C:\Users\أبو محمد\Desktop\لل.jpg
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرورأنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً , ثم أما بعد :-
فإنه يجب علينا معاشر المسلمين عامة أن نعظم الأدلة ونحترمها ونرفع من شأنها ونجعلها المقدم على كل شيء فهي تاج رؤوسنا ونور صدورنا وعزنا وفخرنا وسعادتنا في الدارين, وأن لا نعارضها بقولٍ ولا رأي ولا قياس ولا اجتهاد ولا عقل ولا مذهب ولا مكاشفة سامجة ولا أحلام تافهة ولا أي شيء, فالواجب علينا أن يكون الدليل من الكتاب وصحيح السنة هو المقدم وهو الأول وهو الرأس وهو الحاكم وهو السيد المطاع, فكل شيء عارض النص الصحيح الصريح فالواجب إلغاؤه وإطراحه وإخراجه من عقولنا وتصانيفنا, وأن لا نرفع أصواتنا فوق صوت الشارع ولا نتقدم بين يدي الله ورسوله, فلا نقول شيئاً بعد قول الله ورسوله, ولا نعارض شيئاً ثبت عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -, فالدليل هو الأصل وما سواه فهو الفرع التابع له والدليل هو الأول وما سواه فهو الآخر, والدليل هو الأعلى وما سواه فهو سافل, والدليل هو السيد المطاع وما سواه فعبد له تابع, والدليل هو الحق وما عارضه أو خالفه أو ناقضه فهو الباطل المردود, والدليل هو الملك الحاكم وما سواه فمحكوم عليه, والدليل هو الصدق والحق في منطوقه ومفهومه ولوازمه, وما سواه فلا يكون حقاً هو الأول وما سواه فهو الآخر, والدليل هو الأعلى وما سواه فهو سافل, والدليل هو السيد المطاع وما سواه فعبد له تابع, والدليل هو الحق وما عارضه أو خالفه أو ناقضه فهو الباطل المردود, والدليل هو الملك الحاكم وما سواه فمحكوم عليه, والدليل هو الصدق والحق في منطوقه ومفهومه ولوازمه, وما سواه فلا يكون حقاً إلا(1/1)
إذل وافقه, والدليل هو الميزان الذي توزن به الأقوال والآراء والمذاهب والعادات والتقاليد والسلوم والأعراف والعقول والمكاشفات والكرامات والرؤى والأحلام والدعوات والجماعات والفرق والأعمال الظاهرة والباطنة لأنه ميزان الصدق والحق الذي نزل من عند العليم المجيد فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وأما ما سواه فإنه موزون, والدليل من الكتاب والسنة يجب قبوله لأنه دليل, وأما ما سواه فيقبل إن وافق الدليل, والدليل هو القائد وما سواه فمقود, والدليل الشرعي الصحيح الصريح حجة بذاته وما سواه فلا يكون حجة بذاته بل لا يكون حجة إلا بعد عرضه على الأدلة فإن وافقها فقد اكتسب الحجية وأما إن خالفها فلا يقبل, بل حقه أن يرمى به عرض الحائط, فهكذا يجب أن يكون المسلم, فإن المسلم الصادق يجب عليه أن يقبل الدليل بنفس منشرحة وقلب مطمئن وأن يعظمه ويقدره حق قدره وأن لا يعارضه بأي شيء, فإذا صح الدليل وجب الأخذ به, واعتماده وقبوله سواءً وافق الرغبة أو خالفها وسواءً وافق مذهبك أو خالفه, وسواءً وافق عادة بلدك أو خالفها, وسواءً عمل به أحد أو لم يعمل به, وسواء رضي عنك الناس أو كرهوك, وسواءً وافق رأي أميرك أو خالفه, وسواءً وافق رأي إمامك أو خالفه, لأن الدليل حجة بذاته ولا يكتسب حجيته من طرف آخر, وليست حجية الدليل متوقفة على رأي أحدٍ أو عمل أحدٍ أو موافقة أحدٍ كائناً من كان, إذا علمت هذا فاعلم أن هناك باباً خطيراً بسببه عورضت الأدلة وبسببه ترك الأخذ بها وبسببه قُدح فيها وقدم عليها غيرها, وهو باب إبليسي شيطاني التأصيل والتخطيط والتنفيذ فأول من فتح هذا الباب إبليس لعنه الله, وتابعه على ذلك أمم وطوائف وأفراد بل وعلماء وطلاب علم, فمنهم من تابعه عالماً مطاوعاً مؤثراً, ومنهم من تابعه جاهلاً بحقيقة الحال وما تفضي إليه في المآل, فأول من وضع هذه الشبهة إبليس فعورضت بها النصوص وقدح فيها وشكك في صحتها, بل(1/2)
إن بعض الطوائف جعلت قبول الدليل موقوفاً على موافقته لهذه الشبهة, بل إن كثيراً من الأمم هلكت بأنواع العذاب - أي بعذاب الاستئصال - لما قدمت قبول هذه الشبهة على ما جاءها من الحق, فهي في الحقيقة آفة أثيمة وشبهة قديمة قدم التاريخ, فأول من تفوه بها إبليس وأول من عورض بها رب العزة والجلال, وكأني بك عرفتها, نعم, إنها هي بعينها, إنها مخالفة النصوص ومعارضتها بالقياس إنها تقديم القياس على النص, إنها مصادمة النص واطراحه من أجل القياس, إنها بذرة شيطانية زرعها إبليس في أرض السوء وسقاها بماء الإباء والاستكبار والمعاندة وقلة الأدب, فأثمرت اطراح النصوص وإلغاء دلالاتها وتأخير رتبتها حتى صارت تابعة لا متبوعة, ومأمورة لا آمرة, ومحكومة لا حاكمة, إنها شبهة أنشأ لها إبليس مدرسة أسماها:- مدرسة التربية والتعليم على مخالفة النص بالهوى, واطراح الدليل بالقياس, وتقديم العقل على النقل, إنها شبهة أوصلته إلى لعنة الله وسخطه وغضبه وتوعده بالنار وطرده من الجنة ودحره وذمه ومقته أشد المقت, فحرص الخبيث على نقلها لغيره ليشاركوه في شيء من هذا المقت واللعنة والغضب والسخط, إنها شبهة قد استبان قبحها, ونتانة ريحها وسوء آثارها, لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد, إنها الشبهة التي مثل بها أهل التمثيل صفات الله بصفات خلقه, وعطل بها أهل التعطيل, وجُحِدتْ الملائكة, وأُنكر الغيب, وكُذِّب بالقدر, وحُرفت النصوص في الصفات والأسماء والمعاد, بل لا أكون مبالغاً إن قلت:- أن غالب الفساد الذي كان ويكون إنما هو بسبب هذه الآفة القديمة والشبهة الأثيمة فحق على كل مسلم أن يحذرها وحق عل كل عالم أن يحذر منها طلابه وأتباعه والناس أجمعين فإنها ليست بالأمر السهل الذي يمكن غض الطرف عنه وتأخير تعليمه إلى حين آخر, بل إن كشفها من أهم المهمات وغاية المطالب فهل وقع الشرك بالله بأنواعه إلا بسبب القياس المصادم للنص, وهل وقع أهل البدع في بدعهم إلا(1/3)
بسبب القياس الفاسد, وهل مُثِّلت صفات الخالق بصفات خلقه إلا بسبب القياس الفاسد المصادم للنص, وهل حرفت نصوص المعاد وكذب بحقائق اليوم الآخر إلا بسبب القياس المصادم للنص, وهل أُهلكت الأمم السابقة إلا باعتمادهم وقبولهم ومتابعتهم للأقيسة الفاسدة المصادمة للنصوص, وهل عُظمت القبور وعبدت ودعيت وطيف بها وذبح لها إلا بسبب القياس المصادم للنص, وهل أزهقت الأرواح البريئة وأهلك الحرث والنسل إلا بسبب القياس الفاسد المصادم للنص, فإياك ثم إياك أن تتساهل في أمرها أو تتعامى عن خطرها وآثارها, فإن البلايا لا ينظر في ظواهرها فقط بل لابد من البحث عن أسبابها, وإن من أعظم أسباب البلايا التي كانت وتكون وستكون إنما هو القياس الفاسد المصادم للنص فالأمر خطير جداً لابد فيه من تكاتف الجهود واتحادها على تعليم الناس احترام النصوص وتعظيمها وعدم معارضتها برأيٍ أو قياس, فإن أعظم شيء نقدمه للناس هو أن نزرع في قلوبهم تعظيم الدليل, وأن نربيهم على أنه إذا صح النص فإنه يجب قبوله واعتماده وتحرم مخالفته أو معارضته بأي شيء, فإن القلب لا يكون سليماً إلا إذا عرف الدليل وآمن به حق الإيمان وعظمه حق التعظيم واطمأن له ولم يعارضه برأي ولا قياس, فإن القلب الذي هو كذلك لا يتطرق إليه شرك ولا بدعة ولا تغليب هوى, وإن هذه الوريقات اليسيرة قد جاءت لتشارك في معالجة هذا الأمر وتكمل مسيرة أهل العلم في دفع هذه الآفة القديمة والشبهة الأثيمة, وهي جهد مقل هو فيه عالة على غيره, والقاعدة التي سننطلق منها تقول ( كل قياس صادم النص فإنه باطل ) وستكون طريقة شرحنا هي بعينها الطريقة المعتادة من اعتماد نص القاعدة مجزوماً به ثم بعد ذلك نشرحه شرحاً إفرادياً وبعده الشرح الإجمالي ثم نعقبه بذكر الأدلة الدالة على صحته ثم نذكر شيئاً من نقول أهل العلم في هذا الشأن ثم نختم الكلام بالفروع الكثيرة والتي تدرب الطالب على كيفية التخريج على هذا الأصل العظيم,(1/4)
ورأيت أن أسمي هذه الوريقات بـ( الآفة القديمة والشبهة الأثيمة ) ونعني بالآفة أي معارضة النصوص بالقياس, وقولنا ( القديمة ) إشارة إلى أنها ليست وليدة اليوم ولا هذا العصر ولا ما قبل ألف سنة, بل هي قديمة قدم التاريخ لأن إبليس أول من تفوه بها بين يدي الله تعالى في ملكوت السماء, كما سيأتي لذلك مزيد إيضاح إن شاء الله تعالى وقولنا ( والشبهة ) أسميتها شبهة لأن كثيراً من الناس لم تتضح له حقيقتها ولا يزال يدندن حولها ولا يزال كثير من الناس يرد النصوص بسبب قيامها في قلبه, وقولنا ( الأثيمة ) أي ذات الآثار السيئة والعواقب الوخيمة, والغرض من هذه الوريقات بعث تعظيم الدليل في القلوب وتربية الناس على تقديم الدليل على كل شيء, والله أسأل أن ينفع به كما نفع بما كتبناه سابقاً, النفع العام والخاص وأن ينزل فيه البركة تلو البركة وأن يشرح له الصدور ويفتح فيه الأفهام, وأن يجعله عملاً خالصاً لوجه الكريم كما أسأله باسمه الأعظم أن يرفع نزل العلماء وأن يغفر لهم وأن يحفظهم بحفظه في الدارين, وأن يعلي درجاتهم في جنات ونهر في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر وأن يحشرهم في زمرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن يجزيهم خير الجزاء على ما بذلوه من الغالي والنفيس في سبيل نشر العلم وتعليمه, فيارب اجزهم خير الجزاء وعاملهم بعفوك ولطفك ورحمتك وإحسانك, ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم, وإلى المقصود والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, فيقول العبد الحقير الكسير الفقير لربه العلي العزيز القدير:- نذكر أولاً نص القاعدة ولعلك تكرره عشر مرات حتى تحفظه حفظاً لا نسيان بعده إن شاء الله تعالى :-
{ القياس في مصادمة النص باطل }(1/5)
أقول:- قوله ( القياس ) عرف القياس بأنه إلحاق شيء بشيء في حكمه لعلة جامعة كإلحاق النبيذ بالخمر في التحريم لعلة الإسكار وإلحاق الأسد بالكلب العقور في جواز قتله في الحل والحرم لعلة العقر, وإلحاق تقليم الأظفار في الإحرام بحلق رأس المحرم في جوب الفدية بجامع الترفه في كل وهكذا, فالقياس أن تلحق شيئاً بشيء في حكمه لعلة جامعة بينهما, وقوله ( في مصادمة ) أي في معارضة ومخالفة النص, فمصادمة الشيء معارضته ومخالفته وعدم قبوله وإلغاء دلالته, وقوله (النص) أي نص القرآن أو صحيح السنة, وقوله ( باطل ) أي لا يحل الاحتجاج به لأنه ملغىً والباطل هو الفاسد أي فاسد مطرح لا ينظر له ولا يؤبه به, فهذا شرحها إفراداً, وأما شرحها إجمالاً فنقول:- الم رحمك الله تعالى أن أدلة الشريعة منها ما هو متفق عليه وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس في الجملة, ومنها ما هو مختلف فيه, والكلام هنا عن القياس, وهذا القياس ينقسم إلى قسمين باعتبار قبوله من عدمه, ينقسم إلى قياس مقبول وإلى قياسٍ مردود, ولا يكون القياس صحيحاً إلا إذا توفرت شروط قبوله, وقد ذكر أهل العلم في كتب الأصول هذه الشروطفمن رامها فليرجع إليها, والمهم عندنا منها هناشرط واحد وهو أن يكون هذا القياس لايصادم نصاً, وهذا الشرط قد وقع عليه اتفاق أهل العلم رحمهم الله تعالى, فإنك لا تجد كتاباً من كتب الأصول إلا وهو يشترط في مبحث القياس أن لا يصادم القياس نصاً, فلا يكون القياس معتمداً مقبولاً إلا إذا لم يكن معارضاً لشيء من النصوص, ولذلك فإن القياس المصادم للنص باطل فاسد الاعتبار لا يجوز اعتباره من الشرع ولا يلحق به بوجه من الوجوه, بل الشريعة بريئة منه كل البراءة, وإنما ينسب على صاحبه الذي قاله وجاء به وأما الشرع فلا, وحق هذا القياس الذي صادم النص أن يلغى ويطرح وأن يتبرأ منه وأن يبعد عن كتب الهداية, وأن يحذر منه وأن يبين بطلانه وأن لا يقبل بأي وجهٍ من أوجه الاعتماد(1/6)
والقبول, لأنه قياس مخالف للشرع ومصادم للنص وما خالف الشرع وصادم النص فهو باطل, فالمعتمد هو النص في كل موارد الفروع فالنص مصدرها وتاجها وأصلها الذي يجب تقديمه ولا يجوز البتة معارضة النص بالآراء والأقيسة فيا أيها المسلمون اعلموا رحمكم الله تعالى أن الأصل في الاستدلال هو النص, وأن المعتمد هو النص وأن المقدم هو النص وأن الهدى في الأخذ بالنص, وأن النجاة والفلاح في الأخذ بالنص وأن الخير كل الخير في اعتماد النص, فلا يقدمعلى النص رأي ولا عقل ولا قياس ولا اجتهاد ولا مذهب ولا عادة ولا تقاليد ولا أعراف ولا أي شيء, وهذه القاعدة العظيمة من قواعد الرسوخ في العلم التي يجب اعتمادها وتحرم مخالفتها, والله يتولانا وإياكم ويعيذنا من مخالفة النصوص بالأقيسة الفاسدة والآراء الكاسدة والاجتهادات العاطلة, والله أعلم .
