الأدلة على اعتبار
المصالح والمفاسد
في الفتاوى والأحكام
تأليف
أبي عاصم
هشام بن عبد القادر بن محمد آل عقدة
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران:102]، { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [النساء:1]، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد، فمن المتقرر عند أهل العلم وجوب تقدير المصالح والمفاسد في الأمر المطروح قبل الإفتاء فيه، والعمل على تحصيل أعلى المصلحتين ودفع أعظم المفسدتين عند التزاحم. ورحم الله ابن تيمية إذ يقول: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين(1). اهـ.
__________
(1) مجموع الفتاوى (20/54).(1/1)
ومن العجيب أن بعض الناس حين يهجم على أمر ما لإنكاره دون تروٍ إذا قلت له: هل تأكدت بالبحث والدراسة أن هذا موضع إنكار، وأن الخلاف فيه غير سائع، وأن المصلحة في الإنكار راجحة على المفسدة؟ اعتبر ذلك نوعًا من التفريط وانعدام الغيرة على الدين، والإعراض عن الدليل،...إلخ. وربما تبجح البعض وقال: أنا لا أعرف مصالح ومفاسد، والشرع يأمرني بالإنكار وليحدث بعد ذلك ما يحدث، والمطلوب هو الفعل بغض النظر عن ترتب مفسدة أو حدوث مصلحة، ويظن أمثال هؤلاء أن الشرع قد يأمر بأشياء أو ينهى عن أشياء دون أن يكون في ذلك تحقيق أدنى مصلحة أو درء أدنى مفسدة، وهذا خلاف ما اتفق عليه أهل العلم، فإن اعتبار المفاسد والمصالح من الأمور التي لا تقبل الخلاف، وإنما الخلاف يكون في التقدير لا في أصل الاعتبار لهذه القاعدة.
فالذي يجهله كثير من شباب الأمة أن أحكام الشريعة مبناها على جلب المصالح ودفع المفاسد، فكل ما أمر الله به لابد أن تكون المصلحة منه للعبد إما خالصة كاملة، أو راجحة، أي الفائدة فيه زائدة على المضرة، وما لم يكن فيه تحقيق لمصلحة أو دفع لمفسدة فهو عبث تتنزه عن مثله شريعة الله.
يقول ابن القيم رحمه الله: فإن الشريعة مبناها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل(1). اهـ.
ويقول الشاطبي رحمه الله: التكاليف مشروعة لمصالح العباد، ومصالح العباد إما دنيوية وإما أخروية(2). اهـ.
ويقول أيضًا: إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا(3). اهـ.
__________
(1) أعلام الموقعين (3/3)، ط. دار الجيل.
(2) الموافقات (4/195)، دار المعرفة، ط. الثانية.
(3) الموافقات (2/6).(1/2)
ويقول أيضًا: المعتمد إنما هو أنا استقرأنا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراءً لا ينازع فيه أحد(1). اهـ.
إذن فلابد من اعتبار المصالح والمفاسد عند دراسة الفتاوى والأحكام، وذلك ظاهر من أدلة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وعلماء الأمة، وقد أردت بيان ذلك في هذه الرسالة المختصة راجيًا من الله عز وجل أن ينتفع بها إخواني من شباب الدعوة وطلبة العلم، وما كان فيها من صواب فمحض فضل ومنة وتوفيق من الله عز وجل، وما كان فيها من زلل فمن نفسي ومن الشيطان وأسأل الله أن يغفره لي، ولمن نصحني فيه الأجر والثواب إن شاء الله { إِنْ أُرِيدُ إِلا الأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [هود: 88].
أبو عاصم
دمنهور
مساء السبت غرة شعبان 1411هـ
16 فبراير 1991م
أولاً: الأدلة من القرآن الكريم:
1ـ قوله تعالى: { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } [البقرة: 191] إلى قوله: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } [البقرة: 193].
فالقتال في سبيل الله يحقق مصلحة عظيمة وهي إعلاء كلمة الله، وجعل الخضوع كله لشرعه، وإذلال الشرك وأهله، فقوله: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي حتى لا يكون شرك(2)، وفيه مفسدة إزهاق الأرواح، إلا أن المصلحة في بقاء الدين وإعلاء التوحيد وإذلال الشرك ورفع الفتنة لا تقاومها المضرة في إزهاق الأرواح، كما أن حفظ الدين مقدم على حفظ النفوس.
__________
(1) الموافقات (2/6).
(2) قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع ومقاتل بن جيان والسدي وزيد بن أسلم. تفسير ابن كثير (1/216).(1/3)
2ـ قوله تعالى: { يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ }
[البقرة: 217]
أي أن مفسدة صَدِّ المشركين عن سبيل الله، وكفرهم به، وصدهم المؤمنين عن المسجد الحرام، وإخراجهم منه، أكبر من مفسدة قتالهم في الشهر الحرام، فتحتمل أدنى المفسدتين لدفع أكبرهما، فلا بأس بالقتال في الشهر الحرام في تلك الظروف.
وهذا مثال على تعارض المفاسد أو تزاحم المفاسد، فإذا كان هناك محرمان لا يمكن تركهما جميعًا بل لابد من الوقوع في أحدهما، فيرتكب أقلهما إثمًا وأقلهما توكيدًا، فلا يقبل من شخص في مثل تلك الحالة أن يقول: قتال المشركين في الشهر الحرام محرم فلا يجوز أن نقاتلهم فيه مهما ترتب على ذلك من أمور، ويتجاهل المضار الناجمة من ترك قتالهم حتى لو كان ترك المقاتلة يؤدي إلى تمكين الكفر بالله والصد عن سبيل الله وإخراج المسلمين ومنعهم من التعبد في المسجد الحرام، وتلك بلا شك مضار عظيمة إذا ما قورنت بقتالهم في الشهر الحرام، لذا جاز للمسلمين ارتكاب المحظور الأصغر لدفع الخطر الأكبر، وهو ما يعرف بارتكاب أخف الضررين، وإنما يسمى محظورًا أو محرمًا باعتبار الأصل.
