم وأفطر وأنكح النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني وصدق عليه السلام، أن من ترك شيئا من أفعاله راغبا عنها فهو كافر، وأما من تركها غير راغب عنها لكن اقتصارا على الفرض، وتخفيفا من التطوع، عالما بأنه يترك فضلا كثيرا، فقد أفلح كما قال عليه السلام للاعرابي الذي حلف لا يزيد على الاوامر الواجبات شيئا فقال عليه السلام: أفلح والله إن صدق دخل الجنة.
قال أبو محمد: وفي هذا الحديث بيان كاف في أن الاوامر هي الفروض، وأن أفعاله عليه السلام ليست فرضا، لان الاعرابي إنما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أمر به، لا عما يفعل، ثم حلف ألا يفعل غير ذلك، فصوب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله وحسن فعله، وهذا كاف لمن عقل، إذ لم يلزمه عليه السلام اتباع
أفعاله، وهذا ما لا إشكال فيه.
قال أبو محمد: بل أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه رضي الله عنهم التزام المماثلة لافعاله، كما حدث عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية القرشي، ثنا أبو خليفة، نا أبو الوليد الطياسى - هو هاشم بن عبد الملك - عن حماد بن سلمة، عن أبي نعامة السعدي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فلما صلى خلع نعليه فوضعهما يساره فخلع القوم نعالهم، فلما قضى صلاته قال: ما لكم خلعتم نعالكم ؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، قال: إني لم أضعهما من بأس، ولكن جبريل أخبرني أن فيهما قذرا وأذى، فإذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن كان فيهما أذى فليمسحه.
قال أبو محمد: فهذا عدل من الصحابة - أبو سعيد الخدري - شهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم التزام مماثلة أفعاله، فبطل كل تعلل بعد هذا وصح ألا يلزم إلا أمره عليه السلام فقط.
قال أبو محمد: وإنما تعلق بما ذكرنا قوم من أصحاب مالك، على أنهم أترك خلق الله لافعاله عليه السلام، فقد تركوا فعله عليه السلام في صلاته بالناس وهم وراءه قيام أو جلوس وتركوا فعله عليه السلام في دخوله وإمامته بالناس بعد ابتداء أبي بكر بالتكبير بهم والصلاة، وجوزوه في الاستخلاف حيث لم يأت به(4/430)
نص ولا إجماع، ورغبوا عن فعله عليه السلام في الصب على بول الصبي، واختاروا ا لصوم في رمضان في السفر، ورغبوا عن فعله عليه السلام في الفطر، ورغبوا عن فعله عليه السلام في التقبيل وهو صائم، وقد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من رغب عن ذلك أو تنزه عنه، وخطب الناس ناهيا عن ذلك، ورغبوا عن فعله عليه السلام في قراءته: * (والطور) * في
المغرب، وتركوا فعله عليه السلام في تطيبه في حجة الوداع، وأخذوا بأمر له متقدم، لو كان على ما ظنوه كان منسوخا بآخر فعله عليه السلام، وتركوا فعله عليه السلام حكمه بالسلب للقاتل، وتركوا فعله عليه السلام في سجوده في سورة * (والنجم) * وفي: * (إذا السماء انشقت) * وتركوا فعل جميع الصحابة في هذين الموضعين، وكل من أسلم من الجن والانس.
قال أبو محمد: فأما ما كان من أفعاله عليه السلام تنفيذا لامر فهو واجب، فمن ذلك قوله عليه السلام: صلوا كما رأيتموني أصلي، وخذوا عني مناسككم وهمه بإحراق منازل المتخلفين عن الصلاة في الجماعة، وجلده شارب الخمر، لانه عليه السلام لما أخبر أن الاموال والاعراض حرام ثم أن ينتهك شر منها، أو بأنه يريد انتهاكها، علمنا أن ذلك حق، وأما بعد الامر فواجب لا إباحة لانه عليه السلام لا يهم إلا بأمر حق، وقد أمر بجلد الشارب ثم كان فعله بيانا للجلد الذي أمر به.
وكذلك ما كان من أفعاله عليه السلام نهياعشئ أو أمرا بشئ فهو على الوجوب، كإزالته صلى الله عليه وسلم ابن عباس عن يساره، ورده إلى يمينه، فهذا وإن كان فعلا فهو أمر لابن عباس للوقوف عن يمينه، ونهي له عن الوقوف عن يساره، وإنما الفعل المجرد هو الذي ليس فيه معنى الامر.
فإن قال قائل: فهلا قلتم إن همه عليه السلام بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة، إباحة لا فرض، على أصلكم في انتقال الشئ إذا نسخ إلى أقرب المراتب منه لا إلى أبعدها عنه، قيل له وبالله تعالى التوفيق: كذلك نقول ما لم يأت دليل على أنه منقول إلى أبعد المراتب عنه، ولكن لما قال عليه السلام: أمرت أن أقاتل(4/431)
الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا
بحقها، وحسابهم على الله، ثم أخبر عليه السلام أنه قد هم بحرق بيوت المتخلفين علمنا بالنص المذكور أن ذلك حق واجب إنفاذه، إذ قد نص أنه لا يستبيح دما ولا مالا إلا بحق، والحق فرض ما لم يأت دليل على أنه إباحة.
قال أبو محمد: قد قلنا: إن القائلين بأن أفعاله عليه السلام على الوجوب هم أشد الناس خلافا لهذا الاصل الفاسد، فإن المالكيين يقولون إن خطبة الامام يوم الجمعة خطبتين قائما يجلس بينهما ليست فرضا، وإنما الفرض خطبة واحدة، وما روي قط أن النبي صلى الله عليه وسلم خط ب إلا خطبتين قائما يجلس بينهما، فلم يروا فعله عليه السلام ههنا على الوجوب.
ويقولون: إن ترتيب الوضوء ليس فرضا، ولا شك في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتب وضوءه ولا ينكسه، لا يشك مسلم في ذلك.
ويرون أن الصلاة للصبح بمزدلفة ليس فرضا، ولا يبطل حج من تركه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم صلاها هناك، وآذن أن من لم يدركها هنالك فلا حج له، ويرون أن من صلى المغرب قبل مزدلفة ليلة النحر فصلاته تامة ورسول الله صلى الله عليه وسلم أخرها إلى المزدلفة فلم يصلها إلا فيها، ولا يرون رمي جمرة العقبة فرضا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد رماها، ولا يرون الضجعة بعد ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح فرضا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعلها دائما عليها مواظبا لها، وكذلك فقهاء المدينة السبعة، وأهل المدينة، وكل هذه المسائل فجماهير الصحابة والتابعين والفقهاء يرونها فرضا وإنما أتينا بهذه المسائل لئلا يدعو إجماعا على أنها ليست فرضا، ومثل هذا لو تتبع كثير، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: فإن تعارض فعل وقول، مثل أن يحرم عليه السلام شيئا ثم يفعله، فإن هذا إن علمنا أن الفعل كان بعد القول فهو نسخ له، وبيان أن حكم(4/432)
ذلك القول قد ارتفع، لانه عليه السلام لا يفعل شيئا محرما، ولا يجوز أن يقال في شئ فعله عليه السلام أنه خصوص له إلا بنص في ذلك، لانه عليه السلام قد غضب على من قال ذلك، وكل شئ أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حرام، وذلك مذكور في حديث الانصاري الذي سأله عن قبلة الصائم، فأخبره عليه السلام أنه يفعل ذلك، فقال الانصاري: يا رسول الله إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: والله إني لاتقاكم لله وأعلمكم بما آتي وما أذر أو كما قال عليه السلام.
فلا يحل لاحد بعد هذا أن يقول في شئ فعله عليه السلام: إنه خصوص له، إلا بنص مثل النص الوارد في الموهبة بقوله تعالى: * (خالصة لك من دون المؤمنين) *، ومثل وصاله عليه السلام في الصوم، وقوله ناهيا لهم: إني لست كهيئتكم، ومثل نومه - عليه السلام وصلاته دون تجديد وضوء، فسئل عليه السلام عن ذلك، فقال: عيناي تنامان ولا ينام قلبي فما جاء فيه بيان كما ذكرنا فهو خصوص، وما لم يأت فيه نص كما قلنا فلنا أن نتأسى به عليه السلام، ولنا في ذلك الاجر الجزيل، ولنا أن نترك غير راغبين عن ذلك فلا نأثم ولا نؤجر.
فمما جاء كما ذكرنا: نهيه عليه السلام عن الصلاة قائما، إذا صلى الامام جالسا، ثم هو عليه السلام صلى جالسا في مرضه الذي مات فيه، وصلى أبو بكر مذكرا إلى جانبه قائما فأقر، فعلمنا أن ذلك نسخ لايجاب الجلوس عن المذكر خاصة، فإن شاء صلى جالسا، وذلك أفضل عندنا، وإن شاء قائما، كل ذلك جائز حسن.
وكذلك قلنا في حضه عليه السلام على صيام يوم عرفة، ثم أفطر عليه السلام فيه، فقلنا: صيامه أفضل للحاج وغيره، وإفطاره مباح حسن، وقد روت عائشة: أنه عليه السلام كان يترك الفعل وهو يحبه، خشية أن يفعله الناس فيفرض عليهم، كما فعل عليه السلام في قيام الليل في رمضان، قام ثم ترك خوفا
أن يفرض علينا.
وإنما قلنا هذا لئلا يقول جاهل: أيجوز أن يترك عليه السلام الافضل،(4/433)
ويفعل الاقل فضلا ؟ فأعلمناه عليه السلام يفعل ذلك رفقا منه، كما أخبر عليه السلام أنه لولا رجال من أصحابه لا يتخلفون عنه أصلا، وأنه لا يجد ما يحملهم عليه ما تخلف عن سرية يوجهها في سبيل الله، فأخبر عليه السلام أنه يتخلف عن الجهاد وهو أفضل، خوفا أن يشق على أمته، وهذا كثير.
قال أبو محمد: وأما إذا لم يعلم أي الحكمين قبل: الامر أم الفعل ؟ فإنا نأخذ بالزائد، كما فعلنا في نهيه عليه السلام عن الشرب قائما، وروي عنه عليه السلام أنه شرب قائما، وفي نهيه عليه السلام عن الاستلقاء ووضع رجل على رجل، وروي عنه أنه عليه السلام رئي مضطجعا في المسجد كذلك، فأخذنا ههنا بالزائد، وهو النهي في كلا الموضوعين، لان الاصل إباحة الاضطجاع على كل حال والاستلقاء كما يشاء، وإباحة الشرب على كل حال، فقد تيقنا أننا نقلنا عن هذه الاباحة إلى نهي عن كلا الامرين بلا شك في ذلك، ثم لا ندري هل نسخ ذلك النهي أولا ؟ ولا يحل لمسلم أن يترك شيئا هو على يقين من أنه قد لزمه، لشئ لا يدري أهو ناسخ أم لا ؟ واليقين لا يبطل بالشك، والظن لا يغني من الحق شيئا، فنحن على ما صح لدينا أنه قد لزمنا، حتى يقيم المدعي لبطلانه - علينا البرهان في صحة دعواه، وإلا فهي ساقطة، وبالله تعالى التوفيق.
وهكذا قلنا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل مما يليك مع ما قد صح من تتبعه الدباء من نواحي القصعة ولا فرق، على أن هذا الخبر ليس فيه أنه عليه السلام تناول الدباء مما لا يليه، بل يمكن تتبعه من نواحي الصحفة مما يليه، وليس هكذا الاقوال، فإنه صلى الله عليه وسلم إذا قال قولا فيه إباحة، ثم جاء بعد عموم تحريم، إلا أنه
ممكن استثناء إباحة قبل، فواجب ضم القولين جميعا إلى واحد، واستثناء الاقل من الاكثر، لان القول بيان جلي، وليس في الفعل بيان المراد: لا بتخصيص ولا بغيره.
قال أبو محمد: فالحاصل من هذا أن القولين إذا تعارضا، وأمكن أن يستثنى أحدهما من الآخر، فيستعملان جميعا لم يجز غير ذلك، وواء أيقنا أيهما أول أو لم نوقن، ولا يجوز القول بالنسخ في ذلك، إلا ببرهان جلي من نص أو إجماع(4/434)
أو تعارض لا يمكن معه استثناء أحدهما من الآخر، وأما القول والفعل إذا تعارضا، فإن كان الفعل قبل القول، أو لم يعلم أقبله أم بعده فالحكم القول، ويكون الفعل حينئذ منسوخا، ولا يجوز أن يستثنى منه الفعل، لاننا لا ندري أحاله نخص أم زمانه أم مكانه ؟ إذ ليس في الفعل بيان عموم ولا تفسير حد، وإن كان الفعل بعد القول، فحينئذ نخص تلك الحال بيقين فقط، لاننا من ذلك على يقين، ولسنا من تخصيص الزمان والمكان على يقين، ولا يجوز أن نحكم في الدين بالشك، كما فعلنا فيما قد صح من أن المرأة تقطع الصلاة.
ثم صح أن عائشة ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهي بين يديه معترضة كاعتراض الجنازة، فتكره أن تقعد فتؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتمسك كما هي، فصح بهذا النص أن هذا الفعل كان بعد النهي، لانها أخبرت أنها لو قعدت لآذت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ودل أيضا هذا الخبر على المداومة على ذلك، فاستثناء حال الاضطجاع من قطع المرأة الصلاة على سائر أحوالها، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد لو كانت الافعال على الوجوب، لكان ذلك تكليفا لما لا يطلق من وجهين ضروريين: أحدهما: أنه كان يلزمنا أن نضع أيدينا حيث
وضع صلى الله عليه وسلم يده، وأن نضع أرجلنا حيث وضع عليه السلا م رجله، وأن نمشي حيث مشى، وننظر إلى ما نظر إليه، وهذا كله خروج عن المعقول.
والوجه الثاني: أن أكثر هذه الاشياء التي تصرف عليه السلام بأفعاله فيها فقد ثبت فكنا من ذلك مكلفين ما لا نطيق، فبطل كل قول في هذا الباب حاشى(4/435)
ما ذكرنا من الائتساء به عليه السلام في أفعاله، وأما من قال: نطلب الدليل، فإن وجدنا دليل، على وجوب الفعل صرنا إليه، وإن لم نجد دليلا حملنا الافعال على الائتساء فقط، فهي نفس قولنا، إلا أننا نحملها على الائتساء أبدا ما لم نجد دليلا على الوجوب، فإن وجدناه صرنا إليه، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وأما الشئ يراه عليه السلام أو يبلغه أو يسمعه، فلا ينكره ولا يأمر به فمباح، لان الله عز وجل وصفه عليه السلام فقال: * (الذين يتبعون النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر) * فلو كان ذلك الشئ منكرا لنهى عنه عليه السلام بلا شك، فلما لم ينه عنه لم يكن منكرا فهو مباح المباح معروف، وما عرفه عليه السلام فهو معروف، ولا معروف إلا ما عرف، ولا منكر إلا ما أنكر، فمن ذلك: غناء الجاريتين في بيته، وهو عليه السلام يسمع ولا ينكر، فأنكر ذلك أبو بكر، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر إنكاره، فصح بذلك ما ذكرنا نصا، ووجب الانكار على كل ما أنكر ما علمه عليه السلام فأقره.
ومن ذلك زفن السودان، فنهاهم عمر، فأنكر عليه السلام على عمر إنكاره عليهم، ومن ذلك اللعب التي رأى عليه السلام عند عائشة، وفيها فرس ذو أجنحة مع نهيه عليه السلام عن الصور، فكان ذلك إذا مستثنى مما نهى عنه، ومثل إنكاره عليه السلام الصور في الستر، مع إباحته لذلك إذا كان
رقما في ثوب، واستثناءه إياه من جملة ما نهى عنه من الصور، فلما قطعت عائشة الستر وسادتين، اتكأ عليه السلام عليهما ولم ينكرهما، فصح من ذلك أن المعلق من الثياب التي فيها الصور مكروه، ليس حراما ولا مستحبا، لكن من تركها أجر، ومن استعملها لم يأثم، واختار ههنا عليه السلام الافضل، واختاره لعائشة وفاطمة رضي الله عنهما، وصح بذلك أن الثياب التي فيها الصور وإذا كانت وسائد فذلك حسن مباح ولا مستحب لا نكرهه أصلا بل نحبه.
وكذلك الشئ إذا تركه عليه السلام ولم ينه عنه ولا أمر به، فهو عندنا مباح(4/436)
مكروه، ومن تركه أجر، ومن فعله لم يأثم ولم يؤجر، كمن أكل متكئا، ومن استمع زمارة الراعي، فلو كان ذلك حراما لما أباحه عليه السلام لغيره، ولو كان مستحبا لفعله عليه السلام، فلما تركه كارها له كرهناه ولم نحرمه.
فإن قال قائل: فقد ناموا بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ثم صلوا ولم يأمرهم بإعادة الوضوء، وأنتم لا ترون ذلك، قيل له وبالله التوفيق: ما روى أحد قط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآهم نياما، ولا أعلم أنهم ناموا، وإنما جاء الحديث: أنه عليه السلام أبطأ بالعشاء الآخرة حتى نام الناس، وسمع لهم غطيط، وصاح عمر: نام النساء والصبيان.
فالحديث كما تسمع بين في أنهم ناموا وهو عليه السلام غائب غير حاضر، وإنما أعلمه عمر بنوم النساء والصبيان، وهذان الصنفان ليس عليهم حضور الصلاة في الجماعة فرضا، وأيضا فمن أين للمحتج بهذا أن يقول: ناموا قعودا نوما قليلا، بلا أن يرد ذلك في الحديث، ولعل فيهم من نام مستندا إلى صاحبه أو إلى الحائط أو مضطجعا نوما طويلا، ما يدري من لم يحضر نومهم كيف كان نومهم، ومثل هذا من الدعاوى لا يستجيزها ذو دين متهم بالصدق.
فلما صح أنه عليه السلام كان غائبا، ولم يأتنا نص في أنه عليه السلام علم نومهم،
وصح أمره عليه السلام في حديث صفوان بن عسال المرادي بالوضوء من النوم جملة -: لزمنا ألا نزول عما أمرنا لامر لا ندري أعلمه عليه السلام أم لم يعلمه ؟ ولو صح عندنا أنه عليه السلام علم أنهم ناموا وأقرهم على ذلك لقلنا به، ولاسقطنا الوضوء عمن نام جملة على أي حال نام، ولو صح في ذلك الخبر أن عمر قال: نام الناس، لما كان لهم فيه متعلق، لانه كان يكون معناه نام الناس الذين ينتظرونه عليه السلام، وكيف وكل طائفة منهم تخالف هذا الخبر، لانهم يخصون بعض أحوال النوم دون بعض، وليس بيننا في الخبر أصلا.
فإن قال قائل: أيجوز أن يخفى ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قيل له: نعم، كما جاز عندكم معاشر الشافعيين والمالكيين والحنفيين قول جابر: كنا نبيع أمهات الاولاد على عهد رسول الله.
على أن بيع أمهات الاولاد أشهر من نوم قوم في الليل، والقوم في عوزة من المصابيح بركن المسجد.(4/437)
وكما يقول المالكيون: إنخفي عليه ذبح آل أبي بكر الفرس وأكلهم إياه بالمدينة، وهذا أشيع من نوم قوم فركن المسجد، لقلة الخيل عندهم بالمدينة في أيامه صلى الله عليه وسلم ولشدة العيش عندهم، وقلة الادام، وشدة امتزاج أهل بيت أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم ومجاورتهم له، فكيف يخفى عليه أنهم ذبحوا فرسا فأكلوه، ولا يخفى عليه نوم قوم في ركن المسجد وهو غائب عنهم، ولو صح أنه عليه السلام كان حاضرا في المسجد لامكن أن يختفي نوم من في ركن المسجد عنه، فكيف وقد صح أنه عليه السلام كان غائبا عنهم، مع أن تخصيص نومهم بأنهم كانوا قعودا لا مستندين ولا مضطجعين ولا متكئين كذب من أقدم عليه، وبالله التوفيق.
قال أبو محمد: وفي باب القول بالاخبار من كتابنا في أول الباب المذكور أشياء قاطعة من الكلام في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وفي الشئ يعلمه فيقر عليه، إذا استضافت إلى ما ههنا تم الكلام في ذلك، وكرهنا تكرارها، وبالله تعالى التوفيق.
الباب العشرون الكلام في النسخ
وهو الموفى عشرين
قال أبو محمد علي بن أحمد: حدالنسخ أنه بيان انتهاء زمان الامر الاول فيما لا يتكرر، وأما ما علق بوقت ما، فإذا خرج ذلك الوقت، أو أدى ذلك الفعل سقط الامر به، فليس هذا نسخا، فلكان هذا نسخا، لكانت الصلاة المنسوخة إذا خرج وقتها، والصيام منسوخا، بالاحرام والحيض والصيام والحج منسوخا، وهذا ما لا يقوله أحد بالاجماع المقطوع به على ألا يسمى نسخا، يكفي من الاطالة فيه وبالله تعالى التوفيق، مع من سمى هذا نسخا، فعليه البرهان على وجوب تسميته نسخا ولا سبيل إلى وجوبه فهو باطل قال تعالى: * (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) *.
قال أبو محمد: وقد قال بعض من تقدم: إن النسخ هو تأخير البيان نفسه.
قال أبو محمد: والنسخ على ما فسرناه قبل، نوع من أنواع تأخير البيان، لان تأخير البيان ينقسم قسمين: أحدهما: جماعة غير مفهومة المراد بذاتها، مثل قوله تعالى: * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) * إذا جاء وقت تكليف ذلك، بيلنا الحكم المراد منا في ذلك اللفظ المجمل بلفظ آخر مفسر.
والقسم الثاني: عمل مأمور به(4/438)
في وقت ما، وقد سبق في علم الله عز وجل أنه سيحيلنا عنه إلى غيره في وقت آخر، فإذا جاء ذلك الوقت بين لنا تعالى ما كان مستورا عنا من النقل عن ذلك العمل إلى غيره، وبالجملة فإن اسم البيان يعم جميع أحكام الشريعة كلها، لانها كلها إعلام من الله تعالى لنا، وبيان المراد منا.
فإن قال قائل: ليس النسخ من البيان، لان البيان يقع في الاخبار، والنسخ لا يقع في الاخبار، قيل له وبالله تعالى التوفيق: إننا لم نقل: إن النسخ هو البيان،
وإنما قلنا: هو نوع من أنواع البيان، فكل نسخ بيان، وليس كل بيان نسخا، فمن البيان ما يقع في الاخبار وفي الاوامر، ومنه ما يقع في الاوامر فقط، فمن هذا النوع الواقع في الاوامر، النسخ هو رفع لامر متقدم، وقد يكون أيضا بيان يقع في الاوامر ليس نسخا، لكنه تفسير لجلة، إلا أنه لا يجوز لاحد أن يحمل شيئا من البيان على أنه نسخ رافع لامر متقدم، إلا بنص جلي في ذلك أو إجماع أو برهان ضروري، على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى في باب كيفية معرفة المنسوخ من المحكم.
ألا ترى أن قوله تعالى: * (فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * فلسنا نقول: إنه نسخ أهل الكتاب من هذا الحكم، لكنا نقول: إن المراد بقوله تعالى في هذه الآية: * (فاقتلوا المشركين) * لله - إنما هم من عدا أهل الكتاب، وبين ذلك تعالى في استثنائه أهل الكتاب في الآية الاخرى.
وهكذا قولنا في آية الرضاع، وآية قطع السارق، وقوله تعالى: * (ألف سنة إلا خمسين عاما) * فنقول بلا شك: إن الله تعالى لم يرد بذلك كل رضاعة، ولا كل سارق، ثم نسخ ذلك عن بعضهم: وكذلك قوله تعالى: * (فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * فإنه تعالى لم يرد بذلك العبيد والاماء، ثم نسخ خمسين عنهم ولا ألف سنة كاملة، ثم استدرك تعالى إسقاط الخمسين عاما، لكنه تعالى أراد في كل ما ذكرناه ما بقي عندما استثنى عز وجل وخص من كل ذلك، وكذلك قولنا في قوله تعالى: * (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) * أنه تعالى لم يرد كل ما يقع عليه اسم نسك أو صدقة، أو اسم صيام، لكن أراد ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث لكعب بن عجرة.
فإن قال قائل: إن البيان يقع موصولا بعضه ببعض، والنسخ لا يقع موصولا،(4/439)
فالجواب، وبالله تعالى التوفيق: إننا قد قلنا في هذا ما يقع فيه من أنه ليس كل
بيان نسخا، فما كان من البيان نسخا لم يقع موصولا، وما كان منه غير نسخ لكن تفسيرا لمراده تعالى في جملة ما، فجائز أن يقع موصولا، وجائز أن يقع في مكان آخر من القرآن والسنة، وبالله تعالى التوفيق.
والنسخ ينقسم في اللغة إلى قسمين: أحدهما: التعفية، تقول: انتسخت دولة فلان، ونسخت الربح أو القوم، أي عفته جملة، والقسم الثاني: تجديد الشئ وتكثير أمثاله، تقول: نسخت الكتاب نسخا كثيرة، فالقسم الاول الذي هو التعفية هو الذي قصدناه بالكلام في هذا الباب، ولم نقصد القسم الثاني، وإنما ذكرناه ليوقف عليه وليعلم أنا لا نقصده بالكلام في هذا الباب فيرتفع التخليط والاشكال إن شاء الله تعالى.
فصل في الاوامر في نسخها وإثباتها
قال أبو محمد: الاوامر نسخها وإثباتها تنقسم أقساما أربعة لا خامس لها، فقسم ثبت لفظه وحكمه، وقسم ارتفع حكمه ولفظه، وقسم ارتفع لفظه وبقي حكمه، وقسم ارتفع حكمه وبقي لفظه، ففي هذه الاقسام الثلاثة الاواخر يقع النسخ، وأما القسم الذي صدرنا به فلا نسخ فيه أصلا، وأما القسم الذي ارتفع حكمه ولفظه.
فقد روينا أن رجلا قرأ آية وحفظها، ثم أراد قراءتها فلم يقدر، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر عليه السلام أنها رفعت، ومن ذلك العشر الرضعات المحرمات، ومن ذلك السورة التي ذكر أبو موسى الاشعري، أنهم كانوا يقرؤونها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وكانت في طول سورة براءة، وأنها نسيت فارتفعت من الحفاظ، إلا آية منها وهي: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملا جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب.
والسورة التي ذكرها أيضا أبو موسى: أنها كانت تشبه إحدى المسبحات فنسيت، ولم يحفظ منها إلا آية ذكرها، وقد نص الله تعالى على ذلك إذ يقول: * (ما ننسخ من آية أو
ننسأها نأت بخير منها أو مثلها) *، وقد روينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة فأسقط منها آية، فلما سلم قال: أثم أبي، أو كما قال عليه السلام فأجابه فسأله رسول الله(4/440)
صلى الله عليه وسلم عما منعه أن يلقنه الآية، فقال أبي: ظننت أنها رفعت، فقال عليه السلام: لم ترفع فهذا بيان صحة ما ذكرنا من أنه يرفع لفظ الآية جملة.
وأما القسم الذي رفع لفظه وبقي حكمه، فآية الرجم، وآية الخمس رضعات المحرمات وقد تعلل قوم في رد هذا الحديث بقول عائشة رضي الله عنها: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهما لمما يقرأ من القرآن.
قال أبو محمد: وهذا لا تعلل فيه، وإنما معناه، أنه يقرأ من القرآن الذي سقط رسمه وإثباته في المصحف، ولم تقل قط عائشة إنه من القرآن المتلو في المصحف فبطل تعللهم، وأما القسم الذي رفع حكمه وبقي لفظه، فقوله تعالى: * (فأمسكوهن في البيوت) * وقوله تعالى: * (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم) * وآي ات كثيرة جدا، وأما الذي ثبت لفظه وحكمه، فسائر الآيات المحكمات.
والاوامر الواردة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منقسمة على الاقسام الاربعة التي ذكرنا أيضا، ولا يظن ظان أن قولنا هذا معارض لقولنا: إنه ليس له عليه السلام لفظ إلا قد بلغ إلينا، فإننا إنما نفينا بقولنا هذا أن يكون له عليه السلام لفظ لم ينسخ حكمه، فيسقط فلا يبلغ إلينا لا لفظه ولا حكمه.
فهذا الذي نفينا جملة بقوله تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم) * وبقوله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) * وبقوله: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * والحفظ يكون بتبليغ المعنى، فكل حكم نقل إلينا كيفية فعله صلى الله عليه وسلم فيه، وصفة حكمه ولم ينقل إلينا نص لفظه في ذلك، فهو مما ارتفع لفظه وبقي حكمه، وذلك نحو ما روي
من قسمه عليه السلام مال البحرين وحكمه بالتمييز مع الشاهد، ومساقاته ومزارعته أهل خيبر، وما أشبه ذلك، فهذا لا بد من أنه قد كان له من ذلك لفظ إلا أنه لم ينقل، ونقل الحكم فهم بمنزلة ما ذكرنا أنه رفع لفظه من التلاوة وبقي حكمه ولا فرق، وكل ذلك وحي من الله تعالى، وأما المنسوخ لفظه وحكمه، فمرفوع عنا علمه وتتبعه وطلبه.(4/441)
فصل في رد المؤلف على القائلين
قال أبو محمد: قال بعض القائلين - وقد ذكر النسخ وارتفاع اللفظ المنسوخ فقال: وهذا وجه من وجوه الحكمة، يجوز أن يكون علم الله تعالى أن يرفع هذا اللفظ يصلح ما لا يصلح ببقائه، وذلك أنه إذا رفع تعالى الكل فقد علم أننا سنقبل على الامر الناسخ، ولا تتداخلنا فيه الشكوك، لان الله تعالى علم أن سيكون قوم من خلقه يبطلون النسخ، فكانوا يضلون ببقاء اللفظ المنسوخ فرفعه لهذا المعنى.
قال أبو محمد: وهذا من أفسد قول في الارض وأ سقطه، ويقال لمن قال بهذا الهجر: أكان الله تعالى غير قادر من وجوه الصلاح على أكثر من أن يرفع بعض كلامه لئلا يضل به قوم من خلقه ؟ أو كان قادرا على أن يكفيهم هذه المؤنة كلها، ويهديهم بأن يبين لهم المنسوخ بيانا جليا يرفع به عنهم الشكوك والحيرة ؟ فإن قال: لم يقدر الله تعالى على أكثر، كفر ووصف نفسه من القدرة بأكثر مما وصف به خالقه عز وجل لانه دائبا يشرح بزعمه، ويبين ليهدي الناس فيما يدعي، وإن قال: بل إنه تعالى قادر على ما ذكرت، قيل له: فقد فعل ما غيره أصلح لهم منه، وهذا ضد مذهبك الفاسد.
ويقال له أيضا: إذا كانت الحكمة عندك رفع لفظ بعض المنسوخ جملة، لئلا يضل به قوم، فلاي شئ أبقى تعالى لفظا آخر منسوخا حتى ضل به جماعة أنت
أحدهم ؟ في أشياء كثيرة تدعي أنت فيها النسخ ويخالفك فيها غيرك، وأشياء كثيرة تدعي أنت أنها غير منسوخة ويدعي غيرك فيها النسخ، فأين تلك الحكمة التي تطالب بها ربك تعالى ؟ وما الذي جعل رفع ما رفع أولى بالرفع من المنسوخ الذي أبقي لفظه، حتى تحيرت فيه طوائف من أهل الملة ؟ وما الذي جعل إبقاء ما أبقي لفظه المنسوخ أولى بالابقاء مما رفع لفظه من المنسوخ ؟ وما الذي أوجب نقض الحكم بما كان أمس فرضا ثم حرم اليوم، أو ما كان حراما أمس ثم أبيح اليوم ؟ وهل هذا هنا حال استحالت أو طبيعة انتقضت، فأوجب ذلك تبديل الشرائع، إن هذا لهو الضلا البعيد، والغناء الشديد، والجهل المظلم، والقحة الزائدة، وما(4/442)
ههنا شئ أصلا إلا أن الله تعالى أراد أن يحرم علينا بعض ما خلق مدة ما، ثم أراد تعالى أن يبيحه وأراد أن يبيح لنا بعض ما خلق مدة ما، ثم أراد تعالى أن يحرمه علينا ولا علة لشئ من ذلك كما لا علة لبعثه محمدا عليه الصلاة والسلام في العصر الذي بعثه، دون أن يبعثه في العصر الذي كان قبله، وكما لا علة لكون الصلوات خمسا، دون أن تكون ثلاثا أو سبعا.
فصل في قول الله تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسأها نأتى بخير منها أو مثلها) *
قال أبو محمد: قال الله تعالى: وقد قرئ أو ننسها، ومعنى اللفظين مختلف، فالنسخ قد بينا معناه وهو رفع الحكم، وأما ننسها فمعناه من النسيان وهو رفع اللفظ جملة، وأما ننسأها فهو من التأخير، ومعناه أن يؤخر العمل بها إلى مدة معلومة، ويفعل الله من كل ذلك ما شاء لا معقب لحكمه.
فصل في اختلاف الناس على النسخ اختلف الناس في النسخ على ما يقع، أعلى الامر أم على المأمور به ؟
قال أبو محمد: والصحيح من ذلك أن النسخ إنما يقع على الامر، ولا يجوز أن يقع على المأمور به أصلا، لان المأمور به هو فعلنا، وفعلنا لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يكون قد وقع منا بعد، وإما أن يكون لم يقع منا بعد، فإن كان قد وقع منا بعد فقد فني، لان أفعالنا أعراض فانية، ولا يجوز أن ينهى عما قد فني، إذ لا سبيل إلى عودته أبدا.
وكذلك لا يجوز أن يؤمر أيضا بما قد فني، لانه لا يجوز أن يعود أيضا ولا أن يباح لنا ما قد فني أيضا، لان كل هذا محال، وإن كان لم يقع منا، فكيف ينسخ شئ لم يكن بعد، فصح أن المرفوع إنما هو الامر المتقدم، لا الفعل الذي لم تفعله بعد، فإذا قد صح أن الامر هو المرفوع فهو المنسوخ، والنسخ إنما يقع في الآمر لا في الامر ولا في المأمور به.
وبالله تعالى التوفيق.
وبرهان ما ذكرناه قوله تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسأها) * فأخبر تعالى أن الآية هي المنسوخة لا أفعالنا المأمور بها، والمنهي عنها والآية هي الامر الوارد(4/443)
من قبله تعالى، بإيجاب ما أوجب أو تحريم ما حرم.
وأما المأمور به فهي حركاتنا وأعمالنا من صلاة وصيام وإقامة حد وغير ذلك، فصح ما ذكرنا نصا، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في وقد تشكك قوم في معاني النسخ وقد تشكك قوم في معاني النسخ والتخصيص والاستثناء، فقوم جعلوها كلها نوعا واحدا.
قال أبو محمد: وهذا خطأ لان النسخ هو رفع حكم قد كان حقا، وسواء عرفنا أنه سيرفع عنها أو لم نعرف بذلك وقد أعلم الله تعالى موسى وعيسى عليهما السلام أنه سيبعث نبيا يسمى محمدا بشرائع مخالفة لشرائعهما، فهذا نسخ قد علمنا به،
وأما التخصيص: فهو أن يخص شخص أو أشخاص من سائر النوع، كما خص عليه السلام بفرض التهجد، وإباحة تسع نسوة وكما خص أبو هاشم وبنو المطلب بتحريم الصدقة، وأبو بردة تجزئ عنه الجزعة في الاضحية.
وأما الاستثناء: فهو ما جاء بلفظ عام، ثم استثني منه بعض ما يقع عليه ذلك اللفظ.
كقوله تعالى: * (إلا على أزواجهم) * وما أشبه ذلك.
إلا أن التخصيص إذا حقق فيه النظر فهو استثناء صحيح، والفرق بين النسخ والاستثناء هو أن الجملة المستثنى منها بعضها، ولم يرد قط تعالى إلزامنا إياها بعمومها، ولا أراد إلا ما بقي منها بعد الاستثناء.
وأما النسخ: فالذي نهينا عنه اليوم قد كان مراد منا بالامس بخلاف الاستثناء.
وبالله تعالى التوفيق.
فإن قال قائل: إن النسخ استثناء الزمان الثاني من إطلاق الفعل على التأييد، قيل له وبالله تعالى التوفيق: ليس هذا مما نجعله مع الاستثناء المطلق نوعا واحدا لما ذكرنا من أن المستثنى لم يرد قط منا بوجه من الوجوه، وأن المنسوخ قد كلفناه، هذا فرق ظاهر بين، فإن كان هذا المخالف يريد أن يقول: إن النسخ نوع من أنواع الاستثناء، لان استثناء زمان تخصيصه بالعمل سائر الازمان لم نأب عليه ذلك، ويكون حينئذ صواب القول: إن كل نسخ استثناء وليس كل استثناء نسخا.وهذا صحيح.(4/444)
فصل في إمكان النسخ ثم إيجابه ثم امتناعه
قال أبو محمد: أنكر بعض اليهود النسخ جملة، وقد تكلمنا في هذا في كتابنا الموسوم بالفصل ونعيد ههنا منا ما يليق بغرض كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.
فنقول وبالله تعالى التوفيق:
إن منكري النسخ قالوا: ليس من الحكمة أن يأمر الله تعالى بشئ أمس ثم ينهى عن مثله اليوم، وهذا من نظائر قول أصحابنا بالعلل، وهؤلاء قوم يتعقبون على ربهم تعالى، فيقال لهم: أخبرونا أي حكمة وجبت عليه تعالى أن يأمر أمس بما أمر به ؟ أترى لو لم يأمر تعالى بما أمر به لكانت تبطل حكمته ؟ أو لو أمر بغير ما أمر به لكانت تبطل حكمته ؟ أو ترون إذ قدس الارض المقدسة، ولعن أريحا، ولعن أورشليم أكان ذلك مفسدا لحكمته ؟ وإذ حظر العمل في السبت وأباحه في الاحد، أرأيتم لو عكس الامر أكان ذلك مبطلا لحكمته ؟ فإن راموا فرقا بين شئ من ذلك لحقوا بالمجانين، وجاهروا بما لا يفهم وبما يعلم بطلانه.
ثم يقال لهم: أليس الله تعالى قد ملك قوما من الكفار العصاة الظلمة ومكنهم وأذل قوما من الكفار العصاة الظلمة وملك غيرهم رقابهم، وملك قوما صالحين فضلاء مؤمنين، ومكنهم وبسط أيديهم، وأذل قوما صالحين فضلاء مؤمنين وملك غيرهم رقابهم، ومد أعمار قوم كفار طغاة، واخترم آخرين منهم قبل بلوغ الاكتهال، وفعل مثل ذلك بقوم مؤمنين أفاضل، ومكن قوما عصاة مردة من البيان والكلام في العلوم حتى أضلوا أمما من الخلق، وجعل آخرين منهم بلداء أغبياء، وفعل مثل ذلك أيضا بالمؤمنين سواء بسواء، فما الذي جعل هذا حكمه دون عكس كل ذلك ؟ وما الفرق بين هذا من أفعاله تعالى وبين أن يأمر اليوم بأمر ثم ينهى عن مثله غدا ؟ وما يفرق بين كل ما ذكر إلا عديم عقل أو وقح سخيف.
فإن قالوا: إن هذا هو البداء لزمهم مثل ذلك في كل ما ذكرنا آنفا، وفي إحيائه من يحيي ثم إماتته، وفي إغنائه من يغني ثم إفقاره وفي تصحيحه جسم من يرزقه العافية ثم يمرضه، وفي الهرم بعد الفتوة.(4/445)
فإن قال قائل: ما الفرق بين البداء والنسخ ؟ قيل له وبالله تعالى التوفيق: الفرق بينهما لائح، وهو أن البداء هو أن يأمر بالامر والامر لا يدري ما يؤول إليه الحال، والنسخ هو أن يأمر بالامر والامر يدري أنه سيحيله في وقت كذا ولا بد، قد سبق ذلك في عمله وحتمه من قضائه، فلما كان هذان الوجهان معنيين متغايرين مختلفين، وجب ضرورة أن يعلق على كل واحد منها اسم يعبر به عنه غير اسم الآخر ليقع التفاهم، ويلوح الحق، فالبداء ليس من صفات الباري تعالى، ولسنا نعني الباء والدال والالف، وإنما نعني المعنى الذي ذكرنا من أن يأمر بالامر لا يدري ما عاقبته، فهذا مبعد من الله عز وجل، وسواء سموه نسخا أو بداء أو ما أحبوا، وأما النسخ فمن صفات الله تعالى من جهة أفعاله كلها، وهو القضاء بالامر قد علم أنه سيحيله بعد مدة معلومة عنده عز وجل، كما سبق في علمه تعالى.
ولسنا نكابر على النون والسين والخاء، وإنما نعني المعنى الذي بينا، وسواء سموه نسخا أو بداء أو ما أحبوا من الاسماء، ولكن اسمه عند النسخ، وبهذه العبارة نعبر عن هذا المعنى الذي لا يخلو الله تعالى فعل منه أصلا في دار الابتلاء، وكل شئ منها كائن فاسد، وهذا هو النسخ، وهو نوع من أنواع الكون والفساد الجاريين في طبيعة العالم بتقدير خالقه ومخترعه ومدبره ومتممه لا إله إلا هو.
واسم الصفة الاولى عندنا البداء فيها، يعبر عن هذا المعنى الذي هو من صفات المختارين من الانس والجن وسائر الحيوان، وهخلق مذموم، لانه نتيجة الملل والندم والسآمة، وهذه الاخلاق منفية عن الملائكة بنص القرآن، فكيف عن الباري تعالى فهذا فرق ما بين البداء والنسخ قد لاح، والحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم.
قال أبو محمد: والنسخ قبل حلول الوقت الذي علم الله عز وجل أنه يحيل فيه الحال ممتنع في الوجود، لا في قدرته تعالى على ذلك، وهو عندنا في ظاهر الامر ممكن.
قال أبو محمد: وهو في وقت حلوله وبلوغ أمده الذي قدره تعالى كائنا فيه واجب وهو - بعد أن علمنا الله عز وجل أنه لا نبي بعمحمد صلى الله عليه وسلم - ممتنع لا سبيل(4/446)
إليه في الوجود، لا على معنى أنه تعالى لا يوصف بالقدرة على ذلك - بل نعوذ بالله من الفكر في هذا أو التشكيك - بل هو عز وجل قادر الآن وأبدا على أن يبعث نبيا آخر بدين آخر، ولكنه أخبرنا أنه لا يفعل ذلك، مريدا لتركه وقوله الحق، فعلمنا أن كون ما لا يريد تعالى كونه، ممتنع أن يكوأبدا.
ويقال لمن أبى النسخ: ما الفرق بين أن يأمرنا الله بشئ في وقت ما، ويبينه لنا، ويعلمنا أنه إذا أتى وقت كذا وجب الانتقال إلى شئ آخر، وبين أن يأمرنا ولا يعلمنا أنه سينقلنا إلى شئ آخر ؟ وهذا ما لا سبيل إلى وجود فرق فيه أبدا لذي تمييز وعقل، لانه ليس لنا على الله تعالى شرط، ولا عليه أن يطلعنا على علمه، ولا يتقمن مسارنا، ولا أن يأخذ آراءنا في شئ، ومدعي هذا ملحد في دين الله عز وجل، كافر به مفتر عليه، وقد نص تعالى على ذلك بقوله تعالى: * (ولا يحيتون بشئ من علمه الا بما شاء) * وبقوله عز وجل: * (فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) * وهذا ما لا يخالفنا فيه إلا بعض اليهود، وأما أهل الاسلام فكلهم يجيزون النسخ، إلا بعض من منع من هذه اللفظة وأجاز المعنى، وهذا ما لا ننازعه فيه إذا سلم لنا الصفة المسماة، فلسنا ممن يشتغل بالاسم إلا حيث أوجب ذلك النص.
وأما اليهود: فغير منكر من شدة جهلهم وضعف عقولهم، وعظيم بهتهم
وكذبهم وتناقض أقوالهم وصلابة وجوههم، ورخاوة قلوبهم وفر غيظهم على ربهم عز وجل، إذا أحل بهم من البلاء والذل والمهانة والخسة ما أحل، أن يدعوا أن لهم على ربهم شروطا أكثر من هذا، فهم يدعون لكلب من أخبارهم يسمى إشماعيل، لعنة الله عليه وعليهم أن الله - تعالى عما يقول اليهود المشركون علوا كبيرا - تعلق في خرب بيت المقدس بثياب إشماعيل، وهو يعنون ربهم - يبكي ويئن كما تئن الحمامة، وأنهم يعنون ربهم رغب إلى إشماعيل هذا الرذل أن يبا رك عليه.
بمعنى أن ربهم طلب من إشماعيل البركة، فمن كان ربه عنده في(4/447)
نصاب من يطلب بركة إشماعيل لنفسه غير منكر أن يسفهوه فيما أحبوا، وهذه صفة جني لعب بعقولهم وسخر منهم، لا صفة الباري تعالى عز وجل، على أنه قد بين لهم في التوراة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنذروا به.
فصح بذلك أن شريعتهم إنما علقت لهم بشرط ما لم يأت النبي صلى الله عليه وسلم المنتظر، الذي هو رجاء الامم، والذي يستعلي من جبار فاران، ومعه ألوف من الصالحين، والذي يجعل الله تعالى كلامه في فمه، ومن عصاه انتقم منه، فصار ذلك بمنزلة ما أمروا به من العمل في التيه بأوامر ما، وفي البيت والشام بأوامر أخر، ومثله ما أمروا به من العمل في غير السبت، ثم تحريم العمل في السبت، وبمنزلة صيام وقت ما، والمنع منه في وقت آخر، ومثل إباحة الوطئ في وقت ما، وتحريمه في وقت الحيض وسائر الشرائع المرتبطة بأوقات ما، فإذا عدمت تلك الاوقات انتقل حكم تلك الشرائع، وكل ذلك لا علة له ولا شئ يوجبه أصلا، لا مصلحة ولا غيرها، إلا أنه تعالى أراد ذلك، كما أراد خلق ما خلق من الخلائق المختلفات فقط، وبالله تعالى التوفيق.
فكيف وفي توراتهم أن الله تعالى أباح لآدم وبنيه أكل حيوان حاشا الدم، وهذا خلاف شريعة موسى عليه السلام فقد صح النسخ عندهم.
فصل فيما يجوز النسخ فيه وفيما لا يجوز فيه النسخ
قال أبو محمد: النسخ لا يجوز إلا في الكلام الذي معناه الامر أو النهي، وقد بينا في كتابنا الموسوم بكتاب التقريب لحدود المنطق: أن الكلام كله ينقسم أربعة أقسام: أمر ورغبة وخبر واستفهام، فالاستفهام والخبر والرغبة لا يقع فيها نسخ، وإنما يسمى الرجوع عن الخبر وعن الاستفهام استدراكا، فكل ذلك منفي عن الله عز وجل، لان الرجوع عنهما إنما هو تكذيب للخبر المرجوع عنه، ومعرفة وكراهية لما رجع عن الاستفهام عنه لعرض حدث أو لعلم بشئ كان يجهل.
وأما الرجوع عن الرغبة فإنما يسمى استقالة أو تنزها عما انحط إليه قبل ذلك، وقد قدمنا أن المعاني إذا اختلفت فواجب أن يخالف بين أسمائها، لئلا يقع الاشكال، وليلوح البيان، ويصح الفهم والافهام، فبقي الرجوع عن الامر بإحداث أمر غيره فيسمى نسخا، وهو فعل من علم أن سيرفع أمره ويحيله.
فإذا ورد الكلام لفظه لفظ الخبر،(4/448)
ومعناه معنى الامر، جاز النسخ فيه مثل قوله تعالى: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لازواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج) * وفي هذا تو جدمنا المعصية مثل قوله تعالى: * (مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا) * فإنما هذا أمر لنا بأن نؤمن كل من دخل مقام إبراهيم، وليس هذا خبرا، ولو كان خبرا لكان كذبا لانه قد قتل الناس حوله ظلما وعدوانا.
