سلسلة البحوث الأصوليّة
المُقَدَّمة لِنَيْل درجة الأستاذيّة
(2)
إيقاظ الهمَّة
في
تخصيص الكتاب والسُّنَّة
دكتور
إسماعيل محمد عَلِيّ عبد الرحمن
أستاذ أصول الفقه المساعد
كلِّيّة الدراسات الإسلامية والعربية
لِلبنات بالمنصورة - جامعة الأزهر
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله ربّ العالَمين ، شَرَح صدورنا بالإسلام ، وأنار قلوبنا باتِّباع خيْر الأنام ، وزَيَّن عقولنا بالعِلْم ونور القرآن ..
ونَشْهَد أنْ لا إله إلا الله وحْده لا شريك له الحكيم العَلاّم ، نَزَّل القرآنَ فيه لِكُلّ شيء تبيان .
ونَشهد أنّ سَيِّدنا محمَّداً عبْد الله ورسوله المصطفى العدنان ، أَرْسَله ربّه جَلّ وعَلاَ بالهدى ونور الإيمان ، مَن تَمَسَّك به لن يَرَى ضلالاً ولا خسران ، ومَن تَفَقَّه في شريعته كان أهلاً لِلرفعة والرضوان ، صلوات الله وسلامه عليك يا سَيِّد بني الإنسان ، وخيْر مَن زكّاه ربّه جَلّ وعَلاَ في القرآن .
وصلاةً وسلاماً على آلك وصَحْبك الذين نالوا مِن ربّهم الكرامة والرضوان ، وسلاماً على مَن اتَّبَع هُدَاك وتَمَسَّك بسُنَّتك وتَفَقَّه في شريعتك ودَعَا بدعوتك ما تَعاقبَت الأزمان .
وبَعْد ..
فقدْ سَبَق لي دراسة مَسائل العامّ وقواعده عند الأصوليّين ، وهو البحث الأول في هذه السلسة بعنوان ( بلوغ المرام في قواعد العامّ ) ، واتَّضَح لي مِن خلال هذا البحث مدى العلاقة بَيْن العامّ والخاصّ ، حتى إنّ الكثرة مِن الأصوليّين (1) جَمَعهما في باب أو فصْل واحد ، وما كان لي أنْ أحذو
(1) يراجَع : البرهان 1/220 والمحصول 1/353 ومنهاج الوصول مع شرْح المنهاج 1/350 ومختصر المنهاج مع شرْح العضد 2/99 وقواطع الأدلّة 1/282 والإبهاج 2/119(1/1)
حذْوهم فأَجمعهما في بحْث واحد لِقلّة بضاعتي دونهم ، كما أنّني فضَّلتُ البداية بالعموم تابعاً في ذلك لِكثير مِن الأصوليّين ، ولأنّ التخصيص قصْر لِلعامّ على بعض أفراده ، فلَزِم الوقوف على قواعد العامّ ؛ لأنّه محلّ التخصيص وموضعه .
وبَعْد أنْ وفَّقني الله عَزّ وجَلّ لِدراسة قواعد العامّ ومسائله عَقَدْتُ العزم على بحْث ودراسة مُقابِله ، وهو الخاصّ ، أعني التخصيص ، وبدأتُ فعلاً التنقيب في المَراجع الأصولية كيْ أضع خُطّتي ومنهجي لِلسَّيْر في إعداده لكنّي رأيتُ أنّ حصْر مسائل التخصيص في بحْث واحد لن يوفِّيَها حقّها ، ودراسة مجموعها قدْ يعتريه تقصير أو خَلَل ..
ولِذا .. شَرَح الله تعالى صدري إلى اختيار أَفْضَل مَسائله وأَهَمّ جزئيّاته ومَباحثه المرتبطة بأشرف الأدلّة وأَعْظَمها : الكتاب والسُّنَّة ، أعني تخصيص الكتاب العزيز بنَفْسه وبغيْره والسُّنَّة المطهّرة بنَفْسها وبغيْرها كمخصّصات منفصِلة ، مع التعرض لِباقي المخصّصات المنفصلة وكذا المتصلة ؛ إتماماً لِلفائدة ، وربطاً بَيْن أنواع المخصّصات .
كما رأيتُ أنْ أُرَصِّع بحثي هذا ببعض الفروع الفقهيّة التي بَنَاهَا المجتهِدون على تلك القواعد الأصوليّة في تخصيص الكتاب والسُّنَّة ؛ لأُوَضِّح مِن خلالها عُمْق الرابطة بَيْن الفقه والأصول ، وكيف كان منهج الأئمّة الأعلام والمجتهِدين الكرام في استنباط الأحكام .
وقدْ سَمَّيْتُ بحثي هذا بـ( إيقاظ الهمّة في تخصيص الكتاب والسُّنَّة ) ، وقصدتُ في المقام الأول إيقاظ همّتي ومَن على شاكلتي إلى بيان وفضْل وأهمِّيَّة هذا المبحث الأصوليّ المتعلِّق ببعض القواعد الأصوليّة المرتبِطة بالكتاب والسُّنَّة .
وقدْ قسمتُه إلى هذه المقدمة وخمسة فصول وخاتمة على النحو التالي :
الفصل الأول : تعريف التخصيص ، وحُكْمه ، والعلاقة بَيْنه وبَيْن العامّ .
وفيه ثلاثة مباحث :(1/2)
المبحث الأول : تعريف التخصيص ، والفَرْق بَيْنه وبَيْن غيْره .
وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : تعريف التخصيص وشروطه وأركانه .
المطلب الثاني : الفَرْق بَيْن التخصيص والخاصّ والخصوص والمخصّص .
المطلب الثالث : الفَرْق بَيْن التخصيص والنَّسْخ .
المطلب الرابع : الفَرْق بَيْن التخصيص والاستثناء .
المبحث الثاني : حُكْم التخصيص والقابل له .
وفيه مطلبان :
المطلب الأول : حُكْم التخصيص .
المطلب الثاني : القابل لِلتخصيص .
المبحث الثالث : العلاقة بَيْن التخصيص والعامّ .
وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : تعريف العامّ ، والفَرْق بَيْن العامّ المخصوص والخصوص والمراد به الخصوص .
المطلب الثاني : ما يَنتهي إليه التخصيص .
المطلب الثالث : البحث عن المخصّص .
المطلب الرابع : العامّ بَعْد تخصيصه .
الفصل الثاني : أنواع المخصّصات ، وتعريف الكتاب والسُّنَّة .
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : أنواع المخصّصات .
وفيه مطلبان :
المطلب الأول : أنواع المخصّصات .
المطلب الثاني : المخصّصات المتصلة .
المبحث الثاني : تعريف الكتاب والسُّنَّة .
وفيه مطلبان :
المطلب الأول : تعريف الكتاب العزيز .
المطلب الثاني : تعريف السُّنَّة المطهّرة .
الفصل الثالث : تخصيص الكتاب العزيز وأثره في الأحكام .
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : تخصيص الكتاب بالكتاب وبالسُّنَّة .
وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : تخصيص الكتاب بالكتاب .
المطلب الثاني : تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة .
المطلب الثالث : تخصيص الكتاب بخبر الآحاد .
المطلب الرابع : إذا خُصّ أحد العموميْن : هل يَلْزَم منه تخصيص الآخَر ؟
المبحث الثاني : أثر تخصيص الكتاب في الأحكام .
وفيه فروع :
الفرع الأول : نكاح الكتابيّة .
الفرع الثاني : أكْل ميتة السمك والجراد .
الفرع الثالث : الجَمْع بَيْن المرأة وعمّتها أو خالتها .
الفصل الرابع : تخصيص السُّنَّة المطهّرة وأثره في الأحكام .(1/3)
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : تخصيص السُّنَّة بالكتاب وبالسُّنَّة .
وفيه خمسة مطالب :
المطلب الأول : تخصيص السُّنَّة بالكتاب .
المطلب الثاني : تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة .
المطلب الثالث : التخصيص بإقراره - صلى الله عليه وسلم - .
المطلب الرابع : التخصيص بقول الصّحابيّ .
المطلب الخامس : خصوص السبب .
المبحث الثاني : أثر تخصيص السُّنَّة في الأحكام .
وفيه فروع :
الفرع الأول : نِصَاب زكاة الزروع والثمار .
الفرع الثاني : كفّارة الوقاع في نهار رمضان .
الفرع الثالث : غَسْل الإناء مِن ولوغ الكلب .
الفصل الخامس : المخصّصات المشتركة بَيْن الكتاب والسُّنَّة وأثرها في الأحكام .
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : المخصّصات المشتركة بَيْن الكتاب والسُّنَّة .
وفيه ستّة مطالب :
المطلب الأول : التخصيص بفِعْله - صلى الله عليه وسلم - .
المطلب الثاني : التخصيص بالإجماع .
المطلب الثالث : التخصيص بالقياس .
المطلب الرابع : التخصيص بالعرف والعادة .
المطلب الخامس : التخصيص بالمفهوم .
المطلب السادس : التخصيص بدليل العقل .
المبحث الثاني : أثر المخصّصات المشتركة بَيْن الكتاب والسُّنَّة في الأحكام .
وفيه فروع :
الفرع الأول : استقبال القِبْلَة واستدبارها في غيْر الخلاء .
الفرع الثاني : حَدّ العبد القاذف .
الفرع الثالث : زكاة الأنعام المعلوفة .
الخاتمة : وتتضمّن أهمّ نتائج البحث وثماره ، والتي أسأل الله سبحانه وتعالى حُسْنها في شأني كُلّه ، خاصّةً عند لقاء ربّي عَزّ وجَلّ .
وأسأل الله العَلِيّ القدير أنْ يمدّني بمَدَده ، وأنْ يُلْهِمني التوفيق والسداد والرشاد ، وأنْ يَجعله خالصاً لِوجْهه ؛ حتى يَكون حُجّةً لي لا علَيّ ..
وصلى الله على سَيِّدنا محمد وعلى آله وصحْبه وسلَّم .
الفصل الأول
تعريف التخصيص ، وحُكْمه ، والعلاقة بَيْنه وبَيْن العامّ
وفيه ثلاثة مباحث :(1/4)
المبحث الأول : تعريف التخصيص ، والفَرْق بَيْنه وبَيْن غيْره .
وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : تعريف التخصيص وشروطه وأركانه .
المطلب الثاني : الفَرْق بَيْن التخصيص والخاصّ والخصوص والمخصّص .
المطلب الثالث : الفَرْق بَيْن التخصيص والنَّسْخ .
المطلب الرابع : الفَرْق بَيْن التخصيص والاستثناء .
المبحث الثاني : حُكْم التخصيص والقابل له .
وفيه مطلبان :
المطلب الأول : حُكْم التخصيص .
المطلب الثاني : القابل لِلتخصيص .
المبحث الثالث : العلاقة بَيْن التخصيص والعامّ .
وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : تعريف العامّ ، والفَرْق بَيْن العامّ المخصوص والخصوص والمراد به الخصوص .
المطلب الثاني : ما يَنتهي إليه التخصيص .
المطلب الثالث : البحث عن المخصّص .
المطلب الرابع : العامّ بَعْد تخصيصه .
المبحث الأول
تعريف التخصيص ، والفَرْق بَيْنه وبَيْن غيْره
وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : تعريف التخصيص وشروطه وأركانه .
المطلب الثاني : الفَرْق بَيْن التخصيص والخاصّ والخصوص والمخصّص .
المطلب الثالث : الفَرْق بَيْن التخصيص والنَّسْخ .
المطلب الرابع : الفَرْق بَيْن التخصيص والاستثناء .
المطلب الأول
تعريف التخصيص وشروطه وأركانه
والحديث في هذا المطلب يمكِن تقسيمه إلى ما يلي :
1- تعريف التخصيص لغةً .
2- تعريف التخصيص عند الأصوليّين .
3- شروط التخصيص .
4- أركان التخصيص .
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها فيما يلي :
أوّلاً : تعريف التخصيص لغةً
والتخصيص في اللغة : مَصْدَر " خصَّص " ..
يقال " خصَّص " : خصَّه بالشيء يَخُصّه خصّاً وخصوصاً وخصوصيّةً والفتح أَفْصَح .
وخصَّص وخصَّصه واخْتَصّه به : أَفْرَده به دون غيْره .
ويقال " اختصّ فلان بالأمر وتخصّص له " : إذا انفرَد وخصّص غيْره واخْتَصّه ببِرّه .
والخاصّ والخاصّة : ضدّ العامّة .
والتخصيص : ضدّ التعميم .
واخْتَصّه بالشيء : خصّه به .(1/5)
فـ" اختصّ " و" تخصَّص " لازم ومُتَعَدّ (1) .
(1) يُرَاجَع : لسان العرب 4/109 ومختار الصحاح /115 والمصباح المنير /65 والقاموس =
ومِمَّا تَقَدَّم نرى : أنّ التخصيص لغةً مَصْدَر " خصَّص " ، وهو الانفراد بالشيء ، وأنّ الخاصّ والخصوص يفيد نَفْس المعنى لكنّه يَختلف باعتبار مقابِله ؛ فالخصوص يقابِل العموم ، والتخصيص يقابِل التعميم ، والخاصّ يقابِل العامّ .
وسنَرَى ـ بإذْن الله تعالى ـ فيما سيأتي أنّ الأصوليّين فَرَّقوا بَيْن هذه المصطلحات مع اتِّفاقها في المعنى اللّغويّ .
ثانياً : تعريف التخصيص عند الأصوليّين
لقد وقفتُ على تعريفات عدّة لِلتخصيص عند الأصوليّين ، أكتفي في هذا بإيراد بعض منها ، مع الشرح والمناقَشة والترجيح ..
التعريف الأول : لأبي الحسين البصري (1) رحمه الله تعالى ..
وهو : ( إخراج بعض ما تَناوَله الخطاب مع كوْنه مقارِناً له ) (2) .
وتَبِع البصريَّ ـ رحمه الله تعالى ـ بعض الأصوليّين في تعريفه ، مع تعديل فيه ..
منهم الفخر الرازي (3) رحمه الله تعالى ، الذي عَرَّفه بأنّه : ( إخراج
= المحيط /796 وشرْح المَحَلِّي مع حاشية البناني 2/2
(1) أبو الحسين البصري : هو محمد بن عَلِيّ بن الطَّيِّب البصري رحمه الله تعالى ، أحد أئمة المعتزلة ، وُلِد بالبصرة ورَحَل لِبغداد ..
مِن تصانيفه : المعتمد ، تَصَفُّح الأدلّة ، غرر الأدلّة .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 436 هـ .
شذرات الذهب 3/259 والنجوم الزاهرة 5/38
(2) المعتمد 1/234
(3) فخر الدين الرازي : هو أبو عبد الله محمد بن عُمَر بن الحسين بن الحَسَن بن علِيّ التيمي البكري الطبرستاني الرازي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بالرّيّ سَنَة 544 هـ ..
مِن مصنَّفاته : المحصول ، مفاتيح الغيب ( التفسير الكبير ) . =
بعض ما تَناوَله الخطاب عنه ) (1) .
ونحْوه تعريف البيضاوي (2) رحمه الله تعالى ، وهو : ( إخراج بعض ما تَناوَله اللفظ ) (3) .(1/6)
شَرْح التعريف :
( إخراج ) : كالجنس في التعريف ، يشمل التخصيص وغيْره ، ويخرج عنه ما ليس إخراجاً : كالاستثناء المنقطع .
والمراد بالإخراج عَمّا يقتضيه ظاهِر اللفظ مِن الإرادة ، فاللَّفظ العامّ باعتبار ظاهِره يدلّ على دخول الأفراد كُلّها في الحُكْم والإرادة .
( بعض ما تَناوَله الخطاب ) : قيْد أوَّل ، قصد به الإيضاح والبيان ، فيدخل فيه الاستثناء مِن العَدَد وكذا بدل البعض ، كما خرج به النسخ ؛ فإنّه إخراج كُلّ ما تَناوَله اللَّفْظ .
( مع كوْنه مقارناً له ) : قيْد ثانٍ ، خرج به النسخ ؛ فإنّه إخراج متراخٍ وليس مقارنا .
وهذا القيد الأخير ذَكَره البصري رحمه الله تعالى ، ولم يَذْكُرْه الكثيرون مِمَّن نَسَبوا هذا التعريف إليه (4) .
= تُوُفِّي رحمه الله تعالى بهراة سَنَة 606 هـ .
البداية والنهاية 13/55 والفتح المبين 2/50
(1) المحصول 1/396
(2) القاضي البيضاوي : هو أبو الخير عبد الله بن عُمَر بن محمد بن علِيّ البيضاوي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بالمدينة البيضاء بفارس قُرْب شيراز ، وإليها نُسِب ..
مِن مؤلَّفاته : منهاج الوصول إلى عِلْم الأصول ، الإيضاح في أصول الدين .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بتبريز سَنَة 685 هـ . البداية والنهاية 13/309 والفتح المبين 2/91
(3) منهاج الوصول مع شَرْح المنهاج 1/361
(4) يُرَاجَع : الإبهاج 2/119 وشَرْح المنهاج 1/361 ونهاية السول 2/78 وإرشاد الفحول /142 =
مناقَشة هذا التعريف :
وقدْ نوقش هذا التعريف مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّه غيْر جامِع ؛ لأنّه لا يدخل فيه إخراج بعض ما يَتناوله العامّ إذا كان العامّ غيْر لفْظ : كالمفهوم ( موافِقاً أو مخالِفا ) .
وبعض المُعَرِّفين جعلوا الإخراج مِن العامّ معنىً تخصيصا .
الجواب عن هذا الوجه :(1/7)
وقدْ رُدّت هذه المناقَشة : بأنّ المقصود بالتناول هُنَا هو دلالة اللَّفْظ عليه ، سواء كان بطريق المنطوق أو بطريق المفهوم : فإنْ دلّ بطريق المنطوق كان عمومه لفظيّاً ، وإنْ دلّ بطريق المفهوم كان عمومه مِن جهة المعنى ..
وبذا كان التعريف جامِعا .
الوجه الثاني : أنّه غيْر مانع مِن دخول النَّسْخ ؛ لأنّه يَندرج فيه إخراج بعض العامّ بَعْد العمل به ، وهو نسْخ لا تخصيص .
الجواب عن هذا الوجه :
وقدْ رُدّ هذا الوجه مِن المناقَشة : بأنّ هذا تعريف لِلتخصيص بالمعنى العامّ ، أيْ تمييزه عن بعض ما عَدَاه ، وقدْ تَحَقَّق ذلك بهذا التعريف (1) .
وأرى أنّ تعريف البصري رحمه الله تعالى ما زال غيْر مانِع مِن دخول النّسْخ فيه ؛ لأنّه قدْ يَكون رفعاً لِكُلّ الحُكْم ، وهو ـ حينئذٍ ـ إخراج ما يَتناوله الخطاب .
ولِذا فإنّ الرازي ومَن تَبِعه ـ رحمهم الله ـ قدْ أَحْسَنوا صنعاً حينما
= وأصول القه لِلشّيخ زهير رحمه الله تعالى 2/239 ، 240
(1) يُرَاجَع : الإبهاج 2/119 ، 120 ونهاية السول 2/79 وإرشاد الفحول /142 وأصول الفقه لِلشَّيخ زهير 2/240
عبَّروا بأنّه ( إخراج بعض ما تَناوَله الخطاب ) ؛ لِيخرج النَّسْخ ، وإنْ كان يرد عليه النَّسْخ بَعْد العمل ؛ فإنّه إخراج بعض ما تَناوَله الخطاب .
والجواب : أنّه في حقّنا تخصيص قَبْل الفعل ، ونُسِخ عنّا بَعْده (1) .
التعريف الثاني : لِلشيرازي (2) ـ رحمه الله تعالى ـ في " شَرْح اللُّمَع " ..
وهو : ( إخراج بعض ما دخل في اللَّفْظ العامّ بدليل ) (3) .
ونحْوه تعريف السالمي (4) رحمه الله تعالى ، وهو : ( إخراج بعض ما تَناوَله لفْظ العموم بدليل مُخْرِج له عن دخوله تحْت تَناوُله ) (5) .
شَرْح التعريف :
( إخراج ) : كالجنس في التعريف ، يشمل المحدود وغيْره ، وخرج به العامّ ؛ فإنّه إدخال لِجميع أفراده وليس إخراجاً لها .(1/8)
( بعض ما دخل في اللَّفْظ العامّ ) : قيْد أوَّل ، خرج به إخراج كُلّ ما دخل في اللَّفْظ العامّ ؛ فلا يُسَمَّى " تخصيصاً " ، وإنّما يُعَدّ نسْخا .
( بدليل ) : قيْد ثانٍ ، قصد به بيان شرْط التخصيص ، وهو أنْ يَكون
(1) يُرَاجَع نهاية السّول 2/79
(2) أبو إسحاق الشيرازي : هو إبراهيم بن علِيّ بن يوسف بن عبد الله الشيرازي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 393 هـ ..
مِن مصنَّفاته : التنبيه ، اللُّمَع ، التبصرة في الأصول .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 476 هـ .
طبقات الشّافعيّة الكبرى 3/88 ووفيات الأعيان 1/5
(3) شَرْح اللُّمَع 2/5
(4) السالمي : هو أبو محمد عبد الله بن حميد بن سالوم السالمي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ..
مِن مصنَّفاته : طلعة الشمس ، وشرْحها ، وأنوار العقول .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بعُمَان سَنَة 1332 هـ .
الفتح المبين 3/166
(5) شَرْح طلعة الشَّمْس 1/144
بدليل ، فإذا عدم الدليل فلا يُسَمَّى " تخصيصا " (1) .
التعريف الثالث : لِلشيرازي ـ رحمه الله ـ في " التبصرة " و" اللُّمَع "(2)
وهو : ( تمييز بعض الجملة مِن الجملة بحُكْم أو معنى ) .
ونحْوه تعريف إمام الحرميْن (3) ـ رحمه الله تعالى ـ في " الورقات " ، وهو : ( تمييز بعض الجملة ) (4) ..
وكذا تعريف ابن السمعاني (5) رحمه الله تعالى ، وهو : ( تمييز بعض الجملة بالحُكْم ) (6) .
ونحْوه تعريف القاضي أبي يعلى (7) رحمه الله تعالى ، وهو : ( تمييز
(1) يُرَاجَع شَرْح طلعة الشمس 1/144
(2) التبصرة /105 واللُّمَع /17
(3) إمام الحرميْن : هو ضياء الدين أبو المعالي عبد المَلِك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني الشافعي رحمه الله تعالى ..
مِن مصنَّفاته : البرهان في أصول الفقه ، الأساليب في الخلافيّات ، التحفة ، التلخيص .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 478 هـ .(1/9)
طبقات الفقهاء الشّافعيّة 2/799 والبداية والنهاية 12/128 والفتح المبين 1/273 - 275
(4) الورقات مع حاشية النفحات /80
(5) ابن السمعاني : هو أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد بن محمد رحمه الله تعالى ، مِن أهْل مرو ..
مِن مصنَّفاته : البرهان ، الاصطلام ، القواطع في أصول الفقه .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 489 هـ .
النجوم الزاهرة 5/160 والبداية والنهاية 12/153
(6) قواطع الأدلّة 1/174
(7) القاضي أبو يعلى : هو محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء الحنبلي رحمه الله تعالى ..
مِن مصنَّفاته : أحكام القرآن ، إيضاح البيان ، المعتمد ، مسائل الإيمان .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 458 هـ .
طبقات الحنابلة /377 - 388 والنجوم الزاهرة 5/78
بعض الجملة بحُكْم ) (1) .
شَرْح التعريف :
( تمييز ) : كالجنس في التعريف ، يَشمل المُعَرَّف وغيْره ، والمراد به الفصل والتجنيب .
( بعض الجملة مِن الجملة ) : قيْد أول ، خرج به العامّ والنسخ ؛ فإنّه يَتناول جميع الأفراد ، والمراد تمييز بعض جملة أفراد العامّ مِن بعض آخَر ، أيْ خروجه منها مِن حيث عدم تناوُل الحُكْم أي المحكوم به (2) .
وهذا التعريف الذي اختاره الشّيرازيّ ـ رحمه الله تعالى ـ في " التبصرة " اتَّضَح لي بَعْد البحث والتدقيق ما يلي :
1- أنّ الشّيرازيّ ـ رحمه الله ـ قَصَد به تعريف التخصيص مُطْلَقاً ، أمّا تعريف تخصيص العامّ فقدْ تَقَدَّم ذِكْره ، ولِذا فإنّه فَرَّق بَيْن تعريف التخصيص وتخصيص العموم .
2- أنّ ابن السّمعانيّ تَبِع الشّيرازيّ ـ رحمهما الله ـ حينما فَرَّق بَيْن تعريف التخصيص وتخصيص العموم ، وعَرَّفه باعتبار الإطلاق نحْو تعريف الشّيرازيّ ـ رحمه الله ـ المتقدِّم ، وعَرَّفه باعتبار التقييد وهو تخصيص العموم بأنّه ( بيان ما لم يَرِدْ باللفظ ) ، وكذا نهج القاضي أبو يعلى رحمه الله تعالى (3) .(1/10)
3- أنّ إمام الحرميْن رحمه الله عَرَّف التخصيص بالتعريف المتقدِّم وخالَف صاحبيْه ـ رحمهما الله ـ حينما انفرَد بجعله لِتخصيص العموم وليس لِتعريف التخصيص مُطْلَقاً .
(1) العدّة 1/93
(2) يُرَاجَع حاشية النفحات /80
(3) يُرَاجَع العدّة 1/93
4- أنّ هذا التعريف الذي ذَكَره الشيرازي ـ رحمه الله تعالى ـ لِتعريف التخصيص مُطْلَقاً وما شاكَله مِن التعريفات وكذا تعريف ابن السمعاني ـ رحمه الله تعالى ـ لِتخصيص العموم لا يَسْلَم واحد منها مِن الاعتراض والمناقشة ؛ لأنّه غيْر مانِع مِن دخول النسخ فيه ؛ لأنّه فيه تمييز بعض الجملة مِن الجملة ، وبيان ـ أيضاً ـ لِمَا لم يَرِدْ باللفظ .
التعريف الرابع : لابن الحاجب (1) رحمه الله تعالى ..
وهو : ( قَصْر العامّ على بعض مسمّياته ) (2) .
واختاره ابن عبد الشكور (3) رحمهما الله تعالى (4) .
ونحْوه تعريف ابن السبكي (5) رحمهما الله تعالى ، وهو : ( قَصْر العامّ
(1) ابن الحاجب : هو جمال الدين أبو عمرو عثمان بن عُمَر بن أبي بَكْر بن يونس المالكي رحمه الله تعالى ، وُلِد في إسنا سَنَة 570 هـ ..
مِن تصانيفه : المقصد الجليل في عِلْم الخليل ، الإيضاح ، مختصر منتهى السول والأمل .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالإسكندرية سَنَة 646 هـ .
سِيَر أعلام النبلاء 13/287 والفتح المبين 2/67 ، 68
(2) مختصر المنتهى 2/129
(3) ابن عبد الشكور : هو محِبّ الله بن عبد الشكور البهاري الهندي الحنفي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ..
مِن مصنَّفاته : مُسَلَّم الثبوت ، سُلَّم العلوم في المنطق .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 1119 هـ .
الفتح المبين 3/122
(4) يُرَاجَع مُسَلَّم الثبوت 1/300
(5) تاج الدين السبكي : هو أبو نصْر عبد الوهاب بن علِيّ بن عبد الكافي بن علِيّ بن تمّام بن يوسف ابن موسى السبكي الشافعي رحمه الله ، الملقَّب بـ" قاضي القضاة " ، وُلِد بالقاهرة سَنَة 727 هـ ..(1/11)
مِن مصنَّفاته : شرْح مختصر ابن الحاجب ، الإبهاج ، جَمْع الجوامع في أصول الفقه ، طبقات الشّافعيّة الكبرى .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 771 هـ .
الفتح المبين 2/192
على بعض أفراده ) (1) .
وزاد الحنفيّة قيداً على هذا التعريف حتى يَكون مقبولاً ، وهو : ( قَصْر العامّ على بعض أفراده بدليل مستقِلّ ) (2) .
شَرْح التعريف :
( قَصْر ) : كالجنس في التعريف ، يشمل المُعَرَّف وغيْره .
( العامّ ) : قيْد أول ، خرج به قَصْر غيْر العامّ ؛ فلا يُسَمَّى " تخصيصا " .
( على بعض مسمّياته ) : قيْد ثانٍ ، خرج به النسخ ؛ فإنّه رفْع لِكُلّ مسمّياته .
وأَرَى أنّ القيد الذي زاده الحنفيّة ( بدليل مستقِلّ ) محلّ نظر ؛ لأنّه مبنيّ على مذهبهم ، وهو عدم تسمية ما قصر بدليل غيْر مستقِلّ " تخصيصاً " ( الاستثناء ، والشرط ، والصفة ، والغاية ) ، كما أنّ التخصيص لا يَتِمّ إلا بدليل ؛ لأنّ العامّ إذا وَرَد فإنّه يبقى على عمومه ، فإنْ وَرَد دليل التخصيص خصَّصْناه ، ولِذا كان هذا القيد تحصيلاً لِلحاصل وإقراراً لِلواقع .
أمّا القيد الثاني ، وهو أنْ يَكون الدليل مستقِلاًّ أيْ منفصِلاً ، ولِذا إنْ كان متصلاً فليس تخصيصاً ، وأرى أنّ تَحَقُّق التخصيص في المتصل يساوي تَحَقُّقه في المنفصِل إنْ لم يَكُنْ أَوْلَى ؛ لأنّه مرتبِط ومُقارِن لِلكلام ، ولِذا لا يَكون محلاًّ لِلريبة والشّكّ في تخصيص هذا العموم الذي لم نقف على دليل تخصيصه وقدْ يَكون موجوداً فِعلاً .
(1) جَمْع الجوامع مع حاشية البناني 2/2
(2) يُرَاجَع : كشْف الأسرار مع أصول البزدوي 1/301 والمنار مع حاشية نسمات الأسحار /71 والتنقيح مع التوضيح 1/64 ، 68 وفواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/300
مناقَشة هذا التعريف :
وقدْ نوقش هذا التعريف مِن وجوه :
الوجه الأول : أنّ ما كان خارج القَصْر فإنّ الخطاب لم يتناوله ، ولِذا كان التعريف غيْر جامِع .
الجواب عن هذا الوجه :(1/12)
وقدْ رُدَّت هذه المناقَشة : بأنّ المراد ما يَتناوله الخطاب بتقدير عدم المخصِّص : كقولهم " خصّص العامّ " و" هذا عامّ مخصَّص " ، ولا شكّ أنّ المخصّص ليس بعامّ ، لكن المراد به كوْنه عامّاً لولا تخصيصه .
الوجه الثاني :
أنّ التعريف فيه دَوْر ؛ لأنّه تعريف لِلتخصيص بالخصوص ، والأَوْلى أنّه ليس أَعْرَف منه ، بلْ هو مِثْله في الجلاء والخفاء ؛ فإنّ مَن عرف حصول الخصوص عرف تحصيل الخصوص ، وبالعكس .
الجواب عن هذا الوجه :
وقدْ رُدَّت هذه المناقَشة : بأنّ المراد بالتخصيص المحدود : التخصيص في الاصطلاح ، وبالخصوص المذكور في الحدّ هذا الخصوص في اللغة ، فتَغَايَرَا ، فلا دوْر ولا تَساوِي في الجلاء ؛ لأنّ اللّغويّ قدْ عُرف والاصطلاحيّ بَعْد لم يُعرف (1) .
الوجه الثالث : أنّ التعريف غيْر مانِع ؛ لِشموله قَصْره بَعْد دخول وقْت العمل ، مع أنّه ـ حينئذٍ ـ نسْخ لا تخصيص .
الجواب عن هذا الوجه :
وقدْ رُدَّت هذه المناقَشة : بأنّ هذا التعريف مِن باب التعريف بالأعمّ ،
(1) يُرَاجَع التلويح 2/129 ، 130
وقدْ أجازه المتقدِّمون (1) .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على بعض تعريفات التخصيص عند الأصوليّين يمكِن التوصل إلى ما يلي :
1- أنّه أَمْكَن حصْر أجناسها فيما يلي :
أ- ( إخراج ) ، وهو مَصْدَر " خرج " ، وهو نقيض الدخول (2) .
ب- ( تمييز ) ، وهو مَصْدَر " " ماز الشيء " عَزَله وفَرَزه (3) .
جـ- ( قَصْر ) ، وهو مَصْدَر " قصر " ، وهو الحبس (4) .
2- أنّ التعريفات التي جِنْسها ( إخراج ) لا تَمنع دخول النسخ فيها ، حتى وإنْ منعَت ذلك بَعْد إضافة ( بعض ) فإنّها غيْر مانعة مِن دخول النسخ بَعْد العمل .(1/13)
3- أنّ التعريف الأول عندما أَطْلَق الخطاب كان أهلاً لِدخول غيْر المُعَرَّف فيه ، أمّا التعريف الثاني فإنّه قَيَّده وحصَره في اللفظ العامّ بدليل ، ولِذا كان أَكْثَر قيوداً مِن التعريف الأول وأَشَدّ منعةً منه لِدخول الغيْر فيه .
4- أنّ التعريف الثالث الذي جِنْسه ( تمييز ) معناه مُناسِب ومُلائِم لِتعريف
التخصيص ؛ لأنّ التخصيص فيه عزْل وفَرْز لِلخاصّ مِن العامّ ، لكنّ باقي قيوده أتت هي الأخرى بصيغة الإطلاق والعموم ( بعض الجملة مِن الجملة بحُكْم أو معنى ) فتَشمل التخصيص وغيْره .
5- أنّ التعريف الرابع الذي جِنْسه ( قَصْر ) معناه مُلائِم ـ أيضاًـ لِمعنى
(1) يُرَاجَع حاشية البناني 2/2
(2) يُرَاجَع لسان العرب 4/52
(3) يُرَاجَع مختار الصحاح /370
(4) يُرَاجَع مختار الصحاح /315
التخصيص ؛ لأنّ فيه معنى الجنس والعزل ، وقيوده ( العامّ على بعض مسمّياته ) ـ أيضاً ـ أتت صريحةً في بيان محلّ القَصْر وهو العموم ، وليس الخطاب أو الجملة كما تَقَدَّم .
6- أنّ التعريف الأَوْلى بالقبول والترجيح هو التعريف الرابع ، لكنّي قَدَّمْتُ تعريف ابن السبكي على تعريف ابن الحاجب ـ رحمهم الله تعالى ـ لأنّه أَشَدّ توثيقاً حينما جَعَل محلّ التخصيص أفراد العامّ وليس مسمّياته ؛ لأنّ مسمَّى العامّ واحد ، وهو كُلّ الأفراد .
ومِمّا تَقَدَّم يَكون تعريف التخصيص الراجح عندي هو : ( قَصْر العامّ على بعض أفراده ) .
ثالثاً : شروط التخصيص
وعلى ضوء الوقوف على تعريفات التخصيص عند الأصوليّين واختيار التعريف الراجح ـ وهو ( قَصْر العامّ على بعض أفراده ) ـ يمكِن استنباط شروط التخصيص وحصْرها فيما يلي :
الشرط الأول : وجود العامّ ، سواء أكان وجوده قَبْل وجود التخصيص أم بَعْده أم مُقْتَرِناً به .
الشرط الثاني : بقاء واحد أو جمْع مِن العامّ المخصَّص .
الشرط الثالث : وجود دليل يدلّ على هذا التخصيص .
رابعاً : أركان التخصيص(1/14)
وعلى ضوء ما تَقَدَّم ـ أيضاً ـ يمكِن استخراج أركان التخصيص وحصْرها فيما يلي :
الركن الأول : مُخَصِّص ( بالكسر ) اسم الفاعل ..
ويُطْلَق مَجازاً على الدليل أو المفيد لِلتخصيص ، أي اللفظ لِذلك .
الركن الثاني : مُخَصَّص ( بالفتح ) اسم مفعول ..
وهو العامّ الذي دَخَله التخصيص .
الركن الثالث : تخصيص ..
وهو الفعل نَفْسه الذي على ضوئه تَظْهَر نتيجة التخصيص .
المطلب الثاني
الفَرْق بَيْن التخصيص
والخاصّ والخصوص والمُخَصّص
بَعْد الوقوف على تعريف التخصيص وجب علينا أنْ نحدِّد العلاقة بَيْنه وبَيْن بعض المصطلحات المُتَّفِقة معه في الأصل اللّغويّ ، والتي استخدمها بعض الأصوليّين في هذا المقام ؛ لأنّ منهم مَن عَبَّر بـ" الخاصّ " (1) ، ومنهم مَن عَبَّر بـ" الخصوص " (2) ، ومنهم مَن عَبَّر بـ" التخصيص " (3) ، إضافةً إلى " المُخَصّص " بالفتح وبالكسر .
وأبدأ مستعيناً بالله تعالى في بيان ذلك ..
أوّلاً : الخاصّ
إنّ الناظر في كُتُب الأصول يرى أنّ الحنفيّة الأكثر استعمالاً لِهذا المصطلَح " الخاصّ " ، إضافةً إلى بعض الأصوليّين مِن غيْرهم .
وأَستعرِض فيما يلي بعض هذه التعريفات :
التعريف الأول : لِلشاشي (4) رحمه الله تعالى ..
(1) يُرَاجَع : الورقات /73 ، 80 والمستصفى /224 والإحكام لِلآمدي 2/195 وأصول الشاشي /17 والمنار مع حاشية نسمات الأسحار /16 ، 68 ومُسَلَّم الثبوت 1/255
(2) يُرَاجَع : البرهان 1/220 وقواطع الأدلّة 1/282 والتبصرة /149 والإبهاج 2/119 ونهاية السول 2/56 والتمهيد لِلكلوذانيّ 2/5 ، 71
(3) يُرَاجَع : مختصر المنتهى 2/129 وشَرْح طلعة الشمس 1/143 ، 144
(4) الشاشي : هو أبو بَكْر محمد بن علِيّ بن إسماعيل القفّال الكبير الشاشي الشافعي رحمه الله تعالى =
وهو : ( لفْظ وُضِع لِمعنى معلوم أو لِمُسَمَّى معلوم على الانفراد ) (1).(1/15)
ونحْوه تعريف السرخسي (2) رحمه الله تعالى ، وهو : ( كُلّ لفْظ موضوع لِمعنى معلوم على الانفراد ، وكل اسم لِمسمَّى معلوم على الانفراد ) (3) .
ونحْوه تعريف البزدوي (4) رحمه الله تعالى ، وهو : ( كُلّ لفْظ وُضِع لِمعنى واحد على الانفراد وانقطاع المشارَكة ) (5) .
وقريب منه تعريف النسفي (6) رحمه الله تعالى ، وهو : ( كُلّ لفْظ
= وُلِد بشاش سَنَة 291 هـ ، كان يَمِيل إلى الاعتزال في أوَّل حياته العِلْمِيَّة ..
مِن مصنَّفاته : كتاب في الأصول ، شرْح الرسالة ، دلائل النُّبُوّة .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بشاش سَنَة 365 هـ .
طبقات الشّافعيّة الكبرى 2/176 شذرات الذهب 3/51 والفتح المبين 1/212 ، 213
(1) أصول الشاشي /13
(2) السرخسي : هو شمْس الأئمّة أبو بَكْر محمد بن أحمد بن أبي سهْل الحنفي رحمه الله تعالى ..
مِن مصنَّفاته : المبسوط في الفقه ، أصول السرخسي .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 483 هـ .
الفوائد البهيّة /158 والجواهر المضيئة 2/28
(3) أصول السرخسي 1/124
(4) فخْر الإسلام البزدوي : هو علِيّ بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى ابن مجاهد الحنفي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 400 هـ ..
مِن مصنَّفاته : كنْز الوصول إلى معرفة الأصول ، غناء الفقهاء ، شرْح الجامع الصغير والكبير .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 482 هـ .
معجم البلدان لِياقوت 2/54 ومفتاح السعادة /12
(5) أصول البزدوي مع كشْف الأسرار 1/30
(6) النسفي : هو أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي رحمه الله تعالى ، الملقَّب بـ" حافظ الدين " ، الفقيه الحنفي الأصولي ..
مِن مصنَّفاته : تفسير النسفي ، منار الأنوار . =
وُضِع لِمعنى معلوم على الانفراد ) (1) .
شَرْح التعريف :
( لفْظ ) : كالجنس في التعريف ، وهو عامّ في جميع الألفاظ المستعمَلة والمهمَلة .
( وُضِع لِمعنى ) : قيْد أول ، خرج به المهمَل ؛ فإنّه ليس له معنى .(1/16)
( معلوم ) : قيْد ثانٍ ، خرج به المشترك ؛ لأنّه غيْر معلوم المراد .
( على الانفراد ) : والمراد به كوْن اللفظ متناوِلاً لِمعنى واحد مع قَطْع النظر عن أنْ تَكون في الخارج لِهذا اللفظ أفراد أو لم تَكُنْ ، وهو قيْد ثالث خرج به المشترك والعامّ (2) .
التعريف الثاني : لِلتفتازاني (3) رحمه الله تعالى ..
وهو : ( لفْظ وُضِع لِواحد أو لِكثير محصور وضعاً واحدا ) (4) .
التعريف الثالث : لِلزركشي (5) رحمه الله تعالى ..
= تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 710 هـ ببلدته أيذج ، وبها دُفِن .
الفتح المبين 2/112
(1) المنار مع حاشية الأسحار /16 ، 17
(2) عمدة الحواشي على أصول الشاشي /15 ، 16 بتصرف .
(3) التفتازاني : هو سعْد الدين مسعود بن عُمَر بن عبد الله التفتازاني رحمه الله تعالى ، العلاّمة الشافعي ، وُلِد بتفتازان سَنَة 712 هـ ..
مِن تصانيفه : التلويح في كشْف حقائق التنقيح ، شرْح الأربعين النووية في الحديث .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بسمرقند سَنَة 791 هـ .
الدرر الكامنة 1/545 والفتح المبين 2/216
(4) التلويح 1/59
(5) الزركشي : هو بدْر الدين أبو عبد الله محمد بن بهادر بن عبد الله التركي المصري الزركشي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بمصر سَنَة 745 هـ ..
مِن مصنَّفاته : البحر المحيط ، تشنيف المسامع . =
وهو : ( اللَّفظ الدّالّ على مُسَمّى واحد ، أو ما دلّ على كثرة مخصوصه ) (1) .
ثانياً : الخصوص
عَرَّف الأصوليّون الخصوص بتعريفات عدة ، أَذكر منها ما يلي :
التعريف الأول : لِلسرخسي رحمه الله تعالى ..
وهو : ( الانفراد وقَطْع الاشتراك ) ..
ولِذا قال :" فإذا أريدَ به خصوص الجنس قيل " إنسان " ، وإذا أريدَ به خصوص النوع قيل " رَجُل " ، وإذا أريد به خصوص العيْن قيل " زيْد " " ا.هـ (2) .
التعريف الثاني : لِلزركشي رحمه الله تعالى ..
وهو : ( كوْن اللفظ متناولاً لِبعض ما يَصْلُح لا لِجميعه ) (3) .(1/17)
التعريف الثالث : لِلكلوذاني (4) رحمه الله تعالى ..
وهو : ( ما وُضِع لِشيء واحد ) (5) .
= تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 794 هـ .
الفتح المبين 2/218
(1) البحر المحيط 3/240
(2) أصول السرخسي 1/125
(3) البحر المحيط 3/240
(4) أبو الخطاب الكلوذاني : هو محفوظ بن أحمد بن الحَسَن بن أحمد الكلوذاني البغدادي الحنبلي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 432 هـ ، بَرَع في مذهب الحنابلة وعِلْم الخلاف والفرائض ..
مِن مصنَّفاته : الهداية في الفقه ، التهذيب في الفرائض .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 510 هـ .
الفتح المبين 2/11
(5) التمهيد 2/71
ثالثاً – المُخَصّص
المُخَصَّص ( بفتح الصّاد ) : اسم مفعول ، وهو العامّ الذي أُخْرِج عنه البعض .
المُخَصِّص ( بكسرها ) : اسم فاعِل ، وهو المُخْرِج ، والمُخْرِج حقيقةً هو إرادة المُتَكَلِّم ، ويقال لِللّفظ الدّالّ عليها مَجازاً ؛ إطلاقاً لاسم المتعلق على المتعلق ، فيقال : السُّنَّة تُخَصِّص الكتاب (1) .
وذكَر الفخر الرازي أنّ المُخَصِّص يقال بالمَجاز على شيْئيْن :
أحدهما : مَن أقام الدلالة على كوْن العامّ مخصوصاً في ذاته .
الثاني : مَن اعتقَد ذلك أو وصَفه به ، كان ذلك الاعتقاد حقّاً أو باطلا (2) .
وقال الآمدي (3) رحمه الله تعالى :" والمُعَرِّف لِذلك ( التخصيص ) بأيّ طريق كان يُسَمَّى " مُخَصِّصاً " ، واللفظ المصروف عن جهة العموم إلى الخصوص " مُخَصَّصا " " ا.هـ (4) .
مثال ذلك : قوله تعالى { وَالْمُطَلَّقَتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَثَةَ قُرُوء } (5) فإنّه عامّ في كُلّ مُطَلَّقة ، وقدْ وَرَد تخصيص هذا العموم في قوله تعالى
(1) يُرَاجَع : منهاج الوصول مع نهاية السول 2/76 – 79 ومناهج العقول 2/76 ، 77 والبحر المحيط 3/240 ، 241 والإبهاج 2/119 وشَرْح المنهاج 1/362
(2) المحصول 1/396 ، 397(1/18)
(3) سيف الدين الآمدي : هو أبو الحَسَن علِيّ بن أبي علِيّ محمد بن سالم التغلبي الأصولي رحمه الله تعالى ، وُلِد بآمد سَنَة 551 هـ ، نشأ حنبليّاً ، وتَمَذهَب بمذهب الشّافعيّة ..
مِن مصنَّفاته : الإحكام في أصول الأحكام ، منتهى السول في الأصول ، لباب الألباب .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 631 هـ .
البداية والنهاية 13/140 وطبقات الشّافعيّة الكبرى 5/129 والفتح المبين 2/58
(4) الإحكام لِلآمدي 2/282
(5) سورة البقرة مِن الآية 228
{ وَأُولَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ } (1) ، ولِذا يَكون النّصّ الأول مُخَصَّصاً والثاني مُخَصِّصا .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على بعض تعريفات الخاصّ والخصوص والتخصيص عند الأصوليّين فإنّه يمكِن التوصل إلى ما يلي :
1- أنّ الواضح مِن خلال شَرْح تعريف الخاصّ عند الحنفيّة أنّهم لم يَقصدوا به التخصيص ؛ لأنّهم لو قصدوه سيقعون ـ حينئذٍ ـ في حرج ، وهو مخالَفة أصولهم حينما اشترَطوا في التخصيص أنْ يَكون بدليل مستقِلّ وتعريفهم لِلخاصّ ـ كما رأَيْنا ـ لم يُفَرِّق بَيْن خاصّ بدليل مستقِلّ وبَيْن خاصّ لم يُخَصَّص بدليل غيْر مستقِلّ .
2- أنّ غيْر الحنفيّة عندما عَرَّف الخاصّ قصدوا ـ فيما أرى ـ ما ذهب إليه الحنفيّة ، وهو مُقابِل العامّ ، ولِذا فَرَّق بعضهم بَيْن الخاصّ والتخصيص ..
وفي ذلك يقول إمام الحرميْن رحمه الله تعالى :" والخاصّ يقابِل العامّ والتخصيص تمييز بعض الجملة " ا.هـ (2) .
ويقول الزركشي رحمه الله تعالى :" مَباحث الخاصّ والخصوص والتخصيص " ا.هـ (3) .
3- أنّ التخصيص هو المقصود عند الأصوليّين ، ولِذا فإنّا نرى الكثرة منهم تُدْرِجه ضِمْن مَسائل العموم أو العامّ الذي دَخَله التخصيص ..
وفي ذلك يقول الزركشي رحمه الله تعالى :" وأمّا التخصيص ـ وهو
(1) سورة الطلاق مِن الآية 4
(2) الورقات /80
(3) البحر المحيط 3/240(1/19)
المقصود بالذِّكْر ـ فهو لغةً : الإفراد ، ومنه الخاصّة ، واصطلاحاً قال ابن السمعاني ( تمييز بعض الجملة بالحُكْم ) ، وتخصيص العامّ : بيان ما لم يَرِدْ بلفظ العامّ " ا.هـ (1) .
4- أنّ الخاصّ قدْ يأتي بمُفْرَده وله أحكامه الخاصّة ، وقدْ أَحْسَن الحنفيّة صنعاً حينما قَدَّموه على العامّ ؛ لأنّه بمنزلة المُفْرَد ، والعامّ بمنزلة المُرَكَّب والمُفْرَد مُقَدَّم على المُرَكَّب ، كما قسّموه (2) إلى : أمْر ونهْي ومُطْلَق ومقيّد وعَدَد (3) ..
أمّا التخصيص : فإنّه لا محلّ له إلا إذا وُجِد العامّ ، ولِذا كان محلّه عند غيْر الحنفيّة عقب مَسائل العامّ .
5- أنّ تعريفات الخاصّ التي تَقَدَّم ذِكْر بعض منها مُتَّفِقَة في المعنى اللّغويّ مع الخصوص والتخصيص ، وهو الانفراد بالشيء ، وإنْ كانت مختلفةً في المعنى والموقع عند الأصوليّين كما رأَيْنا .
6- أنّ الخصوص جَعَله البعض مُرادِفاً لِلتخصيص ..
وفي ذلك يقول البدخشي (4) رحمه الله تعالى :" الفصل الثاني في الخصوص ، أي التخصيص وأحكامه " ا.هـ (5) .
والبعض جعله مُرادِفاً لِلخاصّ ، كما فَعَل السرخسي حينما عَرَّفه بأنّه
(1) البحر المحيط 3/241 ويُرَاجَع قواطع الأدلّة 1/174
(2) يراجَع عمدة الحواشي /15
(3) يراجَع : التحرير مع التيسير 1/185 ، 186 وحاشية نسمات الأسحار /16 وشَرْح طلعة الشمس 1/33
(4) البدخشي : هو محمد بن الحَسَن البدخشي الحنفي رحمه الله تعالى ..
مِن مصنَّفاته : مناهج العقول .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 922 هـ .
معجَم المؤلِّفين 9/99
(5) مناهج العقول 1/75
( الانفراد وقَطْع الاشتراك ) (1) .
وقال الكلوذاني ـ رحمه الله تعالى ـ في ذلك :" قولنا " خاصّ وخصوص " عبارة عمّا وُضِع لِشيء واحد ، وقولنا " هذا الكلام مخصوص " معناه أنّه قصر على بعض فائدته وكان غرض المتكلِّم به بعض ما وُضِع له " ا.هـ (2) .(1/20)
وفَرَّق بعضهم بَيْن الخاصّ والخصوص فقال : الخاصّ يَكون فيما يراد به بعض ما ينطوي عليه لفْظه بالوضع ، والخصوص ما اختصّ بالوضع لا بإرادة .
وقيل : الخاصّ ما يتناول أمراً واحداً بنَفْس الوضع ، والخصوص أنْ يَتناول شيئاً دون غيْره وكان يصحّ أنْ يَتناوله ذلك الغيْر ، وبهذا يَكون الخصوص مُرادِفاً لِلتخصيص .
7- أنّ الراجح عندي هو : تعريف الخاصّ بأنّه ( لفْظ وُضِع لِواحد أو لِكثير محصور وضعاً واحداً ) ، وهو تعريف التفتازاني رحمه الله تعالى ، وأنّ الخصوص هو ( كوْن اللفظ متناولاً لِبعض ما يَصْلُح له لا لِجميعه ) ، وهو تعريف الزركشي رحمه الله تعالى .
8- أنّ تعبير " التخصيص " هو الأَوْلَى عندي مِن هذين المصطلَحيْن " الخصوص " و" الخاصّ " ؛ وذلك لأنّ التخصيص هو الفعل نَفْسه الذي يَجمع بَيْن الدليليْن العامّ والخاصّ لِيَقصر الحُكْم على بعض أفراد العامّ ، ولِذا فنحن نقول ـ مَثَلاً ـ " تخصيص الكتاب بالكتاب " و" تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة " ولا نقول " خصوص " ولا " خاصّ " .
(1) يُرَاجَع أصول السرخسي 1/125
(2) التمهيد لِلكلوذاني 2/71
المطلب الثالث
الفَرْق بَيْن التخصيص والنسخ
أوّلاً : تعريف النسخ
والنسخ في اللغة : يُطْلَق على مَعانٍ ..
منها : النقل والتحويل ، ومنه " نسَخَت النحلُ العسلَ " أيْ حَوَّلَتْه ونَقَلَتْه مِن خليّة إلى خليّة أخرى .
ومنها : الإزالة ، ومنه " نَسَخَت الشمسُ الظِّلَّ وانتسخَتْه " أزالته ، أيْ أَذهبَت ظِلّه وحَلَّت محلّه .
ومنها : الرفع ، ومنه " نَسَخَت الظِّلّ " إذا ذهبَت به (1) .
والنسخ اصطلاحاً : عَرَّفه ابن الحاجب رحمه الله تعالى بأنّه : ( رفْع الحُكْم الشّرعيّ بدليل شرعيّ متأخِّر ) (2) .
وتَبِعه في ذلك كثير مِن الأصوليّين (3) .
شَرْح التعريف :
( رفْع ) : كالجنس في التعريف ، يشمل كُلّ رفْع ، سواء كان رفْع حُكْم أو غيْره .(1/21)
(1) يُرَاجَع : لسان العرب 3/61 ومختار الصحاح /681 والكُلِّيّات /892 والمصباح المنير 2/602 603
(2) مختصر المنتهى 2/185
(3) يُرَاجَع : التمهيد لِلكلوذاني 2/336 وجَمْع الجوامع مع حاشية البناني 2/74 ، 75 وشَرْح مختصر الروضة 2/261 والبحر المحيط 4/64 وشَرْح الكوكب المنير 3/526 وشَرْح طلعة الشمس 1/269
( الحُكْم ) : قيْد أول ، خرج به رفْع ما ليس حُكْماً ؛ فلا يُسَمَّى " نسخاً " كما دخل فيه رفْع كُلّ حُكْم ، شرعيّاً كان أم غيْر شرعيّ .
( الشّرعيّ ) : قيْد ثانٍ ، خرج به رفْع حُكْم البراءة الأصليّة ؛ لأنّه ليس بحُكْم شرعيّ .
( بدليل شرعيّ ) : قيْد ثالث ، خرج به رفْع الحُكْم الشّرعيّ بدليل عقليّ : كسقوط التكليف عن النائم والناسي ؛ فالعقل يقضي بأنّهما ليسا أهلاً لِلتكليف ، وليس حديث { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَث ... } (1) ؛ فإنّما هو دليل على أنّ الرافع هو النوم والنسيان ، وليس رافعاً لِلحُكْم .
( متأخِّر ) : قيْد رابع ، خرج به رفْع الحُكْم الشّرعيّ بدليل مُقارِن : كالرفع بالاستثناء أو الغاية أو الشرط ؛ فإنّه تخصيص وليس نسْخا (2) .
ولَمّا كان هناك جامِع بَيْن النسخ والتخصيص في أنّ كُلاًّ منهما رفْع أو قَصْر ؛ لكنّ هناك فروقاً بَيْنهما ، أَذكرها فيما يلي ..
ثانياً : الفَرْق بَيْن التخصيص والنسخ
وبَعْد الوقوف على تعريفَي التخصيص والنسخ يتضح أنّ كُلّ واحد منهما فيه رفْع أو قَصْر لِلحُكْم أو بعضه ، وهو الجامع بَيْنهما ..
غيْرَ أنّهما يَفترقان في وجوه ، أَذكر منها ما يلي :
الأول : أنّ التخصيص قدْ يَكون بأدلة العقل ، ويقع بالإجماع ..(1/22)
(1) أَخْرَجه الترمذي في كتاب الحدود عن رسول الله : باب ما جاء فيمَن لا يجب عليه الحدّ عن عَلِيّ كَرَّم الله وجْهه برقم ( 1343 ) ، والنسائي في كتاب الطلاق : باب مَن لا يقع طلاقه من الأزواج برقم ( 3378 ) وأبو داود في كتاب الحدود : باب في المجنون يَسْرِق أو يصيب حَدّاً برقم ( 3822 ) كلاهما عن السيدة عائشة رضي الله عنها ، ونَصّه عند النسائي : { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ : عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِل } أَو { يُفِيق } .
(2) يُرَاجَع : شَرْح المَحَلِّيّ مع حاشية البناني 2/74 ، 75 وشَرْح العضد مع حاشية السعد 2/185
أمّا النسخ فإنّه لا يَكون إلا بدليل نقْليّ ، ولا يقع بالإجماع .
الثاني : أنّ التخصيص لا يجوز تأخيره عن وقْت العمل بالمخصوص اتِّفَاقاً ..
أمّا النسخ فيجوز تأخيره عن وقْت العمل بالمنسوخ .
الثالث : أنّه لا يجوز تخصيص شريعة بأخرى ..
أمّا النسخ فإنّه يجوز بَيْن شريعة وشريعة .
الرابع : أنّ التخصيص لا يَكون إلا لِبعض الأفراد ..
أمّا النسخ فإنّه يَكون لِكُلّ الأفراد .
الخامس : أنّ التخصيص يجوز أنْ يَكون مقترِناً بالعامّ ومُقَدَّماً عليه ..
أمّا النسخ فيُشترَط تأخير الناسخ عن المنسوخ .
السادس : أنّ التخصيص يَتناول الأزمان والأعيان والأحوال ..
أمّا النسخ فإنّه لا يتناول الأزمان .
السابع : أنّ التخصيص لا يَكون إلا قَبْل العمل ؛ لأنّه بيان ، وتأخيره عن وقْت العمل لا يجوز ..
أمّا النسخ فإنّه يجوز قَبْل العمل وبَعْده .
الثامن : أنّ التخصيص لا يَرِد على الأمر بمأمور واحد ، نحْو : أَكْرِمْ زيداً ..
أمّا النسخ فإنّه يَرِد عليه .
التاسع : أنّ التخصيص لا بُدّ وأنْ يُبْقِي واحداً أو جَمْعاً مِن العامّ المُخَصَّص ..
أمّا النسخ فإنّه يجوز أنْ يَرفع جميع مدلول النّصّ .
العاشر : أنّ تخصيص الأمر فيه خلاف ..(1/23)
أمّا نسْخه فلا يجوز .
الحادي عشر : أنّ تخصيص المقطوع بالمظنون واقِع ..
أمّا النسخ فإنّه لا يَنسخ المظنون بالمقطوع .
الثاني عشر : أنّ التخصيص أَعَمّ ؛ لأنّه بيان ، والبيان لا يَستلزم رفْع الحُكْم ..
أمّا النسخ فإنّه أَخَصّ ؛ لأنّه رفْع لِلحُكْم ، ورفْعه يَستلزم البيان .
الثالث عشر : أنّ التخصيص يجوز بالقياس ..
أمّا النسخ فإنّه لا يجوز بالقياس .
الرابع عشر : أنّ التخصيص لا يدخل في غيْر العامّ ..
أمّا النسخ فإنّه يَرفَع حُكْم العامّ والخاصّ .
الخامس عشر : أنّ التخصيص يجوز في الأحكام والأخبار ..
أمّا النسخ فإنّه يختصّ بأحكام الشرع (1) .
(1) يُرَاجَع : المعتمد 1/234 والتلخيص 2/465 ، 466 والمستصفى /88 ، 89 والإحكام لِلآمدي 3/104 ، 105 والإبهاج 2/120 ، 121 والمحصول 1/397 والتنقيح مع التلويح 1/84 والتمهيد لِلكلوذانيّ 2/71 والبحر المحيط 3/243 – 245 وشَرْح مختصر الروضة 2/587 ، 588 ونهاية السول 2/77 ، 78 وإرشاد الفحول /142 ، 143 والنسخ وأثره في الفقه الإسلامي /28 ، 219
المطلب الرابع
الفَرْق بَيْن التخصيص والاستثناء
أوّلاً : تعريف الاستثناء
والاستثناء لغةً : استفعال مِن " الثَّنْي " ، وهو ردّ الشيء بعض على بعض ، مِن قوله " ثنيتُ الخيل أثنيه " إذا عطفْت بعضه على بعض " ، و" ثَنَيْتُه " ـ أيضاً ـ صَرَفْتُه عن حاجته (1) .
والاستثناء اصطلاحاً : عَرَّفه الفخر الرازي رحمه الله بأنّه : ( إخراج بعض الجملة مِن الجملة بلفظ " إلا " أو ما أقيمَ مقامه ) (2) .
شَرْح التعريف :
( إخراج ) : كالجنس في التعريف ، يشمل الاستثناء وغيْره مِن جميع المخصّصات ، كما يشمل النسخ أيضا .
( بعض الجملة ) : قيْد أول ، خرج به النسخ ؛ فإنّه رفْع لِلحُكْم وليس لِبعضه .
( مِن الجملة ) : قيْد ثانٍ ، خرج به إخراج بعض الجملة مِن غيْرها ، وهو الاستثناء المنقطِع .(1/24)
( بلفظ " إلا " ) : قيْد ثالث ، خرج به ما سِوَى الاستثناء مِن المخصّصات ، سواء كانت متصلةً أو منفصِلةً ؛ لأنّ الإخراج فيها ليس بـ" إلا " ونحْوها ، بل بأمْر آخَر .
(1) يُرَاجَع : لسان العرب 2/135 ، 136 ومختار الصحاح /102
(2) المحصول 1/406
( أو ما أقيمَ مقامه ) : قيْد رابع ، قُصِد به إدخال باقي أدوات الاستثناء ، نحْو : " خَلاَ " و" عَدَا " و" سِوَى " و" غيْر " و" حاشا " و" ليس " و" لا يَكون " (1) .
ولَمّا كان التخصيص إخراج بعض الجملة مِن الجملة ـ وهو مُتَحَقِّق في الاستثناء المتصل بقيْده المذكور ـ فالتخصيص أَعَمّ ، ولِذا وجب بيان الفَرْق بَيْنهما ، وهو ما سنوضِّحه فيما يلي ..
ثانياً : الفَرْق بَيْن التخصيص والاستثناء
ذَكَر الأصوليّون فروقاً بَيْن التخصيص والاستثناء ، أَذْكُر منها ما يلي:
الأول : لِلغزالي (2) رحمه الله تعالى ..
في قوله :" ويفارِق الاستثناءُ التخصيصَ في أنّه يُشترَط اتصاله ، وأنّه يَتطرق إلى الظاهر والنّصّ جميعاً ؛ إذ يجوز أنْ يقول " عشرة إلا ثلاثةً " كما يقول " اقتلوا المشرِكين إلا زيداً " ، والتخصيص لا يتطرق إلى النّصّ أصْلا " (3) .
الثاني : لابن قدامة (4) رحمه الله تعالى ..
(1) يُرَاجَع : مناهج العقول 2/93 ، 94 وأصول الفقه لِلشيخ زهير رحمه الله تعالى 2/272 ، 273
(2) الغزالي : هو زيْن الدين أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الشافعي رحمه الله تعالى ، حُجّة الإسلام ، فقيه أصوليّ صوفيّ حكيم متكلِّم ، وُلِد بالطابران بخراسان سَنَة 450 هـ .
مِن مصنَّفاته : إحياء علوم الدين ، المستصفى ، الوجيز .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 505 هـ .
الأعلام 7/247 وطبقات الشّافعيّة 1/249 - 264
(3) المستصفى /257 ويراجَع المنخول /163(1/25)
(4) ابن قدامة : هو أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصْر بن عبد الله المقدسي الدمشقي الحنبلي رحمه الله تعالى ، وُلِد بجماعيل سَنَة 541 هـ ..
مِن مصنَّفاته : المغني في الفقه ، الروضة في أصول الفقه . =
في قوله :" ويفارِق الاستثناءُ التخصيصَ بشيْئيْن :
أحدهما : في اتصاله .
والثاني : أنّه يتطرق إلى النّصّ : كقوله " عشرة إلا ثلاثةً " ، والتخصيص بخلافه " (1) .
الثالث : لابن العربي (2) رحمه الله تعالى ..
في قوله :" أنْ يَكون ( الاستثناء ) متصلاً بالكلام ، بخلاف التخصيص فإنّه يجوز أنْ يَرِد بَعْد سَنَة ..
وعُزِي إلى حَبْر الأُمَّة ابن عباس (3) رضي الله عنهما أنّ الاستثناء كالتخصيص ..
واحتجّوا له : بقوله تعالى { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانا } (4) ؛ نزلَت هذه الآية
= تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 620 هـ .
البداية والنهاية 13/134 والفتح المبين 2/54
(1) روضة الناظر 2/744
(2) ابن العربي : هو القاضي أبو بَكْر محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الأشبيلي المالكي رحمه الله تعالى ، وُلِد بأشبيليّة سَنَة 468 هـ ، فقيه أصوليّ ، أحد أئمّة المالكيّة ..
من مصنَّفاته : المحصول في عِلْم الأصول ، العواصم مِن القواصم ، أحكام القرآن .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمراكش ودُفِن بفاس سَنَة 543 هـ .
وفيات الأعيان 1/489 والفتح المبين 2/28 - 30 وشجرة النّور الزَّكيّة /136(1/26)
(3) ابن عباس : هو حَبْر الأُمَّة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، ابن عمّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، دعا له النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال { اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيل } ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالطّائف سَنَة 68 هـ .
الإصابة 2/330 وشذرات الذهب 1/75
(4) سورة الفرقان الآيتان 68 ، 69
فلَمّا كان بَعْد سَنَة نزل قوله تعالى { إِلا مَن تَاب ... } (1) ..
وذلك بعيد ، والرواية غيْر صحيحة " (2) .
وبَعْد الوقوف على الفروق بَيْن التخصيص والاستثناء ـ والذي أَوردْتُ بعضاً منها فيما تَقَدَّم ـ يمكِن حصْرها فيما يلي :
الأول : أنّ التخصيص بغيْر الاستثناء يجوز أنْ يتراخى ولا يجب اتصاله ، أمّا الاستثناء فإنّه يجب اتصاله بالمستثنى منه ؛ لأنّ صيغة الاستثناء غيْر مستقلّة بنَفْسها ؛ لأنّها تابعة لِلمستثنى منه ، بخلاف التخصيص بغيْرها .
الثاني : أنّ التخصيص بغيْر الاستثناء لا يتطرق إلى النّصّ ، وإنّما يصحّ في العامّ ، ودلالته ظنِّيَّة ، أمّا الاستثناء فإنّه يتطرق إلى الظاهر والنّصّ جميعاً : كقوله " له علَيّ عشرة إلا ثلاثةً " وكقوله " اقتلوا المشرِكين إلا زيْدا " .
الثالث : أنّ التخصيص بيان لِمعنى اللفظ المُطْلَق حتى يبين أنّه المراد به ، أمّا الاستثناء فإنّه ليس بياناً ..
فإذا قال " له علَيّ عشرة إلا خمسةً " لا يبين أنّ العشرة أريدَ بها الخمسة ، ولكن العشرة لِلعشرة ، ولزوم الخمسة يتبين بتتمة الكلام .
ولفْظ " الناس " إذا خُصِّص بالعشرة تَبَيَّن أنّه المراد به عند الإطلاق ، ولكنّا تَبَيَّنّاه عند التخصيص (3) .
(1) سورة الفرقان مِن الآية 70
(2) المحصول لابن العربيّ 1/82 ، 83 ويُرَاجَع : اللُّمَع /22 والتمهيد لِلكلوذاني 2/73 - 75 والعدّة 1/552 وقواطع الأدلّة 1/437 والمسودة /152 والبرهان 1/270 ، 271(1/27)
(3) يُرَاجَع : المستصفى /257 والمنخول /163 والعدّة 2/660 وروضة الناظر 2/744 والمحصول لابن العربي 1/82 ، 83 والمدخل 1/253 ، 254
المبحث الثاني
حُكْم التخصيص والقابل له
وفيه مطلبان :
المطلب الأول : حُكْم التخصيص .
المطلب الثاني : القابل لِلتخصيص .
المطلب الأول
حُكْم التخصيص
والحديث في هذا المطلب أرى تقسيمه إلى ما يلي :
1- مرجعي في عنوان هذا المطلب .
2- مذاهب الأصوليّين في حُكْم التخصيص .
3- أدلة المذاهب مع المناقَشة والترجيح .
وأُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها فيما يلي :
أوّلاً : مرجعي في عنوان هذا المطلب
هذا العنوان اقتبستُه مِن تعبيرات الأصوليّين لِهذه المسألة ، وأَذكر منهم ما يلي :
1- الشيرازي رحمه الله تعالى ..
في قوله :" ويجوز دخول التخصيص في جميع ألفاظ العموم مِن الأمر والنهي والخبر " ا.هـ (1) .
2- الغزالي رحمه الله تعالى ..
في قوله :" لا نَعْلَم خلافاً بَيْن القائلين بالعموم في جواز تخصيصه بالدليل " ا.هـ (2) .
3- ابن الحاجب رحمه الله تعالى ..
(1) اللُّمَع /17
(2) المستصفى /245
في قوله :" مسألة التخصيص جائزة إلا عند شذوذ " ا.هـ (1) .
4- الآمدي رحمه الله تعالى ..
في قوله :" اتَّفَق القائلون بالعموم على جواز تخصيصه على أيّ حال كان مِن الأخبار والأمر وغيْره ، خلافاً لِشذوذ لا يُؤْبَه لهم في تخصيصه الخبر " ا.هـ (2) .
5- القاضي أبو يعلى رحمه الله تعالى ..
في قوله :" مسألة تخصيص الأخبار جائزة .. التخصيص يدخل في نحْو قوله " رأيتُ المشرِكين " كما يدخل في الأوامر " ا.هـ (3) .
6- ابن قدامة رحمه الله تعالى ..
في قوله :" لا نَعْلَم اختلافاً في جواز تخصيص العموم " ا.هـ (4) .
وبَعْد بحثي ودراستي لِهذه المسألة اتَّضَح لي ما يلي :(1/28)
1- أنّ كثيراً مِن الأصوليّين ـ ومنهم مَن تَقَدَّم ذِكْرهم ـ جعلوا موضوع هذه المسألة بيان حُكْم التخصيص ودخوله في ألفاظ العموم مِن الأمر والنهي والخبر .
2- أنّ مُعْظَمهم حَصَر الخلاف في تخصيص الخبر وجَعله محلّ نزاع بَيْن الجمهور وقلة ، وأضاف بعضهم محلاًّ لِلنزاع في تخصيص الأمر .
3- أنّ هناك فَرْقاً بَيْن هذه المسألة وبَيْن المسألة التي عَنْوَن لها بعض الأصوليّين بـ" ما يجوز تخصيصه وما لا يجوز " (5) أو " ما يجوز
(1) مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/130
(2) الإحكام لِلآمدي 2/212
(3) العدّة 2/595
(4) روضة الناظر 2/721
(5) يُرَاجَع : اللُّمَع /17 والمعتمد 1/235 والبرهان 2/12 والإحكام لِلآمدي 2/281 والمحصول 1/447 والتحصيل 2/367
تخصيصه " (1) ، وقدْ حصروا موضوع هذه المسألة ( العموم المخصَّص ) مِن جهة اللفظ ومِن جهة المعنى التي تشمل العِلّة ومفهوم الموافَقة ومفهوم المخالَفة (2) .
4- أنّ بعض الأصوليّين عَبَّر عن مسألة ما يجوز تخصيصه وما لا يجوز بـ" القابل لِلتخصيص " (3) ، منهم البيضاوي رحمه الله تعالى ومَن تَبِعه : كابن السبكي ـ رحمهما الله تعالى ـ في " جَمْع الجوامع " (4) .
5- أنّنا أصبحنا بَعْد هذا العرض أمام تعبيرات ثلاثة :
الأول : ما سبق إيراده عن الكثرة والذي بَيَّن حُكْم التخصيص دون أنْ ينصّ صراحةً على ذلك ، ويَندرج تحْته تخصيص الأمر والنهي والخبر .
الثاني : ما يجوز تخصيصه وما لا يجوز ، أو ما يجوز تخصيصه ، ويَندرج تحْته العموم المخصّص مِن جهة اللفظ ومِن جهة المعنى .
الثالث : القابل لِلتخصيص ، وهو تعبير مرادف لِلتعبير السابق .(1/29)
وعلى ضوء ما تَقَدَّم أرى أنْ أُعَبِّر عن المسألة الأولى بـ" حُكْم التخصيص " ؛ لأنّ تعبيرهم بالجواز دليل على ذلك ، وأنْ أُعَبِّر عن المسألة الثانية ـ والتي سيأتي ذِكْرها بإذن الله تعالى في المطلب التالي ـ بـ" القابل لِلتّخصيص " ؛ دفعاً لِلّبْس بَيْن المسألتيْن ؛ لأنّ تعبير الجواز قدْ يَكون مدعاةً لِتَوَهُّم أنّ محلّ المسألة الثانية هو حُكْم التخصيص ، وليس كذلك كما تَقَدَّم .
(1) البحر المحيط 3/252
(2) يُرَاجَع المحصول 1/398 ، 399
(3) يُرَاجَع : منهاج الوصول مع شَرْح المنهاج 1/362 ، 363 ونهاية السول 2/77
(4) يُرَاجَع جَمْع الجوامع مع حاشية البناني 2/2 ، 3
ثانياً : مذاهب الأصوليّين في حُكْم التخصيص
اختلَف الأصوليّون في حُكْم التخصيص على ثلاثة مذاهب :
المذهب الأول : جواز التخصيص ووقوعه في الخبر والأمر والنهي (1) .
وهو ما عليه الجمهور ، وهم الكثرة هُنَا إلا مَن شذّ وخالَف .
المذهب الثاني : عدم جواز تخصيص الخبر .
وهذا المذهب نسبه الشيرازي رحمه الله تعالى إلى بعض الشّافعيّة في قوله :" ومِن أصحابنا مَن قال : تخصيص الخبر لا يجوز " (2) .
وتَبِعه آل تيمية (3) ـ رحمهم الله تعالى ـ في " المسوّدة " فقال :" يدخل التخصيص الأخبار كالأوامر ، نصّ عليه ، وهو قول الجمهور ، ومَنَع منه
(1) يُرَاجَع : شَرْح اللُّمَع 2/7 والعدّة 2/595 والمستصفى /245 والإحكام لِلآمدي 2/282 والمسودة /130 وقواطع الأدلّة 2/339
(2) التبصرة /143
(3) آل تيمية : همْ مَجْد الدين ، وابنه شهاب الدين ، وابن ابنه تقيّ الدين رحمهم الله تعالى ..
أمّا مَجْد الدين فهو : أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحرّاني الحنبلي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ، وُلِد سَنَة 590 هـ ..(1/30)
مِن مصنَّفاته : الأحكام الكبرى ، منتهى الغاية شرْح الهداية ، أرجوزة في عِلْم القراءات ، المسوَّدة ( وقد زاد فيها ولده عبد الحليم ، وحفيده أحمد ) .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بحران سَنَة 652 هـ .
وأمّا شهاب الدين فهو : أبو المَحاسن عبد الحليم بن عبد السلام رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 627 هـ .. له تعاليق في الأصول ضمَّت فوائد جليلة ، ومصنَّفات في غيْر ذلك مِن العلوم .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 672 هـ .
وأمّا تقيّ الدين فهو : أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 661 هـ .
مِن مصنَّفاته : الصارم المسلول على شاتم الرسول ، فصْل المقال فيما بيْن الحكمة والشريعة مِن الاتصال ، الجواب الصحيح لِمَن بَدَّل دين المسيح .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 728 هـ .
شذرات الذهب 2/257 والفتح المبين 2/70 ، 71 ، 86 ، 134
بعضهم ، وهو مذهب الشّافعيّة وبعض الأصوليّين " (1) .
وأرى أنّ هذه النسبة إلى الشّافعيّة أو بعض الشّافعيّة ـ كما تَقَدَّم ـ محلّ نظر ؛ وذلك لِمَا يلي :
1- أنّ الشيرازي رحمه الله تعالى بَدَّل هذه النسبة في " اللُّمَع " وشرْحه في قوله :" ومِن الناس مَن قال : لا يجوز تخصيص الخبر " ا.هـ (2) .
2- أنّ آل تيمية رحمهم الله تعالى أَثْبَتوا هذه النسبة إلى الشّافعيّة بعبارة التضعيف في قولهم :" وقال قوم : لا يجوز تخصيص الخبر ، بخلاف الأمر " ا.هـ (3) .
3- أنّ هذا المذهب نَسَبَتْه الكثرة إلى شذوذ أو قوْم ، نَذكر منهم :
ابن الحاجب ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" التخصيص جائز إلا عند شذوذ " ا.هـ (4) .
والآمدي ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" خلافاً لِشذوذ لا يُؤْبَه لهم في تخصيصه الخبر " ا.هـ (5) .
وابن عبد الشكور ـ رحمهما الله تعالى ـ في قوله :" التخصيص جائز عقلاً وواقِع استقراءً ، خلافاً لِشذوذ " ا.هـ (6) .(1/31)
والأرموي (7) ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" إطلاق العامّ لإرادة
(1) المسوّدة /130
(2) اللُّمَع /17 وشَرْح اللُّمَع 2/6
(3) المسودة /130
(4) مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/130
(5) الإحكام لِلآمدي 2/282
(6) مُسَلَّم الثبوت 1/301
(7) سراج الدين الأرموي : هو أبو الثناء محمود بن أبي بَكْر بن أحمد الأرموي الشافعي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ متكلِّم ، مِن القضاة ، أصْله مِن أرمية ، وُلِد سَنَة 594 هـ .. =
الخاصّ جائز في الخبر والأمر ، خلافاً لِقوْم " (1) .
ومِمّا تَقَدَّم يتضح : أنّ هذا المذهب قائله مجهول ، وتلك أمَارة ضَعْفه وليس ذلك فحسب ؛ بلْ وصَفَته الكثرة بـ: الشذوذ الذين لا يُعبَأ بخلافهم .
المذهب الثالث : عدم جواز التخصيص مُطْلَقاً ، أمراً كان أم خبرا .
ونَسَبه الفخر الرازي لِقوْم فقال :" يجوز إطلاق اللفظ العامّ لإرادة الخاصّ ، أمراً كان أو خبراً ، خلافاً لِقوْم " ا.هـ (2) .
وتَبِعه الأرموي (3) .
ونَسَبه ابن السبكي رحمهما الله تعالى إلى شرذمة قليلة فقال :" ذهبَت شرذمة قليلون إلى امتناع التخصيص " ا.هـ (4) .
ثالثاً : أدلّة المذاهب مع المناقَشة والترجيح
أدلّة المذهب الأول :
استدَلّ الجمهور أصحاب المذهب الأول على جواز التخصيص ووقوعه في الخبر وغيْره مِن الأمر والنهي بأدلة ، أَذكر منها ما يلي :
الدليل الأول ( لِلجواز ) : أنّ العقل لا يمنع وقوع تخصيص العموم بمخصِّصات مِن الكلام وغيْره ، ولا يترتب على فَرْض وقوعه مُحال ، وإذا كان كذلك فالتخصيص جائز عَقْلا (5) .
= مِن مُصَنَّفاته : التحصيل ، شرْح الوجيز لِلغزالي .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بقونية سَنَة 682 هـ .
الأعلام 8/41 ، 42 وطبقات الشّافعيّة الكبرى 5/155 ومعجم المؤلِّفين 12/155
(1) التحصيل 2/367
(2) المحصول 1/399
(3) يُرَاجَع التحصيل 2/367 ، 368
(4) الإبهاج 2/123
(5) يُرَاجَع فواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/301(1/32)
الدليل الثاني ( لِلجواز ) : أنّه لا معنى لِتخصيص العموم سِوَى صَرْف اللفظ العامّ عن عمومه الذي هو حقيقة فيه إلى جهة الخصوص بطريق المَجاز ، والمَجاز غيْر ممتنِع لِذاته ولا لِغيْره ، فدَلّ ذلك على أنّ تخصيص العموم جائز (1) .