3ـ قوله تعالى: { يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا... } [البقرة: 219].
فشارب الخمر يتعدى على الآخرين بالضرب والشتم والقتل، ويترك العبادة، وهي مفاسد عظيمة لا تقاومها المصالح المزعومة.
فهذا مثال على تعارض المصلحة مع المفسدة ومراعاة الأغلب منهما، والمفسدة هنا أغلب، لذا نبههم الله جل وعلا إلى ذلك تمهيدًا لتحريمها.(1/4)
4ـ قوله تعالى: { وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الأنعام: 108].
فسب آلهة المشركين الباطلة وتحقير الطواغيت وتصغيرهم حتى يضعف شأنهم مصلحة، ولكن لما ترتب على ذلك مفسدة كبيرة لا تقاومها هذه المصلحة ـ وهذه المفسدة هي سبهم لله، وقدرتهم على ذلك نظرًا لضعف المؤمنين حينئذٍ ـ نهاهم الله عن سب آلهتهم، فذلك من باب تفويت مصلحة لدفع مفسدة أكبر.
ثانيًا: الأدلة من السنة:
1ـ ما رواه البخاري في صحيحه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم ـ قال ابن الزبير: بكفر ـ لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين: باب يدخل الناس، وباب يخرجون". ففعله ابن الزبير.
وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله: (باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه).
قال ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث معنى ما ترجم له؛ لأن قريشًا كانت تعظم أمر الكعبة جدًا فخشي - صلى الله عليه وسلم - أن يظنوا ـ لأجل قرب عهدهم بالإسلام ـ أنه غَيَّرَ بناءها لينفرد عليهم بالفخر في ذلك، ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه، وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم ولو كان مفضولاً ما لم يكن محرمًا(1). اهـ.
2ـ ما رواه البخاري عن أبي سعيد قال: بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: "ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟" قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه. قال: "دعه فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية".
__________
(1) فتح الباري (1/371).(1/5)
وفي بعض طرق الحديث عند أحمد والطبري: فقال أصحابه: ألا تضرب عنقه؟ فقال: "لا أريد أن يسمع المشركون أني أقتل أصحابي".
وأخرج مسلم قصة أخرى نحوها عن جابر ـ رضي الله عنه ـ وفيها: فقال عمر: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق. فقال: "معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن(1) لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية"(2).
وقد ترجم البخاري للحديث بقوله: (باب من ترك قتال الخوارج للتألف ولئلا ينفر الناس عنه).
فهنا وجدت مصلحة وهي تأديب المارقين وردع المنافقين، ويقابلها مفسدة نفور الناس عن الدخول في الإسلام، وترويج الشائعات المنكرة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ودفع هذه المفسدة أولى من تحقيق المصلحة المشار إليها، بخلاف ما لو أمنت تلك المفسدة فحينئذ لا يترك تحقيق المصلحة المذكورة.
قال الإسماعيلي رحمه الله: لو قتل من ظاهره الصلاح عند الناس قبل استحكام أمر الإسلام ورسوخه في القلوب لنفرهم عن الدخول في الإسلام، وأما بعده - صلى الله عليه وسلم - فلا يجوز ترك قتالهم إذا هم أظهروا رأيهم وتركوا الجماعة وخالفوا الأئمة مع القدرة على قتالهم(3). اهـ.
وعن المهلب قال: التألف إنما كان في أول الإسلام إذ كانت الحاجة ماسة لذلك لدفع مضرتهم، فأما إذ أعلى الله الإسلام فلا يجب التألف إلا أن تنزل بالناس حاجة لذلك فلإمام الوقت ذلك(4). اهـ.
__________
(1) وفيه فائدة في منهج الدعوة وهي أن القتال إنما يكون بعد المفاصلة والتمحيص دفعًا للفتنة والحيرة والاضطراب عن الناس.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي (7/159)، كتاب الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم ومن يخاف على إيمانه إن لم يعط، واحتمال من سأل بجفاء لجهله، وبيان الخوارج وأحكامهم. (ط. دار إحياء التراث العربي).
(3) الفتح (12/304).
(4) الفتح (12/304).(1/6)
وقال ابن حجر رحمه الله: ظاهره ـ أي الحديث ـ أن ترك الأمر بقتله بسبب أن له أصحابًا بالصفة المذكورة، وهذا لا يقتضي ترك قتله مع ما أظهره من مواجهة النبي - صلى الله عليه وسلم - بما واجهه، فيحتمل أن يكون لمصلحة التأليف كما فهمه البخاري لأنه وصفهم بالمبالغة في العبادة مع إظهار الإسلام فلو أذن في قتلهم لكان ذلك تنفيرًا عن دخول غيرهم في الإسلام(1). اهـ.
ثم قال ابن حجر في آخر شرح الحديث: (تنبيه): جاء عن أبي سعيد الخدري قصة أخرى تتعلق بالخوارج فيها ما يخالف هذه الرواية، وذلك فيما أخرجه أحمد بسند جيد عن أبي سعيد قال: جاء أبو بكر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني مررت بوادي كذا فإذا رجل حسن الهيئة متخشع يصلي فيه، فقال: "اذهب إليه فاقتله" قال: فذهب إليه أبو بكر فلما رآه يصلي كره أن يقتله فرجع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: "اذهب إليه فاقتله" فذهب فرآه على تلك الحالة فرجع، فقال: "يا عليّ اذهب إليه فاقتله" فذهب عليّ فلم يره، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه فاقتلوهم هم شر البرية". وله شاهد من حديث جابر أخرجه أبو يعلى ورجاله ثقات، ويمكن الجمع بأن يكون هذا الرجل هو الأول وكانت قصته هذه الثانية متراخية عن الأولى، وأذن - صلى الله عليه وسلم - في قتله بعد أن منع منه لزوال علة المنع وهي التألف، فكأنه استغنى عنه بعد انتشار الإسلام(2). اهـ.