قال أبو محمد: وموجود في كل لغة أن يرد الامر بلفظ الخبر، وبلفظ الاستفهام كقول القائل لعبده: أتفعل أمر كذا، أو ترى ما يحل بك ؟ وإنما ذلك أن الخبر عن الشئ إيجاب لما يخبر به عنه، والامر إيجاب لفعل المأمور به، فهذا اشتراك بين صيغة الخبر وصيغة الامر، فإذا قال قائل: حق عليك القيام إلى زيد، فهذا خبر صحيح البنية، معناه قم إلى زيد.
وكذلك قوله تعالى: * (ولله على الناس حج
البيت من استطاع إليه سبيلا) * معناه ليحج الناس منكم من استطاع، وكذلك إذا قال القائل: قد أوجبت عليك القيام إلى زيد، فهذا خبر صحيح البنية، معناه قم إلى زيد، وكذلك قوله تعالى: * (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) * معناه صوموا، فما كان من الاخبار هكذا فالنسخ فيها جائز، وأما ما كان خبرا مجردا مثل: قام زيد وهذا عمرو، ووقع أمس خطب كذا، وزيد الآن قائم، وغدا يكون أمر كذا، فهو لا يجوز النسخ فيه البتة، لانه تكذيب لهذا الخبر والله تعالى منزه عن الكذب بإخباره تعالى أن قوله الحق، وبقوله تعالى: * (فالحق والحق أقول) * وهو موصوف بأنه ينسخ ويحيل ويبدل الامور بقوله تعالى: * (يمحو الله ما يشآء ويثبت وعنده أم الكتاب) * وبقوله تعالى: * (تؤنى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء ونذل من تشاء) * وبقوله تعالى: * (يض من يشاء ويهدى من يشاء) * بإخباره تعالى أنه كل يوم في شأن وقد اختلف أ صحابنا في بعض الاوامر، أيجوز فيها النسخ أم لا، فقالوا: كل ما علم بالعقل فيجوز أن ينسخ مثل التوحيد وشبهه.
قال أبو محمد: وهذا فاسد من القول، لانه مجمل لما لا يجوز مع ما لا يجوز ولكن يسأل قائل هذا القول، فيقال: ما أردت بقولك لا يجوز نسخ التوحيد ؟ فإن كنت تريد أنه بعد أن أعلمنا الله تعالى أنه لا ينسخ هذا الدين أبدا لا يجوز تبديله،(4/449)
وإن كنت تريد أنه لما سلف في سابق علم الله تعالى أنه لا ينسخه أبدا، علمنا أنه لا يجوز نسخه فنعم، هذا قوله صحيح، وهكذا إباحة الكبش، وتحريم الخنزير، وجميع شرائع الملة الحنيفة المستقرة، لا يجوز نسخ شئ منها أبدا، ولا فرق بين التوحيد وسائر الشرائع في ذلك البتة.
وإن كنت تريد أنه تعالى غير قادر على نسخ التوحيد، أو أنه تعالى قادر على
نسخه، والامر بالتثنية أو التثليث، إلا أنه لو فعل ذلك لكان ظلما وعبثا، فاعلم أنك مخطئ ومفتر على الله تعالى، لانك معجز له متحكم عليه، وقاض بأنك مدبر لخالقك عز وجل، وموقع له تحت رتب وقوانين بعقلك إن خالفها عبث وظلم.
وهذا كلام يؤول إلى الكفر المجرد، والشرك المحض، مع عظيم ما فيه من الجهل والجنون.
بل نقول: إن الله عز وجل قادر على أن ينسخ التوحيد، وعلى أن يأمر بالتثنية والتثليث وعبادة الاوثان، وأنه تعالى لو فعل ذلك لكان حكمة وعدلا وحقا، ولكان التوحيد كفرا وظلما وعبثا، ولكنه تعالى لا يفعل ذلك أبدا، لانه قد أخبرنا أن لا يحيل دينه الذي أمرنا به، فلما أمنا ذلك صار ما تبرأ الله منه كفرا وظلما وعبثا، وصار ما أمر به حقا وعدلا وحكمة فقط.
وليس اعتقادنا التوحيد حقا ولا حكمة بذاته، دون أن يكون لله فيه أمر، ولكن إنما صار حقا وعدلا وحكمة، لان الله تعالى أمر به ورضيه، وسماه حقا وعدلا وحكمة فقط.
فهذا دين الله عز وجل الذي نص عليه بأن يفعل ما يشاء وأنه: * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) * وأنه لو أراد أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء، وهذا هو القول الذي دلت العقول على صحته وبطلان ما عداه لان العقل يشهد أن الله تعالى خلقه، وأنه كان تعالى حقا واحدا أولا، إذ لا نفس حيوانية ولا عقل مركب فيها ولا في غيرها، ولا جوهر ولا عرض، ولا عدد ولا معدود(4/450)
ولا رتبة من الرتب، وأنه تعالى خلق النفوس بعد أن لم تكن، وخلق العقول على ما هي عليه بعد أن لم تكن، ورتب فيها الرتب على ما هي عليه بعد أن لم يكن شئ منها، وأنه لو شاء أن يخلق العقول على غير ما هي عليه، وأن يرتب الامور فيها على خلاف ما رتبها لفعله، ولما تعذر ذلك عليه ولكان حينئذ هو الحق والعدل والحكمة، وما عداه الظلم والجور والعبث، لا معقب لحكمه.
ومن ادعى غير هذا، فقد ادعى أن رتبة العقل المجهول في النفس كانت موجودة، إذ لا عقل ولا نفس، وهذا عين التناقض والخبال والخلف والمحال، ومن أنار الله تعالى عقله وسيره لان يستضئ به، وتصور له حدوث العالم بعد أن لم يكن، أشرف على صحة ما ذكرناه وأيقنه وشاهده وعلمه ضرورة، ولم يكن عنه له محيد أصلا، ومن أصحب الله تعالى نفسه والحيرة، وتمييزه الضعف، تحير وتصور الامور بخلاف ما هي عليه، ولم يخرج إلى طرف وظن الظنون المردية، ولله تعالى الحمد على ما علم وهدى، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
قال أبو محمد: ومن بديع ما قطع أصحابنا على أنه لا يجوز نسخه، شكر المنعم، وأن كفر المنعم لا سبيل إلى إباحته في العقل أصلا.
قال أبو محمد: فنسأل قائل هذا القول الفاسد فنقول له: ما تقول في رجل استنقذ طفلا قد أشرف الاسد على افتراسه فرباه ولا أب له ولا أم ولا مال فأحسن تربيته، ثم علمه العلوم وأكرمه وبره ولم يذله، ولا استخدمه، وموله وزوجه وخوله، ثم إن ذلك المحسن إليه زنى وهو محصن، وسرق وقذف، ثم تاب من كل ذلك وتعبد، ثم قامت عليه بذلك بينة عدل، وقدم إلى يتيمه - وهو بعد حاكم من حكام المسلمين، فما ترى أن يفعل فيه أيشكر فيعفو عنه ولا سيما وقد تاب ؟ أو يأمر بأن يوجع متناه بالسياط، ثم يقطع يده، ثم يأمر بشدخ هامته بالحجارة حتى يموت ؟ فإن قال: أرى أن يعفو عنه، كفر إن اعتقد ذلك أو فسق إن أشار بذلك غير معتقد له، وإن قال: أرى أن يوقع به أنواع العذاب الذي ذكرنا فقد ترك مذهبه الفاسد في ألا يكفر إحسان المنعم.
فإن قال: إن هذا الفعل هو شكره على الحقيقة.
قال خلاف ما ادعى أن العقل يوجبه، وسمى غاية الاساءة إحسانا، فإن رجع إلى أن يقول: إنما يحسن في العقول شكر المنعم(4/451)
الذي أمر الله تعالى بشكره، لا شكر المنعم الذي أمر الله تعالى بالاضرار به، وألا يقارض على إحسانه، رجع إلى الحق، وإلى أنه لا حسن إلا ما فعل الله تعالى، ولا قبيح إلا ما نهى الله عنه وهذا الذي لا يجوز غيره.
والعجب من ذهاب هؤلاء القوم عن نور الحق في هذه المسألة، وهم يسمعون الله تعالى يقول: * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبآءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون) * وقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والاقربين) * فأوجب تعالى القيام عليهم بمر الحق، وإن أدى إلى صلبهم وقتلهم، وقطع أيديهم وأرجلهم وأعضائهم، وضربهم بالسياط، وشدخهم بالحجارة، وهتك أستارهم، وسبي نسائهم وذراريهم، وبيع أملاكهم وبيعهم مماليك وأخذ أموالهم، وإن كانوا آباءنا المحسنين إلينا إذا كفروا، فأين شكر المنعم، وبر الاب على الاطلاق ؟ وهذا كله محال.
وإنما الذي يجب فهو بر الوالدين الابوين الذين أوجب الله برهما، وإنما الذي يجب أيضا فهو شكر المنعم الذي أمر الله بشكره، ولم يأمرنا الله تعالى ببر الوالدين لما وجب برهما ولا عقوقهما، ولو لم يأمرنا بشكر المنعم لما لزم شكره ولا كفره، كما لا يلزم بر الوالدين الحربيين أو المحاربين، وكذلك المنعم الحربي(4/452)
أو المحارب، ولو لم يأمرنا بالرحمة لما وجبت أيضا.
كما أننا نضجع الخروف الصغير ونذبحه ونطبخ لحمه ونأكله ونفعل ذلك أيضا بالفصيل الصغير، ونثكل أمه إياه، ونولد عليها من الحنين والوله أمرا ترق قلوب سامعيه له، وتؤلم نفوس
مشاهديها، وقد شاهدنا كيف خوار البقر وفعلها إذا وجدت دم ثور قد ذبح، وكل هذا حلال بلا مأمور به ويكفر من لم يستحله، ويجب بذلك سفك دمه، فأي فرق في العقول بين هذا وبين ذبح صبي آدمي لو أبيح لنا ذلك ؟ وقد جاء في بعض الشرائع أن موسى عليه السلام أمر في أهل مدين إذا حاربهم بقتل جميع أطفالهم أولهم عن آخرهم من الذكور، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين يصابون في البيات، فقال: هم من آبائهم فهل في هذا كله شئ غير الامور الواردة من الله عز وجل ؟ وقد قال قوم: إذا جاء أمر بشريعة ما، وجاء على فعلها وعد وعلى تركها وعيد ثم نسخ ذلك الامر، فقد نسخ الوعد والوعيد عليه.
قال أبو محمد: فيقال له وبالله تعالى التوفيق: لم ينسخ الوعد ولا الوعيد لانهما إنما كانا متعلقين بثبا ت ذلك الامر لا على الاطلاق، وإنما يصح النسخ فيها لو بقي ذلك الامر بحبسه، ثم يأت خبر بإسقاط ذلك الوعيد، وهذا ما لا سبيل إليه بعد ورود الخبر به.
ولا نسخ في الوعد ولا في الوعيد البتة، لانه كان يكون كذبا وإخلافا وقد تنزه الله تعالى عن ذلك، ولكن الآيات والاحاديث الواردة في ذلك مضموم بعضها إلى بعض، ولا يجوز أن نقتصر منها على بعض دون بعض، على ما بينا في كتاب الفصل، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وقد غلط قوم غلطا شديدا، وأتوا بأخبار ولدها الكاذبون والملحدون، منها أن الداجن أكل صحيفة فيها آية متلوة فذهب البتة، ومنها أن قرآنا أخذه عثمان بشهادة رجلين، وشهادة واحدة، ومنها أن قراءات كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقطها عثمان، وجمع الناس على قراءة واحدة.
قال أبو محمد: وهذا كله ضلال نعوذ بالله منه ومن اعتقاده، وأما الذي لا يحل اعتقاد سواه فهو قول الله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * فمن
شك في هذا كفر، ولقد أساء الثناء على أمهات المؤمنين ووصفهن بتضييع(4/453)
ما يتلى في بيوتهن، حتى تأكله الشاة فيتلف، مع أن هذا كذب ظاهر، ومحال ممتنع، لان الذي أكل الداجن لا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم حافظا له، أو كان قد أنسيه، فإن كان في حفظه فسواء أكل الدواجن الصحيفة أو تركها، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنسيه فسواء أكله الداجن أو تركه قد رفع من القرآن، فلا يحل إثباته فيه كما قال تعالى: * (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) *.
فنص تعالى على أنه لا ينسى أصلا شيئا من القرآن إلا ما أراد تعالى رفعه بإنسائه.
فصح أن حديث الداجن إفك وكذب وفرية، ولعن الله من جوز هذا أو صدق به، بل كل ما رفعه الله تعالى من القرآن فإنما رفعه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ،قاصدا إلى رفعه، ناهيا عن تلاوته إن كان غير منسي، أو ممحوا من الصدور كلها، ولا سبيل إلى كون شئ من ذلك، بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولا يجيز هذا مسلم، لانه تكذيب لقوله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * ولكان ذلك أيضا تكذيبا لقوله تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم) * ولكان ما يرفع منه بعد مو ت رسول الله صلى الله عليه وسلم خرما في الدين ونقصا منه، وإبطالا للكمال المضمون، ولكان ذلك مبطلا لهذه الفضيلة التي خصصنا بها، والفضائل لا تنسخ والحمد لله رب العالمين.
وأما فعل عثمان رضي الله عنه: فلم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا والقرآن مجموع كما هو مرتب، لا مزيد فيه ولا نقص ولا تبديل، والقراءات التي كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باقية كلها كما كانت، لم يسقط منها شئ، ولا يحل حظر شئ منها قل أو كثر.
قال الله تعالى: * (إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه) * ولبيانه هذا وتقصي الكلام
فيه مكانه من باب الاجماع من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد: وقد قال قوم في آية الرجم: إنها لم تكن قرآنا، وفي آيات الرضعات كذلك.
قال أبو محمد: ونحلا نأبى هذا، ولا نقطع أنها كانت قرآنا متلوا في الصلوات، ولكنا نقول: إنهكانت وحيا أوحاه الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم مع(4/454)
ما أوحى إليه من القرآن، فقر المتلو مثبوتا في المصاحف والصلوات، وقرئ سائر الوحي منقولا محفوظا معمولا به، كسائر كلامه الذي هو وحي فقط، ولسنا ننكر رفع آيات في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدور جملة، لقوله تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها) * ولا نجيز ذلك بعد موته لقوله تعالى: * (نأت بخير منها أو مثلها) * فإنما اشترط الله تعالى لنا رفعها معلقا بأن يأتينا بخير منها أو مثلها، وهذا ما لا سبيل إليه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،لان الاتيان بآية بعده لاسبيل إليه، إذ قد انقطع الوحي بموته، ومن أجاز ذلك فقد أجاز كون النبوة بعده، ومن أجاز ذلك فقد كفر وحل دمه وماله، ولا سبيل إلى أن ينسى عليه السلام شئ من القرآن قبل أن يبلغه، فإذا بلغه وحفظه للناس فلسنا ننكر أن ينساه عليه السلام، لانه بعد محفوظ مثبت، وقد جاء مثل ذلك في خبر صحيح، أنه سمع رجلا يتلو القرآن فدعا له بالرحمة، وأخبر عليه السلام أنه أذكره آية كان نسيها، ولانه قبلغه كما أمر.
كما حدثنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب قالا: ثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقرأ من الليل فقال: رحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت اسقطتها من سورة كذا وكذا
ورواه عبدة وأبو معاوية عن هشام: أذكرني آية كنت أنسيتها.
فصل هل يجوز نسخ الناسخ
قال أبو محمد: ولا فرق بين أن ينسخ تعالى حكما بغيره، وبين أن ينسخ ذلك الثاني بثالث، وذلك الثالث برابع، وهكذا كل ما زاد كل ذلك ممكن إذا وجد برهان على صحته، وقد جاء في بعض الآثار، أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال، فكان عاشوراء فرضا، ثم نسخ فرضه بصيام رمضان، بشرط أن من شاء صام ومن شاء أطعم مسكينا وأفطر هو، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصيام على الحاضر المطيق الصحيح البالغ العاقل، وكان من نام لا يحل له الاكل ولا الوطئ، ثم نسخ ذلك بإباحة كل ذلك في الليل والحظر لصيام الليل(4/455)
إلى الفجر، وقد أوردنا في كتاب النكاح من ديواننا الكبير المسمى بالايصال - بأصح أسانيد - أن نكاح المتعة أباحه الله تعالى، ثم نسخه، ثم أباحه ثم نسخه، ثم أباحه ثم نسخه إلى يوم القيامة.
فصل في مناقل النسخ
قال أبو محمد: مراتب الاوامر في الشريعة كلها خمسة لا سادس لها، وهي: حرام: وهو الطرف الواحد، وفرض: وهو الطرف الثاني، وبين هذين الطرفين ثلاث مراتب، فيلي الحرام مرتبة الكراهة، وهي الاشياء التي تركها خير من فعلها إلا أن من تركها أجر، ومن فعلها لم يأثم وذلك نحو الاكل متكئا، والتمسح من الغسل في ثوب معد لذلك، وما أشبه ذلك.
ويلي مرتبة الفرض مرتبة الندب، وهي الاشياء التي فعلها خير من تركها، إلا أن من فعلها أجر، ومن تركها غير راغب عنها لم يأثم وفي هذا الباب يدخل التطوع كله بأفعال الخير وبين هاتين المرتبتين مرتبة المباح المطلق، وهو ما تركه وفعله سواء، إن فعله لم يؤجر ولم يأثم، وإن تركه لم يؤجر ولم يأثم، كجلوس الانسان مربعا أو مرفوع الركبة الواحدة، وصباغة ثوبه أخضر أو أسود، وحسه الشئ بيده وما أشبه ذلك، فإذا نسخ الفرض نظر، فإن كان بلفظ لا تفعل بعد أن أمرنا بفعله فهو منتقل إلى التحريم، لان هذه صيغة للتحريم.
وإن نسخ بأن قال: * (لا جناح عليكم) * أو بلفظ تخفيف، أو بترك أو بفعل، لم ينتقل إلا إلى أقرب المراتب وهو الندب، وذلك مثل صيام عاشوراء، فإنه لما نسخ وجوبه انتقل إلى الندب، وكذلك إن نسخ التحريم فإن كان نسخه بلفظ * (افعل) * انتقل إلى الفرض، لان هذه صيغة الفرض وإن نسخ * (بلا جناح) * أو بتخفيف، انتقل إلى أقرب المراتب إليه وهي الكراهة، أو الندب بلفظ * (افعل) * انتقلا إلى الفرض.
فإن نسخا بلفظ * (لا تفعل) * انتقلا إلى التحريم، فإن نسخا بتخفيف، انتقلا إلى الاباحة المطلقة، لان الاباحة أقرب إليهما من الفرض والتحريم، لان المكروه والمندوب إليه مباحان، ولكنهما معلقان بشرط كما ترى، وقد نسخ تحريم وطئ النساء بعد النوم في ليالي(4/456)
الصوم إلا الاباحة بالندب، ونسخ المنع من القتال بإيجابه ونسخ فرض استقبال بيت المقدس بالتحريم، وقد نسخ فرض بفرض آخر، كنسخ حبس الزواني إلى الجلد والرجم، أو الجلد والتغريب.
فصل في آية ينسخ بعضها، ما حكم سائرها ؟
قال أبو محمد: إذا جمعت الآية أو الحديث حكمين فصاعدا، فجاء نص أو إجماع بنسخ أحد الحكمين، أو تخصيصه أو إخراجه إلى الندب، وقف عنده، ولم يحل لمسلم أن يقول: إن الحكم الآخر منسوخ من أجل هذا الحكم المذكور معه في الآية أو الحديث، ولا أنه مخصوص، ولا أنه ندب، بل يبقى على حكمه
كما كان، وعلى ما يوجبه ظاهره لقول الله عز وجل: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) *.
ومن ادعى أن هذا الحكم مرتبط بيانه أو نسخه بحكم آخر فقد افترى على الله عز وجل، وادعى ما لا دليل عليه، ولزمه أن متى وجد في سورة واحدة آية منسوخة، أن يقول: إن تلك السورة منسوخة كلها من أجل الآية المنسوخة منها، ولزمه ما هو أفحش من هذا، وهو أن يقول: إن القرآن كله منسوخ من أجل وجوده فيه أحكاما كثيرة منسوخة.
ولا فرق بين عطف حكم على حكم وبين عطف آية على آية، ولا فرق بين ذكر حكمين في آية، وبين ذكرهما في سورة، فإذوجب أن يكون أحد الحكمين المذكورين في الآية منسوخا لزم مثل ذلك في أحكام السورة كلها، لان الحكم المذكور معها منسوخ أيضا ولا فرق، وهذا إبطال للشريعة جملة وخروج عن الاسلام ومن الله تعالى العافية علينا من ذلك، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: مثال ذلك قوله تعالى: * (واللائي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) * ثم نسخ تعالى الامساك في البيوت وأثبت استشهاد الاربعة.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مهر البغي وحلوان الكاهن وكسب الحجام وثمن الكلب، فخرج كسب الحجام عن التحريم بحديثه عليه السلام أطعمه رقيقك وناضحك، فيلزم من خالفنا أن يبيح من أجل ذلك مهر البغي(4/457)
وحلوان الكاهن، وهذا ما لا يقوله مسلم، وقد قال الطحاوي: إن النهي عن ثمن الكلب منسوخ بنسخ إيجاب قتل الكلاب.
قال أبو محمد: ولا أدري في أي عقل أم في أي نص وجد هذا الرجل أنه إذا حرم قتل حيوان حل بيعه أتراه جهل أن يبيعه وبيع كل حر حرام وقتله حرام،
ما لم يقترف ما حل دمه ؟ إن هذه لغباوة شديدة وعصبية لمذهبه الفاسد قبيحة.
ونعوذ بالله من التقليد المؤدي إلى القول على الله تعالى بمثل هذا بغير علم ولا هدي ولا كتاب منير، وليت شعري ما الفرق بينه وبين من عارضه فقال: بل لما حرم الله أكلها حرم بيعها ؟
فصل في كيف يعلم المنسوخ والناسخ مما ليس منسوخا
قال أبو محمد: لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شئ من القرآن والسنة: هذا منسوخ إلا بيقين، لان الله عز وجل يقول: * (وما أرسلنا من رسول ألا ليطاع بإذن الله) * وقال تعالى: * (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم) * فكل ما أنزل الله تعالى في القرآن أو على لسان نبيه ففرض اتباعه، فمن قال في شئ من ذلك إنه منسوخ.
فقد أوجب ألا يطاع ذلك الامر، وأسقط لزوم اتباعه، وهذه معصية لله تعالى مجردة، وخلاف مكشوف، إلا أن يقوم برهان على صحة قوله، وإلا فهو مفتر مبطل.
ومن استجاز خلاف ما قلنا فقوله يؤول إلى إبطال الشريعة كلها، لانه لا فرق بين دعواه النسخ في آية ما أو حديث ما، وبين دعوى غيره النسخ في آية أخرى، وحديث آخر، فعلى هذا لا يصح شئ من القرآن والسنة، وهذا خروج عن الاسلام، وكل ما ثبت بيقين فلا يبطل بالظنون، ولا يجوز أن تسقط طاعة أمر أمرنا به الله تعالى ورسوله إلا بيقين نسخ لا شك فيه، فإذا قد صح ذلك وثبت، فلنقل في الوجوه التي بها يصح نسخ الآية أو الحديث، فإذا عدم شئ من تلك الوجوه، فقد بطلت دعوى من ادعى النسخ في شئ من الآيات أو الاحاديث.
قال أبو محمد: فإذا اجتمعت علماء الامة - كلهم بلا خلاف من واحد منهم - على نسخ آية أو حديث فقد صح النسخ حينئذ، فإن اختلفوا نظرنا، فإن وجدنا الامرين لا يمكن استعمالهما معا، أو وجدنا أحدهما كان بعد الآخر بلا شك، أو(4/458)
وجدنا نصا جليا على منسوخ، ووجدنا نصا في ذلك من نهي بعد أمر أو أمر بعد نهي أو نقل من مرتبة إلى مرتبة على ما قدمنا - فقد أيقنا بالنسخ، مثل قوله عليه السلام: نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن الانتباذ في الاسقية فانتبذوا وأباح الانتباذ في كل ظرف، ومثل قول جابر: كان آخر الامرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار، ومثل ما روي أنه رخص في الحجامة للصائم، والترخيص لا يكون إلا بعد النهي، والحجامة هكذا فعل الحاجم والمحجوم معا، فهذان وجهان.
أو نجد حالا قد أيقنا بإبطالها وارتفاعها، وحالا أخرى قد أيقنا بنزولها ووجوبها ورفعها للحال الاولى، ثم جاء نص من قرآن أو حديث موافق للحال المرفوعة التي قد سقطت بيقين، إلا أننا لا ندري هل جاء هذا النص - الموافق لتلك الحال المرفوعة - قبل مجئ الحال الرافعة أو بعدها ؟ فإذا كان مثل هذا ففر ض ألا يترك ما أيقنا بوجوبه علينا، وصح عندنا لزومه لنا، وحرم علينا أن نرجع إلى حال قد أيقنا بارتفاعها عنا، وصح عندنا بطلانها إلا بنص جلي راد لنا إلى الحالة الاولى، ورافع عنا الحالة الثانية.
ومن تعدى هذا فقد قفا ما لا علم له به وترك الحق واليقين، واستعمل الشك والظنون، وذلك ما لا يحل أصلا، فكيف وقول الله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * وقوله تعالى: * (قد تبين الرشد من الغي) * وقوله تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي) * شواهد قاطعة بأنه لا يجوز البتة أن يكون الله تعالى تركنا في عمياء وضلالة لا ندري معها أبدا، هل هذا الحكم منسوخ أو غير منسوخ، هذا أمر قد أمنا وقوعه أبدا، إذ لو كان ذلك لكان الدين قد بطل أكثره، ولكننا في شك متصل لا ندري أنعمل بالباطل في نصوص
كثيرة من القرآن والسنن، أم نعمل بالحق وهل نحن في طاعات كثيرة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم على ضلال أو على هدى ؟ حاشا لله من هذا.
فصح يقينا أن كل تيقنا بطلانه فهو باطل أبدا، بلا شك حتى يأتي نص ثابت بأنه قد عاد بعد بطلانه هكذا ولا بد، وإلا فلا، والحمد لله رب العالمين.
فمن هذا الباب ما قد أيقنا من أن إباحة زواج أكثر من أربع نسوة قد ارتفعت، وأن نكاح أكثر من أربع حرام على كل أحد - بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيقين، وقد(4/459)
جاء حديث بتخيير من أسلم وعنده أكثر من أربع فكان هذا الحديث موافقا لحال ما نسخ من ترك التحريم لزواج أكثر من أربع، وما كان عليه من أسلم وعنده أكثر من أربع، لانهم نكحوهن وذلك غير محظور عليهم، فلما نزل التحريم خيروا في أربع منهن، وكان من ابتدأ نكح خامسا فصاعدا، وأكثر من أربع معا، أو أختين، أو أم وابنتها بعد نزول تحريم كل ذلك - عاصيا لله عز وجل، وعاملا عملا ليس عليه أمره فهو رد ففعله ذلك كله مردود.
وعقده ذلك فاسد مفسوخ محلول غير ماض أصلا، فصح بذلك ارتفاع التخيير، وأنه إنما كان ذلك للذين نكحوا أكثر من أربع قبل أن يحظر ذلك، وأيضا فلو صح تخيير من ابتدأ نكاح خمس في كفر بعد ورود النهي عن ذلك لما كافي ذلك إباحة تخيير من أسلم، وعنده أختان أو حريمتان، ومع ذلك أيضا: أننا قد أيقنا أنه قد كان في صدر الاسلام: إذا نام الرجل في ليل رمضان، حرم عليه الوطئ والاكل والشرب، ثم نسخ ذلك وجاء حديث أبي هريرة عن الفضل بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن من أدركه الصبح وهو جنب فقد أفطر، فكان هذه الحديث موافقا لتلك الحال المنسوخة، وقد أيقنا برفعها وبإباحة الوطئ إلى تبين طلوع الفجر، فلا سبيل إلى الرجوع إلى حظر الوطئ إلا ببيان جلي.
ومن ذلك أننا قد أيقنا بأن الوصية لم تكن مدة من صدر الاسلام فرضا،
ثم أيقنا نزول وجوب الوصية للوالدين والاقربين، ثم جاء حديث عمران بن الحصين في الستة الاعبد، فكان هذا الحديث موافقا للحال المرفوعة من ألا يلزم المرء أن يوصي لوالديه وأقربيه فلم يجز لنا أن نرفع به حكم الآية التي أيقنا أنها ناسخة للحال الاولى، ولا جاز لنا أن نرجع إلى حالة قد أيقنا أنها حظرت علينا إلا بنص جلي.
إن هذا الحديث كان بعد نزول الآية، وبأن أولئك الاعبد لم يكونوا أقارب الموصي بعتقهم، ولا سبيل إلى وجود بيان بذلك أبدا، وبالله تعالى التوفيق.
فصح أن كل ما كان في معنى الحال المتقدمة - من إباحة ترك الوصية للوالدين والاقربين - منسوخ بيقين، ولم يصح أنه عاد بعد أن نسخ، ولا يحل الحكم بالظنون، وأيضا فقد ملك قوم من العرب أقاربهم، وقد كان هراسة أخا عنترة، واستلحف شداد عنترة، وكان هراسة عبدا لاخيه، وقد كان في نساء الصحابة رضي الله عنهم من باعها عمها أخو أبيها، وهي أم ولد أبي اليسر الانصاري.
قال أبو محمد: ومن استجاز أن يترك اليقين من الآية المذكورة، بأن يقول: لعل حديث عمران في الاعبد الستة نسخها، فليقنعوا من أصحاب أبي حنيفة بقولهم: لعل حكم(4/460)
العرايا نسخ بالنهي عن المزابنة، وبقولهم: لعل القصا ص بغير نسخ بالنهي عن المثلة، وليقولوا بقول من منع أن يمسح على الخفين، وقال: لعل ذلك نسخ بآية الوضوء التي بالمائدة، وليأخذوا بقول ابن عباس في إباحة الدرهم بالدرهمين، ويقولوا: لعل النهي عن ذلك نسخ بقوله عليه السلام: إنما الربا في النسيئة وليأخذوا بقول عثمان البتي في إبطال العاقلة، ويقولوا: لعحكم العاقلة نسخ بقوله تعالى: * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى) * وليبطلوا السلم ويقولوا: لعله نسخ بنهيه عليه السلام عن بيع ما ليس عندك، ويستحلوا أكل الحمير والسباع ويقولوا: لعل النهي عنها منسوخ، بقوله تعالى: * (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما) * الآية.
فإن أبوا من كل ما ذكرنا، وقالوا: لا نقول في شئ من ذلك إنه منسوخ إلا بيقين فكذلك يلزمهم أن يقولوا أيضا بقول ابن عباس: إن الآية القصرى نسخت الآية الطولى فيوجبوا خلود القاتل من المسلمين في نار جهنم أبدا، فإن أبوا ألزمهم مثل ذلك في آية الوصية ولا فرق.
وكذلك القول فيمن قال في رضاع سالم، فإنه لما كان مرتبطا بالتبني وكان التبني منسوخا، بطل حكم التعلق به لبطلانه، وكل سبب بطل فإن مسببه يبطل بلا شك، فإن هذا أيضا خطأ، لانه لم يأت نص ولا إجماع ولا ضرورة مشاهدة بأن هذا الحكم مخصوص به التبني فقط، بل هو عموم على ظاهره ولا يجوز تخصيصه بالدعوى بلا نص ولا إجماع.
فهذه الوجوه الاربعة لا سبيل إلى أن يعلم نسخ آية أو حديث بغيرها أبدا، إما إجماع متيقن، وإما تاريخ بتأخر أحد الامرين عن الآخر مع عدم القوة على استعمال الامرين، وإما نص بأن هذا الامر ناسخ للاول وأمر نتركه، وإما يقين لنقل حال ما فهو نقلي لكل ما وافق تلك الحال أبدا بلا شك.
فمن ادعى نسخا بوجه غير هذه الوجوه الاربعة فقد افترى إثما عظيما وعصى عصيانا ظاهرا، وبالله تعالى التوفيق.
فمما تبين بالنص أنه منسوخ قوله تعالى: * (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) * ثم قال تعالى: * (فلنولينك قبلة ترضاها) * فهذا تأخير لائح أن القبلة التي كانت قبل هذه منسوخة وأن التوجه إلى الكعبة كان بعد تلك القبلة.
وهذا أيضا له إجماع، ومثل قوله تعالى: * (فالآن باشروهن) * فنسخ بذلك النهي عن الوطء في ليل رمضان، ومثل قوله تعالى: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * نسخ به قوله تعالى: * (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) * وهذا نقل مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع، يعني نسخ إباحة(4/461)
الفطر، والاطعام، من ندب إلى فرض ومثل نسخ قيام الليل، فإنه نسخ بالنص المنقول
بإجماع من فرض إلى ندب.
قال أبو محمد: وقد ادعى قوم في قوله تعالى: * (ان يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) *.
قال أبو محمد: وهذا خطأ لانه ليس إجماعا، ولا فيه بيان نسخ، ولا نسخ عندنا في هذه الآيات أصلا، وإنما هي فرض البراز للمشركين، وأما بعد اللقاء فلا يحل لواحد منها أن يولي دبره جميع من على وجه الارض من المشركين إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة - على ما نبين في موضعه إن شاء الله تعالى - أو من كان مريضا أو زمنا بقوله تعالى: * (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله) *.
فإن قالوا: إن الضعيف القلب معذور لانه دخل في جملة الضعفاء قيل لهم: هذا خطأ لان من رضي أن يكون مع الخوالف لضعف قلبه، ملوم بالنص غير معذور، وأيضا فإن ضعف القلب قد نهينا عنه بقوله تعالى: * (ولا تهنوا) * ولا يجوز أن يكون تعالى أراد وهن البدن، لانه لا يستطاع دفعه أصلا والله تعالى لا يكلف إلا ما نطيق، وضعف القلب مقدور على دفعه ولو أراد الجبان أن يثبت لثبت، ولكنه آثر هواه والفرار على ما لا بد له من إدراكه من الموت الذي لا يعدو وقعه ولا يتقدم ولا يتأخر وهذا بين وبالله تعالى التوفيق.
والعجب ممن يقول: إن هذه الآية مبيحة لهروب واحد أمام ثلاثة فليت شعري من أين وقع لهم ذلك ؟ وهل في الآية التي ذكروا فرارا أو تولية دبر بوجه من الوجوه، أو إشارة إليه ودليل عليه ؟ ما في الآية شئ من ذلك البتة، وإنما فيها أخبار عن الغلبة فقط، بشرط الصبر، وتبشير بالنصر مع الثبات.
ولقد كان ينبغي أن يكون أشد الناس حياء من الاحتجاج بهذه الآيات في إباحة الفرار عن ثلاثة: أصحاب القياس المحتجين علينا بقول الله تعالى: * (ومن أهل الكتاب
من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) * ويقو ل لنا: إن ما فوق القنطار بمنزلة القنطار، فهلا جعلوا ههنا ما فوق الاثنين، بمنزلة الاثنين ولكن هكذا يفعل الله بمن ركب ردعه واتبع هواه وأضرب عن الحقيقة جانبا.
وأما نحن فلو رأينا في الآيات المذكورة ذكر إباحة فرار لقلنا به، ولسلمنا(4/462)
لامر ربنا، ولكنا لم نجد فيها لاباحة الفرار أثرا ولا دليلا بوجه من الوجوه، وإنما وجدنا فيها أننا إن صبرنا غلب المائة منا المائتين، وصدق الله عز وجل، فليس في ذلك ما يمنع أن يكون أقل من مائة أو أكثر من مائة يغلبون العشرة آلاف منهم وأقل وأكثر، كما قال تعالى: * (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) * وهكذا كله إخبار عن فعل الله تعالى ونصره عز وجل لمن صبر منا فتلك الآية التي فيها أن المائة منا تغلب المائتين، وهي إخبار عن بعض ما في الآية التي فيها أن المائة منا تغلب الالف، وهاتان الآيتان معا هما إخبار عن بعض ما في الآية التي فيها: * (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة) * فلم يخص في هذه الآية عددا من عدد، بل عم عموما تاما.
فإن قال قليل التحصيل: فأي معنى لتكرار ذلك وما فائدته ؟.
قيل له: قد ذكرنا الجواب عن هذا الفضول من السؤال السخي ف، في باب دليل الخطاب من ديواننا هذا، ولكن لا بد من إيراد بعض ذلك، لورود هذا السؤال فيقول وبالله تعالى التوفيق: هذا اعتراض منك على الله عز وجل، والمعنى في ذلك والفائدة كالمعنى والفائدة في تكرار قصة موسى عليه السلام في عدة مواضع بعضها أتم في الخبر من بعض، وبعضها مساو لبعض، وكما كرر تعالى العنب والرمان والنخل بعد ذكر الفاكهة، وكما كرر تعالى: وأقيموا الصلاة والصلاة الوسطى، بعد ذكر المحافظة على جميع الصلوات.
وكما كرر تعالى: فبأي
آلاء ربكما تكذبان في سورة واحدة إحدى وثلاثين مرة: ولم يكررها ثلاثين مرة، لا ثمانية وعشرين مرة.
ولا كررها أيضا في غير تلك السورة، وكما أخبر تعالى في مكان بأنه رب السموات والارض وما بينهما في مكان آخر بأنه رب الشعرى، ولم يذكر معها غيرها.
ولا يسأل رب العالمين عما قال ولا ما فعل، وإنما علينا الايمان بكل ما أتى من عند الله وقبوله كما هو، واعتقاده في موجبه ولا نتعداه، ولنا الاجر على الاقرار به، وعلى تلاوته، وعلى قبوله كما ذكرنا.
فأي حظ أعظم من هذا الحظ المؤدي إلى الجنة وفوز الابد، وهل يبتغي أكثر من هذا الامر إلا من لا عقل له ولا يسأل الله عما يفعل إلا ملحد أو جاهل أو سخيف أو فاسق، لا بد من أحد هذه، وما فيها حظ لمختار.(4/463)
فإن قال قائل: فما معنى قول الله تعالى: * (الآن خفف الله عنكم) * في الآيات المذكورات.
وما هذا التخفيف ؟ وهو شئ قد خاطبنا الله تعالى به وامتن به علينا فلا بد من طلب معناه والوقوف على مقدار النعمة علينا في ذلك، وما هذا الشئ الذي خفف عنا، لنحمد الله تعالى عليه، ونعرف وجه الفضل علينا فيه.
فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إن هذا السؤال صحيح حسن، ووجه ذلك أن أول الآية يبين وجه النعمة عليه وموضع التخفيف، وهو قوله تعالى: * (حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) * فكان في هذه الآية التحريض لنا على قتالهم، وإيجاب نهوضنا إليهم وهجومنا على ديارهم، ونحن في عشر عددهم، هذا هو ظاهر الآية ومفهومها الذي لا يفهم منها أحد غير ذلك ثم خفف عنا تعالى ذلك وجعلنا في سنة من ترك التعرض للقصد إلى محالهم، إذا كان المقاتلون من الجهة المقصودة أكثر من ضعيفنا، وكنا بالآية الاولى في حرج إن لم نغزهم ونحن في عشر عددهم، فنحن الآن في حرج إن لم نقصدهم إذا كان
المقاتلون من الجهة المقصودة مثلينا فأقل، فإن كانوا ثلاثة أمثالنا فصاعدا فنحن في سعة من أن لا نقصدهم ما لم ينزلوا بنا، وما لم يستنفر الامام أو أميره، إلا أن نختار النهوض إليهم وهم في أضعاف عددنا.
فأي هذه الوجوه الثلاثة كان قد حرم علينا الفرار جملة، ولو أنهم جميع أهل الارض والملاقي لهم مسلم واحد فصاعدا، فهذا هو وجه التخفيف.
وبهذا تتآلف الآيات المذكورة مع قوله تعالى: ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد بآء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ومع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإذا استنفرتم فانفروا ومع إجماع الامة على أنه إذا نزل العدو ساحتنا، ففرض علينا الكفاح والدفاع.
وأيضا فقول الله عز وجل: * (الان خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) * يبين وجه التخفيف، وإنما هو عن فيه ضعف فقط، فصار هذا التخفيف إنما هو عن الضعفاء فقط كقوله تعالى: * (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) * الاية.
ومن النسخ الذى بينه النص قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنقول(4/464)
بالاجماع، لا وصية لوارث فنسخ بذلك الوصية للوالدين والاقربين الذين يرثون، وبقي الولدان والاقربون الذين لا يرثون على وجوب فرض الوصية لهم.
قال أبو محمد: وقد بينا في كتابنا هذا في باب الكلام في الاخبار المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في فصل أفردناه للكلام فيما ادعاه قوم من تعارض الاخبار - كلاما استغنينا عن تكراره ههنا، فيه بيان غلط قوم فيما ظنوه نسخا وليس بنسخ، ولكن اكتفينا بأن نبهنا عليه ههنا لانه لا غنى بمزيد معرفة فقه النسخ عنه وبالله تعالى التوفيق.
فصل لا يضر كون الآية المنسوخة متقدمة في الترتيب
قال أبو محمد: ولا يضر كون الآية المنسوخة - في ترتيب المصحف في الخط والتلاوة - متقدمة في أول السورة أو في سورة متقدمة في الترتيب.
وتكون الناسخة لها في السورة أو في سورة متأخرة في الترتيب، لان القرآن لم ترتب آياته وسوره على حسب نزول ذلك، لكن كما شاء ذو الجلال والاكرام منزله.
لا إله إلا الله.
ومرتبه الذي لم يكل ترتيبه إلى أحد دونه.
فأول ما نزل من القرآن: * (اقرأ باسم ربك الذى خلق، الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذى علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) * ثم * (يأيها المدثر فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر) * وهما متأخرتان قرب آخر المفي الخط والتلاوة، وآخر ما نزل آية الكلالة في سورة النساء، وسورة براءة، وهما في صدر المصحف في الخط والتلاوة، فلا يجوز مراعاة رتبة التأليف في معرفة الناسخ والمنسوخ البتة.
وقد نسخ الله قوله تعالى: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لازواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج) * بقوله تعالى * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن اربعة اشهر وعشرا) * بإجماع الامة كلها، والناسخة في المصحف في الخط والتلاوة والترتيب والتأليف قبل المنسوخة، وفي هذا كفاية، وبالله تعالى التوفيق.(4/465)
فصل: في نسخ الاخف بالاثقل والاثقل بالاخف
قال قوم من أصحابنا ومن غيرهم: لا يجوز نسخ الاخف بالاثقل.
قال أبو محمد: وقد أخطأ هؤلاء القائلون.
وجائز نسخ الاخف بالاثقل والاثقل بالاخف، والشئ بمثله، ويفعل الله ما يشاء ولا يسأل عما يفعل، وإن احتج محتج بقوله الله تعالى: * (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) * وبقوله تعالى: * (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) * وبقوله تعالى: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * وبقوله تعالى * (ما ننسخ من آية أو ننسأها نأت بخير منها أو مثلها) * فالا حجة لهم في شئ من ذلك، أما قوله تعالى * (يريد اله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * (وما جعل عليكم في الذين من حرج) * فنعم، دين الله كله يسر، والعسر والحرج هو ما لا يستطاع، أما ما أستطيع فهو يسر وأما قوله تعالى * (يريد الله أن يخفف منه ولا ثقيل البتة إلا وهو خفيف بالإضافة إلى ما هو أثقل منه هذا أمر يعلم حسا ومشاهدة، ولا ولا يشك ذو عقل أن الصلوات الخمس المفروضة علينا أخف من خمسين صلاة، وأنها لو كانت صلاة واحدة كانت أخف علينا من الخمس، وقد خفف الله تعالى عن المسافر فجعلها ركعتين وعن الخائف فجعلها ركعة واحدة، ولو شاء ألا يكلفنا صلاة أصلا لكان أخف بلاشك.
وقد نص الله تعالى في الصلاة على أنها كبيرة إلا على الخاشعين، ولا يشك ذعقل وحس أن صيام شهر أخف من صيام عام، وأن صيام ساعة أخف من صيام يوم، فكل ما كلفنا الله تعالى فهو يسر وتخفيف بالاضافة إلى ما هو أشد مما حمله من كان قبلنا، كما قال الله تعالى آمرا لنا أن ندعوه فنقول: * (ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا وما لا طاقة لنا به) *.
وكما نص تعالى أنه وضع بنبيه صلى الله عليه وسلم الاصر الذي كان عليهم، والاغلال التي كانوا يطوقونها، إذ يقول تعالى: * (الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم(4/466)
عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبآئث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم) * فهذا هو عين اليسر وعين التخفيف وإسقاط الحرج، وأين يقع ما كلفناه نحن مما كلفه بعض قوم موسى، من قتل أنفسهم بأيديهم،
فكل شئ كلفناه يهون عند هذا، وكذلك ما في شرائع اليهود من أنه من خطر على ميت تنجس يوما إلى الليل، وسائر الثقائل التي كلفوا وحرم عليهم، وخفف عنا ذلك كله.
ولله الحمد والمنة.
وأما قوله تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) * فإنما معناه بخير منها لكم، وكلام الله لا يتفاضل في ذاته، فمعناه أكثر أجرا.
ولو احتج بهذه الآية من يستجيز أن يقول: لا ننسخ الاخف إلا بالاثقل لكنا أقوى شغبا ممن خالفه، لانه لا خلاف أن الاثقل فاعله أعظم أجرا وقد قال عليه السلام لعائشة في العمرة: هي على قدر نصبك ونفقتك كانت الناسخة أعظم أجرا، فلا يكون ذلك إلا لثقلها، فهذه الآية عليهم لا لهم فسقط احتجاجهم بكل ما شغبوا به.
ثم نقول: إن من قال: إن الله تعالى إنما يلزمنا أخف الاشياء: فإنه يلزمه إسقاط الشرائع كلها، لانها كلها ثقال بالاضافة إلى ترك عملها، والاقتصار على عمل جزء من كل عمل منها، وهذا شئ يعلم بالحس والمشاهدة.
فصار قول من خالفنا مؤديا إلى الخروج عن الاسلام جملة ولا عمل في الدنيا إلا وفيه كلفة ومشقة.
وقد قال الشاعر: هل الولد المحبوب إلا تعلة وهل خلوة الحسناء إلا أذى البعل وفي الاكل والشرب مشقة، فلو أن الانسان يصل إلى ذوق الطعوم المستطابة والشبع، دون تكلف تناول ومضغ وبلع، لكان أخف عليه وأقل مشقة وأيسر غررا، فرب مختنق بأكله كان في ذلك حتفه، أو الاشراف على الحتف.
ورب متأذ بما يدخل من ذلك في جوفه، وبما يدخل بين أضراسه، ومغث لمعدته(4/467)
فيتقيأ فيألم لذلك، ومن ملوث لثوبه بما يسقط من يده ولو تتبعنا ما في اللذات
من عسر ومشقة لطال ذلك جدا، فكيف بالاعمال المكلفة.
ولكن العسر والمشقة تتفاضل، فإنما رفع الله عز وجل عنا في بعض المواضع ما لا نطيق، وخفف تعالى في بعضها تخفيفا أكثر من تخفيف آخر.
وقد جاء في الاثر: حفت الجنة بالمكاره فبطل بهذا الحديث نصا قول من قال: إن الله تعالى لا ينسخ الاخف بالاثقل.
وصح أن الله تعالى يفعل ما يشاء فينسخ الاخف بالاثقل، والاثقل بالاخف، والشئ بمثله، والشئ بإسقاطه جملة، ويزيدنا شريعة من غير أن يخفف عنا أخرى لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل.
فإن اعترضوا بقوله تعالى: * (الآن خفف الله عنكم) * فهذه حجة عليهم بينة لا محيد عنها، لان التخفيف لا يكون إلا بعد تثقيل، فإذا ثقل علينا تعالى أولا فما الذي يمنع من أن يثقل علينا آخرا إن شاء.
وقد كنا برهة خالين من ذلك التثقيل الاول ثم ثقلنا به، فما المانع من أن يعود علينا ثانية كما كان أولا وأن نزاد تثقيلا آخر أشد منه، ويكفي من هذا كله وجودنا ما لا سبيل لهم إلى دفع نسخه تعالى أشياء خفافا بأشياء ثقال.