الدليل الثالث ( لِلوقوع في الخبر ) : قوله تَبارَك وتعالى { اللَّهُ خَلِقُ كُلّ شَىْء } (2) وقوله تعالى { وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِير } (3) ..
وجْه الدلالة : أنّ الله جلّ وعلا ذَكَر في هاتيْن الآيتيْن أنّه سبحانه خالِق كُلّ شيء وأنّه عَزّ وجَلّ على كُلّ شيء قدير ، وكِلاهما وَرَد بلفْظ { كُلّ } لِيؤكِّد عموم الحُكْم فيهما ، إلا أنّ هذا العموم دخله التخصيص ؛ لأنّ الله عَزّ وجَلّ ليس خالقاً لِذاته ولا قادراً عليها ، فدَلّ ذلك على أنّ التخصيص واقِع في الخبر .
الدليل الرابع ( لِلوقوع في الخبر ) : قوله تعالى { تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءِ بِأَمْرِ رَبِّهَا } (4) وقوله تعالى { وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيم } (5) ..
وجْه الدلالة : أنّ لفْظ العموم الوارد في الآيتيْن { كُلّ } أفاد العموم فيهما : ففي الأولى أنّ الرياح تُدَمِّر كُلّ شيء أتت عليه ، وفي الثانية أنّ بلقيس الملِكة أُوتِيَت في مُلْكها كُلّ شيء ، ولكنّ هذا العموم دخله التخصيص ؛ فقدْ أتت الرياح على الأرض والجبال ولم تَجعلها رميماً ، وكذلك هناك أشياء لم تدخل ما أُوتِيَته الملِكة في مُلْكها : كالنجوم والجبال
(1) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 2/283 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/130
(2) سورة الرعد مِن الآية 16 ، سورة الزمر مِن الآية 62
(3) سورة المائدة مِن الآية 120 ، سورة الحديد مِن الآية 2 ، سورة التغابن مِن الآية 1
(4) سورة الأحقاف مِن الآية 25
(5) سورة النمل مِن الآية 23
وغيْرها ، فدَلّ ذلك على أنّ تخصيص العموم واقِع في الخبر .(1/33)
الدليل الخامس ( لِلوقوع في الأمر ) : قوله تعالى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } (1) وقوله تعالى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة } (2) ..
وجْه الدلالة : أنّ الله تعالى أَمَرنا في الآية الأولى بقَطْع يد السارق والسارقة ، كما أَمَرنا في الآية الثانية بجَلْد الزانية والزاني ، و" ال " في الجميع تفيد العموم ، فدَلَّت على وجوب قَطْع يد كُلّ سارِق وجَلْد كُلّ زانٍ ، إلا أنّا رأَيْنا أنّه ليس كُلّ سارِق يُقْطَع ؛ بلْ لا بُدّ مِن شروط ، وكذلك ليس كُلّ زانٍ يُجْلَد ؛ وإنّما غيْر المُحْصَن ، وإذا دَخَل هذا العمومَ التخصيصُ ـ كما رأَيْنا ـ فدَلّ ذلك على وقوع التخصيص في الأمر (3) .
أدلّة المذهب الثاني :
استدَلّ أصحاب المذهب الثاني المانع لِتخصيص الخبر بأدلّة ، أَذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ القول بجواز تخصيص الخبر يوهِم الكذب في خبر الله تعالى ؛ لِمَا فيه مِن مخالَفة المُخْبِر لِلخبر ، وإيهام الكذب مُحال على الله تعالى ، فما أَدَّى إليه ـ وهو تخصيص الخبر ـ يَكون مُحالا .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّا لا نُسَلِّم لكم تَوَهُّم الكذب في تخصيص الخبر لأنّه ما مِن عامّ إلا وخُصِّص ، فكُلّ عامّ ـ خبراً كان أو غيْره ـ
(1) سورة المائدة مِن الآية 38
(2) سورة النور مِن الآية 2
(3) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 2/282 ، 283 وشَرْح العضد 2/130 وروضة الناظر 2/721 والمستصفى /245 وأصول الفقه لِلشيخ زهير رحمه الله تعالى 2/245
مُحْتَمِل لِلتخصيص ، وهذا الاحتمال يَجعل السامع لِلخبر مُجَوِّزاً إرادة بعض العامّ مِن العامّ ..
فإذا وَرَد ما يُثْبِت إرادة البعض ـ وهو المُخَصِّص ـ تَيَقَّنّا أنْ المُخْرَج لم يَكُنْ مراداً مِن العامّ ، وحيث لم يَكُنْ مراداً فلا كَذِب ولا إيهام لِلكذب (1) .(1/34)
الدليل الثاني : أنّ النسخ غيْر جائز ؛ لأنّ الخبر يصير به كذباً ، وحيث إنّ التخصيص إخراج لِبعض اللفظ العامّ فهو رفْع لِبعض الحُكْم ، فيُشْبِه النسخ في ذلك ، وإذا لم يَجُزْ نسْخ الخبر فكذلك التخصيص لا يجوز في الخبر ؛ لأنّه يصير به كذبا .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّ قياس التخصيص على النسخ قياس مع الفارق ؛ لأنّ النسخ يَرفع جميع الحُكْم ويزيله ، فيؤدي إلى الكذب فيما أخبر به ، والتخصيص لا يَرفع جميع الحُكْم ؛ بلْ يبقى بعضه ؛ لأنّه بيان لِمَا لم يَرِد باللفظ ، ولِذا كان تخصيص الخبر جائزاً ولا يصير به كذبا (2) .
أدلّة المذهب الثالث :
استدَلّ أصحاب المذهب الثالث القائلون بامتناع التخصيص مُطْلَقاً ـ أمراً كان أم خبراً ـ بدليل واحد ، مفاده : أنّ القول بجواز تخصيص الأمر يوهِم البداء ( أيْ ظهور المصلحة بَعْد خفائها ) ، وأنّ القول بجواز تخصيص الخبر يوهِم الكذب ، وكلاهما ممتنِع في حقّ الله ـ جَلّ وعَلاَ ـ ومُحَال ، فما أدَّى إليه كان مُحالاً كذلك ، وهو القول بتخصيص الأمر والخبر ، فدَلّ ذلك على امتناع التخصيص ، خبراً كان أم أمْرا .
(1) يُرَاجَع : المحصول 1/399 والإحكام لِلآمدي 2/283 وأصول الفقه لِلشيخ زهير رحمه الله تعالى 2/245 ، 246
(2) يُرَاجَع : التبصرة /143 وشَرْح اللُّمَع 2/7 والعدّة 2/595 ، 596 وإرشاد الفحول /144
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نوقش هذا الدليل بما نوقش به الدليل الأول لِلمذهب الثاني ، والذي يَدُلّ على أنّ اللفظ في الأصل محتمِل لِلتخصيص ، فقيام الدلالة على وقوعه لا يوجِب الكذب ولا البداء ، وإنّما يَلْزَم البداء أو الكذب أنْ لو كان المُخْرَج مرادا (1) .
وبَعْد الوقوف على مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم في حُكْم التخصيص يتضح لنا : أنّ كفة النزاع وصورته غيْر متكافئة ..(1/35)
فالأَوْلى ما عليه الكثرة أصحاب المذهب الأول ، وهم الجمهور الذين قالوا بجواز التخصيص مُطْلَقاً في الخبر والأمر والنهي ، وما أَكثَر حُجَجهم على ذلك وما أَقْوَاها .
والثانية وهي ما عليه أصحاب المذهب الثاني القائل بعدم جواز تخصيص الخبر والمذهب الثالث القائل بعدم تخصيص الأمر والخبر تَحدوهما أمَارات الضَّعْف والإبعاد ؛ لأنّهما :
أوّلاً : لا يُعْرَف لهما صاحِب أو قائل .
ثانياً : أنّهما نُسِبَا عند الكثرة إلى شذوذ .
ثالثاً : ضَعْف أدلّتهما وعدم سلامتهما مِن المناقَشة .
لِكُلّ ما تَقَدَّم كان المذهب الأول القائل بجواز التخصيص في الخبر والأمر والنهي هو الأَوْلى بالقبول والترجيح .
(1) يُرَاجَع : المحصول 1/399 ومناهج الوصول مع نهاية السول 2/80 والإبهاج 2/123 ، 124
المطلب الثاني
القابل لِلتخصيص
المراد بالقابل لِلتخصيص هو : ما يجوز تخصيصه .
ونستطيع أنْ نحدِّد الحالات التي تَقْبَل التخصيص مِن خلال أقوال الأصوليّين ، والتي نَستعرض بعضاً منها فيما يلي :
الأول : لِلشيرازي رحمه الله تعالى ..
وفي ذلك يقول :" وجمْلته : أنّه يجوز تخصيص ألفاظ العموم ، وأمّا تخصيص ما عُرِف مِن فَحْوَى الخطاب ـ كتخصيص ما عُرِف مِن قوله عَزّ وجَلّ { فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفّ } (1) ـ فلا يجوز ، وأمّا تخصيص دليل الخطاب فيجوز " ا.هـ (2) .
الثاني : لأبي الحسين البصري رحمه الله تعالى ..
وفي ذلك يقول :" ثانيهما : ما فيه معنى الشمول فضربان : لفْظ عموم وليس بلفْظ عموم ..
نحْو : قضية في عيْن دَلّ الدليل على أنّها لا تَتعدى عنها ، أو فَحْوَى القول ، أو دليل الخطاب ، أو عِلّة شاملة " ا.هـ (3) .
الثالث : لِلفخر الرازي رحمه الله تعالى ..
وفي ذلك يقول :" الذي يَتناول الواحد لا يجوز تخصيصه ، وأمّا الذي
(1) سورة الإسراء مِن الآية 23
(2) اللُّمَع /17
(3) المعتمد 1/235(1/36)
تناول أَكثَر مِن واحد فعمومه إما مِن جهة اللفظ ، ويصحّ تَطَرُّق التخصيص إليه ، وإما مِن جهة المعنى ، وهو أمور ثلاثة : العِلّة ، ومفهوم الموافَقة ، ومفهوم المخالَفة " ا.هـ (1) .
الرابع : لِسراج الدين الأرموي رحمه الله تعالى ..
وفي ذلك يقول :" وعموم الخطاب إنْ كان مِن حيث اللفظ جاز تخصيصه ، وإنْ كان مِن حيث المعنى كعمومه لِعموم علّته وكمفهوم المخالَفة والموافَقة " ا.هـ (2) .
الخامس : لِلزركشي رحمه الله تعالى ..
وفي ذلك يقول :" مِن حقّ التخصيص أنْ لا يَكون إلا فيما يتناوله اللفظ فاللفظ الذي لا يتناول إلا الواحد لا يجوز تخصيصه بمعنى إخراج بعض الجزئيّات منه ، وأمّا الذي يتناول أَكثَر مِن واحد فإمّا أنْ يَكون عمومه مِن جهة اللفظ أو المعنى أيْ الاستنباط ، والثاني على ثلاثة أقسام : أحدها العِلّة الثاني مفهوم الموافَقة ، والثالث مفهوم المخالَفة " (3) .
بَعْد الوقوف على أقوال الأصوليّين في هذه المسألة ـ والمتقدِّم ذِكْر بعضها ـ يتضح لنا ما يلي :
1- أنّي لم أقف عند الحنفيّة على مسألة بهذا العنوان المتقدِّم أو نحْوه ، وإنّما تَعَرَّض بعض منهم لِبحث بعض هذه الحالات عند بحْثهم لِلمخصّصات (4) : كما فَعَل ابن عبد الشكور رحمهما الله تعالى ، أو عند بحثهم لِلاستدلال بدلالة النّصّ (5) : كما فَعَل النسفي رحمه الله تعالى ، وهو
(1) المحصول 1/98
(2) التحصيل 2/367
(3) البحر المحيط 3/252 ، 253 بتصرف .
(4) مُسَلَّم الثبوت 1/353
(5) يُرَاجَع المنار مع حاشية نسمات الأسحار /146
الغالب عند الحنفيّة ؛ لاعتبارهم العمل بمفهوم المخالَفة تخصيصا (1) .(1/37)
2- أنّ بعضاً مِن غيْر الحنفيّة ـ إنْ لم تَكُنْ كثرة منهم ـ تَعَرَّضوا لِبحْث مُعْظَم هذه الحالات لا في مسألة مستقِلّة ـ كما هو الحال فيما تَقَدَّم ـ وإنّما في ثنايا بحْثهم لِمَسائل التخصيص : كما فَعَل ابن الحاجب (2) رحمه الله تعالى ، أو في الأدلّة التي يُخَصّص بها العموم : كما فَعَل الغزالي (3) وابن قدامة (4) وابن السمعاني (5) والقاضي أبو يعلى (6) رحمهم الله وغيْرهم ..
كما أنّ تخصيص العِلّة كان محلّ بحْثه عند أَكثَرهم هو باب القياس (7) .
3- أنّي مع الذين ذهبوا إلى جَمْع هذه الحالات في مسألة مستقِلّة ؛ نظراً لِوجود الجامع بَيْنهما ، وهو قبولها لِلتخصيص وعدمه ، أو جواز تخصيصها مِن عدمه ، ولِذا كنتُ تابعاً لهم في هذا المنهج في بحثي هذا .
4- أنّه مِن العَرْض السابق لأقوال الأصوليّين في هذا المقام نرى اتفاقهم على حالة لا تَقْبَل تخصيصاً واختلافهم في حالات ..
وقدْ حصرتُ الحالات بقِسْميْها في خَمْس ، وهي :
الحالة الأولى : اللفظ المتناول لِلواحد .
الحالة الثانية : اللفظ العامّ .
(1) يُرَاجَع : التنقيح مع التوضيح 1/268 والوجيز /72 - 74
(2) يراجَع مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/147
(3) يُرَاجَع المستصفى /246
(4) يُرَاجَع روضة الناظر 2/731 ، 732
(5) يُرَاجَع قواطع الأدلّة 2/363 ، 390
(6) يُرَاجَع العدّة 5/573 ، 578
(7) يُرَاجَع : المعتمد 2/283 والبرهان 2/634 والمنخول /404 والتبصرة /466 وأصول السرخسي 2/208 وأصول البزدوي 1/281 وجَمْع الجوامع مع البناني 2/296 وشَرْح المنهاج 1/363
الحالة الثالثة : العِلّة .
الحالة الرابعة : مفهوم الموافَقة .
الحالة الخامسة : مفهوم المخالَفة .
ونُفَصِّل القول في كُلّ حالة منها فيما يلي :
الحالة الأولى
اللفظ المتناول لِلواحد(1/38)
ذهبَت الكثرة مِن الأصوليّين ـ إنْ لم يَكُنْ جميعهم ـ إلى أنّ اللفظ الذي لا يَتناول أَكْثَر مِن واحد لا يَقْبَل التخصيص،أيْ لا يجوز تخصيصه..
وحُجّتهم : أنّ التخصيص إما أنْ يَكون قَصْراً لِلعامّ على بعض أفراده أو إخراج بعض ما تناوله اللفظ ، وهذا اللفظ الذي تناول حُكْماً ثبت لِواحد بالشخص لا يُتَصَوَّر فيه إخراج بعضه ؛ لأنّه لا يَتَبَعَّض ولا يَتَجَزَّأ ولا يَتَعَدَّد ، وشرْط التخصيص وجود متعدِّد يُقْصَر الحُكْم على بعضه دون بعض ، ولِذا كان اللفظ المتناول لِلواحد لا يَقْبَل تخصيصا .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة - رضي الله عنه - (1) حينما ضَحَّى بالعناق { تُجْزِئُكَ ، وَلاَ تُجْزِئُ غَيْرَك } (2) (3) .
(1) أبو بردة : هو الصّحابيّ الجليل هانئ بن نيار بن عمرو الأنصاري - رضي الله عنه - ، أحد الذين شَهِدوا العَقَبَة وشَهِد المغازي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 42 هـ .
سِيَر أعلام النبلاء 2/36
(2) أَخْرَجه البخاري في كتاب الجمعة : باب التبكير إلى العيد برقم ( 915 ) ومسلِم في كتاب الأضاحي : باب وقْتها برقم ( 6327 ) ، كلاهما عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - .
(3) يُرَاجَع : المعتمد 1/236 والإحكام لِلآمدي 2/282 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/130 واللُّمَع /17 والإبهاج 2/122 ونهاية السول 2/79 والبحر المحيط 3/252 وأصول الفقه لِلشيخ زهير رحمه الله تعالى 2/242
وأَوْرَد الزركشي اعتراضاً لِلقرافي (1) رحمهما الله تعالى : بأنّ الواحد يَندرج فيه الواحد بالشخص ، وهو يصحّ إخراج بعض أجزائه ؛ لِصِحّة قولك " رأيتُ زيداً " وتريد بعضه ، وإنْ تَعَذَّر إخراج بعض الجزئيات فينبغي التفصيل " ا.هـ (2) .(1/39)
وأَرَى أنّ اعتراض القرافي رحمه الله تعالى فيه نظر ؛ لأنّ الأصل الذي بنى عليه ـ وهو صحّة قولك " رأيتُ زيداً " وتريد بعضه ـ غيْر مُسَلَّم وليس على حقيقته ؛ لأنّا إذا قُلْنَا " رأيتُ زيداً " حُمِل على حقيقته وهو زيْد بكامله ، ولا يُحْمَل على بعضه إلا بقرينة أو دليل ، والأصل في الكلامِ الحقيقةُ ، ولِذا كان تخصيص الواحد لا يجوز ..
كما أُقَوِّي وجْهتي التي اتَّبعتُ فيها جمهور الأصوليّين مِن أنّ اللفظ المتناول لِلواحد أو الحُكْم الثابت لِشخص واحد لا يَقْبَل التخصيص بأقوال بعض الأصوليّين ، أَذكر منهم ما يلي :
1- أبو الحسين البصري رحمه الله تعالى ..
في قوله :" ما ليس فيه معنى الشمول ، وهذا لا يُتَصَوَّر دخول التخصيص فيه ؛ لأنّ تخصيص الشيء هو إخراج جزئه ، فما لا جزء له لا يُتَصَوَّر فيه ذلك " ا.هـ (3) .
2- الآمدي رحمه الله تعالى ..
(1) القرافي : هو أبو العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله بن يَلِّين الصنهاجي البهنسي المصري المالكي رحمه الله تعالى ، وُلِد بالبهنسا ..
مِن مؤلَّفاته : التنقيح في أصول الفقه ، شرْح التهذيب .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدير الطين سَنَة 684 هـ .
الفتح المبين 2/90
(2) البحر المحيط 2/252
(3) المعتمد 1/235 بتصرف .
في قوله :" فاعلم أنّ كُلّ خطاب لا يُتَصَوَّر فيه معنى الشمول ـ كقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة - رضي الله عنه - { تُجْزِئُكَ ، وَلاَ تُجْزِئُ أَحَداً بَعْدَك } (1) ـ فلا يُتَصَوَّر تخصيصه ؛ لأنّ التخصيص على ما عُرِف صرْف اللفظ عن جهة العموم إلى جهة الخصوص ، وما لا عموم له لا يُتَصَوَّر فيه هذا الصرف" ا.هـ (2).
3- الفخر الرازي رحمه الله تعالى ..
في قوله :" الذي يتناول الواحد لا يجوز تخصيصه ؛ لأنّ التخصيص عبارة عن إخراج البعض عن الكُلّ ، والواحد لا يُعْقَل ذلك فيه " ا.هـ (3).
الحالة الثانية
اللفظ العامّ(1/40)
اللفظ العامّ مراد به اللفظ الذي تَنَاوَل أَكْثَر مِن واحد وثبت تَعَدُّده مِن جهة اللفظ ، ويُعْرَف بـ" العامّ " لفظاً ؛ لِيخرج به ما ثبت عمومه مِن جهة المعنى بأقسامه الثلاثة : العِلّة والمفهوميْن .
وحُكْم تخصيص ما ثبت عمومه مِن جهة اللفظ : الجواز .
ولم أقف على أحد مِن الأصوليّين مَنَع تخصيص ما ثبت عمومه مِن جهة اللفظ .
مثاله : قوله تعالى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِين } (4) ؛ فإنّه يدلّ بلفظه على وجوب قتْل كُلّ مُشْرِك ، ولفْظ { الْمُشْرِكِين } عامّ ، لكنّ الحُكْم رأيناه قدْ خُصِّص بعدم قتْل أهْل الذِّمَّة وغيْرهم بِلا خلاف .
(1) سبق تخريجه .
(2) الإحكام لِلآمدي 2/282
(3) المحصول 1/398
(4) سورة التوبة مِن الآية 5
وفي ذلك يقول الشيرازي رحمه الله :" باب ذِكْر ما يجوز تخصيصه وما لا يجوز : وجمْلته : أنّه يجوز تخصيص ألفاظ العموم " ا.هـ (1) .
ويقول الأرموي رحمه الله تعالى :" عموم الخطاب إنْ كان مِن حيث اللفظ جاز تخصيصه " ا.هـ (2) .
ويقول الأصفهاني (3) رحمه الله تعالى :" وما يَكون تَعَدُّده لفظاً ـ مِثْل : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِين } ـ يصحّ تخصيصه بِلا خلاف " ا.هـ (4) .
الحالة الثالثة
العِلّة (5)
والمراد بتخصيص العِلّة : تَخَلُّف الحُكْم عنها في بعض الصور ، وهو المعروف عند الأصوليّين بـ" نقْض العِلّة " (6) ..
وفي ذلك يقول الغزالي رحمه الله تعالى :" النقض : ومعناه : إبداء
(1) اللُّمَع /17
(2) التحصيل 2/367
(3) شمْس الدين الأصفهاني : هو أبو الثناء محمود بن أبي القاسم عبد الرحمن بن أحمد بن محمد ابن أبي بَكْر بن علِيّ الأصفهاني الشافعي الأصولي رحمه الله تعالى ، وُلِد بأصفهان سَنَة 674 هـ .
مِن مصنَّفاته : بيان المختصَر ، تشييد القواعد في شرْح تجريد العقائد ، مَطالع الأنظار شرْح طوالع الأنظار ، ناظر العين في المنطق . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالقاهرة سَنَة 749 هـ .(1/41)
الدرر الكامنة 4/327 والفتح المبين 2/165
(4) شَرْح المنهاج 1/364
(5) العِلّة لغةً : المرض .. يُرَاجَع مختار الصحاح /475
واصطلاحاً : المُعَرِّف لِلحُكْم .. يُرَاجَع : شَرْح المحلِّيّ مع جَمْع الجوامع 2/231 وحاشية النفحات /154
وقيل : الوصف الظاهر المنضبِط الذي بُنِي عليه الحُكْم ورُبِط به وجوداً وعدما .. يُرَاجَع : عِلْم أصول الفقه لِخلاّف /71 وشَرْح مختصر الروضة 1/427
(6) يُرَاجَع : البرهان 2/977 والمنخول /404 وأصول السرخسي 2/233 وشَرْح العضد 2/268
العِلّة مع تَخَلُّف الحُكْم " ا.هـ (1) .
ويقول الفخر الرازي رحمه الله تعالى :" وجود الوصف مع عدم الحُكْم يَقْدَح في كوْنه عِلّة " ا.هـ (2) .
ويقول ابن السبكي رحمهما الله تعالى :" النقض : إبداء الوصف الذي ادَّعَى المستدِلّ حُجّة علِّيَّته في بعض الصور مع تَخَلُّف الحُكْم عنه فيها ، وربّما يُعَبِّر عنه مُعَبِّرون بـ" تخصيص العِلّة " " ا.هـ (3) .
مثاله : جواز بيْع العرايا (4) ، وهو بيْع الرطب على رءوس النخل بالتمر على وجْه الأرض ..
وقدْ ثبت أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن بيْع الرطب بالتمر (5) ، وعَلَّله بالنقصان عند الجفاف ، والزيادة في أحد العوضيْن ربا ، وهذه العِلّة موجودة في العرايا ، وقدْ رخّص النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في العرايا : الوسق والوسقيْن والثلاثة والأربعة (6) ، وجواز البيع بهذا الوجه لِلحاجة ، فتُقَدَّر بقَدْرها .
وبهذا الترخص في بيْع العرايا تَكون العِلّة ـ وهي النقصان بالجفاف ـ قدْ وُجِدَت وتَخَلَّف الحُكْم عنها ، وهو معنى نقْض العِلّة كما تَقَدَّم ..
ومحلّ الشاهد : أنّ العرايا مُخَصِّصة لِلعلّة بما عَدَاها (7) .
(1) يُرَاجَع : المستصفى 2/336
(2) المحصول 2/361
(3) الإبهاج 3/92
(4) وهي لغةً : اسم لِمَا يعار .. يُرَاجَع مختار الصحاح /453(1/42)
وشَرْعاً : إباحة الانتفاع بما يَحِلّ الانتفاع به مع بقاء عيْنه .. مغني المحتاج 2/362
(5) أَخْرَجه النسائي في كتاب البيوع : باب اشتراء التمر بالرطب برقم ( 4470 ) وابن ماجة في كتاب التجارات : باب بَيْع الرطب بالتمر برقم ( 255 ) وأحمد في مُسْنَد العشرة المُبَشَّرين بالجَنّة برقم ( 1433 ) ، كُلّهم عن سَعْد بن أبي وقّاص - رضي الله عنه - .
(6) أَخْرَجه أحمد في باقي مُسْنَد المُكْثِرين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما برقم ( 14339 ) .
(7) يُرَاجَع : منهاج الوصول مع شَرْح المنهاج 1/363 - 365 ونهاية السول 2/79 ومناهج العقول 2/77 وجَمْع الجوامع مع حاشية البناني 2/296 وأصول الفقه لِلشيخ زهير 2/243
مذاهب الأصوليّين في تخصيص العِلّة :
وقد اختلَف الأصوليّون في تخصيص العِلّة ـ أو بعبارة أخرى : هل النقض يَكون قادحاً في العلِّيَّة ـ على مذاهب ، أَشْهَرها ما يلي :
المذهب الأول : جواز تخصيص العِلّة مُطْلَقاً ، منصوصةً كانت أو مستنبَطةً ، وسواء كان تَخَلُّف الحُكْم لِمانع أو لا لِمانع .
وهو مذهب أَكثَر أصحاب أبي حنيفة (1) ومالك (2) وأحمد (3) - رضي الله عنهم - (4) .
المذهب الثاني : عدم جواز تخصيص العِلّة مُطْلَقاً .
وهو اختيار أبي الحسين البصري والفخر الرازي رحمهما الله تعالى ، وعليه أَكثَر الشّافعيّة ، والبزدوي والسرخسي ـ رحمهما الله تعالى ـ مِن
(1) الإمام أبو حنيفة : هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن كاوس بن هرمز - رضي الله عنه - ، أول الأئمّة الأربعة وُلِد بالكوفة سَنَة 80 هـ ..
مِن مصنَّفاته : المخارج في الفقه واللغة .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 150 هـ .
الأعلام 9/4 والفتح المبين 1/106 - 110
(2) الإمام مالك : هو أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك الأصبحي المدني - رضي الله عنه - ، إمام دار الهجرة ، أحد الأئمّة الأربعة ، وُلِد بالمدينة سَنَة 93 هـ ..
مِن مصنَّفاته : الموطَّأ .(1/43)
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 179 هـ .
الأعلام 3/824 والفتح المبين 1/117 - 123
(3) الإمام أحمد : هو أبو عبد الله أحمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس الشيباني - رضي الله عنه - ، الإمام الفقيه المحدِّث ، أحد الأئمّة الأربعة ، وُلِد ببغداد سَنَة 164 هـ .
مِن مصنَّفاته : المسنَد ، التفسير ، السُّنَّة .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - ببغداد سَنَة 241 هـ .
البداية والنهاية 10/320 والفتح المبين 1/156 - 163
(4) يُرَاجَع : التبصرة /466 والمعتمد 2/283 والإحكام لِلآمدي 3/241 والبرهان 2/634 والتوضيح مع التنقيح 2/183 - 185 وأصول البزدوي 1/281 وأصول السرخسي 2/208 وروضة الناظر 1/327
الحنفيّة ، ونَسَبه البعض إلى الإمام الشافعي - رضي الله عنه - (1) .
المذهب الثالث : جواز تخصيص العِلّة إذا لم يوجَد مانع .
وهو اختيار البيضاوي والصفي الهندي (2) رحمهما الله تعالى (3) .
المذهب الرابع : جواز تخصيص العِلّة المستنبطة .
وهو اختيار أبي إسحاق الشيرازي رحمه الله (4) .
المذهب الخامس : جواز تخصيص العِلّة المنصوصة .
حكاه ابن السبكي ـ رحمهما الله تعالى ـ وغيْره ، ولم ينسبه إلى أحد ، وإنّما أَوْرَده بصيغة التضعيف :" وقيل " (5) .
وقد اكتفيتُ بذِكْر هذه المذاهب دون التعرض لأدلّتها وحُجَجها خشية الخروج عن موضوعية البحث ؛ لأنّ محلّ بحْثنا تخصيص الكتاب والسُّنَّة وليس تخصيص العِلّة التي محلّ دراستها باب القياس .
والذي يعنيني في هذا المقام هو توضيح مدى قبول العِلّة لِلتخصيص ، أو بمعنى آخَر : هلْ يجوز تخصيص العِلّة أم لا ؟
واتَّضَح لنا مِن خلال هذا العَرْض السابق أنّ تخصيصها أو قبولها
(1) يُرَاجَع : المعتمد 2/283 والمحصول 1/361 وأصول البزدوي 1/281 وأصول السرخسي 2/208
(2) صفي الدين الهندي : هو محمد بن عبد الرحيم بن محمد الشافعي الأصولي رحمه الله تعالى ، وُلِد بدلهي بالهند سَنَة 644 هـ ..(1/44)
مِن مصنَّفاته : الزبدة في عِلْم الكلام ، نهاية الوصول إلى عِلْم الأصول .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بدمشق سَنَة 715 هـ .
الدرر الكامنة 4/14 والفتح المبين 2/120
(3) يُرَاجَع : منهاج الوصول مع شَرْح المنهاج 1/363 ونهاية الوصول 8/3555
(4) يُرَاجَع التبصرة /466
(5) يُرَاجَع : جَمْع الجوامع مع شَرْح المحلّي مع حاشية البناني 2/296 وإرشاد الفحول /224 ، 225 والإبهاج 3/84 ، 85 والبرهان 2/634 والمنخول /404 - 409
لِلتخصيص كان محلّ خلاف بَيْن الأصوليّين كما تَقَدَّم .
الحالة الرابعة
مفهوم الموافَقة (1)
والمراد بتخصيص مفهوم الموافَقة : أنّه لا يثبت الحُكْم الثابت به المتناوِل لِلأفراد في بعضها لِدليل أَرْجَح (2) .
مثاله : قوله تعالى { فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفّ } (3) ؛ فإنّه يدلّ بمفهومه المُوافِق على تحريم الضرب وغيْره مِن أنواع الإيذاء ، ولكنْ خرَج عن حُكْم هذا المفهوم جواز حَبْس الوالد في دَيْن ولده إذا ماطَل فيه ، وهذا إخراج لِبعض ما تَنَاوَله المفهوم ، فكان تخصيصاً له (4) .
وأَرَى أنّ حَبْس الوالد في حقّ دَيْن الولد فيه نظر ؛ لأنّه كيْف يَحبس الابن أباه بسبب دَيْنه الذي له عليه وهو وماله لأبيه كما قال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - { أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيك } (5) ؟! وحَبْس الوالد بسبب دَيْن ابنه يعارِض مدلول هذا الحديث .
ولِذا .. فالأَوْلَى أنْ يُمَثَّل بـ: ضرْب الوالد إذا ارتَدّ ، أو تقييد الأمّ إذا فَجَرَت (6) .
(1) مفهوم الموافَقة هو : ما كان المسكوت عنه موافِقاً لِلمنطوق في الحُكْم ، ويُسَمَّى " فَحْوَى الخطاب " و" لَحْن الخطاب " .. يُرَاجَع مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/172
(2) يُرَاجَع مناهج العقول 2/77
(3) سورة الإسراء مِن الآية 23
(4) يُرَاجَع : نهاية السول 2/79 ، 80 وأصول الفقه لِلشيخ زهير رحمه الله تعالى 2/243(1/45)
(5) أَخْرَجه ابن ماجة في كتاب التجارات : باب ما لِلرَّجُل مِن مال ولده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما برقم ( 2282 ) ، وأحمد في مُسْنَد المُكْثِرين مِن الصحابة برقم ( 6608 ) عن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما .
(6) يُرَاجَع المحصول 1/398
مذاهب الأصوليّين في تخصيص مفهوم الموافَقة :
اختلَف الأصوليّون في تخصيص مفهوم الموافَقة على مذاهب :
المذهب الأول : جواز تخصيص مفهوم الموافَقة مُطْلَقاً .
وهو اختيار أبي الحسين البصري (1) وابن السبكي (2) رحمهما الله تعالى .
المذهب الثاني : جواز تخصيص مفهوم الموافَقة إذا لم يَعُدْ بالنقض على الملفوظ ، فإنْ عاد بالنقض عليه لم يَجُزْ .
وهو اختيار الفخر الرازي (3) ، وتَبِعه الأرموي (4) والبيضاوي (5) رحمهم الله تعالى .
المذهب الثالث : عدم جواز تخصيص مفهوم الموافَقة .
وهو اختيار أبي إسحاق الشيرازي (6) والقاضي أبي بَكْر (7) ـ رحمهما الله تعالى ـ وغيْرهما (8) .
(1) يُرَاجَع المعتمد 1/235
(2) يُرَاجَع جَمْع الجوامع مع البناني 2/30
(3) يُرَاجَع المحصول 1/398
(4) يُرَاجَع التحصيل 2/367
(5) منهاج الوصول مع شَرْح المنهاج 1/363
(6) اللُّمَع /17
(7) القاضي أبو بَكْر الباقلاني : هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم الباقلاّني المالكي رحمه الله تعالى ..
مِن تصانيفه : التمهيد ، المقنع في أصول الفقه ، إعجاز القرآن ، المقدمات في أصول الديانات .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 403 هـ .
وفيات الأعيان 4/269 ، 270 وشذرات الذهب 3/168 والفتح المبين 1/233 - 235
(8) يُرَاجَع البحر المحيط 3/253
الحالة الخامسة
مفهوم المخالَفة (1)
والمراد بتخصيص مفهوم المخالَفة : ثبوت مِثْل حُكْم المذكور بدليل لِبعض المسكوت عنه الذي ثبت فيه بالمفهوم خلاف ما ثبت لِلمنطوق ، فيخصّص حينئذٍ المفهوم بأنْ لا يثبت الانتفاء الثابت به في البعض بدليل راجح على المفهوم (2) .(1/46)
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَث } (3) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّ الْمَاءَ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَيَّرَ رِيحَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَه } (4) ..
فالحديث الأول أفاد بمنطوقه عدم حَمْل الخبث لِلماء الذي بَلَغ قُلّتيْن ، وأفاد بمفهومه أنّه يَحمل الخَبَثَ إذا لم يَبْلغهما ، والحديث الثاني أفاد بمنطوقه أنّ الماء مُطْلَقاً ـ بَلَغ قُلّتيْن أو لم يَبْلغ ، جارٍ أم راكد ـ لا يُنَجِّسه شيء إلا ما غَيَّر طَعْمه أو ريحه أو لوْنه ، وهذا المنطوق ـ وهو عدم حَمْل الماء وإنْ قَلّ عن قُلّتيْن الخبث إلا بشَرْطه المتقدِّم ـ عارَض المفهوم المخالِف لِلحديث الأول ، وهو أنّ الماء إذا لم يَبْلُغ قُلّتيْن حَمَل الخبث ..
ولِذا جَمَع الشّافعيّة بيْنهما بقَصْر المنطوق ( الماء ) على الجاري ؛ لأنّه وَرَد في بئر بضاعة وكانت تجري في البساتين ، وقَصْر المفهوم ( عدم
(1) ومفهوم المخالَفة هو : أنْ يَكون المسكوت عنه مخالِفاً لِلمذكور في الحُكْم إثباتاً ونفياً ، ويُسَمَّى " دليل الخطاب " .. شَرْح العضد مع المختصر 2/173
(2) يُرَاجَع : الإبهاج 2/123 ومناهج العقول 2/78
(3) أَخْرَجه النسائي في كتاب الطهارة : باب التوقيت في الماء برقم ( 52 ) وأبو داود في كتاب الطهارة : باب ما يُنَجِّس الماء برقم ( 58 ) وأحمد في مُسْنَد المُكْثِرين مِن الصحابة برقم ( 4376 ) ، كُلّهم عن عبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما .
(4) أَخْرَجه ابن ماجة في كتاب الطهارة وسُنَنها : باب الحياض عن أبي أمامة - رضي الله عنه - برقم ( 514 ) .
بلوغ القُلّتيْن ) على الماء الراكد ، وقالوا : إذا لم يَبْلُغ الماء قُلّتيْن وكان جارياً لم ينجس إلا بالتغيير ، وهو القول القديم ، واختاره الغزالي وجماعة منهم البيضاوي رحمهم الله تعالى .(1/47)
ومِن هُنَا كان المنطوق مخصِّصاً لِمفهوم المخالَفة (1) .
مذاهب الأصوليّين في تخصيص مفهوم المخالَفة :
اختلَف الأصوليّون في تخصيص مفهوم المخالَفة على مذاهب :
المذهب الأول : جواز تخصيص مفهوم المخالَفة .
وهو اختيار أبي إسحاق الشيرازي في " اللُّمَع " (2) وأبي الحسين البصري (3) والفخر الرازي (4) والقاضي أبي بَكْر (5) رحمهم الله تعالى .
المذهب الثاني : جواز تخصيص مفهوم المخالَفة إذا كان المُخَصِّص له راجحاً عليه .
وهو اختيار البيضاوي (6) وصاحِب " الحاصل " رحمهما الله تعالى (7) .
المذهب الثالث : عدم جواز تخصيص مفهوم المخالَفة .
حكاه ابن برهان (8) في " الوجيز " ، وذَكَر الزركشي أنّه احتمال لِلشيخ (1) يُرَاجَع : الإبهاج 2/123 وشَرْح المنهاج 1/365 ، 366 ونهاية السول 2/80 ومناهج العقول 2/79 وأصول الفقه لِلشيخ زهير رحمه الله تعالى 2/244
(2) اللُّمَع /17
(3) المعتمد 1/235
(4) المحصول 1/398 ، 399
(5) يُرَاجَع البحر المحيط 3/253
(6) المنهاج مع شَرْح المنهاج 1/363
(7) يُرَاجَع البحر المحيط 3/253
(8) ابن برهان : هو أبو الفتح أحمد بن عَلِيّ بن محمد الوكيل رحمه الله تعالى ، الفقيه الشافعي الأصولي المُحَدِّث ، وُلِد ببغداد سَنَة 444 هـ ..
مِن مؤلَّفاته : البسيط في أصول الفقه ، الوجيز في أصول الفقه . =
أبي إسحاق الشيرازي (1) رحمهم الله تعالى .
= تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 520 هـ .
الفتح المبين 2/16
(1) يُرَاجَع : البحر المحيط 3/253 والإبهاج 2/122
المبحث الثالث
العلاقة بَيْن التخصيص والعامّ
وفيه أربعة مطالب (1) :
المطلب الأول : تعريف العامّ ، والفَرْق بَيْن العامّ المخصوص والخصوص والمراد به الخصوص .
المطلب الثاني : ما يَنتهي إليه التخصيص .
المطلب الثالث : البحث عن المخصّص .
المطلب الرابع : العامّ بَعْد تخصيصه .(1/48)
(1) ملحوظة : هذه المطالب الأربعة التي بَيْن العامّ والخاصّ فيها اقتباس مِن بحْثنا " بلوغ المرام في قواعد العامّ " ؛ لِلحاجة إليها في هذا المقام ، وهو سبب يَجعل لِلتكرار وجاهةً ولِلإعادة إفادةً ، وآمُل أنْ يَكون تكراري هذا مقبولاً لدى القارئ الكريم ، خاصّةً شيوخي وأساتذتي الأفاضل وزملائي الكرام .
المطلب الأول
تعريف العامّ والفَرْق بَيْن العامّ
المخصوص والخصوص والمراد به الخصوص
أوّلاً : تعريف العامّ
والعامّ لغةً : الشمول ، مِن " عمّ الجماعة بالعطيّة " أيْ شَمِلهم (1) .
واصطلاحاً : عَرَّفه صدْر الشريعة (2) ـ رحمه الله تعالى ـ بأنّه : ( لفْظ وُضِع وضعاً واحداً لِكثير غيْر محصور مستغرِق جميع ما يَصْلُح له).
شَرْح التعريف :
( لفْظ ) : كالجنس في التعريف ، يشمل العامّ والخاصّ والمهمَل والمستعمَل .
( وُضِع وضعاً واحداً ) : قيْد أول ، خرج به المشترك بالنسبة إلى مَعانيه المتعددة ، وأمّا بالنسبة إلى أفراد معنى واحد له ـ كـ" العيون " لأفراد العين الجارية ـ فهو عامّ .
( لِكثير ) : قيْد ثانٍ ، خرج به الخاصّ لِـ" زيْد " و" عمرو " .
( غيْر محصور ) : قيْد ثالث ، خرج به أسماء العَدَد : كـ" مائة " ؛
(1) يُرَاجَع : المصباح المنير 2/430 ومختار الصحاح /480
(2) صدْر الشريعة الأصغر : هو عبد الله بن مسعود بن تاج الشريعة رحمه الله تعالى ، الإمام الحنفيّ الفقيه الأصولي الجدلي ..
مِن تصانيفه : كتاب الوقاية ، التوضيح والتنقيح .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى في شرع آباد ببخارى سَنَة 747 هـ .
الفتح المبين 2/161 والفوائد البهيّة /109
فإنّها وُضِعَت وضعاً واحداً لِلكثير لكنّه محصور .
( مستغرِق جميع ما يَصْلُح له ) : قيْد رابع ، خرج به الجَمْع المُنَكَّر الذي تدلّ القرينة على عدم استغراقه ، نحْو : رأيتُ رجالا (1) .
ثانياً : الفَرْق بَيْن العامّ المخصوص
والعامّ المراد به الخصوص(1/49)
لقد أَوْرَد الزركشي رحمه الله تعالى أقوالاً لِلأصوليّين في هذا المقام ، حصرتُ مِن خلالها الفَرْق بَيْن العامّ المخصوص والعامّ المراد به الخصوص فيما يلي :
الأول : أنّ العامّ الذي أريد به الخصوص : ما يَكون المراد باللفظ أَقَلّ ، وما ليس بمراد باللفظ أَكْثَر ..
أمّا العامّ المخصوص : فالمراد به هو الأكثر ، وما ليس بمراد هو الأقلّ .
الثاني : أنّ العامّ الذي أريد به الخصوص متقدِّم على اللفظ ..
وفيما أريد به العموم متأخِّر عن اللفظ أو مقترِن به .
الثالث : أنّ العامّ المخصوص أَعَمّ مِن العامّ الذي أريد به الخصوص .
الرابع : أنّ المتكلِّم إذا أَطْلَق اللفظ العامّ : فإنْ أراد به بعضاً مُعَيَّناً فهو العامّ الذي أريد به الخصوص ، وإنْ أراد سَلْب الحُكْم عن بعض منه فهو العامّ المخصوص .
مثاله : قوله " قام الناس " : فإنْ أردتَ إثبات القيام لِزيْد ـ مَثَلاً ـ لا غيْر فهو عامّ أريد به الخصوص ، وإنْ أردتَ سَلْب القيام عن زيْد فهو عامّ مخصوص .
(1) يُرَاجَع : التوضيح مع شَرْح التلويح 1/56 ، 57 وبلوغ المرام في قواعد العامّ /26 - 28
الخامس : أنّ العامّ الذي أريد به الخصوص إنّما يَحتاج لِدليل معنويّ يَمنع إرادة الجميع فيتعيَّن له البعض ..
والعامّ المخصوص يَحتاج إلى تخصيص اللفظ غالباً كالشرط والاستثناء والغاية والمتصل ، نحْو : " قام القوم " ثُمّ يقول " ما قام زيْد " .
السادس : أنّ العامّ الذي أريد به الخصوص هو : أنْ يطْلق العامّ ويراد به بعض ما يتناوله ، وهو مَجاز قَطْعاً ..
أمّا العامّ المخصوص فهو : العامّ الذي أريد به معناه مُخْرَجاً منه بعض أفراده بالإرادة ، وفيه خلاف : هلْ هو مَجاز أم حقيقة ؟ (1) .
(1) يُرَاجَع : البحر المحيط 3/249 ، 250 وإرشاد الفحول /140 ، 141 وإتحاف الأنام بتخصيص العامّ /176
المطلب الثاني
ما ينتهي إليه التخصيص(1/50)
اختلَف الأصوليّون في تحديد ما ينتهي إليه التخصيص ، ونستطيع أنْ نحدّد مذاهبهم مِن خلال الوقوف على أقوالهم في ذلك ، أَذْكُر منها ما يلي :
* قول الشيرازي رحمه الله تعالى :" ويجوز التخصيص إلى أنْ يبقى مِن اللفظ العامّ واحد ، وقال أبو بَكْر القفّال مِن أصحابنا : يجوز التخصيص في أسماء الجموع إلى أنْ يبقى ثلاثة ، ولا يجوز أَكثَر منه " ا.هـ (1) .
* قول القاضي أبي يعلى رحمه الله تعالى :" يجوز تخصيص العموم إلى أنْ يبقى واحد ، خلافاً لأبي بَكْر الرازي (2) ـ فيما حكاه الجرجاني (3) عنه ـ وأبي بَكْر القفّال في قولهما : يجوز تخصيص لفْظ الجَمْع إذا كان الباقي جَمْعاً في الحقيقة ، ولا يجوز النقصان منه إلا بما يجوز به النسخ" ا.هـ (4).
* قول ابن الحاجب رحمه الله تعالى :" الأكثر أنّه لا بُدّ في التخصيص
(1) اللُّمَع /17
(2) أبو بَكْر الرازي : هو أحمد بن عَلِيّ الرازي الحنفي رحمه الله ، المعروف بـ" الجصّاص " ..
مِن مصنَّفاته : أحكام القرآن ، شرْح مختصَر الطحاوي ، شرْح الجامع لِمحمد بن الحَسَن .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 370 هـ .
سِيَر أعلام النبلاء 16/340 وطبقات الحنفية /27 ، 28 والفتح المبين 1/214 - 218
(3) الشريف الجرجاني : هو أبو الحَسَن علِيّ بن محمد بن علِيّ رحمه الله تعالى ، المعروف بـ" السيد الشريف الجرجاني " الحنفي ، وُلِد سَنَة 740 هـ .. مِن مصنَّفاته : التعريفات ، حاشية على شرْح مختصر المنتهى لابن الحاجب . تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 816 هـ .
الفتح المبين 3/20
(4) العدّة 2/544 ، 545 ويُرَاجَع الفصول 1/250(1/51)
مِن بقاء جَمْع يقرب مِن مدلوله ، وقيل : يكفي ثلاثة ، وقيل : اثنان ، وقيل : واحد ، والمختار أنّه ما بالاستثناء والبدل يجوز إلى واحد ، وبالمُتَّصِل كالصفة يجوز إلى اثْنَيْن ، وبالمُنْفَصِل في المحصور القليل يجوز إلى اثْنَيْن ، مِثْل :" قَتَلْتُ كُلّ زنديق " وقدْ قَتَل اثْنَيْن وهُمْ ثلاثة ، وبالمُنْفَصِل في غيْر المحصور أو العَدَد الكثير المذهب الأول " ا.هـ (1) .
* قول القاضي ناصر الدين البيضاوي رحمه الله تعالى :" يجوز التخصيص ما بقي غيْر محصور ؛ لِسماجة " أكلتُ كُلّ رمان " ولم يأكل غيْر واحدة ، وجَوَّز القفّال إلى أَقَلّ المراتب ، فيجوز في الجَمْع ما بقي ثلاثة ؛ فإنّه الأقلّ عند الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما ؛ بدليل تَفاوُت الضمائر وتفصيل أهْل اللغة ، واثنان عند القاضي والأستاذ (2) ، وفي غيْره إلى الواحد ، وقوْم إلى الواحد مُطْلَقا " ا.هـ (3) .
وبَعْد الوقوف على أقوال الأصوليّين في الغاية التي ينتهي إليها التخصيص ـ والمتقدِّم ذِكْر بعضها ـ نستطيع أنْ نَحصر مذاهبهم فيما يلي ..
مذاهب الأصوليّين في الغاية التي ينتهي إليها التخصيص :
اختلَف الأصوليّون في الغاية التي ينتهي إليها التخصيص على مذاهب أَشهرها ما يلي :
المذهب الأول : جواز تخصيص العامّ إلى أنْ يبقى واحد .
(1) مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/130
(2) أبو إسحاق الاسفراييني : هو ركْن الدين إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الاسفراييني رحمه الله تعالى ، الفقيه الشافعي ، وُلِد باسفرايين . مِن مصنَّفاته : الجامع في أصول الدِّين والرَّدّ على المُلحِدين . تُوُفِّي رحمه الله تعالى بنيسابور سَنَة 418 هـ .
طبقات الفقهاء الشّافعيّة 1/312 - 314 والفتح المبين 1/240 ، 241
(3) منهاج الوصول مع شَرْح المنهاج 1/367 بتصرف .(1/52)
وهو ما عليه الحنفيّة (1) والحنابلة (2) وبعض الشّافعيّة (3) ، ومنقول عن الإمام مالك والإمام أحمد رضي الله عنهما ، واختاره الشيرازي (4) والقاضي أبو يعلى (5) والباجي (6) (7) رحمهم الله تعالى .
واحتجّوا لِذلك : بأنّ التخصيص معنى يُخْرِج مِن اللفظ العامّ ما لولاه لَدَخَل فيه ، فجاز أنْ يطرأ على اللفظ العامّ إلى أنْ يبقى منه واحد كالاستثناء (8) .
المذهب الثاني : جواز تخصيص العامّ إلى أنْ يبقى جَمْع كثير .
وهو ما عليه أَكثَر الشّافعيّة والمعتزلة ، واختاره أبو الحسين البصري (9) والفخر الرازي (10) والبيضاوي (11) رحمهم الله تعالى .
واحتجّوا لِذلك : بأنّه لو قال " أكلتُ كُلّ رمان في البيت " ولم يأكل
(1) يُرَاجَع : مُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/306 وميزان العقول /302
(2) يُرَاجَع : العدّة 2/544 وشَرْح الكوكب المنير 3/271 ، 272
(3) يُرَاجَع : شَرْح تنقيح الفصول /224 وشَرْح المحلّيّ على جَمْع الجوامع 2/3
(4) اللُّمَع /17
(5) العدّة 2/544
(6) الباجي : هو أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي الأندلسي المالكي الباجي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 403 هـ ..
مِن مصنَّفاته : إحكام الفصول في أحكام الأصول ، كتاب الحدود ، تبيين المنهاج ، الإشارة ، المنتقى .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 474 هـ .
النجوم الزاهرة 5/144 وشجرة النور الزكية /120
(7) إحكام الفصول /248 ، 249
(8) يُرَاجَع : التبصرة /125 ، 126 وإحكام الفصول /248 ، 249
(9) المعتمد 1/236
(10) المحصول 1/399
(11) منهاج الوصول مع الإبهاج 2/127
غيْر واحدة لَكان ذلك مُسْتَهْجَناً في اللغة سمجاً أيْ رديئاً مِن الكلام قبيحا .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :(1/53)
الوجه الأول : أنّ البيضاوي رحمه الله تعالى ـ وهو مِن أصحاب هذا المذهب ـ قدْ جَوَّز " له علَيّ عشرة إلا تسعةً " ، والاستثناء عنده مِن المخصّصات المنفصلة ، فهذا التخصيص وأمثاله لم يَبْقَ فيه عَدَد غيْر محصور .
الوجه الثاني : أنّ هذا الدليل لا يَحصل به المُدَّعَى ؛ لأنّه إنّما يبقى الواحد فقط (1) .
المذهب الثالث : أنّ العامّ إنْ كان ظاهراً مُفْرَداً : كـ" مَن " و" الألِف واللام " ـ نحْو : " اقتل مَن في الدار " و" اقطع السارق " ـ جاز التخصيص إلى أَقَلّ المراتب ، وإنْ كان في غيْرها مِن ألفاظ الجموع ـ كـ" المسلِمين " ـ فيجوز إلى أَقَلّ الجَمْع وهو الثلاثة .
وهو ما عليه القفّال الشاشي رحمه الله تعالى .
دليلهم : أنّ اسم الجَمْع لا يُسْتَعْمَل فيما دُون الثلاثة ، فالحَمْل عليه إسقاط له ، فلم يَصِحّ إلا بما يصحّ به الشرط ، وهو الاستعمال في أَقَلّ الجَمْع .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ أصحاب هذا المذهب يُجَوِّزون في الاستثناء أنْ يستثنى مِن اللفظ العامّ حتى يبقى منه واحد وإنْ كان اللفظ العامّ لا يُسْتَعْمَل في
(1) يُرَاجَع : المحصول 1/400 ونهاية السول 2/115 ، 116 والإبهاج 2/127 ، 128 وبلوغ المرام في قواعد العامّ /291 ، 292
الواحد ، فحصْرهم جواز التخصيص في ثلاثة مناقَضة لِمذهبهم .
الوجه الثاني : أنّه قدْ ثبت استعمال لفْظ الجَمْع فيما دُون الثلاثة ، وإذا ثبت ذلك جاز تخصيص العامّ إلى أَقَلّ مِن ثلاثة ..
أمّا دليل الاستعمال فهو : قوله تعالى { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاس ... } (1) والمراد به نُعَيم بن مسعود الأشجعي - رضي الله عنه - (2) ، وقوله تعالى { أُولَئكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُون } (3) والمراد به السيدة عائشة (4) رضي الله عنها (5) .(1/54)
المذهب الرابع : أنّ التخصيص إنْ كان باستثناء أو بدل جاز إلى واحد ، وإلا فإنْ كان بمتصل غيْرهما ـ كالصفة والشرط ـ جاز إلى اثنين ، وإنْ كان بمنفصل : فإنْ كان في محصور قليل جاز إلى اثْنَيْن ، وإنْ كان في غيْر محصور أو في عَدَد كثير فلا بُدّ مِن بقاء الجَمْع .
وهو اختيار ابن الحاجب رحمه الله تعالى .
ودليله : أنّه لا بُدّ في العامّ غيْر المحصور القليل مِن بقاء عَدَد يقرب
(1) سورة آل عمران مِن الآية 173
(2) نُعَيم بن مسعود : هو الصّحابيّ الجليل أبو سلمة نُعَيم بن مسعود بن عامر الغطفاني الأشجعي - رضي الله عنه - ، أَسْلَم في وقعة الخندق وأَوْقَع الخلاف بيْن اليهود والمشرِكين فتَنازَعوا ورحلوا عن المدينة ..
تُوُفِّي في خلافة عثمان رضي الله عنهما ، وقيل : في وقعة الجمل .
أسد الغابة 5/33 والإصابة 3/568
(3) سورة النور مِن الآية 26
(4) السيدة عائشة : هي أمّ عبد الله الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق السيدة عائشة بنت أبي بَكْر عبد الله ابن عثمان ، أُمّ المؤمِنين ، أَفقَه نساء المسلِمين ، وُلِدَت قَبْل الهجرة بتِسْع سنوات ، تَزَوَّجَها النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْد الهجرة ..
تُوُفِّيَت رضي الله عنها بالمدينة سَنَة 58 هـ .
الإصابة 9/359
(5) يُرَاجَع : التبصرة /126 وإحكام الفصول /249 والإبهاج 2/127 ، 128 ونهاية السول 2/116 وبلوغ المرام في قواعد العامّ /292
مِن مدلول العامّ ، سواء كان العامّ مِن أسماء الشرط أو مِن غيْرها ، وكان غيْر محصور أو محصوراً كثيرا .
وتقرير هذا الدليل : أنّه لو قال " قتلتُ كُلّ مَن في المدينة " وقدْ قَتَل ثلاثةً عُدّ لاعباً ، وكذلك لو قال " أكلتُ كُلّ رمانة " وقدْ أَكَل ثلاثةً ، وكذلك لو قال " مَن دَخَل داري فأَكْرِمْه " وفسّر بثلاثة ؛ فلو جاز التخصيص في هذه الصور إلى ثلاثة لَمَا عُدّ لاعبا .
مناقَشة هذا الدليل :(1/55)
وأرى أنّ هذا الدليل مُنَاقَش : بأنّه فَرَّق بَيْن المخصّصات بِلا دليل ولا حُجّة ، إضافةً إلى أنّ ابن الحاجب رحمه الله تعالى رَدّ القائلين ببقاء العموم إلى واحد وإلى اثَنْيَن ثُمّ أَتَى فجَمع المذاهب كُلّها ، وهو تجميع لا يُعْرَف لِغيْره كما ذَكَر ابن السبكي رحمهما الله تعالى (1) .
والأَوْلى عندي بالقبول والاختيار هو : ما عليه أصحاب المذهب الأول القائل بجواز تخصيص العامّ إلى أنْ يبقى واحد ؛ وذلك لِقوّة حُجَجه وسلامتها مِن المناقَشة ، وعدم سلامة أدلّة المذاهب الأخرى مِن المناقَشة والاعتراض ، كما أنّ القول بالمذهب الأول لا يدع مجالاً لِهذا الواحد الباقي بَعْد التخصيص بادعاء أنّه خارج العموم فلا يشمله حُكْم العامّ مع أنّه ما زال داخلاً فيه ؛ لِعدم خروجه بالتخصيص كما هو الحال في الاستثناء .
(1) يُرَاجَع : بيان المختصر 2/241 ، 242 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/130 ، 131 والإبهاج 2/129 وبلوغ المرام في قواعد العامّ /293 ، 294
المطلب الثالث
البحث عن المُخَصِّص
اختلَف الأصوليّون في الاستدلال بالعامّ قَبْل البحث عن المُخَصِّص وفي المدّة التي يجب البحث فيها عن مُخَصِّص ..
ونُفَصِّل القول فيهما فيما يلي ..
أوّلاً : الاستدلال بالعامّ قَبْل البحث عن المُخَصِّص
وفي هذا المقام يمكِن حَصْر محلّ النزاع في اللفظ العامّ الذي لم يُعْلَم له مخصِّص ولم يَرِدْ في حياة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ولم يدخل وقْت العمل به (1) ..
وفيه اختلَف الأصوليّون : هلْ يجوز العمل بالعامّ قَبْل البحث عن المخصِّص ؟ على مذْهبيْن :
المذهب الأول : جواز العمل بالعامّ قَبْل البحث عن المخصِّص .
وهو قول الصيرفي (2) ، واختاره البيضاوي (3) ، وحُكِي عن بعض المالكيّة والشّافعيّة والحنفيّة والحنابلة (4) .
(1) يُرَاجَع : الإبهاج 2/148 وجَمْع الجوامع 1/363 ، 364 وتيسير التحرير 1/231 والبرهان 1/406 - 408(1/56)
(2) الصيرفي : هو أبو بَكْر محمد بن عبد الله الصيرفي البغدادي الشافعي الأصولي الفقيه رحمه الله تعالى ، مِن فقهاء بغداد ..
مِن مصنَّفاته : البيان ، شَرْح الرسالة ، كتاب في الإجماع .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 330 هـ .
طبقات الشّافعيّة الكبرى 2/69 وشذرات الذهب 2/325 والفتح المبين 1/191
(3) منهاج الوصول مع الإبهاج 2/146
(4) يُرَاجَع : العدّة 2/526 - 528 ومُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/267 وشَرْح طلعة =
واستدَلّوا لِذلك بأدلة ، أَذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ الأصل عدم التخصيص ، وهذا يوجِب ظنّ عدم المُخَصِّص ، فيكفي في إثبات ظنّ الحُكْم ، ولِذا جاز العمل بالعامّ دون البحث عن المُخَصِّص .
الدليل الثاني : أنّه لو وجب طلب المُخَصِّص قَبْل التمسك بالعامّ لَوَجَب طلب المَجاز عند استعمال اللفظ في حقيقته ، لكنّ طلب المَجاز عند العمل بالحقيقة باطِل ، فكذلك طلب المُخَصِّص عند العمل بالعامّ باطِل ، ولِذا كان العمل بالعامّ قَبْل البحث عن المُخَصِّص جائزا .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بمنع القياس على الحقيقة ؛ لأنّ احتمال العامّ لِلتخصيص أَقْوَى وأَرْجَح مِن احتمال اللفظ لِلمَجاز ؛ بدليل : قولهم " ما مِن عامّ إلا وخُصِّص " ، ولِذا كان قياس العامّ على الحقيقة قياساً مع الفارق ، فلا يُقْبَل (1) .
المذهب الثاني : عدم جواز العمل بالعامّ قَبْل البحث عن المُخَصِّص .
وهو قول ابن سريج (2) وأبي إسحاق المروزي (3) وأبي سعيد
= الشمس 1/112 ، 113
(1) يُرَاجَع : المحصول 1/404 ، 405 والتحصيل 1/372 وإرشاد الفحول /240 ، 241 وأصول الفقه لِلشيخ زهير رحمه الله تعالى 2/267 ، 268(1/57)
(2) ابن سريج : هو أبو العباس أحمد بن عُمَر بن سريج البغدادي رحمه الله تعالى ، وُلِد ببغداد سَنَة 249 هـ ، فقيه الشّافعيّة في عصْره .. مِن تصانيفه : الانتصار ، الأقسام ، الخصال في فروع الفقه الشافعي . تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 306 هـ .
مُعجَم المؤلِّفين 2/31 وطبقات الفقهاء الشّافعيّة 2/712 وطبقات الشّافعيّة الكبرى 2/87
(3) أبو إسحاق المروزي : هو إبراهيم بن أحمد المروزي رحمه الله تعالى ، تلميذ ابن سريج ، انتهت إليه رئاسة الشّافعيّة ببغداد .. =
الإصطخري (1) ، واختاره الشيرازي (2) وإمام الحرميْن (3) والغزالي (4) والكلوذاني (5) .
واستدَلّوا لِذلك بأدلّة ، نَذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ لفْظ العموم يقتضي الاستغراق بشرط تَجَرُّده عن قرينة تخصّه ، ونحن لا نَعْلَم عدمها إلا بَعْد البحث عنها وطلبها فلا نجدها ، ولِذا وجب البحث عن المُخَصِّص قَبْل العمل بالعامّ .
الدليل الثاني : أنّ العامّ قَبْل طلب المُخَصِّص والبحث عنه يَحتمل التخصيص ويَحتمل عدمه احتمالاً على السواء ، ولِذا فلو عُمِل بالعامّ قَبْل طلب المُخَصِّص لزم ترجيح أحد المتساوييْن بِلا مُرَجِّح ، وهو باطل ، ولِذا وجب طلب المُخَصِّص قَبْل العمل بالعامّ ؛ حتى يَكون مُرَجِّحاً لأحد المتساوييْن .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّا لا نُسَلِّم تَساوِي الاحْتماليْن ؛ لأنّ الأصل عدم المُخَصِّص ـ والاحتمال بمُجَرَّده لا يَصْلُح مُعارِضاً لِهذا الأصل فيَكون
= تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالقاهرة سَنَة 340 هـ .
شذرات الذهب 2/355 والفتح المبين 1/199
(1) الإصطخري : هو أبو سعيد الحَسَن بن أحمد بن يزيد بن عيسى الإصطخري الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 244 هـ .. مِن تصانيفه : كتاب الفرائض الكبير ، كتاب الشروط والوثائق ، المحاضر ، السجلات . تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 328 هـ .(1/58)
البداية والنهاية 11/193 وشذرات الذهب 2/313 والفتح المبين 1/189 ، 190
(2) شَرْح اللُّمَع 1/342
(3) البرهان 1/406 – 408
(4) المستصفى /255
(5) التمهيد لِلكلوذاني 2/65 ، 66
مُرَجِّحا (1) .
والأَوْلى عندي بالقبول والترجيح : ما عليه أصحاب المذهب الأول القائل بجواز العمل بالعامّ قَبْل البحث عن المُخَصِّص ؛ لِمَا يلي :
1- أنّ البحث عن المُخَصِّص يَجعلنا نتوقف عن العمل بأحكام الشريعة التي وردَت بصيغة العموم كُلّها حتى نبحث عن مُخَصِّص ، وهو ما لم يُعْهَد عن سلفِنا الصالح عندما كان الصحابة - رضي الله عنهم - ومَن تَبِعهم يأتيهم حُكْم بلفظ عامّ مِن الكتاب أو السُّنَّة عملوا به ولم يتوقفوا بحثاً عن مُخَصِّص أو ناسخ .
2- أنّ جواز العمل بالعامّ قَبْل البحث عن المُخَصِّص متناسِق مع الحَمْل على الأصل ، وهو استغراق العامّ لِكُلّ أفراده ، صحيح أنّه يَحتمل التخصيص لكنّ هذا الاحتمال لا يُخْرِجه عن أصْله .
3- أنّ الحُكْم الوارد في اللفظ العامّ قدْ يَكون واجباً أو مندوباً ، أيْ مطلوب فِعْله ، والتوقف بحثاً عن المُخَصِّص يعارِض طلب الفعل ، والامتناع عن أداء الفعل المطلوب لا يجوز شرْعاً ، ولِذا كان الآخذ بالعامّ قَبْل البحث عن المُخَصِّص هو المُسارِع لِلامتثال لأمْر الشارع ؛ لأنّه قدْ لا يَكون مِن أهْل العِلْم فلا يقف على المُخَصِّص ، وقدْ يَكون ومع ذلك لا يقف عليه (2) .
ثانياً : المُدّة التي يجب فيها البحث عن المُخَصِّص
اختلَف الأصوليّون القائلون بوجوب البحث عن المُخَصِّص قَبْل العمل بالعامّ ـ وهمْ أصحاب المذهب الثاني ـ في المدة التي يجب البحث فيها (1) يُرَاجَع : التمهيد لِلكلوذاني 2/67 والمحصول 1/405 والإبهاج 2/149 ، 150 وإرشاد الفحول /241 وأصول الفقه لِلشيخ زهير رحمه الله تعالى 2/268 وبلوغ المرام في قواعد العامّ /285 - 288
(2) يراجَع بلوغ المرام في قواعد العامّ /288(1/59)
عن المُخَصِّص على مذاهب ، أَشْهَرها ما يلي :
المذهب الأول : حصول غلبة الظَّنّ بالانتفاء عند الاستقصاء في البحث .
وهو اختيار ابن سريج رحمه الله تعالى ، وعليه الأكثر .
وحُجّتهم : أنّ الاستقراء إنّما يفيد الظَّنّ ، والبحث إنّما يَكون بالاستقراء فشَرْط القَطْع سدّ لِباب العمل بالعامّ ، ولِذا وجب البحث حتى حصول غلبة الظَّنّ بعدم وجود المُخَصِّص .
المذهب الثاني : لا بُدّ مِن اعتقاد جازم .
وهو اختيار الباقلاّنيّ رحمه الله تعالى ، وإليه ذهب جماعة مِن الأصوليّين .
وحُجّتهم : أنّه إذا كَثُر بحْث المجتهِد عن المُخَصِّص ولم يَجِدْ مع هذا قضت العادة بالقَطْع بعدم المُخَصِّص .
المذهب الثالث : لا بُدّ مِن القَطْع بانتفاء الأدلّة .
وهو قول ثانٍ لِلباقلاّني رحمه الله تعالى ، لكنّه ـ كما ذَكَر الزركشي رحمه الله تعالى ـ قريب مِن الذي قَبْله .
وحُجّتهم : أنّ الاعتقاد الجازم مِن غيْر دليل قاطِع سلامة قَلْب وجَهْل ، بل العالِم الكامل يُشْعِر نَفْسه بالاحتمال حيث لا قاطِع ولا تَسكن نَفْسه (1) .
والراجح عندي : ما عليه أصحاب المذهب الأول ، وهو حصول غلبة الظّنّ بالانتفاء عند الاستقصاء في البحث ؛ لأنّ الجزم بانتفاء الأدلّة فيه كلفة ومشقة حتى لأهْل العِلْم أنفُسهم .
(1) المستصفى /256 ، 257 ويُرَاجَع : البحر المحيط 3/49 ، 50 وتيسير التحرير 1/231 ومُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/268 وشَرْح طلعة الشمس 1/114 وبلوغ المرام في قواعد العامّ /289 ، 290
المطلب الرابع
العامّ بَعْد تخصيصه
اختلَف الأصوليّون في حُكْم العامّ بَعْد تخصيصه : هلْ يَكون حقيقةً في الباقي أم مَجازاً ؟ على مذاهب عدة ، والمشهور منها مذهبان :
المذهب الأول : أنّه مَجاز مُطْلَقاً .
وهو ما عليه جمهور الشّافعيّة والمعتزلة وبعض الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة (1) ، واختاره الكلوذاني (2) وابن الحاجب (3) والبيضاوي (4) .(1/60)
واستدَلّوا بأدلّة ، نَذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ القرينة تدلّ على أنّ المُتَكَلِّم استعمَل لفْظ العموم في البعض ، والقرينة لا يُحتاج إليها إن استُعمِل اللفظ فيما وُضِع له ؛ لأنّها الحقيقة ، ولِذا كان العامّ المُخَصَّص مَجازاً فيما بقي بَعْد التخصيص .
الدليل الثاني : أنّ العامّ لو كان حقيقةً في الباقي بَعْد التخصيص لَلَزم منه الاشتراك ؛ لأنّ العموم هو اللفظ المستغرق ، وبَعْد تخصيصه خرج عن أنْ يَكون مستغرقاً ، فخرج عن موضوعه الأصليّ ، فلا يبقى حقيقةً ، فاستعماله فيما دون الاستغراق استعمال في غيْر ما وُضِع له وهو المَجاز ، ولِذا كان العامّ بَعْد تخصيصه مَجازاً في الباقي .
(1) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 2/209 ، 210 وبيان المختصر 2/132 - 135 والمعتمد 1/262 وميزان الأصول /289 والإبهاج 2/134 وشَرْح الكوكب المنير 3/160
(2) التمهيد لِلكلوذاني 2/138
(3) مختصر المنتهى مع بيان المختصر 2/132
(4) منهاج الوصول مع الإبهاج 2/134
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّا لا نُسَلِّم أنّه لو كان حقيقةً في الباقي يَلزم الاشتراك ؛ وإنّما يَلزم ذلك لو لم يَكُنْ إطلاقه على العموم وعلى الباقي بالاشتراك المعنوي ، فيَكون حقيقةً في كُلّ واحد منهما بطريق التواطؤ .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقدْ رُدّت هذه المناقَشة : بأنّه لو كان كذلك لَمَا كان ظاهراً في العموم ولأَفْضَى إلى رفْع المَجاز مِن الكلام ؛ فما مِن لفْظ إلا ويُمكِن أنْ يقال فيه ذلك ، فيقال " الحمار " مع الإطلاق حقيقةً في البهيمة ، ومع القرينة في الرَّجُل البليد (1) .
المذهب الثاني : أنّه حقيقة في الباقي مُطْلَقاً ، سواء كان المُخَصِّص متصلاً أم منفصلاً ، دليلاً سمعيّاً أم عقليّا .(1/61)
وهو ما عليه الحنابلة وكثير مِن الشّافعيّة والحنفيّة (2) ، وهو قول الإماميْن مالك والشافعي رضي الله عنهما (3) ، واختاره القاضي أبو يعلى (4) وابن السمعاني (5) رحمهما الله تعالى .
واستدَلّوا لِذلك بأدلة ، نَذكر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ الباقي بَعْد التخصيص يسبق إلى الفهم عند إطلاق اللفظ
(1) يُرَاجَع : بيان المختصر 2/134 ، 135 والتمهيد لِلكلوذاني 2/139 ، 140 والإحكام لِلآمدي 2/210 - 213 وشَرْح تنقيح الفصول /226 وتيسير التحرير 1/308 وإرشاد الفحول /234
(2) يُرَاجَع : شَرْح الكوكب المنير 3/160 والعدّة 2/533 والواضح 3/365 وميزان الأصول /289 والإبهاج 2/134 وروضة الناظر 2/709
(3) المنخول /153
(4) العدّة 2/533
(5) قواطع الأدلّة 2/340
عليه ، والسبق إلى الفهم أمَارة الحقيقة ، ولِذا كان العامّ بَعْد تخصيصه حقيقةً في الباقي .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّ الباقي إنّما يسبق عند قرينة الخصوص ، والسبق إلى الفهم علاَمة المَجاز عند القرينة .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وأَرَى أنّ هذه المناقَشة مردودة : بأنّ قرينة الخصوص أو التخصيص إنّما قَصَرَت حُكْم العامّ عن بعض أفراده ، والباقي كما هو حقيقة وليس مَجازاً ؛ لأنّ صفة العامّ لم تَختلف في الحالتيْن كما تَقَدَّم .
الدليل الثاني : أنّ الأصل في الاستعمالِ الحقيقةُ ، والعموم ما تَناوَل شيْئيْن فصاعداً مِن جهة واحدة ، وهذا هو معناه قَبْل التخصيص ، وكذلك بَعْد التخصيص ، ولِذا كان العامّ حقيقةً فيما بقي .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّ تَناوُل اللفظ لا يستوي في الحالتيْن ؛ لأنّه قَبْل التخصيص إنّما كان متناوِلاً له مع غيْر ذلك الباقي ، أمّا بَعْد التخصيص فلا ، ولا يَلزم مِن كوْن تَناوُل اللفظ لِلباقي مع غيْره حقيقةً كوْن تَناوُل اللفظ لِلباقي وحْده حقيقة (1) .
الجواب عن هذه المناقَشة :(1/62)
وأَرَى أنّ هذه المناقَشة مردودة : بأنّكم فَرَّقتم بَيْن عامّ دخله التخصيص وعامّ لم يُخَصَّص وجعلتم التخصيص قرينةً على أنّه ليس على
(1) يُرَاجَع : الوصول إلى الأصول 1/236 ، 237 وشَرْح العضد 2/107 وبيان المختصر 2/135 136 والتمهيد لِلكلوذاني 2/141 ، 142 وشَرْح تنقيح الفصول /226 وإرشاد الفحول /234 والإحكام لِلآمدي 2/210 - 213 وبلوغ المرام في قواعد العامّ /264 - 269
حقيقته ، وحقيقة العامّ أنّه لفْظ وُضِع وضعاً واحداً لِكثير غيْر محصور مستغرق جميع ما يَصْلُح له (1) ، وهذا متحقِّق في العامّ الذي بقي بَعْد التخصيص .
والأَوْلى بالقبول والترجيح : أنّ العامّ بَعْد تخصيصه يصبح حقيقةً في الباقي ، وهو ما عليه أصحاب المذهب الثاني ، وليس مَجازاً كما ذهب أصحاب المذهب الأول ؛ لأنّ لفْظ العامّ متناوِل كُلّ أفراده حقيقةً باتفاق ، وهذا التناول باقٍ على ما كان عليه ، ولا يضرّه طَرْد عدم تَناوُل الغيْر بالتخصيص .
(1) التنقيح 1/56 والتعريفات /159
الفصل الثاني
أنواع المُخَصّصات ، وتعريف الكتاب والسُّنَّة .
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : أنواع المخصّصات .
وفيه مطلبان :
المطلب الأول : أنواع المخصِّصات .
المطلب الثاني : المخصِّصات المُتَّصِلة .
المبحث الثاني : تعريف الكتاب والسُّنَّة .
وفيه مطلبان :
المطلب الأول : تعريف الكتاب العزيز .
المطلب الثاني : تعريف السُّنَّة المطهّرة .
المبحث الأول
أنواع المخصّصات
وفيه مطلبان :
المطلب الأول : أنواع المخصِّصات .
المطلب الثاني : المخصِّصات المُتَّصِلة .
المطلب الأول
أنواع المُخَصّصات
والمراد بالمُخَصِّصات : الأدلّة التي يُخَصَّص بها العموم ، وفيها كان لِلأصوليّين مَنَاحٍ شتى واتجاهات متعدِّدة شكلاً ، متقارِبة رُوحاً ومعنىً ..
ونستطيع أنْ نُحَدِّد ذلك مِن خلال استعراض حصْرها عند الأصوليّين الذين أَذْكُر منهم ما يلي :
الأول : الشيرازي رحمه الله تعالى ..(1/63)
وقدْ قسمها ضرْبيْن : مُتَّصِل ، ومُنْفَصِل .
وحصَر المُتَّصِل في ثلاثة : الاستثناء ، والشرط ، والتقييد بالصفة .
وحصَر المُنْفَصِل في ضرْبيْن :
أولهما : مِن جهة العقل ، وله ضربان .
وثانيهما : مِن جهة الشرع ، وحصَره في ستة :
1- نطْق الكتاب والسُّنَّة .
2- ومفهومهما .
3- وأفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
4- وإقراره .
5- وإجماع الأُمَّة .
6- والقياس (1) .
الثاني : أبو الحسين البصري رحمه الله تعالى ..
(1) يُرَاجَع اللُّمَع /18
وقدْ قسمها قِسْميْن أيضاً : مُتَّصِل ، ومُنْفَصِل .
وحصَر المُتَّصِل في أربعة :
1- شرْط .
2- وصفة .
3- وغاية .
4- واستثناء .
وحصَر المُنْفَصِل في ضرْبيْن : عقْليّ ، وسمْعيّ .
وحصَر السَّمْعيّ في ضرْبيْن :
أولهما : الدلالة ، وحَصَرَها في ثلاثة :
1- الكتاب .
2- والسُّنَّة .
3- والإجماع المقطوع بها .
وثانيهما : الأمَارة ، وحصَرها في اثْنيْن :
1- خبر واحد .
2- وقياس (1) .
وهذا التقسيم بذاته اختاره الكلوذاني رحمه الله تعالى (2) .
الثالث : حُجّة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى ..
وقدْ حصَرها في أنواع عشرة :
1- دليل الحسّ .
2- دليل العقل .
3- دليل الإجماع .
(1) يُرَاجَع المعتمد 1/239
(2) التمهيد لِلكلوذاني 2/71
4- النَّصّ الخاصّ .
5- المفهوم بالفحوى .
6- فِعْل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
7- تقرير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
8- عادة المخاطَبين .
9- مذهب الصّحابيّ .
10- خروج العامّ على سبب خاصّ (1) .
الرابع : ابن الحاجب رحمه الله تعالى ..
وقدْ قسمها قِسْميْن : مُتَّصِل ، ومُنْفَصِل .
وحصَر المُتَّصِل في خمسة :
1- الاستثناء المُتَّصِل .
2- والشرط .
3- والصفة .
4- والغاية .
5- وبدل البعض .
وحَصَر المُنْفَصِل في أربعة عَشَر :
1- العقل .
2- والكتاب بالكتاب .
3- والسُّنَّة بالسُّنَّة .
4- والسُّنَّة بالقرآن .
5- والقرآن بخبر الواحد .(1/64)
(1) يُرَاجَع المستصفى /245 - 248
6- والإجماع يُخَصِّص الكتاب والسُّنَّة .
7- بالمفهوم .
8- بفِعْله - صلى الله عليه وسلم - .
9- تقريره - صلى الله عليه وسلم - .
10- مذهب الصّحابيّ .
11- العادة .
12- إذا وافَق الخاصّ حُكْم العامّ .
13- رجوع الضمير إلى البعض .