3ـ ما رواه البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بالموعظة في الأيام مخافة السآمة علينا.
__________
(1) الفتح (12/307).
(2) الفتح (12/312).(1/7)
وترجم له البخاري بقوله: (باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا) (1)، فترك مصلحة كثرة الوعظ والتعليم لدفع مفسدة النفور والفتور والانقطاع، وكان أحب الدين إليه - صلى الله عليه وسلم - ما داوم عليه صاحبه(2).
4ـ ما رواه البخاري في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: "من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة"، قال: ألا أبشر الناس؟ قال: "لا إني أخاف أن يتكلوا". قال ابن حجر رحمه الله: وللأصيلي والكشميهني ينْكُلوا بإسكان النون وضم الكاف أي يمتنعوا من العمل اعتمادًا على ما يتبادر من ظاهره(3). اهـ.
وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا هريرة أن يبشر بذلك الناس، فلقيه عمر فدفعه وقال: ارجع يا أبا هريرة، ودخل على أثره فقال: يا رسول الله لا تفعل؛ فإني أخشى أن يتكل الناس، فخلهم يعملون. فقال عليه الصلاة والسلام: "فخلهم"(4). قال ابن حجر رحمه الله: فكأن قوله - صلى الله عليه وسلم - وسلم لمعاذ "أخاف أن يتكلوا" كان بعد قصة أبي هريرة، فكان النهي للمصلحة لا للتحريم، فلذلك أخبر به معاذ لعموم الآية بالتبليغ(5). اهـ. ولاطلاعه رضي الله عنه على أنه لم يكن المقصود من المنع التحريم كما هو ظاهر من قصة أبي هريرة رضي الله عنه(6).
فتبليغ الناس بهذه البشارة وإدخال السرور عليهم بذلك مصلحة، واتكالهم على ذلك وعدم فهمهم وتركهم العمل مفسدة عظيمة، لذا اعتمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رآه عمر في ذلك.
وترجم البخاري للحديث بقوله: (باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا) (7).
__________
(1) الفتح (1/195).
(2) رواه البخاري وغيره، الفتح (1/124).
(3) الفتح (1/274).
(4) انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (1/233ـ 240).
(5) الفتح (1/275).
(6) انظر: الفتح (1/275).
(7) انظر: الفتح (1/272).(1/8)
5ـ ما رواه مسلم في صحيحه عن سعد أنه قال: أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رهطًا وأنا جالس فيهم قال: فترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم رجلاً لم يعطه وهو أعجبهم إليّ فقمت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فساررته فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان والله إني لأراه مؤمنًا، قال: "أوْ مسلمًا"، فسكت قليلاً ثم غلبني ما أعلم منه فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنًا، قال: "أوْ مسلمًا"، فسكت قليلاً ثم غلبني ما أعلم منه فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنًا، قال: "أوْ مسلمًا" قال: "إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليّ منه خشية أن يكب في النار على وجهه".
وفيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قَسَمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَسْمًا، فقلت: والله يا رسول الله لَغير هؤلاء كان أحق به منهم، قال: "إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش أو يبخّلوني فلست بباخل" قال النووي رحمه الله: معناه أنهم ألحوا في المسألة لضعف إيمانهم وألجأوني بمقتضى حالهم إلى السؤال بالفحش أو نسبتي إلى البخل ولست بباخل ولا ينبغي احتمال واحد من الأمرين. ففيه مداراة أهل الجهالة والقسوة وتألفهم إذا كان فيه مصلحة وجواز دفع المال إليهم لهذه المصلحة(1). اهـ.
ثالثًا: أمثلة من أقوال السلف والعلماء من الصحابة وغيرهم وفتاواهم وأفعالهم التي طبقوا فيها نهجه - صلى الله عليه وسلم - في اعتبار المصالح والمفاسد ومراعاتها:
__________
(1) انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (7/146ـ 149)، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم ومن يخاف على إيمانه إن لم يعط، واحتمال من سأل بجفاء لجهله، وبيان الخوارج وأحكامهم.(1/9)
1ـ إخبار معاذ رضي الله عنه بالحديث السابق "من لقي الله لا يشرك به شيئًا..." عند موته تحرجًا من الوقوع في الإثم بكتم العلم لأنه بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعد موته لا يبقى سبيل لمعرفة هذا الحديث، ونظرًا لاطلاع معاذ رضي الله عنه على أن النهي كان للمصلحة وليس تحريمًا عامًا، ولعموم الآية بالتبليغ ترجح عنده الإخبار بذلك وإلى هذا أشار ابن حجر رحمه الله كما سبق، ونرجو أن يكون معاذ موفقًا في ذلك فإن هذا الحديث وما في معناه من الأحاديث صار لها شأن عظيم عند ظهور المبتدعة كالخوارج والمعتزلة الذين يخلدون فاعل الكبيرة في النار، فكان هذا الحديث وما في معناه مما يرد به أهل السنة على باطلهم، ومما حفظت به العقيدة الصحيحة.
2ـ جمع الصحابة للقرآن الكريم ثم كتابة المصاحف وجمع الناس على مصحف واحد؛ دفعًا لمفسدة اختلاف الناس في الكتاب وتفرقهم وتنازعهم بل وربما تكفير بعضهم بعضًا التي هي أعظم من مصلحة التورع بإبقاء الحال في ذلك على ما هو عليه كما في عهده - صلى الله عليه وسلم - .
3ـ اقتداء ابن مسعود برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تخول الناس بالموعظة كما رواه البخاري عن أبي وائل قال: كان عبد الله يذكر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم. قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بها مخافة السآمة علينا(1).
