الإجتهاد المقاصدي : ضوابطه ومجالاته ( الجزء الأول ) نور الدين الخادمي
تقديم الشيخ عبيد حسنة
الحمد الله الذي جعل غاية الرسالة الإسلامية ، ومقصدها الأساس إلحاق الرحمة بالعالمين ، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ( الأنبياء : 107 ) ، وقال: ( الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ) ( إبراهيم : 1) .
وبذلك يصبح إلحاق الرحمة بالإنسان ، بكل أبعادها ومعانيها ، من خلال تشريعات الإسلام ، وتنوير عقله بهدايات الوحي، هو المقصد والهدف لتعاليم الإسلام وأحكامه، والمعيار الضابط لحركة الاجتهاد والدعوة والتربية والتعليم والإعلام، وهو أساس المراجعة والتقويم والنقد للأداء، وتحديد مواطن القصور، ودراسة أسباب التقصير، وبيان مواقع الخلل، وسبيل إعادة اختبار الوسائل ومدى تحقيقها للمقاصد والأهداف، كما يصبح الارتباط بالهدف وتحقيق الغاية هو الموجه وضابط الإيقاع لحركة الإنسان المسلم وكسبه وأنشطته في الحياة كلها .
ولذلك جعل الإسلام النية، التي تعني تحديد الهدف وبعث العزيمة على الفعل، محور العمل، ومدار الحركة، ومناط الثواب، فقال رسول الله ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) ( متفق عليه من حديث عمر) ، فالنية من بعض الوجوه، هي الفكر قبل الفعل، والخطة قبل التنفيذ، والإرادة قبل القدرة، ورؤية الهدف، وعلم الطريق، واختيار الوسيلة الموصلة إلى الهدف، وهي العزيمة على الوصول قبل بدء الإقلاع .(1/1)
والصلاة والسلام على المنقذ من الضلال، المبين سبب ابتعاثه وغايته بقوله : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) ( رواه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، والحاكم، عن أبي هريرة )، الذي كانت سيرته أنموذجا للاقتداء والتأسي، وتجسيد معاني الإسلام وقيمه في حياة الإنسان، والذي جاءت رسالته وحياته تصويبا لقيم الدين وتصحيحا لمسالك التدين، وتبيينا لمقاصد الدين، وحلا للمعادلات الصعبة: بين هدايات الوحي، واجتهادات العقل .. بين الإيمان بالقدر، وممارسة الحرية وبين الإيمان بالمعجزات والسنن الخارقة المنوطة بقدرة الله ، وبين السنن الجارية التي تشكل أقدار الله التي تعبد بها الإنسان .. بين مطالب النفس والروح والعقل، ومطالب الجسد وشهواته وغرائزه .
فالناظر في حياته عليه الصلاة والسلام، المتأمل لسيرته، في مجال التخطيط والإعداد والفحص والاختبار للوسائل وتعاطي الأسباب، والتعامل مع السنن الجارية، ومغالبة قدر بقدر -وهو النبي الموحى إليه، المؤيد من الله، المعصوم من الناس- قد يتوهم وكأنه لا صلة له بالسماء وسننها الخارقة، الأمر الذي يدل بوضوح على أن الإنجاز والتكليف الذي تعبدنا الله به إنما يتحقق من خلال عزمات البشر .
والناظر في شأن توكله واعتماده على الله، وطلبه المدد والعون منه، ودعائه والتجائه، وتبرئه من كل حول وطول وقوة إلا إلى الله، لتحقيق الأهداف، قد يتوهم وكأنه صلى الله عليه وسلم لا صلة له بالتعامل مع الأسباب .(1/2)
إن حل هذه المعادلة التي كادت تبدو مستعصية في أهل التدين السابق عن الإسلام ، والتي كانت وراء الكثير من التصدعات والنزاعات ، هي التي جعلت القرآن مهيمنا على الكتب السابقة، وجعلت الرسالة الإسلامية جماع الرسالات السماوية، فكان الرسول هو الشاهد على الناس، وكانت الأمة المسلمة بما تحمل من قيم معيارية ومنجزات حضارية، شاهدة على مسيرة الأمم والحضارات، قال تعالى: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) ( البقرة : 143 ) .
وبعد: فهذا كتاب الأمة الخامس والستون : ( الاجتهاد المقاصدي .. حجيته ، ضوابطه ، مجالاته ) للدكتور نور الدين بن مختار الخادمي، في سلسلة ( كتاب الأمة ) ، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات، بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في إحياء وعي المسلم برسالته الإنسانية، ليمارس مهمته في إلحاق الرحمة بالعالمين، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتحقيق النقلة الغائبة عن الحياة الثقافية والعقلية التي تعيشها الأمة المسلمة اليوم، والتحول من حالة النقل والتلقين والمحاكاة والتقليد الجماعي والتراجع الحضاري، إلى مرحلة ممارسة التفكير والاجتهاد والتجديد والتغيير وتشكيل العقل المقاصدي الهادف، الذي صنعه الإسلام في ضوء هدايات الوحي .
إن العقل الإسلامي الذي بناه الوحي، هو عقل غائي تعليلي تحليلي برهاني استقرائي استنتاجي قائس مقاصدي، يدرك أن الله لم يخلقنا عبثا، وأنه ما من شيء في الوجود من المخلوقات - فضلا عن أحكام الشريعة وتنظيم الحياة - إلا وله علة وسبب، تحكم مسيره سنة وقانون، ويسير إلى هدف وغاية فلا مكان في العقل المسلم للمصادفة والعشوائية والخوارقية في هذا الوجود الكوني، ولا مجال لانتفاء الأسباب .(1/3)
بل لقد جعل الله السنن والأسباب والنواميس والقوانين، مطردة وموصلة إلى تحقيق المقاصد والنتائج، وطلب من العقل المسلم استيعاب هذه السنن والأسباب بعد أن شرعها له، وخاطبه بها، وجعل التعامل معها هو غاية التكليف، ودلل على فاعليتها بالعبرة التاريخية، والحجة المنطقية، والبرهان المحس، وناط النجاح في الدنيا والفوز بالآخرة بالقدرة على استيعاب هذه الأسباب، وحسن تسخيرها، والتعامل معها، وعدم الركون والاستسلام للقدر، بل مدافعة قدر بقدر أحب إلى الله، وبذلك يبرأ المسلم من علل التدين التي لحقت بالأمم السابقة .
لقد كان الإنسان أو العقل الإنساني في الأمم السابقة، محلا للصراع والتمزق بين الوحي والعقل، وبين القدر والحرية، وبين المعجزة ( السنة الخارقة ) ، وبين السبب ( السنة الجارية ) ، وغاب عنه الإدراك الكامل أن المعجزة ( السنة الخارقة ) هي من بعض الوجوه تأكيد على اطراد السنن الجارية، ذلك أن المعجزة وهي في أبسط تعريفاتها الأمر الخارق للعادة، للقانون، للسنن الجارية، تؤكد أن الله الذي خلق السنن والأسباب هو وحده -وليس الإنسان- القادر على خرقها، وتحقيق النتائج بدون حصول مقدماتها، وأن الله هو الذي أراد جعل الأسباب والقوانين وسائل موصلة إلى تحقيق نتائجها، وتعبد الإنسان بكيفية التعامل معها في ضوء منهج الله، ورتب على حسن هذا التعامل الثواب والعقاب .(1/4)
لذلك فإن تعاملنا مع الأسباب وإقدامنا على الانضباط بها، هو من إرادة الله وتكليفه لنا، وليس ضد إرادته، فهو الذي كلفنا وأراد لنا أن نريد وأرشدنا إليها، وناط التغيير بفعلنا وإرادتنا في ضوء السنن الجارية، وطلب إلينا النفرة إلى الاجتهاد والفقه الميداني، وإعمال الفكر، وجعل لنا أجرا على اجتهادنا حتى ولو أخطأنا، فالمهم ابتداء أن نحرك عقولنا، ونبذل جهدنا، ونخلص نوايانا .. وقدم لنا أمثلة ونماذج تدريبية على الاجتهاد في الكتاب والسنة، ذلك أن الله لم يثب على الخطأ في شيء، وإنما كانت غاية فضله التجاوز عنه بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) ( رواه ابن ماجه عن أبي ذر ) ، إلا في حالة إعمال الفكر والاجتهاد، فلم يتجاوز عن الخطأ فحسب وإنما أثاب عليه، لأن الخطأ في الاجتهاد هو من طبيعة الإنسان، وهو سبيل الصواب ودليل الصواب الراد إليه .
ولعل من الأمور الملفتة في هذا السياق، أن المعجزة الإسلامية ( القرآن ) ، تميزت عن سائر المعجزات السماوية بأنها معجزة عقلية، تخاطب العقل، وتشحذ همته، وتقوده للاجتهاد والتفكير والإيمان .
ولعل أيضا من أبرز معالم أو معطيات العقل المقاصدي الذي بناه الوحي، هو امتلاك القدرة على التفريق وعدم الخلط بين المقدس المعصوم المطلق، وبين البشري الاجتهادي النسبي المحدود، الذي يجري عليه الخطأ والصواب .. بين القيم المعصومة الثابتة الخالدة في الكتاب والسنة، وبين الفكر البشري أو الاجتهاد .(1/5)
فالاجتهاد وبذل الجهد لاستخراج الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، والنظر في علل النصوص ومقاصدها، ودراسة توفر الشروط والعلل في محل تنزيل الحكم الشرعي، الذي هو محاولة عقلية فكرية لتنزيل النص على واقع الناس، هو جهد بشري، قد يخطئ وقد يصيب، أو بمعنى آخر يجري عليه الخطأ والصواب، كما لخص ذلك الإمام مالك رحمه الله بقوله : ( كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر عليه الصلاة والسلام ) .
وفي ضوء ذلك، فالاجتهاد وهو فعل فكري بشري يمارسه العقل في ضوء الشرع، قابل للخطأ والصواب، وهذا يعني أنه دائما في عصره وفي سائر العصور، محل للتقويم والمراجعة والنقد والفحص والاختبار، والتعديل والإلغاء، والإضافة والحذف، وهو محل للفعل الفكري، وهذا بالطبع لا ينال من قدسية القيم في الكتاب والسنة وعصمتها، وإنما يؤكد قدسيتها وعصمتها، وأن القيم تبقى هي المرجعية والمعيار الضابط لكل اجتهاد .(1/6)
من هنا نقول : إن صوابية الاجتهاد في زمان معين ولمجتمع معين، له مشكلاته وأفكاره وإصاباته وقضاياه، لا تعني أو تقتضي بالضرورة صوابية هذا الاجتهاد لكل زمان ومكان، حتى لو تغيرت ظروف الحال ومشكلات الناس، ونوازلهم .. ولو كانت صوابية الاجتهاد لعصر تعني الصوابية لكل عصر، لما كان هناك حاجة للاجتهاد والتجديد أصلا، ولاكتفى الناس باجتهاد عصر الصحابة، ولما كانت الشريعة تتمتع بالخلود والتجرد عن قيود الزمان والمكان، ولكان إقفال باب الاجتهاد من خصائص الشريعة ومستلزماتها، ولما كان هناك داع لحض الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة على الاجتهاد، وخطاب القرآن لهم بالنفرة ليتفقهوا في الدين، على الرغم من وجود النصوص في الكتاب والسنة .. وقد تكون المشكلة في التوهم بأن خلود قيم الشريعة وخلود النصوص في الكتاب والسنة وعصمتها، يقتضي الخلود والعصمة للاجتهاد البشري المتولد عنهما، وإن تخطئة الاجتهاد يعني تخطئة الشريعة، وأن حملة الشريعة يستمدون قدسيتهم من قداستها !
وقد يكون من الإصابات القاتلة التي نعاني منها اليوم، أننا نحاول التعامل مع المتغيرات المجتمعية المتسارعة بنفس الوسائل التي كنا نتعامل بها مع مرحلة سابقة، فتصاب وسائلنا بالعقم ونفوسنا بالإحباط، حيث تتغير الدنيا من حولنا ولا تتغير اجتهاداتنا ووسائلنا في التعامل معها، وهذا مؤشر خطير على غياب العقل المقاصدي، الغائي التعليلي، المفكر غير المقلد .(1/7)
لذلك نقول: إن الفقه المقاصدي أو الاجتهاد المقاصدي، مبطن بأبعاد على غاية من الأهمية في تشكيل العقل المسلم بشكل عام، وإعادة بنائه، وتفعيل حراكه الاجتماعي، وتأصيل التفكير الاستراتيجي الذي يهتم بالتخطيط والفكر قبل الفعل، ويفحص المقدمات بدقة، ويدرس النتائج والتداعيات المترتبة عليها، ويمتلك القدرة والمرونة على المتابعة في الرحلة الفكرية والمراجعة للنواتج والاكتشاف لمواطن الخلل، ويحدد أسباب القصور عن إدراك النتائج ومواطن التقصير .
إن العقل المقاصدي، حقق التحول من عقلية التلقين والتلقي إلى عقلية التفكير والاستنتاج والاستدلال والاستقراء والتحليل والنقد والموازنة والاستشراف المستقبلي، وعدم القبول لأي فكر أو اجتهاد بغير سلطان أو بغير برهان تحت شعار ( هاتوا برهانكم ) ، ويمتلك أدوات البحث والمعرفة، وإمكانية النظر في المآلات والعواقب، ويصبح عقلا مستبينا يحسن التعامل مع الأسباب والمقدمات والتسخير للسنن، ويمتلك ناصية سنة المدافعة فيستطيع مدافعة قدر بقدر أحب إلى الله، كما يقول ابن القيم رحمه الله: ( ليس المسلم الذي يستسلم للقدر، ولكن المسلم هو الذي يدفع القدر بقدر أحب إلى الله ) .
وأستطيع أن أقول : إن بناء العقل المقاصدي يحدث تغييرا استراتيجيا في الثقافة، ونقلة فكرية نوعية في الحياة العقلية والذهنية، ويعيد للوحي عطاءه المتجدد على يد البشر، وإعادة النظر فيما وضعوا من آليات مجردة للتعامل معه وتنزيله على الواقع، بعيدا عن مصالح الناس .(1/8)
وهنا حقيقة قد يكون من المفيد طرحها لمزيد من المناقشة والمثاقفة والمفاكرة، أو على الأقل فتح ملفها واستدعائها إلى ساحة الاهتمام الفكري والفقهي على حد سواء، وهي: أن الاجتهاد المقاصدي أو بناء الفقه المقاصدي الذي نريد، ليس مقتصرا على الاجتهاد الفقهي أو التشريعي أو ما اصطلح على تسميته فقه آيات وأحاديث الأحكام، وغيابه عن باقي الآيات والأحاديث التي تعرض لجوانب الحياة وأنظمتها، أو غيابه عن شعب المعرفة الأخرى، أو عن فلسفة العلوم بشكل عام وضبط أهدافها بمصالح الخلق .
فالاتجاه المقاصدي في الاجتهاد واستنباط الأحكام إنما استدعته مقتضيات تحقيق خلود الشريعة والامتداد بأحكامها، وبسطها على جميع جوانب الحياة، والتدليل على رعايتها لمصالح العباد، وتخليص الفقه، وعلى الأخص في عصور التقليد والجمود والركود العقلي، من النظرة الجزئية والصورة الآلية المجردة، البعيدة عن فقه الواقع، حيث انتهى الأمر إلى قواعد مجردة وقوالب بعيدة عن الارتباط بالغايات الأصلية، التي قد يكون انتهى إليها، إلى درجة قد تفوت المصلحة، وإعادة توجيهه صوب تحقيق مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، وهي الغاية التي من أجلها جاءت الشريعة وكانت الرسالة، ومعالجة مشكلات المجتمع والتعامل مع قضاياه وحاجاته .
إن اقتصار الاجتهاد المقاصدي على المجال الفقهي التشريعي فقط، واحتجابه في هذه الزاوية -على أهميتها- وامتدادها في عمق المجتمعات البشرية، يحمل الكثير من الخلل والمضاعفات، ويورث الكثير من التخلف والعجز والحياة العبثية في المجالات المتعددة، والضلال عن تحديد الأهداف، ومن ثم انعدام المسؤولية وغياب ذهنية المراجعة والنقد والتقويم .(1/9)
صحيح قد يكون الاجتهاد المقاصدي في الفقه والتشريع، هو الموقع الأهم والأخص، لكن قد تكون المشكلة المطروحة التي نعاني منها تكمن في غياب العقل المقاصدي والتفكير المقاصدي والسلوك المقاصدي الهادف، الذي ينعكس على الأنشطة والمسالك البشرية في جميع حقولها الفكرية والمعرفية والسلوكية .
ذلك أن الأصل في العقل المقاصدي أن يكتشف الطاقات، ويضع لها الخطة والهندسة المناسبة، ويؤصل المنطلقات، ويحدد الأهداف المرحلية والاستراتيجية، ويضع البرامج، ويبتكر الوسائل، ويحدد المسؤوليات، ويبصر بمواطن القصور والخلل، ويكتشف أسباب التقصير، ويدفع للمراجعة والتقويم واغتنام الطاقة، والتقاط الفرصة التاريخية، والإفادة من التجربة، ويكسب العقل القدرة على التحليل والتعليل والاستنتاج والقياس، واستشراف المستقبل في ضوء رؤية الماضي، ويحمي من الإحباط والخلط بين الإمكانيات والأمنيات .. وبمعنى آخر، إن بناء العقل المقاصدي الغائي ينعكس عطاؤه على جميع جوانب الحياة الفردية والاجتماعية، ويحقق الانسجام بين قوانين الكون ونواميس الطبيعة وسنن الله في الأنفس، وامتلاك القدرة للتعرف على الأسباب الموصلة إلى النتائج، وإمكانية المداخلة والتسخير المطلوب شرعا .
إن العقل المقاصدي الذي بناه القرآن والسنة، انطلق من الوحي، وارتكز على التفكير، وتوجه صوب الفطرة الإنسانية، واستخدم الأسلوب البياني والبرهاني، ووثق طروحاته بشهادة الواقع، وأفاد من عبرة التاريخ ومصائر الأمم بسبب فساد تعاطيها للأسباب، وعرض مشاهد لواقعها في العقيدة والعبادة والسياسة والتشريع والفكر والثقافة والعادات والأخلاق والموروث الاجتماعي .(1/10)
لذلك نجد معظم فقهاء الإصلاح والتجديد، بدأت مشروعاتهم في التغيير من إعادة الاعتبار للفقه المقاصدي، بحيث ربطوه بمصالح الناس، وانتشلوا فكر الأمة وفعلها من الوهدة التي سقطت فيها، وحاولوا ردم فجوة التخلف، وإعادة الاعتزاز بالشريعة والالتزام بأحكامها، وخلصوا الاجتهاد من الآلية الميكانيكية والقواعد المجردة، ربطوا اجتهادهم بقضية المقاصد .. وقد تعرض الإمام الغزالي رحمه الله لبعض ما يتعلق بالاجتهاد المقاصدي، خاصة في كتابه: ( شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل )، كما اشتمل كتابه: ( إحياء علوم الدين ) ، على ذكر كثير من العلل والحكم التي تتعلق بها الأحكام .. كما كتب الإمام عز الدين بن عبد السلام قواعده الكبرى والقواعد الصغرى باسم: ( قواعد الأحكام في مصالح الأنام ) .. وكتب أبو إسحاق الشاطبي كتابه: ( الموافقات في أصول الشريعة ) ، ويعتبر هذا الكتاب بحثا في المقاصد .. كما تعتبر جهود الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله في كتابه: ( مقاصد الشريعة) من أهم الكتب التي بلورت الجهود السابقة .
ولعل من البشائر المستقبلية، توجه بعض الباحثين والدارسين في الدراسات العليا في رسائل الماجستير والدكتوراه إلى موضوعات تتعلق بالمقاصد، من أمثال الدكتور يوسف حامد العالم رحمه الله ، والدكتور أحمد الريسوني وغيرهم .
وقضية الاجتهاد المقاصدي، لم تتوقف ولم تنقطع حقيقة، إلا أنها لم تتحقق بالبعد الفقهي والفكري المطلوب لانتشال العقل المسلم، بحيث تصبح صبغة ذهنية للعقلية المسلمة المعاصرة، ذلك أن المقاصد كانت مدار الاجتهاد في القرون المشهود لها بالخيرية، وكانت تتحقق وظيفتها دون أن تفرد لها التعريفات والتسميات التطبيقية، الأمر الذي نلحظه عند أي تتبع لاجتهادات الصحابة وسبب اختلافهم في تنزيل الأحكام على محالها، وسبب عدم تنزيل الأحكام عندما لا تتوفر الشروط أو تتعطل المصالح .(1/11)
لقد تحول هذا الإدراك الفقهي ( للمقاصد ) إلى نوع من اليقين بذلك الترابط الدقيق بين المقاصد والأفعال، فالفعل يصبح ضربا من العبث إن خلا عن مقصد وغاية، والفعل لا يتحقق إن لم تتوفر أسبابه ومقدماته، والأمور مرتبطة بغاياتها من حيث الإثمار والإنتاج، بمقدماتها وأسبابها من حيث الوجود والتحقيق .
إن مدار المسؤولية الإنسانية والتكليف والحرية، على مباشرة الأسباب وتسخير النواميس والقوانين الإلهية التي تحكم حركة الوجود واستيفاء آثارها ونتائجها، لتحقيق أمانة الاستخلاف وبناء العمران ( تصدير المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، تأليف الدكتور يوسف حامد العالم، طباعة المعهد العالمي للفكر الإسلامي ) .
إن الاجتهاد المقاصدي أو التفكير المقاصدي الذي ينتج الفقه المقاصدي -والمراد هنا بالفقه: ( الفقه الحضاري ) بشكل عام، الذي يستغرق شعب المعرفة جميعا، ويمتد لآفاق الحياة جميعا، بحيث يستوعب الوحي كإطار مرجعي وضابط منهجي، ويستنفر العقل ويشحذ فاعليته كوسيلة لفهم الوحي وفهم المجتمع والواقع- هو القادر على توليد هذا الفقه المطلوب، لتهديف حركة الأمة في كل مرحلة حسب إمكاناتها واستطاعاتها، بحيث يتم الاستخدام الأفضل للإمكانات، وتصبح قاصدة بعيدة عن الهدر والضياع والضلال .(1/12)
والضلال قد يعني، فيما يعني: القلق الحضاري، وعدم الاستقرار والرسو على يقين واطمئنان، واستمرار التيه، وعدم الوصول إلى الهدف المنشود .. هو في حقيقته توجه لاكتشاف الهدف، لاكتشاف الحق، ينتهي بصاحبه إلى الضياع وعدم الوصول، وهذا لا يعني بحال من الأحوال الركود والسكونية والاستنقاع، إنما يعني الضياع..الضائع هو المتحرك الباحث عن الهدف، الذي لم يهتد إليه بعد، لأن عقله لم يمتلك الأدوات المعرفية الموصلة، فيأتي الوحي، ليحدد الهدف، ويوفر الجهد، ويوجه الضال إلى الحق والله سبحانه وتعالى عندما وصف رسوله قبل البعثة بقوله: ( ووجدك ضالا فهد ى ) ( الضحى: 7 )، فإن الضلال هنا لا يعني القبول بالواقع الوثني، ولا يعني القعود عن التطلع إلى الهدف والمثل الأعلى، وإنما يعني رحلة البحث والكشف والقلق المستمر وعدم الوصول، ويعني أيضا أن الضلال ملازم للعقل في بعض المجالات التي يفتقر فيها معرفيا للوحي، ولا يخلص من ضلاله بدونه.. فالوحي يحدد الأهداف، والعقل يتحرك ويبتكر الوسائل لتحقيقها .
فالاجتهاد المقاصدي أو الثقافة المقاصدية، إن صح التعبير، هو القدرة على تحديد الأهداف والمقاصد المرحلية والاستراتيجية.. وهو القدرة على الربط بين الاستطاعة والحكم الشرعي المناسب للحركة في هذه المرحلة، والهدف الممكن تحقيقه في ضوء هذه الاستطاعة، حتى ولو كان الهدف جزئيا شريطة أن يكون هذا الهدف الجزئي بعضا من كل، أي جزءا من الهدف الكلي، والرؤية الشاملة لمجال الحركة، بعيدا عن الرسم بالفراغ، والأماني والحماسات التي لم تورث إلا الإحباط، وبذلك يتحقق الفقه المطلوب لتنزيل الأحكام الشرعية على الواقع، ويحمى العمل الإسلامي من كثير من المجازفات والعشوائية، الت ي مايزال يقع فيها، ويخلص من الحفر وسوء التقدير وهدر التضحيات تحت الرايات العمية، التي لا تبصر أهدافها، ويمنح القدرة على التقويم والإفادة من التجربة .(1/13)
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من قاتل تحت راية عمية، يدعو إلى عصبية، أو يغضب لعصبية، فقتلته جاهلية ) ( رواه مسلم وابن ماجه واللفظ له، عن أبي هريرة )، لأن الموت في سبيل الله أو التضحية الإسلامية بشكل عام، هي التضحية المبصرة لأهدافها، الضابطة لحركتها، المقدرة لإمكاناتها، المستوعبة لظروفها، التي تنتصر للدين والحق، وتمقت التعصب للقوم والهوى، كما كان يفعل أهل الجاهلية .
هذا من جانب، ومن جانب آخر نحسب أن الفقه المقاصدي، إذا أخذ سبيله إلى التشكيل الثقافي، سوف يخلص العقل المسلم من الفوضى وانفلات الفقه والمعيار في التعامل مع الأحكام الشرعية، ويمكنه من حسن اختيار وتقدير الموقع المناسب للاقتداء والتأسي من مسيرة النبوة والأحكام المناسبة للمرحلة والحالة التي عليها الاستطاعة، فلا يصاب بالخسران والخيبة والإحباط لعدم استكمال تنزيل جميع الأحكام على جميع المجالات، بل يطمئن إلى أنه يطبق كل الأحكام الشرعية المناسبة للحالة والواقع والإمكانات، فهو بذلك مطبق للشريعة، متق الله بقدر استطاعته .. وهذا التطبيق الجزئي بالنسبة لشمول الشريعة المستطاع، المتناسب مع الحالة والواقع بالنسبة للفرد، هو السبيل للتحضير والتنمية للإمكانات والاستطاعات للارتقاء من الحسن إلى الأحسن، ومن الممكن إلى الصعب الذي يصبح ممكنا، ومن الصعب إلى ما يمكن أن يبدو في مرحلة ما مستحيلا، بحيث يصبح صعبا .
ولعلنا نرى أن من أخطر المشكلات التي يعاني منها العمل الإسلامي اليوم، تتمثل في غياب الأهداف والمقاصد الواضحة للحركة والدعوة، ولا نعني بذلك المنطلقات الإسلامية أو الأهداف الكبرى التي وضحتها القيم الإسلامية في الكتاب والسنة، وإنما نعني الأهداف المحددة التي تتناسب مع الإمكانات المتوفرة والظروف المحيطة، وتشكل في النهاية مساحة أو مسافة في الطريق إلى تحقيق الأهداف الكبرى .(1/14)
ذلك أن عدم تقدير الإمكانات ووضوح الأهداف بشكل دقيق، أدى إلى حالة من الفوضى الذهنية، والتضارب في الرؤية، وبعثرة الجهود، والعجز عن إبداع البرامج والوسائل المناسبة، وفقه الأحكام الشرعية المنزلة لكل حالة، إلى درجة قد تنقلب معها الوسائل إلى غايات، مما أوصل العمل إلى ضرب من الآلية والتكرار وغياب معايير التقويم وحسابات الزمن وتحديد الجدوى .
وهكذا تستمر الحراثة في البحر، والسير بدون بوصلة هادية، والسباحة بدون شواطئ، وتبديد الجهود وهدر الطاقات.. نتحرك ونقع بسبب الضلال عن الهدف، ونحن نظن أننا نحسن صنعا، فنصير أشبه بالأخسرين أعمالا، لعجزنا عن حسن التعامل مع الوحي الإلهي، واكتشاف منهجه في الدعوة والحركة والهدف لكل مرحلة من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث يقبع بعضنا عند مرحلة بدء الوحي: ( اقرأ ) ، ويتطاول الآخر بدون إمكانات لممارسة أحكام مرحلة الكمال: ( اليوم أكملت لكم دينكم ) ( المائدة : 3 ) ، فيخسر الأول طاقاته ويعطلها، ويتخاذل بدليل شرعي حسب وهمه، ويتهور الآخر ويهدر طاقاته في غير مواقعها، أيضا بما يتوهم من فقه شرعي واستدلال مغلوط .
ولا يزال العمل الإسلامي يمنى بهزائم متلاحقة، ويكرر أخطاءه .. وقد يكون الأمر المحزن حقا أن أعداء الإسلام أدركوا ذلك أكثر من العاملين للإسلام، فأحسنوا استثمار تضحيات المسلمين لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، لغفلتنا عما وراء الرايات العمية التي تصنع لنا ونسير وراءها، غافلين عن حكم الشريعة ومقاصدها وسنن الحركة التاريخية التي تحدد الأهداف والمقاصد في ضوء الاستطاعات التي يحكمها قوله تعالى: ( فاتقوا الله ما استطعتم ) ( التغابن : 16 ) ، ومعرفة الإمكانات بدقة، والمهارة في حسن توظيفها .(1/15)
وقد تكون المشكلة في شيوع فلسفات التخلف، والاختباء والاحتماء وراء شعارات التخلف وتفسيرات التخلف، التي تنعكس على فهم القيم في الكتاب والسنة، لأن أخطر ما في التدين من آفات، هو الفهوم المغشوشة والمعوجة لقيم الدين والتفتيش عن المسوغات والمشروعيات لواقعنا وأهوائنا ومسالكنا، فتنقلب المعادلة، فبدل أن يكون هوانا تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، نجعل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم تبعا لأهوائنا وفلسفاتنا، ونعيش تدينا معوجا، تسوده تحريفات الغالين، وانتحالات المبطلين، وتأويلات الجاهلين، واختراقات الأعداء الثقافية والأمنية، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) ( رواه أبو نعيم في كتاب الأربعين، والخطيب البغداي في تاريخه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، انظر كتاب: جامع العلوم والحكم، الحديث الحادي والأربعون) ، فتغيب المقاصد والغايات، وتتعطل الإمكانات، ويسود الركود والتوقف، ويعلو صوت الإرجاء وفلسفة التخاذل، التي قد تعلو عليها في بعض الأحيان أصوات الحماس والتهور والمجازفة، التي تدفع إلى تحركات تمثل ردود الأفعال غير المدروسة التي تأتي ثمرة لليأس، فتزيد الطن بلة كما يقولون، فيضل العمل بفقدان رؤية مقصده وهدفه تماما، ويصاب بعدم إحكام وسائله بدقة، فنكون كالأخسرين أعمالا ونحن نظن أننا نحسن صنعا، وعندها تتحول القيم في الكتاب والسنة، في ضوء فهومنا المعوجة وتفسيراتنا المتخلفة ( بحيث يصبح لكل إنسان منا كتاب وسنة ) ، من وسيلة نهوض إلى مشكلة ومعوق .(1/16)
من هنا نقول بأهمية الاستمساك بالمنهج النبوي في الكتاب والسنة، وتطبيقاته في السيرة وحقبة خير القرون، لأنه يشكل المرجعية للمنطلق والفهم، والضبط المنهجي لعلوم الطريق، والسبيل لتحقيق الهدف وحماية الطاقة، كما قال صلى الله عليه وسلم في موعظته البليغة التي وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون: ( أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) ( رواه أبو داود عن العرباض بن سارية ) .
في ضوء هذه الفلسفات المهزومة، وهذه الثقافة المغشوشة، وهذا التدين البئيس، الذي يميت حتى القلق السوي والمحرض الحضاري للنهوض، ويمنح الاطمئنان الديني الخادع، تتولد شعارات التخلف التي تعلن أنه ( ليس بالإمكان أفضل مما كان ) ! والذي يستمع إلى هذا الشعار، قد يتوهم أننا نعرف بالضبط الإمكان الذي نمتلكه، والأهداف التي يمكن أن يحققها، والنتائج التي انتهت إليها الأمور?!
لذلك نقول: إنه شعار العجزة والمعطلين، الذين يحاولون إيجاد المسوغ لعطالتهم وسكونهم، ولا بأس عندهم، ومن خلال فهومهم المعوجة لقيم الدين ومسألة القدر والحرية، أن يلقوا بالتبعة على القدر وعلى إرادة الله لنا ذلك بالتخلف والعجز، من دون سائر الخلق حتى الكفار منهم !(1/17)
علما بأن المستقرئ لخطاب الكتاب والسنة ولمرحلة النبوة ولتاريخ الأمم وللواقع في بعض تجلياته، يتيقن أنه بالإمكان دائما أفضل مما كان، وأن السبيل إلى ذلك هو في التعرف على الإمكانات ومحاولات حسن تسخيرها وسبل تطويرها، ومعرفة الأهداف التي يمكن تحقيقها من خلال هذه الإمكانات، وإدانة الواقع، هو سبيل النهوض والترقي، وهو منهاج النبوة وفهم خير القرون.. فالتغيير والتجديد، والإعداد والجهاد، والاجتهاد والفاعلية، والحركة والدعوة والهجرة، والمدافعة الحضارية، والفاعلية الدائبة، والضخ الإيماني لمواقع العمل، وإرادة الله لنا أن نريد ونتحرك، وشريعة السنن والدعوة إلى تسخيرها، والحرص الدائم على ما ينفعنا، وعدم العجز والسقوط والقبول بالأدنى، هو عطاء هذا الدين المنقذ .
وليس أقل من ذلك خطورة شيوع عقلية إلغاء السنن وقوانين الحركة التاريخية، وغياب فكرة السببية، وانهدام معايير التقويم والنقد والمراجعة، وتحديد مواطن الخلل، واكتشاف المسؤولية التقصيرية عن الأداء، وإلغاء المقاصد والغايات من الفعل البشري، التي تعتبر المحرض الحضاري للحركة والتقدم، وطرح شعارات مضللة وإلباسها لبوس الدين بأنه علينا أن نعمل وليس علينا إدراك النتائج، والنظر إلى تلك المقولة الخطيرة بإطلاق، التي التبست فيها الأمور، وتداخلت المفهومات، وخلط الخطأ بالصواب، وغابت المقاصد وجمدت الوسائل، واعتمدت، سواء أنتجت أو لم تنتج، ذلك أن الأصل أن تربط الأسباب بمسبباتها والمقدمات بنتائجها، وأن السنن في ذلك مطردة كما قال تعالى: ( فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ) ( فاطر: 43 ) ..(1/18)
وهذا الاطراد لا يتوقف إلا إذا اختلت المقدمات أو اعترضها عارض، إذ من غير المقبول شرعا وعقلا وواقعا أن تكون حركة الإنسان عابثة وغير قاصدة، وأن يكون سيره غير موصل، وزراعته غير منتجة، وسعيه غير محقق النتائج، فهل من المقبول شرعا وعقلا أن يزرع القمح فيخرج له العلقم، ويزرع التفاح فيخرج له الشعير؟ وهكذا بهذا الفهم المعوج للتدين، تختل معادلات الحياة، وتنخرم العدالة في الكون .
وقد يكون من أسباب هذه الرؤية، العجز عن إبصار النتائج البعيدة، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرع ذلك ولم يمارسه، وجيل الصحابة خير القرون، لم يفهموا ذلك الفهم، وإنما كانوا دائما يفتشون عن جوانب القصور وأسباب التقصير، إذا تخلفت النتائج أو تخلف النصر.. وآيات القرآن والبيان النبوي وتطبيقات السيرة القاصدة كلها، تؤكد المسؤولية التقصيرية عن العمل في حالة تخلف الأهداف وعدم تحقق النتائج، ولعل قوله تعالى في أعقاب أكبر هزيمة مني بها المسلمون في عصر القدوة ( في أحد ) ( أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ) ( آل عمران: 165 ) ، أحكم جواب على أن الإلقاء بالتبعة على القدر أو على إرادة الله، أو على الأسباب الخارجية لصناعة المبررات للتخلف والسقوط وضلال السعي، لون من التدين المغشوش والفهم المعوج لقضية القدر والحرية والإرادة في الإسلام .
ويكفي أن نقول: بأن قيم القرآن الكريم والسنة النبوية، أكدت على ربط النتائج بالمقدمات والأسباب بالمسببات، وصاغتها كمعادلات اجتماعية، ومنحتها من الدقة والصرامة أقدارا أشبه ما تكون بالمعادلات الرياضية الصارمة، لتكون فلسفة حياة، وتشكل دليل عمل، وتبين منهاج الطريق، وتحمي من التبعثر والعطالة .. وسوف نقتصر هنا على إيراد بعض النماذج، التي تشكل نوافذ وإضاءات فقط، بعيدا عن الاستقراء الكامل والإحاطة المطلوبة :(1/19)
يقول الله تعالى : ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) ( محمد: 7 ) .
ويقول: ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا ) ( الأنفال: 65) .
ويقول: ( إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ) ( الأنفال: 29)
ويقول: ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ) ( الليل: 5 -10) .
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من أحب أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره، فليصل رحمه ) ( متفق عليه من حديث أنس ) .
ويقول صلى الله عليه وسلم : ( من يكن في حاجة أخيه يكن الله في حاجته ) ( متفق عليه من حديث ابن عمر ) .
ويقول: ( من يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ) ( رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة ) .
ومن القضايا الجديرة بالتوقف أيضا في هذا النطاق، ما يمنحه الاجتهادي المقاصدي أو الثقافة المقاصدية من نقلة منهجية وأنظمة معرفية في المجال التربوي أو بناء العملية التربوية والتعليمية، وتربية العقل بشكل أخص .
حيث يتم من خلال استيعابها وتشربها ثقافيا، التحول من عملية التلقين والتلقي والقبول والتوارث الاجتماعي للتقليد، إلى عملية التفكير والفاعلية والمناقشة والفحص والاختبار والمراجعة والاستدلال والاستقراء والاستنتاج، وبناء العقل الفاعل الناقد والشخصية الاستقلالية، التي تمتلك المعايير والمفاتيح والمنهج الصحيح للنمو والترقي، تمتلك معايير القبول ومعايير الرفض، ومفاتيح البحث والنظر، وبذلك يكون العطاء التربوي والتعليمي من أبرز ما يميز نظرية المقاصد أو الاجتهاد المقاصدي، حيث ينقل الفرد من العطالة إلى الفاعلية ويمنح للعقل دليل التفكير، وللطاقات دليل التشغيل .(1/20)
ولعل مقاصدية وحكمة التدرج التربوية، والسير بالناس إلى تحقيق مصالحهم وسعادتهم في المعاش، وفوزهم في المعاد، وأخذهم بأحكام التشريع شيئا فشيئا، ولبنة لبنة، حتى اكتمل وكمل الهدف الكبير، وتوجيه سعيهم إلى تحقيق الهدف الكبير من العمل الصالح للفوز بالجنة، واضحة كل الوضوح ..
كما أن الترتيب التوقيفي لآيات وسور القرآن الكريم على غير أزمنة النزول، له من المقاصد والحكم التربوية في كيفية التعامل مع المنهج القرآني والتعاطي مع الواقع البشري، ما لا يخفى على كل ذي نظر وعقل، ذلك أن هذا الترتيب في تجاور الآيات، رغم تباعد وتباين أزمنة نزولها، يمنح مساحات هائلة من المرونة والتحرك الطليق، والتعامل مع المنهج بكل محطاته ومراحله حسب الاستطاعات المتوفرة والمقاصد الملائمة لكل حالة، خاصة وأن أقدار التدين ترتفع وتنخفض، ولكل حالة ما يناسبها من الأحكام والاجتهاد .
فالإيمان كما هو مقرر شرعا وملحوظ واقعا، يزيد وينقص، كما أن الإمكانات تتطور، وبالتالي لابد أن تتوافق المقاصد والأهداف المرجوة مع الإمكانات، فتنفتح بذلك أو بهذا الترتيب التوقيفي مجالات واسعة للاجتهاد لم تكن لتتحقق لو كان الترتيب مقولبا حسب أزمنة النزول .. فالقيم الإسلامية في الكتاب والسنة والفقه التطبيقي في السيرة، يشكلان الأنموذج الأكمل لكل أصول الحالات التي سوف تمر بها البشرية، والاجتهاد هو القدرة على تقدير موقع التأسي والاقتداء من مسيرة هذا الأنموذج، الذي يحقق مصالح العباد في كل مرحلة وكل حالة تكون عليها الأمة .(1/21)
وعلى الرغم من الأهمية التي يمنحها الاجتهاد المقاصدي لبناء العقل النضيج، وتحقيق مقاصد الدين، وتطبيق أحكام الشريعة، وتقويم مسالك الناس بقيم الشرع، وتمكين الإيمان من النفس، والالتزام بمقتضياته في الواقع، والسير بالمجتمع نحو غاياته، وحماية طاقاته من العطالة والهدر، فإن هذا التوجه الاجتهادي لم يتحقق بالبعد المطلوب في مجال الكسب الإسلامي العلمي والعملي على حد سواء .
وهنا لابد من التنبه إلى بعض المخاطر التي قد تصاحب الاجتهاد المقاصدي، ذلك أن قضية المقاصد أو التوسع بالرؤية والاجتهاد المقاصدي دون ضوابط منهجية وثوابت شرعية، يمكن أن تشكل منزلقا خطيرا ينتهي بصاحبه إلى التحلل من أحكام الشريعة، أو تعطيل أحكامها باسم المصالح، ومحاصرة النصوص باسم المصالح، واختلاط مفهوم المصالح بمفهوم الضرورات، في محاولة لإباحة المحظورات، فتوقف الأحكام الشرعية تارة باسم الضرورة، وتارة باسم تحقيق المصلحة، وتارة تحت عنوان النزوع إلى تطبيق روح الشريعة لتحقيق المصلحة، فيستباح الحرام، وتوهن القيم، وتغير الأحكام وتعطل، ويبدأ الاجتهاد من خارج النصوص، ومن ثم يبرز التفسير المتعسف للنصوص من هذا الاجتهاد الخارجي، وكأن النصوص في الكتاب والسنة التي ما شرعت إلا لتحقيق المصالح، وكانت الدليل والسبيل لبناء الاجتهاد المقاصدي، إذ بها تتحول لتصبح هي العقبة أمام تحقيق المصالح، وأن تعطيل المصالح كان بسبب تطبيقها، لذلك لابد من إيقافها والخروج عليها في محاولة لفصل العقل عن مرجعية الوحي، واستقلاله بتقدير المصالح والمفاسد، والتحسين والتقبيح، بحيث يصبح مقابلا للوحي، بدل أن يكون قسيما له، مهتديا به، منطلقا منه .(1/22)
وفي تقديري أن التعسف في الاجتهاد المقاصدي أو غير المقاصدي، والمنزلقات التي يمكن أن يقع فيها، لا يجوز أن تقود إلى إلغاء الاجتهاد بحال من الأحوال أو إلى إغلاق باب الاجتهاد، ذلك أن التطبيق الخاطئ للوسيلة لا يجوز أن يلغي الوسيلة ويوصد الأبواب، وإنما يقتضي تصويب التطبيق ليؤتي ثماره المرجوة .. ويبقى الأصلح والأصوب، فتح الباب والممارسة حتى لو كانت تحتمل الخطأ والصواب، فالحوار والمناقشة هما الكفيلان ببلورة الحقيقة والخلوص إليها، لأن البقاء للأصلح، والبقاء للأصوب، والعاقبة للتقوى .. ومن الطبيعي أن يجري الخطأ والصواب على الإنسان، لكن تبقى القيم في الكتاب والسنة، أو معرفة الوحي بشكل أدق، هي المعايير الضابطة والموجهة والإطار المرجعي للمسيرة، والحامية من السقوط، بحيث يصير الخطأ هو أحد الأدلة والموجهات إلى الصواب .
وهذا التدافع الطبيعي، هو الذي سوف يؤدي إلى النمو وحصحصة الحق، الذي كان ولا يزال موجودا وممتدا منذ عصر الصحابة والتابعين، حتى يرث الله الأرض ومن عليها طالما أن هناك فوارق فردية في المواهب والقابليات، ومساحات متفاوتة في الكسب المعرفي، والتحصيل العلمي بشكل عام .
ويبقى باب الاجتهاد المقاصدي مطلوبا ومهما ومفتوحا طالما كانت حركة المجتمعات في تطور ونمو وامتداد، وتغير وتبدل في المصالح وطبيعة المشكلات.. فالاجتهاد، وعلى الأخص الاجتهاد المقاصدي، والتجديد والنمو التشريعي والامتداد، هو دليل خلود هذا الدين، وهو من طبيعة الخلود ولوازمه .. فإغلاقه بحجة التعسف في الاجتهاد وعدم وجود المؤهل، هو نوع من محاصرة النص الخالد، والحكم العملي بعدم صلاحيته لكل زمان ومكان، وهو حجر على فضل الله تعالى، الذي أنزل الشريعة خاتمة خالدة، الأمر الذي يقتضي إيجاد المؤهلين لحملها والامتداد بها، وبذلك نقع بالحفر نفسها التي حفرها أعداء الشريعة، وحكموا بتاريخيتها وعدم صلاحيتها للعصر الحاضر .(1/23)
ولا شك أن الإمام الشاطبي رحمه الله ، هو الذي أصل للاجتهاد المقاصدي في كتابه: ( الموافقات ) ، وبلور نظريته، ومن جاء بعد ما يزال يغترف من معينه، وإن كان الإمام المجدد ابن تيمية رحمه الله هو أحد رواد أو بناة الاجتهاد المقاصدي، وإن لم يفرد له كتابا أو بحثا خاصا به، حيث كانت له اجتهادات جريئة خالف فيها بعض الفقهاء، لأن تطبيق بعض الاجتهادات الفقهية النظرية المجردة السائدة في عصره، والتقليد المذهبي، بعيدا عن واقع الناس، فوت الكثير من المصالح، وتعارض مع مقصد الشارع في بناء الأسرة والمجتمع، بحيث كانت هناك فجوة تتسع بين بعض اجتهادات الفقهاء وقضايا المجتمع ومصالح العباد، إلى درجة يمكن أن نقول معها: إن اجتهاد الإمام ابن تيمية هو في الحقيقة اجتهاد مقاصدي، وإن استقراء المقاصد أو ( نظرية المقاصد ) عند شيخ الإسلام يحتاج إلى باحثين لإغناء الرؤية الاجتهادية بأصول فقهية مقاصدية على غاية من الأهمية .
ولئن كان الإمام الشاطبي رحمه الله استطاع، نتيجة لاستقراء تعاليم الشريعة في المجالات المتعددة، أن ينتهي إلى تحديد المقاصد بحماية الكليات الخمس والضرورات الخمس، التي هي : الدين والعقل والعرض والنفس والمال، فإن ذلك لا يعدو الله ن يكون اجتهادا.. ويبقى الباب مفتوحا لمزيد من الاجتهاد والاكتشاف لآفاق أخرى في المقاصد، في ضوء التطورات الاجتماعية وضمور أو غياب بعض المعاني، التي تقصد الشريعة إلى تحقيقها، حفظا لمصالح العباد، أو على الأقل محاولة إعادة قراءة هذه المقاصد في ضوء المصطلحات والمفهومات الجديدة، التي بدأت تشكل نقاط الارتكاز الحضاري والثقافي، على المستوى العالمي -وما جاءت الشريعة إلا لإلحاق الرحمة بالعالمين- كمسائل التنمية، والبيئة، والحرية، وحقوق الإنسان، والإنسانية، والعالمية... إلخ .(1/24)
وهذا الكتاب .. يعتبر محاولة جادة لإعادة طرح موضوع الاجتهاد المقاصدي، واستدعائه إلى ساحة الاهتمام الفقهي والفكري، وفتح ملفه من جديد، وإن كان هذا الملف لم يغلق تماما، إلا أن الساحة الإسلامية بحاجة مستمرة إلى هذه الرؤية المقاصدية، أو الثقافة المقاصدية، التي تمنح العقل المسلم المعاصر أقدارا مهمة من ضرورة التقويم والنقد والمراجعة ودراسة الجدوى لطبيعة الأداء، كما تساهم إلى حد بعيد ببناء عقلية التخطيط وتحديد الأهداف والمقاصد في ضوء الإمكانات والاستطاعات المتوفرة والظروف المحيطة، ذلك أن بناء العقلية المقاصدية تخلص العمل الإسلامي من العشوائية والارتجال وعدم الإفادة من التجارب، والتعرف على مواطن الخلل، كما تحمي العاملين من الإحباط واليأس، الذي يجيئ ثمرة لاختلاط الأماني بالإمكانات، فيؤدي إلى مجازفات، كنا وما نزال ندفع تجاهها الأثمان الباهظة .
ولئن جاء الكتاب في الإطار الفقهي التشريعي، بحيث قد ينحصر خطابه في شريحة محدودة من المتخصصين تخصصا دقيقا، فإنه يساهم - فيما نرى - مساهمة واضحة في تشكيل الثقافة المقاصدية، بما ينضحه من رؤى فكرية وفقهية معا، قد لا تتوقف عند حدود الاستعراض التاريخي لمسيرة الاجتهاد المقاصدي، بحيث يمنح استشراف هذا التاريخ قدرا مهما من رؤية المستقبل واستشرافه، للامتداد بخلود هذا الدين، وبسط تعاليمه الإنسانية على المجتمعات البشرية .(1/25)
وهنا لابد من الاعتراف بأن الأزمة التي تعيشها الأمة المسلمة، هي في الحقيقة أزمة نخبة وقيادة، وليست أزمة أمة واستجابة، لأن الأمة المسلمة أثبتت في كل الظروف انتماءها للإسلام والتزامها بأحكامه، وأن الإصابات التي لحقت بالمسلمين في معظمها إصابات توضعت بالنخبة المثقفة فالعلمانية وعزل الحياة عن الدين، استطاعت أن تصيب النخبة وبعض أجهزة الدولة، التي خضعت في تربيتها وتعليمها وثقافتها ( للآخر) ، ولم تتحقق لها أقدار من الكسب المعرفي الإسلامي، ولم تصب الأمة .
لذلك فقدت الكثير من النخب العلمانية مشروعيتها وتأثيرها في الأمة، وأصبحت أشبه بجزر منعزلة وطوائف جديدة، تقرأ نفسها، وتفتن بفكرها، بعيدا عن معاناة الأمة ومعادلاتها الاجتماعية وتاريخها الحضاري .
ومن هنا فإن سبيل الخروج أو إعادة إخراج الأمة المسلمة : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) ( آل عمران : 110 ) ، هو في إعادة بناء العقل المقاصدي للنخبة والقيادة، حتى تستطيع وضع الأوعية السليمة لحركة الأمة وكسبها، وحماية منجزاتها الحضارية، وإثارة الاقتداء لجمهور المسلمين، للقيام بمهمتها بالاستخلاف والعمران البشري .
والله المستعان .
المقدمة
الاجتهاد المقاصدي بكل إيجاز واختصار: العمل بمقاصد الشريعة، والالتفات إليها، والاعتداد بها في عملية الاجتهاد الفقهي .
وموضوعه أصولي فقهي يتناول قضية مهمة للغاية، اصطلح على تسميتها: ( بمقاصد الشريعة الإسلامية ) ، التي تعد فنا شرعيا معتبرا، له أهميته ومكانته على صعيد الدراسة المعرفية والأكاديمية، وله فوائده وآثاره على مستوى الواقع الإنساني ومشكلاته وأحواله ومستجداته .
وفي العقدين الأخيرين على وجه التحديد، كثر الكلام عن المقاصد الشرعية ومكانتها ودورها في استنباط الأحكام، وكانت جملة المواقف والآراء تتراوح بين ثلاثة اتجاهات :
- الاعتماد المطلق على المقاصد، وجعلها دليلا مستقلا تثبت به الأحكام، تأسيسا وترجيحا .(1/26)
النفي المطلق للمقاصد، واعتبارها أصلا ملغى لا يلتفت إليه، ولا يقوى على مواجهة الأدلة والنصوص والإجماعات الشرعية .
- التوسط في الأخذ بالمقاصد، والاعتدال في مراعاتها والتعويل عليها بلا إفراط ولا تفريط، وبلا إعمال مطلق أو نفي مفرط، وهو الموقف الأقرب للصحة والأليق بمنظومة الشرع ومقررات العقل ومتطلبات الواقع ومصالح الناس .
والحق أن طرح هذه القضية أمر قديم جدا، وجذوره ممتدة إلى بداية نشأة الفكر الإسلامي الفلسفي والكلامي والأصولي، وإلى ما يعرف بقضايا التعليل، والتحسين والتقبيح، وعلاقة الشرع بالعقل على وجه العموم .. غير أن الاهتمام بها ازداد تأكدا وضرورة في الآونة الأخيرة لطبيعة العصر الحالي، ولما بلغه من ظواهر وحوادث هي في حاجة ماسة إلى معالجتها في ضوء الاجتهاد المقاصدي الأصيل والنظر المصلحي المتين، يسد الفراغ الفقهي فيها، ويبرز حيوية الشريعة وصلاحها وشمولها وخلودها وحاكميتها على الحياة والوجود .
لذلك كان لزاما على أهل العلم وأرباب الاجتهاد أن يتصدوا لمتطلبات هذه القضية في ضوء معطيات الواقع المعاصر، على وفق منهجية تراعي التوسط في الأخذ بالمصالح، بغية نفي الآثار السيئة لمنهج الغلاة والنفاة، وبغرض بيان أحكام الله تعالى في النوازل المستحدثة، التي لم ينص أو يجمع عليها، أو التي يتعين ترجيحها وتغليب بعض معانيها ومدلولاتها، بسبب كونها ظنية واحتمالية لم تستقر على معنى معين ومدلول واحد .
وقد كانت فكرة طرق هذا الموضوع ترد علي منذ زمن ليس باليسير، وخاصة عندما كنت طالبا بحامع الزيتونة لما انعقد ملتقى الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله في سنة 1985م(1) ، فقد كانت مسألة المقاصد ودورها الفقهي، من المحاور المهمة التي حظيت بنصيب وافر من النقاش والتعليق .(1/27)
لذلك قررت بعون الله تعالى خوض هذا الموضوع وفق منهجية، الغرض منها: بيان حقيقة المقاصد الشرعية ومكانتها في الاجتهاد، وأهميتها في معالجة مشكلات العصر في ضوء الضوابط الشرعية، دون أن نعدها دليلا مستقلا عن الأدلة التشريعية كما رأى ذلك بعض المفكرين والباحثين، بل هي معنى مستخلص ومستفاد من تلك الأدلة ومن سائر التصرفات والقرائن التشريعية .