14- القياس (1) .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على أنواع المخصّصات عند الأصوليّين ـ والمتقدِّم ذِكْر بعض منها ـ يمكِن التوصل إلى ما يلي :
1- أنّ الكثرة مِن الأصوليّين قسموا المخصّصات إلى قِسْميْن :
الأول : مُخَصِّص مُتَّصِل .
وحصروه في أربعة : الاستثناء ، والشرط ، والصفة ، والغاية (2) .
وزاد البعض : بدل البعض (3) .
الثاني : مُخَصِّص مُنْفَصِل .
2- أنّ الكثرة مِمَّن تَقَدَّم قسموا المُخَصِّص المُنْفَصِل قِسْميْن :
الأول : عقْليّ .
(1) مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/131 ، 2/147 - 145
(2) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 2/286 والتمهيد لِلكلوذانيّ 2/71 والمعتمد 1/239 وقواطع الأدلّة 1/436 والورقات /81 ، 82
(3) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/131 والإبهاج 2/144 وشَرْح طلعة الشمس 1/145
الثاني : سَمْعيّ أو شرْعيّ .
كالشيرازي (1) والبصري (2) وابن السمعاني (3) رحمهم الله تعالى .
ومنهم مَن قسمها ثلاثة أقسام :
الأول : العقل .
الثاني : الحسّ .
الثالث : السَّمْع .
كالفخر الرازي ـ رحمه الله تعالى ـ ومَن تَبِعه (4) .
3- أنّ القائلين بالتقسيم السابق تَفاوَتوا في حَصْر المُخَصِّصات السَّمْعِيّة ..
فمنهم مَن حصَرها في أربعة : كابن السمعاني (5) رحمه الله تعالى .
ومنهم مَن حصَرها في خمسة : كالبصري (6) رحمه الله تعالى .
ومنهم مَن حصَرها في ستة : كالشيرازي والفخر الرازي (7) رحمهما الله تعالى .
ومنهم مَن حصَرها في ثمانية : كالسالمي (8) رحمه الله تعالى .
ومنهم مَن زاد فوْق العشر : كالآمدي وابن الحاجب (9) رحمهما الله تعالى .(1/65)
(1) يُرَاجَع اللُّمَع /18
(2) يُرَاجَع المعتمد 1/239
(3) يُرَاجَع قواطع الأدلّة 1/359
(4) يُرَاجَع : المحصول 1/427 والبحر المحيط 3/355 والإبهاج مع شَرْح المنهاج 1/404 والإبهاج 2/144
(5) يُرَاجَع قواطع الأدلّة 1/361 ، 362
(6) يُرَاجَع المعتمد 1/239
(7) يُرَاجَع : اللُّمَع /18 والمحصول 1/427
(8) يُرَاجَع شَرْح طلعة الشمس 1/158
(9) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 2/286 ومختصر المنتهى 2/131
4- أنّ هناك مِن الأصوليّين مَن حصَر أدلة التخصيص جملةً ..
فمنهم مَن حصَرها في تسعة : كابن قدامة (1) وآل تيمية (2) رحمهم الله تعالى .
ومنهم مَن حصَرها في عشرة : كالغزالي (3) رحمه الله تعالى .
5- أنّ الأَوْلى عندي اتِّباع ما عليه الكثرة في تقسيم المُخَصّصات ، وهو أنّها تَنقسم إلى قِسْميْن :
القِسْم الأول : المُخَصِّصات المُتَّصِلة .
وأنواعها خمسة :
1- الاستثناء .
2- الشرط .
3- الغاية .
4- الصفة .
5- بدل البعض مِن الكُلّ .
القِسْم الثاني : المُخَصِّصات المُنْفَصِلة .
وهي نوعان :
النوع الأول : التخصيص بالدليل العقليّ والحسِّيّ .
النوع الثاني : التخصيص بالدليل السّمعيّ أو الشّرعيّ .
6- أنّه يمكِن حصْر المُخَصِّصات المُنْفَصِلَة السَّمْعِيَّة ( الشَّرْعِيَّة والعقليّة ) في أربعة عَشَر مُخَصِّصاً :
1- الكتاب .
(1) يُرَاجَع روضة الناظر 2/722
(2) يُرَاجَع المسوّدة /119 – 127
(3) يُرَاجَع المستصفى /245 – 248
2- السُّنَّة .
3- الإجماع .
4- القياس .
5- المفهوم .
6- فِعْل الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
7- تقريره - صلى الله عليه وسلم - .
8- مذهب الرّاوي .
9- العادة .
10- خصوصية السبب .
11- عَوْد الضمير إلى بعض أفراد العامّ .
12- ذِكْر بعض أفراد العامّ .
13- عَطْف العامّ على الخاصّ .
14- العقل .(1/66)
7- أنّي جَمَعْتُ المُخَصِّصات المتصلة وحصَرْتُها في المطلب التالي ( المطلب الثاني في هذا المبحث ) ، وقدْ رأيتُ إيجاز القول فيها ؛ حتى لا أَخْرُج عن موضوعية البحث .
8- أنّ المُخَصِّصات المنفصلة الأربعة عَشَر السابقة بَعْد البحث والتمحيص يمكِن تقسيمها إلى الأقسام الثلاثة التالية :
القِسْم الأول : المُخَصِّصات المتعلِّقة بالكتاب العزيز .
وهذا القِسْم يشمل :
1- الكتاب ، أيْ تخصيص الكتاب بالكتاب وبالسُّنَّة المطهّرة .
2- عَوْد الضمير إلى بعض أفراد العامّ .
القِسْم الثاني : المُخَصِّصات المتعلقة بالسُّنَّة المطهّرة .
وهذا القِسْم يشمل :
1- السُّنَّة ، أيْ تخصيص السُّنَّة بالكتاب وبالسُّنَّة .
2- إقراره - صلى الله عليه وسلم - .
3- مذهب الرّاوي .
4- خصوص السبب .
5- إفراد فَرْد مِن أفراد العامّ بحُكْمه .
6- العطف على الخاصّ .
القِسْم الثالث : مُخَصِّصات متعلقة بعموم الكتاب والسُّنَّة .
وهذا القِسْم يشمل :
1- التخصيص بفِعْله - صلى الله عليه وسلم - .
2- التخصيص بالإجماع .
3- التخصيص بالقياس .
4- التخصيص بالعرف والعادة .
5- التخصيص بالمفهوم .
6- التخصيص بدليل العقل .
وقدْ خصصتُ الفصول التالية ـ الثالث والرابع والخامس ـ لِدراسة هذه الأقسام الثلاثة وفْق هذا الترتيب ، والآتي ـ بإذْن الله تعالى ـ تفصيل القول فيها .
المطلب الثاني
المُخَصِّصات المُتَّصِلة
والمُخَصّص المُتَّصِل هو : ما لا يَسْتَقِلّ عن الكلام السابق ، بلْ يَكون التَّكَلُّم به مُتَوَقِّفاً على الكلام الذي اشْتَمَلَ على المُخَصَّص (1) .
أنواع المُخَصِّصات المُتَّصِلة :
الكثرة مِن الأصوليّين (2) حَصَرَتْها في أربعة ، وهي : الاستثناء ، والشَّرْط ، والصِّفَة ، والغاية ..
وزاد البعض (3) : بدل البعض مِن الكُلّ .
ونُوجِز القول في كُلّ نَوْع مِن هذه الأنواع الخمسة فيما يلي :
النّوع الأول : الاستثناء(1/67)
ونُوجِز القول في الاستثناء على النحو التالي :
1- تعريف الاستثناء .
2- أقسامه .
3- شروط صحّة الاستثناء .
4- أحكام الاستثناء .
(1) أصول الفقه لِلشيخ زهير رحمه الله تعالى 2/270
(2) يُرَاجَع : الورقات /81 ، 82 والتمهيد لِلكلوذاني 2/71 واللُّمَع /18 وقواطع الأدلّة 1/436
(3) يُرَاجَع : مُخْتَصَر المنتهى مع شَرْح العضد 2/131 وجَمْع الجوامع مع حاشية البناني 2/26 ومُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/344 وشَرْح طلعة الشمس 1/145
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها فيما يلي :
أوّلاً - تعريف الاستثناء :
وقدْ تَقَدَّم تعريف الاستثناء لغةً واصطلاحاً (1) ، وأنّ تعريف الفخر الرازي له بأنّه ( إخراج بعض الجملة مِن الجملة بلفظ " إلا " أو ما أقيمَ مقامه ) هو الراجح عندي ، فلا داعي لِتكراره .
ثانياً - أقسامه :
والاستثناء قِسْمان :
الأول : استثناء مُتَّصِل ..
وهو : ما كان المستثنى مِن جِنْس المستثنى منه .
نَحْو : قام القوم إلا زيْداً .
والثاني : استثناء مُنْفَصِل ( مُنْقَطِع ) .
وهو : ما كان المستثنى مِن غيْر جِنْس المستثنى منه .
نَحْو : قام القوم إلا أسد .
واتَّفَق العلماء على أنّه حقيقة في المُتَّصِل ، واخْتَلَفوا في المُنْقَطِع : هلْ هو حقيقة فيه أو مَجاز (2) ؟
ثالثاً – شروط صحّة الاستثناء :
1- أنْ يَكون مُتَّصِلاً بالمستثنى منه حقيقةً ، أو في حُكْم الاتصال إذا قَطَعهلِعُذْر : كسعال أو عطاس ، مِمَّا لا يُعَدّ فاصلاً بَيْن أجزاء الكلام .
وحُكِي عن ابن عباس رضي الله عنْهما جواز تأخيره ، وقال الشيرازي ـ رحمه الله تعالى ـ وغيْره : ولا يَصِحّ عنه ، وهو بعيد .
(1) يُرَاجَع صفحة 37 مِن هذا البحث .
(2) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 2/288 والبحر المحيط 3/377 وأصول الفقه لِلشيخ زهير رحمه الله تعالى 2/270 ، 271
وذهب بعض الفقهاء إلى صحّة المُنْفَصِل في كتاب الله تعالى دُون غيْره .(1/68)
2- أنْ يَكون غيْر مُسْتَغْرق ، فإنْ كان مُسْتَغْرقاً فهو باطِل بالإجماع ، نَحْو : قوله " له عَلَيّ عشرة إلا عشرة " .
واخْتَلَفوا في استثناء النِّصْف والأكثر :
فشَرَط الحنابلة أنْ لا يزيد المستثنى على نِصْف المستثنى منه ، فلا يَصِحّ " له عَلَيّ عشرة إلا ستّة " ، ويَصِحّ " له عَلَيّ عشرة إلا خمسة " .
وشَرَط القاضي أبو بَكْر رحمه الله تعالى أنْ ينقص المستثنى عن نِصْف المستثنى منه ، أمّا غيْر ما تَقَدَّم فلم يشترط ذلك .
3- أنْ يَقْتَرِن قَصْده بأوّل الكلام ، فإنْ بَدَا له عقب الفراغ منه أو في أثنائه ففيهما خلاف .
4- أنْ يلي الكلام بِلا عَطْف ، فلو ولي الجملة بحَرْف العطف كان لغواً باتِّفاق ، نَحْو : " له عندي عشرة دراهم وإلا درهماً " أو " فإلا درهما " (1) .
رابعاً – أحكام الاستثناء :
وقدْ حَصَرْتُ في هذا المقام أربعة أحكام ، أُفَصِّلها فيما يلي :
1- حُكْم الاستثناءات المُتَعَدِّدة :
إنْ تَعاطَفَتْ ـ نَحْو : " له عَلَيّ عشرة إلا ثلاثةً وإلا اثْنَيْن " ـ وإنْ لم تَكُنْ معطوفةً واسْتَغْرَق الاستثناءُ الأخيرُ الاستثناءَ الأولَ ـ نَحْو : " له عَلَيّ عشرة إلا أربعةً إلا خمسةً " ، أو مُسَاوِياً له ـ نَحْو : " له عَلَيّ عشرة
(1) يُرَاجَع : اللُّمَع /22 ، 23 والتمهيد لِلكلوذاني 2/77 - 84 والعدّة 2/666 - 672 والإحكام لِلآمدي 2/289 - 297 والبحر المحيط 3/284 - 293 وإرشاد الفحول /147 - 149
إلا أربعةً إلا أربعةً " ـ وفي هذه الصور الثلاث يَعُود الاستثناءات إلى المُتَقَدِّم منها ، وهو المستثنى منه الأول ، فيَلْزَم به في الأول خمسة ، وفي الثاني واحد ، وفي الثالث اثنان .(1/69)
وإنْ لم تَكُنْ متعاطِفةً وكان الاستثناء الأخير أَقَلّ مِن الأول عاد الاستثناء الثاني إلى الأول ، نَحْو : " له عَلَيّ عشرة إلا ثلاثةً إلا اثْنَيْن " ؛ لأنّ الأول أَقْرَب مِن الأخير ، ولا يجوز العَوْد إليهما معاً ، ولِذا يلزمه سبعة وليس خمسة (1) .
2- حُكْم الاستثناء مِن الإثبات والعكس :
مثال الاستثناء مِن الإثبات : قوله " قام القوم إلا زَيْداً " ؛ فإنّه يَكون نفياً لِلقيام مِن زَيْد بالاتِّفَاق .
ومثال الاستثناء مِن النَّفْي : قوله " ما قام أحد إلا زَيْد " ؛ فهو إثبات ، وذهب بعضهم إلى أنّه ليس إثباتا (2) .
3- حُكْم الاستثناء المُعَقّب لِلْجُمَل المتعاطفة :
مثاله : قوله تَبَارَك وتعالى { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَنِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَدَةً أَبَدًا وَأُولَئكَ هُمُ الْفَسِقُون * إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم } (3) ..
وفيها ثلاث جُمَل معطوفة قَبْل الاستثناء ، وهي : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
(1) يُرَاجَع : المنهاج مع شَرْح المنهاج 1/290 ، 291 ونهاية السول 2/103 ومناهج العقول 2/106 ، 107 وإرشاد الفحول /152
(2) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 2/308 ونهاية السول 2/99 ، 100 ومعه منهاج الوصول 2/107 والبحر المحيط 3/301
(3) سورة النور الآيتان 4 ، 5
الْمُحْصَنَت } ، و{ وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَدَةً أَبَدا } ، و{ وَأُولَئكَ هُمُ الْفَسِقُون } .
والاستثناء الواقع بَعْدها : { إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِك } .
والكثرة أنّ الحُكْم يَعُود إلى جميع ما تَقَدَّم ذِكْره ، وقالت الحنفيّة وبعض المعتزلة : يَعُود إلى أَقْرَب مذكور ، وتَوَقَّف الأشعريّة (1) .
4- حُكْم الاستثناء مِن غيْر الجنس :(1/70)
يجوز الاستثناء مِن الجنس بِلا خلاف ، نَحْو : " قام القوم إلا زيداً " .
أمّا الاستثناء مِن غيْر الجنس ( المُنْقَطِع ) : ففيه خلاف ، وجَوَّزه الحنفيّة والمالكيّة وبعض الشّافعيّة ، نَحْو : قوله تعالى { فَسَجَدَ الْمَلَئكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيس }(2)؛ فاسْتَثْنَى إبليس مِن الملائكة وليس منهم(3).
النّوع الثاني : الشَّرْط
وهو لغةً : العلاَمة (4) .
واصطلاحاً : ما يَلْزَم مِن عدمه العدم ، ولا يَلْزَم مِن وجوده وجود ولا عدم لِذاته (5) .
وأقسامه :
1- عَقْليّ : كالحياة لِلعِلْم .
(1) يُرَاجَع : اللُّمَع /22 ، 23 والعدّة /678 ، 679 والتمهيد لِلكلوذاني 2/91 ، 92 والإحكام لِلآمدي 2/300 والمنهاج مع شرْحه 1/391 - 396
(2) سورة الحِجْر مِن الآيتيْن 30 ، 31 ، سورة ص مِن الآيتيْن 73 ، 74
(3) يُرَاجَع : اللُّمَع /22 والتمهيد لِلكلوذاني 2/85 والعدّة 2/673 والإحكام لِلآمدي 2/290 ، 291 وإحكام الفصول /275 وكشْف الأسرار لِلبخاري 3/264 - 268 وتيسير التحرير 1/283
(4) الكُلِّيّات /529
(5) شَرْح تنقيح الفصول /83 ويُرَاجَع : جَمْع الجوامع مع المَحَلّي مع البناني 2/20 ، 21 وغاية الوصول /13
2- شَرْعِيّ : كالطّهارة لِلصلاة ، والإحصان لِلرَّجْم .
3- لغويّ : نَحْو : " إنْ دَخَلْتِ الدّار فأنتِ طالِق " .
4- عاديّ : كنَصْب السُّلَّم لِصعود السّطْح (1) .
أدواته :
مِن الحروف : إنْ ، وإذا .
مِن الأسماء : مَن ، وما ، وأيّ ، ومَهْمَا .
مِن الظّروف : أيْن ، وأَنَّى ، ومتى ، وحيثما ، وأيْنما ، ومتى ، وما ، وكيْف (2) .
والمراد بالشرط هُنَا صيغته ؛ لأنّ الكلام في المُخَصّص المُتَّصِل ، والمراد بالصيغةِ الجملةُ مِن أداة الشرط وفِعْله ؛ إذ هي التي يَحْصُل بها التخصيص لا الأداة فقط ، نَحْو : قوله " أَكْرِمْ بني تميم إنْ جاءوك " أيْ تخصيص الإكرام بالجائين فقط دون غيْرهم (3) .
أحكامه :(1/71)
والشَّرْط كالاستثناء اتِّصالاً ، إلا أنّه في تَعَقُّبه الجُمَل يَعُود على الكُلّ ؛ لأنّه مُقَدَّم تقديراً ، نَحْو : قوله " أَكْرِمْ بني تميم ، وأَحْسِنْ إلى ربيعة ، واخْلَعْ مُضَر إنْ جاءوك " (4) .
كما أنّه ليس كالاستثناء في قاعدة الاستثناء مِن الإثبات نَفْي والعكس (5) والأصل أنّ الشَّرْط مُوجِب لِتخصيص المشروط فيه ، إلا أنْ يَقَع مَوْقِع
(1) يُرَاجَع : شَرْح تنقيح الفصول /85 وشَرْح الكوكب المنير 1/455 والمدخل /68
(2) يُرَاجَع : المستصفى /261 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/145 والبحر المحيط 3/309 310 وروضة الناظر 2/761 والمختصر في أصول الفقه /66
(3) يُرَاجَع حاشية النفحات مع الورقات /81 ، 82
(4) يُرَاجَع : جَمْع الجوامع مع شَرْح المَحَلّي مع البناني 2/22 ، 23 ومُسَلَّم الثبوت 1/342
(5) شَرْح طلعة الشمس 1/154
التأكيد أو غالِب الحال ، فيَنْصَرِف بالدليل عن حُكْم الشرط ولا يَكون مُخَصّصا .
مثال ما وَقَع مَوْقِع التأكيد : قوله تعالى { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } (1) ؛ فالخوف ليس بشرط مُخَصّص لِللفظ بحالته ؛ وإنّما هو لِلتأكيد .
ومثال ما وَقَع مَوْقِع غالِب الحال : قوله تعالى { وَرَبَئبُكُمُ الَّتِى فِى حُجُورِكُم مِّن نِّسَائكُمُ الَّتِى دَخَلْتُم بِهِنّ } (2) ؛ فكَوْنهنّ في الحجور ليس بشرط مُخَصّص ؛ وإنّما ذُكِر لأنّه غالِب الحال (3) .
النّوع الثالث : الصِّفَة
وهي لغةً : الاسم الدّالّ على بعض أحوال الذّات ، وذلك نَحْو : طويل وقصير وعاقِل وأحمق وغيْرها (4) .
والمراد بالصفة هُنَا هي المعنويّة على ما حَقَّقه علماء البيان ، لا مُجَرَّد النعت المذكور في عِلْم النَّحْو (5) .(1/72)
ومثال التخصيص بالصفة : قوله " أَكْرِمْ بني تميم الطِّوَال " ؛ فقَصَر الصفة ( الطوال ) العامّ ( بني تميم ) على بعض أفراده وهم الطّوال (6) .
وحُكْمها : كالاستثناء في العطف على مُتَعَدِّد أو عقب الجُمَل ، نَحْو :
(1) سورة النساء مِن الآية 101
(2) سورة النساء مِن الآية 23
(3) قواطع الأدلّة 1/467 ، 468 بتصرُّف ويُرَاجَع الشرط في : اللُّمَع /23 ، 24 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/146 ، 147 والإحكام لِلآمدي 2/309 - 311 والمستصفى /261 ، 262 وقواطع الأدلّة 2/467 - 470 وشَرْح طلعة الشمس 1/104 وإرشاد الفحول /153
(4) التعريفات /145
(5) إرشاد الفحول /153
(6) يُرَاجَع : شَرْح العضد 2/146 والإحكام لِلآمدي 2/312
" أَكْرِمْ بني تميم ومُضَر وربيعة الطّوال " : هلْ هو لِلجميع أو لِلأخير ؟ كما تَقَدَّم الخلاف فيه (1) .
أمّا إنْ كان الموصوف واحداً ـ نَحْو : قوْله تَبارَك وتعالى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَة } (2) فلا شكّ في عَوْد الصفة إليه .
النوع الرابع : الغاية
وهي لغةً : ما يؤدِّي إليه الشيء ويَتَرَتَّب هو عليه (3) .
وصِيَغها ( أَحْرفها ) أربعة : إلى ، وحتّى ، واللام ، وأو .
أمثلتها :
1- قوله تعالى { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْل } (4) .
2- قوله تعالى { وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْن } (5) .
3- قوله تعالى { سُقْنَهُ لِبَلَدٍ مَيِّت } (6) .
4- قول الشاعر : لأَستسهلنّ الصعب أو أُدْرِك المُنَى (7) .
حُكْمها :
وحُكْم ما بَعْدها يخالِف حُكْم ما قَبْلها ؛ لأنّ حُكْم ما قَبْلها لو بقي فيما وراء الغاية لم تَكُن الغاية غايةً ، بلْ وسطاً بِلا فائدة (8) .
(1) يُرَاجَع : المنهاج مع شَرْح المنهاج 1/402 والإحكام لِلآمدي 2/312 وفواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/344 وشَرْح المحلّي مع جَمْع الجوامع 2/23
(2) سورة النساء مِن الآية 92
(3) الكُلِّيَّات /669 والتعريفات /175(1/73)
(4) سورة البقرة مِن الآية 187
(5) سورة البقرة مِن الآية 222
(6) سورة الأعراف مِن الآية 57
(7) باقي البيت : فما انقادت الأيام إلا لِصابرِ .. يُرَاجَع : شَرْح ابن عقيل /190 ، 191 وشَرْح قطْر الندى /95 ، 96
(8) يُرَاجَع شَرْح المنهاج 1/402 ، 403 وشَرْح الكوكب المنير 3/351 ، 352
والغاية كالشَّرْط في تخصيص العموم بها ، نَحْو : قوله تعالى { قَتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الاخِر ... } إلى قوله تعالى { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَغِرُون } (1) ؛ فإعطاء الجزية غاية في قتالهم قَبْلها ، ووَجَب الكفّ عنهم بَعْدها .
وقدْ يَتَعَلَّق الحُكْم المشروط بغاية وشَرْط معاً ، نَحْو : قوله تعالى { وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّه } (2) ؛ فالغاية هُنَا انقطاع دم الحيض ، والشرْط الغُسْل ، وكلاهما لازِم لإباحة الجماع ، والتخصيص واقِع باجتماعهما ، ولا يقع بوجود أحدهما (3) .
كما أنّ الغاية المذكورة عقب جُمَل متعدِّدة حُكْمها حُكْم الاستثناء (4) .
النّوع الخامس : بدل البعض مِن الكُلّ
مثاله : قوله تعالى { ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِّنْهُم } (5) .
ومِنْه : " أَكْرِم الناس العلماء "
ونَحْوه : " أَكْرِمْ بني تميم العلماء منهم " .
ونَحْوه : " أَكَلْتُ الرغيف ثلثه " .
واخْتَلَف الأصوليّون في كَوْنه مُخَصِّصاً على مذْهبيْن :
المذهب الأول : أنّه لا يُعَدّ مُخَصّصاً .
وهو ما عليه الكثرة مِن الأصوليّين .
المذهب الثاني : أنّه يُعَدّ مُخَصِّصاً .
(1) سورة النساء مِن الآية 92
(2) سورة التوبة مِن الآية 92
(3) قواطع الأدلّة 1/470 ، 471 بتصرف .
(4) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 2/313 ومُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/343
(5) سورة البقرة مِن الآية 222(1/74)
وهو اختيار ابن الحاجب ، وتَبِعه ابن السبكي والأنصاري (1) رحمهم الله تعالى (2) .
والراجح عندي : أنّ بدل البعض مِن الكُلّ فيه قَصْر لِلحُكْم عن بعض الأفراد ، وهو معنى التخصيص ..
فقوله " أَكَلْتُ الرغيف ثلثه " فيه قَصْر لِلأكل على الثلث دُون باقيه .
ولِذا كان اختيار ابن الحاجب ـ رحمه الله تعالى ـ عندي أَوْلى بالقبول.
(1) بحْر العلوم الأنصاري : هو أبو العباس عبد العليّ محمد بن نظام الدين محمد اللكنوي الحنفي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ منطقيّ ..
مِن مصنَّفاته : فواتح الرحموت شرْح مُسَلَّم الثبوت .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 1180 هـ .
الفتح المبين 3/132
(2) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/131 ، 132 وجَمْع الجوامع مع شَرْح المحلّي 2/42 والبحر المحيط 3/350 وفواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/344 وشَرْح طلعة الشمس 1/145 وإرشاد الفحول /154 ، 155
المبحث الثاني
تعريف الكتاب والسُّنَّة
وفيه مطلبان :
المطلب الأول : تعريف الكتاب العزيز .
المطلب الثاني : تعريف السُّنَّة المطهّرة .
المطلب الأول
تعريف الكتاب العزيز
تعريف الكتاب العزيز لغةً واصطلاحاً :
والكتاب لغةً : مَصْدَر " كَتَب " ثُمّ سُمِّي المكتوب فيه " كتاباً " ، فهو اسم لِلصحيفة مع المكتوب فيها .
والكتب : الجَمْع والضَّمّ ، ومنه ضمّ أديم إلى أديم بالخياطة ، وهو الفرض والحُكْم والقَدَر (1) .
ومِمَّا تَقَدَّم يَكون معنى الكتاب لغةً : الضّمّ والجَمْع والفرض والحُكْم والقَدَر ، وأَرَى أنّ هذه المَعاني جميعاً مُتَحَقِّقة في الكتاب العزيز .
وأمّا الكتاب اصطلاحاً :
فالكتاب عند علماء الشريعة هو القرآن الكريم ، وهو أحد أسمائه الكثيرة التي سَمّاه الله عَزّ وجَلّ بها ، منها : الفرقان ، والذِّكْر ، والتنزيل والقرآن ، والكتاب ، والغالب منها اسمان : القرآن ، والكتاب ..(1/75)
وهو قرآن لأنّه مَتْلُوّ بالألسُن ، وهو كتاب لأنّه مُدَوَّن بالأقلام ، فكِلْتَا التَّسْمِيَتَيْن مِن تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه (2) .
وعلى ضوء ما تَقَدَّم كان تعريف الكتاب العزيز ـ أو القرآن الكريم ـ اصطلاحاً هو : ( كلام الله تعالى المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - لِلإعجاز ولو بآية منه ، والمُتَعَبَّد بتلاوته ، والمنقول إلينا تَواتُرا ) .
(1) يُرَاجَع : القاموس المحيط 1/125 ، 126 والمفردات /638 ، 639
(2) يُرَاجَع النَّبَأ العظيم /12
شَرْح التعريف :
( كلام ) : كالجنس في التعريف ، يشمل كلام الله تعالى وكلام غيْره .
( الله تعالى ) : قَيْد أوّل ، خَرَج به كلام غيْر الله تعالى ، فلا يَكون قرآناً ، وكلامه تعالى هو الأزليّ القديم .
( المنزل ) : قيْد ثانٍ ، خَرَج به كلام الله تعالى النَّفْسِيّ الذي استأثَر بعِلْمه .
( على محمد - صلى الله عليه وسلم - ) : قَيد ثالث ، خَرَج به جميع الكتب السّماويّة التي أُنْزِلَتْ على المُرْسَلين قَبْل النَّبِيّ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ؛ فلا تُسَمَّى " قرآنا " .
( لِلإعجاز بآية منه ) : قَيْد رابِع ، ذُكِر لِبيان الواقع وأنه أَعْجَز أهْل البلاغة والفصاحة أنْ يأتوا بأَقْصَر سورة أو أَقَلّ مِن ذلك وهو آية فلم يَقْدِروا .
( المُتَعَبَّد بتلاوته ) : قَيْد خامِس ، خَرَج به الأحاديث القدسيّة والنَّبَوِيّة فكلاهما وَحْي مِن الله تعالى ولا يُتَعَبَّد بتلاوتهما ولا تَصِحّ الصلاة بأيّ منهما .
( المنقول إلينا تَوَاتُراً ) : قَيْد خامِس ، خَرَج به قراءة الآحاد والقراءات الشّاذّة ؛ فإنّها لا تُعَدّ قرآنا (1) .
(1) يُرَاجَع : البحر المحيط 1/441 ، 442 والمستصفى /81 والتلويح مع التنقيح 1/46 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/18 وإرشاد الفحول /29 ، 30 ومَبَاحث في علوم القرآن /16 ، 17
المطلب الثاني
تعريف السُّنَّة المطهّرة(1/76)
تعريف السُّنَّة لغةً واصطلاحاً :
والسُّنَّة لغةً : السِّيرة والعادة والطَّريقة المعتادة ، حسنةً كانت أم سَيِّئَة (1) .
والسُّنَّة اصطلاحاً :
لها تعريفات ثلاثة :
التعريف الأول : لِلْمُحَدِّثين ..
وهي : ( ما أُثِر عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مِن قَوْل أو فِعْل أو تقرير (2) أو صِفَة خَلْقِيّة أو خُلُقِيَّة أو سيرة ، سواء كان قَبْل البعثة أو بَعْدها ) (3) .
وقدْ يَسْتَعْمِلونها في مُقَابِل البدعة ، وفي الصدر الأول على طريقة الخلفاء الراشدين .
التعريف الثاني : لِلأصوليّين ..
وهي : ( ما ثبت عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مِن قول أو فِعْل أو تقرير ) .
التعريف الثالث : لِلفقهاء ..
وهي : ( ما ليس واجباً ، وفي العبادات النافلة والمندوب ) ..
(1) يُرَاجَع : القاموس المحيط 4/238 ، 239 وشَرْح العضد 2/22 وإرشاد الفحول /33
(2) التقرير هو : أنْ يَفْعَل أحد فعلاً عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد اطَّلَع عليه ولم يَنْهَه عنه بلْ سَكَت ..
شَرْح الديباج المُذهب /6
(3) قواعد التحديث /35 – 38 ويُرَاجَع : بحوث مِن السُّنَّة المطهّرة 1/45 والسُّنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي /65
كقولهم : صلاة الضحى سُنَّة ، وصَوْم عرفة سُنَّة ، والسواك سُنَّة .
وقيل : هي ( ما واظَب على فِعْله النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مع تَرْك بِلا عُذْر ) .
والمقصود عندنا هو التعريف الثاني ؛ لأنّا نَدْرِس السُّنَّة باعتبارها مَصْدَراً لِلتشريع نستقي منها الأحكام بشتّى أقسامها (1) .
(1) يُرَاجَع : التلويح مع التنقيح 2/3 وشَرْح العضد 2/22 وجَمْع الجوامع مع شَرْح المحلّي 2/94 ، 95 وإرشاد الفحول /33
الفصل الثالث
تخصيص الكتاب العزيز وأثره في الأحكام
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : تخصيص الكتاب بالكتاب وبالسُّنَّة .
وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : تخصيص الكتاب بالكتاب .(1/77)
المطلب الثاني : تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة .
المطلب الثالث : تخصيص الكتاب بخبر الآحاد .
المطلب الرابع : إذا خُصّ أحد العموميْن : هلْ يَلْزَم منه تخصيص الآخَر ؟
المبحث الثاني : أثر تخصيص الكتاب في الأحكام .
وفيه فروع :
الفرع الأول : نكاح الكتابيّة .
الفرع الثاني : أكْل ميتة السمك والجراد .
الفرع الثالث : الجَمْع بَيْن المرأة وعمّتها أو خالتها .
المبحث الأول
تخصيص الكتاب بالكتاب وبالسُّنَّة
وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : تخصيص الكتاب بالكتاب .
المطلب الثاني : تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة .
المطلب الثالث : تخصيص الكتاب بخبر الآحاد .
المطلب الرابع : إذا خُصّ أحد العموميْن : هلْ يَلْزَم منه تخصيص الآخَر ؟
المطلب الأول
تخصيص الكتاب بالكتاب (1)
اخْتَلَف الأصوليّون في جواز تخصيص الكتاب بالكتاب على مَذَاهب ، حَصَرها البعض في ثلاثة :
المذهب الأول : جواز التخصيص مُطْلَقاً .
وهو ما عليه الجمهور .
المذهب الثاني : عدم جوازه مُطْلَقاً .
نَسَبه الأنصاري إلى البعض .
المذهب الثالث : جواز التخصيص إنْ كان الخاصّ متأخِّراً وموصولاً بالعامّ وإنْ كان مُتَرَاخِياً يَنْسَخه .
وهو ما عليه الحنفيّة وبعض الأصوليّين (2) .
والكثرة مِن الأصوليّين حَصَرَتْها في مذْهبيْن :
المذهب الأول : جواز التخصيص مُطْلَقاً .
وهو ما عليه الجمهور .
المذهب الثاني : عدم جواز تخصيص الكتاب بالكتاب .
(1) هذه المسألة أَوْرَدها الحنفيّة وبعض الأصوليّين مِن غيْرهم في تَعارُض العامّ والخاصّ ، يُرَاجَع في ذلك : ميزان الأصول /323 ، 327 وبَذْل النظر /233 وكَشْف الأسرار لِلنسفي 1/167 وأصول السرخسي 1/132 - 136 والتوضيح 1/67 وتيسير التحرير 1/271 والتمهيد لِلكلوذاني 2/151 والواضح 3/434
(2) يُرَاجَع : فواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/245 والتنقيح 1/67 وشَرْح المنهاج 1/408(1/78)
ونَسَب الآمدي هذا المذهب لِبعض الطوائف (1) ، ونَسَبه الفخر الرازي لِبعض أهْل الظاهر (2) ، والبعض أَوْرَده بصيغة التضعيف " وقيل " (3) .
وحَصَر ابن الحاجب رحمه الله تعالى المذاهب في مذْهبيْن :
الأول : وهو المُتَقَدِّم ذِكْره عند الجميع .
الثاني : وهو جواز التخصيص إنْ كان الخاصّ متأخِّراً ، وإلا فالعامّ ناسِخ وإنْ جُهِل تَساقَطَا .
ونَسَبه إلى الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - والقاضي أبي بَكْر وإمام الحرميْن رحمهما الله تعالى (4) .
وهذه النسبة إلى إمام الحرميْن فيها نظر ؛ لأنّ الثابت عنه في " الورقات " الجواز مُطْلَقاً في قوله :" ويجوز تخصيص الكتاب بالكتاب " ا.هـ (5) .
ومِمَّا تَقَدَّم أَرَى : أنّ المُجَوِّزين لِتخصيص الكتاب بالكتاب إنْ كان الخاصّ متأخِّراً ـ وهُمْ أصحاب المذهب الثالث عند الفريق الأول ، والثاني عند ابن الحاجب رحمه الله تعالى ـ خلاف المانعين لِجواز تخصيص الكتاب بالكتاب مُطْلَقاً ، وهُمْ أصحاب المذهب الثاني عند الفريق الأول والثاني ، ولم يَتَعَرَّضْ لِذِكْره ابن الحاجب رحمه الله تعالى ، ولِذا كان الأَوْلى عندي حَصْر المذاهب في هذا المقام في ثلاثة ، وهو ما ذهب إليه الحاصرون الأُوَل ..
(1) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 2/318 والمستصفى /246
(2) يُرَاجَع : المحصول 1/428 والبحر المحيط 3/361 وإرشاد الفحول /157 وأصول الفقه لِلشيخ زهير رحمه الله تعالى 2/303
(3) يُرَاجَع : شَرْح المحلّي مع جَمْع الجوامع مع البناني 2/26 وشَرْح طلعة الشمس 1/155
(4) مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/147
(5) الورقات مع حاشية النفحات /88
وفيما يلي أَسْتَعْرِض كُلّ واحد منها مع أدلّته ومناقَشة ما يحتاج إلى ذلك مع الترجيح ..
المذهب الأول : جواز تخصيص الكتاب بالكتاب مُطْلَقاً ، سواء تَقَدَّم العامّ أو تَقَدَّم الخاصّ أو جُهِل تاريخاهما (1) .(1/79)
وهو ما عليه الكثرة مِن الأصوليّين ، واختاره الشيرازي (2) والغزالي (3) والكلوذاني (4) والقاضي أبو يعلى (5) وابن الحاجب (6) رحمهم الله تعالى .
واحْتَجّوا لِذلك بأدلّة مِن المنقول والمعقول ، نَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول ( دليل الوقوع ) : قوله تعالى { وَالْمُطَلَّقَتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَثَةَ قُرُوء } (7) مع قوله تعالى { وَأُولَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ } (8) وقوله تعالى { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } (9) ..
وجْه الدلالة : أنّ الآية الكريمة الأُولى حَدَّدَتْ عِدّة المُطَلَّقَة مُطْلَقاً ـ حاملاً أو حائلاً ، قَبْل الدخول أو بَعْده ـ بثلاثة قروء ، وأنّ الآية الكريمة الثانية عارَض لَفْظها هذا الحُكْم حينما جعلَت عِدّة الحامل وَضْع حَمْلها ، ولِذا لا يُمْكِن الجَمْع بَيْنهما إلا بجعل حُكْم الأُولى عامّاً في كُلّ مُطَلَّقَة إلا
(1) يُرَاجَع شَرْح العضد 2/147
(2) اللُّمَع /18
(3) المستصفى /246
(4) التمهيد 2/148
(5) الواضح 3/434
(6) مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/147
(7) سورة البقرة مِن الآية 228
(8) سورة الطلاق مِن الآية 4
(9) سورة الأحزاب مِن الآية 49
ذوات الحَمْل ، وهذا هو التخصيص بعَيْنه .
وأنّ الآية الكريمة الثالثة عارَض لَفْظها عموم الآية الكريمة الأُولى حينما لم تُوجِبْ عِدّةً لِلْمُطَلَّقَة قَبْل الدخول ، ولِذا لا يُمْكِن الجَمْع بَيْنهما إلا بجعل حُكْم الأولى عامّاً في كُلّ مَطَلَّقة إلا المُطَلَّقة قَبْل الدخول ؛ فلا عِدّة لها .(1/80)
ومِمَّا تَقَدَّم كان عموم آية { وَالْمُطَلَّقَتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَثَةَ قُرُوء } مُخَصَّص بآية { وَأُولَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ } وكذا بآية { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } ، فدَلّ ذلك على وقوع تخصيص الكتاب بالكتاب ، والوقوع دليل الجواز ، وإلا لَمَا وَقَع (1) .
الدليل الثاني ( دليل الوقوع أيضاً ) : قوله تعالى { وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَتِ حَتَّى يُؤْمِنّ } (2) مع قوله تعالى { وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ مِن قَبْلِكُم } (3) ..
وجْه الدلالة : أنّ الآية الكريمة الأولى حَرَّمَت على المُسْلِم نكاح المشرِكات ، وهي عامّة في كُلّ مشرِكة ، كتابيّةً كانت أم غيْر كتابيّة ، لكنّ الآية الكريمة الثانية أباحت لِلمُسْلِمِ الزواجَ مِن الكتابيّات ، وهذا تَعارُض ظاهريّ بَيْن الآيتيْن ، أعني الحُكْمَيْن ، ولا يُرْفَع هذا التعارض إلا بالقول ببقاء عموم الأُولى في التحريم إلا الكتابيّات ، وهذا هو التخصيص بعَيْنه ، فدَلّ ذلك على وقوع التخصيص في الكتاب العزيز ، والوقوع دليل الجواز
(1) يُرَاجَع : البحر المحيط 3/361 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/147 ، 148 وفواتح الرحموت 1/346 وشَرْح طلعة الشمس 1/155 وإرشاد الفحول /157
(2) سورة البقرة مِن الآية 221
(3) سورة المائدة مِن الآية 5
وإلا لَمَا وَقَع (1) .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّ آية المحصَنات مِن أهْل الكتاب نَزَلَتْ بَعْد آية تحريم نكاح المُشْرِكات ، ولِذا كان المُتَقَدِّم ـ وهو آية المُشْرِكات ـ منسوخاً ، والمتأخِّر ـ وهو آية المحصَنات ـ ناسخاً ، وليس تخصيصاً كما ادَّعَيْتُمْ ..(1/81)
وَرَد ذلك صريحاً فيما رواه البيهقي (2) رحمه الله تعالى عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى { وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَتِ حَتَّى يُؤْمِنّ } قال :" نُسِخَتْ ، وَأُحِلَّ مِنَ الْمُشْرِكَاتِ نِسَاءُ أَهْلِ الْكِتَاب " (3) .
ورُوِي عنه ـ أيضاً ـ أنّه قال :" نُسِخَ مِنْ ذَلِكَ نِكَاحُ أَهْلِ الْكِتَابِ ؛ أَحَلَّهُنَّ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَحَرَّمَ الْمُسْلِمَاتِ عَلَى رِجَالِهِم " (4) (5) .
جوابي عن هذه المناقَشة :
وأَرَى أنّ هذه المناقَشة مردودة بوجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ القول بالنسخ هُنَا لِعِلّة تأخير النزول يُوقِعنا في حَرَجَيْن:
الأول : تَرْك إعمال أحد الدّليليْن دُون مُسَوِّغ مقبول ، وإعمالهما هو
(1) يُرَاجَع : الواضح 3/434 والعدّة 2/615 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/147 ، 148 والإحكام لِلآمدي 2/318
(2) البيهقي : هو أبو بَكْر أحمد بن الحسين بن عَلِيّ الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بخسرو جرد مِن قُرَى بيهق بنيسابور ..
مِن مصنَّفاته : السُّنَن الكبرى ، دلائل النُّبُوَّة ، شعَب الإيمان .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بنيسابور سَنَة 458 هـ .
شذرات الذهب 3/304 والفتح المبين 1/262 ، 263
(3) أَخْرَجه البيهقي في السُّنَن الكبرى 5/312
(4) أَخْرَجه المروزيّ في كتاب السُّنَّة /91
(5) يُرَاجَع فواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/346
الأَوْلى .
الثاني : أنّ القول بالنسخ هُنَا يَجْعَل نكاح المُشْرِكات كُلّه منسوخاً بإباحة نكاح الكتابيّات ، وهذا ما لم يَقُلْه أحد ؛ لأنّ نكاح الكافرات غيْر الكتابيّات ما زال على حُكْمه الأول وهو الحرمة .(1/82)
الوجه الثاني : أنّ الروايات التي نُقِلَت عن ابن عباس رضي الله عنهما وإنْ كان لَفْظها اسْتَعْمَل النسخ إلا أنّ مَعْنَاه قَصْر لِحُكْم نكاح المُشْرِكات في قوله " نُسِخَ مِنْ ذَلِك " ، وهذا هو التخصيص بعَيْنه ؛ لأنّ النسخ رَفْع لِلحُكْم وهُنَا لم يُرْفَعْ إلا بعضه .
الدليل الثالث ( دليل الجواز ) : أنّه إذا اجْتَمَع نَصّان مِن الكتاب أحدهما عامّ والآخَر خاصّ وتَعَذَّر الجَمْع بَيْنهما : فإمّا أنْ يُعْمَل بالعامّ أو الخاصّ : فإنْ عُمِل بالعامّ لزم منه إبطال الدليل الخاصّ مُطْلَقاً ، وإنْ عُمِل بالخاصّ لا يَلْزَم منه إبطال العامّ مُطْلَقاً ؛ لإمكان العمل به فيما خرج عنه ، فكان العمل بالخاصّ أَوْلَى ، ولأنّه أَقْوَى في دلالته ، ولِذا كان القول بتخصيص الكتاب بالكتاب أَوْلى مِن العمل بالعامّ وتَرْك الخاصّ ، ولأنّ فيه إعمالاً لِلنَّصَّيْن دون تَرْك أحدهما (1) .
الدليل الرابع ( دليل الجواز أيضاً ) لِلباحث : أنّ تخصيص الكتاب بالكتاب لا يَتَرَتَّب على فَرْض وقوعه مُحال عقلاً ، وكُلّ ما لا يَتَرَتَّب على فَرْض وقوعه مُحَال كان جائزاً ، ولِذا كان تخصيص الكتاب بالكتاب جائزاً ، وهو المُدَّعَى .
المذهب الثاني : جواز التخصيص إنْ كان الخاصّ متأخِّراً وموصولاً بالعامّ وإنْ كان متراخياً نَسَخه ، وإنْ جُهِل التاريخ تَسَاقَطَا ونَتَوقَّف .
(1) الإحكام لِلآمدي 2/318 بتصرف .
وهو ما عليه الحنفيّة العراقيّة ، واختاره القاضي أبو بَكْر رحمه الله تعالى .
واحْتَجّوا لِذلك بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّه إذا قيل " اقتل زيداً المُشْرِك " ثُمّ قال " لا تَقْتُل المُشْرِكين " فكأنّه قال " لا تَقْتُلْ زيداً إلى آخِر الأفراد المُشْرِكين " ، وهُنَا تَقَدَّم الخاصّ وتأخَّر العامّ الذي نَسَخ حُكْم الخاصّ المُتَقَدِّم والمُعارِض له ..(1/83)
وإذا كان العامّ المُتَأَخِّر ناسخاً لِلخاصّ المُتَقَدِّم غيْر الموصول بالعامّ فهو كذلك في الخاصّ المُتَأَخِّر ، فيَنْسَخه ولا يُخَصِّصه (1) .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّه منقوض بما إذا تأخَّر الخاصّ عن العامّ لِجريان الدليل فيه : كما إذا قيل " لا تَقْتُل المُشْرِكين " ثُمّ قال " اقْتُلْ زيداً المُشْرِك " ؛ ففيه قَصْر لِعموم الأول ، وهذا هو التخصيص وليس النسخ .
الوجه الثاني : أنّ خصوصيّة زيْد في الإثبات إذا كان مذكوراً بنصوصيّته لم يُمْكِن التخصيص ، فيصار إلى النسخ ، بخلاف ما لو كان مذكوراً بعموم المُشْرِكين ؛ فتخصيصه مُمْكِن ، فلا يصار إلى النسخ ؛ لأنّ التخصيص أَوْلَى مِن النسخ (2) .
الدليل الثاني : ما رُوِي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه قال :" كُنَّا نَأْخُذُ بِالأَحْدَثِ فَالأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " (3) ..
(1) يُرَاجَع : ميزان الأصول /324 وبَذْل النظر /233 وكَشْف الأسرار لِلنسفي 1/176 وتيسير التحرير 3/138 ، 139
(2) شَرْح العضد مع مختصر المنتهى 2/148 ، 147
(3) أَخْرَجه الدرامي 2/16 ومالك /294 وابن حبّان 8/329 والبيهقي 4/240
وجْه الدلالة : أنّ الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا مع سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ورودها على فِعْل واحد أَكْثَر مِن مَرّة يَتَمَسَّكون بآخِرها وروداً ويَتركون الأقدم ، وهذا يُعَدّ رفعاً لِلحُكْم المُتَقَدِّم ، وهذا هو عَيْن النسخ ، فدَلّ ذلك على أنّ المُتَقَدِّم يُنْسَخ بالمُتَأَخِّر .
مناقَشة هذا الدليل :(1/84)
وقدْ نوقش هذا الدليل : بأنّا لا نُسَلِّم لكم أنّ معنى الأخذ بالأحدث هو نَسْخ المُتَقَدِّم ؛ وإنّما مَعْنَاه الأخذ بالأحدث فالأحدث على ما يقتضيه : إمّا رفعاً لِلحُكْم المُتَقَدِّم كُلِّيّةً وهو النسخ ، أو لِبعضه وهو التخصيص ؛ جَمْعاً بَيْن الدّليليْن ، والنّصّ يَحْتَمِل المَعْنَيَيْن ، فقَصْره على واحد منهما ترجيح ـ فيما أَرَى ـ بِلا مُرَجِّح ، وهو غيْر مقبول (1) .
المذهب الثالث : عدم جواز تخصيص الكتاب بالكتاب مُطْلَقاً .
وهو منسوب لِبعض الطوائف كما ذَكَر الآمدي (2) رحمه الله تعالى ، أو لِبعض الظّاهريّة كما ذَكَر الزركشي (3) رحمه الله تعالى ، والبعضأَوْرَده بصيغة التضعيف " وقيل " (4) .
واحْتَجّوا لِذلك بدليل واحد ، وهو : قوله تعالى { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِم } (5) ..
وجْه الدلالة : أنّ الله تعالى وَضَّح لنا رسالة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - نَحْو القرآن الكريم ، وهي تبيينه لِلناس ، ولِذا تَكون السُّنَّة هي المُبَيِّنة لِلقرآن ، وليس
(1) يُرَاجَع : فواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/348 ، 349 والتمهيد لِلكلوذاني 2/155 ، 156
(2) الإحكام لِلآمدي 2/318
(3) البحر المحيط 3/361
(4) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شَرْح العضد /147 ، 148 وشَرْح المحلّي مع جَمْع الجوامع 2/26 وشَرْح طلعة الشمس 1/155
(5) سورة النحل مِن الآية 44
القرآن هو المُبَيِّن لِنَفْسه ، والتخصيص بيان ، والقول بتخصيص الكتاب بالكتاب يَجْعَل المُبَيِّن لِلكتاب هو الكتاب ، وهو خلاف منطوق الآية ، ومخالَفة النّصّ القرآنيّ مُمْتَنِع وحرام ، ولِذا لا يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب ، وإنّما بالسُّنَّة .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :(1/85)
الوجه الأول : أنّا لا نُسَلِّم لكم حَصْر بيان القرآن الكريم في السُّنَّة المطهّرة وإنّما هو ثابت لِلقرآن نَفْسه بمقتضى قوله تعالى { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تِبْيَنًا لِّكُلّ شَىْء } (1) ، ولِذا كان بمقتضى هذيْن النَّصّيْن حصر بيان مُجْمَل القرآن في مَصْدَرَيْن : الكتاب والسُّنَّة ، وليس السُّنَّة فقط كما ادَّعَيْتُمْ ، وهو ادعاء يُلْغِي إعمال نصّ قرآنيّ ، وهو مُمْتَنِع ..
وإذا ثبت أنّ القرآن يُبَيَّن بالقرآن جاز كذلك تخصيصه بالقرآن .
الوجه الثاني : أنّ السُّنَّة ما هي إلا وحْي { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْىٌ يُوحَى } (2) ، وإذا كانت السُّنَّة وحياً فلِمَ أَجَزْتُمْ تخصيصها لِلكتاب ولم تجيزوا تخصيص الكتاب بالكتاب الذي هو أَوْلى بذلك (3) ؟!
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم في تخصيص الكتاب بالكتاب يَتَّضِح لنا ما يلي :
(1) سورة النحل مِن الآية 89
(2) سورة النجم الآيتان 3 ، 4
(3) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/147 ، 148 والإحكام لِلآمدي 2/319 والبحر المحيط 3/361 وشَرْح المحلّي مع البناني 2/26 وشَرْح طلعة الشمس 1/155 وإرشاد الفحول /157
1- أنّ المذهب الثالث القائل بعدم جواز تخصيص الكتاب بالكتاب مُطْلَقاً
بعيد عن الترجيح والاختيار ؛ لأسباب عدّة ..
منها : أنّهم اخْتَلَفوا في نِسْبته ، وهذه مِن أمارة ضَعْف المذهب .
ومنها : أنّ دليله الوحيد المَبْنِيّ على أنّ السُّنَّة هي التي تُبَيِّن القرآن قدْ رُدّ ، واتَّضَح أنّ الآية الكريمة لا تَمْنَع بيان القرآن لِلقرآن ، بلْ تَجْعَل السُّنَّة المطهّرة أيضاً كالقرآن الكريم .(1/86)
2- أنّ المذهب الثاني ـ المُجَوِّز لِلتخصيص إنْ كان الخاصّ متأخِّراً وموصولاً بالعامّ ، والمانع له إنْ كان متراخياً أو جُهِل تاريخاهما ـ أَرَاه كذلك بعيداً عن القبول والترجيح ؛ لأنّهم جَعَلوا الخاصّ المتراخِي عن العامّ ناسخاً وليس مُخَصِّصاً لِعمومه ، وفيه نظر ؛ لأنّ النسخ رَفْع لِلحُكْم ، وحُكْم العامّ في هذه الحالة بَعْد القول بأنّ الخاصّ ناسِخ له باقٍ منه ما فَوْق الخاصّ ، ولِذا كان حَمْله على التخصيص مناسِباً وليس النسخ ، كما أنّ أدلّة هذا المذهب جميعها لم تَسْلَم مِن المناقَشة والاعتراض .
3- أنّ المذهب الأول المُجَوِّز لِتخصيص الكتاب بالكتاب مُطْلَقاً ـ عُلِم تَقَدُّم العامّ أو الخاصّ أو جُهِل تاريخاهما ـ هو الأَوْلى بالقبول والترجيح ؛ لِمَا يلي :
أوّلاً : كثرة أدلّة الوقوع في القرآن الكريم ، وهذه أَقْوَى الأدلّة على الجواز .
ثانياً : سلامة أدلّته مِن المناقَشة والاعتراض .
ثالثاً : ضَعْف أدلّة وحُجَج المذْهبيْن الثاني والثالث وعدم سلامتها مِن المناقَشة والاعتراض .
المطلب الثاني
تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة (1)
بَعْد الوقوف على هذه المسألة عند الأصوليّين والبحث عن حُكْمها في مَراجعهم اتَّضَح أنّ بعضاً منهم ـ إنْ لم تَكُن الكثرة (2) ـ لم يَتَعَرَّضوا لِبَحْثها وإنّما تَعَرَّضوا لِتخصيص الكتاب بخبر الآحاد (3) ، وذلك ـ فيما أَرَى ـ إمّا لأنّهم يَعْتَبِرون تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة في حُكْم المُتَّفَق عليه ، وإمّا لِقِلّة ورود المتواتر في السُّنَّة المطهّرة ، وإمّا لأنّه إنْ ثبت تخصيص الكتاب العزيز بخبر الآحاد لَثَبَت تخصيصه بالسُّنَّة المتواترة مِن باب أَوْلى .
وفي ذلك يقول ابن الحاجب رحمه الله تعالى :" يجوز تخصيص القرآن بخبر الواحد ، وقال به الأئمّة الأربعة ، وبالمتواتر اتِّفاقاً " ا.هـ (4) .(1/87)
ويقول الآمدي رحمه الله تعالى :" أمّا إذا كانت السُّنَّة المتواترة : فلم أَعْرِف فيه خلافاً " ا.هـ (5) .
وحَكَى الزركشي رحمه الله تعالى عن بعضهم :" يجوز تخصيص
(1) المتواتر هو : الحديث الذي بَلَغَتْ رواته في الكثرة مَبْلَغاً أحالت العادة تَواطُؤهم على الكذب .. يُرَاجَع شَرْح الديباج المُذَهَّب /8
(2) يُرَاجَع : الواضح 3/378 وإحكام الفصول /261 والميزان /323 والتمهيد لِلكلوذاني 2/105 والعدّة 2/750 وروضة الناظر 2/727
(3) خبر الآحاد هو : ما لم يَنْتَهِ إلى حدّ التواتر ، أو ما لم يَجْمَع شروط التواتر .. الديباج المُذَهَّب مع شرْحه /12
(4) مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/149
(5) الإحكام لِلآمدي 2/322
القرآن بالسُّنَّة المتواترة قولاً واحداً بالإجماع " ا.هـ (1) .
ونظراً لأنّ لُبّ بَحْثي وجَوْهره هو تخصيص الكتاب والسُّنَّة فكان لزاماً علَيّ أنْ أَتَّبِع الأصوليّين المُتَعَرِّضين لِتخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة (2) لأُدَقِّق النظر والبحث في وجود نزاع أو خلاف في تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة أم لا ، وكذا الأدلّة مع المناقَشة ..
وفيما يلي أُفَصِّل القول فيها :
أوّلاً - الخلاف في تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة :
الكثرة مِن الأصوليّين لم يَرَوْا لنا خلافاً بَيْن الأصوليّين في هذه المسألة وواضِح ذلك مِن عبارات بعضهم المُتَقَدِّم إيرادها والتي جَعَلَتْ تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة في حُكْم المُتَّفَق عليه ..
ولكنْ بَعْد البحث والتدقيق اتَّضَح أنّ هناك مَن حَكَى خلافاً في السُّنَّة المتواترة الفِعْلِيّة ..
ومِن ذلك : ما أَوْرَده الزركشي ـ رحمه الله ـ في قوله :" وقال الشيخ أبو حامد الاسفراييني (3) : لا خلاف في ذلك ، إلا ما يُحْكَى عن داود (4)
(1) البحر المحيط 3/362(1/88)
(2) يُرَاجَع : المحصول 1/430 ومختصر المنتهى 2/149 والإحكام لِلآمدي 2/322 والمنهاج مع شَرْحه 1/408 والبحر المحيط 3/361 ، 362 والإبهاج 2/170
(3) أبو حامد الاسفراييني : هو أبو حامد أحمد بن محمد بن أحمد الاسفراييني رحمه الله تعالى ، وُلِد باسفرايين سَنَة 344 هـ ، فقيه شافعيّ أصوليّ .. مِن مصنَّفاته : شرْح مختصر المزني ، وتعليقة في أصول الفقه . تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 406 هـ . سِيَر أعلام النبلاء 11/43 ، 44 والفتح المبين 1/236 ، 237
(4) داود الظاهري : هو أبو سليمان داود بن علِيّ بن داود بن خلف الأصفهاني الظاهري رحمه الله تعالى ، وُلِد بالكوفة ، كان شافعيّاً متعصِّباً في أول أمْره .. مِن مصنَّفاته : الكافي . تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 270 هـ , الفتح المبين 1/167 - 169.
في إحدى الرّوايتيْن " (1) .
ولِذا يُمْكِن حَصْر مذاهب الأصوليّين في تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة في مذْهبيْن ، وإنْ كانت كفّتهما غيْر متكافئة بالمَرّة :
المذهب الأول : جواز تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة مُطْلَقاً ( قوليّةً كانت أم فِعْلِيّة ) .
المذهب الثاني : عدم جواز تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة الفِعْلِيّة .
ونُفَصِّل وجهة كُلّ مذهب وحُجّته فيما يلي ..
ثانياً – مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم :
المذهب الأول : جواز تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة مُطْلَقاً ( قوليّةً كانت أم فِعْلِيّة ) .
وهو ما عليه الجمهور ، وصَرَّح الصفي الهندي رحمه الله تعالى بقيام الإجماع عليه (2) .
واحْتَجّوا لِذلك بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول ( دليل الوقوع في السُّنَّة القوليّة ) : قوله تعالى { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنثَيَيْن } (3) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { الْقَاتِلُ لاَ يَرِث } (4) (5) ..(1/89)
(1) يُرَاجَع : البحر المحيط 3/362 والإبهاج 2/170 وإرشاد الفحول /158
(2) يُرَاجَع : نهاية الوصول 4/1617 والإبهاج 2/170
(3) سورة النساء مِن الآية 11
(4) أَخْرَجه الترمذي في كتاب الفرائض عن رسول الله : باب ما جاء في إبطال ميراث القاتل برقم ( 2035 ) وابن ماجة في كتاب الديات : باب القاتل لا يرث برقم ( 2635 ) كلاهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، والدارمي في كتاب الفرائض : باب ميراث القاتل عن عَلِيّ كَرَّم الله وجْهه برقم ( 2954 ) .
(5) يُرَاجَع هذا الدليل في : المعتمد 1/254 والمحصول 1/430 والمنهاج مع شَرْحه 1/407 ، =
وجْه الدلالة ( لِلباحث ) : أنّ الآية الكريمة أَوْجَبَتْ لِكُلّ وارث ذَكَر مِثْل حظّ الأنثييْن ، وهو حُكْم عامّ في كُلّ وارث ، وأنّ الحديث الشريف مَنَع القاتل مِن الميراث ، مع تَحَقُّق شرْطه وهو أنّه وارِث ، لكنْ مَنَعه القتل لِمُوَرِّثه مِن ذلك ، وهُنَا عارَض خصوص الحديث الشريف عموم الآية الكريمة ، فقَصَرْنَا عمومها على غيْر القاتل ، وإذا كان كذلك كان تخصيص السُّنَّة المتواترة لِلكتاب واقعاً ، والوقوع دليل الجواز ، فدَلّ ذلك على جواز تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة القوليّة .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّ هذا الدليل خارِج محلّ نزاعنا ، وهو تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة ، والحديث المذكور ـ على فَرْض صحّته ـ خبر آحاد ، ولِذا كان الاستدلال به في غيْر محلّه .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقدْ رُدَّتْ هذه المناقَشة مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ هذا الحديث وأمثاله كان متواتراً في زمن الصحابة - رضي الله عنهم - ، وهو زمن النسخ والتخصيص ، والمتواتر قدْ يصير آحاداً ، وكم مِن قضيّة كانت متواترةً في الزمن الماضي ثُمّ صارت آحاداً ، بلْ ربّما تَكون قدْ نُسِيَت بالكُلِّيّة (1) .(1/90)
الوجه الثاني : سَلَّمْنَا ـ جدلاً ـ أنّه خبر آحاد ، ومع أنّه كذلك فقدْ خَصَّص عموم الآية الكريمة ، وهو أمر مُسَلَّم مِنَّا ومنكم ..
وإذا جاز تخصيص الكتاب بخبر آحاد فمِن باب أَوْلى كان تخصيصه
= 409 ومناهج العقول 2/118 والفصول في الأصول 1/144
(1) يُرَاجَع : الإبهاج 1/170 وشَرْح تنقيح الفصول /207
بالسُّنَّة المتواترة (1) .
الدليل الثاني ( دليل الوقوع بالسُّنَّة الفِعْلِيّة ) : قوله تعالى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة } (2) مع ما ثبت في السُّنَّة الصحيحة أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - رَجَم المُحصَن (3) (4) ..
وجْه الدلالة ( لِلباحث ) : أنّ الآية الكريمة أَوْجَبَتْ جَلْد الزانية والزّاني مُطْلَقاً مائة جَلْدة ولم تُفَرِّقْ بَيْن مُحْصَن وغيْر مُحْصَن ، فلِذا كان الحُكْم فيها عامّاً ، وأنّ الثابت في السُّنَّة الصحيحة مِن رَجْم لِلزّاني المُحْصَن فيه مُعارَضة لِعموم الآية الكريمة ، ولِذا قَصَرْنَا عموم الآية الكريمة على غيْر المُحْصَن ، وهذا هو التخصيص ، فدَلّ ذلك على وقوع تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة ( الفِعْلِيّة ) ، والوقوع دليل الجواز .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّا لا نُسَلِّم لكم بأنّ المُخَصِّص لِعموم الآية الكريمة هو الفعل الثابت في السُّنَّة الصحيحة ، وإنّما هو بالآية المنسوخة تلاوةً مع بقاء حُكْمها في قوله تعالى ( الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم ) ، ولِذا كان التخصيص هُنَا تخصيصاً لِلكتاب بالكتاب ، وليس بالسُّنَّة كما ذهبتم (5) .
(1) يُرَاجَع نهاية السول 2/119
(2) سورة النور مِن الآية 2(1/91)
(3) أَخْرَجه البخاري في كتاب الحدود : باب رَجْم المُحْصَن عن عبد الله بن أبي أَوْفَى - رضي الله عنه - برقم ( 6315 ) ، ومُسْلِم في كتاب الحدود : باب رَجْم الثَّيِّب في الزِّنَا برقم ( 3201 ) والترمذي في كتاب الحدود عن رسول الله : باب ما جاء في تحقيق الرجم برقم ( 1351 ) كلاهما عن عُمَر ابن الخطّاب - رضي الله عنه - .
(4) يُرَاجَع هذا الدليل في : المحصول 1/430 والمنهاج مع شرْحه 1/407 - 410 والإبهاج 2/170 ونهاية السول 2/119
(5) يُرَاجَع نهاية السول 2/119
وأَرَى أنّ هذه المناقَشة في محلّها ، وأنّها تُؤَكِّد أنّ الاستدلال هُنَا في غيْر مَوْضِعه ؛ لأنّ محلّ نزاعنا هو تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة ، وليس تخصيص الكتاب بالكتاب .
الدليل الثالث ( لِلباحث ) : قوله تعالى { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِم } (1) ..
وجْه الدلالة : أنّ الله تعالى أَنْزَل القرآن الكريم إلى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وكَلَّفه ببيانه لِلناس ، وهذا البيان لا يَتَحَقَّق إلا بتفصيل مُجْمَله وتخصيص عمومه وإذا كان تخصيص السُّنَّة لِلقرآن بياناً له دَلّ ذلك على جواز تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة .
الدليل الرابع ( لِلباحث أيضاً ) : قوله تعالى { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْىٌ يُوحَى } (2) ..
وجْه الدلالة : أنّ الله عَزّ وجَلّ بَيَّن لنا أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لا يَتَكَلَّم إلا الحقّ وبالحقّ ، ولا يَنْطِق عن هوىً نَفْسيّ أو بشريّ ، وإنّما هو وحْي مِن الله تعالى ، فدَلّ ذلك على أنّ السُّنَّة وحْي مِن الله تعالى ، وإذا كان القرآن الكريم وحياً مِن الله تعالى والسُّنَّة المطهّرة كذلك جاز تخصيص أحدهما بالآخَر ؛ لاتحاد مَصْدَرهما ، فدَلّ ذلك على جواز تخصيص الكتاب بالسُّنَّة بقِسْمَيْها : المتواترة والآحاد .(1/92)
المذهب الثاني : عدم جواز تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة الفِعْلِيّة .
وهو مَحْكِيّ في إحدى الروايتيْن عن داود الظّاهريّ رحمه الله تعالى .
(1) سورة النحل مِن الآية 44
(2) سورة النجم الآيتان 3 ، 4
وجهة هذا المذهب وحُجّته :
وأَرَى أنّ حُجّة هذا المذهب في عدم جواز تخصيص عموم الكتاب بالسُّنَّة المتواترة الفِعْلِيّة هي : عدم الوقوع ، وخاصّة عندما تَأَكَّد لَدَيْنَا في الاستدلال السابق عند الجمهور لِلوقوع في السُّنَّة الفِعْلِيّة ، واتَّضَح أنّها ليست كذلك .
مناقَشتي لِهذا المذهب :
وأَرَى مناقَشة هذا المذهب مِن وجوه :
الوجه الأول : أنّ محلّ نزاعنا هو تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة ، وأنتم سَلَّمْتُمْ بجوازه بالسُّنَّة المتواترة القوليّة ثُمّ لم تُجَوِّزوه بالفِعْلِيّة ، وكلاهما سُنَّة متواترة ، فقَصْر الحُكْم على أحد شقّي السُّنَّة المتواترة دون الآخَر يُعْتَبَر ترجيحاً بِلا مُرَجِّح ، والأَوْلَى القول بالجواز فيهما .
الوجه الثاني : سَلَّمْنَا أنّ تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة الفِعْلِيّة لم يقع ، وعدم الوقوع ليس دليلاً على عدم الجواز إلا إذا كان سَيَتَرَتَّب على فَرْض وقوعه مُحَال ، ولم يَقُلْ أحد أنّ تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة الفِعْلِيّة يَتَرَتَّب على فَرْض وقوعه مُحَال ، ولِذا كان جائزا .
الوجه الثالث : أنّ هذا المذهب إنّما نُسِب لِصاحِبه بطريق الحكاية ، وهي ذاتها لم تَجْعَلْه قولاً واحداً لِداود الظاهري رحمه الله تعالى ، وإنّما هي إحدى الروايتيْن عنه ، مِمَّا يَدُلّ على أنّه مُتَرَدّد في هذا الأمر .(1/93)
وعلى ضَوْء ما تَقَدَّم : كان المذهب الأول القائل بجواز تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة ـ وهو ما اتَّفَق عليه جمهور العلماء ـ هو الأَوْلى عندي بالقبول والترجيح ؛ لِمَا ثبت وروده ووقوعه بالأدلّة التي سَلِمَتْ مِن المناقَشة والاعتراض ، وفي المُقَابِل لِضَعْف المذهب المُقَابِل وعدم سلامة وجْهته وحُجّته كما تَقَدَّم .
المطلب الثالث
تخصيص الكتاب بخبر الواحد
والحديث في هذا المطلب يُمْكِن تقسيمه على النحو التالي :
1- مذاهب الأصوليّين في تخصيص الكتاب بخبر الواحد .
2- أدلّتهم ، مع مناقَشة ما يَحتاج إلى ذلك .
3- تعقيب وترجيح .
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها فيما يلي :
أوّلاً – مذاهب الأصوليّين في تخصيص الكتاب بخبر الواحد :
اخْتَلَف الأصوليّون في ذلك على مذاهب ، حَصَرْتُها فيما يلي :
المذهب الأول : جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد مُطْلَقاً ( سواء خُصّ بدليل مقطوع به أم لا ) .
وهو مذهب الجمهور ، والمنقول عن الأئمّة الأربعة - رضي الله عنهم - (1) ، واختاره الشيرازي (2) والغزالي (3) والكلوذاني (4) والباجي (5) والبيضاوي (6) رحمهم الله تعالى .
(1) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 2/322 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/149 والبحر المحيط 3/364
(2) اللُّمَع /18
(3) المستصفى /249
(4) التمهيد لِلكلوذاني 2/105
(5) إحكام الفصول /261
(6) منهاج الوصول مع شرْحه 1/411
المذهب الثاني : عدم جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد مُطْلَقاً .
وهو لِبعض المُتَكَلِّمين (1) ، وقَيَّدهم ابن السمعاني رحمه الله تعالى بأنّهم مِن المعتزلة ، وقال ـ أيضاً ـ :" وهو قول شرذمة مِن الفقهاء " ا.هـ (2) ، ونَسَبه الفخر الرازي إلى قوْم (3) ، ولم يَنْسِبْه الآمدي إلى أحد (4) ، واختاره السمرقندي (5) (6) مِن الحنفيّة ..(1/94)
ونَسَبه الزركشي وتَبِعه الشوكاني (7) ـ رحمهما الله تعالى ـ إلى بعض الحنابلة (8) ، ولم أَقِفْ عند الحنابلة ـ فيما اطَّلَعْتُ عليه ـ على ما يؤكِّد هذه النسبة إلا ما وَرَد في " المسوّدة " :" وكذلك قال أبو الخطّاب في مسألة
(1) يُرَاجَع : إحكام الفصول /261 والواضح 3/378 والعدّة 2/550 والتمهيد لِلكلوذاني 2/105 والمسوّدة /119
(2) قواطع الأدلّة 1/368
(3) المحصول 1/432
(4) الإحكام لِلآمدي 2/322
(5) السمرقندي : هو علاء الدين أبو منصور محمد بن أحمد بن أبي أحمد السمرقندي الحنفي رحمه الله تعالى ..
مِن مصنَّفاته : اللباب ، تحفة الفقهاء ، الميزان .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببخارى سَنَة 539 هـ .
معجم المؤلِّفين 8/228
(6) ميزان الأصول /722 ، 723
(7) الشوكاني : هو محمد بن عَلِيّ بن محمد بن عبد الله الشوكاني الصنعاني اليماني رحمه الله تعالى مجتهِد فقيه مُحَدِّث أصوليّ قارئ مقرئ ، وُلِد بصنعاء سَنَة 1172 هـ ، تَفَقَّه على مذهب الإمام زيْد - رضي الله عنه - ثُمّ اسْتَقَلّ ولم يُقَلِّد وحارَب التقليد ..
مِن مصنَّفاته : إرشاد الفحول ، نَيْل الأوطار ، تحفة الذاكرين .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بصنعاء سَنَة 1250 هـ .
الأعلام 3/953 والفتح المبين 3/144 ، 145
(8) يُرَاجَع : البحر المحيط 3/364 وإرشاد الفحول /258
الدِّبَاغ : لا يجوز تخصيص القرآن بخبر الواحد على وجْه لنا " ا.هـ (1) ..
وبالرجوع إلى " التمهيد " اتَّضَح لنا أنّ الكلوذاني رحمه الله تعالى صَدَّر هذه المسألة بالجواز ـ وهو رأْي الجمهور ـ فقال :" مسألة : يجوز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد " ثُمّ قال :" وقال بعض المُتَكَلِّمين : لا يجوز تخصيص العموم بخبر الواحد " ا.هـ (2) .(1/95)
وعلى ذلك يَكون ما وَرَد في " المسوّدة " مِن نسبة هذا المذهب إلى بعض الحنابلة محكيّاً عن أبي الخطاب الكلوذاني ـ رحمه الله تعالى ـ ليس في " التمهيد " ، وقدْ يَكون في مَرْجِع آخَر لم أَقِفْ عليه .
المذهب الثالث : جواز تخصيص عموم الكتاب الذي خُصّ بدليل مقطوع به بخبر الواحد .
وهو مذهب الحنفيّة .
ونَسَب كثير مِن الأصوليّين (3) هذا المذهب لِعيسى بن أبّان (4) رحمه الله تعالى ، وقليل منهم نَسَبه إلى الحنفيّة (5) ، ولكنّي أَرَى أنّ هذا مذهب الحنفيّة كما هو ثابت فيما اطَّلَعْتُ عليه مِن كُتُبهم (6) ، وقدْ يَكون هو اختيار
(1) المسوّدة /119
(2) التمهيد لِلكلوذاني 2/105 ، 106
(3) يُرَاجَع : إحكام الفصول /261 والواضح 3/378 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/149 والإحكام لِلآمدي 2/32 والمنهاج مع شَرْحه 1/411 والبحر المحيط 3/366 والمسوّدة /119
(4) عيسى بن أبّان : هو أبو موسى عيسى بن أبّان بن صدقة الحنفي البغدادي ، تَفَقَّه على محمد ابن الحَسَن والحَسَن بن زياد ، تَوَلَّى قضاء البصرة عَشْر سنين .
تُوُفِّي بالبصرة سَنَة 221 هـ .
يُرَاجَع : النجوم الزاهرة 2/235 والفوائد البهيّة /151 والأعلام 5/238
(5) يُرَاجَع : العدّة 2/550 وشَرْح المنهاج 1/412 والمسوّدة /119
(6) يُرَاجَع : الفصول في الأصول 1/146 والمستصفى /248 وميزان الأصول /322 ، 323 وأصول السرخسي 1/142 وأصول البزدوي مع كَشْف الأسرار 1/294 والمنار مع حاشية =(1/96)
ابن أبّان رحمه الله تعالى ، وحينئذٍ يَكون مُتَّفِقاً مع الحنفيّة ، فظَنّ البعض أنّه رأْي انْفَرَد به ، ولِذا لم يَتَعَرَّض ناسِبو هذا المذهب إليه لِرأْي الحنفيّة كما اكْتَفَى البعض بذِكْر مَذْهَبَيْ عيسى بن أبّان والكرخي (1) ـ رحمهما الله تعالى ـ وكأنّهما يُمَثّلان الاتجاه الحنفيّ ، وهذا خلاف ما وَقَفْتُ عليه عند الأحناف والذين كان لهم رأْي اختاره ابن أبّان رحمه الله تعالى ، أو أنّ الكثرة منهم مِمَّن أَتَى بَعْده اختاروا قوله إضافةً إلى مذهب الكرخي رحمه الله تعالى .
وقدْ أَعْجَبَني ما قاله الأصفهاني ـ رحمه الله تعالى ـ في تحديد العلاقة بَيْن مذهب ابن أبّان ـ رحمه الله تعالى ـ وبَيْن الحنفيّة :" ومَنَع عيسى ابن أبّان فيما لم يُخَصّ العامّ بمقطوع ، فإنْ كان قدْ خُصّ قَبْل ذلك بمقطوع جاز التخصيص بخبر الواحد وإلا فلا ، وهو المختار عند أصحاب أبي حنيفة " ا.هـ (2) .
كما وَرَد في " المسوّدة " ما يؤكِّد ذلك ، وهو :" وقال الحنفيّة : إنْ كان قدْ دخَله التخصيص بمسألة إجماعيّة جاز تخصيصه بخبر الواحد وإلا فلا ، وحَكَاه ابن عقيل (3) عن عيسى بن أبّان : أنّ ما خُصّ بدليل جاز تخصيصه
= نسمات الأسحار /70 ، 71 وتيسير التحرير 1/267 والتنقيح مع التوضيح 2/38 ، 39 ومُسَلَّم الثبوت 1/349
(1) الكرخي : هو أبو الحَسَن عبد الله بن الحَسَن بن دلال بن دلهم الكرخي الحنفي رحمه الله تعالى .. مِن مصنَّفاته : المختصر ، شرْح الجامعين .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 340 هـ .
البداية والنهاية 11/24 والفتح المبين 1/197 ، 198
(2) شَرْح المنهاج 1/412
(3) ابن عقيل : هو أبو الوفا علِيّ بن عقيل بن محمد بن عقيل بن أحمد البغدادي الظفري الحنبلي رحمه الله تعالى ..
بخبر الواحد " ا.هـ (1) .
المذهب الرابع : جواز تخصيص عموم الكتاب الذي خُصّ بدليل مُنْفَصِل بخبر الآحاد .
وهو قول الكرخي رحمه الله تعالى .(1/97)
المذهب الخامس : التَّوَقُّف .
وهو اختيار القاضي أبي بَكْر الباقلاّني رحمه الله تعالى .
المذهب السادس : جواز التَّعَبُّد به ووروده ، لكنّه لم يقع .
وهو مذهب حَكَاه القاضي في " التقريب " .. هكذا ذَكَره الزركشي رحمهما الله تعالى (2) .
وأَرَى أنّ هذا المذهب لا يَقْوَى على الدخول بَيْن المذاهب المُتَقَدِّمة في محلّ النزاع ؛ لأسباب عِدَّة ، منها : أنّه لم يَتَعَرَّضْ لِذِكْره سِوَى قلّة مِن الأصوليّين (3) ، إضافةً إلى أنّه لم يُعْرَفْ له قائل ، كما أنّ الوقوع الذي يُنْكِره ثابت وواقِع بالأدلّة التي ستأتي بإذن الله تعالى ..
ولِذا .. أَرَى حَصْر المذاهب في خمسة مذاهب ، والتي سنَتَعَرَّض لأدلّتها فيما يلي ..
= مِن مصنَّفاته : الفنون ، كفاية المفتي ، الواضح في أصول الفقه ، عمدة الأدلّة .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 513 هـ .