4ـ صلاة ابن مسعود ورواء عثمان رضي الله عنهما متمًا في منى مع أنه كان يعلم أن القصر أفضل، وقوله الخلاف شر. ففيه فعل المفضول وترك الفاضل لدفع مفسدة التفرق والاختلاف(2).
__________
(1) الفتح (1/191).
(2) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (23/116).(1/10)
5ـ جهر بعض الصحابة بما يستحب الإسرار به لمصلحة؛ كما جهر ابن عباس رضي الله عنهما بفاتحة الكتاب في صلاة الجنازة وقال لأصحابه: لتعلموا أنها سنة؛ أي أن قراءتها سنة لا أن الجهر بها سنة، ومثل جهر عمر رضي الله عنه بدعاء الاستفتاح، وكلاهما في الصحيح، وجهر ابن عمر وأبي هريرة بالاستعاذة، ولم يفعلوا ذلك لكونه الأفضل وإنما لمصلحة التعليم(1).
6ـ ما رواه البخاري رحمه الله عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله).
قال ابن حجر رحمه الله: وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة. ومثله قول ابن مسعود: (ما أنت محدثًا قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) رواه مسلم. وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين وأن المراد ما يقع من الفتن، ونحوه عن حذيفة، وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج قصة العرنيين لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي، وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب. والله أعلم(2). اهـ.
__________
(1) يراجع: مجموع الفتاوى (22/274، 275، 24/ 196).
(2) الفتح (1/272)، وهو كلام نفيس فيه فقه عظيم ينبغي أن يستفيده كل مُرَبٍّ وكل معلم فلا يلقي بالمعلومة لكل أحد، فبعض المبتدئين في العلم يستخدمون بضع السنن وبعض العلم على وجه يثيرون به الشر أو الخلاف وربما استعان بعضهم ببعض العلم أو الفتوى على باطل، فليحذر من يعلم أحدًا أو يربيه من ذلك، ولا يكن حرصه على الإلقاء بمعلومة ما أو العمل بسنة أو فعل مباح مؤديًا لجلب شر أو إحداث فتنة وفرقة بين المسلمين.(1/11)
7ـ ما ذكره ابن تيمية رحمه الله أن المفضول قد يفعل أحيانًا ويترك الفاضل لتأليف القلوب(1) كما يرى في البسملة أن الإمام قد يجهر بها استحبابًا قصدًا إلى تأليف القلوب بترك المستحب إذا كان من وراءه لا يرون الإسرار. قال رحمه الله: المسلم قد يترك المستحب إذا كان في فعله فساد راجح على مصلحته كما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - بناء البيت على قواعد إبراهيم...
ولذلك استحب الأئمة كأحمد وغيره أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل إذا كان فيه تأليف المأمومين، مثل أن يكون عنده فصل الوتر أفضل بأن يسلم في الشفع ثم يصلي ركعة الوتر وهو يؤم قومًا لا يرون إلا وصل الوتر، فإذا لم يمكنه أن يتقدم إلى الأفضل كانت المصلحة الحاصلة بموافقته لهم بوصل الوتر أرجح من مصلحة فصله مع كراهتهم للصلاة خلفه، وكذلك لو كان ممن يرى المخافتة بالبسملة أفضل أو الجهر بها، وكان المأمومون على خلاف رأيه ففعل المفضول عنده لمصلحة الموافقة والتأليف التي هي راجحة على مصلحة تلك الفضيلة كان جائزًا حسنًا(2). اهـ.
__________
(1) قال رحمه الله بعد كلامه في مسألة البسملة في الصلاة: (وأما التعصب لهذه المسائل ونحوها، فمن شعائر الفرقة والاختلاف الذي نهينا عنه، إذ الداعي لذلك هو ترجيح الشعائر المفترقة بين الأمة، وإلا فهذه المسائل من أخف مسائل الخلاف جدًا. لولا ما يدعو إليه الشيطان من إظهار شعار الفرقة، إلى أن قال: (ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك مثل هذه المستحبات لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا). مجموع الفتاوى (22/405ـ 407).
(2) مجموع الفتاوى (24/195، 196).(1/12)
ومسألة القنوت في الفجر عدها ابن تيمية رحمه الله من هذا الباب حيث قسم المسائل التي تنازع فيها العلماء مما يتعلق بصفات العبادات إلى أربعة أقسام، فقال في ذلك: القسم الثاني: ما اتفق العلماء على أنه إذا فعل كلاً من الأمرين كانت عبادته صحيحة ولا إثم عليه لكن يتنازعون في الأفضل وفيما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله، ومسألة القنوت في الفجر والوتر والجهر بالبسملة وصفة الاستعاذة ونحوها من هذا الباب(1). اهـ.
وقال: وكذلك إذا اقتدى المأموم بمن يقنت في الفجر أو الوتر قنت معه سواء قنت قبل الركوع أو بعده، وإن كان لا يقنت لم يقنت معه. ولو كان الإمام يرى استحباب شيء والمأمومون لا يستحبونه فتركه لأجل الاتفاق والائتلاف كان قد أحسن(2).اهـ.
وهذا ليس تزلفًا ومجاملة وإنما حيث علم نفورهم وغضبهم إذا فعل الفاضل أو كراهتهم للصلاة خلفه، وحيث علم أنهم لا يقتدون به ويعرفون الأفضل بفعله. والله أعلم.
8ـ ما حكي عن عمر بن عبد العزيز أن ابنه عبد الملك قال له: مالك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق؟ قال: لا تعجل يا بني فإن الله ذم الخمر في آيتين وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدمغوه جملة ويكون منا ذا فتنة(3). اهـ.