فمن ذلك نسخه تعالى صيام يوم عاشوراء بصيام شهر رمضان، ونسخ إباحة الافطار في رمضان، وإطعام مساكين - بدل ما يفطر من أيامه - بوجوب صيامه فرضا على كل حاضر صحيح بالغ عاقل عالم بالشهر، ولزوم الصيام فيه، ونسخ سقوط الغسل عن المولج العامد الذاكر لطهارته بإيجاب الغسل عليه، ونسخ تعالى إباحة الكلام للمصلي بعد أن كان حلالا بتحريمه، وقد كان الكلام فيها فيما ناب الانسان أخف بلا شك، ونسخ تعالى سقوط فرض الجهاد وبيعة المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء بإيجاب القتال، وحرم الخمر بعد إحلالها وقال تعالى: * (كل الطعام كان حلا لبني اسرائيل الا ما حرم اسرائيل على نفسه) * فصح أنه تعالى حرم عليهم أشياء كانت لهم حلالا وقد كان المنسوخ من كل ما ذكرنا أخف من الناسخ بالحس والمشاهدة.
وقد بين الله تعالى ذلك بإخباره
أن في الخمر والميسر منافع للناس، فأبطل تعالى علينا تلك المنا فع ولا يشك ذو عقل أن عدم المنفعة أثقل من وجودها.
ونسخ تعالى الاذى والحبس عن(4/468)
الزواني والزناة والرجم والتغريب، ولا شك عند من له عقل أن الحجارة والسياط أثقل من السب والسجن.
وقد اعترض بعض من يخالف قولنا في هذه المسألة بأن قال في نسخ الحبس عن الزواني: إن الحبس لم يكن مطلقا، وإنما كان مقيدا بوقت منتظرا لقوله تعالى: * (أو يجعل الله لهن سبيلا) *.
قال أبو محمد: وهذا الاعتراض ساقط من وجوه ثلاثة: أحدها: أنه لا يجد مثل هذا الشرط في أذى الزناة وتبكيتهم ولا في سائر ما ذكرنا من الخفائف المنسوخة بالثقائل.
والثاني: أن كل نسخ في الدنيا فهذه صفته، وإنما هو مقيد عند الله تعالى بوقت محدود في علمه تعالى، كما قالت عائشة في فرض قيام الليل: إنه تعالى أمسك خاتمة الآية في السماء اثني عشر شهرا ثم أنزلها.
ولا فرق بين أن يبدي إلينا ربنا تعالى أنه سينسخ ما يأمرنا به بعد مدة وبين ألا يبدي إلينا ذلك حتى ينسخه وكل ذلك نسخ ولا فرق بين معجل النسخ ومؤجله، في أن كل ذلك نسخ.
والثالث: أن السبيل الذي انتظر بهن هو أثقل مما كان عليهن أولا، لانه شدخ بالحجارة حتى يقع الموت بعد الايلام بالسوط، أو نفي في الارض بعد الايلام بالسوط، فكانت السبيل المحمولة لهن سبيل الهلاك أو البلاء وكل ذلك أشد من الحبس.
وهذا نفس ما اختلفنا فيه فأجزناه نحن وأبوه هم.
وقد اعترض بعضهم في نسخ البيعة على بيعة النساء بإيجاب القتال بأن قال: كان القتال أثقل علينا في صدر الاسلام لقلتنا، فلما كثر عددنا صار تركه أثقل.
قال أبو محمد: ولو كان لهذا القائل علم بكيفيا ت الاسماء وحدود الكلام لم يأت
بهذا الهذر.
ويقال له: أخبرنا، أزاد الناس حين نزول آية إيجاب القتال زيادة قووا بها قوة ثانية أكثر مما كانوا أم لا ؟ فإن قال: لا.
نقص قوله وتبرأ منه وأخبر أن الحال بعد نزول هذه الآية الموجبة للقتال بعد أن كان غير واجب - كالحال التي كانت قبل نزول إيجاب القتال.
وبطل ما قدر من التفاضل في القوة الموجبة لنزول إيجاب القتال، وإن قال: نعم، جمع أمرين(4/469)
: أحدهما: أنه يقفو ما ليس له به علم ويكذب، والثاني: أنه لم يتخلص بعد من إلزامنا ويقال له: لا بد أنه قد كان بين بلوغهم العدد الذي بلغوه حين نزول آية إيجاب القتال عليهم، وبين نزول الآية وقت ما لا بد منه فقد كان العدد موجودا ولا قتال عليهم.
ثم نسخ بإيجاب القتال.
وأيضا فإنه ليس في المعقول أصلا، ولا في الوجود عدد إذا بلغته الجماعة قويت على محاربة أهل الارض كلهم، وقد ألزم الله تعالى المسلمين إذا أمرهم بالقتال مجاهدة كل من يسكن معمور العالم من الناس، والمسلمون يومئذ لم يبلغوا الالف، وقد علم كل ذي عقل أنه لا فرق في القوة - على محاربة أهل الارض كلهم - بين ألف وألفين وبين واحد واثنين.
وإنما ههنا نزول النصر، فإذا أنزل الله تعالى على الانسان الواحد قوي ذلك الواحد على محاربة أهل الارض كلهم، وعجزوا كلهم عنه، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : * (والله يعصمك من الناس) * وأيقنا بذلك لو بارزوه كلهم لسقطوا أمامه، ولقدر على جميعهم.
وقد قال بعض المخالفين لقولنا: إن الصبر على القتال أثقل لذي النفس الآنفة.
قال أبو محمد: ويكفينا من الرد على هذه المقالة تكذيب الله عز وجل لها، فإنه تعالى خاطب الصحابة رضي الله عنهم، وهم آنف الناس نفوسا، وأحماهم قلوبا، وأعزهم همما، أو خاطب أيضا كل مسلم يأتي إلى يوم القيامة وهم أعز الامم نفوسا، وأقرها على الضيم، بأن قال تعالى: * (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى ان
تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى ان تحبوا شيئا وهو شر لكم) * وكفانا عز وجل الشغب والتعب وبين أن الكتاب مكروه عندنا.
والمكروه أثقل شئ.
وأخبرنا سبحانه وتعالى أن المكروه - الذي هو أثقل - قد يكون لنا فيه خير أكثر مما في الاخف، فقد حكم الله تعالى لنا في هذه المسألة حكما جليا، لا يسوغ لاحد أن يتكلم بعد سماعه في هذا المعنى بكلمة مخالفة لقولنا، والحمد لله رب العالمين.
واعترض بعضهم بأن قال: لم تكن الخمر مباحة، بل كانت حراما بالعقل فلم ينسخ إباحتها.
قال أبو محمد: فنقول وبالله تعالى التوفيق: إذ هذا القائل لو اشتغل بقراءة حديث النبي صلى الله عليه وسلم لكان ذلك أولى به من الكلام في الدين قبل النفقة فيه، وقد روينا في الحديث الصحيح تحليلها قبل أن تحرم، حدثنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد(4/470)
بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج قال: ثنا عبيد الله بن عمر القواريري، ثنا أبو همام عبد الاعلى، ثنا سعيد الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أيها الناس إن الله يعر ض بالخمر، ولعل الله سينزل فيها أمرا، فمن كان عنده منها شئ فليبعه ولينتفع به قال: فما لبثنا إلا يسيرا حتى قال صلى الله عليه وسلم : إن الله حرم الخمر فمن أدركته هذه الآية وعنده شئ فلا يشرب ولا يبع.
وروينا من الاطراف الصحاح شربها معلنا بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم - أكثر ذلك - عن حمزة، وسعد، وأبي عبيدة بن الجراح، وسهيل بن بيضاء، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي أيوب، وأبي طلحة، وأبي دجانة سماك بن خرشة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل وغيرهم من المهاجرين والانصار رضي الله عنهم، فكيف يقول هذا الجاهل: إنها لم تكن حلالا، وإن العقل حرمها، وأين عقل هذا الجنون العديم العقل - على الحقيقة -
من عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يراهم يشربونها - ولا ينكر ذلك عليهم - أزيد من ستة عشر عاما بعد مبعثه عليه السلام، فإن الخمر لم تحرم إلا بعد أحد.
وأحد كانت في الثالث من الهجرة، وتنادم الصحابة في المدينة بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وما وقع لبعضهم من العربدة على بعض، ومن الجنايات في شارفي علي، ومن التخليط في الصلاة - أشهر من أن يجهله من له علم بالاخبار، وكل ذلك يعلمه ولا ينكره عليه السلام، ولا يحل لمؤمن أن يقول إنه عليه السلام أقر على حرام أصلا، ويكفي من هذا ما قدمنا من أمره عليه السلام يبيعها قبل أن تحرم، وبأن ينتفع بها، والشرب يدخل في الانتفاع، وبالله التوفيق.(4/471)
فصل في نسخ الشئ قبل أن يعمل به
قال أبو محمد: أكثر المتقدمون في هذا الفصل وما ندري أن لطالب الفقه إليه حاجة ولكن ما تكلموا ألزمنا بيان الحق في ذلك بحول الله وقوته، والصحيح من ذلك: أن النسخ بعد العمل به وقبل العمل به، جائز كل ذلك، وقد نسخ تعالى عنا إيجابه خمسة وأربعين صلاة في كل يوم وليلة، قبل أن يعمل بها أحد.
قال أبو محمد: ومن جعل هذا بداء فقد جعل النسخ بداء ولا فرق، وكل ما دخلوه في نسخ الشئ قبل أن يعمل به راجع عليهم في نسخه بعد أن يعمل به ولا فرق، والله تعالى يفعل ما يشاء، والذي نقدر أن الذي حداهم إلى الكلام في هذه المسألة مذهبهم الفاسد في المصالح، ونحن لا نقول بها، بل نفوض الامر إلى الله عز وجل يفعل ما يشاء، ليس عليه زمام، ولا له متعقب، وسنبين ذلك في با ب العلل من هذا الديوان إن شاء الله تعالى.
فإن قال قائل: فماذا أراد الله عز وجل منا إذ قال: خمسين صلاة في كل يوم وليلة، ثم نسخها وردها إلى خمس قبل أن نصلي الخمسين ؟ قيل له، وبالله تعالى
التوفيق: إنه أراد منا الطاعة والانقياد والعزيمة على صلاتها، والاعتقاد لوجوبها علينا فقط، ولم يرد تعالى قط منا كون تلك الصلوات، ولا أن نعملها، ونحن لا ننكر أن يأمر تعالى بما لم يرد قط منا كونه، بل يوجب ذلك، ونقول: إنه تعالى أمر أبا طالب بالايمان، ولم يرد قط تعالى كون إيمانه موجودا.
وقد نص تعالى على ذلك بقوله: * (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) * وقوله تعالى: * (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) *.
فأخبر تعالى أنه لم يجب هداية أبي طالب، وأنه أراد ألا يهدي قوما، وكلهم مأمور بالاهتداء، وقد بينا هذا في كتاب الفصل، ولو أنه تعالى لم ينسخها حتى نصليها لعلمنا حينئذ أنه تعالى أراد كونها منا، كما علمنا أنه تعالى أراد إسلام أبي بكر وعمر وسائر من أسلم، وإنما نعلم ما أراد تعالى كونه بعد ظهوره، أو أخبرنا الله تعالى بأنه سيكون والله أعلم، وهو الذي أطلعنا عليه من غيبه، ونحن كنا مأمورون بالصلاة.
وقد يموت كثير من الناس قبل أن يتأتى عليه وقت صلاة بعد بلوغه،(4/472)
إنه تعالى إنما أراد من هؤلاء الانقياد والعزيمة فقط، والله تعالى لم يرد قط ممن مات قبل حلول وقت الصلاة أن يصليها.
واحتج بعض من تقدم - في إجازة نسخ الشئ قبل العمل به - بحديث الزبير: إذ خاصم الانصاري في سيل مهزور ومذينب وجعل الامر الآخر منه عليه السلام ناسخا للاول.
وأبطل قول من قال: كان الامر الاول على سبيل الصلح وتر ك الزبير بعض حقه وقال: إن هذا لا يحل أن يقال، لان حكمه عليه السلام كله حق واجب، لقول الله تعالى: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب اليم) * فلم يخص أمرا دون أمر، ولو ساغ ذلك في هذا الحديث، لساغ لكل أحد أن يقول في أي حكم حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم :
هذا على سبيل الصلح لاعلى سبيل الحقيق، وهذا كفر من قائله.
قال أبو محمد: وقد صدق هذا المحتج فيما قال.
قال بعضهم: لو جاز النسخ قبل العمل لجاز قبل الاعتقاد.
قال أبو محمد: وهذا قياس، والقياس باطل، ولو كان القياس حقا لكان هذا فاسدا، إذ ليس سقوط العقل موجبا لسقوط الاعتقاد، وقد يعتقد وجوب الشئ وتصحيحه من لا يفعله من المسلمين العصاة، وقد يفعله من لا يعتقده من المنافقين والمرائين، وهذا أمر يعلم بالمشاهدة، فبطل أن يكون الاعتقاد مرتبطا بالعمل، وبطل ما موه به هذا المعترض من أنه لو جاز النسخ قبل العمل لجاز قبل الاعتقاد، فإن قالوا: لو جاز نسخ الشئ قبل العمل به لكان اعتقاده حسنا وطاعة، وفعله قبيحا ومعصية، وهذا محال.
فالجواب: إن هذا شغب ضعيف لانهم جمعوا بين حكم زمانين مختلفين، وإنما يكون اعتقاد الشئ حقا - إن فعل - إذا لم ينسخ، فأما إذا نسخ فإنما الواجب اعتقادا أنه معصية إن فعل، واعتقاد أنه قد كان طاعة في وقت آخر، وهذا ليس محالا فإن قالوا: الاعتقاد فعل قيل لهم: الاعتقاد فعل النفس منفردة لا شركة للجسد(4/473)
معها فيه، والعمل فعل النفس بتحريك الجسد، فهو شئ آخر غير الاعتقاد وقد فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما بقوله صلى الله عليه وسلم العمل بالنيات، فجعل النية وهي الاعتقاد غير العمل.
قال أبو محمد: وقد احتج القدماء - من القائلين بقولنا في هذه المسألة - بحجج منها أمره تعالى إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، وقول إبراهيم عليه السلام: * (إن هذا لهو البلاء المبين) * وقالوا: هذا بيان جلي أن الذي أمر به نسخ قبل أن
يكون، لان قوما قالوا: إنما أمر بتحريك السكين على حلق ولده فقط، فأبطل تعالى قولهم بقول إبراهيم: * (إن هذا لهو البلاء المبين) * ولو لم يؤمر بقتله لما كان في تحريك السكين على حلقه بلاء فصح بقول إبراهيم عليه السلام، أنه إنما أمر بقتل ولده وإماتته بالذبح، ثم نسخ ذلك قبل فعله.
قال أبو محمد: وهذا احتجاج صحيح لا ينفك منه أصلا.
فإن قال قائل: عرفونا ما الذي أراد الله تعالى منا إذا أمرنا بالشئ ثم نسخه قبل فعله، أراد العمل به ثم بدا له قبل فعله ؟ أم أراد ألا يعمل به ؟ والشئ إذا لم يرده تعالى فقد سخطه وكرهه ولم يرضه، فعلى قولكم إنه تعالى يأمرنا بما يكره ويسخط ويلزمنا ما لا يرضى كونه منا.
قال أبو محمد: فيقال، وبالله تعالى التوفيق، إنه تعالى أمر بما أمر من ذلك ولا مراد له إلا الانقياد في المأمور فقط، ولم يرد قط وقوع الفعل، ونهانا عنه قبل أن يكون منا، ولا يسأل عما يفعل، ولسنا ننكر أن يأمرنا تعالى الآن بأمر قد علم أن بعد مدة ينهى عنه ويسخطه، وإنما الذي ننكر أن يأمر تعالى بما هو ساخط له في حين امره، فهذا لا سبيل إليه.
وأما أن يأمرنا بأمر قد علم أنه سينهانا عنه في ثاني الامر، ويسخطه بعد مرور وقت الامر به، فهذا واجب وهذه صفة كل نسخ، وكل أمر مرتبط بكل وقت، وبالله تعالى التوفيق، وقد اعترض بعضهم في أمره تعالى بخمسين صلاة، ثم جعلها تعالى إلى خمس بأن قال:(4/474)
إنما يلزمنا الامر إذا بلغنا، وكاذلك الامر لم يبلغ بعد إلى المسلمين، فأجاب بعض من سلف القائلين بقولنا: إنه تعالى قد أبلغ أمره بذلك إلى رسوله، فهو سيدنا وإمامنا فكان الخمسون اللازمة له لبلوغ الامر إليه، ثم نسخت عنه قبل أن يعمل بها.
قال أبو محمد: فإن قالوا: لم يرد الله تعالى قط بالخمسين إلا خمسا يعطي بكل واحدة عشر حسنات، واحتجوا بما في آخر الحديث من قوله تعالى: هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي فالجواب، وبالله تعالى التوفيق: إن هذا الكلام هو بيان قولنا لا قولهم، لان الخمس لا تكون خمسين في العدد أصلا، وإنما هي خمسون في العدد، وخمسون في الاجل، وكنا ألزمنا أولا خمسين في العدد وهي خمسون في الاجر فقط، فأسقط عنا التعب وبقي لنا الاجر، فصح أن الساقط غير اللازم ضرورة، وبرهان ذلك حطه تعالى إلى خمس وأربعين وإلى أربعين، ثم إلى خمس وثلاثين ثم ثلاثين، وهكذا خمسا خمسا حتى بقيتخمسا، وهذا لا إشكال فيه، في أن الملزم غير المستقر آخرا، فبطل اعتراضهم، والحمد لله رب العالمين.
ومن طريق ما اعترض به بعضهم أن قال: لعله عليه السلام قد صلى الخمسين صلاة قبل نسخها، أو لعل الملائكة صلتها قبل نسخها.
قال أبو محمد: وهذا جهل شديد، ولو كان لقائل هذا أدنى علم بالاخبار لم يقل هذا الهجر، لان الاسراء إنما كان في جوف الليل، ولم يأت الصباح إلا وهو صلى الله عليه وسلم قد رجع إلى مكة وكان بها قبل مغيب الشفق وبعد غروب الشمس، وقبل طلوع الشمس من تلك الليلة، وإنما لزمت الخمسون في يوم وليلة.
وأيضا فهو عليه السلام، يذكر بلفظه في الحديث: أنه لم ينفك راجعا وآتيا من ربه تعالى إلى موسى عليه السلام، وأما الملائكة فلم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، بل بعضهم هم الرسل من الله تعالى إليه، وإنما بعث إلى الجن والانس الساكنين دون سماء الدنيا، وهذا ما لا خلاف فيه بين المسلمين مع النصوص الواردة في القرآن والحديث في خطاب هذين النوعين فقط، وإنما بعث إليهما فقط، والملائكة في مكان لا ليل فيه، وإنما هي في السموات التي هي(4/475)
الافلاك، وفي الكرسي وتحت العرش وحوله، والليل إنما يبلغ إلى فلك القمر الذي هو سماء الدنيا فقط، والجن مرجومون بالشهب إذا دنوا منها بنص القرآن بقوله تعالى: * (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين) * فصح يقينا أن الملائكة لا تلزمهم صلاتنا، لانهم لا ليل عندهم ولا نهار، وإنما هو في أنوار بسيطة صافية، وإنما تلزم الصلوات في أوقات الليل والنهار.
وقد احتج في هذا بعض من تقدم بأن قال: يقال لمن أبذلك: ما الذي أنكرتم ؟ أنسخ ما قد فعل، أم نسخ ما لم يفعل، أن نسخ الامر الوارد بالفعل ؟ ولا سبيل إلى قسم رابع، فإن قالوا: نسخ ما قد فعل، أحالوا، ولا سبيل إلى نسخ ما قد فعل، لانه قد فعل وفني، فلا سبيل إلى رده، وإن قالوا: نسخ ما لم يفعل، فقد أثبتوا نسخ الشئ قبل فعله، وهذا هو نفس ما أبطلوا، لان الذي لم يفعل هو غير الذي فعل ضرورة.
فإن قالوا: نسخ الامر فلا فرق بين نسخ الامر قبل أن يفعل الناس ما أوجب ذلك الامر، وبين نسخه بعد أن يفعل الناس ما أوجب ذلك الامر، والفعل المأمور به على كل حال غير الامر به، فلا يتعلق الامر بالفعل لانه غيره، لان الامر هو فعل الله مجردا، والفعل هو فعلنا نحن فبينهما فرق كما ترى.
قال أبو محمد: وهذه حجة ضرورة لا محيد عنها.
واحتج أيضا بأن قال: إن الامر إذا ورد ففعله فاعلون ثم نسخ فلا خلاف في جواز ذلك، ولا شك في أنه قد بقي خلكثير لم يعملوا به ممن لم يأت بعد، وقد كانوا مخاطبين بذلك الامر حين نزوله، فقد نسخ قبل أن يعمل به هؤلاء الذين لم يعملوا به، ولا فرق بين أن يجوز نسخه قبل أن يعمل به بعض المأمورين وبين نسخه قبل أن يعمل به أحد منهم.
قال أبو محمد: وهذه أيضا حجة ضرورية لا محيد عنها.
قال أبو محمد: وسألني سائل فقال: لو أمر التعالى بأمر فقال: اعملوا بهذا الامر ثمانية متصلة، أو قال أبدا، أيجوز نسخ هذأم لا ؟ فقلت: إن النسخ جائز في هذه لانه من باب نسخ الشئ قبل أن يعمل به، ولافرق بين أن يأمرنا بخمسين صلاة نصليها، وبين أن يأمرنا بعمل ما أبدا، أو ثمانية أيام،(4/476)
ثم ينسخه عنا قبل أن يتم عمل ذلك، وليس الكذب في الامر والنهي مدخو إنما يدخل الكذب في الاخبار، فلو أن الامر خرج بهذا التحديد بلفظ الخبر لم يجز نسخه، لانه كان يكون كذبا مجردا، إذ في الاخبار يقع الكذب، وهذا بخلاف الامر إذا خرج بلفظ الخبر غير مرتبط بتحديد وقت، فالنسخ جائز فيه، لانه ليس يكون حينئذ كذبا، وإنما يكون النسخ حينئذ بيانا للوقت الذي لزمنا فيه ذلك العمل، فما جاء بلفظ الخبر على التأييد فلا يجوز نسخه قول الله: هي خمس وهي خمسون، لا يبدل القول لدي فلو بدل لكان هذا القول كذبا، ومنه لابد الابد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، والقول في المتعة فهي حرام بحرمة الله ورسوله إلى يوم القيامة، فلو نسخ هذان الامران لكان هذان القولان كذبا إذ كان يبطل وجوده ما أخبرنا بوجوده إلى يوم القيامة، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن
قال أبو محمد: اختلف الناس في هذا بعد أن اتفقوا على جواز نسخ القرآن بالقرآن، وجواز نسخ السنة بالسنة، فقالت طائفة: لا تنسخ السنة بالقرآن ولا القرآن بالسنة، وقالت طائفة: جائز كل ذلك، والقرآن ينسخ بالقرآن وبالسنة والسنة تنسخ بالقرآن وبالسنة.
قال أبو محمد: وبهذا نقول وهو الصحيح، وسواء عندنا السنة المنقولة بالتواتر والسنة المنقولة بأخبار الآحاد، كل ذلك ينسخ بعضه بعضا، وينسخ الآيات
من القرآن، وينسخه الآيات من القرآن، وبرهان ذلك ما بيناه في باب الاخبار من هذا الكتاب، من وجوب الطاعة لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ،كوجوب الطاعة لما جاء في القرآن ولا فرق، وأن كل ذلك من عند الله بقوله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) * فإذا كان كلامه وحيا من عند الله عز وجل، والقرآن وحي، فنسخ الوحي بالوحي جائز، لان كل ذلك سواء في أنه وحي.
واحتج من منع ذلك بقوله تعالى: * (قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسي) *
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لاننا لم نقل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم (4/477)
بدله من تلقاء نفسه، وقائل هذا كافر، وإنما نقول: إنه عليه السلام بدله بوحي من عند الله تعالى، كما قال آمرا له أن يقول: * (إن أتبع إلا ما يوحى إلى) * فصح بهذا نصا جواز نسخ الوحي بالوحي، والسنة وحي فجائز نسخ القرآن بالسنة، والسنة بالقرآن.
واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسأها نأت بخير منها أو مثلها) * قالوا: والسنة ليست مثلا للقرآن ولا خيرا منه.
قال أبو محمد: وهذا أيضا لا حجة لهم فيه، لان القرآن أيضا ليس بعضه خيرا من بعض، وإنما المعنى نأت بخير منهالكم أو مثلها لكم، ولا شك أن العمل بالناسخ خير من العمل بالمنسوخ، قبل أن ينسخ، وقد يكون الاجر على العمل بالناسخ مثل الاجر على العمل بالمنسوخ قبل أن ينسخ، وقد يكون أكثر منه، إلا أن فائدة الآية أننا قد أمنا أن يكون العمل بالناسخ أقل أجرا من العمل بالمنسوخ قبل أن ينسخ، لكن إنما يكون أكثر منه أو مثله، ولا بد من أحد الوجهين، تفضلا من الله تعالى - لا إله إلا هو - علينا.
وأيضا فإن السنة مثل القرآن في وجهين: أحدهما: أن كلاهما من عند الله عز وجل على ما تلونا آنفا من قوله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى) *.
والثاني استواؤهما في وجوب الطاعة بقوله تعالى: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * وبقوله تعالى * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) * وإنما افترقا في ألا يكتب في المصحف غير القرآن، ولا يتلى معه غيره مخلوطا به، وفي الاعجاز فقط.
وليس في العالم شيئان إلا وهما يشتبهان من وجه ويختلفان من آخر لا بد من ذلك ضرورة ولا سبيل إلى أن يختلفا من كل وجه، ولا أن يتماثلا من كل وجه، وإذ قد صح هذا كله، فالعمل بالحديث الناسخ أفضل وخير من العمل بالآية المنسوخة، وأعظم أجرا، كما قلنا قبل ولا فرق، وقد قال تعالى: * (ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم) * وقد تكون المشركة خيرا منها في الجمال وفي أشياء من الاخلاق ونحوها، وإن كانت المؤمنة خيرا عند الله تعالى، وهذا شئ يعلم حسا ومشاهدة، وبالله تعالى التوفيق.(4/478)
واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) *.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لانه كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فالله عز وجل هو المثبت له، وهو تعالى الماحي به لما شاء أن يمحو من أوامره، وكل من عند الله، وهذه الآية حجة لنا عليهم في أنه تعالى يمحو ما شاء بما شاء عن العموم، ويدخل في ذلك السنة والقرآن.
واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * قالوا: والمبين لا يكون ناسخا.
قال أبو محمد: وهذا خطأ من وجهين، أحدهما: ما قد بينا في أول الكلام في النسخ، من أن النسخ نوع من أنواع البيان، لانه بيان ارتفاع الامر المنسوخ،
وبيان إثبات الامر الناسخ، والثاني: أن قولهم: إن المبين لا يكون ناسخا دعوى لا دليل عليها، وكل دعوى تعرت من برهان فهي فاسدة ساقطة.
واحتجوا بقوله تعالى: * (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل) *.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لانه لم يقل تعالى: إني لا أبدل آية إلا مكان آية، وإنما قال لنا: إنه يبدل آية مكان آية، ونحن لم ننكر بل أثبتناه، وقلنا: إنه يبدل آية، ويفعل أيضا غير ذلك، وهو تبديل وحي غير ذلك، متلو مكان آية، ببراهين أخر، وكل ما أبطلنا به أقوالهم الفاسدة في دليل الخطاب، فهو مبطل لاحتجاجهم بهذه الآية.
واحتجوا بقوله تعالى: * (ولا تعجل بالقرآن من قبل إن يقضى إليك وحيه) * قالوا: فإذا منعه الله تعالى من أن يبين القرآن من قبل أن يقضي إليه وحيه، فهو من نسخه أشد منعا.
قال أبو محمد: وهذا شغب وتمويه، لاننا لم نجز قط أن يكون الرسول عليه السلام ينسخ الآيات من القرآن قبل أن يقضى إليوحي نسخها، وقائل ذلك عندنا كافر، وإنما قلنا: إنه عليه السلام إذا قضى إليربه تعالى وحيا غير متلو بنسخ آية، أبداه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس حينئذ بكلامه، فكان سنة مبلغة وشريعة لازمة ووحيا منقولا، ولا يضره أن يسمى قرآنا ولا يكتب في المصحف، كما لم يضر ذلك سائر الشرائع التي ثبتت بالسنة، ولا بيان لها(4/479)
في القرآن، من عدد ركوع الصلوات، ووجوه الزكوات، وما حرم من البيوع وسائر الاحكام، وكل ذلك من عند الله عز وجل.
واحتج بعضهم بقوله تعالى: * (قل نزله روح القدس من ربك) * قال: وهذا لا يطلق إلا على القرآن.
قال أبو محمد: وهذا كله كذب من قائله وافتراء، وكل وحي أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشريعة من الشرائع، فإذا نزل به الروح القدس من ربه، وقد جاء نص الحديث، بأن جبريل عليه السلام نزل فصلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا، حتى علمه الصلوات الخمس، وليس هذا في القرآن، وقد نزله روح القدس كما ترى.
قال أبو محمد: فبطل كل ما احتجوا به، وبالله تعالى التوفيق.
وقد قال الشافعي رحمة الله عليه: إذا أحدث الله تعالى لنبيه عليه السلام أمرا برفع سنة تقدمت أحدث النبي عليه السلام سنة تكون ناسخة لتلك السنة الاولى.
فأنكر عليه بعض أصحابه هذا القول فقال: لو جاز أن يقال في وحي نزل ناسخا لسنة تقدمت فعمل بها النبي صلى الله عليه وسلم ،أن عمله هذا نسخ السنة الاولى لكان إذا عمل عليه السلام سنة فنسخ بها سنة سالفة له، فعمل بها الناس إن عمل الناس نسخ السنة الاولى، وهذا خطأ.
قال أبو محمد: وهذا اعتراض صحيح، والرسول صلى الله عليه وسلم مفترض عليه الانقياد لامر ربه عز وجل.
فإنما الناسخ هو الامر الوارد من الله عز وجل، لا العمل الذي لا بد منه، والذي إنما يأتي انقيادا لذلك الامر المطاع.
قال أبو محمد: فيقال لمن خالفنا في هذه المسألة: أيفعل الرسول صلى الله عليه وسلم أو يقول شيئا من قبل نفسه دون أن يوحى إليه به ؟ فإن قال: نعم، كفر وكذبه ربه تعالى بقوله عز وجل: * (وما ينطق عن الهوى ان هو إلا وحى يوحى) * وبقوله تعالى آمرا له أن يقول: * (ان أتبع إلا ما يوحى إلى) * فلما بطل أن يكون فعله صلى الله عليه وسلم أو قوله إلا وحيا، وكان الوحي ينسخ بعضه بعضا، كانت السنة والقرآن ينسخ بعضها بعضا.
قال أبو محمد: ومما يبين نسخ القرآن بالسنة بيانا لا خفاء به قوله تعالى:(4/480)
* (فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفا هن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) * ثم قال صلى الله عليه وسلم : خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم فكان كلامه صلى الله عليه وسلم الذي ليس قرآنا ناسخا للحبس الذي ورد به القرآن.
فإن قال قائل: ما نسخ الحبس إلا قوله تعالى: * (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * قيل له: أخطأت، لان هذا الحديث يوجب بنصه أنه قبل نزول آية الجلد لانه بيان السبيل الذي ذكر الله تعالى، وأمر لهم باستماع تلك السبيل، وأيضا فإن في الحديث التغريب والجلد، وليس ذلك في الآية التي ذكرت، فالحديث هو الناسخ على الحقيقة، لا سيما إذا كان خصمنا من أصحاب أبي حنيفة والشافعي أو مالك، فإنهم لا يرون على الثيب جلدا إنما يرون الرجم فقط، فوجب على قولهم الفاسد ألا مدخل للآية المذكورة أصل في نسخ الاذى والحبس الذي كان حد الزناة والزواني.
فإن قال قائل منهم: ما نسخ الاذى والحبس إلا ما روي مما كان نازلا وهو: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة، قيل له، وبالله تعالى التوفيق: قد تركت قولك ووافقتنا على جواز نسخ القرآن المتلو بما ليس مثله في التلاوة، وبما ليس مثله في أن يكتب في المصحف، فإذا جوزت ذلك، فكذلك كلامه صلى الله عليه وسلم بنص القرآن وحي غير متلو، وليس ذلك بمانمن أن ينسخ به.
وقد بلح بعضهم ههنا فقال: إنما عنى بقوله: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * غير المحصنين فقط وقال: كما خرج العبد والامة من هذا النص، فكذلك خرج المحصن والمحصنة منه.
قال أبو محمد: فيقال له: إذا جوزت خروج حكم ما من أجل خروج
حكم آخر بدليل، فلا ننكر على أبي حنيفة قوله: من تزوج أمه وهو يعلم أنها أنه فوطئها خارج عن حكم الزناة، ولا ننكر على مالك قوله: إن من وطئ عمته وخالته بملك اليمين، وهو يعلم أنهما محرمتان عليه خارج عن حكم الزناة، ولا تدخل أنت فيه اللوطي ولا ذكر له فيهم، وهذا من غلطهم أن يخرجوا من الزناة من وقع عليه اسم زان، وأن يدخلوا فيهم من لا يقع عليه اسم زان، وهذا(4/481)
جهار بالمعصية لله تعالى وخلاف أمره، وتحكم في الدين بلا دليل نعوذ بالله من ذلك.
قال أبو محمد: ومما نسختفيه السنة القرآن، قوله عز وجل: * (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) * فإن القراءة بخفض أرجلكم وفتحها، كلاهما لا يجوز إلا أن يكون معطوفا على الرؤوس في المسح ولا بد، لانه لا يجوز البتة أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بخبر غير الخبر عن المعطوف عليه، لانه إشكال وتلبيس وإضلال لا بيان، لا تقول ضربت محمدا وزيدا، ومررت بخالد وعمرا، وأنت تريد أنك ضربت عمرا أصلا، فلما جاءت السنة بغسل الرجلين صح أن المسح منسوخ عنهما.
وهكذا عمل الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يمسحون على أرجلهم حتى قال عليه السلام: ويل للاعقا ب والعراقيب من النار وكذلك قال ابن عباس: نزل القرآن بالمسح.
قال أبو محمد: والنسخ تخصيص بعض الازمان بالحكم الوارد دون سائر الازمان، وهم يجيزون بالسنة تخصيص بعض الاعيان، مثل قوله عليه السلام: لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وما أشبه ذلك، فما الفرق بين جواز تخصيص بعض الاعيان بالسنة، وبين جواز تخصيص بعض الازمان بها ؟ وما الذي أوجب أن يكون هذا ممنوعا، وذلك موجودا ؟ فإن قالوا: ليس التخصيص كالنسخ، لان التخصيص لا يرفع النص، والنسخ يرفع النص كله.
قيل لهم:
إذا جاز رفع بعض النص بالسنة - وبعض النص نص - فلا فرق بين رفع بعض نص آخر بها، وكل ذلك سواء، ولا فرق بين شئ منه.
قال أبو محمد: وقد أقروا وثبت الخبر، بأن آيات كثيرة رفع رسمها البتة، ولا يجوز أن ترفع بقرآن، إذ لو رفعت بقرآن لكان ذلك القرآن موجودا متلوا، وليس في شئ من المتلو ذكر رفع لآية كذا مما رفع البتة، فوجب ضرورة أن ما ارتفع، رسمه من القرآن فإنما رفعته سنته عليه السلام، و إخباره أن ذلك قد رفع وهذا نفس ما أجزنا من نسخ القرآن بالسنة، فإن قالوا: إنما رفع بالانساء، قيل لهم: الانساء ليس قرآنا، وإنما ذلك هو فعل منه تعالى وأمر بألا يتلى.
قال أبو محمد: ومما نسخ من القرآن بالسنة قوله تعالى: * (إن ترك خيرا الوصية(4/482)
) * نسخ بعضها قوله صلى الله عليه وسلم : لا وصية لوارث وقد قال قوم: إن آيات المواريث نسخت هذه الآية.
قال أبو محمد: وهذا خطأ محض، لان النسخ هو رفع حكم المنسوخ ومضاد له، وليس في آية المواريث ما يمنع الوصية للوالدين والاقربين إذ جائز أن يرثوا ويوصى لهم مع ذلك من الثلث، ومن بديع ما يقع لمن قال: إن القرآن لا تنسخه السنة، أنهم نسوا أنفسهم، فجعلوا حديث عمران بن الحصين في الستة الاعبد، ناسخا لوصية الوالدين والاقربين، فأثبتوا ما نفوا وصححوا ما أبطلوا، وقد تكلمنا في بطلان ذلك فأغنى عن ترديده، ولا فرق بينهم في دعواهم لذلك وبين من قال: بل الآية نسخت حديث الستة الاعبد.
ومما نسخ من السنة بالقرآن: صلحه صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية إلى المدة التي كانت، ثم نسخ الله تعالى ذلك في سورة براءة، ولم يجز لنا صلح مشرك إلا على الاسلام فقط، حاشا أهل الكتاب، فإنه تعالى أجاز صلحهم على أداء الجزية مع الصغار، وأبطل تعالى تلك الشروط كلها، وتلك المدة كلها، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في نسخ الفعل بالامر والامر بالفعل
قال أبو محمد: قد بينا أن كل ما فعله صلى الله عليه وسلم من أمور الديانة، أو قاله منها فهو وحي من عند الله عز وجل، بقوله تعالى: * (إن أتبع إلا ما يوحى إلى) * وبقوله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى) * والله تعالى يفعل ما يشاء فمرة ينزل أوامره بوحي يتلى، ومرة بوحي ينقل ولا يتلى، ومرة بوحي يعمل به ولا يتلى ولا ينقل، لكنه قد رفع رسمه وبقي حكمه، ومرة أن يري نبيه صلى الله عليه وسلم في منامه ما شاء، ومرة يأتيه جبريل بالوحي، لا معقب لحكمه، فجائز نسخ أمره صلى الله عليه وسلم بفعله، وفعله بأمره، وجائز نسخ القرآن بكل ذلك، وجائز نسخ كل ذلك بالقرآن وكل ذلك سواء ولا فرق.
وكذلك الشئ يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقره ولا ينكره، وقد كان تقدم عنه تحريم جلي، فإن ذلك نسخ لتحريمه، لانه مفترض عليه التبليغ، وإنكار المنكر، وإقرار المعروف، وبيان اللوازم، وهو معصوم من الناس، ومن خلاف ما أمره به(4/483)
ربه تعالى، فلما صح كل ما ذكرنا أيقنا أنه إذا علم شيئا كان قد حرمه ثم علمه ولم يغيره -: أن التحريم قد نسخ، وأن ذلك قد عاد حقا مباحا ومعروفا غير منكر.
وأما إن كان قد تقدم في ذلك الشئ نهي فقط ثم رآه صلى الله عليه وسلم أو علمه فأقره، فإنما ذلك بين أن ذلك النهي على سبيل الكرامة فقط، لانه لا يحل لاحد أن يقول في شئ من الاوامر، إن هذا منسوخ إلا ببرهان جلي، إذ كلها على وجوب الطاعة لها، وما تيقنا وجوب طاعتنا له، فحرام علينا مخالفته لقول قائل: هذا منسوخ، ولو جاز قبول ذلك ممن ادعاه بلا برهان لسقطت الشرائع كلها، لانه ليس قول زيد وعمر وومالك والشافعي وأبي حنيفة: هذا منسوخ، بأولى
من قول كل من على ظهر الارض - فيما يستعمله من ذكرنا -: هذا أيضا منسوخ.
وقد قال تعالى: * (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) * ومن قال في شئ من أوامر الله تعالى، أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم : هذا منسوخ أو هذا متروك، أو هذا مخصوص، أو هذا ليس عليه العمل، فقد قال: دعوا ما أمركم به ربكم أو نبيكم ولا تعملوا به، وخذوا قولي وأطيعوني في خلاف ما أمرتم به.
قال أبو محمد: فحق من قال ذلك أن يعصى، ولا يلتفت إلى كلامه، إلا أن يأتي ببرهان من نص أو إجماع، كما قدمنا في فصل كيفية معرفة المنسوخ من المحكم.
قال أبو محمد ومما ذكرنا أنه نهى عنه صلى الله عليه وسلم ،ثم رآه فلم ينكره نهيه المصلين خلف الجالس عن القيام.
ثم صلى عليه السلام في مرضه الذي مات فيه جالسا، والناس وراءه قيام ولم ينكر عليه السلام ذلك، فصح أن ذلك النهي الاول ندب، إلا من فعل ذلك إعظاما للامام، فهو حرام على ما بين عليه السلام يوم صلاته إذ ركب فرس أبي طلحة فسقط.(4/484)
فصل في متى يقع النسخ عمن بعد عن موضع نزول الوحي
قال أبو محمد: قال قوم: النسخ يقع حين نزول الوحي، لان المنسوخ - على ما بينا - إنما هو أمر الله المتقدم لا أفعال المأمورين، إلا أن الغائب لا يقع عليه الملامة، ولا الوعيد إلا بعد بلوغ الامر الناسخ إليه، وكذلك سائر الاوامر التي لم تنسخ هي لازمة لكل من قرب وبعد، ولكل من لم يخلق بعد، لكن الملامة والوعيد مرفوعان عمن لم يبلغه حتى يبلغه.
فإذا بلغته فأطاع حمد وأجر وإن عصى ليم واستحق الوعيد وأجره على فعل منسخ - مما لم يبلغه نسخه -
أجر واحد، لانه مجتهد مخطئ كما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
والذي نقول به: إن النسخ لا يلزم إلا إذا بلغ وبين ما قلنا قوله تعالى: * (لانذركم به ومن بلغ) * فإما أوجب الحكم بعد البلوغ.
فلو أن من بلغ المنسوخ - ممن بعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم يبلغه الناسخ أقدم على ترك المنسوخ الذي بلغه دون علم الناسخ وعمل بالناسخ، كان عليه إثم المستسهل لترك الفرض، لا إثم تارك الفرض: إنه لا يجوز لمن علم نسخ الحكم أن ينفذ عليه حكم تارك الحكم لأن كل واحد منهما له حكم ما بلغه ومن بلغه تحريم الحكم على الجاهل، لم يجز له أن يحكم عليه بحكم العالم.
مثال ذلك: رجل لقي رجلا فقتله على نية الحرابة، فإذا بذلك المقتول هو قاتل وا الذي قتله، أو وجده مشركا محاربا، فهذا ليس عليه إثم قاتل مؤمن عمدا، ولا قود عليه ولا دية، لانه لم يقتل مؤمنا حرم الدم عليه، وإنما عليه إثم مريد قتل المؤمن عمدا ولم ينفذ ما أراد، وبين الاثمين بون كبير، لان أحدهما هام، والآخر فاعل، وكإنسان لقي امرأة فظنها أجنبية فوطئها، فإذا بها زوجته، فهذا ليس عليه إثم الزنى، ومن قذفه حد حد القذف، لكن عليه إثم مريد الزنى.
ولا حد عليه، ولا يقع عليه اسم فاسق بذلك.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : من هم بسيئة فليعملها لم تكتب عليه، ولو أن رجلا ممن بلغه فرض استقبال بيت المقدس ولم يبلغه نسخ ذلك، وصلى إلى الكعبة لكان مفسدا لصلاته(4/485)
بعبثه فيها، لا بصلاته إلى غير القبلة، ولان الائتمار إنما يكون بعد العلم بالامر اللازم له لا قبل، ولا تكون طاعة أصلا إلا بنية وقصد إلى عمل بعد ما أمر به علمه بأنه لازم له، وإلا فهو عبث، لا يسمى ذلك في اللغة طائعا أصلا، ولكتب عليه اسم المستسهل للصلاة إلى غير القبلة، ومثاله الآن: بينما رجل في
صحراء أداه اجتهاده إلى جهة ما فخالفها متعمدا، فوافق في الوجهة التي صلى إليها إن كانت القبلة على حق، فهذا عابث في صلاته فاسق، وليس مصليا إلى غير القبلة.
قال أبو محمد: كذلك كانت صلاة أهل قباء، ومن كان بأرض الحبشة إلى بيت المقدس صلاة تامة، وإن كان النسخ قد وقع بالقبلة إلى الكعبة على من بلغه لانهم لم يعلموا ذلك، ولكن أجرهم على صلاتهم كذلك أجران، وأما من بلغه ذلك ثم نسيه، أو تأول فيه فأجرهم على صلاته كذلك أجرا واحدا لانهم مجتهدون أخطؤوا ما عند الله عز وجل، وهم مأمورون باستقبال الكعبة، ولكنهم غير ملومين ولا آثمين في ترك ذلك، لانهم معذورون بالجهل، وهذا بين وبالله تعالى التوفيق، وليس كذلك أهل قباء، ومن كان بأرض الحبشة، لافرضهم البقاء على ما بلغهم، حتى ينتقل بلوغ النسخ إليهم.
قال أبو محمد: وقد تبين بهذا ما قلناه في غير موضع من كتابنا، أن المخطئ أفضل عند الله من المقلد المصيب، وكذلك قلنا في جميع العبادات، فإن سأل سائل عن قولنا في الوكيل يعزله موكله أو يموت، فينفذ الوكيل ما كان وكل عليه بعد عزله، وهو يعلم أنه معزول، أو بعد موت الذي وكله وهو لا يعلم بموته قلنا له، وبالله تعالى التوفيق: قال الله عز وجل: * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) *.
وقال صلى الله عليه وسلم : د ماؤكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام فكل أمر انفذه الوكيل بعد عزله وهو غير عالم فنافذ، لان عازله ولا يعلمه مضار، وقد قال صلى الله عليه وسلم : من ضار أضر الله به فهو منهي عن المضارة.
وأما ما أنفذ بعد موت موكله - وهو عالم أو غير عالم - فهو مردود منسوخ، لانه كاسب على غيره بغير نص ولا إجماع، ولا يجوز القياس أصلا ولكل حكم حكمه، وليست هذه الامور بابا واحدا فيستوي الحكم فيها، إلا أن يكون وكله على دفع وديعة أو دين أو حق لآخر فهذا نافذ، عزله أو علم الوكيل أنه عزله أو أنه مات، أو لم يعلم(4/486)
لان الذي فعل حق للمدفوع إليه لا للدافع، فليس كاسبا على غيره بل فعل فعلا واجبا على كل أحد أن يفعله، أمر بذلك أو لم يؤمر، لانه قيام بالقسط.
قال الله تعالى: * (كونوا قوامين بالقسط) * وقال تعالى: * (وتعاونوا على البر والتقوى) * ومن البر إيصال كل أحد حقه.
وأما القاضي والامين يعزله الامير فليس للامام أن يضيع أمور المسلمين فيبقيهم دون من ينفذ أحكامهم، لكن يكتب أو يوصي إلى القاضي أو الوالي إذا أتاك عهدي فاعتزل عملنا.
فإن لم يفعل كذلك فكل حكم أنفذه المعزول قبل أن يعلم العزل بحق فهو نافذ، لانه لم يكلف علم الغيب، وقد ظلم الامام إذ عزله دون تقديم غيره، والظلم مردود، ومن باع مال غيره أو تأمر فحكم فوافق أن صاحب ذلك المال المبيع قد كان وكله قبل أن يبيع ما باع، ولم يعلم الوكيل بذلك، أو وافق أن الامام قد كان ولاه ما تأمر عليه، ولم يعلم هو بذلك، فكل ما فعل فمردود منسوخ، لانهما غير مطيعين بما فعلا، بل هما عاصيان لان الطاعة عمل من الاعمال والاعمال بالنيات، ولا نية لهذين فيما فعلا لانهما لم يفعلا كما أمرا بل كما لم يؤمرا.
كما قلنا قبل فيمن صلى إلى جهة ولا يشك أنها غير القبلة.