الفتح المبين 2/12 والبداية والنهاية 12/184
(1) المسوّدة /119 ويُرَاجَع الواضح 3/387
(2) البحر المحيط 3/367 وتُرَاجَع مذاهب الأصوليّين في هذه المسألة في : الميزان /322 ، 323 والإحكام لِلآمدي 2/322 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/149 ، 150 وقواطع الأدلّة 1/368 وإحكام الفصول /261 والعدّة 2/550 واللُّمَع /18 والواضح 3/378 والمنهاج مع شَرْحه 1/400 ، 412 ومُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/349 والبحر المحيط 3/364 - 368 وشَرْح طلعة الشمس 1/155 وإرشاد الفحول /158
(3) البحر المحيط 3/368 وإرشاد الفحول /158
ثانياً – أدلّة المذاهب :
أدلّة المذهب الأول :
اسْتَدَلّ أصحاب المذهب الأول ـ القائلون بجواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد مُطْلَقاً ـ بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ الصحابة - رضي الله عنهم - خَصّوا عموم القرآن بخبر الواحد مِن غيْر نكير على ذلك مِن واحد منهم ، فكان إجماعاً على جواز ذلك ، وإلا لأَنْكَروا على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد .(1/98)
أمّا صُوَر تخصيصهم عموم القرآن الكريم بخبر الواحد : فهي كثيرة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الأولى : قوله تعالى { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم } (1) والذي أفاد إباحة نكاح غيْر المُحَرَّمات المذكورات في آية التحريم { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَتُكُم ... } الآية (2) ، وحيث إنّ عَمّة المرأة وخالتها ليستا مِن المذكورات فيباح الزواج بهنّ وجَمْعهنّ مع بنت أخيها أو أختها ، ولكنّ السُّنَّة حَرَّمَتْ ذلك في حديث { لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا } (3) ، وهو خبر آحاد خَصَّص عموم الحُكْم القرآنيّ المُتَقَدِّم .
الثانية : قوله تعالى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوا } (4) والذي أفاد حِلّ جميع أنواع البيوع ، لكنّ السُّنَّة المطهّرة وَرَدَتْ بتحريم بعض هذه البيوع,
(1) سورة النساء مِن الآية 24
(2) سورة النساء مِن الآية 22
(3) أَخْرَجه مُسْلِم في كتاب النكاح : باب تحريم الجَمْع بَيْن المرأة وعمّتها أو خالتها برقم ( 21518 ) والنسائي في كتاب النكاح : باب الجَمْع بَيْن المرأة وعمّتها برقم ( 3240 ) وابن ماجة في كتاب النكاح : باب لا تُنْكَح المرأة على عمّتها ولا على خالتها برقم ( 1919 ) ، كُلّهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -
(4) سورة البقرة مِن الآية 275
منْها : " نَهَى - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْن " (1) ، وهو خبر آحاد خَصَّص عموم الحُكْم القرآنيّ .
الثالثة : قوله تعالى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } (2) والذي أفاد قَطْع يد السارق في أيّ سرقة قَلَّتْ قيمتها أو كَثُرَتْ ، لكنّ السُّنَّة المطهّرة حَدَّدَت الحدّ الذي به يقام الحدّ في قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ قَطْعَ إِلاَّ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدا } (3) ، وهو خبر آحاد خَصَّص عموم الحُكْم القرآنيّ .(1/99)
الرابعة : قوله تعالى { فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَه } (4) والذي أفاد عدم حِلّ الزوجة المُطَلَّقة طلاقاً بائناً حتى تَنْكِح زوجاً غيْر زوْجها الذي طَلَّقها ، ولكنّ السُّنَّة المطهّرة بَيَّنَتْ أنّ النكاح على عمومه لا يكفي في قوله - صلى الله عليه وسلم - { حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك } (5) ، وهو خبر آحاد خَصَّص عموم الحُكْم القرآنيّ (6) .
(1) أَخْرَجه مُسْلِم في كتاب المساقاة : باب الربا عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - برقم ( 2967 ) ، وابن ماجة في كتاب التجارات : باب الصَّرْف وما لا يجوز متفاضلاً يداً بِيَد عن أبي سعيد الخدريّ - رضي الله عنه - برقم ( 2247 ) .
(2) سورة المائدة مِن الآية 38
(3) أَخْرَجه البخاري في كتاب الحدود : باب قول الله تعالى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } برقم ( 6291 ) ومُسْلِم في كتاب الحدود : باب حَدّ السرقة ونِصَابها برقم ( 3189 ) والنسائي في كتاب قَطْع السارق : باب ذِكْر الاختلاف على الزهري برقم ( 4833 ) ، كُلّهم عن السيدة عائشة رضي الله عنها .
(4) سورة البقرة مِن الآية 230
(5) أَخْرَجه البخاري في كتاب الشهادات : باب شهادة المختبي برقم ( 2445 ) ومُسْلِم في كتاب النكاح : باب لا تَحِلّ المُطَلَّقة ثلاثاً لِمُطَلَّقها حتى تَنْكِح زوجاً غيْره برقم ( 2587 ) والترمذي في كتاب النكاح عن رسول الله : باب ما جاء فيمَن يُطَلِّق امرأته ثلاثاً فيَتَزَوَّجها آخَر برقم ( 1037 ) ، كُلّهم عن السيدة عائشة رضي الله عنها .
(6) يُرَاجَع : المستصفى /249 والمحصول 1/433 والعدّة 2/552 والتمهيد لِلكلوذاني 2/107=
مناقَشة هذا الدليل :(1/100)
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّا لو سَلَّمْنَا جَدَلاً بإجماع الصحابة على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد فإنّ المُخَصِّص حينئذٍ يَكون هو الإجماع وليس خبر الواحد ، ومحلّ نزاعنا هو التخصيص بخبر الواحد وليس الإجماع ، فيَكون الدليل غيْر مقبول ؛ لِخروجه عن محلّ النزاع .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقدْ رُدَّتْ هذه المناقَشة : بأنّ هناك فَرْقاً بَيْن التخصيص بالإجماع والإجماع على وقوع التخصيص ، والاستدلال بالثاني ؛ حيث أَجْمَع الصحابة - رضي الله عنهم - على التخصيص بخبر الآحاد ؛ حيث لم يُنْكِروه لَمّا وَقَع ، فلا يَكون التخصيص بالإجماع كما ادَّعَيْتُمْ ، وإنّما بخبر الواحد ودليله الإجماع (1) .
الدليل الثاني : أنّ العامّ المقطوع به وخبر الواحد دليلان متعارضان ؛ لِتَعَذُّر الجَمْع بَيْن حُكْمَيْهما ، وحينئذٍ إمّا أنْ يَعْمَل بواحد منهما أو بهما معاً أو لا يَعْمَل بهما ..
فإنْ عَمِل بواحد منهما دون الآخَر لزم عليه إهمال الثاني وتَرْك العمل به .
وإذا لم يَعْمَلْ بهما جميعاً لزم عليه إهمالهما معاً وتَرْك العمل بهما .
وإنْ عَمِل بهما معاً لزم عليه عدم إهمال أحدهما ، وإعمال الدليليْن ولو مِن وجْه أَوْلى مِن إهمالهما أو إهمال أحدهما ، ولِذا تَعَيَّن تخصيص
= والواضح 3/379 والإحكام لِلآمدي 2/323 وقواطع الأدلّة 1/371 وشَرْح العضد مع المختصر 2/149
(1) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 2/324 - 326 والمستصفى /249 وشَرْح العضد مع المختصر 2/149 ومُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/351 ، 352
عموم القرآن بخبر الواحد (1) .
أدلّة المذهب الثاني :
اسْتَدَلّ أصحاب المذهب الثاني ـ القائلون بعدم جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد مُطْلَقاً ـ بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :(1/101)
الدليل الأول : أنّ عُمَر بن الخطاب - رضي الله عنه - (2) رَدّ خبر فاطمة بنت قيس (3) رضي الله عنها " أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمّا طُلِّقَت البتّة لم يَجْعَلْ لها سُكْنَى ولا نفقةً وأَمَرها أنْ تَعْتَدّ في بيْت ابن أُمّ مكتوم " ؛ لِتَعارُضه مع قوله تعالى { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُم } (4) ، ولم يَقُلْ بتخصيصه لِعموم الآية ، وإنّما قال - رضي الله عنه - :" كَيْفَ نَتْرُكُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لاَ نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَت ؟ " (5) ، ولو جاز تخصيص خبر الآحاد لِعموم الكتاب لَمَا رَدّه عمر - رضي الله عنه - .
(1) يُرَاجَع : المحصول 1/435 والإحكام لِلآمدي 2/318 وقواطع الأدلّة 1/370 والواضح 3/382 والإبهاج 2/173 ، 174 وشَرْح المنهاج 1/413 ونهاية السول 2/123
(2) عُمَر بن الخطّاب : هو أبو حفْص الفاروق عُمَر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى العدوي القرشي - رضي الله عنه - ، وُلِد سَنَة أربعين قَبْل الهجرة ، مِن السابقين في الإسلام الذين أَعَزَّ الله بهم دينه ، تَوَلَّى الخلافة سَنَة 13 هـ ، وهو الخليفة الراشد الثاني ..
قُتِل - رضي الله عنه - شهيداً سَنَة 23 هـ .
الفتح المبين 1/54 - 57
(3) السيدة فاطمة بنت قيس : هي الصّحابيّة الجليلة السيدة فاطمة بنت قيس بن خالد الفهريّة القرشيّة رضي الله عنها ، أخت الضّحّاك بن قيس - رضي الله عنه - ، مِن المهاجرات الأُوَل ، وتزوَّجَت أسامة بن زيْد رضي الله عنهما ، روت أربعةً وثلاثين حديثاً ..
تُوُفِّيَتْ رضي الله عنها في خلافة معاوية بن أبي سفيان .
الاستيعاب 1/383 والإصابة 4/384
(4) سورة الطلاق مِن الآية 6(1/102)
(5) أَخْرَجه مُسْلِم في كتاب الطلاق : باب المُطَلَّقَة ثلاثاً لا نفقة لها برقم ( 2719 ) والترمذي في كتاب الطلاق واللعان عن رسول الله : باب ما جاء في المُطَلَّقَة ثلاثاً لا سُكْنَى لها ولا نفقة برقم ( 1100 ) وأحمد في مُسْنَد القبائل برقم ( 26072 ) .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّ رَدّ عُمَر - رضي الله عنه - لِهذا الخبر ليس لأنّ الخبر لا يُخَصِّص عموم الكتاب ؛ وإنّما لِتَرَدُّده - رضي الله عنه - في صِدْقها ؛ بدليل قوله " لاَ نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَت " ، فعَلَّل الرَّدّ بالتَّرَدُّد في صِدْقها وكَذِبها لا بكَوْنه خبر واحد (1) .
وفي ذلك يقول الإمام أحمد - رضي الله عنه - :" كان ذلك منه على وجْه احتياط ، وقدْ كان يَقْبَل مِن غيْر واحد قوْله وحْده " ا.هـ (2) .
الدليل الثاني : قوله - صلى الله عليه وسلم - ( إذا رُوِي عنّي حديث فاعرضوه على كتاب الله : فإنْ وافَقه فاقبلوه ، وإنْ خالَفه فرُدّوه ) (3) ..
وجْه الدلالة : أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَنا بعَرْض أيّ حديث يُرْوَى عنه - صلى الله عليه وسلم - على كتاب الله عَزّ وجَلّ : فإنْ كان مُوافِقاً لِمَا في الكتاب وَجَب قبوله والعمل به ، وإنْ كان مُخالِفاً وَجَب رَدّه ، وحيث إنّ خبر الواحد الذي يُخَصِّص عموم الكتاب مُخالِف له ـ ولِذا وَجَب رَدّه ـ فتخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد لا يجوز (4) .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نوقش هذا الدليل مِن وجوه :
الوجه الأول : أنّ هذا الحديث مردود عند أهْل الحديث ..
(1) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/149 ، 150 والعدّة 2/552 - 554 والإحكام لِلآمدي 2/325 والواضح 3/379 ، 380 والإبهاج 2/174 ومُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/349 ، 350
(2) العدّة 2/554(1/103)
(3) قال العجلوني :" لم يَثْبُتْ فيه شيء ، وهذا الحديث مِن أَوْضَع الموضوعات ، بلْ صحّ خلافه " ا.هـ .. كَشْف الخفاء 2/569
(4) يُرَاجَع : شَرْح المنهاج 1/413 ونهاية السول 2/123 والإبهاج 2/174
ومِمَّا يؤكِّد ذلك : قول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - :" ما رَوَى هذا أَحَد يَثْبُت حديثه في شيء صَغُر ولا كَبُر ، فيقال لنا : قدْ ثبّتم حديث مَن رَوَى هذا في شيء ، وهذه ـ أيضاً ـ رواية مُنْقَطِعة عن رَجُل مجهول ، ونَحْن لا نَقْبَل مِثْل هذه الرواية في شيء " ا.هـ (1) .
وذَكَر السيوطي (2) ما قال البيهقي ـ رحمهما الله تعالى ـ في هذا الحديث :" والحديث الذي رُوِي في عَرْض الحديث على القرآن باطِل لا يَصِحّ ، وهو يَنْعَكِس على نَفْسه بالبطلان " ا.هـ (3) .
وإذا كان الحديث باطلاً فالاستدلال به كذلك .
الوجه الثاني ( لِلباحث ) : أنّ القول بهذا الحديث يَجعلنا نَرْفُض كثيراً مِن السُّنَن التي لم تَرِدْ في القرآن الكريم : كأعداد الركعات وكيفيّة الصلوات وأداء الزكاة ونحْوها ، وتَرْكها هَدْم لِلدِّين ؛ لأنّها أَصْبَحَتْ في حُكْم المتواتر المُجْمَع عليه .
الوجه الثالث : حتى وإنْ سَلَّمْنَا جدلاً بصحّة هذا الحديث فليس معناه أنْ السُّنَّة تخالِف القرآن ، وإنّما هذا الحديث يؤكِّد أنّ السُّنَّة والقرآن يَخْرُجان مِن مشكاة واحدة ؛ فكلاهما وحْي مِن الله عَزّ وجَلّ ؛ { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْىٌ يُوحَى } (4) .
(1) الرسالة /225
(2) السيوطي : هو جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بَكْر بن محمد بن سابق الدين السيوطي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 849 هـ ..
مِن مصنَّفاته : الإتقان في علوم القرآن ، الدُّرّ المنثور ، الأشباه والنظائر، الحاوي لِلفتاوى .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالقاهرة سَنَة 911 هـ .
الكواكب السائرة 1/226 والضوء اللامع 4/65
(3) مفتاح الجَنَّة في الاحتجاج بالسُّنَّة /6(1/104)
(4) سورة النجم الآيتان 3 ، 4
وفي ذلك يقول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - :" لم تَكُن السُّنَّة لِتخالِف كتاب الله ، ولا تَكون السُّنَّة إلا تبعاً لِكتاب الله بمِثْل تنزيله أو مُبَيِّنةً معنى ما أراد الله فهي بِكُلّ حال مُتَّبِعة كتابَ الله " ا.هـ (1) .
الدليل الثالث : أنّه لو قُلْنَا بجواز تخصيص خبر الواحد لِعموم الكتاب لَنَسَخه ، واللازم باطِل ؛ فإنّه يَمْتَنِع نسْخ الكتاب والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد ، فالملزوم مِثْله ..
بيان المُلازَمة : أنّ التخصيص تخصيص في الأعيان ، والنسخ تخصيص في الأزمان ، فلو جاز التخصيص في الأعيان بخبر الواحد لَكان ذلك لأجْل أنّ تخصيص العامّ أَوْلى مِن إلغاء الخاصّ ، وهذا المعنى قائم في النسخ ، فيَلْزَم جواز النسخ بخبر الواحد .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّ التخصيص أَهْوَن مِن النسخ ؛ لأنّ التخصيص غيْر رافِع لِلحُكْم ، وإنّما هو بيان لِلمراد بالعامّ ، والنسخ رافِع لِلحُكْم ، ولا يَلْزَم مِن تأثير خبر الواحد في التخصيص الذي هو الأَهْوَن تأثيره في النسخ الذي هو الأقوى (2) .
أدلّة المذهب الثالث :
اسْتَدَلّ أصحاب المذهب الثالث ـ القائلون بجواز تخصيص عموم الكتاب الذي خُصّ بدليل مقطوع به بخبر الواحد ـ بدليل ، مفاده : أنّ الكتاب قَطْعِيّ مِن كُلّ وجْه ؛ لأنّ المتن متواتر ، وعمومه قَطْعِيّ الدلالة كذلك ، والخبر ظَنِّيّ متناً ؛ لأنّه خبر الواحد ، فلا يُخَصِّصه ؛ لأنّه أَضْعَف
(1) الرسالة /223
(2) شَرْح المنهاج 1/414 بتَصَرُّف ويُرَاجَع : الإبهاج 2/174 والمستصفى /248 ، 249 والإحكام لِلآمدي 2/327
منه ..(1/105)
أمّا إذا خُصّ هذا العموم بقَطْعِيّ فإنّه بَعْد التخصيص يَتَسَاوَى مع خبر الواحد في الظَّنِّيَّة ، فالعامّ المخصوص ظَنِّيّ ، بل الخبر أَقْوَى منه ؛ لأنّ الظَّنّ فيه في الثبوت فقط دون الدلالة ، بخلاف عامّ الكتاب ؛ فإنّه صار ضعيفاً ؛ لأجْل مُعارَضة القياس على المخصّص الذي هو أَضْعَف مِن الخبر (1) .
مناقَشة هذا الدليل :
ويُمْكِن مناقَشة هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّا نُسَلِّم أنّ خبر الواحد أَضْعَف مِن الكتاب في السند ؛ فهو قَطْعِيّ المتن لكنّه ظَنِّيّ الدلالة ، وخبر الواحد عَكْس ذلك ؛ فهو ظَنِّي المتن قَطْعِيّ الدلالة ، ولِذا فإنّهما متعادِلان ؛ لِكَوْن كُلٍّ منهما قَطْعِيّاً مِن وجْه ظَنِّيّاً مِن وجْه ، فجاز التعارض بَيْنهما ، فيُخَصِّص كُلّ منهما الآخَر (2) .
الوجه الثاني : أنّكم فَرَّقْتُمْ بَيْن العامّ المخصوص والذي لم يُخَصّ ، وأَجَزْتُمْ تخصيص الأول دون الثاني بحُجّة أنّه بَعْد التخصيص يَتَسَاوَى مع خبر الواحد في الظَّنِّيَّة ، أمّا قَبْل التخصيص فليس كذلك ، وأَرَاهَا تفرقةً تَحتاج إلى نظر ؛ لأنّ العامّ الذي لم يُخَصّ ـ أيضاً ـ صيغته مُعَرَّضة لِلتخصيص ومُحْتَمِلة له ، وخبر الواحد غيْر مُحْتَمِل ، ولِذا جاز أنْ يُقْضَى به عليه كخبر التواتر وكالمُجْمَل والمُفَسَّر .
ومِمَّا تَقَدَّم كان تخصيص خبر الواحد لِعموم القرآن مُطْلَقاً جائزاً بِلا تفرقة بَيْن عامّ خُصّ بدليل مقطوع به أو عامّ لم يُخَصّ ، بلْ هو أَوْلى
(1) فواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/349
(2) يُرَاجَع : شَرْح العضد 2/150 ومناهج العقول 2/122 والإحكام لِلآمدي 2/326 ونهاية السول 2/123
في الذي لم يُخَصّ ؛ لأنّ خبر الواحد غيْر مُحْتَمِل ، والعامّ الذي لم يُخَصّ مُحْتَمِل ، وتقديم ما لا يَحْتَمِل أَوْلى (1) .
أدلّة المذهب الرابع :(1/106)
اسْتَدَلّ الكرخي ـ رحمه الله تعالى ـ القائل بجواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد إنْ خُصّ بدليل مُنْفَصِل : بأنّ العامّ الذي خُصِّص بمُنْفَصِل مَجاز ( عنده ) ، فتُصْبِح دلالته مظنونةً ، ومَتْنه قَطْعِيّ ، وخبر الواحد مَتْنه مظنون ودلالته قَطْعِيّة ، فيَتَسَاويَان ، فيَقْوَى الخبر على تخصيصه حينئذٍ ..
وأمّا إذا لم يُخَصَّص بمُنْفَصِل فهو حقيقة ، فيَكون مقطوع المتن والدلالة ، فلا يعارِضه خبر الواحد الذي هو مظنون المتن ، وحينئذٍ لا يَكون مُساوِياً له ، فلا يجوز أنْ يُخَصِّصه .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : وهو ذاته الوجه الأول مِن مناقَشة الدليل السابق ، والعهد به قريب .
الوجه الثاني ( لِلباحث ) : أنّ الكرخي رحمه الله تعالى بَنَى دليله على أنّ العامّ بَعْد تخصيصه يَكون مَجازاً ، وحينئذٍ تَكون دلالته ظَنِّيّةً ، ومَتْنه قَطْعيّ ، فيَتَساوى مع خبر الآحاد الظَّنِّيّ المتن القَطْعِيّ الدلالة ، فيُخَصِّصه .
ولكنّي لا أُسَلِّم أنّ العامّ بَعْد تخصيصه يَكون مَجازاً ، وإنّما هو ـ على الراجح عندي (2) ـ حقيقة في الباقي ، ولِذا كانت دلالته قَطْعِيّةً ومتنه كذلك وإذا كان كذلك فلا يجوز تخصيصه به على قاعدته .
(1) يُرَاجَع : التمهيد لِلكلوذاني 2/111 والعدّة 2/557 والإبهاج 2/175
(2) يُرَاجَع : بيان المختصر 2/135 ، 136 وشَرْح العضد 2/107 وشَرْح تنقيح الفصول /226=
أدلّة المذهب الخامس :(1/107)
اسْتَدَلّ القاضي أبو بَكْر الباقلاّني ـ رحمه الله تعالى ـ على التَّوَقُّف في تخصيص عموم الكتاب بخبر الآحاد بدليل ، مفاده : أنّ عموم الكتاب ظَنِّيّ الدلالة قَطْعِيّ المتن ، وخبر الآحاد قَطْعِيّ الدلالة ظَنِّيّ المتن ، وإذا كان كلاهما قَطْعِيّاً مِن وجْه ظَنِّيّاً مِن وجْه فقدْ تَسَاوَيَا وتَقَابَلاَ ووَقَع التعارض ، ولِذا وَجَب التَّوَقُّف ؛ لِعدم وجود دليل على الترجيح والرجوع إلى دليل آخَر .
مناقَشة هذا الدليل ( لِلباحث ) :
ويُمْكِن مناقَشة هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّا لا نُسَلِّم عدم دليل لِترجيح العمل بهما أو بواحد منهما ، وإنّما الدليل موجود ، وهو : أنّ القول بالتَّوَقُّف يؤدِّي إلى تَرْك العمل بالدليليْن ، والقول بتخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد فيه إعمال لهما ، وإعمال الدليل أَوْلى مِن تَرْكه وإهماله .
الوجه الثاني : كثرة الأدلّة التي أَثْبَتَتْ وقوع تخصيص عموم القرآن بخبر الآحاد ـ والتي تَقَدَّم ذِكْر بعض صُوَرها في أدلّة المذهب الأول ـ تُعَدّ بمفردها أَقْوَى دليل لِترجيح التخصيص ، لا التَّوَقُّف كما ذهب القاضي رحمه الله تعالى .
ثالثاً – تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم في حُكْم تخصيص عموم الكتاب بخبر الآحاد يُمْكِن التَّوَصُّل إلى ما يلي :
1- أنّ المذهب الثاني المانع لِتخصيص خبر الآحاد لِعموم الكتاب مُطْلَقاً
= والوصول إلى الأصول 1/236 ، 237 وبلوغ المرام في قواعد العامّ /269
اخْتَلَف الأصوليّون في نِسْبته ، كما أنّ أدلّته لم تَسْلَمْ مِن المناقَشة والاعتراض .(1/108)
2- أنّ المذهب الثالث ـ وهو ما عليه الحنفيّة ـ قدْ فَرَّقوا بَيْن عموم مُخَصَّص بقَطْعِيّ وعموم مُخَصَّص بظَنِّيّ ، ولم يُجِيزوا المُخَصَّص بظَنِّيّ ، مع أنّ هذا العامّ بَعْد تخصيصه ـ ظنِّيّاً كان المُخَصِّص أم قَطْعِيّاً ـ ما زال ظنِّيّ الدلالة قَطْعِيّ المتن ، وهو ما بَنَوْا عليه حُجّتهم في جواز تخصيص خبر الآحاد لِعموم الكتاب الذي خُصّ بقَطْعِيّ ، وكان لزاماً عليهم أنْ يُعَمِّموا الحُكْم فيهما بالجواز في الحالتيْن .
3- أنّ اختيار الكرخي رحمه الله تعالى ـ وهو المذهب الرابع ـ قدْ فَرَّق ـ أيضاً ـ بَيْن عامّ مُخَصَّص بدليل مُنْفَصِل ؛ فيجوز تخصيصه بخبر الآحاد وبَيْن عامّ خُصِّص بدليل مُتَّصِل ؛ فلا يجوز ، وحُجّته هي نَفْس الحُجّة أو العِلّة في المذهب السابق ، ولِذا كان مردوداً بما رُدّ به .
4- أنّ المذهب الخامس ـ وهو اختيار القاضي أبي بَكْر رحمه الله تعالى ـ بَنَى تَوَقُّفه على تَساوِي الدليليْن وعدم وجود مُرَجِّح لأحدهما ، لكنْ ثبت بالدليل وجود أدلّة ترجيح الجَمْع بَيْنهما ، وكذا صُوَر تخصيص عموم القرآن بخبر الآحاد .
5- أنّ المذهب الأول القائل بجواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الآحاد مُطْلَقاً هو الأَوْلى بالقبول والاختيار ؛ لِمَا يلي :
- كثرة أدلّته وقوّتها ، والمُدَعَّمة بصور الوقوع بَيْن الكتاب وخبر الآحاد .
- سلامة أدلّته مِن المناقَشة والاعتراض .
- ضَعْف أدلّة المذاهب الأخرى ، وعدم سلامتها مِن المناقَشة والاعتراض .
- أنّه المنقول عن الأئمّة الأربعة - رضي الله عنهم - وما عليه الجمهور .
المطلب الرابع
إذا خُصّ أحد العموميْن
هل يَلْزَم منه تخصيص الآخَر ؟
والحديث في هذا المطلب يُمْكِن تقسيمه على النحو التالي :
1- التعبير عن هذا المطلب ( هذه المسألة ) عند الأصوليّين .
2- صوَر ورودها في القرآن الكريم .
3- تحرير محلّ النزاع في هذه المسألة .
4- مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم .(1/109)
5- تعقيب وترجيح .
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها فيما يلي :
أوّلاً – التعبير عن هذا المطلب ( هذه المسألة ) عند الأصوليّين :
لقدْ تَعَدَّدَتْ تعبيرات الأصوليّين وعَنْوَنَتهم لِهذه المسألة لِدرجة هالتني كثْرتها واختلافها ، كثرة تُحَيِّر الباحث في تجريح واحد منها ..
وتوطئةً لِذلك فقدْ حاوَلْتُ تجميع هذه التعبيرات في روافد ثلاثة أو تعبيرات ثلاثة :
التعبير الأول : ( رجوع الضمير إلى البعض ليس بتخصيص ) .
وهو لابن الحاجب رحمه الله تعالى (1) .
ونَحْوه تعبير الآمدي رحمه الله تعالى ، وهو : ( اللّفظ العامّ إذا عُقِّب بما فيه ضمير عائد إلى بعض العامّ المُتَقَدِّم ) (2) .
(1) مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/152
(2) الإحكام 2/336
وقريب منه تعبير البيضاوي رحمه الله تعالى ، وهو : ( عَوْد ضمير خاصّ لا يُخَصِّص ) (1) .
وكذا تعبير الأنصاري رحمه الله تعالى ، وهو : ( رجوع الضمير إلى بعض العامّ ليس تخصيصا ) (2) .
التعبير الثاني : ( العموم إذا تَعَقَّبه تقييد بشرْط أو صفة أو استثناء أو حُكْم ) أو نَحْوه .
وهو اختيار البصري (3) والفخر الرازي (4) والكلوذاني (5) وابن السمعاني (6) رحمهم الله تعالى .
التعبير الثالث : ( تخصيص أول الآية بآخِرها وآخِرها بأوّلها ) أو نْحوه .
وهو اختيار الشيرازي (7) والقاضي أبي يعلى (8) وابن عقيل (9) والباجي (10) رحمهم الله تعالى .
وهذا التعبير في نظري هو الأَلْيَق والأَقْرَب ببحثي هذا ، وأَشَدّ ارتباطاً بموضوعه المُتَعَلِّق بتخصيص الكتاب العزيز والسُّنَّة المطهّرة ، وإنْ كان التعبيران الأول والثاني في حقيقتيْهما لم يَخْرُجَا عن جَوْهَر التعبير الثالث ولُبّه .
(1) المنهاج مع شَرْحه 1/428
(2) مُسَلَّم الثبوت 1/356
(3) المعتمد 1/283
(4) المحصول 1/455
(5) التمهيد 2/167
(6) قواطع الأدلّة 1/422
(7) اللُّمَع /21
(8) العدّة 2/614
(9) الواضح 3/433
(10) إحكام الفصول /252(1/110)
ومع وجاهة التعبير الثالث وأولويّة التعبير به عندي إلا أنّه قدْ يَرِد عليه : أنّه قدْ حَصَر النزاع في ورود العامّ والخاصّ في آية واحدة ، لِيخرج عنه ما إذا وَرَدَا في آيتيْن ، مع أنّ الحُكْم واحد فيهما .
وخشيةَ ورود أمثال هذه الاعتراضات فقدْ رَأَيْتُ أنْ أُعَبِّر بـ( إذا خُصّ أحد العموميْن : هلْ يَلْزَم منه تخصيص الآخَر ؟ ) ، وهو تعبير مُطْلَق حينما لم يُقَيِّدْ أو يَحْصُر العموميْن في آية واحدة ، كما أنّ التعبير بـ" أحد العموميْن " يَشْمَل المُتَقَدِّم والمُتَأَخِّر ، وقدْ اقْتَبَسْتُ عنواني هذا ـ مع تعديل فيه ـ مِن تعبير " المسوّدة " ، وهو : ( إذا كان في الآية عمومان يُخَصّ أحدهما بحُكْم أو صفة أو استثناء لم يَلْزَمْ منه تخصيص الآخَر ) (1) .
ثانياً - صوَر ورود هذه المسألة في القرآن الكريم :
لقدْ ذَهَبَت الكثرة مِن الأصوليّين إلى حَصْر النزاع في حالة ما إذا تَقَدَّم عامّ وتَبِعه عامّ دَخَله التخصيص (2) ، وهناك مِن الأصوليّين مَن جَعَل محلّ النزاع العموميْن الذي خُصّ أحدهما تَقَدَّم العامّ أو تَأَخَّر (3) ..
والفريق الأول جَعَل المُخَصِّص لِلعامّ أربعةً : شَرْط أو صفة أو حُكْم أو استثناء ، وأَسْمَوْها " تقييداً لِلمعقّب لِللفظ العامّ " .
ومِمَّا تَقَدَّم نستطيع حَصْر صوَر ورود هذه المسألة في خَمْس :
1- تَقَدُّم الخاصّ على العامّ .
2- التقييد بالشَّرْط .
3- التقييد بالصفة .
(1) المسوّدة /138
(2) يُرَاجَع : العدّة 2/167 والقواطع 1/421 والإحكام لِلآمدي 2/336 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 1/152 والمعتمد 1/283 والمحصول 1/455 والمنهاج مع شرْحه 1/428
(3) يُرَاجَع : اللُّمَع /21 وإحكام الفصول /252 والمسوّدة /138 والبحر المحيط 3/237
4- التقييد بالحُكْم .
5- التقييد بالاستثناء .(1/111)
أمّا الأُولى ـ وهي تَقَدُّم الخاصّ على العامّ ـ فمثاله : قوله تَبارَك وتعالى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } (1) مع قوله تعالى { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم } (2) ؛ فإنّ الأول في صنْف مِن الظّالمين وهم السُّرّاق ، فهو خاصّ ، والثاني عامّ في التوبة بَعْد الظُّلْم والإصلاح لِجميع الظالمين (3) .
الثانية : التقييد بالشَّرْط :
مثاله : قوله تعالى { وَالَّئى يَئسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسائكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَثَةَ أَشْهُرٍ وَالَّئى لَمْ يَحِضْن } (4) ؛ فقوله تعالى { وَالَّئى يَئسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسائكُم } عامّ في كُلّ آية مِن المحيض ، ارْتَبْنَا في عِدّتها أم لا ، وقوله تعالى { إِنِ ارْتَبْتُم } خاصّ فيمَن ارْتَبْنَا في عِدّتها ، والتقدير واللائي يَئِسْنَ مِن المحيض مِن نسائكم فعِدّتهنّ ثلاثة أَشْهُر إن ارْتُبْتُمْ ، فالأول على عمومه وإنْ تَعَقَّبه بشرْط يُخَصِّص البعض دُون البعض .
الثالثة : التقييد بالصفة :
مثاله : قوله تَبارَك وتعالى { يَأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنّ } (5) مع قوله تعالى { لا تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرا } (6)
(1) سورة المائدة مِن الآية 38
(2) سورة المائدة الآية 39
(3) البحر المحيط 3/237
(4) سورة الطلاق مِن الآية 4
(5) سورة الطلاق مِن الآية 1
(6) سورة الطلاق مِن الآية 1
فأوّل الآية عامّ في كُلّ مُطَلَّقة ، بائناً كان أم رَجْعِيّاً ، وآخِرها ـ وهو قوله تعالى { لا تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرا } ـ خاصّ ؛ لأنّه يَعْنِي الرغبة في مراجَعتهنّ ، والمراجَعة لا تتأتّى في البائن ، فهلْ يُعَدّ ذلك تخصيصاً لِعموم الحُكْم المُتَقَدِّم ؟(1/112)
الرابعة : التقييد بالحُكْم :
مثاله : قوله تعالى { وَالْمُطَلَّقَتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَثَةَ قُرُوء } (1) مع قوله تعالى { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنّ } (2) ؛ فالمُطَلَّقات يَدُلّ على عموم الحُكْم فيهنّ ، بائناً كان أم رجعيّاً ، وقوله تعالى { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنّ } خاصّ في الرّجعيّة ؛ لأنّ رَدّ المُطَلَّقة لا يتأتى في البائن ، فهلْ يُعَدّ ذلك تخصيصاً لِعموم الحُكْم المُتَقَدِّم ؟
الخامسة : التقييد بالاستثناء :
مثاله : قوله تعالى { لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضة } (3) مع قوله تعالى { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَن يَعْفُون } (4) ؛ فالحُكْم في الآية الأولى وأول الثانية عامّ في كُلّ مُطَلَّقة قَبْل الدخول ، صغيرةً كانت أم كبيرةً ، عاقلةً أم مجنونةً ، وقوله تعالى { إِلا أَن يَعْفُون } خاصّ ؛ لأنّ العفو لا يَكون مِن الكبيرة العاقلة ، فهلْ يُعَدّ ذلك تخصيصاً لِعموم الحُكْم المُتَقَدِّم (5) ؟
(1) سورة البقرة مِن الآية 228
(2) سورة البقرة مِن الآية 228
(3) سورة البقرة مِن الآية 236
(4) سورة البقرة مِن الآية 237
(5) قواطع الأدلّة 1/421 ، 422 بتصرف ويُرَاجَع : المعتمد 1/283 والمحصول 1/456 =
ثالثاً – تحرير محلّ النزاع في هذه المسألة :
وفيه نقطتان :
الأولى : موضوع هذه المسألة : هلْ هو تَقَدُّم العامّ وتأخُّر الخاصّ أم العكس ؟
الثانية : تحرير محلّ النزاع .
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحدة منهما فيما يلي :
الأولى : موضوع هذه المسألة : هلْ هو تَقَدُّم العامّ وتأخُّر الخاصّ أم العكس ؟ :(1/113)
الكثرة مِن الأصوليّين جَعَلوا محلّ النزاع محصوراً فيما إذا تَقَدَّم العامّ وتأخَّر الخاصّ ، وهذا واضِح مِن خلال عباراتهم التي نَذْكُر منها :
قول أبي الحسين البصري ـ رحمه الله تعالى ـ وما شاكَله ، وهو : " العموم إذا تَعَقَّبه تقييد بشَرْط أو استثناء أو صفة أو حُكْم " ا.هـ (1) .
وقول ابن الحاجب ـ رحمه الله تعالى ـ وما شاكَله ، وهو :" رجوع الضمير إلى البعض ليس بتخصيص " (2) ، ورجوع الضمير لا يَكون إلا لِمُتَقَدِّم .
وقول أبي يعلى ـ رحمه الله تعالى ـ وما شاكَله ، وهو :" إذا كان أول الآية عامّاً وآخِرها خاصّا " ا.هـ (3) .
= ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 1/152 ، 153 والإحكام لِلآمدي 2/336 والتمهيد لِلكلوذاني 2/167 ، 168 والإبهاج 2/197 ، 198 والمسوّدة /138 ، 139 وإحكام الفصول /252 وشَرْح تنقيح الفصول /223 والمنهاج مع شَرْحه 1/428 ، 429 ونهاية السول 2/137
(1) المعتمد 1/283 ويُرَاجَع : التمهيد لِلكلوذاني 2/167 والقواطع 1/422 والمحصول 1/455
(2) مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/152 ويُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 2/336 والمنهاج مع شَرْحه 1/428 ومُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/356
(3) العدّة 2/614 ويُرَاجَع الواضح 3/433
وهناك مِن الأصوليّين مَن جَعَل محلّ النزاع بَيْن العامّ والعامّ الذي خُصّ ، تَقَدَّم العامّ أم تأخَّر ؛ فالحُكْم فيهما واحد ..
وفي ذلك يقول الشيرازي رحمه الله تعالى :" وأمّا تخصيص أوَّل الآية بآخِرها وآخِرها بأوَّلها فلا يجوز " ا.هـ (1) .
ويقول الباجي رحمه الله تعالى :" قدْ يَرِد أوَّل اللفظ عامّاً وآخِره خاصّاً وأوَّله خاصّاً وآخِره عامّا " ا.هـ (2) .
ويقول الزركشي رحمه الله تعالى :" وأمّا إذا كان أول الكلام خاصّاً وآخِره بصيغة العموم فلا يَكون خصوص أوّله مانعاً مِن عموم آخِره كالعكس .. ذَكَره القفّال " ا.هـ (3) .(1/114)
وهذا ما أَمِيل إليه وأُرَجِّحه ؛ حيث لا أَرَى فارقاً بَيْن تَقَدُّم العامّ وتأخُّره طالَمَا أنّ هناك رابطةً أو علاقةً بَيْنهما ، ولِذا سأَكُون تابعاً ـ ولي عظيم الشرف ـ لِهؤلاء الأصوليّين الذين لم يُفَرِّقوا بَيْن عامّ تَقَدَّم وعامّ تأخَّر .
الثانية : تحرير محلّ النزاع :
ومِمَّا تَقَدَّم يُمْكن حَصْر شروط النزاع في :
1- وجود عامّيْن بَيْنهما رابِط وَرَدَا في آية واحدة أو آيتيْن .
2- تخصيص أحد العموميْن بمُخَصِّص .
3- عَوْد الضمير في العامّ المُخَصَّص إلى بعض أفراد العامّ الذي لم يُخَصَّصْ ، أمّا إذا عاد إلى كُلّه فخارِج محلّ نزاعنا ؛ لأنّه لا يَكون تخصيصاً ، وإنّما إبقاء لِلكلام على حاله ، ويَبْقَى العامّ على عمومه : كالاستثناء المُسْتَغْرق ؛ فإنّه يَبْطُل ، نَحْو : قوله :" نسائي طوالق إلا
(1) اللُّمَع /21
(2) إحكام الفصول /252
(3) البحر المحيط 3/237
نسائي " (1) .
رابعاً – مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم :
اخْتَلَف الأصوليّون في ما إذا خُصّ أحد العموميْن بمُخَصِّص : هلْ يَلْزَم منه تخصيص الآخَر ؟
على ثلاثة مذاهب :
المذهب الأول : أنّه لا يُخَصِّص العموم الآخَر .
المذهب الثاني : أنّه يُخَصِّصه .
المذهب الثالث : التَّوَقُّف .
وفيما يلي نُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها ، مع أدلّته ، ومناقَشة ما يَحتاج إلى ذلك ..
المذهب الأول : أنّه لا يُخَصِّص العموم الآخَر .
وهو ما عليه الجمهور (2) ، وقول لِلشافعي - رضي الله عنه - (3) ، واختاره الشيرازي (4) وابن الحاجب (5) والقاضي عبد الجبار المعتزلي (6) (7)
(1) يُرَاجَع : البرهان 1/267 والبحر المحيط 3/287
(2) مُسَلَّم الثبوت 1/356
(3) البحر المحيط 3/234
(4) اللُّمَع /21
(5) مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/152(1/115)
(6) القاضي عبد الجبار : هو أبو الحَسَن عبد الجبار بن أحمد الهمداني رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ مُتَكَلِّم معتزليّ ، وُلِد سَنَة 359 هـ ..
مِن تصانيفه : تفسير القرآن ، طبقات المعتزلة .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالرّيّ سَنَة 415 هـ .
سِيَر أعلام النبلاء 11/54 ومعجم المؤلِّفين 5/78
(7) المعتمد 1/283
والآمدي (1) والكلوذاني (2) والبيضاوي (3) وابن السبكي (4) والباجي (5) رحمهم الله تعالى .
واسْتَدَلّوا على أنّ العامّ المُعَقَّب بضمير عائد إلى بعض أفراده لا يُخَصِّصه ـ وإنّما يَبْقَى العامّ على عمومه ـ بأدلّة ، أَذْكُر منها دليليْن :
الدليل الأول : أنّ مقتضى اللفظ الأول إجراؤه على ظاهِره مِن العموم ، ومقتضى اللفظ الثاني عَوْد الضمير إلى جميع ما دَلّ عليه اللفظ المُتَقَدِّم ؛ إذ لا مَخْرَج بتخصيص البعض السابق دون البعض ، فإذا قام الدليل على تخصيص بعض الضمير ببعض المذكور السابق وخُولِف ظاهِره لم يَلْزَمْ منه مُخالَفة اللفظ الأول لِظاهره ؛ لِعدم قيام الدليل على ذلك ، ولِذا وجب إبقاء العامّ على عمومه ؛ لِعدم وجود ما يُخَصِّصه (6) .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّا لا نُسَلِّم أنّ قيام الدليل على تخصيص بعض الضمير ببعض المذكور السابق لا يَلْزَم منه مخالَفة اللفظ الأول لِظاهره ، وإنّما يَلْزَم منه مُخالَفة الضمير لِلمرجوع إليه ، وهو باطِل .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقدْ رُدّ هذا الوجه مِن المناقَشة : بأنّ الضمير كإعادة الظاهر ،
(1) الإحكام 2/336
(2) التمهيد 2/167
(3) المنهاج مع شَرْحه 1/428
(4) جَمْع الجوامع مع البناني 2/32
(5) إحكام الفصول /252
(6) الإحكام 2/336 بتصرف ويُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/153 والمعتمد 1/283 والتمهيد لِلكلوذاني 2/170 وقواطع الأدلّة 1/422 ، 423 وشَرْح تنقيح الفصول /223(1/116)
ولا شكّ أنّه لو أعاد الظاهر وأراد به ثانياً الخصوص لم يَلْزَمْ منه خصوص الأول ولم يُحْكَمْ بكوْنه غيْر الأول ومُخالِفاً له ، فكذا هَهُنَا (1) .
الوجه الثاني : أنّ مُخالَفة الظاهر التي ادَّعَيْتُمُوها حُجّة لِعدم التخصيص ، إنّما يَتَحَقَّق إذا كان مقتضاه الضمير يَعُود إلى كُلّ المذكور السابق إذا أَجْرَيْنَا اللفظ السابق على عمومه ، وليس القول بإجرائه على عمومه ومُخالَفة ظاهِر الضمير أَوْلى مِن إجراء ظاهر الضمير على مقتضاه وتخصيص المذكور السابق ، فتَعَادَلاَ ولم يَتَرَجَّحْ أحدهما على الآخَر ، ووَجَب التَّوَقُّف .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقدْ رُدّ هذا الوجه مِن المناقَشة : بأنّا لا نُسَلِّم عدم وجود المُرَجِّح ، بلْ إنّ إجراء اللفظ المُتَقَدِّم على عمومه وتخصيص المُتَأَخِّر أَوْلى مِن العكس ؛ لأنّ دلالة الأول ظاهرة ، ودلالة الثاني غيْر ظاهرة ، ولا شكّ أنّ تقديم ظاهِر الدلالة أَرْجَح وأَوْلى مِن تقديم غيْر ظاهِرها (2) .
الدليل الثاني : أنّ عَوْد الضمير إلى أفراد العامّ لا يزيد عن إعادة ذلك البعض ، وهذا لا يَسْتَدْعِي تخصيصاً لِلعامّ ، وإنّما مِن باب إعادة ذلك البعض ، فإنّه لو قيل " والمُطَلَّقات يَتَرَبَّصْنَ بأنفُسهنّ ثلاثة قروء ، وبعولة الرَّجْعِيّات أَحَقّ بِرَدّهنّ " لم يَلْزَمْ منه تخصيص المُطَلَّقات بالرَّجْعِيّات ، وإذا كان كذلك كان الضمير أَوْلى بعدم تخصيصه لِلعموم .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّا لا نُسَلِّم لكم أنّ عَوْد الضمير على بعض أفراد العامّ لا يزيد عن إعادة ذلك البعض ، وإنّما يزيد على إعادته لأنّه لو
(1) يُرَاجَع شَرْح العضد 2/153
(2) الإحكام لِلآمدي 2/336 بتصرف .
لم يُخَصّص لَعاد إلى بعض مدلول المذكور ، ولم يُعْهَدْ ذلك في كلام العرب ، بخلاف المُظهر ؛ فإنّه ليس عائداً إلى المذكور .
الجواب عن هذه المناقَشة :(1/117)
وقدْ رُدّ هذا الوجه مِن المناقَشة : بأنّ المُطَلَّقات والضمير في { بُعُولَتُهُنّ } لفظان : الأول ظاهِره العموم ، ومقتضى الثاني رجوعه إلى كُلّ ما تَقَدَّم ، وقدْ وُجِد دليل يَمْنَع عَوْد الضمير إلى كُلّ أفراد العامّ ، فوَجَب صَرْفه عن ظاهِره بعَوْده إلى البعض بالمَجاز ، ولِذا لا يَلْزَم مِن مَجاز أحدهما مَجاز الآخَر ، فوَجَب بقاء العامّ على عمومه ؛ لِعدم وجود ما يَصْرِفه عن عمومه (1) .
المذهب الثاني : أنّه يُخَصِّص العموم الآخَر .
وهو ما عليه أَكْثَر الحنفيّة وبعض الشّافعيّة ، ورواية عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - (2) ، وذَكَر الزركشي رحمه الله تعالى أنّه أَصَحّ القوْليْن عن الإمام الشافعي - رضي الله عنه - (3) ..
ونَسَبه ابن الحاجب إلى إمام الحرميْن وأبي الحسين البصري رحمهم الله تعالى ، وتَبِعه الأنصاري ـ رحمه الله تعالى ـ في ذلك ..
وفيها نظر ؛ لأنّ الثابت عنهما القول بالتَّوَقُّف وليس التخصيص (4) .
واسْتَدَلّوا لِذلك بدليل ، مفاده : أنّ الكناية تَرْجِع إلى مَن تَقَدَّم ذِكْره ، ومَن تَقَدَّم ذِكْره هُنّ المُطَلَّقات جميعهنّ ، فصار بمثابة قوله " إلا أنْ يعفو
(1) شَرْح المنهاج 1/429 بتصرف .
(2) يُرَاجَع : التمهيد 2/169 ومُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/356 وتيسير التحرير 1/320 وشَرْح الكوكب المنير 3/389 والإحكام لِلآمدي 2/336 والمسوّدة /138
(3) البحر المحيط 3/234
(4) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/152 ، 153 ومُسَلَّم الثبوت 1/356 والمعتمد 1/284 والإحكام لِلآمدي 2/336 والبحر المحيط 3/233 ونهاية السول 2/137
النساء المُطَلَّقات " ، ولو صَرَّح دَلّ على أنّ النساء المذكورات في أول الكلام هُنّ اللاتي يَصِحّ منهنّ العفو ، ومتى كان كذلك لزم التخصيص ، وهو المُدَّعَى .
مناقَشة هذا الدليل :(1/118)
وقدْ نُوقِش هذا الدليل : بأنّ ظاهِر الكنايةِ الرجوعُ إلى الكُلّ ، إلا أنْ يَدُلّ الدليل بوجوب تخصيص الكناية به ، وقدْ دَلّ الدليل ، وهو أنّ غيْر جائزة الأمر لا يجوز عَفْوها ، ولا يَلْزَم مِن إرادة الخصوص بهذا الدليل تخصيصه لِعموم الأول (1) .
المذهب الثالث : التَّوَقُّف .
وهو اختيار أبي الحسين البصري وإمام الحرميْن والفخر الرازي .
واحْتَجّوا لِذلك بدليل ، مفاده : بأنّ ظاهِر العموم المُتَقَدِّم يَقْتَضِي الاستغراق ، وظاهِر الكناية يَقْتَضِي الرجوع إلى كُلّ ما تَقَدَّم ، وليس التَّمَسُّك بظاهر العموم والعدول عن ظاهِر الكناية بأَوْلى مِن التَّمَسُّك بظاهر الكناية والعدول عن ظاهِر العموم ، وإذا لم يَتَرَجَّحْ أحدهما وجب التَّوَقُّف (2) .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ التَّمَسُّك بظاهر العموم وتخصيص المُتَأَخِّر أَوْلى مِن العكس ؛ لأنّ التَّمَسُّك بظاهر اللفظ أَوْلى مِن التَّمَسُّك بكنايته ، وهذا يُعَدّ مُرَجِّحاً لِلتَّمَسُّك بالعموم لا لِلتَّوَقُّف .
(1) التمهيد لِلكلوذاني 2/170 ، 171 بتصرف ويُرَاجَع : قواطع الأدلّة 1/423 وشَرْح تنقيح الفصول /224 وشَرْح العضد 2/153
(2) يُرَاجَع : المعتمد 1/283 والمحصول 1/456 والإحكام لِلآمدي 2/336
الوجه الثاني : أنّه إذا دَلّ الدليل على تخصيص الكناية جاز أنْ يَسْتَقِلّ الدليل المخصوص بها وجاز أنْ يَرْجع إلى ما تَقَدَّم ذِكْره ، وحينئذٍ يَكون مشكوكاً فيه ، وحيث إنّ لفْظ العموم مُسْتَقِرّ فلِذا وجب تقديمه على المشكوك فيه (1) .
خامساً – تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم فيما إذا خُصّ أحد العموميْن هلْ يَلْزَم منه تخصيص الآخَر ؟ يُمْكِن التوصل إلى ما يلي :(1/119)
1- أنّي مع الأصوليّين الذين لم يُفَرِّقوا بَيْن عامّ تَقَدَّم وأَعْقَبه خاصّ وخاصّ تَقَدَّم وأَعْقَبه عامّ ، ولِذا عَنْوَنْتُ لِهذه المسألة بما يَتَّفِق واختياري ؛ لأنّ القائلين به لم يُفَرِّقوا في الحُكْم بَيْنهما .
2- أنّ المذهب الثاني القائل بتخصيص العامّ الآخَر بالعامّ الذي دَخَله التخصيص له دليل واحد مَبْنِيّ على أنّ تخصيص الضمير يَقْتَضِي تخصيص العامّ ، وإلا لزم مُخالَفة الضمير الظاهر ..
وقدْ نوقش : بأنّه لا يَلْزَم مِن تخصيص الضمير تخصيصه العامّ .
3- أنّ المذهب الثالث القائل بالتَّوَقُّف مَبْنِيّ على عدم ترجيح العمل بأحدهما ( العموم والضمير المُخَصّص ) ؛ لِعدم وجود المُرَجِّح ..
وقدْ رُدّ : بأنّ التَّمَسُّك بظاهر العموم أَوْلَى مِن التَّمَسُّك بكنايته .
4- أنّ المذهب الأول القائل بعدم تخصيص العامّ المُخَصَّص لِلعامّ الذي لم يُخَصَّصْ هو الأَوْلى بالقبول والاختيار ؛ لِمَا يلي :
أ- سلامة أدلّته مِن المناقَشة والاعتراض .
ب- عدم سلامة أدلّة المذْهبيْن الثاني والثالث مِن المناقَشة والاعتراض .
(1) يُرَاجَع : التمهيد لِلكلوذاني 2/171 ، 172 وقواطع الأدلّة 1/423 ، 424 وشَرْح العضد 2/153
جـ- أنّه يُحْمَل كُلّ واحد منهما على ما يقتضيه لفْظه مِن خصوص أو عموم ، وطروء التخصيص على أحد اللفظيْن لا يُوجِب ذلك تخصيص الآخَر (1) .
(1) يُرَاجَع إحكام الفصول /252
المبحث الثاني
أثر تخصيص الكتاب في الأحكام
وفيه فروع :
الفرع الأول : نكاح الكتابيّة .
الفرع الثاني : أكْل ميتة السمك والجراد .
الفرع الثالث : الجَمْع بَيْن المرأة وعمّتها أو خالتها .
الفرع الأول
نكاح الكتابيّة
النَّصّ الوارد في تحريم عموم المُشْرِكات :
قوله تعالى { وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَتِ حَتَّى يُؤْمِنّ } (1) .
النَّصّ الوارد في إباحة نكاح الكتابيّة :(1/120)
قوله تعالى { وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ مِن قَبْلِكُم } (2) .
النَّصّ الأول حَرَّم على المؤمِن نكاح المُشْرِكات إلا بَعْد إيمانهنّ ، وهذا عامّ في كُلّ مُشْرِكة ، كتابيّةً كانت أم غيْر كتابيّة .
والنَّصّ الثاني أباح لِلمُسْلِم نكاح الكتابيّة ، وحيث إنّ النَّصَّيْن بَيْنهما تَعارُض ظاهريّ فإنّ العلماء اخْتَلَفوا في التوفيق بَيْنهما على قوْليْن :
القول الأول : أنّ الآية الثانية ناسخة لِحُكْم الكتابيّة .
وهو قول الإمام مالك وسفيان (3) والأوزاعي (4) - رضي الله عنهم - ، ومرويّ عن
(1) سورة البقرة مِن الآية 221
(2) سورة المائدة مِن الآية 5
(3) سفيان الثوري : هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي رحمه الله تعالى ، وُلِد سَنَة 96 هـ ، لُقِّب بـ" أمير المؤمِنين في الحديث " ، أَدْرَك خمسمائةً مِن الصحابة ..
مِن مصنَّفاته : مُسْنَد الثوري .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالبصرة سَنَة 161 هـ .
الطّبقات الكبرى لابن سعد 6/371 وطبقات الحُفّاظ 1/95 وشذرات الذهب 1/250
(4) الأوزاعي : هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الأوزاعي رحمه الله تعالى ، مِن تابِعي التابعين وأئمّة الفقه والعِلْم والحديث ، كان أهْل الشام والمغرب على مذْهبه ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببيروت سَنَة 157 هـ .
وفيات الأعيان 2/310 وشذرات الذهب 1/241
ابن عباس رضي الله عنهما .
القول الثاني : أنّ الآية الثانية مُخَصِّصة لِعموم تحريم المُشْرِكات .
وهو أحد قوْلَي الإمام الشافعي - رضي الله عنه - (1) .
والأَوْلى عندي : أنّها مُخَصِّصة وليست ناسخةً ، إلا إنْ قُلْنَا بالنسخ الجزئي .
نَوْع التخصيص في هذا الفرع :
والتخصيص في هذا الفرع تخصيص لِلكتاب بالكتاب .
أثر هذا التخصيص في الأحكام :
اخْتَلَف العلماء في حُكْم نكاح الكتابيّة على أقوال :
القول الأول : إباحة نكاح الكتابيّة .(1/121)
وهو قول الإمام مالك وسفيان والحَسَن (2) والأوزاعي ، ومرويّ عن ابن عباس وجماعة مِن الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - .
وهذا القول ( الحُكْم ) مُفَرَّع على أنّ آية المائدة خَصَّصَت عموم آية البقرة التي تُحَرِّم نكاح المُشْرِكات .
القول الثاني : حرمة نكاح الكتابيّة .
وهو قول جماعة مِن أهْل العِلْم ، وإحدى روايتيْن عن ابن عُمَر رضي الله عنهما ، واختيار الإماميْن مالك والشافعي ـ رضي الله عنهما ـ إذا كانت أَمَة .
(1) يُرَاجَع الجامع لأحكام القرآن 3/45 ، 46
(2) الحَسَن : هو أبو سعيد الحَسَن بن يسار البصري رحمه الله تعالى ، إمام أهْل البصرة ، مِن سادات التابعين والزاهدين ..
مِن مصنَّفاته : تفسير القرآن .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالبصرة سَنَة 110 هـ .
طبقات المُفَسِّرين 1/147 وشذرات الذهب 1/136
وهو مُفَرَّع على أنّ آية المائدة لم تُخَصِّصْ عموم آية البقرة .
القول الثالث : كراهة نكاح الكتابيّة .
وهو قول ابن عُمَر رضي الله عنهما ، ورُوِي عن عُمَر - رضي الله عنه - حتى لا يَزْهَد المُسْلِمون في المُسْلِمات .
وهو مُفَرَّع على أنّ آية المائدة مُخَصِّصة لِعموم آية البقرة .
والقول الأول عندي هو الأَوْلى بالقبول والترجيح ، وهو مَبْنِيّ على أنّ آية { وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب } مُخَصِّصَة لِعموم آية { وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَتِ حَتَّى يُؤْمِنّ } .
كما أرى حرمة نكاح الكتابيّة إنْ خُشِي على زَوْجها المُسْلِمِ الفتنةَ في دِينه ، وكذا إنْ كانت الكتابيّة حربيّة (1) .
(1) يُرَاجَع : أحكام القرآن لِلجصّاص 1/332 – 334 ، 409 ، 410 وتفسير القرآن العظيم 221 ، 276 وأحكام القرآن لابن العربي 1/156 ، 157 وجامع البيان 24/362
الفرع الثاني
أكْل ميتة السمك والجراد
النصوص الواردة في تحريم أكْل الميتة عامّة :(1/122)
قوله تعالى { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّه } (1) ، وقوله تعالى { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه } (2) .
النصوص الواردة في حِلّ أكْل ميتة السمك والجراد :
1- قوله تعالى { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَة } (3) .
2- وقوله - صلى الله عليه وسلم - { أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ : فَالْمَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ ، وَالدَّمَانِ الْكَبِدُ وَالطُّحَال } (4) .
3- وقوله - صلى الله عليه وسلم - في البحر { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُه } (5) .
4- وحديث جابر بن عبد الله (6) رضي الله عنهما أنّه مع أبي عبيدة
(1) سورة البقرة مِن الآية 173
(2) سورة المائدة مِن الآية 3
(3) سورة المائدة مِن الآية 96
(4) أَخْرَجه ابن ماجة في كتاب الأطعمة : باب الكبد والطّحال برقم ( 3305 ) وأحمد في مُسْنَد المُكْثِرين مِن الصحابة برقم ( 5465 ) ، كلاهما عن عبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما .
(5) أَخْرَجه الترمذي في كتاب الطهارة عن رسول الله : باب ما جاء في ماء البحر أنّه طهور برقم ( 3 ) والنسائي في كتاب الطهارة : باب ماء البحر برقم ( 59 ) وأبو داود في كتاب الطهارة : باب الوضوء بماء البحر برقم ( 76 ) ، كُلّهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(6) جابر بن عبد الله : هو الصّحابيّ الجليل أبو عبد الله جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام ابن كعْب الأنصاري السلمي رضي الله عنهما ، شَهِد بيعة العَقَبَة الثانية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو =(1/123)
ابن الجرّاح - رضي الله عنه - (1) يَتَلَقَّى عِيراً لِقُرَيْش على ساحِل البحر ووجدوا دابّةً تُدْعَى " العنبر " ، قال أبو عبيدة - رضي الله عنه - :" مَيْتَة " ثُمّ قال :" بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا " ..
قال : فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْراً حَتَّى سَمِنَّا ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ ، فَقَال { هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ ، فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونَا } ..
قال : فَأَرْسَلْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُ فَأَكَلَه (2) .
5- وحديث عبد الله بن أبي أَوْفَى - رضي الله عنه - (3) :" غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَبْعَ غَزَوَاتٍ أَكَلْنَا الْجَرَادَ مَعَه " (4) .
= صغير ، وشَهِد مع النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ثماني عشرة غزوة ..
تُوُفِّي سَنَة 74 هـ ، وقيل : سَنَة 78 هـ .
أسد الغابة 1/351 والإصابة 1/434 ، 435 وشذرات الذهب 1/44
(1) أبو عبيدة بن الجرّاح : هو الصّحابيّ الجليل أبو عبيدة عامر بن الجرّاح بن هلال الفهري القرشي - رضي الله عنه - ، أمين هذه الأُمّة ، وأحد العشرة المُبَشَّرين بالجَنّة ، وأحد الخمسة الذين أَسْلَموا على يد أبي بَكْر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - في يوْم واحد ، وهو أول مَن سُمِّي " أمير الأمراء " بالشام .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالطاعون عام عمواس سَنَة 108 هـ بقرية فحل ، وقيل بالجابية .
البداية والنهاية 7/94
(2) أَخْرَجه مُسْلِم في كتاب الصيد والذبائح وما يُؤْكَل مِن الحيوان : باب إباحة ميتات البحر برقم ( 3576 ) وأحمد في باقي مُسْنَد المُكْثِرين مِن الصحابة برقم ( 13818 ) .(1/124)
(3) عبد الله بن أبي أَوْفَى : هو الصّحابيّ الجليل عبد الله بن أبي أَوْفَى عتبة بن خالد بن الحارث ابن أبي أسيد - رضي الله عنه - ، شَهِد الحديبية ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالكوفة سَنَة 86 هـ ، وقيل سَنَة 87 هـ .
أسد الغابة 3/183 والإصابة 4/38
(4) أَخْرَجه البخاري في كتاب الذبائح والصيد : باب أكْل الجراد برقم ( 5071 ) ومُسْلِم في كتاب الصيد والذبائح وما يُؤْكَل مِن الحيوان : باب إباحة الجراد برقم ( 13818 ) والترمذي في كتاب الأطعمة عن رسول الله : باب ما جاء في أكْل الجراد برقم ( 1744 ) .
وجْه التخصيص في هذه النصوص :
أنّ الحُكْم الوارد في الآيتيْن الأُولَيَيْن عامّ في تحريم أكْل الميتة بما فيها ميتة السمك والجراد .
وأنّ الآية الثالثة أباحت أكْل صيْد البحر وطعامه ، ما طفا عليه وجرز عنه ، أيْ ميتته .
وأنّ الحديث الشريف الأول أباح أكْل ميتة السمك والجراد .
وأنّ الحديثيْن الشريفيْن الثاني والثالث أباحَا أكْل ميتة السمك .
وأنّ الحديث الشريف الرابع أباح أكْل ميتة الجراد .
ومِمَّا تَقَدَّم يَتَّضِح أنّ هناك تَعارضاً بَيْن النصوص المُحَرِّمة لأكْل ميتة السمك والجراد والنصوص المبيحة لأكْلهما ، والجَمْع بَيْنهما أَوْلى مِن إبطال أحدهما ، ولا يتأتّى إلا بالقول بالتخصيص ..
فالآية الكريمة الثالثة خَصَّصَتْ عموم الآيتيْن الكريمتيْن الأُولَيَيْن بإباحة أكْل ميتة السمك .
والحديث الشريف الأول خَصَّص عمومهما بإباحة أكْل ميتة السمك والجراد .
والحديثان الشريفان الثاني والثالث خَصَّصَا عمومهما بإباحة أكْل ميتة السمك .
والحديث الشريف الرابع خَصَّص عمومهما بإباحة أكْل ميتة الجراد .
نَوْع التخصيص في هذا الفرع :
نوْعان مِن التخصيص في هذه النصوص المُتَقَدِّمة :
الأول : تخصيص الكتاب بالكتاب .
وهو مُتَحَقِّق بَيْن الآيتيْن الأُولَيَيْن { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة }(1/125)
و{ حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة } وبَيْن الآية الثالثة { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُه } .
الثاني : تخصيص الكتاب بالسُّنَّة أو خبر الآحاد .
وهو مُتَحَقِّق بَيْن الآيتيْن الكريمتيْن الأُولَيَيْن وبَيْن جميع الأحاديث الشريفة المذكورة .
أثر هذا التخصيص في الأحكام :
اخْتَلَف العلماء في حُكْم أكْل ميتة السمك والجراد على أقوال :
القول الأول : جواز أكْلهما مِن غيْر معالَجة ولا ذكاة .
وهو قول الشافعي - رضي الله عنه - وغيْره .
وهذا القول تفريعاً على تخصيص خبر الواحد لِعموم الكتاب .
القول الثاني : تحريم أكْل السمك الطافي وحِلّ ما جزر عنه .
وهو قول الحنفيّة .
واحْتَجَوا : بحديث { مَا أَلْقَى الْبَحْرُ أَوْ جُزِرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ ، وَمَا مَاتَ فِيهِ وَطَفَا فَلاَ تَأْكُلُوه } (1) ، واعْتَبَروا هذا الحُكْم مُخَصِّصاً لِعموم حِلّ ميتة السمك .
وهُنَا يَكون هذا القول مُفَرَّعاً على تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة .
القول الثالث : أنّه مُخَصَّص بميتة السمك دون الجراد ؛ فلا يُؤْكَل إلا بذكاة .
وهو قول الإمام مالك - رضي الله عنه - وغيْره .
واحْتَجّوا : بصحّة حديث أكْل الجراد ، وضَعْف حديث { أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَان ... } .
(1) أَخْرَجه أبو داود في كتاب الأطعمة : باب في أكْل الطافي مِن السمك برقم ( 3319 ) وابن ماجة في كتاب الصيد : باب الطافي مِن صيْد البحر برقم ( 3238 ) ، كلاهما عن جابر - رضي الله عنه - .
وهذا القول تفريعاً على تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد (1) .
والراجح عندي : أنّ عموم تحريم أكْل الميتة الوارد في الكتاب العزيز مُخَصَّص بخبر الآحاد { أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَان ... } ، فيَحِلّ أكْل ميتة السمك والجراد .
كما أنّ إباحة أكْل ميتة السمك مُخَصَّص بحديث { مَا أَلْقَى الْبَحْرُ أَوْ جُزِرَ عَنْه ... } ، فيحرم أكْل الطافي مِن ميتة السمك .(1/126)
وهُنَا يُعَدّ ذلك تخصيصاً لِلسُّنَّة بالسُّنَّة .
وفي ذلك يقول الجصّاص رحمه الله تعالى :" نَستعملهما جميعاً ونَجعلهما كأنّهما وَرَدَا معاً : نَستعمل خبر الطافي في النهي ، ونَستعمل خبر الإباحة فيما عَدَا الطافي " ا.هـ (2) .
(1) يُرَاجَع : أحكام القرآن لِلجصّاص 1/130 - 133 وأحكام القرآن لابن العربي 1/77 - 79 والجامع لأحكام القرآن 2/146 وتفسير آيات الأحكام 1/44 ، 45
(1) أحكام القرآن لِلجصّاص 1/132
الفرع الثالث
الجَمْع بَيْن المرأة وعمّتها أو خالتها
النَّصّ الوارد في إباحة الجَمْع بَيْن المرأة وعمّتها أو خالتها :
قوله تعالى { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم } (1) .
النَّصّ الوارد في تحريم الجَمْع بَيْنهما :
قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَلاَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا } (2) .
فالنَّصّ الأول أباح نكاح ما ليس مذكوراً في الآية السابقة مِن المُحَرَّمات ، ويدْخل في ذلك الجَمْعُ بَيْن المرأة وعمّتها أو خالتها ، والمُحَرَّم هو الجَمْع بَيْن الأخْتيْن .
والنَّصّ الثاني حَرَّم الجَمْع بَيْن المرأة وعمّتها أو خالتها .
وحيث إنّ النَّصّيْن بَيْنهما تَعارُض ظاهريّ ؛ لأنّ الأول قائل بالإباحة ، والثاني بالحرمة ، ولِذا وجب علينا أنْ نَجْمَع بَيْن الدليليْن بالعمل بهما معاً ..
ولكنّهم اخْتَلَفوا في وسيلة الجَمْع :
فمنهم مَن أَدْخَل الجَمْع بَيْن المرأة وعمّتها أو خالتها مع قوله تَبارَك وتعالى { وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْن } (3) بطريق القياس ؛ لأنّ العلّة في تحريم الجَمْع هي القرابة القريبة ، فكُلّ مَن بَيْنهما قرابة قريبة حرم الجَمْع بَيْنهما (4) .
(1) سورة النساء مِن الآية 24
(2) سَبَق تخريجه .
(3) سورة النساء مِن الآية 23
(4) آيات الأحكام 22/75 والجامع لأحكام القرآن 5/82(1/127)
ومنهم مَن جَعَل الحديث الشريف مُخَصِّصاً لِعموم الآية الكريمة ، وهو الأَوْلى عندي ؛ لأخْذه بطريق النَّصّ دون حاجة إلى القياس الذي تَتَقَدَّم عليه السُّنَّة ..
وفي ذلك يقول ابن دقيق العيد (1) رحمه الله تعالى :" جمهور الأُمَّة على تحريم هذا الجَمْع ( بَيْن المرأة وعمّتها وبَيْن المرأة وخالتها ) ، وهو مِمَّا أُخِذ مِن السُّنَّة ، وإنْ كان إطلاق الكتاب يقتضي الإباحة ؛ لِقوله تعالى { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم } ، إلا أنّ الأئمّة مِن علماء الأمصار خصّوا ذلك العموم بهذا الحديث ، وهو دليل على جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد " ا.هـ (2) .
نَوْع التخصيص في هذا الفرع :
والتخصيص في هذا الفرع تخصيص لِعموم الكتاب بخبر الواحد .
أثر هذا التخصيص في الأحكام :
اخْتَلَف العلماء في حُكْم الجَمْع بَيْن المرأة وعمّتها أو خالتها على قوْليْن :
القول الأول : حرمة الجَمْع بَيْنهما .
وهو ما عليه الجمهور .
(1) تقيّ الدين بن دقيق العيد : هو أبو الفتح محمد بن علِيّ بن وهْب بن مطيع القشيري المنفلوطي المصري ، القوصي المنشأ ، المالكي ثُمّ الشافعي ، وُلِد سَنَة 625 هـ ، فقيه أصوليّ نحويّ ، وُلِّي قضاء الديار المصرية ..
مِن مصنَّفاته : الإلمام في أحاديث الأحكام ، شَرْح كتاب العمدة في الأحكام ، شَرْح الأربعين النووية .
تُوُفِّي سَنَة 702 هـ .
البداية والنهاية 14/27 والدُّرَر الكامنة 4/91 والفتح المُبِين 2/102
(2) إحكام الأحكام 2/493
القول الثاني : جواز الجَمْع بَيْنهما .
وهو ما عليه بعض الخوارج والشيعة (1) .
والأَوْلَى عندي : ما عليه الجمهور مِن حرمة الجَمْع بَيْن المرأة وخالتها أو عمّتها ؛ لأنّ ظاهِر النَّصّ يؤيِّده ، ولا دليل يَصْرِفه إلا إذا كُنَّا مِن الذين يخالِفون السُّنَّة الثابتة ..(1/128)
وفي ذلك يقول القرطبي (2) رحمه الله تعالى :" وأجاز الخوارجُ الجَمْعَ بَيْن الأخْتيْن وبَيْن المرأة وعمّتها وخالتها ، ولا يُعْتَدّ بخلافهم ؛ لأنّهم مَرَقوا مِن الدين وخرجوا منه ، ولأنّهم مُخالِفون لِلسُّنَّة الثابتة " ا.هـ (3) .
(1) الجامع لأحكام القرآن 5/82 ونَيْل الأوطار 6/148
(2) القرطبي : هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بَكْر القرطبي المالكي ، فقيه مُفَسِّر ..
مِن مصنَّفاته : الجامع لأحكام القرآن ، التذكرة .
تُوُفِّي بمصر سَنَة 671 هـ .
شذرات الذهب 5/335 ومعجم المؤلِّفين 8/239
(3) الجامع لأحكام القرآن 5/82
الفصل الرابع
تخصيص السُّنَّة المطهّرة وأثرُه في الأحكام
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : تخصيص السُّنَّة بالكتاب وبالسُّنَّة .
وفيه خمسة مطالب :
المطلب الأول : تخصيص السُّنَّة بالكتاب .
المطلب الثاني : تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة .
المطلب الثالث : التخصيص بإقراره - صلى الله عليه وسلم - .
المطلب الرابع : التخصيص بقول الصّحابيّ .
المطلب الخامس : خصوص السبب .
المبحث الثاني : أثر تخصيص السُّنَّة في الأحكام .
وفيه فروع :
الفرع الأول : نِصَاب زكاة الزروع والثمار .
الفرع الثاني : كفّارة الوقاع في نهار رمضان .
الفرع الثالث : غَسْل الإناء مِن ولوغ الكلب .
المبحث الأول
تخصيص السُّنَّة بالكتاب وبالسُّنَّة
وفيه خمسة مطالب :
المطلب الأول : تخصيص السُّنَّة بالكتاب .
المطلب الثاني : تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة .
المطلب الثالث : التخصيص بإقراره - صلى الله عليه وسلم - .
المطلب الرابع : التخصيص بقول الصّحابيّ .
المطلب الخامس : خصوص السبب .
المطلب الأول
تخصيص السُّنَّة بالكتاب
والحديث في هذا المطلب يُمْكِن تقسيمه على النحو التالي :
1- تعبير الأصوليّين عن هذه المسألة ( هذا المطلب ) .
2- أمْثلتها .
3- مَذاهب الأصوليّين وأدلّتهم .
4- تعقيب وترجيح .(1/129)
وفيما يلي نُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها :
أوّلاً – تعبير الأصوليّين عن هذه المسألة ( هذا المطلب ) :
لقدْ وَقَفْتُ على ثلاثة تعبيرات لِلأصوليّين عن هذه المسألة :
التعبير الأول : ( تخصيص عموم السُّنَّة بالقرآن ) .
وهو اختيار الكثرة مِن الأصوليّين : كالشيرازي (1) وإمام الحرميْن (2) وأبي يعلى (3) والكلوذاني (4) والآمدي (5) وابن السمعاني (6) والباجي (7) رحمهم الله تعالى .
(1) اللُّمَع /18 والتبصرة /136
(2) الورقات /89
(3) العدّة 2/569
(4) التمهيد 2/113
(5) الإحكام 2/321
(6) القواطع 1/363
(7) إحكام الفصول /264
وهؤلاء جَعَلوا محلّ المسألة هو تخصيص الكتاب لِعموم السُّنَّة مُطْلَقاً دون تقييد بمتواتر وآحاد .
التعبير الثاني : ( تخصيص السُّنَّة المتواترة بالكتاب ) .
وهو اختيار الفخر الرازي (1) والأنصاري (2) والشوكاني (3) رحمهم الله تعالى .
وهؤلاء قَيَّدوا السُّنَّة بالمتواترة ، ولِذا فلا يُخَصِّص القرآن عموم خبر الآحاد .
التعبير الثالث : ( تخصيص خبر الواحد بالكتاب ) .
وهو اختيار الزركشي ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" يجوز تخصيص خبر الواحد بالقرآن ، وكلام بعضهم مجيء الخلاف فيما إذا كان الخبر متواتراً هَهُنَا ، وأمْثلته عزيزة " ا.هـ (4) .
والتعبير الأول عندي هو الأَوْلى بالقبول والترجيح ؛ لِمَا يلي :
1- أنّ المتواتر في السُّنَّة عزيز ، ولِذا كان التعبير بالمتواتر يَجْعَل تخصيص القرآن لِعموم السُّنَّة نادراً وقليلا .
2- أنّ قَصْر التخصيص على خبر الواحد يخرج به المتواتر ، وإنْ كان تخصيص القرآن لِعموم المتواتر أَوْلى مِن تخصيصه لِخبر الواحد .
3- أنّ التعبير المُطْلَق يدْخل فيه المتواتر وخبر الواحد ، ولِذا كان أَعَمّ مِن التعبيريْن الآخَريْن .
(1) المحصول 1/430 ويُرَاجَع الإبهاج 2/173
(2) مُسَلَّم الثبوت 1/349
(3) إرشاد الفحول /157
(4) البحر المحيط 3/379
ثانياً – أمثلة هذه المسألة :(1/130)
وأكتفي بإيراد مثاليْن لِهذه المسألة ، وهُمَا :
المثال الأول : قوله تعالى { وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائطِ أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبا } (1) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاَةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأ } (2) ..
وجْه التخصيص : أنّ الحديث الشريف نَهَى وحَرَّم الصلاة لِلْمُحْدِث حتى يتوضّأ ، فأفاد عموم عدم صحّة الصلاة مِن غيْر وضوء ، ثُمّ أجازت الآيةُ الكريمةُ الصلاةَ بالتيمم ، وهو خلاف الوضوء ، فالآية الكريمة قَصَرَت الحُكْم الوارد في الحديث الشريف على غيْر التيمم ، وهذا هو التخصيص بعَيْنه ، فلِذا كانت الآية الكريمة مُخَصِّصةً لِعموم الحديث الشريف (3) .
المثال الثاني : قوله تعالى { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَثًا وَمَتَعًا إِلَى حِين } (4) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّت } (5) (6) ..
وجْه التخصيص : أنّ الحديث الشريف حَرَّم استعمال ما قُطِع مِن حيوان حالَ حياته ؛ لأنّه مَيْتَة ، فأفاد عموم حرمة المقطوع ، ثُمّ أجازت
(1) سورة النساء مِن الآية 43
(2) أَخْرَجه البخاري في كتاب الوضوء : باب لا تُقْبَل صلاة بغيْر طهور برقم ( 132 ) ومُسْلِم في كتاب الطهارة : باب وجوب الطهارة لِلصلاة برقم ( 330 ) والترمذي في كتاب الطهارة عن رسول الله : باب ما جاء في الوضوء مِن الريح برقم ( 71 ) كُلّهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(3) يُرَاجَع شَرْح الورقات مع حاشية النفحات /89
(4) سورة النحل مِن الآية 80(1/131)
(5) أَخْرَجه ابن ماجة في كتاب الصيد : باب ما قُطِع مِن البهيمة وهي حَيّة عن تميم الداري - رضي الله عنه - برقم ( 3208 ) ، والدارمي في كتاب الصيد : باب في الصيد يبين منه العضو عن أبي واقد الليثي - رضي الله عنه - برقم ( 1933 ) .
(6) يُرَاجَع البحر المحيط 3/379
الآية الكريمة استعمال الأصواف والأشعار والأوبار ، والتي غالباً تُقْطَع وتُقَصّ مِن الحيوان حالَ حياته ، وهذا قَصْر لِعموم الحُكْم في الحديث الشريف ، وهذا هو التخصيص بعَيْنه ، فلِذا كانت الآية الكريمة مُخَصِّصةً لِعموم الحديث الشريف .
ثالثاً – مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم :
اخْتَلَف الأصوليّون في تخصيص عموم السُّنَّة بالكتاب على مذْهبيْن :
المذهب الأول : جواز التخصيص .
والمذهب الثاني : عدم جواز التخصيص .
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منهما مع أدلّته ومناقَشة ما يَحتاج إلى ذلك فيما يلي :
المذهب الأول : جواز تخصيص السُّنَّة بالكتاب .
وهو ما عليه عامّة الفقهاء والمُتَكَلِّمين ، واختاره الشيرازي (1) وإمام الحرميْن (2) والباجي (3) وابن الحاجب (4) والآمدي (5) رحمهم الله تعالى .
واحْتَجّوا لِذلك بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تِبْيَنًا لِّكُلّ شَىْء } (6) ..