9ـ تنصيص العلماء على جواز ترك واجب لفعل الأوجب أو السكوت على مفسدة لدفع الأفسد عند تعذر تحصيل جميع الواجبات أو دفع جميع المفاسد:
ـ فمن ذلك قول ابن تيمية رحمه الله: فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدّم أوكدهما، لم يكن الآخر في هذا الحال واجبًا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة،
__________
(1) مجموع الفتاوى (22/267).
(2) مجموع الفتاوى (22/267، 268).
(3) الموافقات (2/93، 94).(1/13)
وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرمًا على الحقيقة، وإن سمي ذلك ترك واجب، وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر، ويقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة أو لدفع ما هو أحرم(1). اهـ.
ومن هذا الباب ما قاله سلطان العلماء وبائع الأمراء العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام: إذا تفاوتت رتب الفسوق في حق الأئمة قدمنا أقلهم فسوقًا مثل إن كان فسق أحد الأئمة بقتل النفوس وفسق الآخر بانتهاك حرمة الأبضاع وفسق الآخر بالتعرض للأموال قدمنا المتعرض للأموال على المتعرض للدماء والأبضاع... فإن قيل: أيجوز القتال مع أحدهما لإقامة ولايته وإدامة تصرفه مع إعانته على معصيته؟ قلنا: نعم دفعًا لما بين مفسدتي الفسوقين من التفاوت ودرءًا للأفسد فالأفسد...
وكذلك إذا حصل بالإعانة مصلحة تُربي على تفويت المفسدة، كما تبذل الأموال في فداء الأسرى الأحرار من المسلمين من أيدي الكفرة والفجرة(2). اهـ.
10ـ ما قاله العلماء في مسألة هجر أصحاب المعاصي والبدع أي مقاطعتهم، حيث ربطوا ذلك باعتبار المصالح والمفاسد في ذلك:
__________
(1) مجموع الفتاوى (20/ 57).
(2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام لأبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام (1/86، 87)، ط. مكتبة الكليات الأزهرية سنة 1388هـ.(1/14)
قال ابن تيمية رحمه الله: الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعًا، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر والهاجر ضعيف، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتألف قومًا ويهجر آخرين(1). اهـ.
وقال محمد بن صالح العثيمين حفظه الله: أما هجرهم ـ أي المبتدعة ـ فهذا يترتب على البدعة، فإذا كانت البدعة مكفرة وجب هجره، وإذا كانت دون ذلك فإننا نتوقف في هجره، إن كان في هجره مصلحة فعلناه، وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه، وذلك أن الأصل في المؤمن تحريم هجره لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لا يحل لرجل مؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث" فكل مؤمن وإن كان فاسقًا فإنه يحرم هجره ما لم يكن في الهجر مصلحة، فإذا كان في الهجر مصلحة هجرناه لأن الهجر حينئذٍ دواء، أما إذا لم يكن فيه مصلحة أو كان فيه زيادة في المعصية والعتو فإن ما لا مصلحة فيه تركه هو المصلحة(2). اهـ.
11ـ ما قرره العلماء في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من اعتبار المصالح والمفاسد في ذلك والحرص على تقديرها قبل الهجوم بالأمر أو الإنكار:
__________
(1) مجموع الفتاوى (28/206).
(2) المجموع الثمين من فتاوى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين (1/31)، جمع وترتيب: فهد بن ناصر السليمان. دار الوطن، ط. الأولى.(1/15)
قال ابن تيمية رحمه الله في رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات والمستحبات لابد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة؛ إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب والله لا يحب الفساد، بل كل ما أمر الله به هو صلاح، وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا و عملوا الصالحات، وذم الفساد والمفسدين في غير موضع، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم يكن مما أمر الله به، وإن كان قد ترك واجبًا وفعل محرم...
وهنا يغلط فريقان من الناس: فريق يترك ما يجب عليه من الأمر والنهي تأويلاً لهذه الآية { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } [المائدة: 105] الآية، والفريق الثاني: من يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقًا من غير فقه ولا حلم ولا صبر ولا نظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح وما يقدر عليه وما لا يقدر(1). اهـ.
وقال: فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل، وقد يكون الواجب في بعضها كما بينته فيما تقدم العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء لا التحليل والإسقاط، مثل أن يكون في أمره بطاعةٍ فِعْلٌ لمعصية أكبر منها، فيترك الأمر بها دفعًا لوقوع تلك المعصية، مثل أن ترفع مذنبًا إلى ذي سلطان ظالم فيعتدي عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضررًا من ذنبه، ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات ترك لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات، فيسكت عن النهي خوفًا أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر.
__________
(1) رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية رحمه الله، ص38، 39، دار المدني بجدة، ط. الثانية.(1/16)
فالعالم تارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة يبيح، وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة، كالأمر بالصلاح الخالص أو الراجح أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح، وعند التعارض يرجح الراجح كما تقدم بحسب الإمكان، فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن إما لجهله وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه كما قيل إن من المسائل مسائل جوابها السكوت(1). اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله...
ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر(2).اهـ.
__________
(1) مجموع الفتاوى (20/58، 59).
(2) أعلام الموقعين (3/4).(1/17)
وقال رحمه الله: فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك, وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد وإلا كان تركهم على ذلك خيرًا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك فكان ما هم فيه شاغلاً عن ذلك, وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم(1). اهـ.
وفي مختصر منهاج القاصدين ـ والكلام في الأصل للغزالي في الإحياء ـ: ولا خلاف أنه يجوز للمسلم الواحد أن يهجم على صفوف الكفار ويقاتل، وإن علم أنه يُقتل، لكن إن علم أنه لا نكاية له في الكفار، كالأعمى يطرح نفسه على الصف، حرم ذلك، وكذلك لو رأى فاسقًا وحده وعنده قدح خمر وبيده سيف، وعلم أنه لو أنكر عليه لشرب الخمر وضرب عنقه، لم يجز له الإقدام على ذلك؛ لأن هذا لا يؤثر في الدين أثرًا يفديه بنفسه، وإنما يستحب له الإنكار إذا قدر على إبطال المنكر، وظهر لفعله فائدة... وإن علم المنكر أنه يضرب معه غيره من أصحابه، لم تجز له الحسبة؛ لأنه عجز عن دفع المنكر إلا بإفضائه إلى منكر آخر، وليس ذلك من القدرة في شىء(2) . اهـ.