فوافق أنها القبلة فصلاته فاسدة، لانه لم ينو الطاعة المأمور بها، وكذلك من باع فوافق أنه ماله ولا يعلم، أو قد ورثه أو استحقه فبيعه ذلك مردود أبدا، وكذلك هبته وصدقته لو وهبه أو تصدق به.
وكذلك لو كان عبدا فأعتقه.
ويرد كل ذلك لانه عمل لم يعمل بالنية التي أبيح له أن يعمله بها ولا عمل إلا بنية.
وأما من لقي امرأة فظنها أجنبية فوطئها فإذا هي زوجته.
فإنها تستحق بذلك جميع المهر وتحل لمطلقها ثلاثا، لان الوطئ لا يحتاج فيه إلى نية، وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم بوطئ في الكفر، ولو تزوجها وهو عاقل ثم جن فوطأها
في حال جنونه لاستحقت في ماله جميع الصداق بلا خوف، ويلحق به الولد بلا خوف فصح أن الوطئ لا يحتاج فيه إلى نية بإجماع.
وأما من صام رمضان وهو لا يدري فوافق رمضان فلا يجزيه.
وكذلك الصلاة يصليها وهو لا يدري أدخل وقتها أم لا.
لان هذه الاعمال تقضي نية مرتبطة بها لا يصلح العمل إلا بها.
فإن امتزجت بغير تلك النية أو عدمت ارتباط(4/487)
النية بها بطلت، وكذلك الصلاة خاصة.
فإنها قد دخل فيها عمل يبطلها وهو العبث، وكذلك الزكاة يعطيها بغير نية أنها زكاة.
قال أبو محمد: وموت الموكل عزل لوكيله البتة.
وموت الامام بخلاف ذلك، وليس موته عزلا لعماله حتى يعزلهم الامام الوالي بعده، لان مال الموكل قد انتقل إلى وراثة غيره.
وقد قال تعالى: * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) *، ولان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات وله عمال باليمن والبحرين وغيرهما، فلم يختلف مسلمان في أن موته صلى الله عليه وسلم لم يكن عزلا لمن ولى حتى عزل أبو بكر من عزل منهم.
والقياس باطل وهاتان مسألتان قد فرق بينهما النص والاجماع، ولا سبيل إلى الجمع بينهما.
فصل في النسخ بالاجماع
قال أبو محمد: النسخ بالاجماع المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم جائز لان الاجماع أصله التوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ،إما بنص قرآن أو برهان قائم من آي مجموعة منه، أو بنص سنة أو برهان قائم منها كذلك، أو بفعل منه عليه السلام أو بإقرار منه عليه السلام لشئ علمه.
فإذا كان الاجماع كذلك فالنسخ به جائز.
قال أبو محمد: وقد ادعى قوم أن الاجماع صح على أن القتل منسوخ على
شارب الخمر في الرابعة.
قال أبو محمد: وهذه دعوة كاذبة، لان عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو يقولان بقتله، ويقولان جيئونا به فإن لم نقتله فنحن كاذبان.
قال أبو محمد: وبهذا القول نقول، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في رد المؤلف على من أجاز نسخ القرآن والسنة بالقياس
قال أبو محمد: وقد أجاز قوم نسخ القرآن والسنة بالقياس.
قال أبو محمد: وهذا قول تقشعر منه الجلود والقياس باطل، والكلام في إبطاله مكان من هذا الديوان إن شاء الله تعالى، ومن العجب العجيب أن القائلين بهذا الامر العظيم يمنعون من نسخ القرآن بالسنة، فهل في عكس الحقائق(4/488)
أعظم من هذا.
وإذا كان القياس باطلا فالباطل لا يحل استعماله، ولا ترك الحقائق له وقد أجاز قوم نسخ السنة بقول الصاحب.
قال أبو محمد: وهذا كفرمن قائله، وخروج عن الاسلام لقوله تعالى: * (ايوم أكملت لكم دينكم) * فهذا تكذيب للباري تعالى، ومن كذب وأجاز لاحد أن يزيد في الدين أو يبدله أو ينقص منه فقد كفر، فمن أضل ممن دان بأن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يبطل برأيه وإرادته دينا أتى به النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا فإن الامة مجمعة بلا خلاف، على أن خبر التواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل لاحد أن يعارضه بنظر، وخبر الواحد إذا صح عند القائلين به كخبر التواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوب الطاعة ولا فرق، فمن أجاز نسخه بنظر أو معارضته بقياس، فقد تناقض وخرج عن الاجماع، وفي هذا ما فيه، وبالله تعالى التوفيق.
الباب الحادي والعشرون في المتشابه من القرآن والفرق بينه وبين المتشابه في الاحكام
قال الله تعالى: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب) * الآية، وأنبأنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، ثنا يزيد بن إبراهيم التستري، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد عن عائشة.
قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون امنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أو لوا الألباب) *.
قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله تعالى فاحذروهم، وبه إلى مسلم قال: ثنا محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني قال: حدثنا زكريا، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول،(4/489)
- وأهوى النعمان بأصبعه إلى أذنيه: إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن حمى الله محارمه وقال تعالى: * (أفلا يتدبرون القرآن) * وقال تعالى: * (فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين.
قال أبو محمد: فوجدناه تعالى قد حض على تدبر القرآن، وأوجب التفقه فيه، والضرب في البلاد لذلك ووجدناه تعالى قد نهى عن اتباع المتشابه منه، ووجدناه صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن المتشابهات - التي بين الحرام البين والحلال البين - لا يعلمها كثير من الناس، فكان ذلك فضلا لمن علمها، فأيقنا أن الذي
نهى عز وجل عن تتبعه، هو غير الذي أمر بتتبعه وتدبره والتفقه فيه، وأيقنا بلا شك أن المشتبه الذي غبط صلى الله عليه وسلم عالمه، هو غير المتشابه الذي حذر من تتبعه، هذا الذي لا يقوم في المعقول سواه، إذ لا يجوز أن يكلفنا تعالى طلب شئ، وينهانا عن طلبه في وقت واحد، فلما علمنا ذلك وجب علينا طلب المتشابه الذي أمرنا بطلبه، لنتفقه فيه، وأن نعرف أي الاشياء هو المتشابه الذي نهينا عن تتبعه فنمسك عن طلبه.
فنظرنا في القرآن وتدبرناه، كما أمرنا تعالى فوجدناه جاء بأشياء منها التوحيد وإلزامه، فكان ذلك مما أمرنا باعتقاده والفكرة فيه، فعلمنا أنه ليس من المتشابه الذي نهينا عن تتبعه، ومنها صحة النبوة وإلزامنا الايمان بها، فعلمنا أن ذلك ليسمن المتشابه الذي نهينا عن تتبعه، ومنها الشرائع المفترضة والمحرمة والمندو ب إليها والمكروهة والمباحة، وذلك كله مفترض علينا تتبعه وطلبه، فأيقنا أن ذلك ليس من المتشابه الذى نهينا عن تتبعه.
ومنها تنبيه على قدرة الله تعالى وذلك مما أمرنا بالتفكر فيه بقوله تعالى: * (أفلا ينظرون إلى الا بل كيف خلقت) * وبقوله تعالى: * (ويتفكرون فخلق السماوات والارض) * مثنيا عليهم، فأيقنا أنه ليس من المتشابه.
ومنها أخبار سالفة جاءت على معنى الوعظ لنا، وهي مما أمرنا بالاعتبار به بقوله تعالى: * (لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب) * فأيقنا أن ذلك ليس من المتشابه(4/490)
الذي نهينا عن تتبعه.
ومنها وعد أمرنا وحضضنا على العمل لاستحقاقه، ووعيد حذرنا منه، وكل ذلك مما أمرنا به بالفكرة فيه لنجتهد في طلب الجنة، ونفر عن النار، فأيقنا أن ذلك ليس من المتشابه الذي نهينا عن تتبعه.
فلما علمنا أن كل ما ذكرنا ليس متشابها، وعلمنا يقينا أنه ليس في القرآن إلا
محكم ومتشابه، وأيقنا أن كل محكم فلما أيقنا ذلك ضرورة علمنا يقينا أن ما عدا ما ذكرنا هو المتشابه، فنظرنا لنعلم أي شئ هو فنجتنبه ولا نتتبعه - وإنما طلبناه لنعلم ماهيته لا كيفيته ولا معناه، فلم نجد في القرآن شيئا غير ما ذكرنا، حاشا الحروف المقطعة التي في أوائل بعض السور، وحاشا الاقسام التي في أوائل بعض السور أيضا فعلمنا يقينا أن هذين النوعين هما المتشابه الذي نهينا عن اتباعه، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من المتبعين له، وكذلك وجدنا عمر رضي الله عنه، قد أوجع صبيا على سؤاله عن تفسير والذاريات.
فصح ضرورة أن هذين القسمين هما المتشابه الذي نهينا عن ابتغاء تأويله، إذ لم يبق بعد ما ذكرنا مما أمرنا بتتبعه إلا هذان النوعان، فلم يبق غيرهما، فحرام على كل مسلم أن يطلب معاني الحروف المقطعة التي في أوائل السور.
مثل: * (كهيعص) * و * (حم عسق) * و * (ن) * و * (الم) * و * صلى الله عليه وسلم * و * (طسم) * وحرام أيضا على كل مسلم أن يطلب معاني الاقسام التي في أوائل السور، مثل: * (والنجم) * و * (الذاريات) * * (والطور) * * (والمرسلات عرفا) * * (والعاديات ضبحا) * وما أشبه ذلك.
قال أبو محمد: وقد قال قوم: إن المتشابه هو ما اختلف فيه من أحكام القرآن.
قال أبو محمد: وهذا خطأ فاحش، لان هذا القول دعوى ورأي من قائله لا برهان على صحته، وأيضا فإن ما اختلف فيه، فلا بد من أن الحق في بعض ما قيل فيه موجود واضح لمن طلبه برهان ذلك قوله تعالى: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * وقوله تعالى: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * فالبيان مضمون موجود، فمن طلبه طلبا صحيحا وفقه الله تعالى، وأيضا فإن الاحكام المختلف فيها فرض علينا تتبعها، وابتغاء تأويلها، وطلب حكمها الحق فيها والعناية بها والعمل بها، وأما المتشابه فحرام علينا بالنص تتبعه وطلب معناه، فبطل بذلك أن يكون المختلف فيه متشابها.
وإذا بطل ذلك صح أنه محكم، ولا يضر الحق جهل(4/491)
من جهل، ولا اختلاف من اختلف فيه.
وقال آخرون: المتشابه هو ما تقابلت فيه الادلة.
قال أبو محمد: وهذا خطأ فاحش، لانه دعوى من قائله بلا برهان، ورأي فاسد، ولان تقابل الادلة باطل، وشئ معدوم لا يمكن وجوده أبدا في الشريعة، ولا في شئ من الاشياء، والحق لا يتعارض أبدا.
وإنما أتى من أتى في ذلك لجهله بيان الحق، ولاشكال تمييز البرهان عليه مما ليس ببرهان، وليس جهل من جهل في إبطال الحق.
ودليل الحق ثابت لا معارض له أصلا.
وقد بينا وجوه البراهين في كتابنا التقريب وكتابنا الموسوم بالفصل، وفي كتابنا هذا ولا سبيل إلى أن يأمرنا تعالى بطلب أدلة قد ساوى فيها بين الحق والباطل، ومن نسب هذا إلى الله تعالى فقد ألحد، وأكذبه ربه تعالى إذ يقول: * (تبيانا لكل شئ) * وإذ يقول تعالى: * (قد تبين الرشد من الغي) * وبقوله تعالى: * (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) * فصح أن متشابه الاحكام الذي ذكر صلى الله عليه وسلم أنها لا يعلمها كثير من الناس مبينة بالقرآن والسنة، يعلمها من وفقه الله تعالى لفهمه من الفقهاء الذين أمر عز وجل بسؤالهم إذ يقول تعالى: * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) *.
وقد قال قوم إن قوله تعالى: * (والراسخون في العلم) * معطوف على الله عز وجل.
قال أبو محمد: وهذا غلط فاحش، وإنما هو ابتداء وخبره في: * (يقولون) * والو أو لعطف جملة على جملة.
وبرهان ذلك أن الله حرم تتبع ذلك المتشابه، وأخبر أن متبعه وطالب تأويله زائغ القلب مبتغي فتنة، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم ممن اتبعه، ولا سبيل إلى علم معنى شئ دون تتبعه وطلب معناه، فإذا كان التتبع حراما فالسبيل إلى علمه مسدود، وإذا كانت مسدودة فلا سبيل إلى علمه أصلا، فصح أن الراسخين لا يعلمونه أبدا، وأيضا فإن فرضا على العلماء بيان ما علموا الناس كلهم
يقول الله تعالى: * (لبيننه للناس ولا يكتمونه) * وبقوله عز وجل: * (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) *.
قال أبو محمد: فلو علمه الراسخون في العلم، لكان فرضا عليهم أن يبينوه للناس(4/492)
ولو لم يبينوه لكانوا ملعونين، ولو بينوه لعلمه الناس، ولو علمه الناس لكان محكما لا متشابها.
ولتساوى فيه الراسخون وغيرهم، وهذا ضد ما قال تعالى، فبطل بذلك قول من ظن أن الراسخين يعلمونه وأما ذمه عليه السلام من جهل تلك المتشابهات إن وقع حولها، فإنما ذلك بنص الحديث خوف مواقعة الحرام البين، فصح أن تلك المتشابهات ليست حراما في ذاتها على من جهلها خاصة، ليست حراما عليه، إذ لم يبلغه تفصيل تحريمها عليه، ولكن الورع أن يتركها خوف وقوعه في الحرام البين.
قال أبو محمد: وبين صحة قولنا في هذا الباب ما حدثناه عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى بن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم، ثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، ثنا يزيد بن إبراهيم التستري، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الالباب) * قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم.
قال أبو محمد: فقد حذر عليه السلام ممن اتبع ما تشابه من القرآن، وقد علمنا أن اتباع أحكامه كلها فرض، فصح أن المتشابه هو غير ما أمرنا بتدبيره
والتفقه فيه كما ذكرنا.
وقد تأول قوم في قوله تعالى: * (وما يعلم تأويله إلا الله) * إن ذلك نزل في قوم من المنافقين كانوا يعترضون على التنازل من القرآن ويقولون لعله سينزل غدا نسخه، فيحملون معنى تأويله على أنه مآله.
أي لا يعلم النازل من القرآن أينسخ أم لا لا إله إلا الله تعالى.
قال أبو محمد: وهذا فاسد لانه دعوى بلا برهان، وما كان هكذا هو باطل بيقين.
لقول الله تعالى: * (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) وتخصيص ما يقتضيه كلام الله تعالى ما لم يقل وكذب عليه، نعوذ بالله من هذا، وليكن هذا تخصيصا(4/493)
للآية بلا دليل.
وقد أبطلنا تخصيص الظواهر بلا دليل فيما خلا من كتابنا هذا لاننا الآن قد علمنا ما لكل آية في القرآن وغيرها ما قد نسخ منها وما لم ينسخ بعد أبدا.
وقال قوم أيضا: إن معنى: * (وما يعلم تأويله إلا الله) * أي وما يعلم علة نزول الآيات إلا الله.
قال أبو محمد: وهذا أيضا فاسد كالذي قبله، لانه دعوى بلا برهان وتقويل لله ما لم يقل، وإخبار عنه تعالى بما لم يخبر به عن نفسه، ولانه لو كان كما ذكروا لكان لنزول الآيات علل لا يعلمها إلا الله عز وجل، وقد أبطلنا قول من قال: إن الله تعالى يفعل لعلة في باب إبطال العلل من كتابنا هذا، وبالله تعالى التوفيق.
الباب الثاني والعشرون في الاجماع، وعن أشئ يكون الاجماع وكيف ينقل الاجماع
قال أبو محمد: اتفقنا نحن وجميع أهل الاسلام - جنهم وإنسهم - في كل زمان إجماعا صحيحا متيقنا، على أن القرآن الذي أنزله الله على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل ما قاله محمد صلى الله عليه وسلم فإنه حق لازم لكل أحد، وإنه دين الاسلام.
ثم اختلفوا في الطريق المؤدية إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ،فاعلموا رحمكم الله أن من اتبع نص القرآن، وما أسند من طريق الثقات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اتبع الاجماع يقينا، وأن من عاج عن شئ من ذلك فلم يتبع الاجماع.
وكذلك إجماع أهل الاسلام كلهم جنهم وإنسهم، في كل زمان وكل مكان، على أن السنة واجب اتباعها، وأنها ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وكذلك اتفقوا على وجوب لزوم الجماعة، فاعلموا رحمكم الله أن ما اتبع ما صح برواية الثقات مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اتبع السنة يقينا، ولزوم الجماعة وهم الصحابة رضي الله عنهم، والتابعون لهم بإحسان، ومن أتى بعدهم من الائمة وأن من اتبع أحدا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتبع السنة، ولا الجماعة وأنه كاذب في ادعائه السنة والجماعة فنحن - معشر المتبعين للحديث المعتمدين عليه - أهل السنة والجماعة حقا بالبرهان الضروري، وأننا أهل الاجماع كذلك، والحمد لله رب العالمين.
ثم اتفقنا نحن وأكثر المخالفين لنا على أن الاجماع من علماء أهل الاسلام حجة(4/494)
وحق مقطوع به في دين الله عز وجل.
ثم اختلفنا، فقالت طائفة: هو شئ غير القرآن وغير ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ،لكنه: أن يجتمع علماء المسلمين على حكم لا نص فيه، لكن برأي منهم أو بقياس منهم عن منصوص.
وقلنا نحن: هذا باطل ولا يمكن البتة أن يكون إجماع من علماء الامة على غير نص - من قرآن أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - يبين في أي قول المختلفين هو الحق، لا بد من هذا فيكون من وافق ذلك النص، هو صاحب الحق المأجور مرتين، مرة على اجتهاده وطلبه الحق، ومرة ثانية على قوله بالحق واتباعه له.
ويكون من خالف ذلك النص - غير مستجيز لخلافه، لكن قاصدا إلى الحق مخطئا - مأجورا أجرا واحدا على طلبه للحق، مرفوعا عنه الاثم إذا لم يعمد له.
وقد تيقن أيضا أن لا يختلف المسلمون في بعض النصوص، ولكن يوقع الله عز وجل لهم الاجماع
عليه كما أوقع تعالى بينهم الاختلاف فيما شاء أن يختلفوا فيه من النصوص.
واحتجت الطائفة المخالفة لنا بأن قالت: قال الله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) *.
قالوا: فافترض الله طاعة أولي الامر، كما افترض طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ،وكما افترض طاعة نفسه عز وجل أيضا ولا فرق.
فلو كان عز وجل إنما افترض طاعتهم فيما نقلوه إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان لتكرار الامر بطاعتهم بمعنى، لانه يكتفي عز وجل بذكر طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقط، لانها على قولكم معنى واحد، فصح أنه إنما افترض عز وجل طاعتهم فيما قالوه برأي أو قياس، مما ليس فيه نص عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم .
قال أبو محمد: وجمعوا في استدلالهم بهذه الآية إلى تصحيح الاجماع، تصحيح القول بالرأي والقياس فيما ظنوا، وقالوا أيضا: قال عز وجل: * (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه) * قالوا: وهذه كالتي قبلها، وقالوا أيضا: قال الله عز وجل: * (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم) * قالوا: فتوعدوا على مخالفة سبيل المؤمنين أشد الوعيد، فصح فرض اتباعهم فيما أجمعوا عليه، من أي(4/495)
وجه أجمعوا عليه، لانه سبيلهم الذي لا يجوز ترك اتباعه.
وذكروا ما حدثناه عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا سعيد بن منصور، وأبو الربيع العتكي، وقتيبة، قالوا: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبى، عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تزال طائفة
من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله - زاد العتكي وسعيد في روايتهما -: وهم كذلك.
وبه إلى مسلم حدثنا منصور بن أبي مزاحم، ثنا يحيى بن حمزة، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني عمير بن هاني، قال: سمعت معاوية على المنبر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني، ثنا إبراهيم بن أحمد، ثنا الفريري، ثنا البخاري، ثنا الحميدي، ثنا الوليد هو ابن مسلم، ثنا ابن جابر هو عبد الرحمن بيزيد بن جابر - حدثني عمير بن هاني قال: سمعت معاوية يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك قالوا: فصح أنه لا تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على غير الحق أبدا، لانه صلى الله عليه وسلم قد أنذر بأنه لا يزال منهم قائم بالحق أبدا.
قال أبو محمد: وقد روي أنه عليه السلام قال: لا تجتمع أمتي على ضلالة وهذا وإن لم يصح لفظه ولا سنده فمعناه صحيح بالخبرين المذكورين آنفا.
قال أبو محمد: هذا كل ما احتجوا به، ما لهم حجة غير هذا أصلا.
قال أبو محمد: وكل هذا حق لا ينكره مسلم ونحن لم نخالفهم في صحة الاجماع، وإنما خالفناهم في موضعين من قولهم.
أحدهما: تجويزهم أن يكون الاجماع على غير نص.
والثاني: دعواهم الاجماع في مواضع ادعوا فيه الباطل، بحيث لا يقطع أنه إجماع بلا برهان.
أما في مكان قد صح فيه الاختلاف موجودا، وإما في مكان(4/496)
لا نعلم نحن فيه اختلافا إلا أن وجود الاختلاف فيه ممكن، نعم، وقد خالفوا
الاجماع المتيقن على ما تبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، فإذا الامر هكذا فلا حجة لهم في شئ من هذه النصوص أصلا فيما أنكرناه عليهم.
إنما الاخبار التي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما فيها أن أمته عليه السلام لا تجتمع ولا ساعة واحدة من الدهر على باطل، بل لا بد أن يكون فيهم قائل بالحق وقائم بالحق وقائم به، وهكذا نقول، وهذا الخبر إنما فيه بنص لفظه وجود الاختلاف فقط، وأن مع الاختلاف فلا بد فيهم من قائل بالحق.
وأما قوله تعالى: * (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم) * فإنها حجة قائمة عليهم، والحمد لله رب العالمين، وذلك أن الله تعالى لم يتوعد في هذه الآية متبع على غير سبيل المؤمنين فقط، لا مع مشاقته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن تبين الهدى وهذا نص قولنا، والحمد لله رب العالمين.
واعلم أنه لا سبيل للمؤمنين البتة إلا طاعة القرآن والسنن الثابتة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وأما إحداث شرع لم يأت به نص فليس سبيل المؤمنين، بل هو سبيل الكفر، قال الله تعالى: * (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) *.
قال أبو محمد: هذه سبيل المؤمنين بنص كلام الله تعالى، لا سبيل لهم غيرها أصلا فعادت هذه الآية حجة لنا عليهم، وأما قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) * وقوله تعالى: * (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم) * فإن هذا مكان قد اختلف الصدر الاول فيه في من هم أولي الامر كما حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي، ثنا محمد بن مفرج، ثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس، ثنا محمد بن علي بن زيد الصائغ، ثنا سعيد بن منصور، ثنا أبو معاوية - هو محمد بن خازم الضرير - عن الاعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة في قوله تعالى: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) * قال: هم الامراء.
وروينا عن مجاهد والحسن وعكرمة وعطاء قال: هم الفقهاء، وروينا ذلك بالسند المذكور إلى سعيد بن منصور، عن هشيم وسفيان بن عيينة، قال هشيم:(4/497)
أخبرنا أبو معاوية، ومنصور، وعبد الملك بن معاوية، عن الاعمش، عن مجاهد، ومنصور، عن الحسن، وعبد الملك، عن عطاء، وقال سفيان عن الحكم بن أبان عن عكرمة.
قال أبو محمد: فإذا لم يأت قرآن ببيان أنهم العلماء المجمعون، ولا صح بذلك إجماع، فالواجب حمل الآيتين على ظاهرهما، ولا يحل تخصيصهما بدعوى بلا برهان، لانه مع ذلك تقويل لله عز وجل ما لم يقل، ونحن نقطع بأنه تعالى لاراد بعض أولي الامر دون بعض لبينه لنا، ولم يدعنا في لبس فوجب ما قلناه من حمل الآيتين على عمومهما.
فنقول: إن أولي الامر المذكورين في الآيتين هو الأراء والعلماء، لأن كلتا الطائفتين أولو الأمر منا، وإذ هذا هو الحق، فمن الباطل المتيقن أن يقول قائل: إن الله تعالى أمرنا بقبول طاعة الامراء العلم فيما لم يأمر به الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فصح أن طاعة العلماء الامراء إنما تجب علينا فيما أمرنا به، مما أمر الله به تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فقط.
وأما قولهم: إن الله تبارك وتعالى لو أراد هذا لاكتفى بالامر بطاعة الرسول عليه السلام على أن يذكر تعالى أولى الامر - فكلام فاسد، لانه يقال لهم: إن قلتم إن ذكره تعالى طاعة أولي الامر منا فيما قالوا برأي أو قياس لا فيما نقلوه إلينا عن النبي صلى الله عليه وسلم ،إذ قد أغنى أمره تعالى بطاعة الرسول عن تكراره -: فيلزمكم سواء بسواء أن تقولوا أيضا: إن أمره تعالى بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بعد أمره بطاعة نفسه عز وجل، دليل على أنه عز وجل، إنما أمرنا بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قاله من عند نفسه، لا فيما أتانا به من عند ربه عز وجل، إذ قد أغنى أمر بطاعة نفسه عن تكراره لا فرق بين القولين.
فإن أبيتم من هذا ظهر تناقضكم وتحكمكم بالباطل بلا بر هان، وإن جسرتم وقلتموه أيضا كنتم أتيتم بعظائم مخالفة للقرآن وللرسول عليه الو للاجماع المتيقن، إذ جوزتم أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع لم يوح الله تعا لى بشئ منها إليه قط، والله تعالى قد أكذب هذا القول إذ أمره أن يقول:(4/498)
* (إن أتبع إلا ما يوحى) * وإذ يقول عز وجل مخبرا عنه صلى الله عليه وسلم : * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) * فأخبر تعالى عن أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق البتة إلا بوحي يوحى إليه، وأنه لا يتبع البتة إلا ما يوحي الله تعالى إليه فقط، فمن كذب ربه فلينظر أين مستقره.
وإذا جوزتم أن يجمع الناس على شرائع يحدثونها لم يوح بها الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ولا بينها رسوله صلى الله عليه وسلم ،والله تعالى يكذب من قال هذا، إذ يقول: * (ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم) * فالدين قد كمل وما كمل فلا مزيد فيه أصلا.
وأما تكرار الله تعالى الامر بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بعد أمره بطاعة نفسه تعالى، وتكراره الامر بطاعة أولي الامر بعد أمره بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان كل ذلك ليس فيه إلا طاعة ما أمر الله به فقط لا ما لم يأت به الوحي منه عز وجل، فوجه ذلك واضح وهو بيان زائد، لولا مجيئه لالتبس على بعض الناس فهم ذلك الامر، وذلك أنه لو لم يأمرنا الله تعالى إلا على الامر بطاعته فقط، لتوهم بعض الجهال أنه لا يلزمنا إلا ما قاله تعالى في القرآن فقط، وأنه لا يلزمنا طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما جاءنا به مما ليس في نص القرآن، فلما أمر تعالى مع طاعته بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ليظهر البيان ولم يمكن أن يمنع من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمرنا إلا معاند له.
ولو لم يأمرنا تعالى إلاعلى الامر بطاعة أولي الامر منا لامكن أن يهم جاهل فيقول: لا يلزمنا طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلا فيما سمعنا منه مشافهة.
فلما أمرنا تعالى بطاعة أولي الامر منا ظهر البيان في وجوب طاعة ما نقله إلينا العلماء عن النبي صلى الله عليه وسلم فقط، فبطل أن يكون لهاتين الآيتين متعلق، والحمد لله رب العالمين.
فإن قالوا: لو كان هذا لمكان قوله تعالى: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) * معنى، لا ن ما جاءنا عن الله تعالى وعن النبي صلى الله عليه وسلم فواجب قبوله، اتفق عليه أو اختلف فيه، فأي معنى للفرق وبين أمره تعالى بطاعة أولي الامر، ثم أمره بالرد عند الشارع إلى الله ورسول ؟ قلنا: ليس في قوله تعالى: * (فإن تنازعتم في شئ فرد وه إلى الله والرسول) * خلاف لامره تعالى بطاعة أولي الامر، بل كل ذلك ليس فيه إلا طاعة القرآن(4/499)
والسنن المبلغة إلينا فقط، ولكن في قوله تعالى: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) * معنى زائد ليس فيما تقدم من الآية، وهو نهيه تعالى عن تقليد أحد واتباعه، والامر بالاقتصار على القرآن والسنة فقط ولا مزيد.
وأيضا والكل من المسلمين متفقون على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نصلي إلى بيت المقدس مدة، ثم أمرنا بترك تلك القبلة وبالصلاة إلى مكة، فوجب ذلك، وأنه عليه السلام لو نهانا عن أن نصلي الخمس وعن صوم رمضان لحرم علينا أن نصليها أو نصومه، وهكذا في سائر الشرائع، أفهكذا القول عندكم وأمرنا بذلك بعد جميع أهل الارض ؟ فإن قالوا: نعم، كفروا، وإن قالوا: لا، فرقوا بين طاعته عليه السلام وطاعة أولي الامر.
فإن قالوا: هذا محال، لا يجوز أن يجمع الناس على ذلك لا نكفر وضلال، قلنا: صدقتم وكذلك أيضا محال لا يجوز أن يجمعوا على إحداث شرع - ليأمر الله تعالى به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم برأي أو بقياس، ولا فرق، فبطل أن يكون لهم في شئ من النصوص المذكورة متعلق بوجه من الوجوه،
والحمد لله رب كثيرا.(4/500)
وقالوا: لو كان الاجماع لا يكون إلا عن نص وتوقيف لكان ذلك النص محفوظا، لان الله تعالى قال: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * فلما لم يوجد ذلك النص علمنا أن الاجماع ليس على نص.
قال أبو محمد: وهذا كلام أوله حق وآخره كذب.
ونحن نقول: لا إجماع إلا عن نص، وذلك النص: إما كلام منه صلى الله عليه وسلم فهو منقول، ولا بد محفوظ حاضر، وإما عن فعل منه عليه السلام فهو منقول أيضا كذلك، وإما إقراره - إذ علمه فأقره ولم ينكره - فهي أيضا حال منقولة محفوظة، وكل من ادعى إجماعا علمه على غير هذه الوجوه كلفناه تصحيح دعواه، في أنه إجماع لا سبيل إلى برهان على ذلك أبدا بأكثر من دعواه، وما كان دعوى بلا برهان فهو باطل، فإن لجأ إلى ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع، قلنا له: وهذا تدبير من الكذب والدعوى الافيكة بلا برهان وتمام هذه المسألة إن شاء الله تعالى في باب بعد هذا - مفرد لبعض قول من قال: إن ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع - ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فكيف وفيما ذكرنا ههنا من أنها دعوى بلا برهان كفاية.
قال أبو محمد: وإذا قد بطل كل ما اعترضوا به، فلنقل بعون الله تعالى على إيراد البراهين على صحة قولنا، قال عز وجل: * (اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) * فأمرنا تعالى أن نتبع ما أنزل ونهانا عن أن نتبع أحدا دونه قطعا، فبطل بهذا أن يصح قول أحد لا يوافق النص، وبطل بهذا أن يكون إجماع على غير نص، لان النص باطل، والاجماع حق، والحق لا يوافق الباطل.
وقد ذكرنا قوله تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم) * فصح أنه لا يحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم شئ من الدين، وهذا باطل أن يجمع على شئ من الدين لم يأت به قرآن
ولا سنة، ويصح بضرورة العقل أنه لا يمكن أن يعرف أحد ما كلفه الله تعالى عباده إلا بخبر من عنده عز وجل، وإلا فالخبر عنه تعالى بأنه أمر بكذا، ونهي عن كذا كاذب على الله عز وجل إلا أن يخبر بذلك عنه تعالى من يأتيه الوحي من عند ربه فقط.
وصح أيضا بضرورة العقل، أن من أدخل في الدين حكما يقر بأنه لم يأت به وحي من عند الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم ،فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى، وقد ذم الله تعالى ذلك وأنكره في نص القرآن فقال: * (شرعوا(4/501)
لهم من الدين ما لم يأذن به الله) *.
قال أبو محمد: ومن طريق النظر الضروري الراجع إلى العقل والمشاهدة والحس أننا نسأل من أجاز أن يجمع علماء المسلمين على ما لا نص فيه فيكون حقا لا يسع خلافه، فنقول له، وبالله تعالى التوفيق: أفي الممكن عندك أن يجتمع علماء جميع الاسلام في موضع واحد، حتى لا يشذ عنهم منهم أحد بعد افتراق الصحابة رضي الله عنهم في الامصار ؟ أم هذا ممتنع غير ممكن البتة ؟ فإن قال: هذا ممكن، كابر العيان، لان علماء أهل الاسلام قد افترق الصحابة رضي الله عنهم في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم وهلم جرا لم يجتمعوا مذ أن افترقوا، فصار بعضهم في اليمن في مدنها، وبعضهم في عمان، وبعضهم في البحرين، وبعض في الطائف وبعض بمكة، وبعض بنجد.
وبعض بجبل طيئ، وكذلك في سائر جزائر العرب.
ثم اتسع الامر بعده عليه السلام، فصاروا من السند وكابل، إلى مغارب الاندلس، وسواحل بلاد البربر، ومن سواحل اليمن إلى ثغور أرمينية، فما بين ذلك من البلاد البعيدة واجتماع هؤلاء ممتنع غير ممكن أصلا لكثرتهم وتنائي أقطارهم.
فإن قال: ليس اجتماعهم ممكنا، قلنا: صدقت.
وأخبرنا الآن كيف الامر إذا قال بعضهم قولالا نص فيه، أتقطع على أنه حق، وأنت لا تدري أيجمع عليه سائرهم أم لا ؟ أم تقففيه ؟ فإن قال: أقطع بأنه حق، قلنا:
حكمت بالغيب وبما لا تدري، وحكمت بالباطل بلا شك، فإن قال: بل أقف فيه حتى يجمع عليه سائرهم قلنا: فإنما يصح إذ قال به آخر قائل منهم، فلا بد من نعم فيقال لهم: فلو خالفهم فعلى قولك لا يكون حقا، فمن قوله نعم فيقال له: فكيف يكون حقا ما يمكن أمس أن يكون باطلا، وهذا حكم على الله تعالى، وليس هذا حكم الله وكفى بهذا بيانا.
وأيضا فإن اليقين قد صح بأن الناس مختلفون في هممهم، واختيارهم وآرائهم وطبائعهم الداعية إلى اختيار ما يختارونه، وينفرون عما سواه، متباينون في ذلك تباينا شديدا متفاوتا جدا فمنهم رقيق القلب يميل إلى الرفق بالناس، ومنهم قاسي القلب شديد يميل إلى التشديد على الناس، ومنهم قوي على العمل مجد إلى العزم والصبر والتفرد، ومنهم ضعيف الطاقة يميل إلى التخفيف، ومنهم جانح إلى(4/502)
لين العيش يميل إلى الترفيه، ومنهم مائل إلى الخشونة مجنح إلى الشدة، ومنهم معتدل في كل ذلك إلى التوسط، ومنهم شديد الغضب يميل إلى شدة الانكار، ومنهم حليم يميل إلى الاغضاء، ومن المحال اتفاق هؤلاء كلهم على إيجاب حكم برأيهم أصلا، لاختلاف دعاويهم ومذاهبهم فيما ذكرنا، وإنما يجمع ذو الطبائع المختلفة على ما استووا فيه من الادراك بحواسهم، وعلموه ببدائة عقولهم فقط، وليست أحكام الشريعة من هذين القسمين فبطل أن يصح فيها إجماع على غير توقيف، وهذا برهان قاطع ضروري.
وأما الاجماع على القياس، فيبطل من قرب، لانهم لم يجمعوا على صحة القياس، فكيف يجمعون على ما لم يجمعوا عليه.
قال أبو محمد: فاعترض فيها بعض المخالفين فقال: قد اختلف الناس في القول بخبر الواحد، وقد أجمع على بعض ما جاء به خبر الواحد.
قال أبو محمد: وهذا باطل ومخرقة ضعيفة، لان المسلمين لم يختلفوا قط في
وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وإنما اختلفوا في الطريق المؤدية إليه صلى الله عليه وسلم والذين لا يقولون بخبر الواحد.
ثم أجمعوا على حكم ما جاء من أخبار الآحاد - فإنهم يقولون: إنما قلنا به لانه نقل كافة، لا لانه خبر واحد.
فإن قلتم: إن من القياس ما يوافق النص، قلنا لكم: المتبع حينئذ إنما هو النص ولا نبالي وافقه القياس أو خالفه، فلم نتبع القياس قط وافق النص أو خالفه، وكذلك لا يجوز الاجماع على قول إنسان دون النبي صلى الله عليه وسلم لانه لا أحد بعده إلا وقد خالفه طوائف من المسلمين في كثير من قوله.
وأيضا فإن كان من بعده عليه السلام فممكن أن يصيب وأن يخطئ، فاتباع خطأ من أخطأ باطل وأما صواب المصيب في الدين، فإنما هو باتباع النص، فالنص هو المتبع حينئذ لا قول الذي اتبع النص، وإنما يجب اتباع النص سواء وافقه الموافق أو خالفه المخالف.
وأيضا فإنه يقال لمن أجاز الاجماع على غير نص من قرآن أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخبرونا عما جوزتم من الاجماع - بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير نص، هل يخلو من أربعة أوجه لا خامس لها ؟ إما أن يجمعوا على تحريم شئ مات صلى الله عليه وسلم ولم يحرمه، أو على تحليل شئ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حرمه، أو على إيجاب فرض مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوجبه أو على إسقاط فرض مات(4/503)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوجبه، وكل هذه الوجوه كفر مجرد وإحداث دين بدل به دين الاسلام، ولا فرق بين هذه الوجوه، وبين من جوز الاجماع على إسقاط الصلوات الخمس أو بعضها أو ركعة منها، أو على إيجاب صلوا ت غيرها أو ركوع زائدة فيها، أو على إبطال صوم رمضان أو على إيجاب صوم شهر رجب، أو على إبطال الحج إلى مكة، أو على إيجابه إلى الطائف، أو على إباحة الخنزير، أو على تحريم الكبش، كل هذا كفر صراح لا خفاء به.
فإن
قالوا: كل هذه نصوص، وإنما جوزنا الاجماع على ما لا نص فيه، قلنا: وكل ما ذكرنا لا نص فيه، وإنما هي شرائع زائدة في دين الله تعالى أو ناقصة منه هذه صفة ما لا نص فيه لا سبيل إلى أن يكون حكم لا نص فيه يخرج من أحد هذين الوجهين.
فإن قالوا: هذا لا يجوز، رجعوا إلى قولنا من قرب، ومن أجاز شيئا من هذا كفر، وبالله تعالى التوفيق.
وهذا أيضا برهان قاطع في إبطال القول بالقياس بالرأي والاستحسان لا مخلص منه.
واعلموا أن قولهم: هذه المسألة لا نص فيها، قول باطل، وتدليس في الدين، وتطريق إلى هذه العظائم، لان كل ما يحرمه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم إلى أن مات صلى الله عليه وسلم فقد حلله بقوله تعالى: * (خلق لكم ما في الارض جميعا) * وقوله: * (قد فصل لكم ما حرم عليكم) * وكل ما لم يأمر به عليه السلام فلم يوجبه، وهذه ضرورة لا يمكن أن يقوم في عقل أحد غيرها، وأما كل ما نص يأمر به صلى الله عليه وسلم بالامر به أو النهي عنه فقد حرمه أو أوجبه فلا يحل لاحد مخالفته، فصح أنه لا شئ إلا وفيه نص جلي فصح أنه لا إجماع إلا على نص، ولا اختلاف إلا في نص كما ذكرنا، ولا قياس يوجب في نص إلا وهو زائد في الدين أو ناقص منه ولا بد.
ثم نقول لهم أيضا: أخبرونا عن الاجماع جملة، هل يخلو من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها بضرورة العقل ؟ أما أن يجمع الناس على ما لا نص فيه كما ادعيتم فقد أريناكم بطلان ذلك، وأنه محال ذلك وأنه محال وجوده لصحة وجود النصوص في كل شئ من الدين أو يكون إجماع الناس على خلاف النص الوارد من غير نسخ أو تخصيص له وردا قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا كفر مجرد كما قدمنا.(4/504)
أو يكون إجماع الناس على شئ منصوص فهذا قولنا هذه قسمة ضرورية لا محيد
عنها أصلا، وإذ هو كما ذكرنا فاتباع النص فرض، سواء أجمع الناس عليه أو اختلفوا فيه، لا يزيد النص مرتبة في وجوب الاتباع أن يجمع الناس عليه، ولا يوهن وجوب اتباع اختلاف الناس فيه، بل الحق حق وإن اختلف فيه، وإن الباطل باطل وإن كثر القائلون به، ولولا صحة النص عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن أمته لا يزال منهم من يقوم بالحق ويقول به - فبطل بذلك أن يجمعوا على باطل - لقلنا: والباطل باطل وإن أجمع عليه، لكن لا سبيل إلى الاجماع على باطل.
قال أبو محمد: فإذا الامر كذلك فإنما علينا صلب أحكام القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذ ليس في الدين سواهما أصلا ولا معنى لطلبنا هل أجمع على ذلك الحكم أو هل اختلف فيه لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.
فإن قيل: فقد صححتم الاجماع آنفا، ثم توجبون الآن أنه لا معنى له، قلنا: الاجماع موجود كما الاختلاف موجود، إلا أننا لم يكلفنا الله تعالى معرفة شئ من ذلك، إنما كلفنا اتباع القرآن وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نقله إلينا الامر منا، على ما بينا فقط، ولان أحكام الدين كلها من القرآن والسنن لا تخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما وحي مثبت في المصحف، وهو القرآن وإما وحي غير مثبت في المصحف، وهو بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ،قال تعالى: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * وقال تعالى: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) *.
ثم ينقسم كل ذلك ثلاثة أقسام لا رابع لها، إما شئ نقلته الامة كلها عصرا بعد عصر، كالايمان والصلوات والصيام ونحو ذلك، وهذا هو الاجماع ل يس من هذا القسم شئ لم يجمع عليه، وإما شئ نقل نقل تواتر كافة عن كافة من عند نا كذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ككثير من السنن وقد يجمع على بعض ذلك، وقد يختلف
فيه، كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا بجميع الحاضرين من أصحابه، وكدفعه(4/505)
خيبر إلى يهود بنصف ما يخرج منها من زرع أو تمر يخرجهم إذا شاء وغير ذلك كثير، وإما شئ نقله الثقة عن الثقة كذلك مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنه ما أجمع على القول به، ومنه ما اختلف فيه، فهذا معنى الاجماع الذي لا إجماع في الديانة غيره البتة، ومن ادعى غير هذا فإنما يخبط فيما لا يدري، ويقول ما لا علم له، ويقول بما لا يفهم، ويدين بما لا يعرف حقيقته.
وبالله تعالى التوفيق، وبه نعوذ من التخليط في الدين بما لا يعقل.
فصل في اختلاف الناس في وجوه من الاجماع
قال أبو محمد: ثم اختلف الناس في وجوه من الاجماع، لا علينا أن نذكرها إن شاء الله تعالى، وإن كنا قد بينا آنفا أنه حاجة بأحد إلى طلب إجماع أو اختلاف، وإنما الفرض على الجميع، والذي يحتاج إليه الكل، فهو معرفة أحكام القرآن، وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، كما بينا أن أهل العلم مالوا إلى معرفة الاجماع، ليعظموا خلاف من خالفه، ويزجروه عن خلافه فقط، وكذلك مالوا إلى معرفة اختلاف الناس، لتكذيب من لا يبالي بادعاء الاجماع - جرأة على الكذب، حيث الاختلاف موجود - فيردعونه بإيراده عن اللجاج في كذبه فقط، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: فقالت طائفة: الاجماع إجماع الصحابة رضي الله عنهم فقط، وأما إجماع من بعدهم فليس إجماعا، وقالت طائفة: إجماع أهل كل عصر إجماع صحيح، ثم اختلف هؤلاء، فقالت طائفة منهم: إذا صح إجماع كل عصر ما فهو إجماع صحيح، وليس لهم ولا لاحد بعد أن يقول بخلافه.(4/506)
وقالت طائفة منهم أخرى: بل يجب مراعاة ذلك العصر، فإن انقرضوا كلهم ولم يحدثوا ولا أحد منهم خلافا لما أجمعوا عليه، فهو إجماع قد انعقد لا يجوز لاحد خلافه، وإن رجع أحد منهم عما أجمع مع أصحابه فله ذلك، ولا يكون ذلك إجماعا.
وقالت طائفة: إذا اختلف أهل عصر في مسألة ما فقد ثبت الاختلاف، ولا ينعقد في تلك المسألة إجماع أبدا.
وقالت طائفة: بل إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما، ثم أجمع أهل العصر الذي بعدهم على بعض قول أهل العصر الماضي، فهو إجماع صحيح لا يسع أحدا خلافه أبدا، وقالت طائفة: إذا اختلف أهل العصر على عشرة أقوال مثلا أو أقل أو أكثر فهو اختلاف فيما اختلفوا فيه، وهو إجماع صحيح على ترك ما لم يقولوا به من الاقوال، فلا يسع أحدا الخروج على تلك الاقوال كلها، له أن يتخير منها ما أداه إليه اجتهاده.
وقالت طائفة: ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع صحيح لا يجوز خلافه لاحد، وقالت طائفة: ليس إجماعا، وقالت طائفة: إذا اتفق الجمهور على قول خالفهم واحد من العلماء فلا يلتفت إلى ذلك الواحد، وقول الجمهور هو إجماع صحيح، وهذا قول محمد بن جرير الطبري.
وقالت طائفة: ليس هذا إجماعا.
وقالت طائفة: قول الجمهور والاكثر إجماع، وإن خالفهم من هو أقل عددا منهم، وقالت طائفة ليس هذا إجماعا.
وقالت طائفة: إجماع كل أهل المدينة هو الاجماع، وهذا قول المالكيين ثم اختلفوا، فقال ابن بكير منهم وطائفة معه: سواء كان عن رأي أو قياس أو نقلا، وقال محمد بن صالح الابهري منهم وطائفة معه: إنما ذلك فيما كان نقلا فقط.
وقالت طائفة: إجماع أهل الكوفة، وهذا قول بعض الحنفيين.
وقالت طائفة: إذا جاء القول عن الصاحب الواحد أو أكثر من واحد من الصحابة ولم يعرف له مخالف منهم، فهو إجماع، وإن خالفه من بعد الصحابة رضي الله عنهم، وهو قول بعض الشافعيين وجمهور الحنفيين والمالكيين.(4/507)
وقال بعض الشافعيين: إنما يكون إجماعا إذا اشتهر ذلك القول فيهم وانتشر، ولم يعرف له منهم مخالف، وأما إذا لم يشتهر ولا انتشر فليس إجماعا، بل خلافه جائز.
ثم ههنا أقوال هي داخلة في باب الهوس إن سلم أصحابها من القصد إلى التلاعب بالدين، كقول بعض الحنفيين: ليس لاحد أن يختار بعد أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد، وأن اختيارات الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق راهويه وأبي ثور وداود بن علي وسائر العلماء - شذوذ خرق الاجماع.
وكقول بكر بن العلاء القشيري المالكي: إن بعد سنة مائتين قد استقر الامر، وليس لاحد أن يختار، وكقول إنسان ذكره أبو ثور في رسالة له ورد عليه وكان قوله: إنه ليس لاحد أن يخرج عن اختيارات الاوزاعي وسفيان الثوري وعبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح.