وجْه الدلالة : أنّ الله تعالى أَنْزَل القرآن الكريم على نَبِيّه - صلى الله عليه وسلم - تبياناً لِكُلّ شيء بما فيها السُّنَّة المطهّرة ، والتخصيص بيان مِن القرآن على قَصْر الحُكْم الوارد في السُّنَّة .
(1) التبصرة /136
(2) الورقات /89
(3) إحكام الفصول /264
(4) مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/149
(5) الإحكام 2/321
(6) سورة النحل مِن الآية 89(1/132)
الدليل الثاني : أنّ الكتاب الكريم مقطوع به ، والسُّنَّة المطهّرة غيْر مقطوع بها ، فيَكون تخصيص الكتاب لِلسُّنَّة تخصيصاً لِلأضعف بالأقوى ، وقدْ أَجَزْنَا تخصيص الكتاب بالسُّنَّة ، فتخصيص السُّنَّة بالكتاب مِن باب أَوْلى .
الدليل الثالث : أنّ الكتاب والسُّنَّة كلاهما يخرج مِن مشكاة واحدة ؛ بدليل : قوله تعالى { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْىٌ يُوحَى } (1) ، فكلاهما راجِع إلى الله عَزّ وجَلّ إمّا وحياً مباشِراً أو غيْر مباشِر ، ولِذا جاز تخصيص أحدهما بالآخَر ، فيجوز تخصيص عموم السُّنَّة بالكتاب كما جاز تخصيص عموم الكتاب بالسُّنَّة (2) .
المذهب الثاني : عدم جواز تخصيص السُّنَّة بالكتاب .
وهو رواية عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - (3) ، وعليه بعض المُتَكَلِّمين والفقهاء كما ذَكَر الآمدي رحمه الله تعالى (4) ، وقال الفخر الرازي رحمه الله تعالى :" وعن بعض فقهائنا أنّه لا يجوز " ا.هـ (5) ..
ولستُ أدري ماذا قَصَد الفخر الرازي رحمه الله تعالى بـ" بعض فقهائنا " : هل الشّافعيّة ؟ أم الأشعريّة ؟
والعبارة تَحْتَمِل الوجْهيْن ، ولِذا كانت نسبة هذا المذهب إلى بعض الشّافعيّة لها أصْل كما هو واضِح مِن عبارات الآمدي والفخر الرازي وابن السبكي (6) والزركشي (7) رحمهم الله تعالى .
(1) سورة النجم الآيتان 3 ، 4
(2) يُرَاجَع : إحكام الفصول /264 ، 265 والعدّة 2/571 والتبصرة /136 والتمهيد لِلكلوذاني 2/113 ، 114 والواضح 3/392
(3) يُرَاجَع : العدّة /570 والتمهيد لِلكلوذاني 2/113 والواضح 3/391
(4) الإحكام 2/321
(5) المحصول 1/430
(6) الإبهاج 2/173
(7) البحر المحيط 3/362
وإيراد الفخر الرازي هذه النسبة لِبعض الشّافعيّة نَرُدّ بها فريقيْن :(1/133)
الفريق الأول : الناسب هذا المذهب لِعامّة الشّافعيّة كما ذهب القاضي أبو يعلى ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" وبهذا قال أصحاب الشافعي " ا.هـ ، إلا أنْ يَكون ذَكَر الكُلّ وأراد البعض مِن باب البلاغة والمَجاز ، وهذا هو ما نَظُنّه بالقاضي رحمه الله تعالى ، وليس كما عَلَّق المُحَقِّق لِلعدّة على ذلك بقوله :" كلام المُصَنِّف هُنَا غيْر مُحَرَّر " ا.هـ (1) ، أو كما عَلَّق المُحَقِّق لِلواضح بقوله :" فظَهَر بذلك عدم دقّة ما ذَكَره الإمام أبو يعلى في " العدّة " مِن أنّ الشّافعيّة لا يقولون بتخصيص عموم السُّنَّة بخصوص القرآن " ا.هـ (2) ..
وأَرَى أنّ العكس هو الصحيح ؛ فكلام المُحَقِّق الأول هو غيْر المُحَرَّر وكلام المُحَقِّق الثاني هو غيْر الدقيق .
الفريق الثاني : المانع لِنسبة هذا المذهب إلى بعض الشّافعيّة كما ذهب ابن عقيل ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" وذَكَر أصحاب الشافعي أنّ المذهب عندهم جواز التخصيص دون المنع ، ولم يَحْكوه مذهباً لأحد مِن أصحابهم " ا.هـ (3) ..
وفيه نظر ؛ لاحتمال عبارتَي الآمدي والفخر الرازي أنّه قول لِبعض الشّافعيّة ، ولكنّ الكثرة الثابت عنها أنّهم يقولون بجوازه .
ومِمَّا تَقَدَّم يَتَّضِح : أنّ هذا المذهب لِبعض المُتَكَلِّمين والفقهاء وبعض الشّافعيّة ، ورواية عن الإمام أحمد - صلى الله عليه وسلم - (4) .
(1) يُرَاجَع هامش " العدّة " 2/570
(2) يُرَاجَع هامش " الواضح " 3/392
(3) الواضح 3/392
(4) يُرَاجَع إرشاد الفحول /157
واسْتَدَلّوا لِذلك بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله تَبارَك وتعالى { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِم } (1) ..(1/134)
وجْه الدلالة ( لِلباحث ) : أنّ الله تعالى أَنْزَل القرآن على النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وأَوْكَل إليه مهمّة بيانه ، وحيث إنّ السُّنَّة هي المُبَيِّن لِلقرآن فلا يجوز أنْ يُخَصِّصها القرآن ؛ لأنّ تخصيص القرآن لها إنّما هو بيان لِلسُّنَّة بالقرآن ، وهو خلاف ظاهِر الآية ، ومُخالَفة ظاهِرها ممنوع ، ولِذا فلا يجوز أنْ تُخَصَّص السُّنَّة بالقرآن .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نوقش هذا الدليل مِن وجوه :
الوجه الأول : أنّ الأمر ببيانه - صلى الله عليه وسلم - لِمَا أُنْزِل إليه مِن الكتاب لا يَمْنَع مِن بيان الله تعالى لِمَا أَنْزَله إلينا ؛ بمقتضى قوله تعالى { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تِبْيَنًا لِّكُلّ شَىْء } (2) ، وبذا يَكون القرآن الكريم مُبَيَّناً مِن القرآن الكريم نَفْسه والسُّنَّة المطهّرة ، ونَحْن نقول بالجميع .
الوجه الثاني : أنّ المراد بالبيان هُنَا الإظهار والإعلام لا التخصيص ؛ فإنّ الكلام يَقْتَضِي أنّ البيان لِجميع ما نُزِّل إليه ، وجميع المُنزل لا يَحتاج إلى تخصيص ، وإنّما يَحتاج إلى الإظهار .
الوجه الثالث : أنّا نَحْمِل الكلام على ما يَفْتَقِر إليه البيان ما لم يُبَيِّنْه القرآن فأمّا ما بَيَّن الكتاب فبيانه مأخوذ منه لا مِن السُّنَّة المطهّرة (3) .
(1) سورة النحل مِن الآية 44
(2) سورة النحل مِن الآية 89
(3) يُرَاجَع : العدّة 2/571 ، 572 والتمهيد لِلكلوذاني 2/114 ، 115 والإحكام لِلآمدي 2/321 وإحكام الفصول /265 والواضح 3/393
الدليل الثاني : أنّ القول بتخصيص السُّنَّة بالقرآن فيه إنقاص لِلقرآن عنْ مَرْتَبَته ؛ لأنّه سيَكون بياناً لِلسُّنَّة ، فيَكون تابعاً لها والسُّنَّة هي الأصل لأنّها المُبَيَّن ، وجَعْل القرآن تابعاً والسُّنَّة متبوعاً مُحال ، ولِذا فتخصيص السُّنَّة بالقرآن كذلك .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :(1/135)
الوجه الأول : أنّا لا نُسَلِّم أنّ القول بتخصيص السُّنَّة بالقرآن يَجْعَله مُبَيِّناً لها فيَكون تابعاً ؛ لأنّه مُعارَض بمقتضى قوله تعالى { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تِبْيَنًا لِّكُلّ شَىْء } (1) ؛ فالقرآن لا بُدّ وأنْ يَكون مُبَيِّناً لِكُلّ شيء ومنها السُّنَّة ، وليس في ذلك إنقاص لِمرتبته أو جَعْله تابعاً كما ادَّعَيْتُمْ .
الوجه الثاني : أنّ دليلكم مَبْنِيّ على أنّ مرتبة القرآن خلاف مرتبة السُّنَّة ، حتى وإنْ سَلَّمْنَا جدلاً بها فإنّ القويّ يُخَصِّص الأضعف ، كيْف وهُمَا يرجعان إلى مَصْدَر واحد وهو الوحي ؛ فإنّه يجوز حينئذٍ أنْ يُخَصِّص كُلّ منهما الآخَر (2) .
رابعاً – تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم في تخصيص السُّنَّة بالكتاب يُمْكن التَّوَصُّل إلى ما يلي :
1- أنّ الأَوْلى التعبير عن هذه المسألة ( هذا المطلب ) بـ" تخصيص السُّنَّة بالكتاب " ؛ لِيَعُمّ السُّنَّة المتواترة وخبر الآحاد .
2- أنّ المذهب الثاني المانع لِتخصيص السُّنَّة بالكتاب بَنَى دليلَيْه على أنّ
(1) سورة النحل مِن الآية 89
(2) يُرَاجَع : العدّة 2/572 والتمهيد لِلكلوذاني 2/115 والواضح 3/393 والإحكام لِلآمدي 2/321 322
مرتبة السُّنَّة دون مرتبة القرآن ، والسُّنَّة مهمّتها بيان القرآن ، ومنه التخصيص ، وليس العكس .
واتَّضَح أنّ بيان السُّنَّة لِلقرآن لا يَتعارض مع تخصيصه لها ولا يُنْقِص مِن مرتبته كما تَقَدَّم .
3- أنّ المذهب الأول القائل بجواز تخصيص عموم السُّنَّة بالكتاب هو الأَوْلى بالقبول والترجيح ؛ لِسلامة أدلّته مِن المناقَشة والترجيح ، وعدم سلامة أدلّة المذهب الثاني مِن ذلك .(1/136)
وأُعَضِّد ترجيحي : بقول ابن السمعاني رحمه الله تعالى :" وإنْ كان العموم ثابتاً بالسُّنَّة فيجوز أنْ تُخَصّ بالكتاب ؛ لأنّه لَمّا جاز أنْ يُخَصّ الكتاب بالكتاب فأَوْلى أنْ تُخَصّ السُّنَّة بالكتاب " ا.هـ (1) .
(1) قواطع الأدلّة 1/363
المطلب الثاني
تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة
والحديث في هذا المطلب يُمْكِن تقسيمه على النحو التالي :
1- تعبير الأصوليّين عن هذه المسألة ( هذا المطلب ) .
2- مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم .
3- تعقيب وترجيح .
وفيما يلي نُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها :
أوّلاً – تعبير الأصوليّين عن هذه المسألة ( هذا المطلب ) :
لقدْ وَقَفْتُ على ثلاثة تعبيرات لِلأصوليّين في هذه المسألة :
التعبير الأول : ( تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة ) .
وهو ما عليه الكثرة ، واختاره الشيرازي (1) والبصري (2) وإمام الحرميْن (3) وابن الحاجب (4) والآمدي (5) وابن السمعاني (6) رحمهم الله تعالى .
وهؤلاء أَطْلَقوا السُّنَّة لِتَشْمَل نَوْعَيْهَا : المتواترة وخبر الآحاد ؛ لِيَحْتَوِي أنواعاً أربعةً : تخصيص السُّنَّة المتواترة بالسُّنَّة المتواترة ،
(1) اللُّمَع /18
(2) المعتمد 1/254
(3) الورقات /89
(4) مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/148
(5) الإحكام 2/321
(6) القواطع 1/374
وتخصيص خبر الآحاد بخبر الآحاد ، وتخصيص السُّنَّة المتواترة بخبر الآحاد ، والعكس .
التعبير الثاني : ( تخصيص السُّنَّة المتواترة بالسُّنَّة المتواترة ) .
وهو تعبير الفخر الرازي (1) والقرافي (2) والزركشي (3) والشوكاني (4) رحمهم الله تعالى .
وهذا التعبير غيْر جامِع ؛ لِخروج ثلاثة أنواع مِن تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة ، وهي : تخصيص خبر الآحاد بخبر الآحاد ، وتخصيص السُّنَّة المتواترة بخبر الآحاد ، والعكس .
التعبير الثالث : ( النَّصّ الخاصّ يُخَصِّص اللفظ العامّ ) .
وهو تعبير الغزالي (5) رحمه الله تعالى .(1/137)
وأَرَاه تعبيراً عامّاً ، يَشْمَل كُلّ تخصيص لَفْظِيّ كتاباً وسُنَّةً ؛ فهو غيْر مانِع مِن دخول تخصيص الكتاب بالكتاب أو الكتاب بالسُّنَّة أو بالعكس .
والأَوْلى عندي : التعبير الأول ، وهو تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة ؛ لِمَا يلي :
1- شموله جميع أقسام تخصيص السُّنَّة الأربعة : المتواترة بمِثْلها ، وخبر الواحد بمِثْله ، والمتواترة بخبر الواحد ، والعكس .
2- أنّ التعبير الثاني ( تخصيص السُّنَّة المتواترة بالمتواترة ) يَجْعَل وقوع هذا النّوع نادراً وقليلاً ..
(1) المحصول 1/429
(2) شَرْح تنقيح الفصول /206
(3) البحر المحيط 3/361
(4) إرشاد الفحول /158
(5) المستصفى /246
وما أَحْلَى هذا الكلام لِلقرافي ـ رحمه الله تعالى ـ في هذا المقام ـ مع أنّه مِن المُعَبِّرين به ـ :" وتصوير هذه المسألة في السُّنَّتَيْن المتواترتيْن في زماننا عَسُر ؛ فإنّ التواتر في الأحاديث قَلّ في زماننا أو انْقَطَع ؛ لِقِلّة العناية برواية الحديث ، ولم يَبْقَ فيها إلا ما يفيد الظّنّ ، حتى قال بعض الفقهاء : ليس في السُّنَّة متواتر إلا قوله - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّات } (1) ، وعند التحقيق لا نَجِده متواتراً عندنا " ا.هـ (2) .
3- أنّه على فَرْض ندرة وقوع السُّنَّة المتواترة فإنّا يُمْكِن أنْ نقول قول بعضهم : إنّ بعضاً مِن أخبار الآحاد كانت متواترةً بالنسبة لِلصحابة - رضي الله عنهم - وفي زمنهم ، ولِذا فإنّها قدْ أَخَذَتْ شكلاً مِن المتواتر في زمن مُعَيَّن .
4- أنّ الكثرة مِن السُّنَّة أخبار آحاد ، وحَصْر تخصيص السُّنَّة في السُّنَّة المتواترة يُخْرِجها ، وفيها أحكام كثيرة دَخَلها التخصيص ، وهو رحمة ويُسْر في التشريع ، وعدم إدخال التخصيص فيها يَحْرِم المُسْلِم مِن ذلك ، ولِذا كان هو الأَوْلى في التعبير عن هذه المسألة .
ثانياً – مذاهب الأصوليّين في تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة وأدلّتهم :(1/138)
اخْتَلَف الأصوليّون في تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة على مذاهب ، حَصَرْتُها في ثلاثة :
المذهب الأول : جواز تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة .
وهو ما عليه الجمهور (3) ، واختاره الشيرازي (4) وأبو الحسين
(1) أَخْرَجه البخاري في كتاب بَدْء الوحي : باب بَدْء الوحي برقم ( 1 ) وأبو داود في كتاب الطلاق : باب فيما عني به الطلاق والنِّيّات برقم ( 1882 ) وابن ماجة في كتاب الزهد : باب النِّيَّة برقم ( 4217 ) ، كُلّهم عن عُمَر بن الخطّاب - رضي الله عنه - .
(2) شَرْح تنقيح الفصول /206
(3) يُرَاجَع مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/148 ، 149
(4) اللُّمَع /18
البصري (1) والغزالي (2) والآمدي (3) وابن السمعاني (4) رحمهم الله تعالى .
واحْتَجّوا لِذلك بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله - صلى الله عليه وسلم - { فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْر } (5) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ (6) صَدَقَة } (7) ..
وجْه الدلالة : أنّ الحديث الأول أَوْجَب الزكاة ( العُشْر ) في كُلّ ما سقت السماء أيّاً كان قَدْره خمسة أَوْسُق أو دُونه ، فهو حُكْم عامّ في وجوب العُشْر في كُلّ زَرْع سَقَتْه السماء دون تحديد قَدْر مُعَيَّن أو نِصَاب له ..
وأنّ الحديث الثاني قَصَر عموم هذا الحُكْم على ما بَلَغ خمسة أَوْسُق ، أمّا ما دُونها فلا زكاة فيه ، وهذا هو التخصيص بعَيْنه ، فدَلّ ذلك على وقوع تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة ، وهو خَيْر دليل على الجواز (8) .
(1) المعتمد 1/255
(2) المستصفى /246
(3) الإحكام 2/321
(4) قواطع الأدلّة 1/374(1/139)
(5) أَخْرَجه البخاري في كتاب الزكاة : باب العُشْر فيما يُسْقَى مِن ماء السماء أو بالماء الجاري برقم ( 1388 ) والترمذي في كتاب الزكاة عن رسول الله : باب ما جاء في الصدقة فيما يُسْقَى بالأنهار وغيْرها برقم ( 579 ) ، كلاهما عن عبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما .
(6) الوسق : ما قَدْره ستّون صاعاً مِن تمْر أو نحْوه ، أو ما يساوي 130 كيلو جراماً ، والخمسة أوسق تُساوِي 653 كيلو جراما ..
يُراجَع : معجَم المصطلحات والألفاظ الفقهيّة 3/477 والفقه الإسلامي وأدلّته لِلزحيلي 3/1890
(7) أَخرَجه البخاري في كتاب الزكاة : باب ما أُدِّي زكاته فليس بكنز برقم ( 1317 ) ومسلِم في كتاب الزكاة برقم ( 1625 ) والترمذي في كتاب الزكاة عن رسول الله : باب ما جاء في صدقة الزرع والتمر والحبوب برقم ( 568 ) ، كُلّهم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - .
(8) يُرَاجَع : حاشية النفحات مع شَرْح الورقات /89 ، 90 واللُّمَع /19 والمستصفى /246 ومختصر المنتهى 2/148 والإحكام لِلآمدي 2/321 وشَرْح طلعة الشمس 1/156
الدليل الثاني : قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِشَيْء } (1) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { هَلاَّ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا (2) فَدَبَغْتُمُوه } (3) (4) ..
وجْه الدلالة : أنّ الحديث الأول حَرَّم الانتفاع مِن الميتة بأيّ شيء ؛ فهو عامّ يَشْمَل تحريم الجِلْد والشَّعْر والصوف والوبر ، وأنّ الحديث الثاني أباح الانتفاع بجِلْدها بَعْد دَبْغه ، وهذا قَصْر لِعموم الأول على غيْر الجِلْد المدبوغ ( كما خُصِّص بقوله تعالى { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا ... } (5) الآية كما تَقَدَّم ) ، وهذا هو التخصيص بعَيْنه ، فدَلّ ذلك على وقوع تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة ، والوقوع خيْر دليل على الجواز ، وهو المُدَّعَى .(1/140)
الدليل الثالث : إذا وَرَد دليلان أحدهما عامّ والآخَر خاصّ وتَعَذَّر الجَمْع بَيْنهما : فإمّا أنْ يعمل بالعامّ ، وإمّا أنْ يعمل بالخاصّ ..
فإنْ عمل بالعامّ لزم منه إبطال الدليل الخاصّ .
ولو عمل بالخاصّ لا يَلْزَم منه إبطال العامّ مُطْلَقاً ؛ لإمكان العمل به فيما خَرَج عنه ، وإعمال الدليليْن أَوْلى مِن إبطال أحدهما ، وحيث إنّ تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة فيه إعمال لِلدليليْن فلِذا كان هو الأَوْلى (6) .
المذهب الثاني : عدم جواز تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة .
(1) أَخْرَجه ابن وهب في مُسْنَده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما .. يُرَاجَع : الدراية في تخريج أحاديث الهداية 1/59 ونَصْب الراية 1/122
(2) الإهاب : هو الجِلْد المُغَلِّف لِجِسْم الحيوان قَبْل أن يُدْبَغ .. المعجم الوجيز /29
(3) أَخْرَجه مُسْلِم في كتاب الحيض : باب طهارة جلود الميتة بالدباغ برقم ( 542 ) والنسائي في كتاب الفرع والعتيرة : باب جلود الميتة برقم ( 4165 ) وابن ماجة في كتاب اللباس : باب لِبْس جلود الميتة إذا دُبِغَت برقم ( 3600 ) ، كُلّهم عن ابن عباس رضي الله عنهما .
(4) يُرَاجَع قواطع الأدلّة 1/375
(5) سورة النحل مِن الآية 80
(6) يُرَاجَع الإحكام لِلآمدي 2/318 - 326
وهو منسوب إلى داود الظاهري رحمه الله تعالى (1) ، ونَسَبه البعض إلى شرذمة (2) .
واحْتَجّوا لِذلك : بقوله تعالى { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِم } (3) ..(1/141)
وجْه الدلالة : أنّ الله عَزّ وجَلّ أَوْجَب على النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بيان وتفصيل ما نزل مِن القرآن ، فتَكون السُّنَّة مُبَيِّنَةً لِلقرآن ، والتخصيص نَوْع مِن البيان ولو جاز تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة لَكانت مُبَيِّنَةً لها وليس لِلقرآن ، وهو مُناقِض لِلآية ومُخالِف لها ، ومُخالَفة القرآن ممنوعة ، ولِذا كان تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة ممنوعاً وغيْر جائز .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّه مُعارَض بقوله تعالى في صفة القرآن الكريم { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تِبْيَنًا لِّكُلّ شَىْء } (4) ، وإذا جاز تخصيص الكتاب بالكتاب ـ وإنْ كان تبياناً ـ فكذلك يجوز تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة وإنْ كانت مُبَيِّنة (5) .
الوجه الثاني : سَلَّمْنَا ـ جَدَلاً ـ بأنّ ظاهِر الآية جَعْل السُّنَّة مُبَيِّنَةً لِلقرآن ، لكنّ هذا لا يَمْنَع مِن أنْ يُبَيِّن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لِلناس ما وَرَد في الكتاب وكذا ما وَرَد على لسانه - صلى الله عليه وسلم - مِن السُّنَّة المطهّرة ؛ فكلاهما مَرْجِعه إلى الله تعالى (6) .
(1) يُرَاجَع : شَرْح الكوكب المنير 3/366 وقواطع الأدلّة 1/374
(2) يُرَاجَع مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/148
(3) سورة النحل مِن الآية 44
(4) سورة النحل مِن الآية 89
(5) يُرَاجَع : قواطع الأدلّة 1/374 والإحكام لِلآمدي 2/321
(6) يُرَاجَع المعتمد 1/255
المذهب الثالث : التَّوَقُّف .
وهو قول القاضي أبي بَكْر الباقلاّني رحمه الله تعالى ، ونَسَبه الشيرازي رحمه الله تعالى لِبعض أهْل الظاهر (1) ، ونَسَبه الغزالي رحمه الله تعالى إلى قوْم (2) ، وحُكِي ـ أيضاً ـ عن داود الظاهري رحمه الله تعالى (3) .(1/142)
واحْتَجّوا لِذلك بدليل واحد ، مفاده : أنّه إذا وَرَد دليلان أحدهما عامّ والآخَر خاصّ وتَعَذَّر الجَمْع بَيْنهما ولا يوجَد مُرَجِّح لِواحد منهما ؛ وحينئذٍ فإمّا أنْ يعمل بالعامّ دون الخاصّ أو العكس ، وهذا ترجيح بِلا مُرَجِّح ، وهو غيْر جائز ، لِذا وَجَب التَّوَقُّف حتى يَظْهَر دليل مُرَجِّح لِلعمل بواحد منهما ( التخصيص ) ، ونظراً لأنّ الدّليليْن مِن السُّنَّة أحدهما عامّ والآخَر خاصّ ولا مُرَجِّح لِذا وَجَب التَّوَقُّف حتى يَظْهَر دليل يُرَجِّح العمل بهما (4) .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّا لا نُسَلِّم عدم وجود المُرَجِّح لِلعمل بواحد منهما ، وإنّما وُجِد المُرَجِّح ، وهو : أنّ العمل بالخاصّ ـ أيْ تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة ـ فيه إعمال لِلدّليليْن ، وهذا أَوْلى مِن التَّوَقُّف ؛ لأنّ فيه تَرْكاً لهما أو إعمال أحدهما دُون الآخَر ، والإعمال أَوْلى مِن الإبطال (5) .
ثالثاً – تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم في تخصيص السُّنَّة
(1) اللُّمَع /18
(2) المستصفى /246
(3) يُرَاجَع : البحر المحيط 3/361 وإرشاد الفحول /158
(4) يُرَاجَع المستصفى /246
(5) يُرَاجَع : اللُّمَع /19 والإحكام لِلآمدي 2/318 وقواطع الأدلّة 1/370
بالسُّنَّة يُمْكِن التَّوَصُّل إلى ما يلي :
1- أنّ التعبير عن هذه المسألة ( هذا المطلب ) بـ( تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة ) هو الأَوْلى بالقبول ؛ لِمَا تَقَدَّم .
2- أنّ المذْهبيْن الثاني والثالث لم تَسْلَمْ أدلّتهما مِن المناقَشة والاعتراض ، الأمرَ الذي يُبْعِدهما عن الترجيح والاختيار .
3- أنّ المذهب الأول القائل بجواز تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة هو الأَوْلى بالترجيح والاختيار ؛ لِقوّة أدلّته المدعمة بالوقوع ، وهو خيْر دليل على الجواز ، كما أنّها سلمَت مِن المناقَشة والاعتراض ، إضافةً إلى ضَعْف أدلّة المذْهبيْن الآخَريْن .(1/143)
المطلب الثالث
التخصيص بإقراره - صلى الله عليه وسلم - (1)
والحديث في هذا المطلب يُمْكن تقسيمه على النحو التالي :
1- تحرير محلّ النزاع وشروط التقرير المُخَصّص .
2- مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم .
3- تعقيب وترجيح .
وفيما يلي نُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها :
أوّلاً – تحرير محلّ النزاع وشروطه :
لقدْ وَقَفْتُ لِلأصوليّين في هذا المقام على عدّة مَنَاحٍ واتّجاهاتٍ ، قسمْتُها وحَصَرْتُها في أربعة :
المنحى الأول : لِلبيضاوي ـ رحمه الله تعالى ـ ومَن تَبِعه (2) ..
وهؤلاء جعلوا تقرير النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - واحداً مِن المُكَلَّفين على خلاف مقتضى العموم له تَعَلُّقان :
الأول : في حقّ الشخص المُقَرّ .
والحُكْم في حقّه يَخْتَلِف بَيْن وقْت العمل وبَيْن ما بَعْده : فإنْ كان في وقْت العمل كان التقرير في حقّه تخصيصاً ، وإنْ كان بَعْد وقْت العمل به
(1) والإقرار والتقرير هو : السكوت عند رؤية فاعِل يَفْعَل الفعل مع القدرة على المنع .. فواتح الرحموت 1/354
(2) يُرَاجَع : المنهاج مع شَرْحه 1/420 - 422 والإبهاج 2/182 والبحر المحيط 3/389 ونهاية السول 2/128 ، 129 ومناهج العقول 2/128 ، 129 وأصول الفقه لِلشيخ زهير رحمه الله تعالى 2/318 ، 319
كان نسخاً .
الثاني : في حقّ غيْر الشخص المُقَرّ ( أي المُسْلِمين جميعاً ) ..
والحُكْم الثابت بتقريره - صلى الله عليه وسلم - إمّا أنْ يَثْبُت مساواتهم لِلشخص المُقَرّ بنَصّ أو قياس أو لا ..
فإنْ ثبت مساواتهم له : وحينئذٍ يَرْتَفِع حُكْم العامّ عن الباقي أيضاً ، ويَكون نسخاً كُلِّيّاً لِلعموم .
وإنْ ثبت عدم المساواة بأنْ خالَف فَرْد : كان تخصيصاً : كما لو قال " لا تَقْتُلوا المُسْلِمين " ، وقدْ رَأَيْنَا أنّ شخصاً قَتَل مُسْلِماً وأَقَرّه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك فيُعْلَم أنّ ذلك المقتول كان يجوز لِكُلّ أحد قتْله (1) .(1/144)
ومِن خلال هذا المنحى يَتَّضِح أنّهم جَعَلوا التقرير مُخَصِّصاً في حالتيْن :
الأولى : في حقّ الشخص المُقَرّ وقْت العمل به .
الثانية : في حقّ غيْر الشخص المُقَرّ إنْ ثبت مساواته لِلمُقَرّ .
كما جَعَلوه ناسخاً في حالتيْن :
الأولى : في حقّ الشخص المُقَرّ بَعْد وقْت العمل به .
الثانية : في حقّ غيْر الشخص المُقَرّ إنْ ثبت عدم مساواتهم له .
المنحى الثاني : لابن الحاجب وتَبِعه السالمي رحمهما الله تعالى ..
وفيه جَعَل تقرير النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في حقّ المُخالِف تخصيصاً ، وفي حقّ غيْره كذلك إنْ تَبَيَّن معنى حُمِل عليه مُوافَقةً إمّا بالقياس أو بالنَّصّ ، وإلا فلا يَكون تخصيصاً في حقّ ذلك الغيْر (2) .
(1) يُرَاجَع : الإبهاج 2/182 والبحر المحيط 3/389 ونهاية السول 2/128 ، 129
(2) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/151 وشَرْح طلعة الشمس 1/156 ، 157
ومِن خلال هذا المنحى يَتَّضِح أنّ التقرير النَّبَوِيّ يَكون تخصيصاً في حالتيْن فقط :
الأولى : في حقّ الشخص المُقَرّ .
الثانية : في حقّ غيْر الشخص المُقَرّ إنْ ثبت مساواته لِلشخص المُقَرّ بدليل .
المنحى الثالث : لِلأنصاري رحمه الله تعالى ( الاتِّجاه الحنفي ) ..
وفيه جَعَل تقرير النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مُخَصِّصاً بشَرْط أنْ يَكون العِلْم بالفعل في مَجْلِس ذِكْر العامّ ، وإنْ تأخَّر عنه كان نَسْخاً ، ويَكون مُخَصِّصاً ـ كذلك ـ إنْ ظَهَرَتْ عِلَةّ مشتركة بَيْن الفاعل وغيْره ، وإلا فلا تعدية (1) .
والتقرير في هذا المنحى ـ كما تَقَدَّم ـ يَكون مُخَصِّصاً في حالتيْن :
الأولى : إنْ كان العِلْم بالفعل في مَجْلِس ذِكْر العامّ .
الثانية : إذا وُجِدَتْ عِلّة مشتركة بَيْن الفاعل وغيْره .
المنحى الرابع : لِلكثرة مِن الأصوليّين ..(1/145)
وهؤلاء جَعَلوا تقرير النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مُخَصِّصاً لِلعموم مُطْلَقاً ، سواء كان في حقّ الشخص المُقَرّ أو في حقّ غيْره ، وُجِدَتْ علّة مشتركة بَيْن المُقَرّ له وغيْره أم لم توجَد .
وهو اختيار الشيرازي (2) والآمدي (3) وابن قدامة (4) وابن السبكي (5) رحمهم الله تعالى .
(1) يُرَاجَع مُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/354
(2) اللُّمَع /20
(3) الإحكام 2/331
(4) روضة الناظر 1/733
(5) جَمْع الجوامع مع البناني 2/31 ، 32
ومِمَّا تَقَدَّم يَتَّضِح ـ فيما أَرَى والله أَعْلَم ـ : أنّ المَناحي الثلاثة الأولى تَكاد تَكون مُتَّفِقةً في أنّ التقرير لا يُخَصَّص به غيْر المُقَرّ إلا بدليل ، ولِذا يُصْبِح هذا هو محلّ النزاع بينها وبَيْن المنحى الأخير ..
لكنْ وَجَدْنَا مذهباً يُنْكِر التخصيص بتقريره - صلى الله عليه وسلم - بالمَرّة ، ولِذا كان محلّ النزاع هو التخصيص بتقريره - صلى الله عليه وسلم - مُطْلَقاً ، لِلمُقَرّ أو لِغَيْره ، وُجِد دليل لِمساواة الغيْر لِلمُقَرّ أم لم يوجَد .
أمّا شَرْط التقرير المُخَصِّص :
فأَرَى أنّه يُمْكِن حَصْره في : عدم إنكاره - صلى الله عليه وسلم - واحداً مِن أُمّته على فِعْل فَعَله بَيْن يديْه - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا الإنكار غالباً لا يَكون إلا بَعْد عِلْم أو بحضْرته - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا ما أرتضيه شَرْطاً وحيداً لِتقريره - صلى الله عليه وسلم - .
أمّا ما اشْتَرَطه بعض الأصوليّين مِن عدم الغفلة والذهول عنه (1) والقدرة على الإنكار وأنْ لا يعلم مِن الفاعل الإصرار على الفعل (2) ففيها نظر وتَرَدُّد منّي في قبولها .
ثانياً – مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم :
اخْتَلَف الأصوليّون في التخصيص بتقرير النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - على مذاهب ، حَصَرْتُها في ثلاثة :
الأول : جواز التخصيص مُطْلَقاً .
الثاني : عدم التخصيص بالتقرير في حقّ الغيْر إلا بدليل .(1/146)
الثالث : عدم جواز التخصيص بالتقرير .
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها مع حُجّته ومناقَشة ما يَحْتَاج إلى ذلك ..
(1) يُرَاجَع الإحكام لِلآمدي 2/331
(2) يُرَاجَع : نهاية السول 2/129 وأصول الفقه لِلشيخ زهير رحمه الله تعالى 2/319 ، 320
المذهب الأول : جواز التخصيص مُطْلَقاً .
وهو ما عليه الأكثرون ، واختاره الآمدي (1) والشيرازي (2) والباجي (3) وابن قدامة (4) رحمهم الله تعالى ، ونَسَبه السالمي لِلجمهور (5) .
واحْتَجّوا لِذلك بأدلّة يُمْكِن حَصْرها في دليليْن : أحدهما لِجواز التخصيص بالتقرير في حقّ المُقَرّ ، والثاني لِتعدية الحُكْم المُقَرّ لِغَيْر المُقَرّ ..
ونُفَصِّلهما فيما يلي :
الدليل الأول : أنّه إذا فُعِل بحضرة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فِعْل يخالِف مُوجِب أو مقتضى العموم وسَكَت عنه النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كان هذا السكوت ( التقرير ) دليلاً على جوازه ؛ لأنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لا يُقِرّ على المُنْكَر ، فإذا فُعِل بحضرته - صلى الله عليه وسلم - ولم يُنْكِرْه عُلِم أنّه ليس محظوراً وأنه مُخَصِّص لِعموم ذلك الحظر (6) .
الدليل الثاني : قوله - صلى الله عليه وسلم - { حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَة } (7) ..
(1) يُرَاجَع الإحكام 2/331
(2) اللُّمَع /18
(3) إحكام الفصول /268
(4) روضة الناظر 1/733
(5) شَرْح طلعة الشمس 1/157
(6) يُرَاجَع : المَراجع السابقة والمسوّدة /126
(7) قال ابن كثير :" لم أَرَ بهذا قَطّ سنداً ، وسألتُ عنه شيخنا الحافظ جمال الدين أبا الحَجّاج وشيخَنا الحافظ أبا عبد الله الذهبي فلم يَعرفاه " .. تحفة الطالب 1/286
قال الشوكاني :" وهو وإنْ لم يكنْ حديثاً معتبَراً عند أئمّة الحديث فقدْ شَهِد لِمعناه حديث { إِنَّمَا قَوْلِي لاِمْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَة } " .. نَيْل الأوطار 1/30(1/147)
قُلْتُ : وحديث { قَوْلِي لاِمْرَأَة ... } أَخرَجه جَمْع مِن أئمّة الحديث : كمالك والنسائي والترمذي وابن حبّان والحاكم والطبري وغيرهم .
وجْه الدلالة ( لِلباحث ) : أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بَيَّن لنا أنّ حُكْمه لِواحد مِن أُمَّته هو حُكْم لِلمُسْلِمين جميعاً ، وإقراره - صلى الله عليه وسلم - كذلك لِواحد مِن أُمّته يَكون حُكْماً لِلجماعة ، وقدْ ثَبَت أنّ هذا يُعَدّ تخصيصاً في حقّ الفاعل ، فهو كذلك تخصيص في حقّ غيْره ، فدَلّ ذلك على أنّ التقرير يُخَصَّص به العموم مُطْلَقاً في حقّ الفاعل وفي حقّ غيْره ، وُجِدَتْ عِلّة أم لم تُوجَد .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ هذا الحديث اخْتَلَفوا في صِحّته ، وإذا كان كذلك كان التقرير مُخَصِّصاً لِلمُخالف ( لِلفاعل ) فقط دون غيْره مِن المُسْلِمين ، ولا يَصْلُح دليلاً لِتعدية الحُكْم بالإقرار إلى غيْر الفاعل .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وأَرَى أنّ هذه المناقَشة يُمْكِن رَدّها : بأنّا سَلَّمْنَا بعدم صحّة الحديث ؛ لكنّ معناه ثابت وصحيح وفْق النصوص العامّة التي تَجْعَل حُكْم النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لِواحد مِن الأُمَّة طالما أنّه لم يَخُصّ به ذلك الواحد فهو عامّ لِلأُمّة جَمْعاء { وَمَا ءَاتَكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } (1) .
الوجه الثاني : أنّ هذا الحديث حتى ولو ثَبَتَتْ صِحّته فإنّه مخصوص إجماعاً بما عُلِم فيه عدم الفارق ؛ لاختلاف المُكَلَّفين في بعض الأحكام ، وهَهُنَا لم يُعْلَمْ عدم الفارق ؛ لأنّ الكلام فيما لا يُعْلَم فيه الجامع (2) .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وأَرَى أنّ هذه المناقَشة مردودة ؛ لأنّها مَبْنِيّة على أنّ محلّ النزاع هو
(1) سورة الحشر مِن الآية 7(1/148)
(2) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 2/332 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/151 وفواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/354 ونهاية السول 2/129
الكلام فيما لا يُعْلَم فيه الجامع ، وأنتم حَصَرْتُمْ الجامع في العِلّة ، وعندي ليس كذلك ، وإنّما الجامع هو الإسلام ، فيَكون تقرير النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لِواحد مِن أُمّته تقريراً لِغيْره ما لم يَرِدْ دليل لِتخصيصه بذلك ، فإذا لم يَرِدْ حُمِل على الأصل العامّ ، وهو عموم أحكامه - صلى الله عليه وسلم - .
الدليل الثالث ( لِلباحث ) : أنّ تقرير ( إقرار ) النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا لم تثبت خصوصيّته في حقّ المُقَرّ كان تقريراً عامّاً لِلأُمّة كُلّها ، وهذا بمقتضى الأصل العامّ في كُلّ أحكامه - صلى الله عليه وسلم - ، وإذا ثبت أنّ تقرير النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لأمْر مُخالِف لِلعموم يُعَدّ تخصيصاً لِهذا العموم في حقّ هذا الشخص المُقَرّ ـ فهو كذلك في حقّ غيْره ؛ لِلأصل العامّ ، وعدم وجود المانع لِلتعدية .
المذهب الثاني : جواز التخصيص بالتقرير في حقّ غيْر المُقَرّ بدليل .
وهو اختيار ابن الحاجب (1) والقرافي (2) والبيضاوي (3) والأنصاري (4) ..
ونَسَبه شيْخنا العلاّمة أبو النور زهير (5) ـ رحمه الله تعالى ـ لِلجمهور (6)
(1) مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/151
(2) شَرْح تنقيح الفصول /210
(3) المنهاج مع شَرْحه 1/420 ، 421 والإبهاج 2/182 ونهاية السول 2/129 ومناهج العقول 2/129
(4) مُسَلَّم الثبوت 2/354
(5) أبو النور زهير : هو أبو حسام الدين محمد أبو النور زهير المالكيّ ، فقيه أصوليّ ، أستاذ بجامعة الأزهر ووكيلها الأسبق ، وُلِد سَنَة 1327 هـ = 1906 م ..
تَتَلمَذ على يديْه أئمّة الأصول وفحولهم مِن أبناء الأزهر الشريف .(1/149)
مِن مصنَّفاته : شرْح " منهاج الوصول " المعروف بـ" أصول الفقه " ، وهو مصنَّف يَمتاز بأنّه الأفضل منهجاً وأسلوباً وعَرْضاً ، مِمَّا جَعَلَه مرجعاً لا يَستغني عنه أيّ أصوليّ ، كما أنّ له شرحاً على " تيسير التحرير " لابن الهمام تدريساً وإملاءً لِطُلاّب العِلْم .
تُوُفِّي بالقاهرة سَنَة 1407 هـ = 1987 م .
(6) أصول الفقه لِلشيخ زهير رحمه الله تعالى 2/319
وأراها نسبةً فيها نظر ، وقدْ يَكون مَرْجعه عبارة ابن الحاجب رحمه الله تعالى :" مسألة : الجمهور إذا عَلِم - صلى الله عليه وسلم - بفِعْل مُخالِف فلم يُنْكِرْه كان مُخَصِّصاً لِلفاعل ، فإنْ تَيَيَّن معنى حُمِل عليه موافَقةً بالقياس أو بـ{ حُكْمِي عَلَى الْوَاحِد ... } ، لنا : أنّ سكوته دليل الجواز ، فإنْ لم يتبيَّن فالمختار لا يَتَعَدَّى ؛ لِتَعَذُر دليله " ا.هـ (1) ..
والعبارة كما تَرَى في هذه النسبة محلّها هو حُكْم التخصيص بالتقرير في حقّ الفاعل ؛ بدليل : قوله " لنا : أنّ سكوته دليل الجواز " .
واحْتَجّوا لِذلك : بأنّ التقرير لا صيغة له ، فلا يقع في مقابَلة ما له صيغة ، فلا يَكون مُخَصِّصاً لِلعموم إلا بدليل ، وهو إمّا أنْ يَكون التقرير مَبْنِيّاً على علّة ، وحينئذٍ يُحْمَل على الفاعل مَن يوافِقه في العِلّة ، وإمّا بحديث { حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَة } (2) .
أمّا إذا لم يبين المعنى أو العِلّة ولم يثبت صحّة الحديث : فلا يَكون التقرير مُخَصِّصاً في حقّ غيْر الفاعل ؛ لِعدم وجود الجامع أو الدليل .
مناقَشة هذا الدليل :
ويُمْكِن مناقَشة هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ الحديث الذي اسْتَنَدْتُمْ إليه في تعميم التخصيص بالتقرير فيه كلام في صِحّته ، حتى وإنْ سَلَّمْنَا بصحّته فإنّ الحُكْم يَرْتَفِع عن الباقين أيضاً ، وحينئذٍ يَكون نسخاً لا تخصيصاً في حالة عدم بقاء فَرْد واحد مِن هذا العموم .(1/150)
الوجه الثاني : أنّ دليلكم يَجْعَل أحكام النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قاصرةً على صاحِب
(1) مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/151
(2) سبق تخريجه .
الواقعة إلا إنْ وُجِدَتْ علّة أو دليل ، والعكس هو الصحيح ؛ فلا تقصر ولا تخصّ أحداً بحُكْم إلا بدليل ، وهو قوْل يَرُدّ الكثرة مِن الأحكام الواردة في السُّنَّة التي لا يَتَوَفَّر فيها هذا الشَّرْط (1) .
المذهب الثالث : عدم جواز التخصيص بتقريره - صلى الله عليه وسلم - .
نَسَبه الآمدي لِطائفة شاذّة (2) ، ونَسَبه السالمي إلى البعض (3) .
وهذا المذهب لم أَقِفْ له على حُجّة أو دليل ، لكنْ يُمْكِن أنْ يُسْتَدَلّ له بما يلي : أنّ التقرير لا صيغة له ، فلا يقع في مقابَلة ما له صيغة وهو العموم ، وإذا كان كذلك فلا يُخَصَّص به العموم (4) .
مناقَشة هذا الدليل :
ويُمْكِن مناقَشة هذا الدليل وهذا المذهب : بأنّ قولكم يُبْطِل أحد أقسام السُّنَّة التي نستقي منها الأحكام : سُنَّة قوليّة ، وسُنَّة فِعْلِيّة ، وسُنَّة تقريريّة ..
إضافةً إلى أنّ الجميع سَلَّموا بأنّ التقرير في حقّ الفاعل يَكون تخصيصاً وقَصْرا في حقّه لِلعموم .
كما أنّ عموم الأحكام هو الأصل إلا إنْ وُجد المُخَصِّص ، وهُنَا لم يوجَد المُخَصِّص ، فكان الحُكْم الصادر بتقريره - صلى الله عليه وسلم - مُخَصِّصاً لِلعموم في حقّ الفاعل وفي حقّ غيْره .
(1) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/ والمنهاج مع نهاية السول 2/128 ، 129 وشَرْح تنقيح الفصول /210 وفواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/354 والإحكام لِلآمدي 2/322 وشَرْح طلعة الشمس1/157 وشَرْح المنهاج 1/421 ، 422
(2) الإحكام 2/331
(3) شَرْح طلعة الشمس 1/157
(4) يُرَاجَع الإحكام لِلآمدي 2/332
ثالثاً – تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم في التخصيص بتقريره - صلى الله عليه وسلم - يُمْكِن التَّوَصُّل إلى ما يلي :(1/151)
1- أنّ المذهب الثاني المُشْتَرِط لِتخصيص التقرير لِلعموم في حقّ غيْر الفاعل وجود عِلّة أو دليل يُضَيِّق واسعاً ويُخالِف الأصول العامّة التي تَجْعَل حُكْم النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عامّاً لِكُلّ مُسْلِم إلا ما وَرَد دليل على تخصيصه ، ولِذا تَرَدَّدْتُ في اختياره .
2- أنّ المذهب الثالث مذهب لا يُعْرَف له صاحِب ، وتلك أمَارة الضَّعْف والبُعْد عن الترجيح والاختيار .
3- أنّ المذهب الأول القائل بجواز التخصيص بتقرير النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مُطْلَقاً لِلفاعل ولِغيْره ـ وُجِدَت عِلّة أو لم توجَد ـ هو الأَوْلى بالقبول والترجيح ؛ لِمَا يلي :
- قُوّة حُجّته ، وسلامة أدلّته مِن المناقَشة والاعتراض .
- ضَعْف أدلّة وحُجَج المذاهب الأخرى ، وعدم سلامتها مِن المناقَشة والاعتراض .
ويعجبني في هذا المقام قول الشيرازي رحمه الله تعالى ، وهو : " وأمّا الإقرار : فيجوز التخصيص به : كما رَأَى قيساً (1) يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الفجر بَعْد الصبح فأَقَرّه عليه (2) ، فيُخَصّ به نَهْيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة بَعْد
(1) قيس بن عمرو : هو الصّحابيّ الجليل قيْس بن عمرو بن سهْل بن ثعلبة الأنصاري - رضي الله عنه - ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة .
الإصابة 5/491
(2) أَخْرَجه الترمذي في كتاب الصلاة : باب ما جاء فيمَن تَفُوته الركعتان قَبْل الفجر يُصَلِّيهما بَعْد الفجر برقم ( 387 ) وأحمد في باقي مُسْنَد الأنصار برقم ( 22643 ) وابن خزيمة في =
الصبح (1) لأنّه لا يجوز أنْ يَرَى مُنْكَراً فيُقِرّ عليه ، فلَمّا أَقَرّه دَلّ على جوازه " (2) .
= صحيحه 2/164 ، كُلّهم عن قَيْس بن عمرو - رضي الله عنه - .(1/152)
(1) أَخْرَجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة : باب الصلاة بَعْد الفجر حتى تَرْتَفِع الشَّمْس عن ابن عباس رضي الله عنهما برقم ( 547 ) ، ومُسْلِم في كتاب صلاة المسافِرين وقَصْرها : باب الأوقات التي نُهِي عن الصلاة فيها برقم ( 3366 ) والنسائي في كتاب المواقيت : باب النهي عن الصلاة بَعْد الصبح برقم ( 558 ) كلاهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(2) اللُّمَع /20
المطلب الرابع
التخصيص بقول الصّحابيّ
والحديث في هذا المطلب يُمْكِن تقسيمه على النحو التالي :
1- تعبير الأصوليّين عن هذا المطلب ( هذه المسألة ) .
2- الضرب الأول : التخصيص بقول الصّحابيّ .
3- الضرب الثاني : التخصيص بمذهب الراوي .
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها فيما يلي :
أوّلاً – تعبير الأصوليّين عن هذا المطلب ( هذه المسألة ) :
لقد اخْتَلَف الأصوليّون في التعبير عن هذه المسألة تبعاً لاختلافهم في محلّ هذه المسألة ( أو هذا المطلب ) : هلْ هو مسألة واحدة أم مسألتان ؟
حَصَرْتُ لهم في ذلك اتجاهيْن :
الاتجاه الأول : قَصْرها على مسألة واحدة .
وهؤلاء اخْتَلَفوا في التعبير عنها :
فمنهم مَن عَبَّر بـ: ( تخصيص العموم بمذهب الراوي ) .
وهو اختيار الفخر الرازي (1) والقرافي (2) والبيضاوي (3) وابن السبكي (4) رحمهم الله تعالى .
ومنهم مَن عَبَّر بـ: ( تخصيص العموم بقول الراوي ) .
(1) المحصول 1/449
(2) شَرْح تنقيح الفصول /219
(3) منهاج الوصول مع شَرْح المنهاج 2/422
(4) جَمْع الجوامع مع حاشية البناني 2/33
وهو اختيار الشيرازي (1) رحمه الله تعالى .
ومنهم مَن عَبَّر بـ: ( تخصيص العموم بمذهب الصّحابيّ أو بقول الصّحابيّ ) .
وهو اختيار ابن الحاجب (2) والكراماستي (3) (4) رحمهما الله تعالى .
ومِن الحنفيّة مَن تَعَرَّض أو أَوْرَد الحديث عن هذه المسالة في باب السُّنَّة والطَّعْن فيها (5) .(1/153)
ومنهم مَن جَمَع بَيْن التخصيص بقول الصّحابيّ ومذهب الراوي في مسألة واحدة : كالغزالي (6) والآمدي (7) والباجي (8) والزركشي (9) رحمهم الله تعالى .
الاتجاه الثاني : جَعْل مسألة لِكُلّ واحد منهما .
وهؤلاء فَرَّقوا بَيْن تخصيص العموم بقول الصّحابيّ أو مذهبه وبَيْن تخصيصه بقول الراوي أو مذهبه ..
(1) التبصرة /149 واللُّمَع /20
(2) مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/151
(3) الكراماستي : هو يوسف بن حسين الكراماستي الحنفي رحمه الله تعالى ..
مِن مصنَّفاته : الوجيز ، زبدة الوصول .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالقسطنطينيّة سَنَة 899 هـ .
الفوائد البهيّة /227 وشذرات الذهب 7/365
(4) الوجيز /32
(5) يُرَاجَع التوضيح مع التنقيح 2/28 وأصول البزدوي مع كشْف الأسرار 3/138 - 141 وبذْل النظر /481 - 483 وميزان الأصول /444
(6) المستصفى /248
(7) الإحكام لِلآمدي 2/333
(8) إحكام الفصول /268
(9) البحر المحيط 3/398 ، 399
وهو اختيار ابن السمعاني (1) وأبي يعلى (2) وابن عقيل (3) رحمهم الله .
والذي أَرَاه : أنّ كُلّ موضوع منهما جدير بمسألة مُسْتَقِلّة ، ولكنْ نظراً لأنّ كُلاًّ منهما مُرْتَبِط بقول الصّحابيّ وفتواه ـ مع اختلاف في كَوْنه راوٍ أم لا ـ فقدْ جَمَعْتُهما في مطلب واحد مع فَصْلهما عند البحث والدراسة وتقسيمهما إلى ضَرْبيْن :
الأول : التخصيص بقول الصّحابيّ أو بمذهب الراوي .
الثاني : تخصيص الخبر بقول الراوي أو مذهبه .
وأنا في ذلك تابِع لِلزركشي رحمه الله تعالى (4) .
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منهما فيما يلي ..
ثانياً :
الضرب الأول : التخصيص بقول الصّحابيّ (5) .
اخْتَلَف الأصوليّون في تخصيص عموم الخبر بقول الصّحابيّ الذي لم يَرْوِه تبعاً لاختلافهم في حُجِّيَّته : فمَن قال " إنّه حُجّة " أجاز التخصيص ومَن لم يَقُلْ " إنّه حُجّة " لم يُجِز التخصيص به (6) .(1/154)
مثاله : حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (7) { لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلاَ فَرَسِهِ
(1) القواطع 1/379 - 381
(2) العدّة 2/579 - 589
(3) الواضح 3/379 - 381
(4) يُرَاجَع البحر المحيط 3/398 ، 399
(5) المراد بقول الصّحابيّ هو : حُكْمه في مسألة اجتهاديّة غيْر مُسْنَدة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يُجْمِع عليها الصحابة - رضي الله عنهم - .. يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 4/130 وأصول الفقه لِلشيخ أبي النور زهير رحمه الله تعالى 4/189
(6) يُرَاجَع : المستصفى /248 والتمهيد لِلكلوذاني 2/119 وإحكام الفصول /268
(7) أبو هريرة : هو الصّحابيّ الجليل عبد الرحمن بن صخْر الدّوسيّ - رضي الله عنه - ، أسلَم أول سَنَة سبْع عام =
صَدَقَة } (1) وحديث عَلِيّ - رضي الله عنه - { قَدْ عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيق } (2) فالحُكْم فيهما عدم وجوب الزكاة في الخيل مُطْلَقاً ، فيفيد العموم ، أيْ في كُلّ خَيْل ..
ولكنْ وَرَد عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - ما يفيد تخصيص هذا العموم ..
فقدْ رُوِي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما تخصيص الخيل بما يُغْزَى عليها في سبيل الله (3) ، فأمّا غيْرها ففيها الزكاة .
وقدْ رُوِي عن عثمان - رضي الله عنه - (4) تخصيص الخيل بالسائمة ، وأَخَذ مِن المعلوفةِ الزكاةَ (5) ، وقدْ رُوِي نحْوه عن عُمَر - رضي الله عنه - (6) .
= خيبر وشَهِدها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولازَمَه يَدُور معه حيث دار ، ولِذا حَفِظ عنه - صلى الله عليه وسلم - ما لم يُلْحَق به في كثْرته ، ورَوَى هنه أَكْثَر مِن ثمانمائة رَجُل..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 58 هـ .
طبقات ابن سعْد 2/362 والاستيعاب لابن عبد البر 4/1768 - 1772 والإصابة 4/202(1/155)
(1) أَخْرَجه مُسْلِم في كتاب الزكاة : باب لا زكاة على المُسْلِم في عَبْده وفَرَسه برقم ( 1631 ) والنسائي في كتاب الزكاة : باب زكاة الخَيْل برقم ( 2422 ) وأحمد في باقي مُسْنَد المُكْثِرين برقم ( 7090 ) ، كُلّهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(2) أَخْرَجه الترمذي في كتاب الزكاة : باب ما جاء في زكاة الذهب والوَرِق برقم ( 563 ) وابن ماجة في كتاب الزكاة : باب زكاة الوَرِق والذهب برقم ( 1780 ) وأحمد في مُسْنَد العشرة المُبَشَّرين بالجَنَّة برقم ( 937 ) ، كُلّهم عن عَلِيّ كَرَّم الله وجْهه .
(3) أَخْرَجه أبو أحمد بن زنجويه في كتاب الأصول بإسناد صحيح ..
يُرَاجع الدراية في تخريج أحاديث الهداية 1/255
(4) عثمان : هو الصّحابيّ الجليل ذو النّوريْن عثمان بن عفّان بن أبي العاص بن أُمَيَّة القرشي الأموي - رضي الله عنه - ، ثالث الخلفاء الراشدين ، وُلِد بَعْد عام الفيل بِسِتّ سنين ، مِن السابقين في الإسلام ، تَزَوَّج بِنْتَيْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 23 هـ .
الإصابة 4/456 - 459
(5) أَخْرَجه عبد الرزاق .. يُرَاجع الدراية في تخريج أحاديث الهداية 1/255
(6) يُرَاجَع البحر المحيط 3/398
إذا تَقَرَّر ذلك .. فإنّ الأصوليّين اخْتَلَفوا في تخصيص العموم بقول الصّحابيّ على مذاهب ، أَشْهَرها مذهبان :
المذهب الأول : جواز تخصيص العموم بقول الصّحابيّ .
وهو ما عليه الحنابلة والحنفيّة ، واختاره الكلوذاني وأبو يعلى (1) وبعض الشّافعيّة : كالشيرازي وابن السمعاني ..
واشْتَرَط الكثير منهم : انتشار قوله وعدم معرفة مُخالِف له (2) .
واحْتَجّوا لِذلك : بأنّ العموم يُخَصَّص بالقياس ، وإذا جاز تخصيص العموم بالقياس فمِن باب أَوْلى جاز تخصيصه بقول الصّحابيّ ؛ لأنّه إمّا إجماع أو حُجّة مقطوع به على الخلاف ، فيَكون كخبر الواحد (3) .(1/156)
المذهب الثاني : عدم جواز تخصيص العموم بقول الصّحابيّ .
وهو ما عليه الجمهور ، واختاره الغزالي (4) والفخر الرازي (5) وابن الحاجب (6) رحمهم الله تعالى .
واحْتَجّوا لِذلك بأدلّة ، نَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : ما رُوِي عن عبد الله بن عُمَر (7) رضي الله عنهما
(1) يُرَاجَع : التمهيد 2/120 والعدّة 2/580 وأصول السرخسي 2/5 وتيسير التحرير 1/71 والوصول إلى الأصول 1/292
(2) يُرَاجَع : البحر المحيط 3/398 واللُّمَع /20 وقواطع الأدلّة 1/379 والعدّة 2/579
(3) يُرَاجَع : المَرَاجع السابقة والواضح 3/398
(4) المستصفى /248
(5) المحصول 1/449
(6) مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/151
(7) ابن عُمَر : هو الصّحابيّ الجليل أبو عبد الرحمن عبد الله بن عُمَر بن الخطّاب القرشي العدوي رضي الله عنهما ، أحد الأعلام في العِلْم والعمل ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بمكة سَنَة 74 هـ .
التاريخ الكبير 5/125 وتذكرة الحُفّاظ 1/37 والطبقات الكبرى لابن سعد 4/142 - 187
قال :" كُنَّا نُخَابِرُ (1) أَرْبَعِينَ سَنَةً وَلاَ نَرَى بِهِ بَأْساً ، حَتَّى أَتَانَا رَافِعُ ابْنُ خَدِيجٍ (2) فَأَخْبَرَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْه ، فَتَرَكْنَاهُ لِقَوْلِ رَافِع " (3) ..
وجْه الدلالة : أنّ ابن عُمَر رضي الله عنهما ومَن معه مِن الصحابة تَرَكوا قولهم بالعمل بالمخابَرة لِتَعارُضه مع العموم الوارد في الحديث وهو النهي عنها ، وإذا كان كذلك فلا يجوز تخصيص العموم بقول الصّحابيّ ؛ وإلا لَمَا تَرَكوه لِحديث رافِع - رضي الله عنه - .
مناقَشة هذا الدليل :(1/157)
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّ تَرْك الصحابة - رضي الله عنهم - لِقوْله لِوجود النَّصّ ، وأمّا تَرْكه لِلعموم فإنّه إذا قال قولاً فهو عن دليل : إمّا نَصّ أو قياس أو عموم ، والنَّصّ والقياس يُخَصَّص بهما العموم ، والعموم إذا عارَض العموم لم يُتْرَكْ به ، بلْ يُعْدَل إلى الترجيح .
الدليل الثاني : أنّ العموم حُجّة ، فلا يُخَصّ بفتوى الصّحابيّ كسائر التابعين ، وإلا إنْ خَصَّصْناه به لأَجَزْنَا تخصيصه بقول التابعين ومَن بَعْدهم ، ولم يَقُلْ بذلك أحد .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّا لا نُسَلِّم مساواة الصحابة لِمَن بَعْدهم في ذلك ؛ فلا خلاف بَيْن العلماء في أنّ قول التابعين ومَن بَعْدهم ليس حُجّةً ،
(1) المُخَابَرة : المُخَابَرَة والمُزَارَعَة عند الجمهور بمعنى واحد .. الموسوعة الفقهيّة 36/239
وهي دَفْع الأرض إلى مَن يَزْرعها بجزء مِن الزرغ .. الكافي 2/167
(2) رافع بن خديج : هو الصّحابيّ الجليل رافع بن خَدِيج بن رافع الأنصاري الأوسي - رضي الله عنه - ، استصغره النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يوْم بدْر فَرَدّه ، وأجازه يوْم أُحُد ، وشَهِد الخندق وغيْرها ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 74 هـ .
الإصابة 1/495 والاستيعاب 1/495
(3) أَخْرَجه النسائي في كتاب الأيمان والنذور : باب ذِكْر الأحاديث المختلفة في النهي عن كراء =
وإنّما الخلاف في قول الصّحابيّ ؛ لِشرف صُحْبتهم (1) .
والراجح عندي : ما عليه أصحاب المذهب الأول ، وهو جواز تخصيص العموم بقول الصّحابيّ بشَرْطيْن :
الأول : انتشار هذا القول .
الثاني : أنْ لا يعلَم له مُخالِف .
لأنّه في هذه الحالة وبهذين الشَّرْطيْن يَكْتَسِب حُجَّةً وقُوّةً تَجْعَله في منزلة الإجماع .(1/158)
وفي ذلك يقول ابن السمعاني رحمه الله تعالى :" فاعلم أنّ ما ظَهَر إجماعهم عليه يجوز تخصيص العموم به ؛ لأنّه يَكون إجماعاً ، فيجوز تخصيص العموم به ، وأمّا إذا ظَهَر القول في الحادثة مِن أحدهم ولم يَظْهَرْ مِن أحد منهم خلافه ولا وفاق معه : فإنْ حصل إجماعاً لانتشاره جاز تخصيص العموم به " ا.هـ (2) .
الضرب الثاني : التخصيص بمذهب الراوي .
والمراد به : مُعارَضة الصّحابيّ لِعموم الخبر الذي رواه : فهَلْ يُعَدّ ذلك تخصيصاً ؟ أو بعبارة أخرى : هلْ يجوز ذلك أم لا ؟
أمّا مُعارَضة غيْر الصّحابيّ فلا يتأتى فيه الخلاف ؛ لأنّ قوله ليس حُجّة (3) .
أمثلة ذلك :
المثال الأول : حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
= الأرض برقم ( 3856 ) وابن ماجة في كتاب الأحكام : باب المُزَارَعة بالثلث والربع برقم ( 2441 ) وأحمد في مُسْنَد بني هاشم برقم ( 1983 ) .
(1) يُرَاجَع : التمهيد لِلكلوذاني 2/120 والعدّة 2/581 ، 582 والواضح 3/399
(2) قواطع الأدلّة 1/379
(3) يُرَاجَع : شَرْح تنقيح الفصول /219 والبحر المحيط 3/403
قال { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوه } (1) وقدْ رُوِي عنه أنّ المرأة إذا ارْتَدَّتْ تُحْبَس ولا تُقْتَل (2) ؛ فقوله أو مذهبه يُعَدّ تخصيصاً لِعموم الحديث الذي رواه (3) .
المثال الثاني : حديث ابن عُمَر رضي الله عنهما { الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا } (4) ، وقال :" التَّفَرُّقُ بِالأَبْدَانِ خَاصّة " (5) ؛ فقوله رضي الله عنهما يُعَدّ تخصيصاً لِعموم الحديث الذي رواه (6) .
المثال الثالث : حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - { فِي الإِنَاءِ يُغْسَلُ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعا } (7) ، وقدْ رُوِي عنه أنّه يُغْسَل ثلاثاً (8) ؛ فعُدّ ذلك تخصيصاً لِعموم(1/159)
(1) أَخْرَجه البخاري في كتاب الجهاد والسَّيْر : باب لا يعذّب بعذاب الله برقم ( 2794 ) والترمذي في كتاب الحدود عن رسول الله : باب ما جاء في المرتَدّ برقم ( 1378 ) والنسائي في كتاب تحريم تحريم الدم : باب الحُكْم في المرتَدّ برقم ( 3991 ) ، كُلّهم عن ابن عباس رضي الله عنهما .
(2) أَخْرَج ذلك البخاري في كتاب الجهاد والسَّيْر : باب قتْل الصبيان في الحرب برقم ( 2791 ) ومُسْلِم في كتاب الجهاد والسَّيْر : باب تحريم قتْل النساء والصبيان في الحرب برقم ( 3279 ) والترمذي في كتاب السَّيْر عن رسول الله : باب ما جاء في النهي عن قتْل النساء والصبيان برقم ( 1494 ) ، كُلّهم عن ابن عُمَر رضي الله عنهما .
(3) يُرَاجَع البحر المحيط 3/399 ، 400
(4) أَخْرَجه النسائي في كتاب البيوع : باب ذِكْر الاختلاف على نافِع في لَفْظ حديثه برقم ( 4391 ) وأحمد في مُسْنَد العشرة المُبَشَّرين بالجَنَّة برقم ( 370 ) والبيهقي في السُّنَن الكبرى 5/268
(5) أَخْرَجه الترمذي في كتاب البيوع عن رسول الله : باب ما جاء في البَيِّعَيْن بالخيار ما لم يتفرَّقَا برقم ( 1166 ) .
(6) يُرَاجَع إحكام الفصول /268 ، 269
(7) أَخْرَجه مُسْلِم في كتاب الطهارة : باب حُكْم ولوغ الكلب برقم ( 420 ) والترمذي في كتاب الطهارة عن رسول الله : باب ما جاء في سؤر الكلب برقم ( 84 ) وأبو داود في كتاب الطهارة : باب الوضوء بسؤر الكلب ( 64 ) .
(8) يُرَاجَع : شَرْح النووي على مُسْلِم 10/175 وفتْح الباري 4/330 وعوْن المعبود 9/232 ونَيْل الأوطار 5/290
الحديث الذي رواه (1) .
واعْتَبَر الإسنوي (2) رحمه الله تعالى هذا المثال غيْر مُطابِق ؛ لأنّ التخصيص فَرْع العموم ، والسَّبْع وغيْرها مِن أسماء الأعداد نصوص مدلولاتها ليست مِن قَبِيل العامّ ، وكلامنا في تخصيص العامّ (3) .(1/160)
وقدْ أجاب بعضهم عن ذلك : بأنّ الحديث عامّ في الكلب ؛ لأنّه شامِل لِكَلْب الحراسة وكَلْب الزراعة وكَلْب الصيد ، وقدْ كان أبو هريرة - رضي الله عنه - لا يَغْسِل الإناء سبعاً مِن كَلْب الزراعة ، بلْ كان يَغْسِله ثلاثاً فقط ، ومِن هُنَا كان التمثيل بالحديث مُطابِقاً وداخلاً في موضوعنا (4) .
مذاهب الأصوليّين في التخصيص بمذهب الراوي :
اخْتَلَف الأصوليّون في تخصيص عموم الخبر بقول الراوي أو مَذْهَبه على مذاهب :
المذهب الأول : عدم جواز تخصيص عموم الخبر بمذهب الراوي .
المذهب الثاني : جواز تخصيص عموم الخبر بمذهب الراوي .
المذهب الثالث : أنّه إنْ وُجِد ما يقتضي تخصيصه به لم يُخَصّ بمذهب الراوي ، بل به إن اقْتَضَى نظر الناظر فيه ذلك ، وإلا خُصّ بمذهب الراوي .
(1) يُرَاجَع : المحصول 1/450 والمنهاج مع نهاية السول 2/130
(2) الإسنوي : هو أبو محمد عبد الرحيم بن الحَسَن بن علِيّ بن عُمَر بن علِيّ بن إبراهيم القرشي الشافعي رحمه الله تعالى ، وُلِد بإسنا سَنَة 704 هـ .
مِن تصانيفه : المبهمات على الروضة ، الأشباه والنظائر ، التمهيد ، نهاية السول .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بمصر سَنَة 772 هـ .
الدرر الكامنة 2/354 والفتح المبين 2/193 ، 194
(3) يُرَاجَع نهاية السول 2/133
(4) يُرَاجَع أصول الفقه لِلشيخ زهير رحمه الله تعالى 2/324 ، 325
وهو مذهب القاضي عبد الجبار المعتزلي رحمه الله تعالى .
المذهب الرابع : أنّ الصّحابيّ إذا كان مِن الأئمّة وعَمِل بخلاف ما رَوَى كان دليلاً على نَسْخ الخبر .
حكاه القاضي أبو بَكْر عن عيسى بن أبّان رحمهما الله تعالى (1) .
ولَمّا كان المذهبان الثالث والرابع لم يَتَعَرَّضْ لِذِكْرهما الكثرة مِن الأصوليّين فقد اكْتَفَيْتُ بتفصيل القول في المذْهبيْن المشْهوريْن عندهما : الأول والثاني ..
المذهب الأول : عدم جواز تخصيص عموم الخبر بمذهب الراوي .(1/161)
وهو ما عليه الجمهور (2) ، واختاره الشيرازي (3) وإمام الحرميْن (4) والباجي (5) وأبو يعلى (6) والبزدوي والسرخسي (7) ، وهو قول الشافعي - رضي الله عنه - في الجديد (8) .
واحْتَجّوا لِذلك بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ لَفْظ العموم حُجّة ؛ لأنّه مِن ألفاظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والصّحابيّ قدْ يُورِد التخصيص برأيه ، وإذا كان كذلك فلا يجوز رَدّ ألفاظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - برأي رآه الصّحابيّ ، ولِذا فتخصيص عموم الخبر بمذهب راويه لا يجوز .
(1) يُرَاجَع البحر المحيط 3/400 ، 401
(2) مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/151
(3) اللُّمَع /20
(4) البرهان 1/430
(5) إحكام الفصول /268
(6) العدّة 2/589
(7) يُرَاجَع : أصول السرخسي 2/5 وتيسير التحرير 1/71 وأصول البزدوي مع كَشْف الأسرار 3/138
(8) الإحكام لِلآمدي 2/333
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّ الصّحابيّ إذا لم يَقُلْ " هذا مِن رأْيِي " وَجَب حَمْله على التوقيف .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقدْ رُدَّتْ هذه المناقَشة : بأنّها مُعارَضة بما إذا لم يَقُل الصّحابيّ أنّه عن توقيف وَجَب حَمْله على أنّه مِن رأْيه ، وهذا ليس ببعيد ؛ لأنّ الصّحابيّ يَعْتَقِد جواز تخصيص العموم بالقياس (1) .
الدليل الثاني : أنّ مُخالَفة الراوي لِلخبر الذي رواه يَحتمل أقساماً ثلاثةً : طرفيْن وواسطة ..
أمّا الطرف الأول ( وهو الإفراط ) : فهو أنْ يقال : الراوي عالِم بالضرورة أنّه - صلى الله عليه وسلم - أراد بذلك العامِّ الخاصَّ : إمّا لِخبر قاطِع يقتضي ذلك ، أو لِشيء مِن قرائن الأحوال .
وهذا الاحتمال يعارِضه : أنّه لو كان كذلك لَوَجب على الراوي أنْ يُبَيِّن ذلك ؛ إزالةً لِلتهمة عن نَفْسه والشبهة .
وأمّا الطرف الثاني ( وهو التفريط ) : فهو أنْ يقال : إنّه تَرَك العموم بمُجَرَّد الهوى .(1/162)
وهو مُعارَض : بأنّ الظاهر مِن عدالته خلافه .
وأمّا الطرف الثالث ( وهو الواسطة ) : فهو أنّه خالَفه بدليل ظَنّه أَقْوَى منه إما محتمل أو قياس ، وذلك الظَّنّ يحتمل أنْ يَكون خطأً ويحتمل أنْ يَكون صواباً ، وإذا تَعارَضَتْ الاحتمالات في مُخالَفة الراوي لِعموم الخبر الذي رواه وَجَب تَساقُطها والرجوع إلى العموم (2) .
(1) إحكام الفصول /268 ، 269 بتصرف .
(2) المحصول 1/450 ، 451 بتصرف .
المذهب الثاني : جواز تخصيص عموم الخبر بمذهب الراوي .
وهذا المذهب نَسَبه القرافي رحمه الله تعالى إلى الإماميْن مالك والشافعي رضي الله تعالى عنهما (1) ..
وفيها نظر وتَرَدُّد في التسليم بها ؛ لأنّ الثابت عن الإمام الشافعي - رضي الله عنه - خلاف ذلك ؛ وربّما يَكون قولاً آخَر له ، أمّا الإمام مالك - رضي الله عنه - فلم أَقِفْ على مَن نَسَبه إليه سِوَى القرافي .
ونَسَبَت الكثرة مِن الأصوليّين هذا المذهب إلى الحنفيّة والحنابلة (2) ..
وأَرَى أنّ في قبول هذه النسبة نظراً وتَرَدُّداً ؛ لِسببيْن :
السبب الأول : أنّ الحنابلة مع الجمهور في عدم جواز تخصيص عموم الخبر بمذهب راويه في أَصَحّ الروايتيْن عندهم .
ودليل ذلك : ما ذَكَره أبو يعلى ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" فإنْ تَرَك الراوي لَفْظ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وعَمِل بخلافه وَجَب العمل بلفْظ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ولم يُؤَثِّر فيه مُخالَفة الراوي له في أَصَحّ الروايتيْن " ا.هـ (3) .
وما ذَكَره ابن عقيل ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" فإنْ تَرَك الراوي لفْظ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وعَمِل بخلافه مُتَأَوِّلاً لم يَكُنْ تَرْكه لِلظاهر معمولاً به ويعمل بالظاهر ، وفيه رواية أخرى : لا يجب العمل به إذا خالَفه الراوي " ا.هـ (4) .
وفي " المسوّدة " :" فإنْ خالَف الصّحابيّ صريح لَفْظ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -(1/163)
(1) يُرَاجَع شَرْح تنقيح الفصول /219
(2) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 2/333 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/51 والوجيز لِلكراماستي /32 والبحر المحيط 3/400 ومُسَلَّم الثبوت 1/355 وشَرْح طلعة الشمس 1/158
(3) العدّة 2/859
(4) الواضح 3/402 ، 403 بتصرف .
ففيه روايتان : أحدهما يَعمل بالخبر ، والثانية يعمل بقوله ؛ لأنّنا نَعْلَم بذلك نَسْخ الخبر " ا.هـ (1) .
السبب الثاني : أنّ بعضاً مِن الحنفيّة قالوا بعدم التخصيص بمذهب الراوي فكانوا مع الجمهور (2) .
ومِمَّا تَقَدَّم أَرَى : أنّ الأَوْلى نسبة المذهب الثاني القائل بجواز تخصيص عموم الخبر بمذهب راويه إلى بعض الحنفيّة وإحدى الروايتيْن عند الحنابلة ، وليس على إطلاقها وعمومها في المذْهبيْن .
واسْتَدَلّ أصحاب هذا المذهب بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ عمل الراوي على خلاف عموم الخبر الذي رواه لا بُدّ أنْ يَكون لِدليل اقْتَضَى تلك المخالَفة ؛ لأنّ مخالَفته لِلعامّ مِن غيْر دليل يُوجِب فِسْقه والحُكْم بخروجه عن العدالة ، وهو خلاف الإجماع .
وإنْ كانت مخالَفته بدليل وَجَب تخصيص العموم به ؛ جَمْعاً بَيْن الدليليْن ؛ إذ هو أَوْلى مِن تعطيل أحدهما ، ولِذا كان تخصيص الخبر بمذهب راويه تعطيلاً لِواحد منهما وإبطالاً له ، وحينئذٍ كان الأَوْلى تخصيص عموم الخبر بمذهب راويه .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّ مخالَفة الراوي قدْ تَكون لِشبهة الدليل : كأنْ ظَنّه دليلاً وليس هو بدليل في نَفْس الأمر ، فلا يَلْزَم القدح لِظَنّه ولا التخصيص لِعدم مطابَقته (3) .
(1) المسوّدة /128 بتصرف .
(2) يُرَاجَع : أصول السرخسي 2/5 وتيسير التحرير 1/71 والتبصرة /149 واللُّمَع /20(1/164)
(3) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 2/333 والتبصرة /149 ، 150 وشَرْح تنقيح الفصول /209 ونهاية السول 2/133 ومُسَلَّم الثبوت 1/355 وإرشاد الفحول /162 وأصول الفقه لِلشيخ زهير رحمه الله تعالى 2/324
الدليل الثاني : أنّ الصّحابيّ لا يخالِف ولا يَترك العمل بعموم الخبر الذي رواه إلا بدليل ، فإنْ فَعَل ذلك كان دليلاً على نَسْخ الخبر المُتَقَدِّم روايته له أو إنّما خالَفه وتَرَكه عن توقيف عَرَفه مِن قول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وتَصاريف أحواله الدّالّة على إسقاط حُكْم الخبر ، فدَلّ ذلك على جواز تخصيص عموم الخبر بمذهب راويه ، وهو المُدَّعَى .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّا لا نُسَلِّم حَصْر أسباب مخالَفة الراوي لِعموم الخبر الذي رواه فيما حَصَرْتُمْ ؛ فهناك احتمال النسيان أو التأويل بنوع شبهة تَجَلَّتْ عنده بالدليل ، مع كوْنه مُجْتَهِداً يُقرّ على الخطأ وليس بمعصوم ، وإذا كان كذلك فلا يجوز تخصيص عموم الخبر بمذهب راويه (1) .
والراجح عندي : أنّه لا يجوز تخصيص عموم الخبر بمذهب راويه ، وهو ما عليه الجمهور أصحاب المذهب الأول ؛ وذلك لِقوّة أدلّتهم ، وضَعْف وعدم سلامة أدلّة القائلين بجوازه ..
كما أنّ القول بتخصيص عموم الخبر بمذهب الراوي يؤدِّي إلى الوقوع في محظوريْن ، ذَكَرهما الشيرازي ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" ولأنّ تخصيص الخبر يجوز أنْ يَكون بخبر آخَر ، ويحتمل أنْ يَكون بضرب مِن الرأي اعْتَقَد صِحّته ، وهو فاسد ؛ فلا يجوز تَرْك الظاهر بالشّكّ ، ولأنّ هذا يؤدِّي إلى أنْ يصير قول الراوي حُجّةً ويُخْرِج قول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَكون حُجّةً ، وهو مُحال " ا.هـ (2) .
(1) يُرَاجَع : العدّة 2/592 والواضح 3/405 وشَرْح تنقيح الفصول /219 ومُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/355 وإرشاد الفحول /162
(2) التبصرة /149
اعتراض على ترجيحي في الضَّرْبيْن :(1/165)
قدْ يُعْتَرَض على ترجيحي في الضَّرْبيْن حينما رَجَّحْتُ في الضرب الأول جواز تخصيص العموم بقول الصّحابيّ ، وفي الضرب الثاني رَجَّحْتُ عدم جواز تخصيص عموم الخبر بمذهب الراوي ..
ووجْه الاعتراض ( المُفْتَرَض جدلاً ) : أنّ محلّ الضَّرْبَيْن فيهما واحد وهو قول الصّحابيّ أو مذهبه ، ولِذا كان مِن الأَوْلى أنْ يَكون الحُكْم فيهما واحداً : إمّا الجواز فيهما ، أو عدمه .