__________
(1) أعلام الموقعين (3/5).
(2) مختصر منهاج القاصدين ص118.(1/18)
وليس ذلك تميعًا وتساهلاً في الأمور بحجة المصالح والمفاسد كما قد يتصور من قل علمه ومن يسيء الظن بأهل العلم، فإننا نرى العلماء في المقابل يشددون في موضع التشديد كما نص أحمد وإسحاق على أن الداعية إلى البدع يقتل(1)؛ وذلك لأن حفظ الدين أهم من حفظ النفس، والمفسدة في قتله أهون من مفسدة تخريب الدين كذلك قال العلماء بقتال جيش الكفار إذا تترسوا بمسلمين وإن أفضى إلى قتل المسلمين إن خيف على المسلمين الضرر إن لم يقاتلوا(2)، كل ذلك حرصًا على حفظ الدين وإعزاز أهله، كذلك نهى العلماء عن أشياء لم يرد النهي عنها في النصوص سدًا للذرائع ودفعًا للمفاسد كالنهي عن النظر إلى الأمرد عند خوف التلذذ بذلك(3) وإلقاء السلام على الشابة(4)، ومثل إلزام المرأة بعدم إبداء زينتها الخفية لمن كان من محارمها فيه شهوة وشغف(5) ونحو ذلك من الأحكام الكثيرة المعروفة التي لا تنفصل عن هذا الأصل العظيم وهو اعتبار المصالح والمفاسد في الفتاوى والأحكام، ويطول سرد الأمثلة إذا تتبعناها ولكن نكتفي في نهاية هذه الأمثلة بالتذكير بالقاعدة العامة في ذلك كما قال ابن تيمية رحمه الله في رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها.
__________
(1) انظر: جامع العلوم والحكم ص122، ط. دار المعرفة ـ بيروت.
(2) انظر: مجموع الفتاوى (28/475، 476، 499، 500، 546، 547).
(3) انظر: مجموع الفتاوى (31/47).
(4) انظر: شرح السنة للبغوي، تحقيق الأرناؤوط والشاويش (12/266، 267) ط. دار بدر ـ القاهرة.
(5) انظر: مجموع الفتاوى (15/373، 374، 21/251).(1/19)
فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنًا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له فإن كان الذي يفوت من المصالح، أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأمورًا به، بل يكون محرمًا إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته(1). اهـ.
- - -
كيف تقدر المصالح والمفاسد ومن يقدرها؟
أولاً: تقدير المصالح والمفاسد بالشرع لا بالهوى:
تقدير المصالح والمفاسد إنما يكون بالشرع لا بالهوى كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها وإلا اجتهد رأيه...)(2).
فالمرحلة الأولى أن ننظر هل المصالح والمفاسد التي نحن بصددها ورد بالموازنة بينها نص في الشريعة أم لا؟ فحيث ورد النص باعتبار مصلحة ما أو بإلغائها وجب اتباعه. فمن سأل هل يبقى مع والديه لبرهما أم يخرج متطوعًا للجهاد ولو لم يأذنا؟ أي المصلحتين تقدم؟ فهذا ورد تقديره والجواب عنه في نصوص الشريعة بما لا يدع مجالاً للاجتهاد في رأي، ففي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها" قلت: ثم أي؟ قال: "ثم بر الوالدين"، قلت: ثم أي؟ قال: "ثم الجهاد في سبيل الله"(3).
أما إذا اشتبهت المسألة ولم يوجد نص صريح يقضي باحتمال مفسدة ما أو تفويت مصلحة أو تقديم مصلحة على أخرى فهنا يكون الاجتهاد.
ثانيًا: لابد من النظر في المآلات عند تقدير المصالح والمفاسد:
__________
(1) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص40، 41.
(2) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص41.
(3) رواه البخاري ومسلم، انظر: الفتح (2/12)، صحيح مسلم بشرح النووي (2/74).(1/20)
فمما ينبغي أن يعلم أنه عند تقدير المصالح والمفاسد لا يكون ذلك بالنظر إلى اللحظة الراهنة فحسب بل لابد من تصور العواقب والنظر فيما يؤول إليه الأمر في النهاية.
مثال: إنسان في مسجد به بعض البدع ويريد أن يقوم بالدعوة في هذا المسجد ويغير البدع ويحيي السنن، ولكنه يريد من أول صلاة يصليها في ذلك المسجد أن ينهي هذه البدعة ويقيم تلك السنة، ويقول: أنا واثق أنني لو أردت فعل ذلك الآن أو الكلام فيه فسأقدر على ذلك ولن يصيبني ضرر إن شاء الله، يريد أن يقول أن المصلحة موجودة والمفسدة مأمونة. ولكن هذا التقدير إنما هو باعتبار اللحظة الراهنة أما إذا أدخلنا في تقدير المصلحة والمفسدة ما يؤول إليه الأمر بعد ذلك فربما تغيرت القضية، كما لو كان أهل المسجد سينفرون منه ويتحرشون به ويتصلون ببعض المسئولين عن المسجد أو غيرهم ممن يجهلون الدين ولا يحبون انتشار الدعوة الصحيحة الصافية، أو نحو ذلك، ثم يخرجونه من المسجد أو لا يمكنونه بعد ذلك من شيء فيه، فتعود البدعة وتقوى ويتحمس لها أهلها، وتنقطع الدعوة، ويتكون حاجز بين الدعاة وأهل ذلك المسجد، وربما لو صبر الداعي عليهم قليلاً وعاشرهم وتدرج في الأمر لانتهى ذلك إلى خير وتغيير للأصلح، فإذا غلبت هذه الأمور على الظن فهل يجب على الداعي اعتبارها أم أنه لا يلتفت إليها ويمضي فيما شاء من الأمر والنهي؟ ماذا يقول العلماء في مثل هذه المسائل؟(1/21)
الجواب يقرره الإمام الشاطبي رحمه الله فيقول: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل (فقد يكون)(1) مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تُدْرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب جارٍ على مقاصد الشريعة(2). اهـ.