( فصل )
وقد دل على هذه القاعدة العظيمة الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة والعقل والنظر الصحيح والفطرة السليمة :-(1/7)
فمن ذلك :- قوله تعالى { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ } فانظر كيف عوقب إبليس بسبب مخالفته للنص الصحيح الصريح بقياسه الفاسد الكاسد العاطل فإنه قد عارض النص في قوله { اسْجُدُواْ لآدَمَ } بالقياس في قوله { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } فطرد ولعن وكتبت عليه الذلة والصغار وأن يكون خسيساً في الدنيا والآخرة فلما عوقب بهذه العقوبة دل ذلك على فساد قياسه وأنه لا حق له أن يعارض النص بالقياس وأن طريقته في الاستدلال خطأ قد أوجبت له اللعنة والطرد والعقوبة, فلما كان قياسه فاسداً صارت آثاره فاسدة, فلما عاقبه الله تعالى على اعتراضه وقياسه علمنا أنه لا يجوز الاعتراض على النص ولا مصادمته بالقياس وأن الواجب هو الأخذ بالنص واطراح جميع ما خالفه وأنه لا حق لأحد بعد ثبوت النص أن يجادل ويماطل ويعارض بالباطل, فالقياس المعارض مع ثبوت النص مجادلة ومماطلة بالباطل ومعاندة ومكابرة للنص, وهذا واضح .(1/8)
ومنها:- قوله تعالى { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ } وهذا فيه دليل على أنه مع ثبوت النص ووضوح وجه دلالته فإنه يجب الأخذ بمقتضاه ولا يجوز معارضته بالقياس المصادم له لأن معارضته بالقياس مجادلة في الحق بعد ما تبين وهي حرام, فأفاد ذلك أن القياس المصادم للنص مجادلة بالباطل يراد بها رد النص ونقض دلالته وحال هذا القائس قياساً مصادماً للنص حال من يساق إلى الموت وهو ينظر, فكأن هذا النص حبل مشنقةٍ يساق له الإنسان وهو ينظر فلا جرم أنه سيحاول التخلص من هذا الحبل بأي طريقة, فهم يحاولون إزهاق روح الدليل بهذه القياسات الفاسدة لأنهم لا يريدون الوصول إلى الدليل ولا الأخذ به’ ولو أنهم تيقنوا أن الدليل هو برد الروح وراحة القلب وأنه الهداية والنور والسعادة وأنه حياة العقول والأرواح وأنه بهجتها وباعث الاطمئنان فيها لتسارعوا وتسابقوا للأخذ به, لكنهم رأوا غير ذلك فهم يحاولون التملص من الأخذ بالدليل ويجلبون على النصوص بخيلهم ورجلهم حتى يبطلوا دلالتها ومن أوجه إبطال دلالتها معارضتها بالقياس الفاسد, وبه تعلم أن القياس المصادم للنص من المجادلة في الحق بعد ما تبين وهي حرام بكل صورها فيكون القياس المصادم للنص حراماً وهذا واضح .(1/9)
ومنها :- قوله تعالى { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } فانظر كيف جعلوا حال الداعي إلى التوحيد كحال الشاعر الذي يهذي بكلام موزون مقفى وكحال المجنون الذي يتفوه بما لا يعرف فقاسوا حال الداعي إلى الحق والتوحيد بحال الشاعر والمجنون فصارت نتيجة قياسهم ترك الحق واتهام الداعي له, فانظر يا رعاك الله كيف أوصلهم قياسهم المعارض للنص إلى ترك الحق الذي هو سبب نجاتهم والبقاء على الشرك الذي هو أصل عطبهم وهلاكهم, وهذا غيض من فيض من الآثار السيئة للأقيسة الفاسدة المصادمة للنصوص فقد عطلوا قبول الحق بسبب هذا القياس الفاسد فلما أورد الله جل وعلا قياسهم هذا في معرض الإنكار دل ذلك على بطلانه لأنه لو كان حقاً لما أنكره الشارع, فلما أنكره أفاد ذلك بطلانه ويجري ذلك الإنكار على كل قياس عارض النصوص وخالفها, وهذ واضح .(1/10)
ومنها :- قوله تعالى { أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } ووجه الدلالة من هذه الآية أن الكفار كذبوا بالبعث بعد الموت وتركوا دلالة النصوص الدالة على ذلك وسبب هذا التكذيب والجحود والإنكار هو القياس الفاسد فلما جاءتهم نصوص البعث الكثيرة الوفيرة المتواترة أعملوا عقولهم, فقالوا:- إن أجزاء الإنسان بعد موته ودفنه تتفرق في الأرض وتكون رفاتاً بالية وأجزاءً صغيرة متناثرة فتختلط بأجزاء التراب فلا يتميز بعضها عن بعض كحال هذا العظم الذي فتَّه بعض المشركين ونفخه بفمه وقوله:- أتزعم يا محمد أن ربك يعيد هذا كما كان, فقاس حاله بعد الموت على حال هذا العظم الذي بلي وتفرقت أجزاءه ونسي المشركون النصوص الدالة على البعث, ونسوا حالهم قبل خلقهم من أين خلقوا, وسبب ذلك التكذيب هو قياس حالهم بعد الموت على أشياء تفرقت أجزاؤها, فصارت نتيجة قياسهم الفاسد إنكار البعث والتكذيب بما تواترت به النصوص, بل وبما دل عليه العقل والحس والفطرة السليمة, فهم في ريبهم يترددون, ولا يزدادون بمثل هذه الأقيسة إلا كفراً وضلالاً وتكذيباً بالحق واتهاماً لأهله, فالمثل المذكور في الآية في قوله { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا } يراد به القياس الفاسد المصادم للنصوص والذي أوصلهم إلى التكذيب بالبعث وزيادة الكفر والجحود والإنكار, فلما أورد الله قياسهم في معرض الإنكار أفاد ذلك بطلانه, وعلة بطلانه مصادمته للنص فأنتج ذلك أن كل قياس صادم النص وعارضه فإنه فاسد الاعتبار, والله أعلم .(1/11)
ومنها :- قوله تعالى { اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ } وهذا الميزان الذي أنزله الله تعالى هو القياس الذي توزن به الأشياء ولا يكون الميزان حقاً إلا إذا وافق الكتاب والقياس المصادم للنص ليس من ميزان الحق, لأن الميزان الحق هو ما وافق النص لا ما عارضه, فدل ذلك على بطلان القياس المصادم للنص, لأن الميزان الذي أنزله الله تعالى لا يمكن أن يصدق على القياس الفاسد, إذ كيف يكون الله تعالى قد أنزل الكتاب بالحق وأنزل الميزان الذي يعارض به هذا الحق؟ هذا لا يكون أبداً, وبه تعلم بطلان القياس المصادم للنص لأنه عارض الحق الذي أنزله الله تعالى كتاباً وسنة, فالقياس الصحيح هو ما وافق الحق وأما ما عارض الحق من الأقيسة فإنها باطلة وليست هي مما أنزل الله تعالى’ بل هي مما انتجته العقول السامجة والأهواء العفنة, فالقياس الفاسد معارض للكتاب وللسنة وللميزان الحق العادل وما عارض هذا فإنه لا يكون إلا باطلاً فأنتج ذلك أن كل قياس صادم النص فإنه فاسد وباطل, والله أعلم .(1/12)
ومنها :- قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } فهذا تأديب رباني رفيع المستوى جليل الأهمية عظيم القدر يبين الله تعالى فيه أنه إذا صدر القول من الشارع فإنه يجب الاستماع إليه والانقياد لمدلوله والتسليم له وأن لا يعارض بقولٍ ولا رأي ولا اجتهاد ولا أي شيء, وأن قول الله تعالى وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو المقدم على كل شيء, وأن لا نرفع أصواتنا عند صدور حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن ذلك من أسباب حبوط العمل, فإذا كان هذا حال أهل الإيمان فإننا نعلم يقيناً أن معارضة النصوص بالأقيسة الفاسدة خروج عن مقتضى هذا الأدب ونزول عن رتبة الإيمان الكامل وقادح في دين العبد, لأنه إذا كان مجرد رفع الصوت فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - سبب لحبوط الأعمال فكيف برد النص جملة وتفصيلاً, وتقديم القياس الفاسد عليه؟ لاشك أنه أعظم جرماً وأشد عقوبة, فتعطيل النص من أجل الأقيسة الفاسدة تقدمٌ بين يدي الله ورسوله, ورفع للصوت فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم -, فدل ذلك على بطلانه وحرمته, فالواجب على كل مسلم أن تكون أقواله واعتقاداته وأعماله نابعة من وحي الدليل وتابعة للنص فإذا صح النص فالواجب أن يكون هو المقدم لا غيره, والواجب أن يقابل بالقبول والإذعان والتسليم والانقياد لا العكس, والوجب أن تسكت الألسنة عند ذكر النصوص, واطراح جميع ما خالفهامن الأقوال والمذاهب وآراء الرجال والأقيسة السامجة الفاسدة, فإذا رأيت من يقيس في مصادمة النص فقل له:- يا أخي, اتق الله لا تقدم بين يدي الله ورسوله ولا(1/13)
ترفع صوتك على الدليل ولا تقدم قولك ورأيك واجتهادك على نص الشارع, فإن هذا سبب لحبوط العمل من حيث لا تشعر فاتق الله, فهذه الآية من أعظم الأدلة على بطلان القياس إذا صادم النص, والله يتولانا وإياك .
ومنها :- قوله { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ } أي أنهم إذا أمروا بالتوحيد وترك جميع المعبودات من دونه بالنصوص الصريحة الصحيحة التي لا تحتمل المناقشة ولا المماطلة والمجادلة ترك الذين كفروا ذلك كله وأعملوا عقولهم وقياساتهم الفاسدة وعدلوا بربهم غيره من المعبودات وأهملوا دلالة النصوص المتواترة القطعية بسبب هذه القياسات العاطلة التي أفضت بهم الثبات على شركهم وساووا بالله غيره بصرف العبادات له, وهذا دليل على بطلان القياس المصادم للنص وأنه يجري بصاحبه حتى يلقيه في هوة الكفر وأن يعدل بالله غيره, فما وصل الكفار إلى هذا الأمر العظيم والشرك الصراح إلا بالقياس الفاسد, فبالقياس الفاسدطرد إبليس من ملكوت السماء وما عبدت الشمس والقمر والقبور والأشجار والأحجار والملائكة والأولياء والصالحين إلا بالقياس الفاسد, وهو القياس الذي اعترف أهل النار ببطلانه حيث قالوا { تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } بل إن كل بدعة ومقالة فاسدة في أديان الرسل فأصلها من القياس الفاسد, فالقياس الفاسد هو أصل كل شرٍ, نعوذ بالله منه .(1/14)
ومنها :- قوله تعالى { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } فانظر كيف تركوا الحق والإيمان والهدى والذي تتلى عليهم آياته صباح مساء بسبب قياس فاسد عارضوا به تلك النصوص كلها وهو أنهم أفضل وخير من هؤلاء الضعفاء والمساكين الذين سبقوا بالإيمان, والفاضل أحق بالشرف والسبق للخير من المفضول, فلما سبق المفضول للخير والإيمان بالرسل دل ذلك على أن ما سبقوا إليه ليس بخير لأن ذلكخلاف القياس عندهم, لأنه لو كان خيراً وحقاً في ذاته لكان الفاضل هو الأسبق لقبوله, فصارت نتيجة قياسهم هذا أن ما دعت إليه الرسل ليس بحق ولا هو خير وعلة ذلك أن أهل الشرف والعلو في المال والمناصب لم يسبقوا إليه فإنه لو كان في ذاته خير لما سبقهم إليه أحد, فانظر كيف تركوا الحق والهدى بسبب قياس فاسد قام في عقولهم عارضوا به ما جاء به الرسل من الهدى والبر والخير والنجاة, وهذا يفيدك بطلان القياس المصادم للنص وفساده وأن اعتماده له آثاره الوخيمة وبلاياه المستطيرة, وهو دليل على وجوب الأخذ بالنص وترك ما عارضه من الأقيسة المصادمة له .(1/15)
وبالجملة فإن غالب الحجج التي يدلي بها المشركون ويعارضون بها ما جاءت به الرسل إنما هي من قبيل القياس الفاسد, كقولهم { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } وكقوله جل وعلا { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } وكقوله جل وعلا { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وكقوله تعالى { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ } وكقوله تعالى { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } وكقوله { بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ } وكقوله تعالى { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } وكقوله تعالى { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } وكقوله تعالى { وَقَالَتِ(1/16)
الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء } وكقوله تعالى { لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } والآيات في هذا المعنى كثير جداً, وكل ذلك مبدؤه القياس الفاسد الذي صادموا به نصوص الوحي وأبطلوا دلالتها وعطلوها عن معانيها الصحيحة, ففي الحقيقة أن القياس في مصادمة النص سلاح قد سلَّه إبليس على الأدلة, وذلك لعلمه أنه لو قال للناس:- اتركوا الدليل, هكذا صراحة لما قُبِل ذلك منه أحد, لكنه زين لهم الأقيسة المصادمة للنصوص وعظمها في قلوبهم حتى أوصلهم إلى نتائج لم يكن يحلم بها, فالقياس المصادم للنص من أعظم أسلحة إبليس فلابد من كسره وبيان عواره للأمة لتحذر منه, فيالله العجب, ألا ترى, فإن الشرك الذي وجد في الأرض إنما سببه القياس الفاسد, وتمثيل صفات الخالق بالمخلوق إنما القياس الفاسد, وتعطيل الرب عن صفاته إنما سببه القياس الفاسد, والبدع كلها سببها القياس الفاسد فهو شر وأي شر وبلاء وأي بلاء ومصيبة وأي مصيبة, فالله الله يا أخي في الحذر والتحذير منه وإياك أن تتهاون بخطره فإن أمره عظيم وخطره قد بان لكل ذي عينين, فما هلك الأوائل إلا بسببه, وأوصيك أيها الطالب أن تعظم الدليل الصحيح, وأن تجعله تاجاً على رأسك وأن لا ترضى لأحدٍ أن يمس هيبة الاستدلال به برأي كاسد أو قياس فاسد, لابد من تعظيم النصوص الشرعية, ومن أوجه تعظيمها إزهاق روح كل قياس أو رأي أو اجتهاد خالفها وصادمها والله المستعان .
( فصل )(1/17)
ومن الأدلة أيضاً :- حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - وهو حديث صحيح مشهور تلقته الأمة بالقبول واعتمدوه في استدلالاتهم بلا نكير, وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه إلى اليمن قال (( بما تحكم؟ )) قال:- بكتاب الله, قال (( فإن لم تجد؟ )) قال:- فبسنة رسول الله, قال (( فإن لم تجد؟ )) قال:- أجتهد رأيي ولا آلو , أي لا أقصر, وهو عند أحمد وأبي داود والترمذي والطيالسي وقد صححه جماعة من الحفاظ أمثال أبي بكر الرازي وأبي بكر بن العربي والخطيب البغدادي وابن القيم وغيرهم ووجه الاستدلال به أن معاذاً - رضي الله عنه - أخر القياس عن النص وصوبه النبي - صلى الله عليه وسلم - فدل ذلك على أن رتبة الاجتهاد والقياس بعد النص فإذا تعارض القياس والنص فتقديمه - أي تقديم القياس - على النص تقديم لما هو متأخر في الرتبة وهذا فاسد وهو المراد بقولهم:- فاسد الاعتبار .
ومنها :- قوله تعالى { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } قال ابن القيم رحمه الله تعالى:- فقسم الأمر إلى أمرين لا ثالث لهما إما الاستجابة لله والرسول وما جاء به, وإما اتباع الهوى فكل ما لم يأت به الرسول فهو من الهوى ا.هـ. قلت: والقياس المصادم للنص ليس مما لم يأت به الرسول فقط بل هو مصادم لما جاء به الرسول فيدخل في الهوى من باب أولى, فأنتج ذلك أن القياس المصادم للنص من الهوى والهوى مذموم, بل وقد حكم الله بالضلال على من اتبعه, فمتبع القياس بترك النص ضال لأنه متبع للهوى وتارك للهدى .(1/18)
ومنها :- قوله تعالى { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } قال ابن القيم رحمه الله تعالى:- فقسم الله سبحانه طريق الحكم بين الناس إلى الحق وهو الوحي الذي أنزله الله على رسوله وإلى الهوى وهو ما خالفه ا.هـ. قلت: والقياس المصادم للنص نوع من الهوى لأنه مخالف لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - والهوى مجانب للحق فيكون القياس المخالف للنص مجانباً للحق وما جانب الحق فهو باطل فيكون القياس المصادم للنصوص باطلاً بنص القرآن .
ومنها :- قوله تعالى { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ... الآية } فأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - باتباع الشريعة التي جعله عليها وهو أمر له ولأمته, ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون, فأمر بالأول ونهى عن الثاني, والقياس المصادم للنص من أهواء قائليه ومخترعيه وليس هو من الشرع, بل هو مصادم للشرع, فيكون منهياً عن اتباعه بنص القرآن .(1/19)
ومنها :- قوله تعالى { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } وقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } فأمر بطاعته وطاعة رسوله وأمر برد ما تنازعنا فيه إلى كتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ومن حكم في الفرع المختلف فيه بقياس مصادم للنص فقد أعرض عن تحقيق هذا الأمر الرباني, فعند حلول النزاع فالواجب هو رد الأمر المختلف فيه للكتاب والسنة, لا للقياسات الفاسدة التي تصادم ما جاء به الشارع وهذا أمر لا يتحقق كمال الإيمان الواجب إلا به وهو خير وأحسن عاقبة .