الجواب عن هذا الاعتراض :
وهذا الاعتراض مردود : بأنّا سَلَّمْنَا أنّ محلّهما واحد وهو قول الصّحابيّ ، لكنّهما اخْتَلَفَا قوّةً وحُجّةً وبرهاناً ..
فالأول ـ وهو قول الصّحابيّ المُخَصِّص لِلعموم ـ لا يجوز إلا بشَرْطيْن الانتشار وعدم ظهور مُخالِف له مِن الصحابة ، وبهما أَصْبَح قوله في حُكْم الإجماع .
أمّا الثاني ـ وهو مذهب الراوي ـ فليس فيه واحد منهما ، إضافةً إلى أنّ القول بجوازه فيه تَرْك لِلظاهر بالشّكّ ، ويُخْرِج قول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَكون حُجّةً كما تَقَدَّم .
المطلب الخامس
خصوص السبب
والحديث في هذا المطلب يُمْكِن تقسيمه إلى ما يلي :
1- المراد بخصوص السبب .
2- تحرير محلّ النزاع .
3- مذاهب الأصوليّين .
4- أدلّة المذاهب مع الترجيح .
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها فيما يلي :
أوّلاً – المراد بخصوص السبب :
والمراد بخصوص السبب : أنّه إذا وَرَد لَفْظ العموم وكان مَبْنِيّاً على سؤال أو سبب خاصّ : فهلْ يُعَدّ هذا السبب تخصيصاً لِهذا العموم فيقصر الحُكْم على محلّ السبب أم يَبْقَى على عمومه ولا عِبْرَة بسببه (1) ؟
وليس المعنيّ بالسبب السبب المُوجِب لِلحُكْم ، نَحْو : قولهم " زَنَا ماعز فرُجِم " أو " سَهَا النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فسَجَد " ، وإنّما المعنيّ بالسبب : ما ليس مُوجِباً لِلحُكْم ، وإنّما شُرِع الحُكْم بسببه (2) .(1/166)
ولِذا كانت هذه المسألة مشهورةً عند الأصوليّين بقاعدة ( العِبْرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ) (3) .
(1) يُرَاجَع روضة الناظر 2/663
(2) يُرَاجَع قواطع الأدلّة 1/393 ، 394
(3) يُرَاجَع : المحصول 1/477 وبيان المختصر 2/155 وشَرْح تنقيح الفصول /216 وشَرْح =
ثانياً – تحرير محلّ النزاع :
اللفظ العامّ إمّا أنْ يَرِد مِن الشارع ابتداءً بغيْر سؤال سابق أو سبب خاصّ ، وإمّا أنْ يَرِد بَعْد سؤال أو سبب ، وفي هذه الحالة إمّا أنْ يَسْتَقِلّ بنَفْسه أو لا يَسْتَقِلّ ..
وعلى ذلك تَكون حالات ورود اللفظ العامّ مع السبب ـ فيما أَرَى ـ ثلاث حالات ، وهي :
الحالة الأولى : ورود لَفْظ العامّ ابتداءً بغيْر سؤال أو سبب .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { مِفْتَاحُ الصَّلاَةِ الطُّهُور } (1) .
حُكْمه : والعامّ في هذه الحالة يَبْقَى على عمومه باتفاق .
الحالة الثانية : ورود لَفْظ العامّ جواباً لِسؤال أو سبب خاصّ ، ولم يَكُنْ مُسْتَقِلاًّ بنَفْسه بحيث لو قُطِع عن السؤال وأُفْرِد عنه لم يَكُنْ مفهوما .
مثاله : جواب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - حين سُئِل عن بَيْع الرطب بالتمر فقال - صلى الله عليه وسلم - { أَيَنْقُصُ إِذَا جَفّ } قالوا :" نَعَم " قال { فَلاَ إِذَن } (2) ؛ فقوله - صلى الله عليه وسلم - { فَلاَ إِذَن } لا يُمْكِن أنْ يُحْمَل على ظاهِره بدون السبب ؛ لأنّه لا يَسْتَقِلّ بنَفْسه في الإفادة .
حُكْمه : والعامّ في هذه الحالة يُقْصَر على سببه ويُقَيَّد به في خصوصه وعمومه .
= مختصر الروضة 2/501 والبحر المحيط 3/198 وشَرْح الكوكب المنير 3/168 وإرشاد الفحول /133(1/167)
(1) أَخْرَجه الترمذي في كتاب الطهارة عن رسول الله : باب ما جاء أنّ مفتاح الصلاة الطهور برقم ( 3 ) وأبو داود في كتاب الطهارة : باب فَرْض الوضوء برقم ( 56 ) وابن ماجة في كتاب الطهارة وسُنَنها : باب مفتاح الصلاة الطهور برقم ( 271 ) ، كُلّهم عن عَلِيّ كَرَّم الله وجْهه .
(2) سبق تخريجه .
والمثال السابق كان سؤالاً خاصّاً ، ولِذا قصر الحُكْم عليه .
ومثال السؤال العامّ : ما لو سُئِل عمَّن جامَع امرأتَه في نهار رمضان فقال :" يُعْتِق رقبةً " ؛ فهو سؤال عامّ ، فالحُكْم كذلك .
الحالة الثالثة : ورود لَفْظ العامّ جواباً لِسؤال أو سبب وكان مُسْتَقِلاًّ بنَفْسه .
مثاله :
1- ما رُوِي أنّ أعرابيّاً جاء إلى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال :" هَلَكْتُ وَأَهْلَكْت " فقال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - { مَاذَا فَعَلْت } فقال :" وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَان " فقال - صلى الله عليه وسلم - { أَعْتِقْ رَقَبَة } (1) .
2- ما رُوِي أنّه - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن صلاة التَّطَوُّع بالليل والنهار فقال { صَلاَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى } ، وفي رواية { صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى } (2) .
3- ما رُوِي أنّه - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن التوضؤ بماء البحر فقال { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ ، الْحِلُّ مَيْتَتُه } (3) .
4- ما رُوِي أنّه - صلى الله عليه وسلم - مَرّ بشاة ميمونة (4) رضي الله تعالى عنها فقال { هَلاَّ
(1) أَخْرَجه أحمد في باقي مُسْنَد المُكثِرين برقم ( 7453 ) والدارمي في كتاب الصوم : باب في الذي يقع على امرأته في شَهْر رمضان نهارا برقم ( 1654 ) ، كلاهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .(1/168)
(2) أَخْرَجه الترمذي في كتاب الطهارة عن رسول الله : باب ما جاء في ماء البحر أنّه طَهُور برقم ( 64 ) والنسائي في كتاب الطهارة : باب ماء البحر برقم ( 59 ) وأبو داود في كتاب الطهارة : باب الوضوء بماء البحر برقم ( 76 ) ، كُلّهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(3) سبق تخريجه .
(4) السيدة ميمونة : هي أمّ المؤمِنين السيدة ميمونة بنت الحارث الهلاليّة رضي الله عنها ، وقيل : كان اسمها " برّة " فغَيَّره النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، تَزَوَّجها النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - سَنَة 7 هـ ، روت ستّةً وأربعين حديثاً ..
تُوُفِّيَتْ رضي الله عنها بسرخس سَنَة 51 هـ .
أسد الغابة 7/271 والإصابة 4/411
أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِه } (1) ، وفي رواية { أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُر } (2) (3) .
حُكْم العامّ في هذه الحالة : والعامّ في هذه الحالة اخْتَلَف الأصوليّون فيه : هلْ يُقْصَر حُكْمه على السؤال أو السبب وحينئذٍ تَكون العِبْرَة بالسبب ويُعَدّ مُخَصِّصاً لِهذا العموم ؟ أم يَبْقَى العامّ على عمومه وحينئذٍ تَكون العِبْرَة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ؟
لهم في ذلك مذاهب ، نُفَصِّلها فيما يلي ..
ثالثاً – مذاهب الأصوليّين :
اخْتَلَف الأصوليّون في العامّ الواقع جواباً لِسؤال أو سبب وكان مُسْتَقِلاًّ بنَفْسه : هلْ يُعَدّ هذا السبب أو السؤال مُخَصِّصاً لِلعموم أم لا ؟
لهم في ذلك مذاهب :
المذهب الأول : أنّه لا يُخَصِّصه .
المذهب الثاني : أنّه يُخَصِّصه .
المذهب الثالث : الوقف .
حكاه القاضي في " التقريب " .
المذهب الرابع : التفصيل بَيْن أنْ يَكون السبب هو سؤال سائل فيخْتَصّ
(1) سبق تخريجه .(1/169)
(2) أَخْرَجه الترمذي في كتاب اللباس عن رسول الله : باب ما جاء في جلود المَيْتَة إذا دُبِغَت برقم ( 1650 ) والنسائي في كتاب الفرع والعتيرة : باب جلود المَيْتَة برقم ( 4168 ) وابن ماجة في كتاب اللباس : باب لِبْس جلود المَيْتَة إذا دُبِغَتْ برقم ( 3599 ) ، كُلّهم عن ابن عباس رضي الله عنهما .
(3) يُرَاجَع : البحر المحيط 3/198 - 202 والعدّة 2/596 - 602 وإحكام الفصول /269 ، 270 والتمهيد لِلكلوذاني 2/161 ومُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/290 وإرشاد الفحول /133 وشَرْح طلعة الشمس 1/114 ، 115
به وبَيْن أنْ يَكون السبب مُجَرَّد وقوع حادثة ، كان ذلك القول العامّ وارداً عند حدوثها فلا يختَصّ بها .
حَكَاه البخاري (1) ـ رحمه الله تعالى ـ في " كَشْف الأسرار " (2) .
المذهب الخامس : أنّه إنْ عارَض هذا العامّ الوارد على سبب عامّاً آخَر خَرَج ابتداءً بِلا سبب فإنّه يُقْصَر على سببه وإنْ لم يعارضْه فالعِبْرَة بعمومه .
وهو ما صَحَّحه الأستاذ أبو منصور (3) (4) .
وهذه المذاهب الثلاثة الأخيرة نظراً لِضَعْف وجْهتها وقِلّة أو جَهْل القائلين بها كانت قليلة الشهرة عند الأصوليّين الذين اقْتَصَر مُعْظَمهم على حَصْر المذاهب في المذْهبيْن المشْهوريْن : المذهب الأول ، والمذهب الثاني .
رابعاً – أدلّة المذاهب مع الترجيح :
اتَّضَح لنا فيما تَقَدَّم أنّ أَشْهَر المذاهب في تخصيص العموم بسببه أو خصوص السبب مذهبان ، نُفَصِّل القول فيهما فيما يلي :
المذهب الأول : أنّ خصوص السبب لا يُخَصِّص عموم اللفظ .
(1) علاء الدين البخاري : هو عبد العزيز بن أحمد بن محمد البخاري رحمه الله تعالى ، الفقيه الحنفي الأصولي ..
مِن مصنَّفاته : كشف الأسرار ، غاية التحقيق .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 730 هـ .
الفوائد البهيّة /94 والجواهر المضيئة 1/317
(2) يُرَاجَع إرشاد الفحول /133 ، 134(1/170)
(3) الأستاذ أبو منصور : هو عبد القاهر بن طاهر بن محمد التميمي البغدادي الشافعي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ نحويّ مُفَسِّر ..
من مصنَّفاته : تفسير القرآن ، التحصيل ، المِلَل والنِّحَل .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 429 هـ .
طبقات المفسِّرين 1/327 وطبقات الشّافعيّة الكبرى 5/136
(4) يُرَاجَع : إرشاد الفحول /134 ، 135 وشَرْح تنقيح الفصول /216
وهو ما عليه الجمهور ، واختاره إمام الحرميْن (1) والكلوذاني (2) وابن السمعاني (3) والغزالي (4) والباجي (5) وابن الحاجب (6) .
رابعاً - أدلّة هذا المذهب مع الترجيح :
احْتَجّ القائلون بعموم اللفظ وعدم خصوص السبب بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّه لو كان اللفظ العامّ الوارد على سبب خاصّ مُوجِباً قَصْرَه عليه لَمَا أَقَمْنَا كثيراً مِن أحكام الشريعة وحدودها ، نَحْو : حُكْم السرقة النازل في سرقة المِجَنّ (7) أو رداء صفوان - رضي الله عنه - (8) على الخلاف ، والظهار النازل في سلمة بن صخر - رضي الله عنه - (9) ، واللعان النازل في هلال ابن أُمَيّة - رضي الله عنه - (10) ، وطهارة ماء البحر المَبْنِيّ على السؤال عنه ، ودَبْغ
(1) البرهان 1/374 ، 375
(2) التمهيد 2/161
(3) قواطع الأدلّة 1/393
(4) المستصفى /236
(5) إحكام الفصول/270
(6) مختصر المنتهى مع بيان المختصر 2/148
(7) المجنّ : هو الدرع الواقي لِلمقاتِل ، سُمِّي بذلك لأنّ صاحِبه يَتستَّر به .. المصباح المنير 1/112
(8) صفوان بن أميّة : هو الصّحابيّ الجليل أبو وهْب صفوان بن أميّة بن خلَف الجمحي القرشي - رضي الله عنه - أَسْلَم بَعْد الفتح ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 41 هـ .
الإصابة 3/432 ، 433
(9) سلمة بن صخْر : هو الصّحابيّ الجليل سلمة بن صخْر بن سلمان الأنصاري البياضي - رضي الله عنه - ، كان أحد البكّائين ، روى عنه سعيد بن المسيّب وأبو سلمة وسماك بن حرْب وسليمان بن يسار ..(1/171)
التاريخ الكبير 4/72 والإصابة 3/150
(10) هلال بن أميّة : هو الصّحابيّ الجليل هلال بن أميّة بن عامر بن قيس الأنصاري - رضي الله عنه - ، شَهِد بدراً وما بَعْدها ، وهو الذي قذَف امرأته بشريك بن سمحاء .. =
جلود الميتة بسبب شاة ميمونة رضي الله عنها ، وإذا كان كذلك بقي العامّ على عمومه ولا يُخَصَّص بسببه ، وهو المُدَّعَى (1) .
الدليل الثاني : أنّ اللفظ العامّ والعمل به وخصوص السبب لا يَصْلُح مُعارِضاً ؛ إذ لا منافاة بَيْنهما ؛ فإنّ الشارع لو قال صريحاً " تَمَسَّكوا بهذا اللفظ العامّ على العموم ولا تُخَصِّصوه بخصوص السبب " لم يَلْزَمْ منه التناقض ، ولا مُعارَضة بَيْنهما ، ولِذا كان ورود العامّ على سبب خاصّ لا يُسْقِط دَعْوَى العموم فيه (2) .
الدليل الثالث : أنّ الاعتبار بلَفْظ صاحِب الشرع لا بالسبب والسؤال ؛ لأنّه لو كان السؤال عامّاً والجواب خاصّاً وَجَب حَمْله على الخصوص اعتباراً لِللّفظ لا بسببه ، فكذلك إذا كان العكس والسؤال خاصّ والجواب عامّ وَجَب حَمْله على العموم اعتباراً باللفظ ، وهو المُدَّعَى (3) .
المذهب الثاني : أنّ خصوص السبب يُخَصِّص عموم اللفظ .
وهو منسوب إلى بعض الشّافعيّة ، منهم المزني (4) وأبو ثوْر (5) والقَفّال
= يقال أنّه عاش حتى زمَن معاوية .
الاستيعاب 4/1542 والإصابة 6/546
(1) يُرَاجَع : المستصفى /236 وشَرْح العضد 2/110 والعدّة 2/609 ، 610 وإحكام الفصول /271 والتمهيد لِلكلوذاني 2/164 وفواتح الرحموت 1/290 وشَرْح طلعة الشمس 1/115
(2) يُرَاجَع : شَرْح المنهاج 2/423 وشَرْح العضد 2/110 والمنهاج مع نهاية السول 2/129 ، 130 ومناهج العقول 2/130 وفواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/290
(3) التمهيد 2/163 بتصرف ويُرَاجَع : اللُّمَع /21 وشَرْح طلعة الشمس 1/115(1/172)
(4) المزني : هو أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني الشافعي رحمه الله تعالى ، إمام الشّافعيّة بمِصْر ، تلميذ الإمام الشافعي ، وُلِد بمِصْر سَنَة 175 هـ ..
مِن مصنَّفاته : الجامع الكبير ، المنثور ، المسائل المعتبَرة ، المختصَر ، الترغيب في العِلْم .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 264 هـ .
طبقات الشّافعيّة الكبرى 2/93 والنجوم الزاهرة 3/39 والفتح المبين 1/164 - 166
(5) أبو ثور : هو إبراهيم بن خالد بن اليمان البغدادي رحمه الله تعالى ، حَدَّث عن الإمام الشافعي =
وابن الدّقّاق (1) ، ورُوِي عن الإمام مالك - رضي الله عنه - (2) ..
وحَكَاه الجويني وغيْره عن الإماميْن أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما (3) ..
وفي هذه النسبة نظر ، والراجح ـ عندي ـ أنّهما مع الجمهور القائلين بأنّ خصوص السبب لا بخصوص العموم (4) ..
ودليلي على ذلك : بعض أقوال الأصوليّين ، أَذْكُر منهم ما يلي :
1- ابن السمعاني ـ رحمه الله ـ في قوله :" وقدْ قال بعضهم في أصوله : إنّ مذهب أبي حنيفة - رضي الله عنه - أنّه يجوز ، وهذا لا يُعْرَف مِن مذهبه " ا.هـ (5) .
وقال أيضاً :" وسائر الأصحاب قالوا : إنّما قال الشافعي - رضي الله عنه - هذا لأدلّة دَلَّتْ عليها ، فأمّا إذا لم يَكُنْ هناك دليل يَدُلّ على التخصيص فمذهبه إجراء اللفظ على عمومه " ا.هـ (6) .
= وسفيان بن عيينة وغيْرهما ..
مِن مصنَّفاته : مبسوط في الفقه على ترتيب كُتُب الإمام الشافعي .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 240 هـ .
تذكرة الحُفّاظ 2/512 ، 513 وسِيَر أعلام النبلاء 12/72 ، 73
(1) ابن الدّقّاق : هو أبو بَكْر محمد بن محمد بن جعفر البغدادي الشافعي رحمه الله تعالى ، ويُلَقَّب بـ" الخيّاط " ، وُلِد سَنَة 306 هـ ..
مِن مصنَّفاته : كتاب في أصول الفقه ، فوائد الفوائد .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 392 هـ .
النجوم الزاهرة 4/206 ومعجم المؤلِّفين 11/203(1/173)
(2) يُرَاجَع : شَرْح تنقيح الفصول /216 وقواطع الأدلّة 1/396 ، 397 وروضة الناظر 1/694 والإبهاج 2/185
(3) يُرَاجَع : البرهان 1/372 - 375 والبحر المحيط 3/205
(4) يُرَاجَع : إرشاد الفحول /134 وفواتح الرحموت 1/291 وتيسير التحرير 1/264
(5) قواطع الأدلّة 1/403
(6) قواطع الأدلّة 1/398
2- الآمدي ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" مذهب الشافعي - رضي الله عنه - أنّه إذا حَكَم النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بحُكْم في واقعة خاصّة فذَكَر عِلّته أنّه يَعُمّ مَن وُجِدَتْ في حقّه تلك العِلّة " ا.هـ (1) .
3- الزركشي ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" والحاصل : أنّ مذهب الشافعي - رضي الله عنه - العمل بالعموم إلا أنْ يَقُوم دليل يَقْتَضِي القَصْر على السبب ؛ فحينئذٍ يُرْجَع إليه كما فُعِل في الآية وفي حديث الخراج بالضمان وبِئْر بضاعة وغيْرها " ا.هـ (2) .
4- الإسنوي ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" وما قاله الإمام مردود ؛ فإنّ الشافعي رحمه الله قدْ نَصّ على أنّ السبب لا أَثَر له " ا.هـ (3) .
أدلّة هذا المذهب :
اسْتَدَلّ أصحاب هذا المذهب بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّه لو كان الخطاب عامّاً لَكان جواباً وابتداءً في وقْت واحد فهو جواب عن سؤال وابتداء بحُكْم سيأتي بمِثْل هذه الواقعة محلّ السؤال ، وقَصْر الجواب ينافِي هذا الابتداء ، فلا يَجْتَمِعان ، ولِذا وَجَب قَصْر العامّ على سببه ، وهو المُدَّعَى .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّا لا نُسَلِّم لكم عدم اجتماع الجواب والابتداء وذلك لأنّه جواب عَمَّا سُئِل عنه وبيان ـ أيضاً ـ لِحُكْم ما لم يُسْأَل عنه ، وهو صحيح غيْر مُمْتَنِع ..
(1) الإحكام 2/256
(2) البحر المحيط 3/209
(3) نهاية السول 2/132
كما أنّ السؤال يَقْتَضِي الإجابة عليه ، ولا مانع مِن الزيادة عليه ، ولِذا يَبْقَى العامّ على عمومه (1) .(1/174)
الدليل الثاني : أنّ السبب كالعِلّة في ذلك الحُكْم ؛ لأنّه هو المُبَيِّن لِلحُكْم ، والعِلّة تَقْتَصِر على معلولها ، فكذلك العامّ يُخَصَّص بسببه ، فإذا وُجِد السبب وُجِد الحُكْم ، وإذا انْتَفَى السبب انْتَفَى الحُكْم .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّه إذا كان اللفظ مُسْتَقِلاًّ بنَفْسه وهو أَعَمّ مِن السبب صار كعِلّة مُبْتَدَأة تَنْتَظِم أحكاماً ، ثُمّ هو كالعِلّة في مقدار ما يقابِل مِن اللفظ ، وما زاد مِن اللفظ يُعرف حُكْماً ثانياً ..
كما أنّ السبب هُنَا ليس مُوجِباً لِلحُكْم حتى يَكون كالعِلّة فيَرْتَبِط الحُكْم بها وجوداً وعدماً : كالسرقة والزنا (2) .
الدليل الثالث : أنّ اللفظ العامّ الوارد على سبب خاصّ لو بَقِي على عمومه لَمَا كان لِنَقْل السبب إلينا فائدة ، ولكنّ الثابت تدوين هذه الأسباب ، فدَلّ ذلك على أنّ اللفظ العامّ يجب قَصْره على سببه ؛ وإلا لَمَا كان لِذِكْره فائدة .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ دليلكم إنّما يَكون مقبولاً إذا كانت الفائدة محصورةً في تخصيص الحُكْم ، وليس كذلك ؛ وإنما فائدته مَنْع تخصيصه بالاجتهاد ومعرفة أنّه نصّ فيه .
الوجه الثاني : أنّ ذِكْر سبب الحُكْم مِن أَجَلّ فوائده ـ أيضاً ـ أنّه قرينة على
(1) تُرَاجَع المَراجع السابقة .
(2) يُرَاجَع : التمهيد لِلكلوذاني 2/166 وقواطع الأدلّة 1/402
فَهْم المراد ، ولِذا كان حَصْر فائدة ذِكْر السبب في تخصيص العموم غيْر مقبول ومردودا (1) .
والراجح عندي : أنّ خصوص السبب لا يُخَصِّص عموم اللفظ ، وهو ما عليه الجمهور أصحاب المذهب الأول ؛ لِمَا يلي :
1- قوّة أدلّتهم ، وسلامتها مِن المناقَشة والاعتراض .
2- ضَعْف أدلّة المذهب الثاني ، وعدم سلامتها مِن المناقَشة .(1/175)
3- أنّ القول بتخصيص عموم اللفظ بخصوص السبب يُؤَدِّي إلى التَّحَلُّل وعدم تكليفنا بأحكام شرْعِيّة كثيرة ، وهي التي وَرَدَتْ جواباً لِسؤال أو بسبب .
4- أنّ تَرْك الأخذ بهذه الأحكام الشَّرْعِيّة المُتَقَدِّمة تَجْعَل التارك عاصياً ومُخالِفاً لأمْر ربّه جَلّ وعَلاَ ولأمْر نَبِيّه - صلى الله عليه وسلم - ؛ قال تعالى { وَمَا ءَاتَكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } (2) وقال - صلى الله عليه وسلم - { إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوه } (3) ، والأمر بالطاعة هُنَا أمْر مُطْلَق لِكُلّ ما أتانا به النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، سواء كان بسبب أم بغيْر سبب ، طالما أنّه لم تَرِدْ به قرينة على تخصيصه .
5- انعقاد إجماع الأُمَّة منذ عَصْر الصحابة - رضي الله عنهم - حتى عَصْرنا على أنّ حُكْم السرقة واللعان والظهار وماء البحر ودَبْغ جلود الميتة والصلاة في مَرَابض الإبل وغيْرها أحكام عامّة لِلأُمّة جميعاً حتى قيام الساعة ، مع أنّها
(1) يُرَاجَع : المستصفى /236 وقواطع الأدلّة 1/399 وفواتح الرحموت 1/292
(2) سورة الحشر مِن الآية 7
(3) أَخْرَجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة : باب الاقتداء برسول الله برقم ( 6744 ) ومُسْلِم في كتاب الحجّ : باب فرْض الحجّ مرّةً في العمر برقم ( 2380 ) وابن ماجة في مقدِّمة : باب اتِّباع سُنَّة رسول الله برقم ( 2 ) .
وَرَدَتْ أو شُرعَت جواباً لِسؤال أو بسبب .
تنبيه :
أَوَدّ أنْ أُنَبِّه في ختام هذا المطلب إلى أنّ خصوص السبب أو قاعدة ( العِبْرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ) تَنْطَبِق على الكتاب والسُّنَّة ؛ فهناك مِن الأحكام القرآنيّة ما نزل جواباً لِسؤال أو بياناً لِواقعة أو حادثة ..(1/176)
ولكنْ بَعْد البحث والدراسة في هذه المسألة تَبَيَّن لي أنّ كثيراً مِن الأصوليّين كان استدلالهم مُرَكّزاً ومُنْصَبّاً على خصوص السبب في السُّنَّة المطهّرة ، فأَكْثَروا مِن الاستشهاد بالأحكام التي وَرَدَتْ بها جواباً لِسؤال سائل أو بسبب ، وفصلوا بَيْن أحكام مُسْتَقِلّة فجَعَلوها محلاًّ لِلنزاع ، وبَيْن أحكام غيْر مُسْتَقِلّة فاتَّفَقوا على أنّها لا تَتَعَدَّى سببها .
ولقد نَحَوْتُ نَحْوهم وسِرْتُ على دَرْبهم ، مُطْمَئِنّاً لِوجْهتهمْ ؛ فما أَكْثَر هذه الأحكام التي حوتها السُّنَّة المطهّرة التي وَرَدَتْ جواباً لِسؤال أو بسبب واقعة أو حادثة .
وبناءً على ما تَقَدَّم فَقَدْ ذَكَرْتُ هذا المطلب ضِمْن تخصيص السُّنَّة .
المبحث الثاني
أثر تخصيص السُّنَّة في الأحكام
وفيه فروع :
الفرع الأول : نِصَاب زكاة الزروع والثمار .
الفرع الثاني : كفّارة الوقاع في نهار رمضان .
الفرع الثالث : غَسْل الإناء مِن ولوغ الكلب .
الفرع الأول
نِصَاب زكاة الزروع والثمار
النَّصّ الوارد في عموم الزكاة :
قوله - صلى الله عليه وسلم - { فِيمَا سَقَتِ الأَنْهَارُ وَالْغَيْمُ الْعُشْرُ ، وَفِيمَا سُقِي بِنَضْحٍ (1) أَوْ دَالِيَةٍ (2) نِصْفُ الْعُشْر } (3) .
النَّصّ الوارد في عدم وجوب الزكاة فيما دُون الخمسة أَوْسُق (4) :
قوله - صلى الله عليه وسلم - { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَة } (5) .
فالنَّصّ الأول أَوْجَب إخراج العُشْر أو نِصْف العُشْر في كُلّ ما خرج مِن الأرض قَلّ أو كَثُر ، فهو يفيد عموم الحُكْم .
والنَّصّ الثاني قَصَر إخراج زكاة الزروع والثمار على ما فوْق خمسة أوسق ، وما دُونها لا زكاة فيه .
(1) النَّضْح : هو البلّ بالماء والرَّشّ .. مختار الصَّحّاح /689 والمصباح المنير 2/609(1/177)
(2) الدّالية : الدلو ونحْوها وخشب يُصْنَع كهيئة الصليب ويُشَدّ برأْس الدّلو ثُمّ يؤخَذ حبْل يُرْبَط طرفُه بذلك وطرفُه بجِذْع قائم على رأْس البئر ويُسْقَى بها .. المصباح المنير 1/199
(3) أَخْرَجه بلفظ قريب منه مُسْلِم في كتاب الزكاة : باب ما فيه العُشْر أو نِصْف العُشْر برقم ( 1630 ) وأحمد في باقي مُسْنَد المُكْثِرين برقم ( 14140 ) ، كلاهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما .
(4) الوسق : ما قَدْره ستّون صاعاً مِن تمْر أو نحْوه ، أو ما يساوي 130 كيلو جراماً ، والخمسة أوسق تُساوِي 653 كيلو جراما ..
يُراجَع : معجَم المصطلحات والألفاظ الفقهيّة 3/477 والفقه الإسلاميّ وأدلّته لِلزحيلي 3/1890
(5) أَخْرَجه البخاري في كتاب الزكاة : باب ما أُدِّي زكاته فليس بكنز برقم ( 1317 ) ومُسْلِم في كتاب الزكاة برقم ( 1625 ) والترمذي في كتاب الزكاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : باب ما جاء في صدقة الزرع والتمر والحبوب برقم ( 568 ) ، كُلّهم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - .
ولِذا كان هناك تَعارُض ظاهريّ بَيْن العامّ المُتَقَدِّم والخصوص المُتَأَخِّر الأمرَ الذي دَفَع العلماء إلى إزالة هذا التعارض على مذْهبيْن :
المذهب الأول : الجَمْع بَيْنهما .
وهو ما عليه الجمهور .
ووجْهتهم : أنّ الحديث الثاني مُبَيِّن لِلأول ومُخَصِّص له .
المذهب الثاني : عدم الجَمْع بَيْنهما .
وهو ما عليه الحنفيّة .
ووجْهتهم : تَرْك الحديث المُخَصّص ؛ لأنّه ظَنِّيّ ، والعموم قَطْعِيّ ، ولا يَقْوَى الظَّنِّيّ على القَطْعِيّ (1) .
والأَوْلى عندي : ما عليه الجمهور ؛ جَمْعاً بَيْن الدليليْن ، ولأنّ العامّ والخاصّ كلاهما ظنِّيّ ، والخاصّ أَرْجَح دلالةً وإسناداً ، فيُقَدَّم على العامّ ..(1/178)
وفي ذلك يقول ابن رشْد (2) رحمه الله تعالى :" ولكنّ حَمْل الجمهور عندي الخصوص على العموم هو مِن باب ترجيح الخصوص على العموم في الجزء الذي تَعارَضَا فيه ؛ فإنّ العموم فيه ظاهِر ، والخصوص فيه نصّ ، فتَأَمَّلْ هذا " ا.هـ (3) .
نَوْع التخصيص في هذا الفرع :
والتخصيص هُنَا تخصيص لِلسُّنَّة بالسُّنَّة .
(1) يُرَاجَع : إحكام الأحكام 1/318 ونَيْل الأوطار 4/141 وسُبُل السلام 2/240 وبداية المجتهد 1/265
(2) ابن رشد : هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن أبي الوليد الغرناطي المالكي ، فقيه أديب أصوليّ حكيم ، وُلِد بقرطبة سَنَة 520 هـ ..
مِن مصنَّفاته : مختصر المستصفى ، بداية المجتهِد ونهاية المقتصِد .
تُوُفِّي بمراكش سَنَة 595 هـ ونُقِلَت جثّته إلى قرطبة .
النجوم الزاهرة 6/54 والفتح المبين 2/38 ، 39
(3) بداية المجتهد 1/265
أثر هذا التخصيص في الأحكام :
اخْتَلَف العلماء في نِصَاب الزروع والثمار على أقوال :
القول الأول : أنّ الزكاة لا تجب فيما دُون خمسة أوسق .
وهو ما عليه الجمهور ، وحَكَى ابن المنذر (1) الإجماعَ عليه (2) .
القول الثاني : وجوب الزكاة في كُلّ ما يخرج مِن الأرض عَدَا الحطب والقصب والحشيش والشجر الذي لا ثمر له .
وهو ما عليه الحنفيّة (3) .
القول الثالث : مراعاة النِّصَاب فيما دخله الكيل ، وما لا يدْخله ففي قليله وكثيره زكاة .
وهو محكيّ عن داود الظاهري رحمه الله تعالى .
القول الرابع : أنّ النِّصَاب مُعْتَبَر في الثمار والزبيب والبرّ والشَّعِير .
وهو مَحْكِيّ عن محمد الباقر (4) وجعفر الصادق (5) رضي الله
(1) ابن المنذر : هو أبو بَكْر محمد بن إبراهيم بن المُنْذِر الشافعي النيسابوري رحمه الله تعالى ، أحد أعلام الشّافعيّة ، بَلَغ درجة الاجتهاد المُطْلَق ..
مِن مصنَّفاته : الإجماع ، إثبات القياس ، الإشراف على مذاهب أهْل العِلْم .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 309 هـ ، وقيل : سَنَة 318 هـ .(1/179)
الفتح المُبِين 1/179 ، 180
(2) يُرَاجَع : فتْح الباري 3/349 ، 350 ونَيْل الأوطار 4/141 والهداية 1/117 ، 118 وبداية المجتهد 1/265 ومغني المحتاج 1/382 والعدّة /127 ، 128 والمُحَلَّى 5/251
(3) يُرَاجَع : الهداية 1/117 ، 118 وبدائع الصنائع 2/57 ، 58
(4) محمّد الباقر : هو أبو جعفر محمد الباقر بن زيْن العابدين عَلِيّ بن الحسين - رضي الله عنهم - ، قيل له " الباقر " لأنّه تَبَقَّر في العِلْم أيْ تَوَسَّع فيه ، وُلِد سَنَة 57 هـ ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - سَنَة 113 هـ ودُفِن البقيع .
وفيات الأعيان 4/174
(5) جعفر الصادق : هو أبو عبد الله جعفر بن محمد الباقر بن زين العابدين عَلِيّ بن الحسين - رضي الله عنهم - ، أَخَذ عنه جماعة منهم الإمامان أبو حنيفة ومالك رضي الله عنهما .. =
عنهما (1) .
وما عليه الجمهور أصحاب القول الأول هو الأَوْلى عندي بالقبول والترجيح ؛ تفريعاً على جواز تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة ، واتِّباعاً لإجماع الأُمَّة .
= له رسائل مجموعة في كُتُب .
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 148 هـ ودُفِن بالبقيع .
الأعلام 2/121 ومُعْجَم المؤلِّفين 3/145
(1) يُرَاجَع : فتْح الباري 3/349 ، 350 ونَيْل الأوطار 4/141
الفرع الثاني
كفّارة الوقاع في نهار رمضان
النَّصّ الوارد فيها :(1/180)
ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال :" بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ :" يَا رَسُولَ اللَّهِ .. هَلَكْتُ " قَال { مَا أَهْلَكَك } قَالَ :" وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِم " ( وفي رواية : أَصَبْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَان ) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { هَلْ تَجِدُ رَقَبَة } قَالَ :" لاَ " ، قَال { فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْن } قَالَ :" لاَ " ، قَال { فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينا } قَالَ :" لاَ " ، فَمَكَثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقٍ (1) فِيهِ ثَمَرٌ ، قَال { أَيْنَ السَّائِل } قَال :" أَنَا " ، قَال { خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِه } فَقَالَ الرَّجُلُ :" عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟! فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا (2) أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي " ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ، ثُمَّ قَال { أَطْعِمْهُ أَهْلَك } " (3) .
وجْه الدلالة والتفريع :
هذا الحديث تَضَمَّن حُكْم المُجامِع لِزوْجته في نهار رمضان ، ولكنّه
(1) العَرَق : ضفيرة تُنْسَج مِن خوص ، وهو المكتل والزّبيل ، ويقال إنّه يسع خمسة عَشَر صاعاً ..
المصباح المنير 2/405 والكُلِّيّات /656
(2) لاَبَتَيْهَا : يريد الحرّتيْن .
(3) أَخْرَجه البخاري في كتاب الصوم : باب إذا جامَع في رمضان ولم يَكُنْ له شيء برقم ( 1800 ) ومُسْلِم في كتاب الصيام : باب تحريم الصيام في نهار رمضان على الصائم برقم ( 1870 ) والترمذي في كتاب الصوم عن رسول الله : باب ما جاء في كفّارة الفطر في رمضان برقم ( 656 ) .(1/181)
حُكْم مَبْنِيّ على سؤال أو سبب خاصّ ، ولِذا كان هذا تفريعاً على خصوص السبب والذي رَجَّحْنَا فيه أنّ العموم لا يُخَصَّص بسببه ، أيْ لا يَقْتَصِر على سبب الرواية أو الحُكْم طِبْقاً لِقاعدة ( العِبْرَة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ) .
نَوْع التخصيص في هذا الفرع :
والتخصيص هُنَا بالسبب ( خصوص السبب ) .
أثر هذا التخصيص في الأحكام :
اخْتَلَف العلماء في حُكْم المُجامِع في نهار رمضان على قوْليْن :
القول الأول : وجوب الكفّارة عليه .
وهو ما عليه جمهور الأُمَّة .
القول الثاني : أنّها لا تجب عليه .
وهو قول شاذّ جدّاً كما ذَكَر ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى (1) .
والراجح عندي : ما عليه الجمهور ، وهو وجوب الكفّارة على المُجامِع عَمْداً في نهار رمضان ؛ تفريعاً على أنّ سبب الحُكْم لا يُخَصّص العموم عليه .
(1) يُرَاجَع : إحكام الأحكام /337 وبداية المجتهد 1/302 والكافي 1/446 والمهذّب 2/611 ، 612 والمجموع 6/379 ، 380 والهداية 1/132
الفرع الثالث
غَسْل الإناء مِن ولوغ الكلب
النَّصّ الوارد فيه :
ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال { طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاَهُنَّ بِالتُّرَاب } (1) ..
وفي رواية { إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ لْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّات } (2) .
وما رُوِي أنّ أبا هريرة - رضي الله عنه - كان يَغسل الإناء ثلاثاً مِن ولوغ الكلب (3) .
وهُنَا تَعَارُض بَيْن العَدَد الوارد في نَصّ الحديث والعَدَد الذي رُوِي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - راوي الحديث ، ولِذا اعتبَرَه بعض الأصوليّين تخصيصاً لِلعموم بمذهب الراوي (4) .
نَوْع التخصيص في هذا الفرع :
والتخصيص في هذا الفرع تخصيص لِعموم الخبر بمذهب راويه ،(1/182)
(1) أَخْرَجه مُسْلِم في كتاب الطهارة : باب حُكْم ولوغ الكلب برقم ( 420 ) والنسائي في كتاب المياه : باب تعفير الإناء بالتراب مِن ولوغ الكلب فيه برقم ( 336 ) وأبو داود في كتاب الطهارة : باب الوضوء بسؤر الكلب برقم ( 65 ) .
(2) أَخْرَجه مُسْلِم في كتاب الطهارة : باب حُكْم ولوغ الكلب برقم ( 418 ) والنسائي في كتاب الطهارة : باب الأمر بإراقة ما في الإناء إذا وَلَغ فيه الكلب برقم ( 65 ) .
(3) أَخْرَجه الدارقطني في سُنَنه .. يُرَاجَع : الدراية في تخريج أحاديث الهداية 1/60 ونَصْب الراية 1/130
(4) يُرَاجَع : منهاج الوصول مع نهاية السول 2/179 - 184 والإبهاج 2/208 ، 209 وبيان المختصر 2/331 وقواطع الأدلّة 1/189 ونَيْل الأوطار 1/34
والعموم في الخبر واضِح في وجوب غَسْل الإناء مِن ولوغ الكلب سَبْع مرّات ، وهذا عامّ في كُلّ كَلْب ، وليس العموم في العَدَد ، ولِذا اعتَبَر البعض هذا المثال غيْر مُطابِق ؛ لأنّ التخصيص فَرْع العموم ، والسَّبْع وغيْرها مِن أسماء الأعداد نصوص في مسمّياتها لا عامّة (1) .
لكنْ أَوْرَد ابن السبكي رحمهما الله تعالى ما يَجْعَل هذا المثال صحيحاً حينما بَيّن أنّ أبا هريرة - رضي الله عنه - يَرَى أنّ كَلْب الزرع لا يُغْسَل منه إلا ثلاثاً ، وغيْره يُغْسَل منه سبعةً ، وأَكَّد ذلك بما رواه الدارقطني (2) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال :" إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الإِنَاءِ فَأَهْرِقْهُ ثُمَّ اغْسِلْهُ ثَلاَثَ مَرَّات " (3) .
أثر هذا التخصيص في الأحكام :
اخْتَلَف العلماء في عَدَد مرّات غَسْل الإناء مِن ولوغ الكلب على قوْليْن :
القول الأول : وجوب غَسْل الإناء سَبْع مرّات .
وهو ما عليه الجمهور ، ورُوِي عن ابن عباس وعروة بن الزبير (4) - رضي الله عنهم - .
(1) يُرَاجَع : الإبهاج 2/208 ونهاية السول 2/184(1/183)
(2) الدارقطني : هو أبو الحَسَن عَلِيّ بن عُمَر بن أحمد الدارقطني الشافعي رحمه الله تعالى ، حافِظ مُحَدِّث ..
مِن مصنَّفاته : السُّنَن ، العِلَل ، الإفراد .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 385 هـ .
طبقات الشّافعيّة 2/161 وشذرات الذهب 2/116
(3) يُرَاجَع : الإبهاج 2/209 ونَصْب الراية 1/131
(4) عروة بن الزبير : هو أبو عبد الله عروة بن الزبير بن العوّام القرشي الأسدي المدني رحمه الله تعالى ، مِن التابعين ، أحد فقهاء المدينة السبعة ، وُلِد في خلافة عثمان - رضي الله عنه - ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 90 هـ .
تذكرة الحُفّاظ 1/62 وسِيَر أعلام النبلاء 4/423 – 433 وشذرات الذهب 1/103
القول الثاني : وجوب غَسْل الإناء ثلاث مرّات .
وهو ما عليه الحنفيّة والعترة (1) .
وهؤلاء حَمَلوا حديث السبع على الندب وأنّ حُكْمه قدْ نُسِخ بالثلاث (2) .
والأَوْلى عندي : ما عليه الجمهور مِن وجوب غَسْل الإناء سَبْع مرّات إحداهنّ بالتراب ؛ وذلك تفريعاً على أنّ مذهب الراوي لا يُخَصِّص عموم الخبر الذي رواه .
(1) عترة الرَّجُل : أقرباؤه مِن ولد وغيْره .
وقيل : هُمْ قوْمه دِنْياً .
وقيل : همْ رهْطه وعشيرته الأدنون ، مَن مضى منهم ومَن غبر .
وقال ابن الأثير : عترة الرَّجُل أَخَصّ أقاربه .
وقال ابن الأعرابي : العترة ولد الرَّجُل وذرِّيَّته وعَقِبه مِن صُلْبه ..
قال : فعترة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ولد فاطمة البتول عليها السلام .
لسان العرب 4/2796
(2) يُرَاجَع : فتْح الباري 1/277 ونَيْل الأوطار 1/34 وبدائع الصنائع 1/87 ، 88 والمهذَّب 1/173 وإحكام الأحكام 1/30 ، 31 والخرشي 1/118 والكافي 1/160 ، 16
الفصل الخامس
المخصّصات المشتركة بَيْن
الكتاب والسُّنَّة وأثرها في الأحكام
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : المخصّصات المشتركة بَيْن الكتاب والسُّنَّة .
وفيه ستّة مطالب :(1/184)
المطلب الأول : التخصيص بفِعْله - صلى الله عليه وسلم - .
المطلب الثاني : التخصيص بالإجماع .
المطلب الثالث : التخصيص بالقياس .
المطلب الرابع : التخصيص بالعرف والعادة .
المطلب الخامس : التخصيص بالمفهوم .
المطلب السادس : التخصيص بدليل العقل .
المبحث الثاني : أثر المخصّصات المشتركة بَيْن الكتاب والسُّنَّة في الأحكام .
وفيه فروع :
الفرع الأول : استقبال القِبْلَة واستدبارها في غيْر الخلاء .
الفرع الثاني : حَدّ العبد القاذف .
الفرع الثالث : زكاة الأنعام المعلوفة .
المبحث الأول
المخصّصات المشتركة بَيْن الكتاب والسُّنَّة
وفيه ستّة مطالب :
المطلب الأول : التخصيص بفِعْله - صلى الله عليه وسلم - .
المطلب الثاني : التخصيص بالإجماع .
المطلب الثالث : التخصيص بالقياس .
المطلب الرابع : التخصيص بالعرف والعادة .
المطلب الخامس : التخصيص بالمفهوم .
المطلب السادس : التخصيص بدليل العقل .
المطلب الأول
التخصيص بفِعْله - صلى الله عليه وسلم -
والحديث في هذا المطلب يُمْكِن تقسيمه على النحو التالي :
1- أمثلة التخصيص بفِعْله - صلى الله عليه وسلم - .
2- تحرير محلّ النزاع .
3- مذاهب الأصوليّين .
4- أدلّة المذاهب مع الترجيح .
وفيما يلي نُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها :
أوّلاً – أمثلة التخصيص بفِعْله - صلى الله عليه وسلم - :
المثال الأول : أنّه - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن الوصال في الصيام ثُمّ واصَل ، فقيل له : " نَهَيْتَ عَنِ الْوِصَالِ وَنَرَاكَ تُوَاصِل ؟ " فقال - صلى الله عليه وسلم - { إِنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ ؛ إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيُسْقِيني } (1) .
المثال الثاني : أنّه - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن اسْتِقْبَال القِبْلَة واسْتِدْبَارها لِغائط أو بَوْل (2) ثُمّ رآه ابن عُمَر ـ رضي الله عنهما ـ على سَطْح مُسْتَقْبِلاً بَيت المقدس(1/185)
(1) أَخْرَجه الترمذي في كتاب الصوم عن رسول الله : باب ما جاء في كراهية الوصال لِلصائم عن أَنَس - رضي الله عنه - برقم ( 709 ) وأحمد في باقي مُسْنَد المُكْثِرين مِن الصحابة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - برقم ( 8548 ) ، وأبو داود في كتاب الصوم : باب في الرخصة في ذلك عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ـ رحمه الله تعالى ـ برقم ( 2026 ) .
(2) أَخْرَجه البخاري في كتاب الصلاة : باب قِبْلَة أهْل المدينة وأهْل الشّام والمَشْرِق برقم ( 380 ) ومُسْلِم في كتاب الطهارة : باب الاستطابة برقم ( 388 ) والترمذي في كتاب الطهارة عن رسول الله باب النهي عن استقبال القِبْلَة بغائط أو بَوْل برقم ( 8 ) ، كُلّهم عن أبي أَيّوب الأنصاري - رضي الله عنه - .
مُسْتَدْبِراً الكعبة (1) .
المثال الثالث : نَهْيه - صلى الله عليه وسلم - عن كَشْف العورة ، ثُمّ كشف فخذه - صلى الله عليه وسلم - بحضرة أبي بَكْر (2) وعُمَر رضي الله عنهما ، ثُمّ دَخَل عثمان - رضي الله عنه - فسَتَره - صلى الله عليه وسلم - ، فَعَجِبوا منه ، فقال - صلى الله عليه وسلم - { أَلاَ أَسْتَحْيِي مِمَّنْ تَسْتَحْيِي مِنْهُ مَلاَئِكَةُ السَّمَاء } (3) .
المثال الرابع : قوله تعالى { وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْن } (4) فيه دليل على حرمة الاقتراب مِن الحائض حتى تَطْهُر ، ثُمّ قالت السيدة عائشة والسيدة ميمونة رضي الله عنهما :" كَانَتْ إِحْدَانَا إِذَا حَاضَتِ اتَّزَرَتْ وَدَخَلَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شِعَارِه (5) " (6) (7) .
ثانياً – تحرير محلّ النزاع :
لقدْ وَقَفْتُ ـ بعوْن الله وتوفيقه ـ على بعض تقسيمات الأصوليّين لِلعامّ
(1) أَخْرَجه البخاري في كتاب الوضوء : باب التَّبَرُّز في البيوت برقم ( 145 ) والنسائي في كتاب الطهارة : باب الرخصة في ذلك في البيوت برقم ( 23 ) وأبو داود في كتاب الطهارة : باب الرخصة في ذلك برقم ( 11 ) .(1/186)
(2) أبو بَكْر الصِّدِّيق : هو الصّحابيّ الجليل عبد الله بن عثمان بن عامر التيمي رضي الله عنهما ، وُلِد بمكة سَنَة 51 هـ قَبْل الهجرة ، أول مَن أَسْلَم مِن الرجال ، وأول الخلفاء الراشدين ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 13 هـ .
أسد الغابة 3/205 والإصابة 2/341
(3) أَخْرَجه أحمد في مُسْنَد العشرة المُبَشَّرين بالجَنَّة برقم ( 484 ) والطبراني في الكبير 12/327 ومعمر بن راشد في الجامع 12/327 ، كُلّهم عن السيدة عائشة رضي الله عنها .
(4) سورة البقرة مِن الآية 222
(5) الشِّعار : كُلّ ما يلي الجسد مِن الثياب فهو شعار ، وكُلّ ما يلي الشعار فهو دثار .. الكُلِّيّات /523
(6) أَخْرَجه أحمد في باقي مُسْنَد الأنصار عن السيدة عائشة رضي الله عنها برقم ( 24114 ) ، ويُرَاجَع تفسير ابن كثير 1/261
(7) يُرَاجَع : المستصفى /246 ، 247 والعدّة 2/574 والتمهيد لِلكلوذاني 2/116 وإحكام الفصول /267 والإحكام لِلآمدي 2/329 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/151 وشَرْح تنقيح الفصول /210 والواضح 3/394 وشَرْح الكوكب المنير 3/394 وشَرْح طلعة الشمس 1/156
الذي خُصِّص بفعل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أو لِلفعل ذاته يُمْكِن مِن خلالها توضيح محلّ النزاع في هذه المسألة ..
وها هي تقسيمات الأصوليّين التي اطَّلَعْتُ عليها :
التقسيم الأول : لِلغزالي رحمه الله تعالى ..
قسم الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ فِعْل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى قِسْميْن :
الأول : فِعْل عُرِف مِن قوله أنّه قَصَد به بيان الأحكام .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } (1) و{ خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم } (2) .
حُكْمه : وهذا الفعل يُخَصّ به العموم .
الثاني : فِعْل لم يُبَيّن أنّه أراد به البيان .(1/187)
مثاله : نَهْيه - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال ثُمّ واصَل وقال { إِنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُم } (3) فبَيَّن أنّه لم يُرِدْ بفعله بيان الحُكْم .
حُكْمه : وهذا الفعل يَحتمل التخصيص (4) .
وقريب مِن هذا التقسيم تقسيم الباجي رحمه الله تعالى (5) .
(1) أَخْرَجه البخاري في كتاب الأذان : باب الأذان لِلمُسافِر إذا كانوا جماعةً والإقامة كذلك برقم ( 595 ) والدارمي في كتاب الصلاة : باب مَن أَحَقّ بالإمامة برقم ( 1225 ) والبيهقي في السُّنَن الكبرى 2/345 ، كُلّهم عن مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - .
(2) أَخْرَجه مُسْلِم في كتاب الحجّ : باب استحباب رَمْي جمرة العقبة يَوْم النحر راكباً برقم ( 2286 ) والنسائي في كتاب مناسك الحجّ : باب الركوب إلى الجِمَار واستظلال المُحْرِم برقم ( 3012 ) وأبو داود في كتاب المَناسك : باب في رَمْي الجِمَار برقم ( 1680 ) ، كُلّهم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما .
(3) سبق تخريجه .
(4) يُرَاجَع : المستصفى /241 والبحر المحيط 3/388
(5) يُرَاجَع إحكام الفصول /267
التقسيم الثاني : لِلفخر الرازي رحمه الله تعالى ..
قسم الفخر الرازي ـ رحمه الله تعالى ـ العامّ الذي يُخَصَّص بفعله - صلى الله عليه وسلم - إلى ثلاثة أقسام :
الأول : أنْ يَكون العامّ مُتَنَاوِلاً له - صلى الله عليه وسلم - ولأُمّته .
مثاله : قوله تعالى { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنثَيَيْن } (1) ، فإذا ثبت أنّه - صلى الله عليه وسلم - فَعَل ما يَقْتَضِي أنّه غيْر مراد بها وقَصَر الحُكْم على بعض دون بعض ..
حُكْمه : وفي هذه الحالة يَكون هذا الفعل مُخَصِّصاً له - صلى الله عليه وسلم - ولِغَيْره إنْ عُلِم بدليل أنّ حُكْمه كحُكْمه ، لكنّ المُخَصِّص هُنَا هو الفعل مع ذلك الدليل .
الثاني : أنْ يَكون العامّ مُتَنَاوِلاً الأُمَّة فقط .(1/188)
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا بِبَوْلٍ وَلاَ غَائِطٍ ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا } (2) ؛ فهذا مُتَنَاوِل الأُمَّة دونه - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنّ ظاهِر اللفظ مُوَجَّه لِلمُسْلِمين ، لكنْ رُوِي أنّه - صلى الله عليه وسلم - اسْتَقْبَل عند قضاء حاجته بَيْت المقدس واسْتَدْبَر القِبْلة (3) .
حُكْمه : وفي هذه الحالة يَكون هذا الفعل مُخَصِّصاً لِلعموم ومُتَنَاوِلاً النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأُمَّته ؛ لأنّه داخِل في العموم ؛ لأنّ حُكْم أُمّته يَتَنَاوله - صلى الله عليه وسلم - .
ومِن العلماء مَن حَمَل فِعْله - صلى الله عليه وسلم - على حُكْم الأبنية ، والنهي محمول على الصحارى والأفضية .
الثالث : أنْ يَكون العامّ خاصّاً بالنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - .
(1) سورة النساء مِن الآية 11
(2) سبق تخريجه .
(3) سَبَق تخريجه .
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعاً أَوْ سَاجِدا } (1) .
ونَحْوه كُلّ لَفْظ يَدُلّ على الخصوصيّة : كقوله - صلى الله عليه وسلم - { أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُم } (2) ..
فهذه نصوص لفْظها خاصّ بالنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وتفيد العموم ، فإذا ثبت أنّه - صلى الله عليه وسلم - فَعَل ما يَقْتَضِي قَصْر الحُكْم فيها على البعض : فهلْ يُعَدّ تخصيصاً في حقّه - صلى الله عليه وسلم - فقط أم هو والأُمَّة ؟
حُكْمه : وفي هذه الحالة يَكون هذا الفعل مُخَصِّصاً لِلعموم في حقّه - صلى الله عليه وسلم - ولأُمّته ؛ لأنّ العموم وإنْ كان لَفْظه خصوصيّة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لكنّ المعنى والمقصد هو التشريع لِلأُمّة مُتَمَثِّلةً في قُدْوتها - صلى الله عليه وسلم - (3) .
التقسيم الثالث : لِلآمدي رحمه الله تعالى ..(1/189)
قسم الآمدي ـ رحمه الله تعالى ـ العامّ الذي يُخَصَّص بفعله - صلى الله عليه وسلم - إلى قِسْميْن :
الأول : أنْ يَكون عامّاً لِلأُمّة ولِلرسول - صلى الله عليه وسلم - .
مثاله : لو قال - صلى الله عليه وسلم - : الوصال أو استقبال القِبْلة في قضاء الحاجة أو كَشْف الفخذ حرام على كُلّ مُسْلِم ..
فإنْ رَأَيْنَاه - صلى الله عليه وسلم - واصَل أو اسْتَقْبَل القِبْلة في قضاء الحاجة أو كَشَف فخذه فهلْ يَكون تخصيصاً أم لا ؟
(1) أَخْرَجه مُسْلِم في كتاب الصلاة : باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود برقم ( 738 ) وابن أبي شيبة 2/195 ، كلاهما عن ابن عباس رضي الله عنهما .
(2) أَخْرَجه البخاري في كتاب الأذان : باب السجود على الأنف برقم ( 770 ) ومُسْلِم في كتاب الصلاة : باب أعضاء السجود والنهي عن كَفّ الشَّعْر والثَّوْب برقم ( 758 ) والنسائي في كتاب التطبيق : باب السجود على اليديْن برقم ( 1085 ) ، كُلّهم عن ابن عباس رضي الله عنهما .
(3) يُرَاجَع : المحصول 1/430 ، 431 وشَرْح تنقيح الفصول /210 ، 211
حُكْمه : لا خلاف في أنّ فِعْله - صلى الله عليه وسلم - يَدُلّ على إباحة ذلك الفعل في حقّه وتخصيصاً لِلعموم ..
أمّا في حقّ غيْره - صلى الله عليه وسلم - مِن الأُمَّة : فهو كذلك إنْ قُلْنَا بوجوب التَّأَسِّي به - صلى الله عليه وسلم - في فِعْله ، ويَكون حينئذٍ نسخاً لا تخصيصاً ، وإنْ قُلْنَا بعدم التَّأسِّي كان تخصيصاً في حقّه - صلى الله عليه وسلم - دون أُمّته .
الثاني : أنْ يَكون عامّاً لِلأُمَّة دون الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
مثاله : لو قال - صلى الله عليه وسلم - : نَهَيْتُكُمْ عن الوصال أو استقبال القِبْلة في قضاء الحاجة أو كَشْف الفخذ ..
فإنْ خالَف فِعْلُه - صلى الله عليه وسلم - ما تَقَدَّم : فهلْ يُعَدّ تخصيصاً لِلعموم أم لا ؟(1/190)
حُكْمه : والفعل في هذه الحالة لا يَكون تخصيصاً في حقّه - صلى الله عليه وسلم - ؛ لِعدم دخوله فيه .
أمّا في حقّ الأُمَّة : فإنْ قيل بوجوب اتِّباع الأُمَّة له - صلى الله عليه وسلم - كان ذلك نسخاً لا تخصيصاً ، وإنْ قيل بعدم وجوب اتِّباعه - صلى الله عليه وسلم - فلا يَكون فِعْله - صلى الله عليه وسلم - مُخَصِّصاً لِلعموم في حقّه ولا في حقّ أُمّته .
ثُمّ عَقَّب الآمدي ـ رحمه الله تعالى ـ بقوله :" فلا أَرَى لِلخلاف على هذا التخصيص بفعل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وجْهاً ... والأظهر في ذلك إنّما هو الوقف " ا.هـ (1) .
ومِمَّا تَقَدَّم وبَعْد الاطِّلاع على مذاهب الأصوليّين التي سيأتي ذِكْرها يُمْكِن التَّوَصُّل إلى نتيجتيْن :
الأولى : شروط فِعْله - صلى الله عليه وسلم - المُخَصِّص لِلعموم ..
وهذه الشروط حَصَرْتُها فيما يلي :
1- أنْ لا يَكون خاصّاً بالنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - .
(1) يُرَاجَع الإحكام 2/329 ، 330
2- أنْ لا يَرْفَع حُكْم العموم بالكُلِّيَّة ؛ فإنّه يَكون نسخاً حينئذ .
3- أنْ يَكون ظاهراً غيْر مُسْتَتِر .
الثانية : العمومات التي تدْخل في النزاع ..
وقدْ حَصَرْتُها فيما يلي :
1- العامّ الخاصّ بالنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، ولكنْ ثَبَت بالدليل دخول الأُمَّة معه في هذا الحُكْم .
2- العامّ المُتَنَاوِل لِلنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ولأُمّته .
3- العامّ الخاصّ بالأُمَّة دون النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - .
4- العامّ الخاصّ بالنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وثبت بالدليل عدم دخول الأُمَّة معه في الحُكْم .
ثالثاً – مذاهب الأصوليّين في التخصيص بفِعْله - صلى الله عليه وسلم - :
اخْتَلَف الأصوليّون في تخصيص عموم الكتاب والسُّنَّة بفِعْله - صلى الله عليه وسلم - على مذاهب حَصَرْتُها في سِتّة ، أَذْكُرها فيما يلي :
المذهب الأول : جواز التخصيص به .(1/191)
وهو ما عليه الجمهور ، واختاره الشيرازي (1) وأبو يعلى (2) والباجي (3) وابن الحاجب (4) رحمهم الله تعالى .
المذهب الثاني : عدم جواز التخصيص به .
وهو قول الكرخي رحمه الله تعالى ، وحُكِي عن بعض الشّافعيّة (5) .
المذهب الثالث : الوقف .
(1) اللُّمَع /20
(2) العدّة 2/573
(3) إحكام الفصول /267
(4) مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/151
(5) يُرَاجَع : اللُّمَع /20 والإحكام لِلآمدي 2/329 والواضح 3/394 والبحر المحيط 3/387
وهو قول القاضي عبد الجبار (1) .
المذهب الرابع : وأصحاب هذا المذهب جَعَلوا لِفِعْله - صلى الله عليه وسلم - أحكاماً ثلاثةً :
الأول : جواز تخصيص العموم المُتَنَاوِل له - صلى الله عليه وسلم - ولأُمّته ، وكذا العموم المُتَنَاوِل لِلأُمّة فقط .
الثاني : التَّوَقُّف في تخصيص العموم المُتَنَاوِل لِلأُمّة فقط .
الثالث : النسخ لِلعموم إنْ قُلْنَا بوجوب التَّأَسِّي .
الرابع : عدم جواز التخصيص في العموم المُتَنَاوِل لِلأُمَّة فقط ، فلا يَكون في حقّه - صلى الله عليه وسلم - تخصيصاً ؛ لِعدم دخوله فيه .
وهذا هو مذهب الآمدي رحمه الله تعالى ، وشارَكه في القول بالنسخ بعض الحنفيّة (2) .
المذهب الخامس : جواز التخصيص بالفعل الظاهر دون المُسْتَتِر .
حَكَاه القاضي عبد الوهاب (3) في " المُلَخَّص " .
المذهب السادس : جواز التخصيص به إنْ كان الفعل غيْر مُخْتَصّ به - صلى الله عليه وسلم - .
وهو قول الكيا الطبري (4) .
(1) يُرَاجَع : المسوّدة /125 والبحر المحيط 3/388 وفواتح الرحموت 1/354
(2) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 2/329 ، 330
(3) القاضي عبد الوهاب : هو عبد الوهاب بن علِيّ بن نصْر بن أحمد بن الحسين بن هارون ابن مالك بن طوق الثعلبي البغدادي رحمه الله تعالى ، الفقيه المالكي ..
مِن مصنَّفاته : المعونة بمذهب عالِم المدينة ، شَرْح المدوَّنة ، التلقين .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 422 هـ .(1/192)
شذرات الذهب 3/233 وشجرة النور الزكية /103
(4) الكيا الهراسي : هو أبو الحَسَن عماد الدين علِيّ بن محمد بن علِيّ الطبري الشافعي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ مفسِّر مُحَدِّث ..
مِن مصنَّفاته : شفاء المسترشدين ، أحكام القرآن . =
وأَرَى أنّ المذْهبيْن الأخيريْن مِن المُسَلَّمات ، بلْ إنّي أَعْتَبِرهما خارِج محلّ النزاع ، إضافةً إلى عدم شُهْرتهما عند الأصوليّين ، ولِذا فإنّي لم أَجِدْ لهما ذِكْراً إلا عند الزركشي (1) ـ رحمه الله تعالى ـ فيما وَقَفْتُ عليه ، أمّا الكثرة مِن الأصوليّين فقدْ أَوْرَدوا مذْهبيْن فقط : الأول والثاني ، وأضاف البعضُ المذهبَ الثالثَ (2) ، ونظراً لِلحاجة إلى دراسة وبَحْث مذهب الآمدي ـ رحمه الله تعالى ـ فقدْ رَأَيْتُ أنْ أَتَعَرَّض لأدلّة هذه المذاهب الأربعة فيما يأتي .
رابعاً – أدلّة المذاهب مع الترجيح :
أدلّة المذهب الأول :
اسْتَدَلّ القائلون بجواز تخصيص العموم بفِعْله - صلى الله عليه وسلم - بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول ( لِلباحث ) : أنّه قدْ ثبت بالأدلّة جواز تخصيص عموم الكتاب والسُّنَّة بالسُّنَّة القوليّة ؛ لأنّهما يخرجان مِن مشكاة واحدة { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْىٌ يُوحَى } (3) ، وإذا جاز تخصيص العموم بالسُّنَّة القوليّة فكذلك السُّنَّة الفِعْلِيّة يُخَصَّص بها العموم ؛ لِوجود الجامع بَيْنهما وهو السُّنِّيَّة التي أَلْزَمَنَا الشارع بها في قوله - صلى الله عليه وسلم - { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي } (4) قوليّةً
= تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 504 هـ .
طبقات الشّافعيّة /231 وشذرات الذهب 4/8
(1) البحر المحيط 3/387 ، 388(1/193)
(2) يُرَاجَع : اللُّمَع /20 وقواطع الأدلّة 1/376 والعدّة 2/574 وإحكام الفصول /267 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/151 والمستصفى /246 ، 247 وجَمْع الجوامع مع حاشية البناني 2/31 ، 32 وفواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/354
(3) سورة النجم الآيتان 3 ، 4
(4) أَخْرَجه أبو داود في كتاب السُّنَّة : باب في لزوم السُّنَّة برقم ( 3991 ) وابن ماجة في المُقَدِّمة =
كانت أم فِعْلِيّة (1) .
الدليل الثاني : أنّه قدْ ثبت أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مُخاطَب معنا في التكليف إلا ما خصّه بدليل ، فإذا قال قولاً عامّاً ثُمّ إنّه فَعَل فعلاً دَخَل تحْت قوله ونَهْيه ـ وهو مِمَّن لا يخالِف أمْر الله تعالى ـ ثبت أنّه - صلى الله عليه وسلم - فَعَله بأمْر الله تعالى ووحْيه ، فصار بذلك فِعْله كقوله ، ولِذا جاز تخصيص العموم به (2) .
الدليل الثالث ( لِلباحث ) : أنّ فِعْل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - الصادر منه على وجْه التشريع يُعَدّ مَصْدَراً لِلتشريع ودليلاً مِن الأدلّة ، وهذا الفعل قدْ عارَض العمومَ ، ولإزالة هذا التّعارُض إمّا أنْ نَتْرُك العمل بهما أو أنْ نَعْمَل بواحد منهما دون الآخَر أو نَعْمَل بهما معاً : أمّا تَرْك العمل بهما أو بأحدهما ففيه إبطال لِلدليليْن أو لأحدهما ، وهو خلاف الأَوْلى وهو الإعمال لهما والجَمْع بَيْنهما ولو مِن وجْه ، وهذا لا يَتَحَقَّق إلا بالقول بجواز تخصيص العموم بفعله - صلى الله عليه وسلم - (3) .
أدلّة المذهب الثاني :(1/194)
اسْتَدَلّ أصحاب هذا المذهب القائلون بعدم جواز تخصيص العموم بفعله - صلى الله عليه وسلم - بدليل واحد ، حاصِله : أنّ فِعْل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - الذي يُعارِض العامّ يحتمل أنْ يَكون مخصوصاً به - صلى الله عليه وسلم - ويحتمل أنْ يَكون مشروعاً ، والدليل إذا تَطَرَّق إليه الاحتمال سَقَط به الاستدلال ، ولِذا لا نقضي بالمحتمل ( فِعْله - صلى الله عليه وسلم - ) على العموم المُتَنَاوِل لِلحُكْم بصيغته .
= باب اتِّبَاع سُنَّة الخلفاء الراشدين المَهْدِيّين برقم ( 42 ) وأحمد في مُسْنَد الشّاميّين برقم ( 16521 ) كُلّهم عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - .
(1) يُرَاجَع : العدّة 2/577 والتمهيد لِلكلوذاني 2/117
(2) يُرَاجَع : الواضح 3/395 وشَرْح طلعة الشمس 1/156
(3) يُرَاجَع شَرْح العضد 2/151
مناقَشة هذا الدليل :
ويُمْكِن مناقَشة هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ الظاهر مِن تشريعه - صلى الله عليه وسلم - ـ قولاً كان أم فعلاً ـ أنّه لِلجميع ولا يُخَصّ به النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إلا بدليل ، وحيث لم يَرِدْ هذا الدليل لم يُعَدّ فِعْله - صلى الله عليه وسلم - مُعَرَّضاً لاحْتماليْن كما ادَّعَيْتُمْ .
الوجه الثاني : أنّ عدم جواز تخصيص العموم بفعله - صلى الله عليه وسلم - فيه إبطال لِهذا الدليل ، والتخصيص به فيه إعمال له ، والإعمال أَوْلى مِن الإهمال (1) .
أدلّة المذهب الثالث :
ويُمْكِن الاستدلال لِلواقفين في جواز التخصيص بفعله - صلى الله عليه وسلم - : بأنّ العموم دليل قدْ عارَض دليلاً وهو فِعْله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا مُرَجِّح لأحدهما دون الآخَر ، ولِذا وجب التَّوَقُّف حتى يَظْهَر مُرَجِّح .
مناقَشة هذا الدليل :
وأَرَى أنّ هذا التَّوَقُّف وهذا الدليل مردود بوجْهيْن :(1/195)
الوجه الأول : أنّ التَّوَقُّف فيه إبطال أو تَرْك العمل بالدليليْن ولو مُؤَقَّتاً حتى يَظْهَر المُرَجِّح ، وهو خلاف الأَوْلى .
الوجه الثاني : لا نُسَلِّم عدم وجود المُرَجِّح كما ادَّعَيْتُمْ ، بلْ ثَبَت بالأدلّةِ العملُ بهما كما تَقَدَّم في أدلّة المذهب الأول .
أدلّة المذهب الرابع :
وأَرَى أنّ الآمدي ـ رحمه الله تعالى ـ خالَف الجمهور في قوْليْن :
الأول : التَّوَقُّف في تخصيص العموم المُتَنَاوِل لِلأُمَّة .
واسْتَدَلّ لِذلك بدليل ، مفاده : أنّ دليل وجوب التَّأَسِّي واتِّباع النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -
(1) يُرَاجَع : العدّة 2/578 والتمهيد لِلكلوذاني 2/117 والواضح 3/395 ، 396
إنّما هو بدليل عامّ لِلأُمَّة ، وهو مُسَاوٍ لِلعموم الآخَر في عمومه ، وليس العمل بأحدهما وإبطال الآخَر أَوْلى مِن العكس .
مناقَشة هذا الدليل :
وأَرَى أنّ هذا الدليل مردود : بأنّ دليل وجوب التَّأَسِّي في قوله تعالى { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة } (1) وقوله تعالى { وَمَا ءَاتَكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } (2) يُلْزِمنا بالعمل بسُنَّته قوليّةً كانت أم فِعْلِيّةً ، والتَّوَقُّف في العمل بهذا الدليل مُخالَفة لِتلك الأوامر وإيقاع في المحظور ، والحال كذلك في التَّوَقُّف في العموم ، ولِذا كان العمل بهما هو الأَوْلى ، ولا يَتَحَقَّق ذلك إلا بالقول بتخصيص العموم مُطْلَقاً بفعله - صلى الله عليه وسلم - .
الثاني : النسخ في تخصيص العموم المُتَنَاوِل له - صلى الله عليه وسلم - ولأُمّته إنْ قُلْنَا بوجوب التَّأَسِّي به - صلى الله عليه وسلم - .
وإليه ذهب بعض الحنفيّة .(1/196)
واحْتَجّوا لِذلك : بأنّ فِعْل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - المُعارِض لِلعموم يُعَدّ رافعاً لِلحُكْم في حقّه - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك الحُكْم في حقّ غيْره ؛ لِوجوب التَّأَسِّي به - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يَكون ذلك تخصيصاً ، بلْ نسخاً لِحُكْم العموم مُطْلَقاً (3) .
مناقَشة هذا الدليل :
ويُمْكِن مناقَشة هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ فِعْل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يَكون نسخاً لِحُكْم العموم إنْ كان رافعاً لِحُكْمه كُلّه ، أمّا إنْ كان رافعاً لِبعضه فلا يُسَمَّى " نسخاً " على الراجح عندي ؛ لأنّ النسخ رَفْع لِلحُكْم وليس لِبعضه كما ذهب بعض
(1) سورة الأحزاب مِن الآية 21
(2) سورة الحشر مِن الآية 7
(3) يُرَاجَع : الإحكام لِلآمدي 2/329 - 331 وفواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/354
الحنفيّة (1) .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم في تخصيص العموم بفعل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - اتَّضَح لنا أنّ المذهب الأول القائل بجوازه هو الأَوْلى بالقبول والترجيح ؛ لِمَا يلي :
1- قوّة حُجَّته ، وسلامة أدلّته مِن المناقَشة والاعتراض .
2- عدم سلامة أدلّة المذاهب الأخرى مِن الاعتراض ... والمناقَشة .
3- أنّ القول به فيه جَمْع بَيْن الأدلّة وإعمال لها ، وما عَدَاه فيه إهمال لها أو لأحدها ، والإعمال أَوْلى مِن الإهمال .
(1) يُرَاجَع فواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/354
المطلب الثاني
التخصيص بالإجماع (1)
والحديث في هذا المطلب يُمْكِن تقسيمه إلى قِسْمَيْن :
الأول : مذاهب الأصوليّين في تخصيص عموم الكتاب والسُّنَّة بالإجماع .
الثاني : أدلّتهم ، مع الترجيح .
ونُفَصِّل القول في كُلّ واحد منهما فيما يلي :
أوّلاً - مذاهب الأصوليّين في تخصيص عموم الكتاب والسُّنَّة بالإجماع :(1/197)
الكثرة مِن الأصوليّين وأَغْلَب ما اطَّلَعْتُ عليه مِن مَراجعهم لم يَجْعَلوا في المسألة خلافاً ، فصَرَّحوا بجواز تخصيص العموم بالإجماع دون الإشارة أو التنويه إلى وجود مذهب مُقابِل لا يُجَوِّزه (2) .
وقدْ نَصّ الآمدي ـ رحمه الله تعالى ـ على نَفْي الخلاف صراحةً بقوله :" لا أَعْرِف خلافاً في تخصيص القرآن والسُّنَّة بالإجماع " ا.هـ (3) .
وهناك قِلّة مِن الأصوليّين مَن جَعَل في المسألة خلافاً ، منهم الكلوذاني ـ رحمه الله تعالى ـ في قوله :" مسألة : يجوز تخصيص العموم بالإجماع
(1) وهو لغةً : العزم التّامّ على الشيء ، أو الاتِّفاق عليه .. انظر الكُلِّيّات /42
واصطلاحاً : اتِّفاق مُجْتَهِدي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بَعْد وفاته في حادثة على أمْر مِن الأمور في عَصْر مِن الأعصار .. البحر المحيط 4/436
(2) يُرَاجَع : اللُّمَع /20 والمستصفى /245 والفصول في الأصول 1/146 والعدّة 2/578 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/150 وقواطع الأدلّة 1/378 ومُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/352 والمسوّدة /126 وروضة الناظر 2/724 وشَرْح طلعة الشمس 1/156 ، 157 وإرشاد الفحول /160 ، 161
(3) الإحكام 2/327
وقال بعضهم : لا يجوز " ا.هـ (1) .
وأَوْرَد السالمي أنّ الذي لا يُجَوِّز تخصيص العامّ بالإجماع هو الذي لا يَجْعَل الإجماع حُجّة (2) .
ومِمَّا تَقَدَّم يُمْكِن حَصْر مذاهب الأصوليّين في تخصيص عموم الكتاب والسُّنَّة بالإجماع في مذْهبيْن :
المذهب الأول : جواز تخصيص العامّ بالإجماع .
وهو ما عليه الجمهور ، وذَكَر الآمدي أنّه لا خلاف فيه (3) ، وأَوْرَد الزركشي الإجماع عليه (4) .
المذهب الثاني : عدم جواز تخصيص العامّ بالإجماع .
وهو مذهب لم يَذْكُرْه الكثرة مِن الأصوليّين ، وقِلّة قليلة أشارت إليه دون نِسْبته لِقائل أو صاحِب .
ولِذا .. فالمذاهب في هذه المسألة مذهبان فقط ، وكَفّتهما غيْر متكافِئة .(1/198)
ثانياً – أدلّة المذاهب مع الترجيح :
أدلّة المذهب الأول :
اسْتَدَلّ القائلون بجواز التخصيص بالإجماع بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ الإجماع حُجّة ودليل قاطِع لا يُمْكِن الخطأ فيه ، والعامّ يَتَطَرَّق إليه الاحتمال غيْر قاطِع في آحاد مسمَّياته ..
فإذا قَضَى الإجماع بخلاف العموم في بعض الصور عَلِمْنَا أنّهم ما فَعَلوا ذلك إلا لِدليل مُخَصِّص اطَّلَعوا عليه ؛ نفياً لِلخطأ عنهم ، وإلا كان
(1) التمهيد 2/117 ويُرَاجَع المسوّدة /126
(2) يُرَاجَع شَرْح طلعة الشمس 1/157
(3) الإحكام 2/327
(4) البحر المحيط 3/362
إجماعهم باطلاً وليس حُجّةً ، وهو مردود .
وعلى ما تَقَدَّم يَكون معنى التخصيص بالإجماع : أنّ الإجماع مُعَرِّف ومُظْهِر لِلدليل المُخَصِّص ، لا أنّه هو المُخَصِّص (1) .
الدليل الثاني : أنّ تخصيص عموم الكتاب والسُّنَّة بالإجماع لو لم يَكُنْ جائزاً لَمَا وَقَع ، لكنّه وَقَع ، فدَلّ ذلك على جواز تخصيص عموم الكتاب والسُّنَّة بالإجماع .
أمّا أدلّة الوقوع في الكتاب والسُّنَّة فأَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَنِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَدَةً أَبَدًا وَأُولَئكَ هُمُ الْفَسِقُون } (2) ؛ فالحُكْم في هذه الآية وجوب جَلْد القاذف ثمانين جَلْدَةً ، وهو عامّ في كُلّ قاذِف ، حُرّاً كان أم عبداً ، لكنّ الإجماع خَصَّص هذا العموم وقَصَره على الحُرّ ، وجَعَل حَدّ العبد القاذف أربعين جَلْدة (3) .(1/199)
الدليل الثاني : قوله تعالى { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا أَن يَنكِحُ الْمُحْصَنَتِ الْمُؤْمِنَتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَنُكُم مِّن فَتَيَتِكُمُ الْمُؤْمِنَت ... } (4) الآية ؛ فالحُكْم في هذه الآية أباح الزواج مِن الإماء المُؤْمِنَات إذا لم يَسْتَطِعْ نكاح المُحْصَنات ، وهذا عامّ في كُلّ أَمَة مُؤْمِنة ، لكنّ الإجماع خَصَّص هذا العموم وقَصَره على غيْر الأخت مِن الرضاعة ونَحْوها مِن موطوآت
(1) الإحكام لِلآمدي 2/327 بتصرف ويُرَاجَع : المستصفى /245 ، 246 وفواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/352
(2) سورة النور الآية 4
(3) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/150 والإحكام لِلآمدي 2/327 وشَرْح طلعة الشمس 1/157
(4) سورة النساء مِن الآية 25
الآباء والأبناء (1) .
الدليل الثالث : قوله تعالى { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنثَيَيْن } (2) ؛ فالحُكْم في هذه الآية وجوب إعطاء أولاد الميت مِن التركة لِلذَّكَر ضِعْف الأنثى ، وهو عامّ في كُلّ ولد له ، حُرّاً كان أم عبداً ، لكنّ الإجماع خَصَّص هذا العموم وقَصَره على الحُرّ دون العبد (3) .