ولا أدعي أنني قد أتيت بالجديد المبدع في هذا السياق، فالأوائل رحمهم الله تعالى لم يتركوا للأواخر سوى بعض نواحي التكميل والتتميم والتعليق، فقد كان لهم فضل السبق في التأسيس والإنشاء، وكل ما في الأمر أنني أضفت بعض الشيء اليسير على مستوى التجميع والترتيب والربط بالواقع المعاصر، وإثارة ذوي الهمم لزيادة الإقبال على البحث والتحقيق، وتقرير بعض المعالم العامة التي قد يستنير بها أهل الاجتهاد في التصدي لأحوال العصر بمنظور العمل بالمقاصد والالتفات إليها .
ويمكن أن أورد فيما يلي بعض الإشارات العامة المتضمنة في الموضوع، وهي لا تغني عن الرجوع إلى بيانها في صلب الموضوع وثناياه :
* المقاصد الشرعية أمر ملحوظ في المنظومة التشريعية، وقد توالت على تقريره أدلة وقرائن ومسلمات كثيرة، وهو من المعطيات المهمة والضرورية في الاجتهاد والاستنباط، إذ يمكن أن نعتبره إطارا شاملا ومرجعا عاما لتأطير الظواهر والحوادث المعاصرة
* العمل بالمقاصد منهج قديم وقع تطبيقه في العصر النبوي وعصور الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب، كما كان مستحضرا لدى عموم المجتهدين وأغلب الفقهاء والأصوليين .
* العمل بالمقاصد ليس على عمومه وإطلاقه، فهو مقيد بعموم الأدلة والقواعد والضوابط الشرعية، وبسائر الأبعاد العقدية والأخلاقية والعقلية المقررة، وهذا ما يجعلنا نعد المقاصد أصلا تابعا للأدلة وليس دليلا مستقلا ومنفرد .(1/28)
* مبررات دعاة استقلال المقاصد عن الأدلة ضعيفة ومرجوحة، وهي محمولة على ما وقع فيه أصحابها من تعسف في الفهم وسوء استخدام التطبيقات، والاكتفاء بالنظرة الأحادية التجزيئية لمنظومة التشريع، والحماس الذي ليس في محله، والتحامل الملحوظ أحيانا .
* القول بارتباط المقاصد بالأدلة لا يعني تعطيل المصالح الإنسانية وتضييق نطاقها وأحجامها، أو تعطيل دور العقل وتحجيم فعله وأثره في الفهم والإدراك والاستنباط والترجيح وغيره، بل إن ذلك القول تأكيد لميزان الإسلام في النظر المقاصدي، ومراعاة المصالح من حيث انضباطها واطرادها وظهورها وجريانها على وفق الصلاح الحقيقي والنفع العام، وليس بحسب الأهواء المتقلبة والخواطر والأمزجة المضطربة.. وفيما يخص دور العقل حيال عدم استقلال المقاصد عن الأدلة، فإن دوره مضمون وثابت، وله ضروبه وصوره، وهي تتمثل جملة في مسالك الفهم والإدراك والتمييز والإلحاق والتقعيد والإدراج والمقارنة والترجيح والاستقراء، وغير ذلك مما يعد شروطا أساسية لفهم التكليف وفعله في الواقع، ولسنا نضيف الجديد إذا قلنا: بأن الشرع كله ما نزل إلا ليخاطب عقل الإنسان ويجعله مناطا لتكاليفه وأحكامه، تحملا وأداء، فهما وتنزيلا .
وتدخل العقل يلاحظ بصورة أكبر في المجالات التي لم ينص عليها أو يجمع عليها، وفي المجالات الظنية الاحتمالية التي يتعين ترجيح ما ينبغي ترجيحه في ضوء الاجتهاد المقاصدي والنظر العقلي الأصيل .
* الثوابت الإسلامية لا ينبغي تغييرها أو تعديلها بممارسة الاجتهاد المقاصدي، بل إن طابع الثبات فيها هو نفسه المقصد المعتبر والقطعي والثابت الذي لا يتغير بتغير الزمن والظرف، والذي جعله الشارع محفوظا ومعلوما إلى الأبد، وغير خاضع للتأويل والنظر واحتمال التلاعب والتعطيل والتعسف .(1/29)
وتشمل الثوابت جملة القواطع المضمونية، والتي هي العقائد والعبادات والمقدرات وأصول المعاملات والفضائل وكيفيات بعض المعاملات، وتشمل كذلك القواطع المنهجية، وذلك على نحو الجمع بين الكليات والجزئيات، والنظرة الشمولية، ومراعاة التدرج والأولويات في معالجة الأمور، وغير ذلك .
* الوسائل الخادمة للثوابت يجوز فيها النظر المقاصدي، قصد اختيار أحسنها وأصلحها خدمة للقواطع، وتمكينا لها، ومثال ذلك: الاستفادة من علوم العصر ومستجدات الحضارة لتقوية الاعتقاد في النفوس، وتيسير أداء العبادات، كاتخاذ مضخمات الصوت في الجمعات والأعياد، واتخاذ طوابق الطواف والسعي والرجم، وغير ذلك من الوسائل والكيفيات التي تخدم القواطع في حدود الضوابط الشرعية .
* غير الثوابت يتعين فيها الاجتهاد المقاصدي الأصيل والنظر المصلحي المشروع، وهي تشمل المجالات التي لم ينص أو يجمع عليها، والمجالات الظنية الاحتمالية، ومن أمثلة ذلك النوازل المستحدثة في الأمور الطبية كطفل الأنبوب والاستنساخ وبنوك الحليب والمني.. وفي الأمور المالية كالسندات والأسهم والبيع بالتقسيط والتأمين .. وكذلك الوسائل المتغيرة للمقاصد المقررة، والتي ينظر في أصلحها وأقربها لمراد الشرع ومصالح الناس .
* هناك موضوعات شرعية أصولية مهمة جدا في المقاصد، وهي تشكل ميدانا رحبا لإجراء النظر المقاصدي، وتلك الموضوعات على الرغم من خدمة السابقين لها، تمثيلا وتدليلا وتأصيلا، غير أنها تبقى في حاجة أكيدة لزيادة تحقيقها ودراستها، ولا سيما فيما يتعلق بتجلية تطبيقاتها المعاصرة، ومن تلك الموضوعات:
- القياس الكلي أو الواسع .
- المناسبة .
- الضرورة الخاصة والعامة (1) .(1/30)
* الاستعانة بمستجدات الحضارة ووسائل التكنولوجيا والإعلام والاستئناس بالعلوم الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، مع مراعاة محاذير ذلك .. والغرض من ذلك كما ذكرنا هو تقرير القواطع والثوابت، وسد الفراغ الفقهي في المجالات المستحدثة، وترجيح الأصوب والأنفع في الميادين الظنية والاحتمالية .
* إعادة صياغة العقل العربي والإسلامي، وتنقيته مما وقع فيه من شوائب وشبه أصابته بنوع من الخلل في التعامل مع المنظومة الشرعية والمنهج المقاصدي الأصيل .
* إنارة العقل العالمي وتبصيره بكونية الإسلام وإنسانيته وحضاريته، وبأنه رسالة للإصلاح والتسامح والحرية والنماء الشامل، وهذا من شأنه أن يمكن المسلمين من إزالة أو تضييق مبررات الإقصاء والتحامل، وبالتالي من تحقيق الأهداف والمقاصد الإسلامية الملحة في الواقع المعاصر، على نحو التحرر الاقتصادي والأمن الغذائي وامتلاك المبادرة الصناعية والحضارية، وأداء الدور الاستخلافي العام .
* التأكيد على أن الاجتهاد المعاصر ينبغي أن يتسم بطابع الجماعية والمؤسساتية والتخصصية، وأن يتصدى له الفقهاء والخبراء والمصلحون، وذلك بهدف التوصل إلى أنسب الحلول الشرعية وأقرب المقاصد الشرعية فعصرنا المعقد في ظواهره وسماته، ونوازله ووقائعه، ليس له من سبيل سوى اعتماد الاجتهاد الجماعي، على الرغم من أهمية الاجتهاد الفردي ومحدودية مجالاته وميادينه في الواقع المعاصر .
وفي ختام هذه الدراسة أرجو من الله أن يغفر لي ما وقعت فيه من زلل وخطأ، وأن يهديني إلى خير الأقوال والأعمال، وأن يدخر لي هذا الجهد في موازين أعمالي وسجل حسناتي، وأن ينفع به عموم القراء والطلاب والدارسين، وأن يثيب ثوابا حسنا كل من ساعد في إنجازه وقرأه وأسهم في طباعته ونشره والإفادة به.
الفصل الأول: حقيقة مقاصد الشريعة المبحث الأول: تعريف مقاصد الشريعة »(1/31)
كان قدامى العلماء يعبرون عن كلمة ( مقاصد الشريعة ) بتعبيرات مختلفة وكلمات كثيرة، تتفاوت من حيث مدى تطابقها مع مدلول المقاصد الشرعية ومعناها ومسماها، لذلك لم يبرز على مستوى البحوث والدراسات الشرعية والأصولية تعريف محدد ومفهوم دقيق للمقاصد يحظى بالقبول والاتفاق من قبل كافة العلماء أو أغلبهم، وقد كان جل اهتمامهم الاجتهادي مقتصرا على استحضار تلك المقاصد والعمل بها أثناء الاجتهاد الفقهي، دون أن يولوها حظها من التدوين، تعريفا وتمثيلا وتأصيلا وغير ذلك .
أما المعاصرون فقد ذكروا تعريفات تتقارب في جملتها من حيث الدلالة على معنى المقاصد ومسماها، ومن حيث بيان بعض متعلقاتها على نحو أمثلتها وأنواعها وغير ذلك .
ويمكن أن نحصر أغلب التعبيرات والاستعمالات لكلمة المقاصد التي استخدمها العلماء قديما وحديثا ليعنوا بها مراد الشارع ومقصود الوحي ومصالح الخلق، وليسهموا بها في تكوين مادة هذا الفن الجليل، وصياغة نظريته العامة وبنائه المتناسق :
- فقد عبر عن المقاصد عندهم بالحكمة المقصودة بالشريعة من الشارع، مثال ذلك ما جاء عن ابن رشد الحفيد بقوله: ( وينبغي أن تعلم أن مقصود الشرع إنما هو تعليم العلم الحق والعمل الحق...) (1) ، وقوله: ( فلنفوض أمثال هذه المصالح إلى العلماء بحكمة الشرائع ) (2) .. وما جاء عن القاضي عياض بقوله: ( الاعتبار الثالث ... وهو الالتفات إلى قواعد الشريعة ومجامعها، وفهم الحكمة المقصودة بها من شارعها ) (3).. وما جاء عن الرازي والبيضاوي والآمدي وغيرهم من أن الحكمة التي هي مقصود الشارع، يجوز التعليل والاحتجاج بها (4) .(1/32)
- وعبر عنها بمطلق المصلحة، سواء أكانت هذه المصلحة جلبا لمنفعة أو درءا لمفسدة، أم كانت مصلحة جامعة لمنافع شتى، أم كانت تخص منفعة معينة أو بعض المنافع القليلة والمحصورة، جاء عن ابن القيم قوله: ( فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها ) (1).. وجاء عن ابن العربي قوله: ( واعتبار المقاصد والمصالح، وقد نبهنا على ذلك في مسائل الفروع ) (2). ومن تلك الفروع: منع وتحريم كل ما يشغل عن الجمعة من أجل المصلحة (3) وجاء عن المازري قوله: ( للحجر مصلحة ) (4) ..وأن التسعير شرع ( لمصلحة أهل السوق في أنفسهم ) (5).. وجاء عنه: أن لفظ المنفعة يطلق للدلالة على المصلحة (6) وجاء عن القاضي عبد الوهاب قوله حيال منع النجش: ( ولأن في منع ذلك مصلحة عامة، وما يتعلق بالمصالح العامة جاز أن يحكم بفساده كتلقي السلع وغيره ) (7). ويذكر أن الأصوليين كانوا كثيرا ما يذكرون المصلحة في ثنايا حديثهم عن الكليات الخمس ومصادر التشريع، وهم يعنون بها المقاصد الشرعية الخاصة والعامة، القطعية والظنية وغير ذلك .
- وعبر عن المقاصد كذلك بنفي الضرر ورفعه وقطعه، جاء عن القاضي عياض قوله: الحكم بقطع الضرر واجب (8) .
- وعبر عنها أيضا بدفع المشقة ورفعها، قال ابن العربي : ( ولا يجوز تكليف ما لا يطاق ) (1) .
- وعبر عنها برفع الحرج والضيق، وتقرير التيسير والتخفيف، واستنكار التنطع والتشدد والمبالغة، واستحباب اللين والرفق والسهولة والرخصة (2) .
- ويعبر عنها بالكليات الشرعية الخمس الشهيرة : حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، التي توالت كل الأمم والملل على تقريرها وتثبيتها (3) .(1/33)
- ويعبر عن المقاصد أيضا بالعلل الجزئية للأحكام الفقهية، سواء أكانت تلك العلل أوصافا ظاهرة منضبطة، أم كانت حكما وأسرارا، أم كانت مصالح ومنافع كلية وعامة (4)، ويلاحظ هذا الاستعمال خصوصا في مباحث تفسير آيات الأحكام وشرح أحاديث الأحكام .
ويعبر عنها بما يتفرع عن العلة، كالموجب والسبب والمؤثر وغيره، وذلك بقول العلماء: لقد شرع الحكم لعلة كذا، أو سبب كذا، أو لأنه يؤثر في كذا، أو من أجل كذا وكي يحقق كذا، وغير ذلك مما يفيد التنصيص على معنى معين ومقصد ما (1) .
ويعبر عنها بمعقولية الشريعة وتعليلاتها وأسرارها، وكذلك خصائصها العامة وسماتها الإجمالية، على نحو التيسير والوسطية والتسامح والاعتدال والاتزان والواقعية والإنسانية، وجريانها على وفق المعقولات الموثوقة والفطر السليمة، وغير ذلك من الإطلاقات التي بينت جوهر الشريعة وغرضها العام وهدفها الكلي في الحياة والوجود .
- ويعبر عنها بلفظ المعاني، فقد كان العلماء يطلقون أحيانا لفظ المعاني ليدلوا بها على ما انطوت عليه الشريعة والأحكام من مقاصد ومصالح (2) .
ويعبر عنها بكلمات الغرض والمراد والمغزى (3) .
تعريف المقاصد عند المعاصرين :
نورد من تلك التعاريف ما يلي:
عرفها العلامة التونسي الشيخ محمد الطاهر بن عاشور بقوله: ( مقاصد التشريع العامة: هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغاياتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها ويدخل في هذا أيضا معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها ) (1) .
وعرفها العلامة المغربي علال الفاسي بقوله: ( المراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها ) (2) .(1/34)
وعرفها الدكتور المغربي أحمد الريسوني بقوله ( إن مقاصد الشريعة: هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد ) (3) .
التعريف المختار:
المقاصد: هي المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية، والمترتبة عليها، سواء أكانت تلك المعاني حكما جزئية أم مصالح كلية أم سمات إجمالية، وهي تتجمع ضمن هدف واحد هو تقرير عبودية الله ومصلحة الإنسان في الدارين .
المبحث الثاني: أنواع المقاصد
تتنوع المقاصد تنوعات كثيرة، باعتبارات وحيثيات مختلفة .
* فهي باعتبار محل صدورها تنقسم إلى قسمين:
أ- مقاصد الشارع وهي المقاصد التي قصدها الشارع بوضعه الشريعة، وهي تتمثل إجمالا في جلب المصالح ودرء المفاسد في الدارين .
ب- مقاصد المكلف: وهي المقاصد التي يقصدها المكلف في سائر تصرفاته، اعتقادا وقولا وعملا، والتي تفرق بين صحة الفعل وفساده، وبين ما هو تعبد وما هو معاملة، وما هو ديانة وما هو قضاء، وما هو موافق للمقاصد وما هو مخالف لها .
* والمقاصد باعتبار مدى الحاجة إليها تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
أ- المقاصد الضرورية : وهي التي لابد منها في قيام مصالح الدارين، وهي الكليات الخمس: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، والتي ثبتت بالاستقراء والتنصيص في كل أمة وملة، وفي كل زمان ومكان.
ب- المقاصد الحاجية: وهي التي يحتاج إليها للتوسعة ورفع الضيق والحرج والمشقة، ومثالها: الترخص في تناول الطيبات، والتوسع في المعاملات المشروعة على نحو السلم والمساقاة وغيرها .
ج- المقاصد التحسينية: وهي التي تليق بمحاسن العادات، ومكارم الأخلاق، والتي لا يؤدي تركها غالبا إلى الضيق والمشقة، ومثالها الطهارة وستر العورة وآداب الأكل وسننه وغير ذلك .
* والمقاصد باعتبار تعلقها بعموم الأمة وخصوصها، تنقسم إلى ثلاثة أقسام :(1/35)
أ- المقاصد العامة : وهي التي تلاحظ في جميع أو أغلب أبواب الشريعة ومجالاتها، بحيث لا تختص ملاحظتها في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغاياتها الكبرى .
ب- المقاصد الخاصة: وهي التي تتعلق بباب معين أو أبواب معينة من أبواب المعاملات، وقد ذكر ابن عاشور أن هذه المقاصد هي: مقاصد خاصة بالعائلة.. بالتصرفات المالية.. بالمعاملات المنعقدة على الأبدان كالعمل والعمال.. بالقضاء والشهادة.. بالتبرعات.. بالعقوبات .
ج- المقاصد الجزئية: وهي علل الأحكام وحكمها وأسرارها .
* والمقاصد باعتبار القطع والظن تنقسم إلى قسمين :
أ- المقاصد القطعية : وهي التي تواترت على إثباتها طائفة عظمى من الأدلة والنصوص، ومثالها: التيسير، والأمن، وحفظ الأعراض، وصيانة الأموال، وإقرار العدل ...
ب المقاصد الظنية: وهي التي تقع دون مرتبة القطع واليقين، والتي اختلفت حيالها الأنظار والآراء، ومثالها: مقصد سد ذريعة إفساد العقل، والذي نأخذ منه تحريم القليل من الخمر، وتحريم النبيذ الذي لا يغلب إفضاؤه إلى الإسكار، فتكون تلك الدلالة ظنية خفية.. ومثالها أيضا: مصلحة تطليق الزوجة من زوجها المفقود (1) ، ومصلحة ضرب المتهم بالسرقة للاستنطاق (2) .
وهناك المقاصد الوهمية : وهي التي يتخيل ويتوهم أنها صلاح وخير ومنفعة، إلا أنها على غير ذلك .. ولا شك أن هذا النوع مردود وباطل .
* والمقاصد باعتبار تعلقها بعموم الأمة وأفرادها، تنقسم إلى قسمين :
أ- المقاصد الكلية: وهي التي تعود على عموم الأمة كافة أو أغلبها، ومثالها حماية القرآن والسنة من التحريف والتغيير، وحفظ النظام، وتنظيم المعاملات، وبث روح التعاون والتسامح، وتقرير القيم والأخلاق...
ب- المقاصد البعضية: وهي العائدة على بعض الأفراد، ومثالها: الانتفاع بالمبيع، والأنس بالذرية، وغير ذلك ...
* والمقاصد باعتبار حظ المكلف وعدمه، تنقسم إلى قسمين :(1/36)
أ- المقاصد الأصلية: وهي ليس فيها حظ ظاهر للمكلف، ومثالها: أمور التعبد والامتثال غالبا...
ب- المقاصد التابعة: وهي التي فيها حظ ظاهر للمكلف، ومثالها: الزواج والبيع...
حجية المقاصد .. وفوائدها .. وطرق اثباتها »
إثبات المقاصد:
من المعلوم صراحة وقطعا أن التشريع الإسلامي لا يخلو من إقرار حقيقة مقاصدية أحكامه وتعاليمه، تلك الحقيقة التي أجمع عليها كافة الباحثين والدارسين، وأقرتها مختلف العقول والأعراف والعوائد والقوانين في كل زمان ومكان، فهو منطو على مقاصده في الخلق وغاياته في الوجود وأسراره وحكمه في حياة الناس وأحوالهم (1) .
وقد اصطلح على تسمية تلك الغايات والأسرار والحكم ( بمقاصد الشريعة ) ، التي هي أمر ثابت وأصل مقطوع به، وحجة يقينية يجب اعتقادها والتسليم بها، ويلزم استحضارها والالتفات إليها في عملية الاجتهاد الفقهي وفي بيان الأحكام وتطويرها والترجيح بينها .
فالأحكام الشرعية عند جماهير العلماء جملة وتفصيلا متضمنة لمقاصدها وأغراضها، ومنطوية على مصالح الخلق وإسعادهم في الدارين، سواء أكانت هذه المقاصد حكما ومعاني جزئية تفصيلية، أم كانت مصالح ومنافع كلية عامة، أم كانت سمات وأغراضا كبرى تحيط بأبواب وأحكام شتى .
وإجمالا فإن الأحكام بمقاصدها المختلفة، تشكل النظام الشامل والنسيج الأصولي المتناسق الذي على المجتهد أن يستحضره ويطبقه في عملية الاستنباط، وأن لا يكتفي تجاهه بالاهتمام بالألفاظ والمباني وظواهر النصوص والأحكام، دون النظر في المعاني والأسرار ومختلف أوجه التأويل والتعليل .
ومن ثم فهي ضرورية لازمة للفقيه وغيره كضرورة النصوص نفسها، وإلا ظل الفقه كيانا بدون روح، فارغا من كل دلائله وأهدافه .
ويمكن أن نورد بعض الأدلة والشواهد على ذلك :(1/37)
-عموم الأدلة وخصوصها (1) : ومثال ذلك قوله تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ( البقرة: 185 ) وقوله: ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) ( الحج: 78 ) ، وغير ذلك من الشواهد في القرآن والسنة .
- قواعد الفطرة السليمة ومسلمات العقل وقوانين النظام الكوني البديع، والتي تدل على أن خلق الكائنات لم يكن عبثا ولا سدى، وإنما أقر لعبودية الله تعالى وإسعاد البشرية في الدارين .
المبحث الرابع: فوائد المقاصد
لدراسة المقاصد وبحثها فوائد وأغراض كثيرة، نذكر منها:
- إبراز علل التشريع وحكمه وأغراضه ومراميه الجزئية والكلية، العامة والخاصة، في شتى مجالات الحياة وفي مختلف أبواب الشريعة .
- تمكين الفقيه من الاستنباط على ضوء المقصد الذي سيعينه على فهم الحكم وتحديده وتطبيقه (2)، وهذا الذي عنونا له ( بالاجتهاد المقاصدي ) ، الذي هو موضوع هذا البحث كله .
إثراء المباحث الأصولية ذات الصلة بالمقاصد، على نحو المصالح ، والقياس، والعرف، والقواعد، والذرائع، وغيرها (1) .
التقليل من الاختلاف والنزاع الفقهي والتعصب المذهبي، وذلك باعتماد علم المقاصد في عملية بناء الحكم، وتنسيق الآراء المختلفة، ودرء التعارض بينها .
- التوفيق بين خاصيتي الأخذ بظاهر النص، والالتفات إلى روحه ومدلوله على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص، ولا العكس، لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض (2) .
- تأكيد خصائص صلاحية الشريعة ودوامها وواقعيتها ومرونتها وقدرتها على التحقق والتفاعل مع مختلف البيئات والظروف والأطوار .
المبحث الخامس : طرق إثبات المقاصد
يصطلح على تسمية هذا المطلب بمسالك الكشف عن المقاصد، أو سبل إثبات وطرق كشف وتعيين المقاصد، وغير ذلك ... ويمكن أن نورد بيان تلك المسالك ضمن مسلكين كبيرين، على ضوء ما قرره بالخصوص كل من الشاطبي وابن عاشور :
1- الاستنباط المباشر من القرآن والسنة:(1/38)
سواء من خلال مجرد الأمر والنهي الابتدائيين التصريحيين؛ أو من خلال اعتبار علل الأمر والنهي؛ أو من خلال النصوص التقريرية؛ أو من خلال تتبع الأدلة حول علة واحدة، ومثالها : النهي عن الاحتكار وبيع الطعام قبل قبضه، وعن بيع الطعام بالطعام نسيئة، وكل ذلك قد أفاد مقصد تيسير رواج الطعام وتحصيله؛ أو من خلال تتبع السكوت النبوي الوارد في موضع الحاجة إلى البيان الشرعي، فيدل ذلك السكوت على أن المقصد في عدم النطق بالحكم وليس بالتصريح به، ومثاله: سجود الشكر؛ أو من خلال تتبع اجتهادات السلف .
2- الاستخراج من المقاصد الأصلية والجزئية:
ومثال الاستخراج من المقاصد الأصلية استخراج مقاصد السكن والأنس بالذرية والاستمتاع بالزوجة من المقصد الأصلي والذي هو التناسل .
أما الاستخراج من المقاصد الجزئية، فهو يتمثل في تتبع العلل الكثيرة الثابتة والواردة في تحديد حكمة واحدة مشتركة، فتكون تلك الحكمة بمثابة المقصد الكلي الأصلي، ومثال ذلك: مقصد الأخوة ودوام العشرة المستخرج من علل النهي عن الخطبة على الخطبة، والسوم على السوم، والنهي عن الوقوع في العرض أو المال أو الكرامة بالغيبة والنميمة، والغصب والتغرير وغير ذلك....
تنزيل المقاصد ووسائلها
قيمة تنزيل المقاصد :
يعد تنزيل المقاصد الشطر الثاني والأساس الضروري بعد الفهم والاستيعاب، إذ من شروط الاجتهاد والإفتاء: فهم مقاصد الشريعة على كمالها، وكذلك التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها (1) . وهو -أي تنزيل المقاصد- وإن كان كجزء من وسيلة الاستنباط، يعرف به كيف استنبط المجتهدون أيضا، إلا أنه في ذاته فقه في الدين وعلم بنظام الشريعة ووقوف على أسس التشريع (2) .
ومن دواعي أهمية التطبيق المقاصدي ومبرراته، يمكن إيراد ما يلي :
- طبيعة النصوص والأدلة والآثار المنطوية على مقاصدها ومصالحها جلبا، ومفاسدها وأضرارها درءا.(1/39)
- طبيعة الحوادث والمستجدات الكونية والإنسانية التي تقتضي المعالجة الشرعية لها وفق المنظور المقاصدي المتين، ومن ثم فإن تطبيق المقاصد في حياة الناس أمر لابد منه ولا محيد عنه، حتى تستقيم الحوادث ويصلح الخلق وتتحقق الأحكام والتعاليم والقيم .
مراحل تنزيل المقاصد:
1- فهم المقصد الجزئي أو علة الحكم، والعمل على تحديده وفق طرق إثبات المقاصد المقررة .
2- النظر في تعدية المقصد الجزئي، لأن التعدي مع الجهل بالعلة، تحكم من غير دليل (1) .
3- فهم المقصد الكلي وتحديده من خلال عملية الاستقراء أو التقرير وغير ذلك .
4- النظر في مستجدات الوقائع والحوادث، والعمل على إدراجها ضمن تلك المقاصد الكلية وفق ما يعرف بالاستصلاح المرسل أو الاستحسان وقد عبر عن هذا بتعبيرات كثيرة منها القياس الكلي، والمصلحي، والواسع، وقياس المصالح المرسلة، والمقاصد العالية (2) .
وقد جاء عن ابن عاشور فصل بعنوان: ( أحكام الشريعة قابلة للقياس عليها، باعتبار العلل والمقاصد القريبة والعالية ) (3) .
المبحث السابع : وسائل المقاصد
مبحث وسائل المقاصد يحظى بنفس الأهمية التي حظي بها مبحث المقاصد ذاته، وذلك لتوقف تلك المقاصد على وسائلها الموضوعة لها، وجودا وعدما (1) .
مظان الوسائل :
يظن وجود مادة الوسائل ومحتواها في المباحث التالية :
1- المقاصد مبحث المقاصد -كما هو معلوم- هو المبحث الذي تتصل به مباشرة وبداهة مسألة الوسائل، إذ أن المقصد ووسيلته يتلازمان ويترابطان من حيث الوجود والعدم .. ( موارد الأحكام على قسمين: مقاصد وهي متضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل وهي الطرق المفضية إليها ) (2) . ( لأن موارد الأحكام قسمان مقاصد أساسية، ووسائل مفضية إليها ) (3) .(1/40)
2- الأحكام: الأحكام الشرعية وضعت لمقاصدها وأغراضها، فهي طرق ووسائل لتحقيق تلك المقاصد.. فالسبب والشرط والمانع مثلا لم توضع لذاتها ولم تكن مقصودة في نفسها، وإنما وضعت لتحصيل غيرها وتحقيق ما تفضي إليه من مصالح ومنافع، ومثال ذلك: اشتراط النية وسيلة لصحة الوضوء والغسل، ورؤية الهلال وسيلة لثبوت الشهر ووجوب الصوم .. ومثاله أيضا: موانع الأحكام على نحو: الإغماء والجنون والإكراه والحيض والنفاس والمرض وغيره.. فإن تلك الموانع عدها الشرع وسائل شرعية معتبرة نيطت بها مقاصدها المتمثلة في دفع المشقة والحرج، وتحقيق التيسير والتخفيف عن المكلفين .
3- الذرائع فتحا وسدا: تعد الذرائع فتحا وسدا وسائل للمقاصد، إذ ينظر إلى الذريعة وإلى وجوب سدها أو فتحها بحسب ما ستؤول إليه أو بحسب الأثر المترتب عليها .
4- الحيل والاستحسان وغيرهما مما يتعين وسيلة لمقصده بحسب الاعتبار الشرعي وعدمه .
تعريف الوسائل:
إنه كما سبق منذ حين موارد الأحكام قسمان :
- المقاصد - الوسائل
والمقاصد هي المصالح المجتلبة والمفاسد المبتعدة .
أما الوسائل فهي الأمور التي تسبق المقاصد وتوصل إليها، أو هي الطرق المفضية إليها بحسب وضع الشرع واجتهاد العقل، وذلك على نحو: اشتراط الطهارة وسيلة لصحة الصلاة، وتعظيم الخالق وعبادته وسيلة لمقصد تمكين الأخلاق في النفس الإنسانية، ومنع البيع في الجمعة وسيلة لمقصد حرمة الصلاة وحضورها ... وبأن النية المقرونة بالقول أو الفعل المتعلق بالحج وسيلة لانعقاد الحج .
وتشمل الوسائل الأحكام الشرعية: التكليف، الأسباب، الشروط، الموانع، الرخص (1)، والذرائع المختلفة، وصيغ العقود والمعاملات، والأسماء والألفاظ الدالة على معانيها ومسمياتها، وغير ذلك .(1/41)
فالوسائل إذن هي كل ما أوصل إلى المقاصد، وهي مرتبطة بها من حيث الحصول وعدمه، وحكمها هو حكم ما أفضت إليه من منع أو إيجاب أو تحريم أو تحليل وكما يجب النظر في المقاصد والالتفات إليها، يجب كذلك النظر في طرائقها التي تفضي إليها . ويسقط اعتبار الوسائل ومراعاتها عند سقوط المقاصد وزوالها (2) .
أنواع الوسائل:
أ- الوسائل الثابتة .
وهي الوسائل التي حددها الشارع طرقا مضبوطة إلى مقاصدها التي لا تتحقق إلا بها، بحيث لو انخرمت الوسائل أو تغيرت، لانخرمت معها المقاصد واختلت وتغيرت (3)، وهذا النوع من الوسائل موجود بكثرة في خطاب الشارع وتعاليمه، وهو يشمل جملة الأحكام الوضعية، وكيفيات وتفاصيل العبادات، وأصول الفضائل والمعاملات، وقواعد ومسائل الاعتقاد، وغير ذلك من الأمور التي جعلها الشارع وسائل لتحصيل مقاصدها .
وعليه فإن من أمثلة هذا النوع: نجد اشتراط الطهارة، والنية، وستر العورة، واستقبال القبلة، وجملة الأقوال والأفعال التي تصح بها الصلاة.. ونجد كذلك اشتراط النصاب، وحولان الحول، وانتفاء الديون والحاجات الضرورية، والزيادة عن الحاجات الأصلية، وغير ذلك من مختلف الأمور، المجعولة وسائل وطرقا شرعية إلى تحقيق مقاصد الزكاة، المتعلقة جملة بتحقيق نماء المال وزيادته، وسد حاجة الفقير، وتعميق معاني الأخوة والتضامن والمحبة والمواساة، بين الغني والفقير، وبين مختلف أفراد المجتمع وفئاته .
كما نجد صيغة التراضي بين المتعاقدين سواء عن طريق التلفظ بالإيجاب والقبول أو عن طريق النية والقصد، وعن طريق ما يفهم منه أنه من قبيل صيغة التراضي، كما هو الحال في بيع المعاطاة عند المالكية وغيرهم، تلك الصيغة تعد وسيلة ثابتة إلى تحقيق مقصود البيع الذي يتصل بالانتفاع المتبادل بالثمن والمثمن، وتخليص المعاملة من الضرر والغبن والتغرير والتزييف وما أشبه ذلك .(1/42)
ومن الأمثلة كذلك نجد الزواج المؤبد وعزم الزوجين على الاستمرار في الحياة الزوجية وعدم قطعها بموجب نكاح المتعة أو نكاح التحليل أو الغرر أو الإضرار وغيره ... فقد عد ذلك كله وسيلة ثابتة يقينية لتحقيق مقصود الزواج، المتصل بتلبية الرغبة الجنسية، وبناء الأسرة، وعمارة الأرض وغير ذلك، إذ إن العزم الابتدائي على توقيت الزواج وقطعه بعد مدة مناف لهذه المقاصد ومخل بها وهذا بخلاف الطلاق الذي يحصل بمقتضى ما يستجد أثناء الحياة الزوجية دون سبق إصرار وعزم على فعله، إذ يكون بسبب الضرر البين، أو التراضي المتبادل، فيحل عندئذ محل الزواج في تحقيق مصالح الزوجين ودفع الضرر والضيق والحرج عنهما، وبهذا يكون الطلاق وسيلة شرعية ثابتة إلى نفس تلك المقاصد .
ب الوسائل المتغيرة :
وهي الوسائل التي تتغير بتغير الحال والظرف، والتي تثبت صلاحيتها لمقاصدها عن طريق الاجتهاد، وهي تشمل سائر المجالات التشريعية الظنية والاحتمالية التي تعددت معانيها وصورها وكيفياتها، أو المجالات التي لم توجد نصوص وأحكام تجاهها .
وهي الطرق غير الثابتة والتي تتعين طرقا إلى مقاصدها بطريق الاجتهاد المضبوط حسب تغيرات الأوضاع، وطروء المستجدات، وطبيعة النصوص، وملكة الفقيه وأحواله.. ويكون دور المجتهد متمثلا في تحديد الوسائل إلى المقاصد، أو في تحديد أحسن الوسائل إذا تعددت وتداخلت وتعينت جميعها طرقا إلى مقصد واحد أو مقاصد كثيرة .
وهي تشمل عموما جملة الكيفيات والطرق التي تخدم الاعتقاد والعبادات والمعاملات، وسائر المسائل الاجتهادية الظنية التي تقبل التأويل والترجيح والنظر في جوانب الوسائل المفضية إلى مقاصدها (1).
وأمثلتها: النظر العقلي بمختلف صوره وأشكاله وسيلة لتعميق الإيمان في نفس الإنسان، ووسيلة لتمكين الأخلاق والفضائل .(1/43)
- ترك البيع والشراء والكراء واللهو واللعب وسائر ما يشغل عن إدراك الجمعة... كل ذلك وسيلة إلى تحقيق مقاصد قداسة الجمعة واغتنام منافعها ( فكل أمر يشغل عن الجمعة من العقود كلها فهو حرام شرعا مفسوخ ردعا ) (2) .
- التعازير المختلفة التي يتخذها الحاكم بقصد الردع والزجر، هي وسائل اجتهادية إلى تحقيق ذلك المقصد، إذ يبحث الحاكم في تحديد أقوى الوسائل وأجداها في تحقيق المقصد وتثبيته .
-الإجراءات والتدابير التي يقيد بها الحاكم بعض المباحات بهدف تحقيق المصلحة، هي وسائل إلى إقرار تلك المصلحة .
وبذلك تكون الوسائل الاجتهادية موطنا رحبا لإعمال العقل والنظر، وبحث أنجع المسالك، وأقرب الطرائق، وأحسن الكيفيات إلى تحصيل المنافع والمصالح، ودرء المفاسد والمضار، وفق مقصود الشارع ومراده، إذ إن الوسائل قد شرعت لأن بها تحصيل أحكام أخرى، فينبغي حينئذ لزوم خدمتها للمقاصد وتدعيمها لها .
تاريخ الاجتهاد المقاصدي المبحث الأول: مقاصدية القرآن الكريم
المقرر شرعا وعقلا، اعتقادا وعملا، نصا واجتهادا، رأيا وإجماعا، إجمالا وتفصيلا، أن القرآن الكريم ينطوي على أرقى المقاصد وأكبرها، وأعلى المصالح وأعظمها، فهو أصل الأصول ومصدر المصادر، وأساس النقول والعقول، وقاعدة أي بناء حضاري يهدف إلى الإعمار والتنمية والازدهار والتقدم والصلاح، وغير ذلك من الغايات والمقاصد التي ترنو جميع الشعوب والأمم إلى تحقيقها وتحصيلها .
وجميع المقاصد الشرعية المعتبرة والمعلومة والمقررة في الدراسات الشرعية، إنما هي راجعة في جملتها أو تفصيلها، تصريحا أو تضمينا إلى هدي القرآن وتعاليمه وأسراره وتوجيهاته .(1/44)
* فمن القرآن الكريم تستفاد مقاصد الشارع الحكيم، من إرسال الرسل، وتنزيل الكتب، وبيان العقيدة والأحكام، وتكليف المكلفين ومجازاتهم، وبعث الخلائق والحياة والكون والوجود .. فقد جاء أن المقصد من الخلق هو عبادة الخالق تعالى والامتثال إليه، وإصلاح الخلق وإسعادهم في العاجل والآجل، وقد دلت على هذا آيات كثيرة، منها قوله تعالى: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ( الذاريات: 56 ) وقوله: ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ) ( المؤمنون: 115 ) وقوله: ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) ( الإسراء: 9 ) وقوله: ( هدى للمتقين ) ( البقرة: 2 ).. كما دلت على هذا أوصافه الكثيرة على نحو وصفه بأنه نور وهدى، ومبارك، ومبين، وبشرى، وبشير ونذير، وغير ذلك من الأوصاف التي أجملت بيان بعض أهدافه ومراميه (1) . كما دلت على ذلك صفة التأبيد فيه، فقد جعله الله تعالى آخر كتاب سماوي، أحكامه ماضية إلى يوم القيامة، ومقاصده باقية لا تزول، وهديه ملحوظ لا ريب فيه .
* منه ثبتت الكليات الشرعية الخمس -حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال- فقد توالت طائفة مهمة من نصوصه وأحكامه لتثبيت تلك الكليات وتدعيمها، واعتبارها أصولا قطعية معتبرة في كل الملل والأمم .
* منه تحددت الكثير من الحكم والعلل والأسرار الجزئية، التي تعلقت بأحكامها الفرعية، والتي شكلت محتوى مهما أسهم في إبراز المقاصد وتكوينها، ومن أمثلة ذلك: حكمة اعتزال النساء في المحيض والتي هي دفع الأذى (1)، وحكمة تشريع الحج والتي هي تحصيل المنافع وذكر الله وغيره، وحكمة تشريع الزواج والتي هي السكن والمودة والرحمة وإعمار الكون، وحكمة تشريع الصوم والتي هي تحصيل التقوى وغيرها، وحكمة منع الاقتراب من الزنا والتي هي فحشه وسوء سبيله ومفاسد مآله، وحكمة وجوب القتال والتي هي دفع الظلم عن المسلمين والذب عن دينهم واستقلالهم ومنعتهم وغير ذلك .(1/45)
* منه استخلصت واستقرت ودونت بعض القواعد الفقهية ذات الصلة بالمقاصد الشرعية، فقد كان المنشغلون بفن القواعد يرجعون كل قاعدة إلى أصلها من القرآن أو السنة أو منهما معا، ومن القواعد المبنية على نصوص من القرآن الكريم قاعدة: ( المشقة تجلب التيسير )، وقاعدة: ( الضرورات تبيح المحظورات ) ، ( والضرورة تقدر بقدرها ) ، وقاعدة: ( العادة محكمة ) (2) .
* منه اكتملت وتبلورت أصول المعاملات والفضائل الرائدة، ومعاني القيم والأخلاق العالية، في أحوال النفس والمجتمع، مثل العدل والإحسان والمساواة والحرية والكرامة والوفاء والصلاح .
وتجتمع كل تلك المعاني المنصوص عليها أو المشار إليها في آي القرآن الكريم ضمن فضيلة التقوى والتزكية والخلق العظيم، قال تعالى: ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )، وقال وهو يصف رسوله الأكرم المبلغ لشرعه ومراده: ( وإنك لعلى خلق عظيم ) (القلم: 4) .
* منه استفيدت العديد من الخصائص العامة للشريعة الإسلامية المتصلة بالمقاصد الشرعية، على نحو خاصية التيسير والتخفيف ورفع الحرج والوسطية والاتزان والسماحة والرفق واللين والواقعية، وغير ذلك من الخصائص الكلية والسمات العامة التي تعاقب الباحثون والدارسون على طرقها وبيانها، بغية التعريف بالإسلام والدعوة إليه، والإقناع بصلاحيته وحقيته ودوره في البناء الحضاري العام .(1/46)
* منه تبينت العديد من المباحث والنظريات الفقهية والأصولية والقانونية على نحو نظرية الالتزام، والحق والضمان والمصالح والضرورة ورفع الحرج والرخصة وسد الذرائع والتحوط والتعليل، وغير ذلك من المباحث والنظريات التي شكلت أهم البحوث والموضوعات المدروسة على صعيد الرسائل الجامعية والمؤلفات الخاصة والملتقيات العلمية، وعمليات التحصيل والحيازة المعرفية والشرعية، والتي تهدف إلى صياغة الرؤية الفكرية الإسلامية المعاصرة، وتدوين النظام الفقهي القانوني الحقوقي العام المؤطر لمختلف النوازل والظواهر وسائر المستجدات، والموجه لتصرفات الناس وتعاملهم وفق تعاليم الشريعة ومقاصدها ومصالح المكلفين بها .
ومن نافلة القول: إن القرآن الكريم ظل الأصل المهم لتلك النظريات والمباحث، وذلك بما اتسم به من تنوع في نصوصه وأحكامه، وثراء في معانيه ودلائله، وتعدد في أساليبه وموضوعاته (1)، وتحد في نظمه وإعجازه، مما يدل على اتساع أفقه، واطراد حقائقه (2)، وجدارة صلاحه، ودوام هديه على مر الأيام والعصور.. كما ظل أصل تلك النظريات بما فوضه للسنة الشريفة لشرحه وبيانه وتدقيقه وتفصيله، وبما أحاله على الخاصة من أهل العلم لاستنباطه واستنتاجه والاهتداء إليه، وعلى العامة لفهمه وتدبره والاقتداء به. فقد كان المقبلون على دراسة القرآن الكريم في مختلف فنونه وعلومه، وعلى مر تاريخه وأطواره محصلين لتركة عظيمة من المعلومات والمتعلقات والبيانات التي كانت أحد أركان تلك النظريات والمباحث .
مقاصدية القرآن الكريم على سبيل التفصيل :
القرآن الكريم كما هو معلل على سبيل الإجمال والعموم بكونه كتاب هداية وصلاح وإرشاد وإسعاد في العاجل والآجل، فهو كذلك معلل بنفس تلك العلل والمقاصد على سبيل بعض مباحثه ومسائله .
ويمكن أن نبرز الجوانب المقاصدية للمباحث التالية:
- مبحث آيات الأحكام.
- مبحث التدرج والنسخ في أحكام القرآن الكريم.(1/47)
- مبحث الترجيح بين معاني القرآن الكريم .
مقصد آيات الأحكام:
حظيت آيات الأحكام عبر تاريخ الفقه والاجتهاد باهتمام متزايد تناول مسائل كثيرة منها:
بيان الأحكام الفقهية.
- استخراج علل الأحكام وحكمها وأسرارها ومقاصدها، واستخدام ذلك في توضيح الأحكام وبيان شرعيتها وحقيتها وصلاحيتها .
- توظيف ذلك في تطوير كثير من المباحث الشرعية والدراسات الأصولية، على نحو الأقيسة والتعليل والتقعيد والمصالح المرسلة ومنع الذرائع، وتأكيد مكانة النظر المقاصدي المصلحي في عملية الاجتهاد واستنباط الأحكام .
فارتباط الأحكام القرآنية بعللها وحكمها ومقاصدها ليس إلا دليلا واضحا على تأكيد مقاصدية القرآن الكريم وسعيه إلى الصلاح والخير والهدى، وتثبيت وجوب النظر المقاصدي الأصيل، وضرورة ارتباط الحكم بمقصده وجودا وعدما.
مقصد التدرج والنسخ في أحكام القرآن الكريم :
ينطوي مبحث التدرج والنسخ (1) في أحكام الكتاب على تعليلات وحكم كثيرة تتصل إجمالا بدفع الحرج والمشقة، وإقرار التيسير والتخفيف (2) ، ومراعاة العادات الحسنة ومصالح الناس (3)، وتهيأة الظروف والأجواء المناسبة لتطبيق الحكم وضمان جدواه وفاعليته وأثره الشرعي المضبوط، وعدم مفاجأة المكلفين بما يرونه تحولا جذريا مخالفا لواقعهم وحياتهم، ومصادما لمألوفهم وتقليدهم وأعرافهم (4).. الأمر الذي قد يؤدي بهم إلى النفرة والتمرد والتحايل، والركون إلى ما هم فيه من الضلال والتيه والانحراف عن المنهج الإسلامي كليا أو جزئيا، لذلك كان لزاما على القائمين على أمر الله والدعوة إليه، استكمال شروط تنفيذ شرع الله تعالى فهما وتنزيلا حتى يؤدي أغراضه وأهدافه .(1/48)
ولعل أهم شرط من تلك الشروط، ما يتعلق بفهم مقاصد القرآن الكريم من اعتماده على التدرج في بيان الأحكام وتكليف الناس بها، وعدم وضعها جملة واحدة ودفعة مجتمعة ليس بينها وبين الواقع الذي يراد حكمه بتلك الأحكام مناسبة معتبرة، ورابط منطقي، ومشروعية معقولة تأخذ بعين الاعتبار اختلاف البيئات والأمصار، وتغير الأحوال والأعصار .
إن ذلك المقصد يقوم على إيجاد الواقع السليم لتنفيذ أحكام الله تعالى، وضمان استمرارها وتأييدها وفعاليتها، وتطبيقها نصا وروحا، مظهرا وجوهرا، وجدانا وسلطانا، وليس الاكتفاء بمجرد التطبيق الآلي والسطحي، والتنزيل المؤقت والانتقائي الذي لا يحقق غاياته ومراميه .
كما يقوم ذلك المقصد على تحقيق الرحمة بالمكلفين أنفسهم، إذ إن عدم توخي التدرج في بيان الأحكام، تكليف لهم بما لا يطيقون، يوقعهم في الانفلات والهروب، أو التقصير والتهاون، أو التحايل والنفاق والتصنع والمداراة، وهذا كله يفوت عليهم مصالحهم في الدارين، ويوقعهم في دائرة اللوم والحظر الشرعيين بسبب عدم الامتثال، ويغيب إلى حين خيرية الشريعة وفرص الإسعاد بها، وتحصيل منافعها وبركاتها وأنوارها، وهذا كله مخالف لمراد الشرع الحكيم ولمقاصد دينه وكتابه .
مقصد الترجيح بين معاني القرآن الكريم :
من أغراض وجود التعارض (1) والترجيح في المعاني، التوسيع على المكلفين لئلا ينحصروا في رأي واحد، أو مذهب واحد، أي أن يجدوا متسعا من الآراء والاجتهادات تسع مختلف حاجياتهم ومنافعهم ( اعلم أن الله لم ينصب على جميع الأحكام الشرعية أدلة قاطعة، بل جعلها ظنية، للتوسيع على المكلفين، لئلا ينحصروا في مذهب واحد لقيام الدليل القاطع عليه ) (1) .(1/49)
ومن الأمور المساعدة على الترجيح عند التعارض، اعتماد المقصد والالتفات إليه، فقد يستأنس المجتهد بمراعاة مقصد أو حكمة تبينت له للخروج من التعارض، الذي لا مخرج منه سوى باعتماد تلك الحكمة والتعويل عليها، لما بدا له مقبولا ومشروعا .
وقد يعود سبب التعارض بين النصوص إلى وجود تعارض بين العلل والحكم والمقاصد نفسها، فيفزع عندئذ إلى الترجيح بين تلك العلل والحكم والمقاصد بغرض الخروج من تعارض النصوص، فيقدم المجتهد ما ينبغي تقديمه، كتقديم العلة المنصوص عليها على التي لم ينص عليها، وتقديم العلة التي تشهد لها أصول ونصوص كثيرة على التي يشهد لها أصل واحد أو نص واحد، وتقديم العلة المنتزعة من أصل منصوص عليه على التي انتزعت من أصل لم ينص عليه، فتكون المنتزعة من أصل منصوص عليه أولى وأحرى (2) .
تاريخ الاجتهاد المقاصدي المبحث الثاني: الاجتهاد المقاصدي في العصر النبوي »
نشأت المقاصد كما ذكرنا مع نشأة الأحكام التي انتصب الرسول صلى الله عليه وسلم لبيانها وتبليغها، وقد كان المقصد الشرعي أحد الأمور الملتفت إليها والمعول عليها في عملية فهم الأحكام واستنباطها، سواء من قبله عليه الصلاة والسلام بما يبلغه قولا وفعلا، أو من قبل أصحابه رضي ا عنهم بما يقره عليهم ويثبته ويؤكده .
ويمكن أن نبين حقيقة ذلك في المطالب التالية :
* مقاصدية السنة على سبيل الإجمال .
* مقاصدية السنة على سبيل التفصيل :
- مقاصدية نصوص السنة .
- مقاصدية النسخ في الأخبار.
- مقاصدية التعارض والترجيح.
مقاصدية السنة على سبيل الإجمال :(1/50)
تثبت السنة من حيث المبدأ والعموم، وجود مقاصد الأحكام، ووجوب اعتبارها ومراعاتها، وما قيل في مقاصدية القرآن الكريم يمكن أن يقال في مقاصدية السنة الشريفة من جهة كونها مبينة لأحكام القرآن وشارحة ومدعمة لها، ومن جهة كونها مبرزة لمقاصده وأسراره . قال ابن عبد البر: (... وتبين المراد منه (1)، أي أن السنة تبين مراد القرآن ومقاصده . فالنواحي المقاصدية التي أقرها القرآن الكريم في الجملة، هي نفسها التي عملت السنة الشريفة على إبرازها وتأكيدها وتفصيلها وتفريعها، بحكم العلاقة الوثيقة بينهما في بيان الشرع وتحديد مقاصده وأسراره قال الشاطبي: ( وذلك أن القرآن الكريم أتى بالتعريف بمصالح الدارين جلبا لها، والتعريف بمفاسدها دفعا لها... وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها لا تزيد على تقرير هذه الأمور، فالكتاب أتى بها أصولا يرجع إليها، والسنة أتت بها تفريعا على الكتاب وبيانا لما فيه منها ) (2).
- فمن السنة تستفاد غايات الوجود الكوني وأهداف الحياة الإنسانية، ويتبين المقصد الكلي المتعلق بتحقيق عبودية الخالق وإصلاح المخلوق .
- ومنها استخلصت وفصلت الكليات الخمس الشهيرة ( حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال ) . قال الشاطبي: ( فالضروريات الخمس كما تأصلت في الكتاب تفصلت في السنة ) (3) ، فقد أقرت السنة كما أقر القرآن مختلف الأحكام التي أكدت شرعية وقطعية تلك الكليات المعتبرة في كل أمة وملة، على نحو كلية حفظ العرض والنسل، التي تواترت على تثبيتها أدلة تشريع الزواج وتيسيره ومدحه، ومنع الزنا واللواط والسحاق، وسد المنافذ المؤدية إلى الشذوذ والانحراف، ومنع الخلوة، والحث على الصوم والطاعة والصبر عند انعدام الباءة، والحث على الستر والعفة والتحوط والحياء، وإقامة الحدود والتعزيرات، وغير ذلك من جزئيات الأدلة والأحكام المؤكدة لتلك الكلية القطعية الأصيلة، المعتبرة في كل الأمم وسائر الأعصار .(1/51)
- ومنها تبينت العديد من العلل والحكم والأسرار المتعلقة بالأحكام الفقهية العملية الجزئية، على نحو علة منع ادخار لحوم الأضاحي، والتي هي تمكين الجماعة القادمة من سد حاجتها من الغذاء، وعلة تشريع الاستئذان والتي هي صيانة العرض وعدم هتك حرمات البيوت، مما ينجر عن الدخول المفاجئ من وقوع النظر فيما يحرم أو يكره النظر إليه (1) .
ومن السنة كذلك تبلورت بعض القواعد الفقهية المتصلة بالمقاصد الشرعية، كقاعدة ( الضرر يزال ) ، التي من أصولها قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا ضرر ولا ضرار ) (2) .. وكقاعدة: ( العادة محكمة )، والتي من أصولها قوله لهند بنت عتبة: ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) (1).
- ومنها اكتمل بناء أصول الفضائل وقواعد الأخلاق وآداب التعامل، على نحو أداء الأمانة، واحترام المعاهدات والمواثيق، وعدم الغدر، ومراعاة المعروف، وتمكين العدل والمساواة، ونفي الكبرياء والعصبية والاستغلال والاحتقار، وغير ذلك من المكارم الإنسانية العالية والمقاصد الدينية الراقية، التي جمع آحادها وأنواعها وأجناسها الحديث الشريف: ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) (2).(1/52)
- ومنها تبينت الخصائص العامة للشريعة الإسلامية، على نحو خاصية الوسطية والاعتدال، والواقعية والشمول والتيسير والسماحة والرفق والتخفيف وإرادة الصلاح والخير والنماء والسعادة بالمنتمين إليها وبسائر الفئات والملل والأمم، وشواهد ذلك لا تحصى كثرة، وهي مبثوثة في مظانها من كتب السيرة والسنن وغيرها، ولعل أبرز شاهد جامع لما ذكر ، قوله تعالى: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ( الأنبياء: 107 ) .. فقد بين سبحانه وتعالى أن الغرض الأسمى من إرساله رسوله وبيان شريعته إنما هو تحقيق الرحمة في شتى أنواعها وسائر مظاهرها، ومختلف مجالاتها في الاعتقاد والتعبد والتعامل والتعايش، وليست كلمة ( رحمة ) هنا سوى تصريح بمقصد عال يحوي ما لا يحصى من المقاصد الفرعية والمصالح المتنوعة المبثوثة في أحكام تلك الرسالة وتعاليمها .