ومنها :- قوله تعالى { بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } فأنكر الله على الكفار قياسهم الربا على البيع في أنه حلال مثله لأنه نوع مبادلة وهذا قياس فاسد في معارضة النص فإنكار الله ذلك القياس عليهم دليل على أنه لاتجوز الأقيسة في معارضة النصوص.
ومنها :- الأدلة القرآنية الكثيرة في الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتحريم مخالفتهما وتعليق الإيمان على طاعتهما والأمر باتباع هذا الرسول النبي الأمي, فإنها كلها تدل على بطلان الأقيسة المصادمة للنص لأنه قد تقرر في الأصول أن الأمر بالشيء نهي عن ضده, والقياس المخالف للنص ضد النص فيكون منهياً عنه .(1/20)
ومنها :- قوله تعالى { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا } فإذا كان هذا الفرع فيه قضاء من الشارع فالواجب اتباع هذا القضاء وترك التخير في الاتباع من عدمه, وترك الأقيسة الفاسدة المصادمة له لأنه نوع عصيان لهذا القضاء, وما عارض قضاء الشارع في الأمر فهو باطل .
ومنها:- قوله تعالى { اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } وهذا أمر باتباع القرآن والسنة لأن السنة مما أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا ورد في الفرع دليل منزل وقياس مصادم له, فنحن مأمورون بنص الآية باتباع الدليل المنزل وترك القياس المصادم .
ومنها :- قوله تعالى { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } أي طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -, فإذا ورد نص في فرع من فروع الشريعة وورد فيها قياس مصادم له, فإن الهداية بنص القرآن في طاعته - صلى الله عليه وسلم -, وهذا يفيد أن ترك دلالة النص واتباع القياس المصادم له ضلال وبعد عن الهداية والحق .(1/21)
ومنها :- ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك ابن سحماء عند النبي - صلى الله عليه وسلم - - فذكر حديث اللعان – فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن )) قال ابن القيم رحمه الله تعالى:- يريد - والله ورسوله أعلم - بكتاب الله قوله تعالى { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ } ويريد بالشأن - والله أعلم - أنه كان يحدها لمشابهة ولدها للرجل الذي رميت به, ولكن كتاب الله فصل الحكومة وأسقط كل قولٍ وراءه, ولم يبق للاجتهاد بعد وقوع ا.هـ. قلت:- وكذلك إذا حكم النص في مسألةٍ ما بحكم فلا قياس مع النص .
ومنها :- في الصحيح أن معاوية - رضي الله عنه - كان يستلم جميع أركان الكعبة فقال له ابن عباس رضي الله عنهما لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يستلم منها إلا الركنين اليمانيين فقال له: يا ابن عباس ليس شيء من البيت مهجوراً, فقال له: أليس لك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة, فسكت معاوية - رضي الله عنه - وأرضاه رضى بالحق ورجوعاً للدليل وتركاً للقياس المخالف للنص وهذا حال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تبين لهم الدليل . والزيادة الأخيرة لأحمد وغيره .
ومنها :- أن عمر - رضي الله عنه - لما ذكر خبر حمل بن النابغة في غرة الجنين, قال عمر:- لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره, فكان النص مانعاً له من القياس المعارض, فترك قياسه من أجل النص .
ومنها :- أن عمر - رضي الله عنه - كان لا يورث المرأة من دية زوجها, فلما أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها, لما بلغه ذلك رجع عن رأيه إلى النص, مما يدل على أن لا رأي ولا قياس مع النص .(1/22)
ومنها :- أن عمر - رضي الله عنه - كان لا يأخذ الجزية من المجوس اجتهاداً وقياساً على غيرهم من سائر المشركين وأنهم ليسوا بأهل كتاب معروف فلما أخبره عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر كتب عمر إلى عماله على البلاد بأخذ الجزية منهم فترك قياسه واجتهاده من أجل النص .
ومنها :- أن عثمان - رضي الله عنه - كان يقول:- إن المتوفى عنها لا سكنى لها, حتى جاءه خبر الفريعة بنت مالك أن زوجها خرج في طلب عبدٍ له فقتلوه ولم يترك سكناً تملكه ولا نفقة, قالت فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله )) قالت: فاعتدت أربعة أشهرٍ وعشراً فلما علمه عثمان - رضي الله عنه - ترك قياسه واجتهاده وقضى بالنص .
ومنها :- أن عمر - رضي الله عنه - كان يفتي بأن دية الأصابع على حسب منافعها حتى جاءه خبر معاوية - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( هذه وهذه سواء )) فرجع عن رأيه وقياسه وتركه, وقضى بالنص .
ومنها :- في الصحيح أن عمار خرج في حاجة فأجنب فتمعك في الصعيد كما تتمعك الدابة فلما جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر ذلك له قال (( إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا فضرب بيديه ضربة واحدة ومسح بهما وجهه وكفيه )) فانظر كيف أبطل قياسه وقضى بالنص, لأن عمار قاس الجنب الذي لا يجد الماء على الجنب الذي عنده ماء, فكما أن الجنب يعمم بدنه بالماء إن كان واجداً , فكذلك لابد أن يعمم بدنه بالتراب إن كان فاقداً , فخطأه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين له صفة
التيمم الشرعية فأبطل قياسه ورده للنص لأنه لا قياس في مورد النص .
ومنها :- إجماع الصحابة رضوان الله عليهم, بل اتفاق السلف الصالح, وأئمة الدين على ذم من ترك النصوص الصريحة الصحيحة وتتبع الأقيسة الباطلة والإجماع حجة شرعية .(1/23)
ومنها :- أن القياس إنما هو حجة ينسب للشريعة ويكون دليلاً من أدلتها إذا كان قياساً صحيحاً ومن شرط صحته باتفاق العلماء أن لا يخالف نصاً, فأما إذا خالف النص فإن الشريعة بريئة منه وإنما ينسب إلى صاحبه .
ومنها :- أن القياس فرع للنص, فالنص هو الأصل والقياس فرع فإذا تعارض الأصل والفرع فالواجب والحق والعدل أن يطرح الفرع ويعمل بالنص لا العكس .
ومنها :- أن النص الثابت أقوى من القياس, فإذا تعارض القوي والضعيف فلا جرم أن الأقوى هو الذي يعمل به ويعتمد فكيف يقدم الأضعف في الدلالة على الأقوى؟ هذا لا يكون إلا عند من لا يعرف طريقة الاستدلال .
ومنها :- أن أهل العلم على أن القياس لا يصار إليه إلا عند تعذر النص فالنص هو الأصل والقياس هو البدل, فهما كالماء والتراب فكما أنه لا يصار إلى الطهارة الترابية إلا إذا عدمت الطهارة المائية فكذلك لا يصار إلى القياس إلا عند تعذر النص, لأنه قد تقرر أن البدل لا يصار إليه إلا إذا تعذر المبدل, فمن قاس قياساً مصادماً للنص وترك النص فكأنه تيمم والماء موجود ومن المعلوم أن طهارته حينئذٍ تكون باطلة فكذلك استدلاله بالقياس قياساً يصادم به النص استدلاله باطل فاسد .
ومنها :- أن المتقرر أن النص معصوم, فإذا صح الحديث فهو معصوم لنه قد قاله من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى, وأما القياس فإنه صادر من غير معصوم لأن العلماء يصيبون ويخطئون, فإذا تعارض قول المعصوم مع قول غير معصوم فلا جرم عند أهل العقول والإيمان أنه يقدم قول المعصوم, بل إن هذا القياس المصادم للنص باطل بمجرد مخالفته للنص المعصوم, لأن قول المعصوم حق وما خالف الحق فهو باطل .
ومنها :- أن المتقرر في حقوق شهادة أن محمداً رسول الله أن يقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - على قول كل أحدٍ(1/24)
كائناً من كان, فإذا تعارض النص والقياس المصادم له, فمن أخذ بالقياس الفاسد وترك النص فقد قدم قول غيره على قوله وهذا قادح في تحقيق هذه الشهادة لأن تقديم قوله - صلى الله عليه وسلم - على كل قول من حقوق هذه الشهادة الواجبة التي لا يتم كمال الإيمان الواجب بها إلا بتحقيقه, فبان لك بذلك أن كل قياس صادم النص فإنه فاسد, وأن الواجب هو تقديم قوله الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
ومنها :- حديث أبي قتادة قال:- كنا عند عمران بن حصين رضي الله عنهما في رهط وفينا بشير بن سعد فحدثنا عمران يومئذٍ قال:- سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( الحياء خير كله )) أو قال ((الحياء كله خير)) فقال بشير:- إننا نجد في بعض الكتب أو الحكمة أن منه سكينة لله ووقاراً ومنه ضعف, قال:- فغضب عمران حتى احمرتا عينيه وقال:- ألا أراني أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعارض فيه؟ قال:- فأعاد عمران ما قال, فأعاد بشير ما قال, فغضب عمران فما زلنا نقول:- إنه منا أبا نجيد إنه لا بأس به . فانظر كيف غضب عمران - رضي الله عنه - لما عورض قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرأي, والقياس من الرأي فمن عارض النص بالقياس فحقه أن يزجر وأن ينكر عليه .
ومنها :- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) فإذا كان إحداث أمرٍ ليس عليه أمر الشارع فهو رد, فكيف بمن يحدث قياساً ينقض ما عليه أمر الشارع؟ لاشك أنه رد من باب أولى .(1/25)
ومنها :- أن القياس مصدره العقل, وأما النص فإن مصدره الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -, فإذا تعارض العقل الذي هو القياس المصادم, مع النقل الذي هو النص فالواجب باتفاق أهل السنة تقديم النقل على العقل, ذلك لأن أهل البدع سلكوا مسلك تقديم العقول على النقول وجعلوا العقل هو الحاكم على النقل, فما وافق العقل من النقول قبلوه وما خالف العقل ردوه واتهموه وأما أهل السنة فإنهم جعلوا العمدة هو النقل والعقل فرع, فما وافق النقل من الأمور العقلية قبلوها وما خالف النقل ردوه, والقياس المصادم للنص هو في حقيقة الأمر عقل عارض نقلاً, فأيهما ستقدم؟ لا إخالك إلا ستقول إنني أقدم النقل ولا أرضى به بدلاً لأنك من أهل السنة, زادك الله توفيقاً وشرفاً وعزاً ورفعة .
ومنها :- أن الله تعالى ذكر لليهود صفات كثيرة , ومن صفاتهم أنهم يستبدلون الذي هو أدنى(1/26)
بالذي هو خير وذلك في قوله تعالى { لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ...الآية } وإذا سألت بالله عليك أيهما خير النص من الكتاب وصحيح السنة أو القياس المصادم لهما؟ لاشك سوف تقول:- إن النص خير من القياس وعلى هذا فالذين يعملون بالقياس المصادم للنصوص ويقدمونه على النص المحكم هم في حقيقتهم قد استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير وهذا من طبع اليهود, وهذا يفيدك ثلاث فوائد :- الأولى :- الحذر من هذا المسلك الثانية :- أن الواجب مخالفة أهل الكتاب في ذلك وفي غيره لعموم قوله (( ومن تشبه بقومٍ فهو منهم )) الثالثة :- أن طرفاً من هذه الأمة لابد - قدراً - أن يتبعهم حتى في طريقة استدلالهم لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال (( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ... الحديث )) .
ومنها :- أن الله تعالى قال { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } ويفهم من ذلك أن من يعص الرسول فقد عصى الله, فإذا ورد في مسألة نص عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقياس مصادم لهذا النص فمن أخذ بالنص وترك القياس المصادم له فقد أطاع الرسول ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله والهدى والخير والبر والفوز والفلاح والجنة في طاعتهما, ومن ترك النص وأخذ بالقياس المصادم فقد عصى الرسول ومن عصى الرسول فقد عصى الله والضلال والشر والفجور والخيبة والخذلان والنار في معصيتهما, نعوذ بالله من معصية الله والرسول .(1/27)
وهذا ما يحضرني من الأدلة حال كتابة هذه الرسالة وأنت ترى كثرتها وما لم يذكر أكثر, لأن الشريعة نبهت على خطر مخالفة النصوص بالأقيسة الفاسدة في مواضع كثيرة والسلف رحمهم الله تعالى قد جعلوا موافقة النص وترك القياس المصادم من أصولهم الأصيلة وقواعدهم المحكمة المتينة الرصينة, فاخفظ أيها الطالب نص هذه القاعدة حفظاً قوياً واجعلها من أصولك العلمية الإيمانية التي تحكمها في أقوال الناس وآرائهم ومذاهبهم وأعيد لك نصها حتى تتذكره وهو الذي يقول (القياس في مصادمة النص باطل) والله يتولانا وإياك وهو أعلى وأعلم .
( فصل )(1/28)
أقول:- ولابد أن تعلم بارك الله فيك أن العالم من أهل السنة والجماعة إذا خالف مقتضى حديث في مسألة فرعية من مسائل الفقه فلنا في مخالفته هذه نظران:- نظر لها بذاتها, ونظر لمن صدرت منه, فأما المخالفة باعتبار ذاتها فالواجب ردها لأنها خطأ والخطأ مردود ولأنها مخالفة للنص وما خالف النص فهو باطل, فالخطأ يرد ممن جاء به لذات الخطأ, وأما هذا العالم فاحذر حفظك الله من كل سوء أن تسيء فيه القول والظن, بل الواجب عليك كطالب علم عاقل ناصح مشفق مؤدب أن تطلب له المعاذير, وإياك أن تعمل لسانك فيه شتماً وسباباً قدحاً وتجريحاً وإساءة ظن وتفسيراً للنوايا, هذا لا يجوز البتة, لاسيما وهذا العالم من أهل السنة والمسألة التي أخطأ فيها مسألة فروعية فقهية, ولذلك فدعك من مسلك أهل الرعونة والجفاء والغلظة وقلة الأدب والسماجة, واسلك سبيل أهل الحق من أهل السنة والجماعة فإن أهل السنة يقولون الحق ويرحمون الخلق, ويعذرون ولا يكفرون, ويقبلون الحق ممن جاء به بغض النظر عن قائله لأنه حق ويردون الباطل ممن جاء به بغض النظر عن قائله لأنه باطل, ولذلك فإن جمعاً من أهل العلم قد ألفوا رسائل مستقلة في طلب المعاذير لمن أخطأ من أهل العلم في مخالفة النص, وأحسن مؤلف فيها كتاب أبي العباس ابن تيمية ( رفع الملام عن الأئمة الأعلام ) فأوصيك بقراءته مرات عديدة وأوصيك بتلخيصه وتلقينه لطلابك وأحبابك حتى تكون هذه المعاذير من العلم المشتهر بين المسلمين, ومن باب الفائدة أذكر لك بعض المعاذير التي نص عليها أهل العلم فأقول :-(1/29)
الأول :- عدم العلم بالحديث, فإن بعض أهل العلم قد يفزع إلى القياس لعدم علمه بأن في هذا الفرع حديثاً, فيقيس فيكون قياسه هذا مخالفاً لدلالة النص, لا عن عمد - حاشا وكلا - بل عن جهل بالحديث وأنت خبير بأن السنة واسعة, وقد حصل هذا لبعض الصحابة الكبار, فمن باب أولى أن يقع فيمن بعدهم فإذا رأيت من أهل السنة في مسألة فقهية قاس قياساً مصادماً للنص فقل: لعله لم يبلغه النص, وإلا فأنا أجزم إن شاء الله أنه لو بلغه النص لترك قياسه وأخذ بالنص .
الثاني :- أن يكون بلغه النص ولكن نسيه , وجل من لا ينسى كما حصل لعمر لما نسي حديث التيمم, أي تيمم الجنب .
الثالث :- أن يكون بلغه ولكن فهم خلاف المراد .
الرابع :- أن يكون بلغه ولكن من وجه لم يطمئن إليه, أي أنه لم يثق في راويه .
الخامس :- أن يكون بلغه ولكن ظن أن له معارضاً راجحاً .