الدليل الرابع : قوله تعالى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة } (4) ؛ فالحُكْم هُنَا وجوب جَلْد الزانية والزاني مائة جَلْدة ، وهو عامّ في كُلّ زانية وزانٍ ، حُرّاً كان أم عبداً ، مُحْصَناً كان أم غيْر مُحْصَن ، لكنّه خُصّ بالرجم وبقي عمومه لِلْحُرّ والعبد ، ثُمّ خُصّ بالإماء بالجَلْد الخمسين بقوله تعالى { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَتِ مِنَ الْعَذَاب } (5) ولم يَذْكُر العبد ، لكنّ الإجماع على أنّ العبد يُجْلَد خمسين تخصيصاً لِعموم الآية (6) .(1/200)
الدليل الخامس : قوله - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْء } (7) ؛ فالحُكْم هُنَا طهارة الماء وعدم نجاسته مِن أيّ شيء وَقَع فيه ، وهو عامّ في كُلّ ماء وفي أيّ شيء وَقَع فيه ، لكنّه خُصِّص بالإجماع السكوتي على نَزْح
(1) يُرَاجَع شَرْح تنقيح الفصول /202
(2) سورة النساء مِن الآية 11
(3) يُرَاجَع قواطع الأدلّة 1/378 ، 379
(4) سورة النور مِن الآية 2
(5) سورة النساء مِن الآية 25
(6) يُرَاجَع الفصول في الأصول 1/146
(7) أَخْرَجه الترمذي في كتاب الطهارة عن رسول الله : باب ما جاء أنّ الماء لا يُنَجِّسه شيء برقم ( 61 ) والنسائي في كتاب المياه : باب ذِكْر بئر بضاعة برقم ( 324 ) وأبو داود في كتاب الطهارة باب ما جاء في بئر بضاعة برقم ( 60 ) ، كُلّهم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - .
ماء زمزم حين وَقَع فيه الزنجي (1) .
اعتراض على الاستدلال بتخصيص عموم الكتاب والسُّنَّة بالإجماع :
وقدْ اعْتُرِض على الاستدلال بهذه الأدلّة المُتَقَدِّمة ونَحْوها مِن كُلّ ما فيه تخصيص لِعموم الكتاب أو السُّنَّة بالإجماع : بأنّ الكتاب والسُّنَّة المتواترة موجودان في عَصْره - صلى الله عليه وسلم - مشهوران ، وانعقاد الإجماع بَعْد ذلك على خلافهما خطأ ، وفي عَصْره - صلى الله عليه وسلم - لا يَنْعَقِد ، ولِذا لا يَتَأَتَّى ولا يجوز تخصيص عمومهما بالإجماع .
الجواب عن هذا الاعتراض :
وقدْ رُدّ هذا الاعتراض : بأنّا لم نَقُلْ " إنّ الإجماع هو الذي خَصَّص عموم الكتاب والسُّنَّة " حتى يَرِد ما ادَّعَيْتُمْ ، وإنّما الإجماع على التخصيص ، ومعناه أنّ العلماء لم يَخُصّوا العامّ بنَفْس الإجماع ، وإنّما أَجْمَعوا على تخصيصه بدليل آخَر ، ثُمّ إنّ الآتي بَعْدهمْ يَلْزَمه مُتابَعتهم وإنْ لم يَعرف المُخَصِّص (2) .
أدلّة المذهب الثاني :(1/201)
اسْتَدَلّ القائلون بعدم جواز تخصيص عموم الكتاب والسُّنَّة بالإجماع بدليل واحد ، أَوْرَده الباحث ، وهو : أنّ الأُمَّة أَجْمَعَتْ على أنّ الإجماع لا يجوز أنْ يَنْسَخ الحُكْم الوارد في الكتاب أو السُّنَّة ، والنسخ رَفْع لِلحُكْم كُلّه ، فكذلك العموم الوراد فيهما لا يجوز أنْ يُخَصَّص بالإجماع ؛ لأنّ التخصيص قَصْر العامّ على بعض أفراده ، وهو رَفْع لِبعض الحُكْم العامّ ، وإذا مَنَعْنَا الرفع الكُلِّيّ بالإجماع فمِن باب أَوْلى مَنَعْنَا الرفع الجزئيّ به ، فامْتَنَع تخصيص عمومهما بالإجماع ، وهو المُدَّعَى .
(1) يُرَاجَع فواتح الرحموت 1/352
(2) يُرَاجَع : نهاية السول 2/120 والإحكام لِلآمدي 2/327
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ الإجماع إنّما يَنْعَقِد بَعْد وفاة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، والنسخ لا يَكون إلا في عصْره - صلى الله عليه وسلم - ، ولِذا فلا يجوز بَعْد وفاة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَرْتَفِع الحُكْم الذي ثبت في حياته - صلى الله عليه وسلم - ، فالإجماع لا يَكون ناسخاً .
الوجه الثاني : أنّكم جَمَعْتُمْ بَيْن النسخ والإجماع مِن غيْر عِلّة ، فالتخصيص يُبَيِّن المراد باللفظ عندما يَقْتَرِن به دليل يُخْرِج منه ما ليس مراداً ، فإذا انْعَقَد الإجماع على تخصيصه عُلِم أنّ المراد بذلك اللفظِ العامِّ البعضُ ، بخلاف النسخ ؛ فإنّه رَفْع الحُكْم الثابت (1) .
والراجح عندي : ما عليه المذهب الأول القائل بجواز تخصيص عموم الكتاب والسُّنَّة بالإجماع ؛ لِمَا يلي :
1- أنّ الإجماع يُحْكَى فيه كما ذَكَر الزركشي رحمه الله تعالى (2) أو كما عَبَّر الآمدي رحمه الله تعالى (3) " لا أَعْلَم فيه خلافاً " .
2- قوّة أدلّته ، خاصّةً النَّقْلِيّة التي هي دليل الوقوع ، وهو خيْر دليل على الجواز ، مع سلامة هذه الأدلّة مِن المناقَشة والاعتراض .(1/202)
3- قِلّة القائلين بالمذهب الثاني ، وضَعْف حُجّتهم ووجْهَتهم ، وعدم سلامة دليلهم مِن المناقَشة .
4- أنّ الإجماع ـ كما قال الغزالي رحمه الله تعالى ـ " أَقْوَى مِن النَّصّ الخاصّ ؛ لأنّ النَّصّ الخاصّ مُحْتَمَل نَسْخه ، والإجماع لا يُنْسَخ ؛ فإنّه إنّما يَنْعَقِد بَعْد انقطاع الوحي " ا.هـ (4) .
(1) يُرَاجَع : التمهيد لِلكلوذاني 2/118 والعدّة 2/578 والإحكام لِلآمدي 2/327
(2) يُرَاجَع البحر المحيط 3/363
(3) يُرَاجَع الإحكام 2/327
(4) المستصفى /246
المطلب الثالث
التخصيص بالقياس (1)
والحديث في هذا المطلب يُمْكِن تقسيمه على النحو التالي :
1- تحرير محلّ النزاع .
2- مذاهب الأصوليّين .
3- أدلّة المذاهب مع الترجيح .
وفيما يلي نُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها :
أوّلاً – تحرير محلّ النزاع :
لقدْ وَقَفْتُ على أقوال لِبعض الأصوليّين في ذلك ، أَذْكُر منها ما يلي :
القول الأول : لِلغزالي رحمه الله تعالى ..
وفيه يقول :" فالذاهبون إلى أنّ العموم حُجّة لو انْفَرَد والقياس حُجّة لو انْفَرَد اخْتَلَفوا فيه " ا.هـ (2) .
القول الثاني : لِلآمدي رحمه الله تعالى ..
وفيه يقول :" القائلون بكَوْن العموم والقياس حُجّة اخْتَلَفوا في جواز تخصيص العموم بالقياس " ا.هـ (3) .
(1) وهو لغةً : المساواة والتقدير ؛ يقال " قاس النعل " إذا قَدَّره ، ويُسْتَعْمَل في التشبيه ؛ يقال " هذا قياس ذاك " إذا كان بَيْنهما مُشابَهة .. الكُلِّيَّات /713 ويُراَجَع مختار الصحاح /581 ، 582
كما يُطْلَق على حَمْل الشيء على نظيره .. المعجم الوجيز /522 ، 523
كما يُسْتَعْمَل في التسوية بَيْن الشَّيْئَيْن .. لسان العرب مادة ( قوس ) .
واصطلاحاً : مساواة فَرْع لأصْل في عِلّة حُكْمه .. مختصر المنتهى مع بيان المختصر 3/5
(2) المستصفى /249
(3) الإحكام 2/337
القول الثالث : لِلشيخ أبي حامد الاسفراييني رحمه الله تعالى ..(1/203)
وفيه يقول :" القياس إنْ كان جليّاً ـ مِثْل : قوله تعالى { فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفّ } (1) ـ جاز التخصيص به بالإجماع " ا.هـ (2) .
القول الرابع : لِلزركشي رحمه الله تعالى ..
وفيه يقول :" فإنّ بعض أنواع القياس يجب تقديمه على عموم النَّصّ ، وهو ما إذا كان حُكْم الأصل الذي يَسْتَنِد إليه حُكْم الفرع مقطوعاً به وعِلّته منصوصةً أو مُجْمَعاً عليها مع تَصادُفهما في الشرع مِن غيْر صارِف قَطْعاً فهذا النّوع مِن القياس لا يُتَصَوَّر الخلاف فيه في أنّه يُخَصَّص به عموم النَّصّ " ا.هـ (3) .
وأَرَى أنّ القوْليْن الثالث والرابع لَيْسَا محلّ اتِّفاق عند الأصوليّين ، بل النزاع شامِل لهما ، ولِذا يُمْكِن حَصْر محلّ النزاع عند القائلين بأنّ العموم والقياس حُجّة ، وهؤلاء هم الذين اخْتَلَفوا في جواز تخصيص العموم بالقياس ، أمّا النّافين لها فلا يُجَوِّزونه ؛ لِعدم حُجِّيَّتهما عندهم .
ثانياً – مذاهب الأصوليّين في تخصيص العموم بالقياس :
لقدْ تَفَاوَت الأصوليّون في حَصْرهم لِمذاهب الأصوليّين في تخصيص العموم بالقياس ..
فمنهم مَن حَصَرها في ثلاثة : كالباجي (4) رحمه الله تعالى .
ومنهم مَن حَصَرها في أربعة : كالشيرازي (5) والكلوذاني (6) وابن
(1) سورة الإسراء مِن الآية 23
(2) البحر المحيط 3/372 ، 373
(3) البحر المحيط 3/375
(4) إحكام الفصول /265
(5) اللُّمَع /20
(6) التمهيد 2/120
السمعاني (1) رحمهم الله تعالى .
ومنهم مَن حَصَرها في سِتّة : كالغزالي (2) وابن الحاجب (3) رحمهما الله تعالى .
ومنهم مَن حَصَرها في سبعة : كالآمدي (4) والأصفهاني (5) رحمهما الله تعالى .
ومنهم مَن حَصَرها في ثمانية : كالقرافي (6) والأنصاري (7) رحمهما الله تعالى .
ومنهم مَن حَصَرها في عشرة : كالزركشي (8) رحمه الله تعالى .
ونَسْتَعْرِض فيما يلي هذه المذاهب :
المذهب الأول : جواز تخصيص العموم بالقياس .(1/204)
وهو ما عليه الجمهور ، واختاره الشيرازي (9) والباجي (10) وأبو يعلى رحمهم الله تعالى (11) ، وهو قول الأئمّة الأربعة - رضي الله عنهم - والأشعري (12)
(1) القواطع 1/386
(2) المستصفى /249
(3) مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/153
(4) الإحكام 2/337
(5) شَرْح المنهاج 1/415
(6) شَرْح تنقيح الفصول /203
(7) مُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/357
(8) البحر المحيط 3/369 - 374
(9) اللُّمَع /20
(10) إحكام الفصول /365
(11) العدّة 2/559
(12) أبو الحَسَن الأشعري : هو علِيّ بن إسماعيل بن أبي بِشْر إسحاق بن سالم البصري رحمه الله تعالى ، كان إماماً مِن فحول المعتزلة ثُمّ تَحَوَّل إلى أهْل السُّنَّة ، وُلِد بالبصرة سَنَة 260 هـ ..
مِن مصنَّفاته : مقالات الإسلاميّين ، الموجَز ، إيضاح البرهان . =
وأبي هاشم (1) وأبي الحسين البصري (2) رحمهم الله تعالى .
المذهب الثاني : عدم جواز تخصيص العموم بالقياس .
وهو قول الجبائي (3) وكثير مِن المعتزلة وبعض الفقهاء والمُتَكَلِّمين (4) وبعض الحنابلة (5) .
المذهب الثالث : جواز تخصيص العموم الذي دَخَله التخصيص .
وهو مذهب الحنفيّة (6) .
وهذا المذهب نَسَبه ابن السمعاني لابن أبّان ـ رحمهما الله تعالى ـ والحنفيّة (7) .
= تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 324 هـ .
شذرات الذهب 2/303 والفتح المبين 1/185 - 187
(1) أبو هاشم الجبائي : هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي المعتزلي رحمه الله تعالى ..
مِن مصنَّفاته : الجامع الكبير ، الأبواب الكبير .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 321 هـ .
الفتح المبين 1/183 ، 184
(2) يُرَاجَع : مختصر الروضة مع شَرْح العضد 2/153 والبحر المحيط 3/369 ومُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/357 والإحكام لِلآمدي 2/377 وإرشاد الفحول /159(1/205)
(3) أبو علِيّ الجبائي : هو أبو علِيّ محمد بن عبد الوهاب بن سلامة الجبائي رحمه الله تعالى ، أحد أئمّة المعتزلة ، وُلِد سَنَة 235 هـ ، له مقالات وآراء انفرَد بها في المذهب ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 303 هـ .
البداية والنهاية 11/125 والأعلام 7/136 والنجوم الزاهرة 3/189
(4) يُرَاجَع : شَرْح تنقيح الفصول /203 والمستصفى /249 وقواطع الأدلّة 1/386 ، 387 واللُّمَع /20 والإحكام لِلآمدي 2/337
(5) يُرَاجَع : نهاية السول 2/125 والتمهيد لِلكلوذاني 2/120 والمسوّدة /119
(6) يُرَاجَع : مُسَلَّم الثبوت 1/357 وتيسير التحرير 1/321 وكَشْف الأسرار لِلبخاري 1/294 وأصول السرخسي 1/142
(7) القواطع 1/386
وهناك مِن الأصوليّين مَن أَوْرَد عن الحنفيّة مذْهبيْن :
الأول : الجواز إنْ خُصّ العامّ بدليل قَطْعِيّ .
وهو قول عيسى بن أبّان رحمه الله تعالى .
الثاني : الجواز إنْ خُصّ العامّ بدليل مُنْفَصِل .
وهو قول الكرخي رحمه الله تعالى (1) .
وهناك مِن الأصوليّين مَن جَمَع المذْهبيْن المُتَقَدِّمَيْن في مذهب واحد وأضاف مذهباً ثانياً ، وهو : جواز تخصيص العموم بالقياس إنْ كان أصْل القياس مِن الصور التي خُصَّت عن العموم دون غيْره ، ونَسَبه إلى جماعة منهم الحنفيّة (2) .
وهذه الإيرادات السابقة لِلمذاهب في هذا المقام عند غيْر الحنفيّة قدْ يُوهِم ظاهِرها أنّ رأْي الحنفيّة في هذه المسألة مُنْحَصِر في رأْيَيْن هُمَا مذهب ابن أبّان ومذهب الكرخي رحمهما الله تعالى .
وأَرَى أنّ الواقع عند الحنفيّة خلاف ذلك ؛ لِمَا يلي :
1- أنّ بعض الأصوليّين مِن غيْر الحنفيّة أَوْرَد مذهباً واحداً لِلحنفيّة ، وهو : جواز تخصيص العموم بالقياس إنْ دَخَله التخصيص (3) ، ومنهم مَن نَسَبه إلى عيسى بن أبّان وقال : وهو المختار عند الحنفيّة (4) .(1/206)
2- أنّ المذاهب الثلاثة المنسوبة إلى الحنفيّة أَرَى أنّها تَلْتَقِي في شَرْط واحد وبَيْنَها عامِل مُشْتَرَك ، وهو : أنْ يَكون العامّ قدْ دَخَله التخصيص ، فإذا لم يَدْخُلْه التخصيص فلا يُخَصِّصه القياس ..
(1) يُرَاجَع : شَرْح تنقيح الفصول /203 وشَرْح المنهاج 1/415 والبحر المحيط 3/371 وإرشاد الفحول /159
(2) يُرَاجَع الإحكام لِلآمدي 2/337
(3) يُرَاجَع التمهيد لِلكلوذاني 2/120
(4) يُرَاجَع شَرْح المنهاج 1/415
ثُمّ اخْتَلَفوا ـ كعادتهم ـ في التخصيص بالدليل القَطْعِيّ والمُتَّصِل والمُنْفَصِل .
3- أنّ مَرَاجع الحنفيّة ـ فيما وَقَفْتُ عليه منها ـ تَشْتَرِط لِتخصيص العموم بالقياس أنْ يَكون قدْ سَبَقه التخصيص ..
وفي ذلك يقول السرخسي رحمه الله تعالى :" ثُمّ الجواب على ما اختاره أَكْثَر مشايخنا رحمهم الله : أنّ تخصيص العامّ الذي لم يثبت خصوصه ابتداءً لا يجوز بالقياس وخبر الواحد ، وإنّما يجوز ذلك في العامّ الذي ثبت خصوصه بدليل مُوجِب مِن الحُكْم " ا.هـ (1) .
ويقول الكراماستي رحمه الله :" والعامّ المخصوص بالكلام المُسْتَقِلّ يفيد ظَنِّيّاً عندنا ، فيجوز تخصيصه عندنا بخبر الواحد والقياس " ا.هـ (2) .
ويقول النسفي رحمه الله تعالى :" ولا يجوز تخصيص قوله تعالى { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْه } (3) { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنا } (4) بالقياس وخبر الواحد ؛ لأنّهما ليسَا بمخصوصيْن " ا.هـ (5) .
وعلى ضوء ما تَقَدَّم فإنّي اكْتَفَيْتُ بما عليه جمهرة الحنفيّة وما اشْتَرَطه جميعهم مِن سَبْق تخصيص العامّ حتى يُخَصِّصه القياس ، واعْتَبَرْتُه مذهباً واحداً ، مع الإشارة إلى العلاقة بَيْن المذاهب المنسوبة إلى الحنفيّة عند غيْرهم ، وتحقيق القول في ذلك كما تَقَدَّم ، وأسأله تعالى أنْ أَكون قدْ حَقَّقْتُ الغاية مِن ذلك أو قارَبْتُها .
(1) أصول السرخسي 1/142(1/207)
(2) الوجيز في أصول الفقه /21
(3) سورة الأنعام مِن الآية 121
(4) سورة آل عمران مِن الآية 97
(5) المنار مع حاشية نسمات الأسحار /70 ، 71 ويُرَاجَع : التوضيح مع التلويح 1/79 - 81 وفَتْح الغفّار 1/90 ومُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/357 وتيسير التحرير 1/322 وأصول =
المذهب الرابع : جواز تخصيص العموم بالقياس الجليّ .
وهو قول ابن سريج والاصطخري رحمهما الله وبعض الشّافعيّة (1) ..
ونَسَبه الباجي إلى الجبائي رحمهما الله تعالى (2) ، وفيها نظر ؛ لأنّه يقول بعدم الجواز مُطْلَقاً ، سواء أكان القياس جَلِيّاً أم خفيّاً .
كما نَسَبه الغزالي إلى قَوْم (3) ، ولكنّ الكثرة على أنّه قول ابن سريج ، وهناك مَن نَسَبه إلى الاصطخري وبعض الشّافعيّة كما تَقَدَّم .
المذهب الخامس : الوقف .
وهو قول القاضي أبي بَكْر الباقلاّني رحمه الله تعالى ، واختاره إمام الحرميْن رحمه الله تعالى (4) والغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ في " المنخول " (5) .
المذهب السادس : جواز تخصيص العموم بالقياس الذي ثَبَتَتْ عِلّته بنَصّ أو إجماع .
وهو اختيار ابن الحاجب والآمدي رحمهما الله تعالى (6) .
المذهب السابع : الوقف عند تَعادُل العموم والقياس ، وعند التفاوت رجح الأقوى .
= الشاشي /26
(1) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/153 وشَرْح تنقيح الفصول /203 والإحكام لِلآمدي 2/337 ، 338 والبحر المحيط 3/369 ، 370 والتمهيد لِلكلوذاني 2/120 ، 121 وشَرْح المنهاج 1/415
(2) يُرَاجَع إحكام الفصول /265
(3) المستصفى /249
(4) يُرَاجَع : شَرْح المنهاج 1/415 وشَرْح تنقيح الفصول /203 والإحكام لِلآمدي 2/337 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/153 والبرهان 1/428 والبحر المحيط 3/373
(5) المنخول /175 ويُرَاجَع البحر المحيط 3/373
(6) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/153 والإحكام لِلآمدي 2/337
وهو اختيار الغزالي رحمه الله تعالى (1) .(1/208)
المذهب الثامن : الجواز إنْ كان أصْل القياس مُخرجاً مِن ذلك العموم .
المذهب التاسع : الجواز إنْ كان الأصل المقيس عليه مُخرجاً مِن غيْر ذلك العموم .
وهذان المذهبان ذَكَرهما الزركشي رحمه الله تعالى ـ وقال :" وهذا يُخرج مِن كلام إمام الحرميْن رحمه الله تعالى " ا.هـ (2) .
ونَظَراً لأنّ المذْهبيْن الثامن والتاسع لم يَبْلُغَا حَدّ الشهرة عند الأصوليّين كما بَلَغَت التي قَبْلَهما ، إضافةً إلى أنّه لم يُعْرَف لهما قائل ؛ لِذا فسأكتفي ـ بإذْن الله ـ بدراسة أدلّة المذاهب السبعة دونهما .
ثالثاً – أدلّة المذاهب مع الترجيح :
أدلّة المذهب الأول :
اسْتَدَلّ أصحاب المذهب الأول ـ القائلون بجواز تخصيص العموم بالقياس ـ بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فِاجْلِدُوا كُلَّ وَحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة } (3) ..
وجْه الدلالة : أنّ الله تعالى أَوْجَب علينا جَلْد كُلّ زانٍ وزانية مائة جَلْدَة وهذا حُكْم عامّ في الحُرّ والعبد ، لكنّ الصحابة - رضي الله عنهم - أَجْمَعوا على أنّ حدّ العبدِ الجَلْدُ خمسين جَلْدَةً ؛ لأنّه نِصْف الحُرّ ؛ قياساً على الأَمَة في قوله تعالى { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَتِ مِنَ الْعَذَاب } (4) ، والعبد كالأَمَة
(1) يُرَاجَع : المستصفى /249 ، 250 وشَرْح تنقيح الفصول /203 وشَرْح المنهاج 1/415 والبحر المحيط 3/369 ، 370 ومُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/357
(2) يُرَاجَع : البحر المحيط 3/374 وإرشاد الفحول /159 ومُسَلَّم الثبوت 1/357
(3) سورة النور مِن الآية 2
(4) سورة النساء مِن الآية 25
في الرِّقّ ، فوَجَب أنْ يَكون حَدّه نِصْف حدّ الحُرّ ، فدَلّ ذلك على جواز تخصيص العموم بالقياس .(1/209)
الدليل الثاني : قوله تعالى { إِنِ امْرُؤٌا هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَد } (1) ..
وجْه الدلالة : أنّ الله عَزّ وجَلّ أَوْجَب لِلأخت التي مات أخوها وليس له ولد نِصْفَ تَرِكَته ، وهو يَرِث تَرِكَتَها كاملةً إذا ماتت وليس لها ولد ، وهو حُكْم عامّ في كُلّ أخ أو أخت بهذا الشرط ، سواء كان له جدّ أم لا ، لكنّ الصحابة - رضي الله عنهم - خَصَّصوا هذا العموم بتوريث الجدّ : إمّا قياساً على الأب ففي هذه الحالة لا يرث الإخوة والأخوات ؛ لأنّهم محجوبون بالأب فكذلك الجدّ ؛ لاتِّفاقهما في العِلّة ، وهي : أنّ كُلّ واحد منهما أصْل مع تَفاوُت القوّة ..
ومنهم مَن أَشْرَك الجدّ مع الإخوة ؛ قياساً على الأخوة بجامع الاتِّصال بالأب في كُلٍّ ، وهذا قياس شَبَه (2) ، أيْ ليس القياس جَلِيّاً .
فدَلّ ذلك على جواز تخصيص العموم بالقياس ، جَلِيّاً كان أم خَفِيّاً (3) .
الدليل الثالث : أنّ القياس دليل شَرْعِيّ ، والعموم دليل شَرْعِيّ ، وقدْ تَعَارَضَا ، ولإزالة هذا التعارض فإمّا أنْ يعمل بهما معاً فيَجْتَمِع النقيضان ، أو لا يعمل بهما فيَرْتَفِع النقيضان ، أو يعمل بالعامّ وحْده أو بالقياس وحْده ..
أمّا تَرْك العمل بهما أو العمل بواحد منهما فمردود ؛ لأنّ فيه إهمال
(1) سورة النساء مِن الآية 176
(2) قياس الشَّبَه هو : إلحاق فَرْع بأصْل لِجامع يُشْبِهه فيه ، نَحْو : إلحاق العبد بالحُرّ في بعض الأحكام لِشَبَهه به في جُمَل مِن الأحكام .. التلخيص 3/235 ، 236 بتصرف ويُرَاجَع الإحكام لِلآمدي 3/271
(3) يُرَاجَع : التمهيد 2/122 ، 123 وشَرْح طلعة الشمس 1/109
لِلدّليليْن أو أحدهما ، ولِذا لم يَبْقَ إلا إعمال الدليليْن ولو مِن وجْه أَوْلى ، وهذا مُتَحَقِّق في تخصيص العامّ بالقياس (1) .
أدلّة المذهب الثاني :(1/210)
اسْتَدَلّ أصحاب المذهب الثاني ـ المانعون لِتخصيص العموم بالقياس ـ بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : حديث معاذ - رضي الله عنه - (2) أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال عندما بَعَثه إلى اليَمَن { بِمَ تَقْضِي } قال :" بِكِتَابِ اللَّه " ، قال { فَإِنْ لَمْ تَجِد } قال :" بِسُنَّة رَسُولِه " ، قال { فَإِنْ لَمْ تَجِد } قال :" أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلاَ آلُو " ، فقال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِهِ لِمَا يَرْضَاهُ رَسُولُه } (3) ..
وجْه الدلالة : أنّ معاذ بن جبل - رضي الله عنه - رَتَّب في جوابه الأدلّة التي يَسْتَقِي منها الأحكام ويَقْضِي بها : الكتاب أوّلاً ، ثُمّ السُّنَّة ، ثُمّ القياس ، فأَقَرّه النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ، فدَلّ ذلك على وجوب تقديم النَّصّ على القياس ، ولا يعمل بالقياس إلا عند عدم النَّصّ ، ولا عِبْرَة به عند وجوده ، وإذا كان كذلك كان العمل بالقياس وتخصيصه لِلعموم باطلاً وغيْر جائز ؛ لِمُخالَفته نَصّ الحديث .
(1) يُرَاجَع : قواطع الأدلّة 1/388 وشَرْح تنقيح الفصول /203 والتمهيد لِلكلوذاني 2/124 وشَرْح المنهاج 1/417
(2) معاذ بن جبل : هو أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الخزرجي الأنصاري - رضي الله عنه - ، إمام العلماء ، شَهِد العقبة شابّاً أمرد ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالأردن سَنَة 18 هـ .
حلية الأولياء 1/228 وسير أعلام النبلاء 1/443 وطبقات الفقهاء /27
(3) أَخْرَجه الترمذي في كتاب الأحكام عن رسول الله : باب ما جاء في القاضي كيْف يَقْضِي برقم ( 1249 ) وأبو داود في كتاب الأقضية : باب اجتهاد الرأي في القضاء برقم ( 3119 ) وأحمد في مُسْنَد الأنصار برقم ( 21000 ) .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :(1/211)
الوجه الأول : أنّا لا نُسَلِّم لكم أنّ الترتيب الوارد في الحديث لا يَمْنَع أنْ يُخَصِّص المُتَأَخِّرُ المُتَقَدِّمَ ؛ فقدْ أَخَّر السُّنَّة عن الكتاب مع جواز تخصيص السُّنَّة لِلكتاب اتِّفاقاً .
الوجه الثاني : أنّ الحديث ليس فيه ما يدلّ على امتناع تخصيص عموم النَّصّ بالقياس ، وإنّما غايته أنّه لا يَبْطُل النَّصّ بالقياس ، وأمّا العمل بهما جَمْعاً لِلدليليْن فلم يَمْنَعْه ، وهذا هو المُتَحَقِّق في تخصيص عموم النَّصّ بالقياس (1) .
الدليل الثاني : أنّ القياس فَرْع النصوص ، والعموم أصْل ، فلو قدّم القياس على النَّصّ لزم تقديم الفرع على الأصل أو إسقاطه به ، وهو باطِل ، ولِذا فلا يجوز تخصيص العموم بالقياس ، وهو المُدَّعَى .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّا لا نُسَلِّم لكم أنّ العمل بالقياس فيه تقديم لِلفرع على الأصل ؛ لأنّ النَّصّ الذي هو أصْل القياس غيْر النَّصّ المخصوص بالقياس ..
فحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - (2) المرويّ في الربا في الأشياء
(1) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/153 ، 154 وفواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/359 والعدّة 2/566 ، 567 والمستصفى /250
(2) عبادة بن الصامت : هو الصّحابيّ الجليل أبو الوليد عبادة بن الصامت الأنصاري الخزرجي - رضي الله عنه - شَهِد العَقَبة الأُولى والثانية ، وكان أحد النقباء ، وشَهِد المَشاهد كُلّها ، وهو أول مَن تَوَلَّى قضاء فلسطين .. =
السِّتَّة (1) هو أصْل القياس مَثَلاً ، والنَّصّ المخصوص هو الآية ، فما قُدِّم فَرْع على أصْل .
الوجه الثاني : أنّا عندما نُخَصِّص العموم بالقياس إنّما نَخُصّ به عموماً ليس بأصْل ، وإذا كان كذلك فلا يَكون تخصيص العموم به إسقاطاً لِلأصل بفَرْعه كما ادَّعَيْتُمْ (2) .(1/212)
الدليل الثالث : أنّ الدليل على وجوب العمل بالقياس إنّما هو الإجماع ، ولا إجماع على وجوب العمل به عند مُخالَفة القياس عمومَ الكتاب والسُّنَّة ؛ لِلخلاف فيه ، وإذا انْتَفَى الإجماع انْتَفَى دليل حُجِّيَّة القياس ، فلا يَصْلُح مُعارِضاً لِلعموم ، وإذا كان كذلك فلا يجوز تخصيص العموم بالقياس .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ دليلكم مَبْنِيّ على أنّ دليل القياسِ الإجماعُ ، وهو غيْر مُسَلَّم عندنا ؛ بلْ قدْ ثبت بغيْر الإجماع ، وإذا ثبت به ثَبَتَتْ أحكامه ضرورةً ، ومنها الجَمْع عند التَّعارُض ، فالخلاف فيه كأنّه خلاف الإجماع .
الوجه الثاني : أنّ العِلّة المُؤَثِّرة وهي المُعْتَبَرَة بالنَّصّ أو الإجماع ومُخَصِّص الأصل يرجعان إلى النَّصّ ، وهو : { حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ
= تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالرملة سَنَة 34 هـ .
أسد العابة 3/160 والإصابة 4/37
(1) ونصّ الحديث هو : { الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ ، وَالتَّمْرُ بالتَّمْرِ ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ ، مِثْلاً بِمِثْلٍ ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، يَدَاً بِيَدٍ ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدَاً بِيَد } .. أَخْرَجه مُسْلِم في كتاب المساقاة : باب الصرف وبَيْع الذهب بالورِق نقداً برقم ( 2970 ) والنسائي في كتاب البيوع : باب بَيْع الشعير بالشعير برقم ( 4484 ) وأحمد في باقي مُسْنَد الأنصار برقم ( 21626 ) .
(2) يُرَاجَع : المستصفى /249 ، 250 والتمهيد لِلكلوذاني 2/129 وشَرْح تنقيح الفصول /204
حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَة } (1) ، فإذا ثَبَتَت العِلِّيَّة في حقّ واحد ثَبَتَتْ في حقّ الجماعة بهذا النَّصّ ولزم تخصيص العامّ به وكان تخصيصاً بالنَّصّ لا بالقياس (2) .
أدلّة المذهب الثالث :(1/213)
اسْتَدَلّ الحنفيّة القائلون بجواز تخصيص القياس لِلعموم الذي سَبَق تخصيصه بأدلّة ، هي ذاتها أدلّتهم في تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد (3) .
ودليلهم في التخصيص بالقياس : أنّ العامّ الذي لم يَدْخُلْه الخصوص يَدُلّ على أنّه مُوجِب لِلحُكْم قَطْعاً ، فإنْ دَخَله التخصيص كان دالاًّ على أنّ الحُكْم ليس مُوجِباً لِمَا يَتَنَاوَله قَطْعاً ، وعند وجود القياس يتبيَّن ما هو المراد بصيغة العامّ المخصوص ؛ لأنّ ما أَوْجَبه القياس يحتمل أنْ يَكون في جملة ما تَنَاوَله دليل الخصوص ويحتمل أنْ يَكون في جملة ما تَنَاوَله صيغة العامّ ، وإذا تَسَاوَى الاحتمالان كان القياس مُرَجِّحاً لأحدهما ، ولِذا كان القياس مُفِيداً في تخصيص العامّ المخصوص ، فيجوز تخصيصه به (4) .
مناقَشة هذا الدليل :
وأَرَى مناقَشة هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ هذا الدليل مَبْنِيّ على مذهب الحنفيّة في دلالة العامّ ،
(1) سبق تخريجه .
(2) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 1/153 ، 154 ومُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/359
(3) يُرَاجَع مطلب تخصيص الكتاب بخبر الواحد ص 136
(4) يُرَاجَع : أصول السرخسي 1/142 وميزان الأصول /470 والفصول 1/211
وفيه قالوا : إنّ العامّ المُطْلَق قَطْعِيّ الدلالة على جميع أفراده (1) ..
وهو غيْر مُسَلَّم عندي ـ كما هو عند الجمهور ـ لأنّه ما مِن عامّ إلا ودَخَله الخصوص ، وهذه القاعدة تَجْعَل كُلّ عامّ مُطْلَق يَحْتَمِل التخصيص وهذا الاحتمال يَجْعَل دلالته ظَنِّيّة (2) .
الوجه الثاني : أنّ هذه التفرقة بَيْن عامّ سَبَق تخصيصه وعامّ لم يُخَصَّص وحَصْر تخصيص القياس في الأول دون الثاني يُؤَدِّي إلى إهمال أحد الدليليْن عند تَعارُضهما ، وإعمال الدليليْن ولو مِن وجْه أَوْلى ، وهذا لا يَتَحَقَّق إلا بالقول بجواز تخصيص القياس لِلعموم مُطْلَقاً .
أدلّة المذهب الرابع :(1/214)
اسْتَدَلّ أصحاب المذهب الرابع ـ القائلون بجواز تخصيص القياس الجليّ لِلعموم ـ بدليل واحد ، حاصِله : أنّ العموم يفيد الظَّنّ ؛ لاحتماله التخصيص ، والقياس ـ كذلك ـ يفيد الظَّنّ ، وعند التَّسَاوِي يُطْلَب المُرَجِّح .
والعموم تارةً يَضْعُف بأنْ لا يَظْهَر منه قَصْد التعميم ، وكذلك إذا كان القياس جَلِيّاً ؛ لأنّه أَقْوَى في نَفْس المُجْتَهِد ، أمّا إذا كان القياس خَفِيّاً فإنّه يَكون أَضْعَف مِن العموم ، ولِذا لا يُخَصَّص العموم به ، وإنّما بالجليّ ، وهو المُدَّعَى (3) .
مناقَشة هذا الدليل :
ويُمْكِن مناقَشة هذا الدليل : بأنّ القياس الخفيّ يفيد الظَّنّ أيضاً ، وهو دليل شَرْعِيّ كالعموم ، والقول بعدم تخصيص العموم به فيه إهمال وتَرْك
(1) يُرَاجَع : فواتح الرحموت مع مُسَلَّم الثبوت 1/265 وفتْح الغفّار 1/94 وكَشْف الأسرار لِلبخاري 1/587
(2) يُرَاجَع : تشنيف المَسامع 1/330 والإبهاج 2/87 وشَرْح الكوكب المنير 3/114 ، 115 وغاية الفصول /70
(3) يُرَاجَع المستصفى /251
لِلعمل به ، والقاعدة أنّ إعمال الدليليْن ولو مِن وَجْه أَوْلى مِن تَرْك أحدهما ولِذا كانت التفرقة بَيْن القياسيْن فيها نظر ؛ لأنّ القياس الجَلِيّ أَقْوَى مِن القياس الخفيّ لكنّ الجامع بيْنهما واحد ، وهو : أنّ كُلاًّ منهما قياس .
أدلّة المذهب الخامس :
اسْتَدَلّ أصحاب المذهب الخامس ـ القائلون بالوقف ـ بدليل واحد ، حاصِله : أنّ العموم والقياس كُلّ واحد منهما دليل لو انْفَرَد ، وقدْ تَقَابَلاَ ، ولا ترجيح لأحدهما دون الآخَر ؛ لأنّ الترجيح إمّا أنْ يُدْرَك بعقل ، وهو إمّا نظريّ أو ضروريّ ، وإمّا أنْ يُدْرَك بنَقْل ، وهو إمّا تَواتُر أو آحاد ، ولم يَتَحَقَّقْ واحد منها في أحدهما ، ولِذا وجب التَّوَقُّف حتى يَظْهَر دليل مُرَجِّح لأحدهما (1) .
مناقَشة هذا الدليل :
وأَرَى مناقَشة هذا الدليل مِن وجْهيْن :(1/215)
الوجه الأول : أنّا لا نُسَلِّم عدم وجود المُرَجِّح ؛ بلْ ثَبَت بالأدلّةِ العملُ بالقياس تخصيصاً لِلعامّ كما تَقَدَّم عند أصحاب المذهب الأول .
الوجه الثاني : أنّ القول بالوقف فيه إبطال وإهمال لِلدليليْن معاً ، والتخصيص بالقياس فيه إعمال لهما معاً ، والإعمال أَوْلى مِن الإبطال والإهمال .
أدلّة المذهب السادس :
اسْتَدَلّ أصحاب هذا المذهب ـ القائلون بجواز تخصيص القياس لِلعموم إنْ ثَبَتَتْ عِلّته بنَصّ أو إجماع ـ بدليل واحد ، مفاده : أنّ القياس إنْ ثَبَتَتْ عِلَّته بنَصّ أو إجماع أو كان الأصل مُخرجاً بنَصّ فإنّه ينزل منزلة نصّ
(1) يُرَاجَع المستصفى /251
خاصّ في إفادة الظَّنّ ، وإذا كان كذلك جاز تخصيص العموم به ؛ جَمْعاً بَيْن الدليليْن (1) .
مناقَشة هذا الدليل :
وأَرَى مناقَشة هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ محلّ نزاعنا هو تخصيص العموم بالقياس مُطْلَقاً ، سواء كانت عِلّته منصوصةً أم مُسْتَنْبَطةً ، فقَصْركم على العِلّة المنصوصة يُوهِم أنّ الآخَر خارِج محلّ النزاع ، وليس كذلك .
الوجه الثاني : أنّ تقييدكم لِلقياس بثبوت عِلّته بالنَّصّ لِيُخَصِّص العموم يَجْعَل انتفاءه في القياس غيْر مُخَصِّص لِلعموم ، وفيه تَرْك لِلعمل بالقياس الثابت بالعِلّة المُسْتَنْبَطَة ، أيْ إهمال له وعدم اعتباره ، والأَوْلى العمل بالدليليْن ( العموم والقياس ) مُطْلَقاً .
أدلّة المذهب السابع :(1/216)
اسْتَدَلّ حُجّة الإسلام الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ على مذهبه بالوقف عند تَعادُل العموم والقياس وترجيح الأقوى عند التفاوت بدليل واحد ، حاصِله : أنّ العموم والقياس إذا تَقَابَلاَ بَحَثْنَا عن مُرَجِّح لأحدهما دون الآخَر ؛ لأنّه لا يَبْعُد أنْ يَكون قياس قويّ أَغْلَب على الظَّنّ مِن عموم ضعيف ، أو عموم قويّ أَغْلَب على الظَّنّ مِن قياس ضعيف ، فنُقَدِّم الأقوى منهما حينئذٍ ، وإنْ تَعَادَلاَ وتَسَاوَيَا ولم يوجَد مُرَجِّح وجب التَّوَقُّف حتى يَظْهَر دليل مُرَجِّح لأحدهما دون الآخَر (2) .
مناقَشة هذا الدليل :
وأَرَى مناقَشة هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ دليلكم في الحالة الأُولى ـ وهي تقديم الأقوى ـ فيه تَرْك
(1) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/153 ، 154 والإحكام لِلآمدي 2/337 ، 338
(2) يُرَاجَع المستصفى /252
لِلأضعف مِن الدليليْن ( العموم والقياس ) ، وقدْ أَجَزْتُمْ تخصيص الأضعف بالأقوى في تخصيص الكتاب بالسُّنَّة .
الوجه الثاني : أنّه في الحالة الثانية ـ وهو الوقف ـ يُؤَدِّي إلى تَرْك العمل وإهمال الدليليْن ، وإعمال الدليليْن ولو مِن وجْه أَوْلى مِن تَرْكهما أو تَرْك أحدهما ، وهو ما يَتَحَقَّق في القول بتخصيص العموم بالقياس .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم في تخصيص العموم بالقياس يَتَّضِح لنا ما يلي :
1- أنّ أصحاب المذهب الأول القائل بجواز تخصيص العموم بالقياس قد اسْتَدَلّوا بإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على تخصيص عموم القرآن بالقياس ، وهذه مَزِيّة ليست عند مذهب آخَر .(1/217)
2- أنّ المذاهب السِّتّة الباقية ـ وهي التي تَمْنَع تخصيص العموم بالقياس مُطْلَقاً ( المذهب الثاني ) ، والتي تُقَيِّد العموم بسبق تخصيصه ( المذهب الثالث ) ، والتي تُقَيِّد القياس بالجليّ ( المذهب الرابع ) ، أو الوقف ( المذهب الخامس ) ، والتي تُقَيِّد القياس بثبوت عِلّته نَصّاً ( المذهب السادس ) ، أو الوقف عند التَّسَاوِي والترجيح عند المُرَجِّح ( المذهب السابع ) ، بَيْنَها جميعاً عامِل مُشْتَرَك ، وهو : إمّا إهمال الدليليْن معاً ( القياس والعموم ) ، وهذا مُتَحَقِّق في المذْهبيْن الثاني والخامس ونِصْف السابع .
وإمّا إهمال أحد الدليليْن في حالة عدم تَحَقُّق القيد المُشْتَرَط في العموم أو القياس ، وهذا مُتَحَقِّق في المذاهب الثالث والرابع والسادس ونِصْف السابع .
واتِّباع هذه المذاهب يُوقِعنا في عدم الأَوْلى ، وهو إهمال الدليليْن أو أحدهما ، والأَوْلى الجَمْع بَيْنهما ولو مِن وجْه ، وهذا مُتَحَقِّق في المذهب الأول .
3- مِمَّا تَقَدَّم كان المذهب الأول المُجَوِّز لِتخصيص العموم بالقياس هو الأَوْلى عندي بالقبول والترجيح ؛ لِمَا يلي :
أ- ضَعْف أدلّة المذاهب الأخرى ، وعدم سلامتها مِن المناقَشة .
ب- قوّة حُجَّته ، وسلامتها مِن الاعتراض والمناقَشة .
جـ- استناده إلى إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - في تخصيص العموم بالقياس .
د- أنّه ما عليه الجمهور والأئمّة الأربعة - رضي الله عنهم - .
المطلب الرابع
التخصيص بالعرف والعادة
والحديث في هذا المطلب يُمْكِن تقسيمه على النحو التالي :
1- التعبير عن هذه المسألة ( هذا المطلب ) .
2- تحرير محلّ النزاع .
3- مذاهب الأصوليّين .
4- أدلّة المذاهب مع الترجيح .
وفيما يلي نُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها :
أوّلاً – التعبير عن هذه المسألة :
لقدْ وَقَفْتُ على ثلاثة تعبيرات لِلأصوليّين في هذه المسألة :
التعبير الأول : ( التخصيص بالعادة ) .(1/218)
وهو ما عليه الكثرة مِن الأصوليّين مِن غيْر الحنفيّة (1) .
التعبير الثاني : ( التخصيص بالعرف ) .
وهو ما عليه الحنفيّة (2) ، واختاره إمام الحرميْن (3) رحمه الله تعالى .
التعبير الثالث : ( التخصيص بالعرف والعادة ) .
(1) يُرَاجَع : المعتمد 1/278 والمستصفى /247 والعدّة 2/593 وإحكام الفصول /158 والإحكام لِلآمدي 2/334 والإبهاج 2/181 والمنهاج مع شَرْحه 1/420 وجَمْع الجوامع مع حاشية البناني 2/34 والمسوّدة /125 والبحر المحيط 1/391
(2) يُرَاجَع : تيسير التحرير 1/317 ومُسَلَّم الثبوت مع فواتح الرحموت 1/345
(3) البرهان 1/297
وهو اختيار الشيرازي (1) وابن السمعاني (2) رحمهما الله تعالى .
والأَوْلى عندي : التعبير الثالث ( العرف والعادة ) ؛ لِمَا يلي :
1- أنّ التعبير بواحد منهما مُنْفَرِداً قدْ يُوهِم أنّ محلّ المسألة قاصِر عليه دون الآخَر .
2- أنّ العرف أحد الأدلّة المُخْتَلَف فيها ، وكذلك العادة أحد القواعد الفقْهيّة الكُلِّيَّة الخَمْس (3) .
3- وحيث إنّ الأحكام ترجع إلى العرف والعادة بشروط كان علينا أنْ نَعرف حقيقتَيْهما ؛ حتى نُحَدِّد العلاقة بَيْنهما .
تعريف العرف :
وهو : ما اسْتَقَرّ في النفوس مِن جهة العقول وتَلَقَّتْه الطِّبَاع السليمة بالقبول .
تعريف العادة :
وهي : ما يَسْتَقِرّ في النفوس مِن الأمور المُتَكَرِّرَة المقبولة عند الطِّبَاع السليمة (4) .
وعلى ذلك فالعرف والعادة مترادِفان ، ومِن العلماء مَن اعْتَبَر العادة أَعَمّ مِن العرف ، ومنهم مَن اعْتَبَر العكس ، والكثرة على الأول (5) ، لِذلك كان الأَوْلى عندي التعبير بهما كمترادفيْن .
(1) اللُّمَع /21
(2) قواطع الأدلّة 1/392
(3) يُرَاجَع : الأشباه والنظائر لِلسيوطي /89 والأشباه والنظائر لابن نجيم /91 وأصول الفقه لِلشيخ أبي زهرة رحمه الله تعالى /254
(4) يُرَاجَع : الكُلِّيّات /617 والتعريفات /160 - 163(1/219)
(5) يُرَاجَع : عِلْم أصول الفقه لِخَلاّف /89 وأصول الفقه الإسلامي لِلبري /158 والوجيز في أصول الفقه لِزيدان /252
ثانياً – تحرير محلّ النزاع :
إذا أَرَدْنَا أنْ نُحَرِّر محلّ النزاع في تخصيص العموم بالعرف والعادة علينا أنْ نَقِف أوّلاً على أنواع العرف والعادة ، والتي حَصَرْتُ بعضاً منها أَذْكُرها فيما يلي :
الأول : لِلبصري رحمه الله تعالى ..
قسم البصري ـ رحمه الله تعالى ـ العادة التي تُعارِض العموم إلى ضَرْبيْن :
الضرب الأول : وهو عادةً في الفعل بأنْ يَعْتَاد الناس شُرْب بعض الدماء ثُمّ يُحَرِّم الله تعالى الدماءَ بكلام يَعُمّها ، فلا يجوز تخصيص هذا العموم .
الضرب الثاني : وهو عادةً في استعمال العموم ، نَحْو : اسم " دابّة " ، وهذا ليس تخصيصاً على الحقيقة ؛ لأنّ اسم " الدّابّة " لا يصير مُسْتَعْمَلاً في العرف إلا في الخيل (1) .
الثاني : لِلفخر الرازي رحمه الله تعالى ..
قسم الفخر الرازي ـ رحمه الله تعالى ـ العادة إلى ثلاثة أَضْرُب :
الضرب الأول : أنْ يُعْلَم أنّها كانت حاصلةً في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يَمْنَعْهُمْ منها ..
وهذه يجوز التخصيص بها ، لكنّ العادة ليست هي المُخَصِّصة ، وإنّما تقريره - صلى الله عليه وسلم - .
الضرب الثاني : أنْ يُعْلَم أنّها لم تَكُنْ حاصلةً في زمنه - صلى الله عليه وسلم - ..
وهذه لا يجوز التخصيص بها ، ولو أَجْمَعوا عليها كان المُخَصِّص هو الإجماع لا العادة .
(1) يُرَاجَع المعتمد 1/278 ، 279
الضرب الثالث : أنْ لا يُعْلَم واحد مِن الضرْبيْن السابقيْن ..
وهذا الضرب يَحْتَمِل الضرْبيْن الأوليْن ، ومع احتمال كوْنه غيْر مُخَصِّص لا يجوز القَطْع بذلك (1) .
الثالث : لابن السبكي رحمهما الله تعالى ..
يَرَى ابن السبكي ـ رحمهما الله ـ أنّ العادة مع العموم تَحْتَمِل احْتماليْن :(1/220)
الاحتمال الأول : أنْ يَكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أَوْجَب أو حَرَّم أشياءً بلَفْظ عامّ يَشملها ، ثُمّ رأَيْنَا العادة جاريةً بتَرْك بعضها أو بفعل بعضها : فهل يُخَصَّص بها العامّ أم لا ؟
الاحتمال الثاني : أنْ تَكون العادة جاريةً بفعل مُعَيَّن : كأكل طعام مُعَيَّن مَثَلاً ، ثُمّ نَهَاهم عنه - صلى الله عليه وسلم - بلفظ يَتناوله : كنَهْيه - صلى الله عليه وسلم - عن بَيْع الطعام بجِنْسه : فهلْ يَكون النهي مُقْتَصِراً على ذلك الطعام فقط أم يجري على عمومه ولا تأثير لِلعادة فيه ، أيْ أنّها تُخَصِّصه أم لا ؟
وهذا الاحتمال الذي تَكَلَّم فيه الآمدي وتابَعه ابن الحاجب رحمهما الله تعالى (2) .
الرابع : لِلأبياري (3) رحمه الله تعالى ..
أَوْرَد عنه الزركشي ـ رحمهما الله تعالى ـ أحوالاً أربعةً لِلعرف :
أحدها : أنْ يَكون العرف عُرْف أهْل اللسان : كـ" الدّابّة " و" الغائط " ..
(1) يُرَاجَع : المحصول 1/451 ، 452 وشَرْح المحلّي مع جَمْع الجوامع 2/34 ، 35
(2) يُرَاجَع : الإبهاج 2/181 والإحكام لِلآمدي 2/334 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/152
(3) الأبياري : هو شَمْس الدِّين أبو الحَسَن عَلِيّ بن إسماعيل بن عَلِيّ بن عطيّة الأبياري المالكي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ مُحَدِّث ..
مِن مصنَّفاته : شَرْح البرهان ، سفينة النجاة ، شَرْح التهذيب .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 618 هـ .
الديباج المذهب 2/121 وشجرة النور الزَّكِيّة /166
وهذا العرف إنْ قُلْنَا " إنّ الشرع لم يَتَصَرَّفْ في اللغة " فلا يُخَصّ به العموم قَطْعاً ، وإنْ قُلْنَا " إنّه يَتَصَرَّف " ينزل منزلة عُرْفه ووجب التخصيص به .
ثانيها : أنْ يَكون العرف لِغيْر أهْل اللغة ولم يَكُن الشرع يعرف غيْر عُرْفهم في الاختصاص ..
فهذا يجب أنْ تنزل ألفاظ الشارع على مقتضاها إمّا في اللغة أو في عُرْف السامع ، وهذا لا يَتَّجِه فيه خلاف .(1/221)
ثالثها : أنْ يَكون المخاطَبون ليسوا أهْل لغة ، والشارع يعرف عُرْفهم ، ولكنْ لم يظهر منه خطابهم على مقتضى عُرْفهم ، ولا يَظْهَر منه الإضراب عن ذلك ..
فهذا مَوْضِع الخلاف في أنّه ينزل على مقتضى عُرْفهم أم لا ؟
رابعها : أنّ المُخاطَبين اعتادوا بعض ما يَدُلّ عليه العموم : كما لو نَهَى عن أكْل اللحم ـ مَثَلاً ـ وكانت عادتُهم أكْل لَحْم مخصوص : فهلْ يَكون النهي مقصوراً على ما اعتادوا أكْله أم لا ؟
هذا مَوْضِع الخلاف عند الأصوليّين والفقهاء ، وعليه يُخَرَّج تخصيص الأيمان بالعرف الفعليّ (1) .
الخامس : لِلحنفيّة ..
قسم الحنفيّةُ العرفَ إلى قِسْميْن :
الأول : عُرْف عمليّ .
أيْ : تَعامُل الناس ببعض الأفراد .
نحْو : البيع بالتعاطي في بعض السلع مِن غيْر صيغة لفظيّة .
(1) البحر المحيط 3/396 ، 397
الثاني : عُرْف قوليّ .
وهو : ما تَعارَف عليه الناس في بعض ألفاظهم .
نَحْو : تَعارُفهم إطلاق " الدّابّة " على الحمار أو على الفَرَس (1) .
وعلى ضوء ما تَقَدَّم يُمْكِن تحديد محلّ النزاع أو شروط العادة والعرف التي يُخَصَّص بها العموم فيما يلي :
1- أنْ لا تَكون العادة والعرف في زمن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - .
2- أنْ لا يُجْمِع المُجْتَهِدون عليها .
3- أنْ لا تُعارِض الحُكْم العامّ كُلّه ؛ لأنّه نَسْخ لا تخصيص .
إذا تَقَرَّر ذلك .. فإنّ الأصوليّين اخْتَلَفوا في تخصيص العموم بالعادة والعرف على مذاهب ، نَذْكُرها فيما يلي ..
ثالثاً – مذاهب الأصوليّين في التخصيص بالعادة والعرف :
اخْتَلَف الأصوليّون في تخصيص العموم بالعادة والعرف على مذْهبيْن :
المذهب الأول : عدم جواز تخصيص العموم بالعادة .
وهو ما عليه الجمهور ، واختاره البصري (2) والشيرازي (3) والغزالي (4) وأبو يعلى (5) والباجي (6) والآمدي (7) وابن الحاجب (8) رحمهم(1/222)
(1) يُرَاجَع : مُسَلَّم الثبوت 1/345 وتيسير التحرير 1/317 والوجيز في أصول الفقه لِزيدان /252 وأصول الفقه الإسلامي لِلبري /152
(2) المعتمد 1278 ، 279
(3) اللُّمَع /21
(4) المستصفى /248
(5) العدّة 2/593
(6) إحكام الفصول /158
(7) الإحكام 2/334
(8) مختصر المنتهى 2/152
الله تعالى ، ورواه إمام الحرميْن رحمه الله عن الإمام الشافعي - رضي الله عنه - (1) .
المذهب الثاني : جواز تخصيص العموم بالعرف والعادة .
وهو ما عليه الحنفيّة (2) .
رابعاً – أدلّة المذاهب مع الترجيح :
أدلّة المذهب الأول :
احْتَجّ أصحاب المذهب الأول ـ القائلون بعدم جواز تخصيص العموم بالعادة والعرف ـ بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ العموم نُطْق الشرع ، ونُطْق الشرع لا يُخَصّ إلا بنُطْقه أو ما يَدُلّ عليه منطوقه أو مفهومه ، أمّا العادة فليست إلا بوضع الشهوات أو الحاجات التي لا يجوز أنْ تَكون شرعاً ، وإذا كان كذلك فلا يُخَصَّص بها العموم (3) .
الدليل الثاني : أنّ العموم دلالة ، فلا يجوز تخصيصه إلا بدلالة ، والعادة ليست بدلالة ؛ لأنّ الناس يَعْتَادون القبيح كما يَعْتَادون الحَسَن ، ولِذا لا يجوز تخصيص العموم بالعادة (4) .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّا لا نُسَلِّم أنّ العادة ليست حُجّةً ولا دلالةً ؛ فهي تَدُلّ على أنّ الأصل إباحة ذلك ، فكانت حُجّة .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقدْ رُدَّتْ هذه المناقَشة : بأنّ الأصل إنّما يرجع إليه ما يُنْقَل عنه
(1) البرهان 1/297
(2) يُرَاجَع : تيسير التحرير 1/317 ومُسَلَّم الثبوت 1/345
(3) الواضح 3/407 بتصرف ويُرَاجَع مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/152
(4) يُرَاجَع : المعتمد 1/278 والتمهيد لِلكلوذاني 2/159
شَرْع ، والعموم دليل شَرْعيّ ، فيجب أنْ يُنْقَل عنه (1) .(1/223)
الدليل الثالث : أنّ الشريعة إنّما جاءت لِتغيير عوائد الناس وحَسْم موادّها وأخذاً بسلوك الإنسان إلى النهج الإلهيّ القويم ، ولِذا كانت الشريعة قاضيةً على العادة .
ولو قُلْنَا بتخصيص العادة لِلعموم لَكانت قاضيةً على الشريعة ولأدخلَت العادات مُطْلَقاً قبيحها وحَسَنها ، ولِذا فلا يجوز تخصيص العموم بالعادة .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّكم مَنَعْتُمْ تخصيص العموم بالعادة وأَجَزْتُمْ تخصيص اللفظ ببعض مسمّياته ، وهو واقِع في اللغة ، نَحْو : تخصيص اسم " الدّابّة " بذوات الأربع وإنْ كان اللفظ عامّاً في كُلّ ما يدبّ على الأرض ، ألاَ ترون أنّ هناك فَرْقاً بَيْن التخصيصيْن ؟
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقدْ رُدَّتْ هذه المناقَشة : بأنّ هناك فَرْقاً ؛ لأنّ العادة في محلّ النزاع إنّما هي المطّردة في الفعل لا في تخصيص اللفظ ، فلا يَكون ذلك قاضياً على ما اقتضاه عموم اللفظ ، وهذا بخلاف لَفْظ " الدّابّة " ؛ فإنّه بعرف الاستعمال أَصْبَح قاضياً على الاستعمال الأصلي (2) .
أدلّة المذهب الثاني :
اسْتَدَلّ الحنفيّة ـ القائلون بجواز تخصيص العموم بالعرف والعادة ـ بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّه لو قال " اشْتَرِ لَحْماً " والمعتاد في البلد تَنَاوُل لَحْم الضّأْن
(1) التمهيد لِلكلوذاني 2/159 بتصرف .
(2) يُرَاجَع : الواضح 3/407 والإحكام لِلآمدي 2/334
لم يُفْهَمْ سِوَاه ؛ وما ذلك إلا لأنّ غلبة العادة تَسْتَلزِم غلبة الاسم ، وهو يَقْتَضِي تخصيص الحُكْم بالغالب واعتبار خصوص العادة دون عموم العبادة ، ولِذا جاز تخصيص العموم بها (1) .
مناقَشة هذا الدليل :(1/224)
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّه خارِج محلّ النزاع ؛ لأنّ " لَحْم " مُطْلَق نزل على المُقَيَّد بقرينة مَيْلهم إلى المعتاد ، وليس فيه تَرْك لِلمُطْلَق ، ومحلّ نزاعنا في العموم : هلْ ينزل على الخصوص فيُتْرَك به الظاهر بمُجَرَّد العادة ؟ وأين أحدهما بالآخَر ؟
الدليل الثاني : أنّه قدْ ثبت تخصيص اللفظ بالعادة والعرف ، نَحْو : تخصيص " الدّابّة " بذوات الأربع بَعْد كَوْنه في اللغة لِكُلّ ما يدبّ ، وكذلك تخصيص " النقد " بالنقد الغالب في البلد بَعْد كَوْنه في اللغة لِكُلّ نَقْد ، وإذا جاز تخصيص اللفظ بالعادة جاز تخصيص العموم بها .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّ تخصيص اللفظ بالعادة والعرف مُسَلَّم عندنا ، وهو خلاف ما نَحْن فيه ؛ فإنّ العادة في تَناوُله لا في غلبة الاسم عليه ؛ إذ المفروض ذلك ..
ولو فَرَضْنَا غلبة الاسم ـ كما في " الدّابّة " لاخْتُصّ به وكان المُخَصِّص حينئذٍ غلبة الاسم لا غلبة العادة ، والفرض إنّما وَقَع في غلبة العادة فقط (2) .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على مذاهب الأصوليّين في تخصيص العموم بالعادة والعرف أَرَى أنّ المذهب الأول المانع لِتخصيص العموم بالعادة والعرف
(1) يُرَاجَع : التحرير مع التيسير 1/317 وسمُسَلَّم الثبوت 1/345 والتقرير مع التحبير 1/282
(2) يُرَاجَع : التمهيد 2/159 ، 160 وشَرْح العضد 2/152
هو الأَوْلى بالقبول والترجيح ؛ لِمَا يلي :
1- قوّة حُجّته ، وسلامة أدلّته مِن المناقَشة والاعتراض .
2- ضَعْف وجهة المذهب الثاني ، وعدم سلامة أدلّته مِن المناقَشة والاعتراض .
3- أنّ القول بتخصيص العموم بالعادة يَجعلها قاضيةً على الشرع ، وهو خلاف تأثيرها في تحديد المراد باللفظ الذي يُرْجَع إلى العرف فيه ، وهذا هو المقصود بقولهم ( العادة مُحَكَّمة ) .(1/225)
وفي هذا المقام يُعْجِبني قول حُجّة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى : " وعلى الجملة .. فعادة الناس تُؤَثِّر في تعريف مرادهم مِن ألفاظهم ، حتى إنّ الجالس على المائدة يَطْلُب الماء يُفْهَم منه العذب البارد ، لكنْ لا تُؤَثِّر في تغيير خطاب الشارع إيّاهم " ا.هـ (1) .
(1) المستصفى /248
المطلب الخامس
التخصيص بالمفهوم (1)
والحديث في هذا المطلب يُمْكِن تقسيمه على النحو التالي :
1- أمْثلته .
2- تحرير محلّ النزاع .
3- مذاهب الأصوليّين في التخصيص بالمفهوم .
4- أدلّة المذاهب مع الترجيح .
وفيما يلي نُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها :
أوّلاً – أمثلة التخصيص بالمفهوم :
وأمثلة التخصيص بالمفهوم كثيرة ، أَذْكُر منها ما يلي :
المثال الأول : قوله تعالى { فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفّ } (2) ؛ فإنّه دالّ بمفهوم المُوافَقة على المنع مِن ضَرْب الوالديْن وإخراجه مِن عموم المنطوق باعتبار مفهوم الموافَقة ، فهذا تخصيص بمفهوم المُوافَقة (3) .
المثال الثاني : قوله - صلى الله عليه وسلم - { خُلِقَ الْمَاءُ طَهُوراً لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَه } (4) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثا } (5) ؛ فإنّ الماء في الحديث الأول عامّ شامِل لِلقُلَّتَيْن وما دونهما ، فهو دالّ بمنطوقه
(1) والمفهوم هو : ما دَلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق .. مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/171
(2) سورة الإسراء مِن الآية 23
(3) يُرَاجَع : اللُّمَع /18 ، 19 والعدّة 2/578 ، 579 وشَرْح المنهاج 1/418 ، 419
(4) سبق تخريجه .
(5) سبق تخريجه .
على أنّ الماء مُطْلَقاً قُلَّتيْن أو أَقَلّ لا ينجس بملاقاة النجاسة ، ومفهوم الحديث الثاني يَقْتَضِي نجاسته بملاقاتها إنْ كان دون القُلَّتَيْن ، ولِذا كان هذا تخصيصاً لِلمنطوق بمفهوم المخالَفة (1) .(1/226)
المثال الثالث : قوله - صلى الله عليه وسلم - { فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاة } (2) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاة } (3) ؛ فقدْ دَلّ منطوق الحديث الأول على وجوب الزكاة في كُلّ أربعين شاةً ، وهو حُكْم عامّ يَشْمَل السائمة والمعلوفة ، ودَلّ الحديث الثاني بمفهومه المُخالِف على أنّه لا زكاة في المعلوفة ، فيُخَصِّص العموم في الحديث الأول بالسائمة ويخرج منه المعلوفة ، ولِذا كان هذا تخصيصاً لِلعموم ( المنطوق ) بمفهوم المُخالَفة (4) .
ثانياً – تحرير محلّ النزاع :
الكثرة مِن الأصوليّين رَبَطوا تخصيص العموم بالمفهوم باختلافهم في حُجِّيَّة العموم وكذا المفهوم : فمَن قال بالعموم وبالمفهوم جَوَّز تخصيص العامّ بالمفهوم كما جَوَّزه بالمنطوق ، ومَن نَفَاه بالمنطوق فهو مِن باب أَوْلى نافٍ لِتخصيص العموم بالمفهوم (5) .
(1) يُرَاجَع شَرْح المنهاج 1/419 ، 420
(2) أَخْرَجه الترمذي في كتاب الزكاة عن رسول الله : باب ما جاء في زكاة الإبل والغَنَم برقم ( 564 ) وأبو داود في كتاب الزكاة : باب في زكاة السائمة برقم ( 1340 ) وابن ماجة في كتاب الزكاة : باب صدقة الغَنَم برقم ( 1795 ) ، كُلّهم عن عبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما .
(3) هذا جزء مِن حديث أَخْرَجه البخاري في كتاب الزكاة : باب زكاة الغَنَم برقم ( 1362 ) والنسائي في كتاب الزكاة : باب زكاة الإبل برقم ( 2404 ) وأحمد في مُسْنَد العشرة المُبَشَّرين بالجَنَّة ، كُلّهم عن أبي بَكْر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - .
(4) يُرَاجَع : المستصفى /246 والعدّة 2/578 ، 579 وروضة الناظر 1/731 ، 732 وشَرْح العضد 2/150 وشَرْح طلعة الشمس 1/157
(5) يُرَاجَع : اللُّمَع /18 ، 19 والمستصفى /246 والتمهيد لِلكلوذاني 2/118 والمختصر مع شَرْح العضد 2/150
وهناك مِن الأصوليّين مَن اشْتَرَط في تخصيص العامّ بالمفهوم شروطاً أَذْكُر منها ما يلي :(1/227)
الشرط الأول : ألاّ يَمْنَع منه دليل أَقْوَى مِن المفهوم فيسقط ـ حينئذٍ ـ المفهوم ويَبْقَى العامّ على عمومه .
وهو ما اشْتَرَطه القاضي أبو الطَّيِّب (1) رحمه الله تعالى .
مثاله : نَهْيه - صلى الله عليه وسلم - عن بَيْع ما لم يُقْبَضْ (2) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَنِ ابْتَاعَ طَعَاماً فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَه } (3) ؛ فلم نَقْصِر العموم على الطعام ؛ لِوجود دليل أَقْوَى مِن المفهوم ، وهو التنبيه ؛ لأنّ الطعام إذا لم يَجُزْ بَيْعه قَبْل القبض مع حاجة الناس إليه فلِغيْره أَوْلى .
الشرط الثاني : أنْ لا يعارِض المفهومُ المنطوقَ بالإسقاط والإبطال .
وهو ما ذَكَره الشيخ أبو حامد وسليم (4) ، وأَوْرَده الزركشي رحمهم الله
(1) القاضي أبو الطيب : هو طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري الشافعي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ ، وُلِد سَنَة 348 هـ .
مِن مصنَّفاته : شَرْح المزني ، ومؤلَّفات أخرى في الفقه والأصول .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى ببغداد سَنَة 450 هـ .
الأعلام 3/321 والفتح المبين 1/250 ، 251
(2) أَخْرَجه الطبراني في الأوسط عن عبد الله بن بن عمرو رضي الله عنهما 2/154 والربيع ابن حبيب في مُسْنَده عن عتّاب بن أسيد - رضي الله عنه - /350
(3) أَخْرَجه البخاري في كتاب البيوع : باب الكيل على البائع والمعطي برقم ( 1982 ) ومُسْلِم في كتاب البيوع : باب بطلان المَبِيع قَبْل القبض برقم ( 2810 ) كلاهما عم ابن عُمَر رضي الله عنهما ، والترمذي في كتاب البيوع عن رسول الله : باب ما جاء في كراهية بَيْع الطعام حتى يَسْتَوْفِيَه عن ابن عباس رضي الله عنهما برقم ( 1212 ) .
(4) سُلَيْم : هو أبو الفتح سُلَيْم بن أيوب بن سُلَيْم الرازي الشافعي رحمه الله تعالى ، فقيه أصوليّ مُفَسِّر أديب لغويّ ..
مِن مصنَّفاته : ضياء القلوب ، التقريب ، الكافي . =
تعالى .(1/228)
مثاله : قوله - صلى الله عليه وسلم - { أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بِاطِل } (1) فقدْ دَلّ بمنطوقه على بطلان النكاح بغيْر إذْن الوليّ ، ويَقْتَضِي مفهومه جوازه بالإذن ، إلا أنّه إذا أُثْبِت سَقَط النطق ؛ لأنّ الأُمَّة أَجْمَعَتْ على التسوية بَيْن أنْ تُنْكَح المرأة بغيْر إذْن وليّها وبَيْن أنْ تُنْكِح نَفْسها بإذنه : فعند الحنفيّة يَصِحّ (2) ، وعند غيْرهم يَبْطُل ، فإذا ثبت بالدليل جواز ذلك بإذْنه ثَبَت بالإجماع جوازه بغيْر إذْنه ، وإذا ثَبَت جوازه بغيْر إذْنه سَقَط النطق ، فيَكون هذا المفهوم مُسْقِطاً لأصْله ، فلا يُخَصَّص به النطق ( العموم ) .
مثاله أيضاً : قوله - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْكَلْبَ وَحَرَّمَ ثَمَنَه } ؛ فقوله - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْكَلْب } يَقْتَضِي تحريم جهات الانتفاع به مِن البيع والإجارة وغيْرها ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - { وَحَرَّمَ ثَمَنَه } يَقْتَضِي أنّ غيْر الثَّمَن ليس بمُحَرَّم ، فتحريم الثَّمَن أفاد مفهومه المُخالِف حِلّ غيْره ، وهذا يُعَدّ تخصيصاً
= تُوُفِّي رحمه الله تعالى سَنَة 447 هـ .
طبقات الشّافعيّة الكبرى 4/388 وشذرات الذهب 3/275
(1) أَخْرَجه الترمذي في كتاب النكاح عن رسول الله : باب ما جاء لا نكاح إلا بوليّ برقم ( 1021 ) وابن ماجة في كتاب النكاح : باب لا نكاح إلا بوليّ برقم ( 1869 ) وأحمد في باقي مُسْنَد الأنصار برقم ( 23236 ) ، كُلّهم عن السيدة عائشة رضي الله عنها .
(2) الحنفيّة يُجَوِّزون نكاح الحُرّة بغيْر وليّها ، وهو قوْل زفر والشعبي والزهري رحمهم الله تعالى ، وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنّه لا يَنعقد إلا بوليّ ، وعند محمد رحمه الله تعالى يَنعقد موقوفاً ..
والجمهور يرون بطلان النكاح بغيْر وليّ ، ولا يَكون النكاح صحيحاً إلا به .(1/229)
وفَرَّق داود رحمه الله تعالى بَيْن البِكْر والثَّيِّب : فاشترَط الوليَّ في البِكْر ، ولم يَشترطه في الثَّيِّب ..
يُرَاجَع : الهداية 1/213 وبداية المجتهد 2/8 ، 9 ومغني المحتاج 3/147 والكافي 3/9 ، 10
بالمفهوم المُخالِف لِلعموم المُحَرّم ، والتخصيص بالمفهوم ـ حينئذٍ ـ أَبْطَل وأَسْقَط العموم ( المنطوق ) ، ولِذا فلا يجوز أنْ يُخَصَّص به العموم في هذه الحالة (1) .
ومِمَّا تَقَدَّم يُمْكِن تقييد محلّ النزاع بما يلي :
1- التسليم بحُجِّيَّة العموم والمفهوم .
2- أنْ لا يمنع مِن التخصيص بالمفهوم دليل أَقْوَى منه .
3- أنْ لا يعارِض المفهومُ المنطوقَ ( العموم ) بالإسقاط والإبطال .
ثالثاً – مذاهب الأصوليّين في التخصيص بالمفهوم :
اخْتَلَف الأصوليّون في تخصيص العامّ بالمفهوم على مذْهبيْن :
المذهب الأول : جواز تخصيص العامّ بالمفهوم .
وهو ما عليه الجمهور ، واختاره الشيرازي (2) والكلوذاني (3) وابن السمعاني (4) وابن الحاجب (5) والبيضاوي (6) رحمهم الله تعالى ، ومنقول عن الإمام الشافعي - رضي الله عنه - (7) (8) .
المذهب الثاني : عدم جواز تخصيص العامّ بالمفهوم .
وهو قول الحنفيّة (9) ، وقول ابن سريج مِن الشّافعيّة (10) ، ومنقول عن
(1) يُرَاجَع البحر المحيط 3/385 ، 386
(2) اللُّمَع /18
(3) التمهيد لِلكلوذاني 2/118
(4) القواطع 2/363
(5) مختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/150
(6) منهاج الوصول مع شَرْحه 1/418
(7) يُرَاجَع اللُّمَع /18 ، 19
(8) يُرَاجَع ما سَبَق والواضح 3/397 وشَرْح الكوكب المنير 3/366
(9) يُرَاجَع : الفصول 1/291 وتيسير التحرير 1/316 ومُسَلَّم الثبوت 1/353 وميزان الأصول /305
(10) اللُّمَع /19
الإمام مالك - رضي الله عنه - (1) .
رابعاً – أدلّة المذاهب مع الترجيح :
أدلّة المذهب الأول :
اسْتَدَلّ أصحاب المذهب الأول ـ القائلون بجواز تخصيص العموم بالمفهوم ـ بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :(1/230)
الدليل الأول : أنّ المفهوم دليل شَرْعيّ ، والعموم كذلك ، وقدْ عارَض المفهومُ العمومَ ، ولا مناص مِن اختيار إهمال الدليليْن أو أحدهما وإعمال الآخَر أو إعمالهما ، والإعمال أَوْلى مِن الإهمال ، ولا يَتَحَقَّق ذلك إلا بتخصيص العموم بالمفهوم (2) .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّ دلالة العامّ أَقْوَى لأنّها دلالة المنطوق ، ودلالة الخاصّ أَضْعَف لأنّها دلالة المفهوم ، ولو خَصَّصْنَا العامّ بالمفهوم لَقَدَّمْنَا الأضعف على الأقوى والمرجوحَ على الراجح ، وهو خلاف الأصل .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقدْ رُدَّتْ هذه المناقَشة مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّ العامّ وإنْ كان أَقْوَى وأَرْجَح إلا أنّه يَكون مرجوحاً باعتبار عموم دلالته وخصوص دلالة المفهوم ، وإذا كان كذلك فالجَمْع بَيْنهما بتخصيص العامّ به أَوْلى مِن إهماله .
الدليل الثاني : أنّ اشتراط التساوي في القوّة بَيْن الأدلّة لِتخصيص عمومها قدْ ثبت خلافه : كما في تخصيص الكتاب والسُّنَّة المتواترة بخبر الآحاد ،
(1) البحر المحيط 3/383
(2) يُرَاجَع : شَرْح تنقيح الفصول /215 وشَرْح المنهاج 1/419 وشَرْح طلعة الشمس 1/157
وإذا كان كذلك جاز تخصيص الأقوى ( العامّ ) بالأضعف ( المفهوم ) (1) .
الدليل الثاني : أنّ المفهوم دليل خارِج مخرج النطق ، ومعناه معنى النطق في باب الاحتجاج ، وقدْ ثَبَت بالأدلّة جواز تخصيص العموم بالنَّصّ ( المنطوق ) ، فكذلك يجوز تخصيصه بالمفهوم ؛ لأنّه مستفاد مِن النَّصّ ، فصار بمنزلة النَّصّ (2) .
أدلّة المذهب الثاني :
اسْتَدَلّ النافون لِجواز تخصيص العموم بالمفهوم بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :(1/231)
الدليل الأول : لَمّا كان معنى التخصيص بيان عدم تَنَاوُل أصْل الكلام له ، والحُكْم الثابت بالدلالة ثابت بمعنى النَّصّ لغةً ومُتَنَاوِل له تناولاً لا يُبْقِي احتمال كوْنه غيْر متناوِل له ، وإنّما يحتمل إخراجه مِن أنْ يَكون مُوجِباً لِلحُكْم فيه بدليل يعترض عليه ، وذلك يَكون نسخاً لا تخصيصاً ، ولِذا لا يجوز تخصيص العموم بالمفهوم (3) .
مناقَشة هذا الدليل :
وأَرَى أنّ هذا الدليل مردود : بأنّ التخصيص بيان لِرَفْع بعض حُكْم العامّ وليس كُلّه حتى يَكون نسْخاً .
الدليل الثاني : أنّ العموم نصّ منطوق وفَحْوَى أو دليل الخطاب ليس نطقاً ، وإنّما هو مفهوم مِن النطق ، ولِذا كان المفهوم أَضْعَف مِن النطق ، فلا يُخَصَّص به العموم الذي هو الأقوى .
(1) يُرَاجَع : شَرْح العضد 2/150 ، 151 وشَرْح المنهاج 2/419
(2) يُرَاجَع : العدّة 2/578 ، 579 وروضة الناظر 2/731 ، 732 وقواطع الأدلّة 2/363 ، 364
(3) كشْف الأسرار لِلبخاري 2/462 بتصرف ويُرَاجَع : أصول البزدوي مع كَشْف الأسرار 1/426 والفصول 1/291 وتيسير التحرير 2/105 ومُسَلَّم الثبوت 1/353
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّا لا نُسَلِّم أنّ الأضعف لا يُخَصِّص الأقوى ؛ لأنّه قدْ ثبت بالأدلّة تخصيص الكتاب والسُّنَّة المتواترة بخبر الآحاد .
الوجه الثاني : أنّ دليلكم فيه إهمال لِدليل المفهوم وتَرْك له ، وإعماله أَوْلى مِن إهماله ، ولا يَتَحَقَّق ذلك إلا بتخصيص العموم بالمفهوم ؛ جَمْعاً بَيْن الدليليْن (1) .
تعقيب وترجيح :
بَعْد الوقوف على مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم في تخصيص العموم بالمفهوم أَرَى : أنّ المذهب الأول القائل بجواز تخصيص العموم بالمفهوم هو الأَوْلى بالقبول والترجيح ؛ لِقوّة حُجّته وسلامة أدلّته مِن المناقَشة والاعتراض ، ولِضَعْف أدلّة المذهب الثاني وعدم سلامتها مِن الاعتراض والمناقَشة .(1/232)
(1) يُرَاجَع : شَرْح العضد 2/150 ، 151 والبحر المحيط 3/383
المطلب السادس
التخصيص بدليل العقل
والحديث في هذا المطلب يُمْكِن تقسيمه على النحو التالي :
1- بيان المراد بدليل العقل .