- ومنها تغذى البناء الفقهي والتنظير الأصولي، حيث تأسست بعض النظريات الفقهية والأصولية على ضوء الكثير من المعطيات السنية، والتي كانت لها علاقة ما بالمقاصد الشرعية، على نحو نظرية الضمان والضرورة والترخص والتيسير والالتزام والاستصلاح والعرف والقصود في الأفعال وغير ذلك، مما كان له الأثر الواضح في تطوير المجال المعرفي والقانوني وميدان التقاضي العائد على أهله وأربابه بالعدالة والخير والاستحقاق، وفي خدمة المقاصد الشرعية ومصالح الناس بوجه من الوجوه .
مقاصدية السنة على سبيل التفصيل :
تنطوي السنة الشريفة من جهة بعض نصوصها ومباحثها، على جوانب مقاصدية مهمة دلت على أن الالتفات إلى المقصد والتعويل عليه أمر له مكانته وأهميته في بيان الأحكام وتثبيت شرع الله تعالى في الوجود، ويمكن أن نبرز ذلك فيما يلي:
مقاصدية نصوص السنة :
هناك الكثير من النصوص والوقائع النبوية التي وردت مقرونة بعللها وحكمها وأسرارها ومقاصدها، ومن ذلك نورد ما يلي:(1/53)
* قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة ) (1) ، تضمن الحديث المقاصد التالية:
- إقرار التيسير ( إن الدين يسر ) .
- منع التشدد والمبالغة من غير موجب : ( ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ) .
- ملازمة السداد والوسطية، أي الصواب من غير إفراط ولا تفريط: ( فسددوا ) .
- الحث على بلوغ الكمال: ( وقاربوا ) ، أي اعملوا بما يقرب من الأكمل .
- الفوز بالثواب والجنة: ( وأبشروا ) .
- دوام العمل وزيادته: ( واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ) (2).
* ما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه ) (3) .
مقاصد الحديث: اعتماد التيسير والرفق والتخفيف في الأمور كلها ما لم يكن إثما، ومن تلك الأمور:
- اختيار الجزية على الحرب في معاقبة المعرضين، ليسرها وسهولتها بخلاف الحرب المدمر.
- اختيار الأخف على الأشد في العبادة فيما خير فيه المؤمنون، رفقا بهم وإبعادا لما يشق عليهم، ولما يؤدي إلى ترك العبادة كلها .
* قوله صلى الله عليه وسلم الذي روته عائشة رضي الله عنها: ( إن الله يحب الرفق في الأمر كله ) (1).
*عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس في حجة الوداع بمنى يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله! لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اذبح ولا حرج ) . فجاء رجل آخر فقال يا رسول الله! لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ فقال: ( ارم ولا حرج ) . قال فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: ( افعل ولا حرج ) (2) .(1/54)
مقصد الحديث: نفي الحرج عن الأمة في الحج وفي غيره: ( فإن استعماله عليه الصلاة والسلام للحرج منفيا، ويشعر بعمومه ) (3) .
* قول عائشة رضي الله عنها: إن كان رسول الله ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به، خشية أن يعمل به الناس، فيفرض عليهم .. ومن قبيل ذلك تركه لصلاة التراويح في جماعة خشية أن تفرض، وترك التطويل في الصلاة لنفي المشقة والفتنة، وعدم وجوب السواك للصلاة وغيرها، وترك إيجاب الوضوء لكل صلاة، وأداء صلاة العشاء في أول وقتها مراعاة للضعفاء والمرضى وذوي الحاجة.
قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن: ( يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا ) (1) .
* إقراره عليه الصلاة والسلام للطائفة التي عملت بمعنى حديث بني قريظة (2) ومقصده، ولم تكتف بظاهر القول، وإنما التجأت إلى تأويله بطريق الالتفات إلى المقصد والمعنى والغرض من الأمر بأداء صلاة العصر في بني قريظة، والذي يتمثل في الحث على الإسراع وترك التثاقل والتباطؤ في السير.
* نهيه صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام، وبين المقصد من ذلك والذي هو سد حاجة جماعة الأعراب القادمة ونفعها بتلك اللحوم، ثم أباح لهم الادخار فيما بعد لما انتفت حاجتهم إلى اللحوم، وكان مقصد الادخار متمثلا في ضمان سلامة اللحوم من التعفن والاستفادة منها وقت الحاجة (1) .
* إقراره صلى الله عليه وسلم لقول معاذ بالرجوع إلى الرأي عند عدم النصوص من الكتاب والسنة، أو عند وجود النصوص الظنية التي لها معان كثيرة، والتي تحتاج إلى تحديد أقربها إلى المراد الإلهي والمقصد الشرعي، ولن يكون ذلك ممكنا إلا باعتماد الرأي الصحيح الذي يكون المقصد الشرعي أحد مستنداته ومرجحاته.. فإقراره عليه الصلاة والسلام لمعاذ بذلك يفيد أمورا منها:
- اعتبار الرأي الصحيح مصدرا للأحكام بعد النص .(1/55)
- تأكيد مكانة الاجتهاد بالرأي عند انعدام وجود النص، أو عند وجود النص الظني الاحتمالي الذي تزاحمت عليه المعاني والمدلولات .
- شمول الاجتهاد بالرأي للعمل بالقياس ( أي إلحاق النظائر بنظائرها المنصوص عليها في الكتاب والسنة )، وللعمل بالعرف والمصلحة والاستحسان، وما هو مناسب لتعاليم الدين ومقاصده دون أن يتصادم مع نص أو أصل شرعي (2) .
إن تعويل معاذ على الاجتهاد بالرأي اعتراف منه بتناهي النصوص وعمومها في الغالب، وبتنامي ظاهرة الحوادث والنوازل واتساع دائرة العلاقات وتشابكها وتداخلها، لا سيما في بيئة جديدة مختلفة مع بيئة المدينة في كثير من العوائد والأعراف والأحوال، الأمر الذي يدعو إلى النظر الاجتهادي العميق، والالتفات إلى ما يصلح للناس وينفعهم، بلا معارضة للشرع وأحكامه .
ثم إن التزكية النبوية لمعاذ بالتعويل على رأيه، تأكيد منه صلى الله عليه وسلم على وجوب معالجة أوضاع تلك البيئة الجديدة معالجة إسلامية تستوحي هديها من تعاليم الكتاب الكريم والسنة الشريفة، وتستأنس بضروب الاجتهاد ومستنداته المتصلة أساسا بمراعاة المقاصد الشرعية والمصالح الإنسانية، إذ من البديهي القول: بأن توجه معاذ إلى بلاد اليمن سفيرا، ليس إلا لنشر الإسلام بين أهل تلك البقعة وتحكيمه، وبث أنواره وقيمه، وتحصيل منافعه وخيراته، وتلكم هي المقاصد الشرعية عينها التي شكلت لدى معاذ إطارا مرجعيا مهما في مواجهة تطورات البيئة الجديدة ومشكلاتها .
* أمره صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ القرآن من أربعة: منهم عبد الله بن مسعود العالم بأسباب النزول وملابساته وظروفه (1)، ويستفاد من هذا حسب الغالب الراجح أمور منها:
- معرفة حيثيات النزول وأسبابه، تعين كثيرا على معرفة الحكمة الباعثة والمقصد الداعي إلى تشريع الحكم.(1/56)
- إن تنزيل أي حكم شرعي في أي واقعة إنسانية أو ظاهرة اجتماعية أو فترة تاريخية، لابد فيه من فهم عميق ودقيق لملابسات ومستلزمات ذلك الواقع، وإدراك جيد لحكمة التشريع ومراميه، وسعي جاد لتحصيل ما يصلح للناس ويفيدهم (1) .
إن دراسة أسباب نزول القرآن وورود الحديث ذات فوائد جمة، لعل من أجلها إدراك حكمة الشارع ومراده، وتنزيل ذلك في واقع يتسم بالتجدد والتداخل والتعقيد، واستثمارها فيما يخدم شرع الله تعالى ويزيده نفوذا وتمكينا وخلودا، وإلا ظلت دراسة ذلك تسويدا للأوراق وطريقا مآله الإخفاق .
مقاصدية النسخ في الأخبار:
ينطوي النسخ في الأخبار على جوانب مقاصدية، تتمثل إجمالا في سن التدريج في بيان الأحكام، ومراعاة التيسير والرفق بالمكلفين. فإذا كان النسخ انتقالا من الأثقل إلى الأخف، فإن مقصده التيسير والتخفيف، وإذا كان انتقالا من الأخف إلى الأثقل فمقصده الحمل على الأكمل والأفضل، والغرض من كل ذلك هو تمكين المكلف من الامتثال الدائر بين العزم الأصلي والترخص المشروع، وتأصيل عادة النزوع نحو الكمال والسعي إلى ما هو أفضل في الآل والمآل، ونفي احتمال التملص والانفلات بسبب وضع الأحكام جملة واحدة .
مقاصدية التعارض والترجيح:
يمكن إبراز النواحي المقاصدية لمسألة التعارض الظاهري للنصوص النبوية وكيفية ترجيحها، فيما يلي:
- الإقرار بالعلة أو الحكمة المنصوص عليها، من خلال ضرب من ضروب الترجيح في المعاني، والمتعلق بتقديم العلة المنصوص عليها على التي لم ينص عليها، قال الباجي :(والعلة إذا نص عليها صاحب الشرع فقد نبه على صحتها وألزم اتباعها، وحكم بكونها علة فكانت أولى مما لم يحكم بكونها علة ) (1).
والإقرار بالعلة هو في الحقيقة والمآل إقرار بالحكمة المنوطة بها والمقصد المرتبط بها، ذلك أن العلة لم تجعل أمارات على الأحكام إلا لما فيها من المصالح جلبا ومن المفاسد دفعا.(1/57)
- الإقرار بقصد بيان الحكم وإفهامه للمخاطب، من خلال أحد ضروب التعارض والترجيح من جهة المتن، والمتعلق بتقديم الخبر الذي يقصد به بيان الحكم على الخبر الذي لم يقصد به بيان الحكم، فيكون الذي قصد به بيان الحكم أولى وأحرى .
ويمكن أن نعتبر أن هذا الضرب الترجيحي يخدم ما أسماه الشاطبي: ( مقاصد وضع الشريعة للإفهام ) ، ومحصل ذلك أن الشريعة نزلت لتفهم وتعلم، وفق اللغة العربية وسائر شروط الفهم والاجتهاد (1).
- التأكيد على فهم ملابسات الحدث ومعطياته، من خلال الضرب الترجيحي من جهة السند، والمتعلق بتقديم الراوي الأكثر تقصيا للحديث والأحسن نسقا له من الآخر، وتقديم راوي القصة وصاحبها لأنه أعرف بالملابسات وأعلم، وتقديم الراوي الأفقه من غيره (2) .
- الحمل على الأكمل والحث على الأفضل، من خلال الضرب الترجيحي من جهة المتن، والمتعلق بتقديم الخبر الذي ينفي النقص عن الأصحاب رضي الله عنهم، على الخبر الذي يضيفه إليهم، تثبيتا لعلو مكانتهم ورسوخ فضلهم، باعتبار كونهم حملة الدين، وصفوة الأمة، ومحل الاقتداء والتأسي.
- التقليل من الخلاف، الذي ظل شغلا شاغلا لأهل العلم وأرباب المقاصد، من خلال التأكيد على وجوب الترجيح، سواء بطريق الجمع أو النسخ والطرح، بغرض تضييق دائرة الخلاف وتقليل بوادر النزاع، وقد نص ابن عاشور على أن درء الخلاف أو التقليل منه من المقاصد المعتبرة، لذلك توجب إيجاد القواطع واليقينيات المقاصدية التي ترفع الجدل وتزيل الخلاف وتذيبه (3) .
تاريخ الاجتهاد المقاصدي المبحث الثالث : الاجتهاد المقاصدي في عصر الصحابة »(1/58)
الالتفات إلى المقاصد في عصر الصحابة رضي الله عنهم، لوحظ بصورة أوضح مما كان عليه الأمر في العصر النبوي، وذلك لطبيعة عصرهم وبيئتهم، وبسبب الحاجة الماسة إلى بيان حكم الشريعة في العديد من المشكلات والنوازل التي طرأت بسبب اتساع رقعة الدولة وتفرق العلماء وتأثرهم بما تناقلوه وعلموه من أحكام الوحي المتلو والمروي، وما أدركوه من تنوع واختلاف في العادات والأعراف والنظم السائدة في البلدان التي فتحوها واستقروا بها (1) ، وكذلك بسبب سنة التطور التي تفرضها طبيعة الحياة، فعصر الصحابة غير عصر النبوة من حيث طروء تلك النوازل والمشكلات، ومن حيث تفاوت فهو مهم وملكاتهم، ومن حيث اكتمال الوحي المبين لأحكام ذلك كله، لذلك اجتهد الصحابة في تلك الوقائع، والتجأوا إلى الرأي والنظر والمشورة .
وقد كان اجتهادهم يقوم على أسس متنوعة تجمع بين النقل والعقل، بين الدلالة اللغوية والظاهرية للنص، ومقصده وحكمته، بين استنباط الحكم مباشرة من الدليل واستخلاصه بطريق الحمل والإلحاق على نظائره وأشباهه، والتخريج على أصوله وأجناسه، مراعين في ذلك مقاصد الشريعة ومصالح الخلق، عاملين على إزالة التعارض بين النصوص والأدلة، مرجحين بين مراتب المصالح والمقاصد نفسها (1) .
فقد كان النظر إلى المقاصد الشرعية من قبلهم أمرا مهما جدا، ومستندا ضروريا لمعالجة ما أدركوه من أوضاع ومحدثات، وأحد الشروط والمعارف الاجتهادية التي لا يتم استنباط الأحكام إلا بها.. وأدلة ذلك فيما يلي:
* وراثتهم للهدي النبوي ونقله لكافة أجيال الأمة :(1/59)
إن اجتهاد الصحابة تعبير عن تكوينهم الديني وصلاحهم التربوي ورسوخهم في الفقه والاجتهاد، وغير ذلك من الخصائص والصفات التي ورثوها من عصر النبوة المباركة، فهم بلا شك قد عاصروا سيرته عليه الصلاة والسلام، وتتبعوا أحوالها وجزئياتها، وتشبعوا بهديها وأنوارها، وفهموا مقاصدها وغاياتها وأسرارها، وعلموا أن تبليغ ذلك وتطبيقه تكليف شرعي وواجب إسلامي ورسالة حضارية لازمة عليهم باعتبار كونهم الصفوة المختارة، التي تأهلت لتمكين إرث النبوة الشريفة فهما وتنزيلا، تحملا وأداء، نصا واجتهادا، اعتقادا وتعبدا، تعاملا ونظاما، قانونا ودستورا، في سائر أرجاء المعمورة، وعلى مر تاريخ الإنسانية قاطبة.
قال ابن تيمية: ( وللصحابة فهم في القرآن يخفى على أكثر المتأخرين، كما أن لهم معرفة بأمور من السنة وأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرفها أكثر المتأخرين، فإنهم شهدوا الرسول والتنزيل وعاينوا الرسول، وعرفوا من أقواله وأفعاله مما يستدلون به على مرادهم ما لم يعرفه أكثر المتأخرين، الذين لم يعرفوا ذلك، فطلبوا الحكم مما اعتقدوه من إجماع أو قياس ) (1) .
* آثارهم في المقاصد:
جاء عن الصحابة آثار كثيرة تتعلق بمراعاة المقاصد الشرعية على نحو التيسير والتخفيف والرفق، وتجنب التشديد والمغالات والتعمق والتكلف والمبالغة في التعبد والتورع (2) ، ومن تلك الآثار:
- قولة الإمام أحمد عن الصحابة: ( إنه ما من مسألة يسأل عنها إلا وقد تكلم الصحابة فيها أو في نظيرها، الصحابة كانوا يحتجون في عامة مسائلهم بالنصوص كما هو مشهور عنهم، وكانوا يجتهدون رأيهم، ويتكلمون بالرأي، ويحتجون بالقياس أيضا ) (1) . ويعتبر الإمام أحمد بأن ذلك القياس بنوعيه من قبيل فهم المقاصد فيقول: ( وهما من باب فهم مراد الشارع ) (2).(1/60)
قولة ابن مسعود رضي الله عنه: ( إياكم والتنطع، إياكم والتعمق، وعليكم بالعتيق ) (3). والتنطع هو التعمق في القول والفعل، والتعمق هو المبالغة والتشدد .
قولة عمر رضي الله عنه : ( نهينا عن التكلف ) (4) .
قولة عمرو بن إسحاق : ( لمن أدركت من أصحاب رسول الله أكثر ممن سبقني منهم، فما رأيت قوما أيسر سيرة ولا أقل تشديدا منهم ) (5) .
- قال ابن عمر: ( لا تسأل عما لم يكن، فإني سمعت عمر ابن الخطاب يلعن من سأل عما لم يكن ) (6) .
* الوقائع التي اجتهدوا فيها :
تجلى العمل بالمقاصد والمصالح زمن الصحابة في كثير من الحوادث المستجدة في زمانهم، وتلك الحوادث الكثيرة تناولها علماء الأصول وتاريخ الفقه ومدونو السيرة والتراجم بالعرض والتعليق والمناقشة، وهي مبسوطة في مظانها ومصادرها، وليس على الناظر إلا معرفتها حتى يتبين له اهتمام الصحابة المتزايد بالنظر المصلحي الأصيل، وبتأطير مستجدات زمانهم الكثيرة بكبرى اليقينيات الشرعية والمقاصد الشرعية .
والمقام الذي نحن بصدده لا يقتضي منا سوى إيراد بعض تلك الحوادث على سبيل الإجمال والعموم، دون خوض في التفصيل والتفريع والتدليل، إبعادا للتكرار الممل ومراعاة لما حسمه المتقدمون وبينوه .
ومن تلك الحوادث (1) :
- اختيار أبي بكر رضي الله عنه خليفة للمسلمين قياسا على إمامته في الصلاة، والمقصد حفظ نظام الدولة واستمرار رسالتها الدعوية والحضارية والإصلاحية .
- جمع القرآن في عهد أبي بكر، وكتابته في المصحف الإمام في عهد عثمان (1)، والمقصد هو حفظ دستور الدولة الناشئة، والمنبع الأول لهدي العالم وصلاحه، والمصدر الأساس للتشريع والنظام والقانون.
- تضمين الصناع، والمقصد هو حفظ حقوق الناس وسد حاجتهم من الصناعة(2) ، وقد قال الإمام علي رضي الله عنه: ( لا يصلح للناس إلا ذلك ) (3) .(1/61)
- إمضاء الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلاقا ثلاثا، والمقصد هو زجر الرجال عن الاستخفاف بكثرة إيقاع الطلاق الثلاث دون أن يمضي ثلاثا، فرأى الصحابة مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الوقوع (4) .
- عدم توزيع الأراضي المفتوحة على المقاتلين، والمقصد هو تقوية بيت المال، والقدرة على الإنفاق وسد حاجات الدولة.
- زيادة الاجتماع في المساجد لقيام رمضان، والمقصد هو المحافظة على الجماعة وفوائدها ومصالحها المتعلقة بزيادة الأجر وتحقيق الوحدة وتعليم الناس وتيسير العبادة بأدائها جماعة، وغير ذلك (5).
- أمر عثمان رضي الله عنه التقاط ضالة الإبل والتعريف بها وبيعها حتى إذا جاء صاحبها أعطاه ثمنها، ولم يكن هذا موجودا في العصر النبوي لقوة الوازع الديني، والمقصد هو حفظ حق الغير وسد ذريعة التهاون بممتلكات الغير (1) .
- منع النساء من شهود الجماعة عند خشية الفتنة، والمقصد هو حفظ الأعراض وسد ذريعة الفساد وتقديم مصلحة كل ذلك على مصلحة إدراك الجماعة (2).
-وصية عمر رضي الله عنه أمراءه بعدم إقامة الحد في الغزو، والمقصد هو درء مظنة لحوق المسلم المحدود بالعدو، وتقديم ذلك على مصلحة تطبيق الحد نفسه، أو أن تطبيق الحد أشد ضررا من تأخير إقامة الحد عليه (3) .
- عدم إقامة حد السرقة عام المجاعة، وذلك لما رآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عدم استيفاء الشروط الضرورية الباعثة على التطبيق، والتي منها شبهة المجاعة الملجئة على أخذ حق الغير بدون إذن منه للضرورة (1) ، والمقصد هو الرفق والتخفيف بمن اضطر إلى السرقة دون اختيار منه ومراعة ظروف تطبيق الحكم كي يحقق أغراضه وفوائده، غير أن هذا لا يهمل تعزيره وتأديبه .(1/62)
- قتل الجماعة بالواحد، والمقصد هو حفظ حياة النفوس وقمع الجناة وزجر الناس كي لا يفكروا في القتل، وسد ذريعة الفرار من القصاص بشبهة الاشتراك في القتل، إذ لو اقتصر في تنفيذ القصاص على المنفرد بالقتل لاتخذ الناس الاشتراك في القتل ذريعة لذلك (2)، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: ( لو تمالا عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا ) (3) .
- عدم إعطاء المؤلفة قلوبهم سهمهم من الزكاة لانتفاء علة ذلك وحكمته، فقد كان ذلك السهم يعطى بغرض تقوية الإسلام باستعطافهم بالمال وتحييدهم عن المعادين، ولما قويت شوكة الإسلام وثبتت أركانه وانتصرت جنوده وأنصاره لم تدع الحاجة إلى استعطافهم وتأليف قلوبهم، فعدم الإعطاء ليس تعطيلا للنص كما يدعي البعض، وإنما هو تطبيق له بعمق ونظر، واجتهاد دقيق في مدلولاته وصوره، ووقوف على علته ومقصده وجودا وعدما (4) .
- جلد شارب الخمر ثمانين جلدة، والمقصد هو ضمان تأديبه، حيث كان شراب الخمور لا يرتدعون بأقل من ذلك، ومن مقاصد ذلك أيضا حفظ العقول من الضياع والهلاك، وكذلك حفظ المال والأعراض وغير ذلك مما يترتب على شرب الخمر من مفاسد ومهالك .
- إراقة اللبن المغشوش بالماء تأديبا للبائع، كي لا يأخذ حق الغير بلا وجه شرعي، وضمانا لمصلحة المشتري وحقه .
- الفصل بين الأقارب في الجوار، والمقصد هو حفظ صلة الرحم، ونفي التنازع والافتتان الواقعين بسبب الاقتراب والاحتكاك .
- منع الفقهاء من مغادرة المدينة في عهد عمر رضي الله عنه، والمقصد هو توسيع دائرة الشورى واتخاذ الآراء والمواقف التي فيها صلاح الدولة وتوثيق الأدلة واكتمال صحة الاجتهاد .
- جواز قطع الصلاة لإدراك الدابة الشاردة، والمقصد هو حفظ المال من الضياع، ودفع مشقة العودة إلى الأهل على غير الدابة .
- ورود السباع على المياه لا يغير حكم طهارة تلك المياه، والمقصد هو دفع المشقة ورفع الحرج بالعفو عما لا يمكن الاحتراز منه .(1/63)
- الترخيص في المتعة عام خيبر، ثم النهي عنها، ثم ترخيها عام أوطاس، ثم النهي عنها، علله ابن عباس بأنه للضرورة (1) .
- تدوين الدواوين ووضع السجلات، واتخاذ السجون، وضرب العملة، ومراقبة الأسعار والأسواق، وفصل القضاء عن الإمارة، وضبط التاريخ الهجري، وغير ذلك مما له صلة بتنظيم الإدارة وبعث المؤسسات وتحديد المواقيت والآجال ووضع أدوات التعامل الاقتصادي، ومما يسهل حركة المجتمع ويضمن حقوق أفراده ويحقق أهداف الدولة ومصالحها في الداخل والخارج .
- الحكم بطلاق المفقود عنها زوجها بعد أربع سنين ولم تعلم حياته أو موته، والمقصد هو نفي الضرر عن الزوجة بسبب الغربة وطول الانتظار .
- تعليل القيام للجنازة بتعظيم الملائكة وهول الموت (1) .
* إجماعهم على ترك الحيل :
أجمع الصحابة على ترك الحيل وتحريمها، واعتبار ذلك منافيا للمقاصد والمصالح، وموصلا إلى معارضة الأحكام والقصود والنيات المعتبرة، ومن شواهد ذلك :
- فتوى عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم بتوريث المبتوتة في مرض الموت لمعاملة الزوج بنقيض مقصوده، والمقصد هو حفظ حقوق الغير وعدم تفويتها إلا بوجه شرعي، وليس عمل الزوج إلا حيلة جائزة في الظاهر، للتخلص من الزوجة وحرمانها من حق الإرث (1) .
- فتوى عمر رضي الله عنه بعدم طلاق المرأة التي تحايلت على زوجها بأن قالت له: سمني خلية طالق، فلما سماها كذلك ادعت أنها مطلقة منه (2) .
تاريخ الاجتهاد المقاصديالمبحث الرابع: الاجتهاد المقاصدي في عصر التابعين »
عصر التابعين امتداد لعصر الصحابة وتواصل له، فقد عايش التابعون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثوا منهم مروياتهم وأقضيتهم وفتاواهم واجتهاداتهم ومسالك استنباطهم، وفهموا تعليلاتهم المقاصدية والمصلحية وغير ذلك، مما أعانهم وساعدهم على مواكبة عصرهم وبيان أحكامه المختلفة (3).(1/64)
وقد كان العمل بالمقاصد الشرعية الأصيلة والاعتداد بها من قبل التابعين، أحد الأمور التي استندوا إليها واعتمدوا عليها في عملية الاجتهاد، ويتمظهر ذلك في الأمور التالية :
* وراثتهم لعلم الصحابة وهدي النبوة :
إن القول: بأن التابعين قد ورثوا من الصحابة مسالك استنباطهم ومروياتهم وفتاواهم وأقضيتهم، والتي كان جزء منها مستندا إلى العمل بالمقاصد واعتبار المصالح، إن ذلك القول يفيد بجلاء تام قبول التابعين للمقاصد والمصالح التي عمل بها الصحابة وعولوا عليها، وهو يفيد كذلك استلهامهم للهدي النبوي الذي تناقلوه بواسطة الصحابة، ولجوانبه المقاصدية والمصلحية المعتبرة.
* أخذهم بالنص والمصلحة والقياس :
نقل عن التابعين أنهم كانوا يعودون عند عدم النص إلى المصلحة والقياس وغير ذلك من ضروب الرأي وأنواعه، فقد: ( نظروا فيما كانوا يراعونه من مصالح ). (1).
وروي عن إبراهيم النخعي أنه كان يقول: ( إن أحكام الله تعالى لها غايات، هي حكم ومصالح راجعة إلينا ) (2) .
* الطابع المقاصدي لمدرستي الحجاز والعراق :
إن كلا من مدرسة الحجاز ومدرسة العراق وغيرهما من المدارس التشريعية التي عرفها عصر التابعين (1)، استند في عملية الاستنباط إلى عدة أمور، منها العمل بالمقاصد، واعتبار المصالح، ونفي المفاسد، ودليل ذلك فيما يلي :
ما نسب إلى المدرستين من أنهما يعتمدان من حيث المبدأ والعموم على الرأي، وإن اختلفا في المقدار والكم (2).. والعمل بالرأي لدى المدرستين، معناه العمل بضروبه ومجالاته والتي منها الأخذ بالمقصد والتعويل عليه.(1/65)
- إن مدرسة الحجاز أو مدرسة الأثر قد انبنت -وفضلا عن القرآن والسنة- على فتاوى واجتهادات عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعائشة وابن عباس وأبي هريرة وقضاة المدينة وغيرهم (3) رضي الله عنهم، وهذا يدل دلالة صريحة وبدهية على أنها تشبعت بنصيب وافر من الحقيقة المقاصدية لتلك النصوص والفتاوى والآثار والاجتهادات، وذلك على مستوى جهتين :
الجهة الأولى: إن استنادها إلى القرآن والسنة دليل على استنادها إلى ما انطوى عليهما من المعلومات والمعطيات المقاصدية المختلفة، على أساس اتصاف كل من القرآن والسنة بالخاصية المقاصدية جملة وتفصيلا، ودعوتهما إلى اعتبار المقاصد الشرعية والتعويل عليهما في بناء الأحكام وتنفيذ الأعمال (1).
الجهة الثانية: إن استنادها إلى فقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه دليل على تأييدها لخاصية الاجتهاد العمري المرتكز على النظر المصلحي المقاصدي المضبوط (2)، وقد ذكر أن أكثر الرأي في المدينة يطلق على معنى المصلحة بخلاف رأي العراق الذي يعنى بالقياس (3)، كما روي عن أهل المدينة أنهم كانوا يأخذون عند عدم النص بالأقوى والأرجح بحسب موافقة القياس أو تخريج صريح من الكتاب والسنة ونحو ذلك (4) .(1/66)
والمهم من كل ما ذكر، أن العمل بالرأي والمقاصد لدى مدرسة الحجاز ظل أحد المستندات التي قام عليها الاجتهاد في تلك المدرسة، وإن كان أقل وأدنى مما هو عليه الأمر في مدرسة العراق من حيث الكم والتفريع.. إن مدرسة العراق أو مدرسة الرأي، قد انبنت على الرأي بصورة أكبر مما كان عليه الوضع في المدينة لعدة أسباب، منها: بعدها عن المدينة مهبط الوحي المدني، ومقام الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومستقر أغلب الصحابة رضي الله عنهم، وبساطة عيشها وسلامة اللسان العربي من الاختلاط والانحراف وغير ذلك، وهذا بخلاف العراق الذي شهدت بيئته ظهور الفرق وحدوث الفتنة، والتزيد في الحديث وضعا وتعسفا، وقلة رواية الحديث بسبب كثرة الاشتغال بالقرآن وشدة الاحتياط في الرواية، واختلاط اللسان العربي بلغات أخرى، وتعقد الحضارة، وطروء المشكلات والحوادث المستجدة، التي تحتم إعمال الرأي واعتبار روح الشرع ومقاصده المعتبرة .
ثم إن اتصاف مدرسة العراق بالرأي لا يعني عدم استنادها إلى الأثر (1)، بل يعني إعمال الرأي المعزز بالأثر الصحيح والمؤيد بتعاليم الكتاب والسنة وفقه السلف، صحابة وتابعين، والمدعم بمراعاة المصالح والأعراف الحسنة .
فقد كان العراقيون إذن يعتبرون أن أحكام الشرع معقولة المعنى مشتملة على مصالح راجعة إلى الأمة (2)، وكانوا يستندون إلى فتاوى وأقضية علي بن أبي طالب الذي ازدادت به مدرسة الرأي قوة ومكانة (3)، وعبد الله بن مسعود الذي كان قد نهج نهج عمر ابن الخطاب في الاستنباط بالرأي عند انعدام النص وفيما لم يترجح لديه (1)، والذي كان أحد الأربعة الذين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن منهم (2)، باعتبار كونه أعلم من غيره بمواضع النزول وملابساته وأسبابه وظروفه، وهذا في حد ذاته يدل على ما نحن بصدده من التأكيد على تشبع مدرسة العراق بالعمل المقاصدي والنظر المصلحي في ضوء تعاليم نصوص الوحي المتلو والمروي.(1/67)
كما كانوا يستندون إلى قضايا إبراهيم النخعي الذي يعتبر الباعث الأول لمدرسة الرأي في العراق (3) ، والذي كان يقول: ( إن أحكام الله تعالى لها غايات هي حكم ومصالح راجعة إلينا ) (4)، والذي كان تلميذا لعلقمة بن قيس تلميذ عبد الله بن مسعود الملازم له والمتأثر به، لذلك يلاحظ التأثر الواضح للنخعي إزاء ابن مسعود الصاحب البار برسول الله عليه الصلاة والسلام (5) .
ومما قيل في منهج النخعي الاجتهادي: إنه منهج يقوم على عدم الوقوف على ظواهر النصوص، ووجوب إدراك معانيها وبواطنها وعللها، لأن الألفاظ لم توضع إلا للتعبير عن هذه المعاني، فهو يأخذ من النص مبدأ فقهيا يطبق على ما لا يحصى من الحوادث، لا حكما فقهيا يطبق على حادثة معينة، وقد سمي صيرفي الحديث، لما خبره من نفوذ خبرته إلى حقيقة المعدن، ولا يغره الظاهر، ولذلك أيضا كان يحدث بالمعاني، لأن العبرة عنده للمعاني لا للألفاظ والمباني (1).. كما أنه كان يعتد بالاستحسان، وكان واقعيا في اجتهاداته وفتاواه، ومتأثرا تأثرا واضحا لمجالس القضاء التي كان يقيمها شيخه شريح (2)، والتي كان لها التأثير الجلي على منهجه في الاجتهاد وفهم النفوس وخفاياها وما يصلح بها .(1/68)
كما كان العراقيون يستندون إلى قضايا شريح الذي دعاه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه في رسالته الشهيرة إلى وجوب القضاء بما في الكتاب، فإن لم يجد فبما في السنة، وإن لم يجد فبما قضى به الصالحون من قبل، وفي رواية فبما أجمع عليه الناس (3).. وهذا يشير إلى أن قضاء الصالحين من قبل، يقصد به فتاوى وفقه من سبق شريحا من الصحابة الذين شاهدوا الوقائع واجتهدوا فيها وفق النصوص والحمل عليها، وبمقضتى ما اعتبروه من مصالح جلبا ومفاسد دفعا.. ومما يؤيد هذا الأمر، أن الرسالة كانت صادرة من عمر الذي اتسم منهج استنباطه بالفهم العميق للنوازل والمستجدات، وبالنظر المصلحي المقاصدي الأصيل (1)، لا سيما وهو يعلم أن بيئة مثل بيئة العراق في حاجة ملحة لذلك المنهج وقيمته .
* اختلاف عصرهم عن عصر الصحابة :(1/69)
إن طبيعة تطور الحياة، واختلاف عصر التابعين عن عصر الصحابة من حيث ظهور الحوادث واختلافها، بموجب اتساع الحضارة الإسلامية والاختلاط مع الحضارات الأخرى، وما يترتب على ذلك من أمور كثيرة لا تقدر ظواهر النصوص والمرويات على معالجتها وبيان طبائعها وأحكامها، إن ذلك كله يحتم العمل بالرأي والأخذ بدور الاجتهاد الشرعي البناء في التعرف على الأحكام الشرعية لتلك الحوادث والنوازل، قال الشيخ علي الخفيف: ( ولقد كان موقفهم من النصوص الموقف السليم الذي يتطلبه العقل الحكيم، فعرفوا أن الأحكام لم تشرع عبثا، وأنها إنما شرعت لعلل ومقاصد يطلب تحقيقها، ولابد من تعرفها... كما كان من نتائجه أن آمنوا بأن الأحكام التي تدل عليها النصوص، عرضة للتغير بمرور الزمن واختلاف البيئة، تبعا لتغير عللها التي أدت إليها، أو لأن المقاصد التي أريدت من شرعها أصبحت لا تتحقق إلا بأحكام أخرى، لتغير الزمن وأحواله، ومن ثم رأينا منهم فهما عميقا للنصوص، وعملا على الإحاطة بمقاصد الشريعة، وقد حفظ لنا الرواة والتاريخ من ذلك أحكاما تتفق مع النصوص في روحها، وتخالفها في ظاهرها ) (1).
* اجتهادهم في النوازل:
إن كثيرا من الأمثلة الفقهية التي تبناها التابعون، سواء بنقلها عن الصحابة، أو ببيانها من قبلهم، تدل بجلاء تام على اهتمامهم البالغ، وتعويلهم الكبير على المقاصد الشرعية في معالجة النوازل وتأطير الحوادث والمستجدات، ومن تلك الأمثلة: تضمين الصناع، وإجازة التسعير، وإمضاء الطلاق الثلاث، وعدم قبول توبة من تاب بعد تكرار التلصص وقطع الطريق (2)، وإبطال نكاح المحلل، وغير ذلك مما هو مبسوط في مصادره ومظانه، وقد أورد الأستاذ شلبي في كتابه ( تعليل الأحكام ) ، أمثلة كثيرة عمل فيها التابعون بالمصلحة والمقاصد (3).
* إنكارهم للحيل:(1/70)
إن إنكار الحيل (4) من قبلهم دليل على اعتدادهم بالمقاصد، ذلك أن تلك الحيل منافية لتلك المقاصد ومعارضة لها في حقيقة الأمر، وذلك على نحو تمكين المبتوتة في مرض الموت من الإرث معاملة للزوج بنقيض مقصوده، والنهي عن بيع العينة... وغير ذلك كثير.
المبحث الخامس: الاجتهاد المقاصدي في عصر أئمة المذاهب
عصر أئمة المذاهب الفقهية هو امتداد لعصر الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين، وهو حلقة اكتملت بموجبها سلسلة التشريع الناصعة، وتبلورت بمقتضاها مسيرة الاجتهاد النيرة، وتدعمت بوجودها أصالة المنظومة الفقهية الثابتة، فقد شهد هذا العصر الزاهر بروز نوابغ الفقهاء والمجتهدين، ونشاط حرية الرأي في ضوء الأصالة الإسلامية، وظهور المذاهب الفقهية المتعددة، وانبعاث حركة التدوين، وغيرها (1).
فقد كان الاجتهاد الفقهي أحد مقومات الحياة الإسلامية في هذا العصر، وكان يقوم على استنباط الأحكام الشرعية من نصوص الكتاب والسنة والإجماع وأقوال الصحابة والتابعين، ومن القواعد الكلية والمبادئ الشرعية المعتبرة، إما عن طريق الحمل على النص، أو عن طريق الإدراج ضمن المقاصد والمصالح الشرعية المعلومة (2) .
فقد كان الأئمة الأعلام يلتفتون إلى المقاصد ويعملون بها إذا لم تسعفهم النصوص والنقول، أو إذا كانت تلك النصوص والنقول قد تزاحمت عليها معان كثيرة تحتاج إلى تحديد وترجيح أقربها لمراد الشارع وألصقها به.
والمتتبع لأحوال أولئك الأعلام وآثارهم، ليدرك تمام الإدراك مدى اهتمامهم بضرورة الأخذ بالمقاصد والتعويل عليها -بالإضافة إلى النصوص والإجماع ومرويات السلف- في العملية الاجتهادية، وفي التصدي لمشكلات عصرهم وحوادثه المختلفة، وذلك لما رأوه من أن الشريعة معقولة المعنى، وأن لها أصولا عامة نطق بها القرآن العزيز، وأيدتها السنة الشريفة (1) .
ويمكن أن نبرز مظاهر ذلك في المسائل التالية:
-وراثتهم للهدي النبوي وعلم السلف:(1/71)
إن هؤلاء الأعلام لم ينطلقوا في اجتهادهم من فراغ، وإنما بنوا مسيرة علومهم على ما استلهموه واستفادوه من الثروة التشريعية الزاخرة التي سبقتهم، والمتكونة من تعاليم الكتاب والسنة وهديهما، ومن نقول السلف ومروياتهم وفتاواهم ومناهج اجتهادهم ومسالك استنباطهم، والتي كان التشبع بالروح المقاصدية والطابع المصلحي أحد مستنادتها ومسلماتها (1).
فاستناد أولئك الأعلام إلى تلك الثروة، استناد إلى جانبها المقاصدي.. وقبولهم بالنصوص وتسليمهم بها، قبول بأحكامها ومقاصدها المنوطة بها.. واقتفاؤهم لآثار سلفهم، قبول منهم لمنهجهم في الاجتهاد القائم على الجمع بين الأثر والنظر، بين النصوص والمصالح، وغير ذلك.
فقد ذكر أن الرأي عند مالك، توفيق بين النصوص والمصلحة، وأن تكوينه قد تلقاه من أعلام متفاوتين من حيث الاعتداد بالرأي والأثر (2).. وذكر أن الشافعي قد جمع بين فقه الحجاز والعراق، حيث أخذ من الموطأ وأخذ من محمد بن الحسن الروايات العراقية التي لم تشتهر عند الحجازيين (3).
- أصولهم في الاستنباط:
أصول الاستنباط ومصادر التشريع التي كان الأئمة يستعملونها في معرفة الأحكام الفقهية، والتي كانت تجمع بين الأثر والنظر، بين النص والاجتهاد، بين ظاهر الدليل ومعناه ومقصده ومراده، تلك الأصول والمصادر تبرهن بما لا يدع مجالا للشك والتأويل على أن النظر المقاصدي الأصيل ظل مقوما مهما من مقومات اجتهادهم واستدلالهم.. ونحن في هذا الصدد لا نريد بيان وعرض الأصول المستعملة لدى الأئمة والتعليق عليها، وإنما نريد فقط إبراز النواحي المقاصدية لها بصورة إجمالية وعامة.(1/72)
ومن الجدير بالذكر أن تلك الأصول قد تفاوت الاهتمام بها لدى أولئك الأعلام من حيث المبدأ والعموم من جهة أولى، كما هو الحال في الاستحسان الذي رفضه الشافعي وأخذ به الحنفية والمالكية وغيرهم، وكذلك القياس الذي رفضه الظاهرية والشيعة، ومن حيث المقدار والكم من جهة ثانية كما هو الحال في أمثلة وشواهد المصلحة المرسلة والذرائع وغيرها (1).
فما هي إذن الجوانب المقاصدية لتلك الأصول والمصادر؟
* مقاصدية الكتاب والسنة:
قد تبينت النواحي المقاصدية للكتاب الكريم والسنة الشريفة فيما سبق ذكره (2).
* مقاصدية الإجماع :
الإجماع هو دليل تثبت بمقتضاه الأحكام وعللها ومقاصدها ابتدائيا، أو انتقالا من الظن إلى القطع، أي أن الإجماع قد يثبت ما لم يثبته النص مباشرة، أو أنه يثبت بصورة قطعية ما أثبته النص على سبيل الظن والاحتمال، فيكون دور الإجماع عندئذ متمثلا في تقوية الحكم الظني والقطع به وإخراجه من دائرة الاحتمالات والتأويل (1) .
فالإجماع كما ذكرنا دليل لمعرفة الأحكام ومعرفة عللها ومقاصدها المنوطة بها، وهو أحيانا يثبت ما هو قطعي يقيني من تلك العلل والمقاصد، إذ يخرجها من دائرة الظنون والاحتمال إلى دائرة القطع واليقين والتسليم، وأوضح شاهد على ذلك جمع القرآن الكريم وكتابته لمقصد حفظه من الضياع وصيانته من التحريف، وجواز الاستصناع لما فيه من المنافع العائدة على المستصنع والمستصنع له، ولزوم الولاية التزويجية للصغيرة .
والخلاصة من كل ذلك، أن العمل بالإجماع هو عمل بالمقاصد والعلل والحكم، التي انعقد الإجماع على أحكامها، ويضاف إلى ذلك طابع القطع واليقين لتلك المقاصد والعلل والحكم، باعتبارها قد صارت وثبتت بالإجماع عليها، والاتفاق على أنها حجة معتبرة وحق مقطوع به .
* مقاصدية مستند الإجماع :(1/73)
للإجماع جوانب مقاصدية أخرى من جهة مستنده أو سنده، تتمثل فيما جوزه بعض أعلام العصر (1) من إمكانية استناد الإجماع إلى القياس والمصلحة المرسلة وغيرها من الأدلة، بناء على حجية تلك المصادر وشرعيتها، وعلى أن الإجماع يعمل على قطعيتها والتسليم بها وإبعاد الخلاف إزاءها أو تقليصه وتنقيصه (2).
فاستناد الإجماع إلى القياس والمصلحة المرسلة وغيرها، برهان ساطع على مراعاة ما يتعلق بتلك الأدلة من علل ومقاصد ومنافع.. فالإجماع على تحريم شحم الخنزير، قياسا على لحمه، مراعاة لنفس حكمة تحريم اللحم، والتي هي تجنب النجاسة والقذارة والضرر.. والإجماع على منع القضاء زمن الجوع، قياسا على منعه زمن الغضب، والتي هي درء ما يشغل القاضي عن تحقيق العدل والوقوع في الظلم والتعدي.. وكذلك الحكم بقتل الجماعة بالواحد، عملا بمصلحة حفظ النفوس، إذ التهاون بقتل الجماعة المشتركة في قتل واحد من الناس ذريعة إلى هتك حياة الناس، وإزهاق أرواحهم (3).
فكل تلك الإجماعات وغيرها التي استندت إلى القياس والمصلحة المرسلة، إنما أقرت نفس مقاصد ذلك القياس وتلك المصلحة، وزادتها طابع القطع واليقين، أو غلبة الظن الغالب والراجح .
كما تتجلى الناحية المقاصدية للإجماع، من خلال اعتماده على قاعدة: ( أقل ما قيل )، باعتبارها ضربا من ضروبه التي يجوز انعقاد الإجماع عليها، ومفاد تلك القاعدة أن العلماء إذا تفاوتوا في أمر وتراوحت أقوالهم بين الأخذ بالأكثر وبالأقل، وبما بين الأكثر والأقل، لزم الأخذ بالأقل المجمع عليه (1) ، فالإجماع على الأقل تثبيت لمبدأ براءة الذمة، وأصلية التخفيف، ورفع الحرج عن المكلفين، وملازمة الاحتياط في الدين والنفوس والأعراض والأموال، ومنع التكليف بما زاد على الأقل بدون دليل.
* مقاصدية القياس :
تتمثل الناحية المقاصدية للقياس في أنه:(1/74)
أصل معقول يقابل النصوص والآثار، ويعالج الحوادث والقضايا غير المتناهية بحملها على أمثالها وأشباهها بموجب الاشتراك في علة ما، أو حكمة ما، أو مقصد ما، فهو بذلك يفيد أهمية فهم ماورائية النصوص في مقابل ظاهرها، ويدعو إلى اعتبار عللها وحكمها ومصالحها (1).
وتزداد أهمية الناحية المقاصدية للقياس، في الأخذ بالقياس الموسع أو القياس الكلي، الذي هو إلحاق الواقعة بنظائرها بجامع مقصد كلي، كمقصد حفظ الدين والعقل، أو نفي الضرر والغرر، وغير ذلك (2).
* مقاصدية الاستحسان :
تتمثل الناحية المقاصدية للاستحسان في أنه التفات إلى المصلحة والرخصة والتيسير والعدل، وإبعاد للحرج والضيق والمشقة غير المعتادة، وتقرير للأعراف والعادات الحسنة في حدود الضوابط والمبادئ الشرعية (3).. وأمثلة ذلك معروفة في مظانها، وهي غير قليلة، وليس هنا ما يدعو إلى عرضها أو التعليق عليها تجنبا للتطويل بلا موجب .
* مقاصدية المصلحة المرسلة:
وهي المصدر الذي يلاحظ فيه شدة التصاقه وعمق اتصاله بالمقاصد الشرعية، وهي تدور جملة وتفصيلا حول تقدير المصالح واعتبارها فيما لم ينص أو يجمع عليه، على مستوى أعيان الأحكام وأفرادها.. أما مستوى الأجناس والقواعد الكلية، فمعلوم أن الشرع تناوله بالبيان والتحديد، ولذلك فإن المجتهد يجتهد في تلك الأعيان والأفراد على وفق أجناسها البعيدة وقواعدها العامة، ومن ثم فقد شكلت المصلحة المرسلة ميدانا رحبا لدى أئمة الفقه في اعتبار المقاصد في عملية الاستنباط ودراسة القضايا والنوازل.. والأمثلة الكثيرة، التي عمل فيها الأئمة بمبدأ الاستصلاح المرسل، دليل على ما نقول.
* مقاصدية العرف :
تتمثل الناحية المقاصدية للعرف في:
- أنه يقرر قواعد التيسير ورفع الحرج، فمن باب التيسير والتخفيف في المعاملات، ابتناء كثير من الأحكام على العرف الصحيح شرعا (1).(1/75)
- أنه تأكيد لمحاسن الفضائل ومكارم الأخلاق التي نادى بها الإسلام منذ نزوله، وعمل العلماء والفقهاء على تجليتها وإبرازها، والتي عبر عنها ابن رشد الحفيد بأخلاقية الإسلام، واعتبرها من أعظم المقاصد وأرقاها، ومدارها إصلاح النفوس كما يهدف الطبيب إلى إصلاح الأبدان (2)، ومن شواهد ذلك القسامة، والإجارة، والسلم، والكفاءة بين الزوجين، وغيرها.
- أنه تحقيق للمصلحة ودرء للمفسدة، وهو غاية العمل بالعرف ومرماه، وذلك أن العرف الصحيح يراعي أحوال الناس، ويساير أوضاعهم، ويجاري طباعهم ومألوفهم، ويسهل معاملاتهم، دون معارضة لنصوص الشرع وروحه (1).
- أنه طريق للعمل على تحقيق الامتثال الأكمل لتعاليم الشرع ونصوصه، إذ كلما كان القانون معبرا عن أوضاع الناس وحاجياتهم، كان أقرب إلى نفوسهم، وكلما كان قريبا من نفوسهم كانت مخالفتهم له أقل وامتثالهم له أكثر (2) ولن يكون هذا حاصلا إلا بفهم الطبائع والعادات الحسنة التي تشكل إحدى مكونات الواقع المعيش المزمع إصلاحه وتوجيهه.. والناظر بعمق في المقاصد الشرعية ليدرك غاية الإدراك أن السعي إلى الامتثال الأكمل بتهيئة ظروفه والحرص على نجاحه، يعد مقصدا من مقاصد الشرع المعتبرة (3).
* مقاصدية الذرائع:
تتمثل ناحيتها المقاصدية في أنها وضعت لجلب المصالح ودرء المفاسد، سدا وفتحا (4)، وكذلك وضعت لتحقيق سلامة القصود والنيات وسلامة الأعمال والأقوال، بنفي التحايل والمغالطة والتلاعب بالألفاظ والقرائن والأعمال.
وليس هناك شك في أن من المقاصد الشرعية المعتبرة، تخليص النوايا مما يقدح في إخلاصها، وتخليص الأعمال مما يعطل آثارها، فينبغي أن يكون قصد المكلف موافقا لقصد الشارع ومصلحة الناس، وإلا كان العمل باطلا مردودا.(1/76)
والخلاصة، أن الاعتداد بتلك الأصول والمصادر الاستنباطية المتنوعة، يعد مسلكا موسعا، ومجالا خصبا للنظر المقاصدي المصلحي البناء، وليس هذا مبررا للقول باستقلالية المقاصد والمصالح عن الأدلة والنصوص الشرعية، كما يدعي ذلك من كان نظره قاصرا عن معرفة حقيقة ذلك واكتفى بظاهر الأمر، وإنما هذا دليل على ارتباط المقاصد بأدلتها وضوابطها، وتعلق الأحكام بمناطاتها وعللها (1).
* مقاصدية النوازل التي اجتهد فيها الأئمة:
هناك الكثير من الحوادث والنوازل التي اجتهد فيها أئمة المذاهب بمقتضى النصوص والآثار والقواعد العامة والمقاصد المعتبرة، والتي دلت بوضوح ويقين على عمق فهمهم للأدلة ومقاصدها ومناطاتها، وتلك الحوادث والنوازل مبسوطة في كتبها ومصادرها بسطا مستفيضا ومطنبا، وقد تناولها الأولون والمتأخرون ببيانها ومناقشتها، في ضوء أدلتها وآراء الفقهاء وحججهم، وغير ذلك (1).
ونحن في هذا السياق نذكر منها عددا قليلا جدا على سبيل الإجمال دون تعليق أو تدليل أو عرض لكلام الفقهاء واختلافهم، سعيا منا للاختصار المفيد، وتجنبا لتكرار ما هو معلوم ومدون وميسور التناول والاطلاع.
ومن الأمثلة نورد ما يلي (2) :
- ضرب المتهم بالسرقة للاستنطاق عند مالك، والمقصد هو حمله على عدم الإنكار المفضي إلى زجر الجناة وحفظ المال، وقد خالفه غيره، وبين أن المقصد هو تفويت مصلحة المضروب لاحتمال برائته، ولأن ترك الضرب أهون من ضرب برئ .(1/77)
- كراهة صيام ستة أيام من شوال عند مالك، والمقصد هو درء بدعة اعتقادها جزءا من رمضان، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رغب فيها، فقد نظروا إلى مقاصدها (1)، فحكم الصيام مبني على مناطه ومقصده، فإذا كان القصد من صيام ستة أيام من شوال الاقتداء بما رغب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو حسن، وإن كان المقصد تكملة رمضان واعتقاد الوجوب في ذلك فإن الأمر يعد غير جائز، علما بأن احتمال اعتقاد وجوب الصيام في شوال نادر وقليل، وإن وجد في بعض الأحيان فهو لا يقدح في مشروعية الصيام في شوال باعتباره ترغيبا نبويا مهما.
- ضمان الخياط، ومقصده هو عينه مقصد الاستصناع، وهو يتمثل في حفظ الحقوق من الضياع، وعدم تعطيل مصالح الناس بسبب التلف بدون ضمان.
- الحجر على المدين وبيع ماله جبرا عند جمهور الأئمة، والمقصد هو حفظ حقوق الدائن وزجر المماطلين، وقد رأى الحنفية أن يجبر على الأداء بالملازمة والحبس والإكراه البدني لأنه ظالم، دون أن يحجر عليه .
- اشتراط الولي في الزواج، والمقصد هو ضمان حسن الاختيار، وحفظ كرامة الأسرة وصيانتها من العار والتجريح وغيره .
- المرأة الممتدة الطهر التي تطلق وهي حائض إذا انقطع حيضها ولم تبلغ سن الإياس بعد، فإنها تبقى مدة الحمل الغالبة وهي تسعة شهور وتنتظر ثلاثة أشهر، وبعد ذلك تنتهي عدتها، والمقصد هو نفي الضرر عن المرأة لأنها لو بقيت تنتظر الحيض أو سن اليأس لتضررت في ذلك كثيرا (1).
جواز اكتحال المرأة المتوفى عنها زوجها بغرض التداوي من الرمد، والمقصد هو نفي الحرج عنها (2).