قال أبو محمد: أصناف الحمق أكثر من أصناف التمر، ويكفي في بطلان كل قول من الدين لم يأت به قرآن ولا سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: * (ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) * وقوله تعالى: * (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) * فصح أنه لا برهان في الدين إلا ما حده الله تعالى، وأن حدود الله ليست إلا في كلامه، وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط وأن من لم يأت في قوله في الدين ببرهان - من القرآن وأن حكم مستند ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فليس من الصادقين، بل هو كاذب آفك
ضال مضل، وبالله تعالى التوفيق، إلا أنه لا بد - بحول الله تعالى - من بيان شبه هذه الاقوال الفاسدة، التي قد عظم خطأ أهلها وكثر اتباعها، لعل الله تعالى يهدي بهداه لنا أحدا - فيكون خيرا لنا من حمر النعم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبي ونعم الوكيل.
واعلموا أن جميع هذه الفرق متفقة على أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم إجماع صحيح، وقائلون بأن كل ما اشتهر فيهم رضي الله عنهم، ولم يقع منهم نكير له، فهو إجماع صحيح، فاعلموا أن إجماع هذه الفرق على ما ذكرنا، حاكم لنا عليهم، وموجب لنا أننا المتبعون للاجماع، وأن مخالفينا كلهم مخالفون للاجماع بإقرارهم، والحمد لله رب العالمين، كما نذكر في الباب المتصل بهذا إن شاء الله تعالى.(4/508)
فصل ذكر الكلام في الاجماع إجماع من هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم أم الاعصار بعدهم ؟ وأي شئ هو الاجماع وبأي شئ يعرف أنه إجماع ؟
قال أبو محمد: قال سليمان وكثير من أصحابنا: لا إجماع إلا إجماع الصحابة رضي الله عنهم، واحتج في ذلك بأنهم شهدوا التوقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وقد صح أنه لا إجماع إلا عن توقيف، وأيضا فإنهم رضي الله عنهم كانوا جميع المؤمنين لا مؤمن من الناس سواهم، ومن هذه صفته فإجماعهم هو إجماع المؤمنين، وهو الاجماع المقطوع به، وأما كل عصر بعدهم فإنما بعض المؤمنين لا كلهم، وليس إجماع بعض المؤمنين إجماعا، إنما الاجماع إجماع جميعهم، وأيضا فإنهم كانوا عددا محصورا يمكن أن يحاط بهم وتعرف أقوالهم، وليس من بعدهم كذلك.
قال أبو محمد: أما قوله: إنهم شهدوا التوقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، وهذا إنما هو حجة في أنه لا إجماع إلا عن توقيف ولا شك في أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم إجماع صحيح، وإنما الكلام في الاعصار بعدهم، وقد عارضه مخالفوه
بأن قالوا: قد يجوز أن يحمل أهل عصر بعدهم على دليل نص قرآن أو سنة، فهذا يدخل في التوقيف، وأما قوله: إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا جميع المؤمنين، وإن من بعدهم إنما هو بعض المؤمنين فقول صحيح يعرف صدقه بالعيان والمشاهدة إلا أنه قد عارض مخالفوه في نكتة من هذه الجملة، وهو أنه قال: إن كان هكذا فإنه مذ مات خديجة رضي الله عنها، أو بعض قدماء الصحابة رضي الله عنهم، فإن الباقين منهم إنما هم بعض المؤمنين لا كلهم أيضا، فقل: إن الاجماع إنما هو إجماع من أسلم منهم بمكة قبل أن يموت منهم أحد، فعارضه بعض أصحابنا بأن قال: نعم، هذا حق، ما جاء قط نص قرآن ولا سنة بتسمية ما اتفق عليه من بقي من بعد من مات إجماعا.
قال بعض أصحابنا: لا، ولكن نقول: إن كل من مات منهم رضي الله عنهم، فنحن موقنون قاطعون بأنه لو كان حيا لسلم الوحي المنزل من القرآن أو البيان من رسو الله صلى الله عليه وسلم لانه لم يمت إلا مؤمنا بكل ما ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بلا شك، وليس كذلك من بعدهم، لانه حدث فيمن بعدهم من لا يقول بخبر الواحد الثقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نقطع عليهم بطاعة ما حكم به صلى الله عليه وسلم بخلاف الصحابة الذين من مات منهم فهو داخل في الاجماع بهذه الجملة.(4/509)
فعارضه المخالف فقال: إن الامر وإكان كذلك، فمع ذلك فقد كان يمكن أن يخالف الوحي متأولا باجتهاده كما فعل عمروخالد وأبو السنابل وغيرهم، فإن لم يعتد هذا خلافا، لانه وهم من صاحبه، فلا يعتبخلاف أحد من أهل الاسلام للنص - إذا خالفه متأولا باجتهاده - لان كل مسلم كان أو يكون فإنه مسلم لما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم به، وإن خالف بعد ذلك متأولا باجتهاده مخطئا، قاصدا إلى الخير في تقديره فقد صار على هذا القول كل حكم إجماعا وبطل الاختلاف.
قال أبو محمد: وهذا اعتراض غير صحيح، ولا يمنع مما أوجبه أبو سليمان من
أن من بعد الصحابة إنما هم بعض المؤمنين - لا كلهم لان كل حكم نزل من الله تعالى بعد موت من مات من الصحابة رضي الله عنهم، فلم يكلفوا قط ألا يخالفوا فقط أن لا يخالفوا ذلك الحكم، لانه لم يبلغهم، وإنما يلزمهم الحكم بعد بلوغه.
قال الله عز وجل: * (لانذركم به ومن بلغ) * وإنما كان يراعي إجماعهم عليه، أو خلافهم له لو بلغهم، وليس من بعدهم - إذا بلغ الحكم - كذلك، بل إن اتبعوه لقد أجمعهم عليه، ومن خالفه منهم مجتهدا فقد وجب الاختلاف في ذلك الحكم.
وأما قوله: إن عد الصحابة رضي الله عنهم كان محصورا، ممكنا جمعه وممكنا ضبط أقوالهم، وليس كذلك من بعدهم، فإنما كان هذا إذا كانوا كلهم بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل تفرقهم في البلاد، وأما بعد تفرقهم فالحال في تعذر حصر أقوالهم كالحال فيمن بعدهم سواء ولا فرق، هذا أمر يعرف بالمشاهدة والضرورة.
قال أبو محمد: وأما من قال: إن إجماع أهل كل عصر فهو إجماع كل صحيح، فقول الباطل لما ذكرنا من أنهم بعض المسلمين لا كلهم، لكنه حق لما ذكرنا قبل من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه لا تزال طائفة من أمتي على الحق إلى أن يأتي أمر الله.
قال أبو محمد: ونحن - إن شاء الله - مبينون كيفية الاجماع بيانا ظاهرا يشهد له الحس والضرورة، وبالله تعالى التوفيق.
فنقول: إن الاجماع - الذي هو الاجماع المتيقن ولا إجماع غيره - لا يصح تفسيره ولا ادعاؤه بالدعوى، لكن ينقسم قسمين: أحدهما: كل ما لا يشك فيه أحد من أهل الاسلام، في أن من لم يقل به فليس مسلما، كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله: وكوجوب(4/510)
الصلوات الخمس، وكصوم شهر رمضان، وكتحريم الميتة والدم والخنزير، والاقرار بالقرآن، وجملة الزكاة، فهذه أمور من بلغته فلم يقر بها فليس مسلما،
فإذا ذلك كذلك فكل من قال بها فهو مسلم، فقد صح أنها إجماع من جميع أهل الاسلام.
والقسم الثاني: شئ شهده جميع الصحابة رضي الله عنهم من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ،أو تيقن أنه عرفه كل من غاب عنه صلى الله عليه وسلم منهم، كفعله في خيبر إذ أعطاها يهود بنصف ما يخرج منها من زرع أو تمر.
يخرجهم المسلمون إذا شاؤوا.
فهذا لا شك عند كل أحد في أنه لم يبق مسلم في المدينة إلا شهد الامر أو وصل إليه، يقع ذلك الجماعة من النساء والصبيان الضعفاء.
ولم يبق بمكة والبلاد النائية مسلم إلا عرفه وسر به.
على أن هذا القسم من الاجماع قد خالفه قوم بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم، وهما منهم وقصدا إلى الخير وخطأ باجتهادهم فهذان قسمان للاجماع ولا سبيل إلى أن يكون الاجماع خارجا عنهما، ولا أن يعرف إجماع بغير نقل صحيح إليهما.
ولا يمكن أحدا إنكارهما، وما عداهما فدعوى كاذبة، وبالله تعالى ومن ادعى أنه يعرف إجماعا خارجا من هذين النوعين.
فقد كذب على جميع أهل الاسلام، ونعوذ بالله العظيم من مثل هذا.
قال أبو محمد: نا محمد بن سعيد بن عمر بن نبات، نا محمد بن أحمد بن مفرج، نا ابن الورد، نا أحمد بن حماد زغبة، نا يحيى بن بكير، نا الليث بن سعد، حدثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب، قال أخبرني أنس بن مالك: أنه سمع عمر بن الخطاب الغد حين بايع المسلمون أبا بكر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استوى أبو بكر على المنبر ثم استوى - يعني عمر - فتشهد قبل أبي بكر فقال: أما بعد، فإني قلت لكم أمس مقالة وإنها لم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب أنزله الله تعالى، ولا في عهد عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا، فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله، فخذوا به تهتدوا بما هدي له رسول الله صلى الله عليه وسلم .(4/511)
قال أبو محمد: فهذا عمر رضي الله عنه على المنبر بحضرة جميع الصحابة - رضي الله عنهم -: يعلن ويعترف بأنه يقول القول لم يجده في قرآن وفي سنة وأنه ليس كما قال.
ولا ينكر ذلك أحد من الصحابة، ويأمر باتباع القرآن ولا يخالفه في ذلك أحد منهم، فصح أن قولنا بألا يتبع ما روي عن أحد من الصحابة إلا أن يوجد في قرآن أو سنة هو إجماع الصحابة الصحيح، وأن وجوب اتباع النصوص هو الاجماع الصحيح، وهو قولنا والحمد لله رب العالمين، وأن من خالف هذين القولين فقد خالف الاجماع الصحيح.
وكذلك من قلد إنسانا بعينه في جميع أقواله، أو جهل وكده الاحتجاج بجميع أقوال إنسان بعينه، كما فعل الحنفيون والمالكيون والشافعيون -: خلاف متيقن لجميع عصر الصحابة، ولجميع عصر التابعين، ولجميع عصر تابعي التابعين أولهم عن آخرهم، فنحن ولله الحمد المتبعون للاجماع، وهم المخالفون للاجماع المتيقن، نسأل الله تعالى أن يفئ بهم إلى الهدى وأن يثبتنا عليه.
فصل في من قال إن الاجماع لا يجوز لاحد خلافه وأما من قال: إن الاجماع لا يجوز لاحد خلافه، فقول صحيح.
وضعوه موضع تلبيس، وأخرجوه مخرج تدليس، وصارت كلمة حق أريد بها باطل، وذلك أنهم أوهموا أن ما لا إجماع فيه، فإن الاختلاف فيه سائغ جائز.
قال أبو محمد: وهذا باطل، بل كل ما أجمع عليه أو اختلف فيه فهما سوا في هذا الباب، فهلا يحل لاحد خلاف الحق أصلا سواء أجمع عليه أو اختلف فيه، فإقيل: فهلا عذرتم من خالف الاجماع كما عذرتم من خالف فيم فيه خلاف ؟ قلنا: كلا لعمري ما فعلنا شيئا مما تقولون، ولا فرق عندنا فيما نسبتم إلينا الفرق بينه بل قولنا الذي ندين الله تعالى به هو أنه لا حق في الدين فيما جاء به كلام الله تعالى في القرآن، أو بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم للوحي المنزل إليه،
وأنه لا يحل لاحد خلاف شئ من ذلك، فمن جهل وأخطأ قاصدا إلى الخير، لم يتبين له الحق ولا فهمه، فخالف شيئا من ذلك فسواء أجمع عليه أو اختلف(4/512)
فيه، هو مخطئ معذور مأجور مرة، كمن أسلم ولم يبلغه فرض الصلاة، أو كمن أخطأ في القرآن الذي لا إجماع كالاجماع عليه، فأسقط آية أو بدل كلمة أو زادها غير عامد، لكنه مقدر أنه كذلك، فهذا لاإثم عليه ولا حرج.
وهكذا في كل شئ ومن عمد فخالف ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ،غير مسلم بقلبه أو بلسانه أنه كحكمه عليه السلام فهو كافر، سواء كان فيما أجمع عليه أو فيما اختلف فيه قال تعالى: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) * وإن خالف ما صح عنده من ذلك بعلمه، وسلم له بقلبه ولسانه، فهو مؤمن فاسق، كالزاني وشارب الخمر وسائر العصاة، سواء كان مما أجمع عليه أو مما اختلف فيه.
فهذه الحقائق التي لا يقدر أحد على معارضتها، لا الاقوال المموهة وبالله تعالى التوفيق.
فصل وأما في من قال بمراعاة انقراض العصر في الاجماع، فمن أحسن قول قيل.
لأن عصر الصحابة رضى الله عنهم، اتصل مائة عام وثلاثة أعوام.
لأن سمية أم عامر رضي الله عنها ماتت في أول الاسلام، ثم لم يزالوا يموت منهم من بلغ أجله، كأبي أمامة وخديجة وعثمان بن مظعون وقتلى بدر وأحد وأهل البعوث، عاما عاما.
ومن مات في خلال ذلك، إلى أن مات أنس سنة إحدى وتسعين من الهجرة، وكان عصر التابعين مداخلا لعصر الصحابة رضي الله عنهم، لانه لما أسلم الاثنا عشر رجلا من الانصار رضي الله عنهم، قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر كاملة لانهم أسلموا في ذي الحجة في أيام الحج - وحملوا مع أنفسهم مصعب بن عمير
رضي الله عنه معلما لهم القرآن والدين، وبقوا كذلك تمام عام، ثم حج منهم سبعون مسلما وثلاث نسوة مسلمات - كلهم يعرف اسمه وحسبه - وهم أهل بيعة العقبة، وتركوا بالمدينة إسلاما كثيرا فاشيا، يتجاوز المائتين من الرجال والنساء ثم هاجر صلى الله عليه وسلم في ربيع الاول.
فلا شك في أنه قد مات في تلك الخمسة عشر شهرا منهم موتى من نساء ورجال، لانهم أعداد عظيمة وكلهم من جملة التابعين - وهم الجمهور - إلا من شاهد منهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم الاقل.(4/513)
وهكذا كل مسلم ممن أسلم ولم يلق النبي صلى الله عليه وسلم من جميع جزيرة العرب، كبلاد اليمن، والبحرين، وعمان والطائف، وبلاد مصر وقضاعة، وسائر ربيعة وجبلي طيئ والنجاشي.
فكل من لم يلق منهم النبي صلى الله عليه وسلم فهو من التابعين، فلم يزل التابعون يموت منهم الواحد والاثنان والعشرات والمئون والآلاف من قبل الهجرة بسنة وشهرين إلى أن مات آخرهم في حدود ثمانين ومائة من الهجرة، كخلف بن خليفة الذي رأى عمرو بن حريث، وكمن ذكر عنه أنه رأى أنس بن مالك رضي الله عنه، فمن هذا الواهي دماغه الذي يتعاطى مراعاة انقراض أهل عصر، مقدار مائة عام وثلاثة أعوام، ثم عصر آخر مقدار مائة سنة وثمانين سنة، ويضبط أنفاسهم وإجماعهم، هل اختلفوا بعد ذلك أم لا ؟ فكيف أن يوجب ذلك على الناس لا سيما وأهل ذينك العصرين متداخلان مضى كثير من أهل العصر الثاني، قبل انقراض العصر الاول بدهر طويل أكثر من مائة عام، وقد أفتى جمهورهم من الصحابة كعلقمة ومسروق وشريح وسليمان وربيعة وغيرهم ماتوا في عصر الصحابة.
وهكذا تتداخل الاعصار إلى يوم القيامة.
وقد اعترض بعضهم في هذا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : خيركم القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فقلت: بين الامرين فرق كما
بين النور والظلمة لان الذي تباينت به الاعصار المذكورة، هو شفوف في الفضل لا يلحقه الآخرون، معروف لمن تأخر من قرن الصحابة على من تقدم من قرن التابعين.
وليس كذلك جواز الفتيا، لانه إن لم تجز الفتيا لتابع حتى ينقرض عصر الصحابة، لم تجز فتيا من ذكرنا ممن مات من التابعين في عصر الصحابة، وهذا باطل، أو يقولون إنه يراعي انقراض عصر التابعين مع عصر الصحابة معا، ففي هذا مراعاة كل عصر إلى يوم القيامة مع عصر الصحابة لتداخل الاعصار، وهذا محال والذي يدخل هذا القول من الجنون أكثر من هذا، لانه يجب على قولهم أنه إذا لم يبق من الصحابة إلا أنس وحده، فإنه كان له ولغيره من(4/514)
التابعين أن يرجعوا عما أجمعوا عليه قالها أنس.
انسد عليهم هذا الباب وألقيت المعلقة فحرم عليهم الرجوع ما كان مباحا لهم قبيل ذلك وكفى بهذا جنونا.
وليت شعري متى يمكن التطوف عليهم في آفاقهم، بل ألا يزايلهم إلى أن يموتوا ومتى جمعوا له في صعيواحد، ما في الرعونة أكثر من هذا، ولا في الهزل والتدين بالباطل ما يفوق هذا ونعوذ بالله العظيم من الضلال.
فصل في ما إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما وأما من قال: إذا اختلف أهل عصر ما، في مسألة ما فقد ثبت الاختلاف ولا ينعقد في تلك المسألة إجماع أبدا فإنه كلام فاسد لان الاختلاف لا حكم له إلا الانكار له والمنع منه وإيجاب القول على كل أحد بما أمر الله تعالى به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فقط ولا مزيد فالاختلاف لا يحل أن يثبت، ولا يسع أحدا خلاف الحق أصلا لكن من خالفه جاهلا متأولا فهو مخطئ معذور مأجور أجرا واحدا كما ذكرنا آنفا.
وفرض على كل من بلغه الحق أن يرجع إليه فإن عانده بقلبه أو بلسانه عالما بالحق
فهو كافر وإن عانده بفعله عالما ففاسق، كما قدمنا وبالله تعالى التوفيق.
فصل في اختلاف أهل عصر ما ثم إجماع أهل عصر ثان على أحد الاقوال التي اختلف عليه أهل الماضي، فليس لاحد خلاف ما أجمع عليه أهل العصر الثاني، فقد قلنا في تعذر علم هذا بما قلنا آنفا، وسنزيد في ذلك بيانا لا يحيل إن شاء الله تعالى عن ذي لب، وقد قلنا: إنه لا معنى لمراعاة ما أجمع عليه مما اختلف فيه، إنما هو حق أو خطأ، والحق في الدين ليس إلا في كلام الله تعالى أو بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه بنقل الثقات مسندا فقط.
وهذا لا يسع أحدا خلافه ولا يقويه ولا يزيده رتبة في أنه حق أن يجمع عليه ولا يوهنه أن يختلف فيه والخطأ هو خلاف النص، ولا يحل لاحد أن يخطئ لانه يعذر(4/515)
بتأوله وجهله كما قدمنا أو يكفر بعناده أو بقلبه أو بلسانه أو يفسق بمخالفته بعمله فقط وبالله تعالى ولا سبيل إلى إجماع أهل عصر ما، على خلاف نص ثابت، لان خلاف التوفيق النص باطل، ولا يجوز إجماع الامة على باطل لقول النبي صلى الله عليه وسلم : لا تزال طائفة من أمتي على الحق، فصح أن هذا القول - الذي صدرنا في الباب - فاسد.
فصل في من قال إن افترق أهل عصر على أقوال كثيرة وأما قول من قال: إن افترق أهل العصر على أقوال كثيرة جدا أو أكثر من واحد، فإن ما لم يقولوه قد صح الاجماع منهم على تركه، فقد قلنا في تعذر معرفة ذلك وحصره، ونقول أيضا إن شاء الله تعالى وقد قلنا، إنه لا يمكن مع ذلك أن يجمع أهل عصر طرفة عين، فما فوقها خطأ على خطأ لاخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأنه: لا تزال طائفة من أمتي على الحق فهذه الاقوال كلها متخاذلة غير موضوعة وضعا صحيحا خارجة عن الامكان إلى الامتناع وما كان هكذا فلا وجه للاشتغال به.
قال أبو محمد: فموهوا ههنا بأن قالوا: قد صح الاجماع من الصحابة رضي الله عنهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنع من بيع أمهات الاولاد، وكان بيعهم على عهده صلى الله عليه وسلم حلالا وقد صح إجماعهم على جلد شار ب الخمر ثمانين جلدة، ولم يكن ذلك على عهده صلى الله عليه وسلم وقد صح إجماعهم على إسقاط ستة أحرف من جملة الاحرف السبعة التي كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قلنا: كذبتم وأفكتم، أما جلد شارب الخمر ثمانين فيعيذ الله تعالى عمر من أن يشرع حدا لم يأت به وحي من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .
ونحن نسألكم: ما الفرق بين ما تدعونه بالباطل من إحداث حد لم يشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر ؟ وبين إثبات حد في اللياطة بقطع الذكر أو في الزنى بجلد مائتين أو بقطع يد الغاصب ؟ أو بقلع أضراس آكل الخنزير ؟ وما الفرق بين هذا كله وبين إسقاط صلاة وزيادة أخرى، وإبطال صوم رمضان وإحداث شهر آخر، ومن أجاز هنا فقد خرج عن الاسلام، وكفر كفرا صراحا، ولحق بالباطنية وغلاة الروافض واليهود والنصارى الذين بدلوا دينهم، وإنما(4/516)
جلد عمر الاربعين الزائدة تعزيرا، كما صح عنه أنه كان إذا أتي بمن تتابع في الخمر جلده ثمانين، وإذا أتي بمن لم يكن له منه إلا الوهلة ونحوها جلده أربعين.
ويا معشر من لا يستحي من الكذب، أين الاجماع الذي تدعونه ؟ وقد صح أن عثمان وعليا وعبد الله بن جعفر - بحضرة الصحابة - جلدوا في الخمر أربعين بعد موت عمر.
كما حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا إسحاق بن راهويه، حدثنا يحيى بن حماد، ثنا عبد العزيز بن المختار، ثنا عبد الله بن الفيروز الداناج
- مولى ابن عامر - ثنا حصين بن المنذر أبو ساسان قال: شهدت عثمان أتى الوليد يشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، والثاني أنه قاءها، قال عثمان: يا علي قم فاجلده، فقال علي يا حسن قم فاجلده، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها فكأنه وجد عليه، فقال علي: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده، فجلده، وعلي يعد حتى بلغ أربعين فقال: أمسك، جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين، وكل سنة.
فإن كان ضرب الثمانين إجماعا، فعثمان وعلي وأبي جعفر والحسن ومن حضرهم خالفوا الاجماع، ومخالف الاجماع عندهم كافر.
فانظروا فيما تقحمهم آراؤهم.
وحاشا للائمة الصحابة رضي الله عنهم من الكفر، ومن مخالفة الحق، ومن إحداث شرع لم يأذن به الله تعالى.
فإن قيل: فما معنى قول علي: وكل سنة.
قلبا.
صدق لان التعزير سنة، فإن قيل: إن التعزير عندكم لا يتجاوز عشر جلدات.
قلنا يمكن أن يجلده عمر لكل كأس عشر جلدات تعزيرا، فهذا جائز، وقد تعلل في هذا الخبر بعض من لا يبالي بما أطلق به لسانه في نصر ضلاله، فإن ذكر ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني، حدثنا أبو إسحاق البلخي، ثنا الفربري، ثنا عبد الله بن عبد الوهاب، ثنا خالد بن الحارث، حدثنا سفيان الثوري، عن أبي حصين أنه حدث قال: سمعت عمير ابن(4/517)
سعد النخعي قال: سمعت علي بن أبي طالب قال: ما كنت لاقيم حدا على أحد فيموت فأحد نفسي إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وديته، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه.
قال أبو محمد: فاعجبوا لعمى هذا الانسان، يعلل حديثا صحيحا لا مغمز فيه، بحديث مملوء عللا أولها: أن راويه مختلف فيه، مرة عمير بن سعيد، ومرة عمير
بن سعد، ومرة نخعي، ومرة حنفي.
ثم الطامة الكبرى كيف يجعل هذا المفتون حجة شيئا يخبر علي عن نفسه أنه يجد في نفسه ما لا يجد من سائر الحدود، فإن كان حقا وسنة، فلم يجد في نفسه أذى حتى يؤدي ديته إن مات من ذلك الجلد، وهلا وجد في نفسه ممن مات في سائر الحدود، وفي هذا كفاية، ثم معاذ الله أن يثبت علي في الدين ما لم يسنه عليه السلام، ثم لو صح لكان وجهه بينا، وهو أنه إنما يجد في الاربعين الزائدة التي جلدوها تعزيرا.
ثم نقول لهم: لو ادعى عليكم ههنا خلاف الاجماع: لصدق مدعي ذلك عليكم، لانكم تقرون أن عمر أول من جلد في الخمر ثمانين، وقد كان استقر الاجماع قبله على أربعين، فقد أقررتم على أنفسكم بخلاف الاجماع، ونسبتم عمر إلى خلاف الاجماع، وقد أعاذه الله تعالى من ذلك، وأما أنتم فأنتم أعلم بأنفسكم، وإقرار كم على أنفسكم لازم لكم، فإن لجاتم إى مراعاة انقراض العصر لزمكم في جلد عثمان وعلي في الخمر أربعين بعدهم ولا فرق.
وأما أمهات الاولاد فكذبه في ذلك أفحش من كل كذب.
لان عبد الله بن الربيع قال: ثنا محمد بن إسحاق بن السليم، ثنا ابن الاعرابي، ثنا أبو داود السجستاني، ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد بن سلمة عن قيس بن سعد، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله الانصاري قال: بعنا أمهات الاولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فلما كان عمر نهانا فانتهينا، فهذا عمل الناس أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام أبي بكر.(4/518)
أنبأنا محمد بن سعيد بن ثابت، أنبأنا أحمد بن عون الله، أنبأنا قاسم بن أصبغ أنبأنا محمد بن عبد السلام الخشني، أنبأنا محمد بن بشار نا محمد بن جعفر - غندر - نا محمد بن سعيد عن، الحكم بن عتيبة، عن زيد بن وهب.
قال: انطلقت أنا ورجل إلى عبد الله بن مسعود نسأله عن أم الولد، فإذا هو يصلي ورجلان قد اكتنفاه، فلما صلى
سألاه فقال لاحدهما: من أقرأك قال اقرأنيها أبو عبدة أو أبو الحكم المزني.
وقال الآخر: أقرأنيها عمر بن الخطاب، فبكى ابن مسعود حتى بل الحصى بدموعه وقال: اقرأ كما أقرأك عمر، فإنه كان للاسلام حصنا حصينا يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه، فلما أصيب عمر انثلم الحصن فخرج الناس من الاسلام وقال: وسألته عن أم الولد فقال: تعتق من نصيب ولدها.
نا حمام، نا ابن مفرج، نا ابن الاعرابي، نا الدبري، نا عبد الرزاق، نا سفيان بن عيينة، عن الاعمش عن زيد بن وهب.
قال: مات رجل منا وترك أم ولد، فأراد الوليد بن عقبة بيعها في دينه، فأتينا ابن مسعود فوجدناه يصلي، فانتظرناه حتى فرغ من صلاته فذكرنا ذلك له، فقال: إن كنتم لا بد فاجعلوها في نصيب ولدها.
وبه إلى عبد الرزاق، عن ابن جريج أنه حدثه قال: أخبرنا عطاء بن أبي رباح، أن ابن الزبير أقام أم حبي أم ولد محمد بن صهيب في مال ابنها وجعلها من نصيبه ويسمى ابنها خالدا.
قال عطاء وقال عباس: لا تعتق أم الولد حتى يلفظ سيدها بعتقها.
نا أحمد بن محمد الطلمنكي، نا محمد بن أحمد بن مفرج، نا إبراهيم بن أحمد بن فراس، نا محمد بن علي بن زيد، نا سعيد بن منصور، نا هشيم أخبرنا مغيرة بن مقسم، عن الشعبي، عن عبيدة السلماني أن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب أعتقا أمهات الاولاد قال علي بن أبي طالب: فقضى بذلك عمر حتى أصيب، ثم قضى بذلك عثمان حتى أصيب، فلما وليت رأيت أن أرقهن.
قال أبو محمد: وهذا قول زيد بن ثابت وغيره، فيقال لهؤلاء الذين قد أعمر الله تعالى أبصارهم أتقرون أن عمر هو أول من منع من بيعهن فمن قولهم: نعم، ويدعونه إجماعا من كل من معه من الصحابة رضي الله عنهم، فيقال لهم: قد أقررتم أن عمر قد خالف الاجماع بهذا الفعل، إذا قلتم إن المسلمين كانوا على بيعهن حتى نهاهم عمر، فهل في خلاف الاجماع أكثر من هذا، أو كذبتم إذ قلتم إن عمر أول من حرم(4/519)
بيعهم لا بد من إحداهما.
وقد أعاذ الله عمر من خلاف الاجماع، وأما أنتم فأعلم بأنفسكم، وإقراركم بذلك على أنفسكم لازم لكم، ثم لو صح لكم أن عمر رضي الله عنه وكل من أجمعوا على ذلك فصار إجماعا للزمكم أن ابن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن الزبير، وزيد بن ثابت، خالفوا الاجماع وخلاف الاجماع عندكم كفر، فانظروا أي مضايق تقتحمون ومن أي أحواف تتساقطون ؟ ولا بد من هذا أو من كذبكم في دعوى الاجماع على حكم عمر بذلك لا مخرج من أحدهما.
وأما نحن فدعوى الاجماع عندنا في مثل هذا إفك وكذب، وجرأة على التجليح بالكذب على جميع أهل الاسلام، ولا ينكر الوهم - بالاجتهاد، والخطأ مع قصد إلى طلب الحق والخير - على أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولا نقول في شئ من الدين إلا بنص قرآن أو سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولا نبالي من خالف في ذلك، ولا نتكثر بمن ولولا، وما، نا أحمد بن قاسم قال: نا أبو قاسم بن محمد بن قاسم، نا جدي قاسم بن أصبغ، نا مصعب بن محمد، نا عبيد الله بن عمر الرقي، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما ولدت مارية إبراهيم قال النبي صلى الله عليه وسلم : أعتقها ولدها مع دلائل من نصوص أخرى ثابتة قد ذكرناها في كتاب الايصال.
ما قلنا إلا ببيع أمها ت الاولاد، لكن السنة الثابتة لا يحل خلافها، وما نبالي خلاف ابن عباس لروايته، فقد يخالفها متأولا أنه خصوص، أو قد ينسى ما روي وما كلفنا الله تعالى قط أن نراعي أقوال القائلين، إنما أمرنا بقبول رواية النافرين ليتفقهوا في الدين المنذرين لمن خلفهم المؤمنين مما بلغهم وصح عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وبالله تعالى التوفيق.
وأما دعواهم أن عثمان رضي الله عنه أسقط ستة أحرف من جملة الاحرف
السبعة المنزل بها القرآن من عند الله عز وجل فعظيمة من عظائم الافك والكذب، ويعيذ الله تعالى عثمان رضي الله عنه من الردة بعد الاسلام.
ولقد أنكر أهل التعسف على عثمان رضي الله عنه أقل من هذا، مما لا نكره فيه أصلا، فكيف لو ظفروا له بمثل هذه العظيمة، ومعاذ الله من ذلك، وسواء عند كل ذي عقل(4/520)
إسقاط قراءة أنزلها الله تعالى، أو إسقاط آية أنزلها الله تعالى، ولا فرق، وتالله إن من أجاز هذا غافلا ثم وقف عليه وعلى برهان المنع من ذلك وأصر، فإنه خروج عن الاسلام لا شك فيه، لانه تكذيب لله تعالى في قوله الصادق لنا: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * وفي قوله الصادق: * (إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ئ ثم إن علينا بيانه) * فالكل مأمورون باتباع قرآنه الذي أنزله الله تعالى عليه وجمعه.
فمن أجاز خلاف ذلك فقد أجاز خلاف الله تعالى، وهذه ردة صحيحة لا مرية فيها، وما رامت غلاة الروافض وأهل الالحاد الكائدون للاسلام إلا بعض هذا.
وهذه الآية تبين ضرورة أن جميع القرآن كما هو من ترتيب حروفه وكلماته وآياته وسوره، حتى جمع كما هو، فإنه من فعل الله عز وجل وتوليه جمعه، أوحى به إلى نبيه عليه السلام، وبينه عليه السلام للناس، فلا يسع أحدا تقديم مؤخر من ذلك، ولا تأخير مقدم أصلا.
ونحن نبين فعل عثمان رضي الله عنه ذلك بيانا لا يخفى على مؤمن، ولا على كافر، وهو أنه رضي الله عنه علم أن الوهم لا يعزى منه بشر، وأن في الناس منافقين يظهرون الاسلام ويكنون الكفر، هذا أمر يعلم وجوده في العالم ضرورة، فجمع من حضره من الصحابة رضي الله عنهم على نسخ مصاحف مصححة كسائر مصاحف المسلمين إلى كل مصر مصحفا يكون عندهم، فإن وهم واهم في نسخ مصحف، أو وتعمد ملحد تبديل كلمة في المصحف، أو في القراءة، رجع إلى المصحف المشهور
المتفق على نقله ونسخه.
فعلم أن الذي فيه هو الحق، وكيف كان يقدر عثمان على ما ظنه أهل الجهل ؟ والاسلام قد انتشر من خراسان إلى برقة، ومن اليمن إلى أذربيجان، وعند المسلمين أزيد من مائة ألف مصحف، وليست قرية ولا حلة ولا مدينة إلا والمعلمون للقرآن موجودون فيها، يعلمونه من تعلمه، من صبي أو امرأة، ويؤمهم به في الصلوات في المساجد.
وقد حدثني يونس بن عبد الله بن مغيث قال: أدركت بقرطبة مقرئا يعرف بالقرشي، أحد مقرئين ثلاثة للعامة كانوا فيها، وكان هذا القرشي لا يحسن النحو فقرأ عليه قارئ يوما في سورة ق: * (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت(4/521)
منه تحيد) * فرده عليه القرشي تحيد التنوين، فراجعه القارئ وكان يحسن النحو، فلج المقرئ وثبت على التنوين وانتشر ذلك الخبر إلى أن بلغ إلى يحيى بن مجاهد الفزاري الالبيري، وكان منقطع القرين في الزهد والخير والعقل، وكان صديقا لهذا المقرئ، فمضى إليه فدخل عليه، وسلم عليه وسأله عن حاله.
ثم قال له: إنه بعد عهدي بقراءة القرآن على مقرئ فأردت تجديد ذلك عليك، فسارع المقرئ إلى ذلك، فقال له الفزاري: أريد أن أبتدئ بالمفصل، فهو الذي يتردد في الصلوات فقال له المقرئ: ما شئت، فبدأ عليه من أول المفصل، فلما بلغ سورة ق، وبلغ الآية المذكورة ردها عليه المقرئ بالتنوين، فقال له يحيى بن مجاهد: لا تفعل ما هي إلا غير منوتة بلا شك، فلج المقرئ.
فلما رأى يحيى بن مجاهد لجاجه قال له: يا أخي إنه لم يحملني على القراءة عليك إلا لترجع إلى الحق في لطف، وهذه عظيمة أوقعك فيها قلة علمك بالنحو، فإن الافعال لا يدخلها تنوين البتة، فتحير المقرئ إلا أنه لم يقنع بهذا، فقال يحيى بن مجاهد بيني وبينك المصاحف، فبعثوا فأحضرت جملة من مصاحف الجيران، فوجدوها
مشكولة بلا تنوين، فرجع المقرئ إلى الحق.
وحدثني حمام بن أحمد بن حمام قال: حدثني عبد الله بن محمد بن علي، عن اللخمي الباجي قال: نا محمد بن لبانة قال: أدركت محمد بن يوسف بن مطروح الاعرج يتولى صلاة الجمعة في جامع قرطبة، وكان عديم الورع، بعيدا عن الصلاح، قال: فخطبنا يوم الجمعة فتلا في خطبته: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) * فقرأها بنونين عننتم.
قال: فلما انصرف أتيناه وكنا نأخذ عنه رأي مالك، فذكرنا له قراءته للآية وأنكرناها، فقال: نعم، هكذا أقرأناها، وهكذا هي، فلج فحاكمناه إلى المصحف فقام ليخرج المصحف ففتحه في بيته وتأمله، فلما وجد الآية بخلاف ما قرأها عليه أنف الفاسق من رجوعه إلى الحق فأخذ القلم وألحق ضرسا زائدا ؟ قال محمد بن عمر: فوالله لقد خرج إلينا والنون لم يتم بعد جفوف مدادها.
قال أبو محمد: فالاول واهم مغفل، والثاني فاسق خبيث، فلولا كثرة المصاحف بأيدي الناس لتشكك كثير من الناس في مثل هذا إذا شاهدوه ممن يظنون به خيرا أو علما، ولخفي الخطأ والتعمد.
فمثل هذتخويف عثمان رضي الله عنه، ولقد(4/522)
عظمت منفعة فعله ذلك، أحسن الله جزاءه.
وأما الاحرف السبعة، فباقية كما كانت إلى يوم القيامة، مثبوتة في القراءات المشهورة من المشرق إلى المغرب، ومن الجنوب إلى الشمال، فما بين ذلك، لانها من الذكر المنزل الذي تكفل الله تعالى بحفظه، وضمان الله تعالى لا يخيس أصلا، وكفالته تعالى لا يمكن أن تضيع.
ومن البرهان على كذب أهل الجهل وأهل الافك على عثمان رضي الله عنه في هذا أنبأناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني، نا إبراهيم بن أحمد البلخي، نا الفربري، نا البخاري نا أمية - هو ابن بسطام - نا يزيد بن ربيع عن حبيب بن
الشهيد عن ابن مليكة عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا) * قال قد نسختها الآية الاخرى، فلم تكتبها أو تدعها ؟ قال: يا ابن أخي: لا أغير شيئا منه من مكانه.
وبه إلى البخاري، نا موسى بن إسماعيل، نا إبراهيم، حدثنا أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان بن عفان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق.
فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الامة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى.
فأرسل عثمان إلى حفصة أم المؤمنين، أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بهما إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف.
وقال عثمان للرهط القريشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
فهذان الخبران عن عثمان، إذا جمعا صححا قولنا وهو: أنه لم يحل شيئا من القرآن عن مكانه الذي أنزله الله تعالى عليه، وأنه أحرق ما سوى ذلك مما وهم فيه واهم، أو تعمد تبديله متعمد.
نا عبد الله بن الربيع التميمي، نا عمر بن عبد الملك الخولاني، نا أبو سعيد الاعرابي العزي، نا سليمان بن الاشعث، نا محمد بن المثنى، نا محمد بن جعفر، نا(4/523)
شعبة عن الحكم عن مجاهد، عن أبي ليلى، عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار، فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على حرف.
فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، إن أمتي لا تطيق على ذلك، ثم أتاه
الثانية فذكر نحو هذا حتى بلغ سبعة أحرف، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على سبعة أحرف قرؤوا عليه فقد أصابوا.
وبه إلى سليمان بن الاشعث، نا القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لففته بردائه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرأ القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هكذا أنزلت، ثم قال لي: اقرأ فقرأت، فقال: هكذا نزلت، ثم قال صلى الله عليه وسلم : إن القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه.
قال أبو محمد: فحرام على كل أحد أن يظن أن شيئا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمته لا تطيق ذلك، أتى عثمان فحمل الناس عليه فأطاقوه، ومن أجاز هذا فقد كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لله تعالى: إن أمته لا تطيق على ذلك ولم ينكر الله تعالى عليه ذلك، ولا جبريل عليه السلام وقال هؤلاء المجرمون إنهم يطيقون ذلك، وقد أطاقوه فيا لله ويا للمسلمين أليس هذا اعتراضا مجردا على الله عز وجل مع التكذيب لرسوله صلى الله عليه وسلم ؟ فهل الكفر إلا هذا ؟ نعوذ بالله العظيم أن يمر بأوهامنا فكيف أن نعتقده.
وأيضا فإن الله تعالى آتانا تلك الاحرف فضيلة لنا، فيقول من لا يحصل ما يقول: إن تلك الفضيلة بطلت فالبلية إذا قد نزلت، حاشا لله من هذا.
قال أبو محمد: ولقد وقفت على هذا مكي بن أبي طالب المقرئ رحمه الله، فمرة سلك هذه السبيل الفاسدة فلما وقفته على ما فيها رجع، ومرة قال بالحق في ذلك كما تقول، ومرة قال لي: ما كان من الاحرف السبعة موافقا لخط المصحف فهو
باق، وما كان منها مخالفا لخط المصحف فقد رفع، فقلت له: إن البلية التي فررت(4/524)
منها في رفع السبعة الاحرف باقية بحسبها، في إجازتك رفع حركة واحدة من حركات جميع الاحرف السبعة أكثر من ذلك، فمن أين وجب أن يراعى خط المصحف، وليس هو من تعليم رسول الله لانه كاأميا لا يقرأ ولا يكتب واتباع عمل من دونه من غير توقيف منه عليه السلام لا حجة فيه، ولا يجب قبوله، وقد صححت القراءة من طريق أبي عمرو بن العلاء التميمي مسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : * (إن هذان لساحران) * وهو خلاف خط المصحف وما أنكرها مسلم قط فاضطرب وتلجلج.
قال أبو محمد: وقد قال بعض من خالفنا في هذا: إن الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا عربا، يصعب على كل طائفة منهم القراءة بلغة غيرهم، فلذلك فسح لهم في القراءة على أحرف شتى من بعدهم كذلك، فقلنا: كذب هؤلاء مرتين، إحداهما على الله تعالى، والثانية على جميع الناس، كذبا مفضوحا جهارا لا يخفى على أحد.
أما كذبهم على الله عز وجل فإخبارهم بأنه تعالى إنما جعله يقرأ على أحرف شتى لاجل صعوبة انتقال القبيلة إلى لغة غيرها، فمن أخبرهم بها عن الله تعالى أنه من أجل ذلك حكم بما صح أنه تعالى حكم به، وهل يستجيز مثل هذا ذو دين أو مسكة عقل ؟ وهل يعلم مراد الله تعالى في ذلك إلا بخبر وارد من عنده عز وجل ؟ اللهم عياذك من مثل هذا الترامي من حالق إلى المهالك.
ومن أخبر عن مراد غيره بغير أن يطلعه ذلك المخبر عنه على ما في نفسه، فهو كاذب بلا شك، والكذب على الله تعالى أشد من الكذب على خلقه.
وأما كذبهم على الناس، فبالمشاهدة يدري كل أحد صعوبة القراءة على الاعجمي المسلم من الترك والفرس والروم والنبط والقبط والبربر والديلم
والاكراد وسائر قبائل العجم - بلغة العرب التي بها نزل القرآن، أشد مراما من صعوبة قراءة اليماني على لغة المضري والربعي على لغة القرشي بلا شك، وأن تعلم العربي للغة قبيلة مه ن العرب - غير قبيلته - أمكن وأسهل من تعلم الاعجمي للعربية بلا شك، والامر الآن أشد مما كان حينئذ أضعافا مضاعفة، فالحاجة إلى بقاء الاحرف الآن، أشد منها حينئذ، على قول المستسهلين للكذب، في عللهم التي يستخرجونها نصرا لضلالهم، ولتقليدهم من غلط قاصد إلى(4/525)
خلاف الحق ولاتباعهم، وله عالم قد حدروا عنها، ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق.
وبرهان كذبهم في دعواهم المذكورة أنه لو كان مقالوه حقا، لم يكن لاقتضاء نزوله على سبعة أحرف معنى: بل كان الحكم أن تطلق كل قبيلة على لغتها، وبرهان آخر على كذبهم في ذلك أيضا أن المختلفين في الخبر المذكور الذي أوردناه آنفا أنهما قرآ سورة الفرقان بحرفين مختلفين كانا جميعا بني عم قرشيين من قريش البطاح من قبيلة واحدة جاران ساكنان في مدينة واحدة، وهي مكة، لغتهما واحدة وهما عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قريظ بن رزاح بن عدي بن كعب، وهشام بن حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن كلاب بن مرة بن كعب، ويجتمعان جميعا في كعب بن لؤي بين كل واحد منهما وبين كعب بن لؤي ثمانية آباء فقط فظهر كذب من ادعى أن اختلا ف الاحرف إنما كان لاختلاف لغات قبائل العرب وأبى ربك إلا أن يحق الحق، ويبطل الباطل، ويظهر كذب الكاذب، ونعوذ بالله العظيم من الضلال والعصبية للخطأ.
قال أبو محمد: وقال آخرون منهم: الاحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها إنما هي وعد ووعيد وحكم، وزادوا من هذا التقسيم حتى بلغوا سبعة معان.
قال أبو محمد: المقلدون كالغرقى، فأي شئ وجدوه تعلقوا به.
قال أبو محمد: وكذب هذا القول أظهر من الشمس، لان خبر أبي الذي ذكرنا وخبر عمر الذي أوردناه - شاهدان بكذبه، مخبران بأن الاحرف إنما هي اختلاف ألفاظ القراءات لا تغير القرآن، ولا يجوز أن يقال في هذه الاقسام التي ذكرنا أيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا، وأيضا فإنهم ليسوا في تقسيمهم هذا بأولى من آخر اقتصر على مبادئ الكلام الاول، فجعل القرآن ثلاثة أقسام فقط: خبرا، وتقديرا، وأمرا بشرع، وجعل الوعد والوعيد تحت قسم الخبر، ولا هم أيضا بأولى من آخر قسم الانواع التي في اشخاص المعاني، فجعل القرآن أقساما كثيرة أكثر من عشرة فقال: فرض وندب ومباح ومكروه(4/526)
وحرام ووعد ووعيد، والخبر عن الامم السالفة، وخبر عما يأتي من القيامة والحساب، وذكر الله تعالى وأسمائه، وذكر النبوة، ونحو هذا، فظهر فساد هذا، وأيضا فإن هذه الاقسام التي ذكروا هي في قراءة عمر، كما هي في قراءة هشام بن حكيم ولا فرق، فهذا بيان زائد في كذب هذا التقسيم.
قال أبو محمد: فإن ذكر ذاكر الرواية الثابتة بقراءات منكرة صححت عن طائفة من الصحابة رضي الله عنهم، مثل ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: * (وجاءت سكرة الموت) * ومثل ما صح عن عمر رضي الله عنه، من قراءة: * (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم والضالين) *، ومن أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يعد المعوذتين من القرآن، وأن أبيا رضي الله عنه كان يعد القنوت من القرآن ونحو هذا.
قلنا: كل ذلك موقوف على من روى عنه شئ ليس منه عن النبي صلى الله عليه وسلم البتة، ونحن لا ننكر على من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطأ، فقد
هتفنا به هتفا، ولا حجة فيما روي عن أحد دونه عليه السلام، ولم يكلفنا الله تعالى الطاعة له ولا أمرنا بالعمل به، ولا تكفل بحفظه، فالخطأ فيه واقع فيما يكون من الصاحب فمن دونه ممن روى عن الصاحب والتابع، ولا معارضة لنا بشئ من ذلك، وبالله تعالى التوفيق.
وإنما تلزم هذه المعارضة، من يقول بتقليد الصاحب على ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى القرآن، فهم الذين يلزمهم التخلص من هذه المذلة، وأما نحن فلا، والحمد لله رب العالمين، إلا خبرا واحدا وهو الذي رويناه من طريق النخعي والشعبي، كلاهما عن علقمة بن مسعود، وأبي الدرداء، كلاهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقرأهما: والليل إذا يغشى ئ والنهار إذا تجلى ئ وما خلق الذكر والانثى.