2- أقسام التخصيص بدليل العقل .
3- أمثلة التخصيص بدليل العقل .
4- تحرير محلّ النزاع .
5- مذاهب الأصوليّين في التخصيص بدليل العقل .
6- أدلّة المذاهب .
7- تعقيب وترجيح .
وفيما يلي نُفَصِّل القول في كُلّ واحد منها :
أوّلاً – بيان المراد بدليل العقل :
قدْ يَظُنّ البعض عند اطِّلاعه على عنوان هذه المسألة أو هذا المطلب أنّ العقل دليل يُرْجَع إليه في الأحكام ، ولولا ذلك لَمَا جاز أنْ تُخَصَّص به الأدلّة الشّرْعيّة مِن الكتاب والسُّنَّة ، الأمرَ الذي يُعْطِي لِلعقل أهْليّةً أو سُلْطَة تشريع الأحكام ، أو بمعنى أَدَقّ : أنْ يُحَسِّن الأفعال ويُقَبِّحها ، وهو رأْي المعتزلة .
والثابت عند أهْل السُّنَّة والجماعة : أنّ الحَسَن ما حَسَّنه الشرع ، والقبيح ما قَبَّحه الشرع (1) .
(1) يُرَاجَع : شَرْح العضد 1/201 وبيان المختصر 1/290 وشَرْح الكوكب المنير 1/303 =
وليس معنى ذلك ـ كما قال الزركشي رحمه الله تعالى ـ أنّهم يُعَطِّلون العقل ويُلْغُون عمله كما قدْ يَفْهَم البعض ، وإنّما حَدَّدوا وظيفته : بأنّه وسيلة لاستنباط الأحكام ، وبه تُفْهَم قواعد الشرع ا.هـ (1) .
ومِمَّا تَقَدَّم يَتَّضِح ـ فيما أَرَى ـ أنّ مرادهم بدليل العقل هو دلالة العقل أو فَهْمه لِمَا وَرَد الشرع به ، لا أنّه مُشَرِّع ومَصْدَر لِلأحكام ..
وفي ذلك يقول السالمي رحمه الله تعالى :" والمراد ( بالمُخَصِّص العقليّ ) أنّ العقل مُخَصِّص لِلكتاب والسُّنَّة تخصيصاً أوّليّاً ، بمعنى أنّ تخصيصه منسوب إلى الأول ، والمراد أنّ فَهْم التخصيص لِلشرع بالعقل يُدْرَك مِن أوّل وهلة ، أيْ لا يَحتاج إلى طلب شدّة كما يُحتاج إليه في المُخَصِّصات السَّمْعِيَّة " ا.هـ (2) .(1/233)
وقَبْله أَكَّد الجَصّاص رحمه الله مهمّة العقل في ذلك بقوله :" ويجوز تخصيصه بدلالة العقل ... لأنّه حُجّة لله تعالى تُبين مراده بالآية " ا.هـ (3) .
ثانياً – أقسام التخصيص بدليل العقل :
هذا العنوان بَنَيْتُه على تقسيم الفخر الرازي وتَبِعه الزركشي ـ رحمهما الله تعالى ـ التخصيص بدليل العقل ؛ حيث قَسَّمه إلى ضرْبيْن :
الضرب الأول : تخصيص بالعقل بالضرورة .
الضرب الثاني : تخصيص بالعقل بالنظر والتَّأَمُّل (4) .
ولكنّي أَرَى إضافة التخصيص بالدليل الحسِّيّ إلى هذه الأقسام ؛ لأنّ
= وشَرْح مختصر الروضة 1/405 ، 406 والتوضيح مع التلويح 1/190 ، 191 وشَرْح المنار لابن ملك /48 وتيسير التحرير 1/151
(1) البحر المحيط 1/138
(2) شَرْح طلعة الشمس 1/165
(3) الفصول في الأصول 1/147 بتصرف .
(4) يُرَاجَع : المحصول 1/427 والبحر المحيط 3/355 وإرشاد الفحول /156
المُخَصِّص في الحقيقة إنّما هو العقل وليس الحِسّ الذي ليس إلا واسطة الإدراك ، فنُسِب التخصيص إليه تقريباً لِلأفهام (1) .
ومِمَّا تَقَدَّم تُصْبِح عندي أقسام التخصيص بالعقل ثلاثةً :
القِسْم الأول : تخصيص بالعقل بالضرورة .
القِسْم الثاني : تخصيص بالعقل بالنظر والتَّأَمُّل .
القِسْم الثالث : تخصيص بالعقل بالحِسّ والمشاهَدة .
ثالثاً – أمثلة التخصيص بدليل العقل :
وفي هذا المقام يُمْكِن أنْ نُمَثِّل لِكُلّ قِسْم مِن الأقسام الثلاثة المُتَقَدِّمة بمثال على النحو التالي :
المثال الأول : قوله تعالى { اللَّهُ خَلِقُ كُلّ شَىْء } (2) ..
وجْه الدلالة : أنّ الله عَزّ وجَلّ خَلَق كُلّ شيء ، فأفاد العموم لِكُلّ شيء مِمَّا يُوهِم دخول الذّات العَلِيّة في هذا العموم ، لكنّا نَعْلَم ضرورةً أنّ الله عَزّ وجَلّ ليس خالقاً لِذاته ولا لِصفاته ، وهذا تخصيص لِلعموم بالعقل بالضرورة .(1/234)
المثال الثاني : قوله تعالى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } (3) ..
وجْه الدلالة : أنّ الله تعالى أَوْجَب الحجّ على كُلّ مستطيع ، ولفْظ { كُلّ } أفاد عموم الحُكْم في حقّ كُلّ مستطيع ، لكنّا بَعْد النظر والتَّأَمُّل وَجَدْنَا أنّ العقل يَمْنَع إدخال الصَّبِيّ والمجنون مِن التكليف ، والنَّصّ الوارد
(1) يُرَاجَع : التلويح 1/75 وشَرْح طلعة الشمس 1/166 ، 167
(2) سورة الرعد مِن الآية 16 ، سورة الزمر مِن الآية 62
(3) سورة آل عمران مِن الآية 97
ـ أعني حديث { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَث ... } (1) الحديث ـ إنّما هو كاشِف ومؤكِّد لِمَا تَوَصَّل إليه العقل ، ولِذا كان هذا تخصيصاً لِلعموم بالعقل بالنظر والتَّأَمُّل (2) .
المثال الثالث : قوله تَبَارَك وتعالى { مَا تَذَرُ مِن شَىْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيم } (3) وقوله تعالى { تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءِ بِأَمْرِ رَبِّهَا } (4) ..
وجْه الدلالة : أنّ الآيتيْن بَيَّنَتَا أنّ الرياح التي أَهْلَكَتْ ثمود ما تَرَكَتْ شيئاً مَرَّتْ عليه إلا جَعَلَتْه كالرميم ، والتدمير هُنَا عامّ وشامِل بقرينة { مِن شَىْء } و{ كُلَّ شَىْء } ، لكنّ المُشاهَد أنّ هناك بعض الأشياء قدْ خرجَت عن هذا العموم ولم يَشْمَلْها التدمير : كالسماوات والجبال ، ولِذا كان هذا تخصيصاً لِلعموم بالعقل بالحِسّ (5) .
رابعاً – تحرير محلّ النزاع :
حَرَّر الشيرازي ـ رحمه الله تعالى ـ محلّ النزاع في تخصيص العموم بدليل العقل حينما قَسَّم دليل العقل إلى ضرْبيْن :
أحدهما : ما يجوز ورود الشرع بخلافه ، وذلك ما يقتضيه العقل مِن براءة الذِّمَّة ..
(1) سبق تخريجه .(1/235)
(2) يُرَاجَع : البحر المحيط 3/355 والمستصفى /245 وقواطع الأدلّة 1/359 والعدّة 2/547 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/147 والمسوّدة /118 والتنقيح مع التلويح 1/68 وروضة الناظر 2/147
(3) سورة الذاريات الآية 42
(4) سورة الأحقاف مِن الآية 25
(5) يُرَاجَع : المستصفى /245 والإحكام لِلآمدي 2/317 ونهاية السول 2/117 ومناهج العقول 1/115 والعدّة 2/547 ومختصر المنتهى مع شَرْح العضد 2/147 والمسوّدة /118 والتنقيح مع التلويح 1/68 وروضة الناظر 2/147
فهذا لا يجوز التخصيص به ، وخارِج محلّ نزاعنا ؛ لأنّه إنما يُسْتَدَلّ به لِعدم الشرع ، فإذا وَرَد الشرع سَقَط الاستدلال به وصار الحُكْم لِلشرع .
والثاني : ما لا يجوز ورود الشرع بخلافه ..
وذلك مِثْل : ما دَلّ عليه العقل مِن نَفْي الخَلْق عن صفاته ، فيجوز التخصيص به (1) ، وهذا هو محلّ النزاع .
خامساً – مذاهب الأصوليّين في تخصيص العموم بدليل العقل :
اخْتَلَف الأصوليّون في تخصيص العموم بدليل العقل على مذْهبيْن :
المذهب الأول : جواز التخصيص به .
وهو ما عليه الجمهور ، واختاره الشيرازي (2) والبصري (3) والغزالي (4) والكلوذاني (5) والسمرقندي (6) والباجي (7) والبيضاوي (8) رحمهم الله تعالى .
المذهب الثاني : عدم جواز التخصيص به .
نَسَبه الآمدي ـ رحمه الله تعالى ـ لِطائفة شاذّة مِن المُتَكَلِّمين (9) ، ونَسَبه البعض إلى قوْم (10) ، وهو ظاهِر نَصّ الإمام الشافعي - رضي الله عنه - في
(1) اللُّمَع /18 بتصرف ويُرَاجَع البحر المحيط 3/356
(2) اللُّمَع /18
(3) المعتمد 1/252
(4) المستصفى /245
(5) التمهيد 2/101
(6) الفصول في الأصول 1/147
(7) ميزان الأصول /318
(8) المنهاج مع شَرْحه 1/404
(9) الإحكام 2/314 ، 315
(10) يُرَاجَع : الواضح 3/373 والمسوّدة /118 ونهاية السول 2/116 ، 117 وإرشاد الفحول /156 والتمهيد لِلكلوذاني 2/101
" الرسالة " (1) .
سادساً – أدلّة المذاهب :(1/236)
أدلّة المذهب الأول :
اسْتَدَلّ أصحاب المذهب الأول ـ القائلون بجواز التخصيص بدليل العقل ـ بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : قوله تعالى { اللَّهُ خَلِقُ كُلّ شَىْء } (2) ..
وجْه الدلالة : أنّ الله تعالى هو الخالق لِكُلّ شيء ، وظاهِر النَّصّ يفيد العموم ، لكنّ العقل يأبى أنْ تدْخل الذّات العَلِيَّة في هذا العموم ؛ لأنّ الخالق لا يَكون مخلوقاً ، وقَصْر هذا العموم على غيْر الذّات العَلِيّة هو التخصيص بعَيْنه بدليل العقل (3) .
الدليل الثاني : أنّ أدلّة العقل تقضي بنا بالكتاب والسُّنَّة المتواترة والإجماع وهذه الأدلّة يجوز تخصيص العموم بها ، فكذلك يجوز تخصيصه بدليل العقل .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّ هذه الأدلّة ما جاز التخصيص بها إلا لِجواز النسخ بها ، والعقل لا يجوز النسخ به ، فمِن باب أَوْلى لا يجوز التخصيص به .
الجواب عن هذه المناقَشة :
وقدْ رُدَّتْ هذه المناقَشة : بأنّه لا يَلْزَم مِن عدم جواز النسخ به عدم التخصيص به ؛ لأنّ النسخ بيان مُدّة الحُكْم أو رَفْعه ، ولا مدخل لِلعقل في
(1) يُرَاجَع : البحر المحيط 3/356 والرسالة /54
(2) سورة الرعد مِن الآية 16 ، سورة الزمر مِن الآية 62
(3) يُرَاجَع : قواطع الأدلّة 1/360 ، 361 وشَرْح العضد مع المختصر 2/147
ذلك ..
فالصلاة ـ مَثَلاً ـ لا تقبح في العقل في وقْت دون وقْت ، بخلاف التخصيص ؛ فإنّه بيان مراد المخاطِب ، وهذا يُعْلَم بالعقل (1) .
الدليل الثالث : أنّ الشرع لا يجوز أنْ يَرِد مُخالِفاً لِمَا عُلِم بالعقل ، فإذا وَرَد اللفظ عامّاً فيما تُعْلَم صِحّته بالعقل وفيما تُعْلَم استحالته بالعقل عُلِم أنّه مقصور على ما عُلِمَتْ صِحّته بالعقل ، وهذا هو التخصيص ، فدَلّ ذلك على جواز تخصيص العموم بالعقل .(1/237)
الدليل الرابع : أنّه إذا جاز الانصراف عن ظاهِر اللفظ إلى المَجاز بدليل العقل ـ كما في قوله تعالى { وَسْئَلِ الْقَرْيَة } (2) ـ جاز تخصيص العموم به إذا كان اللفظ حقيقةً فيما بقي بَعْد التخصيص مِن باب أَوْلى (3) .
أدلّة المذهب الثاني :
احْتَجّ المانعون لِتخصيص العموم بدليل العقل بأدلّة ، أَذْكُر منها ما يلي :
الدليل الأول : أنّ العقل مُتَقَدِّم على ورود الدليل السَّمْعِيّ ، والقول بتخصيصه لِلعموم يَجْعَل المُتَقَدِّم مُتَأَخِّراً ؛ لأنّ المُخَصِّص يَنْبَغِي أنْ يَكون مُتَأَخِّراً ، ولِذا فلا يجوز تخصيص العموم به .
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نوقش هذا الدليل مِن وجْهيْن :
الوجه الأول : أنّا لا نُسَلِّم لكم تأخير المُخَصِّص ، بلْ يجوز أنْ يَكون مُتَقَدِّماً ومُقارِناً ومُتَأَخِّراً ؛ لأنّ الدليل يجوز أنْ يَتَقَدَّم على مدلوله .
(1) يُرَاجَع : العدّة 2/548 والتمهيد لِلكلوذاني 2/103
(2) سورة يوسف مِن الآية 82
(3) إحكام الفصول /261 بتصرف .
الوجه الثاني : أنّه يستحيل اعتقاد العموم والاستغراق في قوله تعالى { اللَّهُ خَلِقُ كُلّ شَىْء } (1) وكذلك قوله تعالى { وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء } (2) وإذا استحال العموم ثَبَت الخصوص (3) .
الدليل الثاني : أنّه قدْ ثَبت أنّ الاستثناء كالتخصيص مِن حيث إنّ كُلّ واحد منهما يُخْرِج مِن اللفظ الجامع ما لولاه لَدَخَل فيه ، ثُمّ أَجْمَعْنَا على أنّ الاستثناء لا يجوز تقديمه على المستثنى منه ، فكذلك التخصيص لا يجوز تقديم الخصوص ( دليل العقل ) على المخصوص منه ( العموم ) .
مناقَشة هذا الدليل :(1/238)
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّ الاستثناء لا يَسْتَقِلّ بنَفْسه ، فوَجَب أنْ يَتَعَلَّق بما قَبْله ، بخلاف التخصيص ؛ فإنّه يَسْتَقِلّ بنَفْسه ؛ بدليل : أنّه لو ابْتَدَأ بقوله " إلا زيْداً " لم يُقْبَلْ وإنْ قال بَعْد ذلك " رأيْتُ الناس " ، أمّا لو قال " خطابي لِلعقلاء البالغين " ثُمّ قال بَعْد ذلك " يا أيّها الناس " كان جائزاً وانْطَبَق الأول على الثاني بالتخصيص ، وبِذَا ظَهَر الافتراق بَيْن الاستثناء والتخصيص (4) .
الدليل الثالث : أنّه إذا وُجِد دليل العموم مِن الكتاب أو السُّنَّة وعارَضه دليل العقل فخَصَّصْنَاه به كان ذلك ترجيحاً لِدليل العقل على الدليل النَّقْليّ بِلا مُرَجِّح ، والترجيح بِلا مُرَجِّح مردود ، ولِذا فلا يجوز تخصيص العموم بدليل العقل .
(1) سورة الرعد مِن الآية 16 ، سورة الزمر مِن الآية 62
(2) سورة النمل مِن الآية 23
(3) يُرَاجَع : المستصفى /245 والعدّة 2/550 والتمهيد لِلكلوذاني 2/103 وقواطع الأدلّة 1/360 وإحكام الفصول /262 وشَرْح العضد 2/147 والواضح 3/374 ، 375
(4) يُرَاجَع : العدّة 2/550 والتمهيد لِلكلوذاني 2/104 والواضح 3/375 - 377
مناقَشة هذا الدليل :
وقدْ نُوقِش هذا الدَّليل : بأنّا لا نُسَلِّم لكم أنّ التخصيص بالعقل ترجيح بِلا مُرَجِّح ؛ وإنّما المُرَجِّح موجود ، وهو : أنّ عموم الأدلّة النَّقْلِيّة تَحْتَمِل التخصيص ، ولِذا تُخَصَّص بالخبر والقياس ، أمّا دليل العقل فهو صريح في قُبْح خطاب مَن لا يَفهم ، وهذه الدلالة قاطعة ، وحينئذٍ صار دليل العقل بمنزلة النَّصّ مع العموم فيُخَصِّصه (1) .
سابعاً – تعقيب وترجيح :(1/239)
بَعْد الوقوف على مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم في تخصيص العموم بدليل العقل يَتَّضِح : أنّ المذهب الأول القائل بجواز تخصيص العموم بدليل العقل هو الأَوْلى بالقبول والترجيح ؛ لأنّه قدْ ثَبَت بالأدلّة وقوعه ، وهو خير دليل على الجواز ، كما أنّ أدلّته سَلِمَتْ مِن المناقَشة والاعتراض إضافةً إلى عدم سلامة أدلّة المانعين مِن الاعتراض والمناقَشة .
ثامناً – حقيقة الخلاف في هذه المسألة ( هذا المطلب ) :
الخلاف السابق في تخصيص العموم بدليل العقل هناك مِن جهابذة الأصول مَن جَعَله خلافاً لفظيّاً ، ولِذا فإنِّي سأَعْرِض ما وَقَفْتُ عليه مِن هذه الأقوال ثُمّ أَخْتِم برأيي في ذلك :
القول الأول : لإمام الحرميْن ـ رحمه الله تعالى ـ في " البرهان " ..
وهو :" فإنّ تَلَقِّي الخصوص مِن مأخذ العقل غيْر مُنْكَر ، وكَوْن اللفظ موضوعاً لِلعموم في أصْل اللسان لا خلاف فيه مع مَن يَعترف ببطلان مذهب الواقفيّة ، وإن امْتَنَع مُمْتَنِع مِن تسمية ذلك " تخصيصاً " فليس في إطلاقه مخالَفة عَقْل ولا شَرْع ، فلا أَثَر لِهذا الامتناع ، ولَسْتُ أَرَى هذه
(1) يُرَاجَع : شَرْح العضد 2/147 والتمهيد لِلكلوذاني 2/104
المسألة خلافيّةً في التحقيق " ا.هـ (1) .
القول الثاني : لِلغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ في " المستصفى " ..
وهو :" قال قائلون : " لا يُسَمَّى دليل العقل مُخَصِّصاً لِهذا الحال " ، وهو نزاع في عبارة ؛ فإنّ تسمية الأدلّة " مُخَصِّصةً " تجوز ؛ فقدْ بَيَّنَّا أنّ تخصيص العامّ مُحَال ، لكنّ الدليل يُعَرِّف إرادة المُتَكَلِّم وأنّه أراد باللفظ الموضوع لِلعموم معنىً خاصّاً ، ودليل العقل يجوز أنْ يُبَيِّن لنا أنّ الله تعالى ما أراد بقوله { خَلِقُ كُلّ شَىْء } (2) نَفْسَه أو ذاته " ا.هـ (3) .
القول الثالث : لِلفخر الرازي ـ رحمه الله تعالى ـ " في " المحصول " ..(1/240)
وهو :" ومنهم مَن نازَع في تخصيص العموم بدليل العقل ، والأشبه عندي أنّه لا خلاف في المعنى ، بلْ في اللفظ " ا.هـ (4) .
القول الرابع : لِلآمدي ـ رحمه الله تعالى ـ في " الإحكام " ..
وهو :" في قوله تعالى { اللَّهُ خَلِقُ كُلّ شَىْء } (5) فقدْ خَرَجَتْ ذاته وصفاته بدلالة ضرورة العقل عن عموم اللفظ ، وذلك بما لا خلاف فيه بَيْن العقلاء ، ولا نعني بالتخصيص سِوَى ذلك ، فمَن خالَف في كَوْن دليل العقل مُخَصِّصاً مع ذلك فهو مُوافِق على معنى التخصيص ومُخالِف في التسمية " (6) .
وإنّي مع هؤلاء الأئمّة ـ رحمهم الله تعالى ـ في أنّ الخلاف في هذه المسألة خلاف لَفْظِيّ ، بمعنى أنّ المذْهبيْن يَتَّفِقَان في الجوهر والمعنى ؛
(1) البرهان 1/409
(2) سورة الرعد مِن الآية 16 ، سورة الزمر مِن الآية 62
(3) المستصفى /245
(4) المحصول 1/427
(5) سورة الرعد مِن الآية 16 ، سورة الزمر مِن الآية 62
(6) الإحكام 2/314
لأنّ مقتضى العقل ـ كما ذَكَر الزركشي ـ ثابِت دون اللفظ إجماعاً ، لكنّ الخلاف في تسْميته " تخصيصاً " : فالخصم لا يُسَمِّيه لأنّ المُؤَثِّر في التخصيص هو الإرادة لا العقل ، ولأنّ دليل العقل سابِق ، فلا يعمل في اللفظ ، بلْ يَكون مُرَتَّباً عليه ، ومعنى قولنا " إنّه مُخَصِّص " أنّ الدليل دَلّ على أنّ المراد به الخصوص ، ولِذلك العقل هذا الحظّ ، والدليل لا يخصّ ، ولكنّه يُعلم أنّه القصد ، فلا فَرْق ـ إِذَنْ ـ بَيْن دليل العقل والسمع في ذلك " ا.هـ (1) .
لكنّي لستُ مُتَّفِقاً مع الإمام الجويني ـ رحمه الله تعالى ـ في حُكْمه على هذه المسألة بقوله :" وهذه المسألة قليلة الفائدة نزرة الجدوى والعائدة " ا.هـ (2) ؛ وإنّما لها فوائد عظيمة وثمارا طَيِّبة ..
أهمّها ( عندي ) :(1/241)
1- إزالة اللبس الواقع في عموم بعض النصوص الشّرْعيّة التي لم تُخَصَّص بدليل سَمْعِيّ ، ولولا تخصيصها بدليل العقل لَوَقَعْنَا في المحظور : كما في قوله تعالى { اللَّهُ خَلِقُ كُلّ شَىْء } (3) .
2- اهتمام جمهرة الأصوليّين بدراستها وبَحْثها وتخصيص مَوْضِع لها في مَراجعهم .
3- أنّ لَفْظِيّة النزاع في هذه المسألة لا يعني قِلّة الفائدة المُتَرَتِّبة على دراستها وبَحْثها .
4- بيان منزلة العقل في التشريع وكيْف أنّ الشريعة جَعَلَتْه دليلاً وفْق ضوابط وشروط ؛ حتى نَرُدّ اليوم على مَن يَتَّهِم الإسلام بالجمود ومُصادَرة
(1) البحر المحيط 3/357
(2) البرهان 1/409
(3) سورة الرعد مِن الآية 16 ، سورة الزمر مِن الآية 62
التفكير والحَجْر على العقول .
وما أَحْلَى كلام الفخر الرازي ـ رحمه الله تعالى ـ في ذلك بقوله : " لأنّ العقل أصْل النقل ، فالقدح في العقل قَدْح في أصْل النقل ، والقدح في الأصل لِتصحيح الفرع يُوجِب القدح فيهما معاً " ا.هـ (1) .
(1) المحصول 1/427
المبحث الثاني
أثر المخصّصات المشتركة
بَيْن الكتاب والسُّنَّة في الأحكام
وفيه فروع :
الفرع الأول : استقبال القِبْلَة واستدبارها في غيْر الخلاء .
الفرع الثاني : حَدّ العبد القاذف .
الفرع الثالث : زكاة الأنعام المعلوفة .
الفرع الأول
استقبال القِبْلة واستدبارها في غيْر الخلاء
النَّصّ الوارد في عدم جواز الاستقبال :
قوله - صلى الله عليه وسلم - { إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ فَلاَ يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَة } (1) و{ إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلاَ بَوْلٍ وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهُمَا ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا } (2) .
النَّصّ الوارد في جواز الاستقبال :(1/242)
ما رواه ابن عُمَر رضي الله عنهما قال :" رَقِيتُ يَوْماً عَلَى بَيْتِ حَفْصَةَ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَة " (3) .
فالنَّصّ الأول نَهَى عن استقبال القِبْلَة أو استدبارها عند إتيان الغائط ، وهو عامّ في الصحراء وفي غيْرها .
والنَّصّ الثاني دالّ على جواز استدبار القِبْلة في المَباني .
ولِذا كان هناك تَعارُض ظاهريّ بَيْن العامّ المُتَقَدِّم والخصوص المُتَأَخِّر ولِذا اخْتَلَف العلماء في إزالة هذا التعارض على أقوال :
القول الأول : أنّ حديث ابن عُمَر رضي الله عنهما ناسِخ لِلمُتَقَدِّم ، ولِذا يثبت به الإباحة مُطْلَقاً في الخلاء والمَباني .
القول الثاني : أنّ حديث ابن عُمَر رضي الله عنهما خاصّ بالنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ،
(1) سبق تخريجه .
(2) سبق تخريجه .
(3) سبق تخريجه .
ولِذا يبقى الأول عندهم على عمومه .
وهو ما رَجَّحه ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى .
القول الثالث : أنّ حديث ابن عُمَر رضي الله عنهما مُخَصِّص لِعموم الأول فيَكون قاصراً على غيْر البنيان ـ أي الصحاري ـ حيث لا سترة .
وهو مذهب الإمام مالك - رضي الله عنه - .
والأَوْلى عندي : القول الثالث ؛ جَمْعاً بَيْن الدليليْن ، كما أنّ القول بخصوصيّته لِلنَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ليس هناك ما يؤكِّده أو يدلّ عليه (1) .
نَوْع التخصيص في هذا الفرع :
والتخصيص هُنَا تخصيص العموم بفعله - صلى الله عليه وسلم - .
أثر هذا التخصيص في الأحكام :
اخْتَلَف العلماء في حُكْم استقبال القِبْلة واستدبارها في غيْر الصحراء على أقوال :
القول الأول : جواز استدبار القِبْلة دون الاستقبال .
وهو مَحْكِيّ عن الإماميْن أبي حنيفة وأحمد رضي الله عنهما .
وحُجّتهم : ظاهِر نصّ حديث ابن عُمَر رضي الله عنهما :" مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَة " .(1/243)
القول الثاني : جواز استدبار القِبْلة واستقبالها في البنيان .
وهو قول الجمهور ، ومذهب مالك والشافعي وإسحاق (2) - رضي الله عنهم - .
(1) يُرَاجَع : إحكام الأحكام /53 وفتْح الباري 1/345 وبداية المُجْتَهِد 1/87 ، 88 ونَيْل الأوطار 1/80
(2) إسحاق : هو أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي المروزي رحمه الله تعالى ، المعروف بـ" ابن راهويه " ، جالَس الإمامَ أحمدَ - رضي الله عنه - ، وناظَر الإمامَ الشّافعيَّ - رضي الله عنه - ثُمّ صار مِن أتباعه وجَمَع كُتُبه ، حَفِظ سبعين ألْف حديث .. =
وحُجّتهم : أنّه لا فارِق بَيْن استقبال القِبْلَة واستدبارها ، فإنْ أَثْبَت النَّصُّ الاستدبارَ فكذلك الاستقبال ؛ لأنّ العلّة واحدة .
القول الثالث : حرمة استقبال القِبْلَة واستدبارها مُطْلَقاً في الصحراء والبنيان .
وهو قوْل أبي ثوْر وابن العربي المالكي وابن حزْم (1) رحمهم الله تعالى ، والمشهور عن أبي حنيفة وأحمد رضي الله عنهما .
وحُجّتهم : أنّ النهي مُقَدَّم على الإباحة .
القول الرابع : الجواز مُطْلَقاً في الصحراء وفي البنيان .
وهو قول السيدة عائشة رضي الله عنها وعروة وربيعة (2) وداود رحمهم الله تعالى .
وحُجّتهم : أنّ الأحاديث تَعارضَت ، وعند التعارض رَجَعْنَا إلى الأصل وهو الإباحة ، ولِذا جاز استقبال القِبْلة واستدبارها مُطْلَقاً ، سواء في الصحراء أم في البناء (3) .
= مِن مصنَّفاته : المُسْنَد ، التفسير .
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بنيسابور سَنَة 238 هـ .
الطبقات الكبرى 2/83 وطبقات الحنابلة 1/109
(1) ابن حزْم الظاهري : هو علِيّ بن أحمد بن سعيد بن حزْم الفارسي الأصل ثُمّ الأندلسي القرطبي ، الفقيه الحافظ المُتَكَلِّم الأديب ، أستاذ الفقه الظاهري ..
مِن مصنَّفاته : المُحَلَّى ، الإحكام في أصول الأحكام ، الإملاء في شَرْح الموطأ .
تُوُفِّي سَنَة 456 هـ .(1/244)
وفيات الأعيان 3/325 - 330 وطبقات الحُفّاظ /436 ، 437
(2) ربيعة : هو أبو عثمان ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ القرشي التميمي المدني رحمه الله تعالى تابعيّ جليل ، فقيه مُحَدِّث ، عُرِف بالرأي والقياس ، شيْخ الإمام مالك - رضي الله عنه - ..
تُوُفِّي رحمه الله تعالى بالمدينة سَنَة 136 هـ .
وفيات الأعيان 2/50 وشذرات الذهب 1/194
(3) يُرَاجَع : فتْح الباري 1/246 ونَيْل الأوطار 1/81 وبداية المجتهد 1/88 والكافي 1/97 =
والقول الثاني القائل بجواز استدبار القِبْلة واستقبالها في البناء دون الصحراء هو الأَوْلى عندي بالقبول والترجيح ؛ جَمْعاً بَيْن الدليليْن ، وإعمالاً لِقاعدة تخصيص العموم بفعل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - .
= والمُهَذَّب 1/106 ، 107 والمجموع 2/86 - 90 والخرشي وحاشية العدوي 1/146
الفرع الثاني
حدّ العبد القاذف
النَّصّ الوارد فيه :
قوله تَبارَك وتعالى { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَنِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَدَةً أَبَدًا وَأُولَئكَ هُمُ الْفَسِقُون } (1) ..
وجْه الدلالة : أنّ الله تعالى بَيَّن حُكْم قاذِف المحصَنات الذي لم يأتِ بأربعة شهداء ، وهو الجَلْد ثمانين جَلْدَةً ، وهذا حُكْم عامّ في كُلّ قاذِف ، ذَكَراً كان أم أنثى ، حُرّاً كان أم عبداً ..
لكنّ الإجماع انْعَقَد على أنّ حدّ العبد القاذف أربعون جَلْدَةً ، وهو نِصْف حدّ الحُرّ (2) .
نَوْع التخصيص في هذا الفرع :
والتخصيص هُنَا تخصيص لِلعموم بالإجماع ، وقدْ سَبَق أنْ بَيَّنَّا أنّ المراد بالتخصيص بالإجماع أنّ العلماء لم يخصّوا العامّ بالإجماع ، وإنّما أَجْمَعوا على تخصيصه بدليل آخَر ، ثُمّ إنّ الآتي بَعْدهم يَلْزَمه متابَعتهم وإنْ لم يَعْرِف المُخَصِّص (3) .
(1) سورة النور الآية 4(1/245)
(2) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع بيان المختصر 2/324 ، 325 والإحكام لِلآمدي 2/304 والمحصول 1/430 والكاشف 4/512 ، 513 والإبهاج 2/183 ونهاية السول 2/165 ، 166
(3) نهاية السول 2/166 ويُرَاجَع : الكاشف 4/513 والإبهاج 2/183
أثر هذا التخصيص في الأحكام :
اخْتَلَف العلماء في حدّ العبد القاذف على قوْليْن :
القول الأول : حدّه نِصْف حدّ الحُرّ ( أربعون جَلَدْة ) .
وهو ما عليه الجمهور ، ورُوِي عن الخلفاء الأربعة وعن ابن عباس - رضي الله عنهم - .
القول الثاني : حدّه حدّ الحُرّ ( ثمانون جَلْدَة ) .
وهو قول أبي ثَوْر والأوزاعي وداود رحمهم الله تعالى ، ورُوِي عن ابن مسعود (1) وعُمَر بن عبد العزيز (2) - رضي الله عنهم - (3) .
والأَوْلى عندي : ما عليه الجمهور أنّه يُحَدّ نِصْف حَدّ الحُرّ ( أربعين جَلْدَةً ) ؛ قياساً على حدّه في الزنا ، وتفريعاً على تخصيص العموم بالإجماع .
(1) عبد الله بن مسعود : هو الصّحابيّ الجليل أبو عبد الرَّحْمن عبد الله بن مسعود بن غافل ابن حبيب الهذلي المدني - رضي الله عنه - ، أوّل مَن جَهَر بالقرآن في مكة ، شَهِد المَشاهد كُلّها مع النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، كان صاحِب سِرّ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ووسادِه وسواكِه ونَعْلَيْه وطهوره في السَّفَر ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - بالمدينة سَنَة 32 هـ ودُفِن بالبقيع .
المُنْتَظِم 5/29 والبداية والنهاية 5/336
(2) عُمَر بن عبد العزيز : هو أبو حفص عُمَر بن عبد العزيز بن مروان بن الحَكَم الأموي القرشي - رضي الله عنه - ، وُلِد بحلوان مصر سَنَة 60 هـ ، تَوَلَّى الخلافة سَنَة 99 هـ بعهْد من سليمان بن عبد الملك ، لُقِّب بـ" خامس الخلفاء الراشدين " ..
تُوُفِّي - رضي الله عنه - مسموماً سَنَة 101 هـ ودُفِن بدمشق .
الأعلام 5/23 ، 24 والفتح المبين 1/99 - 101
(3) يُرَاجَع بداية المجتهد 2/441 ، 442
الفرع الثالث(1/246)
زكاة الأنعام المعلوفة
النَّصّ الوارد فيها :
حديث { فِي كُلِّ سَائِمَةِ إِبِلٍ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُون } (1) .
وحديث { فِي كُلِّ خَمْسٍ مِنَ الإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاة } (2) .
وحديث { وَصَدَقَةُ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاة } (3) ..
وجْه الدلالة : أنّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْجَب الزكاة في الإبل والغَنَم ـ وكذا البقر ـ بشَرْط أنْ تَكون سائمةً ، وهذا حُكْم أفاد العموم في كُلّ ماشية بشَرْطها المُتَقَدِّم وهو السّوم ، ودَلّ مفهومه على عدم الزكاة في غيْر السائمة .
نَوْع التخصيص في هذا الفرع :
والتخصيص هُنَا تخصيص لِلعموم بالمفهوم (4) .
أثر هذا التخصيص في الأحكام :
اخْتَلَف العلماء في حُكْم زكاة الأنعام المعلوفة على قوْليْن :
القول الأول : عدم وجوب الزكاة فيها .
(1) أَخْرَجه أبو داود في كتاب الزكاة : باب في زكاة السائمة برقم ( 1344 ) والدارمي في كتاب الزكاة : باب ليس في عوامل الإبل صدقة برقم ( 1615 ) ، كلاهما عن معاوية بن حيدة - رضي الله عنه - .
(2) أَخْرَجه الحاكم في المُسْتَدْرَك والنسائي في الديات وأبو داود في المراسيل عن عمرو بن حزم عن أبيه عن جدّه .. يُرَاجَع الدراية في تخريج أحاديث الهداية 1/251
(3) أَخْرَجه البخاري في كتاب الزكاة : باب زكاة الغَنَم عن أبي بَكْر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - برقم ( 1362 ) .
(4) يُرَاجَع : مختصر المنتهى مع بيان المختصر 2/325 ، 326 والإحكام لِلآمدي 2/305 وكَشْف الأسرار لِلبخاري 2/471 ، 472
وهو ما عليه الجمهور (1) .
القول الثاني : وجوب الزكاة فيها .
وهو ما عليه المالكيّة .(1/247)
والأَوْلى عندي : ما عليه المالكيّة ؛ لأنّه لا يُعْقَل أنْ نَترك أصحاب مَزارع الماشية التي تُقَدَّر بالآلاف أو الملايين دُون دَفْع زكاتها ونُطالِب صاحِب الخَمْس إبل أو الثلاثين بقرةً بزكاتها إلا إذا قُوِّمَتْ وزُكِّيَتْ زكاة عَرُوض التجارة ..
وحُجّة المالكيّة (2) أَرَاها وجيهةً ومقبولةً ؛ فقدْ قالوا : إنّ التقييد في الحديث بالسائمة لأنّ السّوم هو الغالب على مواشي العرب ، فهو مِن نظير قوله تعالى { وَرَبَئبُكُمُ الَّتِى فِى حُجُورِكُم } (3) .
وعلى هذا يَكون الفرع غيْر مُخَرَّج على القاعدة ( تخصيص العموم بالمفهوم ) ، أمّا على قول الجمهور فيَكون مُخَرَّجاً عليها .
(1) يُرَاجَع : المهذَّب 2/465 ، 466 والمُغْنِي لابن قدامة 2/577 وشَرْح فتْح القدير 1/509
(2) يُرَاجَع الدسوقي على الشرح الكبير 1/432
(3) سورة النساء مِن الآية 23
الخاتمة
الحمد لله ربّ العالَمين ، حمداً يُوافِي نِعَمه ويكافئ مَزِيده ، وأَشْهَد أنْ لا إله إلا الله العليم الحكيم ، مَن يُرِدْ به خيراً يُفَقِّهْه في الدّين ، وأَشْهَد أنّ سَيِّدنا محمّداً عَبْد الله ورسوله ، إمام المُرْسَلين ، وخيْر مَن دَعَا إلى العِلْم والتَّفَقُّه في الدِّين ، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصَحْبه ومَن تَبِعهم بإحسان إلى يوْم الدين .. وبَعْد ..
فها أنا ذا أَصِل إلى نهاية بَحْث هذا الموضوع الذي شَرَح الله تعالى صدْري إليه وأنار قَلْبي لِدراسته واستيعابه ؛ لارتباطه بسراجَي الأُمَّة وأصول تشريعها ( الكتاب والسُّنَّة ) ، والذي تَنَاوَلْتُ فيه أحد جوانب أنوارهما وإشراقاتهما التّشْريعيّة المُتَعَلِّقة بأنواع التخصيص الواقع فيهما وبَيْنهما ..(1/248)
وكم كانت سعادتي حينما عايَشْتُ هذا الموضوع طالباً ودارساً وباحثاً ، أحاوِل الوقوف على قواعد التخصيص في الكتاب والسُّنَّة ، والذي ـ ولله الحمد والمِنَّة ـ لم أَقِفْ على أحد مِن الأصوليّين سَبَقَنِي في إفراد هذا الموضوع بمُصَنَّف مُسْتَقِلّ ؛ عَلِّي بذلك أَكون أهلاً لِلانتساب لِلمدرسة الأصوليّة وخادماً لِلأصوليّين والعلماء العاملين .
وهذه أهمّ النتائج التي يُمْكِن استنتاجها مِن خلال هذا البحث ، والتي أَعْتَبِرها موادّاً أو قواعد أصوليّةً مُؤَصّلةً وفْق الراجح عندي في كُلّ مطلب وقدْ حَصَرْتُها فيما يلي :
1- التخصيص لغةً : الانفراد بالشيء .
واصطلاحاً : قَصْر العامّ على بعض أفراده .
2- شروط التخصيص ثلاثة :
الأول : وجود العامّ ، سواء كان مُقارِناً لِلتخصيص أم مُتَقَدِّماً أم مُتَأَخِّراً .
الثاني : بقاء واحد أو جَمْع مِن العامّ المُخَصَّص .
الثالث : وجود دليل لِهذا التخصيص .
3- أركان التخصيص ثلاثة :
الأول : مُخَصِّص ، ويُطْلَق مَجازاً على الدليل أو المفيد لِلتخصيص .
الثاني : مُخَصَّص ، وهو العامّ .
الثالث : تخصيص ، وهو الفعل نَفْسه .
4- الخاصّ : لَفْظ وُضِع لِواحد أو لِكثير محصور وضعاً واحداً .
والخصوص : كَوْن اللفظ مُتَنَاوِلاً لِبعض ما يَصْلُح له لا لِجميعه .
وهي تَتَّفِق في المعنى ، وهو : الانفراد بالشيء مع التخصيص .
5- الخاصّ له أحكامه ، وهو يَنْقَسِم إلى : أمْر ونَهْي ومُطْلَق ومُقَيَّد ، وهو خلاف التخصيص .
6- النسخ يَتَّفِق مع التخصيص في أنّ كُلاًّ منهما فيه رَفْع أو قَصْر لِلحُكْم أو بعضه ، إلا أنّهما يَفْتَرِقان في وجوه عِدّة .
7- الاستثناء المُتَّصِل تخصيص ، ولِذا فالعلاقة بَيْنهما عموم وخصوص : فكُلّ استثناء مُتَّصِل تخصيص ، وليس كُلّ تخصيص استثناءً ، إلا أنّهما يَفْتِرقان ـ أيضاً ـ مِن وجوه .
8- التخصيص جائز وواقِع مُطْلَقاً ، أيْ في الخبر والأمر والنهي .(1/249)
9- اللفظ المتناوِل لِلواحد لا يَقْبَل التخصيص ، واللفظ المُتَنَاوِل لأكثر مِن واحد يجوز تخصيصه ، وقدْ اخْتَلَف الأصوليّون في جواز تخصيص العِلّة
كما اخْتَلَفوا في تخصيص المفهوم مُوافَقةً ومُخالَفة .
10- العامّ : لَفْظ وُضِع وضعاً واحداً لِكثير غيْر محصور مُسْتَغْرِق جميع ما يَصْلُح له .
وهناك فروق بَيْن العامّ المخصوص والعامّ المراد به الخصوص ، والعامّ المخصوص هو الذي يَحتاج إلى تخصيص .
11- الغاية التي يَنْتَهِي إليها التخصيص إلى أنْ يَبْقَى واحد مِن العموم بَعْد تخصيصه ، والعامّ بَعْد تخصيصه يَصبح حقيقةً في الباقي ، ويجوز العمل بالعامّ قَبْل البحث عن المُخَصِّص .
12- المُخَصِّصات تَنْقَسِم إلى قِسْمَيْن :
القِسْم الأول : مُخَصِّصات مُتَّصِلة ..
وهي : الاستثناء ، والشرْط ، والغاية ، والصفة ، وبدل البعض مِن الكُلّ .
القِسْم الثاني : مُخَصِّصات مُنْفَصِلَة ..
13- المُخَصِّصات المُنْفَصِلة السَّمْعِيَّة ( الشَّرْعِيّة ) والعقليّة أربعة عَشَر مُخَصِّصاً : الكتاب ، والسُّنَّة ، والإجماع ، والقياس ، والمفهوم ، وفِعْل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وتقريره ، ومذهب الراوي ، والعادة ، وخصوص السبب ، وعَوْد الضمير إلى بعض أفراد العامّ ، وإفراد فَرْد مِن أفراد العامّ بحُكْمه ، وعَطْف العامّ على الخاصّ ، ودليل العقل .
14- المُخَصِّصات المُتَّصِلة هي التي لا تَسْتَقِلّ عن الكلام السابق ، وإنّما تَتَوَقَّف على الكلام الذي اشْتَمَل على المُخَصِّص ..
وأنواعها : الاستثناء ، والشَّرْط ، والصفة ، والغاية ، وبدل البعض مِن الكُلّ .
15- تخصيص الكتاب بالكتاب جائز وواقِع ..
ومِن ذلك : قوله تعالى { وَالْمُطَلَّقَتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَثَةَ قُرُوء } (1) مع قوله تعالى { وَأُولَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ } (2) ؛ فالآية الثانية خَصَّصَتْ عموم الأُولى .(1/250)
16- تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة جائز وواقِع ..
ومِن ذلك : قوله تعالى { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنثَيَيْن } (3) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِث } (4) ، وهذا الحديث كان متواتراً زمن الصحابة - رضي الله عنهم - .
17- تخصيص الكتاب بسُنّة الآحاد جائز وواقِع ..
ومِن ذلك : قوله تعالى في المُحَرَّمات مِن النساء { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم } (5) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا } (6) .
18- ( إذا خُصّ أحد العموميْن في الكتاب : هلْ يَلْزَم منه تخصيص الآخَر ؟ ) أَوْلى عندي مِن تعبيرات بعضهم بـ( رجوع الضمير إلى البعض ليس بتخصيص ) و( عَوْد ضمير خاصّ لا يُخَصِّص ) و( العموم إذا تَعَقَّبه تقييد بشَرْط أو صفة أو استثناء أو حُكْم ) و( إذا كان أول الآية عامّاً
(1) سورة البقرة مِن الآية 228
(2) سورة الطلاق مِن الآية 4
(3) سورة النساء مِن الآية 11
(4) أَخْرَجه الترمذي في كتاب الوصايا عن رسول الله : باب ما جاء لا وصيّة لِوارث برقم ( 2046 ) وأبو داود في كتاب الوصايا : باب ما جاء في الوصيّة لِلوارث برقم ( 2486 ) كلاهما عن أبي أمامة الباهليّ - رضي الله عنه - ، والنسائي في كتاب الوصايا : باب إبطال الوصيّة لِلوارث عن عمرو بن خارجة - رضي الله عنه - برقم ( 3581 ) .
(5) سورة النساء مِن الآية 24
(6) سبق تخريجه .
وآخِرها خاصّا ) .
19- صُوَر هذه المسألة حَصَرْتُها في خَمْس : تَقَدُّم الخاصّ على العامّ ، والتقييد بالشَّرْط ، والتقييد بالصِّفَة ، والتقييد بالحُكْم ، والتقييد بالاستثناء .
20- إذا خُصّ أحد العموميْن في الكتاب ـ تَقَدَّم أم تَأَخَّر ـ لم يَلْزَمْ منه تخصيص العامّ الآخَر ، وإنّما يُحْمَل كُلّ واحد منهما على ما يقتضيه لَفْظه مِن خصوص أو عموم ..(1/251)
ومِن ذلك : قوله تعالى { يَأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ } (1) مع قوله تعالى { لا تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرا } (2) فأوَّل الآية عامّ في كُلّ مُطَلَّقة ، وآخِرها خاصّ بالرَّجْعِيَّة ؛ لأنّ البائن لا رجعة لها .
21- ( تخصيص السُّنَّة بالكتاب ) أَوْلى عندي مِن تعبيرات بعضهم بـ( تخصيص السُّنَّة المتواترة بالكتاب ) و( تخصيص خبر الواحد بالكتاب ) ..
وتخصيص السُّنَّة بالكتاب جائز وواقِع ..
ومِن ذلك : قوله تعالى { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَثًا وَمَتَعًا إِلَى حِين } (3) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّت } (4) .
22- ( تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة ) أَوْلى عندي مِن تعبيرات بعضهم بـ( تخصيص السُّنَّة المتواترة بالسُّنَّة المتواترة ) و( النَّصّ الخاصّ يُخَصِّص اللفظ العامّ ) ..
(1) سورة الطلاق مِن الآية 1
(2) سورة الطلاق مِن الآية 1
(3) سورة النحل مِن الآية 80
(4) سبق تخريجه .
وهو جائز وواقِع ..
ومِن ذلك : قوله - صلى الله عليه وسلم - { فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْر } (1) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَة } (2) .
23- جواز التخصيص بتقرير أو إقرار النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مُطْلَقاً لِلفاعل ولِغَيْره ، وُجِدَتْ عِلّة أو لم تُوجَدْ .
24- تخصيص العموم بقول الصّحابيّ جائز بشَرْطيْن :
الأول : انتشاره بَيْن الصحابة - رضي الله عنهم - .
والثاني : أنْ لا يُعْلَم له مُخالِف ؛ لِيُصْبِح حُجّةً في حُكْم الإجماع .
نَحْو : تخصيص عموم حديث { لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلاَ فَرَسِهِ صَدَقَة } (3) بالخيل التي يُغْزَى عليها أو السائمة كما ذهب ابن عباس وعثمان - رضي الله عنهم - .(1/252)
أمّا تخصيص العموم بمذهب الراوي فلا يجوز ؛ لأنّه يَجْعَل قول الراوي حُجّةً ، وفيه تَرْك لِلظّاهر بالشَّكّ ..
نَحْو : تخصيص عموم حديث { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوه } (4) بحبس المرأة وعدم قَتْلها بقول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ الراوي لِهذا الحديث .
25- تخصيص العموم بفعل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بشَرْط أنْ لا يَكون خاصّاً به - صلى الله عليه وسلم - ، وأنْ لا يَرْفَع حُكْم العموم بالكُلِّيَّة ، وأنْ يَكون ظاهراً ، نَحْو : استدباره - صلى الله عليه وسلم - القِبْلة عند قضاء الحاجة في المَبَاني .
(1) سبق تخريجه .
(2) سبق تخريجه .
(3) سبق تخريجه .
(4) سبق تخريجه .
26- إذا وَرَد لَفْظ العموم وكان مَبْنِيّاً على سؤال أو سبب خاصّ لا يُعَدّ هذا تخصيصاً لِهذا العموم ، وإنّما يَبْقَى الحُكْم على عمومه ، ولا عِبْرَة بسببه ؛ لأنّ القاعدة ( العِبْرَة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ) .
27- تخصيص عموم الكتاب والسُّنَّة بالإجماع جائز وواقِع ..
ومِن ذلك : قوله تعالى { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنثَيَيْن } (1) مع الإجماع على قَصْر هذا الحُكْم على الحُرّ دون العبد .
28- تخصيص عموم الكتاب والسُّنَّة بالقياس جائز وواقِع ..
ومِن ذلك : قوله تعالى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة } (2) والصحابة - رضي الله عنهم - قاسوا العبد على الأَمَة في نِصْف حَدّ الحُرّ في قوله تعالى { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَتِ مِنَ الْعَذَاب } (3) .
29- تخصيص عموم الكتاب والسُّنَّة بفعل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - جائز وواقِع ..(1/253)
ومِن ذلك : قوله تعالى { وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْن } (4) مع قول السيدة عائشة والسيدة ميمونة رضي الله عنهما :" كَانَتْ إِحْدَانَا إِذَا حَاضَتِ اتَّزَرَتْ وَدَخَلَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شِعَارِه " (5) .
30- تخصيص عموم الكتاب والسُّنَّة بالعرف والعادة لا يجوز ؛ لأنّها تُصْبِح قاضيةً على الشرع ..
أمّا تأثيرها في تحديد المراد باللفظ والذي يُرْجَع إلى العرف فيه فهو مشروع ، وهذا هو مقصودهم بـ( العادة مُحَكَّمة ) .
(1) سورة النساء مِن الآية 11
(2) سورة النور مِن الآية 2
(3) سورة النساء مِن الآية 25
(4) سورة البقرة مِن الآية 222
(5) سبق تخريجه .
31- تخصيص العموم بالمفهوم ـ مُوافِقاً كان أم مُخالِفاً ـ جائز بشَرْط أنْ لا يَمْنَع مِن التخصيص بالمفهوم دليل أَقْوَى منه ، وأنْ لا يعارِض المفهومُ المنطوقَ بالإسقاط والإبطال ..
وقدْ وَقَع في نَحْو : قوله - صلى الله عليه وسلم - { فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاة } (1) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - { فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاة } (2) ؛ فلا زكاة في المعلوفة .
32- أنّ دليل العقل مراد به دلالة العقل أو فَهْمه لِمَا وَرَد الشرع به ، لا لأنّه مُشَرِّع ومَصْدَر لِلأحكام ، ولأنّ العقل ـ كما ذَكَر الجصّاص رحمه الله تعالى ـ حُجّة لله تعالى تُبَيِّن مراده بالآية .
33- تخصيص العموم بدليل العقل جائز وواقِع ..
ومِن ذلك : قوله تعالى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } (3) ؛ فالعقل يُخْرِج الصَّبِيّ والمجنون المستطيع مِن هذا العموم .
34- أنّ أثر هذه القواعد الأصوليّة في الفقه الإسلامي واستخراج الأحكام على ضوئها كان عظيماً وواضحاً ، تَأَكَّد ذلك مِن خلال الفروع الفقهيّة التي أَوْرَدْنَا بعضاً منها عقب الفصول الثلاثة الأخيرة .(1/254)
وختاماً .. أسأل الله العليّ القدير السميع القريب المجيب أنْ يَجْعَل عملي هذا خالصاً لِوجْهه الكريم ؛ حتى يَكون ذخراً لي ولِوالدَيّ ولأصحاب الحقوق علَيّ شيوخاً وأساتذةً وأهلاً وذُرِّيّةً وزملاء يوْم لا يَنْفَع مال ولا بنون إلا مَن أَتَى اللهَ بقلب سليم ..
كما أَلْتَمِس عذراً مِن شيوخي الأفاضل وفحول الأصول وزملائي
(1) سبق تخريجه .
(2) سبق تخريجه .
(3) سورة آل عمران مِن الآية 97
الأعزّاء أنْ يَغُضّوا الطَّرْف عن زلاّتي وهفواتي التي لن يَسْلَم منها بحثي ، وكما قال بعضهم :
فإنّي بالقصور لَمُعْتَرِف وبالخطايا لَمُغْتَرِف
آملاً أنْ لا تَحْرِموني مِن توجيهاتكم ونصائحكم التي لا غِنَى لي عنها ، خاصّةً مِن شيوخي الأفاضل وأساتذتي الأجِلاّء .
وصَلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصَحْبه وسَلَّم .
أهمّ المراجع
أولاً : القرآن الكريم وعلومه ورجاله
* القرآن الكريم .
* أحكام القرآن لابن العربي .. دار الكتب العلمية – بيروت 1988 م .
* أحكام القرآن لِلجصاص .. دار الكتب العلمية .
* تفسير القرآن العظيم لابن كثير .. دار البيان العربي - القاهرة .
* الجامع لأحكام القرآن لِلقرطبي .. دار الكتب العلمية .
* طبقات المُفَسِّرين لِشمْس الدين الدّاودي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
ثانياً : الحديث الشريف وعلومه ورجاله
* إحكام الأحكام لابن دقيق العبد .. دار الفكر - بيروت .
* تذكرة الحُفّاظ لِلذهبي .. دار الكتب العلمية - بيروت .
* سُنَن ابن ماجة .. دار إحياء التراث العربي – بيروت .
* سُنَن أبي داود .. دار الحديث – حمص 1969 م .
* سُنَن الترمذي .. دار الفكر – بيروت .
* سُنَن الدارقطني .. دار المحاسن – القاهرة .
* سُنَن الدارمي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* السُّنَن الكبرى لِلبيهقي .. حيدر آباد – الهند 1355 هـ .
* سُنَن النسائي .. دار الفكر – بيروت .
* صحيح البخاري .. دار الشعب – القاهرة .(1/255)
* طبقات الحُفّاظ لِلسيوطي .. دار الكتب العلميّة - بيروت .
* فتح الباري بشرح صحيح البخاري لِلحافظ ابن حجر العسقلاني ..
المكتبة السلفية – القاهرة .
* المُسْتَدْرَك لِلحاكم .. دار الكتاب العربي – بيروت .
* مُسْنَد الإمام أحمد .. دار صادر – بيروت .
* نَيْل الأوطار لِلشوكاني .. دار الكتب العِلْميّة - بيروت .
ثالثاً : أصول الفقه ورجاله
* الإبهاج في شرح المنهاج لِلسبكي وولده .. مكتبة الكليات الأزهرية –
القاهرة 1401 هـ .
* إتحاف الأنام بتخصيص العامّ لِشيخنا الفاضل الأستاذ الدكتور محمد
إبراهيم الحفناوي .. دار الحديث - القاهرة .
* إحكام الفصول لِلباجي .. دار الغرب الإسلامي - بيروت 1982 م .
* الإحكام في أصول الأحكام لِلآمدي .. مكتبة الحلبي - القاهرة .
* إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق مِن عِلْم الأصول لِلشوكاني .. مكتبة
الحلبي - القاهرة 1356 هـ .
* أصول البزدوي ( كنز الوصول إلى معرفة الأصول ) .. دار الكتاب
العربي – بيروت 1411 هـ .
* أصول السرخسي .. دار المعرفة – بيروت .
* أصول الشاشي .. دار الكتاب العربي - بيروت .
* أصول الفقه لِلشيخ محمد أبي النور زهير .. المكتبة الأزهرية - القاهرة
1412 هـ .
* البحر المحيط للزركشي .. أوقاف الكويت 1413 هـ .
* البرهان لإمام الحرمين الجويني .. دار الأنصار – القاهرة 1400 هـ.
* بيان المختصر لِلأصفهاني .. جامعة أم القرى- مكة المكرمة 1406 هـ.
* التبصرة لِلشيرازي .. دار الفكر – دمشق 1403 هـ .
* التحرير لابن الهمام .. مكتبة الحلبي - القاهرة ( مع تيسير التحرير )
1350 هـ .
* التحصيل مِن المحصول لِلأرموي .. مؤسسة الرسالة – بيروت
1408 هـ .
* التمهيد في أصول الفقه لِلكلوذاني .. جامعة أم القرى – مكة المكرمة
1406 هـ .
* التمهيد في تخريج الفروع على الأصول لِلإسنوي .. مؤسسة الرسالة –
بيروت 1404 هـ .
* التوضيح مع التلويح لِصدر الشريعة .. دار الكتب العلمية – بيروت .(1/256)
* اِلتنقيح لِصدر الشريعة .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* تيسير التحرير لأمير بادشاه .. مكتبة الحلبي - القاهرة 1350 هـ .
* جَمْع الجوامع مع حاشية البناني لابن السبكي .. مكتبة الحلبي - القاهرة .
* حاشية البناني مع شرح المحلِّي .. مكتبة الحلبي - القاهرة 1356 هـ .
* حاشية نسمات الأسحار على شرْح إفاضة الأنوار لابن عابدين .. مكتبة
الحلبي - القاهرة 1399 هـ .
* حاشية النفحات على الورقات لِلجاوي ( رسالة دكتوراه بكُلِّيَّة الشريعة
بجامعة الأزهر برقم 672 ) .
* روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة .. دار الكتاب العربي –
بيروت 1401 هـ .
* شرْح التلويح على التوضيح لِلتفتازاني .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* شَرْح طلعة الشمس لِلسالمي .. وزارة التراث القومي – سلطنة عمان
1405 هـ .
* شَرْح العضد على مختصر ابن الحاجب .. مكتبة الكليات الأزهرية -
القاهرة 1403 هـ .
* شَرْح الكوكب المنير لِلفتوحي .. جامعة أم القرى – مكة المكرمة
1400 هـ .
* شَرْح اللُّمَع لِلشيرازي .. البخاري – بريدة ( المملكة السعودية ) .
* شَرْح المحلِّي على جمع الجوامع .. مكتبة الحلبي - القاهرة ( مع حاشية
البناني وحاشية العطار ) .
* شَرْح مختصر الروضة لِلطّوفي .. مؤسسة الرسالة – بيروت .
* شَرْح منار الأنوار لابن ملك .. المطبعة العثمانيّة - استانبول 1315 هـ
* شَرْح المنهاج لِلبيضاوي .. مكتبة الرشد – الرياض 1401 هـ .
* شَرْح الورقات لِلجلال المحلِّيّ .. مكتبة محمد علي صبيح – القاهرة .
* العدة في أصول الفقه لِلقاضي أبي يعلى .. مؤسسة الرسالة - بيروت .
* عِلْم أصول الفقه لِلشيخ عبد الوهاب خلاّف .. دار القلم – الكويت
1407 هـ .
* عمدة الحواشي مع أصول الشاشي لِلكنكوهي .. دار الكتاب العربي -
بيروت .
* غاية الوصول إلى دقائق علم الأصول لأستاذنا الفاضل د./ جلال عبد
الرحمن .. مكتبة السعادة – القاهرة 1399 هـ .(1/257)
* فتح الغفار بشرح المنار لابن نجيم .. مكتبة الحلبي - القاهرة 1355 هـ .
* الفتح المُبِين في طبقات الأصوليّين لِلشيخ عبد الله المراغي .. عبد
الحميد حنفي - القاهرة .
* فواتح الرحموت بشرح مُسَلَّم الثبوت لِلأنصاري .. دار الكتب العلمية –
بيروت .
* قواطع الأدلة لابن السمعاني .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* القواعد والفوائد الأصوليّة لابن اللحام .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* الكاشف عن المحصول لِلعجلي .. دار الكتب العلمية - بيروت .
* كشْف الأسرار على أصول فخر الإسلام البزدوي لِعلاء الدين البخاري
دار الكتاب العربي – بيروت 1411 هـ .
* كشْف الأسرار لِلنسفي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* اللُّمَع لِلشيرازي .. مكتبة الحلبي - القاهرة .
* المحصول لابن العربي .. دار البيارق - الأردن .
* المحصول في عِلم الأصول لِلرازي .. دار الكتب العلمية – بيروت
1408 هـ .
* مختصر المنتهى لابن الحاجب .. المكتبة الأزهرية لِلتراث – القاهرة
( مع شرح العضد ) .
* المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل لابن بدران الدمشقي .. المكتبة
المنيريّة .
* المستصفى مِن عِلم الأصول لِلإمام الغزالي .. دار الكتب العلمية –
بيروت 1403 هـ .
* مُسَلَّم الثبوت لابن عبد الشكور .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* المُسَوَّدة في أصول الفقه لآل تيمية .. دار الكتاب العربي – بيروت .
* المعالم في علم أصول الفقه لِلرازي .. دار عالَم المعرفة – القاهرة
1414 هـ .
* المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري .. دار الكتب العلمية –
بيروت 1403 هـ .
* معراج المنهاج لِلجزري .. مكتبة الحسين الإسلامية – القاهرة
1413 هـ .
* مفتاح الأصول في بناء الفروع على الأصول لِلشريف التلمساني ..
مكتبة السعادة – القاهرة 1401 هـ .
* المنار مع حاشية نسمات الأسحار .. دار الكتب العلمية – بيروت
1406 هـ .(1/258)
* مناهج العقول لِلبدخشي ( مطبوع مع نهاية السول ) دار الكتب العِلْميّة -
بيروت 1409 هـ .
* منتهى السول في عِلْم الأصول لِلآمدي .. مكتبة محمد علي صبيح –
القاهرة .
* المنخول لِلغزالي دار الفكر - بيروت .
* منهاج الوصول إلى عِلم الأصول لِلبيضاوي .. مكتبة صبيح - القاهرة .
* الموافقات في أصول الأحكام لِلشاطبي .. دار الفكر – بيروت .
* ميزان الأصول لِلسَّمرقنديّ .. مكتبة الدوحة الحديثة – قطر 1404 هـ .
* ميزان العقول لِلسمرقندي .. دار التراث - القاهرة
* النسخ وأثره في الفقه الإسلامي لِلدكتور إسماعيل عبد الرحمن
( الباحث ) .. مكتبة الرحمة المهداة - المنصورة .
* نشْر البنود على مراقي السعود لِعبد الله الشنقيطي .. دار الكتب العلمية
بيروت 1409 هـ .
* نهاية السول في شرح منهاج الوصول لِلإسنوي .. دار الكتب العلمية –
بيروت 1405 هـ .
* نهاية الوصول لِصفيّ الدين الهندي .. الباز - مكة المكرمة .
* الواضح في أصول الفقه لابن عقيل .. مؤسسة الرسالة - بيروت .
* الوجيز لِلكراماستي .. دار الهدى - القاهرة .
* الوجيز في أصول الفقه د./ عبد الكريم زيدان .. مؤسسة الرسالة –
بيروت .
* الورقات لإمام الحرمين الجويني .. مكتبة محمد علي صبيح – القاهرة .
* الوصول إلى الأصول لابن برهان .. مكتبة المعارف – الرياض
1404 هـ .
رابعاً : الفقه وقواعده ورجاله
* الأشباه والنظائر لابن نجيم .. دار الكتب العِلْمِيّة - بيروت 1983 م .
* الأشباه والنظائر لِلسيوطي .. دار الكتب العِلْمِيّة - بيروت 1983 م .
* بدائع الصنائع لِعلاء الدين الكاساني .. دار الكتاب العربي 1982 م .
* بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد .. دار المعرفة – بيروت
1401 هـ .
* الجواهر المضيئة في طبقات الحنفيّة لِعبد القادر بن محمد القرشي
الحنفي .. دار هجر - القاهرة .
* حاشية الدسوقي على الشرح الكبير .. دار الفكر العربي .(1/259)
* الخرشي وحاشية العدوي .. دار الفكر - بيروت .
* الديباج المُذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لابن فرحون المالكي ..
دار التراث - القاهرة .
* روضة الطالبين وعمدة المتقين لِلنووي .. المكتب الإسلامي - بيروت
1405 هـ .
* شجرة النور الزكية في طبقات المالكية لِلشيخ محمد حسنين مخلوف ..
دار الفكر – بيروت .
* الشرح الكبير لأبي البركات الدردير .. دار الفكر العربي – القاهرة .
* طبقات الحنابلة أبي يعلى .. دار إحياء الكتب العربية - القاهرة .
* طبقات الشّافعيّة الكبرى لابن السبكي .. دار إحياء الكتب العربية -
القاهرة .
* الفقه الإسلامي وأدلّته لِلزحيلي .. دار الفكر - دمشق .
* الكافي في فقه الإمام أحمد لابن قدامة المقدسي .. المكتب الإسلامي -
بيروت 1408 هـ .
* معجم الاصطلاحات والألفاظ الفقهيّة لِمحمود عبد الرحمن .. دار
الفضيلة - القاهرة .
* المغني لابن قدامة المقدسي .. دار الكتب العلمية – بيروت .
* مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج لِلخطيب الشربيني ..
مكتبة الحلبي - القاهرة 1377 هـ .
* المهذب في فقه الإمام الشافعي لِلشيرازي .. دار القلم – دمشق
1412 هـ .
* الهداية شرح البداية لِلمرغيناني .. المكتبة الإسلامية - بيروت
* الموسوعة الفقهيّة الكويتيّة .. وزارة الأوقاف بدولة الكويت .
خامساً : علوم عربية ومنطقية وغيرها
* شَرْح ابن عقيل .. المَعاهد الأزهريّة .
* شَرْح قَطْر الندى لابن هشام .. دار البحوث العِلْميّة .
* القاموس المحيط .. مؤسسة الرسالة - بيروت .
* الكُلِّيّات لأبي البقاء الكفوي .. مؤسسة الرسالة – بيروت 1412 هـ .
* لسان العرب لابن منظور .. دار إحياء التراث – بيروت .
* مختار الصحاح لِزين الدين الرازي .. مكتبة الحلبي – القاهرة .
* المصباح المنير لِلفيومي .. المكتبة العلمية – بيروت .
* المُعْجَم الوجيز ( مجمع اللغة العربيّة ) .. وزارة التربية المصريّة .(1/260)
سادساً : التراجم والتاريخ وغيرها
* الاستيعاب في معرفة الأصحاب لأبي عُمَر بن عبد البرّ .. دار الجيل -
بيروت .
* أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الجزري .. مكتبة الحياة – بيروت .
* الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني .. مكتبة المثنى –
بغداد .
* الأعلام لِلزركلي .. دار العلم لِلملايين – بيروت 1384 هـ .
* البداية والنهاية لابن كثير .. مكتبة المعارف – بيروت 1985 م .
* تاريخ بغداد لِلخطيب البغدادي .. دار الكتب العلمية - بيروت .
* التاريخ الكبير لِلإمام البخاري .. دار الكتب العلمية - بيروت .
* حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني .. دار الكتب
العلميّة - بيروت .
* الدُّرَر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حَجَر العسقلاني .. حيدرآباد
الهند .
* سِيَر أعلام النبلاء لِلذهبي .. مؤسسة الرسالة – بيروت .
* شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب لابن العماد الحنبلي .. دار المسيرة
بيروت .
* الضوء اللامع لأهْل القَرْن التاسع لِلسخاوي .. دار الكتاب الإسلامي .
* الطبقات الكبرى لابن سعْد .. دار الفكر - بيروت .
* معجم المؤلِّفين لِعُمَر رضا كحالة .. دار إحياء التراث العربي -
بيروت .
* النجوم الزاهرة في ملوك مِصْر والقاهرة لابن تغربردي .. دار المعرفة
بيروت .
* وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان .. دار صادر –
بيروت .
فهرس
الموضوع ... ص
المقدمة......................................................... ... 3
الفصل الأول : تعريف التخصيص ، وحُكْمه ، والعلاقة بَيْنه وبَيْن العامّ :
المبحث الأول : تعريف التخصيص ، والفَرْق بَيْنه وبَيْن غيْره . ... 9
المطلب الأول : تعريف التخصيص وشروطه وأركانه . ... 11
أوّلاً : تعريف التخصيص لغةً.................................... ... 12
ثانياً : تعريف التخصيص عند الأصوليّين........................ ... 12(1/261)
ثالثاً : شروط التخصيص........................................ ... 13
رابعاً : أركان التخصيص........................................ ... 23
المطلب الثاني : الفَرْق بَيْن التخصيص والخاصّ والخصوص والمخصّص . ... 23
أوّلاً : الخاص...................................................
ثانيا : الخصوص............................................... ... 25
ثالثاً : المُخَصّص................................................ ... 25
المطلب الثالث : الفَرْق بَيْن التخصيص والنَّسْخ . ... 28
أوّلاً : تعريف النسخ............................................. ... 29
ثانياً : الفَرْق بَيْن التخصيص والنسخ............................. ... 33
المطلب الرابع : الفَرْق بَيْن التخصيص والاستثناء . ... 33
34
37
الموضوع ... ص
أوّلاً : تعريف الاستثناء.......................................... ... 37
ثانياً : الفَرْق بَيْن التخصيص والاستثناء.......................... ... 38
المبحث الثاني : حُكْم التخصيص والقابل له . ... 41
المطلب الأول : حُكْم التخصيص . ... 42
أوّلاً : مرجعي في عنوان هذا المطلب............................ ... 42
ثانياً : مذاهب الأصوليّين في حُكْم التخصيص.................... ... 45
ثالثاً : أدلة المذاهب مع المناقَشة والترجيح....................... ... 47
المطلب الثاني : القابل لِلتخصيص . ... 52
الحالة الأولى : اللفظ المتناوِل لِلواحد............................. ... 55
الحالة الثانية : اللفظ العامّ....................................... ... 57
الحالة الثالثة : العِلّة............................................. ... 58
الحالة الرابعة : مفهوم المُوافَقة.................................. ... 62
الحالة الخامسة : مفهوم المُخالَفة................................. ... 64
المبحث الثالث : العلاقة بَيْن التخصيص والعامّ . ... 67(1/262)
المطلب الأول : تعريف العامّ ، والفَرْق بَيْن العامّ المخصوص والخصوص والمراد به الخصوص .
أوّلاً : تعريف العامّ.............................................. ... 68
ثانياً : الفَرْق بَيْن العامّ المخصوص والخصوص والمراد به الخصوص...................................................... ... 68
المطلب الثاني : ما يَنتهي إليه التخصيص .
المطلب الثالث : البحث عن المخصّص . ... 69
71
77
الموضوع ... ص
أوّلاً : الاستدلال بالعامّ قَبْل البحث عن المُخَصِّص................ ... 77
ثانياً : المُدّة التي يجب فيها البحث عن المُخَصِّص................ ... 80
المطلب الرابع : العامّ بَعْد تخصيصه . ... 82
الفصل الثاني : أنواع المخصّصات ، وتعريف الكتاب والسُّنَّة : ... 87
المبحث الأول : أنواع المخصّصات . ... 89
المطلب الأول : أنواع المخصّصات . ... 90
المطلب الثاني : المخصّصات المتصلة . ... 98
النوع الأول : الاستثناء.......................................... ... 98
النوع الثاني : الشَّرْط............................................ ... 102
النوع الثالث : الصِّفَة............................................ ... 104
النوع الرابع : الغاية............................................. ... 105
النوع الخامس : بدل البعض مِن الكُلّ............................ ... 106
المبحث الثاني : تعريف الكتاب والسُّنَّة . ... 109
المطلب الأول : تعريف الكتاب العزيز . ... 110
المطلب الثاني : تعريف السُّنَّة المطهّرة . ... 112
الفصل الثالث : تخصيص الكتاب العزيز وأثره في الأحكام : ... 115
المبحث الأول : تخصيص الكتاب بالكتاب وبالسُّنَّة . ... 117
المطلب الأول : تخصيص الكتاب بالكتاب . ... 118
المطلب الثاني : تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة . ... 128
أوّلاً : الخلاف في تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة.............. ... 129
ثانياً : مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم................................ ... 130
الموضوع ... ص(1/263)
المطلب الثالث : تخصيص الكتاب بخبر الآحاد . ... 135
أوّلاً : مذاهب الأصوليّين في تخصيص الكتاب بخبر الواحد....... ... 135
ثانياً : أدلّة المذاهب ، مع مناقَشة ما يَحتاج إلى ذلك.............. ... 140
ثالثاً : تعقيب وترجيح........................................... ... 149
المطلب الرابع : إذا خُصّ أحد العموميْن : هل يَلْزَم منه تخصيص الآخَر ؟
أوّلاً : التعبير عن هذا المطلب ( هذه المسألة ) عند الأصوليّين.... ... 151
ثانياً : صوَر ورودها في القرآن الكريم.......................... ... 151
ثالثاً : تحرير محلّ النزاع في هذه المسألة........................ ... 153
رابعاً : مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم................................ ... 156
خامساً : تعقيب وترجيح......................................... ... 158
المبحث الثاني : أثر تخصيص الكتاب في الأحكام . ... 163
الفرع الأول : نكاح الكتابيّة . ... 165
الفرع الثاني : أكْل ميتة السمك والجراد . ... 166
الفرع الثالث : الجَمْع بَيْن المرأة وعمّتها أو خالتها . ... 169
الفصل الرابع : تخصيص السُّنَّة المطهّرة وأثره في الأحكام : ... 174
المبحث الأول : تخصيص السُّنَّة بالكتاب وبالسُّنَّة . ... 177
المطلب الأول : تخصيص السُّنَّة بالكتاب . ... 179
أوّلاً : تعبير الأصوليّين عن هذه المسألة ( هذا المطلب )......... ... 180
ثانياً : أمْثلتها.................................................... ... 180
ثالثاً : مَذاهب الأصوليّين وأدلّتهم................................ ... 182
183
الموضوع ... ص
رابعاً : تعقيب وترجيح........................................... ... 187
المطلب الثاني : تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة . ... 189
أوّلاً : تعبير الأصوليّين عن هذه المسألة ( هذا المطلب )......... ... 189
ثانياً : مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم................................ ... 191
ثالثاً : تعقيب وترجيح........................................... ... 195(1/264)
المطلب الثالث : التخصيص بإقراره - صلى الله عليه وسلم - . ... 197
أوّلاً : تحرير محلّ النزاع وشروط التقرير المُخَصّص............ ... 197
ثانياً : مذاهب الأصوليّين وأدلّتهم................................ ... 200
ثالثاً : تعقيب وترجيح........................................... ... 206
المطلب الرابع : التخصيص بقول الصّحابيّ . ... 208
أوّلاً : تعبير الأصوليّين عن هذا المطلب ( هذه المسألة )......... ... 208
ثانياً : الضرب الأول : التخصيص بقول الصّحابيّ................ ... 210
ثالثاً : الضرب الثاني : التخصيص بمذهب الراوي............... ... 214
المطلب الخامس : خصوص السبب . ... 223
أوّلاً : المراد بخصوص السبب................................... ... 223
ثانياً : تحرير محلّ النزاع....................................... ... 224
ثالثاً : مذاهب الأصوليّين........................................ ... 226
رابعاً : أدلّة المذاهب مع الترجيح................................ ... 228
المبحث الثاني : أثر تخصيص السُّنَّة في الأحكام . ... 235
الفرع الأول : نِصَاب زكاة الزروع والثمار . ... 236
الفرع الثاني : كفّارة الوقاع في نهار رمضان . ... 240
الموضوع ... ص
الفرع الثالث : غَسْل الإناء مِن ولوغ الكلب . ... 242
الفصل الخامس : المخصّصات المشتركة بَيْن الكتاب والسُّنَّة وأثرها في الأحكام :
المبحث الأول : المخصّصات المشتركة بَيْن الكتاب والسُّنَّة . ... 245
المطلب الأول : التخصيص بفِعْله - صلى الله عليه وسلم - . ... 247
أوّلاً : أمثلة التخصيص بفِعْله - صلى الله عليه وسلم - ................................. ... 248
ثانياً : تحرير محلّ النزاع....................................... ... 248
ثالثاً : مذاهب الأصوليّين........................................ ... 249
رابعاً : أدلّة المذاهب مع الترجيح................................ ... 254
المطلب الثاني : التخصيص بالإجماع . ... 256(1/265)
أوّلاً : مذاهب الأصوليّين في تخصيص عموم الكتاب والسُّنَّة بالإجماع........................................................ ... 261
ثانياً : أدلّة المذاهب مع الترجيح.................................
المطلب الثالث : التخصيص بالقياس . ... 261
أوّلاً : تحرير محلّ النزاع........................................ ... 262
ثانياً : مذاهب الأصوليّين........................................ ... 267
ثالثاً : أدلّة المذاهب مع الترجيح................................. ... 267
المطلب الرابع : التخصيص بالعرف والعادة . ... 268
أوّلاً : التعبير عن هذه المسألة ( هذا المطلب )................... ... 274
ثانياً : تحرير محلّ النزاع....................................... ... 285
ثالثاً : مذاهب الأصوليّين........................................ ... 285
287
290
الموضوع ... ص
رابعاً : أدلّة المذاهب مع الترجيح................................ ... 291
المطلب الخامس : التخصيص بالمفهوم . ... 295
أوّلاً : أمْثلة التخصيص بالمفهوم................................. ... 295
ثانياً : تحرير محلّ النزاع....................................... ... 296
ثالثاً : مذاهب الأصوليّين في التخصيص بالمفهوم................ ... 299
رابعاً : أدلّة المذاهب مع الترجيح................................ ... 300
المطلب السادس : التخصيص بدليل العقل . ... 303
أوّلاً : بيان المراد بدليل العقل.................................... ... 303
ثانياً : أقسام التخصيص بدليل العقل.............................. ... 304
ثالثاً : أمثلة التخصيص بدليل العقل.............................. ... 305
رابعاً : تحرير محلّ النزاع...................................... ... 306
خامساً : مذاهب الأصوليّين في التخصيص بدليل العقل........... ... 307
سادساً : أدلّة المذاهب........................................... ... 308(1/266)
سابعاً : تعقيب وترجيح.......................................... ... 311
المبحث الثاني : أثر المخصّصات المشتركة بَيْن الكتاب والسُّنَّة في الأحكام . ... 315
الفرع الأول : استقبال القِبْلَة واستدبارها في غيْر الخلاء . ... 316
الفرع الثاني : حَدّ العبد القاذف . ... 320
الفرع الثالث : زكاة الأنعام المعلوفة . ... 322
الخاتمة.......................................................... ... 325
أهمّ المَراجع..................................................... ... 335
347
رقم الإيداع بِدار الكتب
14091/2004
الترقيم الدّولي
977 - 5899 - 36 - 2(1/267)