- إعطاء الزكاة لبني هاشم لما تغيرت بيت المال، والمقصد هو المحافظة عليهم من الضياع.
* مقاصدية التدوين:(1/78)
عصر أئمة المذاهب كما ذكرنا، كان تتويجا لمسيرة الاجتهاد الشرعي في العصر النبوي وعصر الصحابة والتابعين، فقد تبلورت الآراء والمناهج والمدارس الفقهية لتأخذ طابع التدوين والتأليف، فبرزت المذاهب الفقهية، وظهر منهج استنباط الأحكام الذي اصطلح على تسميته بعلم أصول الفقه، وظهرت الاصطلاحات الفقهية، وبعض القواعد الشرعية الكلية، ودونت السنة الشريفة وبعض مباحث لغة القرآن الكريم على نحو العروض والنحو، وغير ذلك (3).
إن الغرض من حركة التدوين، هو وضع المنهج الإسلامي الصحيح -فهما وتطبيقا- في تثبيت دعائم الشريعة وغرس جذورها وبناء أركانها، فقد جدت في ذلك العصر عدة عوامل وحوادث يحتمل أن تحدث بعض الأخلال والنواقص في التعامل مع المنهج الإسلامي، سواء بالتعسف في فهمه واستيعابه وتأويله والوقوف على حافتي الإفراط والتفريط والمبالغة في الظاهر والإغراق في التأويل بما لا يستجيب لغاياته ومقاصده ومراميه، أو بتعمد إبطاله وتعطيله وتمييعه تحت مسميات كثيرة وادعاءات مختلفة ليس لها أدنى ما يزكيها ويصدقها من الوجهة الشرعية والاعتقادية.
فقد دونت السنة لمواجهة عمليات الوضع، وتمكين دورها في التشريع ومكانتها بين المسلمين، ودون أصول الفقه لضبط معيار استنباط الأحكام، شرعا ولغة، وعقلا ومقصدا، ولمواجهة احتمال نتائج ضعف اللسان العربي بسبب اختلاطه بألسنة أخرى، وما يترتب على ذلك من أخلال في فهم النصوص الدينية التي نزلت وفق العربية وأساليبها وخصائصها، ومن إهدار لمعانيها ومدلولاتها وأغراضها ومقاصدها.. وأيضا فقد وضع منهج الاستنباط لمواجهة الحوادث المتكاثرة والأقضية المتعددة التي حصلت بموجب كثرة الفتوح واتساع الدولة الإسلامية، وترامي أطرافها وضخامة أعمالها وأعبائها، فقد كان من اللازم وضع القواعد الكلية والأسس العامة، ورسم منهج التأويل والاستنباط، للتصدي لكل ذلك وتأكيد صلاحية الإسلام لكل عصر ومصر.
* مقاصدية عدم التدوين :(1/79)
قد يبدو وجود التناقض بين هذا العنصر والذي قبله، إذ هما متعارضان في المحل الواحد وهو التدوين، غير أن تحقيق ذلك يزيل التعارض الملحوظ ويعطي لكل عنصر مدلوله المتعلق به.
فقد كان عصر أئمة المذاهب يحتاج إلى تدوين ما ينبغي تدوينه، كمنهج الاستنباط الأصولي، وعلم السنة والعروض، وغير ذلك مما كان في تدوينه مصلحة معتبرة للمسلمين في زمانهم وفي غير زمانهم.. وهذا بخلاف بعض المسائل التي لم تدع الحاجة إلى تدوينها، بل تعينت الضرورة عند البعض على الأقل إلى عدم تدوينها، لما فيه من المصلحة المعتبرة العائدة على الناس في كل زمان وحين، فقد روي عن الإمام مالك كراهته لكتابة العلم، وامتناعه عن تلبية دعوة أبي جعفر المنصور في وضع مدونة للفقه والأحكام، كما ذكر أنه لم يدون منهجه في الاستنباط كما فعل الشافعي، وأنه كان يدعو إلى تحاشي التنظير المبالغ فيه وإلى تأكيد واقعية الفقه -دعها حتى تقع- وإلى معالجة ما يقع من المسائل في ميدان الواقع لا فيما يتخيله الذهن ويفترضه، كما هو الحال في الفقه الذي اشتهر بكثرة الافتراضات والاحتمالات، والذي عرف بالفقه الافتراضي أو التقديري أو الأرأيتي .
وليس كل هذا إلا دليلا على أن تدوين الفقه والفتاوى في ذلك العصر، قد يؤدي إلى تجميد الفقه نفسه، وإلى تعطيل حركة الاجتهاد وقتل روح الإبداع، وإذابة السمات الواقعية والحيوية والثراء لمنهج الاستنباط، والتعامل مع المستجدات والتحولات المختلفة، التي لا تقدر الفتاوى المنقولة والمجردة من أدلتها ومناطاتها على فهم طبائعها وبيان أحكامها، كما يؤدي إلى تضييق دائرة السعة والرحمة التي مثلتها مختلف المدارس الفقهية وآراء الفقهاء المتوزعين في الأمصار والمتفاوتين في الفهوم والقرائح والاجتهادات، وفيما وصلهم من سنن ومرويات وآثار، وفيما أدركوه من حوادث وأعراف وأقضية .(1/80)
فقد بدا لبعض أعلام ذلك العصر مصلحة عدم تدوين الفتاوى والأحكام، بخلاف الأصول والقواعد والسنة وغيرها، وقد يعود ذلك أساسا إلى القدرة العالية لأولئك الأعلام والأئمة في الاجتهاد والاستنباط من غير العودة إلى ما هو مدون ومكتوب، بموجب قربهم لحظوظ الفهم (1) ، وإلى مراعاة الخلاف المعتبر، ومراعاة اختلاف البيئات والظروف فيما جوز فيه الاختلاف وغير ذلك، مما يترجح فيه عدم التدوين على التدوين نفسه .
كما قد يعود إلى خشية اختلاط السنة بالفقه، أو تقديم كلام الفقهاء على كلام الله ورسوله، لا سيما والسنة تواجه تحديات الوضع والتحامل والتعسف الخطيرة، لطمسها وتشويهها وتحريفها .
وعلى أي حال فإن تدوين الأحكام والفتاوى أمر خلافي، من حيث المصلحة وعدمها، تباينت فيه الأنظار والآراء، وتفاوتت فيه التقديرات والتصورات، بحسب الاعتبارات والقرائن والظروف التي يتنزل فيها ذلك التدوين أو عدمه، فقد يكون التدوين مفيدا وصالحا، وقد لا يكون، وهذا راجع إلى ما ذكرنا من الاختلاف في التقدير والاعتبار والحيثية، والله أعلم بالصواب .
تاريخ الاجتهاد المقاصدي المبحث السادس: الاجتهاد المقاصدي عند عموم الفقهاء والأصوليين »
مسيرة الاجتهاد المقاصدي، بعد العصور الأربعة المذكورة (عصر النبوة، الصحابة، التابعين، أئمة المذاهب ) ، مسيرة طويلة جدا، ومدتها أكثر من ألف سنة، وأعلامها لا يحصون كثرة، وآثارهم كذلك، وهي متنوعة ومتفاوتة من حيث اتصالها بموضوع الحال، ومنها ما هو موجود ومنها ما هو مفقود، وتتبع مسيرة المقاصد لدى هؤلاء خلال هذه الفترة ليس بالأمر الهين، فهو مما لابد فيه من تضافر الجهود الجماعية المنظمة والهادفة، بغية التعرف عليها وتجلية مظاهرها ونواحيها وصورها وسائر متعلقاتها، وبهدف استثمارها في خدمة موضوع المقاصد وتوظيفه في العمل الاجتهادي المعاصر.(1/81)
وقد يكون من التهور والتسرع الإقدام على دراسة هذه المسيرة الطويلة في بعض الورقات والأسطر، لما سيوقع ذلك في التعسف والارتجال والضبابية، غير أن المقام قد يقتضي منا التعليق الموجز والبيان العام، حتى تكتمل الصورة حيال عرض تاريخ الاجتهاد المقاصدي منذ عصر النبوة إلى الآن، وعملا بالقاعدة المشهورة: ( ما لا يدرك كله لا يترك كله ) .
مظاهر الاجتهاد المقاصدي عند عموم الفقهاء والأصوليين :
مظاهر ذلك كثيرة، وهي موزعة على مسالك اجتهادهم وعموم آثارهم، ويمكن أن نجملها بالاختصار الشديد فيما يلي:
- التصريح بالمقاصد الشرعية:
يصرح علماء الفقه والأصول باعتماد المقاصد واعتبارها أمرا شرعيا يلتفت إليه ويعتمد عليه في الاستنباط والاجتهاد، قال ابن القيم: ( فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل ) (1).. ومن قبيل ذلك، تعبيراتهم بكلمات مقاصدية كثيرة على نحو مقصود الشرع، ومقاصد الشرع، والقصد، والغرض، والأغراض، ومحاسن الشريعة وأسرارها، والضروريات والحاجيات والتحسينيات، والمصالح والمفاسد، ونفي الضرر والمشقة، ودفع الأذى والعنت والشدة والتنطع، وجلب المنافع، والتيسير والتخفيف، والرحمة والسماحة، والرفق واللين، والتعليل والعلة والحكمة والباعث المؤثر، والمناسبة والملاءمة.. وغير ذلك كثير جدا، وهو مبسوط في كتب الأصول والفقه والقواعد والعقيدة وغيرها، وهو لا يقبل الحصر والجرد لكثرته الهائلة (2)، وهو يدل صراحة على اعتمادهم الملحوظ على المقاصد والتعويل عليها في الاستنباط والاجتهاد.
الفروع الفقهية والأمثلة التطبيقية:(1/82)
وهي الجزئيات التي استحضر فيها العلماء المقاصد، واجتهدوا فيها بمقتضاها وبموجبها، ومن تلك الأمثلة ما كان امتدادا لعصر السلف، على نحو أمثلة الاستصناع، وأجرة الحمام، والطلاق الثلاث، وصلاة التراويح، وحد شارب الخمر، وغير ذلك من الأمثلة المذكورة سابقا، والتي تولى العلماء بيانها وتناقلها وزيادة شرحها والتعليق عليها وغير ذلك .
ومن الأمثلة ما كان ابتداء وتأسيسا دون سابق تنصيص أو إجماع، وهي جملة ما استجد من أوضاع ووقائع، وأدركه العلماء في عصورهم، واجتهدوا فيه على وفق اعتبار المقاصد ومراعاتها (1) .
القواعد الشرعية:
يعد الاشتغال بالقواعد الفقهية والأصولية وغيرها، من ضروب العمل المقاصدي، وذلك لأن من تلك القواعد ما هو من صميم المقاصد نفسها على نحو قاعدة المشقة تجلب التيسير، والضرر يزال، وجلب المصالح مقدم على درء المفاسد، والضرر الأخف يرتكب لدرء الضرر الأشد، وغير ذلك، ولأن فن التقعيد قصد به أساسا أمور مقاصدية كثيرة، على نحو خدمة الفقه وتيسير الرجوع إليه، وتحقيق مصالح الناس ومنافعهم في الامتثال والتكليف والتدين والتقاضي والتعامل (1) .
مستثنيات القواعد:
مستثنيات القواعد كالقواعد نفسها، من حيث مراعاة المقاصد والمصالح، إذ إن تطبيق القواعد على جميع الحالات دون مراعاة لما يستثنى منه، فيه تعطيل للمصلحة، وإيقاع في دائرة الضيق والعنت والمشقة، وليس أدل على ذلك من الاعتداد بالاستحسان، الذي هو عادة العدول الشرعي عن القياس والقواعد العامة والأدلة الكلية في مقابلة المصلحة الجزئية المستثناة (2)، وكذلك خروج بعض الجزئيات التي لا تقدح في قواطع الكليات.
- مراعاة الخلاف وتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال :
مراعاة الخلاف، والعمل بقاعدة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال، بسبب تغير العرف والمصلحة ومراعاة الضرورة (1)، والعمل بالقرائن (2)، وغير ذلك مما هو مبين في مظانه.
- الاعتداد بالمصادر التبعية:(1/83)
الاستصلاح، والاستحسان، والذرائع، ومنع الحيل، والقول بالعرف...
مشاهير المقاصد:
عرف تاريخ الفقه أعلاما اشتهروا بالمقاصد، من حيث الإفراد بالتأليف وكثرة التدليل والاستشهاد والاستعمال، وغير ذلك، ومن هؤلاء العز بن عبد السلام، والقرافي، وابن تيمية، وابن القيم، والمقري المالكي، والشاطبي الذي عد بحق مبتكر علم المقاصد، ومؤسس عمارته الكبرى، ومرجع كل منشغل بهذا الفن الجليل (3).
الفصل الثالث: حجية الاجتهاد المقاصدي المبحث الأول: حقية الاجتهاد المقاصدي »
المقاصد الشرعية التي يعتد بها في عملية الاجتهاد، حجة شرعية يقينية، وحق ضروري مقطوع به، وقد ثبت ذلك بالنص والإجماع، والدليل العام والخاص، والوحي المتلو والمروي، وباستقراء سائر التصرفات والقرائن الشرعية، ومقررات القواعد والأصول الفقهية، وبدهيات العقل والحس والواقع في كل زمان ومكان جاء عن الشاطبي قوله: ( وهي أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل ) (1) .
فقد دل كل ذلك على أن الشريعة الإسلامية جاءت لتصلح الناس، وتخرجهم من دائرة الهوى والعبث والفساد إلى طريق الله المستقيم ومنهاجه القويم، الذي يحقق لهم مصالحهم في الدنيا والآخرة، ويحفظ لهم دينهم ونفوسهم وعقولهم وأموالهم وأعراضهم، كما أكد ذلك أرباب المقاصد قديما وحديثا .(1/84)
ومن ثم فإن الشريعة معللة على الجملة بصلاحها في ذاتها، وإصلاحها للمخلوق، وتقريرها لعبودية الخالق، ومعللة على سبيل التفصيل فيما يقبل التعليل من الأحكام والجزئيات الشرعية، وأن تلك الأحكام المعللة قد تفاوتت درجات التعليل حيالها بحسب الظهور والخفاء، وقطعية الدليل وظنيته، وتصريحه وتلميحه وغير ذلك.. وبناء عليه، فإن المقاصد الشرعية غير منفصلة عن الأحكام، وهي ملحوظة في جزئيات الشرع وكلياته، ومبثوثة في تصرفاته وتعاليمه، ومستحضرة في أذهان العلماء والمجتهدين على مر تاريخ الفقه، منذ عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى العصر الحالي، هذا فضلا عن الهدي القرآني والنبوي الذي اتصف بصفة المقاصدية جملة وتفصيلا، واتسم بطابع التعليل والمعقولية في مواطن لا تحصى كثرة وتنوعا.
فمن واجب الناظر في الشريعة -مجتهدين ومقلدين- استحضار تلك المقاصد وتذكر عللها ومناطاتها وحكمها، حتى يتم النظر على أحسن وجه وصورة، وحتى تفهم الأحكام وتستنبط على وفق ما ارتبطت به من علل وأسرار وأغراض ومشروعية.
إلا أن هذا التأكيد على لزوم الالتفات إلى مقاصد الأحكام ومناطاتها والتعويل عليها، سواء في فهم الأحكام أو استخراجها وتنزيلها في الواقع المعيش، أو في إجراء القياس عليها والإلحاق بها، أو غير ذلك من ضروب الفهم والاستنتاج والقياس والنظر، فهذا التأكيد على العمل بالمقاصد والتعويل عليه يؤدي حتما إلى طرح سؤال مهم يتعلق بحقيقة ذلك العمل بالمقاصد وطبيعته، وهل معناه استقلال المقاصد عن الأدلة الشرعية وانفرادها باستنباط الأحكام لتصير دليلا بعد النص والإجماع، ومصدرا مستقلا عنهما أو مهيمنا عليهما، وأصلا مقطوعا به، وحجة يصار إليها في معرفة أحكام الله تعالى وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم ؟ أم أنه عمل في إطار المنظومة الشرعية، وانخراط ضمن أدلتها وقواعدها وهديها وتوجيهاتها؟.
المبحث الثاني: المقاصد ليست دليلا مستقلا عن الأدلة الشرعية »(1/85)
إن الجواب البدهي الأولي على إشكالية استقلال المقاصد عن الأدلة الشرعية، هو أن المقاصد ليست دليلا مستقلا عن الأدلة الشرعية، وإنما هي متضمنة فيها وتابعة لها وملتصقة بها ومتفرعة عنها. ( ليست المقاصد الشرعية مصادر تشريع خارجية.. والمقاصد جزء من المصادر الأساسية للتشريع الإسلامي، والحكم الذي نأخذه بطريق المصلحة أو الاستحسان أو غير ذلك من ضروب المآخذ الاجتهادية يعتبر حكما شرعيا، أي خطابا من الله متعلقا بأفعال المكلفين، لأنه نتيجة الخطاب الشرعي الذي يتبين من تلك المقاصد التي هي أمارات للأحكام التي أرادها الله ) (1) .
ويمكن أن نورد الأدلة على ما نقول فيما يلي :
- المقاصد الشرعية وكما تدل عليها صفتها -الشرعية- هي المقاصد الثابتة بالشرع الإسلامي، أي بأدلته ونصوصه وتعاليمه وهديه، فهي مبنية على الشرع ومنضبطة بقيوده وقواعده.. ومعلوم أن ميزان الحكم على أن هذا الفعل مصلحة أو مفسدة إنما هو الشرع وما يتعلق بذلك الفعل من الأدلة والقرائن والمعطيات الشرعية النصية والاجتهادية. والقول بغير هذا، موقع بلا شك في القول بتحكيم العقل قبل مجيئ الشرع وبعده، وفي ادعاء حقية المنفعة في ذاتها والمضرة في نفسها، ومساير لأرباب الفلسفات والقوانين والمعارف الوضعية التي اقتصرت في أفكارها ورؤاها على التفسير المادي لظواهر الكون وأفعال الناس، وصممت على إلغاء الأبعاد الدينية والغيبية والقيمية عن مسرح الحياة وطبيعة الوجود الإنساني والكوني (2).
- بناء على ما ذكر، فإن المقاصد الشرعية هي المعاني المستخلصة من التصرفات الشرعية المتنوعة -نصوصا وأحكاما وقرائن وتعليلات ومعطيات لغوية وتاريخية وغير ذلك- ومن ثم فإن افتراض استقلال المقاصد عن التصرفات الشرعية، بين البطلان والرد، لما يلي بيانه:(1/86)
- المقاصد مبنية على التصرفات الشرعية، وهي متوقفة على ما انبنت عليه وجودا وعدما، فالدعوة إلى استقلالها عن أساسها وأصولها دعوة لهدمها وطرحها، بذهاب ما انبنت عليه واستندت إليه.
- القول بأن المقاصد مبنية على الأدلة الشرعية ومستخلصة منها، ثابت بالاستقراء والتتبع والاستنتاج، والقول بغير ذلك مناف لمنطوق الواقع، ومعارض لمسلمات المنهج العلمي التجريبي المنطقي، الذي كان الاعتداد بالاستقراء والاستنتاج والاستخلاص أحد مسالكه وطرقه المهمة.
- المقاصد مع أدلتها الشرعية كالكلي مع جزئياته، وكالأصل مع فروعه، فبينهما تلازم وثيق وارتباط عميق من حيث البقاء والانتهاء .
- اتصاف المقاصد الشرعية بخصائص الثبات والعموم والشمول والظهور والانضباط والاطراد، وغير ذلك من السمات التي ميزتها عن حقيقة المقاصد وجوهر المصالح في الفلسفات والمذاهب غير الإسلامية، إن ذلك الاتصال وتلك السمات، دليل قوي، وبرهان ساطع، على انخراطها ضمن منظومة الشرع وتعاليمه المتسمة بسمات الثبات والشمول والعموم وغيرها، والمسايرة للفطرة الإنسانية السليمة، والداعية إلى الإبداع العقلي الرصين والأصيل .
فلو كانت المقاصد الشرعية موكولة إلى العقل والواقع والتجارب والأذواق والغرائز لما حظيت بتلك الخصائص، ولما ظل ميزانها موحدا ومعيارها محددا لا ينال منه الواقع الحياتي وتغيراته وتقلباته، والعقل البشري وتناقضاته وتعارضاته، ولا تمسه بشيء من المصالح الإنسانية المتعددة والمتضاربة والمختلفة باختلاف الأزمان والبقاع والأحوال، بل باختلاف الزمن اليسير الواحد، ورغبات الشخص الواحد في الأمر الواحد وفي الوقت الواحد(1/87)
- القول بمبدأ التكليف الشرعي، القائم على تقرير الامتثال للأحكام وطاعة الله وإخراج النفس من دائرة الهوى ومنازع الشيطان، وإيصالها إلى أعلى درجات التزكية والصلاح والتقوى، عاجلا وآجلا، إن القول بذلك يؤكد مبدأ انخراط المقاصد في المنظومة الشرعية، وعدم انفلاتها منها، ودخولها في دائرة الهوى ومؤثرات الغرائز والأمزجة المضطربة، والأفكار والمذاهب الهدامة التي لم تقر للأخلاق والقيم والمصالح المعتبرة قرارا، بل إنها لم تكن لتساير سنن الكون في وجوب الانتظام والانضباط فكرا وممارسة حتى تستقيم موازين الأمور، وتتحدد منهاج التعامل على وفق قانون مضبوط وحكم عادل، وليس بظواهر الفوضى والهرج والتيه المتأتية بسبب تحكيم العقل والمزاج والخواطر.
المبحث الثالث: من حجج دعاة استقلال المقاصد عن الأدلة الشرعية »
الدعوة إلى استقلال المقاصد عن الأدلة في القديم والحديث، يستند فيه أصحابها إلى عدة حجج ومبررات، تتصل جملة بأهمية العقل ودوره وآفاقه في رسم ما يصلح للناس من أنظمة وقوانين وفلسفات، ولزوم تحريره من القيود والمكبلات والأغلال، حتى يؤدي ما عليه من مهمات النظر والاستجلاء والتفكير والإبداع والتنوير.
كما تتصل تلك المبررات والادعاءات بظروف الواقع وسنة التطور، وتراكم القضايا، وضخامة الأحداث، التي لا تقدر النصوص المتناهية والفتاوى الجاهزة والأحكام المنقولة عن الأزمنة الماضية على فحصها، ومعرفة أحوالها، وبيان أحكامها.
وتتصل أيضا بما توهمه أرباب تلك الدعوة الجوفاء من أن المقاصد الشرعية مطلقة عن التقييد والضبط بالتعاليم والوسائل الشرعية، وهي موكولة للعقل وعملياته والواقع ومتغيراته، وهي مطلوبة في ذاتها وليس لما يتعلق بها، مما جعله الشارع الحكيم مناطات ومتعلقات لها! فالعبرة كما يدعي أولئك تحقيق المقاصد بشتى الوسائل، سواء أكانت شرعية أم غير شرعية.(1/88)
ومن الحجج التي يناقش بها أدعياء الاستقلال ويرددونها، العمل بالمصادر والقواعد التشريعية الاجتهادية أو التبعية ( القياس والاستحسان والمصلحة المرسلة والعرف والذرائع وبعض القواعد الفقهية )، التي يتوهم أنها تجذير لدعوتهم، وتأسيس لمبدأ الاجتهاد المقاصدي المستقل عن النصوص والإجماعات .
فإن تلك المصادر -حسب زعم هؤلاء- ظلت مسالك موصلة إلى استنباط الأحكام التي لم تكن النصوص والإجماعات قادرة على احتوائها، أو على الأقل لم تكن بذات الصراحة والمباشرة المطلوبة حتى يتعرف عليها، فالنصوص والإجماعات لم توصل لوحدها إلى إثبات تلك الأحكام، وإنما كانت في أشد الحاجة إلى المقاصد التي لو تعطلت أو غيبت لتعطلت كل تلك الأحكام، ولضاعت مصالح الناس ولانتفت أو ذبلت خاصية صلاحية الشريعة وبقائها ودوامها وعمومها وغير ذلك .
التعسف في التعامل مع المصادر والقواعد الاستنباطية :
ثم إن أصحاب هذا الادعاء ينطلقون من ظواهر هذه المصادر، ومما يتعلق بها من تسميات وتعريفات وتطبيقات .
التعسف في فهم التسميات :
فمن حيث التسميات، جرى عرف الكثير من الباحثين بتسمية هذه المصادر بالمصادر العقلية والمصلحية والاجتهادية، التي يتبادر إلى الذهن الفهم بأنها موكولة إلى ما يحدده العقل ويراه من قبيل المصالح، عن طريق الاجتهاد والتأويل، والتطويع والتوظيف .
التعسف في فهم التعريفات :
ومن حيث التعريفات، فقد حملت بعض التعاريف لهذه الأدلة محملا سيئا، وقصد بها غير ما وضعت له، وادعي أن تلك المصادر تدعو بجلاء ووضوح إلى التعويل على المصالح في مقابل النصوص، وأن العبرة بالمقصد وإن خالف نصا أو إجماعا أو أصلا مقطوعا به، فقد بالغوا في التعسف الجلي، والتطويع المقصود، والاستخدام السيء في بيان تعريف المصلحة المرسلة والاستحسان والعرف وغيره، وفي تجلية حقيقة قاعدة المشقة تجلب التيسير، والأمور بمقاصدها، وغيرها(1/89)
فقد قالوا: إن المصلحة المرسلة هي المصلحة المطلقة، فليس لها دليل يعتبرها ويقرها أو يلغيها ويبعدها، فدليلها الوحيد هو كل شيء غير الدليل الشرعي، سواء قلنا: إنه عقل أو خبرة أو حكمة أو فطرة أو غريزة أو غير ذلك، فمادامت المصالح المرسلة مطلقة عن الأدلة والقيود والاعتبارات الشرعية، فهي إذن نازعة نحو الاستقلال والانفراد والهيمنة على مواضعها غير المنصوص عليها أو المجمع عليها!
وقالوا عن الاستحسان بأنه: ما ينقدح في ذهن المجتهد ولا يستطيع التعبير عنه، وبأنه العمل بمصلحة جزئية في مقابل الدليل الكلي، وبأنه العدول عن القياس الجلي إلى قياس خفي أقوى منه، وبأنه العمل بأقوى الدليلين، وغير ذلك من تعريفات الاستحسان التي عدل بها عن حقيقة مسماه إلى غيره بلا دليل من الشرع أو العقل : ثم ذكروا أن كل تلك التعريفات تسوغ ما ذكرناه من استقلال المقاصد عن الشريعة.. فما ينقدح في ذهن المجتهد ويتعذر التعبير عنه، ليس سوى تقرير لما ينقدح في ذهن الناس من مصالح وما يرونه نافعا لهم بدون شرع.. وما يقال من أنه عدول عن الدليل الكلي أو القياس الجلي أو الدليل الضعيف إلى ما توجبه المصلحة، ليس إلا دليلا على مراعاة تلك المصلحة والتعويل عليها، انفرادا وابتداء في بيان الأحكام!
وقالوا كذلك عن العرف بأنه: تحكيم للعوائد والتقاليد والنظم والممارسات المختلفة التي تتغير زمنا ومكانا وحالا، فما يراه قوم في زمن مصلحة يراه غيرهم في زمن آخر مفسدة وهكذا.. فالمعتبر حسب وهم هؤلاء، تحكيم الأعراف بكل أنواعها وصورها، ومسايرة الناس في نظمها وأحوالها، وليس ذلك إلا برهانا على أن المصالح مستجيبة للأعراف، مسايرة للعادات، ولو تناقضت مع الشرع وقيمه وقواعده!(1/90)
وقالوا عن اعتبار المآل بأنه: النظر إلى النتائج دون اعتبار لما أدت إليه من أسباب ووسائل، فقد تكون نتائج الازدهار الاقتصادي حاصلة بوسائل الاستثمار المختلفة، مضاربة أو تجارة أو ربا.. وقد يكون الأمن الاجتماعي والمالي قائما على وسائل الردع المختلفة من سجن وغرامة ونفي، وفق ما يراه العقل مناسبا ،دون الارتباط بما نص عليه الشارع في ذلك.. وقد يتحقق هدف التسامح مع الأديان والتيارات والمذاهب بأي وسيلة وطريقة، ولو أدى الأمر إلى التمذهب بدينهم ومناصرة عقائدهم!
وقالوا عن قاعدة ( المشقة تجلب التيسير ) ، وتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان، والضرورات تبيح المحظورات، والأمور بمقاصدها، والضرر يزال.. قالوا عن كل ذلك بأنه أوضح ما يستدل به على زعمهم، فالتيسير منوط بالمشقة، فحيث ما وجدت وجد معها التيسير والتخفيف عن الناس، ولو أدى المقام إلى إسقاط التكاليف، والمشقة ليست إلا حالة إنسانية، يقدرها الإنسان نفسه، ويحس بها وحده، فليست راجعة إلى غير الإنسان!
والأحكام -حسب رأي هؤلاء- تتغير بتغير الزمان والمكان والحال، فليس هناك حكم واحد أو شرع واحد، والضرورة تبيح الممنوع، وهي ليست سوى ما يخالف عادة الإنسان في معاشه وحياته، فإذا تغيرت تلك العادة ومالت عن سيرها المعهود، ولو بفقدان الطعام ليوم أو وقع خدش في الجسم، فإنه يجوز للإنسان تناول ما يريد من الممنوعات والمحظورات دفعا لما اضطر إليه وأكره عليه !
والأمور بمقاصدها، أي بما ينويه الإنسان من خير ومحبة وعدالة، فالعبرة بما في القلوب لا بما في المظاهر من أعمال وعبادات وأخلاق، والعبرة بالمقاصد والغايات لا بالوسائل والكيفيات والمسالك الشرعية!(1/91)
وهكذا راح أصحاب الزعم باستقلال المقاصد عن الأدلة الشرعية يفسرون تعاريف تلك الأدلة بما بدا لهم من ظواهرها وعمومها، أو بما أضمروه من قصد التحريف والتطويع، دون مراعاة لشروط التفسير، والتعامل مع المسميات والتعريفات والمفاهيم بصورة موضوعية، وأسلوب أمين، ومنهج شامل للظاهر والمبنى والجوهر والمعنى.
التعسف في استيعاب التطبيقات:
وعلى مستوى تطبيقات تلك المصادر والقواعد الشرعية، زعم أرباب الاجتهاد المقاصدي المبالغ فيه، أن في كثير من التطبيقات الفقهية والاجتهادية لأعلام السلف وأئمة الفقه وأصحاب الاجتهاد ما يسوغ مشروعية ادعائهم، ويبرر قولهم باستقلال المقاصد عن الأدلة والقرائن الشرعية، فقد زعموا أنهم بالمقاصد خصصوا النصوص وقيدوها وعارضوها أحيانا.
وهكذا راح دعاة الاستصلاح الذميم وأدعياء الهيمنة المقاصدية على سائر النصوص والأحكام والإجماعات وعموم الضوابط الأخلاقية والاجتهادية والدينية، راحوا يروجون لما يزعمون ويستنبطون، وقد أخذوا الأمور على ظواهرها وإطلاقاتها، وتعسفوا باستهجان واضح وأسلوب خسيس في تطويع التعريفات والتسميات والتطبيقات، وتأويلها وفق أهوائهم ونزواتهم، بالأخذ بالظاهر كما ذكرنا، وبالانقضاض على انتفاء المراد بلا جريان مع السياق، وبالإسقاط المبتذل الدال على عدم الدراية بأدنى مبادئ العلم وشروط الاجتهاد وأمانة البحث وأدب المناقشة والتناظر.
المبحث الرابع: فساد الدعوة إلى استقلال المقاصد عن الأدلة الشرعية »(1/92)
قد امتلأت كتب الأولين والآخرين بالأجوبة الكافية والبيانات الشافية -تأصيلا وتمثيلا وتدليلا وتعليلا- المحققة لهذا كله، ولغيره مما يقال ويحاك، فارجع إليها إن شئت ليتأكد ويتحرر لديك بطلان ما زعم، وفساد ما قيل، وليرسخ عندك يقينا وجزما صحة ما صار إجماعا قطعيا من أن المقاصد بجلب المصالح ودرء المفاسد ليست دليلا مستقلا تثبت بمقتضاها الأحكام الشرعية، وإنما هي معان مستخلصة من عموم الأدلة وخصوصها، وانفراد جزئياتها واجتماعها، وتحقق الكليات وتطبيقاتها:
غير أن ذلك لا يغني عن الإشارة الموجزة لبيان شرعية تلك المصادر والقواعد، وانبثاقها من الأدلة والتصرفات الشرعية، ويكون ذلك بإيراد ما يتعلق بإبطال تعسفهم في فهم مسميات تلك المصادر والقواعد وتعاريفها وتطبيقاتها، وهو ما نبينه فيما يلي:
- إبطال التعسف في فهم التسميات:
تسمية غير النص والإجماع بالمصادر العقلية والمصلحية والاجتهادية، تسمية اصطلاحية علمية، اقتضتها أمور منهجية وترتيبية، وليست مبنية على منابع الأحكام ومحل نشوئها، فيقال مثلا: إن هذا الحكم عقلي لأن العقل أنشأه، وأن هذا شرعي لأن الشرع أنشأه .
فالأحكام كلها قد أنشأها الشرع، إما بالنص أو الإجماع أو الاجتهاد على أساسها، وسواء كان الحكم مصرحا به أو مشارا إليه في النص، أو موجودا في الإجماع، أو مستخلصا عن طريق القياس والحمل على النص والإلحاق به، والإدراج ضمن القواعد الشرعية العامة، فإن ذلك الحكم منشأه الشرع ومنبعه الدين، مع وجود التفاوت في د رجة وضوحه، من حيث التصريح والتلميح والإشارة والتضمن والتعلق.(1/93)
ثم إن إطلاق أوصاف العقلية والاجتهادية والمصلحية على تلك المصادر، له دلالة ما على أن تدخل العقل في الاجتهاد والاستصلاح على ضوء تلك المصادر، ملحوظ بصورة أكبر وكيفية أعمق مما عليه الأمر في الاستنباط من النصوص والإجماعات، أي أن دوره في الفهم والاستيعاب والإلحاق والموازنة والتفريع والترجيح إزاء الاستحسان والمصلحة والعرف وغيره، ملحوظ بشكل أكبر مما هو عليه في النص والإجماع، الذين يستخلص الحكم منهما بطريقة أيسر من حيث الفهم والاستيعاب والاستنتاج المباشر ووضوح المعنى وبيان المراد.
وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا نسمي المعاني المفهومة من القرآن والسنة والإجماع وكلام الناس، بالمعاني العقلية، بناء على أن العقل هو الذي فهمها وأدركها؟! ثم إن تسميتها العقلية، لا يلغي شرعيتها وربانيتها، وإنما يبرز حجم تدخل العقل في الفهم والإدراك والاستنتاج، ذلك الحجم الذي تتفاوت ضروبه وصوره، قلة وكثرة، بحسب الأدلة وما دلت عليه من أحكام بطريقة صريحة أو ضمنية، عامة أو خاصة، مجملة أو مبينة، معللة أو غير معللة، منطوقة أو مفهومة، وغير ذلك.
وبناء عليه، فإن جميع الأحكام الشرعية المستفادة من النص والإجماع، هي أيضا أحكام عقلية، أي فهمت بالعقل وليست خارجة على ذلك، وهذا لا يعني أنها مستقلة عن الهدي الشرعي، بل يعني ببساطة أن العقل هو الذي فهمها، والشرائع ما نزلت إلا لتفهمها العقول المكلفة والراجحة.
ولذلك فإن تسمية بعض المصادر بالعقلية، كالقياس والمصلحة والاستحسان، لا يعني أنها منفصلة عن الشرع وبعيدة عنه، بل يعني مجرد مصطلح ،ولا مشاحة في الاصطلاح.(1/94)
وهذا الأمر ليس موجودا في الدراسات الشرعية فحسب، بل هو مقرر في سائر الدراسات والمناهج المعرفية المختلفة، فإطلاق مصطلح العلوم الصحيحة على المباحث العلمية والمخبرية التي تقبل التجربة والاختبار وغيرها، لا يدل بداهة على أن غير تلك العلوم التجريبية ليست صحيحة، مثل العلوم الإنسانية والاجتماعية والتاريخية والاقتصادية والسياسية، وإنما يدل فقط على أن مجال التجربة في العلوم التجريبية أوسع رحبا وأقرب نظرا، وعلى أن صفة الصحة المطلقة على تلك العلوم تعني تحقق ما يعرف بالحتمية العلمية، وترتب النتائج على ضوء الأسباب دائما أو غالبا، في حين أن العلوم الأخرى كعلم الاقتصاد والنفس تكون فيها الحتمية أقل وضوحا وملاحظة مع أنها صحيحة ومعقولة، فهي تأتي على وفق طبيعتها وماهيتها المعيارية والاعتبارية والإضافية.
كما نجد في دوائر القضاء والقانون التنصيص على دور القاضي في إصدار الأحكام تحت عناوين فقه القضاء، واجتهاد القاضي، ومراعاة العرف العام والعرف التجاري، وتقدير المصلحة، وغير ذلك من هذه العناوين التي يكون فيها دور القاضي أوسع نطاقا في إصابة الحكم الأعدل في ضوء دستور وقانون الدولة التي هو عضو في محاكمها.. بل إنه من يقول عكس ذلك، يعد ساذجا ومارقا قد تطوله طائلة ذلك القانون المتعسف عليه.
- إبطال التعسف في فهم التعاريف:
التعسف في فهم تعاريف المصادر والقواعد التشريعية الاجتهادية الاستصلاحية، الذي وقع فيه أربابه، يمكن أن نرد عليه ببيان شرعية تلك المصادر والقواعد، واستنادها إلى هدي الشارع ومراده وتعاليمه، ويكون ذلك على النحو التالي:
شرعية المصالح المرسلة:(1/95)
المصالح المرسلة كما هو معلوم، هي المصالح التي لم يشهد لها الشارع بالاعتبار أو بالإلغاء، وانعدام الشهادة الشرعية بالاعتبار أو الإلغاء على مستوى عين المسائل، وليس على مستوى كلياتها وأجناسها وقواعدها، لأنها لو انعدمت الشهادة في عين الحكم وفي ما يدرج فيه من أجناس وكليات وقواعد، لكان ذلك تركا لتحكيم الشرع في المشكلات والنوازل، وهذا محال.
فالمصلحة المرسلة هي إذن المصالح الملائمة لتصرفات الشارع، والعائدة إلى أصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعا به، والراجعة إلى جنس اعتبرته الشريعة (1).
فالمصالح المرسلة ولئن لم يعتبرها الشارع تفصيلا، فقد اعتبرها جملة ضمن المصالح المعتبرة، فهي عند التحقيق ليست مرسلة، وإنما هي مصلحة معتبرة من الشارع ولكن جملة لا تفصيلا (1).
ومن ثم فإن الاستصلاح المرسل هو استناد إلى القواعد والأجناس الشرعية المعتبرة، وليس عملا عقليا مستقلا ومنفردا ليس له ضوابط ولا قيود.. والنوازل التي لم تتبين أحكامها، والتي يراد إحالتها على الاستصلاح المرسل قصد معرفة أحكامها، لا تخرج من حالتين:
- حالة إلغائها، لوجود شاهد أو دليل كلي يلغيها، لمعارضتها للشرع وتعاليمه.
- حالة اعتبارها، لوجود ما رجحها واعتبرها، وعندئذ تصبح شرعية لاندراجها ضمن الدليل الكلي المرجح لها.
وأمثلة ذلك كثيرة جدا وهي مبثوثة في مظانها من كتب الفقه والأصول، والقواعد، والخلاف، والسياسة الشرعية، وتاريخ الفقه والتشريع وغيرها، وهي تتفاوت تعليلا وتدليلا وبيانا للأدلة الشرعية التي اعتبرتها، وقد ذكرنا جانبا من ذلك في هذه الدراسة فارجع إليه (2) .
شرعية الاستحسان:
الاستحسان على خلاف تعاريفه ومعانيه (1)، هو دليل راجع إلى الأدلة الشرعية وليس مستقلا عنها، وإن بدا حسب ظواهر التعريفات على غير ذلك.
وبرهان ذلك فيما يلي:
شرعية تعريف الاستحسان:(1/96)
ما ينقدح في ذهن المجتهد هو دليل شرعي أو معنى من دليل شرعي معتبر، وليس مجرد خاطرة أو شهوة أو مزاج.. وكل أمثلة الاستحسان من هذا القبيل.. أما ما يتعذر التعبير عنه فهي راجعة إلى خفاء المعنى ودقته في مقابل القياس الجلي الواضح لدى الجميع، وقد يكون أمرا خاصا بالمجتهد دون أن يجادل به غيره، فلا قدح إذن في شرعيته، ولا نزاع في أنه دليل معتبر في حقه، ولابد أن يكون في جوهره دليلا من الكتاب والسنة أو القياس، وفوق هذا كله فإنه لا يمكن أن يتعسف المرء في تأويل قول-ولا يمكن التعبير عنه- بأنه تحكيم لغير الشرع، لأنه أمر باطني لم يعرف بعد حتى نقول إنه شرعي أو غير شرعي (1).
شرعية أنواع الاستحسان:
* يستند الاستحسان في بعض أنواعه إلى النص، أي أنه يخرج عن مقتضى القياس العام أو الدليل الكلي للمصلحة، التي يعينها النص وليس لمجرد المصلحة المطلقة التي لا شاهد لها ولا دليل عليها.
ومثال ذلك: الوصية الخارجة عن مقتضى القياس، لأنها تمليك مضاف لما بعد الموت، والأصل أن التمليك لا يضاف إلى زمن زوال الملك، إلا أنها استثنيت من نظائرها بأدلة الكتاب والسنة.
ومثاله، من قال: إن مالي كله صدقة على المساكين، فإنه يتصدق بمال الزكاة فقط، اعتمادا على العرف الشرعي الذي يطلق المال ليشمل مال الزكاة .
ومثال أيضا: بيع السلم المستثنى من عموم النهي عن بيع ما ليس عند البائع، والذي رخص فيه لسد الحاجة ونفي الضرر، وهذه المصلحة قد ثبتت بالنص النبوي المرخص في بيع السلم، والذي خصص عموم النهي النبوي عن بيع ما ليس عند الإنسان (1).. فالحكم هنا شرعي، وعمل بين دليلين بحمل العام على الخاص .
ومثال ذلك أيضا القرض فإنه ربا في الأصل، لأنه الدرهم بالدرهم إلى أجل، ولكنه أبيح لما فيه من الرفقة والتوسعة على المحتاجين، بحيث لو بقي على أصل المنع لكان في ذلك ضيق على المكلفين(1/97)
وكذلك بيع العرية بخرصها تمرا، فإنه بيع الرطب بيابس، لكنه أبيح لما فيه من الرفق ورفع الحرج بالنسبة إلى المعري والمعرى، ولو امتنع مطلقا لكان وسيلة لمنع الإعراء (2).
ومثال ذلك أيضا: الإجارة والتي هي عقد على منفعة غير موجودة وقت العقد، وهذا حسب قواعد العقود غير صحيح إلا أن السنة أجازته استحسانا.. ومثله أيضا: الجمع بين المغرب والعشاء للمطر، وجمع المسافر، وصلاة الخوف، والترخيص في النظر إلى المخطوبة، وغير ذلك مما ثبتت شرعيته ومقاصديته بالنص القرآني أو النبوي، وليس بمجرد الهوى والرأي والتلذذ والتشهي.
* يستند الاستحسان في إحدى صوره إلى الإجماع.. ومثاله: عقد الاستصناع (1)، ودخول الحمام من غير تعيين لمدة المكث ولا للماء المعد للاستعمال، وشرب الماء من يد السقاء من غير تعيين لكمية الماء وعوضها، وغير ذلك من الأمثلة التي ثبتت بالاستحسان المبني على الإجماع والاتفاق، والمعلل برفع المشقة والحرج، والتجاوز عن الغرر اليسير، لملازمة الرفق والتخفيف .
* يستند الاستحسان في إحدى صوره إلى العرف، ومثاله: دخول الحمام، ورد الأيمان إلى العرف، وإطلاق لفظ المال على مال الزكاة فقط لمن قال: إن مالي كله صدقة، عملا بالعرف الشرعي، وغير ذلك من الأمثلة التي انبنت على العرف وعدل بها عن نظائرها وأشباهها.
ومعلوم أن اعتماد العرف في الاجتهاد، سواء في قيام الاستحسان عليه واستناده إليه، أو في عملية الاستنباط العام وفي غير موضوع الاستحسان، ليس على إطلاقه وعمومه، وإنما هو واقع في ضوء شروطه وحدوده، ومن تلك الشروط أن لا يعارض العرف المعتمد أصلا قطعيا أو مقصدا معتبرا.
فشرعية الاستحسان المبني على العرف، مستمدة من المعتبرات الشرعية والضوابط الدينية، لصحة العرف وقبوله في نظر الشارع، وليس في نظر العقل المجرد أو الواقع المتبدل (1) .
* يستند الاستحسان في إحدى صوره إلى المصلحة، ومثاله تضمين الأجير المشترك(1/98)
والمصلحة التي انبنى عليها الاستحسان ليست مطلقة عن القيود الشرعية، كما ذكرنا ذلك قبل قليل في شرعية المصلحة المرسلة، بل هي مشهود لها بأحد الأدلة الكلية والقواعد العامة.
* يستند الاستحسان في إحدى صوره إلى الضرورة، ومثاله الحكم بطهارة الحياض والآبار من سباع الطير التي تشرب منها، وهذا بخلاف سباع البهائم، فإن سباع الطير تأخذ الماء بمناقيرها وهو عظم جاف، والعظم من الميت طاهر، فمن الحي أولى، كما أن التصاق المنقار بالماء أقل تأثيرا من التصاق اللسان به، والتحرز من سباع البهائم أيسر من سباع الطير، لأن الأولى تسير في البر، فيمكن مطاردتها، والثاني تنقض من الفوق، ولأن ورودها كثيرا على تلك الحياض بسبب قرب مستقرها أو بكثرة المرور، فقد أدى هذا كله إلى استثناء الحكم بطهارة سؤر سباع الطير والعدول به عن مقتضى قياسها عن سؤر سباع البهائم، ومقصد ذلك رفع الحرج عن الناس بسبب الضرورة القاهرة، وكذلك الحكم بأن وقوع النجاسة من سباع الطيور أمر مظنون ظنا يسيرا، والعبرة بالقطع أو الظن الغالب، أما النادر فلا عبرة له.
فأنت تلحظ أن الاستحسان المبني على الضرورة ليس عملا بمجرد الرأي المطلق، بل هو مستند إلى الضوابط الشرعية، سواء من جهة مراعاة عموم الضرورة الشرعية المعتبرة بأدلتها ومظانها، أو من جهة مراعاة المظنة الغالبة أو الراجحة المعتبرة بأدلتها كذلك، أو من جهة بعض التعليلات الأخرى التي لها اعتبار ما في بيان الحكم ومقصده كتحقيق مناط سؤر سباع الطير من حيث حصول النجاسة أم لا.
ومن خلال المثال السابق فيمن قال إن مالي كله صدقة، فإنه لا يخرج إلا مال الزكاة، للعرف الشرعي من ناحية، ولنفي الضرر والضرورة المتأتية بسبب إنفاق المال كله.(1/99)
* الاستحسان ليس عدولا عن القياس، وإنما هو تحقق من أن ذلك القياس لم تتوفر علته حتى نجريه، لذلك فإن القياس متروك لانتفاء علته التي سيستند إليها، وليس إلى تغليب المصلحة على النص الذي قيس عليه، فعلة بيع المعدوم والمجهول، والعقد على منفعة مجهولة، هي الغرر والضرر المترتبين على الجهالة وليس العدم أو الجهل في ذاتهما، ففي أمثلة أجرة الحمام والشرب من يد السقاء ليس هناك غرر أو مظنته، إذ المقدار المشروب وعوضه، وكذلك المكث في الحمام ومقدار الماء، كلها أمور معروفة في الجملة ولا تفضي إلى الغرر والضرر (1) .
* الاستحسان هو تقرير لقاعدة الاستثناء الشرعية المعتبرة، فقد أقرت الشريعة الإسلامية كثيرا من الاستثناءات على خلاف القواعد العامة والمبادئ الكلية، وذلك لأن جريان العموم في الأفراد والمسائل المستثناة مضيع لمصالح أهم من مصالح بقائها في قواعدها العامة، أو موقع في مفاسد أعظم من مفاسد استثنائها.. جاء عن العز ابن عبد السلام قوله: ( اعلم أن الله شرع لعباده السعي في تحصيل مصالح عاجلة وآجلة، تجمع كل قاعدة منها علة واحدة، ثم استثنى منها ما في ملابسته مشقة شديدة أو مفسدة تربو على تلك المصالح، وكذلك شرع لهم السعي في درء مفاسد الدارين أو في أحدهما، تجمع كل قاعدة منها علة واحدة، ثم استثنى منها ما في اجتنابه مشقة شديدة أو مصلحة تربو على تلك المفاسد، وكل ذلك رحمة بعباده ونظر لهم ورفق بهم، ويعبر عن ذلك كله بما خالف القياس، وذلك جار في العبادات والمعاوضات وسائر التصرفات ) (2).(1/100)
والخلاصة، أن الاستحسان ليس دليلا خارجا عن الأدلة الشرعية، قال الشاطبي: ( فهذا كله يوضح لك أن الاستحسان غير خارج عن مقتضى الأدلة، إلا أنه نظر في لوازم الأدلة ومآلاتها ) (1).. وقال أيضا:( فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة، في أمثال تلك الأشياء المفروضة، كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمرا إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى، أو جلب مفسدة كذلك ) (2).
شرعية العرف:
العرف يستند إليه في الاجتهاد، وهو أنواع: منها ما اعتبرها الشارع ومنها ما لم يعتبرها.. العرف المعلل بمقاصده ومصالحه المعتبرة، هو العرف المقبول شرعا، وليس عموم أي عرف، فالعمل بالعرف ليس مبررا لاعتبار المصلحة مستقلة عن التشريع، بل هي متضمنة فيه، لما قلناه من أن العرف المعول عليه هو العرف المقبول.
وبالنظر إلى حقيقة العرف المقبول في الشريعة الإسلامية، سواء من حيث أنواعه، أو من حيث ثبوت حجيته بالنصوص الشرعية أو غير ذلك، يمكن القول: بأنه ليس مبنيا على الهوى والرأي ومستجدات الواقع واختلاف البيئات بلا ضابط وحد كما يقال ويزعم.
* العرف المقبول شرعا يستند من حيث المبدأ إلى شواهد من القرآن والسنة القولية والفعلية والتقريرية، التي أقرت بحجيته وحقيته في الاحتجاج والاستدلال والاجتهاد، من ذلك قوله تعالى: ( خذ العفو وأمر بالعرف )، وغير ذلك من أدلة القرآن والسنة (1) .
ـ العرف في كلام الفقهاء واصطلاحهم، هو الذي ثبت اعتباره شرعا بأوجه عديدة، منها
أن يكون العرف نفسه دليلا أو حكما شرعيا بأن أوجده الإسلام ابتداء، أو كان موجودا فيهم وأقره وأثبته، ومثال الأول: القسامة والدية والطواف بالبيت وستر العورة، ونفقة الزوج على الزوجة والقصاص والحدود في الجنايات.. ومثال الثاني: أحكام الطهارة والحجاب والمضاربة (2) .(1/101)
- أن لا يكون حكما شرعيا، ولكن كان مناطا متعلقا بالحكم الشرعي، وهو يشمل ما تعارفه الناس في أقوالهم وأفعالهم، فالأعراف القولية هي أقوال الناس الشائعة المحمولة عند الإطلاق بلا قرينة على المتبادر منها، والتي تدور عليها العقود والتصرفات وجودا وعدما، ومثالها: لفظ الدينار، فإنه يطلق على النقود المستعملة في بلد التعامل وليس على حقيقته الشرعية أيام نزول التشريع.
والأعراف العملية: هي جملة الأفعال والمعاملات العادية التي اعتادها الناس في تصرفاتهم كوسائل قبض المبيعات، ووقت قبض المهر وتقسيمه إلى مقدم ومؤخر، والفصل بين مدة العقد والدخول، وغير ذلك (1).
-أن لا يكون العرف حكما شرعيا ولا مناطا لحكم شرعي، وهو لا يخلو من حالتين:
أ- عدم معارضته للشرع.
ب- أن يعارض نصا، فينظر وقت وروده، فإذا كان قد ورد مقترنا مع النص، فهو على الجملة حجة (2)، ويفسر النص على ضوئه لأنه يتنزل منزلة اللغة التي يفهم بها النص، وإذا كان وروده متأخرا عن النص فلا عبرة به ولا حجة له (3).
* ضوابط العرف دليل على شرعية العرف، فالعرف كما هو معلوم على سبيل القطع واليقين ليس مقبولا بإطلاق، وإنما يعتد به بشروط وضوابط، منها عدم معارضته للنصوص والقواطع والمقاصد وغير ذلك مما هو مبين في موضعه (1) .
والخلاصة من كل ما ذكر، أن العرف المستخدم بغرض تحقيق المصالح، ليس مبنيا على الهوى، وليس دليلا على تسويغه للمصلحة المجردة من الأدلة والنصوص، فتلك المصلحة مبنية على العرف، والعرف مبني على اعتبار الشرع له، فتكون المصلحة إذن مبنية على الشرع ومعتبراته.
شرعية اعتبار المآل والذرائع ومنع الحيل:
مبدأ اعتبار المآل يستند إلى عدة أمور شرعية، نذكر منها:(1/102)
* قيام سد الذرائع من حيث المبدأ، له شواهده من القرآن والسنة، على نحو منع قول: (راعنا)، وإبداله بقول: (انظرنا)، وامتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين، وإعادة بناء البيت، وعدم نهر الأعرابي الذي تبول في المسجد، وغير ذلك (2).. ويدل عليه أيضا الإجماع والاتفاق على اعتباره ومراعاته (3).
* قيام مبدأ نفي التحايل على معتبراته الشرعية، النصية والإجماعية والاجتهادية، وذلك على نحو استنكار عمل اليهود وتحايلهم في تحليل المحظور، كما جاء في مثال الصيد يوم السبت، ومثال إذابة شحوم الخنازير، وعلى نحو منع نكاح التحليل، وبيع الآجال، وتطليق الزوجة في مرض الموت لحرمانها من الميراث، وهبة المال قبل الحول للفرار من الزكاة، وغير ذلك مما هو مبسوط في كتبه ومصادره.