قال أبو محمد: وهذا خبر صحيح مسند عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال أبو محمد: إلا أنهما قراءة منسوخة لان قراءة عاصم المشهورة المأثورة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ،وقراءة ابن عامر مسندة إلى أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : فيهما جميعا: * (وما خلق(4/527)
الذكر والانثى) * فهي زيادة لا يجوز تركها، وأنبأنا يونس بن عبد الله بن مغيث القاضي قال: حدثنا يحيى بن مالك بن عابد الطرطوشي، أخبرنا الحسن بن أحمد بن أبي خليفة، أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي، نا إبراهيم بن أبي داود، نا حفص بن عمر الحوضي، نا أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك قال: اختلفوا في القراءات على عهد عثمان بن عفان، حتى اقتتل الغلمان والمعلمون، فبلغ ذلك عثمان فقال: عندي تكذبون به وتختلفون فيه، فما تأبى عني كان أشد تكذيبا وأكثر لحنا، يا صحابة محمد: اجتمعوا فاكتبوا للناس، قال: فكتبوا قال: فحدثني أنهم كانوا إذا تراودوا في آية قالوا: هذه أقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلانا، فيرسل إليه وهو على ثلاثة من المدينة فيقول: كيف أقرأك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقول: كذا وكذا فيكتبونها، وقد تركوا لها مكانا.
قال أبو محمد: فهذه صفة عمل عثمان رضي الله عنه، بحضرة الصحابة رضي الله عنهم في نسخ المصاحف، وحرق ما حرق منها مما غير عمدا وخطأ، ومن العجب أن جمهرة من المعارضين لنا، وهم المالكيون، قد صح عن صاحبهم ما ناه المهلب بن أبي صفرة الاسدي التميمي، قال ابن مناس: نا ابن مسرور، نا يحيى نا يونس بن عبد الاعلى، نا ابن وهب، حدثني ابن أنس قال: أقرأ عبد الله بن مسعود رجلا: * (إن شجرة الزقوم ئ طعام الاثيم) * فجعل الرجل يقول: طعام اليتيم، فقال له ابن مسعود: طعام الفاجر.
قال ابن وهب: قلت لمالك: أترى أن يقرأ كذلك ؟ قال: نعم أرى ذلك واسعا فقيل لمالك: أفترى أن يقرأ بمثل ما قرأ عمر بن الخطاب فامضوا إلى ذكر الله ؟ قال مالك: ذلك جائز، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرؤوا منه ما تيسر مثل: تعلمون يعلمون، قال مالك: لا أرى في اختلافهم في مثل هذا بأسا، ولقد كان الناس ولهم مصاحف، والستة الذين أوصى لهم عمر بن الخطاب كانت لهم مصاحف.
قال أبو محمد: فكيف يقولون مثل هذا ؟ أيجيزون القراءة هكذا فلعمري لقد هلكوا وأهلكوا، وأطلقوا كل بائقة في القرآن أو يمنعون من هذا، فيخالفون صاحبهم في أعظم الاشياء وهذا إسناد عنه في غاية الصحة وهو مما(4/528)
أخطأ فيه مالك مما لم يتدبره، لكن قاصدا إلى الخير، ولو أن أمرا ثبت على هذا وجازه بعد التنبيه له على ما فيه، وقيام حجة الله تعالى عليه في ورود القرآن بخلاف هذا لكان كافرا، ونعوذ بالله من الضلال.
قال أبو محمد: فبطل ما قالوه في الاجماع بأوضع بيان والحمد لله رب العالمين.
فصل فيمن قال: ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع، وبسط الكلام فيما هو إجماع، وفيما ليس إجماعا
قال أبو محمد: قد ذكرنا قبل قسمي الاجماع الذي لا إجماع في العالم غيرهما أصلا، وهما: إما شئ لا يكون مسلما من لا يعتقده، كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والبراءة من كل دين يخالف دين الاسلام، كجملة القرآن وكالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان.
فإنه لا يشك مؤمن ولا كافر في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى هذه الشهادة، وحكم باسم الاسلام وحكمه لمن أجابه إليها، وحكم باسم الكفر وحكمه لمن لم يجبه إليه، وأن أهل الاسلام بعده عليه السلام جروا على هذا إلى يومنا هذا.
ولا يشك مؤمن ولا كافر في أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات الخمس بكل من حضره خمس مرات كل يوم وليلة، وصلاها النساء وأهل العذر في البيوت كذلك، وصلاها أهل كل محلة، وأهل كل قرية، وأهل كل محلة في كل مدينة فيها إسلام، في كل يوم من عهده عليه السلام إلى يومنا هذا، لا يختلفون في ذلك، وكذلك الاذان والاقامة والغسل من الجنابة والوضوء.
ولا يشك مؤمن ولا كافر في أنه صلى الله عليه وسلم صام شهر رمضان الذي بين شوال وشعبان في كل عام، وصامه كل مسلم بالغ حاضر من رجل أو امرأة معه وفي زمانه وبعده في كل مكان، وفي كل عام إلى يومنا هذا ولا يشك مؤمن ولا كافر في أنه صلى الله عليه وسلم حج إلى مكة في ذي الحجة، وحج معه من لا يحصي عددهم إلا خالقهم عز وجل، ثم حج الناس إلى يومنا هذا كل عام إلى مكة في ذي الحجة.(4/529)
وهكذا جملة القرآن لا يشك مؤمن ولا كافر في أنه صلى الله عليه وسلم أتى به وذكر أن الله تعالى أوحاه إليه، وكذلك تحريم الام والابنة والجدة والخالة والعمة والاخت وبنت الاخت وبنت الاخ، والخنزير والميتة، وكثير سوى هذا.
قطع كل مؤمن وكافر أنه ص) وقف عليه وعلمه المسلمين، وعلمه المسلمون جيلا في كل زمان وكل مكان قطعا، إلا من أفرط جهله ولم يبلغه ذلك من بدوي أو مجلوب من أهل الكفر.
ولا يختلف في أنه إذا علمه فأجاب إليه فهو مسلم، وإن لم يجب إليه فليس مسلما، وأن في بعض ما جرى هذا المجرى أمورا حدث فيها خلاف بعد صحة الاجماع وتيقنه عليها، كالخمر والجهاد وغير ذلك، فإن بعض الناس رأى ألا يجاهد مع أئمة الجور.
وهذا يعذر لجهله وخطأه ما لم تقم عليه الحجة، فإن قامت عليه الحجة وتمادى على التدين بخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فهو كافر مشرك حلال الدم والمال لقوله تعالى: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) *.
لآية: فإن قيل: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن فهلا أخرجتم بهذه الاشياء من الايمان كما أخرجتم من الايمان بوجود الحرج مما قضى صلى الله عليه وسلم ،وترك تحكيمه.
قلنا: لانه صلى الله عليه وسلم أتى بالزاني والسارق والشارب، فحكم فيهم بالحكم في المسلمين لا بحكم الكافر فخرجوا بذلك من الكفر، وبقي من لم يأت بإخراجه عن الكفر على الكفر، والخروج عن الايمان كما ورد فيه النص، فهذا أحد قسمي الاجماع.
والثاني: شئ يوقن بالنقل المتصل الثابت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه وفعله
جميع من بحضرته، ومن كان مستضعفا أو غائبا بغير حضرته، كفتح خيبر وإعطائه إياها بعد قسمتها على المسلمين لليهود على أن يعملوها بأموالهم وأنفسهم، ولهم نصف ما يخرج منها من زرع أو تمر، على أن المسلمين يخرجونهم متى شاؤوا.
وهكذا كل ما جاء هذا المجئ، فهو إجماع مقطوع علصحته من كل مسلم علمه أو بلغه، على أنه قد خالف في هذا بعد ذلك من وهم أو خط، فعذر(4/530)
لجهله ما لم تقم عليه الحجة، وكما ذكرنا قبل ولا فرق فلا إجماع في الاسلام إلا ما جاء هذا المجئ، ومن ادعى إجماعا فيما عدا ما ذكرنا فهو كاذب آفك مفتر على جميع المسلمين، قائل عليهم ما لا علم له به.
وقد قال تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * وقال تعالى ذاما لقوم قالوا: * (إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) * وقال تعالى: * (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم مممن ربهم الهدى) * وقال تعالى: * (إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) *.
فصح بنص كلام الله تعالى - الذي لا يعرض عنه مسلم - أن الظن هو غير الحق وإذ هو غير الحق فهو باطل وكذب بلا شك، إذ لا سبيل إلى قسم ثالث، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : * (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) *.
قال أبو محمد: فهذا هو الحق الذي لا يحيل عليه من سمعه، ثم حدث بعد القرن الرابع طائفة قلت مبالاتها بما تطلق به ألسنتها في دين الله تعالى، ولم تفكر فيما تخبر به عن الله عز وجل، ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم ،ولا عن جميع المسلمين، قصرا لتقليد من لا يغني عنهم من الله شيئا، من أبي حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله، الذين قد برئوا إليهم عما هم عليه من التقليد، فصاروا إذا أعوزهم شغب ينصرون به فاحش خطأهم في خلافهم نص القرآن، ونص حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وبلحوا وبلدوا ونطحت أظفارهم في الصفا الصلد
أرسلوها إرسالا فقالوا: هذا إجماع، فإذا قيل لهم: كيف تقدمون على إضافة الاجماع إلى من لم يروا عنه في ذلك كله ؟ أما تتقون الله ؟ قال أكابرهم: كل ما انتشر في العلماء واشتهر ممن قالته طائفة منهم، ولم يأت على سائر خلاف له، فهو إجماع منهم لانهم أهل الفضل والذين أمر الله تعالى بطاعتهم، فمن المحال أن يسمعوا ما ينكرونه ولا ينكرونه، فصح أنهم راضون به، هذا كل ما موهوا به ما لهم متعلق أصلا بغير هذا، وهذا تمويه منهم ببراهين ظاهرة لا خفاء بها، نوردها إن شاء الله عز وجل وبه نستعين.
قال أبو محمد: أول ما نسألكم عنه أن نقول لكم، هذا لا تعلمون فيه خلافا، أيمكن أن يكون فيه خلاف من صاحب أو تابع أو عالم بعدهم لم يبلغكم أم لا يمكن ذلك البتة ؟ فإن قالوا عند ذلك: إن قال هذا القول عالم كان ذلك إجماعا، وإن(4/531)
قاله غير عالم لم يكن ذلك إجماعا.
قلنا لهم: قد نزلتم درجة وسؤالنا باق لذلك العالم بحسبه، كما أوردناه سواء بسواء، فإن قالوا: بل يمكن أن يكون في ذلك خلاف لم يبلغ ذلك العالم، قلنا: فقد أقررتم بالكذب، إذ قطعتم بأنه إجماع وجوزتم مع ذلك أن يكون الخلاف فيه موجودا.
فإن قالوا: بل يمكن أن يكون في ذلك خلاف قلنا: ومن أين لكم بأن ذلك لعالم أحاط بجميع أقوال أهل الاسلام ؟ ونحن نبدأ لكم بالصحابة رضي الله عنهم فنقول: بالضرورة ندري يقينا لا مرية فيه بأنهم كانوا عشرات ألوف فقد غزا صلى الله عليه وسلم حنينا في اثني عشر ألف إنسان، وغزا تبوك في أكثر من ذلك، وحج حجة الوداع في أضعاف ذلك، ووفد عليه من كل بطن من بطون قبائل العرب وفودا أسلموا وسألوه عن الدين، وأقرأهم القرآن، وصلوا معه، كلهم يقع عليه اسم الصحابة.
ولقد تقصينا من روى عنه فتيا في مسألة واحدة فأكثر، فلم
نجدهم إلا مائة وثلاثة وخمسين، بين رجل وامرأة فقط، مع شدة طلبنا في ذلك وتهممنا وليس منهم مكثرون إلا سبعة فقط وهم: عمر وابنه عبد الله، وعلي وابن عباس وابن مسعود وأم المؤمنين عائشة وزيد بن ثابت، والمتوسطون فهم ثلاثة عشر فقط، يمكن أن يوجد في فتيا كل واحد منهم جزء صغير.
فهؤلاء عشرون فقط، والباقون مقلون جدا، فيهم من لم يرو عنه إلا فتيا في مسألة واحدة فقط، ومنهم في مسألتين وأكثر من ذلك، يجتمع من فتيا جميعهم جزء واحد، هو إلى أصغر أقرب من الكبر، أفترى سائرهم لم يفت ولا مسألة ؟ إلا هذا والله هو الكذب البحت والافك والبهت، ثم ما قد نص الله تعالى في قرآنه من أن طوائف من الجن أسلموا.
قال: * (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنآ أحدا) * وقال تعالى حاكيا عنهم أنهم قالوا: * (وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك) * وأنهم قالوا: * (وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا) *.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أخبر بأن وفدا من الجن أتوه وأسلموا وبايعوه وعلمهم القرآن، فصح أن منهم مسلمين صالحين راشدين من خيار(4/532)
الصحابة، هذا لا ينكره مسلم، ومن أنكره كفر وحل دمه، فيا هؤلاء هبكم جسرتم على دعوى العلم بقول عشرات ألوف من الناس من الصحابة - وإن لم بلغكم عنهم فيما ادعيتم إجماعهم عليه كلمة - أتراكم يمكنكم الجسر على دعوى إجماع أولئك الصحابة من الجن على ما تدعون بظنكم الكاذ ب الاجماع عليه ؟ لئن أقدمكم على ذلك القاسطون من شياطين الجن فانقدتم لهم لتضاعف فضيحة كذبكم وليلوحن إفككم لكل صغير وكبير، ولئن ردعكم عن ذلك رادع ليبطل دعواكم الاجماع.
وهذا لا مخلص منه، فإنهم كسائر الصحابة، مأمورون
منهيون، مؤمنون موعودون متوعدون، ولا فرق.
إن قالوا: إن شرائعهم غير شرائعنا قلنا: كذبتم، بل شرائعنا وشرائعهم سواء لتصديق الله تعالى لهم في قولهم: * (وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون) * والاسلام واحدا إلا ما جاء به نص صحيح بأنهم خصوا به، كما خصوا أيضا طوائف من الناس كقريش بالامامة، وبني عبد المطلب بالخمس من الخمس، ونحو ذلك.
ثم انقضى عصر الصحابة رضي الله عنهم، وأتى عصر التابعين، فملؤوا الارض بلاد خراسان وهي مدن عظيمة كثيرة وقرى لا يحصيها إلا خالقها عز وجل، وكابل، وفارس، وأصبهان، والاهواز، والجبال وكرمان وسجستان ومكران، والسودان، والعراق، والموصل، والجزيرة وديار ربيعة وأرمينية وأذربيجان والحجاز واليمن والشام، ومصر والجزائر وإفريقية وبلاد البربر، وأرض الاندلس ليس فيها قرية كبيرة إلا وفيها من يفتي، ولا فيها مدينة إلا وفيها مفتون، فمن الجاهل القليل الحياء المدعي إحصاء أقوال كل مفتي في جميع هذه البلاد، مذ أفتوا إلى أن ماتوا ؟ إن كل واحد يعلم ضرورة أنه كذاب آفك ضعي ف الدين، قليل الحياء فبطل دعوى الاجماع كما بطل كل محال مدعي إلا حيث ذكرنا قبل فقط.
فإن قالوا: إنما يقول المرء: هذا إجماع عندي فقط، قلنا: قوله هذا كلاقول لان الاجماع عنده إذا لم يكن إجماعا عند غيره، فمن الباطل أن يكون الشئ مجمع عليه عند غير مجمع عليه معا.
وأيضا فإن قوله: هذا إجماع عندي باطل لانه منهي عن القطع بظنه، فمعنى قوله هذا إنما هو أنه يظن إجماع، وقد(4/533)
مضى الكلام في المنع من القطع بالظن، وقال تعالى: * (وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم) * الآية، وقال تعالى: * (هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم) *.
وهذا مالك يقول في موطئه - إذ ذكر وجوب رد اليمين على المدعي إذا نكل المدعى عليه - ثم قال: هذا ما لا خوف فيه عن أحد من الناس ولا في بلد من البلدان.
قال أبو محمد: وهذه عظيمة جدا، وإن القائلين بالمنع من رد اليمين اكثر من القائلين بردها.
ونا أحمد بن محمد بن الجسور، نا وهب بن مسرة، نا ابن وضاح، نا سحنون، نا ابن القاسم قال: نا مالك: ليس كل أحد يعرف أن اليمين ترد ذكر هذا في كتاب السرقة من المدونة.
هذا الشافعي يقول في زكاة البقر: في الثلاثين تبيع، وفي الاربعين مسنة لا أعلم فيه خلافا، وإن الخلاف في ذلك عن جابر بن عبد الله، وسعيد بن المسيب وقتادة، وعمال ابن الزبير بالمدينة، ثم عن إبراهيم النخعي، وعن أبي حنيفة: لاشهر من أن يجهله من يتعاطى العلم، إلى كثير لهم جدا من مثل هذا إلا من قال لا أعلم خلافا، فقد صدق عن نفسه، ولا ملام عليه، وإنما البلبلة والعار والنار على من أقدم على الكذب جهارا، فادعى الاجماع إذ لم يعلم خلافا.
وقد ادعوا أن الاجماع على أن القصر في أقل من ستة وأربعين ميلا غير صحيح وبالله إن القائلين من الصحابة والتابعين بالقصر في أقل من ذلك لاكثر أضعافا من القائلين منهم بالقصر في ستة وأربعين ميلا ولو لم يكن لهؤلاء الجهال الذين لا علم لهم بأقوال الصحابة والتابعين، إلا الروايات عن مالك بالقصر في ستة وثلاثين ميلا، وفي أربعين ميلا، وفي اثنين وأربعين ميلا، وفي خمسة وأربعين ميلا، ثم قوله: من تأول فأفطر في ثلاثة أميال في رمضان لا يجاوزها فلا شئ عليه إلا القضاء فقط.
وادعوا الاجماع على أن دية اليهودي والنصراني تجب فيها ثلث دية المسلم لا أقل، وهذا باطل.
روينا عن الحسن البصري بأصح طريق أن ديتهما كدية(4/534)
المجوسي ثمانمائة درهم، وادعوا الاجماع أنه يقبل في القتل شاهدان.
وقروينا عن الحسن البصري بأصح طريق: أنه لا يقبل في القتل إلا أربعة كالزنى، ومثل هذا لهم كثير جدا، كدعواهم الاجماع على وجوب خمس من الابل في الموضحة، وغير ذلك كثير جدا، ولقد أخرجنا على أبي حنيفة والشافعي ومالك مئين كثيرة من المسائل، قال فيها كل واحد منهم بقول، لا نعلم أحدا من المسلمين قاله قبله، فاعجبوا لهذا.
فقالوا: إنما نقول ذلك، إذا انتشر القول في الناس فلم يحفظ عن أحد من العلماء إنكار ذلك، فحينئذ نقول: إنه إجماع لما ذكرنا من أنهم يقرون على ما ينكرون كما نقول في أصحاب مذهب الشافعي وأصحاب مذهب مالك وأصحاب مذهب أبي حنيفة، وإن لم يرو لنا ذلك عن واحد منهم، وكما نقول ذلك في أهل البلاد التي غلبت عليها الشبه والروافض، والاعتزال ومذهب الخوارج، أو مذهب مالك، أو الشافعي أو أبي حنيفة، وإن لم يرو لنا ذلك عن كل واحد من أهلها.
قلنا لهم: لم تخلصوا من هذا القول الذي هو حسبكم واحد منهم في كتابكم وآخرها إلا على كذبتين زائدتين على كذبكم في دعوى الاجماع، كنتم في غنى عن اختفائهما إحداهما: قولكم إنكم تقولون ذلك إذا انتشر قول طائفة من الصحابة أو من بعدهم فقالوا ههنا: فمن هذا نسألكم من أين علمتم بانتشار ذلك القول ؟ ومن أين قطعتم بأنه لم يبق صاحب من الجن والانس إلا علمه ؟ ولا يفتي في شرق الارض ولا غربها عالم إلا وقد بلغه ذلك القول ؟ فهذه أعجوبة ثانية، وسوأة من السوءات لا يجيزها إلا ممخرق يريد أن يطبق عين الشمس نصرا لتقليده، وتمشية لمقولته المنحلة عما قريب، ثم يندب حين لا تنفعها الندامة.
والكذبة الاخرى قولكم: فلم ينكروها ؟ فحتى لو صح لكم أنهم كلهم علموها، فمن أين قطعتم بأنهم لم ينكروها، وأنهم رضوها ؟ وهذه طامة أخرى.
ونحن نوجدكم أنهم قد علموا ما أنكروا، وسكنوا عن إنكاره لبعض الامر.
نا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود، نا أحمد بن دحيم بن خليل، نا إبراهيم بن حمادة نا(4/535)
إسماعيل بن إسحاق القاضي، نا علي بن عبد الله - هو ابن المديني - نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، نا أبي عن محمد بن إسحاق الزهري - محمد بن مسلم بن شهاب - عن عبيد الله بن عبد الله بن مسعود أنه وزفر بن أوس بن الحدثان أتيا عبد الله بن عباس فأخبرهما بقوله في إبطال العول وخلافه لعمر بن الخطاب في ذلك، قال، فقال له زفر: فما منعك يا ابن عباس أن تشير عليه بهذا الرأي ؟ قال: هبته.
نا حمام بن أحمد، نا ابن مفرج، نا ابن الاعرابي، ثنا الدبري، نا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه أن أبا أيوب الانصاري كان يصلي قبل خلافة عمر ركعتين بعد العصر، فلما استخلف عمر تركهما، فلما توفي عمر ركعهما، قيل له، ما هذه ؟ قال: إن عمر كان يضرب الناس عليهما.
نا جهم، نا ابن مفرج، نا ابن الاعرابي الديري، نا عبد الرزاق، عن معمر أخبرني هشام بن عروة، عن أبيه: أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، جاء عمر بن الخطاب بأمة سوداء كانت لحاطب، فقال: إن العتاقة أدركت وقد أصابت فاحشة وقد أحصنت، فدعاها عمر فسألها عن ذلك.
فقالت: نعم من مرعوش بدرهمين، وهي حينئذ تذكر ذلك لا ترى به بأسا، فقال عمر لعلي وعبد الرحمن وعثمان: أشيروا علي، فقال علي وعبد الرحمن: نرى أن ترجمها، فقال عمر لعثمان: أشر، فقال: قد أشار عليك أخواك، قال: عزمت عليك إلا أشرت علي برأيك، قال: فإني لا أرى الحد إلا على من علمه، وأراها تستهل به كأنها لا ترى به بأسا، فقال عمر: صدقت والذي نفسي بيده، ما الحد إلا عمن علمه.
فضربها عمر مائة وغربها عاما.
وبه عبد الرزاق، نا ابن جريج، أخبرني هشام بن عروة، عن أبيه أن يحيى
بن عبد الرحمن بن حاطب حدثه، قال: توفي عبد الرحمن بن حاطب وأعتق من صلى من رقيقه وصام، وكانت له نوبية قد صلت وصامت وهي أعجمية لم تفقه، فلم يرعها إلا حبلها وكانت ثيبا فذهب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فحدثه فأرسل إليها عمر فسألها فقال: أحبلت ؟ فقال: نعم من مرعوش بدرهمين، وإذا هي تستهل به لا تكتمه فصاد ف عنده علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف(4/536)
وعثمان، فقال: أشيروا علي، وكان عثمان جالسا فاضطجع، فقال علي وعبد الرحمن: قد وقع عليها الحد، فقال عمر: أشر علي يا عثمان، قال: قد أشار عليك أخواك، قال: أشر علي أنت.
قال عثمان: أراها تستهل به كأنها لا تعلمه، وليس الحد إلا على من علمه، فأمر بها عمر فجلدت مائة وغربها، ثم قال لعثمان: صدقت، والذي نفسي بيده ما الحد إلا على من علمه.
فهذا ابن عباس يخبر أنه منعته الهيبة من الانكار على عمر فيما يقطع ابن عباس أنه الحق، ويدعو فيه إلى المباهلة عند الحجر الاسود، وهذا أبو أيوب رجل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعي الانكار على عمر ضربه على الصلاة بعد العصر وبعيد ضربه، وهذا عثمان سكت وقد رأي أمرا أنكره في أشنع الاشياء وأعظمها وهو دم حرام يسفك بغير واجب، سأله عمر فتمادى على سكوته إلى أن عزم عليه وقد يسكت المرء، لانه لم يلح له الحق، أو يسكت موافقا ثم يبدو له وجه الحق، أو رأى آخر بعد مدة فينكر ما كان يقول ويرجع عنه، كما فعل علي في بيع أمهات الاولا، وفي التخيير بعد موافقته لعمر على كلا الامرين أو ينكر فلا يبلغنا إنكاره، ويبلغ غيرنا في أقصى المشرق وأقصى المغرب، أو أقصى اليمين، أو أقصى إرمينية.
وأما تنظيركم بأهل مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة، والبلاد التي ظهر فيها
وغلب عليها قول ما، فهذا أعظم حجة عليكم لانه لا يختلف اثنان أن جمهور القائلين بمذهب رجل ممن ذكرتم لم يخلو قط من خلاف لصاحبهم في المسألة والمسألتين والمسائل وكذلك لم تخل قط البلاد المذكورة من مخالف لمذهب أهلها ولا أكثر من غلبة مذهب مالك على الاندلس وإفريقية، وقد كان طوائف علماء مخالفون له جملة، قائلون بالحديث، أو بمذهب الظاهر، أو مذهب الشافعي.
وهذا أمر مشاهد في كل وقت، ولا أكثر من غلبة الاسلام على البلاد التي غلب عليها، ولله الحمد، وإن فيها مع ذلك يهود ونصارى وملحدين كثيرا جدا.
فظهر فساد تنظيرهم عيانا، وعاد ما موهوا به مبطلا لدعواهم، وثبت بهذا(4/537)
حتى لو انتشر القول وعرفه جميع العلماء، وإن في الممكن أن يخالفه جمهورهم أو بعضهم، ثم هذا عمر قد جلد التي لم يرد عليها الرجم لجهلها، وهي محصنة مائة وغربها عاما، بحضرة علي وعبد الرحمن، وعثمان، ولم ينكروا عليه ذلك فإن كان عندهم إجماعا فيقولوا به، وليس من خصومنا الحاضرين أحد يقول بهذا، وإن كان سكوتهم ليس موافقة ولا رضى، فليتركوا هذا الاصل الفاسد المهلك في الدين لمن تعلق به، ولا بد من أحدهما بالتلاعب بدين الله عز وجل، وقد أريناهم سكوتهم رضي الله عما يقولون به، فمن الجاهل المنكر لهذا ؟ حتى لو صح لهم أنهم عرفوه، فكيف وهذا لا يصح أبد الابد على ما بينا.
فإن قال قائل: فإذ هو كما قلتم، فمن أين قطعتم بالخلاف فيه وإن لم يبلغكم وهلا أنكرتم ذلك على أنفسكم كما أنكرتموه علينا إذ قلنا: إنه إجماع قلنا: نعم ؟ فقلنا ذلك لبرهانين ضروريين قاطعين.
أحدهما: أن الاصل من الناس وجود الاختلاف في آرائهم، لما قدمنا قبل اختلاف أغراضهم وطبائعهم، والثاني: لان الله تعالى بذلك قضى، إذ يقول: * (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم
ربك ولذلك خلقهم) * فصح إن الاصل هو الاختلاف الذي أخبر تعالى أننا لا نزال عليه، والذي له خلقنا، إلا من استثنى من الاقل.
وبرهان ثالث: وهو الذي لا يسع أحدا خلافه، وهو أن ما ادعيتم فيه الاجماع بالظن الكاذب كما قدمنا، لا يخلو ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما أصلا.
إما أن تدعوه في أمر موافق لنص القرآن أو السنة الثابتة المسندة، فهذا أمر لا نبالي اتفق عليه أم اختلف فيه، إنما الغرض أن يؤخذ بالنص في ذلك، سواء أجمع الناس أم اختلفوا، ولا معنى حينئذ للاحتجاج بدعوى الاجماع عليه والحجة قائمة بالنص الوارد فيه، فلا حاجة إلى القطع بالظن الكاذب في دعوى الاجماع البتة، وإما أن تدعوه في أمر لا يوافقه نص قرآن ولا سنة صحيحة مسندة بل هو مخالف لها في عمومها أو ظاهرهما، لتصححوه بدعواكم الكاذبة في أنه إجماع فهذه كبيرة من الكبائر، وقصد منكم إلى رد اليقين بالظنون، وإلى(4/538)
مخالفة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بدعوى كاذبة مفتراة، وهذا لا يحل.
وإذا كان هذا القسم، فنحن نقطع حينئذ، ونثبت أنه لا بد من خلاف ثابت فيما ادعيتموه إجماعا، لان الله تعالى قد أعاذ أمة نبيه صلى الله عليه وسلم من الاجماع على الباطل والضلال لمخالفة القرآن وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فأنتم لم تقتنعوا بأن كذبتم على جميع الامة حتى نسبتم إليهم الاجماع على الخطأ في مخالفة القرآن والسنة الثابتة، وهذه من العظائم التي نعوذ بالله العظيم من مثلها، وليس ههنا قسم ثالث أصلا، لما قد أوردنا من البراهين على أنه لا يمكن وقوع نازلة لا يكون حكمها منصوصا في القرآن وبيان النبي صلى الله عليه وسلم إما باسمه الاعم وإما باسمها الاخص.
قال أبو محمد: واعلموا أن إقدام هؤلاء القوم، وجسرهم على معنى الاجماع،
حيث وجد الاختلاف، أو حيث لم يبلغنا ولكنه ممكن أن يوجد أو مضمون أن يوجد - فإنه قول خالفوا فيه الاجماع حقا، وما روي قط عن صاحب ولا عن تابع القطع بدعوى الاجماع حتى أتى هؤلاء الذين جعلوا الكلام في دين الله تعالى مغالبة ومجاذبة، وتحققا بالرياسة على مقلدهم وكفى بهذا فضيحة.
وأيضا قد تيقن إجماع المسلمين على أنه لا يحل لاحد أن يقطع بظنه اليقين فيه، فهذا إجماع آخر، فقد خالفوه في هذه المسألة، نا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي، نا ابن مفرج، نا إبراهيم بن أحمد بن فراس، نا محمد بن علي بن زيد، نا سعيد بن منصور، نا سفيان بن عيينة، عن مسعر بن كدام، عن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، قال: قال رجل لابن مسعود: أوصني بكلمات جوامع، فقال له ابن مسعود: ا عبد الله ولا تشرك به شيئا، وزل مع القرآن حيث زال، ومن أتاك بحق فاقبل منه، وإن كان بعيدا بغيضا، ومن أتاك بالباطل فاردده وإن كان قريبا حبيبا.
قال أبو محمد: هذه جوامع الحق، اتباع القرآن وفيه اتباع بيان الرسول، وأخذ الحق ممن أتى به، ولئن كان لا خير فيه، وممن يجب بغضه وإبعاده، وألا يقلد خطأ فاضل، وإن كان محبوبا واجبا تعظيمه.
نا حمام بن أحمد، نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي، نا عبد الله بن يونس المرادي، نا بقي بن مخلد، نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا معاوية(4/539)
بن هشام، نا سفيان - هو الثوري - عن جبلة بن عامر بن مطر، قال: قال لي حذيفة في كلام: فأمسك بما أنت عليه اليوم، فإنه الطريق الواضح، كيف أنت يا عامر بن مطر، إذا أخذ الناس طريقا مع أيهما تكون ؟.
قال عامر فقلت له: مع القرآن، أحيا مع القرآن وأموت، قال له حذيفة: فأنت إذا أنت.
قال أبو محمد: اللهم إني أقول كما قال عامر: أكون والله مع القرآن أحيا متمسكا به، وأموت إن شاء الله متمسكا به، ولا أبالي بمن سلك غير طريق القرآن،
ولو أنهم جميع أهل الارض غيري.
قال أبو محمد: وهذا حذيفة يأمر بترك طريق الناس، واتباع طريق القرآن إذا خالفه الناس.
نا أحمد بن محمد الطلمنكي، نا ابن مفرج، نا أحمد بن فريس، نا محمد بن علي بن زيد، نا سعيد بن المنصور، نا هشيم، أخبرنا مغيرة، عن الشعبي عن عبيدة السلماني، أن عمر بن الخطاب وعليا أعتقا أمهات الاولاد، قال عبيدة:
قال علي: فقضى بذلك عمر حتى أصيب، ثم ولي عثمان فقضى بذلك حتى أصيب فلما وليت رأيت أن أرقهن.
قال أبو محمد: هذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لم ير حكم عمر ثم حكم عثمان - المشتهر المنتشر الفاشي، والذي وافقهما عليه - إجماعا - بل سارع إلى خلافه إذ أراه اجتهاده الصواب في خلافه، ولعمر الله، إن أقل من هذا بدرجات ليقطع هؤلاء المجرمون بأنه إجماع.
والسند المذكور قيل إلى سعيد بن منصور، نا عيسى بن يون س بن أبي إسحاق السبيعي، نا عبد الملك بن سليمان، عن أبي إسحاق السبيعي، عن الشعبي قال: أحرم عقيل بن أبي طالب في موردتين، فقال له عمر: خالفت الناس، فقال له علي: دعنا منك، فإنه ليس لاحد أن يعلمنا السنة.
فقال له عمر: صدقت فهذا علي وعقيل لم ينكرا خلاف الناس، ورجع عمر عن قوله إلى ذلك إذ لم يكن ما أضافه إلى الناس سنة يجب اتباعها، بل السنة خلافه، فلا ينكر خلاف جمهور الناس للسنة.
وبه إلى سعيد بن منصور، نا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء بن أبي رياح قال: قلت لابن عباس، إن الناس لا يأخذون بقولي ولا بقولك، ولو مت أنا وأنت ما اقتسموا ميراثنا على ما نقول.
قال ابن عباس: فليجتمعوا فلنضع أيدينا على الركن ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين، ما حكم الله بما قالوا.(4/540)
قال أبو محمد: فهذا ابن عباس بأصح إسناد عنه، لا يلتفت إلى الناس ولا
إلى ما اشتهر عندهم، وانتشر من الحكم بينهم، إذا كان خلافا لحكم الله تعالى.
في مثل هذا يدعي من لا يبالي بالكذب الاجماع، وبه إلى سعيد بن منصور، نا سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن أبي زيد.
أنه سمع ابن عباس يقول في قول الله عز وجل: * (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) * قال ابن عباس: لم يؤمن بهذه الآية أكثر الناس، وإني لآمر هذه أن تستأذن علي - يعني جارية له.
قال أبو محمد: وهذا كالذي قبله، نا يحيى بن عبد الرحيم، نا أحمد بن دحيم، نا إبراهيم بن حماد، نا إسماعيل بن إسحاق، نا علي بن المديني، نا سفيان بن عيينة، نا مصعب بن عبد الله بن الزبير، عن أبي مليكة، عن ابن عباس.
قال: أمر ليس في كتاب الله عز وجل، ولا في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وستجدونه في الناس كلهم - ميراث الاخت مع البنت.
فهذا ابن عباس لم ير الناس كلهم حجة على نفسه، في أن يحكم بما لم يجد في القرآن ولا في السنة.
نا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب، نا أحمد بن محمد، نا محمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا يحيى بن يحيى.
قال: قرأت على مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن عبيد بن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من الصحابة يصنعها.
فقال: وما هن يا ابن جريج ؟ قال: رأيتك لا تمس من الاركان إلا اليمانيين، ورأيتك تلبس النعال السبتية، ورأيتك تصبغ بالصفرة، ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا أروا الهلال ولم تهل أنت حتى يكون يوم التروية.
فقال له ابن عمر، أما الاركان فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس إلا اليمانيين، وأما النعال السبتية، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر، ويتوضأ فيها، فأنا أحب أن ألبسها، وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها، فأنا أحب أن أصبغ، بها وأما الاهلال فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته.
قال أبو محمد: فهذا ابن عمر رضي الله عنه - بأصح إسناد إليه - لم ينكر مخالفته لجميع أصحابه فيما اقتدى فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولا أنكر على ابن جريج إخباره بأن أصحابه يخالفونه، فصح أنه لم ير أصحابه كلهم قدوة فيما وافق(4/541)
وحدانية رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وهذا هو الحق الذي لا يسع أحدا القصد إلى خلافه.
قال أبو محمد: ثم هذا أبو حنيفة يقول: ما جاء عن الله تعالى فعلى الرأس والعينين، وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعا وطاعة، وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم، تخيرنا من أقوالهم ولم نخرج عنهم، وما جاء عن التابعين، فهم رجال ونحن رجال، فلم ينكر عن نفسه مخالفة التابعين، وإنما لم ير الخروج عن أقوال الصحابة توقيرا لهم.
وهذا مالك: يفتي بالشفعة في الثمار ويقول - إثر فتياه به - وإنه لشئ ما سمعته ولا بلغني أن أحد قاله: فهذا مالك لم ير القول بما لم يسمع عن أحد قال به خلافا للاجماع، كما يدعي هؤلاء الذين لا معنى لهم، وهذا الشافعي يقول في رسالته المصرية، ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعا.
قال حمام بن أحمد، ويحيى بن عبد الرحمن بن مسعود قال حمام: نا عباس بن أصبغ، وقال يحيى: نا أحمد بن سعيد بن حزم، ثم اتفق عباس وأحمد قالا جميعا، نا محمد بن عبد الملك بن أيمن، نا عبد الرحمن بن حنبل، قال: سمعت أبي يقول: ما يدعي فيه الرجل الاجماع هو الكذب، من ادعى الاجماع فهو كذاب لعل الناس قد اختلفوا ما بد به ؟ ولم ينتبه إليه فليقل: لا نعلم الناس اختلفوا، دعوى بشر المريسي والاصم، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، أو لم يبلغني ذلك.
قال أبو محمد: صدق أحمد ولله دره، وبئس القدوة بشر بن عتاب المريسي، وعبد الرحمن بن كيسان الاصم، ولعمري إنهما لمن أول من هجم على هذه الدعوى، وهما المرءان يرغب قولهما، نا يوسف بن عبد الله النمري، نا عبيد الله بن محمد، نا
الحسن بن سلمون، نا عبد الله بن علي بن الجارود، نا إسحاق بن منصور، قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه وقد ذكر له قول أحمد بن حنبل في مسألة فقال إسحاق: أجاد، لقد ظننت أن أحدا لا يتابعني عليها، فهذا إسحاق لا ينكر القول بما يقع في تقديره أنه لا يتابعه أحد عليه، إذا رأى الحق فيما قاله به من ذلك.
قال أبو إسحاق: فهؤلاء الصحابة والتابعون، ثم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وداود، كلهم يوجب القول بما أداه إليه اجتهاده أنه الحق، وألا يعلم قائلا به قبله، فبمن تعلق هؤلاء القوم ؟ ليت شعري بل بالمريسي والاصم، كما قال أحمد رحمه الله.(4/542)
قال أبو محمد: ولئن كان ما اشتهر من قول طائفة من الصحابة أو التابعين، ولم يعرف له خلاف - إجماعا فيما في الار ض أشد خلافا للاجماع ممن قلدوه دينهم مالك والشافعي، وأبي حنيفة، ولقد أخرجنا لهمئين من المسائل ليس منها مسألة إلا ولا يعرف أحد قال بذلك القول قبل الذي قال من هؤلاء الثلاثة فبئس ما وسموا به من قلدوه دينهم.
وقد ذكر محمد بن جرير الطبري أنه وجد للشافعي أربعمائة مسألة خالف فيها الاجماع.
وهكذا القول حرفا حرفا في أقوال ابن أبي ليلى، وسفيان والاوزاعي وزفر وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زيادة وأشهب وابن الماجشون والمزني وأبي ثور وأحمد وإسحاق وداود ومحمد بن جرير، ما منهم أحد إلا وقد صحت عنه أقوال في الفتيا لا يعلم أحد من العلماء قالها قبل ذلك القائل ممن سمينا.
وأكثر ذلك فيما لا شك في انتشاره واشتهاره.
ثم ليعلموا أن كل فتيا جاءت عن تابع لم يرو عن صاحب في تلك المسألة قول، فإن ذلك التابع قال فيها بقول، ولا يعرف أن أحدا قاله، فالتابعون على هذا القول
الخبيث مخالفون للاجماع كلهم أو أكثرهم، ومخالف الاجماع عند هؤلاء الجهال كافر، فالتابعون على قولهم كفار، ونعوذ بالله العظيم من كل قول أدى إلى هذا.
واعلموا أن الذي يدعي ويقطع بدعوى الاجماع في مثل هذا، فإنه من أجهل الناس بأقوال الناس واختلافهم.
وحسبنا الله ونعم الوكيل، فظهر كذب من ادعى أن ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع، وبالله تعالى التوفيق.
وأعجب شئ في الدنيا أنهم يدعون في مثله هذا أنه إجماع، ثم يأتون إلى الاجماع الصحيح المقطوع به المتيقن، فيخالفونه جهارا، وهو: أنه لا شك عند أحد من أهل العلم أنه لم يكن قط في عصر الصحابة رضي الله عنهم أحد أتى إلى قول صاحب أكبر منه، فأخذ به كله، ورد لقوله نصوص القرآن وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وجعل يحتال لنصره بكل ما أمكنه من حق أو باطل أو مناقضة.
ثم لا شك عند أحد من أهل العلم في أنه لم يكن قط في عصر التابعين أحد أتى إلى قول تابع أكبر منه، أو إلى قول صاحب فأخذ به كله، كما ذكرنا، ثم لا خلاف بين أحد من أهل العلم في أنه لم يكن في القرن الثالث أحد أتى إلى(4/543)
قول تابع، أو قول صاحب فأخذ به كله، فهذا الاجماع المقطوع به المتيقن في ثلاثة أعصار متصلة، ثم هي الاعصار المحمودة، قد خالفها المقلدون الآخذون بأقوال أبي حنيفة فقط، أو بأقوال مالك فقط، أو بأقوال الشافعي فقط، وهو عمل محدث، مخالف للاجماع الصحيح، فلهذا أعجبوا فهو مكان العجب حقا أن يخالفوا الاجماع المتيقن جهارا، ثم يدعون الاجماع حيث لا إجماع، ونعوذ بالله العظيم من الضلال.
فصل في من قال بأن خلاف الواحد من الصحابة أو ممن بعدهم لا يعد خلافا وأن قول من سواه فيمن خالفهم فيه إجماع
قال أبو محمد: ذهب محمد بن جرير الطبري إلى أن خلاف الواحد لا يعد خلافا، وحكى أبو بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي: أن أبا حازم عبد العزيز بن عبد الحميد القاضي الحنفي فسخ الحكم بتوريث بيت المال ما فضل عن ذوي السهام وقال: إن زيد بن ثابت لا يعد خلافا على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
قال أبو محمد: فيقال لهم: ما معنى قولكم لا يعد خلافا ؟ أتنفون وجو خلاف ؟ فهذا كذب تدفعه المشاهدة والعيان، أم تقولون: إن الله تعالى أمركم أتسموه خلافا ؟ أو رسوله صلى الله عليه وسلم أمركم بذلك ؟ فهذه شر من الاولى، لانه كذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم أم تقولون: إن قليل ذلك الخلاف من الضعة والسقوط في المسلمين - إما لفسقه وإما لجهله - بحيث لا يكون وجود قوله إلا كعدمه ففي هذا ما فيه، إذ ينزلون زيد بن ثابت أو ابن عباس أو غيرهما من التابعين الائمة في هذه المنزلة.
ولعمري إن من أنزل عالما - من الصحابة رضي الله عنهم أو من التابعين أو من أئمة المسلمين - هذه المنزلة لاحق بهذه الصفة وأولى بها، ولا يخرج قولكم من إحدى هذه الثلاث قبائح، إذ لا رابع لها.
فإن قالوا: إنما قلنا: إنه خطأ وشذوذ قلنا: قد قدمنا أن كل من خالف أحدا(4/544)
فقد شذ عنه، وكل قول خالف الحق فهو شاذ عن الحق، فوجب أن كل خطأ فهو شذوذ عن الحق، وكل شذوذ عن الحق فهو خطأ، وليس كل خطأ خلافا للاجماع، فليس كل شذوذ خلافا للاجماع، ولا كل حق إجماعا، وإنما نكلمكم ههنا في قولكم: ليس خلافا، ولكون ما عداه إجماعا، فقد ظهر كذ ب دعواهم وفسادها والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: ووجدناهم احتجوا بروايلا تصح: عليكم بالسواد الاعظم ووجدنا من طريق محمد بن عبد السلام الخشني، عن المسيب بن واضح، عن المعتمر بن سليمان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تجتمع أمة محمد على ضلالة أبدا، وعليكم بالسواد الاعظم فإنه من شذ شذ إلى النار.
قال أبو محمد: المسيب بن واضح منكر الحديث لا يحتج به، روى المنكرات منها: أنه أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،من ضرب أباه فاقتلوه وهذا لا يعرف ولو صح الخبر المذكور لكان معناه من شذ عن الحق، لا يجوز غير ذلك، وبما أنبأناه أحمد بن عمر بن أنس العذري، نا عبد الله بن الحسين، نا عقال، نا إبراهيم بن محمد الدينوري، نا محمد بن أحمد بن الجهم، نا أبو قلابة، نا وهب بن جرير بن حازم قال: سمعت عبد الملك بن عمير يحدث عن جابر بن سمرة قال: خطبنا عمر بن الخطاب فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كقيامي فيكم فقال: من أحب منكم بحبوحة الجنة فليلتزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد.
نا عبد الله بن ربيع، نا محمد بن معاوية، نا أحمد بن شعيب، أخبرني إبراهيم بن الحسن، نا حجاج بن محمد، نا يوسف بن أبي إسحاق، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الله بن الزبير قال: قام عمر بن الخطاب أمير المؤمنين على باب الجابية فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا كقيامي فيكم فقال: يا أيها النا س أكرموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب، حتى إن الرجل يحلف قبل أن يستحلف، ويشهد قبل أن يستشهد، فمن سره أن ينال بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة فإن يد الله فوق الجماعة، ولا يخلون رجل بامرأة، فإن الشيطن اثالثهما، ألا إن الشيطان مع واحد، وهو من الاثنين أبعد، من سائته سيئته وسرته حسنته فهو المؤمن.(4/545)
وبه إلى أحمد بن شعيب، نا الربع بن سليمان، نا إسحاق بن بكر، عن يزيد بن عبد الله، عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر.
قال: إن عمر بن الخطاب لما قدم الشام قام فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا كقيامي فيكم.
فقال: أكرموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب فيحلف الرجولا يستحلف ويشهد ولا يستشهد فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطا مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد.
وبه إلى أحمد بن شعيب، نا إسحاق بن إبراهيم - وهو ابن راهويه - نا جرير - هو ابن عبد الحميد - عن عبد الملك بن مالك بن عمر، عن جابر بن سمرة قال: خطب عمر بن الخطاب الناس بالجابية، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا، فقال: أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب فيحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد ولا يستشهد فمن أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد.
وبه إلى أحمد بن شعيب، نا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - نا جرير - هو ابن عبد الحميد - عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة قال: خطب عمر بن الخطاب الناس بالجابية فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا فقال: أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى إن الرجل ليحلف على اليمين قبل أن يستحلف ويشهد على الشهادة قبل أن يستشهد عليها، فمن أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد، وهومن الاثنين أبعد، لا يخلو رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان ألا من كان منكم تسوءه سيئته وتسره حسنته فهو مؤمن.
قال أبو محمد: هذا الخبر لم يخرجه أحد ممن اشترط الصحيح، ولكنا نتكلم فيه على علاته، فنقول وبالله تعالى نتأيد: إنه إن صح فإن ما ذكر فيه من الجماعة إنما هي بلا شك جماعة الحق.
ولو لم يكونوا إلا ثلاثة من الناس، وقد أسلمت خديجة رضي الله عنها أم المؤمنين وسائر الناس كفار، فكانت على الحق وسائر
أهل الارض على ضلال.
ثم أسلم زيد بن حارثة وأبو بكر رضي الله عنهم، فكانوا(4/546)
بلا شك هم الجماعة، وجميع أهل الارض على الباطل.
وقد نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، فكان على الحق واحدا، وجميع أهل الارض على الباطل والضلال، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن زيد بن عمر بن نفيل يبعث يوم القيامة أمة وحده.