السادس :- أن يكون قد بلغه الحديث ولكنه حكم عليه بالضعف, فإن مسألة التصحيح والتضعيف في الجملة مسألة اجتهادية . فهذه جملة الأسباب والمعاذير التي ينبغي أن يعتذر بها عن أهل العلم والله أعلم .
( فصل )
ولم يبق إلا الفروع وقد جمعت لك هاهنا فروعاً كثيرة وكل فرع منها عبارة عن نصرٍ للشرع وقمع للقياس الفاسد, فاقرأ منها ما شئت ودع ما شئت :-
الفرع الأول :- اعلم رحمك الله تعالى أن أول من قاس قياساً فاسداً إبليس لعنه الله, فهو أب لكل قائس قياساً يخالف به النص, وذلك أن الله تعالى لما أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم بقوله { اسْجُدُواْ لآدَمَ } وهو نص صحيح صريح قاطع قطعي الدلالة قطعي الثبوت, عارض الخبيث هذا النص بقياسه الفاسد بأنه خير من آدم لأن عنصره طيني وعنصري ناري, والنار خير من الطين فصارت نتيجة قياسه الفاسد أنه هو الأفضل وآدم هو المفضول وحق المفضول أن يسجد للفاضل فالحق عند إبليس في السجود هو آدم, لا هو وهذا فاسد كل الفساد ووجه فساده أربعة أمور:-(1/30)
أحدها :- أنه قياس صادم النص, وكل قياس صادم النص فإنه باطل .
ثانيها :- أننا لا نسلم أن النار خير من الطين, بل الحق هو العكس فالطين خير من النار, فإن من طبيعته الثقل والرزانة والأعمار فإنك تعطيه الحبة فيعطيكها سنبلة وتعطيه النواة فيعطيكها نخلة باسقة فروعها تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها, بل ما عمرت الدنيا إلا بالطين, وأما النار فإنها من طبيعتها الخفة والطيش والطغيان والإحراق والإهلاك والإتلاف, فمن قال أن النار خير من الطين فهذا القياس فاسد في ذاته أصلاً وفاسد لمعارضته النص .
ثالثها :- سلمنا جدلاً أن النار أشرف من الطين , فأنت يا إبليس جزء مقتطع من النار و لست
النار كلها, فالنار أصلك وأنت فرع لها, ولا تلازم بين شرف الأصل والفرع فكم من أصل رفيع وفرعه وضيع, كما قال الشاعر :-
إذا افتخرت بآباءٍ لهم شرف قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا
فجزؤك الذي اقتطعت منه جزء فاسد تالف, فلا حق لك أن تفتخر بأصلك .
رابعها :- أن آدم - عليه السلام - لم يفضل عليك لأنه مخلوق من طين, بل فضل عليك لأن الله هو الذي خلقه بيديه جلا وعلا ونفخ فيه من روحه, ومن الذي قال لك:- اسجد لآدم لأنه من طين, فإن مسالة الطينية والنارية لم يتعرض لها أحد, وإنما قال تعالى { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } فآدم - عليه السلام - اكتسب الشرف لأن الله خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه, فاعتراضك لا وجه له أصلاً لأنه اعتراض على شيء لم ينظر له بعين الاعتبار, والخلاصة:- أن قياسك هذا قياس فاسد لأنه معارض للنص وكل قياسٍ عارض النص فإنه فاسد الاعتبار .(1/31)
الفرع الثاني :- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في اشتراط الولي في النكاح, فذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن الولي شرط في النكاح فلا يجوز للمرأة أن تزوج نفسها بنفسها أو يتولى عقد تزويجها امرأة أخرى, وذهب كثير من الأحناف إلى أن المرأة يجوز لها أن تزوج نفسها بنفسها, واستدل الحنفية رحمهم الله تعالى بالقياس فقالوا:- كما أنه يجوز لها أن تتصرف في مالها كيفما شاءت بلا إذن وليها فكذلك يجوز لها أن تتولى هي عقد نكاحها بنفسها وكذلك يجوز لها البيع والشراء بنفسها بلا إذن وليها فكذلك يجوز لها تزويج نفسها بلا إذن وليها, وأجاب الجمهور بأن هذا القياس فاسد الاعتبار لأنه مخالف للنص من الكتاب وصحيح السنة, فأما الكتاب فقوله تعالى { وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } بضم التاء, والخطاب للأولياء, قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله تعالى ( وفي قوله { وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ } دليل على اعتبار الولي في النكاح )ا.هـ. ومن الأدلة قوله تعالى { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ } قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله ( وفي هذه الآية دليل على أنه لابد من الولي في النكاح لأنه نهى الأولياء عن العضل ولا ينهاهم إن عن أمرٍ هو تحت تدبيرهم ولهم فيه حق )ا.هـ. وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا نكاح إلا بولي )) " رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه والدارمي " وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل فإذا دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له )) " رواه أحمد والترمذي وأبو داود(1/32)
وابن ماجه والدارمي " وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا تزوج المرأةُ المرأةَ ولا تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها )) " رواه ابن ماجه " وعن معقل بن يسار قال:- كانت لي أخت تخطب إلي, فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه ثم طلقها طلاقاً له فيه رجعة ثم تركها حتى انقضت عدتها فلما خطبت إلي أتاني يخطبها فقلت لا والله لا أنكحتها أبداً, قال:- ففي نزلت هذه الآية { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } قال:- فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه. " رواه البخاري وأبو داود والترمذي " قال الشوكاني في النيل: ( والحديث دليل على أنه يشترط الولي في النكاح ولو لم يكن شرطاً لكان رغوب الرجل في زوجته ورغوبها فيه كافياً, وبه يرد على القياس الذي احتج به أبو حنيفة على عدم الاشتراط وهو قياس فاسد الاعتبار لحديث معقل هذا )ا.هـ. وبهذا فإنه لاحق للأحناف أن يلتزموا مذهبهم في مسألة عدم اشتراط الولي في نكاح المرأة مع وضوح الأدلة لأن عمدتهم فيها ذهبوا إليه إنما هو القياس وقد تقرر أنه لا قياس مع النص, وتقرر أن كل قياس صادم النص فإنه باطل فالحق الحقيق بالقبول هو اشتراط الولي في النكاح, فاللهم اغفر للحنفية وارفع درجتهم وعاملهم بعفوك ورحمتك والله أعلم .(1/33)
الفرع الثالث :- اختلف أهل العلم في مسألة تغسيل الرجل لزوجته إذا ماتت والعكس, فذهب جمع من أهل العلم إلى المنع مطلقاً أي لا يجوز لأحد الزوجين أن يغسل الآخر, وذهب قوم إلى الجواز مطلقاً, وفصل قوم وقالوا:- يجوز للزوج أن يغسل زوجته لا العكس, استدل من قال بالمنع بأن عقد الزوجية بينهما انتهى بموت أحدهما فصارت كالأجنبية عنه وهو صار كالأجنبي عنها, ولكن الحق في هذه المسألة الجواز أي يجوز لأحد الزوجين أن يغسل الآخر, وذلك لما رواه النسائي وابن ماجه وأحمد والبيهقي وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( والله ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ثم دفنتك )) والحديث صحيح وعن أسماء بنت عميس رضي الله عنها أن فاطمة رضي الله عنها أوصت أن يغسلها زوجها علي وأسماء فغسلاها. وقد رواه هبة الله الطبري عن أسماء أن علياً غسل فاطمة, قالت أسماء:- وأعنته عليها. ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فصار كالإجماع, ولأحمد وابن ماجه وأبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت:- لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا نساؤه. ويروى أن أسماء بنت عميس هي التي غسلت أبي بكرٍ الصديق - رضي الله عنه -, وهذا يفيدك صحة ما رجحناه, ويفيدك أن قياسهم أحد الزوجين بعد موت الآخر على الأجنبي قياس صادم النص وكل قياس صادم النص فإنه فاسد الاعتبار, فالصحيح في هذه المسألة الجواز والله أعلم .(1/34)
الفرع الرابع :- اختلف أهل العلم في حكم السلم في الحيوان هل يجوز أو لا؟ على أقوال:- فذهب قوم إلى الجواز وقال بذلك مالك والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد والجمهور بل قال بذلك أكثر أهل العلم, وذهب الحنفية إلى أنه لا يصح السلم في الحيوان واختاره الثوري وروي هذا القول عن ابن مسعود وحذيفة وعبدالرحمن بن سمرة وقال به الحسن بن صالح وعللوا ذلك بقولهم:- لأن الحيوان لا يوقف على حقيقة صفته لأن مشيه وحركاته وملاحته وجريه كل ذلك لا يدرك وصفه وكل ذلك يزيد في ثمنه ويرفع من قيمته, وهذا ليس بحق, بل الحق هو الجواز ودليل ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجل بكراً فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره, فرجع إليه أبو رافع فقال ما أجد إلا رباعياً فقال (( أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء )) وفي رواية عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم (( اشتروا له سناً فأعطوه إياه )) فقالوا:- إنا لا نجد إلا سناً هو خير من سنه قال (( فاشتروه وأعطوه فإن من خيركم )) أو (( خيركم أحسنكم قضاءً )) وفي رواية:- استقرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سناً فأعطاه سناً. قال النووي: ( وفي هذه الأحاديث جواز السلم في الحيوان ) ا.هـ. وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يجهز جيشاً فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة فكان يأخذ البعير بالبعيرين. " رواه أبو داود " فبان بذلك جواز السلم في الحيوان, وبه تعلم أن ما قاله المخالفون إنما هو قياس صادم النص وقد تقرر أن كل قياس صادم النص فإنه فاسد الاعتبار, فالراجح هو الجواز إعمالاً لهذه النصوص وأما الأقيسة المخالفة للنصوص فدعك منها فإن النص هو الحاكم على القياس لا العكس فاللهم اغفر لمن خالف وعامله بعفوك وإحسانك إنك كريم جواد والله أعلم .(1/35)
الفرع الخامس :- اختلف أهل العلم في حكم تأجير الفحل للضراب, فذهب مالك وابن هبيرة رحمهما الله تعالى إلى الجواز وقالوا:- كما أنه تصح إعارته للضراب فكذلك تصح إجارته, أي أنهم استدلوا بالقياس, وذهب أكثر أهل العلم رحمهم الله تعالى إلى المنع واستدلوا بما في الصحيح عن ابن عمر قال:- نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عسب النخل. " رواه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي " وعن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ضراب الفحل. " رواه مسلم والنسائي " وعن أنس - رضي الله عنه - أن رجلاً من كلاب سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عسب الفحل فنهاه, فقال:- يا رسول الله إنا نطرق الفحل فنكرم, فرخص له في الكرامة. " رواه الترمذي وقال حسن غريب " وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عسب الفحل وعن قفير الطان. " رواه الدارقطني " وصح النهي أيضاً من حديث أبي هريرة عند النسائي, ومن حديث علي - رضي الله عنه - عند الحاكم في علوم الحديث وابن حبان والبزار ومن حديث البراء عند الطبراني, ومن حديث ابن عباس عند الطبراني أيضاً, وهذه الأحاديث وردت بلفظ ( نهى ) وحقيقة النهي أنها تفيد التحريم إلا لصارف ولا صارف, فالحق الحقيق بالقبول في هذه المسألة هو التحريم لثبوت النص بذلك, وأما قياس مالك وابن هبيرة فإنه قياس قد صادم النص فلا يقبل لأنه قد تقرر أن كل قياس صادم النص فهو باطل فرحم الله أهل العلم وغفر لهم وتجاوز عنهم والله أعلم .(1/36)
الفرع السادس :- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في التداوي بالخمر فذهب بعض أهل العلم إلى الجواز ولهم في ذلك أدلة: منها:- أن المحرمات تبيحها الضرورة والخمر محرمة والتداوي ضرورة فتكون مباحة في التداوي قياساً على سائر المحرمات كالميتة فإنها حرام نجسة ولكن جازت للضرورة, وكشرب الخمر لضرورة دفع الغصة إذا لم يوجد غيرها, ومنها:- أنه ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر العرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل, وذهب جماهير أهل العلم إلى المنع, وهو القول الصحيح المقطوع به والذي لا يجوز القول بغيره, وذلك لأنه قد ثبت في النصوص النهي عن التداوي بها, وهي نصوص صريحة في ذلك, فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث وائل ابن حجر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله طارق بن سويد الجعفي عن الخمر فنهاه, أو كره أن يصنعها فقال:- إنما أصنعها للدواء, فقال (( إنها ليست بدواء ولكنه داء )) وفي السنن عنه أنه نهى عن الدواء بالخبيث, وقال ابن مسعود:- إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم. وفي صحيح ابن حبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها )) قال ابن تيمية ( التداوي بالخمر حرام بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى ذلك جماهير أهل العلم )ا.هـ. وقال الشنقيطي في أضواء البيان:- ( الظاهر أن التداوي بالخمر لا يجوز )ا.هـ. وفي مصنف عبدالرزاق عن معمر عن الزهري أن عائشة رضي الله عنها كانت تنهى عن الدواء بالخمر. وأما خلاف من خالف وهم الحنفية وبعض أهل العلم فإنه مبني على قياس فاسد, فإنه وإن أباحت الضرورة المحرم إلا أن التداوي لا يدخل في حد الاضطرار, ولأنه قياس صادم النص فيكون فاسد الاعتبار, فلا ينظر إلى هذا المذهب البتة, وأما قياسهم التداوي بالخمر على التداوي بأبوال الإبل فهو قياس فاسد أيضاً لأنه قياس صادم النص وكل قياس صادم النص فإنه فاسد(1/37)
الاعتبار, ولأنه قياس مع الفارق, فإن أبوال الإبل طاهرة على القول الصحيح الذي هو قول عامة الصحابة لأن عامة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرون أن ما أكل لحمه فبوله وروثه طاهر, ولا يعرف تنجيسه عن أحد منهم, فمن قال بنجاسة بول ما يؤكل لحمه فقد قال قولاً لا سلف له من الصحابة فالخمر حرام وأبوال الإبل طاهرة, فكيف يقاس هذا على هذا؟ وقد تقرر في الأصول أن القياس مع القياس باطل, وعليه فتعلم أن ما ذهب إليه المجوزون للتداوي بالخمر إنما استدلوا بالقياس الذي هو فاسد من جهتين فاسد لأنه مصادم للنص, وكل قياس صادم النص فإنه فاسد, وفاسد لأنه مع الفارق والقياس مع الفارق باطل, فالحق المقطوع به والذي لا يشك فيه هو حرمة التداوي بالخمر, فرحم الله من خالف هذه النصوص وعفا وتجاوز عنه وعامله بعفوه وكرمه إنه ولي ذلك والقادر عليه .(1/38)
قال أبو العباس رحمه الله تعالى:- ( والذي جوزوا التداوي بالخمر قاسوا ذلك على إباحة المحرمات كالميتة والدم للمضطر, وهذا ضعيف لوجوه, أحدها:- أن المضطر يحصل مقصوده يقيناً بتناول المحرمات فإنه إذا أكلها سدت رمقه وأزالت ضرورته وأما الخبائث بل وغيرها فلا يتيقن حصول الشفاء بها فما أكثر ما يتداوى ولا يشفى ولهذا أباحوا دفع الغصة بالخمر لحصول المقصود بها وتعينها له بخلاف شربها للعطش فقد تنازعوا فيه فإنهم قالوا أنها لا تروي, الثاني:- أن المضطر لا طريق له إلى إزالة ضرورته إلا الأكل من هذه الأعيان وأما التداوي فلا يتعين تناول هذا الخبيث طريقاً لشفائه فإن الأدوية أنواع كثيرة كالدعاء والرقية وهو أعظم نوعي الدواء حتى بقراط:- نسبة طبنا إلى طب أصحاب الهياكل كنسبة طب العجائز إلى طبنا, وقد يحصل الشفاء بغير سبب اختياري, بل بما يجعله الله في الجسم من القوى الطبيعية ونحو ذلك, الثالث:- أن أكل الميتة للمضطر واجب عليه في ظاهر مذهب الأئمة وغيرهم, كما قال مسروق:- من اضطر إلى الميتة فلم يأكل حتى مات دخل النار, وأما التداوي فليس بواجب عند جماهير الأئمة وإنما أوجبه طائفة قليلة كما قاله بعض أصحاب الشافعي وأحمد, بل قد تنازع العلماء أيهما أفضل, التداوي أم الصبر للحديث الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن الجارية التي كانت تصرع وسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو لها فقال (( إن شئت أن تصبري ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يشفيك )) فقالت:- بل أصبر ولكني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف فدعا لها أن لا تتكشف. ولأن خلقاً من الصحابة والتابعين لم يكونوا يتداوون بل فيهم من اختار المرض كأبي ابن كعب وأبي ذر, ومع هذا فلم ينكر ترك التداوي, وإذا كان أكل الميتة واجباً والتداوي ليس بواجب, لم يجز قياس أحدهما على الآخر )ا.هـ.(1/39)