شرعية قاعدة: المشقة تجلب التيسير:
تقوم القاعدة على أحكام التيسير والرخص الشرعية الثابتة باستقراء وتتبع الجزئيات الفقهية والاستخلاص من القواعد والمبادئ الكلية، وليست مبنية على ما يمليه العقل ويبينه الهوى، فهي شرعية في نشأتها، حيث قامت على استقراء الجزيئات كما ذكرنا، وشرعية في منتهاها، حيث لا تستخدم إلا في مواطنها وميادينها الشرعية.
ثم إن المشقة الجالبة للتيسير هي المشقة غير المعتادة، التي لا يقدر عليها المكلف، أما المشقة المعتادة فلا مناص منها، وهي من طبيعة الحياة ومستلزمات أي فعل بشري خيرا أو شرا، منفعة أو مضرة .
شرعية قاعدة: الأمور بمقاصدها:
معنى القاعدة أن جميع أو أغلب الأقوال والأفعال تراعى فيها النيات والقصود من ناحية، ولزوم تطابق مآلاتها لمقاصد الشارع ومصالح الناس من ناحية ثانية، وتستند شرعيتها إلى ما ذكرناه قبل قليل إزاء شرعية اعتبار المآل، وإلى استنادها إلى الحديث الشريف: ( إنما الأعمال بالنيات ) (1)، وإلى عموم الأدلة الداعية إلى تخليص النيات وتصحيح القصود وغير ذلك (2) .(1/103)
شرعية قاعدة: تبدل الأحكام بتبدل الزمان والمكان والحال:
القاعدة ليست على ظاهرها، بل هي محمولة على أن الأحكام مرتبطة من أصلها بما قد يتبدل من الظروف والأمكنة والأحوال، ويتغير بتغير أعراف الناس ومصالحهم وحاجاتهم ومتطلباتهم التي لم يحكم فيها، كأمثلة الأعراف القولية والعملية والمسائل المرتبطة بعللها ومناطاتها، والمتوقفة على ما نيطت وارتبطت به وجودا وعدما .
فتغير الأحكام ليس راجعا إلى تغير الشرع نفسه وبطلانه ونسخه، فذلك محال لانتهاء زمن النسخ منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو راجع إلى أن لتلك الأحكام أوجها ودلالات مرتبطة بما ارتبطت به من علل وأعراف وأساليب ووسائل موصلة إلى غاية الشرع ومراد الشارع (3).. وقد ذكر البوطي تدقيقا وجيها لذلك بقوله: ( كل ما جاء به من الشارع حكم غير معلق تعليقا واضحا منضبطا على شيء، فإنما يجب أن يكون سير الزمن نفسه منضبطا به لا العكس، وذلك بإجماع عامة المسلمين ) (1) .
وبناء على ما ذكر، فإن تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والحال هو عمل شرعي في غاية الشرعية، ومنتهى ملازمة تعاليم الوحي وهديه، لأن الذي غير تلك الأحكام في الحقيقة هو الشارع، وذلك عندما أمر بتغيير الأحكام إذا تغيرت الأحوال والظروف، فكل ما يطرأ من تغيير فهو عائد إلى تنفيذ ما أمر به الشارع، وتطبيق لما دعا إليه من جعل بعض الأحكام تدور مع المكان والزمان والحال، لتحقيق الصلاحية الإسلامية والدوام الشرعي، أحكاما ومصالح ومقاصد .
إبطال التعسف في استيعاب التطبيقات :
إن التطبيقات المقاصدية لأعلام الفقه والاجتهاد، ليست كما يدعي بعضهم من أنها تأتي في سياق معارضة النصوص والإجماعات وتقييدها أو تخصيصها، بصورة تجعل منها مبررا منطقيا وسببا وجيها للقول باستقلال المقاصد عن الأدلة الشرعية، وانفلاتها من دائرة التعاليم والقواعد الشرعية.(1/104)
وقد تأول أولئك الكثير من الشواهد والأمثلة التي أعمل فيها النظر المقاصدي والتفسير المصلحي من قبل علماء الأمة، سلفا وخلفا، ولا سيما من قبل كبار الصحابة والتابعين كعمر بن الخطاب وعلي ابن أبي طالب وابن مسعود والنخغي وربيعة الرأي وغيرهم رضي الله عنهم من أفاضل الرعيل الأول وخيار كافة أجيال الأمة، لقربهم -فهما ومعايشة وخبرة وصلاحا- من عهد الرسالة المباركة والصحبة النبوية الشريفة.
والرد المبدئي على ذلك الادعاء، هو أن تلك التطبيقات لم تكن لتشذ عن طبيعة المنهج الإسلامي الأصيل وقواعده العامة، ولم تكن لتبرر القول بالاعتماد المطلق على المصلحة من غير ضوابط وقيود، وإنما كانت مندرجة ضمن طبيعة الاجتهاد الشرعي الأصيل، من حيث تدقيق النظر وعمق الفهم، ورسوخ العلم بحيثيات النصوص ومراميها، وبملابسات الوقائع وقرائنها، وبدقائق النفس وخباياها.
والاجتهاد المصلحي في تلك التطبيقات، لا يكون مبنيا على غير ثلاثة أمور:
أن يكون النص ظنيا يحتمل عدة مدلولات ومعان، فيكون تحديد إحداها أو بعضها بناء على ما فيها من مصالح ومنافع، وفي هذه الحالة ليس هناك ما يدعو إلى القول بأن المصالح قد نشأت من فراغ أو هوى أو نزوة .
- أن يكون النص منوطا بعلة أو وصف أو حكمة أو أي أمر يدور معه وجودا وعدما، فيكون العدول عن النص بموجب انتفاء ذلك الأمر، وليس من قبيل تعطيل النص بلا موجب ومقتضى، بل إن تطبيق النص بدون أمره المتوقف عليه هو عين التعطيل وذات الانحراف والشذوذ والزيغ .
- أن يكون المناط الخاص أو العام غير متحقق، وأن تكون النازلة التي يراد تطبيق الحكم عليها غير متلائمة مع ذلك الحكم لسبب من الأسباب أو قرينة من القرائن، أو أي أمر يكون فيه تطبيق ذلك الحكم على تلك الواقعة موقعا في التعسف والتشويش والاضطراب والاهتزاز .(1/105)
وقد تعاقب العلماء الخلص على دراسة كل ذلك وتمحيصه وتحقيقه حتى تبقى شريعة الله باقية ودائمة وصالحة في كل الأطوار والأعصار، وحتى تدرأ عن الأفهام والعقول المزاعم والريب والشبه، وبغرض تحذير وتأكيد تكامل البنيان الشرعي وقمة تناسقه وروعة تكامله واستحالة ما يبدو ظاهرا من تعارض وتناقض وتضارب .
وقد كان من ضروب ذلك تحقيق تلك التطبيقات من وجهة شرعيتها وتطابقها مع الأدلة والقواعد الشرعية، ونفي الزعم بمعارضتها للمنصوص والمجمع عليه، وغير ذلك مما تناوله العلماء بالبيان والتحقيق، ومما تكون إعادة عرضه وبيانه في هذا السياق من ضروب التكرار الممل والحشو الذي ليست له فائدة ترجى (1) .
غير أن التأكيد المهم يتعلق بوجوب إقبال أهل العلم لجرد وتتبع سائر الشواهد والأمثلة التي عمل فيها بالنظر المقاصدي منذ عصر النبوة إلى العصر الحالي، لتحقيقها ورفع الالتباس عنها، وتأكيد دورانها في دائرة الشرع وحدوده، وهذا الأمر جدير بزيادة العمل فيه على الرغم من الأشواط التي قطعت فيه، وحقيق بأن تتضافر فيه الجهود الجماعية المباركة، وليس أن تتجاذبه المنازع الفردية على أهميتها .
فما دور العقل في الاجتهاد المقاصدي إذن؟
من البديهي أن يطرح تساؤل مهم إثر البيانات السابقة المتعلقة باعتبار المقاصد أمرا مستخلصا من الأدلة الشرعية وليس خارجا أو مستقلا عنها، هذا التساؤل هو: ما هو دور العقل ومهمته إذن في العملية المقاصدية كلها؟ وهل يستساغ القول بمراعاة المقاصد والتعويل عليها في غياب العقل الإنساني، وتهميشه وتحجيمه أمام هيمنة النصوص والأدلة الشرعية على الأحكام ومقاصدها ونوازلها ومناطاتها وعللها؟ وهل يجوز القول: بأن للعقل حرية ونشاطا وإبداعا، وهو لا يمارس سوى التسليم للنصوص والخضوع للأدلة، والجري وراء العلل والمصالح والحكم التي تحددت وتبينت دون أن يكون للعقل فيها دور؟(1/106)
إن كل تلك الاستفسارات وغيرها، تطرأ على مسيرة الحياة الفكرية من حين لآخر، وقد اتخذت في أوقات كثيرة سبيلا للتحامل والتشويه والنيل من القواطع والثوابت والمقدس تحت شعار العقلانية المبدعة التي حملت على غير محملها، وطوعت لقتل الإبداع العقلاني الأصيل، وإماتة الوسطية الإسلامية المعتبرة بإهدار عنصر الثبات والقطع فيها، والإيقاع في مجال الميوعة العقلية والانحلال الفكري والتيه السلوكي والحضاري.
ويمكن أن نزيل هذه البدعة الحضارية الخطيرة جملة وعموما في هذا السياق، على أن نبين ذلك تفصيلا في المباحث القادمة (1).. لنقول إطلاقا كما ذكرت: إن كل المنظومة الشرعية، بأحكامها ونصوصها وتعاليمها وقرائنها ومقاصدها وأوصافها وعللها، لم تنزل إلى الوجود الكوني، ولم يترتب عليها الجزاء والنعيم الأبدي بجوار رب العالمين، ولم ينتظم على وفقها نظام الحياة وبناء الحضارات وغير ذلك، إن كل تلك المنظومة لم تنزل وتشرع إلا ليفهمها العقل، ويتحملها تنظيرا وممارسة، ولن يكون ذلك ميسورا إلا بإجراء عمل عقلي بناء، وفعل ذهني رائع، يمارس بتناسق وتنسيق مختلف ضروب ذلك الفعل العقلي من فهم واستنتاج، وتسوية وقياس، ومقارنة وموازنة، وترجيح وتنقيح، واستخلاص وإدراج، وتقعيد وتفريع، وغير ذلك من ضروب العمل العقلي والإبداع الذهني الذي نشهد آثاره مجسدة في ما وصل إليه البناء الحضاري العام من قيام النظم القانونية والقيمية والاجتماعية، ومن انبعاث لمحيط أرضي رائع بتشابك عمرانه ونمو مزروعاته، وثورة اتصالاته، وانتظام شبكة علاقاته المختلفة.
وليس تنزل منظومة الأحكام على مسرح الحياة في شتى نواحيها ومشكلاتها، إلا دليلا على تدخل العقل في صياغتها وتنفيذها بما قام به من أدوار معتبرة في الفهم والتحصيل والترتيب والتنسيق بين الأدلة نفسها، وبين تلك الأدلة والأوضاع المتنزلة فيها والناس المخاطبين بها.
الجزء الثاني(1/107)
الاجتهاد المقاصدي حجيته .. ضوابطه .. مجالاته (الجزء الثاني) » تقديم : عمر عبيد حسنه »
الحمد لله الذي أنزل الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة للعالمين، والصلاة والسلام على معلّم الناس الخير، المبيِّن عن ربه ما نُزل إليه، الهادي إلى الصراط المستقيم، وبعد :
فهذا الكتاب السادس والستون: (الاجتهاد المقاصدي.. حجيته، ضوابطه، مجالاته ) الجزء الثاني، للدكتور نور الدين بن مختار الخادمي، في سلسلة(كتاب الأمة) ، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات، بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري، والتحصين الثقافي، واسترداد فاعلية الأمة، وإحياء وعي المسلم برسالته ودوره في إلحاق الرحمة بالعالمين، وقيادة الناس إلى الخير، وحل المعادلة التي كادت تبدو على غاية من الصعوبة في تاريخ التدين، بين هدايات الوحي، ومكتسبات العقل، وإطلاق الفكر ليعود حرًّا معافى قادرًا على الاجتهاد والتوليد، وتعدية الرؤية والامتداد بخلود الشريعة وتجريدها من حدود الزمان والمكان، وتحقيق هذا الخلود في حياة الناس، فكرًا وفعلاً، فقهًا وتنزيلاً، في إطار مرجعية الوحي وفهم القرون الأولى المشهود لها بالخيرية من المعصوم، وإعادة تأسيس وتأصيل الرؤية الإسلامية لمسألة القدر والحرية والوحي والعقل، والدين والعلم، وعالم الغيب وعالم الشهادة، والسنن الجارية في الحياة والأحياء والمعجزات والسنن الخارقة، وموقع الإنسان كمخلوق مكلف مكرّم.(1/108)
ولعل من الأهمية بمكان العودة إلى الانطلاق من معرفة الوحي كإطار مرجعي وضابط منهجي لمعرفة العقل، وتخليص الدين والتدين من التأويل الجاهل والانتحال الباطل والتحريف المغالي، وتصويب قضية التدين، ونفي نوابت السوء، وتقويم السلوك الفردي والاجتماعي بقيم الكتاب والسنة، والاعتبار بعلل التدين التي لحقت بالأمم السابقة فكانت سبب انقراضها، وبناء العقل القاصد الناقد القادر على التحليل والاجتهاد والاستقراء والاستنتاج والتقويم والمراجعة في ضوء معايير الوحي المعصومة، وامتلاك القدرة على التعامل مع المتغيرات الدولية المتسارعة، والتقنيات الإعلامية المتوفرة، والمعلومات الكبيرة المتدفقة، والمعارف الإنسانية المتيسرة، من خلال القيم الإسلامية الخالدة.
إن حَمَلة القيم الإسلامية إذا لم يكونوا قادرين على استيعاب حركة العصر وكيفية التعامل معه من خلال هذه القيم الخالدة، وتنزيلها على الواقع وتقويمه بها، تصبح دعواهم الخلود لرسالته دعوى بلا دليل مهما حاولوا الاحتماء بالتاريخ والتفاخر بالإنجاز الفقهي والفكري والحضاري التاريخي.
ومفتاح ذلك كله - في نظري - هو بذل الجهد للتحول بالعقل المسلم من حالة التلقين إلى مرحلة التفكير، ومن التقليد إلى التوليد والاجتهاد، ومن التفسير والتلقي إلى التحليل والنقد والاستيعاب، وهذا يقتضي إعادة النظر بجرأة وشجاعة بالنظام المعرفي والتربوي، وتحليل أدواته ومجالاته في الأسرة والمدرسة والمسجد والنادي ووسائل الإعلام وكل موارد التشكيل الثقافي، لأن المنتجات المتحصلة من هذه الأدوات وهذه الأنظمة المعرفية والتربوية تعتبر أكبر شاهد إدانة للحال التي نحن عليها.(1/109)
إن الوصول إلى امتلاك هذا المفتاح القادر على تفكيك ذلك كله - تفكيك قيود التخلف، والعودة بالعقل إلى الوحي، ومن ثم الانطلاق منه إلى ميادين الحياة وشعب المعرفة جميعًا لتنزيل قيم الدين على الحياة، وممارسة النمو والإبداع - إنما يكون بإحياء فكرة فروض الكفاية الشرعية، والتحقق بالتخصصات المطلوبة، وذلك لتحقيق الكفاية أو الاكتفاء الذاتي .. وليس ذلك فقط، وإنما امتلاك القدرة على العطاء العالمي المتميز، الذي يساهم بتعبيد الناس لله رب العالمين، ويلحق الرحمة بهم، ويوجه العلم صوب أهدافه، ويحميه من التحول إلى أداة للتسلط والاستعباد.
ولعلنا نقول : لقد آن الآوان لمراجعة جريئة وقاصدة وناقدة - تعيد الحق إلى نصابه، وتبني العقل المؤمن بأهمية التخصص، المستشعر أن التخصص من فرائض الدين - لهذه الرحلة الشاقة والمكلفة من التبعثر والضياع والتخاذل، والتخلف عن الركب، والخبط الأعشى، والتطاول والادعاء الذي يكذّبه الواقع .. ولا يخلص الأمة من الإثم الجماعي والتقليد الجماعي والتخلف والتخاذل الفكري إلا استدراك الكفايات المطلوبة، وتكامل الكفاءات، لبناء العقل الجماعي والفعل الجماعي المؤسسي، والتخلص من عقلية الرجل الملحمة العارف بكل شيء، القادر على كل شيء، الفاهم لكل شيء، تلك العقلية التي قادتنا إلى الفشل في كل شيء، وما نزال في محاولاتنا للإصلاح والمراجعة والتصويب في ضوء هذه العقلية العامة العامية لا نتقدم خطوة واحدة، وإنما نلقي القبض على الضحية ويفلت الفاعل الأصلي من العدالة، ليستمر في ممارسة فعلته الاجتماعية المنكرة .(1/110)
وقد يكون من المستغرب حقًا أن العقيدة التي جعلت العقل سبيل معرفة الوحي والتكليف بأحكامه، والأمة التي جُعل فيها العقل محلاً للوحي، ومصدرًا للتشريع، وأداة لفهم السنن، تنتهي ببعض أهلها - بالممارسة والتدين المعوج - إلى تعطيل العقل وتجريمه وإلغائه .. وأخطر من ذلك، حيث يجعل بعض أبنائها العقل مقابلاً للوحي، فيعطل بذلك الوحي والعقل معًا، ويغيب التدين السليم، إلا من بعض الممارسات الشعائرية المبتورة عن حكمتها ومقصدها .
وقد تكون المشكلة الأساس، في العطب والعطالة التي لحقت بالأدوات والنظم المعرفية التي تعتبر دليل التشغيل للآلة المنتجة (العقل) ، بحيث تحولت هذه النظم والأدوات من وسائل تشغيل وتفعيل إلى أدوات تعطيل وإلغاء، لأنها وضعت من الشروط والقيود والقواعد والضوابط ما أوصل الأمة إلى نشوء وتشكيل ذهنية الاستحالة، الأمر الذي أدى إلى مساهمة سلبية في محاصرة امتداد الشريعة وتقويم حياة الناس بها وإيقاف خلودها، وساهم بتشكيل عقدة الخوف من الاجتهاد والتعامل مع أحكامها، فهمًا وتنزيلاً، فكان أن امتد (الآخر) ليملأ الفراغ المتولد عن هذا التوقف، وكان أن وجد الكثير من المثقفين في عالمنا الإسلامي أنفسهم وعقولهم في الرحابة ومجالات التفكير المتاحة من خلال فكر(الآخر)، حيث لا يوجد في ساحته الفكرية أية محاذير من تخويف أو تأثيم أو تجريم، أو إرهاب فكري .
صحيح أن امتداد الفقه التشريعي بشكل أو بآخر ما يزال مستمرًّا على الرغم من إقصائه عن الكثير من المواقع الرسمية والسياسية، لأن مساحات كبيرة منه تخص الفرد وعلاقاته الاجتماعية من جانب، ولأن الآفاق الثقافية أو الحوار الحضاري العالمي يتطلب قدرًا من النمو والامتداد من جانب آخر .(1/111)
ونستطيع القول : إن عملية الإقصاء أو التحييد للتشريع الإسلامي أو للاجتهاد إنما تحققت على مستوى الدولة والسياسة وبعض النخب المثقفة فقط، ولم تتحقق على مستوى الأمة والثقافة، أي أن الدعوة العلمانية التي جاءت باسم إنهاء التعصب الديني والطائفية الفكرية والسياسية، انتهت إلى طائفية أشد وأعتى ' ، أصابت الدولة ومن هم في إطارها ولم تصب الأمة، حيث أُقْنِعَت الدولة في كثير من بلدان العالم الإسلامي بأن الرصيد العلماني، على الرغم من إفلاسه الاجتماعي، يشكل ضمانة وحماية لمؤسساتها من امتداد (الإرهاب) وهجوم الأصولية الإسلامية.
وهذه الإشكالية الثقافية والسياسية، أو المعادلة الصعبة التي أورثت الصراع الرهيب بين الأمة والدولة، لابد من دراسة أسبابها وبشكل موضوعي، ووضع الحلول الغائبة، لإعادة معالجة إشكالية الدولة والأمة في عالمنا الإسلامي، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في وسائل التربية والتعليم والإعلام الإسلامي وطبيعة أدائه، وتقويم مسيرته، والوقوف بجرأة أمام بعض الأخطاء القاتلة التي تسببت في ضعف تأثيره وساهمت سلبيًا بمحاولات عزله.
وقد يكون المطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى إعادة النظر بقضية توقف الاجتهاد بشكل عام، والشروط القاسية التعجيزية المطلوبة لمن يتصدى له، التي أدت إلى ذهنية الاستحالة، والتي جاءت بالأصل ثمرة لحماية الاجتهاد من المتطفلين والقاصرين والعابثين والمسوغين لأنظمة الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي.(1/112)
إن هذه الشروط والضوابط التي لا تخرج في حقيقتها عن كونها اجتهادًا لظرف معين، أدت إلى توقف الاجتهاد وإلغاء العقل، وسيادة التقليد، والعجز عن التوليد والامتداد، بحيث لم يقتصر التقليد على الداخل الإسلامي وإنما امتد إلى تقليد (الآخر)، فوقع الاجتهاد في غربة الزمان بالنسبة لبعض الفقهاء، حيث اقتصر على ترديد الاجتهادات التاريخية السابقة، وإعادة إنتاجها من جديد، والعجز الواضح حتى عن الإتيان بمثال تطبيقي للقاعدة الأصولية غير المثال المنقول عن السابقين من كتاب إلى آخر.
كما أن إيقاف الاجتهاد أدى إلى غربة المكان بالنسبة لبعض المثقفين الذين يمثلون رجع الصدى لفكر (الآخر)، وإعادة إنتاجه باللغة العربية، على الرغم من مناقضته للتاريخ الفقهي والفكري والثقافي ولقيم الأمة المسلمة.(1/113)
وقد يكون الوجه الآخر للمشكلة يكمن في العجز عن إعادة النظر بشروط الاجتهاد في ضوء المعطيات العلمية والتقنيات الحديثة، التي وفرت الكثير من الأدوات التي كان مطلوبًا تحصيلها من الفرد فأصبحت مهيأة له، وفرت عليه الكثير من التفكير واحتمال خطأ الذاكرة، كما وفرت له الوقت ليصرف جهده كله إلى النظر والتفكير والاستنتاج والاجتهاد .. إضافة إلى أن القواعد الموضوعية لعلم أصول الفقه، وهي في أصلها اجتهاد، تحولت إلى قواعد فلسفية مجردة، عصية عن التشغيل في توليد الأحكام .. كما أن عمر الفرد المحدود في عصر التخصص الدقيق والاتساع في القضايا والمشكلات الإنسانية، أصبح لا يمكن أن يتسع لذلك كله، فكان لابد من عملية بناء العقل الاجتهادي المقاصدي الجماعي، الذي تشكل له الاختصاصات المتعددة الحواس السليمة لمصادر المعرفة التي يُبنى عليها الاجتهاد، وعلى الأخص أن الاجتهاد الفقهي والفكري لابد أن يكون لكل فرد منه نصيب، مهما كانت درجة ثقافته وكسبه العلمي، لأن الإسلام رسالة عامة وشريعة أمية والمطلوب من كل إنسان أن يتعامل معها، فقهًا وتنزيلاً، على حاله التي هو عليها، وبذلك تنفتح مجالات الحوار والمفاكرة، فيتخصب العقل، وتتمحص الحقائق، وتهزم الأخطاء والبدع، ويصح الصحيح، وتعود الفاعلية للأمة، ويتم الامتداد والتوليد، وينحسر التقليد والتلقين، ويسترد الإنسان إنسانيته وتكريمه وتميزه وحريته التي أرادها الله له.(1/114)
ولذلك قد يكون من المفيد طرح قضية الاجتهاد باستمرار، واستدعائها إلى ساحة التفكير، ودراسة مراحلها التاريخية، وإعادة النظر في علم أصول الفقه أو أصول التفسير والاجتهاد، وعدم القفز من فوقه أو محاولة إلغائه وتجاوزه كما تسعى إلى ذلك بعض الاتجاهات الفكرية المعرفية الحديثة، التي تدعو إلى أسلمة المعارف، لأن ذلك ليس من العلم ولا التراكم المعرفي ولا الموضوعية، وإنما قد تكون المشكلة في الانحسار ضمن قوالبه القديمة، على الرغم من أن التطورات والمتغيرات والمعطيات الجديدة تقتضي تطويره وإعادة النظر بشروطه وضوابطه، وتوسيع دائرة التفاعل معه والمشاركة فيه، واستدعاء الكثير من التخصصات إلى ساحته، ليتم الإنتاج الفكري والمعرفي الإسلامي المقاصدي المعاصر.
وبعد:
فهذا الجزء الثاني من كتاب الاجتهاد المقاصدي، الذي يعتبر من كل الوجوه مكمّلاً للجزء الأول، عَرَضَ فيه الباحث لجوانب مهمة من بحث مسالك العلة عند الأصوليين والفقهاء، التي تعتبر محور الاجتهاد بجميع آفاقه، والتي تقتضي فقه الواقع أو الاجتهاد في محل النص، وتوفر الشروط المطلوبة لتنزيل النص على محله، ذلك أن فقه النص دون فهم الواقع الذي يعتبر محل التنزيل، يمثل نصف الطريق أو نصف الحقيقة التي توقف عندها الكثير من الفقهاء في هذا العصر، والتي سوف لا تحقق شيئًا إذا لم نفهم الواقع.
إن فقه الواقع لا يتحصل إلا بتوفر مجموعة من الاختصاصات في شُعب المعرفة، تحقق التكامل والعقل الجماعي، حتى إننا لنعتقد أن الفقه الصحيح للنص في الكتاب والسنة، يقتضي فهم الواقع محل النص في ضوء الاستطاعات المتوفرة .. وفي تقديرنا أن هذه هي المعادلة المطلوبة اليوم لقضية الاجتهاد، حتى يسترد العقل عافيته، والاجتهاد دوره، والوحي مرجعيته، ويقوَّم الواقع بقيم الدين، فهمًا وتنزيلاً.(1/115)
وقد تكون ظاهرة الإقدام على فتح باب التأليف في موضوعات الاجتهاد المتنوعة بعد هذا الركود الطويل، ظاهرة صحية تبشّر بالخير، وتلمح إلى استشراف المستقبل.
والله المستعان والهادي إلى سواء السبيل.
الباب الثاني : الاجتهاد المقاصدي ضوابطه .. مستلزماته .. مجالاته الفصل الأول: ضوابط الاجتهاد المقاصدي المبحث الأول: دواعي العمل بالضوابط ومبرراته »
الاجتهاد المقاصدي كما مر بيانه هو اعتبار المقصد ومراعاته في عملية استنباط الأحكام .. والمقصد جملة وعمومًا هو تحقيق المصلحة بجلب المنافع ودرء المفاسد .
وضوابط المقصد المعتبر في الاجتهاد هي نفسها ضوابط المصلحة باختلاف أنواعها وآثارها، بناءً على أن مدار المقاصد وجوهرها تحقيق المصالح الشرعية بجلب المنافع للناس ودرء المفاسد والمهالك عنهم .
وطرح مسألة الضوابط والقيود الواجب استحضارها في عملية مراعاة المقاصد واعتبارها في العملية الاجتهادية، له نفس الأهمية المتعلقة بالتأكيد والحث على مكانة المقاصد والمصالح نفسها، إذ أن افتقار المقصد إلى ضوابطه وشروطه في حكم انعدام ذلك المقصد واختلاله واضطرابه، وهو يؤدي إلى عكس المقصود ونقيض المراد، وهذا محظور ومتروك، فالمقصد يتلازم مع ضابطه وشرطه فيوجد بوجوده، وينتفي بانتفائه، فهما يدوران معًا من حيث البقاء والانتهاء .
وهذا التأكيد والتنبيه على ضرورة استحضار الضوابط له ما يبرره ويقنع به، سواء من خلال الأدلة والنصوص المفيدة لذلك، أو من خلال قرائن الأحوال العقلية والمنطقية والحسية الموصلة إلى ذلك .
ويمكننا أن نرى فيما يلي بيانه عرضًا مختصرًا لأهم الدواعي والمبررات الداعية إلى ذلك .
المبحث الأول: دواعي العمل بالضوابط ومبرراته(1/116)
* العمل بضوابط المقاصد هو العمل بالمقاصد نفسها، والتفويت فيها أو في ضابط منها هو عينه التفويت في ما جعله الشارع مرادًا لشرعه ودينه، بناءً على أن المصالح المحددة شرعًا قد رُوعي فيها لزوم انسجامها وتطابقها مع ما جعله واضع تلك المصالح من قيود وأمارات وأدلة على وجودها وشرعيتها والتعويل عليها . فالمصالح والضوابط متلازمان مترابطان، لا يجوز عقلاً ولا شرعًا الفصل بينهما، أو إهدار واحد منهما .
* المقاصد الشرعية مرادة للشارع الحكيم، والكشف عنها وتحقيقها لا يكون إلا ضمن مشيئته وعلمه ومراده، ومن خلال وحيه وهديه وتعليماته، فهو العليم بما يصلح خلقه، والخبير بما يبعد الهلاك عنهم، وليست أوامره ونواهيه إلا هادفة لما فيه السعادة في الدارين، فاعتبار المقاصد وعدمه ثابت بمقتضى مقياس الشرع وميزانه، وليس بأمزجة الأهواء والطباع والشهوات، لذلك فإن المقصد المقرر شرعًا إنما هو الموضوع وفق تعليماته وقيوده وعلاماته، والتي اصطلح على تسميتها بضوابطه وحدوده وشروطه، ومن ثم فإن مراعاة ضوابط المقاصد، من مسلمات البعد العقدي الإسلامي، ومن علامات الانخراط في خطاب الشرع تكليفًا ووضعًا، أي تكليفًا بالأحكام ومقاصدها، وبما وضعه الشارع أمارات وعلامات دالة على ذلك .
* الضوابط في علاقتها مع المقاصد كالشرط مع المشروط والدليل مع المدلول، ويعلم بداهة وعقلاً أن المشروط متوقف على شرطه، وأن المدلول مبني على دليله، لذلك فإن المقصد متوقف على ضوابطه وجودًا وعدمًا، على أساس أن المقصد الذي أراده الشارع إنما قد اعتبره بوجه ما، وعلى وفق أمر ما، وذلك هو عين الضابط ونفس القيد في اعتبار المقصد من قبل الشارع الحكيم .(1/117)
* العقل الإنساني ولئن كان دوره يتمثل في استيعاب الأحكام وكشف مقاصدها، وإجراء بعض الأعمال العقلية والمنطقية، على نحو ضبط العلل والتسوية بين المتماثلات والربط بين الوصف المناسب لحكمه وإدراج النوع بجنسه، وغير ذلك، فإن ذلك العقل ولئن كان كذلك، فإنه يظل قاصرًا في ضبط جوهر المصالح وحقيقتها وكليتها وعمومها وضرورتها وتعارضها، ودليل ذلك اختلاف الأمم والجماعات والأفراد في كون هذا الأمر صالحًا أو غير صالح، وحتى إذا اتفقوا على أنه صالح نافع فإنهم اختلفوا في درجات صلاحه ومسالكه وتباينوا تباينًا كبيرًا .
وحتى الأعمال العقلية التي يجوز للعقل تنفيذها فإنها ليست على إطلاقها، بل هي منضبطة بقيودها وضوابطها حتى تؤدي غرضها المطلوب .. فالتسوية بين المتماثلات تقع بناء على وصف أو علة جامعة معتبرة بحسب نظرة الشرع ومراده، وكذلك المناسبة بين الوصف وحكمه تحددت بموجب البيان الشرعي وليس بمقتضى العقل الإنساني، الذي لا يبدأ دوره في عملية الإلحاق والقياس والتسوية إلا بعد علمه بأن العلة هي كذا بحسب موقف الشرع .
والعقول كذلك بينها تفاوت ملحوظ من حيث درجات الأداء ومراتبه، ومن حيث ذلك الأداء نفسه، فمعلوم حسًا وبداهة تفاوت أولي الألباب في فهومهم واستيعابهم ورسوخ علمهم وعمق خبرتهم وذكاء سليقتهم، وغير ذلك مما أكد اختلاف العقول وتباين مواقفها وتقييمها للأشياء، هذا فضلاً عن ذوي العقول المعطلة كليًا أو جزئىًا كالمجانين والبله وغير البالغين والمدمنين ومن في حكمهم ممن ليس لهم أداء عقلي أصلاً، فضلاً عن حشرهم ضمن من تفاوتت درجات عملهم العقلي .(1/118)
فإذا كان العقل هذا شأنه فإنه يلزم عندئذ بيان مقاصد ومصالح تتسم بالثبات والاطراد والانضباط والدوام، لنفي مواطن التغير والاضطراب والاهتراء، المتأتية بسبب اختلاف العقول وتباين النفوس وتعارض الميول والأمزجة والأهواء، ولعل ذلك هو الذي أوقع في فوضى الحياة وهرج الوجود أرباب الهوى والتشهي بسبب الاضطراب في بيان المصالح، وانفلاتها مما يضبطها ويحقق المقصود منها .
* الضوابط ثابتة باستقراء الأدلة والقرائن الشرعية، وإنكار الضوابط هو إنكار للاستقراء الذي ظل من العمليات المعرفية المنطقية، ومن المبادئ العلمية الإحصائية المعتبرة التي تلقاها العلماء والفلاسفة والخبراء على مر التاريخ البشري بالقبول والتأييد .
* إن المجتهدين يحتاجون إلى الضوابط لاستخدامها عند تعارض المصالح، فيقدمون القطعي على الظني والكلي على الجزئي، والحقيقي على الوهمي، ولن يكون ذلك حاصلاً إلا بما أقره الشارع بصفة قطعية أو أولوية أو غير ذلك، فيعلم المجتهد أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وأن المصلحة المنتظرة لا قيمة لها إذا كانت مساوية للمصلحة الموجودة أو أقل منها، واختيار الضرر الأخف مقدم على الضرر الأثقل إذا تعلقا بأمر واحد، وأن مصلحة البدع في العبادة مصلحة متوهمة، وإن كان ادعاء صلاحها ظاهرًا وملموسًا إلا أنها في الحقيقة مخالفة للنصوص ومعارضة لمبدأ التعبد القائم على أن المعبود لا يُعبد إلا بما شَرَع .
* العمل بالضوابط هو تأكيد لخاصية الوسطية الإسلامية، أي أنه توسط بين رأيين متناقضين متعارضين، بين :
- غلاة الظاهرية ، الذين نفوا أن تكون الشريعة معقولة المعنى معللة بمقاصدها وعللها ومصالحها، وأن ظواهر النصوص كافية لمعرفة الأحكام، وأنه لا عبرة لما وراء ذلك من أقيسة واستصلاح وعُرف واستحسان واعتبار المآل وغيره .(1/119)
- وغلاة التأويل ، الذين أفرطوا في العدول عن الظواهر، وبالغوا في التفسير المقاصدي، وعولوا كثيرًا على ما وراء النصوص والأدلة من معان ومصالح من غير قيود وحدود، وبمنأى عن الشروط والضوابط، فشذوا عن منهج الاجتهاد الأصيل وأوقعوا أنفسهم في مزالق عقدية وفقهية جعلتهم محل قدح وذم ولوم .
فالتأكيد على الضوابط، هو وزن للمصالح بميزان الشرع ومعياره، الذي لا يتغير بتغير الأهواء وتعاقب الأزمان وتكاثر الأقضية، وتبصير 0لذوي الفقه والاجتهاد كي يتحلوا بأمانة النقل والعقل ويتشرفوا بحمل لواء الشريعة وتبليغها للأجيال صافية نقية دون إفراط أو تفريط، ينفون عنها انتحال المبطلين وتحريف الجاهلين وتأويل الغالين .
المبحث الثاني : الضوابط العامة والشروط الإجمالية للاجتهاد المقاصدي »
نعني بذلك المبادئ والقواعد الكبرى التي تشكل المرجع العام والإطار الشامل لاعتبار المقاصد ومراعاتها في عملية الاجتهاد، إذ أنه كما ينبغي تقييد المقاصد بالأدلة الخاصة والشروط القريبة، فيجب كذلك تقييدها بتلك الضوابط العامة والشروط الإجمالية، وإدراجها ضمن كبرى اليقينيات الدينية والمقررات الشرعية بغرض حسن التطبيق وتمام الجمع بين الكلي وجزئياته.
وتلك المبادئ هي:
* شرعية المقاصد وإسلاميتها وربانيتها، ولزوم مسايرتها لأبعاد الفكر العقدي الإسلامي، ووجوب تطابقها مع مبدأ العبودية والحاكمية الإلهية، والتكليف الديني، وتحصيل المصالح الشرعية في الدارين .(1/120)
وبدهي أن نقول : إن جميع الشرائع السماوية جاءت لتقر مبدأ عبودية الله تعالى في كل الأحوال والأزمنة، وفي مختلف الظروف والأوضاع، ولجميع الأمم والملل والأفراد، قال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) (النحل:63). والشريعة الإسلامية باعتبار كونها تتصف بصفات الخاتمية والدوام والعموم والشمول والوسطية والتوازن والاعتدال والصلاحية، فهي واردة لتقرير نفس المبدأ وذات المعنى المتصل، بربط وتقييد كل أحوال الوجود، وإناطة جميع تصاريف الحياة بتحقيق عبادة الله عز وجل وإفراده بالألوهية والحاكمية، وتثبيت حقيقة الامتثال الأكمل والخضوع الأتم بأحكامه وهديه ووحيه العزيز، قال تعالى:(وما خلقت الجن والإنسان إلا ليعبدون) (الذاريات: 56) فالعبودية بهذا المعنى الموسع تسخير لكل ما في وسع الإنسان ومقدوره بغية طاعة الخالق وجلب مرضاته، فيكون فعل الإنسان والجماعة والأمة - قائمًا وفق مبدأ العبودية الإلهية ومراد المعبود الحكيم ومقاصد الوحي الكريم.
والمقصود بهذا الضابط العام أن تكون المقاصد منبثقة من هذا المفهوم الشامل للعبادة ومتصفة بصفات الشرعية والربانية والعقدية، وأن لا يطرأ عليها بمرور الأزمنة وتعاقب الأمم وتنامي الحضارات ما يسلب منها سماتها وجوهرها، ويقدح في حقيقتها وكنهها.
وأفدح خلل قد يطرأ على هذا الضابط هو تضييق معنى العبودية الإلهية ليقتصر على الناحية الشعائرية التعبدية الروحية من صلاة وحج وذكر وصوم، ويهمل نواحي المعاملات والأنكحة والجنايات وغير ذلك مما يجب إدراجه ضمن مبدأ العبودية الإلهية، ثم إن هذا التضييق الشنيع يشكل لدى أربابه ذريعة هامة لتحكيم الهوى والتشهي في غير جوانب التعبد الشعائري بلا ضابط ودون قيد، وتحت غطاء مسايرة سنة التطور، وما تقتضيه المصلحة الفردية والجماعية، وما تمليه العقول والأعراف والعادات.(1/121)
ومن الواضح أن هذا الادعاء الموهوم بيِّن البطلان والفساد، لتعارضه مع ما ذكرنا من أن الشريعة شاملة لأحوال الإنسان كلها، وأنها صالحة لكل زمان ومكان، وأن الله قد أحاط علمه بكل شيء، فهو القادر على بيان ما فيه صلاح الإنسانية في شعائرها ومعاملاتها وسائر أحوالها، أضف إلى ذلك أن من أسس العقيدة الإسلامية الربط بين الدنيا والآخرة . قال الشاطبي: (المصالح المجتلبة شرعًا، والمفاسد المستدفعة شرعًا، إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الآخرة، لا من حيث أهواء النفوس في جلب المصالح العادية أو درء مفاسدها العادية ).
إن ميزان المقاصد مضبوط بنظرة الإسلام للوجود الكوني، القائمة على الجمع بين البعدين المادي والغيبي، والربط بين حياتي الدنيا والآخرة، والتنسيق بين مطالب الجسد والروح، بين مراد الشارع ومصالح الخلق، بين ظواهر الأفعال وبواطن النفوس، وغير ذلك مما يجسد حقيقة جوهر الإسلام وسائر تعاليمه وأدلته، فالمقاصد الشرعية محكومة بهذا الضابط المتين، وأن أي خلل أو شذوذ عنه يعد إخلالاً عظيمًا وانفلاتًا خطيرًا عن حقيقة المقاصد الشرعية، ومعارضة لمراد الشارع، وتحكيم للرأي الموهوم، ووقوع في المفاسد العظمى والمهالك الماحقة.
* شمولية المقاصد وواقعيتها وأخلاقيتها ، إذ ترتكز على الطابع الشمولي كما ذكرنا ذلك قبل قليل، فهي ليست مقتصرة على ناحية دون ناحية، وهي مبثوثة في سائر الأحكام والقرائن الشرعية بتفاوت من حيث القلة والكثرة، والظهور والخفاء، والتصريح والتلميح، والقطع والظن، والتنصيص والإلحاق، والتقعيد والتفريع.(1/122)
وشمولية المقاصد مستفادة من شمولية الشريعة لمختلف مجالات الحياة، ولكون تلك الشريعة معقولة المعنى ومعللة على الجملة وعلى التفصيل، ومن هنا فإن جميع المجالات الشرعية لها مقاصدها الشرعية، تتفاوت كما ذكرنا تفاوتًا ملحوظًا، وتختلف مقدارًا وكَمًّا، وليس سائغًا أن يضيف العقل ما يدعيه من مصالح متوهمة تحت ادعاء الفراغ المقاصدي لبعض النصوص.
كما ترتكز المقاصد على الطابع الواقعي الذي يجسد حيويتها ومسايرتها وانسحابها على مختلف البيئات والظروف، ودليل هذا شواهد التاريخ والواقع والأدلة والنصوص.
فصمود الشريعة بمقاصدها خلال أربعة عشر قرنًا، وقدرتها على التطبيع في العصر الحالي في مواطن شتى من المعمورة، وصلاحية نصوصها ومبادئها التي جمعت بين الثبات والتطور، بين الأصالة والاجتهاد، بين أدلة نقلية وأصلية وأدلة استصلاحية وتبعية، واتصاف المقاصد بالوضوح والظهور والانضباط يثبتها أمام المتغيرات والتطورات، ويزيل عنها سلبيات التوظيف والتعسف بسبب الاضطراب العقلي وتشوشه، وتعارض الميول والأهواء، وتضارب المنافع والمكاسب، إن كل ذلك يدل على أن المقاصد لم تصلح لزمن ماض فقط، ولم تناسب أمة دون أمة، فهي مسايرة للواقع الإنساني في سيرورته التاريخية، وهي تستمد خاصية الواقعية من نفس واقعية الشريعة وملاءمتها للتطبيق في كل زمان ومكان.
كما ترتكز على الطابع الخلقي القيمي الإنساني، فهي المقاصد التي تجسد أخلاقية الشريعة وقيامها على كبريات القيم وعظيم الفضائل، وسعيها إلى تمكين مكارم الأخلاق في النفوس ومبادئ العدل والحرية والمساواة والتسامح والأمانة والمحبة والتعاون، واستهجانها لمظاهر الظلم والخيانة والغدر والاستغلال وغير ذلك مما أشار إليه الحديث النبوي الرائع من بيان أرقى مقاصد الرسالة وأجلى مطالبها بعد عبادة الله والامتثال إليه، حيث جاء في الهدي النبوي بيانًا للغرض العام من البعثة بأنه تتميم لمكارم الأخلاق.(1/123)
فالطابع الخلقي للمقاصد يدرأ الناحية القانونية الشكلية الظاهرية، التي تقف عند الظواهر والمباني، وتضيع الحقوق والمصالح، وتشرع لعقلية قضائية وسياسية، تقوم على تزيين الظاهر، وإضفاء الحجة والحقية على الظواهر والقرائن، وتعمد التحايل والتذرع والإيهام بغير ما هو كامن في النفوس، ومركوز في الباطن .. إنه ليس غريبًا عن المقاصد الشرعية أن تنبني على هذا المعنى الخلقي، فهي تجعل من أعظم موضوعاتها ومسائلها إبطال الحيل والذرائع وتخليص النيات والقصود من شوائب التغرير والغش والإيقاع في الظلم والغفلة والإضرار، وتطهير البواطن من الشرك والحسد والبغضاء، واستحضار الجانب الدياني في العمل القضائي، فيشترط العلماء تطابق القصد مع ظاهر العمل حتى يكون ذلك العمل صحيحًا ديانة وقضاء، أي محققًا مرضاة الله تعالى ومصالح الناس.
لذلك منعت كثير من المعاملات الفردية والجماعية بناءً على قيامها على التحايل والمغالطات، وذلك على نحو : نكاح التحليل، وزواج المتعة، وبيع العِينة، وتطليق الزوجة لحرمانها من الميراث، وقتل المورث لاستعجال الإرث، وهبة المال قبل الحول فرارًا من الزكاة وغير ذلك كثير.
فهذا ابن رشد الحفيد منذ حوالي تسعة قرون يؤكد أن تقدير المصالح لا يثبته إلا العلماء بحكمة الشرائع، الفضلاء الذين لا يهتمون بظواهر الشريعة المفضية إلى الظلم والجور.
وليس إيراد هذه الحقيقة وأمثلتها موقوفًا على أعلام الإسلام فقط، بل إن غيرهم قد أجمعوا على ما تميزت به من سمو أخلاقي ومقاصد اجتماعية وإنسانية عامة، يقول المستشرق جوزيف شاخت : (ثم إن أحكام الشريعة كلها مشبعة بالاعتبارات الدينية والأخلاقية، وذلك مثل تحريم الربا، أو الثراء غير المشروع بوجه عام، وتحريم إصدار الأحكام على أساس الشبهة، والحرص على تساوي الطرفين المتعاقدين، ومراعاة الوسط في الأمور ).(1/124)
* عقلانية المقاصد ، وجريانها على وفق العقول الراجحة والأفهام السليمة والفطر العادية، فإن المقاصد الشرعية المقررة تتلقاها عقول العامة والخاصة بالقبول والتأييد، لما فيها من مسايرة الفطرة، ومطابقة الأعراف، ومناسبة المعقول، فمقاصد الكليات الخمس، ومعاقبة الجاني، واستنكار الظلم والخيانة والغدر، ومحبة الخير والأمانة والصدق، وتفريج الكرب والشدائد عن المنكوبين والمدينين، والإعانة على المعروف والفضائل، ومنع الغرر والضرر في المعاملات، ومنع الوطء في الحيض والنفاس، وتأبيد الزواج ومنع توقيته وتحيينه، والحث على طهارة المكان والبدن والثياب، وطهارة اللسان والقلب والنفس، وغير ذلك من المقاصد على تنوعها واختلاف مراتبها، تتسم بالمعقولية والمنطقية، ولا يجحدها إلا أصحاب العقول المختلة والأمزجة المهتزة.
وحتى المجالات التي يظن أنها غير معقولة المعنى على نحو العبادات والمقدرات، فهي معللة على التفصيل أحيانًا، مع تفاوت في مراتب التعليل ودرجات الحكمة، وهي كذلك معللة على الجملة باندراجها ضمن عموم المنظومة وكبريات القواعد، وبإفضائها إلى بعض المقاصد المعقولة.
وما يبدو من تعارض ظاهري بين المنقول والمعقول، فهو راجع إلى أن المنقول ليس في وسع العقل فهمه واستيعابه، أو أنه محمول على ظاهره، ولكن التأويل الصحيح يزيله، أو أنه ادعي أنه منقول (هذا في أخبار الآحاد فقط) ، وهو غير ذلك، أو أن العقل قد أخطأ فيما توصل إليه من نتائج.
المبحث الثالث: الضوابط الخاصة للاجتهاد المقاصدي »
وهي جملة القيود التي تتفرع عن الضوابط العامة والشروط الكبرى، وتكون أقرب من حيث الإدراج والإلحاق، وأوضح من جهة الالتصاق والتعلق .(1/125)
والمقاصد التي تراعى في الاجتهاد، والتي لها ضوابطها وشروطها، إنما هي جملة المعاني الملحوظة في التصرفات الشرعية، والمتوصل إليها باستخدام الأدلة والمصادر التشريعية على نحو النص والإجماع والقياس والاستصلاح والعرف والاستحسان وغيره. لذلك فإن الكلام عن ضوابط وشروط المقاصد يمر حتمًا بالكلام عن ضوابط وشروط المصلحة المتوصل إليها بالاستصلاح المرسل والقياس والعرف وغير ذلك .
فتحديد تلك الضوابط والشروط لدى علماء الأصول والاجتهاد هو عينه ما اتصل بتحديد ضوابط وشروط تلك المصادر التشريعية المتعددة، ومختلف مباحث التأويل الشرعي السليم .
ومن هنا كان لزامًا على الباحث أن يبين ضوابط الاجتهاد المقاصدي من خلال بيان وعرض ضوابط كل من المصلحة المرسلة والعلة والعرف، وشروط التأويل الصحيح .
ضوابط المصلحة المرسلة
الضابط الأول: عدم معارضتها للنص أو تفويتها له:
النص من حيث دلالته على معناه وحكمه نوعان:
أ ـ النص القطعي:
هو النص المقطوع به ثبوتًا ودلالة، فالمقطوع به ثبوتًا هو المقطوع بنسبته إلى صاحبه، وهو يشمل القرآن الكريم والسنة المتواترة.
أما المقطوع به دلالة فهو الذي يحتمل معنى واحدًا وحكمًا واحدًا، ومثاله قوله تعالى : (قل هو الله أحد) ( الإخلاص:1).
فالمصلحة التي يعول عليها المجتهد لا ينبغي أن تعارض نصًا قطعيًا، وذلك لأن هذا التعارض سيؤول حتمًا إلى تقرير التعارض بين القواطع الشرعية : أي بين النص القطعي ودليل المصلحة المرسلة وشاهدها البعيد، وهذا محال ومردود، لأنه موقع في اتهام الشارع بالتناقض والنقص والتقصير .. وكما هو معلوم فإنه لا يجوز للمصالح الحقيقية أن تعارض نصًا قطعيًا، وذلك لأن تلك المصالح جارية على وفق نصوصها وأدلتها القطعية، وما يدعى من وجود التعارض بينهما، ومن وجوب تقديم المصلحة على النص القطعي، إنما آيل في الحقيقة إلى ما يلي :(1/126)
- أن المصلحة التي ادُّعِيَ معارضتها للنص القطعي إنما هي مصلحة مظنونة أو وهمية .
فإن كانت مظنونة بأن كان لها شاهد عام ودليل على جنسها البعيد، فإنها لا تقوى على النص القطعي المباشر، لاستحالة اجتماع العلم والظن على محل واحد، أو كانت مظنونة بأن كانت غير معلومة على التعيين، فيقدم النص عليها (فنحن نرى أن من الأمور ما لا يعرف وجه المصلحة فيه على التعيين، فيكون النص أولى بالاعتبار). (إن المصلحة ثابتة حيث وُجد النص، فلا يمكن أن تكون هناك مصلحة مؤكدة أو غالبة والنص القاطع يعارضها، إنما هي ضلال الفكر أو نزعة الهوى أو غلبة الشهوة، أو التأثر بحال عارضة غير دائمة، أو منفعة عاجلة سريعة الزوال، أو تحقيق منفعة مشكوك في وجودها، وهي لا تقف أمام النص الذي جاء عن الشارع الحكيم، وثبت ثبوتًا قطعيًا لا مجال للنظر فيه ولا في دلالته).
- آيل إلى أن النص المعارض بالمصلحة لم تثبت قطعيته، وإنما هو دائر بين الاحتمالات والظنون، فيكون التعارض الواقع بين المصلحة المنشودة والنص الظني هو من قبيل التعارض بين ظنيين إذا كانت المصلحة ظنية، أو بين ظني وقطعي إذا كانت المصلحة قطعية، وفي كلتا الحالتين يكون هذا التعارض غير مستحيل وممكن الترجيح لأنه ليس واقعًا بين قطعيين .
ومعرفة القطعي من الظني في الشريعة الإسلامية أمر ميسور ومحسوم بفضل الله تعالى الذي حفظ شريعته من الضياع والتحريف والاختلال، والذي بيّن ما هو مقطوع به وما هو مظنون فيه، رحمة بعباده وامتنانًا، فبيان المقطوع لدرء الاختلاف والاضطراب، ولأنه لا يخضع لاعتبارات الزمان والمكان والحال، والمظنون مقصود به التيسير والتخفيف والتنوع والثراء، ومواكبة الاختلاف والتغير في الزمان والبيئات والظروف والأحوال .(1/127)
كما أن معرفة القطعي من الظني حسمه العلماء المخلصون والمجتهدون الراسخون الذين قيضهم الله تعالى لخدمة شرعه، والذين كانت لهم حظوظ وافرة من فهم الخطاب الشرعي، واستيعاب مراميه ومقاصده وكيفياته ومختلف معانيه ومتعلقاته، والذين كان لرعيلهم الأول من الصحابة والتابعين وتابعيهم فضل القرب الزماني والمكاني، الذي مكّنهم من النظر الدقيق والتتبع العميق لتصرفات الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم ، هذا فضلاً عن براعتهم في حذق اللغة العربية التي نزل بها الوحي على وفق أساليبها وصيغها ومعهوداتها ومدلولاتها .
- آيل إلى أن النازلة لم ينظر جيدًا في تحقيق مناطها، وبالتالي في إدراجها ضمن أصولها وأدلتها، ومعلوم أن تحقيق المناط يضمن الاستخدام الجيد لتسليط الأدلة على وقائعها ونوازلها .
والمهم من كل ما ذكرنا أنه لا يجوز إطلاقًا وتفصيلاً تقديم المصلحة على ما هو قطعي يقيني، والواجب الفرض على المسلمين - خاصة وعامة - تقديم المدلول القطعي وترك المصلحة المظنونة أو الموهومة. (فإذا اتضحت قطعية دلالته، اتضح سقوط احتمال المصلحة المظنونة في مقابله ). (فإن الظن لو خالف العلم فهو محال، لأن ما علم كيف يظن خلافه ). (فقد ثبت بالدليل الذي لا يقبل الريب أن إجماع الصحابة والتابعين وأئمة الفقه، قد تم على أن المصلحة لا يمكن لها أن تعارض كتابًا ولا سنة، فإن وجد ما يظن أنه مصلحة وقد عارضت أصلاً ثابتًا من أحدهما فليس ذلك بمصلحة إطلاقًا، ولا تعتبر بحال ).