قال أبو محمد: وذلك لان زيدا آمن بالله تعالى وحده، وجميع أهل الارض على ضلالة.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن هذا الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء قيل: ومن هم يا رسول الله قال: النزاع من القبائل وقال صلى الله عليه وسلم : الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة وقال صلى الله عليه وسلم : إن الساعة لا تقوم إلا على من لا خير فيهم نا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا محمد بن عباد وابن أبي عمر كلاهما، عن مروان بن معاوية الفزاري، عن يزيد بن كيسان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بدأ الاسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء.
وبه إلى مسلم، نا الفضل بن سهل، نا شبابة به سوار، نا عاصم - هو ابن محمد العمري - عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الاسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ نا أحمد بن محمد بن الجسور، نا محمد بن أبي دليم، أخبرنا ابن وضاح، أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا حفص بن غياث، عن الاعمش، عن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي الاحوص، عن عبد الله بن مسعود: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الاسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء ؟ قال: النزاع من القبائل.
ويالسند المتقدم إلى مسلم، نا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
لا تقوم الساعة على احد يقول لا إله إلا الله.
وقال الله عز وجل - وذكر أهل الحق - فقال: * (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ماهم) * وقال تعالى: * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * في سورة يوسف وقال تعالى: * (وإن تطع أكثر من في الارض يضلوك) * وقال تعالى: * (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) * وكلام الله تعالى حق وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حق، والحق لا يتعارض.(4/547)
وهذه النصوص التي أوردناها هي قرآن منزل، أو أثر في غاية الصحة منقول نقل التواتر، وكلاهما في غاية البيان، فالاقل في الدين هم أهل الحق، وأن أكثر الناس على ضلال وعلى جهل، وأن الواحد قد يكون هو المصيب، وجميع الناس هم على باطل، لا تحتمل هذه النصوص شيئا غير هذا البتة، فلو صحت تلك الآثار التي قدمنا، لوجب ضرورة أنها ليست في الدين، لكن في شئ آخر، وبالضرورة تدري أنها ليست على عمومها، لان انفراد الرجل وحده في بيته غير منكر: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده.
وبرهان كا ف قاطع لكل من له أقل فهم في أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد قط بالجماعة المذكورة كثرة العدد لا يشك في ذلك، لان النصارى جماعة واليهود جماعة، والمجوس وعباد النار جماعة، أفترونه صلى الله عليه وسلم أراد هذه الجماعات ؟ حاشا لله من هذا، فإن قالوا: إنما أراد جميع المسلمين، قلنا: فإن المنتمين إلى الاسلام فرق، فالخوارج جماعة، والروافض جماعة، والمرجئة جماعة، والمعتزلة جماعة، أفترونه عليه السلام أراد شيئا من هذه الجماعات ؟ حاشا له من ذلك.
فإن قالوا: إنما أراد أهل السنة، قلنا: أهل السنة فرق، فالحنفية جماعة، والمالكية جماعة، والشافعية
جماعة، وأصحاب الحديث الذين لا يتعدونه جماعة فأي هذه الجماعات أراد صلى الله عليه وسلم ؟ وليس بعضها أولى بصحة الدعوى من بعض، فصح يقينا قطعا كما أن الشمس طالعة من مشرقها أنه عليه السلام لم يرد قط إلا جماعة أهل الحق، وهم المتبعون للقرآن، ولما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من بيانه للقرآن بقوله وفعله.
وهذه هي طريق جميع الصحابة رضي الله عنهم، وخيار التابعين من بعدهم، حتى حدث التقليد المهلك، فإذا لا شك في كل هذا، وقد بينا أن أمره عليه السلام بلزوم الجماعة، إنما أراد يقينا أهل الحق، وإن كانوا أقل من أهل الباطل بلا شك، لم يرد كثرة العدد قط.
فلنتكلم بعون الله تعالى وقوته على ما في تلك الآثار، من أن الشيطان مع الفذ أو الواحد، وهو من الاثنين أبعد.
وقد أوضحنا بما لا إشكال فيه، أنه عليه السلام لم يرد بذلك الدين، بما لو أوردنا آنفا من النصوص، وببرهان آخر، وهو قوله:(4/548)
وهو من الاثنين أبعد فلو أراد الدين، لكان المنفرد بقوله مصاحبا للشيطان، فإن استضاف إليه آخر بعد عنه الشيطان، فعاد الباطل حقا بدخول إنسان فيه، وهذا باطل متيقن ليست هذه صفة الدين، بل الباطل باطل، وإن دخل فيه آلاف فصح بلا شك أنه لم يرد الدين، ولاعموم التوحيد بكل حال فقد صح أنه إنما عنى خاصا من الاحوال بلا شك.
فإذا ذلك كذلك فلا يجوز أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه أراد حال كذلك إلا بنص صحيح عنه بذلك، وإن الناسب إليه صلى الله عليه وسلم ما لم يقل كاذب عليه، وقد أخبر عليه السلام، أنه من كذب عليه فليتبوأ مقعده من النار.
فإذا كان الامر كما قلنا يقينا، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي أن يسافر المرء وحده، وفي تلك الاخبار أنفسها، لا ينفرد رجل مع امرأة فإن الشيطان ثالثهما، فنحن على يقين من أنه ههنا نهي عن الوحدة، وأن الشيطان ههنا مع الواحد، فإن كان اثنين فقد خرج عن النهي، وبعد الشيطان عنهما، فبطل
التعلق بتلك الآثار فيما ذهب إليه من ذهب، وأن خلاف الواحد لا يعد خلافا.
واعلموا أنه لا يمكن البتة، للحنفيين ولا المالكيين ولا الشافعيين، أن يحتجوا بشئ من ذلك الاثر، لان خلاف الواحد عندهم خلاف إلا من شذ منهم من مذاهب أصحابه، وقد قلنا إننا أخرجنا لكل واحد من أبي بكر ومالك والشافعي مئين من المسائل انفرد كل واحد منهم بقوله فيها، عن أن يعرف أحد قبله قاله بذلك القول.
وبرهان ضروري أيضا، هو أنه قد بينا أن له لو صح ذلك القول عن النبي صلى الله عليه وسلم لعلمنا أنه لم يرد بذلك الدين أصلا، لان اليهود والنصارى والمجوس والملحدين ثم الرافضة والمعتزلة والمرجئة والخوارج، جماعات عظيمة، فالشيطان بعيد عنهم ومجانب لهم، لانهم أكثر من واحد، يأبى الله تعالى هذا، وتالله ما عش الشيطان ولا بحبوحته إلا فيهم، وبلا شك أن أهل الباطل كلما كثروا فإن الشيطان أقوى فيهم منه مع المنفرد.
نا محمد بن سعيد بن نبات، نا أحمد بن عبد البصير، نا قاسم بن أصبغ، نا محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن المثنى، نا مؤمل بن إسماعيل البصري، نا سفيان الثوري، عن عبد الملك بن أبجر، عن طلحة بن مصرف، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: ربع السودان من لا يلبس الثياب، أكثر من جميع الناس.
فصح بكل هذا - يقينا لا مجال للشك فيه - أنه لا يرد قط بذلك الدين، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى في تلك الاخبار على أصحابه، وعلى قرن التابعين، ثم على القرن الثالث.
فإذأثنى عليهم فهم الجماعة التي لا ينبغي أن تخالف، وكل من خالفهم فهو أهل الباط، ولو كانوا أهل الارض تلك القرون الثلاثة هي التي لم تقلد أحدا،(4/549)
وإنما كانوا يطلبون القرآن والسنن فنحن معهم، والحمد لله رب العالمين.
وكل من قلد إنسانا بعينه، فقد خالف الجماعة، والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: وقد شغب بعضهم بأن قال لما أجمع نظراء هذا الواحد،
وعلمنا أنهم مؤمنون يقينا بالجملة، وأنهم من الامة بلا شك، ولم نقطع هذا الواحد المخالف لهم بأنه من الامة، وكان واجبا علينا اتباع من نوقن أنهم من الامة دون من لا نوقن أنه منها.
قال أبو محمد: وهذا خطأ، لان الله تعالى أمرنا عند التنازع بالرد إلى القرآن والسنة بقوله تعالى: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) * ومخالفة الواحد تنازع في المشاهدة والعيان، ولم يقل تعالى فردوه إلى الاكثر، ولا إلى من لم يخالفهم إلا واحد فصار من رد إلى غير القرآن والسنة، عاصيا لله عز وجل، مخالفا لامره.
وقد حصل لذلك الواحد من ظاهر الاسلام في الحكم، كالذي لكل واحد من مخالفيه ولا فرق.
قال أبو محمد: واحتجوا أيضا بما رويناه من طريق ابن وهب، أخبرني أبو فهد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليتبع الاقلون العلماء الاكثرين.
قال أبو محمد: وهذا مرسل لا خير فيه، وباطل بلا شك، أول ذلك أنه محال، وهو عليه السلام لا يأمر بالمحال، لانه لا يمكن أن يتبع الاقل والاكثر إلا بعد إمكان عد جميعهم، وقد بينا أن عد جميعهم لا يمكن البتة بوجه من الوجوه، ولا يقدر عليه إلا الخالق وحده لا شريك له.
ووجه آخر، وهو أن الصحابة رضوان الله عنهم، قد أصفقوا أثر موت النبي صلى الله عليه وسلم على ألا يقاتل أهل الردة، ولا ينفذ بعث أسامة بن زيد، وخالفهم أبو بكر وحده، فكان هو المحق وكانوا على الخط، فإن قالوا: قد رجعوا إلى قوله قلنا: نعم، وهذه حجتنا، وإنما سألناكم عن الحال قبل أن يرجعوا إلى قول أبي بكر في ذلك.
وقد شغب بعضهم بما روي من أن الواحد شيطان، والاثنان شيطانان، والثلاثة ركب.
قلنا: إنما هذا في نص الخبر نفسه في السفر فقط، وإلا فالمصلي النافلة وحده على قولهم شيطان، ومصلي الفريضة مع آخر شيطانان، وفي هذا(4/550)
ما فيه، نعوذ بالله العظيم من البلاء.
ثم نسألكم: هل ذلك الواحد عندكم مخالف للاجماع أم لا ؟ فإن قالوا: نعم، قلنا لهم: ومخالف الاجماع عندكم كافر، فمن قولهم: نعم، قلنا لهم، فعلى هذا فابن عباس كافر، وزيد بن ثابت عندكم كافر، إذ أقررتم أنهما خالفا الاجماع، وبالله إن نسب ذلك إليهما فهو والله أحق منهما، بل هما المؤمنان الفاضلان رضي الله عنهما، وإن أبوا من تكفير من خالف هذا النوع من الاجماع تناقضوا وظهر فساد قولهم، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: أخبرنا عبد الرحمن بن خالد الهمداني، نا إبراهيم بن أحمد البلخي، حدثنا الفريرى، نا البخاري، نا عبد العزيز بن عبد الله، نا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن الاعرج، عن أبي هريرة قال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولو آيتان في كتاب الله تعالى ما حدثت حديثا، ثم يتلو: * (إن الذين يكتمون مآ أنزلنا من البينات والهدى) * إلى قوله: * (الرحيم) * إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الاسواق، وإن إخواننا من الانصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون.
قال أبو محمد: ففي هذا أن الواحد قد يكون عنده من السنن ما ليس عند الجماعة، وإذا كان عنده من السنة ما ليس عند غيره، فهو المصيب في فتياه بهذا دون غيره.
قال أبو محمد: وبالعيان ندري أن المسلمين أقل من غيرهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أنتم في الامم قبلكم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الاسود، وذكر عليه السلام الصلاة والسلام أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين وواحد إلى الجنة، ثم بالمشاهدة ندري أن الصالحين والعلماء أقل من الطالحين والجهال، وأن هذين الصنفين هم الاكثر، والجمهور، وبالمشاهدة ندري أن الزكي من العلماء هم أقل منهم بخلاف قول
المخالف، وقد ذكر في باب إبطال التقليد قول ابن مسعود: لا يقول أحدكم أنا مع الناس.
وذكرنا قبل هذا قول حذيفة: كيف أنت إذا سلك القرآن طريقا، وسلك الناس طريقا آخر ؟ وبينا قبل وبعد أن العرض إنما هو اتباع القرآن وما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا معنى لقول أحد دون ذلك، كثر(4/551)
القائلون به أو قلوا، وهذا باب ينبغي أن يتقى فقد عظم الضلال به، وكثر الهالكون فيه، ونعوذ بالله العظيم من البلاء.
قال أبو محمد: وكلامنا هذا كله تطوع منا، وإلا فلو اكتفينا من كل ذلك بما نذكره الآن إن شاء الله تعالى، وهو أن نقول لهم: إن كل من ادعى في أي قولة كانت لا نحاشي قولة من الاقوال - أن العلماء كلهم أجمعوا عليها إلا واحدا خالفهم فقط أو إلا اثنين، أو إلا ثلاثة، أو أي عدد ذكروا، فإنه كذاب مفتر آفك قليل الحياء، لانه لا سبيل بوجه من الوجوه إلى معرفة ذلك يقينا ولا إلى القطع به أصلا، لما قدمنا من تعذر إحصاء عدد المفتين من المسلمين، فوضح أن هذه مسألة فارغة، ولا حجة للاشتغال بها، أو كثرة من ضل بها.
فصل في قول من قال: قول الاكثر هو الاجماع ولا يعتد بقول الاقل
قال أبو محمد: في الباب الذي قبل هذا نقض هذه المقالة، وفيه ذكرنا كل ما يمكن أن يشغبوا به، فأغنى عن إعادته، إلا أن هنا سؤالا رائدا، وهو أن نقول لهم: قلتم المحال وأتيتم في دينكم الباطل، والذي لا يمكن وجوده، وذلك إلى أنه لا سبيل إلى توفية حكمهم هذا حقه، إلا إحصاء عد جميع من تكلم في تلك المسألة من صاحب وتابع فمن بعدهم، ثم يعرف الاثر ولو بواحد، وهذا مع أنه محال فهو حمق، وقول بلا برهان. وأيضا فما الفرق بينكم وبين من قال قول الطائفة التي هي أفضل وأشهر في العلم أولى، وإن كانوا أقل عددا، فحصل التعارض وبطل القولان لانهم بلا دليل، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في إبطال قول من قال: الاجماع هو إجماع أهل المدينة
قال أبو محمد: هذا قول لهج به المالكيون قديما وحديثا، وهو في غاية الفساد، واحتجوا في ذلك بأخبار منها صحاح، ادعوا فيها أنها تدل على أن المدينة أفضل البلاد، ومنها مكذوب موضوع في رواية محمد بن الحسن بن زبالة وغيره، ليس(4/552)
هذا مكان ذكرها، لان كلامنا في هذا الكتاب إنما هو على الاصول الجامعة لقضايا الاحكام، لا لبيان أفضل البلاد، وقد تقصينا تلك الاخبار في كتابنا المعروف بالايصال في آخر كتاب الحج منه، وتكلمنا على بيان سقوط ما سقط منها، ووجه ما صح منها بغاية البيان، والحمد لله رب العالمين.
وبجمع ذلك أنهم قالوا: المدينة مهبط الوحي ودار الهجرة، ومجتمع الصحابة، ومحل سكنى النبي صلى الله عليه وسلم ،وأحكامها فأهلها أعلم بذلك ممن سواهم، وهم شهداء آخر العمل من النبي صلى الله عليه وسلم وعرفوا ما نسخ وما لم ينسخ.
ثم اختلفوا فقالت طائفة منهم: إنما إجماعهم إجماع وحجة، فيما كان من جهة النقل فقط، وقالت طائفة منهم: إجماعهم إجماع وحجة، من جهة النقل كان أو من جهة الاجتهاد، لانهم أعلم بالنصوص التي منها يستنبط وعليها يقاس، فإذا هم أعلم بذلك، فاستنباطهم وقياسهم أصح من قياس غيرهم واستنباط غيرهم.
وقالوا: من المحال أن يخفى حكم النبي صلى الله عليه وسلم على الاكثر، وهم الذين بقوا بالمدينة، ويعرفه الاقل، وهم الخارجون عن المدينة، مع شغلهم بالجهاد، وذكروا قول عبد الرحمن بن عوف لعمر بن الخطاب رضي الله عنهم
- إذ أراد أن يقوم بالموسم الذي بلغه من قول القائل: لو قد مات عمر لقد بايعنا فلانا، فقال عمر: لاقومن بالعشية فلاحذرن الناس من هؤلاء الرهط يريدون يغصبونهم.
فقال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس، ويغلبون على مجلسك، فأخاف أن ألا ينزلوها على وجهها فيطيروا بها كل مطير، فأمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة، فتخلو بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والانصار، ويحفظون مقالتك، وينزلوها على وجهها.
نا بهذا عبد الرحمن بن عبد الله نا إبراهيم بن أحمد، حدثنا الفربري، نا البخاري، نا موسى بن إسماعيل، نا عبد الواحد، نا معمر عن الزهري، عن عبيد الله بن عتبة، قال: حدثني ابن عباس، قال: قال لي عبد الرحمن بن عوف: لو شهدت أمير المؤمنين أتاه رجل فقال له: إن فلانا يقول: لو قد مات عمر فبايعنا فلانا، ثم ذكر نصه كما أوردنا.(4/553)
قال أبو محمد: هذا كل ما شغبوا به، وكله لا حجة لهم في شئ منه، على ما تبين إن شاء الله عز وجل.
أما دعواهم أن المدينة أفضل البلاد، فدعوى قد بينا إبطالها في غير هذا المكان، وبينا أن مكة أفضل البلاد بنص القرآن، والسنن الثابتة، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، وليس هذا مكان الكلام في ذلك، لكن نقول لهم: هبكم أنه كما تقولون، وليس كذلك، فأي برهان في كونها أفضل البلاد على أن إجماع أهلها هو الاجماع ؟ ألا يستحي من يدري أن كلامه مكتوب وأنه محاسب به بين يدي الله عز وجل، من أن يموه هذا التمويه البارد، ونحن نقول: إن مكة أفضل البلاد، وليس ذلك بموجب اتباع أهلها دون غيرهم، ولا أن إجماعهم دون إجماع غيرهم، ولا أنهم حجة على غيرهم، إذ ليس فضل البقعة موجبا لشئ من ذلك.
وأيضا فإنه لا يختلف مسلمان في أنه قد كان في المدينة منافقون، وهم شر الخلق، قال تعالى: * (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم) * وقال تعالى: * (إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار) *.
وكان فيها فساق كما في سائر البلاد، وزناة وكذابون وشربة خمر وقذفة كما في سائر البلاد ولا فرق، وأهلها اليوم - وإنا لله وإنا إليه راجعون - غلاة الروافض الكفرة، أفترون لهؤلاء فضلا يوجب اتباعهم من أجل سكناهم المدينة ؟ فمن قولهم: لالكن إنما توجب الحجة بالفضلاء غير هم من أهل المدينة، قلنا لهم: ومن أين خصصتم فضلاء المدينة دون فضلاء غيرهم من البلاد ؟ وهذا ما لا سبيل إلى وجود برهان على صحته أبدا.
وأيضا فالمدينة فضلها باق بحسبه، كما كان لم يتغير ولا يتغير أبدا، وأهلها أفسق الناس، فقد بطل أن تكون للبقعة حكم في وجوب اتباع أهلها، وصح أن الفاضل فاضل حيث كان، والفاسق فاسق حيث كان.
وأما قولهم: إن أهل المدينة أعلم بأحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن سواهم، فهو كذب وباطل، وإنما الحق أن أصحا ب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم العالمون بأحكامه صلى الله عليه وسلم سواء بقي منهم من بقي بالمدينة أخرج منهم من خرج، لم يزد الباقي بالمدينة بقاؤه فيها درجة في علمه وفضله، ولاحظ(4/554)
الخارج منهم عن المدينة خروجه عنها درجة من علمه وفضله.
وأما قولهم: إنهم شهدوا آخر حكمه صلى الله عليه وسلم وعلموا ما نسخ مما لم ينسخ فتمويه فاحش، وكذب ظاهر، بل الخارجون من الصحابة عن المدينة شهدوا من ذلك كالذي شهده المقيم بها منهم سواء كعلي وابن مسعود وأنس وغيرهم ولا فرق، والكذب عار في الدنيا ونار في الآخرة، فظهر فساد كل ما موهوا به وبنوه على
هذا الاصل الفاسد، وأسموه بهذا الاساس المنهار.
وأما قولهم: إن من المحال أن يخفى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الاكثر، وهم الباقون بالمدينة، وبعلمه الاقل، وهم الخارجون عن المدينة، فتمويه ظاهر، وشغب غث، وإنما كان ممكن أن يموهوا بذلك، لو وجدوا مسألة رويت من طريق كل من بقي بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم، وأفتى بها كل من بقي بالمدينة من الصحابة.
وأما ولا يجدوا هذا أبدا، ولا في مسألة واحدة، وإنما وجد فتيا الواحد والاثنين والثلاثة ونحو ذلك، وروايتهم كذلك، فممكن أن يغيب حكم النبي صلى الله عليه وسلم عن النفر من الصحابة، وبعلمه الواحد والاكثر منهم، وقد يمكن أن يكون الذي حضر ذلك الحكم يخرج عن المدينة، ويمكن أن يبقى بها، ويمكن خلاف ذلك أيضا، ولا فرق، وإنما تفرق الصحابة في البلاد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما قول عبد الرحمن لعمر - الذي ذكرنا - في تأخير الامر حتى يقدم المدينة فيخلو بوجوه الناس، وأهل الفقه وأهل العلم، فوالله ما أدرك مالك من هؤلائك أحدا، وإنما أخذ عنهم كما فعل أهل الامصار سواء ولا فرق، وأيضا فما كل قول قاله عبد الرحمن، ووافقه عليه عمر رضي الله عنه حجة، وقد علم جميع أهل الاسلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،لم يخطب الخطبة التي عهد فيها إلى الناس وجعلها كالوداع لهم وقررهم ألا هل بلغت، وأشهد الله تعالى عليهم، إلا في الموسم أحفل ما كان في الاعراب وغيرهم ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من رأي رآه عبد الرحمن وعمر رضي الله عنهما.
وبرهان ذلك أنه لو سلك الائمة هذا الرأي ما تعلم جاهل شيئا أبدا، فصح أنه لا بد ممخاطبة الرعاع والجهال بما يلزم علمه، والعجب كله أنهم يموهون إجماع(4/555)
أهل المدينة، ثم لا يحصلون إلا على رأي مالك وحده، ولا يأخذون بسواه وهم أترك الناس لاقوال أهل المدينة كعمر وابن عمر وعائشة وعثمان، ثم سعيد بن المسيب والقاسم وغيرهم.
ومن عجائب الدنيا التي لا نظير لها أن يتهالكوا على تقاليد رأي ابن القاسم المصري، وسحنون التنوفي من إفريقية، لان ابن القاسم أخذ عن مالك ولان سحنون أخذ عن ابن القاسم المصري عن مالك، ولا يرون لاخذ مسروق والاسود وعلقمة عن عائشة أم المؤمنين، وعن عمر وعثمان رضي الله عنهما وجها ولا معنى، ثم لا يستحيون مع هذا من أهل التمويه بأهل المدينة، وإنما ذكرنا من أخذ عن هؤلاء المدنيين تنكيتا لهم، وكشفا لتناقضهم، وهم أترك خلق الله لاجماع أهل المدينة أجمعوا كلهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على إعطاء أموالهم التي قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مفتتحي خيبر إلى اليهود، على أن يعملوها بأموالهم وأنفسهم يقرونهم ما أقرهم الله تعالى، ويخرجونهم متى شاؤوا وبقوا كذلك إلى أن مات رسول الله (ص مدة أربعة أعوام ثم مدة أبي بكر رضي الله عنه إلى آخر عام من خلافة عمر رضي الله عنه.
فقال المدعون إنهم على مذهب أهل المدينة.
هذا عقد فاسد وعمل باطل مفسو تقليدا لخطأ مالك.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، نا وهب بن ميسرة، نا ابن وضاح بن يحيى، نا مالك، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة.
نا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا محمد بن حاتم، نا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: نحرنا يومئذ تسعين بدنة اشتركنا كل سبعة في بدنة، فهذا إجماع أهل المدينة حقا وعملهم بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع
الصحابة حقا.
فقال هؤلاء المنتسبون إلى اتباع أهل المدينة: هذا عمل لا يجوز، ولا يجزئ تقليدا لخطأ مالك، وخلافا لاهل المدينة وتمويها برواية عن ابن عمر قد جاء عنه خلافها.
وتركوا عمل أهل المدينة - كل من حضر منهم - مع عمر، في سجوده في:(4/556)
* (إذا السماء انشقت) * وسجودهم مع عمر إذ قرأ السجدة، وهو يخط ب يوم الجمعة فنزل عن المنبر فسجد وسجدوا معه، ثم رجع إلى خطبته، فقال هؤلاء المنتمون إلى اتباع أهل المدينة.
هذا لا يجوز، تقليدا لخطأ مالك في ذلك، ولا سبيل إلى أن يوجد عمل لاهل المدينة أعم من هذا، وتركوا إجماع أهل المدينة، إذ صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر صلاة صلاها بالناس، فقالوا: هذه صلاة فاسدة، تقليدا لخطأ مالك في ذلك.
والعجب احتجاجهم كلهم في ترك إجماع أهل المدينة على هذا وعملهم برواية الجعفي الكذاب الكوفي عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يؤمن أحد بعدي جالسا.
وهذه رواية ليس في رواية أهل المدينة أنتن منها، فهل في العجب أكثر من هذا ؟ وهم يقولون: إن إجماع أهل الكوفة هو الاجماع فإن روايات أهل الكوفة الصحاح مدخولة.
حدثنا عبد الله بن ربيع، نا محمد بن معاوية، نا أحمد بن شعيب، أخبرنا أبو أيوب بن محمد الوزان، نا عمرو بن أيوب، نا أفلح بن حميد، نا محمد بن حميد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن سليمان بن عبد الملك عام حج جمع ناسا من أهل العلم، فيهم عمر بن عبد العزيز، وخارجة بن زيد بن ثابت، والقاسم بن محمد، وسالم وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر، وابن شهاب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فسألهم عن الطيب قبل الافاضة، فكلهم أمره بالطيب.
وقال القاسم: أخبرتني عائشة أنها طيبت
رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم، ولحله حين حل قبل أن يطوف بالبيت ولم يختلف عليه أحد منهم إلا أن عبد الله بن عبد الله قال: كان عبد الله رجلا حادا محدا كان يرمي الجمرة ثيذبح ثم يحلق ثم يركب فيفيض قبل أن يأتي منزله، قال سالم: صدق.
فهذه فتيا أهل المدينة وفقهائها عن سلفهم، فقال هؤلاء المدعون: إنهم يتبعون أهل المدينة، لا يجوز ذلك تقليدا لخطأ مالك، واحتجوا برواية كوفية ليست موافقة لقولهم أيضا، لكن موهوا بإيرادها.
وذكر قيس بن مسلم، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع، وزارع علي، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود،(4/557)
وعمر بن عبد العزيز، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وعروة بن الزبير وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي، وعامل عمر بن الخطاب الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر فله الشطر، وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا وكذا، ورأى ذلك الزهري.
قال أبو محمد: فهل يكون عمل يمكن أن يقال: إنه إجماع - أظهر من هذا أو أفشى منه ؟ فقال هؤلاء المموهون باتباع أهل المدينة: هذا لا يحل ولا يجوز تقليدا لخطأ مالك في ذلك، والعجب أن مالكا لم يدع إجماع أهل المدينة إلا في نيف وأربعين مسألة فاستحل هؤلاء القدر بنفحة، وقمحوا جميع آرائه في إجماع أهل المدينة، وإنا لله وإنا إليه راجعون على فشو الكذب واختداع أهل الغفلة والاغترار بالباطل.
ثم إن المسائل المذكورة التي ذكر مالك أنها إجماع أهل المدينة تنقسم قسمين: أحدهما: لا يعلم فيه خلاف من أحد من الناس في سائر الامصار، وهو الاقل.
والثاني: قد وجدنا فيه الخلاف، كما هو موجود في غير المدينة.
قال أبو محمد: ونقول لهم لا يخلو ما ادعيتموه - من إجماع أهل المدينة - من
أن يكون عن توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،أو يكون عن اجتهاد، وقد تقدم إبطالنا لكل اجتهاد أدى إلى ما لا نص فيه، أو إلى خلاف النص.
ثم لو صح لهم فمن أين جاز أن يكون اجتهاد أهل المدينة أولى من غيرهم ؟ والنصوص التي يقيسون عليها معروفة عند غيرهم، كما هي عندهم إذ كتمانها محال غير ممكن، ولا فرق بين دعواهم هذه ودعوى غيرهم، أو يكون إجماعهم عن توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ،ولم يبق إلا هذا الوجه، فلا يخلو ذلك التوقيف من أن يكون علمه الخارجون من المدينة من الصحابة، أو جهلوه أو علمه من علمه من أهل المدينة سائر الناس أو كتموه، فإن كان علمه الخارجون من المدينة من الصحابة أو علمه من علمه ممن بقي في المدينة من سائر الناس، فقد استوى في العلم به أهل المدينة وغيرهم ضرورة، وإن كان من بقي في المدينة كتمه عن سائر أهل البلاد.
فهذا محال غير ممكن، لان كل سر جاوز اثنين شائع فكيف ما علمه جميع أهل المدينة بزعمهم ؟ وحتى لو صح أنهم كتموه لسقطت عدالتهم، قال الله عز وجل: * (إن الذين يكتمون مآ أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك(4/558)
يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) * ولقد أعاذهم الله من هذا، فبطل ضرورة ما ادعوه من إجماع أهل المدينة.
وأيضا فإن الاجماع لا يصح نقله إلا بإجماع مثله، أو بنقل تواتر، وهم يرجعون في دعواهم الكاذبة لاجماع أهل المدينة إلا إلى إنسان واحد، وهو مالك، فهو نقل واحد كنقل غيره من العلماء ولا فرق.
وأيضا فيقال لهم: أخبرونا هل خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبليغ أحكام الدين أو بعضها أو حكم واحد منها - المقيمين بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم عمن علم الله عز وجل أنهم سيخرجون عن المدينة.
فإن قالوا: نعم
كفروا وكذبوا، إذ جعلوه صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الدين عمن يلزمه من علم الديانة كالذي يلزم غيره، وصاروا إلى أقوال الروافض من كثب، وإن قالوا: لا، ثبت أن السنن هي بيان الدين في غير المدينة كما هي في المدينة ضرورة ولا فرق.
وأيضا فإن من بقي بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم، كانوا يجاهدون ويحجون، ومن خرج عن المدينة منهم كانوا يفدون على عمر وعثمان فقد وجب التداخل بينهم.
وهكذا صحت الآثار بنقل التابعين من سائر الامصار عن أهل المدينة، وبنقل التابعين من أهل المدينة ومن بعدهم عن أهل الامصار فقد صحب علقمة ومسروق عمر وعثمان وعائشة أم المؤمنين، واختصوا بهم وأكثروا الاخذ عنهم، وكذلك صحب علقمة ومسروق وعمر وعثمان وعاشية أم المؤمنين، واختصوا بهم وأكثروا الأخذ عنهم.
وكذلك صحب عطاء عائشة أم المؤمنين وصحب الشعى وابن بن سيرين بن عمر، وصحب قتادة بن المسيب، وأخذ الزهري عن أنس، وأخذ مالك عن أيوب وحميد المكي، وأخذ عبيدالله بن عمر، عن ثابت البناني، وأخذ عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس.
وأخبرني يوسف بن عبد الله النمري قال: نا عبد الوارث بن حسرون، نا قاسم بن أصبغ، نا أحمد بن زهير بن حرب، نا أحمد بن حنبل، نا عبد الرحمن بن مهدي، سمعت مالك بن أنس يقول: قال سعيد بن المسيب، إن كنت لاسير الايام والليالي في طلب الحديث الواحد، فاستوى الامر في المدينة وغيرها بلا شك.
وأيضا فنقول لهم: هل تعمد عمر وعثمان رضي الله عنهما أن يبعثا من يعلم أهل البصرة والكوفة والشام ومصر دينهم وأحكامهم أم أغفلا ذلك وضيعاه ؟(4/559)
وعمالهما يترددون على هذه البلاد، ووفود هذه البلاد يفدون عليهما كل عام أم لم ي تركاذلك، بل علماهم كل ما يجب علمه من الدين ؟ ولا بد من أحد
هذه الاقسام، فإن قالوا: تعمدنا كتمان الدين عنهم أو ضيعوا ذلك، كذبوا جهارا، ونسبوا الخليفتين الفاضلين إلى ما قد نزههما الله تعالى عنه، مما هو أعظم الجور وأشد الفسق، بل هو الانسلاخ من الاسلام، وإن قالوا: ما تركا ذلك، علماهم كل ما يجب علمه والعمل به من الدين.
قلنا: صدقتم وقد ثبت بهذا أن أهل المدينة وغيرهم سواء في المعرفة والعلم والعدالة، وظهر فساد دعواهم الكاذبة في دعوى إجماع أهل المدينة.
أنبأنا محمد بن سعيد بن بنات، نا أحمد بن عون الله، نا قاسم بن أصبغ، نا محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن بشار، نا محمد بن جعفر - غندر -، نا شعبة، نا أبو إسحاق السبيعي قال: سمعت حارثة بن مضرب قال: قرأت كتاب عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة: إني بعثت عليكم عمارا أميرا، وعبد الله معلما ووزيرا، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بدر فخذوا عنهما، واقتدوا بهما، فإنني آثرتكم بعبد الله على نفسي إثرة.
حدثني أحمد بن عمر بن أنس العدوي، نا عبد الله بن الحسين بن عقال، نا إبراهيم بن محمد الدينوري، نا محمد بن أحمد بن محمد بن الجهم، نا إسماعيل بن إسحاق القاضي، نا أحمد بن يونس، نا قيس بن أشعث، عن الشعبي قال: ما جاءك عن عمر فخذ به، فإنه كان إذا أراد أمرا استشار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإذا أجمعوا على شئ كتب به فهذا تعليم عمر ما عنده من العلم لاهل الامصار، فصار الامر في المدينة وغيرها سواء.
وأيضا فنقول لهم: إذا كان إجماع أهل المدينة عندكم هو الاجماع، ومن قولكم إن من خالف الاجماع كافر، فتكفرون كل من خالف إجماع أهل المدينة بزعمكم أم لا ؟ فإن قالوا: نعم لزمهم تكفير ابن مسعود وعلي، وكل من روي عنه فتيا مخالفة لما يدعون فيه إجماع أهل المدينة من صاحب أو تابع فمن دونهم، وفي هذا ما فيه، وإن أبوا من ذلك قلنا لهم: كذبتم في الدعوى إن إجماعهم هو الاجماع،
فارجعوا عن ذلك واقتصروا على أن تقولوا صوابا أو حقا ونحو ذلك.(4/560)
قال أبو محمد: وأيضا فلا شئ أظهر ولا أشهر ولا أعلن ولا أبين ولا أفشى من الاذان، الذي هو كل يوم وليلة خمس مرات، برفع الاصوات في مساجد الجماعات في الصوامع المشرفات لا يبقى رجل ولا امرأة، ولا صبي، ولا عالم ولا جاهل إلا تكرر على سمعه كذلك، ولا يستعمله المسافرون كما يستعمله الحاضرون، ولا يطول به العهد فينسى، وفي المدينة فيه من الاختلاف كالذي خارج المدينة.
صح عن ابن عمر أن الاذان وتر، وروي عنه وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قولهما في الاذان: حي على خير العمل.
نا عبد الله بن ربيع، نا عبد الله بن محمد بن عثمان، نا أحمد بن خالد، نا علي بن عبد العزيز، نالحجاج بن منهال، نا حماد بن سلمة، نا أيوب السختياني، وقتادة، كلاهما عن محمد بن سيرين، عن ابن عمر، أنه مر على مؤذن فقال له: أوتر أذانك، نا حمام، نا ابن مفرج، نا ابن الاعرابي، نا الديري، نا عبد الرزاق، عن معمر عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقول: الاذان ثلاثا ثلاثا.
وبه إلى عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن رجل، عن ابن عمر أنه كان إذا قال في الاذان: حي على الفلاح، قال: حي على خير العمل.
ومن ادعى أن الصحابة في الكوفة والبصرة ومكة بدلوا الاذان، فلكافر مثله، أن يدعي ذلك على الصحابة بالمدينة، وكلاهما كاذب ملعون، وحق صحابة المدينة والكوفة والبصرة جائز واجب فرض سواء على كل مسلم، ولا فرق من ادعى ذلك على التابعين بالكوفة والبصرة فالفاسق مثله أن يدعي على التابعين بالمدينة إذ لا فرق بينهم.
ومن ادعى ذلك على الولاة بالبصرة والكوفة، فلغيره أن ينسب مثل ذلك إلى الولاة بالمدينة، فقد وليها من الفساق كالذين ولوا البصرة والكوفة كالحجاج وخالد القسري وطارق وعثمان بن حيان المري، وكلهم نافذ
أمره في الدماء والاموال والاحكام، وموضعهم من الفسق بالدين بحيث لا يخفى فهذا أصل عظيم.
ثم الزكاة فالزهري يراها في الخضر، ومالك لا يراها وابن عمر لا يرى الزكاة مما أنبتت الارض إلا في البر والشعير والتمر والزيت والسلت، ومالك يخالفه ولا شئ بعد الاذان بالصلاة أشهر من عمل الزكاة، وابن عمر لا يجيز في زكاة(4/561)
الفطر إلا التمر والشعير، ومالك يخالفه، وقال ابن عمر وسعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأبو سليمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزهري، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عدل الناس بصاع شعير في صدقة الفطر مدين من بر، وروي ذلك أيضا عن عمر وعثمان وأسماء بنت أبي بكر فخالفهم مالك فصح أنهم أترك الناس لعمل أهل المدينة.
وقال بعضهم: من خرج عن المدينة اشتغل بالجهاد، قلنا: لا يشغل الجهاد عن تعليم الدين فقولكم هذا مجاهدة بالباطل وقالوا: إن كان ابن مسعود إذا أفتى بفتيا أتى المدينة فيسأل عنها، فإن أفتى بخلاف فتياه رجع إلى الكوفة ففسخ ما عمل.
قال أبو محمد: وهذا كذب إنما جاء أنه أفتى بمسألتين فقط، فأمر عمر بفسخ ذلك وعمر الخليفة فلم يمكنه خلافه.
نا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود، نا أحمد بن دحيم، نا إبراهيم بن حماد، قال: نا إسماعيل بن إسحاق، نا حجاج بن المنهال، نا حماد بن بسلمة، عن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي عمرو الشيباني أن رجلا سأل ابن مسعود عن رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها أيتزوج أمها ؟ قال: نعم، فتزوجها، فولدت له، فقدم على عمر فسأله، فقال: فرق بينهما، قال ابن مسعود: إنها ولدت، قال عمر: وإن ولدت عشرا ففرق بينهما.
قال أبو محمد: والخلاف في هذا موجود بالمدينة، نا عبد الله بن ربيع، نا عبد الله
بن محمد بن عنان، نا أحمد بن خالد، نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال، نا حماد بن سلمة عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت قال: إن طلق الابنة قبل أن يدخل بها تزوج أمها، وإن ماتت موتا لم يتزوج أمها.
نا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود، نا أحمد بن دحيم، نا إبراهيم بن حماد، نا إسماعيل بن إسحاق، نا إسماعيل بن أبي أويس، نا عبد الرحمن بن أبي الموال، عن عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فروة أن رجلا من بني ليث يقال له الاجدع، تزوج جارية شابة فكان يأتيها فيتحدث مع أمها فهلكت امرأته، ولم يدخل بها فخطب أمها وسأل عن ذلك ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمنهم من رخص له ومنهم من نهاه.
قال أبو محمد: هذا والمسألة المذكورة منصوصة في القرآن الذي هو عند جميع الناس كما هو عند أهل المدينة لا يمكن أن يدعوا فيها توفيقا حتى خفي عمن هو خارج(4/562)
المدينة، لكن من أباح ذلك حمل الام على حكم الربيبة، ومن منع أخذ بظاهر الآية وعمومها وهو الحق فلا مزية ههنا لاهل المدينة على غيرهم أصلا، وقد صح أن عمر استفتى ابن مسعود بالبتة وأخذ بقوله، وهذا مدني إمام أخذ بقول كوفي وذكر غريبة تضحك الثكالى ويدل على ضعف دين المموه، وقلة عقله: وهي أنهم ذكروا خبر ابن عمر إذ رأى سعدا وهو يمسح فلم يأخذ بعمله حتى رجع إلى المدينة فسأل أباه.
قال أبو محمد: وهذا عليهم لا لهم لان ابن عمر مدني، وقد خفي عليه حكم المسح وسعد مدني فلم يأخذ ابن عمر بفعله إلا أن يقولوا: إنه لا يجوز أن يؤخذ بقول مدني إلا إذا كان بين جدران المدينة.
فهذا حمق لا يقوله من لا مسكة له.
وموهوا بما أنبأنا عبد الله بن الربيع قال: نا محمد بن معاوية، نا أحمد بن شعيب، أخبرنا محمد بن المثنى، نا خالد بن الحارث، نا حميد عن الحسن قال: قال ابن عباس وهو أمير البصرة في آخر الشهر: أخرجوا زكاة صومكم، فنظر الناس بعضهم إلى بعض فقال: من هنا من أهل المدينة ؟ قوموا فعلموا إخوانكم، فإنهم لا يعلمون أن هذه الزكاة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على
كل ذكر أو أنثى حر أو مملوك، صاعا من شعير أو تمر أو نصف صاع من قمح.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لوجوه: أولها: أنه خبر ساقط منقطع أخذه الحسن بلا شك من غير ثقة ذلك، لان الحسن لم يكن بالبصرة أيام ابن عباس أميرا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإنما نزلها الحسن أيام معاوية لا خلاف في هذا.
وثانيها: أن البصرة بناها عتبة بن غزوان المازني من بني مازن بن منصور أخي سليم بن منصور، وهذا بدري من أكابر المهاجرين الاولين الممتحنين في الله تعالى في أول الاسلام سنة أربع عشرة من الهجرة في صدر أيام عمر رضي الله عنه، وإنما وليها ابن عباس لعلي في آخر سنة ست وثلاثين بعد يوم الجمل بعد اثنتين وعشرين سنة من بنيانها، وسكنها الصحابة والتابعون رضي الله عنهم، ووليها أبو موسى الاشعري بعد عتبة بن غزوان، والمغيرة بن شعبة وغيرهما أيام عمر وطول أيام عثمان رضي الله عنهما، وولي قبض زكاتها أنس بن مالك في تلك الايام.
فكيف يدخل في عقل من له مسكة عقل، أن مصرا يسكنه عشرات الالوف من المسلمين منهم مئون من الصحابة رضي الله عنهم، تداوله الصحابة من قبل(4/563)
عمر وعثمان فلم يكن فيهم أحد يعلمهم زكاة الفطر التي يعلمها النساء والصبيان في كل مدينة وكل قرية لتكررها في كل عام في العيد إثر رمضان، حتى بقوا المدة المذكورة ليس فيهم أحد علم ذلك، وأهل المدينة يعرفونها، فكيف يكتم مثل هذا والوفود من البصرة يفدون على الخليفتين بالمدينة ؟.
وتالله إن هذه لمصيبة على عمر وعثمان وأهل المدينة أعظم منها على أهل البصرة إذ تعمدوا ترك تعليمهم أو ضيعوا ذلك وكل ذلك باطل لا يمكن البتة، وكذب لا خفاء به، ومحال ممتنع لما ذكرنا.
وثالثها: أن المحتجين بهذا الخبر - وهم المقلدون لمالك - أول مبطل لحكم هذا
الخبر، فلا يرون ما فيه من نصف صاع قمح مكان صاع شعير في زكاة الفطر، أفليس من الرزايا والفضائح والبلايا والقبائح من يموه بخبر يحتج به فيما ليس فيه منه شئ على من لا يراه حجة لو صح ؟ لانه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ،ثم المحتج به أول مخالف لما احتج به، وأول مبطل ومكذب لما فيه، مما لو صح ذلك الخبر لما حل لاحد خلافه، لانه عن النبي صلى الله عليه وسلم ،نعوذ بالله العظيم من مثل هذا المقال في الدنيا والآخرة.
وإذ قد صححوا ههنا رواية الحسن عن ابن عباس فقد: نا أحمد بن محمد الطلمنكي، نا ابن مفرج، نا محمد بن أيوب الرقي، نا أحمد بن عروة بن عبد الخالق البزار نا محمد بن المثنى، نا يزيد بن هارون، نا حميد الطويل، عن الحسن البصري، قال: خطبنا ابن عباس بالبصرة فقال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الصغير والكبير والحر والعبد، صاع من تمر أو صاع من شعير أو بنصف صاع من بر ومن أتى بدقيق قبل منه، ومن أتى بسويق قبل منه.
وهم أول عاص لما في هذا الخبر، فيا للناس، مرة يصححون رواية الحسن عن ابن عباس إذا ظنوا أنهم يموهون به في إثبات باطل دعواهم، ومرة يبطلونهم ويكذبونها إذا خالفت رأي مالك فيزورون شاهدهم ويكذبون أنفسهم، ألا ذلك هو الضلال المبين.
قال أبو محمد: وهذا خبر رواه ابن سيرين وأبو رجاء عن ابن عباس وهما حاضران لولايته فلم يذكروا فيه ما ذكر ابن عباس من القول: يا أهل المدينة قوموا علموا إخوانكم، فصح أنها زيادة من لا خير فيه.(4/564)
قال أبو محمد: فبطل كل ما موهوا به ونحن ولله الحمد على ثقة من أن الله لو أراد أن يجعل إجماع أهل المدينة حجة لما أغفل أن يعين ذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فإذا لم يفعل فنحن نثبت بأنه لم يجعل قط إجماعهم حجة
على أحد من خلقه، هذا لو صح وجود إجماع لهم في شئ من الاحكام، فكيف ولا سبيل إلى وجود ذلك أبدا، إلا حيث يجمع سائر أهل الاسلام عليه، أو حيث نقل إجماعهم كلهم ورضاهم بذلك الحكم وتسليمهم لهم.
وإلا فدعوى إجماعهم كذب بحت على جميعهم ونعوذ بالله العظيم من مثل هذا.
قال أبو محمد: وهذا مالك يقول في موطئه الذي رويناه عنه، من طرق في كتاب البيوع منه في أوله في باب ترجمته العيب في الرقيق قال مالك: الامر المجتمع عليه عندنا فيمن باع عبدا أو وليدة أو حيوانا بالبراءة، فقد برئ من كل عيب إلا أن يكون علم في ذلك عيبا فكتمه، فإن كان علم في ذلك عيبا فكتمه لم تنفعه تبرئته، وكان ما باع مردودا عليه.
قال أبو محمد: والذي عليه العمل عند أصحابه ومقلديه من قوله: هو أن حكم الحيوان مخالف لحكم الرقيق، وأن بيع البراءة لا يجوز البتة في الحيوان لكنه كالعروض لا يبرأ من عيب فيه، علمه أو لم يعلمه.
قال أبو محمد: فإذا كان عند هؤلاء المجرمين إجماع أهل المدينة إجماعا لا يحل خلافه، وهذا مالك ههنا قد خالف ما ذكر أنه الامر المجتمع عليه عندهم، فلا بد ضرورة من أحد حكمين لا ثالث لهما: أما إبطال تهويلهم بإجماع أهل المدينة وبخلافه وجواز مخالفته، وإما أن يلحقوا بمالك الذي قلدوه دينهم ما يلحق مخالف الاجماع الذي يقر أنه إجماع وهذا صعب ممن خالف ما يقر أنه إجماع، وفي هذا كفاية لمن له أدنى عقل، ومن أراد الله تعالى توفيقه.