الفرع السابع :- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في الأضحية بالشاة هل تجزئ عن أكثر من واحد, أم لا؟ فذهب أكثر أهل العلم إلى أن الشاة الواحدة في الأضحية تجزئ عن الرجل وأهل بيته, وذهب بعض أهل العلم إلى أنها لا تجزئ إلا عن واحد فقط وهو قول عبدالله بن المبارك وقال بعض أهل العلم - وأظنه قول الهادي والقاسم - أن الشاة لا تجزئ إلا عن ثلاثة فقط والقولان الأخيران لاشك في خطئهما, فرحم الله من قالهما وتجاوز عنه وعفا له هذا الزلل وعمدة من قال بأنها لا تجزئ إلا عن واحد هو القياس فقال:- كما أن الشاة في باب الهدي لا تجزئ إلاعن واحد فكذلك هي في باب الأضحية لا تجزئ إلا عن واحد, والحق الحقيق بالقبول وهو المقطوع به القول الأول, وذلك لحديث عطاء بن يسار قال:- سألت أبا أيوب الأنصاري كيف كانت الضحايا فيكم في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال:- كان الرجل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته, فيأكلون ويطعمون, حتى تباهى الناس فصار كما ترى. " رواه ابن ماجه والترمذي وصححه " وفي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح كبشاً وقال (( اللهم تقبل عن محمد وآل محمد )) قال ابن القيم في الهدي:- ( وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - أن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وعن أهل بيته ولو كثر عددهم )ا.هـ. ومن أدلتهم أيضاً ما رواه ابن ماجه من حديث أبي سريحة قال:- أحملني أهلي على الجفاء بعد ما علمت من السنة, كان أهل البيت يضحون بالشاة والشاتين والآن يبخلنا جيراننا. قال الشوكاني:- إسناده صحيح, وقال في النيل:- ( والحق أن الشاة الواحدة تجزئ عن أهل البيت وإن كانوا مئة نفس )ا.هـ. وأخرج الحاكم عن أبي عقيل زهرة بن معبد عن جده عبدالله بن هشام وكان قد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وذهبت به أمه زينب بنت حميد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير فمسح رأسه ودعا له قال:- كان رسول الله(1/40)
- صلى الله عليه وسلم - يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله. قال الحاكم:- صحيح الإسناد, وقد روي هذا عن جمع كبير من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يضحون بالشاة عنهم وعن أهل بيتهم. وبه تعلم أن الحق الحقيق بالقبول هو قول من قال:- إن الشاة تجزئ عن الرجل وأهل بيته وإن كثرت أعدادهم لما رأيت من الأدلة, وأما قياس الأضحية على الهدي في هذه الجزئية فإنه قياس باطل لأنه صادم النص وقد تقرر أن كل قياس صادم النص فإنه فاسد الاعتبار فاللهم اغفر لمن خالف هذه النصوص وتجاوز عنه ووفقنا وإخواننا دائماً لموافقة سنة نبيك - صلى الله عليه وسلم - .(1/41)
الفرع الثامن :- ذهب الرافضة لا غفر الله لهم إلى أن الأنبياء يورثون, فإذا ترك النبي مالاً فإن ذريته ترثه في ذلك المال واستدلوا بقياس النبي على سائر الناس, وبقوله تعالى { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } وذهب أهل السنة إلى أن الأنبياء لا يورثون وهذا الحق المقطوع به, ودليلنا على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - (( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة )) " رواه مسلم في الصحيح " وأما قوله تعالى { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } فاعلم رحمك الله تعالى أن الوراثة نوعان:- وراثة معنوية ووراثة حسية, فالوراثة المعنوية كوراثة النبوة والعلم, والوراثة الحسية هي وراثة المال, فقوله { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } أي في النبوة والعلم لا في المال, ويوضح هذا أن داود كان له أولاد غير سليمان ومع ذلك خص سليمان بالوراثة وهذا دليل على أنها وراثة نبوة وملك, لا وراثة مال, فهي كقوله تعالى { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } وقوله (( لا نورث )) أي وراثة مال, فالوراثة المثبتة بين الأنبياء إنما هي وراثة العلم والنبوة, والوراثة المنفية إنما هي وراثة المال ولكن الرافضة قوم لا يفقهون, وأما قياسهم النبي على سائر الناس في توارثهم فهذا قياس فاسد لأنه مصادم للنص وقد تقرر أن كل قياس صادم النص فإنه فاسد الاعتبار .(1/42)
الفرع التاسع :- ذهب قوم قليل من أهل العلم إلى أنه يستحب النداء للعيد والاستسقاء بقول (الصلاة جامعة) وقاسوا ذلك على النداء بها لصلاة الكسوف, وذهب جماهير أهل العلم إلى أنها تصلى بلا نداء, وذلك لعدم الدليل, ولأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى العيد والاستسقاء بلا نداء ففي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى العيد غير مرة ولا مرتين بلا أذان ولا إقامة. وروى أبو داود في سننه أن رجلاً سال ابن عباس رضي الله عنهما أشهدت العيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال:- نعم ولولا منزلتي منه ما شهدته من الصفر, فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العلم الذي عند دار كثير بن الصلت فصلى ثم خطب, ولم يذكر أذاناً ولا إقامة. وفي سنن أبي داود أيضاً من حديث طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى العيد بلا أذان ولا إقامة وأبا بكر وعمر. وفي سنن ابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً يستسقي فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة. وفي المسند عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم عيد فبدأ بالصلاة بلا أذان ولا إقامة ثم خطب. ولمسلم في صحيحه عن جابر - رضي الله عنه - أن لا أذان للصلاة يوم الفطر ولا يوم الأضحى حين يخرج الإمام ولا بعد ما يخرج ولا إقامة ولا نداء ولا شيء, لا نداء يومئذٍ ولا إقامة. والأحاديث في ذلك كثيرة, فكل أحاديث صلاة العيدين الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فيها أنه نادى لها بشيء, وكل الأحاديث الثابتة في صلاة الاستسقاء ليس فيها أنه نادى فيها بشيء وهذا يفيدك أنه لا يشرع النداء لهما بشيء من أنواع النداء, وأما قياسها على صلاة الكسوف فإنه قياس صادم النص وقد تقرر أن القياس إذا صادم النص فإنه فاسد الاعتبار أي باطل, ولأنه قد تقرر أن كل فعل(1/43)
توفر سببه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله فإن المشروع تركه وتقرر أن القياس في العبادات ممنوع, وتقرر أن الأصل في العبادات التوقيف على الدليل وتقرر أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة, فالصحيح الذي لاجرم ولا جدال فيه أن صلاة العيدين والاستسقاء تصلى بلا أذان ولا إقامة ولا قول ( الصلاة جامعة ) ولا قول (الصلاة الصلاة) ولا أي نوع من أنواع النداء والله أعلم .
الفرع العاشر :- اختلف أهل العلم في المصراة إذا حلبت وأراد المشتري أن يردها, فذهب جمهور أهل العلم إلى أنه إن حلبها وتبين له انها مصراة فأراد ردها أنه يرد معها صاعاً من تمر, ولم يرتض الجمهور غير ذلك, وذهب بعض الشافعية إلى أنه يردها ويرد معها صاعاً من قوت البلد ولا يلزم أن يكون تمراً, وذهب أبو حنيفة وطائفة من أهل العراق ومالك في رواية غريبة عنه إلى أنه يردها ولا يرد معها صاعاً من تمر, لأن الأصل أنه إذا أتلف شيئاً لغيره رد مثله إن كان مثلياً وإلا فقيمته وأما أن يرد معها جنساً آخر غير جنس المتلف فلا, لأنه خلاف الأصول, وأجاب الجمهور عن هذا بأن هذا قياس ورأي في مخالفة السنة الصحيحة الثابتة, وهو مارواه البخاري في صحيحه قال حدثنا أبي بكير قال حدثنا الليث عن جعفر بن الربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعاً من تمر )) وهذا حديث صريح صحيح فيما ذهب إليه الجمهور, وأما دعوى أنه مخالف للأصول فغير مسلَّم لأن الشرع واحد وكله أصل وهذا الحديث أصل بذاته وليس في الشريعة شيء على خلاف القياس, لأن الأصول في الحقيقة اثنان لا ثالث لهما, كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما عداهما فمردود إليهما, فالسنة أصل قائم بنفسه والقياس فرع, فكيف يرد الأصل بالفرع؟ قال الإمام(1/44)
أحمد رحمه الله تعالى:- ( إنما القياس أن تقيس على أصل, فأما أن يجيء إلى الأصل فتهدمه ثم تقيس فعلى أي شيء تقيس ) قال ابن القيم رحمه الله تعالى ( المثال العشرون:- رد المحكم الصريح الصحيح في مسألة المصراة بالمتشابه من القياس وزعمهم أن هذا الحديث - أي حديث المصراة - حديث يخالف الأصول فلا يقبل, فيقال:- الأصول كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع أمته والقياس الصحيح الموافق للكتاب والسنة فالحديث الصحيح أصل بنفسه فكيف يقال:- الأصل يخالف نفسه؟ هذا من أبطل الباطل, والأصول في الحقيقة اثنان لا ثالث لهما كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما عداهما فمردود إليهما, فالسنة أصل قائم بنفسه والقياس فرع فكيف يرد الأصل بالفرع )ا.هـ. وبه تعلم أن القول الصحيح في هذه المسألة هو ما جاء به النص من أن من اشترى شيئاً من بهيمة الأنعام مصراة, ثم حلبها وشاء ردها فله ذلك ولكن يرد معها صاعاً من تمر من غير فرق بين كثير اللبن وقليله, أو بهيمة عن بهيمة لأن النص لم يفرق بينهما, بل جاء النص بهما فقال (( لا تصروا الإبل والغنم )) فكبير بهيمة الأنعام وصغيرها داخل في هذا الحديث ولا يضح أن يعتاض عن صاع التمر شيئاً غيره أبداً, وأما دعوى أنه مخالف للقياس أو الأصول فنقول:- هذا خطأ, بل قياسكم هو المخالف للأصل وللنص, فهو باطل لأن كل قياس خالف النص فإنه باطل والله أعلم .(1/45)
الفرع الحادي عشر :- اختلف أهل العلم في عدد ضربات التيمم فقيل ضربة وقيل ضربتان وقيل ثلاث, والصحيح في هذه المسألة أنه ضربة واحدة فقط, لاغير, وعليها يدل الحديث الصحيح الصريح, فعن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال:- بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له فقال (( إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا )) فضرب يديه الأرض ضربة واحدة ومسح بهما وجهه وكفيه. "متفق عليه" واعلم يا أخي أنه بعد البحث والتحقيق وجدنا أن كل حديث مرفوع يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - شرع الضربتين أو أكثر في التيمم فإنه لا يضح, بل الأحاديث الثابتة الصحيحة عنه إنما تفيد أن المشروع في التيمم ضربة واحدة, والذي جعلني أورد هذا الفرع هنا هو أن من جملة استدلالات من قال بالضربتين والثلاث أنهم قالوا:- وقياساً على الوضوء, وهذا القياس باطل, وبطلانه من ثلاثة أوجه : الأول:- أنه قياس مصادم للنص الصحيح الصريح وقد تقرر أن كل قياس صادم النص باطل فاسد الاعتبار, الثاني:- أنه قياس مع ثبوت الفارق, فإن الوضوء شيء والتيمم شيء آخر يختلف عنه, فيختلف عنه في وسيلة التطهر لأن الوضوء وسيلة الماء, والتيمم وسيلة التراب, ويختلف عنه في الصفة فإن المعروف لدى الجميع أن التيمم له صفته الخاصة غير صفة الوضوء وحيث ثبت الفرق فلا إلحاق لأنه قد تقرر أن القياس مع الفارق باطل, الثالث:- أنه قياس في عبادة, وقد تقرر عندنا أنه لا قياس في عبادة, فأنت ترى أدلة من قال بالزيادة على الضربة أنها تدور بين حديث لا يصح, وبين قياس فاسد فالحق اطراح ذلك والبقاء على ما ثبت في الصحيح من أن التيمم ضربة واحدة فقط والله أعلم .(1/46)
الفرع الثاني عشر :- اختلف أهل العلم فيمن أكل أو شرب ناسياً فهل يفسد صومه وعليه القضاء أم لا؟ فذهب جمهور أهل العلم إلى أنه لا يفسد, قال في المغني ( وروي عن علي - رضي الله عنه -:- لا شيء على من أكل ناسياً, وهو قول أبي هريرة وابن عمر وعطاء وطاوس وابن أبي ذئب والأوزاعي والثوري والشافعي وأبي حنيفة وإسحاق )ا.هـ. قلت:- وهو مذهب الحنابلة واختاره أبو العباس ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وجمع من المحققين وهو المفتى به عندنا في الديار السعودية, وذهب مالك وربيعة إلى أنه يفطر بذلك لأن الإمساك عن المفطرات هو ركن الصوم الأعظم فهو كأركان الصلاة وهي لا تسقط بالنسيان, ولأن ما لا يصح الصوم معه عمداً فلا يصح معه نسياناً, وبالجملة فأنت ترى أن دليلهم القياس, والحق الصواب الصحيح والذي لا يجوز العدول عنه هو أن من أكل أو شرب ناسياً فإن صومه صحيح وما عليه شيء وليتم صومه ودليلنا ما في الصحيح من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه )) وهذا نص صحيح صريح قاطع للآراء المخالفة والأقيسة المصادمة, فيجب الأخذ به, وقوله (( فليتم )) دليل على أن أكله وشربه السابق حال النسيان لا اعتداد به, وأما دليل المخالفين في ذلك فإنه دليل قياسي قد صادم النص ولا خير في قياس صادم النص وقد تقرر أن القياس إذا صادم النص فإنه باطل, وهذه المسألة فيها نص صحيح صريح فلا داعي إلى الاجتهاد والقياس لأن المتقرر أنه لا اجتهاد مع النص, فاللهم اغفر لمن لم يأخذ بمقتضى هذا الحديث من أهل العلم, اللهم اغفر لهم وارحمهم وتجاوز عنهم إنك غفور رحيم والله أعلم .(1/47)
الفرع الثالث عشر :- اختلف أهل العلم رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم في كيفية غسل بول الذكر الرضيع والجارية الصغيرة الرضيعة, فقيل:- بأنهما يغسلان جميعاً, وقيل بأنهما يكتفى فيهما بالنضح, وقيل بل ينضح بول الذكر الرضيع ويغسل بول الجارية, والأخير هو الحق الذي لا يجوز العدول عنه وعلى ذلك وردت الأدلة الصحيحة الصريحة بالتفريق بين بول هذا وبول هذه, ففي الصحيحين من حديث أم قيس بنت محصن الأسدية أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجلسه في حجره فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه عليه ولم يغسله. وفي الصحيح أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت:- أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصبي فبال على ثوبه فأتبعه الماء. ولمسلم كان يؤتى بالصبيان فيبرِّك عليهم ويحنكهم, فأتي بصبي فبال عليه فدعا بماءٍ فأتبعه بوله ولم يغسله. ولأحمد والترمذي وحسنه عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( بول الغلام الرضيع ينضح وبول الجارية يغسل )) قال قتادة: وهذا إذا لم يطعما فإذا طعما غسلا جميعاً, وعن أبي السمح - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام )) "رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه " وعن أم كرزٍ الخزاعية قالت:- أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغلام فبال عليه فأمر به فنضح, وأتي بجارية فبالت عليه فأمر به فغسل. "رواه أحمد" وعنها رضي الله عنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( بول الغلام ينضح وبول الجارية يغسل )) " رواه ابن ماجه " وعن أم الفضل لبابة بنت الحارث قالت:- بال الحسين بن علي في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت يارسول الله أعطني ثوبك حتى أغسله والبس ثوباً غيره, فقال (( إنما ينضح من بول الذكر ويغسل من بول الأنثى )) " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه " فالنصوص(1/48)
فرقت بين البولين مالم يطعما ولا تفرق النصوص إلا بين مختلفين, ونحن تبع للدليل وليس الدليل تبعاً لعقولنا ومذاهبنا, والواجب التزام مقتضى النص وإن لم تدرك عقولنا العلة, ولا يسعنا إلا أن نقول { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } وأما الأقوال الأخرى فإنها بنيت على قياسات مخالفة للنص, وقد تقرر في القواعد أن كل قياس صادم النص فإنه باطل فاللهم اغفر لأهل العلم الذين لم يأخذوا بمقتضى هذه النصوص وتجاوز عنهم وعاملهم بكرمك وعفوك وجودك وإحسانك إنك جواد كريم والله أعلم .(1/49)
الفرع الرابع عشر :- أقول:- أجمع أهل العلم على أن الكافر لا يرث المسلم, هذه مسألة إجماعية كما حكاه الموفق وغيره من أهل العلم بالإجماع, ولكن اختلفوا هل يرث المسلم الكافر؟ أي عكس المسالة المجمع عليها, فقيل:- نعم, المسلم يرث قريبه الكافر إذا مات, روي هذا القول عن عمر ومعاذ ومعاوية ومحمد بن الحنفية وعلي بن الحسين وسعيد بن المسيب ومسروق وعبدالله بن معقل والشعبي والنخعي ويحيى بن يعمر وإسحاق, قاله في المغني ثم قال بعد حكاية مذهبهم ( وليس بموثوق عنهم ) وقيل:- لا يرث المسلم من الكافر, وبه قال أغلب العلماء, بل حكي إجماعاً, قال أحمد:- ليس بين الناس اختلاف في أن المسلم لا يرث الكافر, وبه قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأسامة بن زيد وجابر بن عبدالله - رضي الله عنهم - وبه قال عمرو بن عثمان وعروة والزهري وعطاء وطاوس والحسن وعمر بن عبدالعزيز وعمرو بن دينار والثوري وأبو حنيفة وأصحابه, ومالك والشافعي وأحمد وعامة الفقهاء, وعليه العمل, وهو القول الصحيح المقطوع به والذي لا يجوز القول بغيره وذلك لصحة النص فيه, فعن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر )) " متفق عليه " وروى أبو داود عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا يتوارث أهل ملتين شتى )) وأما قول الفريق الأول:- بأن ميراث المسلم من الكافر يجوز قياساً على جواز نكاح نساء أهل الكتاب فما أفسده من قياس لأنه قياس صادم النص وقد تقرر أن كل قياس صادم النص فإنه باطل فاسد الاعتبار, وأما حديث (( الإسلام يعلو ولا يعلى عليه )) فإن معناه تفضيل الإسلام على سائر الأديان وليس فيه تعرض للإرث فلا يترك النص الصريح لذلك, قال ابن عبدالبر:- ( والذي عليه سائر الصحابة والتابعين وفقهاء الأنصار أن المسلم لا يرث الكافر كما أن الكافر لا يرث المسلم عملاً بهذا(1/50)