ب ـ النص الظني:(1/128)
وهو النص الذي يدل على أكثر من معنى وحكم، ومثاله : نص القُرْءِ والملامسة وغيرها، فيكون الاجتهاد قائمًا على حصر كل تلك المعاني والأحكام وتحديد أقربها إلى المراد الإلهي وأنسبها للمصلحة المشروعة، فقد يكون أحد تلك المعاني متماشيًا مع المصلحة فيقع اعتماده بناء على المصلحة، ولا عبرة هنا بمعارضة المصلحة لغير ذلك المعنى المعتمد على وفق المصلحة، إذ لا يعد ذلك معارضة للنص، وإنما هو من قبيل العمل بأحد دلالات النص لاستحالة الجمع، وهو كذلك من قبيل العمل بدليلين، كالعمل بالعام والخاص والمطلق والمقيد، وهو في هذه الحال عمل بالنص الظني في أحد معانيه، وعمل بدليل المصلحة المرسلة وشاهدها البعيد وأصلها الكلي المستخلص من الأدلة والقرائن الشرعية الكثيرة.
أما الذي لا يجوز قطعًا هو أن تعارض المصلحة جميع مدلولات النص الظني، لأن معارضة كل مدلولات النص الظني كمعارضة النص القطعي تمامًا. (أما إذا عارضت المصلحة كل المدلولات الظنية، فحكمها كحكم معارضة الدلالة القطعية )، فلا يجوز مثلاً مخالفة مدلولي الحيض والطُهْر للقُرْء بإحداث قول ثالث، لجلب مصلحة المرأة أو الرجل، أو لتغير الظرف، وكذلك يحرم مخالفة معنيي الملامسة المتعلقين بمجرد اللمس وبالوطء، فلا يجوز إحداث رأي ثالث، وغير ذلك من المعاني المحتملة للنص الظني، التي لا يجوز العدول عنها إلى غيرها بمجرد توهم المصلحة وتخيلها، أو الظن بها ظنًّا ضعيفًا ومرجوحًا .
والمعتمد في تحديد سائر مدلولات ومعاني النص الظني هو منهج التأويل الصحيح المقرر في علم الأصول.: (والحد الذي يقف عنده احتمال دلالات الألفاظ حتى يصبح ما وراءه مخالفًا ومعارضًا إياها يتلخص في جملة الشروط التي ذكرها الأصوليون لصحة التأويل، وفي مقدمتها كون التأويل موافقًا لوضع اللغة وعُرف الاستعمال وعادة صاحب الشرع ).(1/129)
والخلاصة، أن تقدير المصالح ومراعاتها تتفاوت أحجامه ومراتبه بحسب طبيعة النصوص وتنوعها من حيث القطع والظن، فكلما كان النص ظنيًا كان تقديم المصالح واردًا ومطلوبًا ومدعوًا حتى يتوصل إلى ما هو أقرب للمراد الإلهي، وأجلب للمصلحة الإنسانية، وأضمن لتطبيق الحكم على أحسن وجه وأتمه .
غير أن هذا لا يعني أن النص القطعي خال من المصالح والمنافع، وإنما يعني أن تحصيل نوع من المصالح الحقيقية جار على وفق ما جعله الشارع غير قابل للتغيير والتأويل على مر الأيام والأحوال بأن جعله قطعيًا لا يتطرق إليه الاحتمال والافتراض .. كما أجرى نوعًا آخر من تلك المصالح على ما جعله متبدلاً بتبدل الأزمنة والظروف والأحوال، بأن جعله ظنيًا تختلف في مدلولاته الأنظار والأفكار .
الضابط الثاني: عدم معارضتها للإجماع:
الإجماع هو الدليل الشرعي بعد النص، وهو إما أن يكون قطعيًا أو يكون ظنيًا .. فإن كان قطعيًا كالإجماع على العبادات والمقدرات، وعلى نحو تحريم الجدة كالأم، وتحريم الجمع بين المرأة وخالتها، وتحريم شحم الخنزير، وتوريث الجدة للأب مع الجدة للأم، وغير ذلك من المسائل التي تحقق فيها الإجماعي القطعي.
فهذا النوع من الإجماع لا يتغير بالمصلحة مهما كانت مشروعيتها ومنطقيتها ودرجة المعقولية فيها، ولا ينبغي أن يُقال : إنها مصلحة معتبرة وقطعية، لأنها إن كانت كذلك كما يدعى، فقد ألحقنا التناقض والنقص بالوحي، وهذا محال ومردود، لاستحالة وجود التعارض بين القواطع، والأمر في حقيقته ليس سوى ادعاء للمصلحة وتوهمها بلا أدنى درجة من درجات الاعتبار الشرعي .(1/130)
فالإجماع القطعي هو كالنص القطعي في دلالته على حكمه في اليقين وعدم التأويل، وفي أولويته على المصلحة، وليس جائزًا أن يُقال : إن الإجماع المستند إلى نص ظني لا يقوى على معارضة المصلحة، أو أنه في حكم النص الظني نفسه في تعدد دلالاته ووجوب حصرها والاختيار منها بما يتماشى مع المصلحة، فهذا القول مردود عليه بداهة من جهة القطع والظن معًا : أي من جهة قطعية الإجماع وظنية النص الذي استند إليه الإجماع، ومعلوم أن الإجماع قد اكتسب شرعيته القطعية من الدليل الشرعي الظني الذي استند إليه، ومن الاتفاق على ذلك الدليل الظني .
فحكم الإجماع مستفاد إذن من الدليل الشرعي الظني، ومن عنصر الاتفاق واجتماع الأمة الذي زكاه الشرع وصححه .
أما إذا كان الإجماع ظنيًا أي قائمًا على أحكام متغيرة بتغير الزمان والمكان والحال، ومبنيًا على مصلحة ظرفية لم تثبت أبديتها وبقاؤها، فإنه خاضع للتعديل والتغيير بموجب المصلحة الحادثة : (ومجرد الاتفاق في عصر على حكم لمصلحة لا يكفي في أبديته، بل لابد مع هذا الاتفاق من اتفاق آخر على أنه دائم لا يتغير).
وقد كان الأئمة يمنعون شهادة القريب على قريبه، والزوج على زوجته والعكس، لضمان حقوق الناس، وقد كان ذلك جائزًا في عصر الصحابة إجماعًا واتفاقًا .
والحق أن هذا التعارض بين الإجماع الظني المنبني على المصلحة الظرفية وبين المصلحة الحادثة هو في حقيقته تعارض بين مصلحتين : مصلحة الإجماع المرجوحة والمصلحة الحادثة الراجحة، وإذا كان كذلك فإنه يعمل فيه بترجيح الراجح عن المرجوح، لسبب من الأسباب المتعلقة بالقطع أو الكلية أو العموم أو الوقوع أو غير ذلك .(1/131)
فالإجماع متى تأكدت قطعيته فهو في حكم النص القطعي في منع العدول عنه لمجرد توهم مقصد ما أو ظن بمصلحة ما، وذلك لأن المصلحة الشرعية الحقيقية قد أجراها الشارع الحكيم على وفق قطعية الإجماع التي لا تتبدل على مر الزمان، بل التي تتسم بالثبات والدوام في كل الأحوال و العصور.
الضابط الثالث: عدم معارضتها للقياس:
القياس هو المصدر التشريعي بعد النص والإجماع، وهو حمل على النص لعلة أو أمر آيل إلى مصلحة، ومثاله : قياس شحم الخنزير على لحمه في النجاسة والاستقذار والضرر، وقياس النفاس على الحيض في منع الوطء للأذى والضرر، وهو يستند إلى وصف يتناسب مع حكمه، وهذا الوصف قد سماه الأصوليون (المناسب)، الذي متى عرض على العقول تلقته بالقبول.
والمناسب تختلف درجاته ومراتبه باختلاف اعتباره أو إلغائه شرعًا، إذ هناك وصف اعتبره الشارع، ووصف ألغاه، ووصف لم يعتبره ولم يلغه .
وفي الوصف الذي اعتبره الشارع، نجد أن ذلك الاعتبار قد جعل درجات الوصف المناسب تتراوح بين التنصيص المباشر على العلّية بالتنصيص على مناسبة الوصف للحكم، أي التنصيص على علة الحكم تصريحًا أو إيماءً، وبين التنصيص غير المباشر على العلية، أي بالتنصيص على جنس ونوع الوصف والحكم .
والغرض من بيان تقسيمات المناسب ومراتبه هو معرفة المقبول من غيره ، وإجراء القياس، والترجيح بين الأقيسة والمصالح عند التعارض، وإبراز تفاوت المصالح في منظور الشرع العزيز بتفاوت الاعتبار الشرعي لها، قوة وضعفًا، بصورة مباشرة وغير مباشرة .(1/132)
جاء عن صاحب تعليل الأحكام قوله الرائع وهو يبرز مكانة المناسب في حيوية القياس والاجتهاد : (وهو حقيق بهذه العناية، فإنه لُب القياس وميدان الاجتهاد الواسع الذي سبحت في بحاره عقول المجتهدين وأتباعهم، وحلّقت في سمائه أفكار الفقهاء والأصوليين، فأتوا من أبحاثه بما لا مزيد عليه لمستزيد، وأحاطوه بسياج منيع يرد عنه كل مهاجم عنيد، وسلّحوه بسلاح قوي يدفع كل اعتداء من المخالفين ).
الفصل الثاني: مستلزمات الاجتهاد المقاصدي المبحث الأول: أساسيات النص »
المقصود بكلمة المستلزمات الواجب توافرها في العمل بالمقاصد، هو جملة أمور شرعية ولغوية وواقعية يستلزمها ذلك العمل ويستوجبها حتى يقوم بدوره على أحسن الوجوه وأتمها، ويذكر أن العمل بالمقصد في العملية الاجتهادية يقوم على ثلاثة عناصر بدهية، هي : النص، والواقع، والمكلف.
فالنص هو الدليل الذي يُراد تطبيق حكمه وعلته ومقصده، والواقع هو ميدان الفعل والتصرف الذي سيكون محكومًا بذلك النص وموجهًا نحو مقاصده وغاياته، والمكلف هو المؤهل عقلاً وروحًا وبدنًا للملاءمة بين النص والواقع، أي لتسيير الواقع على وفق النص وأحكامه ومقاصده، وتنزيل ما ينبغي تنزيله من معالجات شرعية لمشكلات ذلك الواقع وأقضيته وأحواله.
وتحيط بتلك العناصر الثلاثة (النص والواقع والمكلف ) جملة من المعطيات الهامة واللازمة والأساسيات الضرورية في عملية الاستنباط الفقهي في ضوء مراعاة المقصد، تلك المعطيات عبّر عنها العلماء بأنها سائر المعلومات الاجتهادية، وكيفية الاستنباط وأدواته، وجملة شروط التأويل التي ينبغي استحضارها في استخراج أي حكم شرعي في الواقعة المستجدة، بغرض أن يتحقق في الحياة والوجود مراد الشارع على سبيل القطع واليقين أو الظن الغالب والراجح.(1/133)
وقد ذكر ابن رشد الحفيد أن النظر في مراد الشارع ومقاصده هو من اختصاص العلماء بحكمة الشرائع، الفضلاء العارفين بالنص الشرعي ومراده، والمهتمين بالحكمة والمقاصد، وبأن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة لها.
المبحث الأول: أساسيات النص
هي جملة المعطيات والمعلومات اللغوية والأصولية التي يستحضرها المجتهد في التعامل مع النص الشرعي، فهمًا وتطبيقًا.
الأساسيات اللغوية:
وهي جملة المعلومات اللغوية التي يجب استحضارها في فهم النص الشرعي وإدراك مقصده وعلته وحكمته، وذلك مثل عموم اللفظ وخصوصه وظاهره وباطنه الذي لا ينصرف إليه إلا بالدليل (إذ لا يعدل عن الظاهر إلا بدليل) فالعمل بمقتضى دلالة الظاهر واجب اتفاقًا ما لم تقم قرينة من الشرع أو العقل أو اللغة أو العرف العام تخرجه عن ظاهره فيؤول حينئذ حسبما تقتضيه تلك القرينة . ولما كان مجرد تخيل المصلحة المعارضة لدلالة الظاهر ليست قرينة من هذه القرائن الأربع، كان الأخذ بها مناقضة للظاهر لا تأويلاً وهو غير جائز اتفاقًا. وكذلك عامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، ومفرده ومشتركه، ومنطوقه ومفهومه (الذي يفهم من نفس الخطاب من قصد المتكلم لعرف اللغة)، وأمره ودلالته على الوجوب إلا إذا دل الدليل على غير ذلك.
وكذلك النهي المفيد للتحريم إلا إذا دل الدليل على غير ذلك، وخطاب الوضع (الأسباب والشروط والموانع والرخص والعزائم والوسائل ) وتأثيره في خطاب التكليف . وكذلك ناسخه ومنسوخه وأسباب نزوله ووروده وتدرجه في بيان الأحكام، والتفاته في ذلك إلى الرفق والتخفيف والتيسير، وتعويده للمكلف على الامتثال الأكمل والعمل على تثبيت الأحكام وتجذيرها بصفة جيدة، إذ لو نزلت الأحكام دفعة واحدة أو بمعزل عن ظروفها وملابساتها، لوجد المكلف مشقة عظمى في فهم الأحكام ومناطاتها وعللها، ولضيع مقصوداتها وآثارها.(1/134)
فكل تلك المعلومات اللغوية والأصولية وغيرها، المبثوثة في كتب الأصول، تشكل الأساس الضروري الذي لابد منه في الاجتهاد والاستنباط، وهي في علاقتها بمعانيها ومقاصدها ودلالاتها كعلاقة الشرط بمشروطه، والسقف بجدرانه، فهي أمارات وعلامات دالة على مراد الشارع الحكيم ومقاصده، وأسباب لتحققها وتطبيقها في الواقع، وباعتبار أنها الشطر الثاني الذي يشكل مع المقاصد كيان النص ووجوده، (فما أطلقه الله من الأسماء، وعلّق به الأحكام، من الأمر والنهي، والتحليل والتحريم، لم يكن لأحد أن يقيده إلا بدلالة من الله ورسوله).
فمن أراد تفهمه فمن جهة لسان العرب يفهم، ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة... فإن قلنا إن القرآن نزل بلسان العرب، وإنه عربي وإنه لا عجمة فيه، فبمعنى أنه أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة، وأساليب معانيها، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره، وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه، والظاهر يراد به غير الظاهر، وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو أوسطه أو آخره، وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره، أو آخره عن أوله، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة، والأشياء الكثيرة باسم واحد، وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامها).(1/135)
ذلك أن مقاصد الكلام مداره على معرفة مقتضيات الأحوال، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه باختلاف الأحوال، والجهل بالأسباب موقع في الانحراف في الظاهر، ومفض إلى النزاع والاعتساف. (وإنما حق الفقيه أن ينظر إلى الأسماء الموضوعة للمسمى أصالة أيام التشريع، وإلى الأشكال المنظور إليها عند التشريع من حيث إنهما طريق لتعرف الحالة الملحوظة وقت التشريع لتهدينا إلى الوصف المرعي للشارع). و(لا تكون التسمية مناط الأحكام، ولكنها تدل على مسمى ذي أوصاف، تلك الأوصاف هي مناط الأحكام، فالمنظور إليه هو الأوصاف خاصة).
ففهم الأحكام ينبغي أن يكون في إطار عادة العرب في التخاطب أيام نزول التشريع، وليس في إطار ما شهدته اللغة بعد ذلك من تطور وتوسع وتنام، سواء في مدلول ألفاظها، أو في مدلول نظمها، وهذا لا يغفل جوانب الاستفادة من ذلك التطور واستثماره في الفهم، لكن في حدود دائرة أدب اللغة العربية على عهد نزول الوحي، دون الانزلاق في تأويلات إسقاطية تحدث في الدين ما ليس منه، بتحميل اللغة ما لم تحتمله من المراد الإلهي.
لذلك كان من اللازم المحافظة على اللغة وأن لا يؤدي تطورها واتساعها ومرونتها إلى نوع من الانحراف والزيغ المؤدي إلى زيغ الأحكام وتحريف المقاصد الشرعية، وهذا ما جعل اللغة محل عناية فائقة واهتمام تاريخي متواصل من قِبَل علماء الشريعة في مختلف الفنون والتخصصات،بغية المحافظة عليها باعتبارها مقومًا ثقافيًا وحضاريًا لأمة الإسلام، وباعتبارها لغة التنزيل الذي لا تفهم أحكامه ومعانيه ومقاصده إلا بفهم صيغها وأساليبها المعهودة عند العرب في عصر التشريع.(1/136)
إن فهم الشرع بغير معهود العرب أيام التشريع ولو كان في إطار اللغة العربية بعد ذلك العصر وما لحقها من تطور وتنام، إن ذلك الفهم سيؤدي حتمًا إلى خطورة بالغة تتفاوت قُربًا وبُعدًا بحسب مدى ملازمة الدلالات الصحيحة للعربية لفظًا وصيغة، وأسلوبًا وأدبًا، وتتراوح بين وجود اختلالات واهتزازات في فهم النصوص وتجلية مقاصدها، وبين تعطيل الشريعة جملة وتفصيلاً والوقوع في دوائر الهوى والضلال المبين.
إن تلك الخطورة تتمثل إجمالاً في وجود ما يعرف بغلاة الباطنية والظاهرية، الذين انحرفوا عن المنهج السليم في فهم اللغة، والتزموا تأويلات شاذة وتفسيرات غريبة تراوحت بين الإفراط والتفريط في دلالات اللغة على معانيها ومقاصدها وعللها، كما تمثلت تلك الخطورة في ظهور بعض العينات والأمثلة التي شذ بها عن المنهج الشرعي الصحيح.
ومثال ذلك : تفسير لفظ اليقين الوارد في قوله تعالى : (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) ( الحجر:99)، بالتيقن والقطع، وليس بالموت والوفاة، حيث قرر أصحاب هذا التفسير المختلف أن المكلف مطالب بالتعبد والامتثال إلى حين بلوغه درجة اليقين المقطوع به، فإذا بلغ ذلك سقط عنه التكليف والامتثال والتدين، وفعل ما شاء من الأحكام والتعاليم، ومعلوم أن لفظ اليقين في معهود العرب أيام نزول التشريع معناه الموت، قال تعالى : (وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين ) ( المدثر:46-47)، أي أن الكفار يعترفون يوم القيامة بأنهم تركوا ما أمروا به حتى أدركهم الموت وهم على ذلك الحال.
والخلاصة أنه لا يجوز الخروج عن الحقيقة اللغوية للنص أيام التشريع سواء من الحقيقة إلى المجاز، أو من العام إلى الخاص، أو من الانفراد إلى الاشتراك، أو غير ذلك إلا بقرينة معتبرة نصًا أو عقلاً أو لغة أو عرفًا، ومما مقرر في منهج التأويل وصحته.
المبحث الثاني: أساسيات الواقع »(1/137)
تعد دراسة الواقع الإنساني من أعقد الدراسات وأعسرها، وذلك لطبيعة ذلك الواقع وتداخل معطياته وخيوطه وظواهره، وتسارع أحداثه وقضاياه ونوازله، لذلك فإن فهمه يعد أمرًا مهمًا جدًا في عملية الاجتهاد، إذ الحكم عن الشيء فرع عن تصوره، كما يقول أهل العلم والمنطق، وكلما كان الفهم لطبيعة ذلك الواقع قريبًا من الصواب كان تطبيق الأحكام وتحقيق مراميها ومقاصدها كذلك، ومن هنا عبر عن الاجتهاد بأنه استفراغ الوسع لتحصيل القطع أو الظن الغالب، ومعنى الاستفراغ بذل كل ما في الوسع واستخدام ما ينبغي استخدامه لمعالجة واقعة إنسانية وحوادث الزمان المختلفة بصيغة دينية وبحكم شرعي.
وفهم الواقع الذي يراد تحكيمه بالتعاليم الشرعية - وليس العكس كما يحلو للبعض ذلك، حيث اعتبروا الشرع محكومًا بالواقع وهذا منتهى الجحود والكفر - لم يكن بدعًا، فقد استحضره السلف والخلف بتفاوت من حيث مقدار الفهم ودرجات صوابه وملاءمته للحقيقة، ورتبوا عليه أحكامهم وفتاواهم وآراءهم، وأبرزوا بجلاء تحقق قاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والحال وتبدلها - فيما يقبل التبديل وليس في القواطع - بتبدل الواقع الحياتي ومشكلاته وظواهره وحوادثه .
وليست المعالجات الشرعية لحوادث الدولة الإسلامية في العصر الأول ولمشكلاتها المتأتية بسبب اختلاف البيئات المفتوحة الجديدة والعادات والنظم المألوفة ومنظومة العلاقات المتداخلة في مجال الاعتقاد والسياسة وطريقة العيش وأحوال الأسرة وأساليب التعبير والتخاطب ... ليس كل ذلك إلا دليلاً على أن ذلك الواقع الذي عولجت حوادثه وحلت مشكلاته قد استقر فهمه في أذهان السلف، وقد تبينت معالمه وطبيعته وسماته .(1/138)
كما أن هناك الكثير من الشواهد النصية السنية، وعديد من آثار السلف والخلف، وجملة القواعد الاجتهادية الدالة على وجوب اعتبار الواقع وفهمه في الاجتهاد، من ذلك قواعد العرف والعادة وتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والحال فيما تعددت احتمالاته وتغير بتغير الوقائع والظروف، وغير ذلك مما يدل على اعتبار الواقع والالتفات إليه في الاجتهاد.
ففهم الواقع يعد شطرًا ثانيًا لمنظومة الأحكام، إضافة إلى النصوص التي لم تأت إلا لتخاطب الواقع وتتنزل فيه على أحسن حال، وأفضل منهج، وأقوم سبيل .. وواجب المجتهد الاطلاع على أحوال زمانه، وإلمامه بالأصول العامة لأحوال عصره، فهو يسأل عن أشياء قد لا يدري شيئًا عن خلفيتها وبواعثها وأساسها الفلسفي أو النفسي أو الاجتماعي فيتخبط في تكييفها والحكم عليها.
وتتأكد عملية فهم الواقع في العصر الحالي، حيث برزت للوجود طائفة عظمى من الحوادث والنوازل في مجالات مختلفة وبخلفيات متنازعة، وجدّت على ساحة الفكر والسياسة والاقتصاد والطب والأخلاق مشكلات مستعصية ودقيقة لا يمكن الحسم فيها من الوجهة الشرعية إلا بمعرفة أحوالها ودقائقها وخلفياتها ودوافعها مما يجلي حقيقتها ويحرر طبيعتها، ويساعد على إدراجها ضمن أصولها وإلحاقها بنظائرها وتأطيرها في كلياتها وأجناسها.
فالحكم على المعاملات البنكية ليس ممكنًا إلا بدراسة الخبير الحاذق الأمين، العارف بأحوال الاقتصاد ودقائقه وصوره ومآلاته ودوافعه وسائر متعلقاته، وكذلك الحكم في المجال الطبي وغيره من المجالات، التي تستوجب القول الفصل من ذوي التخصص والأمانة والخبرة، حتى يتم التصور الذهني الحقيقي للقضايا المستحدثة، وحتى يسهل الحكم عليها، جوازًا أو منعًا، حسب المنظور الشرعي .(1/139)
وهذا مما يزيد في التأكيد على تجذير العمل بالاجتهاد الجماعي المؤسساتي التخصصي، وفي أهمية توعية الجماهير المسلمة وتثقيف رجالات العلم وطلاب المعرفة وشباب الأمة وتزويدها بمعلومات العصر وثقافته.
والواقع ليس إلا مجموع الوقائع الفردية والجماعية، الخاصة والعامة، ومن ثم فإن فهم ذلك الواقع هو فهم تلك الوقائع واستيعابها، وتبين طبيعتها وخصائصها، حتى يسهل تنزيل الحكم الشرعي عليها، وهذا هو الذي عبّر عنه الأصوليون بتحقيق المناط الخاص والعام، أي دراسة الواقعة كما هي، وهل أنها جديرة بتعلقها بالنص أو الدليل المقترح لمعالجتها أم لا؟
ومثال ذلك طروء معاملة مالية في المجال الاقتصادي والتعامل البنكي، فإنه يتعين على المجتهدين والخبراء والمتخصصين كما ذكرنا تحقيق مسمى تلك الواقعة، والنظر في طبيعتها وحقيقتها، ليحكموا في حليتها أو حرمتها بمقتضى كونها نوعًا من أنواع المعاوضات المشروعة، أو صورة من صور الربا الممنوع، وفرعًا من فروع الغرر المحظور . ومثاله أيضًا صدور اتفاق بين المسلمين وغيرهم، فإنه ينظر في طبيعة ذلك الاتفاق : هل هو صلح مبني على مصلحة شرعية ثابتة، أم أنه استسلام وخنوع ليس من ورائه سوى زيادة الخسارة والفساد والانسلاخ والذوبان؟
تحقيق المناط:(1/140)
هو العلم بالموضوع على ما هو عليه، والنظر في الحادثة المستجدة أو الظاهرة الجديدة، وفحص طبيعتها وسماتها وملامحها، ومعرفة شرعيتها، وتسليط الحكم الشرعي عليها بموجب تحقيق مسماها وطبيعتها . (ومعناه أن يثبت الحكم الشرعي بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله) فهو يدور بين الواقعة وما يتعلق بها من أحكام وأدلة، وهو من أعظم المسالك الاجتهادية الناظرة في الوقائع المختلفة التي لا تنتهي، والتي لم ينص عليها في ذواتها وأعيانها. (الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادًا لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين) ومثال ذلك لفظ البيع فهو أمر كلي يشمل ما لا يحصى من معاملاته وجزئياته، والتنصيص لم يقع على كل واحدة بعينها، وإنما وقع على جنس البيع الشامل لمختلف أنواعه وأعيانه، فتحقيق مناط البيع هو النظر في أعيانه وجزئياته، ليحكم على أنها من جنس البيع أم من جنس غيره كالربا والغرر ونحوه . (والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة، فلا يكون الحكم واقعًا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق وذلك العام، وقد يكون ذلك سهلاً وقد لا يكون، وكله اجتهاد).(1/141)
وتحقيق المناط تتفاوت مراتبه ودرجاته بتفاوت العقول والقرائح والملكات، علمًا وصلاحًا، ودربة وخبرة، باختلاف الوقائع والظواهر، ومدى ظهور أو خفاء خصائصها وملابساتها ودوافعها وغير ذلك، وهو قدر كل مجتهد ومفت وقاض وحاكم، بل هو قدر المكلف نفسه الناظر في ما يتعلق به من أحكام، فهمًا وتنزيلاً .. فالمكلف مثلاً ينظر في شرعية ما يقبل عليه من فعل للتيمم أو الإفطار أو القصر بسبب المرض أو السفر، هل أن واقعة المرض والسفر هي نفسها التي جاءت الأدلة لاعتبارها موجبة للتيمم والإفطار أم لا؟ وقس على ذلك بقية أحكام المكلف التي وجب عليه النظر فيها وفي ما يتعلق بها من وقائع ومناطات، ومرتبطات ومتعلقات .. والمكلفون في ذلك متفاوتون بحسب تفاوت ملكاتهم وأفهامهم وجهودهم العقلية في تحقيق أفعالهم وارتباطاتها بالأحكام .
غير أن تحقيق المناط مسلك منوط بأهل الاجتهاد والاستنباط أكثر من غيرهم، وذلك لأن المكلف قد يكتفي باستيعاب منظومة الأحكام وفهمها من العلماء وتقليدهم في ذلك تقليدًا حسنًا وبنَّاءً، مع استحسان ما ينبغي له من النظر في ذلك كله ولو بأقدار يسيرة وأحجام توصله إلى الساعين إلى صواب الاجتهاد وتثبت فيه معاني التحوط والاكتمال في الامتثال إلى الله تعالى وطاعته .
خصائص الواقع المعاصر:
خصائص الحوادث والظواهر التي يراد البت فيها شرعيًا ومقاصديًا من الأمور اللازمة للمجتهد كما هو معلوم، غير أن هناك ما يكون ألزم منها أو مثلها في اللزوم ووجوب المعرفة والدراية في عملية الاجتهاد، فلا يمكن الحكم على تلك الظواهر والحوادث الجزئية إلا بإدراك خصائص العصر الحالي وسمات أحواله وطبائعه ومعالمه ومختلف دوافعه وبواعثه الفلسفية والاقتصادية والتكنولوجية وغيرها.
ومن تلك الخصائص ما هي مشتركة بين المسلمين وغيرهم كخاصية العلمية والعملية والتخصص، والتهديد المروع للعالم بسبب النشاط النووي والكوارث البيئية والحروب المحتملة والمدمرة.(1/142)
ومنها ما هو بعضي متعلق ببعض الأمم وإن كان أصحابها يسعون إلى بثها في العالم الإسلامي كالمادية والإباحية والإلحادية، وقد تكون بعض مظاهرها بارزة في بعض المناطق الإسلامية بموجب الوضع الحضاري المعاصر، وهيمنة الغرب على الاقتصاد العالمي وغيره.
فمعالجة مشكلة التنمية في بعض الدول لن تفهم طبيعتها ولا مظاهر تخلفها ولا وسائل علاجها وتقدمها إلا إذا نظر إليها في إطار تلك الخصائص وغيرها، فيعود سبب انتكاسها أحيانًا إلى الهيمنة الاقتصادية الحاصلة بموجب امتلاك الآلياتية العلمية، وأدوات تكثير الإنتاج، كمًّا ونوعًا، واحتكار أسواق الترويج وصرف أنظار المسلمين عن التنمية الشاملة بإشغالهم بالحروب والسفاسف والمغالطات، وتشجيعهم على الاستهلاك والخمول والوهن وغير ذلك، فليس من سبيلٍ أمام المجتهدين والعلماء، أمام العامة والخاصة، إلا مراعاة خاصيات العلمية بوجوب افتكاك المبادرة العلمية والتكنولوجية، ومراعاة خاصية العملية بتجنب المهاترات النظرية والفلسفية التي ولَّى عهدها مع سقراط وأفلاطون، واقتفاء أثر الإمام مالك : (دعها حتى تقع) ، وكراهيته لكتابة العلم أي الفتاوى، ومراعاة خاصية التخصص والدقة، فقد ولَّى عصر الموسوعات والعباقرة.
إن الاجتهاد في مواجهة ما يتهدد العالم اليوم من احتمال دماره أو دمار جانب منه بموجب الطفرة التكنولوجية الهائلة، وتفاوت موازين القوى، وانعدام التكافؤ العلمي والتكنولوجي والصناعي، إن ذلك الاجتهاد لن يكون إلا في ضوء المقاصد الشرعية المبنية على وحي الله وتعاليم كتابه وسنة نبيه، تلك المقاصد المتمثلة في عمارة الكون واستدامة صلاحه بصلاح الإنسانية في دينها وقيمها، وحياتها وأمنها، وأعراضها وأموالها واقتصادياتها، وكل ما في تحقيقه تحقيق سلامة الكون من المفاسد والمهالك والدمار والفناء .(1/143)
إن ظاهرة المجاعة وما تحصده من ألوف مؤلفة كل عام ليس راجعًا إلى قلة الموارد والخيرات الطبيعية، وليس راجعًا إلى انعدام التلاؤم بين الانفجار العمراني والإمكانات الطبيعية، إنه راجع بالأساس إلى استخدام سيِّئ للثروات، وتعطيل فرص النماء، باحتكار وسائله، والإصرار على إماتة تلك الشعوب عمدًا وعدوانًا لتحقيق الأغراض التوسعية والاستعمارية والعدوانية، ولتكريس داء الأنانية الفتاكة والجشع المميت، لذلك كان ينبغي أن تتقوى همم الجائعين لاختراع ما تولده ضرورة هلاكهم البين وموتهم المحقق .
فمعلوم أن أرض الله واسعة قد جعلها الله كافية للأحياء فيها والميتين، قال تعالى : (ألم نجعل الأرض كفاتًا * أحياءً وأمواتًا) (المرسلات:25-26). غير أنه أجرى نظام كونه على سنن ثابتة وقوانين معلومة، قال تعالى : (فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً) (فاطر:43).
إن خاصية التخصص توجب علينا وجوب الاجتهاد الجماعي في حوادث العالم ومشكلاته، فقد ولَّى ' عهد الاجتهاد الفردي وانتهى عصر النوابغ والجهابذة، وحتى إذا بقي فعلى صعيد ضيق من حيث بعض النوازل المعتادة والميسرة، والتي لا تحتاج إلى استفراغ غير يسير، وليس على صعيد عالمنا المعاصر الذي تشعبت فيه العلوم والمعارف، وصار التخصص الواحد متفرقًا إلى بضع وسبعين شعبة كعلم الاجتماع.
وإذا كان تحقيق المناط ينبني أولاً على معرفة الموضوع كما هو، فإن معرفة الحوادث متوقفة على أربابها وأصحاب التخصص فيها، فلا يجوز الحكم على قضية معينة في البنوك أو الطب أو القانون أو الفن إلا بما يقوله المتخصصون في ذلك، ثم تتوضح شرعيته بما يقوله خبراء الشريعة وأرباب التخصص الاجتهادي المقاصدي.(1/144)
إن معرفة الأمراض النفسية والاجتماعية والعقدية، التي يتخبط فيها الكثير من المسلمين، يعين كثيرًا على فهم ترك الامتثال وتنقيصه، ويساعد على تحديد أنجع الوسائل الإصلاحية والتربوية كتقديم الناحية العقدية على الناحية الإلزامية الحكمية، أو البدء بمعالجة الأسباب لمعالجة النتائج والآثار.
فقد يكون واقع الحرمان والخصاصة واللهف وراء القوت سببًا في حصول تلك الأمراض، وقد يكون الخوف أو الطمع سببًا في ذلك، وقد يكون الفهم للأحكام مختلاً أو التطبيق لها منقوصًا، وقد تطغى في بلد العادة والتقليد على الشرع والدين، وقد تطفو البدعة لتصير معتقدًا، ويتبع المصلح فيصبح مقدسًا، ويهان العالِم فيصبح منبوذًا، وغير ذلك من الظواهر والأمور التي تتفاوت فيها الأنظار وتختلف فيها الاعتبارات وتتباين فيها المآلات، وليس لها من خروج إلى سبيل إلا بتحقيق مناطاتها ومعالجة ملابساتها وحيثياتها باجتهاد شرعي بنَّاء، ونظر مقاصدي أصيل.
إن معرفة سمات الواقع في كبريات خصائصه وجزئيات نوازله إطار مبدئي مهم وضروري لتنزيل أحكام الله تعالى وبث مغازيها وغاياتها وآثارها، ولنا في سلف أمتنا وخلفها ما يؤكد ذلك ويدعو إليه، وقد مر قبل قليل كيف أن الجيل الأول من الصحابة والتابعين قد فقهوا عصرهم كما فقهوا أحكام دينهم، بل لنا في سنة الرسول الأعظم صلى الله عليه و سلم خير التوجيهات وأعظم الفوائد في هذه الناحية، فليس تأسيسه لما عرف بالخطاب المكي العقدي والخطاب المدني التشريعي إلا دليلاً على اعتبار ما قلنا ومراعاة الواقع المكي التي كانت فيه العقلية العامة تحتاج إلى ما يعيد بناء أصولها وصياغة تصوراتها ومعتقداتها، ومراعاة الواقع المدني الذي احتاجت فيه العقلية العامة إلى ما يرشدها في التشريع والتقنين، بعد أن استقرت العقيدة في الأذهان، واستوطن الإيمان وأركانه في النفوس.(1/145)
ثم إن الخطاب المكي العقدي قد تخلله أحيانًا ما هو من قبيل الخطاب المدني التشريعي وكذلك العكس، وهذا كان لبعض الأفراد وفي بعض الأحوال التي انبنت على مناطاتها ومعتبراتها الشرعية.
المبحث الثالث: أساسيات المكلف »
المكلف هو محور عملية الاجتهاد ومدارها، فالنصوص ما جاءت إلا للمكلف، والواقع ما حدث إلا به، والذي يهمنا من المكلف عقله الذي يلائم بين مدلول النص وحوادث الواقع .
وهو يشمل عقل المكلف العادي فيما كلف به من خطاب شرعي، أمرًا ونهيًا، يتعلق بجملة الأوامر والنواهي التي يجب عليه فهمها وفعلها وأخذها من كتب العلم وكلام الفقهاء.
ويشمل كذلك المكلف بالاجتهاد والاستنباط والمأمور ببيان أحكام الشريعة في حوادث عصره ونوازل مجتمعه .. إلا أن الذي يعنينا مباشرة هو العقل الاجتهادي، الذي سيكون أداة التنسيق والربط بين الوحي الثابت والواقع المتغير.
فبيان حقيقة العقل ومكانته ودوره وحدوده في استنباط الأحكام، وفي التنسيق بين الوحي الإلهي والواقع الإنساني، أمر مهم للغاية وشرط لابد منه لقيام ذلك الوحي على ما أراده الله تعالى حقيقة، وما قصده من غايات وحكم ومصالح في الدارين، ولانبناء الواقع المعيش على هدي الوحي وتعاليمه.
وكلما تبينت مكانة العقل ومهامه وعلاقته بالشرع وتطبيقاته، كانت منظومة الأحكام متنزلة على أحسن الوجوه وأعظم الفوائد وأنسب للمراد الشرعي والقواطع الدينية.(1/146)
وإن الباحث في هذه القضية الشائكة والتي خاض فيها أربابها منذ زمن بعيد، والتي لم يكن لها من أثر علمي سوى القليل اليسير في مقابل ما قدّموه من جهود نظرية وجدلية وفلسفية كادت تعطل المقاصد الشرعية بدرء المصالح وجلب المفاسد، وتورث في الأمة المراء والجدل الكريهين، ثم إن تلك التباينات النظرية والكلامية قد سارت نحو الحسم والتحرير والتحقيق، والواقع المعاصر في حاجة إلى تعليل أحداثه وظواهره، وإلى تحسين أوضاعه وأحواله، وتقبيح فساده ومناكره وكبائره، في المعتقد والسياسة والأخلاق والاقتصاد والإعلام ونظام التعامل جملة.
فالباحث حيال هذه القضية الجدلية ليس بوسعه تقليد الأوائل في إعادة طرحها ومناقشتها، وإنما عليه النظر في أحوال عصره المتغير ومشكلاته العملية الميدانية السريعة التي تريد الحسم الفوري والإنجاز السريع، وليس العكوف مددًا قد تفني العمر في المجادلات التي لا طائل من ورائها .. والأولون قد يعذرون لطبيعة واقعهم الذي فشت فيه المجادلات، واعتبرت آخر ما ظهر في فنون المعرفة والخطاب، ودعت إليها ضرورة التصحيح والتصويب للمعاني العقدية والفكرية وغير ذلك.
والخلاصة، أن العقل والشرع يتكاملان في إقامة دين الله في الكون وتحصيل مقاصده في الدارين، بإصلاح المخلوق في نظمه وأحواله وسياساته ومعاملاته في الدنيا، وبإسعاده وإسكانه بجوار رب العالمين في الجنات العليا.
فالشرع ما نزل إلا ليخاطب عقل المكلف، والعقل ما بلغ رشده وصوابه إلا بتوجيه الوحي وتصويبه، وتحديد دوره وصلاحياته .
فالعقل شرط التكليف وأساس التدين، وطريق البناء الحضاري وإيجاد الوقائع بنسق متزن ومنضبط وهادف، وتنسيق لسنن الكون واستثمارها في خدمة مصالحه وحاجياته ومتطلباته .
وهو الذي يتعامل مع نصوص الوحي وأدلته، ويفهم معانيها ومدلولاتها، ويستنبط مراميها وأسرارها ومقاصدها.(1/147)
وهو كذلك يباشر الوقائع والحوادث ويفهم حقيقتها وطبيعتها ويستنبط ملابساتها وحيثياتها وظروفها، ثم بعد ذلك يعمل على موازنة الوحي بالوقائع، ويجتهد في مقابلة الواقعة الإنسانية بدليها ونصها من الوحي الكريم.
إن ذلك التنسيق بين الوحي والواقع ليس بالأمر الهين، ولا يقدر عليه إلا مَن رزقه الله عقلاً فياضًا يتمتع بحظوظ وافرة من الفهم والاستنباط، وإجراء التسوية والقياس والإلحاق، والتفريق والمقارنة، والتأصيل والتفريع والتركيب، والتحليل والتمييز، وغير ذلك من عمليات العقل التي لابد منها في عملية الملاءمة بين المدلول النصي والواقعة الإنسانية المستجدة.
إن ما ذكره العلماء والأصوليون من ضروب الاجتهاد ومجالات التأويل ومسالك التعليل وسائر صور النظر العقلي، لدليل ساطع على أهمية العقل في البنية التشريعية ومنظومة الوحي العزيز.
فمباشرة المناط تخريجًا وتنقيحًا وتحقيقًا ليس سوى مباشرة للنص ومدلوله ومعناه، ومعالجة للواقعة في ضوء ذلك النص وتوجيهه.
وكذلك الاجتهاد في المسكوت عنه من قِبَل الشارع غير نسيان، والذي ينبغي أن يعمل فيه بأوجه من النظر العقلي كالتعليل والإلحاق والإدراج والتسوية، وأن يؤول إلى تحقيق المقاصد الشرعية والمصالح الإنسانية التي تستسيغها العقول الراجحة وتتقبلها الفطر السليمة، وأن لا يؤدي إلى المفاسد والمهالك التي تأباها الأعراف الحسنة والطباع السليمة، إن ذلك الاجتهاد بمختلف صوره وأوجهه لحجة بينة وحكمة بالغة على تفويض الشرع للعقل في تقدير المصالح المتغيرة والمتعارضة.
والعقل الذي نتكلم عنه هنا ليس عموم أي عقل، بل هو العقل الإسلامي الذي ينبغي أن يتحرك في دائرة الشرع وضوابطه، وليس في منظومة الهوى والتلذذ والتشهي.(1/148)
وإذا قلنا العقل الإسلامي، قصدنا به العقل الذي يتخذ من الإسلام منهجًا له في تحركه وفعله واستنتاجه وحكمه، ومعلوم شرعًا وعقلاً ومنطقًا وحسًّا أن الإسلام دين الفطرة السليمة ورسالة الإنسانية في اعتدالها وقيمها وإنسانيتها، فأحكامه وتوجيهاته مستساغة عقلاً، مبرهنة منطقًا، مقبولة طبعًا، مألوفة فطرة، مستحسنة عُرفًا وعادة، وهذا هو الذي عبر عنه قديمًا وحديثًا بتطابق المنقول مع المعقول. وما يظن أنه مخالف لذلك فهو راجع إلى أن الأمر بين الوحي والعقل في المناط والمحل الواحد لم يتحقق على الوجه المطلوب، كأن يرجع إلى الجهل بالعربية والمقاصد، أو يرجع إلى أن الوحي مما يعلو الفهم العقلي، أو أن يكون الوحي قد حمل على ظاهره وهو مما ينبغي أن يؤول لإزالة التناقض المتوهم بينه وبين العقل، أو أن العقل قد أخطأ فيما توصل إليه من نتائج، أو أن ما ظن من آحاد الأدلة وحيًا هو على غير ذلك.
العقل الإسلامي في العصر الحالي:
إننا نقصد بالعقل كما ذكرنا عقل الفرد المكلف، وعقل الخاصة من العلماء والمجتهدين، وعقل الجماعة والأمة المسلمة.
فعقل الفرد المكلف هو أداة فهمه للأحكام والامتثال إليها، وهو مطالب شرعًا بمزاولة أقدار عقلية تتناسب مع إمكاناته واستطاعته، ومحمول على لزوم بذل أكبر ما يمكن من حظوظ الفهم والاستيعاب، والتفكر في الشرع والكون والنفس، بهدف تقوية الإيمان، وتصحيح التعبد والتعامل، وترشيد السلوك، وتهذيب الأخلاق، حتى بلوغ درجات الكمال أو الاقتراب منه.
أما عقل الخاصة والنخبة والصفوة فهو عقل العلماء والمجتهدين والخبراء، الذين توافرت لهم حظوظ من الفهم والاستيعاب والتمييز لم تتوفر لغيرهم من العامة، وهي تتفاوت رسوخًا وعمقًا بتفاوت صلاح النفس، وعمق التحصيل، وطول الخبرة، وشدة الاستفراغ، وتدريب الملكة على البذل والنظر والتأمل والمراجعة وغير ذلك.(1/149)
وواجب العلماء اليوم تشكيل عقل جماعي متخصص ينظر للواقع بشمول وإحاطة واستيعاب، ويزن الأمور بميزان الجماعية التي بارك الله فيها من جهة، والتي يتوقف فهم الواقع المعاصر عليها، لما بلغته قضاياه وأحواله من تشعب وتعقيد واختلاط وتداخل في صوابه وخطئه، في حلاله وحرامه من جهة أخرى، هذا فضلاً عما يتوقف فهمه على ذوي الاختصاص والخبرة لطبيعته وماهيته، وفضلاً أيضًا عما شاب العقل الإسلامي من اختلالات واهتزازات في الفهم والتمييز بسبب اختلاط الثقافة الإسلامية بثقافات أخرى، وليس مع ذلك الاختلاط من تحصين ووقاية وعمق في الأصالة والهوية والثقافة وتشبع بالمعرفة الإسلامية في جانبها العقدي والتشريع والأصولي، بل إن قلة ذلك التحصين أو انعدامه أحيانًا راجع إلى نفس سبب ذلك الاختلاط غير المتكافئ، والمقصود به التحامل والتآمر وتشويش العقل الإسلامي، وتشويه الممارسة وتحريفها عن منهج الصواب والصلاح والسداد والرشد.
إن التحديات الفكرية والاقتصادية والحضارية المعاصرة التي تواجه الكيان العام، وتستهدف البناء القيمي التشريعي الإسلامي لن يكون مقدورًا عليها إلا بتشكيل العقل العام والضمير الجماعي المتشبع بالروح العقدية والفكرية الأصيلة، والروح المعنوية والوجدانية العالية، والنفس الإصلاحي التعميري الشامل، والرغبة في الشهادة على العالم، وإحياء الخيرية والرحمة لكافة الناس.(1/150)
وهذا يؤدي بنا إلى القول بالقصد الآخر للعقل المتصل بعقل الأمة المسلمة، أي العامة من المسلمين وعقل جماهيرهم وفئاتهم وأحزابهم وتياراتهم المذهبية والفكرية والسياسية المختلفة، فالأمة لن تقدر على التحرك بكيانها العام ودورها العالمي في القوامة والخيرية والشهادة على العالمين إلا إذا كان لها عقل جماعي، يدرك هذه الأبعاد العالمية والإنسانية والحضارية، ويميز بين سلبيات الانغلاق على الذات والتعصب للمذهب، أو التفتح المهزوم والتقليد الأعمى، وبين التكتل الأصيل والانفتاح المؤثر.
فطبقة العلماء المجتهدين لا يقدرون على توجيه الأمة نحو ما اعتبروه صلاحًا لها واجتهدوا في عده واجبًا أكيدًا في نوازل العصر ومشكلات التنمية الحضارية والتقدم الصناعي والتكنولوجي والإعلامي، إنهم لن يكونوا قادرين على ذلك إلا إذا تهيأت العقول العامة لذلك، وتصححت المفاهيم والتصورات، وانتظمت الأفكار والرؤى وفق منهجية تراعي الأولى والأهم والأصلح والأكثر فائدة، وزالت همومها الفكرية السلبية من تعصب لا مبرر له، ومن تقليد لا وجاهة له، ومن تحلل لا مسوغ له.
إن الاجتهاد في النوازل الخاصة والفتاوى الفردية، قد لا يجد ما يعيقه من العقليات العامة الموجودة حاليًا في العالم الإسلامي، فنرى العامة يستسيغون الكثير من الفتاوى في شؤون التعبد والاعتقاد في الحالات الفردية الجزئية، غير أننا نراهم يعزفون عن استساغة الفتاوى والاجتهادات في النوازل الكبرى للأمة وفي ظواهر ومشكلات المسلمين العامة على نحو وجوب أخذ المبادرة في التنمية والتحصن الثقافي والتزود المعرفي والعلمي، وتأسيس الآلية الإسلامية في الصناعات الثقيلة والخفيفة، وفي الاستصلاح الزراعي والفلاحي، وفي عمارة الأرض وإحيائها، والقيام بمهمة الخلافة الربانية والتكليف الشرعي على أحسن الوجوه وأتمها.(1/151)
إن سبب ذلك قد يعود إلى ما أصاب العقل المسلم في العصر الحديث من اختلالات وبدع فكرية وفلسفية لم يكن لها سابق وجود لا في عهد السلف ولا في عصر الخلف، والتي حصلت بموجب عوامل ذاتية وموضوعية لعل أهمها غياب الكدح، وقلة اقتحام العقبات، وتفشي ظاهرة الوهن، والإخلاد إلى الأرض، وحب الدنيا وكراهية الموت، وكذلك التحامل المستميت لأعداء الأمة وتلاحق سلسلة تآمرها وكيفيات وأشكال استعمارها، من الاستيطان إلى تغيير العقليات وتشويه الذهنية العربية والإسلامية العامة، حتى تتهيأ للصيغ الفكرية الوافدة والرؤى الأيديولوجية والتيارات الهدامة المتعددة.
فإعادة بناء العقل العربي الإسلامي وتجديد صياغته وفق منهج الإصلاح الإسلامي، يعد من أعظم المهام الاجتهادية المنوطة بدور الخاصة من الأمة، مجتهدين ومصلحين، وقادة ودعاة وخبراء وغيرهم، بل إنه الهدف الأكبر والإطار الأجمع الذي ستؤول إليه كافة الإصلاحات والاجتهادات، العامة والخاصة، الكلية والجزئية.
وليس هذا بدعًا، فهو متوارث نقلاً وعقلاً، فمن جهة النقل نلحظه في الخطاب المكي كما ذكرنا، حيث عمل في تلك الفترة على صياغة العقول، وتزويدها بالعقيدة الإسلامية الصحيحة المخالفة للبدع والهفوات الفكرية الموجودة عصرئذ على نحو الشرك وعبادة الأوثان، والاستقسام بالأزلام، والتطير، والتعصب للقبيلة، والتشفي والثأر، والتنابز بالألقاب، وغير ذلك من النعرات الجاهلية والممارسات الشركية والعرفية والسلوكية، التي خالفت في طبيعتها ومنهجها وكيفيتها طبيعة الاعتقاد السماوي السليم وخاصية التعبد الإسلامي الموزون.(1/152)
أما من جهة العقل، فهو معلوم ومعقول أن تكليف مَن ليس له عقل أو من لم يتهيأ عقله بعد، سواء بعدم نضجه بتمام البلوغ أو بتمام الاستعداد والاقتناع، هو في حكم تكليف المجانين والبله الذين وإن كان لهم عقل فهو في عالم المادة أو الحس، المتمثل في كتلة المخ المحفوظة في الدماغ، وليس عقلاً يتمثل في ملكة الفهم والاستيعاب والتمييز والتفكي .
إن هذه الصياغة الجديدة للعقل لها مهمتان اثنتان:
_ إعادة التأصيل للعملية العقلية، حتى لا ينظر إلى القواطع والثوابت على أنها مما يعاد فيه النظر تحت ضغط الواقع وتأثير المتغيرات ومواكبة الحضارات والتطورات، فواجب العقل الخاص والعام التحرك في إطار المنظومة الشرعية والأبعاد الدينية والاعتقادية والأخلاقية، وفي اتجاه تقرير حق الخالق في العبودية والألوهية والحاكمية والتصرف.
_ إعادة المعاصرة ، وتأكيد واقعية العقل وتفاعله مع الظنيات الاجتهادية المحكومة بالمقاصد الشرعية المنضبطة، ومناظرته للمستجدات والتطورات، واتسامه بالنزوع نحو العلمية والتخصصية والعملية والتجاوب مع فوائد الحضارة المعاصرة، والأخذ منها بأقدار مصلحية تستجيب للضوابط الشرعية والأخلاقية والحضارية .
ولعل من ضروب ذلك، الاستفادة مما توصلت إليه الحضارة المعاصرة من معارف ومعلومات عقلية يقينية أو قريبة من اليقين، يستعان بها خصوصًا في الترجيح والتغليب، شريطة أن لا تزل بها الأقلام والأقدام، وأن لا تبنى المقاصد فيها على المزاعم والأوهام.
الفصل الثالث : مجالات الاجتهاد المقاصدي المبحث الأول: القطعيات التي لا تقبل الاجتهاد المقاصدي »
مجالات الاجتهاد المقاصدي هي الميادين التي يمكن أن تستخدم فيها المقاصد، مراعاة لها، واستنادًا إليها في بيان أحكامها الشرعية على وفق تلك المقاصد وعلى ضوئها ومقتضاها.
ومعلوم أن أحكام الشريعة منها ما هو متغير قابل للاجتهاد فيه على وفق المقاصد والمصالح.(1/153)
ومنها ما هو ثابت بالنصوص والإجماع على مر الأزمان، لا يتغير ولا يعدل بموجب المصالح الإنسانية المتغيرة والمتطورة، وهو مما ثبتت وتأكدت مصالحه المعتبرة بإجرائه على دوامه واستقراره وثباته، ومن قبيل ذلك نجد العبادات والمقدرات والكفارات وأصول الفضائل والقيم والمعاملات وغيرها.
ومعنى أن الاجتهاد المقاصدي لا يشملها ولا ينطبق عليها، لا يفيد عدم قابليتها للمعقولية والتعليلية، وكونها من الأمور التي لا تفهم مصالحها ومقاصدها وغير ذلك، وإنما يعني ذلك أنه لا يجوز تغييرها في وقت من الأوقات تحت موجب المصلحة أو مقتضى مقصد معين حتم ذلك التغيير.
بل كل مجالات الشريعة يمكن فهم مصالحها وحكمها ومشروعيتها، بناء على قاعدة كون الشريعة قد انطوت على ما فيه مصالح الناس في العاجل والآجل، وأنها جاءت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الرذائل إلى الفضائل، ومن فساد الأوضاع إلى صلاح الأحكام.