ثم أخذ يستدل على صحة ذلك بأمور منها أن التكاليف مشروعة لمصالح العباد، ومنها أن الاستقراء للشريعة وأدلتها يدل على اعتبار المآلات، وذكر أمثلة تفصيلية بعضها ذكرناه كامتناعه - صلى الله عليه وسلم - عن قتل المنافقين مع قدرته على ذلك خشية أن يظن الناس أنه يقتل أصحابه فينفروا من الدخول في الإسلام، وكامتناعه عن رد البيت إلى قواعد إبراهيم عليه السلام، وكنهيه أصحابه عن زجر الأعرابي حال تبوله في المسجد، وكنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن التشديد على النفس في العبادة خوفًا من الانقطاع... إلى أن قال: قال ابن العربي حين أخذ في تقرير هذه المسألة ـ النظر في مآلات الأفعال في الأحكام ـ: اختلف الناس بزعمهم فيها وهي متفق عليها بين العلماء فافهموها وادخروها(3). اهـ.
__________
(1) زادها محقق الموافقات لوجود سقط ولا يستقيم السياق بدونها.
(2) الموافقات (4/194، 195).
(3) الموافقات (4/195ـ 198).(1/22)
ورد رحمه الله على من يهمل هذه القاعدة بحجة أن عليه العمل وليس عليه النتيجة فقال: لا يقال إنه قد مر في كتاب الأحكام أن المسببات لا يلزم الالتفات إليها عند الدخول في الأسباب؛ لأنا نقول: وتقدم أيضًا أنه لابد من اعتبار المسببات في الأسباب... وقد تقدم أن الشارع قاصد للمسببات في الأسباب. وإذا ثبت ذلك لم يكن للمجتهد بد من اعتبار المسبب، وهو مآل السبب(1). اهـ.
يوضح كلامه أن من أراد الولد والذرية لا يقبل منه أن يتزوج بمن عرف أنها عقيم ويقول ليس عليّ النتيجة، وإنما يتحرى الولود أو من لم يعرف أنها عقيم، فالإنسان قبل الإقدام على العمل أو عدمه ينبغي أن يتأمل فيما يغلب أن يكون من النتائج لأنه لولا كونها مقصودة في الأصل ما شرع العمل، لكن بعد النظر والاطمئنان إلى أن الغالب كون النتائج أو المسببات الحاصلة هي مقصود الشارع فحينئذ يأخذ في التنفيذ والعمل متوكلاً على الله وهو مطمئن سواء حدثت النتائج بالفعل أم لم تحدث، فلا يلتفت إلى ذلك حينئذ. فتقدير النتائج والنظر في ذلك من عمل العبد وينشغل بذلك قبل الدخول في العمل ويسعى في أخذ الأسباب اللازمة، ثم يدخل في العمل متوكلاً على الله دون التفات إلى حصول النتائج أو عدم حصولها. أما حصول النتائج وتحققها فهو لله وحده. وبذلك يجمع العبد بين عبودية السعي وعبودية التوكل.
__________
(1) الموافقات (4/195، 196).(1/23)
وقال الشاطبي رحمه الله: ومن هذا الأصل ـ أي اعتبار المسببات أو النظر في مآلات الأفعال قبل الإقدام أو الإحجام ـ تستمد قاعدة أخرى: وهى أن الأمور الضرورية(1) أو غيرها من الحاجية(2) أو التكميلية(3) إذا اكتنفتها من خارج أمور لا ترضى شرعًا فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج، كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال مع ضيق طرق الحلال واتساع أوجه الحرام والشبهات وكثيرًا ما يلجئ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز، ولكنه غير مانع، لما يؤول إليه التحرز من المفسدة المربية على توقع مفسدة التعرض. ولو اعتبر مثل هذا في زماننا لأدى إلى إبطال أصله. وذلك غير صحيح. وكذلك طلب العلم إذا كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها، وشهود الجنائز وإقامة وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضى. فلا يُخرج هذا العارض تلك الأمور عن أصولها لأنها أصول الدين وقواعد المصالح. وهو المفهوم من مقاصد الشارع فيجب فهمها حق الفهم فإنها مثار اختلاف وتنازع، وما ينقل عن السلف الصالح مما يخالف ذلك قضايا أعيان لا حجة في مجردها حتى يعقل معناها فتصير إلى موافقة ما تقرر إن شاء الله. والحاصل أنه مبني على اعتبار مآلات الأعمال، فاعتبارها لازم في كل حكم على الإطلاق. والله أعلم(4).اهـ.
__________
(1) أي التي يسبب فواتها الفساد والفوضى واختلال نظام الحياة.
(2) أي التي يسبب فواتها ضيقًا وحرجًا للناس.
(3) أي التي يسبب فواتها خروج حياة الناس عما تستدعيه الفطر السليمة والعادات الكريمة.
(4) الموافقات: إقامة المصالح الشرعية وإن لقي في طريقها بعض المناكير (4/210، 211).(1/24)
وضرب محقق الكتاب من الأمثلة لما نقل عن السلف مما يخالف ذلك في ظاهره، ما روي عن بعضهم من ترك الجنائز أو الجماعات خشية المناكر كما يروى عن مالك أنه ترك الجماعات وغيرها للمناكر. ولكنه عند التحقيق ظهر أنه تركها لسلس أصابه خشي منه على طهارة المسجد، فصارت قضيته العينية موافقة لما تقرر(1).اهـ.