الحديث )ا.هـ. ولأن دلالة حديثنا في نفي التوارث نصية قطعية, وأما حديثهم فهو محتمل الدلالة وإذا تعارض نص قطعي الدلالة مع حديث محتمل فلاجرم أنه يقدم الأول على الثاني, فالحق الحقيق بالقبول هو أن المسلم لا يرث الكافر ولا الكافر يرث المسلم , والذي دعاني أورد هذا الفرع هو أن من قال بتوريث المسلم من الكافر قاسه على النكاح وهذا باب وهذا باب وهذا ورد النص بإثباته وهذا ورد النص بنفيه فأين هذا من هذا؟ فيالله العجب, فاللهم اغفر لمن لم يأخذ بمقتضى هذا النص وتجاوز عنه وارحمه برحمتك يا أرحم الراحمين .(1/51)
الفرع الخامس عشر :- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في الجلوس على الحرير للرجال فذهب بعض أهل العلم إلى القول بجوازه وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وروي عن ابن عباس وأنس رضي الله عنهما وقال به القاسم وأبو طالب والمنصور بالله, قاله الشوكاني في النيل, وبه قال ابن الماجشون وبعض الشافعية وحجتهم في ذلك أن الجلوس موضع إهانة للفراش وبالقياس على الوسائد المحشوة بالقز, وذهب جماهير أهل العلم إلى القول بالمنع, وقولهم هو الحق الذي لا مرية فيه, واستدلوا على ذلك بحديث حذيفة قال نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيهما وعن لبس الحرير وأن نجلس عليه. " رواه البخاري " وأخرج البخاري ومسلم النهي عن الجلوس على المياثر من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما, وعن علي - رضي الله عنه - قال:- نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلوس على المياثر والقسي. وهي من الحرير, وأخرج الجماعة كلهم إلا البخاري حديث علي - رضي الله عنه - بلفظ:- نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن خاتك الذهب والفضة وعن لبس القسي وعن الميثرة. والمتقرر في الضوابط عندنا أن ما حرم لبسه حرم افتراشه والحرير محرم لبسه على الرجال فيحرم افتراشه, لأن الافتراش لبس في اللغة كما في حديث أنس في الصحيحين:- فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس. فعبر عن الافتراش باللباس وفي البخاري والنسائي عن ابن سيرين قال:- قلت لعبيدة:- افتراش الحرير كلبسه؟ قال:- نعم, فهذه النصوص تفيدك صحة ما رجحناه من أن الرجال يحرم عليهم افتراش الحرير كما يحرم عليهم لبسه وبه تعلم أن قول المجوزين إنما هو مبني على قياس قد صادم النص وقد تقرر في الأصول أن كل قياس صادم النص فإنه باطل فاسد الاعتبار فاللهم اغفر لأهل العلم واجزهم خير الجزاء وتجاوز عنهم وأدخلهم الجنة يا رب العالمين .(1/52)
الفرع السادس عشر :- اختلف أهل العلم في الداخل للمسجد يوم الجمعة والإمام يخطب هل يصلي التحية قبل أن يجلس أم أنها تسقط عنه؟ على قولين, فقيل:- نعم تسقط عنه قياساً على الإمام إذا دخل فإنه يجلس قبل الخطبة للأذان ثم يقوم فيخطب ولا يصلي التحية, وقيل:- بل عليه أن يصليها لحديث سليك الغطفاني أنه دخل المسجد يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فجلس فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما )) ثم قال (( إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما )) وهذا نص صحيح صريح في أن الداخل للمسجد يوم الجمعة والإمام يخطب أنه لا يجلس حتى يصلي ركعتين, وبه تعلم أن المذهب الأول إنما مبناه على قياس قد صادم النص وقد تقرر في الأصول أن القياس إذا صادم النص فإنه فاسد الاعتبار أي باطل لا يجوز الأخذ به والله أعلم .
الفرع السابع عشر :- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في صوم النفل بنية من النهار, فذهب جمهور أهل العلم إلى الجواز, وذهب مالك وداود وبعض الشافعية إلى المنع, وقالوا:- لا يصح وقاسوه على صوم الفرض فكما أنه لا يصح صوم الفرض إلا بنية من الليل فكذلك النفل والصحيح إن شاء الله هو ما ذهب إليه الجمهور من أنه يصح صوم النفل بنية من النهار وذلك لما أخرجه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً فقال (( هل عندكم شيء؟ )) قلنا:- لا, قال (( فإني إذاً صائم ...الحديث )) قال ابن القيم في حاشية السنن (وفيه حجة على المسألتين:- جواز إنشاء صوم التطوع بنية من النهار)ا.هـ. وحيث ورد الدليل بالجواز فلا قياس لأن القياس في مقابلة النص باطل وعليه فيجوز صوم النفل من النهار بشرطين:- الأول:- عدم تقدم المفسد, الثاني:- إنشاء النية, والله أعلم .(1/53)
الفرع الثامن عشر :- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في بيع الحاضر للبادي, فذهب جمهور أهل العلم إلى المنع, وقال عطاء ومجاهد وأبو حنيفة أنه يجوز بيع الحاضر للبادي مطلقاً, وتمسكوا بدليلين, الأول:- الأحاديث التي فيها ثبوت النصيحة بين المسلمين, والثاني:- القياس فقالوا:- كما أنه يجوز أن يتوكل الحاضر عن البادي, أي يكون وكيلاً عنه في بيعٍ أو شراء فكذلك يجوز أن يشتري منه أو يبيع له, ولكن القول الصحيح والرأي الراجح المليح هو المنع, وهذا المنع منع تحريم فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال:- نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضر لباد. " رواه البخاري والنسائي " وعن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( لا يبع حاضر لبادٍ دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض )) " رواه الجماعة إلا البخاري " وعن أنس - رضي الله عنه - قال:- نهينا أن يبيع حاضر لبادٍ وإن كان أخاه لأبيه وأمه. " متفق عليه " ولأبي داود والنسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبيع حاضر لبادٍ وإن كان أباه وأخاه. وعن ابن عباس قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضر لبادٍ )) فقيل لابن عباس:- ما قوله (( لا يبع حاضر لباد ))؟ قال: لا يكون له سمساراً. "رواه الجماعة إلا الترمذي" العام, وأما قياس البيع على الوكالة في هذه المسألة فإنه قياس فاسد الاعتبار لأنه في مقابلة النص وقد تقرر في القواعد أن القياس إذا صادم النص فإنه باطل فالحق الحقيق بالقبول هو عدم جواز بيع الحاضر للبادي وإن كان قريباً له والله أعلم .(1/54)
الفرع التاسع عشر :- ذهب جمع قليل من أهل العلم إلى أن المسح في التيمم يكون إلى المرفقين واستدلوا بالقياس على الوضوء, فكما أن اليد في الوضوء تغسل إلى المرفقين فكذلك في التيمم تمسح إلى المرفقين, وهذا قياس فاسد لأن النص الذي هو حديث التيمم إنما فيه مسح الكفين فقط وكل قياس صادم النص فإنه فاسد الاعتبار .
الفرع العشرون :- اختلف أهل العلم في وقوع طلاق المكره فذهب جمع من أهل العلم إلى أن طلاق المكره واقع واستدلوا على ذلك بعدة أدلة والذي يخصنا منها هو أنهم قاسوا المكره على الهازل فقالوا:- أن طلاق الهازل يقع فكذلك طلاق المكره لأن كليهما لايقصد الطلاق فكما أوقعناه من الهازل مع عدم القصد فكذلك طلاق المكره يقع وإن لم يقصده, وفي رد ذلك يقول ابن القيم رحمه الله:- ( وقد احتج به من يرى طلاق المكره لازماً قال لأنه أكثر ما فيه أنه لم يقصده والقصد لا يعتبر في الصريح بدليل وقوعه من الهازل واللاعب وهذا قياس فاسد, فإن المكره غير قاصد للقول ولا لموجبه وإنما حمل عليه وأُكْرِه على التكلم به ولم يُكره على القصد وأما الهازل فإنه تكلم باللفظ اختياراً وقصد به غير موجبه, وهذا ليس إليه بل إلى الشارع فهو أراد اللفظ الذي إليه وأراد أن لا يكون موجبه وهذا ليس إليه, فإن من باشر سبب ذلك باختياره لزمه مسببه ومقتضاه وإن لم يرده, وأما المكره فإنه لم يرد لا هذا ولا هذا فقياسه على الهازل ليس بصحيح )ا.هـ. قلت:- وسبب فساد هذا القياس مصادمته لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )) وكل قياس صادم النص فإنه باطل .(1/55)
الفرع الحادي والعشرون :- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في الوضوء من لحم الإبل فذهب جمهور العلماء إلى عدم الانتقاض بأكله واستدلوا بقول جابر - رضي الله عنه -:- كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار. وبقياس لحم الإبل على سائر اللحوم فإن أكلها لا ينقض فكذلك لحم الإبل, وذهب الإمام أحمد وغيره إلى أن أكل لحم الإبل ينقض الوضوء واستدل بحديث جابر بن سمرة أن رجلاً قال:- يا رسول الله أتوضأ من لحوم الغنم قال (( إن شئت توضأ وإن شئت لا تتوضأ )) ثم قال:- أتوضأ من لحوم الإبل, قال (( نعم توضأ من لحوم الإبل )) " رواه مسلم " وقال أحمد في المسند:- حدثنا أبو معاوية قال حدثنا الأعمش عن عبدالله بن عبدالرحمن ابن أبي ليلى عن أبيه عن البراء بن عازب قال:- سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء من لحوم الإبل فقال (( توضؤوا منها )) وإسناده حسن, وهذا المذهب هو الحق في هذه المسألة وأما أحاديثهم فعامة وأحاديثنا خاصة, وقد تقرر في القواعد أن الخاص مقدم على العام وأما قياسهم فإنه قياس فاسد لأنه مصادم للنص وكل قياس صادم النص فإنه باطل والله أعلم .(1/56)
الفرع الثاني والعشرون :- اختلف أهل العلم في الهاشمي إذا كان من العاملين على الزكاة هل يحل له أخذ شيء منها أو لا؟ فذهب أكثر العلماء على أنها لا تحل له ولو كان أخذه لها من باب العمالة, وقال أبو حنيفة وغيره بالجواز واستدلوا بقولهم إن العمالة معاوضة بمنفعة والمنافع مال فهي كما لو اشتراها بماله, قال الشوكاني في النيل ( وهذا قياس فاسد الاعتبار لمصادمته للنص ) قلت:- وما قاله الشوكاني لا مرية فيه, وذلك لصحة النص في تحريم الصدقة على محمد - صلى الله عليه وسلم - وآله فقد روى مسلم في صحيحه قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد )) وروى النسائي وأبو داود في سننهما من طريق ابن شهاب عن عبدالله بن الحارث بن نوفل الهاشمي أن عبدالمطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب أخبره أن أباه ربيعة بن الحارث قال لعبدالمطلب بن ربيعة بن الحارث والفضل بن العباس بن عبدالمطلب:- ائتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا له:- استعملنا يا رسول الله على الصدقات, فأتى علي بن أبي طالب ونحن على تلك الحال فقال لهما:- إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستعمل منكم أحد على الصدقة, قال عبدالمطلب:- فانطلقت أنا والفضل حتى أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لنا (( إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد )) فالحق الحقيق بالقبول هو أن الهاشمي تحرم عليه الزكاة حتى وإن كان من العاملين عليها وأما قياس الحنفية فإنه قياس مصادم للنص وكل قياس صادم النص فإنه باطل والله أعلم .(1/57)
الفرع الثالث والعشرون :- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في إفراد يوم الجمعة بالصوم فذهب أكثر أهل العلم إلى المنع, وذهب القليل إلى الجواز, وممن قال بالجواز مالك وأبو حنيفة واستدل القائلون بالجواز بقولهم:- هو يوم لا يكره صومه مع غيره فلا يكره وحده, وقال الشوكاني:- ( وهذا قياس فاسد الاعتبار لأنه منصوب في مقابلة النصوص الصحيحة )ا.هـ. قلت:- ويعني بذلك ما رواه الشيخان عن محمد بن عباد بن جعفر قال سألت جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الجمعة؟ قال:- نعم. وللبخاري:- أن يفرد بالصوم. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا تصوموا يوم الجمعة إلا وقبله يوم أو بعده يوم )) " رواه الجماعة إلا النسائي " ولمسلم (( لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم )) ولأحمد (( يوم الجمعة عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا يوماً قبله أو بعده )) وعن جويرية رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها في يوم الجمعة وهي صائمة فقال ((أصمت أمس؟)) قالت:- لا, قال (( تصومين غداً؟ )) قالت:- لا, قال (( فأفطري )) " رواه أحمد والبخاري وأبو داود " وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( لا تصوموا يوم الجمعة وحده )) فهذه نصوص صريحة صحيحة قاطعة الدلالة على المنع من صيام هذا اليوم لوحده, فلا داعي لمسلك الأقيسة مع ثبوت النص, فإن قياس المالكية والحنفية الذي ذكرته سابقاً قياس صادم النص وكل قياس صادم النص فإنه فاسد الاعتبار, فالصحيح في هذه المسألة هو تحريم صوم يوم الجمعة وحده إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده والله أعلم .(1/58)
الفرع الرابع والعشرون :- اختلف أهل العلم في حكم الإحرام بالحج في خارج أشهره, فذهب جمع من أهل العلم إلى أنه ينعقد الإحرام به في أي جزء من أجزاء العام واستدلوا على ذلك بقوله تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } وبالقياس على الإحرام بالعمرة وذهب كثير من أهل العلم إلى أن الإحرام بالحج لا ينعقد إلا في اشهره الخاصة وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة, وهذا هو الحق إن شاء الله تعالى, لقوله تعالى { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } ولأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما عقد الإحرام به في هذه الأشهر وقال (( لتأخذوا عني مناسككم )) ولأن التوقيت الزماني كالتوقيت المكاني, وأما الآية التي استدلوا بها فإنها عامة والآية في التوقيت خاصة, والخاص مقدم على العام, وأما القياس فإنه مصادم للنص وقد تقرر في القواعد أن القياس إذا صادم النص فإنه فاسد الاعتبار والله أعلم .(1/59)
الفرع الخامس والعشرون :- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في وقوف الإمام على الجنازة في الصلاة عليها, فقال بعض أهل العلم إنه يقف على وسط الجنازة من غير تفريق بين الرجل والمرأة واستدلوا على ذلك بحديث سمرة - رضي الله عنه - قال:- صليت وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة ماتت في نفاسها فقام عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة وسطها. " رواه الجماعة " فهذا نص في المرأة والرجل يقاس عليها, قلت:- وهذا قياس فاسد لأنه قياس في مصادمة النص, فإن السنة الصحيحة قد وردت بالتفريق بين الذكر والأنثى في هذه المسالة, فعن أبي غالب الحناط قال:- شهدت أنس ابن مالك - رضي الله عنه - صلى على جنازة رجل فقام عند رأسه فلما رفعت أتي بجنازة امرأة فصلى عليها فقام وسطها, وفينا العلاء بن زياد العلوي, فلما رأى اختلاف قيامه على الرجل والمرأة قال:- يا أبا حمزة هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم من الرجل حيث قمت ومن المرأة حيث قمت؟ قال:- نعم. رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وأبو داود, ولفظه:- هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على الجنازة كصلاتك عليها, يكبر عليه أربعاً ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة؟ قال:- نعم. فهذه الأدلة تفيدك التفريق بينهما, وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يقوم عند صدورهما بلا تفريق وهذا خطأ مخالف للسنة أيضاً بل الحق هو ما قضت به هذه الأحاديث وكل قياس أو مذهب أو رأي خالفها فهو باطل, قال الشوكاني في النيل:- ( وقد عرفت أن الأدلة دلت على ما ذهب إليه الشافعي وأن ما عداه لا مستند له من المرفوع إلا مجرد الخطأ في الاستدلال أو التعويل على محض الرأي أو ترجيح ما فعله الصحابي على ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل, نعم لا ينتهض مجرد الفعل دليلاً للوجوب ولكن النزاع فيما هو الأولى والأحسن, ولا أحسن من الكيفية التي فعلها النبي -(1/60)
صلى الله عليه وسلم - )ا.هـ.