فالمجال الذي لا يقبل إعمال النظر المقاصدي بغرض تغييره أو تعديله، لا يعني كونه مبهمًا وغير واضح في مشروعيته وحكمته، بل إنه معلل إما على الجملة وإما على التفصيل، وأن ذلك التعليل تتفاوت أحجامه وأقداره بحسب الحال والمقام، فالأمر التعبدي في الحج يلاحظ فيه التعليل والتقصيد أكثر من الأمر التعبدي في التيمم، فالحج مصالحه بارزة وظاهرة على الجملة، والتيمم عبادة رمزية اعتبارية ترابية تقتصر علته جملةً على أداء الامتثال والخضوع واستباحة الصلاة وتنزيه المعبود، وفي الحج نفسه تتفاوت درجات المعقولية والتعليل بين أعماله ومناسكه كما هو الحال في الهَدْي والحَلْق، إذ الأول قد لوحظ فيه التعليل بالتوسعة على الفقراء والتعويد على البذل والعطاء في زمن الشدة والحاجة، وشكر الله على ما أمد به ضيوفه من معاني الوحدة والتضامن، ومن خصال نعمة الصحة والسلامة وأداء الفريضة على خير حال.(1/154)
أما الحَلْق ولئن لوحظت فيه بعض التعليلات على نحو اقتفاء أثر الأولين وتأكيد مظاهر الوحدة، وتحقيق الامتثال الأكمل وغيره ... فإنه غير واصل إلى شعيرة الهدي وغيرها من حيث المعقولية وبيان الحكمة والمقصد، وتجلية الأسرار والمشروعية . وهكذا الحال في سائر التكاليف والأوامر التي أراد الله عز ثناؤه أن ينيطها بما شاء من الحِكم والأسرار والغايات، وأن يتفضل على عباده ببيان بعض تلك المناطات، وأن يستأثر ببعضها حكمة منه وتقديرًا، و الأمر من قبل ومن بعد.
فما هي إذن المجالات التي لا يمكن أن نستخدم فيها الاجتهاد المقاصدي والنظر المصلحي، أي المجالات التي لا تتحدد أحكامها بموجب المصالح التي يراها الخلق، وليس المصالح التي تتضمنها تلك الحالات ابتداء من عند الشارع نفسه، والتي ينبغي على المجتهدين فهمها واستيعابها لمعرفة تلك المجالات وتتبع أحكامها؟
إذ المجالات القطعية لا تخلو من مصالحها المبثوثة فيها والتي يتعين فهمها واستيعابها .. وفهم تلك المصالح قد يطلق عليه معنى النظر المصلحي أو التفسير المصلحي، وهذا جائز مشروع .. أما الذي لا يجوز فهو تغيير تلك المجالات أو بعضها تحت غطاء المصلحة المتوصل إليها وتحت عنوان التفسير المصلحي والنظر المقاصدي . فالنظر المصلحي سلاح ذو حدين، فإذا قصد به فهم الحكم القطعي وفهم مقصده معه فهذا معلوم الجواز والتعين واللزوم، أما إذا قصد به تقديم المصالح على القواطع والثوابت فهو معلوم الترك والبطلان والفساد، ولا مشاحة في الاصطلاح.
الثوابت والمتغيرات في الشريعة:
إن علماء الشريعة ومجتهديها توصلوا باستقراء الأدلة والأحكام والقرائن والأمارات الشرعية إلى تقرير صفتين اثنتين للشريعة وأحكامها وتعاليمها، صفة الثبات والقطع، وصفة التغير والظن.(1/155)
وأطلقوا صفة الثبات والقطع على طائفة من الأحكام التي اعتبروها من المسلمات والمقررات الدائمة والثابتة على مر الأيام والعصور وفي كل ملة وأمة، والتي لا يمكن البتة تعديلها وتنقيحها بموجب المصلحة الإنسانية مهما ادعي كون تلك المصلحة بلغت ما بلغت من درجات اليقين والقطع والظهور والأهمية والحاجة.
كما أطلقوا صفة التغير والظن والاحتمال على غير تلك الأحكام التي اتسمت بمراعاة البيئات والظروف ومسايرة أعراف الناس وعاداتهم وحاجياتهم .
فما هي إذن القطعيات المقررة التي لا يمكن بأي حال من الأحوال تغييرها أو تنقيحها بموجب النظر المقاصدي والمصلحي؟
المبحث الأول: القطعيات التي لا تقبل الاجتهاد المقاصدي
العقيدة:
هي جملة القضايا والتصورات التي يجب على الإنسان أن يؤمن بها على سبيل القطع واليقين والتسليم الكامل للخالق المعبود، ومثالها: الإيمان با تعالى وبجميع صفاته وأسمائه وأفعاله، والتصديق بجميع الرسل والأنبياء وكتبهم ورسالاتهم، والإقرار بوجود الحياة بعد الموت، وحصول الجزاء ثوابًا وعقابًا، والإقامة الدائمة والسعادة الأبدية بجوار الرحمان رب العالمين ... وغير ذلك من مسلمات العقيدة الإسلامية وأركانها المبسوطة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة .
فهذه المسلمات قطعية وثابتة بمرور الأعصار وتقلب الأمصار، ولن يقوم أمر الإنسانية وأمنها وفلاحها في الدارين إلا إذا كانت تلك المسلمات والتصورات مركوزة في الأذهان، مشفوعة بالأعمال الصالحة، متبوعة بنظم وعلاقات متزنة ومتماسكة ومفيدة في شتى نواحي الحياة وأحوالها وتصاريفها، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية والأسرة والتعليم وغيره.(1/156)
ومن هنا فإنه لا مسوغ لبروز بعض الاختلالات الاعتقادية على مسيرة الحياة الإنسانية تحت غطاء التطور، وسنة الحياة، وضغط الواقع، ومسايرة التحضر، وذلك على نحو ما يرد من حين لآخر في تصورات الناس ومعتقداتهم وأفكارهم، مثل ادعاء النبوة، والتثليث، واتخاذ الأصنام الحسية أو المعنوية، واتخاذ الأضرحة وتقديس ساكنيها، اعتقادًا في نفعهم وضررهم وطول سلطانهم على الناس، ووضع التمائم في الصدور والأعناق، والمعلقات في البيوت والجدران، اعتقادًا في ما وضعت له تلك التمائم والمعلقات.
إن كل ذلك وغيره باطل ومردود، وفساده بيّن وجلي، ومآله خسران صاحبه في العاجل والآجل واستحقاقه عذاب الله الأليم والخلود الأبدي في الجحيم .
العبادات:
وهي جملة النيات والأقوال والأعمال التي تنظم علاقة المعبود بالعابد، على نحو الطهارة والتيمم والصلاة والصوم والحج والزكاة والذكر والتنفل والتهجد والاستغفار والاستسقاء والكفن والدفن، وما يتعلق بكل ذلك من شروط وآداب وكيفيات مبينة في مواطنها .
وهذه العبادات لا يجوز تبديلها وتغييرها أو تعديلها وتنقيحها زيادة أو تنقيصًا بدعوى الاستصلاح المرسل وزيادة الأجر، وتحسين الأداء، ومسايرة التطور، ورفع الحرج، ودفع المشقة، وتقرير التيسير .
والأصل فيها التعبد كما أراد المعبود، والامتثال كما أمر الشارع، إذ لا يعبد الشارع إلا بما شرع.(1/157)
وقد يطرأ على المسيرة الإنسانية ما يعطل هذا المبدأ العظيم تحت أنواع من العناوين والشعارات والتعبيرات، منها : مراعاة التطور وتحرير طاقة الإنسان، والتخلص من القيود والمكبلات والحواجز، وتقرير الاجتهاد والتعليل والتفكر، والعبرة بالمقصد والغاية وليس بالوسيلة والكيفية، وغير ذلك مما يروجه بعض من لم يفهموا أن التعبد الشرعي الصحيح قائم على الثبات والقطع واليقين والدوام، وأن مصالحه المعتبرة لن يكون لها وجود إلا بتلك الصفات، وأن أي تغيير أو تنقيح لها يبطل فوائدها، ويضيع مصالحها، ويوقع الناس في هرج الفوضى العبادية والاضطراب الديني، ويحرمهم من خيرات التعبد المنضبط والثابت.
ومن أمثلة ما يطرأ من وقت لآخر : شواهد الابتداع والتزيد في العبادة، والدعوة إلى التحلل من بعض العبادات التي لم تعقل معانيها، أو التي لم تعد صالحة في هذا العصر، أو التي تلحق الضرر بالناس مثل ترك الإحرام في الطائرة، لأنه قد يؤدي إلى خلل في الطائرة بسبب الازدحام في دورات المياه، وترك شرب زمزم لأنه يورث الحجارة في الكلى، وتغيير مكان الحج وزمانه، وتعطيل الرؤية لثبوت الشهر والاكتفاء بالحساب، وترك الصلوات في الجماعة في الحرمين وفي غيرهما من المساجد لتجنب الازدحام وإذاية المسلمين - والضرر يزال؟؟؟ - وحرارة الطقس، وضربات الشمس، واحتمال العدوى، وادخار الطاقة لأركان الحج وواجباته التي هي أعظم من المستحبات والسنن كالجماعة والتنفل!
المقدرات:
وهي جملة الأمور التي بينها الشارع بيانًا محددًا ومضبوطًا لا يقبل الاحتمال والتأويل، ومثالها مسائل الميراث والعدة والحدود والكفارات الموضوعة لمعالجة الأخطاء والجنايات.
وهي متسمة بالثبات والقطعية والتقدير المحكم، الذي لا يتبدل بتبدل الزمان والمكان والحال، وبتغير المصلحة والعرف والعادة والظرف.(1/158)
وما قيل في المظاهر المقاصدية لهذه المقدرات ونواحيها المصلحية، إنما هو في فهم مصالحها المنوطة بها، وليس في تغييرها بحسب المصلحة وبما دعت إليه الضرورة، وكذلك ما قيل في أن السلف والمجتهدين يعطلون أحيانًا أمرًا مقدرًا كما فعل عمر في إسقاط سهم المؤلفة قلوبهم، وإسقاط الحد عام المجاعة، وقتل الجماعة بالواحد، وغير ذلك من الأمثلة التي قضى فيها عمر وغيره من أعلام الاجتهاد سلفًا وخلفًا، والتي ظن أو توهم أنها خضعت لعملية الاستصلاح والتعليل، وتغيرت أحكامها على وفق ذلك، إن كل تلك الأمثلة المقدرة لم تعطل بسبب النظر المصلحي، أو أن العقل توصل إلى تغيير ذلك، بل لم يقع تطبيقها لأنها بعد النظر والتحقيق تبين أن مناطاتها وشروطها لم تتوفر بعد، وأن مصالحها المعتبرة المنوطة بها ليس لها وجود لو طبقت على ذلك الوضع، فهي في الحقيقة معللة بالمصالح المشروعة المعتبرة وجودًا وعدمًا، وليس بتوهم المصالح الخيالية كما يدعي أصحاب هذا الرأي.
أصول المعاملات:
وهي مبادئ التعامل الكبرى وقواعد الأخلاق العامة، على نحو : قيم العدل والشورى والأمانة، والأمر بالمعرف والنهي عن المنكر، والوفاء بالوعد والصلح، وأخذ الحكمة، وتبجيل الكبير، ومساعدة الصغير وذي الحاجة والفاقة، وتفريج الكرب والنوائب عن المعسرين والغارمين والمصابين، وإكرام الضيف، وغير ذلك من الفضائل المقررة في كل أمة وملة، والجارية على وفق العقول الراجحة والطباع السليمة، والتي لاينبغي أن تعطل أو تغيب عن واقع الناس مهما كانت الادعاءات والإغراءات، ولا يمكن استخدام الاجتهاد المقاصدي إلا في معظم تفاصيلها وكيفياتها كما سنبين ذلك قريبًا .
عموم القواطع:(1/159)
وهي جملة ما يعد قطعيًا في منظور الشرع، إما بالتنصيص عليه، أو الإجماع عليه، أو ما علم من الدين بالضرورة أو غير ذلك مما لا يقبل التغيير والتعديل بموجب النظر المصلحي والعمل الاجتهادي مهما علت درجات ذلك الاجتهاد والاستصلاح وبلغت ما بلغت من القطع والوضوح والظهور والمشروعية، ومن قبيل ذلك قطعية المتواتر والإجماع، وكيفيات بعض المعاملات وغير ذلك .
المبحث الثاني: الظنيات التي تقبل الاجتهاد المقاصدي »
وهي المجالات التي تتغير مسائلها وفروعها بتغير الأزمان والأحوال مراعاة من الشارع، لتحقيق المصالح الإنسانية والحاجيات الحياتية المختلفة وفق الضوابط الشرعية المعلومة، وليس تقرير طابعها الظني الاحتمالي إلا لكونه ينطوي على عدة معان ومدلولات تتعين وتترجح وفق الاجتهاد المقاصدي، وتقدير المصالح وشروط التأويل وغير ذلك، وتلك المجالات هي على النحو التالي:
الوسائل الخادمة للعقيدة:
ونعني بذلك مجموع الطرائق والكيفيات الدعوية والخطابية والتعليمية والجدلية التي تستخدم في بيان العقيدة الإسلامية، وترسيخ مبادئها وأركانها ومسائلها في نفوس الناس وعقول الجماهير، وغرسها في عقول الخاصة والعامة، وبث آثارها ونتائجها في أحوال الحياة ومناحي الوجود وميادين الحياة عامة.
فالعقيدة الإسلامية أمر قطعي مسلم به، أما وسائل وطرائق بيانها وتجذيرها فمتغير بحسب تغير الزمان وأهله وعلومه وأحواله وأساليبه، فهي تتراوح بين الكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، والقول البليغ، والحجة الدامغة، والجدل البناء، والحوار الأدبي، والمناظرة الفكرية والفلسفة المنطقية، واستعمال العلوم المعاصرة والتكنولوجيا ووسائل الإعلام والاتصال، والمكتشفات الطبية والكونية والإنسانية، وكل ما توصلت إليه الحضارة الحالية من نتائج علمية وتجارب ميدانية قد تخدم قضية العقيدة الإسلامية، وتقوي بنيانها، وتجذر مسائلها، وتعمّق الارتباط بها والاعتماد عليها .(1/160)
والحياة المعاصرة اليوم هي في أشد الحاجة إلى أن يقوم أهل العلم في مختلف فنونه وفروعه بدورهم البناء في إعادة بناء العقيدة في نفوس الناس، بتطوير ما يوصل إليها من طرائق وسبل تجمع بين الموروث النقلي والمحصول العصري، وباستثمار المستجدات العلمية من وسائل سمعية وبصرية وفنية وإعلامية، وهذا ما يحتمه الاجتهاد المعاصر، ويؤكده النظر المصلحي الواقعي، مع وجوب المحافظة على جوهر تلك العقيدة والإبقاء عليها صافية ونقية وسليمة من التحريف والتشويش كما نقلت عن صاحب الشرع العزيز، وكما رويت عن النبي المعصوم صلى الله عليه و سلم.
إنه لا يعد من المبالغة القول بأن الألوف المألفة في العصر الحاضر قد عزفت عن القراءة والمطالعة، وانشغلت بما صرفها عن ذلك من جهاد في الرزق ومتابعة للمواسم والمهرجانات الثقافية والفنية والرياضية، واستقبال الشاشات التلفزية والحاسوبية والإلكترونية وغير ذلك، ثم إن أولئك الألوف لم يكن بينهم وبين العقيدة سوى بعض الخيوط البسيطة والروابط الضعيفة التي لا يمكن أن تقوى على مواجهة ما يتحدى عقيدتهم ويتهددها،هذا إن لم نقل إن ألوفًا آخرين في حالهم مع العقيدة كحال الميت مع الحركة والوعي والتعبير، إذ هم في واد والعقيدة في واد، ولا يكادون يسمعون شيئًا عما يذكر بالاعتقاد الصحيح ويجدده ويقويه.
إن العلماء والمصلحين أمام هذه الحالة التعيسة في عصر الثورة العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية ليس لهم من بد سوى توظيف تلك الثورة لإعادة المسلم إلى سالف عقيدته الصحيحة، ولدعوة غير المسلم إلى تلك العقيدة وإلى إعلان خضوعه تعالى، والائتمار بما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه.(1/161)
أليس من المصلحة القطعية والضرورية والكلية أن تربط العقيدة بأجهزة الإنترنت والفضائيات، وأن تسجل في سجلات الأجهزة المعلوماتية المختلفة بطرق مرغبة وأساليب ميسرة ووسائل معاصرة تكون مساوية أو أفضل من البرامج المختلفة التي استخدم فيها أصحابها أنفس الأساليب وأقوم المسالك بكيفية جعلت جمهور المتابعين يقدسونها ويسبحون بحمدها ويضحون بكل ما عندهم في سبيل تحصيلها ومشاهدها وترديدها والتأثر بها؟
أليس من الضرر القطعي والمفاسد الكلية والخراب المدمر أن تسخر المكتشفات الإعلامية والاتصالية لهتك القيم والفضائل، ودرس النظم والمحاسن، وتشويش العقل بما لا يحفظه، وإشغال النفس بما لا يصونها من سلامة المآل في العاجل والآجل، وتلهية الجماهير الكثيرة عن مستقبلها المنشود وحضارتها المضيئة، وإنهاكها بالإثارة والإغراء والاستخفاف والاحتقار والدعايات والمغالطات والتحريفات والمزايدات والإهانات والاستفزازات؟
أليس من الواجب إذن كما قال الشاطبي أن تسخّر هذه المكتشفات في خدمة العقيدة الإسلامية بمعناها الشامل، لأنها إن لم تُسخَّر في ذلك فستُسخر لخدمة ما يفسد العقيدة ويغيبها عن نفوس الناس وظواهر الحياة؟ وهذا هو الذي قصدناه بوجوب البحث عن أنجع الوسائل وأحسن الطرائق لتحقيق القاعدة النظرية الاعتقادية التي ستكون منطلقًا نحو البناء الحضاري الإسلامي المأمول.
وأمتنا أحوج ما تكون اليوم إلى مَن يجدد إيمانها، ويجدد فضائلها، ويجدد معالم شخصيتها، ويعمل على إنشاء جيل مسلم يقوم في عالم اليوم بما قام به جيل الصحابة من قبل.
الوسائل الخادمة للعبادات:
ونقصد بها مجموع الطرائق والسبل والكيفيات التي تساعد على قيام العبادات، والمحافظة عليها، وضمان وقوعها وتعاظمها وتكاثرها بشدة الإقبال عليها، والإكثار منها، والارتباط بها، وذلك بتوفير ما يكون شرعيًا مقبولاً، وميسرًا لأدائها والقيام بها.(1/162)
وأمثلة ذلك كثيرة منها : استعمال مضخمات الصوت في الآذان والصلوات والجمعات والأعياد، وترحيل الحجاج وتنظيمهم، واتخاذ طوابق الطواف والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمرات، وتفويض جهات معينة لتتولى ذبح الهدي والإفادة به، كل ذلك يفعل لتجنب الازدحام والاختلاط والضرر والهلاك والتلوث والعدوى وغير ذلك، وبناء الحمامات ودورات المياه، وبعث الإنارة، والتكييف المناخي، ووضع المتكآت في المساجد والجوامع والمصليات، ونقر الدفوف، وضرب الطبول، وإعلان الصيحات عند رؤية الهلال وإثبات الشهر والصوم والعيد، تعميمًا لفرحة عبادية كبرى، وإشاعةً لعظمة المقدسات وحرمتها، وترسيخًا لمعاني المظاهر التعبدية والدينية في نفوس الناشئة وأذهان العامة، وتحبيبهم في الارتباط بعبادة الخالق وطاعته ومحبته.
لقد ثبتت هذه الكيفيات والوسائل لتخدم العبادة، وتيسر أداءها، وتحقق ضمانها وكثرة الإقبال عليها وشدة التعلق بها، وهي مما استخدم فيها الاجتهاد المقاصدي الأصيل، وعمل فيها بالمصلحة الشرعية المعتبرة، إذ أن تلك الوسائل في حكم مقاصدها من حيث الوجوب والأهمية، وهي لا ينبغي أن تقدح في مشروعية العبادة ولا في جوهرها وحقيقتها.(1/163)
أما إذا وجد غير ذلك فهو مردود باطل وليس له وجاهة مهما كانت المصلحة التي علل بها، كمن اقترح تغيير صلاة الجمعة إلى يوم الأحد في الدول الغربية لضمان العدد الأكبر من المصلين، ولعدم حرمان المسلمين من الصلاة والاستفادة منها في بلاد الكفر، وكمن اقترح أن تصلى الصلوات على الكراسي بدلاً من القيام، لتحقيق الأداء الأحسن والخشوع الأفضل، وترك الإحرام من الميقات وفعله في جدة، قصد التيسير والتخفيف، ونفي الضرر المحتمل من التوارد على حمامات الطائرة، واحتمال تسرب المياه إلى أسلاكها وأجهزتها، وغير ذلك .. فالعبادة لا تفعل إلا كما أمر الشارع، والعابد لا يعرف حال تعبده إلا بفعل ما أمره به المعبود على الوجه المحدد، ولذلك قيل عن (التعبدي) إنه غير معلل ولا يُعقل معناه، أي أنه لايقبل التأويل والتوظيف بحسب الأنظار والآراء والشهوات والأمزجة، فلا يُعبد الشارع إلا بما شرع.
تنبيه هام: الوسائل الموضوعة شرعًا لا تقبل الاجتهاد المقاصدي:
الجدير بالذكر والتنبيه أن المقصود بالوسائل الخادمة للعبادة ليس هو جملة الوسائل الفقهية المصطلح عليها بشروط الصحة والتكليف وسائر ما وضعه الشارع من أمارات وعلامات وأمور لا تصح العبادة إلا بها مثل الطهارة واستقبال القبلة وستر العورة والقيام والركوع والتشهد واستلام الحجر وشرب زمزم والتجرد وغير ذلك مما لا يقبل التغيير ولا التعديل مهما بلغت الإنسانية من أطوار التحضر والتحرر، ومهما جودل بالمصلحة التي يراد تغيير العبادة أو شروطها بها .
كيفيات بعض المعاملات:
ذكرنا سابقًا أن أصول التعامل مضبوطة ومحددة ولا تقبل التغيير بموجب المصلحة والمنفعة، أما كيفيات تلك الأصول وتفاصيلها على سبيل الإجمال فهي محل نظر واجتهاد واستصلاح وتعليل في ضوء المبادئ والمقاصد الشرعية، ودون أن تعود على أصولها بالإبطال والإلغاء .(1/164)
ومثال ذلك : تفاصيل تطبيق الشورى والعدل وكيفيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . ففي مثال الشورى يجوز النظر في مدة التعيين وطرقه، وشروط المشاركة والترشح، وأسباب العزل، وتوزيع الناخبين، وطرق الفرز، وعلاقة المجالس الشورية أو النيابية بغيرها من مؤسسات الدولة وأجهزتها . وفي مثال العدل تتحدد في ضوء المقاصد والمصالح تفاصيل التقاضي والمرافعات والاستئناف والتعقيب والتنفيذ . وفيما يتعلق بالنظم الإدارية فإنه يقع وفق مصالح الدولة ورعاياها ضبط إجراءات العمل والتقاعد والمعاش والترسيم والتفقد والمرافقة والتربص والتأديب والعزل وغيره.
التصرفات السياسية:
وهي جملة التصرفات التي أوكلها الشارع إلى أولي الأمر من الساسة والحكام والعلماء كي يحددونها على وفق المصالح الشرعية، وذلك على نحو : إعداد خطط التنمية وسياسات التعليم والإعلام، وتنظيم الهياكل والنظم الإدارية والمالية والقضائية، وضمان الأمن، وزجر البغاة، وصد المعتدين، وتقوية الجيوش، وإنشاء الحروب، وإبرام المصالحات والمعاهدات والاتفاقيات، وغير ذلك مما يراه أهل السياسة الحكماء بمصالح الدولة، والخبراء بقواعد الشريعة ومقاصدها المقررة.
ويتفرع عن ذلك تقييد بعض المباحات، والحد من الحريات العامة والخاصة، واتخاذ التعازير والإلزامات المالية الإضافية، وغيرها مما تتعين ضرورته حسب ضوابط الدين، وشروط الاجتهاد، وقواعد الاستصلاح المقرر، وليس لمجرد الهوى والتشهي، أو بسبب الفساد المالي والسياسي، واستئثار طبقة الحكام والخاصة بمالية الأمة على حساب العامة من الرعايا والمواطنين .
النوازل الاضطرارية:(1/165)
وهي جملة الحوادث التي يضطر إليها المسلمون، فرادى أو جماعات، وليس لهم من سبيل سوى الأخذ بالمحظور بقدره، وإلا وقعوا في الهلاك البين والمشقة غير المعتادة، ومثالها : سائر أحكام الرخص والضروريات، كأكل الميتة للمصاب بالجوع الشديد المفضي به إلى الوفاة أو الإشراف عليه، وشرب الخمر لمن أصيب بغصة مميتة له، وجواز أخذ مال الغير خشية الهلاك المحقق، وما أشبه ذلك من الحوادث والنوازل التي يعمل فيها بترجيح مصلحة المضطر على ملازمة الحظر والمنع، كل ذلك يعمل فيه بشروط الضرورة القصوى والاكتفاء بالقدر الذي يزيلها دون بغي وتماد.
ومما ينبغي التأكيد عليه أن الضرورة المبيحة للمحظور وفي الحالات الفردية أو الجماعية، ينبغي أن يتحقق منها فعلاً ويتأكد مناطها ومتعلقاتها على سبيل القطع أو الظن الغالب وليس على مجرد الشك والوهم، وادعاء ما ليس فيه حجة ووجاهة.
المسائل المتعارضة:
وهي المسائل التي تتعارض فيما بينها ولا يمكن الجمع بينها، فإنه يمكن الترجيح بينها باعتماد مصلحة مرجحة أو مقصد أقوى في درجة الاعتبار والمناسبة، ومن قبيل ذلك الأحكام الاستحسانية التي عدل فيها عن القياس وإلحاقها بنظائرها، لأنها لو استعمل فيها القياس لوصلت إلى نتائج تأباها الشريعة الإسلامية، وأحكام الرخص الفقهية كما مر قبل قليل، وكذلك سائر ما تتعارض فيه المصالح ويكون قابلاً للترجيح بحسب النظر المقاصدي والتقدير المصلحي المشروع .
عموم الظنيات:(1/166)
وهي المسائل التي لا نص ولا إجماع على أحكامها، والتي تسمى منطقة الفراغ أو منطقة العفو، والتي يحكم فيها بموجب النظر المصلحي والمقاصد الشرعية عن طريق القياس الفرعي والكلي والاستحسان والعرف واعتبار المآل، وهي شاملة لكل ما يقابل القطعي اليقيني مما ذكرناه سابقًا، ومما يمكن أن يطرأ على مسيرة الحياة الإنسانية فيكون خاضعًا للاجتهاد المقاصدي، وهذا يدل على الرفق الإلهي بالناس، وذلك باعتبار أن الإباحة أوسع ميدان لجولان حرية العمل، كما يدل على مرونة الشريعة وقابليتها للتأبيد والدوام والخلود إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
المبحث الثالث: خطورة الإفراط في الاجتهاد المقاصدي »
ذكرنا في ثنايا هذا البحث أن اعتبار المقصد الشرعي في عملية الاستنباط أمر مهم للغاية، بل هو من الضروري الذي لا ينبغي الاستغناء عنه، إذ الحكم الذي لا يلتفت إلى مقصده وغايته وعلته يظل جسمًا بلا روح، وهيكلاً خاليًا من جوهره وكنهه وحقيقته.
غير أن التأكيد على هذا لا يعني المبالغة في استخدام المقاصد في الاجتهاد، ولا يفيد الإفراط بلا موجب، ولا الإقبال المتهور للعمل بالمصالح على حساب النصوص والضوابط والشروط الشرعية المقررة، وإنما يفيد كما هو معلوم التوسط والاعتدال، والأخذ بالعمل المقاصدي بمقداره وحدوده دون إفراط أو تفريط، ومن غير الوقوع في ما وقع فيه غلاة الظاهرية والحرفية الذين أهدروا الأقيسة والتعليل، وألغوا من دائرة الاجتهاد مصالح الخلق ومراعاة الأعراف والتطور واختلاف البيئات والأزمان والظروف، وما يتعلق بالوقائع والنصوص من حيثيات وقرائن وأمارات وملابسات، وغير ذلك مما يتوقف عليه الاجتهاد الشرعي الصحيح.(1/167)
وقد وردت على مسيرة الفكر الإسلامي وتاريخ الفقه والاجتهاد حالات من الشذوذ عن منهج التوسط المقاصدي والاعتدال المصلحي، ومظاهر من الإفراط في التعويل على المصالح والمبالغة في الاعتداد بها وبناء الأحكام عليها، إلى درجة الوثوق بها والاعتقاد فيها ولو أدى الأمر إلى مخالفة الوحي وتعطيل أحكامه وتوجيهاته، واعتباره تابعًا ومحكومًا وليس متبوعًا وحاكمًا.
وقد تمثلت تلك الحالات والمظاهر في عديد المناسبات والعينات، تراوحت بين الأقوال والأمثلة والاجتهادات التي بين فيها أصحابها المبالغة في التعويل على المصالح وتفضيلها على النصوص والأدلة، وبين التنظير والتأسيس والتقنين لذلك حتى يصبح بمثابة الأصل المقطوع به والمصدر الثابت المعتمد عليه.
كما كانت تتراوح بين حسن القصد وسلامته وبين تبييت النية وسبق الإصرار بغرض التحامل والتعسف والتعطيل.
حماس للمقاصد في غير محله:(1/168)
هناك من تحمس للمصالح دون أن تكون له نية تعطيل النصوص أو ضرب قدسية الوحي أو تشريع الأحكام بمجرد الهوى والتشهي، وإنما فعل ذلك لمبررات رأى أنها مناسبة ومعقولة، كمن فعل ذلك ردًّا على غلاة الظاهرية المعطلين لمعقولية الشريعة ومرونتها وحيويتها وصلاحها، أو من فعل ذلك تأسيًا بالسلف والخلف في النظر المصلحي، لكنه وقع في غير ما أراده السلف والخلف بإهمال بعض القيود والضوابط، أو بالوقوع في خطأ الفهم والاستنتاج، وفي خطأ المقابلة والإلحاق والإدراج، أو من فعل ذلك استجابة لواجب الاجتهاد الفقهي والنظر المقاصدي، لكنه وقع في الخطأ بسبب العجلة والتسرع، أو بسبب الرغبة في تحصيل هدف نبيل وشريف كالغيرة على الشريعة والذب عنها في مواطن احتاج فيها إلى إبراز معقوليتها وصلاحيتها، فيروح يؤكد على المصالح والمقاصد وعلى أن الشريعة واقعية وإنسانية ومسايرة للواقع والبيئات والظروف، وعلى أن المصلحة أينما وجدت فثمة شرع الله ، وغير ذلك مما قد يوصل إلى القول بتفضيل المصالح على الشرع .
فهذا الذي تحمّس للمصلحة لما رآه من مبررات ودواع، قد أدى به الأمر إلى الوقوع في الغلو المصلحي، إما بسبب النقل والرواية عنه، وإما بسبب توظيف منقولاته وآرائه، وهو في هذه الحالة ينبغي عليه التأكد والحذر والحيطة والتروي حتى لا يقع أو يوقع في المحظور بقصد أو بغير قصد، فسلامة النية وحدها غير كافية بل يجب معها النظر في المآلات والنتائج .
وهناك من تحمّس للمصالح، اعتقادًا فيها، وتسليمًا بقدسيتها وحرمتها، وهيمنتها على نصوص الوحي وتعاليمه، فراح يقنع الناس بذلك مستدلاً بكل واردة وشاردة وكل منقول ومعقول، جامعًا في أسلوبه بين التعسف والتطويع والتحامل والتهميش والتشويش .
الباب الثالث الاجتهاد المقاصدي في العصر الحالي الفصل الأول المشكلات المعاصرة في ضوء الاجتهاد المقاصدي المبحث الأول: المشكلات التعبدية في ضوء الاجتهاد المقاصدي »(1/169)
نبين في هذا الفصل عرضًا مختصرًا لطائفة مهمة من المشكلات والوقائع التي طرأت على مسيرة الحياة الإنسانية ومجال الاجتهاد الفقهي، والتي لم يكن لها سابق تنصيص أو إجماع على أحكامها، وقد تصدى لها العلماء والمجتهدون بإبداء آرائهم ومواقفهم وفتاواهم، سواء على صعيد جماعي ومنظم، على غرار ما هو واقع في المجامع والمؤسسات والهيئات والجامعات الشرعية، أو على صعيد الكتاب والفقهاء والعلماء والخبراء فيما يبدونه من بيانات ومجادلات وتعليقات تسهم في نهاية الأمر في تكوين رأي شرعي، وتحديد حكم فقهي يكون صوابًا أو قريبًا من الصواب، ومن المراد الإلهي والمقصود الشرعي.
وعلى الرغم من أن المقاصد الشرعية كانت الإطار العام والمسلك الشمولي لبيان أحكام تلك المشكلات والنوازل، إلا أنها لم تكن لتبرر القول باستقلالها عن النصوص والأدلة الشرعية، أو لجعلها مصدرًا يضاهي الوحي الكريم والإجماع المبارك، وكل ما في الأمر أن المقاصد التي تحددت في ضوئها أحكام تلك المشكلات، إنما هي معان ومدلولات شرعية مستخلصة من الأدلة والنصوص والقرائن الشرعية الدينية، ومندرجة ضمن الضوابط والقواعد والقواطع الإسلامية المعلومة، فكأن معالجة تلك المشكلات قد تمت بما أوصل إلى تقرير تلك المقاصد من نصوص وأدلة وقرائن .. ولكن وبموجب تناهي النصوص ومحدوديتها في مقابل ضخامة الأقضية والحوادث، تأكد الاجتهاد فيما يستجد على وفق المقاصد وفي ضوء النصوص والأدلة.
ومما يجدر التذكير به أن عرض هذه المشكلات والوقائع ليس بالأمر الجديد، إذ ليس فيه من الإضافة سوى الترتيب والتبسيط والتوضيح، وإبراز الناحية المقاصدية والجانب المصلحي لها تمشيًا مع طبيعة هذا البحث ومتطلباته، وقد كان لمن تصدى لهذه المشكلات - أفرادًا أو مؤسسات - فضل البحث والدراسة والتكييف الفقهي ومناقشة الأقوال والأدلة والترجيح بينها، واستخلاص ما ينبغي استخلاصه من أحكام ومواقف شرعية فقهية.(1/170)
وقد التزمت بطابع الاختصار والتنوع والأمانة، فأبرزت المشكلة بإيجاز وأوردت حكمها وذكرت الخلاف حيالها غالبًا، وركزت على إبراز ما تضمنته من مصالح ومنافع جلبًا وتحصيلاً، ومفاسد وأضرار درءًا وإبعادًا.
وتلك المشكلات وغيرها مبسوطة في مظانها من الكتب المعاصرة والدراسات الجامعية والبحوث والقرارات المجمعية، وهي مفيدة جدًا ومهمة في بيان طبائعها وجوهرها ومتعلقاتها الفقهية والمقاصدية والواقعية، وغير ذلك مما يبرهن قطعًا ويقينًا على صلاحية الشريعة وفاعلية الاجتهاد، ودور العلماء في بيان أحكام الله تعالى وتثبيتها في الوجود والحياة في مختلف النوازل والوقائع والمستجدات.
ويمكن أن نوزع تلك المشكلات إلى ثلاثة مجالات: المجال التعبدي، والمجال الطبي، والمجال المالي.
المبحث الأول: المشكلات التعبدية في ضوء الاجتهاد المقاصدي
مكبرات الصوت في العبادة:(1/171)
اتخذت في العصر الحالي مكبرات الصوت ومضخماته في الآذان والصلوات والجمعات والعيدين وخطبة عرفات وتنظيم الحجاج وترحيلهم، والمقصد من ذلك كله هو إسماع الجمهور وإفادتهم بمحتوى ما يُذاع من معان وتوجيهات إسلامية، وكذلك تنظيم العابدين المصلين وحملهم على أداء العبادة على أحسن وجه، من حيث الاستواء، والائتمام، وعدم سبق الإمام، وتجسيد مظاهر الوحدة والاعتصام، وغير ذلك من مقاصد العبادة، التي يكون إسماع القائمين بها شرطًا ضروريًا لها، هذا فضلاً عن أن اتخاذ تلك المضخمات ليس له ما يعارضه من الناحية الشرعية، فهو لا يخل بجوهر العبادة ولا يعطل ما وضعه الشارع لصحتها وكمالها، ولم يأت على خلاف الأصول والقواعد العامة، بل إن له ما يعضده ويقويه، وهو المتمثل فيما يعرف بالمسمِّعين الذين يتولون إسماع المتأخرين والمتباعدين عن الخطيب والإمام والمدرس في المناسبات الكبرى، كمناسبة خطبة عرفة وصلاة العيد وغير ذلك، ثم إن القاعدة الشرعية تقول : بأن ما لا يتم واجب الاستفادة مما يقوله المتكلم إلا به فهو واجب.
الصلاة في الطائرة والمكوك والصاروخ:
يرى بعض الفقهاء أنه إذا حان وقت الصلاة والطائرة مستمرة في التحليق، وخشي المسلم من فوات وقت الصلاة، فإنه يجوز له أو يجب عليه أداؤها بقدر الاستطاعة، أما إذا علم أنه يقدر على أدائها في وقتها بعد نزول الطائرة، أو جمعها مع غيرها كالظهر مع العصر أو المغرب مع العشاء، فإنه في هذه الحالة لا يجوز له أن يصليها في الطائرة، والمقصد من ذلك هو المحافظة على أداء الصلاة في وقتها ونفي الضرورة والتكليف بما لا يُطاق، والتيسير على المصلي بأمره بأدائها بحسب مستطاعه ومقدوره .
الصلاة على الكراسي:(1/172)
اقترح أحدهم أداء الصلوات الجماعية على الكراسي كما يفعل النصارى في الكنائس، لضمان الخشوع والتأمل وتكميل مظاهر الوحدة والسكينة، وقد اعترض على هذا الاقتراح الهزيل المضحك بأنه سذاجة وسخافة لمعارضته لأصل التعبد والامتثال، ذلك أن القيام في الصلاة والاستواء في الصفوف وأعمال الركوع والسجود والجلوس والقيام وغيره، هي من الأمور المطلوبة بالكيفية التي حددها الشارع، وهي لا تقبل الاجتهاد بالتغيير أو التنقيح أو التعديل، لأنها من القواطع اليقينية الدائمة إلى يوم الدين، وهي مما تحقق إرادة الامتثال الأكمل والخضوع الأتم المعبود، ولا يعبد الشارع إلا بما شرع .
تغيير صلاة الجمعة إلى الأحد:
اقترح أحدهم كذلك تغيير صلاة الجمعة للمقيمين في أمريكا إلى يوم الأحد، لإحضار أكبر عدد ممكن من المصلين ولتعميم الفائدة والنفع، وقد اعترض على هذا الاقتراح السخيف المضحك بأنه وقوع في التشريع بالهوى والتشهي، وتعطيل لثوابت العبادة والامتثال، وأنه تغيير لحدود الله تعالى، وتبديل لما وضعه من أمارات وشروط وقرائن مضبوطة لا تقبل الزيادة ولا النقصان، مهما تطورت الحياة وازدهرت الحضارات، فالجمعة عبادة محددة بزمن معلوم وهو زوال يوم الجمعة وليس يوم الأحد .
اعتماد الرؤية والاستئناس بالحساب في ثبوت الشهر:(1/173)
ثبوت الشهر يتم بالرؤية الشرعية ويستأنس فيه بالحساب لورود الأدلة على ذلك، أما الدعوة إلى ترك الرؤية والاكتفاء بالحساب فهي مردودة وضعيفة لمعارضتها لأدلة موضوعة لتقرير أمر تعبدي وشعائري، تثبت بموجبه فريضة الصيام المحكمة ومناسك الحج القاطعة، ولأنه مفوت لحكم وأسرار كثيرة تترتب على ممارسة الرؤية، لعل من أهمها تهيئة المسلمين، روحيًا ووجدانيًا لاستقبال الصيام والحج، وتعميم الفرحة والسعادة بالعيدين، وإشاعة الأجواء المعنوية والمظاهر الحسية العامة المؤدية إلى تحبيب الناس في الشعائر وتقريبهم منها، وإعمال النظر في الأفق المتعالي والتأمل في الكواكب السيارة وتطوير معارف الفضاء، وغير ذلك من مدلولات الحث على الرؤية، صومًا وإفطارًا، حجًّا واعتمارًا، تأملاً واختبارًا .
الإحرام من جدة:
الإحرام له مواقيته الزمانية والمكانية، وهو من التعبدي الذي لا يقبل الاجتهاد، والدعوة إلى تغيير مكان الإحرام وتعويضه بجدة عمومًا قول مردود، وما قيل في إمكانيته في بعض الأحوال فهو من قبيل الإفتاء الخاص المحدد بشروطه وحدوده، وليس من قبيل التشريع المؤبد المغاير لأحكام الشرع، فالمواقيت محددة ومضبوطة، وجدة ليست منها، والإمكانات العصرية متوفرة لأداء الإحرام في الطائرة أو السفينة من الميقات المكاني الشرعي المحدد بالنصوص الشرعية الثابتة والصحيحة .(1/174)
وما قيل في إن محاذاة الميقات من الطائرة غير ممكن، أو إن ظروف الطائرة الداخلية غير مناسبة على نحو ما يتهددها من مخاطر تسرب المياه في أسلاكها وأجهزتها، وعلى نحو شدة برودة الجو ويحتاج إلى التدثر بالثياب، وفي الغالب لا يوجد في ثياب الإحرام ما يصلح للتدثر، فكل ما قيل لا يصمد أمام مبدئية ومشروعية الإحرام من الميقات المكاني المحدد، فتحديد الميقات معناه عدم تجاوزه إلا في حالة إحرام وقصد وتجرد، واستعداد معنوي وحسي كامل، تعظيمًا لشعائر الله ، ومخالفة للمعهود من العيش، واستحضارًا لحال الإنسان عند موته وبعثه، وإرادة الامتثال وطلب العفو والرضا والمغفرة من الرحمن الرحيم، وغير ذلك مما يحصل بفعل الإحرام بشروطه وآدابه والتي منها أداؤه في ميقاته برًّا أو جوًّا أو بحرًا .
أما ظروف الطائرة فهي في العصر الحالي أفضل من ظروف البر بكثير، فمناخها مكيف وأجهزتها متطورة، ومواسير مياهها في حل من أسلاكها وأجهزتها، وصانع الطائرة ما صنع دوراتها المائية إلا ليستعملها الركاب كلهم أو بعضهم، والحجاج يمكنهم الاغتسال والتجرد من منازلهم، وليس لهم في الطائرة سوى فعل النية والتلبية وغيرها مما لا يوقع في حرج الازدحام والاختلاط في الطائرة، بل إن فعل أعمال الإحرام في الطائرة ليس فيه ما يخل بأمن الطائرة أو راحة الركاب أو سماحة الإسلام، أو غير ذلك مما يبرر به الكثير قولهم بفعل الإحرام من جدة .
طوابق الطواف والسعي والرجم:
اتخذ ذلك لتيسير المناسك ورفع الضرر المترتب على كثرة الوافدين وشدة الازدحام، ودرء المشاق غير المعتادة والتي تصل إلى حد الموت المحقق والهلاك المبين، وفي أقل الحالات إلى تفويت الحج، وأدائه بكيفية مختلة ومضطربة ومنقوصة بسبب ذلك الازدحام، وقد بني هذا الأمر على قواعد التيسير والتخفيف ومبادئ نفي الضرر وإزالته، وعلى التوجيه النبوي الكريم المتعلق بفعل الميسور، وتجنب الحرج الواقع أيام منى .
الرجم ليلاً:(1/175)
أفضل الرجم بعد الزوال كما هو معلوم في السنة العطرة، غير أن الفقهاء والمجتهدين توسعوا في وقت الرجم، مراعاة للتيسير والتخفيف عن الحجاج ورفع الحرج والضيق ونفي الهلاك المحقق أو المحتمل، وبناء على بعض الآثار الشرعية الداعية إلى واجب رفع المشقة عن أصحاب الأعذار الشرعية الذين لا يمكنهم فعل الرجم في الوقت الأفضل، مثل الرعاة والسقاة والنساء الثقالى والقائمين على الرعاية الصحية والمرورية والأمنية لضيوف بيت الله الحرام.
المبحث الثاني : المشكلات الطبية في ضوء الاجتهاد المقاصدي »
الاستنساخ:
أجمعت كل الآراء والموقف الفكرية والسياسية والقانونية على منع الاستنساخ البشري، وعلى اعتباره من أخطر الكوارث العلمية وأفزع منتجات الحضارة والتقدم والنماء المعرفي التكنولوجي، وذلك لما سيؤول إليه من نتائج مروعة وعواقب وخيمة على مستوى النظام الكوني ومنظومة الأخلاق والقوانين والأعراف الإنسانية العامة والخاصة.
فهو مميت للمؤسسة الزوجية وقاتل للمجتمع الإنساني، لإحداثه لأسلوب غريب في عملية التناسل والإنجاب، ولمعارضته الصريحة لمعاني المودة والسكن، والرحمة والتآلف، والإعمار والتنمية، وغير ذلك من المعاني والقيم التي تتربى لدى الناشئة، بموجب البناء الأسري والتماسك الاجتماعي، وليس بمقتضى آلية الاستنساخ وطريقة إخراج الناس في شكل علب ومصنوعات معملية مخبرية.
وهو موقع في إبادة مقصد حفظ النسب والعِرض، ومفض إلى الفوضى الأسرية، والطوفان الاجتماعي، ومضيع لقيمة الأمومة والبنوة والزوجية وسائر القرابة الدموية والعلاقة الصهرية، التي بني نظام الكون وسنن الحياة على وفقها، ففي نظام الاستنساخ لا تقدر على معرفة علاقة المستنسخ بغيره لا على سبيل القطع ولا الظن، فكيف تقدر على فهم ما ترتب على ذلك من حقوق وواجبات وآثار قانونية وأدبية لازمة.(1/176)
إن الاستنساخ مناف لقيمة التنوع الإنساني واختلاف الألوان والأشكال والألسنة، قال تعالى : (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم) ( الروم:22). وقد كان من أغراض التنوع المذكور تحقيق التمايز، وتحديد نوعية الأواصر الأسرية والاجتماعية والكونية، وإثبات الحقوق والواجبات، وإقامة العدل والأمن، والتفريق بين المتهم الحقيقي والمتهم الوهمي الذي قد يحمل نفس العلامات والشبه الذي يحمله المتهم الحقيقي، فماذا تنتظر من الأشخاص المستنسخين سوى التشابه والتماثل المضيعين للحقوق، الموقعين في الفساد والهلاك؟
إن الاستنساخ معارض لقيمة حقوق الإنسان وكرامته ومكانته بين سائر الكائنات والمخلوقات، فالإنسان الذي كرّمه الله تعالى وشرّفه بنعم الإيمان والإسلام، والحياة والعقل، سيستوي مع الفئران والضفادع والقردة الموضوعة في المختبرات والمعامل، لإجراء الاختبارات والتجارب عليها، ثم عرض نتائج ذلك لعامة الناس، لإدخالها في سوق المساومات والمزايدات، وفي دور السمسرة والمتاجرة، كما أنه سيتعرض إلى أبشع مذبحة في التاريخ وأرذل مجزرة، من خلال إماتة شخصه وعواطفه وأحاسيسه، وتدمير خصائص كيانه وسماته، وجعله كتلة من اللحم جامدة، ونسخة مطابقة للأصل، ليس لها من الفعل والكدح والمجاهدة والتعبد والتحرر والتوجه نحو قيم الله الخالدة سوى ألقاب جوفاء وشعارات خاوية وفارغة.(1/177)
إن الاستنساخ موقع في توهم مضاهاة خلق الله تبارك اسمه، وفي ادعاء درجة مهمة من التخليق، كما سولت لهم نفوسهم تسمية الاستنساخ بالتخليق للدلالة على أنه قريب من الخلق - تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا - فأين هم من الخلق أو من بعض الخلق الذي تفرّد الله ذو العزة والجبروت به، وأين هم مما أوهموا به ضعاف النفوس، ومغفلي العوام، ومرضى القلوب، ولعلهم يدركون ذلك جيدًا ويقينًا، إذ لم يسعفهم حظ النجاح بنسبة واحد في البليون، ولم يكن عملهم في الاستنساخ إلا باعتماد مواد مخلوقة وموجودة قبل خلقهم هم أنفسهم، والانطلاق منها بالتنسيق بينها وفق سنن الله وقوانينه، التي دعا الناس إلى إعمالها ومراعاتها، فهم مطبقون لأحكام الله ، ومنفذون لأوامره اختيارًا واضطرارًا، ومقيدون بما فوضهم فيه خالق السموات والأرض، وصدق الله حين قال : (والله خلقكم وما تعملون ) (الصافات:69).
الاستنساخ النباتي والحيواني:
نُظر إلى الاستنساخ في دائرة النبات والحيوان على أنه ذو فوائد ومنافع مختلفة، على نحو الإكثار من المنتوج، وتحسين النوعية بأيسر الجهود وأقل التكاليف، وتحسين الأدوية كمًّا ونوعًا . إلا أنه وعلى الرغم من ذلك فإنه يظل محل حيطة وحذر وتريث في الحكم عليه وعلى آثاره ونتائجه، لتجنب ما قد يحدثه من أخطار خفية ومفاسد محتملة لا تظهر إلا بعد التجارب المتواصلة والمدد المتعاقبة، كما هو الحال في آفة جنون البقر، التي لم تُعرف إلا بعد أن (وقع الفأس في الرأس ).
فواجب العلماء والخبراء تحقيق أمر الاستنساخ النباتي والحيواني، وتدقيق وضعه وطبيعته، وبذل الجهد الأقصى لاستشراف آثاره ومآلاته، حتى لا يعود على الإنسان بوبال أعظم وخطر أعم مما ينتظر من فوائد ومنافع اقتصادية وصحية وبيئية، وأصل ذلك مقرر معلوم، ودرء المفاسد مقدّم على جلب المصالح، ويرتكب الضرر الأخف لدرء الضرر الأشد، وغير ذلك كثير.
قتل المريض الميؤوس من شفائه:(1/178)
حَكَمَ العلماء قديمًا وحديثًا بمنع وتحريم قتل المريض الميؤوس من شفائه مهما كانت جسامة مرضه، ومهما تقدمت درجة إشرافه على الموت المحقق والهلاك الواضح والظاهر، وقد نُظر في ذلك الحكم إلى جملة من المعطيات الشرعية والأسرار المقاصدية التي نوردها بإيجاز فيما يلي :
_ إن أجلى حكمة لمنع القتل هو المحافظة على حق الحياة، الذي هو هبة إلهية عظمى لا يجوز لأي مخلوق أن يضعه تحت تأثير التلاعب والأمزجة والعواطف، فقد جعل الخلاقُ العليمُ الحياةَ حقًّا شرعيًا وإنسانيًا، يتصرف فيه وحده، بداية ونهاية، صحة ومرضًا، وأمرًا مقدسًا لا يخضع للاستخفاف واللامبالاة، لذلك اعتبر قاتل النفس الواحدة كقاتل الناس جميعًا .
_ إن الآجال بيد الله تعالى، وإن دور الأطباء يتمثل في اتخاذ الأسباب والسنن التي توصل في الغالب إلى نتائجها ومسبباتها بحسب مشيئة الله تبارك وتعالى، وإن حكم الطبيب على صحة هذا المريض أو موته هو كذلك بحسب الظاهر والظن الغالب، وقد يكون بعض المرضى الذين يئس من شفائهم وحُكم عليهم بالموت ممن لا ينطبق عليهم ذلك الحكم، فيكونون عُرضة للتلاعب والإجحاف والتعسف والحرمان من فرصة الحياة، بموجب قرار إنساني قاصر ومتعجل وعام وأغلبي، وبمقتضى ادعاء وهمي لا فائدة فيه .
_ إن تشريع هذا القتل ذريعة إلى الاستخفاف بصحة المريض، وطريق مفض إلى عدة أعمال وممارسات قد تتناقض مع شرف مهنة الطبيب وأخلاقياته الإنسانية النبيلة، ومع أيمانه المغلظة بأن لا يبيح سرًّا للمريض ولا يعطيه دواءً قاتلاً، ولا يؤذيه بأي نوع من أنواع الأذية، ماديًا أو معنويًا، بل إن قَصْدَ قَتْلِه ليعد من أكبر الكبائر في عالم الجنايات والجرائم، هذا فضلاً عن تنفيذ ذلك وفعله .
_ إن تمكين المريض الميؤوس من شفائه مِن أَخْذِ حَقِّه في العلاج حتى في الفترات المستعصية دون تدخل لوضع حد لحياته وآلامه، إن تمكينه من ذلك فيه فوائد كثيرة، منها :(1/179)
_ تعميق البحوث والخبرات والتجارب الطبية التي ستحقق بلا شك التطور الطبي المنشود، إذ إن البقاء مع المريض ومعاشرته وبذل الجهد لإنقاذه حتى في الحالات التي يظن أنها مستحيلة الشفاء والآمال، كل ذلك قد يخدم المجال الطبي، وقد يجعل من قطعيات اليوم ظنيات الغد، فيصير المرض الذي اعتبر اليوم هلاكًا محققًا مفضيًا إلى الموت داءً عاديًا سهل العلاج غدًا .
_ تعميق معاني المواساة والتضحية والصبر والوفاء والتضامن بين أهل المريض وأبناء المجتمع، فيتماسك المجتمع وتتكامل جهوده وتزدهر حضارته.
أما إذا شرع هذا النوع من القتل ذاته، فإنه سيكون طريقًا سهلاً للفرار من الواجب الإسلامي والأدبي إزاء المريض من قبل أهله وذويه، وهو في حاجة ماسة إلى عطفهم ومعاناتهم، هذا فضلاً عما سيكتب لهم من الأجر والثواب والجزاء الحسن عند الله تعالى نظير صبرهم وتضحياتهم.
_ إعطاء المريض فرصة للخروج من الدنيا بأقل الذنوب والأوزار، وذلك بما يعانيه من الآلام المخففة للذنوب والعذاب، فقد ورد أن المريض أو المحتضر الذي يصارع آلام السقم أو النزع، له من الأجر والخير العظيمين في الدنيا والآخرة، لكن لا ينبغي أن يفهم هذا على أنه تنويه بالعذاب وحث عليه، ولكنه واقع لا محالة.