ولكن من يقوم بتقدير المصالح والمفاسد؟
لما كان هذا الأمر مما تتفاوت فيه الاجتهادات وتتباين فيه التقديرات، كان لابد له من دراية بالشرع ومعرفة دقيقة وخبرة بالواقع مع قوة في العقل والفراسة للنظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح مع الإخلاص التام والتجرد من الهوى، والموفق من وفقه الله عز وجل وجعل له فرقانًا وبصره بالحق والصواب.
ولكن من المعلوم أن الأمور التي نحتاج فيها إلى تقدير المصالح والمفاسد تتفاوت تفاوتًا عظيمًا من حيث أهميتها وخطورتها وتأثيرها، ومن حيث دائرة من تتعلق بهم، ومن حيث كونها مطلوبة للنفس أم لإفتاء الناس، فقد يمر الإنسان ببعض المواقف اليسيرة العابرة التي يحتاج فيها لمعرفة التصرف الأمثل الملائم للشرع المحقق للمصلحة واختياره من بين عدة تصرفات محتملة وكلها مباحة في الأصل، ولا يعقل البحث عن مجتهد ليقدر المصلحة في كل أمر عابر وكل موقف يسير ولكن يستطيع غير المجتهد بشيء من التأمل أو بمشورة بعض الأصحاب الخيرين المطلعين على الشرع وعلومه ـ وإن لم يكونوا من العلماء ـ أن يقدر المصلحة ومظانها، وهذا بخلاف ما لو عظمت الأمور، أو اتسعت دائرة تأثيرها، أو تعلقت بتحريم شيء على الناس أو تحليله، فيكون ما يلزم لها من العلم وأدوات الاجتهاد أكثر وأكثر لاسيما إن تعلق الأمر بمناهج الدعوة وأساليبها وتجديد الدين وإحياء السنن، أو بإنكار المنكر والجهاد، ونحو ذلك، مما يتطلب جهد العلماء وأهل الاجتهاد.
__________
(1) الموافقات (4/211).(1/25)
ولا يخفى ـ كما قال بعض العلماء ـ أن هذا الباب مزلة أقدام ومدحضة أفهام وكثيرًا ما يقع فيه الاشتباه، وقد تقارن الأهواء الآراء، وتختلط النزعات الشخصية بالاجتهادات الفقهية، والمعصوم من عصمه الله عز وجل، ولا مخرج من هذه الفتن إلا بلزوم الجماعة والاعتصام بالشورى والإصغاء إلى ما يقرره أهل العلم والثقات والعدول من الدعاة فإن ما يكره من الطاعة والجماعة خير مما يحب من الفرقة والمعصية.
- - -
خاتمة
وأختم الكلام في هذه المسألة وهي اعتبار المصالح والمفاسد والموازنة بينها عند التعارض بأن المسلمين في هذا الزمان أحوج ما يكونون لاستخدام هذا الأصل لأن كثيرًا منهم يقف حائرًا أمام تنفيذ بعض الأحكام، ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول: وهذا ـ باب التعارض ـ باب واسع جدًا لاسيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل(1).اهـ.
ويؤكد شيخ الإسلام حقيقة واقعة الآن وكأنه بيننا فيقول: ووجود ذلك(2) من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين، قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم فلا يجدون من يعنيهم العمل بالحسنات وترك السيئات لكون الأهواء قارنت الآراء(3). اهـ.
__________
(1) مجموع الفتاوى (20/57).
(2) أي التعارض بين الحسنات والسيئات أو اختلاطها.
(3) مجموع الفتاوى (20/57، 58).(1/26)
فإن قال قائل: هذه المسألة من مسائل الأصول ومن شأن المجتهدين، فهل من فائدة في معرفتها لغير المجتهد؟ فالجواب: أن استصحاب غير المجتهد لها يحمله على التأني وإعادة النظر وسؤال أهل العلم وعدم المسارعة بالهجوم على الفعل أو الترك أو القطع بحكم ما أو فتوى، وليتمكن من تفهم كلام العلماء وفتاواهم ومواقفهم.
ونختم بذكر ما قاله الشيخ محمد عبد الله دراز رحمه الله في مقدمة الموافقات لبيان فائدة دراسة موضوعات الأصول لغير المجتهد حيث قال رحمه الله: أن يعرف كيفية استنباط الأحكام، فإنا وإن لم نصل إلى مرتبة الاجتهاد والقدرة على الاستنباط فإنا نصل منه إلى معرفة مقاصد الشرع وسر أحكام الشريعة وإنه لهدى تسكن إليه النفوس، وإنه لنور يشرق في نواحي قلب المؤمن يدفع عنه الحيرة ويطرد ما يلم به من الخواطر. اهـ.
- - -
? مستفاد من:
القرآن الكريم.
تفسير ابن كثير.
فتح الباري شرح صحيح البخاري، صحيح مسلم بشرح النووي.
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، أعلام الموقعين لابن القيم، الموافقات للشاطبي، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية.
جامع العلوم والحكم لابن رجب، مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة المقدسي.
المجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين.
إشارات مضيئة على طريق الدعاة (مقال للشيخ محمد أبو زيد في العدد السابع عشر ـ شوال 1410هـ ـ من مجلة الفرقان ـ الكويت) ومقالات وبحوث أخرى.
الفهرس
الموضوع ... الصفحة
أولاً: الأدلة من القرآن الكريم ... 10
ثانيًا: الأدلة من السنة ... 13
ثالثًا: أمثلة من أقوال السلف والعلماء من الصحابة وغيرهم وفتاواهم وأفعالهم
كيف تقدر المصالح والمفاسد ومن يقدرها ... 22
خاتمة ... 41
الفهرس ... 53
57
- - -(1/27)