الفرع السادس والعشرون :- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في المحرم إذا لم يجد النعلين ولبس الخفين فهل يقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين, أم لا؟ على قولين, فذهب بعض أهل العلم إلى عدم القطع, بل يلبسهما على حالهما واستدلوا على ذلك بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بعرفات (( من لم يجد إزاراً فليلبس سراويل ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين )) " متفق عليه " وعن جابر - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( من لم يجد نعلين فليلبس خفين ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل )) " رواه مسلم " ولم يذكر القطع هنا فهو آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه فالأمر بالقطع في حديث ابن عمر الآتي منسوخ, لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله في المدينة, وأما حديث ابن عباس فإنه في عرفات فهو الأخير منهما, وذهب كثير من أهل العلم إلى وجوب القطع واستدلوا بحديث ابن عمر في الصحيحين وفيه (( فإن لم يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين )) وأجابوا عن دعوى النسخ بأن النسخ لا يصار إليه مع إمكان إعمال الدليلين لأنه قد تقرر في القواعد أن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما ما أمكن, ويمكن إعمالهما بأن نجعل حديث ابن عباس وجابر أحاديث مطلقة, وحديث ابن عمر حديث مقيد ونحمل المطلق على المقيد, لأنه قد تقرر في القواعد وجوب حمل المطلق على المقيد إذا اتفقا في الحكم, وهنا قد اتفقا في الحكم والسبب, قال الفريق الأول:- إن المطلق هنا هو المتأخر والمقيد هو المتقدم؟ قلنا:- هذا لا يضر لأن القول الصحيح عند الأصوليين أنه يحمل المطلق على المقيد وإن كان المقيد هو المتقدم, فقضية التقدم والتأخر في حمل المطلق على المقيد لا تؤثر كما قلناه في بناء العام على الخاص, فكما أنه يحمل العام على الخاص حتى وإن كان العام هو المتأخر(1/61)
فكذلك يحمل المطلق على المقيد حتى وإن كان المطلق هو المتأخر, قالوا:- فإن حديث ابن عباس وجابر قد سمعهما الغفير في عرفات ممن لم يسمع القطع في حديث ابن عمر؟ قلنا:- هذا لا يضرلحصول البلاغ الشرعي لمن كان بالمدينة, والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يلزمه أن يبلغ الحكم لكل واحد بعينه بل يكفي بلاغ من تقوم بهم الكفاية, قالوا:- إن قطع الخف فيه إفساد له والله لا يحب الفساد؟ قلنا:- إن الفساد إنما يكون فيما نهى عنه الشارع لا فيما أذن فيه وأمر به, بل القطع طاعة وامتثال لأمر الشارع, قالوا:- يترك قطع الخف قياساً على عدم فتق السراويل؟ قلنا:- بئس القياس, لأنه قياس في مصادمة النص وكل قياس صادم النص فإنه باطل, فالصحيح وجوب إعمال الأدلة كلها بكل جزئياتها وعامة تفاصيلها, لأن إعمال الكلام أولى من إهماله, وبناء عليه فالراجح وهو وجوب القطع عملاً بالنصوص كلها والله أعلم .(1/62)
الفرع السابع والعشرون :- مما يجمل تفريعه هنا قول عمرو بن سعيد وذلك في حديث أبي شريح الخزاعي - رضي الله عنه - أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة:- ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولاً قال به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغد من يوم الفتح سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به, حمد الله وأثنى عليه ثم قال (( إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ولا يعضد بها شجر, فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها فقولوا:- إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لك, وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس, فليبلغ الشاهد الغائب )) فقيل لأني شريح:- ماذا قال لك عمرو؟ قال:- قال:- أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح, إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدمٍ ولا فاراً بخربة. أقول:- فقول عمرو بن سعيد هذا قول باطل لا يعول عليه وهو في معارضة النص بالقياس ومحض الرأي ومن التقدم بين يدي الله ورسوله, فالحق الحقيق بالقبول البقاء عند قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, وقول عمرو بن سعيد هذا مردود عليه لأنه قياس ورأي في معارضة النص وكل قياس صادم النص فإنه باطل .(1/63)
الفرع الثامن والعشرون :- ذكر صاحب إجابة السائل شرح بغية الآمل أن يحيى بن يحيى صاحب مالك, عالم الأندلس, أفتى الأمير عبدالرحمن بن الحكم الأموي صاحب الأندلس وكان قد نظر إلى جارية يحبها حباً شديداً ولم يملك نفسه أن وقع عليها في نهار رمضان, ثم سأل الفقهاء عن توبته وكفارته, فقال له يحيى بن يحيى:- يصوم شهرين متتابعين, فلم يدر يحيى العلماء بالصيام سكتوا, فلما خرجوا قالوا ليحيى:- ما لك لا تفتيه بمذهب مالك وهو التخيير بين العتق والإطعام والصيام فقال:- لو فتحنا هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود .ا.هـ. ما ذكره, قلت:- وهذا خطأ لاشك فيه, وقياس عاطل واستحسان لا خير فيه, ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:- يارسول الله هلكت, قال:- (( وما أهلكك؟ )) قال:- وقعت على أهلي وأنا صائم, قال: (( هل تجد رقبة تعتقها؟ )) قال:- لا, قال:- (( فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ )) قال:- لا قال:- (( فهل تجد ما تطعم به ستين مسكيناً؟ )) قال:- لا...الحديث. وظاهر هذا الحديث أن الكفارة في الوقاع في رمضان على الترتيب لا التخيير وهذا نص صريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا خيرة فيه لأحد, وقد تقرر أن كل حكم ثبت في حق واحدٍ من الأمة فإنه يثبت في حق الأمة تبعاً إلا بدليل الاختصاص, ولأن المتقرر أن الأصل في الأحكام الشرعية التعميم إلا بدليل يفيد التعيين والملوك والرعية وأهل الشرف والمناصب ومن دونهم في أحكام الشرع سواء إلا بدليل, فكفارة الوقاع في رمضان جارية على الملك والمملوك, والشريف والوضيع , والوزير وبواب الوزارة كلهم في ذلك سواء, والرب جل وعلا يعلم أنه سيكون في الأمة الملوك الفسقة الذين لا يراعون أحكام الشرع ويستسهلون ارتكاب المحرم لاستسهالهم لكفارته ومع ذلك فقد جرى الأمر على عدم التفريق بين مكلفٍ ومكلفٍ في هذا الفرع,(1/64)
فالأصل البقاء على العموم حتى يرد المخصص وما قاله يحيى بن يحيى رحمه الله تعالى إنما هو قياس ورأي مجرد قابل به النص فهو فاسد لأن كل قياس صادم النص فإنه فاسد الاعتبار والله أعلم .
الفرع التاسع والعشرون :- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في شوك الحرم هل يعضد أو لا؟ فذهب جماهير أهل العلم إلى أنه لا يعضد واستدلوا على ذلك بالأدلة التي فيها قوله - صلى الله عليه وسلم - (( ولا يعضد شوكه )) وقوله (( ولا يختلى خلاه )) وهي في الصحيح, وذهب بعض أهل العلم إلى جواز ذلك منهم القاضي وأبو الخطاب من أصحابنا وروي ذلك عن عطاء ومجاهد وعمرو ابن دينار والشافعي, قاله في المغني, واستدلوا بقياس الشوك على السباع بجامع وجود الأذى في كل قال الشنقيطي في أضواء البيان في رد هذا القياس:- ( قال مقيده عفا الله عنه:- قياس شوك الحرم على سباع الحيوان مردود من وجهين:- الأول:- أن السباع تتعرض لأذى الناس وتقصده بخلاف الشوك, الثاني:- أنه مخالف لقوله - صلى الله عليه وسلم - (( لا يعضد شوكه )) والقياس المخالف للنص فاسد الاعتبار )ا.هـ. قلت:- الوجه الأول يريد به إثبات الفارق بين الفرع والأصل فإنه مع ثبوت الفرق فلا قياس لأن المتقرر أن القياس مع الفارق باطل, والوجه الثاني يريد به إثبات أن قياسهم هذا مخالف للنص, وعليه فالحق حرمة قطع شوك الحرم بقاءً على دلالة النص والله أعلم .(1/65)
الفرع الثلاثون :- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى فيمن يملك الثمرة على الشجرة إذا بيعت الشجرة, هل يملكها المشتري أم البائع؟ على أقولك- فقال قوم بأنها للمشتري سواءً أبرت أو لم تؤبر, واستدلوا على ذلك بقولهم:- لأنها متصلة بالأصل اتصال خلقة فكانت تابعة لها كالأغصان وهذا قول ابن أبي ليلى, وذهب أبو حنيفة والأوزاعي رحمهما الله تعالى إلى أنها للبائع في الحالين أي سواء لقحت أو لم تلقح, وكلا المذهبين مرجوحان, فالحق الحقيق بالقبول هو المذهب الثالث وهو قول جمهور أهل العلم أنها إذا أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المشتري وإن بيعت قبل التأبير فثمرتها للمشتري إلا أن يشترطها البائع, وعليه فالثمرة لمن لقح الشجرة, فالذي يتولى التأبير هو الذي يملك الثمرة إلا إذا اشترطها الطرف الآخر, ويدل لذلك حديث ابن عمر قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع )) " متفق عليه " وهذا نص يدل بمنطوقه على أن البائع أحق بالثمرة إن باعها بعد التأبير, ويد بمفهومه على أن المشتري أحق بالثمرة إن بيعت قبل التأبير, وقد تقرر في القواعد أن مفهوم المخالفة حجة وأما قياس ابن أبي ليلى الثمرة على الأغصان فهو قياس في مصادمة النص وقد تقرر أن كل قياس صادم النص فإنه باطل .(1/66)
الفرع الحادي والثلاثون :- اختلف أهل العلم في المرأة إذا ارتدت هل تقتل أو لا؟ قال ابن قدامة في المغني:- ( لا فرق بين الرجال والنساء في وجوب القتل, روي ذلك عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهما وبه قال الحسن والزهري والنخعي ومكحول وحماد ومالك والليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق, وروي عن علي والحسن وقتادة أنها تسترق ولا تقتل, لأن أبا بكرٍ استرق نساء بني حنيفة وذراريهم وأعطى علياً منهم امرأة فولدت له محمد بن الحنفية وكان هذا بمحضر من الصحابة فلم ينكر فكان إجماعاً, وقال أبو حنيفة:- تجبر على الإسلام بالحبس والضرب ولا تقتل لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( لا تقتلوا امرأة )) ولأنها لا تقتل بالكفر الأصلي فلا تقتل بالكفر الطارئ كالصبي, ولنا قوله - صلى الله عليه وسلم - (( من بدل دينه فاقتلوه )) " رواه البخاري وأبو داود " وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث:- الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة )) " متفق عليه " وروى الدارقطني أن امرأة يقال لها أم رومان أو أم مروان ارتدت عن الإسلام فبلغ أمرها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت. ولأنها شخص مكلف بدل دين الحق بالباطل فتقتل كالرجل, وأما نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل المرأة فالمراد به الأصلية فإنه قال ذلك حين رأى امرأة مقتولة وكانت كافرة أصلية, ولذلك نهى الذين بعثهم إلى ابن أبي الحقيق عن قتل النساء ولم يكن فيهم مرتد, ويخالف الكفر الأصلي الكفر الطارئ بدليل أن الرجل يقر عليه ولا يقتل أهل الصوامع والشيوخ والمكافيف, ولا تجبر المرأة على تركه بضرب ولا حبس والكفر الطارئ بخلافه, والصبي غير مكلف بخلاف المرأة, وأما بنو حنيفة فلم يثبت أن من استرق منهم تقدم له إسلام ولم يكن بنوا حنيفة أسلموا كلهم وإنما أسلم بعضهم والظاهر أن الذين أسلموا كانوا رجالاً ونساءً(1/67)
فمنهم من ثبت على إسلامه منهم ثمامة بن أثال ومنهم من ارتد ومنهم الدجال الحنفي )ا.هـ. قلت:- وبقي له أن يقال:- إن قياس المرأة المرتدة على المرأة الكافرة كفراً أصلياً وعلى والصبي قياس صادم النص, وقد تقرر أن كل قياس صادم النص فإنه باطل فاسد الاعتبار, فالحق في هذه المسألة أنها تقتل كما يقتل الرجل بعد أن تستتاب ثلاثاً فإن تابت وإلا قتلت ولا عبرة بالآراء ولا بالأقيسة المصادمة للنصوص الشرعية الصريحة الصحيحة والله أعلم .(1/68)
الفرع الثاني والثلاثون :- اختلف أهل العلم في هدي التمتع والقران, هل يجوز قبل يوم النحر أم لا؟ فذهب جمع من أهل العلم إلى أنه يجوز بمجرد الإحرام بأحد النسكين, أي بالتمتع أو بالقران فإذا أحرم المتمتع بعمرة التمتع جاز له ذبح هديه وإذا أحرم بالقارن جاز له ذبح هديه, وممن قال بذلك الشافعي, وذهب كثير من أهل العلم إلى أنه لا يذبح قبل يوم النحر, واستدل من قال بجواز ذبحه قبل يوم النحر بقولهم:- إن هدي التمتع له سببان فجاز بأحدهما قياساً على الزكاة بعد ملك النصاب وقبل حلول الحول, وبأن شروط التمتع قد وجدت عند الإحرام بالحج فوجد التمتع بوجود شروطه وذبح الهدي معلق على وجود التمتع في قوله تعالى { فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } وبأن صوم العاجز عن الهدي يجوز قبل يوم النحر فكذلك ذبح الهدي يجوز قبل يوم النحر ولهم أدلة غير هذه, والقول الصحيح والرأي الرجح المليح أن هدي التمتع والقران لا يجوز قبل يوم النحر, وذلك لثبوت الأدلة بذلك, فمن ذلك حديث حفصة رضي الله عنها أنها قالت يا رسول الله ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تتحلل أنت من عمرتك؟ قال (( إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر )) وقوله (( حتى أنحر )) يعني يوم النحر, فلو جاز نحري هدي التمتع قبل ذلك لأحل بعمرة ونحر, ويوضحه رواية مسلم في صحيحه عن حفصة رضي الله عنها أنها قالت يا رسول الله ما ِان الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك؟ فقال (( إني لبدت رأسي وقلت هديي فلا أحل حتى أنحر )) وفي لفظٍ له عنها أنها قالت:- قال (( إني قلدت هديي فلا أحل حتى أحل من الحج )) وفي لفظٍ له عنها:- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع, قالت حفصة:- فقلت ما يمنعك أن تحل؟ قال (( إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر هديي )) ففي هذه الروايات الصحيحة ما يدل على أن الهدي الذي معه مانع من الحل ولو(1/69)
كان الذبح قبل يوم النحر جائزاً لتحلل بعمرة ثم نحر ولأنه جل وعلا قال { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } فبين - صلى الله عليه وسلم - ذلك بفعله أن بلوغه محله يوم النحر بمنى بعد رمي جمرة العقبة, فمن أجاز ذبح الهدي قبل ذلك فقد خالف السنة الفعلية المقرونة بالأمر القولي , وخالف ما كان عليه أصحابه من بعده وما جرى عليه عمل عامة المسلمين فإنه لم يثبت بنصٍ صحيح عن صحابي واحد أنه نحر هدي تمتع أو قران قبل يوم النحر فلا يجوز العدول عن هذا بالآراء والأقيسة التي ما أنزل الله بها من سلطان, فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يذبح هديه إلا يوم النحر مع قوله (( لتأخذوا عني مناسككم )) وهذا فعل أصحابه جميعاً, وهو فعل سلف الأمة من التابعين وتابعيهم وهو عمل المسلمين, وهو الحق الذي لا يجوز العدول عنه وأما قول المجوزين لذبح الهدي قبل يوم النحر, إنه ذو سببين فيجوز بتحقق أحدهما كالزكاة فهذا قياس فاسد الاعتبار لأنه قياس في مقابلة النص والقياس في مقابلة النص باطل, وأما قولهم:- إن شروط التمتع قد وجدت بوجود الإحرام به, فهو غير صحيح لأن التمتع لم يتحقق بإحرام الحج فقط لاحتمال أن يفوته الحج بسبب عائق عن الوقوف بعرفة لأنه لو فاته الوقوف فاته الحج وإذا فاته الحج لم يوجد منه التمتع, فدل ذلك على أن مجرد الإحرام بالحج لا يتحقق به وجود حقيقة التمتع التي علق عليها وجود ما استيسر من الهدي , ولأن هدي التمتع الواجب له محل معين لابد من بلوغه في زمن معين كما دل عليه قوله تعالى { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } ببيان النبي - صلى الله عليه وسلم -, وبأن قولهم هذا إنما هو رأي وقد عارض النص والرأي إذا عارض النص فهو فاسد, وأما قياسهم الهدي على بدله الذي هو الصوم فهو قياس فاسد باطل لأنه مخالف للنص وكل قياس صادم النص فإنه فاسد الاعتبار, وعلى ذلك(1/70)
فالحق الحقيق بالقبول هو أن هدي التمتع والقران لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر بالقرآن والسنة واتفاق الصحابة وعمل السلف والله أعلم .