قال أبو محمد: والقوم كما ترى يموهون بإجماع أهل المدينة، فإن حقق عليهم لم يحصلوا من جميع أهل المدينة ومن إجماعهم إلا على ما انفرد به سحنون القيرواني، وعيسى بن دينار الاندلسي، عن ابن القاسم المصري، عن مالك وحده، من رأيه وظنه، وكثير من ذلك رأي ابن القاسم واستحسانه وقياسه على أقوال مالك.
فاعجبوا لهذه الامور القبيحة كيف يستحسنها ذو ورع، أو من يدري أن(4/565)
الله سيسأله عن قوله وفعله، ونعوذ بالله العظيم من الخذلان.
فإن موهوا بما روي من عمل قضاة المدينة الذين أدرك مالك، فليعلم كل ذي فهم أن النازلة كانت تقع في المدينة وغيرها فلا يقضي فيها الامير ولا القاضي حتى يخاطب الخليفة بالشام، ثم لا ينفذ إلا من خاطبه به فإنما هي أوامر عبد الله والوليد وسليمان ويزيد وهشام والوليد بحسبكم والقليل من ذلك من عهد عمر بن عبد العزيز أقصر مدته.
هذا أمر مشهور في كتب الاحاديث.
فصل فيمن قال إن الاجماع هو إجماع أهل الكوفة
قال أبو محمد: إنما نتكلم بما يمكن أن يموه قائله بشغب يخفى على الجهال أو فيما يمكن أن يخفى وجه الحق فيه على بعض أهل العلم لخفاء الدلائل أو لتعارضها، وإما ما لا شبه فيه غير الاحموقة والعصبية فلا، ولا فرق بين إجماع أهل الكوفة وإجماع أهل البصرة وإجماع أهل الفسطاط، هذا إن أرادوا إجماع من كان بها من الصحابة أو من بعدهم من التابعين، أو على أن يسمح لهم في العصر الثالث، وأما إن نزلنا عن ذلك فلا فرق بين أهل الكوفة وأهل أوقانية وأهل أوطانية وفسا ونسا.
ولو أن امرأ نصح نفسه، فأقصر عن التلبيس في الدين، وإضلال المساكين المغترين وشغل نفسه بالقرآن كلام الله تعالى وبيان رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لافترض الله تعالى علينا طاعته، وترك التعصب لقول فلان وفلان كان أسلم لمعاده وأبعد له من الفضيحة في العاجلة وما توفيقنا إلا بالله تعالى.
فصل في إبطال قول من قال: إن قول الواحد من الصحابة رضي الله عنهم إذا لم يعرف له مخالف فهو إجماع وإن ظهر خلافه في العصر الثاني
قال أبو محمد: قال بهذا طوائف من المالكيين والحنفيين، ثم أقحم هذا الشغب معهم الشافعيون، ثم اختلفوا فقالت طائفة: سواء انتشر أو لم ينتشر فهو إجماع، وقالت طائفة إنما يكون إجماعا إذا اشتهر وانتشر، وأما إذا لم يشتهر(4/566)
ولا انتشر فلا يكون إجماعا.
وقالت طائفة: إنما يكون إجماعا إذا كان من قول أحد الائمة الاربعة، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم فقط وانتشر مع ذلك، وإلا فليس إجماعا وإن كان من قول غيرهم فلا يكون حجة وإن انتشر.
وقالت طائفة: ليس شئ من ذلك إجماعا ولكنه حجة.
قال أبو محمد: فإنما قال من قال منهم هذه الاقوال، عند ظفره بشئ منها مع انقطاع الحبل بيده وعدمه شيئا ينصر به خطأه وتقليده، ثم هم أترك الناس لذلك إذا خالف تقليدهم، لا مؤنة عليهم في إبطال ما صححوا وتصحيح ما أبطلوا في الوقت، إنما حسب أحدهم نصر المسأل الدائرة بينه وبين خصمه في حينه ذلك، فإذا انتقلا إلى أخرى فأخف شئ على كل واحد منهم تصحيح ما أبطل في المسألة التي انقضى الكلام، وإبطال ما صحح فيها.
فقد ذكر الاجهري محمد بن صالح المالكي عن ابن بكير وكل واحد منهم من جملة مذهب مالك ومقلديه: أنه كانت أصوله مبنية على فروعه، إذا خرج قوله في مسألة على العموم قال: من قولي العموم وإذا خرج قوله في أخرى على الخصوص، قال من قولي الخصوص.
ولقد رأيت لعبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي في كتابه المعروف بشرح الرسالة في باب من يعتق على المرء إذا ملكه فذكر قول داود: لا يعتق أحد على أحد، وذكر قول أبي حنيفة: يعتق كل ذي رحم محرم.
فقال: من حجتنا على داود قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ملك ذا رحم محرم فهو حر وهذا نص جلي.
ثم صار إلى قول أبي حنيفة بعد ستة أسطار فقال: فإن احتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : من ملك ذا رحم محرم فهو حر قلنا: هذا خبر لا يصح.
ولا أحصي كم وجدت للحنفيين والمالكيين والشافعيين تصحيح رواية ابن لهيعة، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، إذا كان فيها ما يوافق تقليدهم في مسألتهم تلك، ثم ربما أتى بعدها بصفحة أو ورقة أو أوراق احتجاج خصمهم عليهم برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أو برواية ابن لهيعة، فيقولون: هذه صحيفة، وابن لهيعة ضعيف.
قال أبو محمد: وهذا فعل من لا يتقي الله عز وجل، ومن عمله يوجب سوء الظن بباطن معتقده، ونعوذ بالله من الخذلان قال الله تعالى: * (يحلونه عاما(4/567)
ويحرمونه عاما) * وقال تعالى: * (لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) * وقال تعالى: * (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) * فأنكر الله تعالى على من صحح شيئا مرة ثم أبطله أخرى مع أن أقوالهم التي ذكرنا في هذا الباب دعاوى فاسدة بلا برهان ولا استدلال أصلا، إلا ما تقدم إفسادنا له من قولهم: إنهم لا يقرون على باطل.
فقلنا لهم: ومن لكم بأنهم لم ينكروا ذلك وسائر ما ذكرنا هنالك.
وقد كتبنا في مناقضتهم في هذا الباب وغيره كتابا ضخما تقصينا فيه عظيم تناقضهم، وفاحش تضاد حجاجهم وأقوالهم، ونذكر هنا إن شاء الله تعالى يسيرا دالا على الكثير، إذ لو جمع تناقضهم لاتى منه ديوان أكبر من ديواننا هذا كله، نعم وقد تعدوا عقدهم الفاسد في هذا الباب، إلى أن قلدوا قول صاحب قد خالفه غير من الصحابة في قولهم ذلك، أو قد صح رجوع ذلك الصاحب عن ذلك القول، فاحتجوا به وادعوا إجماعا.
فمن ذلك: احتجاج المالكيين في التحريم على الناكح جاهلا في العدة يدخل بها أن يتزوجها أبدا، احتجاجا بما روي عن عمر في ذلك، وقد صح عن علي
خلافه، وصح رجوع عمر عن القول وكتعلقهم بما روي عن عمر في امرأة المفقودة.
وقد خالفه عثمان وعلي في ذلك.
وكتعليق الحنفيين بما روي عن ابن مسعود في جعل الآبق، وخالفوه في تلك القضية نفسها في تحديد المسافة، وكتوريثهم المطلقة ثلاثا في المرض، تعلقا بعمر وعثمان، وقد خالفهما ابن عباس وابن الزبير، وقد اختلف عمر وعثمان في ذلك أيضا.
وكخلاف المالكيين والشافعيين عمر بن الخطاب، وتقليد الحنفيين له فيما صح عنه من طريق الشعبي عن شريح أنه كتب إليه أن يحكم في غير الدابة بربع ثمنها، وكتقليد المالكيين والحنفيين له في جلده في الخمر أربعين، وخالفه الشافعيون في ذلك، وقد صح عن عمر وعثمان وعلي وأبي بكر جلد أربعين في الخمر.
وكتقليد المالكيين والحنفيين لعائشة أم المؤمنين، في ما لم يصح عنها في إنكارها بيع شئ إلى أجل ثم يبتاعه البائع له بأقل من ذلك الثمن، وخالفها الشافعي في ذلك، وخالفها فيه أيضا زيد بن أرقم.
وكتقليدهم عمر في أجل العنين(4/568)
وقد خالفه في ذلك علي ومعاوية والمغيرة بن شعبة، وكتقليد الحنفيين والمالكيين عمر في تقويم الدية بالذهب والفضة، وخالفه الشافعي، وخالفه الحنفيون والمالكيون أيضا في تقويم الدية بالبقر والغنم والحلل، وكتقليد المالكيين والحنفيين ما روي عن أبي بكر وعمر وعثمان في حيازة الهبات، وقد خالفهم ابن مسعود، وروي الخلاف في ذلك عن أبي بكر.
وكتقليد المالكيين والشافعيين لعمر في رد المنكوحة بالعيوب.
وخالفوه في الرجوع بالصداق وخالفه في ذلك علي وغيره، وكخلاف المالكيين والشافعيين عمر وابن مسعود في قولهما: من ملك ذار رحم محرم فهو حر، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة في ذلك.
وكخلاف المالكيين والزبير وقدامة بن مظعون
وأبا الدرداء وابن مسعود في إباحة نكاح المريض.
ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف.
وكمخالفة الحنفيين والمالكيين أبا بكر وعمر وخالد بن الوليد وابن الزبير وعثمان، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم في القود من اللطمة وكسر الفخذ لا يعرف لهم من الصحابة مخالف كخلافهم في إضعاف القيمة في ناقة المزني، ولا يعرف من الصحابة مخالف في ذلك.
وكخلافهم عمر في قضائه في الترقوة بحمل وفي ضلع بحمل، ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة.
ومثل هذا لهم كثير جدا يجاوز المئين من القضايا، قد جمعناها والحمد لله في كتابنا الموسوم بكتاب الاعراب عن الحيرة والالتباس الموجودين في مذاهب أهل الرأي والقياس.
قال أبو محمد: وأما قول من قال منهم: إذا كان ذلك من فعل الامام فهم أترك الناس لذلك، مع تعري قولهم من الدلالة، ومما حضر ذكره من ذلك احتجاجهم في جلد الشاهد بالزنى والشاهدين والثلاثة - إذ لم يتموا أربعة - حد القاذف، احتجاجا بجلد عمر أبا بكرة ونافعا وشبل بن معبد بحضرة الصحابة ثم لم يستحيوا ولا بالوا من خلاف عمر في تلكخ القضية بعينها بحضرة الصحابة في ذلك المقام نفسه.
إذ قال أبو بكرة لما تم جلده وقام: أشهد أن المغيرة زنى، فأراد عمر جلده فقال له علي: إن جلدته فارجم المغيرة فتركه، وكلهم يرى جلده ثانيا إذا قالها بعد تمام جلده، أفلا حياء إذ لا تقوى، وهل سمع بأفحش من هذا العمل وأفصح منه ؟ ومثل هذا لهم كثيرا جدا.(4/569)
وأما دعواهم وقولهم في الاشتهار والانتشار، فطريف جدا وإنما هم قوم أتى أسلافهم كأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن، وعيسى بن أبان ونظرائهم، وكمالك وابن وهب وسحنون وإسماعيل ونظرائهم وكالشافعي والمزني والربيع وابن شريح ونظرائهم فاحتجوا لما قاله الاول منهم بمرسل أو رواية عن صاحب نجدها
في الاكثر لا تصح، أو تصح ونجد فيها خلافا من صاحب آخر، أو لا نجد فأشاعوها في أتباعهم فتلقاها الاتباع عنهم وتدارسوها وتهادوها بينهم، وأذاعوا عند القلة الآخذة عنهم فتداولوها على ألسنتهم ومجامعهم وفي تواليفهم.
وفي مناظرتهم بينهم أو مع خصومهم فوسموها بالانتشار والاشتهار والتواتر، ونقل الكوا ف وهي في أصلها هباء منبث وباطل مولد، أو خامل في مبدئه وإن كان صحيحا لم يعر ف منتشرا قط.
فهذه صفة ما تدعون فيه الانتشار والتواتر، كالخبر المضاف إلى معاذرضي الله عنه في اجتهاد الرأي فما عرفه قط أحد في عصر الصحابة، ولا جاء قط عن أحد منهم أنه ذكره لا من طريق صحيحة ولا من طريق واهية، ولا متصلة ولا منقطعة، ولا جاء قط عن أحد التابعين أنه عرفه ولا ذكره في رواية صحيحة ولا سقيمة لا موصولة ولا مقطوعة، حتى ذكره أبو عون محمد بن عبيد الله وحده.
وإنما أخذه عن مجهول لا يعرف احد عن مثله فيما ادعى وزعم ذلك المجهول أيضا، فأخذه عن أبي عون فيما بلغنا رجلان فقط، شعبة وأبو إسحاق الشيباني، ثم اختلفوا أيضا في كافة لفظه ومعناه على أبي عون فلما ظفر القائلون بالرأي عند شعبة وثبوا عليه وطاروا به شرقا وغربا، وكادوا يضربون الطبول حتى عرفه من لا يعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة، وادعوا فيه التواتر.
ومعاذ الله من هذا فما أصله إلا مظلم ولا مخرجه إلا واه، ولا منبعثه إلا من باطل وتوليد موضوع مفتعل ممن لا يعرف عمن لم يسم ممن لم يعرف قط في عصر الصحابة ولا في عصر التابعين، ولا ذكره أحد منهم غير أبي عون بن عبيد الله الثقفي وحده كما ذكرنا، فهذه صفة جمهور ما يدعون فيه التواتر والانتشار، بل صفة جميعه، وأتوا إلى المشهور المنتشر الفاشي فخالفوه بلا كلفة ولا مؤنة، كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا بالاصحاب، وككونه صلى الله عليه وسلم إمامنا في(4/570)
صلاة ابتدأها أبو بكر، وكالمساقاة إلى غير أجل، وغير ذلك من حكم عمر في إضعاف القيمة في ناقة المزني على رقيق حاطب وإضعاف عثمان الدية على القاتل في الحرم وغير ذلك كثير جدا.
قال أبو محمد: وفي كلامنا في الفصل الذي ذكرنا آنفا في كلامنا في الاجماع الذي أبطلنا فيه قول من قال: إن ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع إبطال لقولهم في هذا الباب، لانه إذا بطل القول بدعوى الاجماع فيما لا يعرف فيه خلاف، والقول بدعوى الاجماع فيما يوجد فيه الخلاف العظيم أظهر بطلانا وأفحش سقوطا.
قال أبو محمد: وليست منهم طائفة إلا وهي تضحك غيرها منهم بهذا الحجر يعني مخالفة الصاحب الذي لا يعرف له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم، فإن كان هذا إجماعا ومخالف الاجماع عندهم كافر فكلهم كافر على هذا الاصل الفاسد.
إذ ليس منهم طائفة إلا وقد خالفت صاحبا فيما لا يعرف له من الصحابة رضي الله عنهم مخالف، في أزيد من مائة قضية وتمادوا عليها مع احتجاج بعضهم على بعض بذلك وتنكيثهم لهم أبدا ويلزمهم تكفير فضلاء التابعين بمثل هذا نفسه، ولا بد لهم ضرورة من هذا أو من ترك دعواهم في هذا الفصل الاجماع، وهذا أولى بهم لانه ترفيه عن أنفسهم، وترك لدعوى الكذب وقصة واحدة تكفي في خلاف الاجماع إذا قامت به الحجة على مخالفه، فكيف وقد جمعنا لهم من ذلك مئين من المسائل على كل طائفة من الحنفيين والمالكيين والشافعيين وبالله التوفيق.
وأما قول من قال منهم: إن قول الصاحب الذي لا يعرف له من الصحابة مخالف حجة وليس إجماعا فهو أيضا عائد عليهم فيما خالفوا فيه الذي لا يعرف له منهم مخالف، وسيأتي الرد على هذا القول في باب الكلام في إبطال التقليد إن شاء الله عز وجل وبه نستعين، لا إله إلا هو ويكفي من إبطال ذلك أنه لم يأت
قرآن ولاسنة بإيجاب تقليد الصاحب الذي لا يعرف له منهم مخالف لا سيما فيما خالف تلك الرواية عن ذلك الصاحب نص القرآن أو السنة الثابتة، وفي هذا خالفناهم لا في رواية عن صاحب موافقة للقرآن أو السنة وإذا لم يأت بذلك قرآن ولا سنة فهو قول فاسد ودعوى باطلة، وإنما جاء النص باتباع القرآن وبيان النبي صلى الله عليه وسلم فقط وبأالدين قد كمل والحمد لله رب العالمين.(4/571)
فصل في من قال ليس لاحد أن يختار بعد أبي حنيفة، وأبي يوسف وزفر بن الهذيل العنبري ومحمد بن الحسن مولى بني شيبان، والحسن بن زياد اللؤلؤي.
وقول بكر بن العلاء: ليس لاحد أن يختار بعد التابعين من التاريخ.
وقول القائل: ليس لاحد أن يختار بعد الاوزاعي وسفيان الثوري ووكيع بن الجراح الكلابي، وعبد الله بن المبارك مولى بني حنظلة - فأقوال في غاية الفساد، وكيد الدين لا خفاء به، وضلامغلق وكذب على الله تعالى، إذا نسبوا ذلك إليه أو دين جديد أتونا به من عند أنفسهم ليس من دين محمد صلى الله عليه وسلم في شئ وهي كما نرى متدافعة متفاسدة، ودعاوى متفاضحة متكاذبة ليس بعضها بأولى من بعض ولا بعضها بأدخل في الضلالة والحمق من بعض.
ويقال لبكر من بينهم فإذا لا يجوز الاختيار بعد المائتين عندك ولا غيرك، فمن أين ساغ لك وأنت لم تولد إلا بعد المائتين بنحو ستين سنة أن تختار قول مالك دون من هو أفضل منه من الصحابة والتابعين، أو من هو مثله من فقهاء الامصار أو من جاء بعد متعقبا عليه وعلى غيره، ممن هو أعلم منه بالسنن وأصح نظرا أمثله، كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهما.
ويقال له أيضا: إن قولك هذا السخيف الدال على ضلالة قائله وجهالته
وابتداعه ما لم يقله مسلم قبله يوجب أن أشهب وابن الماجشون ومطرف بن عبد الله وأصبغ بن الفرج وسحنون بن سعيد وأحمد بن المعدل وهم أئمتك بإقرارك كان لهم أن يختاروا إلى أن انسلخ ذو الحجة من سنة مائتين، فلما استهل هلال المحرم من سنة إحدى ومائتين وغابت الشمس من تلك حرم عليهم في الوقت بلا مهلة ما كان مطلقا لهم قبل ذلك من الاختيار فهل سمع بأسخف من هذا الاختلاط وليت شعري ما الفرق بين سنة مائتين وبين سنة ثلاثمائة أو أربعمائة أو غيرها من سني التاريخ.
ويقال للحنفيين: أليس من عجائب الدنيا تجويزكم الاختيار والقول في دين الله تعالى بالظن الكاذب، والرأي الفاسد، والشرع لما لم يأذن به الله تعالى لابي حنيفة(4/572)
وأبي يوسف وزفر ومحمد بن الحسن واللؤلؤي على جهلهم بالسنن والآثار، وفساد رأيهم وقياساتهم التي لم يوفقوا منها إلا لكل بار متخاذل، والتي هي في المضاحك أدخل منها في الجد، ويجعلون تلك الاقوال الفاسدة خلافا على القرآن وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يجيزون الاخذ بالسنن الثابتة للشافعي، ولا لاحمد بن حنبل، ولا لاسحاق بن راهويه، وداود بن علي، وأبي ثور، ومحمد بن نصر ونظرائهم، على سعة علم هؤلاء بالسنن، ووقوفهم على الصحيح منها والسقيم، وعلى تبحرهم في معرفة أقوال الصحابة والتابعين، وثقة نظرهم.
ولطف استخراجهم للدلائل.
وأن من قال منهم بالقياس فقياسه من أعذب القياس وأبعده من ظهور الفساد فيه وأجرأه على علته مع شدة ورع هؤلاء، وما منحهم الله تعالى من محبة المؤمنين لهم، وتعظيم المسلمين علمائهم وعامتهم لهم، وحلول أبي حنيفة وأصحابه في صدر هذه المنازل.
فإن موهوا بتقدم عصر أبي حنيفة، وموه المالكيون بتقديم عصر مالك وتأخر
عصر من ذكرنا، قلنا: هذا عجب آخر، وقد علمنا وعلمتم أنه لم يكن بين آخر وقت فتيا أبي حنيفة وأول أوقات الشافعي إلا نحو ثلاثين عاما، ولم يكن بين آخر فتيا مالك وبين أول فتيا الشافعي إلا عام أو نحوه ولعله قد أفتى في حياة مالك.
وقد أفتى الشافعي، وأبو يوسف ومحمد بن الحسن واللؤلؤي أحياء وكذلك أفتى المغيرة وابن كنانة وابن القاسم وابن وهب وأشهب وابن الماجشون أحياء، ومات الشافعي وأشهب في شهر واحد، ومات الحسن بن زياد بعدهم بنحو عام ومات الماجشون ومطرف بعدهما بأعوام كثيرة.
فليت شعري من المبيح لبعضهم ما حجزوه عن بعض ؟ ثم لم يكن بين آخر فتيا مالك وأول وقت فتيا أحمد وإسحاق وأبي ثور إلا عشرين عاما أفي مدة عشرين عاما يغلق باب الاختبار ؟ تعالى الله عن قول المجانين، وكل هؤلاء أفتى والحسن بن زياد حي.
فما الذي أباح للحسن بن زياد ولابن القاسم من الفتيا، ما لم يبح لاحمد وإسحاق وأبي ثور ؟ وبالله إن بينهم وبين ذينك من التفاوت في العلم أكثر مما بين المشرق والمغرب ثم أفتى داود بن علي ومحمد بن نصر ونظراؤهما مع أحمد وإسحاق وأبي ثور، ثم هكذا ينشأ العلماء ويموت العلماء عاما عاما، وما هو(4/573)
إلا ليلة ثم جمعة ثم شهر إلى شهر وعام إلى عام، حتى يرث الله الارض ومن عليها، فمن حد حدا أو وقف الاختيار عليه ومنعه بعده فقد سخف وكذب واخترع دين ضلالة وقال بلا علم، ونعوذ بالله العظيم من مثل هذا.
قال الله عز وجل: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) * وقال تعالى: * (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) * وقال تعالى: * (اتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) * وقال تعالى * (فاسئلوا أهل الذكران كنتم تعلمون) *
فلم يخص عز وجل عصرا من عصر، ولا إنسانا من إنسان.
فمن خالف هذا فهو مضل داخل في أعداد النوكى لاطلاقه لسانه بالتخليط.
والحق في هذا الذي لا يحل خلافه، فهو إن خالف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى في القرآن وفي السنن المبينة للقرآن، لا يحل لاحد أصلا ولا يجوز أن يعد قول قائل - كائنا من كان - خلافا لذلك، بل يطرح على كل حال.
وأما خلاف أبي حنيفة ومالك ففرض على الامة، لا نقول مباح، بل فرض لا يحل تعديه، لانهما لا يخلو أن في كل فتيا لهم من أحد وجهين لا ثالث لهما أصلا، إما موافقة النص من القرآن والسنة الثابتة، وإما مخالفة النص كذلك، فإن كانت فتياهما أو فتيا أحدهما موافقة نص القرآن أو السنة، فالمتبع هو القرآن والسنة لا قول أبي حنيفة ولا قول مالك، لان الله تعالى لم يأمرنا قط باتباعهما فمتبعهما مخالف لله تعالى، وإن كانت فتياهما مخالفة للنص، فلا يحل لاحد اتباع ما خالف نص القرآن والسنة، وهكذا نقول في كل مفت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أنبأنا محمد بن سعيد بن نبات، نا أحمد بن عون الله، نا قاسم بن أصبغ، نا محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن المثنى، نا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري عن عبد الله بن طاوس عن أبيه قال: قال معاوية لابن عباس: أنت على ملة علي ؟ قال: ولا على ملة عثمان، أنا على ملة النبي صلى الله عليه وسلم .
نا يونس بن عبد الله بن مغيث، نا يحيى بن عابد، نا الحسين بن أحمد بن أبي خليفة، نا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي، نا يوسف بن يزيد القراطيسي، نا سعيد بن منصور، نا هشيم عن المغيرة بن مقسم، عن إبراهيم النخعي قال: كان يكره أن يقال سنة أبي بكر وعمر، ولكن سنة(4/574)
الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
نا حمام بن أحمد، نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي، نا عبد الله بن يونس المرادي، نا بقي بن مخلد، نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا محمد بن بشر،
نا عبد الله بن الوليد، نا عبيد بن الحسين.
قال: قالت الخوارج لعمر بن عبد العزيز: تريد أن تسير فينا بسيرة عمر بن الخطاب، قال عمر بن عبد العزيز: قاتلهم الله، ما أردت دون رسول الله إماما.
فهؤلاء الصحابة والتابعون فيمن تعلق المخالفون ؟ فإن موهوا، بكثرة أتباع أبي حنيفة ومالك وبولاية أصحابهما القضاء فقد قدمنا أن الكثرة لا حجة فيها ويكفي من هذا قول الله عز وجل: * (وإن تطع أكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله) * وقال: * (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم) * وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن هذا الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء وأنذر عليه السلام بدروس العلم وظهور الجهل.
فلعمري لئن كان العلم ما هم عليه من حفظ رأي أبي حنيفة ومالك والشافعي فما كان العلم قط أكثر مما هو منه الآن، وهيهات: إذا هبطت نجران من رمل عالج فقولا لها ليس الطريق هنالك ولكن الحق والصدق هوما أنذر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من دروس العلم والذي درس هو اتباع القرآن والسنن، فهذا هو الذي قل بلا شك وأصحابه هم الغرباء القليلون، جعلنا الله منهم ولا عدا بنا عنهم، وثبتنا في عدادهم، وأحشرنا في سوادهم.
آمين آمين.
وأما ولايتهم القضاء فهذه أخزى وأندم، وما عناية جورة الامراء، وظلمة الوزراء خلة محمودة ولا خصلة مرغوب فيها في الآخرة، وأولئك القضاة وقد عرفناهم إنما ولاهم الطغاة العتاة من ملوك بني العباس وبني مروان، بالعنايات والتزلف إليهم عند دروس الخير وانتشار البلاء وعودة الخلافة ملكا عضوضا وانبراء على أهل الاسلام وابتزازا للامة أمرها بالغلبة والعسف، فأولئك القضاة هم مثل من ولاهم من المبطلين سنن الاسلام، المحيين لسنن الجور والمكر(4/575)
والقبالات وأنواع الظلم وحل عرى الاسلام، وقد علمنا أحوال أولئك القضاة الذين يأخذون دينهم عنهم، وكيف كانوا في مشاهدة إظهار البدع من المحنة في القرآن بالسيف والسياط والسجن والقيد والنفي ثم سائر ما كانوا يتشاهدونه معهم على ما استعانوا هم عليه من تسمية أمور ملكهم، فمثل هؤلاء لا يتكثر بهم وإنما كان أصل ذلك تغلب أبي يوسف على هارون الرشيد وتغلب يحيى بن يحيى على عبد الرحمن بن الحكم فلم يقلد للقضاء شرقا وغربا إلا من أشار به هذان الرجلان واعتنيا به، والناس حراص على الدنيا فتلمذ لهما الجمهور، لا تدينا لكن طلبا للدنيا، وولاية القضاء والفتيا، والتديك على الجيران في المدن والارياض والقرى، واكتساب المال بالتسمي بالفقه.
هذا أمر لا يقدر أحد على إنكاره فاضطرت العامة إليهم في أحكامهم وفتياهم وعقودهم ففشا المذهبان فشوا طبق الدنيا.
قال الله عز وجل: * (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب) * وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات وصار من خالفهم مقصودا بالاذى مطلوبا في دمه أو مهجورا مرفوضا إن عجزوا عن أذاه لمنزلة له عند السلطان أو لكفه للسانه وسده لبابه إذ وسعته التقية والصبر صبر.
وكذلك إفريقية كان الغالب فيها السنن والقرآن إلى أن غلب أسد بن الفرات بن أبي حنيفة، ثم ثار عليهم سحنون بن أبي مالك فصار القضاء فيهم دولا، يتصاولون على الدنيا تصاول الفحول على الشول إلى أن تولى القضاء بها بنو هاشم الخيار، وكان مالكيا فتوارثوا القضاء كما تورث الضياع فرجعوا كلهم إلى رأي مالك طمعا في الرياسة عند العامة فقط.
هذا أمر لا يقدر أحد على إنكاره، قرب إلينا داء الامم قبلنا.
كما قال(4/576)
رسول الله صلى الله عليه وسلم : إننا سنركب سنن من قبلنا.
فقيل: اليهود والنصارى يا رسول الله ؟ قال: فمن إذا وهذا مما أنذر به رسول الله، فهو من معجزات نبوته وبراهينه عليه السلام، وهكذا قلدت هاتان الطائفتان أحبارهم وأساقفتهم فحملوهم على آرائهم.
قال أبو محمد: وتكلموا أيضا في معنى نسبوه إلى الاجماع، وهو أن يختلف المسلمون في مسألتين على أقوال، فيقوم برهان من النص على صحة أحد تلك الاقوال في المسألة الواحدة.
فقال أبو سليمان: إنه برهان على صحة قولهم في المسألة الاخرى، وخالفه في ذلك ابنه أبو بكر وأبو الحسن بن المغلس وجمهور أصحابنا، وقول أبي سليمان في هذه المسألة خطأ لا خفاء به، لانه قول بلا برهان ثم يجب لو صح هذا أن يكون صواب من أصحاب في مسألة برهانا على أنه مصيب في كل مسألة قالها، وهذا لا يخفى على أحد بطلانه، وما ندري كيف وقع لابي سليمان هذا الوهم الظاهر الذي لا يشكل ؟ وتكلموا أيضا في معنى نسبة هذا الاجماع وهو أن يصح إجماع الناس، على أن حكم أمر كذا كحكم أمر كذا، ثم اختلفوا فمن مانع لا من موجب، ومن مبيح لكليهما، أو مموجب حكما في كليهما، فقال برهان من النص على حكم ما جاء في إحدى المسألتين، فواجب أن يكون حكم الاخرى كحكمها لصحة الاجماع على أن حكمهما سواء.
قال أبو محمد: لو أمكن ضبط جميع أقوال علماء جميع أهل الاسلام، حتى لا يشذ منها شئ لكان هذا حكما صحيحا، ولكن لا سبيل لضبط ذلك البتة، وغير ما قدمنا مما لا يكون مسلما من لم يقل به، وحتى لو أمكن معرفة
قول العالم، فقد كان يمكن رجوعه عن ذلك القول إذا ولى عنه السائل ليعرف قول غيره فوضح أنه لا سبيل البتة، ولا إمكان أصلا في حصر أقوال جميع علماء أهل الاسلام في فتيا خارجة عن الجملة التي ذكرنا.
قال أبو محمد: ونحن في غنى فائض ولله الحمد عن هذا التكلف.
وفي مناديح رحبة في هذا التعسف بنصوص القرآن والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فلا سبيل إلى وجود شرع لم ينص على حكمه والحمد لله رب العالمين.(4/577)
والمتكلمون في هذه المسألة حكمهم فيها بالمساقاة والمزارعة على الثلث والربع فإنهم قالوا: قد اختلف في الناس في ذلك، فمن مانع من المساقاة أو المزارعة جملة، ومن مبيح لها جملة، ثم صح النص بإباحتها عن النصف، وقد صح الاجماع على أن حكمها أقل من النصف، وأكثر من النصف كالحكم في النصف.
قال أبو محمد: ما نحتاج إلى هذه الشغاب الحرجة، والدعاوى المعوجة، بل نقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح لاصحاب الضياع في تلك المعاملة النصف، والمعاملين النصف، فدخلها دون النصف ضرورة بالمشاهدة فيما جعل لكل طائفة من النصف، فإذا تراضى الفريقان على أن يترك أحدهما مما يجعل له أخذه جزءا مسمى، ويقتصر على بعضه.
فذلك له، إذ كل أحد محكم في مثل ذلك مما جعل له كما لو وهب الوارث بعض ميراث لمن يشركه في الميراث أو لغيره، فإن قيل: فهلا أجزتم هذا بعينه في التراضي فيما يقع فيه الربا على خلاف التماثل ؟ قلنا: لم يجز ذلك لان النص الوارد في الربا مما عنى التماثل، وحظره وتوعدنا عليه، ولم يأت حكم نص المساقاة المزارعة والمواريث واشتراط مال المملوك المبيع والثمرة المأبورة بالمنع مما عدا ذلك، بل أباح الاشتراط للنصف أو الكل، ولم يمنع ما دخل في الاباحة المذكورة بالنص ما هو أقل من النصف أو الكل، وبالله التوفيق.
قال أبو محمد علي: وكثيرا ما نحتج مع المخالفين بما أجمعوا عليه معنا، ثم ننكر عليهم الانتقال عنه إلى حكم آخر، كقولنا لمن حرم الماء وحكم بنجاسته في إبل حرام حله، فلم يغير لونه ولا طعمه ولا ريحه، ومثل هذا كثير جدا فعاب ذلك علينا من لم يحصل وقال: قد جمعتم في هذه الطريق وجهين من عظيمين، أحدهما الاحتجاج بإجماعهم معكم، وأنتم تنكرون دعوى معنى الاجماع، وتجعلونها كذبا على الامر أن يقال لكم: فما الذي أنكرتم على اليهود إذ قالوا: قد أجمعتم معنا على نبوة موسى عليه السلام وصحة التوراة وحكم السبت، وخالفناكم في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصحة القرآن وشرائع دينكم.
قال أبو محمد: فقلنا: ما تناقضنا في شئ من ذلك، وأما احتجاجنا على مخالفينا موافقتهم لنا على حكم ما، وإنكارنا عليه الخروج مما أجمع معنا عليه فإنما فعلنا ذلك لخروجه عما قد حكم بصحته إلى قول آخر بلا برهان من قرآن أو سنة فقط،(4/578)
فبينا عليهم القول في الدين بلا برهان، وهذا حرام ومعيب بالقرآن والسنة، ولم ندع إجماعا ولم نصححه، إنما ادعينا على الخصم ما ينكره من إجماعه معنا، بمعنى موافقته لنا فقط، فلاح الفرق بين الدعوى المكذوبة، وأما الذي أنكرناه على اليهود فإنه ضد المسألة التي تكلمنا فيها آنفا وهو امتناع اليهود من الاقرار بما ظهر البرهان بصحته وأقوى من برهانهم على ما ادعوا أننا أجمعنا معهم عليه، وأنكرنا على المذكورين آنفا أن قالوا قولا بلا برهان، وخروجهم عما قد صح البرهان بصحته، وأنكرنا على اليهود تركهم القول بما قد صح برهانه، وتماديهم على ما قد صح البرهان ببطلانه وسلكنا بين الطائفتين طريق الحق وشارع النجاة، والحمد لله رب العالمين، وهو الثبات مع البرهان إذا ثبت، والانتقال معه إذا نقل فقط، وبالله تعالى التوفيق.
فصل في معنى نسبوه إلى الاجماع وتكلموا أيضا في معنى نسبوه إلى الاجماع وهو: أن ذكروا أن يختلف الناس على قولين فأكثر في مسألة، فيشهد النص من القرآن والسنة بصحة قول من تلك الاقوال، فيبطل سائرها، ثم تقع فروع من تلك المسألة، فقالوا: يجب أن يكون المقول به، هو ما قاله من شهد النص لصحه قوله في أصل تلك المسألة، ونظروا ذلك بالحكم العاقلة.
قال بها قوم ولم يعرفها قوم، منهم عثمان البتي فصح النص بقول من صححها، فلما صرنا إلى من هم العاقلة، وجب أن ينظروا إلى من أجمع القائلون بالعاقلة على أنه من العاقلة، فيكون من العاقلة ومن اختلفوا فيه أهو من العاقلة أم لا ألا يكون من العاقلة ؟
قال أبو محمد: وقولنا ههنا هو قولنا فيما سلف من أنه إذا أمكن أن يعرف الاجماع في ذلك لكان حجة، لكن لا سبيل إلى إحصائهم ولا إلى حصر أقوالهم لما قدمنا قبل، ونحن في سعة والحمد لله عن التعلق بهذه الثنايا الاشبة والتورط في هذه المضايق القشبة بما قد بينه لنا ربنا عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم من النص(4/579)
الذي لا دين لنا فيه، وما عداه فليس من دين الله تعالى ولا من عنده عز وجل، وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل بطن عقولة، وألزم اليهودية من قتل بينهم لو اعترفوا أنه قتله بعضهم خطأ أو قام بذلك بينة، فوجب بذلك أن العاقلة هم بطن القاتل خطأ الذي ينتمي إليه حتى بلغ إلى القبيلة التي تقف عندها، وهكذا في كل شئ، والحمد لله رب العالمين.
فصل واختلفوا: هل يدخل أهل الاهواء أم لا ؟
قال أبو محمد: قد أوضحنا قبل والحمد لله رب العالمين أن الاجماع لا يكون البتة
إلا عن نص منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا على باطل لم يأت من عند الله تعالى من رأي ذي رأي، أو قياس من قائس يحكمان بالظن فإن ذلك كذلك والسؤال باق، وهل نقبل نقل أهل الاهواء وروايتهم ؟ فقولنا في هذا وبالله تعالى التوفيق: إن من يشهد بقلبه ولسانه أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن كل ما جاء به حق، وأنه برئ من كل دين غير دين محمد صلى الله عليه وسلم ،فهو المؤمن المسلم، ونقله واجب قبوله، إذا حفظ ما ينقل، ما لم يمل إيمانه إلى كفر أو فسق، وأهل الاهواء وأهل كل مقالة خالفت الحق، وأهل كل عمل خالف الحق، مسلمون أخطؤوا ما لم تقم عليهم الحجة فلا يكدح شئ من هذا في إيمانهم ولا في عدالتهم، بل هم مأجورون على ما دانوا به من ذلك وعملوا أجرا واحدا، إذا قصدوا به الخير ولا إثم عليهم في الخطأ، لان الله تعالى يقول: * (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) * ونقلهم واجب قبوله كما كانوا، وكذلك شهادتهم، حتى إذا قامت على أحد منهم الحجة في ذلك من نص قرآن أو سنة ما لم تخص ولا نسخت، فأيما تمادى على التدين بخلاف الله عز وجل، أو خلاف رسوله صلى الله عليه وسلم ،أو نطق بذلك، فهو كافر مرتد، لقول الله تعالى: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) *، وإن لم يدن(4/580)
لذلك بقلبه ولا نطق به لسانه لكن تمادى على العمل بخلاف القرآن والسنة، فهو فاسق بعمله مؤمن بحقده، وقوله: ولا يجوز قبول نقل كافر ولا فاسق ولا شهادتهما، قال الله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ) *.
والآية.
وقد فرق بعض السلف بين الداعية وغير الداعية.
قال أبو محمد: وهذا خطأ فاحش، وقول بلا برهان، ولا يخلو المخالف للحق من أن يكون معذورا بأنه لم تقم عليه الحجة، أو غير معذور لانه قامت
عليه الحجة فإن كان معذورا فالداعية وغير الداعية سواء كلاهما معذور مأجور، وإن كان غير معذور، لانه قد قامت عليه الحجة، فالداعية وغير الداعية سواء، وكلاهما إما كافر كما قدمنا، وإما فاسق كما وصفنا، وبالله تعالى التوفيق.
ولا فرق فيما ذكرنا بين من يخالف الحق بنحلة أو بفتيا إذا لم يفرق الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم بين ذلك، إنما قال: * (اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم) * عم عز وجل ولم يخص.
قال بعضهم: إن الصحابة اختلفوا في الفتيا فلم ينكر بعضهم على بعض بل أنكروا على من خالف في ذلك، قلنا: ليس كما قلتم، إنما لم ينكروا على من لم تقم الحجة عليه في المسألة فقط.
وأنكروا أشد الانكار على من خالف بعد قيام الحجة عليه، وكيف لم ينكروا وقد ضربوا على ذلك بالسيوف من خالفهم فأي إنكار أشد من هذا ؟ أو ليس عمر قد قال: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يموت حتى يكون آخرنا موتا، وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم فما قدح هذا في عدالته، إذ قال مخطئا ثم رجع إلى الحق إذ سمع القرآن: * (إنك ميت وإنهم ميتون) * وإن المتمادي على هذا القول بعد قيام الحجة عليه كافر من جملة غالية السبائية، أو ليس ابن عباس يقول: أما تخافون أن يخسف الله بكم الارض أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر.
وكان إسحاق بن راهويه يقول فيما روى عنه محمد بن نصر المروزي في الامام، أنه سمعه يقول: من صح عنده حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم خالفه - يعني باعتقاده - فهو كافر.
قال أبو محمد: صدق والله إسحاق رحمه الله تعالى، وبهذا نقول وقد روي عن عمر أنه قتل رجلا أبى عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي بحكم عمر، وكيف(4/581)
لو أدرك عمر وابن عباس رضي الله عنهما، وإسحاق رحمه الله من نقول له قال
أما تخافون أن يخسف الله بكم الارض أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر.
وكان إسحاق بن راهويه يقول فيما روى عنه محمد بن نصر المروزي في الامام، أنه سمعه يقول: من صح عنده حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم خالفه - يعني باعتقاده - فهو كافر.
قال أبو محمد: صدق والله إسحاق رحمه الله تعالى، وبهذا نقول وقد روي عن عمر أنه قتل رجلا أبى عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي بحكم عمر، وكيف(4/582)
لو أدرك عمر وابن عباس رضي الله عنهما، وإسحاق رحمه الله من نقول له قال الله عز وجل كذا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا قال: أبى سحنون ذلك، ومن قلنا له: هذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فقال: أنا في غنى عنه ما أحتاج إليه مع قول العلماء ومن قال لنا: لو رأيت شيوخي يستدبرون القبلة في صلاتهم ما صليت إلى القبلة.
والله ما في بدع أهل البدع شئ يفوق هذه.
وليت شعري إن كان هؤلاء القوم مؤمنون بالله تعالى وبالبعث، وبأنهم موقوفون وأن الله سيقول لهم: ألا امركم باتباع كتابي المنزل، وبنبي المرسل، ألم أنهكم عن اتباع آبائكم ورؤسائكم، ألم آمركم برد ما تنازعتم فيه إلي وإلى رسولي، وقدمت إليكم الوعيد ؟ فماذا أعدوا من الجواب لذلك الموقف الفظيع، والمقام الشنيع ؟ والله لتطولن ندامتهم حين لا ينفعهم الندم، وكأن به قد أزف وحل.
نسأل الله أن يوزعنا شكر ما من علينا من اتباع كلامه، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم ومن أن بغض إلينا اتباع من دونه ودون رسوله صلى الله عليه وسلم ،ونسأله أن يميتنا على ذلك، وأن يفئ بأهل الجهالة والضلالة، آمين آمين.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الكريم.
ثم الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس إن شاء الله)(4/582)
الاحكام
ابن حزم ج 5(5/)
الاحكام في أصول الاحكام
للحافظ ابى محمد على بن حزم الاندلسي الظاهرى
هذا الكتاب النفيس، الذى لم تر العين مثيله في علم الاصول (أحمد شاكر)
قوبلت على نسخة أشرف على طبعها
الاستاذ العلامة أحمد شاكر رحمه الله
الناشر زكريا على يوسف
مطبعة العاصمة بالقاهرة - ت 23680(5/589)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
الباب الثالث والعشرون في استصحاب الحال وبطلان جميع العقود والعهود والشروط الا ما اوجبه منها قرآن أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابته.
قال أبو محمد: إذا ورد النص من القرآن أو السنة الثابة في امر ما على حكم ما ثم ادعى مدح ان ذلك الحكم قد انتقل أو بطل من اجل انه انتقل ذلك الشى المحكوم فيه عن بعض احواله أو لتبدل زمانه أو لتبدل مكانه فعلى مدعى انتقال الحكم من اجل ذلك ان ياتي ببرهان من نص قرآن أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة على ان ذكل الحكم قد انتقل أو بطل فان جاء به صح قوله وان لم يات به فهو به مبطل فيما ادى من ذلك والفرض على الجميع الثبات على ما جاء به النص ما دام يبقى اسم ذلك الشى المحكوم فيه عليه لانه اليقين والنقلة دعوى وشرع لم ياذن الله تعالى به فهما مردودان كاذبان حتى اتى النص بهما.
ويلزم من خالفنا في هذا ان يطلب كل حين تجديد الدليل على لزوم الصلاة والزكاة وعلى صحة نكاحه امراته وعلى صحة ملكه لما يملك ويقال للمخالف في هذا: اخبرنا اتحكم انت بحكم آخر من عندك ؟ ام تقف فلا تحكم بشى اصلا لا بالحكم الذى كنت عليه ولا بغيره ؟ فان قال: بل اقف قيل له وقوفك حكم لم ياتك به نص وابطالك حكم النصر الذي قد اقررت بصحته خطا عظيم وكلاهما لا يجوز وان قال بل احدث حكما آخر قيل له: ابطلت حكم الله تعالى وعرعت شرعا لم ياذن به الله وكلاهما من الطوام المهلكة نعوذ با لله من كل شي.
ويقال له: في كل حكم تدين به لعله قد نسخ هذا النص أو لعل ههنا ما يخصه لم يبلغك ويقال له: لعلك قد قتلت مسلما أو زنيت قالحد أو القود عليك.(5/590)
فان قال: انا على البراءة حتى يصح على شي: ترك قوله الفاسد ورجع الى الحق وناقض إذ لم يكن سلك في كل شي هذا المسلك ويلزمهم ايضا كان لابراثوا موتاهم إذ لعلهم قد ارتدوا ا لعلهم قد تصدقوا بها أو لعلهم ادانوا ديونا نستخرقها.
فيلزمهم اقامة البينة على براءة موتاهم في حين موتهم على كل ذلك والذي يلزمهم يضيق عنه جلد الف بغير ويلزمهم ان لا يقولوا بتمادى نبوة نبي حتى يقيم كل حين البرهان على صحة نبوته.
واما نحن فلا ننتقل عن حكم الى حكم آخر الا ببرهان وكذلك نقول لكل من ادعى النبوة كمسيلة والاسود وغيرهما.
عهدنا كم غير انبياء فانتم على بطلان دعواكم حتى يصح ما يثبتها وكذلك نقول لمن ادعى ان فلانا قد حل دمه بردة أو زنا: عهدناه بريثا من كل ذلك فهو على السلامة حتى يصح الدليل على ما تدعيه وكذلك نقول لمن ادعى ان فلانا العدل قد نسق اوان فلانا الفاسق قد تعدل، أو ان فلانا الحى قد مات أو ان فلانة قد تزوجها فلان أو ان فلانا طلق امراته أو ان فلانا قد زال ملكه عما كان يملك أو ان فلانا قد ملك ما لم يكن يمكله وهكذا كل شي اننا على ما كنا عليه حتى يثبت خلافه.
فانما جاء قوم الى هذه الحماقات في مواضع يسيرة اخطئوا فيها فنصروا
خطاهم بما يبطل كل عقل وكل معقول، وذلك نحو قولهم: ان الماء إذا حلته نجاسة فقد تنجس وان من شك بعد يقينة بالوضوء فعليه الوضوء واشباه هذا.
فقالوا: ان الماء الذى حكم الله بطهارة لم يكن حلته نجاسة.
فقلنا لم: وان الرجل الذى حرم الله دمه لم يكن شاب ولاحلق راسه ولا عليه صفرة مرض لم يكن فيه فبدلوا حكمه لتبدل بعض احواله.
وقالوا: عليه أن لا يصلى الا بيقين طهارة لم يتلها شك.
قلنا: فحرموا على من شك أباع امته ام لم يبعها ان يطاها أو يملكها، لشكه في انتقال ملكه ؟ وحدوا كل من شككتم أزنى ان لم يزن.
وقد ذكرنا اعتراضهم بمسالة قول اليهود: قد وافقتمونا على صحة نبوة موسى صلى الله عليه وسلم.
وبينا اننا لم ننتقل الى الاقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا ببراهين(5/591)