زرع الأعضاء:
التبرع بالعضو والتوصية به قبل الموت قصد الانتفاع به، بزرعه بدل عضو معطل، أو التعلم به، أمر اختلفت فيه أنظار الفقهاء، فمنهم من أجازه لما فيه من المصالح الشرعية المقررة، ومنافع الاستفادة من العضو تعلمًا أو استعمالاً، مع وجوب استيفاء الشروط الضرورية الشرعية لذلك، والتي منها : أن لا يؤخذ العضو من الميت إلا بعد تحقق وفاته، ولا من الحي إلا بعد التأكد من عدم ضرره عليه، ويرجى يقينًا نفعه لمن سيزرع له هذا العضو.(1/180)
ومنهم من منعه محافظة على حرمة الميت وكرامته، وبناء على أن الجسم ملك تعالى لا يجوز التصرف فيه بالبيع أو التبرع أو غير ذلك. وعلى أي حال، فإن القول بجوازه أو منعه مبني في جزء كبير منه على مراعاة المقاصد والالتفات إليها والتعويل عليها في الجواز أو المنع.
نقل الدم:
وهو نقل الدم على سبيل التبرع من شخص صحيح إلى من يحتاجه لإجراء عملية جراحية أو تعويض الفقر الدموي ونحوه، فهو جائز ومرغب فيه لما فيه من التعاون على البر والتقوى، وإدامة المعروف والإحسان، وإسهامًا في إنقاذ النفوس من الهلاك والموت بسبب الحوادث والأمراض، فهو بهذا الاعتبار محقق لمقصد حفظ النفوس، ومقصد حفظ الدين من ناحية تربية الناس على معاني التعاون والمواساة والتضحية ودرء الأنانية والجشع، وتحبيبهم في أحكام الله ورسوله الداعية إلى فعل المعروف وإدامته.
بيع الدم:
وهو الأمر الذي اختلف في حكمه، فمنهم من منعه لأن الدم المسفوح نجس، ولأنه جزء من أجزاء الإنسان التي يمنع بيعها لحرمتها وكرامتها، ومنهم من أجازه لما فيه من المنفعة المشروعة، وحتى لو كان نجسًا فإنه لا يمنع بيعه بناء على جواز بيع النجاسات، إذا تعلقت بها مصالح ومنافع، على نحو بيع الزَّبْل وسائر النجاسات التي تتخذ سمادًا للأرض بغرض إخصابها، وكذلك يمكن أن يقاس على بيع لبن الآدمية في أصح الأقوال، وعلى أخذ الأجرة في العبادات كالإمامة والأذان ورعاية المساجد وغيرها، أضف إلى ذلك الضرورة القاهرة التي تحتم بيعه حفظًا لمصالح الناس وإحياء النفوس، ولا سيما عند عزوف الناس عن التبرع والتطوع، وهذا لا يغني عن حث الناس على فعل المعروف، وإدامة التطوع والإحسان، عوضًا عن بيع الدم وأخذ عوض عنه.
الإجهاض في حالة الاغتصاب:
من أبشع الجرائم والمنكرات الاغتصاب والتعدي على العرض الذي أقره الله تعالى أصلاً مقطوعًا به في كل الملل والنحل.(1/181)
وقد تتعرض المرأة إلى تلك الجريمة البشعة ويتكون في بطنها جنين بسبب ذلك، فتبقى في حيرة لا نهاية لها وتظل في تردد بين إسقاطه وما يستتبع ذلك من شعور بإثم الجناية على مخلوق، وبين إبقائه وما يستتبع ذلك من شعور بالخزي، وحصول أمراض نفسية وجسمية!
وحكم الإسقاط يختلف باختلاف مدة الحمل، فإذا كانت مدة الحمل أقل من أربعة أشهر يجوز الإسقاط على أساس أنه لم يتخلق، والمقصد من ذلك هو درء المشكلات النفسية والحالات المرضية للمعتدى عليها، وتمكينها من التخلص من آثار الجريمة البشعة.
أما إذا كانت مدة الحمل قد تجاوزت أربعة أشهر، فإن المرأة عليها أولاً أن تتأكد طبيًا قبل مرور هذه المدة من حملها مباشرة إثر اغتصابها، وعليها الإسقاط إذا تأكدت من ذلك الحمل قبل مرور الأشهر الأربعة، وإذا لم تتمكن من ذلك لعذر شرعي كحالة قيام الحروب، كما وقع في حرب البوسنة والهرسك، وبلغ الجنين مائة وعشرين يومًا، (فإن قواعد الشريعة تتسع لجواز الإسقاط كحالة من حالات الضرورة مع دفع الكفارة، والضرورة لها أحكامها).
وتدرك الضرورة في حالة الاغتصاب بأن المعتدى عليها تصاب - في الغالب والأعم - بمرض نفسي يؤدي إلى مرض جسماني قد يودي بحياتها، فإسقاط الجنين في هذه الحالة أخف ضررًا من موتها .. وتدرك الضرورة أيضًا من وجود طفل غير شرعي يحتاج إلى نفقة وإلى مَن يقوم بتربيته، ناهيك بأن المجتمع المحافظ كما هو الحال في المجتمعات الإسلامية لا يقبل في الغالب وجود أطفال غير شرعيين، الأمر الذي قد ينتج عنه أضرار لهم أنفسهم وللمجتمع الذي يعيشون فيه.
وإذا أرادت المعتدى عليها إبقاء جنينها ولم توجد ضرورة قاهرة وحرج أقصى، وجب عليها عندئذ المحافظة عليه ورعايته، وإخراجه إنسانًا صالحًا، (فالمسألة ليست مجرد رغبة جامحة أو استخفاف بمخلوق من مخلوقات الله ، ولكنها مسألة ضرورة إذا وجدت جاز ارتكاب المحظور لدفع ما هو أكبر منه، وإلا فلا).(1/182)
المبحث الثالث : المشكلات المالية في ضوء الاجتهاد المقاصدي »
زكاة المستغلات:
المستغلات هي الأموال التي تعود على أصحابها بفوائد وأرباح بواسطة تأجير عينها أو بيع ما يحصل من إنتاجها، ومثالها : العمارات والمصانع والفنادق وقاعات الأفراح والسيارات والطائرات والسفن وسائر وسائل النقل التي تنقل البضائع والأشخاص، وغير ذلك.
وقد اختلفت أنظار الفقهاء حيال مسألة الزكاة في هذه الأصناف المالية، فمنهم من مال إلى عدم الزكاة فيها، بناءً على أنها ليست من الأصناف التي تحددت الزكاة فيها، ومنهم من أوجب الزكاة فيها، بناءً على عدة أمور، منها:
ــ أنها من الأموال التي أوجب الله فيها الزكاة .
ــ أن علة وجوب الزكاة معقولة المعنى، وهي النماء والزيادة، وهذه الأموال توجد فيها هذه العلة، فيكون حكمها الوجوب لدوران العلة مع المعلول، وجودًا وعدمًا .
ــ أن حكمة تشريع الزكاة هي التزكية والتطهير لأرباب المال أنفسهم، ومساعدة المحتاجين، والإسهام في حماية دين الإسلام وتقوية الدولة المسلمة، وغير ذلك من الحِكَم والأسرار التي تجعل الزكاة في هذه الأصناف أولى وأنسب. وإذا كانت الزكاة واجبة على صاحب الزرع والثمر القليل، فكيف لا تكون واجبة على مالك العمائر والمصانع والسفن والشاحنات، التي يكون دخلها أضعافًا مضاعفة؟!
زكاة الرواتب والأجور ومختلف أنواع المال المستفاد:
المال المستفاد إذا حصلت شروط الزكاة فيه مثل النماء والنصاب وغيره، وجبت فيه الزكاة، وذلك مثل أجرة الطبيب والمحامي والمهندس والصانع والأستاذ والمقاول ورجل الأعمال والموظف والحرفي وغيرهم، ودليل ذلك :
ــ دخولهم في عموم النص الموجب للزكاة .(1/183)
ــ إذا كان الشارع افترض الزكاة على الفلاح الذي يملك خمسة أفدنة، فإنه من الأنسب والأولى أن تجب الزكاة على صاحب حرفة كبيرة كالمحاماة والطب والهندسة، الذي تدر عليه خمسين فدانًا، بل إن ما يكسبه الطبيب في يوم واحد والمحامي في قضية واحدة يعدل ما يكسبه الفلاح طوال سنة بحالها، وهذا الرأي هو الأقرب إلى روح التشريع ومقاصد الشرع، وأنسب لصاحب المال، من حيث تطهير نفسه وماله، ولصاحب الحاجة من حيث مواساته ومساعدته .
دفع القيمة في الزكاة:
اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من منع إخراج القيمة استنادًا بالأساس إلى اعتبار الزكاة عبادة وقُربة أكثر منها معاملة غايتها المواساة والإحسان وسد الحاجة، ومنهم من أجاز إخراج القيمة بدلاً عن العين، بناءً على عدة أمور، منها ما يتصل بالمقاصد والتعليل، ويتمثل بالأساس في أن إخراج القيمة هو الأليق بالعصر وأهون على الناس، وأيسر في الحساب، ما لم يكن في ذلك ضرر بالفقراء أو أصحاب المال.
ففي زكاة الفطر مثلاً يكون إخراج قيمتها أقرب إلى روح التشريع ومصلحة الفقراء، من حيث التوسعة عليهم وإغنائهم عن الحاجة في يوم العيد، ولا سيما فيما يتعلق باقتناء بعض حاجات اللباس والطعام (مثل حلويات العيد )، وغير ذلك من الحاجات التي يكون الفقراء في أشد الشوق إليها، والتي لا يمكن أن يعدوها ويحضروها إلا في وقت متسع، وإذا أخذوها نقدًا وقيمة .
البيع بالتقسيط:
حكمه الجواز، لأن الأصل في الأشياء الإباحة، ولم يرد نص على تحريمه، وللبائع أن يزيد في الثمن لاعتبارات يراها ما لم تصل إلى الفحش.
أما الذين اعتبروه شبيهًا بالربا من جهة أنه زيادة في المال في مقابل الزمن، فهو غير ذي وجاهة معتبرة، لقيام الفرق بين الزيادة بسبب الزمن في القرض، وبين الزيادة بسبب البيع والتجارة .
بيع المزاد العلني:(1/184)
وهو بيع جائز، كما في بيع السيارات والحيوانات ومختلف الأمتعة، التي تعرض للبيع، ويتزايد الناس في سعرها، إلى أن يرضى البائع عن سعر معين، فيبيعها لمن اقترح ذلك السعر .
وهو نوع من أنواع التعامل المشروع الملبي لحاجيات السوق ومصالح الناس، مع ما ينبغي من استيفاء للشروط والضوابط الشرعية، حتى لا يخل بحقيقة العقد ومشروعية البيع ومصلحة أحد الطرفين.
ربط الديون والقروض والمعاملات بمستوى الأسعار:
حكمه المنع والتحريم، لأنه يؤدى إلى الغرر الفاحش بمقدار الثمن، ويقلب الأوضاع، فتقوم النقود بالسلع بدلاً من أن تقوم السلع بالنقود، ولا يحقق العدالة، ولا يعالج مشكلة التضخم، ويعمق نفس علل الربا من الجهالة والنزاع والفحش الفادح بين المتعاملين، ويفضي إلى مزيد الظلم والإجحاف، لأنه يحمي الدائنين على حساب المدينين، الذين ليسوا سببًا في ارتفاع التضخم، والدائنون هم الأثرياء في الغالب، والمدينون هم الفقراء في الغالب كذلك .
ومن ثم فهو لون من ألوان التعامل المفضية إلى تعميق الأحقاد والضغائن، والتحامل بين المتعاملين بسبب التحايل والغرر والجهالة والضرر، وقد جاء قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة مانعًا لذلك فيما يلي : (العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة، لأن الديون تقضى بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أيًّا كان مصدرها بمستوى الأسعار).
التأمين التعاوني:(1/185)
وهو عقد بين جماعة كالتجار والمدرسين والجيران على دفع مقادير مالية، قصد الاستفادة منها عند حدوث مصيبة أو ظرف معين، يحتاج فيه صاحبه إلى المساعدة والمواساة، والغرض من هذا التأمين هو تخفيف المصيبة ودفع آثارها، وليس الربح، وهو واضح الجواز والحلية لما فيه من مراعاة المبادئ والقيم الإسلامية النبيلة على نحو : التعاون على البر والتقوى، وتفريج الكرب، وتخفيف النوائب، وتعميق معاني التكاتف والتضامن والتقارب بين أفراد البلدة الواحدة والمجتمع الواحد.
ويمكن أن يكون الغرض منه كذلك الربح الذي سيعود نفعه على المشتركين المصابين، وذلك باستثمار الأموال المدفوعة في الأعمال المشروعة كالمضاربة والمزارعة، مع ضرورة استحضار شروط ذلك من معرفة رأس المال والربح وكيفية توزيعه.
فالربح هنا ليس هو مجرد كسب المال وحيازته لشخص واحد، بل هو محقق لهدف التعاون، لأنه سيعود على الكل، فكأنه زيادة للمقادير المالية المدفوعة الموضوعة، لمواجهة النوائب والشدائد، كما أنه واقع بممارسة طرق مشروعة في استثماره وتنيمته.
التأمين التجاري:
وهو عقد بين طرفين : مؤمِّن ومؤمَّن له، يقوم المؤمِّن بدفع مال للمؤمَّن له عند حلول خطر به، وقد عده الفقهاء عقد غرر من قِبَل المؤمن له، لأنه قد يأخذ العوض إن حصل الحادث وقد لا يأخذه إن لم يحصل .. ومن قبل المؤمن، لأنه قد يأخذ المبلغ المتفق عليه وقد لا يأخذه، وهو غير متعادل غالبًا. وقد عده بعضهم بأنه عقد جهالة وقمار وربا وضمان بجعل ورهان محرم، وهو منهي عنه لتلك الاعتبارات ولما يُفضي إليه من التنازع والغبن والضرر بأحد المتعاملين أو بكليهما، أضف إلى ذلك فإن هناك الكثير من التأمينات التجارية المرتبطة بالشركات الأوربية والصهيونية المتعاملة بالربا، والتي تسخّر ذلك لمزيد الإذلال والاستغلال والهيمنة.(1/186)
وقد أصدر المجمع الفقهي بمكة المكرمة قرارًا بالإجماع، يقضي بتحريم التأمين التجاري بكل أنواعه، سواء على النفس أو البضائع أو غيره، وذلك لأنه مشتمل على الغرر الفاحش، ولأنه ضرب من ضروب المقامرة، ولأنه مشتمل على ربا الفضل والنساء، فإن الشركة إذا دفعت للمستأمن أو لورثته أكثر مما دفعه من نقود لها، فهو ربا فضل، والمؤمن يدفع ذلك للمستأمن بعد مدة فيكون ربا نساء، وإذا دفعت الشركة للمستأمن مثل ما دفعه لها يكون ربا نساء فقط، وكلاهما محرم بالنص والإجماع، وهو كذلك مشتمل على الرهان المحرم، وسبيل لأخذ أموال الغير بلا وجه شرعي.
اعتبار المقاصد إطارًا شاملاً لمعالجة مشكلات العصر الحالي »
تعد المقاصد كما هو معلوم إحدى المعطيات التي يستند إليها المجتهدون في معرفة أحكام القضايا والحوادث، فقد اشترط العلماء قديمًا وحديثًا وجوب معرفة وفهم المقاصد ولزوم الاستنباط على وفقها، قال الشاطبي: (إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني التمكّن من الاستنباط بناء على فهمه فيها). وجاء عنه قوله كذلك: (فإن القرآن والسنة لما كانا عربيين لما يكن لينظر فيهما إلا عربي، كما أن من لم يعرف مقاصدهما لم يحل له أن يتكلم فيهما، إذ لا يصح له نظر حتى يكون عالمًا بهما، فإنه إذا كان كذلك، لم يختلف عليه شيء من الشريعة) وذكر كذلك أن: (الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص فلا بد من اشتراط العلم بالعربية، وإن تعلق بالمعاني من المصالح مجردة عن اقتضاء النصوص لها أو مسلمة من صاحب الاجتهاد في النصوص فلا يلزم في ذلك العلم بالعربية، وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملة وتفصيلاً).
وجاء عن ابن تيمية قوله: (فإن الاستدلال بكلام الشارع يتوقف على أن يعرف ثبوت اللفظ عنه، وعلى أن يعرف مراده من اللفظ ).(1/187)
وذكر العلامة محمد الطاهر بن عاشور: (فالفقيه بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة في هذه الأنحاء كلها، أما في النحو الرابع فاحتياجه فيه ظاهر، وهو الكفيل بدوام أحكام الشريعة الإسلامية للعصور والأجيال التي أتت بعد عصر الشارع والتي تأتي إلى انقضاء الدنيا، وفي هذا النحو أثبت مالك رحمه الله حجية المصالح المرسلة، وفيه أيضًا قال الأئمة بمراعاة الكليات الشرعية الضرورية وألحقوا بها الحاجية والتحسينية، وسمّوا الجميع بالمناسب، وهو مقرر في مسالك العلة من علم أصول الفقه).
والنحو الرابع الذي ذكره ابن عاشور: (هو إعطاء حكم لفعل أو حادث حدث للناس لا يعرف حكمه فيما لاح للمجتهدين من أدلة الشريعة ولا له نظير يقاس عليه). (والمقاصد إدراك لحكمة الشارع من التشريع، وهو الأليق بالاجتهاد والسبيل إلى الإصابة فيه).
فالمقاصد الشرعية من المعطيات الضرورية التي يعاد إليها في معرفة أحكام حوادث الزمان وأحواله، ولا سيما في عصرنا الحالي الذي تكاثرت قضاياه، وتضخمت مستجداته وتشابكت ظواهره وأوضاعه، وتداخلت مصالحه وحاجياته، وليس لذلك من سبيل سوى بجعل المقاصد إطارًا جامعًا، وميدانًا عامًا يمكن أن ندرج فيه طائفة مهمة من أوضاع عصرنا، لمعرفة ما هو شرعي ومتفق مع مراد الشارع ومقصوده، وما هو بعيد عن ذلك.(1/188)
وجعل المقاصد إطارًا جامعًا لمشكلات العصر، لا يعني كما ذكرنا ذلك في أكثر من موطن استقلال تلك المقاصد عن الأدلة، وجعلها تضاهي الوحي الكريم وتهيمن عليه كما قد يفهم بعضهم ذلك، أو يريد أن يصل إلى ذلك، وإنما يعني استخدام المقاصد باعتبار كونها معاني وقواعد مستخلصة من عموم الأدلة وسائر التصرفات والأمارات الشرعية المبثوثة في الكتاب والسنة والآثار الشرعية المتعددة، وباعتبار أن تلك المقاصد يلاحظ فيها شدة الالتصاق والتعلق بالوضع المدروس والمبحوث عن حكمه أكثر من غيرها من الأدلة والقرائن الشرعية، على الرغم من أن تلك الأدلة والقرائن هي التي شكلت أساس انبناء تلك المقاصد وقيامها وتحكيمها . ونذكر بأوضح شاهد هنا ما ذكره الغزالي بقوله : (... إن من ظن أنه أصل خامس فقد أخطأ، لأنا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع، ومقاصد الشرع تُعرف بالكتاب والسنة والإجماع).
فبيان حكم وضع أو حال معاصر يتم بإعمال المقاصد والأدلة معًا: بإعمال المقاصد بصفة مباشرة وبصفتها قواعد مستنتجة من الأدلة، وبإعمال الأدلة بصفة غير مباشرة بصفتها الشرعية، وباعتبار كونها أساس تلك المقاصد.
ولعل أوضح مثال على ذلك هو الاستنساخ الذي منعه العلماء في ضوء المقاصد الشرعية، وذلك لأنه مخل بمقصد حفظ النسل والنسب وغيره من المعتبرات المقاصدية الأخرى التي منع الاستنساخ في ضوئها، غير أن القول بمنع الاستنساخ في ضوء المقاصد لا يعني بداهة عدم الرجوع إلى الأدلة والقرائن الشرعية المتعلقة بذلك، وإنما يعني الرجوع إليها عن طريق استخدام مقصد حفظ النسل والنسب بالأساس، والذي توالت نصوص وأدلة شرعية كثيرة على إثباته وتقريره.
واللجوء إلى المقاصد لمعالجة مشكلات العصر يكون:(1/189)
ــ إما بوضع ثلة من المقاصد القطعية اليقينية، التي يعود إليها العلماء والمجتهدون في حسم الخلاف وتحديد حكم معين في قضية معينة لم ينص أو يجمع عليها، وهذا الذي دعا إليه بالخصوص العلامة ابن عاشور بقوله: (وكيف نصل إلى الاستدلال على تعيين مقصد ما من تلك المقاصد استدلالاً يجعله بعد استنباطه محل وفاق بين المتفقهين، سواء في ذلك من استنبطه ومن بلغه، فيكون ذلك باباً لحصول الوفاق في مدارك المجتهدين أو التوفيق بين المختلفين من المقلدين) .. وجاء عنه قوله كذلك عن غرض المقاصد: (لتكون نبراسًا للمتفقهين في الدين ومرجعًا بينهم عند اختلاف الأنظار، وتبدل الأعصار، وتوسلاً إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار، ودربة لأتباعهم على الإنصاف).
ونجد من قبيل المقاصد القطعية اليقينية، الكليات الخمس الشهيرة كحفظ الدين والعقل والمال، ومقصد التيسير ورفع الضرر، ومقصد دفع الضرورة القصوى والحاجة القاهرة، ومقصد تقرير الامتثال الأكمل والتعبد الصحيح، وارتباط المقاصد بوسائلها، ومقصد العدل والمساواة والأمانة، وسائر قيم الأعمال وفضائل الأخلاق .
ــ أو باعتماد المقاصد في الترجيح عندما يكون هناك تعارض ولا يمكن الجمع، إذ يقع الالتجاء إلى الاختيار والانتقاء في ضوء المرجحات الشرعية والمقاصدية . قال القرضاوي: (وهناك اجتهاد آخر أسميه الاجتهاد الانتقائي، وهو اختيار أرجح الأقوال من تراثنا الفقهي العظيم، مما نراه أقرب إلى تحقيق مقاصد الشرع ومصالح الخلق، وأليق بظروف العصر).(1/190)
ومن أمثله ذلك : زكاة العمارات والمصانع والسفن والفنادق والرواتب العالية كالمحاماة والطب والهندسة، وغير ذلك من الأصناف المالية المستفادة بطرق غير الطرق التي نصت عليها الأدلة جملة، كالتجارة والزراعة والذهب والفضة، والتي أوجبت فيها الزكاة إذا بلغت شروطها المعروفة، فإن هذه الأصناف المستحدثة ولئن لم ينص على وجوب الزكاة فيها صراحة، فإنها تأخذ حكم الوجوب عملاً بالمقاصد الشرعية في الزكاة، والمتمثلة في تطهير المال وتزكية المزكي ومواساة الفقير، وتقليل الفوارق بين الأغنياء والفقراء، وتحقيق العدل بين أفراد المجتمع وغير ذلك، فإن هذه المقاصد نجدها ملحوظة في الزكاة على هذه الأصناف، بل قد تكون أكثر ملاحظة وحضورًا بالنسبة إلى الأصناف المقررة كالغنم والحبوب والثمر، إذ لا يكون من العدل الذي أقره الإسلام كمقصد معتبر قطعي أن يؤمر صاحب القطيع من الأغنام بالزكاة ويترك صاحب الدخل القوي الذي يكسب في اليوم الواحد ما يكسبه صاحب القطيع في السنة كلها .
والمهم من هذا المثال هو اللجوء إلى المقاصد لترجيح حكم الوجوب على عدم الوجوب، الذي قال به بعض الفقهاء، لالتزامهم بعموم النصوص والأدلة وظواهرها.
العمل على تأكيد الثوابت الإسلامية »
يحتم الاجتهاد المقاصدي المعاصر العمل على تأكيد الثوابت الإسلامية، وجعلها غير قابلة للتغيير والتعديل تحت ضغوط الواقع المعاصر وبموجب تغيراته وتقلباته .. وتلك الثوابت والأساسيات تتمثل في جملة القواطع الشرعية على نحو العقائد والعبادات والمقدرات وأصول الفضائل والمعاملات، وتتمثل في جملة أمور منهجية تتعلق بخصائص منهج التغيير الإسلامي وأسلوب التوعية الإسلامية، وبيان الأحكام، وإقامة وحي الله تعالى وتثبيته في الحياة الإنسانية .. ومن تلك القواطع المنهجية:
- الجمع بين الكليات والجزئيات معًا:(1/191)
ومفاده أن دراسة ما يستجد من أوضاع العصر ينبغي أن تكون واقعة ضمن دائرة شمولية وكلية وعامة، تأخذ بعين الاعتبار جملة الكليات والجزئيات الشرعية، حتى يكون الحكم المتوصل إليه متطابقًا مع المقصود الشرعي أو قريبًا منه . قال الشاطبي: (فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنص مثلاً في جزئي معرضًا عن كلية فقد أخطأ، وكما أن من أخذ بالجزئي معرضًا عن كلية فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضًا عن جزئية).. وإن أي معالجة لجزئية معينة بمعزل عما يلتصق بها من كليات وأصول، يعد مخلاً بإحدى الثوابت الشرعية المقررة، ومفضيًا إلى نوع من الاختلال والاضطراب في سلامة حصول الأفعال وآثارها على وفق ما أراد الشارع الحكيم.
وهذا الذي وقعت وتقع فيه قديمًا وحديثًا أفهام وتأويلات كثيرة خاطئة، لاقتصارها فيما تبحث عنه على آحاد الأدلة وجزئيات الشريعة وظواهر النصوص، مما يوقعها في سوء التقدير وخطأ الاجتهاد ومناقضة المقاصد ومعارضة الأصول.(1/192)
فالشريعة الإسلامية نظام متكامل ونسيج يكمل بعضه بعضًا، ويفسر بعضه بعضًا، ولذلك كان النظر المقاصدي قائمًا على هذا الاعتبار، إذ لا يمكن مراعاة مقصد معين ومصلحة جزئية إلا إذا كان غير عائد على ما هو أهم بالإبطال والتعطيل، وأن يكون خادمًا للنظام المقاصدي كله، ومن قبيل ذلك تبينت حقيقة تعارض المصالح والترجيح بينها، المبنية بالأساس على هذا الاعتبار .. فالمصلحة الخاصة لا يؤخذ بها إذا تعارضت مع المصلحة العامة، والمصلحة الظنية تتفاوت درجات ظنيتها بحسب تواتر الأدلة عليها، إذ واجب المجتهد إذا أراد الحكم على ظنية المقصد أو قطعيته، النظر في أكثر ما يمكن من الأدلة، وأن يكون نظره دائرًا ضمن فهم متكامل ومتناسق لتلك الأدلة.. والمقصد لا يعتبر إذا تركت وسيلته الشرعية المتعينة، وكذلك الوسيلة ترد إذا لم تؤد إلى مقصدها الشرعي المعلوم، وغير ذلك من المسالك الشرعية والمقاصدية، التي يتمظهر فيها بحق البعد التكاملي والطابع الشمولي لدراسة الظواهر والحوادث، وتحديد أحكامها على وفق المقاصد والضوابط الشرعية.
ومن أوضح الأمثلة في ذلك مثال التأمين، الذي إذا أخذ على أنه معاملة مالية تحركها بعض الدوائر السياسية والفكرية لتمكين الغير من زيادة الهيمنة والاستغلال والإذلال للمسلمين والمساكين، وتقوية للمؤسسات الربوية وتعزيزها ونصرها على البنوك الإسلامية وعلى الاقتصاد الإسلامي والتحضر الإسلامي وغير ذلك، فإن التأمين إذا نُظر إليه بهذا الاعتبار الذي راعى الإطار العام الذي يتنزل فيه في الوقت الراهن، فإنه يعد بلا مجال للشك أو التردد من المعاملات المحظورة، خدمة للمقاصد الشرعية المتمثلة - في سياقنا هذا - في وجوب إضعاف الاقتصاد الربوي التسلطي، وعدم الوقوع في فخ المتحاملين الساعين إلى تعزيز قوى الهيمنة الاستعمارية والابتزازية والمادية على حساب الأمم المنكوبة والجماهير المستضعفة.(1/193)
أما إذا أخذ التأمين على أنه خطة تعاونية تضامنية، تعزز قيم الخير والمعروف والإحسان، وتعمّق روابط الأخوة والمحبة والألفة، وتصحح ما شوهته الحضارة المادية وما تركته من مظاهر الأنانية القاتلة والجشع الهالك والشح المطاع والهوى المتبع وغير ذلك، فإن التأمين بحسب تلك الاعتبارات يعد من أنبل الأعمال وأعظم المنجزات الإنسانية والاقتصادية والحضارية، التي تجلب ما ينفع البشرية في عاجلها وآجلها.
إن هذا الضرب من الاجتهاد هو فعلاً صميم الاجتهاد وصورته الحية، التي تؤكد خاصية التكامل والشمول والواقعية والخلود لشريعة الإسلام، وهو الذي يأتي على القضية المدروسة لينظر في حقيقتها وماهيتها، بواعثها وخفاياها، نتائجها ومآلاتها، ملابساتها وظروفها، خلفياتها السياسية والفكرية والأيديولوجية والعالمية .. وهو ليس غريبًا عن منهج الاجتهاد منذ نشوئه وبعثه، وهو الذي يعبر عنه بتعبيرات شرعية متنوعة على نحو اعتبار الكلي مع جزئياته، وقصد المكلف، واعتبار المآل، وتحقيق المناط العام والخاص، ومناسبات النزول والورود، والعلم بالواقع، ومعرفة العصر وغير ذلك.
والدعوة إلى جعل المقاصد إطارًا شاملاً لواقع العصر الحالي دون شذوذ أو استقلال عن المنظومة الشرعية، ليس سوى تأكيد لمبدأ اعتبار الجمع بين مراعاة المقاصد ككليات للمشكلات، والحوادث التي تمثل جزئيات وفروعًا لتلك الكليات العامة.
اعتماد التدرج والمرحلية والفقه الأولوياتي:
تعد هذه الخاصية من الثوابت المهمة في عملية الإصلاح والتغيير وتنزيل الأحكام، وهي ذات أصول ممتدة إلى العصر النبوي وعصر السلف .. وليس موضوع مناسبات النزول والنسخ وبعض مباحث التعارض والترجيح في الأخبار والمعاني وغير ذلك، إلا دليلاً على تقرير هذا المبدأ العظيم، ووجوب الالتفات إليه في عملية تنزيل الأحكام، وإصلاح الناس، وتحقيق المقاصد.(1/194)
وعصرنا في أشد الحاجة إلى طروحات ومناهج تعتمد تقديم الأهم على المهم، وترجيح الأصلح على الصالح، ودرء الأفسد على الفاسد، فعصرنا قد سادت فيه أنواع من الفساد الاعتقادي والمالي والاجتماعي والأخلاقي، وليس فيه من بد سوى باعتماد ما يراه المصلحون والمجتهدون طريقًا أوليًّا في العلاج والتوجيه .. فترى مثلاً حصول أفهام خاطئة عن الإسلام بموجب التحامل والاحتكاك بالحضارة المادية، أو بموجب اهتراء الناحية العقائدية وضعفها .. وتلك الأفهام تؤثر بلا شك في تطبيق بعض الأحكام وتنزيلها، بل في اعتقادها والتسليم بها أحيانًا - والله المستعان - فإنه يتعين عند هذا الأمر بحث السبل المصححة لتلك الأفهام الخاطئة، حتى تُعاد صياغة الشخصية الإسلامية التي ستتقبل تنفيذ ما أمرت به، وتتهيأ لقبوله واعتقاده .
إن ما وَرِثَه العالم الإسلامي من (الغير) في مجالات حياتية مختلفة، على نحو النظام الإداري والمالي والسياسي والتربوي والاقتصادي، وعلى الرغم من إيجابياته ومحاسنه، إن ذلك أثّر على عقول كثيرة بقصد أو بغير قصد، وهو يحتاج بصورة أكيدة وملحة إلى فقه أولوياتي مرحلي تدرجي، قصد الإصلاح والتحسين، وكي لا تصب المعالجات والحلول دفعة واحدة، فالزمن نفسه جزء من العلاج .. وما أصيب به المسلمون من تحامل أثّر في البناء القانوني والاقتصادي والأخلاقي وغيره، لا يمكن أن يتغير بين عشية وضحاها.. وما تراه فئة إسلامية ضرورياً ولازمًا، يراه غيرها جديرًا بالتأخير والتريث حتى تتوفر ظروفه وأرضيته، وحتى يطبق على أحسن وجه، وحتى يحقق ما أراده الله تعالى من مقاصد وغايات .. وما يراه بعض العلماء في زمن ما مخلصًا شرعيًا، يراه غيرهم في زمن آخر مأزقًا دينيًا خطيرًا يجب تركه، وهكذا تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من أنزعة.(1/195)
وما أردتُه في طرح هذه القطعية المنهجية ليس هو الإطناب في بيان طبيعتها وخصائصها وتطبيقاتها وصورها، وإنما هو تأكيد عليها عمومًا بما يتماشى والاختصار المفيد، وهي نفسها مما تخضع إلى الاعتبارات الميدانية العملية التي تتحدد كيفياتها وملامحها على وفق ما يراه أرباب الإصلاح وأهل الاجتهاد مناسبًا وضروريًا لزمانهم وعصرهم ومشكلات حياتهم.
زيادة تحقيق وتدقيق مسميات شرعية مقاصدية »
هناك الكثير من المسميات والمصطلحات الأصولية المقاصدية، التي لها أهميتها القصوى في عملية الاجتهاد والاستنباط الفقهي، ومن تلك المصطلحات : القياس الكلي أو الموسع، والضرورة الخاصة والعامة، والمناسبة وترتيب الحكم عليها، وغير ذلك، وتلك المصطلحات ولئن كان السابقون قد درسوها بما يعطيهم فضل السبق والتأسيس، غير أنها لا تزال في حاجة ملحة لزيادة درسها وتحقيقها ولا سيما فيما يتعلق بتطبيقاتها وفروعها المعاصرة .(1/196)
فالقياس الكلي أو الموسع هو قياس النظير بنظيره لأمر جامع بينهما، كمقصد عال أو مصلحة كلية، أي أنه الإلحاق بجامع المصلحة الكلية أو عموم الحكمة . جاء عن الرازي أن الفقهاء قد اختلفوا في ذلك كثيرًا والأقرب جوازه.. وجاء عنه قوله : (قلنا لا نسلم، بل التعليل بالحكم حاصل في صور كثيرة... الوصف لا يكون مؤثرًا في الحكم إلا لاشتماله على جلب نفع أو دفع مضرة ) وجاء عن ابن عاشور : (أن الأصل في الأحكام الشرعية كلها قبول القياس عليها ما قامت منها معان ملحوظة للشارع، فيجب أن تكون أنواع الأحكام التي يجري فيها القياس قليلة جدًا)، وأن (أحكام الشريعة قابلة للقياس عليها باعتبار العلل والمقاصد القريبة والعالية)، (فتكفي الفقيه مؤونة الانتشار في البحث عن المعنى من أجناسه العالية بما فيها من التمثيل والضبط، وتنتقل بالمجتهد إلى المعنى الذي اشتمل عليه النظير غير المعروف حكمه، فيلحقه في الحكم بحكم كلياته القريبة ثم بحكم كلياته العالية إذ لا يعسر عليه ذلك الانتقال حينئذ فتتجلى له المراتب الثلاث)، (نقول بحجية قياس مصلحة كلية حادثة في الأمة لا يعرف لها حكم، على كلية ثابت اعتبارها في الشريعة، باستقراء أدلة الشريعة).. ويبدو أن ابن عاشور لم ينطلق من فراغ بل انطلق مما علمه من أعلام المالكية باعتبار تشبعه بالتكوين المالكي الأصيل، ومما استوعبه من آثار غير المالكية .. وقال ابن عبد البر : (ومن أشكل عليه شيء لزمه الوقوف، ولم يجز له أن يحيل على الله قولاً في دينه لا نظير له من أصل ولا هو في معنى أصل، وهو الذي لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديمًا وحديثًا، فتدبر). (... وقد جاء عن الصحابة من اجتهاد الرأي والقول بالقياس على الأصول عند عدمها).(1/197)
ونجد من بين المعاصرين الداعين إلى إجراء هذا النوع من القياس في دراسة الحوادث الحياتية المتنوعة الدكتور الترابي، الذي أطلق عليه اسم القياس الواسع، حيث قال : (ولربما يجدينا أيضًا أن نتسع في القياس على الجزئيات لنعتبر الطائفة من النصوص، ونستنبط من جملتها مقصدًا معينًا من مقاصد الدين أو مصلحة معينة من مصالحه، ثم نتوخى ذلك المقصد حيثما كان في الظروف والحادثات الجديدة. وهذا فقه يقربنا من فقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لأنه فقه مصالح عامة واسعة، لا يلتمس تكييف الواقعات الجزئية تفصيلاً - فيحكم على الواقعة قياسًا على ما يشابهها من واقعة سالفة - بل يركب مغزى اتجاهات سيرة الشريعة الأولى، ويحاول في ضوء ذلك توجيه الحياة الحاضرة...).
والقياس الجزئي أو الفرعي، على الرغم من أهميته ومكانه في الاستنباط، إلا أنه يبقى في بعض الأحوال عاجزًا عن معرفة أحكام بعض النوازل والوقائع، وليس تقرير الاستحسان بأنواعه إلا دليلاً على لزوم العدول عن القياس الجزئي في بعض الأحوال إلى الحلول الاستحسانية وإلى تقرير القياس الموسع الكلي، فالتضييق أحيانًا يحصل بإجراء الأقيسة، والتوسع يأتي في مقابله بإجراء القياس الكلي والإلحاق بالأصول والقواعد التي لها نفس أحكام الفروع والجزئيات المعروضة والملحقة.
وتعود قلة اهتمام الأوائل بالقياس الكلي، وتركيزهم كثيرًا على القياس الجزئي والمضيق، يعود إلى أن دلالة النظير على نظيره في القياس الجزئي أقرب إرشادًا إلى المعنى الذي صرّح الشارع باعتباره في نظيره، أو أومأ إلى اعتباره فيه، أو أوصل الظن بأن الشارع ما راعى في حكم النظير إلا ذلك المعنى، فإن دلالة النظير على المعنى المرعي للشارع حين حكم له بحكم ما، دلالة مضبوطة ظاهرة مصحوبة بمثالها).
زيادة تحقيق مسمى المناسبة وتطبيقاتها »(1/198)
المناسبة هي المسألة المهمة جدًّا في القياس بنوعيه الجزئي والكلي. (والمناسبة تفيد العلية إذا اعتبرها الشارع... لأن الشارع دل على أن الله شرع أحكامه لمصالح العباد تفضلاً وإحسانًا، فحيث ثبت حكم وهناك وصف ولم يوجد غيره، ظن كونه علة وإن لم تعتبر، وهو المناسب المرسل) ، ومعنى المناسب: (الذي يفضي إلى ما يوافق الإنسان تحصيلاً وإبقاءً ). أي تحصيل المصالح ودفع المفاسد، وهي بهذه المعاني حقيقة بالعناية والاهتمام، فإنها لب القياس وجوهره، والتي تعتبر فيها المصالح حفظًا والمفاسد تجنبًا، ومن ثم كان ينبغي على أهل العلم والاجتهاد مزيد من الإقبال على دراسة المناسبة وتمحيص متعلقاتها وتدقيق تطبيقاتها وتجلياتها في الواقع المعاصر.
زيادة تحقيق مسمى الضرورة وتطبيقاتها
الضرورة الشرعية سبب من أسباب التخفيف والتيسير، وقد أقبل الدارسون عليها تحقيقًا وتمثيلاً وتدليلاً وتطبيقًا وتقعيدًا، وقد ترتبت عليها عدة أحكام فقهية شهدت لها الأصول والقواعد والمبادئ الشرعية، غير أن الملفت للانتباه هو الإفراط في استخدامها ومجاوزة الحدود بها، فإنك تلحظ معي أحيانًا تجويزًا مبالغًا فيه لما يدعى أنه ضروري وهو على خلاف ذلك، الأمر الذي أورث التوهم لدى بعضهم بأنهم في حالة ضرورة تبيح لهم ما لا يباح عادة، وتزيل عنهم ما لا يُزال في غير الضرورة القاهرة والحاجة القصوى، فتراهم يفتون أنفسهم أو غيرهم بمزاولة المحظور وبأقدار غير محدودة تحت غطاء الضرورة والإشراف على الهلاك.
ومن المضحكات في هذا السياق تجويز أخذ الربا لتلبية حاجات كمالية أو ترفيهية أو حتى حاجية لم تبلغ درجة الضرورة القصوى، كل ذلك يفعل تحت هذا الغطاء الذي صار يستعمل بلا حد ولا ضابط. فالواجب يحتم حسم هذه المسألة وبيان ما تدخله الضرورة وما لا تدخله، وخاصة فيما يتعلق بضرورات الأمة عامة، فضلاً عن ضرورات فردية درج العلماء على بيانها وتحديدها.(1/199)
إعادة صياغة العقل العربي والإسلامي » إعادة صياغة العقل العربي والإسلامي
العقل هو أداة فهم الأحكام، وتنزيل المقاصد، وفعل التكليف جملة، وقد علقت بالعقل العربي والإسلامي في عصرنا هذا شوائب وعلل وشبهات عطلته كليًا أو جزئىًا عن القيام بدوره التشريعي والاستخلافي على الوجه المطلوب، وقد كان ذلك حاصلاً بموجب عدة عوامل وأسباب ذاتية وموضوعية تتصل إجمالاً بظواهر الركود والجمود والكسل والتقييد واللامبالاة والتقليد والاستقالة وغيرها، وتتصل كذلك بحملات الفكر والاستشراق والتغريب، والتنصير والتهويد، والتمييع والتهميش.
وقد أدى ذلك كله إلى إحداث عقلية عربية وإسلامية عامة متفاوتة من حيث التفاعل مع المشروع الإسلامي في شتى نواحيه ونظمه وخصائصه، فتبعثرت بعض الأفهام والأنظار، واختلفت بعض التصورات والآراء إزاء بعض الحقائق الإسلامية، فصار بعضهم ممن تأثروا بتلك المؤثرات يناقشون ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ويشككون في القطعي أحيانًا، ويستخفون بالمحظور أحيانًا أخرى، تحت غطاء الاجتهاد، وهم مع ذلك يعلنون أنهم مسلمون يصلون ويصومون ويحجون وأنهم يفعلون ذلك ليس عنادًا أو تحاملاً، وإنما فقهًا واستنباطًا واجتهادًا وتأويلاً.
إن واجب العلماء والمصلحين والمفكرين والساسة، إصلاح العقول قبل إصلاح الأعمال، وتغيير الأفهام قبل تشريع الأحكام، حتى تتهيأ العقلية العامة لقبول دين الله تعالى على أنه نظام شامل وواقعي، وإنساني ومتوازن، وباق إلى يوم القيامة، وليس كونه دينًا يخاطب الروح على حساب الجسد، أو العائلة على حساب الدولة، أو التعبّد على حساب التقنين والتشريع.
إن إعادة صياغة العقل يساعد كثيرًا على تطبيق الاجتهاد المقاصدي الوسطي بلا إفراط ولا تفريط، أما ترك العقل بما عليه من شوائب واختلالات سيؤدي غالبًا إلى إحدى حالتي التناقض المقاصدي، أي إلى حالتي:(1/200)
_ الإفراط في اعتبار المقاصد، بسبب ما ورثه العقل من دعوات الفكر المعاصر إلى التخلي عن الضوابط والشروط الشرعية، والتعويل المبالغ فيه على العقل والواقع والتفتح وغير ذلك .
_ التفريط في اعتبار المقاصد، بسبب تأصل الميل إلى الظاهرية الحرفية والشكلية، والبعد عن الفهم الحقيقي الشمولي المقاصدي لأحكام الإسلام.
الاستئناس بعلوم الاجتماع والنفس والاقتصاد وغيرها »
علم الاجتماع بالأساس من الفنون المعرفية المهمة في تنظيم حركة المجتمع ودراسة ظواهرها ومتعلقاتها، والعمل على تحقيق أفضل النظم والمعاملات، ولا نريد في هذا السياق أن نبحث عن نشأة هذا العلم وتطوره وغير ذلك مما لا يسعه مجال هذا البحث، غير أننا نريد التأكيد على أن أول من نبه إلى وجود هذا العلم واستقلاله عن غيره هو العلامة المسلم عبد الرحمن بن خلدون .
وقد اعتبر بعضهم أن تاريخ علم الاجتماع المعاصر بدأ مع ( أوغست كونت ) الفرنسي وغيره، وقد أهملوا ذكر ابن خلدون الواضع الأول لفكرة هذا العلم واستقلاله وموضوعه كما أشرنا قبل قليل، فقد نشأ إذن علم الاجتماع المعاصر في الحضارة الغربية في أوروبا، وقد تطور استجابة للتطورات والمشكلات الاجتماعية في مرحلة الانتقال من النظام القديم إلى النظام الجديد، وقد فرض نفسه على العالم بمقتضى ارتباطه بالحضارة الغربية المسيطرة.
ومن هناك كان ينبغي أن تكون الاستفادة من تلك العلوم على حذر حتى لا نقع فيما لا يتماشى وطبيعة المنظومة الدينية التي نتعبد ونتدين بها، وذلك لارتباط تلك العلوم غالبًا بالفلسفة الغربية والاتجاه الفكري والمادي الأوروبي.
((1/201)
ومن البين أن المعارف العقلية التي تستخدم في فهم المراد الإلهي، ينبغي أن تكون على درجة من الوثوق، تنأى بها عن الفرضيات الاحتمالية الضعيفة، فإن إقحام هذه الفرضيات الضعيفة في تحديد المراد الإلهي، يسيء إلى النص الديني حينما يظهر خطؤها، وقد عدت مدلولات له، كما أنه يجر إرهاقًا وحرجًا في شؤون الحياة لما تصبح جارية على أساسه، وهذا ما يدعو إلى الاقتصاد في استخدام المعارف العقلية في فهم الدين بما يضمن إصابة الحق في أقصى درجات الإمكان ..) ومن قبيل ذلك، التسوية المطلقة بين الرجل والمرأة التي يروج لها علم الاجتماع المعاصر، وأن الواحد نسخة مطابقة للأصل الآخر، وهذا اقتضى أن يعمل كل من الرجل والمرأة في مجال واحد بدون تمييز أو تفريق، وقد ترتبت على ذلك مخاطر كثيرة منها التدني التربوي والعاطفي للأطفال، وحرمان الكبار والمسنين من رعاية الأقرباء والأوفياء.(1/202)
وتتمثل ضروب الاستئناس بتلك العلوم في الاستفادة من مناهج البحث والتوثيق والتفسير والتخريج، وفي إجراء المقارنات والملاحظة، والإحصاء والاستبيانات، واختبار العينات، أو المقابلة، وهذه كلها يستعان بها، لأنها تمثل قاسمًا مشتركًا بين جميع البحوث أينما أجريت، (فهي من العناصر الشائعة التي يختار بينها حسب الظروف والإمكانات).. وهي تهدف إلى إعطاء نتائج قريبة من الصحة أو صحيحة، فيدرك بالإحصاء والاستقراء النمط الأفضل في التعامل، فيعمل به في المجالات الشرعية الظنية الاحتمالية التي لم يتحدد موقفها الشرعي على سبيل القطع واليقين، ذلك أن (من الحصيلة البشرية من العلوم والمعارف، ما فيه عون على تبين ما فيه مصلحة من أوضاع المسلمين المستجدة، فعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم النفس وغيرها من العلوم الإنسانية، تشتمل على قوانين هي أقرب إلى الحقيقة العلمية الموضوعية، وهو ما يرشحها لأن تكون وسيلة صالحة لتحديد ما فيه خير الإنسان ونفعه، ومن ثم فإنها تصبح أداة مهمة للمسلم في اجتهاده لتقدير مصلحة الإنسان في خضم الأوضاع التي انقلبت إليها حياته اليوم).
إنجاز التقنية الإسلامية وأسلمة العلوم الإنسانية » إنجاز التقنية الإسلامية وأسلمة العلوم الإنسانية(1/203)
لعل هذا الهدف يعد من الأهداف الرئيسة جدًا في قيام الحضارة الإسلامية من جديد، وإعادة تمكين الدور العالمي والسمة الكونية لرسالة الإسلام، الذي يتوقف تحقيقه وتحصيله على مراعاة سنن الله في الكون، وامتلاك الشروط الضرورية للنهضة والتنمية والتحضر، وتسخير جميع الأسباب الذاتية والموضوعية بغية حيازة المبادرة العلمية والحضارية في بناء التقنية الإسلامية، وامتلاك معلوماتها ودقائقها، واستثمارها في البناء الحضاري العام، وفي تحريك الدورة التنموية وتعميمها وتفعيلها وتأييدها حتى يتحقق أمن المسلمين في غذائهم وأموالهم ونفوسهم، ويبعدوا مفاسد ارتمائهم في أحضان التنصير والتكفير والتضليل بسبب الجوع الشديد والفقر الذي كاد أن يكون كفرًا، بل إنه في هذه الأحوال صار كفرًا وجحودًا بوقوع آلاف وملايين الجائعين في فلك العاملين على تأليف قلوبهم، واستجلابهم لحظيرة عقائدهم، وإخراجهم من دينهم وفطرتهم، وحتى يتحقق حفظ عقولهم وأذهانهم من الجهل والأمية والسفاهة الفكرية والسياسية، ومناولة المخدرات الحشيشية والتضليلية، وحتى يتحقق حفظ أعراضهم وكرامتهم من الشذوذ والإثارة والتحرش والدونية والإهانة، وحتى يتحقق الأمن العام للأمة وسعادتها الدائمة في العاجل الدنيوي وفي مصير الآخرة بجوار الله رب العالمين.
إن امتلاك شروط التقنية العلمية والاكتفاء الاقتصادي الغذائي، وجعل المسلمين أغنياء متعففين وليسوا كلاًّ على الأمم والمنظمات الإنسانية والجمعيات الخيرية - فهم مشكورون وجزاهم الله خيرًا - إن كل ذلك وغيره يعتبر من قبيل المقاصد المقررة والمأمولة في واقع الحياة المعاصرة، وهو لن يتكون بمجرد التمني والتحلي - فالسماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة - ولكن يصير واقعًا ملموسًا، إذا تهيأت النفوس، وعزمت الإرادات، وكدحت الأجيال، وجاهدت الشعوب في الله حق جهاده.(1/204)
ثم إن قيام علوم إنسانية إسلامية سيعود نفعه على سائر الأمم والشعوب، باعتبارها نابعة من الفكر الإسلامي، الذي يتسم بسمات العالمية والكونية والواقعية والمصلحية، وليس متصفًا بما يكرس الانعزالية والانطوائية والقبلية والجهوية، كما هو الحال في كثير من التصورات والفلسفات الوضعية .. فالإسلام وعلومه ومعارفه وفنونه، ينبغي أن تشيع في شتى أنحاء الأرض وبين مختلف الطوائف والملل والجماعات، قصد إصلاحهم بالحسنى ودعوتهم لما فيه خيري الدنيا والآخرة، وانطلاقًا من وجوب الشهادة على الناس وإرادة الرحمة بكافة أفراد العالمين
ضرورة الاجتهاد الجماعي » ضرورة الاجتهاد الجماعي
الاجتهاد الجماعي في العصر الحالي ضرورة قصوى ومقصد جليل في حد ذاته، ليس لكثرة المشكلات والوقائع الجزئية التي ليست لها أحكامها فقط، وإنما لوجود الظواهر المعقدة والأوضاع العامة التي هي فوق جزئيات تلك المشكلات والوقائع، ولضخامة حجم الهيمنة الأجنبية التي تركت آثارها في بعض أنماط التفكير والسلوك لدى شعوب الإسلام وأمته، التي هي في أشد الحاجة إلى استفراغ منقطع النظير، ومتابعات قد تفني أعمارًا وأحقابًا لو تركت لأفراد وأعلام معينين.
فليس هناك من سبيل سوى اعتماد الجماعية الاجتهادية، القائمة على عمل الخبراء واستنباط الفقهاء، ودور المؤسسات العلمية والجامعية والشرعية، والاستئناس بالعلوم والمعارف العصرية.(1/205)
ولأن الغرض من الاجتهاد المعاصر ليس هو بيان أحكام بعض النوازل الخاصة والجزئية بقدر ما هو بحث في طبائع العصر وظواهره المعقدة وخصائصه العامة، وتداخل علاقاته، وتشابك مصالحه، التي لها تأثير ما بالنوازل والأوضاع المعروضة للاجتهاد، فقد ولّى عصر الاجتهاد الفردي وعلماء الموسوعات، وحل محله عصر المؤسسات والمجامع والاتصالات والموسوعات (المدونة لا الموسوعات الآدمية ) والتخصصات، وقد دعا إلى هذا الكثير من العلماء والفقهاء والمصلحين الذين رأوا في الاجتهاد الفردي عجزه عن المعالجة الشمولية للعصر وأحواله، على الرغم من أهميته المعتبرة في الإفتاء والاحتكام في بعض النواحي الفردية والعامة والتي لا تحتاج إلى مجهود كبير وغير يسير.
إن دور الاجتهاد الفردي يبقى محصورًا ضمن حدوده ومجالاته، كأن تطغى عليه جوانب الإفتاء والنقول ومعالجة بعض الأحوال الفردية وغير المعقدة، أو أن يكون دوره متمثلاً في إعداد الرؤى والمقترحات والخواطر التي يجعلها الاجتهاد الجماعي منطلقًا ومدخلاً لأعماله ونتائجه، أما أن يتولى عالم بمفرده أو قلة من الفقهاء الإفتاء في قضية من قضايا الأمة أو نازلة من نوازل المحدثات المعقدة، فهذا ما لا يوصل إلى المراد من تحصيل صحيح المقصود الشرعي أو القريب منه .. فاجتهاد الأمة هو الصواب عينه والضرورة نفسها، وهو الذي باركه الله تعالى وأثنى على أربابه وأهله، وهو الذي له أصوله وجذوره، فقد مورس في سقيفة بني ساعدة لاختيار خليفة للمسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه و سلم ، ومارسه عمر رضى الله عنه كثيرًا، بل ومنع الفقهاء من مغادرة المدينة ليأخذ رأيهم فيما يستجد من مشكلات الدولة، ومارسه طبقة الحكام والأئمة في مختلف العصور والظروف، وهو الأجدر بالتطبيق والأليق بطبيعة العصر وتطوراته، والأنسب لتعاليم الشرع ومقاصده.(1/206)