الفرع الثالث والثلاثون :- اختلف أهل العلم في حكم جلد عميرة, أي الاستمناء باليد, فذهب أكثر العلماء, بل هو قول جماهير أهل العلم إلى التحريم, واستدلوا على التحريم بأدلة كثيرة, أذكر منها قوله تعالى { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } وذهب القلة من أهل العلم إلى جواز هذه العادة السيئة واستدلوا على ذلك بأن حقيقتها إخراج فضلة من البدن فجاز إخراجها كالفصاد والحجامة, قلت:- ما أسمجه من استدلال وما أبعده عن الحق فإنه قياس فاسد باطل لأنه صادم النص وقد تقرر أن كل قياس عارض النص فإنه فاسد الاعتبار والله أعلم .(1/71)
الفرع الرابع الثلاثون :- اختلف أهل العلم في الصلاة في معاطن الإبل, فذهب أكثر أهل العلم إلى المنع من الصلاة فيها, وذهب بعض أهل العلم إلى الجواز, واستدلوا على ذلك بقياس مبارك الإبل على مرابض الغنم, فكما أنه تجوز الصلاة في مرابض الغنم فكذلك تجوز في معاطن الإبل والحق التحريم وذلك لثبوت السنة بذلك ففي حديث جابر ب سمرة أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أئتوضأ من لحوم الغنم؟ قال (( إن شئت توضأ وإن شئت فلا تتوضأ )) قال:- أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال (( نعم توضأ ن لحوم الإبل )) قال:- أصلي في مرابض الغنم؟ قال (( نعم )) قال:- أصلي في مبارك الإبل؟ قال (( لا )) " رواه مسلم " وأخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه وابن ماجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (( صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل )) وأخرج النسائي والبيهقي وابن ماجه من حديث عبدالله بن مغفل - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة في أعطان الإبل. وأخرج ابن ماجه عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( صلوا في مراح الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل )) وأخرج ابن ماجه عن سبرة بن معبد الجهني - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ((لا يصلى في أعطان الإبل ويصلى في مراح الغنم)) وهذا هو الحق الحقيق بالقبول وأما قياس المجوزين فهو قياس صادم النص وكل قياس صادم النص فإنه فاسد الاعتبار, فرحم الله من خالف هذه النصوص وتجاوز عنه وغفر له وعفا عنه فإنها مخالفة ما كانت تنبغي ولكن كل يؤخذ من قوله ويترك إلا الشارع والله أعلم .(1/72)
الفرع الخامس والثلاثون :- اختلف أهل العلم في إثبات خيار المجلس فذهب جماهير أهل العلم إلى إثباته, واستدلوا بحديث ابن عمر في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار حتى يتفرقا ...الحديث )) وثبت في خيار المجلس عدة أحاديث تفيد أنه من جملة شريعة الله جل وعلا, وذهب بعض أهل العلم إلى القول بعدمه فالبيع في المجلس يلزم مباشرة بمجرد صدور لفظ الإيجاب والقبول وإن لم يتفرقا, واستدلوا بالقياس فقاسوا ما قبل التفرق على ما بعد التفرق, فكما أنه يجب بعد التفرق فكذلك يجب قبله والفرقة من عدمه لا أثر لها وأقول:- بل قياسكم هذا هو الذي لا أثر له فهو رد عليكم لأنه مصادم للنصوص في إثبات خيار المجلس وقد تقرر أن كل قياس صادم النص فهو باطل, فالحق الذي لا يجوز العدول عنه هو إثبات خيار المجلس والله أعلم .
الفرع السادس والثلاثون :- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في عقوبة من عمِل عمَل قوم لوط, والمذهب الذي نعرفه عن عامة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يقتل ولكن الخلاف بينهم في كيفية قتله فقط, وأما قتله فمتفق عليه , وجاء المتأخرون بقول ثانٍ وهو أنه يحد حد الزاني فقاسوه على الزاني بجامع أن كل منهما إيلاج في فرج محرم, وهذا قياس فاسد الاعتبار, بل الحق قتله, وتترك طريقة قتله إلى اختيار الإمام لما يراه مناسباً للزجر عن هذه الطامة الوخيمة والمصيبة الكبيرة العظيمة, وقلنا:- إن قياس اللوطية على الزناة فاسد لأنه مصادم لقوله - صلى الله عليه وسلم - (( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به )) وهو حديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده, وقد تقرر أن كل قياس صادم النص فإنه فاسد الاعتبار باطل والله أعلم .(1/73)
الفرع السابع والثلاثون :- اختلف أهل العلم فيمن أتى بهيمة على أقوال أصحها إن شاء الله تعالى أنه يجب قتله من غير تفريق بين ثيبٍ وبكر وذلك لحديث ((من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها)) وهو صحيح بمجموع الطرق والشواهد, وأما قياسهم على الزاني فهو قياس فاسد الاعتبار لأنه في مصادمة النص وكل قياس صادم النص فإنه باطل والله أعلم .
الفرع الثامن والثلاثون :- ذهب السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم وعامة أهل السنة والجماعة وأئمة الإسلام المعتد بأقوالهم إلى أن الصفات الثابتة لله تعالى في الكتاب والسنة ليس كمثله فيها شيء, وذهب أهل التمثيل إلى أن صفات الله كصفاتنا بقياس الغائب على الشاهد وهذا قياس فاسد باطل وزندقة وخبل في العقل لأنه مصادم لقوله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } ولقوله تعالى { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } ولقوله تعالى { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } ولقوله تعالى { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ } ولقوله تعالى { فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } فالحق الذي لا مرية فيه هو أن الله تعالى ليس كمثله شيء في ذاته ولا أسمائه ولا صفاته ولا أفعاله جل وعلا ولأن هذا هو فهم سلف الأمة وأئمتها وكل فهم يخالف فهم السلف في مسائل الاعتقاد فهو باطل والله أعلم .(1/74)
الفرع التاسع والثلاثون :- قد أنكرت طوائف من أهل البدع وجود الجنة والنار الآن وقالوا:- لو كانت موجودتان الآن لما كان في وجودهما مصلحة وفعل ما لا مصلحة فيه ممتنع على الله وهذا باطل بل الحق أنهما موجودتان الآن لا تفنيان أبداً ولا تبيدان وعلى ذلك إجماع أهل السنة واتفاق السلف رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم والأدلة على وجودهما كثيرة لا تكاد تحصر وقد ذكرتها في كتابي إتحاف أهل الألباب بمعرفة التوحيد والعقيدة في سؤال وجواب فارجع إليه إن شئت, وأما كلامهم السابق فهو رأي عاطل وقياس فاسد لأنه مصادم لأدلة الكتاب والسنة وكل قياس صادم النص فإنه فاسد الاعتبار .
الفرع الأربعون :- قد أنكرت طوائف كثيرة علو الرب جل وعلا, بحجة أنه لو كان علٍ للزم أن يكون في جهة والجهة ممتنعة على الله, ولأنه سيكون كعلوناً, وهذا باطل وكفر بل الحق أن الله جل وعلا في العلو المطلق فهو عالٍ على خلقه علواً يليق بجلاله وعظمته, والأدلة على ذلك مستوفاة في كتابنا المذكور, وأما ما قاله أهل البدع فإنه قياس ورأي فاسد باطل لأنه مصادم للنص وكل رأي أو قياس صادم النص فإنه باطل .
الفرع الحادي والأربعون :- قد أنكرت طوائف من أهل البدع استواء الرب على عرشه, بحجة أنه لو كان مستوياً عليه لكان كاستوائنا ولكان الرب محتاجاً للعرش, وهذا باطل, بل الحق أنه جل وعلا مستوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله وعظمته ولا يحتاج الرب إلى أحدٍ من خلقه لا عرشاً ولا غيره, بل العرش وحملة العرش والسماوات والأرضين ومن فيهما كلها مفتقرة الافتقار الذاتي لله جل وعلا, كما أنه جل وعلا الغني بذاته الغنى الذاتي, وأما قولهم فهو رأي وقياس صادم النصوص فهو باطل, فقد ورد ذكر الاستواء على العرش في سبع آيات من القرآن .(1/75)
الفرع الثاني والأربعون :- إنكار رؤية الله في الآخرة قد ثبتت فيها النصوص من الكتاب ومتواتر السنة وهي حق ثابت لا جدال فيه بإجماع الصحابة والسلف والأئمة فإنكارها إنما هو نابع عن آراء فاسدة وقياسات كاسدة وكل رأي أو قياس عارض النص فإنه فاسد وقد ذكرنا الأدلة على ذلك في إتحاف أهل الألباب .
الفرع الثالث والأربعون :- إنكار البعث إنما هو نابع عن أقيسة باردة سامجة فاسدة مخالفة لصحيح المنقول وصريح المعقول والحق الثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين والعقل السليم والفطرة المستقيمة أن الله يبعث الخلائق يوم القيامة للحساب وفصل القضاء, وما عارض ذلك فهو باطل وكفر وقد ذكرنا الأدلة على ذلك في إتحاف أهل الألباب .
الفرع الرابع والأربعون :- إنكار الصحف وتطايرها والميزان والحوض والصراط كل ذلك نابع من الأقيسة الفاسدة والحق إثبات ذلك كله على الوجه الذي يريده الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وما عارض ذلك فهو باطل وقد ذكرنا أدلة ذلك في إتحاف أهل الألباب .
الفرع الخامس والأربعون :- إخراج أفعال العباد أن تكون مخلوقة ومقدرة لله تعالى إنما هو بسبب القياس الفاسد والرأي العاطل الفاسد الباطل والحق أن أفعال العباد من جملة ما يدخل في قوله جل وعلا { اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } فهي خلق الله وكسب العباد وقد ذكرنا أدلة ذلك مفصلة في إتحاف أهل الألباب .
الفرع السادس والأربعون :- تعطيل صفات الرب جل وعلا إنما مبدؤه الأقيسة الفاسدة والآراء الكاسدة والحق أنه مذهب باطل وأن الله موصوف بصفات هي ما ورد في الكتاب وصحيح السنة, وأما مذهب التعطيل فهو مذهب باطل لأنه بني على أقيسة باطلة وما بني على الباطل فهو باطل .(1/76)
الفرع السابع والأربعون :- إنكار كلام الله تعالى وإنكار أن يكون بحرف وصوت إنما مبناه على الأقيسة الفاسدة وهي باطلة لأنها صادمت النصوص الصحيحة الصريحة وكل قياس صادم النص فإنه فاسد الاعتبار والحق أن الله تعالى يتكلم بكلام حقيقي متى شاء بما شاء بحرف وصوت وأن كلامه من صفات ذاته باعتبار أصله ومن صفات الفعل باعتبار آحاده وقد ذكرنا أدلة ذلك مفصلة في إتحاف أهل الألباب .
الفرع الثامن والأربعون :- اعتقاد أن الأموات ينفعون أو يضرون, وأن لهم تصرفاً في هذا الكون
إنما مبناه على قياس فاسد ورأي عاطل, بل الحق أنهم أموات لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيرهم وأنه ما وقع عباد القبور فيما وقعوا فيه إلا القياس المصادم للكتاب والسنة وكل قياس صادم النص فإنه فاسد الاعتبار وقد ذكرنا تفاصيل ذلك في إتحاف أهل الألباب .
الفرع التاسع والأربعون :- إثبات جواز التبرك بالأولياء والصالحين قياساً على التبرك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - هذا قياس باطل, والحق أنه لا يجوز التبرك الذاتي بأحد سواه - صلى الله عليه وسلم - باتفاق الصحابة وإجماع السلف وكل قياس صادم النص فهو فاسد الاعتبار وقد ذكرنا تفاصيل ذلك في إتحاف أهل الألباب .
وهذا آخر فرع أحببت تقييده لك في شرح هذه القاعدة المهمة العظيمة فالله أسأل أن يفقهنا في ديننا وأن يعيذنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن يبارك في هذه الرسالة وينفع بها النفع العام والخاص وأن يغفر للعلماء مغفرة واسعة وأن يجمعنا بهم في الجنة, وأشهد الله تعالى أن هذه الرسالة وقف لله تعالى على جميع المسلمين أرجو برها وثوابها وذخرها يوم لقاه, والله أعلى وأعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
- - - -(1/77)